وجه تفضيل بعض كلام الله على بعض
السؤال
هل في الحديث تفضيل بعض كلام الله على بعض؟
الجواب
نعم، فهذا فحديث أبي يدل على تفضيل كلام الله بعضه على بعض، وليس فيه نقص في المفضل عليه، ولكن كله كمال، وبعضه أكمل من بعض وبعضه أفضل من بعض، وكذلك الصفات، وقد جاء في الحديث: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك) وهذا يعني: أن بعضها تفضل على بعض.(176/18)
المقصود من ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لصدر أبي رضي الله عنه
السؤال
ما المقصود من ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لصدر أبي؟ وهل هو من تلطف النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
نعم، وكأنه إشارة إلى كون العلم في الصدر والقلب، فضرب عليه وقال: (ليهنك العلم أبا المنذر).(176/19)
ما جاء في سورة الصمد(176/20)
شرح حديث (والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: في سورة الصمد.
حدثنا القعنبي عن مالك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) يرددها، فلما أصبح جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى وآله وسلم فذكر ذلك له، وكأن الرجل يتقالها، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن)].
قوله: [باب: في سورة الصمد] يقال لها: سورة الصمد لأن فيها هذا الاسم الذي لم يذكر إلا فيها، وهو اسم الصمد، وقيل: إنه من الأسماء التي لا تطلق إلا على الله عز وجل، كما ذكر ذلك ابن كثير في أول تفسيره، فقد ذكر عدة أسماء لا تطلق إلا على الله، وأسماء تطلق على الله وعلى غيره، مثل: العزيز، والرحيم، والرءوف؛ لأنه جاء في القرآن إطلاقها على الله وإطلاقها على غير الله، كما جاء في حق الرسول صلى الله عليه وسلم: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] فهو عليه الصلاة والسلام وصف بأنه رءوف وأنه رحيم.
وذكر رحمه الله جملة من الأسماء التي لا تطلق إلا على الله وحده، مثل: الصمد، والرحمن، والخالق، والبارئ، فإن هذه الأسماء إنما تطلق على الله عز وجل ولا تطلق على غيره.
ويقال لها: سورة الإخلاص لأنها مشتملة على توحيد الأسماء والصفات، كما أنه يقال لـ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، و (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ): سورتا الإخلاص، وذلك لما اشتملت عليه سورة: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) من توحيد العبادة (الإلهية)، و (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) من توحيد الأسماء والصفات، وتوحيد العبادة متضمن لتوحيد الربوبية، فيطلق عليهما جميعاً أنهما (سورتا الإخلاص)؛ لأن كل واحدة منهما فيها توحيد، فهذه فيها توحيد عبادة وهذه فيها توحيد أسماء وصفات.
قوله: [(أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) يرددها، فلما أصبح جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، وكأن الرجل يتقالها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إنها تعدل ثلث القرآن)] هذا يدل على فضل سورة (قل هو الله أحد) وعظم شأنها.
وكونها تعدل ثلث القرآن لأن القرآن مشتمل على توحيد وعلى قصص وعلى أحكام، وقد اشتملت هذه السورة على القسم الأول وهو التوحيد.
فقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]، اشتمل على اسم الجلالة (الله) الذي هو أصل الأسماء ومرجع الأسماء، والذي عندما تذكر الأسماء يأتي في صدارتها، وكلها تضاف إليه، كما جاء في القرآن كثيراً: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] وقوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الحشر:22] وقوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر:24] فاسم الجلالة يذكر قبل الأسماء.
والصمد: هو الغني عن كل ما سواه والمفتقر إليه كل من عداه، وهو الذي تصمد إليه الخلائق لحوائجها.
وقوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:3 - 4] يعني أنه منزه عن الأصول والفروع والنظراء، فنزه نفسه عن الأصول بقوله: (لَمْ يُولَدْ) وعن الفروع بقوله: (لَمْ يَلِدْ) وعن النظراء بقوله: (ولم يكن له كفواً أحد) يعني: لا يماثله أحد سبحانه وتعالى.
إذاً: هذه السورة مشتملة على التوحيد، ولهذا أطلق عليها ثلث القرآن.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه مؤلف فيها خاص، اسمه (جواب أهل العلم والإيمان فيما جاء في سورة (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) تعدل ثلث القرآن) وهو كتاب مطبوع.(176/21)
تراجم رجال إسناد حديث (والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن)
قوله: [حدثنا القعنبي].
هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة، الإمام المحدث الفقيه المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن].
هو عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن أبيه].
أبوه هو عبد الله بن عبد الرحمن، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن أبي سعيد الخدري].
أبو سعيد مشهور بكنيته ونسبته، واسمه سعد بن مالك بن سنان، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(176/22)
معنى قوله (والذي نفسي بيده)
قوله: [(والذي نفسي بيده)].
هذا القسم للتأكيد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقسم بهذا اللفظ كثيراً، وقوله: [(والذي نفسي بيده)] فيه إثبات صفة اليد لله عز وجل، ولازم ذلك أن كل شيء في ملكه وتحت تصرفه، فإذا فسر مثل هذا اللفظ بأن كل شيء في ملكه وتحت تصرفه وكان المقصود به عدم إثبات اليد فهذا تأويل باطل، وإذا أثبتت اليد وأثبت لازمها وأثرها الذي هو أن كل شيء في يد الله وفي قبضة الله فإن ذلك كله يكون حقاً، وإنما المحذور إذا لم تثبت اليد لله عز وجل، وهذا مثل قوله عز وجل: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1] فإذا أريد به أن الملك ملكه وكل شيء في قبضته وكل شيء في يده سبحانه وتعالى مع إثبات اليد فإن ذلك يكون كله حقاً.(176/23)
معنى قوله (إنها لتعدل ثلث القرآن)
قوله: [(إنها لتعدل ثلث القرآن)].
يعني: في الفضل، وقيل -أيضاً-: في المعنى، من ناحية أن القرآن يشتمل على قصص وأحكام وتوحيد، وهي مشتملة على الثلث الذي هو التوحيد، لا كما يظن أنها لو قرئت ثلاث مرات فإنها تساوي ختم القرآن، فهذا ليس بصحيح، وإنما يدل على عظم شأنها وعلى عظم فضلها، لكن لا يستغني الإنسان عن القرآن بأن يقرأها ثلاث مرات ويقول: قد قرأت القرآن، فهذا ليس بصحيح.(176/24)
الأسئلة(176/25)
حكم قيام الليل بسورة الإخلاص وحدها
السؤال
ما حكم قيام الليل بسورة الإخلاص وحدها تردد في كل ركعة؟
الجواب
جاء حديث في قصة الرجل الذي كان في سرية وكان يقرأ ويختم بـ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) أي أنه في كل ركعة يأتي بقراءة ثم يأتي معها بـ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اسألوه، فقال: لأنها مشتملة على صفة الرحمن وأنا أحب أن أقرأ بها، فقال صلى الله عليه وسلم: أخبروه بأن الله يحبه) فهذا هو الذي كان يرددها في كل ركعة بعدما يقرأ شيئاً قبلها، وهو من الأدلة التي استدل بها على أن الإنسان يمكن أن يقرأ سورة قبل سورة؛ لأنه إذا كان يقرأ بها وليس بعدها في القرآن في المصحف إلا سورتان فإنه يقرأ معها شيئاً قبلها.
أما كون الإنسان يقوم الليل ويقرأ في كل ركعة: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) عدة مرات ثم يركع والركعة الثانية كذلك فهذا لا يصلح للإنسان أن يفعله، بل يقرأ من القرآن كله ولا يخص القراءة بسورة، إلا إذا كان لا يحفظ إلا هذه السورة وشيئاً قليلاً معها فله أن يردد ما يحفظ.(176/26)
حكم فعل أمير السرية في كونه كان يختم قراءته بـ (قل هو الله أحد)
السؤال
هل فعل أمير السرية سنة في كونه كان يختم قراءته بـ (قل هو الله أحد) في كل ركعة؟
الجواب
الذي يبدو أنه ليس بسنة؛ لأنه ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة أنهم كانوا يفعلون ذلك، فهي واقعة عين.(176/27)
حكم لقب الصمدي
السؤال
شخص لقبه الصمدي، فما حكم ذلك؟
الجواب
إذا كانت النسبة إلى الله عز وجل فمثل هذا لا يصلح؛ لأنه لا يختلف المعنى، فمعنى الصمدي أنه متصف بهذا الوصف، فلا يصلح.(176/28)
ما جاء في المعوذتين(176/29)
شرح حديث (ألا أعلمك خير سورتين قرئتا؟)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في المعوذتين.
حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح أخبرنا ابن وهب أخبرني معاوية عن العلاء بن الحارث عن القاسم مولى معاوية عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: (كنت أقود برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ناقته في السفر، فقال لي: يا عقبة! ألا أعلمك خير سورتين قرئتا؟ فعلمني: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) قال: فلم يرني سُررت بهما جداً، فلما نزل لصلاة الصبح صلى بهما صلاة الصبح للناس، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الصلاة التفت إلي فقال: يا عقبة! كيف رأيت؟)].
قوله: [باب: في المعوذتين] المعوذتان هما: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)، و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ).
قوله: [(كنت أقود برسول الله صلى الله عليه وسلم ناقته في السفر، فقال لي: يا عقبة! ألا أعلمك خير سورتين قرئتا؟ فعلمني: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) قال: فلم يرني سررت بهما جداً)] يعني: لم يظهر عليه السرور والفرح والاستبشار؛ لأنه كان يتصور أنه يعلمه سوراً طوالاً، وعلمه هاتين السورتين القصيرتين، فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما نزل وصلى قرأ بهما في صلاة الصبح، للإشارة إلى عظم شأنهما وأهميتهما، ثم قال له: [(كيف رأيت؟)] يعني: هذا الذي علمتك إياه هو هذا الذي قرأت به، فهو صلى الله عليه وسلم أراد أن يبين عظم شأن هاتين السورتين، وهما المعوذتان.
أما كونه عليه الصلاة والسلام قرأ بهما في صلاة الصبح مع أن السنة التطويل فيها فنقول: إن الأصل في الصبح أن تطول فيها القراءة، وذلك لقوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78] لكن قد تقصر فيها القراءة مثل ما جاء في هذا الحديث وفي الحديث الذي سبق أن مر بنا أنه قرأ في صلاة الصبح بـ: (إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا)، وهذا يدل على أن الصلاة التي يقرأ فيها غالباً بالطول يمكن أن يقرأ فيها بسور قصار، وعلى العكس من ذلك صلاة المغرب، فإن القراءة فيها تكون بسور قصار أو متوسطة، ولكنه في مرة من المرات قرأ فيها عليه الصلاة والسلام بسورة الأعراف وهي تعدل جزءاً وربع جزء.
ويمكن أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك مراعاة لأحوال الناس؛ لأنه كان في سفر.(176/30)
تراجم رجال إسناد حديث (ألا أعلمك خير سورتين قرئتا)
قوله: [حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح].
أحمد بن عمرو بن السرح ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[أخبرنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني معاوية].
هو معاوية بن صالح، وهو صدوق له أوهام، أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن العلاء بن الحارث].
العلاء بن الحارث ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن القاسم مولى معاوية].
القاسم مولى معاوية صدوق يغرب كثيراً، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد، وأصحاب السنن.
[عن عقبة بن عامر].
هو عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(176/31)
شرح حديث تعوذ النبي صلى الله عليه وسلم بالمعوذتين لظلمة شديدة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه قال: (بينا أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بين الجحفة والأبواء إذ غشيتنا ريح وظلمة شديدة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يتعوذ بـ (أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و (أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)، ويقول: يا عقبة! تعوذ بهما، فما تعوذ متعوذ بمثلهما، قال: وسمعته يؤمنا بهما في الصلاة)].
أورد رحمه حديث عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه من طريق أخرى، وفيه مثل الذي قبله من جهة تعليمه إياه المعوذتين وأمره بأن يتعوذ بهما، وأيضاً أمهم بهما في الصلاة، وهو مثل الذي قبله، إلا أن هنا ذكر أنه كان هناك ظلمة وأنه كان يتعوذ بهاتين السورتين، وأمر عقبة بن عامر أن يتعوذ بهما.(176/32)
تراجم رجال إسناد حديث تعوذ النبي صلى الله عليه وسلم بالمعوذتين لظلمة شديدة
قوله: [حدثنا محمد بن عبد الله النفيلي].
عبد الله بن محمد النفيلي ثقة، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا محمد بن سلمة].
هو محمد بن سلمة الحراني، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن محمد بن إسحاق].
هو محمد بن إسحاق المدني، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن سعيد بن أبي سعيد المقبري].
سعيد بن أبي سعيد المقبري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه هو أبو سعيد، وهو ثقة أيضاً، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عقبة بن عامر].
عقبة بن عامر وقد مر ذكره.
والواقعة واحدة في الحديثين والله أعلم، والحديث صحيح؛ لأن الطريق الأولى فيها ذلك الرجل الذي يغرب، وهذه الطريق الثانية مثلها إلا أن فيها محمد بن إسحاق وهو صدوق يدلس، فكل من الطريقين تقوي الأخرى.(176/33)
شرح سنن أبي داود [177]
القرآن الكريم كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو ذو الشرف الرفيع والمكانة العالية، وبشرفه شرف صاحبه في الدنيا والآخرة، وجعل له عند الله تعالى المنازل العالية، وقد تميز القرآن باستحباب التغني به وتحسين الصوت عند قراءته، وذم هاجره المعرض عنه وناسيه بعد حفظه، كما تميز القرآن الكريم بنزوله أولاً على سبعة أحرف، وبثبوت قراءته آخراً على أوجه توسع معاينه وتزيد من جماله وعظمة بلاغته وفصاحته.(177/1)
استحباب الترتيل في القراءة(177/2)
شرح حديث (يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب استحباب الترتيل في القراءة.
حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان حدثني عاصم بن بهدلة عن زر عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها)].
قوله: [باب استحباب ترتيل القرآن] هذه الترجمة فيها أن ترتيل القرآن مستحب، وذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري أنه لا خلاف بين أهل العلم في جواز قراءة القرآن بدون ترتيل ولكنه مع الترتيل أفضل، وصنيع أبي داود هذا يدل على أن ترتيل القرآن مستحب، حيث بوب بالاستحباب ولم يبوب بالوجوب، فأورد حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(يقال لصحاب القرآن: اقرأ وارتق)] يعني: في الآخرة.
قوله: [(ورتل كما كنت ترتل في الدنيا)] هذا هو محل الشاهد.
قوله: [(فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها)] هذا في الآخرة، ومن المعلوم أن ذلك مثل التسبيح وغيره مما يلهمه الناس وليس تعبداً، وإنما يتعبد بقراءته في الدنيا، وإذا انتقل إلى الآخرة فله بالحرف الواحد عشر حسنات.
إذاً: هم في الآخرة يلهمون التلاوة ويلهمون التسبيح كما يلهمون النفس.
وقد ذكر الخطابي وغيره أنه جاء في بعض الأحاديث (أن عدد آي القرآن على قدر عدد درج الجنة، ولكن لا نعلم شيئاً عن هذه الأحاديث التي أشاروا إليها، وهذه الأحاديث التي أشار إليها الخطابي أشار إليها صاحب عون المعبود، لكن لم يذكرا من خرجها ولا درجتها ومنزلتها، ولا وجودها في أي مؤلف، لكن ذكر الشيخ الألباني في السلسلة الضعيفة (5/ 283) أن هذا الحديث هو عند ابن أبي شيبة، وذكر أن إسناده ضعيف.
قوله: [(يقال لصاحب القرآن)].
صاحب القرآن هو الذي يقرؤه ويعمل به وليس الذي يقرؤه فقط دون أن يعمل به؛ لأن القرآن يكون حجة للإنسان ويكون حجة عليه، ومن لم يعمل بالقرآن فإنه يكون حجة عليه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (والقرآن حجة لك أو عليك) والحديث في صحيح مسلم، وهو من أحاديث الأربعين النووية، وفي الحديث الآخر حديث عمر في صحيح مسلم: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين).
أما اشتراط الحفظ في هذا الحديث فلا يوجد شيء يدل عليه، فيمكن أن يكون ذلك بالحفظ ويمكن أن يكون بغير الحفظ، لكن لا شك في أن الحفظ له ميزة؛ لأن الإنسان يستطيع أن يقرأ ماشياً وراكباً ومضطجعاً وعلى غير وضوء، بخلاف الإنسان الذي لا يحفظ فإنه لا يتمكن من قراءته على غير وضوء؛ لأنه لا يقرأ إلا من المصحف، ولا يتيسر له ذلك في كل وقت، إذ لابد من أن يكون على طهارة عندما يقرأ القرآن من المصحف، لكن أمور الآخرة علمها عند الله عز وجل، فكون الإنسان يكون حافظاً وأنه يقرأ هو من أمور الآخرة، ولا ندري كيف تكون أحوال الآخرة بالنسبة لمن لا يحفظ وهو مكثر من قراءة القرآن.(177/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني عاصم بن بهدلة].
هو عاصم بن بهدلة بن أبي النجود، وهو أحد القراء، وهو صدوق له أوهام، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وحديثه في الصحيحين مقرون، أي: أن صاحبي الصحيح رويا عنه مقروناً ولم يرويا عنه استقلالاً.
[عن زر].
هو زر بن حبيش، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن عمرو].
هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما الصحابي الجليل، وهو أحد العبادلة الأربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
.(177/4)
شرح حديث (سألت أنساً عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقال كان يمد مداً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا جرير عن قتادة قال: (سألت أنساً رضي الله عنه عن قراءة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: كان يمد مداً)].
قوله: [(كان يمد مداً)] يعني أنه يمد الشيء الذي يحتاج إلى مد، ومعناه أنها قراءة مرتلة.(177/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (سألت أنساً عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقال كان يمد مداً)
قوله: [حدثنا مسلم بن إبراهيم].
هو مسلم بن إبراهيم الفراهيدي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا جرير].
هو جرير بن عبد الحميد، مر ذكره.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: سألت أنساً].
هو أنس بن مالك رضي الله عنه، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الإسناد من الرباعيات عند أبي داود التي هي أعلى ما يكون عنده، إذ يرويه مسلم بن إبراهيم عن جرير عن قتادة عن أنس بن مالك، ففيه أربعة أشخاص بين أبي داود وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.(177/6)
شرح حديث أم سلمة في نعت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وصلاته
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يزيد بن خالد بن موهب الرملي حدثنا الليث عن ابن أبي مليكة عن يعلى بن مملك: (أنه سأل أم سلمة رضي الله عنها عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصلاته، فقالت: وما لكم وصلاته؟ كان يصلي وينام قدر ما صلى، ثم يصلي قدر ما نام، ثم ينام قدر ما صلى حتى يصبح، ونعتت قراءته، فإذا هي تنعت قراءته حرفاً حرفاً)].
قوله: [(فقالت: وما لكم ولصلاته؟)] يعني: إنكم لا تطيقون أن تفعلوا مثل ما يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم.
قولها: [(إنه كان يصلي وينام قدر ما صلى، ثم يصلي قدر ما نام، ثم ينام قدر ما صلى حتى يصبح)] معناه أنه يحصل منه صلاة ثم نوم بمقدارها، ثم صلاة بعد ذلك ثم نوم بمقدار الصلاة، ثم صلاة ثم نوم بمقدارها حتى يصبح.
قوله: [(ونعتت قراءته فإذا هي تنعت قراءته حرفاً حرفاً)] يعني أن كل حرف يخرجه من مخرجه الصحيح، فلا يدخل حرفاً في حرف، وإنما هي قراءة مرتلة تظهر فيها جميع الحروف.
وهذا الحديث في إسناده يعلى بن مملك، وهو مقبول، فالحديث غير صحيح، ثم إنه مخالف لما جاء في الأحاديث الأخرى من صلاة الليل في أنه كان يصلي في أول الليل ويوتر، ويصلي في وسط الليل ويوتر، ويصلي في آخر الليل ويوتر، وجاء في بعض الأحاديث أنه كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وهذه الطريقة التي جاءت في هذا الحديث فيها أنه كان يصلي ثم ينام مقدار ما صلى، ثم يصلي، ثم ينام مقدار ما صلى، ثم يصلي حتى يطلع الصبح، ففيه ما فيه، وهذا الرجل الذي هو يعلى بن مملك مقبول، أي: يحتج به عند الاعتضاد، ولا يوجد ما يعضده.(177/7)
حكم الحديث من حيث التصحيح والتضعيف(177/8)
تراجم رجال إسناد حديث أم سلمة في نعت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وصلاته
قوله: [حدثنا يزيد بن خالد بن موهب الرملي].
يزيد بن خالد بن موهب الرملي هو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا الليث].
هو الليث بن سعد المصري، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن أبي مليكة].
هو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يعلى بن مملك].
يعلى بن مملك مقبول، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والترمذي والنسائي.
[أنه سأل أم سلمة].
أم سلمة هي هند بنت أبي أمية أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.(177/9)
شرح حديث (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وهو على ناقة يقرأ بسورة الفتح وهو يرجّع)
قال المنصف رحمه الله تعالى: [حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن معاوية بن قرة عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة وهو على ناقة يقرأ بسورة الفتح وهو يُرجَّع)].
المراد بالترجيع هو الترتيل وتحسين الصوت بالتلاوة، وهذا هو الذي يطابق الترجمة، وقيل: إن معناه أنه يردد ويكرر القراءة.(177/10)
تراجم رجال إسناد حديث (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وهو على ناقة يقرأ بسورة الفتح وهو يرجع)
قوله: [حدثنا حفص بن عمر].
حفص بن عمر ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن معاوية بن قرة].
معاوية بن قرة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن مغفل].
عبد الله بن مغفل رضي الله عنه هو صحابي، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
وهذا الإسناد من الرباعيات عند أبي داود، وهي أعلى الأسانيد عنده رحمه الله، فبين أبي داود وبين رسول الله عليه الصلاة والسلام في هذا الإسناد أربعة أشخاص، وهم: حفص بن عمر وشعبة ومعاوية بن قرة وعبد الله بن مغفل رضي الله تعالى عنه.(177/11)
شرح حديث (زينوا القرآن بأصواتكم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن الأعمش عن طلحة عن عبد الرحمن بن عوسجة عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (زينوا القرآن بأصواتكم)].
قوله: [(زينوا القرآن بأصواتكم)] ذكر الخطابي أن الحديث قد يكون مقلوباً، وقال: إنه جاء في رواية: (زينوا أصواتكم بالقرآن) ويبدو -والله أعلم- أنه ليس هناك قلب، وأن المقصود بالقرآن القراءة، يعني: زينوا القراءة بأصواتكم وليس المقصود به القرآن؛ لأن لفظ القرآن يطلق ويراد به معنيان: أحدهما: القرآن الذي هو كلام الله عز وجل والذي هو غير مخلوق، ومنه قول الله عز وجل: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1] وقوله سبحانه: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن:1 - 2] فإن المقصود به المقروء المتلو الذي هو كلام الله سبحانه وتعالى.
الثاني: القراءة، كما في قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78] يعني: قراءة الفجر، وكذلك قوله في سورة القيامة: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:16 - 18] يعني: اتبع قراءته، وقد ذكر ذلك شارح الطحاوية وقال: إن القرآن يأتي ويراد به القراءة ويأتي ويراد به المقروء، وذكر هذا الحديث: (زينوا القرآن بأصواتكم) يعني: زينوا القراءة بأصواتكم.
وعلى هذا فيكون المقصود بالقرآن هنا القراءة التي هي فعل العبد والتي هي مخلوقة؛ لأن القرآن فيه ملفوظ ولفظ وفيه قراءة ومقروء، وتلاوة ومتلو، فالتلاوة والقراءة هي فعل العبد وهي مخلوقة، وأما القرآن الذي هو كلام الله عز وجل الذي هو المقروء المسموع المكتوب في المصاحف فهو غير مخلوق.
إذاً: معنى الحديث هنا: [(زينوا القرآن بأصواتكم)] أي: زينوا القراءة بأصواتكم أو حسنوا القراءة بأصواتكم، فهنا أمر بالتحسين والتزيين الذي هو فعل العبد.
والحديث يدل على ما ترجم له المصنف، وهو ترتيل القراءة؛ لأن الترتيل هو من التحسين أو هو من التزيين.(177/12)
تراجم رجال إسناد حديث (زينوا القرآن بأصواتكم)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا جرير].
هو جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن طلحة].
هو طلحة بن مصرف اليامي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، ويحتمل أن يكون طلحة بن نافع، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وذلك أن الأعمش يروي عن الاثنين، وكل منهما يروي عن عبد الرحمن بن عوسجة، وطلحة بن مصرف كوفي والأعمش كوفي وعبد الرحمن بن عوسجة كوفي، فالأقرب أن يكون هو طلحة بن مصرف.
[عن عبد الرحمن بن عوسجة] عبد الرحمن بن عوسجة وثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأصحاب السنن.
[عن البراء].
هو البراء بن عازب رضي الله عنهما صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(177/13)
شرح حديث (ليس منا من لم يتغن بالقرآن)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي وقتيبة بن سعيد ويزيد بن خالد بن موهب الرملي -بمعناه- أن الليث حدثهم عن عبد الله بن أبي مليكة عن عبد الله بن أبي نهيك عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه -وقال يزيد: عن ابن أبي مليكة عن سعيد بن أبي سعيد، وقال قتيبة: هو في كتابي عن سعيد بن أبي سعيد - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن)].
قوله: [(ليس منا من لم يتغن بالقرآن)] يعني: يحسن صوته بالقرآن من غير تمطيط ومن غير تكلف ومن غير مجاوزة للحد، أي: من غير إفراط ولا تفريط.
إذاً: فالتغني بالقرآن هو أن يحسن صوته بقراءة القرآن، فهو دال على ما ترجم له المصنف من استحباب ترتيل التلاوة في القرآن.(177/14)
تراجم رجال إسناد حديث (ليس منا من لم يتغن بالقرآن)
قوله: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي].
هو هشام بن عبد الملك الطيالسي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وقتيبة بن سعيد].
هو قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ويزيد بن خالد بن موهب الرملي].
يزيد بن خالد بن موهب الرملي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[بمعناه].
يعني أن المعنى واحد واللفظ مختلف فيما بينهم.
[أن الليث].
هو الليث بن سعد المصري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن أبي مليكة].
هو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن أبي نهيك].
عبد الله بن أبي نهيك وثقه النسائي، وأخرج له أبو داود.
[عن سعد بن أبي وقاص].
هو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
قوله: [وقال يزيد: عن ابن أبي مليكة عن سعيد بن أبي سعيد].
يعني أنه جعل سعيد بن أبي سعيد بدل عبد الله بن أبي نهيك.
ويبدو أنه سعيد بن أبي سعيد المقبري.
والقائل هو يزيد بن خالد بن موهب الشيخ الثالث من شيوخ أبي داود في سند الحديث.
قوله: [وقال قتيبة: هو في كتابي عن سعيد بن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم].
يعني أنه ليس من طريق سعد ولكن سعيد بن أبي سعيد رفعه إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، فيكون من قبيل المرسل، لكن الحديث -كما هو معلوم- ثابت من الطريق الأولى، وسيأتي من طرق أخرى.(177/15)
إسناد آخر لحديث التغني بالقرآن وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو عن ابن أبي مليكة عن عبيد الله بن أبي نهيك عن سعد رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثله].
ثم أورد الحديث من طريق أخرى عن سعد بن أبي وقاص، وهو مثل اللفظ المتقدم، أي: مثل المتن السابق.
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا سفيان بن عيينة].
هو سفيان بن عيينة المكي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو].
هو عمرو بن دينار، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن أبي مليكة عن عبيد الله بن أبي نهيك عن سعد].
قد مر ذكرهم، وعبيد الله بن أبي نهيك يقال له: عبد الله ويقال له: عبيد الله.
[عن عبيد الله بن أبي نهيك].(177/16)
شرح حديث أبي لبابة في التغني بالقرآن
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الأعلى بن حماد حدثنا عبد الجبار بن الورد قال: سمعت ابن أبي مليكة يقول: قال عبيد الله بن أبي يزيد: (مر بنا أبو لبابة فاتبعناه حتى دخل بيته، فدخلنا عليه فإذا رجل رث البيت رث الهيئة، فسمعته يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ليس منا من لم يتغن بالقرآن) قال: فقلت لـ ابن أبي مليكة: يا أبا محمد! أرأيت إذا لم يكن حسن الصوت؟ قال: يحسنه ما استطاع].
قوله: [(مر بنا أبو لبابة فاتبعناه فدخل بيته فإذا رجل رث البيت رث الهيئة)] يعني: ليس هناك زيادة في أمور البيت، وإنما هي أمور سهلة.
قوله: [(فسمعته يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ليس منا من لم يتغن بالقرآن)] هو مثل الذي قبله.
قوله: [فقلت لـ ابن أبي مليكة: يا أبا محمد! أرأيت إذا لم يكن حسن الصوت؟ قال: يحسنه ما استطاع] يعني أنه يجتهد في تحسينه إذا لم يكن حسن الصوت.
والقائل هو تلميذ ابن أبي مليكة عبد الجبار بن الورد.
قوله: [يا أبا محمد].
هذه كنية ابن أبي مليكة.(177/17)
تراجم رجال إسناد حديث أبي لبابة في التغني بالقرآن
قوله: [حدثنا عبد الأعلى بن حماد].
عبد الأعلى بن حماد لا بأس به، وهو بمعنى (صدوق)، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا عبد الجبار بن الورد].
عبد الجبار بن الورد صدوق يهم، أخرج له أبو داود والنسائي.
[قال سمعت ابن أبي مليكة يقول: قال عبيد الله بن أبي يزيد].
عبيد الله بن أبي يزيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي لبابة].
هو أبو لبابة الأنصاري رضي الله عنه، وهو صحابي أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة.(177/18)
معنى قوله (ليس منا)
قوله: [ليس منا] يعني أنه ليس على طريقتنا أو ليس على منهجنا، أو على ما ينبغي أن يكون عليه من هو منا، وهذا يدل على تأكيد واستحباب تحسين الصوت بالقرآن.(177/19)
بيان معنى التغني بالقرآن عند وكيع وابن عيينة وتراجم رجال الإسناد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن سليمان الأنباري قال: قال وكيع وابن عيينة: يعني: يستغني به].
لا شك في أن القرآن يستغنى به وبالسنة عن غيرهما؛ لأنهما الأساس وهما مصدر كل خير، ولكن المقصود هو تحسين الصوت بالتلاوة وليس المقصود به الاستغناء بالقرآن.
فقولهما: [يستغني به] هو من الغنى والاكتفاء، ولكن المقصود -كما تقدم- هو تحسين الصوت بالقرآن.
وقد سبق عن ابن أبي مليكة أنه قيل له: [أرأيت إن لم يكن حسن الصوت؟ قال: يحسن صوته ما استطاع].
قوله: [حدثنا محمد بن سليمان الأنباري].
محمد بن سليمان الأنباري صدوق، أخرج له أبو داود.
[قال: قال وكيع] هو وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وابن عيينة].
هو سفيان الذي مر قريباً.
وهذا يقال له: مقطوع؛ لأن الإسناد الذي ينتهي إلى من دون الصحابي يقال له: مقطوع، والذي ينتهي إلى الصحابي يقال له: موقوف، والذي ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له: مرفوع.
إذاً: هذا مقطوع المتن؛ لأن المقطوع هو من صفات المتن، أما الانقطاع فهو من صفات الإسناد، فهذا هو الفرق بين المقطوع والمنقطع، وهما نوعان من أنواع علوم الحديث.(177/20)
شرح حديث (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب حدثني عمر بن مالك وحيوة عن ابن الهاد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به)].
قوله: [(ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به)] يعني حسن الصوت بالقراءة؛ لأن القرآن المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إنما يتلوه نبينا عليه الصلاة والسلام، وأما سائر الأنبياء فإنهم لا يتلون إلا كتبهم، كما جاء في الحديث أن أباموسى أعطي مزماراً من مزامير آل داود في حسن صوته وحسن قراءته، فالمراد به هنا حسن الصوت بالقراءة وليس بالقرآن الذي هو منزل على نبينا محمد عليه الصلاة والسلام؛ لأن القرآن المنزل على نبينا محمد عليه الصلاة والسلام لم ينزل على أحد قبله، ولكن الأنبياء السابقين نزلت عليهم الكتب وهم يقرءونها.
وأما ذكر القرآن في الكتب السابقة فقد جاء في القرآن في قول الله عز وجل: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:196] والمقصود أنه جاء ذكره وليس هو؛ لأن القرآن لم ينزل -حتى يكون مسطراً في كتب الأولين- على أحد قبل نبينا عليه الصلاة والسلام.
قوله: [(أذن)] يعني: استمع.
وقوله: [(يجهر به)] ليس تفسيراً للتغني، ولكن لبيان أنه يقرأ ويجهر ويحسن صوته به، ومن المعلوم أن ظهور الصوت وتحسينه إنما يعرف عندما يجهر به، والجهر ليس المقصود به التغني؛ لأنه قد يجهر به بدون ترتيل وبدون تزيين، وقد يجهر به وهو مسرع سرعة شديدة، فليس هذا هو التغني، وإنما المقصود بالتغني تحسين الصوت بالقراءة.(177/21)
تراجم رجال إسناد حديث (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن)
قوله: [حدثنا سليمان بن داود المهري].
هو سليمان بن داود المهري المصري ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[أخبرنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني عمر بن مالك].
عمر بن مالك لا بأس به، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[وحيوة].
هو حيوة بن شريح المصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن الهاد].
هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن إبراهيم بن الحارث].
هو محمد بن إبراهيم الحارثي التيمي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سلمة بن عبد الرحمن].
هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(177/22)
الأسئلة(177/23)
حكم قراءة المرأة القرآن لغير محارمها استدلالاً بحديث أم سلمة
السؤال
على اعتبار صحة حديث أم سلمة هل يمكن الاستدلال بجواز قراءة المرأة للرجال حيث نعتت أم سلمة قراءته صلى الله عليه وسلم حرفاً حرفاً؟
الجواب
معلوم أن أم سلمة أخبرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي تخبر بالقراءة كما تلقي الحديث، وكون المرأة تقرأ للرجال يصلح، وإنما إذا كانوا من محارمها فإنها تقرأ لهم، وأما غير المحارم فلا تقرأ لهم.(177/24)
حكم قراءة المأموم الفاتحة والإمام يقرأ السورة بعدها
السؤال
ما حكم قراءة الفاتحة عندما يبدأ الإمام في السورة في الصلاة الجهرية؟
الجواب
المأموم يقرأ الفاتحة والإمام يقرأ السورة.(177/25)
حكم تقليد ومحاكاة أحد القراء في القراءة
السؤال
هل يجوز تقليد أحد من أئمة القراءة في القراءة؟
الجواب
لا يصح للإنسان أن يتكلف ويحاكي الناس، وإنما يأتي بالقراءة كما يسر الله له، دون أن يتكلف محكاة أحد، ويحسن صوته ما استطاع دون محاكاة وتكلف.(177/26)
التشديد فيمن حفظ القرآن ثم نسيه(177/27)
شرح حديث: (ما من امرئ يقرأ القرآن ثم ينساه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب التشديد فيمن حفظ القرآن ثم نسيه.
حدثنا محمد بن العلاء أخبرنا ابن إدريس عن يزيد بن أبي زياد عن عيسى بن فائد عن سعد بن عبادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من امرئ يقرأ القرآن ثم ينساه إلا لقي الله عز وجل يوم القيامة أجذم)].
قوله: [باب التشديد فيمن حفظ القرآن ثم نسيه] هذا من الوعيد، ولكن هذا الحديث غير صحيح وغير ثابت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.
قوله: [(ما من امرئ يقرأ القرآن ثم ينساه إلا لقي الله عز وجل يوم القيامة أجذم)] الأجذم فسر بعدة تفسيرات، قيل: إن فيه الجذام، وقيل: إنه أقطع اليد، وقيل: إنه لا حجة له.
ولكن الحديث غير صحيح؛ لأن فيه ثلاث علل: الأولى: أن يزيد بن أبي زياد ضعيف.
الثانية: أن شيخه عيسى بن فائد مجهول.
الثالثة: رواية عيسى بن فائد عن الصحابة منقطعة؛ لأنه جاء في بعض الأسانيد: عن عيسى بن فائد عن رجل عن سعد بن عبادة.(177/28)
تراجم رجال إسناد حديث (ما من امرئ يقرأ القرآن ثم ينساه)
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء].
هو أبو كريب، مشهور بكنيته، وأبو داود رحمه الله كثيراً ما يذكره باسمه، أما مسلم فغالباً ما يذكره بكنيته، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا ابن إدريس].
هو عبد الله بن إدريس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يزيد بن أبي زياد].
يزيد بن أبي زياد ضعيف، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عيسى بن فائد].
عيسى بن فائد مجهول، أخرج له أبو داود وحده.
[عن سعد بن عبادة].
سعد بن عبادة رضي الله عنه هو سيد الخزرج، وحديثه أخرجه أصحاب السنن الأربعة.(177/29)
حكم من نسي القرآن بعد حفظه إعراضاً عنه أو غير إعراض عنه
إن من حفظ القرآن ثم نسيه إعراضاً عنه لا شك في أنه على خطر، أما من نسيه من غير إعراض فلا شك في أنه خسر خسارة كبيرة وفاته خير كثير، والإنسان عندما يوفقه الله عز وجل لحفظ القرآن أو لحفظ شيء منه ينبغي له أن يحرص على تعاهده.(177/30)
نزول القرآن على سبعة أحرف(177/31)
شرح حديث (إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: أنزل القرآن على سبعة أحرف.
حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (سمعت هشام بن حكيم بن حزام رضي الله عنهما يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقرأنيها، فكدت أن أعجل عليه، ثم أمهلته حتى انصرف، ثم لببته بردائه فجئت به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت: يا رسول الله! إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اقرأ.
فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هكذا أنزلت.
ثم قال لي: اقرأ.
فقرأت فقال: هكذا أنزلت.
ثم قال: إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه)].
قوله: [باب: أنزل القرآن على سبعة أحرف].
أورد المصنف في هذا الباب عدة أحاديث، أولها: حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [(أنه سمع هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان على خلاف ما سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقرأه إياها، فـ عمر ذهب بـ هشام إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وقال: إن هذا يقرأ سورة الفرقان على وجه لم تقرئني إياه، فقال له: اقرأ يا هشام فقرأ فقال: [(هكذا أنزلت)]، ثم بعد ذلك قال لـ عمر: اقرأ، فقرأ فقال: [(هكذا أنزلت)] يعني أن كلاً من القراءتين مما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قراءة هشام وقراءة عمر.
قوله: [(إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف)].
اختلف في المراد بالأحرف السبعة، فقيل: المقصود بها أوجه من أوجه لغة العرب، أي أن القرآن نزل على هذا الوجه للتخفيف في أول الأمر؛ لأن العرب كانوا متفرقين وكانوا مختلفين وكانوا متنابذين وكل له لغته، ويكون عند هذه القبيلة ما ليس عند القبيلة الأخرى، ولكن لما جمع بينهما الإسلام واتصل بعضهم ببعض وذهب ما بينهم من العداوة والشحناء بسبب الإسلام وعرف كل ما عند الآخرين من اللغة قام عثمان بن عفان رضي الله عنه فجمع الناس على حرف واحد من الأحرف السبعة؛ حتى لا يحصل الاختلاف بين الناس؛ لأن المقصود من إنزال القرآن على سبعة أحرف هو التخفيف، وقد حصل ذلك بالتقاء العرب بعضهم ببعض وفهم كل واحد ما عند الآخرين، فلم يكن هناك حاجة إلى بقاء الأحرف السبعة التي نزلت للتخفيف، فعند ذلك قصر عثمان رضي الله عنه -عندما جمع القرآن- الناس على حرف واحد، وأحرق ما سوى ذلك؛ حتى لا يحصل الاختلاف.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في كتاب (إعلام الموقعين) أدلة كثيرة لسد الذرائع، ذكر تسعة وتسعين دليلاً كلها تدل على سد الذرائع، وختمها بجمع عثمان القرآن على حرف واحد وأنه سد لذريعة الاختلاف، ووافقه على ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين.
ومما ينبغي أن يعلم أن الأحرف غير القراءات؛ لأن القراءات موجودة لم تنته، وأما الأحرف السبعة فإنه ليس هناك عند الناس إلا حرف واحد، وهو الموجود في المصحف الذي جمعه عثمان، والقراءات تختلف باختلاف النقط والشكل والحركة مثل: (يعلمون (و (تعلمون)، ومثل: (قال) و (قل)، ومثل: (عجبتَ) و (عجبتُ)، فهذه قراءات موجودة، أما الأحرف التي تأتي فيها الكلمة بعدة ألفاظ فإنها انتهت ولم يبق عند الناس إلا حرف واحد هو الذي جمعه أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، ووافقه على ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم وأرضاهم.
ثم إنه لا يلزم أن تكون كل كلمة فيها سبعة أحرف؛ لأنه ليس المراد بالعدد التكثير كما يقوله بعض أهل العلم، وإنما المقصود بالسبعة الأحرف سبع لغات لا يتجاوزها؛ لأنه -كما سيأتي في الحديث- كان يستزيد مرة ثم مرة حتى وصل السابعة ثم وقف عند ذلك.
إذاً: المقصود أنه ينتهي إلى سبعة أحرف، ولا يلزم أن تكون كل كلمة على سبعة أحرف، بل يمكن أن تكون كلمات بحرف واحد وهذا هو الكثير، وبعض الكلمات تكون بحرفين، وبعضها بسبعة، ولكن لا تزيد على السبعة.(177/32)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف)
قوله: [حدثنا القعنبي].
هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة الإمام المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة بن الزبير].
هو عروة بن الزبير بن العوام، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن عبد القاري].
عبد الرحمن بن عبد القاري يقال له رؤية وذكره العجلي في ثقات التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: سمعت عمر بن الخطاب].
هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(177/33)
معنى قوله: (فكدت أن أعجل عليه ثم أمهلته حتى انصرف)
قال عمر رضي الله عنه: [(فكدت أن أعجل عليه ثم أمهلته حتى انصرف ثم لببته بردائه)].
يعني: أراد أن يقاطعه، ولكنه تركه حتى انتهى فأخذ بردائه وذهب به إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهذا يدلنا على عناية الصحابة بالقرآن واهتمامهم به والمحافظة عليه، وأنه لما سمع شيئاً يخالف ما كان عليه ظن أن هذا شيء غير صحيح، فعمل معه هذا العمل حيث ذهب به إلى رسول عليه الصلاة والسلام.
وهشام بن حكيم لا أعلم هل كان في صلاة أو في قراءة؛ لكن عمر أمهله حتى انتهى من القراءة.(177/34)
شرح أثر الزهري في معنى الأحرف السبعة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر قال: قال الزهري: إنما هذه الأحرف في الأمر الواحد، ليس يختلف في حلال ولا حرام].
هذا الأثر المقطوع عن الزهري رحمة الله عليه قال فيه: [إنما هذه الأحرف في الأمر الواحد، ليس يختلف في حلال ولا حرام] يعني: تكون عند بعض العرب بهذا اللفظ وعند بعض العرب بلفظ آخر، كما جاء في بعض الأحاديث أن بعض القبائل كانوا لا يعرفون السكين وإنما هي عندهم مدية، وعند بعض القبائل هي سكين، لكن كلا اللفظين في معنى واحد.
فليس المعنى أن هذا الحرف فيه حلال وهذا فيه حرام، وإنما هو على أمر واحد إما حلال وإما حرام، ولكن الاختلاف إنما هو في الألفاظ من أجل التيسير.(177/35)
تراجم رجال إسناد أثر الزهري في معنى الأحرف السبعة
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى بن الفارس].
هو محمد بن يحيى بن فارس الذهلي، ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا عبد الرزاق] هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري، ثم اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: قال الزهري].
الزهري قد مر ذكره.(177/36)
شرح حديث (إني أقرئت القرآن فقيل لي على حرف أو حرفين؟)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا همام بن يحيى عن قتادة عن يحيى بن يعمر عن سليمان بن صرد الخزاعي رضي الله عنه عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يا أبي! إني أقرئت القرآن فقيل لي: على حرف أو حرفين؟ فقال الملك الذي معي: قل: على حرفين، قلت: على حرفين، فقيل لي: على حرفين أو ثلاثة؟ فقال الملك الذي معي: قل: على ثلاثة، قلت: على ثلاثة، حتى بلغ سبعة أحرف، ثم قال: ليس منها إلا شاف كاف إن قلت سميعاً عليماً عزيزاً حكيماً، ما لم تختم آية عذاب برحمة، أو آية رحمة بعذاب)].
قوله: [(أقرئت القرآن فقيل لي: على حرف أو حرفين؟ فقال الملك الذي معي: قل: على حرفين حتى بلغ إلى سبعة أحرف)] أن الأحرف منتهاها سبعة، وأنه ليس المراد أكثر من سبعة أحرف؛ لأنه ذكر هذا الترقي من واحد إلى أن وصل إلى سبعة، ثم قال: [(ليس منها إلا شاف كاف)] يعني: أي واحد منها هو شاف كاف.
قوله: [(إن قلت سميعاً عليماً عزيزاً حكيماً، ما لم تختم آية عذاب برحمة أو آية رحمة بعذاب)]، هذا فيما مضى وفي شيء قد انتهى، وأما الآن فليس أمام الناس إلا ما هو موجود في المصحف، فيتعين عليهم أن يأتوا بما هو موجود في المصحف، وليس بإمكانهم أن يأتوا بشيء خلاف ذلك.
وهذا يفيد أن هذا مما كان موجوداً من قبل، ولكنه بعد جمع القرآن على حرف واحد في عهد عثمان رضي الله عنه لم يكن أمام أي مسلم إلا أن يأتي بالقرآن على ما هو عليه، وعلى الصيغة وعلى اللفظ وعلى الترتيل الذي جاء في هذا المصحف الذي جمعه عثمان رضي الله عنه وأرضاه.(177/37)
تراجم رجال إسناد حديث (إني أقرئت القرآن فقيل لي على حرف أو حرفين؟)
قوله: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي].
مر ذكره.
[حدثنا همام بن يحيى].
هو همام بن يحيى العوذي، وهو ثقة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
مر ذكره.
[عن يحيى بن يعمر].
يحيى بن يعمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سليمان بن صرد].
عن سليمان بن صرد رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي بن كعب].
أبي بن كعب رضي الله عنه هو صحابي مشهور، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(177/38)
شرح حديث (إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك على سبعة أحرف)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن المثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن الحكم عن مجاهد عن ابن أبي ليلى عن أبي بن كعب رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان عند أضاة بني غفار، فأتاه جبريل صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله عز وجل يأمرك أن تقرئ أمتك على حرف، قال: أسأل الله معافاته ومغفرته، إن أمتي لا تطيق ذلك، ثم أتاه ثانية فذكر نحو هذا، حتى بلغ سبعة أحرف، قال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك على سبعة أحرف، فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا)].
أورد أبو داود حديث أبي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم اُقرِئ القرآن على حرف، فسأل الله معافاته ومغفرته، فزيد حتى وصل إلى سبعة أحرف، وأن أي حرف قرءوا به فقد أصابوا.
قوله: [كان النبي صلى الله عليه وسلم عند أضاة بني عفار].
الأضاة: هي غدير ماء.(177/39)
تراجم رجال إسناد حديث (إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك على سبعة أحرف)
قوله: [حدثنا ابن المثنى].
هو محمد بن المثنى العنزي أبو موسى الملقب بـ الزمن، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا محمد بن جعفر].
هو محمد بن جعفر الملقب بـ غندر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعبة].
شعبة مر ذكره.
[عن الحكم].
هو الحكم بن عتيبة الكندي الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مجاهد].
هو مجاهد بن جبر المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن أبي ليلى].
هو عبد الرحمن بن أبي ليلى الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي بن كعب] أبي بن كعب رضي الله عنه مر ذكره.(177/40)
حكم كتابة المصحف بحرف الإملاء دون الرسم العثماني
لا يجوز أن يكتب القرآن بالكتابة المعهودة عند الناس؛ لأن كتابته بذلك لا يحصل معها بقاء القراءات والرسم، فمثلاً: قول الله عز وجل في سورة الزخرف: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف:24] تكتب فيه كلمة (قال) هكذا (قل)؛ لكونها قد قرئت بـ (قُل)، فلو كتبت (قال) بالقاف وبعدها ألف ثم لام فإنها لا تستوعب قراءة (قل) ولا يمكن أن تدخل قراءة (قل) في كلمة (قال)، لكن لما كانت في رسم المصحف متصلة فيها القاف باللام فعند قراءة (قل) تكون القاف مفتوحة وألف صغيرة فوق القاف تدل على أن اللام مفتوحة، وعلى قراءة (قُلْ) تكون القاف مضمومة واللام ساكنة، فالرسم استوعب القراءتين، لكن لو رسمت على قراءة (قال) فإنها لا تحوي القراءتين، وكذلك الآية التي في سورة الأنبياء، حيث يقول عز وجل: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ} [الأنبياء:112] ترسم هكذا (قل) بأن ترسم القاف متصلة باللام، وأما الكلمة التي ليس فيها القاف متصلة باللام مثل: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23] فإنك تجد الألف موجودة مع القاف، وذلك عندما لا يكون هناك احتمال لأي قراءة ثانية، فجاءت الألف منفصلة عن اللام وليست القاف متصلة باللام.
ومثل قول الله عز وجل في آخر سورة التحريم: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} [التحريم:12] فقوله: (وكتبه) هو في قراءة حفص، أما قراءة الجمهور فهي (وكتابه)، فجاء الرسم على أن التاء متصلة بالباء هكذا (كتبه) والتاء مفتوحة مع ألف صغيرة فوق التاء، وعند قراءة (كتبه) تكون التاء مضمومة، ولو كتبت و (كتابه) بحيث تكون الألف متصلة بالتاء ثم الباء تأتي بعد ذلك مع الهاء لما استوعبت قراءة (كتبه).
فإذاً: رسم المصحف والمحافظة عليه أمر مطلوب؛ لأن فيه استيعاب القراءات وتحمل القراءات، فلا يجوز أن يكتب القرآن بحروف الإملاء، ومعلوم أن حروف الإملاء قد تكتب على خلاف ما ينطق به، مثل (لكن) فلا أحد يكتب فيها الألف مع اللام ثم (كن) لوحدها هكذا (لاكن)؛ لأن الناس اصطلحوا على أن اللام متصلة بالكاف فلا تكتب بلام ألف ثم كاف ونون (لاكن) مع أن فيها ألفاً.
إذاً: رسم المصحف له خاصيته وله ميزته، وذلك أنه يستوعب القراءات.(177/41)
طرق أثر (عدد درج الجنة عدد آي القرآن) وبيان درجته ومظانه
وهذا الأثر الذي ذكره الشيخ الألباني في المجلد الخامس من السلسة الضعيفة هو موقوف على عائشة رضي الله عنها وضعيف؛ لأن فيه معفس بن عمران، لكن له طريق آخر لم يذكره الشيخ، حيث ورد الحديث من طريقين عن عائشة رضي الله عنها: أحدهما مرفوع، والآخر موقوف، أما المرفوع فرواه البيهقي في شعب الإيمان في الجزء الثاني قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: أخبرنا أبو الحسين محمد بن أحمد الخياط ببغداد من أصل كتابه قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن روح قال: حدثنا الحكم بن موسى قال: حدثنا شعيب بن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (عدد درج الجنة عدد آي القرآن، فمن دخل الجنة من أهل القرآن فليس فوقه درجة).
قال الحاكم: هذا إسناد صحيح ولم يكتب هذا المتن إلا بهذا الإسناد وهو من الشواذ.
وفي هذا الإسناد محمد بن أحمد الخياط القنطري شيخ الحاكم، ترجم له الخطيب في تاريخ بغداد في الجزء الأول، وذكر عن ابن أبي الفوارس أن فيه ليناً، وشيخه محمد بن روح لعله البزاز ترجم له الخطيب في الجزء الخامس، ولم يذكر فيه شيئاً، والحديث ذكره الألباني رحمه الله في ضعيف الجامع وقال: ضعيف، ورمز له بـ البيهقي في الشعب، إلا أنه وقع عنده بلفظ (عدد آنية الجنة) بدل (عدد درج الجنة) وأشار إلى السلسلة الضعيفة برقم لم يطبع بعد، ثم ذكر الموقوف الذي تكلم عليه الذي أخرجه ابن أبي شيبة.
وهذا الذي عند البيهقي ضعفه الألباني.(177/42)
تفسير الألباني لصاحب القرآن المقصود في الحديث
الشيخ الألباني في السلسلة أخرج حديث: (يقال لصاحب القرآن) وذكر فائدة في تفسير معنى صاحب القرآن، وهي أن المقصود به الحافظ الذي يحفظ القرآن، وهذا لا شك في أنه داخل في هذا، لكن يحتمل أيضاً أن يكون غيره.
وكما أنه ينزع القرآن من الصدور في آخر الزمان فلا يبقى منه شيء فكذلك يمكن أن يوضع في الصدور ويتمكن الإنسان مع ذلك من القراءة إذا كان الإنسان معنياً بالقراءة في المصحف في حياته وكثير التلاوة، ولا شك في أن الذي يحفظ القرآن أمره واضح؛ لأن كثرة قراءته تختلف عن غيره من ناحية أنه يتمكن من القراءة راكباً وماشياً ومضطجعاً وفي جميع أحواله، بخلاف الذي يقرأ المصحف، فإنه لا يقرأ إلا في حالة معينة يجلس فيها لقراءة القرآن.
والله تعالى أعلم.(177/43)
شرح سنن أبي داود [178]
الدعاء عبادة من العبادات، وقربة من القربات، وبه تطلب الحاجات وتستنزل الرحمات، وقد شرع له جملة من الآداب المهمة التي يتأدب بها السائل حين يسأل ربه الحيي الكريم الذي يستحي من عبده حين يدعوه أن يرد يديه صفراً، ومن هذه الآداب العظيمة: أن يسبق الدعاء جملة من الثناء على الله تعالى ثم الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا شرع المرء في دعائه فليدع بجوامع الدعاء، وليسأل الله تعالى من خيري الدنيا والآخرة، وليحذر أن يعتدي في دعائه فيدعو بما لا يسأل مثله، فإذا فرغ من دعائه فلا يستعجل الإجابة ويستبطئ المطلوب، بل عليه أن يلح على الله بالدعاء، وليعلم أن ما قضاه الله خير له.(178/1)
ما جاء في الدعاء(178/2)
شرح حديث (الدعاء هو العبادة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الدعاء.
حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن منصور عن ذر عن يسيع الحضرمي عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وعلى وسلم قال: (الدعاء هو العبادة ((قَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)) [غافر:60])].
قوله: [باب الدعاء] الدعاء هو الطلب والسؤال من الله عز وجل، وقد يطلق ويراد به ذكر الله عز وجل، ويكون من قبيل دعاء العبادة؛ لأن الدعاء نوعان: دعاء عبادة ودعاء مسألة، فدعاء المسألة هو كون الإنسان يسأل ويقول: (رب اغفر ل) ي، (رب ارحمني)، (رب هب لي كذا)، (رب اصرف عني كذا)، ودعاء العبادة يدخل تحته الذكر، فهو عبادة لله عز وجل وليس مسألة.
وقوله: [(الدعاء هو العبادة)] يدلنا على عظم شأن الدعاء، وهذا اللفظ كأنه حصر، وهو مثل قوله: (الحج عرفة)، ومثل قوله: (الدين النصيحة) إذاً: الدعاء له شأن عظيم، وهو عبادة لله عز وجل، فيسأل الإنسان ربه، ويعول عليه، ويسأل حاجاته منه ولا يسأل غيره، كما جاء في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)، وفي سورة الفاتحة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].
فقوله: [(الدعاء هو العبادة)] يدلنا على عظم شأن الدعاء، وأنه من أنواع العبادة، وأنواع العبادة كثيرة، ومنها: الدعاء، والخوف، والرجاء، والتوكل، والرغبة، والرهبة، والإنابة، والاستغاثة، والاستعانة، والخشية، كل ذلك من أنواع العبادة.
وجاء في حديث ضعيف: (الدعاء مخ العبادة)، وأما قوله: [(الدعاء هو العبادة)] فهو حديث صحيح.
وقوله تعالى: [(((وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)) [غافر:60])] فيه أمر بالدعاء ووعد بالإجابة، ثم قال بعد ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] فدل هذا على أن الدعاء عبادة.
فهذا حديث عظيم يدل على عظم شأن الدعاء، ولهذا صدر به أبو داود رحمه الله الأحاديث التي تتعلق بهذا الباب الذي هو باب الدعاء.(178/3)
تراجم رجال إسناد حديث (الدعاء هو العبادة)
قوله: [حدثنا حفص بن عمر].
حفص بن عمر ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن منصور].
هو منصور بن المعتمر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ذر].
هو ذر بن عبد الله الهمداني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يسيع الحضرمي].
يسيع الحضرمي ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأصحاب السنن.
[عن النعمان بن بشير].
النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما هو صحابي ابن صحابي، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، وهو من صغار الصحابة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام توفي وعمره ثمان سنوات، وحدث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وجاءت أحاديث له صرح فيها بالسماع، مثل الحديث المشهور الذي هو من قواعد الإسلام ومن جوامع الكلم، وهو: (الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس) فإنه قال فيه: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا).
ورواية الصغار إذا تحملوا في الصغر وأدوا في الكبر معتبرة عند المحدثين، وكذلك الكافر إذا تحمل في حال كفره وأدى في حال إسلامه.
فمن أمثلة تحمل الصغير في حال صغره وأدائه في حال كبره حديث النعمان بن بشير: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الحلال بين والحرام بين).
وكذلك هذا الحديث وغيره من الأحاديث.
وتحمل الكافر في حال كفره وتأديته بعد إسلامه مثاله حديث أبي سفيان الطويل المشهور مع هرقل الذي يحكي فيه ويذكر ما كان عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام من الصفات والأخلاق، فإنه قال ذلك في حال كفره وأداه في حال إسلامه.(178/4)
شرح حديث (سيكون قوم يعتدون في الدعاء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن شعبة عن زياد بن مخراق عن أبي نعامة عن ابن لـ سعد أنه قال: سمعني أبي رضي الله عنه وأنا أقول: (اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وبهجتها وكذا وكذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها وكذا وكذا، فقال: يا بني! إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: سيكون قوم يعتدون في الدعاء، فإياك أن تكون منهم، إنك إن أعطيت الجنة أعطيتها وما فيها من الخير، وإن أعذت من النار أعذت منها وما فيها من الشر)].
ومعنى هذا الحديث أن هناك قوماً يعتدون في الدعاء، وجعل سعد رضي الله عنه ما قاله ابنه من الاعتداء في الدعاء، وهو كون الإنسان يدعو بأشياء لا حاجة إليها، ويكثر من ذكرها وتعدادها، كذكر ما للنار من الصفات وما فيها من الأهوال، وذكر ما في الجنة وصفاتها وأحوالها، فهذا يعتبر من الاعتداء في الدعاء الذي حذر منه رسول الله عليه الصلاة والسلام.
قوله: [إياك أن تكون منهم] إلى آخره هو من كلامه لابنه، أما الحديث المرفوع فهو [(سيكون قوم يعتدون في الدعاء)].
هذا الحديث في إسناده ابن سعد الذي هو مبهم ولم يسم، وقال المنذري: إن كان عمر بن سعد فإنه ضعيف.
والحديث صححه الألباني وأحاله إلى حديث مضى عن عبد الله بن مغفل، وهو بمعناه، وفيه: (إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء) فالحديث جاء من طريق أخرى عن أبي نعامة نفسه الذي يروي عن ابن سعد، لكن هنا يروي عن عبد الله بن مغفل، فيكون الحديث صحيحاً.
وقد مر عند أبي داود في باب الإسراف في الماء وفيه: (إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء) فأورده في كتاب الطهارة من أجل قوله: (يعتدون في الطهور) ومعناه أنهم يتجاوزون الحد فيه، والدعاء هو الذي يطابق ما نحن فيه، ويطابق ما عندنا في هذه الترجمة، والحديث صحيح؛ لأنه جاء من طريق أخرى صحيحة، فوجود هذا المبهم لا يؤثر؛ لأنه ثبت من طريق أبي نعامة نفسه الذي يروي عن ابن لـ سعد، حيث روى عن عبد الله بن مغفل أن ابناً له قال: (اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها، فقال: أي بني! سل الله الجنة وتعوذ به من النار؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء).(178/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (سيكون قوم يعتدون في الدعاء)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي، مر ذكره.
[عن زياد بن مخراق].
زياد بن مخراق ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود.
[عن أبي نعامة].
هو قيس بن عباية، وهو ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة، وأصحاب السنن.
[عن ابن لـ سعد أنه قال: سمعني أبي].
أبوه هو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
قوله: [عن ابن لـ سعد].
يقول الحافظ ابن حجر: يحتمل أن يكون مصعب بن سعد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وذكره المبهمات.
وعلى كلٍ فالاحتمال قائم؛ لأن المنذري يقول: إن كان عمر فإنه ضعيف، ولكن الحافظ يقول: إن عمر بن سعد صدوق.
ونقول: سواءٌ أكان ضعيفاً أم صدوقاً أم ثقة فالحديث ثابت عن عبد الله بن مغفل، وهو صحيح.(178/6)
شرح حديث (إذا صلى أحدكم فليبدأ بتمجيد ربه جل وعز (
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الله بن يزيد حدثنا حيوة أخبرني أبو هانئ حميد بن هانئ أن أبا علي عمرو بن مالك حدثه، أنه سمع فضالة بن عبيد رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (سمع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم رجلاً يدعو في صلاته لم يمجد الله تعالى، ولم يصل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: عجل هذا، ثم دعاه فقال له أو لغيره: إذا صلى أحدكم فليبدأ بتمجيد ربه جل وعز والثناء عليه، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم يدعو بعد بما شاء)].
قوله: [(أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يدعو في صلاته لم يمجد الله تعالى، ولم يصل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عجل هذا، ثم دعاه وقال له أو لغيره: إذا صلى أحدكم فليبدأ بتمجيد ربه جل وعز والثناء عليه، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو بعد بما شاء)، يعني: من أسباب قبول الدعاء أن يمهد قبله بحمد الله والثناء عليه، والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا جاءت صلاة الجنازة مشتملة على الحمد، وعلى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم الدعاء؛ لأن قراءة الفاتحة حمد وثناء على الله عز وجل، والصلوات الإبراهيمية فيها صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك يكون الدعاء للميت والسؤال له بالمغفرة والرحمة والشفاعة له.
ثم أيضاً فيما يتعلق بالصلاة أن التشهد يسبق السلام، وهو مشتمل على حمد الله والثناء عليه، فقوله: (التحيات لله والصلوات والطيبات) حمد وثناء على الله عز وجل، وبعدها: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) ثم بعد ذلك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك الدعاء، ففيه تمهيد للدعاء.
والنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أرشد المسلم أن يجمع في صلاته بين التمجيد والثناء على الله، ثم الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، ثم الدعاء بما أحب بعد ذلك، فيكون قد مهد لدعائه بثناء على الله، وبصلاة وسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولعل اختيار الإمام أحمد رحمة الله عليه دعاء الاستفتاح: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك)، لكونه اشتمل على تعظيم لله عز وجل والثناء عليه، وكما هو معلوم أنه ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنواع من الاستفتاحات، منها ما هو ثناء، ومنها ما هو دعاء، وكل ذلك حق، والاختلاف فيها اختلاف تنوع، فإذا اختار أي واحد من هذه الأنواع فهو على حق.(178/7)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا صلى أحدكم فليبدأ بتمجيد ربه جل وعز)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام الفقيه المحدث، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الله بن يزيد].
هو عبد الله بن يزيد المقري المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حيوة].
هو حيوة بن شريح المصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وحيوة بن شريح اثنان: أحدهما في طبقة متقدمة وهو هذا المصري، والآخر في طبقة متأخرة من شيوخ أبي داود، وهو حمصي، فإذا جاء حيوة بن شريح يروي عنه أبو داود فهو الحمصي، وإذا جاء حيوة بن شريح بين أبي داود وبينه واسطتان أو أكثر من ذلك على حسب الأسانيد وتعدد الرواة فإنه يكون المصري المذكور في هذا السند.
[أخبرني أبو هانئ حميد بن هانئ].
أبو هانئ حميد بن هانئ لا بأس به، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن.
[أن أبا علي عمرو بن مالك].
أبو علي عمرو بن مالك ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأصحاب السنن.
[أنه سمع فضالة بن عبيد].
هو فضالة بن عبيد رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن.(178/8)
معنى قوله (إذا صلى أحدكم فليبدأ)
قوله: [(إذا صلى أحدكم فليبدأ)].
هذا يشمل الصلاة المفروضة، والصلاة هي أقوال وأعمال مفتتحة بالتكبير ومختتمة بالتسليم، وكذلك الدعاء يشمل المعنى الشرعي والمعنى اللغوي.(178/9)
الثناء على الله والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم قبل الدعاء
قوله: [(ثم يدعو بعد بما شاء)].
يعني: بعد أن يمجد الله ويثني عليه ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بما شاء ويسأل حاجاته، وهذا يكون في السجود والتشهد الأخير، أما الأدعية الواردة -مثل دعاء الاستخارة أو دعاء قنوت الوتر- فإنه يؤتى بها كما وردت.
والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وتمجيد الله جل وعلا في بداية الدعاء ليسا بواجبين، ولكنهما من أسباب قبول الدعاء ومن الأمور المرغب فيها في الدعاء.(178/10)
شرح حديث (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحب الجوامع من الدعاء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا يزيد بن هارون عن الأسود بن شيبان عن أبي نوفل عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستحب الجوامع من الدعاء، ويدع ما سوى ذلك)].
قوله: [(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحب الجوامع من الدعاء، ويدع ما سوى ذلك)].
الجوامع هي التي لفظها قليل ومعناها كثير، فهي قليلة المبنى واسعة المعنى، هذه هي جوامع الكلم، وهكذا كانت أدعية الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك الأدعية التي جاءت في القرآن، مثل قوله تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]، فهذا دعاء عظيم جامع لخير الدنيا والآخرة، وحسنة الدنيا كل خير في الدنيا، وحسنة الآخرة كل خير في الآخرة، وليس المراد شيئاً معيناً.
وقد تجد بعض السلف يفسر هذه الآية على أن المراد بها شيء معين، وبعضهم يفسرها بغير ذلك، وهذا لا يعني الحصر، وإنما يعني التوضيح، فمن قائل: الحسنة في الدنيا هي الزوجة الصالحة، وهذا حق، ومن قائل: الولد الصالح، وهذا حق، ومن قائل: الرزق الحلال، وهذا حق؛ لأن هذه كلها من حسنات الدنيا، فالتفسير لهذا اللفظ الجامع بشيء معين هو من قبيل التفسير بالمثال، وليس التفسير بالحصر.
ومثل ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث: (اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى)، (اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها)، (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، والموت راحة لي من كل شر) فأدعية الرسول صلى الله عليه وسلم جوامع؛ لأنه أوتي جوامع الكلم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
فالأولى للمسلم عندما يدعو أن يحرص على أدعية الرسول عليه الصلاة والسلام، ويعرف هذه الأدعية وما كان يدعو به ويأتي به، هذا هو الأولى وهذا هو الذي ينبغي له؛ لأن الإنسان إذا أتى بأدعية من عند نفسه قد يكون فيها تجاوز، وقد يكون فيها أمر منكر، وقد يكون فيها أمر محرم، وقد يكون فيها أمر شاذ.
ومثل ذلك الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم، فالذي ينبغي للمسلم هو أن يأتي بما ورد عن رسول الله عليه الصلاة والسلام من كيفية الصلاة عليه أخذاً بكلام المعصوم صلى الله عليه وسلم.
وإذا رجع المرء إلى إلى مثل كتاب (دلائل الخيرات) فسيجد أنه فهذا كتاب مشتمل على صلوات على الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن فيها تجاوز وفيها غلو وفيها جفاء، فاختيار الأدعية التي تأتي عن النبي صلى الله عليه وسلم هي التي فيها العصمة وفيها السلامة، وهي التي تكون أعم وأنفع؛ لأنها كلام الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(178/11)
تراجم رجال إسناد حديث (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحب الجوامع من الدعاء)
قوله: [حدثنا هارون بن عبد الله].
هو هارون بن عبد الله البغدادي الملقب بـ الحمال، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا يزيد بن هارون].
هو يزيد بن هارون الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأسود بن شيبان].
الأسود بن شيبان ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن أبي نوفل].
هو أبو نوفل بن أبي عقرب، وهو ثقة أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأبو داود والنسائي.
[عن عائشة].
هي عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق، وهي من أوعية السنة وحفظتها، وهي أحد سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(178/12)
شرح حديث (لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا القعنبي عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم المسألة؛ فإنه لا مكره له)].
قوله: [(لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم المسألة)] أي يقول: (اللهم اغفر لي) ولا يضيف إلى ذلك شيئاً من التقييد الذي هو (إن شئت).
قوله: [(فإن الله لا مكره له)] أي: فإن الله تعالى يعطي ويتفضل ويجود على عباده دون إكراه من أحد، أما العباد فمنهم من يعطي رغبة ورهبة، فتجد الشخص يعطي من يسأله من أجل رغبة في تحصيل شيء من وراء إعطائه إياه، أو يعطيه خوفاً منه، والله عز وجل لا مكره له، فلا يليق أن يسأل بهذا السؤال، وإنما يسأل بالعزيمة بدون التقييد بذكر المشيئة.
وهذا الحديث عقد له شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتاب التوحيد باباً خاصاً، وهو (باب قول اللهم اغفر لي إن شئت).
أما قوله صلى الله عليه وسلم: (طهور إن شاء الله) وقوله: (وإنا بكم إن شاء الله لاحقون) فهذا ليس من التعليق، بل هو من التحقيق؛ لأنه لابد من أن يلحق بهم، ولا يوجد احتمال أنه لا يلحق بهم، وكذلك قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [الفتح:27] يعني: تحقيقاً لا تعليقاً.
فقوله: (طهور إن شاء الله) من هذا القبيل، وليس شكاً.(178/13)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت)
قوله: [حدثنا القعنبي].
هو عبد الله بن مسلمة القعنبي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة، الإمام المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الزناد].
هو عبد الله بن ذكوان، لقبه أبو الزناد وكنيته أبو عبد الرحمن، وأبو الزناد لقب على صيغة الكنية، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعرج].
هو عبد الرحمن بن هرمز، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة] قد مر ذكره.(178/14)
شرح حديث (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن أبي عبيد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل فيقول: قد دعوت فلم يستجب لي)].
قوله: [(يستجاب لأحدكم ما لم يعجل فيقول: قد دعوت فلم يستجب لي)] يعني أنه يترك الدعاء ويعرض عن الدعاء ويهمل الدعاء؛ لأنه دعا ولم يستجب له، فيقول: قد دعوت، والإنسان إذا دعا ربه فإنه يلح عليه بالدعاء ويكرر الدعاء، وإذا لم يحصل على الإجابة فلا يترك الدعاء؛ لأنه -كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم-: إما أن يعجل له ما طلب في الدنيا، أو يصرف عنه مثله من الشر، أو يدخر له في الآخرة، ومعنى ذلك أنه على خير، والدعاء عبادة، فعلى الإنسان أن يحرص على عبادة الله عز وجل والإلحاح عليه في الدعاء، ولا يستبطئ الإجابة فيقول: دعوت ودعوت فلم يستجب لي.
واستعجال الإنسان الإجابة من أسباب عدم قبول الدعاء.(178/15)
تراجم رجال إسناد حديث (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل)
قوله: [حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب].
ابن شهاب هو محمد بن مسلم بن عبيد الله الزهري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي عبيد].
هو سعد بن عبيد الزهري ومولى ابن أزهر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة مر ذكره.(178/16)
شرح حديث (سلوا الله ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا عبد الملك بن محمد بن أيمن عن عبد الله بن يعقوب بن إسحاق عمن حدثه عن محمد بن كعب القرظي حدثني عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تستروا الجدر، من نظر في كتاب أخيه بغير إذنه فإنما ينظر في النار، سلوا الله ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها، فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم).
قال أبو داود: روي هذا الحديث من غير وجه عن محمد بن كعب كلها واهية، وهذا الطريق أمثلها، وهو ضعيف أيضاً].
قوله: [(لا تستروا الجدر)] المقصود بذلك ستر الجدر بالأمشة والستائر ونحوها، وهذا جاء فيه حديث عن عائشة رضي الله عنها في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لم يأمرني الله فيما أنعم علي أن أستر الحجارة والطين)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وهو يدل على ترك ذلك، وجمهور العلماء على كراهيته، وذلك لما فيه من الإسراف، ولما فيه من الخيلاء أو الاستكبار، وبعض أهل العلم قال بالتحريم، وهو أبو نصر المقدسي، وقد ذكر ذلك الشيخ الألباني رحمه الله في كتاب: (آداب الزفاف)، وذكر ما يتعلق بهذه المسألة، وأن الجدر لا تستر بالسجاد ولا بغير، وذكر حديث عائشة الذي أشرت إليه، أما هذا الحديث فضعيف لا يحتج به، ولكن جاء في معناه من ناحية أن الجدر لا تستر حديث عائشة الذي في صحيح مسلم، وهذا بالنسبة للجدر، وأما الأبواب والنوافذ فلا بأس بسترها للحاجة إلى ذلك، وذلك أنه إذا فتح الباب كان فيه حصول اطلاع على من في الداخل والخارج، فكونها تستر بستائر بحيث يحصل معها دخول الهواء ودخول الريح من غير كشف فلا بأس بذلك، وقد جاء في بعض الأحاديث ما يدل على ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم لما كان في مرض موته كشف الستار ورأى الناس يصلون خلف أبي بكر فسر صلى الله عليه وسلم.
إذاً: ستر الأبواب والنوافذ لا بأس به، وأما ستر الجدر فهو الذي لا يصلح، كما جاء في حديث عائشة.(178/17)
حكم النظر في كتب الآخرين
قوله: [(من نظر في كتاب أخيه بغير أذنه فإنما ينظر في النار)].
قيل: إن المقصود بالكتاب هو الكتاب الذي فيه سر، أو فيه أمانة، أو فيه شيء لا يحب صاحبه أن يطلع عليه، وكون الإنسان يطلع في كتاب أحد فيه أمور لا يريد أن يطلع عليها لا شك في أنه من أولى ما يمنع منه، وأما كتب العلم ونحوها فمن الآداب ومن الأخلاق الكريمة أن الإنسان لا يستعمل شيئاً إلا بإذن صاحبه، إلا إذا كان يعرف من عادة هذا الإنسان أنه يسمح بذلك، فإن هذا لا بأس به، ولكن كون الإنسان يأتي إلى كتب لشخص معين في بيته ويطلع عليها من غير إذنه فلا شك في أن هذا ليس من الأخلاق الكريمة، وليس من الآداب الحسنة.
وقوله: [(فإنما ينظر في النار)] فسر بعدة تفسيرات، منها: أنه يكون قريباً منها وأنها تصلاه ويصل إليه صليها وشدة حرارتها، ولكن الحديث ضعيف لا يعول عليه.(178/18)
معنى قوله (سلوا الله ببطون أكفكم)
قوله: [(سلوا الله ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها)] قد ورد ما يدل على أن الإنسان يشرع له أن يرفع يديه بحيث تكون بطون الأكف إلى السماء وظهورها إلى الأرض حال الدعاء، وقد جاء في بعض المواضع -مثل الاستسقاء- أن تكون بطونها إلى الأرض وظهورها إلى السماء أو إلى ما يلي وجه الإنسان.(178/19)
حكم المسح على الوجه بعد الفراغ من الدعاء وحكم رفع اليدين فيه
قوله: [(فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم)].
يدل هذا اللفظ على مسح الوجه، ولكن الحديث ضعيف، والأحاديث التي وردت في ذلك ضعيفة لم يثبت فيها شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والشيخ الألباني رحمه الله حققها في كتابه (إرواء الغليل) فإنه ذكر الأحاديث التي وردت في ذلك وبين ضعفها، وأنه لا يصح منها شيء، وهذا بالنسبة للمسح، وأما بالنسبة للرفع فقد جاءت نصوص فيها الرفع، وجاءت نصوص فيها عدم الرفع، وجاءت نصوص مسكوت فيها عن الرفع، فما جاء فيه الرفع فإنه يرفع فيه، وما جاء فيه أنه لا يرفع لا يرفع، وما سكت عنه فالأمر في ذلك واسع.
وقد ذكر الشيخ الألباني رحمه الله فيما يتعلق بهذا الحديث في (إرواء الغليل) كلاماً فقال: وثبت رفع اليدين في قنوت النوازل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما رفع اليدين في قنوت الوتر فثبت عن عمر وغيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعض أهل العلم حسن الحديث بمجموع الطرق، ومنهم الحافظ ابن حجر في آخر كتاب (بلوغ المرام) في كتاب الجامع، فإنه ذكر أن له شواهد تقتضي حسنه، وكذلك السيوطي في الجامع الصغير رمز له، وأقره المناوي في فيض القدير.
وذكر الألباني آثاراً كثيرة عن السلف في عدم مسح الوجه بعد الدعاء، وذكر جملة من الآثار في كلامه على هذا الحديث.
فرفع اليدين -كما هو معلوم- ثبت في مواضع، وجاء عدم الرفع في مواضع، وسُكِت عن مواضع، وكل له حكمه، وأما مسح الوجه باليدين بعد الدعاء فلم يثبت، وممن ضعف الأحاديث في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.(178/20)
تراجم رجال إسناد حديث (سلوا الله ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا عبد الملك بن محمد بن أيمن].
عبد الملك بن محمد بن أيمن مجهول العين، أخرج له أبو داود.
[عن عبد الله بن يعقوب بن إسحاق].
عبد الله بن يعقوب بن إسحاق مجهول الحال، أخرج له أبو داود والترمذي.
[عمن حدثه].
هذا مبهم ففي هذا الإسناد ثلاث علل: الأولى: أن فيه مجهول العين.
الثانية: فيه مجهول الحال.
الثالثة: فيه مبهم.
فقوله: [عمن حدثه] يقول الحافظ في فصل المبهمات: يقال: هو أبو المقدام هشام بن زياد، وهو متروك.
فهذا الإسناد ظلمات بعضها فوق بعض.
[عن محمد بن كعب القرظي].
محمد بن كعب القرظي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني عبد الله بن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(178/21)
شرح حديث (إذا سألتم الله فاسألوه ببطون أكفكم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن عبد الحميد البهراني قال: قرأته في أصل إسماعيل -يعني ابن عياش - حدثني ضمضم عن شريح حدثنا أبو ظبية أن أبا بحرية السكوني حدثه عن مالك بن يسار السكوني ثم العوفي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا سألتم الله فاسألوه ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها)، قال أبو داود: وقال سليمان بن عبد الحميد: له عندنا صحبة -يعني مالك بن يسار -].
قوله: [(إذا سألتم الله فاسألوه ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها)]، هذا الحديث من جنس الحديث الضعيف الذي تقدم، والحديث يدل على أن الإنسان عندما يسأل الله يسأله بباطن الكفين، بحيث يكونا إلى فوق، وهذا هو الغالب، إلا فيما ورد بأن يكون ظاهرهما إلى السماء كما في الاستسقاء، وكما سيأتي أيضاً في الابتهال إلى الله عز وجل.
إذاً: فالسؤال إنما يكون ببطون الأكف وليس بظهورها إلا فيما ورد بالنسبة للظهور، وأما قلب الكفين في الاستعاذة من العذاب ومن الشرور فلا نعلم شيئاً يدل عليه.(178/22)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا سألتم الله فاسألوه ببطون أكفكم)
قوله: [حدثنا سليمان بن عبد الحميد البهراني].
سليمان بن عبد الحميد البهراني صدوق، أخرج له أبو داود وحده.
[قال: قرأته في أصل إسماعيل - يعني ابن عياش -] هو إسماعيل بن عياش، وهو صدوق في روايته عن الشاميين مخلط في غيرهم، وهنا روايته عن شامي، وهو ضمضم، أخرج له البخاري في رفع اليدين، وأصحاب السنن.
[حدثني ضمضم].
هو ضمضم بن زرعة الحمصي، وهو صدوق يهم، أخرج له أبو داود وابن ماجة في التفسير.
[عن شريح].
هو شريح بن عبيد الحضرمي الحمصي، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا أبو ظبية].
هو أبو ظبية السلفي الكلاعي، وهو مقبول، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[أن أبا بحرية السكوني].
هو عبد الله بن قيس، ثقة، أخرج له أصحاب السنن.
[عن مالك بن يسار السكوني ثم العوفي].
هو مالك بن يسار السكوني رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أبو داود وحده.
[قال أبو داود: وقال سليمان بن عبد الحميد: له عندنا صحبة.
يعني مالك بن يسار].
أي أن أبا داود يحكي عن شيخه أن مالك بن يسار صحابي.
وقال عنه ابن حجر: إنه صحابي قليل الحديث، أخرج له أبو داود.(178/23)
شرح حديث (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو هكذا بباطن كفيه وظاهرهما)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عقبة بن مكرم حدثنا سلم بن قتيبة عن عمر بن نبهان عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو هكذا بباطن كفيه وظاهرهما)].
قوله: [(رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو هكذا بباطن كفيه وظاهرهما)].
قال الألباني: إنه صحيح بظهور كفيه.
يعني: في الاستسقاء.
والمراد أنه جعل ظاهر كفيه مما يلي وجهه، وباطنهما مما يلي الأرض، لكن هذا خاص بالاستسقاء.(178/24)
تراجم رجال إسناد حديث (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو هكذا بباطن كفيه وظاهرهما)
قوله: [حدثنا عقبة بن مكرم].
عقبة بن مكرم ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[حدثنا سلم بن قتيبة].
هو سلم بن قتيبة الشعيري أبو قتيبة، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن، وهو ممن وافقت كنيته اسم أبيه، وسبق أن مر عند أبي داود أنه ذكره بكنيته فقال: أبو قتيبة بدون أن ينسبه، وهو مشهور بكنيته، ولهذا يأتي ذكره في الشيوخ بكنيته أبي قتيبة، والمراد به سلم بن قتيبة.
وسلم بن قتيبة ذكره الحافظ في مقدمة الفتح ضمن الذين تكلم فيهم من رجال البخاري، وذكر كلمة عجيبة في التجريح والتعديل؛ إذ كان مشهوراً عند العوام في نجد أنه إذا كان الشخص صاحب قوة قالوا: جمل محامل، ففي ترجمته قال يحيى بن سعيد القطان: ليس من جمال المحامل.
وهذا توهين له، وهي كلمة قديمة، فقد كان الشخص يقال له: جمل محامل إذا كان معتمداً عليه.
والتوهين له ليس بشديد.
[عن عمر بن نبهان].
عمر بن نبهان ضعيف أخرج له أبو داود.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي.
[عن أنس].
أنس هو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث بهذا اللفظ فيه عمر بن نبهان، وهو ضعيف، ولكنه صح عن أنس أنه كان يدعو وبطون كفيه مما يلي الأرض في الاستسقاء، وقد مر بنا في سنن أبي داود في باب الاستسقاء.(178/25)
شرح حديث (إن ربكم تبارك وتعالى حيي كريم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مؤمل بن الفضل الحراني حدثنا عيسى -يعني ابن يونس - حدثنا جعفر -يعني ابن ميمون صاحب الأنماط- حدثني أبو عثمان عن سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن ربكم تبارك وتعالى حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً)].
قوله: [(يستحي من عبده إذا رفع يديه أن يردهما صفراً)] يعني: خاليتين.
ومعنى الحديث أنه يجيب دعاءه، وهذا يدل على مشروعية رفع اليدين، ولكن على التفصيل الذي ذكرت فيما مضى، فالموطن الذي ورد أنه ترفع فيه الأيدي فإنها ترفع فيه، مثل رفع الأيدي عند الجمرة الأولى والثانية، وعلى الصفا والمروة وغيرها من الأماكن والمواضع التي ورد فيها رفع الأيدي عند الدعاء، وهناك مواضع لا ترفع فيها الأيدي، مثل خطبة الجمعة، فالإمام والمأمومون لا يرفعون أيديهم فيها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم على كثرة خطبه بالناس كان لا يرفع يديه، وكذلك الصحابة كانوا لا يرفعون أيديهم، وما جاء ذلك إلا في الاستسقاء في الجمعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه في الاستسقاء لما طلب منه أن يستسقي.
وأما أدبار الصلوات فلم يعهد ولم يرو عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يرفع يديه بعد الصلوات المفروضة.
أما ما كان مسكوتاً عنه ولم يرد فيه فعل ولا منع فهو مطلق والأمر فيه واسع، فللداعي أن يرفع وله أن يترك.
قوله: [(حيي كريم)] فيه إثبات صفة الحياء والكرم لله سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله عز وجل.
قوله: [(يستحي من عبده)].
هذه صفة مأخوذة من حيي؛ لأن أسماء الله كلها مشتقة ليس فيها اسم جامد، وما ذكر أن من أسماء الله الدهر فذلك غير صحيح، واستند القائلون به على قوله: (يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر)، فقوله: (وأنا الدهر) ليس معناه أن الدهر من أسماء الله، وإنما معناه أن من سب الدهر فقد سبني؛ لأن الدهر هو الزمان، والله تعالى هو الذي يقلب هذا الزمان وهذا المُقلَّب ليس فاعلاً وليس عنده إرادة ولا عنده مشيئة، فترجع سبته إلى المقلب.
إذاً: فأسماء الله كلها مشتقة ليس فيها اسم جامد، وأسماء الله تدل على صفاته؛ لأن كل اسم يشتق منه صفة، ولكن ليس كل صفة يشتق منها اسم، لا يؤخذ من الصفات أسماء ولكن يؤخذ من الأسماء صفات، فهناك صفات ذاتية كاليد وكالوجه لا يؤخذ منها أسماء، وهناك صفات مثل الاستهزاء والخداع والمكر وما إلى ذلك لا يؤخذ منها أسماء، فلا يقال: من أسماء الله المخادع ولا الماكر ولا المستهزئ، لكن يوصف بذلك على وجه المقابلة والمشاكلة، أما الأسماء فيؤخذ منها صفات، وكلمة [يستحي] مأخوذة من حيي.(178/26)
تراجم رجال إسناد حديث (إن ربكم تبارك وتعالى حيي كريم)
قوله: [حدثنا مؤمل بن الفضل الحراني].
مؤمل بن الفضل الحراني صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا عيسى -يعني ابن يونس -].
هو عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا جعفر -يعني ابن ميمون -].
هو جعفر بن ميمون صاحب الأنماط، وهو صدوق يخطئ، أخرج له البخاري في جزء القراءة، وأصحاب السنن.
[حدثني أبو عثمان].
هو عبد الرحمن بن مل أبو عثمان النهدي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سلمان].
هو سلمان الفارسي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(178/27)
شرح أثر ابن عباس (المسألة أن ترفع يديك حذو منكبيك أو نحوهما)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب -يعني ابن خالد - حدثني العباس بن عبد الله بن معبد بن العباس بن عبد المطلب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (المسألة أن ترفع يديك حذو منكبيك أو نحوهما، والاستغفار أن تشير بأصبع واحدة، والابتهال أن تمد يديك جميعاً)].
قوله: [(والابتهال أن تمدهما جميعاً)] قيل فيه أيضاً: أن ترفعهما، وهذا مثل ما حصل من النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر، حيث ابتهل إلى الله عز وجل ورفع يديه حتى سقط رداؤه من ورائه صلى الله عليه وسلم.
أما الفرق بين الابتهال والدعاء فهو أن الابتهال هو الشدة والمبالغة في التضرع إلى الله، أما الدعاء فهو أعم من الابتهال.(178/28)
تراجم رجال إسناد أثر ابن عباس (المسألة أن ترفع يديك حذو منكبيك أو نحوهما)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا وهيب].
هو وهيب بن خالد، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني العباس بن عبد الله بن معبد بن العباس بن عبد المطلب].
العباس بن عبد الله بن معبد ثقة، أخرج له أبو داود.
[عن عكرمة].
هو عكرمة مولى ابن عباس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
ابن عباس قد مر ذكره.(178/29)
إسناد آخر لأثر ابن عباس في كيفية المسألة والاستغفار والابتهال وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عمرو بن عثمان حدثنا سفيان حدثني عباس بن عبد الله بن معبد بن عباس بهذا الحديث، قال فيه: (والابتهال هكذا، ورفع يديه وجعل ظهورهما مما يلي وجهه)].
يعني أنه بالغ في الرفع، وهذا فيه مثل ما في الاستسقاء؛ لأن في الاستسقاء يجعل بطونهما إلى الأرض وظهورهما مما يلي وجهه.
قوله: [حدثنا عمرو بن عثمان].
هو عمرو بن عثمان الحمصي، وهو صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا سفيان].
هو سفيان بن عيينة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني عباس بن عبد الله بن معبد].
قد مر ذكره.(178/30)
إسناد آخر مرفوع لأثر ابن عباس وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا إبراهيم بن حمزة حدثنا عبد العزيز بن محمد عن العباس بن عبد الله بن معبد بن العباس عن أخيه إبراهيم بن عبد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، فذكره نحوه].
أورد المصنف رحمه الله الحديث مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال فيه: [فذكره نحوه] يعني: نحو ما تقدم.
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس].
هو محمد بن يحيى بن فارس الذهلي، ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا إبراهيم بن حمزة].
إبراهيم بن حمزة صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود، والنسائي في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا عبد العزيز بن محمد].
هو عبد العزيز بن محمد الدراوردي، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن العباس بن عبد الله بن معبد بن عباس عن أخيه إبراهيم بن عبد الله].
العباس مر ذكره، وإبراهيم بن عبد الله صدوق، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن ابن عباس].
قد مر ذكره.(178/31)
شرح حديث (كان إذا دعا فرفع يديه مسح وجهه بيديه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ابن لهيعة عن حفص بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص عن السائب بن يزيد عن أبيه رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا دعا فرفع يديه مسح وجهه بيديه)].
أورد أبو داود هذا الحديث في مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من الدعاء، وقد سبق أن مر أنه لم يصح في ذلك حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(178/32)
تراجم رجال إسناد حديث (كان إذا دعا فرفع يديه مسح وجهه بيديه)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
قتيبة بن سعيد مر ذكره.
[حدثنا ابن لهيعة].
هو عبد الله بن لهيعة، وهو صدوق اختلط لما احترقت كتبه، وحديثه أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن حفص بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص].
حفص بن هاشم مجهول، أخرج له أبو داود.
[عن السائب بن يزيد].
السائب بن يزيد صحابي صغير أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو يزيد بن سعيد، وهو صحابي أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي.
ففي الحديث علتان: الأولى: أن فيه ابن لهيعة.
أما الثانية فجهالة شيخ ابن لهيعة، وهو حفص بن هاشم.(178/33)
الأسئلة(178/34)
حكم سؤال الله الحصول على الامتياز في الاختبارات
السؤال
هل طلب الامتياز في الاختبار وسؤال الله ذلك من أنواع الاعتداء في الدعاء؟
الجواب
لا يكون ذلك من الاعتداء في الدعاء أبداً.(178/35)
بعض أنواع الاعتداء في الدعاء
السؤال
هل لكم أن تبينوا لنا أنواعاً من الاعتداء في الدعاء؟
الجواب
الاعتداء في الدعاء مثاله ما ذكر في حديث ابن عبد الله بن مغفل: (اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة) كما مر عند أبي داود، ومثل كون الإنسان يسأل منازل النبيين، أو كونه يدعو بقطيعة رحم، فهذا من الاعتداء في الدعاء.(178/36)
الاعتداء في صفة الدعاء
السؤال
هل يكون الاعتداء في صفة الدعاء؟
الجواب
إذا كان الدعاء فيه مبالغة، وفيه شيء من الخروج عن الحد، كان فيه غلوٌ أو انحراف فهو من الاعتداء في الدعاء.(178/37)
حكم رفع الصوت والسجع في الدعاء
السؤال
رفع الصوت والسجع المتكلف في الأدعية هل يدخل في الاعتداء؟
الجواب
يبدو أنه لا يدخل في الاعتداء في الدعاء.(178/38)
حكم تعليق صور غير ذوات الأرواح على الجدران
السؤال
يقول صلى الله عليه وسلم: (لا تستروا الجدر)، حكم تعليق الأوراق على الجدر وعليها صور لغير ذوات الأرواح، مثل البحار أو الأشجار؟
الجواب
إذا كان المقصود أن ترى هذه الصورة فلا بأس بذلك، وكذلك إذا كان هذا التعليق من جنس الدهان أو من جنس الرخام ونحو ذلك، فهذا لا بأس به؛ لأن هذه الأوراق إذا لم يكن فيها محذور تكون بدل ذلك الدهان وما أشبهه، وإنما المحذور هو هذه الأشياء التي تعلق كالسجاد وكالقماش وما إلى ذلك من الأشياء التي تفعل.(178/39)
تصوير القباب وتعليقها على الجدران
السؤال
تعلق الآن في كثير من الأماكن صورة واجهة القبر النبوي بحجة أنها ليست صورة ذي روح، فما حكم تعليقها؟
الجواب
تصوير القباب والأشياء التي أحدثت بعد ذلك لا يصلح ولا ينبغي.(178/40)
حكم النظر في كتب الآخرين في مجالس العلم
السؤال
إذا كان من الأدب الاستئذان عند النظر في كتب الآخرين فهل لمن ليس معه كتاب من الطلاب أن ينظر في كتاب من بجواره؟
الجواب
إذا كان سيأذن له فلا بأس بذلك، وإنما المحذور كونه لا يرضى؛ لأنه قد يضايقه، وإذا كان يجد منه مضايقة فإنه يبتعد، وأما إذا طلب منه أن ينظر معه أو أنه قرب الكتاب إليه مشعراً له برغبته في مشاركته فهذا إذن، أو كونه يقول: شاركني، أو: انظر، فلا بأس بذلك.(178/41)
شرح سنن أبي داود [179]
من المناسب للعبد عند أن يدعو ربه عز وجل أن يدعوه باسم يناسب مسألته، فيقول -مثلاً-: يا رحيم ارحمني، يا غفور اغفر لي، ونحو ذلك، ومن أجلّ ما يدعو به العبد ربه أن يدعوه باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب.(179/1)
تابع ما جاء في الدعاء(179/2)
شرح حديث: (لقد سألت الله بالاسم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن مالك بن مغول حدثنا عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: اللهم إني أسألك أني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، فقال: لقد سألت الله بالاسم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب)].
سبق البدء في باب الدعاء بذكر جملة من الأحاديث في موضوعات مختلفة تتعلق بالدعاء، وهنا بدأ المصنف بذكر الأحاديث التي تشتمل على اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب.
وأول هذه الأحاديث حديث بريدة بن الحصيب رضي الله تعالى عنه، وفيه: [(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: اللهم إني أسألك أني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، فقال: لقد سألت الله بالاسم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب)]، وهذا يدلنا على أن أسماء الله عز وجل يتوسل بها كلها، ولكن ورد في بعض الأحاديث ما يدل على أهمية بعضها وتميزها، مثل هذا الحديث الذي فيه ذكر اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب، فكون الإنسان يتوسل إلى الله عز وجل بهذا التوسل هذا يدلنا على عظم شأن هذا الدعاء الذي توسل فيه بهذه الوسيلة التي هي كونه يسأل الله عز وجل بأنه يشهد أنه لا إله إلا هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.
وقد وردت جملة من الأحاديث تتعلق باسم الله الأعظم، ولكن هذا الحديث هو أصح ما ورد في اسم الله الأعظم، وقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمة الله عليه في فتح الباري أربعة عشر قولاً في بيان المراد بالاسم الأعظم، ولما سردها ووصل إلى القول الذي دل عليه هذا الحديث قال: هذا هو أصح حديث ورد في ذلك.
يعني: أقوى حديث صح في ذلك.
إذاً: كل ما ثبت من أسماء الله عز وجل وصفاته فإنه يتوسل به ويسأل الله عز وجل به، وكذلك ما له ميزة على غيره؛ وما ورد بأنه إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب من باب أولى أن يتوسل به إلى الله.
وهناك أقول عديدة في تحديد اسم الله الأعظم، ذكر الحافظ ابن حجر منها: أن اسم الله الأعظم هو لفظ الجلالة؛ لأنه هو أصل الأسماء، وهو الذي تضاف إليه الأسماء وتوصف به الأسماء، وعندما تأتي الأسماء يأتي في مقدمتها: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]، {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الحشر:22]، {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر:24]، {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ} [الحشر:23] ولكن وردت نصوص مثل هذا الحديث الذي هنا فيها ذكر اسم الله الأعظم، ولكن هذا الحديث هو أصح حديث في ذلك، كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله.
فالحافظ ابن حجر في فتح الباري (11/ 224) ذكر الأقوال في اسم الله الأعظم، وعندها قال: إن هذا القول الذي اشتمل عليه هذا الحديث هو أقوى وأصح ما ورد في الموضوع.
وأنا ذكرتها في الفوائد المنتقاة، وذكرت الإحالة على فتح الباري.(179/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (لقد سألت الله بالاسم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مالك بن مغول].
مالك بن مغول ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الله بن بريدة].
عبد الله بن بريدة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو بريدة بن الحصيب رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
فهذا السند كل رجاله أخرج لهم أصحاب الكتب الستة إلا مسدداً الذي هو شيخ البخاري وشيخ أبي داود، وقد خرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي، فهذا الحديث من حيث الإسناد إسناده قوي، وكما قال الحافظ: إنه أصح ما ورد في هذا.(179/4)
شرح حديث: (لقد سأل الله عز وجل باسمه الأعظم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الرحمن بن خالد الرقي حدثنا زيد بن حباب حدثنا مالك بن مغول بهذا الحديث قال فيه: (لقد سأل الله عز وجل باسمه الأعظم)].
وهذا فيه التنصيص على الاسم الأعظم، والأول قال فيه: (لقد سألت الله بالاسم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب)، وهنا قال فيه: (لقد سأل الله عز وجل باسمه الأعظم).(179/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (لقد سأل الله عز وجل باسمه الأعظم)
قوله: [حدثنا عبد الرحمن بن خالد الرقي].
عبد الرحمن بن خالد الرقي صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا زيد بن حباب].
زيد بن حباب صدوق يخطئ في حديث الثوري، أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة، ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا مالك بن مغول].
مالك بن مغول قد مر ذكره، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(179/6)
شرح حديث: (لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الرحمن بن عبيد الله الحلبي حدثنا خلف بن خليفة عن حفص -يعني ابن أخي أنس - عن أنس رضي الله عنه: (أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً ورجل يصلي، ثم دعا: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي! يا قيوم! فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى)].
وهذا مثل الذي قبله فيه ذكر الاسم العظيم، وهنا قال: (العظيم) وهناك قال: (الأعظم)، ولكنه مثل ما قال في الأول: إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى فيدل على تميز هذا الدعاء وهذا التوسل وهو قوله: [(اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام يا حي! يا قيوم! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى)] وهذا الحديث من الأحاديث التي صحت وثبتت.
وكما قلت: كلما ورد مما وصف بأنه اسم عظيم أو أعظم لا شك أن له ميزة؛ لكون النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لقد سألت الله بالاسم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب).
وهذا الحديث يدل على أن من أسماء الله المنان.
قوله: [(بديع السماوات والأرض)].
يعني: مبدعهما على غير مثال سبق.
قوله: [(يا ذا الجلال!)].
يعني: صاحب العظمة، وقيل: هو التقديس والتنزيه عن كل ما لا يليق به.
قوله: [(والإكرام)].
يعني: كونه صاحب الكرم والجود والإحسان.
قوله: [(يا حي)].
يعني: الحي الذي له الحياة الكاملة التي لا بداية لها ولا نهاية، وكل حي فحياته مكتسبة، وهي من الله عز وجل.
قوله: [(يا قيوم)].
القيوم هو: القائم بنفسه المقيم لغيره.(179/7)
تراجم رجال إسناد حديث: (لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى)
قوله: [حدثنا عبد الرحمن بن عبيد الله الحلبي].
عبد الرحمن بن عبيد الله الحلبي صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا خلف بن خليفة].
خلف بن خليفة صدوق اختلط في الآخر، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن حفص -يعني ابن أخي أنس -].
حفص ابن أخي أنس صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والنسائي.
وهو حفص بن عبد الله بن أبي طلحة، وأبو طلحة هو زوج أم أنس، فهو ابن أخيه لأمه.
[عن أنس].
هو أنس بن مالك رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الإسناد رباعي، وهي أعلى الأسانيد عند أبي داود، فإن بين أبي داود وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها أربعة رجال.
وهم في هذا الإسناد: عبد الرحمن بن عبيد الله الحلبي وخلف بن خليفة وحفص ابن أخي أنس وأنس.(179/8)
شرح حديث الإرشاد إلى اسم الله الأعظم في القرآن
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا عيسى بن يونس حدثنا عبيد الله بن أبي زياد عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: ((وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ)) [البقرة:163]، وفاتحة سورة آل عمران: {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران:1 - 2])].
قوله: [(اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: ((وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ)) [البقرة:163] وفاتحة آل عمران: {الم} [آل عمران:1])] ففي الآية الأولى قوله: (الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) بالإضافة إلى ما سبقها: (لا إله إلا هو) وفي سورة آل عمران قوله: ((الْحَيُّ الْقَيُّومُ)) بالإضافة إلى ما سبقها وهو: (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) والحديث في إسناده شهر بن حوشب وهو صدوق كثير الأوهام والإرسال، والحديث حسنه الألباني أو صححه؛ ولعل ذلك لشواهده أو لطرقه.(179/9)
تراجم رجال إسناد حديث الإرشاد إلى اسم الله الأعظم في القرآن
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد مر ذكره.
[حدثنا عيسى بن يونس].
هو عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبيد الله بن أبي زياد].
عبيد الله بن أبي زياد ليس بالقوي، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن شهر بن حوشب].
شهر بن حوشب صدوق كثير الإرسال والأوهام، وحديثه أخرجه البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أسماء بنت يزيد].
أسماء بنت يزيد رضي الله عنها صحابية، وحديثها أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وأصحاب السنن.(179/10)
الألفاظ المشتركة في الأحاديث الدالة على اسم الله الأعظم
هذه ثلاثة أحاديث فيها ذكر اسم الله الأعظم، واللفظ المشترك بينها: (لا إله إلا أنت) (لا إله إلا هو) هذا هو اللفظ المشترك، أما الباقي فهي أسماء أخرى، لكن ينبغي للمسلم عندما يتوسل بما ورد في هذه الأحاديث الصحيحة أن يأتي بهذه الصيغة بأكملها في الأحاديث الثلاثة كلها؛ لأنها تفاوتت في الأسماء، ويمكن أن يراد بها أنها كلها موصوفة بأنها اسم أعظم، وفي بعضها أنها اسم عظيم، فهذه الأحاديث فيها شيء تشترك فيه، وهناك زيادات في كل حديث، ففي السؤال يمكن أن يؤتى بهذه الصيغ كلها، فما ورد بأنه اسم عظيم أو أعظم إذا سئل الله به أعطى وإذا دعي به أجاب، فمعناه أن له ميزة على غيره.
والحافظ ابن حجر لما عد الأقوال في الاسم الأعظم جعل من الأقوال: (الرحمن الرحيم) (والحي القيوم)، كما في هذا الحديث الأخير، لكن عند التوسل والدعاء يأتي الإنسان بما ورد بأكمله.
والشيخ السعدي رحمه الله يقول: إن الاسم الأعظم هو اسم جنس يشمل كل ما ورد.
أي: كل ما ورد في الأحاديث الثلاثة الماضية.(179/11)
شرح حديث: (لا تسبخي عنه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا حفص بن غياث عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: (سُرقت ملحفة لها، فجعلت تدعو على من سرقها، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا تسبخي عنه).
قال أبو داود: (لا تسبخي) أي: لا تخففي عنه].
قوله: [عن عائشة (أنها سرقت ملحفة لها فجعلت تدعو على من سرقها، فجعل النبي عليه الصلاة والسلام يقول: لا تسبخي عنه)] أي: لا تخففي عنه بدعائك عليه.
والحديث ضعفه الألباني، ولا أدري ما وجه التضعيف؟ هل لأن فيه حبيب بن أبي ثابت؛ لأنه معروف بكثرة التدليس أم غير ذلك؟(179/12)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا تسبخي عنه)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا حفص بن غياث].
حفص بن غياث ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، والأعمش مدلس.
[عن حبيب بن أبي ثابت].
حبيب بن أبي ثابت ثقة كثير التدليس والإرسال.
[عن عطاء].
هو عطاء بن أبي رباح، يروي عنه حبيب بن أبي ثابت.
ويحتمل أن يكون حبيباً روى عن عطاء بن يسار؛ لأن كلاً من الاثنين روى عنه حبيب وروى عن عائشة كل منهما، وكل منهما ثقة، وأحدهما مدني والثاني مكي.
إذاً: عطاء بن يسار وعطاء بن أبي رباح كل منهما روى عن عائشة، وكل منهما روى عنه حبيب بن أبي ثابت لكن نص المزي في تحفة الأشراف على أنه عطاء بن أبي رباح المكي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(179/13)
حكم الدعاء على الظالم
أما الدعاء على من ظلم فجائز، لكن الأفضل تركه؛ وذلك لقوله تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40]، ثم أيضاً قوله: (لا تسبخي عنه) يعني: لا تخففي عنه بدعائك عليه، فكون الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تسبخي عنه) يعني: بدعائك عليه، كأنه يريد أن يشتد عليه العذاب، وهذا فيه شيء من حيث المتن؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم معروف بأنه رءوف رحيم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(179/14)
شرح حديث: (لا تنسنا يا أُخيّ من دعائك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن حرب حدثنا شعبة عن عاصم بن عبيد الله عن سالم بن عبد الله عن أبيه عن عمر رضي الله عنه قال: (استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة فأذن لي، وقال: لا تنسنا يا أُخيَّ من دعائك)، فقال كلمة ما يسرني أن لي بها الدنيا.
قال شعبة: ثم لقيت عاصماً بعد بالمدينة فحدثنيه وقال: (أشركنا يا أَخيْ! في دعائك)].
قوله: [(استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة فأذن لي وقال: لا تنسنا يا أُخي! من دعائك)] هذا فيه أن طلب الدعاء من الغير جائز، ولكن الحديث ضعيف فيه عاصم بن عبيد الله وهو ضعيف لا يحتج به في الحديث.
وبعض أهل العلم يستدل على جواز طلب الدعاء من شخص آخر بالحديث الذي فيه قصة أويس القرني الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه يأتيكم أمداد من أهل اليمن فيهم رجل يقال له: أويس -وذكر شيئاً من صفاته- فمن وجده منكم فليطلب منه أن يستغفر له)، فكان عمر رضي الله عنه وأرضاه يسأل الذين يأتون من اليمن لإمداد الجيوش التي تذهب إلى فارس لقتالهم والجهاد في سبيل الله كان يسألهم عن أويس، حتى لقي أويساً هذا الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال له: (إن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا.
فطلب منه أن يستغفر له، فكان جوابه أن قال: أنتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني: أنتم الذين يطلب منكم الاستغفار، من باب أولى؛ لأنكم أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، فكل منهما كان يتواضع لله عز وجل، فـ عمر هو ممَنْ شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة؛ لكن لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا الكلام طلب من أويس أن يستغفر له، وأويس من جانبه يقول: (أنتم أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم) يعني: الذين يطلب منكم الاستغفار؛ لأنكم أنتم أفضل وأعظم من غيركم.
فبعض أهل العلم يستدل بهذا على جواز طلب الدعاء من شخص آخر، وبعضهم يقول: إن هذه قضية خاصة وشخص خاص قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم كذا، ولهذا طلب الدعاء منه من هو خير منه، بل هو خير من جميع الصحابة إلا من أبي بكر؛ لأن أويساً تابعي وهو خير التابعين كما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: (إن خير التابعين رجل يقال له: أويس).
إذاً: بعض أهل العلم يقول: إنه لا يصلح ولا يليق طلب الدعاء من الآخرين، وإنما يحرص الإنسان على أن يكون داعياً هو لله ومتجهاً إلى الله، ومقبلاً على الله، وملحاً على الله، ولا يكون من شأنه أن يقول: ادع لي يا فلان، وبعض أهل العلم يستدل بهذا الحديث على جواز ذلك، ولا شك أن الأولى كون الإنسان يعول على الله، ويلح على الله، ويقبل على الله، لا يكون شأنه سائلاً لغيره أن يدعو له، ولكن يبدو أنه لا بأس بذلك، كما جاء في قصة أويس، ولكن لا يصلح أن يكون شأن الإنسان أنه يغفل عن الدعاء ويكون همه أن يسأل الناس أن يدعوا له، فالله تعالى يقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]، وقال: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60].
قوله: [(استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة)].
قيل: إن هذه عمرة كان نذرها في الجاهلية فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوفاء بها، فأذن له، مثلما أذن له في النذر بالاعتكاف حيث قال: (إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام) فأمره أن يوفي بنذره، فلعل هذا هو السبب في الاستئذان، وأيضاً يمكن أن يكون استئذانه من النبي صلى الله عليه وسلم لأنه سوف يسافر ويغيب عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(فقال كلمة ما يسرني أن لي بها الدنيا)].
يعني: أن هذه الكلمة سرته كثيراً، وهي كونه صلى الله عليه وسلم قال له: [(لا تنسنا يا أُخيّ! من دعائك)] فـ عمر رضي الله عنه سر بذلك كثيراً.
قوله: [قال شعبة: ثم لقيت عاصماً بعد بالمدينة فحدثنيه وقال: (أشركنا يا أخي! في دعائك)].
يعني: أن فيه بدلاً من قوله: (لا تنسنا) قال: (أشركنا).(179/15)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا تنسنا يا أُخيّ من دعائك)
قوله: [حدثنا سليمان بن حرب].
سليمان بن حرب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عاصم بن عبيد الله].
عاصم بن عبيد الله ضعيف، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد وأصحاب السنن.
[عن سالم بن عبد الله].
هو سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[عن عمر].
عمر رضي الله عنه أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين الهاديين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(179/16)
شرح حديث سعد: (مر علي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أدعو بإصبعيَّ)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا زهير بن حرب حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (مر علي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أدعو بأصبعيَّ فقال: أحِّد أحِّد.
وأشار بالسبابة)].
يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر وسعد رضي الله عنه يدعو بإصبعيه ويشير بهما، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: [(أحَّد أحِّد)] يعني: أشر في دعائك بأصبع واحدة وهي السبابة.
قوله: [(أحِّد أحِّد)].
هذا مثل وحد وحد، ومثل: وكد، وأكد، وأرخ، وورخ، يعني: كل هذه الألفاظ تأتي فيها الهمزة ويأتي فيها الواو.
قوله: [(قال: مر علي صلى الله عليه وسلم وأنا أدعو)].
يحتمل أنه كان في الصلاة في التحيات، ويحتمل أنه كان في غير الصلاة، ولكنه كان يشير بأصبعيه وهو يدعو، والإشارة تكون بأصبع واحدة، وذلك عندما يقول: أشهد أن لا إله إلا الله أو ما إلى ذلك مما فيه الإشارة.(179/17)
تراجم رجال إسناد حديث سعد: (مر علي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أدعو بإصبعيَّ)
قوله: [حدثنا زهير بن حرب].
هو أبو خيثمة زهير بن حرب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا أبو معاوية].
هو محمد بن خازم الضرير الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الأعمش عن أبي صالح].
الأعمش قد مر ذكره، وأبو صالح هو ذكوان السمان، وهو ثقة كثير الرواية عن أبي هريرة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن سعد بن أبي وقاص].
سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه صحابي جليل، أحد العشرة المبشرين بالجنة فرضي الله عنه وأرضاه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(179/18)
شرح سنن أبي داود [180]
لقد وردت أحاديث كثيرة تحض على التسبيح، وجاء في بعضها التسبيح بالحصى والنوى لكنها ضعيفة، أما أحاديث عقد التسبيح بالأنامل فصحيحة، وقد ورد أن الحكمة من ذلك هي: أنهن مستنطقات مسئولات، فهذا يجعلنا نكثر من التسبيح بالأنامل حتى تشهد لنا يوم القيامة، وقد حض الشرع على الأذكار المقيدة والمطلقة، ومنها أذكار الصلوات المفروضة التي تقال بعد السلام منها، وبين فضلها وأهميتها.(180/1)
التسبيح بالحصى(180/2)
شرح حديث التسبيح بالحصى أو بالنوى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب التسبيح بالحصى.
حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني عمرو أن سعيد بن أبي هلال حدثه عن خزيمة عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص عن أبيها رضي الله عنه: (أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة وبين يديها نوى أو حصى تسبح به فقال: أخبرك بما هو أيسر عليكِ من هذا أو أفضل، فقال: سبحان الله عدد ما خلق في السماء، وسبحان الله عدد ما خلق في الأرض، وسبحان الله عدد ما خلق بين ذلك، وسبحان الله عدد ما هو خالق، والله أكبر مثل ذلك، والحمد لله مثل ذلك، ولا إله إلا الله مثل ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك)].
قوله: [باب التسبيح بالحصى] هذه ترجمة أخص مما تحتها؛ لأن الذي ورد تحتها أول حديث فيه ذكر الحصى، وأما الأحاديث الأخرى فهي أحاديث لا ذكر للحصى فيها، وهي تشتمل على تسبيح وعلى تهليل وعلى ذكر لله عز وجل، فالأحاديث التي وردت تحت الترجمة ليس فيها شيء يتعلق بالتسبيح بالحصى إلا هذا الحديث الأول الذي هو حديث سعد بن أبي وقاص.
قوله: [(أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة وبين يديها نوى أو حصى)] النوى هو الذي يكون داخل التمر، والحصى معروف، فقوله: (نوى أو حصى) يعني: شك الراوي هل هو (نوى أو حصى).
قوله: [(أخبرك بما هو أيسر عليك من هذا أو أفضل؟) يعني: ما هو أيسر عليك من حيث الكلفة وعدم التعب، ومع ذلك أفضل؛ لأنها كلمات جامعة ومختصرة ومعناها واسع.
قوله: [(سبحان الله عدد ما خلق في السماء، وسبحان الله عدد ما خلق في الأرض، وسبحان الله عدد ما خلق بين ذلك، وسبحان الله عدد ما هو خالق)] يحتمل أن يكون المراد ما هو خالق في المستقبل بعدما خلق هذه الأشياء، ويحتمل أن يكون ما هو خالق في الأزل وفي المستقبل، فيكون من باب ذكر العام بعد الخاص، أو ذكر الإجمال بعد التفصيل.
والحديث ضعيف غير ثابت؛ لأن في إسناده مجهولاً لا يعرف وهو خزيمة المذكور في الإسناد، فالحديث غير صحيح، وعلى هذا فلا يجوز العد والتسبيح بالحصى ولا بالنوى، وكذلك ليس للإنسان التسبيح بالمسبحة، فأقل أحواله أن يكون خلاف الأولى، وبعض أهل العلم يقول: إنه بدعة، فالذي ينبغي أن يبتعد الإنسان عنه ولا يفعله، وإنما يسبح بالأصابع؛ لأنه كما جاء في الحديث: (فإنهن مسئولات مستنطقات) كما سيأتي، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يسبح بأصابعه، يعني: بأنامل يمينه كما سيأتي.(180/3)
تراجم رجال إسناد حديث التسبيح بالحصى أو بالنوى
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
هو أحمد بن صالح المصري ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا عبد الله بن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني عمرو].
هو عمرو بن الحارث المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن سعيد بن أبي هلال].
هو سعيد بن أبي هلال المصري وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن خزيمة].
خزيمة مجهول لا يعرف، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص].
عائشة بنت سعد ثقة، أخرج لها البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن أبيها].
هو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وقد مر ذكره.(180/4)
شرح حديث عقد التسبيح بالأنامل
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا عبد الله بن داود عن هانئ بن عثمان عن حميضة بنت ياسر عن يسيرة رضي الله عنها أخبرتها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهن أن يراعين بالتكبير والتقديس والتهليل، وأن يعقدن بالأنامل فإنهن مسئولات مستنطقات)].
قوله: [(أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهن أن يراعين بالتكبير والتقديس والتهليل، وأن يعقدن بالأنامل)] يعني: أن يكون التسبيح والتهليل والتقديس والتكبير بالأنامل.
قوله: [(فإنهن مسئولات مستنطقات)] أي: مسئولات يوم القيامة حيث يختم على الأفواه وتشهد الأيدي والأرجل وتنطق بما كان يعمل الإنسان، كما قال الله عز وجل: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [فصلت:21] يعني: أن الله عز وجل يجعلها تتكلم، وكلامها هو على هيئة لا تعرف، وهذا مما يوضح بطلان قول بعض المبتدعة القائلين: لو كان الله يتكلم بكلام يسمع للزم أن يكون مثل المخلوقين؛ لأننا لا نعقل كلاماً إلا مثل كلام المخلوقين، فهذا كلام من كلام المخلوقات، ومع ذلك ليس بالطريقة التي نعقلها، فكون الإنسان يتكلم بلسان وشفتين ولهاة وحنجرة ومخارج حروف، فالله تعالى يخلق فيها الكلام وينطقها الذي أنطق كل شيء، بل وجد في الدنيا ما يدل على ما جاء في ذلك يوم القيامة، كما في الحديث الذي في صحيح مسلم (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمر على حجر بمكة فيسلم عليه) يعني يقول: السلام عليك يا محمد، كيف تكلم هذا الحجر؟ هل تكلم بلهاة وحنجرة ومخارج حروف؟! لا، بل أنطقه الله الذي أنطق كل شيء، وإذا كان هذا الحجر -وهو مخلوق من مخلوقات الله- تكلم وما عرفنا كيف تكلم فكيف نتكلف ونقول: إنه لا يعقل أن الله يتكلم، ولو تكلم بصوت يسمع للزم أن يكون مثل كلامنا؟ فهذه مخلوقات تكلمت كلاماً ليس بالطريقة التي نعقلها ونشاهدها ونعاينها.
إذاً: فالله تعالى يتكلم ولا نعرف كيف تكلم، ولا نقول: لو أثبتنا له الكلام بصوت يسمع للزم أن يكون كذا وكذا، فهذا مخلوق وجد منه الكلام ولم يلزم أن يكون مثل ما كنا نعقل.
قوله: [(أمرهن أن يراعين بالتكبير والتقديس والتهليل)].
يعني: عندما يلتزمن بعدد معين عند التكبير والتقديس والتهليل يعقدن ذلك بالأنامل، لعل هذا معنى المراعاة.
والعقد بالأنامل معلوم عند العرب، وهو قبض الأنامل وعدها بالإبهام.(180/5)
تراجم رجال إسناد حديث عقد التسبيح بالأنامل
قوله: [قال: حدثنا مسدد].
مر ذكره [حدثنا عبد الله بن داود].
هو عبد الله بن داود الخريبي وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن هانئ بن عثمان].
هانئ بن عثمان وهو مقبول، أخرج له أبو داود والترمذي.
[عن حميضة بنت ياسر].
حميضة وهي مقبولة، أخرج لها أبو داود والترمذي.
[عن يسيرة] يسيرة وهي صحابية، أخرج لها أبو داود والترمذي.
والحديث في إسناده هذان المقبولان الرجل والمرأة، والمقبول هو الذي يعول على حديثه عند الاعتضاد، والحديث صححه الألباني لشواهده.(180/6)
شرح حديث: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقد التسبيح بيمينه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة ومحمد بن قدامة في آخرين، قالوا: حدثنا عثام عن الأعمش عن عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يعقد التسبيح، قال ابن قدامة بيمينه)].
قوله: [(رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يعقد التسبيح.
قال ابن قدامة: بيمينه)] فـ عبيد الله بن عمر القواريري ومحمد بن قدامة قالا: [(يعقد التسبيح)] لكن محمد بن قدامة زاد: [(بيمينه)]، وهذا دليل على أن عقد التسبيح الأولى والأفضل أن يكون باليمين، لهذا الحديث الذي ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أنه كان يعقد التسبيح بيمينه، وهو أيضاً مطابق لما جاء من كون اليمين تستعمل في الأمور المحمودة والأمور الطيبة، واليسار تكون بخلاف ذلك، لكن كونه يبدأ التسبيح باليمين ويثني باليسار لا بأس بذلك.(180/7)
تراجم رجال إسناد حديث: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقد التسبيح بيمينه)
قوله: [حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة].
عبيد الله بن عمر بن ميسرة ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[ومحمد بن قدامة].
محمد بن قدامة ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[في آخرين].
يعني: يوجد غير هؤلاء رووا الحديث، ولكن اقتصر على هذين الاثنين.
[قالوا: حدثنا عثام].
عثام وهو صدوق، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي مر ذكره.
[عن عطاء بن السائب] عطاء بن السائب صدوق اختلط، وحديثه أخرجه البخاري وأصحاب السنن، وهناك جماعة رووا عنه قبل اختلاطه، وروايتهم عنه صحيحة؛ لأنها قبل الاختلاط، ومنهم الأعمش فإن الحافظ ابن حجر ذكر في تهذيب التهذيب في آخر ترجمته بعد أن ذكر ما قيل في ترجمته وما قيل فيه وفي اختلاطه قال: تحصل من ذلك أن رواية فلان وفلان وفلان عنه صحيحة؛ لأنها قبل الاختلاط، وذكر ستة أشخاص وهم: سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج وزائدة بن قدامة وحماد بن زيد وأيوب السختياني وزهير بن معاوية قال: هؤلاء روايتهم عنه صحيحة؛ لأنها قبل الاختلاط، وذكر في كتاب (نتائج الأفكار) أن رواية الأعمش عنه صحيحة، وقد ذكر ذلك الشيخ الألباني رحمه الله فيما يتعلق بـ الأعمش في السلسلة الصحيحة عند الحديث رقم (660)، فذكر أن رواية الأعمش عن عطاء بن السائب قبل الاختلاط.
[عن أبيه].
هو السائب بن يزيد، وقيل: السائب بن مالك ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن عمرو].
هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(180/8)
شرح حديث: (قد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا داود بن أمية حدثنا سفيان بن عيينة عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة عن كريب عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من عند جويرية رضي الله عنها، وكان اسمها برة فحول اسمها، فخرج وهي في مصلاها ورجع وهي في مصلاها فقال: لم تزالي في مصلاك هذا؟ قالت: نعم قال: قد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت لوزنتهن: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته)].
قوله: [(قد قلت بعدكِ أربع كلمات ثلاث مرات لو زنت بما قلت لوزنتهن: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته)] يعني: هذا ثناء وتعظيم جامع لله عز وجل.
قوله: [(سبحان الله عدد خلقه)] أي: خلق الله عز وجل لا يحصيهم إلا هو سبحانه وتعالى.
قوله: [(ورضا نفسه)] يعني: حتى يرضى.
قوله: [(وزنة عرشه)] أي: الذي هو أكبر المخلوقات.
قوله: [(مداد كلماته)] قيل: المقصود بذلك أنه المدد، وأنه لو قدر أن ذلك يكال أو يوزن لكان أعظم من ذلك، لكن يمكن أن يقال: المقصود بالمداد هو الحبر الذي يكتب به، وكلمات الله ليس لها حد وليس لها إحصاء؛ لأن كلام الله لا يتناهى؛ لأن الله تعالى متكلم بلا ابتداء، ويتكلم بلا انتهاء، فلا حصر لكلامه ولا نهاية لكلامه.
وقد جاء في القرآن آيتان تدلان على أن كلام الله لا ينحصر، الآية الأولى في آخر سورة الكهف وهي قوله عز وجل: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف:109]، فهذه الأبحر الزاخرة والمحيطات لو كانت حبراً يكتب به كلام الله لنفدت الأبحر والمحيطات ولم تنفد كلمات الله عز وجل، ولو أضيف إليها أضعافها؛ لأنها مهما كانت هي وإن عظمت وإن اتسعت وإن كبرت فهي محدودة، ولكن كلام الله لا ينحصر.
والآية الثانية في سورة لقمان وهي قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27] يعني: لو أن الأشجار كلها تكون أقلاماً والأبحر كلها تكون مداداً يكتب لما نفدت كلمات الله؛ لأن كلام الله لا ينحصر ولا ينتهي؛ لأن الله متكلم بلا ابتداء ويتكلم بلا انتهاء، فلا حصر لكلامه.(180/9)
تراجم رجال إسناد حديث: (قد قلت أربع كلمات ثلاث مرات)
قوله: [حدثنا داود بن أمية].
داود بن أمية ثقة، أخرج له أبو داود.
[حدثنا سفيان بن عيينة].
هو سفيان بن عيينة المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة].
محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن كريب].
هو كريب مولى ابن عباس وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من أصحابه الكرام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(180/10)
شرح حديث: (ذهب أصحاب الدثور بالأجور)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الأوزاعي حدثني حسان بن عطية حدثني محمد بن أبي عائشة حدثني أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو ذر رضي الله عنه: (يا رسول الله! ذهب أصحاب الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضول أموال يتصدقون بها، وليس لنا مال نتصدق به، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا أبا ذر! ألا أعلمك كلمات تدرك بهن من سبقك، ولا يلحقك من خلفك إلا من أخذ بمثل عملك؟ قال: بلى يا رسول الله! قال: تكبر الله عز وجل دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وتحمده ثلاثاً وثلاثين، وتسبحه ثلاثاً وثلاثين، وتختمها بلا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفرت له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر)].
قوله: [(يا رسول الله! ذهب أصحاب الدثور بالأجور)] يعني: ذهب أصحاب الأموال وأصحاب الغنى والثروة بالأجور؛ لأنهم يتصدقون وينفقون ويحسنون، وغيرهم ممن لا يملكون الأموال لا يتمكنون من ذلك؛ بسبب فقرهم وقلة ذات أيديهم.
قوله: [(ألا أعلمك كلمات تدرك بهن من سبقك، ولا يلحقك بها من خلفك إلا من عمل بمثل عملك؟ قال: بلى يا رسول الله! قال: تكبر الله عز وجل دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وتحمده ثلاثاً وثلاثين، وتسبحه ثلاثاً وثلاثين، وتختمها بلا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)].
حديث أبي ذر هذا الذي عند أبي داود قد جاء عن أبي هريرة كما في صحيح مسلم، وقد أورده النووي في الأربعين النووية بلفظ: (ذهب أهل الدثور بالأجور والنعيم المقيم، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضول أعمالهم)، وشرحه الحافظ ابن رجب في كتابه: «جامع العلوم والحكم» وهو مثل ما جاء في رواية أبي ذر التي يرويها أبو هريرة عن أبي ذر رضي الله عنهما، وهو مشتمل على التكبير والتهليل والتسبيح دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، ويختم المائة بلا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
والحديث أورده أبو داود في باب: التسبيح بالحصى، وهو مشتمل على التسبيح، ولكن الترجمة أخص مما أورده تحتها؛ لأنها متعلقة بالحديث الأول فقط.
قوله: [(غفرت له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر)] قال الشيخ الألباني رحمه الله: إن الحديث صحيح بدون قوله: [(غفرت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر)] فهي مدرجة.(180/11)
تراجم رجال إسناد حديث: (ذهب أصحاب الدثور بالأجور)
قوله: [حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم].
عبد الرحمن بن إبراهيم هو الملقب دحيم وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا الوليد بن مسلم].
الوليد بن مسلم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الأوزاعي].
هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي أبو عمرو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني حسان بن عطية].
حسان بن عطية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني محمد بن أبي عائشة].
محمد بن أبي عائشة ليس به بأس -بمعنى صدوق-، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثني أبو هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي وقد مر ذكره.
[قال: قال أبو ذر].
هو جندب بن جنادة رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(180/12)
الأسئلة(180/13)
مظان العقد بالأصابع في التسبيح
ونشير هنا إلى أن العقد يكون في جميع الأذكار التي يكون فيها عدد، وهي التي تكون في أدبار الصلاة وغيرها؛ لأن هناك أذكاراً يؤتى بها، منها ما هو مائة، ومنها ما هو أقل، فلا يمكن إحصاؤها إلا بالأصابع وبالعد.
أما الذكر الذي جاء مطلقاً فالإنسان يأتي به بدون حساب، يسبح الله، ويهلل الله بدون أن يعد، ولكن الشيء الذي ورد فيه عدد فإنه لا يعرف ذلك إلا عن طريق العد بالأصابع.(180/14)
ما يقول الرجل إذا سلم(180/15)
شرح حديث المغيرة في الذكر بعد الصلاة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: ما يقول الرجل إذا سلم.
حدثنا مسدد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن المسيب بن رافع عن وراد مولى المغيرة بن شعبة عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: (كتب معاوية رضي الله عنه إلى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: أي شيء كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول إذا سلم من الصلاة؟ فأملاها المغيرة عليه وكتب إلى معاوية قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد)].
قوله: باب: ما يقول الرجل إذا سلم أي: إذا سلم من الصلاة المفروضة ماذا يقول؟ والمقصود من ذلك الأذكار والأدعية التي وردت بعد الفراغ من الصلاة المفروضة.
وقد أورد أبو داود رحمه الله أحاديث عديدة، أولها: حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وكاتبه وراد هو الذي يروي الحديث عنه، وفيه أن معاوية كتب إلى المغيرة يسأله عما كان يقوله النبي صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة؟ فأملى المغيرة على وراد الكتاب إلى معاوية بهذا الحديث الذي هو: [(لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد)].
وهذا يدلنا على عناية الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم بالأحكام الشرعية أخذاً وأداءً وتحملاً، وأنه كان يكتب بعضهم إلى بعض، ويسأل بعضهم بعضاً عن السنن التي تكون عند المسئول عن السنن مما كان لديه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويدلنا على أن الكتابة في العلم حجة ومعتبرة، وأنها طريقة صحيحة لطرق التحمل وطرق الأداء؛ لأن معاوية كتب يسأل المغيرة والمغيرة كتب إليه يخبره بالذي عنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك.
ففيه عناية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنن، وتلقيها وتعليمها والمكاتبة فيها وهذا يدل على فضلهم ونبلهم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وأنهم اجتهدوا في معرفة ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحمله وتبليغه وأدائه للناس.
وهذا الذي أملاه المغيرة على كاتبه وراد بذلك الكتاب إلى معاوية رضي الله تعالى عن الصحابة أجمعين فيه: [(لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)] وهو من الذكر الذي يكون بعد الصلاة.
قوله: [(اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد)] يعني: لا ينفع صاحب الغنى غناه وإنما ينفعه العمل الصالح، وإنما ينفعه القربة إلى الله سبحانه وتعالى، والجد هنا بمعنى الحظ والنصيب والغنى وما إلى ذلك، والجد يأتي بهذا المعنى ويأتي بمعنى الجلال والعظمة، ومنه قول الله عز وجل فيما حكاه الله عن الجن: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} [الجن:3]، وكذلك الحديث الذي في دعاء الاستفتاح: (وتعالى جدك) يعني: عظمتك، ويأتي بمعنى الجد الذي هو أب الأب وأب الأم، وهذا من قبيل الاشتراك اللفظي، يعني: اللفظ الواحد يأتي لعدة معان مختلفة، والجد يقابله الحرمان، ولهذا يقول الشاعر: الجد بالجد والحرمان بالكسل فانصب تصب عن قريب غاية الأمل(180/16)
تراجم رجال إسناد حديث المغيرة في الذكر بعد الصلاة
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن أبي معاوية].
هو محمد بن خازم الضرير الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن المسيب بن رافع].
المسيب بن رافع وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن وراد مولى المغيرة بن شعبة].
وراد مولى المغيرة بن شعبة وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن المغيرة بن شعبة].
المغيرة بن شعبة رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(180/17)
وجه ذكر الرجال في ترجمة الباب
قوله: [باب ما يقول الرجل إذا سلم] ذكر الرجل هنا لا مفهوم له؛ لأن الأحكام يتساوى فيها الرجال والنساء، إلا فيما جاء أنه يخص الرجال دون النساء، أو النساء دون الرجال، فعند ذلك يختص بأي واحد منهما، وإلا فإن الأصل التساوي.
إذاً: ذكر الرجل هنا لا مفهوم له، وهو بمعنى ما يقوله المصلي إذا سلم، سواءً كان رجلاً أو امرأة، لكن لما كان الخطاب غالباً مع الرجال صار في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي كلام غيره من العلماء الإتيان بذكر الرجل أو الرجال، وقد جاء فيه أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي فيها ذكر الرجال وليس الأمر خاصاً بهم بل لهم وللنساء، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تتقدموا رمضان بيوم أو يومين إلا رجلاً كان يصوم صوماً فليصمه) يعني: وكذلك المرأة، وقوله صلى الله عليه وسلم: (من وجد متاعه عند رجل قد أفلس فهو أحق به من الغرماء) وكذلك المرأة إذا وجدت متاعها عند رجل قد أفلس فهي أحق به.(180/18)
شرح حديث ابن الزبير: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من الصلاة يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عيسى حدثنا ابن علية عن الحجاج بن أبي عثمان عن أبي الزبير قال: سمعت عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما على المنبر يقول: (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا انصرف من الصلاة يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، أهل النعمة والفضل والثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون)].
قوله: [سمعت عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما على المنبر يقول:] هذا فيه بيان عناية أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم بالسنن وتبليغها للناس، وأنهم كانوا على المنابر في الخطب يبينون السنن ويوضحونها ويبلغونها للناس، حتى يسمعها الجم الغفير ممن يسمعون الخطب، وهو دال على كمال نصحهم وحرصهم واجتهادهم وتبليغهم السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
قوله: [(كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من الصلاة -يعني: إذا فرغ من الصلاة المفروضة- يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، أهل النعمة والفضل والثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون)] وهذا الحديث نفسه جاء عند مسلم والنسائي وليس فيه ذكر التكرار لقوله: [(لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون)] وإنما جاء مرة واحدة، فهذا من الذكر الذي شرع بعد الصلوات المكتوبة في حديث ابن الزبير، وكذلك الذي جاء في حديث المغيرة بن شعبة المتقدم، كل ذلك من الذكر الذي يكون بعد الصلوات المكتوبة، وهو من الثناء على الله عز وجل؛ لأنه ذكر وثناء.
وهذه الأذكار يرفع بها الصوت كما سبق في الحديث الذي فيه: (إن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وهذا الحديث هو في الصحيحين أيضاً.
وهذه الأذكار يؤتى بها جميعاً؛ لأنها كلها من الذكر المشروع بعد الصلاة.(180/19)
تراجم رجال إسناد حديث ابن الزبير: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من الصلاة يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له)
قوله: [حدثنا محمد بن عيسى].
هو محمد بن عيسى الطباع وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا ابن علية].
هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي المشهور بـ ابن علية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحجاج بن أبي عثمان].
الحجاج بن أبي عثمان وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الزبير].
هو محمد بن مسلم بن تدرس المكي وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: سمعت عبد الله بن الزبير].
هو عبد الله بن الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنهما، وهو أحد العبادلة الأربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله تعالى عنه وأرضاه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(180/20)
طريق أخرى لما كان يقول عليه الصلاة والسلام إذا فرغ من الصلاة المفروضة مع تراجم رجال الإسناد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا عبدة عن هشام بن عروة عن أبي الزبير قال: كان عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما يهلل في دبر كل صلاة فذكر نحو هذا الدعاء زاد فيه: (ولا حول ولا قوة إلا بالله لا إله إلا الله، لا نعبد إلا إياه، له النعمة) وساق بقية الحديث].
ذكر المصنف رحمه الله الحديث من طريق أخرى وفيه زيادة على ما تقدم وهي: [(لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة)] يعني: بالإضافة إلى قوله في الحديث السابق: (والفضل والثناء الحسن).
قوله: [حدثنا محمد بن سليمان الأنباري].
محمد بن سليمان الأنباري صدوق، أخرج له أبو داود.
[حدثنا عبدة].
هو عبدة بن سليمان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام بن عروة].
هشام بن عروة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الزبير قال: كان عبد الله بن الزبير].
أبو الزبير وعبد الله بن الزبير قد مر ذكرهما.(180/21)
شرح حديث: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دبر صلاته: اللهم ربنا ورب كل شيء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد وسليمان بن داود العتكي -وهذا حديث مسدد - قالا: حدثنا المعتمر قال: سمعت داود الطفاوي قال: حدثني أبو مسلم البجلي عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: سمعت نبي الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول، وقال سليمان: (كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول في دبر صلاته: اللهم ربنا ورب كل شيء، أنا شهيد أنك أنت الرب وحدك لا شريك لك، اللهم ربنا ورب كل شيء، أنا شهيد أن محمداً عبدك ورسولك، اللهم ربنا ورب كل شيء، أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة، اللهم ربنا ورب كل شيء، اجعلني مخلصاً لك وأهلي في كل ساعة في الدنيا والآخرة، يا ذا الجلال والإكرام! اسمع واستجب، الله أكبر الأكبر، الله نور السماوات والأرض -قال سليمان بن داود -: رب السماوات والأرض، الله أكبر الأكبر، حسبي الله ونعم الوكيل، الله أكبر الأكبر)].
قوله: [(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دبر صلاته: اللهم ربنا ورب كل شيء)] يعني: بعدها؛ لأن الدبر يطلق على ما قبل آخر الشيء وعلى ما بعده، فهو يطلق على ما قبل السلام وعلى ما بعد السلام، كله يقال له: دبر، وهنا هذا الذكر يقال بعد السلام، وقد جاءت أحاديث كثيرة فيها ذكر الدبر ويراد به ما بعد ومنها الحديث الذي فيه التسبيح والتهليل والتكبير دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين ويختم بلا إله إلا الله وحده لا شريك له، فهذا يكون بعد الصلاة، فالمراد بالدبر هنا ما بعد الصلاة.
وهذا الحديث الطويل المشتمل على هذه الألفاظ من الدعاء هو حديث ضعيف غير ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيه من هو لين الحديث، وفيه من هو مقبول، فهو غير ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا فإنه لا يشرع الإتيان به، وإنما يؤتى بالأشياء الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(180/22)
تراجم رجال إسناد حديث: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دبر صلاته: اللهم ربنا ورب كل شيء)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد مر ذكره.
[وسليمان بن داود العتكي].
هو أبو الربيع الزهراني وهو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[وهذا حديث مسدد قالا: حدثنا المعتمر].
هو المعتمر بن سليمان بن طرخان التيمي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: سمعت داود الطفاوي].
داود الطفاوي لين الحديث، أخرج له أبو داود والنسائي.
[قال: حدثني أبو مسلم البجلي].
أبو مسلم البجلي مقبول، أخرج حديثه أبو داود والنسائي.
[عن زيد بن أرقم].
زيد بن أرقم رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
أقول: المتن فيه ما فيه، والإسناد فيه من هو لين الحديث، ومن هو مقبول، والمقبول أعلى من لين الحديث، يعني: المقبول هو الذي يقبل حديث إذا توبع، والذي أقل منه هو لين الحديث.(180/23)
شرح حديث كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم من الصلاة قال اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة عن عمه الماجشون بن أبي سلمة عن عبد الرحمن الأعرج عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا سلم من الصلاة قال: اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت)].
قوله: [(اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت)].
هذا يدلنا على أن الصلاة يكون بعدها دعاء وليس مجرد ذكر، بل إن أول شيء يكون بعد الصلاة هو الدعاء وهو: أستغفر الله أستغفر الله، أستغفر الله ثلاث مرات؛ لأن الاستغفار هو دعاء، أستغفر الله يعني: أسأل الله المغفرة.
إذاً: فبعد الصلاة يوجد ثناء ويوجد فيه دعاء، وهذا الحديث يدل على مشروعية الدعاء بعد الصلاة، وهناك دعاء قبل السلام، فما ورد قبل السلام يؤتى به قبل السلام، وما ورد بعد السلام يؤتى به بعد السلام.(180/24)
تراجم رجال إسناد حديث: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم من الصلاة قال اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت)
قوله: [حدثنا عبيد الله بن معاذ].
عبيد الله بن معاذ بن معاذ العنبري ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
أبوه هو معاذ بن معاذ العنبري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة].
هو عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمه الماجشون بن أبي سلمة].
هو يعقوب بن أبي سلمة الماجشون والماجشون لقب وليس اسماً، وهناك جماعة يقال لهم: الماجشون، وهو صدوق، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن عبد الرحمن الأعرج].
هو عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، والأعرج لقب وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله بن أبي رافع].
عبيد الله بن أبي رافع وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن علي بن أبي طالب].
علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، أبو السبطين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(180/25)
شرح حديث: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو: رب أعني ولا تعن علي)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن الحارث عن طليق بن قيس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو: رب أعني ولا تعن علي، وانصرني ولا تنصر علي، وامكر لي ولا تمكر علي، واهدني ويسر هداي إلي، وانصرني على من بغى علي، اللهم اجعلني لك شاكراً، لك ذاكراً، لك راهباً، لك مطواعاً، إليك مخبتاً أو منيباً، رب تقبل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبت حجتي، واهد قلبي، وسدد لساني، واسلل سخيمة قلبي)].
حديث عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما ليس فيه أن هذا يقال بعد السلام وإنما فيه أنه كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو.
قوله: [(رب أعني ولا تعن علي)] يعني: بأن يعينه ويوفقه، وألا يعين عليه أحداً يلحق به الضرر.
قوله: [(وانصرني ولا تنصر علي، وامكر لي ولا تمكر علي)] يعني أن يكون المكر من الله له ولا يكون من الله عليه.
قوله: [(اللهم اجعلني لك شاكراً، لك ذاكراً، لك راهباً، لك مطواعاً، إليك مخبتاً أو منيباً)].
هذه الألفاظ فيها حذف واو العطف، والأصل أن يقول: لك كذا، ولك كذا، ولك كذا، وحذف واو العطف وارد في اللغة العربية وهذا منه، ومنه قول الله عز وجل في أول سورة الغاشية: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} [الغاشية:2 - 8] يعني: ووجوه، فحذفت واو العطف.
إذاً: حذف واو العطف سائغ وقد جاء في القرآن والسنة.
قوله: [(لك راهباً)].
يعني: الرهبة تكون من الله؛ لأنها مقابل الرغبة، كما في قوله تعالى: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90] يعني: خوفاً ورجاءً.
قوله: [(لك مطواعاً)] يعني: مطيعاً، ومطواع صيغة مبالغة من الطاعة.
قوله: [(إليك مخبتاً أو منيباً)].
الإخبات هو الخشية والذل، والإنابة هي الرجوع.
قوله: [(رب تقبل توبتي، واغسل حوبتي)].
الحوبة قيل: هي الذنب، وكونها تغسل مثل ما جاء في الحديث: (ونقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، واغسلني بالماء والثلج والبرد).
قوله: [(وأجب دعوتي وثبت حجتي)].
يعني: يكون كلامه مستقيماً، وفي الآخرة كونه يسدد ويوفق عند السؤال للجواب بالصواب.
قوله: [(واسلل سخيمة قلبي)].
يعني: أخرج ما فيه من الحقد والضغن، والأشياء التي تكون في القلوب مما تعتريه وهي مذمومة وغير محمودة.(180/26)
تراجم رجال إسناد حديث: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو: رب أعني ولا تعن علي)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
هو محمد بن كثير العبدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن مرة].
هو عمرو بن مرة الهمداني وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن الحارث].
هو عبد الله بن الحارث النجراني وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن طليق بن قيس].
طليق بن قيس ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن ابن عباس].
ابن عباس قد مر ذكره.(180/27)
طريق أخرى لحديث: (رب أعني ولا تعن علي) وتراجم رجال إسنادها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد قال: حدثنا يحيى عن سفيان قال: سمعت عمرو بن مرة بإسناده ومعناه، قال: (ويسر الهدى إلي، ولم يقل: هداي)].
هذه طريق أخرى للحديث السابق.
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان].
هو سفيان الثوري.
[قال: سمعت: عمرو بن مرة].
عمرو بن مرة مر ذكره.
[قال أبو داود: سمع سفيان من عمرو بن مرة قالوا: ثمانية عشر حديثاً].
هذا فيه بيان مقدار سماع سفيان الثوري من عمرو بن مرة وأنهم قالوا: سمع منه ثمانية عشر حديثاً.(180/28)
شرح حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم قال اللهم أنت السلام)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا شعبة عن عاصم الأحول وخالد الحذاء عن عبد الله بن الحارث عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا سلم قال: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام!)].
قوله: [(اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام!)] هذا ذكر يأتي به الإمام وهو مستقبل القبلة بعد السلام وقبل الانصراف إلى المأمومين، كما جاء ذلك في بعض الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل ذلك الاستغفار ثلاثاً: (أستغفر الله أستغفر الله أستغفر الله، اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام!) والإمام بعد أن يأتي بهذا الذكر ينصرف إلى المأمومين، ويأتي بالباقي مما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مقابل للمأمومين.(180/29)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم قال اللهم أنت السلام)
قوله: [حدثنا مسلم بن إبراهيم].
هو مسلم بن إبراهيم الفراهيدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عاصم الأحول].
هو عاصم بن سليمان الأحول وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وخالد الحذاء].
هو خالد بن مهران الحذاء وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن الحارث].
هو أبو الوليد عبد الله بن الحارث البصري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(180/30)
حكم قول: وإليك السلام تباركت وتعاليت
ويقول بعض الناس: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، وإليك السلام، تباركت وتعاليت، ولم يأت ما يدل على قولهم: تعاليت، ولا قولهم: وإليك السلام؛ لأن الله هو السلام ومنه السلام، ولهذا لا يسلم على الله وإنما السلام من الله، وقد سبق أن مر الحديث الذي فيه: (السلام على الله من عباده، السلام على جبريل وميكائيل، فقال عليه الصلاة والسلام: لا تقولوا كذلك؛ فإن الله هو السلام ومنه السلام) يعني: أن السلام منه لهم.
وهذا الحديث أخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة.(180/31)
شرح حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن ينصرف من صلاته استغفر ثلاث مرات)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا عيسى عن الأوزاعي عن أبي عمار عن أبي أسماء عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أراد أن ينصرف من صلاته استغفر ثلاث مرات ثم قال: اللهم)، فذكر معنى حديث عائشة رضي الله عنها].
قوله: [(أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن ينصرف من صلاته، استغفر ثلاث مرات)] يعني: كان إذا أراد أن ينصرف من صلاته إلى المأمومين فقبل أن ينصرف كان يستغفر ثلاث مرات بعدما يسلم، يقول: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله اللهم ثم يأتي بالذكر الذي تقدم في الحديث الذي قبل هذا، فقد كان يجمع بين الاستغفار وبين هذا الذكر الذي هو: (اللهم أنت السلام ومنك السلام).(180/32)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن ينصرف من صلاته استغفر ثلاث مرات)
قوله: [حدثنا إبراهيم بن موسى].
هو إبراهيم بن موسى الرازي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا عيسى].
هو عيسى بن يونس بن أبي إسحاق وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأوزاعي].
هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي أبو عمرو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي عمار].
هو شداد بن عبد الله وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي أسماء].
هو عمرو بن مرثد الرحبي وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم].
ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه، وحديثه أخرجه البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.(180/33)
الأسئلة(180/34)
حكم الدعاء الجماعي دبر الصلوات ورفع اليدين فيه
السؤال
يكثر في العالم الإسلامي الدعاء الجماعي، بأن يدعو الإمام والمأمومون يؤمنون، مع رفع اليدين فيه، فهل لكم من توجيه؟
الجواب
المعروف عن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كل واحد يسبح لنفسه، ويهلل لنفسه، ويأتي بالذكر لنفسه، دون أن يكون هناك صوت جماعي، بأن يأتي الإمام بالذكر وهم يؤمنون وراءه، فهذا من الأمور المحدثة، وإنما كل إنسان يأتي بالدعاء لنفسه، وليس الإمام هو الذي يأتي بالدعاء والباقون يؤمنون وراءه، أو يأتون بالذكر وراءه، فهذا ليس من السنة، بل هذا من الأمور المحدثة، والنبي صلى الله عليه وسلم ما كان يأتي بالذكر والصحابة يرددون وراءه الذكر مثل المعلم الذي يعلم الصبيان، وإنما كل إنسان كان يأتي بالذكر لنفسه.
ورفع اليدين في الدعاء بعد الصلاة لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام هو إمام الناس، وهو الذي كان يصلي بهم، ولم ينقل رفع اليدين بعد الصلاة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم، فدل هذا على أن ذلك لا يصلح؛ لأنه لم يفعل.
ورفع اليدين للدعاء له أحوال: حال ورد فيها رفع اليدين، فترفع اليدان فيما جاءت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحال لم يأت فيها رفع اليدين ومنها: أثناء خطبة الجمعة، فإنه لا ترفع الأيدي فيها، إلا إذا استستقى الإمام في الخطبة فإنه يرفع يديه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يرفع يديه وهو يخطب إلا في الاستسقاء، وكذلك بعد الصلاة المفروضة؛ لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم -وهو الذي يصلي بالناس دائماً- يرفع يديه وكذلك الصحابة معه رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم لم يكونوا يرفعون أيديهم.(180/35)
حكم الجهر بالتكبير بعد التسليم قبل الاستغفار
السؤال
بعض طلبة العلم إذا سلم يكبر تكبيرة واحدة ثم يقول: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، ويستدل بما أخرجه البخاري في صحيحه عن ابن عباس: (كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكبير) فما رأيكم في هذا؟
الجواب
غير واضح أن يؤتى بالتكبير بعد السلام مباشرة، ولا شك أن الصلاة بعدها تكبير وغير تكبير، فقد جاء في بعض الروايات عدم ذكر التكبير، والمراد بالحديث أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالذكر بعد الصلاة فيه تكبير وفيه غير تكبير، وأما كونه يؤتى بالتكبير مباشرة فلم يأت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم قال: الله أكبر، وإنما كان يقول: (أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله)، والاستغفار ورد بعد أداء العبادات، كما جاء في الصلاة، وجاء في الحج، يعني: بعد أداء العبادة يؤتى بالاستغفار من أجل التقصير والنقص الذي يحصل من الإنسان.(180/36)
معنى السلام
السؤال
قوله: (اللهم أنت السلام) ما معنى السلام؟
الجواب
السلام هو اسم من أسماء الله، يعني المنزه المسلَّم من كل نقص ومن كل عيب، والسلامة تحصل للناس من الله عز وجل، ولهذا الإنسان عندما يسلم على غيره يقول: السلام عليكم ورحمة الله، يدعو له بالسلامة، والسلامة إنما تكون من الله عز وجل وتطلب من الله عز وجل.(180/37)
حكم تأدية السنة بعد السلام مباشرة قبل الأذكار
السؤال
نلاحظ في المسجد النبوي في الموسم خاصة قيام بعض الناس بعد السلام مباشرة لأداء السنة قبل الأذكار، فما الحكم؟
الجواب
هذا خطأ، فالذي ينبغي للإنسان بعد السلام أن يأتي بالأذكار الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك يأتي بالنوافل، أما كونه يترك هذه الأذكار الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن هذا ترك للسنة، ومخالفة للسنة.(180/38)
شرح سنن أبي داود [181]
بالاستغفار تزاح الهموم والغموم عن القلوب، وتنشرح الصدور، وتأتي الخيرات من الأرض والسماوات، وتفتح أبواب الفرج وتزاح عن المستغفرين الكرب، وكفى بالاستفغار فضلاً أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستغفر في المجلس الواحد مائة مرة.(181/1)
ما جاء في الاستغفار(181/2)
شرح حديث: (ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الاستغفار.
حدثنا النفيلي حدثنا مخلد بن يزيد حدثنا عثمان بن واقد العمري عن أبي نصيرة عن مولىً لـ أبي بكر الصديق عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة)].
قوله: [باب في الاستغفار] الاستغفار هو من الدعاء؛ لأن قول الإنسان: اللهم اغفر لي دعاء يطلب به من الله المغفرة.
أورد المصنف رحمه الله في هذا الباب أحاديث في الاستغفار وأحاديث في الدعاء على سبيل العموم؛ لأن الاستغفار نوع من أنواع الدعاء.
قوله: [(ما أصر من استغفر، وإن عاد في اليوم سبعين مرة)]، الإصرار: هو البقاء على الذنب والإصرار عليه، أما الاستغفار فلا يكون معه الإصرار، ولو عاد إلى الذنب في اليوم سبعين مرة، لكن هذا الحديث ضعيف وغير ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يحتج به؛ لأن لفظه فيه نكارة، إذ كيف يكون غير مصر ولو عاد إلى الذنب سبعين مرة؟! فما فائدة الاستغفار الذي يكون معه مواصلة الذنب والاستمرار فيه حتى يبلغ هذا المبلغ في الكثرة؟! فالحديث غير صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن فيه مولىً لـ أبي بكر وهو مبهم.
وقال الحافظ: هو أبو رجاء مولى أبي بكر وهو مجهول.
إذاً: فالحديث ضعيف غير ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن كون الاستغفار يكون معه تخفيف الذنوب والتخلص من الذنوب فقد جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: (لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار)، يعني: أن الكبيرة مع الاستغفار تتضاءل وتتلاشى وتضمحل؛ لأن الإنسان عندما يرتكب كبيرة ويستغفر الله ويندم عليها ويخاف الله عز وجل، فإن الذنب يتلاشى ويضمحل.
قوله: (ولا صغيرة مع الإصرار)، يعني: الصغيرة مع الإصرار والمداومة عليها وقلة الحياء والخوف من الله عز وجل تتضخم وتكبر وتعظم؛ لما صحبها من قلة الحياء وقلة المبالاة، وكون الإنسان يستمر على تلك الذنوب التي هي صغائر قد يلحقها بالكبائر من ناحية قلة الحياء وقلة المبالاة بها.
وهذا هو معنى قول ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه: (لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار).(181/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة)
قوله: [حدثنا النفيلي].
هو عبد الله بن محمد النفيلي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا مخلد بن يزيد].
مخلد بن يزيد صدوق له أوهام، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا عثمان بن واقد العمري].
عثمان بن واقد العمري صدوق ربما وهم، أخرج له أبو داود والترمذي.
[عن أبي نصيرة].
هو مسلم بن عبيد وهو ثقة، أخرج له أبو داود والترمذي.
[عن مولىً لـ أبي بكر].
وهو مبهم، وقد ذكر الحافظ في التقريب أنه أبو رجاء، وقال: إنه مجهول، أخرج له أبو داود والترمذي.
[عن أبي بكر الصديق].
أبو بكر هو عبد الله بن عثمان رضي الله عنه، وهو غير مشهور باسمه ولكنه مشهور بكنيته ولقبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وهو ليس له ولد اسمه بكر ولكنه اشتهر بهذه الكنية، كما أن عمر رضي الله عنه ليس له ولد اسمه حفص وقد اشتهر بهذه الكنية، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخليفة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأول الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة، وقد قال عنه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم مقالة تدل على علو قدره وعظيم منقبته، وذلك قبل أن يموت بخمس ليال، كما جاء في صحيح مسلم من حديث جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس يقول: (إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك).
فقوله صلى الله عليه وسلم: (لو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً) أخبر فيه عن أمر لا يكون أن لو كان كيف يكون، وهو دال على عظم شأن أبي بكر وعلو منزلته وعظيم قدره، وهو أفضل الصحابة على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(181/4)
شرح حديث: (إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في كل يوم مائة مرة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن حرب ومسدد قالا: حدثنا حماد عن ثابت عن أبي بردة عن الأغر المزني رضي الله عنه- قال مسدد في حديثه: وكانت له صحبة -قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في كل يوم مائة مرة)].
قوله: [(إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة)] يغان فسر بأنه يغطى، وقيل: إن المقصود بذلك ما يحصل له من السهو، وأنه يستغفر الله عز وجل في اليوم سبعين مرة وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
أما وجه استغفار النبي صلى الله عليه وسلم وهل يدخل في مسألة وقوع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في الذنوب؟ فالعلماء اتفقوا على أن الكبائر لا تقع منهم، وأما الصغائر فهناك خلاف بين أهل العلم، والقائلون بإثباتها يقولون: إنه يترتب عليها زيادة كمالهم من ناحية أنهم يستغفرون ويدعون، وأن الله يرفع شأنهم، ويعلي قدرهم، ويعظم منزلتهم.
ومن العلماء من يقول: إنه قد يقع منهم خلاف الأولى، ومن ذلك الشيء الذي عوتب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن فيما يتعلق بقصة الأعمى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس:1 - 2] وكذلك فيما يتعلق بأسارى بدر، وغير ذلك من الأشياء التي جاءت في القرآن والتي عوتب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قيل: إن استغفاره صلى الله عليه وسلم من العبادة لله عز وجل، وكذلك تعليم الأمة أن يفعلوا ذلك، وأنه إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر وهو القدوة والأسوة، وهم الذين يذنبون ويحتاجون إلى أن يستغفروا من ذنوبهم وقدوتهم في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.(181/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في كل يوم مائة مرة)
قوله: [حدثنا سليمان بن حرب].
سليمان بن حرب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ومسدد حدثنا حماد].
هو حماد بن زيد إذا جاء مسدد وسليمان بن حرب عن حماد فالمراد به حماد بن زيد، وإذا جاء موسى بن إسماعيل ومسدد عن حماد فالمراد به حماد بن سلمة.
وحماد بن زيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ثابت].
هو ثابت بن أسلم البناني وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي بردة].
هو أبو بردة بن أبي موسى وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأغر المزني].
الأغر المزني صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس له في الكتب الستة إلا هذا الحديث، وهو عند مسلم وأبي داود فقط.
لكن له عند البخاري في الأدب المفرد، وعند النسائي في عمل اليوم والليلة.(181/6)
شرح حديث: (إن كنا لنعد لرسول الله في المجلس الواحد مائة مرة رب اغفر لي وتب علي)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا أبو أسامة عن مالك بن مغول عن محمد بن سوقة عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (إن كنا لنعد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المجلس الواحد مائة مرة: رب اغفر لي وتب علي، إنك أنت التواب الرحيم)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: [(إن كنا لنعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم).
يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر من الاستغفار في المجلس الواحد، وفي الحديث السابق كان يخبر عن نفسه أنه كان يستغفر الله في اليوم مائة مرة، وهنا كان الصحابة يعدون له في المجلس الواحد أنه كان يقول هذا الذكر أو هذا الدعاء مائة مرة.(181/7)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن كنا لنعد لرسول الله في المجلس الواحد مائة مرة رب اغفر لي وتب علي)
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
هو الحسن بن علي الحلواني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا أبو أسامة].
هو حماد بن أسامة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مالك بن مغول].
مالك بن مغول ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن سوقة].
محمد بن سوقة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
هو نافع مولى ابن عمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(181/8)
شرح حديث: (من قال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفر له وإن كان قد فر من الزحف)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حفص بن عمر بن مرة الشني حدثني أبي عمر بن مرة سمعت بلال بن يسار بن زيد مولى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: سمعت أبي يحدثنيه عن جدي رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من قال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، غفر له وإن كان قد فر من الزحف)].
أورد أبو داود حديث زيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [(من قال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، غفر له وإن كان قد فر من الزحف)].
يعني: من قال ذلك غفر له وإن فرّ من قتال الكفار، ومن المعلوم أن الفرار من الزحف هو أحد الموبقات السبع التي جاءت في حديث: (اجتنبوا السبع الموبقات، ومنها: الفرار من الزحف)، ويكون المعنى مستقيماً إذا كان المقصود أنه تاب من جميع الذنوب ومنها الفرار من الزحف، وإلا فإن مجرد الاستغفار والإنسان باق على الذنب لا ينفع، وهو مثل ما تقدم في الحديث الضعيف الذي فيه: (وإن عاد في اليوم سبعين مرة) وإنما ينفع ذلك مع التوبة من الذنب، فبدون توبة من الذنب يوجد إشكال، يعني: كونه تغفر له ذنوبه بمجرد الاستغفار ولو فر من الزحف وإن لم يتب من ذلك الذنب وهو مصر عليه، لكن إذا كان المقصود به الاستغفار من جميع الذنوب والتوبة منها والندم على ما حصل منه.
نعم، تغفر له ذنوبه، أما أن يوجد منه الاستغفار بلسانه ولم يتب من بعض الذنوب لا يقال: إنها تغفر له ذنوبه بمجرد الاستغفار وهو مصر عليها.
وهذا الحديث فيه أربعة مقبولون، وفيه إشكال من هذا المعنى الذي أشرت إليه، وإلا على معنى التوبة من جميع الذنوب فإن كل الذنوب تغفر ولو كان الفرار من الزحف.
والحديث صححه الألباني كما سيأتي وجه تصحيحه له.(181/9)
تراجم رجال إسناد حديث: (من قال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفر له وإن كان قد فر من الزحف)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي المنقري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حفص بن عمر بن مرة الشني].
حفص بن عمر بن مرة الشني مقبول، أخرج له أبو داود والترمذي.
[حدثني أبي عمر بن مرة].
عمر بن مرة مقبول، أخرج له أبو داود والترمذي.
[سمعت بلال بن يسار بن زيد].
بلال بن يسار مقبول، أخرج له أبو داود والترمذي.
[سمعت أبي يحدثنيه عن جدي].
أبوه هو يسار وهو مقبول، أخرج له أبو داود والترمذي.
أما جده فهو صحابي أخرج له أبو داود والترمذي.(181/10)
وجه تصحيح الألباني لحديث (من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو غفر له وإن كان قد فر من الزحف)
ذكرت أن الشيخ الألباني رحمه الله صحح الحديث، ولما كان في رجاله أربعة وصف كل منهم بأنه مقبول، وكل منهم خرج له أبو داود والترمذي وهم: حفص بن عمر بن مرة، وأبوه، وبلال بن يسار بن زيد، وأبوه، وكل منهم مقبول، والمقبول هو الذي لا يعتد بحديثه إلا إذا توبع.
وقد أورد الشيخ الألباني ذلك الحديث في السلسلة الصحيحة رقم (2727)، وذكره عن جماعة من الصحابة منهم زيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدرها بحديث عبد الله بن مسعود، والحديث الذي أورده من طريق عبد الله بن مسعود صحيح، وهو مثل ما جاء في هذا إلا أنه زاد (ثلاثاً): (من قال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ثلاثاً، غفرتْ ذنوبه وإن كان قد فر من الزحف).
وعلى هذا فهذه الطريق -مع ما فيها من الرجال المتكلم فيهم- عن زيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم متفقة مع تلك الطريق الصحيحة التي أوردها الشيخ الألباني وإسنادها صحيح.
وكذلك ذكره عن جماعة من الصحابة إلا أن حديث عبد الله بن مسعود هو الذي يعتمد عليه في ذلك، وعلى هذا فالحديث صحيح ولكن لا يكون معناه: أنه من قال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفرت ذنوبه ولو كان فاراً من الزحف إذا كان مصراً على المعاصي؛ لأن الاستغفار النافع هو الذي يكون معه الندم والخوف والخجل والتوبة من الذنوب التي ارتكبها والإقلاع عنها فهذا هو الذي يغفر له، وأما الذي يستغفر الله وهو مصر على المعصية، متى ما وجد سبيلاً إليها انقض إليها، فمثل هذا لا يقال: إنه ينفعه أن يقول: أستغفر الله بلسانه مع أن قلبه منطو على خلاف ما جاء في لسانه.(181/11)
شرح حديث: (من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هشام بن عمار حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الحكم بن مصعب حدثنا محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه أنه حدثه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه حدثه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجاً، ومن كل هم فرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(من لزم الاستغفار)] يعني: أكثر منه وكان ملازماً له.
قوله: [(جعل الله له من كل ضيق مخرجاً)] يعني: الشدة والمصائب التي تحل بالإنسان يجعل الله له من ذلك الضيق الذي يحصل بسببها مخرجاً.
قوله: [(ومن كل هم فرجاً)] يعني: يجعل له فرجاً من كل شيء يهمه ويزعجه، بحيث يسلم ويخلص من ذلك، ويفرج الله عنه بسبب الاستغفار.
قوله: [(ويرزقه من حيث لا يحتسب)] يعني: يأتيه الرزق من حيث لا يفكر ولا يخطر بباله.
والحديث فيه رجل مجهول، وهو الحكم بن مصعب، فهو غير صحيح من ناحية الإسناد، ولكن معناه جاء به القرآن من حيث التقوى، كما قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:2 - 3].
وأيضاً جاء فيما يتعلق بالاستغفار أنه سبب لحصول الرزق، كما قال الله عز وجل عن نبيه نوح عليه الصلاة والسلام: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح:10 - 12] يعني: أنه يترتب على الاستغفار حصول هذه الأمور، ومنها حصول الرزق، بأن ينزل الله عليهم الأمطار التي تنبت بها الأشجار الزروع، وتحيا بها الأرض بعد موتها، وكذلك يمددهم بأموال وبنين ويجعل لهم جنات أنهاراً.
فهذا القرآن دل على ذلك، لكن الحديث من ناحية الإسناد غير صحيح، وقد ضعفه الألباني رحمه الله؛ لأن في إسناده الحكم بن مصعب وهو مجهول.(181/12)
تراجم رجال إسناد حديث: (من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجاً)
قوله: [حدثنا هشام بن عمار].
هشام بن عمار صدوق، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا الوليد بن مسلم].
الوليد بن مسلم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الحكم بن مصعب].
الحكم بن مصعب مجهول، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا محمد بن علي بن عبد الله بن عباس].
محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
هو علي بن عبد الله بن عباس ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن.
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(181/13)
شرح حديث: (كان أكثر دعوة يدعو بها (اللهم آتنا في الدنيا حسنة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث ح وحدثنا زياد بن أيوب حدثنا إسماعيل المعنى عن عبد العزيز بن صهيب أنه قال: (سأل قتادة أنساً رضي الله عنه: أي دعوة كان يدعو بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكثر؟ قال: كان أكثر دعوة يدعو بها: اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار).
وزاد زياد: وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها، وإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه].
أورد أبو داود رحمه الله حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن قتادة سأله: (أي دعوة كان يدعو بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر؟)].
أي: أي دعاء كان يكثر منه النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم أكثر من غيره؟ فقال: [(اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)] هذا دعاء عظيم جمع بين خير الدنيا والآخرة؛ لأن حسنة الدنيا كل خير وكل سعادة، وكل ما هو نافع في هذه الحياة فهو من حسنة الدنيا، وكل ما يحصل في الآخرة من نعيم وبهجة كل ذلك من حسنة الآخرة، ثم بعد ذلك من يحصل على حسنة الآخرة يسلم من عذاب النار، فهذا دعاء جاء به القرآن، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما كان يدعو به، وجاء من طريق زياد -شيخ أبي داود الثاني-: أن أنساً رضي الله تعالى عنه كان إذا أراد أن يدعو بدعوة واحدة اقتصر على هذا الدعاء: (اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) وإذا أراد أن يدعو بجملة من الأدعية يدعو بهذا الدعاء مع هذه الأدعية، أي: أنه كان لا يترك هذا الدعاء سواء دعا بدعوة واحدة أو دعا بدعوات كثيرة، فقد كان رضي الله عنه لا يفرط فيه ولا يغفل عنه، وذلك لكونه يجمع خير الدنيا والآخرة، كذلك هذا الدعاء يقال ما بين الركنين في الطواف.(181/14)
تراجم رجال إسناد حديث: (كان أكثر دعوة يدعو بها اللهم آتنا في الدنيا حسنة)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا عبد الوارث].
هو عبد الوارث بن سعيد العنبري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا زياد بن أيوب].
ح هي للتحول من إسناد إلى إسناد، وزياد بن أيوب ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا إسماعيل].
هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي المشهور بـ ابن علية وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[المعنى عن عبد العزيز بن صهيب].
(المعنى) يعني: أن هذه الرواية بهذين الطريقين السابقتين متفقة في المعنى، وعبد العزيز بن صهيب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سأل قتادة أنساً].
أنس رضي الله عنه هو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا يعتبر من الرباعيات عند أبي داود؛ لأن فيه أربعة أشخاص بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم: الطريق الأولى هي: مسدد عن عبد الوارث عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس؛ لأن قتادة ليس من رجال الإسناد وإنما هو الذي حصل منه السؤال، ولكن الرواية عن عبد العزيز عن أنس.
الطريق الثانية هي: زياد بن أيوب عن إسماعيل بن علية عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس، فهذا من أعلى الأسانيد عند أبي داود؛ لأن بين أبي داود وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة وسائط، من طريقين كل واحدة فيها أربعة تلتقي عند الثالث عبد العزيز بن صهيب.(181/15)
شرح حديث: (من سأل الله الشهادة صادقاً بلغه الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يزيد بن خالد الرملي حدثنا ابن وهب حدثنا عبد الرحمن بن شريح عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من سأل الله الشهادة صادقاً بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث سهل بن حنيف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(من سأل الله الشهادة صادقاً)] يعني: أن من سأل الله عز وجل الشهادة في سبيل الله عز وجل، وكان ذلك بصدق من قلبه وبنية خالصة ليس مجرد كلام يقال باللسان دون أن يكون القلب عاقداً عليه.
قوله: [(بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه) يعني: أن الله يكرمه ويتفضل عليه بأن يبلغه تلك المنازل بهذه النية وبهذا القصد.
ومن المعلوم أن الأصل في الشهداء هم شهداء المعركة في سبيل الله عز وجل، لكن هناك أناس وصفوا بأنهم شهداء وذلك في ثواب الآخرة وهذا من جنسه، فيبلغه الله تلك المنازل بقصده الطيب ونيته الحسنة، وهذا يدلنا على أن الإنسان بنيته وقصده قد يحصل على الأجر العظيم، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أنه قال: (إن بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم حبسهم العذر) هذا فيه الجهاد بالنية.
وابن القيم رحمه الله ذكر أن الجهاد أنواع، ومنه الجهاد بالنية، وهذا دليله، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم قال: (إلا كانوا معكم) معناه: أنهم يحصلون الأجر والثواب بنيتهم وقصدهم الطيب الحسن.
والنووي رحمه الله في رياض الصالحين عقد باباً قال: (باب ذكر جماعة من الشهداء في ثواب الآخرة ويغسلون ويصلى عليهم)، يعني: هم شهداء في ثواب الآخرة وإن لم يكونوا بشهداء معركة، وساق جملة من الأحاديث منها: (من قتل دون ماله فهو شهيد).(181/16)
تراجم رجال إسناد حديث: (من سأل الله الشهادة صادقاً بلغه الله)
قوله: [حدثنا يزيد بن خالد الرملي].
يزيد بن خالد الرملي ثقة أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الرحمن بن شريح].
عبد الرحمن بن شريح ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف].
أبو أمامة بن سهل بن حنيف اسمه أسعد، وقيل: له رؤية، وهو معدود في صغار الصحابة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو سهل بن حنيف رضي الله عنه وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(181/17)
شرح حديث: (ما من عبد يذنب ذنباً فيحسن الطهور ثم يقوم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن عثمان بن المغيرة الثقفي عن علي بن ربيعة الأسدي عن أسماء بن الحكم الفزاري قال: سمعت علياً رضي الله عنه يقول: (كنت رجلاً إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حديثاً نفعني الله منه بما شاء أن ينفعني، وإذا حدثني أحد من أصحابه استحلفته، فإذا حلف لي صدقته، قال: وحدثني أبو بكر رضي الله عنه، وصدق أبو بكر رضي الله عنه، أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله سلم يقول: ما من عبد يذنب ذنباً فيحسن الطهور، ثم يقوم فيصلي ركعتين، ثم يستغفر الله إلا غفر الله له، ثم قرأ هذه الآية: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ} [آل عمران:135] إلى آخر الآية)].
أورد أبو داود حديث أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(ما من عبد يذنب ذنباً فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ركعتين، ثم يستغفر الله إلا غفر الله له)] ثم تلا الآية، وهذا يدل على أن الذنب إذا كان صغيراً فالأعمال الصالحة تكفره، وأما إذا كان كبيراً فتكفره الأعمال الصالحة مع التوبة، وأما كون الإنسان يتوضأ ويصلي ركعتين وهو عازم على فعل الكبيرة إذا ظفر بها أو إذا حصلها، فمعناه أنه مصر عليها، فكونه يأتي بركعتين ويتطهر لا يكفر ذلك الذنب، ولابد من التوبة والندم والإقلاع عن الذنب.
وأما بالنسبة للصغائر فتكفرها الأعمال الصالحة كما جاء: (الجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، والعمرة إلى العمرة مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر)، وكذلك قول الله عز وجل: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31] يعني: أن ارتكاب الصغائر يكفر باجتناب الكبائر وكذلك بالأعمال الصالحة.
قوله: [(ثم تلا هذه الآية: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ} [آل عمران:135])].
ذكر الله عز وجل يشمل الصلاة ويشمل غيرها، كما جاء في القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9]، فالصلاة هي من ذكر الله عز وجل.(181/18)
تراجم رجال إسناد حديث: (ما من عبد يذنب ذنباً فيحسن الطهور ثم يقوم)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد مر ذكره.
[حدثنا أبو عوانة].
هو الوضاح بن عبد الله اليشكري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عثمان بن المغيرة الثقفي].
عثمان بن المغيرة الثقفي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن علي بن ربيعة الأسدي].
علي بن ربيعة الأسدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أسماء بن الحكم الفزاري].
أسماء بن الحكم الفزاري صدوق أخرج له أصحاب السنن.
[سمعت علياً].
هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه أمير المؤمنين، ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وأحاديثه عند أصحاب الكتب الستة.
[حدثني أبو بكر].
هو الصديق رضي الله عنه، واسمه عبد الله بن عثمان، وهو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(181/19)
وجه استحلاف علي للصحابة عند التحديث عن النبي عدا أبي بكر رضي الله عنه
في أول الحديث أن علياً رضي الله عنه قال: [(كنت رجلاً إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً نفعني الله منه بما شاء أن ينفعني -يعني: بالعمل به- وإذا حدثني أحد من أصحابه استحلفته، فإذا حلف لي صدقته، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر)] يعني: أنه لم يستحلفه، وهذا يدلنا على عظيم منزلة أبي بكر عند علي رضي الله عنه وعلو قدره وتعظيمه له، وهذا الذي فعله علي رضي الله عنه مع غيره من الصحابة من كونه يستحلف من حدثه منهم هو اجتهاد وزيادة في التوثق، وإلا فإن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كان يحدث بعضهم بعضاً من غير استحلاف ومن غير حاجة للاستحلاف، ولكن هذا هو من جنس ما كان يفعله عمر رضي الله عنه إذا أخبره أحد بشيء ففي بعض الأحيان يطلب منه شاهداً يوافقه على ذلك، ولا يعني ذلك عدم قبول الرواية، وإنما فيه زيادة التوثق، وإلا فإنه لو لم يوجد ما يوافقه فإن مجرد خبره ذلك كاف.(181/20)
شرح سنن أبي داود [182]
لقد حث الشرع على الاستغفار الذي يشتمل على الندم على ما فات من المعاصي والذنوب، مع الإقلاع عنها وعدم الإصرار عليها، وإلا فإن الاستغفار مع الإصرار غير مقبول، بل هو تلاعب وعدم تعظيم لحرمات الله سبحانه وتعالى، واستهانة بأمره، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الاستغفار مع أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وما ذلك إلا من أجل أن تقتدي به أمته في ذلك، وهناك طرق كثيرة للاستغفار من الذنوب منها: الاستغفار باللسان، ومنها: أن يحسن الطهور ويصلي ركعتين ثم يستغفر المرء من الذنب الذي اقترفه وغير ذلك.(182/1)
تابع ما جاء في الاستغفار(182/2)
شرح حديث: (لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ حدثنا حيوة بن شريح قال: سمعت عقبة بن مسلم يقول: حدثني أبو عبد الرحمن الحبلي عن الصنابحي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ بيده وقال: يا معاذ! والله إني لأحبك، والله إني لأحبك، فقال: أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) وأوصى بذلك معاذ الصنابحي، وأوصى به الصنابحي أبا عبد الرحمن].
أورد أبو داود حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه [(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده وقال: والله إني لأحبك، والله إني لأحبك، فقال: أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)، وأوصى بذلك معاذ الصنابحي، وأوصى به الصنابحي أبا عبد الرحمن] هذا يدل على مشروعية هذا الدعاء دبر الصلوات المفروضة، ولكن ما المراد بدبر الصلاة؟ يحتمل أن يكون قبل الفراغ من الصلاة، ويحتمل أن يكون بعدها؛ لأن الدبر هو آخر الشيء وما يلي آخر الشيء، والصلاة آخرها السلام؛ فيكون الذي قبله وما بعده ويكون هو آخرها، هذا دبر وهذا دبر، وكونه يؤتى بهذا الدعاء قبل السلام أو بعده كل ذلك يمكن أن يدخل تحت هذا الحديث.
وقد جاء الدعاء بعد السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث: (كان إذا انصرف من صلاته قال: اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت) هذا فيه الدعاء بعد الصلاة.
فإذاً: يكون دعاؤه قبل وبعد الصلاة، وهنا جاء بلفظ مطلق وهو الدبر وهو يشمل ما قبل وما بعد الصلاة.
قوله: [(والله إني لأحبك)] وكونه عليه الصلاة والسلام أقر وحلف على ذلك فهذه منقبة عظيمة لـ معاذ رضي الله عنه وأرضاه، ثم أرشده إلى ذلك العمل، وكونه يأتي بهذا الدعاء الذي هو سؤال الله عز وجل أن يعنيه على ذكره وشكره وحسن عبادته، فيه تثبيت لهذه المحبة والإبقاء عليها.
قوله: [(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده)].
يعني: أخذ بيد معاذ وهذا فيه زيادة الأنس، وكذلك حتى يكون متهيئاً ومستعداً لما يلقي عليه.(182/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)
قوله: [حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة].
هو عبيد الله بن عمر بن ميسرة القواريري ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ].
عبد الله بن يزيد المقرئ ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حيوة بن شريح].
هو حيوة بن شريح المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت عقبة بن مسلم].
هو عقبة بن مسلم التجيبي المصري ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثني أبو عبد الرحمن الحبلي].
هو عبد الله بن يزيد وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن الصنابحي].
هو أبو عبد الله عبد الرحمن بن عسيلة الصنابحي وهو ثقة من كبار التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وكان قدم من اليمن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما كان بالجحفة جاء رتل من المدينة فأخبروه بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد توفي، فوصل المدينة بعد دفنه بخمسة أيام، ولهذا قالوا في ترجمته: كاد أن يكون صحابياً، يعني: أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلقاه وليحصل على هذا الشرف العظيم الذي هو شرف الصحبة، ولكنه لم يحصل له ذلك فقارب أن يكون صحابياً؛ لأنه ما بقي بينه وبين لقيا الرسول صلى الله عليه وسلم إلا فترة وجيزة، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وصوله إلى المدينة.
[عن معاذ بن جبل].
معاذ بن جبل رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وكون معاذ يوصي الصنابحي والصنابحي يوصي أبا عبد الرحمن هذا فيه التسلسل بهذه الوصية التي فيها الدعاء دبر الصلوات.(182/4)
شرح حديث: (أمرني رسول الله أن أقرأ بالمعوذات دبر كل صلاة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن سلمة المرادي حدثنا ابن وهب عن الليث بن سعد أن حنين بن أبي حكيم حدثه عن علي بن رباح اللخمي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أقرأ بالمعوذات دبر كل صلاة)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث عقبة بن عامر قال: [(أمرني النبي عليه الصلاة والسلام أن أقرأ بالمعوذات دبر كل صلاة)] وهي المعوَّذات أو المعوَّذات.
قال صاحب عون المعبود: بفتح الواو وكسرها.
المعوذات هي ما يتعوذ بها، هي: قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس.
وقيل: إن الجمع هنا يراد به أنه يكون معها: قل هو الله أحد، وقل يا أيها الكافرون، أو أنه يراد بها السورتان فقط، ويكون إطلاق الجمع على الاثنين؛ لأن الجمع يمكن أن يطلق على الاثنين، كما قال الله عز وجل: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ} [الأنبياء:78]، فقال: (لحكمهم) ولم يقل: لحكمهما، وكذلك قوله عز وجل: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4]، يعني: المرأتين.
إذاً: يأتي ذكر الجمع على أن أقله اثنان، وذلك في مواضع كثيرة، فأقل الجمع عند الفرضيين والفقهاء اثنان، وعند النحويين ثلاثة؛ لأن الجماعة عند الفقهاء أقلها إمام ومأموم، وعند الفرضيين اثنان لقوله: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء:11] يعني: إذا كان له أخوان حجبت الأم من الثلث إلى السدس؛ لأن أقل شيء يطلق عليه الجمع هو اثنان.
فهنا إما أن يكون المقصود بالجمع في قوله: [(بالمعوذات)] المعوذتين ومعهما {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1].
أو أن المقصود بذلك السورتان فقط ويكون ذكر المعوذات بالجمع أطلق عليها من ناحية إطلاق الجمع على الاثنين، وهو سائغ.
والشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه عندما كتب حول ما يقال بعد الصلاة وذكر أنه يؤتى بآية الكرسي وقل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس بعد كل صلاة مرة واحدة، وعند المغرب والفجر يؤتى بقل هو الله أحد والمعوذتين ثلاث مرات، ولم أعرف ما هو الدليل على هذا، والشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه معروف بعنايته بالآثار وبالحديث وتعويله على الأدلة.
قوله: [(أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم)].
الأمر هنا معناه اقرأ بالمعوذات، وكما هو معلوم هو للاستحباب بلا شك.(182/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (أمرني رسول الله أن أقرأ بالمعوذات دبر كل صلاة)
قوله: [حدثنا محمد بن سلمة المرادي].
هو محمد بن سلمة المرادي المصري ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا ابن وهب].
ابن وهب مر ذكره.
[عن الليث بن سعد].
هو الليث بن سعد المصري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن حنين بن أبي حكيم].
حنين بن أبي حكيم صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن علي بن رباح اللخمي].
علي بن رباح اللخمي ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عقبة بن عامر].
هو عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(182/6)
شرح حديث: (أن رسول الله كان يعجبه أن يدعو ثلاثاً ويستغفر ثلاثاً)
قال المصنف رحمه الله: [حدثنا أحمد بن علي بن سويد السدوسي حدثنا أبو داود عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبد الله رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعجبه أن يدعو ثلاثاً ويستغفر ثلاثاً)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [(أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه أن يدعو ثلاثاً ويستغفر ثلاثاً)] معناه: أنه يكرر الدعاء ثلاث مرات ويكرر الاستغفار ثلاث مرات.
وهذا فيه الدلالة على استحباب تكرار الدعاء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه ذلك، والحديث ضعفه الألباني، وما أدري ما وجه تضعيفه؛ لأن رجاله كما سيأتي ليس فيهم كلام، إلا ما قيل عن أبي إسحاق السبيعي من جهة كونه مدلساً وكونه اختلط.
وقد جاء ما يدل على معناه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من صلاته يستغفر ثلاثاً يقول: أستغفر الله أستغفر الله أستغفر الله) وكذلك جاء في صحيح مسلم (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا بدعوة أعادها ثلاثاً، وإذا سأل أعادها ثلاثاً).
فهذا يدل على أن تكرار الدعاء من عادته صلى الله عليه وسلم ومن هديه صلى الله عليه وسلم، فلا أدري ما وجه تضعيف الشيخ الألباني رحمه الله لهذا الحديث في سنن أبي داود، مع أن رجاله لا بأس بهم، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم تكرار الدعاء، وكما جاء في صحيح مسلم أيضاً عن أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا بدعوة أعادها ثلاثاً).
الحقيقة أن تكرار الاستغفار ثلاثاً وتكرار الدعاء ثلاثاً ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالتضعيف فيه نظر، وحتى لو كان الإسناد هذا فيه كلام من جهة أبي إسحاق السبيعي فإن الأحاديث الأخرى تدل على ما دل عليه هذا الحديث، وهو من حيث الإسناد لا بأس به.
أما تكرار الدعاء في القنوت فغير ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان يقوله مرة واحدة.(182/7)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن رسول الله كان يعجبه أن يدعو ثلاثاً ويستغفر ثلاثاً)
قوله: [حدثنا أحمد بن علي بن سويد السدوسي].
أحمد بن علي بن سويد السدوسي صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا أبو داود].
هو سليمان بن داود الطيالسي ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن إسرائيل].
هو إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق وهو ثقة، أخرج أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي إسحاق].
أبو إسحاق السبيعي واسمه عمرو بن عبد الله الهمداني وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن ميمون].
عمرو بن ميمون ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله].
هو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(182/8)
شرح حديث: (ألا أعلمك كلمات تقولينهن عند الكرب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا عبد الله بن داود عن عبد العزيز بن عمر عن هلال عن عمر بن عبد العزيز عن ابن جعفر عن أسماء بنت عميس رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا أعلمك كلمات تقولينهن عند الكرب أو في الكرب: الله الله ربي لا أشرك به شيئاً).
قال أبو داود: هذا هلال مولى عمر بن عبد العزيز وابن جعفر هو عبد الله بن جعفر].
أورد أبو داود حديث أسماء بنت عميس رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: [(ألا أعلمك كلمات تقولينهن عند الكرب أو في الكرب: الله الله ربي لا أشرك به شيئاً)]، هذا الحديث فيه ثناء على الله عز وجل وتعظيم له عند الكرب، فكون المسلم يدعو بهذا الدعاء فهو يريد التخلص من الشيء الذي يهمه، مثل ما مر في أن من دعا الله بلفظ الجلالة فقد دعا باسم الله الأعظم، فيكون ذلك من أسباب القبول.(182/9)
تراجم رجال إسناد حديث: (ألا أعلمك كلمات تقولينهن عند الكرب)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا عبد الله بن داود].
هو عبد الله بن داود الخريبي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز].
عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز -يعني: ابن الخليفة- وهو صدوق يخطئ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هلال].
هو هلال أبو طعمة مولى عمر بن عبد العزيز وهو مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي في عمل اليوم والليلة، وابن ماجة.
[عن عمر بن عبد العزيز].
عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه الخليفة وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن جعفر].
هو عبد الله بن جعفر وهو صحابي صغير، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أسماء بنت عميس].
أسماء بنت عميس هي أمه رضي الله تعالى عنها وهي صحابية، أخرج حديثها أصحاب الكتب الستة.
وأسماء بنت عميس هي زوجة جعفر بن أبي طالب الذي استشهد في غزوة مؤتة، وتزوجها بعده أبو بكر ثم تزوجها علي، وقد ولدت للثلاثة، ولدت لـ جعفر بن أبي طالب ولـ أبي بكر ولـ علي بن أبي طالب.(182/10)
شرح حديث أبي موسى: (يا أيها الناس إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن ثابت وعلي بن زيد وسعيد الجريري عن أبي عثمان النهدي أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه قال (كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فلما دنوا من المدينة كبر الناس ورفعوا أصواتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: يا أيها الناس! إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إن الذي تدعونه بينكم وبين أعناق ركابكم، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا أبا موسى! ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ فقلت: وما هو؟ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله)].
أورد أبو داود حديث أبي موسى الأشعري عبد الله بن قيس رضي الله تعالى عنه أنه كان في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما دنوا من المدينة رفع بعض أصحابه أصواتهم بالتكبير، فقال عليه الصلاة والسلام: [(يا أيها الناس! إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبا، إن الذي تدعونه بينكم وبين أعناق ركابكم، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا موسى ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ فقلت: وما هو؟ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله)]، الحديث صحيح بدون كلمة: [(إن الذي تدعونه بينكم وبين أعناق ركابكم)] لأنه جاء في الصحيحين وفي غيرهما من هذه الطريق وليس فيه هذه اللفظة.
ولو صحت هذه اللفظة لأمكن حملها على معية العلم؛ لأنه جاء في بعض الروايات: (أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) وهذه الرواية صحيحة، لكن تطلق على معية العلم.
والشيخ الألباني يقول: لعلها من طريق علي بن زيد بن جدعان، فهي زيادة منكرة؛ لأن غيره أورد الحديث وليس فيه هذه الزيادة، والآن هو ذكره عن ثلاثة ولم يبين من له اللفظ.
فإذاًَ: هذه الزيادة انفرد بها علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف، وتكون الزيادة منكرة؛ لأنه خالف الثقات؛ ولأن الثقات الذين رووا هذا الحديث لم يذكروا هذه الزيادة، وإنما قال: (إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً وإنما تدعون سميعاً بصيراً) وذلك لأن (سميعاً) مقابل (أصم) و (غائباً) مقابل (بصيراً) يعني: هو معكم شاهد غير غائب يسمعكم ويبصركم.
قوله: [(ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ فقلت: وما هو؟ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله)] وهذا يدلنا على عظم شأن هذا الذكر الذي فيه تفويض الأمر إلى الله عز وجل، يعني: لا حول للإنسان في التحول من المعصية وفي ترك المعاصي ولا قوة له على الطاعة إلا بإعانة الله وتسديده وتوفيقه؛ لأن كل شيء بقضاء الله وقدره وخلقه وإيجاده وتوفيقه وتسديده سبحانه وتعالى.(182/11)
تراجم رجال إسناد حديث أبي موسى: (يا أيها الناس إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن سلمة ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن ثابت].
هو ثابت بن أسلم البناني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وعلي بن زيد].
هو علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن.
[وسعيد الجريري].
هو سعيد بن إياس الجريري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي عثمان النهدي].
هو عبد الرحمن بن مل أو مِل أو مَل مثلث الميم وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن أبا موسى الأشعري].
أبو موسى الأشعري اسمه عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(182/12)
شرح حديث أبي موسى من طريق أخرى وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يزيد بن زريع حدثنا سليمان التيمي عن أبي عثمان عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: (أنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله سلم وهم يتصعدون في ثنية، فجعل رجل كلما علا الثنية نادى: لا إله إلا الله والله أكبر، فقال نبي الله صلى الله عليه وآله سلم: إنكم لا تنادون أصم ولا غائباً، ثم قال: يا عبد الله بن قيس، فذكر معناه)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى عن أبي موسى الأشعري وهي مثل ما تقدم.
قوله: [(كانوا يتصعدون)]، يعني: يصعدون في طريق مرتفع، هي الثنية طريق في الجبل، يعني: فكان هذا الرجل كلما علا ثنية قال: [(لا إله إلا الله والله أكبر)] فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لهم ما قال.
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا يزيد بن زريع].
يزيد بن زريع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سليمان التيمي].
هو سليمان بن طرحان التيمي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي عثمان، عن أبي موسى الأشعري].
أبو عثمان وأبو موسى مر ذكرهما.(182/13)
شرح حديث أبي موسى من طريق ثالثة وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو صالح محبوب بن موسى أخبرنا أبو إسحاق الفزاري عن عاصم عن أبي عثمان عن أبي موسى رضي الله عنه بهذا الحديث وقال فيه: فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يا أيها الناس! اربعوا على أنفسكم)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(يا أيها الناس! اربعوا على أنفسكم)] يعني: هونوا على أنفسكم وخففوا عليها، لا ترفعوا أصواتكم إن الذي تدعونه ليس أصم ولا غائباً.
قوله: [حدثنا أبو صالح محبوب بن موسى].
أبو صالح محبوب بن موسى صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[أخبرنا أبو إسحاق الفزاري].
هو إبراهيم بن محمد بن الحارث وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عاصم].
هو عاصم بن سليمان الأحول وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي عثمان عن أبي موسى].
قد مر ذكرهما.(182/14)
شرح حديث: (من قال رضيت بالله رباً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن رافع حدثنا أبو الحسين زيد بن الحباب حدثنا عبد الرحمن بن شريح الإسكندارني حدثني أبو هانئ الخولاني أنه سمع أبا علي الجنبي أنه سمع أبا سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قال: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً، وجبت له الجنة)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(من قال: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً، وجبت له الجنة)] هذا الحديث يدلنا على فضل هذا الذكر، وهو مشتمل على الأمور الثلاثة التي يسأل عنها في القبر؛ لأن الإنسان في القبر يسأل عن ربه ودينه ونبيه، وقد جاء مثل هذا في أحاديث عديدة كما في صحيح مسلم من حديث العباس بن عبد المطلب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم رسولاً) وكذلك جاء أنه يؤتى به بعد الأذان: (رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً)، فهو مشتمل على الأصول التي يسأل عنها الإنسان في القبر.
وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه ألف رسالة الأصول الثلاثة وهي مبنية على هذه الأصول التي هي: معرفة العبد ربه، ودينه، ونبيه.
وهي رسالة قيمة صغيرة لا يستغني عنها العامي ولا طالب العلم؛ لأنها جمعت الكلام حول هذه الأصول الثلاثة، وهي الأمور التي يسأل عنها الإنسان في القبر.(182/15)
تراجم رجال إسناد حديث: (من قال رضيت بالله رباً)
قوله: [حدثنا محمد بن رافع].
هو محمد بن رافع النيسابوري القشيري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا أبو الحسين زيد بن الحباب].
أبو الحسين زيد بن الحباب صدوق يخطئ في أحاديث الثوري، أخرج له البخاري في جزء القراءة، ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا عبد الرحمن بن شريح الإسكندراني].
عبد الرحمن بن شريح الإسكندراني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني أبو هانئ الخولاني].
أبو هانئ الخولاني اسمه حميد بن هانئ لا بأس به، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن.
[أنه سمع أبا علي الجنبي].
أبو علي الجنبي اسمه عمرو بن مالك الهمداني ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأصحاب السنن.
[أنه سمع أبا سعيد الخدري].
هو سعد بن مالك بن سنان الخدري رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(182/16)
شرح حديث: (من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشراً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن داود العتكي حدثنا إسماعيل بن جعفر عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشراً)].
أورد أبو داود رحمه الله هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(من صلى علي واحدة صلى الله عليه وسلم الله عليه عشراً)] وهذا يدلنا على عظم فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ويدل على الترغيب فيها والحث عليها، وأن الله تعالى يأجر من يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم واحدة بأن يصلي عليه عشراً، وفيه: أن الجزاء من جنس العمل، وأن الحسنة بعشر أمثالها.(182/17)
تراجم رجال إسناد حديث (من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشراً)
قوله: [حدثنا سليمان بن داود العتكي].
هو أبو الربيع الزهراني وهو ثقة، أخرج أحاديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا إسماعيل بن جعفر].
إسماعيل بن جعفر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن العلاء بن عبد الرحمن].
هو العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي وهو صدوق ربما وهم، أخرج له البخاري في جزء القراءة، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
وهو ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(182/18)
شرح حديث: (إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا علي من الصلاة فيه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا الحسين بن علي الجعفي عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن أبي الأشعث الصنعاني عن أوس بن أوس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي، قال: فقالوا: يا رسول الله، وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت، قال: يقولون: بليت؟ قال: إن الله تبارك وتعالى حرم على الأرض أجساد الأنبياء)].
أورد أبو داود حديث أوس بن أوس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي، قال: فقالوا: يا رسول الله! وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ قال: إن الله تبارك وتعالى حرم على الأرض أجساد الأنبياء)] والحديث سبق أن مر فيما مضى وأعاده أبو داود هنا في باب الاستغفار، وكما ذكرت أن هذا الباب مشتمل على الاستغفار وغيره، فهو أعم من الاستغفار، وهذا دعاء والاستغفار هو من جملة الدعاء، وهو يدل على فضل يوم الجمعة، وعلى الحث على الصلاة فيه على النبي صلى الله عليه وسلم.
وبيان أن الصلاة معروضة عليه عليه الصلاة والسلام، وقد قيل له: (وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت -يعني: بليت- فقال: إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء)] وهذا يدلنا على أن الأنبياء تبقى أجسادهم في قبورهم، وأنها لا تأكلها الأرض ولا يحصل لها الفناء وإنما تبقى دون أن يصيبها شيء، صلوات الله وسلامه وبركاته عليهم، وهو دال على فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.(182/19)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا علي من الصلاة فيه)
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
هو الحسن بن علي الحلواني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا الحسين بن علي الجعفي].
الحسين بن علي الجعفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر].
عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الأشعث الصنعاني].
أبو الأشعث الصنعاني اسمه شراحيل بن آدة وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أوس بن أوس].
أوس بن أوس رضي الله عنه، وقد أخرج حديثه أصحاب السنن.(182/20)
شرح سنن أبي داود [183]
للدعاء موقعه الخاص من العبادات، لذا شرع لكل الناس وحثوا عليه، واختص الله تعالى من العباد أناساً لهم دعوة مستجابة لما يشتمل عليه حالهم كالمسافر والوالد لولده والدعوة بظهر الغيب.(183/1)
النهي عن أن يدعو الإنسان على أهله وماله(183/2)
شرح حديث: (لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب النهي عن أن يدعو الإنسان على أهله وماله.
حدثنا هشام بن عمار ويحيى بن الفضل وسليمان بن عبد الرحمن قالوا: حدثنا حاتم بن إسماعيل حدثنا يعقوب بن مجاهد أبو حزرة عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على خدمكم، ولا تدعوا على أموالكم؛ لا توافقوا من الله تبارك وتعالى ساعة نيل فيها عطاء فيستجيب لكم).
قال أبو داود: هذا الحديث متصل الإسناد؛ فإن عبادة بن الوليد بن عبادة لقي جابراً].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله: [باب النهي عن أن يدعو الرجل على أهله وماله].
يعني: هذا النهي يشمل الرجل والمرأة، والأهل يطلق على الزوج والأولاد، والمال يطلق على الرقيق والحيوان الذي يملكه الإنسان وما إلى ذلك.
أورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على خدمكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله تبارك وتعالى ساعة نيل فيها عطاء فيستجيب لكم)] فالحديث يدل على النهي عن كون الإنسان يدعو على أهله وماله، وذلك عندما يحصل له غضب فيحصل منه الدعاء، وهو مشتمل أيضاً على بيان العلة والحكمة في ذلك، وأنه قد يكون هذا الدعاء يوافق ساعة إجابة فيستجاب للإنسان فيما سأل من الشر أو من الشيء الذي لا ينبغي لأهله وماله.(183/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم)
قوله: [حدثنا هشام بن عمار].
هشام بن عمار صدوق، أخرج أحاديثه البخاري وأصحاب السنن.
[ويحيى بن الفضل].
يحيى بن الفضل مقبول أخرج له أبو داود.
[وسليمان بن عبد الرحمن].
هو سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي وهو صدوق يخطئ، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا حاتم بن إسماعيل].
حاتم بن إسماعيل صدوق يهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يعقوب بن مجاهد أبو حزرة].
يعقوب بن مجاهد أبو حزرة صدوق أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأبو داود.
[عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت].
عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن جابر بن عبد الله].
هو جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، صحابي ابن صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[قال أبو داود: هذا الحديث متصل الإسناد؛ فإن عبادة بن الوليد بن عبادة لقي جابراً].
وهذا الحديث أخرجه مسلم وأبو داود، وهو متصل الإسناد؛ لأن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت لقي جابراً.
أما ما يحصل إذا غضب الأب أو الأم على الأبناء فتراهم يدعون عليهم عند الغضب وهم لا يريدون ذلك، والغالب أن من يدعو لا يريد ذلك، ولهذا يقول الله عز وجل: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس:11]، لكن ينبغي للإنسان عند الغضب أن يحرص على أن يمنع نفسه من هذا الشيء.(183/4)
حكم الصلاة على غير النبي صلى الله عليه وسلم(183/5)
شرح حديث: (أن امرأة قالت للنبي: صل علي وعلى زوجي)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الصلاة على غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
حدثنا محمد بن عيسى حدثنا أبو عوانة عن الأسود بن قيس عن نبيح العنزي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما (أن امرأة قالت للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: صل علي وعلى زوجي، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: صلى الله عليك وعلى زوجك)].
أورد أبو داود رحمه الله: [باب: الصلاة على غير النبي صلى الله عليه وسلم].
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هي من أفضل القربات والطاعات؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام ساق الله تعالى على يديه إلى المسلمين أعظم وأجل نعمة وهي نعمة الإسلام، التي فيها الهداية إلى الصراط المستقيم، والخروج من الظلمات إلى النور، فكان من حقه على أمته أن يصلوا عليه صلى الله عليه وسلم، وأن يكثروا من الصلاة والسلام عليه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وأما غيره فيصلى عليه تبعاً، كأن يقال: صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن سلك سبيله واهتدى بهديه إلى يوم الدين.
هذا تبع، فيصلى على غير النبي صلى الله عليه وسلم تبعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، لما جاء: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد).
وأما أن يصلي المسلم على غيره على سبيل الاستقلال والانفراد فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في هذا الحديث الذي أورده أبو داود عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما [(أن امرأة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: صل علي وعلى زوجي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صلى الله عليك وعلى زوجك)] فهذا دعاء مستقل على غير النبي صلى الله عليه وسلم، وكما جاء في آل أبي أوفى في الصدقة، قال: (اللهم صل على آل أبي أوفى)، فهذه صلاة على غير النبي صلى الله عليه وسلم، وهي من النبي صلى الله عليه وسلم.
لكن هل يصلي أحد على غير النبي صلى الله عليه وسلم استقلالاً؟ المعروف من طريقة السلف أنه يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم استقلالاً وغيره تبعاً له، ويترضى عن الصحابة، ويترحم على من بعدهم، هذه الطريقة المتبعة، وقد يصلى على غير النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يترحم ويترضى على غير الصحابة، ولكن التبعية هي الأغلب في الاستعمال.
وقد جاءت الأحاديث الكثيرة الدالة على أنه يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم في مواضع منها: عند دخول المسجد والخروج منه، وعند الأذان وبعده، وغير ذلك من المواضع التي جاء التخصيص فيها على أنه يصلى عليه صلى الله عليه وسلم، وكذلك عند ذكره يصلى عليه صلى الله عليه وسلم بالصيغة التي درج عليها السلف وهي: صلى الله عليه وسلم، أو عليه الصلاة والسلام، هاتان هما العبارتان المختصرتان اللتان درج عليهما السلف، ولاسيما المحدثون كما نجد في الأحاديث عندما تنتهي بالرسول عليه الصلاة والسلام يقول الصحابي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كذا إلى آخره.
ويجوز أن يصلى على غير النبي صلى الله عليه وسلم استقلالاً إذا لم يكثر، كما قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه في أدب المشي إلى الصلاة: وتجوز الصلاة على غير النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يكثر ولم يتخذ شعاراً لبعض الناس، أو يقصد بها بعض الصحابة دون بعض.
ولهذا يأتي في بعض الكتب إذا جاء ذكر علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه، أو الحسن والحسين، أو فاطمة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، يأتي قولهم: عليه السلام، أو عليها السلام، هكذا.
وقد ذكر الحافظ ابن كثير في تفسيره قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] أنه يأتي في بعض الكتب: عليه السلام عندما يأتي ذكر علي أو ذكر فاطمة أو الحسن والحسين، قال: وهذا إنما هو من عمل نساخ الكتب.
يعني: عندما يأتي إلى الكتاب لينسخه فإنه إذا مر ذكر علي كتب بعد علي: عليه السلام.
قال: وهذا لا يصلح أن يطلق على أحد بعينه وأن يخص به أحد بعينه، وإنما الذي يناسب أن يترضى عن الصحابة جميعاً، وهو الذي درج عليه سلف هذه الأمة في حق الصحابة، وفي مقدمتهم أبي بكر وعمر، وعثمان وعلي رضي الله تعالى عن الجميع.
إذاً: هذا الذي يوجد في بعض الكتب ليس من عمل المؤلفين وإنما هو من عمل نساخ الكتب كما ذكر ذلك الحافظ ابن كثير في تفسيره عند تفسير هذه الآية الكريمة من سورة الأحزاب.
أما معنى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فأحسن ما فسرت به الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أنها الثناء عليه عند الملائكة، فإذا قال الإنسان: اللهم صل على محمد، فهو يسأل الله أن يثني عليه، وأن يشيد به، وأن يعلي منزلته، وأن يذكره عند الملائكة، فهذا هو أحسن ما قيل في معنى الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك أيضاً في حق الصلاة على غيره تبعاً له أو استقلالاً أن الله تعالى يثني عليه عند الملائكة، وقد جاء في الحديث: (من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي).(183/6)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن امرأة قالت للنبي: صل علي وعلى زوجي)
قوله: [حدثنا محمد بن عيسى].
محمد بن عيسى الطباع، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة.
[عن أبي عوانة].
هو أبو عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأسود بن قيس].
الأسود بن قيس ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نبيح العنزي].
نبيح العنزي مقبول أخرج له أصحاب السنن.
[عن جابر بن عبد الله].
هو جابر بن عبد الله الأنصاري قد مر ذكره.(183/7)
الدعاء بظهر الغيب(183/8)
شرح حديث: (إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الدعاء بظهر الغيب.
حدثنا رجاء بن المرجى حدثنا النضر بن شميل أخبرنا موسى بن ثروان حدثني طلحة بن عبيد الله بن كريز حدثتني أم الدرداء أنها قالت: حدثني سيدي أبو الدرداء: (أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة: آمين.
ولك بمثل)].
أورد أبو داود رحمه الله باباً في الدعاء بظهر الغيب، يعني: كون الإنسان يدعو لأخيه في غيبته وهو غير حاضر، يعني: ليس عنده، وقد يكون عنده ولكنه يدعو بينه وبين نفسه ولا يسمعه، فهذا أيضاً من الغيب، وأما إذا دعا له وهو يسمع فهذا ليس دعاء بظهر الغيب، فالدعاء بظهر الغيب غير مسموع وغير معلوم للإنسان المدعو له، إما لكونه غائباً ليس معه في المكان أو هو معه في مكان ولكنه يدعو لغيره بينه وبين نفسه.
قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دعا الرجل لأخيه) الرجل هنا لا مفهوم له، فكذلك المرأة لو دعت لأختها أو لأحد من الناس بظهر الغيب فإن الحكم واحد، ويأتي كثيراً في الأحاديث ذكر الرجل ولا مفهوم له، بمعنى أن المرأة تكون مثله كذلك، بل الأحكام في الغالب تأتي عامة للرجال والنساء، ولا يميز الرجال عن النساء إلا إذا جاءت نصوص تدل على أن هذا الحكم خاص بالرجال، وهذا الحكم خاص بالنساء، فعند ذلك يصار إلى النصوص المفرقة، أما إذا لم تأت النصوص للتفريق بين الرجال والنساء فإن الأحكام تعم الرجال والنساء، وعلى هذا فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دعا الرجل لأخيه) فمثله المرأة لو دعت، ومثل ذلك حديث: (لا تتقدموا رمضان بيوم أو يومين إلا رجلاً كان يصوم صوماً فليصمه) وكذلك المرأة، وكذلك حديث: (إذا وجد الرجل متاعه عند رجل قد أفلس فهو أحق به) أي: أحق به من غيره من الغرماء، إلى غير ذلك من نصوص كثيرة يأتي التعبير بها بلفظ الرجل أو الرجال ولا يقصد أن هذا الحكم يخص الرجال، بل الحكم للرجال والنساء، ولكن يذكر الرجال لأنهم هم المخاطبون في الغالب.
وقوله: (قالت الملائكة: آمين) آمين معناها: اللهم استجب، وقوله: (ولك بمثل) يعني: ولهذا الداعي مثلما دعا به لغيره، فيقول: اللهم استجب دعاءه لغيره، وأيضاً حقق له مثلما دعا به لغيره.(183/9)
تراجم رجال إسناد حديث: (إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب)
قوله: [حدثنا رجاء بن المرجى].
رجاء بن المرجى ثقة أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[حدثنا النضر بن شميل].
النضر بن شميل ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا موسى بن ثروان].
وهو ثقة أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثني طلحة بن عبيد الله بن كريز].
وهو ثقة أخرج له مسلم وأبو داود.
[حدثتني أم الدرداء].
أم الدرداء هي هجيمة أو جهيمة، وهي أم الدرداء الصغرى، وهي تابعية ثقة أخرج لها أصحاب الكتب الستة، وأما أم الدرداء الكبرى فهي صحابية، ولكن ليس لها أحاديث في الكتب الستة.
وأبو الدرداء هو عويمر بن زيد وهو صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة.(183/10)
حكم قول سيدي
قول أم الدرداء: حدثني سيدي أبو الدرداء.
فيه إطلاق السيد على الزوج، وهذا يدلنا على أن المحدثين يأتون بالألفاظ التي تأتي من الرواة كما هي، فهنا لما جاء في الرواية سيدي نقلوها، والنبي صلى الله عليه وسلم هو سيد الخلق، ولم يأت في الأحاديث أنهم كلما ذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، وهو سيدنا وسيد البشر، ولكن الملازمة والإتيان بهذا التسييد كلما ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم ليس من منهج أهل السنة والجماعة، وليس من منهج سلف الأمة، والدليل على هذا: أن الأحاديث التي في صحيح البخاري ومسلم وأبي داود والكتب الأخرى بالآلاف، وفي مسند الإمام أحمد فقط أربعين ألف حديث، وعندما ينتهي الإسناد فيها يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، ولو كان أحد الصحابة يقول: سيدي أو سيدنا لنقلت، ولهذا أحياناً إذا عبر شخص بالنبي والثاني عبر بالرسول فيقول: قال فلان أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال كذا، وقال فلان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا، فيأتون بالشيء الذي لا يترتب عليه شيء؛ لأن الرسول والنبي معناها واحد هنا، فإذا قال: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال كذا أو قال: إن رسول الله قال كذا، فلا فرق بينهما.
فالمحدثون يحافظون على الألفاظ، فلو جاءت مثل هذه الأشياء لما تركوها، فاستعمال ذلك بصفة دائمة من عمل أهل البدع، ومن عمل المتصوفة الذين كلما ذكروا شخصاً قالوا: قال سيدنا فلان، قال سيدنا فلان، فأي رجل من الصحابة يقولون عنه: سيدنا، وهذا ما وجد في كتب المتقدمين، وإنما وجد عند المتأخرين، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم له في صدورهم وفي قلوبهم المنزلة العظيمة، ولا يدانيهم ولا يماثلهم في ذلك أحد رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
فالحاصل: أن التزام ذكر اسم النبي صلى الله عليه وسلم بالتسييد ليس من عمل السلف، والدليل على هذا هذه الكتب التي فيها آلاف الأحاديث وفيها: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، ولما قالت أم الدرداء: حدثني سيدي أتوا بكلمة سيدي؛ لأنها قالت هذه الكلمة، فلو جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم لكانوا على ذكرها أشد محافظة، لكن منهجهم وطريقتهم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم عدم التزامها، وهذا اللفظ عن أم الدرداء جاء أيضاً في صحيح مسلم.(183/11)
شرح حديث: (إن أسرع الدعاء إجابة دعوة غائب لغائب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح حدثنا ابن وهب حدثني عبد الرحمن بن زياد عن أبي عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو بن العاص (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أسرع الدعاء إجابة دعوة غائب لغائب)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أسرع الدعاء إجابة دعوة غائب لغائب)، يعني: أسرع من تجاب دعوته دعاء الغائب للغائب، والحديث ضعيف، في إسناده رجل ضعيف وهو عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي.(183/12)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن أسرع الدعاء إجابة دعوة غائب لغائب)
قوله: [حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح].
هو أحمد بن عمرو بن السرح المصري ثقة أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني عبد الرحمن بن زياد].
هو عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي وهو ضعيف أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن أبي عبد الرحمن].
هو أبو عبد الرحمن الحبلي قال الحافظ ابن حجر: بضم الحاء والباء، وهو ثقة مات بإفريقية، وهو غير عبد الرحمن الإفريقي الضعيف، وفي هذا العصر يوجد شخص مشهور بـ عبد الرحمن الإفريقي وهو من المحدثين الكبار، وقد توفي رحمة الله عليه سنة ألف أو ثلاثمائة وسبعة وسبعين أو ستة وسبعين، وكان محدثاً عالماً، وقد درست عليه في معهد الرياض العلمي في الحديث وفي المصطلح، وكان رجلاً فاضلاً، وهو شيخ الشيخ عمر محمد فلاتة رحمه الله، وقد كنت طلبت منه أن يكتب محاضرة عن الشيخ عبد الرحمن الإفريقي، وقد كتبها وهي محاضرة مطولة، وقد نشرت في كتاب في محاضرات الجامعة الإسلامية، وكانت سنة (1395 أو 1396هـ)، وفي الكتاب خمس عشرة محاضرة، ومنها محاضرة عن الشيخ عبد الرحمن الإفريقي للشيخ عمر محمد فلاتة رحمه الله.
وأبو عبد الرحمن الحلبي مشهور بكنيته، وهو عبد الله بن يزيد وهو ثقة أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن عمرو بن العاص].
عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما الصحابي الجليل أحد العبادلة الأربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم: عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وهو أكبر أولاد عمرو بن العاص رضي الله عنه، ويقال: كان بينهما اثنتا عشرة سنة، يعني عمرو ولد له عبد الله وعمره ثلاث عشرة سنة.(183/13)
شرح حديث: (ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام الدستوائي عن يحيى عن أبي جعفر عن أبي هريرة رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم)].
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث دعوات مستجابات لاشك فيهن: دعوة الوالد، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم) يعني: دعوة الوالد على ولده، وكذلك دعوته له، ومثل ذلك الأم؛ لأن الأم أعظم حقاً من الوالد، وقد جاء في الحديث الصحيح التنصيص على النهي عن عقوق الأمهات، وهو حديث: (وينهاكم عن ثلاث: عن عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعاً وهات)، فنص على الأمهات مع أن العقوق سواءً للأب أو للأم كله خطير وعظيم، ولكن عقوق الأم أعظم وأشد؛ ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل: (من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: ثم أباك) وذلك لعظم حقها، فهي مقدمة على الأب في الحق لكثرة ما حصل لها بسبب الابن من التعب والنصب والمشقة.
وقوله: [(ودعوة المسافر)].
لكونه في سفر وتعب ونصب، فإذا أوذي مع ما يحصل له من النصب والمشقة في سفره، ومع ما في قلبه من الضيق فإذا دعا على أحد فإن ذلك يكون من أسباب استجابة دعوته، والثالثة دعوة المظلوم على من ظلمه، وكذلك دعوته لمن أحسن إليه لكونه خلصه من الظلم، أو مكنه من الوصول إلى حقه.(183/14)
تراجم رجال إسناد حديث: (ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن)
قوله: [حدثنا مسلم بن إبراهيم].
هو مسلم بن إبراهيم الفراهيدي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا هشام الدستوائي].
هو هشام بن أبي عبد الله الدستوائي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى].
هو ابن أبي كثير اليمامي وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي جعفر].
قيل: هو أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين المشهور بـ الباقر أحد أئمة أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(183/15)
غلو الرافضة في الأئمة
يعتبر الباقر من الأئمة الاثني عشر عند الرافضة، وهم يدعون فيهم العصمة، ويقولون فيهم من المبالغة ما لا يجوز أن يطلق عليهم ولا على أحد من البشر، بل يطلقون عليهم أموراً عظيمة وخطيرة كما جاء في كتاب الكافي -وهو من أعظم كتب الرافضة-: (باب أن الأئمة يعلمون ما كان وما سيكون وأنهم يعلمون متى يموتون وأنهم لا يموتون إلا باختيارهم!) وكذلك: (باب أنه ليس شيء من الحق إلا ما خرج من عند الأئمة وأن كل شيء لم يخرج من عند الأئمة فهو باطل)، وهكذا الأبواب في كتاب الكافي، وتحتها أحاديث مكذوبة من نوع هذه الترجمة، وأما أهل السنة والجماعة فيعرفون لأهل البيت قدرهم وفضلهم، لا سيما من كان منهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل علي وأولاده، والعباس وأولاده، وقد جاءت نصوص عن أهل السنة تدل على تعظيم آل البيت وبيان قدرهم، فقد أورد البخاري أثرين في صحيحه عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أحدهما قوله: الله! لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي).
يعني: أن صلة قرابة آل محمد أحب إليه من أن يصل آل أبي بكر، وفي الأثر الآخر يقول: (ارقبوا محمداً في أهل بيته).
يعني: راعوا وصيته في أهل بيته صلى الله عليه وسلم.
وكذلك عمر جاء عنه ما يدل على معرفة قدر أهل البيت، فلما أصابهم القحط والجدب خرج بالناس للاستسقاء، وطلب من العباس أن يدعو للناس؛ لأنه عم الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال -كما في صحيح البخاري -: (اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا -يعني: طلبنا منه أن يدعو لنا فتسقينا- وإنا نتوسل إليك بعم نبينا -يعني: بدعائه- قم يا عم نبينا فادع الله، وما قال: يا عباس؛ لأن المقصود هو قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا منهج أهل السنة والجماعة وطريقتهم، وأما الرافضة فهم يغلون في الأئمة الاثني عشر، ومنهم أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين رحمة الله عليه، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة).
وقيل: إنه أبو جعفر المؤذن، قال المزي في تحفة الأشراف: ويقال: إنه أبو جعفر المؤذن، وهو مقبول أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي والنسائي في عمل اليوم والليلة وابن ماجة، وقال في التقريب في الكنى: أبو جعفر المؤذن الأنصاري المدني مقبول من الثالثة، ومن زعم أنه محمد بن علي بن حسين فقد وهم، ولعله يقصد المزي فإنه قال: يقال: هو محمد بن علي بن حسين.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب، وهو أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً على الإطلاق.
هذا الحديث سبق أن مر في باب ما يقوله الرجل إذا سلم، وفي حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرف من صلاته قال: اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت) رواه مسلم وغيره، وأبو داود رحمه الله ذكره في (باب ما يقوله إذا سلم) يعني: بعد السلام، وقد جاء بالروايات الكثيرة التي فيها الذكر بعد السلام، مثل: (اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام) لكن الإمام مسلم رحمه الله، وكذلك بعض الذين خرجوا الحديث غير مسلم ذكروا أنه كان يقول ذلك بين التشهد والتسليم، أي: في آخر الصلاة قبل السلام، والحديث مخرجه واحد، فيمكن أن يحمل قوله: (إذا سلم من صلاته): إذا أراد أن يسلم، يعني: قبل السلام، وبذلك يتفق هذا اللفظ مع رواية مسلم وغيره التي فيها: (كان من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم)، لكن الدعاء بعد السلام ثابت، ومنه: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله.(183/16)
ما يقول الرجل إذا خاف قوماً(183/17)
شرح حديث: (كان إذا خاف قوماً قال: اللهم إنا نجعلك في نحورهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما يقول الرجل إذا خاف قوماً.
حدثنا محمد بن المثنى حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن أبي بردة بن عبد الله أن أباه رضي الله عنه حدثه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خاف قوماً قال: اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم)].
معنى: (اللهم إنا نجعلك في نحورهم) يعني: أنت الذي تلقاهم وتقابلهم بالشيء الذي يستحقونه، فنطلب منك أن تنصرنا عليهم، وأن توقع فيهم الهزيمة، وتوقع فيهم ما يستحقونه من العذاب، وذكر النحور في مقابل من يريد أن يفتك، فهو يلقي بنحره ويقابل بخلاف الذي يكون مجبراً أو مولياً ظهره، ولكن الذي يكون مصمماً وحريصاً على الإيقاع بمن يريد الإيقاع به فإنه يلقي بنحره ويقبل في وجهه، وفي البيت المنقول: ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أقدامنا تقطر الدما أي: أن الجروح تقع فيهم لأنهم مقبلون، وليست جروحهم من الخلف لأنهم غير مدبرين؛ لأن الذي يكون هارباً إذا لحقه أحد جرحه من ورائه، فهو يصف إقبالهم وعدم انهزامهم وانصرافهم، بأنهم على أقدامهم تقطر الدماء، وإذا حصلت لهم جروح فهي من جهة الأمام لأنهم مقبلون.(183/18)
تراجم رجال إسناد حديث: (كان إذا خاف قوماً قال: اللهم إنا نجعلك في نحورهم)
قوله: [حدثنا محمد بن المثنى].
هو محمد بن المثنى العنزي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا معاذ بن هشام].
معاذ بن هشام صدوق ربما وهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني أبي].
هو هشام بن أبي عبد الله الدستوائي ثقة، مر ذكره.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي بردة عن أبيه].
هو أبو بردة بن عبد الله بن قيس الأشعري، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وأبوه هو عبد الله بن قيس أبو موسى الأشعري رضي الله عنه صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(183/19)
الاستخارة(183/20)
شرح حديث جابر في الاستخارة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الاستخارة.
حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي وعبد الرحمن بن مقاتل خال القعنبي ومحمد بن عيسى المعنى واحد قالوا: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الموال حدثني محمد بن المنكدر أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلمنا الاستخارة كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول لنا: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة وليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب.
اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر -يسميه بعينه الذي يريد- خيراً لي في ديني ومعاشي ومعادي وعاقبة أمري؛ فاقدره لي، ويسره لي، وبارك لي فيه.
اللهم وإن كنت تعلمه شراً لي -مثل الأول- فاصرفني عنه، واصرفه عني، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به، أو قال: في عاجل أمري وآجله).
قال ابن مسلمة وابن عيسى عن محمد بن المنكدر عن جابر].
أورد أبو داود رحمه الله باباً في الاستخارة، والاستخارة هي: طلب خير الأمرين اللذين يستخير الإنسان فيهما ربه، فيطلب منه الخير فيما يختاره له من الأمرين الذي هو الإقدام على الشيء أو الإحجام عنه، كأن يستخيره في زواجه من امرأة معينة، أو في سفر لتجارة، أو لأمر من الأمور، فيستخير ربه بأن يجعله يقدم على ذلك الشيء الذي أراده إن كان فيه الخير له أو يجعله يحجم عنه، ويصرف نفسه عنه إذا كان فيه الشر أو لعدم وجود الخير له فيه.
هذا هو المقصود بالاستخارة.
وحديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما في الاستخارة حديث عظيم، ومشتمل على دعاء عظيم، والنبي صلى الله عليه وسلم اهتم بهذا الدعاء حيث بين جابر رضي الله عنه أنه كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن؛ وذلك لشدة العناية والاهتمام به، وهذا مثلما جاء في التشهد أنه كان يعلمهم التشهد كما يعلمهم السورة من القرآن، فهذا التعبير يدل على الاعتناء، حيث أنه يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم القرآن.
قوله: [(إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة)]، يعني: إذا هم أحدكم بأمر من الأمور مثل الزواج من امرأة معينة أو سفر أو دخول في تجارة معينة أو غير ذلك من الأعمال، فيستخير الله عز وجل ويطلب منه الخير في أن يقدم أو يحجم، وذلك بأن يصلي ركعتين نافلة يقصد بهما الاستخارة بعدهما، والاستخارة تكون بعد السلام.(183/21)
تفسير دعاء الاستخارة
قال: (اللهم إني أستخيرك بعلمك) يعني: أطلب منك الخير، فأنت تعلم كل شيء، ولا يخفى عليك خافية في الأرض ولا في السماء، تعلم أن هذا خير أو ليس بخير.
وقوله: (وأستقدرك بقدرتك) يعني: أسألك أن تقدرني على الشيء الذي يكون خيراً لي بقدرتك.
وقوله: (وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب) فبعد أن أثنى على الله عز وجل بين ضعفه، وأن الله يقدر وهو لا يقدر، والله يعلم وهو لا يعلم، وأنه سبحانه وتعالى علام الغيوب.
وقوله: [(اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر)].
ويسميه فيقول: اللهم إن كنت تعلم أن زواجي بفلانة خيراً لي في ديني ودنياي، وإن كنت تعلم أن زواجي بفلانة شر لي في ديني ودنياي، أو يقول: اللهم إن كنت تعلم أن دخولي في هذه التجارة خيراً لي في ديني ودنياي، اللهم إن كنت تعلم أن في سفري لهذا الأمر أو لهذا الغرض خيراً لي في ديني ودنياي؛ فيسميه بعينه، يعني: يسمي ذلك الشيء الذي يستخير الله فيه.
قوله: [(اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خيراً لي في ديني ومعاشي)] بدأ بالدين لأنه كل شيء، وهو أهم شيء، وهو أعظم شيء للإنسان، فالخير كل الخير في سلامة الدين، والشر كل الشر في خلاف ذلك، والعياذ بالله! وقوله: (ومعاشي) يعني: في هذه الحياة الدنيا.
قوله: [(ومعادي)] يعني الحياة الآخرة.
قوله: [(وعاقبة أمري)] وهذا يشمل العاقبة الحسنة في الدنيا والآخرة، ويدخل في ذلك سعادة الدنيا والآخرة.
قوله: [(فاقدره لي ويسره لي)] يعني: اقدر لي هذا الذي طلبته ويسره لي وهيئه لي، ومكني منه، واجعلني أحصل عليه، واجعل هذا العمل الذي أردته ميسراً.
قوله: [(وبارك لي فيه)] يعني: بعد أن حققته لي ويسرته لي بارك لي فيه بعد حصولي عليه.
قوله: [(اللهم وإن كنت تعلمه شراً لي مثل الأول)] يعني: ويسميه مثل الكلام الذي مضى، والراوي بدلاً من تكرار هذه الكلمات قال: مثل الأول، يعني: مثلما قال عند كونه خيراً له، وكذلك إذا كان شراً له في دينه ومعاشه في حياته، ومعاده في آخرته، وعاقبة أمره في دنياه وفي آخرته.
قوله: [(فاصرفني عنه واصرفه عني)] يعني: حيل بيني وبينه، واجعل نفسي تنصرف عنه وتعزف عنه، واصرفه عني بأن تحول بيني وبينه.
قوله: [(واقدر لي الخير حيث كان)] يعني: وفق لي الخير الذي تعلمه حيث كان، فإنه لما سأل الله عز وجل أنه إذا كان يعلم أنه شراً له يصرفه عنه، سأل الله عز وجل أن يحقق له الخير حيث كان في الأمور الأخرى التي هي غير هذا الشيء.
قوله: [(ثم رضني به)] يعني: ذلك الذي تقدره لي من الخير رضني به، واجعلني به راضياً.
قوله: [(أو قال: في عاجل أمري وآجله)] لعله بدلاً من قوله: (وعاقبة أمري) حصل الشك بين هذه أو هذه هل قال: عاقبة أمري أو قال: عاجل أمري وآجله.
ويشرع أن تكرر الاستخارة إذا استخار ولم يتبين له شيء، وإن استخار وتبين له وترجح له أحد الأمرين فيقدم أو يحجم، ولا أعرف عدداً ينتهى إليه.(183/22)
حديث موضوع في الاستخارة
هناك حديث موضوع وهو مشهور عند الناس (ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار، ولا عال من اقتصد)، وهذا الحديث ذكره الشيخ الألباني في الضعيفة وقال: إنه موضوع، ورقمه (611) في الضعيفة، ومعناه صحيح؛ لأن الاستخارة فيها خير، سواء كان في الإقدام أو الإحجام، وكذلك الاستشارة فيها خير، وكذلك الاقتصاد فيه خير، ولكن ليس كل كلام جميل يكون حديثاً؛ لأن الوضاعين يأتون بحكم ويركبون لها أسانيد، فليس كل كلام جميل أضيف إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يقال: هذا كلام الرسول، فكم من حكم جميلة يركب لها الوضاعون أسانيد، ويضيفونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أسباب الوضع: أن بعض الوضاعين لجهله يقول: وضع الأحاديث في الترغيب والترهيب لا بأس به، كما قال بعضهم: نحن نكذب للرسول ولا نكذب عليه! الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بحاجة إلى أن تكمل شريعته بالكذب، فهي كاملة بدون كذب الكذابين، لا في ترغيب ولا ترهيب ولا غير ذلك.(183/23)
تراجم رجال إسناد حديث جابر في الاستخارة
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي].
هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[وعبد الرحمن بن مقاتل].
عبد الرحمن بن مقاتل خال القعنبي وهو صدوق أخرج له أبو داود.
[ومحمد بن عيسى].
هو محمد بن عيسى بن الطباع مر ذكره.
قوله: [المعنى واحد قالوا: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الموال].
عبد الرحمن بن أبي الموال صدوق ربما أخطأ أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثني محمد بن المنكدر].
محمد بن المنكدر ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر بن عبد الله].
جابر بن عبد الله مر ذكره.
قوله: [قال ابن مسلمة وابن عيسى: عن محمد بن المنكدر عن جابر].
هذا من الدقة والمحافظة على الألفاظ، ومعلوم أن كلمة عن وسمعت من الراوي غير المدلس معناها واحد، فـ محمد بن المنكدر غير مدلس، لكن المقصود من ذلك هو المحافظة على الألفاظ في الأسانيد، ولهذا ميز بينهما أبو داود رحمه الله بأن ذكر الإسناد على سياق عبد الرحمن بن مقاتل، ثم نبه على أن السياق عند الشيخين الآخرين -وهما القعنبي ومحمد بن عيسى الطباع - عن محمد بن المنكدر عن جابر.(183/24)
شرح سنن أبي داود [184]
أعظم العبادة الدعاء، وهو مفتاح كل خير، والاستعاذة بالله نوع من الدعاء، وقد جاءت عن نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في تعليم أمته استعاذات مباركات من الشرور الدنيوية والأخروية فينبغي تعلمها والحرص على تردادها بين الوقت والآخر.(184/1)
الاستعاذة(184/2)
شرح حديث (كان النبي يتعوذ من خمس)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الاستعاذة.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ من خمس: من الجبن والبخل وسوء العمر وفتنة الصدر وعذاب القبر)].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة وهي باب في الاستعاذة، والاستعاذة هي نوع من أنواع الدعاء، فالدعاء يشمل الاستعاذة، فقولك: أعوذ بالله يعني: أنك تسأل الله عز وجل وتدعوه أن يعيذك، فالدعاء أعم من الاستعاذة وأعم من الاستغفار، وأبو داود رحمه الله لما ذكر الاستغفار ذكر أحاديث لا علاقة لها بالاستغفار وإنما هي دعاء، وكل الأحاديث التي أوردها في باب الاستعاذة هي استعاذة وفق الترجمة.
أورد هنا حديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ من خمس: من الجبن، والبخل، وسوء العمر، وفتنة الصدر، وعذاب القبر) هذه الخمس كان يستعيذ منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالجبن ضد الشجاعة، سواء كان جبناً في الجهاد في سبيل الله أو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو غير ذلك، فالجبن ضعف وخور ومهابة تجعل الإنسان يتأخر عن فعل الخير.
والبخل ضد الجود والكرم، يعني: أن يبخل الإنسان بالمال.
وسوء العمر يعني كونه يرد إلى أرذل العمر بأن يتقدم به السن بحيث يرجع إلى أرذل العمر فيكون مثل الطفل، وهذا هو الهرم.
وفتنة الصدر هي ضيقه أو ما يعلق بالقلب من السوء ومن الشر، وسيأتي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي، ومن شر بصري، ومن شر قلبي)، فهو يماثل هذا، والصدر هو موضع القلب كما جاء في القرآن: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].
فإما أن يراد بفتنة الصدر ما يحصل من الضيق للإنسان، أو يراد ما يحصل للقلب الذي هو في الصدر من الفتن التي تعرض على القلوب، كما جاء في الحديث أن الفتن تعرض على القلوب، وقد وردت الاستعاذة من وسوسة الصدر، يعني: وسوسة القلب.
وعذاب القبر تواترت به الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أنكر المعتزلة عذاب القبر وأن الناس يعذبون في قبورهم.(184/3)
تراجم رجال إسناد حديث (كان النبي يتعوذ من خمس)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا وكيع].
وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا إسرائيل].
وهو إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي إسحاق].
أبو إسحاق السبيعي عمرو بن عبد الله الهمداني، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن ميمون].
عمرو بن ميمون ثقة مخضرم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمر بن الخطاب].
عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، وثاني الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة، والفضائل الكثيرة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
والحديث ذكره الألباني في الضعيفة، ولا أدري وجه هذا التضعيف؛ لأن رجال الإسناد كلهم ثقات معروفون، وأيضاً الألفاظ التي وردت فيه كلها جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا فتنة الصدر، فالحديث صحيح.(184/4)
شرح حديث (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد أخبرنا المعتمر قال: سمعت أبي قال: سمعت أنس بن مالك يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل والهرم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات)].
مر في باب الاستعاذة حديث رقم (1539) عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وذكره الشيخ الألباني في الضعيفة، مع أن رجاله ثقات، ومعناه جاء في الأحاديث الأخرى، فلا أدري وجه ذلك التضعيف، مع أنه سبق أن مر الحديث رقم (1517) الذي فيه: (من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفر له وإن كان قد فر من الزحف) وفيه أربعة رجال من المقبولين، وكتب عنه: صحيح.
يعني: لطرق أخرى، فلا أدري لماذا لم يصحح هذا الحديث مع أن ألفاظه جاءت في أحاديث صحيحة! بعد ذلك أورد أبو داود رحمه الله حديث أنس بن مالك رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من العجز والكسل) والعجز هو مقابل القدرة، والمقصود به العجز عن الإتيان بما هو خير، والكسل هو الخمول وعدم النشاط الذي هو مقابل الجد.
قوله: (والجبن والبخل) الجبن ضد الشجاعة، فيدخل فيه الجبن في الجهاد في سبيل الله، وكذلك الجبن فيما يتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
البخل هو الشح، أو الشح أشد البخل، وهو مقابل الكرم والجود والإحسان.
قوله: والهرم الهرم هو الشيخوخة التي يكون معها الضعف، ويكون معها الرد إلى أرذل العمر.
قوله: (وأعوذ بك من عذاب القبر) عذاب القبر هو ما يحصل بين الموت والبعث من القبور، فإن الناس يعذبون في قبورهم أو ينعمون، والقبر يعتبر من الدار الآخرة؛ لأن الحد الفاصل بين الدنيا والآخرة الموت، فمن مات قامت قيامته، وانتقل من دار العمل إلى دار الجزاء، ويجازى في قبره على ما قدم إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
قوله: [(وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات)] هذا تعميم بعد التخصيص؛ لأن فتنة المحيا تعم كل ما يحصل في الحياة من الفتن، وفتنة الممات عامة في كل ما يحصل بعد الموت من البلاء والشر، فإن ذلك من فتنة الممات، فهذا من ذكر العام بعد الخاص.(184/5)
تراجم رجال إسناد حديث (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل)
قوله: [حدثنا مسدد].
الشيخ: مسدد بن مسرهد البصري ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[أخبرنا المعتمر].
المعتمر بن سليمان بن طرخان التيمي وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت أبي].
وهو سليمان بن طرخان ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس بن مالك].
وهو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخادمه رضي الله عنه، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الإسناد من رباعيات أبي داود التي هي أعلى ما يكون عند أبي داود من الأسانيد، فبينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم أربعة رجال، وهم في هذا الحديث: مسدد والمعتمر وأبوه سليمان وأنس بن مالك رضي الله تعالى عنهم.(184/6)
شرح حديث (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سعيد بن منصور وقتيبة بن سعيد قالا: حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن -قال سعيد: الزهري - عن عمرو بن أبي عمرو عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم فكنت أسمعه كثيراً يقول: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وضلع الدين وغلبة الرجال)، وذكر بعض ما ذكره التيمي].
ذكر أبو داود رحمه الله حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنه كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم وكان يسمعه يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وضلع الدين، وقهر الرجال)، وذكر بعض ما ذكره التيمي يعني في الحديث السابق، والتيمي هو أبو المعتمر سليمان بن طرخان التيمي يعني: ذكر العجز والكسل والهرم والبخل وفتنة المحيا وفتنة الممات، وهنا ذكر الهم والحزن.
والهم هو ما يهم الإنسان في أمر يشغل باله، ويكون الهم غالباً في شيء مستقبل أو حاضر، والحزن في أمر فات ومضى، فيصيبه حزن عليه، وضلع الدين هو شدته، وكون الإنسان عليه الدين وليس عنده سداد، فيهمه ويشغله، وقهر الرجال غلبتهم وقهرهم.(184/7)
تراجم رجال إسناد حديث (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن)
قوله: [حدثنا سعيد بن منصور].
سعيد بن منصور ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وقتيبة بن سعيد].
قتيبة بن سعيد ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن].
يعقوب بن عبد الرحمن الزهري وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[قال سعيد: الزهري].
يعني الشيخ الأول الذي هو سعيد بن منصور أضاف إلى يعقوب بن عبد الرحمن كلمة: الزهري، والشيخ الثاني الذي هو قتيبة بن سعيد اقتصر على يعقوب بن عبد الرحمن.
[عن عمرو بن أبي عمرو].
عمرو بن أبي عمرو ثقة ربما وهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس بن مالك].
أنس بن مالك رضي الله عنه قد مر ذكره.(184/8)
شرح حديث (كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا القعنبي عن مالك عن أبي الزبير المكي عن طاوس عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات).
].
أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن، وهذا يدل على الاهتمام والعناية بهذا الدعاء، وجاء في بعض الروايات أن ذلك بعد التشهد وقبل السلام، وقد مر بنا قريباً حديث الاستخارة، وأنه كان يعلمهم الاستخارة كما يعلمهم السورة من القرآن، وكذلك مر في حديث التشهد أنه كان يعلمهموه كما يعلمهم السورة من القرآن.
وهذا الحديث يدل على الاهتمام والعناية من رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الدعاء الذي يعلمهم إياه، وهذا الدعاء هو: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات).
وعذاب جهنم هو عذاب النار، وجهنم اسم من أسماء النار، وعذاب القبر داخل في عذاب الآخرة، وهو عذاب البرزخ الذي يكون بين الموت وبين البعث، ولكنه تابع للدار الآخرة؛ لأنه في دار الجزاء، والمسيح الدجال هو الرجل الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بفتنته، وما يحصل منه من الأمور المدهشة التي يغتر بها كثير من الناس، وذكر فتنة المحيا والممات وهو تعميم بعد تخصيص.(184/9)
تراجم رجال إسناد حديث (كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن)
قوله: [حدثنا القعنبي].
القعنبي هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
مالك بن أنس إمام دار الهجرة، الإمام المحدث الفقيه أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الزبير المكي].
هو محمد بن مسلم بن تدرس، وهو صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن طاوس].
طاوس بن كيسان وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(184/10)
شرح حديث (اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار وعذاب النار)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي أخبرنا عيسى حدثنا هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهؤلاء الكلمات: (اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار وعذاب النار، ومن شر الغنى والفقر)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهؤلاء الكلمات: (اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار ومن عذاب النار ومن شر الغنى والفقر) وفتنة النار قيل: المقصود بذلك ما يحصل من التوبيخ والتقريع الذي يحصل لهم في النار كما قال الله عز وجل: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [الملك:8]، وعذاب النار هو حصول العذاب فيها.
وفتنة الغنى هو الغنى الذي يكون معه الطغيان، وفتنة الفقر هو الذي يكون معه عدم الصبر أو الأمور التي لا تحمد عقباها، كأن يقدم الإنسان على أن يحصل المال عن طريق حرام بسبب الفقر الذي قد حصل له، فالغنى يمكن أن يكون نعمة أو يكون نقمة، وهو بلاء كما قال الله عز وجل: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35]، فإن البلوى تكون بالخير وتكون بالشر، والإنسان إذا أعطي المال ولم يشكر الله عز وجل على هذه النعمة، وحصل له الطغيان والإفساد بالمال، وصرفه في الأمور التي لا تجوز؛ يكون الغنى وبالاً عليه، والله تعالى يقول: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7] فيحصل بسبب الغنى الطغيان من بعض الناس، يقول الله عز وجل: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ} [الشورى:27].
ومن الناس من يستعمل المال في طاعة الله، ومن الناس من يستعمله فيما يعود عليه بالخير كما كان الصحابة رضي الله عنه وأرضاهم، مثل عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وغيرهما من أثرياء الصحابة الذين كانوا يصرفون أموالهم في سبيل الله عز وجل، فانتفعوا بذلك دنيا وأخرى، ونفعوا غيرهم، ويعود ثواب ذلك عليهم حيث ينفقون أموالهم في سبيل الله عز وجل.
والفقر وهو قلة ذات اليد فتنة، فقد يجعل الإنسان يقدم على سرقة أو يقدم على تسخط أو تألم وعدم صبر وما إلى ذلك من الأمور التي تترتب على الفقر الذي لا يكون معه صبر، فإن الشكر مع الغنى والصبر مع الفقر من الصفات المحمودة.(184/11)
تراجم رجال إسناد حديث (اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار وعذاب النار)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي].
إبراهيم بن موسى الرازي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا عيسى].
عيسى بن يونس بن أبي إسحاق ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا هشام].
هشام بن عروة بن الزبير ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
وهو عروة بن الزبير، ثقة من فقهاء أهل المدينة السبعة في عصر التابعين أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ورجال هذا الإسناد كلهم ممن خرج لهم أصحاب الكتب الستة.(184/12)
شرح حديث (اللهم إني أعوذ بك من الفقر والقلة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا إسحاق بن عبد الله عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الفقر والقلة والذلة، وأعوذ بك من أن أظلم أو أظلم)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الفقر والقلة والذلة، وأعوذ بك أن أظلم أو أظلم) قيل: المقصود بالقلة هي قلة المال، وعلى هذا فهو يماثل الفقر، وقيل: هي القلة في العدد التي لا تحصل معها نصرة، فهي تتعلق بقلة المال أو بقلة العدد.
والذلة: كون الإنسان يحصل له الذل والخوف والذعر ويكون ذليلاً.
وقوله: (وأعوذ بك أن أظلم أو أظلم) يعني: أن يلحق الضرر بغيره أو غيره يحلق الضرر به، فهو يتعوذ بالله أن يكون ظالماً يظلم غيره أو مظلوماً يظلمه غيره.(184/13)
تراجم رجال إسناد حديث (اللهم إني أعوذ بك من الفقر والقلة)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
الشيخ: موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
حماد بن سلمة، وقد عرفنا أنه إذا جاء موسى بن إسماعيل عن حماد فالمراد به ابن سلمة، وهو ثقة أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[أخبرنا إسحاق بن عبد الله].
إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن يسار].
سعيد بن يسار ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(184/14)
شرح حديث (اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن عوف حدثنا عبد الغفار بن داود حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن عن موسى بن عقبة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك).
].
زوال النعمة ذهابها وسلبها، وكون الإنسان يكون في نعمة فيسلبها، فيتحول مثلاً من الغنى إلى الفقر.
والنعمة أعم من الغنى؛ لأن نعم الله عز وجل لا تحصى، فيدخل فيها الصحة والعافية ويدخل فيها المال، ويدخل فيها أنواع النعم؛ لأن النعمة هنا من المفرد المضاف إلى معرفة فتعم كقوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]، وقوله: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53].
وتحول العافية من الصحة إلى المرض، ومن الخير إلى الشر.
قوله: (وفجاءة نقمتك) يعني البغتة، حيث يكون الإنسان آمناً فيحصل له انتقام فجأة؛ لأن البغتة قد تحصل بها للإنسان أمور تضره.
وقوله: (وجميع سخطك) هذا عام يعم كل ما يسخط الله عز وجل.(184/15)
تراجم رجال إسناد حديث (اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك)
قوله: [حدثنا ابن عوف].
هو محمد بن عوف ثقة أخرج له أبو داود والنسائي في مسند علي.
[حدثنا عبد الغفار بن داود].
عبد الغفار بن داود وهو ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن عن موسى بن عقبة].
يعقوب بن عبد الرحمن مر ذكره، وموسى بن عقبة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن دينار].
عبد الله بن دينار ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، وهو أحد العبادة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(184/16)
شرح حديث (اللهم إني أعوذ بك من الشقاق والنفاق)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عمرو بن عثمان حدثنا بقية حدثنا ضبارة بن عبد الله بن أبي السليك عن دويد بن نافع حدثنا أبو صالح السمان قال: قال أبو هريرة: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو ويقول: (اللهم إني أعوذ بك من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق)، الشقاق: هو المشاقة والمخاصمة بالباطل في مقابلة صاحب الحق.
والنفاق: هو إظهار الإيمان وإبطان الكفر، وهو النفاق الاعتقادي، وكذلك النفاق العملي الذي منه الكذب وغير ذلك.
وسوء الأخلاق: تعميم بعد تخصيص؛ لأن سوء الأخلاق لفظ عام يشمل الأخلاق السيئة.
هذا الحديث لا يثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ لأن في إسناده راوياً مجهولاً، ولكن إذا دعا أحد بهذا الدعاء لا على أنه من قول الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن لكونه دعاءً مشتملاً على أمر عظيم جامع، فلا بأس بأن يدعو به، لكن لا على اعتبار أنه حديث، وأن هذا دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ لم يثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولكن معناه صحيح، والمسلم يسأل الله السلامة من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق، لكن لا يضيفه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول: هذا كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وهو لم يثب عنه عليه الصلاة والسلام.(184/17)
تراجم رجال إسناد حديث (اللهم إني أعوذ بك من الشقاق والنفاق)
[حدثنا عمرو بن عثمان].
عمرو بن عثمان الحمصي صدوق أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا بقية].
بقية بن الوليد الحمصي وهو صدوق كثير التدليس عن الضعفاء، وحديثه أخرجه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا ضبارة بن عبد الله].
ضبارة بن عبد الله بن أبي السليك وهو مجهول أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن دويد بن نافع].
دويد بن نافع وهو مقبول أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن أبي صالح السمان].
اسمه ذكوان ولقبه السمان، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة] وقد مر ذكره.(184/18)
شرح حديث (اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن العلاء عن ابن إدريس عن ابن عجلان عن المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة)].
قوله: (اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع).
الضجيع هو الذي يلازم الإنسان، فيكون معه يلازمه إذا اضجطع، فيكون مشوش الذهن والفكر لخلو معدته من الطعام.
وقوله: (وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة) الخيانة ضد الأمانة، وهي عامة تكون في حقوق الله عز وجل كالصلاة والصيام والصدقة والزكاة والحج وغسل الجنابة وغير ذلك، وتكون في حقوق الناس فيما بينهم.
والبطانة في الأصل هي اللباس الداخلي، أو بطانة الشيء ما يكون من الداخل؛ لأن الثوب له بطانه وظهاره، فالبطانة ما تكون من الداخل، ومعنى هذا أنها بئس الصفة للإنسان أن يتصف بها، وينطوي عليها، وبطانة الشخص هم خاصته الذين يلازمونه، ويحصل منهم له إما الدلالة على الخير أو الدلالة على الشر.(184/19)
تراجم رجال إسناد حديث (اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع)
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء].
محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن إدريس].
عبد الله بن إدريس الأودي وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عجلان] محمد بن عجلان المدني صدوق أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن المقبري].
يحتمل أن يكون أبا سعيد المقبري أو سعيد بن أبي سعيد؛ لأن كلاً منهما يروي عن أبي هريرة، وكل منهما ثقة خرج له أصحاب الكتب الستة، لكن قد نص المزي على أنه هنا سعيد بن أبي سعيد.
[عن أبي هريرة] هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومر ذكره.(184/20)
شرح حديث (اللهم إني أعوذ بك من الأربع)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أخيه عباد بن أبي سعيد أنه سمع أبا هريرة يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الأربع: من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يسمع).
].
هذا الدعاء فيه سؤال الغاية والنهاية الحسنة في هذه الأمور، فالقلب يكون فيه الخشوع، وإذا فقد فإن هذا مما يتعوذ منه.
(وعلم لا ينفع)؛ لأن فائدة العلم في العمل، والعلم بدون العمل يكون وبالاً على الإنسان، فالإنسان إذا علم وعمل يكون عمله على بصيرة، واهتدى إلى بصيرة، وعبد الله على بصيرة، وإذا كان بخلاف ذلك كان العلم وبالاً عليه، وكان الجاهل أحسن حالاً منه كما قال الشاعر: إذا كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم لا يستوي من يعصي الله وهو جاهل، ومن يعص الله وهو عالم (ومن نفس لا تشبع): فالنفس التي لا تشبع يكون عندها الفقر ولو امتلأت اليدان، فالغنى هو غنى النفس، وإذا وجد غنى النفس فما وراء ذلك يكون تبعاً له، وإذا فقد غنى النفس فإن اليد ولو كانت غنية فإن الفقر يكون موجوداً.
(ومن دعاء لا يسمع) يعني: لا يستجاب، والإمام يقول: سمع الله لمن حمده، فيقول المصلي وراءه: ربنا ولك الحمد، وسبق أن ذكرنا الفائدة العظيمة التي ذكرها بعض العلماء في بيان منزلة معاوية بن أبي سفيان لما قيل له: ماذا تقول في معاوية بن أبي سفيان؟ قال: ماذا أقول في رجل صلى خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة: سمع الله لمن حمده، فقال معاوية وراءه: ربنا ولك الحمد؟!(184/21)
تراجم رجال إسناد حديث (اللهم إني أعوذ بك من الأربع)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
مر ذكره.
[حدثنا الليث].
الليث بن سعد المصري ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن أبي سعيد المقبري].
سعيد بن أبي سعيد المقبري مر ذكره.
[عن أخيه].
عباد بن أبي سعيد وهو مقبول أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة مر ذكره.
فائدة: سعيد بن أبي سعيد يروي عن أبيه عن أبي هريرة، ويروي عن أخيه عن أبي هريرة، ويروي عن أبي هريرة مباشرة.
هذا الحديث صححه الألباني، وله شاهدان عند مسلم وعند الترمذي وقال: حسن صحيح غريب، وكلمة (غريب) هذه لا تؤثر؛ لأن الترمذي يستعملها أحياناً في أحاديث في الصحيحين، فمثلاً آخر حديث في صحيح البخاري: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)، قال الترمذي عنه: حسن صحيح غريب، وقصده بغريب تفرد بعض الرواة به.(184/22)
شرح حديث (اللهم إني أعوذ بك من صلاة لا تنفع)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن المتوكل حدثنا المعتمر قال: قال أبو المعتمر أرى أن أنس بن مالك حدثنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من صلاة لا تنفع).
وذكر دعاء آخر].
أورد أبو داود حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من صلاة لا تنفع)، وذكر دعاء آخر، يعني مع ذلك، وهذه غير الأربع المذكورة؛ ففي الحديث السابق الاستعاذة من قلب لا يخشع، وقد تدخل فيه الصلاة التي لا خشوع فيها، ولا إقبال فيها، ولاشك أن الخشوع أهم شيء مطلوب فيها.(184/23)
تراجم رجال إسناد حديث (اللهم إني أعوذ بك من صلاة لا تنفع)
قوله: [حدثنا محمد بن المتوكل].
صدوق له أوهام كثيرة أخرج له أبو داود وحده.
[حدثنا المعتمر].
المعتمر يروي هنا عن أبيه وهو سليمان بن طرخان، وقد مر ذكرهما.
[عن أنس بن مالك].
أنس بن مالك قد مر ذكره، وأبو المعتمر سمع من أنس، وهنا قال: أراه.
يعني: أنه شك في أن الصحابي الذي حدثه هو أنس.(184/24)
شرح حديث (اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت ومن شر ما لم أعمل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور عن هلال بن يساف عن فروة بن نوفل الأشجعي أنه قال: سألت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو به قالت: كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت، ومن شر ما لم أعمل)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت، ومن شر ما لم أعمل)، ففيه التعوذ من شر ما عمل الإنسان في الماضي، ومن شر ما لم يعمله في المستقبل، وهذا الدعاء من الأدعية الجامعة.(184/25)
تراجم رجال إسناد حديث (اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت ومن شر ما لم أعمل)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا جرير].
جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن منصور].
منصور بن المعتمر الكوفي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هلال بن يساف].
هلال بن يساف ثقة أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن فروة بن نوفل الأشجعي].
قال في التقريب: مختلف في صحبته، والصواب أن الصحبة لأبيه، أخرج له مسلم وأصحاب السنن، فيفهم من هذا أنه ثقة، ولو كان فيه ضعف لأشار إليه، وأحياناً ينص على توثيق من اختلف في صحبته، فيقول: بل تابعي ثقة.
[عن عائشة أم المؤمنين].
مر ذكرها.(184/26)
شرح حديث (اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير ح وحدثنا أحمد حدثنا وكيع -المعنى- عن سعد بن أوس عن بلال العبسي عن شتير بن شكل عن أبيه قال في حديث أبي أحمد: شكل بن حميد رضي الله عنه أنه قال: (قلت: يا رسول الله! علمني دعاء قال: قل: اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي، ومن شر بصري، ومن شر لساني، ومن شر قلبي، ومن شر منيي)].
قوله: (ومن شر سمعي) يعني كونه يسمع به ما لا يجوز سماعه، وهذا هو الشر الذي يقع عن طريق السمع.
(ومن شر بصري) يعني: كونه ينظر إلى محرم.
(ومن شر لساني) يعني: كونه يتكلم بكلام شر وفسوق، وقد جاء في الحديث: (من يضمن لي ما بين رجليه وما بين لحييه أضمن له الجنة)، وجاءت الأحاديث الكثيرة في بيان خطر اللسان، ومنها حديث معاذ: (ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ كف عليك هذا -وأشار إلى لسان نفسه- فقال: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به! قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم؟!).
(ومن شر قلبي) يعني: ما يكون فيه من الحقد ومن كل شر وبلاء.
(ومن شر منيي) يعني: كونه يضعه في موضع لا يحل له أن يضعه فيه، قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5 - 7]، فإذا وضع منيه في غير هذين الموضعين -وهما الأزواج وملك اليمين- فإنه من العدوان والاعتداء، وصاحبه ملوم، وفي الحديث الذي أشرت إليه: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة) يعني: يحفظ فرجه.(184/27)
تراجم رجال إسناد حديث (اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي)
قوله: [حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل].
أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام المشهور أحد أصحاب المذاهب الأربعة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن عبد الله بن الزبير].
محمد بن عبد الله بن الزبير أبو أحمد الزبيري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا أحمد حدثنا وكيع المعنى].
ثم قال: ح وحدثنا أحمد أي: ابن حنبل عن وكيع وهو ابن الجراح الرؤاسي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وقوله: (المعنى) يعني أن المعنى واحد.
[عن سعد بن أوس].
سعد بن أوس وهو ثقة أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن بلال العبسي].
بلال العبسي وهو صدوق أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن شتير بن شكل].
شتير بن شكل وهو ثقة أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
شكل بن حميد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم له هذا الحديث فقط، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي والنسائي.
[قال في حديث أبي أحمد: شكل بن حميد].
يعني: الشيخ الأول وهو أبو أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير ذكر نسب الصحابي فقال: شكل بن حميد، ولم يقتصر على قوله: عن أبيه.(184/28)
شرح حديث (اللهم إني أعوذ بك من الهدم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبيد الله بن عمر حدثنا مكي بن إبراهيم حدثني عبد الله بن سعيد عن صيفي مولى أفلح مولى أبي أيوب عن أبي اليسر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو: اللهم إني أعوذ بك من الهدم، وأعوذ بك من التردي، وأعوذ بك من الغرق والحرق، وأعوذ بك من الهرم، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبراً، وأعوذ بك أن أموت لديغاً)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي اليسر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الهدم) يعني: سقوط جدار أو بنيان؛ لما يحصل بسبب ذلك من الأضرار التي تلحق الجسم، فيصير مقعداً أو يحصل له ضرر كبير في صحته، فلا يتمكن من أن يأتي بالأمور التي كان يستطيعها قبل أن يحصل له ذلك الضرر.
وقوله: [(وأعوذ بك من التردي)] يعني: السقوط من شاهق، سواء من جبل، أو من عمارة، أو أي مكان عال، فيحصل له بسببه التكسر والضرر.
قوله: [(وأعوذ بك من الغرق)] يعني: كون الإنسان يحصل له الغرق.
قوله: [(والحرق)] يعني: كونه يحترق بالنار، فيتضرر بذلك.
قوله: [(والهرم)] وهو كون الإنسان يتقدم به السن، ويرد إلى أرذل العمر.
قوله: [(وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت)] يعني: أن يستولي عليه الشيطان عند الموت، ويصرفه عما ينبغي أن يكون عليه من الخاتمة الحسنة.
قوله: [(وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبراً)] يعني: فاراً من الزحف غير متحرفاً لقتال أو متحيز إلى فئة كما استثناهما الله تعالى.
قوله: [(وأعوذ بك أن أموت لديغاً)] يعني: من ذوات السموم.
وقد جاء أن الغريق والمحروق واللديغ شهداء، لكن إذا بقي في قيد الحياة فقد يحصل له أمور لا يستطيع أن يصبر معها، فيصير عنده تحسر وضجر.
والاستعاذة من هذه الأشياء عامة، سواء مات منها أو لم يمت، فيستعاذ منها.(184/29)
تراجم رجال إسناد حديث (اللهم إني أعوذ بك من الهدم)
قوله: [حدثنا عبيد الله بن عمر].
عبيد الله بن عمر القواريري، وهو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا مكي بن إبراهيم].
مكي بن إبراهيم، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني عبد الله بن سعيد].
عبد الله بن سعيد وهو صدوق ربما وهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن صيفي مولى أفلح مولى أبي أيوب].
صيفي مولى أفلح مولى أبي أيوب ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن أبي اليسر].
وهو كعب بن عمرو رضي الله عنه، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.(184/30)
شرح حديث الاستعاذة من الغم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي أخبرنا عيسى عن عبد الله بن سعيد قال: حدثني مولى لـ أبي أيوب عن أبي اليسر رضي الله عنه: زاد فيه (والغم)].
أورد أبو داود حديث أبي اليسر من طريق ثان، وفيه بالإضافة إلى ما تقدم (والغم) يعني: ما يصيب الإنسان من الغم.(184/31)
تراجم رجال إسناد حديث الاستعاذة من الغم
قوله: [حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي أخبرنا عيسى عن عبد الله بن سعيد].
قد مر ذكر الثلاثة.
[عن مولى لـ أبي أيوب].
مولى أبي أيوب هو صيفي، وذكر أبي أيوب هنا فيه تجوز؛ لأنه مولى أفلح مولى أبي أيوب.(184/32)
شرح حديث (اللهم إني أعوذ بك من البرص)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا قتادة عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من البرص، والجنون، والجذام، ومن سيئ الأسقام)].
أورد أبو داود هذا الحديث عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من البرص، والجذام، والجنون، وسيئ الأسقام) البرص: عاهة تكون دائمة ومستمرة مع الإنسان، وليست من العاهات الطارئة التي تأتي وتذهب مثل الزكام وغير ذلك، وإنما هو شيء ملازم، ومنظر ليس بمستحسن.
والجذام: علة يذهب معها شعور الأعضاء، وربما ينتهي إلى تآكل الأعضاء وسقوطها.
والجنون: هو زوال العقل.
وسيئ الأسقام: أي الأمراض التي تكون من هذا النوع الذي فيه تشويه وضرر يلحق بالإنسان.(184/33)
تراجم رجال إسناد حديث (اللهم إني أعوذ بك من البرص)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا قتادة عن أنس].
تقدم ذكر موسى وحماد وقتادة هو ابن دعامة السدوسي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهذا الإسناد من رباعيات أبي داود.(184/34)
شرح حديث (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن عبيد الله الغداني أخبرنا غسان بن عوف أخبرنا الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم المسجد فإذا هو برجل من الأنصار يقال له: أبو أمامة فقال: يا أبا أمامة! ما لي أراك جالساً في المسجد في غير وقت الصلاة؟! قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله! قال: أفلا أعلمك كلاماً إذا أنت قلته أذهب الله عز وجل همك، وقضى عنك دينك؟ قال: قلت: بلى يا رسول الله! قال: قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال.
قال: ففعلت ذلك فأذهب الله عز وجل همي، وقضى عني ديني)].
هذه الألفاظ كلها جاءت في أحاديث صحيحة مرت بنا، ولكن هذه القصة جاءت من هذا الطريق، وفيه من لا يصح الاحتجاج به، والألباني رحمه الله ضعف هذا الحديث، ولعل التضعيف يتعلق بالقصة، وأما بالنسبة لمتن الحديث وما فيه من ألفاظ فكل الألفاظ التي فيه جاءت في أحاديث صحيحة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(184/35)
تراجم رجال إسناد حديث (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن)
قوله: [حدثنا أحمد بن عبيد الله الغداني].
أحمد بن عبيد الله الغداني صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود.
[عن غسان بن عوف].
وهو لين الحديث، وهذا هو الذي ضعف به الحديث، أخرج له أبو داود وحده.
[عن الجريري].
سعيد بن إياس الجريري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي نضرة].
أبو نضرة هو المنذر بن مالك بن قطعة، وهو ثقة أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي سعيد].
أبو سعيد هو سعد بن مالك بن سنان الخدري رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(184/36)
نبذة عن تبويبات الكتب الستة
وإلى هنا ينتهي كتاب الصلاة الذي هو الكتاب الثاني من كتب أبي داود رحمه الله، والإمام أبو داود رحمه الله ذكر بعده الزكاة، وبعد الزكاة المناسك، وذكر بعد ذلك النكاح والطلاق، ثم أتى بكتاب الصيام، فترتيبه يختلف عن غيره، لا سيما أنه أخر الصيام إلى ما بعد النكاح، وقد جرت عادة المؤلفين من المحدثين والفقهاء غالباً أن يذكروا كتاب الجنائز في آخر الصلاة، وأبو داود ما ذكره هنا وإنما أورده في كتاب مستقل، وهو في الكتاب الخامس عشر، ومعلوم أن كتاب الجنائز يشتمل على الصلاة وغير الصلاة، لكن كثير من العلماء يغلبون جانب الصلاة فيوردونه في آخر كتاب الصلاة، وأما أبو داود رحمه الله فقد أورده بعد أربعة عشر كتاباً، أي في الباب الخامس عشر.
ثم إن أبا داود رحمه الله قليل ذكر الكتب؛ ولهذا نجد أنه جعل الطهارة كلها في كتاب، وجعل الصلاة كلها في كتاب، بخلاف غيره من المؤلفين، فبعضهم يجعل تحت الصلاة عدة كتب، وتحت الطهارة عدة كتب، وأما أبو داود فالكتب عنده قليلة، وهو أقل أصحاب الكتب الستة كتباً، ولكنه أحياناً يطول في الكتب وأحياناً يقصر، فكل ما مضى لنا كتابان فقط: كتاب الطهارة وكتاب الصلاة، فهما كتابان طويلان، ولكنه يأتي أحياناً بكتب قصيرة، وكتبه كلها خمسة وثلاثون كتاباً في كتابه السنن، ومن جملة كتبه كتاب المهدي، أورد فيه أحاديث قليلة تتعلق بـ المهدي.
ويلي أبا داود في قلة عقد الكتب ابن ماجة، فإن كتبه سبعة وثلاثون كتاباً، ويليهما الترمذي فإن كتبه خمسون كتاباً في كتابه السنن أو الجامع، ويليه النسائي فيه واحد وخمسون كتاباً، ثم مسلم فيه أربعة وخمسون كتاباً، ثم البخاري فيه سبعة وتسعون كتاباً، وعلى هذا فأصحاب الكتب الستة منهم من يكثر من الكتب كـ البخاري، ومنهم من يقللها كـ أبي داود، وأكثر الكتب الستة كتباً هو صحيح البخاري حيث بلغت كتبه سبعة وتسعين، وأقلها كتباً سنن أبي داود حيث بلغت كتبه خمسة وثلاثين.(184/37)
شرح سنن أبي داود [185](185/1)
الأسئلة(185/2)
أحاديث المهدي
السؤال
هل يوجد حديث صحيح عن المهدي المنتظر؟
الجواب
أبو داود رحمه الله عقد كتاباً من جملة كتبه الخمسة والثلاثين، وكان شيخنا الشيخ الأمين الشنقيطي رحمة الله عليه عندما يأتي ذكر المهدي يقول: أبو داود خصه بكتاب، وأفرد فيه أحاديثه.
والأحاديث الواردة في المهدي كثيرة تبلغ حد التواتر المعنوي، وقد جاءت عن أربعة وعشرين أو خمسة وعشرين صحابياً، كلهم يروون الأحاديث المتعلقة بـ المهدي، وقد نص العلماء على ذلك، وألف بعض العلماء كتباً في الأحاديث المتواترة، وذكروا أن أحاديث المهدي متواترة، وألفوا مؤلفات خاصة فيها.(185/3)
معنى شعائر الله
السؤال
ما معنى قول الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] وهل يدخل في شعائر الله القرآن؟
الجواب
لا شك أن القرآن من شعائر الله، فيجب أن يعظم، لكن الآية جاءت فيما يتعلق بالحج والمناسك وما إلى ذلك، لكن لا شك أن تعظيم القرآن من تقوى القلوب.(185/4)
حكم من حل من إحرامه ولم يشترط
السؤال
رجل أحرم ولم يشترط، ولسبب حل إحرامه، فهل يجب عليه أن يأتي بعمرة قضاء؟
الجواب
الإنسان إذا دخل في إحرام عليه أن يكمله، ولا يجوز له أن يتخلى عنه، إلا إذا حصل أمر قاهر بأن حيل بينه وبين البيت فإنه معذور، ولكن كونه يحصل له ظرف من الظروف فليس له أن يترك العمرة، وكان قبل أن يدخل في الإحرام بإمكانه أن يدخل أو لا يدخل، لكن بعد أن دخل فلا بد من الإكمال، لأن الله عز وجل يقول: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]، فالإنسان قبل أن يحرم هو في سعة، ولكنه بعدما يحرم يجب عليه أن يتم، وعلى هذا فإن الذي أحرم عليه أن يتم أو يعود إلى إحرامه ويكمل عمرته.(185/5)
الصبر على البلاء
السؤال
بم تنصح من ابتلي بمرض فطال أمده، وترك عمله، وتبعثرت أمانيه وأمله، فأصبح بعد العز ذليلاً، وبعد الغنى فقيراً؟
الجواب
عليه أن يصبر على ما حصل له، وألا ييئس، وإذا كان الشيء الذي فقده خيراً فليحاول أن يحصله، وأن يبتهل إلى الله عز وجل في أن يحقق له ما يريد من خير الدنيا والآخرة.(185/6)
السجع في الدعاء
السؤال
بعض الأدعية والاستعاذات المأثورة جاء فيها سجع، وقد ذكر العلماء أن من الأمور المكروهة في الدعاء السجع، فما وجه الجمع؟
الجواب
المكروه هو السجع الذي يأتي عن طريق التكلف، وأما السجع الذي لا يأتي عن طريق تكلف فلا بأس به.(185/7)
حكم الكلام حال الخطبة
السؤال
ما حكم من يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والإمام يخطب، ويجلس ولا يصلي تحية المسجد، ثم يسأل من بجواره عن شيء لا يعنيه؟
الجواب
الأمور الثلاثة كلها لا تجوز: كونه يتخطى، وكونه يجلس ولا يصلي، وكونه أيضاً يكلم الناس.(185/8)
الدعاء بعد الصلاة
السؤال
هل تقال الأدعية التي بعد الصلاة عقب التسبيح والانتهاء من الذكر أو قبله؟
الجواب
الشيء الوارد من الذكر يأتي به الإنسان، وبعد ذلك يدعو.(185/9)
التقديم والتأخير في ألفاظ الأدعية المأثورة
السؤال
الأدعية الواردة هل يمكن أن يقدم الإنسان أو يؤخر في ألفاظها؟
الجواب
يوجد في بعضها تقديم وتأخير بالنسبة للراويات، وكون الإنسان يحفظ نصاً من أصح ما ورد ويأتي به كما ورد هو الذي ينبغي، ولكنه إذا قدم وأخر فلا بأس بذلك.(185/10)
خير صفوف النساء آخرها
السؤال
في الحديث: (خير صفوف النساء آخرها)، فهل معنى هذا أنه ينبغي للمرأة أن تجلس في الصف الأخير؟
الجواب
إذا كان الرجال قريبين من النساء فكونها تكون في الآخر هو الأفضل لها، وأما إذا كان هناك جدار ساتر، والرجال لا يرون النساء، والنساء لا ترى الرجال، والأصوات لا تصل من النساء إلى الرجال، ولا من الرجال إلى النساء؛ فإنهن يتقدمن للصف الأول.(185/11)
عدة الحامل
السؤال
امرأة توفي زوجها وهي حامل في الشهر الأول، فمتى تبدأ عدتها ومتى تنتهي؟
الجواب
كل حامل تنتهي عدتها عند وضع الحمل، سواء كانت عدتها عدة وفاة أو عدة طلاق، وسواء طالت المدة أو قصرت، فقد تكون عدتها ليلة واحدة أو ساعة، وقد تكون تسعة أشهر.(185/12)
التدرج في دعوة الكفار لا يعني الكذب على شرع الله
السؤال
إذا سأل من هو حديث عهد بالإسلام عن حكم الغناء مثلاً فهل نقول له: هو مكروه، من باب التدرج؟
الجواب
لا تقل إنه مكروه، بل قل: هو من الأمور التي منعها الإسلام، وإذا كان يخشى عليه النفور فيمكن أن يقال له: اتركه أو ابتعد عنه أو أقبل على الشيء الذي ينفعك، دون أن يأتي بخلاف الحقيقة.(185/13)
حكم من نسي سجدة في الصلاة
السؤال
إذا نسي المصلي سجدة واحدة في الركعة الثانية، ثم تذكر بعد السلام أو في الركعة الرابعة، فهل يعيد الركعة كلها؟
الجواب
إذا نسى سجدة فإنه يعيد الركعة كلها إذا ذكر بعد السلام أو قبل السلام؛ لأن الركعة التي نسي منها سجدة لاغية، والتي بعدها تقوم مقامها.(185/14)
حكم من أنكر خروج المهدي
السؤال
هل يبدع من أنكر خروج المهدي؟
الجواب
لا شك أن هذا من الأمور المنكرة، فقد جاءت فيه الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن هل يكون مبتدعاً؟ الله أعلم.(185/15)
الحكم للغريق بالشهادة
السؤال
جاء في الحديث أن من مات غريقاً فهو شهيد، فهل يعتبر شهيداً رغم ما كان عليه من الفسوق والعصيان قبل غرقه؟
الجواب
الشهادة هذه هي في حكم الآخرة، وأمر ذلك إلى الله عز وجل، والعاصي إن شاء الله أن يتجاوز عن ذنوبه ومعاصيه فإنه يكون له تلك الدرجات، وإن شاء الله تعالى أن يعذبه فهو يستحق العذاب.(185/16)
الاستعاذة من الغرق والحرق لا ينافي كونهما شهادة
السؤال
كيف نجمع بين كون الغريق والحريق شهيدين، والنبي صلى الله عليه وسلم تعوذ من الغرق والحرق؟
الجواب
أنا ذكرت في الدرس أن هذه الأشياء يحصل بها مصائب وحالات تغير وضع الإنسان من حال إلى حال، في صحته وفي جسمه، ولا شك أن هذه أمور يترتب عليها أضرار عظيمة لاسيما الهدم والتردي من شاهق والحرق، فيبقى الإنسان -إن عاش- على حالة فيها تشويه، ولا يتمكن من أداء العبادة، ولا شك أن هذا ضرر كبير عليه.(185/17)
الجلوس في المسجد خير وبركة
السؤال
هل في استفسار النبي صلى الله عليه وسلم عن جلوس أبي أمامة رضي الله عنه في المسجد دليل على عدم استحسان الجلوس في المسجد في غير وقت الصلاة؟
الجواب
الحديث ما صح، فإنه جاء من طريق رجل مجهول، ولا شك أن الجلوس في المسجد في أي وقت فيه خير وبركة؛ لأنه جلوس في خير البقاع كما قال عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أحب البقاع إلى الله مساجدها، وأبغض البقاع إلى الله أسواقها) رواه مسلم.(185/18)
حكم الإتيان بالاستعاذة في بداية كل ركعة من الصلاة
السؤال
هل التعوذ والبسملة في الصلاة في كل ركعة أم في الركعة الأولى فقط؟
الجواب
البسملة عند كل سورة يبدأ بها الإنسان، والاستعاذة في أول الصلاة أمر مطلوب، وإذا أتى بها في بدء كل ركعة فهو الذي ينبغي.(185/19)
حكم لبس الحزام للمحرم
السؤال
ما حكم لبس الحزام المصنوع من قماش (الكمر) فوق الإحرام؟
الجواب
لا بأس بلبس المحرم للكمر، سواء كان من قماش أو من جلد أو غير ذلك.(185/20)
الاستخارة في العبادات
السؤال
هل تشرع الاستخارة في الأمور التعبدية كالاستخارة في الإتيان بعمرة في هذا الأسبوع أو لا؟
الجواب
الاستخارة لا تكون في العبادات، فلا يستخير في أن يعتمر هذا الأسبوع أو لا، بل يعقد العزم ويتوكل على الله عز وجل، وإذا كان عنده مشاغل هذا الأسبوع فيعقد العزم على أن يذهب في الأسبوع الذي بعده.(185/21)
حكم صوت الموسيقى في الهواتف
السؤال
نرجو منكم توجيه نصيحة لأصحاب الجوالات الذين يتركون جوالاتهم ترن في المسجد ومعها صوت الموسيقى؟
الجواب
وضع صوت الموسيقى في الجوالات سواء كان في المسجد أو في غير المسجد لا يصح ولا يليق، وأما صوت المنبه الذي لا بد منه في استعمال الجوال فالإنسان إذا دخل المسجد يقفله حتى لا يشوش على نفسه وعلى الناس، وبعض الناس إذا لم يغلق الجوال وجعل يدق يتركه يستمر في الدق ولا يوقفه، مع أن كونه يوقفه أخف من كونه يتركه يرن وقتاً والناس يسمعون هذا الصوت الذي يزعج ويلفت الأنظار.
فالذي ينبغي على الإنسان الذي يحمل الجوال أن يقفله إذا دخل المسجد ولا يتركه مفتوحاً، وإذا نسي وتركه مفتوحاً فإذا دق فليغلقه، ولا يتركه يواصل الدقات والناس يتشوشون، وأما الموسيقى فلا يجوز وضعها فيه دائماً وأبداً لا في المسجد ولا في غير المسجد، ولكنه إذا وجد في المسجد فإنه شر على شر.(185/22)
معنى قوله تعالى (أن الأرض لله يورثها من يشاء)
السؤال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء) الحديث، وقال الله: {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ} [الأعراف:128]، فكيف ستقوم الساعة على الأشرار والأرض لله يورثها ربنا جل وعلا من يشاء؟
الجواب
أين الإشكال؟! فإن الله تعالى سيجعل أولئك في الأرض في آخر الدنيا وهم شرار الناس.(185/23)
معنى الذكر دبر الصلاة
السؤال
حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول دبر كل صلاة: (اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) هل معنى الدبر هنا كما جاء في سورة يوسف {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ} [يوسف:25]؟
الجواب
ذكرنا أن كلمة الدبر تأتي ويراد بها ما قبل الصلاة ويراد بها ما بعد الصلاة، وقد تأتي قرينة على أنه بعد الصلاة، مثل: (تسبحون وتهللون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثة وثلاثين) فهذه ليست قبل السلام، بل محلها بعد السلام، ويقول تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلخ.(185/24)
حكم من نسي قراءة الفاتحة خلف الإمام في الصلاة الجهرية
السؤال
ما حكم من لم يقرأ بفاتحة الكتاب في الركعات الجهرية خلف الإمام ناسياً؟
الجواب
ليس عليه شيء إن شاء الله إذا لم يقرأها ناسياً، والشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه ذكر ذلك في بعض فتاواه المطبوعة.(185/25)
حكم صيام النافلة قبل قضاء الفرض
السؤال
ما حكم من كان عليه قضاء من رمضان فصام ستاً من شوال قبل القضاء؟
الجواب
يصح ذلك إن شاء الله، وكان الأولى به أن يبدأ بالفرض قبل النفل.(185/26)
طلاب الجامعة الإسلامية ليسوا مسافرين
السؤال
هل طلاب الجامعة الإسلامية في حكم المسافرين؟
الجواب
ليسوا في حكم المسافرين، فالمسافر إذا دخل بلداً وعزم على أن يمكث فيه أكثر من أربعة أيام فإن حكمه حكم المقيم؛ لأن أكثر شيء عرف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مكث في مكان وهو عازم على مكث مدة أربعة أيام، وذلك عام حجة الوداع، لأنه دخل مكة في اليوم الرابع وخرج إلى منى في اليوم الثامن، فهي أربعة أيام، وأما في عام الفتح وخيبر وتبوك فالمدة التي مكثها فيها تزيد على عشرة أيام، ولا يوجد دليل على أنه قصد أن يبقى هذه المدة عند الوصول، ومن المعلوم أن الإنسان إذا مكث في بلد وهو غير عازم على مدة معينة، وإنما هو متردد وإذا انتهت حاجته انصرف، فإنه يأخذ بأحكام السفر ولو طالت المدة.
إذاً: ليس هناك دليل واضح جلي عن النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أنه كان مقيماً إقامة محققة أكثر من هذه الأربعة الأيام التي كانت في حجة الوداع من اليوم الرابع إلى اليوم الثامن حين خرج إلى منى.
والحاصل أن من ينوي أن يقيم في بلد أكثر من أربعة أيام فإن حكمه حكم المقيمين، وليس حكمه حكم المسافرين.(185/27)
حكم التحاكم إلى الأعراف القبلية
السؤال
في بلادنا تتحاكم القبائل إلى الأعراف القبلية المخالفة للشرع، فهل يحكم عليهم بالكفر بعد تعريفهم بأن هذا كفر؟
الجواب
إذا تحاكموا إليها مستحلين لذلك فلا شك أنه كفر، وأما إذا كانوا يعرفون أنهم مخطئون، وأن الحق على خلاف ما يحكمون به فإنه لا يكون كفراً.(185/28)
المصالح المرسلة
السؤال
ما هي ضوابط المصالح المرسلة؟ وهل هي داخلة في أمور العبادة أو في الأمور الدنيوية فقط؟
الجواب
ليست خاصة بأمور الدنيا، فبعض العلماء يقول: جمع أبي بكر ثم عثمان رضي الله عنهما للقرآن هو من المصالح المرسلة، لكن هذا يدخل تحت قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، فهذا من حفظ القرآن، فهذا العمل الذي عمله أبو بكر ثم عثمان هو من حفظ الله عز وجل لكتابه، وما أذكر شيئاً غير هذا يتعلق بالعبادات.
وأما المصالح المرسلة في أمور الدنيا فهي كثيرة مثل كتابة الجيوش في ديوان، ومثل بناء الأربطة، وإيجاد الجامعات، وإيجاد دور العلم، وما إلى ذلك، فهذه من الأمور التي ما جاء شيء يدل على إثباتها ولا على نفيها فهي سائغة، ولشيخنا الشنقيطي رحمة الله عليه محاضرة في المصالح المرسلة مطبوعة، وكان قد ألقاها رحمة الله عليه في دار الحديث قبل أن توجد صالة المحاضرات في الجامعة الإسلامية.(185/29)
حكم التيمم لشدة البرد
السؤال
رجل احتلم في الليل، وجاءت صلاة الفجر ولم يغتسل لشدة برودة الماء، فهل يصلي الفجر بوضوء فقط؟
الجواب
ليس له أن يصلي إذا كان في البلد، وعنده يعني شيء يسخن به الماء، وأما إذا كان في فلاة، وليس عنده شيء يسخن به وخشي أن يضره الماء؛ فله أن يتيمم.(185/30)
رجل يبكي عند قراءة السيرة ولا يبكي عند قراءة القرآن
السؤال
شخص يصلي جميع الفروض، ويسمع القرآن ولكن لا يبكي كما يبكي الإمام، ولكن عندما يقرأ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه تدمع عينه لما أصابهم من أذى، فما رأيكم؟
الجواب
البكاء شيء من عند الله عز وجل لا يملكه الإنسان، والإنسان ليس له أن يجلب لنفسه البكاء، وإنما هو شيء يأتي به الله، فإن حصل خوفاً من الله فهذا شيء طيب، وأحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسواء كان بذكر الله أو بذكر سيرة الصحابة أو بذكر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم أو بقراءة القرآن.(185/31)
حكم الاعتمار دون الحج في أشهر الحج
السؤال
من أدى العمرة في أشهر الحج، ولم يرد أن يحج، فهل يلزمه الحج وعليه دم؟
الجواب
لا، فالإنسان له أن يعتمر في أشهر الحج ولو لم يرد أن يحج، فلا تلازم بين العمرة والحج، فله أن يعتمر ويرجع إلى بلده ولا يلزمه أن يحج، وإن أراد الحج فإنه يعتمر أولاً ثم يحج ثانياً، ولا يرجع إلا بعد أن يؤدي الحج بعد العمرة.
والحاصل أنه لا تلازم بين الحج والعمرة، فللإنسان أن يعتمر في أشهر الحج، ويرجع إلى بلده ولا يحج، وإن أراد أن يجمع بين الحج والعمرة ويكون متمتعاً فإنه يحرم من الميقات للعمرة، وإذا دخل مكة طاف وسعى وحلق للعمرة، ثم يحل منها، ويبقى في مكة أو يخرج منها إلى أماكن أخرى لكنه لا يرجع إلى بلده، أما إذا رجع إلى بلده فإنه لا يكون متمتعاً إذا أراد الحج إلا أن يحرم بعمرة أخرى.(185/32)
حكم قول لفظي بالقرآن مخلوق
السؤال
ما صحة ما ذكر عن الإمام أحمد أن من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع؟ وهل صحيح أن الإمام البخاري كان يقول: لفظي بالقرآن مخلوق؟
الجواب
اللفظ بالقرآن له معنيان: يراد به الملفوظ، ويراد به التلفظ، مثل القراءة والتلاوة، والمقروء والمتلو، فهو من الألفاظ المجملة المحتملة للحق والباطل، فلا تثبت بإطلاق، ولا تنفى بإطلاق، وإنما يفصل فيها فيقال: إن أريد باللفظ التلفظ الذي هو التلاوة والقراءة فهي مخلوقة، وإن أريد باللفظ المتلو والمسموع فهو كلام الله وهو غير مخلوق.(185/33)
حكم ستر الجدران بالأوراق
السؤال
قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تستروا الجدر) هل يدخل فيه تعليق الأوراق على الجدر وعليها أشكال ورسومات ليست فيها ذوات أرواح؟
الجواب
إذا كانت الأوراق ليس لها قيمة، وليس لها أهمية، وتصير مثل جنس الدهان أو الرخام، فلا بأس بها، وإنما المحذور أن يعلق السجاد والقماش ونحوها.(185/34)
حكم تصوير القباب
السؤال
واجهة القبر النبوي تصور وتوضع في الجدر كصورة، ويقولون: هذه ليست صورة ذوات أرواح، فما حكم تعليقها؟
الجواب
تصوير القباب والأشياء المحدثة لا يصلح ولا ينبغي.(185/35)
حكم نظر الطالب في كتاب أخيه حال الدرس
السؤال
حديث: (من نظر في كتاب أخيه بغير إذنه فإنما ينظر في النار)، هل يدخل فيه النظر في كتاب الطالب حال التدريس؟
الجواب
الحديث المذكور ضعيف، وللطالب أن ينظر من كتاب زميله، ولا مانع من ذلك، وإنما المحذور أن يضايقه ويزاحمه، أما إذا طلب منه أنه ينظر أو قرب صاحب الكتاب الكتاب إليه مشعراً له في رغبته بمشاركته فهذا إذن.(185/36)
حكم الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام ألف مرة يومياً
السؤال
إذا أراد الإنسان أن يتخذ لنفسه ورداً معيناً يلزم نفسه به أكثر مما ورد، كأن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم كل يوم ألف مرة، بل وإذا فاته قضاه، فهل له ذلك؟
الجواب
لا يصلح هذا، بل يلتزم بما جاءت به السنة عن الرسول صلى الله عليه وسلم من الأذكار والأدعية، ويأتي بالشيء الذي يؤتى به مرة مرة، والذي يؤتى به ثلاثاً يأتي به ثلاثاً، والذي يؤتى به أربعاً يأتي به أربعاً، وما عدا ذلك يذكر الله بدون حساب، ويذكر الله في جميع أحيانه من غير أن يعد ويلتزم شيئاً معيناً، فلا يلتزم إلا ما ورد، والشيء الذي ما ورد عدُّه لا يلتزم بعدِّه، وإنما يذكر الله في جميع أحيانه، ولا يزال لسانه رطباً من ذكر الله، ويكثر من الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم، لاسيما في يوم الجمعة وليلة الجمعة، وأما كونه يلزم نفسه بعدد ألف وخمسين ألف وما إلى ذلك، ويذهب وقته كله وهو يعد هذا التسبيح، ويترك الوارد المشروع؛ فهذا لا يصلح.(185/37)
معنى الاستواء في اللغة
السؤال
هل الاستواء في اللغة يلزم منه أن المستوي متصل بما يستوي عليه؟
الجواب
الاستواء للمخلوقين لا بد فيه من الاتصال، وأما بالنسبة لله عز وجل فالكيفية لا نعقلها، فالله تعالى فوق العرش، وهو عال عليه، وقضية اتصال وعدم اتصال لا نتكلم فيها.(185/38)
حكم تعليق صورة الكعبة
السؤال
هل يجوز تعليق صورة الكعبة على الجدار؟
الجواب
ما هي الفائدة من وراء ذلك؟ فهذا من جنس تعليق الآيات والأحاديث، وتكون حجة على الإنسان، حيث تكون أمام عينه العبر والعظات ومع ذلك لا يعتبر ولا يتعظ، وترك ذلك هو الأولى.(185/39)
حكم دعاء الله في السجود بأبيات شعرية
السؤال
ذكر ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية في ترجمة المتنبي أنه قال: يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به مما أحاذره لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ولا يهيضون عظماً أنت جابره قال ابن كثير: وقد بلغني عن شيخنا العلامة شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله أنه كان ينكر على المتنبي هذه المبالغة في مخلوق، ويقول: إنما هذا لجناب الله سبحانه وتعالى وأخبرني العلامة ابن القيم رحمه الله أنه سمع الشيخ تقي الدين ابن تيمية يقول: ربما قلت هذين البيتين في السجود أدعو الله بما تضمناه من الذل والخضوع،
و
السؤال
هل هذا الفعل جائز وهو أن يدعو الإنسان في سجوده بأبيات شعرية؟
الجواب
الإنسان يحرص على أن يأتي بالأدعية الشرعية مما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وكون الإنسان يدعو الله بما شاء من غير أن يكون فيه محذور لا بأس به، لكن كون الإنسان لا يأتي بألفاظ الوحي وألفاظ الرسول صلى الله عليه وسلم فهو على خطر الزلل، ولا شك أنه ينبغي للإنسان أن يحرص على أن يأتي بدعاء مأمون الجانب ومأمون العاقبة وفيه العصمة، وهو دعاء المعصوم صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن هذا هو الذي فيه السلامة، وكون الإنسان يدعو الله عز وجل بما يريد من خير الدنيا والآخرة بألفاظ يقولها من نفسه لا بأس به، لكن كونه يحافظ على ألفاظ الشرع أولى من هذا.
وإذا كان هذا الكلام قاله المتنبي في مخلوق فهذا من أعظم الباطل، وهذا الكلام لا يليق إلا بالله سبحانه وتعالى، وهو يشبه قول البوصيري: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم إن لم تكن آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم فهذا كلام لا يليق إلا بالله سبحانه وتعالى، وأنا ذكرت هذه الأبيات عند شرح حديث: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم) في كتابي: عشرون حديثاً من صحيح البخاري، وقلت: لو قال مخاطباً ربه: يا خالق الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم لكان مصيباً، وكان أتى بما هو الحق، بدلاً من أن يقول: يا أكرم الخلق؛ لأن هذا الكلام لا يليق إلا بالله سبحانه وتعالى، فهو الذي من جوده الدنيا والآخرة سبحانه وتعالى.
ولعل شيخ الإسلام أراد أن يبين أن مثل هذا الكلام الذي قيل في مخلوق لا يقال إلا في حق الله سبحانه وتعالى.(185/40)
تكرار العمرة للنفس أولى من تكرار إهداء ثوابها للوالدين
السؤال
إذا كان الإنسان مقيماً بين مكة والمدينة، وبإمكانه أن يكرر العمرة عدة مرات، فهل هذا الأفضل له أن يعتمر عن والديه اللذين توفيا أو عن نفسه؟
الجواب
الأفضل أن يكرر العمرة عن نفسه، والوالدان يكثر من الدعاء لهما ولغيرهما.(185/41)
حكم استئجار الطالب رجلاً لكتابة بحث باسم الطالب
السؤال
ما حكم كتابة البحث لطالب مع أخذ النقود وجعل البحث باسم الطالب؟
الجواب
هذا غش، ثم يأخذ على الغش أجرة، حتى ولو لم يأخذ أجرة فإنه لا يجوز، لأنه من الغش.(185/42)
زوج المرأة محرم لبناتها من الزوج الثاني
السؤال
امرأة تزوجت من رجل ثم طلقها ولم تنجب له، ثم تزوجت من آخر وأنجبت له، فهل بنات المرأة محرمات على الزوج الأول وهو محرم لهن؟
الجواب
نعم، هو محرم لهن؛ لأنه كان زوج أمهن، فما دام أنه دخل بأمهن فهو محرم لهن، ولا يجوز له أن يتزوج منهن، قال الله: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء:23]، وكلمة (حجوركم) ليس لها مفهوم، وإنما جاءت على ما هو الغالب من أن بنت الزوجة تكون مع أمها في حجر زوجها، فبنات الزوجات المدخول بهن سواء ولدن قبل أو بعد هن محارم لذلك الرجل، وإنما لا يحرمن عليه إذا لم يدخل بأمهن كما قال الله: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء:23] يعني: أن تنكحوهن لأنهن أجنبيات، وأما إذا حصل الدخول بالأم فإن البنت تكون محرمة عليه، ويكون هو محرماً لها.(185/43)
معنى كون الحديث أزلياً في الماضي
السؤال
ذكر شارح الطحاوية أن الحدث أزلي في الماضي كما هو أزلي في المستقبل، ومثاله نعيم الجنة، أرجو منكم أن تشرحوا لي هذه الجملة.
الجواب
هذه مسألة معروفة بتسلسل الحوادث في الماضي، وبعض أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره يقولون: الله تعالى لم يكن معطلاً عن الفعل ثم فعل، وإنما هو فاعل بالابتداء، والمفعولات التي فعلها تعتبر أزلية، لكن ليس معنى ذلك أنه لا بداية لها، فإنه لا بد لها من بداية؛ لأن كل مخلوق لا بد له من بداية، ولكن المراد أن الله تعالى لم يكن غير فاعل ثم فعل، وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من القائلين بهذا يقولون: ما من مخلوق إلا وله أول، والله لم يكن معطلاً عن الفعل، بل هو فاعل بالأزل كما أنه فاعل في المستقبل، ومثاله بالنسبة للمستقبل نعيم الجنة، فإنه مخلوق لا نهاية له، يعني تسلسل إلى ما لا نهاية له، لكن لا أعرف مثالاً على ذلك الماضي بأن يقال: هذا مخلوق لم يكن قبله مخلوق، والله تعالى أعلم.(185/44)
حكم الانتفاع بمال الربا
السؤال
هل يجوز للإنسان أن ينتفع بمال أصله ربا حصل عليه من بعض إخوانه، وهو يحتاج إلى هذا المال؟
الجواب
كيف يأخذه وهو يعلم أنه ربا؟! فالذي ينبغي أن يتنزه عن هذا المال الحرام.(185/45)
حكم صرف الزكاة لشراء الكتب وتوزيعها
السؤال
هل يجوز صرف الزكاة لشراء كتب وتوزيعها على المسلمين؟
الجواب
لا يجوز، الزكاة لا تصرف في شراء الكتب، ولا في بناء المدارس، ولا في بناء المساجد، وإنما تصرف في المصارف الثمانية التي ذكرها الله عز وجل في قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} [التوبة:60]، وكلمة (في سبيل الله) بعض الناس يتصور أنها تعم كل شيء، ولو كان الأمر كذلك فلماذا عدد الله هذه الأشياء والكل في سبيل الله، بالمعنى العام؟! لكن المقصود بقوله: (في سبيل الله) الجهاد وقتال الأعداء، ولا شك أن بناء المساجد وبناء الأربطة وطباعة الكتب وتوزيعها داخلة في سبيل الله بالمعنى العام، لكن المقصود بسبيل الله في آية قسمة الصدقات هو الجهاد في سبيل الله.(185/46)
شرح سنن أبي داود [186]
الزكاة ركن من أركان الإسلام وشعيرة من شعائره، وجاحدها كافر، ومانعها يقاتل حتى تؤخذ منه، كما قاتل الصحابة المرتدين وقاتلوا مانعي الزكاة في خلافة الصديق رضي الله عنه.(186/1)
كتاب الزكاة(186/2)
شرح حديث (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الزكاة.
حدثنا قتيبة بن سعيد الثقفي حدثنا الليث عن عقيل عن الزهري أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واستخلف أبو بكر رضي الله عنه بعده وكفر من كفر من العرب، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لـ أبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله عز وجل) فقال أبو بكر: والله! لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله! لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقاتلتهم على منعه، فقال عمر بن الخطاب: والله! ما هو إلا أن رأيت الله عز وجل قد شرح صدر أبي بكر للقتال.
قال: فعرفت أنه الحق].
الزكاة هي الركن الثالث من أركان الإسلام، وكثيراً ما يقرن الله عز وجل في القرآن بين الصلاة والزكاة، والزكاة في اللغة مأخوذة من النماء، والزكاة الشرعية موجود فيها هذا المعنى؛ لأنها سبب في نماء المال وكثرته، وقد جاء في الحديث: (ما نقص مال من صدقة، بل تزده، بل تزده، بل تزده)، وفي الاصطلاح هي: حق معلوم في أموال الأغنياء يصرف في جهات مخصوصة.
وهذه الجهات المخصوصة هي التي ذكرها الله عز وجل في آية مصارف الزكاة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابن السَّبِيلِ} [التوبة:60]، ويأتي في بعض النصوص ذكر الفقراء خاصة كما في حديث معاذ: (فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) والفقراء صنف من أصناف الزكاة الثمانية الذين جاء ذكرهم في آية: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة:60].
أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قتال أبي بكر رضي الله عنه للمرتدين ومانعي الزكاة، وقد ذكر الخطابي رحمه الله أن الذين قاتلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه صنفان: صنف أهل كفر وردة، وصنف أهل بغي، والصنف الأول نوعان: من ادعى النبوة وتوبع على ذلك مثل مسيلمة الكذاب والأسود العنسي وغيرهما ممن ادعى النبوة وتبعهم من تبعهم على دعواهم الباطلة.
والنوع الآخر: الذين تركوا الدين، وخرجوا من الدين، وكفروا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من غير دعوى نبوة، ومن غير اتباع لمتنبئ، والكل مرتدون.
أما الصنف الآخر فقال الخطابي: هم مانعو الزكاة، وهم أهل بغي، وذلك لأنهم متأولون، حيث فهموا أن الزكاة إنما تعطى للنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره؛ لقول الله عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة:103] قالوا: هذه الأمور التي تترتب على الأخذ إنما تنطبق على النبي صلى الله عليه وسلم، فهو الذي يصلي عليهم، والتطهر والتزكيه إنما تكون لمن دفع الزكاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لأصحابه.
وهذا قول باطل، وفهم خاطئ، فإن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خطاب للأمة ما لم يأت دليل يدل على تخصيص ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم، مثل قوله تعالى في الواهبة نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50]، فإن هذا نص يدل على خصوصية هذا الحكم بالرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يتعداه إلى غيره.
أما ما يتعلق بدفع الزكاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإن الزكاة حق المال، وهي واجبة، وحكمها مستمر وليس خاصاً بزمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال الخطابي: من جحد وجوب الزكاة في غير وقت وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يكون كافراً بالإجماع قال: وإنما الإشكال في الذين فهموا هذا الفهم الخاطئ بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فاعتبروا أهل بغي، وقد قاتلهم أبو بكر على أنهم أهل بغي، ومعلوم أن من امتنع من أمر من أمور الإسلام فإنه يقاتل عليه وإن لم يخرج بذلك من الإسلام.
فـ الخطابي رحمه الله اعتبر مانعي الزكاة الذين فهموا هذا الفهم الخاطئ متأولين وأنهم قوتلوا على بغيهم، ومن المعلوم أن البغاة يقاتلون إذا حصل منهم القتال أو امتنعوا من شعيرة من شعائر الإسلام، فإنهم يقاتلون على ذلك حتى يحصل منهم ذلك الشيء الذي امتنعوا منه.
والامتناع من دفع الزكاة له حالتان: حالة جحد وحالة بخل وتهاون، فحالة الجحد كفر، وكل ما علم في الإسلام ضرورة إيجابه أو تحريمه فإن اعتقاد عدم وجوبه كفر، وإذا كان من المنهيات فاعتقاد حله يكون كفراً وردة عن الإسلام.(186/3)
فضل أبي بكر
أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه لما استخلف كان من أجل أعماله الوقفة الشجاعة التي قام بها في إرجاع الناس إلى ما كانوا عليه في زمن النبوة، سواء من خرجوا من الدين أو امتنعوا من دفع الزكاة، فكان موقفه رضي الله تعالى عنه وأرضاه شجاعاً قوياً مع أنه معروف بلينه وبسهولته، وكانت جهوده منصبة ومتجهة إلى إصلاح الخلل الذي حصل في المسلمين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ حتى يعود الأمر إلى ما كان عليه في زمن النبوة، ثم بعد ذلك يتجه إلى الفتوحات وإلى الجهاد في سبيل الله لإدخال الناس في الدين.
وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه يرى خلاف رأيه فقال: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا -لا إله إلا الله، فمن قال- لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله عز وجل)؟ فقال أبو بكر: والله! لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله! لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقاتلتهم على منعه.
ثم إن عمر رضي الله عنه وأرضاه اتضح له فيما بعد أن هذا الذي شرح الله له صدر أبي بكر هو الحق.
هذا وعمر معروف بشدته وقوته في دين الله عز وجل، فسبقه الصديق رضي الله عنه إلى القوة والشدة في هذا الموطن، فقاتل الناس حتى يرجعوا إلى ما كانوا عليه في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد جاء عن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله عز وجل)، ففيه ذكر المقاتلة على الصلاة وعلى الزكاة، وأنه لا بد من مجموع هذه الأمور: أن يؤتى بالشهادتين، وأن يؤتى أيضاً بأهم وأعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين وهما الصلاة والزكاة.(186/4)
الزكاة حق المال
من فهم أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: الزكاة حق المال، والحديث الذي ذكره عمر رضي الله عنه فيه: (إلا بحقها) فبين أن الزكاة من جملة الحق الذي يندرج تحت هذا الحديث، فمن امتنع من الزكاة فإنه يقاتل، وإذا كان جحدها واعتقد أنها ساقطة الوجوب فإن ذلك ردة وكفر، وكذلك جحود غيرها كالصيام والحج وغير ذلك من الأمور، فإن جحد وجوبها يكون كفراً.
وأما إذا ترك الزكاة على سبيل التهاون لا على سبيل الجحود فإن هذا لا يكون كفراً، وقد جاء ما يدل على ذلك، وهو الحديث الذي فيه: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فيكوى به جنبه وظهره وجبينه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار)، فإن قوله صلى الله عليه وسلم: (إما إلى الجنة) يدل على عدم كفره؛ لأن الكافر لا سبيل له إلى الجنة، بل ليس أمامه إلا النار.
والذي يترك الزكاة تهاوناً تؤخذ منه قهراً، ولا يكون كافراً، وأما من يجحد وجوبها فإن هذا يكون مرتداً، ويقتل على ردته.
والذي قاله عمر أخيراً ليس تقليداً لـ أبي بكر كما يقوله بعض المخذولين، بل بين له أبو بكر معنى الحديث، وأن الزكاة من حق الشهادتين، وأن من تركها يستحق المقاتلة، فعند ذلك فهم عمر رضي الله عنه وأرضاه، وتابع أبا بكر لا تقليداً له، ولكن تابعه بعد أن اتضح له أن الذي أقدم عليه أبو بكر هو الحق.
وقوله: (والله! لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقاتلتهم على منعه) قيل: المراد به عقال البعير، والمقصود من ذلك ليس العقال، وإنما المقصود البعير الذي يعقل بالعقال، وكان البعير إذا زكي به يعطى معه عقاله.
وقيل: المقصود بالعقال زكاة عام، وقد جاء عن بعض أئمة اللغة تفسير العقال بزكاة عام، ولكن جاء في حديث أبي هريرة أنه قال: (لو منعوني عناقاً كان يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها) فبعض أهل العلم قال: ذكر العقال شاذ، والمحفوظ هو العناق، ومنهم من قال: إن كلا الروايتين صحيحة، ولكن يحمل العقال على أن المقصود به البعير الذي يعقل بالعقال أو أن المقصود به زكاة عام.
والعناق هي التي لم تبلغ سنة، ولا يصح أن يزكى بها، والذي يعطى في الزكاة لا بد أن يكون مما أكمل سنة، ففسر بأن المقصود إذا بلغت الغنم نصاباً، وكانت كباراً وصغاراً، وبدأ الحول من حين بلغت نصاباً، ولكن ماتت الأمهات أثناء الحول وعند انتهاء الحول لم تبلغ نصاباً كباراً، وإنما كانت سخالاً، فيكون أخذ العناق من جملة العدد الذي وجبت فيه الزكاة؛ لأن الزكاة تؤخذ من المال الذي وجبت فيه.(186/5)
تراجم رجال إسناد حديث (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد الثقفي] قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف الثقفي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الليث] الليث بن سعد المصري ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عقيل].
عقيل بن خالد بن عقيل المصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري] محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة فيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله] عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ثقة فقيه أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة] عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو أكثر السبعة حديثاً على الإطلاق رضي الله تعالى عنه وأرضاه.(186/6)
حديث ابن عمر (أمرت أن أقاتل الناس)
حديث ابن عمر الذي أشرت إليه أخرجه البخاري ومسلم، وذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري أنه من غرائب الصحيح، يعني أنه جاء بإسناد واحد، وهو صحيح، فالصحيحان فيهما غرائب عن ثقات يحتمل تفردهم، ومن ذلك حديث: (إنما الأعمال بالنيات) فهو حديث غريب، وكذلك آخر حديث في البخاري وهو (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن) فهو حديث غريب جاء من طريق واحد، وحديث ابن عمر من هذا القبيل، قال الحافظ ابن حجر: هو من غرائب الصحيح، وقد خلا منه مسند الإمام أحمد على سعته، فهو يبلغ أربعين ألف حديث، وأما حديث أبي هريرة هذا فإنه موجود في المسند.(186/7)
مناسبة الحديث لباب الزكاة
وقد فرضت الزكاة في السنة الثانية من الهجرة، في السنة التي فرض فيها الصيام.
ومناسبة إيراد الحديث هنا لأن القتال على الزكاة يدل على وجوبها، وأنها متعينة، هذا هو المقصود من إيراد هذا الحديث، وليس المقصود ذكر التاريخ، وإنما المقصود دلالته على أن الزكاة واجبة ولازمة؛ ولهذا يقاتل عليها.(186/8)
مشروعية قتال مانعي الزكاة
مانع الزكاة تؤخذ منه بالقوة، وإذا امتنع يطلب منه أن يترك ما هو عليه من الباطل، وأن يدفع الزكاة، فإن عاند وقاتل فإنه يقاتل عليها، وقتاله للحاكم لا يدل على كفر، لأن البغاة إذا حصل منهم حمل السلاح على الحكام لا يكفرون بذلك.
وبالنسبة لمانعي الزكاة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قال عنهم الخطابي: إنهم بغاة، فهم مسلمون امتنعوا من أداء شيء متعين عليهم، فقوتلوا على منعه، وكونهم امتنعوا منها واستعدوا للقتال فهم أهل بغي، وقال الخطابي: ولو حصل منع الزكاة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وانتفاء الشبهة فإن الذي يقول بعدم وجوب الزكاة أو ينكر وجوبها يكون كافراً مرتداً، ويقتل مرتداً، ولا يقال عنه باغ أو ممتنع من الزكاة فقط، ففرق الخطابي بين الذين منعوها بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وبين من بعدهم؛ لأن لهم شبهة، أما بعد أن استقرت الأحكام وعرفت الأحكام فجحدها كفر وردة.(186/9)
شرح حديث (أمرت أن أقاتل الناس) من طرق أخرى وتراجم رجالها
[قال أبو داود: ورواه رباح بن زيد وعبد الرزاق عن معمر عن الزهري بإسناده، قال بعضهم: (عقالاً)].
أورد أبو داود رحمه الله طرقاً فيها ذكر العقال وذكر العناق.
قوله: [رباح بن زيد].
رباح بن زيد القرشي وهو ثقة أخرج حديثه أبو داود والنسائي.
[وعبد الرزاق].
عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن معمر].
معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري بإسناده].
يعني: عن عبيد الله عن أبي هريرة.
[وقال بعضهم: (عقالاً)].
يعني: كالرواية السابقة.
[ورواه ابن وهب عن يونس قال: (عناقاً)].
ابن وهب هو عبد الله بن وهب المصري ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
ويونس بن يزيد الأيلي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
والعناق هي التي لم تبلغ سنة من أولاد المعز.
[قال أبو داود: قال شعيب بن أبي حمزة ومعمر والزبيدي عن الزهري في هذا الحديث: (لو منعوني عناقاً)، وروى عنبسة عن يونس عن الزهري في هذا الحديث قال: (عناقاً)].
ذكر المصنف جملة من الذين رووه عن الزهري وقالوا: (عناقاً).
وشعيب بن أبي حمزة الحمصي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
ومعمر مر ذكره.
والزبيدي هو محمد بن الوليد الزبيدي الحمصي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
قوله: [عن الزهري في هذا الحديث: (لو منعوني عناقاً)].
في هذا الحديث يعني: في الإسناد المتقدم، وقال: (عناقاً) بدل (عقالاً).
وعنبسة بن خالد الأيلي صدوق أخرج حديثه البخاري وأبو داود.
والعناق غير العقال؛ لأن العقال فسر بالعقال الذي يعقل به البعير، وأن المقصود به البعير، فعبر عن البعير بعقاله، أو المقصود بذلك زكاة عام، وهو إما روي هذا اللفظ أو هذا اللفظ، وقد يكون كلٌ من اللفظين محفوظاً أو يكون أحدهما محفوظاً والثاني شاذاً، والذي قيل إنه راجح هو العناق.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن السرح وسليمان بن داود قالا: أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن الزهري هذا الحديث قال: قال أبو بكر رضي الله عنه: (إن حقه أداء الزكاة، وقال: عقالاً)].
أورد المصنف الحديث من طريق أخرى عن أحمد بن عمرو بن السرح وهو ثقة أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
وسليمان بن داود المهري المصري ثقة أخرج حديثه أبو داود والنسائي.
[عن ابن وهب عن يونس عن الزهري].
وقد مر ذكرهم.
[قالا: قال أبو بكر: (إن حقه أداء الزكاة)].
يعني أن فيه مخالفة لما تقدم أنه قال أبو بكر الصديق: (إن حقه أداء الزكاة) وقال: (عقالاً) كالرواية الأولى.(186/10)
ما تجب فيه الزكاة(186/11)
شرح حديث (ليس فيما دون خمس ذود صدقة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما تجب فيه الزكاة.
حدثنا عبد الله بن مسلمة قال: قرأت على مالك بن أنس عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه قال: سمعت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس فيما دون خمس ذود صدقة، وليس فيما دون خمس أواق صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسقٍ صدقة)].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة: (باب ما تجب فيه الزكاة) يعني: الأموال التي تجب فيها الزكاة، وذكر مقادير الأنصبة التي تجب فيها الزكاة.
قوله: (ليس فيما دون خمس ذود صدقة) يعني: ليس فيما دون خمس من الإبل صدقة، فإذا ملك الإنسان أربعاً من الإبل وكانت سائمة فلا زكاة فيها؛ لأنها ما بلغت نصاباً، ولكنها إذا بلغت خمساً وحال عليها الحول فإنها تزكى، وقد جاء أن مقدار الزكاة في الخمس شاة كما سيأتي، فزكاة الخمس من الإبل من غير جنسها؛ لأنه لو أخرج الزكاة من جنسها -أي: واحدة من الإبل- لكانت الزكاة الخمس، وفي ذلك ضرر على أصحاب الأموال، فوجبت الزكاة فيها من نوع آخر وهو الغنم، فتجب شاة عن خمس من الإبل، والشاة عن خمس من الإبل لا تضر الغني، وتنفع الفقير، ولكن الغني يتضرر لو أخذت منه الناقة.
وهذا الحديث بيان لنصاب الإبل وغيرها من الأموال الزكوية، وبيان المقدار الذي إذا نقص المال عنه فلا زكاة فيه، وهو الخمس من الإبل، فما نقص عن خمس منها فلا زكاة فيه، وما بلغ خمساً فأكثر ففيه الزكاة، وعلى هذا فالحد الأدنى الذي لا زكاة فيه من الإبل هو الأربع، فإن الأربع لا زكاة فيها ولو بقيت سنين، أما الخمس ففيها الزكاة إذا حال عليها الحول، والذود المقصود به الإبل.
قوله: [(وليس فيما دون خمس أواق صدقة)].
هذا فيه بيان نصاب الورق وهي الفضة، والأوقية أربعون درهماً، والخمس أواق مائتا درهم، فنصاب الفضة مائتا درهم، وهي تعادل بالريالات السعودية الفضية (56 ريالاً سعودياً) فما دون خمس أواق لا زكاة فيه يعني: ما نقص عن مائتي درهم ولو درهماً واحداً بأن كانت مائة وتسعة وتسعين درهماً فلا زكاة فيه، وكذلك بالنسبة لما يقابلها من العملة السعودية التي هي (56 ريالاً) فما نقص عن (56 ريالاً) فلا زكاة فيها، فـ (55 ريالاً) لا زكاة فيها.
قوله: [(وليس فيما دون خمس أوسقٍ صدقة)].
الوسق ستون صاعاً، والخمسة أوسق ثلاثمائة صاع، والصاع (3 كيلو جرام) فالنصاب تسعمائة كيلو جرام تقريباً، فما خرج من الأرض من الحبوب والثمار فإن نصابه خمسة أوسق.
وقوله: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) يدلنا على أن الفواكه والخضروات لا زكاة فيها؛ لأنها ليست مما يكال كالحبوب والثمار، وأيضاً ليست مما يدخر ويتخذ قوتاً، والزكاة إنما تجب في الأقوات التي تخرج من الأرض كالتمر والزبيب والبر والشعير والأرز والذرة، وغير ذلك.(186/12)
تراجم رجال إسناد حديث (ليس فيما دون خمس ذود صدقة)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[قرأت على مالك].
مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه الإمام، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن يحيى المازني].
عمرو بن يحيى المازني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سعيد].
أبو سعيد الخدري هو سعد بن مالك بن سنان الخدري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مشهور بكنيته ونسبته، كنيته أبو سعيد، ونسبته الخدري، واسمه سعد بن مالك بن سنان.(186/13)
شرح حديث (ليس فيما دون خمسة أوسق زكاة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أيوب بن محمد الرقي حدثنا محمد بن عبيد حدثنا إدريس بن يزيد الأودي عن عمرو بن مرة الجملي عن أبي البختري الطائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ليس فيما دون خمسة أوسق زكاة) والوسق ستون مختوماً.
قال أبو داود: أبو البختري لم يسمع من أبي سعيد.
أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي سعيد وليس فيه ذكر الأمور الثلاثة التي تقدمت في الرواية السابقة، وقوله: والوسق ستون مختوماً يعني: ستون صاعاً.(186/14)
تراجم رجال إسناد حديث (ليس فيما دون خمسة أوسق زكاة)
قوله: [حدثنا أيوب بن محمد الرقي].
أيوب بن محمد الرقي أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا محمد بن عبيد].
محمد بن عبيد الطنافسي وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا إدريس بن يزيد الأودي].
إدريس بن يزيد الأودي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن مرة الجملي].
وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي البختري الطائي].
وهو سعيد بن فيروز ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سعيد].
مر ذكره.
[قال أبو داود: أبو البختري لم يسمع من أبي سعيد] وهذا لا يؤثر؛ لأن هذه الرواية ثابتة في الرواية السابقة وفي غيرها من الروايات، فلا يؤثر الانقطاع إلا إذا جاء من هذا الطريق فقط، ولكن ما دام الحديث ثابتاً من طريق أخرى فيكون هذا صحيحاً لكونه جاء من طرق أخرى صحيحة.
وأما هذا السند فمنقطع لأن أبا البختري لم يسمع من أبي سعيد.(186/15)
شرح أثر النخعي (الوسق ستون صاعاً مختوماً بالحجاجي)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن قدامة بن أعين حدثنا جرير عن المغيرة عن إبراهيم أنه قال: (الوسق ستون صاعاً مختوماً بالحجاجي)].
أورد المصنف أثراً عن إبراهيم بن يزيد النخعي الكوفي رحمة الله عليه أنه قال: الوسق ستون صاعاً مختوماً بالحجاجي، والمقصود من ذلك بيان مقدار الوسق، وقوله: بالحجاجي نسبة للحجاج، وهو -كما سبق- ثلاثمائة صاع، لأن 60×5=300 صاع، وهو 900 كيلو، لأن الصاع يساوي 3كيلو.
وهذا الأثر مقطوع؛ لأنه انتهى إلى التابعي، وهو غير المنقطع، فالمقطوع من صفات المتن، والمنقطع من صفات الإسناد، كأن يسقط من إسناده واحد أو أكثر.(186/16)
تراجم رجال أثر النخعي (الوسق ستون صاعاً مختوماً بالحجاجي)
قوله: [حدثنا محمد بن قدامة بن أعين].
محمد بن قدامة بن أعين ثقة أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا جرير].
جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن المغيرة].
المغيرة بن مقسم الكوفي الضبي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إبراهيم].
إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.(186/17)
شرح أثر عمران بن حصين في الاحتجاج بالسنة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن بشار حدثني محمد بن عبد الله الأنصاري حدثنا صرد بن أبي المنازل قال: سمعت حبيباً المالكي قال: قال رجل لـ عمران بن حصين رضي الله عنهما: يا أبا نجيد! إنكم لتحدثوننا بأحاديث ما نجد لها أصلاً في القرآن، فغضب عمران وقال للرجل: أوجدتم في كل أربعين درهماً درهم، ومن كل كذا وكذا شاةً شاة، ومن كل كذا وكذا بعيراً كذا وكذا، أوجدتم هذا في القرآن؟ قال: لا.
قال: فعمن أخذتم هذا؟ أخذتموه عنا، وأخذناه عن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذكر أشياء نحو هذا].
أورد المصنف حديث عمران بن حصين رضي الله عنه أنه قال له رجل: إنكم تحدثوننا بأشياء لا نجدها في كتاب الله، فغضب عمران رضي الله عنه، وذلك لأن هذا فهم خاطئ، والسنة تلقاها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرسول كما تلقوا القرآن عنه، وهم الذين أدوا إلينا الكتاب والسنة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إني أوتيت القرآن ومثله معه) يعني: السنة، فالسنة وحي من الله كما أن القرآن وحي من الله، إلا أن القرآن وحي معجز، ومتعبد بتلاوته وبالعمل به، والسنة متعبد بالعمل بها كما يتعبد بالقرآن، ولا فرق بين السنة والقرآن في العمل.
وأيضاً السنة داخلة في القرآن، ومأمور بها في القرآن، قال الله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] فالسنة كلها داخلة تحت هذه الآية؛ ولهذا جاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أنه لما لعن النامصة والمتنمصة وقال: ما لي لا ألعن من لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو موجود في كتاب الله، فقالت له امرأة: يا أبا عبد الرحمن! إنك قلت كذا وكذا، وإنني قرأت المصحف من أوله إلى آخره فما وجدت فيه ذكر النامصة والمتنمصة! فقال: إن كنت قرأته فقد وجدته، قال الله عز وجل: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].
عمران رضي الله عنه لما سأله هذا السائل غضب وقال: أين وجدتم في القرآن أن في كل أربعين درهماً درهم؟! يعني أن مقادير الزكاة ما وجدت في القرآن، بل وجدت في السنة، ففيها مقدار زكاة الدراهم والإبل والغنم، وهذا لا يوجد في القرآن، ولكن السنة مفسرة للقرآن ومبينة له ودالة عليه، وهي شقيقة القرآن، ويتعبد الله بالعمل بها كما يتعبد بالقرآن، وآيات القرآن جاءت بالأمر بالعمل بما في السنة، بل إن إنكار السنة إنكار للقرآن، وجحد السنة جحد للقرآن، وكيف يتعبد الناس لو اقتصروا على القرآن ولم يلتفتوا إلى السنة؟! فالصلاة التي هي عمود الإسلام من أين عرف الناس أن صلاة الظهر أربع ركعات، وأن العصر أربع ركعات، وأن المغرب ثلاث ركعات، وأن العشاء أربع ركعات، وأن الفجر ركعتان، ولا وجود لهذا في القرآن، وهذا إنما وجد في السنة، فالسنة موضحة للقرآن، وشارحة له، ودالة عليه، والكفر بالسنة كفر بالقرآن، ومن أنكر السنة فهو منكر للقرآن، لأن السنة كلها داخلة تحت قول الله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، وكذلك قول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36].
والحاصل أن الذي قاله عمران رضي الله عنه كلام عظيم، وإن كان في الإسناد من هو متكلم فيه، فإن المعنى صحيح لا إشكال فيه، ولا خلاف فيه، فتوجد أمور كثيرة يعمل الناس بها ويتعبدون الله بها ولا وجود لها في القرآن، وهذا أمر واضح لا إشكال فيه ولا خلاف فيه بين أهل العلم.
وقد جاء نحو هذا من طريق الحسن البصري عن عمران بن حصين وهو عند الحاكم في المستدرك وغيره، فالمعنى صحيح، فالسنة لا بد من العمل بها، وكثير من الأحكام الشرعية إنما تؤخذ من السنة، ولا تؤخذ من القرآن، والسنة يحتج بها كما يحتج بالقرآن، ويعول عليها كما يعول على القرآن، ولا يفرق المسلم بين السنة والقرآن.(186/18)
تراجم رجال إسناد أثر عمران بن حصين في الاحتجاج بالسنة
[حدثنا محمد بن بشار].
محمد بن بشار الملقب بـ بندار البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثني محمد بن عبد الله الأنصاري].
محمد بن عبد الله الأنصاري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا صرد بن أبي المنازل].
صرد بن أبي المنازل وهو مقبول أخرج له أبو داود.
[سمعت حبيباً المالكي].
حبيب المالكي هو حبيب بن أبي فضلان أو فضالة، وهو مقبول أخرج له أبو داود.
[عن عمران].
عمران بن حصين أبو نجيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(186/19)
شرح سنن أبي داود [187]
تعتبر عروض التجارة من أوسع الأموال وأكثرها غناء، ولذا فإنها من الأموال الزكوية، وأما الحلي فقد ورد في الأحاديث الأمر بإخراج زكاتها، وذلك هو الأحوط للمؤمن على كل حال.(187/1)
زكاة عروض التجارة(187/2)
شرح حديث (كان يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعد للبيع)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب العروض إذا كانت للتجارة هل فيها من زكاة.
حدثنا محمد بن داود بن سفيان حدثنا يحيى بن حسان حدثنا سليمان بن موسى أبو داود حدثنا جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب قال: حدثني خبيب بن سليمان عن أبيه سليمان عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: (أما بعد؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعد للبيع)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله: (باب العروض إذا كانت للتجارة هل فيها من زكاة) والمقصود من هذه الترجمة بيان أن عروض التجارة من الأموال الزكوية، والعروض هي ما يعرض ويعد للبيع، سواء كان حيواناً أو مأكولاً أو ملبوساً أو مركوباً أو أي شيء من الأشياء المباحة التي تعرض للبيع والشراء، ويتجر بها الناس، وتتخذ للتجارة وتنمية المال وتحصيل الربح، هذه هي عروض التجارة، وهي جمع عرض، وهو ما يعرض ويعد للبيع والشراء، وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم على قولين: فجماهيرهم على أن فيها الزكاة، بل هي أوسع الأموال الزكوية وأكثرها، فإن أكثر الأموال إنما هي للتجارة، فالزراعة دونها، والنقود التي تدخر دونها، وكذلك المواشي دونها؛ لأن التجارة هي أوسع الأموال التي يتعامل بها الناس.
والجماهير من أهل العلم ومنهم الفقهاء السبعة والأئمة الأربعة على القول بإيجاب الزكاة فيها، وبعض أهل العلم قال بعدم وجوبها فيها، ونقل بعض أهل العلم الإجماع على وجوبها من حيث كثرة القائلين، وقد ورد في وجوبها أحاديث وآثار، وأورد أبو داود رحمه الله حديثاً واحداً تحت هذه الترجمة، وهو حديث سمرة بن جندب، وفي إسناده لين، فهو حديث ضعيف لا يعول عليه، ولكن النصوص الأخرى العامة التي جاءت في الزكاة في الأموال، وأن الأموال فيها حق معلوم للسائل والمحروم؛ تشمل هذا النوع من المال الذي هو أكثر وأوسع الأموال.
وأي تجارة فيها تنمية للمال، ومعلوم أن الزكاة في الغالب هي في الأموال التي فيها نماء مثل السائمة والحبوب والثمار التي ينميها الناس ويحصل الناس على فوائدها وعلى ثمارها، فعروض التجارة من هذا القبيل، بل هي أوسع الأموال وأكثرها انتشاراً، فإن الكثير من الناس يشتغلون بهذا النوع من الأموال الزكوية ألا وهو عروض التجارة.(187/3)
تراجم رجال إسناد حديث (كان يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعد للبيع)
قوله: [حدثنا محمد بن داود بن سفيان].
محمد بن داود بن سفيان مقبول أخرج أحديثه أبو داود.
[حدثنا يحيى بن حسان].
يحيى بن حسان وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا سليمان بن موسى أبو داود].
سليمان بن موسى أبو داود فيه لين، وأخرج حديثه أبو داود.
[حدثنا جعفر بن سعد بن سمرة].
جعفر بن سعد بن سمرة وهو ليس بالقوي، أخرج حديثه أبو داود.
[حدثني خبيب بن سليمان].
خبيب بن سليمان مجهول أخرج حديثه أبو داود.
[عن أبيه].
أبوه سليمان وهو مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن سمرة بن جندب].
سمرة بن جندب رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
هذا الإسناد فيه خمسة ممن انفرد بالتخريج لهم أبو داود من بين أصحاب الكتب، وهم: محمد بن داود بن سفيان وسليمان بن موسى وجعفر بن سعد، وخبيب بن سليمان وأبوه.
وبقي سمرة أخرج له أصحاب الكتب الستة ويحيى بن حسان أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
والإجماع على وجوب الزكاة في عروض التجارة حكاه بعض أهل العلم، ولكن يوجد خلاف في الحقيقة، والجمهور على وجوب الزكاة في عروض التجارة، وخالف الظاهرية.(187/4)
زكاة الحلي(187/5)
شرح حديث (أتعطين زكاة هذا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الكنز ما هو وزكاة الحلي.
حدثنا أبو كامل وحميد بن مسعدة المعنى أن خالد بن الحارث حدثهم قال: حدثنا حسين عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه: (أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعها ابنة لها وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب، فقال لها: أتعطين زكاة هذا؟ قالت: لا.
قال: أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟! قال: فخلعتهما فألقتهما إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقالت: هما لله عز وجل ولرسوله)].
أورد أبو داود هذه الترجمة وهي: (باب الكنز ما هو والزكاة الحلي) والمقصود بهذه الترجمة شيئان: أحدهما: ما المراد بالكنز؟ ولعل الترجمة إشارة إلى قول الله عز وجل: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:34]، يعني: ما هو الكنز الذي توعد الله صاحبه؟ وما الذي يسلم من ذلك؟ والمقصود من الترجمة أن ما أخرج منه الزكاة ليس بكنز، وأنه ليس في المال حق واجب إلا الزكاة، وما سوى ذلك فهو تطوع كما أن الصلوات الخمس هي المفروضة وما زاد عليها تطوع، والحج مرة وما زاد على ذلك تطوع، وكذلك الأموال التي يجمعها الإنسان ويزكيها لا يقال لها كنز، وإنما يكون كنزاً ويعذب عليه صاحبه هو ما لا يخرج منه الزكاة، ولا يؤدي زكاته، ولهذا يعذب عليه، وأما إذا أخرج زكاته فليس بكنز.
الأمر الثاني: زكاة الحلي، هل فيها زكاة أو ليس فيها زكاة؟ وقد اختلف العلماء فيها على قولين: القول الأول: فيها زكاة، ويستدل بهذا الحديث وغيره من الأحاديث الدالة على أن الحلي يزكى، ويستدل كذلك بالعمومات التي جاءت في زكاة الذهب والفضة، فإن الحلي يطلق على الذهب والفضة، فكل ذهب وفضة يزكى، فتوجد أحاديث عامة وأحاديث خاصة تدل على وجوب الزكاة في الحلي.
القول الثاني: لا زكاة في الحلي، ويعتبرون ذلك مثل الأشياء التي تعد للاستعمال، فالإنسان الذي عنده دواب لاستعماله لا زكاة فيها، وفي الحديث: (ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة) فالإنسان الذي عنده خيل أو سيارة ونحوها يقتنيها ولا يعدها للبيع والشراء، وإنما هي للقنية؛ ليس فيها زكاة، قالوا: وكذلك الحلي هي من هذا القبيل، وتوجد آثار عن السلف تدل على ذلك، ولكن هذا الحديث حسن، وتوجد غيره من الأحاديث الصحيحة الثابتة التي تدل على ما دل عليه، فالقول بوجوب الزكاة في الحلي هو الأظهر، وهو الذي تبرأ به الذمة، وهو الذي فيه الاحتياط في الدين.
وهذا الحديث الذي أورده أبو داود حديث حسن يحتج به، وتوجد غيره من الأحاديث في معناه، فالقول بوجوب الزكاة في الحلي هو الأظهر وهو الأولى وهو الذي فيه الاحتياط في الدين.
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: (جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعها ابنةٌ لها عليها مسكتان -وهما سواران- من ذهب فقال: أتؤدين زكاة هذا)، ومعلوم أن هذا حلي مستعمل كان على يديها، والمقصود أنه إذا كان يبلغ نصاباً فإنه يزكى، وإن كان لا يبلغ نصاباً فإنه يضم إلى الذهب الذي عندها، فإن بلغ مجموعة نصاباً وجب فيه الزكاة، وإن كان لا يبلغ نصاباً لا تجب فيه الزكاة، فالرسول صلى الله عليه وسلم بين أنه يعاقب على ترك زكاة الحلي، بأن تعذب بالنار، ويكون لها سواران من نار؛ لأنها ما قامت بأداء الزكاة عن هاتين المسكتين، (فألقتهما وقالت: هما لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم).
هما لله تخرجهما لوجه الله، ولرسوله: يتصرف فيهما كيف يشاء، ويضعهما حيث يريد، وليس المقصود أنهما قربة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن القرب إنما تكون لله عز وجل.(187/6)
تراجم رجال إسناد حديث (أتعطين زكاة هذا)
قوله: [حدثنا أبو كامل].
أبو كامل الفضيل بن الحسين الجحدري وهو ثقة أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والنسائي.
[وحميد بن مسعدة].
حميد بن مسعدة صدوق أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
قوله: [المعنى].
يعني: أنهما متفقان في المعنى، وإن اختلفا في اللفظ.
[عن خالد بن الحارث].
خالد بن الحارث البصري وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حسين].
حسين بن ذكوان المعلم وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن شعيب].
عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص وهو صدوق أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
شعيب بن محمد وهو صدوق أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد وجزء القراءة وأصحاب السنن.
[عن جده].
جده هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
والحديث رجاله ثقات إلى عمرو بن شعيب، وعمرو بن شعيب إذا صح الحديث إليه واستقام الإسناد إليه فحديثه حسن؛ لأنه صدوق وأبوه صدوق.(187/7)
شرح حديث (ما بلغ أن تؤدى زكاته فزكي فليس بكنز)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عيسى حدثنا عتاب -يعني: ابن بشير - عن ثابت بن عجلان عن عطاء عن أم سلمة رضي الله عنها قالت (كنت ألبس أوضاحاً من ذهب فقلت: يا رسول الله! أكنزٌ هو؟ فقال: ما بلغ أن تؤدى زكاته فزكي فليس بكنز)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث أم سلمة أنها كانت تلبس أوضاحاً من ذهب فقالت: يا رسول الله! أكنز هو؟ فقال: (ما بلغ أن تؤدى زكاته فزكي فليس بكنز) وهذا يدل على وجوب الزكاة في الذهب مطلقاً، ويدخل في ذلك الحلي؛ لأن سبب الحديث يتعلق بالحلي، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: [(ما بلغ أن تؤدى زكاته فزكي فليس بكنز)] يعني إذا بلغ نصاباً وجبت فيه الزكاة إذا حال عليه الحول، فإذا زكي فإنه لا يعتبر كنزاً، ولا يكون صاحبه متوعداً بالعذاب الأليم المذكور في آية سورة التوبة.
إذاً: الكنز الذي لا تؤدى زكاته هو الذي يعذب عليه صاحبه، وأما إذا كان عنده مال يؤدي زكاته فإنه لا يعتبر كنزاً كما جاء ذلك مبيناً في هذا الحديث عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وقولها: [كنت ألبس أوضاحاً].
الأوضاح هي الحلي، وهنا قالت: (أوضاحاً من ذهب) والأصل في الأوضاح أنها من الفضة؛ لأنها بيض واضحة، لكن هنا ذكرت أنها كانت من ذهب، وليست من فضة.(187/8)
تراجم رجال إسناد حديث (ما بلغ أن تؤدى زكاته فزكي فليس بكنز)
قوله: [حدثنا محمد بن عيسى].
محمد بن عيسى هو الطباع وهو ثقة أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا عتاب يعني: ابن بشير].
عتاب بن بشير صدوق يخطئ أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن ثابت بن عجلان].
ثابت بن عجلان صدوق أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن عطاء].
عطاء بن أبي رباح ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أم سلمة].
أم سلمة هند بنت أبي أمية أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.
والحديث حسن الألباني المرفوع منه، ومعنى هذا أن القصة غير ثابتة.(187/9)
شرح حديث (دخل علي رسول الله فرأى في يدي فتخات من ورق)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن إدريس الرازي حدثنا عمرو بن الربيع بن طارق حدثنا يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن أبي جعفر أن محمد بن عمرو بن عطاء أخبره عن عبد الله بن شداد بن الهاد أنه قال: دخلنا على عائشة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: (دخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرأى في يدي فتخات من ورق فقال: ما هذا يا عائشة؟! فقلت: صنعتهن أتزين لك يا رسول الله! قال: أتؤدين زكاتهن؟ قلت: لا، أو ما شاء الله.
قال: هو حسبك من النار)].
هذا الحديث يدل على ما دل عليه الحديث السابق من وجوب الزكاة في الحلي، والفتخات من الفضة ليست نصاباً، لكن المقصود أنها تضمها إلى غيرها من الأموال الزكوية، وكل ذهب وفضة يزكى سواء كان حلياً أو غير حلي، وإذا لم يبلغ نصاباً فلا زكاة فيه، لكن إذا كان هناك فضة أخرى معه وبلغ المجموع نصاباً فإنه تجب فيه الزكاة، وأما إذا كان لا يبلغ النصاب فإنه لا زكاة فيه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس فيما دون خمس أواق صدقة)، يعني: أواقي الفضة، فلا بد من اعتبار النصاب، وهذه الفتخات تضم إلى غيرها.(187/10)
تراجم رجال إسناد حديث (دخل علي رسول الله فرأى في يدي فتخات من ورق)
قوله: [حدثنا محمد بن إدريس الرازي].
محمد بن إدريس الرازي هو أبو حاتم الرازي الإمام المشهور الحافظ المحدث الذي يأتي ذكره كثيراً في الجرح والتعديل، وكثيراً ما يقرن مع أبي زرعة الرازي في الجرح والتعديل، وهو ثقة من الأئمة الحفاظ أخرج حديثه أبو داود والنسائي وابن ماجة في التفسير.
[حدثنا عمرو بن الربيع بن طارق].
عمرو بن الربيع بن طارق ثقة أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود.
[حدثنا يحيى بن أيوب].
يحيى بن أيوب وهو صدوق ربما أخطأ أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله بن أبي جعفر].
وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن عمرو بن عطاء].
وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن شداد بن الهاد].
عبد الله بن شداد بن الهاد ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وذكره العجلي في كبار التابعين الثقات، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها الصديقة بنت الصديق وهي واحدةٌ من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(187/11)
شرح حديث (دخل علي رسول الله فرأى في يدي فتخات) من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا صفوان بن صالح حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا سفيان عن عمر بن يعلى، فذكر الحديث نحو حديث الخاتم.
قيل لـ سفيان: كيف تزكيه؟ قال: تضمه إلى غيره].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وهو نحو الحديث المتقدم فيما يتعلق بالخاتم أو الخواتيم، وفيه: (قيل لـ سفيان: كيف تزكيه؟ قال: تضمه إلى غيره).
يعني: أن الخاتم لا زكاة فيه؛ لأنه قليل، فقال: تضمه إلى غيره، لأن الفضة تضم إلى الفضة سواء كان ملبوساً أو مسبوكاً أو مصكوكاً عملة، فكل ذلك يضم بعضه إلى بعض ويزكى زكاة الفضة، أي: يخرج منه ربع العشر إذا بلغ مائتي درهم أو ما يساوي مائتي درهم، وذلك النصاب.(187/12)
تراجم رجال إسناد حديث (دخل علي رسول الله فرأى في يدي فتخات) من طريق ثانية
قوله: [حدثنا صفوان بن صالح].
صفوان بن صالح ثقة كان يدلس تدليس التسوية، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة في التفسير.
[حدثنا الوليد بن مسلم].
الوليد بن مسلم وهو أيضاً ثقة يدلس تدليس التسوية، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان].
سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمر بن يعلى].
عمر بن عبد الله بن يعلى وهو ضعيف أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[فذكر الحديث نحو حديث الخاتم].
يعني: نحو الحديث المتقدم.(187/13)
جواز لبس الذهب المحلق
وفي هذه الأحاديث دلالة على جواز لبس الذهب المحلق، والأحاديث وردت فيه عامة وخاصة، والأحاديث التي جاء فيها النهي عن الذهب المحلق تعتبر في مقابل هذه الأحاديث شاذة لا يعول عليها.(187/14)
شرح سنن أبي داود [188]
أنعم الله على العباد بأن سخر لهم الأنعام لهم فيها منافع، وفرض عليهم فيها الزكاة وقد جاءت السنة بتحديد أنصبة الزكاة ومقاديرها.(188/1)
ما جاء في زكاة السائمة(188/2)
شرح حديث (هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في زكاة السائمة.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخذت من ثمامة بن عبد الله بن أنس كتاباً زعم أن أبا بكر رضي الله عنه، كتبه لـ أنس رضي الله عنه، وعليه خاتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين بعثه مصدقاً وكتب له، فإذا فيه: (هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين التي أمر الله عز وجل بها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، فمن سألها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سئل فوقها فلا يعطه: فيما دون خمس وعشرين من الإبل الغنم في كل خمس ذود شاة، فإذا بلغت خمساً وعشرين ففيها بنت مخاض إلى أن تبلغ خمساً وثلاثين، فإن لم يكن فيها بنت مخاضٍ فابن لبون ذكر، فإذا بلغت ستاً وثلاثين ففيها بنت لبون إلى خمس وأربعين، فإذا بلغت ستاً وأربعين ففيها حقة طروقة الفحل إلى ستين، فإذا بلغت إحدى وستين ففيها جذعة إلى خمس وسبعين، فإذا بلغت ستاً وسبعين ففيها بنتا لبون إلى تسعين، فإذا بلغت إحدى وتسعين ففيها حقتان طروقتا الفحل إلى عشرين ومائة، فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة.
فإذا تباين أسنان الإبل في فرائض الصدقات فمن بلغت عنده صدقة الجذعة وليست عنده جذعة وعنده حقة فإنها تقبل منه، وأن يجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهماً، ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده حقة وعنده جذعة فإنها تقبل منه ويعطيه المصدق عشرين درهماً أو شاتين، ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليس عنده حقة وعنده ابنة لبون فإنها تقبل منه).
قال أبو داود: ههنا لم أضبطه عن موسى كما أحب: (ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهماً، ومن بلغت عنده صدقة بنت لبون وليس عنده إلا حقة فإنها تقبل منه).
قال أبو داود: إلى ههنا ثم أتقنته: (ويعطيه المصدق عشرين درهماً أو شاتين، ومن بلغت عنده صدقة ابنة لبون وليس عنده إلا بنت مخاض فإنها تقبل منه وشاتين أو عشرين درهماً، ومن بلغت عنده صدقة ابنة مخاض وليس عنده إلا ابن لبون ذكر فإنه يقبل منه وليس معه شيء، ومن لم يكن عنده إلا أربع فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها.
وفي سائمة الغنم إذا كانت أربعين ففيها شاة إلى عشرين ومائة، فإذا زادت على عشرين ومائة ففيها شاتان إلى أن تبلغ مائتين، فإذا زادت على مائتين ففيها ثلاث شياه إلى أن تبلغ ثلاثمائة، فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة شاة، ولا يؤخذ في الصدقة هرمة، ولا ذات عوار من الغنم، ولا تيس الغنم إلا أن يشاء المصدِّق، ولا يجمع بين مفترق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية، فإن لم تبلغ سائمة الرجل أربعين فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها.
وفي الرقة ربع العشر، فإن لم يكن المال إلا تسعين ومائة فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها)].
أورد أبو داود هذه الترجمة وهي (باب في السائمة) والسائمة هي بهيمة الأنعام التي ترعى أكثر الحول، أي: لا يتعب صاحبها عليها بالعلف، ولا يتكلف لها علفاً، وإنما ترعى في البر وفي المراعي دون أن يحصل عليه كلفة بعلفها.
وهذا يدل على أن صاحب الغنم أو الإبل إذا كان يعلفها أكثر الحول فإنه لا زكاة فيها؛ لأنه قد تعب وخسر عليها، ونماؤها إنما حصل بإنفاقه وبتعبه، فلا زكاة في الأنعام إلا أن تكون سائمة ترعى ولا يتكلف عليها بشيء.
وقد أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الذي فيه كتاب أبي بكر إليه لما جعله مصدقاً على البحرين -يعني: عاملاً على الصدقات في البحرين- فأعطاه هذا الكتاب الذي عليه خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه بيان فرائض الصدقة، أي: مقاديرها وتحديدها.
قوله: [هذه فريضة الصدقة] يعني: هذا بيان فريضة الصدقة، أي: بيان مقاديرها والنصاب والحد الأدنى والأوقاص التي لا زكاة فيها بين المقدارين من بهيمة الأنعام، ففي ذلك الكتاب بيان ما يستحق عند كل مقدار.
وقوله: [التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم] المراد بذلك أنه قدرها وبين مقاديرها، ومعلوم أنه جاء في القرآن إيجاب الزكاة دون تحديد وتقدير، وجاء بيان تحديد ذلك وتقديره في السنة، ومعلوم أن البيان الذي حصل من رسول صلى الله عليه وسلم ليس هو من عنده، وإنما هو من عند الله؛ لأن السنة وحي من الله، كما أن القرآن وحي من الله كما قال الله عز وجل {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4].
قوله: [والتي أمر الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم] يحتمل أن يكون المراد: أمر الله بها رسوله في قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة:103]، ويحتمل أن يكون المراد أن هذا التفصيل من الله: ولا شك أن هذه التفاصيل من الله، وليست من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مبلغٌ عن الله، والسنة هي وحيٌ من الله مبينة وموضحة للقرآن، ودالة على القرآن.
قوله: [فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها] يعني: على هذا التقدير وعلى هذا البيان الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث المفصل لبيان المقادير، فيعطيها إذا سئلها على وجهها، أما إذا سئل أكثر من ذلك فإنه لا يعطي ما لم يجب عليه، وإنما يعطي ما وجب عليه.
وهذا مثل ما جاء في حديث ابن عباس من قصة معاذ بن جبل عندما بعث إلى اليمن فقال: (فإن هم أجابوك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم، فإن هم أجابوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم) يعني: لا تأخذ الكرائم النفيسة التي تكبر وتعظم في عيون أهلها، فإن أخذها ظلم، ولذلك قال: (واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) يعني: عليه أن يخشى أن يدعو عليه من ظلمه بأخذ شيء أكثر مما يجب عليه؛ فتصيبه الدعوة، ويستجيب الله عز وجل دعاءه على هذا الذي ظلمه.(188/3)
بيان زكاة الإبل وأنصبتها
قوله: [فيما دون خمس وعشرين من الإبل الغنم] بدأ ببيان هذه التفاصيل، فبين عليه الصلاة والسلام أن زكاة الإبل تنقسم إلى قسمين: قسم قليل تخرج زكاته من غير نوعه وهو الغنم؛ لأنه لو أخرج من نوعه لكان في ذلك ضرر على أصحاب الأموال، ولو لم يؤخذ منهم شيء مع أن المال فيه خير كثير، وبلغ مبلغ النصاب؛ فإنه يفوت على الفقراء شيء من الحقوق التي يستحقونها في أموال الأغنياء، فجاءت الشريعة ببيان المقادير على وجهٍ ينفع الفقير ولا يضر الغني.
فإذا بلغت الإبل خمساً وعشرين وحال عليها الحول فيبدأ بإخراج الزكاة من جنسها، وإذا كانت أقل من خمس وعشرين فإن الزكاة فيها تكون من الغنم، في كل خمس ذود شاة، يعني أن الخمس من الإبل فيها شاة وقد مر في الحديث (ليس فيما دون خمس ذود صدقة).
يعني: ما نقص عن الخمس لا زكاة فيه، والخمس هي أقل مقدار يزكى، ولكن زكاته تكون من غير جنسه أي: من الغنم وليس من الإبل؛ لأنه لو أخرج ناقة من الخمس لصارت الزكاة خُمُس المال، وفي ذلك ضررٌ على صاحب المال.
فإذا بلغت تسعاً فليس فيها إلا شاة، فإذا بلغت عشراً صار فيها شاتان إلى أربع عشرة، فإذا صارت خمس عشرة ففيها ثلاث شياه، وإذا بلغت تسع عشرة فليس فيها إلا ثلاث شياه، فإذا بلغت عشرين صار فيها أربع شياه إلى أربع وعشرين، فإذا بلغت خمساً وعشرين بدأ يخرج من جنسها، وهي ابنة مخاض.
قوله: [فيما دون خمس وعشرين من الإبل الغنم] أي: الزكاة فيما دون خمس وعشرين -أي: من أربع وعشرين فما دون- الغنم، وبين ذلك بقوله: (في كل خمس ذود شاة) ثم إلى أربع وعشرين فيها أربع شياه، الوقص، وهو ما بين الفريضتين، ولا زكاة فيه، وإنما الزكاة في مقدار الفريضة.
والأربع التي فوق العشرين ليس فيها شيء، فإذا بلغت خمساً وعشرين فيخرج الزكاة من جنسها بنت مخاض.
وبنت المخاض هي التي أكملت من عمرها سنة ودخلت في السنة الثانية، فأمها غالباً تكون قد حملت، فيقال لها: بنت مخاض لأن أمها ذات مخاض، وهذا في الغالب، وقد تكون أمها ما حملت وليس في بطنها حمل، ولكن جرياً على الغالب قيل لها: بنت مخاض.
ففي خمس وعشرين إلى خمس وثلاثين بنت مخاض، فإذا زادت واحدة وصارت ستاً وثلاثين ففيها بنت لبون، وإذا لم تكن عنده بنت المخاض في المقدار الذي من خمس وعشرين إلى خمس وثلاثين فإنه يخرج ابن لبون ذكر، فالكبر في الذكر مقابل النفاسة التي في الإناث؛ لأن الإناث في الصدقة مفضلة على غيرها؛ لأنها تلد وتنمى، فإذا زاد واحدة عن خمس وثلاثين فصارت ستاً وثلاثين من الإبل ففيها بنت لبون، وهي التي أكملت سنتين من عمرها ودخلت في السنة الثالثة.
وقيل لها: بنت لبون؛ لأن أمها تكون قد ولدت رضيع لبن، لأنها في السنة الأولى صارت ذات حمل، ثم بعد ذلك عندما تبلغ بنتها سنتين تكون قد ولدت، فقيل لها: ابنة لبون، يعني: أمها ذات لبن.
ومن ستة وثلاثين إلى خمس وأربعين فيها ابنة لبون، فإذا زادت واحدة صارت ستةً وأربعين وفيها حقة، والحقة هي التي أكملت ثلاث سنين من عمرها ودخلت في السنة الرابعة.
ومن ست وأربعين إلى ستين ليس فيها إلا حقة، فإذا زادت واحدة وصارت إحدى وستين ففيها جذعة، وهي التي أكملت أربع سنوات من عمرها ودخلت في السنة الخامسة، وهذا هو أعلى مقدار سن يخرج في الزكاة، وبعد ذلك يأتي التضعيف والتكرار.
والأموال التي تخرج في الزكاة ليست مما يحصل به الهدي والأضحية؛ لأن الأضحية والهدي لا يكون إلا بالثني الذي أكمل خمس سنوات، لكن كل الأسنان التي في زكاة الإبل هي دون السن الذي يجزئ في الأضحية والهدي؛ لأن المقصود بذلك أن ينمى، ولا يتجاوز فيه الجذعة، فإذا زاد المال على ذلك فينتقل إلى تضعيف الحقة، وتضعيف بنت اللبون، وأما بنت المخاض والجذعة فلا تضاعفان، وإنما الذي يضاعف هو الوسط: ابنة اللبون والحقة.
فمن واحد وستين إلى خمس وسبعين ليس فيها إلا جذعة، فإذا زادت واحدة وصارت ستة وسبعين ففيها بنتا لبون إلى تسعين، فإذا زادت واحدة وصارت إحدى وتسعين ففيها حقتان إلى عشرين ومائة، فإذا زادت ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، فإذا وصلت المائتين حصل التساوي إما بإخراج خمس بنات لبون أو أربع حقاق؛ لأن المائتين هو العدد الذي ينقسم على خمسين وعلى أربعين، وهو الذي يسمى في الحساب: المضاعف المشترك البسيط، وهو أقل عدد ينقسم على عددين بدون باق.(188/4)
أحكام تباين أسنان الإبل في الزكاة
قوله: [(فإذا تباينت أسنان الإبل)] بمعنى: أن الذي بلغت إبله إحدى وستين، وليس عنده جذعة، فإنه يؤخذ منه حقة، ويضاف إلى ذلك شاتين أو عشرين درهماً جبراً للنقص الذي بين الحقة والجذعة.
وقوله: [(إن استيسرتا له)] يعني: إن كانتا عنده وتيسرتا له، وهو مخير بين عشرين درهماً أو شاتين.
قوله: [(ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده حقة وعنده جذعة فإنها تقبل منه ويعطيه المصدق عشرين درهماً أو شاتين)] هذا عكسه، فتؤخذ منه الجذعة ويعطى الفرق وهو شاتان أو عشرون درهماً.
قوله: [(ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليس عنده حقة وعنده ابنة لبون فإنها تقبل منه)] أي: يقال في الحقة مع بنت اللبون مثلما قيل في الجذعة والحقة، فإذا كان عنده الحد الأعلى فإنه يؤخذ منه ويعطى الفرق، وإن لم يكن عنده إلا الحد الأدنى فإنه يؤخذ منه ويعطي هو الفرق.
ولا يخرج من الذكور إلا ابن اللبون.
[قال أبو داود: من هاهنا لم أضبطه عن موسى كما أحب: (ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهما، ومن بلغت عنده صدقة بنت لبون وليس عنده إلا حقة فإنها تقبل منه) قال أبو داود: إلى هاهنا ثم أتقنته: (ويعطيه المصدق عشرين درهماً أو شاتين)].
يعني: إن كان عنده السن الأعلى أخذ منه وأعطي الفرق، وإن كان عنده السن الأدنى فإنه يعطي السن الأدنى ويدفع الفرق، وفي ذلك الوقت كانت الشاة الواحدة قيمتها عشرة دراهم.
قوله: [(ومن بلغت عنده صدقة ابنة لبون وليس عنده إلا بنت مخاض فإنها تقبل منه وشاتين أو عشرين درهماً، ومن بلغت عنده صدقة ابنة مخاض وليس عنده إلا ابن لبون ذكر فإنه يقبل منه وليس معه شيء)] يعني: أن الذكر إذا أخذ مكان بنت المخاض فلا يعطى شيئاً؛ لأن الفرق في سن الذكر الزائد يقابل نقص كونه ليس أنثى.
وإخراج صدقة الإبل نقداً فيه خلاف بين أهل العلم، ومعلوم أن الزكاة كانت تنمى، وكان لها رعاة، وتحصل الاستفادة منها، وهذا لا يتأتى في القيمة، لكن إذا احتيج إلى القيمة، واضطر الناس إلى أن يأخذوها فلا بأس؛ لأن الدولة قد لا تستطيع تنميتها، فيمكن أن تؤخذ القيمة إذا احتيج إلى ذلك، وهذا راجع للمصدق الذي يأخذ الصدقات، فهو الذي يرى المصلحة.
قوله: [(ومن لم يكن عنده إلا أربع فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها)] هذا رجوع إلى ما تقدم وهو (في كل خمس ذود شاة، والأربع ليس فيها شيء؛ لأنها دون النصاب، إلا إذا شاء صاحبها أن يخرج شيئاً تطوعاً فلا بأس بذلك، وأما كونه يؤخذ منه بغير رضاه فلا يجوز، ولكن هذا يرجع إليه، فإن أراد أن يتطوع وقال: أنا أدفع هذا تطوعاً فإنه يؤخذ منه).(188/5)
بيان زكاة الغنم وأنصبتها
قوله: [(وفي سائمة الغنم إذا كانت أربعين ففيها شاة إلى عشرين ومائة، فإذا زادت على عشرين ومائة ففيها شاتان إلى أن تبلغ مائتين، فإذا زادت على مائتين ففيها ثلاث شياة إلى أن تبلغ ثلاثمائة، فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة شاة)].
جاء في الحديث ذكر زكاة سائمة الغنم، فليس فيها شيء حتى تبلغ أربعين، فإن كانت تسعاً وثلاثين فليس فيها شيء، فإذا بلغت أربعين بدأ يحسب الحول من حين بلوغها أربعين، فالحد الأدنى الذي يزكى هو أربعين شاة، وفيها شاة واحدة إلى مائة وعشرين، فإذا زادت واحدة على مائة وعشرين وصارت مائة وإحدى وعشرين ففيها شاتان إلى مائتين، فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة، فإذا زادت عن ثلاثمائة ففي كل مائة شاة، وأكبر وقص في زكاة الغنم هو من مائتين وواحدة إلى ثلاثمائة وتسع وتسعين؛ لأن الثلاث شياه تبدأ من مائتين وواحدة إلى ثلاثمائة وتسع وتسعين، فإذا زادت واحدة وبلغت أربعمائة ففيها أربع شياه، ففي كل مائة شاة، فخمسمائة شاة فيها خمس شياه، وستمائة فيها ست شياه، وألف فيها عشر شياه وهكذا.(188/6)
ما لا يؤخذ في زكاة الغنم
قوله: [(ولا يؤخذ في الصدقة هرمة)] وهي الكبيرة التي طعنت في السن وبلغت الهرم؛ لأن لحمها لا يكون طيباً، ولأنها لا يحصل إنتاجها والاستفادة منها كما يستفاد من الصغيرة.
قوله: [(ولا ذات عوار من الغنم)] قيل: هي التي فيها نقص، فإن العَوار هو العيب، والعُوار: هو فقد أحد العينين.
قوله: [(ولا تيس الغنم)] وهو فحلها.
قوله: [(إلا أن يشاء المصدق)] أي: صاحب الغنم؛ لأن صاحب الغنم بحاجة إلى فحله، فلا يؤخذ منه فيتضرر بسبب ذلك، ولكنه إذا شاء أن يخرج الفحل فلا بأس، فقوله: (إلا أن يشاء المصدق) يرجع إلى فحل الغنم.
وأما الهرمة وذات العوار فلا تؤخذ إلا إذا كانت الغنم كلها من هذا القبيل، فإنه يؤخذ واحدة منها، فإذا كانت كلها معيبة فتؤخذ واحدة معيبة، وإذا كانت كلها هرمة فتؤخذ هرمة، ولكن الذي يحتاج إلى مشيئة المالك هو تيس الغنم الذي يحتاج إليه، فأخذه إضرار به، والمصَّدِّق المراد به المالك، وأما العامل فيقال له: المصَدِّق.
والأنثى أنفع للفقير من حيث التنمية في الإبل، وأما بالنسبة للغنم فيجوز أن يخرج ذكراً أو أنثى، وقد يكون الذكر أنفع للفقير؛ لأنه قد يحتاج للفحل من أجل أن ينزو على غنمه.(188/7)
تحريم الحيل في إخراج الزكاة
قوله: [(ولا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة)].
هذا فيه دليل على أن الخلطة تصير المالين كالمال الواحد إذا اشتركت الغنم في المرعى والراعي والمراح والفحل، فتزكى زكاة مال واحد، وجاء في هذا الحديث أنه لا يفرق بين مجتمع، ولا يجمع بين مفترق خشية الصدقة؛ لأنه أحياناً يكون بجمع المال أو بتفريقه قلة الصدقة أو كثرتها، والخشية قد تكون من العامل وقد تكون من المالك، فالمالك قد يفرق المجتمع أو يجمع المفترق حتى تقل الزكاة، والعامل قد يجمع المتفرق أو يفرق المجتمع من أجل أن تكثر الزكاة.
فمثلاً: إذا كان لثلاثة أشخاص مائة وعشرون شاة، فإذا جمعت تكون الزكاة فيها شاة واحدة، لكن لو كان عند كل رجل منهم أربعون شاة ففيها ثلاث شياه، فكون العامل يجد خلطة في مائة وعشرين فيفرقها على الثلاثة ويقول: آخذ من كل واحد شاة لا يجوز، وهذا قد يكون من العامل من أجل تكثير الصدقة.
ومثال تفريق المجتمع أن يكون لرجلين أربعون شاة، فيفرقانها فيجعلان عند كل واحد منهما عشرين، فيكون ليس فيها زكاة، لكن إذا جمع بينها فتكون أربعين وفيها شاة.
قوله: [(وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية)] فإذا كان أحدهما عنده عشرون شاة، والآخر عنده عشرون، وأخذت شاة واحدة منهما، فالذي أخذت شاته يرجع على صاحبه بنصف الشاة؛ لأن الشاة الواحدة هي عن المجموعتين من الغنم، فيتراجعان بينهما بالسوية، بمعنى: أن هذا عليه نصف شاة، وهذا عليه نصف شاة.
قوله: [(فإن لم تبلغ سائمة الرجل أربعين فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها)] وهذا مثلما مر أن الأربع من الإبل ليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها، وكذلك ما دون الأربعين من الغنم ليس فيها زكاة إلا أن يشاء ربها تطوعاً، لأنها دون النصاب.(188/8)
زكاة الفضة
قوله: [(وفي الرقة ربع العشر)] الرقة هي الفضة، وفيها ربع العشر.
قوله: [(فإن لم يكن المال إلا تسعين ومائة فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها)] هنا ذكر أعلى عقد من العقود، وهو مائة وتسعون، ولا يعني ذلك أنه إذا كان المال مائة وتسعة وتسعين يكون فيه شيء، بل ما بين المائة والتسعين والمائة والتسعة والتسعين ليس فيها شيء؛ لأن قوله: (ليس فيما دون خمس أواق صدقة) يدخل فيه مائة وتسعة وتسعون؛ لأن الخمس الأواقي هي مائتا درهم، فإذا نقص درهم واحد عن المائتين فلا زكاة فيها.(188/9)
تراجم رجال إسناد حديث (هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
حماد بن سلمة ثقة أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[قال: أخذت من ثمامة بن عبد الله بن أنس كتاباً].
ثمامة بن عبد الله بن أنس صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو يروي عن جده أنس بن مالك رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي سنن النسائي إسناد لهذا الحديث فيه أن ثمامة يروي عن أنس.(188/10)
الأسئلة(188/11)
حكم من أعد الزكاة ليخرجها فسرقت منه
السؤال
رجل أعد المقدار الذي عليه من ماله للزكاة، ثم سرق منه ذلك القدر، فهل عليه إعادة إخراجه مرة أخرى؟
الجواب
مادام أنه كان في حوزته ولم يصل إلى الفقراء فإن عليه أن يخرجه، ومجرد كونه خصصه أو هيأه لأن يخرجه ولم يصل إلى مستحقيه لا يكفي، فعليه أن يخرج بدله، حتى لو نقص المال المتبقي عن النصاب، لأن الزكاة وجبت عليه قبل أن يسرق منه هذا المال، فالوجوب قد استقر قبل ضياع شيء منه، فتجب عليه الزكاة وإن نقص المال.(188/12)
حكم دفع الزكاة لطلبة العلم
السؤال
هل يصلح أن يدفع المزكي زكاة ماله لطلبة العلم إذا لم يكونوا من الأصناف الثمانية المذكورين في الآية؟
الجواب
إذا كانوا فقراء فيعطيهم لفقرهم، أما أن يعطيهم ليطلبوا العلم وهم ليسوا فقراء فليس له ذلك؛ لأن مصارف الزكاة بينها الله عز وجل في كتابه العزيز، فلا تتجاوز إلى غيرها.(188/13)
كيفية إخراج زكاة المال المستمر في النماء
السؤال
أعمل سائقاً في سيارة أجرة، وبعد مرور عام من عملي هذا يكون عندي مال كثير يبلغ النصاب، ولكن لا أستطيع أن أفرق فيه بين ما أكتسبه اليوم أو قبل عام؛ لذلك يصعب علي تقدير المال الواجب علي من الزكاة، فكيف أصنع؟
الجواب
المناسب للإنسان أن يخصص شهراً يخرج فيه الزكاة، فإذا لم يستطع أن يضبط دخله في كل وقت وحوله بمفرده ليزكيه بمفرده؛ فإنه يخصص شهراً معيناً من السنة يزكي فيه المال المتوافر، سواء كان قد مضى عليه سنة كاملة أو مضى عليه أقل.(188/14)
كفر الطائفة الممتنعة عن إخراج الزكاة
السؤال
إذا امتنعت طائفة من الناس عن أداء الزكاة، وكان لها شوكة وقاتلت الحاكم على ذلك، فهل يحكم بكفرها؟ وما صحة نقل الإجماع على كفرها؟
الجواب
إذا جحدوا وجوب الزكاة يكونون كفاراً، وأما إذا لم يجحدوا وجوب الزكاة، ولكنهم عندهم بخل، ولا يريدون أن يؤخذ منهم شيء، فهذا ليس كفراً.(188/15)
حكم زكاة الغنم التي ترعى نهاراً وتعلف ليلاً
السؤال
عندي غنم بلغت النصاب، لكنها ترعى صباحاً وأعلفها ليلاً طوال العام، فهل فيها زكاة؟
الجواب
المعول عليه هو الغالب عليها، فإذا كانت ترعى ويعلفها شيئاً يسيراً فهذا لا يؤثر، ولكن إذا كانت معتمدة على العلف، ولا ترعى إلا شيئاً يسيراً، فلا زكاة فيها، فالمعول عليه هو الغالب.(188/16)
لا مجال للرأي في الزكاة
السؤال
كيف تجب الزكاة على من يملك ستة وخمسين ريالاً فقط، ولا تجب على من يملك تسعاً وثلاثين شاة؟
الجواب
هكذا جاءت الشريعة في تحديد المقادير بالنسبة للفضة وبالنسبة للغنم، والشريعة إذا جاءت بشيء فإنه يعمل بما جاءت به ولا يسأل عن الفرق وعن المقادير والتفاوت بينها، وإنما يؤخذ بما جاءت به الشريعة، ولا يعترض عليها، ولا مجال للرأي فيها، والواجب اتباع النص.(188/17)
حكم زكاة السيارات المستخدمة لنقل بضائع الشركات
السؤال
أنا صاحب مؤسسة، ولي عتاد متنوع يساهم في تنمية رأس المال، فهل تجب الزكاة على هذا العتاد؟
الجواب
إن كان المقصود بالعتاد أشياء تستعمل لتنمية المال مثل السيارات التي يستخدمها في النقل، فليس فيها زكاة.(188/18)
حكم زكاة صاحب الأنعام السائمة التي يباع لبنها
السؤال
إذا كان صاحب الأنعام يعلفها ويخسر فيها، ولكنه يستفيد منها بأن يبيع لبنها وفحولها، فيربح ويغطي الخسارة، فهل عليه زكاة؟
الجواب
إذا كانت ترعى أكثر الحول ففيها زكاة، سواء ربح أو لم يربح.(188/19)
حكم بيع الغنم وإعطاء ثمنها للفقراء في الزكاة
السؤال
عندي مائة رأس غنم، وأعرف مستحقين للزكاة أكثر من ستة، فهل يجوز لي بيع الصدقة الواجب إخراجها من الغنم وأعطي المستحقين الزكاة نقوداً لا غنماً؟
الجواب
يجوز أن تخرج قيمتها المحققة التي ليس فيها نقص وتوزعها عليهم، ولا بأس بذلك.(188/20)
حكم طاعة الإمام إذا ظهر فسقه
السؤال
قول الخطابي: وفي هذا دليل على أن الإمام والحاكم إذا ظهر فسقهما بطل حكمهما، هل هذا الكلام صحيح؟
الجواب
ليس بصحيح اللهم إلا إذا أمر الحاكم بمعصية الله، فلا يطاع في معصية الله، أما الخروج على الحاكم فلا يجوز إذا حصل منه الفسق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان)، أما إذا كان قصده أنه لا يجوز تنفيذ شيء من معصية الله عز وجل فهو صحيح، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله.(188/21)
حكم إعطاء الزكاة للأخت الفقيرة
السؤال
هل يجوز لي أن أعطي الزكاة لأختي، علماً بأن زوجها متوفى، وليس هناك من ينفق عليها؟
الجواب
إذا كانت فقيرة فلك أن تخرج الزكاة لها، لكن ليعلم أن القريب له حق غير الزكاة، وبعض الناس يتخلص من الحقوق التي عليه بالزكاة، فيقول: إذا لم أعطها من الزكاة فسأعطيها من مالي، فيجعل الزكاة وقاية للمال، فهذا لا يجوز، وأما إذا لم يكن في إعطائه لأخته الزكاة حيلة لوقاية ماله فلا بأس بذلك.(188/22)
معنى الآيات المكية التي فيها ذكر الزكاة
السؤال
ما تفسير الآيات المكية التي فيها الأمر بالزكاة؟
الجواب
تشريع الزكاة ومقاديرها جاء في المدينة، وكانت الزكاة في مكة غير محددة، فالتحديد جاءت به السنة، والإجمال جاء في القرآن المكي، وجاءت السنة ببيان ذلك، ولكن هذا البيان وتفصيله إنما جاء في المدينة.(188/23)
حديث (هما لله ولرسوله) لا يدل على عدم وجوب زكاة الحلي
السؤال
استدل بعض أهل العلم بقول صاحبة المسكتين: (هما لله ولرسوله) على عدم وجوب الزكاة، فما توجيهكم؟
الجواب
هي أعطت المال الذي عندها كله لله عز وجل متقربة به إليه، ويكون ذلك على نظر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فليس هذا زكاة، فلما سمعت أن فيه عذاباً أرادت أن تتخلص منه، ولم تخرجه على أنه زكاة، فليس فيه دليل على عدم وجوب زكاة الحلي.(188/24)
من يتولى توزيع الزكاة على الفقراء
السؤال
هل صاحب المال هو الذي يتولى توزيع زكاة ماله، أم يجب عليه أن يعطيها لمن تولى أمره من حاكم أو أمير منطقة؟
الجواب
الأموال الظاهرة كالمواشي والحبوب والثمار يرسل الوالي المصدق ليجمعها، وأما الأمور الخفية كالنقود التي تكون في حوزة الإنسان وليست أموراً ظاهرة فهو الذي يتولى توزيعها، وكذلك أموال التجارة التي لا يعلم مقاديرها إلا المالك فهو الذي يتصرف فيها، وأما المواشي والزروع والثمار التي ترى، فيرسل الوالي خارصاً يخرص الزرع أو الثمار، ثم يخرج المقدار الذي حدد له إخراجه عند استواء الثمار والجذاذ.
إذاً: هناك أموال ظاهرة، وهناك أموال خفية، فالأموال الظاهرة إذا أرسل الإمام عاملاً ليأخذها تدفع له، وإذا لم يرسل الإمام العامل فنفس المالك يتولى توزيعها، وأما الأموال الخفية فيتولاها المالك.(188/25)
رواية البخاري في صحيحه عن بعض المبتدعة الثقات
السؤال
هل الإمام البخاري روى عن بعض المبتدعة في صحيحه؟
الجواب
نعم هذا موجود، والحافظ ابن حجر ذكر في مقدمة الفتح أسماء رجال البخاري الذين قدح فيهم ببدعة أو بسوء حفظ أو بأي شيء قادح، وأجاب عن الإمام البخاري بأن بعض الذين نسب إليهم بدعة معينة إنما أخرج لهم في الشواهد أو في شيء لا يتعلق ببدعتهم أو ما إلى ذلك.
ومقدمة الفتح المسماة هدي الساري فيها فوائد عظيمة تتعلق بـ البخاري وبرجال البخاري وبأحاديث البخاري المتكلم فيها، وقد عقد فصلاً خاصاً بالرجال الذين تكلم فيهم من رجال البخاري، وبين الكلام عن كل واحد منهم، والإيراد الذي أورد عن كل واحد منهم، والكلام عنه، وذكر من رمي ببدعة ولم يثبت ذلك عنه، أو ثبت ولكنه ما روى عنه فيما يتعلق ببدعته، وهذه المقدمة لا يستغني عنها طالب العلم.(188/26)
كلام الرسول عليه الصلاة والسلام منه ما هو وحي ومنه ما هو اجتهاد
السؤال
هل كل ما قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حياته هو من الوحي أو قد يكون اجتهاداً من نفسه؟
الجواب
منه ما قد يكون اجتهاداً، ولكنه لا يقر على الخطأ، مثل قوله في مسألة التأبير: (أنتم أعلم بدنياكم).(188/27)
قصر المريض للصلاة
السؤال
المريض الذي يجوز له الجمع بين الصلاتين، هل يحل له أن يقصر الرباعية؟
الجواب
المريض لا يقصر فإنما، رخص له في الجمع، ولم يرخص له في القصر.(188/28)
حكم المنامات والهواتف في اليقظة
السؤال
لم أكن أقوم بفرائض الإسلام، وبينما أنا وحدي سمعت صوتاً باللغة العربية يقول: عليك بالصلاة! ثم أمرني بالتسبيح، ثم بحفظ القرآن، وأي خطأ أقوم به يلومني عليه، ولقد رأيت في منامي نوراً عظيماً يقترب مني وهو يقول: شفع فيك محمد صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
الإنسان لا ينبغي له أن يسلم نفسه للمنامات وللهواتف التي تهتف به أو يخيل إليه ذلك، وإنما عليه أن يستقيم على طاعة الله وطاعة رسوله، ويبحث عن الحق والهدى ويتبعه، ولا يعول على الهواتف ولا على المنامات.(188/29)
حكم التصوير بالكاميرا
السؤال
حديث: (لعن الله المصورين)، هل المقصود صاحب المهنة أم أي إنسان يستخدم الكاميرا؟
الجواب
اللعن مطلق كما هو معلوم، لكن صاحب المهنة الموغل في المعصية، والمشتغل فيها باستمرار؛ جرمه أشد وأعظم؛ لأن المعصية كلما كثرت وتعددت زادت المصيبة فيها، واللعن يصدق عل كل من يندرج تحت هذا اللفظ، لكن صاحب المهنة أشد؛ لأنه مستمر على هذا البلاء.(188/30)
شرح سنن أبي داود [189]
أمر الله تعالى المؤمنين بإخراج الزكاة، وبين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في سنته، فبين أنصبة زكاة الإبل والغنم والبقر، وأنصبة الذهب والفضة، وبين أسنان ما يخرج في زكاة الأنعام، ونهى عن جمع المفترق أو تفريق المجتمع منها من أجل الزكاة، كما بين نصاب الحبوب التي تخرج من الأرض، فعلى من يملك المال أن يتفقه في ذلك حتى يؤدي حق الله كما أمره الله.(189/1)
تابع ما جاء في زكاة السائمة(189/2)
شرح حديث (كتب رسول الله كتاب الصدقة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا عباد بن العوام عن سفيان بن الحسين عن الزهري عن سالم عن أبيه رضي الله عنه قال: (كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الصدقة فلم يخرجه إلى عماله حتى قبض، فقرنه بسيفه فعمل به أبو بكر رضي الله عنه حتى قبض، ثم عمل به عمر رضي الله عنه حتى قبض، فكان فيه: في خمس من الإبل شاة، وفي عشر شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياة، وفي عشرين أربع شياة، وفي خمس وعشرين ابنة مخاض إلى خمس وثلاثين، فإن زادت واحدة ففيها ابنة لبون إلى خمس وأربعين، فإذا زادت واحدة ففيها حقة إلى ستين، فإذا زادت واحدة ففيها جذعة إلى خمس وسبعين، فإذا زادت واحدة ففيها ابنتا لبون إلى تسعين، فإذا زادت واحدة ففيها حقتان إلى عشرين ومائة، فإن كانت الإبل أكثر من ذلك ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين ابنة لبون.
وفي الغنم في كل أربعين شاة شاة إلى عشرين ومائة، فإن زادت واحدة فشاتان إلى مائتين، فإن زادت واحدة على المائتين ففيها ثلاث شياة إلى ثلاثمائة، فإن كانت الغنم أكثر من ذلك ففي كل مائة شاة شاة، وليس فيها شيء حتى تبلغ المائة.
ولا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين متفرق مخافة الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية، ولا يؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عيب).
قال: قال الزهري: إذا جاء المصدق قسمت الشاء أثلاثاً: ثلثاً شراراً، وثلثاً خياراً، وثلثاً وسطاً، فأخذ المصدق من الوسط، ولم يذكر الزهري البقر].
سبق حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الذي فيه كتاب أبي بكر إلى أنس لما استعمله على صدقات البحرين، وهو مطابق لحديث ابن عمر الذي أورده المصنف هنا، فإنه مماثل له في كثير من الأمور التي اشتمل عليها في بيان مقادير زكاة الإبل ومقادير زكاة الغنم، وكون الخلطة في المالين تصير المالين كالمال الواحد، وأنه لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، وأنه لا يؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عوار، وتقدم الكلام على حديث أنس، والكلام على حديث ابن عمر كالكلام على حديث أنس فلا نعيده.
قوله: [قال الزهري: إذا جاء المصدق قسمت الشاء أثلاثاً] المصدق هو العامل، فيقسم الغنم ثلاثة أثلاث: ثلثاً خياراً، وثلثاً وسطاً، وثلثاً شراراً، يعني: رديئة، فالزكاة لا تؤخذ من الخيار ولا من الرديئة وإنما تؤخذ من الوسط؛ لأنها لو أخذت من الخيار لكان في ذلك إضرار بأصحاب الأموال، وقد جاء في حديث ابن عباس في قصة بعث معاذ بن جبل إلى اليمن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (وإياك وكرائم أموالهم) أي: خيارها وحسانها، ولا تؤخذ الشرار أو الرديئة؛ لأن هذا فيه إضرار بالفقراء، وإذا أخذ الوسط صار في ذلك مصلحة في حق الجميع.
وقوله: [(كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الصدقة فلم يخرجه إلى عماله حتى قبض، فقرنه بسيفه)] هذا فيه زيادة على ما تقدم، وهو أنه صلى الله عليه وسلم كتب كتاب الصدقة، ولم يخرجه إلى عماله حتى قبض، وقد مر في حديث أنس رضي الله عنه أن هذا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بين فيه فرائض الزكاة كما أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا الحديث: أن هذا الكتاب كان مع سيفه صلى الله عليه وسلم، وأن أبا بكر والصحابة عملوا به من بعده، وقد مر في الحديث السابق أن أبا بكر كتب بهذا إلى أنس لينفذه ويعمل بما فيه.(189/3)
تراجم رجال إسناد حديث (كتب رسول الله كتاب الصدقة)
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي].
عبد الله بن محمد النفيلي هو ثقة أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن.
[عن عباد بن العوام] عباد بن العوام وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان بن حسين].
سفيان بن حسين وهو ثقة إلا في الزهري أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
[عن الزهري].
الزهري هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهذه رواية سفيان عن الزهري، وهو ثقة إلا في الزهري، ففي روايته عن الزهري كلام، ولكن قد تابعه سليمان بن كثير فلم ينفرد بهذا عن الزهري.
[عن سالم].
سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب وهو تابعي ثقة أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(189/4)
شرح حديث (كتب رسول الله كتاب الصدقة) من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا محمد بن يزيد الواسطي أخبرنا سفيان بن حسين بإسناده ومعناه قال: (فإن لم تكن ابنة مخاض فابن لبون) ولم يذكر كلام الزهري].
أورد المصنف الحديث بإسناد آخر، ولكنه ذكر فيه أن ابن اللبون يؤخذ بدل ابنة المخاض إذا لم توجد ابنة المخاض، وابنة المخاض هي التي أكملت سنة واحدة من عمرها، ودخلت في السنة الثانية، وهي تجب في خمس وعشرين من الإبل إلى خمس وثلاثين، وإذا لم توجد بنت مخاض فإنه يخرج بدلها ابن لبون، وعلى هذا فتكون الزيادة في السن في الذكر مقابل الفضل والحسن الذي يكون في الأنثى؛ لأن الأنثى فيها مصلحة للفقراء.
ولم يأت في الأحاديث التي بينت مقادير الزكاة أن الذكر الذي يكون سنه أعلى من سن الأنثى يؤخذ بدلها إلا في ابنة المخاض، فإنه يؤخذ بدلها ابن لبون ذكر، ولم يأت فيما يتعلق بابنة اللبون أنه يؤخذ بدلها حق، ولا في الحقة أنه يؤخذ بدلها جذع، وهو الذي أكمل أربع سنين ودخل في السنة الخامسة، وإنما جاء هذا في ابنة المخاض فقط، فإذا لم توجد فإنه يؤخذ مكانها ابن لبون ذكر.
ولم يذكر الراوي هنا كلام الزهري الذي فيه ذكر الخيار والشرار والوسط.
وقد ذكرنا في الدرس الماضي أن بنت المخاض سميت بذلك لأن أمها قد حملت، فهي دخلت في السنة الثانية وأمها صارت ذات حمل، وأما بنت اللبون فسميت بذلك لأن أمها قد ولدت فصارت ذات لبن.
وهي التي أكملت سنتين ودخلت في السنة الثالثة من عمرها.
والحقة سميت بذلك لأنها استحقت أن يطرقها الجمل، يعني: صارت أهلاً لأن يطرقها الجمل وأن يرغب فيها الجمل؛ لأنها أكملت ثلاث سنوات ودخلت في السنة الرابعة، ولذلك قال: (حقة طروقة الجمل) أي: استحقت أن يطرقها الجمل.
والجذعة هي التي أكملت السنة الرابعة ودخلت في الخامسة.
والثنية هي التي أكملت الخامسة ودخلت في السادسة، والذي يجزئ في الأضحية والهدي هو الثني، وعلى هذا فالأموال الزكوية في الإبل كلها لم تصل إلى الحد الذي يجزئ في الأضحية؛ لأن أسنانها صغيرة؛ لأنه يقصد منها تنميتها وتربيتها وتنشئتها، فهذه الأسنان الأربعة التي هي: بنت المخاض وبنت اللبون والحقة والجذعة كلها لم تصل إلى السن الذي يجزئ في الأضحية؛ لأنه لا يجزئ في الأضحية من الإبل إلا ما كان ثنياً أكمل خمس سنوات ودخل في السنة السادسة.(189/5)
تراجم رجال إسناد حديث (كتب رسول الله كتاب الصدقة) من طريق ثانية
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي في عمل اليوم والليلة وابن ماجة.
[حدثنا محمد بن يزيد الواسطي].
وهو ثقة أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[أخبرنا سفيان بن حسين بإسناده ومعناه].
يعني: سفيان بن حسين عن الزهري عن سالم عن أبيه بإسناد الحديث ومعناه، وليس بلفظه، فإذا قيل: (بمعناه) أي: أنه لم يتفق معه في الألفاظ تماماً، وإنما يتفق معه في المعنى.(189/6)
شرح حديث الزهري (هذه نسخة كتاب رسول الله الذي كتبه في الصدقة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن العلاء أخبرنا ابن المبارك عن يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال: هذه نسخة كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي كتبه في الصدقة، وهي عند آل عمر بن الخطاب قال ابن شهاب: أقرأنيها سالم بن عبد الله بن عمر فوعيتها على وجهها، وهي التي انتسخ عمر بن عبد العزيز من عبد الله بن عبد الله بن عمر وسالم بن عبد الله بن عمر فذكر الحديث قال: (فإذا كانت إحدى وعشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون حتى تبلغ تسعاً وعشرين ومائة، فإذا كانت ثلاثين ومائة ففيها بنتا لبون وحقة حتى تبلغ تسعاً وثلاثين ومائة، فإذا كانت أربعين ومائة ففيها حقتان وبنت لبون حتى تبلغ تسعاً وأربعين ومائة، فإذا كانت خمسين ومائة ففيها ثلاث حقاق حتى تبلغ تسعاً وخمسين ومائة، فإذا كانت ستين ومائة ففيها أربع بنات لبون حتى تبلغ تسعاً وستين ومائة، فإذا كانت سبعين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون وحقة حتى تبلغ تسعاً وسبعين ومائة، فإذا كانت ثمانين ومائة ففيها حقتان وابنتا لبون حتى تبلغ تسعاً وثمانين ومائة، فإذا كانت تسعين ومائة ففيها ثلاث حقاق وبنت لبون حتى تبلغ تسعاً وتسعين ومائة، فإذا كانت مائتين ففيها أربع حقاق أو خمس بنات لبون، أي السنين وجدت أخذت وفي سائمة الغنم فذكر نحو حديث سفيان بن حسين وفيه: ولا يؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عوار من الغنم ولا تيس الغنم إلا أن يشاء المصدق)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى وفيه بيان ما اشتمل عليه ذلك الكتاب، وهو مثل الذي قبله إلا أن فيه تفصيلاً فيما يتعلق بما زاد على العشرين ومائة، فإنه فيما مضى قال: في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، وهذا الحديث فيه تفصيل لما أجمل في الرواية السابقة من قوله: (فإذا زادت على مائة وعشرين ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة) فإذا كانت مائة وعشرين فليس فيها إلا حقتان، فإذا زادت على مائة وعشرين ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة.
ومعنى هذا أنها إذا صارت مائة وثلاثين فتعدها أربعين وأربعين وخمسين، ففيها بنتا لبون وحقة واحدة، فإذا كانت مائة وأربعين، فتعدها خمسين وخمسين وأربعين ففيها حقتان وبنت لبون، وإذا صارت مائة وخمسين فتعدها خمسين وخمسين وخمسين ففيها ثلاث حقاق، وإذا صارت مائة وستين فتعدها أربعين وأربعين وأربعين وأربعين، ففيها أربع بنات لبون، وإذا صارت مائة وسبعين، ففيها ثلاث بنات لبون وحقة واحدة، فتعد أربعين ثلاث مرات ثم بعد ذلك تعد خمسين، فتكون مائة وسبعين, وإذا صارت مائة وثمانين ففيها حقتان وبنتا لبون؛ لأنك تعدها خمسين وخمسين وأربعين وأربعين، وإذا صارت مائة وتسعين ففيها ثلاث حقاق وبنت لبون؛ لأنك تعدها خمسين وخمسين وخمسين وأربعين، فإذا وصلت مائتين فتعدها أربعين خمس مرات أو تعدها خمسين أربع مرات، يعني: فيخرج أي السنين أحب، فإن كانت عنده خمس بنات لبون أخرجها، وإن كان عنده أربع حقاق أخرجها؛ لأنه تساوى العددان، وهو الذي يسمونه في الحساب (المضاعف المشترك البسيط) وهو أصغر عدد ينقسم على عددين بدون كسر؛ لأن أصغر عدد ينقسم على خمسين وينقسم على أربعين هو المائتان.
ثم بعد ذلك كلما زادت الإبل عن المائتين فهو على هذا المنوال، في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، ولو بلغت ما بلغت، فالحساب يكون على اعتبار الأربعين والخمسين.
فالحاصل: أن هذه الرواية تفصيل لما أجمل في الرواية السابقة: (فإذا زاد على مائة وعشرين ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة).
قوله: [(ولا يؤخذ في الصدقة هرمة، ولا ذات عوار من الغنم ولا تيس الغنم إلا أن يشاء المصدق)] يعني: (إلا أن يشاء المصدق) فيما يتعلق بتيس الغنم، وقد تقدم شرح هذا.(189/7)
تراجم رجال إسناد حديث (هذه نسخة كتاب رسول الله الذي كتبه في الصدقة)
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء].
محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا ابن المبارك].
عبد الله بن المبارك المروزي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يونس بن يزيد].
يونس بن يزيد الأيلي وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
مر ذكره.
[قال: هذه نسخة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتبه في الصدقة وهو عند آل عمر بن الخطاب، أقرأنيها سالم بن عبد الله بن عمر].
فيه أنه قرأها على سالم بن عبد الله كما مر في الرواية السابقة أن الزهري يروي عن سالم، وهنا يقول: أقرأنيها.
[وهي التي انتسخ عمر بن عبد العزيز من عبد الله بن عبد الله بن عمر وسالم بن عبد الله بن عمر].
يعني: أنها عند آل عمر، وقد انتسخها من هذين الأخوين: عبد الله بن عبد الله وسالم بن عبد الله.(189/8)
تفسير مالك لمعنى (لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع)
قال المصنف رحمه الله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة قال: قال مالك: وقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع هو أن يكون لكل رجل أربعون شاة، فإذا أظلهم المصدق جمعوها لئلا يكون فيها إلا شاة].
هذا مثال يوضح الجمع بين المفترق خشية الصدقة، وهو أن يكون اثنان لكل واحد منهما أربعون شاة، وليسا خليطين بل متفرقان، فكل واحد منهما عليه شاة، فيجمعان بين الأربعين والأربعين حتى لا يؤخذ منهما إلا شاة واحدة، فعندما يجيء المصدق يجمع هذا غنمه مع غنم هذا ويقولان: نحن خليطان، فيحسبها ثمانين، وليس عليهما فيها إلا شاة واحدة، بل لو كانوا ثلاثة وكل واحد له أربعون شاة، وصاروا خلطاء، فما عليهم إلا شاة واحدة، لكن لو كان كل واحد منهم غنمه على حدة، فكل واحد من الثلاثة عليه شاة.
(ولا يفرق بين مجتمع) كأن يجيء المصدق ووجد غنم الثلاثة الخلطاء مائة وعشرين، فلا يفرق بينها ويقول: نأخذ من هذا واحدة، ومن هذا واحدة، ومن هذا واحدة، فيكون فيها ثلاث شياة؛ لأنهم خلطة، فلا يجوز الجمع بين المتفرق ولا التفريق بين المجتمع من أجل الصدقة.
قوله: [ولا يفرق بين مجتمع، أن الخليطين إذا كان لكل واحد منهما مائة شاة وشاة فيكون عليهما فيها ثلاث شياة، فإذا أظلهما المصدق فرقا غنمهما، فلم يكن على كل واحد منهما إلا شاة، فهذا الذي سمعت في ذلك].
يعني: إذا كان خليطان لكل واحد منهما مائة شاة وشاة، فيكون المجموع مائتين وشاتين، فإذا كانت متفرقة فليس فيها إلا شاتان، فإذا كان مال هذا على حدة، ومال هذا على حدة، فكل واحد عليه شاة؛ لأنه إلى مائة وعشرين ليس فيها إلا شاة واحدة، لكن إذا كانت مختلطة وصارت مائتين وواحدة ففيها ثلاث شياه.
وضابط الخلطة أن تختلط الإبل أو الغنم في المراح والمرعى والراعي والفحل، فترعى جميعاً، وتكون في المراح جميعاً، والراعي لها واحد، والفحل أو الفحول لها واحدة، فهذه خلطة، وهي تصير المالين كالمال الواحد.
واختلفوا في المراح، فبعضهم يقول: إذا اختلف المراح فليست خلطة، وبعضهم يقول: اختلاف المراح لا يؤثر في الخلطة.
وهذا في المواشي، فلا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين متفرق خشية الصدقة، وقد يكون هذا التفريق أو الجمع من جانب المصدق، وقد يكون من جانب المصّدق الذي هو المالك، فالخلطة هي التي تجتمع فيها هذه الأمور.(189/9)
تراجم رجال إسناد أثر مالك في تفسير الحديث
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
عبد الله بن مسلمة القعنبي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[قال مالك].
مالك بن أنس إمام دار الهجرة، الإمام المحدث الفقيه أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(189/10)
شرح حديث علي بن أبي طالب في الزكاة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا زهير حدثنا أبو إسحاق عن عاصم بن ضمرة وعن الحارث الأعور عن علي رضي الله عنه قال زهير: أحسبه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (هاتوا ربع العشور من كل أربعين درهماً درهم، وليس عليكم شيء حتى تتم مائتي درهم، فإذا كانت مائتي درهم ففيها خمسة دراهم، فما زاد فعلى حساب ذلك.
وفي الغنم في أربعين شاة شاة، فإن لم يكن إلا تسع وثلاثون فليس عليك فيها شيء.
وساق صدقة الغنم مثل الزهري.
وقال: وفي البقر في كل ثلاثين تبيع، وفي الأربعين مسنة، وليس على العوامل شيء.
وفي الإبل: فذكر صدقتها كما ذكر الزهري قال: وفي خمس وعشرين خمس من الغنم، فإذا زادت واحدة ففيها ابنة مخاض، فإن لم تكن بنت مخاض فابن لبون ذكر إلى خمس وثلاثين، فإذا زادت واحدة ففيها بنت لبون إلى خمس وأربعين، فإذا زادت واحدة ففيها حقة طروقة الجمل إلى ستين).
ثم ساق مثل حديث الزهري قال: فإذا زادت واحدة -يعني: واحدة وتسعين- ففيها حقتان طروقتا الجمل إلى عشرين ومائة، فإن كانت الإبل أكثر من ذلك ففي كل خمسين حقة، ولا يفرق بين مجتمع، ولا يجمع بين مفترق خشية الصدقة، ولا تؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيس إلا أن يشاء المصدق.
وفي النبات ما سقته الأنهار أو سقت السماء العشر، وما سقى الغرب ففيه نصف العشر.
وفي حديث عاصم والحارث: الصدقة في كل عام قال زهير: أحسبه قال: (مرة)، وفي حديث عاصم: إذا لم يكن في الإبل ابنة مخاض ولا ابن لبون فعشرة دراهم أو شاتان].
أورد أبو داود حديث علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه المتعلق ببيان مقادير الزكاة في المواشي وفي الدراهم وفي الحبوب والثمار، وبدأ فيما يتعلق بزكاة الفضة، وقوله: (من كل أربعين درهماً درهم) المقصود من ذلك بيان نسبة الصدقة إلى أصل المال، وليس المقصود أن الأربعين فيها زكاة؛ لأنه قال بعد ذلك: (وليس عليكم شيء حتى تتم مائتي درهم) فالمقصود بيان مقدار الزكاة بالنسبة إلى أصل المال، يعني أنها جزء من أربعين جزءاً، وهذا بالنسبة لما بلغ نصاباً فأكثر، وهذا معناه أنه يخرج ربع العشر.
قوله: [(وليس عليكم شيء حتى تتم مائتي درهم)] يعني: حتى تبلغ النصاب، فالنصاب مائتا درهم، فلو نقص المال عن النصاب ولو درهماً واحداً فإنه لا زكاة فيه، وقد جاء في الحديث الذي سبق: (ليس فيما دون خمس أواق صدقة) والأوقية أربعون درهماً، والخمس الأواق مائتا درهم، وهي تساوي الآن ستة وخمسين ريالاً بالريال السعودي الفضي، وأما بالنسبة للريالات الورقية فنصابها بحسب قيمة ستة وخمسين ريالاً من الفضة، وقد تزيد القيمة وتنقص.
قوله: [(فإذا كانت مائتي درهم ففيها خمسة دراهم)]، هذا فيه بيان أقل النصاب وهو المائتان، ومقدار زكاتها خمسة دراهم من مائتين، وهي تعادل واحداً من أربعين.
قوله: [(فما زاد فعلى حساب ذلك)] أي: يخرج من الجميع ربع العشر، من المائتين فما زاد.
قوله: [(وفي الغنم في أربعين شاة شاة)] هذا بيان نصاب الغنم، وهو متفق مع ما تقدم من أن الأربعين شاة فيها شاة واحدة.
قوله: [(فإن لم يكن إلا تسع وثلاثون فليس عليك فيها شيء)] يعني: إذا نقصت عن النصاب واحدة فصارت تسعة وثلاثين فلا زكاة فيها، ولو حال عليها الحول، لكن إذا ولدت له سخلة فصارت أربعين فيبدأ يحسب الحول.
قوله: [وساق صدقة الغنم مثل الزهري] يعني: أحال على حديث الزهري المتقدم الذي فيه: (إلى مائة وعشرين، فإذا زادت واحدة ففيها شاتان، إلى مائتين فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث شياه) إلخ.(189/11)
زكاة البقر
قوله: [(وفي البقر في كل ثلاثين تبيع)].
نصاب زكاة البقر ثلاثون، فإذا كانت تسعاً وعشرين فليس فيها زكاة كما أن تسعاً وثلاثين من الغنم ليس فيها زكاة، فإذا بلغت البقر ثلاثين بدأ حساب الحول، فإذا حال عليها الحول فإنه يزكيها فيخرج منها تبيعاً، وهو الذي أكمل سنة من عمره ودخل في السنة الثانية، وهنا ذكر تبيعاً، وجاء في حديث معاذ الذي سيأتي: (تبيع أو تبيعة) فهو مخير بين الذكر والأنثى، إما تبيع وإما تبيعة، وسمي تبيعاً لأنه يتبع أمه.
قوله: [(وفي الأربعين مسنة)] يعني: من ثلاثين إلى تسع وثلاثين ما فيها إما تبيع أو تبيعة كما جاء في حديث معاذ، فإذا زادت واحدة وصارت أربعين ففيها مسنة، وهي التي أكملت سنتين ودخلت في السنة الثالثة، وهذا السن هو الذي يجزئ من البقر في الأضحية وفي الهدي، وهو ما تم له سنتان.
ثم إذا بلغت ستين ففيها تبيعان كما سيأتي في حديث معاذ.
قوله: [(وليس على العوامل شيء)] العوامل هي الإبل والبقر التي يعمل الإنسان عليها لإخراج الماء أو للحرث، فهذه لا زكاة فيها، وإنما الزكاة في السائمة التي ترعى الحول وتكون للنماء، أما إذا كانت يحرث عليها أو يخرج الماء بواسطتها بالدلاء والغرب فلا زكاة فيها.
قوله: [(وفي الإبل) فذكر صدقتها كما ذكر الزهري].
وقد تقدم ذلك.(189/12)
شذوذ قوله (وفي خمس وعشرين خمس من الغنم)
قوله: [(وفي خمس وعشرين خمس من الغنم)].
هذا مخالف لما جاء عن الزهري، ولما في حديث أنس بن مالك المتقدم أن إخراج الغنم إلى أربع وعشرين، فإذا زادت واحدة فيبدأ يخرج من جنسها، وهي بنت مخاض، وهنا جعل في خمس وعشرين خمس شياة، فيكون المعتبر ما جاء في ذينك الحديثين، وما جاء هنا فهو من قبيل الشاذ.
قوله: [(فإذا زادت واحدة ففيها ابنة مخاض)] هذا معناه أن بنت المخاض ما تخرج إلا من ست وعشرين، لكن في حديث أنس وحديث ابن عمر أن ابنة المخاض تخرج من خمس وعشرين، وهو المحفوظ.
قوله: [(فإن لم تكن بنت مخاض فابن لبون ذكر إلى خمس وثلاثين، فإذا زادت واحدة ففيها بنت لبون إلى خمس وأربعين، فإذا زادت واحدة ففيها حقة طروقة الجمل إلى ستين)، ثم ساق مثل حديث الزهري، قال: (فإذا زادت واحدة -يعني صارت إحدى وتسعين- ففيها حقتان طروقتا الجمل إلى عشرين ومائة، فإن كانت الإبل أكثر من ذلك ففي كل خمسين حقة، ولا يفرق بين مجتمع، ولا يجمع بين مفترق خشية الصدقة، ولا تؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيس إلا أن يشاء المصدق)] هذا كله موافق لما تقدم.(189/13)
زكاة النبات
قوله: [(وفي النبات ما سقته الأنهار أو سقت السماء العشر، وما سقى الغرب ففيه نصف العشر)] قوله: (وفي النبات) يعني: زكاة الخارج من الأرض، فما سقته الأنهار أو المطر ففيه العشر؛ لأنه نما بدون تعب ومشقة، فحصلت الفائدة الكبيرة والتعب قليل، ففيه العشر.
وإذا سقي بالغرب ففيه نصف العشر، والغرب هو الدلو الكبير الذي يستنبط به الماء بواسطة الإبل والبقر، ويقال: لها: السواني، ففيه نصف العشر؛ لأنه فيه تعب، فقلت الزكاة، بخلاف الذي ليس فيه تعب فزادت الزكاة، فروعي فيما قل فيه التعب زيادة الزكاة، وفيما كثر فيه التعب نقص الزكاة، فما سقي بكلفة ومشقة فيه نصف العشر، وما سقي بدون كلفة وبدون مشقة ففيه العشر.(189/14)
الصدقة في كل عام مرة
قوله: [وفي حديث عاصم والحارث: (الصدقة في كل عام)] يعني: في كل عام مرة، وذلك حتى يحول عليه الحول، فلا زكاة في مال إلا إذا حال عليه الحول، فيزكى مرة واحدة في كل سنة، لكن ما يتعلق بالنبات والخارج من الأرض لا يشترط له الحول؛ لأن حوله حصول الثمرة، وقد تكون مدته أربعة شهور، وقد تكون ثلاثة شهور، وقد تكون أكثر، ولا يقال: لابد أن تمضي عليه سنة كاملة؛ لأن السنة الكاملة إنما تكون في الذي ينمى كزكاة التجارة وزكاة المواشي وزكاة النقدين، وأما زكاة الثمار والحبوب فمرة في السنة، ولو تكرر الزرع في السنة فإنه كلما استوى وحصل استواؤه يزكيه إذا بلغ نصاباً.
قوله: [قال زهير: أحسبه قال: (مرة)].
يعني: في كل عام مرة.(189/15)
ما يدفع جبراً للواجب في زكاة الإبل إن لم يوجد سنه
قوله: [وفي حديث عاصم: (إذا لم يكن في الإبل ابنة مخاض ولا ابن لبون فعشرة دراهم أو شاتان)].
ليس المقصود أنها عوض عن ابن اللبون أو ابنة المخاض، وإنما تؤخذ منه ابنة المخاض ويعطي الفرق إذا كان الواجب عليه ابنة لبون، أو العكس؛ فإذا كان الواجب عليه ابنة مخاض فتؤخذ منه ابنة لبون ويعطى الفرق، ولكن هذا فيه مخالفة لما تقدم في ذكر العشرة الدراهم؛ لأن الحديث المتقدم فيه عشرون درهماً أو شاتان، وهنا قال: (عشرة دراهم أو شاتان) وأما الشاتان فمطابق لما تقدم، وأما عشرة الدراهم فمخالف لما تقدم، فالمعول عليه ما تقدم في الأحاديث السابقة من أن الفرق شاتان أو عشرون درهماً.
وذكر الشاتين والعشرة الدراهم هنا المقصود به الفرق، وليس المقصود العوض عن بنت المخاض أو ابن اللبون الذكر؛ لأننا عرفنا أن العشرين فيها أربع شياه، فكيف يكون في الخمس وعشرين شاتان أو عشرة دراهم؟! إذاً: القضية هي قضية ذكر الفرق، ولكن الحديث فيه اختصار، وفيه مخالفة لما تقدم فيما يتعلق بالعشرة الدراهم، فالمحفوظ أنها عشرون درهماً.(189/16)
تراجم رجال إسناد حديث علي بن أبي طالب في الزكاة
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي].
عبد الله بن محمد النفيلي مر ذكره.
[حدثنا زهير].
زهير بن معاوية ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو إسحاق].
أبو إسحاق السبيعي عمرو بن عبد الله الهمداني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عاصم بن ضمرة].
عاصم بن ضمرة صدوق أخرج له أصحاب السنن.
[وعن الحارث الأعور].
الحارث الأعور ضعيف أخرج له أصحاب السنن.
[عن علي رضي الله عنه].
علي بن أبي طالب رضي الله عنه أمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(189/17)
شرح حديث علي بن أبي طالب في الزكاة من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب أخبرني جرير بن حازم وسمى آخر عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة والحارث الأعور عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ببعض أول هذا الحديث قال: (فإذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم، وليس عليك شيء -يعني في الذهب- حتى يكون لك عشرون ديناراً، فإذا كان لك عشرون ديناراً وحال عليها الحول ففيها نصف دينار، فما زاد فبحساب ذلك) -قال: فلا أدري أعلي يقول: فبحساب ذلك، أو رفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ - وليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول، إلا أن جريراً -قال: ابن وهب - يزيد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وفيه: [(فإذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم)] وهذا قد تقدم.
وقوله: [(وليس عليك شيء -يعني في الذهب- حتى يكون لك عشرون ديناراً)].
هذا فيه بيان زكاة الذهب، وأن النصاب عشرون ديناراً أو عشرون مثقالاً، وفيه نصف العشر وهو نصف دينار؛ لأن العشرين ديناراً ربع عشرها نصف دينار.
إذاً: نصاب الذهب عشرون ديناراً أو عشرون مثقالاً، وهي تساوي اثنين وتسعين غراماً بالاصطلاح المشهور الآن، وزكاة الذهب والفضة والنقدين ربع العشر.
قوله: [(فإذا كان لك عشرون ديناراً وحال عليها الحول ففيها نصف دينار، فما زاد فبحساب ذلك)].
يعني: مثل ما تقدم بالنسبة للفضة، فيخرج ربع العشر مما زاد على قدر النصاب، فإذا وجد النصاب فمهما زاد فإنه يخرج منه ربع العشر.
قوله: [قال: فلا أدري أعلي يقول: فبحساب ذلك أو رفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟].
هذا شك في لفظة: (فبحساب ذلك) هل هو من قول علي أو مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟ قوله: [(وليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول)] يعني: لابد من وجود النصاب مع حولان الحول، ويستنثى من ذلك النبات وما تخرجه الأرض فإن حوله استواؤه وحصول الانتفاع منه.
قوله: [إلا أن جرير -قال: ابن وهب - يزيد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول)].
قوله: [قال ابن وهب] مقحمة؛ لأن ابن وهب يروي عن جرير كما جاء في الإسناد، وعلى هذا فيكون جريراً هو الذي زاد في الرواية، وجاءت: [قال ابن وهب] مقحمة بينهما، فاللفظة فيها شيء من الخفاء بهذه الصيغة؛ لأن كلمة (قال ابن وهب) جاءت مقحمة بين اسم إنَّ وخبرها لأن جريراً اسمها، و (يزيد) خبر إنَّ، وجاءت (قال ابن وهب) مقحمة بين اسم إنَّ وخبرها، أي: فالعبارة فيها خلل؛ لأنه قد يفهم منها أن جريراً هو الذي يروي عن الرواة، مع أن العكس هو الصحيح كما جاء في الإسناد، فأصل الكلام: إن جريراً يزيد في الحديث: (ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول) يعني: أنه وإن وجد النصاب فلابد من حولان الحول.(189/18)
تراجم رجال إسناد حديث علي بن أبي طالب في الزكاة من طريق ثانية
قوله: [حدثنا سليمان بن داود المهري].
سليمان بن داود المهري المصري ثقة أخرج حديثه أبو داود والنسائي.
[أخبرنا ابن وهب].
عبد الله بن وهب المصري ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني جرير بن حازم].
جرير بن حازم ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وسمى آخر].
لم يذكره الراوي.
[عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة والحارث الأعور عن علي رضي الله عنه].
قد مر ذكر هؤلاء.(189/19)
شرح حديث (قد عفوت عن الخيل والرقيق)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عمرو بن عون أخبرنا أبو عوانة عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي عليه السلام أنه قال: قال رسول الله صلى الله علية وآله وسلم (قد عفوت عن الخيل والرقيق، فهاتوا صدقه الرقة من كل أربعين درهماً درهماً، وليس في تسعين ومائة شيء، فإذا بلغت مائتين ففيها خمسة دراهم)].
أورد المصنف حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (قد عفوت عن الخيل والرقيق) يعني: لا زكاة في الخيل ولا في الرقيق -وهو المملوك- ولكن إذا كان الرقيق والخيل للتجارة فيزكيهما زكاة التجارة، وأما إذا كانا من غير باب التجارة فليس فيهما زكاة.
والخيل لا زكاة فيها ولو كانت سائمة ما دامت لم تعد للبيع، والعبيد ليس فيهم زكاة إلا زكاة الفطر؛ لأن زكاة الفطر تجب على الحر والعبد والذكر والأنثى, فهذا هو الذي يجب في الرقيق فقط.
فليس في الخيل والرقيق زكاة إلا إذا اتخذت للتجارة؛ لأن زكاة التجارة هي أوسع المجالات في الأموال الزكوية.
قوله: [(فهاتوا صدقه الرقة من كل أربعين درهماً درهماً).
].
هذا مثل ما تقدم.
قوله: [(وليس في تسعين ومائة شيء، فإذا بلغت مائتين ففيها خمسة دراهم)].
وهذا كما تقدم أيضاً، وقوله: مائة وتسعين ذكر أعلى عقد دون المائتين، ولا يعني ذلك أن الفرق بين المائة والتسعين وبين المائتين يكون فيه زكاة؛ لأنه قال بعد ذلك: (فإذا بلغت مائتين ففيها خمسة دراهم) فالزكاة لا تكون إلا في المائتين، وسبق أن مر حديث: (ليس فيما دون خمس أواق صدقة).(189/20)
ترجمة رجال إسناد حديث (قد عفوت عن الخيل والرقيق)
قوله: [حدثنا عمرو بن عون].
عمرو بن عون ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا أبو عوانة].
هو الوضاح بن عبد الله اليشكري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة].
تقدم ذكرهما.
[عن علي عليه السلام].
كلمة: (عليه السلام) ليست من المؤلفين والمصنفين، وإنما هي من نساخ الكتب كما ذكر ذلك الحافظ ابن كثير في تفسيره لقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، قال رحمه الله: إن كتابة مثل هذه الكلمة وكذلك (كرم الله وجهه) إنما هي من عمل نساخ الكتب، وليست من عمل المؤلفين, ثم قال: والذي ينبغي أن يسوى بين الصحابة، والذي جرت عليه عادة السلف أنهم يترضون على الصحابة، ويترحمون على من بعدهم، فكونه يخص بكلمة: (عليه السلام) وكلمة: (كرم الله وجهه) ليس من عمل المؤلفين، وإنما هو من عمل نساخ الكتب.(189/21)
خلاف الرواة في حديث (قد عفوت عن الخيل والرقيق)
[قال أبو داود: روى هذا الحديث الأعمش عن أبي إسحاق كما قال أبو عوانة، ورواه شيبان أبو معاوية وإبراهيم بن طهمان عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي عن النبي صلى الله علية وآله وسلم مثله].
يعني أنه جاء مرفوعاً كما في الطريق السابقة، وجاء أيضاً من طريق الأعمش مرفوعاً.
والأعمش هو سليمان بن مهران الكاهلي وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة, وأبو إسحاق مر ذكره.
وقوله: (كما قال أبو عوانة) يعني في الرواية السابقة.
وشيبان أبو معاوية هو شيبان بن عبد الرحمن التميمي وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وإبراهيم بن طهمان ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال أبو داود: وروى حديث النفيلي شعبة وسفيان وغيرهما عن أبي إسحاق عن عاصم عن علي ولم يرفعوه، أوقفوه على علي].
وهو الذي تقدم في الإسناد السابق.
وشعبة هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري ثقة، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وسفيان هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ثقة فقيه وصف أيضاً بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، وسفيان الثوري مشهور بالفقه والحديث، وشعبة مشهور بالحديث، وكلاهما وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وكل منهما أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
قوله: [عن أبي إسحاق عن عاصم عن علي ولم يرفعوه].
يعني أنه موقوف على علي، والراجح أنه مرفوع.(189/22)
الأسئلة(189/23)
حكم نقص النصاب أثناء الحول ثم اكتماله في نفس الحول
السؤال
إذا نقص النصاب في أثناء الحول ثم اكتمل فهل يبدأ بالحساب منذ أن اكتمل أو يبنى على ما تقدم؟
الجواب
هذا فيه خلاف بين أهل العلم، منهم من قال: إذا حصل النقص أثناء الحول فإنه لابد من اكتماله مرة ثانية، ويبدأ حساب الحول، ومنهم من يقول: إنه ينظر إلى الطرفين الأول والأخير، فما دام المال كان كاملاً في الأول وفي الآخر فإنه يعتبر كاملاً مدة الحول، والذي يظهر -والله أعلم- أنه إذا نقص المال أثناء الحول ثم اكتمل فإنه يستأنف حولاً جديداً من حين اكتماله.(189/24)
حكم إخراج القيمة في زكاة الإبل إذا لم يجد السن الواجب عليه
السؤال
وجبت علي في زكاة الإبل حقة، ولكن ليست عندي، فهل يجوز أن أخرج قيمتها؟
الجواب
سبق في الروايات السابقة أنه إذا كانت عنده السن التي دونها فإنه يعطيها ويعطي عشرين درهماً أو شاتين، وإذا كانت عنده التي فوقها فإنه يعطيها ويعطى هو شاتين أو عشرين درهماً, هذا هو الذي جاء في الحديث، فإذا تباينت الأسنان فإنه يؤخذ منه السن الأعلى ويعطى الفرق، أو يعطي سناً أدنى ويدفع الفرق.(189/25)
حكم إعطاء الزكاة للولد الفقير
السؤال
هل يجوز إعطاء الزكاة للابن أو الابنة إذا كانا فقيرين؟
الجواب
لا تعطى الزكاة لا للأصول ولا للفروع، بل إذا كانا فقيرين يجب عليه أن ينفق عليهما.(189/26)
حكم إعطاء الزكاة لأولاد الأخ اليتامى
السؤال
أنا رجل عندي زكاة، وأبناء أخي أيتام، وأنا أعطي الزكاة أبناء أخي كل شهر بقدر ما يحتاجونه, فهل يجوز ذلك؟
الجواب
كونه يعطيهم كل شهر فمعناه أنه ينفق عليهم من الزكاة شهراً شهراً، والزكاة إنما تجب إذا حال الحول، والأقارب لهم حق غير الزكاة، وبعض الناس يتخلص من الواجب عليه من حق الأقارب وصلة الأرحام بالزكاة، ويقول: الزكاة خارجة ولابد، وإذا لم أعطهم الزكاة فسأعطيهم من المال، فأنا بدلاً من أن أخرج شيئاً من المال أعطيهم من الزكاة، وأتخلص من حقهم بذلك، وهذا لا يجوز.
والزكاة لا تخرج وقاية للمال بأن يتخلص من الحقوق التي عليه بواسطة الزكاة, ومثل ذلك الذي يكون له ديون عند الناس، فتجده يعطي الفقير من أجل أن يوفيه أو يخصم الدين من الزكاة، فيستوفي الديون بواسطة الزكاة، ولا يعطي الفقير الذي عليه الدين من أجل يأكل ويستفيد منها، بل من أجل أن أن يستوفي الدين الذي له بواسطة الزكاة! وإذا كانت الزكاة قليلة والمال قليلاً فكونه يعطي أبناء أخيه اليتامى أفضل؛ لأن الصدقة على القريب صدقة وصلة.(189/27)
كيفية إخراج الصدقات في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
إذا لم يعمل بكتاب الصدقات هذا في عهد الرسول صلى الله علية وآله وسلم فكيف كانت تؤخذ الصدقات في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
لا شك أنهم كانوا يأخذون الزكاة بإرشاده، فلعله كان يبلغهم ويخبرهم بما يأخذون، ثم كتب هذا الكتاب الذي أظهر بعد وفاته صلى الله عليه وسلم كما في الرواية السابقة، وفي عهده كانوا يأخذون الزكاة طبقاً لتعليمه وإرشاده صلى الله عليه وسلم، ولا يتصرفون في الأخذ بدون تعليم منه صلى الله عليه وسلم.(189/28)
كيفية زكاة أربعمائة وخمسين من الإبل
السؤال
لو كان عندي أربعمائة وخمسون من الإبل، فهل يمكن إخراج زكاتها بنت لبون واحدة وإحدى عشرة بنت مخاض؟
الجواب
بنت المخاض لا تتكرر، والجذعة لا تكرر، والتكرار إنما هو للسنين اللذين في الوسط وهما: بنت اللبون والحقة، ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، أما بنت المخاض فتخرج في أول النصاب من خمس وعشرين إلى خمس وثلاثين، فلا تتكرر بعد ذلك، فأربعمائة وخمسون فيها تسع حقاق؛ لأنها تسع خمسينات.(189/29)
زكاة البقر التي تعلف
السؤال
البقر التي تعلف في المزارع هل عليها زكاة؟
الجواب
البقر والغنم والإبل إذا كانت تعلف أكثر الحول لا زكاة فيها، حتى لو كان يباع لبنها، فإذا باع اللبن وبلغت النقود نصاباً وحال عليها الحول فإنه يزكيها.(189/30)
الأصناف التي يجب فيها الزكاة مما يخرج من الأرض
السؤال
حديث: (وفي النبات ما سقته الأنهار) هل يمكن أن يستدل به على أن كل ما يخرج من الأرض ففيه زكاة إلا ما خصته الأحاديث، ويرد به على الذين قالوا: إن الزكاة في خمسة أصناف فقط مما يخرج من الأرض؟
الجواب
جاء في الحديث: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) فجاء التنصيص على أن الزكاة فيما يوسق، وليس كل شيء يوسق، فالفواكه والخضروات لا توسق، أعني: لا تكال.(189/31)
كيفية طلب العلم
السؤال
في بلدي لا يوجد علماء ولا حلقات للعلم مثل بلدكم هذا، فأرجو نصيحتكم لي في كيفية طلب العلم، وهل يكون على الأشرطة أو الكتب؟ وكيف أوفق بين الفنون ومراحلها؟
الجواب
على الإنسان أن يحرص على أن يحصل في بلده من يكون عنده علم وبصيرة وسلامة في العقيدة؛ حتى يستفيد منه، وإذا لم يتمكن من ذلك فليحرص على أشرطة العلماء الذين في سماع أشرطتهم وكلامهم خير كثير، وعلم وفائدة، مثل الشيخ: عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه، ومثل الشيخ: محمد بن صالح العثيمين، ومثل الشيخ: صالح الفوزان، ومثل الشيخ المفتي: عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ، وغيرهم من المشايخ الذين يستفيد الإنسان من أشرطتهم ومن علمهم، وليس كل الأشرطة يسمعها الإنسان ويقدم عليها؛ لأن بعض الأشرطة فيها ضرر، فإذا تيسر له من عنده علم في بلده فلاشك أن هذا هو المطلوب، وإذا لم يحصل العالم الثقة فليحرص على اقتناء الأشرطة والكتب النافعة التي لأمثال هؤلاء العلماء.(189/32)
محبة أهل السنة لآل البيت
السؤال
نريد من فضيلتكم توضيح حب أهل السنة والجماعة لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه ليس هناك جفوة ولا شدة من أهل السنة تجاههم، وبعض الإخوة الفضلاء يأخذ على المشايخ عدم ذكر فضل أهل البيت، فهل من كلمة عن أهل البيت وبيان فضلهم حتى يزول ما في النفس؟
الجواب
سبق لي في دروس متعددة ذكر بعض النصوص عن أهل السنة في بيان قدر أهل البيت واحترامهم وتوقيرهم، ولي محاضرة خاصة بأهل البيت ومحبة أهل البيت وما ينبغي لأهل البيت، ولعلها موجودة في أشرطة الجامعة، ومما جاء في فضل آل البيت ومحبة آل البيت أن ابن كثير رحمه الله عند تفسير قول الله عز وجل: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] ذكر عن كل من أبي بكر وعمر أثرين يدلان على تعظيم أهل البيت وبيان شأنهم وعظيم منزلتهم.
أما الأثران اللذان عن أبي بكر فقد أوردهما البخاري في صحيحه: أحدهما: أن أبا بكر قال: والله لأن أصل قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي من أن أصل قرابتي.
يعني: آل محمد يحب أن يصلهم أكثر مما يصل آل أبي بكر الذين هم قرابته رضي الله عنه وأرضاه، وهذا يبين عظيم منزلة أهل البيت عند أبي بكر رضي الله عنه الذي هو خير هذه الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم هي خير أمة أخرجت للناس، وخيرها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم وعن الصحابة أجمعين.
والأثر الثاني: وهو أيضاً في البخاري، قال: ارقبوا محمداً صلى الله عليه وسلم في أهل بيته.
يعني: راعوا وصيته في أهل بيته صلى الله عليه وسلم، فهذا أمر لغيره أن يراعي لأهل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم حقهم.
أما الأثران اللذان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: فأحدهما: أن عمر بن الخطاب قال للعباس يوم أسلم: والله لإسلامك يوم أسلمت أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم -وهو أبوه- قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على إسلامك.
والأثر الثاني: وهو في صحيح البخاري: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أصاب الناس قحط وخرج يستسقي استسقى بـ العباس، واختار العباس ليستسقي للناس ويدعو لهم؛ لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا -يعني: طلبنا منه الدعاء وتوسلنا بدعائه- فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قم يا عباس فادع الله.
فقال: (بعم نبينا) وما قال: بـ العباس؛ لأنه يريد من ذلك الرابطة أو السبب الذي جعله يختاره؛ فاختاره لأنه عم النبي صلى الله عليه وسلم.
وابن كثير رحمه الله ذكر طريقة أهل السنة في احترام أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند تفسير قول الله: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23]، وبين أنه ليس المراد من هذه الآية قرابة النبي صلى الله عليه وسلم الذين هم علي وعمه وذريتهما، وإنما المقصود بالآية: أن الرسول صلى الله عليه وسلم طلب من قريش لما بينه وبينهم من القرابة أن يتركوه يبلغ رسالة ربه إذا لم يساعدوه على تبليغها، فإذا لم يكونوا عوناً له على التبليغ فليخلوا بينه وبين الدعوة إلى ربه، وذكر أثراً عن ابن عباس -في صحيح البخاري - يبين هذا المعنى، ولما ذكر ابن كثير أن المراد من هذه الآية هو ما جاء عن ابن عباس بين حق آل البيت ومنزلتهم وعظيم قدرهم، وأن هناك نصوصاً تدل على فضلهم وتعظيمهم وتوقيرهم، وأنه جاء عن الصديق الأعظم أبي بكر رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه ما يدل على فضلهم، وذكر بعض النصوص التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضلهم، فهذا هو ما كان عليه سلف هذه الأمة، بل خير هذه الأمة وأفضل هذه الأمة أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما.(189/33)
حكم الاستسقاء بذبح بقرة وبضرب الدفوف والطبول
السؤال
سائل من المغرب يقول: في بلدنا عندما يتأخر نزول المطر نقوم بحمل علم، وتجتمع القرى المجاورة إلى قريتنا، ونذهب جمعياً إلى ولي من أولياء الله الصالحين، ونسوق معنا بقرة، ونذهب بالدفوف والطبول إلى ذلك الولي، فنذبح البقرة عنده، وندعوه المطر، فيأتي بالفرج، وينزل المطر، فما حكم هذا؟
الجواب
هذا الفعل من أبطل الباطل وأنكر المنكرات، فكونكم تذهبون إلى قبر وتذبحون عنده وتسألونه المطر أو تسألون منه أن يطلب لكم المطر من أبطل الباطل، وهذا العمل الذي عملته عليك أن تتوب إلى الله عز وجل منه، وتندم على ما مضى، ولا تعود إليه مرة أخرى، ولا تحمل لهم هذا العلم، ولا تجمع الناس، ولا تذهب بهم, ولكن إذا حصل القحط وحصل الجدب فاسألوا الله عز وجل، ولا بأس بالصدقة حينئذٍ، وللولاة أن يطلبوا من الرعية الصدقة، وهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما الذهاب إلى أصحاب القبور والاستغاثة بأصحاب القبور فهذا شرك بالله عز وجل، والإنسان عليه أن يحذر أشد الحذر من هذا العمل السيئ الذي هو أسوأ الأعمال وأشدها خطورة؛ لأن الاستغاثة بغير الله وسؤال الحاجات من غير الله والذبح لغير الله كل ذلك من الأمور المحرمة، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله من ذبح لغير الله) فهذا العمل الذي عملته من أنكر المنكرات وأبطل الباطل، وعليك التوبة والندم على ما قد مضى، وأن تحذر الناس من هذا العمل، ولا تعود لمثل هذا العمل.(189/34)
نصاب الذهب
السؤال
بعض الكتب الفقهية تذكر أن نصاب الذهب خمسة وثمانون غراماً، وسمعنا من فضيلتكم أنه اثنان وتسعون غراماً؟
الجواب
ذكر شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه أنه اثنان وتسعون غراماً.(189/35)
مصلح الزجاج ليس عليه زكاة إذا لم يكن الزجاج عروض تجارة
السؤال
لي محل أبيع فيه زجاج النوافذ، وقد سألت عن زكاة هذه البضاعة فقالوا: لا زكاة فيها، وأنتم تقولون: فيها زكاة؛ لأنها عروض تجارة فكيف أزكي عن السنوات السابقة؟ وكيف أزكي تجارتي الآن؟
الجواب
إذا كنت تبيع وتشتري في الزجاج فتجارتك عروض تجارة، وأما إذا كنت عاملاً تشتري الزجاج لتركبه لأصحاب البيوت، ولا تشتريه من أجل أن تبيعه فما تحصله من النقود في مقابل هذا العمل إذا بلغ نصاباً وحال عليه الحول تزكيه، وأما إذا كنت تبيع وتشتري في الزجاج فهو كالبيع والشراء في السكر والحديد والسيارات والإبل والغنم وغير ذلك.
وإذا كان السائل يجعل الزجاج عروض تجارة فعليه أن يزكي السنوات الماضية بأن يقدر ما عليه ويحتاط لدينه، ويخرج الشيء الذي يعتقد أن ذمته تبرأ به عما مضى من السنوات.(189/36)
حكم زكاة الآلات التي يمتلكها التاجر
السؤال
هل يحسب التاجر أدوات عمله مع السلع كالميزان والرفوف عند إخراج زكاة العروض؟
الجواب
هذه لا تحسب؛ لأنها ليست مما يباع ويشترى، وهي مثل الدكان، فالرفوف والميزان والسيارات التي ينقل عليها البضائع، لا زكاة عليها؛ لأنها غير معروضة للبيع، وإنما الزكاة على ما يعرض للبيع والشراء.(189/37)
حكم زكاة النبات إذا سقي بالمطر والسواني
السؤال
كم زكاة النبات إذا كان أحياناً يسقى بالسماء وأحياناً بالسواني ونحوها؟
الجواب
بعض أهل العلم ذكر أن زكاته تكون ثلاثة أرباع العشر، وإذا أخرج العشر فلا شك أنه خير له، ولكن إذا أخرج ثلاثة أرباع العشر فله وجه من جهة أن هناك كلفة وهناك عدم كلفة، وليست الكلفة متحققة دائماً كالذي يخرج منه نصف العشر، وعدم الكلفة ليست متحققة دائماً كالذي يخرج منه العشر.(189/38)
حكم إخراج زكاة النبات إذا لم يربح المزارع
السؤال
إذا كلفت الزراعة الزارع لإعداد زراعته تكاليف معينة، ثم كانت فائدة إنتاجه في العام تقدر بنفس قيمة التكاليف، فالبتالي يكون قد استعاد ما خسره لإعداد زراعته؛ فهل عليه زكاة؟
الجواب
الزرع الذي استوى عليه زكاة، ولا ينظر إلى كونه خسر فيه أو ربح، فهذا مال ظاهر يزكى ولو كان عليه دين.(189/39)
صحة الصلاة على سجادة طاهرة مبسوطة على فراش متنجس
السؤال
هل تصح الصلاة على سجادة مبسوطة على فراش نجس؟
الجواب
تصح الصلاة إذا كان بين الإنسان وبين النجاسة حائل؛ لأنه ليس معنى شرط إزالة النجاسة أن تكون الأرض التي تحته ولو كان بينه وبينها مسافة طاهرة، بل لو كانت الأرض نجسة وفوقها سجادة طاهرة، وهو يصلي على السجادة فلا بأس؛ لأن السجادة طاهرة، وهي التي يباشرها ولا يباشر النجاسة.(189/40)
حكم نفقة المطلقة طلاقاً بائناً وسكناها
السؤال
إذا كان الطلاق بائناً فهل يجوز للمرأة الخروج من المنزل؟
الجواب
نعم، يجوز لها الخروج، بل إن بعض العلماء يقول: ليس لها سكن ولا نفقة.(189/41)
حكم سحب المال عن طريق آلات الصرف
السؤال
ما حكم سحب المال عن طريق آلات الصرف، علماً بأن بعض البنوك تأخذ أربعة ريالات مقابل سحب ألف ريال؟
الجواب
إذا كانت هذه الريالات المأخوذة مقابل التسهيل فلا بأس؛ لأن هذه الوسيلة تجعل الإنسان يسحب مالاً في الليل وفي النهار وفي أي وقت، فكونه يدفع مقابل هذه البطاقة مبلغاً من المال من أجل أن يحصل على مراده في أي وقت شاء فهذه منفعة ظاهرة، وتلك الوسيلة التي اتخذت للوصول إلى هذه المنفعة لا بأس بها، وهذه البطاقة لها قيمة من أجل السحب بها في أي وقت، فالقيمة معتبرة صحيحة، ولا بأس بهذا.(189/42)
شرح سنن أبي داود [190]
تجب الزكاة في البقر السائمة في كل ثلاثين تبيع أو تبيعة وفي كل أربعين مسنة، ومن منع الزكاة فإنها تؤخذ منه قهراً وشطر ماله تعزيراً له وزجراً لغيره.(190/1)
تابع ما جاء في زكاة السائمة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا بهز بن حكيم ح، وحدثنا محمد بن العلاء أخبرنا أبو أسامة عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (في كل سائمة إبل في أربعين بنت لبون، ولا يفرق إبل عن حسابها، من أعطاها مؤتجراً، -قال ابن العلاء مؤتجراً بها فله أجرها- ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا عز وجل، ليس لآل محمد منها شيء)].
هذا الحديث وما قبله وما بعده من الأحاديث داخلة تحت ترجمة باب زكاة السائمة، عن بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه عن جده رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (في كل سائمة إبل في أربعين بنت لبون) أي: أن زكاة الإبل -وكذلك الغنم والبقر- إنما هي في السائمة التي ترعى أكثر الحول، والتي لا يتعب عليها صاحبها ويتكلف لها ويخسر عليها، وإنما الزكاة فيما ترعى أكثر الحول.
قوله: (في أربعين بنت لبون) يعني: أن الأربعين فيها هذا السن بنت لبون، لكن لا يعني ذلك أن هذا الحكم خاص بهذا العدد الذي هو أربعون؛ لأنه جاء في الأحاديث المتعددة أن بنت اللبون تكون من ست وثلاثين إلى خمس وأربعين، فأي عدد بين هذين العددين فيه بنت لبون، فليس لقوله: (أربعين) مفهوم أن ما فوقه وما تحته يختلف، بل هذا العدد من جملة الأعداد التي تخرج فيها بنت اللبون؛ لأن بنت اللبون تخرج في الستة والثلاثين والسبعة والثلاثين والثمانية والثلاثين والتسعة والثلاثين والأربعين والواحد وأربعين والاثنين وأربعين والثلاثة وأربعين والأربعة وأربعين والخمسة وأربعين, فكل هذه الأعداد فيها بنت لبون.
إذاً: الأربعون فرد من أفراد تلك الأعداد التي في أي عدد منها بنت لبون، وعلى هذا فمفهومه ليس معتبراً تحت الأربعين وفوق الأربعين، بل المعتبر ما جاء فيه النص من أنه من ست وثلاثين إلى خمس وأربعين فيها بنت لبون, ولعله ذكر الأربعين لأنه العقد الذي يكون فيه بنت لبون، فهو من جنس ما سبق أن الدراهم إذا كانت مائة وتسعين فليس فيها زكاة؛ لأن هذا أعلى عقد تحت المائتين.
قوله: [(ولا يفرق إبل عن حسابها)] هذا كما تقدم أنه لا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، لا من العامل ولا من المالك، كأن تكون مجتمعة فتفرق من أجل أن تزيد الزكاة إذا كان التفريق من العامل، أو من أجل أن تقل الزكاة إذا كان التفريق من المالك.
قوله: [(من أعطاها مؤتجراً، قال ابن العلاء: مؤتجراً بها فله أجرها)] ابن العلاء هو محمد بن العلاء الشيخ الثاني لـ أبي داود؛ لأن أبا داود روى الحديث من طريق موسى بن إسماعيل ومن طريق محمد بن العلاء، فطريق موسى بن إسماعيل ليس فيها كلمة (بها) , وإنما فيها كلمة (مؤتجراً) فقط, وأما طريق محمد بن العلاء -وهي الطريق الثانية- ففيها: (مؤتجراً بها) أي: محتسباً وطالباً الأجر والثواب من الله عز وجل.
وقوله: (فله أجرها) يعني: فله ما أدى وله ما نوى.
قوله: [(ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله, عزمة من عزمات ربنا)] أي: من منع إخراج الزكاة الواجبة عليه فإننا نأخذها منه، ونأخذ أيضاً شطر ماله بالإضافة إليها، وقد اختلف في المراد من هذه الجملة، فمن العلماء من قال إنه على ظاهره، وأنه تؤخذ منه الزكاة ويؤخذ أيضاً نصف ماله، عقوبة على امتناعه، ويكون ذلك عقوبة مالية، (عزمة من عزمات ربنا) أي: أن هذا يكون من الأمور التي تؤخذ حقاً؛ لأنه جاء به الشرع، وجاء الإذن من الله عز وجل؛ لأن السنة وحي من الله عز وجل، فالرسول صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى كما قال عز وجل: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4 - 5]، فما يأتي به هو من الله عز وجل، فقوله: (عزمة من عزمات ربنا) أي: أن هذا الأخذ الذي نأخذه من الأمور العزائم أي: المحققة الثابتة.
وهناك أقوال أخرى قيلت في المراد منه، فقيل: إن هذا تهديد، وقيل: معنى قوله: (وشطر ماله) أن يشطر ماله شطرين: شطر حسان، وشطر دون ذلك، وتؤخذ الزكاة من شطر الحسان، وقيل غير ذلك.
ولكن ظاهر الحديث أن المراد به عقوبة مالية، وأنه يؤخذ الشطر عقوبة مالية, واختلف العلماء في هذا، فمنهم من قال: إن ذلك كان جائزاً ثم نسخ، ومنهم من قال: النسخ يحتاج إلى دليل، وهذا حكم ثابت وليس بمنسوخ، والله تعالى أعلم.
ثم قال: (ليس لآل محمد منها شيء) فالزكاة لا تحل لآل محمد كما جاءت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من جملة الأدلة الدالة على أن الزكاة لا تحل لآل محمد، ولا يكون لآل محمد منها شيء، فإنما هي أوساخ الناس.(190/2)
تراجم رجال إسناد حديث (في كل سائمة إبل في أربعين بنت لبون)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد] هو ابن سلمة بن دينار البصري، ثقة أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[أخبرنا بهز بن حكيم].
بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري، صدوق أخرج حديثه البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
[ح وحدثنا محمد بن العلاء].
(ح) علامة التحول من إسناد إلى إسناد، ومحمد بن العلاء بن كريب أبو كريب البصري، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
قوله: [أخبرنا أبو أسامة].
حماد بن أسامه البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده].
بهز بن حكيم مر ذكره، وأبوه هو حكيم بن معاوية بن حيدة، وهو صدوق أخرج حديثه البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
وجده هو معاوية بن حيدة القشيري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.(190/3)
شرح حديث (من كل ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا النفيلي حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي وائل عن معاذ رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وجهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعاً أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة، ومن كل حالم -يعني محتلماً- ديناراً أو عدله من المعافر.
ثياب تكون باليمن)].
حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه فيه دليل على أن نصاب البقر ثلاثون، وما قل عن الثلاثين لا زكاة فيه ولو كان تسعاً وعشرين، فالحد الأدنى الذي تخرج فيه زكاة من البقر ثلاثون، وهو النصاب، وفيه تبيع أو تبيعة، يعني ذكراً أو أنثى، والتبيع: هو الذي مضى من عمره سنة ودخل في السنة الثانية، وقيل له تبيع أو تبيعة لأنه يتبع أمه.
قوله: (ومن كل أربعين مسنة) يعني: إذا بلغ العدد أربعين فإنه يكون فيها مسنة، والمسنة: هي التي أكملت سنتين ودخلت في السنة الثالثة من عمرها.
قوله: [(لما وجهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعاً أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة)].
يعني: أن نصاب زكاة البقر مبني على الثلاثين والأربعين، فإذا كانت ثلاثين ففيها تبيع أو تبيعة، وإذا كانت أربعين ففيها مسنة، والخمسون ليس فيها غير مسنة، وإذا صارت ستين ففيها تبيعان أو تبيعتان، وإذا صارت سبعين ففيها تبيع ومسنة، وإذا صارت ثمانين ففيها مسنتان، وهكذا في كل ثلاثين تبيع أو تبيعة وفي كل أربعين مسنة قوله: [(ومن كل حالم -يعني: محتلماً- ديناراً)] المقصود من ذلك الجزية على أهل الكتاب الذين كانوا في اليمن، فيؤخذ من الذي بلغ الحلم ديناراً جزية، وهذا يدل على أن الجزية إنما تؤخذ من المحتلمين البالغين الذكور، وهذه الجزية تؤخذ من اليهود والنصارى إذا فتحت البلاد فلم يقاتلوا المسلمين، وبقوا على دينهم، فتؤخذ منهم الجزية، ومقدارها دينار على كل محتلم.
قوله: [(أو عدله من المعافر)] أي: قيمته أو ما يساويه من المعافر، وهي أكسية وبرود تنسب إلى قبيلة مشهورة بهذا الاسم، فالجزية إما دينار أو ما يقابلها من الألبسة التي كانت تنسج وتصنع في اليمن، ويقال لها: معافر.(190/4)
تراجم رجال إسناد حديث (من كل ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة)
قوله: [حدثنا النفيلي].
عبد الله بن محمد النفيلي، ثقة أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا أبو معاوية].
أبو معاوية محمد بن خازم الضرير الكوفي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي وائل].
وهو شقيق بن سلمة، وهو ثقة مخضرم أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن معاذ].
معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(190/5)
إخراج الذكور في زكاة المواشي
قال الخطابي: ليس في أصول الزكاة مدخل للذكران في المواشي إلا في صدقة البقر ا.
هـ.
لكن الذي عنده غنم له أن يخرج من ذكورها، ولعل مقصوده أن النص إنما جاء فيما يتعلق بالبقر، ولكنه قد جاء أيضاً فيما يتعلق بالإبل في موضع واحد فقط، وهو ابن اللبون الذكر إذا لم توجد بنت مخاض، فتكون الزيادة التي في سن الذكر في مقابل الفضيلة التي في الأنثى، وإذا كانت الغنم ذكوراً يخرج منها ذكر, ولكن إذا كانت ذكوراً وإناثاً فإنه يخرج منها ذكور أو إناث، وسبق أن مر بنا أن تيس الغنم لا يأخذه المصدِّق إلا أن يشاء المتصدق، والواجب أن يخرج من الأوساط، وإذا كان الغالب الذكور فيخرج ذكر، وإذا كان الغالب الإناث فيخرج أنثى، ويؤخذ من الأوساط لا من الخيار ولا من الأشرار، وإنما يؤخذ من الوسط.(190/6)
شرح حديث زكاة البقر من طريق ثانية وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة والنفيلي وابن المثنى قالوا: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن مسروق عن معاذ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثله].
أورد المصنف الحديث من طريق أخرى وقال: (مثله) أي: مثل الرواية السابقة التي جاءت عن أبي وائل عن معاذ.
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي في عمل اليوم والليلة وابن ماجة.
[والنفيلي وابن المثنى].
النفيلي هو عبد الله بن محمد الذي مر ذكره، وابن المثنى هو محمد بن المثنى العنزي أبو موسى الملقب بالزمن، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[عن أبي معاوية عن الأعمش عن إبراهيم].
إبراهيم هو ابن يزيد بن قيس النخعي الكوفي، ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مسروق].
مسروق بن الأجدع، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن معاذ].
مر ذكره.(190/7)
شرح حديث زكاة البقر من طريق ثالثة وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء حدثنا أبي عن سفيان عن الأعمش عن أبي وائل عن مسروق عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فذكر مثله، لم يذكر ثياباً تكون باليمن، ولا ذكر (يعني محتلماً)] أورد المصنف الحديث من طريق ثالثة عن معاذ وقال: (مثله) إلا أنه لم يذكر الثياب التي تكون باليمن وهي المعافر، ولا ذكر (يعني محتلماً) في التفسير، وإنما ذكر (حالماً) فقط بدون تفسير، فكلمة: (يعني محتلماً) ليست موجودة في هذه الرواية، وليس فيها ذكر الثياب اليمانية.
قوله: [حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء].
هارون بن زيد بن أبي الزرقاء، صدوق أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن أبيه].
وهو ثقة أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن سفيان].
سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش عن أبي وائل عن مسروق عن معاذ بن جبل].
مر ذكرهم.(190/8)
ذكر أصحاب الأعمش الذين رووا عنه حديث زكاة البقر
[قال أبو داود: ورواه جرير ويعلى ومعمر وشعبة وأبو عوانة ويحيي بن سعيد عن الأعمش عن أبي وائل عن مسروق قال: يعلى ومعمر عن معاذ مثله].
ذكر المصنف رواية عدد من أصحاب الأعمش عن الأعمش عن أبي وائل عن مسروق، وقال: إن يعلى ومعمر وهما من هؤلاء الستة الذين رووا عن الأعمش قالا: عن معاذ.
وجرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
ويعلى بن عبيد الطنافسي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
ومعمر بن راشد الأزدي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وشعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وأبو عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
ويحيي بن سعيد القطان البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش عن أبي وائل عن مسروق].
مر ذكرهم.(190/9)
شرح حديث سويد بن غفلة في النهي عن أخذ خيار المال في الزكاة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن هلال بن خباب عن ميسرة أبي صالح عن سويد بن غفلة قال: (سار سرت، أو قال: أخبرني من سار مع مصدق النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألّا تأخذ من راضع لبن، ولا تجمع بين مفترق، ولا تفرق بين مجتمع) وكان إنما يأتي المياه حين ترد الغنم فيقول: أدو صدقات أموالكم، قال: فعمد رجل منهم إلى ناقة كوماء -قال: قلت: يا أبا صالح! ما الكوماء؟ قال: عظيمة السنام- قال: فأبى أن يقبلها قال: إني أحب أن تأخذ خير إبلي قال: فأبى أن يقبلها، قال: فخطم له أخرى دونها فأبى أن يقبلها، ثم خطم له أخرى دونها فقبلها وقال: إني آخذها وأخاف أن يجد علي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لي: عمدت إلى رجل فتخيرت عليه إبله)].
قوله: [(فإذا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)] يعني في كتابه.
[(ألا تأخذ من راضع لبن)] هذا الكلام موجه إلى المصدق، يعني: من ذات راضع لبن وهي الحلوب التي فيها لبن وترضع؛ وذلك لأنها من خيار المال.
قوله: [(ولا تجمع بين مفترق)] أي: من أجل أن تكثر الصدقة، وهذا خطاب للمصدق، وذلك بأن يكون رجل عنده مثلاً مائة وواحدة، وآخر عنده مائة وواحدة، فيجمعها العامل من أجل أن يأخذ منهما ثلاث شياة؛ لأنه لو كان كل واحد منهما على حدة فكل واحد عليه شاة واحده؛ لأن أربعين شاة إلى مائة وعشرين ما فيها إلا شاة، فإذا زادت واحدة صار فيها شاتين إلى مائتين، فإن زادت واحدة صار فيها ثلاث شياة، فإذا كان الأول عنده مائة وواحدة، والثاني عنده مائة وواحدة، صارت مائتين واثنتين، فلو بقي كل على ما هو عليه فإنه لا يؤخذ إلا شاتين: شاة من هذا، وشاة من هذا؛ لكن إذا جمع بين الغنمين أخذ منها ثلاثاً.
وقوله: [(ولا تفرق بين مجتمع) خطاب للعامل ألا يفرق بين مجتمع من أجل أن تكثر الصدقة، بأن يكون رجلان لكل واحد منهما أربعون شاة، وهم خلطة، فيفرق غنمهما، فيأخذ من هذا شاة، ومن هذا شاة، وإنما الواجب عليهما شاة واحدة.
قوله: [(وكان إنما يأتي المياه حين ترد الغنم)] هذا فيه دليل على أن العامل يذهب إلى أصحاب المواشي على مياههم، ولا يجلس في مكان ويكلفهم أن يسوقوا غنمهم إليه حتى يزكي أموالهم، بل يأتي المياه، وإذا وردت الغنم أو الإبل أو البقر فإنه يأخذ الزكاة منها؛ حتى لا يشق على الناس أن يأتوا إليه لأخذ الزكاة.
قوله: [(فيقول: أدوا صدقات أموالكم)] وتكون من الوسط لا من الخيار ولا من الشرار؛ لأنها لو أخذت من الخيار لكان في ذلك إضرار بأصحاب الأموال، ولو أخذت من الشرار لكان في ذلك إضرار بالفقراء، ولكن يؤخذ الوسط كما سيأتي في الحديث: (إن الله لم يأخذ منكم خيره، ولم يأمركم بشره).
قوله: [(فعمد رجل منهم إلى ناقة كوماء)] أي: فعمد رجل من أصحاب المواشي، والكوماء فسرها بأنها الكثيرة الشحم السمينة، فأبى أن يأخذها المصدق؛ لأن الواجب هو الوسط وهذه من الخيار، ولكن سيأتي أنه لا بأس بذلك إذا رضي المتصدق بأن يدفع شيئاً أحسن من الوسط، وأدى الخيار بطواعية منه ورضا، ولكن المصدق لعله لم يكن عنده علم بجواز ذلك، وخشي أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى الناقة الحسناء السمينة يظن أنه عمد إلى خيار المال فأخذها.
قوله: [(فعمد رجل منهم إلى ناقة كوماء، قال: قلت: يا أبا صالح! ما الكوماء؟ قال: عظيمة السنام، قال: فأبى أن يقبلها، قال: إني أحب أن تأخذ خير إبلي، قال: فأبى أن يقبلها، قال: فخطم له أخرى دونها فأبى أن يقبلها، ثم خطم له أخرى دونها فقبلها)] خطم يعني: وضع الخطام على رأسها ليقودها به؛ لأن الإبل تقاد بالخطام، وأما إذا كانت في المراعي فلا تخطم؛ لأن الخطام قد يكون سبباً في ضررها بأن يعلق في شجرة فتنحبس بسبب ذلك، فيؤدي إلى انحباسها مدة طويلة وربما تهلك.
قوله: [(وقال: إني آخذها وأخاف أن يجد علي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لي: عمدت إلى رجل فتخيرت عليه إبله)] وهذا يدل على أن هذه الإبل الثلاث كلها من الخيار، وأن كل واحدة أرفع من الثانية، وكان أعطى ناقة كوماء ثم أخرى دونها ثم الثالثة دونها، ومع ذلك فهو خائف أنه إذا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: عمدت إلى إبله وأخذت خيارها.(190/10)
تراجم رجال إسناد حديث سويد بن غفلة في النهي عن أخذ خيار المال في الزكاة
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري ثقة أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا أبو عوانة عن هلال بن خباب].
أبو عوانة مر ذكره، وهلال بن خباب صدوق أخرج له أصحاب السنن.
[عن ميسرة أبي صالح].
ميسرة أبو صالح مقبول أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن سويد بن غفلة].
سويد بن غفلة تابعي مخضرم، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وسويد بن غفلة مثل المعرور بن سويد كلاهما مخضرم، وكل منهما معمر، والثاني كان عمره مائة وعشرين سنة وهو أسود شعر الرأس واللحية بدون أن يخضب بالسواد، وإنما كان ذلك خلقة، وسويد بن غفلة كان يصلي بالناس التراويح في رمضان وعمره مائة وعشرون سنة! قوله: [(عن مصدق النبي صلى الله عليه وسلم)] هو غير مسمى، ومعلوم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المجهول فيهم في حكم المعلوم، فلا تؤثر الجهالة في الصحابة؛ لأنهم عدول بتعديل الله وتعديل رسوله صلى الله عليه وسلم.
[قال أبو داود: ورواه هشيم عن هلال بن خباب نحوه إلا أنه قال: (لا يفرق)].
هشيم مر ذكره، وهلال بن خباب مر ذكره.
وقوله: إلا أنه قال: (لا يفرق)، هذه الرواية يحتمل أن الخطاب فيها للعامل أو للمالك، أما الرواية الأولى فهي للعامل، فقوله: (لا تفرق) خطاب للعامل وحده، وقوله: (لا يفرق) تصلح للعامل الذي هو المصدِّق وتصلح للمالك الذي هو المصَّدِّق.(190/11)
شرح حديث سويد بن غفلة من طريق أخرى وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن الصباح البزاز حدثنا شريك عن عثمان بن أبي زرعة عن أبي ليلى الكندي عن سويد بن غفلة قال: (وكان مصدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخذت بيده وقرأت في عهده: لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، ولم يذكر (راضع لبن))].
أورد المصنف الحديث من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله إلا أن فيه: (لا يجمع بين مفترق) ولم يذكر (راضع لبن).
قوله: [حدثنا محمد بن الصباح البزاز].
محمد بن صباح البزاز ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شريك].
شريك بن عبد الله النخعي الكوفي القاضي صدوق اختلط لما ولي القضاء، وهو يخطئ كثيراً، وحديثه أخرجه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عثمان بن أبي زرعة].
عثمان بن أبي زرعة ثقة أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن أبي ليلى الكندي].
ثقة أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود وابن ماجة.
[عن سويد بن غفلة].
سويد بن غفلة مر ذكره.(190/12)
شرح حديث مسلم بن ثفنة في اجتناب الخيار في الزكاة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا وكيع عن زكريا بن إسحاق المكي عن عمرو بن أبي سفيان الجمحي عن مسلم بن ثفنة اليشكري قال الحسن: روح يقول: مسلم بن شعبة قال: (استعمل نافع بن علقمة أبي على عرافة قومه، فأمره أن يصدقهم قال: فبعثني أبي في طائفة منهم، فأتيت شيخاً كبيراً يقال له: سعر بن ديسم فقلت: إن أبي بعثني إليك -يعني لأصدقك- قال: ابن أخي! وأي نحو تأخذون؟ قلت: نختار حتى إنا نتبين ضروع الغنم، قال: ابن أخي! فإني أحدثك أني كنت في شعب من هذه الشعاب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في غنم لي، فجاءني رجلان على بعير فقالا لي: إنا رسولا رسول الله صلى الله عليه وسلم إليك لتؤدي صدقة غنمك، فقلت: ما علي فيها؟ فقالا: شاة، فأعمد إلى شاة قد عرفت مكانها ممتلئة محضاً وشحماً، فأخرجتها إليهما فقالا: هذه شاة الشافع, وقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نأخذ شافعاً، قلت: فأي شيء تأخذان؟ قالا: عناقاً جذعة أو ثنية قال: فأعمد إلى عناق معتاط -والمعتاط التي لم تلد ولداً وقد حان ولادها- فأخرجتها إليهما فقالا: ناولناها، فجعلاها معهما على بعيرهما ثم انطلقا)].
قوله: [استعمل نافع بن علقمة أبي على عرافة قومه فأمره أن يصدقهم].
قوله: (أبي) هو والد مسلم بن ثفنة أو مسلم بن شعبة، وقوله: (على عرافة قومه).
يعني: جعله المسئول عن القبيلة، فالعريف هو المسئول عن القبيلة، الذي يرجع إليه في شأن القبيلة، وترجع إليه القبيلة، فهو مرجعها، وقد جاء في أحاديث ذكر العرفاء، ولكل جماعة عرفاء يعرفون بهم، ويكونون مرجعاً لهم، ومما جاء في ذلك الحديث الصحيح في قصة السبي في غزوة حنين حين جاء وفد هوازن وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يرد سبيهم عليهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد قسمه فقال: (إن إخوانكم جاءوا تائبين، وإننا نريد أن نرد عليهم سبيهم، فمن رضي وطابت نفسه فذاك، وإلا فإننا نعطيه بدلاً عنه من أول فيء يفيئه الله علينا فقالوا: طيبنا طيبنا) يعني: ارتفعت الأصوات فقال: (فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم من طيب منكم ممن لم يطيب) أو كما قال.
قوله: [فأمره أن يصدقهم، قال: فبعثني أبي في طائفة منهم].
يعني: أن الأب بعث ابنه الذي هو مسلم بن ثفنة أو مسلم بن شعبة.
قوله: [فأتيت شيخاً كبيراً يقال له سعر بن ديسم فقلت: إن أبي بعثني إليك، يعني لأصدقك] يعني: لآخذ زكاة مالك؛ لأن المصدق هو الذي يأخذ زكاة المال.
قوله: [قال: ابن أخي! وأي نحو تأخذون؟].
يعني: ما هو النوع الذي تأخذون؟ قوله: [نختار حتى إنا نتبين ضروع الغنم].
يعني: نختار في الزكاة حتى نتبين ضروع الغنم لننظر هل ضرعها كبير فيه لبن كثير، ومعناه أنهم يأخذون الخيار، فأخبره أن الأمر بخلاف ذلك.
قوله: [قال: ابن أخي! فإني أحدثك أني كنت في شعب من هذه الشعاب على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غنم لي، فجاءني رجلان على بعير فقالا لي: إنا رسولا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليك لتؤدي صدقة غنمك فقلت: ما علي فيها؟ فقالا: شاة، فأعمد إلى شاة قد عرفت مكانها ممتلئة محضاً وشحماً فأخرجتها إليهما، فقالا: هذه شاة الشافع].
أي: كان في شعب من الشعاب، فجاء رجلان من عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلبا منه إخراج الزكاة، فقال: (ما الذي علي فيها؟) يعني: ما مقدار الزكاة الواجبة علي؟ (قالا: شاة، قال: فعمدت إلى شاة في الغنم أعرف مكانها ممتلئة محضاً وشحماً) يعني: لبناً وشحماً، (فقالا: هذه شاه الشافع) هي الحامل كما سيأتي، ويحتمل أنها التي قد ولدت، وصار ولدها شفعاً بها؛ لأنه يتبعها فصارت به شفعاً، فبدلاً من كونها واحدة صارت بولدها شفعاً، وهي مثل بنت المخاض التي أمها بنت اللبون، فبنت المخاض التي في بطن أمها ولد، وأما بنت اللبون فهي التي أمها قد ولدت فصارت ذات لبن.
وسواء كانت ذات لبن أو صارت ذات حمل فإنها لا تؤخذ في الزكاة؛ لأن ذات اللبن من خيار المال، وقد مر حديث: (راضع لبن) يعني: ذات رضاع، وكذلك الحامل التي في بطنها حمل من خيار المال، فلا تؤخذ هذه ولا هذه.
قوله: [فأي شيء تأخذان؟ قالا: عناقاً جذعة أو ثنية].
هذا فيه بيان أن الشاة تطلق على الذكر والأنثى من الضأن والماعز، فكلاهما يقال له شاة؛ ولهذا يأتي كثيراً في الأضاحي وفي الهدي ذكر الشاة، وليس المقصود بها الضأن، وإنما المقصود بها الضأن والماعز، فكل ذلك يطلق عليه شاة.
والعناق هي التي لم تكمل سنة، وهي لا تجزئ في الأضحية، والثنية من الماعز هي التي أكملت سنة، وهي التي يضحى بها ويهدى، والجذعة من الضأن هي التي لها ستة أشهر، والثنية هي التي أكملت سنة، والضأن في الأضحية يجزئ فيه الجذع، وأما بالنسبة للماعز فلا يجزئ إلا الثني.
قوله: [فأعمد إلى عناق معتاط -والمعتاط التي لم تلد ولداً وقد حان ولادها- فأخرجتها إليهما فقالا: ناولناها، فجعلاها معهما على بعيرهما ثم انطلقا].
يعني: ما سبق أن ولدت، وجاء وقت كونها تحمل، فقالا: ناولناها؛ لأنهما كانا راكبين.
ثم ذهبا بها.(190/13)
تراجم رجال إسناد حديث مسلم بن ثفنة في اجتناب الخيار في الزكاة
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
الحسن بن علي الحلواني ثقة أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا وكيع].
وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زكريا بن إسحاق المكي].
زكريا بن إسحاق المكي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن أبي سفيان الجمحي].
عمرو بن أبي سفيان الجمحي ثقة أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن مسلم بن ثفنة اليشكري].
وهو مقبول أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن سعر بن ديسم] وهو مخضرم، وقيل: له صحبة، أخرج له أبو داود والنسائي.
والحديث ضعيف، فيه مسلم بن ثفنة، وفيه أيضاً رجل مختلف في صحبته، والحديث ضعفه الألباني.(190/14)
بيان خطأ وكيع في اسم مسلم بن ثفنة
[قال أبو داود: رواه أبو عاصم عن زكريا قال أيضاً: مسلم بن شعبة كما قال روح].
يعني: أن وكيعاً غلط في الإسناد عندما قال: مسلم بن ثفنة وإنما هو مسلم بن شعبة.
وروح بن عبادة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وأبو عاصم هو الضحاك بن مخلد النبيل ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن يونس النسائي حدثنا روح حدثنا زكريا بن إسحاق بإسناده بهذا الحديث قال: مسلم بن شعبة قال فيه: والشافع التي في بطنها الولد].
قوله: [حدثنا محمد بن يونس النسائي].
محمد بن يونس ثقة، أخرج له أبو داود.
[حدثنا روح عن زكريا بن إسحاق].
مر ذكرهما.(190/15)
شرح سنن أبي داود [191]
كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث المصدقين لجمع الصدقات من قبائل العرب، وكان يحدد لهم الأنصبة وما يخرج فيها، ويأمرهم بالرفق بالناس واتقاء كرائم أموالهم.(191/1)
تابع ما جاء في زكاة السائمة(191/2)
شرح حديث (ثلاث من فعلهن فقد طعم طعم الإيمان)
[قال أبو داود: وقرأت في كتاب عبد الله بن سالم بحمص عند آل عمرو بن الحارث الحمصي عن الزبيدي قال: وأخبرني يحيى بن جابر عن جبير بن نفير عن عبد الله بن معاوية الغاضري رضي الله عنه من غاضرة قيس قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاث من فعلهن فقد طعم طعم الإيمان: من عبد الله وحده، وأنه لا إله إلا الله، وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه، رافدة عليه كل عام، ولا يعطي الهرمة ولا الدرنة ولا المريضة ولا الشرط اللئيمة، ولكن من وسط أموالكم، فإن الله لم يسألكم خيره، ولم يأمركم بشره)].
قوله: (ثلاث من فعلهن فقد طعم طعم الإيمان) هذا إجمال من أجل الاهتمام والعناية والتشويق لما سيذكر بعد ذلك، مثل قوله: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان) ثم يأتي التفسير، وهنا قال: (ثلاث من فعلهن فقد طعم طعم الإيمان) ثم يأتي التفسير، وهذا فيه حث على الاهتمام بما سيأتي، وأيضاً ذكر العدد يجعل الإنسان يضبط العدد، ولو نسى شيئاً فإنه سيعلم أنه حصل نقص؛ لأنه لابد أن يطابق العدد المعدود، فإذا ذكر العدد أولاً فإنه يجعل الإنسان يطالب نفسه بالمعدود حتى يطابق العدد، فهذا من فوائد تقديم العدد.
قوله: [(من عبد الله وحده وأنه لا إله إلا الله)] هذه الخصلة الأولى من الثلاث، وهي إخلاص العبادة لله عز وجل، وهذا هو الأساس؛ لأن إفراد الله بالعبادة أساس كل عمل، وكل عمل من الأعمال لا يقبل إلا إذا كان خالصاً لوجه الله عز وجل وحده لا شريك له.
ولا إله إلا الله هي كلمة الإخلاص والتوحيد، ومعناها: لا معبود بحق إلا الله، فهي مشتملة على نفي وإثبات، نفي عام في أولها، وإثبات خاص في آخرها، النفي العام الذي في أولها هو نفي العبادة عن كل ما سوى الله، والإثبات الخاص الذي في آخرها هو إثبات العبادة لله وحده لا شريك له.
قوله: [(وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه)].
هذه الخصلة الثانية، وهي محل الشاهد من إيراد الحديث في الترجمة، أي: أنه يخرج الزكاة عن طيب نفس، فلا يخرجها عن كراهية وعدم رضا وعدم ارتياح؛ لأن هذا حكم الله، وهذا حق أوجبه الله عز وجل في أموال الأغنياء للفقراء شكراً لله عز وجل على هذه النعمة، والزكاة من أسباب نماء المال وأسباب كثرته كما جاء في الحديث: (ما نقص مال من صدقة، بل تزده بل تزده).
قوله: [(رافدة عليه كل عام)] الرفد هو الزيادة، فالمعنى أنها زيادة ونماء في ماله.
قوله: [(ولا يعطي الهرمة ولا الدرنة)].
يحتمل أن يكون قوله: (من عبد الله وحده، وأنه لا إله إلا هو) اثنتين، ثم الثالثة ما يتعلق بالزكاة، ويحتمل أن يكون خصلة واحدة، وإعطاء الزكاة طيبة بها نفسه هي الخصلة الثانية، وكونه لا يعمد إلى شيء فيه عيب وفيه نقص فيخرجه الخصلة الثالثة.
والهرمة هي: الكبيرة التي طعنت في السن وبلغت سن الهرم، والدرنة هي التي فيها الجرب، وتسمى الجرباء.
قوله: [(ولا المريضة ولا الشرط اللئيمة)].
المرض نقص فيها، وقد يؤدي إلى هلاكها، أو يكون النقص الذي يحصل لها بسبب المرض شديداً، والشرط اللئيمة هي أرذل المال ورديئه.
قوله: [(ولكن من وسط أموالكم)] يعني: أن الذي يخرج من الوسط، لا من الخيار ولا من الشرار، وإنما من وسط المال، وقد تقدم في كلام الزهري أن المال يقسم أثلاثاً: ثلثاً خياراً، وثلثاً شراراً، وثلثاً وسطاً، والزكاة تؤخذ من الوسط، فهذا الحديث يدل على أن كلام الزهري صحيح، وأنه دل عليه الدليل.
قوله: [(فإن الله لم يسألكم خيره، ولم يأمركم بشره)].
خيره هو خيار المال، وشره هو شرار المال، والشارع إنما طلب الوسط.(191/3)
تراجم رجال إسناد حديث (ثلاث من فعلهن فقد طعم طعم الإيمان)
[قال أبو داود: وقرأت في كتاب عبد الله بن سالم بحمص عند آل عمرو بن الحارث الحمصي].
عبد الله بن سالم الحمصي ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[عن الزبيدي].
الزبيدي هو محمد بن الوليد الزبيدي الحمصي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[قال: وأخبرني يحيى بن جابر].
أي: قال الزبيدي: وأخبرني يحيى بن جابر، والواو هذه تدل على وجود معطوف عليه محذوف أخبره بهذا وبغيره؛ لأنه لو كان الحديث يتعلق بما ذكره فقط فلن يأتي بالواو، وإنما سيقول: أخبرني، لكن إذا أتى بالواو دل على أن هناك معطوفاً عليه محذوفاً، يعني أخبره بشيء آخر وبهذا، فهو أخبرني بكذا وبكذا وأخبرني بكذا.
ويحيى بن جابر ثقة أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن جبير بن نفير].
جبير بن نفير ثقة أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن معاوية الغاضري].
عبد الله بن معاوية الغاضري صحابي أخرج له أبو داود وحده.
قيل: يحيى بن جابر لم يسمع من جبير بن نفير، وإنما سمع من ابنه عبد الرحمن بن جبير، وعبد الرحمن بن جبير بن نفير ثقة أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن مثل أبيه.
والإسناد فيه انقطاع من جهة أن أبا داود لم يدرك عبد الله بن سالم، فبينهما واسطة، والحديث صححه الألباني أو حسنه، ولكن لعل له شواهد من غير هذا الطريق.(191/4)
شرح حديث بعث أبي لجمع الصدقات
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن منصور حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا أبي عن ابن إسحاق قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة عن عمارة بن عمرو بن حزم عن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال: (بعثني النبي صلى الله عليه وآله وسلم مصدقاً فمررت برجل، فلما جمع لي ماله لم أجد عليه فيه إلا ابنة مخاض، فقلت له: أد ابنة مخاض فإنها صدقتك؟ فقال: ذاك ما لا لبن فيه ولا ظهر، ولكن هذه ناقة فتية عظيمة سمينة فخذها، فقلت له: ما أنا بآخذ ما لم أومر به، وهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منك قريب، فإن أحببت أن تأتيه فتعرض عليه ما عرضت علي فافعل، فإن قبله منك قبلته، وإن رده عليك رددته، قال: فإني فاعل، فخرج معي وخرج بالناقة التي عرض علي حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: يا نبي الله! أتاني رسولك ليأخذ مني صدقة مالي، وايم الله ما قام في مالي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا رسوله قط قبله، فجمعت له مالي، فزعم أن ما علي فيه ابنة مخاض؛ وذلك ما لا لبن فيه ولا ظهر، وقد عرضت عليه ناقة فتية عظيمة ليأخذها فأبى علي، وهاهي ذه قد جئتك بها يا رسول الله! خذها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ذاك الذي عليك، فإن تطوعت بخير آجرك الله فيه وقبلناه منك، قال: فهاهي ذه يا رسول الله قد جئتك بها فخذها، قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقبضها ودعا له في ماله بالبركة)].
قول أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم مصدقاً أي: عاملاً على الصدقة، يأخذ الصدقات من أصحابها، فذكر أنه جاء إلى رجل فعرض عليه إبله فرآها وإذا عليه فيها ابنة مخاض؛ وهي التي أكملت السنة ودخلت في السنة الثانية، وهي تخرج من خمس وعشرين إلى خمس وثلاثين، فقال: الذي عليك في إبلك هذه ابنة مخاض، فأتى بناقة فتية عظيمة سمينة، وقال: خذها، فقال: لن آخذها؛ لأن هذه فوق الحق، ولكن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم منك قريب فاذهب إليه فإن أذن أخذتها، فقال ذلك الرجل: إني فاعل، يعني ما أرشدتني إليه، فذهب أبي ومعه ذلك الرجل ومعه الناقة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن رسوله طلب منه ابنة مخاض، قال: وإنني أعطيته ناقة فتية فأبى أن يقبلها، فقال: وهاهي ذه يعني: الناقة التي عرضتها عليه هي هذه الناقة، فقال عليه الصلاة والسلام: (ذلك الذي عليك)، أي: الواجب عليك هو هذا السن الذي ذكره لك، قال: (فإن تطوعت بخير آجرك الله فيه وقبلناه منك) فأمر بأخذها ودعا له بالبركة صلى الله عليه وسلم.
فهذا يدلنا على أن المصدق يأخذ الحق، ولا يجوز له أن يزيد على السن الذي يجب على المالك، وأخذ النفائس في الزكاة من الظلم كما في حديث معاذ الذي سيأتي، ولكن إذا تطوع صاحب المال بأن دفع شيئاً أحسن مما يجب عليه، وطابت نفسه بذلك، فإنه يقبل منه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ذاك الذي عليك، فإن تطوعت بخير آجرك الله فيه، وقبلناه منك) أي: أنه يقبل منه، ويحصل على زيادة الأجر على ذلك الشيء الزائد.
وفي هذا بيان ما كان عليه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم من الجود وبذل المال وإعطاء المستحق بانشراح، بل إعطاء ما هو أكثر من الواجب وما هو فوق الواجب.
وفيه الدعاء بالبركة لصاحب الزكاة، لاسيما إذا أحسن في إخراج الزكاة، وأداها بطيب نفس، وكل من أعطى الزكاة يدعى له، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر هذا الرجل بأن الله تعالى يأجره إذا دفع شيئاً أكثر مما هو واجب عليه، ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم بأن يبارك الله له في ماله.(191/5)
تراجم رجال إسناد حديث بعث أبي لجمع الصدقات
قوله: [حدثنا محمد بن منصور].
محمد بن منصور هو الطوسي ثقة، أخرج حديثه أبو داود والنسائي.
وهناك محمد بن منصور آخر لم يرو له أبو داود، وإنما روى له النسائي، وهو محمد بن منصور الجواز المكي، فإذا جاء محمد بن منصور في سنن أبي داود فالمراد به الطوسي؛ لأن الجواز ليس من رجال أبي داود، وإنما هو من رجال النسائي، والطوسي أيضاً من رجال النسائي.
[حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثني أبي].
يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وأبوه ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن إسحاق].
محمد بن إسحاق صدوق أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن أبي بكر].
عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة].
يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة ثقة أخرج له مسلم وأبو داود.
[عن عمارة بن عمرو بن حزم].
عمارة بن عمرو بن حزم وهو ثقة أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[عن أبي بن كعب].
أبي بن كعب رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(191/6)
شرح حديث بعث معاذ إلى اليمن
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا وكيع حدثنا زكريا بن إسحاق المكي عن يحيى بن عبد الله بن صيفي عن أبي معبد عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه آله وسلم بعث معاذاً إلى اليمن فقال: إنك تأتي قوماً أهل كتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنها ليس بينها وبين الله حجاب)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذ بن جبل إلى اليمن، ورسم له الخطة التي يسير عليها في الدعوة إلى الله عز وجل، وكانت هذه الخطة مبنية على البدء بالأهم فالأهم، وقال له صلى الله عليه وسلم: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب)، وهذا فيه بيان أحوال المدعوين الذين سيذهب إليهم، وأنهم أهل كتاب، وهذا يدل على أن الإنسان عندما يذهب إلى جهة للدعوة إلى الله فينبغي له أن يعرف أحوال أولئك الناس الذين في ذلك البلد.
ثم قال له: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله) فأول شيء يدعى إليه التوحيد؛ لأن التوحيد هو الأساس، فالشهادتان هما الأساس لغيرهما، وكل عمل من الأعمال لا ينفع صاحبه إلا إذا كان مبنياً على الشهادتين: الشهادة لله بالوحدانية والألوهية، والشهادة لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة.
فيبدأ في الدعوة بالأهم فالأهم، وأهم شيء يدعى إليه التوحيد؛ لأن أي عمل إذا لم يكن مبنياً على التوحيد فإنه يكون مردوداً على صاحبه؛ لأن العمل إذا لم يكن خالصاً لله يرد على صاحبه لفقد الإخلاص، وهذا هو مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، وإذا وقع العمل غير مطابق لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم يرد لفقد شرط المتابعة، وهذا هو مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: الشهادتان هما أس الأسس، وهما الركن الركين، وهما أساس في نفسهما وأساس لغيرهما، وكل عمل ليس مبنياً عليهما فإنه لا عبرة به ولا قيمة له.
ثم قال: (فإن هم أجابوك لذلك) أي: شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فانتقل معهم إلى الخطوة التي تليها وهي الصلاة: (فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة)، وهذا يدلنا على أن أعظم ما يدعى إليه بعد التوحيد الصلاة، وأن أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين الصلاة؛ لأن الصلاة صلة وثيقة بين العبد وبين ربه، وهي تتكرر في اليوم والليلة خمس مرات، بخلاف الأعمال الأخرى فإنها لا تتكرر كتكررها، فللصلاة شأن عظيم؛ ولهذا يبدأ بها بعد التوحيد.
ثم قال: (فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم) وهذا محل الشاهد من إيراد الحديث في الترجمة.
والحديث يدل على رسم الخطة التي يسار إليها في الدعوة إلى الله، وأنه يبدأ بالأهم فالأهم، وأن أهم شيء يدعى إليه التوحيد، وأنه لابد من الجمع بين الشهادتين: الشهادة لله بالوحدانية، ولنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة.
واستدل بعض أهل العلم بهذا الحديث على أن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشريعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر معاذاً بأن يدعوهم أولاً إلى الإسلام ثم إلى الصلاة، ثم إلى الزكاة، فلو كانوا مخاطبين بفروع الشريعة لأمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم بهذا وبهذا وبهذا، هذا وجه الاستدلال لمن قال بهذا القول.
ولكن القول الآخر أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، وهو القول القوي، وقد جاء في ذلك نصوص تدل على ذلك كما قال الله عز وجل عن أهل سقر {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:42 - 43] ومن المعلوم أن الصلاة من الفروع العملية، وكذلك قال الله عز وجل: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت:6 - 7] فأخبر أن المشركين لا يؤتون الزكاة، فهم مخاطبون بها، لكن الخطاب إنما هو بالإتيان بالأصول أولاً وبالفروع ثانياً، لا أن يطلب منهم الفروع وإن لم يأتوا بالأصول؛ لأن الفروع إذا أتي بها دون الشهادة لله بالوحدانية ولنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة؛ فإنه لا عبرة بها، وتكون مردودة على صاحبها؛ لقول الله عز وجل: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23].
إذاً: هم مخاطبون بالأصول وبالفروع، ويؤاخذون على ترك الأصول وترك الفروع، فالقول بأنهم مخاطبون بفروع الشريعة كما أنهم مخاطبون بأصولها هو القول القوي الذي تدل عليه الأدلة، وفائدته أنهم يؤاخذون على هذا وعلى هذا، ومعلوم أن الكفار يتفاوتون، فبعضهم أخبث من بعض، وبعضهم أشد عذاباً من بعض، ولهذا فالكفر دركات كما أن الإيمان درجات، والكفار في النار على دركات كما أن أهل الجنة في الجنة على درجات، هؤلاء بعضهم فوق بعض، وهؤلاء بعضهم أسفل من بعض، والكفار في جهنم وإن كانوا كلهم في عذاب دائم مستمر، إلا أنهم متفاوتون في ذلك العذاب، ومعلوم أن الكافر الذي يصد عن سبيل الله ويكون شديد النكاية بالمسلمين أعظم من الكافر الذي كفره على نفسه، ولا يكون شديد النكاية وشديد الإيذاء للمسلمين.
إذاً: الحديث لا يدل على أن الكفار غير مخاطبين، وإنما فيه دليل على التدرج من الأهم إلى المهم في الدعوة، فيبدأ لهم بالأساس الذي إذا أتوا به انتقلوا إلى غيره، ولكن لا يعني ذلك أنهم غير مخاطبين بفروع الشريعة، بل هم مخاطبون للأدلة التي دلت على ذلك، ومنها الآيتان اللتان أشرت إليهما.
قوله: (فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم) يدل على أن الزكاة عندما تؤخذ من الأغنياء تصرف للفقراء، والفقراء من مصارف الزكاة الثمانية الذين ذكرهم الله عز وجل في قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) [التوبة:60] الآية، وهذا يدل على أن الزكاة يجوز أن تخرج لصنف واحد؛ لأنه قال: (تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم).
ويدل الحديث على الفرق بين الغني والفقير، وأن الغني هو الذي عنده مال يزكى، والفقير هو الذي ليس عنده شيء يزكى، بل إنه ليس عنده مال أصلاً، أو عنده مال لا يكفيه، فيعطى من الزكاة ما يكفيه لمدة سنة، وذلك لأن الزكاة تؤخذ كل سنة فيعطى من الزكاة ما يكفيه لسنة، وإذا مضت السنة فيعطى من الزكاة للسنة القادمة وهكذا.
وفيه دليل على أن الزكاة تصرف في بلد المال؛ لأنه قال في أهل اليمن: (تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم)، ولا شك أن الفقراء في البلد أولى الناس بزكاة أغنياء البلد، ولكن لا بأس أن تنقل الزكاة من بلد إلى بلد؛ لأنه قد يقال: المقصود بقوله: (تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) المسلمون أينما كانوا، فتؤخذ من أغنياء المسلمين، وترد على فقراء المسلمين، لكن لا شك أن فقراء البلد هم الأولى، وإذا كانت الزكاة فيها فائض أو كانت الحاجة في بلد آخر أشد وأعظم فإنه يجوز نقلها.
وقول النبي عليه الصلاة والسلام: (فإن هم أجابوك لذلك) أي: دفعوا الزكاة (فإياك وكرائم أموالهم) يعني: احذر أن تأخذ كرائم الأموال وهي الأموال النفيسة التي تعظم في عيون أهلها، والتي يصعب عليهم أخذها، وقد مر في الحديث أن الزكاة تكون من الأوساط، ولا تكون من الخيار ولا من الأشرار، كما سبق أن مر كلام الزهري الذي ذكره أبو داود وفيه أن المال يقسم أثلاثاً: ثلثاً خياراً، وثلثاً شراراً، وثلثاً وسطاً، فالزكاة إنما تؤخذ من الوسط.
هذا الحديث ذكر الزكاة ولم يذكر الصيام، مع أن فرض الصيام متقدم، فقد فرض في السنة الثانية، وبعث معاذ إلى اليمن كان في السنة العاشرة، فقيل: إنه لم يذكر الصيام؛ لأنه أراد أن يبين له أن يبدأ بالأهم فالأهم، وأيضاً: من أقدم على أن يؤدي الصلاة، ثم الزكاة، فإنه من السهل عليه أن يؤدي ما وراء ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم ما قصد أن يستوعب الأمور التي يدعى إليها، وإنما أرشده إلى أنه يبدأ بالأهم فالأهم؛ ولذا لم يذكر بقية أركان الإسلام من الصيام والحج؛ لأن مقصوده الإشارة بالبدء بالأهم فالأهم، ومن استجاب لهذه الأشياء التي ذكرت فإن الأشياء التي لم تذكر سيستجيب لها من باب أولى.(191/7)
تراجم رجال إسناد حديث بعث معاذ إلى اليمن
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا وكيع].
وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا زكريا بن إسحاق المكي].
زكريا بن إسحاق المكي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن عبد الله بن صيفي].
يحيى بن عبد الله بن صيفي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي معبد].
أبو معبد هو نافذ مولى ابن عباس وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وهم: عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن الزبير، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: أبو هريرة وابن عمر وابن عباس وأبو سعيد وأنس وجابر وأم المؤمنين عائشة ستة رجال وامرأة واحدة رضي الله تعالى عنهم وعن الصحابة أجمعين.
وهذا الحديث رجاله كلهم ممن خرج له أصحاب الكتب الستة: الإمام أحمد ووكيع وزكريا بن إسحاق ويحيى بن عبد الله بن صيفي ونافذ مولى ابن عباس وابن عباس.(191/8)
شرح حديث (المعتدي في الصدقة كمانعها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن سعد بن سنان عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (المعتدي في الصدقة كمانعها)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في المعتدي في الصدقة وأنه كمانعها، وذكر الحديث في هذه الترجمة له وجه؛ لأن له علاقة بالحديث الذي قبله؛ لأن الحديث الذي قبله فيه النهي عن أخذ كرائم الأموال والتحذير من ذلك، وأخذ كرائم الأموال من الاعتداء، وأيضاً: له تعلق بالباب الذي وراءه؛ لأن الباب الذي بعده فيه عدة أحاديث كلها تتعلق بالاعتداء في الصدقة.
قوله عليه الصلاة والسلام: (المعتدي في الصدقة كمانعها) فسر المعتدي في الصدقة بتفسيرين: أحدهما: أن يضعها في غير مستحقيها، فهو كمانعها؛ لأن إخراجها إنما يكون في سبيلها، وفي المواضع التي أمر بأن توضع فيها، فإذا وضعها في غير موضعها فكأنه لم يخرجها، بل هو آثم وكأنه ما أخرج الصدقة؛ لأنه وضعها في غير موضعها.
الثاني: فسر بأن يكون الاعتداء من العامل؛ وذلك بأن يأخذ أزيد من الواجب، أو يأخذ من كرائم الأموال، فيأثم بذلك كمانعها.
وقيل: يحتمل أن يكون المراد أن المصدق -الذي هو العامل- إذا أخذ كرائم الأموال فإن ذلك يؤدي إلى كون صاحب المال في المستقبل يكتم المال، ويتهرب من دفع الزكاة بسبب الظلم وبسبب الاعتداء عليه.
وكل ذلك لا شك أنه لا يجوز، فلا يجوز أن المالك يعطيها لمن لا يستحقها، ولا أن العامل يظلم صاحب المال، ولا أن يتسبب العامل بأخذ الكرائم في التهرب من الزكاة وعدم دفعها.(191/9)
تراجم رجال إسناد حديث (المعتدي في الصدقة كمانعها)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الليث].
الليث بن سعد المصري ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يزيد بن أبي حبيب].
يزيد بن أبي حبيب المصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعد بن سنان].
سعد بن سنان ويقال: سنان بن سعد وهو صدوق له أفراد، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن أنس].
أنس بن مالك رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخادمه وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(191/10)
شرح سنن أبي داود [192]
أمر الشارع عمال الصدقات بالرفق وحذرهم من أخذ الخيار والكرائم وحثهم على الدعاء لأصحاب الأموال، وأمر أصحاب الأموال بإرضاء مصدقيهم وإن اعتدوا، وقد بين الشرع أنصبة الأنعام وبين زكاة كل نصاب، وقد فسر العلماء ما ورد من أسماء الإبل المختلفة باختلاف الأعمار، كما ذكره أبو داود عنهم.(192/1)
رضا المصدق(192/2)
شرح حديث بشير بن الخصاصية في اعتداء المصدقين
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب رضا المصدق.
حدثنا مهدي بن حفص ومحمد بن عبيد المعنى قالا: حدثنا حماد عن أيوب عن رجل يقال له: ديسم، وقال ابن عبيد: من بني سدوس عن بشير بن الخصاصية رضي الله عنه، قال ابن عبيد في حديثه: وما كان اسمه بشيراً، ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سماه بشيراً، قال: قلنا: (إن أهل الصدقة يعتدون علينا، أفنكتم من أموالنا بقدر ما يعتدون علينا؟ فقال: لا)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: باب رضا المصدق، أي: العامل الذي يأتي لأخذ الزكاة، والمقصود أنه يرضى في حدود ما هو سائغ، وهو الوسط، وليس المعنى أنه يعطى أكثر مما يستحق وأكثر مما هو واجب في المال، اللهم إلا إذا كان صاحب المال هو الذي رضي بهذا، وهو الذي أراد هذا، كما سبق أن مر قريباً في حديث أبي حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذاك الذي عليك، فإن تطوعت بخير آجرك الله فيه)، فرضا المصدق يكون بإعطائه الحق، وعدم منازعته، وعدم المخاصمة معه، وعدم التلكؤ والممانعة في إخراج الزكاة، بل يخرج الإنسان الحق الذي عليه بطيب نفس، حتى يكون كلا الطرفين راضياً، فصاحب المال يخرج الزكاة برضا وانشراح صدر، والعامل يأخذ الحق الذي هو واجب على صاحب المال، فالرضا يكون من الطرفين.
وهذه الترجمة تتعلق برضا المصدق الذي هو العامل، ورضاه إنما يكون فيما هو واجب على المصدق، لا أن رضاه يكون بشيء أكثر من ذلك، وأنه يجب أن يرضى ولو طلب ما هو أكثر، فليس الأمر كذلك؛ لأنه كما سبق يعطى الواجب ولا يعطى أكثر من ذلك.
قوله: [قلنا: إن أهل الصدقة يعتدون علينا].
أهل الصدقة هم المصدقون، أي: العمال الذين يأتون لجباية الصدقة، وقوله: (يعتدون علينا) أي: بأن يأخذوا أكثر مما هو واجب علينا.
قال: (أفلا نكتم من أموالنا بقدر ما يعتدون علينا؟ قال: لا)، يعني: ليس للإنسان أن يكتم شيئاً من ماله بقدر ذلك الشيء الذي يعتدى عليه، ويجعل ذلك في مقابل الزيادة، فإذا كان -مثلاً- عليه جذعة التي تستحق عند واحد وستين، فيخفي شيئاً من المال حتى لا يخرج جذعة، ويجعل ذلك في مقابل ما أخذ منه ظلماً، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا)؛ لأن كتم المال والترخيص بكتم المال قد يؤدي بأصحاب الأموال إلى إخفاء أموالهم، ويتعودون الكذب وإخفاء الحقيقة والواقع، فالواجب أنهم لا يخفون شيئاً من أموالهم، وإذا طلب منهم الشيء الذي هو أكثر مما هو واجب عليهم يمتنعون من دفعه، وإذا طلب منهم الشيء الواجب عليهم دفعوه، وإذا أخذ منهم فوق الواجب بالقهر وبالقوة فإنهم يشكون إلى الوالي وإلى الإمام ليدفع الظلم عنهم.(192/3)
تراجم رجال إسناد حديث بشير بن الخصاصية في اعتداء المصدقين
قوله: [حدثنا مهدي بن حفص].
مهدي بن حفص مقبول أخرج حديثه أبو داود.
[ومحمد بن عبيد].
محمد بن عبيد بن حساب وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[المعنى قالا: حدثنا حماد].
أي: أنهما متفقان من حيث المعنى، وإن اختلفا في الألفاظ، وحماد هو حماد بن زيد بن درهم البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أيوب].
أيوب بن أبي تميمة السختياني وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن رجل يقال له: ديسم].
هو ديسم السدوسي وهو مقبول أخرج له أبو داود.
[عن بشير بن الخصاصية].
بشير بن الخصاصية رضي الله عنه وحديثه أخرجه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
الحديث فيه رجلان مقبولان، فهو غير صحيح، والكتمان لا يجوز، والرسول صلى الله عليه وسلم بين لهم أنه ليس لهم أن يكتموا.
وقوله: [قال ابن عبيد في حديثه: (وما كان اسمه بشيراً، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماه بشيراً)].
هذه فائدة ذكرها محمد بن عبيد وهو الشيخ الثاني من شيوخ أبي داود في الإسناد.(192/4)
شرح حديث بشير بن الخصاصية من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي ويحيى بن موسى قالا: حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن أيوب بإسناده ومعناه إلا أنه قال: (قلنا: يا رسول الله! إن أصحاب الصدقة يعتدون).
قال أبو داود: رفعه عبد الرزاق عن معمر].
في الإسناد السابق قال: (قلنا: إن أهل الصدقة يعتدون علينا، أفنكتم من أموالنا بقدر ما يعتدون علينا؟ فقال: لا)].
فالمخاطب غير معين، هل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم أو غيره؟ فليس فيه: (قلنا يا رسول الله) أما الحديث الثاني ففيه أنهم قالوا: (قلنا يا رسول الله!) فهو صريح في أن المخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: [بإسناده ومعناه إلا أنه قال: (قلنا: يا رسول الله! إن أصحاب الصدقة يعتدون)].
يعني أن الفرق بين هذا الحديث والذي قبله أن هذا عيَّن المخاطب، وأنه الرسول صلى الله عليه وسلم، والأول لم يعين المخاطب، فيحتمل أن يكون الرسول وأن يكون غيره.(192/5)
تراجم رجال إسناد حديث بشير بن الخصاصية من طريق ثانية
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
الحسن بن علي الحلواني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[ويحيى بن موسى].
يحيى بن موسى ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا عبد الرزاق].
عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن معمر].
معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أيوب بإسناده ومعناه].
أيوب قد مر ذكره، وفيه الرجل المقبول الذي هو ديسم السدوسي.
[قال أبو داود: رفعه عبد الرزاق عن معمر].
أي: ذكر كلمة: (قلنا: يا رسول الله) عبد الرزاق عن معمر.(192/6)
شرح حديث (سيأتيكم ركيب مبغضون)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عباس بن عبد العظيم ومحمد بن المثنى قالا: حدثنا بشر بن عمر عن أبي الغصن عن صخر بن إسحاق عن عبد الرحمن بن جابر بن عتيك عن أبيه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (سيأتيكم ركيب مبغضون، فإن جاءوكم فرحبوا بهم وخلوا بينهم وبين ما يبتغون، فإن عدلوا فلأنفسهم، وإن ظلموا فعليها، وأرضوهم فإن تمام زكاتكم رضاهم، وليدعوا لكم)].
أورد أبو داود حديث جابر بن عتيك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيأتيكم ركيب مبغضون)، والمقصود بهم عمال الزكاة، وذكر أنهم مبغضون لأن بعض الناس عنده حرص على المال، ورغبة في الأخذ، وليس عنده رغبة في الإعطاء، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ومنعاً وهات) فهات سهلة، وخذ صعبة عنده.
قوله: [(فإن جاءوكم فرحبوا بهم)] يعني: لاقوهم بالبشر والترحيب.
قوله: [(وخلوا بينهم وبين ما يبتغون)] يعني: يأخذون ما يريدون من مالكم.
قوله: [(فإن عدلوا فلأنفسهم، وإن ظلموا فعليها)] إن أحسنوا فلأنفسهم، وإن أساءوا فعليها.
قوله: [(وأرضوهم فإن تمام زكاتكم رضاهم، وليدعوا لكم)].
هذا الحديث ضعيف، والإنسان إذا سئلها على وجهها أداها، وإذا سئلها على غير وجهها لا يؤديها، كما سبق في حديث أنس الطويل الصحيح الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما هذا الحديث فغير صحيح؛ لأن فيه من هو متكلم فيه كما سيأتي في الإسناد.(192/7)
تراجم رجال إسناد حديث (سيأتيكم ركيب مبغضون)
قوله: [حدثنا عباس بن عبد العظيم].
عباس بن عبد العظيم العنبري البصري ثقة أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[ومحمد بن المثنى].
محمد بن المثنى العنزي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا بشر بن عمر].
بشر بن عمر ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الغصن].
أبو الغصن هو ثابت بن قيس بن غصن، وهو صدوق يهم، أخرج له البخاري في رفع اليدين وأبو داود والنسائي.
[عن صخر بن إسحاق].
صخر بن إسحاق لين الحديث، وحديثه أخرجه أبو داود.
[عن عبد الرحمن بن جابر بن عتيك].
عبد الرحمن بن جابر بن عتيك وهو مجهول أخرج له أبو داود.
[عن أبيه].
وهو صحابي أخرج له أبو داود والنسائي.
إذاً: الحديث فيه لين، وفيه مجهول، فهو مردود، وأيضاً في معناه نكارة؛ لأنه قال عن الركب: مبغضون، وليس كل إنسان يبغض العمال، وإنما الذي يبغضهم من عنده شح، وكثير من الناس يحبون أن يتخلصوا من الواجب الذي عليهم وأن يؤدوه، وألا يبقى في ذممهم شيء، وفيهم من يخرج أكثر من الواجب كما مر بنا في بعض الأحاديث.
[قال أبو داود: أبو الغصن هو: ثابت بن قيس بن غصن].(192/8)
شرح حديث (أرضوا مصدقيكم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو كامل حدثنا عبد الواحد -يعني ابن زياد - ح وحدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا عبد الرحيم بن سليمان -وهذا حديث أبي كامل - عن محمد بن أبي إسماعيل حدثنا عبد الرحمن بن هلال العبسي عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: (جاء ناس -يعني من الأعراب- إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: إن ناساً من المصدقين يأتونا فيظلمونا، فقال: أرضوا مصدقيكم قالوا: يا رسول الله! وإن ظلمونا؟ قال: أرضوا مصدقيكم، زاد عثمان وإن ظلمتم).
قال أبو كامل في حديثه: قال جرير: ما صدر عني مصدق بعدما سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا وهو عني راض].
أورد أبو داود حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه وقوله في إرضاء المصدقين، وهم العمال، فيرضون بإعطائهم الواجب، وإذا اعتدى العامل وأخذ أكثر من الواجب فإنه إما أن يدفع له ويشتكى أو يبين له بأن هذا ليس لك، وإنما الذي لك كذا وكذا، وفيه أن جريراً رضي الله عنه وأرضاه بعدما سمع هذا الحديث قال: ما أتاني مصدق إلا وذهب من عندي راضياً أي: أنه يؤدي الحق الذي عليه، وأنه قد يزيد من باب التطوع وليس من باب الوجوب.(192/9)
تراجم رجال إسناد حديث (أرضوا مصدقيكم)
قوله: [حدثنا أبو كامل].
أبو كامل الجحدري فضيل بن حسين وهو ثقة أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا عبد الواحد -يعني ابن زياد -].
عبد الواحد بن زياد وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وحدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي في عمل اليوم والليلة وابن ماجة.
[حدثنا عبد الرحيم بن سليمان].
عبد الرحيم بن سليمان وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن أبي إسماعيل].
وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا عبد الرحمن بن هلال العبسي].
وهو ثقة أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن جرير بن عبد الله].
جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(192/10)
ما جاء في دعاء المصدق لأهل الصدقة(192/11)
شرح حديث (اللهم صل على آل أبي أوفى)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب دعاء المصدق لأهل الصدقة.
حدثنا حفص بن عمر النمري وأبو الوليد الطيالسي المعنى قالا: حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما قال: (كان أبي من أصحاب الشجرة، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صل على آل فلان، قال: فأتاه أبي بصدقته فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى)].
قوله في الترجمة: [دعاء المصدق لأهل الصدقة] يعني دعاء العامل لأهل الصدقة إذا أخذ صدقاتهم، فإنه يدعو لهم، والمقصود من الترجمة الدعاء، والصلاة هي دعاء، فقوله: (اللهم صل على آل أبي أوفى) هو دعاء لهم، وكذلك يستحب أن يدعو لهم بالبركة؛ للحديث الذي سبق أن مر وفيه: (ودعا له بالبركة) في قصة الذي دفع ناقة أكبر من السن التي هي واجبة عليه.
قوله: [(كان أبي من أصحاب الشجرة)] هذا: عبد الله بن أبي أوفى كان أبوه من الذين بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، وكون الصحابي يذكر أنه من أهل الشجرة يدل على أنه صاحب منقبة؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أهل بيعة الرضوان: (لن يلج النار أحد بايع تحت الشجرة)؛ ولذا يأتي في وصف بعض الصحابة: فلان بايع تحت الشجرة، فلان من أهل بيعة الرضوان، أي: أنه من أهل هذه المنقبة والفضيلة، وكانوا ألفاً وأربعمائة.
قوله: [(وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صل على آل فلان، فأتاه أبي بصدقته فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى)] الصلاة هي دعاء، وقيل: إن العامل يدعو لهم كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، وقيل: المقصود من ذلك الدعاء بأي دعاء يعود عليهم بالخير والفائدة في الدنيا والآخرة؛ ولهذا عقد أبو داود رحمه الله الترجمة: دعاء المصدق لأهل الصدقة، وقوله: (آل أبي أوفى) قيل: المقصود به المتصدق وهو أبو أوفى، وقيل: المقصود هو وآله.(192/12)
تراجم رجال إسناد حديث (اللهم صل على آل أبي أوفى)
قوله: [حدثنا حفص بن عمر النمري].
حفص بن عمر النمري ثقة أخرج حديثه البخاري وأبو داود والنسائي.
[وأبو الوليد الطيالسي].
وأبو الوليد الطيالسي هو هشام بن عبد الملك الطيالسي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن مرة].
عمرو بن مرة الهمداني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن أبي أوفى].
عبد الله بن أبي أوفى رضي الله تعالى عنه صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(192/13)
تفسير أسنان الإبل(192/14)
تفسير أهل اللغة وغريب الحديث لأسنان الإبل
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب تفسير أسنان الإبل.
قال أبو داود: سمعته من الرياشي، وأبي حاتم وغيرهما، ومن كتاب النضر بن شميل، ومن كتاب أبي عبيد، وربما ذكر أحدهم الكلمة؛ قالوا: يسمى الحوار، ثم الفصيل إذا فصل، فتكون بنت مخاض لسنة إلى تمام سنتين، فإذا دخلت في الثالثة فهي ابنة لبون، فإذا تمت لها ثلاث سنين فهو حِقّ وحقة إلى تمام أربع سنين؛ لأنها استحقت أن تركب ويحمل عليها الفحل وهي تلقح، ولا يلقح الذكر حتى يثني، ويقال للحقة: طروقة الفحل؛ لأن الفحل يطرقها إلى تمام أربع سنين، فإذا طعنت في الخامسة فهي جذعة حتى يتم لها خمس سنين، فإذا دخلت في السادسة وألقى ثنيته فهو حينئذ ثني حتى يستكمل ستاً، فإذا طعن في السابعة سمي الذكر رباعياً، والأنثى رباعية إلى تمام السابعة، فإذا دخل في الثامنة وألقى السن السديس الذي بعد الرباعية فهو سديس وسدسٌ إلى تمام الثامنة، فإذا دخل في التسع وطلع نابه فهو بازل أي: بزل نابه يعني: طلع، حتى يدخل في العاشرة فهو حينئذ مخلفٌ، ثم ليس له اسم ولكن يقال: بازل عام وبازل عامين، ومخلف عام، ومخلف عامين، ومخلف ثلاثة أعوام إلى خمس سنين، والخلفة الحامل.
قال أبو حاتم: والجذوعة: وقت من الزمن ليس بسن، وفصول الأسنان عند طلوع سهيل.
قال أبو داود: وأنشدنا الرياشي: إذا سهيل آخر الليل طلع فابن اللبون الحق والحق جذع لم يبق من أسنانها غير الهبع والهبع الذي يولد في غير حينه].
هذه الترجمة ليس فيها أحاديث، وإنما فيها بيان أسنان الإبل وتفسيرها وتوضيحها، ونقل ذلك عن أئمة اللغة، وأبو داود رحمه الله ذكر هذا الكلام الذي نقله عن أربعة من العلماء، اثنين سمع منهما وهما الرياشي وأبو حاتم، واثنين قرأ من كتبهما وهما أبو عبيد القاسم بن سلام والنضر بن شميل، وكل منهما له كتاب في غريب الحديث، وقال: (وربما ذكر أحدهم الكلمة) أي: أن هذا الكلام الذي سيذكره من التفسير ليس عن كل واحد منهم جميعاً، وأنهم متفقون عليه كله، وإنما فيه شيء يتفقون عليه، وشيء قد يكون بعضهم ينفرد بالكلمة، ولكنه ما خرج عن مجموع كلامهم.(192/15)
تراجم علماء اللغة الذين فسروا أسنان الإبل
الرياشي هو عباس بن الفرج، وهو ثقة أخرج له أبو داود.
وأبو حاتم هو سهل بن محمد بن عثمان السجستاني اللغوي وهو صدوق أخرج له أبو داود والنسائي.
قوله: [وغيرهما].
يعني وسمعه من غير هذين الاثنين.
[ومن كتاب النضر بن شميل].
يعني أنه رآه في كتاب النضر بن شميل، وكذلك في كتاب أبي عبيد القاسم بن سلام، والنضر بن شميل ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وأبو عبيد القاسم بن سلام ثقة أخرج له البخاري تعليقاً وفي جزء القراءة وأبو داود.(192/16)
شرح أسنان الإبل كما ذكرها أهل اللغة وغريب الحديث
ثم بدأ بذكر الأسنان، فإذا خرج من بطن أمه فإنه يقال له: حوار، ثم يقال له: فصيل، وهذا كله قبل أن يدخل في السنة الثانية؛ لأن الحوار والفصيل يكونان في السنة الأولى، والحوار من حين يخرج من بطن أمه، ثم يقال له: فصيل، ثم يقال له: ابن مخاض ذكر أو ابنة مخاض أنثى إذا أكملت السنة الأولى ودخلت في السنة الثانية، فإذا دخلت في الثالثة يقال لها: بنت لبون، وإذا دخلت في الرابعة يقال لها: حقة، وإذا دخلت في الخامسة يقال لها: جذعة، فإذا دخلت في السادسة يقال لها: ثنية أو ثني إذا كان ذكراً، فإذا طعن في السابعة سمي الذكر رباعياً والأنثى رباعية، وإذا دخل في الثامنة يقال له: سديس وسدس، فإذا دخل في التاسعة يقال له: بازل، وإذا دخل في العاشرة يقال له: مخلف، ثم تقف الأسنان عند ذلك، إلا أنه يقال في البازل: بازل عام، وبازل عامين، ويقال في المخلف: مخلف عام، ومخلف عامين، ومخلف ثلاثة أعوام، ومخلف أربعة أعوام، ومخلف خمسة أعوام، وهذا هو الحد الأعلى الذي ذكر لأسنان الإبل.
قوله: (فإذا تمت لها ثلاث سنين فهو حق وحقة إلى تمام أربع سنين؛ لأنها استحقت أن تركب ويحمل عليها الفحل).
يعني ينزو عليها، أو المعنى أنها تمسك للفحل.
قوله: (وهي تلقح، ولا يلقح الذكر حتى يثني).
يعني لا يلقح الذكر حتى يثني أي: يكمل خمس سنين ويدخل في السنة السادسة، والثني هو الذي يبدأ فيه سن الأضاحي؛ لأن الذي يجزئ في الأضاحي والهدي الجذع من الضأن والثني من غيره، والثني من المعز ما أكمل سنة، ومن البقر ما أكمل سنتين، ومن الإبل ما أكمل خمس سنوات.
قوله: (ويقال للحقة: طروقة الفحل؛ لأن الفحل يطرقها).
هذا تعليل لسبب تسميتها طروقة وحقة، وهي أنها استحقت أن يطرقها الجمل.
وبالنسبة للبازل والمخلف فإنهما يتفقان إذا دخل في العاشرة، فيقال له: بازل عامين، ويقال له: مخلف عام، يعني: يقال له: مخلف عام وهو بازل عامين.
قوله: (قال أبو حاتم: والجذوعة وقت من الزمن ليس بسن).
يعني الوقت الذي تحصل فيه الولادة في غير الوقت المعتاد.
ثم ذكر الأوقات المعتادة بالنسبة لنتاج الإبل، فقال: (وفصول الأسنان عند طلوع سهيل).
أي: أن الحساب يبدأ من طلوع سهيل؛ لأن الغالب أن الولادة تكون عند طلوع سهيل، وكأن الإبل تهيج في وقت من الأوقات فتحمل الذكور على الإناث فتكون ولادتها في وقت طلوع سهيل، وهو نجم معروف يقال له: سهيل، فيكون بدء الحساب من طلوع سهيل، فتنتقل من كونها جذعة إلى كونها رباعية، ومن كونها رباعية إلى كونها سدس، وهكذا، فالحساب يكون من طلوع سهيل، ومن ولد في غير الوقت المعتاد فإنه يحسب من ذلك الوقت، لكن الذي لا يعرف وقت ولادته فإنه يصار فيه إلى وقت إنتاج الإبل الذي هو طلوع سهيل.
فقوله: (وفصول الأسنان عند طلوع سهيل).
يعني: إذا طلع سهيل فمن كانت بنت مخاض تنتقل إلى كونها بنت لبون، ومن كانت بنت لبون تنتقل إلى كونها حقة، ومن كانت حقة تنتقل إلى كونها جذعة، وهكذا، ومن كانت ولادتها في غير هذا الوقت الذي هو الغالب والمعتاد؛ فإنه يقال لها جذوعة، وهي أيضاً الهبع الذي يولد في غير سنه.
وقوله: (الجذوعة وقت من الزمن ليس بسن).
يعني: من ولد في الصيف أو في غير وقت سهيل فهو ليس بسن، فلا يحسب منه الحساب المعتاد، ولكنه يحسب من حين ولادته؛ لأنه لم يولد في الوقت المعتاد.
قوله: (وأنشدنا الرياشي: إذا سهيل آخر الليل طلع فابن اللبون الحق والحق جذع لم يبق من أسنانها غير الهبع].
يعني الذي كان سنه ابن لبون ينتقل إلى كونه حقاً، والذي كان حقاً ينتقل من كونه حقاً إلى كونه جذعاً، ولم يبق من أسنانها إلا الهبع وهو الذي لم يولد في الوقت الغالب والمعتاد وهو وقت طلوع سهيل.(192/17)
شرح سنن أبي داود [193]
من آداب المصدق: أن يأتي الناس في مواردهم ولا يجلبهم إلى مكان يجلس فيه، ولا يجوز للرجل أن يبتاع صدقته، ولا زكاة في خيل ولا رقيق، ولا فيما خرج من الأرض حتى يبلغ نصاباً، فإذا بلغه ففيه عشر أو نصفه بحسب السقي.(193/1)
أين تصدق الأموال؟(193/2)
شرح حديث (لا جلب ولا جنب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب أين تصدق الأموال.
حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ابن أبي عدي عن ابن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لا جلب ولا جنب، ولا تؤخذ صدقاتهم إلا في دورهم)].
أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى باباً في بيان أين يأخذ المصدق الصدقات، يعني: هل يذهب إلى أصحاب الأموال والمواشي على مياههم التي يردون عليها، أم أنه يجلس في مكان معين ويرسل للناس أن يأتوا إليه بمواشيهم؟
الجواب
العامل يذهب إلى أصحاب المواشي على مياههم، ولا يكلفهم مشقة الذهاب إليه، والتحول من الأماكن التي يسرحون فيها في البراري، ولا يجعلهم ينتقلون من مكان إلى مكان ليأتوا إلى المصدق فيدفعوا إليه الزكاة، وإنما يأتي إليهم على المياه، وينتقل من ماء إلى ماء ويأخذ الزكاة على المياه، وهذا فيه رفق بالناس وعدم إدخال مشقة عليهم.
هذا هو المقصود من الترجمة، أي: أن الزكوات تؤخذ منهم على مياههم، ولا يجلس العامل في مكان ثم يرسل إلى الناس أن يأتوا إليه.
أورد أبو داود حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(لا جلب ولا جنب)] المراد بالجلب: هو كون المصدق يكون في ناحية من النواحي ويطلب من أصحاب الأموال أن يجلبوا أموالهم إليه، وأن يسوقوها إليه من أجل أن يأخذ منهم الزكاة، هذا هو المقصود بالجلب فيما يتعلق بزكاة المواشي.
وله معنى آخر فيما يتعلق بالسباق، وهو أن يجعل فرساً آخر بجانب الفرس الذي يسابق عليه حتى يتحول إليه، أو أن أناساً يصيحون بالفرس من أجل أن يزيد في العدو، فجاء الجلب بهذا المعنى وبهذا المعنى، لكن الذي يطابق الترجمة هو المعنى الأول، وهو كون العامل يكون في ناحية من النواحي ويأمر أصحاب الأموال أن يأتوا إليه.
وكذلك فسر الجنب بهذا المعنى، وهو أن يكون في جانب من الجوانب التي فيها المياه، ثم يأمر الناس أن يأتوا إليه، فيكون قريباً من معنى الجلب.
قوله: (ولا تؤخذ صدقاتهم إلا في دورهم) هذا تأكيد للمعنى الأول، يعني: إلا في أماكنهم وفي مياههم، فقوله: (لا تؤخذ إلا في دورهم) هو بمعنى قوله: (لا جلب)؛ لأنه لو كانت الصدقات لا تؤخذ من الناس في دورهم وفي مياههم فإنهم سيذهبون بها ويجلبونها إلى العمال من أجل أن يأخذوا منها الزكاة.(193/3)
تراجم رجال إسناد حديث (لا جلب ولا جنب)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ابن أبي عدي].
هو محمد بن إبراهيم بن أبي عدي وهو صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن إسحاق].
وهو محمد بن إسحاق المدني صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عمرو بن شعيب].
عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو صدوق أخرج له البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
شعيب بن محمد وهو صدوق أخرج له البخاري في الأدب المفرد وجزء القراءة وأصحاب السنن.
[عن جده].
عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما وهو صحابي جليل أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم وأرضاهم، وهم: عبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير، وحديث عبد الله بن عمرو أخرجه أصحاب الكتب الستة.(193/4)
شرح أثر ابن إسحاق في تفسير (لا جلب ولا جنب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال: سمعت أبي يقول عن محمد بن إسحاق في قوله: (لا جلب ولا جنب) قال: أن تصدق الماشية في مواضعها ولا تجلب إلى المصدق، والجنب عن غيره هذه الفريضة أيضاً، لا يجنب أصحابها، يقول: ولا يكون الرجل بأقصى مواضع أصحاب الصدقة فتجنب إليه، ولكن تؤخذ في موضعه].
قوله: (لا يجنب أصحابها) يعني أنه يجعل الجنب من العامل أو من أصحاب الأموال، فلا يجنب أصحابها بمعنى أن يبتعدوا عنه إذا علموا بالمصدق، فيذهبون إلى أماكن أخرى غير المكان الذي كانوا فيه، وإنما يبقون في أماكنهم حتى يأتي إليهم العامل ويأخذ منهم، فلا يجنب أصحاب الأموال، ولا يجنب العامل أيضاً بحيث يكون في جانب من المياه ثم يأمر أصحاب الأموال بأن يأتوا إليه، فالجنب يكون من جهة العامل ويكون من جهة المالكين.(193/5)
تراجم رجال إسناد أثر ابن إسحاق في تفسير (لا جلب ولا جنب)
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
الحسن بن علي الحلواني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا يعقوب بن إبراهيم].
يعقوب بن إبراهيم بن سعد وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت أبي].
وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن إسحاق].
مر ذكره، وهذا المتن يقال له: مقطوع؛ لأن المتن انتهى إلى محمد بن إسحاق، وفيه تفسير للجلب والجنب الذي جاء في الحديث، ومحمد بن إسحاق هو راوي الحديث كما في الإسناد السابق، ثم ذكر أبو داود إسناداً انتهى إليه والمتن من قوله فيه تفسير الجلب والجنب، وهذا يسمى في علم المصطلح المقطوع، والمقطوع: هو المتن الذي انتهى إلى من دون الصحابي؛ لأن المتن إذا انتهى إلى الصحابي يقال له: موقوف، والمتن الذي انتهى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يقال له: مرفوع، والمتن الذي ينتهي إلى التابعي أو من دون التابعي يقال له: مقطوع، فالمقطوع من صفات المتون بخلاف المنقطع فإنه من صفات الأسانيد؛ لأنه سقوط راو من الإسناد.
قوله: [والجنب عن غيره هذه الفريضة] يعني: أن العامل يجنب عن الملاك أو الملاك يجنبون عن العامل بمعنى أنهم يبتعدون عنه، وقوله: (هذه الفريضة) المقصود بها الزكاة، يعني: يجنبون من أجل الفريضة التي هي واجبة عليهم، ويريدون أن يبتعدوا عن العامل حتى لا يؤدوا الحق، أو أن العامل يكون في جانب ويأمرهم أن يأتوا إليه.
ومعنى كلمة (غيره) في قوله: (والجنب عن غيره هذه الفريضة) يعني: العامل يجنب عن المالك، والمالك يجنب عن العامل، فكل واحد منهما يجنب عن الآخر، ففيه إجناب عن الغير، العامل يكون في جانب بعيد عن الملاك أو الملاك يبتعدون ويكونون في جانب بعيدين عنه.(193/6)
الرجل يبتاع صدقته(193/7)
شرح حديث (لا تبتعه ولا تعد في صدقتك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الرجل يبتاع صدقته: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حمل على فرس في سبيل الله، فوجده يباع، فأراد أن يبتاعه، فسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فقال: لا تبتعه، ولا تعد في صدقتك)].
أورد أبو داود هذه الترجمة وهي: باب الرجل يبتاع صدقته، يعني: يشتريها، أي أنه تصدق بصدقة، ثم يجدها تباع فهل يشتريها أو لا يشتريها؟ أورد أبو داود رحمه الله حديث عمر رضي الله عنه: (أنه حمل على فرس في سبيل الله) أي: أنه أعطاه لرجل ليجاهد عليه في سبيل الله؛ لأن الحمل على الفرس معناه حمل الرجال كما جاء في القرآن الكريم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة:92]، وذلك جواباً لمن كانوا يأتون إليه يطلبون أن يحملهم ليجاهدوا؛ لأنهم لا ظهر عندهم ولا مركوب، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول لهم: (لا أجد ما أحملكم عليه) فيتولون وأعينهم تفيض من الدمع؛ حزناً حيث لم يتيسر لهم أن يجاهدوا لعجزهم ولضعفهم وقلة ذات أيديهم.
وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في غزوة تبوك: (إن في المدينة لرجالاً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم)، وفي بعض الروايات: (إلا شركوكم في الأجر، حبسهم العذر) أي: حبسهم العذر عن الجهاد، فهم يجاهدون بنياتهم، يقول ابن القيم رحمه الله: الجهاد يكون بالنية، ويكون بالمال، ويكون بالنفس، ويكون باللسان، يعني في الدعوة إلى الله عز وجل والدفاع عن الإسلام.
قوله: (حمل عليه في سبيل الله) أي: أنه أعطاه إياه ليجاهد عليه، وليس معناه أنه وقف؛ لأن الوقف لا يباع، ولكنه أعطاه الفرس ليجاهد عليه، فهو مالك له، ولهذا أمكنه أن يبيعه، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله فقال: (لا تبتعه ولا تعد في صدقتك) ولعل هذا المنع -والله أعلم- لأن صاحبه إذا عرف أن الذي سيشتريه هو الذي أعطاه إياه فلعله يسامحه أو يعطيه برخص، فمنع من ذلك قطعاً لهذه الذريعة، والإنسان لا يعود في صدقته، ولا يشتري صدقته، لكن لو عادت إليه بالإرث أو أعطاها لشخص ثم مات عنها وكان هو الوارث له، فإن ذلك يعود عليه.(193/8)
تراجم رجال إسناد حديث (لا تبتعه ولا تعد في صدقتك)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
عبد الله بن مسلمة القعنبي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا مالك].
مالك بن أنس إمام دار الهجرة الإمام الفقيه المحدث المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
نافع مولى ابن عمر ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله].
عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث من الأسانيد العالية عند أبي داود؛ لأنه من الرباعيات، والرباعيات هي أعلى الأسانيد عند أبي داود، فهو عن القعنبي عن مالك عن نافع عن ابن عمر، فبين أبي داود وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أشخاص، وهذا من أعلى الأسانيد عند أبي داود، وهي كثيرة.(193/9)
حكم من اشترى صدقته
وحكم من اشترى صدقته أن البيع باطل، ويجوز للفقير أن يبيعها، ولكن لا يجوز للمتصدق عليه أن يشتريها.(193/10)
صدقة الرقيق(193/11)
شرح حديث (ليس في الخيل والرقيق زكاة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب صدقة الرقيق.
حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن يحيى بن فياض قالا: حدثنا عبد الوهاب حدثنا عبيد الله عن رجل عن مكحول عن عراك بن مالك عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ليس في الخيل والرقيق زكاة إلا زكاة الفطر في الرقيق).
حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا مالك عن عبد الله بن دينار عن سليمان بن يسار عن عراك بن مالك عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة)].
أورد أبو داود رحمه الله باب الزكاة في الرقيق، وهم المملوكون من الرجال والنساء، وإذا كان الإنسان عنده جملة من الأرقاء فليس فيهم زكاة، لكن على وليهم أن يخرج عنهم زكاة الفطر، أما إذا كان الإنسان يبيع ويشتري في الرقيق فإنه يزكي الرقيق زكاة التجارة، فيقوم الأرقاء الذين في حوزته عند حولان الحول، ويضم إليهم ما كان عنده متوافراً من النقود، ويخرج من الجميع ربع العشر.
والإسناد الأول فيه مجهول، ولكن الإسناد الثاني هو بمعناه وهو صحيح، وليس فيه علة ولا كلام، إلا أن زكاة الفطر في الرقيق واجبة كما جاء في صحيح مسلم في بعض الروايات، وعلى هذا فالحديثان صحيحان حتى الحديث الذي في سنده رجل مبهم، والجهالة التي فيه لا تؤثر؛ لأن الحديث الذي بعده صحيح يشهد له.(193/12)
تراجم رجال إسناد حديث (ليس في الخيل والرقيق زكاة)
قوله: [حدثنا محمد بن المثنى].
محمد بن المثنى العنزي أبو موسى الملقب بالزمن ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة، كل واحد منهم روى عنه مباشرة وبدون واسطة.
[ومحمد بن يحيى بن فياض].
محمد بن يحيى بن فياض ثقة أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا عبد الوهاب].
عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله].
عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم وهو المصغر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن رجل].
قال الحافظ: كأنه إسماعيل بن أمية بن عمرو الأموي، وهو ثقة أخرج له أصحاب السنن، وهذا احتمال، ولكن الجهالة لا تؤثر هنا؛ لأن الحديث ثابت بالذي بعده.
[عن مكحول].
مكحول الشامي وهو ثقة أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عراك بن مالك].
عراك بن مالك وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق.
وقوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا مالك عن عبد الله بن دينار].
عبد الله بن دينار ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سليمان بن يسار].
سليمان بن يسار وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين.
[عن عراك عن أبي هريرة].
مر ذكرهما.(193/13)
وجوب زكاة الفطر على سيد الرقيق
ليس على السيد زكاة في رقيقه إلا زكاة الفطر، فيجب عليه أن يزكي عنهم؛ لأنها تجب على الحر والعبد والذكر والأنثى، ولا يجب عليه زكاة في عينه؛ لأنه ليس من الأموال الزكوية.(193/14)
صدقة الزرع(193/15)
شرح حديث (فيما سقت السماء والأنهار والعيون العشر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب صدقة الزرع.
حدثنا هارون بن سعيد بن الهيثم الأيلي حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (فيما سقت السماء والأنهار والعيون أو كان بعلاً العشر، وفيما سقي بالسواني أو النضح نصف العشر)].
أورد أبو داود رحمه الله باب صدقة الزرع، أي: حكم الزكاة في الزرع ومقدارها، وأورد أبو داود حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(فيما سقت السماء والأنهار والعيون أو كان بعلاً العشر)] المقصود بالسماء المطر الذي يسخره الله بين السماء والأرض، ثم ينزله، فما شرب من النبات بماء المطر فإن فيه العشر؛ لأنه ليس هناك مشقة على صاحبه في سقيه، وكذلك الأنهار والعيون الجارية التي تجري ولا يحتاج المزارع إلى تعب ومشقة في استعمالها، أو كان النبات بعلاً، أي: يشرب بعروقه، ولا يستخرج له صاحبه ماء ولا يسقي بالنضح، وإنما يشرب بعروقه، أي: أن الماء قريب منه فيشرب بعروقه، فهذا يقال له: بعل كما أنه يقال للذي يسقى بماء المطر: بعل، فهذا فيه العشر.
قوله: (بالسواني أو النضح) السواني: جمع سانية، وهي الإبل أو البقر أو الحمير التي يستخرج الماء بها بواسطة الدلاء الكبيرة، فيكون الرشاء على البقرة -مثلاً- ثم يكون هناك غرب، فتمشي النواضح حتى يصل الماء إلى خارج البئر فيصب في حوض، ثم يسقى به بالسواني، ولهذا يقال للبعير: سانية، ويقال له أيضاً: ناضح، فالناضح والسانية هو البعير الذي يخرج الماء بواسطته، فما سقي بالسواني أو النضح ففيه نصف العشر، وكذلك أيضاً ما في هذا الزمان من المضخات والحفارات التي تأتي بالماء من أماكن بعيدة، ويكون تشغيلها بواسطة التيار الكهربائي، وتخرج الماء بواسطة المضخات والمكائن التي تستخرجه أو يحفظ في مواسير تثبت في الأرض ثم يخرج الماء بواسطة الكهرباء، وهذا من جنس النضح لأنه يتعب عليه، وفيه استهلاك وقود لإخراجه؛ ولذا فإن فيه نصف العشر.
والحاصل أن ما حصل بدون مشقة وبدون عناء وبدون تعب ففيه العشر، وما حصل بمشقة وعناء وتعب واستهلاك أموال ففيه نصف العشر.(193/16)
تراجم رجال إسناد حديث (فيما سقت السماء والأنهار والعيون العشر)
قوله: [حدثنا هارون بن سعيد بن الهيثم الأيلي].
هارون بن سعيد بن هيثم الأيلي ثقة أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني يونس بن يزيد].
عبد الله بن وهب المصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
ويونس بن يزيد الأيلي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سالم بن عبد الله].
سالم بن عبد الله بن عمر ثقة فقيه أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
وهو عبد الله بن عمر وقد مر ذكره.(193/17)
متى يجب ثلاثة أرباع العشر في الزكاة
إذا كان هناك مشقة وعدم مشقة في السقي فينظر إلى الغالب، فإن كان الغالب هو المشقة ففيه نصف العشر، وإن كان الغالب عدم المشقة ففيه العشر، وإن كانا سواء ففيه ثلاثة أرباع العشر.(193/18)
شرح حديث (فيما سقت الأنهار والعيون العشر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني عمرو عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (فيما سقت الأنهار والعيون العشر، وما سقي بالسواني ففيه نصف العشر)].
حديث جابر هو بمعنى حديث ابن عمر المتقدم، والحديث استدل به من يقول: إن الخارج من الأرض ليس له نصاب وإن الزكاة تجب في القليل والكثير، ولكن الحديث الذي بين أن الزكاة إنما تجب بالنصاب هو الذي يعتمد، ويخص به عموم هذا الحديث؛ لأن قوله: (فيما سقت السماء) يعم ما كان قليلاً أو كثيراً لإطلاقه، ولو لم يأت ما يدل على تحديد النصاب لكان كل شيء يخرج فيه العشر أو نصف العشر لإطلاقه؛ ولهذا أخذ بعض العلماء بإطلاقه، لكن الحديث الذي فيه: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) يدل على أن هناك نصاباً إذا وصل إليه مقدار الزرع أو الثمر فإنه يزكى وإذا نقص عنه فإنه لا يزكى.(193/19)
تراجم رجال إسناد حديث (فيما سقت الأنهار والعيون العشر)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
أحمد بن صالح المصري ثقة أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني عمرو].
عبد الله بن وهب مر ذكره، وعمرو هو ابن الحارث المصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الزبير].
محمد بن مسلم بن تدرس المكي صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(193/20)
تفسير البعل
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الهيثم بن خالد الجهني وحسين بن الأسود العجلي قالا: قال وكيع: البعل: الكبوس الذي ينبت من ماء السماء.
قال ابن الأسود: وقال يحيى -يعني ابن آدم - سألت أبا إياس الأسدي عن البعل فقال: الذي يسقى بماء السماء.
وقال النضر بن شميل: البعل ماء المطر].
أورد أبو داود آثاراً في تفسير البعل، وأنه الذي يسقى بماء السماء أو يسقى بماء المطر، وفيه أن بعضهم قال: البعل هو المطر، وكلها ترجع إلى الذي يسقى بماء الأمطار.(193/21)
تراجم رجال أسانيد تفسير البعل
قوله: [حدثنا الهيثم بن خالد الجهني].
الهيثم بن خالد الجهني وهو ثقة أخرج له أبو داود.
[وحسين بن الأسود العجلي].
وهو حسين بن علي بن الأسود صدوق يخطئ كثيراً، أخرج حديثه الترمذي، قال الحافظ في التقريب: لم يثبت أن أبا داود روى عنه.
[عن وكيع].
وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال ابن الأسود: وقال يحيى، يعني ابن آدم].
ابن الأسود هو الحسين بن علي.
ويحيى بن آدم الكوفي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وقال النضر بن شميل: البعل ماء المطر].
النضر بن شميل ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو صاحب غريب الحديث الذي مر في تفسير أسنان الإبل.(193/22)
شرح حديث (خذ الحب من الحب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الربيع بن سليمان حدثنا ابن وهب عن سليمان -يعني ابن بلال - عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن عطاء بن يسار عن معاذ بن جبل (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن فقال: خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم، والبعير من الإبل، والبقرة من البقر)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (خذ الحب من الحب) يعني: زكاة الحب من الحب، وكل شيء زكاته من نوعه، فزكاة الحبوب حبوب، وزكاة التمر تمر، وزكاة الإبل إبل، وزكاة البقر بقر، وزكاة الغنم غنم، إلا أن هذا العموم يستثنى منه ما يتعلق بالإبل فإن ما دون الخمس والعشرين تزكى من الغنم، وإنما تخرج من الإبل إذا بلغت خمساً وعشرين.(193/23)
تراجم رجال إسناد حديث (خذ الحب من الحب)
قوله: [حدثنا الربيع بن سليمان].
الربيع بن سليمان المرادي وهو ثقة أخرج له أصحاب السنن.
[حدثنا ابن وهب].
عبد الله بن وهب وهو ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سليمان يعني ابن بلال].
سليمان بن بلال ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر].
شريك بن عبد الله بن أبي نمر وهو صدوق يخطئ، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي فقد خرج له في الشمائل.
[عن عطاء بن يسار].
عطاء بن يسار ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن معاذ بن جبل].
معاذ بن جبل رضي الله عنه وهو صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة.
والحديث ضعفه الألباني، بسبب شريك بن عبد الله بن أبي نمر، وهو صدوق يخطئ.(193/24)
انتقاد البخاري في روايته عن شريك بن أبي نمر لحديث الإسراء
وابن أبي نمر روى عنه البخاري حديث الإسراء الطويل، وفيه أخطاء، وقد انفرد بها شريك هذا، واعتبروها من أغلاطه، وانتقدت روايته على البخاري، وحديثه من الأحاديث التي لا جواب عنها، فإن الحافظ ابن حجر رحمه الله أجاب عن كثير من الأحاديث التي انتقدت على البخاري، أما هذا الحديث فهو من الأحاديث التي لا جواب عنها، فإن فيه أشياء منكرة تفرد بها شريك بن عبد الله بن أبي نمر، وقد أورد البخاري روايته في آخر الصحيح مطولة، أما مسلم رحمه الله فإنه لم يذكر لفظه، وإنما ذكر لفظ ثابت البناني عن أنس، وبعده أتى بطريق شريك فقال: قدم وأخر وزاد ونقص، ولم يسق لفظه، وإنما أشار إلى الفرق بينه وبين رواية ثابت وأنه قدم وأخر وزاد ونقص، والزيادات التي عند شريك نبه عليها العلماء ومنهم الحافظ ابن كثير في أول تفسير سورة الإسراء، حيث بين أغلاطه واحداً واحداً، وكذلك الحافظ ابن حجر في شرح الحديث في فتح الباري ذكر أغلاط شريك، واعتبرها غير صحيحة، لكن هذا الحديث ليس فيه إشكال، فكل شيء زكاته منه إلا زكاة التجارة فإنها تزكى بالقيمة.
والفواكه والخضروات لا زكاة فيها؛ لأنها لا توسق، أي لا تكال، ولا تدخر، وليست من الأقوات.(193/25)
حال رواية من قيل فيه صدوق له أوهام
الإسناد إذا كان فيه صدوق يهم، أو صدوق يخطئ، أو صدوق له أوهام؛ فإنه يقبل، فكثيراً ما تأتي أحاديث صحيحة فيها صدوق له أوهام أو صدوق يخطئ، وبعضهم من رجال الصحيح، وتكون روايته في الصحيح؛ لأن الحكم عليه بصدوق هو لـ ابن حجر رحمة الله عليه، وغيره قد يحكم عليه بحكم آخر.(193/26)
عجائب رآها أبو داود في مصر
[قال أبو داود: شبرت قثاءة بمصر ثلاثة عشر شبراً، ورأيت أترجة على بعير بقطعتين قطعت وصيرت على مثل عدلين].
هذه من العجائب والغرائب، فهذه قثاءة طولها ثلاثة عشر شبراً، والذراع شبران، والمتر ذراعان، فسيكون طول هذه القثاءة ثلاثة أمتار وربع! ورأى أترجة قطعت قطعتين، وكل واحدة صارت عدلاً على البعير، يعني جعلت قطعة في جانب وقطعة في جانب كالمحمل الذي يكون عليه من الجانبين.(193/27)
زكاة العسل(193/28)
شرح حديث هلال في زكاة العسل
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب زكاة العسل.
حدثنا أحمد بن أبي شعيب الحراني حدثنا موسى بن أعين عن عمرو بن الحارث المصري عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أنه قال: (جاء هلال أحد بني متعان إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعشور نحل له، وكان سأله أن يحمي له وادياً يقال له: سلبة، فحمى له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك الوادي، فلما ولي عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب سفيان بن وهب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأله عن ذلك، فكتب عمر رضي الله عنه: إن أدى إليك ما كان يؤدي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من عشور نحله فاحم له سلبة، وإلا فإنما هو ذباب غيث يأكله من يشاء)].
زكاة العسل لم يثبت فيها شيء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما أورد أبو داود هذا الحديث وهو لا يدل على زكاة العسل، ولكن يدل على أن ذلك الرجل حمى له الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك الوادي، وأنه كان يأتي بعشور من عنده متبرعاً فقبلها منه، ولما ولي عمر رضي الله عنه وأرضاه سأله سفيان بن وهب عن ذلك فقال: إن أدى إليك ما كان يؤدي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاحم له، وإلا فهو ذباب غيث يأكله من يشاء، وفي نسخة: متى شاء، فهذا ليس دليلاً على زكاة العسل، وإنما كان يأتي بالعشور في مقابل كون الوادي حمي له، ولهذا قال عمر رضي الله عنه: إن أدى إليك ما كان يؤديه فاحم له وإلا فلا، فهذا يدل على أنه ليس من قبيل الزكاة؛ لأن الزكاة تجب وليس فيها تخيير، وتجب بدون أن يبذل له شيء يستفيد منه، فالحديث لا يدل على زكاة العسل.
وقد اختلف العلماء في العسل هل يزكى أو لا يزكى؟ فمنهم من قال: إنه لا زكاة فيه؛ لأنه ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء يدل على أنه يزكى، وبعض أهل العلم قال: إنه يزكى لأنه يشبه الخارج من الأرض، والذي يظهر -والله أعلم- أنه لا زكاة فيه؛ لأنه لم يأت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحديث الذي ورد لا يدل على أن فيه زكاة، وإنما يدل على أنه طلب أن يحمي له وادياً فحماه له، فكان يعطي عشور العسل متبرعاً، وعمر رضي الله عنه قال للوالي الذي سأله: (إن أدى إليك ما كان يؤدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحم له وإلا فلا) فلو كان فيه زكاة لما تعلق الأمر بحماية أو غير حماية، فإن الزكاة واجبة ومتعينة، فلا دليل فيه على الزكاة في العسل، وليس هناك سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على ذلك، ومن أوجبه بالقياس على الخارج من الأرض فإنه قياس مع الفارق، فالخارج من الأرض نصابه خمسة أوسق، يعني ثلاثمائة صاع، وفيه العشر أو نصف العشر، والعسل ليس كذلك.(193/29)
تراجم رجال إسناد حديث هلال في زكاة العسل
قوله: [حدثنا أحمد بن أبي شعيب الحراني].
أحمد بن عبد الله بن أبي شعيب الحراني ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا موسى بن أعين].
موسى بن أعين ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن عمرو بن الحارث المصري عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده].
مر ذكرهم جميعاً.(193/30)
معنى قوله (فإنما هو ذباب غيث يأكله من يشاء)
قوله: [فإنما هو ذباب غيث يأكله من يشاء].
يعني: العسل يأتي من الذباب الذي هو النحل، هذا هو المقصود بالذباب.
وقوله: (يأكله من يشاء) يعني: من سبق إليه، فالنحل يأكل من الشجر ومن الزهور، ثم يجمع العسل في مكان واحد، فمن سبق إليه فهو له، ولهذا يقال: إن أحلى مطعوم في الدنيا العسل وهو من هذا الذباب، وأجمل لباس الدنيا الحرير وهو من دودة القز، فالعسل والحرير إنما يخرجان من هذه الحيوانات المستكرهة التي ليست جميلة، وهذا فيه إشارة إلى نقصان الدنيا، وأن أجمل شيء فيها وأحلى شيء فيها إنما جاء من مثل هذا.(193/31)
شرح حديث (من كل عشر قرب قربة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن عبدة الضبي حدثنا المغيرة -ونسبه إلى عبد الرحمن بن الحارث المخزومي - قال: حدثني أبي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن شبابة -بطن من فهم- فذكر نحوه قال: (من كل عشر قرب قربة) وقال سفيان بن عبد الله الثقفي قال: وكان يحمي لهم واديين، زاد: فأدوا إليه ما كانوا يؤدون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحمى لهم وادييهم].
هذا الحديث مثل الذي قبله، وهو يتعلق بتعشير العسل مقابل حماية الوادي لهم وليس من باب الزكاة.(193/32)
تراجم رجال إسناد حديث (من كل عشر قرب قربة)
قوله: [حدثنا أحمد بن عبدة الضبي].
أحمد بن عبدة الضبي ثقة أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا المغيرة].
المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي وهو صدوق يهم أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن أبيه].
وهو عبد الرحمن بن الحارث صدوق له أوهام أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده].
مر ذكرهم.(193/33)
شرح حديث (من عشر قرب قربة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الربيع بن سليمان المؤذن حدثنا ابن وهب أخبرني أسامة بن زيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن بطناً من فهم بمعنى المغيرة قال: من عشر قرب قربة، وقال: واديين لهم].
هذا الحديث أيضاً مثل الذي قبله.(193/34)
تراجم رجال إسناد حديث (من عشر قرب قربة)
قوله: [حدثنا الربيع بن سليمان المؤذن].
هو المرادي وقد مر ذكره.
[حدثنا ابن وهب أخبرني أسامة بن زيد].
أسامة بن زيد الليثي صدوق يهم أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده].
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مر ذكرهم.(193/35)
شرح سنن أبي داود [194]
من أحكام الزكاة: أنه لا تجب الزكاة في الأموال المعدة للقنية والاستعمال كالخيل والرقيق، ومثلها السيارة والبيت ونحو ذلك، ومن أحكامها: أنه يشرع خرص العنب وهو على الشجر ثم إخراج زكاته زبيباً، وكذلك خرص النخل وإخراج زكاته تمراً.(194/1)
خرص العنب(194/2)
شرح حديث (عتاب بن أسيد في خرص العنب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في خرص العنب.
حدثنا عبد العزيز بن السري الناقط حدثنا بشر بن منصور عن عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن عتاب بن أسيد رضي الله عنه قال: (أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يخرص العنب كما يخرص النخل، وتؤخذ زكاته زبيباً كما تؤخذ زكاة النخل تمراً)].
الخرص هو أن يرسل الإمام أناساً ليخرصوا الثمرة، وفيه مصلحة المالك ومصلحة الفقراء، أما مصلحة المالك فإنه يعرف مقدار ثمرته ليخرج عشرها أو نصف عشرها في الزكاة، ولا يفوت على المساكين شيئاً إذا عرف حقهم، وفيه مصلحة له من حيث إنه يتصرف في ماله ويستفيد منه ويبيع، ويقوم بدفع مقدار الزكاة بعدما تجف الثمرة، فيخرص العنب وتخرج الزكاة زبيباً، ويخرص النخل رطباً وتخرج زكاته تمراً بعدما يجف.
إذاً: الخرص فيه مصلحة للمالك لتمكينه من أن يتصرف في ماله لأن له فيه شركاء وهم الفقراء والمساكين، فلو أنه تصرف فيه من غير أن يخرص لترتب على ذلك أنه قد يفوت حق الفقراء، لكن بعد الخرص فإنه يبيع ويأكل ويتصدق وقد عرف المقدار الذي تجب عليه في الزكاة، والفقراء يكون حقهم قد حفظ، فهذه فائدة الخرص.
والخرص جاءت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أورد أبو داود رحمه الله أحاديث عديدة في ثلاثة أبواب، وكلها ذكر الألباني رحمه الله أنها ضعيفة، وأنه لم يثبت منها شيء، لكن قد ثبت الخرص في صحيح البخاري في كتاب الزكاة في غزوة تبوك، وترجم عليه البخاري: باب خرص النخل، وفيه أنهم لما مروا بوادي القرى في طريقهم إلى تبوك مروا على حديقة لامرأة فيها نخل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (اخرصوا، فخرصوا وخرصها هو وقال: إنها تبلغ عشرة أوسق، ثم قال لصاحبة البستان: أحصي ثمرة نخلك وأعلمينا إذا رجعنا)، وبعد رجوعهم مروا عليها وأخبرتهم بأنها عشرة أوسق كما خرص رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحديث طويل وقد اشتمل على أمر عجيب في تبوك، وهو أنهم لما ذهبوا إلى تبوك قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (إنها ستهب عليكم ريح شديدة) فأمر كل رجل أن يعقل بعيره، وألا يقوم، فقام رجل فحملته الريح وألقته في جبل طيء، يعني حملته الريح من تبوك إلى حائل وألقته هناك.
والمقصود أن الخرص ثابت من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم كما جاء في صحيح البخاري، وهنا أورد أبو داود رحمه الله في باب خرص العنب حديث عتاب بن أسيد رضي الله عنه، وهو أمير مكة، أمره النبي صلى الله عليه وسلم على مكة وكان صغيراً، وهو من صغار الصحابة رضي الله عنه، فأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يخرص العنب وتخرج زكاته زبيباً كما يخرص الرطب وتخرج زكاته تمراً، والعنب لا شك أنه من جنس التمر، وهو من الأموال الزكوية لأنه يصير زبيباً، وهو يدخر، وهو قوت من الأقوات؛ ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكره في الأقوات التي تخرج في زكاة الفطر، وهو مما يوسق ويكال.
الحديث فيه انقطاع بين سعيد بن المسيب وعتاب بن أسيد؛ لأن عتاب بن أسيد توفي في اليوم الذي مات فيه أبو بكر وسعيد بن المسيب لم يدركه، فهو غير صحيح للانقطاع الذي فيه، لكن كون العنب يتخذ زبيباً، وأنه يدخر ويكال، وهو قوت من الأقوات، فتجب فيه الزكاة مثل التمر.(194/3)
تراجم رجال إسناد حديث (عتاب بن أسيد في خرص العنب)
قوله: [حدثنا عبد العزيز بن السري الناقط].
عبد العزيز بن السري الناقط وهو مقبول أخرج له أبو داود.
[حدثنا بشر بن منصور].
بشر بن منصور وهو صدوق أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن عبد الرحمن بن إسحاق].
عبد الرحمن بن إسحاق وهو صدوق أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن الزهري].
محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن المسيب].
وهو ثقة فقيه من فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عتاب بن أسيد].
هو صحابي رضي الله عنه أخرج له أصحاب السنن.(194/4)
طريق أخرى للحديث
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي حدثنا عبد الله بن نافع عن محمد بن صالح التمار عن ابن شهاب بإسناده ومعناه قال أبو داود: وسعيد لم يسمع من عتاب شيئاً].
ذكر المصنف الحديث من طريق أخرى وأحال على الطريقة السابقة، وذكر أبو داود بعد ذلك أن سعيداً لم يسمع من عتاب شيئاً أي: أنه لم يدركه.
قوله: [حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي].
محمد بن إسحاق المسيبي صدوق أخرج له مسلم وأبو داود.
[حدثنا عبد الله بن نافع].
عبد الله بن نافع وهو ثقة صحيح الكتاب في حفظه لين أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن محمد بن صالح التمار].
محمد بن صالح التمار وهو صدوق يخطئ أخرج له أصحاب السنن.
[عن ابن شهاب بإسناده].
يعني عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن عتاب بن أسيد وقد مر ذكرهم.(194/5)
كيفية الخرص وكيفية إخراج الزكاة بعد الخرص
قوله: [(فإن لم تدعوا أو تجذوا الثلث فدعوا الربع)] يعني: إذا لم تتركوا الثلث فاتركوا الربع، ففيه تخيير للخارص لينظر للمصلحة، إما أن يدع الثلث وإن لم يفعل فإنه يدع الربع.
والخرص تقدير وليس بيقيني، لكنه طريق إلى تحصيل المصلحة، وقد ثبت في السنة، وما دام أنه ثبتت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري فلا كلام بعد ذلك؛ وفيه مصلحة وفائدة للمالك وللفقراء.
والواجب اختيار الخارصين المأمونين من أهل الخبرة، فيعرف الحاصل، وهل هو مطابق للواقع أو غير مطابق للواقع، قال العلماء: فإن لم يرض المالك وادعى أن الخارص ظلمه فعليه البينة.(194/6)
شرح حديث (إذا خرصتم فجذوا ودعوا الثلث)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الخرص.
حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن خبيب بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن مسعود قال: جاء سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه إلى مجلسنا قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا خرصتم فجذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا أو تجذوا الثلث فدعوا الربع).
قال أبو داود: الخارص يدع الثلث للحرفة، وكذا قال يحيى القطان].
لعلها للخرفة، وأما الحرفة فمعناها هنا غير واضح، وفي القاموس: الخرفة هو ما يجنى من الرطب، والمخرف هو الزنبيل الذي يخرف به الثمر، فمعنى الخرفة ما يحتاج إليه الملاك من أجل أن يخترفوا من الثمرة.
قوله: [(إذا خرصتم فجذوا ودعوا الثلث)].
يعني: خذوا الزكاة ودعوا الثلث، قيل: إن الثلث الذي يترك هو ثلث الزكاة بأن يعطى للمالك لينفقه بنفسه على الفقراء، أو يترك له ثلث الثمرة فلا يحاسب عليها من أجل أن يستفيد منها بأن يجني ويعطي ويهدي ويتصدق ما دام رطباً، ثم بعد ذلك يخرج الزكاة من وراء الثلث أو الربع، ولكن الحديث في إسناده من هو متكلم فيه، فهو غير ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيخرص ولا يترك للمالك شيء، وإنما يؤخذ منه مقدار الزكاة، والباقي له وهو إما تسعة الأعشار أو له تسعة الأعشار والنصف على حسب سقي النخل إما بكلفة أو بعدم كلفة، فإذا كان بكلفة فزكاته نصف العشر، وإذا كان بغير كلفة فزكاته العشر.(194/7)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا خرصتم فجذوا ودعوا الثلث)
قوله: [حدثنا حفص بن عمر].
حفص بن عمر ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن خبيب بن عبد الرحمن].
خبيب بن عبد الرحمن ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن مسعود].
عبد الرحمن بن مسعود بن نيار وهو مقبول أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[عن سهل بن أبي حثمة].
سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه وهو صحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة.(194/8)
مشروعية الخرص وكيفيته
قوله: [(فإن لم تدعوا أو تجذوا الثلث فدعوا الربع)] يعني: إذا لم تتركوا الثلث فاتركوا الربع، ففيه تخيير للخارص لينظر للمصلحة، إما أن يدع الثلث وإن لم يفعل فإنه يدع الربع.
والخرص تقدير وليس بيقيني، لكنه طريق إلى تحصيل المصلحة، وقد ثبت في السنة، وما دام أنه ثبتت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري فلا كلام بعد ذلك؛ وفيه مصلحة وفائدة للمالك وللفقراء.
والواجب اختيار الخارصين المأمونين من أهل الخبرة، فيعرف الحاصل، وهل هو مطابق للواقع أو غير مطابق للواقع، قال العلماء: فإن لم يرض المالك وادعى أن الخارص ظلمه فعليه البينة.(194/9)
متى يخرص التمر(194/10)
شرح حديث (كان ابن رواحة يخرص النخل حين يطيب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب متى يخرص التمر حدثنا يحيى بن معين حدثنا حجاج عن ابن جريج قال: أخبرت عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت وهي تذكر شأن خيبر: (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبعث عبد الله بن رواحة إلى يهود، فيخرص النخل حين يطيب قبل أن يؤكل منه)].
المقصود من هذا الباب أنه يخرص النخل إذا بدأ يطيب ويؤكل منه؛ ليتمكن صاحبه من الاستفادة منه، وليحفظ حق الفقراء والمساكين، وكذلك العنب يخرص عندما يستوي والناس يأكلونه عنباً، وإذا حصلت جائحة بعد ذلك فإنه لا يلزمه؛ لأن الحق إنما يثبت عند سلامته، أما لو حصلت جائحة عليه فإن الإنسان لا يلزم أن يدفع شيئاً وقد اجتيح ماله وأصابته جائحة.
ومعنى الخرص أن يأتي العامل إلى النخل وينظر فيه، فيقول: هذه النخلة تساوي كذا صاعاً، وهكذا يمشي بين النخل ويقدر كم تساوي، فيخرج بنتيجة هي أن ثمرة هذا البستان تبلغ كذا وكذا، كما خرص الرسول صلى الله عليه وسلم حديقة المرأة وقال لأصحابه: (اخرصوا) وهو خرص وقال: (إنها تبلغ عشرة أوسق)، وقال: (إذا رجعنا أخبرينا بما خرج) فلما رجعوا وقد حصل الجذاذ والكيل قالت: إنها أخرجت عشرة أوسق طبقاً لما خرص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالخرص هو الحصر والتقدير، ولابد أن يكون الخارص من أهل النظر والخبرة والمعرفة، وبعض العلماء قال: إنه تخمين وليس بيقين فلا يعول عليه، ولكن مادام أنه ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه طريق شرعي.(194/11)
تراجم رجال إسناد حديث (كان ابن رواحة يخرص النخل حين يطيب)
قوله: [حدثنا يحيى بن معين].
يحيى بن معين ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حجاج].
حجاج بن محمد المصيصي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن جريج].
عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: أخبرت عن ابن شهاب].
هذا يدل على وجود انقطاع بينه وبين من روى عنه، فالسند منقطع، وابن جريج مدلس، ولكنه هنا بين وجود الواسطة بقوله: أخبرت عن ابن شهاب، وابن شهاب مر ذكره.
[عن عروة].
عروة بن الزبير بن العوام ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الحديث ضعيف من أجل الانقطاع الذي بين ابن جريج وبين الزهري.
قوله: [فيخرص النخل حين يطيب قبل أن يؤكل].
يعني: عندما يأتي وقت طيبه قبل أن يؤكل؛ لأن صاحبه يجنيه إذا بدأ طيبه، فيخرص في هذه الحال التي يمكن صاحبه من الانتفاع منه، والزكاة لا تخرج إلا عندما يجف التمر، ولا تخرج رطباً.
ولا يخرص النخل إلا عندما يطيب التمر، ولا يخرص وهو صغير جداً؛ لأنه عرضة لأن يتساقط ويتلف، وأما إذا طاب واحتيج إليه فإنه يخرص.
واليهود لا تخرج منهم الزكاة، ولكن كان يخرص نخلهم من أجل حق المسلمين؛ لأن للمسلمين النصف من نخلهم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على أنهم يعملون في النخل وللمسلمين النصف، ولهم النصف مقابل العمل فيه، فالخرص كان من أجل معرفة حق المسلمين الذي هو النصف الذي صولحوا عليه.(194/12)
ما لا يجوز من الثمرة في الصدقة(194/13)
شرح حديث (نهى عن الجعرور ولون الحبيق)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما لا يجوز من الثمرة في الصدقة.
حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا عباد عن سفيان بن حسين عن الزهري عن أبي أمامة بن سهل رضي الله عنه عن أبيه رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الجعرور ولون الحبيق أن يؤخذا في الصدقة) قال الزهري: لونين من تمر المدينة].
أورد أبو داود هذه الترجمة: ما لا يجوز من الثمرة في الصدقة أي: ما لا يجوز أن يخرج في الصدقة وهو الرديء، وقد سبق أن مر بنا في زكاة المواشي أن المال يقسم ثلاثة أقسام: ثلث خيار، وثلث وسط، وثلث رديء، فلا يجوز أن يؤخذ الخيار، ولا أن يؤخذ الرديء، وإنما يؤخذ من وسط المال، وكذلك بالنسبة للثمر، فإنه لا يؤخذ أطيب النخل وأحسن الثمرة ولا أردؤها وإنما يؤخذ من الوسط.
قوله: [(نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الجعرور ولون الحبيق أن يؤخذا في الصدقة).
قال الزهري: لونين من تمر المدينة].
يعني: أنهما من رديء التمر، ومعنى هذا أنه لا يؤخذ الرديء في الصدقة كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [البقرة:267] يعني الرديء غير الطيب، بل كما قال الله عز وجل: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92].(194/14)
تراجم رجال إسناد حديث (نهى عن الجعرور ولون الحبيق)
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس].
محمد بن يحيى بن فارس الذهلي وهو ثقة أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[سعيد بن سليمان].
سعيد بن سليمان وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عباد].
عباد بن العوام وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان بن حسين].
سفيان بن حسين وهو ثقة إلا في الزهري وحديثه أخرجه البخاري تعليقاً ومسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
[عن الزهري].
الزهري قد مر ذكره، وهذا من رواية سفيان بن حسين عنه، لكن قد جاء له متابع في الزهري كما سيذكر المصنف بعد ذلك.
[عن أبي أمامة بن سهل].
أبو أمامة بن سهل اسمه أسعد، قيل: له رؤية، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
سهل بن حنيف رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[قال أبو داود: وأسنده أيضاً أبو الوليد عن سليمان بن كثير عن الزهري].
أبو الوليد الطيالسي هو هشام بن عبد الملك ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سليمان بن كثير].
أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو لا بأس في غير الزهري.
إذاً: سفيان بن حسين وسليمان بن كثير كلاهما في روايته عن الزهري ضعيف، وكلاهما رويا عنه هذا الحديث، لكن الحديث الآتي بعده يشهد له من حيث المعنى، وهو أنه لا يتصدق بالرديء.(194/15)
شرح حديث (إن رب هذه الصدقة يأكل الحشف يوم القيامة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا نصر بن عاصم الأنطاكي حدثنا يحيى -يعني: القطان - عن عبد الحميد بن جعفر قال: حدثني صالح بن أبي عريب عن كثير بن مرة عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: (دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسجد وبيده عصا وقد علق رجل قنا حشفاً فطعن بالعصا في ذلك القنو وقال: لو شاء رب هذه الصدقة تصدق بأطيب منها، وقال: إن رب هذه الصدقة يأكل الحشف يوم القيامة)].
أورد أبو داود حديث عوف بن مالك رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل المسجد وبيده عصا، وهناك قنو معلق في المسجد صدقة لمن يريد أن يأكل منه، وكان ذلك القنو حشفاً، والحشف هو التمر الرديء الذي صار يابساً؛ ولهذا يضرب المثل للرداءة بالحشف، وإذا جمع الإنسان بين خصلتين دنيئتين قالوا: أحشفاً وسوء كيلة؟! يعني التمر نفسه رديء، وأيضاً الكيل فيه خلل، فجمع بين الخصلتين المكروهتين، فالرسول صلى الله عليه وسلم طعن بالعصا فيه وقال: (لو شاء رب هذه الصدقة تصدق بأطيب منها)، وهذا فيه إرشاد وتنبيه إلى التصدق بما هو خير وبما هو أولى، لكن إذا كان الإنسان كل ما عنده من هذا القبيل فهو معذور، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286] لكن إذا كان عنده ما هو خير من ذلك فالأولى للإنسان أن يتصدق بما هو خير، ولا يتصدق بما هو سيئ ورديء.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (إن رب هذه الصدقة يأكل الحشف يوم القيامة)، ومعنى هذا أن أجره على قدر العمل وعلى قدر الإحسان، فإذا كان عمله قليلاً وعمله ضعيفاً فإنه يحصل أجراً قليلاً على قدر عمله وعلى قدر فعله، وقيل: إنه يأكل ذلك حقيقة والله تعالى أعلم.(194/16)
تراجم رجال إسناد حديث (إن رب هذه الصدقة يأكل الحشف يوم القيامة)
قوله: [حدثنا نصر بن عاصم الأنطاكي].
نصر بن عاصم الأنطاكي لين الحديث أخرج له أبو داود.
[عن يحيى يعني القطان].
يحيى بن سعيد القطان ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الحميد بن جعفر].
عبد الحميد بن جعفر صدوق ربما وهم أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن صالح بن أبي عريب].
صالح بن أبي عريب وهو مقبول أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن كثير بن مرة].
كثير بن مرة وهو ثقة أخرج له البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن.
[عن عوف بن مالك].
عوف بن مالك رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
الحديث فيه رجل لين الحديث، وفيه رجل مقبول، لكن الألباني صححه فكأنه لشواهده أو لشيء آخر.(194/17)
شرح سنن أبي داود [195]
فرضت زكاة الفطر من رمضان طهرة للصائم وطعمة للمساكين، فيجب على المسلم الحرص على أدائها في وقتها حتى يقبل صيامه.(195/1)
زكاة الفطر(195/2)
شرح حديث (فرض رسول الله زكاة الفطر طهرة للصائم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب زكاة الفطر.
حدثنا محمود بن خالد الدمشقي وعبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي قالا: حدثنا مروان قال عبد الله: حدثنا أبو يزيد الخولاني، وكان شيخ صدق، وكان عبد الله بن وهب يروي عنه، حدثنا سيار بن عبد الرحمن قال: محمود الصدفي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات)].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة باب زكاة الفطر أي: الفطر من رمضان، وزكاة الفطر يذكرها العلماء في كتاب الزكاة وهي مرتبطة برمضان، ولكن لكونها زكاة يأتي ذكرها في باب الزكاة، وإن كانت متعلقة برمضان، وقد أضيفت إلى الفطر من رمضان، وهي شكر لله عز وجل على هذه النعمة وهي إتمام الصيام وإكماله، حيث إن الإنسان وفق لإتمامه، ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه) فهو كل يوم يفطر يفرح لأنه وفق لأداء تلك العبادة ذلك اليوم، وإذا أكمل شهر رمضان وأفطر في آخر يوم فإنه بذلك يفرح فرحاً أكبر لأنه أتم هذه العبادة كلها، وفرحة عند لقاء ربه حيث يثيبه على عمله وعلى صيامه وعلى تقربه إلى الله عز وجل بالأعمال الصالحة التي منها الصيام.
وهي أضيفت إلى الفطر، والفطر يكون عند غروب الشمس في آخر يوم من رمضان؛ ولهذا يقول العلماء: غروب الشمس هو الحد الفاصل بين من تجب عليه ومن لا تجب عليه، فمن كان موجوداً قبل أن تغرب الشمس فتخرج عنه زكاة الفطر، ومن ولد بعد غروب الشمس فليس عليه زكاة الفطر؛ لأنه ليس موجوداً في وقت وجوب الزكاة عند وقت الفطر، وبعض العلماء يقول: الفطر هو لطلوع الفجر؛ لأن وقت الليل وقت للأكل دائماً، والصيام إنما هو بالنهار، فيتحقق فطره بكونه يأكل في اليوم الذي يلي آخر يوم في رمضان وهو يوم العيد، لكن تمام النعمة الكبيرة على الإنسان بأنه وفق لأداء تلك العبادة يتحقق بغروب الشمس، وبه يحصل الفطر من رمضان، فهذا هو الأظهر، وهو كون الفطر يتحقق بغروب الشمس، وأن تمام النعمة على الإنسان حصلت عندما غربت عليه الشمس في آخر يوم من رمضان.
أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، من أداها قبل الصلاة -أي صلاة العيد- فهي صدقة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات) والحديث يدل على أن زكاة الفطر فرض، فإن النبي صلى الله عليه وسلم فرضها، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما يبلغ عن الله، فهو مبلغ ما يفرضه الله وما يوجبه الله كما قال الله عز وجل {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]، وعلى هذا فيكون هو قد بلغ الذي أوحي إليه كما جاء أن إبراهيم حرم مكة والرسول حرم المدينة أي: أظهر إبراهيم حرمة مكة، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم أظهر حرمة المدينة، والتحريم شرعه الله عز وجل، والرسول عليه الصلاة والسلام إنما هو مبلغ عن الله {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4].
فزكاة الفطر فريضة واجبة متحتمة، وقد فرضت لمصلحة جهتين: جهة المزكي وجهة المساكين، فهي طهرة للصائم من اللغو والرفث، وهذا يرجع للصائم، وطعمة للمساكين وهم الفقراء المحتاجون الذين هم بحاجة إلى الطعام، ففيها جمع بين مصلحة طرفين: المتصدق والمتصدق عليه، فالمتصدق الذي هو المزكي تكون طهرة له من اللغو والرفث الذي يحصل له في صيامه، واللغو هو الكلام الذي لا يقصد مثل ما جاء في لغو اليمين مثل: لا والله، وبلى والله، والرفث يطلق على معنيين: يطلق على الجماع ومقدمات الجماع، ويطلق على الفاحش من القول، وهنا يراد به الفاحش من القول، فيكون ذلك طهرة له من ذلك الكلام الذي يحصل في حال الصيام، وأيضاً فيها إطعام للمساكين وإحسان إليهم.
ووقتها يكون قبل الصلاة، وهذا هو أفضل الأوقات لإخراجها، وتقسم بعد الصلاة، ويجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا يخرجونها قبل العيد بيوم أو يومين؛ حتى لا يحصل النسيان لها فتفوت، وأيضاً حتى تصل إلى المساكين، ويكونوا يوم العيد قد تحقق أن عندهم الشيء الذي يكفيهم من الطعام.
ومن أداها بعد صلاة العيد فهي صدقة من الصدقات في نفس اليوم، وبعض أهل العلم قال: إنه وقت إخراج؛ لأن المقصود بزكاة الفطر أن الفقراء يكون عندهم شيء يوم العيد، وهي إذا جمعت فإنما توزع بعد الصلاة، فكذلك الإنسان لو تصدق بها بعد الصلاة فإنها تعتبر في محلها، لكن فاته وقت الفضيلة والوقت الأولى لإخراجها وهو قبل صلاة العيد.(195/3)
تراجم رجال إسناد حديث (فرض رسول الله زكاة الفطر طهرة للصائم)
قوله: [حدثنا محمود بن خالد الدمشقي].
محمود بن خالد الدمشقي ثقة أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[وعبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي].
عبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي وهو ثقة أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي.
[حدثنا مروان].
مروان بن محمد الطاطري ثقة أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي يزيد الخولاني].
صدوق أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[حدثنا سيار بن عبد الرحمن].
صدوق أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[قال: محمود الصدفي].
هو الشيخ الأول محمود بن خالد الصدفي.
[عن عكرمة].
عكرمة هو مولى ابن عباس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(195/4)
شرح سنن أبي داود [196]
اختلفت الأحاديث في مقدار ما يخرج من الحنطة في الزكاة، وقد بين العلماء الواجب من ذلك، كما بينوا الروايات الشاذة من الصحيحة في ذلك، وأيضاً فقد وردت أحاديث تدل على جواز إخراج زكاة الفطر قبل العيد بيوم أو يومين.(196/1)
متى تؤدى زكاة الفطر(196/2)
شرح حديث (أمرنا رسول الله بزكاة الفطر أن تؤدى)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب متى تؤدى.
حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا زهير حدثنا موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة، قال: فكان ابن عمر يؤديها قبل ذلك باليوم واليومين)].
المراد من هذه الترجمة بيان وقت إخراج زكاة الفطر، ووقتها الأفضل والأولى أن تكون يوم العيد قبل الصلاة، ويجوز قبل العيد بيوم أو يومين؛ لأنه جاء ذلك عن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، ومنهم ابن عمر كما في هذه الرواية أنه قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج زكاة الفطر قبل الخروج إلى الصلاة) أي: الخروج لصلاة العيد، قال: وكان ابن عمر يخرجها قبل العيد بيوم أو يومين، وهذا يدلنا على أن إخراجها يوم العيد قبل الصلاة هو أفضل أوقات إخراجها، وأن إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين جائز، وذلك لقربه من العيد؛ ولأن إيصالها إلى أصحابها قبل العيد بيوم أو يومين قد تدعو الحاجة إليه؛ لأنه قد لا يتيسر التوزيع في يوم العيد قبل الصلاة، لكن إذا تيسر فهو الأولى والأفضل.
وأما تقديمها قبل العيد بأكثر من يومين فلم يأت شيء يدل عليه، وهو بعيد عن الوقت الذي تجب فيه زكاة الفطر وهو غروب الشمس من آخر يوم من رمضان، وأيضاً يفوت فيه المقصود من كون الزكاة تحصل في وقت الفطر؛ لأنه قد يحصل أكلها ونفادها قبل مجيء العيد بوقت طويل، فكانت السنة أن يؤتى بها قبل الصلاة يوم العيد، وإن قدمت قبل العيد بيوم أو يومين -كما جاء عن الصحابة- فلا بأس بذلك.(196/3)
تراجم رجال إسناد حديث (أمرنا رسول الله بزكاة الفطر أن تؤدى)
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي].
عبد الله بن محمد النفيلي ثقة، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا زهير].
هو زهير بن معاوية ثقة، أخرج له أصحاب الكتاب الستة.
[حدثنا موسى بن عقبة].
موسى بن عقبة المدني وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتاب الستة.
[عن نافع].
نافع مولى ابن عمر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن عمر] ابن عمر رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(196/4)
كم يؤدي في زكاة الفطر(196/5)
شرح حديث (زكاة الفطر من رمضان صاع من تمر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب كم يؤدي في زكاة الفطر.
حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا مالك، وقرأه علي مالك أيضاً، عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرض زكاة الفطر، قال فيه فيما قرأه علي مالك: زكاة الفطر من رمضان صاع من تمر، أو صاع من شعير، على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثى من المسلمين).
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة وهي: كم يؤدي في زكاة الفطر؟ أي: مقدار زكاة الفطر، وهي صاع من قوت البلد، وكان قوت البلد في ذلك الزمان هو البر والشعير والتمر والأقط والزبيب، وهي متفاوتة في المنفعة، ومتفاوتة أيضاً في القيمة، وقد حدد ذلك بأنه صاع، وهذا يدلنا على أن زكاة الفطر قدرها صاع، أي: أربعة أمداد، وأن القيمة لم تذكر، فدل على أنه لا تخرج الزكاة قيمة، وإنما تخرج طعاماً.
وزكاة الفطر مثل الكفارات تخرج من الطعام، ولعل الحكمة في ذلك -والله أعلم- أن الطعام إذا وقع في أيدي الناس يستفيدون منه مباشرة بخلاف النقود، فإنها قد تكون في أيديهم ويقل الطعام فلا يحصلون ما يريدون، أو أن الناس لا يجودون بالطعام إذا كانت القيمة مبذولة، وقد جاء النص في زكاة الفطر والكفارات أنها تخرج طعاماً ولا تخرج قيمة.
والرسول صلى الله عليه وسلم جعل زكاة الفطر من الأصناف الخمسة التي كانت الأقوات المعتادة في زمنه صلى الله عليه وسلم، ويجوز إخراجها من الأقوات الأخرى التي لم يأت ذكرها في الحديث كالأرز والذرة وغير ذلك من الحبوب التي هي قوت وطعام، ومقدار زكاة الفطر صاع كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أورد أبو داود حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير، وفي هذه الرواية ذكر صنفين من الأقوات التي كانت موجودة في ذلك الزمان وهما: التمر، والشعير.
قوله: (على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين)، يدل على أنها واجبة على كل مسلم سواء كان ذكراً أو أنثى، حراً أو عبداً، صغيراً أو كبيراً، فكل مسلم تخرج عنه زكاة الفطر، وأما الكفار فلا يخرج عنهم أحد الزكاة؛ لأن الزكاة إنما تكون على المسلمين، وهي التي فيها أجر، وفيها ثواب، وفيها طهرة لهم، وأما الكفار فهم وإن كانوا مخاطبين بفروع الشريعة إلا أن مخاطبتهم بالأصول والفروع معاً، ولا بد يأتوا بالأصول وبالفروع جميعاً، وهم مؤاخذون على ترك الأصول وعلى ترك الفروع، فزكاة الفطر إنما تجب على المسلمين؛ ولهذا قال: (من المسلمين).(196/6)
تراجم رجال إسناد حديث (زكاة الفطر من رمضان صاع من تمر)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
عبد الله بن مسلمة القعنبي ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا مالك].
مالك بن أنس إمام دار الهجرة، الإمام المشهور الفقيه المحدث، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[قال: وقرأه عليَّ مالك أيضاً].
يعني: أنه أخذ الحديث منه على وجهين: قرأه القعنبي عليه وهو يسمع، وكذلك قرأه مالك عليه.
[عن نافع عن ابن عمر].
مر ذكرهما.
وهذا الإسناد من الأسانيد العالية عند أبي داود، فهو من الرباعيات التي هي أعلى الأسانيد عند أبي داود رحمه الله.
قوله: [قال فيه فيما قرأه عليَّ مالك].
بيَّن اللفظ الذي قرأه عليه مالك.(196/7)
شرح حديث (فرض رسول الله زكاة الفطر صاعاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى [حدثنا يحيى بن محمد بن السكن حدثنا محمد بن جهضم حدثنا إسماعيل بن جعفر عن عمر بن نافع عن أبيه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زكاة الفطر صاعاً، فذكر بمعنى مالك، زاد: والصغير والكبير، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة)].
هذه طريق أخرى عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وهي مثل الطريق السابقة إلا أن فيها زيادة ذكر الصغير والكبير، وفيها بيان وقت أدائها، وأنه يكون قبل الصلاة، وقد مر أن هذا هو أولى وأفضل وقت لإخراجها.
وذكر الصغير لا ينافي أن زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، فالصائم يحصل له من إخراج الزكاة عنه أو منه شيئان: التطهير له من اللغو والرفث، وأيضاً طعمة للمساكين.
وأما إذا كان صغيراً فإنه يحصل منه الطعمة للمساكين.(196/8)
تراجم رجال إسناد حديث (فرض رسول الله زكاة الفطر صاعاً)
قوله: [حدثنا يحيى بن محمد بن السكن].
صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا محمد بن جهضم].
صدوق، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا إسماعيل بن جعفر].
إسماعيل بن جعفر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمر بن نافع].
عمر بن نافع وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن أبيه عن عبد الله بن عمر].
أبوه نافع العدوي مولى ابن عمر، وقد مر ذكرهما.(196/9)
زيادة لفظة (من المسلمين) في حديث زكاة الفطر
[قال أبو داود: رواه عبد الله العمري عن نافع بإسناده، قال: (على كل مسلم)، ورواه سعيد الجمحي عن عبيد الله عن نافع قال فيه: (من المسلمين)، والمشهور عن عبيد الله ليس فيه: (من المسلمين)].
أي: أن عبد الله بن عمر العمري المكبر رواه عن نافع بلفظ: (على كل مسلم)، بدل من قوله: (من المسلمين)، ورواه سعيد بن عبد الرحمن الجمحي عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر بلفظ: (من المسلمين)، قال: والحديث المشهور عن عبيد الله ليس فيه: (من المسلمين)، فأكثر الروايات التي جاءت من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر ليس فيها: (من المسلمين)، ولكنها جاءت من بعض الطرق الصحيحة، فهذا الوصف وهذا القيد الذي هو: (من المسلمين)، ثابت ومعتبر.(196/10)
تراجم رجال إسناد زيادة لفظة (من المسلمين)
[قال أبو داود: رواه عبد الله العمري].
عبد الله بن عمر العمري المكبر، وهو ضعيف أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[ورواه سعيد الجمحي].
سعيد بن عبد الرحمن الجمحي، وهو صدوق له أوهام أخرج حديثه البخاري في خلق أفعال العباد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن عبيد الله].
عبيد الله بن عمر أخو عبد الله المتقدم، وهذا هو المصغر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(196/11)
شرح حديث ابن عمر في زكاة الفطر من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد أن يحيى بن سعيد وبشر بن المفضل حدثاهم عن عبيد الله ح وحدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان عن عبيد الله عن نافع عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أنه فرض صدقة الفطر صاعاً من شعير أو تمر، على الصغير والكبير والحر والمملوك: زاد موسى: والذكر والأنثى)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر من طريق أخرى، وفيه ذكر فرض زكاة الفطر على الحر والعبد والذكر والأنثى والصغير والكبير، وقد سبق ذلك في بعض الروايات السابقة.(196/12)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عمر في زكاة الفطر من طريق أخرى
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[أن يحيى بن سعيد].
يحيى بن سعيد القطان البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وبشر بن المفضل].
بشر بن المفضل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله].
عبيد الله بن عمر مر ذكره.
[وحدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبان].
أبان بن يزيد العطار، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، إلا ابن ماجة.
[عن عبيد الله عن نافع عن عبد الله].
قد مر ذكرهم.
[قال أبو داود: قال فيه أيوب وعبد الله -يعني: العمري - في حديثهما عن نافع: (ذكر أو أنثى) أيضاً].
هذه إشارة إلى طريق أخرى، وهي: أن عبد الله العمري، وأيوب بن أبي تميمة السختياني ذكرا الذكر والأنثى كما ذكرت في الطريق السابقة.
وأيوب بن أبي تميمة السختياني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(196/13)
حكم زكاة الفطر عن الجنين
لا تجب زكاة الفطر على الجنين، وقد ذكر بعض أهل العلم أنها لا تجب عليه إجماعاً، ولكن استحبها بعض أهل العلم على الجنين، فهي غير واجبة وليست لازمة، وقد جاء عن الإمام أحمد أنه استحب أن تخرج زكاة الفطر عن الجنين.(196/14)
حكم تأخير زكاة الفطر لعذر
زكاة الفطر تجب في وقت معين، والإنسان الذي يكون قادراً على إخراجها يجب عليه أن يخرجها أو يوكل أحداً في إخراجها إذا لم يستطع إخراجها، وأما إذا كان قادراً ومتمكناً ولم يخرجها بنفسه أو لم يوكل أحداً في إخراجها عنه فإنه يكون مفرطاً مقصراً؛ لأن لها وقتاً معيناً، والواجب إخراجها في وقتها، وإذا كان الفقراء غير موجودين فيمكن أن يطلب منهم أن يوكلوا من يستلمها لهم ثم يعطيهم إياها بعد ذلك.
وذهب بعض العلماء إلى أنها تقضى.(196/15)
شرح حديث (جعل عمر نصف صاع حنطة في زكاة الفطر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الهيثم بن خالد الجهني حدثنا حسين بن علي الجعفي عن زائدة حدثنا عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (كان الناس يخرجون صدقة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صاعاً من شعير أو تمر أو سلت أو زبيب قال عبد الله: فلما كان عمر رضي الله عنه وكثرت الحنطة جعل عمر نصف صاع حنطة مكان صاع من تلك الأشياء)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر أنهم كانوا يخرجون زكاة الفطر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من سلت، أو صاعاً من زبيب، والزبيب جاء ذكره هنا، وكذلك السلت، وهو نوع من الطعام يشبه الشعير، وهذه الرواية فيها من هو متكلم فيه، ولكن كل ما كان قوتاً معتاداً يجوز إخراج الزكاة منه، سواء كان مذكوراً في الأحاديث أو غير مذكور، والذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من الأقوات هي: البر، والشعير، والتمر، والزبيب، والأقط؛ وذلك لكونها أقواتهم، والسلت لم يثبت في الرواية، ولكنه إذا كان طعاماً وقوتاً في بلد أو في مكان من الأمكنة فإنه يجوز إخراجه؛ لأن كل طعام يقتاته الناس يجوز إخراج الزكاة منه.
قوله: [فلما كان عمر رضي الله عنه وكثرت الحنطة جعل عمر نصف صاع حنطة مكان صاع من تلك الأشياء].
هنا ذكر هذا عن عمر رضي الله عنه، والمعروف المشهور بهذا هو معاوية رضي الله عنه كما جاء في بعض الأحاديث الثابتة، فقد ثبت أن معاوية هو الذي جعل نصف صاع من الحنطة يعدل صاعاً من غيرها، وأما عمر فغير معروف عنه هذا، فلعل أحد الرواة وهم في ذكر عمر هنا.(196/16)
تراجم رجال إسناد حديث (جعل عمر نصف صاع حنطة في زكاة الفطر)
قوله: [حدثنا الهيثم بن خالد الجهني].
الهيثم بن خالد الجهني ثقة، أخرج له أبو داود.
[حدثنا حسين بن علي الجعفي].
حسين بن علي الجعفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زائدة].
زائدة بن قدامة وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد العزيز بن أبي رواد].
عبد العزيز بن أبي رواد، صدوق ربما وهم، أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
[عن نافع عن عبد الله بن عمر].
مر ذكرهما.
والحديث فيه ابن أبي رواد هذا، وهو متكلم فيه، قال فيه الحافظ: صدوق ربما وهم، ومن قيلت فيه هذه العبارة يحسن حديثه، وأظن أن الألباني ضعف هذا الحديث.(196/17)
شرح أثر عبد الله بن عمر (فعدل الناس بعد نصف صاع من بر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد وسليمان بن داود العتكي قالا: حدثنا حماد عن أيوب عن نافع أنه قال: قال عبد الله رضي الله عنه: فعدل الناس بعد نصف صاع من بر، قال: وكان عبد الله يعطي التمر، فأعوز أهل المدينة التمر عاماً فأعطى الشعير].
ذكر المصنف الحديث من طريق أخرى عن ابن عمر، وأن الناس عدلوا نصف صاع من بر بالصاع من غيره، كما جاء ذكره عن عمر رضي الله عنه، والمشهور به معاوية، وجاء عن عدد من الصحابة، ولكن ليس كلهم على ذلك بل هم مختلفون، منهم من رأى أنه لا يخرج إلا صاعاً من أي طعام؛ لأن الأقوات التي ذكرت متفاوتة وليست كلها على حد سواء، ومع ذلك جعلت الزكاة صاعاً مع حصول التفاوت بين الشعير وبين التمر وبين الزبيب وبين الأقط، وكذلك البر يكون متفاوتاً أيضاً، فبعض الصحابة تبعوا معاوية رضي الله عنه فجعلوا نصف صاع من البر يعدل صاعاً من غيره، وإخراج نصف الصاع من البر بدل الصاع من غيره هو محل خلاف بين الصحابة، وأبو سعيد الخدري رضي الله عنه -كما سيأتي- كان يرى إخراجها صاعاً كاملاً، وكان يداوم ويستمر على إخراج الصاع وعدم النقصان عنه.
قوله: [وكان عبد الله يعطي التمر فأعوز أهل المدينة التمر عاماً فأعطى الشعير].
هذا فيه دليل على اختيار الأولى والأكمل والأفضل والأنفع.
وقوله: (فأعوز التمر) أي: قل التمر، فأخرج الشعير، ومعنى هذا أن الشعير دونه، ومع ذلك جاءت الشريعة بأنه صاع سواءً من هذا أو من هذا مع أنها متفاضلة غير متساوية، ومعلوم أن التمر أولى وأفضل من الشعير، فكان ابن عمر رضي الله عنه يعطي هذا الأكمل والأفضل، ولكنه لما أعوز وقل التمر في وقت من الأوقات في المدينة أخرج الشعير.(196/18)
تراجم رجال إسناد أثر عبد الله بن عمر (فعدل الناس بعد نصف صاع من بر)
قوله: [حدثنا مسدد وسليمان بن داود العتكي].
سليمان بن داود العتكي هو أبو الربيع الزهراني، وهو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا حماد].
حماد بن زيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أيوب عن نافع عن عبد الله].
مر ذكرهم.(196/19)
شرح حديث (كنا نخرج إذ كان فينا رسول الله زكاة الفطر صاعاً من طعام)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا داود -يعني ابن قيس - عن عياض بن عبد الله عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كنا نخرج إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زكاة الفطر عن كل صغير وكبير، حر أو مملوك، صاعاً من طعام، أو صاعاً من أقط، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من زبيب، فلم نزل نخرجه حتى قدم معاوية حاجاً أو معتمراً، فكلم الناس على المنبر، فكان فيما كلم به الناس أن قال: إني أرى أن مُدَّين من سمراء الشام تعدل صاعاً من تمر، فأخذ الناس بذلك، فقال أبو سعيد: فأما أنا فلا أزال أخرجه أبداً ما عشت)].
أورد أبو داود حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أنهم كانوا يخرجون زكاة الفطر إذ كان فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من زبيب، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من أقط، يعني: ذكر الخمسة الأصناف، قيل: الطعام المقصود به البر، ولكنه كان قليلاً، وكانوا يخرجون صاعاً من هذا أو من هذا أو من هذا مع تفاوتها في القيمة، وعلى هذا فالمعتبر هو الكيل والمقدار وإن تفاوتت القيمة، وكل صاع منها يجزي، إلا أن ما كان منها أنفع وأكثر فائدة فإنه الأولى أن يخرج وأن يقدم على غيره، وهذا بالنسبة للأقوات الموجودة في زمانه صلى الله عليه وسلم، وكذلك الأنفع والأكثر فائدة للناس في هذا الزمان مثل الأرز الذي هو قوت كثير من الناس في هذا الزمان، ولا يحتاج إلى طحن، والفائدة منه كبيرة، فينظر إلى ما هو الأنفع، وإلى ما هو الأكثر استعمالاً عند الناس، وما هو الذي يحرصون عليه، فيخرج منه.
قال: (فلما كان معاوية، وجاء حاجاً أو معتمراً)، يعني جاء من دمشق إلى الحجاز في زمن ولايته رضي الله عنه، وكان قد كلم الناس على المنبر، وكان مما كلمهم به أنه رأى أن مدين من سمراء الشام -وهي الحنطة التي تزرع في الشام- تعدل الصاع من التمر، والصاع أربعة أمداد، فأخذ الناس بما قاله معاوية رضي الله عنه، أما أبو سعيد رضي الله عنه فقال: أما أنا فلا أزال أخرجها صاعاً أبداً ما عشت، أي: لا ينقص عن الصاع.(196/20)
تراجم رجال إسناد حديث (كنا نخرج إذ كان فينا رسول الله زكاة الفطر صاعاً من طعام)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
عبد الله بن مسلمة مر ذكره.
[حدثنا داود يعني: ابن قيس].
داود بن قيس ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عياض بن عبد الله].
عياض بن عبد الله، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سعيد].
أبو سعيد الخدري رضي الله عنه هو سعد بن مالك بن سنان الخدري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الإسناد رباعي، والرباعيات هي أعلى الأسانيد عند أبي داود.
هذا ولا شك أن إخراج الصاع هو الأكمل والأفضل، وهو الذي فيه الاحتياط في الدين.(196/21)
شذوذ رواية (أو صاعاً من حنطة) وتراجم رجال إسنادها
[قال أبو داود: رواه ابن علية وعبدة وغيرهما عن ابن إسحاق عن عبد الله بن عبد الله بن عثمان بن حكيم بن حزام عن عياض عن أبي سعيد بمعناه، وذكر رجل واحد فيه عن ابن علية: أو صاعاً من حنطة، وليس بمحفوظ].
ذكر المصنف حديث أبي سعيد من طريق أخرى وفيه: أن رجلاً ذكر صاعاً من حنطة، أي: بهذا اللفظ، وهو ليس بمحفوظ، وإنما الذي جاء ذكر الطعام، والطعام المقصود به هو الحنطة.
وقوله: [رواه ابن علية].
هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم المشهور بـ ابن علية، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وعبدة بن سليمان] ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن إسحاق].
هو محمد بن إسحاق المدني، صدوق أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن عبد الله بن عثمان بن حكيم بن حزام].
مقبول أخرج له أبو داود والنسائي.
[قال بمعناه].
يعني: بمعنى الحديث المتقدم، إلا أنه قال: صاع حنطة.
قوله: [وذكر رجل واحد فيه عن ابن علية: (أو صاعاً من حنطة)، وليس بمحفوظ].
يعني: أنه جاء عن ابن علية من رواية راو واحد عنه أنه قال: (صاعاً من حنطة)، وذكر الصاع من الحنطة، وهذا غير محفوظ بهذا اللفظ، والمحفوظ لفظ الطعام، وهذا الراوي هو يعقوب بن إبراهيم الدورقي، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد أخبرنا إسماعيل: ليس فيه ذكر الحنطة].
هذه طريق أخرى عن مسدد عن إسماعيل بن علية، وليس فيه ذكر الحنطة، وإنما ذكر الحنطة في الطريق السابقة.(196/22)
وهم من قال (نصف صاع من بر) في حديث أبي سعيد وتراجم رجال الإسناد
[قال أبو داود: وقد ذكر معاوية بن هشام في هذا الحديث عن الثوري عن زيد بن أسلم عن عياض عن أبي سعيد رضي الله عنه: (نصف صاع من بر)، وهو وهم من معاوية بن هشام أو ممن روى عنه].
ذكر المصنف حديث أبي سعيد وفيه: (نصف صاع من بر)، قال: وهو وهم من معاوية بن هشام أو ممن روى عن معاوية بن هشام، والمقصود أن حديث أبي سعيد فيه: (صاعاً من طعام)، وليس فيه نصف صاع من بر.
ومعاوية بن هشام صدوق له أوهام، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن.
والثوري هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وزيد بن أسلم ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وعياض عن أبي سعيد مر ذكرهما.(196/23)
شرح حديث (لا أخرج أبداً إلا صاعاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حامد بن يحيى أخبرنا سفيان ح، وحدثنا مسدد حدثنا يحيى عن ابن عجلان سمع عياضاً قال: سمعت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: (لا أخرج أبداً إلا صاعاً، إنا كنا نخرج على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صاع تمر أو شعير أو أقط أو زبيب.
هذا حديث يحيى، زاد سفيان: أو صاعاً من دقيق)، قال حامد: فأنكروا عليه، فتركه سفيان.
قال أبو داود: فهذه الزيادة وهم من ابن عيينة].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وفيها ذكر التمر والشعير والزبيب والأقط، وفيها: (أو صاعاً من دقيق)، وهذه في رواية سفيان بن عيينة، فأنكروا عليه فترك ذلك، وقال أبو داود: هذه وهم من ابن عيينة، يعني: ذكر الدقيق، ومعلوم أن الدقيق هو من البر والحنطة، وإخراجه جائز؛ لأن الدقيق طعام، وهو بر مطحون، وإخراجه يكفي المسكين مؤنة طحنه، إلا أن الصاع من البر إذا طحن تزيد كميته، فلا بأس بإخراج الدقيق في زكاة الفطر لكن بأن يزاد عليه ما يقابل الصاع المطحون؛ لأن الصاع من البر إذا طحن يصير أكثر من صاع؛ لأنه بعد الطحن يزيد في الكيل، والسنة جاءت بذكر صاع من هذه الأشياء، فإذا طحن البر فإنه يجوز، وهو إن كان غير ثابت في الرواية إلا أنه من حيث المعنى جائز؛ لأنه طعام، إلا أن ذلك الطعام يزاد فيه بما يعادل الصاع من البر إذا طحن، ولا يعطى صاعاً من دقيق فقط بل يزاد فيه ما يعادل زيادة الصاع من البر المطحون بحيث يكون كأنه صاع من بر، وإخراج الدقيق فيه مصلحة للفقير.(196/24)
تراجم رجال إسناد حديث (لا أخرج أبداً إلا صاعاً)
قوله: [حدثنا حامد بن يحيى].
حامد بن يحيى ثقة، أخرج له أبو داود.
[أخبرنا سفيان].
سفيان بن عيينة المكي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح، وحدثنا مسدد حدثنا يحيى، عن ابن عجلان].
محمد بن عجلان المدني، صدوق أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
سمع عياضاً عن أبي سعيد الخدري].
مر ذكرهما.(196/25)
من روى نصف صاع من قمح(196/26)
شرح حديث (صاع من بر أو قمح على كل اثنين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من روى نصف صاع من قمح.
حدثنا مسدد وسليمان بن داود العتكي قالا: حدثنا حماد بن زيد عن النعمان بن راشد عن الزهري، قال مسدد: عن ثعلبة بن عبد الله بن أبي صعير عن أبيه، وقال سليمان بن داود: عن عبد الله بن ثعلبة أو ثعلبة بن عبد الله بن أبي صعير عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (صاع من بر أو قمح على كل اثنين، صغير أو كبير، حر أو عبد، ذكر أو أنثى، أما غنيكم فيزكيه الله، وأما فقيركم فيرد الله تعالى عليه أكثر مما أعطى).
زاد سليمان في حديثه: (غني أو فقير)].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة: من روى نصف صاع من قمح) والقمح والبر والحنطة بمعنى واحد، وأورد أبو داود حديث الصحابي المختلف في اسمه ثعلبة بن أبي صعير أو عبد الله بن ثعلبة بن أبي صعير.
قوله: [قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صاع من بر أو قمح على كل اثنين)] أو للشك، لكن البر والقمح هما شيء واحد، والمعنى: أن الصاع يكون على كل اثنين، ومعناه: أن الواحد يجب عليه نصف صاع.
قوله: [(صغير أو كبير، حر أو عبد، ذكر أو أنثى)].
وقد مر أنها واجبة على هؤلاء بشرط أن يكونوا مسلمين.
قوله: (أما غنيكم فيزكيه الله) لأن إخراج الزكاة فيها تطهير وفيها نماء.
قوله: (وأما الفقير فيعطيه الله أكثر مما أعطى) يعني: يعوضه الله خيراً، وهذا يدل على أن الفقير يجب عليه إخراج زكاة الفطر إذا كان عنده شيء يكفيه أكثر من حاجته يوم العيد وليلته، فإذا كان لا يجد ثم تصدق عليه بعدة آصع فإنه يخرج الزكاة منها؛ لأنه يكون حينئذ واجداً وعنده ما يكفيه أكثر من قوت يومه وليلته، وبعض العلماء يقول: إن الذي يخرج هو الغني، والفقير لا يخرج شيئاً، ولكن هذا شيء يجب للإفطار، ولا يشترط فيه الغنى والفقر، وإنما يشترط فيه الوجدان في ذلك الوقت، فإذا وجد قوتاً زائداً عن حاجته في ذلك اليوم والليلة فيجب عليه أن يخرج الزكاة.
قوله: [زاد سليمان في حديثه: (غني أو فقير)].
يعني زاد هذا اللفظ مع ما تقدم: ذكر أو أنثى، حر أو مملوك، صغير أو كبير.(196/27)
تراجم رجال إسناد حديث (صاع من بر أو قمح على كل اثنين)
قوله: [حدثنا مسدد وسليمان بن داود العتكي حدثنا حماد بن زيد عن النعمان بن راشد].
النعمان بن راشد صدوق سيء الحفظ، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن الزهري].
تقدم ذكره.
[عن ثعلبة بن عبد الله بن أبي صعير عن أبيه].
قال في التقريب: ثعلبة بن صعير أو ابن أبي صعير، ويقال: ثعلبة بن عبد الله بن صعير، ويقال: عبد الله بن ثعلبة بن صعير، مختلف في صحبته، أخرج له أبو داود وحده.
وقال في ترجمة عبد الله بن ثعلبة بن صعير: ويقال: ابن أبي صعير، له رؤية ولم يثبت له سماع، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.(196/28)
شرح حديث (قام رسول الله خطيباً فأمر بصدقة الفطر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا علي بن الحسن الدرابجردي حدثنا عبد الله بن يزيد حدثنا همام حدثنا - بكر هو ابن وائل - عن الزهري عن ثعلبة بن عبد الله أو قال: عبد الله بن ثعلبة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ح: وحدثنا محمد بن يحيى النيسابوري حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا همام عن بكر الكوفي -قال محمد بن يحيى: هو بكر بن وائل بن داود - أن الزهري حدثهم عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير عن أبيه، قال: (قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطيباً فأمر بصدقة الفطر صاع تمر أو صاع شعير على كل رأس.
زاد علي في حديثه: أو صاع بر أو قمح بين اثنين، ثم اتفقا: عن الصغير والكبير والحر والعبد)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن ثعلبة من طريق أخرى وهو مثل ما تقدم، حيث جعل صاع البر عن اثنين، يعني كل واحد عليه نصف صاع.(196/29)
تراجم رجال إسناد حديث (قام رسول الله خطيباً فأمر بصدقة الفطر)
قوله: [حدثنا علي بن الحسن الدرابجردي].
علي بن حسن الدرابجردي ثقة، أخرج له أبو داود.
[حدثنا عبد الله بن يزيد].
عبد الله بن يزيد المقرئ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا همام].
همام بن يحيى، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا بكر هو ابن وائل].
بكر بن وائل صدوق أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن الزهري].
محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ثعلبة بن عبد الله أو عبد الله بن ثعلبة عن النبي صلى الله عليه وسلم].
تقدم ذكره، وهنا لم يقل: عن أبيه.
[ح، وحدثنا محمد بن يحيى النيسابوري].
محمد بن يحيى النيسابوري هو محمد بن يحيى بن فارس الذهلي، وهو ثقة أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا موسى بن إسماعيل].
مر ذكره.
[حدثنا همام عن بكر الكوفي، قال محمد بن يحيى: هو بكر بن وائل بن داود].
يعني أن بكراً الكوفي هو ابن وائل الذي تقدم.
[عن الزهري عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير عن أبيه].
تقدم ذكرهم.
قال المصنف رحمه الله: [زاد علي في حديثه: (أو صاع بر أو قمح بين اثنين)].
يعني: زاد علي الشيخ الأول، علي بن الحسن الدرابجردي: صاع بر بين اثنين.
والألباني صحح هذا الحديث، لكن هذه الزيادة التي فيها البر جاءت من طريق علي بن الحسن، والطريق الأولى ليس فيها ذكر الأب، فهو مرسل فلا أدري ما وجه التصحيح، والمشهور أنه ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل الصاع من البر على اثنين.
وحديث مسدد السابق فيه النعمان بن راشد وهو صدوق سيئ الحفظ.
والاحتياط أن الإنسان يخرج صاعاً من البر؛ لأن إخراج نصف الصاع مختلف فيه بين الصحابة، وهذه الأحاديث عارضها غيرها، فتكون شاذة.(196/30)
شرح حديث (خطب رسول الله الناس قبل الفطر بيومين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج قال: قال ابن شهاب: قال عبد الله بن ثعلبة، قال أحمد بن صالح: قال العدوي: قال أبو داود: قال أحمد بن صالح: وإنما هو العذري: (خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس قبل الفطر بيومين، بمعنى حديث المقرئ)].
ذكر المصنف الحديث من طريق أخرى، وذكر أن هذا بمعنى حديث عبد الله بن يزيد المقرئ المكي المتقدم في الإسناد السابق.(196/31)
تراجم رجال إسناد حديث (خطب رسول الله الناس قبل الفطر بيومين)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
أحمد بن صالح المصري، ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا عبد الرزاق].
عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا ابن جريج].
هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وقال ابن شهاب: قال عبد الله بن ثعلبة].
مر ذكرهما.
[قال أحمد بن صالح: قال العدوي].
يعني: نسبه فقال: العدوي.
[قال أبو داود: قال أحمد بن صالح: وإنما هو العذري].
يعني: وصف عبد الرزاق عبد الله بن ثعلبة بأنه العدوي، ثم قال أحمد بن صالح: وإنما هو العذري وليس العدوي، والعدوي تصحيف من العذري، وإنما هو عذري من بني عذرة، والتصحيف يكون بين الألفاظ المتشابهة والمتقاربة، مثل أبو إياس وأبو أناس.(196/32)
شرح أثر ابن عباس (أخرجوا صدقة صومكم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن المثنى حدثنا سهل بن يوسف قال: حميد أخبرنا عن الحسن قال: خطب ابن عباس رحمه الله في آخر رمضان على منبر البصرة فقال: (أخرجوا صدقة صومكم، فكأن الناس لم يعلموا، فقال: من ها هنا من أهل المدينة؟ قوموا إلى إخوانكم فعلموهم فإنهم لا يعلمون، فرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الصدقة صاعاً من تمر أو شعير، أو نصف صاع من قمح على كل حر أو مملوك ذكر أو أنثى صغير أو كبير، فلما قدم علي رضي الله عنه رأى رخص السعر قال: قد أوسع الله عليكم فلو جعلتموه صاعاً من كل شيء)، قال حميد: وكان الحسن يرى صدقة رمضان على من صام].
قوله: (حميد أخبرنا): تأخرت الصيغة، كأنه قال: أخبرنا حميد عن الحسن؛ لأنه أحياناً تأتي الصيغة متأخرة عن المسند إليه، والأصل أن الصيغة تتقدم على المسند إليه الفاعل، وأحياناً تتأخر الصيغة، وشعبة رحمة الله عليه أحياناً تأتي عنه هذه الطريقة، وهنا سهل بن يوسف هو الذي قال: (حميد أخبرنا)، يعني: تأخرت (أخبرنا) عن حميد، وحميد هو فاعل (أخبرنا)، يعني: قال سهل بن يوسف: أخبرنا حميد عن الحسن.
وقد أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهو مثل الذي قبله فيه ذكر إخراج زكاة الفطر، وأنها تكون نصف صاع من البر.
قوله: [فلما قدم علي رضي الله عنه رأى رخص السعر قال: قد أوسع الله عليكم فلو جعلتموه صاعاً من كل شيء] يعني: لا تفرقوا بين القمح وغيره، وأخرجوا صاعاً من البر وغيره، والحديث في إسناده الحسن عن ابن عباس قيل: إنه لم يسمع منه، وهو مدلس.
قوله: [وكان الحسن يرى صدقة رمضان على من صام] هذا رأي، يعني: أن الصغير ليس عليه زكاة فطر؛ ولعل ذلك لكونه جاء في بعض الروايات أنها طهرة الصائم من اللغو والرفث، والذي ما صام فليس هناك تطهير له، لكن قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها على الصغير والكبير، فالمعول عليه هو ما جاءت به السنة، ويكون الذي يحصل من الصغير الطعمة للمساكين، والذي يحصل ممن صام أنها طهرة له من اللغو والرفث وطعمة للمساكين.(196/33)
تراجم رجال إسناد أثر ابن عباس (أخرجوا صدقة صومكم)
قوله: [حدثنا محمد بن المثنى].
محمد بن المثنى أبو موسى العنزي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سهل بن يوسف].
سهل بن يوسف، ثقة أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حميد أخبرنا].
هو حميد بن أبي حميد الطويل، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسن].
الحسن بن أبي الحسن البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[خطب ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وتقدم أن الحديث فيه انقطاع بين الحسن وابن عباس.(196/34)
الأحوط إخراج صاع من بر
هذه الأحاديث بعضها صححها الألباني، ولكن قد جاء عن أبي سعيد الخدري أنه قال: (صاعاً من طعام)، والطعام المراد به البر، والخلاف بين الصحابة في ذلك موجود، فالأولى والاحتياط في الدين ألا يخرج الإنسان نصف صاع من البر، وإنما يخرج صاعاً من البر، ومما يدل على ذلك أن الأنواع الأخرى كلها أيضاً متفاوتة، فالشعير دون التمر من حيث القيمة، وقد يكون الزبيب في بعض الأحيان أغلى من التمر، وقد يكون الأقط في بعض الأوقات قيمته أكثر من التمر، فالمعتبر هو المقدار وإن تفاوتت هذه الأشياء، وما دام أن الأمر فيه احتمال فإن الأخذ بما هو أحوط أولى، والذي تطمئن إليه النفس أن الإنسان يدع ما يريبه إلى ما لا يريبه، وهو أن يخرج الصاع من أي طعام حتى من البر، ولاشك أن هذا هو الأولى.
ومن فعل ذلك بناءً على فتوى أو بناءً على اجتهاد أو ثبت عنده الحديث وأخذ به؛ فعمله صحيح، ولكن الأولى إخراج الصاع.(196/35)
شرح سنن أبي داود [197]
اختلف العلماء في جواز نقل الزكاة من بلد المال الزكوي إلى غيره من البلاد، وقد وردت أحاديث تدل على الجواز وأحاديث دالة على المنع، وقد وفق العلماء بينها كما في هذه المادة.(197/1)
تعجيل الزكاة(197/2)
شرح حديث أبي هريرة في تعجيل زكاة العباس
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في تعجيل الزكاة.
حدثنا الحسن بن الصباح حدثنا شبابة عن ورقاء عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الصدقة، فمنع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيراً فأغناه الله، وأما خالد بن الوليد فإنكم تظلمون خالداً، فقد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله، وأما العباس عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهي علي ومثلها، ثم قال: أما شعرت أن عم الرجل صنو الأب أو صنو أبيه).
أورد أبو داود رحمه الله باب تعجيل الصدقة، وتعجيلها هو تقديمها قبل حلول وقتها، والأصل أن الزكاة تجب إذا بلغ المال النصاب وحال عليه الحول، ومسألة تعجيلها قبل حولان الحول، وقبل وقت وجوبها، فيه خلاف بين أهل العلم، منهم من أجازه ومنهم من منعه، وقد جاءت أحاديث تدل على الجواز منها ما هو صريح ومنها ما هو محتمل، وقد أورد أبو داود حديث أبي هريرة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث عمر على الصدقة.
أي: بعثه عاملاً على الصدقة، وهذا يدل على مشروعية بعث الإمام العمال لأخذ الزكاة، وقد جاء في القرآن أن العاملين عليها من مصارفها.
قوله: (بعث عمر على الصدقة فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس).
ابن جميل قيل: اسمه عبد الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيراً فأغناه الله).
وهذا ما يسمونه في علم البلاغة: تأكيد الذم بما يشبه المدح؛ فقيل: إنه ينقم أنه كان فقيراً، ثم يأتي بعد ذلك بشيء قد يفهم منه أنه عذر له وهو في الحقيقة ليس بعذر، (ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيراً فأغناه الله) أي: أنه كان فقيراً فغير الله حاله من الفقر إلى الغنى، وعلى هذا: فإذا لم يكن هناك إلا هذا العذر فهو غير معذور.
وهناك عكس هذه المسألة، وهو: تأكيد المدح بما يشبه الذم، وهو علم من علوم البلاغة.
وقوله: (وأما خالد: فإنكم تظلمون خالداً، فقد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله) فقد فسر بتفسيرين، فقيل إن المراد به: إنه طلب منه زكاة هذه الأشياء على أنها تجارة، أي: طلب منه زكاة التجارة، فيكون في ذلك دليل على مشروعية أو وجوب الزكاة في عروض التجارة، وقيل: إن المقصود من ذلك استبعاد أن يحصل منه المنع مع أنه قد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله، والأعتد فسرت بأنها ما يُعدّ، ومن ذلك الخيل، فكونه يتطوع وتجود نفسه بتحبيس هذه الأموال في سبيل الله فهذا أمر ليس بالسهل، والذي يجود بمثل هذا وهو مستحب وليس بواجب فمن باب أولى أن يبادر إلى أداء الواجب، وأنه لا يمنع ذلك.
قوله: (وأما العباس فهي عليّ ومثلها)، وفي بعض الروايات: (فهي عليه ومثلها).
فقوله: (فهي عليّ ومثلها) فُسِّر بتفسيرين: فإما أن النبي صلى الله عليه وسلم تحمّل عنه؛ لأنه عمه، وإما أنه استسلف منه زكاة عامين على اعتبار أنها تكون مقدمة، وإذا جاء وقت حلولها فلا يجب عليه شيء؛ لأنه قد سبق أن قدمها وعجلها، وهذا هو محل الشاهد من الترجمة، ومن إيراد هذا الحديث؛ لأنه بهذا المعنى يفهم منه أن الرسول طلب منه أن يعجلها فعجلها، فتكون قد بذلت قبل وجوبها.
وأما على رواية: (فهي عليه ومثلها) أي: على العباس، أي: أنه أمهله وأخره لمصلحة وفائدة، أو لحاجة العباس إلى ذلك، فأخر إخراج الزكاة عنه إلى عام قابل، وفي العام القابل تكون عليه الزكاة ومثلها؛ لكونها مؤخرة، فعليه هذه الزكاة المؤخرة، وزكاة العام القادم الذي أخرت إليه.
فهذا هو معنى الحديث على الروايتين، ومحل الشاهد منه إنما هو على الرواية الأولى التي أوردها المصنف وهي قوله: (فهي علي ومثلها).
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عمر أما شعرت أن عم الرجل صنو الأب، أو صنو أبيه؟) يعني: مثل أبيه في الاحترام والتوقير، وقد أُطلق على العم أنه أب في كتاب الله عز وجل، فقد ذكر من جملة الآباء في سورة البقرة في قوله: {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} [البقرة:133] فإسماعيل عمّ وليس أباً، ومع ذلك أطلق عليه أنه أب، فهو مثله.
ولهذا جاء عند أبي داود في (المراسيل): (إنّ العم في كتاب الله أب) وهو إشارة إلى هذه الآية، يعني: أنه أطلق عليه أنه أب، وأن له حق الاحترام والتوقير كما يوقر ويحترم الأب.
وموضوع تأخير الزكاة ورد فيه حديث العباس هذا، فإذا ثبت هذا التأخير فللإمام أن يؤخر ذلك إذا رأى مصلحة في ذلك؛ استناداً إلى ما حصل في حديث العباس على الرواية الثانية وهي: (فهي عليه ومثلها).(197/3)
تراجم رجال إسناد حديث أبي هريرة في تعجيل زكاة العباس
قوله: [حدثنا الحسن بن الصباح].
الحسن بن الصباح، صدوق يهم أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا شبابة].
شبابة بن سوار، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ورقاء].
ورقاء بن عمرو اليشكري صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الزناد].
وهو عبد الله بن ذكوان المدني، كنيته أبو عبد الرحمن، ولقبه أبو الزناد، واللقب هنا على صيغة الكنية، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعرج].
وهو عبد الرحمن بن هرمز الملقب الأعرج، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(197/4)
حكم الترحم على الصحابة والترضي عنهم
جاء في الحديث الذي مر قبل هذا الذي: (عن ابن عباس رحمه الله)، وقد جاء في بعض الأحاديث الترحم على الصحابة، ولا شك أنه يُترحم على الصحابة، ولكن الذي اشتهر على ألسنة السلف هو الترضي عنهم، والترحم على من بعدهم، ويجوز الترحم عليهم والترضي على من بعدهم، فكل ذلك سائغ، ولكن المشهور وهو الجادة: أنه يترضى عن الصحابة، ويترحم على من بعدهم.
والترضي على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هو دعاء وليس إخباراً، وأما أصحاب الشجرة فهو إخبار بأن الله قد رضي عنهم، وليس دعاء، قال الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18]، فإذا قال الإنسان: رضي الله عنهم مخبراً وداعياً في حق هؤلاء فهذا ليس فيه إشكال؛ لأن القرآن جاء بالإخبار بأنهم قد رُضي عنهم، وقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لن يلج النار أحد بايع تحت الشجرة) إلا أن جعله دعاءً هو المناسب، وإن أريد الإخبار بمعنى الدعاء فإنه قد جاء الإخبار عن الله في كتابه مع تأكيد ذلك بقوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18].
والصحابة رضي الله عنهم كلهم وعدوا الحسنى كما جاء في سورة الحديد: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10] أي: الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، والذين أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا، فهم وإن كانوا متفاوتين إلا أن الكل وُعِد الحسنى، والحسنى هي الجنة كما قال الله عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] وقد جاء تفسيرها في حديث صهيب الذي رواه مسلم في صحيحه: أن الْحُسْنَى هي الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله، وكما أن ثواب الذين أحسنوا الحسنى فعاقبة الذين أساءوا السوأى.(197/5)
شرح حديث (أن العباس سأل النبي صلى الله عليه وسلم تعجيل صدقته قبل أن تحل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سعيد بن منصور حدثنا إسماعيل بن زكريا عن الحجاج بن دينار عن الحكم عن حجية عن علي رضي الله عنه (أن العباس رضي الله عنه: سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحل، فرخص له في ذلك، قال مرة: فأذن له في ذلك)].
أورد أبو داود حديث علي رضي الله عنه أن العباس استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعجيل زكاته قبل أن تحل، فرخص له في ذلك، وقال مرة: فأذن له في ذلك، فهذا فيه دليل على تعجيل الزكاة قبل حلول وقتها، ويدل على أن العباس رضي الله عنه نفسه قد استأذن في تعجل زكاته، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقوي الرواية التي مرت في الحديث السابق بلفظ: (وأما العباس فهي عليَّ ومثلها).(197/6)
تراجم رجال إسناد حديث (أن العباس سأل النبي صلى الله عليه وسلم تعجيل صدقته قبل أن تحل)
قوله: [حدثنا سعيد بن منصور].
سعيد بن منصور ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا إسماعيل بن زكريا].
إسماعيل بن زكريا بن مرة الخلقاني، وهو صدوق يخطئ قليلاً، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحجاج بن دينار].
الحجاج بن دينار لا بأس به، أخرج له أصحاب السنن.
[عن الحكم].
الحكم هو ابن عتيبة الكندي الكوفي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حجية].
وهو حجية بن عدي الكندي صدوق يخطئ، أخرج له أصحاب السنن.
[عن علي].
علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو أمير المؤمنين، ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، وصاحب المناقب الجمة، والفضائل الكثيرة، رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
[قال أبو داود: روى هذا الحديث هشيم عن منصور بن زاذان عن الحكم عن الحسن بن مسلم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وحديث هشيم أصح].
ثم ذكر إسناداًَ آخر وهو مرسل؛ لأنه من طريق الحسن بن مسلم بن يناق عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون مرسلاً، قال: وهو أصح، يعني: هذا الإسناد، لكن الحديث السابق المتصل حسن، وهذا يؤيده.
[قال أبو داود: روى هذا الحديث هشيم].
هشيم هو: ابن بشير الواسطي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن منصور بن زاذان] منصور بن زاذان وهو ثقة أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن الحكم عن الحسن بن مسلم] الحكم هو ابن عتيبة.
والحسن بن مسلم هو ابن يناق، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب إلا الترمذي.
ولـ منصور بن زاذان كلمة مشهورة تبين مدى عبادته، وقوة صلته بالله عز وجل، وقد سبق أن ذكرتها، وهي مذكورة في ترجمته، وهي تدل على كمال عبادته، وعلى شغله وعنايته بها، فقد روي أنه لو قيل لـ منصور بن زاذان إن ملك الموت بالباب ما كان بإمكانه أن يزيد شيئاً على ما كان يفعل من قبل، يعني: أنه مستعد للموت، وأن حياته كلها طاعات، وأنه لو أخبر بأن ملك الموت بالباب ما كان بإمكانه أنه يأتي بشيء جديد؛ لملازمته العبادة، ومداومته عليها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل)، وكما يقولون: قليل تداوم عليه خير من كثير تنقطع عنه، فهذه الكلمة مذكورة في ترجمته، وهي تدل على عبادته، وأنه ملازم للتقوى والاستقامة.(197/7)
من فقه تعجيل الزكاة
وأما فقه هذه المسألة: فإذا كان هناك حاجة إلى تعجيل الزكاة فهو لا شك أنه إحسان، وأما الوجوب فلا يجب إلا إذا حال الحول، فكونه يقدم الشيء قبل أن يحل للحاجة إليه فلا شك أن هذا شيء جميل، والفائدة فيه متحققة، والمضرة منتفية، وهذا مما يحمد عليه صاحبه، أعني: كونه يعجل الزكاة عندما يُحتاج إليها، وقبل أن يأتي وقت وجوبها، وذكر أنه لمدة عامين.
وأما إذا نما المال فإنه يخرج الزائد إذا تبين أن الذي قدمه أقل من الواجب، فالواجب هو ما كان عند حلول الزكاة، فإذا كان قدم شيئاً أقل من ذلك فإن عليه أن يكمل؛ لأن الوجوب وتحقُّق المقدار إنما هو عند حلول الزكاة، ولكن الذي يعجل -وإن حصل نقص- فلا شك أنه محسن، وإن حصل زيادة فإن عليه أن يأتي بالزيادة؛ حتى تبرأ لذمته.(197/8)
حمل الزكاة من بلد إلى بلد(197/9)
شرح حديث عمران بن حصين في عدم نقل الزكاة من بلد إلى بلد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الزكاة هل تحمل من بلد إلى بلد.
حدثنا نصر بن علي أخبرنا أبي أخبرنا إبراهيم بن عطاء مولى عمران بن حصين عن أبيه أن زياداً أو بعض الأمراء بعث عمران بن حصين رضي الله عنهما على الصدقة فلما رجع قال لـ عمران: أين المال؟ قال: وللمال أرسلتني؟ أخذناها من حيث كنا نأخذها على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ووضعناها حيث كنا نضعها على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم].
أورد أبو داود باباً في الزكاة هل تحمل من بلد إلى بلد؟ أي: أن تكون زكاة المال في بلد، فتنقل من ذلك البلد وتوزع على فقراء بلد آخر.
وهذه المسألة اختلف فيها العلماء، فمنهم من منعها، ومنهم من أجازها، والذين أجازوها قالوا: إن البلد إذا كان محتاجاً أو أكثر حاجة إليها من غيره فهو أولى، وإذا كان غيره أشد حاجة إليها منه فإنه يجوز نقلها إليه.
أما إذا كانت الحاجة متساوية فإن البلد الذي فيه المال يكون أحق بها من الآخر.
وقد أورد المصنف الترجمة بالاستفهام، وأورد حديثاً ليس فيه دلالة على نقل الزكاة وإنما فيه دلالة على بذل الزكاة في بلد المال، فقد أورد حديث عمران بن حصين: (أن أحد الولاة أرسله مصدّقاً، ولما جاء قال: أين المال؟ قال: وهل أرسلتني للمال؟ إنا كنا نأخذه كما نأخذه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ونضعه كما كنا نضعه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وهذا يماثل ما جاء في حديث معاذ: (أخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقراءهم)، والمقصود بذلك أهل اليمن، أي: تؤخذ من أغنياء اليمن وترد على فقراء اليمن، وحديث معاذ هذا من العلماء من قال فيه: إن المراد به المسلمون، أي: تؤخذ من أغنياء المسلمين، وترد على فقراء المسلمين، وعلى هذا فيجوز نقلها من بلد إلى بلد.
والحاصل: أن فقراء البلد الذي فيه المال هم أحق بزكاة ماله؛ لأنهم هم الذين يشاهدون ذلك المال ويبصرونه، فهم أحق الناس بفوائده ومنافعه وزكاته، ولكن يجوز النقل إلى بلد آخر إذا كانت الحاجة أشد، أو كان هناك فائض عن فقراء البلد.
وأما نقلها إلى بلد آخر لأجل قرابة له فقراء فقد سبق أن ذكرت عدة مرات أن الأقارب لهم حق غير الزكاة، وبعض الناس قد يتخذ من الزكاة وقاية للمال، فيقول: ما دام أنّ الزكاة خارجة فبدلاً من أن أعطيها لأجنبي سأعطيها لقريب مني؛ حتى أسلم من الحق الذي له علي في مالي! فلا يجوز أن تتخذ وقاية للمال، لكن إذا كان المال قليلاً والزكاة قليلة فلا شك أن إعطاءها للقريب أولى من إعطائها للبعيد، وذلك حيث لا يمكن أن يكون هناك مجال لإعطاء القريب من أصل المال، لكن إذا كان صاحب المال من بلد ليس فيه أموال زكوية تعطى لفقراء ذلك البلد، فالبلد الذي فيه المال يكون أولى؛ لعدم وجود شيء يكفي أهل ذلك البلد.
والأمر -كما قلت- في ذلك واسع، فمن أخرجها في بلده فله وجه، ومن أرسلها لقريبه فله وجه، وهذا فيما إذا كان المال قليلاً، أما إذا كان كثيراً فأقرباؤه الذين ليسوا في البلد، أو كانوا في البلد فإنه يعطيهم من ماله؛ لأن لهم حقاً غير الزكاة.(197/10)
تراجم رجال إسناد حديث عمران في عدم نقل الزكاة من بلد إلى بلد
قوله: [حدثنا نصر بن علي] نصر بن علي بن نصر بن علي الجهضمي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا أبي].
وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا إبراهيم بن عطاء مولى عمران بن حصين].
إبراهيم بن عطاء مولى عمران بن حصين، وهو صدوق أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[عن أبيه].
أبوه هو عطاء بن أبي ميمونه وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن عمران بن حصين].
عمران بن حصين أبو نجيد رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
ثم هذا الحديث الذي معنا وهو حديث عمران فيه دلالة على أن زكاة المال تخرج في بلد المال؛ لأن عمران بن حصين رضي الله عنه كان يأخذها من الأغنياء ويعطيها الفقراء، لكن قد جاء ما يدل على أنها تجبى وأنه يؤتى بها، وذلك كما في قصة ابن اللتبية، فإنه لما جاء قال: (هذا لكم وهذا أهدي إلي)، فقوله: (هذا لكم) يعني: أنه أتى بالزكاة، فهو يدل على أن هذا أمر سائغ، ولعل عمران بن حصين رضي الله عنه كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل مثل هذا الذي ذكره من كونه يأخذ المال ويعطيه الفقراء، وقصة ابن اللتبية فيها أنه جاء بالمال، ولعله طُلب منه أن يأتي به.
والحاصل أنه يمكن للعامل أن يوزع المال على المحتاجين، ويمكن أن يأتي به، وهذا على حسب ما يتفق عليه مع ولي الأمر، فإن قال له: اقبضها ووزعها، فإنه يفعل ذلك، وإن قال له: اقبضها وائت بها فإنه يفعل ذلك.
قوله: [أن زياداً أو بعض الأمراء بعث عمران بن حصين].(197/11)
شرح سنن أبي داود [198]
لقد حث ديننا الحنيف على التصدق والبذل والإعطاء، ورتب على ذلك الأجور العظيمة، ففي التصدق والبذل التخلص من أمراض النفوس وأدرانها كالبخل والشح والهلع، وفيه إعانة للفقراء والمساكين من المسلمين، فنفع ذلك لازم ومتعد، وخير الأمور ما كان نفعه لازماً ومتعدياً.
كما أن ديننا حث المؤمن على العفاف والاستغناء، وألا يسأل الناس حتى يعطوه أو يمنعوه، إلا من كان مضطراً إلى ذلك، فلا بأس.(198/1)
من يُعطى الصدقة(198/2)
شرح حديث (من سأل وله ما يغنيه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من يعطى من الصدقة وحدّ الغنى.
حدثنا الحسن بن علي حدثنا يحيى بن آدم حدثنا سفيان عن حكيم بن جبير عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من سأل وله ما يغنيه جاءت يوم القيامة خموش، أو خدوش، أو كدوح في وجهه، فقال: يا رسول الله! وما الغنى؟ قال: خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب)].
أورد أبو داود باب من يعطى من الصدقة، وحدّ الغنى، يعني: من الذي يعطى من الصدقة وما حدّ الغنى، أي: ومن هو الفقير ومن هو الغني؟ والذي يعطى من الصدقة أعم من كونه فقيراً؛ لأن الصدقة مصارفها ثمانية، فهل لابد أن تكون الزكاة في المصارف الثمانية أو أنه يجوز صرفها في صنف واحد؟ قال بعض أهل العلم: لابد أن توزع على المصارف الثمانية، ومنهم من قال: يكفي توزيعها في صنف واحد كما جاء في حديث معاذ: (تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم) وكما حصل من عمران بن حصين عندما جمعها وأعطاها للفقراء.
وحدُّ الغنى جاء في الحديث الذي أورده أبو داود من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سأل وله ما يغنيه جاءت يوم القيامة خموش، أو خدوش، أو كدوح في وجهه، فقال: يا رسول الله! وما الغنى؟)؛ لأنه قال: (وله ما يغنيه) فطلبوا منه أن يفسر قوله: (وله ما يغنيه)، فقال: (خمسون درهماً، أو قيمتها من الذهب) وكأن المقصود من ذلك أنه يسأل في حينه وفي وقته وعنده ما يكفيه، وأما لو كان عند الإنسان خمسون درهماً فإنه يجوز أن يعطى من الزكاة ما يكفيه لمدة سنة، والمحذور هنا هو أن يسأل الإنسان وعنده شيء يغنيه في يومه وليلته أو أكثر من ذلك كما سيأتي، فالإنسان الذي عنده كفايته لا يسأل في الوقت الذي عنده تلك الكفاية، ولكن إذا نفذ ما عنده فله أن يسأل.
وعلى هذا فذكر هذا العدد ليس قيداً في كون الإنسان لا يعطى من الزكاة وعنده خمسون درهماً، وإنما يتعلق بمنع المسألة، وأن الإنسان لا يسأل وعنده هذا المقدار، لأنه غني في وقته وإن كان ليس عنده شيء يغنيه طوال السنة، ولذلك فهو أهل لأن يعطى من الزكاة، والزكاة تؤخذ في كل عام فيعطى الفقراء ما يكفيهم إلى نهاية العام، ثم إذا جاء العام الآخر أخذت الزكاة فيعطون ما يكفيهم وهكذا.
إذاًً: هذا المقدار ليس حداً لكونه لا يعطى من الزكاة، ولكنه حد لكونه لا يسأل؛ لأن عنده شيئاً يغنيه عن السؤال في وقته.
قوله: (خموش، أو خدوش، أو كدوح) هي آثار في الوجه، ومعنى ذلك: أنه سأل وأراق ماء وجهه، فيعاقب يوم القيامة بأن يأتي وهو على هذه الهيئة التي تصير علامة على سؤاله وهو ليس أهلاً لذلك؛ فإنه غني في الوقت الذي سأل فيه.(198/3)
تراجم رجال إسناد حديث (من سأل وله ما يغنيه)
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
الحسن بن علي الحلواني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا يحيى بن آدم].
يحيى بن آدم الكوفي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سفيان].
سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حكيم بن جبير].
حكيم بن جبير، وهو ضعيف، أخرج له أصحاب السنن.
[عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد].
محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، وهو ثقة أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
وهو عبد الرحمن بن يزيد بن قيس النخعي وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله].
هو عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد فقهاء الصحابة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وهذا الحديث ضعيف، ففي إسناده حكيم بن جبير، ولكن قد جاءت أحاديث أخرى تدل على ذم المسألة، وعقوبة صاحبها.
وأما سؤال ولاة الأمر، فالذي يبدو أنه لا بأس به إذا كان للإنسان شيء قليل لا يكفيه ولا يغنيه، وأما الذي عنده شيء كثير ولكنه يتكثر فهذا الذي ينبغي له أن يستعفف، وينبغي له ألا يسأل ولاة الأمر.
وفي هذا الوقت يكون عند الإنسان راتب يكفيه، لكنه يريد أن يستزيد، فهذا لو يستعفف لكان خيراً له، فمن يستغن يغنه الله، ومن يستعفف يعفه الله، وأما إذا جاء من غير مسألة ولا إشراف نفس فلا بأس بأخذه كما في حديث عمر (من غير مسألة ومن غير إشراف نفس) الحديث.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال يحيى: فقال عبد الله بن عثمان لـ سفيان: حفظي أن شعبة لا يروي عن حكيم بن جبير، فقال سفيان: فقد حدثناه الزبيد عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد].
[قال: يحيى].
يحيى بن آدم الذي مر ذكره.
[فقال عبد الله بن عثمان لـ سفيان].
عبد الله بن عثمان هو البصري وسفيان هو الثوري.
وقوله: (حفظي أن شعبة لا يروي عن حكيم بن جبير)، أي: الذي أحفظه أنه لا يروى عن حكيم، يعني: لضعفه، فقال: (حدثناه زبيد) وهو زبيد بن الحارث اليامي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
بقي علينا أن نعرف بـ عبد الله بن عثمان: عبد الله بن عثمان الذي يبدو أنه البصري، الذي قيل إنه صاحب شعبة، قال النسائي: ثقة ثبت أخرج له الترمذي والنسائي وابن ماجة، ولم يذكر أبا داود لعله لأنه هنا معلق.(198/4)
شرح حديث (من سأل منكم وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد أنه قال: (نزلت أنا وأهلي ببقيع الغرقد، فقال لي أهلي: اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسله لنا شيئاً نأكله، فجعلوا يذكرون من حاجتهم، فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوجدت عنده رجلاً يسأله، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لا أجد ما أعطيك، فتولى الرجل عنه وهو مغضب وهو يقول: لعمري! إنك لتعطي من شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يغضب علي ألا أجد ما أعطيه؟! من سأل منكم وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافاً).
قال الأسدي: فقلت: للقحة لنا خير من أوقية -والأوقية أربعون درهماً- قال: فرجعت ولم أسأله، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك شعير أو زبيب فقسم لنا منه أو كما قال، حتى أغنانا الله عز وجل].
أورد أبو داود حديث رجل من بني أسد جاء هو وأهله إلى المدينة، فنزلوا في بقيع الغرقد، أي: في منطقة البقيع يعني: ليس معناه أنهم نزلوا في البقيع ولكنهم نزلوا في منطقة البقيع يعني حوله، فقال له أهله: (اذهب إلى رسول الله فسله لنا شيئاً نأكله)، أي: سله لنا طعاماً نأكله.
فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده رجلاً يسأله، فاعتذر رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه وذكر أنه ليس عنده شيء يعطيه إياه، فغضب ذلك الرجل وقال: لعمري إنك تعطي من شئت! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يغضب علي ألا أجد ما أعطيه؟! من سأل منكم وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافاً)، والأوقية أربعون درهماً؛ لأن نصاب الفضة خمس أواق، ومقدارها مائتا درهم، فالأوقية إذاً أربعون درهماً.
قوله: (فقد سأل إلحافاً) يعني: سأل وعنده ما يغنيه، فيكون قد ألح في السؤال وهو ليس محلاً لذلك، وهذا في حال وجود ذلك المقدار عنده، وأما إذا لم يكن عنده هذا المقدار فله أن يسأل، وهذا كما هو معلوم شيء، وإعطاؤه من الزكاة شيء آخر، فهو وإن كان ينبغي له ألا يسأل لكنه يُعطي من الزكاة ما يكفيه لمدة سنة وإن كان عنده أربعون درهماً.
فهذا الأسدي الذي جاء كفته هذه المحاورة التي جرت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين ذلك الرجل، وذلك عندما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول له هذه المقالة.
قوله: (فقال الأسدي: فقلت: للقحة لنا خير من أوقية).
الأسدي: نسبة إلى بني أسد، واللقحة هي الناقة، فيشربون من حليبها، وهي عندهم خير من الأوقية التي هي أربعون درهماً.
قوله: (قال: فرجعت ولم أسأله) أي: كفاه ذلك الذي سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يسأله، فجاء النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك شعيرٌ أو زبيب فأعطاه منه حتى أغناه الله).
وقد جاء في الحديث الماضي: خمسون، وهنا: أربعون، وهما متقاربان.
وأما مقدار ذلك الآن فالمائتا درهم تعادل ستة وخمسين، فالأربعون أوقية خمُس الستة والخمسين، أي: أحد عشر وخمس من ريالات الفضة، فإذا قيل: إن الريال عُشر الفضة فالعشرة ريالات فضة تصير مائة وعشرة ريال.
ومرجع الإعطاء والكفاية إلى العرف، فبعض الأماكن وبعض الناس تختلف قضية الغنى والفقر عندهم فالأعزب مثلاً ليس كالمتزوج الذي عنده عيال من حيث الغنى والفقر، فتختلف الكفاية بحسب ذلك، وكذلك تختلف كفاية العائلة بحسب عدد أفرادها وهكذا.(198/5)
تراجم رجال إسناد حديث (من سأل منكم وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافاً)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
عبد الله بن مسلمة القعنبي ثقة أخرج له أصحاب الكتب إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
مالك بن أنس إمام دار الهجرة، الإمام المشهور أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن زيد بن أسلم].
زيد بن أسلم ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عطاء بن يسار].
عطاء بن يسار وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن رجل من بني أسد].
أي أنه مبهم، والمبهم والمجهول من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حكم المعلوم؛ لأن جهالة الصحابة لا تؤثر، وإنما تؤثر الجهالة في غيرهم، وأما هم فما داموا أنهم صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فالمجهول فيهم في حكم المعلوم.
[قال أبو داود: هكذا رواه الثوري كما قال مالك].
يعني: بهذا اللفظ.
والله تعالى أعلم.(198/6)
بيان عن حديث (يا علي لا تنم إلا أن تأتي بخمسة أشياء)
هناك منشورات فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا علي! لا تَنَم إلا أن تأتي بخمسة أشياء وهي: قراءة القرآن كله، والتصدق بأربعة آلاف درهم، وزيارة الكعبة، وحفظ مكانك من الجنة، وإرضاء الخصوم، قال علي: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما تعلم أنك إذا قرأت: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ثلاث مرات فقد قرأت القرآن كله، وإذا قرأت الفاتحة أربع مرات فقد تصدقت بأربعة آلاف درهم، وإذا قلت: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت، وهو على كل شيء قدير عشر مرات فقد زرت الكعبة، وإذا قلت لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم عشر مرات فقد حفظت مكانك في الجنة، وإذا قلت: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه عشر مرات فقد أرضيت الخصوم).
أقول: لما قال علي رضي الله عنه هذا الكلام هل سلم من الخصوم؟! فالدنيا يوجد فيها خصوم، وهذا الكلام فيه مبالغة، ثم هذه أمور غيبية، فيكفي الناس ما صح وثبت في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذكار والأدعية والأعمال الصالحة، وأما الأشياء التي فيها مبالغات، والتي ليس لها أساس من الصحة فالبعد عنها أسلم.(198/7)
شرح حديث (من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد وهشام بن عمار قالا: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الرجال عن عمارة بن غزية عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف، فقلت: ناقتي الياقوتة هي خير من أوقية -قال هشام: خير من أربعين درهماً- فرجعت فلم أسأله شيئاً، زاد هشام في حديثة: وكانت الأوقية على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أربعين درهماً)].
سبق بعض الأحاديث المتعلقة بذكر من يُعطى من الصدقة، ومما يدل على ذلك أيضاً حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف)، والأوقية -كما هو معلوم- هي أربعون درهماً.
(فقلت: ناقتي الياقوتة)، اسم ناقته ياقوتة، (خير من أوقية) يعني: أنه يملك شيئاً كثيراً.
(قال هشام: خير من أربعين درهماً) يعني: أن قتيبة قال: (أوقية)، وهشام قال: (أربعون درهماً) وهما بمعنى واحد؛ لأن الأوقية أربعون درهماً.
قوله: (فرجعت فلم أسأله شيئاً) أي: أنه لما سمع هذا الكلام اكتفى به.
وزاد هشام في حديثه: (وكانت الأوقية في عهده صلى الله عليه وسلم أربعين درهماً) أي أنه قال هذا ليبين أن الأوقية هي هذا المقدار من الدراهم.
قد يفهم من هذا الحديث أن أبا سعيد هو صاحب القصة، ويفهم منه أيضاً أن صاحب القصة هو ذلك الرجل الذي جاء وسأل كما في الحديث السابق، فليس في هذا الحديث أن أبا سعيد سأل، وإنما أخبر بأنه سمع هذا الكلام، فيحتمل أن يكون المقصود بهذا الكلام هو أبا سعيد، ويحتمل أن يكون المقصود به الرجل السابق صاحب بني أسد.(198/8)
تراجم رجال إسناد حديث (من سأل وله قيمة أوقية فقد أحلف)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وهشام بن عمار].
هشام بن عمار صدوق أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا عبد الرحمن بن أبي الرجال].
عبد الرحمن بن أبي الرجال وهو صدوق ربما أخطأ أخرج له أصحاب السنن، وابن أبي الرجال كنية أبيه: أبو الرجال، وهو محمد بن عبد الرحمن الأنصاري، وقيل له: أبو الرجال؛ لأنه ولد له عشرة من البنين، فكان يقال له: أبو الرجال، وهذا لقب، وأما كنيته: فـ أبو عبد الرحمن، وهذا من جنس أبي الزناد، فإنه لقب، واسمه: عبد الله بن ذكوان، وكنيته: أبو عبد الرحمن، فكل من أبي الزناد وأبي الرجال لقب على صيغة الكنية، وكل منهما يكنى بأبي عبد الرحمن.
[عن عمارة بن غزية].
عمارة بن غزية لا بأس به، وهي بمعنى: صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري].
عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
أبوه هو أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واسمه سعد بن مالك بن سنان، وهو مشهور بكنيته ونسبته، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(198/9)
معنى الإلحاف في السؤال
قال الواحدي: الإلحاف في اللغة: هو الإلحاح في المسألة، قال الزجاج: معنى ألحف شمل بالمسألة، والإلحاف في المسألة: هو أن يشتمل على وجوه الطلب بالمسألة كاشتمال اللحاف في التغطية.
وقال غيره: الإلحاف في المسألة مأخوذ من قولهم: ألحف الرجل، إذا مشى في لحف الجبل، وهو أصله، فكأنه استعمل للخشونة في الطلب.
وهذه قسوة وخشونة في الطلب، وليس هناك سهولة ولين، وهذا كالذي ذهب ليسأل الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما قال له: (لا أجد ما أعطيك، قال: إنك تعطي من شئت)، فهذه هي الخشونة في الطلب.(198/10)
شرح حديث (من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا مسكين قال: حدثنا محمد بن المهاجر عن ربيعة بن يزيد عن أبي كبشة السلولي حدثنا سهل بن الحنظلية رضي الله عنه أنه قال: (قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عيينة بن حصن والأقرع بن حابس فسألاه، فأمر لهما بما سألا، وأمر معاوية رضي الله عنه فكتب لهما بما سألا، فأما الأقرع فأخذ كتابه فلفه في عمامته وانطلق، وأما عيينة فأخذ كتابه وأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكانه فقال: يا محمد! أتراني حاملاً إلى قومي كتاباً لا أدري ما فيه كصحيفة المتلمس؟! فأخبر معاوية رضي الله عنه بقوله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار.
وقال النفيلي في موضع آخر: من جمر جهنم.
فقالوا: يا رسول الله! وما يغنيه؟ وقال النفيلي في موضع آخر: وما الغنى الذي لا تنبغي معه المسألة؟ قال: قدر ما يغديه ويعشيه).
وقال النفيلي في موضع آخر: أن يكون له شبع يوم وليلة أو ليلة ويوم.
وكان حدثنا به مختصراً على هذه الألفاظ التي ذكرت].
وأورد أبو داود حديث سهل بن الحنظلية رضي الله عنه، أن الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن جاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألانه، فكتب لهما بطلبهما، فأخذ الأقرع بن حابس الكتاب ولفه في عمامته وانطلق، وأما عيينة بن حصن فإنه جاء وقال: إني لا أدري ما في هذا الكتاب، وإني أشبّه بـ المتلمس الذي حمل الصحيفة وهو لا يدري ما فيها، وقصة المتلمس: أن رجلين يقال لأحدهما: المتلمس جاءا إلى أمير من الأمراء أو كبير من الكبراء، فحصل منهما هجر له، ثم كتب لكل واحد منهما كتاباً إلى بعض عماله، وكان الكتاب مشتملاً على قتل كل واحد منهما إذا وصلا إلى ذلك العامل، فأما أحدهما فذهب بذلك الكتاب إلى العامل ففتحه العامل وقتله، وأما هذا ففتح الكتاب في الطريق ووجد فيه أنه سيقتل، فمزق الكتاب وهرب، فصار يقال للذي يحمل شيئاً فيه حتفه ومضرته: كحامل صحيفة المتلمس.
فـ عيينة يقول: إنني لا أدري ما فيها، فلعلي أكون حاملاً صحيفة المتلمس، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (من سأل وله ما يغنيه فإنما يستكثر من النار)، وفي رواية (يستكثر من جمر جهنم)، يعني: أن سؤال الإنسان وعنده ما يغنيه يعود عليه بالمضرة، ويعاقب على ذلك، وأنه إنما يستكثر من جمر جهنم، ويكون ذلك قلةً وكثرةً على حسب استكثاره من السؤال والطلب وعنده ما يغنيه.
قوله: (فقالوا يا رسول الله! وما يغنيه؟ قال النفيلي: قالوا: وما الغنى الذي لا تكون معه المسألة؟ قال: قدر ما يغديه ويعشيه) يعني: في ذلك اليوم، فالإنسان الذي عنده طعام يومه وليلته ثم يسأل بعد ذلك فإنه يكون عند ذلك سائلاً وهو غني.
وقد رواه النفيلي على عدة أوجه مختصرة، وهنا أشار أبو داود إلى هذه الروايات المتعددة التي حدث بها النفيلي، فذكر كل فقرة على حدة، وبألفاظ مختلفة.
قوله: (أن يكون عنده شبع يوم وليلة أو ليلة ويوم) هو مثل الذي قبله: أن يكون عنده ما يغديه ويعشيه.
قوله: (وكان حدثنا به مختصراً على هذه الألفاظ)، يعني: مرة هكذا، ومرة هكذا، وهنا جمعها وأشار إلى ألفاظها المختلفة.(198/11)
تراجم رجال إسناد حديث (من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار)
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي].
عبد الله بن محمد النفيلي ثقة، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا مسكين].
مسكين وهو ابن بكير الحراني، وهو صدوق يخطئ أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا محمد بن المهاجر].
محمد بن المهاجر، وهو ثقة أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) ومسلم وأصحاب السنن.
[عن ربيعة بن يزيد].
ربيعة بن يزيد وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي كبشة السلولي].
أبو كبشة السلولي ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا سهل بن الحنظلية].
سهل بن الحنظلية صحابي أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) وأبو داود والنسائي.
[عيينة بن حصن والأقرع بن حابس].
عيينة بن حصن والأقرع بن حابس زعيمان وكبيران من كبار قومهما، قيل: إنه عليه الصلاة والسلام أعطاهما لتأليف قلوبهما.
وقد يستشكل بعضهم هذه العبارة: (فقال: يا محمد! أتراني حاملاً إلى قومي كتاباً لا أردي ما فيه كصحيفة المتلمس؟! فأخبر معاوية بقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فالاستشكال: ألم يقل الأقرع هذا الكلام في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يحتاج إلى إخبار معاوية بذلك؟
و
الجواب
يمكن أن يكون طلب من معاوية أن يقول هذا الكلام، أو أنه قاله للنبي صلى الله عليه وسلم وقاله لـ معاوية، فأخبر معاوية بما قيل له، وقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أيضاً، فيكون حصل من الجهتين: فقد قاله للنبي صلى الله عليه وسلم، وقاله لـ معاوية، وأخبر معاوية أيضاً النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.(198/12)
شرح حديث (إن الله تعالى لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا عبد الله يعني: ابن عمر بن غانم عن عبد الرحمن بن زياد أنه سمع زياد بن نعيم الحضرمي أنه سمع زياد بن الحارث الصدائي رضي الله عنه قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبايعته، فذكر حديثاً طويلاً، قال: فأتاه رجل فقال: أعطني من الصدقة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله تعالى لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو، فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك)].
أورد أبو داود حديث زياد بن الحارث الصدائي رضي الله عنه: أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله الصدقة، فقال: إن الله عز وجل قد تولى قسمة الصدقات بنفسه ولم يوكلها إلى نبي، فإن كنت من أهل هذه الأجزاء -أي: الأجزاء الثمانية التي ذكرها الله في سورة التوبة-أعطيتك حقك.
أي: من الزكاة.
فالحديث فيه أن مصارف الزكاة ثمانية كما جاء في القرآن، وأن من كان من أهل الزكاة فإنه يعطى منها، ومن لم يكن من أهلها فإنه لا يعطى؛ لأنها إنما جعلت للمصارف الثمانية، وقد استدل بعض أهل العلم بهذا الحديث على أن الزكاة توزع على المصارف الثمانية، وأنها لا تكون في صنف واحد.
وقال بعض أهل العلم: إنه لا بأس بصرفها في صنف واحد، ولا يلزم توزيعها على المصارف كلها، ويستدلون على ذلك بحديث معاذ حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وقال له: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب) وفي آخره: (فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم، وترد على فقرائهم)، فعلى هذا القول لا يتعين توزيعها على المصارف الثمانية، وقد توجد بعض هذه المصارف وقد لا توجد، فمصرف العاملين عليها مثلاً قد لا يوجد، وذلك إذا كانت الزكاة تحصل بدون عمال، وكذلك مصرف المؤلفة قلوبهم، فربما لا يوجد من يؤلف قلبه، وكذلك ربما لا يوجد ابن سبيل، فتصرف الزكاة في المصارف الثمانية ولا تتعداهم إلى غيرهم، وإن صرفت في صنف واحد كالفقراء فلا بأس بذلك.
ولا شك أنه إذا كانت الرقاب موجودة، وكذلك ابن سبيل وغيرهما، فإعطاء كل هذه المصارف هو المناسب، لكن إذا كانت الحاجة أشد في بعض المصارف كالفقراء فلا بأس أن تعطى لهم، وإذا كانت الأموال كثيرة فتعطى الجهات كلها، ولكنه ينظر إلى الأصلح والأعظم فائدة، والأكبر منفعة فيقدم على حسب ذلك.(198/13)
تراجم رجال إسناد حديث (إن الله تعالى لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
عبد الله بن مسلمة القعنبي ثقة أخرجه أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا عبد الله يعني: ابن عمر بن غانم].
عبد الله بن عمر بن غانم وثقه ابن يونس وغيره.
[عن عبد الرحمن بن زياد].
عبد الرحمن بن زياد الأفريقي، ضعيف في حفظه أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[سمع زياد بن الحارث الصدائي].
زياد بن الحارث الصدائي رضي الله عنه أحد الصحابة، وحديثه أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة.
وهذا الحديث ضعيف.(198/14)
شرح حديث (ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة وزهير بن حرب قالا: حدثنا جرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، والأكلة والأكلتان، ولكن المسكين الذي لا يسأل الناس شيئاً، ولا يفطنون به فيعطونه)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، والأكلة والأكلتان، وإنما المسكين الذي لا يسأل الناس شيئاً، ولا يتفطنون به فيعطونه).
قوله: (ولا يفطنون به فيعطونه) ليس المقصود من هذا نفي المسكنة عن المسكين الذي يسأل الناس؛ لأن كلاً منهما مسكين، ولكن المقصود بيان صفة المسكين الأعظم، والمسكين الذي هو أهم وأشد، فليس عنده شيء ولا يسأل، وأما المسكين الذي يسأل فإنه يعطى فيأكل ويستفيد.
إذاً: فليس المقصود من نفي المسكنة هنا نفيها على الحقيقة في المسكين الذي يسأل، لكنه وإن كان مسكيناً إلا أنه دون من لا يسأل، ولهذا نظائر وأمثلة منها قوله (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)، فالصرعة هو الذي يصرع الرجال، وليس هو شديداً على الحقيقة، وإنما الشديد حقيقة هو الذي يملك نفسه عند الغضب، وإن كان الذي يصرع الرجال هو شديداً، ولكنه ليس بشديد حقيقة.
وكذلك الحديث الذي قال صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس ما لا درهم عنده ولا متاع، قال: المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام وحج)، فالذي ذكروه مفلس، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد مفلس الآخرة، وهم فهموا أن المقصود مفلس الدنيا، فهذا مفلس وهذا مفلس، ولكن المفلس على الحقيقة هو مفلس الآخرة، فهذه الأمثلة تشبه ما جاء في هذا الحديث: (ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، والأكلة والأكلتان) يعني: اللقمة واللقمتان، فالأكلة هي اللقمة، (وإنما المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن الناس به فيعطونه)؛ فهو متعفف مع شدة حاجته، وتجده صابراً غير سائل، فهذا هو الذي يستحق أن يعطى، وأما السائل الذي يسأل ويعطى فهو أخف منه؛ لأنه يجد ما يأكله.(198/15)
تراجم رجال إسناد حديث (ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي في (عمل اليوم والليلة) وابن ماجة.
[وزهير بن حرب].
زهير بن حرب هو أبو خيثمة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا جرير].
جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
الأعمش هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي صالح].
أبو صالح هو ذكوان السمان، اسمه ذكوان، ولقبه السمان، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(198/16)
شرح حديث (ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان) من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد وعبيد الله بن عمر وأبو كامل المعنى، قالوا: حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثله، قال: (ولكن المسكين المتعفف، زاد مسدد في حديثه: ليس له ما يستغني به، الذي لا يسأل، ولا يعلم بحاجته فيتصدق عليه، فذاك المحروم)، ولم يذكر مسدد المتعفف الذي لا يسأل].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى وفيه بيان المسكين على الحقيقة، وهو المتعفف الذي لا يسأل، وجاء فيه أيضاً أنه المحروم، وتفسيره بالمحروم مدرج من كلام الزهري، وليس من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم.(198/17)
تراجم رجال إسناد حديث (ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان) من طريق أخرى
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[وعبيد الله بن عمر].
عبيد الله بن عمر بن ميسرة، وهو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[وأبو كامل].
أبو كامل هو: الفضيل بن حسين الجحدري وهو ثقة أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والنسائي.
[المعنى، قالوا: حدثنا عبد الواحد بن زياد].
أي: أنهم متفقون في المعنى مع اختلافهم في الألفاظ.
وعبد الواحد بن زياد ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن معمر].
معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
الزهري هو: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سلمة].
هو ابن عبد الرحمن بن عوف وهو ثقة، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
وقد مر ذكره.
قال أبو داود: [روى هذا الحديث محمد بن ثور وعبد الرزاق عن معمر، وجعل (المحروم) من كلام الزهري، وهو أصح].
ثم ذكر طريقاً أخرى وفيها بيان أن (المحروم) من كلام الزهري وهو أصح، يعني: فيكون مدرجاً من كلام الزهري.
ومحمد بن ثور ثقة أخرج له أبو داود والنسائي.
[وعبد الرزاق].
عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن معمر].
معمر مر ذكره.(198/18)
شرح حديث (إن شئتما أعطيتكما، ولا حظ فيها لغني)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا عيسى بن يونس حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عبيد الله بن عدي بن الخيار قال: (أخبرني رجلان أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع وهو يختم الصدقة فسألاه منها، فرفّع فينا البصر وخفضه فرآنا جلدين، فقال: إن شئتما أعطيتكما، ولا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب)].
أورد أبو داود حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار: أن رجلين أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وهو يقسم الصدقة فسألاه، فنظر فيهما -يعني: صوب النظر وخفضه- فوجدهما جلدين -أي: نشطين قويين عليهما أثر الصحة والعافية والقوة- فقال: إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب، معناه: أنه لم يعرف حالهما؛ لذلك فوض الأمر إليهما، وأنهما إن كانا من أهلها فإنه يعطيهما، وإن لم يكونا من أهلها فإنهما لا حق لهما فيها.
وقوله: (لا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب) الغني هو الذي عنده ما يكفيه، والقوي المكتسب هو الذي عنده قدرة على العمل مع وجود العمل، فمن المعلوم أن العمل قد يكون متوفراً وقد لا يتوفر، لكن من كان أهلاً للصدقة فإنه يعطى منها كما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب) يعني: أن الأمر إليكما، فلا أدري ما الذي حصل بعد ذلك: هل أخذا أو لم يأخذا؟ ولكن كلام النبي صلى الله عليه وسلم يفيد بأن الذي يسأل هو صاحب الحاجة، أو من كان عليه أثر الضعف، وأما الذي عنده قوه فينبغي عليه أن يعمل وألا يسأل الناس، ولهذا نجد النبي صلى الله عليه وسلم يرشد إلى العمل، ويأمر الإنسان أن يأخذ فأساً وحبلاً ويحتطب، ثم يبيع ذلك الحطب، ثم يأكل من عمل يده.
ولا فرق في ذلك بين الصدقة الواجبة والنافلة ما دام أنها تسمى صدقة، فلا تعطى إلا لفقير ولو كانت نافلة، وأما غير الفقير فإنه يعطى هدية، فالإنسان الذي لا يستحق الصدقة يهدى إليه، ولهذا يفرقون بين الصدقة والهدية، كما يذكرون في الهدي أنه يأكل منه ويتصدق ويهدي، أي: يعطي من لا يستحق الصدقة.
وبعض أهل العلم يقول: إن الصدقة النافلة يجوز أن تعطى لمن كان غنياً، لكن ما دام أنها صدقة فلا تكون إلا للفقراء والمساكين، وأما غيرهم فلا يسميها صدقة، وإنما يسميها هدية إذا أعطيت للأغنياء، ذكر ذلك صاحب عون المعبود، وأظنه أشار في الحاشية هنا أن هذا في الزكاة، وأما الصدقة النافلة فإنه لا بأس بذلك، لكن يبدو -والله أعلم- أن كل ما يقال له صدقه فالأولى ألا يصرف إلا في مصارف الصدقة.(198/19)
تراجم رجال إسناد حديث (إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني)
قوله: [حدثنا مسدد عن عيسى بن يونس].
عيسى بن يونس بن أبي إسحاق، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا هشام بن عروة].
هشام بن عروة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
وهو عروة بن الزبير بن العوام ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله بن عدي بن الخيار].
عبيد الله بن عدي بن الخيار استشهد أبوه عام الفتح وهو مميز قيل إنه لا تعرف له رواية، وقال في التقريب: (عد في الصحابة وعده العجلي وغيره في ثقات التابعين)، أي: عد في الصحابة؛ لكونه كان مميزاً في حجة الوداع، وعده العجلي وغيره في ثقات التابعين، ومعنى ذلك أنه ليس بصحابي عندهم، وهذا إذا كان لم ير النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الصغير من الصحابة الذي له رؤية فإنه يكون معدوداً في كبار التابعين من حيث الرواية، ومعدوداً في الصحابة من حيث الرؤية.
أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.(198/20)
شرح حديث (لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عباد بن موسى الأنباري الختلي حدثنا إبراهيم يعني: ابن سعد أخبرني أبي عن ريحان بن يزيد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوي)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوي)، فقوله: (مرة) أي: قوة، وقوله: (سوي) يعني: أنه سليم وليس به عاهة أو نقص، كما جاء في سورة النجم في وصف جبريل عليه السلام: {ذُو مِرَّةٍ} [النجم:6] أي: ذو قوة، فيصير مثل الحديث الذي قبله: (لا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب)، فقوله هنا: (ذي مرة سوي) هو مثل قوله: (لقوي مكتسب).(198/21)
تراجم رجال إسناد حديث (لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي)
قوله: [حدثنا عباد بن موسى الأنباري الختلي].
عباد بن موسى الأنباري الختلي ثقة أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا إبراهيم يعني: ابن سعد].
إبراهيم بن سعد ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني أبي].
أبوه ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ريحان بن يزيد].
ريحان بن يزيد مقبول، أخرج له أبو داود والترمذي.
[عن عبد الله بن عمرو].
عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وهذا الحديث صححه الألباني، وفيه هذا المقبول، فلعل هناك طرقاً أخرى جاءت في معناه، فالحديث الذي قبله يشهد له، فقوله: (لذي مرة سوي) هو نفسه القوي المكتسب، وكذلك يشهد له الحديث الذي بعده.(198/22)
شرح حديث (لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي) من طرق أخرى وتراجم رجاله
[قال أبو داود: رواه سفيان -يعني: الثوري - عن سعد بن إبراهيم كما قال إبراهيم، ورواه شعبة عن سعد قال: (لذي مرة قوي)، والأحاديث الأخر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعضها: (لذي مرة قوي)، وبعضها: (لذي مرة سوي)، وقال عطاء بن زهير: إنه لقي عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما فقال: (إن الصدقة لا تحل لقوي، ولا لذي مرة سوي)].
ذكر أبو داود عدة طرق بعدة ألفاظ، وقد علق هذه الطرق، وألفاظ بعضها كالرواية السابقة: (ذي مرة سوي)، وفي بعضها: (لذي مرة قوي)، ولا شك أن قوله: (لذي مرة سوي)، أوضح من قوله: (لذي مرة قوي)؛ لأن المرة هي القوة، وأما السوي فهي تؤدي معنى آخر وهو سلامة الأعضاء، والسلامة من العاهات، مع القوة والنشاط والقدرة.
ثم قال أبو داود: [رواه سفيان عن سعد بن إبراهيم كما قال إبراهيم].
وسفيان يحتمل أن يكون ابن عيينة ويحتمل أن يكون الثوري، ولعله هنا الثوري؛ لأن شعبة -كما في بعض الطرق- والثوري قرينان، ويتفقان في كثير من الشيوخ، وطبقتهما واحدة، وقد رواه شعبة.
[ورواه شعبة عن سعد].
شعبة بن الحجاج الواسطي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وقال عطاء بن زهير: إنه لقي عبد الله بن عمرو فقال: (إن الصدقة لا تحل لقوي، ولا لذي مرة سوي)].
يعني أنهما ما اتفقا على اللفظ الأول.
وعطاء بن زهير مستور، أخرج له أبو داود.(198/23)
شرح سنن أبي داود [199]
لقد حثنا ديننا على علو الهمة، وعلى الاعتماد على النفس، ونهانا عن سفاسف الأمور وسقطاتها، وعن الاعتماد على الآخرين، لذا فقد نهى عن مسألة الناس وتكففهم، وحذر من ذلك وقبّحه، ورتّب عليه العقاب في الآخرة، فالمسألة إراقة لماء الوجه، وسكب لحياء النفس، وتذلل للعباد، وقد بين الشرع من تحل له المسألة، فإذا قضى حاجته فليستعفف.(199/1)
الذين يجوز لهم أخذ الصدقة وهم أغنياء(199/2)
شرح حديث (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من يجوز له أخذ الصدقة وهو غني.
حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: [(لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغازٍ في سبيل الله، أو لعامل عليها، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق على المسكين، فأداها المسكين للغني)].
أورد أبو داود باب: من يجوز له أخذ الصدقة وهو غني، وقد سبق أن مر أن الصدقة لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب، وجاء هنا أن بعض الأغنياء يأخذون منها لكن ليس للغنى، وإنما لأوصاف أُخر غير الغنى، فلا ينافي هذا ما تقدم؛ لأن المنع هناك من أجل الغنى، والجواز هنا من أجل وصف آخر غير الغنى.
وقد أورد أبو داود حديثاً مرسلاً عن عطاء بن يسار، وسيذكره بعد هذا مسنداً من حديث أبي سعيد.
وهذا المرسل فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله)، وهو المجاهد في سبيل الله، فله أن يأخذ من الزكاة ولو كان غنياً؛ لأنه يصرف على نفسه في الجهاد في سبيل الله، فيجوز له أن يأخذ من الصدقة لا لغناه ولكن لكونه مجاهداً في سبيل الله، فهو داخل في مصرف: في سبيل الله، وهو أحد مصارف الزكاة كما قال تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:60]، وسبيل الله هو الجهاد في سبيل الله، فالغازي مجاهد في سبيل الله، وهو من أهل الزكاة ولو كان غنياً.
قوله: (أو لعامل عليها)، أي: الذي يشتغل في جبايتها، فإنه يأخذ أجرة مقابل عمله ولو كان غنياً، ولا يلزم أن يكون العامل عليها فقيراً حتى يأخذ منها، فالفقير يأخذ لفقره، والعامل يأخذ لعمله سواء كان غنياً أو فقيراً.
وإذا كان موظفاً من الحكومة فإذا كان ذلك ما يسمونه (بدل انتداب) فإنه إذا سافر عن محل عمله يحصل مقابل ذلك غير الوظيفة؛ لكونه انتقل من بلده إلى بلد آخر، فهذا من جنسه إذا كان موظفاً وكان عمله خارج البلد، وأما إذا كان في داخل البلد فهو في حكم الوظيفة.
قوله: (أو لغارم)، الغارم هو الذي استدان وتحمل مالاً للإصلاح بين الناس، فإنه يعطى من الزكاة لكونه غارماً لا لكونه غنياً، وهو من الأصناف الثمانية كما في آية التوبة.
قوله: (أو لرجل اشتراها بماله) فلو أن فقيراً تُصدِّق عليه بصدقه فباعها، فاشتراها غني فإن الذي اشتراها بماله وهو غني إنما وصلت إليه الصدقة عن طريق الشراء، ولم تصل إليه الصدقة عن طريق التصدق عليه، وإنما جاءت عن طريق تملكها بالمال الذي دفعه في مقابلها، فإذاً هي صدقة وصلت إلى غني، لكن عن طريق الشراء، ولا يكون هو المتصدق.
وأما لو كان هو المتصدق فقد سبق أن مر بنا قصة عمر عندما حمل على فرس في سبيل الله، ثم وجده يباع فذهب يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاه عن شرائه، وقال: لا تعد في صدقتك، والسبب في هذا -والله أعلم- أن بائع الصدقة إذا باعها على المتصدق فلعله أن يداريه ويراعيه؛ لأن له معروفاً وإحساناً عليه فيتسامح معه، بخلاف غيره فإنه لا يستحي منه، وقد ذكر في (عون المعبود) خلافاً في هذا، فمنهم من قال بكراهة ذلك، ومنهم من قال: إن البيع مفسوخ، والذي يظهر أن الإنسان ليس له أن يشتري الصدقة، والمقصود هنا صدقة غيره.
قوله: (أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق على المسكين فأداها المسكين للغني)، أي: فإنها عند ذلك تخرج عن كونها صدقة؛ لأنّ الإنسان الذي أعطيت له صارت له ملكاً، فله أن يتصرف فيها كيف يشاء، وذلك إما بالبيع أو الإهداء أو غير ذلك، فالصورة السابقة فيها بيع، وهذه الصورة فيها إهداء، فسواء خرجت من الفقير إلى غيره من الأغنياء عن طريق البيع كما هي الصورة السابقة، أو عن طريق الإهداء كما في هذه الصورة الأخيرة؛ فكل ذلك سواء، وذكر الجار هنا لا مفهوم له، فلو تصدق على مسكين ليس جاراً له فالأمر سواء، وإنما ذكر الجار على سبيل المثال، ولأن التهادي يكون غالباً بين الجيران.
وفي بعض النسخ: (فأداها) بدلاً من (أهداها) والنتيجة واحدة، فـ (أداها) أي: أعطاه إياها، و (أهداها) أي: أعطاه إياها هدية، فالمعنى كله صحيح.(199/3)
تراجم رجال إسناد حديث (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن زيد بن أسلم].
عبد الله بن مسلمة مر ذكره، ومالك بن أنس إمام دار الهجرة، الفقيه المحدث الإمام المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن زيد بن أسلم].
زيد بن أسلم المدني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عطاء بن يسار].
عطاء بن يسار ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهو إذاً مرسل، لكن الحديث الذي سيأتي بعده متصل.(199/4)
شرح حديث (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة) من طريق ثانية وتراجم رجالها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمعناه].
وهو كالسابق.
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
الحسن بن علي الحلواني ثقة أخرج له أصحاب الكتب إلا النسائي.
[حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري].
وقد مر ذكرهم جميعاً.
[قال أبو داود: ورواه ابن عيينة عن زيد كما قال مالك].
قوله: كما قال مالك، أي أنه مرسل، يعني: عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[ورواه الثوري عن زيد قال: حدثني الثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم].
وهذا أيضاً مرسل، فإنه لم يسم من حدثه.(199/5)
شرح حديث (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة) من طريق ثالثة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عوف الطائي حدثنا الفريابي حدثنا سفيان عن عمران البارقي عن عطية عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل الله، أو ابن السبيل، أو جار فقير يتصدق عليه فيهدي لك، أو يدعوك)].
أورد أبو داود حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل الله) يعني: غازياً في سبيل الله، وهذا قد مر في السابق.
قوله: (أو ابن السبيل)، وهذا ليس في الرواية السابقة، لكنه يدخل أيضاً؛ لأن ابن السبيل المنقطع ولو كان غنياً في بلده فإنه يعطى ما يوصله إلى بلده.
قوله: (أو جار فقير يتصدق عليه فيهدي لك، أو يدعوك) وهذا مثل الأول، ومعنى ذلك أن يصنع وليمة فيدعوك لتأكل منها، فهي صدقة عليه، وبعد أن ملكها فإنه يتصرف فيها بالإهداء أو بالإطعام، فلا حرج على الغني بأن يتناول شيئاً من طعام الفقير الذي تصدق به عليه، أو يقبل هدية منه، ويشبه ذلك ما جاء في قصة بريرة رضي الله عنها أنه تصدق عليها وأنهم أكلوا مما تصدق به عليها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هو لها صدقة، ولنا هدية) يعني: منها، فدل هذا على أن الفقير إذا ملك شيئاً فإنه يتصرف فيه كيف يشاء إما بالإهداء، أو بالإطعام، وأنه لا حرج على الغني إذا أكل أو طعم من طعام المتصدق عليه، أو أخذ هدية من المتصدق عليه، وهو مثل الذي قبله إلا أن فيه زيادة ابن السبيل.(199/6)
تراجم رجال إسناد حديث (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة) من طريق ثالثة
قوله: [حدثنا محمد بن عوف الطائي].
محمد بن عوف الطائي ثقة أخرج له مسلم، وأبو داود والنسائي في (مسند علي) [حدثنا الفريابي].
الفريابي هو محمد بن يوسف الفريابي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سفيان].
سفيان هو الثوري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمران البارقي].
عمران البارقي مقبول أخرج له أبو داود.
[عن عطية].
هو عطية بن سعد العوفي، وهو صدوق يخطئ كثيراً، أخرج حديثه البخاري في (الأدب المفرد) وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
وهذا الحديث ضعفه الألباني، ولعله من أجل عطية ومن أجل عمران البارقي، فالأول يخطئ كثيراً، والثاني مقبول، ولكن ذكر الغازي في سبيل الله والفقير الذي يتصدق عليه موجود في الحديث السابق، وأما ابن السبيل فهو وإن كان غنياً في بلده فإن غناه لا ينفعه في هذه الحال، فلا بأس أن يعطى من الزكاة ما يوصله إلى بلده، وقد جاء بذلك القرآن، وهو مطلق فيعطى سواء كان غنياً أو فقيراً، وإذا كان ابن السبيل منقطعاً فإنه يعطى ولو كان كافراً.
ومما لم يذكر أيضاً المؤلفة قلوبهم، فإنهم يعطون مع غناهم، فالتأليف أمر خارج عن الغنى، أما لو كانوا فقراء فإنهم يعطون لفقرهم، أما في التأليف فيعطى مع غناه ولو كان كافراً.
[قال أبو داود: ورواه فراس وابن أبي ليلى عن عطية عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله].
فراس يحيى الهمداني، صدوق ربما وهم أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وابن أبي ليلى هذا يحتمل أنه محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى وهو ضعيف، أو عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، والأول أقرب؛ لأنه المتبادر إلى الذهن عند الإطلاق.(199/7)
أسئلة(199/8)
حكم أخذ المقابل على شحن كتب وقف لله تعالى
السؤال
جاءتني كتب مكتوب عليها: وقف لله تعالى، وأريد أن أشحنها إلى بلدي بمالي الخاص، غير أني سأطلب من الإخوة تعويض الشحن، فما حكم هذا العمل، علماً أنني اتفقت مع البعض ولم أتفق مع البقية، وأنا على علم أنهم يوافقون على ذلك؟
الجواب
إن كنت متبرعاً فلا تطلب منهم شيئاً، وإن كنت فعلت ذلك على أساس أنهم يعطونك، فلا بأس أن تأخذ إذا أعطوك.(199/9)
الضرائب الحكومية وإسقاطها للزكاة
السؤال
إذا فرضت الحكومة ضرائب على التجار فهل للتاجر أن يعتبر هذه الضريبة زكاة فتسقط من الذمة؟
الجواب
لا يعتبرها زكاة، فإن الزكاة حق يجب إخراجه للفقراء والمساكين، والشيء الذي أخذ منه بغير حق لا يعتبر مقابل هذا الحق الذي هو لازم للفقراء والمساكين.(199/10)
كم يعطى الرجل الواحد من الزكاة(199/11)
شرح حديث ابن أبي حثمة (وداه بمائة من إبل الصدقة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب كم يعطى الرجل الواحد من الزكاة.
حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا أبو نعيم حدثني سعيد بن عبيد الطائي عن بشير بن يسار زعم أن رجلاً من الأنصار يقال له: سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه أخبره أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وداه بمائة من إبل الصدقة، يعني: دية الأنصاري الذي قتل بخيبر)].
قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله: باب كم يعطى الرجل الواحد من الصدقة؟ والمقصود من هذا أن الشخص يعطى ما يحتاج إليه، وكل شيء بحسبه، فالغارم يعطى ما يقابل ما تحمله من الغرم، والمؤلف قلبه يعطى ما يحصل به المقصود، وابن السبيل يعطى ما يوصله إلى بلده، والفقير يعطى ما يكفيه لمدة سنة، أي: أن كلاً منهم يعطى بحسبه ولو كان الذي يعطاه كثيراً.
وأورد أبو داود حديث سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ودى الرجل الأنصاري الذي قتل بخيبر بمائة من إبل الصدقة.
ووجه إيراد أبي داود لهذا الحديث في هذا الباب، وفي كتاب الزكاة، أن من غرم مالاً لإصلاح ذات البين فإنه يعطى من الزكاة، وقصة الأنصاري الذي قتل بخيبر تأتي في أبواب كثيرة لاسيما القسامة، فإن حديث القسامة إنما جاء في هذه القصة، وهو ثابت في الصحيحين وفي غيرهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإيراده من أجل دخوله في الغرامة لإصلاح ذات البين.(199/12)
تراجم رجال إسناد حديث ابن أبي حثمة (وداه بمائة من إبل الصدقة)
قوله: [حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح].
الحسن بن محمد بن الصباح ثقة أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا أبو نعيم].
أبو نعيم الفضل بن دكين الكوفي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني سعيد بن عبيد الطائي].
سعيد بن عبيد الطائي ثقة أخرج له أصحاب الكتب إلا ابن ماجة.
[عن بشير بن يسار].
بشير بن يسار ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[زعم أن رجلاً من الأنصار يقال له سهل بن أبي حثمة].
سهل بن أبي حثمة صحابي صغير، وكلمة (زعم) تعني أخبر، فالزعم يأتي كثيراً بمعنى الإخبار المحقق، ولا يراد به الشك أو الظن، وإنما يراد به الخبر المحقق، وكثيراً ما يأتي في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وفي الأسانيد، فزعم هنا بمعنى أخبر خبراً محققاً، وسهل بن أبي حثمة أخرج له أصحاب الكتب الستة.(199/13)
إعطاء المستحق للزكاة بحسب حاجته
يعطى الشخص -إذا كان فقيراً- ما يكفيه لمدة سنة، هذا هو الصحيح.
وإن كان من الغارمين فإنه يعطى مقدار غرامته، فإذا تحمّل مالاً لإصلاح ذات البين فإنه لا يخلى بينه وبين هذا الغرم الذي تحمله؛ لأنه تحمله للإصلاح، فيعطى ما يقابله.
وأما إذا كان غرم هذا الدين لنفسه فهذا فيه خلاف بين أهل العلم، فمنهم من يقول: إنه يعطى ما يكفيه أو بعض ذلك، وبعض أهل العلم يقولون: إن الغرم إنما هو لإصلاح ذات البين، وأما إذا كان فقيراً فإنه يعطى لفقره.
ويكثر السؤال عن إعطاء الزكاة لمن يريد الزواج ولم يتوفر عنده المهر كاملاً، أو يعطى لتأثيث البيت؟ فنقول: لا بأس بذلك؛ لأنه إذا كان فقيراً فإنه يعطى ويساعد من الزكاة لفقره، وإذا لم يكن فقيراً وإنما بسبب غلاء المهور فالأولى أن تصرف الزكوات للفقراء، فالذي يعطى ليسد جوعته وفاقته أولى من غيره ممن يأخذ لقضاء حاجة أخرى.(199/14)
ما تجوز فيه المسألة(199/15)
شرح حديث (المسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما تجوز فيه المسألة.
حدثنا حفص بن عمر النمري حدثنا شعبة عن عبد الملك بن عمير عن زيد بن عقبة الفزاري عن سمرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (المسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه، فمن شاء أبقى على وجهه ومن شاء ترك، إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان، أو في أمر لا يجد منه بداً)].
أورد أبو داود باب ما تجوز فيه المسألة، يعني الأحوال والأمور التي يجوز للإنسان أن يسأل فيها، وأورد هنا حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه، فمن شاء أبقى على وجهه ومن شاء ترك يعني: أنه كلما كثرت المسائل كثرت الكدوح في الوجه، ويأتي يوم القيامة وهذه الكدوح في وجهه علامة على ذلك، وسبق أن مر بنا بعض الأحاديث المتعلقة بذلك.
قوله: (إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان) لأن سؤال السلطان ليس فيه سؤال لأموال الناس، فإن له حقاً في بيت المال، فإذا سأل في أمر لابد منه، أو كان مضطراً إلى السؤال فلا بأس، وذكر السلطان في الحديث يدل على الإباحة؛ لأن له حقاً، لكن إذا تعفف الإنسان ولم يسأل السلطان فهو أفضل.
وإذا كان الرجل محتاجاً فله أن يسأل السلطان وغيره، وجاء في حديث عمر: (ما أتاك من غير استشراف ولا مسألة فخذه)، فهذا يدل على أن الإنسان يتعفف حتى فيما عند السلطان.(199/16)
تراجم رجال إسناد حديث (المسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه)
قوله: [حدثنا حفص بن عمر النمري].
حفص بن عمر ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الملك بن عمير].
عبد الملك بن عمير ثقة فصيح عالم تغير حفظه، وربما دلس، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زيد بن عقبة الفزاري].
زيد بن عقبة الفزاري ثقة أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[عن سمرة].
سمرة بن جندب رضي الله عنه، وهو صحابي أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.(199/17)
شرح حديث (إن المسألة لا تحلّ إلا لأحد ثلاثة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا حماد بن زيد عن هارون بن رئاب حدثني كنانة بن نعيم العدوي عن قبيصة بن مخارق الهلالي رضي الله عنه قال: (تحملت حمالة فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أقم يا قبيصة! حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها، ثم قال يا قبيصة! إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة، فسأل حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة فاجتاحت ماله فحلت له المسألة، فسأل حتى يصيب قواماً من عيش -أو قال: سداداً من عيش- ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: قد أصابت فلاناً الفاقة، فحلت له المسألة، فسأل حتى يصيب قواماً من عيش -أو سداداً من عيش- ثم يمسك، وما سواهن من المسألة يا قبيصة! سحت يأكلها صاحبها سحتاً)].
أورد أبو داود حديث قبيصة بن مخارق رضي الله عنه: [(أنه تحمل حمالة وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله فقال: أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها)] أي بالحمالة؛ لأنه سأل عن هذه الحمالة، والصدقة -كما هو معلوم- قد تكون أكثر من الحمالة وقد تكون قليلة، فالذي يبدو أن الذي يؤمر له به هو الحمالة التي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أجلها.
ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فله أن يسأل حتى يصيبها ثم يمسك) أي: حتى يحصل ما تحمله ثم يمسك، أي: فلا يستمر في السؤال، ولا يبحث عن شيء زائد على ذلك.
(ورجل أصابت ماله جائحة) أي: إما احتراق، أو كان زرعاً أصابه برد فهلك، أو نزل عليه بَرَد وحتّه فتساقط، أو مرّ عليه سيل وأهلك المال الذي عنده، أو غير ذلك من الأسباب الظاهرة التي تكون معروفة ولا تخفى على الناس، فهذا يسأل حتى يحصِّل سداداً وقواماً من العيش، ولا يسأل حتى يحصل المال الذي ضاع منه ويرجع كما كان، وإنما يسأل عن الذي يكفيه.
فالأول يسأل حتى يحصِّل الحمالة التي تحملها، وهذا يسأل حتى يحصل ما تكون به الكفاية، ولا يستمر حتى يرجع إليه ماله الذي فقده.
قوله: (ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: قد أصابت فلاناً الفاقة، فحلت له المسألة، فسأل حتى يصيب قواماً من عيش، أو سداداً من عيش)، فهذا حصل له الفاقة بسبب خفي لا يعرف، والأول حصلت له جائحة، والجائحة تعرف؛ لأن الناس يشاهدونها ويعاينونها، وأما الفاقة فهي أمر خفي، فهذا لا يكفي أن يقول ويصدَّق فيما يقول، بل قال: (حتى يقول ثلاثة من أهل الحجا: إن فلاناً أصابته فاقة، فيسأل حتى يحصل سداداً من عيش، أو قواماً من عيش)، وأهل الحجا هم أصحاب العقول الذين عندهم فهم وخبرة ومعرفة، فيخرج بذلك الذين عندهم غفلة وليس عندهم خبرة ومعرفة، فإن مثل هؤلاء قد يقولون غير الحقيقة، لذا نصّ على أهل الحجا والعقل، فإذا شهدوا وأخبروا بأن فلاناً قد أصابته فاقة فله أن يسأل حتى يصيب سداداً من عيش أو قواماً من عيش.
قوله: (وما سوى ذلك يا قبيصة! فسحْت يأكله الإنسان سحتاً)، والسحت: هو ذاهب البركة، أي: الذي لا بركة ولا خير فيه.(199/18)
تراجم رجال إسناد حديث (إنّ المسألة لا تحل إلّا لأحد ثلاثة)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري ثقة أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا حماد بن زيد].
حماد بن زيد البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هارون بن رئاب].
هارون بن رئاب ثقة أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثني كنانة بن نعيم العدوي].
كنانة بن نعيم العدوي ثقة أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن قبيصة بن مخارق الهلالي].
قبيصة بن مخارق الهلالي رضي الله عنه، وحديثه أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي.(199/19)
شرح حديث (إن المسألة لا تصلح إلّا لثلاثة لذي فقر مدقع)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة أخبرنا عيسى بن يونس عن الأخضر بن عجلان عن أبي بكر الحنفي عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رجلاً من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسأله، فقال: أما في بيتك شيء؟ قال: بلى، حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقعب نشرب فيه من الماء، قال: ائتني بهما، قال: فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده وقال: من يشتري هذين؟ قال رجل: أنا آخذهما بدرهم، قال: من يزيد على درهم؟ مرتين أو ثلاثاً، قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين وأعطاهما الأنصاري، وقال: اشتر بأحدهما طعاماً فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدوماً فأتني به، فأتاه به فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عوداً بيده ثم قال له: اذهب فاحتطب وبع، ولا أرينّك خمسة عشر يوماً، فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوباً وببعضها طعاماً، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هذا خير لك أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث أنس رضي الله عنه.
قوله: (إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع) أي: فقر شديد.
قوله: (أو لذي غرم مفظع) أي: تحمل حمالة كبيرة، فتحل له المسألة.
قوله: (أو لذي دم موجع) أي: أنه أصلح بين الناس وحقن الدماء، فإنه يحل لمن كان كذلك أن يسأل حتى يحصل مراده.
والحديث في إسناده أبو بكر الحنفي وهو مجهول لا يعرف، فهو إذاً غير صحيح.
وهذا الحديث يدل على جواز البيع بالمزايدة، وأنه لا يدخل في النهي عن البيع على البيع، لأن النهي عن البيع على البيع يكون إذا وجد الاستقرار وتمام البيع، ويكون في مدة خيار، وأما أن يقول: من يشتري هذا؟ فيقول رجل: أنا بكذا، ثم يزيد آخر فهذا لا بأس به، وقد جاءت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم فيه الحث على العمل، وأن على الإنسان أن يسعى ويعمل، وأن ذلك خير له من أن يسأل الناس.
وفيه بيان من تحل له المسألة.
والحلس: هو كساء يفرش بعضه، ويتغطى ببعضه.
وقوله: (نلبسه ونجلس عليه)، يطلق اللبس على التغطية، أي: أنهم يتغطون به، ومن ذلك حديث أنس: (فعمدنا إلى حصير قد اسود من طول ما لبس) أي: من طول ما استعمل في الافتراش، وهنا قال: (نلبسه)، أي: نلتحف به.
والقعب: هو وعاء أو قدح.(199/20)
تراجم رجال إسناد حديث (إنّ المسألة لا تصلح إلّا لثلاثة لذي فقر مدقع)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
عبد الله بن مسلمة القعنبي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[أخبرنا عيسى بن يونس].
عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأخضر بن عجلان].
الأخضر بن عجلان صدوق أخرج له أصحاب السنن.
[عن أبي بكر الحنفي].
أبو بكر الحنفي لا يعرف حاله، أخرج له أصحاب السنن.
وقد ذكروا اثنين ممن هو أبو بكر الحنفي، الأول عبد الله البصري، وهو متقدم في طبقة التابعين، والثاني متأخر اسمه عبد الكبير، والأول ضعيف، والثاني المتأخر ثقة.
[عن أنس بن مالك].
أنس بن مالك رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخادمه، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(199/21)
كراهية المسألة(199/22)
شرح حديث عوف بن مالك في البيعة على ترك السؤال
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب كراهية المسألة.
حدثنا هشام بن عمار حدثنا الوليد حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة يعني ابن يزيد عن أبي إدريس الخولاني عن أبي مسلم الخولاني قال: حدثني الحبيب الأمين، أما هو إلي فحبيب، وأما هو عندي فأمين، عوف بن مالك رضي الله عنه قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبعة أو ثمانية أو تسعة، فقال: ألا تبايعون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكنا حديث عهد ببيعة، قلنا قد بايعناك، حتى قالها ثلاثاً فبسطنا أيدينا فبايعناه، فقال قائل: يا رسول الله! إنا قد بايعناك فعلام نبايعك؟ قال: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وتصلوا الصلوات الخمس، وتسمعوا وتطيعوا، وأسر كلمة خفية قال: ولا تسألوا الناس شيئاً، قال: فلقد كان بعض أولئك النفر يسقط سوطه فما يسأل أحداً أن يناوله إياه)].
ثم أورد أبو داود حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه أنه قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة أو ثمانية أو تسعة، فقال: ألا تبايعون؟ قلنا: قد بايعناك! فكررها، فبسطوا أيديهم لمبايعته فبايعوه، فقال رجل: على أي شيء نبايعك وقد بايعناك؟ قال: على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وتصلوا الصلوات الخمس، وتسمعوا وتطيعوا) أي: لولاة الأمور، وهذا في المعروف.
قوله: (وأسر كلمة خفية قال: ولا تسألوا الناس شيئاً)، وهذا هو محل الشاهد من إيراد الحديث، وهو لفظ عام، قال: فكان بعض هؤلاء النفر الثمانية أو السبعة أو التسعة إذا سقط منه سوطه وهو على الفرس فإنه ينزل ويأخذه، ولا يقول لأحد: ناولني إياه؛ أخذاً بقوله: (ولا تسألوا الناس شيئاً)، وهذا فيه دليل على عنايتهم وقيامهم بتنفيذ ما بويعوا عليه على التمام والكمال حتى في هذه الأمور اليسيرة، ويدل أيضاً على أن الإنسان يحرص ألّا يسأل، بل يحرص على أن يكون معطياً، لا أن يكون سائلاً، وقد جاء في الحديث: (ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس).(199/23)
تراجم رجال إسناد حديث عوف بن مالك في البيعة على ترك السؤال
قوله: [حدثنا هشام بن عمار].
هشام بن عمار الدمشقي صدوق أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا الوليد].
الوليد بن مسلم الدمشقي وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سعيد بن عبد العزيز].
سعيد بن عبد العزيز وهو دمشقي أيضاً، ثقة أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن ربيعة يعني: ابن يزيد].
وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو شامي أيضاً.
[عن أبي إدريس الخولاني].
أبو إدريس الخولاني اسمه: عائذ الله وهو من كبار التابعين، فقد ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وسمع من كبار الصحابة، وهو من ثقات التابعين، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي مسلم الخولاني].
وهو ثقة أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن عوف بن مالك].
وهو الأشجعي رضي الله عنه، وقد نزل الشام، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، وعلى هذا فالإسناد مسلسل بالشاميين من أوله إلى آخره.
قول أبو مسلم الخولاني: (حدثني الحبيب الأمين).
هذا ثناء على من حدثه وهو عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه، قال: أما الحبيب فهو حبيب إلى نفسي وإلى قلبي، وأما الأمين فهو عندي أمين، أي: أنه فسر كونه يحبه ويصفه بالأمانة، وهذا مدح وثناء على هذا الصحابي الذي لقيه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والبيعة تكون للإمام، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم هو الإمام، وهو الذي يبايع الناس، وعلى الإنسان أن يلتزم بما بايع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول الله عليه، وذلك بأن يأخذوا بالأوامر، وينتهوا عن النواهي التي حصلت المبايعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها، وأما غيره صلى الله عليه وسلم فإنه لا يبايع كما بويع رسول الله، فلا يبايع على ألا يشرك بالله شيئاً، وألا يفعل كذا وكذا، فهذا كان يحصل مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما الولاة فيبايعون على السمع والطاعة والنصح للمسلمين.
وأما البيعات المستحدثة فهي كاسمها مستحدثة، وذلك أن يبايع شخص وهو ليس بخليفة فهذا مما أحدث، والناس إذا احتاجوا إلى أن يكون لهم شخص يرجعون إليه فلا بأس، ولكن لا يُبايع، وذلك مثل أمير السفر، فقد جاء في السنة أنه إذا سافر الثلاثة فإنهم يؤمرون عليهم واحداً منهم، ولا يحتاجون في ذلك إلى بيعه، فالبيعة إنما تكون للسلطان.
وهذه الشروط التي بايعهم عليها الرسول صلى الله عليه وسلم كألّا يسألوا الناس شيئاً عامة، وليست خاصة بالذين بايعهم الرسول صلى الله عليه وسلم عليه، وهي أمور مطلوبة، وعلى الإنسان أن يأخذ بها.
[قال أبو داود: حديث هشام لم يروه إلا سعيد].
أي أن حديث هشام بن عمار لم يروه إلا سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد، أي: أنه مما تفرد به.(199/24)
شرح حديث (من يتكفّل لي ألّا يسأل الناس شيئاًً وأتكفل له بالجنة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن عاصم عن أبي العالية عن ثوبان رضي الله عنه، قال: وكان ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من تكفل لي ألا يسأل الناس شيئاً وأتكفل له بالجنة؟ فقال ثوبان: أنا، فكان لا يسأل أحداً شيئاً)].
أورد أبو داود حديث ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من تكفل لي ألا يسأل الناس شيئاً وأنا أتكفل له بالجنة؟ وهذا يدل على أن الذي تقدم في الحديث السابق عاماً وليس بخاص؛ لأن الشيء الذي بايع عليه الناس هو نفسه الذي قال فيه: من تكفل لي ألا يفعل كذا فله الجنة، فهو إذاً حكم عام وليس خاصاً بأولئك الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه التحذير من المسألة والحرص على ألا يكون الإنسان سائلاً، اللهم إلا إذا كان في أمر لابد منه، كما جاءت في ذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد مر بعضها وبيان من تحل له المسألة.
وبعض الناس قد يبيع ضروريات المنزل حتى لا يسأل الناس؛ استعفافاً من ذلك فأقول: الأشياء التي لابد منها لا يبيعها، كالفرن أو الثلاجة، فهو بحاجة إلى فرن وإلى ثلاجة، ولو باعها فإنه يحتاج إلى فرن وثلاجة مكانها، وكذلك غيرها من الأشياء الضرورية، فليس له أنه يبيعها، لكن لو باع الكماليات والأشياء التي يستغنى عنها فلا بأس.(199/25)
تراجم رجال إسناد حديث (من يتكفل لي ألّا يسأل الناس شيئاً وله الجنة)
قوله: [حدثنا عبيد الله بن معاذ].
عبيد الله بن معاذ بن معاذ العنبري ثقة أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا أبي].
أبوه هو: معاذ بن معاذ ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي، مر ذكره.
[عن عاصم].
عاصم بن سليمان الأحول، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي العالية].
أبو العالية هو رفيع بن مهران ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ثوبان].
ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه البخاري في (الأدب المفرد) ومسلم وأصحاب السنن.(199/26)
الأسئلة(199/27)
حكم تمثيل أشخاص الصحابة رضي الله عنهم، والموقف من ذلك
السؤال
ما حكم من أفتى بجواز تمثيل الصحابة؟ وما هو موقفنا نحن طلاب العلم نحو ذلك وخاصة أن ذلك، يعرض على الملايين من الناس؟
الجواب
أقول: التمثيل من حيث هو لا يجوز، وإذا كان للصحابة فهو أسوأ وأسوأ.
وإن القلب ليحزن، والعين لتدمع عندما يُسمع ويشاهد الذين يقومون بتمثيل أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم تمثيلاً يختلف عما هم عليه باطناً وظاهراً، فيظهرون بأشكال منكرة كحلق اللحية، والجلوس مع النساء وغير ذلك، وهذا زيادة شر، فإذا انضاف إليه شرور أخرى فهو شر إلى شر.
والتمثيل في حد ذاته حرام لا يجوز، وهو للصحابة من باب أولى، فإذا كان في أمور لا تليق بهم وكانت منكرة فيصير شراً إلى شر، وسوءاً إلى سوء، ويصير كما قيل في المثل: حشفاً وسوء كيلة.(199/28)
حكم الأحاديث التي سكت عنها أبو داود في سننه
السؤال
ما هو القول الراجح فيما سكت عنه أبو داود، هل هو صالح للاحتجاج، أو أنه صالح للعمل دون الاحتجاج؟
الجواب
تبين بالتتبع والتجربة أن الذي سكت عنه أبو داود فيه أحاديث ضعيفة، فكل شيء يحكم عليه بحسبه، فمنه ما يصح ومنه ما لا يصح.(199/29)
إقامة أماكن عامة للعزاء في الفنادق وقصور الأفراح
السؤال
لعلكم اطلعتم على ما ذكر في الجرائد أن هناك من يطالب بأن تكون هناك أماكن للعزاء في الفنادق وقصور الأفراح، كما أن هناك للأفراح أماكن، فما رأي فضيلتكم؟
الجواب
هذه دعوة إلى الباطل وإلى المآتم، فيريدون أن يحدثوا المآتم كما أُحدثت في أماكن كثيرة من البلاد الأخرى، فهي دعوة إلى الباطل، فالميت إذا مات يعزى أهله سواء في المقبرة، أو في المسجد، أو في الطريق، أو بالتلفون، أو بالحضور وزيارتهم في بيوتهم، لكن لا يكون ذلك بطريقة فيها تنبيه للناس، بأن يكون هناك إقامة سرادقات، أو إقامة أماكن تخصَّص لهذا، فهذا لا شك أنه من محدثات الأمور، ولم يكن في عهد سلف هذه الأمة، فالواجب الحذر من ذلك والابتعاد منه.(199/30)
حكم أخذ وطلب ما يوزع في الحج من عصائر ومياه باردة
السؤال
ما يوزع في الحج كالعصائر والمياه الباردة، هل إذا طلبها الشخص من المتصدِّق يكون داخلاً في حديث الكدوح؟
الجواب
الشيء المبذول والموقوف للتوزيع لا يكون أخذه من المسألة، فالناس هنا هم الذين يوزعون على بعضهم، فإذا جاء وأخذ من هذا الشيء المبذول فليس هذا من السؤال، وسواء جاء هو وأخذ، أو جيء إليه، فمثل هذا لا بأس به، ومثل هذا مسألة السُّفر في أيام رمضان، لكن للإنسان أن يستغني عن ذلك ويتركه للمحتاجين، وإذا كان يحتاج إليها فليشاركهم.(199/31)
حكم إسقاط الدين بدلاً من الزكاة
السؤال
رجل أخذ ديناً ثم أصبح فقيراً، والدائن غني جداً، فهل له أن يسقط الدين بدلاً من الزكاة؟
الجواب
ليس له ذلك، ولكنه يعطيه -لفقره- من الزكاة حتى يأكل، وينظره في الدين الذي عليه إلى ميسرة، {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280]، وليس للإنسان أن يجعل الزكاة وقاية للمال، أي: ليس له أن يتخلص من الحقوق التي عليه للناس بالزكاة، أو أن يستوفي حقوقه عند الناس بواسطة الزكاة، فلا يصل إلى الفقراء شيء.(199/32)
حال جمعية الحرمين الخيرية
السؤال
بعضهم يسأل عن مؤسسة الحرمين: هل تعلمون عنها شيئاً، وما حكم الاشتراك معها؟
الجواب
أعلم أنها مؤسسة خيرية، وأنها تقوم بأعمال عظيمة وكبيرة فيما نسمع، ولا أعلم شيئاً عليها، وليس عندي تفاصيل.(199/33)
حكم من فرّط في إخراج الزكاة لسنوات وهو الآن لا يدري كم عليه
السؤال
رجل فرط في أداء الزكاة لسنوات ماضية، ولا يدري الآن كم يجب عليه فيما مضى، فماذا يصنع؟
الجواب
يجب عليه أن يُخرج حتى يطمئن إلى أن ذمته قد برئت، وعليه أن يتحقق أن ذمته قد برئت.(199/34)
حكم سؤال الجمعيات الخيرية
السؤال
هل يجوز سؤال الجمعيات الخيرية؟
الجواب
الإنسان المحتاج يسأل؛ لأن الجمعيات الخيرية عندها أموال تجمعها، سواء كانت زكاة أو غير زكاة، فالإنسان الذي يحتاج يسأل، والذي لا يحتاج يترك المسألة.(199/35)
حكم من سأل من فاقه فأعطي مالاً فاتخذه للتجارة
السؤال
إذا سأل الرجل من فاقة أو جوع ثم أعطي مالاً ليسد جوعته، لكنه بعد ذلك يستعمل هذا المال في أغراض أخرى كالتجارة وغير ذلك؟
الجواب
إذا أعطي مالاً قليلاً فاشترى شيئاً يبيع فيه حتى تحصل له فائدة ويستغني عن الناس فهذا شيء طيب لا بأس به، وإذا أعطي شيئاً فقد ملكه، فله أن يأكله أو أن ينميه ويأكل من نمائه.(199/36)
حكم المسألة من الجامعة التي يدرس فيها
السؤال
نحن طلاب الجامعة، فهل تقوم الجامعة مقام السلطان وولي الأمر فتجوز المسألة؟
الجواب
لا تقوم الجامعة مقام السلطان، لكن إذا كان الإنسان بحاجة إلى أن يسأل الجامعة أو غير الجامعة، وكانت المسألة تحل له فلا بأس.(199/37)
شبه حول تحريم التصوير
السؤال
يقول رجل في جريدة الشرق الأوسط اليوم: إن المصكوكات والدراهم والدنانير التي كانت على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما ومن بعدهم كانت عليها صور كسرى وهرقل، ورغم ذلك لم يغيرها أحد، بل بقي الأمر كذلك حتى جاء عبد الملك بن مروان واستبدلها بصورته، فدل ذلك على أن الإسلام لم يحرم التصوير؟
الجواب
من أين له أن عبد الملك جعل عليها صورته، ولو جعل عليها صورته فليس في ذلك دليل، وكذلك قوله: إنها كانت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر عليها تصاوير كسرى وقيصر يحتاج إلى إثبات، ثم لو كانت عليها صور فيجوز إبقاؤها واستعمالها، وهم لم يفعلوا ذلك، وهذا مثل الكساء أو الثوب الذي فيه صور، فإنه لا يجوز للإنسان أن يعمل صوراً في الكساء، ولكنه إذا وصل إليه كذلك فإنه يستعمله في الأمور الممتهنة وغيره.
وعلى كل فما نعرف شيئاً يدل على أن تلك النقود كان فيها صور، ولا نعلم شيئاً يدل على أن عبد الملك لما شكل تلك النقود جعل فيها صورته، لا نعرف شيئاً يثبت هذا كله، ولو ثبت شيء من ذلك فلا يدل على حل التصوير؛ لأن تحريم التصوير قد جاءت فيه أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كافية شافية، فعليها يعوّل ولا يعول على سواها، ولو ثبت أنه وجد في تلك النقود تصاوير ففرق بين إنشاء التصاوير، وبين أن تكون هناك صور في شيء ثم يستعمل ويستمر استعماله وهو على حالته، كالفرش أو الكساء، فإنها ممتهنة فلا تحرق ولا تتلف، وإنما يستفاد منها بما يناسب.(199/38)
اتخاذ المسألة مورداً للعيش بحجة الانشغال بطلب العلم
السؤال
رجل يدعي أنه يطلب العلم، وهو كذلك لكنه لا يعمل، فيتخذ المسألة مورداً للعيش بحجة أنه يتفرغ لطلب العلم، مع العلم أنه في صحة وعافية، وفي سن الشباب؟
الجواب
يمكن أن يجمع الإنسان بين العلم وبين العمل لتحصيل العيش، فالعلم لا يستغرق الوقت كله، فيستطيع الإنسان أن يوفق بين طلب العلم وبين العمل.(199/39)
حكم طلب وسؤال الدعاء من الناس
السؤال
هل طلب الدعاء من الغير يدخل في باب سؤال الناس؟ وما حكم طلب الدعاء من الغير؟
الجواب
على الإنسان أن يسأل الله بنفسه، وأن يقوي صلته بالله عز وجل، فهذا هو الذي ينبغي، وبعض أهل العلم يمنع ذلك، وبعضهم يجيزه محتجاً بما جاء في قصة أويس القرني رحمة الله عليه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من وجده فليطلب منه أن يستغفر له)، وقال بعضهم: إن السؤال بالنسبة لـ أويس إنما هو لإرشاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، فالذي ينبغي للإنسان أن يقوي الصلة بالله عز وجل بنفسه، ولا تكون مهمته أن يقول: ادع لي ادع لي لكل من يلقاه، بل يدعو الله عز وجل هو بنفسه.(199/40)
جواز أخذ طالب العلم من الزكاة
السؤال
أنا طالب متزوج وعلي دين قدره: ألفان وخمسمائة ريال، فهل يجوز لي أن آخذ من الزكاة، علماً بأن عندي قوت يومي؟
الجواب
يجوز لك أن تأخذ من الزكاة.(199/41)
حكم المسألة لبناء المساجد أو لإصلاحها
السؤال
هل تجوز المسألة لبناء المساجد أو لإصلاحها وغير ذلك مما فيه مصلحة للمسلمين؟
الجواب
هذا جائز وليس بسؤال للناس، فإذا كان الإنسان واسطة خير، وطلب المساهمة في عمل خيري فهذا ليس بسؤال؛ لأنه لا يسأل لنفسه، بل يكون هذا من التعاون على البر والتقوى، فالناس بحاجة للمساجد، فإذا انتدب أحد وسأل الناس من أجل أن يساهموا في بناء المساجد فقد أحسن إلى نفسه وإلى غيره، فأحسن إلى الذين طلب منهم وساهموا، وأحسن إلى نفسه أن سعى في الخير، وأحسن إلى الناس الذين هم بحاجة إلى ذلك المسجد؛ لتحصل الصلاة في ذلك المسجد، فالمسألة الممنوعة أن يسأل الإنسان لنفسه، وأما السؤال لوجوه الخير، بحيث يكون الإنسان صادقاً في طلبه، ولا يكون هناك مجالات للف والدوران وأكل أموال الناس بالباطل فهذا لا بأس به.(199/42)
الشفاعة في مصلحة خيرية ليست من المسألة
السؤال
هل الشفاعة لبعض الإخوة المحتاجين في مصلحة خيرية من المسألة المذمومة؟
الجواب
لا بأس بذلك، فالشفاعة في الخير خير، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا).(199/43)
شرح سنن أبي داود [200]
يجوز للمحتاج أن يسأل ما يسد به حاجته، لكن من يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، واليد العليا خير من السفلى، وإذا أتى الإنسان مال من غير سؤال فليأخذه.(200/1)
الاستعفاف(200/2)
شرح حديث (ما يكون عندي من خبر فلن أدخره عنكم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الاستعفاف.
حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (أن ناساً من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى إذا نفد ما عنده قال: ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطى الله أحداً من عطاء أوسع من الصبر)].
قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب في الاستعفاف، والاستعفاف مأخوذ من العفة، وهو أن يستغنى عما في أيدي الناس، فلا يسأل إلا إذا كان مضطراً كما جاءت بذلك الأحاديث التي مر ذكر شيء منها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأورد أبو داود حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (أن ناساً من الأنصار جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فسألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم حتى نفذ ما عنده، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم) يعني: لا أختص به، ولا أبقيه دون أن يصل إليكم شيء منه، وإنما يعطيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه كما هو معلوم من حاله، فهو أجود الناس عليه الصلاة والسلام كما جاء في حديث ابن عباس: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس) فكان ينفق ما يقع في يده في سبيل الله عز وجل، بل إنه عليه الصلاة والسلام كان يأخذ قوت أهل بيته من خيبر ومن فدك فيبذله وينفقه، فينتهي في وقت قريب قوت سنة، وهذا قاله بعدما فرغ ما عنده، ثم إنه صلى الله عليه وسلم أرشد إلى الاستغناء والاستعفاف فقال: (ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطى الله أحداً من عطاء أوسع من الصبر)؛ لأن الإنسان إذا صبر استعف واستغنى ولم يحصل منه السؤال والإلحاف في المسألة، فهذا من النبي صلى الله عليه وسلم حث على الاستغناء والاستعفاف، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس)، وفيه دليل على عظم شأن الصبر وأهميته، وأن من بذل الأسباب وحرص على الصبر فإن الله تعالى يوفقه لتحصيله، ويجعله يتصف به.
ثم أرشد إلى عظيم شأن الصبر قال: (وما أعطى الله أحداً من عطاء أوسع من الصبر)، وهذا يدلنا على عظم شأن الصبر، وأن من صبر حصل له الاستعفاف والاستغناء؛ لأن الغنى هو غنى القلب، فإذا كان القلب غنياً فإن اليد تتبعه، وإذا كان القلب غير غني، واليد فيها شح فإن الكثير الذي فيها تعتبره قليلاً، وتراه يبحث عن المزيد، فيكون شأنه الأخذ وليس الإعطاء، وهذه صفة ذميمة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينهاكم عن ثلاث: عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات)، فقوله: (ومنع وهات) أي: أنه يطلب ولا يعطي، فيكون جموعاً منوعاً.(200/3)
تراجم رجال إسناد حديث (ما يكون عندي من خبر فلن أدخره عنكم)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
عبد الله بن مسلمة القعنبي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
مالك بن أنس إمام دار الهجرة، الإمام المشهور المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
ابن شهاب هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عطاء بن يزيد الليثي].
عطاء بن يزيد الليثي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سعيد الخدري].
أبو سعيد الخدري هو سعد بن مالك بن سنان الخدري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مشهور بنسبته وكنيته، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: أبو هريرة وابن عمر وابن عباس وأبو سعيد وأنس وجابر وأم المؤمنين عائشة، فهم ستة رجال وامرأة واحدة، رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.(200/4)
شرح حديث (من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا عبد الله بن داود ح وحدثنا عبد الملك بن حبيب حدثنا ابن المبارك وهذا حديثه عن بشير بن سلمان عن سيار أبي حمزة عن طارق عن ابن مسعود رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن أنزلها بالله أوشك الله له بالغنى: إما بموت عاجل، أو غنى عاجل)].
أورد أبو داود حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته) أي: إذا اعتمد على الناس وعول عليهم، وغفل عن الله عز وجل فإنها لا تسد فاقته.
والفاقة: هي الفقر وشدة الحاجة، فإذا عول الإنسان على الناس فإنه لا يحصل له ما يريد؛ لأنه إذا اعتمد على الناس تُرك على الناس، وأما إذا اعتمد على الله فإن الله تعالى يهيئ له الرزق من حيث لا يحتسب كما قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:2 - 3]، أي: كافيه.
قوله: (ومن أنزلها بالله أوشك الله له بالغنى: إما بموت عاجل) أي: بأن يموت قريب له عنده مال فيرثه، فيصير إليه المال من جهة لم يفكر فيها، ولم تقع له على بال، بل ساقه الله إليه من حيث لم يحتسب.
(أو بغنى عاجل) أي: بأن يهيئ الله له الخير، ويهيئ له الأسباب التي توصله إلى الغنى فيحصل له الغنى.(200/5)
تراجم رجال إسناد حديث (من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسدّ فاقته)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا عبد الله بن داود].
عبد الله بن داود وهو ثقة أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[ح وحدثنا عبد الملك بن حبيب].
عبد الملك بن حبيب أبو مروان وهو مقبول، أخرج حديثه أبو داود.
[حدثنا ابن المبارك].
ابن المبارك هو: عبد الله بن المبارك المروزي ثقة، قال عنه الحافظ ابن حجر بعد أن ذكر كثيراً من صفاته الحسنة: جمعت فيه خصال الخير.
[وهذا حديثه].
أي: حديث ابن المبارك صاحب الطريقة الثانية.
[عن بشير بن سلمان].
بشير بن سلمان ثقة يغرب، أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) ومسلم وأصحاب السنن.
[عن سيار أبو حمزة].
سيار أبي حمزة مقبول، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن طارق].
طارق بن شهاب، وقد ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم.
ولم يسمع منه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن مسعود].
عبد الله بن مسعود الهذلي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وهذا الحديث صححه الشيخ الألباني، وفيه هذا الرجل المقبول، فلعل له شواهد.(200/6)
شرح حديث (إن كنت سائلاً لابد فاسأل الصالحين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد قال: حدثنا الليث بن سعد عن جعفر بن ربيعة عن بكر بن سوادة عن مسلم بن مخشي عن ابن الفراسي: (أن الفراسي قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أسأل يا رسول الله؟! فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا، وإن كنت سائلاً لابد فاسأل الصالحين)].
أورد أبو داود حديث الفراسي رضي الله عنه أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أسأل يا رسول الله! يستأذنه في أن يسأل والأصل: أأسأل؟ فحذفت همزة الاستفهام.
قوله: (فقال: لا) أي: لا تسأل، وإن كنت بحاجة إلى السؤال فاسأل الصالحين؛ لأن سؤال أهل الصلاح فيه منافع من ذلك أنّ مال أهل الصلاح جاء من طريق حلال، وهذا بخلاف الفاسق، وربما إذا سأله استذله.
وفي إسناد هذا الحديث من هو متكلم فيه، وهو مسلم بن مخشي، وقد ضعف هذا الحديث الشيخ الألباني، ولكن لا شك أن الإنسان إذا كان سائلاً فليسأل أهل الخير والصلاح والاستقامة، وهذا أولى من أن يسأل أهل الفسق، والحديث كما قلنا لم يثبت من حيث الإسناد.(200/7)
تراجم رجال إسناد حديث (إن كنت سائلاً لابد فاسأل الصالحين)
قوله: [حديثا قتيبة بن سعيد].
قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الليث بن سعد].
ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جعفر بن ربيعة].
جعفر بن ربيعة المصري وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بكر بن سوادة].
بكر بن سوادة ثقة أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن مسلم بن مخشي].
مسلم بن مخشي مقبول أخرج حديثه أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن ابن الفراسي].
ابن الفراسي قال الحافظ: لا يُعرف اسمه، قلت: هذه الجهالة في معرفة اسمه وليست في الحكم عليه فقد يكون صحابياً لا يعرف اسمه، وهنا روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي بعضه أنه روى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أخرج حديثه أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن أبيه].
أخرج حديثه أبو داود والنسائي وابن ماجة.(200/8)
شرح حديث (إذا أعطيت شيئاً من غير أن تسأله فكل وتصدق)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا الليث عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن بسر بن سعيد عن ابن الساعدي رضي الله عنه قال: (استعملني عمر رضي الله عنه على الصدقة، فلما فرغت منها وأديتها إليه أمر لي بعمالة فقلت: إنما عملت لله وأجري على الله، قال: خذ ما أعطيت، فإني قد عملت على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعملني، فقلت مثل قولك، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا أعطيت شيئاً من غير أن تسأله فكل وتصدق)].
أورد أبو داود حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك أن عمر استعمل ابن الساعدي على الصدقة، أي: عاملاً على جبايتها؛ ولما فرغ أعطاه العمالة، وهي ما يقابل عمله، فقال: إني إنما عملت لوجه الله عز وجل ولا أريد شيئاً، فقال: خذه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعملني على الصدقة فقلت ما قلت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أعطيت شيئاً من غير أن تسأله فكل وتصدق.
فالحديث يدل على بعث العمال على الصدقة، وإعطائهم مقابل عملهم، وقد جاء في القرآن أن العاملين عليها من أهل مصارف الزكاة، وأنهم يعطون ولو كانوا أغنياء، وفيه أن الإنسان إذا عمل لوجه الله عز وجل ثم حصل له شيء فإن ذلك لا يؤثر في قصده، فله أن يأخذه، ويكون هذا من الثواب الذي يعجله الله عز وجل له في الدنيا قبل الآخرة، فهذا الرجل وقبله عمر ذكر أنه عمل ذلك لوجه الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (خذ) أي: كل وتصدق، واستفد وأفد، وأنفق على نفسك وعلى غيرك.
وفي هذا أن الإنسان إذا عمل عملاً لوجه الله تعالى ثم أعطي عطاء على ذلك فإنه يأخذ، ويكون له الأجر والثواب عند الله عز وجل، ومعلوم أنه يجوز للمرء أن يدخل في العمل كجباية الزكاة وهو يريد الأجر على ذلك، فلا مانع من ذلك، وقد جاء في قصة الفضل بن عباس ورفيقه اللذين جاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبان منه أن يوليهما على الصدقة ليحصل لهما شيء يتزوجان به، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الزكاة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد)، ثم أمر العباس بأن يزوج ابنه، وأمر بمقدار من المال لتزوجيهما، فدل ذلك على أن الإنسان إذا عمل عملاً ووجد أجراً على ذلك فلا بأس به، وإذا عمل عملاً يستحق عليه أجراً فترك الأجر لوجه الله، فأعطي مع ذلك فلا مانع منه، ويكون ذلك من الثواب المعجل الذي يعجله الله للإنسان في الدنيا قبل الآخرة.
وأما تعليم القرآن وأخذ الأجرة عليه ففيه خلاف بين أهل العلم، فمنهم من قال بعدم أخذ الأجرة عليه، وإنما يؤخذ الجُعل، وكذلك ما يكون في الأوقاف، أو من بيت المال، فلا بأس بذلك.
وأما المؤاجرة على ذلك، وكون الإنسان في أعمال الخير كتعليم القرآن، وإمامة المساجد، والأذان وغير ذلك من القرب ويعتبر نفسه أجيراً، أو أنه مثل أصحاب المهن والحرف، فليس مثلهم، ولكنه إذا جُعل له شيء من بيت المال، أو خُصص لمن يتفرغ لهذه المهمة، أو إذا كانت هناك أوقاف أوقفت على وجوه الخير كأئمة المساجد، والمؤذنين، ومعلمي القرآن، فإنهم يأخذون ذلك ولهم ثوابهم عند الله عز وجل، ويكون هذا من الثواب المعجل الذي يحصله الإنسان في الدنيا قبل الآخرة، وإنما المحذور في هذا هو يُعلِّم القرآن أو أن يكون إماماً ويصلي بالناس ولا يفعل ذلك إلا بأجرة، ويتفق معهم على أجرة، وقد ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه في (آداب المشي إلى الصلاة) أن الإمام أحمد سئل عن رجل يقول: أصلي بكم رمضان بكذا وكذا درهماً، فقال: أسأل الله العافية، ومن يصلي خلف هذا؟ لكن لو صلى ولم يطلب منهم شيئاً فأعطوه أو جمعوا له شيئاً، أو كانت هناك أوقاف فأعطي منها فلا بأس بذلك، ويكون هذا من الثواب المعجل.(200/9)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا أُعطيت شيئاً من غير أن تسأله فكل وتصدق)
[حدثنا أبو الوليد الطيالسي].
أبو الوليد الطيالسي هو هشام بن عبد الملك الطيالسي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الليث عن بكير بن عبد الله بن الأشج].
بكير بن عبد الله بن الأشج المصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بسر بن سعيد].
بسر بن سعيد ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن الساعدي].
ابن الساعدي وقيل: ابن السعدي: عبد الله بن السعدي صحابي أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[عن عمر].
عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين الهادين المهديين صاحب المناقب الجمة، والفضائل الكثيرة، رضي الله عنه وأرضاه.
قوله: (قال: فلما فررت منها وأديتها أمر لي بعمالة) أي: أمر له بمبلغ من المال مقابل العمل.
وقوله: (عملني) أي: أعطاني العمالة.(200/10)
شرح حديث (اليد العليا خير من اليد السفلى)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال وهو على المنبر وهو يذكر الصدقة والتعفف منها والمسألة: اليد العليا خير من اليد السفلى، واليد العليا المنفقة والسفلى السائلة)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اليد العليا خير من اليد السفلى، واليد العليا هي المنفقة، واليد السفلى هي السائلة)، وهذا الحديث يدل على فضل الإعطاء، وعلى ذم السؤال، وعلى تمييز من يعطي على من يأخذ، ووصف يد المعطي بأنها العليا، ووصف اليد الآخذ بأنها السفلى، وقال: إن اليد العليا خير من اليد السفلى، مع أن الوصف بالعلو والوصف بالسفل كافٍ لمعرفة أن هذا خير من هذا؛ لأن ما يوصف بالعلو خير مما يوصف بالسفل، ولكنه نص على الخيرية زيادة في الإيضاح والبيان على عظم شأن الإنفاق، وكون المنفق يده عليا وخيّرة، والسائل أو الآخذ يده سفلى، وهو دون ذلك المعطي، ثم فسر اليد العليا بأنها المنفقة، والسفلى بأنها الآخذة، وهذا يدلنا على فضل الإعطاء والبذل، وعلى ذم السؤال إلا إذا كان لحاجة.(200/11)
تراجم رجال إسناد حديث (اليد العليا خير من اليد السفلى)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع] نافع هو مولى ابن عمر ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وابن عمر هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[قال أبو داود اختلف على أيوب عن نافع في في هذا الحديث، قال عبد الوارث: اليد العليا المتعففة، وقال أكثرهم عن حماد بن زيد عن أيوب: اليد العليا المنفقة، وقال واحد عن حماد: المتعففة].
ثم ذكر أبو داود اختلاف الرواة في بيان اليد العليا، فذكر أولاً أنها المنفقة، وذكر في طريق أخرى أنها المتعففة، أي: أن المتعفف الذي لا يسأل هو على خير، وهو محمود، وهو ليس كالسائل، بل قد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه: (ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغنِ يغنه الله)، إلا أن الرواية المحفوظة هي رواية: المنفقة، وقد رجح الخطابي رواية: المتعففة على غيرها، وقال: إن هذا علو معنوي، وأما الشيخ الألباني فيقول عن المتعففة هذه بأنها شاذة، وأن المحفوظة هي رواية المنفقة.
[قال أبو داود: اختلف على أيوب].
أيوب بن أبي تميمة السختياني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع في هذا الحديث، فقال عبد الوارث].
عبد الوارث بن سعيد العنبري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وقال أكثرهم عن حماد بن زيد].
حماد بن زيد هو حماد بن زيد البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وقال واحد عن حماد].
هذا الواحد هو مسدد بن مسرهد البصري، ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي، وله أيضاً متابع، وهو أبو الربيع الزهراني سليمان بن داود.(200/12)
شرح حديث (الأيدي ثلاث فيد الله العليا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبيدة بن حميد التيمي حدثني أبو الزعراء عن أبي الأحوص عن أبيه مالك بن نضلة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الأيدي ثلاث: فيد الله العليا، ويد المعطي التي تليها، ويد السائل السفلى، فأعط الفضل، ولا تعجز عن نفسك)].
أورد أبو داود حديث مالك بن نضلة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الأيدي ثلاث: يد الله العليا، والتي تليها يد المعطي، ويد السائل هي السفلى)، فيد الله هي العليا؛ لأن الله تعالى هو المعطي على الحقيقة، وإعطاء الإنسان إنما هو تابع لإعطاء الله عز وجل، قال الله عز وجل: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29]، وقال عليه الصلاة والسلام: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء إلا قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)، وكما جاء أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا قاسم والله يعطي).
وكما في حديث معاوية: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي).
فالمعطي على الحقيقة هو الله عز وجل، وقد جُعل الإنسان سبباً في وصول هذه النعمة، ولكن حقيقة الإعطاء هي من الله عز وجل، وهذا وإن كان معطياً إلا أن الله تعالى هو الذي جعله معطياً، وهو الذي جعله سبباً في وصول ذلك الخير إلى الغير.
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا قاسم والله يعطي) فيه إشارة إلى هذه الأيدي الثلاث؛ لأن الله تعالى هو المعطي، والنبي صلى الله عليه وسلم هو القاسم، فيعطي كما أمره الله وأرشده، والمعطى هو السائل، أو الذي يعطى من غير سؤال.
قوله: (فأعط الفضل) يعني: الشيء الزائد عن حاجتك.
قوله: (ولا تعجز عن نفسك) أي: في مجاهدتها في كونها تشح بالمال وتحرص على إبقائه خوف الفقر.
وقيل: إنه لا يعجز عن نفسه بأن يعطيها حقها، وأن يعطيها الشيء الذي هو لازم لها، والشيء الذي يكون به قوامها، فيقدمها على غيرها ولا يعجز عن ذلك، فالمعنى يحتمل هذا ويحتمل هذا.(200/13)
تراجم رجال إسناد حديث (الأيدي ثلاث فيد الله العليا)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
أحمد بن حنبل هو: أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبيدة بن حميد التيمي].
عبيدة بن حميد التيمي صدوق ربما أخطأ أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثني أبو الزعراء].
أبو الزعراء هو: عمرو بن عمرو -أو ابن عامر- بن مالك بن نضلة وهو ثقة أخرج له البخاري في (خلق أفعال العباد) وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن أبي الأحوص].
أبو الأحوص هو: عوف بن مالك بن نضلة، وهو عم أبي الزعراء؛ لأن أبا الزعراء هو عمرو بن عمرو -أو ابن عامر- بن مالك، وأبو الأحوص هو: عوف بن مالك بن نضلة، وهو ثقة أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
مالك بن نضلة رضي الله عنه، وحديثه أخرجه البخاري في (خلق أفعال العباد) وأصحاب السنن.(200/14)
شرح سنن أبي داود [201]
للزكاة مصارف معلومة نص عليها القرآن الكريم ويحرم صرفها في غير تلك المصارف، وقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على حرمة صرفها في بني هاشم، تكريماً لهم وتشريفاً؛ لأن الزكاة أوساخ الناس، ولاستغنائهم عنها بالفيء، ولكن إذا أعطي الفقير ونحوه من الزكاة، ثم أهدى منها لهاشمي، فإنها تجوز له.(201/1)
الصدقة على بني هاشم(201/2)
شرح حديث: (مولى القوم من أنفسهم وإنا لا تحل لنا الصدقة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: الصدقة على بني هاشم.
حدثنا محمد بن كثير أخبرنا شعبة عن الحكم عن ابن أبي رافع عن أبي رافع رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث رجلاً على الصدقة من بني مخزوم، فقال لـ أبي رافع: اصحبني فإنك تصيب منها، قال: حتى آتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأسأله، فأتاه فسأله، فقال: مولى القوم من أنفسهم، وإنا لا تحل لنا الصدقة)].
أورد أبو داود باب: الصدقة على بني هاشم وهاشم هو ابن عبد مناف، وهو الجد الثاني لرسول صلى الله عليه وسلم، فنبينا محمد عليه الصلاة والسلام هو: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، فبنو هاشم هم الذين لا تحل لهم الصدقة، والمراد بهم: آل العباس، وآل الحارث بن عبد المطلب، وآل علي، وآل جعفر، وآل عقيل، فهؤلاء هم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين لا تحل لهم الصدقة، وقد قصر بعض أهل العلم المنع على بني هاشم، وألحق بهم بعضهم بني المطلب، والمطلب هو أخو هاشم، وهما من أولاد عبد مناف، ويستدلون على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطيهم من الخمس من سهم ذوي القربى.
وقد جاء في الصحيح أن عثمان بن عفان -وهو من بني عبد شمس بن عبد مناف -وجبير بن مطعم النفيلي - وهو من بني نوفل بن عبد مناف- جاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالا: إنك أعطيت بني المطلب ولم تعطنا، ونحن وإياهم في القرب منك سواء؛ لأن أولاد عبد مناف أربعة: هاشم والمطلب وعبد شمس ونوفل، فالنبي صلى الله عليه وسلم أعطى بني المطلب من خمس ذوي القربى، فجاء عثمان بن عفان وجبير بن مطعم رضي الله عنهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالا له ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا وبنو المطلب شيئاً واحداً لم نفترق في الجاهلية والإسلام) أي: أنهم كانوا يناصرونهم، ولما حوصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب كانوا معهم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم من الخمس كما يعطي بني هاشم، قالوا: ومن أعطي من الخمس فإنه لا يعطى من الزكاة، فلا يجوز أن تدفع الزكاة لا إلى هاشمي ولا إلى مطلبي.
وأورد أبو داود حديث أبي رافع رضي الله عنه أن رجلاً من بني مخزوم قال له وقد أرسله النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة: اصحبني حتى تصيب شيئاً، فقال: لا، حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء إليه وسأله، فقال: (إن مولى القوم من أنفسهم، وإنا لا تحل لنا الصدقة)، فيدل هذا الحديث على أن مولى القوم منهم، وأن الموالي لا تحل لهم الصدقة، فمن العلماء من أخذ بمقتضى هذا الحديث وقال: لا تحل لمواليهما يعني: موالي بني المطلب وبني هاشم، ومنهم من قال: إن الموالي تحل لهم الصدقة، ولكن هذا الحديث يدل على أنها لا تحل لهم؛ لأنه قال: (مولى القوم من أنفسهم) أي: أن حكمه كحكمهم، وسبب عدم إعطاء آل البيت من الصدقة أنهم يعطون ما يكفيهم من الخمس، فعندهم شيء يغنيهم عن الصدقة، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب له يتعلق بآل البيت: إذا لم يعطوا من الخمس فإن الصدقة تحل لهم، فيجوز لهم أن يأخذوا منها؛ لأنهم إنما منعوا لإعطائهم من الخمس ومن الفيء، فإذا لم يُعطوا من الخمس، ولم يجدوا ما يكفيهم فإنها تحل لهم الصدقة؛ لأن الأمر الذي لم يعطوا من الزكاة لأجله غير موجود، فيجوز إذاً أن يعطوا من الزكاة حينئذ.(201/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (مولى القوم من أنفسهم وإنا لا تحل لنا الصدقة)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
محمد بن كثير هو: العبدي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحكم].
الحكم بن عتيبة الكندي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن أبي رافع].
ابن أبي رافع هو: عبيد الله بن أبي رافع وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي رافع].
أبو رافع رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(201/4)
الفرق بين النسبة الحقيقية ونسبة الولاء
قوله: (مولى القوم من أنفسهم) يعني: حكمه كحكمهم، وليس المراد أنه من أنفسهم حقيقة؛ لأن المراد بأنفسهم نفس القبيلة، والمولى ليس من القبيلة، ولهذا يفرقون بين المولى وبين كونه من أنفسهم، فعندما يذكر البخاري ومسلم رحمة الله عليهما، يقال في البخاري: محمد بن إسماعيل بن المغيرة الجعفي مولاهم، يعني: أن نسبته إلى الجعفيين نسبة ولاء، وإذا ذكروا مسلماً قالوا: مسلم بن الحجاج القشيري من أنفسهم، يعني: أن نسبته إلى بني قشير نسبة أصل، فكلمة (من أنفسهم) تقابل فكلمة (مولاهم).
فقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من أنفسهم) يقصد أن حكمه حكم من كان من آل البيت، لا أنه منهم على الحقيقة؛ لأنه مولى وليس نسبه نسبهم.(201/5)
شرح حديث: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بالتمرة العائرة فما يمنعه من أخذها إلا مخافة أن تكون صدقة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل ومسلم بن إبراهيم المعنى قالا: حدثنا حماد عن قتادة عن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يمر بالتمرة العائرة فما يمنعه من أخذها إلا مخافة أن تكون صدقة)].
أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يمر بالتمرة العائرة) أي: الساقطة التي لا يعرف صاحبها، ولا يعرف هل هي من الصدقة أو من غير الصدقة، فصاحبها لا يعرف، وجهتها لا تعرف.
قوله: (فلا يمنعه من أخذها إلا أن تكون صدقة) أي: لا يمنعه من أخذها وأكلها إلا أن تكون صدقة، وهذا يدل على الورع، وعلى الاحتياط في الدين، وعلى ترك الشيء المشتبه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرئ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه).
وكذلك جاء في بعض الأحاديث: (لا يبلغ الرجل أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس)، فهو يدل على الورع.
وهناك فرق بين الورع والزهد، فالزهد أن يزهد الإنسان في أموال الناس، وما في أيدي الناس، وأما الورع فهو أن يتورع عن الأشياء التي فيها اشتباه، فالورع غير الزهد، فالزهد أن يكون عنده غنى نفس، وألا يكون عنده طمع أو جشع، وأما الورع فهو الاحتياط، فقول صلى الله عليه وسلم: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) هذا ورع، وليس زهداً.(201/6)
تراجم رجال إسناد حديث: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بالتمرة العائرة فما يمنعه من أخذها إلا مخافة أن تكون صدقة)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ومسلم بن إبراهيم].
مسلم بن إبراهيم الفراهيدي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[المعنى قالا: حدثنا حماد].
قوله: المعنى أي أن الشيخين اللذين ذكر ألفاظهما روايتهما متفقة في المعنى، وإن كان بينها اختلاف في الألفاظ.
[حدثنا حماد].
حماد هو: ابن سلمة، فإذا روى عنه موسى بن إسماعيل هكذا غير منسوب -ويسمى بالمهمل، وهو أن يذكر الشخص دون أن ينسب- فالمراد به حماد بن سلمة، وإذا روى مسدد عن حماد غير منسوب، فالمراد به ابن زيد وقد ذكر المزي في (تهذيب الكمال) بعد ترجمة حماد بن سلمة أن الحمادين يتفقان في كثير من الشيوخ والتلاميذ، ثم ذكر أنه إذا روى عنه فلان وفلان غير منسوب فهو فلان، وإذا روى عنه فلان فلان وفلان فهو فلان، وهذا ضابط يعرف به إذا جاء مهملاً، وذلك من خلال التلاميذ، وقد ذكر هذا في (تهذيب الكمال)، بعد ترجمة حماد بن سلمة، وهي تلي ترجمة حماد بن زيد مباشرة.
[عن قتادة].
قتادة بن دعامة السدوسي البصري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الإسناد من الرباعيات عند أبي داود، وهي أعلى الأسانيد عند أبي داود.(201/7)
شرح حديث (لولا أني أخاف أن تكون صدقة لأكلتها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا نصر بن علي أخبرنا أبي عن خالد بن قيس عن قتادة عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجد تمرة فقال: (لولا أني أخاف أن تكون صدقة لأكلتها)].
أورد أبو داود حديث أنس من طريق أخرى، وقال في هذه الرواية: (لولا أن تكون صدقة لأكلتها)، فأخبر عن الشيء الذي يمنعه من أكلها وهو خشية أن تكون من الصدقة، فهو مثل الذي قبله.(201/8)
تراجم رجال إسناد حديث (لولا أني أخاف أن تكون صدقة لأكلتها)
قوله: [حدثنا نصر بن علي].
هو: نصر بن علي بن نصر بن علي الجهضمي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
وهوثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن خالد بن قيس].
خالد بن قيس وهو صدوق يغرب أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة.
[عن قتادة عن أنس].
قتادة وأنس قد مر ذكرهما.
[قال أبو داود: رواه هشام عن قتادة هكذا].
قوله: رواه هشام عن قتادة هكذا، يعني: كما مر في الرواية السابقة، وهشام هو: ابن أبي عبد الله الدستوائي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(201/9)
شرح حديث ابن عباس: (بعثني أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في إبل أعطاها إياه من الصدقة)
قال المصنف رحمه الله: [حدثنا محمد بن عبيد المحاربي حدثنا محمد بن فضيل عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن كريب مولى ابن عباس عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (بعثني أبي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في إبل أعطاها إياه من الصدقة).
حدثنا محمد بن العلاء وعثمان بن أبي شيبة قالا: حدثنا محمد -هو: ابن أبي عبيدة - عن أبيه عن الأعمش عن سالم عن كريب مولى ابن عباس عن ابن عباس رضي الله عنهما نحوه، زاد أبي: (يبدلها له)].
أورد المصنف حديث ابن عباس قال: (بعثني أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في إبل أعطاها إياه من الصدقة)، وزاد في الرواية الأخرى: (يبدلها له)، يعني: بعثه كي يبدلها له، وهذا الحديث يدل بظاهره على أنه أعطي من الصدقة، وقد مر في الأحاديث السابقة أن بني هاشم لا يعطون من الصدقة، وأن الصدقة لا تحل لهم، قال العلماء: ويُفسَّر هذا الحديث -حتى يتفق مع الأحاديث الأخرى- بتفسيرين: الأول: أن يكون ذلك قبل تحريم الصدقة على بني هاشم.
والثاني: أن يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطاه من الصدقة، فقد مر في حديث عمر الذي فيه: (منع العباس) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هي علي ومثلها)، وجاء في بعض التفسيرات: أنه استسلفها منه، فيكون هذا وفاءً وسداداً، أي: أنه سدد له من إبل الصدقة، وليس معنى ذلك أنه أعطي من الصدقة؛ لأن الصدقة لا تحل لآل محمد، ومنهم آل العباس، وقد سبق الحديث الذي فيه: أن الفضل بن عباس جاء ومعه أحد أولاد الحارث بن عبد المطلب يطلبان من النبي صلى الله عليه وسلم أن يستعملهما على الصدقة؛ حتى يحصلا شيئاً يتزوجان به، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: (إنها لا تحل لآل محمد)، فعلى هذا فما جاء في هذا الحديث يحمل على أحد هذين الأمرين: إما أن يكون هذا قبل تحريم الصدقة على بني هاشم، أو أن هذا تسديد ووفاء لشيء استلفه منه صلى الله عليه وسلم كما جاء في بعض روايات الحديث السابق في أمر العباس.(201/10)
إهداء الفقير للغني من الصدقة(201/11)
شرح حديث: (هو لها صدقة ولنا هدية)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: الفقير يهدي للغني من الصدقة.
حدثنا عمرو بن مرزوق أخبرنا شعبة عن قتادة عن أنس رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أُتي بلحم، قال: ما هذا؟ قالوا: شيء تُصُدِّق به على بريرة، فقال: هو لها صدقة، ولنا هدية)].
قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب: الفقير يهدي للغني من الصدقة.
أي أن ذلك سائغ وجائز؛ لأن الصدقة إذا تُصدِّق بها على الفقير صارت ملكاً له يتصرف فيها كيف يشاء، فله أن يهديها، وله أن يدعو لأكلها، وإلى أكل طعامه الذي تصدق عليه به؛ فإن الشيء إذا تصدق به على الفقير فإنه يدخل في ملكه، وتصير ملكاً له، وإذا أكلها غني بعد ذلك، أو أكلها من لا تحل له الصدقة؛ فإن ذلك لا بأس به، ولا محذور فيه، وقد سبق أن مرت بعض التراجم التي تماثل هذه الترجمة، وهنا جاءت بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم، فلو كانت الترجمة: باب الفقير يهدي إلى من لا تحل له الصدقة، لكان أولى.
وسبق أن مرت بعض التراجم التي فيها أن فقيراً يهدي إلى غني، وفي بعض الأحاديث أنه يدعوه، فسواء أهدى إليه، أو دعاه لحضور وليمة، أو إلى أن يأكل من طعامه؛ فكل ذلك لا بأس به، لكن هذه الترجمة كان الأولى أن تكون كما ذكرت آنفاً.
أورد أبو داود حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قُدِّم إليه لحم فقال: (ما هذا؟ قالوا: لحم تصدق به على بريرة، فقال عليه الصلاة والسلام: هو لها صدقة، ولنا هدية).
يعني: أنه وصل إليها عن طريق الصدقة فملكته، ثم وصل إلينا هدية، والنبي صلى الله عليه وسلم يأكل من الهدية ويقبلها، ولكنه لا يأخذ الصدقة صلى الله عليه وسلم، فوصول الصدقة إلى الفقير يصيرها ملكاً له، فيتصرف فيها كيف يشاء، فإذا شاء أن يهديها إلى من لا تحل له الصدقة فله ذلك، وإن شاء أن يدعو إليها من لا تحل له الصدقة فله ذلك، فقد خرجت عن كونها صدقة؛ لكونها صارت ملكاً للذي تُصدِّق بها عليه، فيتصرف فيها كيف شاء.
ويدل هذا الحديث أيضاً على سؤال الرجل عما يحصل في بيته مما يكون غريباً، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما هذا؟)، وذلك أنه رأى اللحم، وكان حصول اللحم ليس معتاداً لهم، فلما رآه عليه الصلاة والسلام سأل عنه، فأُخبر عن حقيقته، وأنه تُصدِّق به على بريرة، وأعطتهم بريرة إياه هدية، فقال عليه الصلاة والسلام: (هو لها صدقة، ولنا هدية).(201/12)
تراجم رجال إسناد حديث (هو لها صدقة، ولنا هدية)
قوله: [حدثنا عمرو بن مرزوق].
عمرو بن مرزوق ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود.
[أخبرنا شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا قتادة].
قتادة بن دعامة السدوسي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
أنس بن مالك رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخادمه، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث من الرباعيات، وهي أعلى الأسانيد عند أبي داود، فليس عنده ثلاثيات، بل إن أعلى شيء عنده هي الرباعيات، وهي ما كان بين أبي داود وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها أربعة أشخاص، وهم هنا عمرو بن مرزوق، وشعبة، وقتادة، وأنس بن مالك رضي الله تعالى عنه.(201/13)
الفرق بين الصدقة والهدية
والفرق بين الصدقة والهدية أن الصدقة -كما هو معلوم- يراد بها الثواب من الله عز وجل، وأما الهدية فهي مثل العطية، فيمكن أن تعطيها لغني، ويمكن أن تعطيها لفقير، وقد تكون الهدية على سبيل المكافأة، فقد يهدي للإنسان هدية فيكافئه بمثلها، وهذا بخلاف الصدقة فإنها يطلب بها الثواب، فلا يكون فيها مكافأة، ولا يكون فيها رد تلك المنة بما هو أحسن منها، أو بما هو مثلها؛ فإن الصدقة إنما هي إحسان ومنة من المحسِن إلى المحسَن إليه، وهي صدقة من المتصدِّق على المتصدَّق عليه، بخلاف الهدية، فإن الهدية تمليك كالعطية، وقد يكون المراد بها تحصيل المقابل أو تحصيل الثواب أو تحصيل المكافأة والمقابلة عند الحاجة.(201/14)
من تصدق بصدقة ثم ورثها(201/15)
شرح حديث: (قد وجب أجرك ورجعت إليك في الميراث)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: من تصدق بصدقة ثم ورثها.
حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس حدثنا زهير حدثنا عبد الله بن عطاء عن عبد الله بن بريدة عن أبيه بريدة رضي الله عنه أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: (كنت تصدقت على أمي بوليدة وإنها ماتت وتركت تلك الوليدة، قال: قد وجب أجرك، ورجعت إليك في الميراث)].
أورد أبو داود باب: من تصدق بصدقة ثم ورثها، أي: أن رجوعها إليه بالميراث معتبر ولا إشكال فيه، وليس من العود في الصدقة؛ لأن الإرث هو انتقال من غير اختيار، فالميت إذا مات فإن ماله ينتقل مباشر من ملك إلى ملك، فهو أمر ليس للإنسان فيه دخل من حيث كونه يتسبب فيه، فإذا حصل أن رجعت الصدقة إلى المتصدق عن طريق الإرث فإن أجره ثابت؛ لكونه تصدق وأحسن، ورجوعها إليه بالميراث حق ثابت لا إشكال فيه ولا مانع منه، وليس من قبيل العود في الصدقة؛ فالإنسان لم يعد في صدقته، ولكنها هي التي عادت إليه بحكم الله عز وجل في الميراث، والميراث لا اختيار فيه لأحد، وإنما هو حكم الله عز وجل فيمن توفي، فإن أمواله تنتقل إلى الذين يرثونه على القسمة التي بيّنها الله عز وجل في كتابه العزيز، وبينها رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم في السنة المطهرة.
أورد أبو داود حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه: (أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: إنها تصدقت على أمها بوليدة)، والوليدة هي الأمة الشابة، (وأنها ماتت) أي: أنها تسأل عن حكم رجوعها إليها بالميراث، وكأنها استشكلت أن ذلك يكون من العودة في الصدقة، وقد جاءت أحاديث تدل على المنع من ذلك، وكذلك العود في الهبة والعطية مذموم أيضاً، والعائد في ذلك: (كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه) كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في قصة الفرس الذي حمل عليه عمر رضي الله عنه في سبيل الله، ثم وجده يباع، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: (لا تشتره، ولا تعُد في صدقتك)، فهذا يرجع إلى اختيار الإنسان، وأما أن تصل إليه بالميراث فهذا شيء خارج عن إرادته، والأجر ثابت له، فقد عادت إليه بحكم الله عز وجل، وذلك بالإرث الذي فرضه الله عز وجل؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم هنا: (قد وجب أجرك، ورجعت إليك في الميراث) أي: أن ما حصل منك من الإحسان والتصدق على والدتك قد ثبت به لك الأجر من الله عز وجل على ذلك، وهي قد رجعت إليكِ بالميراث، فيدلنا هذا على أن رجوع ما تصدق به الإنسان أو ما أعطاه الإنسان هبة إذا رجع إليه بالميراث فإن هذا ليس من العود في الهبة، وليس من العود في الصدقة، فإن هذا شيء لا اختيار للإنسان فيه.(201/16)
تراجم رجال إسناد حديث: (قد وجب أجرك ورجعت إليك في الميراث)
قوله: [حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس].
أحمد بن عبد الله بن يونس الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وقد قال عنه الإمام أحمد: إنه شيخ الإسلام.
[حدثنا زهير].
زهير بن معاوية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الله بن عطاء].
عبد الله بن عطاء صدوق يخطئ، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن بريدة].
عبد الله بن بريدة بن الحصيب ثقة، وقد أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
بريدة وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(201/17)
شرح سنن أبي داود [202]
لقد فرضت الزكاة طهرة للمال ونماء، وقد ندب الله عباده إلى الصدقة بالفضل من الظهر والطعام، وإعارة دلو السقي ومنح الحلوب من الأنعام، ونحو ذلك مما يوجب الألفة والتكافل، ويعمل على التقارب بين طبقات المجتمع.(202/1)
ما جاء في حقوق المال(202/2)
شرح حديث (كنا نعد الماعون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عارية الدلو والقدر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في حقوق المال.
حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا أبو عوانة عن عاصم بن أبي النجود عن شقيق عن عبد الله رضي الله عنه قال: (كنا نعد الماعون على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عارية الدلو والقدر)].
أورد أبو داود باباً في حقوق المال، أي: الحقوق المترتبة على المال، سواء كانت في الزكاة أو غير الزكاة.
وأورد فيه شيئاً يتعلق بالزكاة، وأشياء هي غير الزكاة، وأورد في ذلك حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (كنا نعد الماعون) أي: الذي جاء ذكره في القرآن: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:7]، (عارية الدلو والقدر) أي: الأشياء التي يحتاج الناس إلى التعاون فيها، وتبادل المنافع فيما بينهم، كإعارة الدلو، والقدر، والصحن، وغير ذلك من الأشياء التي يحتاجها الناس ثم يرجعونها.
قال: (كنا نعد الماعون عارية الدلو) أي: إعارة الدلو التي يستخرج بها الماء من البئر، وإعارة القدر التي يطبخ بها، أو التي تستعمل في أي وجه آخر من وجوه الاستعمال المباحة المشروعة، والمقصود من ذلك تفسير الماعون هذه الآية الكريمة: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:7]، وهذا تفسير بالمثال؛ لأن ذكر الدلو والقدر مثال، وإلا فإن الأمور الأخرى التي يحتاج الناس إلى تبادلها على سبيل الإعارة فيما بينهم من الأواني وغيرها تدخل في ذلك.
ومراد أبي داود من الترجمة أن هذه الأشياء من الحقوق.(202/3)
تراجم رجال إسناد حديث (كنا نعد الماعون على عهد رسول الله عارية الدلو والقدر)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو عوانة].
أبو عوانة هو: الوضاح بن عبد الله اليشكري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عاصم بن أبي النجود].
عاصم بن أبي النجود وهو عاصم بن بهدلة وهو صدوق له أوهام، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وروايته في الصحيحين مقرونة.
[عن شقيق].
شقيق بن سلمة هو: أبو وائل، يذكر بكنيته أحياناً، ويذكر باسمه أحياناً أخرى، وهو ثقة مخضرم أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله].
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(202/4)
شرح حديث (ما من صاحب كنز لا يؤدي حقه إلا جعله الله يوم القيامة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما من صاحب كنز لا يؤدي حقه إلا جعله الله يوم القيامة يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جبهته وجنبه وظهره حتى يقضي الله تعالى بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يُرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار، وما من صاحب غنم لا يؤدي حقها إلا جاءت يوم القيامة أوفر ما كانت، فيبطح لها بقاع قرقر فتنطحه بقرونها، وتطؤه بأظلافها ليس فيها عقصاء ولا جلحاء، كلما مضت أُخراها ردّت عليه أولاها حتى يحكم الله تعالى بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار، وما من صاحب إبل لا يؤدي حقها إلا جاءت يوم القيامة أوفر ما كانت، فيبطح لها بقاع قرقر، فتطؤه بأخفافها كلما مضت عليه أخراها ردت عليه أولاها، حتى يحكم الله تعالى بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنه (ما من صاحب كنز) أي: سواء كان ذهباً أو فضة، لا يؤدي حقه إلا إذا كان يوم القيامة صفح له صفائح من نار، فيكوى بها جبينه وجنبه وظهره في نار جهنم، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، حتى يحكم الله تعالى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار.
وقوله: (لا يؤدي حقها) حقها هو زكاتها، وقد سبق أن مر أن المال الذي أخرجت زكاته ليس بكنز، فالكنز الذي توعد عليه في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:34] إنما هو الذي لم يؤد حقه، فأما إذا أخرجت زكاته فلا يعتبر كنزاً؛ لأنه قد أدي الحق الذي عليه فيه.
وقوله: (فيُرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار) فيه دليل على أن من لم يؤد الزكاة التي هي عليه في ماله، ولم يكن ذلك جحوداً للزكاة، وإنما كان بخلاً وكسلاً فإنه لا يكون كافراً؛ لأنه قال هنا: (ثم يُرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار)، والكافر لا سبيل له إلى الجنة، فليس أمامه إلا النار، فهذا يدلنا على أنه لا يكفر، ولكنه يعذب على ذلك في الموقف، وبعد ذلك يُرى مصيره إما إلى الجنة وإما إلى النار، فيحتمل أنه يصير من أهل الجنة، وأن الله تعالى يتجاوز عنه، أو أنه يعذب العذاب الذي يستحقه في القبر أو في الموقف في ذلك اليوم العظيم الذي مقداره خمسون ألف سنة مما يعد الناس، فيكون هذا نصيبه من العذاب على عدم إخراجه الزكاة تهاوناً وكسلاً.
وأما إذا كان تركها جحوداً فإنه يكون كافراً؛ لأن جحود ما هو معلوم ثبوته من دين الإسلام بالضرورة كفر.
قوله: (وما من صاحب غنم لا يؤدي حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر) أي: بطح لها بمكان مستو ليس فيه ارتفاع ولا انخفاض.
وقوله: (قرقر) قيل: إن المقصود به أنه أملس، وقيل: إنه هو نفس القاع، ولكنه ذكر هنا على سبيل التوضيح، ولعله في كونه مستوياً أن تمشي عليه بسهولة فتطؤه ذاهبة وآيبة، فتأتي يوم القيامة تلك الغنم التي لم يؤد حقها (ليس فيها عقصاء) وهي ملتوية القرن، (ولا جلحاء) وهي التي لا قرن لها، بل تكون قرونها بارزة كي تنطحه بها.
(وتطؤه بأظلافها)، والظلف: هو الذي يكون منقسماً إلى قطعتين، فهناك خف وظلف وحافر، فالخف يكون للبعير، والظلف يكون للشاة والبقرة، والحافر يكون للفرس وللحمار.
(إذا مر عليه أخراها عاد عليه أولها) أي: بدأ أولها حتى ينتهي آخرها، ثم ترجع من جديد، وهكذا في هذا اليوم الذي مقداره خمسون ألف سنة مما يعد الناس، حتى يحكم الله تعالى بين العباد، (ويرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار).
قوله: (وما من صاحب إبل لا يؤدي حقها) وحقها هو زكاتها، وهناك شيء آخر مع الزكاة سيأتي بيانه.
قوله: (إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر فتطؤه بأخفافها إذا مر عليه آخرها عاد عليه أولها) أي: فرغت من أولها إلى آخرها عند ذلك تستأنف من جديد، فتأتي أولاها وتطؤه حتى تأتي أخراها وهكذا، ويكون ذلك في هذا اليوم الطويل الذي مقداره خمسون ألف سنة مما يعد الناس، حتى يحكم الله تعالى بين عباده فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار.
فالحق هنا هو الزكاة، ولكن جاء في بعض الروايات ما يدل على أن هناك شيئاً آخر وراء هذا الحق، وهو حلبها يوم وِرْدها والتصدق بذلك، وكذلك إعارة دلوها وما إلى ذلك من الأمور التي يحتاج الناس إليها، وهذا من الحقوق، وهي غير الحقوق الواجبة التي لابد منها، وهذا العذاب يكون قبل الفصل.
وأما إذا ترك أداء الحق جحوداً فإنه يبقى في النار أبد الآباد؛ لأنه كافر، وأما إن كان تركها تهاوناً وكسلاً فإنه يعذب في النار على قدر جرمه، ثم بعد ذلك يخرج من النار ويدخل الجنة، فلا يبقى في النار إلا الكفار الذين هم أهلها، والذين لا سبيل لهم إلى الخروج منها، وأما أصحاب الكبائر والمعاصي فمهما طال مكثهم في النار فلابد أن يأتي يوم يخرجون منها ويدخلون الجنة.
يقول ابن القيم رحمه الله في كتابه (الوابل الصيب): هناك داران باقيتان لا تفنيان، وهناك دار تفنى، فأما الداران الباقيتان اللتان لا تنفيان فدار الطيب المحض، ودار الخبث المحض، يعني: دار المتقين ودار الكفار، فهاتان باقيتان أبد الآباد، وأما الدار التي جمع أهلها بين الخبث والطيب فإنها تفنى، فالذين دخلوا النار يعذبون على قدر خبثهم، ثم يخرجون من النار ويدخلون الجنة، فيصير المكان الذي كان فيه هؤلاء العصاة خالياً ليس فيه أحد، وهذا هو معنى فنائها، وأما الكفار فالمكان الذي هم فيه في النار لا يخلو منهم أبد الآباد.
وهذا واضح الدلالة على أن ابن القيم يرى دوام النار، وأنها لا تفنى، وأن التي تفنى إنما هي النار التي فيها العصاة، فإنه يأتي عليها يوم من الأيام وليس فيها أحد.
وأما المكان الذي فيه الكفار فهذا باق أبد الآباد إلى غير نهاية.
وهذا العذاب يكون في المحشر، وقد جاء في حديث الشفاعة العظمى: (أن الناس يموج بعضهم في بعض، ويلجمهم العرق، فمنهم من يكون العرق إلى ركبته، ومنهم إلى نصفه إلخ)، وهذا التفاوت بينهم على حسب الأعمال التي حصلت منهم في الدنيا، ثم بعد ذلك يبحثون عن طريق للخلاص من هذا الموقف، فينتهون إلى أن يستشفعوا برسل الله عز وجل إلى الله؛ ليخلصوهم مما هم فيه، (فيأتون إلى آدم فيعتذر، ثم إلى نوح فيعتذر، ثم إلى إبراهيم فيعتذر، ثم إلى موسى فيعتذر، ثم إلى عيسى فيعتذر، ثم يأتون إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: أنا لها، فيشفع، فيشفعه الله عز وجل)، وهذا هو المقام المحمود الذي يحمده عليه الأولون الآخرون، من لدن آدم وإلى أن تقوم الساعة، فحصل الخلاص للجميع من ذلك الموقف بهذه الشفاعة من الرسول الكريم محمد صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وسمي بالمقام المحمود؛ لأنه يحمده عليه الأولون والآخرون، ولهذا جاء في أول الحديث: (أنا سيد الناس يوم القيامة)، ونص على سيادته يوم القيامة مع أنه سيد الناس في الدنيا والآخرة لأن سؤدده على الناس كلهم من أولهم إلى آخرهم يظهر في ذلك اليوم العظيم، ويظهر فضله وإحسانه على الجميع؛ لأن شفاعته شملت الجميع من آدم إلى آخر رجل، فكل الخليقة تمّ تخليصهم مما هم فيه من شدة الموقف بشفاعة نبينا محمد صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(202/5)
تراجم رجال إسناد حديث (ما من صاحب كنز لا يؤدي حقه إلا جعله الله يوم القيامة)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل هو التبوذكي البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
حماد هو ابن سلمة ثقة أخرج له البخاري ومسلم وأصحاب السنن.
[عن سهيل بن أبي صالح].
سهيل بن أبي صالح صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة، إلا أن البخاري أخرج له تعليقاً ومقروناً.
[عن أبيه].
أبوه هو: أبو صالح ذكوان السمان، فاسمه ذكوان، ولقبه السمان، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة] هو: عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق، رضي الله عنه وأرضاه.(202/6)
شرح حديث (ومن حقها حلبها يوم وردها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن خلف حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج قال: قال أبو الزبير: سمعت عبيد بن عمير قال: قال رجل: (يا رسول الله! ما حق الإبل؟ فذكر نحوه، زاد: وإعارة دلوها)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، قال: وذكر نحوه، وقال: (وإعارة دلوها)، والمراد بالدلو -كما هو معلوم- الدلو التي يستخرج بها الماء للإبل، فإذا كان عند الإنسان دلو فإنه يسقي إبله ويعير الدلو، فهذا من الحق والإحسان الذي يكون بين الناس، وقال صاحب (عون المعبود): ضرعها، وهذا ليس فيه إعارة الضرع، اللهم إلا أن تعار المنيحة كلها، فيحلبها ويرجعها، فهذا هو الذي يمكن إعارته، وأما الدلو فالمقصود بها الدلو المعروفة وليس الضرع، فتفسير الدلو هنا بالضرع غير واضح ولا مستقيم.(202/7)
تراجم رجال إسناد حديث (ومن حقها حلبها يوم وردها)
قوله: [حدثنا يحيى بن خلف].
يحيى بن خلف صدوق أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[حدثنا أبو عاصم].
أبو عاصم هو الضحاك بن مخلد النبيل، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن جريج].
ابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
قال: [أبو الزبير].
أبو الزبير هو: محمد بن مسلم بن تدرس المكي، صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت عبيد بن عمير].
عبيد بن عمير ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: إنه من كبار التابعين، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وهذا هو من قبيل المرسل، لكن ما قبله شاهد له، وكذلك ما بعده.(202/8)
شرح حديث (فما حق الإبل قال تعطي الكريمة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا شعبة عن قتادة عن أبي عمر الغداني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نحو هذه القصة، فقال له -يعني: لـ أبي هريرة -: فما حق الإبل؟ قال: تعطي الكريمة، وتمنح الغزيرة، وتفقر الظهر، وتطرق الفحل، وتسقي اللبن)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وفيه: أنه قيل لـ أبي هريرة [فما حق الإبل؟] فبين أمثلة عديدة من ذلك الحق الذي يكون في الإبل، وهو غير الزكاة.
قوله: [فقال: أن تعطي الكريمة] وهي النفيسة، فكون الإنسان يعطيها ويبذلها لغيره فهذا من الحق، وهذا أمر زائد على الحد الواجب.
وهو الزكاة يسمى إحساناً.
قوله: [وتمنح الغزيرة] وهي الشاة أو الناقة أو غيرهما إذا كانت غزيرة اللبن، فتعطى للفقراء يحلبونها ويستفيدون من لبنها وحليبها، وإذا انتهى الحليب أرجعها المستمنح إلى صاحبها؛ لأنها لا تزال في ملكه، فهو لم يمنحهم إلا المنفعة دون العين، فهي لا تزال باقية في ملك صاحبها.
قوله: [وتفقر الظهر] أي: أن تحمل على الظهر من يحتاج إلى حمل، وهذا من حق الإبل، فهو يفيد غيره بركوبها والسلامة من طول المشي، وهذا في حق لا ظهر له.
قوله: (وتطرق الفحل) أي: إذا كان عنده فحل من الإبل أو الغنم واحتاج أحد إلى إطراقه لأنثى له من الإبل أو الغنم فإنه يمكنه من ذلك بدون أن يأخذ عليه مقابلاً، فقد جاء في الحديث: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن عسب الفحل)، وهو ما يؤخذ مقابل نزوه على الإناث، فهذه من الأمور التي تبذل ولا يبايع عليها، وبيع ذلك لا يصح ولا يجوز؛ لأن هذا من الأمور التي لا يصلح أن تكون محلاً للبيع والشراء، ثم هو أيضاً شيء مجهول، وغير مقدور على تسليمه، فربما ينزو الفحل ولا ينتج شيئاً، فيكون الإنسان قد أخذ مقابلاً على ذلك مع أنه لم يحصل من ذلك شيء؛ لذلك فإنه يُمنع بدون مقابل.
قوله: (وتسقي اللبن)، فهناك قال: (تمنح الغزيرة) أي: أنه يعطي الشاة للفقير ويقول له: احلبها، فإذا انتهى حليبها فأرجعها إليّ، فهذا هو المنح، وهنا قال: (وتسقي اللبن) أي: أنه يحلبها ثم يعطي الناس لبناً في قدح، فتكون تلك العطية منتهية بإعطاء ذلك القدح، فهذا هو الفرق بين الجملتين.
وهذه الحقوق -كما هو معلوم- هي من مكارم الأخلاق، ومن الأمور التي تبذل بين الناس، وأما الحق الواجب فيها فهو إخراج الزكاة، فالإنسان إذا أدى زكاة ذلك فليس بكانز للمال، وكذلك إذا أدى الزكاة في الإبل فقد أدى ما هو واجب عليه، وأما هذه فهي من الأمور التي جاءت الشريعة ببذلها، والإحسان فيها، فلو لم تبذل لم يكن الإنسان مؤاخذاً عليها.
وكما هو معلوم أن الحق هو الزكاة، وأما هذه فهي من الحقوق الإضافية التي هي من باب المروءات والإحسان بين الناس، ولو لم يفعلها لا يقال: إنه ترك أمراً واجباً عليه.
وإعارة السيارة الآن داخلة في قوله: (وتفقر الظهر)؛ لأن حمل الناس الآن إنما هو على السيارات وليس على الدواب، فالدواب لا يحج عليها أحد الآن، ولا ينتقل عليها من بلد إلى بلد، فقد جاءت السيارات وحلت محلها، فعلى الإنسان أن يحسن في السيارة كما كان يحسن في الإبل، ولا شك أن هذا من الحقوق التي تكون بين الناس، فللإنسان أن يؤجرها وله أن يعيرها، وكل ذلك حق، كما أن الإبل يمكن أنه تؤجر ويمكن أنه تعار، وقد سبق أن مر الحديث الذي فيه: أنهم كانوا يكارون الإبل للحج.
وللإنسان أن يتصرف في ماله كيف يشاء، فإن أراد أن يعطيه السيارة التي يملكها فيملكها إياه فلا بأس بذلك، وإن أراد أنه يعيره إياها فله ذلك، وإن قال له: اركب معي فيذهب به مشواراً فكل هذا بإمكانه، فصاحب المال يتصرف فيه كيف يشاء.
ولا تدخل السيارة في جملة الماعون، فالماعون هي الأشياء التي يتبادلها الناس فيما بينهم كالقدر والدلو والصحن وغيرها من الأشياء التي يحتاج إليها الناس فيما بينهم، وأما السيارة فلا تدخل في إعارة الماعون، فهي مثل الظهر بالنسبة للناقة، فللإنسان أن يؤجر الظهر، وله أن يحسن بالظهر، وكذلك السيارة، فله أن يؤجرها، وله أن يحسن بها.(202/9)
تراجم رجال إسناد حديث (فما حق الإبل قال تعطي الكريمة)
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
الحسن بن علي الحلواني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، إلا النسائي.
[حدثنا يزيد بن هارون].
يزيد بن هارون الواسطي وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي مر ذكره.
[عن قتادة].
قتادة مر ذكره.
[عن أبي عمر الغداني].
أبو عمر الغداني مقبول أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة مر ذكره.(202/10)
شرح حديث (وإعارة دلوها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن خلف حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج قال: قال أبو الزبير: سمعت عبيد بن عمير قال: قال رجل: (يا رسول الله! ما حق الإبل؟ فذكر نحوه، زاد: وإعارة دلوها)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، قال: وذكر نحوه، وقال: (وإعارة دلوها)، والمراد بالدلو -كما هو معلوم- الدلو التي يستخرج بها الماء للإبل، فإذا كان عند الإنسان دلو فإنه يسقي إبله ويعير الدلو، فهذا من الحق والإحسان الذي يكون بين الناس، وقال صاحب (عون المعبود): ضرعها، وهذا ليس فيه إعارة الضرع، اللهم إلا أن تعار المنيحة كلها، فيحلبها ويرجعها، فهذا هو الذي يمكن إعارته، وأما الدلو فالمقصود بها الدلو المعروفة وليس الضرع، فتفسير الدلو هنا بالضرع غير واضح ولا مستقيم.(202/11)
تراجم رجال إسناد حديث (وإعارة دلوها)
قوله: [حدثنا يحيى بن خلف].
يحيى بن خلف صدوق أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[حدثنا أبو عاصم].
أبو عاصم هو الضحاك بن مخلد النبيل، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن جريج].
ابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
قال: [أبو الزبير].
أبو الزبير هو: محمد بن مسلم بن تدرس المكي، صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت عبيد بن عمير].
عبيد بن عمير ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: إنه من كبار التابعين، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وهذا هو من قبيل المرسل، لكن ما قبله شاهد له، وكذلك ما بعده.(202/12)
شرح حديث (أن النبي أمر من كل جادّ عشرة أوسق من التمر بقنو يعلَّق في المسجد للمساكين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد العزيز بن يحيى الحراني حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر من كل جادّ عشرة أوسق من التمر بقنوٍ يعلق في المسجد للمساكين)].
أورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من كل جاد عشرة أوسق من التمر بقنوٍ يعلق في المسجد للمساكين)، وهذا غير الزكاة؛ لأن الزكاة -كما هو معلوم- يخرص فيها التمر وهو على رءوس النخل، وتؤخذ فيه الزكاة عندما يجذّ بالمقدار الذي جاءت به السنة، فإذا كان يُسقى بكلفة وبمشقة فنصف العشر، وإذا كان يسقى بغير كلفة ومشقة فالعشر.
وأما هذا المذكور في هذا الحديث فإنه صدقة أخرى، وهي من باب الإحسان والإرفاق، وهي قليلة جداً بالنسبة للمقدار الذي أخرجت منه، فإنها تخرج من عشرة أوسق، وهذا كمقدار نصاب الزكاة مرتين؛ لأن نصاب الزكاة هو خمسة أوسق، والوسق ستون صاعاً، والصاع ثلاثة كيلوهات، أي: أنه ألف وثمانمائة كيلو من مقدار ستمائة صاع، فيخرج قنواً واحداً يعلق في المسجد؛ كي يستفيد منه الفقراء، وفي هذا دليل أيضاً على جواز الأكل في المسجد، وعلى تعليق أو إحضار الطعام إلى المسجد لكن بشرط ألّا يحصل فيه تلويث للمسجد، وألّا يحصل بسببه إساءة إلى الناس لوجود أشياء يلحقهم بها مضرة أو تلحق بثيابهم إذا لم تكن هناك نظافة، وقد سبق أن مر بنا حديث ذلك الرجل الذي علق عذقاً وهو حشف، فطعنه إنسان بهذا وقال: إن صاحب هذا لو أراد أن يتصدق بخير من هذا لفعل، وقال: إن صاحبه يأكل حشفاً يوم القيامة.
قوله: [(أمر من كل جاد عشرة أوسق)، أي: على كل من يجذّ من النخل مقدار عشرة أوسق من التمر، أي: ستمائة صاع، أن يخرج قنواً واحداً من هذا المقدار، ويعلق في المسجد، وهذا غير نصف العشر أو العشر.(202/13)
تراجم رجال إسناد حديث (أن النبي أمر من كل جاد عشرة أوسق من التمر بقنون يعلّق في المسجد للمساكين)
قوله: [حدثنا عبد العزيز بن يحيى الحراني].
عبد العزيز بن يحيى الحراني صدوق ربما وهم، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثني محمد بن سلمة].
محمد بن سلمة الحراني وهو ثقة أخرج له البخاري في (جزء القراءة) ومسلم وأصحاب السنن.
[عن محمد بن إسحاق].
محمد بن إسحاق المدني صدوق أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن محمد بن يحيى بن حبان].
محمد بن يحيى بن حبان ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عّمه واسع بن حبان].
واسع بن حبان قيل: صحابي، وقيل: ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر بن عبد الله].
جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(202/14)
شرح حديث (من كان عنده فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عبد الله الخزاعي وموسى بن إسماعيل قالا: حدثنا أبو الأشهب عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: (بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر إذ جاء رجل على ناقة له، فجعل يصرفها يميناً وشمالاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان عنده فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان عنده فضل زاد فليعد به على من لا زاد له، حتى ظننا أنه لا حق لأحد منا في الفضل)].
أورد أبو داود حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في الرجل الذي جاء وهو على ناقة له، فجعل يصرفها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان عنده فضل زاد فليعد به على من لا زاد له)، وقد قيل: إن هذا الرجل كان يصرف ناقته لأنها كانت قد أعيت وهزلت، ولعله كان يريد أن يُنظر إليه، ويتصدق عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان عنده فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له) أي: فكأن هذا لا ظهر له مادام أن ناقته بهذا الوصف، فمن كان عنده فضل ظهر -وهو المركوب- فليعد به على من لا ظهر له.
قوله: (حتى ظننا أنه لا حق لأحد منا في الفضل) أي: أن الفضل يبذل، فظننا أن الإنسان الذي يكون عنده شيء زائد على حاجته فإنه يجود به، وفي هذا الحديث الحث والترغيب في ذلك، وليس ذلك بواجب، إلا ما أوجبه الله عز وجل في المال من الزكاة.(202/15)
تراجم رجال إسناد حديث (من كان عنده فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له)
قوله: [حدثنا محمد بن عبد الله الخزاعي].
محمد بن عبد الله الخزاعي، ثقة أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[وموسى بن إسماعيل].
وموسى بن إسماعيل مر ذكره.
[حدثنا أبو الأشهب].
أبو الأشهب هو جعفر بن حيان وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي نضرة].
أبو نضرة هو المنذر بن مالك بن قطعة وهو ثقة أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي سعيد].
هو الخدري، وهو سعد بن مالك بن سنان الخدري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الإسناد رباعي.(202/16)
شرح حديث (إنّ الله لم يفرض الزكاة إلّا ليطيب ما بقي من أموالكم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن يعلى المحاربي حدثنا أبي حدثنا غيلان عن جعفر بن إياس عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لما نزلت هذه الآية: ((وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ)) [التوبة:34] كبر ذلك على المسلمين، فقال عمر رضي الله عنه: أنا أفّرج عنكم، فانطلق فقال: يا نبي الله! إنه كبر على أصحابك هذه الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث لتكون لمن بعدكم، فكبر عمر، ثم قال له: ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته)].
أورد أبو داود بعد ذلك حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (أنه لما نزلت: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:34] شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: أنا أفرج عنكم) أي: أنا أسعى في إزالة الحرج عنكم بسؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب إليه وسأله، فقال له: (إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطب ما بقي من أموالكم) أي: أن الزكاة إنما فرضها الله عز وجل حتى تطيب ما سواها، وهذا كما تقدم في الحديث السابق: (ما أديت زكاته فليس بكنز)، وذلك في باب: حد الكنز وحد الغنى، وهنا قال: (إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم) أي: بعد إخراج الزكاة، فالزكاة طهرة كما قال الله تعالى في القرآن: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103]، وهي أيضاً سبب في نمائه وكثرته وزيادته.
قوله: (وإنما فرض المواريث لتكون لمن بعدكم) فلو كان الإنسان ينفق ما عنده إذاً لما بقي ميراث، والله تعالى قد فرض المواريث، فمعنى ذلك: أن الميراث يكون لشيء موجود، لكن إذا أديت الزكاة فإنه يخرج من كونه كنزاً، وصار الإنسان يستفيد منه في حياته، وإذا مات انتقل إلى الورثة، ولكن الله عز وجل فرض الزكاة لتطيَّب ما بقي من المال.
قوله: (فكبر عمر) أي: لحصول المقصود، وزال الحرج الذي كان يخافه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يدلنا على مشروعية التكبير عند الأمور السارة، ولا يصلح التصفيق كما يفعله كثير من الناس في هذا الزمان.
قوله: (ثم قال له: ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء؟) أي: أنه بعدما ذكر كنز المال وأن الإنسان يخرج زكاته، فإذا فعل ذلك خرج عن كونه كنزاً، بعد ذلك أخبر عن الشيء الذي يكون مع الإنسان، وتكون صلته به وثيقة، وهو خير ما يكنز المرء، وذلك هو الزوجة الصالحة، فتسره إذا نظر إليها لجمالها، وتطيعه إذا أمرها، وتحفظه إذا غاب عنها.(202/17)
تراجم رجال إسناد حديث (إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي في (عمل اليوم والليلة) وابن ماجة.
[حدثنا يحيى بن يعلى المحاربي].
يحيى بن يعلى المحاربي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا أبي].
أبوه يعلى بن الحارث المحاربي، وهو ثقة مثل ابنه أخرج له أصحاب الكتب إلا الترمذي.
[حدثنا غيلان].
غيلان هو ابن جامع وهو ثقة أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة [عن جعفر بن إياس].
جعفر بن إياس هو المشهور بـ أبي وحشية، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مجاهد].
مجاهد بن جبر المكي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو: عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة.
وهذا الحديث ضعفه الألباني كما في السلسلة الضعيفة برقم (1319)، رجاله ثقات، ولكن فيه علة وهي: أن هناك واسطة بين غيلان وبين جعفر بن أبي وحشية، وهذه الواسطة هي عثمان بن أبي حميد أبو اليقظان، وهو ضعيف مختلط أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.(202/18)
شرح سنن أبي داود [203]
ندب الشرع إلى إعطاء السؤال وعدم انتهارهم، والإحسان ببذل المعروف في كل شيء، ولو كان طالبه ذمياً مالم يكن محارباً.(203/1)
حقّ السائل(203/2)
شرح حديث (للسائل حق وإن جاء على فرس)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب حق السائل.
حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان حدثنا مصعب بن محمد بن شرحبيل قال: حدثني يعلى بن أبي يحيى عن فاطمة بنت حسين عن حسين بن علي رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (للسائل حق وإن جاء على فرس).
حدثنا محمد بن رافع حدثنا يحيى بن آدم حدثنا زهير عن شيخ قال: رأيت سفيان عنده عن فاطمة بنت حسين عن أبيها عن علي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثله].
ذكر الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب حق السائل، وهذه الترجمة أخذها مما جاء في الحديث: (للسائل حق ولو جاء على فرس)، والمراد أن السائل يعطى وإن كان على هيئة حسنة، فقد يكون له عذر.
أورد أبو داود حديث الحسين أو علي رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (للسائل حق ولو جاء على فرس) أي: ولو كانت هيئته حسنة وجاء على فرس، فقد تكون تلك الفرس عارية، وقد تكون له ولكن ليس عنده شيء أكثر منها، ويكون بحاجة إلى طعام مثلاً، وقد يكون نفد ما عنده ولم يكن معه غيره، وقد يكون غريباً، وقد يكون ابن سبيل انقطع، فمن كان كذلك فقد يحتاج أن يسأل ولو كان معه فرس، أو كان على هيئة حسنة، فيعطى من الزكاة أو من الصدقة، وقد سبق أن مر: (أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الرجلين الجلدين النشيطين قلب فيهما النظر وصعده وصوبه، ثم قال: إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب) لكن هذا الحديث الذي معنا لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن فيه رجلاً مجهولاً في الإسناد الأول، ومبهماً في الإسناد الثاني، وقد يكون ذلك المبهم هو المسمى المجهول في الإسناد الأول.
وهو في الإسناد الأول عن الحسين بن علي، قالوا: ولا يعرف للحسين بن علي رضي الله تعالى عنه سماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن لاشك أن مراسيل الصحابة حجة، وأن كثيراً من روايات الصحابة لم يسمعوها من النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن سمعوها من الصحابة، وإذا أخذوا عن غير الصحابة -وهو شيء نادر- بينوا ذلك.
والطريق الثانية عن الحسين يرويه عن أبيه علي رضي الله تعالى عنهما.(203/3)
تراجم رجال إسناد حديث (للسائل حقّ وإن جاء على فرس)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
محمد بن كثير العبدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا سفيان].
سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا مصعب بن محمد بن شرحبيل].
مصعب بن محمد بن شرحبيل لا بأس به، وهذا بمعنى صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثني يعلى بن أبي يحيى].
يعلى بن أبي يحيى مجهول، أخرج له أبو داود وحده.
[عن فاطمة بنت حسين].
فاطمة بنت حسين بن علي وهي ثقة، أخرج لها أبو داود والترمذي والنسائي في (مسند علي) وابن ماجة.
[عن حسين بن علي].
الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما، أحد سبطي الرسول صلى الله عليه وسلم ابني ابنته، وهما سيدا شباب أهل الجنة كما جاء ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وقوله: [حدثنا محمد بن رافع].
محمد بن رافع النيسابوري القشيري وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة، وهو شيخ الإمام مسلم، وهو من بلده ومن قبيلته، فهو نيسابوري كما أن مسلماً نيسابوري، وهو كذلك قشيري كما أن مسلماً قشيري، وقد خرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة، وقد أكثر عنه الإمام مسلم رحمه الله، وصحيفة همام بن منبه المشهورة فيها أحاديث جاءت في الصحيحين، وأحاديث أخرجها البخاري، وأحاديث أخرجها مسلم من طريق محمد بن رافع عن عبد الرزاق، فكل ما جاء من صحيفة همام بن منبه في صحيح مسلم فهو من طريق محمد بن رافع عن شيخه عبد الرزاق.
[حدثنا يحيى بن آدم].
يحيى بن آدم الكوفي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا زهير].
زهير بن معاوية وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شيخ].
شيخ هنا مبهم، فقولهم: عن شيخ، أو رجل، أو امرأة، فإن هذا يقال له: مبهم، وأما إذا ذكر اسمه ولم ينسب فإنه يقال له: مهمل، أي: أهمل عن أن ينسب، فيكون محتملاً لعدة أشخاص، فمثل حماد إذا جاء غير منسوب فإنه يحتمل أن يكون ابن سلمة، ويحتمل أن يكون ابن زيد، ومثل سفيان إذا جاء مهملاً فإنه يحتمل أن يكون ابن عيينة، ويحتمل أن يكون الثوري.
ولعل هذا المبهم هو مصعب بن محمد بن شرحبيل، ففي المبهمات من التقريب: زهير بن معاوية عن شيخ رأى سفيان عنده؛ هو مصعب بن محمد بن شرحبيل.
وسفيان هنا يحتمل أنه سفيان بن عيينة، ويحتمل أن يكون سفيان الثوري؛ لأنه هو المتقدم على سفيان بن عيينة، وإن كان ابن عيينة متقدماً من حيث إدراك الشيوخ المتقدمين مثل الزهري، فإنه كثير الرواية عن الزهري مع أن الزهري توفي سنة 125هـ، وسفيان توفي فوق 90هـ، وأما الثوري فهو متقدم عليه، فوفاته سنة 161هـ.
[عن فاطمة بنت حسين عن أبيها عن علي].
علي رضي الله تعالى عنه أمير المؤمنين، ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة، والفضائل الكثيرة، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
ولا يقال: إن فيه اضطراباً، فمرة يروى عن حسين ومرة عن علي؛ لأن ذلك لا يؤثر، فإذا كان عن علي رضي الله عنه فليس هناك إشكال في الاتصال، وأما بالنسبة لرواية الحسين فهو إذا لم يكن سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم فهو من مراسيل الصحابة، ومراسيل الصحابة -كما هو معلوم- حجة عند العلماء، وقد ذكر له الألباني طرقاً وشواهد متعددة عن عدد من الصحابة، وذكر أنها كلها ضعيفة، وذكر هذا الحديث في (السلسلة الضعيفة) برقم (1378).(203/4)
شرح حديث (إنْ لم تجدي له شيئاً تعطينه إياه إلّا ظلفاً محرقاً فادفعيه إليه في يده)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن سعيد بن أبي سعيد عن عبد الرحمن بن بجيد رضي الله عنه عن جدته أم بجيد رضي الله عنها -وكانت ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- أنها قالت له: (يا رسول الله صلى الله عليك! إن المسكين ليقوم على بابي فما أجد له شيئاً أعطيه إياه، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لم تجدي له شيئاً تعطينه إياه إلا ظلفاً محرقاً فادفعيه إليه في يده)].
أورد أبو داود حديث أم بجيد رضي الله تعالى عنها: (أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إن المسكين يكون على بابي فلا أجد شيئاً أعطيه إياه، فقال لها عليه الصلاة والسلام: إن لم تجدي إلا ظلفاً محرقاً فأعطيه إياه) فهذا الحديث يدل على أن السائل يُعطى ولو كان المعطى شيئاً يسيراً، فمادام أن الإنسان لا يجد إلا هذا القليل فإنه لا يمتنع من التصدق به، ولا يمتنع أن ينفق مما أعطاه الله كما قال تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق:7]، فهو يعطي على حسب ما عنده، ولو لم يكن إلا تمرة كما جاء في قصة المرأة التي جاءت إلى عائشة ولم تجد إلا تمرات ثلاث، فأعطتها إياها، وكان معها ابنتان، فأعطت كل واحدة منهما تمرة، ثم إنها شقت التمرة الثالثة وأعطت كل واحدة منهما نصفاً.
فيعطى السائل أو المسكين ما تيسر ولو قل، وجاء في الحديث الآخر: (لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة) أي: ولو كان شيئاً يسيراً فلا يستهان به، فالمهم هو الإحسان والبذل.
وقوله: (ظلفاً محرقاً) هذا على سبيل المبالغة، وإلّا فإن الظلف المحرق لا يستفاد منه إلا إذا كان الناس في مسغبة أو في قحط شديد، فإنه يمكن أن يستفاد من كل شيء ولو كان قليل الفائدة.
وقد سبق أن مر في الحديث: (ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، واللقمة واللقمتان، والأكلة والأكلتان)، أي: الذي يرضى بالشيء اليسير، (ولكن المسكين هو الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن الناس له فيتصدقون عليه).(203/5)
تراجم رجال إسناد حديث (إن لم تجدي له شيئاً تعطينه إياه إلّا ظلفاً محرقاً فادفعيه إليه في يده)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الليث].
الليث بن سعد المصري ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن أبي سعيد].
سعيد بن أبي سعيد المقبري وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن بجيد].
عبد الرحمن بن بجيد له رؤية، وقد ذكره بعضهم في الصحابة، أخرج حديثه أبو داود والترمذي والنسائي.
[عن جدته].
وهي أخرج حديثها أبو داود والترمذي والنسائي، وذكر أن اسمها حواء بنت يزيد بن السكن.(203/6)
الأسئلة(203/7)
حكم بيع ماء زمزم
السؤال
ما حكم بيع ماء زمزم؟
الجواب
إذا ذهب الإنسان وأتى بملء خزان من هذا الماء إلى المدينة وأراد أن يبيعه فلا بأس بذلك.(203/8)
حكم طلب الماء من البقالة بلا ثمن
السؤال
إذا دخل الرجل إلى بقالة فهل يحل له أن يطلب ماء استدلالاً بالحديث الذي فيه أنه لا يحل بيع الماء؟
الجواب
مثل هذا لا يصح؛ لأن هذا محل بيع، فيدفع القيمة ويشرب، وإذا لم يكن عنده نقود فيمكن أن يقول لصاحب البقالة: أنا لا أمتلك نقوداً وأريد أن أشرب ماء، فلعله أن يعطيه.(203/9)
حكم أخذ الماء والملح بلا إذن
السؤال
إذا كانت هذه الأشياء وهي: الماء والملح لا يجوز منعها فهل يجوز أخذها بدون إذن مالكها؟
الجواب
لا، بل لابد من الاستئذان، وإذا كان لا يملك نقوداً يذكر ذلك له ويطلب منه أن يعطيه قليلاً تقوم به حاجته.(203/10)
حكم التصدق على السائلين في المساجد مع عدم معرفة حالهم
السؤال
يتكرر الآن في المساجد السؤال من هؤلاء السائلين والله أعلم بصدقهم، فما العمل؟
الجواب
ينبغي على الإنسان أن يعطي السائلين وهو على خير، ولن يعدم الأجر عند الله عز وجل، ولكن من عُرف باحتياله فلا يعطى، بل ينصح ويحذر، وأما إذا كان مجهولاً وأعطاه فهو إن شاء الله على خير.(203/11)
حكم إعطاء السائلين الذين يقومون في المساجد من الزكاة
السؤال
وهل يُعطى هؤلاء السائلين الذين يسألون في المساجد من الزكاة؟
الجواب
لا ينبغي أن يعطوا من الزكاة، وإنما يعطى مثل هؤلاء من الصدقات، وأما الزكاة فالأولى أن تُعطى لمن يستحقها، فقد يضعها في هؤلاء ويكونون أغنياء، فبعض السائلين قد استمرأ السؤال، واتخذ السؤال حرفة، فقد يحصل له في وقت من الأوقات حاجة، ولكنه دخل في المسألة ولم يستطيع الخروج منها.(203/12)
حكم انتهار السُّؤَّال في المساجد
السؤال
ما حكم انتهارهم؛ فإن بعض الأئمة يقول لهم إذا قاموا: عند الباب عند الباب؟
الجواب
قد يشوشون على الناس الذين يذكرون الله عز وجل، فلو ينبههم أن يكونوا عند الباب بدون انتهار فلا بأس بذلك، وكذلك هو ينبههم أن يجلسوا عند الباب حتى يعطيهم الناس إذا مروا بهم، فإنهم إذا كانوا جالسين في المقدمة فيمكن ألا يعطيهم أحد، وبعض الناس تجده يسأل عند الباب ويرفع صوته وكأنه يلقي خطبة، فيتكلم كلاماً كثيراً ويشغل الناس، مع أنه يكفي أن يبين للناس أنه محتاج، ثم يجلس عند الباب، فلا بأس أن ينتهروا في هذه الحال؛ لأنهم يشغلون الناس الذين يذكرون الله عز وجل ويسبحون، وأما إذا لم يشغلوا الناس فلا ينهرون لقوله تعالى: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:10]، وأما الذي يعرف أنه محتال فإنه ينهر.(203/13)
عدم قبول السائلين العطاء القليل
السؤال
كيف العمل مع بعض السائلين الذين لا يقبلون الشيء القليل؟
الجواب
ينبغي على كل إنسان أن يعطي ما يتيسر له، فإن قبله السائل فالحمد لله، وإن لم يقبله فإنه يأخذ ماله، ولعل هذا الذي لا يقبل القليل قد تعود الطمع، وإلا فإن المحتاج يكفيه القليل.(203/14)
الصدقة على أهل الذمة(203/15)
شرح حديث (قدمت عليَّ أمي راغبة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الصدقة على أهل الذمة.
حدثنا أحمد بن أبي شعيب الحراني حدثنا عيسى بن يونس حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء رضي الله عنها قالت: (قدمت علي أمي راغبة في عهد قريش وهي راغمة مشركة، فقلت: يا رسول الله! إن أمي قدمت علي وهي راغمة مشركة أفأصلها؟ قال: نعم، فصلي أمك)].
أورد أبو داود باب الصدقة على أهل الذمة، أي: بالمعروف والإحسان، وليس المقصود به الزكاة؛ لأن الزكاة لا تعطى للكفار، وإنما تعطى للمسلمين، فتؤخذ من أغنياهم وترد على فقرائهم، كما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ بن جبل: (أخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنياهم فترد على فقرائهم)، فمصرفها فقراء المسلمين ولا تصرف للكفار.
وأورد أبو داود رحمه الله حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنها وعن أبيها وعن جدها وابنها، فقد اجتمع أربعة أشخاص كلهم متناسلون وهم صحابة: فـ أبو بكر وابنته أسماء وابنها عبد الله بن الزبير وجدها أبو قحافة.
فذكرت أسماء رضي الله تعالى عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: (أن أمها قدمت عليها في المدينة، وهي راغبة)، أي: راغبة في النوال والبر والإحسان، (وكان ذلك في عهد قريش)، أي: في عهد الصلح، وهي المدة التي ماد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كفار قريش بعد صلح الحديبية وقبل الفتح.
قولها: (وهي راغمة مشركة) أي: كارهة للإسلام وباقية على الشرك، (أفأصلها) وقد جاءت تريد البر والإحسان؟ (فقال عليه الصلاة والسلام: نعم، فصلي أمك)، فدل هذا على أن القريب المشرك يحسن إليه، وأنه يوصل، ولكن لا يكون هذا من الزكاة، وإنما يكون من الإحسان والبذل والمعروف، وحتى لو كانت مسلمة فلا يجوز أيضاً أن تعطى من الزكاة؛ لأن الزكاة لا تعطى للآباء، ولا للأمهات، ولا للأبناء والبنات، ومن كان منهم محتاجاً فإنه ينفق عليه، ويصير مستغنياً بالإنفاق عليه، فالوالد لا يعطى سواء كان مشركاً أو مسلماً، فالمشرك لا يعطى من الزكاة مطلقاً، وأما المسلم فإن كان فقيراً فإنه يُنفِق عليه ولده أو بنته.
وأم أسماء هذه قيل اسمها: قتيلة، وقيل: قتيلة، وقد اختلف هل أسلمت أو لم تسلم، والأكثرون على أنها لم تسلم، وأنها ماتت مشركة، وقد تزوج أبو بكر رضي الله عنه عدة زوجات منهن أم رومان والدة عائشة، وهذه المذكورة في الحديث، وأسماء بنت عميس التي ولدت محمد بن أبي بكر في الحديبية في حجة الوداع، كما سبق أن مرّ بنا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن أحسن الكتب التي تبين أولاد الرجل إذا كانوا من زوجات متعددات، وبيان أمهات هؤلاء الأولاد كتاب اسمه (الرياض المستطابة فيمن له رواية في الصحيحين من الصحابة)، وهو للعامري، فقد جمع فيه كل الصحابة الذين لهم رواية في الصحيحين أو في أحدهما، وترجم لكل واحد، ويذكر العقب، ويذكر الأمهات، فيقول: فلان وفلان وأمهم فلانة، وفلان وفلان وأمهم فلانة، فهذا من أحسن ما يرجع إليه في معرفة الإخوة لأب، والإخوة الأشقاء، ومن كانوا من أمهات متعددات، فيسميهن، ويسمي أولادهن من الرجل المترجم له، فهو كتاب مفيد في هذه الناحية.
والمراد بأهل الذمة في الترجمة الذين بينهم وبين المسلمين عهد، بخلاف أهل الحرب، فأهل الذمة والمستأمنون والمعاهدون كلهم دربهم وطريقهم واحد.(203/16)
تراجم رجال إسناد حديث (قدمت عليَّ أمي راغبة)
قوله: [حدثنا أحمد بن أبي شعيب الحراني].
أحمد بن عبد الله بن أبي شعيب وهو ثقة أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي].
[حدثنا عيسى بن يونس].
عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا هشام بن عروة].
هشام بن عروة، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه عروة بن الزبير بن العوام وهو ثقة فقيه أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أسماء].
أسماء هي أم عروة، وهي: أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنها، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة، وكذلك عبد الله بن الزبير وعمر بن الزبير أمهم أسماء، وأسماء قدمت مع المهاجرات الأوَل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ولد عبد الله بن الزبير في قباء قبل أن يصل الناس إلى المدينة، فكان أول مولود ولد بعد الهجرة، فحنكه الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ في التقريب: أسماء بنت أبي بكر الصديق ذات النطاقين، زوجة الزبير بن العوام من كبار الصحابة، عاشت مائة سنة، وماتت سنة ثلاث، أو أربع وسبعين.(203/17)
ما لا يجوز منعه(203/18)
شرح حديث (ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال الماء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما لا يجوز منعه.
حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا كهمس عن سيار بن منظور -رجل من بني فزارة- عن أبيه عن امرأة يقال لها بهيسة عن أبيها قالت: (استأذن أبي النبي صلى الله عليه وسلم فدخل بينه وبين قميصه، فجعل يقَّبل ويلتزم، ثم قال: يا رسول الله! ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: الماء، قال: يا نبي الله! ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: الملح، قال: يا نبي الله! ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: أن تفعل الخير خير لك)].
أورد أبو داود باب: ما لا يجوز منعه، ويقصد بذلك الأشياء التي يحتاج الناس إليها ويتبادلونها فيما بينهم، وهذا من جنس ما مر ذكره في الماعون، وقد سبق أنه لا يمنع، وذلك كالماء والملح وما كان من هذا القبيل من الأمور التي هي يسيرة وسهلة وخفيفة، يحتاج الناس إليها، بخلاف الأمور الكبيرة التي يكون لها شأن ووزن في نفوس الناس، فالمقصود من ذلك هو الإحسان والبذل ولاسيما في الأمور التي هي سهلة والتي تكون الحاجة إليها كبيرة مع قلتها، ولا يكون في بذلها مشقة أو كلفة على الإنسان.
لكن إذا كان المقصود به بذل الملح الكثير، أو كان الماء المبذول كثيراً والإنسان يتعب في إخراجه فله أن يبيعه على من يحتاج إليه في سقي نخل أو ما إلى ذلك، أو كان الإنسان يحوزه في سيارته فيبيعه على الناس فلا بأس بذلك، فإذا صار الشيء كثيراً فهذا يكون من جنس الأموال، فإذا كان للإنسان سيارة يملؤها بالماء ويبيعها فلا بأس بذلك، لأنه يملكه، ولأنه يتحمل أتعاباً على السيارة من حيث إنه يصرف عليها وقوداً، ففي هذه الحالة لا يلزمه أن يبذله للناس بالمجان، لكن من طلب ماء ليشرب، أو طلب ملحاً قليلاً ليصنع طعاماً ولم يجد ملحاً فإنه يعطيهم شيئاً يملحون به طعامهم.
وأما كونه يُطلب منه شحنة سيارة ملح أو ما إلى ذلك فهذه لا تبذل.
وأورد أبو داود رحمه الله حديث بهيسة عن أبيها قالت: (استأذن أبي النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فدخل بينه وبين قميصه) أي: لعل الجيب كان واسعاً.
(فجعل يقبل ويلتزم، ثم قال يا رسول الله! ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: الماء، يا نبي الله! ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: الملح) أي: أنه كرر عليه، (فقال: الملح)، والملح والماء من الأشياء التي أمرها سهل، ويحتاج الناس بعضهم إلى بعض فيها، فإذا طلب أحد من غيره ماء فلا بأس في ذلك، فهو من الأمور السهلة التي ليس فيها نقص في المروءة، وإن لم يكن محتاجاً فينبغي له أن يتعفف.
قوله: (قال: يا رسول الله! ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: أن تفعل الخير خير لك)، أي: أنه بعد ذلك أرشده إلى أن الخير من حيث هو إذا فعله الإنسان -ولو قل- فإنه يكون خيراً له، كما قال الله عز وجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} [الزلزلة:7].(203/19)
تراجم رجال إسناد حديث (ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال الماء)
قوله: [حدثنا عبيد الله بن معاذ].
عبيد الله بن معاذ بن معاذ العنبري ثقة أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا أبي].
أبوه معاذ بن معاذ العنبري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا كهمس].
كهمس بن الحسن وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سيار بن منظور رجل من بني فزارة].
سيار بن منظور، هو رجل من بني فزارة، وهو مقبول أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن أبيه].
أبوه منظور بن سيار، وهو مقبول أيضاً أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن امرأة يقال لها بهيسة].
بهيسة لا تعرف، وقيل: لها صحبة، حديثها أخرجه أبو داود والنسائي.
[عن أبيها].
أبوها هو أبو بهيسة الفزاري، وهو صحابي مقلّ، قيل: اسمه عمير، أخرج له أبو داود والنسائي.(203/20)
المسألة في المساجد(203/21)
شرح حديث أخذ أبي بكر الكسرة من يد ولده عبد الرحمن
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب المسألة في المساجد.
حدثنا بشر بن آدم حدثنا عبد الله بن بكر السهمي حدثنا مبارك بن فضالة عن ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الرحمن بن أبي بكر قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هل منكم أحد أطعم اليوم مسكيناً؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه: دخلت المسجد فإذا أنا بسائل يسأل، فوجدت كسرة خبز في يد عبد الرحمن فأخذتها منه فدفعتها إليه)].
أورد أبو داود باب السؤال في المساجد، ولا نعلم شيئاً يمنعه إذا كان الإنسان محتاجاً وسأل الناس في المساجد، وهذا الحديث الذي أورده أبو داود رحمه الله هنا فيه كلام فيما يتعلق بالسؤال في المسجد في هذه القصة؛ لأنه فيه مبارك بن فضالة وهو يدلس ويسوي، وقد روي بالعنعنة، وأما فيما يتعلق بتصدقه على الفقير فهذا ثابت من طريق أخرى عن أبي هريرة في (صحيح مسلم)، وذلك أنه سئل عن أشياء فكانت كلها متوفرة في أبي بكر رضي الله عنه، ومنها التصدق على مسكين من المساكين.(203/22)
تراجم رجال إسناد حديث أخذ أبي بكر الكسرة من يد ولده عبد الرحمن
قوله: [حدثنا بشر بن آدم].
بشر بن آدم صدوق فيه لين، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي في مسند علي وابن ماجة.
[حدثنا عبد الله بن بكر السهمي].
عبد الله بن بكر السهمي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا مبارك بن فضالة].
مبارك بن فضالة صدوق مدلس ويسوي، أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن ثابت البناني].
ثابت بن أسلم البناني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن أبي ليلى].
عبد الرحمن بن أبي ليلى ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن أبي بكر].
عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(203/23)
كراهية المسألة بوجه الله تعالى(203/24)
شرح حديث (لا يُسأل بوجه الله إلّا الجنة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب كراهية المسألة بوجه الله تعالى.
حدثنا أبو العباس القلوري حدثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي عن سليمان بن معاذ التميمي حدثنا ابن المنكدر عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يُسأل بوجه الله إلا الجنة)].
أورد أبو داود باب كراهية المسألة بوجه الله، أي: أنه لا يسأل بوجه الله عز وجل إلا شيء مهم وعظيم، وذكر الجنة على اعتبار أنها هي نهاية المقاصد، وهي نهاية المطلوب، وهي دار المتقين ودار النعيم، وإذا سأل بوجه الله فليسأل ما له شأن ومنزلة لاسيما إذا كان يؤدي إلى الجنة، كأن يسأل الله بوجهه الهداية إلى الصراط المستقيم، فإن هذا سؤال عظيم، فلا يمنع منه، وهذا الحديث -إذا ثبت- لا يدل على منعه، وإنما يدل على أنه يسأل به الأمور العظيمة والمهمة، ولا يسأل بوجه الله أشياء تافهة، أو يسأل الناس بوجه الله أمراً من أمور الدنيا، وإنما يسأل الله بوجهه أن يرزقه الجنة، أو أن يرزقه الطريق الموصل إلى الجنة، فهذا هو المقصود من هذا الحديث إذا ثبت، والحديث فيه كلام، فقد ضعفه الشيخ الألباني؛ لأنه فيه سليمان بن معاذ وهو سيء الحفظ، وبعض العلماء يشير إلى تحسينه، وقد تعقب الشيخ فريح البهلان مخرج أحاديث فتح المجيد الذي تكلم في الحديث، وذكر نقولاً عن أهل العلم تتعلق ببعض الأحاديث التي لم يسلَّم للمتعقب أو للناقد للأحاديث التي وردت في (شرح فتح المجيد)، وذكر ما يدل على حسن هذا الحديث.
وقد عقد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه في (كتاب التوحيد) باباً من ضمن ستة وستين باباً أو سبعة وستين باباً -وهي أبواب كتاب التوحيد- مثل الترجمة: باب لا يسأل بوجه الله إلا الجنة، وعن جابر رضي الله عنه قال: (لا يسأل بوجه الله إلا الجنة).(203/25)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يسأل بوجه الله إلّا الجنة)
قوله: [حدثنا أبو العباس القِلوري].
أبو العباس القلوري هو أحمد، وقيل: محمد بن عمرو بن عباس العصفري، ثقة أخرج له أبو داود.
[حدثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي].
يعقوب بن إسحاق الحضرمي وهو صدوق أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة.
[عن سليمان بن معاذ التميمي].
سليمان بن معاذ هو ابن قرم وهو سيئ الحفظ أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن ابن المنكدر].
ابن المنكدر هو محمد بن المنكدر ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(203/26)
عطية من سأل بالله(203/27)
شرح حديث (من استعاذ بالله فأعيذوه ومن سأل بالله فأعطوه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب عطية من سأل بالله.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن الأعمش عن مجاهد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سأل بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه)].
أورد أبو داود باب عطية من سأل بالله، أي: فإنه يعطى ولا يرد، ولكن هذا فيما إذا كان سؤاله بالله مما يمكن إعطاؤه، فبعض الناس قد يسأل بالله شيئاً لا يصلح أن يعطاه، ولا يصلح أن يجاب إليه، وليس كل ما يكون عند الإنسان يمكن أن يبذله ويعطيه، فإذا سأل بالله شيئاً لا يصلح أن يسأل عنه لا بالله ولا بدون السؤال بالله فالإنسان في سعة منه، فإذا كان عنده سر من الأسرار وخبر من الأخبار مثلاً، وقال له رجل: أسألك بالله أن تخبرني عن كذا وكذا، أو سأله عن أمور خاصة، أو في أمور لا يصلح أن يخوض فيها، فلا يلزمه ذلك؛ لأن مثل هذا السؤال لا يصلح أن يوجه.
والحاصل أن السؤال بالله إذا كان من الممكن تحقيق عطيته فهذا هو الذي قُصد في الترجمة، وهو الذي أُورد الحديث من أجله، وأما إذا كان السؤال في أمر لا يصلح أن يجاب إليه فإنه لا يجاب، ويوضح هذا أن إبرار المقسم قد يناسب أن يبرّ، وأحياناً لا يحصل إبراره؛ وهذا كأن يحلف على شيء لا يصلح أن يحلف عليه، ويدل على ذلك قصة أبي بكر رضي الله عنه: (لما ذكر له الرسول صلى الله عليه وسلم رؤيا رآها، فطلب تعبيرها، وهي أنه رأى غلة تنضح سمناً وعسلاً، والناس يتكففون ذلك إلخ، فقال أبو بكر: ائذن لي يا رسول الله أن أعبر هذه الرؤيا، فقال: عبرها، فعبرها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً، قال: أقسمت عليك أن تخبرني بماذا أخطأت قال: لا تحلف) أي: أنه لم يرد أن يبين هذه في الرؤيا ويفسرها صلى الله عليه وسلم، مع أن أبا بكر قد حلف، فليس كل شيء يحلف عليه أو يسأل به ينفذ.
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سأل بالله فأعطوه، ومن استعاذ بالله فأعيذوه، ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه).
قوله: (ومن استعاذ بالله فأعيذوه) قيل: معناه أنه استعاذ بالله وأمكنكم إعاذته من ذلك الشيء الذي استعاذ بالله منه، فحققوا له تلك الاستعاذة.
وقيل: إنه إذا حصل الاستعاذة من الإنسان لنفسه فإما أن يكون استعاذ بالله من أمر من الأمور يمكن للإنسان أن يعيذه منه، وأن يساعده عليه، وأن يخلصه منه، أو استعاذ في أمر من الأمور فإنه يحقق له الشيء الذي يريد، وهذا كما جاء في قصة المرأة التي قالت: (أعوذ بالله منك، فقال: لقد عذت بمعاذ، الحقي بأهلك) فالمراد أنه هنا يحتمل هذا ويحتمل هذا.
قوله: (ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه) أي: ومن أحسن إليكم فقابلوا الإحسان بالإحسان: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، وقد جاء في نصوص الكتاب والسنة ما يدل على مقابلة الإحسان، بالإحسان بل ومقابلة الإساءة بالإحسان.
قوله: (فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه) ويمكن أن يكون الدعاء مع الإحسان والمكافأة، لكن الإنسان الذي لا يستطيع المكافأة فلا أقل من الدعاء، والدعاء سهل ميسور، فيدعو له ويكرر ذلك، أو يدعو بدون تكرار، وقد جاء في الحديث: (من قال لصاحبه: جزاك الله خيراً فقد أبلغ في الثناء).
قوله: (ومن دعاكم فأجيبوه) أي: دعاكم إلى طعام فأجيبوه، وهذا -كما هو معلوم- أيضاً من حق المسلم على المسلم، لكن إذا كان الإنسان عنده عذر يشغله فإنه يكون معذوراً.(203/28)
تراجم رجال إسناد حديث (من استعاذ بالله فأعيذوه ومن سأل بالله فأعطوه)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي في (عمل اليوم والليلة) وابن ماجة.
[حدثنا جرير].
جرير هو ابن عبد الحميد الضبي الكوفي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
الأعمش هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مجاهد].
مجاهد هو ابن جبر المكي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن عمر].
عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما الصحابي الجليل أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(203/29)
الأسئلة(203/30)
موقف ابن عباس من توبة القاتل عمداً
السؤال
هل صحيح أن ابن عباس رضي الله عنهما يقول: إن قاتل النفس متعمداً ليس له توبة؟
الجواب
جاء عنه ذلك، وجاء عنه الرجوع كما نقله عنه الألباني، ولا أدري الآن في أي مكان نقله عنه، وقد سبق أن مر بنا حديث يتعلق بهذا وبحثناه، وقد أحضر لنا أحد الإخوان نصوصاً تدل على رجوع ابن عباس رضي الله عنه.
ويذكر بعض الإخوان أن الشيخ الألباني ذكر ذلك في (السلسلة الصحيحة) في المجلد السادس في آخر القسم الثاني، فليراجع.(203/31)
قضاء النافلة القبلية لصلاة الظهر بعدها
السؤال
رجل صلى ركعتين قبل الظهر وأقيمت الصلاة، فهل يقضي الركعتين الباقيتين بعد الصلاة، وكذلك إذا فاتته الأربع كلها هل يصلي ستاً بعد الصلاة؟
الجواب
نعم له ذلك، لكنه يقضيها بعد الراتبة البعدية، فيأتي بالنافلة البعدية، ثم يقضي النافلة القبلية سواء كانت اثنتين أو أربعاً إذا كان ما تمكن من الأربع.(203/32)
حكم الانشغال بمسألة الحكم بغير ما أنزل الله تعالى
السؤال
إذا حكم الحاكم بغير ما أنزل الله سواء كان ذلك جحوداً أو استهانة، وسواء كان خائفاً أو لهوان في نفسه، فهل للمسلم الانشغال بهذه القضية: هل هو كافر أو غير كافر؟
الجواب
انشغال المسلم بمسائل العلم والاهتمام بها مطلوب، لكن لا يكون شغله الشاغل هذه المسألة بالذات ويترك مسائل العلم الأخرى.(203/33)
شرح سنن أبي داود [204]
للصدقة فضل عظيم وأجر كبير؛ لكن ينبغي ألا يتصدق المرء بما يحتاج إليه أو بجميع ماله ثم يعود يتكفف الناس، إلا إذا كان ممن يصبر على الفقر كحال أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ووجوه النفع للمسلمين كثيرة يستطيع بها أن ينال الثواب الجزيل.(204/1)
إخراج الرجل من ماله(204/2)
شرح حديث جابر في قصة الرجل الذي جاء بمثل البيضة من ذهب
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الرجل يخرج من ماله.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد رضي الله عنه عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما أنه قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ جاءه رجل بمثل بيضة من ذهب فقال: يا رسول الله! أصبت هذه من معدن فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن فقال مثل ذلك، فأعرض عنه، ثم أتاه من قبل ركنه الأيسر، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتاه من خلفه، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحذفه بها، فلو أصابته لأوجعته أو لعقرته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يأتي أحدكم بما يملك فيقول: هذه صدقة، ثم يقعد يستكفُّ الناس! خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى)].
قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب الرجل يخرج من ماله، أي: أنه يتصدق بما يملك ولا يبقي عنده شيئاً منه، وذكْر الرجل هنا لا مفهوم له، فإن المرأة كذلك، وإنما يأتي ذكر الرجال كثيراً؛ لأن الغالب أن الكلام والخطاب يكون معهم، وإلا فإنه لا فرق بين الرجال والنساء في الأحكام، إلا ما فرقت فيه النصوص، فعند ذلك يفرق بين الرجال والنساء في ذلك.
وهذه الترجمة من التراجم الكثيرة التي تأتي في سنن أبي داود رحمه الله وفيها التنصيص على الرجال؛ وذلك لأنهم الذين يكون معهم الخطاب غالباً، فليس له مفهوم.
وأورد أبو داود رحمه الله حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما: أن رجلا ًجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه قطعة ذهب مثل البيضة وقال: خذها يا رسول الله! فهي صدقة لا أملك غيرها فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء إلى جهة اليمين فقال له ذلك، فأعرض عنه، ثم جاء إلى جهة اليسار فأعرض عنه، ثم أخذها منه وحذفه بها ولم تصبه، قال: ولو أصابته لأوجعته أو لعقرته أي: لحصل له ضرر بها، ثم قال: يأتي أحدكم بما يملك ويقول: هذه صدقة ثم يذهب يتكفف الناس، أي: يسأل الناس ويمد لهم يده؛ لأنه ليس عنده شيء، فقد أخرج ماله وتصدق بما يملك، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى) أي: أن تكون الصدقة من مال كثير، فإذا تصدق بها صاحبها بقي عنده شيء لقوته ولنوائبه وما يحتاج إليه، وهذا بخلاف ما إذا أخرج ما عنده وليس عنده شيء يقتاته فإنه يضطر إلى أن يسأل الناس، وإلى أن يمد يده وكفه للناس؛ ليضعوا فيها شيئاً مما يحتاج إليه.
والتكفف -كما هو واضح- أنه يسأل الناس ويمد كفه، ومنه حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) أي: يمدون أكفهم للناس ويسألونهم ما يحتاجون إليه، فالإنسان يُبقي على ماله ولا يتصدق بماله كله، وإنما يتصدق بما يمكنه منه، بحيث يبقى عنده ما يقوم بمصالحه.
وهذا الحديث فيه من الناحية الإسنادية محمد بن إسحاق وهو صدوق يدلس، وقد روى هنا بالعنعنة، وقد ضعف هذا الحديث الشيخ الألباني، ولعل ذلك بسببه، والجملة الأخيرة وهي قوله: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى) ثبتت في أحاديث صحيحة سبق أن مرت، وسيأتي بعضها.
قوله: (أصبتُ هذه من معدن) أي: كأنه أخذها من مكان يستخرج منه معدن الذهب.(204/3)
تراجم رجال إسناد حديث جابر في قصة الرجل الذي جاء بمثل البيضة من ذهب
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
حماد هو ابن سلمة البصري ثقة أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن محمد بن إسحاق].
محمد بن إسحاق المدني، وهو صدوق يدلس أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عاصم بن عمر بن قتادة].
عاصم بن عمر بن قتادة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمود بن لبيد].
محمود بن لبيد رضي الله عنه وهو من صغار الصحابة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، صحابي ابن صحابي، أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(204/4)
شرح حديث التصدق بمثل البيضة من ذهب من طريق ثانية وتراجم رجالها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا ابن إدريس عن ابن إسحاق بإسناده ومعناه، زاد: (خذ عنا مالك؛ لاحاجة لنا به)].
ثم أورد الحديث من طريق أخرى، وفيه زيادة: (خذ عنا مالك لاحاجة لنا به) أي: مادام أن هذا شأنك ووضع وحالك فأنت أولى به من غيرك.
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي في (عمل اليوم والليلة) وابن ماجة.
[حدثنا ابن إدريس].
هو عبد الله بن إدريس، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن إسحاق بإسناده ومعناه].
ابن إسحاق مر ذكره.(204/5)
شرح أبي سعيد في قصة الرجل الذي تصدق عليه بثوبين
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إسحاق بن إسماعيل حدثنا سفيان عن ابن عجلان عن عياض بن عبد الله بن سعد سمع أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: (دخل رجل المسجد فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرحوا ثياباً فطرحوا، فأمر له بثوبين، ثم حث على الصدقة، فجاء فطرح أحد الثوبين، فصاح به وقال: خذ ثوبك)].
ثم أورد أبو داود حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلاً دخل المسجد وحالته رثة فحث النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة، فطرح الناس ثياباً يتصدقون بها فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم ثوبين، ثم إنه حث على الصدقة فجاء ذلك الرجل الذي أعطاه الثوبين وطرح ثوباً، فصاح به النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: (خذ ثوبك) أي: أنت بحاجة إليه وأولى به، فإنه ليس عندك إلا هذان الثوبان.
فهذا وإن كان لم يتصدق بكل ما عنده إلا أنه شبيه بمن تصدق بما عنده؛ لأنه لم يبقِ إلا ثوباً يستر به عورته.
فكأن النبي لما حث على الصدقة مرة أخرى كان ذلك في وقت آخر، وليس في نفس الوقت، والرجل قد لبس الثوبين، فلما سمع الحث على الصدقة طرح أحد الثوبين، وجاء في بعض الروايات عند بعض الأئمة أنه دخل والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب.(204/6)
تراجم رجال إسناد حديث أبي سعيد في قصة الرجل الذي تُصدّق عليه بثوبين
قوله: [حدثنا إسحاق بن إسماعيل].
إسحاق بن إسماعيل ثقة أخرج له أبو داود.
[حدثنا سفيان].
سفيان هو ابن عيينة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عجلان].
ابن عجلان هو محمد بن عجلان المدني صدوق أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عياض بن عبد الله بن سعد].
عياض بن عبد الله بن سعد ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سعيد الخدري].
أبو سعيد الخدري هو سعد بن مالك بن سنان الخدري رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(204/7)
شرح حديث (إن خير الصدقة ما ترك غنى)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن خير الصدقة ما ترك غنىٌ، أو تصدق به عن ظهر غنىٌ، وابدأ بمن تعول)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن خير الصدقة ما ترك غنى) أي: ما ترك بعد الصدقة شيئاً فيه كفاية وفيه غنى، فإذا كان كذلك فإنه يبقي له ما يقوم به حاله، وأما إذا تصدق بما عنده فإنه قد يحتاج، فيقع في نفسه شيء من الندم على فعله، فيتمنى أنه أبقى شيئاً؛ حتى لا يحتاج إلى الناس.
وقوله: (ما ترك غنى، أو تصدق به عن ظهر غنى) هذا شك من الراوي: هل قال هذا أو قال هذا، ومعناهما واحد، فما أبقى غنى، أي: بعد إخراج الصدقة، وما كان عن ظهر غنى، أي: من مال كثير تُخرج منه تلك الصدقة ولا تؤثر في المخرج منه لكثرته ولحصول الغنى به لصاحبه، وهذا ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما الجملة التي مرت في الحديث السابق بهذا المعنى وهي قوله: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى) ففيها محمد بن إسحاق وقد عنعن، إلا أن هذا الحديث الذي معنا هنا يشهد لها، فتكون ثابتة.
قوله: (وابدأ بمن تعول) أي: أن هذا الذي يبقى عند الإنسان يكون له ولمن يعوله ويكون مسئولاً عنه، ومن تجب عليه نفقته، فإنه يبدأ به ويقدمه على غيره.(204/8)
تراجم رجال إسناد حديث (إن خير الصدقة ما ترك غنى)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير].
جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
الأعمش هو: سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي صالح].
أبو صالح اسمه ذكوان، ولقبه السمان وهو مدني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة هو: عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله تعالى عنه وأرضاه.(204/9)
الرخصة في إخراج الرجل من ماله(204/10)
شرح حديث (أي الصدقة أفضل؟ فقال جهد المقل، وابدأ بمن تعول)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرخصة في ذلك.
حدثنا قتيبة بن سعيد ويزيد بن خالد بن موهب الرملي قالا: حدثنا الليث عن أبي الزبير عن يحيى بن جعدة عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (يا رسول الله! أي الصدقة أفضل؟ قال: جهد المُقِلّ، وابدأ بمن تعول)].
أورد أبو داود رحمه الله: باب الرخصة في ذلك، أي: في كون الإنسان يخرج من ماله، فالترجمة فيها إشارة إلى الترجمة السابقة وهي أن الإنسان يتصدق من ماله.
وأورد أبو داود رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الصدقة جهد المقل، وابدأ بمن تعول) وجهد المقل قدر الاستطاعة وما يمكن إخراجه فالصدقة ممن هو مقل تعتبر كثيرة بالنسبة لما يملك، وهذا بخلاف الإنسان الذي عنده المال الكثير، ويخرج من ماله شيئاً قليلاً، فإنها بالنسبة لما يبقي تكون قليلة.
قوله: (وابدأ بمن تعول) أي: أن الإنسان يبدأ بمن يعوله بالبر والإحسان؛ لأنه أولى بالمعروف والإحسان إليه.(204/11)
تراجم رجال إسناد حديث (أي الصدقة أفضل؟ قال جهد المقل، وابدأ بمن تعول)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ويزيد بن خالد بن موهب الرملي].
يزيد بن خالد بن موهب الرملي ثقة أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا الليث].
الليث بن سعد المصري ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الزبير].
أبو الزبير هو: محمد بن مسلم بن تدرس المكي صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن جعدة] ثقة، أخرج له أبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة.(204/12)
شرح حديث تنافس عمر مع أبي بكر في الصدقة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح وعثمان بن أبي شيبة، وهذا حديثه، قالا: حدثنا الفضل بن دكين حدثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً أن نتصدق، فوافق ذلك مالاً عندي، فقلت اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما أبقيت لأهلك؟ قلت: مثله، قال: وأتى أبو بكر رضي الله عنه بكل ما عنده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسابقك إلى شيء أبداً).
أورد أبو داود حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم حث على الصدقة، وكان في ذلك الوقت عنده مال، ففرح بذلك؛ لأن هذا الدعاء إلى الصدقة جاء في وقت مناسب وهو أنَّ عنده مالاً يتصدق به، وهذا يدلنا على فرح الصحابة رضي الله عنهم عندما يأتي الحث من الرسول صلى الله عليه وسلم على الصدقة وعند الواحد منهم مال؛ حتى يتمكن من تحقيق هذا المطلب، وتحقيق هذه الرغبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عمر رضي الله عنه يعرف أن أبا بكر رضي الله عنه سباق إلى الخير، وأنه لا ينافس في سبقه إلى الخير رضي الله عنه وأرضاه قوله: (فقلت: أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً) هذا يعني أنه كان يعترف بأن أبا بكر كان يسبقه، فلما جاءت هذه الدعوة للصدقة مع وجود مال عنده أراد أن ينافس أبا بكر في هذه المرة، فقال: أسبقه إن سبقته يوماً، يعني: إن سبقته يوماً فهو هذا اليوم، لأنه جاء في وقت عندي فيه مال، فأخرج نصف ماله.
فقوله: (إن سبقته يوماً)، أي: فهو هذا اليوم، فتكون (إن) شرطية، وقيل: إنها نافية، أي: ما سبقته يوماً، فأنا أريد في هذه المرة أن أسبقه، فلم يسبق لي أن سبقته في يوم من الأيام و (إن) كما هو واضح تكون نافية، وقد قال شيخنا الشيخ: محمد الأمين الشنقيطي رحمة الله عليه في تفسير قول الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81] إن الأصح والأولى فيها أن تكون نافية، ومعنى ذلك: ما كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين.
وفيها قول آخر: أنها شرطية، وأن هذا شيء لا يكون، وإنما يفترض فرضاً، فهو لا يكون له ولد، فأنا أول العابدين لله سبحانه وتعالى، لكن كونها نافية هو الأولى كما قال شيخنا الشيخ: الأمين الشنقيطي رحمة الله عليه، وعلى هذا فالجملة هنا وهي قول عمر رضي الله عنه: إن سبقته يوماً، أي: ما سبقته يوماً من الأيام، بل هو دائماً يسبقني، رضي الله تعالى عنهما.
(فلما جاء عمر رضي الله عنه بما جاء به قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا أبقيت لنفسك ولأهلك؟ قال: أبقيت مثله) يعني: النصف، لأن هذا نصف ماله، (وبقي مثله)، أي: النصف الباقي، (وجاء أبو بكر رضي الله عنه بما جاء به، وقال: له ماذا أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله) يعني: أنه ما أبقى لهم شيئاً من المال، أي: أنه خرج من ماله، وهي محل الشاهد من الترجمة: (الرخصة في ذلك) أي في الخروج من المال، وهذا يناسب ويصلح لمن يكون عنده قوة توكل وقوة يقين، ولا يحصل منه تأثر لما يخرج منه، ولا يندم على ذلك، فمن كان كذلك كـ أبي بكر رضي الله عنه رخص له في ذلك، وأما من كان عنده ضعف في اليقين والتوكل، وأنه إذا أخرج ماله كله فإنه يندم، أو يكون في نفسه شيء من تصرفه ذلك، فإنه لا يخرج ماله كله، بل يبقي ما يحتاج إليه هو ومن يعوله.
قوله: (قلت: لا أسابقك إلى شيء أبداً) أي: أني في هذه المرة قصدت مسابقتك، واجتهدت في ذلك، وأردت أن أسبقك، فجئت أنت بما عندك من غير أن يكون لك علم بما في نفسي، ولا بما عندي، فسبقتني، فكما أنك سبقتني فيما مضى، وسبقتني في هذه الحالة التي تهيأتُ لها، وفي هذه الفرصة التي تجهزتُ لها وقصدتها، إذاً فلا أسابقك أبداً.
وهذا فيه المنافسة في الخير، والاعتراف لأهل الفضل بالفضل، فقد أراد أولاً أن ينافسه، وفي الآخر قال: لا أنافسك بعدها أبداً، وهذا اعتراف لصاحب الفضل بفضله.(204/13)
تراجم رجال إسناد حديث تنافس عمر مع أبي بكر في الصدقة
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
أحمد بن صالح المصري ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في (الشمائل).
[وعثمان بن أبي شيبة، وهذا حديثه].
عثمان بن أبي شيبة مر ذكره.
[قالا: حدثنا الفضل بن دكين].
الفضل بن دكين هو أبو نعيم الكوفي، يذكر أحياناً بكنيته وأحياناً باسمه، مر له حديث قريباً قال أبو داود في أثنائه: أخبرنا أبو نعيم، وهنا قال: أخبرنا الفضل بن دكين، وهو هو، فمعرفة كنى المحدثين من الأمور المهمة، وهي من أنواع علوم الحديث، وفائدتها: ألا يظن الشخص الواحد شخصين، فإذا جاء أبو نعيم على حدة، وجاء الفضل بن دكين على حدة فإن الذي لا يعرف أن الفضل بن دكين كنيته أبو نعيم يظن أبا نعيم شخصاً آخر غير الفضل بن دكين.
[حدثنا هشام بن سعد].
هشام بن سعد صدوق له أوهام أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن زيد بن أسلم].
زيد بن أسلم المدني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمر بن الخطاب].
عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أمير المؤمنين، وثاني الخلفاء الراشدين المهديين، صاحب المناقب الجمة، والفضائل الكثيرة، رضي الله عنه وأرضاه.(204/14)
فضل سقي الماء(204/15)
شرح حديث (أي الصدقة أفضل؟ قال الماء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في فضل سقي الماء.
حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا همام عن قتادة عن سعيد أن سعداً رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (أي الصدقة أعجب إليك؟ قال: الماء)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: باب فضل سقي الماء، يعني: أن سقيه من خير أنواع الإحسان؛ وذلك لشدة حاجة الناس إلى الماء، وعدم استغنائهم عنه، فالإحسان في بذل الماء لمن يحتاج إلى شربه، وتمكينه منه فعل عظيم، وله ثواب جزيل، وهذا الحديث يدل على عظم شأن إنفاق الماء لمن يحتاجه، وبذله في سبيل الله، وتسبيله للناس حتى يستفيدوا منه، فهو مادة الحياة، وبه حياة المخلوقات، وقد جعل الله تعالى من الماء كل شيء حي، والمراد بذلك من لا يعيش إلا بالماء، وكان الماء من ضرورياته، فلا تحصل حياته إلا به.
وأورد أبو داود حديث سعد بن عبادة رضي الله عنه، أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أي الصدقة أعجب إليك يا رسول الله؟! قال: الماء.
أي: تصدقوا بالماء؛ لأن به حياة الناس، والناس مضطرون إليه، ولا يستغني عنه أحد، فكون الإنسان يبذل الماء، ويمكن الناس من الاستفادة منه هذا من أفضل الأعمال، ومن أفضل الصدقات.(204/16)
تراجم رجال إسناد حديث (أي الصدقة أفضل؟ قال الماء)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
محمد بن كثير العبدي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا همام].
همام بن يحيى وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
قتادة بن دعامة السدوسي البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد].
سعيد هو ابن المسيب وهو ثقة فقيه أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أنَّ سعداً].
سعد بن عبادة رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو سيد الخزرج، فالأنصار هم الأوس والخزرج، فـ سعد بن معاذ هو سيد الأوس، وهو الذي استشهد في الخندق، وسعد بن عبادة هو سيد الخزرج، وقد عاش بعد الرسول صلى الله عليه وسلم قليلاً، حيث توفي بعد النبي صلى الله عليه وسلم بخمس سنوات.
والحديث فيه رواية سعيد بن المسيب عن سعد بن عبادة وهو لم يدركه، ففيه انقطاع، ويقولون: إن أصح المراسيل هي مراسيل سعيد بن المسيب.
وهذا الحديث حسنه الألباني، فلا أدري وجه هذا التحسين مع هذا الانقطاع، فهل له شواهد, أو لكونه من مراسيل سعيد ومراسيله أصح المراسيل عند المحدثين؟ ولكن المشهور والمعروف أن المرسل منقطع، وأنه ليس بحجة؛ لاحتمال أن يكون سقط تابعي مع الصحابي، ومع احتمال كونه تابعياً يحتمل أن يكون ثقة، ومحتمل أن يكون ضعيفاً، والإشكال يأتي من احتمال كونه تابعياً ضعيفاً.
وقد ذكر بعض الطلبة أنه جاء في (السلسلة الصحيحة) حديث برقم (2615) من طريق أنس عن سعد بن معاذ عن سعد بن عبادة، أنه حفر بئراً وتصدق بها عن أمه كما في الحديث الذي جاء من طريق الحسن وسعيد بن المسيب عن سعد بن عبادة، وهما لم يدركاه، فهذا جاء من طريق أخرى من رواية سعد بن معاذ وسعد بن عبادة.
وذكره الشيخ الألباني في (صحيح سنن النسائي) برقم (2367، 2368).
لكن كلا الإسنادين يرجعان إلى ابن عجلان؛ لكن الأول ابن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد والقعقاع عن أبي هريرة.
الثاني: ابن عجلان عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة.
ذكر يعني طريقين: طريقة فيها ابن خالد وطريقة أنها أخرى فيها محمد بن عمرو بن وقاص الليثي.(204/17)
شرح حديث (أي الصدقة أفضل) من طريق ثانية وتراجم رجالها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عبد الرحيم، حدثنا محمد بن عرعرة عن شعبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب والحسن عن سعد بن عبادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحوه].
أورد حديث سعد بن عبادة رضي الله عنه، وقال: (نحوه)، يعني: نحو الطريق المتقدمة، وهو هنا مرسل أيضاً من مراسيل سعيد بن المسيب والحسن البصري.
قوله: [حدثنا محمد بن عبد الرحيم].
محمد بن عبد الرحيم هو الملقب بـ صاعقة، وهو ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا محمد بن عرعرة].
محمد بن عرعرة ثقة أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود.
[عن شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة وسعيد والحسن].
قتادة عن سعيد مر ذكرهما، والحسن هو ابن أبي الحسن البصري ثقة يرسل ويدلس، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن سعد].
سعد بن عبادة وقد مر ذكره.
والأصل أن المرسل يتقوى بالمرسل مثله، إلا أن مراسيل الحسن البصري من أضعف المراسيل.(204/18)
شرح حديث (أي الصدقة أفضل) من طريق ثالثة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن رجل عن سعد بن عبادة رضي الله عنه، أنه قال: (يا رسول الله! إن أم سعد ماتت فأي الصدقة أفضل؟ قال: الماء، قال: فحفر بئراً، وقال: هذه لأم سعد).
] أورد أبو داود حديث سعد بن عبادة رضي الله عنه، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أم سعد ماتت فأي الصدقة أفضل؟ فقال: الماء، فحفر بئراً وقال: هذه لأم سعد، يعني: سبّلها وجعلها لأم سعد، وحفر الآبار للسقي سواء لسقيا الناس أو لسقيا الدواب من الصدقات الجارية التي يكون الثواب عليها مستمراً بهذه الصدقة، لأن أجر الصدقات منه ما هو منته بانتهاء بقائها لمن يستحقها، ومنه ما هو مستمر لاستمرار الصدقة، كبناء المساجد، فالناس يستفيدون من المسجد باستمرار، ومثل حفر الآبار ومد الماء منها إلى الناس كي يشربوا منه، فمادام النفع حاصلاً فإن الأجر مستمر ودائم، وهذا الذي هنا من الصدقة الجارية التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له).(204/19)
تراجم رجال إسناد حديث (أي الصدقة أفضل) من طريق ثالثة
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
محمد بن كثير العبدي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا إسرائيل].
إسرائيل هو ابن يونس بن أبي إسحاق ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي إسحاق].
أبو إسحاق هو عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن رجل عن سعد بن عبادة].
رجل هنا مبهم، يقول الحافظ: لعله سعيد بن المسيب الذي في الإسناد السابق، وعلى كل فهو مبهم، وإن كان سعيد بن المسيب فهو منقطع كالذي قبله.
ومن التصدق بالماء وجود برادة الماء، فكون الناس يأتون ويشربون ماءً بارداً فهذه صدقة جارية، ونفعها مستمر.(204/20)
شرح حديث (أيما مسلم كسا مسلماً ثوباً على عري)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا علي بن الحسين بن إبراهيم بن إشكاب، حدثنا أبو بدر، حدثنا أبو خالد الذي كان ينزل في بني دالان عن نبيح، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (أيما مسلم كسا مسلماً ثوباً على عري كساه الله من خضر الجنة، وأيما مسلم أطعم مسلماً على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، وأيما مسلم سقى مسلماً على ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم).
].
أورد أبو داود حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما مسلم كسا مسلماً ثوباً على عري كساه الله من خضر الجنة) أي: أن الجزاء من جنس العمل، فكسوة بكسوة، أي: كسوة في الدنيا بكسوة في الآخرة.
قوله: (وأيما مسلم أطعم مسلماً على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة) أي: أنه إطعام بإطعام، والجزاء من جنس العمل.
وقوله: (وأيما رجل سقى مسلماً على ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم) يعني: في الجنة، والرحيق: هو الشراب الطيب، والمختوم: هو الذي ختم وأغلق فلا يصل إليه أحد إلا صاحبه، أو أنه خُتم بمسك، أي: يكون آخره وختامه مسكاً.
وهذا الحديث فيه فضل هذه الأمور الثلاثة، وأن الجزاء من جنس العمل، وهناك أحاديث كثيرة فيها بيان أن الجزاء من جنس العمل، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (من نفّس عن مسلم كربة نفّس الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً، سهل الله له به طريقاً إلى الجنة).
وحديث الباب في إسناده أبو خالد نزيل بني دالان وهو صدوق يخطئ كثيراً، فالحديث غير ثابت، وأما معناه فثابت، ولا شك أن من أحسن فإن الله يحسن إليه، وأن الجزاء من جنس العمل، وقد جاء ذلك في أحاديث كثيرة.(204/21)
تراجم رجال إسناد حديث (أيما مسلم كسا مسلماً ثوباً على عري)
[حدثنا علي بن الحسين بن إبراهيم بن إشكاب].
علي بن الحسين بن إبراهيم بن إشكاب صدوق أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[حدثنا أبو بدر].
أبو بدر هو شجاع بن الوليد، صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو خالد].
أبو خالد الدالاني كان ينزل في بني دالان، وهذا يفيد أنه ليس منهم، وأنه إنما كان ينسب إليهم لنزوله فيهم؛ ولهذا يقال له: أبو خالد الدالاني الذي كان ينزل في بني دالان، مثل ذلك: سليمان بن طرخان التيمي، فإنه ينسب إلى التيميين لنزوله فيهم، وليس لكونه منهم، فالنسبة تكون لعدة أسباب: إما أن ينزل الإنسان في قوم فينسب إليهم، وإما لكونه مولى لهم فينسب إليهم، وقد يكون من أنفسهم فينسب إليهم نسبة أصل ونَسَب.
وأبو خالد هذا صدوق يخطئ كثيراً أخرج له أصحاب السنن.
وكذلك أبو مسعود البدري، فالمتبادر إلى الذهن من كونه بدرياً أنه ممن شهد بدراً، لكن قيل: إنه إنما نسب إلى بدر لأنه سكنها، فتكون نسبة مسكن، وليست نسبة شهود.
[عن نبيح].
هو نبيح العنزي، وهو مقبول أخرج له أصحاب السنن.
[عن أبي سعيد الخدري].
أبو سعيد الخدري مر ذكره.(204/22)
المنيحة(204/23)
شرح حديث (أربعون خصلة أعلاهن منيحة العنز)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في المنيحة.
حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا إسرائيل، ح وحدثنا مسدد، حدثنا عيسى، وهذا حديث مسدد وهو أتم، عن الأوزاعي عن حسان بن عطية عن أبي كبشة السلولي أنه قال: سمعت عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يقول: قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أربعون خصلة أعلاهن منيحة العنز، ما يعمل رجل بخصلة منها رجاء ثوابها وتصديق موعودها إلا أدخله الله بها الجنة).
قال أبو داود: في حديث مسدد: قال حسان: فعددنا ما دون منيحة العنز من رد السلام، وتشميت العاطس، وإماطة الأذى عن الطريق ونحوه، فما استطعنا أن نبلغ خمس عشرة خصلة.
ثم أورد أبو داود باب المنيحة، والمنيحة: هي أن الإنسان يكون عنده غنم وفيها حليب، فيمنحها لفقير يحلبها ويستفيد منها، فإذا انتهى الحليب منها أرجعها إلى صاحبها، فهذا تصدُّق بالمنفعة، وليست تصدقاً بالعين، فالعين باقية على ملك صاحبها، ولكن الذي بذله صاحبها هو منفعتها، وهو الحليب الذي فيها؛ ليسد حاجة الفقير.
وأورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أربعون خصلة أعلاها منيحة العنز، وما يعمل أحد بخصلة منها).
يعني: هذه الخصال التي أعلاها منيحة العنز.
قوله: (رجاء ثوابها، وتصديق موعودها) يعني: ما وعد به على فعلها.
قوله: (إلا أدخله الله تعالى بها الجنة)، فالرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أربعين خصلة، وذكر أن أعلاها منيحة العنز، وأن ما دونها من الخصال هي أقل منها، وأي واحدة منها يعمل الإنسان بها رجاء ثوابها، وتحصيل موعودها إلا أدخله الله تعالى بها الجنة، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأربعين وإنما أبهمها وبين أعلاها، مع أن ما دونها أخف وأسهل منها، ولعل ذلك للمصلحة، أي: حتى يحرص الإنسان على فعل كل خصلة من خصال الخير رجاء أن تكون من تلك الأربعين، ويكون إخفاؤها مثل إخفاء ليلة القدر وإبهامها في العشر، وكذلك إخفاء ساعة الإجابة يوم الجمعة؛ ليكون الإنسان في الوقت كله متحرياً ومتعرضاً لمصادفتها وموافقتها، فلعل هذه هي المصلحة في إخفائها.
وأما كونهم عدّوها فما بلغوا خمس عشرة خصلة لا يدل ذلك على عدم وجودها، فإنها موجودة، وأنا لا أعرف عدها، ولا أعرف من عدها.(204/24)
تراجم رجال إسناد حديث (أربعون خصلة أعلاهن منيحة العنز)
قوله: [حدثنا إبراهيم بن موسى].
إبراهيم بن موسى ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا إسرائيل].
إسرائيل مر ذكره.
وقد ذكر بعض المحققين أن ذكر إسرائيل هنا لا يوجد في أكثر النسخ، وأنه زيادة لا توجد حتى في تحفة الأشراف، وأن بعض المحققين لـ أبي داود زادها تبعاً لهذه النسخة، وكذلك أيضاً إبراهيم ليست له رواية عن إسرائيل، وإسرائيل ليست له رواية عن الأوزاعي.
وأن أكثر النسخ الموجودة فيها الإسناد هكذا: حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا ح وحدثنا مسدد، حدثنا عيسى.
أقول: وهذا أمر محتمل، إذا كان هذا ليس له رواية، ويكون التحويل للفرق بين الصيغتين، فأحدهما قال: أخبرنا، والثاني قال: حدثنا، فهذا هو المقصود من التحويل، وهذا إذا كان إسرائيل ليس من شيوخ إبراهيم بن موسى، وليس تلميذاً للأوزاعي.
وأيضاً ذكر هذا المحقق الذي نبه على هذا الأمر [أنه يوجد على نسخة في حاشية (ب): حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا إسرائيل، وهذا يلزم منه إثبات الرواية بين إبراهيم وإسرائيل، وبين إسرائيل والأوزاعي، وهذا مع مخالفته للأصول الأخرى الأكثر والأقوى لا شيء يؤيده في كتب الرجال، ولا في تحفة الأشراف، وتصرف محققه على إتقانه فأضاف إليه بين هلالين إسرائيل اعتماداً على المطبوع من المتن والشرح، وكان عليه أن يلتزم الأصول القوية التي بين يديه، وصنيع أبي داود هنا في سياقة السند له نظائر سابقة ولاحقة، وفيه تمام الدقة، إذ يريد أن يقول: إن إبراهيم يروي هذا الحديث عن عيسى قراءة عليه، أما مسدد فيرويه عنه سماعاً منه].
أقول: هذا الكلام صحيح، فقد كانوا يراعون التعبير بأخبرنا وحدثنا، فأخبرنا غالباً يراد بها القراءة على الشيخ، وحدثنا يراد بها السماع من الشيخ، لكن بعض العلماء يسوي بينهما.
قال الحافظ: إن بعضهم تطلبها فوجدها تزيد على الأربعين، فمما زاده: إعانة الصانع، والصنعة للأخرق، وإعطاء شسع النعل، والستر على المسلم، والذب عن عرضه، وإدخال السرور عليه، والتفسح له في المجلس، والدلالة على الخير، والكلام الطيب، والغرس والزرع، والشفاعة، وعيادة المريض، والمصافحة، والمحبة في الله، والبغض لأجله، والمجالسة لله، والتزاور، والنصح، والرحمة، وكلها في الأحاديث الصحيحة، وفيها ما قد ينازع في كونه دون منيحة العنز.
قوله: [حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا إسرائيل ح وحدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري ثقة أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا عيسى].
عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وهذا حديث مسدد وهو أتم، عن الأوزاعي].
الأوزاعي هو: عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حسان بن عطية].
حسان بن عطية ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي كبشة السلولي].
أبو كبشة السلولي ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[سمعت عبد الله بن عمرو].
عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(204/25)
شرح سنن أبي داود [205]
إن الله لا يضيع عمل عامل، فيثيب المنفق ماله المتصدق به على المساكين، ويكتب مثل ثوابه لمن أوصل تلك الصدقة من خازن أو زوج أو غيرهما.
ومن أعظم البر صلة الرحم والإحسان إليها، كما أن من أعظم العقوق قطعها واتباع النفس في شحها.(205/1)
أجر الخازن(205/2)
شرح حديث (إن الخازن الأمين الذي يعطي ما أُمر به كاملاً موفراً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب أجر الخازن: حدثنا عثمان بن أبي شيبة ومحمد بن العلاء والمعنى واحد، قالا: حدثنا أبو أسامة عن بريد بن عبد الله بن أبي بردة عن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به كاملاً موفراً، طيبة به نفسه، حتى يدفعه إلى الذي أمر له به؛ أحد المتصدقين)] أورد أبو داود رحمه الله باب أجر الخازن، والخازن: هو الذي يكون قيماً على الشيء، ويكون مؤتمناً على حفظه، سواء كان الخازن مملوكاً، أو كان مستأجراً لحفظ أي شيء، والقيام عليه، والإدخال فيه، والإخراج منه، فيكون مسئولاً عن المال الذي يخزن.
وقوله: (إن الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به كاملاً موفراً، طيبة به نفسه)، الخازن الأمين هو ضد الخائن، وهو الذي يكون عنده أمانة ومحافظة على ما اؤتمن عليه، ولا يخرج من ذلك شيئاً إلا بإذن صاحبه، ويسعى في حفظ الأمانة، وعدم تعرضها للفناء والتلف، فإذا أمر بإعطاء شيء لغيره فإنه يعطيه إياه كاملاً موفراً، وبنفس المقدار الذي قيل له أن يعطيه إياه ثم يضاف إلى ذلك أن تكون نفسه طيبة، فإذا كان كذلك فإنه يكون أحد المتصدقين؛ لأن صاحب المال هو المتصدق الأول ويكون الخازن هو الثاني؛ لكونه شاركه في الإعطاء والمناولة لمن أُمر بإعطائه وفضل الله واسع، فيعطي هذا على كسبه وتحصيله، ويعطي هذا على مناولته وإعطائه ومباشرته لذلك.(205/3)
تراجم رجال إسناد حديث (إن الخازن الأمين الذي يعطي ما أُمر به كاملاً موفراً)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة ومحمد بن العلاء].
محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو أسامة].
أبو أسامة حماد بن أسامة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بريد بن عبد الله بن أبي بردة].
بريد بن عبد الله بن أبي بردة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي بردة].
أبو بردة بن أبي موسى الأشعري وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي موسى].
هو: أبي موسى عبدالله بن قيس الأشعري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(205/4)
المرأة تتصدق من بيت زوجها(205/5)
شرح حديث (إذا أنفقت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب المرأة تتصدق من بيت زوجها.
حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن منصور عن شقيق عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أنفقت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة كان لها أجر ما أنفقت، ولزوجها أجر ما اكتسب، ولخازنه مثل ذلك، لا ينقص بعضهم أجر بعض)].
أورد أبو داود رحمه الله: باب المرأة تتصدق من بيت زوجها، أي ما حكم ذلك؟ فهل لها أن تتصدق أو ليس لها ذلك؟
و
الجواب
أنه إذا كان هناك إذن من الزوج، أو شيء يدل عليه، أو عرفت أنه راض بذلك، فإن لها أن تتصدق في حدود ما ليس فيه إضرار على زوجها، ومن الضرر أن تكثر الإنفاق من ماله، أو أن تخرج الشيء الكثير الذي يؤثر عليه، وإنما يكون الإنفاق بالشيء الذي يُحتاج إليه، وفيما يعلم منه أنه يرضى به، ورضاه إما أن يكون نصاً أو يكون معروفاً من عادته، فإذا كان المنفَق شيئاً كثيراً ولم يأذن به الزوج، أو يلحقه به ضرر فإن ذلك لا يجوز.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أنفقت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة كان لها أجر ما أنفقت، ولزوجها أجر ما اكتسب، وللخازن مثل ذلك، لا ينقص بعضهم أجر بعض)، أي: أن كل واحد منهم له أجره من غير أن ينقص بعضهم من أجر بعض.
وقوله: (غير مفسدة) يعني: من غير إسراف، ومن غير ضرر يلحق بالزوج في إنفاقها، وذلك بأن يكون قد أذن لها في ذلك إما نصاً وإما دلالة، فإذا كان في إنفاقها إفساد، أو فيه شيء غير مأذون به، أو فيه إضرار بالزوج لكثرة ما تنفق، فإنها لا تكون مأجورة، بل تكون آثمة.
والزوج الذي اكتسب ذلك يكون له أجر، وهي لها أجر لمباشرتها الإنفاق، والخازن الذي كان يحفظ المال ويرعاه حتى يخرج في طريقه المأذون فيه له أجر على ذلك، وفضل الله واسع، ولا ينقص بعضهم من أجر بعض شيئاً.(205/6)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا أنفقت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري ثقة أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا أبو عوانة].
أبو عوانة هو الوضاح بن عبد الله اليشكري، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن منصور].
منصور بن المعتمر وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شقيق].
شقيق هو ابن سلمة، كنيته أبو وائل وهو ثقة مخضرم أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن مسروق].
مسروق بن الأجدع وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق، وهي واحد من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(205/7)
شرح حديث (إنّا كَلٌّ على آبائنا وأبنائنا وأزواجنا، فما يحل لنا من أموالهم؟)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن سوار المصري حدثنا عبد السلام بن حرب عن يونس بن عبيد عن زياد بن جبير بن حية عن سعد رضي الله عنه أنه قال: (لما بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء قامت امرأة جليلة كأنها من نساء مضر، فقالت: يا نبي الله! إنا كَلّ على آبائنا وأبنائنا -قال أبو داود: وأرى فيه: وأزواجنا-، فما يحل لنا من أموالهم؟ فقال: الرطب تأكلنه وتهدينه)، قال: أبو داود الرطب: الخبز والبقل والرطب].
أورد أبو داود حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
قوله: (قامت امرأةً جليلة) أي إما جلالة القدر والمنزلة، وإما أنها كبيرة السن.
قوله: (فقالت: يا رسول الله! إنا كَلٌّ) أي: إننا عيال على ما يكون عند آبائنا وأزواجنا.
قولها: (فما يحل لنا من أموالهم) أي: أن نتصرف فيه، وأن نأخذه، أو أن نعطيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الرطب تأكلنه وتهدينه) الرطب هو الشيء الطري الذي يسرع إليه الفساد، ولذلك لا يدخر، وإذا ادخر فإنه يعفن ويتلف، فيرمى به ولا يستفاد منه، فمثل ذلك يحل للمرأة أن تأكل منه، وأن تهدي، فوقته محدود لا يتجاوزه إلى غيره، فلهن الاستفادة والإفادة، وأما الشيء الذي يدخر، والشيء الذي يحتاج إليه ولا يسرع إليه الفساد فإنه يبقى، ولا يتصرف فيه، فإذا كان هناك إذن من الأزواج أو الآباء في أن يخرج من ذلك فإنه يتبع الإذن الذي وجد، وأما مثل هذه الأشياء التي يسرع إليها الفساد، والتي يتهاداها الناس ويتعاطونها فيما بينهم؛ لعدم بقائها، ولو بقيت فإنها تنتن وتعفن، فهذا هو الذي يبذل ويهدى.(205/8)
تراجم رجال إسناد حديث (إنا كَلٌّ على آبائنا وأولادنا وأزواجنا، فما يحل لنا من أموالهم؟)
قوله: [حدثنا محمد بن سوار المصري].
محمد بن سوار المصري صدوق يغرب أخرج له أبو داود.
[حدثنا عبد السلام بن حرب].
عبد السلام بن حرب ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يونس بن عبيد].
يونس بن عبيد ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زياد بن جبير بن حية].
زياد بن جبير بن زياد بن حية وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعد].
سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وهذا الحديث ضعفه الألباني ولعله للإرسال، فقد نصَّ أبو زرعة وأبو حاتم على رواية زياد بن جبير بن حية عن سعد بن أبي وقاص مرسلة.
[قال أبو داود: وكذا رواه الثوري عن يونس].
الثوري هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة، والمراد أنه رواه كما رواه عبد السلام.(205/9)
شرح حديث (إذا أنفقت المرأة من كسب زوجها من غير أمره فلها نصف أجره)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن همام بن منبه، أنه قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا أنفقت المرأة من كسب زوجها من غير أمره فلها نصف أجره)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي هريرة: (إذا أنفقت المرأة من كسب زوجها بغير أمره، فلها نصف أجره).
ويحمل هذا على ما إذا كانت هناك موافقة صريحة منه، أو علمت منه أنه لا يمانع من ذلك، أو كان ذلك من الأمور السهلة التي يتهاداها الناس فيما بينهم كالرطب الذي يسرع إليه الفساد، فيكون لها مثل نصف أجره، وأما إذا كان لا يوافق، وأقدمت على الإعطاء، فليس لها أجر، بل تكون آثمة، لكن إذا كان عندها معرفة بموافقته، وإن لم يصرِّح بذلك، كأن تعلم من عادته وخلقه وسماحته وإنفاقه أنها إذا أعطت الشيء اليسير الذي لا يؤثر فإنه لا يمانع منه، فإنها تحصل نفس الأجر، وأما إذا كانت تنفق وتسرف، أو كانت تكثر من الإنفاق من غير إذن، أو أنه كان يمنعها من الإنفاق فإنها ليس لها أن تنفق، ويحمل هذا الحديث على الشيء اليسير الذي لا يمنع مثله، أو الشيء الذي يسرع إليه الفساد، أو الذي يتعاطاه الناس عادة.(205/10)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا أنفقت المرأة من كسب زوجها من غير أمره فلها نصف أجره)
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
الحسن بن علي الحلواني ثقة أخرج له أصحاب الكتب إلا النسائي.
[حدثنا عبد الرزاق].
عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا معمر].
معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن همام بن منبه].
همام بن منبه هو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت أبا هريرة].
أبو هريرة رضي الله عنه هو: عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله تعالى عنه وأرضاه، والحديث هذا من صحيفة همام، وقد أخرج البخاري ومسلم أحاديث كثيرة من صحيفة همام، وهي أحاديث إسنادها واحد، وتبلغ مائة وخمسين حديثاً تقريباً، وقد أوردها كلها الإمام أحمد في مسنده متصلة، وبين كل حديث وحديث (وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا) والإسناد واحد، وهو إسناد صحيح، وقد اتفق البخاري ومسلم على بعضها، وهذا مما اتفقا عليه، وانفرد البخاري بأحاديث منها، وانفرد مسلم بأحاديث أخرى منها، وتركا بعضها فلم يخرجاه، وهذا من أوضح الأدلة التي يستدل بها على أن البخاري ومسلماً لم يستوعبا كل الأحاديث الصحيحة، ولم يلتزما ذلك، لأنهما لو التزما ذلك لأخرجا كل هذه الصحيفة، ولما تركا منها شيئاً، لذلك فقد أخطأ من استدرك عليهما إخراج بعض الأحاديث الصحيحة التي لم يخرجاها، وكذلك أخطأ من ألزمهما إخراج بعض الأحاديث الصحيحة، فإنهما لم يلتزما إخراج كل الأحاديث الصحيحة.
وما أخرجه الإمام مسلم رحمة الله عليه من أحاديث هذه الصحيفة فإنه يكون بهذا الإسناد: محمد بن رافع عن عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة، وكان من طريقته وحسن سياقه أنه عندما ينتهي الإسناد يقول: فذكر أحاديث منها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذا وكذا.
وأما البخاري فإنه لا يذكر هذا الشيء، وإنما يأتي بالقطعة التي يريد بإسنادها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما مسلم فإنه عندما ينتهي الإسناد إلى أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يقول: فذكر أحاديث منها، حتى يفيد أن هناك شيئاً قبل هذا، فيشير إلى أن هناك أحاديث أخرى وذلك بقوله: فذكر أحاديث منها.
وهذا الحديث من جملة الصحيفة، وقد مشى أبو داود على طريقة البخاري، أي: أنه يأخذ القطعة من الحديث، ويذكرها بإسنادها إلى آخره، ولا يحصل منه مثل ما كان يحصل للإمام مسلم من التنبيه على ذلك.(205/11)
شرح أثر (لا يحل لها أن تتصدق من مال زوجها إلا بإذنه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن سوار المصري حدثنا عبدة عن عبد الملك عن عطاء عن أبي هريرة رضي الله عنه في المرأة تتصدق من بيت زوجها، قال: لا، إلا من قوتها، والأجر بينهما، ولا يحل لها أن تتصدق من مال زوجها إلا بإذنه، قال أبو داود: هذا يضعف حديث همام].
كما أورد أبو داود حديث أبي هريرة، وهو موقوف عليه، وذلك (في المرأة تنفق من مال زوجها، قال: لا، إلا من قوتها)، يعني: من الشيء الذي يخصص لها، والشيء الذي أعطيت إياه وصار ملكاً لها، فإنها تنفق منه.
قوله: (ولا يحل لها أن تتصدق من مال زوجها إلا بإذنه)، قد يكون ذلك الإذن صريحاً، وقد يعرف من عادته أنه يوافق على الصدقة في حدود معينة، وهذا لا يخالف ما جاء في حديث أبي هريرة المتقدم، فهنا: لا يحل لها إلا بإذنه، وذاك: من غير إذنه، وهذا يكون في أمور عرف التسامح فيها، أو في أشياء يسرع إليها الفساد، أما أن تبالغ في ذلك وتسرف فهذا هو الذي يحمل عليه ما جاء في أثر أبي هريرة هذا.
أما قول أبو داود بعد ذلك: وهذا يضعف حديث أبي هريرة، فهذا مما لا وجه له؛ لأن حديث أبي هريرة متفق عليه، وهذه الجملة جاءت في بعض النسخ، ثم أيضاً هذا الحديث موقوف على أبي هريرة، وليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو من كلام أبي هريرة، وذاك متفق عليه مرفوع إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولا تنافي بينهما، فما جاء في أثر أبي هريرة يحمل على شيء، وما جاء في حديث أبي هريرة المرفوع يحمل على شيء آخر.(205/12)
تراجم رجال إسناد أثر (لا يحل لها أن تتصدق من مال زوجها إلا بإذنه)
قوله: [حدثنا محمد بن سوار المصري حدثنا عبدة].
عبدة بن سليمان ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الملك].
عبد الملك بن أبي سليمان، وهو صدوق له أوهام أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عطاء].
عطاء بن أبي رباح ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة مر ذكره.(205/13)
صلة الرحم(205/14)
شرح حديث تصدق أبي طلحة بأريحاء
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في صلة الرحم.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد -هو ابن سلمة -عن ثابت عن أنس رضي الله عنه أنه قال لما نزلت: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92]، قال أبو طلحة رضي الله عنه: يا رسول الله! أرى ربنا يسألنا من أموالنا، فإني أشهدك أني قد جعلت أرضي بأريحاء له، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اجعلها في قرابتك، فقسمها بين حسان بن ثابت وأبي بن كعب رضي الله عنهما).
قال: أبو داود: بلغني عن الأنصاري محمد بن عبد الله قال: أبو طلحة زيد بن سهل بن الأسود بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار، وحسان بن ثابت بن المنذر بن حرام، يجتمعان إلى حرام، وهو الأب الثالث، وأبي بن كعب بن قيس بن عتيك بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار، فـ عمرو يجمع حسان وأبا طلحة وأبياً، قال الأنصاري: بين أبي وأبي طلحة ستة آباء].
أورد أبو داود هذه الترجمة: باب صلة الرحم، والرحم: هي القرابة، ورحم الإنسان هم قرابته، وفي اصطلاح الشرع: الرحم هم القرابة، قال الله عز وجل: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال:75]، والمراد به القرابات.
وعند الفرضيين: ذوو الأرحام هم الذين لا يرثون بفرض ولا بتعصيب، فهو في الشرع أعم من معناه عند الفرضيين؛ لأنه يشمل كل القرابات، فالرحم هم قرابة الإنسان سواء كانوا من جهة أبيه أو من جهة أمه.
وأورد أبو داود حديث أنس رضي الله عنه: (لما نزل قول الله عز وجل: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] جاء أبو طلحة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! أرى ربنا يسألنا من أموالنا) يعني: يسألنا أن ننفق من أموالنا على من كان محتاجاً، وقوله: (يسألنا) أي: يأمرنا بأن ننفق منها، والله تعالى يثيب على ذلك الأجر العظيم، كما قال الله عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد:11].
قوله: (وإني أشهدك أني قد جعلت أرضي بأريحاء له) أي: لله عز وجل، فضعها حيث شئت، يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يتصرف فيها، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجعلها في الأقربين)، وهذا هو المقصود من هذه الترجمة: صلة الرحم، فالإحسان إلى القريب صدقة وصلة، فيكون قد جمع بين خصلتين حسنتين: صلة رحم، وإحسان وصدقة.
فقسمها بين حسان وأبي بن كعب، وهما من قرابته رضي الله تعالى عنه.
ثم إن أبا داود ذكر نوع هذه القرابة، وأن حسان يلتقي معه في جده الثالث، وأما أبي فإنما يلتقي معه في السادس، وذكر نسب أبي طلحة، ونسب حسان، ونسب أبي، وذكر أماكن الالتقاء بينهم، فالتقاء حسان مع أبي طلحة أقرب من التقائه مع أبي، وهذا فيه إشارة إلى أن الأقارب وإن كان بعضهم أقرب من بعض فإن البر والإحسان يكون للجميع، بخلاف الميراث، فإن من كان أقرب إلى الميت فإنه يحجب من يكون أبعد منه.
وهذا الحديث فيه دليل على أن الإنسان إذا تصدق بشيء وجعله مجملاً غير معين المصارف فإن ذلك جائز، ثم تعيّن مصارفه في وجوه الخير والبر، وأفضلها وأولاها أن تكون في الأقربين.
وأريحاء هي بيرحاء، فقيل: إنها البئر، وقيل: إن الأرض كلها يقال لها: بيرحاء، وقيل: إنها مضاف ومضاف إليه، أي: بئر مضافة إلى حاء.(205/15)
تراجم رجال إسناد حديث تصدق أبي طلحة بأريحاء
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد هو: ابن سلمة].
حماد بن سلمة هو ثقة أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن ثابت].
ثابت بن أسلم البناني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الإسناد رباعي، وهو من أعلى الأسانيد عند أبي داود رحمه الله.
لو جعل الإنسان الصدقة في الأقربين فلا شك أن الفقير منهم هو الأولى، ولكنه إذا وقف على الأقارب فإنه يشمل الموسر وغير الموسر إذا لم يقيد بالمحتاج، فلو وقف على أبنائه وقفاً مثلاً ولم يحدد أنه للفقير، أو لمن وصفه كذا وكذا، فإنه يكون للجميع.
[قال: أبو داود: بلغني عن الأنصاري محمد بن عبد الله].
محمد بن عبد الله الأنصاري هو: محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وقوله: [بلغني] فيه انقطاع، أي: أن بينه وبين المبلّغ عنه واسطة، وهذا المتن مقطوع، لأنه مضاف إلى محمد بن عبد الله الأنصاري، وهو أيضاً منقطع؛ لأن الواسطة بين أبي داود وبين الأنصاري غير موجودة، وهما متقاربان، فـ الأنصاري متقدم من الطبقة التاسعة، وهو من كبار شيوخ البخاري الذين روى عنهم الثلاثيات، وأبو داود قريب منه، وبينهما واسطة.
[قال: أبو طلحة زيد بن سهل بن الأسود بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار وحسان بن ثابت بن المنذر بن حرام، يجتمعان إلى حرام، وهو الأب الثالث، وأبي بن كعب بن قيس بن عتيك].
هو عندنا في هذه النسخة هكذا (عتيك)، إلا أنه في ترجمة أبي بن كعب من طبقات ابن سعد، ومعرفة الصحابة لـ أبي نعيم وأسد الغابة، وتهذيب الكمال، وعون المعبود، وكثير من نسخ السنن هكذا: عبيد، ولا ندري أيها أصوب.
[ابن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار، فـ عمرو يجمع حسان وأبا طلحة وأبي].
يجتمع الثلاثة في عمرو، بينما يجتمع أبو طلحة مع حسان في الجد الثالث وهو حرام.
[قال الأنصاري: بين أبي وأبي طلحة ستة آباء].(205/16)
شرح حديث (أما إنك لو كنتِ أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هناد بن السري عن عبدة عن محمد بن إسحاق عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن سليمان بن يسار عن ميمونة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنها قالت: كانت لي جارية فأعتقتها، فدخل علي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرته، فقال: (آجرك الله، أما إنك لو كنت أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك)] أورد أبو داود حديث ميمونة بنت الحارث الهلالي رضي الله عنها: أنها كانت لها جارية فأعتقتها، فقال: لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (آجرك الله، ولو كنت أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك).
قوله: (لو أعطيتها أخوالك) هذا هو الذي يتعلق بصلة الرحم، وهو المراد من الحديث، ولعل أخوالها كانوا بحاجة شديدة، فالإحسان إليهم فيه جمع بين التصدق وصلة الرحم.(205/17)
تراجم رجال إسناد حديث (أما لو كنتِ أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك)
قوله: [حدثنا هناد بن السري].
هناد بن السري أبو السري ثقة أخرج حديثه البخاري في (خلق أفعال العباد) ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبدة].
عبدة بن سليمان مر ذكره.
[عن محمد بن إسحاق].
محمد بن إسحاق صدوق أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن بكير بن عبد الله بن الأشج].
بكير بن عبد الله بن الأشج المصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سليمان بن يسار].
سليمان بن يسار ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن ميمونة].
وهي بنت الحارث الهلالية أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.(205/18)
شرح حديث (عندي دينار قال تصدق به على نفسك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن محمد بن عجلان عن المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصدقة، فقال رجل: (يا رسول الله! عندي دينار، فقال: تصدق به على نفسك، قال: عندي آخر، قال: تصدق به على ولدك، قال: عندي آخر، قال: تصدق به على زوجتك، أو قال زوجك، قال: عندي آخر، قال: تصدق به على خادمك، قال: عندي آخر، قال: أنت أبصر).
].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصدقة، فجاء رجل وقال: يا رسول الله! عندي دينار فقال: تصدق به على نفسك، قال: عندي آخر، قال: تصدق به على ولدك، قال: عندي آخر، قال: تصدق به على زوجك، قال: عندي آخر قال: تصدق به على خادمك، قال: عندي آخر، قال: أنت أبصر به) أي: تصرف فيه كيف شئت، والصدقة هنا بمعنى النفقة، فالصدقة على النفس هو إنفاق عليها، ثم ابنه؛ لأنه جزء منه، ثم زوجته، والإنفاق عليها في مقابل الاستمتاع بها، ثم خادمه الذي هو قائم بخدمته، وهؤلاء هم الذين يعولهم وتجب نفقتهم عليه، فيبدأ بمن يعول، ثم بعد ذلك ينفق ويعطي المحتاجين ممن لا يعولهم ولا تلزمه نفقتهم، فأرشد عليه الصلاة والسلام إلى الإنفاق على الأقارب الأول فالأول، ثم بعد ذلك يتصدق الإنسان كيف شاء، والصدقة هنا بمعنى الإنفاق.
والإنسان عندما ينفق على نفسه وعلى أقاربه الذين يجب عليه نفقتهم فإنه مأجور إذا احتسب ذلك، ولهذا جاء في الحديث، (كل سلامي من الناس عليه صدقة فيه، وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر، قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ قالوا: نعم، قال: فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر).(205/19)
تراجم رجال إسناد حديث (عندي دينار قال تصدق به على نفسك)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
محمد بن كثير العبدي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا سفيان].
سفيان هو: سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن عجلان].
محمد بن عجلان المدني صدوق أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن المقبري].
المقبري هو: سعيد بن أبي سعيد ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة مر ذكره، والمقبري سعيد بن أبي سعيد وأبوه كل منهما يروي عن أبي هريرة، وكل منهما ثقة، وكل منهما أخرج له أصحاب الكتب الستة.(205/20)
شرح حديث (كفى بالمرء إثماً أن يضيّع من يقوت)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان، حدثنا أبو إسحاق عن وهب بن جابر الخيواني عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت) أي: أن الإنسان يأثم في عدم الإنفاق والإعالة لمن تلزمه النفقة عليهم، سواء كان ذلك بأن يترك التسبب في طلب الرزق لهم، أو بأن يكون ذا مال فيشح عليهم ويقتر، أو أن يذهب ينفق ويتصدق على الأبعدين ويترك الأقربين ممن تلزمه النفقة عليهم، فيكفل المستحب ويترك الواجب، فإنه يكون آثماً لأنه ترك ما أوجب الله عز وجل عليه من الإنفاق على من يجب الإنفاق عليه، وهذا مثل الحديث الذي قبله، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: تصدق به على نفسك، ثم قال: على ولدك ثم قال: على زوجك، ثم قال: على خادمك، ثم قال: أنت أبصر به، يعني بعد ذلك تصدق على من شئت، أو أمسك، فالأمر إليك.(205/21)
تراجم رجال إسناد حديث (كفى بالمرء إثماً أن يضيّع من يقوت)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان حدثنا أبو إسحاق].
أبو إسحاق هو: عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن وهب بن جابر الخيواني].
وهب بن جابر الخيواني وهو مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن عبد الله بن عمرو].
عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما أحد العبادلة الأربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وهذا الحديث فيه رجل مقبول، لكن له شواهد تشهد له، ومنها الحديث الذي مر قبله.
وكذلك الحديث الذي أخرجه مسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يحبس عن من يملك قوته).
فالحديث صحيح، وإن كان فيه هذا المقبول الذي عند أبي داود.(205/22)
شرح حديث (من سرّه أن يبسط له في رزقه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح ويعقوب بن كعب، وهذا حديثه، قالا: حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن الزهري عن أنس رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من سره أن يبسط له في رزقه، وينسأ في أثره فليصل رحمه)].
أورد أبو داود حديث أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سره أن يبسط له في رزقه، وينسأ في أثره، فليصل رحمه)، وهذا يتعلق بصلة الأرحام، وأنها من أسباب حصول الرزق، ومن أسباب النسأ له في الأثر، أي: أن يطيل في عمره، وليس معنى ذلك أنه يغير ما كتبه الله عز وجل من الآجال، وذلك كأن يكون عمر الإنسان قصيراً فيغير ما كتب فيكون عمره طويلاً، ليس هذا المراد، فالذي كتب في اللوح المحفوظ لا يغير ولا يبدل، وإنما قدّر الله عز وجل الأسباب وقدر المسببات، فقدر أن هذا يكون عمره طويلاً، وقدر أن يكون باراً واصلاً لرحمه، فحصل له السبب والمسبب، فالسبب مقدر، والمسبب مقدر، وقد جعل الله صلة الرحم سبباً لإطالة العمر، فهذا هو المقصود من الحديث، وليس المقصود من أنه ينسأ له في أجله أنه يغير ما كتب في اللوح المحفوظ، فإذا كان عمره كذا فوصل رحمه فإنه يزاد في عمره، فالعمر ثابت ومستقر، ولكن الله تعالى قدر المسببات التي هي الأعمار ومدتها، وقدّر الأسباب التي تؤدي إليها، وهي كونه يصل رحمه، فتكون صلة الرحم سبباً في بسط الرزق وسعته، وفي طول العمر أيضاً.(205/23)
تراجم رجال إسناد حديث (من سرّه أن يبسط له في رزقه)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
أحمد بن صالح المصري ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[ويعقوب بن كعب].
ويعقوب بن كعب هو ثقة أخرج له أبو داود.
[وهذا حديثه قالا: حدثنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني يونس].
يونس بن يزيد الأيلي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
الزهري هو: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
قد مر ذكره، وأنس من صغار الصحابة، والزهري من صغار التابعين، وصغار التابعين يروون عن صغار الصحابة.(205/24)
شرح حديث (قال الله أنا الرحمن وهي الرحم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد وأبو بكر بن أبي شيبة، قالا: حدثنا سفيان عن الزهري عن أبي سلمة عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (قال الله: أنا الرحمن، وهي الرحم، شققت لها اسماً من اسمي، من وصلها وصلته، ومن قطعها بتتُّه)].
أورد أبو داود حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا الرحمن، وهي الرحم، شققت لها اسماً من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتتُّه) يعني: قطعته، فالبت هو القطع، وهو هنا مقابل للقطع، كما أن الوصل مقابل للوصل، والجزاء من جنس العمل.
وقوله: (أنا الرحمن) يعني: أن هذا من أسمائه عز وجل التي لا يسمى بها غيره ولا يجوز أن يسمى بها غير الله عز وجل.
وقوله: (وهي الرحم شققت) أي: اشتق لها اسماً من اسم الله عز وجل، أي: من نفس المادة، فالرحمن هو ذو الرحمة الواسعة، والرحم هي القرابة.(205/25)
تراجم رجال إسناد حديث (قال الله أنا الرحمن وهي الرحم)
[حدثنا مسدد].
مسدد مر ذكره.
[وأبو بكر بن أبي شيبة].
أبو بكر بن أبي شيبة هو: عبد الله بن محمد بن عثمان بن أبي شيبة، وهو: أخو عثمان بن أبي شيبة الذي يتكرر ذكره، وهو: ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي، وقد أكثر عنه الإمام مسلم في صحيحه، ولم يرو عن أحد مثل ما روى عنه، فجملة الأحاديث التي رواها عنه في الصحيح تبلغ ألفاً وخمسمائة حديث، فهو أكثر الشيوخ الذين روى عنهم الإمام مسلم على الإطلاق.
[حدثنا سفيان].
سفيان هو ابن عيينة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
الزهري مر ذكره.
[عن أبي سلمة].
أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف المدني وهو ثقة فقيه أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن عوف].
عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه، الصحابي الجليل أحد العشرة المبشرين بالجنة، حديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وأكثر العلماء على أن أبا سلمة بن عبد الرحمن لم يسمع من أبيه، فعلى هذا يكون الحديث مرسلاً، وقد صحح الألباني الحديث، وكذلك صححه أحمد شاكر في تحقيق المسند، فلا أدري هل هناك واسطة بينه وبين أبيه، أو أن له شواهد تشهد له؟(205/26)
شرح حديث (قال الله أنا الرحمن، وهي الرحم) من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري حدثني أبو سلمة أن الرداد الليثي أخبره عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمعناه].
هذه الطريق فيها واسطة بين أبي سلمة وأبيه عبد الرحمن بن عوف، وهو الرداد الليثي، وهو مقبول.
قوله: [بمعناه] يعني: بمعنى الحديث المتقدم، وقد ذكر بعض الإخوان أن الشيخ الألباني ذكر لحديث الرداد هذا شواهد وذلك في السلسلة الصحيحة برقم (520).(205/27)
تراجم رجال إسناد حديث (قال الله أنا الرحمن وهي الرحم) من طريق أخرى
[حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني].
محمد بن المتوكل العسقلاني صدوق له أوهام كثيرة أخرج له أبو داود.
[حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري حدثني أبو سلمة: أن الرداد الليثي].
الرداد الليثي مقبول أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) وأبو داود.
[عن عبد الرحمن بن عوف].
وقد مر ذكره.
ويشهد لهذا الحديث حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ من القطيعة قال: نعم.
أما ترضين أني أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى)].
وذلك من ناحية نتيجته، وأنه يصل من وصل، ويقطع من قطع، فهو نفس المعنى، فيكون شاهداً بالمعنى، لكن قوله: (أنا الرحمن، وهي الرحم) فلا شاهد له، وأما النتيجة وهي: وصل من وصل الرحم، وقطع من قطعها، فهذا الحديث شاهد لها.(205/28)
شرح حديث (لا يدخل الجنة قاطع رحم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب صلة الرحم.
حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه رضي الله عنه يبلغ به النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لا يدخل الجنة قاطع رحم)].
سبق في هذه الترجمة: (باب صلة الرحم) أحاديث تدل على فضل صلة الرحم، وعلى ما فيه من الأجر والثواب، ثم ذكر أبو داود رحمه الله بعد ذلك أحاديث فيها قطيعة الرحم وخطرها ومضرتها، وأورد حديث جبير بن مطعم بن نوفل رضي الله تعالى عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة قاطع رحم)، وهذا وعيد شديد لمن كان قاطعاً لرحمه.
فقيل في معنى هذا الحديث: إنه من أحاديث الوعيد التي فيها تهديد وتخويف وزجر من القطيعة، وإن الواجب هو الحذر من التعرض لهذا الوعيد، والحذر من أن يكون الإنسان من أهل هذا الوعيد.
وقيل: إنّ المراد بقوله: (لا يدخل الجنة) أنه لا يدخلها من أول وهلة، أي أنه يتأخر في دخول الجنة، وأنه يدخل النار ويعذب بها، ولكنه إذا دخل النار لا يستمر فيها أبداً، بل لابد أن يخرج منها، وأن يدخل الجنة ما دام أنه مرتكب لكبيرة فقط، ولا يمنع من دخول الجنة أبداً إلا الكفار الذين هم أهل النار، فلا سبيل لهم إلى الخروج منها أبداً.
وأما أهل الكبائر وعصاة المؤمنين فإنهم مهما بلغت كبائرهم وعظمت فأمرهم إلى الله عز وجل، فإن شاء عفا وتجاوز عنهم، وإن شاء عذبهم وأدخلهم النار، ولكنه إذا أدخل أحداً منهم النار بجرمه وبكبيرته فإنه لا يدوم فيها دوام الكفار، بل يبقى فيها مدة كما يشاء عز وجل أن يبقى فيها، وبعد ذلك يخرج منها ويدخل الجنة.
إذاً: فقوله: (لا يدخل الجنة) أي: لا يدخلها من أول وهلة، وأما كونه لا يدخلها أبداً فهذا ليس بصحيح.
وقيل: إنه لا يدخلها أبداً إذا كان مستحلاً؛ لأن استحلال الذنب كفر، فيكون ذلك مانعاً من دخول الجنة أبداً؛ لأنه يكون بذلك كافراً، والكافر لا يخرج من النار ولا يدخل الجنة أبداً، وأما إذا لم يكن مستحلاً لذلك وإنما هو عاص ومرتكب لكبيرة فهو تحت مشيئة الله عز وجل، فإن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه، ومن لم يعف ويتجاوز عنه فإنه يدخله النار، فيعذب فيها على مقدار جرمه وكبيرته، وبعد ذلك يخرج من النار ويدخل الجنة.(205/29)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يدخل الجنة قاطع رحم)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا سفيان].
سفيان وهو ابن عيينة المكي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
وهو: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن جبير].
محمد بن جبير بن مطعم النوفلي وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه هو: جبير بن مطعم رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم].
هذه من الصيغ التي هي بمعنى: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها أيضاً: يرفعه إلى النبي، أو ينميه إلى النبي، فكل هذه صيغ تعادل قولهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، فهي بمعنى المرفوع، فمعنى يبلغ به، أي: يوصله وينسبه ويضيفه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو مرفوع.(205/30)
شرح حديث (ليس الواصل بالمكافئ)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن كثير أخبرنا سفيان عن الأعمش والحسن بن عمرو وفطر عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال سفيان: ولم يرفعه سليمان إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ورفعه فطر والحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس الواصل بالمكافئ، ولكن هو الذي إذا قطعت رحمه وصلها)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما قال: (ليس الواصل بالمكافئ) يعني: أنه إذا وصل الرجل رحمه مكافأة ومجازاة على الإحسان بالإحسان، كأن يكون أعطي شيئاً فأعطى مكانه، أو حصل له زيارة فحصلت منه زيارة مكافأة ورداً للذي قد حصل، فليس هذا هو الواصل، وليس هذا من الوصل في حقيقة الأمر، وإن كان هذا يعتبر واصلاً، ولكن الواصل على الحقيقة هو الذي إذا قُطعت رحمه وصلها، وهو الذي يجازي على القطع وصلاً، وعلى الإساءة إحساناً، فهذا هو الواصل على الحقيقة.
ولا شك أن المكافئ الذي يقابل الإحسان بالإحسان أحسن من الذي لا تحصل منه تلك المقابلة.
إذاً فقوله صلى الله عليه وسلم: (ليس الواصل بالمكافئ) يعني: ليس الواصل حقيقة هو المكافئ، وإنما الواصل حقيقة هو الذي إذا قطعت رحمه وصلها، فهذا فيه دليل على الحث على صلة الأرحام ابتداء، وأن ذلك هو الأولى والأفضل من أن يكون عن طريق المقابلة والمماثلة، ولا شك أن الإنسان إذا سبق إلى الخير ثم جازى بما سبق إليه لا شك أن ذلك خير، ولكن الأتم والأفضل من ذلك هو الذي تحصل له القطيعة فيقابل على القطيعة وصلاً.(205/31)
تراجم رجال إسناد حديث (ليس الواصل بالمكافئ)
[حدثنا ابن كثير].
هو محمد بن كثير العبدي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا سفيان].
وهو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
وهو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[والحسن بن عمرو].
الحسن بن عمرو ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[وفطر].
وهو فطر بن خليفة، صدوق أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن مجاهد].
مجاهد بن جبر المكي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن عمرو].
عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[قال سفيان: ولم يرفعه سليمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ ورفعه فطر والحسن].
سفيان هو الثوري، وقد رواه عن ثلاثة من شيوخه وهم: الأعمش وهو: سليمان بن مهران، والحسن بن عمرو، وفطر بن خليفة، وقال: إن سليمان الأعمش لم يرفعه، وقد ذكره في الآخر باسمه، وذكره في الأول بلقبه لأن سليمان بن مهران لقبه: الأعمش، فأحياناً يذكر بلقبه، وأحياناً يذكر باسمه، والذي لا يعرف ألقاب المحدثين يلتبس عليه الأمر، ويظن أن الشخص الواحد شخصين، فكونه ذكره باسمه مرة وبلقبه أخرى يدل على أهمية معرفة الألقاب؛ حتى لا يظن الشخص الواحد شخصين.
وهذا الحديث لم يرفعه سليمان الأعمش، وإنما رفعه الحسن بن عمرو، وفطر بن خليفة، أي: أنّ الأول وقفه، والآخران رفعاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.(205/32)
الأسئلة(205/33)
ما تقع به صلة الرحم
السؤال
كيف تكون الصلة؟
الجواب
تكون الصلة بالعطاء، وتكون بالزيارة، وتكون بالاتصال، وتكون بالسؤال عنهم، وتكون بمعاونتهم ومساعدتهم فيما يحتاجون إلى مساعدة فيه؛ أي: أن يصل إليهم خيره، وأن يمنع عنهم شره، فهذه هي صلة الرحم.(205/34)
تحديد مدّة صلة الرحم
السؤال
هل هناك مدة تحدَّد للشخص حتى يكون واصلاً أو قاطعاً؟
الجواب
ليس هناك مدة في ذلك، ولكن الإنسان يحرص على أن يكون اتصاله في أوقات متقاربة، ولا نعلم تحديداً لمدة معينة في ذلك.(205/35)
ضابط الأرحام وكيفية صلتهم إذا كثروا
السؤال
هل الأرحام هم الأقارب، أم أن ذلك يستمر ولو كان إلى الجد العاشر؟
الجواب
الأرحام -كما هو معلوم- هم الأقارب، وبعضهم أولى من بعض بالصلة، وإذا كانت القرابة بعيدة ويشق الاتصال بهم فالإنسان يكون معذوراً، ولكنه يسأل عن أحوالهم إذا تيسر، وأما أن يتصل بهم واحداً واحداً وهم بالمئات والألوف فهذا يشق عليه، لكن يحرص على القرابات القريبة، وأما الباقون فيسأل عنهم في الجملة إذا كانوا كثيرين جداً ومتباعدين.(205/36)
هجر الأقارب إذا كانوا يدعون إلى المعاصي
السؤال
إن كان أقاربي يؤذونني في ديني، أو يأمرونني بالمعصية، فهل لي أن أقطعهم؟
الجواب
إذا كانوا يؤذونك في دينك فعليك أن تنصحهم حتى يستقيموا على طاعة الله وأمره، وحتى يكونوا على الدين الصحيح، وعلى الصراط المستقيم، فمن أعظم صلة الرحم أن تكون سبباً في هداية الضال منهم، فالإحسان إلى القريب بالسعي في هدايته من أهم المهمات، وهو من أعظم الصلة؛ لأن في ذلك إخراجه من الظلمات إلى النور، فهو أعظم إحسان وأعظم صلة، فإذا كان الأمر كذلك فعلى الإنسان أن يحرص على هدايتهم، وعلى دعوتهم، وعلى النصح لهم، وعلى الاتصال بهم؛ من أجل تنبيههم وعظتهم وتذكيرهم لعل الله أن يهديهم.(205/37)
الشح(205/38)
شرح حديث (إياكم والشح)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الشح.
حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن الحارث عن أبي كثير عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه قال: (خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إياكم والشح؛ فإنما هلك من كان قبلكم بالشح: أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: (باب في الشح) وذلك أنه لما ذكر صلة الرحم، وأنها تكون بوجوه الصلة ومنها ومنها البذل والإعطاء، عقب ذلك بالترجمة في الشح الذي هو ضد الإعطاء، وضد البذل، وضد الإحسان، فهو المنع وعدم الإحسان، فناسب أن يذكر الشح بعد ذكر الصلة.
والشح: هو شدة البخل، وقيل: إن الشح خاص، والبخل عام، وقيل: العكس، وغالباً ما يضاف البخل إلى عدم البذل، والشح إلى ما يقوم بالنفس من عدم الرغبة في الجود والإحسان؛ ولهذا يأتي في القرآن: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} [التغابن:16]، فاليد تابعة للنفس، فإذا كانت النفس غنية سهل بعد ذلك بذل اليد، وإذا كانت اليد غنية ولكن النفس ليست غنية بل فيها الشح والبخل فإن اليد تكون تابعة لها، فلا يحصل الجود من اليد إلا إذا وجد السخاء في النفس، وكانت النفس راغبة في الإحسان.
وقد أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس وقال: (إياكم والشح؛ فإن الشح أهلك من كان قبلكم)، وقوله: (إياكم والشح) تحذير من الشح.
قوله: (فإنما هلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالبخل فبخلوا)، وهذا يوضح أن البخل -وهو عدم البذل- يكون نتيجة لما قام في القلب والنفس، ولهذا قال: (أمرهم) يعني: أنّ النفس الأمارة بالسوء التي فيها الشح هي التي أمرت بالبخل؛ فحصل البخل، فصار البخل نتيجة للشح.
وقوله: (أمرهم بالبخل فبخلوا) أي: أمرهم الشح بالبخل.
وقوله: (وأمرهم بالقطيعة فقطعوا) أي: أمرهم بقطيعة الأرحام فقطعوها.
وقوله: (وأمرهم بالفجور ففجروا) الفجور يفسر بالكذب، ويفسر بالميل عن الصواب، والميل عن الحق، وكل هذا نتيجة للشح الذي يقوم في النفوس؛ ولهذا يقول الله عز وجل: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن:16] وهذا ذكره الله عز وجل في آخر الآية التي ذكر فيها سخاء الأنصار، وجودهم، وبرهم، وإحسانهم، قال الله عز وجل: ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ)) يعني: من قبل المهاجرين {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] يعني: أنهم يبذلون، ثم قال: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].(205/39)
تراجم رجال إسناد حديث (إياكم والشح)
قوله: [حدثنا حفص بن عمر].
حفص بن عمر ثقة أخرج حديثه البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن مرة].
عمرو بن مرة الهمداني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن الحارث].
عبد الله بن الحارث وهو ثقة أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي كثير].
أبو كثير هو زهير بن الأقمر الزبيدي مقبول أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن عبد الله بن عمرو].
عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، وقد مر ذكره.(205/40)
شرح حديث (أعطي ولا توكي فيوكى عليك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا إسماعيل أخبرنا أيوب حدثنا عبد الله بن أبي مليكة حدثتني أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: (قلت: يا رسول الله! ما لي شيء إلا ما أدخل علي الزبير بيته أفأعطي منه؟ قال: أعطي ولا توكي فيوكى عليك)].
أورد أبو داود حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما أنها قالت: (ما لي إلا ما أدخل علي الزبير) - تعني: ليس عندي شيء إلا ما أدخل علي الزبير في بيته، قولها: (فأعطي منه؟ قال: أعطي ولا توكي فيوكى عليك).
أي: ابذلي.
وقيل: إنّ المقصود بقوله: (أعطي) أي: مما يعطيك خاصاً بك، فإذا أعطاها شيئاً وملّكها إياه من نفقة أو كسوة أو غير ذلك مما تنتفع به فإنه يدخل في ملكها، فتنفق منه.
وقيل إن معناه: ما يدّخر من القوت، وأنها تنفق ولا تقتر، ولا تدّخر شيئاً للمستقبل فيحصل منها تقصير في الإنفاق على أهل البيت، والمراد: أنها تنفق ولا يحصل منها تقصير وشح.
قوله: (فيوكى عليك)، الإيكاء هو الربط، مأخوذ من الوكاء وهو ما يربط به الشيء الذي يوكى عليه لحفظه وإبقائه وعدم صرفه، والمعنى: لا تمنعي فيقابلك الله تعالى بالمنع كما منعت؛ لأن الجزاء من جنس العمل.(205/41)
تراجم رجال إسناد حديث (أعطي ولا توكي فيوكى عليك)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا إسماعيل].
مسدد مر ذكره، وإسماعيل هو: ابن علية، إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا أيوب].
أيوب بن أبي تميمة السختياني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الله بن أبي مليكة].
وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثتني أسماء بنت أبي بكر].
أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنها وعن أبيها وعن الصحابة أجمعين، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.(205/42)
شرح حديث (أعطي ولا تحصي فيحصي الله عليك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا إسماعيل أخبرنا أيوب عن عبد الله بن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها: أنها ذكرت عدة من مساكين، قال أبو داود: وقال غيره: أو عدة من صدقة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أعطي ولا تحصي فيحصى عليك)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنه: أنها ذكرت عدة من مساكين -أو عدة من صدقة- فقال مسدد وهو راوي الحديث، شيخ أبي داود: عدة مساكين، وقال غير مسدد: عدة من صدقة، أي: أنّ عدداً من المساكين يأتون على بابها فماذا تصنع أو كيف تصنع؟ وقال غيره: عدة من صدقة، يعني: أنها ذكرت عدة صدقات تحتاج إلى بذلها وإعطائها، فماذا تصنع بها؟ فقال: (أعطي ولا تحصي فيحصى عليك)، وقوله: (ولا تحصي فيحصى عليك) مثل قوله: (لا توكي فيوكى عليك) فمعناهما واحد.(205/43)
تراجم رجال إسناد حديث (أعطي ولا تحصي فيحصي الله عليك)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا إسماعيل أخبرنا أيوب عن عبد الله بن أبي مليكة عن عائشة].
كلهم مر ذكرهم إلا عائشة رضي الله عنها، وهي أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(205/44)
شرح سنن أبي داود [206]
لقد حفظ الشرع حقوق المسلمين، وربّى أتباعه على ذلك، فوضع الأحكام، وسنَّ القوانين؛ ليحفظ هذا الحق من الضياع، وإذا ضاع فهناك الأحكام والسنن والضوابط لإعادته قْدر الإمكان إلى صاحبه كاملاً سليماً، ومن الضمانات لحفظ الحقوق أحكام اللقطة والاحتفاظ بها والتعريف بها وغير ذلك.(206/1)
اللقطة(206/2)
شرح حديث أبي بن كعب في اللقطة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب اللقطة.
باب التعريف باللقطة.
حدثنا محمد بن كثير أخبرنا شعبة عن سلمة بن كهيل عن سويد بن غفلة قال: (غزوت مع زيد بن صوحان وسليمان بن ربيعة فوجدت سوطا، فقالا لي: اطرحه، فقلت: لا، ولكن إن وجدت صاحبه وإلا استمتعت به، فحججت فمررت على المدينة، فسألت أبي بن كعب رضي الله عنه فقال: وجدت صرة فيها مائة دينار، فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: عرفها حولا.
فعرفتها حولاً، ثم أتيته فقال: عرفها حولا.
فعرفتها حولاً، ثم أتيته فقال: عرفها حولا.
فعرفتها حولاً، ثم أتيته فقلت: لم أجد من يعرفها، فقال: احفظ عددها ووكاءها ووعاءها، فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها)، وقال: ولا أدري أثلاثاً قال: (عرفها)، أو مرة واحدة؟].
أورد أبو داود كتاب اللقطة.
واللقطة: هي الشيء الذي يلتقط مما يضيع على أهله، ويقال: غالباً ما تكون في غير المواشي، فالمواشي يقال لها: ضالة في الغالب، وأما غيرها من النقود وما أشبهها فيقال لها: لقطة.
ثم أورد أبو داود في الترجمة: باب تعريف اللقطة، فالإنسان إذا وجد لقطة فإنه يجب عليه أن يعرف بها أي: ينادي أنه وجد شيئاً مفقوداً، فمن كان له فليأت إليه، فإن ذكر أوصافه كما هو عليه فإنه يعطيه إياه.
وأما مدّة التعريف باللقطة، فقد جاء في حديث أبي بن كعب هذا أنها ثلاث سنوات، فقد جاء إليه فقال: عرفها حولاً، ثم جاء فقال: عرفها حولاً، ثم قال: عرفها حولاً.
وجاء في أحاديث أخرى عن غير أبي بن كعب أنه يعرفها حولاً واحداً، وقد أجمع العلماء على أنه يكفي تعريف حول واحد، وأنّ ذلك مجزئ، وقد جمع بعض أهل العلم بين ما جاء في هذا الحديث، وما جاء في غيره أن هذا الحديث يحمل على ما إذا كان الملتقط موسراً لا يحتاج إليها، فإنه ينادي عليها ثلاث سنوات؛ لعل صاحبها يأتي بعد تلك المناداة في مدة ثلاث سنوات فيعطيها إياه، وأما إذا لم يكن موسراً فإنه يكتفى بتعريفها سنة واحدة، وقالوا: إن أبياً كان موسراً لذلك أمره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يكرر التعريف لعدة سنوات.
وقد أورد أبو داود حديث أبي بن كعب رضي الله عنه وذلك أن سويد بن غفلة رحمة الله عليه وجد سوطاً فأخذه، وكان معه شخصان هما: زيد بن صوحان وسليمان بن ربيعة فقالا: اتركه، فقال: لا، بل آخذه فإن وجدت صاحبه وإلا ارتفقت به، أي: استفدت منه، فأخذه، فلما حج قدم المدينة، فلقي أبي بن كعب رضي الله عنه فسأله فقال: إنني وجدت صرة فيها مائة دينار، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (عرفها حولاً) أي: نادِ عليها حولاً.
قوله: (فعرفتها حولاً، ثم أتيته فقال: عرفها حولاً) يعني: حولاً ثانياً، (قال: فعرفتها حولاً ثم أتيته قال: عرفها حولاً).
قوله: (ثم أتيته -يعني: بعد ثلاث سنوات- فقلت: لم أجد من يعرفها).
قوله: [(فقال: احفظ عددها ووكاءها، ووعاءها فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها)] أي: عدد النقود، ونوعها من الذهب أو الفضة، وإذا كانت من النقود المعاصرة فقد تكون دولارات، أو دنانير ورقية، أو ريالات، وإذا كانت ريالات فقد تكون من فئة الريال، أو الخمسة، أو العشرة، أو العشرين، أو الخمسين، أو المائة، أو المائتين، أو الخمسمائة، فالمراد أن يعرف عددها وفئاتها.
قوله: (ووعاءها) وهو القماش أو الجلد الذي جعلت فيه، والوكاء الذي ربطت به، فكل هذه الأشياء يعرفها، ثم ينفقها ويستعملها إن لم يأت صاحبها، ولكن إن جاء صاحبها فيما بعد، ووصفها على النحو الذي هي عليه فإنه يعطيه إياها، ويدفعها إليه.
وجاء في بعض الروايات: أنه يعرف عفاصها ووكاءها في الأول، وكل ذلك حق، فيعرف عددها وعفاصها ووكاءها في البداية؛ حتى إذا جاء أحد يسأل عنها في مدة التعريف، وذكر أوصافها فإنه يعطيه إياها، ويمكن أيضاً أن يكون ذلك من أجل التحقق والمحافظة عليها، فإنه إذا صرفها أو أضافها إلى ماله فقد ينساها بعد ذلك، فيكون محتفظاً بالعدد والصفات، فإذا جاء صاحبها فيما بعد يسأل عنها وذكر أوصافها، فإنه يعطيه إياها، فكلا المعنيين صحيح، فيعرف أوصافها في الأول، ويعرفها في الآخر؛ من أجل الإبقاء عليها، والمحافظة على تلك الصفات حتى تصل إلى صاحبها فيما بعد إذا جاء.(206/3)
تراجم رجال إسناد حديث أبي بن كعب في اللقطة
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
محمد بن كثير مر ذكره.
[أخبرنا شعبة عن سلمة بن كهيل].
شعبة مر ذكره، وسلمة بن كهيل ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سويد بن غفلة].
سويد بن غفلة ثقة مخضرم أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وقد ذكرت فيما مضى عنه وعن المعرور بن سويد -وكل منهما من المخضرمين- أن أحدهما كان يصلي بالناس قيام رمضان وعمره مائة وعشرون سنة، وأن الآخر كان عمره مائة وعشرين سنة، وكان أسود شعر الرأس واللحية، وقد رجعت إلى المصادر التي ذكرت ذلك فوجدت أن المعرور بن سويد هو الذي كان أسود شعر الرأس واللحية، وكان عمره مائة وعشرين سنة، ذكر ذلك النووي في (شرح مسلم) وفي (التقريب).
وأما سويد بن غفلة فهو الذي كان يصلي بالناس قيام رمضان وعمره مائة وعشرون سنة، فكل منهما كان عمره مائة وعشرين، ذكر هذا أبو نعيم في ترجمته في (حلية الأولياء)، وذكر أخباراً عنه منها: أنه تزوج وعمره مائة وست عشرة سنة، رحمة الله عليه.
[عن أبي بن كعب].
أبي بن كعب رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(206/4)
اللقطة التي تعرف واللقطة التي لا تعرف وكيفية التعريف
واستنفاق السوط ليس فيه بأس كما جاء في حديث علي رضي الله عنه أنه وجد ديناراً فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يستنفقه، ثم جاء بعد ذلك شخص يسأل عنه فأمره أن يعطيه إياه، ولم يأمره بالتعريف، فدل هذا على أن الشيء اليسير لا يحتاج إلى تعريف، لكن إن جاء أحد يسأل عنه فإنه يعطيه إياه.
ولو وجد شيئاً مما يستهلك كالسواك مثلاً فصار يتسوك فيه فإنه يدخل في الكلام السابق.
إذاً: فكل ما كان مقداره يسيراً فإنه يستنفقه بدون تعريف، وأما ضابط اليسير فقيل: إنه عشرة دراهم، وقيل: دينار؛ لأن الحديث الذي جاء عن علي وسيذكره المصنف فيه ذكر الدينار، فلم يأمره بتعريفه، فدل على أن الدينار وهو اثنا عشر درهماً لا يحتاج إلى تعريف.
وأما كيفية التعريف، فإنه ينادى عليه في المجامع وفي الأماكن التي وجد فيها، ويذكر أنه وجد لقطة فمن كانت له فليأت، وليذكر أوصافها حتى تدفع إليه، ولو علق إعلاناً عند أبواب المسجد، وفي الوحدات السكنية فلا بأس بهذا فإنه كافٍ، بل هذا من أوضح التعريف؛ لأن هذا شيء مستمر، وأما التعريف بالمناداة فقد يسمع الصوت بعضهم دون الآخرين.
ولو عرفها سنة فلم يأت صاحبها فله أن يستخدمها، ولكن إن جاء صاحبها فيما بعد ووصفها فإنه يعطاها، فإن كانت عينها موجودة فإنه يعطيه إياها، وإلا فإنه يعطيه ثمنها ولو أن يستلف.(206/5)
شرح حديث أبي بن كعب في اللقطة من طريق ثانية وتراجم رجالها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن شعبة بمعناه، قال: (عرفها حولا) وقال: ثلاث مرار، قال: فلا أدري قال له ذلك في سنة أو في ثلاث سنين؟].
أورد الحديث من طريق أخرى، وأشار إلى الاختلاف فيه، وأنه وقع فيه شك فقال: [قال: (عرفها حولا) وقال ثلاث مرار، قال: فلا أدري قال له ذلك في سنة أو في ثلاث سنين؟]، لكن الرواية السابقة فيها: أنه ثلاثة أحوال.
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى].
يحيى بن سعيد القطان ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شعبة بمعناه].
شعبة مر ذكره.(206/6)
شرح حديث أبي بن كعب في اللقطة من طريق ثالثة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا سلمة بن كهيل بإسناده ومعناه، قال في التعريف قال: عامين أو ثلاثة، قال: (اعرف عددها ووعاءها ووكاءها، زاد: فإن جاء صاحبها فعرف عددها ووكاءها فادفعها إليه)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وفيه: أنه حولان أو ثلاثة، وأنه يعرف عددها ووكاءها، وأنه إذا جاء صاحبها فعرف عددها ووكاءها -أي: وصفها وصفاً مطابقاً لما هي عليه- فإنه يدفعها إليه، وهذه الزيادة تدل على أن صاحب اللقطة إذا وصفها بما يطابق ما هي عليه فإن ذلك كافٍِ، ولا يحتاج إلى أن يقيم بينة.
وقال بعض أهل العلم: إن هذه الرواية فيها تفرد، وإنّ أبا داود قال عنها: إنها غير محفوظة، فإذاً: إذا لم يطمئن الإنسان إلى صدق المدعي فعليه أن يطلب البينة، لكن الزيادة صحيحة وثابتة، وهي موجودة في صحيح مسلم، وأيضاً حماد بن سلمة الذي تفرد بها ثقة يحتمل تفرده، وهو أيضاً لم ينفرد بها بل قد توبع على ذلك، تابعه سفيان الثوري وزيد بن أبي أنيسة، فكلاهما ذكر هذه الزيادة وهي: (فإن عرف وكاءها وعفاصها فادفعها إليه).
وهذه الرواية موجودة في صحيح مسلم، فهي ثابتة ومعتبرة، فيكفي في اللقطة أن يذكرها صاحبها بما هي عليه؛ لأن الإنسان إذا وصفها بتفاصيلها وقال: إن مقدارها كذا، وهي من النوع الفلاني، وهي من فئة كذا، وهي مربوطة في وعاء كذا وكذا، فإن ذلك يدل على صدقه، وأنها له.(206/7)
تراجم رجال إسناد حديث أبي في اللقطة من طريق ثالثة
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل التبوذكي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
حماد بن سلمة ثقة أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا سلمة بن كهيل بإسناده ومعناه].
قد مر ذكر سلمة.
[قال أبو داود: ليس يقول هذه الكلمة إلا حماد في هذا الحديث يعني: (فعرف عددها)].
يعني: أن هذا مما انفرد به حماد بن سلمة، وسيأتي أيضاً أنه انفرد عن أشخاص آخرين غير سلمة بن كهيل وقال: إنها غير محفوظة يعني هذه الزيادة، لكن الزيادة ثابتة في صحيح مسلم، وأيضاً فـ حماد بن سلمة لم ينفرد بل قد توبع، وسيذكر المصنف هذا فيما بعد مرة ثانية.(206/8)
شرح حديث زيد بن خالد في اللقطة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا إسماعيل بن جعفر عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه: (أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن اللقطة؟ قال: عرفها سنة، ثم اعرف وكاءها وعفاصها، ثم استنفق بها، فإن جاء ربها فأدها إليه.
فقال: يا رسول الله! فضالة الغنم؟ فقال: خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب، قال: يا رسول الله! فضالة الإبل؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرت وجنتاه، أو احمر وجهه وقال: ما لك ولها؟ معها حذاؤها وسقاؤها حتى يأتيها ربها)].
أورد أبو داود حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن اللقطة فقال: عرفها حولاً)، فهنا ذكر حولاً فقط، ولم يذكر أحوالاً أخرى.
قوله: (ثم اعرف عفاصها ووكاءها) (العفاص): هو الوعاء الذي تكون فيه.
قوله: (ثم استنفق بها) يعني: أنفقها على نفسك، وتصرف فيها كيف شئت، لكن إن جاء صاحبها فأدها إليه، أي: تؤدي إليه قيمتها إذا كانت عينها غير موجودة.
وهذا الحديث كما عرفنا ذكر فيه التعريف سنة، وقد أجمع العلماء على أنه يكفي سنة واحدة، وعرفنا التوفيق بينه وبين حديث أبي بن كعب.
ثم سأله عن ضالة الغنم؟ فقال: (خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب) يعني: لا تتركها؛ لأنها لا تمتنع من السباع، (فهي لك أو لأخيك أو للذئب) يعني: أنّ أمرها إما أن يئول إلى أن تكون لك، وذلك إذا عرفتها فلم يأت أحد يعرفها، فإنها ستكون لك، وإن جاء صاحبها الذي يملكها فأعطها إياه، فتكون لأخيك، وإن لم يأخذ هذا ولا هذا فإن الذئب هو الذي يعتدي عليها ويهلكها، إذاً فهي لا تخلو من هذه الثلاث حالات: إما أن تأخذها فهي لك، أو لأخيك، وإما أن تتركها فهي للذئب، أو لملتقط آخر، وهذا جاء في بعض التفسير لهذا الحديث في قوله: أو لأخيك، أن المراد به ملتقط آخر يأخذها إن تركتها، أي: إما أن يأتيها ملتقط آخر، أو يأتيها صاحبها، أو تكون للذئب، ففيه الدلالة على أخذها، ولكن مع التعريف، وليس معنى ذلك أنه يأخذها رأساً، فهي ليست ملكاً له، ولكن بعد أن يعرفها سنة فإن له أن ينفقها، فإن جاء صاحبها بعد ذلك أعطاه إياها، وإن لم يأت فإنها ملك له.
قوله: (قال: يا رسول الله! فضالة الإبل؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني: أن ضالة الإبل لا تصلح أن تكون لقطة، لذلك لما سأله عن ضالة الإبل غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمر وجهه أو احمرت وجنتاه فقال: (ما لك ولها معها سقاؤها وحذاؤها) فهي ترد الماء وتأكل الشجر، أي: لا شأن لك بها فاتركها؛ لأنها تمتنع من السباع، وتصبر على الظمأ لفترة، وتقدر على مشي المسافات الطويلة حتى ترد الماء، فهي ليست كالغنم الضعيفة التي لا تمتنع من السباع، ولهذا قال عنها: (هي لك أو لأخيك أو للذئب)، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يجز التقاط الإبل، لكن قال بعض أهل العلم: إنها إذا كانت هزيلة بحيث لا تمتنع من السباع فإنه -والحالة هذه- يمكن أن تؤخذ وتعامل معاملة الغنم؛ لأن الوصف الذي يكون في الإبل من القوة والتحمل ليس فيها فقد يؤدي تركها وعدم التقاطها إلى هلاكها، وإلى افتراس السباع لها.
والحديث فيه تفريق بين اللقطة والضالة؛ فقد أطلق على ما يتعلق بالدراهم والدنانير لقطة، وأطلق على ما يتعلق بالإبل والغنم ضالة.(206/9)
تراجم رجال إسناد حديث زيد بن خالد في اللقطة
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا إسماعيل بن جعفر].
إسماعيل بن جعفر ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن].
ربيعة بن أبي عبد الرحمن هو المشهور بـ ربيعة الرأي وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يزيد مولى المنبعث].
يزيد مولى المنبعث صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زيد بن خالد الجهني].
زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه صحابي، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.(206/10)
شرح حديث زيد بن خالد من طريق ثانية وتراجم رجالها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن السرح حدثنا ابن وهب أخبرني مالك بإسناده ومعناه، زاد: (سقاؤها، ترد الماء، وتأكل الشجر) ولم يقل: (خذها) في ضالة الشاء، وقال في اللقطة: (عرفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها) ولم يذكر: (استفق)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله إلا أن فيه فروقاً يسيرة.
قوله: [حدثنا ابن السرح].
ابن السرح هو: أحمد بن عمرو بن السرح مصري ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا ابن وهب].
ابن وهب هو: عبد الله بن وهب المصري ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني مالك].
مالك بن أنس إمام دار الهجرة، المحدث الفقيه أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة بمذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[بإسناده ومعناه].
أي: بإسناده المتقدم، ومعناه المتقدم.
[قال أبو داود: ورواه الثوري وسليمان بن بلال وحماد بن سلمة عن ربيعة مثله لم يقولوا: (خذها)].
ثم ذكر طرق أخرى عن ربيعة، لم يقولوا فيها: (خذها) يعني: كما جاءت في الرواية السابقة.
[قال أبو داود: رواه الثوري وسليمان بن بلال].
الثوري هو: سفيان بن سعيد وقد مر ذكره، وسليمان بن بلال ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وحماد بن سلمة عن ربيعة] مر ذكرهما.(206/11)
شرح حديث زيد بن خالد من طريق ثالثة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن رافع وهارون بن عبد الله، المعنى قالا: حدثنا ابن أبي فديك عن الضحاك يعني: ابن عثمان عن بسر بن سعيد عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن اللقطة؟ فقال: (عرفها سنة، فإن جاء باغيها فأدها إليه، وإلا فاعرف عفاصها ووكاءها ثم كلها، فإن جاء باغيها فأدها إليه)].
ثم أورد أبو داود حديث زيد بن خالد وهو كالأحاديث السابقة من أنها تعرف سنة، وأنه بعد ذلك يعرف العفاص والوكاء ثم يأكلها، فإن جاء صاحبها فيما بعد فإنه يؤديها إليه إن كانت موجودة، وإلا فإنّه يؤدي قيمتها إذا كانت متقومة، أو مثلها إذا كانت غير متقومة كالنقود.(206/12)
تراجم رجال إسناد حديث زيد بن خالد من طريق ثالثة
قوله: [حدثنا محمد بن رافع].
محمد بن رافع النيسابوري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[وهارون بن عبد الله].
هارون بن عبد الله هو: الحمال البغدادي، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا ابن أبي فديك].
ابن أبي فديك هو: محمد بن إسماعيل بن مسلم صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الضحاك يعني: ابن عثمان].
الضحاك بن عثمان وهو صدوق يهم أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن بسر بن سعيد].
بسر بن سعيد ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وفي صحيح مسلم قبل بسر بن سعيد: أبو النضر سالم المدني، أي: أنّه بين الضحاك وبين بسر بن سعيد أبو النضر، وأبو النضر هذا ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زيد بن خالد الجهني].
زيد بن خالد الجهني ومر ذكره.
وكأن هذا الإسناد فيه سقط؛ لأن أبا النضر من شيوخ الضحاك ومن تلاميذ بسر بن سعيد، ولم يذكر الضحاك في تلاميذ بسر بن سعيد كما في تهذيب الكمال، والألباني لما ذكر هذا الحديث في (صحيح أبي داود) قال: بزيادة أبي النضر عن بسر وهو الصواب.(206/13)
شرح حديث زيد بن خالد في اللقطة من طرق رابعة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حفص حدثني أبي حدثني إبراهيم بن طهمان عن عباد بن إسحاق عن عبد الله بن يزيد عن أبيه يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكر نحو حديث ربيعة.
قال: وسئل عن اللقطة فقال: تعرفها حولاً، فإن جاء صاحبها دفعتها إليه، وإلا عرفت وكاءها وعفاصها ثم أفضها في مالك، فإن جاء صاحبها فادفعها إليه)].
أورد حديث زيد بن خالد وهو مثل الحديث المتقدم، ثم قال: (أفضها في مالك) يعني: اجعلها ضمن مالك، واصنع بها ما تصنعه بمالك، لكن إن جاء صاحبها فيما بعد فأدها إليه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد وربيعة بإسناد قتيبة ومعناه وزاد فيه: (فإن جاء باغيها فعرف عفاصها وعددها فادفعها إليه)، وقال حماد أيضا: عن عبيد الله بن عمر عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثله.
قال أبو داود: وهذه الزيادة التي زاد حماد بن سلمة في حديث سلمة بن كهيل ويحيى بن سعيد وعبيد الله بن عمر وربيعة: (إن جاء صاحبها فعرف عفاصها ووكاءها فادفعها إليه) ليست بمحفوظة (فعرف عفاصها ووكاءها).
وحديث عقبة بن سويد عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضا قال: (عرفها سنة)، وحديث عمر بن الخطاب أيضاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (عرفها سنة)].
مر حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه من طرق، وذكر أبو داود هنا بعض الطرق التي أحال فيها على الطرق السابقة، وأشار إلى بعض الألفاظ التي فيها، منها: أنه يعرفها سنة، وأن له بعد السنة أن يستفيد منها، فإن جاء صاحبها دفعها إليه إن كانت ما زالت موجودة، وإن كانت غير موجودة غرم له قيمتها، ثم ذكر بعد ذلك هذه الزيادة التي سبق أن مرت في بعض الطرق عن سلمة بن كهيل، وقد زادها حماد بن سلمة في الحديث وهي: (فإن جاء فعرف عفاصها ووكاءها فأدها إليه)، وقال أبو داود رحمه الله: إن هذه الزيادة غير محفوظة؛ لأنّ حماد بن سلمة تفرد بها.
ولكن هذه الزيادة موجودة في صحيح مسلم، وحماد بن سلمة ثقة، ومع ذلك فقد تابعه عليها زيد بن أبي أنيسة وسفيان الثوري، فهي زيادة ثابتة، فإذا عرف صاحب اللقطة اللقطة ووصفها وصفاً يطابق ما هي عليه: بأن ذكر الوعاء والوكاء ونوعه أو لونه، وكذلك النقود التي في الوعاء ومقدارها وأنواعها، وإذا كانت من العملات الورقية ذكر فئاتها وما إلى ذلك، فإن ذلك يكون كافياً، والمعول عليه في ذلك هذه الرواية الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في صحيح مسلم.
وبعض أهل العلم يقول: إنه إذا لم يطمئن إلى صحة دعواه فإنه يطلب منه البينة على أنه قد فقد ذلك الشيء.
والصحيح هو الأول بناءً على هذه الزيادة التي جاءت عن حماد بن سلمة وغيره وهي: (إن جاء فعرف عفاصها ووكاءها فإنها تؤدى إليه) دون أن يطالب ببينة، فهذا هو الأولى والأقرب.(206/14)
تراجم رجال إسناد حديث زيد بن خالد من طرق رابعة
قوله: [حدثنا أحمد بن حفص].
أحمد بن حفص بن عبد الله بن راشد وهو صدوق أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثني أبي].
وهو كذلك صدوق أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثني إبراهيم بن طهمان].
إبراهيم بن طهمان ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عباد بن إسحاق].
عباد بن إسحاق واسمه: عبد الرحمن بن إسحاق، وعباد لقبه، صدوق أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن يزيد].
عبد الله بن يزيد صدوق أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن أبيه يزيد مولى المنبعث].
أبوه يزيد مولى المنبعث صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زيد بن خالد الجهني].
زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
وقوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حماد بن سلمة].
حماد بن سلمة البصري ثقة أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن يحيى بن سعيد].
يحيى بن سعيد الأنصاري المدني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وربيعة].
ربيعة هو ابن أبي عبد الرحمن المشهور بـ ربيعة الرأي وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[بإسناد قتيبة ومعناه].
بإسناد قتيبة ومعناه أي: الذي سبق أن مر.
[وقال حماد أيضاً: عن عبيد الله بن عمر].
وقال حماد: عن عبيد الله بن عمر يعني: هذه طريق أخرى ذكرها معلقة عبيد الله بن عمر هو العمري المصغر ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن شعيب].
عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص وهو صدوق أخرج له البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
أبوه هو: شعيب بن محمد وهو صدوق أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة والأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن جده].
جده هو: عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم: عبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عباس، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[قال أبو داود: وهذه الزيادة التي زاد حماد بن سلمة في حديث سلمة بن كهيل].
سلمة بن كهيل ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ويحيى بن سعيد وعبيد الله بن عمر وربيعة].
وهؤلاء مر ذكرهم.
[قال: وحديث عقبة بن سويد عن أبيه].
وحديث عقبة بن سويد عن أبيه قال: (عرفها سنة) يعني: حديثاً آخر غير حديث زيد بن خالد الجهني؛ لأن تلك الطرق التي أشار إليها أبو داود تتعلق بحديث زيد بن خالد، وهذان طريقان آخران ذكرهما أبو داود بعد ذلك معلقين، أحدهما عن عقبة بن سويد وفيه أنه قال: (عرفها سنة) يعني: كما جاء في حديث زيد بن خالد؛ لأن حديث زيد بن خالد بطرقه كلها ليس فيه إلّا ذكر التعريف سنة، إلا في حديث أبي بن كعب الذي سبق أن مر في أول الباب: أنه يعرفها ثلاثة أحوال، وقد عرفنا التوفيق بينهما، وذكر أن العلماء أجمعوا على أن التعريف لمدة سنة يجزئ، وأنه إذا احتيط، أو كان الشخص الذي وجدها موسراً، وليس بحاجة إلى استنفاقها فإنه يندب ويستحب له أن يعرفها ثلاث سنوات، وإن اكتفى بسنة واحدة فإن ذلك كافٍ.
ثم ذكر أبو داود رحمه الله بعد ذلك حديثين معلقين: عن عقبة بن سويد، وعن عمر بن الخطاب، وهما مثلما جاء في حديث زيد بن خالد الجهني أنها تعرف سنة، وليس فيها أكثر من ذلك، إذن فهذه الأحاديث كلها تتفق على التعريف سنة، وهو محل إجماع بين أهل العلم كما ذكرناه سابقاً.
وعقبة بن سويد هو الجهني، وهنا قال: عن أبيه، ويقال: سويد بن عقبة، وهناك خلاف في تحديد الصواب منهما، وعلى كل فهو يحتمل أن يكون عقبة بن سويد أو سويد بن عقبة، ويكون هناك قلب.
وقد صححه الألباني، فإما أن يكون الاثنان من الصحابة أعني: سويد وعقبة، وإما أن يكون أحدهما له ترجمة غير موجودة هنا، ولم نقف عليها.
وتعرف اللقطة سنة أمر ثابت في حديث زيد بن خالد وفي حديث غيره، فسواء عرف هذا أو لم يعرف فالحديث ثابت بدونه.
[وحديث عمر بن الخطاب أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عرفها سنة)].
وهذا أيضاً مثل السابق، وعمر بن الخطاب هو أمير المؤمنين، وثاني الخلفاء الراشدين المهديين صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(206/15)
شرح حديث عياض بن حمار في اللقطة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا خالد يعني: الطحان ح وحدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب، المعنى عن خالد الحذاء عن أبي العلاء عن مطرف يعني: ابن عبد الله عن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من وجد لقطة فليشهد ذا عدل أو ذوي عدل، ولا يكتم ولا يغيب، فإن وجد صاحبها فليردها عليه، وإلا فهو مال الله عز وجل يؤتيه من يشاء)].
أورد أبو داود حديث عياض بن حمار رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من وجد لقطة فليشهد ذا عدل أو ذوي عدل)، والأحاديث التي سبق أن مرت ليس فيها ذكر الإشهاد، فقيل: إن الأمر في هذا الحديث يحمل على الاستحباب؛ لأن تلك الأحاديث السابقة لم تتعرض لذكر الإشهاد، بل فيها أنه يكفي أن يعرف عفاصها ووكاءها، وإذا جاء أحد يصفها حق الوصف فإنه يدفعها إليه، فهذه الأدلة تصرف الأمر بالإشهاد في هذا الحديث إلى الاستحباب، فإذا وجد الإنسان لقطة فإنه يقول: أشهد أنني وجدت لقطة نقود مثلاً ولا يسميها؛ لأنه لو ذكرها لأحد فقد يدعي أنها له فيأتي يصفها ثم يأخذها، وهو لا يستحقها، لأنه قد ثبت أنه يكفي أن يعرف عفاصها ووكاءها وعددها وما إلى ذلك من صفاتها، إذاً: فهو يخبر بأن عنده لقطة.
وفائدة الإشهاد ألّا يحصل منه ميل إلى استهلاكها دون أن يعرفها، وأيضاً إذا مات ولم يشهد فقد يظن الورثة أنها من الميراث فيتقاسمونها، فإذا حصل الإشهاد فإنه يكون بينة على دفع مثل هذا الاحتمال، والحاصل أن الإشهاد ليس بواجب؛ لأن أكثر الأحاديث التي وردت ليس فيها ذكر الإشهاد، فهذا يدل على الاستحباب.
قوله: (ولا يكتم) يعني: لا يكتم اللقطة، وذلك بألا يذكر نهائياً ولا يعرفها.
(ولا يغيب) يعني: لا يخفيها أو ينقلها إلى مكان آخر.
قوله: (فإن وجد صاحبها فليردها عليه، وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء) يعني: أنه يستحق هذا الذي وجده بعد التعريف.(206/16)
تراجم رجال إسناد حديث عياض بن حمار في اللقطة
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا خالد يعني: الطحان].
خالد بن عبد الله الواسطي الطحان ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب].
موسى بن إسماعيل مر ذكره، وهيب بن خالد ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن خالد الحذاء].
خالد الحذاء هو: خالد بن مهران الحذاء ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي العلاء].
أبو العلاء هو ابن عبد الله بن الشخير وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مطرف].
مطرف هو مطرف بن عبد الله بن الشخير، وهو أخو أبي العلاء بن عبد الله بن الشخير ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عياض بن حمار].
عياض بن حمار رضي الله عنه وهو صحابي، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.(206/17)
شرح حديث عبد الله بن عمرو في اللقطة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن ابن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: (عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه سئل عن الثمر المعلق فقال: من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومن سرق منه شيئاً بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع -وذكر في ضالة الغنم والإبل كما ذكره غيره- قال وسئل عن اللقطة فقال: ما كان منها في طريق الميتاء أو القرية الجامعة فعرفها سنة، فإن جاء طالبها فادفعها إليه، وإن لم يأت فهي لك، وما كان في الخراب -يعني ففيها- وفي الركاز الخمس)].
أورد أبو داود حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما والذي يقول فيه: (أنه سئل عن الثمر المعلق) يعني: الثمر الذي في رءوس النخل، (فقال: من أخذ منه بفيه) يعني: من أكل لسد حاجته وجوعه (فلا شيء عليه)، وأما إذا اتخذ خبنة أي: قطع منه شيئاً وأخذه في ثوبه، أو أخذه في وعاء من أوعيته فإن عليه غرامة مثليه والعقوبة والتعزير على تصرفه لأنه أخذ الشيء من غير حرز، وأما إذا كان أخذه من حرز فإن فيه القطع إذا بلغ ثمن المجن.
وقيل: لعل الأمر في ذلك أنّّ البساتين ليس عليها جدران أو شيء يحميها، بحيث إن الإنسان لا يدخل عليها في حرزها، وأما إذا كانت محاطة بالجدران، وجاء إنسان ودخل إليها وأخذ شيئاً منها فإنه يقطع به؛ لأنّ ذلك يكون حرزاً، قالوا: وهذا مبني على أن بساتين المدينة لم يكن عليها جدران.
قوله: (فإن آواه الجرين) أي: أنه قطع وجذّ وجعل في الجرين، وهو المكان الذي يجفف فيه الثمر، وهو حرز، فمن أخذ منه شيئاً تبلغ قيمته ثمن المجن الذي وهو ربع دينار فعليه القطع.
والجرين هو المكان الذي ييبس ويجفف فيه، ويكون حرزاً، فمن أخذ منه شيئاً تبلغ قيمته ثمن المجن وهو ربع دينار، أو مقدار ربع دينار وهي ثلاثة دراهم، فإنها تقطع يده، لأنه يكون سارقاً.
قوله: (وذكر في ضالة الإبل والغنم كما ذكره غيره) الذي مضى أنها لك أو لأخيك أو للذئب إن تركتها.
قوله: (وسئل عن اللقطة فقال: ما كان منها في طريق الميتاء أو القرية الجامعة فعرفها سنة)، طريق الميتاء هو الطريق المطروق المسلوك، فإذا وجدها في طريق الميتاء أو في القرية الجامعة فإنه يعرفها سنة، وكذلك أيضاً لو وجدها في فلاة، لكنه نصّ على هذا -والله أعلم- لأنه محل تجمع الناس، فتسقط منهم بعض الأشياء، وأن الغالب عليه أنه إذا عرّف أنه يوجد، بخلاف ما إذا كان في فلاة فإنه قد لا يحصل أن يعثر عليه، أو يأتي ذلك الشخص لذلك المكان الذي حصل فيه التعريف وهو ليس المكان الذي ضاعت فيه الضالة.
فلا يكون ذلك مثل وجوده في قرية جامعة، أو في طريق ميتاء يسلكه الناس ذاهبين آيبين.
قوله: (فإن جاء طالبها فادفعها إليه) أي: إذا وصفها بما هي عليه فادفعها إليه، (وإلا فهي لك) أي: أنه يملكها، ولكنه إن جاء صاحبها فيما بعد فإنه يدفعها إليه.
قوله: (وما كان في الخراب ففيها وفي الركاز الخمس) أي: ما كان في الخربات في الجاهلية، وكذلك في الركاز، وهو المدفون في الأرض، ففيه الخمس يدفعه، والباقي يكون لمن وجده.(206/18)
تراجم رجال إسناد حديث عبد الله بن عمرو في اللقطة
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[الليث بن سعد].
ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن عجلان].
محمد بن عجلان المدني، صدوق أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده].
قد مر ذكر هؤلاء، إلا أنه جاء التنصيص هنا على أن الجد هو عبد الله بن عمرو، فيكون شعيب قد روى عن جده عبد الله بن عمرو، وقد ذكر الحافظ في التقريب: أنه قد صح سماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو، فيكون متصلاً، ويكون الحديث حسناً؛ لأن كلاً من عمرو وشعيب صدوق، فحديثهما حسن، وكذلك محمد بن عجلان أيضاً صدوق.(206/19)
شرح حديث عبد الله بن عمرو في اللقطة من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبو أسامة عن الوليد يعني: ابن كثير قال: حدثني عمرو بن شعيب بإسناده بهذا، قال في ضالة الشاة قال: فاجمعها].
قوله: (فاجمعها) أي: خذها إلى غنمك، لكن -كما عرفنا- لابد أن يعرفها سنة وبعد السنة يتملكها.(206/20)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عمرو في اللقطة من طريق ثانية
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء].
محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
حدثنا [أبو أسامة].
أبو أسامة حماد بن أسامة، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الوليد يعني: ابن كثير].
الوليد بن كثير صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن شعيب بإسناده].
قد مر ذكرهم.(206/21)
شرح حديث ابن عمرو في اللقطة من طريق ثالثة وتراجم رجالها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن عبيد الله بن الأخنس عن عمرو بن شعيب بهذا بإسناده قال في ضالة الغنم: (لك أو لأخيك أو للذئب خذها قط)، وكذا قال فيه أيوب ويعقوب بن عطاء عن عمرو بن شعيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فخذها)].
أورد الحديث من طريق أخرى، وفيه: (خذها).
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد مر ذكره.
[عن أبي عوانة].
أبو عوانة هو: الوضاح بن عبد الله اليشكري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله بن الأخنس].
عبيد الله بن الأخنس صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن شعيب بهذا بإسناده].
قد مر ذكرهم.
[وكذا قال فيه أيوب ويعقوب بن عطاء].
أيوب هو ابن أبي تميمة السختياني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ويعقوب بن عطاء].
يعقوب بن عطاء ضعيف أخرج له النسائي.
[عن عمرو بن شعيب بإسناده].
قد مر ذكرهم.(206/22)
شرح حديث ابن عمرو في اللقطة من طريق رابعة وتراجم رجالها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد ح وحدثنا ابن العلاء حدثنا ابن إدريس عن ابن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا، قال في ضالة الشاة: (فاجمعها حتى يأتيها باغيها)].
أورد الحديث من طريق أخرى، وفيه: (فاجمعها) أي: مع غنمك، (حتى يأتيها باغيها).
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل ح وحدثنا ابن العلاء عن ابن إدريس].
ابن إدريس هو عبد الله بن إدريس ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن إسحاق].
ابن إسحاق هو: محمد بن إسحاق المدني، صدوق أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده].
مر ذكرهم.(206/23)
شرح حديث علي في التقاطه ديناراً
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن العلاء حدثنا عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج عن عبيد الله بن مقسم حدثه عن رجل عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وجد ديناراً، فأتى به فاطمة رضي الله عنها فسألت عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (هو رزق الله عز وجل، فأكل منه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأكل علي وفاطمة، فلما كان بعد ذلك أتته امرأة تنشد الدينار فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا علي! أدِّ الدينار)].
أورد أبو داود حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (أن علياً وجد ديناراً، فجاء به إلى فاطمة، فسألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الرسول: إنه رزق الله، فأكلوه، فجاءت امرأة تسأل عن الدينار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا علي! أد الدينار).
وهذا يدل على أن الدينار -وهو اثنا عشر درهماً- لا يحتاج إلى تعريف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرشده إلى تعريفه، بل أباح لهم أن يستفيدوا منه، لكن إن جاء صاحبه يسأل عنه فإنه يدفع إليه.(206/24)
تراجم رجال إسناد حديث علي في التقاطه ديناراً
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء عن عبد الله بن وهب].
عبد الله بن وهب المصري، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن الحارث].
عمرو بن الحارث المصري، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بكير بن الأشج].
بكير بن عبد الله بن الأشج المصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله بن مقسم].
عبيد الله بن مقسم ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن رجل].
رجل هنا مبهم.
[عن أبي سعيد الخدري].
أبو سعيد الخدري سعد بن مالك بن سنان الخدري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث فيه رجل مبهم، لكن الأحاديث التي ستأتي بمعناه دالة على ما دل عليه، فيكون حسناً لغيره.(206/25)
شرح حديث علي في التقاط الدينار من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الهيثم بن خالد الجهني حدثنا وكيع عن سعد بن أوس عن بلال بن يحيى العبسي عن علي رضي الله عنه: (أنه التقط ديناراً فاشترى به دقيقاً، فعرفه صاحب الدقيق فرد عليه الدينار، فأخذه علي وقطع منه قيراطين فاشترى به لحماً)].
أورد أبو داود حديث علي رضي الله عنه (أنه وجد ديناراً فذهب يشتري به دقيقاً فعرفه) أي: عرف صاحب الدقيق علياً رضي الله عنه فسامحه وردّ عليه الدينار، وبعد ذلك أخذ علي الدينار واقتطع منه قيراطين واشترى بهما لحماً، ثم جاء به إلى فاطمة فطبخت ذلك، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم بأكله، وبعد ذلك جاء من يسأل عنه فأمر بإعطائه الدينار.(206/26)
تراجم رجال إسناد حديث علي في التقاط الدينار من طريق ثانية
قوله: [حدثنا الهيثم بن خالد الجهني].
الهيثم بن خالد الجهني أخرج حديثه أبو داود.
[عن وكيع].
وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعد بن أوس].
سعد بن أوس العبسي ثقة أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) وأصحاب السنن.
[عن بلال بن يحيى العبسي].
بلال بن يحيى العبسي صدوق أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) وأصحاب السنن.
[عن علي].
علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة، والمناقب الكثيرة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(206/27)
شرح حديث علي في التقاط الدينار من طريق ثالثة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا جعفر بن مسافر التنيسي حدثنا ابن أبي فديك حدثنا موسى بن يعقوب الزمعي عن أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله عنهما أنه أخبره: (أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه دخل على فاطمة رضي الله عنها وحسن وحسين رضي الله عنهما يبكيان فقال: مايبكيهما؟ قالت: الجوع، فخرج علي فوجد ديناراً بالسوق، فجاء إلى فاطمة فأخبرها، فقالت: اذهب إلى فلان اليهودي فخذ لنا دقيقاً، فجاء اليهودي فاشترى به، فقال اليهودي: أنت ختن هذا الذي يزعم أنه رسول الله؟ قال: نعم، قال: فخذ دينارك ولك الدقيق، فخرج علي حتى جاء به فاطمة فأخبرها، فقالت: اذهب إلى فلان الجزار فخذ بدرهم لحماً، فذهب فرهن الدينار بدرهم لحم فجاء به، فعجنت ونصبت وخبزت، وأرسلت إلى أبيها فجاءهم، فقالت: يا رسول الله! أذكر لك فإن رأيته لنا حلالاً أكلناه وأكلت معنا، من شأنه كذا وكذا، فقال: كلوا باسم الله.
فأكلوا، فبينما هم مكانهم إذا غلام ينشد الله والإسلام الدينار، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعي له فسأله، فقال: سقط مني في السوق، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا علي! اذهب إلى الجزار فقل له: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لك: أرسل إلي بالدينار ودرهمك عليَّ، فأرسل به فدفعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليه)].
أورد أبو داود حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: أن علياً وجد ديناراً، فذهب واشترى به دقيقاً من يهودي، فقال له اليهودي: أنت ختَن -أي: صهر فالختن زوج البنت- هذا الذي يزعم أنه نبي؟ قال: نعم.
وهذا يدل على أنه قد سبق أن عرف علياً، فأعطاه الدقيق والدينار، أي: أنه سامحه في الدقيق.
ثم ذهب واشترى بدرهم لحماً، ورهن الدينار عند صاحب اللحم، فأتى باللحم والدقيق فطبخوه، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه بما حصل، فأكلوا وأكل معهم، ثم جاء غلام ينشد هذه الضالة -وهي الدينار- فسأله: أين فقدتها؟ فذكر أنه فقدها في السوق، وكان الدينار مرهوناً بالدرهم عند الجزار، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجزار بأن يرسل الدينار وهو يضمن له الدرهم، فأرسل بالدينار فأعطاه لذلك الغلام، فدل هذا الحديث على ما دل عليه الحديث في الطريق الأولى السابقة من أن الدينار لا يعرَّف، وأنه إذا جاء من يطلبه -ولو كان لا يعرَّف- ووصفه صحيحاً فإنه يدفع إليه.(206/28)
تراجم رجال إسناد حديث علي في التقاط الدينار من طريق ثالثة
قوله: [حدثنا جعفر بن مسافر التنيسي].
جعفر بن مسافر التنيسي صدوق ربما أخطأ، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن ابن أبي فديك].
ابن أبي فديك: محمد بن إسماعيل بن مسلم، صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن موسى بن يعقوب الزمعي].
موسى بن يعقوب الزمعي صدوق سيء الحفظ، أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) وأصحاب السنن.
[عن أبي حازم].
أبو حازم هو: سلمة بن دينار ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سهل].
سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(206/29)
شرح حديث (رخص لنا رسول الله في العصا والسوط وأشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي حدثنا محمد بن شعيب عن المغيرة بن زياد عن أبي الزبير المكي أنه حدثه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: (رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في العصا والسوط والحبل وأشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به)].
أورد أبو داود حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لهم في السوط والعصا والحبل يلتقطه الرجل ينتفع به، وهذا فيه أن مثل هذه الأشياء البسيطة والسهلة لا تحتاج إلى تعريف، ويملكها الإنسان مباشرة، لكن إن جاء صاحبها فإنه يعطيه إياها، كما جاء في قصة الدينار السابقة.
وهذا الحديث ضعفه الألباني من جهة أن الطريق الثانية تفيد أنه موقوف وليس مضافاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الطريق الأولى فرجالها دون رجال الطريق الثانية، وفيها أيضاً أبو الزبير وهو مدلس.(206/30)
تراجم رجال إسناد حديث (رخص لنا رسول الله في العصا والسوط وأشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به)
قوله: [حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي].
سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي صدوق يخطئ أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن محمد بن شعيب].
عن محمد بن شعيب منشابور صدوق أخرج له أصحاب السنن.
[عن المغيرة بن زياد].
المغيرة بن زياد وهو صدوق له أوهام أخرج له أصحاب السنن.
[عن أبي الزبير المكي].
صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر بن عبد الله الأنصاري].
جابر بن عبد الله هو رضي الله تعالى عنهما، الصحابي الجليل، أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[قال أبو داود: رواه النعمان بن عبد السلام عن المغيرة أبي سلمة بإسناده، ورواه شبابة عن مغيرة بن مسلم عن أبي الزبير عن جابر قال: كانوا، لم يذكروا النبي صلى الله عليه وسلم].
ثم أورده من طريق أخرى، وفيه أنهم لم يذكروا النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون موقوفاً.
قوله: [رواه النعمان بن عبد السلام].
النعمان بن عبد السلام ثقة أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن المغيرة بن سلمة].
المغيرة بن سلمة هو المغيرة بن مسلم صدوق أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) والترمذي والنسائي وابن ماجة.
[ورواه شبابة].
شبابة بن سوار وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب.
[عن مغيرة بن مسلم عن أبي الزبير عن جابر].
مغيرة بن مسلم هو المغيرة بن أبو سلمة الذي مر.(206/31)
شرح حديث (ضالة الإبل المكتومة غرامتها ومثلها معها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مخلد بن خالد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن عمرو بن مسلم عن عكرمة أحسبه عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ضالة الإبل المكتومة غرامتها ومثلها معها)].
ثم أورد أبو داود حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ضالة الإبل المكتومة غرامتها ومثلها)، فالإبل لا تلتقط، كما مر معنا، وإذا أخذها وكتمها فإنه يعاقب بدفع غرامتها ومثلها معها.
هذا مثل الحديث الذي سبق أن مر قريباً في أخذ الثمر، وأنه يعزر وعليه الغرم مثلها، فهذا من جنسه، ومثل ذلك أيضاً الحديث الذي سبق وفيه: (فإنّا آخذوها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا).(206/32)
تراجم رجال إسناد حديث (ضالة الإبل المكتومة غرامتها ومثلها معها)
قوله: [حدثنا مخلد بن خالد].
مخلد بن خالد ثقة أخرج له مسلم وأبو داود.
[عن عبد الرزاق].
عبد الرزاق بن همام الصنعاني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن معمر].
معمر بن راشد الأزدي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن مسلم].
عمرو بن مسلم صدوق له أوهام البخاري في (خلق أفعال العباد) ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن عكرمة].
عكرمة مولى ابن عباس وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أحسبه عن أبي هريرة].
أي: أنه شك أن يكون فيه واسطة، وهو على هذا يكون مرسلاً.
وهذا الحديث صححه الألباني، فلا أدري إن كان له شواهد.(206/33)
شرح حديث (نهى عن لقطة الحاج)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يزيد بن خالد بن موهب وأحمد بن صالح قالا: حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو عن بكير عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن عبد الرحمن بن عثمان التيمي رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن لقطة الحاج).
قال أحمد: قال ابن وهب: يعني في لقطة الحاج يتركها حتى يجدها صاحبها، قال ابن موهب: عن عمرو].
ثم أورد أبو داود حديث عبد الرحمن بن عثمان التيمي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لقطة الحاج) أي: أن لقطة الحاج لا تملك مباشرة، ولا تؤخذ لتعرف سنة ثم تملك، وإنما تعرف دائماً، فليست كغيرها من اللقطات التي تعرّف سنة ثم تتملك، لأن الحاج يتردد على مكة والمدينة فلعله أن يأتي ولو بعد سنوات، مثل قوله: (ولا تلتقط لقطتها إلا لمنشد) أي: منشد ينشدها دائماً.
والذي يبدو أن هذا يحمل على الكثير، وأما القليل فأمره سهل كما عرفنا في الدينار، وسواء كان هذا في مكة أو المدينة، فحديث الدينار كان في المدينة.
فإذا وجد الإنسان لقطة في موسم الحج وعرف أنها للحاج، أو كانت عليها علامة الحاج فإنه يعرفها أبداً، سواء كانت في الحرم أو خارج الحرم.(206/34)
تراجم رجال إسناد حديث (نهى عن لقطة الحاج)
قوله: [حدثنا يزيد بن خالد بن موهب].
يزيد بن خالد بن موهب الرملي ثقة أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[وأحمد بن صالح].
أحمد بن صالح المصري ثقة أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[عن ابن وهب عن عمرو عن بكير].
ابن وهب مر ذكره، وعمرو هو: ابن الحارث، وبكير هو: ابن عبد الله بن الأشج، وكلهم مر ذكرهم.
[عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب].
يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ثقة أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الرحمن بن عثمان التيمي].
عبد الرحمن بن عثمان التيمي رضي الله عنه وهو صحابي، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[قال ابن وهب في لقطة الحاج: يتركها حتى يجدها صاحبها، قال ابن موهب: عن عمرو].
أي: أنه لا يتصرف فيها ولا ينفقها.
قوله: (قال ابن موهب عن عمرو)، أي: أنه هنا رواه بالعنعنة، فقد رواه أبو داود عن شيخين، فأما الأول فرواه بلفظ أخبرني، والشيخ الثاني وهو ابن موهب فقد رواه بالعنعنة.(206/35)
شرح حديث (لا يؤوي الضالة إلّا ضال)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عمرو بن عون أخبرنا خالد عن أبي حيان التيمي عن المنذر بن جرير قال: (كنت مع جرير رضي الله عنه بالبوازيج فجاء الراعي بالبقر وفيها بقرة ليست منها، فقال له جرير: ما هذه؟ قال لحقت بالبقر لا ندري لمن هي، فقال جرير: أخرجوها فقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لا يأوي الضالة إلا ضال)].
أورد أبو داود حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه الذي فيه: (لا يؤوي الضالة إلا ضال) وذكر القصة التي حصلت وهو سبب التحديث بالحديث، وأنه كان معه بالبوازيج -وهي مكان- فجاء الراعي ومعه زيادة بقرة فأمره بأن يخرجها، ثم قال: (لا يؤوي ضالة إلا ضال).
والحديث في إسناده المنذر بن جرير وهو مقبول، لكن الحديث في (صحيح مسلم) بلفظ: (من آوى ضالة فهو ضال ما لم يعرفها)، فهذا يدل على تقييد ذلك بالتعريف، أما إذا عرفها فإنه لا يعتبر ضالاً.
وهذه القصة هي التي ذكرها الألباني وقال: إن في إسنادها ضعيفاً، وأما المرفوع منها ففي صحيح مسلم، لكنه قيد الضلال بعدم التعريف، فإذا عرفها فإنه لا يكون ضالاً.(206/36)
تراجم رجال إسناد حديث (لا يؤوي الضالة إلّا ضال)
قوله: [حدثنا عمرو بن عون].
عمرو بن عون ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا خالد].
خالد بن يزيد بن عبد الله الواسطي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي حيان التيمي].
أبو حيان التيمي هو يحيى بن سعيد بن حيان ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن المنذر بن جرير].
المنذر بن جرير مقبول أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن جرير].
جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(206/37)
الأسئلة(206/38)
حكم إلحاق البقر بالإبل في اللقطة
السؤال
هل حكم البقر كحكم الغنم، أو أنها تلحق بالإبل؟
الجواب
بعض العلماء يلحقها بالإبل، ويقول: إنها تمتنع، وبعضهم لا يلحقها بها، بل يلحقها بالغنم فيقول: إنها ليست مثلها، وأقول: ليست مثلها، وأما حديث جرير في قصة البقرة فهو غير صحيح؛ لأن فيه رجلاً مقبولاً وهو المنذر، والذي يبدو أنها ليست مثل الإبل من حيث الامتناع.(206/39)
حكم الالتقاط
السؤال
ما حكم الالتقاط: هل الأولى لمن وجد شيئاً أن يأخذه ويعرفه أو يتركه؟
الجواب
إذا كان الإنسان سيقوم بتعريفها فعليه أن يلتقطها، وإن كان يخشى عليها من أن يأخذها الأطفال أو غيرهم فيتلفونها على صاحبها فالأولى أن يلتقطها، وعليه أن يقوم بتعريفها، أو يعطيها من يقوم مقامه في التعريف بها، ثم يملكها، أو يدفعها إلى جهة رسمية مسئولة عن الأشياء المفقودة، فإن الناس سيسألون هذه الجهة عنها.(206/40)
عدة المتوفى عنها زوجها وهي في غير بلدها
السؤال
امرأة تسأل وتقول: إنها مقيمة في المملكة، وقد توفي زوجها في بلده، فكيف تكون عدتها؟
الجواب
تكون عدتها من حين توفي زوجها، فإذا كانت في مكان مأمون فإنها تعتد في البيت الذي هي فيه، اللهم إلا إذا جاءت مسافرة ثم بلغها الخبر، فإذا كان معها محرم فتسافر معه وترجع، وإن لم يكن معها محرم فيأتي محرم ويذهب بها وتعتد في بيت زوجها.
أما إذا مقيمة هنا، وزوجها توفي هنا أو في مكان آخر؛ فتعتد في المكان الذي هي فيه.(206/41)
حكم صرف الكفارة لمن جاءهم موت أو نحوه
السؤال
يقول السائل: إن والدته امرأة كبيرة ومريضة لم تستطع أن تصوم رمضان؛ لكبرها ومرضها، فعملنا إطعاماً جماعياً فأعطينا هذا الطعام لأناس لديهم متوفى، إلا أن الذين تمّ إطعامهم فيهم صغار وكبار، فما الحكم؟
الجواب
هذا الفعل ليس بصحيح، فإذا أرادوا أن يطعموا الجيران الذين توفي ميتهم، فهذا شيء طيب؛ لأنهم قد جاءهم ما يشغلهم، وأما أن تصرف لهم الكفارة التي تكون للفقراء والمساكين أو تصرف وتقدم للضيوف فلا؛ لأنهم قد يكونون أغنياء ولكنهم جاءهم ما يشغلهم، فهؤلاء ليسوا من مصارف الكفارة، وإنما تصرف للفقراء والمساكين.
فعلى كل؛ فهذا الذي صرفوه وأعطوه لا يكون كفارة، وإنما تصرف الكفارة إلى من يستحقها.(206/42)
حكم قيادة المرأة المحجبة للسيارة
السؤال
ما حكم قيادة المرأة المحجبة للسيارة في دولة تسمح للمرأة أن تقود السيارة؟
الجواب
لا يجوز للمرأة أن تقود السيارة أبداً، سواء كانت محجبة أو غير محجبة، ثم ما معنى أن تكون محجبة؟! هل معنى ذلك أن تغطي وجهها! فإذا كان كذلك فكيف تسوق؟! اللهم إلا إن يكون ذلك على تعريف الحجاب عند الناس الذين عندهم كشف الوجه من الأمور المسلمة، وتكون المحجبة هي التي تغطي رأسها وصدرها، وأما تغطية الوجه فليس عندهم من الحجاب.
ولا شك أن تغطية الوجه من الحجاب، فلا يجوز للمرأة أن تقود السيارة لا بحجاب ولا بغير حجاب، حتى ولو كانت لابسة برقعاً يظهر فيه عيناها فإنه ليس لها ذلك؛ فإن قيادة المرأة للسيارة يترتب عليه أضرار لا حد له من جهة تعرضها للحوادث، ومن جهة أنها ستكون مضايقة من الرجال، وغير ذلك من الأمور التي لا حد لها ولا نهاية، فعلى المرأة أن تحتجب، وأن تصون نفسها، وأن تبتعد عن التعرض للرجال، وقيادتها للسيارة تؤديها إلى المهالك، وأقل شيء إذا حصل حادث بينها وبين إنسان آخر أن يأتي المرور، ويتجمع حولها الناس، وتقوم الدنيا على رأسها.(206/43)
الجمع بين حديث الترخيص في التقاط السوط وحديث سويد بن غفلة في النهي عن ذلك
السؤال
جاء في حديث جابر: (رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العصا والسوط والحبل)، بينما جاء في حديث سويد بن غفلة أنه وجد سوطاً فأمروه بترك ذلك، فكيف الجمع؟
الجواب
ليس هناك تنافٍ، فأولئك قالوا لـ سويد بن غفلة: لا تأخذه، فقال: سآخذه وأستفيد منه حتى أجد صاحبه، ثم ذهب يحج وسأل أبي بن كعب فذكر له قصة المائة الدينار التي وجدها في صرة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمره أن يعرف عفاصها ووكاءها، وأما السوط فلا يحتاج إلى أن يعرف، بل يستفاد منه، لكن إن جاءه أحد فإنه يعطيه إياه كما مر في قصة الدينار التي سبقت.
فالحاصل أنه ليس هناك تنافٍ بين هذا وهذا؛ لأن أولئك هم الذين نهوه، وأما هو فلم ينته؛ لأنه ليس عنده شيء يدل على المنع.(206/44)
حكم تعريف اللقطة في الإذاعة لمدة أسبوع فقط
السؤال
إذا وجدت اللقطة وعرفتها عن طريق الإذاعة لمدة أسبوع، ولم يأت أحد لأخذها من تاريخ الإعلان إلى سنة فهل أتملكها؟
الجواب
هذا التعريف لا يكفي، بل عليه أن يكرر التعريف.(206/45)
حكم لقطة المدينة
السؤال
وجدت بعض الشراشف في المدينة لعلها سقطت من بعض الحجاج الذين ذهبوا، فهل لي أن آخذها؟
الجواب
إذا كانت لها قيمة فإنه يأخذها ويعرفها دائماً، وإن كانت قليلة وليس لها قيمة فيمكن أن يأخذها ويتصدق بها عن أصحابها، أو يتملكها فلا مانع من ذلك؛ لأنها شيء يسير لا تتبعه الهمم، ولا تتعلق به الرغبات.(206/46)
التعريف بلقطة الحاج
السؤال
وجدت مبلغاً من المال وقدره أربعمائة ريال عند باب المحل، ولم أتعرف على صاحبها حتى الآن، وكان ذلك قبل خمسة عشر يوماً، فماذا أفعل؟ ووجدت أيضاً مالاً قدره مائتا دينار جزائري تركها حاج ولم يرجع، فما الحل؟
الجواب
بالنسبة للأمر الأول فإنه يعرفها، وإذا كان في المدينة فباستمرار، أو يعطيها للجهة المسئولة عن فقد الأشياء، وأما هذا الذي ذكر أنه تركها، فمعناه أن صاحبها معروف، لكنه لم يدر أين ذهب، ولم يرجع هو، فهذا يصير مثل الأموال الضائعة التي لا يعرف أصحابها، فيتصدق بها عن صاحبها.(206/47)
حكم وضع العصافير في القفص مع الاعتناء بطعامها وشرابها
السؤال
وجدت عصفوراً صغيراً، وأريد أن أضعه في قفص وعلي أكله وشربه وأنا في المدينة، فهل يجوز لي ذلك؟
الجواب
الأولى عدم حبس الطيور هذا الحبس الذي ليس وراءه مصلحة ولا فائدة، وإنما هو ترفه وزيادة تنعم وتلذذ بالأصوات وغيرها، فالأولى ألا يفعل ذلك، لكن إن فعل ذلك وأطعمه فلا بأس بذلك والأولى عدم فعله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في قصة الهرة: (فلا هي أطعمتها وسقتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض).(206/48)
حكم سداد الورثة دين ميتهم
السؤال
شخص توفي وعليه دين ولم يترك مالاً، فهل يلزم الورثة أن يسددوا عنه الدين؟
الجواب
لا، لا يلزمهم.(206/49)
حكم من استعار من آخر قلماً في الدرس فذهب صاحب القلم
السؤال
حضرت إلى هذا الدرس واستعرت من الذي بجانبي قلماً، فذهب صاحب القلم قبل أن أعيده إليه وأنا لا أعرف من هو صاحب القلم، فماذا أفعل؟
الجواب
على كل ما دام أنه في الدرس فالدرس يتكرر، فحاول أن تتعرف عليه في الدروس القادمة وستجده إن شاء الله.(206/50)
حكم الصلاة وراء من كان ظالماً ومخالفاً للسنة
السؤال
إذا صلى الإنسان خلف حاكم عنده خبط في أمر السنة وظلم، فهل يصح أن يصلى خلفه جماعة بنية الانفراد، فإنه يذكر أن هذه الفتوى من سماحتكم؟
الجواب
الإنسان الذي لا يصل به الحال إلى حد الكفر، فالصلاة وراءه صحيحة، وأما إذا كان كافراً فلا يجوز أن يصلى وراءه.(206/51)
شرح سنن أبي داود [207]
الحج أحد أركان الإسلام الخمسة المعروفة، وهو من أعظم شعائر الدين، وفيه من الفوائد والحكم والمقاصد والخيرات ما الله به عليم، فقد جعله الله قياماً للناس يصلح به أمور دينهم ودنياهم، وهو عبادة بدنية ومالية ينفق فيها العبد الأموال كي يصل إلى تلك المشاعر العظيمة، والأماكن الكريمة، ثم إذا وصل إلى تلك البقاع المباركة قام بكثير من العبادات من صلاة وذكر وطواف وسعي وغير ذلك.(207/1)
فرض الحج(207/2)
شرح حديث (يا رسول الله الحج في كل سنة أو مرة واحدة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب المناسك.
باب: فرض الحج.
حدثنا زهير بن حرب وعثمان بن أبي شيبة المعنى قالا: حدثنا يزيد بن هارون عن سفيان بن حسين عن الزهري عن أبي سنان عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الأقرع بن حابس سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (يا رسول الله! الحج في كل سنة أو مرة واحدة؟ قال: بل مرة واحدة، فمن زاد فهو تطوع)].
ذكر الإمام أبو داود رحمه الله بعد كتاب الصلاة، كتاب الزكاة، ثم أتى بعده بكتاب المناسك، وجعله قبل الصيام، وأخر كتاب الصيام عن كتاب المناسك وعن كتب أخرى أيضاً، وجعله بعد النكاح.
والطريقة المشهورة عند العلماء أنهم يجعلون المناسك في آخر أركان الإسلام، فيأتون بالصلاة، وقبلها مفتاح الصلاة وهو الطهارة، ثم بعد ذلك الزكاة، ثم الصيام، ثم الحج، كما جاء في حديث جبريل: (قال: أخبرني عن الإسلام؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً).
ومن أهل العلم من يقدم المناسك أو الحج على الصيام، كفعل أبي داود رحمه الله، وكذلك هو صنيع البخاري، فإنه رحمه الله بدأ كتاب الإيمان بحديث ابن عمر، وفيه هذا الترتيب، حيث قال: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان)، فرتب كتب صحيحه على هذا الترتيب الذي جاء في حديث ابن عمر.
وقد ذكر المحشي أن في بعض النسخ تقديم المناسك على الصيام، وكذلك هو في مختصر المنذري، وأما الخطابي فمشى على تقديم الصوم على المناسك، كما هو الحال في ترتيب غالب كتب الحديث.
ومن أهل العلم من يترجم للحج فيقول: كتاب الحج، ومنهم من يقول: كتاب المناسك، كما فعل أبو داود.
والمناسك من حيث اللغة تطلق إطلاقاً واسعاً، وكذلك أيضاً تطلق في الشرع على عدة أمور منها: العبادة، والذبيحة أو الذبح، وتطلق أيضاً على الحج، ولعلهم سموا الحج والعمرة مناسك ويريدون من ذلك أن الحج والعمرة يشتملان على أنساك، فالحج ثلاثة أنساك: تمتع وقران وإفراد.
فالتمتع أن يأتي بالعمرة على حدة في أشهر الحج، ثم يأتي بالحج من العام، والقران أن يجمع بين الحج والعمرة في أشهر الحج، فيقرن بينهما، ويفرغ منهما جميعاً، وتكون أفعالهما واحدة، والإفراد يؤتى به وحده في أشهر الحج، والعمرة يؤتى بها مستقلة لا علاقة لها بالحج، كالعمرة التي تكون في رمضان وفي أشهر السنة كلها، فإن هذه من المناسك، فقالوا لأعمال الحج: مناسك؛ لاشتماله على هذه الأنساك الثلاثة، والعمرة تكون مع الحج في القران، وتكون منفصلة عنه في أشهر الحج قبل الحج، وهي التمتع، وقد يؤتى بها في أشهر الحج مفردة بدون أن يكون معها حج، فلا يقال لها: تمتع، كما حصل من النبي صلى الله عليه وسلم في عُمره التي فعلها في ذي القعدة، وهي ما عدا العمرة التي في حجته، فتلك العمرات كانت مستقلة ليس لها علاقة بالحج، وكذلك العُمَر في الأشهر كلها داخلة في المناسك، فمن أجل ذلك عبر بعض أهل العلم عن ذلك بالمناسك.
أورد أبو داود رحمه الله: باب فرض الحج، أي: أنه فريضة من فرائض الإسلام.
وأورد حديث ابن عباس رضي الله عنه أن الأقرع بن حابس (سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحج أفي كل عام أو مرة واحدة؟ فقال: بل مرة واحدة، وما زاد فهو تطوع) أي: أن الحج يجب مرة واحدة.
وجاء في بعض الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كتب عليكم الحج فحجوا، فقال الأقرع بن حابس: أفي كل عام يا رسول الله؟! فسكت، ثم قال بعد ذلك: لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم، الحج مرة، وما زاد فهو تطوع).
وعلى هذا فالحج فريضة من فرائض الإسلام، بل هو ركن من أركان الإسلام، وقد جاء ذلك في حديث جبريل، وجاء أيضاً في حديث ابن عمر، وجاءت أحاديث كثيرة تدل على فضل الحج والأمر به، وقبل ذلك آي من القرآن كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97]، فالحج من الأمور المعلومة من دين الإسلام بالضرورة، ويجب في العمر مرة واحدة، وهذا من تيسير الله عز وجل وتخفيفه على عباده؛ لأنه لو وجب في كل عام على كل قادر لكان في ذلك مشقة على الناس، ولكان في ذلك أيضاً مشقة في كثرة الناس وازدحامهم، ولكن الله عز وجل لم يفرضه في العمر إلا مرة واحدة.
ولهذا فإن الحج هو أقل العبادات وجوداً من حيث الفرض، فالصلاة تجب في اليوم والليلة خمس مرات، والزكاة تجب في السنة مرة واحدة على من كان غنياً، والصوم يجب على كل من وجب عليه في السنة شهراً، وأما الحج فإنه لا يأتي في العمر إلا مرة واحدة على سبيل الوجوب، وما زاد على ذلك فهو تطوع.(207/3)
تراجم رجال إسناد حديث (يا رسول الله الحج في كل سنة أو مرة واحدة)
قوله: [حدثنا زهير بن حرب].
زهير بن حرب أبو خيثمة، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[وعثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي والنسائي فقد أخرج له في (عمل اليوم والليلة).
[قال: المعنى].
قوله: المعنى، أي: أن المعنى واحد.
[قالا: حدثنا يزيد بن هارون].
يزيد بن هارون الواسطي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان بن حسين].
سفيان بن حسين ثقة في غير الزهري، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن الزهري].
الزهري هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سنان].
أبو سنان هو يزيد بن أمية وهو ثقة أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن ابن عباس].
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث من رواية سفيان بن حسين عن الزهري، وسفيان ضعف في روايته عن الزهري، لكن للحديث شواهد، وهو ورد في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة.
[قال أبو داود: هو أبو سنان الدؤلي، كذا قال عبد الجليل بن حميد، وسليمان بن كثير جميعاً عن الزهري، وقال عقيل: عن سنان].
يعني: أن بعض الرواة رووه عن أبي سنان، وأما عقيل بن خالد فإنه قال: عن سنان، وهو أبو سنان.
وعبد الجليل بن حميد ثقة لا بأس به، أخرج له النسائي.
وسليمان بن كثير لا بأس به في غير الزهري، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وعقيل هو ابن خالد بن عقيل المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(207/4)
شرح حديث: (هذه ثم ظهور الحصر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا النفيلي حدثنا عبد العزيز بن محمد عن زيد بن أسلم عن ابن لـ أبي واقد الليثي عن أبيه رضي الله عنه أنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لأزواجه في حجة الوداع: هذه، ثم ظهور الحصر)].
أورد أبو داود حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأزواجه في حجة الوداع: (هذه، ثم ظهور الحصر) أي: ثم الْزَمْنَ ظهور الحُصُر، والحصر: جمع الحصير، وهو ما يبسط في البيت، من الفرش والمقصود من ذلك أنهن يلزمن البيوت بعد أدائهن لفريضة الحج.
وقوله: (هذه) أي: حجة الإسلام الفريضة، ولهذا أورده أبو داود رحمه الله في كتاب فرض الحج، وأنه فرض على الرجال والنساء، وقد قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97].
وقد جاءت أحاديث أخرى تدل على أنه يجوز للنساء أن يتطوعن، وفي صحيح البخاري: (أفلا نجاهد؟ قال: لكن أفضل الجهاد حج مبرور)، وكذلك الأحاديث المرغبة فيه هي عامة للرجال والنساء كقوله: (الحج مرة، وما زاد فهو تطوع).
وهذا الحديث يدل على أن المرأة ينبغي لها ألا تكرر الحج، لكن لو كررته فقد جاء ما يدل عليه.
وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم حججن معه، وكن متمتعات، وكانت عائشة معهن، وكانت متمتعة، ولكن حصل لها الحيض، فأدخلت الحجة على العمرة، ولهذا سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن تأتي بعمرة بعد الحج، حتى تكون مثل أمهات المؤمنين اللاتي دخلن بالعمرة، وأتممن عمرتهن على استقلال، ثم أتين بالحج مستقلاً، وطفن طوافين، وسعين سعيين، فأرادت أن تكون مثلهن في إيقاع عمرة مستقلة، وحج مستقل، وقد نحر عنهن البقر كما جاء ذلك في الصحيح، وحججن أو عدد منهن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في آخر خلافة عمر، وفي عهد عثمان، فهن لم يفهمن الوجوب من قوله: (هذه، ثم ظهور الحصر)، بدليل وجود الأحاديث الأخرى التي تدل على أن أفضل الجهاد هو الحج مبرور وغير ذلك.(207/5)
تراجم رجال إسناد حديث (هذه ثم ظهور الحصر)
قوله: [حدثنا النفيلي].
هو عبد الله بن محمد النفيلي، ثقة أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا عبد العزيز بن محمد].
هو عبد العزيز بن محمد الدراوردي، صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زيد بن أسلم].
زيد بن أسلم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن لـ أبي واقد الليثي].
اسمه واقد، وقد جاء تسميته في مسند الإمام أحمد، وهو مختلف في صحبته، أخرج له أبو داود.
[عن أبيه].
أبوه هو أبو واقد الليثي رضي الله عنه، قيل: اسمه: الحارث بن مالك، وقيل: ابن عوف، صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(207/6)
حج المرأة بغير محرم(207/7)
شرح حديث: (لا يحل لامرأة مسلمة تسافر مسيرة ليلة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: في المرأة تحج بغير محرم.
حدثنا قتيبة بن سعيد الثقفي حدثنا الليث بن سعد عن أبيه أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يحل لامرأة مسلمة تسافر مسيرة ليلة إلا ومعها رجل ذو حرمة منها).
أورد أبو داود باب: المرأة تحج بغير محرم، يعني: أن ذلك لا يجوز، فقد جاء النهي عن السفر، والحج لا يتأتى غالباً إلا بالسفر والانتقال إلى مكة؛ لأداء النسك سواء كان حجاً أو عمرة، فالمرأة لا تسافر إلا مع محرم، سواء كان ذلك السفر للحج أو لغيره، وإذا لم يوجد المحرم فإن الحج لا يكون لازماً لها، فمن شروط وجوبه عليها وجود المحرم؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى النساء أن يسافرن إلا مع ذي محرم.
وقد جاءت أحاديث عديدة في تحديد مدة السفر، ففي بعضها: يوم وليلة، وبعضها: ليلة، وبعضها: ثلاثة أيام، وغير ذلك، وقد قيل في سبب اختلافها: إنها كلها مبنية على أسئلة، وإن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب عن تلك الأسئلة، فلا تدل على أن ما دونها يجوز، وقد جاء الإطلاق عن النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيح أنه قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع ذي محرم)، فكل ما يقال له سفر فإنه يناط به الحكم، سواء كان طويلاً أو قصيراً، قليلاً أو كثيراً.
وإيراد أبي داود رحمه الله لهذه الأحاديث في كتاب الحج إشارة إلى أن الحج لا يكون من المرأة إلا مع ذي محرم، والمحرم هو زوجها أو من تحرم عليه على التأبيد، بنسب أو سبب مباح.
فالزوج يكون في حال وجود الزوجية، وهذا المحرمية مادامت في العصمة، وإلا فإنه إذا طلقها صارت أجنبيه.
وأما الذين محرميتهم مستقرة ودائمة فهم من تحرم عليهم على التأبيد لنسب كالأم والبنت، أو لسبب مباح كالرضاعة أو المصاهرة، وهذا يخرج من تحرم عليه مؤقتاً كزوج الأخت، وزوج العمة، فإنه ليس له أن يجمع بينها وبين أختها، وهذا التحريم مؤقت، فلو ماتت أختها فإن له أن يتزوجها، ولو ماتت العمة فإن له أن يتزوجها، وإنما يحرم الجمع فقط.
قوله: (لا يحل لامرأة مسلمة) فيه أن المسلم هو الذي يحصل منه حج، واختلف أهل العلم هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة أو غير مخاطبين على قولين: أصحهما أنهم مخاطبون، ولكن لا يصح منهم الحج إلا بعد الإتيان بالركن الركين، والأصل الأصيل، وهو شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
وفائدة ذلك: أنهم يؤاخذون على ترك الأصول، وعلى ترك الفروع.(207/8)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا يحل لامرأة مسلمة تسافر مسيرة ليلة)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد الثقفي].
قتيبة بن سعيد الثقفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الليث بن سعد].
الليث بن سعد ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن أبي سعيد].
سعيد بن أبي سعيد المقبري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه هو أبو سعيد المقبري، واسمه كيسان، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة رضي الله تعالى عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق.
وسعيد بن أبي سعيد يروي عن أبيه، ويروي عن أبي هريرة مباشرة.(207/9)
شرح حديث: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر يوماً وليلة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة والنفيلي عن مالك ح وحدثنا الحسن بن علي حدثنا بشر بن عمر قال: حدثني مالك عن سعيد بن أبي سعيد، قال الحسن في حديثه: عن أبيه، ثم اتفقوا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر يوماً وليلة)، فذكر معناه، قال النفيلي: حدثنا مالك].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة من طريق أخرى، وفيه: (أنه لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة، فذكر معناه) أي: معنى الحديث المتقدم الذي قبل ذلك.
ويأتي كثيراً في القرآن والسنة الجمع بين الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر، وذلك أن الإيمان بالله هو الأصل التي تبنى عليه جميع الأصول، فالإيمان بالله يتبعه الإيمان بملائكته وكتبه ورسله، فكل ذلك مرده إلى الله عز وجل، وتابع للإيمان بالله عز وجل، فمن لم يؤمن بالله لا يؤمن بالملائكة، ولا بالكتب، ولا الرسل، فالإيمان بهذه الأمور تابع للإيمان بالله تعالى، فهو تصديق بما جاء عن الله عز وجل، فقد جاء في الوحي أن هناك ملائكة، وأن هناك رسلاً إلى آخره.
ويأتي كثيراً في القرآن والسنة الجمع بين الإيمان بالله وبين اليوم الآخر؛ لأن الإيمان بالله هو الأصل، ولأن اليوم الآخر هو يوم المعاد الذي فيه الجزاء والحساب، ففي ذكر ذلك والتنصيص عليه تذكير باليوم الآخر والحساب، فهنا قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر) فإن الذي يفكر في اليوم الآخر وما يكون فيه من الثواب والعقاب يجعله ذلك يقلع عن المعصية، فالمرأة إذا أرادت أن تسافر وسمعت هذا الحديث: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر) فإنها تأثم، وتكون عرضة للعقاب في اليوم الآخر.
ومثل هذا حديث وكذلك: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)، وقوله تعالى: {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [الطلاق:2].
وإذا حجت المرأة بغير محرم فإنها تكون قد فعلت طاعة، وفعلت معصية، فتثاب على طاعتها، وتأثم على معصيتها، فالحج إذا وجد دون محرم يصح، ولكن تأثم المرأة على ذلك، ولا تعيد.(207/10)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر يوماً وليلة)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[والنفيلي عن مالك].
النفيلي مر ذكره، ومالك هو ابن أنس إمام دار الهجرة الإمام المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا الحسن بن علي].
(ح) يؤتى بها للتحول من إسناد إلى إسناد آخر، والحسن بن علي هو الحلواني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا بشر بن عمر].
بشر بن عمر ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني مالك عن سعيد بن أبي سعيد].
سعيد بن أبي سعيد هو المقبري.
[قال الحسن في حديثه: عن أبيه].
أي: أنه يروي عن أبيه عن أبي هريرة، وأما القعنبي والنفيلي فإنهم لم يقولوا: عن أبيه، ولا إشكال في ذلك؛ لأن سعيد بن أبي سعيد روى عن أبيه عن أبي هريرة، وروى عن أبي هريرة مباشرة.
فيكون عنده الطريقان، وهذه طريقة معروفة عند المحدثين، فيمكن أن يكون الحديث عنده نازلاً، ثم يقف عليه عالياً، فيرويه على الوجهين، يحصله نازلاً، والنازل هو الذي يكثر فيه الوسائط والرواة، والعالي الذي يقل فيه ذلك.
[قال النفيلي: حدثنا مالك].
أي: كأنه ساقه على رواية عبد الله بن مسلمة.
[قال أبو داود: ولم يذكر القعنبي والنفيلي عن أبيه].
أي أن الذي قال: [عن أبيه] هو الحسن بن علي الحلواني، ولا تنافٍ بينهما.
[رواه ابن وهب وعثمان بن عمر عن مالك، كما قال القعنبي].
أي: بدون ذكر أبيه.
[رواه ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وعثمان بن عمر].
عثمان بن عمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(207/11)
شرح حديث (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر يوماً وليلة) من طريق أخرى وتراجم رجالها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يوسف بن موسى عن جرير عن سهيل عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فذكر نحوه، إلا أنه قال: (بريداً).
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وهو نحو ما تقدم، إلا أنه قال: (بريداً)، والبريد: أربعة فراسخ، وقيل: مسيرة نصف يوم.
قوله: [حدثنا يوسف بن موسى].
يوسف بن موسى صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي في مسند علي وابن ماجة.
[عن جرير].
جرير بن عبد الحميد وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سهيل].
سهيل هو ابن أبي صالح، وهو صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة].
سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة مر ذكرهما.(207/12)
شرح حديث: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر فوق ثلاثة أيام فصاعداً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة وهناد أن أبا معاوية ووكيعاً حدثاهم عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد قال رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفراً فوق ثلاثة أيام فصاعداً إلا ومعها أبوها، أو أخوها، أو زوجها، أو ابنها، أو ذو محرم منها)].
أورد أبو داود حديث أبي سعيد، وهو بمعنى حديث أبي هريرة، وقد قلنا: إن ذكر الثلاث، وذكر اليوم والليلة، كلها لا مفهوم لها، فلا يقال: بجواز ما كان أقل من ذلك، بل أي سفر لا يجوز للمرأة وحدها بلا محرم كما جاء ذلك في بعض الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أشرت إليه آنفاً.
وهنا ذكر بعض المحارم، وخصّ أولاً ثم عمَّ، فقال: (أبوها، أو أخوها، أو زوجها، أو ابنها، أو ذو محرم منها) وذو محرم منها أعم، فهذا تعميم بعد تخصيص.
ويشترط في المحرم أن يكون بالغاً؛ لأن غير البالغ بحاجة إلى رعاية، فليس عنده القدرة على رعاية غيره.(207/13)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر فوق ثلاثة أيام فصاعداً)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة وهناد].
عثمان بن أبي شيبة مر ذكره، وهناد هو ابن السري أبو السري ثقة، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد ومسلم وأصحاب السنن.
[أن أبا معاوية].
هو أبو معاوية محمد بن خازم الضرير، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ووكيعاً حدثاهم].
وكيع بن الجراح الرؤاسي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
الأعمش هو سليمان بن مهران الكاهلي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي صالح].
أبو صالح السمان، واسمه ذكوان والسمان لقبه، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سعيد].
هو سعد بن مالك بن سنان الخدري رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(207/14)
شرح حديث: (لا تسافر المرأة ثلاثاً إلاّ ومعها ذو محرم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن سعيد عن عبيد الله حدثني نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (لا تسافر المرأة ثلاثاً إلا ومعها ذو محرم).
أورد أبو داود رحمه الله حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسافر المرأة ثلاثاً إلا ومعها ذو محرم)، وهو مثل ما تقدم.(207/15)
تراجم رجال إسناد حديث (لا تسافر المرأة ثلاثاً إلا ومعها ذو محرم)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
أحمد بن حنبل هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[يحيى يحيى بن سعيد].
يحيى بن سعيد هو القطان البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله].
عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم العمري المصغر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني نافع].
نافع مولى ابن عمر وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله].
عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(207/16)
شرح حديث: (أنّ ابن عمر كان يردف مولاة له يقال لها صفية)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا نصر بن علي حدثنا أبو أحمد حدثنا سفيان عن عبيد الله عن نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يردف مولاة له يقال لها: صفية تسافر معه إلى مكة].
أورد المصنف أثر ابن عمر أنه كان يردف مولاة له يقال لها: صفية، تسافر معه إلى مكة.
وهذا فيه ذكر المحرم، فمالك الجارية محرم لها.(207/17)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن ابن عمر كان يردف مولاة له يقال لها صفية)
قوله: [حدثنا نصر بن علي].
هو نصر بن علي بن نصر بن علي الجهضمي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو أحمد].
أبو أحمد هو محمد بن عبد الله بن الزبير، المعروف بـ أبي أحمد الزبيري، ثقة يخطئ في حديث الثوري، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو يروي هنا عن الثوري [حدثنا سفيان].
سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، ثقة فقيه، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر].
عبيد الله عن ونافع وابن عمر مر ذكرهم.
وكون أبي أحمد يخطئ في حديث الثوري لا يؤثر، فكون الإنسان محرماً لأمته أمر معروف، وكونه يردفها أو تركب معه أمر لا بأس به، بل يحل للإنسان -كما هو معلوم -أن يطأ ملك يمينه، كما قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5 - 7].
وأما إذا زوجها فإن المحرمية وملك اليمين باقية، وأما البضع فقد ذهب عن ملكه.(207/18)
شرح حديث: (لا صرورة في الإسلام)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أبو خالد -يعني: سليمان بن حيان الأحمر - عن ابن جريج عن عمر بن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا صرورة في الإسلام)].
أورد أبو داود رحمه الله باب: لا صرورة في الإسلام، والصرورة فسرت بتفسيرين: الأول: أنه بمعنى التبتل وعدم التزوج، وهذا مثل ما عليه النصارى من الرهبانية، وقد جاء الإسلام بمنع ذلك كما جاء في قصة الثلاثة الذين قال أحدهم: أنا لا أتزوج النساء، وقال الثاني: أنا أصوم ولا أفطر، وقال الثالث: أنا أقوم الليل فلا أنام، فقال عليه الصلاة والسلام: (أما إني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).
والتفسير الثاني: أن المقصود بقوله: (لا صرورة في الإسلام) أي: لا يُترك الحج، فلا يقعد الإنسان عن الحج مع قدرته على الحج، وهذا هو وجه إيراده هنا في هذه الترجمة.(207/19)
تراجم رجال إسناد حديث (لا صرورة في الإسلام)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أبو خالد].
عثمان بن أبي شيبة مر ذكره، وأبو خالد هو سليمان بن حيان الأحمر، المعروف بـ أبي خالد الأحمر وهو صدوق يخطئ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن جريج].
ابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمر بن عطاء].
عمر بن عطاء هو عمر بن عطاء بن وراز بفتح الواو والراء الخفيفة وآخره زاي كما في التقريب، وهو ضعيف، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[عكرمة].
عكرمة مولى ابن عباس وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
ابن عباس مر ذكره.
وهناك من يقال له: عطاء بن عمر آخر، وهو ثقة، وقد صحح هذا الحديث الحاكم ووافقه الذهبي في (تلخيص المستدرك)، وقال الشيخ الألباني رحمه الله: لعلهم ظنوا أنه عمر بن أبي الخواء، وهو ثقة، فصححوا حديث أبيه، وإنما هو ابن وراز، وهذا من الأوهام في التصحيح والتضعيف، فأحياناً يحصل الاختلاف في التصحيح والتضعيف بناءً على تعيين الرجل: هل هو هذا أو ذاك، فقد يتفقان في الاسم واسم الأب، ويختلفان في اسم الجد، فربما جاء هذا الراوي الضعيف في الحديث فظن أنه ذلك الثقة، فيصحح الحديث أو العكس.
والحديث ذكره الألباني في (السلسلة الضعيفة) برقم (685)، وقال: لعل الحاكم وتبعه الذهبي في تلخيص المستدرك ظنّا أنه الثقة، فصححوا الحديث، وإنما هو ابن وراز الذي هو ضعيف بالاتفاق.
وهذا كما قلته من الأمور التي يحصل فيها الاختلاف في التصحيح والتضعيف، وذلك ناتج عن الاختلاف في تعيين راوٍ من الرواة هل هو هذا أو هذا، وأذكر أن الحافظ ابن حجر ذكر في ترجمة ياسين العجل من (تهذيب التهذيب) في حديث من الأحاديث التي وردت في المهدي، وأن بعض العلماء تكلم في هذا الحديث، فقال الحافظ ابن حجر في ترجمة ياسين العجل: وقد ظن بعض المتأخرين أن ياسين هذا هو ياسين بن حمزة الزيات، فضعف الحديث بسببه، فلم يصنع شيئاً، وإنما هو ياسين العجل.(207/20)
الأسئلة(207/21)
حكم ترك الحج مع الاستطاعة
السؤال
ما حكم تارك الحج؟
الجواب
حكم ترك الحج فيه خلاف بين أهل العلم، وقد جاء في الزكاة: أن من تركها تهاوناً وكسلاً فإنه لا يكون كافراً، كما في حديث: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لم يؤد زكاتها إلا صفحت له يوم القيامة صفائح من النار، فيكوى بها جنبه وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار)، والكافر لا سبيل له إلى الجنة، فإذا كان هذا في الزكاة وهي أعظم أركان الإسلام بعد الصلاة، فيمكن أن يقال: إن تارك الحج يأثم ولا يكفر، ويكون كمن يترك الزكاة تهاوناً من غير جحود.
وقد جاء في أثر عبد الله بن شقيق العقيلي: لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون شيئاً تركه كفر غير الصلاة.
لكن جاء أثر عن عمر وفيه كلام -أنه قال: من أدركه الحج وله سعة فلم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً.
ووردت آثار أخرى من هذا القبيل، ولكن فيها كلام.(207/22)
وجوب الحج على الفور
السؤال
هل الحج واجب على الفور أو على التراخي؟
الجواب
اختلف أهل العلم في ذلك، فجمهورهم على أنه على الفور، وقال بعض أهل العلم: إنه على التراخي، ومعلوم أن الأصل هو المبادرة، وأن الإنسان إذا أمر بشيء وكان متمكناً من فعله، فعليه أن يبادر، لذا فالقول بأنه على الفور هو الأوضح.(207/23)
حكم العمرة
السؤال
ما حكم العمرة: هل هي واجبة أو لا؟
الجواب
اخُتلف في وجوبها، والصحيح أنها واجبة في العمر مرة واحدة، وقد جاء في بعض ألفاظ حديث جبريل.
(أن تحج وتعتمر).(207/24)
تعريف الحجّ
السؤال
ما تعريف الحج؟
الجواب
الحج لغة: القصد، وفي الاصطلاح: قصد البيت بأفعال مخصوصة، فالمعنى الشرعي جزء من جزئيات المعنى اللغوي هنا، فالمعنى اللغوي أوسع من المعنى الاصطلاحي.
وأما في الشرع: فهو قصد مخصوص، أي: هو قصد البيت لأداء أعمال مخصوصة من طواف، وسعي، ووقوف بعرفة وغير ذلك، فهذا هو تعريفه في الشرع.
والعمرة لغة: مطلق الزيارة، وفي الشرع: زيارة مخصوصة، أي: زيارة البيت للطواف والسعي والتقصير.(207/25)
يجوز للمرأة المقيمة في مكة أن تحج وتذهب إلى المشاعر
السؤال
هل يجوز للمرأة المقيمة في مكة أن تحج وتذهب إلى المشاعر بلا محرم؟
الجواب
نعم، يجوز لها أن تحج؛ لأن هذا لا يقال له: سفر، فالذهاب إلى عرفات ليس سفراً، لكن تكون مع رفقة مأمونة.(207/26)
حكم تحجيج الخادمات بلا محرم
السؤال
بالنسبة لمسألة الخادمات، يشترط في العقد أن على من أتى بخادمة أن يحججها، فكيف يحججها بدون محرم؟ وماذا يعمل؟
الجواب
إن حججها بدون محرم فهو آثم مثلها، وحجها صحيح.
وإذا قيل بإلغاء الشرط فإن المستقدمين للخادمات يحبون أن يلغوا الشرط؛ حتى لا يتكلفوا التحجيج، وكثيراً ما يُسأل عن هذا.
وعلى كل نقول: إن وفى بالشرط وحججها فحجها صحيح، وهما آثمان، وإن لم يحججها فإنه لم يف بالشرط، فالأسلم للإنسان إذا اضطر إلى أن يأتي بخادمة -مع توسع الناس في ذلك من غير أن يكون هناك ضرورة إليه- أن يأتي بمحرم معها.(207/27)
حكم الحج بالدَّين
السؤال
هل يجوز الحج بالدين؟
الجواب
يجوز ذلك إذا كان للإنسان قدرة على السداد.(207/28)
حكم حج المحرم مع من تريد الحج من نسائه
السؤال
امرأة مقيمة في جدة تريد أن تحج للفريضة، ولها ابن أخ، فهل يجب عليه أن يذهب معها كمحرم لها، وهل يأثم إذا أبى؟
الجواب
لا يجب عليه، ولا يأثم إذا لم يحج بها، ولكن الأولى له أن يحج معها، وإذا كانت قادرة دفعت له ما يلزمه، وإذا وافق على ذلك فهذا الذي ينبغي، وأما الوجوب فلا يجب عليه أن يحج بها.(207/29)
حكم الذهاب إلى الحج بطريقة خفية إذا منعت الدولة من ذلك
السؤال
ما حكم الذهاب إلى الحج بطريق خفية إذا منعت الدولة من ذلك؟
الجواب
الدولة لا تمنع من الفريضة، ولكن لكثرة الناس ولكثرة الوافدين إلى هذه البلاد وكون الكثير من الناس يقول: إن البقاء في المملكة ليس بمستمر، فما دام أني موجود هنا فسأحج كل سنة، أو أتابع الحج، ويترتب على ذلك كثرة الزحام؛ عملت الحكومة شيئاً من التنظيم في هذا، ولا بأس بذلك، فعلى الإنسان أن يتقيد بذلك، ويحمد الله أنه قد حج، ويترك غيره يحج.(207/30)
حكم طاعة الأم في طلاق الزوجة
السؤال
طلبت امرأة من ابنها أن يطلق زوجته، فهل عليه أن يفعل ذلك براً؟
الجواب
إذا كان الطلب لأمر وجيه وصحيح، وهناك مصلحة في طلاقها؛ طلقها، وأما إذا كانت الأم ليس عندها شيء يقتضي ذلك، وإنما هناك شيء في النفس، فلا ينبغي ذلك، فالتفريق بين الزوجين بلا أمر يقتضي ذلك لا ينبغي، ولكن عليه أن يسترضيها ويبقي زوجته، ويحاول أن يطيب خاطر أمه حتى يزول ما في نفسها.(207/31)
التزوّد في الحج(207/32)
شرح حديث (كان ناس من أهل اليمن يحجون ولا يتزودون)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: التزود في الحج.
حدثنا أحمد بن الفرات - يعني: أبا مسعود الرازي - ومحمد بن عبد الله المخرمي -وهذا لفظه- قالا: حدثنا شبابة عن ورقاء عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (كانوا يحجون ولا يتزودون، قال أبو مسعود: كان أهل اليمن، أو ناس من أهل اليمن يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فأنزل الله سبحانه: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:197])].
أورد أبو داود رحمه الله باب: التزود في الحج، أي أن الإنسان يأخذ معه من الزاد ما يحتاجه؛ حتى لا يكون عالة على الناس، وحتى لا يحتاج إلى سؤال الناس، فسؤال الناس جاءت أحاديث كثيرة في ذمه، فإذا كان الإنسان ليس لديه قدرة مادية فإنه لا يجب عليه الحج.
وأورد أبو داود حديث ابن عباس قال: (كانوا يحجون ولا يتزودون) أي: في الجاهلية، (ويقولون: نحن المتوكلون) أي: أننا ذاهبون إلى الحج، فالله عز وجل لن يضيعنا، ثم يذهبون يسألون في الطريق وفي مكة، فهم إذاً المتواكلون وليسوا المتوكلين، فالتواكل ضد التوكل، ففيه كسل وخمول وعدم جد، فلا ينبغي أن يتصف الإنسان بهذا.
قوله: (فأنزل الله عز وجل: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197]) أي: تزودوا في أسفاركم للحج ولغيره؛ حتى لا يكون الإنسان عالة على الناس، والحج يدخل في ذلك، بل هو الذي نزلت فيه الآية: {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197].
وقال بعض أهل العلم: وفي هذا إشارة إلى أن الإنسان كما أنه في سفره في الدنيا يحتاج إلى الزاد، فكذلك في سفره إلى الآخرة فإنه يحتاج إلى زاد، وزاده في سفره إلى الآخرة هو تقوى الله عز وجل.(207/33)
تراجم رجال إسناد حديث (كان ناس من أهل اليمن يحجون ولا يتزودون)
قوله: [حدثنا أحمد بن الفرات].
أحمد بن الفرات أبو مسعود، وهو ثقة أخرج له أبو داود.
[ومحمد بن عبد الله المخرمي].
محمد بن عبد الله بن المبارك وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[قال: وهذا لفظه].
أي: لفظ المخرمي، وهو الشيخ الثاني لـ أبي داود.
[حدثنا شبابة].
شبابة بن سوار، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ورقاء].
ورقاء اليشكري، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن دينار].
عمرو بن دينار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عكرمة عن ابن عباس].
عكرمة وابن عباس مر ذكرهما.(207/34)
التجارة في الحج(207/35)
شرح حديث: (كانوا لا يتجرون بمنى فأمروا بالتجارة إذا أفاضوا من عرفات)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب التجارة في الحج.
حدثنا يوسف بن موسى حدثنا جرير عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قرأ هذه الآية: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198] قال: كانوا لا يتجرون بمنى، فأمروا بالتجارة إذا أفاضوا من عرفات].
أورد أبو داود باب التجارة في الحج، أي: البيع والشراء في الحج، والمقصود أنه لا بأس بذلك، كما جاءت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأورد أبو داود أثر ابن عباس (أنه قرأ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198] فقال: كانوا لا يتجرون بمنى) أي: في الحج.
قوله: (فأمروا بالتجارة إذا أفاضوا من عرفات) أي: أُذن لهم بذلك في حجهم، فالاتجار جائز سواء كان قبل الحج أو بعده، ولا يكون هو المقصد والدافع للإنسان على الحج، ولا يكون شاغلاً له، لكن كونه يشتري الشيء فيذهب به إلى بلده كي يستفيد منه، أو يبيعه بسعر أكثر، فلا بأس بذلك.(207/36)
تراجم رجال إسناد حديث (كانوا لا يتجرون عني، فأمروا بالتجارة إذا أفاضوا من عرفات)
قوله: [حدثنا يوسف بن موسى عن جرير عن يزيد بن أبي زياد].
يزيد بن أبي زياد الهاشمي، ضعيف، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن مجاهد].
مجاهد هو ابن جبر المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
ابن عباس مر ذكره.
وهذا الحديث له شواهد.(207/37)
تعجيل الحج(207/38)
شرح حديث (من أراد الحج فليتعجل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: تعجيل الحج.
حدثنا مسدد حدثنا أبو معاوية محمد بن خازم عن الأعمش عن الحسن بن عمرو عن مهران أبي صفوان عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أراد الحج فليتعجل)].
أورد أبو داود باب تعجيل الحج، أي: المبادرة إليه، وعدم تأخيره، ثم أورد أبو داود حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أراد الحج فليتعجل) أي: فليبادر إليه، ومعلوم أن الإرادة تكون للفرض وللتطوع، وتكون المبادرة للفرض على الفور كما سبق، وأما التطوع فالأفضل أن يبادر إلى فعله.(207/39)
تراجم رجال إسناد حديث (من أراد الحج فليتعجل)
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا أبو معاوية محمد بن خازم].
مر ذكره.
[عن الأعمش].
مر ذكره.
[عن الحسن بن عمرو].
الحسن بن عمرو ثقة أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن مهران أبي صفوان].
مهران أبو صفوان مجهول، أخرج له أبو داود.
[عن ابن عباس].
ابن عباس مر ذكره.
هذا الحديث صححه الألباني، وصححه أيضاً أحمد شاكر في تحقيق المسند، ولعل ذلك لشواهده.(207/40)
ما جاء الكرى(207/41)
شرح حديث ابن عمر في الكرى في الحج
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الكرى.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا العلاء بن المسيب حدثنا أبو أمامة التيمي قال: (كنت رجلاً أكري في هذا الوجه، وكان ناس يقولون لي: إنه ليس لك حج، فلقيت ابن عمر رضي الله عنهما، فقلت: يا أبا عبد الرحمن! إني رجل أكري في هذا الوجه، وإن ناساً يقولون لي: إنه ليس لك حج، فقال ابن عمر: أليس تحرم، وتلبي، وتطوف بالبيت، وتفيض من عرفات، وترمي الجمار؟ قال: قلت: بلى، قال: فإن لك حجاً، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسأله عن مثل ما سألتني عنه، فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يجبه، حتى نزلت هذه الآية: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198]، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقرأ عليه هذه الآية وقال: لك حج)].
أورد أبو داود هذه الترجمة وهي: باب الكرى، أي: أن يكري الإنسان راحلته أو سيارته في الذهاب إلى الحج، فيذهب مع سيارته أو مع دوابه، فيكريها على الناس ليحجوا عليها، ويأخذ الأجرة على ذلك، وهو حاج مع الناس.
جاء رجل إلى ابن عمر رضي الله عنه فقال: (إني أكري في هذا الوجه) أي: في الحج، (وإن ناساً يقولون: إنه لا حج لك)؛ لأنه كان يذهب للكري (فقال: ألست تطوف وتسعى وتفيض من عرفات وتلبي؟ قال: نعم، قال: فإن لك حجاً، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له مثلما قلت لي، فقال له: النبي صلى الله عليه وسلم: لك حج)، فدل هذا أنه يجوز للإنسان أن يكري، وله أن يحج، وقد ذكرت الآية أنه يجوز للإنسان أن يحج، ومع ذلك يبتغي من فضل الله عز وجل.(207/42)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عمر في الكرى في الحج
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا عبد الواحد بن زياد].
مسدد مر ذكره، وعبد الواحد بن زياد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا العلاء بن المسيب].
العلاء بن مسيب ثقة ربما وهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا أبو أمامة التيمي].
أبو أمامة التيمي مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن ابن عمر].
ابن عمر مر ذكره.
وهذا الحديث صححه الألباني مع أن فيه رجلاً مقبولاً، فلعل له شواهد.(207/43)
شرح حديث: (أن الناس في أول الحج كانوا يتبايعون فخافوا البيع وهم حرم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن بشار حدثنا حماد بن مسعدة حدثنا ابن أبي ذئب عن عطاء بن أبي رباح عن عبيد بن عمير عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أن الناس في أول الحج كانوا يتبايعون بمنى وعرفة وسوق ذي المجاز، ومواسم الحج، فخافوا البيع وهم حرم، فأنزل الله سبحانه {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198]، في مواسم الحج، قال: فحدثني عبيد بن عمير أنه كان يقرؤها في المصحف].
أورد أبو داود حديث ابن عباس أنهم كانوا يتبايعون في أول الحج، فكانوا يتبايعون بمنى وعرفة وسوق ذي المجاز.
(فخافوا البيع وهم حرم) أي: وهم محرمون ومتلبسون بالحج.
فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198] أي: أن هذا الذي خفتموه لا بأس به، وفيه: في موسم الحج، وهذه من القراءات الشاذة التي لا يقرأ بها في الصلاة، وقوله: (كان يقرؤها في المصحف) لعلها كانت في بعض المصاحف، قيل: إنها بمعنى التفسير، وقد استدل بهذه الآية دون ذكر هذه الزيادة كما جاء في الرواية المتقدمة، وكما جاء في روايات أخرى.(207/44)
تراجم رجال إسناد حديث (أن الناس في أول الحج كانوا يتبايعون فخافوا البيع وهم حرم)
قوله: [حدثنا محمد بن بشار].
محمد بن بشار هو الملقب بندار ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد بن مسعدة].
حماد بن مسعدة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ابن أبي ذئب].
ابن أبي ذئب هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن أبي ذئب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عطاء بن أبي رباح].
عطاء بن أبي رباح المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد بن عمير].
عبيد بن عمير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
ابن عباس مر ذكره.(207/45)
شرح حديث: (أن الناس كانوا في أول الحج يتبايعون) من طريق أخرى وتراجم رجالها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن أبي فديك أخبرني ابن أبي ذئب عن عبيد بن عمير -قال أحمد بن صالح كلاماً معناه: أنه مولى ابن عباس عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أن الناس في أول ما كان الحج، كانوا يبيعون، فذكر معناه إلى قوله: مواسم الحج].
أورد أبو داود الأثر من طريق أخرى، وهو مثل ما تقدم.
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
أحمد بن صالح المصري ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي في (الشمائل).
[حدثنا ابن أبي فديك].
ابن أبي فديك هو محمد بن إسماعيل بن مسلم، صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني عن ابن أبي ذئب عن عبيد بن عمير].
مر ذكرهما.
[عن ابن عباس].
مر ذكره.(207/46)
حج الصبي(207/47)
شرح حديث: (ألهذا حج قال نعم ولك أجر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: في الصبي يحج.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا سفيان بن عيينة عن إبراهيم بن عقبة عن كريب عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالروحاء فلقي ركباً فسلم عليهم، قال: من القوم؟ فقالوا: المسلمون، فقالوا: فمن أنتم؟ قالوا: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ففزعت امرأة فأخذت بعضد صبي فأخرجته من محفتها، قالت: يا رسول الله! هل لهذا حج؟ قال: نعم، ولك أجر)].
أورد أبو داود رحمه الله باب: حج الصبي، أي: أنه يحج به، وحجه لنفسه، ولمن حججه أجر، ولكن هذا الحج لا يغني عن حج الإسلام، بل هو تطوع جاء قبل الفرض، فإذا بلغ تعين عليه أن يأتي بحجة الإسلام.
أورد أبو داود حديث ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في الروحاء، فلقي قوماً فقال لهم: من أنتم؟ قالوا: المسلمون، قالوا: ومن أنتم؟ قالوا: رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: ومن معه.
(ففزعت امرأة) أي: لما علمت أن هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، (فرفعت صبياً من محفتها) قيل: إنها مثل الهودج، إلا أن الهودج يكون له سقف، وهذا ليس له سقف، (فقالت: ألهذا حج؟ فقال: نعم، ولك أجر)، فدل هذا على أن الصبي يحج به، وأن الذي يحججه يؤجر على ذلك، ولكن هذه الحجة لا تغني عن حجة الإسلام، ويعامل معاملة الكبير في الطواف والسعي والوقوف والذبح له إذا كان حج به متمتعاً أو قارناً.(207/48)
تراجم رجال إسناد حديث: (ألهذا حج قال نعم ولك أجر)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
أحمد بن حنبل مر ذكره.
[حدثنا سفيان بن عيينة].
سفيان بن عيينة المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إبراهيم بن عقبة].
إبراهيم بن عقبة ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن كريب].
كريب مولى ابن عباس.
[عن ابن عباس].
قد مر ذكره.(207/49)
شرح سنن أبي داود [208]
وقت النبي عليه الصلاة والسلام للحج مواقيت مكانية، تحيط بالحرم من جميع الجهات، وبعضها قريب منه وبعضها بعيد، فمن أراد الحج أو العمرة فلا يجاوز هذه المواقيت حتى يحرم منها، ومن ترك الإحرام منها فعليه دم، وأما من كان ساكناً دون هذه المواقيت فميقاته من مكانه الذي هو فيه، حتى أهل مكة ميقاتهم من مكة.(208/1)
ما جاء في المواقيت(208/2)
شرح حديث: (وقت النبي لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قَرَن)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في المواقيت.
حدثنا القعنبي عن مالك ح وحدثنا أحمد بن يونس حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (وقّت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن، وبلغني أنه وقت لأهل اليمن يلملم)].
قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب في المواقيت، أي: المواقيت المكانية التي إذا جاء الإنسان إلى مكة ماراً بها يريد الحج أو العمرة فإنه لا يتجاوزها حتى يحرم من هذه المواقيت التي وقتها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي ذو الحليفة لأهل المدينة، والجحفة لأهل الشام، وقرن المنازل لأهل نجد، ويلملم لأهل اليمن، وذات عرق لأهل العراق.
هذه هي المواقيت التي جاءت بها الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي لا يجوز للإنسان أن يتجاوزها إلا وقد أحرم، ويمكن للإنسان وهو في المدينة أن يتهيأ للإحرام وهو في منزله، فيغتسل ويتنظف ويتهيأ ويلبس الإزار والرداء، وإذا جاء الميقات فإنه ينوي ويلبي، فيكون استعداده وتهيئه قبل ذلك في المدينة.
وإذا جاء الميقات فإن نزل وجاء إلى المسجد وصلى فيه، ثم أحرم بعد ذلك، فلا بأس، وإن أراد أن يحرم دون أن ينزل فعندما تكون السيارة في محاذاة مسجد ذي الحليفة، فإنه ينوي ويلبي ولو لم تقف السيارة، ولو لم تنزل إلى المكان الذي فيه المسجد، وإنما يستعد قبل ذلك، ولكن ينوي من الميقات، ويلبي من الميقات.
وكذلك الحال في حق من يريد السفر بالطائرة من المدينة، فإنه يتهيأ وهو في منزله، ويلبس إزاره ورداءه، وإذا وصل إلى المطار وركب الطائرة فإذا تحركت الطائرة للإقلاع فإنه ينوي ويلبي؛ لأنها إذا أقلعت تسير بسرعة، فقد تتجاوز الميقات الذي هو على مقربة من المدينة.
فالحاصل: أن الإحرام والنية تكون من الميقات، الاستعداد يكون قبل ذلك، وكذلك بالنسبة لمن يأتي في الطائرات فإنه يتهيأ ويغتسل ويلبس إزاره ورداءه وهو في بلده، ثم يركب الطائرة وعليه الإزار والرداء، وإذا أقبلت الطائرة على الميقات فإنه ينوي ويلبي، وإذا شك أو خاف أنه لا يعرف أو لا ينبه للميقات ويخشى أن يفوته دون أن يحرم فله أن يحرم قبل ذلك بمسافة ولا بأس بذلك، فالإحرام قبل الميقات يصح، ويصح أيضاً بعد الميقات ولكن فيه مخالفة، فيكون مرتكباً لذنب.
فإذا أحرم قبله صح إحرامه، وصحت نيته، ويلزمه أن يستمر على الإحرام، لكن السنة أن يكون ذلك من الميقات، والمواقيت هي المذكورة في هذه الأحاديث، وهذه المواقيت هي لأهل تلك البلاد ولمن مر على تلك البلاد من غير أهلها.
فمثلاً من كان من أهل اليمن ووصل إلى المدينة وأراد أن يحرم بالحج أو العمرة فإنه يحرم من ميقات المدينة، فمن يريد دخول مكة للحج أو العمرة فإنه يحرم من الميقات الذي مر به، ولو لم يكن من أهل ذلك البلد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن).
والذي يلزمه الإحرام هو من يريد الحج والعمرة، وأما من لا يريد حجاً ولا عمرة، ويريد أن يذهب إلى مكة للتجارة أو للزيارة فإنه لا يلزمه الإحرام وإن مرّ بالميقات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ) أي: من مر عليهن مريداً حجاً وعمرة، فهذا هو الذي يلزمه الإحرام منها ولا يتجاوزها إلا محرماً.
قوله: (ومن كان دون ذلك) أي: دون المواقيت، وذلك مثل أهل جدة، فإنهم يحرمون من جدة، ومثل أهل وداي فاطمة، فإنهم يحرمون من وداي فاطمة، وكذلك الأماكن التي تكون بين الميقات وبين مكة، فإن أهلها يحرمون منها، ولا يتجاوزونها غير محرمين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ).
وكذلك لو أن إنساناً ذهب من المدينة لا يريد حجاً ولا عمرة، وعندما كان في الطريق طرأ عليه قصد وإرادة الحج أو العمرة، فيحرم من المكان الذي طرأت فيه تلك الرغبة، وما دام أنه مر بالميقات ولم يكن يرد حجاً ولا عمرة فمروره صحيح، ولكنه لابد أن يحرم من حيث قصد ونوى الحج والعمرة.
ويحرم أهل مكة للحج من مكة، وأما بالنسبة للعمرة فإنهم يخرجون إلى الحل ليحرموا منه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما طلبت منه عائشة أن تحرم بعمرة، أمرها أن تخرج إلى أدنى الحل، فخرجت وأحرمت، فيجمع في عمرته بين الحل والحرم، كما أن الحج يجمع فيه بين الحل والحرم.(208/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (وقت النبي لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قَرَن)
قوله: [حدثنا القعنبي].
القعنبي هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
مالك بن أنس إمام دار الهجرة الإمام المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا أحمد بن يونس].
أحمد بن يونس هو أحمد بن عبد الله بن يونس الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا مالك عن نافع].
نافع مولى ابن عمر وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن عمر].
هو الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الإسناد رباعي، وهو من أعلى الأسانيد عند أبي داود.
وما جاء في آخر الحديث من قول ابن عمر: (وبلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل اليمن يلملم) أي: أنه يروي ذلك بواسطة، ولم يسمعه مباشرة، وقد جاء ذلك صريحاً من قول النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحاديث، وذلك كما في حديث ابن عباس الذي بعد هذا، وقول ابن عمر: بلغني لا يؤثر؛ لأنه إنما يأخذ عن الصحابة.(208/4)
الأسئلة(208/5)
حكم الإحرام من جدة لمن جاء من المغرب أو السودان
السؤال
ما حكم الإحرام من جدة لمن جاء من المغرب أو من السودان؟
الجواب
جدة ليست من المواقيت، وإنما هي داخل المواقيت، فمن أتى على جدة فإنه يحرم من البحر أو من الجو قبل أن يصل إليها، فإن كان أقرب ما يكون من الجنوب فإنه يحرم بمحاذاة يلملم، وإن كان أقرب إلى الجحفة -وهو ميقات أهل الشام- فإنه يحرم بمحاذاته، ولا يؤخر الإحرام إلى جدة؛ لأن جدة داخل المواقيت.(208/6)
حكم النزول في وادي العقيق
السؤال
بالنسبة لميقات أهل المدينة، نحن نعلم الآن أنه يجوز للمحرم أن ينزل، ويجوز له أن يمضي دون النزول إلى الميقات، لكن هذا الميقات ورد دليل على أنه وادٍ مبارك، فما حكم النزول هناك؟
الجواب
لا بأس بذلك، وهو ليس بلازم، فالإنسان إذا أراد أن يواصل المسير فله أن يواصل، وإن أراد أن ينزل ويصلي في هذا الوادي المبارك فله ذلك، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أتاني آت فقال: صل في هذا الواده المبارك)، فهذا أمر مستحب وليس بلازم.(208/7)
تابع ما جاء في المواقيت(208/8)
شرح حديث ابن عباس في المواقيت
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعن ابن طاوس عن أبيه قالا: وقت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمعناه، وقال أحدهما: (ولأهل اليمن ألملم)].
أورد المصنف حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وهو بمعنى حديث ابن عمر، وفي بعض طرقه أنه قال: (ولأهل اليمن يلملم) أي: وقت النبي صلى الله عليه وسلم لأهل اليمن يلملم، وفي هذا التنصيص على توقيت النبي صلى الله عليه وسلم لأهل اليمن يلملم، كما وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل الشام الجحفة.
قوله: [وقال أحدهما: ألملم].
أي: بدل يلملم، فذكر بدل الياء همزة.
قال: (فهن لهن، ولمن أتى عليهن من أهلهن، ممن كان يريد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك -قال ابن طاوس: فمن حيث أنشأ، قال: وكذلك حتى أهل مكة يهلون منها)].
وهذا قد مر الكلام عليه.(208/9)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عباس في المواقيت
قوله: [حدثنا سليمان بن حرب].
سليمان بن حرب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن زيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن دينار].
عمرو بن دينار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن طاوس].
طاوس بن كيسان، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[وعن ابن طاوس عن أبيه].
أي: رواه ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس، فقد رواه عمرو بن دينار عن طاوس ورواه عبد الله بن طاوس عن أبيه، وأبوه يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن طاوس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(208/10)
شرح حديث: (أن رسول الله وقت لأهل العراق ذات عرق)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هشام بن بهرام المدائني حدثنا المعافى بن عمران عن أفلح - يعني ابن حميد - عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق)، وهذا هو الميقات الخامس، وقد جاء في أحاديث خاصة، بخلاف الأربعة الأولى فإنها جاءت مجتمعة، وأما هذا فقد جاء في بعض الأحاديث.
وهذا الحديث من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، فقد وقت لأهل العراق ذات عرق مع أن العراق لم تفتح بعد، فهو بهذا التوقيت وغيره من الأدلة يخبر بأنها ستفتح، وقد فتحت بعد ذلك كما أخبر، ووقت أيضاً لأهل الشام مع أن الشام لم تفتح بعد، ثم فتحت بعد ذلك، وقد أخبر بأنها ستفتحان، وأن كنوز كسرى وقيصر ستنفق في سبيل الله، وقد فتحتا، وأنفقت كنوزهما في سبيل الله في عهد الفاروق رضي الله عنه وأرضاه.(208/11)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن رسول الله وقت لأهل العراق ذات عرق)
قوله: [حدثنا هشام بن بهرام المدائني].
هشام بن بهرام المدائني ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي [حدثنا المعافى بن عمران].
المعافى بن عمران الموصلي، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[عن أفلح - يعني ابن حميد -].
أفلح بن حميد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن القاسم بن محمد].
القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وهي عمته، وهي الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(208/12)
شرح حديث: (وقّت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المشرق العقيق)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن يزيد بن أبي زياد عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (وقت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأهل المشرق العقيق)].
أورد أبو داود حديث ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المشرق العقيق)، والعقيق مكان آخر غير ذات عرق، والذي ثبتت به الأحاديث هو ذات عرق، كما مر في الحديث السابق وغيره من الأحاديث، وأما العقيق فإنه لم يثبت به الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي إسناده انقطاع، وأحد رواته متكلم فيه، كما سيأتي.(208/13)
تراجم رجال إسناد حديث: (وقّت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المشرق العقيق)
قوله: [حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل].
أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا وكيع].
وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، ثقة فقيه، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن يزيد بن أبي زياد].
يزيد بن أبي زياد ضعيف، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن محمد بن علي بن عبد الله].
محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن عباس].
وهو جده، والمعروف روايته عن أبيه عن جده، وأما روايته عن جده فقد قال الحافظ في التقريب: إنها لم تثبت، وعلى هذا ففي هذا الحديث علة، وهي عدم الاتصال، وكذلك فيه يزيد بن أبي زياد.(208/14)
شرح حديث: (من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن أبي فديك عن عبد الله بن عبد الرحمن بن يحنس عن يحيى بن أبي سفيان الأخنسي عن جدته حكيمة عن أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من أهلّ بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أو وجبت له الجنة)، شك عبد الله أيتهما.
قال أبو داود: يرحم الله وكيعاً! أحرم من بيت المقدس، يعني: إلى مكة].
أورد أبو داود حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أهل بحجة أو عمرة)، وهذا للتنويع، أي: هذه أو هذه، (من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تأخر من ذنبه وما تأخر أو وجبت له الجنة)، شك عبد الله بن عبد الرحمن بن المثنى، أيتهما قال، هل قال: (غفر له ما تقدم وما تأخر من ذنوبه أو وجبت له الجنة).
والحديث غير صحيح فلا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن فيه بعض المجاهيل، والإحرام إنما يكون من المواقيت، والإحرام قبل المواقيت خلاف السنة، ولكنه لو وقع صح، ويلزم الإنسان أن يمضي فيه، ولكن السنة هي الإحرام من المواقيت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقت تلك المواقيت، وأحرم صلى الله عليه وسلم من الميقات من ذي الحليفة.(208/15)
تراجم رجال إسناد حديث: (من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
أحمد بن صالح المصري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا ابن أبي فديك].
ابن أبي فديك هو محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن عبد الرحمن بن يحنس].
عبد الله بن عبد الرحمن بن يحنس أخرج له مسلم وأبو داود.
[عن يحيى بن أبي سفيان الأخنسي].
يحيى بن أبي سفيان الأخنسي مستور، وهذا بمعنى مجهول الحال، أخرج حديثه أبو داود وابن ماجة.
[عن جدته حكيمة].
جدته حكيمة مقبولة، أخرج حديثها أبو داود وابن ماجة.
[عن أم سلمة].
أم سلمة هي أم المؤمنين هند بنت أبي أمية رضي الله عنها وأرضاها، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[قال أبو داود: يرحم الله وكيعاً أحرم من بيت المقدس، يعني إلى مكة].
أي: أن أبا داود يخبر أن وكيعاً فعل هذا، فهو يدعو له بأن الله تعالى يرحمه، ولكن عمله خلاف السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والإحرام من بيت المقدس أو من أي مكان بعيد أنه خلاف السنة؛ فإن فيه مشقة على الإنسان، وهذا كان فيما مضى، وأما الآن فالمشقة قليلة لوجود الطائرات، فيقطع ذلك في فترة وجيزة، وأما في الماضي فقد كان من المدينة إلى مكة تسع مراحل، وذلك في تسعة أيام، ولا يصل إلى مكة إلا وقد أصيب بالعرق والوسخ، وطول المدة تؤثر في لباس الإحرام، وفيه مشقة على الإنسان، فينبغي الوقوف على ما جاءت به السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولو صح الحديث في فضل الإحرام من بيت المقدس لكان مستحباً، ولكن الحديث لا يصح، فوجوده مثل عدمه.(208/16)
شرح حديث الحارث بن عمرو في توقيت النبي ذات عرق لأهل العراق
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو معمر عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج حدثنا عبد الوارث حدثنا عتبة بن عبد الملك السهمي حدثني زرارة بن كريم أن الحارث بن عمرو السهمي رضي الله عنه حدثه قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بمنى أو بعرفات، وقد أطاف به الناس، قال: فتجيء الأعراب فإذا رأوا وجهه قالوا: هذا وجه مبارك، قال: ووقّت ذات عرق لأهل العراق)].
أورد أبو داود حديث الحارث بن عمرو السهمي رضي الله عنه: (أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمنى وكانت تطيف به الأعراب، ويحيط به الناس، فيسألونه، ويأخذون منه السنن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خذوا عني مناسككم، فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا).
فكان المسلمون يحرصون على معرفة أعماله وأقواله صلى الله عليه وسلم؛ ليسيروا في حجهم طبقاً لما يثبت عنه من السنن صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فكان الناس يأتون إليه وفيهم من لا يعرفه، فإذا رأوه قالوا: هذا وجه مبارك، فبمجرد أن يروا وجه النبي صلى الله عليه وسلم يسروا وتنشرح صدورهم، فوقت لأهل العراق ذات عرق، أي: جعلها ميقاتاً لهم.(208/17)
تراجم رجال إسناد حديث الحارث بن عمرو في توقيت النبي ذات عرق لأهل العراق
قوله: [حدثنا أبو معمر عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج].
أبو معمر عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الوارث].
عبد الوارث بن سعيد العنبري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عتبة بن عبد الملك السهمي].
عتبة بن عبد الملك السهمي مقبول، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود.
[حدثني زرارة بن كريم].
زرارة بن كريم قيل: له رؤية، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وحديثه أخرجه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي.
[عن الحارث بن عمرو السهمي] الحارث بن عمرو السهمي رضي الله عنه صحابي، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والنسائي.
وهذا الحديث وإن كان فيه مقبول إلا أنه قد جاءت أحاديث أخرى بمعناه كما سبق في حديث عائشة.(208/18)
الحائض تهل بالحج(208/19)
شرح حديث: (نفست أسماء بنت عميس بمحمد بن أبي بكر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الحائض تهل بالحج.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا عبدة عن عبيد الله عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (نفست أسماء بنت عميس بـ محمد بن أبي بكر رضي الله عنهم بالشجرة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن تغتسل فَتُهِلّ)].
أورد أبو داود رحمه الله باب: الحائض تهل بالحج، والحائض والنفساء أحكامهما واحدة، وهما وإن كان عليهما هذا الحدث الذي يحتاج إلى الاغتسال بعد الطهر إلا أنه لا يمنع من الإحرام، ولا يمنع من الاغتسال والتنظف عند الإحرام.
وقد أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها: أن أسماء بنت عميس رضي الله عنها نفست بـ محمد بن أبي بكر أي: ولدته في ذي الحليفة في حجة الوداع، وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر في المدينة، ثم خرج من المدينة وصلى العصر قصراً في ذي الحليفة، ومكث هناك إلى ما بعد الظهر من الغد، أي: أنه مكث يوماً وليلة، وكان سبب مكثه صلى الله عليه وسلم هناك أن يجتمع الناس، فالناس لما علموا بأن النبي صلى الله عليه وسلم حاج توافدوا على المدينة؛ ليصحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في رحلته إلى مكة، فمكث هناك يوماً وليلة يقصر الصلاة؛ لأنه قد بدأ في السفر، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، وأسماء بنت عميس رضي الله عنها كانت تحت جعفر بن أبي طالب الذي استشهد في مؤتة، وهي أم عبد الله بن جعفر، فتزوجها أبو بكر، ثم تزوجها علي، وقد ولدت للثلاثة رضي الله تعالى عن الجميع.
فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر -وهو زوجها- أن تغتسل وتهل، أي: أن تتنظف، وهذا فيه الاستعداد للإحرام وإن كان الحدث -وهو النفاس- معها، فهذا الاغتسال والتهيؤ والنظافة هي للإحرام، ثم تهل وتدخل في النسك، وهذا الاغتسال مستحب.
فدل هذا على أن دخول المرأة في الحج أو العمرة وهي حائض لا بأس به، وأنها تفعل جميع المناسك كما يفعل الحاج، إلا أنها لا تطوف بالبيت حتى تطهر وتغتسل، كما جاء في حديث عائشة: (افعلي ما يفعل الحاج، غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري)، فتقف في عرفة وهي حائض، وترمي الجمار وهي حائض، وتمكث في منى وهي حائض، وتبيت في مزدلفة وهي حائض، وتحرم وهي حائض، وتعمل كل الأعمال إلا أنها لا تطوف بالبيت حتى تطهر.(208/20)
تراجم رجال إسناد حديث: (نفست أسماء بنت عميس بمحمد بن أبي بكر)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي والنسائي، فإنه أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا عبدة].
عبدة بن سليمان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله].
عبيد الله هو ابن عمر بن حفص بن عاصم، وقد مر ذكره.
[عن عبد الرحمن بن القاسم].
عبد الرحمن بن القاسم بن محمد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه عن عائشة].
وقد مر ذكرهما.(208/21)
شرح حديث: (الحائض والنفساء إذا أتتا على الوقت تغتسلان وتحرمان)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عيسى وإسماعيل بن إبراهيم أبو معمر قالا: حدثنا مروان بن شجاع عن خصيف عن عكرمة ومجاهد وعطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الحائض والنفساء إذا أتتا على الوقت تغتسلان، وتحرمان، وتقضيان المناسك كلها غير الطواف بالبيت).
قال: أبو معمر في حديثه: حتى تطهر، ولم يذكر ابن عيسى عكرمة ومجاهداً، قال: عن عطاء عن ابن عباس، ولم يقل ابن عيسى: كلها، قال: المناسك إلا الطواف بالبيت].
أورد أبو داود رحمه الله حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحائض والنفساء إذا أتتا على الوقت) أي: على الميقات، (تغتسلان وتحرمان، وتقضيان)، القضاء هنا بمعنى الأداء، فالقضاء يأتي بمعنى الأداء، ويأتي بمعنى قضاء الفائت، وهنا لم يفت شيء، وإنما تؤدي المناسك، فهذا من المواضع التي جاء فيها القضاء بمعنى الأداء، وقد جاء في الحديث المشهور: (فما فاتكم فأتموا)، وهذا في أكثر الروايات، وجاء في بعض الروايات: (فاقضوا)، ومن هنا اختلف العلماء -كما عرفنا سابقاً- هل ما يقضيه المسبوق هو أول صلاته أو آخر صلاته؟ والصحيح أنه آخر صلاته؛ لأن روايات (أتموا) هي المعتمدة، وما جاء في بعض الروايات من ذكر القضاء فمحمول على أنها بمعنى الأداء، فتتفق الروايتان، ولا يكون بينهما تعارض، ويكون ما يقضيه المسبوق هو آخر صلاته وليس أولها، وهنا كذلك القضاء بمعنى الأداء.
قوله: (تغتسلان وتحرمان وتقضيان المناسك كلها غير الطواف بالبيت) أي: تفعل الحائض والنفساء كل أفعال الحج إلا الطواف بالبيت، فإنها لا تأتي به حتى تطهر وتغتسل.(208/22)
تراجم رجال إسناد حديث: (الحائض والنفساء إذا أتتا على الوقت تغتسلان وتحرمان)
قوله: [حدثنا محمد بن عيسى].
محمد بن عيسى الطباع ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة.
[وإسماعيل بن إبراهيم أبو معمر].
إسماعيل بن إبراهيم أبو معمر ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا مروان بن شجاع].
مروان بن شجاع صدوق له أوهام، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن خصيف].
خصيف بن عبد الرحمن وهو صدوق سيء الحفظ، أخرج له أصحاب السنن.
[عن عكرمة].
عكرمة مولى ابن عباس وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ومجاهد].
مجاهد بن جبر المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وعطاء].
عطاء بن أبي رباح المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
ابن عباس مر ذكره.
وهذا الحديث وإن كان فيه خصيف وهو سيء الحفظ فلا يؤثر فيه؛ لأنه بمعنى حديث أم سلمة السابق الذي فيه: أنها تغتسل وتهل بالحج، وكذلك بمعنى حديث عائشة: أنها تفعل ما يفعل الحاج غير ألا تطوف بالبيت حتى تطهر.
[قال أبو معمر في حديثه: حتى تطهر].
أبو معمر هو أحد شيخي أبي داود هنا، قوله: حتى تطهر، أي: أنه زاد ذلك في آخر الحديث.
[ولم يذكر ابن عيسى عكرمة ومجاهداً، قال: عن عطاء عن ابن عباس].
أي: أن أحد شيخي أبي داود وهو محمد بن عيسى لم يذكر عكرمة ولا مجاهداً وإنما اقتصر على ذكر عطاء عن ابن عباس.
[ولم يقل ابن عيسى كلها، قال: المناسك إلا الطواف بالبيت].
أي: أنه لم يذكر كلمة (كلها)، وهذا يدل على عناية المحدثين بالألفاظ التي وردت.(208/23)
الطيب عند الإحرام(208/24)
شرح حديث: (كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الطيب عند الإحرام.
حدثنا القعنبي عن مالك ح وحدثنا أحمد بن يونس حدثنا مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لإحرامه قبل أن يحرم، ولإحلاله قبل أن يطوف بالبيت)].
أورد أبو داود باب: الطيب عند الإحرام، أي: استعمال الطيب قبل أن يحرم الإنسان، وإذا بقي معه بعد ذلك على رأسه، أو على لحيته، أو على وجهه فلا بأس به، فاستدامته جائزة، ويجوز في الاستدامة ما لا يجوز في الابتداء، ولا يجوز له أن يبتدئ الطيب ويتطيب بعد الإحرام.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في كتاب (إعلام الموقعين) مسائل كثيرة من هذا النوع، أي: ما يجوز من الاستدامة ولا يجوز في الابتداء، وذكر جملة من الأمثلة التي هي من هذا القبيل، وقد أشرت إلى مكانه في الفوائد المنتقاة من فتح الباري والكتب الأخرى.
وأورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها: (أنها كانت تطيب النبي صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت) أي: وقبل أن يذهب إلى مكة للطواف فتطيبه بعد رميه الجمرة، وبعد حلقه ما بقي عليه، إلا أن يذهب إلى مكة صلى الله عليه وسلم.
فدل هذا على أن استعمال الطيب وإن كان من مقدمات النكاح فإنه يجوز بعد التحلل الأول، والنكاح لا يجوز إلا بعد التحلل الثاني، وهو الإتيان بالطواف والسعي لمن كان عليه سعي؛ لأن التحلل الكامل يكون بفعل الأمور الثلاثة وهي: الرمي والحلق أو التقصير والطواف والسعي لمن كان عليه سعي.
وإذا طاف وفعل الرمي أو الحلق، فإنه يجوز له أن يتطيب ولكن لا يجوز له أن يأتي النساء حتى يأتي بالتحلل الكامل الذي هو فعل ما سلف.
وقول عائشة: (كنت أطيب) هذا مثال ذكره الحافظ ابن حجر في أن (كان) قد تأتي لغير الاستمرار والدوام، فالغالب في استعمال (كان) أنها للدوام، ولكنها قد تأتي لغير التكرار مثل هذا الحديث، فهو صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم لم يحج إلا مرة واحدة، فلم تطيبه لحله إلا مرة واحدة، ومع ذلك عبرت بقولها: (كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه ولحله قبل أن يطوف بالبيت).
ويوضع الطيب على الرأس والجبهة وعلى جسم الإنسان، وأما ثيابه فلا تطيب.(208/25)
تراجم رجال إسناد حديث: (كنت أطيب رسول الله لإحرامه قبل أن يحرم)
قوله: [حدثنا القعنبي عن مالك ح وحدثنا أحمد بن يونس حدثنا مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة].
كل هؤلاء مر ذكرهم.(208/26)
شرح حديث: (كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله وهو محرم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن الصباح البزاز حدثنا إسماعيل بن زكريا عن الحسن بن عبيد الله عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث عائشة قالت: (كأني أنظر إلى وبيص المسك على مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم)، وهذا الطيب حصل قبل الإحرام، وبقي إلى بعد الإحرام، وهذا يوضح جواز استدامة ما كان قبل الإحرام إلى بعد الإحرام، ولا يبتدئ طيباً بعد الإحرام ولا يجوز له ذلك.
وقولها: (كأني) تفيد تحقق ذلك أمامها وكأنها تنظر إليه الآن، فقد رأته على تلك الهيئة على مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمفرق هو الذي يكون في وسط الرأس حين يقسم الشعر مجموعة إلى جهة اليمين ومجموعة إلى جهة اليسار.
ووبيص الطيب هو لمعانه وبريقه في ذلك المكان من رأسه صلى الله عليه وسلم.(208/27)
تراجم رجال إسناد حديث: (كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله وهو محرم)
قوله: [حدثنا محمد بن الصباح البزاز].
محمد بن الصباح البزاز ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا إسماعيل بن زكريا].
إسماعيل بن زكريا صدوق يخطئ قليلاً، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسن بن عبيد الله].
الحسن بن عبيد الله النخعي وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن إبراهيم].
إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي الفقيه المحدث ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأسود بن يزيد].
وهو ثقة مخضرم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين، وقد مر ذكرها.(208/28)
تلبيد الرأس في الحج(208/29)
شرح حديث: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يهل ملبداً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب التلبيد.
حدثنا سليمان بن داود المهري حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب عن سالم -يعني ابن عبد الله - عن أبيه رضي الله عنه أنه قال: (سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يهل ملبداً)].
أورد أبو داود رحمه الله باب: التلبيد، والتلبيد هو وضع شيء مثل الصمغ على الرأس حتى يمسكه فيصير متلبداً وملتصقاً لا ينتفش ولا يتفرق، ولا يصيبه الغبار مع طول الوقت، ولا يحصل فيه القمل.
وأورد أبو داود حديث ابن عمر قال: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يهل ملبداً) أي: يهل بالإحرام ويلبي حال كونه ملبداً رأسه.
وقد كانوا يحتاجون إلى التلبيد لطول المكث، فإن المسافة من ذي الحليفة إلى مكة كانت تسعة أيام، ففيها تعب ونصب، وأما الآن فالناس لا يحتاجون إلى ذلك، فبعد ساعات يكون قد فرغ من عمرته، فالذي يبدو أن فعله للحاجة وليس سنة.(208/30)
تراجم رجال إسناد حديث: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يهل ملبداً)
قوله: [حدثنا سليمان بن داود المهري].
سليمان بن داود المهري المصري ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا ابن وهب].
ابن وهب هو عبد الله بن وهب المصري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني يونس].
يونس بن يزيد الأيلي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
ابن شهاب هو: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سالم].
سالم هو ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه مر ذكره.(208/31)
شرح حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لبد رأسه بالعسل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبيد الله بن عمر حدثنا عبد الأعلى حدثنا محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبد رأسه بالعسل)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لبد رأسه بالعسل) أي: أنه وضع شيئاً يمسك شعره ويلصق بعضه ببعض، وكان ذلك بالعسل.
وهذا الحديث ضعفه الألباني، ولعل سبب ذلك عنعنة محمد بن إسحاق، فإنه مدلس وقد عنعن، وباقي رجاله ثقات.
وأما أصل التلبيد فهو ثابت، والكلام هنا إنما هو في كونه بالعسل، فهذا هو الذي ضعفه الألباني.(208/32)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن النبي لبد رأسه بالعسل)
قوله: [حدثنا عبيد الله بن عمر].
عبيد الله بن عمر ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا عبد الأعلى].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا محمد بن إسحاق].
محمد بن إسحاق المدني صدوق يدلس، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن نافع عن ابن عمر].
نافع مولى ابن عمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وابن عمر مر ذكره.(208/33)
الأسئلة(208/34)
دخول المسعى في المسجد
السؤال
هل يعتبر المسعى داخلاً في المسجد فتؤجل المرأة السعي حتى تطهر؟
الجواب
هو الآن داخل المسجد، ودخول المسجد للحائض عند الحاجة مثل المرور أو مثل أن تكون قد أتت بالطواف ولكن بقي عليها السعي جائز، فيمكنها أن تسعى، فالسعي لا يشترط فيه الطهارة، وإنما تشترط الطهارة في الطواف، وعلى هذا: لو أن امرأة طافت بالبيت وبقي عليها السعي، وجاءها الحيض بعد الطواف وقبل السعي؛ فإنها تتستر وتتحقق من أنه لا ينزل منها شيء يلوث المسجد، وتسعى، فلا تشترط الطهارة للسعي.
وكذلك لا بأس أن تمر في المسجد للحاجة وللضرورة، وذلك إذا أمنت التلويث.(208/35)
حكم استخدام الأطعمة في التنظيف
السؤال
ما حكم استخدام الأطعمة في التنظف، مثل استخدام زيت الزيتون في الشعر، فإن النساء يستخدمنه لذلك في بعض الأحيان؟
الجواب
لا بأس بذلك عند الحاجة، ولا يعد استهانة بالأطعمة.(208/36)
حكم أداء سنة الفجر في وقت الأذان الأول
السؤال
ما حكم أداء سنة الفجر في وقت الأذان الأول؟
الجواب
لا يصح ذلك؛ لأن صلاة سنة الفجر تكون بعد الأذان الثاني الذي يدل على دخول الوقت، والأذان الأول هو قبل دخول الوقت، فللإنسان أن يوتر بعد الأذان الأول؛ لأن وقت الوتر إلى طلوع الفجر الثاني، فعلى هذا لا تصلى ركعتا الفجر قبل الأذان الثاني.(208/37)
حكم الحج عن المرأة التي ليس لها محرم
السؤال
امرأة لم يكن لها محرم فحج عنها شخص آخر، ثم بعد ذلك وجدت محرماً فهل تعيد الحج؟
الجواب
الحي لا يحج عنه إلا في حالتين اثنتين: الحالة الأولى: أن يكون هرماً كبيراً لا يستطيع الركوب والسفر.
الحالة الثانية: أن يكون مريضاً مرضاً لا يرجى برؤه، والمرأة التي ليس لها محرم ليست من هذين الصنفين، وعلى هذا فلا يحج عنها، وإنما تحج إذا قدرت، وإلا فلا.(208/38)
حكم تثبيت الإحرام بالمشابيك
السؤال
ما حكم تثبيت الإحرام بالمشابيك؟ إذا كان مشبكاً واحداً يمسك أطرافه أو يعقد أطرافه فلا بأس، وأما ما يفعله الناس من تعديد المشابيك وجمعها فالأولى تركه.(208/39)
معنى المخيط الذي يحرم على المحرم
السؤال
ما معنى قولهم: يحرم المخيط على المحرم؟
الجواب
الإحرام إذا كانت أطرافه مخيطة لا يؤثر، لأن المحذور هو لبس المخيط الذي على هيئته التي يلبس عليها، وإلا فلو أن إنساناً كان في الطائرة وأراد أن يحرم وما عنده لباس إحرام، فيمكن أن يخلع ثوبه ويجعله إزاراً، ولو كان مخيطاً؛ لأن المحذور هو لبسه على هيئة اللبس المعروفة.
والإحرام الذي يوضع له أزرار أو طقطق لا ينبغي، لأن هذا مثل المخيط الذي لا يلبس في الإحرام.
وبعض الإحرامات المصنوعة يأتي بها أهل بلد معين نراهم في الحج، فتجد الإحرام -خاصة الإزار- من أعلاه إلى أسفله يكبس كبساً، والأولى ألا يفعل هذا، لأن مثل هذا يشبه المشابك المتعددة، وكون الإنسان يستر عورته هذا مطلوب لكن لا يعمل مثل هذه الأشياء، إلا عند الحاجة فإذا لم يجد الإنسان إزاراً كأن يكون في الطائرة وهي ستتجاوز الميقات فله أن يخلع ثوبه ويتزر به؛ لأنه لبس المخيط على هيئة ليست معهودة، وهذا لا بأس به عند الحاجة، وأما أن يتوسع المرء في مسألة الإزار فيعمل له أزارير أو يعمل له مشابك أو أشياء فترك هذا أولى.(208/40)
حكم الحج بالمال المكتسب بطريقة غير شرعية
السؤال
رجل اكتسب المال بطريق غير شرعي هل يجوز له أن يحج به؟
الجواب
لا يحج إلا من مال حلال، (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً).(208/41)
حكم من ذهب إلى جدة ثم المدينة وأحرم من ميقات المدينة
السؤال
ذهب رجل إلى جدة ثم قصد المدينة وهو يريد الحج من دون إحرام ثم أحرم للحج من ميقات أهل المدينة فماذا عليه؟
الجواب
لا بأس بذلك، فمن جاء إلى جدة وكان قصده أن يذهب إلى المدينة ليحرم من ميقاتها، ولم يكن قصده أن يذهب إلى مكة؛ فلا بأس عليه، وهو تجاوز الميقات بغير إحرام لأنه سيذهب إلى مكان خارج المواقيت ويحرم من ذلك الميقات، فلا بأس بذلك.(208/42)
ميقات المكيين الذين يدرسون في المدينة
السؤال
طلاب من أهل مكة يدرسون في المدينة، وفي إجازة الحج يريدون الذهاب إلى أهليهم وهم يريدون الحج إن جاء وقته، فهل يلزمهم الإحرام من ذي الحليفة؟ وإذا أرادوا الرجوع فهل يلزمهم طواف الوداع؟
الجواب
ذكر العلماء أن الإنسان إذا كان له بلدان أحدهما داخل المواقيت والآخر خارج المواقيت فإن له أن يحرم من خارج المواقيت أو من داخل المواقيت، وهؤلاء لا شك أنهم إذا أحرموا من المدينة فهو أفضل لهم وأحوط، ويكونون قد قطعوا الشك باليقين، وإذا ذهبوا إلى مكة وجاء وقت الحج فأحرموا من مكة التي هي بلادهم فلا بأس بذلك، لكن الأحوط أن يحرموا من المدينة.
والمكي -كما هو معلوم- ليس عليه طواف وداع؛ لأنه لا يغادر مكة، لكن هؤلاء جاءوا إلى مكة وسيغادرونها، فإنهم وإن كانوا مكيين فإن مثلهم عليه أن يودع، لاسيما والأحوط أن طواف الوداع يشرع حتى في العمرة، وفي هذا خلاف، لكن كون المعتمر لا يخرج إلا وقد ودع هو الأولى.(208/43)
حكم من أحرمت واشترطت أنها إذا حاضت أحلت
السؤال
امرأة أرادت أن تعتمر فاشترطت أنها إذا جاءتها العادة الشهرية فإنها تحل، ثم لما أحرمت حاضت فلم تطف، بل سعت ثم قصرت وتحللت وسافرت، فما الحكم؟
الجواب
إذا كان يترتب على تأخرها ضرر فلا بأس، وإذا كان لا يترتب على تأخرها ضرر فالله أعلم ما حكم فعلها هذا.(208/44)
حكم طواف الحائض للإفاضة بسبب ارتباطها برحلة لا يمكن تأجيلها
السؤال
يكثر السؤال عن المرأة التي تحيض في مكة وهي مرتبطة برحلة، أو إذا كانت نفساء والمدة ستطول، ولم تطف طواف الإفاضة فما العمل؟
الجواب
الذي نعلمه أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما ظن أن صفية لم تطف بالبيت طواف الإفاضة قال: (أحابستنا هي؟)، ولما علم أنها قد طافت طواف الإفاضة قال: (انفري قال: -أو- انفروا) يعني: انفري لأنه ما بقي إلا شيء واجب يسقط عن الحائض، وهو طواف الوداع، وأما طواف الإفاضة فإنه لا يسقط؛ ولذا قال: (أحابستنا هي؟)، وهذا يدل على أن الحج لا يتم إلا بحصول طواف الإفاضة، والطواف لا يصح إلا بطهارة، فيجب عليها أن تبقى ويبقى محرمها معها، وإذا أمكنها الذهاب وهي على إحرامها ثم ترجع وهي لا تزال محرمة؛ فإنها تذهب وترجع إذا كان لا يمكنها البقاء.
فالحاصل أن المرأة لا تطوف طواف الإفاضة إلا إذا طهرت من حيضها واغتسلت، فإذا كان البقاء ممكناً بقيت، وإذا لم يمكن البقاء وأمكنها أن تذهب ذهبت ورجعت.(208/45)
حكم مجاوزة الميقات بلا إحرام لمن يريد الذهاب إلى مكان قبل دخول مكة
السؤال
رجل من أهل المدينة يريد أن يذهب إلى الطائف، ثم بعد ذلك يذهب إلى مكة لأداء العمرة، فمن أين يحرم؟
الجواب
لا بأس للمدني الذي يريد أن يذهب إلى الطائف أولاً أن يأتي من الطائف محرماً؛ لأنه ما تجاوز الميقات وهو محرم، وإنما دخل ماراً الميقات إلى الطائف، فيحرم من الطائف ولا بأس بذلك.
ومثله أهل الطائف لو جاءوا إلى المدينة، فكون أحدهم يمر بميقاته وهو لا يريد أن يحرم منه، بل يريد أن يذهب للبلد الثاني ثم يحرم من ميقات البلد الثاني؛ فلا بأس بذلك.
وهذه المسألة لا تشتبه بمن يذهب إلى جدة؛ لأن جدة ليست ميقاتاً، والكلام في شيء وراء المواقيت.(208/46)
مدة قصر الصلاة
السؤال
أنا من أهل المدينة، وسافرت إلى الرياض وجلست عشرة أيام، وكنت أقصر الصلاة وأجمع الظهر مع العصر جمع تقديم، والمغرب مع العشاء مع إسقاط السنن والوتر، فهل ما فعلته صحيح؟ وكم هي مدة القصر؟
الجواب
إذا دخل الإنسان إلى بلد من البلدان ولا يعرف كم هي المدة التي سيبقاها، وإنما يريد قضاء حاجة من الحاجات، فمتى انتهت فإنه سيمشي، فمثل هذا ولو طالت المدة عليه فهو مسافر، وله أن يقصر، وأما الجمع فالأولى للإنسان المقيم في بلد ألا يجمع، وإنما يصلي كل صلاة في وقتها كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في منى قصراً بدون جمع، والجمع جائز مع الإقامة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في حال إقامته في تبوك في يوم من الأيام، وهذا يدل على الجواز، لكن الأولى عدم فعله؛ لما ذكرنا.
وأما إذا كان عازماً على أن يبقى أكثر من أربعة أيام عند دخوله البلد فحكمه حكم المقيمين، فلا يجمع ولا يقصر؛ لأن المدة التي عرف أن النبي صلى الله عليه وسلم بقيها وهو متحقق منها أربعة أيام في حجة الوداع، حيث دخل مكة في اليوم الرابع وخرج إلى منى في اليوم الثامن، وكان يقصر الصلاة في الأبطح صلى الله عليه وسلم.(208/47)
حكم من أحرم فلما وصل مكة غير نيته ورجع
السؤال
ما حكم من أحرم فلما وصل مكة قبل الطواف غير نيته ورجع بدون عمرة؟
الجواب
لا يجوز له ذلك أبداً، بل العمرة لازمة له، وهو باقٍ على إحرامه حتى يأتي بالحج والعمرة، وعليه أن يرجع بإحرامه ويكمل عمرته.(208/48)
تلبيد الرأس لا يبطل الوضوء
السؤال
ألا يبطل التلبيد الوضوء؛ لأن الماء يجب أن يصل إلى جميع الأعضاء؟
الجواب
لا يبطل الوضوء، فالإنسان يمسح على رأسه ولو كان ملبداً، وهذا مثل حال المرأة التي على رأسها حناء، فلا بأس بذلك.(208/49)
شرح سنن أبي داود [209]
يشرع للحاج وغيره الهدي إلى مكة، والتقرب إلى الله تعالى بذبحه وإطعامه لمساكين الحرم، ومن أحكام الهدي أنه يشرع إشعار الإبل والبقر، ويشرع تقليد الإبل والبقر والغنم، حتى يعرف الناس أن ذلك هدي فلا يتعرض له.(209/1)
الهدي(209/2)
شرح حديث: (أن النبي أهدى عام الحديبية جملاً كان لأبي جهل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الهدي.
حدثنا النفيلي حدثنا محمد بن سلمة حدثنا محمد بن إسحاق ح وحدثنا محمد بن المنهال حدثنا يزيد بن زريع عن ابن إسحاق المعنى، قال: قال عبد الله -يعني ابن أبي نجيح - قال: حدثني مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهدى عام الحديبية في هدايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جملاً كان لـ أبي جهل في رأسه برة فضة، قال ابن منهال: برة من ذهب، زاد النفيلي: يغيظ بذلك المشركين).
قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب في الهدي، وقد بدأ الإمام أبو داود رحمه الله بالأبواب المتعلقة بالهدي، والهدي يكون واجباً، ويكون تطوعاً، فالواجب هو هدي التمتع، والقران، والهدي الذي ينذره الإنسان ويوجبه على نفسه، فإنه يكون بذلك واجباً، وأما التطوع فهو الذي يأتي به الإنسان تطوعاً من غير أن يكون واجباً عليه، ككونه يزيد على الواجب، أو أن يرسل هدياً يذبح بمكة دون أن يذهب، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في الأحاديث.
ودم هدي التمتع أو القران والتطوع هو دم شكر لله عز وجل، وهذا بخلاف الدم الذي يكون لجبر نقص، فالإنسان إذا ترك أمراً واجباً عليه كطواف الوداع، أو المبيت بمزدلفة، أو رمي الجمار، أو المبيت في منى، وغير ذلك من الأمور الواجبة في الحج؛ فإن عليه دم جبران يجبر به النقص، مثل سجود السهو بالنسبة للصلاة، فإذا ترك المصلي واجباً يجبره بسجود السهو، وهكذا ترك الواجب في الحج يُجبر بدم إن كان الإنسان قادراً، وإن لم يستطع صام عشرة أيام.
ومن حلق رأسه يخير بين ثلاثة أشياء: يذبح شاة، أو يصوم ثلاثة أيام، أو يطعم ستة مساكين.
أورد أبو داود رحمه الله حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى في جملة ما أهداه عام الحديبية) أي: الهدي الذي ساقه معه وذهب به إلى العمرة في سنة ست، وحصل أن صدهم المشركون، وتم الصلح بينه وبينهم على أن يرجعوا العام، وأن يعتمروا من العام القادم مكان هذه العمرة التي صدوا عنها، فنحر النبي صلى الله عليه وسلم ما كان معه من هدي، وكذلك فعل الصحابة، وكان في جملة ما كان معهم جمل كان لـ أبي جهل، وكان قد أخذ في غنائم بدر، وكان من نصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان بأنفه حلقة من فضة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد ذهب به ليذبحه وينحره في مكة في هذه العمرة؛ ليغيظ به المشركين، فأراد الرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصرفه إلى هذه القربة والطاعة وهي نحره بمكة في ذهابه للعمرة صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وهذا يدل على جواز أن يهدي الإنسان ولو لم يحج أو يعتمر.(209/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن النبي أهدى عام الحديبية جملاً كان لأبي جهل)
قوله: [حدثنا النفيلي].
النفيلي هو عبد الله بن محمد النفيلي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا محمد بن سلمة].
محمد بن سلمة الباهلي وهو ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا محمد بن إسحاق].
محمد بن إسحاق المدني وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[ح وحدثنا محمد بن المنهال].
هو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا يزيد بن زريع].
يزيد بن زريع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن إسحاق المعنى، قال: قال عبد الله: يعني: ابن أبي نجيح].
عبد الله بن أبي نجيح ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مجاهد].
مجاهد بن جبر المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.(209/4)
هدي البقر(209/5)
شرح حديث: (أن رسول الله نحر عن آل محمد في حجة الوداع بقرة واحدة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في هدي البقر.
حدثنا ابن السرح حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نحر عن آل محمد في حجة الوداع بقرة واحدة)].
أورد أبو داود رحمه الله (باب في هدي البقر) أي: أن من جملة ما يهدى: البقر، والذي يهدى لا يكون إلا من بهيمة الأنعام: الإبل والبقر والغنم، ولا شك أن أنفسه الإبل، ثم البقر، ثم الغنم.
وأورد أبو داود رحمه الله تحت هذه الترجمة حديث عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر عن آل محمد بقرة واحدة) أي: نحر عن زوجاته، وقد كن متمتعات كلهن، وكان معه نساؤه التسع رضي الله تعالى عنهن، إلا أن عائشة حاضت، فجاء الحج وهي لم تطهر، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تحرم بالحج، وتدخله على العمرة فتصير بذلك قارنة، وأما أمهات المؤمنين فبقين على تمتعهن، وطفن طوافين، وسعين سعيين، وأما عائشة رضي الله عنها وأرضاها فقد صارت قارنة، وطافت طوافاً واحداً، وسعت سعياً واحداً عن حجها وعمرتها، ثم طلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن تأتي بعمرة حتى تكون مثل صاحباتها، أي: تكون قد طافت طوافين، وسعت سعيين، وإن كانت رضي الله عنها يكفيها طوافها لسعيها وعمرتها كما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لها، فالقارن طوافه يكفي لحجه وعمرته، فهو شيء واحد يكون للاثنين، ولهذا سمي قراناً؛ لأن أعمال الحج والعمرة مقترنة، أي: غير مفصول بعضها عن بعض كما في التمتع الذي تكون فيه العمرة مستقلة بإحرامها وتحللها وما بين ذلك، والحج مستقل بإحرامه وتحلله وما بين ذلك.
وقد جاء في بعض الروايات أنه نحر عن نسائه البقر، أي: نحر عن كل واحدة منهن بقرة، فإذا كان الأمر كذلك فليس فيه إشكال، وإن كان لم ينحر عنهن إلا بقرة واحدة فيشكل على ذلك أنهن أكثر من سبع، ومعلوم أن البدنة إنما تكون عن سبعة، والبقرة تكون عن سبعة؛ ولهذا قال بعض أهل العلم: إن البدنة والبقرة تكون عن عشرة، وهذا الحديث من جملة أدلتهم، لكن جاء ما يدل على أن البقرة تكون عن سبعة، والبدنة عن سبعة.
قال الإمام ابن القيم رحمة الله تعالى عليه: إن كان هناك تعدد فلا إشكال، وإن كانت بقرة واحدة فيشكل على ذلك أنهن تسع، وهذا لا يتأتى إلا على قول من قال: إن البقرة أو البدنة تجزئ عن عشرة.(209/6)
تراجم رجال إسناده حديث: (أن رسول الله نحر عن آل محمد في حجة الوداع بقرة واحدة)
قوله: [حدثنا ابن السرح].
ابن السرح هو أحمد بن عمرو بن السرح، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا ابن وهب].
ابن وهب هو عبد الله بن وهب المصري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني يونس].
يونس هو ابن يزيد الأيلي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرة].
عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية ثقة، أخرج لها أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(209/7)
شرح حديث: (أن رسول الله ذبح عمن اعتمر من نسائه بقرة بينهن)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عمرو بن عثمان ومحمد بن مهران الرازي قالا: حدثنا الوليد عن الأوزاعي عن يحيى عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذبح عمن اعتمر من نسائه بقرة بينهن)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ذبح عمن اعتمر من نسائه بقرة بينهن)، وهذا مثل الذي قبله، وقد اعتمر نساؤه جميعاً معه صلى الله عليه وسلم.(209/8)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن رسول الله ذبح عمن اعتمر من نسائه بقرة بينهن)
قوله: [حدثنا عمرو بن عثمان].
عمرو بن عثمان الحمصي صدوق، أخرج حديثه أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[ومحمد بن مهران الرازي].
محمد بن مهران الرازي ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود.
[حدثنا الوليد].
الوليد بن مسلم وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأوزاعي].
الأوزاعي هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى].
يحيى بن أبي كثير اليمامي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سلمة].
أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(209/9)
الإشعار(209/10)
شرح حديث: (أن رسول الله صلى الظهر، ثم دعا ببدنة فأشعرها من صفحة سنامها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الإشعار.
حدثنا أبو الوليد الطيالسي وحفص بن عمر المعنى قالا: حدثنا شعبة عن قتادة، قال أبو الوليد: قال: سمعت أبا حسان عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى الظهر بذي الحليفة، ثم دعا ببدنة فأشعرها من صفحة سنامها الأيمن، ثم سلت عنها الدم، وقلدها بنعلين، ثم أتي براحلته فلما قعد عليها واستوت به على البيداء أهل بالحج)].
أورد أبو داود رحمه الله باب: في الإشعار، وهو أن يشق في سنام البدنة من الجانب الأيمن حتى يسيل الدم فيسلته؛ وذلك علامة على أنها هدي، والإشعار هو وضع علامة على البدن تدل على أنها هدي، فإذا رآها راءٍ انفلتت أو ضاعت أو فقدت عرف أنها هدي، فيسوقها إلى الحرم حتى تصل إلى منتهاها.
والإشعار سنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال به جمهور أهل العلم، ولا يعرف أنه خالف في ذلك إلا أبو حنيفة رحمه الله، وقد خالفه في ذلك صاحباه أبو يوسف ومحمد، وقالا بقول الجمهور بأن الهدي يشعر، وأما أبو حنيفة فقال: إنه مثلة، وما دام أن الأحاديث قد ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه حق، ولا يقال: إنه مثلة؛ لأن المثلة هي تعذيب الحيوان بأن يقطع منه شيء، كأن تقطع أليته، أو يقطع سنامه أو غير ذلك، ويكون ذلك ميتة؛ لأن ما أبين من حي فهو ميت، وأما أن تعمل هذه الهيئة -وهي الإشعار- لتكون علامة على أنه هدي، فيعرف كل من وجده أنه هدي، فإذا ضاع أو فقد سيق إلى الحرم؛ فهذا ليس من المثلة.
ثم إن النهي عن المثلة ثابت، وهو متقدم، والإشعار إنما كان في حجة الوداع قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر.
ثم لو كان ذلك مُثلة لكان هذا مما استثني من ذلك، لكنه في الحقيقة ليس بمثلة، وهو شيء لا يحصل به ضرر كبير، فيكون من جنس الكي والوسم والختان للمولود، فهو شيء فيه مصلحة، فلا يقال: إنه تمثيل والسنة ثابتة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بذي الحليفة].
يعني في اليوم الثاني؛ لأنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر في اليوم الأول في المدينة، وخرج بعد الظهر، ثم صلى العصر في ذي الحليفة قصراً، وصلى أيضاً المغرب والعشاء والفجر والظهر من اليوم الثاني، ثم أحرم صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الظهر، فلما صلى الظهر أتي ببدنة فأشعرها من جانب سنامها الأيمن، فهذا يدل على أن الإشعار سنة، وأنه يكون في الجهة اليمنى من السنام.
وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أنه قلدها نعلين، أي: أنه جعل في رقبتها قلادة فيها نعلان، وقيل في سبب التقليد بالنعلين: إن النعلين هما مركب الإنسان، وهذا الفعل إشارة إلى أنه ترك مركوبه من الدواب، وكذلك أيضاً ترك مركوبه من النعال، فيكون قد جمع بين المركوبين، فيكون ذلك علامة على أنه هدي، هكذا ذكر ذلك بعض أهل العلم، ومنهم شيخنا الشيخ أمين الشنقيطي رحمة الله عليه في أضواء البيان.
قوله: (ثم أتي براحلته فلما قعد عليها واستوت به على البيداء أهل بالحج) أي: ركب دابته فلما استوت به على البيداء وارتفعت لبى بالحج، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما أحرم بالحج والعمرة، أي: أنه كان قارناً بينهما، وقد جاءت عدة أحاديث في ذلك، وقد ذكر ابن القيم ثمانية عشر دليلاً على أنه قرن، وجاء في بعض الأحاديث أنه تمتع، وفي بعضها أنه حج، فيكون من ذكر الحج لعله سمع الحج ولم يسمع العمرة، ومن قال: إنه تمتع فلعله أراد بذلك أن القارن متمتع من حيث إنه جمع نسكين في سفرة واحدة، فعنده شيء من التمتع في الجملة، وإن كان التمتع الذي اشتهر يراد به أن يأتي الإنسان بعمرة مستقلة في أشهر الحج ثم يحل منها، وإذا جاء اليوم الثامن أحرم بالحج، فتكون العمرة مستقلة والحج مستقلاً، فهذا الذي اشتهر باسم التمتع.
ولهذا استدل ابن كثير رحمه الله على أن القارن يجب عليه الهدي بقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196]، قال: لأن القران يقال له: تمتع؛ لأنه جمع بين نسكين في سفرة واحدة، والسنة أنه إذا ركب لبى وأهل.(209/11)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رسول الله صلى الظهر، ثم دعا ببدنة فأشعرها من صفحة سنامها)
قوله: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي].
أبو الوليد الطيالسي هو هشام بن عبد الملك الطيالسي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وحفص بن عمر].
حفص بن عمر ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[المعنى، قالا: حدثنا شعبة].
شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
قتادة بن دعامة السدوسي البصري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال أبو الوليد: قال: سمعت أبا حسان].
أي: أن قتادة عبر بسمعت.
وأبو حسان هو الأعرج، وهو مسلم بن عبد الله، صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن].
[عن ابن عباس].
ابن عباس هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد مر ذكره.(209/12)
الأسئلة(209/13)
هل الإشعار خاص بالإبل
السؤال
هل الإشعار خاص بالإبل؟
الجواب
جاء النص بذلك في الإبل، وبعض أهل العلم قاس عليها البقر إذا كان لها سنام، وأما الغنم فإنها لا تشعر، لأنها غالباً ما يكون عليها الصوف، وهو يغطي الإشعار، بخلاف الإبل والبقر فإن جسدها يكون واضحاً، وليس هناك صوف يغطيه كما هو الحال بالنسبة للغنم، وأيضاً الغنم ضعيفة، فهي دون الإبل والبقر في التحمل؛ لذلك لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم الإشعار بالنسبة للغنم.(209/14)
تابع ما جاء في الإشعار(209/15)
شرح حديث (أن رسول الله صلى الظهر ثم دعا ببدنة) من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد قال: حدثنا يحيى عن شعبة بهذا الحديث بمعنى أبي الوليد، قال: ثم سَلَت الدم بيده.
قال أبو داود: رواه همام قال: سلت الدم عنها بإصبعه.
قال أبو داود: هذا من سنن أهل البصرة الذي تفردوا به].
ذكر المصنف طريقاً أخرى وفيها زيادة وهي: (ثم سلت الدم بيده) أي: لما طلع الدم من الشق الذي حصل في صفحة السنام اليمنى سلته بيده، أي: بأصابعه.
[وقال همام: (سلت الدم عنها بإصبعه)] أي: بدل يده، والمقصود أنه بيده وبإصبعه، ولا نعلم لهذا الشق في سنامها حداً، فالمهم أن يكون علامة واضحة، وشعاراً بيناً.
[وقال أبو داود: هذا من سنن أهل البصرة الذي تفردوا به]؛ لأن رجال الإسناد كلهم من أهل البصرة عدا ابن عباس.(209/16)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رسول الله صلى الظهر ثم دعا ببدنة) من طريق ثانية
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى].
يحيى بن سعيد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شعبة بهذا الحديث بمعنى أبي الوليد].
أي: بمعنى أبي الوليد في الحديث السابق.
[قال أبو داود: رواه همام].
همام بن يحيى وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
فأبو الوليد الطيالسي وحفص بن عمر وشعبة وقتادة وحسان الأعرج وهمام ومسدد ويحيى بن سعيد كل هؤلاء بصريون.(209/17)
شرح حديث (فلما كان بذي الحليفة قلد الهدي وأشعره وأحرم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الأعلى بن حماد حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة عن المسور بن مخرمة رضي الله عنهما ومروان بن الحكم أنهما قالا: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، فلما كان بذي الحليفة قلد الهدي، وأشعره، وأحرم)].
أورد أبو داود حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، فلما كان بذي الحليفة قلد الهدي، وأشعره، وأحرم) ومعنى قلده: أنه عمل له القلائد في رقابها، والإشعار مر ذكره في الحديث السابق، ثم دخل في الإحرام.
وبالنسبة للباس جاء أنه عليه الصلاة والسلام صلى في المدينة الظهر بإزار ورداء، فيحتمل أن يكون ذلك استعداداً للإحرام، ويحتمل أن يكون ذلك لباساً من لباسهم كان يلبسه صلى الله عليه وسلم أحياناً.(209/18)
تراجم رجال إسناد حديث (فلما كان بذي الحليفة قلد الهدي وأشعره وأحرم)
قوله: [حدثنا عبد الأعلى بن حماد].
عبد الأعلى بن حماد لا بأس به، وهذا بمعنى: صدوق، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا سفيان بن عيينة].
سفيان بن عيينة المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري عن عروة].
الزهري مر ذكره، وعروة بن الزبير بن العوام ثقة فقيه من فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن المسور بن مخرمة].
المسور بن مخرمة صحابي صغير، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ومروان بن الحكم].
مروان بن الحكم هو الخليفة المشهور، وحديثه أخرجه البخاري وأصحاب السنن، وقد ذكر الحافظ في التقريب أن عروة بن الزبير قال عنه: كان لا يتهم بالحديث، يعني مروان بن الحكم، والحديث بالنسبة له مرسل؛ لأنه ليس بصحابي، وهو متصل من طريق المسور بن مخرمة.(209/19)
شرح حديث (أن رسول الله أهدى غنماً مقلدة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هناد حدثنا وكيع عن سفيان عن منصور والأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهدى غنماً مقلدة)].
أورد أبو داود حديث عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى غنماً مقلدة) وفي هذا أن الغنم تقلد وتهدى، والتقليد يكون لبهيمة الأنعام كلها: الإبل والبقر والغنم.(209/20)
تراجم رجال إسناد حديث (أن رسول الله أهدى غنماً مقلدة)
قوله: [حدثنا هناد].
هناد بن السري أبو السري ثقة، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا وكيع].
وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان].
سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن منصور].
منصور بن معتمر الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[والأعمش].
الأعمش هو سليمان بن مهران الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إبراهيم].
إبراهيم هو ابن يزيد بن قيس النخعي ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأسود].
الأسود بن يزيد بن قيس النخعي وهو ثقة مخضرم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة مر ذكرها.
والإسناد كله كوفيون إلا عائشة رضي الله عنها.(209/21)
تبديل الهدي(209/22)
شرح حديث عمر في طلبه من رسول الله أن يغير النجيب الذي أهداه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: تبديل الهدي.
حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا محمد بن سلمة عن أبي عبد الرحيم -قال أبو داود: أبو عبد الرحيم خالد بن أبي يزيد، خال محمد يعني: ابن سلمة، روى عنه حجاج بن محمد - عن جهم بن الجارود عن سالم بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنه أنه قال: أهدى عمر بن الخطاب رضي الله عنه نجيباً فأعطي بها ثلاثمائة دينار، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني أهديت نجيباً، فأعطيت بها ثلاثمائة دينار، أفأبيعها وأشتري بثمنها بُدْناً؟ قال (لا، انحرها إياها).
قال أبو داود: هذا لأنه كان أشعرها].
أورد أبو داود رحمه الله باب: تبديل الهدي أي: أن يبدل شيئاً اشتراه على أنه هدي بغيره، والحكم في هذا أنه إذا كان سيبدله بما هو أحسن منه فلا بأس بذلك، وأما إذا كان سيبدله بشيء أقل منه فإنه لا يجوز.
فلو أن إنساناً اشترى شاة ليجعلها هدياً ثم بعد ذلك أراد أن يهدي بشاة أحسن وأنفس وأسمن منها فلا بأس بذلك.
وقد أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استأذنه عمر أن يبدل النجيب التي كان جعلها هدياً، وذلك بأن يبيعها ويشتري بثمنها بدناً، فقال: لا، انحرها إياها)، قال أبو داود: لأنه كان أشعرها، أي: أنها قد جعلت عليها علامة الهدي، وهي شق سنامها وإشعارها، فهذا هو سبب المنع عند أبي داود، وإلا فإنها إذا أبدلت بما هو أحسن منها فإن ذلك سائغ، ويكون الإبدال بالصفة، أو بالعدد، أو بهما معاً، وهذا الحديث لم يصح؛ لأن فيه رجلاً مقبولاً، وفيه أيضاً انقطاع بين الجهم بن الجارود وبين سالم فإنه لم يسمع منه.(209/23)
تراجم رجال إسناد حديث عمر في طلبه من رسول الله أن يغير النجيب الذي أهداه
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي] مر ذكره.
[حدثنا محمد بن سلمة عن أبي عبد الرحيم].
أبو عبد الرحيم هو خالد بن أبي يزيد الحراني وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأبو داود والنسائي.
[خال محمد يعني: ابن سلمة، روى عنه حجاج بن محمد].
هذا كله اعتراض وتوضيح وتبيين من أبي داود لـ أبي عبد الرحيم، فهي جملة معترضة لبيان من هو أبو عبد الرحيم هذا، فذكر أنه خال محمد بن سلمة الحراني، وذكر أن اسمه خالد بن أبي يزيد، وذكر أيضاً واحداً من تلاميذه الذين رووا عنه وهو الحجاج بن محمد المصيصي، والحجاج بن محمد ليس من رجال الإسناد، وإنما جيء به على سبيل التبيين لهذا الشخص الذي ذكره محمد بن سلمة بكنيته فقط، فأراد أبو داود رحمه الله أن يوضح فأتى بهذه العبارة عن الجهم بن جارود وهو مقبول، أخرج حديثه أبو داود.
[عن سالم عن أبيه].
سالم وأبوه مر ذكرهما.(209/24)
الرجل يبعث بهديه ويقيم(209/25)
شرح حديث: (فتلت قلائد بدن رسول الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: من بعث بهديه وأقام.
حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي حدثنا أفلح بن حميد عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (فتلتُ قلائد بدن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيدي، ثم أشعرها وقلدها، ثم بعث بها إلى البيت وأقام بالمدينة، فما حرم عليه شيء كان له حلاً)].
أورد أبو داود باب: من بعث بهديه ثم أقام، أي: ولم يذهب مع هديه، بل أقام في بلده وأرسله إلى مكة لينحر في مكة، وهو هدي يتقرب الإنسان به إلى ربه في الحرم، والمقصود من هذه الترجمة أن ذلك مشروع، وأن من فعل ذلك فليس حكمه حكم المحرمين، ولا يمتنع مما يمتنع منه المحرم، بل يحل له كل ما يحل لمن كان حلالاً؛ لأنه ما أحرم حتى يمتنع من محظورات الإحرام.
وأورد حديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (أنها فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قلد الهدي، وأنه بعثه وبقي فيهم، ولم يترك شيئاً كان حلاً له) أي: من الجماع ولبس المخيط وكل الأمور التي يمنع منها المحرم، فلم يمتنع منها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يكن محرماً، فإرسال الهدي لا يعتبر إحراماً، فالإحرام هو نية الدخول في النسك.(209/26)
تراجم رجال إسناد حديث: (فتلت قلائد بدن رسول الله)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي].
مر ذكره.
[حدثنا أفلح بن حميد].
أفلح بن حميد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن القاسم].
القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وهو أحد فقهاء المدينة السبعة، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
مر ذكرها.(209/27)
شرح حديث (فتلت قلائد بدن رسول الله) من طريق ثانية وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يزيد بن خالد الرملي الهمداني وقتيبة بن سعيد أن الليث بن سعد حدثهم عن ابن شهاب عن عروة وعمرة بنت عبد الرحمن أن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُهدي من المدينة، فأفتل قلائد هديه، ثم لا يجتنب شيئاً مما يجتنب المحرم)].
أورد أبو داود حديث عائشة من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله.
قوله: [حدثنا يزيد بن خالد الرملي].
يزيد بن خالد الرملي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[وقتيبة بن سعيد] قتيبة بن سعيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن الليث حدثهم].
الليث بن سعد المصري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب عن عروة وعمرة].
ابن شهاب وعروة وعمرة مر ذكرهم.
[عن عائشة].
قد مر ذكرها.(209/28)
شرح حديث (فتلت قلائد بدن رسول الله) من طريق ثالثة وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا بشر بن المفضل حدثنا ابن عون عن القاسم بن محمد وعن إبراهيم، زعم أنه سمعه منهما جميعاً، ولم يحفظ حديث هذا من حديث هذا، ولا حديث هذا من حديث هذا، قالا: قالت أم المؤمنين رضي الله عنها: (بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالهدي، فأنا فتلت قلائدها بيدي من عِهْن كان عندنا، ثم أصبح فينا حلالاً يأتي ما يأتي الرجل من أهله)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها وهو مثل الذي قبله، وقد بينتْ هنا المادة التي صنعت منها هذه القلائد، وأنها فتلتها من عهن -وهو صوف- كان عندهم، والباقي مثل ما تقدم.
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا بشر بن المفضل].
بشر بن المفضل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ابن عون].
هو عبد الله بن عون، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن القاسم بن محمد وعن إبراهيم].
القاسم بن محمد مر ذكره، وإبراهيم هو النخعي، أي: أن ابن عون يرويه عن هذا وهذا، ولم يميز لفظ هذا من هذا، وهذا لا يؤثر إذا كان الكلام يدور على ثقتين، فسواء رواه عن هذا أو عن هذا فالنتيجة واحدة، وإنما يؤثر لو أن أحدهما ضعيف؛ لأنه يحتمل أن يكون بعضه عن الضعيف.(209/29)
شرح سنن أبي داود [210]
من أعظم القربات ذبح الهدايا ونحرها في مكة لإطعام الفقراء في حرم الله، وتشرع هذه العبادة لمن حج أو اعتمر ولغيرهما، وهذه البدن من شعائر الله التي يجب تعظيمها، وتعظيمها دليل على تقوى القلوب، وقد ذكر العلماء أحكاماً كثيرة تتعلق بها، مثل جواز الركوب عليها للحاجة وكيفية ذبحها أو نحرها، واستحباب الأكل منها.(210/1)
ركوب البدن(210/2)
شرح حديث: (أن رسول الله رأى رجلاً يسوق بدنة فقال اركبها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: في ركوب البدن.
حدثنا القعنبي عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة، فقال: اركبها.
قال: إنها بدنة.
فقال: اركبها ويلك! في الثانية أو في الثالثة)].
أورد أبو داود باباً في ركوب البدن، أي: الهدي من الإبل، فالبدن هي الإبل، وركوبها عند الحاجة إليه لا بأس به، حيث لا يلحقها شيء من الضرر.
وأورد أبو داود حديث أبي هريرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة فقال له: اركبها، قال: إنها بدنة) يعني: أنها هدي، (قال: اركبها ويلك) فبين له أنه يجوز ركوبها حتى ولو كانت هدياً، لكن هذا فيما إذا كان بالمعروف، بحيث لا يلحقها ضرر بذلك، وإذا كان مستغنياً عنها فإنه يتركها ولا يركب عليها.(210/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن رسول الله رأى رجلاً يسوق بدنة فقال اركبها)
قوله: [حدثنا القعنبي عن مالك عن أبي الزناد].
أبو الزناد هو عبد الله بن ذكوان أبو عبد الرحمن المدني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعرج].
الأعرج هو عبد الرحمن بن هرمز، والأعرج لقبه، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة مر ذكره.(210/4)
شرح حديث: (اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهراً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير قال: سألت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن ركوب الهدي فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهراً)].
أورد أبو داود حديث جابر رضي الله عنه: (أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسأل عن ركوب الهدي، فقال: يركبها بالمعروف) أي: بما هو معروف، بحيث يكون بحاجة إليها ولا يلحقها ضرر، حتى يجد ظهراً غيرها، فإذا كان عنده غيرها فليركب ذلك الذي ليس بهدي.
وهذه البدنة يحتمل أنها كانت مقلدة أو غير مقلدة، ويحتمل أنها لم يكن عليها شعار؛ لأنه يمكن أن يكون الهدي بدون تقليد، ولكن أراد هذا الرجل أن يوضح السبب الذي جعله لا يركب عليها وهو أنها هدي، وكأنه فهم أن الهدي لا ينتفع به الإنسان، وقد أرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى جواز الانتفاع به.(210/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهراً)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن جريج].
يحيى بن سعيد هو القطان وقد مر ذكره، وابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني أبو الزبير].
أبو الزبير هو محمد بن مسلم بن تدرس المكي صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سألت جابر بن عبد الله].
جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(210/6)
الهدي إذا عطب قبل أن يبلغ(210/7)
شرح حديث: (إن عطب منها شيء فانحره ثم اصبغ نعله في دمه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الهدي إذا عطب قبل أن يبلغ.
حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن هشام عن أبيه عن ناجية الأسلمي رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث معه بهدي فقال: إن عطب منها شيء فانحره، ثم اصبغ نعله في دمه، ثم خلي بينه وبين الناس)].
أورد أبو داود رحمه الله باباً في الهدي يعطب، أي: يحصل له شيء من العطب، فإما أن يحصل له عِيّ وتعب وانقطاع في الطريق فلا يستطيع المواصلة، أو يحصل له مرض أو نحوه يخشى أن يفضي به إلى موته، فالنبي صلى الله عليه وسلم بعث مع ناجية الأسلمي هدياً وقال له: (إن عطب منها شيء فانحره، ثم اصبغ نعله في دمه، ثم خلي بينه وبين الناس) أي: إن عطب منها شيء فانحره ولا تتركه يموت، (ثم أصبغ نعله في دمه) أي: نعله التي كان قلد بها، (ثم خلي بينه وبين الناس) أي: حتى يستفيدوا منه ويأكلوه، وقد جاء في بعض الروايات أن الذي معه الهدي لا يستعمله هو ولا أحد من أصحابه؛ ولعل ذلك لقطع الأطماع في كون الهدي إذا حصل له شيء فقد يسارع سائقه إلى الذبح؛ من أجل أن يأكل منه؛ لذلك لم يكن له نصيب منه، وإنما هو لغيره ولغير رفقته الذين كانوا معه، حتى لا يقدم على نحر الشيء إلا إذا خشي فواته.(210/8)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن عطب منها شيء فانحره ثم اصبغ نعله في دمه)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
محمد بن كثير العبدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا سفيان].
سفيان هو الثوري، وقد مر ذكره.
[عن هشام].
هو ابن عروة، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو عروة بن الزبير، وقد مر ذكره.
[عن ناجية الأسلمي].
ناجية الأسلمي رضي الله عنه صحابي، وحديثه أخرجه أصحاب السنن.(210/9)
شرح حديث (إن عطب منها شيء فانحره) من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن حرب ومسدد قالا: حدثنا حماد ح وحدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث، وهذا حديث مسدد، عن أبي التياح عن موسى بن سلمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلاناً الأسلمي، وبعث معه بثمان عشرة بدنة، فقال: أرأيت إن أزحف علي منها شيء؟ قال: تنحرها، ثم تصبغ نعلها في دمها، ثم اضربها على صفحتها، ولا تأكل منها أنت ولا أحد من أصحابك أو قال: من أهل رفقتك).
قال أبو داود: الذي تفرد به من هذا الحديث قوله: (ولا تأكل منها أنت ولا أحد من رفقتك).
وقال في حديث عبد الوارث: (ثم اجعله على صفحتها) مكان (اضربها).
قال أبو داود: سمعت أبا سلمة يقول: إذا أقمت الإسناد والمعنى كفاك].
أورد أبو داود حديث ابن عباس قال: (بعث الرسول صلى الله عليه وسلم فلاناً الأسلمي) لم يذكر اسمه هنا، وكنى عنه بفلان.
قوله: (بعث معه بثمان عشرة بدنة فقال:) أي: ذلك الأسلمي، (أرأيت إن أزحف علي منها شيء) أي: حصل له إعياء وضعف، وصار كأنه يزحف لشدة ضعفه، فماذا أصنع به؟ (فقال له: تنحرها، ثم تصبغ نعلها في دمها) أي: تصبغ النعل الذي قلدت به بدمها، ثم يضرب على صفحتها بالدم؛ حتى إذا رآها أحد عرف أنها هدي، فيأخذ منها، ومعنى ذلك أنها مبذولة لمن يريد أن يستفيد منها، لكن لا يستعملها هو ولا أحد من رفقته.(210/10)
تراجم رجال إسناد حديث (إن عطب منها شيء) من طريق ثانية
قوله: [حدثنا سليمان بن حرب].
سليمان بن حرب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ومسدد قالا: حدثنا حماد].
حماد بن زيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث].
عبد الوارث بن سعيد العنبري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وهذا حديث مسدد عن أبي التياح].
أبو التياح هو يزيد بن حميد الضبعي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن موسى بن سلمة].
موسى بن سلمة ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن ابن عباس].
ابن عباس مر ذكره.(210/11)
جواز الرواية بالمعنى
[قال أبو داود: الذي تفرد به من هذا الحديث إلخ].
المتفرد بذلك هو مسدد، وقال في (عون المعبود): إن المتفرد هو أبو التياح، لكن أبا التياح متابع، فقد تابعه قتادة.
[قال أبو داود: سمعت أبا سلمة يقول: إذا أقمت الإسناد والمعنى كفاك].
هذه العبارة يحكيها أبو داود عن أبي سلمة وهو: موسى بن إسماعيل التبوذكي المنقري شيخ أبي داود، ويروي عنه كثيراً، قال أبو سلمة: إذا أقمت الإسناد والمعنى كفاك، أي: إذا أتى بإسناد الحديث كما هو، وأتى بمعنى الحديث فإن ذلك يكفي، ومعنى ذلك: أن الرواية بالمعنى سائغة وجائزة، لكن الأولى أن يحافظ على لفظ حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يصار إلى الراوية بالمعنى إلا عند الحاجة إليها.
وقد اشتهر الإمام مسلم رحمه الله بالمحافظة على الألفاظ، حتى أن الحافظ ابن حجر رحمه الله في ترجمة الإمام مسلم من (تهذيب التهذيب) أثنى عليه ثناءً عظيماً وقال: لقد حصل للإمام مسلم حظ عظيم من حيث محافظته على الألفاظ والإبقاء عليها، وعدم الرواية بالمعنى، وأن هناك جماعة من النيسابوريين أرادوا أن يحذوا حذوه فلم يفعلوا شيئاً.
وإذا كان الإنسان لم يضبط اللفظ فلم يبق إلا الرواية بالمعنى، قال الله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16].(210/12)
شرح حديث: (نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدنه ثلاثين بيده)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا محمد ويعلى ابنا عبيد قالا: حدثنا محمد بن إسحاق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي رضي الله عنه أنه قال: (لما نحر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدنه، فنحر ثلاثين بيده، وأمرني فنحرت سائرها)].
هذا الحديث وما بعده لا علاقة لهما بباب الهدي إذا عطب، وإنما يتعلقان بنحر الهدي، وليس فيهما شيء يتعلق بالعطب، وقد قال صاحب (عون المعبود): لعل هناك ترجمة قد سقطت، وإلا فإن وجود هذين الحديثين تحت هذه الترجمة: الهدي إذا عطب، في غير الموضع المناسب؛ لأنهما لا دخل لهما فيها.
قوله: (لما نحر النبي صلى الله عليه وسلم بدنه نحر ثلاثين بيده، وأمرني فنحرت سائرها)، وقد كان هديه صلى الله عليه وسلم مائة من الإبل، والمعروف أنه نحر ثلاثاً وستين، وأن علياً نحر الباقي، وفي هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر ثلاثين، ولهذا ضعف الألباني هذه الطريق؛ لأنها مخالفة للطرق الأخرى التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر بيده ثلاثاً وستين.(210/13)
تراجم رجال إسناد حديث: (نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدنه ثلاثين بيده)
قوله: [حدثنا هارون بن عبد الله].
هارون بن عبد الله الحمال البغدادي ثقة أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا محمد ويعلى ابنا عبيد].
محمد بن عبيد الطنافسي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ويعلى].
يعلى بن عبيد الطنافسي ثقة إلا في حديثه عن الثوري، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا محمد بن إسحاق].
محمد بن إسحاق المدني، وقد مر ذكره.
[عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى].
ابن أبي نجيح هو عبد الله بن أبي نجيح ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مجاهد عن عبد الرحمن].
مجاهد بن جبر وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وعبد الرحمن بن أبي ليلى ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن علي].
علي بن أبي طالب رضي الله عنه أمير المؤمنين، ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة، والفضائل الكثيرة رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وهذا الإسناد فيه عنعنة محمد بن إسحاق فإنه مدلس، وقد روى هنا بالعنعنة.(210/14)
شرح حديث: (وقرب لرسول الله بدنات خمس أو ست فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي أخبرنا عيسى ح وحدثنا مسدد أخبرنا عيسى وهذا لفظ إبراهيم عن ثور عن راشد بن سعد عن عبد الله بن عامر بن لحي عن عبد الله بن قرط رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن أعظم الأيام عند الله تبارك وتعالى يوم النحر، ثم يوم القر، قال عيسى: قال ثور: وهو اليوم الثاني، وقال: وقرب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدنات خمس أو ست، فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ منها، فلما وجبت جنوبها قال: فتكلم بكلمة خفيت لم أفهمها، فقلت: ما قال؟ قال: من شاء اقتطع)].
أورد أبو داود حديث عبد الله بن قرط رضي الله عنه قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن أعظم الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القر) ويوم النحر هو اليوم العاشر من ذي الحجة، وهو يوم الحج الأكبر، وفيه تجتمع كثير من أعمال الحج، ففيه الرمي، وفيه النحر، وفيه الحلق، وفيه الطواف والسعي لمن كان عليه سعي.
قوله: (ثم يوم القر)، وهو يلي يوم النحر، وقيل له: يوم القر لأن الناس قد استقروا في منى بعدما أدوا أعمالهم، وفرغوا من الطواف وغير ذلك، فيبقون في منى يوم القر، وليس لأحد أن يغادر منى؛ لأنه يوم القرار في منى.
واليوم الذي بعده يقال له: يوم النفر الأول، والثالث عشر يقال له: يوم النفر الثاني، فترتيبها هكذا: يوم النحر، ثم يوم القر، ثم يوم النفر الأول، ثم يوم النفر الثاني، لأن الناس ينفرون في اليوم الثاني عشر بعد الزوال ورمي الجمار، فمن أراد أن يتعجل نفر من منى قبل غروب الشمس، ومن أراد أن يتأخر بعد أن يرمي الجمار من اليوم الثالث عشر فإنه ينفر منها، وبذلك تكون قد انتهت أيام منى.
فهذا دليل على فضل يوم النحر الذي هو يوم الحج الأكبر، وكذلك فضل اليوم الذي يليه وهو يوم القر، وهو اليوم الثاني عشر.
قوله: (ثم قُرِّب للنبي صلى الله عليه وسلم بدنات خمس أو ست فجعلن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ).
أي: أنهن يتنافسن في القرب منه حتى يقوم بنحرهن صلى الله عليه وسلم.
قوله: (فلما وجبت جنوبها) أي: لما ذُبحت وبردت (قال كلمة لم أفهمها، فسألت: ماذا قال؟) أي: أنه تثبت فيها (فقيل له: قال: من شاء اقتطع) أي: اقتطع من اللحم.(210/15)
تراجم رجال إسناد حديث (وقرب لرسول الله بدنات خمس أو ست فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ)
قوله: [حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي].
إبراهيم بن موسى الرازي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا عيسى].
عيسى بن يونس بن أبي إسحاق ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا مسدد أخبرنا عيسى، وهذا لفظ إبراهيم عن ثور].
ثور هو ثور بن يزيد الحمصي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا مسلماً.
[عن راشد بن سعد].
راشد بن سعد الحمصي وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وكذلك تعليقاً وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن عامر بن لحي].
عبد الله بن عامر بن لحي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن عبد الله بن قرط].
عبد الله بن قرط رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أبو داود والنسائي.(210/16)
شرح حديث غرفة بن الحارث في نحر النبي وعلي للهدي
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن حاتم حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا عبد الله بن المبارك عن حرملة بن عمران عن عبد الله بن الحارث الأزدي قال: سمعت غرفة بن الحارث الكندي رضي الله عنه قال: (شهدت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع وأتي بالبدن فقال: ادعوا لي أبا حسن، فدعي له علي رضي الله عنه فقال له: خذ بأسفل الحربة، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأعلاها، ثم طعن بها في البدن، فلما فرغ ركب بغلته، وأردف علياً رضي الله عنه)].
أورد أبو داود حديث غرفة بن الحارث رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بالبدن فقال: ادعوا أبا حسن) يعني: علي بن أبي طالب رضي الله عنه (فأخذ أسفل الحربة وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بأعلاها) أي: ونحرها (فلما فرغ ركب بغلته، وأردف علياً رضي الله عنه).
وفي هذا أن علياً ساعده في النحر، والمعروف أنه صلى الله عليه وسلم نحر بيده ثلاثاً وستين، ونحر علي الباقي، أي: تمام المائة.(210/17)
تراجم رجال إسناد حديث غرفة بن الحارث في نحر النبي وعلي للهدي
قوله: [حدثنا محمد بن حاتم].
هو محمد بن حاتم بن ميمون البغدادي التميمي صدوق ربما وهم، أخرج له مسلم وأبو داود.
[حدثنا عبد الرحمن بن مهدي].
عبد الرحمن بن مهدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الله بن المبارك].
عبد الله بن المبارك ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حرملة بن عمران].
حرملة بن عمران ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن عبد الله بن الحارث الأزدي].
عبد الله بن الحارث الأزدي مقبول، أخرج له أبو داود.
[سمعت غرفة بن الحارث الكندي].
غرفة بن الحارث الكندي صحابي أخرج له أبو داود.
هذا الحديث ذكره الألباني في ضعيف أبي داود، وذلك من أجل عبد الله بن الحارث الأزدي.(210/18)
كيفية نحر الإبل(210/19)
شرح حديث: (أن النبي وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب كيف تنحر البدن.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أبو خالد الأحمر عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر، وأخبرني عبد الرحمن بن سابط: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى، قائمة على ما بقي من قوائمها)].
أورد أبو داود (باب كيف تنحر البدن) أي: أن البدن تنحر وهي قائمة معقولة اليد اليسرى، وتكون قائمة على بقية قوائمها: الرجلين واليد اليمنى، فتنحر قائمة، ويكون ذلك في لبتها التي في أسفل العنق، والذبح يكون في أصل العنق من الرقبة، والأصل في الإبل أنها تنحر، وأما البقر والغنم فتذبح، ويجوز نحر ما يذبح، وذبح ما ينحر، فيجوز في الإبل أن تذبح بين الرأس والرقبة، ولكن الذي جاءت به السنة هو أنها تنحر، ويذبح ما سواها.
أورد أبو داود حديث جابر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى، قائمة على ما بقي من قوائمها).(210/20)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن النبي وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي، وإلا النسائي فإنه إنما أخرج له في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا أبو خالد الأحمر].
أبو خالد الأحمر هو سليمان بن حيان وهو صدوق يخطئ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن جريج].
ابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الزبير عن جابر].
أبو الزبير وجابر مر ذكرهما.
[وأخبرني عبد الرحمن بن سابط].
قال ابن جريج: وأخبرني عبد الرحمن بن سابط، وهذه طريق أخرى إلا أنها مرسلة، وأما الطريق الأولى فمتصلة.
وعبد الرحمن بن سابط ثقة كثير الإرسال، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي في عمل اليوم والليلة وابن ماجة.(210/21)
شرح حديث: (ابعثها قياماً مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وسلم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا هشيم أخبرنا يونس أخبرني زياد بن جبير قال: (كنت مع ابن عمر رضي الله عنه بمنىً، فمر برجل وهو ينحر بدنته وهي باركة، فقال: ابعثها قياماً مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وسلم)].
أورد أبو داود حديث ابن عمر: (أنه رأى رجلاً ينحر بدنته وهي باركة، فقال: ابعثها قياماً سنة محمد صلى الله عليه وسلم) أي: انحرها وهي قائمة فتكون بذلك متبعاً لسنة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد مر في الحديث السابق: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا ينحرون البدن معقولة اليد اليسرى، وقائمة على ما بقي من قوائمها)، فسنة النبي صلى الله عليه وسلم في نحر الإبل أن يكون بهذه الطريقة.(210/22)
تراجم رجال إسناد حديث: (ابعثها قياماً مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وسلم)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
أحمد بن حنبل مر ذكره.
[حدثنا هشيم].
هشيم بن بشير الواسطي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا يونس].
يونس بن عبيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني زياد بن جبير].
زياد بن جبير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
عن ابن عمر مر ذكره.(210/23)
شرح حديث علي: (أمرني رسول الله أن أقوم على بدنه وأقسم جلودها وجلالها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب كيف تنحر البدن؟ حدثنا عمرو بن عون أخبرنا سفيان -يعني ابن عيينة - عن عبد الكريم الجزري عن مجاهد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي رضي الله عنه أنه قال: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه وأقسم جلودها وجلالها، وأمرني ألا أعطي الجزار منها شيئاً، وقال: نحن نعطيه من عندنا)].
مر معنا فيما مضى الترجمة: كيف تنحر البدن، ومر فيها حديثان، وهذا حديث علي رضي الله عنه أنه قال: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه، وأقسم جلودها وجلالها، وألا أعطي الجزار شيئاً منها، وقال: نحن نعطيه من عندنا)، وهذا الحديث مطابقته للترجمة ليست واضحة، إلا من جهة أن النبي صلى الله عليه وسلم وكله في نحر ما بقي من البدن، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينحر الإبل وهي معقولة الرجل اليسرى، وتكون قائمة على قوائمها الأخرى.
قوله: (لا أعطيه شيئاً منها) أي: على سبيل الأجرة، وأما إعطاؤه على سبيل الصدقة والإحسان إليه فلا بأس بذلك، ولا مانع منه، وإنما المحذور أن يكون مؤاجرة، وكأن بعض الهدي قد ذهب أجرة.
(وقال: نحن نعطيه من عندنا) أي: من غير الهدي، فلا بأس أن يتصدق على الجزار بشيء من اللحم والجلود وما إلى ذلك على سبيل الصدقة، وأما الأجرة فتكون خارجة عن ذلك.
قوله: (وأقسم جلودها وجلالها)، جلودها هو ما تجلل به، أي: ما كان موضوعاً عليها، فإنه يقسم تبعاً لها.(210/24)
تراجم رجال إسناد حديث علي: (أمرني رسول الله أن أقوم على بدنه وأقسم جلودها وجلالها)
قوله: [حدثنا عمرو بن عون].
عمرو بن عون ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا سفيان يعني: ابن عيينة].
سفيان بن عيينة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الكريم الجزري].
عبد الكريم بن مالك الجزري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مجاهد].
مجاهد بن جبر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن أبي ليلى].
عبد الرحمن بن أبي ليلى ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن علي] علي رضي الله عنه، أمير المؤمنين، ورابع الخلفاء الراشدين الهاديين المهديين، مناقبه جمة، وفضائله كثيرة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
وهذا الإسناد كل رجاله خرج لهم أصحاب الكتب الستة.(210/25)
الأسئلة(210/26)
حكم أكل الحاج من الهدي
السؤال
ما حكم الأكل من الهدي بالنسبة للحاج؟
الجواب
له أن يأكل، وأن يهدي، وأن يتصدق، فكل ذلك ممكن، وقد أكل النبي صلى الله عليه وسلم من هديه، فأمر بأخذ قطعة من كل جزور، ثم طبخت في قدر، فأكل من لحمها، وشرب من مرقها، فقد أكل من جميع اللحم؛ لأنه أخذ من كل واحدة منهن قطعة، فأكل من جملة اللحم، وشرب من جملة المرق.
ولا يلزم الإنسان أن يأكل من هديه، فلو تصدق كله فلا بأس بذلك، ومما يدل على أن الإنسان لا يلزمه أن يأكل من هديه أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث بهديه وهو بالمدينة، فلم يأكل منه شيئاً.(210/27)
من نسي التلفظ بالنسك عند الميقات ولم يتذكره إلا عندما شاهد الكعبة
السؤال
ما حكم من نسي التلفظ بالنسك عند الميقات ولم يتذكره إلا عندما شاهد الكعبة؟
الجواب
التلفظ ليس بلازم، فالمهم أن ينوي، فإذا نوى في الميقات بقلبه فهذا هو الإحرام، والتلفظ ليس بلازم ولا واجب، فترك التلفظ لا يؤثر، وإنما الذي يؤثر هو نسيان النية ونسيان الدخول في النسك، فيقصد الإنسان الميقات ثم لا يدري إلا وقد ذهب بعيداً عن الميقات، فإن رجع وأحرم من الميقات فليس عليه شيء، وإن أحرم ودخل في النسك من المكان الذي تذكر فيه أو بعد ذلك فإن عليه فدية؛ لأنه أحرم بعد الميقات.
والمشروع أن يقول عند إحرامه: لبيك عمرة، فالذين حكوا إحرام النبي صلى الله عليه وسلم إنما عرفوه من نطقه صلى الله عليه وسلم، ومن سماع إهلاله بالحج أو العمرة.(210/28)
شرح سنن أبي داود [211]
أمر النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه أن يأخذوا عنه مناسكهم، وقد فعلوا ذلك، ونقلوا للأمة صفة حج النبي عليه الصلاة والسلام من أوله إلى آخره، وقد وقع في بعض ما نقلوه عن النبي اختلاف في الظاهر، مثل اختلافهم من أين أحرم النبي عليه الصلاة والسلام، وقد بين العلماء المحققون وجه الجمع بين تلك الأحاديث.(211/1)
وقت الإحرام(211/2)
شرح حديث ابن عباس في بداية وقت الإحرام
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في وقت الإحرام.
حدثنا محمد بن منصور حدثنا يعقوب -يعني ابن إبراهيم - حدثنا أبي عن ابن إسحاق قال: حدثني خصيف بن عبد الرحمن الجزري عن سعيد بن جبير أنه قال: قلت لـ عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: يا أبا العباس! عجبت لاختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم حين أوجب! فقال: إني لأعلم الناس بذلك، إنها إنما كانت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حجة واحدة، فمن هناك اختلفوا، خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حاجاً، فلما صلى في مسجده بذي الحليفة ركعتيه أوجب في مجلسه، فأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه، فسمع ذلك منه أقوام فحفظته عنه، ثم ركب فلما استقلت به ناقته أهلّ، وأدرك ذلك منه أقوام، وذلك أن الناس إنما كانوا يأتون أرسالاً، فسمعوه حين استقلت به ناقته يهل، فقالوا: إنما أهل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين استقلت به ناقته، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما علا على شرف البيداء أهل، وأدرك ذلك منه أقوام فقالوا: إنما أهل حين علا على شرف البيداء، وايم الله! لقد أوجب في مصلاه، وأهل حين استقلت به ناقته، وأهل حين علا على شرف البيداء.
قال سعيد: فمن أخذ بقول عبد الله بن عباس أهل في مصلاه إذا فرغ من ركعتيه].
أورد أبو داود رحمه الله باب: وقت الإحرام أي: الوقت الذي يكون فيه الإحرام، فهل يكون من المسجد، أو من المكان الذي صلى الله عليه وسلم فيه في ذي الحليفة، فيحرم بعده، أو أنه يحرم ويهل إذا بعثت به راحلته، ومعلوم أنها كانت خارج المسجد، أو أنه يهل إذا علا البيداء؟ جاءت الأحاديث عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مختلفة، ولكن أثر ابن عباس هذا يبين وجه اختلافها، وأن كلاً منهم حكى ما بلغه، وأنه لا تنافي بينها، فالرسول صلى الله عليه وسلم أحرم في مصلاه بعد الصلاة، وهذا الحديث يدل عليه، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل ركعتين خاصتين بالإحرام، ولكنه صلى الظهر وأحرم بعد صلاة الظهر، ولم يرد عنه أنه صلى ركعتين خاصتين بالإحرام.
وقد جاء في الحديث الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في ذي الحليفة قال: أتاني الليلة آت من ربي وقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة).
فهذا الذي جاء عن ابن عباس في هذا الأثر من أنه أوجب، أي: دخل في الإحرام بعد صلاة الظهر ركعتين.
والحديث في إسناده شيء من الكلام، فقد ضعفه الألباني، ولا أدري وجه التضعيف، ولكن يشهد له ما جاء في الحديث: (صل في هذا الوادي، وقل: عمرة في حجة)، وهذا الشاهد أيضاً يحتمل أن يكون القول بعد الصلاة، ويحتمل أن يكون بينهما فترة، والحديث فيه شخص صدوق سيء الحفظ، وهو خصيف بن عبد الرحمن الجزري، لكن يمكن أن يكون هذا الحديث شاهد له، ويدخل أيضاً تحت عموم قوله: (يهل أهل المدينة من ذي الحليفة) فهذا مطلق، لكن الذي جاء وتعددت فيه الرواية عنه صلى الله عليه وسلم أن ذلك كان عندما انبعثت به راحلته صلى الله عليه وسلم، ويمكن أن يقال كما قال ابن عباس: إنه أهل بعد ما صلى، وأهل بعدما انبعثت الراحلة، وأهل على البيداء، وكل حكى ما شاهده وعاينه، والناس لم يكونوا عنده دفعة واحدة في كل مكان، وإنما كانوا أرسالاً، فأدركه بعضهم وهو في المسجد، وأدركه آخرون وهو ينبعث براحلته، وأدركه آخرون وهو يعلوا البيداء صلى الله عليه وسلم، وفي كل هذه المواطن يحصل منه الإهلال والتلبية بالحج والعمرة، أي: بالنسك الذي أتى به صلى الله عليه وسلم، وكل حكى ما ظهر له، والأصل أن الناس يحرمون من ذي الحليفة، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (يهل أهل المدينة من ذي الحليفة) فإذا أحرموا من أي مكان من ذي الحليفة فإن ذلك سائغ.
وهذا الأثر عن ابن عباس يشهد له الحديث الذي قال فيه: (أتاني الليلة آت من ربي)، وإن كان ليس نصاً صريحاً إلا أنه يحتمل أنه أمر أن يحرم بالحج والعمرة صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وقد حج قارناً على الصحيح، وجاء في ذلك أدلة كثيرة ذكرها بعض أهل العلم ومنهم ابن القيم في كتابه (زاد المعاد)، فإنه ذكر أدلة كثيرة تدل على أنه حج قارناً صلى الله عليه وسلم، ومنها هذا الحديث الذي قال فيه: (أتاني آتٍ من ربي وقال: قل: عمرة في حجة) أي: حجة مع عمرة.
وقوله: (فمن هناك اختلفوا) أي: لكونها حجة واحدة، ولو كانت حجات متعددة لأمكن حمل بعضها على حجة والبعض الآخر على حجة أخرى، ولكنها حجة واحدة فقط، ولكن الجمع بينها هو ما قاله ابن عباس رضي الله عنه، وهو أن الناس لم يلقوه كلهم في مكان واحد، فبعضهم أدركه في المسجد، وبعضهم أدركه وهو راكب الناقة والناقة تنبعث به، وبعضهم أدركه وهو ينطلق بالبيداء، وفي كل منها يحصل منه التلبية، والإهلال بالحج والعمرة، فمن سمعه في المسجد قال: في المسجد، ومن سمعه في وقت انبعاث الناقة قال: عند انبعاث الناقة، ومن سمعه عند الصعود والظهور على البيداء: قال ذلك، وعلى هذا فلا تنافي بينها، فمعنى ذلك أن الإحرام حصل في المسجد، وعلى القول بأن الحديث لا يصح فحصوله في البيداء وفي وقت انبعاث الناقة أمر ثابت في أحاديث صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحمل على أن بعضهم سمع هنا، وبعضهم سمع هنا، وكلام ابن عباس هذا في غاية الوضوح من ناحية التوفيق بين تلك النصوص.(211/3)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عباس في بداية وقت الإحرام
قوله: [حدثنا محمد بن منصور].
محمد بن منصور هو الطوسي وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا يعقوب يعني: ابن إبراهيم].
يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبي].
أبوه ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن إسحاق].
ابن إسحاق هو محمد بن إسحاق وهو صدوق أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن، وقد صرح بالتحديث.
[حدثني خصيف بن عبد الرحمن].
خصيف بن عبد الرحمن صدوق سيء الحفظ أخرج له أصحاب السنن.
[عن سعيد بن جبير].
سعيد بن جبير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
عن عبد الله بن عباس].
هو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(211/4)
شرح حديث (ما أهل رسول الله إلا من عند المسجد يعني مسجد ذي الحليفة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا القعنبي عن مالك عن موسى بن عقبة عن سالم بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنه أنه قال: (بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها ما أهل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا من عند المسجد، يعني: مسجد ذي الحليفة)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث ابن عمر أنه قال: (بيداؤكم هذه التي تكذبون على الرسول صلى الله عليه وسلم فيها، إنما أهل من عند المسجد) معنى تكذبون أي: تخطئون، فقد عرفنا أن الكذب بمعنى الخطأ عندهم، وأنه الإخبار عن الشيء على غير حقيقته، وقد يكون كذباً، وقد يكون خطأً بدون كذب، وكثيراً ما يأتي ذكر الكذب بمعنى الخطأ، وقد مر بنا حديث فيه ذكر الكذب بمعنى الخطأ، والمقصود أنهم قالوا: إنه أهل من البيداء، أي: أنه بدأ منها، وهذا هو الخطأ، ومن حصل منه الإهلال عند المسجد، ثم كرره فوق البيداء فهذا ليس فيه شيء، ولا بأس به، وإنما المحذور أن يبدأ الإهلال من البيداء، ولا يبدأ الإهلال من ذي الحليفة من عند المسجد، هذا هو المحذور، وإلا فكونه يهل من هناك ثم يتكرر منه الإهلال فهذا ليس ابتداءً، وإنما هذا استدامة وتأكيد وإظهار للشيء الذي سبق أن أحرم به من نفس الوادي.
إذاً من قال: إنه أهلّ من البيداء هو قول صحيح، ولكن ليس هو الابتداء، فالابتداء كان من قبل من مسجد ذي الحليفة، والناس الآن لا ينزلون إلى الوادي، ويحرمون إذا حاذوا المسجد، وليس بلازم أن ينزلوا إلى الوادي، لكن لو نزلوا وصلوا في المسجد للحديث الذي فيه: (صل في هذا الوادي المبارك) فهو أفضل.(211/5)
تراجم رجال إسناد حديث (ما أهل رسول الله إلا من عند المسجد يعني مسجد ذي الحليفة)
قوله: [حدثنا القعنبي].
القعنبي هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
مالك بن أنس إمام دار الهجرة الإمام المشهور أحد أصحاب المذاهب الأربعة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن موسى بن عقبة].
موسى بن عقبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سالم بن عبد الله].
سالم بن عبد الله بن عمر وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، وهو الصحابي الجليل أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(211/6)
شرح حديث ابن عمر (فإني لم أر رسول الله يهل حتى تنبعث به راحلته)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا القعنبي عن مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن عبيد بن جريج أنه قال لـ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (يا أبا عبد الرحمن! رأيتك تصنع أربعاً لم أر أحداً من أصحابك يصنعها! قال: ما هن يا ابن جريج؟! قال: رأيتك لا تمس من الأركان إلا اليمانيين، ورأيتك تلبس النعال السبتية، ورأيتك تصبغ بالصفرة، ورأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس إذا رأوا الهلال ولم تهل أنت حتى كان يوم التروية، فقال: عبد الله بن عمر: أما الأركان فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمس إلا اليمانيين، وأما النعال السبتية فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلبس النعال التي ليس فيها شعر، ويتوضأ فيها، فأنا أحب أن ألبسها، وأما الصفرة فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصبغ بها، فأنا أحب أن أصبغ بها، وأما الإهلال فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يهل حتى تنبعث به راحلته)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث ابن عمر رضي الله عنه أنه قال له عبيد بن جريج: (إني رأيتك تفعل أموراً لم أر أحداً من أصحابك يفعلها، رأيتك لا تمس من الأركان إلا اليمانيين) أي: اللذين من جهة اليمن، ويقابلهما الركنان الشاميان اللذان من جهة الحجر، وسمي: الركنان الشاميان بهذا؛ لأنهما من جهة الشام، وسمي الركنان اليمانيان بهذا لأنهما من جهة اليمن.
قوله: (وتلبس النعال السبتية، وأنك تصبغ بالصفرة، وأن الناس يهلون من أول الحجة وأنت تهل يوم التروية)، بين ابن عمر أن قدوته في ذلك هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (أما الأركان فالنبي صلى الله عليه وسلم ما كان يستلم إلا الركنين، فأنا لا أستلم إلا ما كان يستلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: أنه لم يكن يستلم الركنين الشاميين، وقد جاء عن ابن عباس أو ابن عمر -لا أدري أيهما- أن معاوية كان يستلم الأركان كلها، فقال له: لماذا؟ قال: لأنه ليس شيء من البيت مهجور، فقال له: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، فقال له: صدقت أي: أنه ذكره بالدليل والحجة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستلم إلا الركنين اليمانيين، وقيل في استلام الركنين اليمانيين: لأنهما على قواعد إبراهيم، وأما الركنان الشاميان فليسا على قواعد إبراهيم؛ لأن أكثر الحجر من الكعبة، ففي الحديث أن قريشاً لما قصرت بهم النفقة اختصروها فجعلوها على هذا البنيان الموجود الآن، وجعلوا لهذه القطعة التي أخرجوها حجر حاجز؛ حتى يعرف أن هذه من الكعبة، فلا يطوفون في هذا المكان الذي هو غير مبني؛ لأن الطواف لا بد أن يكون بالكعبة كلها المبني وغير المبني، ولو طاف إنسان من داخل الحجر لا يصح طوافه؛ لأنه لم يطف بالكعبة كلها.
وبعض الناس يقول عن هذا الحجر: إنه حجر إسماعيل، وهذا غير صحيح، فليس بحجر إسماعيل، فإسماعيل وأبوه إنما بنيا هذه الكعبة على التمام، فليس هناك حجر لإسماعيل، ولكن هذا الحجر عملته قريش لما اختصرت الكعبة، وتركت جزءاً لم تبنه؛ لأن النفقة قصرت بها، فعملوا حاجزاً حجراً حتى يحجر ويمنع الناس من أن يصلوا فيه -أي: الفرض-، وكذلك حتى يطوفوا من ورائه، فهذا هو أصل الحجر، وليس كما هو مشهور عند الناس أنه حجر إسماعيل، فأكثر الحجر هو من جملة الكعبة.
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم استلم الركنين اليمانيين، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لهدمت الكعبة، ولبنيتها على قواعد إبراهيم، ولجعلت لها باباً كذا وباباً كذا، ولجعلتها ملتصقين بالأرض) ولو حصل ذلك فليس لأحد أن يمسح الركنين الشاميين أيضاً؛ لأن الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم هو مسح الركنين اليمانيين، ولم يقل: لمسحتها لأنهما سيكونان على قواعد إبراهيم، والآن ليسا على قواعد إبراهيم، ولو جاء نص كذلك لأمكن أن يقال: إنها لو بنيت على قواعد إبراهيم لكانت الأركان كلها تمسح، لكن الذي ثبت هو مسح الركنين اليمانيين فقط، وهذا يدلنا على أن المسلم عليه أن يتقيد بالسنة، فالذي جاء مسحه وتقبيله يقبله ويمسحه، والذي جاء مسحه فقط يمسحه ولا يقبله، وهو الركن اليماني، وأما الحجر الأسود فيمسح ويقبل، يقبله أولاً وإن لم يستطع أن يقبله مسح بيده وقبل يده أو مسحه بشيء ويقبل ذلك الذي مسحه به، أما الأركان الأخرى، وكذلك الجدران التي بين الأركان فإنها لا تمسح ولا تقبل؛ لأن الذي يقبل هو الحجر الأسود فقط، والركن اليماني يمسح ولا يقبل، وما سوى ذلك لا يمسح ولا يقبل، وقول معاوية رضي الله عنه: ليس من البيت شيء مهجور.
فالذي بين الركنين من البيت، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يستلم جدران الكعبة كلها، لكن الذي جاء عنه هو مسح الركنين اليمانيين.
وعبد الله بن الزبير بنى الكعبة على قواعد إبراهيم، ثم أعادها إلى ما كانت عليه عبد الملك بن مروان، وقد قيل: إنه ندم لكونه لم يبلغه الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقي الأمر على ما هي عليه من ذلك الوقت إلى هذا الوقت، وهناك كلمة تؤثر عن مالك رحمه الله قالها للرشيد أو للمنصور الذي أراد أن يعيدها على قواعد إبراهيم، فقال له مالك: لا تجعل الكعبة لعبة للملوك، أي: أن كل ملك عندما يعلم أن هذا بناء فلان قبله ربما نقضه حتى يبنيه هو.
قوله: (وأما النعال؛ فقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يلبس النعال التي ليس فيها شعر) أي: التي دبغت وذهب شعرها، (فأنا أحب أن ألبسها، وأما الصفرة فإني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصبغ بالصفرة) يعني يصبغ لحيته أو شعر رأسه وشعره عليه الصلاة والسلام كانت فيه شعرات بيضاء قليلة جداً، ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صبغ بحناء أو كتم أو ما إلى ذلك من الأشياء التي يصبغ بها، ولكن قيل: إن هذه الصفرة حصلت بسبب ما كان يتطيب به، فذلك أثر الطيب وتكراره في تلك الشعرات البيض القليلة التي في لحيته وشعره صلى الله عليه وسلم.
قوله: (وأما الإهلال فإني لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يهل حتى تنبعث به راحلته) هنا يصف إهلال النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، والرسول صلى الله عليه وسلم أهل من ذي الحليفة، وجاء مكة وهو على إحرامه، ونزل بالأبطح وهو باق على إحرامه، وانتقل إلى منى وهو على إحرامه، وما حصل منه إهلال بالحج والعمرة من ذي الحليفة، ولكنه رضي الله تعالى وأرضاه قاس من يكون بمكة ويريد أن يحرم بالحج عندما تنبعث به الراحلة في مكة مثلما أحرم النبي عليه الصلاة والسلام عندما انبعثت به الراحلة في المدينة، فهذا ليس مطابقاً لفعله صلى الله عليه وسلم بمكة، ولكنه مطابق لفعله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وهو يدل على الحالة الثانية التي جاءت في حديث ابن عباس، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم عند انبعاث الراحلة، وهذا جاء عن ابن عمر وجاء عن غيره.
قوله: (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم يلبس النعال التي ليس فيها شعر ويتوضأ فيها) أي: أنه توضأ وهي عليه، ولكنه كان يغسلها كلها، وليس معنى ذلك أن هناك شيئاً لم يصيبه الماء من قدمه.
وقول هذا الرجل لـ ابن عمر: رأيتك تصنع أربعاً لم أر أحداً من أصحابك يصنعها مشكل! لكن لعل هذا الشخص يتكلم عمن شاهده، وقد يكون شاهد عدداً قليلاً، وليس معنى ذلك أن كل أصحابه كانوا كذلك.
ولبس النعال السبتية ليس من السنن التعبدية، والأمر فيها واسع، فكل شيء ليس فيه مشابهة للكفار ولا موافقة لهم، وهو سائغ شرعاً فلا بأس به.
* فائدة: ذكر الحافظ في الفتح (3/ 474): أن ابن الزبير كان يمسح الأركان كلها ويقول: ليس شيء من البيت مهجوراً، فقال له ابن عباس: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21].
وذكر أيضاً أنه حج معاوية وابن عباس، فجعل ابن عباس يستلم الأركان كلها، فقال معاوية: إنما استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذين الركنين اليمانيين، فقال ابن عباس: ليس من أركانه شيء مهجور.(211/7)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عمر (فإني لم أر رسول الله يهل حتى تنبعث به راحلته)
قوله: [حدثنا القعنبي عن مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري].
سعيد بن أبي سعيد المقبري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد بن جريج].
عبيد بن جريج ثقة أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود في (الشمائل) والنسائي وابن ماجة.
[عن عبد الله بن عمر].
قد مر ذكره.(211/8)
شرح حديث (صلى رسول الله الظهر بالمدينة أربعاً وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا محمد بن بكر حدثنا ابن جريج عن محمد بن المنكدر عن أنس رضي الله عنه أنه قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الظهر بالمدينة أربعاً، وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين، ثم بات بذي الحليفة حتى أصبح، فلما ركب راحلته واستوت به أهل)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث أنس وفيه أن الإهلال كان عندما ركب الراحلة واستوت به، وهذا متفق مع ما جاء في حديث ابن عمر الذي مر قبل هذا من أنه أهل عندما انبعثت به الراحلة صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر في المدينة أربعاً، وصلى العصر في ذي الحليفة ركعتين، وهذا يدلنا على أن المسافر يبدأ بأحكام السفر عندما يجاوز البلد ويخرج منها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر في المدينة أربعاً، وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين؛ لأنه بدأ بالسفر، فالإنسان إذا سافر وخرج من البلد فعند ذلك يبدأ يقصر، لكن لو وصلت البيوت من المدينة إلى ذي الحليفة واتصلت بها، وصارت ذو الحليفة جزءاً من المدينة، فإنه لا يقصر فيها، فالمدينة -كما هو معلوم- يمكن أن تتسع، وأما الحرم فلا يتسع ولا يقبل الزيادة، وأما المدينة فتقبل الزيادة، وكلما امتدت فاسمها ما زال هو المدينة، سواء الذي في داخل الحرم، أو في غير الحرم، والمدينة الآن بعضها في الحرم، وبعضها ليس في الحرم، وكلها يقال لها: المدينة، لكن لا يقال لها كلها: حرم، فما كان خارج الحرم فإنه من المدينة وليس من الحرم، وما كان داخل الحرم فهو من الحرم ومن المدينة.(211/9)
تراجم رجال إسناد حديث (صلى رسول الله الظهر بالمدينة أربعاً، وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا محمد بن بكر].
محمد بن بكر صدوق قد يخطئ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ابن جريج].
ابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن المنكدر].
محمد بن المنكدر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
أنس رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(211/10)
الحكمة من بقاء النبي في ذي الحليفة يوماً كاملاً
لعل الحكمة من بقائه صلى الله عليه وسلم في ذي الحليفة يوماً كاملاً أن يجتمع الناس، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يحج أعلن أنه حاج، فتوافد الناس ليصحبوه في حجته صلى الله عليه وسلم، ثم إنه مكث يوماً وليلة في ذي الحليفة ليجتمع الناس؛ لأن أحكام الحج والنسك تبدأ من الميقات، وأما قبل الميقات فليس هناك أحكام، فإذا تجمع الناس فإنهم يكونون معه من حين بدء شروعه في النسك، فيبين لهم الأنساك، ولهذا فقد خيرهم هناك فقال: (من شاء أن يحرم بعمرة فليحرم، ومن أراد أن يحرم بحجة فليحرم، ومن أراد أن يحرم بحجة وعمرة فليحرم، وأحرم هو بحج وعمرة) صلى الله عليه وسلم، فلعل مكثه في ذي الحليفة هذه المدة حتى يجتمع الناس فيكونوا على علم بحجه من أوله من بدء الإحرام الذي يكون في ذي الحليفة.(211/11)
شرح حديث (أن النبي صلى الظهر ثم ركب راحلته فلما علا على جبل البيداء أهل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا روح حدثنا أشعث عن الحسن عن أنس بن مالك رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى الظهر ثم ركب راحلته فلما علا على جبل البيداء أهل)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر وركب راحلته، ولما علا على جبل البيداء أهل)، والجمع بين هذا الحديث وحديث ابن عمر الذي نفى فيه الإحرام من البيداء، أن الإحرام الذي حصل بالبيداء إنما هو تكرار وتأكيد وليس تأسيساً، وأما التأسيس فقد حصل في ذي الحليفة، وأنس نفسه هو الذي روى الحديث المتقدم، وروى هذا أيضاً، فيكون قد حصل منه هذا وهذا، ولعل في الحديث اختصاراً، وقد فصل ذلك ابن عباس كما في الحديث المتقدم.
وفي هذا الحديث نص على أنه صلى الظهر، بخلاف الحديث الأول فإنه لم يذكر الظهر، لكن هنا نص على أنه صلى الظهر وأحرم.(211/12)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن النبي صلى الظهر ثم ركب راحلته فلما علا على جبل البيداء أهل)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل عن روح].
روح بن عبادة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أشعث].
أشعث بن عبد الملك الحمراني ثقة أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
[عن الحسن].
الحسن هو ابن أبي الحسن البصري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس بن مالك].
أنس بن مالك مر ذكره.(211/13)
شرح حديث: (كان نبي الله إذا أخذ طريق الفرع أهل إذا استقلت به راحلته)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن بشار حدثنا وهب -يعني ابن جرير - حدثنا أبي سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن أبي الزناد عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص قالت: قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (كان نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أخذ طريق الفرع أهل إذا استقلت به راحلته، وإذا أخذ طريق أُحد أهل إذا أشرف على جبل البيداء)].
أورد أبو داود حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أخذ طريق الفرع أهل إذا استقلت به راحلته، وإذا أخذ طريق أحد أهل إذا أشرف على جبل البيداء) فهذا فيه تفصيل، وهذا لا يتأتى إلا أن يكون في الحج والعمرة، أو في بعض عمره؛ لأن هذا فيه تكرار لا يتأتى في سفرة واحدة، وإنما يكون مع التعدد، والتعدد لا يكون إلا في عمره صلى الله عليه وسلم، وقد خرج من المدينة معتمراً مرتين: عمرة الحديبية، وعمرة القضاء، وأما العمرة الثالثة فليست من المدينة، وإنما هي من الجعرانة، والعمرة الرابعة كانت مع حجته، والفرع أماكن قريبة من المدينة فيها مساجد، وقيل: إنها قرية بعيدة منها، وأما أحد فهو من جهة الشمال، ومكة من جهة الجنوب، والذهاب من جهة أحد غير واضح، اللهم إلا أن يكون لم يذهب إلى ذي الحليفة رأساً، وإنما ذهب من جهة تبعد عن ذي الحليفة بحيث إنه يأتي من طريق آخر مثل الطريق الموجود الآن من وراء الجماوات الذي من جهة الجامعة، لكن هذا أيضاً ليس من جهة أحد، وإنما هو من جهة الغرب، وأحد من جهة الشمال، فلا أدري وجه الذهاب باتجاه أحد، وقد ضعف الشيخ الألباني هذا الحديث، ولا أدري وجه تضعيفه: هل هو من جهة المتن أو من جهة الإسناد؟! ويمكن أن يكون ذلك بسبب وذلك بسبب محمد بن إسحاق، فإنه وإن كان صدوقاً فإنه مدلس وقد عنعن.(211/14)
تراجم رجال إسناد حديث: (كان نبي الله إذا أخذ طريق الفرع أهل إذا استقلت به راحلته)
قوله: [حدثنا محمد بن بشار].
محمد بن بشار هو الملقب بندار البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا وهب يعني: ابن جرير].
هو وهب بن جرير بن حازم وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبي].
وهو ثقة، لكن في حديثه عن قتادة ضعف، وله أوهام إذا حدث من حفظه.
[سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن أبي الزناد].
أبو الزناد هو عبد الله بن ذكوان المدني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة بنت سعد].
عائشة بنت سعد بن أبي وقاص وهي ثقة، وقيل: لها رؤية، أخرج لها البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن أبيها].
أبوها هو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، الصحابي الجليل أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(211/15)
الاشتراط في الحج(211/16)
شرح حديث (قولي لبيك اللهم لبيك ومحلي من الأرض حيث حبستني)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الاشتراط في الحج.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عباد بن العوام عن هلال بن خباب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب رضي الله عنهما أتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله! إني أريد الحج أأشترط؟ قال: نعم، قالت: فكيف أقول؟ قال: قولي: لبيك اللهم لبيك! ومحلي من الأرض حيث حبستني)].
أورد أبو داود رحمه الله باب: الاشتراط في الحج، والاشتراط في الحج هو أن يقول المشترط: لبيك عمرة، أو لبيك حجاً، وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، أو فمحلي من الأرض حيث حبستني، هذا هو الاشتراط في الحج.
في هذا الحديث أن ضباعة بنت الزبير رضي الله عنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله! إني أريد الحج أأشترط؟ قال: نعم، قالت: فكيف أقول؟ قال: قولي: لبيك اللهم لبيك! ومحلي من الأرض حيث حبستني).
وضباعة بنت الزبير رضي الله تعالى عنها هي بنت عم النبي صلى الله عليه وسلم، أبوها -وهو الزبير لم يدرك الإسلام، والذين أدركوا الإسلام من أعمام الرسول صلى الله عليه وسلم أربعة كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر، وهم: حمزة والعباس وأبو طالب وأبو لهب، فاثنان وفقا، واثنان خذلا.
وقال الحافظ ابن حجر: من عجيب الاتفاق أن اسمي اللذين وفقا توافق أهل الإسلام، واسمي اللذين خذلا توافق أسماء الكفار، فواحد اسمه عبد مناف، وهو أبو طالب والثاني عبد العزى، وهو أبو لهب، واللذين وفقا ودخلا في الإسلام هما العباس وحمزة، وهذان الاسمان يوافقان أسماء أهل الإسلام.
قوله: (لبيك اللهم لبيك! ومحلي من الأرض حيث حبستني) أي: في أي مكان يحصل لي فيه مانع، فذلك محلي الذي أتحلل فيه، فينتهي ذلك النسك بناءً على هذا الاشتراط.
وقد اختلف العلماء في مسألة الاشتراط، فمن العلماء من قال بعدم الاشتراط، ولعلهم لم يبلغهم الدليل، أو بلغهم من وجه لا يصح، ومنهم الشافعي، وكان رحمه الله يقول: إذا صح الحديث قلت به، قال بعض أصحابه: وقد صح الحديث فهو مذهب الشافعي، أي: حكماً؛ لأنه علق القول به على صحته، وقد صح فهو إذاً مذهبه.
وقال الحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث في (فتح الباري): وقد جمعت الأقوال التي قال فيها الشافعي: إذا صح الحديث فهو مذهبي في كتاب، وذكرت ما صح فيها من الأحاديث، وكان بعض أصحاب الشافعي يقولون كما في هذه المسألة: إذا صح الحديث فهو مذهب الشافعي، مثل مسألة الوضوء من لحم الإبل، فقد علق القول بوجوب الوضوء على صحة الحديث، قالوا: وقد صح الحديث فهو مذهبه، وهذا بناءً على قوله.
وقال بعض أهل العلم: إنه لا يشترط إلا من كان بحاجة إلى الاشتراط، كحال ضباعة رضي الله عنها.
وقال بعض أهل العلم: إن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم لواحد هو كلام للجميع؛ وكل أحد يجوز له أن يشترط.
وهذا الشرط يفيد المشترط أن يتحلل إذا أراد ويترك إحرامه، ولا شيء عليه.
قال بعض أهل العلم: إن الحابس إنما يكون في الحصر والمنع من البيت، ولكن حديث ضباعة ليس في حصر بالعدو، وإنما فيه حصر بالمرض.
ولو أن شخصاً اشترط فتعطلت سيارته فالذي يبدو أنه ليس له أن يحل؛ لأنه يمكن أن تصلح السيارة، ويمكن أن يركب في سيارة أخرى، فليس هناك شيء يمنعه من أن يواصل السير.
وإذا كان المانع مرضاً لا يمكنه أن يذهب بسببه إلى مكة فلا بأس، وإذا كان مرضاً خفيفاً فإنه يذهب ويطاف به محمولاً، ويسعى محمولاً.(211/17)
تراجم رجال إسناد حديث: (قولي لبيك اللهم لبيك ومحلي من الأرض حيث حبستني)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عباد بن العوام].
عباد بن العوام هو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هلال بن خباب].
هلال بن خباب وهو صدوق، أخرج له أصحاب السنن.
[عن عكرمة].
عكرمة مولى ابن عباس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
ابن عباس مر ذكره.(211/18)
شرح سنن أبي داود [212]
الحج ثلاثة أنواع: إفراد وتمتع وقران، وكلها جائزة، والنبي صلى الله عليه وسلم حج قارناً على الراجح من أقوال العلماء، وقد اختلف العلماء في أفضل هذه الأنواع، ففضل كل نوع منها طائفة من العلماء، وكل له أدلة يرجح بها قوله.(212/1)
إفراد الحج(212/2)
شرح حديث: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في إفراد الحج.
حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي حدثنا مالك عن عبد الرحمن بن قاسم عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفرد الحج)].
أورد أبو داود باب: الإفراد، والإفراد هو أن يحرم الإنسان بالحج وحده ليس معه عمرة، وأما القران فهو أن يحرم بالحج والعمرة معاً من الميقات، والتمتع أن يحرم بالعمرة وحدها من الميقات، فإذا وصل مكة طاف وسعى وقصر، وبقي في مكة حلالاً يحل له ما يحل لأهل مكة، ويحرم عليه ما يحرم على أهل مكة، وإذا جاء اليوم الثامن أحرم بالحج وذهب إلى منى، وهذا إذا كان نازلاً بمكة، وأما إن كان نازلاً بمنى قبل الحج فإنه يحرم من منى ولا يلزمه أن يذهب إلى مكة ليحرم منها، بل يحرم من منزله، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم نازلاً بالأبطح هو ومن كان معه من أصحابه، فأحرموا من منازلهم، وأحرم أهل مكة من منازلهم، ومن كان نازلاً بمنى قبل الحج من المتمتعين فإنه يحرم من منزله بمنى، ولا يلزمه أن يرجع إلى مكة.
إذاً: الإفراد هو أن يحرم بالحج من الميقات، ويستمر على إحرامه حتى يرمي جمرة العقبة، وعند ذلك يحلق رأسه، ويطوف بالبيت، ويسعى إن لم يكن سعى مع طواف القدوم، وليس عليه هدي، هذا هو الإفراد.
أورد أبو داود حديث عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج)، والمعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حج قارناً ولم يحج مفرداً، وقد جاء في بعض الأحاديث أنه قرن، وجاء في بعضها أنه أفرد كما في هذا الحديث، وجاء في بعضها أنه تمتع، والصحيح أنه حج قارناً، وهناك أدلة كثيرة ذكرها ابن القيم في كتابه: (زاد المعاد)، كلها تدل على أنه قرن، فما جاء أنه صلى الله عليه وسلم تمتع وأفرد يحتاج إلى تأويل وتفسير حتى يطابق ما ثبت عنه أنه قرن، فمن العلماء من قال: إنه أفرد، فبعض الصحابة سمع منه لفظ الحج ولم يسمع منه لفظ العمرة، ومنهم من سمع العمرة دون الحج، ومنهم من سمع العمرة والحج، والصحيح أنه وقع منه العمرة والحج، وقد ذكر كلّ ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال بعض أهل العلم: تأويل قوله: (أفرد الحج) أن بعض أصحابه أفردوا الحج بناء على أمره وتوجيهه، وأما هو فلم يفرد، وهذا مثل قولهم: فعل الحاكم كذا، مع أنه لم يفعل ذلك، وإنما أمر به، والفاعل غيره، فهذه من الأوجه التي قيلت في توضيح معنى أفرد حتى توافق ما جاء عنه أنه قرن، فهو لم يحج إلا حجة واحدة فقط، وكان فيها قارناً، فمن قال: أفرد فإن قوله يحتاج إلى تأويل حتى يوافق ما جاء عنه أنه قرن، ومن قال: إنه تمتع يحتاج إلى تأويل حتى يوافق القران، فإنه يقال للقران: تمتع؛ لأنه أدى نسكين في سفرة واحدة؛ ولهذا استدل ابن كثير على وجوب الهدي في القران بقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196]، قال: لأن القارن متمتع، فيلزمه هدي؛ لأنه جمع نسكين في سفرة واحدة، وهذا تمتع، والتمتع المشهور هو الذي يحرم ويتحلل ويبقى في مكة، ويفعل كل ما يفعله أهل مكة، لكن أيضاً يقال للقران: تمتع، فالمتمتع هو من جمع بين الحج والعمرة.(212/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن عبد الرحمن بن القاسم].
عبد الرحمن بن القاسم ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه عن عائشة].
أبوه هو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وهو ثقة فقيه من فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وعائشة رضي الله عنها تقدم ذكرها.(212/4)
شرح حديث: (من شاء أن يهل بحج فليهل، ومن شاء أن يهل بعمرة فليهل بعمرة)
قال المصنِّف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد ح وحدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد -يعني: ابن سلمة - ح وحدثنا موسى حدثنا وهيب عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم موافين هلال ذي الحجة، فلما كان بذي الحليفة قال: من شاء أن يهل بحج فليهل، ومن شاء أن يهل بعمرة فليهل بعمرة).
قال موسى في حديث وهيب: (فإني لولا أني أهديت لأهللت بعمرة)، وقال: في حديث حماد بن سلمة: (وأما أنا فأهل بالحج؛ فإن معي الهدي، ثم اتفقوا: فكنت فيمن أهل بعمرة، فلما كان في بعض الطريق حضت، فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أبكي فقال: ما يبكيك؟ قلت: وددت أني لم أكن خرجت العام، قال: ارفضي عمرتك، وانقضي رأسك وامتشطي)، قال موسى: (وأهلي بالحج)، وقال سليمان: (واصنعي ما يصنع المسلمون في حجهم، فلما كان ليلة الصدر أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبد الرحمن فذهب بها إلى التنعيم) زاد موسى: (فأهلت بعمرة مكان عمرتها، وطافت بالبيت، فقضى الله عمرتها وحجها).
قال هشام: ولم يكن في شيء من ذلك هدي.
قال أبو داود: زاد موسى في حديث حماد بن سلمة: (فلما كانت ليلة البطحاء طهرت عائشة رضي الله عنها)].
تقدم الحديث الأول عن عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج)، وعرفنا أن النبي عليه الصلاة والسلام حج قارناً، ولم يحج مفرداً ولا متمتعاً التمتع المشهور عند الفقهاء، وهو أن يأتي بالعمرة في أشهر الحج وينتهي منها، وفي اليوم الثامن يحرم بالحج، فكان صلى الله عليه وسلم قارناً، وقد عرفنا أن أهل العلم فسروا الإفراد بما يتفق مع القران، وأن المقصود بذلك هو ما جاء في حديث ابن عباس المتقدم، وهو أن الناس كانوا حول الرسول صلى الله عليه وسلم أرسالاً، ولم يكونوا حوله دفعة واحدة، فأخبر كل إنسان بما سمع، فيحمل إفراد النبي عليه الصلاة والسلام للحج على أنه أمر به وأذن فيه، كما يقال: بنى الأمير قصراً، مع أن الذي بناه غيره، ولكن أضيف إليه لكونه هو الذي أمر به، وكما جاء في الحديث: (أن النبي رجم ماعزاً) مع أنه لم يرجمه بنفسه، ولم يباشر ذلك، ولكنه هو الذي أمر به، فالأمر هنا كذلك، فقد أمر أو أرشد بعض أصحابه إلى أن يفرد الحج، فتكون إضافة إفراد الحج إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا لكونه الفاعل لذلك، ولكن لكونه الآمر به، فقد جاءت أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق ستة عشر صحابياً أنه قرن ولم يكن مفرداً صلى الله عليه وسلم.
وقيل: إن كلاً أخبر بما سمع، فمنهم من سمع النبي صلى الله عليه وسلم أحرم بحج وعمرة، وقد جاء ذلك عن بعض الصحابة الذين ذكروا الجمع بينهما كـ أنس، ولكن بعض الصحابة ذكر الحج وحده، وبعضهم ذكر الإفراد وحده، ولعله سمع كلمة الحج ولم يسمع كلمة العمرة، فظن وفهم أنه أفرد؛ لأنه سمع لفظ الحج، ولم يسمع لفظ العمرة، ومعلوم أن القارن يقرن بين الحج والعمرة، وهذا أيضاً من الأوجه التي وجّه وفسر بها بعض أهل العلم تلك الأحاديث حتى تتفق الأحاديث الصحيحة التي جاءت في الإفراد مع الأحاديث الصحيحة الكثيرة التي جاءت في القران، ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً، ولم يكن مفرداً ولا متمتعاً صلى الله عليه وسلم.
أورد أبو داود رحمه الله حديث عائشة: (أنهم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع موافين هلال ذي الحجة) يعني: قرب نهاية ذي القعدة، أي: أنه بقي على آخر شهر ذي القعدة أربعة أيام أو خمسة أيام؛ لأن المسافة بين مكة والمدينة تسع مراحل، وقد وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة في اليوم الرابع، فمعنى هذا أنه سافر من المدينة وبقي خمسة أيام من شهر ذي القعدة من آخره، فقولها: (موافين هلال ذي الحجة) يعني: في آخر شهر ذي القعدة.
وقوله: [(فلما كان بذي الحليفة قال: من شاء أن يهل بحج فليهل، ومن شاء أن يهل بعمرة فليهل بعمرة)] أي: فلما كان بذي الحليفة خيّر الناس بين الإفراد والتمتع والقران، وهنا وقع اختصار، حيث ذكر الإفراد والتمتع، ولم يذكر القران، وإلا فإن النبي صلى الله عليه وسلم خيّر بين الأنساك الثلاثة، وحج هو قارناً عليه الصلاة والسلام؛ لكونه قد ساق الهدي صلى الله عليه وسلم، والذي ساق الهدي لا يتحلل منه إلا يوم حلّه وهو يوم النحر، فمعنى هذا أنه يحرم بحج وعمرة، أو يحرم بحج، والنبي صلى الله عليه وسلم أحرم بالحج والعمرة وقرن بينهما، وأتى بالنسكين معاً أي: الحج والعمرة.
خيرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الأنساك الثلاثة في ذي الحليفة، أي: قبل أن يحرموا؛ حتى يدخل كلٌّ في النسك الذي يريد، فحجت أمهات المؤمنين متمتعات، وأحرمن بالعمرة، فتم لهن ما أردن إلا عائشة، فإنها أحرمت بالعمرة وجاءها الحيض، ثم جاء الحج وهي لم تطهر ولم تطف بالبيت، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تُدخل الحج على العمرة فتكون قارنة، فكما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قارناً فإنها تكون قارنة، وبقيت أمهات المؤمنين على عمرتهن، وصرن متمتعات؛ لأنهن لم يحصل لهن مانع كما حصل لـ عائشة رضي الله تعالى عن الجميع.
قوله: [(ومن شاء أن يهل بعمرة فليهل بعمرة) قال موسى في حديث وهيب: (فإني لولا أني أهديت لأهللت بعمرة) وقال في حديث حماد بن سلمة: (وأما أنا فأهل بالحج فإن معي الهدي)]، وقال في بعض الطرق: (لولا أن معي الهدي لجعلتها عمرة) يعني: أن من ساق الهدي لا يكون معتمراً؛ لأن المعتمر لا يحل إلا بعدما يطوف ويسعى، وذلك قبل يوم النحر، ولكنه يكون قارناً أو مفرداً، والقران أولى من الإفراد؛ لأن فيه جمعاً بين النسكين، وهو الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم حيث حج قارناً، فالمعتمر لا ينحر هديه إلا يوم العيد، والمحرم لا يتحلل إلا حين يبلغ الهدي محله، وعلى هذا فلا يكون معتمراً، وإنما يكون قارناً أو مفرداً؛ لأنه لا يمكنه أن يحل إلا يوم العيد، وأما المتمتع فإنه يحل قبل يوم العيد، فإنه يطوف ويسعى ويقصر، فتنتهي عمرته ويتحلل، فمن ساق الهدي لا يحل إلا إذا بلغ الهدي محله، ومحله يوم العيد.
قوله: (فإني لولا أني أهديت لأهللت بعمرة) وفي رواية: (وأما أنا فأهل بالحج؛ فإن معي الهدي)، وهذا هو وجه إيراد المصنف الحديث في باب الإفراد؛ لأن فيه ذكر الحج، وليس فيه ذكر العمرة، وتوجيهه مثل ما قلنا في الحديث الأول، ويناسبه التعليل الثاني، وهو أن بعضهم سمع الحج والعمرة، وبعضهم سمع الحج فقط، وبعضهم سمع العمرة فقط، وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم جامعاً بين الحج والعمرة صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا؛ فيكون قوله: (أهل بالحج) يعني: الحج مع العمرة، وليس الحج مفرداً؛ لأن الأحاديث الكثيرة ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان قارناً، ولم يكن مفرداً ولا متمتعاً صلى الله عليه وسلم.
قوله: [ثم اتفقوا: (فكنت فيمن أهل بعمرة)] أي: أنها كانت متمتعة، والمتمتعون إذا وصلوا إلى مكة يسعون ويقصرون ثم يتحللون، وإذا جاء اليوم الثامن أحرموا بالحج، وهذا هو التمتع، فكانت عائشة رضي الله عنها متمتعة.
قوله: [(فلما كان في بعض الطريق حضت، فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أبكي، فقال: ما يبكيك؟ قلت: وددت أني لم أكن خرجت العام، قال: ارفضي عمرتك، وانقضي رأسك، وامتشطي) قال موسى: (وأهلي بالحج)].
ذكر أبو داود رحمة الله عليه في حديث عائشة أنها أهلت بعمرة، فلما كانت في الطريق حصل لها الحيض، فتأثرت وبكت، فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقال لها: (ما يبكيك؟! قالت: إني حضت، وإني وددت أني لم أحج هذا العام)؛ لأنها حصل لها مانع يمنعها من أن تؤدي المناسك كما يؤديه غيرها من أمهات المؤمنين والنساء اللاتي لم يحصل لهن ما حصل لها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (ارفضي عمرتك)، وهذا الكلام لم يقله في أول الأمر، وإنما قاله فيما بعد، وذلك عندما جاء وقت أعمال الحج وهي لم تطهر بعد، والناس يذهبون إلى عرفة، فأمرها أن تدخل الحج على العمرة.
وقوله: (ارفضي عمرتك) أي: أنها ترفض أعمالها الخاصة بها من الطواف، والسعي، والتقصير، وتحرم بالحج، فتدخل الحج على العمرة، وتصير أعمال العمرة والحج مقرونة بعضها مع بعض، فتطوف لحجها وعمرتها، وتسعى لحجها وعمرتها، فرفضها للعمرة ليس معناه أنها تتركها نهائياً، فتحرم بالحج، وتصير مفردة، لا، وإنما ترفض أعمال العمرة المستقلة عن الحج، تلك التي لها طواف وسعي وتحلل، فهذا هو الذي ترفضه عائشة، وليس معنى ذلك أنها تلغي إحرامها وتبطله، ثم تحرم إحراماً جديداً بالحج، وأما العمرة فترفضها نهائياً؛ ليس هذا هو المقصود، وإنما المقصود أنها تترك أعمالها الخاصة بها؛ لأنها لا يمكن أن تأتي بها بسبب الحيض، وقد جاء وقت الحج، فأمرها أن ترفض عمرتها، أي: ترفض أعمالها الخاصة بها، وهي عمرة المتمتع التي لها طواف، وسعي مستقل، وتحلل، فتدخل الحج عليها وتصير قارنة، والقارن عنده حج وعمرة مع بعض، وقيل للقارن قارن؛ لأن العمرة والحج اقترنا، وصارت أعمال(212/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (من شاء أن يهل بحج، ومن شاء أن يهل بعمرة فليهل بعمرة)
قوله: [حدثنا سليمان بن حرب].
سليمان بن حرب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد بن زيد].
حماد بن زيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد يعني: ابن سلمة].
حماد بن سلمة ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[ح وحدثنا موسى حدثنا وهيب].
وهيب هو ابن خالد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام بن عروة].
هشام بن عروة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضها، الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(212/6)
شرح حديث: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج وعمرة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا القعنبي عبد الله بن مسلمة عن مالك عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنها قالت: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل بالحج، وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج، فأما من أهل بالحج أو جمع الحج والعمرة فلم يحلوا حتى كان يوم النحر)].
أورد أبو داود حديث عائشة من طريق أخرى، وفيه بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم خيرهم بين الأنساك الثلاثة، وقد ذكرت في الحديث الأول العمرة والحج ولم تذكر القران، وذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم بالحج، وهنا ذكرت: (منهم من أهل بعمرة، ومنهم من أهل بحج، ومنهم من أهل بحج وعمرة، والنبي صلى الله عليه وسلم أهل بالحج) وهذا مثل ما تقدم، فهي سمعت الحج ولم تسمع العمرة معه، وقال بعض أهل العلم: إنه أحرم بالحج أولاً، ثم أضاف إليه العمرة.
قوله: (فأما من أهل بالحج) يعني: مفرداً، (أو أهل بالحج والعمرة فإنهم لم يهلوا إلا يوم النحر) والمقصود بذلك الذين ساقوا الهدي، وإلا فإن الذين لم يسوقوا الهدي أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يفسخوا حجهم إلى عمرة، وأن يتحللوا قبل يوم النحر، أي: أن القارن أو المفرد الذي ساق الهدي يبقى على إحرامه إلى يوم النحر، وأما القارن أو المفرد الذي لم يسق الهدي فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يفسخوا إحرامهم إلى عمرة، وأن يكونوا متمتعين.(212/7)
تراجم رجال إسناد حديث: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج)
قوله: [حدثنا القعنبي عبد الله بن مسلمة].
عبد الله بن مسلمة القعنبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
مالك بن أنس إمام دار الهجرة، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن].
أبو الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة عن عائشة].
عروة وعائشة مر ذكرهما.(212/8)
شرح حديث: (خرجنا مع رسول الله عام حجة الوداع) من طريق أخرى وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن السرح أخبرنا ابن وهب أخبرني مالك عن أبي الأسود بإسناده مثله زاد: (فأما من أهل بعمرة فأحل)].
أورد المصنف الحديث من طريق أخرى، وفيه: (أن من أهل بعمرة فأحل)، فهناك من أهل بحج، وهناك من أهل بحج وعمرة، وهؤلاء بقوا على إحرامهم إلى يوم النحر، وأما من أهل بعمرة فإنه لما طاف وسعى وقصر تحلل.
قوله: [حدثنا ابن السرح].
هو أحمد بن عمرو بن السرح ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[أخبرنا ابن وهب].
ابن وهب هو عبد الله بن وهب المصري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني مالك عن أبي الأسود].
مالك وأبو الأسود مر ذكرهما.
[بإسناده مثله].
أي: مثل اللفظ الأول، إلا أن فيه زيادة: (ومن أهل بعمرة فأحل).(212/9)
شرح حديث: (من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنها قالت: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع، فأهللنا بعمرة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعاً، فقدمت مكة وأنا حائض، ولم أطف بالبيت، ولا بين الصفا والمروة، فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: انقضي رأسك، وامتشطي، وأهلي بالحج، ودعي العمرة، قالت: ففعلت، فلما قضينا الحج أرسلني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما إلى التنعيم فاعتمرت، فقال: هذه مكان عمرتك، قالت: فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم، وأما الذين كانوا جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافاً واحداً).
قال أبو داود: رواه إبراهيم بن سعد ومعمر عن ابن شهاب نحوه، ولم يذكروا طواف الذين أهلوا بعمرة، وطواف الذين جمعوا الحج والعمرة].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها: (أنهم خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فأهللنا بعمرة) أي: أهل بعضهم بذلك ومنهم عائشة، ولم يهلوا كلهم بعمرة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من ساق الهدي فليهل بالحج مع العمرة، ولا يحل إلا يوم النحر) فمقصودها أن بعضهم أهل بعمرة، وكان منهم عائشة وأمهات المؤمنين كلهن، فقد أحرمن بعمرة، أي: أنهن كنّ متمتعات.
قوله: (من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل منهما حتى يحل منهما جميعاً) يعني: حتى يحل منهما جميعاً في يوم العيد، وهو يوم النحر، وذلك حين يرمي الجمرة، ويحلق الرأس، ويطوف طواف الإفاضة، ويسعى بين الصفا والمروة، وبذلك يكون قد حصل التحلل كاملاً.
قوله: [(فقدمت مكة وأنا حائض، ولم أطف بالبيت، ولا بين الصفا والمروة، فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: انقضي رأسك، وامتشطي، وأهلي بالحج، ودعي العمرة، قالت: ففعلت، فلما قضينا الحج أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم، فاعتمرت فقال: هذه مكان عمرتك)].
قد مر ذكر هذا الكلام في شرح الحديث السابق، وذكرنا أنها حصل لها الحيض ولم تطهر، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لها: (امتشطي واغتسلي وانقضي رأسك)، وأنه أرسلها بعد ذلك إلى التنعيم، لتعتمر مكان عمرتها.
قوله: (فطاف الذين أهلوا بعمرة بالبيت وسعوا بين الصفا والمروة ثم أحلوا)، هذا شأن المعتمر، فقد طاف المحرمون بالعمرة والمتمتعون بها إلى الحج، وسعوا وقصروا وتحللوا، وطافوا بعد الحج طوافاً آخر لحجهم، أي: سعوا بين الصفا والمروة؛ لأن السعي بين الصفا والمروة يسمى طوافاً كما قال تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158]، والمقصود أن هذا يدل على أن المتمتع عليه سعيان: سعي بعد طواف العمرة للعمرة، وسعي بعد طواف الإفاضة للحج.
وقولها في آخره: (ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم) أي: طافوا طوافاً آخر للحج، وهو السعي بين الصفا والمروة؛ لأن طواف الإفاضة يكون للجميع، فكلهم سيطوف، وليس هناك أحد يترك هذا الطواف، فهو ركن في حق الجميع: القارن والمفرد والمتمتع، لكن الشيء الذي يتميز به المتمتع عن القارن أن المتمتع عليه سعي آخر غير السعي الذي حصل بعد الطواف الأول، فالأول للعمرة وهذا للحج؛ لأن العمرة مستقلة بإحرامها وطوافها وسعيها وتحللها، والحج مستقل بطوافه وسعيه وتحلله؛ ولذا فإن المتمتع عليه سعي آخر، ولا يكفيه السعي الأول، وقال بعض أهل العلم: إنه يكفيه، وذلك بناء على ما جاء في حديث جابر رضي الله عنه في صحيح مسلم، ولكنه محمول على أن المقصود به الذين كانوا قارنين أو مفردين، فهم الذين لم يسعوا بعد الحج، وأما الذين كانوا متمتعين فحديث عائشة هذا صريح في أنهم سعوا بعد الحج، فالمقصود بهذا السعي السعي بين الصفا والمروة، وليس المقصود به طواف الإفاضة؛ لأن طواف الإفاضة يفعله كل الحجاج، وأما الذي تميز به المتمتعون فهو أنهم يلزمهم سعي آخر.
قوله: (وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا ً واحداً) أي: سعوا سعياً واحداً؛ لأن الطواف الأول هو طواف القدوم، فلو جاء الإنسان متأخراً ولم يدخل مكة، بل ذهب إلى عرفة رأساً فليس عليه طواف قدوم، ولكن عليه طواف واحد وسعي واحد للحج والعمرة، فهذا هو القارن والمفرد.
قوله: [(وأما الذين كانوا جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافاً واحداً) أي: سعوا سعياً واحداً، بخلاف الذين ذكروا من قبل، فإنهم طافوا طوافين، أي: سعوا مرتين؛ لأن المقصود بالطواف هنا السعي، وإلا فطواف الإفاضة يكون على الجميع، فإنهم كلهم يطوفون، فليس هناك أحد لا يطوف طواف الإفاضة، وأما السعي: فالقارن والمفرد ليس عليهما إلا سعي واحد، وله محلان، محل بعد طواف القدوم، ومحل بعد الإفاضة، ومن فعله في المحل الأول، لا يفعله في المحل الثاني، ومن لم يفعله في المحل الأول فعله في المحل الثاني، فلو أن إنساناً طاف طواف القدوم ولم يسع فإنه يسعى بعد الحج، أو جاء إلى عرفة رأساً مثلاً فإنه يسعى بعد طواف الإفاضة، فطواف القدوم مستحب، ومن لم يأت به فليس عليه شيء.
قوله: [حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب].
ابن شهاب هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة عن عائشة].
قد مر ذكرهما.
[قال أبو داود: رواه إبراهيم بن سعد ومعمر عن ابن شهاب نحوه، لم يذكروا طواف الذين أهلوا بعمرة، وطواف الذين جمعوا الحج والعمرة].
أي: روي الحديث من طريق أخرى وفيه اختصار، أنه لم يذكر طواف الذين أهلوا بعمرة، ولا طواف الذين جمعوا بين الحج والعمرة.
قوله: [رواه إبراهيم بن سعد].
إبراهيم بن سعد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ومعمر].
معمر بن راشد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
ابن شهاب مر ذكره.(212/10)
شرح حديث: (انسكي المناسك كلها غير ألا تطوفي بالبيت)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو سلمة موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (لبينا بالحج، حتى إذا كنا بسرف حضت، فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقال: ما يبكيك يا عائشة؟! فقلت: حضت، ليتني لم أكن حججت، فقال: سبحان الله! إنما ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم، فقال: انسكي المناسك كلها غير ألا تطوفي بالبيت، فلما دخلنا مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من شاء أن يجعلها عمرة فليجعلها عمرة إلا من كان معه الهدي، قالت: وذبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن نسائه البقر يوم النحر، فلما كانت ليلة البطحاء وطهرت عائشة قالت: يا رسول الله! أترجع صواحبي بحج وعمرة وأرجع أنا بالحج؟ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن أبي بكر فذهب بها إلى التنعيم فلبت بالعمرة)].
أورد أبو داود حديث عائشة من طريق أخرى، وفيه بعض الزيادات.
قولها: (لبينا بالحج) هذا بالنسبة لبعضهم، وإلا فبعضهم لم يكن كذلك، ويمكن أن يقال: إن هذا بالنسبة لها، فقد لبت بالحج وهو يسمى عمرة، فإنه يقال للعمرة: الحج الأصغر، وقد جاء في بعض الأحاديث إطلاق الحج على العمرة، ففي حديث الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج حاجاً)، وذلك في قصة أبي قتادة والحمار الوحشي الذي صاده، فإن المقصود بهذا الحديث: خرج معتمراً، فإنه كان في ذلك الوقت معتمراً، فأطلق على العمرة أنها حج، ويمكن أن يكون قولها: [لبينا بالحج] أي: غالبنا، فيكون من باب تغليب الحج على العمرة.
قوله: (حتى إذا كنا بسرف حضت) هذا فيه بيان مكان حيضها، وأنه وقع في مكان قريب من مكة، وهو سرف.
قولها: [(فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال: ما يبكيك يا عائشة؟! قلت: حضت ليتني لم أكن حججت، فقال: سبحان الله! إنما ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم)].
هذا مثل الحديث الذي قبله، وقولها: (ليتني لم أكن حججت) أي: ليتني لم أحجج هذا العام، وهذا مثل ما تقدم في الروية السابقة، وقد قالت هذه المقالة عندما حصل لها هذا المانع، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبحان الله! هذا شيء كتبه الله على بنات آدم)، وهذا فيه تهوين لما حصل لها، من أجل التسلية لها، فقد كانت تبكي متألمة متأثرة، فقال: (هذا شيء كتبه الله) أي: أنه ليس إليك، فهو من الله عز وجل، فهو الذي كتبه على بنات آدم، وفي هذا دليل على أن الحيض يحصل لكل بنات آدم، وأنه لم يكن -كما قيل- ابتلاء بسبب نساء بني إسرائيل، فالحيض -كما جاء في هذا الحديث- مكتوب على بنات آدم.
قوله: (انسكي المناسك) أي: افعلي كل المناسك، يعني أمرها أن تدخل الحج على العمرة، وأن تفعل كل ما يفعله الحجاج إلا أنها لا تطوف بالبيت حتى تطهر، وفي هذا دليل على أن الحائض والمحدث ليس لهما أن يطوفا بالبيت إلا على طهارة.
قوله: (فلما دخل مكة قال النبي صلى الله عليه وسلم: من شاء أن يجعلها عمرة فليجعلها عمرة) وجاء في بعض الروايات أنه قال: (اجعلوها عمرة إلا من كان معه الهدي فإنه يستمر على إحرامه إلى يوم النحر) سواء كان قارناً أو مفرداً، فإنه يبقى على إحرامه ولا يحل إلى يوم النحر.
قوله: (وذبح النبي صلى الله عليه وسلم عن نسائه البقر يوم النحر) في هذا دليل على أن المتمتعين لا ينحرون إلا يوم النحر، ولا ينحرون قبله؛ لأن أمهات المؤمنين كن متمتعات، ولم ينحر عنهن صلى الله عليه وسلم إلا يوم النحر، وهذا بخلاف ما جاء عن بعض أهل العلم من أن المتمتع ينحر قبل يوم النحر، فهذا غير صحيح؛ لأن أمهات المؤمنين كن متمتعات ولم ينحر عنهن إلا يوم النحر، مع أن الناس كانوا بحاجة إلى اللحم، ومع ذلك لم يحصل منهم نحر، بل إن المتمتعين كالقارنين والمفردين في عدم النحر إلا في يوم النحر.
قوله: (فلما كانت ليلة البطحاء وطهرت) أي: والحال أنها قد طهرت، (قالت: كيف يرجع صواحبي بحج وعمرة) تعني: أمهات المؤمنين يرجعن بحج مستقل وعمرة مستقلة، (وأنا أرجع بالحج؟) أي: بأعمال الحج من الطواف والسعي فقط، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (يكفيك طوافك وسعيك عن حجك وعمرتك).
وقوله: [(فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن أبي بكر فذهب بها إلى التنعيم، فلبت بالعمرة)].
تقدم شرح هذا.(212/11)
تراجم رجال حديث: (انسكي المناسك كلها غير ألا تطوفي بالبيت)
قوله: [حدثنا أبو سلمة موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن عبد الرحمن بن القاسم].
عبد الرحمن بن القاسم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه القاسم بن محمد وهو ثقة فقيه من فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، قد مر ذكرها.(212/12)
شرح حديث: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن ساق الهدي أن يحل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا نرى إلا أنه الحج، فلما قدمنا تطوفنا بالبيت، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من لم يكن ساق الهدي أن يحل، فأحل من لم يكن ساق الهدي)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها: (أنهم خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لا يرون إلا أنه الحج) وهذا يحتمل أمرين: يحتمل أنهم خرجوا من المدينة لا يرون إلا أنهم حجاجاً فقط، أي: ليس هناك إلا الحج، فلما صاروا في ذي الحليفة خيرهم النبي صلى الله عليه وسلم بين الأنساك الثلاثة كما مر في الأحاديث، ويحتمل أنهم بعد أن أحرموا بالحج والقران رأوا أن كل من أحرم بالحج ليس له إلا الحج، ومن لبى بالحج والعمرة فليس له إلا الحج والعمرة، ولكنه جاء شيء جديد في مكة وهو: أن من ساق الهدي فليبق على الحج والعمرة، أو الحج وحده، ومن لم يسق الهدي فليفسخ إحرامه إلى عمرة، ويكون بذلك متمتعاً.
قولها: (تطوفنا بالبيت) أي: طاف غيرها، وأما هي فلم تطف به، ولكن تحكي حال الذين لم يحصل لهم مانع، سواء كانوا متمتعين أو قارنين أو مفردين، فالقارنون طافوا طواف القدوم، والمفردون طافوا طواف القدوم أيضاً، أما المتمتعون فطافوا طواف العمرة.(212/13)
تراجم رجال إسناد حديث: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن ساق الهدي أن يحل)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي والنسائي، فإنه لم يخرج له إلا في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا جرير].
جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن منصور].
منصور بن معتمر الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إبراهيم].
إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأسود].
الأسود بن يزيد بن قيس النخعي ثقة مخضرم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين، وقد مر ذكرها.(212/14)
شرح حديث: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس الذهلي حدثنا عثمان بن عمر أخبرنا يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي) قال محمد: أحسبه قال: (ولحللت مع الذين أحلوا من العمرة) قال: أراد أن يكون أمر الناس واحداً].
أورد أبو داود حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لما سقت الهدي، ولحللت مع الذين أحلوا بالعمرة) قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكلام لما قالوا له: يا رسول الله! نحن محرمون بالحج والعمرة، وأنت محرم بالحج والعمرة، فكيف نتحلل من إحرامنا بحجنا وعمرتنا إلى عمرة مستقلة، وكيف نتحلل ونتمتع ونأتي بالأمور التي يمنع منها المحرم ونحن إنما جئنا حجاجاً ولم نأت للترفه؟! فحينئذٍ قال لهم صلى الله عليه وسلم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي) أي: لكنت متمتعاً، فهذا يدلنا على أن التمتع أفضل الأنساك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد القارنين والمفردين الذي لا هدي معهم أن يتحولوا إلى عمرة، ولو كان القران والإفراد أفضل لما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن ينتقلوا من فاضل إلى مفضول، وإنما يأمرهم أن ينتقلوا من مفضول إلى فاضل، فهو لا يرشد إلا إلى الأكمل والأعظم؛ لأنه أنصح الناس للناس صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (أراد أن يكون أمر الناس واحداً) يعني: هذا في حق الذين لم يسوقوا الهدي، فالقارنون والمفردون الذين ساقوا الهدي أمرهم واحد، وهو أنهم يبقون على إحرامهم، والذين لم يسوقوا الهدي يكون أمرهم واحداً، وهو أنهم يتحللون بعمرة ويكونون متمتعين.(212/15)
تراجم رجال إسناد حديث: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي)
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس الذهلي].
محمد بن يحيى بن فارس الذهلي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا عثمان بن عمر].
عثمان بن عمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا يونس عن الزهري].
يونس بن يزيد الأيلي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
مر ذكره.
[عن عروة عن عائشة].
عروة وعائشة مر ذكرهما.(212/16)
شرح حديث: (اغتسلي ثم أهلي بالحج)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه أنه قال: (أقبلنا مهلين مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحج مفرداً، وأقبلت عائشة مهلة بعمرة، حتى إذا كانت بسرف عركت، حتى إذا قدمنا طفنا بالكعبة وبالصفا والمروة، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يحل منا من لم يكن معه هدي، قال: فقلنا: حل ماذا؟ فقال: الحل كله، فواقعنا النساء، وتطيبنا بالطيب، ولبسنا ثيابنا، وليس بينا وبين عرفة إلا أربع ليال، ثم أهللنا يوم التروية، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على عائشة رضي الله عنها فوجدها تبكي فقال: ما شأنك؟ قالت: شأني أني قد حضت، وقد حل الناس ولم أحلل، ولم أطف بالبيت، والناس يذهبون إلى الحج الآن، فقال: إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فاغتسلي ثم أهلي بالحج، ففعلت، ووقفت المواقف، حتى إذا طهرت طافت بالبيت وبالصفا والمروة، ثم قال: قد حللت من حجك وعمرتك جميعاً، قالت: يا رسول الله! إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حين حججت، قال: فاذهب بها يا عبد الرحمن! فأعمرها من التنعيم، وذلك ليلة الحصبة)].
أورد أبو داود حديث جابر رضي الله عنه، وذلك بعدما فرغ من ذكر حديث عائشة بالطرق المتعددة، وسيذكر هنا أحاديث جابر رضي الله عنه من طرق متعددة، فبدأ بهذه الطريق، قال جابر رضي الله عنه: (أقبلنا مهلين مع النبي صلى الله عليه وسلم بالحج مفرداً) أي: أفرد بعضهم وليسوا كلهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مفرداً، وإنما كان قارناً، وكذلك قوله: (مهلين) يعني: بعضهم وليسوا كلهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مع المهلين بالحج وحده.
قوله: (وأقبلت عائشة مهلة بعمرة) يعني: أنها ممن أهل بعمرة.
قوله: (حتى إذا كانت بسرف عركت) أي: حاضت.
قوله: (حتى إذا قدمنا طفنا بالكعبة، وبالصفا والمروة، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحل منا من لم يكن معه هدي).
يعني: أنهم لما قدموا طافوا بالكعبة، وسعوا بين الصفا والمروة، فالمتمتعون طافوا وسعوا لعمرتهم، والمفردون طافوا طواف القدوم، وسعوا لحجهم، والقارنون سعوا لحجهم وعمرتهم، وعلى هذا فالنبي صلى الله عليه وسلم والذين كانوا معه قدموا السعي، وفعلوه مع طواف القدوم، ومعلوم أن السعي بالنسبة للقارن والمفرد له محلان -كما أشرت إلى ذلك-: محل بعد القدوم، ومحل بعد الإفاضة.
قوله: (فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهل منا من لم يكن معه هدي) يعني: من القارنين والمفردين، فالذين كانوا قارنين ومفردين وليس معهم هدي أمروا بأن يحلوا، وأن يكونوا متمتعين.
قوله: (قلنا: يا رسول الله! حل ماذا؟) أي: كأنهم كانوا مترددين في هذا الحل؛ لأنهم جاءوا للحج، والحاج من شأنه ألا يترفه، وهذا فيه ترفه، وكأنهم فهموا أن هناك حلاً ليس بكامل، (فقال: الحل كله)، فحصل منهم أن فعلوا كل ما يفعله أهل مكة، فواقعوا النساء، وتطيبوا، ولبسوا الثياب، فكل ما كان حلالاً لأهل مكة حل لهم، وكل ما كان حراماً على أهل مكة حرم عليهم.
قوله: (وليس بيننا وبين عرفة إلا أربع ليل) أي: أنهم دخلوا في يوم أربعة من ذي الحجة.
قوله: (ثم أهللنا يوم التروية) أي: الذين كانوا متمتعين، فهم الذين أهلوا يوم التروية، وأما من كان محرماً بحج وعمرة وقد ساق الهدي فهو باق على إحرامه من الميقات، فالمقصود بقوله: (أهللنا يوم التروية) الذين كانوا محلين.
قوله: (ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة ووجدها تبكي، فقال: ما شأنك؟ قالت: شأني أني قد حضت، وقد حل الناس ولم أحلل، ولم أطف بالبيت، والناس يذهبون إلى الحج الآن، فقال: إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فاغتسلي ثم أهلي بحج) وهذا يفيد بأنه في وقت ذهابهم إلى الحج كان الحيض فيها؛ لأنها قالت: (يذهبون للحج الآن) فمعناه أنها لا يزال الحيض فيها، وأن اغتسالها هنا ليس للحيض، وإنما هو للحج، أي: لإدخال الحج على العمرة، والغسل هنا للاستحباب.
قوله: (ووقفت المواقف) أي: وقفت بعرفة وبمزدلفة، ورجعت إلى منى، ورمت الجمرات.
قوله: (حتى إذا طهرت طافت بالبيت، وبالصفا والمروة) يعني: عن حجها وعمرتها.
قوله: (ثم قال: قد حللت من حجك وعمرتك جميعاً) لأنها صارت قانة، فحلت منهما جميعاً؛ لأن القارن عندما يحل فإنه يحل من الحج والعمرة معاً؛ فأعمال الحج مقرونة مع العمرة، فليس هناك فاصل يميز العملين، فالطواف واحد للحج والعمرة، والسعي واحد للحج والعمرة.
قوله: (إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حين حججت) تعني: أنها حين حجت أحرمتْ بالعمرة، وهذا يبين لنا أن المقصود بالحج هنا العمرة؛ لأنها جاءت معتمرة، ويقال عن العمرة: حج.
قوله: (فاذهب بها يا عبد الرحمن!) يعني: أخاها، (فأعمرها من التنعيم، وذلك ليلة الحصبة) يعني: ليلة الرابع عشر، وذلك حين نزل الناس من منى إلى الأبطح، وهو ليلة الصدر؛ لأنهم يطوفون طواف الوداع ثم يسافرون.(212/17)
تراجم رجال إسناد حديث: (اغتسلي ثم أهلي بالحج)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
قتيبة بن سعيد بن جميل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الليث].
الليث بن سعد ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الزبير].
أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما، وهو صحابي ابن صحابي، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(212/18)
الأسئلة(212/19)
وجه التفريق بين من ساق الهدي ومن لم يسقه
السؤال
ما وجه التفريق بين من ساق الهدي وبين من لم يسق الهدي؟ أي: ما هي الحكمة من كون من ساق الهدي يبقى على إحرامه، ومن لم يسقه يحل؟
الجواب
الحكمة من ذلك -والله أعلم- أن من ساق الهدي ليس أمامه إلا الاستمرار؛ لأن وجود الهدي معه يمنعه من أن يحل، فسائق الهدي لا يحل إلا يوم النحر، وليس له أن يحل قبل يوم النحر، كما قال تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196]، وأما من لم يسق الهدي فليس عنده شيء يمنعه، ولهذا يتحول إلى عمرة ويكون متمتعاً، فهذا هو الفرق بينهما، فهذا عنده مانع، وهذا ليس لديه مانع.(212/20)
الكتب التي ينصح طلاب العلم باقتنائها
السؤال
ما هي الكتب التي تنصح أن يقتنيها طلاب العلم، وجزاك الله خيراً؟
الجواب
الكتب كثيرة، وموضوعاتها متعددة، فهناك كتب في الحديث، وكتب في العقيدة، وكتب في التفسير، وكتب في المصطلح، وكتب في الفقه، فهي أنواع كثيرة، فأبدأ بكتب العقيدة فأقول: كتب العقيدة على قسمين: كتب عقيدة على منهج السلف، وكتب عقيدة على منهج الخلف، فالكتب التي على منهج الخلف يتركها طالب العلم، ولا يشغل نفسه بها، ويستغني عنها بما هو خير منها وهي: كتب السلف.
وكتب السلف على قسمين أيضاً: أحدهما: كتب للمتقدمين، وهي الكتب التي على طريقة الأسانيد، فكل مروياتها مسندة: حدثنا فلان، حدثنا فلان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كذا، وحدثنا فلان أن فلاناً من الصحابة قال: كذا، وحدثنا فلان: أن فلاناً من التابعين قال: كذا، فهذه طريقة كتب المتقدمين، فمثل هذه الكتب يحرص عليها الإنسان، ويهتم بها، ويحرص على اقتنائها، وتسمى بأسماء عدة، فقسم منها يسمى بالسنة، وقسم فيها باسم الإيمان، وقسم باسم التوحيد، وقسم باسم الرد على الجهمية، ويدخل تحت كل قسم منها كتب متعددة.
فالبنسبة للكتب المسماة باسم السنة، فهناك كتب متعددة باسم السنة، كالسنة لـ عبد الله بن الإمام أحمد، والسنة للإمام أحمد، والسنة للالكائي، والسنة لـ محمد بن نصر المروزي، والسنة لـ ابن أبي عاصم، فهذه كلها باسم السنة، وأطلق عليها اسم السنة لأنها في مقابل البدعة، فهي تتعلق بالعقيدة وفقاً للسنة، وذلك خلاف البدعة.
والسنة لها أربع معان: فتطلق ويراد بها كل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (أما إني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغبي عن سنتي فليس مني) يعني بسنته هنا كل ما جاء في الكتاب والسنة.
وتطلق السنة بالمعنى الثاني على أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك إذا قرنت بالكتاب، ومن ذلك طريقة العلماء من المحدثين والفقهاء عندما يستدلون على مسألة ما، فيذكرون أولاً الأدلة بالاختصار، ثم يذكرونها بالتفصيل، فيقولون: هذه المسألة دل عليها الكتاب والسنة والإجماع، فالمراد بالسنة هنا الحديث.
والسنة بالمعنى الثالث -وهو ما نحن فيه- أن تطلق ويراد بها ما يقابل البدعة، ومنها المؤلفات التي تؤلف باسم السنة ويراد بها ما يعتقد طبقاً للسنة، وخلافاً للبدعة، وقد عقد أبو داود رحمه الله في كتابه السنن كتاباً باسم: كتاب السنة، وقد اشتمل على مائة وسبعة وسبعين حديثاً كلها في العقيدة، وجعلها في كتاب السنة، أي: ما يعتقد موافقاً للسنة، فهذه مجموعة من كتب المتقدمين، وكلها باسم السنة، وهناك كتب أخرى لكن هذه هي أهمها.
وهناك كتب باسم الإيمان، كالإيمان لـ ابن مندة، والإيمان لـ ابن أبي عمر العدني شيخ الإمام مسلم، والإيمان لـ ابن أبي شيبة: عبد الله بن أبي شيبة، وكتاب الإيمان لـ أبي عبيد القاسم بن سلام وغيرها.
وهناك كتب باسم الرد على الجهمية، كالرد على الجهمية للإمام أحمد، والرد على الجهمية لـ ابن مندة، والرد على الجهمية لـ عثمان بن سعيد الدارمي، والرد على الجهمية لـ ابن أبي حاتم الرازي، ولكن هذا الكتاب لا نعلم عن وجوده شيئاً، وقد نقل عنه الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) في عدة مواضع من كتاب (التوحيد)، فهذه عدة كتب.
وهناك عدة كتب باسم التوحيد، كالتوحيد لـ ابن خزيمة، والتوحيد لـ ابن مندة.
فمثل هذه الكتب ينبغي لطالب العلم أن يحرص على اقتنائها؛ لأنها كتب مبنية على السنة ومخالفة البدعة، فيحرص طالب العلم عليها.
الضرب الثاني: كتب للمتأخرين، وهي تمشي في العقيدة على منهج السلف وطريقتهم، وهي كتب تُعنى ببحث مسائل العقيدة وترتيبها وتنظيمها، فيأتي مؤلفها بالمسألة المعينة، ويستدل عليها من الكتاب والسنة وآثار السلف، وهذه مثل كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وكتب الإمام ابن القيم، وكتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله على الجميع، فإن هذه الكتب على هذا النحو، وعلى هذه الطريقة.(212/21)