الأسئلة(37/16)
معنى إن الله لا يستحيي من الحق
السؤال
ما معنى: إن الله عز وجل لا يستحيي من الحق؟
الجواب
وردت عبارة: (إن الله لا يستحيي من الحق) عن أم سليم رضي الله عنها لما أرادت أن تسأل، والله تعالى لا يستحيي من الحق، فهي تسأل عن الحق، وهو سؤال محمود وممدوح، والحياء المذموم هو الذي فيه خجل وفيه ضعف، وأما الحياء المحمود فهو الذي ليس من طريق الخجل والضعف، ولكنه يتعلق بالأمور المحمودة والأخلاق الكريمة، وهذا منه؛ لأن أم سليم رضي الله عنها لم تستحي الاستحياء المذموم، ولكنها أخبرت بأنها لا يمنعها ما أعطاها الله من الحياء أن تسأل عن الحق الذي تعبدها الله تعالى به؛ لتعبد الله على بصيرة وعلى بينة، وهذا فيه إثبات صفة الحياء لله، وقد جاء أيضاً في بعض الأحاديث ما يدل على ذلك، (إن الله حيي ستير) وصفة الحياء كغيرها من الصفات تثبت لله عز وجل كما يليق بكماله وجلاله، وكل صفاته صفات كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه.
وتأويل الصفات لا يسوغ، وبعض العلماء ابتلوا بالتأويل، والواجب في كل ما ورد في النصوص من صفات إثباتها مضاف إلى الله عز وجل، فالحياء يجب إثباته لله على ما يليق به، والعلماء الذين حصل منهم التأويل يستفيد الإنسان من علمهم، ويكون على حذر مما ابتلوا به، ومن ذلك قوله بعضهم: إن الله لا يأمر بالحياء ولا يبيحه! فهذا المعنى خطأ، كيف لا يأمر بالحياء المشروع المأمور به؟! النبي صلى الله عليه وسلم مر برجل ينصح أخاه في الحياء فقال: (دعه فإن الحياء لا يأتي إلا بخير).(37/17)
حكم قضاء دين المعسر المستدين من البنك بفوائد البنك الربوية
السؤال
رجل يعيش في بلد الكفار في ضيق وعسر، ويعول أسرة كبيرة، ولا يكفيه ما يأخذ من الرواتب، فأخذ قرضاً من البنك في حالة الاضطرار، والآن لا يستطيع أن يؤدي القرض فضلاً أن يدفع الربا، فإن أراد رجل أن يؤدي عنه هذا الربا والقرض بمال الربا الذي يأخذه هو من البنوك الربوية، فهل يجوز هذا؟
الجواب
ليس للإنسان أن يأخذ الربا من البنوك الربوية ثم يصرفه في أمور أخرى، وإذا اضطر الإنسان إلى أن يودع عندها، فلا يأخذ منها المضرة المحرمة التي تسمى فائدة، وهي مضرة في الحقيقة، وإذا كانت البنوك فيها خزائن تستأجر، فالإيداع فيها أولى عن طريق الاستئجار؛ لأن في ذلك عدم تمكين البنك من التصرف بمال الإنسان، لكن إذا لم يكن عند البنك خزائن، وأودع عندها مضطراً، فيأخذ حقه ولا يأخذ الربا، وهذا كيف يتصدق بالمال الحرام أو يساعد بالمال الحرام؟! لا ينبغي له أن يفعل هذا، لكن إذا كان سبق أنه قبضه، وأراد أن يتخلص منه، فيمكن أن يتخلص منه في مثل هذا والله تعالى أعلم.(37/18)
ما جاء في مقدار الماء الذي يجزئ في الغسل(37/19)
شرح حديث: (أن رسول الله كان يغتسل من إناء واحد هو الفرق)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في مقدار الماء الذي يجزئ في الغسل.
حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من إناء واحد هو الفرق من الجنابة)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب مقدار الماء الذي يجزئ في الغسل.
هذه الترجمة معقودة لبيان مقدار الماء الذي يكون به الكفاية في الغسل من الجنابة، وقد جاءت عن نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم أحاديث فيها بيان المقدار الذي كان يغتسل به صلى الله عليه وسلم، وقد سبق أن مر عند مقدار الماء الذي يكفي في الوضوء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع، وتلك الأحاديث دالة على هذه الترجمة التي فيها بيان ما يكفي في الوضوء وبيان ما يكفي في الغسل، ولكنه عقد الترجمة هنا للاستدلال بالأحاديث على ما يكفي في الغسل، وقد أورد فيه جملة أحاديث، أولها حديث عائشة رضي الله تعالى عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من إناء واحد هو الفرق)، والفرق وعاء كبير يسع ثلاثة آصع، يعني: ستة عشر رطلاً وثلثاً، وتعادل اثني عشر مداً، فهذا هو أعلى مقدار ورد الاغتسال به، ولا يعني هذا أنه يغتسل بالفرق كله، لأنه قد جاء (أنه كان يغتسل هو وعائشة من إناء يقال له: الفرق، يغترفان منه جميعاً)، وعلى هذا يكون الفرق إذا امتلأ يسع ثلاثة آصع، ويكون النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل منه هو وعائشة، تختلف أيديهما فيه، وليس معنى ذلك أنه كان يغتسل بثلاثة آصع وحده، ولكنه كان يغتسل من إناء هو الفرق، فيكون على هذا للواحد مقدار صاع ونصف، يعني: ستة أمداد، وهذا هو أعلى مقدار ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد جاء عنه أنه كان يغتسل بالصاع وهو أربعة أمداد، وجاء أنه كان يغتسل بخمسة أمداد وهي صاع ومد.(37/20)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن رسول الله كان يغتسل من إناء واحد هو الفرق)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي].
هو [عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة الإمام المشهور المحدث، وهو أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة].
هو عروة بن الزبير بن العوام وهو ثقة فقيه أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(37/21)
ترجمة عائشة رضي الله عنها
[عن عائشة].
هي عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق، من أوعية السنة وحفظتها، وهي التي أنزل الله براءتها في آيات تتلى من سورة النور تبرئها مما رميت به من الإثم، وكانت رضي الله تعالى عنها وأرضاها تهضم من نفسها وتتواضع لله عز وجل، مع أن الله عز وجل شرفها ورفع ذكرها وأنزل براءتها في آيات تتلى من سورة النور، ففي الصحيح أنها قالت: (ولشأني في نفسي أهون من أن ينزل الله في آيات تتلى)، وقالت: (كنت آمل أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه رؤيا يبرئني الله بها)، فهي رضي الله عنها وأرضاها كانت تتواضع لله، وهذا يدل على عظم شأنها وكمال عقلها وتواضعها لله عز وجل، وهذا شأن أهل الكمال يتواضعون لله مع ما أعطاهم الله عز وجل من علو المنزلة ورفعة الدرجة.
وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الشيء الذي تميزت به والذي عرف من طريقها ولا يعرف إلا من طريق النساء، هو ما كان يجري بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، وما يجري في البيوت من الأمور التي لا يطلع عليها إلا أزواجه، ولا سيما ما يتعلق بالغسل من الجنابة، حيث كان يغتسل هو وإياها من إناء واحد، فحفظت الكثير من السنن التي تتعلق بالبيوت، والتي تتعلق بما يجري بين الرجل وأهل بيته، ومن حفظ سنةً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فله مثل أجور من عمل بها إلى يوم القيامة، وهذا يدلنا على عظم قدرها وعظم شأنها، والله تعالى يثيب كل من عمل بسنة جاءت عن طريقها ويثيبها بمثل ما أثابه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الدال على الخير له مثل أجر فاعله)، وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً).
ولهذا فإن محبة أزواج رسول الله عليه الصلاة والسلام تدل على الإيمان، وتدل على محبة المسلم لمن جعلهن الله حلائل لرسوله صلى الله عليه وسلم، وهن زوجاته في الدنيا وفي الآخرة رضي الله تعالى عنهن وأرضاهن، فالذي يتكلم فيهن أو يعيبهن ويتنقصهن، فإنما يضر نفسه؛ لأنه اغتاب أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن وأرضاهن، ومن المعلوم أن الإنسان لو اغتاب أي مسلم فإن مغبة ذلك ومضرة ذلك تعود عليه، فكيف إذا كان الذي يغتاب أمهات المؤمنين اللاتي أكرمهن الله بزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم منهن، وصرن بذلك أمهات المؤمنين، ووصفهن الله بذلك في كتابه العزيز حيث قال: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6] رضي الله تعالى عنهن وأرضاهن، وعائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها قيل: هي أفضل أزواجه، وقيل: إن أفضل أزواجه خديجة، ولا شك أن خديجة وعائشة أفضل نسائه، ولكن أيهما أفضل؟! لا شك أن عائشة حصل منها شيء ما حصل من خديجة، وحصل من خديجة شيء ما حصل من عائشة، فـ خديجة حصل منها تأييده وتثبيته في وقت الشدة وفي الوقت الذي أوذي فيه من قبل كفار قريش، وأما عائشة رضي الله عنها وأرضاها فقد تميزت بتلقي السنن وحفظ السنن ونشرها ونقلها إلى الناس.
والصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم ومنهم أمهات المؤمنين هم الواسطة بين الناس وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يعرف الناس حقاً ولا هدى إلا عن طريق الصحابة، ولا يصل الناس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إلا عن طريق الصحابة؛ لأن الصحابة هم الذين صحبوا النبي عليه أفضل الصلاة والسلام وتلقوا السنن والأحكام عنه ونقلوها إلى الناس، فهم الواسطة بين الناس وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي يقدح في الواسطة يقدح في المنقول كما قال أبو زرعة الرازي رحمه الله تعالى: إذا رأيتم أحداً ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلموا أنه زنديق؛ وذلك أن الكتاب حق، والرسول حق، وإنما أدى إلينا الكتاب والسنة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء -أي: القادحون فيهم- يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة.
يعني: أن من يقدح في الصحابة يقدح في الكتاب والسنة؛ لأن القدح في الناقل قدح في المنقول.
ثم قال: والجرح بهم أولى وهم زنادقة.
أي: الذين ينتقصون الصحابة زنادقة.
[قال أبو داود: وروى ابن عيينة نحو حديث مالك].
نحو حديث مالك الذي تقدم، يعني: أنه جاء من طريق مالك وابن عيينة، كلاهما عن الزهري.(37/22)
شرح حديث: (كنت أغتسل أنا ورسول الله من إناء واحد فيه قدر الفرق)
[قال: أبو داود: قال معمر عن الزهري في هذا الحديث: قالت: (كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد فيه قدر الفرق)].
رواية معمر عن الزهري تتفق مع الأحاديث التي فيها أنها كانت تغتسل هي ورسول الله صلى الله عليه وسلم في إناء قدر الفرق، ومعنى هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يغتسل بالفرق وحده؛ لأن الفرق ثلاثة آصع، وإنما كان يغتسل منه الرسول صلى الله عليه وسلم هو وعائشة، تختلف أيديهما منه، فهذه الرواية التي فيها أن عائشة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كانا يغتسلان من الفرق تدل على أن مقدار الفرق إنما كان للرسول صلى الله عليه وسلم ولـ عائشة، وليس للنبي صلى الله عليه وسلم وحده.
[قال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل يقول: الفرق ستة عشر رطلاً، وسمعته يقول: صاع ابن أبي ذئب خمسة أرطال وثلث، قال: فمن قال: ثمانية أرطال قال: ليس ذلك بمحفوظ، قال: وسمعت أحمد يقول: من أعطى في صدقة الفطر برطلنا هذا خمسة أرطال وثلثاً فقد أوفى، قيل: الصيحاني ثقيل، قال: الصيحاني أطيب، قال: لا أدري.
] أورد أبو داود رحمه الله هذا الكلام الذي فيه بيان مقدار الفرق والصاع، وقد سبق ذكر مقدار الصاع ومقدار المد عند الكلام على ما يكفي في الوضوء، وهنا أتى بالكلام في بيان مقدار الصاع ومقدار الفرق في الكلام على ما يتعلق بالمقدار الذي يجزئ في الاغتسال، قال أبو داود: قال الإمام أحمد: الفرق ستة عشر رطلاً.
لأن الصاع خمسة أرطال وثلث، فتكون الثلاثة الآصع ستة عشر رطلاً، وهذا بيان أن مقدار الفرق ثلاثة آصع.
ثم ذكر أن الصاع الذي كان معروفاً عندهم وهو صاع ابن أبي ذئب - مقداره خمسة أرطال وثلث.
ثم ذكر الإمام أحمد أن من قال: إن الفرق مقداره ثمانية أرطال على أنه أقل من صاعين، غير محفوظ، وغير ثابت، وإنما المحفوظ أنه ستة عشر رطلاً، على اعتبار أن الصاع خمسة أرطال وثلث.
[قال: وسمعت أحمد يقول: من أعطى في صدقة الفطر برطلنا هذا خمسة أرطال وثلثاً فقد أوفى].
لأن خمسة أرطال وثلثاً مقدار الصاع، ومعنى هذا أن الصاع الذي كانوا يكيلون به في البيع والشراء ويكيلون به زكاة الفطر هو نفس المقدار الذي يتوضأ به؛ لأن خمسة أرطال وثلث هو الصاع الذي يتوضأ به، ومن أعطى في زكاة الفطر خمسة أرطال وثلثاً فقد أوفى؛ لأن هذا هو مقدار الصاع.
[قيل: الصيحاني ثقيل].
الصيحاني هو نوع من تمر المدينة، والمقصود بقوله: (ثقيل) أي: أنه لو وزن منه خمسة أرطال وثلث، ما تملأ الصاع؛ لأنه ثقيل الوزن، وليس مثل التمر الآخر الذي يكون خفيفاً، وإذا ملئ منه الصاع يكون وزنه خمسة أرطال وثلث.
[قال: الصيحاني أطيب].
معناه: أنه إذا ملأ الصاع بالصيحاني الثقيل فهو أطيب، يعني: أنه يملأ منه الصاع وإن كان يزيد في الوزن عن خمسة أرطال وثلث لكونه ثقيلاً، فإن مقدار خمسة أرطال وثلث منه أقل من ملء الصاع لثقله، وكون الإنسان يأتي بصاع يملؤه بشيء ثقيل له قيمة لا شك أنه أكمل وأطيب وأحسن.
[قال: لا أدري].
قيل: هي من كلام الإمام أحمد، يعني: لا أدري لو وزن أحد من التمر الصيحاني خمسة أرطال وثلثاً ولم تملأ الصاع، واكتفى بها، هل تكفي أو لا تكفي؟ فهو يشك في كونها كافية؛ لأنها ما بلغت مقدار الصاع من حيث الكيل، وإن كانت بلغت مقداره من حيث الوزن.
وقيل: هذا من كلام الذي خاطبه، قال: لا أدري.
يعني: هل ذلك يكفي أو لا يكفي، والأقرب أنه من كلام الإمام أحمد، ولعل المقصود به عدم اطمئنانه إلى الاقتصار على خمسة أرطال وثلث من الصيحاني إذا كان لا يملأ الصاع؛ لأن الحديث فيه مقدار الصاع.
والرطل المذكور يعادل مداً وثلثاً تقريباً، ويقولون: هذا مكيال عراقي معروف، ويقولون: إن المد هو الشيء الثابت الذي يستقر، وهو ملء اليدين المتوسطتين، والصاع أربعة أمداد، يعني: أربع حفنات باليدين المتوسطتين، هذا مقدار الصاع من البر والطعام وما إلى ذلك، وليس من حيث المال.
والصاع في هذا الزمان يعادل ثلاثة كيلوا جرامات، فإذا أخرج ثلاثة كيلوا جرامات من الأرز من الرز في زكاة الفطر فإنها بقدر الصاع.(37/23)
شرح سنن أبي داود [038]
للغسل من الجنابة أحكام وآداب، وقد تكاثرت الأحاديث المروية في غسل الجنابة عن النبي صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً، واهتم أهل العلم بها شرحاً وتوضيحاً.(38/1)
ما جاء في الغسل من الجنابة(38/2)
شرح حديث: (أما أنا فأفيض على رأسي ثلاثاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الغسل من الجنابة.
حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا زهير حدثنا أبو إسحاق قال: أخبرني سليمان بن صرد عن جبير بن مطعم رضي الله عنه: (أنهم ذكروا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الغسل من الجنابة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أنا فأفيض على رأسي ثلاثاً، وأشار بيديه كلتيهما).
].
أورد أبو داود رحمه الله باباً في الغسل من الجنابة، يعني: كيفية الغسل من الجنابة، وما يجزئ وما يكون أكمل.
هذا هو المقصود بالترجمة، فبعدما ذكر مقدار ما يغتسل به ذكر كيفية الاغتسال بذلك المقدار.
عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أنهم ذكروا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الغسل من الجنابة، فقال: (أما أنا فأفيض على رأسي ثلاثاً)، معناه: أنه في غسل رأسه يكتفي بأن يفيض عليه ثلاث مرات، وليس معنى ذلك أن الإفاضة على الرأس ثلاث حثيات تكفي للغسل كله، وإنما المقصود ما يتعلق بالرأس فقط، فالمراد بعض ما يدخل تحت الغسل، وهو الشعر الذي يحتاج إلى أن يروى، وأن يصل الماء إلى أصوله، فكان يكفيه ثلاث حفنات.
قال: (وأشار بيديه كلتيهما)، يعني: ثلاث غرفات بيديه جميعاً، وهذا الحديث فيه اختصار كما هو معلوم؛ لأنه يجب أن يغسل سائر جسده، ويفيض الماء عليه كله، لكن هذا فيما يتعلق بغسل الرأس فقط، فيكفي ثلاث حثيات بيديه كلتيهما.(38/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (أما أنا فأفيض على رأسي ثلاثاً)
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي].
هو عبد الله بن محمد النفيلي، وهو ثقة أخرج له البخاري وأصحاب السنن الأربعة.
[حدثنا زهير].
هو زهير بن معاوية، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو إسحاق].
هو أبو إسحاق السبيعي، وهو عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني سليمان بن صرد].
هو سليمان بن صرد، وهو صحابي، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن جبير بن مطعم].
هو جبير بن مطعم رضي الله عنه صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(38/4)
شرح حديث: (كان رسول الله إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحلاب) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن المثنى حدثنا أبو عاصم عن حنظلة عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء من نحو الحلاب، فأخذ بكفيه، فبدأ بشق رأسه الأيمن، ثم الأيسر، ثم أخذ بكفيه وقال بهما على رأسه)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث عائشة رضي الله تعالى عنها من طريق أخرى، وفيه ذكر الثلاث الحثيات، وأنه كان يحثي على شقه الأيمن ثم شقه الأيسر ثم على رأسه.
قوله: [حدثنا محمد بن المثنى].
هو محمد بن المثنى الزمن أبو موسى العنزي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو عاصم].
أبو عاصم هو أبو عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو من كبار شيوخ البخاري، بل ويروي عنه بعض الثلاثيات التي في صحيح البخاري التي هي أعلى أسانيد البخاري، وأبو داود يروي عنه بواسطة محمد بن المثنى، ومحمد بن المثنى من صغار شيوخ البخاري، وأبو عاصم من كبار شيوخ البخاري، فـ البخاري يروي مباشرة عن محمد بن المثنى وعن أبي عاصم، وأما أبو داود فلا يروي مباشرة إلا عن محمد بن المثنى، وهو يروي عن أبي عاصم بواسطة.
[عن حنظلة].
هو حنظلة بن أبي سفيان، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن القاسم].
هو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
هو عائشة مر ذكرها.(38/5)
معنى الحلاب
قولها: (نحو الحلاب)، قيل: المقصود أنه مقدار الإناء الذي يحلب فيه لبن الناقة، هذا هو الحلاب.
والبخاري ظن أنه نوع من الطيب يقال له: المحلب، والحافظ ابن حجر أطال الكلام عليه فيما يتعلق بهذه الترجمة، وقد أشرت إلى ذلك في الفوائد المنتقاة.(38/6)
شرح حديث: (كان رسول الله يتوضأ وضوءه للصلاة ثم يفيض على رأسه ثلاث مرات)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا عبد الرحمن -يعني ابن مهدي - عن زائدة بن قدامة عن صدقة حدثنا جميع بن عمير أحد بني تيم الله بن ثعلبة قال: دخلت مع أمي وخالتي على عائشة رضي الله عنها، فسألتها إحداهما: كيف كنتم تصنعون عند الغسل؟ فقالت عائشة: (كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يفيض على رأسه ثلاث مرات، ونحن نفيض على رءوسنا خمساً من أجل الضفر).
].
أورد أبو داود رحمه الله حديث عائشة رضي الله عنها، أنها سألتها امرأة: كيف كنتم تصنعون في الغسل من الجنابة؟ فقالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفيض على رأسه ثلاث حثيات، ونحن نفيض خمساً من أجل الضفر.
يعني: من أجل الضفائر التي على رءوسهن، حيث يجمعن الشعر ويجعلنه ضفائر، والضفائر جمع: ضفيرة، وهي خصال الشعر تجمع ويلف بعضها إلى بعض، فكن يزدن على ثلاث حثيات من أجل الضفر.
والحديث ضعيف بسبب جميع بن عمير، فليس هناك فرق بين الرجال والنساء، وإن لم تحل المرأة الضفائر فيكفي أن تفيض عليها الماء، ولا يلزمها أن تحل الضفائر حتى يصل إليها الماء، وإنما يصب الماء عليها حتى يصل إلى أصول الشعر.(38/7)
تراجم رجال إسناد حديث: (كان رسول الله يتوضأ وضوءه للصلاة ثم يفيض على رأسه ثلاث مرات)
قوله: [حدثنا يعقوب بن إبراهيم].
هو يعقوب بن إبراهيم الدورقي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
ويعقوب بن إبراهيم، ومحمد بن المثنى الذي مر آنفاً ومحمد بن بشار الذي يأتي كثيراً، هؤلاء ثلاثة من صغار شيوخ البخاري، ماتوا في سنة واحدة، وهي سنة 252هـ، قبل وفاة البخاري بأربع سنوات، وهم جميعاً من شيوخ أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الرحمن يعني: ابن مهدي].
عبد الرحمن بن مهدي ثقة إمام في الجرح والتعديل، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن زائدة بن قدامة].
زائدة بن قدامة، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن صدقة].
هو صدقة بن سعيد الحنفي، مقبول أخرج حديثه أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا جميع بن عمير].
وهو صدوق يخطئ، أخرج حديثه أصحاب السنن الأربعة.
[عن عائشة].
وقد مر ذكرها.
وأما أمه وخالته فليستا من الرواة لأنه ذهب معهن، وإحداهن سألت، فهو يروي عن عائشة.(38/8)
شرح حديث: (كان رسول الله إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيفرغ بيمينه على شماله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن حرب الواشحي ومسدد قالا: حدثنا حماد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة قال سليمان: يبدأ فيفرغ بيمينه على شماله، وقال مسدد: غسل يديه يصب الإناء على يده اليمنى، ثم اتفقا، فيغسل فرجه، وقال: مسدد: يفرغ على شماله، وربما كنّت عن الفرج، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يدخل يديه في الإناء فيخلل شعره، حتى إذا رأى أنه قد أصاب البشرة أو أن أنقى البشرة، أفرغ على رأسه ثلاثاً، فإذا فضل فضلة صبها عليه.
] أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة، قال - سليمان، وهو ابن حرب -: يبدأ فيفرغ بيمينه على شماله، أي: يمسك الإناء باليد اليمنى، ويفرغ على الشمال، ثم يستعمله.
وقال: مسدد: غسل يديه يصب الإناء على يده اليمنى، أي: أنه يمسك بشماله ويصب الماء على اليمنى، عكس الأول.
يعني اختلفا هل يبدأ يصب على الشمال، أو على اليمين؟ ثم بعد ذلك يغسل فرجه بيده اليسرى.
قوله: [وربما كنّت عن الفرج] يعني: أنه يغسل الفرج، يعني أحياناً يأتي التصريح، وأحياناً تأتي التكنية.
قوله: [ثم يتوضأ وضوءه للصلاة] يعني: بعدما يغسل يديه وفرجه يتوضأ وضوءه للصلاة، فهو أولاً يغسل يديه لتكونا نظيفتين عند استعمالهم الماء، ويغسل فرجه وما أصابه من الجنابة، ثم بعد ذلك يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يكمل بإفراغ الماء على جسده.
قوله: [ثم يدخل يديه في الإناء، فيخلل شعره] يعني: شعر رأسه ولحيته، بحيث يصل الماء إلى أصول الشعر.
قوله: [حتى إذا رأى أنه قد أصاب البشرة أو أنقى البشرة أفرغ على رأسه ثلاثاً] يعني: بعد أن يخلل شعره ولحيته يفرغ الماء على رأسه ثلاثاً.
قوله: [فإذا فضل فضلة صبها عليه] يعني: على جسده، أي: بعد أن يكون قد استكمل الغسل، فإذا فضل فضلة يصبها عليه.(38/9)
تراجم رجال إسناد حديث: (كان رسول الله إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيفرغ بيمينه على شماله)
قوله: [حدثنا سليمان بن حرب الواشحي].
سليمان بن حرب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ومسدد].
ثقة أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن زيد؛ لأن مسدد يروي عن حماد بن زيد، وحماد بن زيد ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام بن عروة].
هشام بن عروة، وهو ثقة ربما دلس، وأخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبو هو عروة بن الزبير، ثقة من فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
وقد مر ذكرها.(38/10)
شرح حديث: (كان رسول الله إذا أراد أن يغتسل من الجنابة بدأ بكفيه فغسلهما)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عمرو بن علي الباهلي حدثنا محمد بن أبي عدي حدثنا سعيد عن أبي معشر عن النخعي عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يغتسل من الجنابة بدأ بكفيه، فغسلهما ثم غسل مرافغه، وأفاض عليه الماء، فإذا أنقاهما أهوى بهما إلى حائط، ثم يستقبل الوضوء، ويفيض الماء على رأسه)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث عائشة من طريق أخرى، وفيها أنه كان يغسل يديه أولاً قبل أن يبدأ الوضوء والغسل، ثم بعد ذلك يغسل مرافغه وهي المغابن التي قد لا يصل إليها الماء، والتي يتجمع فيها الأوساخ، مثل أصول الفخذين، وقيل: إن عائشة تعني بالمرافغ الفرج وما حوله من أصول الفخذين، والتي تحتاج إلى أن يوصل إليها الماء؛ لأنها تكون في مكان يصتك عليه اللحم، فيحتاج إلى أن يوصل إليه الماء، وقيل: إن العبارة التي مضت: (وربما كنت عن الفرج) هي المرافغ هنا.
قوله: [(فإذا أنقاهما أهوى بهما إلى حائط)].
يعني: أنه غسل فرجه وما حوله، فإذا أنقى تلك الأماكن يغسل يديه، ويهوي بهما إلى الحائط؛ حتى يزول ما قد علق بهما، وهذا مثل ما مر في بعض الروايات: (أنه كان يضرب بيده على الأرض عندما يستنجي؛ حتى يزول الأثر الذي قد علق باليدين).
قوله: [(ثم يستقبل الوضوء)].
يعني: يتوضأ بعدما يغسل فرجه وما حوله، ويغسل آثار الجماع التي علقت بجسده وينقي يديه، وبعد ذلك يستقبل وضوءه بأن يتوضأ وضوءه للصلاة، ويفيض الماء على سائر جسده.(38/11)
تراجم رجال إسناد حديث: (كان رسول الله إذا أراد أن يغتسل من الجنابة بدأ بكفيه فغسلهما)
قوله: [حدثنا عمرو بن علي الباهلي].
عمرو بن علي الباهلي هو الفلاس، وهو ثقة من أئمة الجرح والتعديل، وكثيراً ما يأتي ذكره في كتب الرجال: وثقه الفلاس، ضعفه الفلاس، قال فيه الفلاس كذا، وهو ثقة ناقد، وهو من شيوخ أصحاب الكتب الستة، مثل محمد بن المثنى، ومحمد بن بشار، ويعقوب بن إبراهيم الدورقي، فهؤلاء من شيوخ أصحاب الكتب الستة، ورووا عنهم جميعاً مباشرة بدون واسطة.
[حدثنا محمد بن أبي عدي].
هو محمد بن إبراهيم بن أبي عدي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سعيد].
هو سعيد بن أبي عروبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي معشر].
هو زياد بن كليب، ثقة أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.(38/12)
من فقه إبراهيم النخعي
[عن النخعي].
هو إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي، ثقة فقيه، أحد الفقهاء المشهورين المعروفين، وكلامه في الفقه كثير، ولهذا يأتي باسمه إبراهيم كثيراً عندما يروي عن أهل الكوفة مثل الأسود أو عبد الرحمن بن الأسود أو أبي وائل، ويأتي ذكره بـ النخعي قليلاً، ويأتي كثيراً إبراهيم النخعي أو إبراهيم بدون ذكر النخعي، وهو ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
ذكر ابن القيم في زاد المعاد أنه أول من عبر بعبارة: ما لا نفس له سائلة لا ينجس الماء إذا مات فيه، ويقصد بذلك الدواب التي لا دم فيها مثل الجراد والذباب ونحوها، والتي إذا ماتت لا تنجس الماء.
يقول ابن القيم: أول من عرف عنه في الإسلام أنه عبر بهذه العبارة وما لا نفس له سائلة لا ينجس الماء إذا مات فيه إبراهيم النخعي، وعنه تلقاها الفقهاء من بعده، ذكر هذا ابن القيم عند ذكر حديث الذباب وغمسه في الماء إذا وقع فيه، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر بغمسه، وقال: (إن في أحد جناحيه داء، وفي الآخر شفاء)، فأمر أن يغمس وأن يستعمل الماء، قال: إن العلماء استدلوا من غمسه -مع أن الماء قد يكون حاراً فيموت بسبب الغمس- أن موته في الماء لا ينجسه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشد إلى كونه يستعمل ولا يتلف، قالوا: فهذا فيه دليل على أن ما لا نفس له سائلة لا ينجس الماء إذا مات فيه، والمراد بالنفس هنا: الدم؛ لأن النفس تأتي بعدة معان منها الدم، والروح تطلق على النفس التي بها حياة الإنسان، والروح مخلوق إذا نفخ في الإنسان صار حياً، وإذا نزع من الإنسان صار ميتاً، وعندما يذكرون الفرق بين النفس والروح فيطلقان جميعاً على ما يكون به حياة الإنسان، وتطلق النفس على الدم بخلاف الروح، والروح تطلق على أمور لا تطلق عليها النفس مثل الوحي، ومثل جبريل، فإنه يطلق عليه روح، ويطلق على الوحي أنه روح كما قال الله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى:52] وهو الوحي، فهو روح؛ لأن بالوحي حياة القلوب.
فالحاصل أن إبراهيم النخعي هو أول من عبر بهذه العبارة كما قال ابن القيم، ولكنه في كتاب الروح لما ذكر الفرق بين النفس والروح قال: وفي الحديث: (ما لا نفس له سائلة لا ينجس الماء إذا مات)، وليس في ذلك حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن القيم نفسه قال: إبراهيم النخعي هو أول من عبر بهذه العبارة! فهذا يبين لنا أن كلامه في الروح قديم، وأن كتابته لزاد المعاد الذي نسب فيه هذه العبارة لـ إبراهيم النخعي متأخر، وفيه من التحقيق ما يكن عنده من قبل، ولهذا يذكر في كتاب الروح أموراً غريبة يتعجب من ابن القيم كيف يذكرها من أحوال الأموات وما إلى ذلك من الأشياء.
[عن الأسود].
هو الأسود بن يزيد بن قيس النخعي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة مر ذكرها.(38/13)
شرح حديث: (لئن شئتم لأرينكم أثر يد رسول الله في الحائط حيث كان يغتسل من الجنابة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن شوكر حدثنا هشيم عن عروة الهمداني حدثنا الشعبي قال: قالت عائشة رضي الله عنها: (لئن شئتم لأرينكم أثر يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحائط حيث كان يغتسل من الجنابة)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث عائشة قالت: (لئن شئتم لأرينكم أثر يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحائط حيث كان يغتسل من الجنابة) وسبق أن مر في الحديث أنه كان يضرب يده بالجدار؛ حتى ينقي يده من أثر غسل فرجه وما حوله.
(لئن شئتم لأرينكم أثر يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحائط حين يغتسل من الجنابة) حيث كان يضرب يديه على الجدار لتنقية يديه بعد غسله فرجه وقبل بدئه للوضوء، وقد كان ذلك الأثر موجوداً في ذلك الوقت، لكن الحديث فيه ضعف.(38/14)
تراجم رجال إسناد حديث: (لئن شئتم لأرينكم أثر يد رسول الله في الحائط حيث كان يغتسل من الجنابة)
قوله: [حدثنا الحسن بن شوكر].
الحسن بن شوكر صدوق، أخرجه له أبو داود وحده.
[حدثنا هشيم].
هو هشيم بن بشير الواسطي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة الهمداني].
هو عروة بن الحارث الهمداني ثقة أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا الشعبي].
هو عامر بن شراحيل الشعبي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو فقيه، وهو الذي اشتهرت عنه العبارة المشهورة التي ذكرها شيخ الإسلام في أول منهاج السنة في بيان خبث الرافضة وسوء معتقدهم حيث قال: إن اليهود والنصارى فضلوا الرافضة بخصلة، إذا قيل لليهود: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب موسى، وإذا قيل للنصارى: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب عيسى، وإذا قيل للرافضة: من شر أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب محمد! هذه العبارة التي عبر بها الشعبي رحمه الله قد قالها بعض الرافضة في شعر له يذم فيها الصحابة، ويذم الخلفاء الراشدين أبا بكر وعمر وعثمان وكبار الصحابة وصغارهم، وكان من جملة ما قال: أهم خير أمة أخرجت للناس هيهات ذاك بل أشقاها وهذا استفهام استنكار، يعني: بعيد أن يكونوا خير أمة أخرجت للناس، بل هم أشقى أمة أخرجت للناس، وهي قصيدة طويلة تبلغ أربعمائة أو خمسمائة بيت، وقد ذكر محمود الملاح جملة من أبياتها، ومنها هذا البيت، وتكلم عليها وبين ما عند الرافضة من الباطل، ومن جملة ما ذكره في بيت من الأبيات: أن سورة براءة خلت من البسملة دون سور القرآن كلها؛ لأن أبا بكر ذكر فيها، حيث قال الله عز وجل: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]! فهذا الكلام الذي قاله الشعبي رحمة الله عليه من قديم قاله بعض الرافضة الذين جاءوا بعد ذلك بمئات السنين، وهذا الرافضي الخبيث ما أدري هل هو من القرن التاسع أو القرن الثامن، أعني: صاحب القصيدة التي قال فيها هذا البيت: أهم خير أمة أخرجت للناس هيهات ذاك بل أشقاها وقد ذكر لي بعض من المشايخ أنه سمع رافضياً يقول مثل هذه العبارة، قال: الصحابة هم أسوء هذه الأمة! {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة:118].
[قالت عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق وقد مر ذكرها.
والحديث فيه انقطاع بين الشعبي وعائشة، فهو لم يسمع من عائشة، وعلى هذا فيكون السند منقطعاً.
أيضاً هشيم مدلس، وهو يروي عن عروة بالعنعنة، وهشيم مدلس مثل به العراقي في ألفيته حيث قال: وفي الصحيح عدة كـ الأعمش وكـ هشيم بعده وفتش.(38/15)
شرح حديث: (وضعت للنبي غسلاً يغتسل به من الجنابة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد بن مسرهد حدثنا عبد الله بن داود عن الأعمش عن سالم عن كريب حدثنا ابن عباس عن خالته ميمونة رضي الله عنها قالت: (وضعت للنبي صلى الله عليه وسلم غسلاً يغتسل به من الجنابة، فأكفأ الإناء على يده اليمنى، فغسلها مرتين أو ثلاثاً، ثم صب على فرجه فغسل فرجه بشماله، ثم ضرب بيده الأرض فغسلها، ثم تمضمض واستنشق وغسل وجهه ويديه، ثم صب على رأسه وجسده، ثم تنحى ناحية فغسل رجليه، فناولته المنديل فلم يأخذه، وجعل ينفض الماء عن جسده)، وذكرت ذلك لـ إبراهيم فقال: كانوا لا يرون بالمنديل بأساً، ولكن كانوا يكرهون العادة.
قال أبو داود: قال مسدد: قلت لـ عبد الله بن داود: أكانوا يكرهونه للعادة؟ فقال: هكذا هو، ولكن وجدته في كتابي هكذا].(38/16)
صفة غسل الجنابة
هذه الترجمة في غسل الجنابة، وقد مرت جملة من الأحاديث المتعلقة بغسل الجنابة، وفيها ما هو مختصر، وفيها ما هو مطول، وبعض الأحاديث تقتصر على ذكر بعض أجزاء الإنسان كغسل الرأس أو الصب على الرأس، وبعضها يذكر الكيفية، وهي أنه يغسل يديه أولاً ثم يغسل فرجه وما حوله، وكل ما أصابه من أثر الجماع، ويضرب يده بالأرض أو بالجدار لينظفها، ثم بعد ذلك يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم بعد ذلك يصب الماء على شق رأسه الأيمن ثم شقه الأيسر، ثم يفيض الماء على سائر جسده بحيث يصل الماء إلى كل جزء من أجزاء الإنسان، لاسيما الأماكن التي قد لا يصلها الماء، وهي المغابن مثل الآباط وأصول الفخذين؛ حتى يتحقق الإنسان أنه أوصل الماء إلى سائر جسده، وهذه هي كيفية الغسل الكامل.
وإذا كان الغسل للجنابة ونوى به رفع الحدث الأكبر والأصغر وأفاض الماء على جسده جميعاً وإن لم يتوضأ قبله؛ فإنه يرتفع الحدثان الأكبر والأصغر، ولكن الأغسال الأخرى التي للتبرد أو للجمعة لا يرتفع بها الحدث الأصغر ولو نوى رفع الحدث الأصغر، وإنما ذلك خاص في الغسل من الجنابة، فالغسل من الجنابة فقط هو الذي يرتفع به الحدث الأكبر والحدث الأصغر، وأما غسل الجمعة وغسل التبرد فلا يرتفع به الحدث الأصغر، فلا يكفي أن يفيض الإنسان الماء على جسده وينوي رفع الحدث الأصغر، بل لابد أن يتوضأ لذلك، إما قبل الاغتسال وإما بعد الاغتسال، وإذا توضأ قبل الاغتسال ثم بعد ذلك لمس ذكره فإن عليه أن يعيد الوضوء؛ لأن مس الذكر والفرج ينقض الوضوء، وأما الجنابة إذا غسل فرجه أولاً وتوضأ واغتسل بأن أفاض الماء على سائر جسده فإنه بذلك يرتفع منه الحدث الأكبر والأصغر، حتى وإن لم يتوضأ ولكنه نوى بالاغتسال رفع الحدث الأكبر والأصغر، فإن ذلك يجزئ ويكفي، لكن بشرط ألا يمس ذكره عند الاغتسال أو بعده؛ لأن مس الذكر ينقض الوضوء.
أورد أبو داود حديث ميمونة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وهي ميمونة بنت الحارث الهلالية خالة ابن عباس، وهو (أنها وضعت غسلاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأفرغ على يده اليمنى وغسل يديه، ثم غسل فرجه وما حوله، وضرب بيده الأرض) يعني: ليحصل نقاؤها من آثار ما علق بها عند غسل الفرج (ثم تمضمض واستنشق وغسل وجهه ويديه، ومسح على رأسه، ثم بعد ذلك تنحى وغسل رجليه) وغسل الرجلين يمكن أن يكون قبل الاغتسال ويمكن أن يكون بعده، ويكون بعد الاغتسال إذا كان في الأرض تراب أو نحوه، فكونه يغسل رجليه في الآخر أنسب لتنظيفهما مما علق بهما.
والحاصل: أن غسل الرجلين يكون قبل الاغتسال في آخر الوضوء، ويمكن أن يؤخر إلى ما بعد الاغتسال، وكل ذلك جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث فيه بيان كيفية الغسل، وهو مشتمل على الوضوء، وفيه ذكر المضمضة والاستنشاق في الوضوء، ولابد منهما كذلك في الاغتسال، وإذا اغتسل الإنسان للجنابة من غير أن يتوضأ فعليه أن يتمضمض ويستنشق؛ لأن المضمضة والاستنشاق لها حكم الوجه.
قوله: [عن خالته ميمونة رضي الله عنها قالت: (وضعت للنبي صلى الله عليه وسلم غسلاً يغتسل)].
(غسلاً) يعني: ماء يغتسل به.
قوله: [(يغتسل من الجنابة فأكفأ الإناء على يده اليمنى فغسلها مرتين أو ثلاثاً)].
من المعلوم أن الغسل يكون لليدين وليس لليد الواحدة، فهو أكفأ على اليد اليمنى ثم غسل يديه.
قوله: [(ثم صب على فرجه فغسل فرجه بشماله، ثم ضرب بيده الأرض فغسلها، ثم تمضمض واستنشق وغسل وجهه ويديه، ثم صب على رأسه وجسده، ثم تنحى ناحية فغسل رجليه)].
وفي هذا غسل الرجلين بعد الاغتسال.(38/17)
حكم استعمال المنديل للتنشيف
قوله: [(فناولته المنديل فلم يأخذه)].
تقول ميمونة رضي الله عنها: (فناولته المنديل -أي: ليتنشف به- فلم يأخذه، وجعل ينفض الماء عن جسده صلى الله عليه وسلم)، وهذا لا يدل على أن المنديل لا يستعمل أو أن الإنسان لا يتنشف، فللإنسان أن يتنشف بعد الوضوء وبعد الغسل، وما جاء في هذا الحديث من كونه لم يأخذه لا يدل على منعه ولا كراهيته، فلعله كان مستعجلاً، وقد جاء في بعض الأحاديث أنه (مسح بجبة كانت عليه بعدما توضأ) صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
إذاً: التنشيف لا بأس به، وعدم أخذ النبي صلى الله عليه وسلم للمنديل لما ناولته إياه لا يدل على الكراهية والمنع، فلعله كان في تلك الحالة مستعجلاً، أو أن الخرقة لم تعجبه، أو لأي أمر من الأمور.
قوله: [فذكرت ذلك لـ إبراهيم].
يقول الأعمش: ذكرت لـ إبراهيم النخعي، ما يتعلق بكونه أعطي المنديل ولم يأخذه.
قوله: [فقال: كانوا لا يرون بالمنديل بأساً، ولكن كانوا يكرهون العادة].
هذه حكاية عن السلف وعن العلماء أنهم كانوا لا يرون بالمنديل بأساً، وكون الإنسان يتنشف، ولكن كانوا يكرهونه للعادة، يعني: كونه يتخذ عادة بحيث يكون كأنه سنة لا تترك، ويذكر بعض العلماء: أن الشيء الذي يكون سائغاً أو مستحباً ينبغي أن يترك في بعض الأحيان حتى لا يعتقد أنه واجب أو أنه سنة إذا لم يكن واجباً، مثل قولهم: تكره المداومة على قراءة [السجدة:1] و {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ} [الإنسان:1] فجر يوم الجمعة لئلا يعتقد الناس أن هذا لازم ولابد منه، فيترك المستحب في بعض الأحيان حتى لا يتخذ عادة دائماً وأبداً بحيث لا يترك ويعتقد أنه مطلوب دائماً وأبداً، فهنا حكاية عن السلف وعن العلماء أنهم كانوا لا يرون بالمنديل بأساً، وهذا من جنس قول إبراهيم النخعي الذي حكاه الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتاب التوحيد: كانوا يضربوننا على اليمين والعهد ونحن صغار، يعني: يعظمون شأن اليمين والعهد، فيضربونهم عليهما حتى لا يستهينون بذلك ولا يستسهلونه، وهي حكاية عما كانوا يؤدبون به أولادهم.
[قال أبو داود: قال مسدد: قلت لـ عبد الله بن داود: وكانوا يكرهونه للعادة؟ فقال: هكذا هو، ولكن وجدته في كتابي هكذا].
ثم قال أبو داود: قال مسدد -وهو شيخه-: قلت لـ عبد الله بن داود -وهو شيخ مسدد في الإسناد عبد الله بن داود الخريبي -: كانوا يكرهونه للعادة؟ يعني: يريد أن يستفهم، قال: هكذا هو، يعني: هكذا حفظ، وهكذا وجده في كتابه.(38/18)
تراجم إسناد رجال حديث: (وضعت للنبي غسلاً يغتسل به من الجنابة)
[حدثنا مسدد بن مسرهد].
مسدد بن مسرهد ثقة أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا عبد الله بن داود].
هو عبد الله بن داود الخريبي ثقة أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سالم].
هو سالم بن أبي الجعد ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن كريب].
هو كريب مولى ابن عباس وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[عن خالته ميمونة].
هي ميمونة بنت الحارث الهلالية خالته؛ لأن ابن عباس أمه لبابة بنت الحارث الهلالية، وتكنى أم الفضل بأكبر أولاد العباس وهو الفضل، فـ العباس وهو أبو الفضل وزوجته هي أم الفضل وهي لبابة بنت الحارث، وهي أخت ميمونة بنت الحارث، فهو يروي عن خالته ميمونة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنهم أجمعين؛ وحديث ميمونة عند أصحاب الكتب الستة.(38/19)
شرح أثر ابن عباس في صفة غسل الجنابة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حسين بن عيسى الخراساني حدثنا ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن شعبة أنه قال: إن ابن عباس رضي الله عنهما كان إذا اغتسل من الجنابة يفرغ بيده اليمنى على يده اليسرى سبع مرار، ثم يغسل فرجه فنسي مرة كم أفرغ، فسألني: كم أفرغت؟ فقلت: لا أدري، فقال: لا أم لك! وما يمنعك أن تدري؟! ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يفيض على جلده الماء، ثم يقول: هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتطهر].
أورد أبو داود حديث ابن عباس أنه كان إذا اغتسل من الجنابة يفرغ بيده اليمنى على يده اليسرى سبع مرار.
يعني: يغسلها سبع مرات، ثم يغسل فرجه، فنسي مرة كم أفرغ، فسألني: كم أفرغت؟ فقلت: لا أدري، قال: لا أم لك؛ قيل: إنه مدح، وقيل: إنه ذم، وفي الغالب أنه يذكر للذم، ومعناه: أنه كان ينظر إليه، فيعرف كيفية اغتساله؛ لأنهم كانوا ينظر بعضهم إلى بعض، ويعرفون الهيئات والكيفية التي تفعل حتى يأتسوا ويقتدوا، فسأله فقال: لا أدري، يعني ما أدري العدد الذي سبق؛ لأن ابن عباس نسي العدد، وقال له: كم أفرغت؟ يريد أن يتأكد ويتحقق من شعبة فقال: لا أدري، فقال: لا أم لك! وما يمنعك أن تدري؟! قوله: [ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يفيض على جلده الماء، ثم يقول: هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم].
وهذا مخالف لما جاء في الروايات الكثيرة العديدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يزيد على ثلاث مرات، والحديث في إسناده ضعف بسبب شعبة الذي يروي عن ابن عباس، وهو مولى ابن عباس.(38/20)
تراجم رجال إسناد أثر ابن عباس في صفة غسل الجنابة
قوله: [حدثنا حسين بن عيسى الخراساني].
حسين بن عيسى الخراساني صدوق أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا ابن أبي فديك].
هو محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، وهو صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن أبي ذئب].
هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن أبي ذئب ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شعبة].
هو أبو عبد الله شعبة بن دينار، وهو صدوق سيء الحفظ، أخرج حديثه أبو داود وحده.
[قال: إن ابن عباس].
ابن عباس قد مر ذكره.
هذا الحديث ضعيف، ولا يقال عنه: منكر؛ لأنه حديث مستقل، وما روي عن ابن عباس رواة آخرون يخالفه، وهذه الرواية فيها ضعف بسبب الرجل سيء الحفظ.(38/21)
شرح حديث: (كانت الصلاة خمسين والغسل من الجنابة سبع مرار)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا أيوب بن جابر عن عبد الله بن عصم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (كانت الصلاة خمسين، والغسل من الجنابة سبع مرار، وغسل البول من الثوب سبع مرار، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل حتى جعلت الصلاة خمساً، والغسل من الجنابة مرة، وغسل البول من الثوب مرة)].
هذا الحديث ضعيف، أما بالنسبة للصلاة ففي الصحيحين وغيرهما في قصة الإسراء: أن أول ما فرضت الصلاة فرضت خمسين في السماء، ولم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله التخفيف بمشورة موسى عليه الصلاة والسلام وعرضه عليه حتى وصلت خمساً، وقال الله عز وجل: (إنها خمساً في العمل، وخمسون في الأجر)، فخففت من خمسين إلى خمس، أما ذكر السبع مرار في غسل الجنابة، وكذلك في غسل الثوب من النجاسة؛ فهذا غير صحيح وغير ثابت، والحديث ضعيف؛ لأن في إسناده من هو ضعيف.(38/22)
تراجم رجال إسناد حديث: (كانت الصلاة خمسين والغسل من الجنابة سبع مرار)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
هو قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أيوب بن جابر].
ضعيف أخرج له البخاري في جزء القراءة وأبو داود والترمذي.
[عن عبد الله بن عصم].
عبد الله بن عصم صدوق يخطئ حديثه أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن عبد الله بن عمر].
عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما صحابي ابن صحابي، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(38/23)
شرح حديث: (إن تحت كل شعرة جنابة) وتراجم رجال إسناده
[حدثنا نصر بن علي حدثني الحارث بن وجيه حدثنا مالك بن دينار عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن تحت كل شعرة جنابة، فاغسلوا الشعر وأنقوا البشر)].
هذا الحديث ضعيف، والجنب عليه أن يروي جسده كله بالماء، ويروي رأسه وشعره بالماء ويدلكه ويخلل شعره، ولكن كون تحت كل شعرة جنابة غير صحيح، وغير ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: [حدثنا نصر بن علي].
هو نصر بن على بن نصر بن علي الجهضمي فاسمه واسم أبيه يوافق اسم جده وجد أبيه، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني الحارث بن وجيه].
هو الحارث بن وجيه وهو ضعيف، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[حدثنا مالك بن دينار].
مالك بن دينار صدوق أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
[عن محمد بن سيرين].
محمد بن سيرين ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق.
[قال أبو داود: الحارث بن وجيه حديثه منكر وهو ضعيف].
هذا الحديث منكر حيث تفرد به هذا الضعيف.(38/24)
شرح حديث: (من ترك موضع شعرة من جنابة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا عطاء بن السائب عن زاذان عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك موضع شعرة من جنابة لم يغسلها فعل به كذا وكذا من النار) قال علي: فمن ثم عاديت رأسي (ثلاثاً)، وكان يجز شعره].
أورد أبو داود حديث علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك موضع شعرة من جنابة لم يغسلها فعل به كذا وكذا) يعني: عذبه بكذا وكذا وذكر عقوبة، وقد أبهمها وأشار إليها بقوله: (كذا وكذا) دون أن يسميها، يعني: يعاقبه الله بعقوبة كذا وكذا في النار، ومعناه أنه أمر خطير من الكبائر، قال علي رضي الله عنه: فمن ثم عاديت رأسي، يعني: عادى شعر رأسه بحيث أنه كان يجزه ويستمر على جزه حتى لا يحصل منه الإخلال بغسله؛ لأنه توعد عليه بهذا الوعيد الشديد، فكان يجزه دائماً وأبداً.
والحديث ضعيف؛ لأنه من رواية عطاء بن السائب، وهو صدوق اختلط، وحماد بن سلمة روى عنه قبل الاختلاط وبعد الاختلاط، ولم يتميز حديثه الذي قبل الاختلاط عما كان بعده فردت روايته، وحكم حديث المختلط: أن ما تحقق أنه رواه قبل الاختلاط يحتج به؛ لأن الاختلاط طرأ بعد ذلك، وما تحقق أنه بعد الاختلاط فهو مردود لا يحتج به، ومن روى عنه قبل الاختلاط وبعده فإن كان متميزاً فما كان قبل الاختلاط يعمل به، وما كان بعد الاختلاط لا يعمل به، وإن لم يتميز فكله لا يعول عليه؛ لأنه روى عنه قبل الاختلاط وبعده فلم يتميز، وحماد بن سلمة روى عن عطاء بن السائب قبل الاختلاط وبعده، ولم يتميز ما روى عنه قبله وبعده فترد روايته عنه؛ أما حماد بن زيد فإنه روى عنه قبل الاختلاط، ولهذا روايته عن عطاء بن السائب مقبولة ومعتبرة ومحتج بها؛ لأنه روى عنه قبل الاختلاط، فالحديث ضعيف من أجل عطاء بن السائب، ورواية حماد بن سلمة عنه.(38/25)
تراجم رجال إسناد حديث: (من ترك موضع شعرة من جنابة)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي ثقة أخرج له أصحابه الكتب الستة.
وموسى بن إسماعيل التبوذكي هو جد ابن أبي عاصم من جهة أمه، وجده من جهة أبيه هو أبو عاصم، فله جدان ثقتان من جهة أبيه ومن جهة أمه، وأبو عاصم النبيل ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو صاحب كتاب السنة وغيره من الكتب, وهو من شيوخ البخاري، وموسى بن إسماعيل التبوذكي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو من شيوخ البخاري.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن سلمة، وإذا جاء حماد غير منسوب يروي عنه موسى بن إسماعيل فهو ابن سلمة، وهو ثقة أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[أخبرنا عطاء بن السائب].
عطاء بن السائب صدوق اختلط، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن زاذان].
هو زاذان الكندي، وهو صدوق يخطئ، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن علي].
هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه أمير المؤمنين، ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، أبو السبطين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(38/26)
الأسئلة(38/27)
التقليد واتباع المذاهب لغير العالم
السؤال
هل المسلم ملزم باتباع مذهب معين، وإذا استطاع الطالب أن يستعين بأقوال السلف والعلماء لفهم الكتاب والسنة هل عليه ضير؟
الجواب
الإنسان الذي ليس عنده قدرة يقلد إذا لم يجد من يستفتيه ويرجع إليه في معرفة أمور الدين، فيتعلم مذهباً من المذاهب، ويعبد الله عز وجل بها، والله تعالى يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، لكن الإنسان الذي عنده القدرة والتمكن، وعنده الاطلاع الواسع على كتب السنة، والفقه والحديث فلا يلزمه أن يقلد إماماً من الأئمة، وإنما عليه أن يتبع الدليل؛ لأن الله عز وجل يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59].
ويقول الإمام الشافعي رحمة الله عليه: أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد كائناً من كان.
وكل واحد من الأئمة الأربعة جاء عنه التنصيص على أنه إذا وجد له قول يخالف حديثاً صحيحاً فإنه يتبع الدليل ويأخذ بالحديث، ويترك ما جاء عنه من القول الذي خالفه الحديث.
والإمام الشافعي رحمة الله عليه نفسه قد جاء عنه في مسائل متعددة أنه يعلق القول فيها على الصحة، فيرى رأياً خلاف ما جاء به الحديث الذي ما صح عنده، ومع ذلك يعلق القول به على صحته فيقول: إن صح الحديث قلت به، ولهذا يأتي بعض أتباعه كـ البيهقي والنووي وغيرهما في بعض الأحاديث فيقولون: وقد صح الحديث، وهو مذهب الشافعي؛ لأن الشافعي علق القول به على صحة الحديث، فإذاً هو مذهب الشافعي حكماً؛ لأنه علق القول به على صحته.
لكن ليس كل أحد يستطيع أن يرجع إلى الأدلة، ويأخذ بها دون أن يكون عنده علم وبصيرة واطلاع واسع؛ لأن بعض الناس قد يطلع على شيء وهناك شيء أقوى منه، أو هناك ما ينسخه، أو ما يقيده، فعليه أن يرجع إلى كلام العلماء والفقهاء وشراح الحديث والمصادر المختلفة، فليس كل أحد بإمكانه أن يجتهد؛ لأن الذي بإمكانه الاجتهاد هو الذي عنده قدرة واطلاع، وأما أي إنسان يأتي ويقول: أنا أفعل كذا وكذا فهذا لا يصلح ولا ينبغي، ولكن مثل المشايخ الكبار الذين عندهم قدرة ومعرفة واستيعاب مثل الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين ونحوهما هل يقال: يلزمهم أن يقلدوا مذهباً معيناً؟! لا يقال في حقهم ولا في حق غيرهم ممن يكون عنده القدرة مثلهم، أما الإنسان الذي ليس عنده علم وليس عنده معرفة ولا قدرة؛ فإنه يستفتي من عنده علم، ومن لا يجد من يفتيه يتعلم مذهباً من المذاهب، ويتعبد الله تعالى به، والله تعالى يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16].(38/28)
شرح سنن أبي داود [039]
من فضائل أمهات المؤمنين أنهن نقلن للأمة كثيراً من السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم التي لا يطلع عليها إلا نساؤه، مثل صفة غسل الجنابة، فقد وصفن غسله صلى الله عليه وسلم وصفاً دقيقاً، وذكرن كل ما اشتمل عليه من الواجبات والمستحبات، فرضي الله عنهن وأرضاهن.(39/1)
ما جاء في الوضوء بعد الغسل(39/2)
شرح حديث: (كان رسول الله يغتسل ولا أراه يحدث وضوءاً بعد الغسل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الوضوء بعد الغسل.
حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا زهير حدثنا أبو إسحاق عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل ويصلي الركعتين وصلاة الغداة، ولا أراه يحدث وضوءاً بعد الغسل)].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة وهي: [باب في الوضوء بعد الغسل]، يعني: أنه لا يشرع، وليس للإنسان أن يتوضأ بعد الغسل إذا كان توضأ قبله، أو نوى بالاغتسال رفع الحدث الأكبر والأصغر، ولم يمس ذكره في أثناء اغتساله، أما إذا اغتسل ولم ينو رفع الحدث الأصغر وإنما نوى رفع الحدث الأكبر فقط، أو أنه اغتسل ونوى رفع الحدث الأكبر والأصغر ولكنه مس ذكره في أثناء اغتساله، فإن عليه أن يتوضأ بعد ذلك، والأصل أن الإنسان لا يحتاج إلى وضوء بعد الاغتسال، مادام أنه توضأ قبل الاغتسال، أو نوى بالاغتسال رفع الحدث الأكبر والأصغر، لكن إذا لم ينو رفع الحدث الأصغر عند اغتساله أو نواه ولكنه مس ذكره وهو يغتسل؛ فإنه عليه أن يتوضأ؛ لأن مس الذكر ناقض للوضوء؛ وعلى هذا فالوضوء بعد الغسل لا يشرع إلا إذا لم ينو المغتسل رفع الحدث الأصغر عند الاغتسال، أو أنه نوى رفع الحدث الأكبر والأصغر ولكنه مس ذكره، فإنه في هذه الحالة عليه أن يتوضأ بعد ذلك، وإلا فإنه لا يحتاج إلى وضوء.
وقول عائشة رضي الله عنها: (كان صلى الله عليه وسلم يغتسل من الجنابة ويصلي الركعتين وصلاة الغداة) يعني: ركعتي الفجر بعد طلوع الفجر، وصلاة الغداة التي هي صلاة الفجر، وقولها: ولا يحدث وضوءاً يعني: بعد الغسل.(39/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (كان رسول الله يغتسل ولا أراه يحدث وضوءاً بعد الغسل)
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي].
هو عبد الله بن محمد بن علي النفيلي وهو ثقة أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا زهير].
هو زهير بن معاوية وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو إسحاق].
أبو إسحاق هو أبو إسحاق عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأسود].
هو الأسود بن يزيد النخعي وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.
والحديث صححه الألباني وغيره.(39/4)
نقض المرأة لشعرها عند الغسل(39/5)
شرح حديث: (إنما يكفيك أن تحفني عليه ثلاثاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في المرأة هل تنقض شعرها عند الغسل؟ حدثنا زهير بن حرب وابن السرح قالا: حدثنا سفيان بن عيينة عن أيوب بن موسى عن سعيد بن أبي سعيد عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: إن امرأة من المسلمين -وقال زهير: إنها قالت-: (يا رسول الله! إني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه للجنابة؟ قال: إنما يكفيك أن تحفني عليه ثلاثاً) وقال زهير: (تحثي عليه ثلاث حثيات من ماء، ثم تفيضي على سائر جسدك؛ فإذا أنت قد طهرت)].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة وهي: [باب في المرأة هل تنقض شعر رأسها من الجنابة؟] يعني: هل تنقضه إذا كان مشدوداً ومضفراً، أو تغتسل وهو منشور غير مشدود ولا مضفور؟
و
الجواب
أن المرأة لا يلزمها أن تنقض شعرها عند الاغتسال، وإن نشرته فلا بأس بذلك، ولكن كون ذلك واجباً عليها ولازماً لها فلا، بل يكفيها أن تصب على رأسها الماء، ولا يلزمها أن تفكه وتنشره.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث أم سلمة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم (إني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه للجنابة؟) تستأذن وتستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم أتنقضه يعني: هل يلزمها نقضه؟ قال: (إنما يكفيك أن تحفي عليه ثلاثاً) وقال زهير: (تحثي).
يعني: هذا قال: تحفي، وهذا قال: (تحثي عليه ثلاث حثيات من ماء) يعني: تصب عليه ثلاث حثيات من ماء، (ثم تفيضي على سائر جسدك) يعني: بعدما تغسلي رأسك ثلاث مرات، وتصبي عليه ثلاث إفراغات تفيضي الماء على سائر جسدك، (فإذا أنت قد طهرت) يعني: إذا فعلت هذا بأن حثيت على رأسك ثلاث حثيات، وأفضت الماء على سائر الجسد؛ فأنت بذلك تكونين قد طهرت.
والحاصل: أن النبي صلى الله عليه وسلم أفتاها بأنها لا يلزمها نقض شعر رأسها، وإنما يكفيها أن تحثي عليه ثلاث حثيات، وتفيض الماء على سائر جسدها، وبذلك تكون قد طهرت من الجنابة.
قوله: [عن أم سلمة أن امرأة من المسلمين، وقال زهير: أنها قالت].
يعني ابن السرح.
قال: إن امرأة من المسلمين، يعني: أنها كنت عن نفسها بقولها: امرأة من المسلمين، وفي رواية زهير: أن أم سلمة قالت، فالرواية الأولى فيها إبهام السائل، وهكذا كانوا يفعلون، يكني الإنسان عن نفسه، فيقول: إن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابي هو السائل، والمرأة كذلك أحياناً تقول: إن امرأة من المسلمين سألت، وتكون هي نفسها السائلة.
قوله: [قال: (إنما يكفيك أن تحفني عليه ثلاثاً)] اللفظ الأول: تحفني من الحفنات، واللفظ الثاني: تحثي من الحثيات.(39/6)
تراجم رجال إسناد حديث: (إنما يكفيك أن تحفني عليه ثلاثاً)
قوله: [حدثنا زهير بن حرب وابن السرح].
زهير بن حرب هو أبو خيثمة، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي، وقد أكثر عنه الإمام مسلم، روى عنه في صحيحه أكثر من ألف حديث، وأكثر منه أبو بكر بن أبي شيبة، روى عنه مسلم أكثر من ألف وخمسمائة حديث، وكذلك محمد بن رافع هو مكثر عنه، لكنه أقل من هذين بكثير.
وابن السرح هو أحمد بن عمرو بن السرح، ثقة أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا سفيان بن عيينة].
هو سفيان بن عيينة المكي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أيوب بن موسى].
أيوب بن موسى ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن أبي سعيد].
سعيد بن أبي سعيد هو المقبري، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة].
عبد الله بن رافع مولى أم سلمة هو ثقة أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن أم سلمة].
أم سلمة أم المؤمنين هند بنت أبي أمية رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وحديثها عند أصحاب الكتب الستة.(39/7)
شرح حديث: (واغمزي قرونك عند كل حفنة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح حدثنا ابن نافع -يعني: الصائغ - عن أسامة عن المقبري عن أم سلمة رضي الله عنها أن امرأة جاءت إلى أم سلمة بهذا الحديث قالت: فسألت لها النبي صلى الله عليه وسلم -في معناه- قال فيه: (واغمزي قرونك عند كل حفنة)].
أورد أبو داود حديث أم سلمة من طريق أخرى: أن امرأة جاءت إلى أم سلمة بهذا الحديث، ويحتمل أن أم سلمة قالت للرسول صلى الله عليه وسلم: إن امرأة من المسلمين تسأل عن كذا وكذا، ويحتمل أنها هي السائلة، والرسول صلى الله عليه وسلم قال لها: (إنما يكفيك) يخاطب أم سلمة، فيكون الخطاب لـ أم سلمة والجواب لتلك التي أوصتها أن تسأل.
[قالت: فسألت لها النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه، قال فيه: (واغمزي قرونك عند كل حفنة)].
يعني: أنها تحركها حتى يصل الماء إلى داخلها.(39/8)
تراجم رجال إسناد حديث: (واغمزي قرونك عند كل حفنة)
قوله: [حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح حدثنا ابن نافع يعني: الصائغ].
ابن السرح تقدم، وابن نافع هو عبد الله بن نافع الصائغ وهو ثقة صحيح الكتاب في حفظه لين، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أسامة].
هو أسامة بن زيد الليثي صدوق يهم، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن المقبري].
هو سعيد بن أبي سعيد المقبري الذي مر في الإسناد المتقدم، وهناك جاء باسمه، وهنا أتى بنسبته، وهو شخص واحد.
[عن أم سلمة].
تقدم ذكرها.(39/9)
شرح حديث: (كانت إحدانا إذا أصابتها جنابة أخذت ثلاث حفنات)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن أبي بكير حدثنا إبراهيم بن نافع عن الحسن بن مسلم عن صفية بنت شيبة عن عائشة رضي الله عنهما أنها قالت: (كانت إحدانا إذا أصابتها جنابة أخذت ثلاث حفنات هكذا -تعني: بكفيها جميعاً- فتصب على رأسها، وأخذت بيد واحدة فصبتها على هذا الشق والأخرى على الشق الآخر)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كانت إحدانا إذا أصابتها جنابة أخذت ثلاث حفنات هكذا -تعني: بكفيها جميعاً- فتصب على رأسها وأخذت بيد واحدة فصبتها على هذا الشق والأخرى على الشق الآخر) والمقصود: أنهن يكتفين بذلك، وأورده في باب المرأة هل تنقض شعرها أو لا تنفضه؟ لأنه يدل على أنها لا تنقضه، ويكتفين بذلك الفعل الذي يفعلنه.(39/10)
تراجم رجال إسناد حديث: (كانت إحدانا إذا أصابتها جنابة)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا يحيى بن أبي بكير].
يحيى بن أبي بكير ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا إبراهيم بن نافع].
إبراهيم بن نافع وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسن بن مسلم].
هو الحسن بن مسلم بن يناق وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن صفية بنت شيبة].
هو صفية بنت شيبة الحجبية العبدرية، لها رؤية، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وقد مر ذكرها.(39/11)
شرح حديث: (كنا نغتسل وعلينا الضماد ونحن مع رسول الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا نصر بن علي حدثنا عبد الله بن داود عن عمر بن سويد عن عائشة بنت طلحة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كنا نغتسل وعلينا الضماد ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محلات ومحرمات)].
أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها: (كنا نغتسل وعلينا الضماد) المقصود به: الشيء الذي تلبد به المرأة رأسها ليمسكه، فيغتسلن وعليهن الضماد وهن محلات ومحرمات، يعني: وهن في حال إحلالهن وإحرامهن فلا يزلن ذلك التلبيد الذي على رءوسهن، وإنما يفرغن الماء على رءوسهن.
هذه الأحاديث كلها تدل على أن المرأة لا تنقض شعر رأسها عند إرادة الاغتسال.(39/12)
تراجم رجال إسناد حديث: (كنا نغتسل وعلينا الضماد ونحن مع رسول الله)
قوله: [حدثنا نصر بن علي حدثنا عبد الله بن داود عن عمر بن سويد].
مر ذكر نصر بن علي وعبد الله بن داود، وعمر بن سويد ثقة أخرج له أبو داود وحده.
[عن عائشة بنت طلحة].
هي عائشة بنت طلحة بن عبيد الله التيمية أبوها أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وهي ثقة أخرج لها أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين وقد مر ذكرها.(39/13)
شرح حديث: (وأما المرأة فلا عليها أن لا تنقضه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عوف قال: قرأت في أصل إسماعيل بن عياش قال ابن عوف: وحدثنا محمد بن إسماعيل عن أبيه قال: حدثني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد قال: أفتاني جبير بن نفير عن الغسل من الجنابة أن ثوبان رضي الله عنه حدثهم أنهم استفتوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (أما الرجل فينشر رأسه فليغسله حتى يبلغ أصول الشعر، وأما المرأة فلا عليها أن لا تنقضه، لتغرف على رأسها ثلاث غرفات بكفيها)].
أورد أبو داود حديث ثوبان رضي الله عنه، وفيه التفريق بين الرجل والمرأة في نقض الشعر للغسل، فالأصل أن رأس الرجل يكون غير مضفور بل منشور، فعليه عندما يغسله أن يوصل الماء إلى أصوله؛ وأما المرأة فيكفيها أن تحثو عليه ثلاث حثيات، وليس عليها أن تنقضه كما دل عليه هذا الحديث وغيره من الأحاديث المتقدمة.
وهذا فيه بيان أن الرجل يوصل الماء إلى شعره كله لأنه منشور، بخلاف المرأة إذا كان شعرها مضفوراً، فلا يلزمها نقضه وإيصال الماء إليه كله، بل يكفيها أن تصب عليه الماء ثلاثاً، وبذلك وردت الأحاديث المتعددة في هذا الباب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحكم للنساء.
وقد سبق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته وشعر رأسه، وكان يدخل أصابعه حتى يصل إلى البشرة، فهذا كله يتفق مع هذا الحديث الذي فيه أن الرجل يغسل شعره؛ لأنه في الأصل منشور غير مضفور، والمرأة يكفيها أن تصب على شعرها وعلى رأسها ثلاث حثيات أو ثلاث غرفات، وبذلك تكون أدت ما عليها من الغسل.(39/14)
تراجم رجال إسناد حديث: (وأما المرأة فلا عليها أن لا تنقضه)
قوله: [حدثنا محمد بن عوف].
محمد بن عوف ثقة أخرج له أبو داود والنسائي في مسند علي.
[قال: قرأت في أصل إسماعيل بن عياش].
هو إسماعيل بن عياش الحمصي صدوق في روايته عن أهل بلده، مخلط في روايته عن غيرهم، وهنا الراوي عنه يذكر بأنه قرأ في أصله، ومعناه: أنه ما سمع منه، وإنما رأى أصل كتابه وقرأ فيه هذا الإسناد.
وقد أخرج له البخاري في رفع اليدين وأصحاب السنن.
[قال ابن عوف: وحدثنا محمد بن إسماعيل عن أبيه].
ابن عوف روى أولاً عن طريق قراءته في أصل إسماعيل، وهو لم يسمع من إسماعيل، وهي وجادة، ثم روى عن ابنه محمد عن أبيه، فله طريقان.
قال في التقريب محمد بن إسماعيل بن عياش: عيب عليه أنه حدث عن أبيه بغير سماع.
فيكون فيه انقطاع في الإسناد الأول وفي الإسناد الثاني، فالإسناد الأول غير متصل؛ لأنه ما سمع منه، والإسناد الثاني فيه محمد بن إسماعيل وروايته عن أبيه من غير سماع.
[حدثني ضمضم بن زرعة].
ضمضم بن زرعة صدوق يهم أخرج له أبو داود وابن ماجة في التفسير.
[عن شريح بن عبيد].
شريح بن عبيد ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[قال: أفتاني جبير بن نفير].
جبير بن نفير، ثقة أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[أن ثوبان حدثهم].
ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه عند البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.(39/15)
الأسئلة(39/16)
استقبال القبلة عند الغسل
السؤال
ذكر النووي أن من السنة للمغتسل أن يستقبل القبلة ما صحة هذا الكلام؟
الجواب
ما نعلم له أساساً.(39/17)
غسل الجمعة لا يرفع الحدث الأصغر
السؤال
استشكل بعض الإخوان ما ذكرتم من أن الإنسان إذا اغتسل غسل جمعة أو تبرد لا يكفيه عن رفع الحدث الأصغر ولو نوى؟
الجواب
نعم ولو نوى؛ لأن الوضوء لابد من الإتيان به على الترتيب، لكن لو كان عليه الحدث الأكبر ونوى أن يرفع الأصغر مع الأكبر جاز ذلك، وأما غسل الجمعة فليس لرفع حدث، والوضوء لابد فيه من الترتيب، يغسل وجهه، ثم يديه إلى المرفقين، ثم يمسح رأسه، ثم يغسل رجليه؛ فلا يكفي أن يغتسل للتبرد أو للجمعة وينوي رفع الحدث الأصغر؛ لأن رفع الحدث الأصغر يرتفع مع الحدث الأكبر إذا نوى رفعهما، أما هذا فليس فيه رفع حدث وإنما هو فعل شيء للتبرد، أو فعل شيء واجب أو مستحب على خلاف بين العلماء في حكم غسل الجمعة.
أما إذا توضأ قبل غسل الجمعة فلا إشكال، بشرط ألا يلمس ذكره وهو يغتسل.(39/18)
غسل الجنابة يرتفع به الحدث الأصغر
السؤال
ما الدليل على أن غسل الجنابة يرتفع به الحدث الأصغر؟
الجواب
هكذا ذكر العلماء إذا نوى رفعهما؛ لأن كلاً منهما عبادة، ورفع الحدث الأكبر يرفع الحدث الأصغر، فإذا نوى الحدثين، ولم يمس ذكره في حال اغتساله؛ فإنه يرتفع حدثه الأكبر والأصغر.(39/19)
تساوي الرجل والمرأة في المذي
السؤال
هل المرأة تمذي؟
الجواب
لا شك أنها تمذي مثلما الرجل عند تذكر الجماع، والله تعالى أعلم.(39/20)
شرح سنن أبي داود [040]
من رحمة الله تعالى وحكمته أن نهى عن جماع الحائض، فالحيض أذى، وفي جماعها أثناءه أضرار كثيرة عليها وعلى زوجها، ولكن جاءت الرخصة عن النبي عليه الصلاة والسلام في معاشرة الحائض والاستمتاع بها بما دون الجماع مخالفة لليهود.(40/1)
غسل الجنب رأسه بالخطمي(40/2)
شرح حديث: (أن النبي كان يغسل رأسه بالخطمي)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الجنب يغسل رأسه بخطمي أيجزئه ذلك؟ حدثنا محمد بن جعفر بن زياد حدثنا شريك عن قيس بن وهب عن رجل من بني سواءة بن عامر عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه كان يغسل رأسه بالخطمي وهو جنب يجتزئ بذلك ولا يصب عليه الماء)].
يقول الإمام أبو داود رحمه الله باب: [في الجنب يغسل رأسه بخطمي أيجزئه ذلك؟].
الخطمي هو نبات يغسل به الرأس وينظف به الرأس، والمقصود من الترجمة: هل استعمال الخطمي في غسل الجنابة يجزئ دون أن يضاف إليه ماء، هذا فيه تفصيل: الأصل أن الاغتسال يكون بالماء، وإذا أضيف إلى الماء شيء طاهر كالخطمي وغيره، فإن كان يصب عليه ماء بحيث يحصل التنظيف بعد ذلك بالماء، بحيث يكون غسل الرأس بالخطمي وتنظيفه بعد ذلك بالماء حتى يذهب أثره؛ فلا شك أن هذا مجزئ وكاف، وإذا اغتسل أولاً بالماء فقد حصل ارتفاع الجنابة من الإنسان، فإذا أضاف بعد غسله الخطمي فقد حصل الاغتسال قبل أن يأتي بالخطمي، لكن إذا جعل الخطمي في الماء وخلطه به وامتزج به، ثم بعد ذلك اغتسل به فهل يجزئه أو لا يجزئه إذا لم يضاف إليه الماء؟ في ذلك نظر وإشكال، والأحوط للإنسان أن يأتي بالماء حتى تبرأ ذمته، فيغتسل بالماء حتى يجري على سائر الجسد، وحتى يزيل آثار ذلك الذي تنظف به من خطمي أو غيره.
أورد أبو داود هنا حديثاً لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغسل رأسه وهو جنب بالخطمي يجتزئ بذلك) أي: يكتفي بذلك دون أن يضيف إليه ماء أو يصب عليه ماء بعد ذلك، والحديث غير ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن فيه رجلاً مجهولاً، غير معروف.(40/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن النبي كان يغسل رأسه بالخطمي)
قوله: [حدثنا محمد بن جعفر بن زياد].
محمد بن جعفر بن زياد ثقة أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا شريك].
هو شريك بن عبد الله النخعي الكوفي القاضي صدوق يخطئ كثيراً، وحديثه أخرجه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن قيس بن وهب].
قيس بن وهب ثقة أخرج حديثه مسلم وأبو داود وابن ماجة.
[عن رجل من بني سواءة بن عامر].
رجل من بني سواءة بن عامر، وهو مجهول، أخرج حديثه أبو داود وحده.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق، واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(40/4)
ما جاء فيما يفيض بين الرجل والمرأة من الماء(40/5)
شرح حديث: (كان رسول الله يأخذ كفاً من ماء يصب علي الماء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فيما يفيض بين الرجل والمرأة من الماء.
حدثنا محمد بن رافع حدثنا يحيى بن آدم حدثنا شريك عن قيس بن وهب عن رجل من بني سواءة بن عامر عن عائشة رضي الله عنها فيما يفيض بين الرجل والمرأة من الماء قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ كفاً من ماء يصب علي الماء، ثم يأخذ كفاً من ماء ثم يصبه عليه)].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة: [باب فيما يفيض بين الرجل والمرأة من الماء]، قيل: المقصود بهذه الترجمة: ما يفيض بين الرجل والمرأة بسبب التقائهما من الماء الذي هو المني أو المذي الذي يكون نتيجة لاجتماعهما والتقائهما، أي: كيف يغسل وكيف يطهر؟ والحكم في هذا: أن المذي إذا أصاب الثوب يكفي أن يرش بالماء كما سبق أن مر بنا في الحديث: أنه أخذ كفاً من ماء فرشه به، وأما إذا كان منياً على الثوب فالمني طاهر وليس بنجس، وإذا كان المني يابساً فيكفي أن يفرك حتى تذهب هيئته وشكله، لا لأنه نجس وإنما لأن منظره ليس بطيب، ولا ينبغي للمسلم أن يظهر به، وإن كان رطباً غسله، يعني: صب عليه ماء حتى يزيل هيئته وشكله، وإلا فإنه طاهر ليس غسله من أجل التطهير، وإنما من أجل إظهار أو إذهاب المنظر الغير حسن، مثل البصاق في الثوب، هو طاهر لكن منظره غير مستساغ وغير مستحسن، فكونه يغسل حتى يذهب أثره طيب.
إذاً: حكم ما يصير بين الرجل والمرأة نتيجة لالتقائهما من مني حيث يكون الإنزال أو من مذي حيث لا يكون إنزال، فإن المذي نجس، وتطهيره بأن يرش عليه شيء من ماء، والمني طاهر، وهو لا يغسل من أجل التطهر من النجاسة؛ لأنه ليس بنجس، ولكن يغسل من أجل أن يذهب المنظر الذي لا يستساغ ولا ينبغي أن يخرج به الإنسان، هذا هو المقصود من الترجمة فيما يظهر ويبدو.
أورد أبو داود رحمه الله حديثاً ضعيفاً في إسناده ذلك الرجل المجهول في الإسناد السابق، وهو رجل من بني سواءة، تقول عائشة رضي الله عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ كفاً من ماء يصب علي الماء، ثم يأخذ كفاً من ماء ثم يصبه عليه).
في بعض النسخ (عليه) يعني: على الماء الذي يجري بين الرجل والمرأة؛ لأن الماء في الترجمة المقصود به المني أو المذي، وقوله: (أخذ كفاً من ماء) هو الماء الذي يتطهر به، (فيصبه علي ويأخذ كفاً ويصبه عليه)، وعلى نسخة: (علي) تعني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم رش ماء على ثوبها بكف من ماء، ويرش على ما في ثوبه بكف من ماء، وعلى نسخة: (عليه) فالضمير يرجع إلى ذلك الماء الذي هو مذي أو مني: يعني: يصب عليه كفاً من ماء، ثم يأخذ كفاً من ماء فيصبه عليه، فكأنه يكرر ذلك مرتين، والحديث عبارته فيها غموض، لكن هذا هو الذي يتبادر ويظهر من معناها.
والحكم فيما يسيل من المذي والمني من الرجل والمرأة التطهر منه إذا كان مذياً برشه، سواء في ذلك الرجل أو المرأة، وإذا كان منياً فبفركه إن كان يابساً وبغسله إن كان رطباً، حتى يذهب الأثر الذي لا يستحسن الظهور به.(40/6)
تراجم رجال إسناد حديث: (كان رسول الله يأخذ كفاً من ماء يصب علي الماء)
قوله: [حدثنا محمد بن رافع].
هو محمد بن رافع النيسابوري القشيري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا يحيى بن آدم].
يحيى بن آدم ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شريك عن قيس بن وهب عن رجل من بني سواءة عن عائشة].
قد مر ذكر الأربعة.(40/7)
ما جاء في مؤاكلة الحائض ومجامعتها(40/8)
شرح حديث: (جامعوهن في البيوت واصنعوا كل شيء غير النكاح)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في مؤاكلة الحائض ومجامعتها.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن اليهود كانت إذا حاضت منهم المرأة أخرجوها من البيت، ولم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيت؛ فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ) [البقرة:222] إلى آخر الآية، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جامعوهن في البيوت، واصنعوا كل شيء غير النكاح، فقالت اليهود: ما يريد هذا الرجل أن يدع شيئاً من أمرنا إلا خالفنا فيه! فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر رضي الله عنهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله! إن اليهود تقول كذا وكذا أفلا ننكحهن في المحيض؟ فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أن قد وجد عليهما، فخرجا فاستقبلتهما هدية من لبن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث في آثارهما فسقاهما، فظننا أنه لم يجد عليهما)].
أورد أبو داود رحمه الله باباً في مؤاكلة الحائض ومجامعتها، لما فرغ من ذكر الأبواب المتعلقة بغسل الجنابة شرع في ذكر الأبواب المتعلقة بالحيض وأحكام الحيض.
وسبق أن ذكرت عند البدء بأبواب غسل الجنابة: أن أبا داود رحمه الله تعالى جعل ما يتعلق بالطهارة كتاباً واحداً، فقال في أوله: كتاب الطهارة، وأتى بكل ما يتعلق بالطهارة تحت كتاب واحد، ثم أتى بكتاب الصلاة، والبخاري في صحيحه لم يأت بكتاب اسمه كتاب الطهارة، ولكنه أتى بأربعة كتب متفرقة يشملها كتاب الطهارة، فأتى بكتاب الوضوء، ثم أتى بكتاب غسل الجنابة، ثم أتى بكتاب الحيض، ثم أتى بكتاب التيمم، ثم بعده كتاب الصلاة، ولا مشاحة، وكل ذلك مستقيم، إن جمعت في كتاب واحد فيشملها الطهارة؛ لأنها طهارة صغرى وطهارة كبرى، طهارة كبرى تشمل الطهارة من الحيض، وتشمل التيمم الذي يقوم مقام الماء عند فقده، أو عند عدم القدرة على استعماله في الطهارة.
ولما فرغ أبو داود رحمه الله من الأبواب المتعلقة بغسل الجنابة بدأ بالأبواب المتعلقة بالحيض، وبدأ بمؤاكلة الحائض ومجامعتها، والمقصود بالمجامعة غير الجماع، فالمجامعة هي: الاجتماع والمصاحبة والمخالطة، فيذكر الاتصال بها، ويراد به مؤاكلتها ومشاربتها ومجالستها ومضاجعتها، وهذا يقال له مجامعة، وليس المقصود بالمجامعة الجماع؛ لأن الجماع ممنوع في الحيض، ولهذا قال في نفس الحديث: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح).
وقوله: (جامعوهن في البيوت) يعني: خالطوهن، فقوله: المواكلة يعني: كونه يأكل ويشرب معها، ويخالطها، وقوله: يجامعها بمعنى أنه يلتقي بها، ويحتك بها، وتمس بشرته بشرتها، ويفعل كل شيء إلا الجماع.
أورد أبو داود رحمه الله حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أن اليهود كان عندهم أن الحائض إذا حاضت أخرجوها من البيت أو اعتزلوها فلم يخالطوها، وأجاز الإسلام مخالطتها ومؤاكلتها ومشاربتها ومضاجعتها، وأباح منها كل شيء إلا الجماع كما قال الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة:222]، فبين الإسلام أن هذا الذي يفعله اليهود لا يفعل، بل تخالط المرأة، ويجتمع بها، وتضاجع، وتباشر، قال عليه الصلاة والسلام: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح)، فلما بلغ اليهود ما أرشد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من مجامعة النساء ومخالطتهن، وعدم مفارقتهن قالوا: ما يريد هذا الرجل إلا أن يخالفنا في كل شيء! يعني: إذا رآنا نعمل شيئاً أمر بخلافه، وأرشد إلى خلافه، فهو يحرص على أن يخالفنا في كل شيء، فجاء عباد بن بشر وأسيد بن حضير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبراه أن اليهود قالوا: كذا وكذا، أفلا ننكحهن؟ يعني: من أجل المبالغة في مخالفة اليهود؛ لأننا خالفناهم في كونهم لا يخالطوهن، ونحن نخالط ونضاجع ونؤاكل ونشارب، ونفعل كل شيء إلا النكاح -الجماع- أفلا ننكحهن؟ فعند ذلك غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن المخالفة لا تكون في معصية، وقد كانوا في زمن التشريع، والوحي ينزل، فيمكن أن يكون هناك نص، فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: ظهر عليه الغضب، قال الصحابة: حتى ظننا أنه وجد عليهما، يعني: أن في قلبه شيئاً عليهما.
ثم قاما وخرجا، فجيء بهدية للرسول صلى الله عليه وسلم وهي لبن، فأرسل في أثرهما، وجاءا وسقاهما من ذلك اللبن، قالوا: فظننا أنه لم يجد عليهما، يعني: ما دام أنه دعاهما وأسقاهما، وأشركهما في هذه الهدية، وهذا يدل على أن الغضب الذي كان قد زال، وأنه ليس في نفسه عليهما شيء.
هذا الحديث فيه بيان ما كان عليه اليهود من التشدد، ومن مجانبة النساء في حال الحيض، والابتعاد عنهن، ويقابلهم النصارى الذين يجامعوهن في حال حيضهن، فالإسلام وسط بين هؤلاء وهؤلاء، لا جماع ولا اعتزال، لا مجانبة ومباعدة ومفارقة، وإنما اجتماع واختلاط ومؤاكلة ومشاربة ومؤانسة إلا النكاح، فالنصارى زادوا حتى بلغوا إلى أنهم ينكحونهن ويجامعونهن في حال حيضهن، فالإسلام وسط بين هؤلاء وهؤلاء.
قوله: [عن أنس رضي الله عنه: أن اليهود كانت إذا حاضت منهم المرأة أخرجوها من البيت، ولم يؤاكلها، ولم يشاربوها، ولم يجامعوها في البيت] معنى (يجامعوها) يعني: يخالطوها في البيت، وليست القضية قضية الجماع الذي هو النكاح، بل أكثر من هذا، فحتى المجالسة لا يجالسون الحائض، وكأن فيها وباء معدياً.
قوله: [وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222]].
وهذا فيه بيان سبب النزول، وهو أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يفعله اليهود، فأنزل الله: (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى).
قوله: [فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جامعوهن في البيوت، واصنعوا كل شيء غير النكاح)].
(جامعوهن في البيوت) يعني: خالطوهن في البيوت، ولا تفارقوهن ولا تعتزلوهن، واصنعوا كل شيء إلا النكاح، بل للزوج أن يتمتع بها في غير فرجها، فالأذى يجتنبه، وغير ذلك سائغ له، لكن الذي يخشى أن يقع في المحرم فعليه أن يبتعد عن المكان، فيستمتع بما فوق الإزار.
قوله: [(وقالت اليهود: ما يريد هذا أن يدع شيئاً من أمرنا إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله! إن اليهود تقول: كذا وكذا، أفلا ننكحهن في المحيض؟ فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أن قد وجد عليهما)].
(قد وجد عليهما) يعني: غضب، من الموجدة، وهي: الغضب، وقالوا: إن كلمة (وجَد) تتفق في الماضي والمضارع، ولكنها تختلف في المصدر في أمور متعددة، يقال: وجَد من الغضب موجِدة يعني: غضب، ووجَد مطلوبه وجوداً، فالمصدر هنا وجوداً، وفي الضالة يقال: وجد ضالته وجداناً، وإذا كان من الغنى يقال: وجد يجد جِدة بمعنى: استغنى، فهي ألفاظ تتفق في الماضي والمضارع، ولكنها تختلف في المصادر باختلاف المعاني، هذه فائدة ذكرها الحافظ ابن حجر في فتح الباري، وأنا أشرت إليها في الفوائد المنتقاة من فتح الباري فيما يتعلق بالفوائد اللغوية.
قوله: [(فخرجا فاستقبلتهما هدية من لبن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث في آثارهما)].
(فاستقبلتهما) يعني: هما خارجان والهدية أقبل بها صاحبها، وحصل التلاقي بين اللذان خرجا من عند رسول صلى الله عليه وسلم وبين الذي جاء بالهدية، فلما دخل صاحب الهدية أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثرهما، ولما رجعا سقاهما، وهذا فيه بيان أن ما في نفسه عليهما قد زال، ولهذا قالوا: إن ظن الأولى جاءت على بابها وهو غير اليقين، وظن الأخيرة جاءت بمعنى اليقين، والظن يأتي لليقين ولما دون اليقين للشك وللتردد في الشيء وعدم الجزم به، فمثال مجيء ظن بمعنى استيقن: قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ} [البقرة:46] يعني: يستيقنون ويعتقدون أنهم ملاقو ربهم، فهنا الظن بمعنى اليقين، ويأتي بمعنى الشك أو التردد الذي هو غير يقين، مثاله قوله هنا: حتى ظننا أنه وجد عليهما، ولما ردهما وأعطاهما من اللبن وسقاهما تيقنوا أنه ليس في نفسه عليهما شيء.(40/9)
تراجم رجال إسناد حديث (جامعوهن في البيوت واصنعوا كل شيء غير النكاح)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو ابن سلمة ثقة أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا ثابت البناني].
هو ثابت بن أسلم البناني ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
هو أنس بن مالك رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا الحديث إسناده رباعي، وأعلى الأسانيد عند أبي داود الرباعيات، وهذا منه، ففيه موسى بن إسماعيل وحماد بن سلمة وثابت البناني وأنس بن مالك، وهذا الحديث مسلسل بأهل البصرة؛ لأن هؤلاء الأربعة من أهل البصرة.
أيضاً: الإسناد مسلسل برجال الكتب الستة، موسى بن إسماعيل التبوذكي، وحماد بن سلمة، وثابت البناني، وأنس بن مالك.
[وقول الله جل وعلا: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة:222] أي: شيء مستقذر، فهو دم خبيث وأذى، وفيه مضرة، {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222] يعني: ما دام هذا الأذى موجوداً، وليس المقصود أن كل حائض تتأذى من الجماع، لكن نفس الدم الذي في فرجها أذى، فلا تجوز المجامعة، ولا شك أنها تتأذى بالجماع أيضاً، ويحصل لها ضرر، لكن المقصود أن دم الحيض هو نفسه أذى؛ لأنه دم نجس، والأذى هنا بمعنى القذر والنجاسة، وقد يكون الأذى بمعنى الألم، فالكلمة قد تحتمل عدة معان كلها يمكن أن تعتبر.
هذا والرسول صلى الله عليه وسلم وافق اليهود في أشياء، بل وافق الكفار الذين كانوا يعبدون الأوثان ولا ينتمون إلى دين في أشياء، يعني: أقرها الإسلام، مثل المضاربة فقد كانت من أعمال الجاهلية وأقرها الإسلام، ومثل الولي في النكاح كان معتبراً في الجاهلية وأقره الإسلام، فتوجد أشياء من أعمال الجاهلية، أو من أعمال اليهود والنصارى أقرها الإسلام، لكن الشيء الذي يكون من خصائصهم فإن الإسلام ينهى عنه وعن التشبه بهم فيما هو من خصائصهم.(40/10)
شرح حديث (كنت أتعرق العظم وأنا حائض فأعطيه النبي)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد، حدثنا عبد الله بن داود عن مسعر عن المقدام بن شريح عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كنت أتعرق العظم وأنا حائض، فأعطيه النبي صلى الله عليه وسلم، فيضع فمه في الموضع الذي فيه وضعته، وأشرب الشراب فأناوله، فيضع فمه في الموضع الذي كنت أشرب منه)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث عائشة رضي الله عنها أنها (كانت تتعرق العظم)، يعني: تأخذ العظم الذي عليه بقية لحم ليس بكثير، بحيث إن الإنسان يأكل وينتهي منه، ولا يعيده إلى الصحن أو على الصماط، وإنما إذا أراد أن يتعرق فإنه يخفف اللحم الذي عليه حتى لا يفسده على أحد يريد أن يأكل من اللحم الذي نهش منه، فكانت تأخذه وتنهش منه قطعة من اللحم، ثم تعطيه للنبي صلى الله عليه وسلم، (فيضع فمه على المكان الذي وضعت فمها فيه) أي: من ذلك العظم، وهذا فيه مؤاكلة الحائض، فالرسول صلى الله عليه وسلم أكل مع عائشة وهي حائض، ولم يكتف بمجرد كونه يأكل معها من صحن واحد أو من إناء واحد، بل من نفس العظم، ومن نفس المكان الذي مسه فمها يضع فمه عليه صلى الله عليه وسلم، فالمرأة جسدها طاهر، وإنما النجاسة والحيض في فرجها وليس في يديها أو فمها، وإنما النجاسة في موضع معين منها، فمؤاكلتها ومخالطتها ومضاجعتها ليس فيها بأس، وهذا فيه مطابقة للترجمة من حيث المؤاكلة، فقد كان عليه الصلاة والسلام يؤاكلها، بل ويضع فمه على موضع فمها.
(وكانت تشرب الماء من الإناء، ثم تعطيه للنبي صلى الله عليه وسلم، فيضع فمه في المكان الذي وضعت فيه فمها) أي: الجهة التي شربت منها في الإناء يشرب منها صلى الله عليه وسلم، ففيه المشاربة للحائض.
والعرق هو: العظم الذي عليه بقية اللحم، وقد جاء في بيان أحوال المنافقين قوله صلى الله عليه وسلم: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما من الأجر لأتوهما ولو حبواً، ثم قال: والذي نفسي بيده! لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقاً سميناً أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء) يعني: لو كان يعلم أن في المسجد لحم يوزع، ولو كان اللحم يسيراً بأن يكون عظم عليه بقية لحم، لشهد العشاء لكي يأخذ نصيبه من اللحم؛ لأن قصدهم وهمهم الدنيا، ولا يريدون الآخرة والعياذ بالله، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقهم: (ولو يعلمون ما فيهما من الأجر لأتوهما ولو حبواً) يعني: لو كانوا لا يستطيعون الوصول إلى المسجد على أرجلهم، فللحرص على تحصيل هذا الثواب لصاروا يحبون على الركب حبواً، ولهذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمون ما في صلاة الجماعة من الأجر، وكان الواحد منهم يصيبه المرض فلا تسمح نفسه أن يصلي في البيت وهو مريض معذور، فيأتي إلى المسجد يهادى بين الرجلين، رجل يمسك عضده اليمنى، وآخر يمسك عضده اليسرى، ورجلاه تخطان بالأرض، حتى يقام في الصف، لا يستطيع أن يصل إلى الصف بمشيه، هكذا كان أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام الذين يعرفون عظم شأن صلاة الجماعة، وأجر صلاة الجماعة.
قال: (والذي نفسي بيده! لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقاً سميناً أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء) وهو عظم عليه بقية لحم، والتعرق: هو الأخذ بالأسنان من ذلك اللحم الذي في ذلك العرق، والمرماتين هما ما بين ضلعي الشاة من اللحم.(40/11)
تراجم رجال إسناد حديث: (كنت أتعرق العظم وأنا حائض فأعطيه النبي)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا عبد الله بن داود].
هو عبد الله بن داود الخريبي، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن، وعبد الله بن داود الخريبي هذا نقل عنه الحافظ في فتح الباري كلمة عظيمة، يقول: قال عبد الله بن داود الخريبي: إن أشد آية على أصحاب جهم قول الله عز وجل: {لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19]، فمن بلغه القرآن فكأنما سمعه من الله، يعني: عليه أن يأخذ بما فيه؛ لأن الله قال: {لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19]، والإنذار للصحابة الذين نزل عليهم، ولكل من يبلغه هذا الخبر، فمن بلغه القرآن وسمعه وقرأه أو اطلع عليه فكأنما سمعه من الله؛ لأن الله تعالى يقول: {لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19]، فالذين ينفون صفات الله عز وجل عن الله، وينفون عنه الأسماء والصفات قد أنذروا بالقرآن، وقد جاء في هذه الآية أن الإنذار للموجودين ولكل من يبلغه من الموجودين الذين لم يلقوا الرسول صلى الله عليه وسلم، والذين يأتون بعد زمانه في القرون والعصور المختلفة، قال رحمه الله: فمن بلغه القرآن فكأنما سمعه من الله يعني: عليه أن يتقيد بما فيه، وأن يأخذ بما فيه، وأن يصدق بما فيه، وأن يعمل بما فيه، وينتهي عما فيه من النواهي.
[عن مسعر].
هو مسعر بن كدام ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن المقدام بن شريح].
المقدام بن شريح ثقة أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
هو شريح بن هانئ، ثقة مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام، ولم يلق النبي صلى الله عليه وسلم، وحديثه مثل ابنه أخرجه البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عائشة].
وقد مر ذكرها.(40/12)
شرح حديث: (كان رسول الله يضع رأسه في حجري فيقرأ وأنا حائض)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن كثير حدثنا سفيان عن منصور بن عبد الرحمن عن صفية عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع رأسه في حجري، فيقرأ وأنا حائض)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضع رأسه في حجرها، فيقرأ القرآن وهي حائض، والحائض لا تقرأ القرآن، وهذا يدل على الترجمة من جهة مخالطتها، والاجتماع بها، والاتصال بها، وكل شيء يجوز معها إلا الجماع، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يضع رأسه في حجرها، وهذا فيه دليل على مخالطة المرأة الحائض.
وفيه دليل أيضاً على قراءة القرآن في حال الاضطجاع، فيقرأ الإنسان القرآن مضطجعاً وقاعداً وقائماً، وهنا قالت: (يضع رأسه في حجري -يعني: وهو مضطجع- ويقرأ القرآن).
وفيه أيضاً: جواز قراءة القرآن عند الاتكاء على الحائض، أو وضع الرأس في حجر الحائض، وإن كان في مكان قريب من النجاسة؛ لأن رأسه في حجرها، وفرجها هو الذي فيه الدم النجس، فدل هذا الصنيع من رسول الله عليه الصلاة والسلام على هذه الأمور.(40/13)
تراجم رجال إسناد حديث: (كان رسول الله يضع رأسه في حجري فيقرأ وأنا حائض)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
هو محمد بن كثير العبدي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن منصور بن عبد الرحمن].
هو منصور بن عبد الرحمن بن طلحة الحجبي، من بني عبد الدار، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن صفية بنت شيبة].
صفية بنت شيبة، وهي حجبية أيضاً، ولها رؤية، والذي يروي عنها هو ابنها منصور بن عبد الرحمن بن طلحة، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
وقد مر ذكرها.(40/14)
ما جاء في الحائض تناول من المسجد(40/15)
شرح حديث: (إن حيضتك ليست في يدك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الحائض تناول من المسجد.
حدثنا مسدد بن مسرهد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن ثابت بن عبيد عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ناوليني الخُمرة من المسجد.
فقلت: إني حائض.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن حيضتك ليست في يدك)].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة: [الحائض تناول من المساجد]، يعني: أنها تمد يدها إلى المسجد، سواء كان من باب أو نافذة، فهذا لها، وإن كانت الحائض لا تدخل المسجد، ولا تبقى فيه، ولكنها يمكن أن تناول من في المسجد وهي خارج المسجد، سواء من الباب، أو من فوق جدار إذا كان الجدار قصيراً، أو من نافذة تكون على المسجد، فمدها يدها إلى المسجد لا مانع منه، ولا بأس به.
قوله: (ناوليني الخُمرة من المسجد) يعني: أنه في المسجد، وهي خارج المسجد.
قوله: [(فقالت: إني حائض.
قال: إن حيضتك ليست في يدك)] فيدها إذا دخلت المسجد فهي طاهرة، والنجاسة في فرجها وليست في يدها، ومعناه: أن جسمها طاهر، وأعضاءها طاهرة، وإنما النجاسة في مكان محدد، فهذا فيه دليل على أن إدخال المرأة يدها أو يديها أو رأسها إلى المسجد، وكونها تناول شيئاً لمن في المسجد لا بأس به ولا مانع منه.
قال بعض أهل العلم: وفيه أيضاً دليل على أن من حلف لا يدخل داراً، ثم مد يده إليها أو ما إلى ذلك لا يعتبر أنه دخلها، مثل مد اليد للمسجد لا يعتبر دخولاً للمسجد، ولا بأس بذلك، وإنما يكون الدخول إذا دخلها بكليته، فلو أنه ناول شيئاً، أو أدخل رأسه مع شباك في تلك الدار؛ فلا يعتبر أنه دخل الدار حتى يدخلها بكامله.(40/16)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن حيضتك ليست في يدك)
قوله: [حدثنا مسدد بن مسرهد حدثنا أبو معاوية].
هو أبو معاوية محمد بن خازم الضرير الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
هو الأعمش سليمان بن مهران الكاهلي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ثابت بن عبيد].
ثابت بن عبيد وهو ثقة أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن القاسم].
هو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
وقد مر ذكرها.(40/17)
ما جاء في الحائض لا تقضي الصلاة(40/18)
شرح حديث: (لقد كنا نحيض عند رسول الله فلا نقضي)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الحائض لا تقضي الصلاة.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب حدثنا أيوب عن أبي قلابة عن معاذة (أن امرأة سألت عائشة رضي الله عنها: أتقضي الحائض الصلاة؟ فقالت: أحرورية أنت؟! لقد كنا نحيض عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نقضي، ولا نؤمر بالقضاء)].
أورد أبو داود رحمه الله باباً أن الحائض لا تقضي الصلاة، وهذا من الأحكام المتعلقة بالحائض، وهي أنها تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، وقد جاءت الشريعة بذلك، والحكمة في هذا -والله أعلم-: أن الصلاة تتكرر في اليوم والليلة خمس مرات، والصيام لا يأتي إلا مرة واحدة وشهراً في السنة، فإذا وقع الحيض فيه فإنه يسهل أن يقضى، وأما الصلاة فإن الأيام تتوالى كل يوم خمس صلوات، فلم يشرع للنساء أن يقضين الصلاة، وشرع لهن أن يقضين الصيام؛ لأن الصلاة تتكرر، يأتي في شهر واحد من السنة فيقضى بسهولة.
أورد أبو داود رحمه الله حديث عائشة رضي الله عنها أن معاذة العدوية سألتها: أتقضي الحائض الصلاة؟ فقالت: أحرورية أنت؟! يعني بسبب سؤالها عن كونها تقضي الصلاة، فإن هذا هو شأن الخوارج، يرون أن الحائض تقضي الصلاة، وهذا من تشددهم وتنطعهم وتكلفهم، فلما سألتها هذا السؤال، قالت: أحرورية أنت، يعني: أهل أنت من الخوارج؟! فقالت: لا؛ ولكني أسأل، والسائلة هي نفسها معاذة العدوية هذه، فقالت: (كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نقضي، ولا نؤمر بالقضاء) يعني: لا نباشر القضاء، ولا نؤمر بالقضاء، ولم يوجد منا ذلك الفعل، ولم نؤمر به، ومن المعلوم أن الأمر إذا ذكره الصحابي فإنما يريد به الأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقولها: (لا نؤمر) يعني: من النبي صلى الله عليه وسلم، والرسول عليه الصلاة والسلام إذا قال: (أمرت) فالآمر له هو الله، والصحابة إذا قالوا: أمرنا أو نهينا، فالذي أمرهم أو نهاهم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول عليه الصلاة والسلام مبلغ عن الله كما قال الله عز وجل: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4].
قوله: [عن معاذة أن امرأة سألت عائشة].
هي كنّت عن نفسها بامرأة، يعني: ما قالت: إني سألت عائشة، وهي التي سألت، ولكنها كنت عن نفسها بقولها: امرأة، وهكذا الإنسان عندما يريد أن يسأل عن شيء وهو صاحب السؤال ولا يحب أن يظهر اسمه في السؤال ينبغي له أن يقول: ماذا تقول في رجل حصل منه كذا، أو حصل له كذا؟ أو تقول: رجل يسأل حصل له كذا وكذا.
لا بأس بذلك، ولكن جاء في بعض الروايات التصريح بأنها سألت عائشة، وهنا كنت عن السائلة بامرأة.
قوله: [(أتقضي الحائض الصلاة؟ فقالت: أحرورية أنت؟! لقد كنا نحيض عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نقضي، ولا نؤمر بالقضاء)].
وجاء في رواية في الصحيحين: (قالت: لا؛ ولكني أسأل.
قالت: كنا نحيض في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة).
وفي هذا الحديث دليل على لزوم الاتباع للسنة فعلاً وتركاً، وامتثال أحكام الشريعة، وأن ما جاءت به الشريعة يجب امتثاله بالفعل والترك، وأن الإنسان لا يقدم أو يحجم إلا بدليل.(40/19)
تراجم رجال إسناد حديث: (لقد كنا نحيض عند رسول الله فلا نقضي)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
تقدم ذكره.
[حدثنا وهيب].
وهيب هو وهيب بن خالد، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أيوب].
هو أيوب بن أبي تميمة السختياني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي قلابة].
هو أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، وهو ثقة كثير الإرسال، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن معاذة].
هي معاذة بنت عبد الله العدوية، وهي ثقة، أخرج لها أصحاب الكتب الستة.
[أن امرأة سألت عائشة].
عائشة قد مر ذكرها.(40/20)
شرح حديث: (فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن عمرو أخبرنا سفيان -يعني: ابن عبد الملك - عن ابن المبارك عن معمر عن أيوب عن معاذة العدوية عن عائشة رضي الله عنها بهذا الحديث.
قال أبو داود: وزاد فيه: (فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة)].
أورد أبو داود رحمه الله الحديث من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله، إلا أن فيه زيادة التنصيص على الأمر بقضاء الصوم، وعدم الأمر بقضاء الصلاة، حيث قالت: فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة.(40/21)
تراجم رجال إسناد حديث: (فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة)
قوله: [حدثنا الحسن بن عمرو].
هو الحسن بن عمرو السدوسي، صدوق، أخرج حديثه أبو داود وحده.
[أخبرنا سفيان -يعني: ابن عبد الملك -].
سفيان بن عبد الملك - ثقة، أخرج حديثه مسلم في المقدمة وأبو داود والترمذي.
[عن ابن المبارك].
هو عبد الله بن المبارك، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أيوب عن معاذة عن عائشة].
مر ذكر الثلاثة.(40/22)
الأسئلة(40/23)
حكم غسل المذي من الجسد
السؤال
إذا كان المذي على الجسد فما حكمه؟
الجواب
لابد أن يغسله، ولا يوجد اغتسال في خروج المذي، لكن في خروج المني اغتسال، والرش إنما ورد على الثوب، أما إذا كان على الجسد فيغسله كما تقدم في غسل الذكر.(40/24)
غسل المني والمذي الذي يسيل على الجسد والثوب
السؤال
هل الترجمة معقودة على ما يسيل على بدن الرجل والمرأة أو على ثيابهما؟
الجواب
الذي يبدو أنه على الثياب؛ لأن ما يسيل على البدن من المني لابد فيه من الاغتسال من الجنابة، وما يسيل من المذي لابد فيه من إزالة النجاسة عن جسد الإنسان؛ ولهذا جاء أنه يغسل فرجه.(40/25)
شرح سنن أبي داود [041]
اختلف العلماء فيمن يأتي أهله وهي حائض بناء على الأحاديث الواردة في الباب، فمن صححها حكم بالكفارة ديناراً أو نصف دينار، ومن ضعفها أمر بالاستغفار، كما ذكر الفقهاء أحكاماً كثيرة لصلاة المستحاضة، وقد جاءت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في بيان أحكامها، وقد بين العلماء كل ما يتعلق بها من حيث بيان حالها وشرحها، والجمع بين ما ظاهره متعارض منها.(41/1)
حكم إتيان الحائض(41/2)
شرح حديث: (يتصدق بدينار أو بنصف دينار)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في إتيان الحائض حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن شعبة حدثني الحكم، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن، عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض قال: (يتصدق بدينار أو نصف دينار).
قال أبو داود: هكذا الرواية الصحيحة: قال: (دينار أو نصف دينار) وربما لم يرفعه شعبة].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب في إتيان الحائض]، والمقصود من هذه الترجمة: بيان ما يترتب على إتيان الحائض، أما حكم إتيان الحائض في الفرج فهو حرام بإجماع المسلمين؛ لدلالة الكتاب والسنة على ذلك، وإجماعهم منعقد على هذا، ومن وقع في هذا الخطأ وجامع زوجته الحائض في الفرج فإنه يأثم؛ لحصول المخالفة، واختلف العلماء فيما يجب عليه، فذهب بعض أهل العلم إلى أن عليه ديناراً أو نصفه كفارة، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا كفارة عليه، وإنما عليه أن يستغفر الله، وأن يتوب إليه من هذا الذنب الذي حصل منه.
والحاصل: أن إتيان الحائض في حال حيضها في فرجها حرام بإجماع العلماء، ومن فعله فقد اختلف العلماء: هل عليه كفارة أو لا، فبعض أهل العلم قال: لا كفارة عليه، ويستغفر الله، ومنهم من قال: عليه كفارة، وهي دينار أو نصفه.
وقد أورد الإمام أبو داود رحمه الله حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي عليه الصلاة والسلام قال في الذي يأتي امرأته وهي حائض: (يتصدق بدينار أو نصف دينار) يعني: كفارة عن هذا الذنب الذي حصل منه، لكن لا يجوز له أن يقدم عليه؛ لأن الإقدام عليه حرام، وإذا أقدم عليه الإنسان فإنه يتوب إلى الله عز وجل، ويكفر عن ذلك الذنب وعن ذلك الفعل الذي حصل منه بالتصدق بالدينار أو نصف الدينار، قال بعض أهل العلم -وقد جاء عن ابن عباس موقوفاً عليه -: يكون الدينار إذا أتاها في قوة الدم، وفي شدة فورانه وسيلانه، وإذا كان في آخره بعد حصول الجفاف واليبس، إلا أنه بقي له آثار صفرة أو غير ذلك مما هو داخل في مدة الحيض؛ فيكون عليه نصف دينار.
وقال بعض أهل العلم: إنه مخير بين الدينار ونصفه، إن فعل هذا وإن فعل هذا كل ذلك يحصل به المقصود.(41/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (يتصدق بدينار أو بنصف دينار)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني الحكم].
هو الحكم بن عتيبة الكندي الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الحميد بن عبد الرحمن].
هو عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مقسم].
هو مقسم مولى عبد الله بن الحارث، ويقال له: مولى ابن عباس للزومه إياه، وقد اشتهر بهذا الأخير، وهو صدوق يرسل، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والحديث صححه جماعة من أهل العلم، منهم أبو داود في قوله: هكذا الرواية الصحيحة، وكذلك الحاكم، وابن القيم، وابن القطان وغيرهم.
ومن العلماء من رأى أنه لا كفارة على من وطئ امرأته وهي حائض، بل يستغفر الله ويتوب إليه مما حصل.
[قال أبو داود: هكذا الرواية الصحيحة: قال: (دينار أو نصف دينار)].
يعني: هذه الرواية الصحيحة التي فيها الجمع بين الدينار ونصف الدينار للتخيير في ذلك.
قوله: [وربما لم يرفعه شعبة].
يعني أنه جاء مرفوعاً، وجاء موقوفاً على ابن عباس، لكن العلماء صححوه مرفوعاً، ورأوا أن من أتى أهله وهي حائض فإن عليه كفارة ديناراً أو نصف دينار، وبعضهم ضعف الحديث بسبب الاختلاف في رفعه ووصله، وكونه جاء على أوجه مختلفة.
ولمعرفة مقدار الدينار فإن النصاب في إخراج الزكاة عشرون مثقالاً، وهي عشرون ديناراً، والدينار جزء من عشرين جزءاً مما تجب فيه الزكاة من الذهب، والنصاب -كما هو معلوم- اثنان وتسعون غراماً، فنصف العشر من هذا النصاب يعتبر هو مقدار الدينار.(41/4)
شرح أثر ابن عباس: (إذا أصابها في أول الدم فدينار)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد السلام المطهر حدثنا جعفر -يعني: ابن سليمان - عن علي بن الحكم البناني عن أبي الحسن الجزري عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إذا أصابها في أول الدم فدينار، وإذا أصابها في انقطاع الدم فنصف دينار.
قال أبو داود: وكذلك قال ابن جريج عن عبد الكريم عن مقسم].
أورد أبو داود عن ابن عباس أثراً موقوفاً عليه، فصل فيه وقت لزوم الدينار ولزوم نصف الدينار، فلزوم الدينار إذا كان الوطء في شدة الدم وفورانه وكثرته وغلظه، ونصف الدينار إذا كان في خفته في آخر العادة وفي قرب انقطاعه، فيكون الدينار في حال شدته وفي أول إقباله، والنصف الدينار في آخر مدة الحيض، حين يخف ويقرب من الانقطاع.(41/5)
تراجم رجال إسناد أثر ابن عباس: (إذا أصابها في أول الدم فدينار)
قال: [حدثنا عبد السلام المطهر].
عبد السلام بن مطهر هو صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود.
[حدثنا جعفر -يعني: ابن سليمان -].
هو جعفر بن سليمان الضبعي، صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن علي بن الحكم البناني].
علي بن الحكم البناني ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن أبي الحسن الجزري].
أبو الحسن الجزري مجهول، أخرج حديثه أبو داود والترمذي.
[عن مقسم عن ابن عباس].
عن مقسم وابن عباس مر ذكرهما.
[قال أبو داود: وكذلك قال ابن جريج: عن عبد الكريم عن مقسم].
ابن جريج هو عبد الملك بن عبيد بن جريج المكي، ثقة فقيه، يرسل ويدلس، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وعبد الكريم هو عبد الكريم بن مالك الجزري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مقسم].
وقد مر ذكره.
وهذه الآثار صححها الألباني بطرقها؛ لأن في الطريق الأولى أبا الحسن الجزري، وفي الطريق الثانية هذه عنعنة ابن جريج، وهذا التفصيل من حيث شدة الأذى وخفة الأذى له وجه، والله تعالى قال: {قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:22] ففي حال شدة الأذى وشدة الحيض تكون الكفارة أغلظ، وفي حالة خفته حيث يكون على وشك الانقطاع تكون الكفارة أخف، وبعض أهل العلم يقول: إنه على التخيير؛ إن شاء أن يخرج هذا وإن شاء أن يخرج هذا.(41/6)
شرح حديث: (إذا وقع الرجل بأهله وهي حائض)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن الصباح البزاز حدثنا شريك عن خصيف عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وقع الرجل بأهله وهي حائض؛ فليتصدق بنصف دينار).
قال أبو داود: وكذا قال علي بن بذيمة عن مقسم عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً.
وروى الأوزاعي عن يزيد بن أبي مالك عن عبد الحميد بن عبد الرحمن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آمره أن يتصدق بخمسي دينار) وهذا معضل].
في هذا الحديث اقتصر على ذكر نصف الدينار، وأبو داود رحمه الله في الحديث الأول قال: هكذا الرواية الصحيحة: (دينار أو نصف الدينار)، ففيه الإشارة إلى أن الروايات التي ليس فيها ذكر الدينار ونصف الدينار غير صحيحة، وهما هاتان الروايتان: الرواية التي فيها نصف دينار فقط، والرواية التي فيها خمسي دينار.(41/7)
تراجم رجال إسناد حديث: (إذا وقع الرجل بأهله وهي حائض)
قوله: [حدثنا محمد بن الصباح البزاز].
محمد بن الصباح البزاز ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شريك].
هو شريك بن عبد الله النخعي الكوفي القاضي، صدوق يخطئ كثيراً، وحديثه أخرجه البخاري في التاريخ، ومسلم أصحاب السنن.
[عن خصيف].
هو خصيف بن عبد الرحمن الجزري، صدوق سيئ الحفظ، تغير بأخره، وحديثه أخرجه أصحاب السنن.
[عن مقسم عن ابن عباس].
مقسم عن ابن عباس مر ذكرهما.
هذا الحديث ضعيف، فيه خصيف، وفيه أيضاً شريك، وإشارة أبي داود في الحديث الأول إلى الرواية الصحيحة التي فيها الدينار أو نصف الدينار فيها إشارة إلى ضعف الروايات التي فيها النصف وحده أو الخمسان.
[قال أبو داود: وكذا قال علي بن بذيمة عن مقسم عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً].
علي بن بذيمة ثقة أخرج له أصحاب السنن.
وقوله: [عن مقسم عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً].
يعني: أن مقسماً رفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو تابعي، فيكون مرسلاً، وهذا مرسل على الاصطلاح المشهور، وهو: أن يقول التابعي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، فالمرسل أن يضيف التابعي فيه الحديث إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، ويطلق المرسل أيضاً على رواية الراوي عمن لم يلقه، أو لم يدرك عصره، في أي مكان من السند، وهذا المرسل في اصطلاح الفقهاء، وهو المنقطع.
قوله: [وروى الأوزاعي عن يزيد بن أبي مالك عن عبد الحميد بن عبد الرحمن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (آمره أن يتصدق بخمسي دينار) وهذا معضل].
الأوزاعي هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
ويزيد بن أبي مالك، صدوق ربما وهم، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
وعبد الحميد بن عبد الرحمن قد مر ذكره، وهو ابن زيد بن الخطاب.
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يتصدق بخمسي دينار) قال: وهذا معضل، والمعضل في اصطلاح المحدثين: هو الذي سقط منه اثنان متواليان في أي مكان من السند، وهنا كون عبد الحميد بن عبد الرحمن يضيفه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيه سقوق الصحابي والتابعي، وهذا يسمونه المعضل، وهو ما سقط من إسناده اثنان بشرط التوالي، فإن كانا متفرقين بأن يكون الأول سقط في موضع، والثاني في موضع آخر، فيقولون عنه: منقطع، ولا يقولون عنه: معضل؛ لأن المعضل شرطه التوالي.(41/8)
ما جاء في الرجل يصيب من الحائض ما دون الجماع(41/9)
شرح حديث: (أن رسول الله كان يباشر المرأة من نسائه وهي حائض)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرجل يصيب منها ما دون الجماع.
حدثنا يزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب الرملي حدثنا الليث بن سعد عن ابن شهاب عن حبيب مولى عروة عن ندبة مولاة ميمونة عن ميمونة رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يباشر المرأة من نسائه وهي حائض إذا كان عليها إزار إلى أنصاف الفخذين أو الركبتين تحتجز به)].
أورد أبو داود رحمه الله باباً في الرجل يصيب منها -أي: من أهله- ما دون الجماع، وهذا سائغ، ولا بأس به، وقد مضى الحديث الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (اصنعوا كل شيء إلا الجماع) فالممنوع هو الجماع، وأما ما دون الجماع فإنه مباح، لكن اختلف في المكان الذي تحصل منه المباشرة، فما فوق السرة وتحت الركبة لا خلاف فيه بين العلماء، وكون الإنسان يباشرها وقد ائتزرت بمئزر من السرة إلى الركبة فهذا باتفاق العلماء، وأما ما دونه في غير الفرج فهذا فيه خلاف بين أهل العلم، منهم من منعه، ومنهم من كرهه، ومنهم من أجازه بشرط أن يبتعد عن المكان المحرم وهو الفرج، فالجماع في الفرج هو المحرم، وأما الاستمتاع بالمرأة في غير ذلك فلا بأس به، ولكن الإنسان يبتعد عن المكان الذي يخشى أن يصل إليه بسبب مقاربته إياها؛ فإن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث ميمونة أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا كانت إحداهن حائضاً يأمرها فتضع عليها مئزراً تشده عليها إلى نصف الفخذين أو إلى الركبتين، ثم يباشرها وهي حائض، فدل هذا على جواز الاستمتاع بالمرأة في غير المحل الذي منع منه الرجل، وهو بالاتفاق ما فوق الإزار، يعني: ما فوق السرة ودون الركبة، وعلى خلاف فيما دون ذلك بشرط ألا يكون في الفرج.
قوله: [(إذا كان عليها إزار إلى أنصاف الفخذين أو الركبتين تحتجز به)].
يعني: تشده على وسطها وعلى حجزتها بحيث يكون حاجزاً بين الرجل وبين المكان الذي هو الحمى أو قريباً من الحمى.(41/10)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن رسول الله كان يباشر المرأة من نسائه وهي حائض)
قوله: [حدثنا يزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب الرملي].
يزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب الرملي، ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا الليث بن سعد].
هو الليث بن سعد المصري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
هو محمد بن مسلم عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حبيب مولى عروة].
هو حبيب مولى عروة بن الزبير، وهو مقبول، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن ندبة مولاة ميمونة].
ندبة مولاة ميمونة، وهي مقبولة، أخرج حديثها أبو داود والنسائي.
[عن ميمونة].
ميمونة أم المؤمنين، بنت الحارث الهلالية رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وحديثها عند أصحاب الكتب الستة.(41/11)
شرح حديث: (كان رسول الله يأمر إحدانا إذا كانت حائضاً أن تتزر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا شعبة عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر إحدانا إذا كانت حائضاً أن تتزر، ثم يضاجعها زوجها) وقال مرة: (يباشرها)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كانت إحدى نسائه حائضاً أمرها أن تتزر فيضاجعها، وفي رواية: (يباشرها)، والمباشرة هي التصاق البشرة بالبشرة، وذلك جائز فيما فوق السرة ودون الركبة باتفاق العلماء، وعلى خلاف بينهم فيما دون ذلك بشرط ألا يقع في المحرم الذي هو الجماع في الفرج.(41/12)
تراجم رجال إسناد حديث: (كان رسول الله يأمر إحدانا إذا كانت حائضاً أن تتزر)
قوله: [حدثنا مسلم بن إبراهيم].
هو مسلم بن إبراهيم الفراهيدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعبة عن منصور].
شعبة تقدم ذكره، ومنصور هو ابن المعتمر الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إبراهيم].
هو إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأسود].
هو الأسود بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي، ثقة مخضرم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(41/13)
شرح حديث: (كنت أنا ورسول الله نبيت بالشعار الواحد وأنا حائض)
قال المصنف رحمه الله تعالى: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن جابر بن صبح قال: سمعت خلاساً الهجري سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: (كنت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نبيت بالشعار الواحد، وأنا حائض طامث، فإن أصابه مني شيء غسل مكانه، ولم يعدُه، ثم صلى فيه، وإن أصاب -تعني: ثوبه- منه شيء غسل مكانه ولم يعدُه، ثم صلى فيه)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث عائشة رضي الله عنها أنها كانت تبيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعار الواحد، والشعار: هو الثوب الذي يلي البشرة، ويتصل بها مباشرة، سُمي شعاراً لأنه يتصل بالشعر، وبالجسد، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار بالشعار عندما بين فضلهم وقربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد غزوة حنين، عندما أعطى المؤلفة قلوبهم المئات من الإبل، ولم يعط الأنصار شيئاً، فوجدوا في أنفسهم إذ لم يصبهم ما أصاب الناس، ولم يعطوا مثل ما أعطي الناس، ولما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما في نفوسهم جمعهم في مكان، وتكلم معهم، وأخبرهم بما هو أحسن لهم من الإبل والمال، وكان مما قال: (الأنصار شعار والناس دثار)، يعني: أن الأنصار مني بمنزلة الشعار الملتصق بالجسد، والدثار هو الثوب الذي يكون وراءه.
ومعنى حديث عائشة: أن كلاً منهما يبيت في الشعار، وليس المعنى أنهما داخل شعار واحد بلا حاجز، ولا فاصل بينهما، ولكن هي عليها شيء، وهو عليه شيء صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فإذا أصابه منها شيء من الدم غسل المكان الذي أصابه منه، ولم يعده، يعني: لا يتجاوز المكان الذي وقع فيه الدم، بل يغسل المكان الذي فيه الدم فقط، وهذا هو معنى (ولم يعده).
وإذا أصاب ثوبه شيء من الدم فإنه يغسله، ولا يعده، يعني: لا يتعداه أو يتجاوزه، ثم يصلي فيه؛ لأنه غسل مكان النجاسة فبقي الثوب على طهارته، ولا يغسله كله ما دام أن النجاسة عرف محلها؛ فيكفي غسل المكان المتنجس من الثوب، لكن إذا جهلت النجاسة في الثوب، ولم تكن متبينة بلونها أو علامتها وأثرها فيجب غسل الثوب، وذلك إذا علم بأن فيه نجاسة وجهل موضعها من الثوب؛ لأنه لا يحصل اليقين إلا بذلك.(41/14)
تراجم رجال إسناد حديث: (كنت أنا ورسول الله نبيت بالشعار الواحد وأنا حائض)
[حدثنا مسدد حدثنا يحيى].
مسدد تقدم ذكره، ويحيى هو يحيى بن سعيد القطان.
[عن جابر بن صبح].
جابر بن صبح، وهو صدوق، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[سمعت خلاساً الهجري].
هو خلاس بن عمرو، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت عائشة].
وقد مر ذكرها.(41/15)
شرح حديث: (ادني مني، فقلت: إني حائض)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا عبد الله -يعني: ابن عمر بن غانم - عن عبد الرحمن -يعني: ابن زياد - عن عمارة بن غراب أنه قال: إن عمة له حدثته أنها سألت عائشة رضي الله عنها قالت: (إحدانا تحيض وليس لها ولزوجها إلا فراش واحد.
قالت: أخبرك بما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم: دخل فمضى إلى مسجده -قال أبو داود: تعني: مسجد بيته- فلم ينصرف حتى غلبتني عيني، وأوجعه البرد فقال: ادني مني.
فقلت: إني حائض.
فقال: (وإن، اكشفي عن فخذيك.
فكشفت فخذيّ، فوضع خده وصدره على فخذي، وحنيت عليه حتى دفئ ونام)].
أورد أبو داود هذا الحديث عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة سألتها عن المرأة مع زوجها ليس لهما إلا فراش واحد، فإذا كانت هي حائض فهل تنام معه أو أنها تعتزل الفراش؟ فقالت: (أخبرك بما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم: دخل فمضى إلى مسجده) قال أبو داود: أي: مسجد بيته.
أي: المكان الذي كان يصلي فيه من بيته.
قوله: (فلم ينصرف حتى غلبتني عيني)].
يعني: أنه بقي يصلي وهي مضطجعة على الفراش حتى غلبها النوم، وهو مستمر في الصلاة.
قوله: [فأوجعه البرد] يعني: حصل له برد.
قوله: [(فجاء وقال: ادني مني.
فقلت: إني حائض.
فقال: وإن)] فالرسول صلى الله عليه وسلم أمرها أن تدنو منه وألا تكون بعيدة وإن كانت حائضة، فقوله: (وإن) فيها حذف كان واسمها وخبرها، يعني: وإن كنت حائضاً، فحذفت كان واسمها وخبرها لدلالة ما تقدم عليه، وهذا سائغ ومعروف في اللغة حيث يحذف الشيء إذا كان معلوماً، سواء كان واسمها وخبرها، أو المبتدأ والخبر، وقد جاء في القرآن قول الله عز وجل في سورة الطلاق: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق:4] أي: واللائي لم يحضن عدتهن ثلاثة أشهر، فحذف المبتدأ والخبر؛ لدلالة ما قبلها.
قوله: [(اكشفي عن فخذيك.
فكشفت فخذي، فوضع خده وصدره على فخذي)].
ضاجعها واتصل بها، وجعل رأسه على فخذيها، وكل ذلك لا يؤثر.(41/16)
تراجم رجال إسناد حديث: (ادني مني، فقلت: إني حائض)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
هو عبد الله بن مسلمة القعنبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا عبد الله -يعني: ابن عمر بن غانم -].
صدوق وثقه ابن يونس وغيره، وأخرج له أبو داود وحده.
[عن عبد الرحمن -يعني: ابن زياد -].
هو عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي، وهو صدوق ضعيف في حفظه، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن عمارة بن غراب].
عمارة بن غراب، وهو مجهول، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود.
[قال: إن عمة له].
في التقريب ما ذكر عنها شيئاً، وإذا كان الراوي عنها مجهولاً وهي مبهمة فهي من باب أولى مجهولة، والحديث في إسناده الأفريقي وهو ضعيف، وفي إسناده هذا المجهول، وأيضاً عمته التي هي مجهولة مثله.(41/17)
شرح حديث: (كنت إذا حضت نزلت عن المثال على الحصر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سعيد بن عبد الجبار حدثنا عبد العزيز -يعني: ابن محمد - عن أبي اليمان عن أم ذرة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كنت إذا حضت نزلت عن المثال على الحصير، فلم نقرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ندنُ منه حتى نطهر)].
هو الفراش، والحصير هو الذي يوضع على الأرض، وهو غير الفراش الذي كان ينام عليه صلى الله عليه وسلم هو وعائشة رضي الله عنها، قوله: [(فلم نقرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ندن منه حتى نطهر)].
هذا خلاف ما تقدم في الأحاديث الصحيحة من المضاجعة والمباشرة، فالحديث غير صحيح.(41/18)
تراجم رجال إسناد حديث: (كنت إذا حضت نزلت عن المثال على الحصير)
قوله: [حدثنا سعيد بن عبد الجبار].
صدوق أخرج له مسلم وأبو داود.
[حدثنا عبد العزيز -يعني: ابن محمد -].
هو عبد العزيز بن محمد الدراوردي، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي اليمان].
هو أبو اليمان الرحال، وهو مستور، أخرج له أبو داود، والمستور هو مثل مجهول الحال.
[عن أم ذرة].
أم ذرة، وهي مقبولة، أخرج حديثها أبو داود.
[عن عائشة].
وقد مر ذكرها، والحديث غير صحيح، فيه المستور أبو اليمان الرحال، وفيه أم ذرة مولاة عائشة وهي مقبولة.(41/19)
شرح حديث: (كان إذا أراد من الحائض شيئاً ألقى على فرجها ثوباً) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن أيوب عن عكرمة عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد من الحائض شيئاً ألقى على فرجها ثوباً)].
أورد أبو داود حديثاًَ عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد من الحائض شيئاً ألقى على فرجها ثوباً فيباشرها، وهذا يدل على جواز الاستمتاع من المرأة الحائض في غير الفرج.
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي، وهو بصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن سلمة ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أيوب].
هو أيوب بن أبي تميمة السختياني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عكرمة].
هو عكرمة مولى ابن عباس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم].(41/20)
شرح حديث: (كان رسول الله يأمرنا في فوح حيضتنا أن نتزر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن الشيباني عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا في فوح حيضتنا أن نتزر، ثم يباشرنا، وأيكم يملك إربه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك إربه؟)].
قولها: (في فوح حيضتنا) يعني: في شدة فورانها، وهو الوقت الذي يكون فيه الحيض شديداً.
قولها: [وأيكم يملك إربه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك إربه؟].
ٍالإرب هو الوطر أو الحاجة.
وكون الإنسان يباشر المرأة وهي حائض في غير الفرج سائغ؛ لكن قولها: (وأيكم يملك إربه؟) محمول على الصيام، ففي حال الصيام الإنسان يمنع من أن يحصل منه شيء، وأما في غير الصيام فالإنسان له أن يستمتع من زوجته الحائض لكن في غير الفرج، فيقضي وطره وحاجته في غير الفرج، ولكن الشيء الذي يمنع هو الجماع في الفرج، وأما مباشرة المرأة في حال الصيام بالاحتكاك بها أو القرب منها فإنه يؤثر، وقد يحصل منه إنزال أو ما إلى ذلك، فعليه أن يبتعد، وألا يعرض صومه للفساد، لكن في غير حال الصيام فللإنسان أن يستمتع بالحائض، وله أن يقضي منها حاجته؛ لكن في غير المكان المحرم.(41/21)
تراجم رجال إسناد حديث: (كان رسول الله يأمرنا في فوح حيضتنا أن نتزر)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا جرير].
هو جرير بن عبد الحميد الكوفي الضبي الكوفي ثم الرازي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الشيباني].
هو أبو إسحاق الشيباني، واسمه سليمان بن أبي سليمان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن الأسود].
هو عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد بن قيس النخعي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو الأسود بن يزيد النخعي، وقد مر ذكره.
[عن عائشة].
وقد مر ذكرها.
مباشرة الحائض في غير الجماع سائغ ولا بأس به، وما فوق الإزار وتحت الركبة جائز باتفاق العلماء، وما كان دون ذلك ولكن في غير الفرج ففيه خلاف بين أهل العلم، ويدل على كونه سائغاً قوله عليه الصلاة والسلام: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح)، والنكاح إنما هو في مكان الأذى الذي قال الله عز وجل عنه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222]، فالمباشرة لها ما بين الركبة والسرة سائغة؛ ولكن من يخشى على نفسه أن يقع في الأمر الحرام فعليه أن يكون بعيداً عن الحمى والمحل الذي إذا وقع فيه وقع في الحرام، فلا يباشر فيما بين السرة والركبة إذا كان يخشى على نفسه الوقوع في الأمر المحرم، وإن كان لا يخشى فلا بأس بذلك؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح).
والرسول عليه الصلاة والسلام كان يقبل وهو صائم، وكان أملك الناس لإربه عليه الصلاة والسلام، فتقبيل الرجل لامرأته في حال صيامه لا بأس به، لكن بشرط أن يطمئن إلى أنه لا يحصل منه إفساد لصيامه لخروج المني بسبب هذه المباشرة، وبسبب هذا التقبيل والمقاربة.
وأما بالنسبة للوضوء فالإنسان له أن يقبل زوجته وهو على وضوء، فإن خرج منه مذي فسد وضوؤه، وعليه أن يعيد الوضوء، وإن لم يخرج منه مذي فإن وضوءه على حاله.
وكان عليه الصلاة والسلام يقبل وهو صائم، وهو أملك الناس لإربه، وكان يباشر المرأة وهي حائض وهو أملك الناس لإربه عليه الصلاة والسلام، وكونه يباشر زوجته وهي حائض لأنه يتمكن من عدم الوقوع في الأمر المحرم، بخلاف غيره فإنه قد يتمكن وقد لا يتمكن.
وبالنسبة للصائم الذي يعرف من نفسه أنه لا يحصل منه إفساد صيامه بسبب التقبيل والمباشرة فلا بأس أن يقبل، وإذا كان يعرف من نفسه أنه يحصل منه الأثر المترتب على ذلك وهو إفساد الصوم؛ فإنه لا يجوز له أن يقبل، والرسول عليه الصلاة والسلام كان يقبل وهو صائم، وهو أملك الناس لإربه، وكان يباشر أهله حال الحيض، وهو أملك الناس لإربه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
والحاصل: أن الإنسان إن كان متوضئاً وقبل أو باشر أهله، وحصل منه مذي بسبب ذلك؛ فإن وضوءه يفسد، وعليه أن يتوضأ، ويغسل النجاسة التي حصلت، وإن قبل وهو صائم أو باشر -أي: مست بشرته بشرتها بدون جماع- ولم يحصل منه إنزال؛ فإن صيامه على ما هو عليه، وإن حصل الإنزال فسد صومه، وعليه أن يقضي ذلك اليوم الذي أفسده، وإن حصل منه الجماع فقد أفسده وعليه الكفارة التي هي عتق رقبة، فإن لم يجد صام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع أطعم ستين مسكيناً كما جاءت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإن كانت زوجته في حال حيض، جاز له أن يباشرها فوق الإزار ودون الركبة أو ما دون ذلك، لكن بشرط ألا يصل إلى المكان المحرم، والفعل المحرم هو أن يطأها في الفرج، وأما ما وراء ذلك فإنه مباح، ولكن ما دون السرة وفوق الركبة فمن يخشى على نفسه أن يقع في الأمر المحرم فلا يجوز له أن يحوم حول الحمى؛ لأن من حام حول الحمى يوشك أن يرتع فيه كما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإنسان يحتاط لدينه، ولا يعرض نفسه للوقوع في الأمر المحرم.(41/22)
الأسئلة(41/23)
حكم سفر المرأة وحدها عند أمن الفتنة
السؤال
هل يجوز للمرأة السفر بدون محرم عند أمن الفتنة؟
الجواب
المرأة لا تسافر بدون محرم، سواء أمنت الفتنة أو لم تأمن، وأمن الفتنة معناه: أن تسافر مع أناس مأمونين فتأمن، لكن سفرها بدون محرم لا يجوز ولو كانت مع أناس مأمونين، فيحرم سفر المرأة بدون محرم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع ذي محرم)، وما قال: إلا إذا أمنت الفتنة فلها أن تسافر مع من تسافر معه ممن ليس محرماً، وإنما أطلق ذلك.(41/24)
مسافة القصر في السفر
السؤال
كم المسافة التي يجوز فيها القصر في السفر؟
الجواب
المسافة التي يحل للإنسان أن يترخص برخص السفر إذا سافرها في حدود ثمانين كيلو، وهي مسيرة يومين.(41/25)
حكم سفر المرأة لطلب العلم بلا محرم
السؤال
في بلادنا قل أن توجد حلقات العلم التي توافق منهج السلف، فهل للمرأة أن تذهب إلى منطقة أخرى بدون محرم لحضور مجالس العلم بدليل الضرورة؟
الجواب
ليس لها ذلك، ولكن يمكنها أن تحصل العلم عن الكتب النافعة إن كانت قارئة، وإن كانت غير قارئة فعن طريق الأشرطة، وبذلك تحصل الدروس الكثيرة بدون أن تسافر بدون محرم، فذلك لا يجوز لها لا للعلم ولا لغيره، بل ولا لحج الفريضة، فإذا لم تجد المحرم فهي غير مستطيعة، فلا يجب عليها الحج.(41/26)
الزواج بالجنية المسلمة
السؤال
هل يجوز الزواج بالجنية المسلمة؟
الجواب
وهل يمكن هذا؟! أصلاً الجن مختفون عنا مثل الملائكة، والملائكة يتشكلون وهم يتشكلون، وهم يروننا ولا نراهم قال الله: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27]، لكن يمكن أن يتصور إذا تشكلت الجنية على صورة إنسان، فهم يتشكلون على صورة إنسان، وقد جاء في حديث أبي هريرة عندما أمسك الرجل الذي كان يحثي من الطعام، وراجع رسول صلى الله عليه وسلم في ذلك، وقال له: (صدقك وهو كذوب، ذاك شيطان)، لكن قضية الزواج بالجنية لا يجوز، فالله سبحانه وتعالى جعل الزواج من الجنس كما قال: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [النحل:72] يعني: من جنسكم، وليس من جنس آخر، والشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى بحث هذه المسألة في أضواء البيان في سورة النحل عند الكلام على الآية فيها، وقال: إن الذي يظهر من نص القرآن أن الزواج إنما يكون بالجنس ومن الجنس، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21] فزواج الجنس من غير جنسه مخالف لما أرشد الله تعالى إليه.(41/27)
حكم حجز المكان في المسجد
السؤال
ما حكم من يضع كتاباً في المسجد قبل الصلاة، ثم يأتي بعد الصلاة فيجد أحداً في مكانه، هل يجوز له أن يطرده من ذلك المكان محتجاً بأنه مكانه؟
الجواب
هذا لا يجوز، وإذا أقيمت الصلاة لا يتركون فجوة للكتاب! بل يجب عليهم أن يرفعوا الكتاب وأن يصفوا ويصلوا الصفوف.
والإنسان إذا جاء المسجد وصلى في مكان مشاع فهو أحق به، أما كون الإنسان يضع شيئاً يحجز به مكاناً ثم بعد ذلك يريد أن يكون له ذلك المكان فلا يجوز ذلك، وإذا جاء إنسان وصلى في مكان وجلس في مصلاه فلا أحد يقيمه من مكانه.(41/28)
علاج الوسوسة
السؤال
رجل يشكو من الوسوسة في كل أموره، فيرجو من فضيلتكم الإفادة والتوجيه؟
الجواب
عليه أن يكثر من الاستعاذة بالله من الشيطان، وأن يقبل على الأمور التي أوجبها الله عليه، فيفعلها ويؤديها كما هو مطلوب منه، يقبل على وضوئه ولا يوسوس، ويقبل على صلاته ولا يوسوس، وعليه أن يفهم أن غيره من المسلمين الذين على هذه الطريقة وعلى هذا المنهج يؤدون عباداتهم دون أن يحصل منهم هذا الوسواس والتردد في الشيء الذي فعله هل فعله أو ما فعله، فهل هو على حق حصل له دون غيره أو هو على بلاء تميز به عن غيره؟ وأولئك الذين لم يبتلوا بهذا البلاء، ويؤدون صلواتهم، ووضوءهم، وأعمالهم من غير أن يحصل لهم ذلك، فعليه أن يحرص أن يكون مثلهم، وأن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وأن يقبل على أعماله التي هي مطلوبة منه من غير أن يوسوس؛ لأنه بالوسوسة يكون كلما انتهى من شيء وقع في نفسه أنه ما أتمه، ثم يرجع إليه، حتى أن بعض الناس يدخل الحمام من حين الأذان إلى أن تقام الصلاة وهو في الحمام ما خرج، يتوضأ وكلما غسل عضواً قال: لا، ما غسلته! وهكذا حتى تقام الصلاة! فهذا تلاعب من الشيطان بالإنسان، ويمكن أن يئول أمره إلى الجنون والعياذ بالله! فعليه أن يحرص على أن يتدارك نفسه، وأن يفهم أن الناس كلهم الذين ما حصل لهم هذا في خير، وأنه في بلاء، فعليه أن يكون مثلهم، وأن يرجع إليهم، وأن يكون في دائرتهم ولا يشذ عنهم.(41/29)
حكم الأناشيد الإسلامية
السؤال
كنت أستمع إلى الأناشيد، فأنكر علي بعض الشباب، وقال: إنها من باب الأغاني، فهل هي حرام أم مكروهة؟
الجواب
الأناشيد التي فيها تلحين وتطريب للأصوات، والمقصود منها الصوت وفتنة التلحين، والمعاني غير مقصودة، وإنما المهم هو الأصوات لا تنبغي، فمعلوم أن الشعر نفسه لو كان سليماً فالانشغال به غير محمود؛ لأنه يشغل عما هو أهم منه، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لأن يمتلأ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه خير من أن يمتلئ شعراً)، ولا شك أن المقصود بهذا الشعر الطيب؛ لأنه يشغل عما هو خير منه، وأما الشعر الرديء فبيت واحد منه يملأ الجوف من الشر، فالقضية ليست أن يقال: هذا شعر سيئ، فالشعر السيئ القليل منه كثير، ولكن المقصود: الانشغال بالشعر بحيث يشغل عن القرآن والحديث والحق والاشتغال بما ينفع، فهذا مذموم، فإذا كان الاشتغال بالشعر مصاحباً لتلك الأصوات والترانيم والتلحين وما إلى ذلك فهو أسوأ.
والإنسان عليه إذا أنشد الشعر أو قرأ الشعر أن يقرأه بصوت ليس فيه تلحين يصرف عن المعاني، فتعشق الأصوات، بل يقرأ أو يسمع الشعر إذا أراد أن يسمع وهو بقوة وبجزالة، وبالطريقة التي كان ينشد بها الصحابة رضي الله عنهم كـ حسان وعبد الله بن رواحة وغيرهما، ليست بهذه الطريقة التي يجتمع فيها مجموعة أمام مكبر الصوت وأمام التسجيل، ثم تسجل بأصوات مجتمعة بتلحين، فهذا من الأشياء الجديدة.(41/30)
شرح سنن أبي داود [042]
للمستحاضة أحكام تخصها، منها ما يتعلق بالصلاة، ومنها ما يتعلق بالتطهر للصلاة، وكذلك ما يتعلق بالزوج من جواز إتيانها حال استحاضتها، وغير ذلك من الأحكام المتعلقة بها، وقد جاءت الأحاديث النبوية ببيان ذلك.(42/1)
من قال: المستحاضة تدع الصلاة في الأيام التي تحيض فيها(42/2)
شرح حديث: (لتنظر عدة الليالي والأيام التي كانت تحيضهن)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في المرأة تستحاض، ومن قال: تدع الصلاة في عدة الأيام التي كانت تحيض.
حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن سليمان بن يسار عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها (أن امرأة كانت تهراق الدماء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتت لها أم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لتنظر عدة الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر، فإذا خلَّفت ذلك فلتغتسل، ثم لتستثفر بثوب، ثم لتصلي فيه)].
أورد أبو داود رحمه الله الأبواب المتعلقة بالمستحاضة (والاستحاضة: هي خروج الدم من فرج المرأة من غير أن يكون حيضاً أو نفاساً، وهو دم فساد، وليس دم صحة؛ لأن دم الحيض يخرج في حال صحتها وفي حال سلامتها، وأما المستحاضة فيستمر معها الدم دائماً وأبداً).
والمستحاضة لها أحكام تخصها جاءت بها السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا كانت المرأة المستحاضة سليمة، وطرأ لها هذا العيب وهذا المرض بعد ذلك؛ فإنها تنظر إلى الأيام التي كانت تأتيها العادة قبل أن يصيبها الذي أصابها، وهو المرض الذي حصل معه استمرار سيلان الدم، فتجلس تلك المدة التي تماثل العادة التي كانت عليها قبل أن يصيبها المرض، مثلاً: كانت تأتيها العادة ستة أيام من أول الشهر، وهي تعرف لون الدم وتعرف رائحته، فإذا أقبلت العادة تركت الصلاة والاستحاضة موجودة معها بصفة دائمة، والحيض يأتي في أوقات معينة وله بداية وله نهاية، فإذا كانت تعرف أيام الحيض قبل أن يأتيها المرض فإنها تدع الصلاة والصيام أيام حيضها الذي تعرف أوله ونهايته، أو تعرف لونه ورائحته، ولا يقربها زوجها، وكل الأمور التي تمتنع منها الحائض تمتنع منها هذه المستحاضة في مدة أقرائها أو مدة حيضها، هذا إذا كانت تعرف عادتها بالأيام أو بلون الدم ورائحته، وإلا تجلس ستة أيام أو سبعة على اعتبار أنها حيضة، وما سوى ذلك تفعل ما تفعل الطاهرات ولو كان الدم يسيراً، وعندما تنتهي العادة فإنها تغتسل لانتهاء الحيض، ثم يجب عليها أن تتوضأ لكل صلاة، ولا يجب عليها أن تغتسل لكل صلاة، ولكن يستحب لها أن تغتسل لكل صلاة.
ولها أن تجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، وتغتسل ثلاث مرات، وهذا الاغتسال على سبيل الاستحباب، والجمع هنا للمرض الذي حصل لها، ولهذا المريض له أن يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء إذا وجد مشقة عليه في أن يصلي كل صلاة في وقتها، ولكن لا يجوز له أن يقصر.
وقول أبي داود رحمه الله في الترجمة: باب في المرأة تستحاض، ومن قال: تدع الصلاة عدة الأيام التي كانت تحيض.
المقصود بقوله: (قال) ليس المقصود أنه رأي أو مذهب، وإنما المقصود ما قاله الراوي رواية عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، يعني: من جاء في حديثه أنها تدع الصلاة أيام أقرائها، فأراد أن يذكر أحكام المستحاضة والروايات التي جاءت في أنها تدع الصلاة أيام أقرائها من حين تقبل حيضتها إلى أن تدبر حيضتها، وبعد إدبارها تغتسل للحيض، وتتوضأ عند كل صلاة وجوباً للاستحاضة، وتغتسل عند كل صلاة استحباباً.
أورد أبو داود رحمه الله حديث أم سلمة رضي الله عنها أن امرأة طلبت منها أن تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت تهراق الدماء، يعني: يسيل الدم من فرجها باستمرار، فاستفتت لها أم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (لتنظر عدة الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر) فالرسول صلى الله عليه وسلم أفتاها أن تنظر إلى عدة الأيام التي كانت تمكثها في الحيض قبل أن يصيبها ذلك المرض، فهي كانت صحيحة، ثم طرأ عليها المرض، فلو كانت مثلاً تمكث في الحيض خمسة أيام، فتمكث خمسة أيام مثل الأيام التي كانت تحصل لها من الشهر قبل أن يأتيها المرض.
قوله: [(فإذا خلفت ذلك فلتغتسل)] يعني: إذا خلفت ذلك وراء ظهرها فلتغتسل من الحيض؛ لأنه حصل لها حيض والاستحاضة مستمرة معها، والحيض يحصل في وقت معين، يعني: إذا خلفت الأيام التي كانت تحصل لها وتجلسها بسبب الحيض فلتغتسل من الحيض؛ لأن الحيض قد أدبر وقد ذهب، فلتغتسل وتكون طاهرة تصلي وتصوم وتقرأ القرآن، ويغشاها زوجها، وكل الأعمال التي تجوز للطاهرات تجوز لها؛ لأن هذا مرض وليس بحيض وليس بنفاس، فلا يمنعها من صلاة ولا صيام ولا قراءة قرآن ولا مس المصحف ولا جماع زوجها لها.
قوله: [(ثم لتستثفر بثوب، ثم لتصلي فيه)].
يعني: هذا الدم الذي يخرج منها عليها أن تعمل شيئاً للتحرز منه، بحيث لا يسيل على ثيابها، ولا يسيل في الأرض، ولا يسيل في المسجد الذي حضرت إليه، ولكنها تتوضأ عند كل صلاة وجوباً، وتغتسل عند كل صلاة استحباباً، وإن احتاجت أن تجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء؛ فتتوضأ للصلاتين وضوءاً واحداً، أو تغتسل لهما غسلاً واحداً، فلا بأس.(42/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (لتنظر عدة الليالي والأيام التي كانت تحيضهن)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة، الإمام المحدث الفقيه المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وهي: مذهب أبي حنيفة، ومذهب مالك، ومذهب الشافعي، ومذهب أحمد.(42/4)
وجوب احترام الأئمة وعدم الغلو فيهم
الأئمة الأربعة كان في زمانهم وقبل زمانهم وبعد زمانهم علماء مجتهدون ومتمكنون في الفقه، مثل: سفيان الثوري، وإسحاق بن راهويه، والأوزاعي، والليث بن سعد المصري، وعلماء كثيرون معروفون ومشهورون بالفقه، ولكن اشتهر الأئمة الأربعة؛ لأنه حصل لهم تلاميذ عنوا بجمع أقوالهم ومذاهبهم، واعتنوا بتنظيمها وترتيبها، بخلاف العلماء الآخرين، فإنه لم يحصل لهم مثل ما حصل لهؤلاء من التلاميذ الذين عنوا بأقوالهم وبما جاء عنهم؛ فاشتهرت تلك المذاهب، وهم أئمة هدى وأهل سنة، وهي مذاهب أهل السنة بخلاف المذاهب الأخرى كالزيدية والإباضية والهادوية، فإن هذه مذاهب أخرى غير مذاهب أهل السنة، أما هؤلاء الأربعة فهم على نهج واحد وعلى طريقة واحدة، فأصولهم متفقة من حيث العقيدة، وبالنسبة للفروع فهم مجتهدون، ومن أصاب الحق فإنه يؤجر أجرين، ومن أخطأه يؤجر أجراً واحداً؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد) وخطؤه مغفور.
والواجب هو احترام الجميع وتوقير الجميع ومحبة الجميع، والثناء عليهم، والاستفادة من علمهم، بدون غلو وبدون جفاء، والحق وسط بين الإفراط والتفريط وبين الغلو والجفاء، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أن الإنسان يستفيد من علم الفقهاء ويعظمهم ويثني عليهم ويعرف قدرهم، ويستفيد منهم للوصول إلى الحق، فإذا وصل إلى الحق وعرف الدليل فإنه يجب عليه أن يأخذ به، وهذا هو الذي أوصى به الأئمة الأربعة، قال الإمام الشافعي رحمة الله عليه كما نقله عنه ابن القيم في كتاب (الروح): أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد كائناً من كان.
وكل واحد من الأئمة الأربعة قال: إذا جاء حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف قولي فخذوا بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم واتركوا قولي.
وعلى هذا فإن احترامهم وتوقيرهم والاستفادة من علمهم هذا هو الذي ينبغي، وأما التعصب لهم أو الجفاء في حقهم فهما مذمومان، الجفاء مذموم، والغلو والتعصب مذموم، والحق وسط بين الإفراط والتفريط لا غلو ولا جفاء، نستفيد من علمهم، ونوقرهم، ونحترمهم، وندعو لهم، ونثني عليهم، لكن لا نتكلم فيهم بسوء، ولا نتجاوز الحد بحيث نغلو، يقول الخطابي رحمه الله: ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم ومعناه: أن الحق وسط بين الإفراط والتفريط، والاعتدال في الأمور والتوسط في الأمور هو المطلوب، وقد قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب (الروح) عندما ذكر الرجوع إلى كتب الفقهاء، وأن الإنسان يستعين بهم للوصول إلى الحق، ويستفيد من علمهم ليصل إلى الحق: إن مثل هذا مثل الإنسان الذي يهتدي بالنجم حيث يكون في الفلاة، ولا يعرف جهة القبلة؛ فإنه يستدل إلى جهة القبلة بالنجوم وبمشرقها ومغربها، واتجاهات مجيئها وغروبها، فالإنسان يهتدي بها إلى جهة القبلة، ويستطيع أن يعرف الشمال والجنوب والشرق والغرب بواسطة النجوم، فإذا وصل الإنسان إلى الكعبة، وصار أمام الكعبة، فعند ذلك لا يحتاج إلى أن ينظر في النجوم من أجل تحديد جهة الكعبة، فإن الكعبة أمامه، وهكذا الإنسان يرجع إلى كلام الفقهاء ليستعين بهم للوصول إلى الحق، لكن إذا عرف الدليل فليس للإنسان أن يحيد عنه.
قال الإمام الشافعي رحمة الله عليه: أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد كائناً من كان.
فلابد من الرجوع إلى كلام الفقهاء، ولا يستغني الإنسان عن كلام الفقهاء، والطالب يجمع بين الفقه والحديث، ولا يعنى بالحديث فقط ويغفل الفقه، ولا يعنى بالفقه فقط ويغفل الحديث؛ لأن الطالب إذا كان ليس له عناية بالفقه، وكل عنايته بالأحاديث وطرقها ورجالها وما إلى ذلك، فبعض المسائل الفقهية السهلة الخفيفة لا يستطيع أن يأتي لها بجواب؛ لأنه ما اشتغل بالفقه، ولو اشتغل بالفقه وأعرض أو انشغل عن الحديث فيمكن أن يستدل على مسألة من المسائل بحديث موضوع أو بحديث ضعيف جداً؛ لأنه لا يعرف الصحيح من غير الصحيح، فالأمر كما قال الخطابي رحمه الله في أول كتابه (معالم السنن): لابد من الحديث ولابد من الفقه.
والحديث إذا اعتني به بدون الفقه كالإنسان الذي يبني له بنياناً ويقوي أساسه، ولكن ما يبني عليها شيئاً؛ فهذا الأساس ما حصل منه فائدة ما دام أنه ما وجد بناء عليه، فهذا الأساس الذي قوي ومتن إذا ما وجد بناء عليه، وما وجد فروع تبنى عليه لا تحصل الفائدة المرجوة منه كما ينبغي، ولو أن إنساناً اشتغل بالفقه ولم يبنه على أساس الحديث، فهو كالذي يبني بنياناً على غير أساس، فينهار ويسقط، والكمال يحصل إذا كان الأساس قوياً متيناً، فيستفاد من الأساس ويستفاد من البناء، ولهذا لابد من الجمع بين الحديث والفقه، والعناية بالفقه والحديث.(42/5)
تابع تراجم رجال إسناد حديث: (لتنظر عدة الليالي والأيام التي كانت تحيضهن)
قوله: [عن نافع].
هو نافع مولى ابن عمر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سليمان بن يسار].
سليمان بن يسار وهو ثقة فقيه، من فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أم سلمة].
هي أم سلمة هند بنت أبي أمية أم المؤمنين رضي الله عنها، وحديثها عند أصحاب الكتب الستة.(42/6)
شرح حديث (لتنتظر عدة الليالي) من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد ويزيد بن خالد بن يزيد بن عبد الله بن موهب قالا: حدثنا الليث عن نافع عن سليمان بن يسار أن رجلاً أخبره عن أم سلمة رضي الله عنها (أن امرأة كانت تهراق الدم.
فذكر معناه، قال: فإذا خلَّفتْ ذلك وحضرت الصلاة فلتغتسل بمعناه)].
أورد أبو داود رحمه الله الحديث السابق من طريق أخرى، وهو بمعناه إلا أنه قال: (إذا خلفت) يعني: خلفت أيام العادة التي جلست فيها فلم تصلي ولم تصم ولم يجامعها زوجها فيها، وامتنعت من كل الأمور التي تمتنع منها الحائض، فإذا خلفتها وحضرت الصلاة فلتغتسل.
وهذا فيه دليل على أن غسل الحيض ليس على الفور، فلو أن المرأة انقطع عنها الحيض، فلها أن تؤخر الغسل حتى يجيء وقت الصلاة؛ لأن وقت الصلاة لابد فيه من طهارتها لتؤدي الواجب الذي عليها، فهذا يدل على أن غسلها ليس على الفور، وأن المرأة إذا انقطع عنها الدم فليس بمجرد انقطاعه يجب عليها أن تغتسل، بل لها أن تؤخر ذلك إلى حين الأمر الذي يتطلبه ويقتضيه، فإن كانت تريد أن تمس مصحفاً فلتغتسل، وإن جاء وقت الصلاة فلتغتسل، لكن قبل أن يأتي الفعل الذي يلزمها أن تغتسل من أجله فإنه لا يجب عليها الغسل؛ ولهذا قال: (فإذا خلفت وحضرت وقت الصلاة فلتغتسل)؛ لأنه لابد من الاغتسال من الحيض.(42/7)
تراجم رجال إسناد حديث (لتنتظر عدة الليالي) من طريق أخرى
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
هو قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ويزيد بن خالد بن يزيد بن عبد الله بن موهب].
يزيد بن خالد بن يزيد بن عبد الله بن موهب، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا الليث].
هو الليث بن سعد المصري وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع عن سليمان بن يسار عن رجل أخبره عن أم سلمة].
[نافع وسليمان بن يسار مر ذكرهما، وقوله: (عن رجل أخبره عن أم سلمة] توجد واسطة بين سليمان بن يسار وأم سلمة، ولا أدري من هو، ولكن الأحاديث جاءت من طرق مختلفة، ولا يؤثر وجود شخص مبهم في بعض الأسانيد.(42/8)
شرح حديث رجل من الأنصار: (أن امرأة كانت تهراق الدم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا أنس -يعني: ابن عياض - عن عبيد الله عن نافع عن سليمان بن يسار عن رجل من الأنصار: (أن امرأة كانت تهراق الدماء، فذكر معنى حديث الليث، قال: فإذا خلفتهن، وحضرت الصلاة، فلتغتسل).
وساق الحديث بمعناه].
أورد المصنف الحديث من طريق أخرى وهو بمعنى الحديث المتقدم.
قوله: [(وإذا خلفتهن)] يعني: الأيام والليالي التي كانت تحيض فيها، وحضرت الصلاة فلتغتسل.(42/9)
تراجم رجال إسناد حديث رجل من الأنصار: (أن امرأة تهراق الدم)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا أنس -يعني ابن عياض -].
أنس بن عياض ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وكلمة (يعني) هذه قالها من دون عبد الله بن مسلمة، إما أبو داود وإما من دون أبي داود؛ لأن كلمة (يعني) فعل مضارع له فاعل وله قائل، ففاعله ضمير مستتر يرجع إلى عبد الله بن مسلمة، وقائله هو أبو داود الذي هو دون عبد الله بن مسلمة أو من هو دون أبي داود.
[عن عبيد الله].
هو عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر العمري المصغر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع عن سليمان بن يسار عن رجل من الأنصار].
قد مر ذكرهم.(42/10)
شرح حديث: (فلتترك الصلاة قدر ذلك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا صخر بن جويرية عن نافع بإسناد الليث وبمعناه، قال: (فلتترك الصلاة قدر ذلك، ثم إذا حضرت الصلاة فلتغتسل ولتستثفر بثوب، ثم تصلي)].
أورد أبو داود رحمه الله الحديث من طريق أخرى، وفيه: أنه قال: (فلتترك الصلاة قدر ذلك) يعني: قدر الأيام التي كانت تحيضها من قبل.
قوله: [(ثم إذا حضرت الصلاة فلتغتسل)] يعني: من الحيض.
قوله: [(ولتستثفر بثوب ثم تصلي)] يعني: بعدما تغتسل فإنها تستثفر بثوب حتى لا يسقط دم الاستحاضة على ثيابها وعلى جسدها وعلى الأرض، فتستثفر بثوب وتتوضأ وتصلي.(42/11)
تراجم رجال إسناد حديث: (فلتترك الصلاة قدر ذلك)
قوله: [حدثنا يعقوب بن إبراهيم].
هو يعقوب بن إبراهيم الدورقي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة رووا عنه مباشرة بدون واسطة.
[حدثنا عبد الرحمن بن مهدي].
عبد الرحمن بن مهدي ثقة، وهو إمام في الجرح والتعديل، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، قال الذهبي في كتابه (من يعتمد قوله في الجرح والتعديل): عبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان إذا اتفقا على جرح شخص، فهو لا يكاد يندمل جرحه.
يعني: إذا اتفقا على جرح شخص فمعناه أنه مجروح، وعبر بهذه العبارة الدالة على إصابتهما وعلى تمكنهما في باب الجرح والتعديل.
[حدثنا صخر بن جويرية].
صخر بن جويرية وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن نافع بإسناد الليث وبمعناه].
أي: بإسناد الليث الذي تقدم، وبمعنى متن حديث الليث.(42/12)
حديث: (تدع الصلاة وتغتسل فيما سوى ذلك) وتراجم رجال الإسناد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب حدثنا أيوب عن سليمان بن يسار عن أم سلمة رضي الله عنها بهذه القصة، قال فيه: (تدع الصلاة وتغتسل فيما سوى ذلك، وتستثفر بثوب، وتصلي)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وهو بمثل الحديث الذي تقدم.
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا وهيب].
هو وهيب بن خالد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أيوب].
هو أيوب بن أبي تميمة السختياني وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سليمان بن يسار عن أم سلمة].
مر ذكرهما.
[قال أبو داود: سمى المرأة التي كانت استحيضت حماد بن زيد عن أيوب في هذا الحديث قال: فاطمة بنت أبي حبيش].
المرأة المبهمة التي استحيضت، وطلبت من أم سلمة أن تستفتي لها رسول الله عليه الصلاة والسلام هي فاطمة بنت أبي حبيش، سماها حماد بن زيد في روايته عن أيوب.(42/13)
شرح حديث: (امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن جعفر عن عراك عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (إن أم حبيبة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الدم، فقالت عائشة: فرأيت مركنها ملآن دماً، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك، ثم اغتسلي).
قال أبو داود: ورواه قتيبة بين أضعاف حديث جعفر بن ربيعة في آخرها، ورواه علي بن عياش ويونس بن محمد عن الليث فقالا: جعفر بن ربيعة].
أورد أبو داود رحمه الله حديث عائشة، وهو أن أم حبيبة بنت جحش أخت زينب بنت جحش كانت تستحاض، وأنها كانت ترى الدم في مركنها، وهو الجفنة الكبيرة التي كانت تغتسل بها، فكانت ترى كثرة الدم فيها، فاستفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأفتاها بما أفتى به فاطمة بنت أبي حبيش - فقال: (امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك) يعني: امكثي بدون صلاة وبدون صيام قدر ما كانت تحبسك حيضتك، يعني: قبل أن يصيبها المرض الذي هو الاستحاضة، وهو مثل ما مر في حديث فاطمة بنت أبي حبيش.
قوله: [(ثم اغتسلي)] يعني: من الحيض، وبعد ذلك تستثفر بثوب، وتتوضأ لكل صلاة وجوباً، وتغتسل لكل صلاة استحباباً.(42/14)
تراجم رجال إسناد حديث: (امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد عن الليث عن يزيد بن أبي حبيب].
يزيد بن أبي حبيب مصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جعفر].
هو جعفر بن ربيعة وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عراك].
هو عراك بن مالك وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة].
هو عروة بن الزبير بن العوام وهو ثقة فقيه، من فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
هي عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: أبو هريرة، وابن عمر، وابن عباس، وأبو سعيد، وأنس، وجابر، وأم المؤمنين عائشة، ستة رجال وامرأة واحدة، هؤلاء الصحابة عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(42/15)
أسانيد أخرى لحديث: (امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك)
[قال أبو داود: ورواه قتيبة بين أضعاف حديث جعفر بن ربيعة في آخرها].
قوله: (بين أضعاف) يعني: في ثناياه.
قوله: [ورواه علي بن عياش ويونس بن محمد عن الليث فقالا: جعفر بن ربيعة].
جعفر هناك مهمل وهنا مسمى.
وعلي بن عياش ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
ويونس بن محمد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
والليث مر ذكره.
وجعفر بن ربيعة مر ذكره.
وقوله: [في آخرها].
يعني: آخر الروايات.(42/16)
شرح حديث: (ثم صلى ما بين القرء والقرء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عيسى بن حماد أخبرنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن بكير بن عبد الله عن المنذر بن المغيرة عن عروة بن الزبير: (أن فاطمة بنت أبي حبيش حدثته أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشكت إليه الدم، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما ذلكِ عرق، فانظري إذا أتى قرؤك فلا تصلي، فإذا مر قرؤك فتطهري، ثم صلي ما بين القرء إلى القرء)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث فاطمة بنت أبي حبيش، وأنها شكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الدم، فقال لها: (إنما ذلك عرق) يعني: إنه ليس بحيض، وإنما هو عرق، ويقول له الفقهاء: دم فساد.
قوله: [(فانظري إذا أتى قرؤك)].
يعني: حيضك، فالقرء هنا بمعنى الحيض.
قوله: [(فلا تصلي)] يعني: امكثي الأيام التي كنت تحيضين فيها من الشهر قبل أن يأتيك المرض بدون صلاة.
والقرء يأتي بمعنى الحيض، ويأتي بمعنى الطهر، وهو من الأضداد.
قوله: [(فإذا مر قرؤك فتطهري)] يعني: انتهى، وخلفتيه وراءك فاغتسلي غسل الحيض.
قوله: [(ثم صلي ما بين القرء إلى القرء)] يعني: إلى أن تأتي الحيضة الثانية فصلي ما بينهما؛ لأن هذه استحاضة وليست بحيض، ولكن تتوضأ لكل صلاة وتستثفر، ويستحب لها أن تغتسل عند كل صلاة.(42/17)
تراجم رجال إسناد حديث: (ثم صلي ما بين القرء والقرء)
قوله: [حدثنا عيسى بن حماد].
هو عيسى بن حماد التجيبي، الملقب زغبة وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[أخبرنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن بكير بن عبد الله].
هو بكير بن عبد الله بن الأشج وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن المنذر بن المغيرة].
المنذر بن المغيرة وهو مقبول، أخرج حديثه أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن عروة بن الزبير عن فاطمة بنت أبي حبيش].
عروة بن الزبير تقدم، وفاطمة بنت أبي حبيش صحابية، أخرج حديثها أبو داود والنسائي وابن ماجة.(42/18)
شرح حديث: (فأمرها أن تقعد الأيام التي كانت تقعد ثم تغتسل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يوسف بن موسى حدثنا جرير عن سهيل -يعني: ابن أبي صالح - عن الزهري عن عروة بن الزبير قال: (حدثتني فاطمة بنت أبي حبيش أنها أمرت أسماء -أو أسماء حدثتني أنها أمرت فاطمة بنت أبي حبيش - رضي الله عنهما أن تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرها أن تقعد الأيام التي كانت تقعد، ثم تغتسل)].
قوله: [(فأمرها أن تقعد الأيام التي كانت تقعد)] يعني: التي تجلسها، وهي أيام الحيض التي كانت تقعدها قبل أن يأتيها المرض الذي هو الاستحاضة.
قوله: [(ثم تغتسل)] يعني: بعد انقضاء دم الحيض تغتسل وتصلي.(42/19)
تراجم رجال إسناد حديث: (فأمرها أن تقعد الأيام التي كانت تقعد ثم تغتسل)
قوله: [حدثنا يوسف بن موسى].
يوسف بن موسى وهو صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي في مسند علي وابن ماجة.
[حدثنا جرير].
هو جرير بن عبد الحميد، ثقة، من رجال الكتب الستة.
[عن سهيل -يعني ابن أبي صالح -].
سهيل بن أبي صالح وهو صدوق، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، والبخاري أخرج له تعليقاً ومقروناً.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة عن فاطمة بنت أبي حبيش أو أسماء.
].
عروة وفاطمة بنت أبي حبيش مر ذكرهما.
(أو أسماء) هي أسماء بنت عميس، صحابية، أخرج حديثها البخاري وأصحاب السنن.(42/20)
أسانيد أخرى لحديث: (تقعد الأيام التي كانت تقعد ثم تغتسل)
[قال أبو داود: ورواه قتادة عن عروة بن الزبير عن زينب بنت أم سلمة: (أن أم حبيبة بنت جحش استحيضت، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تدع الصلاة أيام أقرائها، ثم تغتسل وتصلي)].
ذكر المصنف رواية أم حبيبة بنت جحش أخت زينب بنت جحش: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تدع الصلاة أيام أقرائها -أي: أيام حيضها- ثم تغتسل وتصلي).
قوله: [ورواه قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة عن زينب بنت أم سلمة].
عروة مر ذكره، وزينب بنت أم سلمة هي ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[أن أم حبيبة بنت جحش].
هي أم حبيبة بنت جحش، صحابية، أخرج حديثها البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وابن ماجة، وهي أخت زينب بنت جحش أم المؤمنين.
[قال أبو داود: لم يسمع قتادة من عروة شيئاً].
يعني: أن روايته عنه فيها انقطاع.(42/21)
زيادة ابن عيينة في حديث (تقعد الأيام التي كانت تقعد)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وزاد ابن عيينة في حديث الزهري: عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها (أن أم حبيبة كانت تستحاض، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرها أن تدع الصلاة أيام أقرائها).
قال أبو داود: وهذا وهم من ابن عيينة، ليس هذا في حديث الحفاظ عن الزهري إلا ما ذكر سهيل بن أبي صالح، وقد روى الحميدي هذا الحديث عن ابن عيينة لم يذكر فيه (تدع الصلاة أيام أقرائها)].
الكلام هو على قوله: [(تدع الصلاة)]، وعلى ما قاله سهيل بن أبي صالح (أنها تقعد الأيام التي كانت تقعد)، والنتيجة واحدة، تدع الصلاة أو تقعد كلاهما بمعنى واحد.
قوله: [وزاد ابن عيينة] هو سفيان بن عيينة المكي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو الذي نقل عنه أنه روى حديث الحسن بن علي عندما حمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الناس على المنبر، فنظر إليه وإلى الناس، وقال: (إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين من المسلمين)، وفي بعض الروايات في غير الصحيح: (فئتين عظيمتين من المسلمين)، فقال ابن عيينة: إن قوله صلى الله عليه وسلم: (من المسلمين) يعجبنا جداً؛ لأنه حكم بإسلام الطائفتين، وبين أن الطائفتين المقتتلين من المسلمين، أي: علي ومن معه، ومعاوية ومن معه، رضي الله تعالى عن الجميع.
[عن الزهري عن عمرة عن عائشة].
هي عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية وهي ثقة، أخرج لها أصحاب الكتب الستة.
وعائشة قد مر ذكرها.
[وقد روى الحميدي هذا الحديث].
الحميدي هو عبد الله بن الزبير المكي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو من أصحاب ابن عيينة، وهو أول شخص روى عنه البخاري في صحيحه، فقد روى حديث: (إنما الأعمال بالنيات) من طريقه، وهو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم في المقدمة، وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة في التفسير.
ويوجد شخص آخر يقال له: الحميدي، وهو متأخر، صاحب كتاب (الجمع بين الصحيحين)، و (جذوة المقتبس).
قوله: [وروت قمير بنت عمرو زوج مسروق عن عائشة رضي الله عنها: (المستحاضة تترك الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل)].
هذا الأثر مطابق لما تقدم.
وقمير ثقة، أخرج لها أبو داود والنسائي.(42/22)
شرح حديث: (أن النبي أمرها أن تترك الصلاة قدر أقرائها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه: (إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تترك الصلاة قدر أقرائها)].
سبقت جملة من الأحاديث التي تبين أن المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها، وهي الأيام التي كانت تحيض فيها قبل أن يحصل لها ما حصل من الدم الذي هو دم الاستحاضة، وهو دم فساد، وبعد أن أورد جملة من الأحاديث أورد جملة من الآثار والأحاديث، ومما أورده عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تترك الصلاة أيام أقرائها)] أي: أيام حيضها التي كانت تعرفها من قبل، وهو ما كان يحصل لها من المدة التي كانت تجلسها قبل أن يحصل لها المرض بطروء الاستحاضة عليها، وهذا فيما إذا كانت لها عادة من قبل وهي تعرفها.
قوله: [وقال عبد الرحمن بن القاسم] هو عبد الرحمن بن القاسم بن محمد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه] أبوه هو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(42/23)
شرح حديث عكرمة أن أم حبيبة استحيضت
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وروى أبو بشر جعفر بن أبي وحشية عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن أم حبيبة بنت جحش رضي الله عنها استحيضت، فذكر مثله.
].
ذكر المصنف عن عكرمة أن أم حبيبة بنت جحش استحيضت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر مثل الكلام المتقدم، وهو أنها تدع الصلاة أيام أقرائها.
قوله: [أبو بشر جعفر بن أبي وحشية].
مشهور بكنيته (أبي بشر)، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عكرمة].
هو عكرمة مولى ابن عباس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وهذا الحديث مرسل مثل الذي قبله.(42/24)
شرح حديث عدي بن ثابت: (المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وروى شريك عن أبي اليقظان عن عدي بن ثابت عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم: (المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها، ثم تغتسل وتصلي)].
هذا الحديث مثل ما تقدم أن المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها التي كانت تعرفها من قبل، ثم تغتسل لانتهاء الحيض الذي هو الغسل من الحيض، وتصلي، وتقدم أنها تتوضأ لكل صلاة، وأنها تستثفر بثوب حتى لا يخرج منها الدم على جسمها وعلى ثيابها وعلى الأرض.(42/25)
تراجم رجال إسناد حديث عدي بن ثابت: (المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها)
قوله: [وروى شريك].
هو شريك بن عبد الله النخعي الكوفي، وهو صدوق يخطئ كثيراً، وأخرج حديثه البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي اليقظان].
هو عثمان بن عمير وهو ضعيف، أخرج حديثه أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن عدي بن ثابت].
عدي بن ثابت ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه مجهول، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن جده].
قال الحافظ: اختلف فيه، فمنهم من قال: إنه جده لأبيه، ومنهم من قال: إنه جده لأمه، ومنهم من قال: إنه غير معروف.
الحديث سيأتي موصولاً عند المصنف في هذا الكتاب بإسناده إليه، ومعناه صحيح وثابت من جهة أن المستحاضة تجلس أيام أقرائها، ثم تغتسل لانتهاء الحيض ثم تصلي، ولكنها تستثفر وتتوضأ لكل صلاة.(42/26)
شرح حديث: (أن سودة استحيضت)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وروى العلاء بن المسيب عن الحكم عن أبي جعفر: (أن سودة استحيضت، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم إذا مضت أيامها اغتسلت وصلت)].
ثم ذكر المصنف هذا الحديث المرسل، وأبو جعفر هو محمد بن علي بن الحسين، وهو يروي عن الصحابة، فيكون الحديث مرسلاً.
وسودة هي: زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين.
قوله: [(إذا مضت أيامها)] أي: أيام حيضها التي كانت تعرفها من قبل أن تحصل لها الاستحاضة، فأمرها أن تغتسل وتصلي.(42/27)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن سودة استحيضت)
قوله: [وروى العلاء بن المسيب].
العلاء بن المسيب ثقة ربما وهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن الحكم].
هو الحكم بن عتيبة الكندي الكوفي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي جعفر].
هو محمد بن علي بن الحسين المشهور بـ الباقر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(42/28)
أقوال الصحابة في أن المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها
قال المصنف رحمه الله: [وروى سعيد بن جبير عن علي وابن عباس رضي الله عنهم: (المستحاضة تجلس أيام قرئها)].
ذكر المصنف هذا الأثر عن علي وابن عباس رضي الله عنهما: (المستحاضة تجلس أيام قرئها) أي: تمكث الأيام التي كانت تعرفها من قبل، وهذا متفق مع ما جاء في الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: [وروى سعيد بن جبير].
سعيد بن جبير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن علي بن أبي طالب] علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
[وابن عباس] هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكذلك رواه عمار مولى بني هاشم وطلق بن حبيب عن ابن عباس، وكذلك رواه معقل الخثعمي عن علي رضي الله عنه، وكذلك روى الشعبي عن قمير امرأة مسروق عن عائشة رضي الله عنها].
هذه الآثار جاءت عن علي وابن عباس من طريق سعيد بن جبير، وجاءت أيضاً من طرق أخرى عن ابن عباس، منها عن عمار بن أبي عمار مولى بني هاشم، وهو صدوق ربما أخطأ، أخرج حديثه مسلم وأصحاب السنن.
وطلق بن حبيب صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
ومعقل الخثعمي مجهول، أخرج له أبو داود وحده.
والشعبي هو عامر بن شراحيل الشعبي وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وقمير هي زوج مسروق وهي ثقة، أخرج لها أبو داود والنسائي.(42/29)
أقوال التابعين في أن المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها
[قال أبو داود: وهو قول الحسن وسعيد بن المسيب وعطاء ومكحول وإبراهيم وسالم والقاسم: أن المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها].
وهذه آثار حكاها المصنف عن هؤلاء جميعاً، وفيها أن المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها، أي: أيام حيضها التي كانت تعرفها من قبل.
والمستحاضة إذا كانت تعرف أيامها التي كانت تجلسها قبل أن تأتيها الاستحاضة فإنها تجلس تلك الأيام، وإذا مضت تلك الأيام تغتسل وتصلي إلى أن يأتي مثل تلك الأيام من الشهر الآتي إذا كانت تحصي ذلك بالشهر.
وإذا كانت تعرف العادة في إقبالها وإدبارها بلون الدم وريحه؛ فإنها تأخذ بذلك، وهو أولى من الأخذ بالأيام؛ لأن هذا حيض متحقق، فإذا عرفت إقبال الحيضة بكونها دماً غليظاً وكثيراً وأسود، وله رائحة تعرفها النساء من قبل أن تأتيها الاستحاضة؛ فإنها تأخذ بلون الدم؛ لأنها تميز في هذه الحالة، وإذا لم تتمكن من هذا فإنها ترجع إلى الأيام التي كانت تحيضها من قبل.
وإذا كانت لا تعرف لا اللون ولا الرائحة، ولا تعرف الأيام التي كانت موجودة من قبل، فليس لها أيام معلومة، كمن استحاضت من أول أمرها فهذه تجلس ستة أيام أو سبعة أيام من كل شهر، وما زاد على ذلك وهو أربعة وعشرون يوماً أو ثلاثة وعشرون يوماً فتصلي فيها وتصوم.
[قال أبو داود: لم يسمع قتادة من عروة شيئاً].
هذا مكرر مثل الكلام الذي سبق أن مر قبل ذلك، وهذا المكان ما له وجه لذكره فيه، فهو مكرر جاء في غير محله، والكلام الذي جاء في محله هو في الجملة السابقة التي في الصفحة الأولى، وفي بعض النسخ ليست موجودة في المكان الأول، وإذا لم تكن موجودة في المكان الأول فهي تصلح هنا؛ لأن الكلام كله هو بعد الحديث.(42/30)
شرح سنن أبي داود [043]
دم الحيض أسود يعرف، وهو غير دم الاستحاضة، والمستحاضة تدع الصلاة أيام حيضها، فإذا أدبرت الحيضة اغتسلت واستثفرت وصلت، وقد جاءت أحاديث كثيرة تبين هذا الحكم الذي يوافق سماحة الإسلام وتيسيره على المكلفين.(43/1)
من روى أن الحيضة إذا أدبرت لا تدع الصلاة(43/2)
شرح حديث: (إنما ذلك عرق وليس بالحيضة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من روى أن الحيضة إذا أدبرت لا تدع الصلاة.
حدثنا أحمد بن يونس وعبد الله بن محمد النصيري حدثنا زهير حدثنا هشام بن عروة عن عروة عن عائشة رضي الله عنها: (أن فاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قال: إنما ذلك عرق وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي)].
أورد أبو داود هذه الترجمة وهي (باب من روى أن الحيضة إذا أدبرت لا تدع الصلاة) أي: المستحاضة، هذه الترجمة ليست موجودة في بعض النسخ، والحديثان اللذان تحتها داخلان تحت الترجمة السابقة الذي فيها أنها تدع الصلاة أيام حيضها، وهذه ترجمة أخرى (من روى أن المستحاضة إذا أدبرت الحيضة لا تدع الصلاة)، أي: أنها لا تصلي، فإن كانت الترجمة صحيحة وثابتة فلها وجه، وإن كانت غير موجودة -كما في بعض النسخ- فالحديثان داخلان تحت الترجمة السابقة، ومطابقان لما جاء فيها.
أورد أبو داود رحمه الله حديث عائشة رضي الله عنها (أن فاطمة بنت أبي حبيش جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: إني أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟) يعني: هل أترك الصلاة؟ فهي في الحيض كانت تدع الصلاة، ولكنها هنا قالت: (أفأدع الصلاة) يعني: بسبب هذا الدم، فقال عليه الصلاة والسلام: (إنما ذلك عرق) يعني: هذا الذي حصل معك من الاستحاضة، وحصول الدم الدائم المستمر الذي لا ينقطع هو عرق، ومعناه: أنه دم فساد (وليس بالحيضة).
وقوله: (إذا أقبلت الحيضة) لعل المقصود بالإقبال هنا هو معرفة لون الدم ورائحته، أو أن المقصود من ذلك الأيام التي كانت تحيضها من قبل، فالإقبال يكون إما بهذا وإما بهذا، إما بمعرفة لون الدم ورائحته، أو بالأيام التي كانت تجلسها من الشهر قبل أن يحصل لها المرض.
وقوله: (فاغسلي عنك الدم وصلي) يعني: الدم الذي يوجد عند نهاية الحيض، فالدم مستمر معه، ولكن الذي يغسل هو عند انتهاء مدة الحيض، سواء كان بانتهاء الأيام أو بانتهاء الذي تعرفه من لونه وريحه، وجاء في بعض الأحاديث: (اغسلي عنك الدم) وفي بعضها: (اغتسلي) وكلاهما لابد منه، فالاغتسال لابد منه لانتهاء الحيض، وغسل الدم أيضاً لابد منه عند الانتهاء من الحيض، فيكون ذكر الاغتسال وحده لا ينفي غسل الدم، وذكر غسل الدم لا ينفي الاغتسال، فيكون هذا من الاختصار، والأمران مطلوبان ولازمان(43/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (إنما ذلك عرق وليس الحيضة)
قوله: [حدثنا أحمد بن يونس].
هو أحمد بن عبد الله بن يونس الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو الذي قال عنه الإمام أحمد: إنه شيخ الإسلام، ولما سئل عمن يؤخذ عنه العلم ويتلقى عنه قال: اذهب إلى أحمد بن يونس فإنه شيخ الإسلام، فالإمام أحمد بن حنبل هو أول من عرف عنه أنه أطلق هذا اللقب من المتقدمين.
[وعبد الله بن محمد النفيلي].
عبد الله بن محمد النفيلي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا زهير].
هو زهير بن معاوية، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا هشام بن عروة].
هشام بن عروة ثقة ربما دلس، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة].
هو عروة بن الزبير أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق، التي حفظ الله تعالى بها الكثير من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي من أوعية السنة وحفظتها ولاسيما في الأمور التي تختص بالنساء، والتي تجري بين الرجل وأهل بيته، فإنها وعت وحفظت الكثير من ذلك، وهي أحد سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها وأرضاها.(43/4)
شرح حديث: (فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة)
قال المصنف رحمه الله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن هشام بإسناد زهير ومعناه، وقال: (فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغسلي الدم عنك وصلي)].
أورد المصنف الحديث من طريق أخرى، وهو بإسناد الحديث المتقدم بعد ذكر ثلاثة رواة، وقوله: (فإذا ذهب قدرها) أي: مدتها التي كانت تعرفها من قبل سواء كان بالأيام أو بمعرفة اللون والدم، أو على حسب التقدير إن لم يكن هناك أصل لا من معرفة الدم، ولا من حيث الأيام.(43/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي].
عبد الله بن مسلمة القعنبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة، الإمام المشهور أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام بإسناد زهير].
هشام بن عروة قد مر ذكره.(43/6)
من قال: إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة(43/7)
شرح حديث بهية عن عائشة في الاستحاضة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من قال: إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبو عقيل عن بهية أنها قالت: (سمعت امرأة تسأل عائشة عن امرأة فسد حيضها وأهريقت دماً، فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آمرها فلتنظر قدر ما كانت تحيض في كل شهر وحيضها مستقيم، فلتعتد بقدر ذلك من الأيام، ثم لتدع الصلاة فيهن أو بقدرهن، ثم لتغتسل ثم لتستثفر بثوب ثم لتصلي)].
أورد أبو داود رحمه الله باب من قال: إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة، وهذه التراجم مبنية على أساس من قال رواية أو من روى هذا اللفظ، وليس المقصود القول الذي يقوله الإنسان وهو رأي له، وإنما المقصود من ذلك من قال في روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المستحاضة تدع الصلاة، وفي الباب السابق ذكر من قال: تدع الصلاة في عدة الأيام التي كانت تحيض، يعني بقدر الأيام التي كانت تحيضها، وهنا قال: إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة، والمقصود بإقبال الحيضة إما بمعرفة اللون والدم أو بالأيام التي كانت تعرفها قبل أن تحصل لها الاستحاضة، فلو كانت العادة تأتيها في اليوم الفلاني من الشهر، ثم جاءتها الاستحاضة فتغير وضعها، فهل تعتبر تلك الأيام إن كانت تعرف الاستحاضة عن طريق اللون والدم؟ لا، بل الثاني هو المقدم، وهذا هو الأصل؛ لأنه مبني على لونه ورائحته، وإذا لم تعرف ذلك وكانت الأيام معروفة قبل أن يحصل المرض رجعت إلى تلك الأيام، وهذا هو المقصود من قوله: إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة، يعني: تدع الصلاة من حين ابتداء إقبال الحيضة، وذلك بمعرفة الدم الأسود الغليظ الذي له رائحة متميزة تعرفها النساء وتميزها عن غيرها من الدماء.
قوله: [(عن امرأة فسد حيضها)] المقصود أنه حصل في رحمها فساد من ناحية خروج الدم، كان يخرج منها الحيض فقط فصار يخرج الحيض وغير الحيض، ولهذا يقول العلماء: دم الاستحاضة دم فساد؛ لأنه نتج عن مرض وليس عن صحة.
قوله: [(وأهريقت دماً)] يعني: كان الدم يهراق منها باستمرار.
قوله: [(فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آمرها فلتنظر قدر ما كانت تحيض في كل شهر وحيضها مستقيم، فلتعتد بقدر ذلك من الأيام)] أي: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة أن تخبرها بأنها تنظر إلى قدر الأيام التي كانت تحيض وحيضها مستقيم يعني: عندما كانت في صحة وسلامة وعافية، ولم يحصل لها فساد دم، فتنظر إلى تلك الأيام ثم تجلس مثلها.
قوله: [(ثم لتدع الصلاة فيهن أو بقدرهن)] تدع الصلاة في تلك الأيام إذا كانت معلومة لها أو بقدرهن إذا كانت غير معلومة.
قوله: [(ثم لتغتسل ثم لتستثفر بثوب)] لتغتسل غسل الحيض بعد انقطاع الدم، وذلك بعد مضي قدر الأيام التي كانت تحيضها عندما كان حيضها مستقيماً، وتستثفر بثوب، أي: تشد على فرجها قطناً وثوباً حتى يمنع من سقوط الدم على جسمها وعلى ثيابها وعلى الأرض.
قوله: [(ثم لتصل)] مع الوضوء لكل صلاة.(43/8)
تراجم رجال إسناد حديث بهية عن عائشة في الاستحاضة
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي عقيل].
هو يحيى المتوكل وهو ضعيف، أخرج له مسلم في المقدمة وأبو داود.
[عن بهية].
وهي مجهولة لا تعرف، أخرج حديثها أبو داود وحده.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها وقد مر ذكرها.
الحديث في إسناده هذا الرجل الضعيف وهذه المرأة المجهولة، ولكن معناه صحيح ومطابق لما جاء في الأحاديث.(43/9)
شرح حديث: (إن هذه ليست بالحيضة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن أبي عقيل ومحمد بن سلمة المصريان قالا: حدثنا ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير وعمرة عن عائشة أن أم حبيبة بنت جحش رضي الله عنها ختنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحت عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه استحيضت سبع سنين، فاستفتت رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذه ليست بالحيضة ولكن هذا عرق فاغتسلي وصلي)] أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها أن أم حبيبة بنت جحش أخت أم المؤمنين زينب بنت جحش وكانت ختنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني: أنها قريبته أخت زوجته، وهذه قرابة من جهة المصاهرة، وقوله: وتحت عبد الرحمن بن عوف لأنها زوجته، فعرفها بشيئين: بالصلة التي بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي أنها أخت زوجته أم المؤمنين زينب، وأنها زوجة عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه.
قوله: [(إن هذه ليست بالحيضة)] يعني: هذا الدم المتواصل لا يقال له: حيض.
قوله: [(ولكن هذا عرق فاغتسلي وصلي)] يعني: عند انقطاعه، وهذا فيه اختصار؛ لأنها تجلس المدة التي كانت تجلسها ثم تغتسل وتصلي.(43/10)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن هذه ليست بالحيضة)
قوله: [حدثنا ابن أبي عقيل].
هو عبد الغني بن أبي عقيل ثقة، أخرج له أبو داود وحده.
[ومحمد بن سلمة].
محمد بن سلمة المرادي، وهو ثقة أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة، وهذا محمد بن سلمة غير محمد بن سلمة الحراني، فهذا مصري وذاك حراني، والحراني قبله بطبقة؛ لأن محمد بن سلمة المرادي المصري من شيوخ أبي داود وشيوخ النسائي، ومحمد بن سلمة الحراني الباهلي من طبقة شيوخ شيوخ أبي داود، فإذا رأيت أبا داود يروي بواسطة عن محمد بن سلمة فهو الحراني، وإذا روى عنه مباشرة فهو المصري.
[حدثنا عن ابن وهب].
عبد الله بن وهب المصري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن الحارث].
عمرو بن الحارث المصري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
مر ذكره.
[عن عروة وعمرة].
عروة بن الزبير مر ذكره، وعمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية ثقة، أخرج لها أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
مر ذكرها.(43/11)
شرح حديث: (إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة)
[قال أبو داود: زاد الأوزاعي في هذا الحديث عن الزهري عن عروة وعمرة عن عائشة قالت: (استحيضت أم حبيبة بنت جحش وهي تحت عبد الرحمن بن عوف سبع سنين فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي)].
هذا اللفظ هو الذي فيه المطابقة للترجمة، إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة، واللفظ الأول مختصر، وهذا فيه الزيادة التي لابد منها، والتي هي موضحة لما كان قبل الاغتسال من الحيض، تدع الصلاة إذا أقبلت الحيضة، سواء كان إقبالها بمعرفة اللون والرائحة أو بالأيام التي كانت تعرفها قبل أن يأتيها الحيض.(43/12)
تراجم رجال إسناد حديث: (إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة)
قوله: [زاد الأوزاعي].
هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي ثقة فقيه، وهو فقيه الشام ومحدثها، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[قال أبو داود: ولم يذكر هذا الكلام أحد من أصحاب الزهري غير الأوزاعي].
يعني: لم يرو هذه الزيادة غير الأوزاعي.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ورواه عن الزهري عمرو بن الحارث والليث ويونس وابن أبي ذئب ومعمر وإبراهيم بن سعد وسليمان بن كثير وابن إسحاق وسفيان بن عيينة ولم يذكروا هذا الكلام].
هذا توضيح للذين رووا الحديث عن الزهري ولم يذكروا هذا الكلام، ولاشك أن تلك الزيادة معتبرة، وهي زيادة من ثقة، وهي التي توضح المقصود؛ لأن الرواية السابقة مختصرة.
وعمرو بن الحارث المصري قد مر ذكره.
والليث بن سعد المصري ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
ويونس بن يزيد الأيلي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وابن أبي ذئب هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن أبي ذئب، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
ومعمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وإبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وسليمان بن كثير العبدي لا بأس به في غير الزهري، يعني: أن في روايته عن الزهري مقال، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
وابن إسحاق هو محمد بن إسحاق المدني صدوق يدلس، حديثه أخرجه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
وسفيان بن عيينة المكي وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال أبو داود: وإنما هذا لفظ حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة.
قال أبو داود: وزاد ابن عيينة فيه أيضاً: (أمرها أن تدع الصلاة أيام أقرائها) وهو وهم من ابن عيينة].
وقد سبق أن مر حديث مثله.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وحديث محمد بن عمرو عن الزهري فيه شيء، ويقرب من الذي زاد الأوزاعي في حديثه].
محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي، وهو صدوق ربما وهم، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وحديثه تقدم قريباً، وهو يقرب من الذي زاد الأوزاعي بقليل، وهو الذي فيه أنها تدع الصلاة.
وهذا السؤال والاستفتاء عندما حصلت لها الاستحاضة، وليس بعد أن انتهت الاستحاضة.(43/13)
شرح حديث: (إذا كان دم الحيضة فإنه دم أسود يعرف)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن المثنى حدثنا محمد بن أبي عدي عن محمد -يعني ابن عمرو - قال: حدثني ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن فاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها: (أنها كانت تستحاض، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: إذا كان دم الحيضة فإنه دم أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي فإنما هو عرق).
قال أبو داود: وقال ابن المثنى: حدثنا به ابن أبي عدي من كتابه هكذا.
ثم حدثنا به بعد حفظاً قال: حدثنا محمد بن عمرو عن الزهري عن عروة عن عائشة أن فاطمة كانت تستحاض فذكر معناه].
أورد أبو داود رحمه الله الحديث عن فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت تستحاض.
قوله: [(إذا كان دم الحيضة فإنه دم أسود يعرف)] يعني: إذا أقبل دم الحيضة بلونه ورائحته الذي تعرفه النساء، وهو أسود يُعرَف أو يُعرِف، إشارة إلى العرف وهي الرائحة.
قوله: [(فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة)] يعني: إذا حصل هذا اللون والرائحة فأمسكي عن الصلاة.
قوله: [(فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي فإنما هو عرق)].
الآخر هو الدم الذي يكون بعد انتهاء الدم الأسود الذي له رائحة متميزة، فإذا كان الآخر لابد من الاغتسال، ثم تتوضأ لكل صلاة، ولكن الاغتسال عند انقطاع دم الحيض لابد منه كما سبق في الروايات.(43/14)
تراجم رجال إسناد حديث: (إذا كان دم الحيضة فإنه دم أسود يعرف)
قوله: [حدثنا محمد بن المثنى].
هو محمد بن المثنى العنزي أبو موسى الملقب بـ الزمن، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن أبي عدي].
محمد بن إبراهيم بن أبي عدي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد يعني: ابن عمرو].
هو محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي، صدوق ربما وهم، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب عن عروة عن فاطمة بنت أبي حبيش].
ابن شهاب وعروة قد مر ذكرهما، وفاطمة بنت أبي حبيش صحابية أخرج حديثها أبو داود والنسائي وابن ماجة.
وقول ابن المثنى: حدثنا به ابن أبي عدي من كتابه هكذا، يعني: ليس فيه ذكر عائشة، وإنما فيه ذكر فاطمة فقط، ثم قال: حدثنا به من حفظه فقال: حدثنا محمد بن عمرو عن الزهري عن عروة عن عائشة أن فاطمة كانت تستحاض، فالإسناد الذي مر فيه عروة يروي عن فاطمة، وهذا فيه أنه يروي عن عائشة، ولا تنافي بين هذا وهذا؛ لأنه سمع من هذه وسمع من هذه.(43/15)
شرح أثر ابن عباس: إذا رأت الدم البحراني
[قال أبو داود: وقد روى أنس بن سيرين عن ابن عباس رضي الله عنهما في المستحاضة قال: إذا رأت الدم البحراني فلا تصلي، وإذا رأت الطهر ولو ساعة فلتغتسل وتصلي].
قوله: [إذا رأت المستحاضة الدم البحراني] يعني: الذي هو كثيف وغليظ وكثير، فإنها تدع الصلاة؛ لأن هذا علامة الحيض فإنه غليظ وله رائحة متميزة، فإذا أقبل بهذا اللون وبهذه الكثرة فإنها تدع الصلاة، والبحراني نسبة للبحر، وصف بذلك لكثرته ولغلظه.
قوله: [وإذا رأت الطهر ولو ساعة فلتغتسل] يعني: إذا انقطع عنها الدم ولو ساعة فإنها تغتسل وتصلي، فإذا انقطع عنها الدم الذي لونه متميز ورائحته متميزة في أي وقت من الأوقات فإنها تغتسل وتصلي.
[قال أبو داود: وقد روى أنس بن سيرين عن ابن عباس].
أنس بن سيرين أخو محمد بن سيرين وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وابن عباس قد مر ذكره.(43/16)
شرح أثر مكحول: (إن النساء لا تخفى عليهن الحيضة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال مكحول: إن النساء لا تخفى عليهن الحيضة، إن دمها أسود غليظ، فإذا ذهب ذلك وصارت صفرة رقيقة فإنها مستحاضة، فلتغتسل ولتصل].
أتى المصنف بالأثر عن مكحول أن النساء تعرف دم الحيض أسود غليظ، وإذا أقبل فإنها تترك الصلاة، وإذا أدبر وكان أصفر خفيفاً ليس كالأول فإنها تغتسل وتصلي، وهذا الأثر متفق مع الحديث المتقدم بالرجوع إلى اللون والرائحة، وأن هذا تعرفه النساء.
ومكحول الشامي أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن، وهو يرسل.(43/17)
شرح أثر ابن المسيب في المستحاضة وتراجم رجال إسناده
[قال أبو داود: وروى حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد عن القعقاع بن حكيم عن سعيد بن المسيب في المستحاضة: إذا أقبلت الحيضة تركت الصلاة، وإذا أدبرت اغتسلت وصلت].
أورد المصنف الأثر عن سعيد بن المسيب وهو مثل ما تقدم فيما يتعلق بالإقبال والإدبار، والإقبال إما أن يكون باللون والدم، وإما أن يكون بالأيام التي كانت تعرفها قبل أن تستحاض.
قوله: [وروى حماد بن زيد].
حماد بن زيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن سعيد].
هو يحيى بن سعيد الأنصاري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن القعقاع بن حكيم].
القعقاع بن حكيم ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن سعيد بن المسيب].
سعيد بن المسيب ثقة فقيه من فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(43/18)
شرح أثر ابن المسيب في المستحاضة من طريق أخرى وتراجم رجالها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وروى سمي وغيره عن سعيد بن المسيب: تجلس أيام أقرائها.
وكذلك رواه حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب].
ذكر المصنف هذا الأثر أنها تجلس أيام أقرائها، أي: أيام حيضها التي كانت تعرفها قبل أن يحصل لها ما حصل.
قوله: [سمي].
هو مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حماد بن سلمة].
حماد بن سلمة ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن يحيى بن سعيد عن سعيد].
قد مر ذكرهما.(43/19)
شرح أثر الحسن وقتادة في المستحاضة
[قال أبو داود: وروى يونس عن الحسن: الحائض إذا مد بها الدم تمسك بعد حيضتها يوماً أو يومين فهي مستحاضة].
قول الحسن: (الحائض إذا مد بها الدم) يعني: زادت عادتها عما كانت معتادة يوماً أو يومين فتمسك عن الصلاة؛ لأن هذا يمكن أن يكون حيضاً.
قوله: (الحائض إذا مد بها الدم تمسك بعد حيضتها يوماً أو يومين فهي مستحاضة) يعني: إذا مد بها الدم مقدار يومين فهو حيض، والمستحاضة لا تمسك عن الصلاة، بل تغتسل وتصلي، وقوله عن المستحاضة: (تمسك) لعل المقصود أنها تجلس مقدار يومين، وما زاد على ذلك فهي مستحاضة تغتسل وتصلي، ويكون بمعنى قول قتادة الآتي.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال التيمي عن قتادة: إذا زاد على أيام حيضها خمسة أيام فلتصل.
قال التيمي: فجعلت أنقص حتى بلغت يومين، فقال: إذا كان يومين فهو من حيضها] يعني: إذا كانت الزيادة يومين فهو من حيضها، وما زاد على ذلك فإنها تصلي، والذي يظهر أن هذا إذا كان شيئاً جديداً على المرأة، وأن الاستحاضة أصابتها لأول مرة، فتجلس احتياطاً؛ لأن العادة تتغير بالزيادة والنقصان، فكونها تجلس يومين له وجه على اعتبار أن هذه المرأة لأول مرة يحصل لها الفساد بعدما حاضت المدة التي تعرفها وزادت يومين، فيمكن أن تكون العادة تغيرت، فتجلس يومين تضيفها إلى العادة، لكن إذا زاد الدم على ذلك فإنه يكون استحاضة.(43/20)
تراجم رجال إسناد أثر الحسن وقتادة
قوله: [وروى يونس عن الحسن].
يونس بن عبيد ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، والحسن بن أبي الحسن البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وقال التيمي عن قتادة].
والتيمي هو سليمان بن طرخان التيمي، والد المعتمر، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وقتادة هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وسئل ابن سيرين عنه فقال: النساء أعلم بذلك].
وسئل ابن سيرين -وهو محمد بن سيرين - عنه، يعني إذا حصل زيادة فقال: النساء أعلم بذلك، يعني: هن أدرى من غيرهن فيما يكون حيضاً وما لا يكون حيضاً، وذلك بمعرفتهن للون وللرائحة.(43/21)
شرح سنن أبي داود [044]
الاستحاضة شيء جعله الله عز وجل على بعض بنات حواء؛ وله أحكام تخصه، فينبغي على من ابتليت بالاستحاضة أن تعرف أحكامها؛ حتى لا تترك الصلاة والصيام وغيرها من العبادات في وقت هي مطالبة بها؛ فإن المستحاضة تصوم وتصلي وتعمل كل العبادات، إلا في الأيام التي تعتبرها حيضاً، إما بالعادة أو التمييز.(44/1)
(تابع) من قال: إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة(44/2)
شرح حديث حمنة في الاستحاضة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا زهير بن حرب وغيره قالا: حدثنا عبد الملك بن عمرو قال: حدثنا زهير بن محمد عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن إبراهيم بن محمد بن طلحة عن عمه عمران بن طلحة عن أمه حمنة بنت جحش رضي الله عنها أنها قالت: (كنت أستحاض حيضة كثيرة شديدة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أستفتيه وأخبره، فوجدته في بيت أختي زينب بنت جحش، فقلت: يا رسول الله! إني امرأة أستحاض حيضة كثيرة شديدة فما ترى فيها قد منعتني الصلاة والصوم؟! فقال: أنعت لك الكرسف فإنه يذهب الدم.
قالت: هو أكثر من ذلك.
قال: فاتخذي ثوباً.
فقالت: هو أكثر من ذلك، إنما أثج ثجاً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سآمرك بأمرين أيهما فعلت أجزأ عنك من الآخر، وإن قويت عليهما فأنت أعلم.
قال لها: إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله، ثم اغتسلي حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت فصلي ثلاثاً وعشرين ليلة أو أربعاً وعشرين ليلة وأيامها، وصومي؛ فإن ذلك يجزيك، وكذلك فافعلي في كل شهر كما تحيض النساء وكما يطهرن، ميقات حيضهن وطهرهن، وإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر فتغتسلين وتجمعين بين الصلاتين الظهر والعصر، وتؤخرين المغرب وتعجلين العشاء ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين؛ فافعلي، وتغتسلين مع الفجر؛ فافعلي، وصومي إن قدرت على ذلك.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهذا أعجب الأمرين إلي).
قال أبو داود: ورواه عمرو بن ثابت عن ابن عقيل قال: فقالت حمنة رضي الله عنها: فقلت: (هذا أعجب الأمرين إلي) لم يجعله من قول النبي صلى الله عليه وسلم؛ جعله كلام حمنة.
قال أبو داود: وعمرو بن ثابت رافضي رجل سوء، ولكنه كان صدوقاً في الحديث، وثابت بن المقدام رجل ثقة، وذكره عن يحيى بن معين.
قال أبو داود: سمعت أحمد يقول: حديث ابن عقيل في نفسي منه شيء].
سبق أن مر أن المستحاضة إما أن تكون عارفة بحيضها في إقباله وإدباره بلونه الأسود وأنه غليظ، وكذلك برائحته، فعند بداية إقبال الحيضة تترك الصلاة، وإذا انتهت -وذلك بإدبارها وذهاب ذلك اللون الأسود الغليظ الذي له رائحة خاصة تعرفها النساء- فإنها تغتسل عند نهاية قرئها وتصلي وتفعل ما تفعله الطاهرات؛ لأن ما زاد على الحيض ليس بحيض وإنما هو استحاضة، وهو دم فساد وليس بدم حيض، فيكون حكمها حكم الطاهرات: تصلي وتصوم وتقرأ القرآن ويباشرها زوجها، وكل شيء تفعله الطاهرات تفعله إلا أنها يجب عليها أن تتوضأ لكل صلاة، وتغتسل لكل صلاة استحباباً، وأما الوضوء فإنه واجب عليها لكل صلاة، فإذا كانت مميزة لحيضها بمعرفتها للونه ورائحته وإقباله وإدباره فإنها تمكث تلك المدة التي عرفت بها أنها حائض من أجل اللون والرائحة، وما زاد على ذلك أو ما بين الحيضتين فإنها تكون طاهراً تفعل ما يفعل النساء الطاهرات.
هذا إذا كانت مميزة لحيضها في حال استحاضتها، فإن كانت غير مميزة للحيض بمعرفة لونه ورائحته فإنها إذا كانت تعرف الأيام التي كانت تحيضها قبل أن تأتيها الاستحاضة وقبل أن تطرأ عليها الاستحاضة فإنها تمكث في تلك الأيام لا تصلي ولا تصوم، وهي خمسة أيام أو أربعة أيام أو ستة أيام من أول الشهر أو من وسط الشهر أو من آخر الشهر فتبني على ما كانت تعرفه من قبل، وتعتد بتلك الأيام التي كانت تأتيها من الشهر قبل أن تأتيها الاستحاضة، فإن لم تكن تعرف اللون والرائحة ولم تعرف الأيام لكونها مبتدأة، يعني: لم يسبق لها أن تحيض، ولكن جاءها هذا الدم واستمر معها بصفة دائمة، أو كانت تحيض من قبل ولكنها نسيت عدد الأيام التي كانت تجلسها أو نسيت في أي وقت كانت من الشهر؛ فإنها تأخذ بما أرشد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أورده أبو داود رحمه الله هنا، وهو حديث حمنة بنت جحش رضي الله تعالى عنها أخت زينب بنت جحش أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: (أنها جاءت إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وقالت: يا رسول الله! إني أستحاض حيضة كثيرة شديدة) فأشارت بقولها: (كثيرة) إلى كميتها، وبقولها: (شديدة) إلى كيفيتها، فهي كثيرة وشديدة، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال لها (أنعت لك الكرسف) وهو القطن، أي: أن تجعله في فرجها وتشده عليه حتى يمسك الدم، فقالت: هو أكثر من ذلك، قال: (ضعي عليه ثوباً) يعني: أضيفي إلى الكرسف شيئاً آخر زيادة.
قالت: (هو أكثر من ذلك إنما أثج ثجاً)، يعني: أنه يصب منها الدم بغزارة وبكثرة، ولا يمسكه لا القطن ولا الثياب؛ لأنه يسيل منها بغزارة وبكثرة، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال لها: (سآمرك بأمرين إن أخذت بأي واحد منهما أجزأك) ثم ذكر لها الأمرين، وهما: أن تجلس ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله عز وجل، فتجتهد وتختار لها ستة أيام أو سبعة أيام من الشهر فتجلسها وتترك الصلاة فيها، وهذا باعتبار أن غالب عادة النساء ستة أيام أو سبعة أيام، وأقله يوم وليلة، وأكثره خمسة عشر يوماً، فالرسول صلى الله عليه وسلم أناط الحكم بما هو الغالب على النساء وهو: ست أو سبعة أيام، والستة أو السبعة هي على اعتبار مثيلاتها من النساء ممن يماثلها، فتجعل حيضها إما ستة أيام وإما سبعة أيام، وتغتسل عند انتهاء الأيام الستة أو السبعة، وما زاد على ذلك وهو إما ثلاثة وعشرون يوماً أو أربعة وعشرون يوماً يكون حكمها حكم الطاهرات، وتتوضأ لكل صلاة وجوباً، وتغتسل لكل صلاة استحباباً، وأرشدها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أنها إذا قويت على أن تجمع بين الصلاتين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، وتغتسل لكل صلاتين من هاتين الصلاتين المجموعتين غسلاً واحداً وتغتسل للفجر، فإنها تفعل، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وهذا أعجب الأمرين إلي) يعني: كونها تجمع بين الصلاتين وتغتسل ثلاث مرات للظهر والعصر غسلاً واحداً، وللمغرب والعشاء غسلاً واحداً، وللفجر غسلاً واحداً.
فالحالة الأولى ليس فيها ذكر الاغتسال لكل صلاة، وفي الحالة الثانية وهي كونها تجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء تغتسل ثلاث مرات، لكن جاء في بعض الروايات أنها تغتسل لكل صلاة من الصلوات الخمس، وإذا أرادت أن تجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء فيكفيها ثلاثة أغسال: تغتسل للظهر والعصر غسلاً واحداً، وللمغرب والعشاء غسلاً واحداً، وللفجر غسلاً واحداً.
وهذا الحديث في حق من تكون غير مميزة لا باللون والرائحة ولا بالأيام التي كانت تحيضها من قبل؛ لأنها إما أن تكون مبتدئه أو ناسية أيام حيضها وعددها، فتعمل بما جاء في هذا الحديث.
فللنساء ثلاث حالات: من تعرف الحيض باللون والرائحة وهذا هو الأصل، ومن لا تعرف لوناً ولا رائحة للحيض، ولكنها تعرف مقدار الأيام التي كانت تحيضها قبل أن يحصل لها المرض، ومن لا تعرف هذا ولا هذا فإنها تأخذ بما جاء في حديث حمنة بنت جحش رضي الله عنها وأرضاها.
قوله: [عن حمنة بنت جحش رضي الله عنها أنها قالت: (كنت أستحاض حيضة كثيرة شديدة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أستفتيه وأخبره فوجدته)] قولها: (أستفتيه وأخبره) الواو هنا ليست للترتيب، والمعنى: أخبره وأستفتيه، فالإخبار عن حالها هو الأول، والمقصود من الإخبار هو الاستفتاء عما تصنع في صومها وصيامها، ويمكن أن نقول: إنها جاءت لتستفتي، والفتوى تأتي نتيجة الإخبار.
قوله: (فوجدته في بيت أختي زينب بنت جحش رضي الله عنها، فقلت: يا رسول الله! إني امرأة أستحاض حيضة كثيرة شديدة، فما ترى فيها؛ قد منعتني الصلاة والصوم؟! فقال: أنعت لك الكرسف؛ فإنه يذهب الدم) الكرسف هو القطن، وهو يذهب الدم، بمعنى: أنه إذا جعل على الفرج فإنه يعلق به الدم ويمنعه من السيلان، لكن إذا كان الدم كثيفاًَ كثيراً فلا ينفع فيه الكرسف ولا الثياب إذا كان يصب صباً ويثج ثجاً كما جاء عن حمنة في وصفها لاستحاضتها.
قوله: [(قالت: هو أكثر من ذلك.
قال: فاتخذي ثوباً.
فقالت: هو أكثر من ذلك؛ إنما أثج ثجاً.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: آمرك بأمرين أيهما فعلت أجزأ عنك من الآخر، وإن قويت عليهما فأنت أعلم، قال لها: إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان فتحيضي ستة أيام)] الركض في الأصل ضرب الرجل في الأرض، ومنه الجري ووقوع الرَجل على الأرض بشدة وبقوة عند الركض، والمقصود من هذا أن الشيطان يشوش على النساء في حال حصول هذا الفساد في دمائهن بحيث يشوش عليهن فيجعلهن في قلق، والرسول صلى الله عليه وسلم بين لها ماذا تصنع وما عليها أن تسلك، فقال: (تحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله)؛ لأنها لا تعلم العادة باللون والرائحة، ولا تعلم العادة بالأيام التي كانت موجودة من قبل، فهذه تعتبر نفسها حائضاً ستة أيام أو سبعة أيام على الغالب على النساء، وفيهن من يزيد حيضها وفيهن من ينقص عن هذا المقدار، واختيار هذه الستة الأيام أو السبعة يرجع إلى اختيارها؛ لأنه قال: (تحيضي ستة أيام أو سبعة) يعني: من الشهر، فإذا اختارت ستة أيام من أول الشهر تستمر عليها، وإذا اختارتها من وسط الشهر تستمر عليها، وإذا اختارتها من آخر الشهر تستمر عليها.
قوله: (ثم اغتسلي حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت فصلي) يعني: تغتسل قبل الأيام الستة أو السبعة غسل الحيض، فإذا طهرت من الحيض الذي اعتبرت أيامه ستة أو سبعة، واستنقأت -من النقاء وهو النظافة والنزاهة- وسلمت من ذلك الحيض فإنها تصلي.
قوله: [(حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت فصلي ثلاثاً وعشرين ليلة أو أربعاً وعشرين ليلة وأيامها،(44/3)
تراجم رجال إسناد حديث حمنة في الاستحاضة
قوله: [حدثنا زهير بن حرب].
هو زهير بن حرب أبو خيثمة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[وغيره].
يعني: وحدثه شخص، لكنه لم يسمه، ولهذا قال: قالا، وهذا يفيد أن ذلك الغير واحد، وهو أحياناً يقول: وغيره أو وجماعة أو ناس آخرون ثم يقول: قالوا، لكنه هنا قال: قالا، وهذا يدل على أن هذا الذي أبهمه شخص واحد.
[قالا: حدثنا عبد الملك بن عمرو].
عبد الملك بن عمرو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا زهير بن محمد].
زهير بن محمد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، ورواية أهل الشام عنه غير مستقيمة.
[عن عبد الله بن محمد بن عقيل].
عبد الله بن محمد بن عقيل صدوق في حديثه لين، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن إبراهيم بن محمد بن طلحة].
إبراهيم بن محمد بن طلحة ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عمه عمران بن طلحة].
عمران بن طلحة ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن حمنة بنت جحش].
حمنة بنت جحش رضي الله عنها صحابية، وحديثها أخرجه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وابن ماجة.(44/4)
رواية عمرو بن ثابت لحديث حمنة في الاستحاضة، وذكر ترجمته
[قال أبو داود: ورواه عمرو بن ثابت عن ابن عقيل قال: فقالت حمنة: فقلت: (هذا أعجب الأمرين إلي).
لم يجعله من قول النبي صلى الله عليه وسلم، جعله كلام حمنة].
ذكر أبو داود رحمه الله رواية الحديث من طريق عمرو بن ثابت، وهو ضعيف الحديث، أخرج حديثه أبو داود وابن ماجة في التفسير، وقد قال عنه أبو داود: إنه رافضي رجل سوء، ولكنه صدوق في الرواية، وقال عنه الحافظ في التقريب: إنه ضعيف، يعني: فلا يحتج بحديثه.
[قال أبو داود: ورواه عمرو بن ثابت عن ابن عقيل قال: قالت حمنة: فقلت: (هذا أعجب الأمرين إلي)].
يعني أن هذا الكلام من كلامها وليس من كلام الرسول، والذي مر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي قال: (وهذا أعجب الأمرين إلي).
[قال أبو داود: وعمرو بن ثابت رافضي رجل سوء، ولكنه كان صدوقاً في الحديث، وثابت بن المقدام رجل ثقة].
أبوه هو ثابت بن المقدام ثقة، وليس له رواية هنا، وإنما جاء ذكره عرضاً أو استطراداً، وفي التقريب قال: هو ابن أبي المقدام، وأبو داود سمى أباه ثابت بن المقدام، فـ المقدام هو جده، وفي التقريب قال: ابن أبي المقدام، فيحتمل أن يكون أبو المقدام كنية لـ ثابت، ويحتمل أن يكون قوله ابن أبي المقدام نسبة إلى جده.(44/5)
ترجمة ابن عقيل
[قال أبو داود: سمعت أحمد يقول: حديث ابن عقيل في نفسي منه شيء].
روى أبو داود كلام أحمد في ابن عقيل، وقد سأل الترمذي البخاري عنه فقال: حديث حسن، يعني: حديث ابن عقيل هذا، وكذلك الإمام أحمد جاء عنه أنه قال: حديث حسن، وهذا يدل على أن الإمام أحمد جاء عنه خلاف ما جاء في هذه الرواية، ويمكن أن يقال -كما قال في عون المعبود-: كان في نفسه منه شيء ثم تبين له أنه حسن، وفي نقل الترمذي عن الإمام أحمد وعن البخاري أنه حديث حسن دليل على أن التحسين موجود عند المتقدمين قبل الترمذي، ولكن الذي اشتهر عنه ذكر الحسن وأظهره وأبرزه وأكثر من استعماله هو الترمذي رحمه الله في جامعه؛ لأنه كان يستعمل ذلك بكثرة بعد الأحاديث، فيقول: حسن، حسن صحيح، حسن غريب، حسن صحيح غريب، وهكذا، ولكن ليس الترمذي هو الذي ابتدأ ذكره، ولكنه موجود من قبله كما نقله الترمذي عن البخاري وعن الإمام أحمد.
والجمع الذي في هذا الحديث ليس جمعاً صورياً، فالجمع الصوري فيه مشقة، فكونها تتحين آخر هذا وأول هذا فيه من المشقة ما فيه، لكن المقصود: أنها إما أن تعجل فيكون جمع تقديم، أو تؤخر فيكون جمع تأخير.(44/6)
كلمة حول الإسراء والمعراج(44/7)
حكم تخصيص ليلة سبع وعشرين من رجب باحتفال أو عبادة
نتكلم كلمة بمناسبة ليلة سبع وعشرين من رجب على ما يتعلق بليلة الإسراء والمعراج، فنقول: إن الليالي والأيام لا يعتبر لها فضائل ولا ميزات إلا بنص جاءت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن النبي الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه جاء عنه تخصيص بعض الأيام وبعض الليالي وتمييزها على غيرها، كليلة القدر التي جاء في القرآن أنها خير من ألف شهر، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضلها وفي تحريها أحاديث كثيرة.
وكذلك جاء في يوم عرفة أنه يصام لغير الحجاج، وأن صومه يكفر السنة الماضية والسنة الآتية.
وجاء في يوم عاشوراء أنه يكفر السنة الماضية.
فالمعتبر في تخصيص الليالي والأيام إنما هو السنة الثابتة عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وقد شاع عند كثير من الناس أن ليلة الإسراء والمعراج هي ليلة سبع وعشرين من رجب، ولهذا يختصونها بالاحتفاء بها وتمييزها على غيرها بالعبادة وبما يميزونها به، ومن المعلوم أنه لم يثبت أن ليلة المعراج هي ليلة سبع وعشرين من رجب، ولو كان ذلك ثابتاً في الصحيحين وفي غيرهما فليس لأحد أن يخصها بعبادة أو يميزها على غيرها بشيء؛ لأن التخصيص والتمييز لليالي والأيام إنما يكون طبقاً للدليل وطبقاً لما تأتي به السنة عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، ولم يحصل شيء من ذلك.
والنبي صلى الله عليه وسلم بعدما عُرج به إلى السماء مكث ثلاثة عشر عاماً ولم يحصل منه احتفال بهذه الليلة، ولا أمر بالاحتفال بهذه الليلة، فالمعراج حصل قبل الهجرة بثلاث سنين، وبعد الهجرة مكث صلى الله عليه وسلم في المدينة عشر سنين، ومع ذلك ما جاء عنه من فعله أنه ميزها بشيء، ولم يثبت من طرق صحيحة ثابتة أنها في ليلة معينة لا في ليلة سبع وعشرين ولا غير سبع وعشرين، ولو ثبت لم يكن لأحد أن يخصها بعبادة؛ لأن التخصيص إنما يكون وفقاً للدليل ووفقاً لما ثبتت به السنة عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
ومن المعلوم أن الخير كل الخير في اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام، واتباع أصحابه من بعده، وقد جاء بعده الخلفاء الراشدون: أبو بكر تولى سنتين وأشهراً، وعمر تولى عشر سنوات وأشهراً، ومدة عثمان اثنتا عشرة سنة وأشهر، وعلي أربع سنين وأشهر، ومدة خلافة الخلفاء الراشدين ثلاثون سنة ولم يأت عن أحد منهم أنه خص هذه الليلة بشيء أو ميزها على غيرها بشيء.
إذاً: تمييزها على غيرها وعمل عبادة فيها دون غيرها من الأيام ومن الليالي لم تأت به سنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقد جاء عن النبي الكريم عليه الصلاة والسلام ما يدل على أن التخصيص بالفضائل والتمييز بالعبادات إنما يكون وفقاً لما تأتي به السنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولهذا قال في الحديث المتفق على صحته من حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد)، وفي لفظ لـ مسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، وقال عليه الصلاة والسلام كما في حديث العرباض بن سارية: (فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) فهو عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث رغّب في اتباع السنة وحذر من الوقوع في محدثات الأمور، رغّب بقوله: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) ورهّب وحذر بقوله: (وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) فأخبر عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث أن كل محدثة في دين الله بدعة، وكل بدعة ضلالة، ولا يقال: إن في الإسلام بدعة حسنة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (كل بدعة ضلالة) فكيف يقال: إن في الإسلام بدعة حسنة والنبي صلى الله عليه وسلم وصف البدع كلها بأنها ضلالة؟! إذاً: الواجب هو اتباع الدليل، والحرص على متابعة النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، وإذا أراد الإنسان أن يخص بعض الليالي والأيام بشيء فليسأل عن الدليل، وليسأل عن السنة هل جاءت بذلك عن رسول صلى الله عليه وسلم كما جاء في يوم عرفة أنه يصام، وصومه يكفر السنة الماضية والآتية.
وكذلك تخصيص ست من شوال سواء كانت في أوله أو وسطه أو آخره مجتمعة أو متفرقة جاءت السنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام بأنها تصام.
وكذلك تخصيص يوم عيد الأضحى وثلاثة أيام بعده بالتقرب إلى الله عز وجل بذبح الهدايا وذبح النسك.
إذاً: تفعل العبادات في الأيام وفي المواسم التي شرع الله عز وجل أن تفعل فيها تلك العبادات، أما إذا لمم يأت شيء في ذلك عن رسول الله عليه الصلاة والسلام ثم يأتي الإنسان إلى ليلة من الليالي أو يوم من الأيام أو شهر من الشهور ويخصه بعبادات يميزه بذلك على غيره؛ فإن هذا من الأمور المحدثة، ومن الأمور المبتدعة في دين الله عز وجل، والنبي الكريم عليه الصلاة والسلام حث على اتباع السنن وحذر من الوقوع في البدع.(44/8)
شرط قبول الأعمال الصالحة
أي عمل من الأعمال يعمله الإنسان ويتقرب به إلى الله عز وجل شرط قبوله وكونه نافعاً عند الله أن يجتمع فيه أمران: أحدهما: أن يكون ذلك العمل خالصاً لوجه الله.
والثاني: أن يكون مطابقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلابد من توافر الإخلاص ولابد من توافر المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا فقدا معاً أو فقد واحد منهما فإن العمل مردود على صاحبه، فإذا فقد الإخلاص والمتابعة لرسول الله عليه الصلاة والسلام فالعمل مردود، وإن وجد الإخلاص ولكن العمل مبني على بدعة فإنه مردود ولو كان الإنسان مخلصاً فيه لله عز وجل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد)، وقوله: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، وقد جاء عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه بين للناس أن الأضحية من بعد صلاة العيد، فأحد الصحابة رضي الله عنه وأرضاه ذبح أضحيته قبل الصلاة وكان قصده طيباً، وكان يريد شيئاً حسناً، وهو أنه إذا فرغ الناس من صلاة العيد وهم محتاجون إلى اللحم يجدون أضحيته مطبوخة فتكون أول ما يأكل الناس من الأضاحي، فلما علم رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه ذبح قبل الصلاة قال له: (شاتك شاة لحم) يعني: ليست أضحية؛ وإنما هي مثل الذبيحة التي تذبحها في محرم وصفر وربيع من أجل أن تأكل، فهذه من جنسها؛ لأنها لم تقع في الوقت الذي شرع فيه ذبح الأضاحي وهو بعد الفراغ من صلاة العيد، وبعدما يصلي الناس صلاة العيد.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري نقلاً عن بعض أهل العلم أنه قال: وفي هذا دليل على أن العمل إذا وقع غير مطابق للسنة فإنه لا يعتبر، ولو كان قصد صاحبه حسناً.
فالإخلاص إذا وجد لابد معه من متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا هو معنى أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله؛ لأن قول: أشهد أن لا إله إلا الله، يعني: الإخلاص لله وحده، وأشهد أن محمداً رسول الله، يعني: المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم.
يقول شارح الطحاوية: هناك توحيدان لا نجاة للعبد إلا بهما: توحيد الرسول وتوحيد المرسل، وتوحيد المرسل -وهو الله- يكون بالإخلاص، وتوحيد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمتابعة، فلا يعبد إلا الله، ولا يعبد الله إلا طبقاً لما شرع رسول الله، فالعبادة لله وحده، وكون العبادة لله وحده لابد أن تكون على وفق سنة رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فهذا العمل الذي عمله ذلك الصحابي لم يعذره الرسول فيه، ولم يقل له: مادام أن قصدك حسن فشاتك أضحية، بل قال: (شاتك شاة لحم).
أيضاً أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه جاء إلى أناس متحلقين في المسجد وبأيديهم حصى، وفي كل حلقة شخص يقول لهم: سبحوا مائة.
فيسبحون ويعدون بالحصى: سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله، حتى يكملوا مائة، ثم يقول: كبروا مائة، فيكبرون: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ويكبرون مائة، فإذا قال: هللوا مائة، قالوا: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، وهكذا … فوقف على رءوسهم أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال: ما هذا يا هؤلاء؟! إما أنكم على طريقة أهدى من طريقة أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم أو أنكم مفتتحو باب ضلالة، وهم فهموا أنهم لا يكونون على طريقة أهدى من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، فبقيت الثانية وهي أنهم مفتتحو باب ضلالة، فقالوا: سبحان الله! يا أبا عبد الرحمن! ما أردنا إلا الخير.
فقال رضي الله عنه: وكم من مريد للخير لم يصبه! فالإنسان الذي قصده حسن ويخلص لله لابد أن يكون عمله مطابقاً لسنة رسول الله، ثم قال: عدوا سيئاتكم فأنا ضامن ألا يضيع من حسناتكم شيء، فكونهم يفعلون الأمر المبتدع يأثمون، والمشروع أن كل واحد يسبح الله تعالى في نفسه ولا يخفى على الله خافية، ولا يكون ذلك بالعد بالحصى، ولا بغير الحصى، وإنما الإنسان يعد ما ورد عده، مثل التسبيح بعد الصلاة ثلاثاً وثلاثين، والتحميد ثلاثاً وثلاثين، والتكبير ثلاثاً وثلاثين، ويقول عند تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، فهذا شيء جاءت به السنة، والإنسان يعد بأصابعه، ولكن كون الإنسان يسبح بحصى هذا شيء لم يأت به السنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولهذا قال أبو عبد الرحمن ما قال، ونبه إلى أن الصحابة هم القدوة وهم الأسوة وهم السابقون إلى كل خير، ولو كان خيراً لسبقوا إليه.(44/9)
بيان كيف صلح سلف الأمة، وبيان فضلهم
يقول الإمام مالك بن أنس رحمة الله عليه: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
فالذي صلح به الصحابة هو الذي يصلح به من بعد الصحابة، ولا طريق ولا سبيل للآخرين أن يصلحوا غير الطريقة التي صلح بها الصحابة، وذلك بالإخلاص والمتابعة، الإخلاص لله وحده؛ فتكون العبادة خالصة لوجه الله لا شرك لغيره فيها، كما قال عز وجل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم.
وقال مالك رحمة الله عليه أيضاً: ما لم يكن ديناً في زمن محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه فإنه لا يكون ديناً إلى قيام الساعة.
والمبتدع كأنه يقول: هناك حق أو عمل صالح غاب عن الصحابة، وخبئ لأناس يأتون بعدهم.
فالواجب على كل مسلم قبل أن يعمل العمل وقبل أن يخص ليلة من الليالي بشيء أو يوم من الأيام بشيء أن يسأل عن الدليل، ويسأل عن السنة في ذلك عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فإن كان في ذلك سنة ثابتة فعلى العين والرأس، وليقل: سمعنا وأطعنا، وإن كان ليس هناك شيء فيكفيه ما كفى خير هذه الأمة، وما كان عليه خير هذه الأمة، ولو كان ذلك خيراً لسبقونا إليه؛ لأنهم السباقون إلى كل خير، وهم الحريصون على كل خير، ما كان مثلهم أحد في الماضي ولا يكون أحد مثلهم في المستقبل، فهم خير الناس وأكمل الناس وأفضل الناس؛ فهم أفضل الناس بعد الأنبياء والمرسلين؛ لأن أمة محمد عليه الصلاة والسلام خير أمة أخرجت للناس، وخير أمة هم محمد أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام.
قال عليه الصلاة والسلام: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم).
وعلى هذا فتخصيص ليلة سبع وعشرين من رجب وتمييزها والاحتفاء بها والاحتفال بها لا يجوز، ولم يثبت أنها ليلة سبع وعشرين، ولو ثبت فليس هناك دليل على تخصيصها، فالواجب هو الوقوف عند الحدود التي حدت، والوقوف عند السنن، وعدم الوقوع في البدع، فإن كل خير في اتباع من سلف، وكل شر في ابتداع من خلف.(44/10)
الأسئلة(44/11)
الحكمة من تسليط الكفار على المسلمين
السؤال
فضيلة الشيخ! العلماء في بلدنا الآن يقتلون من قبل النصارى، فهل هذه فتنة عظيمة؟! وما الحكمة في ذلك؟
الجواب
لاشك أن هذه فتنة وشيء عظيم، نسأل الله عز وجل أن يخلص المسلمين علماءهم وعامتهم من كل شر، وأن يوفقهم لكل خير.
والحكمة هي ابتلاء وامتحان، ولاشك أن كل ما يجري وكل ما يحصل فلله في ذلك حكم كثيرة.(44/12)
حكم الجمع بين رفع الجنابة وسنة الجمعة في غسل واحد
السؤال
رجل أصابته الجنابة يوم الجمعة، فهل له أن يجمع بين غسل الجنابة وغسل الجمعة في غسل واحد؟
الجواب
يمكن أن يجمع بينهما، لكن لابد أن ينويهما جميعاً، وإذا اغتسل يوم الجمعة وأراد به رفع الحدث فإن الحدث يرتفع، فبدلاً من أن يغتسل غسلين: غسلاً للجنابة وغسلاً للجمعة يغتسل للجنابة ويكون للجمعة أيضاً.(44/13)
حكم صلاة تحية المسجد في أوقات النهي
السؤال
كيف التوفيق بين حديث: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) وبين حديث النهي عن الصلاة في الأوقات الثلاثة؟
الجواب
حديث الأوقات الثلاثة جاءت محددة عند طلوع الشمس وزوالها وغروبها، فلا يصلى فيها ولا يدفن فيها الموتى، وظاهرها يعارض حديث (لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس) فهذان حديثان عامان متعارضان في الظاهر، ولهذا اختلف العلماء في عموم هذا وفي عموم هذا، فمنهم من أخذ بعموم: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)، وقالوا: هو عام في جميع الصلوات، فيعم أي وقت سواء في وقت نهي أو غير وقت نهي، وقال بعض العلماء: حديث: (لا صلاة بعد العصر) عام في هذين الوقتين فلا يصلى أي صلاة إلا ما جاء نص على أنها من ذوات الأسباب، مثل قضاء الفوائت ومثل صلاة الجنازة وما إلى ذلك، وبعض أهل العلم يقول: إن تحية المسجد من ذوات الأسباب، وبعضهم يقول: إنها ليست من ذوات الأسباب، والذي نقوله: إن الأمر في ذلك واسع.(44/14)
فائدة جمع الأحاديث الضعيفة والموضوعة
السؤال
إن من طرق التأليف في الحديث كما هو معروف عند العلماء جمع الأحاديث الموضوعة والضعيفة، فهل لقائل أن يقول: إن هذه الطريقة فيها تسهيل وتيسير للناس حتى يرجعوا إلى الأحاديث الموضوعة والضعيفة، والأصل ألا يدل الناس على أماكنها حتى لا يغتروا بها؟
الجواب
من العلماء من أفرد الأحاديث الموضوعة في مؤلفات خاصة، وكذلك الضعيفة جمعوا جملة كبيرة منها، والمقصود من ذلك: بيان ضعفها؛ حتى لا يغتر بها، ولو ذكرها أحد فإنه يقال له: إن هذا لم يثبت عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
ففي مثل هذا العمل خدمة للناس ولطلبة العلم بأن يقفوا على الأحاديث الموضوعة والأحاديث الضعيفة، ويعرفوا حالها؛ فإذا وجدوا من يحتج بحديث ضعيف قالوا: هذا حديث ضعيف ليس صحيح، أو ليس بحجة، ولا يعول عليه، ولا يعمل به، وكذلك إذا كان موضوعاً، والمؤلفات موجودة منذقديم الزمان في الأحاديث الضعيفة، وكذلك الأحاديث الدائرة على الألسنة.(44/15)
حكم جماع المستحاضة
السؤال
هل يجوز جماع المستحاضة؟
الجواب
نعم، يجوز جماعها في حال اعتبارها طاهرة، وذلك في غير مدة الحيض التي كانت تجلسها، وهي تعرف ذلك أما باللون والرائحة أو بالأيام التي كانت تعرفها من قبل أو بالأيام الستة أو السبعة التي اعتبرتها حيضاً كما جاء في حديث حمنة، وما عدا ذلك فلزوجها أن يجامعها بعد أن تغتسل عند إدبار حيضها.(44/16)
حكم لبس الساعة المطلية بالذهب وحكم الاتجار بها
السؤال
ما حكم لبس الساعة المطلية بالذهب؟ وما حكم التجارة فيها؟
الجواب
الشيء الذي فيه الذهب لا يجوز للرجل أن يستعمله، وأما النساء فتستعمل الذهب الذي في الساعات، وفي الخواتم، وفي أي شيء، والرجال ليس لهم استعمال الذهب لا في قليل ولا في كثير، لا في خاتم، ولا في غير خاتم، إلا في أمر يضطر إليه كإنسان قطع أنفه، فيجعل مكانه شيء من الذهب أو سن من ذهب إذا انقلع، لا أن يلبسه من أجل أن يتجمل، أما كونه يتخذ خاتماً أو ساعة من ذهب أو مطلية بالذهب فكل ذلك ليس للرجل، والاتجار به فيما يتعلق باستعماله للنساء سائغ.(44/17)
حكم تكرار العمرة
السؤال
أنا شاب من مصر، والظروف لا تسمح لي بالحضور إلى الأراضي المقدسة كل عام، فهل يمكن أن أقوم بعمل أكثر من عمرة في الفترة الزمنية التي أقيم فيها بمكة أم لا يجوز؟ وبماذا تنصحني من الأعمال التي يمكن أن أؤديها في خلال الثلاثة الأيام التي سوف أقضيها في مكة؟
الجواب
الأيام التي تقضيها في مكة أكثر فيها من النوافل ومن قراءة القرآن، وأكثر من الطواف، وادع لنفسك ولمن تريد، هذا هو الذي يمكنك أن تفعله، وأما قضية تكرار العمرة، فإن تيسر لك أن تذهب إلى المدينة مرة أو مرتين وترجع إلى مكة، فلك أن تعتمر كلما ذهبت إلى مكة، أما كون الإنسان يكون بمكة ثم يتردد بين التنعيم والكعبة، ويأتي بعمرات فيقول: أنا اعتمرت في اليوم خمس مرات أو أربع مرات، فهذا لم تأت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في حق عائشة ولظرف خاص بها، فكون الإنسان يتردد بين الكعبة والتنعيم أو بين الكعبة والحل ويأتي بعمر متعددة لا نعلم شيئاً يدل عليه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الإنسان يكثر من الصلاة في المسجد الحرام، ويكثر من الطواف، ويكثر من قراءة القرآن، ويكثر من ذكر الله عز وجل، وهذا هو الذي يفعله الإنسان.(44/18)
حكم طواف الوداع لأهل مكة
السؤال
إذا كنت من أهل مكة، ثم خرجت منها إلى المدينة أو إلى الرياض بدون طواف وداع لعذر ضيق الوقت أو لكثرة الزحام، فما الحكم؟
الجواب
أهل مكة إذا أرادوا أن يخرجوا منها ليس عليهم طواف وداع.(44/19)
تقديم المستحاضة التمييز على العادة
السؤال
إذا تعارضت العادة والتمييز للمرأة المستحاضة فأيهما تقدم؟
الجواب
التمييز -وهو كونها تعرف اللون والرائحة- هو المقدم؛ لأن هذا شيء مشاهد ومعاين، وهو شيء حاصل، وأما العادة التي كانت تجلسها ستة أيام أو سبعة أيام قبل أن تأتيها الاستحاضة فهذه يصار إليها إذا لم يحصل تمييز للدم والرائحة؛ لأن هناك مكثاً بسبب معرفة اللون والرائحة، ومكثاً بسبب معرفة الأيام التي كانت قبل الاستحاضة، فوجود الدم بلونه ورائحته هو المعتبر، وإذا لم يوجد الدم بلونه ورائحته فيصار إلى معرفة الأيام التي كانت تحيضها قبل أن تأتيها الاستحاضة.(44/20)
الجمع بين حديث السبتيتين وحديث سماع الميت لقرع النعال
السؤال
كيف الجمع بين حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (يا صاحب السبتيتين اخلع نعليك فقد آذيت)، وبين قوله صلى الله عليه وسلم: (إنه ليسمع قرع نعالكم)؟
الجواب
لا يوجد تنافي بين هذا وهذا؛ لأن الناس في المقابر يبدءون بحفر القبور من مكان متأخر إلى أن يصلوا إلى الباب، فالناس يقبرون في أماكن متأخرة عن الباب، ثم بعد ذلك يمشون إلى أن يصلوا إلى الباب، ومن المعلوم أنهم إذا قبروا صاحب القبر ورجعوا في هذا المكان الذي ليس فيه قبور يمشون بنعالهم، أيضاً للإنسان أن يمشي بين المقابر إذا كان هناك طريق ليس فيه قبور، وأما المشي بين المقابر ولم يكن هناك ضرورة تلجئ إليه من رمضاء أو شوك أو حصى يلحق ضرراً بالإنسان فإن على الإنسان ألا يمشي بالنعال كما جاء في حديث صاحب السبتيتين.(44/21)
حكم من حكم بغير ما أنزل الله مع علمه بحرمة ذلك
السؤال
يقول: ما حكم من حكم بغير ما أنزل الله مع أنه عالم بأن الحكم بغير ما أنزل الله حرام، لكنه يقول: أنا أعرف أن حكم الله هو الأفضل والأنفع لعباده؛ لكنه حكم بغير ما أنزل الله لهوىً في نفسه أو انتقام من شخص؟
الجواب
الحكم في مسألة أو في مسائل متعددة بغير ما أنزل الله مع معرفة الحاكم أنه مخطئ، وأنه مال من شخص إلى شخص؛ لا شك أن هذا كبيرة من الكبائر، وهو كفر دون كفر، وإنما يكون الحكم بغير ما أنزل الله كفراً إذا استحله، وقال: إنه حلال، أو أن شريعة الله غير كافية أو شريعة الله لا تصلح لكل زمان، فهذا كفر مخرج من الملة، كمن لا يحكم بالشريعة لزعمه أن أحكامها لا تناسب هذا العصر، أو أن أحكامها فيها قسوة، وفيها شدة، ولا تلائم إلا الزمن الأول، فهذه ردة، وأما إذا اعتبر أنه مخطئ وأنه مذنب وأنه ظلم في قضية أو في قضايا لهوىً في نفسه على إنسان أو على أناس فهذا كفر دون كفر.(44/22)
حكم قصر الصلاة عند زيارة الأهل لمدة ثلاثة أيام في بلد الإقامة
السؤال
إذا كنت في بلد ما ساكناً ثم أتيت إلى المدينة للدراسة، فهل عند ذهابي إلى بلدي الأول يحق لي أن أقصر الصلاة؟ علماً بأني أذهب إلى بلدي ثلاثة أيام أو أربعة فقط؟
الجواب
بلدك الأول الذي هو موطنك إذا رجعت إليه ولو مكثت أدنى مدة فأنت مقيم فيه؛ لأنه بلدك وموطنك، وأنت ما هجرته، فما دام أنه لم يحصل هجران لذلك البلد فهو يعتبر بلدك، وما دام أهلك فيه وأنت تذهب إلى أهلك وتزورهم، فأنت من أهل ذلك البلد، وإذا ذهبت إلى الدراسة أو إلى أي مكان آخر غير بلدك، وجلست فيه مدة طويلة أو قصيرة تزيد على أربعة أيام فحكمك حكم المقيمين، وإن كانت إقامتك في غير بلدك أربعة أيام فأقل فلك أن تقصر، وأما الجمع فتركه أولى في حق من كان مقيماً في حدود أربعة أيام فأقل حال السفر.(44/23)
شرح سنن أبي داود [045]
للمستحاضة أحكام كثيرة بينها أهل العلم، وهي مبنية على التخفيف والتيسير، وقد اختلف الفقهاء في بعض تلك الأحكام، ومعرفة الصحيح من الضعيف من الأحاديث الواردة في ذلك من أسباب معرفة الصواب فيما اختلف فيه.(45/1)
من روى أن المستحاضة تغتسل لكل صلاة(45/2)
شرح حديث: (إن هذه ليست بحيضة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من روى أن المستحاضة تغتسل لكل صلاة.
حدثنا ابن أبي عقيل ومحمد بن سلمة المرادي قالا: حدثنا ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير وعمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: (أن أم حبيبة بنت جحش رضي الله عنهما ختنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحت عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه استحيضت سبع سنين، فاستفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذه ليست بالحيضة، ولكن هذا عرق فاغتسلي وصلي.
قالت عائشة: فكانت تغتسل في مركن في حجرة أختها زينب بنت جحش حتى تعلو حمرة الدم الماء)].
هذه الترجمة معقودة لبيان أن المستحاضة تغتسل لكل صلاة، وهذا على سبيل الاستحباب، والذي على سبيل الوجوب هو الوضوء لكل صلاة، وأما الاغتسال لكل صلاة فإنما هو على سبيل الاستحباب.
وأورد أبو داود رحمه الله حديث عائشة في قصة أم حبيبة بنت جحش أخت زينب بنت جحش أم المؤمنين رضي الله عنها، وهي زوجة عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه وعنها: (أنها استحيضت سبع سنين، فاستفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل وتصلي، فكانت تغتسل لكل صلاة) هذه الرواية عن عائشة رضي الله عنها أوردها المصنف تحت باب الاغتسال لكل صلاة، وهذا الحديث فيه أنها كانت تغتسل لكل صلاة، وليس فيه أنه أمرها أن تغتسل لكل صلاة، لكن جاء في بعض الروايات الأمر بالاغتسال لكل صلاة؛ ولهذا اختلف العلماء في ذلك، فمنهم من قال: إن أم حبيبة أمرت بالاغتسال الواحد الذي هو للخروج من الحيض، والذي يعتبر بمثابة الطهر للمستحاضة، فكانت تغتسل لكل صلاة من فعلها ومن اجتهادها ومن حرصها، وفي بعض الروايات: أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي أمرها أن تغتسل لكل صلاة، فكانت تغتسل لكل صلاة، والاغتسال عند إدبار الحيض لا بد منه؛ لأنه غسل الحيض، وأما المستحب للمستحاضة فهو الاغتسال عند كل صلاة، ولا شك أن هذا فيه مشقة، وإذا فعلته المرأة فهو مستحب، وأما كونه واجباً عليها فإنه لا يجب عليها أن تغتسل عند كل صلاة.
فـ عائشة رضي الله عنها أخبرت عنها أنها كانت تغتسل لكل صلاة، وذهب كثير من أهل العلم إلى أن هذا الاغتسال لكل صلاة إنما هو من فعلها، وليس من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لها، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء عنه الأمر لها ولغيرها بالاغتسال لكل صلاة، ولكنه محمول على الاستحباب.(45/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن هذه ليست بحيضة)
قوله: [حدثنا ابن أبي عقيل].
هو عبد الغني بن أبي عقيل المصري، وهو ثقة، أخرج له أبو داود.
[ومحمد بن سلمة المرادي].
هو محمد بن سلمة المرادي المصري، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن الحارث].
هو عمرو بن الحارث المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة بن الزبير].
هو عروة بن الزبير بن العوام، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[وعمرة].
هي عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية، وهي ثقة، أخرج لها أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
هي عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق، من أوعية السنة وحفظتها، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقول عائشة رضي الله عنها: (فكانت تغتسل في مركن في حجرة أختها زينب بنت جحش حتى تعلو حمرة الدم الماء) سبق أن مر حديثها بهذا اللفظ، وأنها كانت تغتسل في حجرة أختها زينب بنت جحش في مركن، والمركن هو: إناء أو وعاء كبير.(45/4)
شرح حديث: (فكانت تغتسل لكل صلاة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عنبسة حدثنا يونس عن ابن شهاب قال: أخبرتني عمرة بنت عبد الرحمن عن أم حبيبة رضي الله عنها بهذا الحديث، قالت عائشة رضي الله عنها: (فكانت تغتسل لكل صلاة)].
أورد أبو داود الحديث من طريق عمرة عن أم حبيبة وفي آخره قالت عائشة: (فكانت تغتسل عند كل صلاة).
ويمكن أن يكون قوله: (عن أم حبيبة رواية، ويمكن أن يكون عن قصة أم حبيبة أو في أمر أم حبيبة، وسبق أن هذا إنما هو من فعلها.(45/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (فكانت تغتسل لكل صلاة)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
هو أحمد بن صالح المصري، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا عنبسة].
هو عنبسة بن خالد، وهو صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود.
[حدثنا يونس].
هو يونس بن يزيد الأيلي ثم المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب قال: أخبرتني عمرة بنت عبد الرحمن عن أم حبيبة].
ابن شهاب وعمرة تقدم ذكرهما، وأم حبيبة هي أخت زينب بنت جحش، وهي صحابية، أخرج حديثها البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وابن ماجة.(45/6)
شرح حديث: (إن هذه ليست بحيضة من طريق ثانية وتراجم رجال إسنادها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب الهمداني قال: حدثني الليث بن سعد عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها بهذا الحديث.
قال فيه: (فكانت تغتسل لكل صلاة)].
أورد أبو داود رحمه الله الحديث عن عائشة من طريق أخرى، وإسناده مثل الذي قبله.
قوله: [حدثنا يزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب الهمداني].
يزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب الهمداني ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثني الليث بن سعد].
هو الليث بن سعد المصري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة].
هؤلاء قد مر ذكرهم.(45/7)
اختلاف الرواة في حديث: (إن هذه ليست بحيضة)
[قال أبو داود: رواه القاسم بن مبرور عن يونس عن ابن شهاب عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها عن أم حبيبة بنت جحش رضي الله عنها، وكذلك رواه معمر عن الزهري عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها، وربما قال معمر: عن عمرة عن أم حبيبة رضي الله عنها بمعناه.
وكذلك رواه إبراهيم بن سعد وابن عيينة عن الزهري عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها، وقال ابن عيينة في حديثه: ولم يقل: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تغتسل، وكذلك رواه الأوزاعي أيضاً قال فيه: قالت عائشة: (فكانت تغتسل لكل صلاة)].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الطرق وفي بعضها عن عائشة، وفي بعضها عن عائشة عن أم حبيبة، والمشهور في الرواية أنها عن عائشة، وأم حبيبة هي صاحبة القصة، وعائشة تحدث بذلك عما أفتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: [رواه القاسم بن مبرور].
القاسم بن مبرور صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن يونس عن ابن شهاب عن عروة عن عمرة عن عائشة عن أم حبيبة].
هؤلاء مر ذكرهم.
[وكذلك رواه معمر عن الزهري عن عمرة عن عائشة، وربما قال معمر: عن عمرة عن أم حبيبة بمعناه].
وهذا الإسناد مثل إسناد القاسم بن مبرور، هذا قال: عن عمرة عن عائشة، ومعمر، يقول: عن عائشة وربما قال: عن أم حبيبة، وكلهم يروي ذلك عن الزهري.
[وكذلك رواه إبراهيم بن سعد وابن عيينة].
هو إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وابن عيينة هو سفيان بن عيينة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري عن عمرة عن عائشة، وقال ابن عيينة في حديثه: ولم يقل إن النبي صلى الله عليه وآلة وسلم أمرها أن تغتسل، وكذلك رواه الأوزاعي أيضاً قال فيه: قالت عائشة (فكانت تغتسل لكل صلاة)].
الأوزاعي هو أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(45/8)
شرح حديث: (أن أم حبيبة استحيضت سبع سنين) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي حدثني أبي عن ابن أبي ذئب عن ابن شهاب عن عروة وعمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة: (أن أم حبيبة استحيضت سبع سنين، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل، فكانت تغتسل لكل صلاة)].
هذا الحديث مثل الذي قبله.
قوله: [حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي].
هو محمد بن إسحاق بن محمد المسيبي، وهو صدوق، أخرج له مسلم وأبو داود.
[حدثني أبي].
هو إسحاق بن محمد المسيبي، وهو صدوق في حديثه لين، أخرج له أبو داود وحده.
[عن ابن أبي ذئب].
هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن أبي ذئب، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب عن عروة وعمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة].
هؤلاء مر ذكرهم.(45/9)
شرح حديث: (أن أم حبيبة استحيضت سبع سنين) من طريق أخرى وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هناد بن السري عن عبدة عن ابن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها: (أن أم حبيبة بنت جحش رضي الله عنها استحيضت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها بالغسل لكل صلاة) وساق الحديث].
أورد أبو داود رحمه الله حديث عائشة من طريق أخرى، ولكن فيه ذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي أمرها بالغسل لكل صلاة، فكانت تغتسل لكل صلاة، يعني: أنها عملت بالشيء الذي أمرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحديث الذي مضى فيه قول عائشة: (إنها كانت تغتسل لكل صلاة)، وهنا ذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرها أن تغتسل لكل صلاة، وساق الحديث، فكانت تغتسل لكل صلاة، فتكون قد أمرت ونفذت الأمر.
قوله: [حدثنا هناد بن السري].
هو هناد بن السري أبو السري وهو ثقة، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة.
[عن عبدة].
هو عبدة بن سليمان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن إسحاق].
هو محمد بن إسحاق المدني، وهو صدوق يدلس، وحديثه أخرجه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن الزهري عن عروة عن عائشة].
وهؤلاء قد مر ذكرهم جميعاً.(45/10)
شرح حديث: (استحيضت زينب بنت جحش)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ورواه أبو الوليد الطيالسي ولم أسمعه منه عن سليمان بن كثير عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (استحيضت زينب بنت جحش رضي الله عنها فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: اغتسلي لكل صلاة) وساق الحديث.
قال أبو داود: ورواه عبد الصمد عن سليمان بن كثير قال: (توضئي لكل صلاة)، قال أبو داود: وهذا وهم من عبد الصمد، والقول فيه قول أبي الوليد].
أورد أبو داود رحمه الله حديث عائشة من طريق أخرى، وفيه: أن زينب بنت جحش هي التي استحيضت، وأمرها أن تغتسل لكل صلاة، وساق الحديث، والقصة لـ أم حبيبة، وليست لـ زينب، فيكون ذكر زينب وهم، والصواب: أنها أم حبيبة بنت جحش؛ لأنها هي التي استحيضت، وأما زينب بنت جحش زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يثبت أنها كانت مستحاضة.
[قال أبو داود: ورواه أبو الوليد الطيالسي ولم أسمعه منه].
أبو الوليد الطيالسي هو هشام بن عبد الملك الطيالسي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وقوله: (ولم أسمعه منه) يفيد أن بينه وبينه واسطة؛ لأنه قال: لم أسمعه منه.
[عن سليمان بن كثير].
سليمان بن كثير لا بأس به في غير الزهري، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري عن عروة عن عائشة].
هؤلاء مر ذكرهم.
[قال أبو داود: ورواه عبد الصمد عن سليمان بن كثير].
عبد الصمد بن عبد الوارث ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وسليمان بن كثير قد مر ذكره.
قوله: [(توضئي لكل صلاة) قال أبو داود: وهذا وهم من عبد الصمد، والقول فيه قول أبي الوليد].
لفظه هنا: (توضئي لكل صلاة)، واللفظ الذي مر في رواية أبي الوليد، وكذلك اللفظ الذي مر في الحديث السابق فيه: (أمرها أن تغتسل لكل صلاة)، فيقول أبو داود: إن ذكر التوضؤ هنا في هذا الحديث وهم، وإنما الصواب ما ذكره أبو الوليد أنه أمرها بالاغتسال وليس بالتوضؤ، لكن التوضؤ جاء في أحاديث أخرى ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ستأتي، وسيأتي لها ترجمة خاصة.(45/11)
شرح حديث: (إنما هو عرق أو قال: عروق)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج أبو معمر حدثنا عبد الوارث عن الحسين عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة أنه قال: (أخبرتني زينب بنت أبي سلمة رضي الله عنهما أن امرأة كانت تهرق الدم، وكانت تحت عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن تغتسل عند كل صلاة وتصلي).
وأخبرني أن أم بكر أخبرته أن عائشة قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في المرأة ترى ما يريبها بعد الطهر: إنما هي، أو قال: إنما هو عرق أو قال: عروق)].
هذا من الأحاديث الدالة على أن الأمر بالاغتسال لكل صلاة إنما هو من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما جاء في الروايات الأخرى أنها كانت تغتسل، فيها اختصار، فبعضهم ذكر ما جاء في الآخر، وبعضهم ذكر ما جاء في الأول، فهي مأمورة، والآمر لها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نفذت، فجاء في بعض الروايات حكاية التنفيذ، وجاء في بعضها حكاية الأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم.(45/12)
تراجم رجال إسناد حديث: (إنما هو عرق أو قال: عروق)
قوله: [حدثنا عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج أبو معمر].
عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج أبو معمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الوارث].
هو عبد الوارث بن سعيد العنبري، وهو والد عبد الصمد الذي سبق أن مر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسين].
هو الحسين بن ذكوان المعلم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن أبي كثير].
هو يحيى بن أبي كثير اليمامي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سلمة].
هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وهو ثقة فقيه أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم.
[أخبرتني زينب بنت أبي سلمة].
زينب بنت أبي سلمة ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم، وحديثها عند أصحاب الكتب الستة.
قوله: [وأخبرني أن أم بكر أخبرته أن عائشة رضي الله عنها قالت: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في المرأة ترى ما يريبها بعد الطهر: (إنما هي، أو قال: إنما هو عرق، أو قال: عروق)].
يحيى بن أبي كثير هو الذي روى عن أبي سلمة عن زينب في الطريق الأولى، وروى أبو سلمة عن أم بكر أن عائشة قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في المرأة ترى ما يريبها بعد الطهر -يعني: ترى دماً بعد الطهر- قال: (إنما ذلك عرق) يعني: إذا تجاوز الدم ما كانت تعتاده المرأة، فإن هذا يكون عرقاً، ويكون استحاضة، ولا يعتبر عادة، فإن ذلك لا يؤثر عليها ما دام أن عادتها مستقرة، وتعرف الأيام، وتعرف اللون والدم، فما زاد على ذلك يعتبر استحاضة ولا يعتبر حيضاً.
[وأخبرني أن أم بكر].
يعني: أن أبا سلمة أخبر يحيى بن أبي كثير عن أم بكر، وهي مجهولة لا تعرف، أخرج حديثها أبو داود وابن ماجة.
[عن عائشة].
عائشة قد مر ذكرها.
[قال أبو داود: وفي حديث ابن عقيل الأمران جميعاً].
حديث ابن عقيل هو الذي سبق أن مر، وهو حديث حمنة، وفيه الأمران جميعاً، يعني: الاغتسال لكل صلاة، والجمع بين الصلاتين، ولكن حديث ابن أبي عقيل الذي سبق أن مر ليس فيه ذكر الاغتسال لكل صلاة، وإنما فيه ذكر الاغتسال ثلاث مرات: عندما تجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، والفجر، فتغتسل ثلاثة أغسال، وليس فيه الاغتسال لكل صلاة، اللهم إلا أن يكون جاء ذلك في طريق أخرى أو في رواية أخرى.
قال: [وفي حديث ابن عقيل الأمران جميعاً، وقال: (إن قويت فاغتسلي لكل صلاة وإلا فاجمعي)].
حديث حمنة السابق الذي فيه عبد الله بن محمد بن عقيل ليس فيه ذكر الاغتسال لكل صلاة، ولكن فيه ذكر الاغتسال في الأحوال الثلاث، وهي الحالة الثانية التي قالت: وهو أعجب إلي، أو التي قال فيها الرسول صلى الله عليه وسلم: (وهو أعجب الأمرين إلي).
[كما قال القاسم في حديثه].
القاسم هذا يحتمل أن يكون القاسم بن محمد بن أبي بكر وحديثه سيأتي، وفيه ذكر الجمع بين الاغتسال لكل صلاة، وكذلك الجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، فتغتسل عند كل صلاتين غسلاً واحداً، وتغتسل عند صلاة الفجر غسلاً واحداً، فإن كان يريد بالقاسم القاسم بن محمد فحديثه سيأتي، وإن كان يريد القاسم الذي روى الحديث في قصة حمنة الذي فيه عبد الله بن محمد بن عقيل والذي فيه الجمع فيحتمل أنه شخص آخر، وصاحب عون المعبود قال: يحتمل أن يكون هو القاسم بن مبرور.
[وقد روي هذا القول عن سعيد بن جبير عن علي وابن عباس رضي الله عنهما].
يعني: قضية الاغتسال لكل صلاة، وكذلك الجمع بين الصلاتين.(45/13)
شرح حديث: (استحيضت امرأة على عهد رسول الله فأمرت أن تعجل العصر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من قال: تجمع بين الصلاتين وتغتسل لهما غسلاً.
حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي عن شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (استحيضت امرأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرت أن تعجل العصر، وتؤخر الظهر وتغتسل لهما غسلاً، وأن تؤخر المغرب وتعجل العشاء وتغتسل لهما غسلاً، وتغتسل لصلاة الصبح غسلاً).
فقلت لـ عبد الرحمن: أعن النبي صلى الله عليه وآله سلم؟ فقال: لا أحدثك إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم بشيء].
أورد أبو داود رحمه الله باب من قال: تجمع بين الصلاتين وتغتسل لها غسلاً، يعني: للصلاتين، وسبق أن مر حديث في الجمع بين الصلاتين والاغتسال لهما غسلاً، ولكن المصنف رحمه الله كعادته يأتي بالتراجم المتنوعة، ويأتي بالأحاديث للاستدلال على الترجمة، وإن كان سبق أن مر الاستدلال بالحديث على أمور أخرى متقدمة، وقد مر في مواضع عديدة ذكر الاغتسال للظهر والعصر، وللمغرب والعشاء، وللفجر أي: الاغتسال ثلاث مرات في اليوم والليلة.
قوله: [(استحيضت امرأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمرت أن تؤخر الظهر وتعجل العصر وتغتسل لهما غسلاً، وأن تؤخر المغرب وتعجل العشاء وأن تغتسل لهما غسلاً، وتغتسل لصلاة الصبح غسلاً) هذا فيه ما ترجم له من ذكر الجمع بين الصلاتين، ثم قال في آخره: (قال شعبة: قلت لـ عبد الرحمن: أعن النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا أحدثك إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم بشيء)، وفي بعض النسخ: (لا أحدثك عن النبي صلى الله عليه وسلم بشيء)، ولكن في بعضها: (إلا بشيء).
فتكون (بشيء) متعلقة بأحدثك، يعني: لا أحدثك بشيء إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولعل ذكر الاستفهام جاء لأنه قال فيه: (أُمرت)، ولم ينص أن الآمر هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن الصحابي إذا قال: أُمرنا، أو نُهينا فالآمر والناهي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا من زيادة التوثق في الرواية والتحقق من رفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا فإن الآمر والناهي عندما يسند الصحابة الأمر إنما هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.(45/14)
تراجم رجال إسناد حديث: (استحيضت امرأة على عهد رسول الله فأمرت أن تعجل العصر)
قوله: [حدثنا عبيد الله بن معاذ].
هو عبيد الله بن معاذ بن معاذ العنبري، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا أبي].
هو معاذ بن معاذ العنبري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن القاسم].
هو عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وهو ثقة فقيه أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة مر ذكرها.(45/15)
شرح حديث: (أن سهلة بنت سهيل استحيضت)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد العزيز بن يحيى حدثني محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها: (أن سهلة بنت سهيل استحيضت فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرها أن تغتسل عند كل صلاة، فلما جهدها ذلك أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر بغسل، والمغرب والعشاء بغسل، وتغتسل للصبح).
قال أبو داود: ورواه ابن عيينة عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه: (أن امرأة استحيضت فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها) بمعناه].
أورد أبو داود رحمه الله حديث عائشة رضي الله عنها من طريق أخرى، وهو (أن سهلة بنت سهيل استحيضت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تغتسل لكل صلاة، فلما جهدها ذلك -يعني: شق عليها- أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر وتغتسل لهما غسلاً، وتجمع بين المغرب والعشاء وتغتسل لهما غسلاً، وتغتسل للصبح غسلاً) وهذا هو حديث القاسم الذي سبقت الإشارة إليه في قصة اغتسال المستحاضة وكونها تجمع بين الصلاتين.(45/16)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن سهلة بنت سهيل استحيضت)
قوله: [حدثنا عبد العزيز بن يحيى].
هو عبد العزيز بن يحيى الحراني، وهو صدوق ربما وهم، أخرج حديثه أبو داود والنسائي.
[حدثني محمد بن سلمة].
هو محمد بن سلمة الباهلي الحراني، وهو ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن، وهذا هو الذي ذكرت أنه يأتي اسمه مطابق لـ محمد بن سلمة المصري، فهذا حراني، وذاك مصري، والمصري الذي مر آنفاً هو من شيوخ أبي داود وأما الباهلي الحراني فهو من طبقة شيوخ شيوخه، يعني: لا يروي عنه إلا بواسطة، فإذا جاء محمد بن سلمة وهو من شيوخ أبي داود فالمراد به المصري، وإذا جاء محمد بن سلمة من شيوخ شيوخه فالمراد به الحراني، هذا الذي معنا في الإسناد.
[عن محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة].
هؤلاء مر ذكرهم جميعاً.
[قال أبو داود: ورواه ابن عيينة عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه: (أن امرأة استحيضت)].
هذا مثل الذي قبله، فـ القاسم بن محمد هو الذي قال: (أن امرأة استحيضت فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم) فهو مرسل.(45/17)
شرح حديث: (سبحان الله! إن هذا من الشيطان)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا وهب بن بقية أخبرنا خالد عن سهيل -يعني ابن أبي صالح - عن الزهري عن عروة بن الزبير عن أسماء بنت عميس رضي الله عنها قالت: (قلت: يا رسول الله! إن فاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها استحيضت منذ كذا وكذا، فلم تصل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! إن هذا من الشيطان، لتجلس في مركن، فإذا رأت صفرة فوق الماء فلتغتسل للظهر والعصر غسلا ًواحداً، وتغتسل للمغرب والعشاء غسلاً واحداً وتغتسل للفجر غسلاً واحداً، وتتوضأ فيما بين ذلك)].
أورد أبو داود حديث أسماء بنت عميس رضي الله تعالى عنها في قصة فاطمة بنت أبي حبيش، وفيه أن أسماء بنت عميس سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عما حصل لـ فاطمة بنت أبي حبيش، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لتجلس في مركن، فإذا رأت الصفرة فوق الماء، فلتغتسل للظهر والعصر غسلا ًواحداً) يعني: أنها إذا انتهى الحيض فإنها تكون بعد ذلك في حكم الطاهرات؛ لأنه قد انتهى زمن الحيض، وذلك يعرف إما بلونه إذا كانت تعرف اللون والرائحة، أو بانتهاء الأيام التي كانت تعرفها، وقيل: إن المقصود بقوله: (فإذا رأت الصفرة) أن هذا علامة على أن الحيض قد انتهى؛ لأن دم الحيض لا يكون فيه صفرة، وإنما يكون فيه السواد والغلظة، فيكون ذلك علامة على أن حيضها قد انتهى؛ لأنها وجدت الصفرة عندما اغتسلت، فعندما يكون الأمر كذلك تكون قد طهرت، فتغتسل وتجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، وتصلي صلاة الفجر في وقتها، وتغتسل ثلاثة أغسال، ففيه ما ترجم له المصنف، وهو الجمع بين الصلاتين للمستحاضة بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء.
قوله: [(إن فاطمة بنت أبي حبيش استحيضت منذ كذا وكذا فلم تصل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! إن هذا من الشيطان) معناه: كأنه مضى عليها وقت وهي على هذه الحالة، وهي تظن أنها حائضة، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمرها أن تغتسل إذا رأت الصفرة فوق الماء؛ لأن هذا معناه: أنه ذهب عنها الحيض، وصارت مستحاضة.
وقوله: (وتتوضأ فيما بين ذلك) قيل: معناه بين الصلاتين التي تجمعهما، وقيل: المقصود: بين الحيضتين؛ لأن المرأة في حال حيضها ليس عليها وضوء، وإنما الوضوء في حال الطهر.(45/18)
تراجم رجال إسناد حديث: (سبحان الله! إن هذا من الشيطان)
قوله: [حدثنا وهب بن بقية].
وهب بن بقية ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[أخبرنا خالد].
هو خالد بن عبد الله الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سهيل يعني ابن أبي صالح].
سهيل بن أبي صالح صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة، والبخاري روى له مقروناً وتعليقاً.
[عن الزهري عن عروة بن الزبير عن أسماء بنت عميس].
هي أسماء بنت عميس الخثعمية، وهي صحابية، أخرج حديثها أصحاب الكتب الستة.
وهي كانت زوجة جعفر بن أبي طالب، ثم تزوجها بعد ذلك أبو بكر الصديق، ثم تزوجها علي، وقد ولدت لهم جميعاً.
[قال أبو داود: رواه مجاهد عن ابن عباس: (لما اشتد عليها الغسل أمرها أن تجمع بين الصلاتين)].
مجاهد هو ابن جبر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وابن عباس هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: [قال: (لما اشتد عليها الغسل أمرها أن تجمع بين الصلاتين)] يعني: أمرها أن تجمع بين الصلاتين لما اشتد عليها الغسل خمس مرات.
[قال أبو داود: رواه إبراهيم عن ابن عباس].
إبراهيم هو النخعي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وهو قول إبراهيم النخعي وعبد الله بن شداد].
عبد الله بن شداد من ثقات التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وإبراهيم النخعي أدرك زمن ابن عباس، فقد توفي ابن عباس سنة (68هـ) بالطائف، وتوفي النخعي سنة (96هـ) وهو ابن خمسين سنة أو نحوها، فيكون عمره يوم وفاة ابن عباس (28) سنة تقريباً.
وذكر في (تهذيب التهذيب) أنه لم يسمع من ابن عباس، ومعنى هذا: أنه قد يكون روى عنه مرسلاً، وهو كثير الإرسال، فيمكن أنه يروي عنه مرسلاً، وقد رجعت إلى (تهذيب التهذيب) وفيه: ولم يسمع من ابن عباس، ولم يسمع من فلان، ولم يسمع من فلان من الصحابة.
وهذا معناه أنه يرسل عنهم، فيكون هناك واسطة بينه وبينهم، فهو منقطع.
وإبراهيم النخعي عندما يأتي في الأسانيد وفي الرجال أو في كتب الفقه أو في كتب الحديث قد يقولون: إبراهيم، وهو إبراهيم النخعي، وغالباً ما يأتي ذكره بدون نسبته؛ لأنه مشهور بهذا.(45/19)
الأسئلة(45/20)
حكم رفع الأيدي في تكبيرات صلاة العيدين والاستسقاء
السؤال
هل ترفع الأيدي في تكبيرات صلاة العيدين؟
الجواب
لا أعلم شيئاً يدل على ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك في صلاة الاستسقاء.(45/21)
حكم العزل
السؤال
في أي الأحول يجوز العزل؟ وهل يجوز في كل حال؟
الجواب
يقول العلماء: لا يعزل عن الحرة إلا بإذنها، وكانوا يعزلون عن الإماء خشية أن يحملن فيصرن أمهات أولاد، وأم الولد هي: الأمة إذا حملت من سيدها، فإذا ولدت صارت أم ولد، لا تباع، فكانوا يريدون أن يستمتعوا بهن ولا يريدون أن يحملن حتى يتمكنوا من الاستفادة من بيعهن، والرسول صلى الله عليه وسلم جاء عنه ما يدل على جواز العزل، كما جاء عن أبي سعيد رضي الله عنه: (كنا نعزل والقرآن ينزل، ولو كان شيئاً ينهى عنه لنهانا عنه القرآن)، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ليس من كل المني يكون الولد) رواه مسلم، ومعناه: أن الله عز وجل إذا قدر مجيء الولد جاء ولو وجد العزل؛ وذلك بأن تنطلق قطرة من غير اختيار الإنسان، وكما يقولون: الحرص يفوت على الحريص الشيء الذي كان يريده، فيحصل الشيء الذي قدره الله؛ لأن الولد لا يأتي من مجموع المني، وإنما يأتي من نطفة واحدة، فقد تنطلق نطفة واحدة ممن يريد أن يعزل فيحصل الولد الذي أراده الله، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.(45/22)
هل ولد للنبي ولد في الجاهلية اسمه عبد العزى؟
السؤال
هل كان للنبي صلى الله عليه وسلم ولد من خديجة رضي الله عنها اسمه عبد العزى؟ فقد روى البخاري في التاريخ الأوسط عن ابن أبي أويس قال: حدثني أخي عن سليمان عن هشام بن عروة أنه قال: ولد لرسول الله صلى الله عليه وسلم من خديجة بمكة عبد العزى والقاسم؟
الجواب
هذا الإسناد معضل، فهناك واسطة بين هشام والصحابة، فهو يروي عن عروة، وعروة يروي عن الصحابة، فسقط من إسناده اثنان.(45/23)
حكم جمع المستحاضة للصلاتين بدون حاجة
السؤال
هل للمستحاضة أن تجمع بين الصلاتين بدون حاجة؟
الجواب
الذي يظهر أنه جاء في بعض الروايات (للمشقة)، فالمستحاضة الأحوط لها ألا تجمع إلا إذا كانت محتاجة إلى ذلك بسبب المشقة عليها أو بسبب ما تعانيه من ضرر؛ ولهذا رأى العلماء أن المريض يجمع استناداً إلى حديث المستحاضة؛ لأنها تعتبر مريضة، والمريض لا يجمع إلا إذا حصلت له مشقة.(45/24)
حكم تقبيل يد أم الزوجة أو جبينها
السؤال
هل يجوز للرجل أن يقبل يد أم زوجته أو جبينها أو يعانقها عند السفر؟
الجواب
له أن يقبل رأسها، ولا يقبل جبينها، ولا يقبل يدها، ولكن يقبل رأسها فوق الخمار.(45/25)
حكم خروج المني من فرج المرأة بعد اغتسالها من الجنابة
السؤال
أحياناً يخرج من فرج المرأة مني زوجها بعد فراغها من غسل الجنابة، فماذا تفعل؟
الجواب
لا تعيد الغسل، والذي ينبغي لها أن تصبر مدة للاغتسال، وإذا خرج شيء بعد ذلك فليس عليها غسل، لكن تحتاج إلى إعادة الوضوء؛ لأن كل ما يخرج من السبيلين ناقض للوضوء، وخروج المني الذي يوجب الاغتسال هو ما خرج بتدفق ولذة.(45/26)
حكم قصر المسافر إذا نوى البقاء أكثر من أربعة أيام
السؤال
أشهد الله أنني أحبكم في الله.
المسافر إذا نوى البقاء أكثر من أربعة أيام هل له أن يقصر خلال تلك الأيام الأربعة إذا فاتته الجماعة؟
الجواب
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المتحابين فيه، وأن يوفقنا جميعاً لما يرضيه.
المسافر إذا مكث أكثر من أربعة أيام فإن حكمه حكم المقيمين، أما أربعة أيام فأقل فإن حكمه حكم المسافر؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام حجة الوداع في اليوم الرابع، ومكث فيها أربعة أيام ينتظر الحج، ولما جاء الحج ذهب منها إلى منى، وكان في تلك المدة يقصر، وهذه إقامة محققة هنا؛ لأنه ينتظر الحج، ولم يأت أكثر من هذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام إقامة محققة يعلم أنه سيبقاها من حين وصوله إلى ذلك التاريخ إلا في هذه المسألة، أما غيرها من الأوقات الأخرى في تبوك وما إلى ذلك فليس في شيء منها ما يدل على أنه أقام إقامة محققة، ومن المعلوم أن المسافر إذا كان متردداً في بلد لا يدري متى تنتهي حاجته، ولا يدري متى يغادر ذلك البلد، فله أن يقصر ما دام أنه لم يعزم على إقامة أربعة أيام، فالذي ثبت أنه أقام إقامة محققة هو أربعة أيام في حجة الوداع، فمن زاد على أربعة أيام يكون حكمه حكم المقيمين، ومن أقام دونها فإن حكمه حكم المسافر.
وفي فتح مكة أقام النبي صلى الله عليه وسلم بها سبعة أيام، لكن لا يوجد ما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل مكة وهو يريد أن يبقى هذه المدة، وإنما كان متردداً، وهكذا كان يقصر الصلاة وهو مقيم في تبوك.(45/27)
حكم صوم المسافر للنافلة
السؤال
هل الأولى للمسافر الفطر أم صوم النافلة؟
الجواب
الأولى للمسافر إذا كان عليه مشقة أن يفطر، سواء كان في صوم نافلة أو فريضة.(45/28)
حكم قبول هدية الطعام
السؤال
هل للشخص إذا أهدي له طعام أن يرده أو يقبله؟
الجواب
إذا كان الطعام الذي أهدي له ليس فيه محظور، ولا فيه إشكال؛ فالأولى أن يقبله، وإذا كان ليس بحاجة إليه فليعطه غيره.(45/29)
حكم اغتسال المستحاضة لكل صلاة
السؤال
قال الحافظ رحمه الله: يحمل الأمر -أي: أمر المستحاضة بالاغتسال لكل صلاة- على الندب جمعاً بين الروايتين، ألا يمكن أن يكون هذا الجمع وجيهاً جمعاً بين الروايات؟
الجواب
نعم، فالصارف للأمر عن الوجوب أنه جاء ما يدل على أنها تتوضأ، فالغسل عليها ليس بلازم.(45/30)
سبب عدم أمر النبي صلى الله عليه وسلم المستحاضة بالقضاء لما فاتها من الصلاة
السؤال
في الحديث الأخير لماذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم المستحاضة بقضاء الصلاة؟
الجواب
لأنها مضى عليها فترة طويلة جداً، والقضاء يشق عليها، وهذا مثل حديث الذي أساء في صلاته؛ فإنه لم يأمره أن يعيد الصلوات التي مضت عليه، مع أمره بإعادة تلك الصلاة النافلة، ولكن الصلوات التي مضت عليه لم يأمره أن يعيدها، فهذا من جنسه، فإذا كانت المدة طويلة جداً فلا قضاء؛ للمشقة الشديدة.(45/31)
شرح سنن أبي داود [046]
الحيض دم جبلة وطبيعة يخرج من المرأة دورياً، وعنده تمتنع المرأة من بعض العبادات، لكن قد تمرض المرأة فيخرج منها دم غير دم الحيض يستمر أشهراً أو أكثر، وهو ما يسمى بالاستحاضة، وعندئذ قد لا تميز المرأة بين دم الحيض ودم الاستحاضة، ولكن قد بينت السنة النبوية ما تفعله المستحاضة وما تتركه.(46/1)
من قال تغتسل المستحاضة من طهر إلى طهر(46/2)
شرح حديث: (المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من قال: تغتسل من طهر إلى طهر.
حدثنا محمد بن جعفر بن زياد قال، وحدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا شريك عن أبي اليقظان عن عدي بن ثابت عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم: (في المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل وتصلي والوضوء عند كل صلاة) قال أبو داود: زاد عثمان: (وتصوم وتصلي)].
هذا باب من قال إن المستحاضة تغتسل من طهر إلى طهر يعني: أنها تغتسل غسلاً واحداً، وهو الغسل الذي تتطهر به من الحيضة، وتقبل على الطهر الذي هو استحاضة بدون حيض؛ لأن المستحاضة عندما يأتيها الحيض يجتمع دم الاستحاضة ودم الحيض، وإذا انتهى زمن الحيض بقي دم الاستحاضة فقط، وهو دم الفساد الذي يخرج منها باستمرار، وهو لا يمنعها من الصلاة والصيام وسائر الأعمال التي تفعلها الطاهرات، هذا هو المقصود بالترجمة.
قوله: (تغتسل من طهر إلى طهر) يعني: أنه لا يجب عليها إلا غسل واحد، وهو الاغتسال الذي يكون عند إدبار حيضها، فإنها تغتسل لانتهاء الحيض منها، هذا هو الواجب، والأغسال الأخرى التي تكون عند كل صلاة وغيرها مندوبة مستحبة، وأما الغسل المتعين الواجب اللازم الذي لا بد منه فهو غسل الحيض، وهو الذي يكون عند إدبار حيضها، وانقطاع الدم الأسود الغليظ الذي له رائحة خاصة، ثم بقاء ذلك الدم الذي هو دم الاستحاضة والذي هو دم عرق وفساد.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث عدي بن ثابت عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المستحاضة: (تدع الصلاة أيام أقرائها) يعني: أيام حيضها، فإذا كانت مميزة فعلامته إقبال الدم الأسود الغليظ الذي له رائحة خاصة، فإذا انتهى ذلك الدم الأسود الغليظ الذي له رائحة خاصة تغتسل من الحيض، وإذا كانت غير مميزة ولكنها تعرف عادتها قبل أن تأتيها الاستحاضة، كأن كانت تعرف أنها تأتيها خمسة أيام -مثلاً- من أول الشهر؛ فإنها تجلس خمسة أيام من أول الشهر، يعني: نفس الأيام التي كانت تجلسها، فإذا انتهت الأيام اغتسلت غسل الحيض، وما عدا ذلك من الأغسال عند كل صلاة أو غير ذلك ليس بواجب.
وقوله: (ثم تغتسل وتصلي) هذا هو محل الشاهد للترجمة، فهو يدل على الغسل من طهر إلى طهر يعني: إذا طهرت اغتسلت وجوباً، ولا يجب عليها أن تغتسل إلا بعد مجيء الطهر الآخر، لكن لو جامعها زوجها فإنه يجب عليها أن تغتسل، ولو احتلمت فيجب عليها أن تغتسل؛ لأن هذا غسل وجد سببه، لكن حيث لا يوجد سبب يوجب الغسل كالجماع أو الاحتلام فإن الذي عليها إنما هو غسل الحيض.
وقوله: (والوضوء عند كل صلاة) أي: أنها عند كل صلاة تتوضأ لزوماً، ولكن الغسل ليس لازماً، ولكنه مندوب إليه ومستحب.
[قال أبو داود زاد عثمان: (وتصوم وتصلي)] يعني: أنها في تلك المدة تصلي وتصوم، فزاد فيه الصيام، والأول قال: (تغتسل وتصلي)، ومن المعلوم أن كل الأعمال التي هي مطلوبة من الطاهرات يسوغ لها أن تفعلها، فالطاهرات يصلين ويصمن ويحججن ويقرأن القرآن، ويجامعهن أزواجهن، ويمسسن المصاحف، وما إلى ذلك من الأمور التي هي سائغة في حق الطاهرات، وكذلك يسوغ للمستحاضة ذلك، وهذا مرض ودم فساد، وأما الدم الذي يكون منه المنع فهو دم الطبيعة الذي هو دم الحيض.(46/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها)
قوله: [حدثنا محمد بن جعفر بن زياد].
محمد بن جعفر بن زياد ثقة أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي.
[وعثمان].
عثمان بن أبي شيبة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن شريك].
شريك بن عبد الله النخعي الكوفي القاضي، وهو صدوق يخطئ كثيرا، ً وحديثه أخرجه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي اليقظان].
وهو عثمان بن عمير، وهو ضعيف اختلط أخرج حديثه أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن عدي بن ثابت].
وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
ثابت الأنصاري، وهو مجهول أخرج حديثه أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن جده].
قيل: إنه دينار، وقيل: إنه جده لأمه عبد الله بن يزيد، وقيل غير ذلك، وهو مختلف فيه.
الحديث فيه شريك القاضي وهو يخطئ كثيراً، وفيه ذلك الضعيف الذي هو أبو اليقظان، ولكن معناه جاء في روايات صحيحة وثابتة، ومنها الوضوء عند كل صلاة، وقد ذكر الحافظ في بلوغ المرام أن في راوية البخاري: (وتوضئي عند كل صلاة)، فالوضوء عند كل صلاة ثابت، وهذا الحديث قد جاء من طرق، والشيخ الألباني صحح الحديث بالشواهد، وإلا فإنه من حيث الإسناد فيه أبو اليقظان وهو مجهول، وفيه شريك النخعي الكوفي القاضي وهو صدوق يخطئ كثيراً، والأشد أن فيه ذلك المجهول.(46/4)
شرح حديث: (توضئي لكل صلاة وصلي)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (جاءت فاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر خبرها وقال: ثم اغتسلي ثم توضئي لكل صلاة وصلي)].
ذكر المصنف حديث فاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها وفيه قصتها التي تكررت وجاءت مراراً، وهي أنها كانت تستحاض، وأنها سألت الرسول أو سأله غيرها لها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أفتاها بأن تغتسل وتصلي عند إدبار الحيض، وتتوضأ لكل صلاة، وهذا مثل ما أشرت إليه في الحديث السابق من أن الوضوء لكل صلاة جاء في روايات متعددة وفي أحاديث متعددة.(46/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (توضئي لكل صلاة وصلي)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع].
وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
وهو سليمان بن مهران الكاهلي وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حبيب بن أبي ثابت].
وهو ثقة كثير التدليس والإرسال، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة].
عروة بن الزبير بن العوام، وهو ثقة فقيه، من فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق، التي حفظ الله تعالى بها الكثير من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي أنزل الله تعالى في براءتها مما رميت به من الإفك آيات تتلى في سورة النور، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وهم: أبو هريرة وابن عمر وابن عباس وأبو سعيد وأنس بن مالك وجابر بن عبد الله الأنصاري وأم المؤمنين عائشة، ستة رجال وامرأة واحدة.(46/6)
شرح حديث: (المستحاضة تغتسل مرة واحدة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن سنان القطان الواسطي حدثنا يزيد عن أيوب بن أبي مسكين عن الحجاج عن أم كلثوم عن عائشة رضي الله عنها في المستحاضة تغتسل -يعني: مرة واحدة- ثم توضأ إلى أيام أقرائها].
أورد أبو داود الأثر عن عائشة رضي الله عنها أن المستحاضة تغتسل مرة واحدة، يعني: عند انتهاء الحيض أو عند إدبار الحيض، وتتوضأ إلى أيام أقرائها يعني: أنها تتوضأ عند كل صلاة إلى أن يأتيها الحيض مرة أخرى.(46/7)
تراجم رجال إسناد حديث: (المستحاضة تغتسل مرة واحدة)
قوله: [حدثنا أحمد بن سنان القطان الواسطي].
وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا يزيد].
يزيد بن هارون الواسطي، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أيوب بن أبي مسكين].
أيوب بن أبي مسكين أبو العلاء الواسطي، وهو صدوق له أوهام، أخرج حديثه أبو داود والترمذي والنسائي.
[عن الحجاج].
الحجاج بن أرطأة وهو صدوق كثير الخطأ والتدليس، وحديثه أخرجه البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أم كلثوم].
أم كلثوم الليثية المكية ولم يذكر الحافظ عنها شيئاً، أخرج حديثها أبو داود والترمذي والنسائي في عمل اليوم والليلة.
وهذا الأثر عن عائشة مطابق للروايات الأخرى الثابتة الصحيحة في أن المرأة المستحاضة تغتسل عند إدبار حيضها، وأنها تتوضأ لكل صلاة، والاغتسال مستحب لها وليس بواجب.(46/8)
ذكر حديث (المستحاضة تغتسل مرة واحدة) من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن سنان القطان الواسطي حدثنا يزيد عن أيوب أبي العلاء عن ابن شبرمة عن امرأة مسروق عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله].
أورد المصنف الحديث من طريق أخرى عن عائشة، وهو مرفوع إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقال: مثله، أي: مثل ذلك الذي مرّ موقوفاً على عائشة.(46/9)
الخلاف في إثبات الوضوء لكل صلاة في حديث المستحاضة
[قال أبو داود: وحديث عدي بن ثابت، والأعمش عن حبيب، وأيوب عن أبي العلاء كلها ضعيفة لا تصح].
أبو داود رحمه الله بعدما ذكر تلك الأحاديث المرفوعة قال: إنها كلها ضعيفة لا تصح، ثم بين الوجه في ذلك وهو أنه اختلف على عدي بن ثابت في رفعها وفي وقفها، وقال: إن الذي صح عنده أنها موقوفة، وليست مرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: [وحديث عدي بن ثابت].
عدي بن ثابت هو الأول.
[والأعمش عن حبيب] هو الثاني.
[وأيوب أبي العلاء].
وأيوب أبو العلاء وهو الأخير، فرواه أحمد بن سنان القطان، عن يزيد بن هارون، عن أيوب أبي العلاء، يعني: فهذه الثلاثة المرفوعة كلها يضعفها أبو داود، وبعض أهل العلم يصححها، ويجعل بعضها يشهد لبعض، فإن الوضوء لكل صلاة جاء في غيرها.
قوله: [كلها ضعيفة لا تصح، ودل على ضعف حديث الأعمش عن حبيب هذا: الحديث أوقفه حفص بن غياث عن الأعمش.
وأنكر حفص بن غياث أن يكون حديث حبيب مرفوعاً].
يعني: حتى ابن غياث أنكر أن يكون مرفوعاً، وهو أحد رواته، وحفص بن غياث ثقة أخرج له أصحاب الكتب.
قوله: [وأوقفه أيضاً أسباط].
أسباط هو ابن محمد بن عبد الرحمن، وهو ثقة، ضعف في الثوري، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
قوله: [وأوقفه أيضاً أسباط عن الأعمش موقوف عن عائشة].
وهذا أيضاً وجه آخر لتضعيفه، وهو: أنه موقوف.
[قال أبو داود: ورواه ابن داود عن الأعمش مرفوعاً أوله، وأنكر أن يكون فيه الوضوء عند كل صلاة].
أوله هو أن تدع الصلاة أيام أقرائها، وآخره هو الوضوء عند كل صلاة، فجاء أوله مرفوعاً من طريق ابن داود، وهو عبد الله بن داود القريبي، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن، يروي عن الأعمش.
وفي الحديث: أنها تترك الصلاة، وتغتسل وتصلي، وتتوضأ لكل صلاة، وعقب الراوي بقوله: ليس فيه تتوضأ لكل صلاة.
إذاً: الرواية التي ذكرها عن طريق ابن داود فيها أول الحديث مرفوعاً، وأنكر أن يكون فيه (تتوضأ لكل صلاة) الذي هو آخر الحديث.
قوله: [ودل على ضعف حديث حبيب هذا: أن رواية الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: (قد كانت تغتسل لكل صلاة في حديث المستحاضة)].
يعني ما ذكرت الوضوء عند كل صلاة، وإنما ذكرت الغسل عند كل صلاة.(46/10)
ذكر من روى أن المستحاضة تغتسل كل يوم مرة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ورواية داود وعاصم، عن الشعبي، عن قمير، عن عائشة رضي الله عنها: (تغتسل كل يوم مرة)].
داود هو ابن أبي هند، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
وعاصم هو ابن سليمان الأحول، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الشعبي، عن قمير، عن عائشة].
وقد مر ذكرهم.
[تغتسل كل يوم مرة] يعني: هذا فيه أن الاغتسال كل يوم مرة.
[وروى هشام بن عروة، عن أبيه: (المستحاضة تتوضأ لكل صلاة)].
يعني: هذا أثر عن عروة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهذه الأحاديث كلها ضعيفة، إلا حديث قمير، وحديث عمار مولى بني هاشم، وحديث هشام بن عروة عن أبيه، والمعروف عن ابن عباس الغسل].
هذه المستثناة آثار وليست أحاديث، لكن قضية الوضوء عند كل صلاة ثابت، وقد جاء في صحيح البخاري، وجاء في غيره، وهذه الأحاديث التي ضعفها أبو داود قد صححها غيره، واعتبروا مجموع تلك الأحاديث يؤدي إلى شيء واحد، وهو: أن الوضوء لكل صلاة لابد منه.
عبد الملك بن أبي سليمان، هو ابن ميسرة وابن أبي سليمان، ابن ميسرة هو أبو سليمان؛ لأن الأول اسم أبيه، والثاني كنية أبيه.
ويوجد راو آخر هو: عبد الملك بن ميسرة الهلالي، أبو زيد العامري الكوفي الزراج، ثقة من الرابعة، يروي عن الشعبي، والأول أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن، وعلى كل النتيجة واحدة، سواء كان هذا أو هذا، لكن هذا لا شك أنه أقوى.(46/11)
من قال المستحاضة تغتسل من ظهر إلى ظهر(46/12)
شرح أثر ابن المسيب: (تغتسل من ظهر إلى ظهر)
قال رحمه الله تعالى: [باب من قال المستحاضة تغتسل من ظهر إلى ظهر حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي، عن مالك، عن سمي مولى أبي بكر: أن القعقاع وزيد بن أسلم أرسلاه إلى سعيد بن المسيب يسأله: كيف تغتسل المستحاضة؟ فقال: (تغتسل من ظهر إلى ظهر، وتتوضأ لكل صلاة، فإن غلبها الدم استثفرت بثوب)].
هذه الترجمة هي: [باب من قال تغتسل من ظهر إلى ظهر] يعني: من وقت الظهر إلى وقت الظهر.
وأورد أبو داود هذا الحديث، وفيه (من ظهر إلى ظهر)، وأبو داود ذكر بعد ذلك أنه (من طهر إلى طهر) ولكن حصل زيادة النقطة فتحول الطهر إلى الظهر، ولا وجه لكون الاغتسال يكون من ظهر إلى ظهر، وإنما الاغتسال الاغتسال الواجب من الطهر إلى الطهر، وأما الأغسال المستحبة فلكل صلاة، فإن اغتسلت لكل صلاة، أو اغتسلت لبعض الصلوات، أو جمعت بين الصلاتين واغتسلت لهما غسلاً واحداً؛ فكل ذلك مندوب، وإنما الواجب هو الغسل عند الانتهاء من الحيض.
وهذا الأثر عن سعيد بن المسيب أن القعقاع وزيداً أرسلا سمياً مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام إلى سعيد بن المسيب يسأله عن المستحاضة، فقال: (تغتسل من ظهر إلى ظهر) والصواب: من طهر إلى طهر.
قوله: [وتتوضأ لكل صلاة، فإن غلبها الدم استثفرت بثوب].
(فإن غلبها الدم) يعني: إذا كان يخرج منها بكثرة فإنها تستثفر بثوب حتى يمنع تقاطره على جسدها وعلى ثيابها وعلى الأرض، كما مر في قصة حمنة رضي الله عنها حيث قالت: (إني أستحاض حيضة شديدة كثيرة، فوصف لها الكرسف -الذي هو القطن- فقالت: هو أكثر من ذلك.
قال: شدي عليه ثوباً، قالت: هو أكثر من ذلك، إنما أفج فجاً).(46/13)
تراجم رجال إسناد أثر ابن المسيب: (تغتسل من ظهر إلى ظهر)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي].
هو عبد الله بن مسلمة القعنبي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
مالك بن أنس إمام دار الهجرة، الإمام الفقيه المحدث المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن سمي مولى أبي بكر].
سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أرسلاه إلى سعيد بن المسيب].
سعيد بن المسيب، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين بالاتفاق.
وأبو بكر بن عبد الرحمن هو أحد الفقهاء السبعة على أحد الأقوال في ذلك؛ فـ أبو بكر هو مولى سمي، وهو ليس من رجال الإسناد.
وسمي هذا ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وأبو بكر هو مولاه من أعلى؛ لأن المولى يكون من أسفل، ويكون من أعلى، يكون من أعلى وهو السيد، ومن أسفل هو العبد، الأعلى هو المعتِق، والأسفل هو المعتَق، وكل واحد منهما يقال له: مولى.(46/14)
ذكر اغتسال المستحاضة من ظهر إلى ظهر من طرق أخرى وبيان الغلط فيها
[قال أبو داود: وروي عن ابن عمر وأنس بن مالك: (تغتسل من ظهر إلى ظهر)].
يعني: مثل ما جاء عن سعيد، والمسألة فيها قلب، والصواب: (من طهر) ولكنه تحول إلى (ظهر)، وهذا يسمونه تصحيفاً.
[وكذلك رواه داود وعاصم عن الشعبي، عن امرأته، عن قمير، عن عائشة رضي الله عنها، إلا أن داود قال: (كل يوم).
وفي حديث عاصم: (عند الظهر).
وهو قول سالم بن عبد الله والحسن وعطاء].
داود هو ابن أبي هند، وعاصم هو الأحول.
[عن الشعبي].
هو عمرو بن شراحيل.
[عن امرأته].
ما أدري ما اسمها.
[عن قمير، عن عائشة].
قد مر ذكرهما.
قوله: [إلا أن داود قال: كل يوم].
يعني: أضاف من ظهر إلى ظهر كل يوم.
قوله: [وفي حديث عاصم: عند الظهر].
يعني: أنه عند الظهر ومعلوم أن هذا كما قال أبو داود: انقلاب وتصحيف.
بدل ما كانت (طهر) انقلبت إلى (ظهر)، أو تحولت إلى (ظهر)، أو صحفت إلى (ظهر).
قوله: [وهو قول سالم بن عبد الله].
سالم بن عبد الله بن عمر، أحد فقهاء المدينة السبعة في عهد التابعين على أحد الأقوال الثلاثة.
[والحسن].
هو الحسن بن أبي الحسن البصري، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وعطاء].
عطاء بن أبي رباح، مكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال أبو داود: قال مالك: إني لأظن حديث ابن المسيب: (من ظهر إلى ظهر) إنما هو (من طهر إلى طهر)، ولكن الوهم دخل فيه، فقلبها الناس فقالوا: (من ظهر إلى ظهر).
ورواه مسور بن عبد الملك بن سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع قال فيه: (من طهر إلى طهر) فقلبها الناس: (من ظهر إلى ظهر)].
مسور مقبول، أخرج له أبو داود وحده.(46/15)
من قال تغتسل المستحاضة كل يوم مرة ولم يقل عند الظهر(46/16)
شرح أثر علي: (المستحاضة إذا انقضى حيضها اغتسلت كل يوم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من قال تغتسل كل يوم مرة ولم يقل عند الظهر.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الله بن نمير عن محمد بن أبي إسماعيل -وهو محمد بن راشد -، عن معقل الخثعمي، عن علي رضي الله عنه قال: (المستحاضة إذا انقضى حيضها اغتسلت كل يوم، واتخذت صوفة فيها سمن أو زيت)].
قال في الترجمة السابقة: كل يوم مرة ولكن من الظهر إلى الظهر.
وهنا قال: (كل يوم مرة) ولم يقل: من الظهر إلى الظهر، وإنما أطلق.
وكلمة (من قال) في هذه التراجم هو رأي، وليس رواية؛ لأنهم قالوا: إنها تغتسل من كذا إلى كذا؛ يعني: من ظهر إلى ظهر، ولا توجد هنا رواية مرفوعة مثل التراجم التي سبقت، وكأن المقصود بها من قال رأياً، يعني قاله برأي منه أو باجتهاد منه، فليست كل التراجم التي مرت وفيها ذكر (من قال) على نسق واحد من حيث المعنى؛ لأن الروايات السابقة كان في أولها أنها تدع الصلاة أيام أقرائها، وأنها إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة، وإذا أدبرت تغتسل وتصلي، وكل هذه رواية، وفي هذه التراجم الأخيرة إنما هي آراء وليست رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(باب من قال تغتسل كل يوم مرة ولم يقل عند الظهر) هذا مثل الترجمة السابقة، إلا أن الأولى مقيدة في أنها من الظهر إلى الظهر، وهذه كل يوم، وليس فيها تقييد بأنها من كذا إلى كذا.
قوله: [(المستحاضة إذا انقضى حيضها اغتسلت كل يوم، واتخذت صوفة فيها سمن أو زيت)].
سمن أو زيت من أجل تمسك الدم.(46/17)
تراجم رجال إسناد أثر علي: (المستحاضة إذا انقضى حيضها اغتسلت كل يوم)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الإمام المشهور، الفقيه المحدث، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن نمير].
ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن أبي إسماعيل -وهو محمد بن راشد -].
هو محمد بن راشد، وأبو إسماعيل هو راشد، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن معقل الخثعمي].
هو راو مجهول، أخرج له أبو داود وحده.
[عن علي].
هو علي بن أبي طالب، وقد مر ذكره.
الإسناد فيه معقل الخثعمي، وهو مجهول، فالحديث ضعيف.(46/18)
من قال تغتسل المستحاضة بين الأيام(46/19)
شرح أثر القاسم: (تدع الصلاة أيام أقرائها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من قال تغتسل بين الأيام حدثنا القعنبي، حدثنا عبد العزيز -يعني: ابن محمد - عن محمد بن عثمان أنه سأل القاسم بن محمد عن المستحاضة، فقال: (تدع الصلاة أيام أقرائها، ثم تغتسل فتصلي، ثم تغتسل في الأيام)].
هنا قال: (تغتسل في الأيام)، والترجمة مطلقة، وليس فيها التقييد بأن تغتسل كل يوم مرة، ومن الظهر إلى الظهر، وإنما قال: (تغتسل في الأيام) يعني: بعد انتهاء الحيض تغتسل غسل الجنابة، ثم بعد ذلك تصلي وتصوم وتغتسل في الأيام، يعني: في الأيام التي هي فيها في حكم الطاهرات، إلى أن يأتي الحيض مرة أخرى، وعند ذلك تمسك عن الصلاة وعن الصيام وعن الأمور التي تمتنع منها الحُيض.
قوله: (ثم تغتسل فتصلي) أي: تغتسل غسل الانتهاء من الحيض الذي لابد منه، (ثم تغتسل في الأيام) يعني: تغتسل في الأيام التي تكون فيها مستحاضة وليست بحائض، وهنا لا يوجد تحديد لعدد الأغسال، وإنما قال: (في الأيام) بدون تحديد.
وهذا أثر عن القاسم بن محمد بن أبي بكر.(46/20)
تراجم رجال إسناد أثر القاسم: (تدع الصلاة أيام أقرائها)
قوله: [حدثنا القعنبي عن عبد العزيز -يعني: ابن محمد -].
هو ابن محمد الدراوردي، صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن عثمان].
محمد بن عثمان بن عبد الرحمن، صدوق، أخرج له أبو داود.
[سأل القاسم بن محمد].
القاسم بن محمد بن أبي بكر، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(46/21)
من قال تتوضأ المستحاضة لكل صلاة(46/22)
شرح حديث: (دم الحيض أسود يعرف)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من قال تتوضأ لكل صلاة حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا ابن أبي عدي، عن محمد -يعني: ابن عمرو - قال: حدثني ابن شهاب، عن عروة بن الزبير عن فاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها: (أنها كانت تستحاض، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: إذا كان دم الحيض فإنه دم أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي)].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة، وهي: من قال تتوضأ لكل صلاة.
يعني: بعد انتهاء حيضها، وعندما تكون مستحاضة غير حائض فحكمها حكم الطاهرات.
عن فاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (إذا كان دم الحيض فإنه دم أسود يعرف)، يعني: إذا حصل لك دم الحيض فعلامته: أنه أسود يُعرِف، أي: من الرائحة، أو (يُعرَف) تعرفه النساء (فأمسكي عن الصلاة) قوله: (وإذا كان الآخر) يعني: الذي هو ليس بأسود ولا بغليظ (فتوضئي وصلي) أي: بعد الاغتسال من الحيض؛ لأنه لابد من الاغتسال من الحيض عند انتهائه، وأيضاً تتوضأ لكل صلاة.(46/23)
تراجم رجال إسناد حديث: (دم الحيض أسود يعرف)
قوله: [حدثنا محمد بن المثنى].
محمد بن المثنى أبو موسى العنزي الزمن، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة، رووا عنه مباشرة وبدون واسطة.
[حدثنا ابن أبي عدي].
محمد بن إبراهيم بن أبي عدي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد -يعني ابن عمرو -].
هو محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي، وهو صدوق له أوهام، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[حدثني ابن شهاب].
هو: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة بن الزبير، عن فاطمة بنت أبي حبيش].
عروة قد مر ذكره.
وفاطمة بنت أبي حبيش صحابية، أخرج حديثها أبو داود والنسائي وابن ماجة.(46/24)
ذكر الخلاف في الرفع والوقف لحديث: (تتوضأ لكل صلاة) وتراجم رجاله
[قال أبو داود: قال ابن المثنى: وحدثنا به ابن أبي عدي حفظاً فقال: عن عروة، عن عائشة: أن فاطمة].
اللفظ الأول هو من مسند فاطمة، والثاني من مسند عائشة، وقوله: (حدثنا به ابن أبي عدي حفظاً) يعني: من حفظه، (فقال: عن عروة، عن عائشة أن فاطمة) فيكون الحديث من مسند عائشة في هذه الرواية، وفي الرواية السابقة من مسند فاطمة.
[قال أبو داود: وروي عن العلاء بن المسيب وشعبة عن الحكم، عن أبي جعفر، قال العلاء: عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأوقفه شعبة على أبي جعفر: (تتوضأ لكل صلاة)].
ثم أورد الحديث من طرق أخرى، بعضها موقوف وبعضها مرفوع، ولكنه مرسل، فذكر أن منهم من وقفه على أبي جعفر، وهو محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، المشهور بـ الباقر.
ومنهم من قال: إنه أضافه للنبي صلى الله عليه وسلم فيكون مرسلاً؛ لأن محمداً يروي عن الصحابة، فهو تابعي، وهو الذي روى حديث جابر الطويل في حجة الوداع، والمرسل على طريقة المحدثين: ما أضافة التابعي إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام.
والحاصل: أن منهم من وقفه عليه فجعله من كلامه موقوفاً عليه وليس بمرفوع، ومنهم من أضافه إلى الرسول أو أسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيكون مرسلاً.
[وروي عن العلاء بن المسيب وشعبة].
العلاء بن المسيب ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
وشعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحكم].
الحكم بن عتيبة الكندي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(46/25)
ترجمة محمد الباقر وغلو الرافضة فيه
وقوله: [عن أبي جعفر].
هو محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وهو إمام من أئمة أهل السنة، وهو أحد الأئمة الإثنا عشر عند الرافضة الذين يغلون فيهم، ويصفونهم بصفات لا تصلح، ولا تليق بهم، ولا يجوز أن تطلق عليهم، مثل ما جاء في كتاب (الكافي) للكليني: باب أن الأئمة يعلمون ما كان وما سيكون، وأنهم يعلمون متى يموتون، وأنهم لا يموتون إلا باختيارهم، وكذلك يقول: باب أنه ليس شيء من الحق إلا ما كان من عند الأئمة، وأن كل شيء لم يخرج من عندهم فهو باطل.
والخميني زعيم الرافضة في هذا العصر، والذي هلك قبل سنوات، يقول في كتابه (الحكومة الإسلامية): وإن من ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا مقاماً لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل.
وقصده الأئمة الإثنا عشر الذين منهم أبو جعفر.(46/26)
تعظيم أهل السنة لآل البيت ومحبتهم لهم
الحاصل: أن أبا جعفر محمد بن علي هو إمام من أئمة أهل السنة، وأهل السنة والجماعة يتولون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحبونهم، وينزلونهم المنازل التي يستحقونها بالعدل والإنصاف، لا بالهوى والتعسف، لا يغلون ولا يجفون؛ ولهذا جاء عن الصحابة وهم خيار هذه الأمة بيان عظم شأن أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أبا بكر الصديق نقل عنه البخاري أثرين؛ أحدهما أنه قال: (والله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي) يعني: آل محمد أولى أن يصلهم من آل أبي بكر، وأحب إليه أن يصلهم؛ لأنهم أقرباء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا فيه بيان ما كان عليه سلف هذه الأمة وخيارهم ومقدموهم، بل خيرهم وأفضلهم أبو بكر من محبة آل بيت النبوة.
والأثر الثاني أيضاً في صحيح البخاري يقول رضي الله عنه: (ارقبوا محمداً صلى الله عليه وسلم في أهل بيته)، ومعناه: حققوا ونفذوا ما رغبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أرشد إليه في حق آل بيته، رضي الله تعالى عنهم وعن أبي بكر.
وأما عمر رضي الله عنه فقد جاء عنه أثران؛ أحدهما: أنه لما حصل الجدب في الناس، وكانوا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم، فلما أراد أن يستسقي طلب من العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو للناس أن يغيثهم الله عز وجل، وقال -كما في صحيح البخاري -: (اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا -يعني: توسلنا بدعائه وطلبنا منه أن يدعو- وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قم يا عباس فادع الله) فقال: عم نبينا، وما عبر بـ العباس؛ لأنه أراد القرابة، وقصده من اختيار العباس القرابة، وكان هناك من هو أفضل من العباس ممن شُهد له بالجنة من العشرة المبشرين، ومع ذلك ما طلب منهم، ولكنه اختار واحداً من أهل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو عم الرسول صلى الله عليه وسلم.
الأثر الثاني: قال عمر رضي الله عنه للعباس: إن إسلامك يوم أسلمت أحب إلي من إسلام الخطاب -الذي هو أبوه- لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على إسلامك.
وقد ذكر ابن كثير رحمه الله هذه الآثار عند آية الشورى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23]، وقال: إن هذه الآية مكية، والمقصود بها -كما جاء عن ابن عباس في صحيح البخاري -: أن الرسول صلى الله عليه وسلم طلب من قريش أنهم إذا لم ينصروه أن يتركوه يبلغ دعوته لما بينه وبينهم من القرابة، وليس المقصود بها القربى الذين هم: علي وفاطمة وأولادهما؛ لأن علياً ما تزوج من فاطمة في مكة، وإنما حصل الزواج بها بعد ذلك في المدينة، والآية مكية، والمقصود بها -كما جاء عن ابن عباس -أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد من قريش أن يتركوه إذا لم ينصروه ويؤيدوه.
ثم إن ابن كثير رحمه الله ذكر فضل آل البيت والآثار التي تدل على فضلهم، وذكر منها الأثرين عن أبي بكر، وعمر في محبته لإسلام العباس على إسلام الخطاب.
والله تعالى أعلم.(46/27)
شرح سنن أبي داود [047]
يجب على الحائض أن تغتسل عند انقطاع حيضها، ولغسل الحائض مستحبات ينبغي لها أن تراعيها، وآداب ينبغي أن تعمل بها.(47/1)
من لم يذكر وضوء المستحاضة إلا عند الحدث(47/2)
شرح حديث أم حبيبة بنت جحش في الاستحاضة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من لم يذكر الوضوء إلا عند الحدث حدثنا زياد بن أيوب حدثنا هشيم أخبرنا أبو بشر عن عكرمة (أن أم حبيبة بنت جحش رضي الله عنها استحيضت، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تنتظر أيام أقرائها، ثم تغتسل وتصلي، فإن رأت شيئاً من ذلك توضأت وصلت)].
قد سبق أن المستحاضة تتوضأ لكل صلاة، وذلك لازم وواجب، وأنه يندب لها أن تغتسل لكل صلاة، وسبقت عدة تراجم فيها ذكر آراء بعض الصحابة والتابعين في بعض المسائل المتعلقة بالاستحاضة، وهذه الترجمة: (باب من لم يذكر الوضوء إلا من الحدث) تعني: أن الذي يكون سبباً للوضوء هو حصول الحدث، الذي هو غير دم الاستحاضة؛ لأن دم الاستحاضة يدوم مع المرأة المستحاضة.
فهنا يقول: (من لم يذكر الوضوء إلا من الحدث) يعني: إذا وجد منها الحدث الذي هو غير الدم؛ فإنها تتوضأ وتصلي، وأنه إذا نزل منها دم الاستحاضة فقط فإنه لا يلزمها الوضوء، وإنما يجب الوضوء إذا حصل ناقض لوضوئها ولطهارتها، وهو حصول حدث غير الدم، فيكون حكمها في ذلك كالحكم بالنسبة للطاهرات، والطاهرات -كما هو معلوم- لا يجب عليهن الوضوء إلا من الحدث، لكن المستحاضة قد لازمها الحدث، وعليها أن تتوضأ لكل صلاة مثل الذي به سلس البول يتوضأ لكل صلاة.
وقد مر أن الذي عليه جمهور أهل العلم: أنها تتوضأ لكل صلاة، وأنه لا يتوقف الأمر على حصول الحدث منها، وقيل: إنها تكون مثل الطاهرات تماماً، ووضوءها مثل وضوء الطاهرات، والطاهرات -كما هو معلوم- لا يتوضأن إلا من الحدث، فإذا وجد من الطاهرة أيّ حدث ناقض للوضوء؛ فإنها عند ذلك تتوضأ وتصلي، ومعنى هذا: عدم التفرقة، وأنه يسوى بين الطاهرة وبين المستحاضة، فالطاهرة لا تتوضأ إلا إذا انتقض وضوءها الموجود من قبل بحصول حدث، وكذلك المستحاضة لا يلزمها الوضوء إلا إذا وجد منها حدث، أي: أنه يسوي بينها وبين الطاهرات، لكنه قد جاء في الأحاديث أنها تتوضأ لكل صلاة، وسواء كان حصل لها حدث غير الدم أو لم يحصل لها؛ فإن الدم نفسه حدث، ووجب عليها أن تتوضأ لكل صلاة.
أورد الإمام أبو داود رحمه الله حديث عكرمة مولى ابن عباس أن أم حبيبة بنت جحش رضي الله عنها استحيضت، فأمرها لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن تنتظر أيام أقرائها، ثم تغتسل وتصلي؛ فإن رأت شيئاً من ذلك توضأت وصلت.
وقوله: (فإن رأت شيئاً من ذلك) فُسرت بأن المقصود بها: أنها رأت ناقضاً للوضوء، أو رأت خروج شيء منها أو حصول شيء منها ناقض للوضوء غير الدم الذي هو ملازم لها؛ قالوا: لأن الدم يكون معها دائماً، وقد يحصل لها تقطع في الدم في بعض الأوقات، فيكون عندها دم فساد، لكنه ليس دماً جارياً دائماً وأبداً، وإنما يتقطع: أحياناً يذهب وأحياناً يجيء، وهذا شيء مستمر معها، فيمكن أن يكون المقصود بها: أنها عندما يحصل لها ذلك الدم الذي يطرأ عليها في حال ما بين الحيضتين، فإنها تتوضأ عندما يوجد لها ذلك الدم، وإذا كان الدم لم يحصل في فترة من زمانها بين قرأين فإنه يكون حكمها حكم الطاهرات، وهذا مطابق للترجمة إذا كان أن المقصود أنها رأت شيئاً غير الدم، ولا تتوضأ إلا عند الحدث.(47/3)
تراجم رجال إسناد حديث أم حبيبة بنت جحش في الاستحاضة
قوله: [حدثنا زياد بن أيوب].
زياد بن أيوب ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا هشيم].
هو هشيم بن بشير الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا أبو بشر] هو جعفر بن أبي وحشية، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عكرمة].
هو عكرمة مولى ابن عباس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وهذا مرسل؛ لأن عكرمة لا يروي عن أم حبيبة، ففيه انقطاع، والانقطاع: هو الإرسال، فإنه إضاف ذلك إلى زمن النبوة، وهو لم يدرك زمن النبوة، فيكون من قبيل المرسل.
وإذا كان المعنى: أنه إذا حصل لها انقطاع في الدم يكون حكمها حكم الطاهرات؛ فهذا لا إشكال فيه، وإن وجد منها الدم الذي هو دم الفساد، والذي هو استحاضة جزئية بحيث يحصل لها متقطعاً؛ فإنه يتعين عليها أن تتوضأ، وبذلك أتت الأحاديث الأخرى التي فيها أنها تتوضأ لكل صلاة، وكونها لا تتوضأ إلا من الحدث يخالف الروايات الكثيرة الدالة على أنها تتوضأ لكل صلاة.(47/4)
شرح أثر ربيعة: (أنه كان لا يرى على المستحاضة وضوءاً عند كل صلاة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الملك بن شعيب حدثنا عبد الله بن وهب أخبرنا الليث عن ربيعة أنه كان لا يرى على المستحاضة وضوءاً عند كل صلاة إلا أن يصيبها حدث غير الدم فتتوضأ -أو فتوضأ-.
قال أبو داود: هذا قول مالك -يعني: ابن أنس -].
هذا الأثر هو الذي يطابق الترجمة؛ لأنه صريح في أن المستحاضة ليس عليها وضوء عند كل صلاة، وإنما عليها أن تتوضأ إذا حصل لها حدث غير الدم، وهذا الأثر عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن هو رأي له، وقد عزاه أيضاً أبو داود رحمه الله إلى مالك بن أنس، وهو أن المستحاضة ليس عليها وضوء عند كل صلاة، وإنما يلزمها الوضوء إذا رأت حدثاً، أو إذا حصل لها حدث غير دم الاستحاضة.(47/5)
تراجم رجال إسناد أثر ربيعة
قوله: [حدثنا عبد الملك بن شعيب].
هو عبد الملك بن شعيب بن الليث بن سعد، وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا عبد الله بن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا الليث].
هو الليث بن سعد، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ربيعة].
هو ربيعة بن أبي عبد الرحمن، وهو المشهور بـ ربيعة الرأي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب.
و (مالك) هو ابن أنس، إمام دار الهجرة، المحدث المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة.
[قال أبو داود: وهو قول مالك] والذي دون أبي داود هو الذي قال: (يعني: ابن أنس).
وكل خارج من السبيلين فهو نجس إلا المني، والدم نجس، لا سيما الدم الذي هو خارج من السبيلين.
وبالنسبة للذي به سلس البول فحكمه حكم المستحاضة، والبول نجس، ولكن {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16].(47/6)
المرأة ترى الكُدْرة والصُفْرة بعد الطهر(47/7)
شرح حديث: (كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في المرأة ترى الكدرة والصفرة بعد الطهر.
حدثنا موسى بن إسماعيل أخبرنا حماد عن قتادة عن أم الهذيل عن أم عطية رضي الله عنها -وكانت بايعت النبي صلى الله عليه وسلم- قالت: (كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئاً)].
أورد أبو داود رحمه الله باباً في الكدرة والصفرة بعد الطهر، يعني: ما تجده المرأة من كدرة مما يخرج من فرجها، وكذلك الصفرة.
والكدرة: هي الماء الذي أصابه شيء غير لونه وغير صفاءه، فجعل فيه كدرة، ولم يعد صافياً، وهو ليس بأصفر ولا بأحمر، ولكنه مثل الماء الكدر.
والصفرة: هي ما يخرج من المرأة بعد انقضاء دمها مما يكون لونه أصفر.
فهذا هو المقصود بالكدرة والصفرة بعد الطهر، وكذلك لو لم يكن هذا الذي يخرج كدرة ولا صفرة، ولكنه دم تجاوز مدة الحيض؛ فإنه يكون استحاضة، أو يكون دم فساد، وحكمه كما مر في المستحاضة.
وهنا فيه التنصيص على أن الكدرة والصفرة لا تعتبر حيضاً بعد زمن الحيض، ولكنها في زمن الحيض حيض، وبعد الحيض وانتهائه تعتبر طهراً.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث أم عطية أنها قالت: (كنا لا نعد) أي: كنا معشر الصحابيات (لا نعد الكدرة ولا الصفرة بعد الطهر شيئاً) يعني: لا نعتبرها شيئاً مؤثراً يمنع من الصلاة والصيام، ومن الأمور التي تحصل للطاهرات.(47/8)
تراجم رجال إسناد حديث: (كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئاً)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا حماد].
هو ابن سلمة، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أم الهذيل].
هي حفصة بنت سيرين، وهي ثقة، أخرج لها أصحاب الكتب الستة.
[عن أم عطية].
هي أم عطية الأنصارية، واسمها نسيبة بنت الحارث، وهي صحابية، بايعت الرسول صلى الله عليه وسلم، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.(47/9)
طريق أخرى لحديث: (كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئاً) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد قال: حدثنا إسماعيل قال: أخبرنا أيوب عن محمد بن سيرين عن أم عطية بمثله].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، ولم يذكر المتن، ولكن أحاله على المتن السابق، وقال: (بمثله) أي: أن متن هذا الحديث مثل المتن السابق، وكلمة المثلية أو (مثل) تعني المطابقة في اللفظ والمعنى، وأما إذا قيل: (بمعناه) فتعني: المطابقة بالمعنى مع الاختلاف في اللفظ، وكذلك إذا قال: (بمعنى حديث فلان) يعني: أنه ليس مماثلاً له، وإنما مقارب له في اللفظ، فهما متفقان في المعنى مع اختلاف الألفاظ، وأما إذا قيل: (مثله) فهما متفقان في المعنى واللفظ.
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا إسماعيل].
هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم بن علية، المشهور بـ ابن علية، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا أيوب].
هو أيوب بن أبي تميمة السختياني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن سيرين].
محمد بن سيرين ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أم عطية].
أم عطية مر ذكرها.
[قال أبو داود: أم الهذيل هي حفصة بنت سيرين، كان ابنها اسمه: هذيل، واسم زوجها: عبد الرحمن].
ثم ذكر أبو داود رحمه الله التعريف بـ أم الهذيل الذي جاء ذكرها في الإسناد الأول، وأن المقصود بها: حفصة بنت سيرين، وابنها اسمه الهذيل، وهي تكنى به، وزوجها عبد الرحمن، ولا أدري من هو عبد الرحمن هذا.(47/10)
المستحاضة يغشاها زوجها(47/11)
شرح أثر: (كانت أم حبيبة تستحاض فكان زوجها يغشاها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب المستحاضة يغشاها زوجها.
حدثنا إبراهيم بن خالد حدثنا معلى بن منصور عن علي بن مسهر عن الشيباني عن عكرمة أنه قال: (كانت أم حبيبة رضي الله عنها تستحاض، فكان زوجها يغشاها).
قال أبو داود: وقال يحيى بن معين: معلى ثقة، وكان أحمد بن حنبل لا يروي عنه؛ لأنه كان ينظر في الرأي].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة، وهي: (المستحاضة يغشاها زوجها) يعني: يطؤها ويجامعها.
ومن المعلوم أن المستحاضة فيها مرض دائم أو مستمر، وهو: جريان الدم، وهو دم فساد وليس دماً طبيعياً مثل دم الحيض.
وجميع الأحكام التي تكون للطاهرات تكون للمستحاضة: كالصلاة، والصيام، والحج، ودخول المسجد، وقراءة القرآن، وغشيان الزوج، وكل الأمور التي تكون للطاهرات تكون لها، ولم يأت شيء يمنع زوجها من غشيانها، والمستحاضات كن متزوجات، وكن يتزوجن وهن معروفات أنهن مستحاضات، فغشيان الزوج للمستحاضة هو كغشيان الطاهرة التي ليست بمستحاضة؛ لأن أحكام الطاهرات تجري على المستحاضات، إلا أن المستحاضات يختلفن من ناحية الوضوء لكل صلاة، وكذلك استحباب الغسل عند كل صلاة، بخلاف الطاهرات؛ فإنهن لا يتوضأن إلا من الحدث.(47/12)
تراجم رجال إسناد أثر: (كانت أم حبيبة تستحاض فكان زوجها يغشاها)
قوله: [حدثنا إبراهيم بن خالد].
هو أبو ثور الفقيه، وهو ثقة، أخرج حديثه أبو داود وابن ماجة.
[حدثنا معلى بن منصور].
معلى بن منصور ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن علي بن مسهر].
علي بن مسهر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الشيباني].
هو سليمان بن أبي سليمان أبو إسحاق الشيباني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عكرمة].
هو مولى ابن عباس، وقد مر ذكره.
[قال أبو داود: وقال يحيى بن معين: معلى ثقة، وكان أحمد بن حنبل لا يروي عنه؛ لأنه كان ينظر في الرأي].
ثم ذكر أبو داود توثيق يحيى بن معين له، ويحيى بن معين يعبر بالثقة، ويعبر بـ (لا بأس به)، و (لا بأس به) عنده تعادل الثقة، فهي عند يحيى بن معين توثيق، ولهذا يقول في بعض الثقات الكبار: لا بأس به.
و (لا بأس به) إذا أطلقت على من هو معروف بالثقة لا شك أنها أقل من ثقة، ولكن إذا عرف اصطلاح يحيى بن معين رحمه الله أنه عندما يقول: لا بأس به.
يقصد التوثيق، فهذا اصطلاح، ولا مشاحة في الاصطلاح، المهم أن يعرف الاصطلاح، وعند ذلك يزول الإشكال؛ لأن الإشكال هو فيما إذا كانت بمعنى صدوق، وصدوق هو أقل درجة من الثقة، وهو الذي يكون حديثه حسناً.
(وكان أحمد لا يروي عنه؛ لأنه كان ينظر في الرأي) والرأي: هو الأخذ بالآراء، أو بالرأي المجرد، ولهذا كانوا يعيبون على من يكون اشتغاله بالرأي، أو عنايته بالرأي، ولا يحرص على الدليل وعلى معرفته، وهناك أشخاص عابوا عليهم الإفتاء بالرأي، مثل عثمان البتي يقولون في ترجمته: عابوا عليه الإفتاء بالرأي.(47/13)
شرح أثر حمنة بنت جحش: (أنها كانت مستحاضة وكان زوجها يجامعها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن أبي سريج الرازي أخبرنا عبد الله بن الجهم حدثنا عمرو بن أبي قيس عن عاصم عن عكرمة عن حمنة بنت جحش رضي الله عنها أنها كانت مستحاضة، وكان زوجها يجامعها].
أورد أبو داود حديث حمنة بنت جحش رضي الله عنها أنها كانت مستحاضة، وكان زوجها يجامعها، وهو مثل الحديث الذي تقدم عن أم حبيبة، وأن زوجها كان يغشاها.
والحاصل: أن مجامعة المستحاضة سائغ، ولا بأس به، ولا مانع منه، والمستحاضة مثل الطاهرات، إلا أن معها هذا المرض وهو الدم الدائم الذي هو دم فساد، وليس دم جِبِلّة وطبيعة.(47/14)
تراجم رجال إسناد أثر حمنة بنت جحش: (أنها كانت مستحاضة وكان زوجها يجامعها)
قوله: [حدثنا أحمد بن أبي سريج الرازي].
أحمد بن أبي سريج الرازي ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[أخبرنا عبد الله بن جهم].
عبد الله بن الجهم صدوق، أخرج حديثه أبو داود وحده.
[حدثنا عمرو بن أبي قيس].
عمرو بن أبي قيس صدوق له أوهام، أخرج حديثه البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
[عن عاصم].
هو ابن أبي النجود، وأبو النجود هو بهدلة، وعاصم صدوق له أوهام، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، والبخاري روى عنه مقروناً وتعليقاً.
[عن عكرمة، عن حمنة بنت جحش].
عكرمة مر ذكره.
وحمنة بنت جحش صحابية، أخرج حديثها البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وابن ماجة.(47/15)
ما جاء في وقت النفساء(47/16)
شرح حديث: (كانت النفساء على عهد رسول الله تقعد في نفاسها أربعين يوماً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في وقت النفساء.
حدثنا أحمد بن يونس أخبرنا زهير حدثنا علي بن عبد الأعلى عن أبي سهل عن مسة عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (كانت النفساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تقعد بعد نفاسها أربعين يوماً أو أربعين ليلة، وكنا نطلي على وجوهنا الورس -تعني: من الكلف-)].
أورد أبو داود رحمه الله (باب ما جاء في وقت النفساء) يعني: مدة النفاس الذي تكون فيه المرأة نفساء، ومدته: أربعون يوماً إذا لم يحصل الطهر قبله، وما زاد على الأربعين فإنه يكون دم فساد، ويكون مثل الاستحاضة، فلا يمنع من الصلاة والصيام وغير ذلك، وما كان من الأربعين فما دون فإنه نفاس، وإذا رأت الطهر قبل ذلك فإنها تعتبر طاهرة، ولو لم يمض بعد الولادة إلا مدة يسيرة.
وإن طهرت ثم رجع الدم في الأربعين فهو نفاس، وإذا تجاوزها فإنه ليس بنفاس، وإنما هو دم فساد أو دم استحاضة.
وأورد أبو داود في ذلك حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: [(كانت النفساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تقعد بعد نفاسها أربعين يوماً أو أربعين ليلة)].
يعني: حيث يكون الدم موجوداً، وأما إذا حصل الطهر قبل الأربعين فإنه يتعين الاغتسال والصلاة والصيام ما دام الطهر قد وجد، وإذا انقطع الدم قبل الأربعين فهي طاهرة، وإذا رجع إليها الدم بعد ذلك فإنها ترجع نفاساً؛ لأن المدة حددت بأربعين يوماً.
قوله: [(وكنا نطلي على وجوهنا الورس)] الورس: نوع من الطيب.
والكلف هو: لون يكون بين السواد وبين الحمرة، وكان: يحصل ذلك منهن من أجل طول المدة، فكن يستعملن الورس إما من أجل حصول الرائحة الطيبة، أو من أجل إزالة ذلك اللون الذي حصل في الوجوه، أو لهما معاً.(47/17)
تراجم رجال إسناد حديث: (كانت النفساء على عهد رسول الله تقعد في نفاسها أربعين يوماً)
قوله: [حدثنا أحمد بن يونس].
هو أحمد بن عبد الله بن يونس الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا زهير].
هو زهير بن معاوية، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا علي بن عبد الأعلى].
علي بن عبد الأعلى صدوق ربما وهم، أخرج له أصحاب السنن.
[عن أبي سهل].
هو كثير بن زياد، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن مُسّة].
هي الأزدية، وهي مقبولة، أخرج حديثها أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن أم سلمة].
هي هند بنت أبي أمية، أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وحديثها عند أصحاب الكتب الستة.
وقد أثنى البخاري على حديث مسة الأزدية، وجاء عن بعض أهل العلم تصحيحه، فهو حديث عمدة.(47/18)
شرح حديث: (كانت المرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم تقعد في النفاس أربعين ليلة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن يحيى أخبرنا محمد بن حاتم -يعني: حبي - حدثنا عبد الله بن المبارك عن يونس بن نافع عن كثير بن زياد قال: حدثتني الأزدية -يعني: مسة - قالت: (حججت فدخلت على أم سلمة رضي الله عنها، فقلت: يا أم المؤمنين! إن سمرة بن جندب رضي الله عنه يأمر النساء يقضين صلاة المحيض.
فقالت: لا يقضين؛ كانت المرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم تقعد في النفاس أربعين ليلة لا يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بقضاء صلاة النفاس).
قال محمد -يعني: ابن حاتم -: واسمها مُسّة تكنى أم بُسّة.
قال أبو داود: كثير بن زياد كنيته أبو سهل].
أورد أبو داود رحمه الله حديث أم سلمة أن مسة الأزدية حجت، فجاءت إلى أم سلمة، وقالت لها: إن سمرة بن جندب يأمر النساء أن يقضين صلاة المحيض، يعني: الصلاة التي فاتتهن وهن حيّض، ولعل سمرة رضي الله عنه لم يبلغه ما ورد في ذلك، فيحمل على هذا.
وقد جاء عن عائشة رضي الله عنها لما سألتها معاذة العدوية وقالت لها: (ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟! قالت: أحرورية أنت؟! قالت: لا؛ ولكني أسأل.
قالت: كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة)، وقد مر الحديث، وعرفنا أن الصوم أُمر بقضائه؛ لأنه لا يتكرر؛ ولأنه شهر في السنة، وإذا حاضت المرأة وأفطرت خمسة أيام من رمضان أو أربعة أو ثلاثة فمن السهل عليها أن تقضيه، وأما بالنسبة للصلاة فإنها تطول وتكثر؛ فخفف على النساء فلم يؤمرن بالقضاء.
وهذا الحديث عن أم سلمة رضي الله عنها لما سألتها مسة أخبرتها بأن النساء كن يقعدن في نفاسهن أربعين يوماً، ولا يؤمرن بقضاء صلاة النفاس، وإذا كان النفاس أربعين يوماً وهن لا يؤمرن به فمثله المحيض؛ لأن أحكام النفاس وأحكام الحيض واحدة.
وحديث عائشة السابق يتعلق بالمحيض، وحديث أم سلمة يتعلق بالنفاس، والسؤال كان عن المحيض، فأخبرتها بأن النفاس لا يؤمرن بقضائه، وأحكام الحيض وأحكام النفاس واحدة.(47/19)
تراجم رجال إسناد حديث: (كانت المرأة من نساء النبي تقعد في النفاس أربعين ليلة)
قوله: [حدثنا الحسن بن يحيى].
هو صدوق، أخرج حديثه أبو داود وحده.
[أخبرنا محمد بن حاتم -يعني: حبي -].
هو محمد بن حاتم بن يونس وحبي لقبه، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
والذي قال: (يعني: حبي) هو أبو داود أو من دونه، ففاعل (يعني) ضمير مستتر يرجع إلى أبي داود أو من دونه، أما الحسن بن يحيى الذي هو التلميذ، فلم يقل ذلك، بل قاله من هو دون الحسن بن يحيى؛ لأن الحسن بن يحيى هو تلميذه، والتلميذ لا يحتاج إلى أن يقول في اسم شيخه: (يعني)، وإنما يقول: فلان بن فلان بن فلان.
وينسبه كما يريد.
[حدثنا عبد الله بن المبارك].
هو عبد الله بن المبارك المروزي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يونس بن نافع].
يونس بن نافع صدوق يخطئ، أخرج حديثه أبو داود والنسائي.
[عن كثير بن زياد].
هو أبو سهل كما هو مذكور.
[عن الأزدية -يعني: مسة -].
هنا أتى بها بـ الأزدية، وهناك أتى بها باسمها، ولما قال: الأزدية؛ أتى من دون كثير بن زياد بكلمة (مسة).
[دخلت على أم سلمة].
أم سلمة قد مر ذكرها.
[قال محمد يعني: ابن حاتم - واسمها مسة تكنى أم بسة].
قال محمد بن حاتم -الذي في الإسناد-: واسمها مسة تكنى أم بسة.
[قال أبو داود: كثير بن زياد كنيته أبو سهل].
يعني: الذي جاء ذكره في هذا الإسناد هو الذي كني في الإسناد الذي قبله، والإسناد السابق هو: أبو سهل عن مسة، وهنا: كثير بن زياد عن الأزدية، والأزدية هي مسة، فـ كثير بن زياد كنيته أبو سهل.(47/20)
الأسئلة(47/21)
حكم رفع اليدين في تكبيرات صلاة الجنازة
السؤال
ما حكم رفع اليدين في تكبيرات صلاة الجنازة؟
الجواب
نعم ترفع الأيدي؛ لأنه جاء عن ابن عمر رضي الله عنه مرفوعاً، وجاء عنه موقوفاً، والمرفوع جاء من طريق ثقة، فهي زيادة ثقة، وقد ذكرها شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله في تعليقه على فتح الباري في الجزء الثالث منه، وهو قد علّق على ثلاثة أجزاء من فتح الباري، وذكر أنه جاء مرفوعاً من طريق عمر بن شبة.(47/22)
حكم تكبير الإمام في الجنازة ثلاثاً سهواً
السؤال
ما حكم إمام كبّر ثلاث تكبيرات في صلاة الجنازة وسلم سهواً؟
الجواب
ينبه، ويكبر الرابعة، إذا كان في نفس الوقت، والناس عرفوا أنه ما كبر إلا ثلاث يسبحون ويقولون: سبحان الله! وإذا سلم ولم ينتبه، ثم أخبروه أنه بقي تكبيرة فعليه أن يرجع ويكبر الرابعة، لكن لو كبر أكثر من أربع فلا إشكال، فقد ورد عدد التكبيرات خمس وأكثر، لكن نقصانها عن أربع لا أعرف شيئاً فيه.(47/23)
كفارة اشتراك شخصين في قتل الخطأ
السؤال
شخص طلب من زوجته أن تقدم له عملاً في بيته، لكن زوجته قالت له: إنها خائفة على ابنها أن يقع في حوض الماء الموجود أمام البيت.
فقال لها غاضباً: دعيه يسقط في الحوض! وعندما قامت زوجته بالعمل المطلوب، خرج هو وزوجته من البيت فوجدا الطفل قد سقط في الحوض ومات، فعلى من تكون الكفارة؟
الجواب
كلاهما مخطئ، هي أخطأت في التنفيذ الذي يترتب عليه الضرر، وهو أيضاً أخطأ في إلزامها بذلك وبغضبه عليها، وأمرها بأنها تفعل ولو وقع الطفل.
أما قضية من تلزمه الكفارة فتحتاج إلى نظر.(47/24)
الأقربون أولى بالمعروف
السؤال
قول أبي بكر رضي الله عنه: (لأنْ أصل قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلى من أن أصل قرابتي) فهل لأحد أن يقول هذا في آل بيته صلى الله عليه وسلم في هذا الزمن، أو لعالم له عليه فضل عظيم وتأثير كبير؟ وهل في هذا منافاة لقولهم: (الأقربون أولى بالمعروف)؟
الجواب
لا شك أن الأقربين هم أولى بالمعروف، وأولى الناس بالبر قرابة الإنسان، والصدقة إلى القريب صدقة وصلة؛ لأن فيها جمعاً بين الأمرين، والجار ذي القربى -الذي له حق الجوار وحق القرابة- له ميزة على غيره، وهو مقدم على غيره؛ لكن الذي قاله أبو بكر رضي الله عنه في حق آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأنه قد ورد فيهم شيء يدل على مراعاة ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيهم، ومن المعلوم أن آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم أقسام: فمن كان منهم صحابياً فإنه يُحب لصحابته ولقربه من الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن كان منهم غير صحابي -كالتابعين وأتباع التابعين- فإنهم يحبون لإيمانهم ولقربهم من رسول الله.
ومن كان منهم ليس كذلك فالأمر كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة: (ومن بطّأ به عمله لم يسرع به نسبه).
يعني: من أخره عمله عن دخول الجنة ليس نسبه هو الذي يسرع به إليها؛ لأن العبرة بالأعمال، قال الله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، ولكن إذا وجد الإيمان ووجد شرف النسب فلاشك أن هذا خير على خير.
وأبو بكر رضي الله عنه قال هذا في بيان عظم شأن آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر رضي الله عنه هو خير هذه الأمة، وهو الذي يقتدى به، وهو أعلم الناس بما جاء في حق آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأما كون الإنسان في هذا الزمان يقدم من هم من بيت النبوة على قرابته فليس بظاهر، بل القرابة أولى؛ لأن القرابة جاءت فيهم نصوص تدل على تقديمهم وعلى تمييزهم، وأنهم أحق الناس ببر قريبهم، وأحق الناس بإحسانه.
ومن كان من أهل البيت وهو صالح، فهذا خير عظيم، وشرف كبير لإيمانه ولقربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينبغي أن يعلم أنه ليس كل من يدعي الانتساب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم صادقاً، فمنه ما هو دعوى باطلة، وما أكثر الدعاوى التي ليس لها أساس، ففي هذا الزمان كثر الانتساب إلى آل البيت، ولكن ليس كل ما يقال يصدق ويعتبر أنه صحيح.(47/25)
حكم انقطاع دم الحيض أثناء مدته
السؤال
ما حكم الحائض التي يتقطع عليها الدم، فينزل لمدة يومين ثم ينقطع، ثم يعود لمدة أربعة أيام؟
الجواب
إذا كانت المرأة تعرف أن عادتها ستة أيام مثلاً، ثم حصل لها طهر كامل في يومين، فإنها تغتسل وتصلي، ولكن ينبغي لها أن تتحقق أنها طهرت تماماً، فإن بقي كدرة أو صفرة فلا تزال حائضاً.(47/26)
حكم إطالة طرفي الشارب
السؤال
بعض الناس يطيلون طرفي الشارب بم تنصحونهم؟ وهل ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شيء من ذلك؟
الجواب
ما أعلم أن عمر رضي الله عنه كان يطيل أطراف الشارب، والشارب هو كل ما نبت على الشفة العليا، وحكمه واحد، وما روي عن عمر أنه كان يفتل شاربه فلا يلزم منه التطويل، بل يمكن أن يحصل الفتل بدون إطالة، كما يفتل الحبل أو تفتل الضفائر، فالفتل هو التحريك، فإذا صح أن عمر كان يفتل شاربه فمعناه أنه كان يحرك الشعر الذي يمسكه من شاربه كهيئة الذي يفتل.(47/27)
حكم وضوء المستحاضة بعد دخول وقت الصلاة إذا تيقنت عدم خروج دم منها
السؤال
المرأة المستحاضة إذا تأكدت بأنه لم ينزل من فرجها شيء، فهل يجوز أن تصلي بعد صلاة الظهر والعصر صلاة المغرب والعشاء بدون وضوء بينهما؟
الجواب
ما دام أن الدم موجود في فرجها، وإنما لم ينزل بسبب القطن أو بسبب الثياب فهي مستحاضة، ولا يقال: انقطع عنها الدم، فلابد أن تتوضأ وتصلي عند كل صلاة، لكن لو حصل لها انقطاع لفترة من الزمان فتكون طاهرة وحكمها حكم الطاهرات، فإذا توضأت ثم استمرت على الطهارة، ولم ينزل منها دم فإنها تستمر على وضوئها إلى أن يأتي ما ينقضه من حدث.(47/28)
هل صلاة النوافل في البيت أفضل من صلاتها في المسجد الحرام أو المسجد النبوي
السؤال
أيهما أفضل: أداء النافلة في الحرمين أم في البيت كما كان ذلك هدي النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
صلاة النوافل في البيوت هو الأصل، والرسول صلى الله عليه وسلم كان ساكناً في المدينة، وكان يصلي النوافل في بيته، ثم يخرج وتقام الصلاة، ثم إذا سلم من صلاته صلى النافلة في بيته، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (أفضل صلاة الرجل في بيته إلا المكتوبة).(47/29)
حكم قول: أهل المنطقة الفلانية بخلاء
السؤال
ما الحكم في هذه العبارة وشبهها التي يتساهل بها بعض طلبة العلم وهي: أهل المنطقة الفلانية بخلاء؟
الجواب
هذا كلام غير طيب؛ لأنه يؤذي أهل تلك المنطقة، وليس للإنسان أن يتكلم بالشيء الذي يؤذي، ثم إذا كان هذا اللفظ مبنياً على أساس أنه عرف ذلك عن شخص أو شخصين ثم عمم الحكم فهذا أسوأ.
وأهل البلد محصورون والكلام يسوءهم؛ لأن إضافة الذم إلى المكان ذم للجميع.(47/30)
حال حديث: (أقربكم مني منزلة يوم القيامة أكثركم صلاة عليّ)
السؤال
ما صحة حديث: (أقربكم مني منزلة يوم القيامة أكثركم صلاة علي)؟
الجواب
هذا الحديث من الأحاديث التي ذكرها الحافظ ابن حجر في فتح الباري في شرح حديث: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد) في كتاب الدعوات، وقد أورد فيه الأحاديث الصحيحة والحسنة، وهذا من الأحاديث التي اعتبرها الحافظ ثابتة، وأنا نقلتها في الكتاب الذي في فضل الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم، وبيان كيفيتها وشيء من أحكامها.(47/31)
شرح سنن أبي داود [048]
على المرأة المسلمة أن تعرف الأحكام الفقهية التي تحتاج إليها، ومن ذلك كيفية الاغتسال من الحيض والجنابة، فإن نساء الأنصار لم يكن يمنعهن الحياء أن يسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الأحكام.(48/1)
الاغتسال من الحيض(48/2)
شرح حديث: (أردفني رسول الله على حقيبة رحله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الاغتسال من الحيض.
حدثنا محمد بن عمرو الرازي حدثنا سلمة -يعني: ابن الفضل - أخبرنا محمد -يعني: ابن إسحاق - عن سليمان بن سحيم عن أمية بنت أبي الصلت عن امرأة من بني غفار قد سماها لي قالت: (أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم على حقيبة رحله، قالت: فوالله لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصبح، فأناخ ونزلت عن حقيبة رحله فإذا بها دم مني، فكانت أول حيضة حضتها، قالت: فتقبضت إلى الناقة واستحييت، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بي ورأى الدم قال: ما لك؟ لعلك نفست؟ قلت: نعم، قال: فأصلحي من نفسك ثم خذي إناء من ماء فاطرحي فيه ملحاً ثم اغسلي ما أصاب الحقيبة من الدم ثم عودي لمركبك، قالت: فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر رضخ لنا من الفيء، قالت: وكانت لا تتطهر من حيضة إلا جعلت في طهورها ملحاً، وأوصت به أن يجعل في غسلها حين ماتت)].
ختم أبو داود رحمه الله الأبواب المتعلقة بالحيض بهذا الباب الذي هو: باب الاغتسال من الحيض، وهو كالاغتسال من الجنابة، فلابد فيه من استيعاب البدن، ولابد أن يكون بنيّة، ولا يلزم نقض الرأس، إلا أنه يستحب نقضه آكد من استحبابه في الغسل من الجنابة، وذلك أن الغسل من الجنابة قد يكون في أوقات متقاربة، وأما الحيض فإنها تطول مدته؛ ولهذا يستحب أن تنقض المرأة رأسها عند غسل الحيض، ولكنه ليس بلازم، كما أن نقض الرأس في الغسل من الجنابة ليس بلازم، إلا أن نقضه في اغتسال الحائض آكد في الاستحباب من نقضه في حق المغتسلة من الجنابة.
وقد أورد أبو داود رحمه الله في هذا الباب عدة أحاديث، أولها: حديث امرأة من بني غفار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أردفها على حقيبة رحله، والحقيبة هي: ما يشد في الرحل، والراكب عليه غير الذي يكون رديفاً من وراء الرحل، ولم يزل النبي صلى الله عليه وسلم حتى جاء الصبح، فنَزلَت، ولما نزلت رأت في المكان الذي كانت جالسة عليه أثر الدم، قالت: وهي أول حيضة حضتها، فيحتمل أن تكون أولها مطلقاً، ويحتمل أن يكون ذلك أول حيضها في ذلك السفر، ولم تركب وهي حائض.
فلما نزلت ورأت الدم انقبضت واستحيت، فلما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم الدم قال لها: (لعلك نفست؟ قالت: نعم، قال: أصلحي من نفسك) يعني: ضعي شيئاً على نفسك يمنع من خروج الدم وظهوره؛ وذلك بشيء تضعه في فرجها أو على فرجها كقطن أو ثوب أو ما إلى ذلك من الأشياء التي تكون مانعة من ظهور الدم من فرجها.
ثم قال: (خذي ماءً وضعي فيه ملحاً واغسلي ذلك المكان، ثم عودي إلى مركبك) يعني: عودي إلى الركوب على الهيئة التي كنت عليها من قبل.
قالت: (فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر رضخ لنا من الفيء) يعني: أعطاها من الفيء، والرضخ هو إعطاء من ليس من أصحاب السهام.
قوله: [(قالت: وكانت لا تتطهر من حيضة إلا جعلت في طهورها ملحاً)].
أي: جعلت في الماء الذي تتطهر به ملحاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تضع الملح على الماء وتغسل به أثر الدم الذي كان على الحقيبة التي كانت متصلة برحله صلى الله عليه وسلم، فكانت لا تتطهر إلا وضعت في طهورها ملحاً، وأوصت أن يوضع الملح في الماء الذي تغسل به إذا ماتت.
ومحل الشاهد منه: أنها كانت إذا تطهرت جعلت في طهورها ملحاً، ولكن هذا الحديث غير ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن في إسناده امرأة مجهولة وهي: أمية بنت أبي الصلت.(48/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (أردفني رسول الله على حقيبة رحله)
قوله: [حدثنا محمد بن عمرو الرازي].
محمد بن عمرو الرازي ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود وابن ماجة.
[حدثنا سلمة يعني: ابن الفضل].
سلمة بن الفضل صدوق كثير الخطأ، أخرج حديثه أبو داود والترمذي وابن ماجة في التفسير.
[أخبرنا محمد يعني: ابن إسحاق].
هو محمد بن إسحاق المدني، وهو صدوق مدلّس، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن سليمان بن سحيم].
سليمان بن سحيم صدوق، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن أمية بنت أبي الصلت].
أمية بنت أبي الصلت لا يعرف حالها، أخرج لها أبو داود وحده.
[عن امرأة من بني غفار].
يقال: إنها ليلى امرأة أبي ذر الغفاري، وحديثها أخرجه أبو داود، ومن المعلوم أن جهالة الصحابي لا تؤثر، ولكن التأثير في جهالة أمية بنت أبي الصلت الراوية عنها، وكذلك في سلمة بن الفضل الذي هو صدوق كثير الخطأ، فالحديث غير ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(48/4)
شرح حديث: (تأخذ سدرها وماءها تتوضأ)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة أخبرنا سلام بن سليم عن إبراهيم بن مهاجر عن صفية بنت شيبة عن عائشة قالت: (دخلت أسماء رضي الله عنها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! كيف تغتسل إحدانا إذا طهرت من المحيض؟ قال: تأخذ سدرها وماءها تتوضأ، ثم تغسل رأسها وتدلكه حتى يبلغ الماء أصول شعرها، ثم تفيض على جسدها، ثم تأخذ فرصتها فتتطهر بها، قالت: يا رسول الله! كيف أتطهر بها؟ قالت عائشة رضي الله عنها: فعرفت الذي يكني عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لها: تتبعين بها آثار الدم)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث عائشة رضي الله عنها أن أسماء -قيل: إنها أسماء بنت شكل أو أسماء بنت يزيد - وهي من الأنصار، جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: كيف تتطهر إحدانا من المحيض؟ يعني: كيف الاغتسال من المحيض؟ فقال لها الرسول عليه الصلاة والسلام: (تأخذ سدرها وماءها تتوضأ، ثم تغسل رأسها، وتدلكه حتى يبلغ الماء أصول شعرها) يعني: تحرك شعرها بيدها وتدلكه حتى يصل الماء إلى أصول الشعر.
قال: (ثم تفيض على جسدها) يعني: بعدما تغسل رأسها وتدلكه حتى يصل الماء إلى أصوله، ثم تفيض الماء على جسدها كله بحيث تستوعبه في الغسل.
إذاً: أولاً: تتوضأ وتغسل رأسها، وتدلكه بالماء والسدر، ولا يلزمها النقض، والنقض مستحب؛ لأن مدة الحيض تطول وتبلغ أياماً، ويكفي أن تصب عليه الماء وتدلكه بيدها حتى يصل الماء إلى أصوله.
ثانياً: تفيض الماء على سائر جسدها، وتأخذ قطنة ممسكة، يعني: فيها مسك، وتتبع بها آثار الدم؛ حتى تزيل الرائحة الكريهة، وتحل مكانها رائحة المسك الطيبة.
قولها: (كيف أتطهر بها؟) يعني: بهذه القطنة الممسكة، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يزد على قوله: (تطهري بها)، ففهمت عائشة رضي الله عنها الذي كنى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذتها وقالت: (تتبعي آثار الدم) يعني: تتبعي بهذه القطنة الممسكة آثار الدم، وهذا الحديث فيه بيان كيفية الاغتسال من الحيض.(48/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (تأخذ سدرها وماءها وتتوضأ)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[أخبرنا سلام بن سليم].
هو سلام بن سليم الحنفي أبو الأحوص، يأتي ذكره كثيراً بالكنية أبو الأحوص، ويأتي أحياناً بالاسم كما هنا، فهو سلام بن سليم الحنفي أبو الأحوص، وذكره بالكنية أكثر من ذكره بالاسم، وفائدة معرفة الكنى لأصحاب الأسماء: ألا يظن الشخص الواحد شخصين، بحيث إذا ذكر اسمه في موضع كما هنا سلام بن سليم، وفي موضع آخر ذكر أبو الأحوص، فالذي لا يعرف يظن أن أبا الأحوص شخص وأن سلام بن سليم شخص آخر، ولكن من عرف أن هذه كنيته، فإن جاء باسمه فهو معروف، وإن جاء بكنيته فهو معروف، ولا يلتبس عليه فيظن أن المقصود بهذا رجل وبهذا رجل آخر، بل المقصود بهما رجل واحد ذكر اسمه في بعض المواضع وذكر بكنيته في بعض المواضع.
وأبو الأحوص سلام بن سليم الحنفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إبراهيم بن مهاجر].
إبراهيم بن مهاجر صدوق لين الحفظ، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن صفية بنت شيبة].
صفية بنت شيبة لها رؤية، أخرج حديثها أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
هي عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق، التي أنزل الله براءتها مما رميت به من الإثم في آيات تتلى من سورة النور، ومع ذلك تتواضع لله عز وجل وتقول عن نفسها: كنت أتمنى أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه رؤيا يبرئني الله بها، ولَشأني في نفسي أهون من أن ينزل الله في آيات تتلى، فهذا من كمالها ونبلها وفضلها، فقد بلغت ما بلغت في الفضل والشرف، ومع ذلك تقلل من شأن نفسها وتهون من شأن نفسها تواضعاً لله عز وجل، ومن تواضع لله رفعه الله، وهي من أوعية السنة وحَفَظتها، ولاسيما في الأمور المتعلقة بالبيت وما يجري بين الرجل وأهل بيته، فإنها وعت وحفظت الكثير، وهي واحدة من سبعة أشخاص عُرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(48/6)
شرح حديث: (تأخذ سدرها وماءها وتتوضأ) من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد بن مسرهد أخبرنا أبو عوانة عن إبراهيم بن مهاجر عن صفية بنت شيبة عن عائشة رضي الله عنها أنها ذكرت نساء الأنصار فأثنت عليهن وقالت لهن معروفاً، وقالت: (دخلت امرأة منهن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر معناه، إلا أنه قال: فرصة ممسّكة) قال مسدد: كان أبو عوانة يقول: فرصة، وكان أبو الأحوص يقول: قرصة].
أورد أبو داود رحمه الله حديث عائشة من طريق أخرى، وفيه ذكر أن المرأة التي سألت الرسول صلى الله عليه وسلم من الأنصار، وأثنت عائشة على نساء الأنصار خيراً؛ وذلك لسؤالهن عن أمور الدين، ولتفقههن في الدين، وأحال في متن الحديث على الحديث السابق؛ لأن المعنى واحد، ولكن اللفظ فيه اختلاف.
وقوله: (فرصة ممسّكة) أي: فيها مسك.
قوله: [قال مسدد: كان أبو عوانة يقول: فرصة، وكان أبو الأحوص يقول: قرصة].
أبو الأحوص هو الذي مر في السند السابق، وهو سلام بن سليم، وهذا السند فيه أن أبا عوانة قال: فرصة، وذاك قال: قرصة، والمقصود من ذلك: أنها قطعة من القطن يكون عليها مسك.(48/7)
تراجم رجال إسناد طريق أخرى لحديث: (تأخذ سدرها وماءها وتتوضأ)
قوله: [حدثنا مسدد بن مسرهد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[أخبرنا أبو عوانة].
هو أبو عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري، وهو مشهور بكنيته كـ أبي الأحوص مشهور بكنيته، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إبراهيم بن مهاجر عن صفية عن عائشة].
وقد مرّ ذكر الثلاثة.(48/8)
شرح حديث: (سبحان الله! تطهري بها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري قال: أخبرني أبي عن شعبة عن إبراهيم -يعني: ابن مهاجر - عن صفية بنت شيبة عن عائشة: (أن أسماء رضي الله عنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه، قال: فرصة ممسكة، قالت: كيف أتطهر بها؟ قال: سبحان الله! تطهري بها، واستتر بثوب) وزاد: (وسألته عن الغسل من الجنابة، فقال: تأخذين ماءك فتتطهرين أحسن الطهور وأبلغه، ثم تصبين على رأسك الماء، ثم تدلكينه حتى يبلغ شئون رأسك، ثم تفيضين عليك الماء) قال: وقالت عائشة: نعم النساء نساء الأنصار، لم يكن يمنعهن الحياء أن يسألن عن الدين، وأن يتفقهن فيه].
أورد أبو داود رحمه الله حديث عائشة من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله، وفيه: أن أسماء أنصارية، وأنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه، يعني: بمعنى الحديث المتقدم.
قوله: [(فرصة ممسكة، قالت: كيف أتطهر بها؟)].
هو يريد صلى الله عليه وسلم أن تتبع أثر الدم الخارج في فرجها، حتى تزول تلك الرائحة الكريهة، ويحل محلها رائحة طيبة، فقالت: كيف أتطهر بها؟ فقال: (تطهري بها!) قالت: كيف أتطهر بها؟ قال: (سبحان الله!) يعني: تعجب من قولها، ولم يزد على ذلك، وإنما قال: (تطهري بها، واستتر بثوب) يعني: غطى وجهه بثوب ولم يرد أن يزيد على ما قال شيئاً، وفي الرواية السابقة قالت عائشة: ففهمت الذي كنى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (تطهري بها) فأخذت بيدها وقلت لها: تتبعي بها أثر الدم.
قوله: [(وسألته عن الغسل من الجنابة، فقال: تأخذين ماءك فتتطهرين أحسن الطهور وأبلغه، ثم تصبين على رأسك الماء، ثم تدلكينه حتى يبلغ شئون رأسك، ثم تفيضين عليك الماء)].
أيضاً سألت عن الغسل من الجنابة فأجابها، والغسل من الجنابة مثل الغسل من الحيض.
قوله: [قالت عائشة رضي الله عنها: نعم النساء نساء الأنصار، لم يكن يمنعهن الحياء أن يسألن عن الدين، وأن يتفقهن فيه].
أثنت عائشة رضي الله عنها على نساء الأنصار بأن عندهن الحرص على معرفة أمور الدين، ولا يمنعهن الحياء من أن يتفقهن في دين الله، وأن يسألن عن الأمور التي يحتجن إليها رضي الله تعالى عنهن وأرضاهن.(48/9)
تراجم رجال إسناد حديث: (سبحان الله! تطهري بها)
قوله: [حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري].
هو عبيد الله بن معاذ بن معاذ العنبري، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[أخبرني أبي].
هو معاذ بن معاذ العنبري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إبراهيم -يعني: ابن مهاجر - عن صفية بنت شيبة عن عائشة].
وقد مر ذكر الثلاثة.(48/10)
شرح سنن أبي داود [049]
من رحمة الله بهذه الأمة أن يسر عليها أمر دينها، وأذهب عنها الإصر والأغلال التي كانت على الأمم السابقة، ومن ذلك أنه شرع التيمم عند عدم وجود الماء أو عند عدم القدرة على استعماله، وقد ورد التيمم بعدة كيفيات.(49/1)
التيمم(49/2)
شرح حديث: (بعث رسول الله أسيد بن حضير وأناساً معه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب التيمم.
حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي أخبرنا أبو معاوية ح، وحدثنا عثمان بن أبي شيبة أخبرنا عبدة -المعنى واحد- عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أسيد بن حضير وأناساً معه في طلب قلادة أضلتها عائشة، فحضرت الصلاة، فصلوا بغير وضوء، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فأنزلت آية التيمم، زاد ابن نفيل فقال لها أسيد بن حضير: يرحمك الله! ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله للمسلمين ولك فيه فرجاً)].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة وهي: باب التيمم بعد أن فرغ مما يتعلق بالوضوء والغسل من الجنابة، والغسل من الحيض، وذكر الأبواب المتعلقة بالتيمم بعد الوضوء وبعد الغسل من الجنابة ومن المحيض في غاية المناسبة وفي غاية الحسن؛ لأن الوضوء والاغتسال من الجنابة والاغتسال من الحيض يكون بالماء، وإذا فقد الماء أو تعذر استعماله بسبب مضرة عظيمة فإنه ينتقل إلى التيمم.
وهذا الترتيب أنسب من جعل التيمم قبل الحيض كما في بعض الكتب؛ لأن التيمم طهارة تحل محل ما يتطهر له بالماء.
أورد أبو داود رحمه الله تحت هذه الترجمة أحاديث تدل على مشروعية التيمم وأصل فرضيته، وصفته، وبدأ بحديث عائشة رضي الله عنها في مشروعية التيمم وأصل فرض التيمم، وأن أصل ذلك أنها كانت في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة من الغزوات، وفي ليلة من الليالي أرادوا أن يرتحلوا، فذكرت عائشة رضي الله عنها أنها فقدت عقداً لها استعارته من أختها أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما، فالرسول عليه الصلاة والسلام مكث وأرسل من يبحث عن ذلك العقد، وكان فيهم أسيد بن حضير رضي الله تعالى عنه، فكانوا يبحثون ويفتشون عنه، ونفد الماء الذي كان معهم، وكان مما حصل أن أبا بكر غضب على عائشة؛ لأنها تسببت في حبس الناس بسبب ذلك العقد الذي فقدته، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين ذهبوا للبحث عنه لما جاء وقت الصلاة وليس معهم ماء صلوا بدون وضوء، وهذا فيه دليل على أن الصلاة لا تسقط بأي حال من الأحوال؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لما فقدوا الماء ولم يكن التيمم قد شرع؛ علموا أن الصلاة لا تترك ولا تؤخر، فصلوا بدون وضوء، والرسول صلى الله عليه وسلم أقرهم، ولكن بعد أن شرع التيمم إذا لم يوجد الماء فينتقل الإنسان إلى التيمم، وكذلك إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يتوضأ ولا يتيمم فيصلي على حسب حاله، مثل الإنسان الذي تكون يداه مربوطتين ولا يستطيع أن يتحرك، فالصلاة لا تسقط عنه، بل عليه أن يصلي على حسب حاله.
فنزلت آية التيمم، فتيمموا وصلوا، وقال أسيد بن حضير رضي الله عنه لـ عائشة: (يرحمك الله! ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله للمسلمين ولك فيه فرجاً ومخرجاً)، يعني: أن الذي حصل من حبس الناس بسبب عقدها، وكان في نفس أبي بكر عليها شيء بسبب ذلك، وكانت تألمت وتأثرت لما حصل من أبيها في حقها؛ فشاء الله عز وجل أن يجيء وقت صلاة الفجر وليس معهم ماء، فأنزل الله آية التيمم فتيمموا، وعند ذلك أثنى أسيد بن حضير رضي الله عنه على أم المؤمنين عائشة.
وفي بحثهم عن العقد دليل على أن المال لا يستهان به؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مكث من أجل البحث عن هذا العقد، وبعث جماعة يبحثون عن هذا العقد، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يكره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال).
وبعد أن نزلت آية التيمم وتيمموا وصلوا، عزموا على الارتحال، وأيسوا من العقد، ولما أثاروا البعير وجدوا العقد تحت الجمل الذي كانت تركب عليه عائشة رضي الله عنها.(49/3)
رسول الله لا يعلم الغيب
في هذا الحديث دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، وأنه لا يعلم من الغيوب إلا ما أطلعه الله عليه، وعلم الغيب على الإطلاق من خصائص الله عز وجل، قال الله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65]، والله تعالى أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يخبر عن نفسه أنه لا يعلم الغيب، قال الله: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأنعام:50]، وقال: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف:188]، وكل هذا يدل على أن علم الغيب على الإطلاق إنما هو من خصائص الله سبحانه وتعالى، ولا يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيء من خصائص الله سبحانه وتعالى.
والنبي الكريم عليه الصلاة والسلام قد أطلعه الله على الكثير من الغيوب، سواءً كانت ماضية أو مستقبلة أو موجودة ولكنها لا تشاهد ولا تعاين، ولكن ليس كل غيب يطلع عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي جاء في حديث عائشة رضي الله عنها في قصة فرض التيمم من أمثلة ذلك، والأمثلة كثيرة ومنها أيضاً: قصة الإفك عندما رميت عائشة بالفاحشة، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم الحقيقة، وأذن لها أن تذهب إلى أهلها، وبقيت مدة متألمة، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم بقي متألماً متأثراً، وكان يأتي إلى عائشة رضي الله عنها ويقول لها: (يا عائشة! إن كنت ألممت بذنب فتوبي إلى الله واستغفري الله) ولو كان يعلم الغيب ما قال هذا الكلام، ولم يبق مدة وهو متألم متأثر، وأهله وزوجته كذلك، وأصهاره أبو بكر وأهله كذلك كلهم متألمون ومتأثرون، فلو كان يعلم الغيب فبمجرد ما رميت بالإفك سيقول لهم: هي بريئة، فأنا أعلم الغيب، لكن ما قال رسول الله عليه الصلاة والسلام هذا.
وكذلك النبي عليه الصلاة والسلام صلى مرة وفي نعليه نجاسة، ولم يعلم بذلك حتى جاءه جبريل وأخبره في أثناء الصلاة، فخلع نعليه وهو في الصلاة عليه الصلاة والسلام.
وكذلك يوم البعث والنشور عندما يكون عليه الصلاة والسلام على الحوض ويذاد عنه أناس يعرفهم من أصحابه، ولكنهم ارتدوا وقاتلهم أبو بكر رضي الله عنه والصحابة على ردتهم، وماتوا على الردة، فإنهم يذادون عن الحوض، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أصحابي، فيقال له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)، فلو كان يعلم الغيب عليه الصلاة والسلام لما قيل له هذا الكلام، ولم يقل: (أصحابي) إذ كان يعرف أنهم منعوا من الحوض لكونهم ماتوا على الردة، لكنه ما كان يعلم ذلك عليه الصلاة والسلام.(49/4)
النهي عن الغلو في النبي عليه الصلاة والسلام
الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام أطلعه الله على كثير من الغيوب الماضية والمستقبلة والحاضرة التي لا تشاهد ولا تعاين كأخبار السماوات، وأخبار الجنة والنار وما فيهما، وما إلى ذلك من أمور غيبية لا تشاهد ولا تعاين، ولكن الله أطلع نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم عليها.
والواجب أن يعرف قدر النبي صلى الله عليه وسلم، وينزل المنزلة التي أنزله الله إياها بدون غلو وزيادة ومجاوزة للحد، بحيث يضاف إليه ما يضاف إلى الله، ويوصف بما يوصف به الله، ومن ذلك وصفه أنه يعلم الغيب مطلقاً، قال البوصيري في البردة: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم وقوله: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حصول الحادث العمم وهذا لا يليق ولا يصلح إلا لله عز وجل؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام ليس كل ما في اللوح المحفوظ؛ وليس كل غيب يعلمه عليه الصلاة والسلام، فالواجب هو محبة النبي صلى الله عليه وسلم المحبة التي تفوق محبة كل مخلوق حتى الأب والأم والولد والبنت والقريب والبعيد، وكل من تربط الإنسان به رابطة، وكل من له به علاقة، فمحبة النبي صلى الله عليه وسلم يجب أن تفوق محبة كل محبوب من الخلق، ولكن لا يغلى فيه ولا يطرى ولا يتجاوز به الحد، وإنما يمدح ويثنى عليه في حدود ما هو سائغ من غير إفراط ومن غير مجاوزة للحد.(49/5)
تابع شرح حديث: (بعث رسول الله أسيد بن حضير وأناساً معه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قالت عائشة رضي الله عنها: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أسيد بن حضير وأناساً معه في طلب قلادة)].
هذا فيه اختصار، والقصة أنهم كانوا في سفر وكانت معهم عائشة رضي الله عنها، فلما أرادوا أن يرتحلوا أخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم بأنها فقدت عقداً لها، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يبقوا، وأرسل أسيد بن حضير ومن معه ليبحثوا عن العقد، لاحتمال أنها فقدته عندما ذهبت تقضي حاجة، فأرسلهم يبحثون عنه ويفتشون.
قوله: [(فحضرت الصلاة، فصلوا بغير وضوء، فأتوا النبي صلى الله عليه وآله سلم فذكروا ذلك له، فأنزلت آية التيمم)].
يعني: لم يأمرهم النبي عليه الصلاة والسلام بالإعادة، فدل هذا على أن الإنسان إذا لم يتمكن من الوضوء ولا من التيمم فإنه يصلي على حسب حاله، والصلاة لا تسقط بأي حال من الأحوال ما دامت الروح في الجسد، وما دام الإنسان فيه حياة، فإن عليه أن يصلي على حسب حاله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر هؤلاء الذين صلوا بدون وضوء، فدل هذا على أنه بعد فرض التيمم إذا لم يتمكن الإنسان لا من هذا ولا من هذا فإنه يصلي على حسب حاله ولا تسقط عنه الصلاة.
قوله: [زاد ابن نفيل: (فقال لها أسيد بن حضير: يرحمك الله! ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله للمسلمين ولك فيه فرجاً)].
قول أسيد بن حضير رضي الله عنه لها هو من رواية ابن نفيل أحد شيخي أبي داود، والمعنى أنه حصل خير كثير وشيء عظيم بسبب هذا الانحباس، وهو أنه شرع لهم التيمم الذي يتطهر به المسلمون عند فقد الماء أو عند عدم القدرة على استعماله.(49/6)
تراجم رجال إسناد حديث: (بعث رسول الله أسيد بن حضير وأناساً معه)
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي].
هو عبد الله بن محمد بن علي بن نفيل النفيلي وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[أخبرنا أبو معاوية].
هو أبو معاوية محمد بن خازم الضرير الكوفي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح وحدثنا عثمان بن أبي شيبة].
ح هي للتحول من إسناد إلى إسناد، وعثمان بن أبي شيبة قد مر ذكره.
[أخبرنا عبدة].
هو عبدة بن سليمان وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
قوله: [والمعنى واحد].
يعني: أن رواية شيخه النفيلي ورواية شيخه عثمان بن أبي شيبة معناهما واحد، وهذه طريقة أبي داود رحمه الله أنه عندما يذكر اثنين من شيوخه أو أكثر يقول: المعنى، وأحياناً يقول: المعنى واحد، كما هنا، يعني: أن هؤلاء الشيوخ الذين ذكرهم ليسوا متفقين في الألفاظ ولكنهم متفقون في المعنى.
[عن هشام بن عروة].
هشام بن عروة ثقة ربما دلّس، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو عروة بن الزبير بن العوام وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أم المؤمنين عائشة].
أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وقد مر ذكرها.(49/7)
شرح حديث: (تمسحوا مع رسول الله بالصعيد لصلاة الفجر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة حدثه عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه كان يحدث: (أنهم تمسحوا وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصعيد لصلاة الفجر، فضربوا بأكفهم الصعيد ثم مسحوا وجوههم مسحة واحدة، ثم عادوا فضربوا بأكفهم الصعيد مرة أخرى فمسحوا بأيديهم كلها إلى المناكب والآباط من بطون أيديهم)].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الأحاديث التي فيها صفة المسح، وكيفية المسح، وهل هو ضربتان أو ضربة واحدة؟ وهل مسح اليدين يكون إلى الكفين فقط أو إلى المرافق أو إلى الآباط والمناكب؟ منها ما هو للوجه والكفين فقط وهذا هو الذي في الصحيحين، ومنها ما هو إلى المرافق وإلى نصف الساعد، ومنها ما هو إلى الآباط، وقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري: إن الذي في الصحيحين للكفين، والأحاديث التي فيها إلى نصف الساعد وإلى المرافق فيها مقال، وأما الأحاديث التي فيها إلى الآباط فوردت عن الصحابة، فإن كان فعلهم بأمره صلى الله عليه وسلم فالأحاديث التي جاءت بعد ذلك وصحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تكون ناسخة له، وإن كانت باجتهاد من الصحابة وأنهم فهموا أن المراد باليد إلى المناكب؛ لأن اليد في القرآن مطلقة في قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة:6] فيكون هذا اجتهاد منهم والعبرة بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، والذي جاء عنه صلى الله عليه وسلم وثبت في الصحيحين هو أنه للكفين فقط ولا يتجاوز ذلك إلى غيره.
هذا ما قاله الحافظ ابن حجر في فتح الباري تحت ترجمة: باب التيمم للوجه والكفين.
أورد أبو داود رحمه الله حديث عمار (أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وتمسحوا)، أي: تيمموا بالصعيد، ومسحوا على وجوهم وأيديهم منه، وفيه ذكر ضربتين: ضربة للوجه وضربة لليدين، وجاء في بعض الأحاديث أنها ضربة واحدة، وأنها كافية، وإن ضرب الإنسان ضربتين فقد جاء ما يدل على ذلك وهو هذا الحديث، ويكتفى بمسح الكفين فقط، والذين قالوا: يمسح إلى المرافق استدلوا ببعض الروايات التي وردت وفيها المسح إلى المرافق، لكن تلك الروايات لا تسلم من مقال، وأيضاً استدلوا بالقياس على الوضوء، وذلك أن الوضوء يكون غسل اليدين فيه إلى المرفقين، ولكن ما دام أن السنة قد جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاقتصار على مسح الكفين فقط فالاقتصار على ذلك هو المتعين، فإن السنة بينت المراد بالإجمال الذي في الآية، وحددت ذلك بالكفين، فإن اليد في الآية مطلقة، فإذا جاء ما يقيدها من السنة صير إليه، كما أنه جاء ذكر الأيدي بالنسبة للسرقة مطلقة، والنبي صلى الله عليه وسلم بين أن القطع يكون من المفصل الذي يكون بين الكف والساعد، وكذلك أيضاً جاء في السنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وفي غيرهما أن التيمم للكفين فقط، فتكون السنة مبينة للمراد من الآية.(49/8)
تراجم رجال إسناد حديث: (تمسحوا مع رسول الله بالصعيد لصلاة الفجر)
[حدثنا أحمد بن صالح].
هو أحمد بن صالح المصري وهو ثقة، أخرج أحاديثه البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا عبد الله بن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني يونس].
هو يونس بن يزيد الأيلي ثم المصري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة].
هو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمار بن ياسر].
عمار بن ياسر رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
قيل: إن عبيد الله لم يسمع من عمار وإنما روى عنه بواسطة، وقد جاء في بعض الأحاديث ذكر الواسطة بينهما، وأنه ابن عباس.(49/9)
شرح حديث: (تمسحوا مع رسول الله بالصعيد لصلاة الفجر) من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن داود المهري وعبد الملك بن شعيب عن ابن وهب نحو هذا الحديث قال: (قام المسلمون فضربوا بأكفهم التراب ولم يقبضوا من التراب شيئاً، فذكر نحوه، ولم يذكر المناكب والآباط، قال ابن الليث: إلى ما فوق المرفقين)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث عمار من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله، إلا أن فيه أنه قال: (لم يقبضوا شيئاً من التراب) ومعناه: أنهم لما ضربوا لم يأخذوا شيئاً من التراب بأيديهم، وإنما الذي علق باليدين عند الضرب هو الذي تيمموا به، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أنه نفخ يديه حتى يخفف الغبار الكثير الذي علق باليد.
إذاً: قوله: (لم يقبضوا)، يبين أن قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة:6] أن قوله: ((مِنْهُ)) يعني: ما يعلق باليد، وليس المقصود به ما يقبض باليد وما يمسك باليد، وإنما ما يعلق باليد من الصعيد مما يتصاعد ويتطاير عند الضرب في الأرض، فهذا هو الذي يمسح به، وإذا كان كثيراً ينفض؛ لأنه جاء في بعض الروايات الصحيحة في البخاري وغيره: (أنه نفخ يديه حتى يخفف التراب).
قوله: [وقال ابن الليث].
ابن الليث هو عبد الملك بن شعيب بن الليث أحد شيخي أبي داود في هذا الحديث، وهو الشيخ الثاني.(49/10)
تراجم رجال إسناد حديث: (تمسحوا مع رسول الله بالصعيد لصلاة الفجر) من طريق ثانية
قوله: [حدثنا سليمان بن داود المهري].
هو سليمان بن داود المهري أبو الربيع المصري وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[وعبد الملك بن شعيب].
هو عبد الملك بن شعيب بن الليث بن سعد وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن ابن وهب].
ابن وهب مر ذكره.(49/11)
شرح حديث: (فأنزل الله على رسوله رخصة التطهر بالصعيد الطيب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن أحمد بن أبي خلف ومحمد بن يحيى النيسابوري في آخرين، قالوا: حدثنا يعقوب أخبرنا أبي عن صالح عن ابن شهاب قال: حدثني عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن عمار بن ياسر رضي الله عنهم أجمعين: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرس بذات الجيش ومعه عائشة فانقطع عقد لها من جزع ظفار، فحبس الناس ابتغاء عقدها ذلك حتى أضاء الفجر، وليس مع الناس ماء فتغيظ عليها أبو بكر رضي الله عنه وقال: حبست الناس وليس معهم ماء، فأنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم رخصة التطهر بالصعيد الطيب، فقام المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربوا بأيديهم إلى الأرض، ثم رفعوا أيديهم ولم يقبضوا من التراب شيئاً، فمسحوا بها وجوههم وأيديهم إلى المناكب، ومن بطون أيديهم إلى الآباط)، وزاد ابن يحيى في حديثه: قال ابن شهاب في حديثه: ولا يعتبر بهذا الناس].
قوله: [ولا يعتبر بهذا الناس]، يعني: أن الناس لم يعتدوا ولم يأخذوا بما جاء في هذا الحديث من ذكر الآباط والمناكب، وحديث عمار رضي الله تعالى عنه هذا يرويه عنه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وفيه: (أن النبي عليه الصلاة والسلام عرس بذات الجيش) وهو مكان، والتعريس: هو الاستراحة في آخر الليل، فعندما أرادوا أن يرتحلوا فقدت عائشة عقداً لها، وكان من جزع ظفار، وهي مدينة في اليمن، والجزع هو الخرز، فأمر الرسول عليه الصلاة والسلام الناس أن يبقوا للبحث عنه، وقد سبق أن أسيد بن حضير في جماعة هم الذين بحثوا عن ذلك العقد.
قوله: (فتغيظ أبو بكر على عائشة وقال: حبست الناس وليس معهم ماء! يعني: أن عائشة رضي الله عنها هي السبب في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالبقاء، فأضاف الحبس إلى عائشة؛ لأنها هي المتسببة في ذلك، وإلا فإن الحبس إنما هو من رسول الله عليه الصلاة والسلام، فهو الذي أمر الناس بأن يبقوا، وبعد ذلك أنزل الله آية التيمم فتيمموا.
وكان مما ذكر في تيممهم أنهم مسحوا وجوههم وأيديهم إلى المناكب ومن بطونها إلى الآباط، فظهور الأيدي يقابلها المناكب، فمسحوا من الظهور إلى المناكب، ومن البطون إلى الآباط، بحيث يبدأ بظهر اليد وينتهي بالمنكب، ويبدأ من بطنها وينتهي بالإبط.(49/12)
تراجم رجال إسناد حديث: (فأنزل الله على رسوله رخصة التطهر بالصعيد الطيب)
قوله: [حدثنا محمد بن أحمد بن أبي خلف ومحمد بن يحيى النيسابوري].
محمد بن أحمد بن أبي خلف ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود.
ومحمد بن يحيى النيسابوري هو الذهلي، وهو ثقة أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
قوله: [في آخرين].
يعني: حدثه جماعة غير هذين الاثنين.
[حدثنا يعقوب].
هو يعقوب بن إبراهيم بن سعد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا أبي].
أبوه هو إبراهيم بن سعد بن عبد الرحمن بن عوف وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن صالح].
هو صالح بن كيسان وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
مر ذكره.
[عن عبيد الله بن عبد الله].
مر ذكره.
[عن عبد الله بن عباس].
هو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(49/13)
توجيه حديث: (فأنزل الله على رسوله رخصة التطهر بالصعيد الطيب)
هذا الحديث صحيح، لكن الأمر كما قال الحافظ ابن حجر: إن كان التيمم إلى المناكب بأمر النبي عليه الصلاة والسلام فقد جاء ما ينسخه، وإن كان بفعلهم فالعبرة بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسح الوجه والكفين فقط.
[قال ابن شهاب في حديثه: ولا يعتبر بهذا الناس].
يعني: الناس لم يأخذوا بما جاء فيه من المسح إلى الآباط، وقد جاء عن الزهري أنه يرى المسح إلى الآباط، لكن هذا الذي ذكره هنا يخالف الذي جاء عنه، وابن رشد في بداية المجتهد لما ذكر هذا قال: إنه قول شاذ نسب إلى الزهري القول به وإلى شخص آخر معه، وأما المسح إلى المرفقين فقد جاءت فيه أحاديث فيها كلام، وبعضها شاذ؛ لأنه مخالف للروايات الصحيحة التي فيها ذكر الكفين.(49/14)
اختلاف الرواة في حديث ضرب الأرض عند التيمم
[قال أبو داود: وكذلك رواه ابن إسحاق قال فيه: عن ابن عباس، وذكر ضربتين كما ذكر يونس].
يعني: كما تقدم في الرواية السابقة التي يروي فيها ابن عباس عن عمار، قال: (فقام المسلمون مع الرسول صلى الله عليه وسلم فضربوا بأيديهم إلى الأرض، ثم رفعوا أيديهم ولم يقبضوا من التراب شيئاً فمسحوا بها وجوههم وأيديهم إلى المناكب، ومن بطون أيديهم إلى الآباط)، فذكر ضربة واحدة، وفي رواية ابن إسحاق ذكر ضربتين: ضربة للوجه، وضربة لليدين.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ورواه معمر عن الزهري ضربتين].
يعني: كما جاء عن ابن إسحاق.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال مالك: عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أبيه عن عمار].
هذه طريق أخرى، وفيها أن عبيد الله يروي عن أبيه عن عمار وليس فيها أن ابن عباس هو الواسطة بين عبيد الله وبين عمار، وأبو عبيد الله هو عبد الله بن عتبة بن مسعود ابن أخي عبد الله بن مسعود، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكذلك قال أبو أويس عن الزهري].
أبو أويس هو عبد الله بن عبد الله بن أويس وهو صدوق يهم، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وشك فيه ابن عيينة قال مرة: عن عبيد الله عن أبيه أو عن عبيد الله عن ابن عباس].
أي: شك فيه ابن عيينة فقال في بعض الروايات: عن عبيد الله عن أبيه، فجعل الواسطة بين عمار وبين عبيد الله أبوه، وقال مرة: عن عبيد الله عن ابن عباس عن عمار.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومرة قال: عن أبيه، ومرة قال: عن ابن عباس، اضطرب ابن عيينة فيه، وفي سماعه من الزهري].
يعني: أنه مرة شك، ومرة قال: عن أبيه، ومرة قال: عن ابن عباس، فاضطرب فيه ابن عيينة عن الزهري.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولم يذكر أحد منهم في هذا الحديث الضربتين إلا من سميت].
يعني: لم يذكر أحد منهم الضربتين في هذا الحديث إلا من سميت: وهم محمد بن إسحاق ويونس بن يزيد ومعمر بن راشد، وكل من الضربتين والضربة ثابت، فإن ضرب المتيمم واحدة كفت، وإن ضرب ضربتين فلا بأس.(49/15)
الأسئلة(49/16)
حكم السلام على شارب الدخان
السؤال
هل يجوز السلام على من كان متلبساً بالمعصية كالذي يشرب الدخان في حال شربه؟
الجواب
يسلم عليه وينصحه.(49/17)
زكاة مال المضاربة
السؤال
والدي عنده مبلغ من المال تركنا نتصرف فيه بالتجارة، والأرباح لنا، فعلى من تكون الزكاة؟
الجواب
في المضاربة زكاة رأس المال على صاحب رأس المال، ونصيبهم من الربح تابع لرأس المال، وما يأخذونه من الربح بسبب العمل إذا بلغ نصيب كل واحد منهم نصاباً وحال عليه الحول فإنه يزكيه.(49/18)
حكم بيع البيت المشترى بالأقساط قبل تسليم بقية الأقساط
السؤال
الدولة تبيع بيوتاً بأقساط مثلاً: بعشرين ألفاً مقدمة، وعشرين ألفاً مؤخرة، ولا تجيز للشخص المشتري أن يبيع البيت حتى يسدد باقي الأقساط، فهل يجوز لي أن أبيع هذا البيت على أن يقوم الذي اشتراه مني بتسديد باقي الأقساط؟
الجواب
إذا كانت الدولة تسمح بهذا فلا بأس، وإذا كانت لا تسمح فيبقى الأمر على ما هو عليه.(49/19)
حكم بيع سيارة قبل امتلاكها
السؤال
الدولة تبيع سيارات من الناس على أن يدفع المال مقدماً بسعر زهيد، ويأخذ إيصالاً على تلك السيارة، وبعد أيام يأخذ السيارة، والسيارة جديدة إلا أنها غير معلومة، فهل يجوز أن أبيع هذا الإيصال؟
الجواب
الإنسان لا يبيع الشيء إلا إذا ملكه، وأنت ما ملكت السيارة، فإذا ملكت السيارة بعها، وأما قبل أن تملكها فليس لك أن تبيع شيئاً لا تملكه.(49/20)
حكم الزواج عن طريق الهاتف
السؤال
هل يجوز النكاح عن طريق الهاتف؟
الجواب
النكاح يحتاج إلى ولي وشاهدي عدل، وكذلك يحتاج إلى كون الذي يتولاه يكون على علم ومعرفة حتى لا يقع النكاح على وجه لا يصلح بأن يتزوج المرأة في عدتها مثلاً، إذا كان غير حاضر فيرسل وكالة لشخص، ويجتمع ذلك الوكيل مع ولي المرأة ويحضر الشهود ويتم الزواج.(49/21)
شرح سنن أبي داود [050]
من رحمة الله بعباده أن شرع لهم التيمم عند عدم وجود الماء أو تعذر استعماله، وهو يقوم مقام الوضوء أو الغسل، وله أحكام كثيرة بينها أهل العلم رحمهم الله تعالى استنباطاً من كتاب الله وسنة رسوله عليه أفضل الصلاة والسلام.(50/1)
تابع التيمم(50/2)
شرح حديث: (بعثني رسول الله في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا أبو معاوية الضرير عن الأعمش عن شقيق أنه قال: (كنت جالساً بين عبد الله وأبي موسى رضي الله عنهما، فقال أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن! أرأيت لو أن رجلاً أجنب فلم يجد الماء شهراً أما كان يتيمم؟ فقال: لا، وإن لم يجد الماء شهراً، فقال أبو موسى: فكيف تصنعون بهذه الآية التي في سورة المائدة: ((فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا)) [النساء:43]؟! فقال عبد الله: لو رخص لهم في هذا لأوشكوا إذا برد عليهم الماء أن يتيمموا بالصعيد، فقال له أبو موسى: وإنما كرهتم هذا لهذا؟ قال: نعم، فقال له أبو موسى: ألم تسمع قول عمار لـ عمر رضي الله عنهما: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء فتمرغت في الصعيد كما تتمرغ الدابة، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال: إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا فضرب بيده على الأرض فنفضها، ثم ضرب بشماله على يمينه وبيمينه على شماله على الكفين، ثم مسح وجهه؟ فقال له عبد الله: ألم تر عمر لم يقنع بقول عمار؟)].
ذكر أبو داود رحمه الله في هذا الباب أحاديث فيها مشروعية التيمم، ثم ذكر بعض الأحاديث التي فيها بيان كيفيته، ففي بعضها أنه إلى الآباط، وفي بعضها أنه إلى المرافق، وقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: أصح شيء ورد في كيفية التيمم أنه للوجه والكفين، والأحاديث التي فيها ذكر المرفقين وذكر نصف الساعد فيها مقال، والأحاديث التي فيها ذكر الآباط وذكر المناكب إن كانت بأمره صلى الله عليه وسلم، فما جاء بعد ذلك يكون ناسخاً لها، وإن كانت من فعل الصحابة فتكون من اجتهادهم، والعبرة بما جاءت به النصوص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه فيما يرويه عن عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه في بيان صفة التيمم أنه يكون للوجه والكفين، وهذه الكيفية هي التي وردت في الصحيحين، ولم يرد في الصحيحين سواها أما ذكر الآباط والمناكب والمرافق ونصف الساعد، فكل هذه جاءت في غير الصحيحين.
فذكر شقيق بن سلمة أبو وائل الكوفي أنه كان جالساً بين أبي موسى وعبد الله بن مسعود، وكان من رأي أبي موسى أن الإنسان يتيمم للجنابة إذا لم يجد الماء لرفع الحدث الأكبر، وكان من رأي أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه لا يتيمم إلا من الحدث الأصغر، فجعل أبو موسى وعبد الله بن مسعود يبحثان ويسأل بعضهما بعضاً فيما يتعلق بحكم الجنب، وهل يتيمم أو لا يتيمم فقال أبو موسى: أرأيت لو أن إنساناً أجنب ولم يجد الماء شهراً هل له أن يتيمم؟ فقال عبد الله بن مسعود: لا، وإن لم يجد الماء شهراً، قال: فما تصنعون بهذه الآية الكريمة وهي آية التيمم: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ منه} [المائدة:6].
قال: لو رخص لهم في التيمم لرفع الجنابة بدل الاغتسال لأوشك إذا برد عليهم الماء أن يتيمموا، فقال: وهل كرهتم التيمم للجنابة مخافة أن يتهاونوا في الاغتسال، وأنه إذا برد عليهم الماء صاروا إلى التيمم؟ قال: نعم.
فانتقل من الاحتجاج بالآية إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ألا ترى أن عماراً قال لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أتذكر كنت أنا وأنت في رعاية الإبل فأجنبنا، فأما أنت فلم تصل -يعني: أنه لم يتيمم ولم يصل؛ على اعتبار ما ذهب إليه من أنه لا صلاة إلا بوضوء، ولا صلاة إلا برفع الحدث-، وأما أنا فتمرغت في الصعيد كما تتمرغ الدابة، أي: أنه اجتهد فقاس التيمم لرفع الحدث الأكبر على التيمم لرفع الحدث الأصغر، لكن الحدث الأكبر لما كان لابد فيه من استيعاب البدن في الغسل استوعبه بالتمرغ في التراب؛ حتى يعم سائر جسده بالغبار والتراب، وهذا فيه مشروعية الأخذ بالقياس؛ لأن عماراً رضي الله عنه قاس التيمم على الاغتسال من الجنابة، والاغتسال من الجنابة فيه استيعاب البدن في الغسل، فاستوعب البدن بالتيمم أخذاً بالقياس، وهذا اجتهاد منه، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا: فضرب بيده الأرض، ثم نفضهما ومسح إحداهما بالأخرى، ثم مسح وجهه).
فلما ذكر أبو موسى لـ عبد الله بن مسعود السنة التي جاءت عن عمار قال عبد الله: ألم تر أن عمر لم يقنع بقول عمار؟ وعمر رضي الله عنه لم يقنع بقول عمار ليس شكاً فيه، فقد أضاف الخبر إليهما، وأنه كان هو وإياه فأجنبا جميعاً، وأن عمر رضي الله عنه لم يصل؛ لأنه لم يجد الماء، وأما عمار فتمرغ كما تتمرغ الدابة، ثم رجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبره، فهو يحكي شيئاً جرى لهما جميعاً، لكن عمر لم يتذكر هذا الذي جرى لهما جميعاً، وفي بعض الروايات أنه قال له: نوليك ما توليت، يعني: نكلك إلى علمك وإلى ما عندك، ولك أن تعمل وتفتي بهذا، وإن كان عمر رضي الله عنه لا يذكر هذا الذي حصل منه، فمن أجل ذلك توقف، وهذا هو معنى قوله: لم يقنع بقول عمار؛ لأنه لم يذكر شيئاً يتعلق به هو، بل كان أمراً مشتركاً بينهما.
وعند هذا انتهت المحاورة بين أبي موسى وبين عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنهما.
والحديث دال على رفع الحدث الأكبر بالتيمم كما يُرفع الحدث الأصغر بالتيمم، ولا فرق بينهما، ومن المعلوم أن كلاً منهما يخالف الطهارة بالماء؛ لأن الطهارة بالماء في الوضوء تكون بغسل الوجه واليدين إلى المرفقين ومسح الرأس وغسل الرجلين، وجاءت السنة في بيان كيفية التيمم بأنه للوجه والكفين فقط، وكذلك جاءت السنة في رفع الحدث الأكبر بالتيمم بأنه للوجه والكفين فقط، وعلى هذا فيكون رفع الحدث الأكبر والأصغر في التيمم على هيئة واحدة.
ويؤخذ من هذه المحاورة التي جرت بين هذين الصحابيين الجليلين حسن الأدب في المناقشة والمناظرة، وأن كل واحد من المتناظرين يتكلم مع صاحبه بكلام لطيف حسن بلا إحَن ولا اختلاف في القلوب، وإنما يكون الاختلاف في وجهات النظر، فأحدهما استدل بالآية والآخر حملها على محمل آخر، ثم هذا استدل بالسنة وهذا بيّن أن عمر رضي الله عنه لم يقنع بقول عمار؛ لأن عمر رضي الله عنه شاركه في الأمر الذي ذكره عمار.
قوله: (وضرب بكفيه الأرض ونفضهما) أي: حتى يخفف ما فيهما من الغبار إذا كان كثيراً، وهذا فيه أن الغبار إذا كان كثيراً يخفف إما بالنفض أو بالنفخ، وكل من النفض والنفخ جاءت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(50/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (بعثني رسول الله في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء)
قوله: [حدثنا محمد بن سليمان الأنباري].
محمد بن سليمان الأنباري صدوق، أخرج حديثه أبو داود وحده.
[حدثنا أبو معاوية الضرير].
أبو معاوية الضرير هو محمد بن خازم الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
الأعمش هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شقيق].
هو شقيق بن سلمة، وهو أبو وائل الكوفي مشهور بكنيته، ويأتي ذكره كثيراً بالكنية، ويأتي ذكره كثيراً باسمه، وهو ثقة مخضرم، أدرك الجاهلية والإسلام ولم يلق النبي صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي موسى].
أبو موسى عبد الله بن قيس الأشعري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مشهور بكنيته، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
[عن عمار].
عمار بن ياسر صحابي رضي الله تعالى عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
قوله: [(فضرب بيده على الأرض فنفضها، ثم ضرب بشماله على يمينه وبيمينه على شماله على الكفين)].
يعني: أنه ضرب بهما، ثم مسح الكفين بكل كف على الأخرى، ثم مسح وجهه.
وقوله في سياق الحديث: (فكيف تصنعون بهذه الآية التي في سورة المائدة)؟ يعني: كيف تجيبون عنها وهي تشمل هذا وهذا؟ فأجابه: أنه يخشى إذا برد على أحدهم الماء أن يتيمم، وهذا صحيح إذا كان يخشى من استعماله مضرة أو مشقة ولم يمكن التسخين، وكان الماء بارداً برودة لا تطاق.(50/4)
شرح حديث: (بعثني رسول الله في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء) من طريق ثانية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن كثير العبدي حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل عن أبي مالك عن عبد الرحمن بن أبزى قال: (كنت عند عمر رضي الله عنه، فجاءه رجل فقال: إنا نكون في المكان الشهر والشهرين، فقال عمر: أما أنا فلم أكن أصلي حتى أجد الماء، فقال عمار رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين! أما تذكر إذ كنت أنا وأنت في الإبل فأصابتنا جنابة، فأما أنا فتمعكت، فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال: إنما كان يكفيك أن تقول هكذا: وضرب بيديه إلى الأرض ثم نفخهما، ثم مسح بهما وجهه ويديه إلى نصف الذراع، فقال عمر: يا عمار! اتق الله، فقال: يا أمير المؤمنين! إن شئت والله لم أذكره أبداً، فقال عمر: كلا والله! لنولينك من ذلك ما توليت)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث عمار رضي الله عنه من طريق أخرى، وفيه: أن رجلاً جاء إلى عمر رضي الله عنه فاستفتاه وقال له: إنا نكون في المكان الشهر والشهرين -يعني: لا نجد الماء- أنتيمم؟ قال: أما أنا فلم أكن أصلي حتى أجد الماء، يعني: بالنسبة للغسل من الجنابة، فقال له عمار: أما تذكر إذ كنت أنا وأنت نرعى الإبل فأصابتنا جنابة، يعني: كل واحد منا أصابته جنابة، فأما أنا فتمعكت -يعني: تمرغت- في الصعيد كما تمرغ الدابة، قال: (فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال: إنما كان يكفيك أن تقول هكذا: وضرب بيديه إلى الأرض ثم نفخهما).
قوله: (إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا) تقول هنا بمعنى تفعل، وهذا من إطلاق القول والمراد به الفعل، وقوله: (ثم نفخهما) أي: حتى يخفف ما فيهما من الغبار، وفي هذا ذكر النفخ، وفي الرواية السابقة ذكر النفض، والنفض غير النفخ، فيكون حصل النفخ وحصل النفض.
قوله: (ثم مسح بهما وجهه ويديه إلى نصف الذراع) هذه الزيادة: (نصف الذراع) مخالف للروايات الأخرى الثابتة عن عمار والتي فيها أنه مسح الكفين فقط، وليس فيها ذكر الذراع ولا بعض الذراع، فعلى هذا تكون هذه الرواية شاذة؛ لأن فيها مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه.
قوله: فقال عمر: يا عمار! اتق الله، يعني: فيما تقول؛ لأنه ذكر قصة أضافها إليه هو، وهو لا يتذكر هذا الشيء، فخشي أن يكون واهماً؛ لأنه رضي الله عنه لم يتذكر هذا الذي قاله، لذا قال له: اتق الله، أي: فيما تحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له عمار: إن شئت لا أحدث به، أي: إن كنت ترى أن المصلحة ألا أحدث به فلن أحدث به؛ لأنه قد حصل مني إبلاغ السنة التي علمتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلك أكون قد أديت ما علي، وإن كنت ترى المصلحة أن أمسك عن ذلك أمسكت، فقال: كلا -يعني: لا أقول لك: أمسك- ولكن نولك من ذلك ما توليت، أي: نكلك إلى ما عندك من العلم، فأنت المسئول عن هذا، وأنت الذي تتحمل تبعة هذا إن كنت غير متحقق، وقد عمر رضي الله عنه شك بسبب أنه أضاف الأمر إلى أمر يخصه معه، ومع ذلك لم يذكره عمر، فخشي أن يكون حصل له شيء من الوهم.(50/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (بعثني رسول الله في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء) من طريق ثانية
قوله: [حدثنا محمد بن كثير العبدي].
محمد بن كثير العبدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سفيان].
سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ثقة فقيه، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وقد روى محمد بن كثير عن سفيان، مع أن سفيان متقدم في الوفاة، فقد كانت وفاته سنة إحدى وستين ومائة، ومحمد بن كثير عمر، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن سلمة بن كهيل].
سلمة بن كهيل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي مالك].
هو غزوان الغفاري، وهو ثقة أخرج له البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن عبد الرحمن بن أبزى].
عبد الرحمن بن أبزى صحابي صغير، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وعبد الرحمن بن أبزى هو الذي جاءت الإشارة إليه في حديث عمر في صحيح مسلم، وذلك أن عمر كان له أمير على مكة، فلقيه ذلك الأمير فسأله عمر وقال: من وليت على أهل مكة؟ يعني: من أَنَبْتَ عنك في حال غيبتك؟ فقال: وليت عليهم ابن أبزى، قال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولى من الموالي، قال: وليت عليهم مولى؟! قال: يا أمير المؤمنين! إنه عالم بكتاب الله، عارف بالفرائض، فعند ذلك قال عمر رضي الله عنه: صدق محمد صلى الله عليه وسلم: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين).
فمن مسوغات الاختيار العلم بالكتاب والسنة، وقوله: (الفرائض) يعني: الأحكام، وليس المقصود بالفرائض علم المواريث، وإن كان يطلق على علم المواريث فرائض، لكن الفرائض على سبيل العموم تطلق على الأحكام.
[عن عمار].
عمار رضي الله عنه مر ذكره.(50/6)
شرح حديث: (بعثني رسول الله في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء) من طريق ثالثة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن العلاء حدثنا حفص حدثنا الأعمش عن سلمة بن كهيل عن ابن أبزى عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما في هذا الحديث فقال: (يا عمار! إنما كان يكفيك هكذا، ثم ضرب بيديه الأرض، ثم ضرب إحداهما على الأخرى، ثم مسح وجهه والذراعين إلى نصف الساعدين ولم يبلغ المرفقين ضربة واحدة)].
أورد المصنف رحمه الله حديث عمار من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله، وفيه ذكر ما في الرواية السابقة إلى نصف الساعد، وقد عرفنا أن هذا مخالف للروايات الأخرى المحفوظة عن عمار في تلك القصة، وهو أنه مسح الوجه والكفين فقط، فتكون هذه الرواية شاذة، ورواية مسح الوجه والكفين هي المحفوظة.(50/7)
تراجم رجال إسناد حديث: (بعثني رسول الله في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء) من طريق ثالثة
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء].
محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب، فكنيته أبو كريب وجده كريب، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حفص].
حفص بن غياث، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الأعمش عن سلمة بن كهيل عن ابن أبزى].
الأعمش وسلمة بن كهيل مر ذكرهما، وكذلك ابن أبزى وهو عبد الرحمن بن أبزى.
[عن عمار بن ياسر].
عمار بن ياسر مر ذكره أيضاً.(50/8)
اختلاف الرواة في حديث: (بعثني رسول الله في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء)
[قال أبو داود: ورواه وكيع عن الأعمش عن سلمة بن كهيل عن عبد الرحمن بن أبزى، ورواه جرير عن الأعمش عن سلمة بن كهيل عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى يعني: عن أبيه].
يعني أن جرير بن عبد الحميد الضبي رواه عن الأعمش عن سلمة بن كهيل، وجعل بينه وبين عبد الرحمن بن أبزى واسطة وهو ابنه سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، ومعناه أنه رواه عنه بواسطة، وجرير بن عبد الحميد هو الضبي الكوفي ثم الرازي، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وسعيد بن عبد الرحمن بن أبزى ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة أيضاً.(50/9)
شرح حديث: (بعثني رسول الله في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء) من طريق رابعة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد -يعني ابن جعفر - أخبرنا شعبة عن سلمة عن ذر عن ابن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن عمار رضي الله عنهما بهذه القصة، فقال: (إنما كان يكفيك وضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى الأرض ثم نفخ فيهما ومسح بها وجهه وكفيه)، شك سلمة وقال: لا أدري فيه إلى المرفقين أو إلى الكفين].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله من جهة أنه قال: (يكفيك أن تقول هكذا ومسح وجهه وكفيه)، وشك سلمة فقال: لا أدري قال: إلى المرفقين أو إلى الكفين، والمحفوظ هو إلى الكفين.(50/10)
تراجم رجال إسناد حديث: (بعثني رسول الله في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء) من طريق رابعة
قوله: [حدثنا محمد بن بشار].
هو محمد بن بشار البصري الملقب بندار، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا محمد يعني ابن جعفر].
محمد بن جعفر هو الملقب غندر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري ثقة، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن سلمة عن ذر].
سلمة مر ذكره، وذر بن عبد الله ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن عمار].
هو سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى وقد مر ذكره، كما مر ذكر أبيه وعمار.(50/11)
شرح الرواية الشاذة التي فيها ذكر الذراعين في التيمم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا علي بن سهل الرملي حدثنا حجاج -يعني: الأعور - حدثني شعبة بإسناده بهذا الحديث، قال: (ثم نفخ فيها، ومسح بها وجهه وكفيه إلى المرفقين أو إلى الذراعين).
قال شعبة: كان سلمة يقول: الكفين والوجه والذراعين، فقال له منصور ذات يوم: انظر ما تقول، فإنه لا يذكر الذراعين غيرك].
أورد المصنف رحمه الله الحديث من طريق أخرى، وفيه ذكر الذراعين والمرفقين، وهذه الراوية غير محفوظة كما عرفنا، والمحفوظ عن عمار والذي جاء عن الكثير من الثقات هو مسح الوجه والكفين، وأما ذكر المرفقين ونصف الساعد فغير محفوظ.(50/12)
تراجم رجال إسناد الرواية التي فيها ذكر الذراعين في التيمم، وبيان شذوذها
قوله: [حدثنا علي بن سهل الرملي].
علي بن سهل الرملي صدوق أخرج له أبو داود والنسائي في (عمل اليوم والليلة).
[حدثنا حجاج يعني: الأعور].
هو حجاج بن محمد المصيصي الملقب الأعور، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو الذي يأتي ذكره كثيراً مهملاً باسمه عن ابن جريج، ويقال فيه أحياناً: حجاج بن محمد، ويذكر أحياناً بلقبه الأعور، وهنا قال: يعني: الأعور.
[حدثني شعبة بإسناده].
يعني: بإسناده الذي تقدم.
[قال شعبة: كان سلمة يقول: الكفين والوجه والذراعين، فقال له منصور ذات يوم: انظر ما تقول، فإنه لا يذكر الذراعين غيرك].
منصور بن المعتمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
ومعنى قوله: انظر ماذا تقول، يعني: تحقق أو تثبت فإنه لا يذكر الذراعين غيرك، أي: فإنك أتيت بشيء انفردت به.
نرى هنا أن سلمة يروي عن عبد الرحمن بن أبزى في بعض الطرق مباشرة، وفي بعض الطرق يروي عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، وفي الإسناد الأخير يروي سلمة عن ذر عن سعيد بن عبد الرحمن عن أبيه، وهذا لا يعتبر انقطاعاً ولا اضطراباً، فقد تبينت الواسطة، فقد يرويه الراوي نازلاً ثم يرويه عالياً، ومثله حديث: (الدين النصيحة) الذي في صحيح مسلم، وفيه أن شخصاً جاء إلى سهيل وقال: إن فلاناً حدثني عنك عن أبيك عن فلان كذا، وأريد أن تحذف عني الواسطة، فقال: سأحدثك عن الذي حدث أبي، فحذف عنه واسطتين: حذف أباه، والراوي عنه.(50/13)
ذكر الرواية المحفوظة في صفة التيمم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن شعبة قال: حدثني الحكم عن ذر عن ابن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن عمار رضي الله عنهما في هذا الحديث قال: فقال -يعني: النبي صلى الله عليه وسلم-: (إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك إلى الأرض فتمسح بهما وجهك وكفيك) وساق الحديث].
أورد المصنف الحديث من طريق أخرى، وفيه الاقتصار على الوجه والكفين، وهذا هو المحفوظ.
وقوله: وساق الحديث، يعني: ذكر باقيه.(50/14)
تراجم رجال إسناد الرواية المحفوظة في صفة التيمم
قوله: [حدثنا مسدد].
مسدد بن مسرهد البصري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا يحيى].
يحيى بن سعيد القطان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شعبة].
مر ذكره.
[حدثني الحكم].
هو الحكم بن عتيبة الكندي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ذر عن ابن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن عمار].
وهذا مثل الإسناد السابق، وفيه واسطتان: ذر وابن أبزى عن أبيه عبد الرحمن، لكن الراوي مختلف، فهنا الحكم وهناك سلمة.(50/15)
اختلاف الرواة في ذكر النفخ في التيمم في حديث عمار
[قال أبو داود: ورواه شعبة عن حصين عن أبي مالك قال: سمعت عماراً يخطب بمثله، إلا أنه قال: (لم ينفخ)، وذكر حسين بن محمد عن شعبة عن الحكم في هذا الحديث قال: (ضرب بكفيه إلى الأرض ونفخ)].
حصين بن عبد الرحمن ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وأبو مالك هو غزوان الغفاري، وقد مر ذكره.
قوله: [سمعت عماراً يخطب بمثله] يعني: بمثل اللفظ المتقدم إلا أنه قال: لم ينفخ، وهذا يعني: أنه قد جاء في بعض الروايات ذكر النفخ، وجاء في بعضها عدم النفخ.
قوله: [وذكر حسين بن محمد عن شعبة عن الحكم في هذا الحديث قال: (ضرب بكفيه إلى الأرض ونفخ)].
هذه الرواية تتفق مع الروايات الأخرى التي فيها ذكر النفخ، والنفخ هنا للتخفيف، ويشرع إذا كان الغبار كثيراً بحيث فإذا وضع الإنسان يديه على وجهه فإنه يغبره، فيشرع له حينئذ أن يخفف ذلك بالنفض أو بالنفخ.
وحسين بن محمد هو الجعفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(50/16)
شرح حديث: (سألت النبي عن التيمم فأمرني ضربة واحدة للوجه والكفين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن المنهال حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة عن عزرة عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما أنه قال: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن التيمم فأمرني ضربة واحدة للوجه والكفين)].
ثم أورد المصنف الحديث من طريق أخرى، وفيه ذكر الكيفية المحفوظة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي الاقتصار على مسح الوجه والكفين في التيمم دون زيادة على ذلك.(50/17)
تراجم رجال إسناد حديث: (سألت النبي عن التيمم فأمرني ضربة واحدة للوجه والكفين)
قوله: [حدثنا محمد بن المنهال].
محمد بن المنهال ثقة أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا يزيد بن زريع].
يزيد بن زريع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد].
سعيد بن أبي عروبة، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
قتادة بن دعامة السدوسي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عزرة].
هو عزرة بن عبد الرحمن، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن عمار].
قد مر ذكر الثلاثة.(50/18)
شرح حديث التيمم إلى المرفقين من طريق قتادة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان قال: سئل قتادة عن التيمم في السفر فقال: حدثني محدث عن الشعبي عن عبد الرحمن بن أبزى عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إلى المرفقين)].
أورد أبو داود حديث عمار من طريق أخرى وفيه: أن المسح إلى المرفقين، وهذا الإسناد فيه رجل مبهم، فـ قتادة قال: حدثني محدث، وفيه أيضاً مخالفة الضعيف للثقة، فيكون الحديث منكراً، فالشاذ: هو مخالفة الثقة للأوثق، والمنكر هو مخالفة الضعيف للثقة، فذكر المرفقين في حديث هذا الرجل المجهول يجعل الحديث منكراً.(50/19)
تراجم رجال إسناد حديث التيمم إلى المرفقين من طريق قتادة
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[قال: سئل قتادة عن التيمم في السفر].
قتادة مر ذكره.
[فقال حدثني محدث عن الشعبي].
المحدث هذا مجهول، والشعبي هو عامر بن شراحيل الشعبي ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن أبزى عن عمار].
مر ذكرهما.(50/20)
شرح سنن أبي داود [051]
من فضل الله تعالى على أمة حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم أن شرع لهم التيمم عند فقد الماء أو عند تعذر استعماله، فجدير بالمسلمين أن يشكروا هذه النعمة العظيمة، وذلك بالتزام شرع الله تعالى.(51/1)
التيمم في الحضر(51/2)
شرح حديث: (أقبل رسول الله نحو بئر جمل)
[باب: التيمم في الحضر.
حدثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث أخبرنا أبي عن جدي عن جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز عن عمير مولى ابن عباس أنه سمعه يقول: أقبلت أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حتى دخلنا على أبي الجهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري فقال أبو الجهيم: (أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه السلام حتى أتى على جدار فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام)].
بوب الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باباً في التيمم في الحضر، أما السفر فهو غالباً مظنة عدم حصول الماء أو نقصانه وقلته، وأما بالنسبة للحضر فإن الغالب وجود الماء فيه، ومن المعلوم أنه لا يصار إلى التيمم إلا إذا عدم الماء، أو لم يقدر على استعماله لمرض أو لشيء يقتضي ذلك، وحيث يوجد الماء فلا يصار إلى التيمم، لكن قد تطرأ في الحضر ضرورة تدعو إليه؛ بأن يقل الماء في البلد أو في بعض القرى ويكاد يخرج الوقت وهم لم يجدوا الماء، فإن لهم أن يتمموا ويصلوا، ولا يتركوا الوقت يخرج دون أن يصلوا؛ لأنه حيث لم يوجد الماء يُنتقل حينئذٍ إلى البدل الذي هو التيمم.
وقال بعض أهل العلم: إذا خشي خروج الوقت، بحيث إنه لو اشتغل بالوضوء فسوف يفوته ما تدرك به الصلاة؛ وذلك أن من أدرك ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر، ويصلي ركعة بعد طلوع الشمس، فإذا كان اشتغاله بالوضوء يترتب عليه خروج ذلك الوقت الذي يسع قدر الصلاة فإن بعض أهل العلم قال: إنه يتيمم حتى يدرك الصلاة في وقتها، وحتى لا يؤدى الصلاة في غير وقتها، والذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في التيمم في الحضر أنه تيمم لحصول شيء أكمل وهو ذكر الله عز وجل، ورد السلام على من سلم عليه، فإنه كان قد قضى حاجته فلم يرد السلام على من سلم عليه حتى أتى جداراً وضرب بيديه عليه، ومسح بوجهه وكفيه، ثم رد السلام، فيكون التيمم في هذه الحالة من أجل الحصول على هيئة أكمل وأفضل، وإن كان ذكر الله عز وجل يسوغ مع وجود الحدث الأصغر، بل وكذلك مع وجود الحدث الأكبر، فللإنسان أن يذكر الله عز وجل وإن كان على حدث أكبر، وإنما يمنع الحدث الأكبر -الذي هو الجنابة- من قراءة القرآن، وقد قال بعض أهل العلم: له أن يقرأ القرآن وهو جنب، لكن الراجح أن قراءة القرآن للجنب لا تصلح؛ لأن رفع الجنابة يقدر عليه الإنسان، إن كان معه ماء اغتسل وإلا فإنه يتيمم ويتمكن من قراءة القرآن، وعلى هذا فإن للجنب -وللمحدث حدثاً أصغر من باب أولى- أن يذكر الله عز وجل، ولكن الهيئة الأكمل والأفضل أنه يكون على طهارة، ولو عن طريق التيمم.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي الجهيم بن الحارث بن الصمة رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل نحو بئر جمل)، وهو مكان معروف عندهم في المدينة، وكان قد قضى حاجته، فسلم عليه رجل فلم يرد عليه السلام، حتى أتى حائط وضرب يديه عليه وتيمم، ثم ردّ عليه السلام، وقد فعل هذا ليكون على هيئة أكمل وأفضل -وهي حالة الطهارة- بكونه تيمم، وإن كان ذكر الله عز وجل يجوز في حال الحدث الأكبر وفي حال الحدث الأصغر، وهذا بالنسبة لذكر الله والتسبيح والدعاء، وأما بالنسبة للقرآن فإنه يقرؤه من هو على حدث أصغر، ولا يقرأه من هو على حدث أكبر، وقد قال بعض أهل العلم: يجوز أن يقرأه من كان على حدث أكبر، لكن الصحيح أن الجنب لا يقرأ القرآن؛ لأن رفع الجنابة بيده، فيمكنه أن يغتسل إن وجد الماء وإلا تيمم وفعل ما يريد من قراءة القرآن.
وعلى هذا فحديث أبي جهيم رضي الله عنه يدل على ما ترجم له المصنف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تيمم في الحضر؛ ليكون على هيئة أكمل وأفضل، لا لأن ذلك متعين ولازم لمن كان على غير طهارة أنه لا يرد السلام، بل يمكن أن يذكر الله ويرد السلام، لكن كونه على طهارة فهذا أكمل وأفضل كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفيه: أنه تيمم على جدار، وهذا فيه بيان أن التيمم يكون على الأرض ويكون على التراب أو الغبار الذي يعلق بالجدار إذا ضرب عليه وصار على يده شيء منه فإنه يتيمم به.(51/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (أقبل رسول الله نحو بئر جمل)
قوله: [حدثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث].
هو عبد الملك بن شعيب بن الليث بن سعد المصري، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[أخبرنا أبي].
هو شعيب بن الليث، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن جدي].
هو الليث بن سعد المصري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جعفر بن ربيعة].
هو جعفر بن ربيعة المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن هرمز].
ولقبه الأعرج، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمير مولى ابن عباس].
هو عمير بن عبد الله مولى ابن عباس، وهو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[عن أبي الجهيم].
هو أبو الجهيم بن الحارث بن الصمة، وهو صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(51/4)
شرح حديث: (مر رجل على رسول الله في سكة من السكك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن إبراهيم الموصلي أبو علي أخبرنا محمد بن ثابت العبدي أخبرنا نافع قال: انطلقت مع ابن عمر رضي الله عنهما في حاجة إلى ابن عباس رضي الله عنهما، فقضى ابن عمر حاجته، فكان من حديثه يومئذٍ أن قال: (مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سكة من السكك وقد خرج من غائط أو بول، فسلم عليه فلم يرد عليه، حتى إذا كاد الرجل أن يتوارى في السكة ضرب بيديه على الحائط ومسح بهما وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه، ثم رد على الرجل السلام، وقال: إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أني لم أكن على طهر)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم مر عليه رجل وسلم عليه، فلم يرد عليه السلام، حتى كاد أن يتوارى الرجل من الطريق الذي كان لقيه فيه، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى حائط وضرب عليه بيديه ضربتين وتيمم، ثم رد عليه السلام ومسح يديه إلى الذراعين.
وهذا الحديث يختلف عن الذي قبله؛ لأنه قال في الأول: مسح وجهه ويديه، فهو مجمل؛ لأن اليد تطلق ويراد بها من أطراف الأصابع إلى الإبط، وهذا هو حد اليد الكاملة، وقد سبق أن بعض الصحابة رضي الله عنهم تيمموا إلى المناكب والآباط، وذكرنا قول الحافظ ابن حجر: إن كان ذلك بأمر النبي صلى الله عليه وسلم فقد جاء بعده ما ينسخه، وهو الاقتصار على الكفين، وإن كان من فعلهم فالعبرة بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي ثبت عنه هو ما جاء في حديث عمار من طرق متعددة في الصحيحين وفي غيرهما: (أنه مسح كفيه ووجهه)، ولم يصل إلى الذراعين، ولا نصف الذراع، ولا إلى المناكب.
وهذا الحديث الذي فيه: أنه مسح إلى الذراعين ضعيف؛ لأن فيه محمد بن ثابت العبدي، وحديثه منكر كما قاله الإمام أحمد بن حنبل، ونقله عنه أبو داود.
وأما التيمم على الجدار فهو ثابت في الحديث المتقدم، أي: حديث أبي جهيم بن الحارث بن الصمة.
وذكر الراوي ابن عباس في هذا الحديث لبيان المناسبة التي حصل فيها تحديث ابن عمر بهذا الحديث.
وقوله: (في سكة من السكك) يعني: طريق من الطرق بين البيوت.(51/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (مرّ رجل على رسول الله في سكة من السكك)
قوله: [حدثنا أحمد بن إبراهيم الموصلي أبو علي].
أحمد بن إبراهيم الموصلي أبو علي صدوق، أخرج له أبو داود وابن ماجة في التفسير.
[أخبرنا محمد بن ثابت العبدي].
محمد بن ثابت العبدي صدوق لين الحديث، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[عن نافع].
هو نافع مولى ابن عمر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وهم عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمرو، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(51/6)
خطأ محمد بن ثابت في حديث التيمم
[قال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل يقول: روى محمد بن ثابت حديثاً منكراً في التيمم].
يعني: هذا الحديث.
[قال ابن داسة: قال أبو داود: لم يتابع محمد بن ثابت في هذه القصة على ضربتين عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورووه فعل ابن عمر].
ابن داسة هو أحد الرواة لسنن أبي داود، قال: قال أبو داود: لم يتابع محمد بن ثابت في هذه القصة على ضربتين عن النبي صلى الله عليه وسلم، يعني رفعه للحديث لم يتابع عليه، وإنما هذا مما انفرد به محمد بن ثابت، وكذلك أيضاً ذكر الذراعين زيادة منكرة؛ لأنها مخالفة لما جاء في الروايات الصحيحة من أن المسح إنما يكون للكفين فقط دون الذراعين، وسبق أن ذكرت أن الحافظ ابن حجر قال: إن الروايات التي فيها ذكر الذراعين وذكر نصف الساعد فيها مقال.
قوله: [ورووه فعل ابن عمر] يعني رووا الضربتين من فعل ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، ولكن سبق أن مر في بعض الأحاديث الصحيحة أنهم تمسحوا وضربوا ضربة فمسحوا بها الوجوه، ثم ضربوا ضربة أخرى فمسحوا بها الأيدي إلى الآباط وإلى المناكب.(51/7)
شرح حديث: (أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغائط فلقيه رجل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا جعفر بن مسافر حدثنا عبد الله بن يحيى البرلسي حدثنا حيوة بن شريح عن ابن الهاد أن نافعاً حدثه عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغائط، فلقيه رجل عند بئر جمل فسلم عليه، فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الحائط، فوضع يده على الحائط ثم مسح وجهه ويديه، ثم رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرجل السلام)].
أورد المصنف حديث ابن عمر رضي الله عنهما من طريق أخرى، وهو مطابق لحديث أبي جهيم الذي تقدم، والذي فيه: (أنه جاء من نحو بئر جمل، وأن الرجل سلم عليه ولم يرد عليه السلام حتى ضرب بيديه الحائط ومسح بيديه ووجهه)، وهنا أجمل اليدين، ولم يذكر الحد الذي كان عليه المسح، فهو مثل رواية أبي جهيم المتقدمة، وهي مجملة أيضاً ليس فيها تحديد؛ لأن اليد يدخل تحتها الكف وحده، ويدخل تحتها الكف والذراع إلى المرفقين، ويدخل تحتها اليد كلها إلى المناكب، وكل ذلك يقال له: يد، ولكن الذي ثبت في الصحيحين وفي غيرهما أن المسح للكفين فقط.(51/8)
تراجم رجال إسناد حديث: (أقبل رسول الله من الغائط فلقيه رجل)
قوله: [قال حدثنا جعفر بن مسافر].
جعفر بن مسافر صدوق ربما أخطأ، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا عبد الله بن يحيى البرلسي].
عبد الله بن يحيى البرلسي لا بأس به، يعني: صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود.
[حدثنا حيوة بن شريح].
هو حيوة بن شريح المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن الهاد].
هو يزيد بن عبد الله بن الهاد بن أسامة بن الهاد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع عن ابن عمر].
وقد مر ذكرهما.(51/9)
الجنب يتيمم(51/10)
شرح حديث: (الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: الجنب يتيمم.
حدثنا عمرو بن عون أخبرنا خالد الواسطي عن خالد الحذاء عن أبي قلابة ح وحدثنا مسدد أخبرنا خالد -يعني ابن عبد الله الواسطي - عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن عمرو بن بجدان عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: (اجتمعت غنيمة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا ذر! ابد فيها، فبدوت إلى الربذة، فكانت تصيبني الجنابة فأمكث الخمس والست، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبو ذر؟ فسكتُّ، فقال: ثكلتك أمك - أبا ذر - لأمك الويل، فدعا لي بجارية سوداء فجاءت بعس فيه ماء فسترتني بثوب واستترت بالراحلة واغتسلت، فكأني ألقيت عني جبلاً، فقال: الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك فإن ذلك خير)، وقال مسدد: غنيمة من الصدقة، قال أبو داود: وحديث عمرو أتم].
أورد أبو داود رحمه الله باب: الجنب يتيمم، والمقصود: أن الجنب يتيمم، وأن التيمم يرفع الحدث الأكبر كما يرفع الحدث الأصغر، وقد سبق أن مر قريباً الأحاديث المتعلقة بقصة عمار وعمر رضي الله تعالى عنهما، وأنه لما أجنب تمرغ في الصعيد كما تتمرغ الدابة، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره، فقال: (إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا)، وهو يدل على أن الجنب يتيمم، وأن التيمم يقوم مقام الماء في رفع الحدث الأكبر والأصغر، وأن التيمم يكون لرفع الجنابة، ويكون للطهارة من الحيض، ويكون لرفع الحدث الأصغر حيث لا يوجد الماء أو لا يقدر الإنسان على استعماله.
فالأحاديث التي مرت تدل على هذه الترجمة، ولكن أبا داود رحمه الله عقد هذه الترجمة الخاصة بتيمم الجنب، وأورد حديث أبي ذر رضي الله تعالى عنه: (أنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم غنيمة -وهي تصغير الغنم-، فقال له: ابد فيها) يعني: اذهب إلى البادية، قال: فبدوت -يعني: ذهبت- إلى الربذة، وهو مكان يقال له: الربذة، وكان معه أهله، وكانت تصيبه الجنابة، فيمكث خمس ليالٍ وست ليالٍ، يعني: لا يجد الماء ولا يصلي، فعندما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ثكلتك أمك، لأمك الويل) قيل: هذا دعاء لا يراد، وإنما شيء اعتادوا أن يقولوه مثل تربت يداك، وعقرى حلقى، وغير ذلك من العبارات التي كانوا يقولونها.
وقوله: [فدعا لي بجارية سوداء، فجاءت بعسّ فيه ماء].
العسّ: هو القدح الكبير.
قوله: [فسترتني بثوب].
يعني: جعلت ثوباً يستره، والجهة الثانية فيها الناقة، فاغتسل، قال: فكأني ألقيت عني جبلاً، أي: بسبب الجنابة والاهتمام بشأنها، فتخلص من هذا الثقل الذي كان يجده في نفسه من كونه كان على هذا الوضع.
قوله: [فقال: (الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين)].
يعني: أن التيمم يقوم مقام الوضوء وإن لم يجد الماء عشر سنين، والمقصود بالعشر هو التكثير وليس التحديد، بل يجوز حتى أكثر من عشر، وليس المقصود أنه إذا تعدى عشر سنين يختلف الحكم، بل المقصود بيان الكثرة، وأن التيمم يقوم مقام الماء ويحل محله.
وفيه دليل على أن الإنسان إذا تيمم فإن التيمم يقوم مقام الوضوء، ويكون رافعاً للحدث، وأن الإنسان يمكنه أن يصلي بالتيمم عدة صلوات مادام أنه لم يحصل منه حدث بعد ذلك؛ لأنه إذا تيمم فقد وجد منه الشيء الذي حل محل الماء، وبعض أهل العلم يقول: إنه يتيمم لكل صلاة.
قوله: [(فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك فإن ذلك خير)].
يعني: إذا وجدت الماء بعد ذلك (فأمسه جلدك)، فالمتيمم للجنابة إذا وجد الماء فإن عليه وجوباً أن يغتسل، ولو كان قد تيمم في تلك المدة الطويلة التي سبقت وجود الماء.
قوله: [قال مسدد: غنيمة من الصدقة].
يعني: أن أن أحد الشيخين لـ أبي داود وهو مسدد قال: غنيمة من الصدقة، يعني: أنها غنيمة من الصدقة.
[قال أبو داود: وحديث عمرو أتم].
أي: حديث شيخه الأول، وهو عمرو بن عون.(51/11)
تراجم رجال إسناد حديث: (الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين)
قوله: [حدثنا عمرو بن عون].
عمرو بن عون ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا خالد الواسطي].
هو خالد بن عبد الله الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن خالد الحذاء].
هو خالد بن مهران الحذاء، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، والحذاء لقبٌ لُقّب به ولم يكن حذاءً، ولا بائعاً للأحذية، وإنما كان يجالس الحذائين فنسب إليهم، وهذه نسبة سببها أدنى مناسبة، وهي مجالسة الحذائين.
[عن أبي قلابة].
هو عبد الله بن زيد الجرمي، وهو ثقة كثير الإرسال، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[وحدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[أخبرنا خالد يعني ابن عبد الله الواسطي عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن عمرو بن بجدان].
أبو قلابة هو ملتقى الطريقين، فالطريق الأولى: عمرو بن عون عن خالد الواسطي عن خالد الحذاء عن أبي قلابة.
والطريق الثانية: مسدد عن خالد الواسطي عن خالد الحذاء عن أبي قلابة.
وعمرو بن بجدان لا يعرف حاله، وقد أخرج له أصحاب السنن.
[عن أبي ذر].
هو جندب بن جنادة رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(51/12)
شرح حديث: (إني كنت أعزب عن الماء ومعي أهلي فتصيبني الجنابة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل أخبرنا حماد عن أيوب عن أبي قلابة عن رجل من بني عامر قال: دخلت في الإسلام فأهمني ديني، فأتيت أبا ذر رضي الله عنه، فقلت: أبو ذر؟ فقال أبو ذر: (إني اجتويت المدينة فأمر لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بذود وبغنم، فقال لي: اشرب من ألبانها) قال حماد: وأشك في أبوالها -هذا قول حماد - فقال أبو ذر: (فكنت أعزب عن الماء ومعي أهلي، فتصيبني الجنابة، فأصلي بغير طهور، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بنصف النهار وهو في رهط من أصحابه، وهو في ظل المسجد، فقال: أبو ذر؟ فقلت: نعم، هلكت يا رسول الله! قال: وما أهلكك؟ قلت: إني كنت أعزب عن الماء ومعي أهلي، فتصيبني الجنابة فأصلي بغير طهور، فأمر لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء، فجاءت به جارية سوداء بعسّ يتخضخض ما هو بملآن، فتسترت إلى بعيري فاغتسلت ثم جئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر! إن الصعيد الطيب طهور وإن لم تجد الماء إلى عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك).
قال أبو داود رواه حماد بن زيد عن أيوب لم يذكر أبوالها.
قال أبو داود: هذا ليس بصحيح، وليس في أبوالها إلا حديث أنس تفرد به أهل البصرة].
أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي ذر من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله، وشك حماد بن سلمة في أبوالها، هل قال: أبوالها أو ما قالها؟ وأما ألبانها فليس فيها شك.
قوله: (وما أهلكك؟ قال: كنت أعزب عن الماء) يعني: يبتعد عن الماء.
قوله: (ومعي أهلي) يعني: فتصيبه الجنابة.
قوله: [(فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بنصف النهار وهو في رهط من أصحابه وهو في ظل المسجد، فقال: أبو ذر؟ فقلت: نعم، هلكت يا رسول الله! قال: وما أهلكك؟! قلت: إني كنت أعزب عن الماء ومعي أهلي، فتصيبني الجنابة فأصلي بغير طهور، فأمر لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء، فجاءت به جارية سوداء بعس يتخضخض ما هو بملآن فاستترت)].
العس: هو الوعاء الكبير، والمعنى أنه كان غير ممتلئ، فكان الماء يتخضخض فيه، يعني: يتحرك بصوت، فاستتر واغتسل.
قوله: [فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر! إن الصعيد الطيب طهور وإن لم تجد الماء إلى عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك)].
وهذا الحديث مثل الذي قبله.(51/13)
تراجم رجال إسناد حديث: (إني كنت أعزب عن الماء ومعي أهلي فتصيبني الجنابة)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا حماد].
هو حماد بن سلمة، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أيوب].
هو أيوب بن أبي تميمة السختياني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي قلابة عن رجل من بني عامر].
أبو قلابة مر ذكره، والرجل الذي من بني عامر قيل: هو عمرو بن بجدان في الإسناد الأول.
[عن أبي ذر].
هو جندب بن جنادة، وقد مر ذكره.(51/14)
خلاف الرواة في بعض ألفاظ الحديث
قوله: [قال: (دخلت في الإسلام فأهمني ديني)].
يعني: معرفة أحكام دينه وأمور دينه.
[فقال أبو ذر: (فأمر لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بذود)].
الذود أي: عدد من الإبل، قيل: من الثلاث إلى التسع، وقيل: من الثلاث إلى العشر، وقد جاء إطلاقه على الخمس في حديث: (ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة).
[قال أبو داود: رواه حماد بن زيد عن أيوب لم يذكر أبوالها].
حماد بن زيد لم يذكر أبوالها، وحماد بن سلمة هو الذي شك هل قال: أبوالها أو لم يقل: أبوالها.
[قال أبو داود: هذا ليس بصحيح، وليس في أبوالها إلا حديث أنس تفرد به أهل البصرة].
يعني: ذكر الأبوال ليس بصحيح، وإنما الصحيح في الأبوال حديث أنس الذي تفرد به أهل البصرة، وهو في قصة العرنيين الذين اجتووا المدينة، فأمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى إبل الصدقة، فيشربوا من ألبانها وأبوالها، ففعلوا، فلما صحوا قتلوا الراعي، واستاقوا الإبل، وقصتهم مشهورة، والحديث في الصحيحين، وفيه التنصيص على الأبوال، وهو دليل على طهارة أبوال الإبل، بل وطهارة بول وروث كل ما يؤكل لحمه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن لهم أن يشربوا من أبوالها، ولو كانت نجسة لم يأمرهم بالشرب منها، فَأَمْرُه لهم بالشرب منها يدل على طهارتها، وفي ذلك علاج وتداوٍ بحلال، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن التداوي بالحرام.(51/15)
الأسئلة(51/16)
حال حديث أبي ذر (إني اجتويت المدينة)
السؤال
ما حال حديث أبي ذر؟
الجواب
حديث أبي ذر صححه أهل العلم واحتجوا به، وفيه هذا الرجل الذي لا يعرف، لكن لعل له شواهد أو متابعات.(51/17)
حكم قضاء صلاة من صلى بغير وضوء جهلاً
السؤال
هل أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا ذر أن يقضي الصلوات التي صلاها بغير طهور؟
الجواب
ليس في هذا الحديث أنه أمره بإعادة ما صلّاه بغير وضوء على اعتبار أنه لم يكن يعلم الحكم، وقد جاء مثل هذا عن الصحابة عندما صلوا بدون وضوء في الحديث الذي فيه انحباسهم لعقد عائشة، وفيه ثناء أسيد بن حضير على آل أبي بكر، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بإعادة الصلاة؛ لأن التيمم لم يكن قد شُرع، وما عرفوا هذا الحكم في الشريعة.(51/18)
نوع التراب الذي يصح به التيمم
السؤال
ما هو نوع التراب الذي يصح به التيمم؟
الجواب
التيمم يكون بالأرض مطلقاً سواء كانت ترابية أو رملية أو حجرية؛ لعموم الحديث: (أيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره) ومعناه: أنه يتيمم، بل يجوز له أن يتيمم على الجدار، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث تيمم بالجدار، وأما ما جاء من ذكر التربة في بعض الروايات فهذا لا ينافي العموم؛ لأن من القواعد المقررة في أصول الفقه: أن التنصيص على بعض أفراد العام لا يسقط عمومه، بل يبقى العموم على ما هو عليه، وأكثر ما في الأمر أن بعض أفراد العموم نص عليه، فإفراد بعض أفراد العام بحكم العام لا يخصص العام.
ومثل هذا أن بعض أهل العلم استدل بقوله: (الشفعة في كل شيء) على أنها تكون في العقار وفي غيره، والتنصيص على العقار في بعض الروايات لا يدل على قصر الحكم عليه، وإنما هو بعض أفراد الشفعة، وهي في كل شيء، فيبقى العموم على ما هو عليه، والتنصيص على بعض أفراده لا يسقط عمومه.(51/19)
حكم التيمم على الجدار الأملس
السؤال
ما حكم التيمم على الجدار الأملس؟
الجواب
التيمم على الجدار الأملس يجوز إذا كان عليه غبار، أما إذا كان حديث عهد بالغسل فلا يتيمم به؛ لأنه لا يكون عليه غبار.(51/20)
حكم الصلاة على السيارة
السؤال
هل تجوز الصلاة في السيارة ونحوها؟
الجواب
السيارة مثل الراحلة، فليس للإنسان أن يصلي فيها الفريضة؛ لأنه يجب أن يقف ويصلي، أما النافلة فيجوز، فقد كان عليه الصلاة والسلام يتنفل على راحلته فإذا جاء وقت الصلاة نزل وصلى، فالسيارة مثل الراحلة، لكن من كان على الطائرة وخشي أن يخرج الوقت وهي في الجو، فيصلي عليها الفريضة إن وجد مكاناً يركع ويسجد فيه، فإن لم يجد فإنه يصلي على كرسيه واقفاً أو جالساً بالإشارة.(51/21)
حكم التيمم في الحضر
السؤال
تيمم النبي صلى الله عليه وسلم في الحضر، فهل هذا خاص به؟
الجواب
لا أدري، والأصل عدم الخصوص حتى يأتي دليل يدل على الخصوص، والذي يظهر لي أن للإنسان أن يفعل ذلك؛ لأنه لا يترتب عليه إلا حصول الأكمل والأصوب، وهو ذكر الله على طهارة، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يفعل هذا دائماً، وإنما جاء عنه مرة واحدة، ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يذكر الله على كل أحيانه)، ومن المعلوم أنه في بعض أحيانه يكون على غير وضوء.(51/22)
حكم الترتيب في التيمم
السؤال
هل يشترط في التيمم الترتيب؟ قال الحافظ ابن حجر: ليس من شرط التيمم الترتيب.(51/23)
حكم التفل في اليدين قبل التيمم من الجدار
السؤال
هل ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم تفل في يديه عندما مسح على الجدار؟
الجواب
لا نعلم هذا، ولماذا هذا التفل؟! فالمتيمم لا يتفل في يديه، وإنما إذا كان الغبار كثيراً في اليدين فإنه يخفف الغبار بالنفخ أو بالنفض.(51/24)
حد اليد في اللغة
السؤال
إذا أطلقت اليد هل تكون للكف؟
الجواب
اليد تطلق إطلاقات متعددة: فتطلق على الكف وحده، وتطلق على الكف ومعه الساعد، وعلى الكف ومعه الساعد والعضد إلى المنكب، كل ذلك يطلق عليه أنه يد، ولكن هذا الإطلاق يصار إلى تقييده بالسنة، كما جاء القرآن بإطلاق قطع يد السارق: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38]، وبينت السنة أن القطع يكون من المفصل الذي بين الكف وبين الساعد، وإطلاق قطع اليد كان يصدق لو قطعت من الكف أو قطعت من المرفق أو قطعت من المنكب؛ لأنه كله يقال له: يد، لكن قد جاءت السنة ببيان حد اليد في القطع، وكذلك أيضاً بينت حد اليد بالنسبة للتيمم، وأما بالنسبة للوضوء فقد جاء تحديد غسل اليدين إلى المرافق في قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6].(51/25)
تضعيف صلاة المنفرد في المسجد النبوي
السؤال
هل من فاتته صلاة الجماعة مع الإمام في المسجد النبوي وصلى وحده يكتب له أجر ألف صلاة؟
الجواب
هذا هو الذي يبدو؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام)، فأي صلاة يصليها الإنسان فيه فهي خير من ألف صلاة فيما سواه، سواء كانت صلاة جماعة أو منفرد.(51/26)
حكم جماع الزوجة مع العلم بعدم وجود ماء الغسل
السؤال
هل يأثم المسلم بجماع أهله إذا تحقق أنه فاقد للماء في المكان الذي هو فيه؟
الجواب
لا، بل يجوز للرجل أن يجامع أهله وإذا لم يجد ماءً فيتيمم، وإذا كان مسافراً وهو في مكان وليس فيه ماء، فله أن يجامع أهله ويتيمم.(51/27)
حكم من اعتمرت ولم تقص من شعرها
السؤال
امرأة اعتمرت ولم تقص شعرها، فما الحكم؟
الجواب
إذا كانت حديثة عهد بالعمرة فتقص شعرها الآن، وإذا كان قد مضى عليها وقت طويل فعليها فدية عن ترك التقصير.(51/28)
ملتقى الإسناد في حديث أبي ذر (إني اجتويت المدينة)
السؤال
لماذا جعل أبو داود ملتقى الإسناد عند عمرو بن بجدان؟
الجواب
لأنه يوجد فرق في ذكر رجال الإسنادين، ففي إسناد قال: خالد الواسطي، وفي الإسناد الثاني قال: خالد يعني ابن عبد الله الواسطي، فجاء بكلمة يعني، وفي الطريق الأول قال: خالد الواسطي، فبينهما فرق.(51/29)
الجمع بين روايات حديث أبي ذر (إني اجتويت المدينة)
السؤال
كيف نوفق بين روايتي حديث أبي ذر، ففي الرواية الأولى قال: (فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو ذر: فسكتُّ)، وفي الرواية الثانية: (فقال: أبو ذر؟ فقلت: نعم)؟
الجواب
لا يوجد تنافٍ، فلعله سكت أولاً، ثم بعد ذلك قال: نعم.(51/30)
حكم قضاء من ترك الصلاة متعمداً
السؤال
هل في حديث أبي ذر رضي الله عنه ردٌّ على من يوجب قضاء الفوائت إذا خرج وقتها؟
الجواب
الذين كانوا يتركون الصلاة لمدة طويلة ليس عليهم أن يقضوها، وإنما عليهم أن يتوبوا إلى الله عز وجل من تركهم الصلاة، والصلاة تقضى إذا نسيها الإنسان أو نام عنها، أما من ترك الصلاة لمدة طويلة فعليه أن يتوب إلى الله عز وجل من هذا الجرم الذي حصل منه، وأن يحافظ على الصلوات في المستقبل، وأن يكثر من النوافل، أما كونه يترك الصلاة عشرين سنة أو أقل أو أكثر، ثم يهديه الله عز وجل فيكون من المصلين، ثم بعد ذلك كلما يصلي صلاة يصلي وراءها صلاة قضاء؛ فهذا ليس بصحيح، وإنما عليه أن يتوب مما حصل منه من الإجرام، ويحافظ على الصلاة في المستقبل، ويحافظ على الصلاة في المستقبل.(51/31)
لا يعذر تارك الصلاة بالجهل
السؤال
هل يعذر تارك الصلاة بالجهل؟ الشيخ: لا يعذر بالجهل، وإذا ترك الصلاة نسياناً فليقضيها متى ذكرها، أما إذا ترك الصلاة لمدة طويلة فليحسن في المستقبل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم في قصة الرجل المسيء صلاته قال له: (ارجع فصلّ فإنك لم تصل) يعني: أن صلواته الماضية كلها كانت بهذه الطريقة، ومع ذلك لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء، لكن إذا كان الإنسان قد حصل منه تقصير في صلوات معينة، ويمكنه قضاؤها فليقضها، وبالنسبة لزمن الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كان زمن تشريع، فبعض الصحابة قد يجتهد فيصلي صلاة لا تصح، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يأمره بالإعادة، مثلما أقر أسيد بن حضير والذين معه حينما صلوا بدون وضوء؛ لعدم الماء، والتيمم لم يكن قد شرع، فالرسول صلى الله عليه وسلم أقرهم، وعمر رضي الله عنه قد جاء عنه أنه قال: لا يصلي الجنب حتى يجد الماء.(51/32)
حكم التيمم بالزجاج
السؤال
هل يجوز التيمم بالزجاج؛ لأن أصله تراب؟
الجواب
لا يتيمم الإنسان بالزجاج، ولو كان أصله تراباً فالتيمم يكون بالأرض، وكون الإنسان يمسح زجاجة موضوعة على الأرض فهذا لا يقال: إنه تيمم بالأرض، بل تيمم بالزجاج، وليس كل ما كان أصله تراباً يجوز التيمم عليه، والجدار يجوز أن يتيمم عليه بسبب الغبار الذي يكون عليه، والزجاج إذا كان عليه غبار مثل الجدار الأملس فيجوز التيمم بالغبار الذي عليه.(51/33)
معنى قوله: (فكانت تصيبني الجنابة فأمكث الخمس والست)
السؤال
ما معنى قوله في حديث أبي ذر: (فكانت تصيبني الجنابة فأمكث الخمس والست)؟
الجواب
يعني الخمس الليالي والست الليالي، وجاء في الحديث الثاني: (فتصيبني الجنابة فأصلي بغير طهور)! ولم يذكر مدة، فهذه الرواية الثانية بينت أنه كان يصلي بغير وضوء.(51/34)
حكم ذكر الله للجنب
السؤال
هل للجنب أن يذكر الله؟
الجواب
يذكر الله، لكن لا يقرأ القرآن، وبعض أهل العلم قال: له أن يقرأ القرآن وهو على جنابة، وبعضهم قال: لا يقرأ القرآن؛ لأنه بإمكانه أن يتخلص من الجنابة بالاغتسال إن كان الماء موجوداً أو بالتيمم إذا عدم الماء.(51/35)
شرح سنن أبي داود [052]
خفف الله عن هذه الأمة ووضع عنها إصرها، فشرع لها التيمم عند فقد الماء أو خوف الضرر من استعماله، وقد جاءت أحاديث كثيرة تبين أحكام التيمم المختلفة.(52/1)
تيمم الجنب إذا خاف البرد(52/2)
شرح حديث: (يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب إذا خاف الجنب البرد أيتيمم؟ حدثنا ابن المثنى، أخبرنا وهب بن جرير، أخبرنا أبي، قال: سمعت يحيى بن أيوب، يحدث عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جبير المصري، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال: (احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا عمرو! صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29] فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً)].
قوله: (باب إذا خاف الجنب البرد أيتيمم) أي: إذا خاف الجنب البرد أيتيمم عن الجنابة؟ هذه الترجمة المقصود منها كما هو واضح أن الجنب إذا خشي من الاغتسال أن يصيبه الهلاك، أو يصيبه ضرر كبير يلحق جسمه أو مرض يؤدي به إلى الهلاك، هل له أن يتيمم أو ليس له أن يتيمم؟ وأورد المصنف رحمه الله حديث عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه، أنه كان في غزوة ذات السلاسل، وكان أميراً عليها، فاحتلم وخشي إن اغتسل أن يهلك لشدة البرد، وذكر قول الله عز وجل: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29]، فتيمم وصلى بالناس وهو إمامهم؛ لأنه أميرهم، فلما جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقد أخبروه بذلك قال له: (صليت بأصحابك وأنت جنب يا عمرو؟) فقال له ما قال وتلا عليه الآية التي بنى عليها عمله، وهي قول الله عز وجل: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29] فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد شيئاً.
وضحكه عليه الصلاة والسلام وكونه لم يرد عليه شيئاً إقرار له، ولو كان ذلك باطلاً أو غير سائغ لم يقره على ذلك، وهو لا يقر على باطل صلى الله عليه وسلم.
ومن المعلوم أن السنة تثبت بطرق ثلاث: وهي القول أو الفعل أو التقرير، ولهذا يعرف المحدثون الحديث بقولهم: هو ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، ويضيفون إلى ذلك: أو وصف خلقي أو خلقي.
أي: وصف أخلاقه الكريمة وخلقه الذي خلقه الله عليه صلى الله عليه وسلم، أيضاً هذا يدخل في السنة ويدخل في الحديث، ولكن هذا التعريف كما هو واضح، يشمل الطرق الثلاث التي تثبت بها السنن، وهي القول والفعل والتقرير، فكونه صلى الله عليه وسلم ضحك وتبسم ولم يرد شيئاً؛ أي أنه أقره على صنيعه وأقره على فعله.
قوله: [(احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك)].
وهذه الغزوة هي التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيها عمرو بن العاص على جيش ذات السلاسل، وهناك في الجيش من هو أفضل منه، وبهذا يجوز أن يولى المفضول مع وجود الفاضل، وذلك لمعنى موجود في المفضول اختير من أجله، ولما أمره الرسول صلى الله عليه وسلم فهم من هذا التأمير وهذا التقديم أن فيه تفضيلاً فسأله فقال: (من أحب الناس إليك يا رسول الله؟ قال: عائشة، قال: ومن الرجال؟ قال: أبوها، قال: ثم من؟ قال: عمر)، ثم سكت لما رأى أنه عدد أناساً ولم يعده.
في هذه الغزوة أو هذا الجيش الذي كان فيه حصل له احتلام في النوم، واحتاج إلى الغسل وخشي أنه إذا اغتسل والبرد شديد أن يهلك، وفهم من الآية وهي قول الله عز وجل: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29] أنه يعدل عن الاغتسال إلى التيمم، ولما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذي حصل منه وأنه صلى بأصحابه وهو جنب وتلا هذه الآية التي فهم منها ما فهم أقره رسول الله عليه الصلاة والسلام حيث ضحك وتبسم ولم يرد عليه شيئاً.
وهذا فيه أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا يجتهدون في زمن الوحي في الأمور التي تطرأ عليهم كما فعل عمرو في هذه الغزوة، وكما فعل أسيد بن حضير ومن معه عندما كانوا يبحثون عن عقد عائشة ولما جاء وقت الصلاة وليس عندهم ماء صلوا بدون وضوء؛ لأن التيمم لم يشرع بعد، فعلوا ذلك باجتهادهم، حيث رأوا أن الصلاة لا تترك وأن عليهم أن يصلوا على حسب حالهم، فصلوا على حسب حالهم وأقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: [فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح].
وكان هذا في آخر الليل؛ لأن البرد يكون أشد ما يكون في آخر الليل.(52/3)
معنى قوله: (سمعت الله يقول)
قوله: [(فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا عمرو! صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29] فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً)].
المقصود بقوله: (سمعت الله يقول) سمعت كلام الله عز وجل ورأيت كلام الله سبحانه وتعالى والذي ينص على أن الإنسان لا يقتل نفسه، وأن ذلك يكون فيه قتل للنفس.
وستأتي قصة الرجل الذي أصابته شجة واحتلم وسأل وقيل له: (ما نعلم إلا أنك تغتسل، فاغتسل ومات بسبب ذلك، فلما بلغ ذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال).
ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (إذا سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:104] فأرع لها سمعك؛ فإنه خير تؤمر به أو شر تنهى عنه) وهذا السماع إنما هو سماع للقرآن إما من غيره أو كونه يقرأ لنفسه.
ومن المعلوم أن المقصود بالسماع من الله، أي: سماع كلام الله، وسبق أن ذكرت الأثر المروي عن عبد الله بن داود الخريبي الذي ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري وهو في قول الله عز وجل: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19] قال: إن هذه الآية أشد آية على أصحاب جهم؛ لأن الله تعالى يقول: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19] قال: فمن بلغته هذه الآية فكأنما سمع كلام الله.
يعني: كأنه سمعه من الله، وكما هو معلوم أن الناس لا يسمعون من الله، وإنما الذي سمع الوحي من الله ونزل به على محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام هو جبريل عليه السلام، والذي سمع كلام الله من الله هو موسى بن عمران كليم الرحمن عليه الصلاة والسلام، كما قال الله عز وجل: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143] فهو سمع كلام الله من الله، وكذلك نبينا محمد عليه الصلاة والسلام ليلة المعراج فإنه سمع كلام الله من الله، ولهذا فكما أن موسى بن عمران كليم الرحمن فإن نبينا محمداً عليه الصلاة والسلام هو أيضاً كليم الرحمن، وكما أن إبراهيم خليل الرحمن، فنبينا محمد عليه الصلاة والسلام خليل الرحمن، فاجتمع فيه ما تفرق في غيره، الخلة لإبراهيم والتكليم لموسى والخلة والتكليم لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.(52/4)
الأحكام العصرية المستنبطة من قوله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم)
وقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29] هذه الآية استدل بها بعض أهل العلم على تحريم شرب الدخان؛ لأن الله تعالى نهى عن قتل النفس، ومن المعلوم أن شرب الدخان من الأسباب التي يكون بها الهلاك ومن أسباب الأمراض، ومن المعلوم أيضاً أن الشريعة جاءت بعموماتها وبقواعدها تشمل ما هو موجود في زمنه صلى الله عليه وسلم وما ليس بموجود مما يجد ويحدث.
ومن المعلوم أن الدخان شيء جديد، وإنما طرأ ووجد في الأزمان المتأخرة، ولكن الشريعة تستوعب ما يحدث وما يجد من النوازل؛ وذلك بعموماتها وقواعدها وقياس المثيل على المثيل، وإلحاق النظير بالنظير؛ وذلك أن قوله: (وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ) فيه نهي عن قتل النفس بأي طريقة كانت، وعن قتل الغير، وكون الإنسان لا يقدم على أي شيء يؤدي إلى هلاكه وقتل نفسه هو ما تقتضيه هذه الآية، ولهذا فهم عمرو رضي الله عنه منها أنه لو اغتسل بالماء البارد لهلك، واحتج بهذه الآية وتلاها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد عليه شيئاً، أي: أنه أقره على ذلك.(52/5)
تراجم رجال إسناد حديث (يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟)
قوله: [حدثنا ابن المثنى].
محمد بن المثنى العنزي أبو موسى الملقب بـ الزمن ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا وهب بن جرير].
وهب بن جرير بن حازم ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا أبي].
أبوه هو جرير بن حازم، وهو أيضاً ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت يحيى بن أيوب].
يحيى بن أيوب صدوق ربما أخطأ، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن يزيد بن أبي حبيب].
يزيد بن أبي حبيب ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمران بن أبي أنس].
عمران بن أبي أنس ثقة أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
ولم يخرج له ابن ماجة.
[عن عبد الرحمن بن جبير المصري].
عبد الرحمن بن جبير المصري ثقة أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن عمرو بن العاص].
عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
وعمرو بن العاص رضي الله عنه روى قصة إسلامه مسلم في صحيحه، قال: (إنه جاء ليسلم وكان إسلامه عام الحديبية، فلما مد يده ليبايع الرسول صلى الله عليه وسلم فمد رسول الله يده فقبض عمرو يده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لماذا يا عمرو؟ قال: أردت أن أشترط، قال: وماذا تشترط؟ قال: أن يغفر لي -يعني: ما كان من الشرك وما كان من أمر الجاهلية- فقال عليه الصلاة والسلام: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟) قوله: (أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟) أي: أن التوبة تجب ما قبلها، وأعظم الذنوب وأبطل الباطل وأظلم الظلم الشرك، وإذا حصلت التوبة منه فإن الله تعالى يغفر ذلك، فكيف لما هو دونه من الكبائر والمعاصي، فـ عمرو رضي الله عنه عند المبايعة قال هذه المقالة وأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الجواب الذي فيه بيان أن الإسلام يهدم ما كان قبله، والهجرة تهدم ما كان قبلها، والحج يهدم ما كان قبله.(52/6)
مصطلح المتفق والمفترق في ترجمة الرجال
قوله: [قال أبو داود: عبد الرحمن بن جبير مصري مولى خارجة بن حذافة وليس هو ابن جبير بن نفير].
لما كان هذا الإسناد فيه هذا الرجل المصري وهو عبد الرحمن بن جبير المصري، وكان هناك شخص آخر يوافقه في الاسم واسم الأب وهو عبد الرحمن بن جبير بن نفير، فهذا حمصي وذاك مصري، فأراد أن يبين أن هذا غير هذا.
وهذا يسمونه المتفق والمفترق في علم المصطلح، يعني: أن تتفق الأسماء وأسماء الآباء وتختلف الأشخاص.(52/7)
شرح حديث عمرو بن العاص في الجمع بين الوضوء والتيمم للجنب
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن سلمة المرادي أخبرنا ابن وهب، عن ابن لهيعة وعمرو بن الحارث عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جبير، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص أن عمرو بن العاص رضي الله عنه كان على سرية، وذكر الحديث نحوه قال: (فغسل مغابنه وتوضأ وضوءه للصلاة ثم صلى بهم) فذكر نحوه، ولم يذكر التيمم.
قال أبو داود: وروى هذه القصة عن الأوزاعي عن حسان بن عطية قال فيه: (فتيمم).
].
ذكر أبو داود رحمه الله الحديث من طريق أخرى، وفيه أن أبا قيس مولى عمرو بن العاص أخبر عن عمرو وقصته، وأنه لما صلى بالناس وهو جنب أنه غسل مغابنه وتوضأ، ولكن لم يذكر التيمم.
وقد جاء من طريق أخرى أنه تيمم، والطريق السابق فيه أنه تيمم، لكن هذا فيه أنه توضأ وتيمم للغسل؛ لأن الوضوء ولو كان الماء بارداً أسهل من الاغتسال، لكن ينبغي أن يعلم أنه إذا أمكن للإنسان أن يسخن الماء فليسخن الماء ويغتسل به ولا يعدل إلى التيمم، لكن إذا كان في فلاة أو في بر أو في عراء، وليس هناك كن يستكن به، فإنه يتضرر بالماء مع شدة البرد.
فالحاصل أن هذه الرواية التي ذكرها أبو داود فيها أنه توضأ وغسل مغابنه، وهي ما حول أصول الفخذين كما سبق أن مر بنا غسل المغابن، وهي الأماكن التي لا يصل إليها الماء إلا بمشقة.
قوله: [(فغسل مغابنه وتوضأ وضوءه للصلاة ثم صلى بهم).
فذكر نحوه ولم يذكر التيمم].
عدم ذكر التيمم لا يؤثر؛ لأنه ذكر من طريق أخرى، وعدم ذكر اليتيم في هذه الرواية لعله حصل اختصاراً.
[قال أبو داود: وروى هذه القصة عن الأوزاعي عن حسان بن عطية قال فيه: فتيمم].
وهذه الرواية التي أشار إليها من قبل أنه لم يتيمم جاء فيها أنه تيمم، في الرواية السابقة أيضاً ذكر أنه تيمم.
إذا: هذه الرواية فيها وضوء مع التيمم.
كذلك من كان معه ماء ويخشى إذا اغتسل به الهلاك، لكن يستطيع الوضوء، فالذي يبدو كما جاء في هذا الحديث أنه يتوضأ ويتيمم للباقي.
كذلك لو كان الإنسان عنده ماء، لكن لا يكفي للاغتسال وإنما يكفي لبعضه، فإنه يستعمله ويتيمم للباقي؛ لأنه استطاع الأصل في البعض فيفعله ويتيمم للباقي.(52/8)
تراجم رجال إسناد حديث عمرو بن العاص في الجمع بين الوضوء والتيمم للجنب
قوله: [حدثنا محمد بن سلمة المرادي].
محمد بن سلمة المرادي المصري ثقة أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[أخبرنا ابن وهب].
ابن وهب هو عبد الله بن وهب المصري ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن لهيعة].
هو عبد الله بن لهيعة المصري وهو صدوق، احترقت كتبه فساء حفظه، وحديثه أخرجه مسلم مقروناً وأبو داود والترمذي وابن ماجة، أما النسائي فكان لا يروي عنه، وإذا جاء في إسناد ومعه غيره ذكر ذلك الغير وأبهم ابن لهيعة، فقال: حدثنا فلان ورجل آخر أو وآخر.
فكان إذا جاء الإسناد وفيه شخصان يرويان الحديث أحدهما ابن لهيعة، وهو يريد أن يروي الحديث عن غير ابن لهيعة فإنه يأتي بالإسناد، ولكن لا يترك ابن لهيعة بحيث لا يشير إليه ولا إشارة؛ لأن التحديث حصل من شخصين، وهو لا يحدث عن ابن لهيعة ولا يخرج له، فكان يشير إليه بالإشارة فيقول: أخبرنا عمرو بن الحارث ورجل آخر، يعني بالآخر ابن لهيعة؛ لأنه لا يريد أن يروي عن ابن لهيعة، ولا يريد أن يحذفه أصلاً، وكأن الحديث إنما جاء عن شخص واحد ولم يأت عن شخصين، لكن سمى من يريد أن يحدث عنه وأبهم من لا يريد أن يحدث عنه؛ فبذلك حصل المحافظة على الطريقة التي حصل بها التحديث، وهو أن الحديث جاء عن شخصين، والشخص الذي لا يريد أن يحدث عنه أبهمه، والشخص الذي يريد أن يحدث عنه أظهره، والمعول عليه هو من ذكره وحدث عنه.
[وعمرو بن الحارث] ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جبير، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص].
أبو قيس مولى عمرو بن العاص اسمه: عبد الرحمن بن ثابت، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن عمرو بن العاص].
هذا الحديث صورته صورة المرسل؛ لأن أبا قيس ما أدرك القصة ولكنه أخبر بها من طريق عمرو بن العاص مولاه.
[قال أبو داود: وروى هذه القصة عن الأوزاعي عن حسان بن عطية قال فيه: فتيمم].
الأوزاعي هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، فقيه الشام ومحدثها، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وحسان بن عطية ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
أما قوله: [وروى هذه القصة عن الأوزاعي عن حسان بن عطية قال فيه: فتيمم].
لعل الذي روى القصة عن الأوزاعي من دون يزيد بن أبي حبيب.(52/9)
التيمم من الجنابة للمجروح(52/10)
شرح حديث: (إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه خرقه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في المجروح يتيمم.
حدثنا موسى بن عبد الرحمن الأنطاكي، حدثنا محمد بن سلمة، عن الزبير بن خريق، عن عطاء، عن جابر رضي الله عنه أنه قال: (خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجر فشجه في رأسه ثم احتلم، فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك، فقال: قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر -أو يعصب شك موسى - على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده)].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة باب: في المجروح يتيمم.
يعني: الذي أصابه جرح ويلحقه ضرر باستعمال الماء فإنه يتيمم، وأورد فيه حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما (أن رجلاً كان في سرية وأصابه شجة في رأسه، فسأل أصحابه هل يتيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء) وذلك لأن التيمم إنما جاز عند فقد الماء والماء موجود.
قوله: (فاغتسل ومات، فلما بلغ ذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، إنما شفاء العي السؤال).
في هذا دليل على أن الإنسان إذا كان واجداً للماء، ولكن لا يقدر على استعماله أو يلحقه ضرر باستعماله فإنه يكون في حكم غير الواجد للماء، وأن له أن ينتقل إلى التيمم، ولهذا أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم على هؤلاء الذين قالوا: (لا نجد لك رخصة وأنت تجد الماء وتقدر عليه) مع أن الضرر يلحق به إذا استعمل الماء، وفعلاً لما استعمل الماء مات، فأنكر عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: (قتلوه قتلهم الله) يعني: أضاف عليه الصلاة والسلام القتل إليهم؛ لأنهم تسببوا في قتله بفتواهم.
ومن المعلوم أن إلحاق الضرر بالإنسان وكون الفعل يترتب عليه مضرة قد تؤدي إلى الهلاك هذا خلاف ما تقتضيه الشريعة، والإنسان يصلي على حسب حاله، فإذا كان الإنسان يستطيع استعمال الماء ولا يلحقه ضرر باستعماله فليستعمله، وإن كان يلحقه ضرر باستعماله فإنه يصير إلى التيمم حتى لا يهلك نفسه، وحتى لا يلحق الضرر بنفسه.
قوله: (إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر -أو يعصب- على جرحه خرقة ويمسح عليها) يعني: أن يجعل على الجرح جبيرة ويمسح عليها ويغسل الذي هو غير مجروح، والمجروح لا يصب عليه الماء حتى لا يلحقه بوصوله إليه مضرة، ويمسح على ذلك مثلما يمسح على العمامة لأنها مغطية للرأس، ومثلما ويمسح على الخفين لأنهما مغطيان للقدمين، فكذلك هذا الجزء الذي يغطيه الإنسان يمسح عليه، سواء كان في أعضاء الوضوء أو خارج أعضاء الوضوء، بأن يكون مثلاً فيه جبيرة في جنبه أو في ساعده، فإنه يغسل ما كان خارج الجبيرة ويمسح على الجبيرة.(52/11)
تراجم رجال إسناد حديث: (إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه خرقة)
قوله: [حدثنا موسى بن عبد الرحمن الأنطاكي].
موسى بن عبد الرحمن الأنطاكي صدوق يغرب أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا محمد بن سلمة].
محمد بن سلمة الباهلي الحراني ثقة أخرج له البخاري في جزء القراءة، ومسلم وأصحاب السنن.
وهذا غير محمد بن سلمة المرادي الذي مر قريباً؛ لأن محمد بن سلمة المرادي مصري وهو من طبقة شيوخ أبي داود، أما محمد بن سلمة الباهلي الحراني فهو من حران وهو من طبقة شيوخ شيوخه، فإذا جاء محمد بن سلمة يروي عنه أبو داود فهو المصري الذي مر ذكره قريباً، وإذا جاء محمد بن سلمة يروي عنه أبو داود بواسطة فهو الحراني الباهلي.
[عن الزبير بن خريق].
الزبير بن خريق لين الحديث أخرج له أبو داود وحده.
[عن عطاء].
عطاء بن أبي رباح ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما صحابي ابن صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وهم: أبو هريرة وابن عمر وابن عباس وأبو سعيد وجابر وأنس بن مالك وأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنهم وعن الصحابة أجمعين، ستة رجال وامرأة واحدة.
هذا الحديث فيه الزبير بن خريق وهو لين الحديث، لكن التيمم لمن به جرح ويخشى على نفسه الهلاك جاء من طرق أخرى.(52/12)
وجه ذكر التيمم والمسح والغسل في الرواية والجمع بينها
لا يجمع بين التيمم وبين المسح، بل يكفي المسح عن التيمم؛ لأن التيمم لا يكون إلا عند عدم الإتيان بالاغتسال أو الإتيان بالوضوء، أما إذا أتى المرء بالاغتسال أو الوضوء ومعه المسح فيكون مثل المسح على العمامة أو المسح على الخفين فلا يحتاج إلى تيمم، لكن هذه الرواية فيها الجمع بين التيمم وبين المسح.
قوله: [(إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده)].
يعني: هذه الرواية ما جاءت إلا من طريق واحد وفيها ذكر الجمع بين التيمم وبين المسح والشيخ الألباني لما ذكر هذا الحديث قال: إنه حسن إلا من قوله: (إنما كان يكفيه) وما بعده، فإن هذا ليس له شاهد، وأما ما قبله فله شاهد.
وعلى هذا يغسل غير المكان المعصوب وغير الجبيرة ويمسح على الجبيرة ولا يتيمم.(52/13)
شرح حديث: (أصاب رجلاً جرح في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم احتلم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا نصر بن عاصم الأنطاكي، حدثنا محمد بن شعيب، أخبرني الأوزاعي أنه بلغه عن عطاء بن أبي رباح أنه سمع عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (أصاب رجلاً جرح في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم احتلم، فأمر بالاغتسال، فاغتسل فمات، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قتلوه قتلهم الله! ألم يكن شفاء العي السؤال؟).
].
أورد أبو داود رحمه الله حديث ابن عباس وهو مثل حديث جابر المتقدم في قصة الرجل الذي فيه جرح، وأن أصحابه قالوا له: لا نجد لك رخصة في استعمال التيمم مع وجود الماء ثم اغتسل فمات، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: [(قتلوه قتلهم الله! إنما شفاء العي السؤال)] يعني: إذا كان الإنسان يجهل الحكم وليس عنده علم فالشفاء من هذا أن يسأل، والطريق للوصول إلى الحق أن يسأل، ولا يفتي بشيء يؤدي إلى الضرر أو يلحق الهلاك بالناس.(52/14)
تراجم رجال إسناد حديث: (أصاب رجلاً جرح في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم احتلم)
قوله: [حدثنا نصر بن عاصم الأنطاكي].
نصر بن عاصم الأنطاكي لين الحديث أخرج له أبو داود وحده.
[حدثنا محمد بن شعيب].
وهو صدوق أخرج له أصحاب السنن.
[أخبرني الأوزاعي].
الأوزاعي مر ذكره.
[أنه بلغه عن عطاء بن أبي رباح].
عطاء بن أبي رباح، مر ذكره، وهذا فيه انقطاع.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام، وهو أحد العبادلة الأربعة وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.
وهذا الحديث من طريق ابن عباس وذاك من طريق جابر وهذا يشهد لذاك.(52/15)
المتيمم يجد الماء بعدما يصلي في الوقت(52/16)
شرح حديث: (خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في المتيمم يجد الماء بعدما يصلي في الوقت.
حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي، أخبرنا عبد الله بن نافع، عن الليث بن سعد، عن بكر بن سوادة، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (خرج رجلان في سفر، فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فتيمما صعيداً طيباً فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يعد: أصبت السنة وأجزأتك صلاتك، وقال للذي توضأ وأعاد: لك الأجر مرتين)].
قوله: (باب في المتيمم يجد الماء بعدما يصلي في الوقت) يعني: لم يجد الماء وتيمم وصلى ثم وجد الماء بعد الصلاة في الوقت، أما لو وجد الماء بعد خروج الوقت فلا إشكال؛ لأنه صلى الصلاة في وقتها بالتيمم وقد خرج الوقت، ولكن الإشكال فيما إذا كان قد صلى والوقت لا يزال باقياً ووجد الماء، فهل يتوضأ ويعيد الصلاة مادام الوقت لم يخرج، أو أنه أدى ما عليه بكونه فعل الشيء الذي هو واجب عليه؟! وفيه وجوب الصلاة بالتيمم إذا دخل وقتها.
قوله: [(خرج رجلان)] أي: من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: [(في سفر فتيمما وصليا)] لما دخل الوقت تيمما وصليا، فبعد ذلك وجدا الماء والوقت لا يزال باقياً فاختلفا، واحد منهما أعاد الوضوء والصلاة والثاني لم يعد.
وفيه اجتهاد الصحابة رضي الله عنهم في زمنه صلى الله عليه وسلم عندما تنزل النازلة، مثلما مر في قضية أسيد بن حضير وأصحابه حين صلوا بدون وضوء قبل مشروعية التيمم، وعمار ذهب يتمرغ في التراب وعمر رضي الله عنه لم يصل.
فهذان الرجلان أحدهما توضأ وأعاد الصلاة، والثاني لم يعد الصلاة، فلما جاءا الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبراه بالذي حصل، قال: للذي لم يعد الصلاة: أصبت السنة وأجزأتك صلاتك، وقال للذي أعاد الصلاة: لك الأجر مرتين.(52/17)
معنى قوله: (أصبت السنة)
قوله: [(أصبت السنة)] دليل على أن هذا هو الحق؛ لأن من أصاب السنة فقد أدى ما عليه وفرغ من الصلاة وقد حصلت على وجه مشروع، ووجود الماء بعد ذلك لا يؤثر، لكن بعضهم قال: إن عليه الإعادة، ولكن هذا الحديث يدل على أنه لا إعادة عليه؛ لأن قوله: (أصبت السنة) يعني أن هذا هو الحق.
وكذلك قوله: (وأجزأتك صلاتك) يعني: التي صليتها بتيممك ولم تعدها فهي صحيحة، ولأن الآخر ما قال له: أصبت السنة، لكنه قال: (لك الأجر مرتين)؛ لأنه يجزى إذ صلى صلاتين، وهذا في زمن التشريع، لكن الآن بعدما عرف الدليل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله للذي لم يعد الصلاة: (أصبت السنة) على الإنسان أن يصلي بالتيمم ثم بعد ذلك إذا وجد الماء فلا يتوضأ ويصلي الصلاة من جديد؛ لأنه مثل الإنسان الذي كان مسافراً وقصر الصلاة ولما وصل إلى بلده كان قد أدى الصلاة مقصورة، فلا يجب عليه أن يصلي مرة ثانية؛ لأنه أدى ما عليه في حال سائغ له أن يصلي فيه.(52/18)
حكم من صلى بالتيمم ووجد الماء قبل إتمام الصلاة
أما من كان في الصلاة ووجد الماء فقال بعض أهل العلم: إنه يخرج من الصلاة ويتوضأ ويصلي، وبعضهم قال: يستمر، لكن الذي يظهر أنه يخرج من الصلاة ويتوضأ؛ لأنه وجد الماء قبل أدائها وقبل إتمامها، فإذاً: يرجع إلى الأصل، وأما الذي فرغ منها وانتهى فهو الذي قال فيه الرسول عليه الصلاة والسلام: (أصبت السنة).(52/19)
تراجم رجال إسناد حديث: (خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء)
قوله: [حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي].
محمد بن إسحاق المسيبي صدوق أخرج له مسلم وأبو داود.
[أخبرنا عبد الله بن نافع].
عبد الله بن نافع الصائغ وهو ثقة صحيح الكتاب في حفظه لين، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن الليث بن سعد].
الليث بن سعد المصري ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بكر بن سوادة].
بكر بن سوادة المصري وهو ثقة أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عطاء بن يسار].
وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سعيد الخدري].
هو سعد بن مالك بن سنان مشهور بكنيته أبو سعيد، وبنسبته الخدري، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[قال أبو داود: وغير ابن نافع يرويه عن الليث عن عميرة بن أبي ناجية].
عميرة بن أبي ناجية ثقة أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن بكر بن سوادة عن عطاء بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم] عطاء بن يسار أضافه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو تابعي، فيكون الحديث مرسلاً.
[قال أبو داود: وذكر أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في هذا الحديث ليس بمحفوظ هو مرسل].
يعني: على ما قال في الإسناد الأخير الذي قال فيه: عن عطاء بن يسار أن رجلين).
والحديث صححه الألباني وغيره؛ لأنه جاء من طريق آخر موصولاً، ويمكن أن يكون له ما يقويه.
أما بكر بن سوادة فقد أخرج له البخاري تعليقاً.
وفي نسخة محمد عوامة في النسائي في الحاشية قال: أخرج له البخاري في الطهارة، والنسائي برقم (433).
أما عبد الله بن نافع فقد أشار إليه الألباني في الصحيحة معلقاً قال: ما أدري هو هذا أو غيره.
ولعله هذا لأنه إذا كان أخرج له البخاري فيكون ذكر معه غيره فيكون تبعاً.(52/20)
حديث (خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء) من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة، قال: حدثنا ابن لهيعة، عن بكر بن سوادة، عن أبي عبد الله مولى إسماعيل بن عبيد، عن عطاء بن يسار: (أن رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعناه)].
ثم أورد الحديث من طريق أخرى وهو مرسل مثل الذي قبله عن عطاء بن يسار أن رجلين من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم بمعنى الحديث المتقدم.(52/21)
تراجم رجال إسناد حديث (خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء) من طريق أخرى
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
عبد الله بن مسلمة القعنبي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا ابن لهيعة عن بكر بن سوادة عن أبي عبد الله مولى إسماعيل بن عبيد].
أبو عبد الله المصري مولى إسماعيل بن عبيد مجهول أخرج له أبو داود.
[عن عطاء بن يسار].
عطاء بن يسار مر ذكره.
والله تعالى أعلم.(52/22)
الأسئلة(52/23)
ثبوت حديث الجبيرة من عدة طرق
السؤال
حديث الجبيرة هل ثبت من غير هذا الطريق؟
الجواب
جاء من طرق أخرى، والجبيرة مثل العمامة ومثل الخفين، إذا كان في أعضاء الوضوء يغسل موضع الجبيرة إن كان لا يؤثر عليه الماء، وإلا مسح على الجبيرة.(52/24)
حكم التيمم في الحضر خشية خروج وقت الصلاة ودليله وضابطه
السؤال
من كان جنباً وخشي إن اغتسل خروج الوقت، فهل له أن يتيمم ويصلي؟
الجواب
هذا مثل المسألة التي مرت في قضية الوضوء، أنه إذا كان الوقت سيخرج فإن له أن ينتقل إلى التيمم كما مر في مسألة التيمم في الحضر، فهذا من جنس ذلك.
وأما دليل ذلك فليس فيها إلا قضية كون الرسول صلى الله عليه وسلم تيمم في الحضر، وكان لتحصيل أمر مندوب، فالشيء الذي يمكن أن يتصور في الحضر هو كونه لا يقدر على استعمال الماء، أو كونه يقدر على استعماله لكن الوقت ضاق بحيث إنه إذا توضأ خرجت الصلاة عن وقتها فتكون مقضية، مع أنه كان بالإمكان أن تكون مؤداة لا مقضية.
فإن قيل: لو جاء إنسان إلى الجمعة وعندما خطب الخطيب انتقض وضوءه فإذا خرج إلى الميضأة ليتوضأ فاتته صلاة الجمعة، فهل له أن يتيمم لإدراك الصلاة؟ نقول: لا، لأن الوقت لا يزال باقياً ويمكنه أن يصلي ظهراً.
ولو قيل: إن النبي تيمم لإدراك المندوب وهو فضيلة السلام، فالتيمم لإدراك الجمعة مع الإمام من باب الأولى.
فنقول: الكلام على قضية المندوب بالنسبة لرد السلام، فأما الجمعة لو فاتته فهناك ما يقوم مقامها وهو الظهر، وهذا كما لو انتقض وضوءه في الظهر ومن ثم تفوته الجماعة، فيتوضأ ولو فاتته الجماعة، كذلك يتوضأ ولو فاتته الجمعة ويغتسل؛ لأن الوقت لا يزال باقياً، ووقت الظهر هو إلى دخول وقت العصر، والكلام على خروج وقت الظهر ودخول وقت العصر إذا كان ما بقي إلا مقدار ما يتوضأ أو يغتسل ويخرج الوقت هذا هو الذي يقال فيه: له أن يتيمم لأجل إدراك الصلاة.(52/25)
حكم التيمم لصلاة العيد خشية فواتها
السؤال
حضر شخص صلاة العيد فأقيمت الصلاة وانتقض وضوءه، فإذا خرج ليتوضأ فاتته صلاة العيد، فهل له أن يتيمم؟
الجواب
لو فاتته صلاة العيد على القول بأنها فرض كفاية فهناك من يؤدي هذا الفرض الكفائي.(52/26)
حكم من انتقض وضوءه أثناء شدة الزحام في الطواف
السؤال
من كان يطوف في شدة الزحام أيام الحج فانتقض وضوءه، فهل له أن يتيمم لإكمال الطواف؟
الجواب
يذهب ويتوضأ ولا يتيمم؛ لأن الطواف وقته واسع، والكلام على خروج الوقت وتحول الصلاة إلى مقضية لا مؤداة، أما الطواف فالوقت أمامه واسع.
إذاً: القضية هي قضية خروج الوقت فقط، كأن يشتغل بالاغتسال أو الوضوء حتى يخرج الوقت، وكما هو معلوم أنه إذا أدرك الوقت فستكون الصلاة مؤداة، كذلك ينبغي للإنسان إذا جاء الوقت أن يصلي على حسب حاله إذا خشي خروج الوقت، فلا يؤخر الصلاة حتى يخرج وقتها، كأن يكون المرء راكباً في الطائرة فإن أخر الصلاة إلى أن ينزل خرج الوقت، ففي هذه الحالة ليس له أن يؤخر الصلاة، بل عليه أن يصلي على حسب حاله قبل خروج الوقت.(52/27)
حكم حجز الأماكن في المسجد
السؤال
بعض الطلاب يحجزون الأماكن في المسجد ثم يذهبون ولا يأتون إلا عند الإقامة، ويريد هذا الشخص مكانه ويزاحم المصلين، فما حكم ذلك؟
الجواب
على الإنسان أن يأتي ويجلس في المكان ويحجزه بنفسه لا بشيء آخر، ولا يأتي ويزاحم أو يتخطى الرقاب أو يؤذي الناس أو يشاغب الناس، وإنما يجلس ويحجز المكان بنفسه، وإذا كان لا يتمكن من الحجز بنفسه فلا يحجز بشيء آخر، وإذا جاء فليجلس حيث ينتهي به المجلس.(52/28)
حكم وصف الله عز وجل بأنه لا جوف له على معنى الصمد
السؤال
هل يوصف الله جل وعلا بأنه لا جوف له، بناء على معنى الصمد؟
الجواب
لا يضاف إلى الله عز وجل شيء ولا ينفى عنه إلا بدليل؛ لأن هذه أمور غيبية، ولا يتكلم بشيء يضاف إلى الله عز وجل إلا بدليل، ولا نعلم دليلاً يدل على مثل هذا، فيمسك عنه، والصمد معناه الحقيقي: هو الذي تصمد إليه الخلائق بحوائجها، وهو الذي كل من سواه مفتقر إليه ولا يستغنى عنه طرفة عين، وهو غني عن كل ما سواه، ولهذا لا يطلق الصمد إلا على الله فهو من الأسماء التي لا يسمى بها غير الله، مثل: الرحمن والخالق والبارئ.
والله تعالى أعلم.(52/29)
شرح سنن أبي داود [053]
لقد حض الشرع على الاغتسال والتطيب والتجمل للجمعة، وما ذلك إلا لأهمية ذلك اليوم ومكانته وفضله، وقد اختلف العلماء في حكم الاغتسال ليوم الجمعة، فالجمهور على أنه غير واجب بل هو مستحب، وقال بعض العلماء: إن الاغتسال للجمعة واجب، وعلى هذا فالغسل للجمعة متأكد استحبابه عند الجميع، فينبغي للمسلم أن يحافظ عليه.(53/1)
الغسل يوم الجمعة(53/2)
شرح حديث: (إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الغسل يوم الجمعة.
حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع، أخبرنا معاوية، عن يحيى، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة أخبره: (أن عمر بن الخطاب بينا هو يخطب يوم الجمعة إذ دخل رجل فقال عمر: أتحتبسون عن الصلاة؟ فقال الرجل: ما هو إلا أن سمعت النداء فتوضأت، فقال عمر: والوضوء أيضاً؟ أولم تسمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل؟)].
أورد المصنف رحمه الله باباً في الغسل يوم الجمعة، هذه الترجمة معقودة لغسل من الأغسال وهو غسل يوم الجمعة، وكان المناسب أن يكون هذا الباب تابعاً للأبواب المتعلقة بالغسل من الجنابة؛ لأنه نوع من الأغسال، ولأن صلته أو تعلقه بأبواب الغسل أولى من مجيئه بعد أبواب التيمم، كما أن هناك تراجم أخرى أيضاً يناسبها أبواب تقدمت كما ستأتي الإشارة إلى ذلك.
وغسل يوم الجمعة جاء فيه أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختلف العلماء في حكمه، فبعض العلماء قال: إنه واجب.
وجمهور العلماء قالوا: إنه مستحب، والذين قالوا بالوجوب استدلوا بالأحاديث التي فيها الأمر بالغسل يوم الجمعة، ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم).
والذين قالوا بالاستحباب جعلوا هذه الأوامر محمولة على الندب، وجعلوا الصارف لها عدة أمور منها: ما جاء في الحديث: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل)، وكذلك أيضاً ما جاء في حديث عمر رضي الله تعالى عنه (أنه كان يخطب وأنه دخل عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه وأرضاه فقطع عمر خطبته وحدثه وتكلم معه، وقال له: أتحتبسون عن الصلاة؟ فقال: إنني لما سمعت الأذان ما زدت على أن توضأت) معناه: أنه توضأ وجاء ليدرك الصلاة، فقال: (والوضوء أيضاً؟) يعني: أنه مع التأخر لم يغتسل، ثم قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل) قالوا: وهذا الحديث يدل على أنه مستحب؛ لأنه لو كان واجباً لما كان يليق بـ عثمان رضي الله عنه وأرضاه أن يأتي دون أن يؤدي ذلك الواجب، وأيضاً عمر رضي الله عنه لم يأمره بأن يرجع وأن يغتسل وأن يأتي بذلك الواجب، وكذلك أيضاً ما جاء أن أصل الأمر بالغسل يوم الجمعة أنهم كانوا أصحاب مهن وأصحاب بساتين وكانوا يعملون لأنفسهم وليس لهم خدم، فكان الواحد منهم إذا جاء يوم الجمعة وإذا فيه رائحة غير طيبة؛ بسبب الأوساخ وإجهاد العمل لهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمرهم بأنهم إذا أتوا الجمعة أن يغتسلوا، فيكون في ذلك إزالة تلك الروائح التي يكون فيها أذى للناس، وأيضاً كونه جاء في بعض الأحاديث التي فيها الاغتسال يوم الجمعة مقروناً بالسواك، ومقروناً بأمور أخرى، فمجموع هذه الأمور المتعددة جعلت الجمهور يقولون: إنما جاء من الأوامر في الاغتسال يوم الجمعة إنما هو للاستحباب.
أورد أبو داود رحمه الله عدة أحاديث، أولها: حديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه (أنه كان يخطب يوم الجمعة، فدخل رجل) هنا أبهم الرجل فلم يسمه، ولكن جاءت تسميته وأنه عثمان في صحيح مسلم: (وأنه دخل وعمر يخطب فقال له عمر: أي ساعة هذه -يعني: أنك متأخر- ثم قال له ما قال، وقال: والوضوء أيضاً؟) يعني: أيضاً تركت الاغتسال.
ولهذا لما جاء زمن عثمان رضي الله عنه وأرضاه رأى أن المصلحة في أن يكون هناك أذان ثالث بالنسبة للإقامة؛ لأن الإقامة أذان، ولهذا جاء عنه في بعض الأحاديث ذكر أذان عثمان بأنه الأذان الثالث، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (بين كل أذانين صلاة)، والمقصود بأحد الأذانين هو الإقامة، وكذلك الحديث الذي قال فيه أحد الصحابة: (تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قمنا إلى الصلاة، قلت: كم كان بين الأذان والسحور؟) يعني: بين أذان الإقامة والسحور؛ لأن الأذان الذي يكون عند دخول الوقت يمسك الإنسان عنده عن الأكل وغيره من المفطرات.
(كم كان بين الأذان والسحور؟ قال: قدر خمسين آية) يعني: مقدار ما يقرأ القارئ خمسين آية من انتهاء السحور إلى الأذان الذي هو الإقامة، وقد جاء في بعض الأحاديث ذكر الأذان يوم الجمعة بأنه الأذان الثالث، والأذان الثالث الذي أتى به عثمان حتى يتنبه الناس ويستعدوا ويتهيئوا للجمعة.
ومحل الشاهد منه: أن عمر رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل) قوله: (فليغتسل) هذا أمر، وبعض أهل العلم حمله على الوجوب، وبعضهم قال: إنه مصروف من الوجوب إلى الاستحباب للأمور التي أشرت إليها آنفاً.(53/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل)
قوله: [حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع].
هو أبو توبة الربيع بن نافع الحلبي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[أخبرنا معاوية].
هو معاوية بن سلام وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى].
هو يحيى بن أبي كثير اليمامي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن].
هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف المدني وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[أن أبا هريرة أخبره].
هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق.
[أن عمر بن الخطاب].
عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة، وهو الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم في حقه: (ما سلكتَ فجاً إلا وسلك الشيطان فجاً غير فجك) يعني: ما سلكت طريقاً إلا ويهرب الشيطان من ذلك الطريق.(53/4)
شرح حديث: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب، عن مالك، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم)].
أورد المصنف رحمه الله قول النبي صلى الله عليه وسلم: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) الذين قالوا بوجوب غسل الجمعة استدلوا بهذا الحديث، بالإضافة إلى الأوامر التي وردت في الحديث السابق: (فليغتسل) وقال الجمهور: إن هذا كغيره مصروف عن الوجوب بالأحاديث الأخرى التي وردت في ذلك، والوجوب هنا متأكد، لكن قالوا: هو نظير ما يقول الإنسان لصاحبه: حقك واجب علي، أي: أنه متأكد علي.
والمحتلم هو البالغ المكلف، وعبر بالاحتلام؛ لأن الاحتلام إذا وجد حصل البلوغ؛ سواء بلغ خمس عشرة سنة أو لم يبلغ؛ لأن الاحتلام إذا وجد فقد وجد البلوغ ولو كان في سن مبكرة دون الخامسة عشرة، لكن إذا لم يحصل احتلام وبلغ الخامسة عشرة، فإنه يكون قد بلغ وإن لم يحصل منه احتلام، لكن حيث يوجد الاحتلام قبل الخامسة عشرة أو الحيض بالنسبة للمرأة قبل الخامسة عشرة يحصل بذلك البلوغ.
ويذكر أن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه قد ولد له ابنه عبد الله وعمره ثلاث عشرة سنة، معناه أنه قد بلغ في زمن مبكر وتزوج وولد له وعمره ثلاث عشرة سنة.
وكذلك قالوا عن المغيرة بن مقسم الضبي الكوفي: إنه احتلم وعمره ثلاث عشرة سنة أو اثنا عشرة سنة.
وكذلك ذكر عن الشافعي أنه رأى جدة عمرها واحد وعشرون سنة، يعني: بنتها ولدت وعمرها هي ليس بنتها واحد وعشرون سنة، ومعنى ذلك أنه حصل احتلام الواحدة منهن في سن العاشرة.
إذاً قوله: (على كل محتلم) أي: أن الاحتلام دليل على البلوغ، ويحصل به البلوغ وإن لم يبلغ خمس عشرة سنة.(53/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب].
هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة الإمام المشهور، وهو أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن صفوان بن سليم].
صفوان بن سليم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عطاء بن يسار].
عطاء بن يسار وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سعيد الخدري].
أبو سعيد الخدري هو سعد بن مالك بن سنان مشهور بكنيته ونسبته، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(53/6)
شرح حديث: (وعلى كل من راح إلى الجمعة الغسل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يزيد بن خالد الرملي، أخبرنا المفضل -يعني ابن فضالة - عن عياش بن عباس، عن بكير، عن نافع، عن ابن عمر، عن حفصة رضي الله عنهم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (على كل محتلم رواح الجمعة، وعلى كل من راح إلى الجمعة الغسل)].
قوله: (على كل محتلم رواح الجمعة) يعني: على كل بالغ أن يذهب لأداء صلاة الجمعة؛ لأن الرواح والذهاب إلى الجمعة واجب ومطلوب من كل محتلم.
قوله: (وعلى من راح إلى الجمعة أن يغتسل) يعني: قبل أن يذهب إلى الجمعة عليه أن يغتسل.
فإذاً: رتب واحداً على الآخر، أولاً المحتلم عليه أن يذهب إلى الجمعة وعليه قبل أن يذهب إلى الجمعة أن يغتسل.(53/7)
تراجم رجال إسناد حديث: (وعلى كل من راح إلى الجمعة الغسل)
قوله: [حدثنا يزيد بن خالد الرملي].
يزيد بن خالد الرملي هو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[أخبرنا المفضل -يعني ابن فضالة].
المفضل بن فضالة وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عياش بن عباس].
هو عياش بن عباس القتباني المصري وهو ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[عن بكير].
هو بكير بن عبد الله بن الأشج وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
هو نافع مولى ابن عمر وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.
[عن حفصة].
هي حفصة بنت عمر أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، وحديثها عند أصحاب الكتب الستة.(53/8)
حكم غسل الجمعة على الصبي والمرأة إن حضرا الجمعة
أما من لا تجب عليه الجمعة أصلاً كالمرأة فلو حضرت الجمعة فهل عليها غسل؟ الذي يبدو أن غسل الإتيان إلى الجمعة المقصود منه كما جاء في أصل مشروعيته هو دفع الروائح الكريهة، فمن جاء إلى الجمعة وفيه شيء مما يستكرهه الناس فعليه أن يغتسل سواء كان رجلاً أو امرأة.
أما قوله: (وعلى كل من راح) فلا يشمل الصغير؛ لأنه قال (على كل محتلم رواح الجمعة) فيكون المعنى أن الذين يلزمهم الغسل هم المحتلمون، لكن يعوَّد الصغير على هذه الأخلاق والآداب وعلى الأحكام الشرعية مثلما يعود على الصلاة ويعود على الصيام، لكن الصغير الذي لم يبلغ سن التكليف غير مكلف؛ لأن التكليف إنما هو للمحتلم، والجمهور على أن من أتى الجمعة يستحب له أن يغتسل سواء كان رجلاً أو امرأة.(53/9)
إجزاء غسل الجنابة بعد طلوع الفجر عن غسل الجمعة
[قال أبو داود: إذا اغتسل الرجل بعد طلوع الفجر أجزأه من غسل الجمعة وإن أجنب].
يعني: وإن كان اغتساله جاء عن جنابة، كما لو جامع الرجل أهله في الليل ثم طلع الفجر ليوم الجمعة وهو لم يغتسل واغتسل فإنه يجزئ عن الجمعة، لكن لو أنه اغتسل قبل طلوع الفجر لا يجزئ عن الجمعة؛ لأن اليوم لا يدخل إلا بطلوع الفجر.
إذاً: من اغتسل قبل طلوع الفجر فيعتبر أنه اغتسل قبل أن يأتي يوم الجمعة، لكن من كان اغتساله بعد طلوع الفجر يوم الجمعة فإن ذلك يجزئه عن اغتسال الجمعة ولو كان اغتساله عن جنابة.
وجمهور أهل العلم على أن الاغتسال للجنابة يجزئ عن الجمعة؛ لأن المقصود بغسل الجمعة أن يكون نظيفاً في ذلك اليوم.
إذاً: أول الوقت الذي يحصل به الغسل للجمعة هو طلوع الفجر الذي هو أول النهار؛ لأن النهار حده من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وهو الذي يصوم فيه الناس، وحد الصيام من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، لكن المناسب والمستحب في اغتساله للجمعة أن يكون قريباً من ذهابه، لكنه يجزئ لو حصل بعد طلوع الفجر ولو كان اغتساله عن جنابة.(53/10)
شرح حديث: (من اغتسل يوم الجمعة ولبس من أحسن ثيابه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يزيد بن خالد بن يزيد بن عبد الله بن موهب الرملي الهمداني ح وحدثنا عبد العزيز بن يحيى الحراني قالا: حدثنا محمد بن سلمة ح وحدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد وهذا حديث محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن.
قال أبو داود: قال يزيد وعبد العزيز في حديثهما: عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وأبي أمامة بن سهل عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من اغتسل يوم الجمعة ولبس من أحسن ثيابه ومس من طيب إن كان عنده، ثم أتى الجمعة فلم يتخط أعناق الناس، ثم صلى ما كتب الله له، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يفرغ من صلاته؛ كانت كفارة لما بينها وبين جمعته التي قبلها -قال: ويقول أبو هريرة -: وزيادة ثلاثة أيام، ويقول: إن الحسنة بعشر أمثالها).
قال أبو داود: وحديث محمد بن سلمة أتم، ولم يذكر حماد كلام أبي هريرة].
قوله: (من اغتسل يوم الجمعة ولبس من أحسن ثيابه) ذكر الاغتسال وأموراً أخرى ورتب عليها حكماً وفضلاً وثواباً.
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (من اغتسل يوم الجمعة ولبس من أحسن الثياب) أن المرء المسلم يلبس ثياباً حسنة للجمعة؛ وذلك لأن الجمعة هي عيد الأسبوع، وقد جاء عن عثمان بن عفان رضي الله عنه كما في صحيح البخاري: (أنه خطب الناس يوم عيد وكان يوم جمعة فقال قد اجتمع لكم في يومكم هذا عيدان) يعني: عيد سنوي، وعيد أسبوعي، ويدل على التجمل ليوم الجمعة بالثياب ما جاء أن عمر عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم شراء ثوب ليلبسه للجمعة وللوفود، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إنما يلبس هذا من لا خلاق له)؛ لأنه حرير، أو فيه شيء من الحرير.
إذاً: لبس أحسن الثياب والتجمل للجمعة جاء ما يدل عليه، وهو قوله: (ولبس من أحسن ثيابه).
قوله: (ومس من طيب إن كان عنده) يعني: إن تيسر له أن يمس من الطيب فليتطيب، وهذا فيه زيادة في التجمل، وأيضاً فيه الابتعاد عن الروائح غير الطيبة وتحصيل الرائحة الطيبة، حتى يكون ذلك أحسن في حقه وفي حق غيره ممن يلقاه ومن يكون بجواره.
قوله: [(ثم أتى الجمعة فلم يتخط أعناق الناس)].
يعني: أنه جاء في وقت مبكر بحيث لا يحصل منه الوقوع في مثل هذا المحذور، من تخطي أعناق الناس، ويمكن الإنسان ألا يقع في هذا المحذور الذي هو تخطي رقاب الناس؛ بحيث أنه يجلس حيث ينتهي به الصف، ولكن بعض الناس يأتي متأخراً ثم يريد أن يحصل الأماكن المتقدمة، ولا يتأتى ذلك إلا بارتكاب أمر محرم وهو كونه يؤذي الناس بأن يتخطى رقابهم.
قوله: (ثم صلى ما كتب الله له)] وهذا يدلنا على أن الإنسان إذا جاء يوم الجمعة فإن له أن يصلي ما أمكنه وما كتب الله له، وليس هناك تحديد، ويدل أيضاً على أنه ليس للجمعة سنة قبلها لا ركعتين ولا أربعاً ولا ستاً بل الإنسان يصلي ما كتب الله له، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم إذا دخلوا المسجد يوم الجمعة صلوا ما أرادوا أن يصلوا ثم جلسوا ولا يقومون إلا للصلاة، فهذا يدل على أنه ليس لها سنة راتبة قبلها كالصلوات التي لها سنة راتبة.
قوله: [(ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يفرغ من صلاته)] يعني: على الإنسان أن يكون على استعداد وتهيؤ لسماع الخطبة، وعدم انشغال عنها أو انصراف عنها بأي شيء.
والمقصود بخروج الإمام خروجه للخطبة، لكن إذا كان الإنسان بحاجة إلى أن ينبه أحداً فلا مانع من ذلك قبل بدء الخطيب بالخطبة؛ لأن المقصود هو ألا ينشغل عن سماع الخطبة والخطيب يخطب؛ لأن الأحاديث التي وردت في النهي عن الكلام والإمام يخطب.
إذاً: على المرء المسلم أن يكون على استعداد لسماع الخطبة وعدم الانشغال عنها.
قوله: (كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة التي قبلها)] يعني: من الجمعة إلى الجمعة سبعة أيام كاملة وزيادة ثلاثة أيام كما جاء عن أبي هريرة: (وزيادة ثلاثة أيام وذلك أن الحسنة بعشر أمثالها).(53/11)
تراجم رجال إسناد حديث: (من اغتسل يوم الجمعة ولبس من أحسن ثيابه)
قوله: [حدثنا يزيد بن خالد بن يزيد بن عبد الله بن موهب الرملي الهمداني].
يزيد بن خالد بن يزيد بن عبد الله بن موهب الرملي الهمداني شيخه المذكور في الإسناد قبل هذا؛ فهو هنا أطال في نسبته، وهو ثقة أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[ح وحدثنا عبد العزيز بن يحيى الحراني].
ح هي للتحول من إسناد إلى إسناد.
وعبد العزيز بن يحيى الحراني صدوق ربما وهم، أخرج له أبو داود والنسائي.
[قالا: حدثنا محمد بن سلمة].
أي: يزيد بن خالد وعبد العزيز بن يحيى الحراني قالا: حدثنا محمد بن سلمة ومحمد بن سلمة هو الحراني.
كما قلت: إذا جاء محمد بن سلمة في طبقة شيوخ شيوخ أبي داود فهو الحراني وإذا جاء محمد بن سلمة في طبقة شيوخه فهو المصري والذي معنا هو في طبقة شيوخ شيوخه؛ لأن أبا داود يروي عنه هنا بواسطة شيخين، ومحمد بن سلمة ثقة أخرج له البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.
[ح وحدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن سلمة البصري وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[وهذا حديث محمد بن سلمة].
شيخ شيخي أبي داود في الإسنادين السابقين؛ لأن أبا داود له في هذا الحديث ثلاثة شيوخ الشيخ الأول: يزيد بن خالد، والشيخ الثاني: هو عبد العزيز بن يحيى والشيخ الثالث: موسى بن إسماعيل ثم الشيخان الأولان يرويان عن محمد بن سلمة، والشيخ الثاني يروي عن حماد بن سلمة، ثم إنه قال: وهذا حديث محمد بن سلمة، يعني: الذي سيسوقه هو لفظ محمد بن سلمة وليس لفظ حماد بن سلمة.
[عن محمد بن إسحاق].
يعني: محمد بن سلمة وحماد بن سلمة يرويان هذا الحديث عن محمد بن إسحاق المدني وهو صدوق يدلس، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن محمد بن إبراهيم].
هو محمد بن إبراهيم التيمي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سلمة بن عبد الرحمن].
أبو سلمة بن عبد الرحمن مر ذكره.
[قال أبو داود: قال يزيد وعبد العزيز في حديثهما عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وأبي أمامة بن سهل].
يعني: أن الشيخين الأولين قالا في حديثهما وفي إسنادهما: إن محمد بن إبراهيم يروي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف.
وأبو أمامة هو أسعد بن سهل بن حنيف له رؤية أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة].
أبو سعيد الخدري وأبو هريرة مر ذكرهما.
[قال أبو داود: وحديث محمد بن سلمة أتم].
أي: حديث محمد بن سلمة أتم من حديث حماد بن سلمة.
قوله: [ولم يذكر حماد كلام أبي هريرة].
أي: أن حماد بن سلمة الذي رواه عنه بواسطة موسى بن إسماعيل التبوذكي لم يذكر كلام أبي هريرة فيما يتعلق بثلاثة أيام وفيما يتعلق بأن الحسنة بعشر أمثالها.
وكلام أبي هريرة له حكم المرفوع؛ لأن الأشياء التي تتعلق بفضائل الأعمال هي من قبيل المرفوع حكماً.(53/12)
شرح حديث: (الغسل يوم الجمعة على كل محتلم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن سلمة المرادي حدثنا ابن وهب عن عمرو بن الحارث أن سعيد بن أبي هلال وبكير بن عبد الله بن الأشج حدثاه عن أبي بكر بن المنكدر عن عمرو بن سليم الزرقي عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الغسل يوم الجمعة على كل محتلم، والسواك، ويمس من الطيب ما قدر له)، إلا أن بكيراً لم يذكر عبد الرحمن وقال في الطيب: (ولو من طيب المرأة)].
أورد المصنف رحمه الله حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (الغسل يوم الجمعة على كل محتلم، والسواك، ويمس من الطيب ما قدر له ولو من طيب المرأة) يعني: طيب الرجال كما سبق أن ذكرنا تظهر رائحته ويخفى لونه، وطيب النساء بالعكس يظهر لونه وتخفى رائحته.
معنى الحديث: أن الإنسان يحرص على الطيب ولو لم يجد إلا الطيب الذي هو من خصائص النساء، فالرجل لا يترك الطيب ولو كان عن طريق التطيب بطيب المرأة الذي يظهر لونه وتخفى رائحته.
وفيه ذكر الجمع بين الاغتسال وبين السواك وبين الطيب، وهذا مما استدلوا به على أن الغسل ليس بواجب، لكن كما هو معلوم قد يأتي في بعض النصوص الجمع بين أشياء منها ما هو واجب ومنها ما ليس بواجب، مثل: الجمع بين خصال الفطرة، ففيها واجب وفيها مستحب.(53/13)
تراجم رجال إسناد حديث: (الغسل يوم الجمعة على كل محتلم)
قوله: [حدثنا محمد بن سلمة المرادي].
هو محمد بن سلمة المرادي المصري وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن الحارث].
هو عمرو بن الحارث المصري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن سعيد بن أبي هلال].
سعيد بن أبي هلال صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وبكير بن عبد الله بن الأشج].
وبكير مر ذكره.
[عن أبي بكر بن المنكدر].
أبو بكر بن المنكدر وهو أخو محمد بن المنكدر وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن عمرو بن سليم الزرقي].
عمرو بن سليم الزرقي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري].
عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
هو أبو سعيد مر ذكره.
قوله: [إلا أن بكيراً لم يذكر عبد الرحمن].
أي: أن بكيراً لم يذكر في الإسناد عبد الرحمن بن أبي سعيد.(53/14)
شرح حديث: (من غسل يوم الجمعة واغتسل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن حاتم الجرجرائي حبي حدثنا ابن المبارك، عن الأوزاعي، حدثني حسان بن عطية، حدثني أبو الأشعث الصنعاني، حدثني أوس بن أوس الثقفي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من غسل يوم الجمعة واغتسل، ثم بكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام فاستمع ولم يلغ، كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها)].
الصحيح أن حبي لقب لـ محمد بن حاتم الجرجرائي وليس شيخاً له، وحدثنا هذه زائدة.
حديث أوس بن أوس الثقفي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غسل يوم الجمعة واغتسل، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام فاستمع ولم يلغ).
قال بعض أهل العلم: إن اللفظ الثاني مؤكد للأول وهو قريب له في اللفظ ولكنه مغاير له؛ لأن فيه: (غسل واغتسل) وفيه أيضاً: (وبكر وابتكر) ويوضح هذا قوله: (ومشى ولم يركب)؛ لأن قوله: (لم يركب) هو بمعنى مشى، فيكون مؤكداً لقوله: (مشى)، قالوا: (وابتكر) مؤكد لبكّر، (واغتسل) مؤكد لغسّل.
ومن أهل العلم من قال: إن بين غسل واغتسل وبكر وابتكر فرقاً، فغسل بالتخفيف والتشديد المراد به غسل رأسه، كما سيأتي في بعض الروايات وفي بعض الآثار: (غسل رأسه واغتسل) يعني: غسل رأسه وغسل جميع جسده للجمعة، لكنه ذكر الرأس منصوصاً عليه بخصوصه من أجل العناية به، وإن كان الاغتسال يشمل جميع الجسد ويدخل في ذلك الرأس، لكن التنصيص على الرأس من أجل الشعر الكثيف الذي يحتاج إلى أن ينظف ويحتاج إلى أن يعتنى به؛ حتى يزول ما فيه من رائحة كريهة إذا كان فيه روائح كريهة، ويكون قوله: (غسل) يعني: غسل رأسه.
قوله: (واغتسل) يعني: غسل سائر جسده.
قوله (وبكر) يعني: ذهب في وقت مبكر.
قوله: (وابتكر) يعني: أنه سمع الخطبة من أولها بحيث لم يفته منها شيء؛ لأن بكور الشيء وباكورة الشيء هو أوله، وقيل: إن غسل واغتسل، معناه: أنه جامع أهله وكان ذلك الاغتسال عن جماع، فيكون تسبب في اغتسال غيره واغتسل هو أيضاً.
قوله: (ومشى ولم يركب) أي: هذه تأكيد لمشى؛ لأن المشي هو عدم الركوب، والراكب هو غير الماشي، ولهذا جاء في الحديث: (يسلم الراكب على الماشي والماشي على الجالس).
والمقصود من ذلك أن الأجر على قدر النصب وعلى قدر المشقة وعلى قدر التعب، ومن مشى لاشك أنه يحصل منه جهد أكثر من جهد الذي ركب.
قوله: (ودنا من الإمام).
يعني: جاء مبكراً بحيث يكون قريباً من الإمام.
قوله: (فاستمع ولم يلغ) يعني: لم ينصرف عنها ولو كان في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنه كما جاء في الحديث: (إذا قال الإنسان لصاحبه: أنصت والإمام يخطب فقد لغا) يعني: أن الإنسان يقبل على الخطبة ويعنى بها ويحرص على ألا يفوته منها شيء، وأن يكون متابعاً للخطيب في خطبته؛ ليستمع ما يقول ويتأمل ويفهم.
قوله: (كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها) أي: السنة، وهذا فضل عظيم وثواب جزيل.(53/15)
تراجم رجال إسناد حديث: (من غسل يوم الجمعة واغتسل)
قوله: [حدثنا محمد بن حاتم الجرجرائي].
هو محمد بن حاتم الجرجرائي الملقب حبي وهو ثقة أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا ابن المبارك].
هو عبد الله بن المبارك المروزي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأوزاعي].
هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي أبو عمرو وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني حسان بن عطية].
حسان بن عطية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني أبو الأشعث الصنعاني].
هو شراحيل بن آدة وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثني أوس بن أوس الثقفي].
أوس بن أوس الثقفي صحابي، أخرج له أصحاب السنن.(53/16)
الفرق بين بكَّرَ وابتكر
قوله: (ثم بكر وابتكر) على قول من فرق بينهما فإن معنى (وابتكر): هو أنه سمع الخطبة من أولها.
أما من زعم أن معنى (بكر) أي: أدرك باكورة الخطبة، فالذي قاله صاحب عون المعبود وكرره أن (بكر) من التبكير، (وابتكر) يعني: أنه سمع الخطبة من أولها، كذلك من كان منزله بعيداً من المسجد النبوي فكل من جاء الجمعة هو على خير، والحديث نص على المشي وعدم الركوب، وورد في بعض الأحاديث أن الإنسان في ذهابه إلى المسجد ورجوعه لا يخطو خطوة إلا ويرفع الله له درجة ويحط عنه خطيئة، ومن المعلوم أن الإنسان إذا جاء يمشي إلى المسجد ثم رجع منه يمشي فإنه ذهابه وإيابه لا يخطو خطوة إلا يرفع الله له درجة ويحط عنه خطيئة.(53/17)
شرح حديث: (من غسل رأسه يوم الجمعة واغتسل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا الليث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن عبادة بن نسي عن أوس الثقفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من غسل رأسه يوم الجمعة واغتسل) ثم ساق نحوه].
هذا الحديث يوضح الجملة السابقة في الحديث السابق: (من غسل واغتسل) لأنه قال هنا: (غسل رأسه واغتسل) ومعنى هذا: أن التغسيل إنما يكون للرأس وهو منصوص عليه في حديث أوس بن أوس هنا، وسيأتي أيضاً عن اثنين من العلماء وهما مكحول وسعيد بن عبد العزيز الدمشقي كل منهما قال: غسل رأسه وغسل جسده، وعلى هذا فقد جاء في حديث أوس بن أوس تفسير النص على أنه غسل رأسه.(53/18)
تراجم رجال إسناد حديث: (من غسل رأسه يوم الجمعة واغتسل)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
هو قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الليث].
هو الليث بن سعد المصري وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن خالد بن يزيد].
هو خالد بن يزيد الجمحي المصري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن أبي هلال، عن عبادة بن نسي].
سعيد بن أبي هلال مر ذكره، وعبادة بن نسي ثقة، أخرج له أصحاب السنن الأربعة.
[عن أوس الثقفي].
أوس الثقفي مر ذكره.(53/19)
شرح حديث: (من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب امرأته)
يقول المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن أبي عقيل ومحمد بن سلمة المصريان، قالا: حدثنا ابن وهب، قال ابن أبي عقيل: أخبرني أسامة -يعني ابن زيد - عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب امرأته إن كان لها، ولبس من صالح ثيابه، ثم لم يتخط رقاب الناس، ولم يلغ عند الموعظة، كانت كفارة لما بينهما، ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهراً)].
قوله: (من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب امرأته إن كان لها)] يعني: المقصود أنه إذا لم يكن عنده من الطيب الذي للرجال كما سبق أن مر في الحديث، فليمس ولو كان من طيب امرأته.
قوله: (ولبس من صالح الثياب) يعني: المقصود التجمل كما سبق أن مر.
قوله: (ثم لم يتخط رقاب الناس) يعني: بكر ولم يتخط رقاب الناس.
قوله: (ولم يلغ عند الموعظة) يعني: لم يقع منه انصراف حال الخطبة بل أقبل عليها.
قوله: (كانت كفارة لما بينهما) يعني: كفارة له ما بين الجمعتين.
هذه خمسة أمور: الاغتسال، والطيب، ولبس صالح الثياب، والإنصات وعدم اللغو في حال الخطبة.
قوله: (ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهراً) يعني: أنه لم يحصل على أجر الجمعة، ولكن تجزئه الصلاة ولا يؤمر بأن يصلي ظهراً، ولكنه حرم أجر الجمعة وأجر فضل الجمعة بسبب التخطي وحصول اللغو.(53/20)
تراجم رجال إسناد حديث: (من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب امرأته)
قوله: [حدثنا ابن أبي عقيل].
هو عبد الغني بن أبي عقيل المصري وهو ثقة، أخرج له أبو داود.
[ومحمد بن سلمة المصريان قالا: حدثنا ابن وهب].
ابن وهب مر ذكره.
[قال ابن أبي عقيل: أخبرني أسامة -يعني ابن زيد -].
أسامة بن زيد الليثي وهو صدوق يهم، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عمرو بن شعيب].
هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص وهو صدوق، أخرج له البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
أبوه هو شعيب بن محمد وهو صدوق، أخرج له البخاري في جزء القراءة وفي الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن عمرو بن العاص].
هذا فيه التنصيص على أن شعيباً يروي عن عبد الله بن عمرو، ويأتي كثيراً في الأسانيد عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، فهذا فيه بيان أن الجد الذي يروي عنه شعيب هو جده وليس جد عمرو الذي هو محمد؛ لأنه لو كان جد عمرو الذي هو محمد سيكون مرسلاً؛ لأن محمداً ما أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنَّ شعيباً يروي عن جده عبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عمرو أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
والله تعالى أعلم.(53/21)
شرح حديث: (أن النبي كان يغتسل من أربع: من الجنابة ويوم الجمعة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن بشر، حدثنا زكريا حدثنا مصعب بن شيبة، عن طلق بن حبيب العنزي، عن عبد الله بن الزبير، عن عائشة أنها حدثته: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من أربع: من الجنابة، ويوم الجمعة، ومن الحجامة، ومن غسل الميت)].
سبق أن ذكرنا جملة أحاديث تتعلق بالغسل يوم الجمعة، وعرفنا أن بعض أهل العلم حمل ما ورد في ذلك على الوجوب، وأن جمهور أهل العلم حملوا ذلك على الاستحباب، وعرفنا الأدلة التي استدل بها القائلون في حملها على الاستحباب، وسيأتي ذكر ترجمة للرخصة بترك الغسل يوم الجمعة، وهي مشتملة على بعض الأحاديث الدالة على حمل الغسل يوم الجمعة على الاستحباب، ومن جملة الأحاديث التي أوردها أبو داود رحمه الله تعالى تحت ترجمة الغسل يوم الجمعة حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من أربع: من الجنابة، ويوم الجمعة، ومن الحجامة، ومن غسل الميت) يعني: تخبر عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من هذه الأربع، ومنها: غسل يوم الجمعة، وقد مرت جملة من الأحاديث الدالة على ذلك، والجنابة أيضاً مرت الأبواب المتعلقة بغسل الجنابة.
قوله: (ومن الحجامة) الحكمة في ذلك أن الحجامة يكون معها رشاش الدم على الجسد؛ فإذا اغتسل بعد الحجامة فإن ذلك يكون أطهر، وفيه التخلص مما قد ينتشر من رشاش الدم على الإنسان.
قوله: (ومن غسل الميت) يعني: أن الإنسان الذي يغسل الميت لا يأمن أن يصيبه شيء من رشاش التغسيل، وقد يكون عليه نجاسة فيصل شيء منها إلى الغاسل، فغسله بعد تغسيله للميت فيه ذهاب وتخلص من تلك الأشياء التي يتصور أن تحصل وأن تكون.
والحديث فيه مصعب بن شيبة وهو لين الحديث، فيكون غير ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن بعضها كما هو معلوم جاءت الأدلة الدالة على ذلك كغسل الجمعة وغسل الجنابة، وكذلك أيضاً جاء في غسل من غسل الميت أحاديث اختلف في تصحيحها وتضعيفها، وعلى القول بثبوتها فإنها على سبيل الاستحباب وليس على سبيل الوجوب، أما الحجامة فكما أشرت أن بعض أهل العلم قال: لما يمكن أن يكون من رشاش ينتشر من الدم بسبب الحجامة، فيكون الاغتسال بعد حصولها فيه التخلص من ذلك.(53/22)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن النبي كان يغتسل من أربع: من الجنابة ويوم الجمعة)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا محمد بن بشر].
محمد بن بشر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا زكريا].
هو زكريا بن أبي زائدة وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا مصعب بن شيبة].
مصعب بن شيبة وهو لين الحديث، أخرج حديثه مسلم وأصحاب السنن.
[عن طلق بن حبيب العنزي].
طلق بن حبيب العنزي وهو صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن الزبير].
عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما وهو أحد العبادلة الأربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق، وهي من أوعية السنة وحفظتها، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(53/23)
شرح أثر مكحول في معنى (غسَّل واغتسل)
[حدثنا محمود بن خالد الدمشقي، أخبرنا مروان، حدثنا علي بن حوشب، قال: سألت مكحولاً عن هذا القول: (غسل واغتسل)، فقال: غسل رأسه وغسل جسده].
هذا الأثر عن مكحول الشامي، وقد سأله علي بن حوشب عن قوله في الحديث: (غسل واغتسل)، فقال: إنه غسل رأسه وغسل سائر جسده.
فهذا أثر فيه تفسير لما جاء في الحديث الذي سبق أن مر، ولكن سبق أن مر في حديث أوس بن أوس أن هذا التفسير من رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (غسل رأسه واغتسل).(53/24)
تراجم رجال إسناد أثر مكحول في معنى (غسَّل واغتسل)
قوله: [حدثنا محمود بن خالد الدمشقي].
محمود بن خالد الدمشقي ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[أخبرنا مروان].
هو مروان بن محمد وهو ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا علي بن حوشب].
علي بن حوشب لا بأس به، وهي بمعنى صدوق، أخرج له أبو داود.
[قال: سألت مكحولاً].
هو مكحول الشامي وهو ثقة كثير الإرسال، أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة ومسلم وأصحاب السنن.(53/25)
شرح أثر سعيد بن عبد العزيز في معنى (غسَّل واغتسل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن الوليد الدمشقي، حدثنا أبو مسهر، عن سعيد بن عبد العزيز في: (غسل واغتسل)، قال: قال سعيد: غسل رأسه وغسل جسده].
هذا الأثر عن سعيد بن عبد العزيز الدمشقي وهو مثل ما تقدم عن مكحول الشامي أن معنى قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث: (من غسل واغتسل)، أنه غسل رأسه وغسل سائر جسده.
فالأثران عن مكحول وعن سعيد بن عبد العزيز الدمشقي معناهما واحد، وكما هو معلوم هما مطابقان للتفسير الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث أوس بن أوس والذي تقدم قريباً.(53/26)
تراجم رجال إسناد أثر سعيد بن عبد العزيز في معنى (غسَّل واغتسل)
قوله: [حدثنا محمد بن الوليد الدمشقي].
محمد بن الوليد الدمشقي صدوق، أخرج له أبو داود وحده.
[حدثنا أبو مسهر].
هو عبد الأعلى بن مسهر وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن عبد العزيز].
هو سعيد بن عبد العزيز الدمشقي وهو ثقة إمام، سواه أحمد بـ الأوزاعي وقدمه أبو مسهر لكنه اختلط في آخر أمره، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.(53/27)
شرح حديث: (من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن سمي، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر)].
إن حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه هذا يدل على فضل التبكير إلى الجمعة، وأن في ذلك الأجر العظيم من الله عز وجل.
فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة) يعني: أنه اغتسل كهيئة الغسل من الجنابة، وذلك بأن يتوضأ ويفيض الماء على جسده، أو أنه يغتسل بحيث يصب الماء على نفسه وإن لم يتوضأ، ولكنه لا يجزيه عن الوضوء، لكن إن توضأ قبل ذلك ولم يمس ذكره حين اغتساله بعد الوضوء فإنه يكون بذلك اغتسل الغسل للجمعة، وفيه رفع الحدث الذي هو كونه توضأ معه، أما إن اغتسل بأن صب الماء على جسده فهذا اغتسال، وفيه الأداء لهذا الأمر المشروع على القول بوجوبه وعلى القول باستحبابه، ولكنه لا يغني عن الوضوء؛ لأن هذا الفعل ليس فيه رفع حدث وإنما فيه فعل أمر واجب أو أمر مستحب، وعلى هذا فمن اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة يحتمل أن يكون المراد به الهيئة أو أن المراد به أنه يجامع أهله وأنه يغتسل للجنابة، ويكون ذلك مجزئاً عن غسل الجمعة، وقد سبق أن مر قريباً قول أبي داود: من اغتسل بعد طلوع الفجر فقد أجزأه وإن أجنب، يعني: وإن كان ذلك الغسل عن جنابة فإنه يغني عن غسل الجمعة، وجمهور أهل العلم على أن غسل الجنابة يغني عن غسل الجمعة، وأنه لا يلزم أن يكون هناك غسل للجمعة وغسل للجنابة إذا كان هناك جنابة، بل اغتساله للجنابة يكفيه عن غسل الجمعة.
قوله: (من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة) والبدنة هي: الناقة، سواء كان ذكراً أو أنثى كله يقال له: بدنة.
وهذا فيه أن التبكير للجمعة والذهاب في الساعة الأولى في وقت مبكر فيه هذا الأجر، وأنه مثل الذي تقرب إلى الله عز وجل بنحر جزور، ومن المعلوم أن هذا أكبر شيء يتقرب به من بهيمة الأنعام؛ لأن بهيمة الأنعام أعلاها وأكملها وأكثرها لحماً وأضخمها جسماً هو الإبل.
قوله: (ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة) يعني: دون الذي قرب بدنة.
قوله: [(فإذا دخل الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر) يعني: أنهم يطوون الصحائف التي كانوا يكتبون فيها هؤلاء الذين جاءوا ثم جلسوا يستمعون الذكر، وليس معنى ذلك أن من جاء بعد أن دخل الخطيب أنه لا جمعة له ولا أدرك الجمعة، لا، لكنه فاته ذلك الأجر العظيم الذي يكون للمبكرين.
قال بعض العلماء: إن المقصود بقوله: (راح) أي: ذهب بعد أن زالت الشمس، ومن المعلوم أن ذلك الوقت الذي هو الزوال أو بعد الزوال لا يكون معه أوقات تقسم إلى أقسام بحيث يأتي أحد في الساعة الأولى ويحصل كذا، فقالوا: إن المقصود منه أنه قصد الذهاب إلى الجمعة ويكون مثله مثل الحجاج إذا خرجوا يقال لهم: حجاج وهم مسافرون للحج والحج لم يحصل بعد، ولكنهم قصدوا ذلك وأخذوا بالأسباب التي تؤدي إليه، فكذلك الذي ذهب إلى الجمعة مبكراً قبل الزوال في وقت طويل فإنه يعتبر أنه قد راح؛ لأنه قصد ذلك العمل الذي يحصل بعد الزوال وهو الجمعة.
ومن أهل اللغة من قال: إن (راح) معناها: ذهب، وليست مقصورة على ما كان بعد الزوال، وأن الروح ضد الغدو من غدا أو راح، يعني: غدا ذهب في الغدوة، وراح ذهب في زمن الرواح وهو ما بعد الزوال.
إذاً: (راح) تستعمل بمعنى ذهب، وعلى هذا فتكون على بابها ولا تحتاج إلى أن يقال للحجاج: هم حجاج وإن لم يكن الحج قد حان؛ لأنهم قصدوا الحج وشرعوا في أسبابه، ولا حاجة إلى هذا التأويل.
إن بداية هذه الساعات والله أعلم تكون من أول النهار من طلوع الشمس؛ لأن هذا هو الوقت الذي غالباً هو المقصود، ويمكن أيضاً أن يقال: إن ذلك عند طلوع الفجر أول النهار؛ لأن النهار يبدأ بطلوع الفجر، لكن كما هو معلوم يمكن للإنسان أن يصلي الفجر ويرجع إلى بيته ثم يعود إلى المسجد قاصداً الجمعة.
فيمكن والله أعلم أن يقال: إن ذلك من طلوع الشمس، أو أنه قريب من طلوع الشمس.(53/28)
بيان الساعات المذكورة في الحديث وتقديرها
الساعات المذكورة في الحديث المقصود بها جزء من الزمان ليس محدداً، وفي اللغة ساعات الليل والنهار قسمت إلى أربع وعشرين جزءاً، يعني: أن الليل اثنا عشر ساعة والنهار اثنا عشر ساعة، ولكل جزء اسم، وقد ذكر ذلك الثعالبي في فقه اللغة حيث قال: إن ساعات الليل اثنا عشر ساعة وساعات النهار اثنا عشر ساعة، وكل ساعة لها اسم يخصها.
فعلى هذا إذا كان الليل والنهار أربعة وعشرين ساعة فمعناه: أن الساعة تقارب هذه الساعات المعروفة عندنا في هذا الوقت، وعلى هذا يكون من طلوع الشمس تقريباً، يعني: هذه المقادير التي يستعملها الناس يمكن أن تكون في حدود هذا المقدار.
ومن المعلوم أن هذا في بعض الأوقات وليس دائماً؛ لأنه كما هو معلوم أيضاً الليل والنهار يطول ويقصر، يطول النهار فتكون ساعات الليل قليلة، ويطول الليل فتكون ساعات النهار قصيرة، ولكن التوزيع الذي ذكره أهل اللغة إنما هو لليل اثنا عشر ساعة، لكن تتفاوت في مقاديرها بالنسبة لاختلاف الزمان، وكذلك النهار اثنا عشر ساعة، كذلك تختلف في مقاديرها باختلاف الزمان، فيمكن والله أعلم أن يقال: إن ذلك من طلوع الشمس.
في هذا الحديث أن الملائكة تحضر سماع الذكر وتحضر الخطبة وتستمع الذكر وتحف مجالس الذكر، كما جاء في الحديث: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده).(53/29)
تراجم رجال إسناد حديث: (من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
هو عبد الله بن مسلمة القعنبي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه الإمام المشهور، وهو أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وهي: مذهب الإمام أبي حنيفة، ومذهب الإمام مالك، ومذهب الإمام الشافعي، ومذهب الإمام أحمد، هذه مذاهب أهل السنة، وأما المذاهب الأخرى غير هذه المذاهب فليست من مذاهب أهل السنة كمذهب الزيدية والرافضة والإباضية وغيرها.
[عن سمي].
هو سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي صالح السمان].
هو ذكوان السمان كنيته: أبو صالح واسمه ذكوان ولقبه السمان، وقيل له: السمان؛ لأنه كان يجلب السمن، ويقال له: الزيات أيضاً؛ لأنه كان يجلب الزيت، فيقال له: ذكوان السمان، ويقال له: ذكوان الزيات وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق رضي الله تعالى عنه وأرضاه.(53/30)
شرح سنن أبي داود [054]
لقد حرص الإسلام على أن يلتزم أفراده بالنظافة الحسية والمعنوية، ولذا شرع الغسل يوم الجمعة والتطيب تجنباً لما ينبعث من الروائح المؤذية من الأجساد، خاصة العاملين الكادحين، كما أنه شرع في إسلام الكافر أن يغتسل وأن يختتن إذا لم يكن مختوناً، وشرع له أن يلقي عن نفسه شعر الكفر ليحمل عنوان المسلمين.(54/1)
الرخصة في ترك الغسل يوم الجمعة(54/2)
شرح حديث: (كان الناس مهان أنفسهم فيروحون إلى الجمعة بهيئتهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: في الرخصة في ترك الغسل يوم الجمعة.
حدثنا مسدد، حدثنا حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كان الناس مهان أنفسهم، فيروحون إلى الجمعة بهيئتهم، فقيل لهم: لو اغتسلتم)].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة، وهي الرخصة في ترك الغسل يوم الجمعة، يعني الأدلة الدالة على أن ما جاء من الأوامر في الأحاديث بالغسل يوم الجمعة مصروف عن الوجوب إلى الاستحباب، وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث عائشة رضي الله عنها: (كان الناس مهان أنفسهم)؟ أي: أنهم كانوا يخدمون أنفسهم، وأن مهنهم هم الذين يتولونها بأنفسهم.
وقولها: (مهان) جمع ماهن، والمقصود من ذلك أنهم الذين يتولون مصالح أنفسهم الدنيوية بأنفسهم، ليس لهم خدم يكفونهم تلك المئونة وينوبون عنهم فيها بحيث يستريحون، وإنما هم الذين يقومون بهذه المهمة، وكان يحصل منهم أنهم يأتون إلى الجمعة على هيئتهم التي كانوا عليها في عملهم وفي حرثهم، وتنبعث منهم روائح كريهة بسبب تلك المهن وتلك الأعمال، فقال عليه الصلاة والسلام: (لو اغتسلتم) يعني: لو اغتسلتم إذا جئتم إلى الجمعة.
ففيه إرشاد إلى الاغتسال، وأنهم لو اغتسلوا لحصل ذهاب ذلك الشيء الذي يؤذي غيرهم.
وقولها: [(فيروحون إلى الجمعة بهيئتهم التي كانوا عليها)] أي: يروحون إلى الجمعة في ثيابهم وفي عرقهم، فتنبعث منهم الروائح الكريهة فيحصل التأذي بذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو اغتسلتم) يعني: قبل أن تأتوا إلى الجمعة حتى تزول تلك الروائح.
وكذلك -أيضاً- جاء الإرشاد إلى التطيب مع الاغتسال حتى تذهب تلك الروائح الكريهة؛ لأن الإنسان إذا تطيب تكون رائحته طيبة وتذهب الرائحة الكريهة.
وسبق أن مر بنا ما دل عليه حديث عائشة هذا (كان الناس مهان أنفسهم) في حديث عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه في الوضوء حيث قال: (إنهم كانوا خدام أنفسهم)، فكانوا يتناوبون رعاية الإبل، فيجمعون ما لكل واحد من الإبل ثم يسرح بها كل يوم شخص، والباقون يكونون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمعون حديثه.
فقوله: (إنهم كانوا خدام أنفسهم) يعني: لا يوجد أحد يكفيهم الخدمة، ولهذا كانوا يتناوبون الرعاية، وهنا في حديث عائشة: (كانوا مهان أنفسهم) أي: هم الذين يقومون بمصالحهم وبمهنهم؛ لأنه ليس لهم خدم ينوبون عنهم فيها، ويأتون على هيئتهم بثيابهم التي كانوا يزاولون بها المهنة، وبعرقهم وبالروائح التي معهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم أرشدهم إلى الاغتسال؛ من أجل ذهاب تلك الروائح.(54/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (كان الناس مهان أنفسهم فيروحون إلى الجمعة بهيئتهم)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا حماد بن زيد].
حماد بن زيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن سعيد].
هو يحيى بن سعيد الأنصاري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرة].
هي عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية، وهي ثقة، أخرج لها أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة رضي الله تعالى عنها قد مر ذكرها.(54/4)
شرح حديث: (إذا كان هذا اليوم فاغتسلوا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا عبد العزيز -يعني ابن محمد - عن عمرو بن أبي عمرو، عن عكرمة (أن أناساً من أهل العراق جاءوا فقالوا: يا ابن عباس! أترى الغسل يوم الجمعة واجباً؟ قال: لا، ولكنه أطهر، وخير لمن اغتسل، ومن لم يغتسل فليس عليه بواجب، وسأخبركم كيف بدء الغسل: كان الناس مجهودين يلبسون الصوف ويعملون على ظهورهم، وكان مسجدهم ضيقاً مقارب السقف إنما هو عريش، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم حار وعرق الناس في ذلك الصوف حتى ثارت منهم رياح آذى بذلك بعضهم بعضاً، فلما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الريح قال: أيها الناس! إذا كان هذا اليوم فاغتسلوا، وليمس أحدكم أفضل ما يجد من دهنه وطيبه.
قال ابن عباس: ثم جاء الله بالخير، ولبسوا غير الصوف، وكفوا العمل، ووسع مسجدهم، وذهب بعض الذي كان يؤذي بعضهم بعضاً من العرق)].
أورد أبو داود رحمه الله الحديث عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حين جاءه جماعة من أهل العراق وسألوه عن غسل يوم الجمعة أواجب هو فقال: إنه ليس بواجب، وإنما هو مستحب، ومن اغتسل فالغسل أطهر وأفضل.
ثم أخبرهم ببدء الغسل، وأنه كان بسبب الروائح الكريهة التي تنبعث منهم بسبب كونهم يأتون متعبين من العمل، ويأتون إلى الجمعة بهيئتهم وبثيابهم التي عملوا فيها وفيهم تلك الروائح، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كان هذا اليوم فاغتسلوا)، فأرشدهم إلى الاغتسال، ومعنى هذا أن الاغتسال إنما هو لأجل إزالة هذه الروائح الكريهة، فإذا لم يكن هناك شيء من هذه الروائح التي يحصل بها أذى فإنه لا يكون الغسل لازماً؛ لأن المقصود به هو إزالة الروائح وإزالة الأذى الذي يكون في الإنسان بسبب مهنته وعمله.
ومعنى هذا أنه إذا لم يكن شيء من ذلك فإنه لا محذور ولا مانع من أن يأتي المرء الجمعة دون أن يغتسل، لكن غسل يوم الجمعة متأكد استحبابه، وينبغي للإنسان أن يحرص عليه ولو كان ليس فيه روائح، ولكن من لم يفعله فإنه لا يأثم؛ لأنه مستحب وليس بواجب.
وقد سبق أن مرت قصة عثمان حين دخل وعمر يخطب فقال له: أي ساعة هذه؟ فقال: إنني لما سمعت النداء بادرت إلى الوضوء وجئت.
فقال: والوضوء أيضاً! فـ عثمان رضي الله عنه جاء بدون اغتسال، ولم يأمره أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه بأن يذهب فيغتسل؛ ليؤدي ذلك الواجب لو كان واجباً، فدل ذلك على أنه مستحب.
ويدل عليه أيضاً قول ابن عباس رضي الله عنهما: إنه مستحب وليس بواجب.
وبين رضي الله عنه سبب الغسل وأصله، وأنه كان بسبب ما يحصل من روائح تنبعث بسبب مجيئهم على هيئتهم، وقد كانوا هم خدم أنفسهم وليس لهم من يخدمهم.(54/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (إذا كان هذا اليوم فاغتسلوا)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا عبد العزيز -يعني ابن محمد -].
عبد العزيز هو ابن محمد الدراوردي، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن أبي عمرو].
عمرو بن أبي عمرو ثقة ربما وهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عكرمة].
عكرمة مولى ابن عباس ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وابن عباس هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب رضي الله عنه ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وهم: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عمر.(54/6)
شرح حديث: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فهو أفضل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا همام، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فهو أفضل)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فهو أفضل) فهذا يدل على أن الغسل إنما هو مستحب، وأنه أفضل من الاقتصار على الوضوء.
قيل: إن المقصود بقوله: (فبها) أي: فبالسنة أخذ.
وقوله: (ونعمت) أي: نعمت الرخصة.
وقوله: (ومن اغتسل فالغسل أفضل) يعني: مع الوضوء، فإن الغسل يكون أتم وأفضل، وهذا فيه الدلالة على أنه مستحب وليس بواجب.(54/7)
تراجم رجال إسناد حديث: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فهو أفضل)
قوله: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي].
أبو الوليد الطيالسي هو هشام بن عبد الملك، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا همام].
هو همام بن يحيى، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسن].
هو الحسن بن أبي الحسن البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سمرة].
هو سمرة بن جندب رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(54/8)
الأمر بالغسل لمن أراد الإسلام(54/9)
شرح حديث: (أتيت النبي أريد الإسلام فأمرني أن أغتسل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: في الرجل يسلم فيؤمر بالغسل.
حدثنا محمد بن كثير العبدي، أخبرنا سفيان، حدثنا الأغر، عن خليفة بن حصين، عن جده قيس بن عاصم رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أريد الإسلام فأمرني أن أغتسل بماء وسدر)].
هذه الترجمة لبيان نوع من الأغسال، وهو الغسل عند الدخول في الإسلام، أي: من كان كافراً ثم أسلم فإنه يغتسل؛ لأن اغتساله بعد دخوله في الإسلام فيه تطهير لجسده من النجاسات التي لا يتحرز منها الكفار، وكذلك الذي يكون على جنابة فيكون اغتساله مزيلاً لتلك الأوساخ وتلك الأقذار التي كان الكفار لا يأخذون بها، ولا يحصل منهم الاغتسال والطهارة والنظافة منها.
فاغتسال الكافر بعد إسلامه فيه تخلص من تلك الآثار.
فـ أبو داود رحمه الله أورد حديث قيس بن عاصم التميمي المنقري رضي الله تعالى عنه: (أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسلماً فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل بما وسدر)، أي أن السدر يكون أكمل في النظافة والطهارة.
وقوله: [(فأمرني أن أغتسل بماء وسدر)] فيه أن الكافر عندما يدخل في الإسلام يغتسل.(54/10)
تراجم رجال إسناد حديث: (أتيت النبي أريد الإسلام فأمرني أن أغتسل)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير العبدي].
محمد بن كثير العبدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا سفيان].
سفيان هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، ثقة فقيه، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الأغر].
هو الأغر بن الصباح المنقري التميمي، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[عن خليفة بن حصين].
هو خليفة بن حصين بن قيس بن عاصم، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[عن جده قيس بن عاصم].
جده هو قيس بن عاصم التميمي المنقري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صحابي مشهور بالحلم، وهو الذي رثاه أحد الشعراء لما مات بقصيدة، منها البيت المشهور الذي يدل على عظم شأن هذا الرجل، حيث قال: وما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدما ومعناه أن من الناس من إذا هلك يكون هلاكه بمثابة البناء الذي يتهدم، وذلك لعظم شأنه وعظيم منزلته.
فقول الشاعر: وما كان قيس هلكه هلك واحد يعني: ليس موته موت رجل واحد، ولكن موته موت جماعة.
وقوله: (ولكنه بنيان قوم تهدما يدل على مكانته وعظيم منزلته رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
وهذا الشعر يستشهد به عندما يموت شخص كبير له منزلة عظيمة مرموقة ونفعه عظيم، فيكون فقده مصيبة كبيرة على الناس.(54/11)
شرح حديث: (ألق عنك شعر الكفر واختتن)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مخلد بن خالد، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرت عن عثيم بن كليب عن أبيه عن جده رضي الله عنه: (أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قد أسلمت.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ألق عنك شعر الكفر -يقول: احلق-.
قال: وأخبرني آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لآخر معه: ألق عنك شعر الكفر واختتن)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث جد عثيم بن كثير بن كليب أنه جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مسلماً فقال له: ألق عنك شعر الكفر، يعني: احلق رأسك.
وقيل: إن المقصود بهذا الحديث إزالة ما هو علامة من علامات الكفر في رءوسهم وهيئات رءوسهم، وليس المقصود به أنه يجب على الإنسان أن يحلق رأسه إذا دخل في الإسلام وأنه يزيل شعره، وذلك لأنه قال: (شعر الكفر) يعني الشيء الذي هو علامة من علامات الكفر، كالهيئات التي يختصون بها ويتميزون بها في رءوسهم، مثل كونهم يحلقون شيئاً ويبقون شيئاً على هيئة مخصوصة، فإن تلك التي هي من علامات الكفر يجب التخلص منها وتجب إزالتها.
ثم قال: وأخبرني آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لآخر معه: (ألق عنك شعر الكفر واختتن).
فقوله: (شعر الكفر) يقال فيه مثلما تقدم.
وقوله: (واختتن) فيه زيادة الاختتان، وأن الإنسان إذا أسلم وهو غير مختتن فعليه أن يختتن وأن يزيل تلك القلفة التي تكون من أسباب عدم الطهارة لكون شيء من البول يبقى في تلك القلفة التي تغطي الحشفة، والاختتان فيه زوالها وعدم علوق شيء من البول بها، فبالاختتان يحصل التخلص من ذلك.
ومن المعلوم أن الاختتان من شعار الإسلام، وأنه مطلوب في حق الرجال أن يختتنوا، وأنه عندما يبلغ الإنسان يجب أن يكون مختتناً؛ لأنه جاء زمن التكليف، وقبل ذلك يكون الإنسان غير مكلف، ولكن المبادرة إلى الاختتان في الصغر لاشك في أنها هي الأولى.
أما مناسبة حلق الشعر والاختتان للغسل مع عدم ذكر الاغتسال فهي أن في الحديث شيئاً يتعلق بالطهارة من جهة أن هناك شيئاً من إزالة آثار الكفر، ومن آثار الكفر عدم الاختتان، فهو علامة من علامات الكفار، والاختتان علامة من علامات المسلمين، وكذلك إذا كان شعره على هيئة الكفار فإنه يزال وليكون على هيئة المسلمين، فالحديث لم يذكر الاغتسال لكن فيه شيء يتعلق بالنظافة والطهارة من آثار الكفر.(54/12)
تراجم رجال إسناد حديث: (ألق عنك شعر الكفر واختتن)
قوله: [حدثنا مخلد بن خالد].
مخلد بن خالد ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود.
[حدثنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا ابن جريج].
ابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: أخبرت عن عثيم بن كليب].
قوله: [قال: أخبرت] معناه أن هناك واسطة بينه وبين عثيم، وعثيم هو ابن كثير بن كليب الحضرمي، أو الجهني، وهو مجهول، أخرج له أبو داود وحده.
[عن أبيه].
أبوه هو كثير، لم أقف على ترجمة له، لا في التقريب ولا في تهذيب التهذيب، وهناك اختلاف في قضية الجد، أي: هل كليب هو الجد أو الأب؟ وقيل: إن ابن جريج إنما نسبه إلى جده فقال: عثيم بن كليب.
وهو عثيم بن كثير بن كليب وما وقفت لترجمة لـ عثيم، وأما كليب الذي هو الجد فهو صحابي قال عنه الحافظ ابن حجر: قليل الحديث.
قيل: إن له ثلاثة أحاديث هذا واحد منها.
وحديثه أخرجه أبو داود وحده.(54/13)
حكم الغسل لمن أراد أن يسلم
الحديث فيه هذا المجهول، والألباني حسنه، ولم أدر عن كونه لقي له شواهد أو أي أمور أخرى، وإلا فالإسناد فيه مجهول، وفيه -أيضاً- الانقطاع.
أما بالنسبة للأمر بالغسل لمن أراد أن يسلم فاختلف فيه، فمنهم من قال: إنه على الوجوب؛ لأن فيه التخلص من هذه الأمور، لكن الأكثرون قالوا: إنه على الاستحباب.
ولا أدري ما هو الصارف للأمر من الوجوب إلى الاستحباب، لكن لا شك في أن الكفار لا يتنزهون من النجاسات، فتعين الاغتسال في حقهم إذا أسلموا له وجه.
أما قوله: (ألق عنك شعر الكفر) فقد يكون المقصود به الاستحداد، أي: حلق العانة، لكن كما هو معلوم أن هذه الأمور مطلوبة من المسلم والكافر كذلك إذا أسلم، لكن بعضهم قالوا: إن المقصود به الهيئة التي تخص الكفار، ولهذا قال: (شعر الكفر) ومن المعلوم أن الشعر موجود في حال الكفر، لكنه لا يلزم أن يزيل ما هو موجود في حال الكفر، وإنما الذي يزال هو علامة الكفر، وهو الهيئة المخصوصة للكفار في رءوسهم إذا كان لهم هيئة مخصوصة.
والله تعالى أعلم.(54/14)
الأسئلة(54/15)
فضل شعبان وحكم الصيام فيه
السؤال
هل يجوز الصيام يوم الجمعة والسبت في شهر شعبان؟ وهل لشهر شعبان فضيلة في صيامه؟
الجواب
الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر ما كان يصوم من الأشهر في شهر شعبان وفي المحرم، ولم يستكمل الرسول صلى الله عليه وسلم شهراً كاملاً إلا رمضان.
وقد جاء في بعض الأحاديث: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا)، وهذا يحمل على ما إذا كان الإنسان يريد أن يحتاط لرمضان، ومن المعلوم أن هذا الاحتياط لرمضان لا يسوغ، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لا تتقدموا رمضان بيوم أو يومين، إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه) يعني: إذا كان الرجل من عادته أنه يصوم يوم الخميس أو الإثنين وقع يوم الخميس -مثلاً- موافقاً ليوم الثلاثين فإنه يصوم؛ لأنه ما احتاط لرمضان، بل هو شيء اعتاده، فشعبان هو أحد الشهرين اللذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من الصيام فيهما.(54/16)
حكم من أعاد الصلاة مع جماعة بعد أن أداها خلف متنفل
السؤال
صلى مفترض خلف متنفل، وبعد أن انتهى مباشرة وجد جماعة أقيمت، فهل له الدخول مع تلك الجماعة؟
الجواب
صلاته الأولى هي الفريضة التي أداها، أما الثانية فإنه إذا دخل معهم فهي نافلة، ولا بأس بذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما صلى بالناس في مسجد الخيف نظر فإذا اثنان قد جلسا في ناحية، فدعا بهما فأتيا ترتعد فرائصهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لماذا لم تصليا؟ قالا: إنا صلينا في رحالنا، قال: إذا أتيتما والإمام لم يصل فصليا معه تكون لكما نافلة)، فالفريضة هي الأولى والثانية نافلة.(54/17)
الرد على من اتهم الإمام الشوكاني بالسرقة عند التأليف والنقل
السؤال
ما رأيكم فيمن يقول: إن الإمام الشوكاني سرق كتابه نيل الأوطار من فتح الباري، وكذلك حكمه على الأحاديث من تلخيص الحبير، وأما كتابه (إرشاد الفحول) -أيضاً- فهو مسروق من كتاب آخر؟
الجواب
هذا تعبير لا يليق بالعلماء، وإذا كان الشوكاني استفاد من الحافظ ابن حجر أو من غيره فهذا شأن أهل العلم يستفيد بعضهم من بعض، ومن المعلوم أن الشوكاني عالم كبير، وليس مجرد ناقل أو مجرد معتمد على غيره، فله آراء وله نظر، وله عناية رحمه الله تعالى، وله خبرة في الحديث، وقضية الاستفادة من العلماء أمر لا يشك فيه فالمتأخر يستفيد من المتقدم، والحافظ ابن حجر نفسه قد استفاد من العلماء السابقين ومن الأئمة المتقدمين، وهكذا شأن أهل العلم يستفيد بعضهم من بعض، ولكن اتهام العلماء بالسرقة ليس من الأدب مع أهل العلم.(54/18)
الفرق بين الشروط والأركان والواجبات والمستحبات في العبادة
السؤال
ماذا يقصد المالكية بقولهم: إن ستر العورة واجب وليس بشرط؟
الجواب
كما هو معلوم أن الشرط فيه لزوم وفيه وجوب، لكن الشرط هو الذي يتقدم المشروط، وستر العورة في الصلاة هو من الشروط التي هي خارجة عن أجزاء الصلاة وعن أركان الصلاة، مثل استقبال القبلة، ونحوه.
أما قولهم: (ستر العورة واجب وليس بشرط) فلا أعرف معنى هذا الكلام، لكن من المعلوم أن الشروط هي واجبة من حيث اللزوم ومتحتمة، وأنه لابد من أن يؤتى بها، فهناك واجب، وهناك شرط يتقدم المشروط، وهناك ركن يكون لازماً لا تصح الصلاة إلا به، والواجب: يجبر بسجود السهو.
والشروط تكون خارج الماهية وخارج الشيء المعرف؛ لأن الصلاة تعرف بأنها أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير ومختتمة بالتسليم، هذه الأقوال والأفعال منها ما هو أركان ومنها ما هو واجبات ومنها ما هو مستحبات، وهناك شيء يكون موجوداً قبل أن يدخل الإنسان في الصلاة، ككونه على وضوء، وكونه ساتراً للعورة، وكونه مستقبل القبلة، وهكذا بقية الشروط، فما أدري بمعنى قولهم: (إن ستر العورة ليس بشرط) ومعلوم أن الأشياء الموجودة في داخل الصلاة هي أقوال وأفعال وليس منها ستر العورة، ولكن ستر العورة من الأمور التي تشترط للصلاة، والإنسان لا يدخل في الصلاة إلا وقد ستر عورته.(54/19)
حكم المتاجرة بالكلاب للحراسة فقط
السؤال
ما حكم المتاجرة بالكلاب، مع العلم أنها كلاب لا يُحصل عليها بدون مال، وتستخدم للحراسة فقط؟
الجواب
لا تجوز المتاجرة بالكلاب وبيع الكلاب، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ثمن الكلب خبيث، وحلوان الكاهن خبيث، ومهر البغي خبيث) يعني: كل هذه الأمور محرمة.
فالإنسان إذا احتاج إلى الكلب واضطر إليه يستفيد منه، وإذا استغنى عنه يتركه ويرسله أو يعطيه لمن يستفيد منه، أما أن يبيعه ويستفيد من ثمنه أو يتجر به فهذا غير سائغ وغير جائز.(54/20)
حكم الحج والعمرة عن الغير ومكان الإحرام للعمرة
السؤال
جاء رجل من الجزائر لأداء العمرة وله أبوان متوفيان، وهما لم يحجا ولم يعتمرا ويريد أن يعتمر عنهما، فهل هذا جائز، ومن أين يحرم؟
الجواب
الإنسان إذا اعتمر عن نفسه وحج عن نفسه له أن يعتمر ويحج عن غيره، لكن العمرة المشروعة هي التي يأتي بها الإنسان وهو متجه إلى مكة من خارج المواقيت، هذه هي العمرة المشروعة، فإذا تيسر للإنسان أنه يعتمر ثم جاء إلى المدينة فإنه إن أراد أن يعتمر عن نفسه أو عن غيره فله ذلك.(54/21)
حكم من نوى العمرة وأراد الإحرام من جدة
السؤال
أريد أن أؤدي العمرة، إلا أني أريد أن أذهب إلى جدة في عمل ما، فهل علي أن أحرم من الميقات أم أحرم من جدة؛ لأني لم أقصد مباشرة الذهاب إلى العمرة؟
الجواب
خرج الإنسان من المدينة -مثلاً- وهو يريد أن يعتمر فيها فلا يجوز له أن يتجاوز الميقات إلا وقد أحرم، ولو ذهب إلى جدة فإنه يبقى وعليه إحرامه، وإن كان سيبقى في جدة مدة ويرى أن بقاء الإحرام عليه في هذه المدة لا يعجبه ولا يناسبه فليذهب إلى مكة أولاً وينتهي من عمرته، ثم يذهب إلى جدة ويفعل ما يريد.
والله تعالى أعلم.(54/22)
شرح سنن أبي داود [055]
إذا أصاب الحيض ثوب المرأة فإنها تدلكه وتفركه بأصابعها ثم تتبعه بالماء حتى يزول جرم النجاسة، فإن زال جرمها وبقي أثر فإنه لا يضر، ولها أن تغيره بشيء، ولها أن تجعل مع الماء مادة أخرى مزيلة للنجاسة، كالسدر، والصابون ونحوهما.(55/1)
المرأة تغسل ثوبها الذي تلبسه في حيضها(55/2)
شرح حديث عائشة: (كنت أحيض عند رسول الله ثلاث حيض جميعاً لا أغسل لي ثوباً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: المرأة تغسل ثوبها الذي تلبسه في حيضها.
حدثنا أحمد بن إبراهيم، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، حدثني أبي، حدثتني أم الحسن -يعني: جدة أبي بكر العدوي - عن معاذة قالت: (سألت عائشة رضي الله عنها عن الحائض يصيب ثوبها الدم، قالت: تغسله فإن لم يذهب أثره فلتغيره بشيء من صفرة.
قالت: ولقد كنت أحيض عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث حيض جميعاً لا أغسل لي ثوباً)].
قوله: [باب: المرأة تغسل ثوبها الذي تلبسه في حيضها] المقصود من هذه الترجمة أن المرأة في حال حيضها تغسل الثوب الذي يكون عليها إذا أصابه شيء من الدم، وأما إذا لم يصبه شيء من الدم فهو طاهر؛ لأن عرقها وكل شيء منها هو طاهر، وإنما النجاسة في الدم الذي يخرج من فرجها أو الذي يكون في فرجها، فإن خرج شيء من ذلك الدم على ثوبها فإنه يجب عليها أن تغسل ذلك الموضع الذي أصابه الدم، وإن لم يكن أصابه شيء من الدم فهو باق على طهارته.
وسبق أن مر في بعض الأحاديث وفي الأبواب المتقدمة في كتاب الحيض ما يتعلق بأن مخالطة المرأة ومضاجعتها ومماستها ليس فيه شيء ولا مانع منه، وقد وسبق أن مر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لـ عائشة: (ليست حيضتك في يدك) يعني أن كون المرأة تمس شيئاً أو تلمس شيئاً لا يؤثر؛ لأن حيضها إنما هو في فرجها، والنجاسة إنما هي في فرجها، وليست في يدها ولا في جسمها.
وعلى هذا فالثياب التي تلبسها النساء في حال حيضهن إن وقع فيها شيء من الدم الذي يكون في فروجهن فإنه يجب غسل ذلك الدم وإزالة تلك النجاسة، وإن لم يقع شيء من ذلك فالأصل هو الطهارة.
وقد أورد أبو داود رحمه الله عدة أحاديث في هذا الباب، أولها حديث عائشة رضي الله عنها أنها سألتها معاذة العدوية عن الحائض يصيب ثوبها الدم، قالت: (تغسله فإن لم يذهب أثره فلتغيره بشيء من صفرة).
أي: يجب عليها أن تغسل هذه النجاسة، فإذا غسلتها ولكن بقي شيء من الأثر فلتغيره بشيء من صفرة، أي: بزعفران أو ورس أو ما إلى ذلك، حتى يكون في ذلك المكان الذي فيه نجاسة تلك الرائحة الطيبة، وأيضاً حتى لا يكون في نفسها شيء من الوسواس بسبب هذا الأثر الذي بقي، وهو لا يضر مادام أنها قد قامت بأداء الواجب ولكنه لم يحصل الصفاء والنقاء كبقية أجزاء الثوب التي ما حصل فيها شيء من النجاسة.
قولها: [(ولقد كنت أحيض عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث حيض جميعاً لا أغسل لي ثوباً)].
أي: إذا لم يقع عليه شيء من الدم.
وعلى هذا فالغسل وعدم الغسل مبني على وجود النجاسة وعدمها، فما جاء من غسل ثوب الحائض فلأنه حصل فيه نجاسة, وما جاء من عدم غسله فلأنه لم يحصل فيه نجاسة، وعلى هذا فالنجاسة إذا وجدت تغسل، وإذا لم توجد النجاسة في ثوب الحائض فالأصل هو الطهارة.(55/3)
تراجم رجال إسناد حديث عائشة: (كنت أحيض عند رسول الله ثلاث حيضات جميعاً لا أغسل لي ثوباً)
قوله: [حدثنا أحمد بن إبراهيم].
هو أحمد بن إبراهيم بن كثير الدورقي النكري، وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
وليعلم هنا أن أبا داود روى عن اثنين يقال لكل منهما: أحمد بن إبراهيم أحدهما أحمد بن إبراهيم الموصلي الذي هو أول واحد في كتاب التقريب؛ لأن الحافظ ابن حجر رحمه الله بدأ كتابه كتاب التقريب بمن اسمه أحمد؛ لأنه اسم الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك أتى بالأسماء التي أولها ألف بعد أن انتهى ممن اسمه أحمد، وكذلك في حرف الميم بدأ بمن اسمه محمد، ثم أتى بعد ذلك بالأسماء التي بدأت بحرف الميم، فأول الأحمدين هو أحمد بن إبراهيم الموصلي، وله عند أبي داود حديث واحد، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة في التفسير.
أما أحمد بن إبراهيم بن كثير هذا فقد أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة، وهو هذا الذي يروي عن عبد الصمد بن عبد الوارث.
[حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث].
هو عبد الصمد بن عبد الوارث بن سعيد العنبري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني أبي] هو عبد الوارث بن سعيد العنبري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثتني أم الحسن -يعني جدة أبي بكر العدوي -].
أم الحسن جدة أبي بكر العدوي لا يعرف حالها، أخرج حديثها أبو داود وحده.
[عن معاذة].
هي معاذة بنت عبد الله العدوية، وهي ثقة، أخرج لها أصحاب الكتب الستة.
[قالت: سألت عائشة].
هي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها الصديقة بنت الصديق، وهي من أوعية السنة وحفظتها، وهي أحد سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أما الحديث ففي إسناده تلك المرأة التي لا يعرف حالها وهي مجهولة، والحديث صححه الألباني ولعل ذلك لشواهده، أو لكونه يوافق الأحاديث الأخرى الدالة على معناه.
أما بالنسبة لغسل النجاسة فالواجب هو إزالة العين، أما الأثر فينبغي للإنسان أن يبالغ في الغسل حتى يذهب الأثر مع العين، فإن بقي الأثر وضع مكانه شيئاً من صفرة يغاير اللون الأصلي، ولا يضر ذلك الأثر.
أما بالنسبة لعدد الغسلات من النجاسة فليس هناك تحديد بعدد معين، بل الغرض إزالة النجاسة.(55/4)
شرح حديث: (ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن كثير العبدي، أخبرنا إبراهيم بن نافع، قال: سمعت الحسن -يعني ابن مسلم - يذكر عن مجاهد أنه قال: قالت عائشة رضي الله عنها: (ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه، فإن أصابه شيء من دم بلته بريقها ثم قصعته بريقها)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث عائشة رضي الله عنها الذي تقول فيه: (ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه، فإن أصابه شيء من دم بلته بريقها ثم قصعته بريقها) وليس المقصود أن النجاسة تزال بالريق، وإنما المقصود أن ذلك يكون فيه تخفيف لها، ثم بعد ذلك تغسل بالماء؛ لأن إزالة النجاسة إنما تكون بالماء لا بغيره من المائعات من ريق أو غير ريق، وقد فسر ذكر البل بالريق والقصع بالريق بتفسيرين: الأول: أن المقصود من ذلك أن فيه تخفيفاً، وبعد ذلك يكون الغسل بالماء كما جاءت النصوص بذلك.
الثاني: أن المقصود من ذلك أنه إذا كان شيئاً يسيراً من الدم فهو معفو عنه لو لم يغسل، فبلها إياه بالريق فيه إزالة تلك النقطة اليسيرة من الدم التي قد يكون في نفسها منها شيء إذا رأتها، فإذا بلتها بريقها وذهب ذلك الأثر أو ذلك المنظر الذي تراه، فإن ذلك يكون من أجل عدم تعلق النفس بشيء من أثر الدم وهو اليسير التافه المعفو عنه.
إذاً: القصع بالريق أو البل بالريق لا يكون التطهير به من النجاسة؛ لأن تطهير النجاسة لا يكون إلا بالماء، فإنه هو الذي يطهر به، وقد جاءت النصوص بأن الحائض تغسل ثوبها بالماء وترشه بالماء وتنضحه بالماء، وجاء في بعض الروايات ذكر الريق، ولكنه محمول على إحدى هاتين الحالتين: إما أن المقصود من ذلك أنها تفعل ذلك ثم تتبعه بالماء فتغسله به، وإما أن المقصود من ذلك أنه شيء يسير معفو عنه لو لم يغسل، وبله بريقها هو لئلا ترى أثره الذي قد تتعلق نفسها به ويشوش عليها.(55/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير العبدي].
محمد بن كثير العبدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا إبراهيم بن نافع].
إبراهيم بن نافع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: سمعت الحسن -يعني ابن مسلم -].
هو الحسن بن مسلم بن يناق، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن مجاهد].
هو مجاهد بن جبر، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: قالت عائشة].
هي عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، وقد مر ذكرها.(55/6)
شرح حديث أم سلمة: (قد كان يصيبنا الحيض على عهد رسول الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا عبد الرحمن -يعني ابن مهدي -، حدثنا بكار بن يحيى، قال: حدثتني جدتي قالت: (دخلت على أم سلمة رضي الله عنها فسألتها امرأة من قريش عن الصلاة في ثوب الحائض، فقالت أم سلمة: قد كان يصيبنا الحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلبث إحدانا أيام حيضها ثم تطهر، فتنظر الثوب الذي كانت تقلب فيه، فإن أصابه دم غسلناه وصلينا فيه، وإن لم يكن أصابه شيء تركناه، ولم يمنعنا ذلك من أن نصلي فيه، وأما الممتشطة فكانت إحدانا تكون ممتشطة فإذا اغتسلت لم تنقض ذلك، ولكنها تحفن على رأسها ثلاث حفنات، فإذا رأت البلل في أصول الشعر دلكته ثم أفاضت على سائر جسدها)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث أم سلمة رضي الله عنها أنها سألتها امرأة من قريش عن الصلاة في ثوب الحائض، فقالت: كان يصيبنا الحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلبث إحدانا أيام حيضها ثم تطهر، فتنظر في ثوبها، فإن أصابه شيء من النجاسة غسلته وإلا تركته وصلت فيه وهذا فيه التفصيل الذي سبق أن أشرت إليه، وهو أنه إن كان هناك دم غسل، وإن لم يكن هناك دم فإنه باق على الطهارة وتصلي المرأة فيه.
وقولها: [(وأما الممتشطة فكانت إحدانا تكون ممتشطة فإذا اغتسلت لم تنقض ذلك)].
في هذا الحديث أن الممتشطة منهن كانت عند اغتسالها لا تنقض رأسها، ولكنها تصب عليه الماء حتى يصل إلى أصوله.
وقوله: [(ولكنها تحفن على رأسها ثلاث حفنات، فإذا رأت البلل في أصول الشعر دلكته، ثم أفاضت على سائر جسدها)] يعني أن الحائض لا تنقض رأسها، ولكن يستحب لها أن تنقض رأسها، وذلك أن مدة الحيض تطول، فهي بحاجة إلى تنظيف شعور رأسها، وإن لم تنقضه ولكنها صبت عليه الماء حتى وصل إلى أصوله وحركته فإن ذلك يكفي ويجزئ، لكن المغتسلة من الحيض يستحب لها أن تنقض شعرها، وهي أولى بالنقض من المغتسلة من الجنابة؛ لأن مدة الحيض تطول، وأما الجنابة فإنه لا يمضي عليها مدة طويلة.
إذاً: يستحب للمغتسلة للحيض وللجنابة نقض الشعر، ولكنه آكد في حق الحائض؛ لأنها يمضي عليها وقت طويل، فنقضها إياه آكد وأولى من نقض المغتسلة من الجنابة، وإن لم تنقضه فإن ذلك كاف ومجز، بشرط أن يصل الماء إلى أصوله.(55/7)
تراجم رجال إسناد حديث أم سلمة: (قد كان يصيبنا الحيض على عهد رسول الله)
قوله: [حدثنا يعقوب بن إبراهيم].
هو يعقوب بن إبراهيم الدورقي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الرحمن -يعني ابن مهدي -].
هو عبد الرحمن بن مهدي البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا بكار بن يحيى].
بكار بن يحيى مجهول، أخرج له أبو داود وحده.
[قال: حدثتني جدتي].
جدته لا أعرف شيئاً عنها.
قالت: [دخلت على أم سلمة].
هي أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها هند بنت أبي أمية، وحديثها عند أصحاب الكتب الستة.(55/8)
حكم الحديث ومعناه مجملاً
أما الحديث فقد ضعفه الألباني، ولعل ذلك من أجل بكار بن يحيى، والحديث -كما هو معلوم- معناه مطابق للأحاديث الأخرى التي فيها أن النجاسة تغسل، وأنه إذا كانت النجاسة غير موجودة في ثوب الحائض فإنه لا يحتاج إلى غسل، كما جاء في الحديث الأول من هذه الأحاديث التي مرت بنا، أما إذا كان الدم موجوداً فإنها تغسله بالماء.(55/9)
شرح حديث: (سمعت امرأة تسأل رسول الله: كيف تصنع إحدانا بثوبها إذا رأت الطهر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي، حدثنا محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: (سمعت امرأة تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تصنع إحدانا بثوبها إذا رأت الطهر، أتصلي فيه؟ قال: تنظر، فإن رأت فيه دماً فلتقرصه بشيء من ماء، ولتنضح ما لم تر ولتصل فيه)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها أنها سمعت امرأة تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند صلاة المرأة في الثوب إذا رأت الطهر، فقال: (تنظر فإن رأت فيه دماً فلتقرصه بالماء) يعني: تغسله بالماء.
والقرص هو تحريك ودلك المكان الذي تعلم فيه النجاسة بأطراف الأصابع، فتدلكه حتى يخرج ما في داخله من الدم ويزول.
وقوله: [(ولتنضح ما لم تر)] يعني: تنضح المكان الذي شكت أن فيه نجاسة، يعني: تغسله بالماء.
ومعنى ذلك أنه إذا كانت النجاسة معلومة ومحققة فإنها تقرصها بالماء، أما إذا كان المكان ليس فيه نجاسة ولكنها تشك في أن النجاسة فيه وليس لها عين ترى ولا شكل فإنها تنضحه بالماء، أما إن كانت قد تحققت من أن النجاسة موجودة في الثوب ولكنها لا تعرف مكانها فيجب عليها أن تغسل الثوب كله، أما إذا كانت بقعة النجاسة تعرفها وكانت شاكة أن فيها نجاسة فإنها تغسل ذلك المكان خاصة.(55/10)
تراجم رجال إسناد حديث: (سمعت امرأة تسأل رسول الله: كيف تصنع إحدانا بثوبها إذا رأت الطهر)
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي].
عبد الله بن محمد النفيلي ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن الأربعة.
[حدثنا محمد بن سلمة].
هو محمد بن سلمة الحراني، ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن محمد بن إسحاق].
هو محمد بن إسحاق المدني وهو صدوق يدلس، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن الأربعة.
[عن فاطمة بنت المنذر].
هي فاطمة بنت المنذر بن الزبير بن العوام، وهي زوجة هشام بن عروة، وهي ثقة، أخرج لها أصحاب الكتب الستة.
[عن أسماء بنت أبي بكر].
هي أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنها، وهي جدة هشام وجدة فاطمة أم أبويهما، وأسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها صحابية، وهي أخت أم المؤمنين عائشة، وحديثها عند أصحاب الكتب الستة.(55/11)
شرح حديث: (إذا أصاب إحداكن الدم من الحيض فلتقرصه ثم لتنضحه بالماء ثم لتصل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها قالت: (سألت امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! أرأيت إحدانا إذا أصاب ثوبها الدم من الحيضة كيف تصنع؟ قال: إذا أصاب إحداكن الدم من الحيض فلتقرصه، ثم لتنضحه بالماء، ثم لتصل)].
قوله: [(تقرصه)] يعني: تدلكه وتحركه بأصابعها.
أي: المكان المتنجس، ثم تصب عليه الماء بعد ذلك حتى يطهر.(55/12)
تراجم رجال إسناد حديث: (إذا أصاب إحداكن الدم من الحيض فلتقرصه ثم لتنضحه بالماء ثم لتصل)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
هو عبد الله بن مسلمة القعنبي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة الإمام المشهور، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام بن عروة].
هشام بن عروة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن فاطمة بنت المنذر].
فاطمة بنت المنذر بن الزبير هي زوجة هشام، وهو يروي عنها، وهي ثقة، أخرج لها أصحاب الكتب الستة.
[عن أسماء بنت أبي بكر].
مر ذكرها، وهي جدة هشام وجدة فاطمة.(55/13)
شرح حديث: (حتيه ثم اقرصيه بالماء ثم انضحيه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد، حدثنا حماد.
ح: وحدثنا مسدد، حدثنا عيسى بن يونس.
ح: وحدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد -يعني ابن سلمة - عن هشام بهذا المعنى، قال: (حتيه ثم اقرصيه بالماء ثم انضحيه)].
هذا حديث أسماء من طريق أخرى، وفيه أنه أمرها بأن تحته إذا كان له جرم وإذا كان له جسم بارز، بحيث يحك أو يفرك فيتساقط؛ لأن هذا يخفف النجاسة، ثم بعد ذلك يُقَرص المكان المتنجس بالماء؛ لأنه لو غُسل والنجاسة فيه موجودة بكثافة ولها جرم فإن ذلك يزيد الطين بلة، حيث تنتشر النجاسة، لكن إذا حتت الثوب تساقط جَرم النجاسة إذا كان لها جرم، ثم بعد ذلك يغسل المكان.
وقوله: [حتيه] يعني أنه يحت إما بعود أو بظفر أو بأي شيء يسقط ذلك الجرم، ثم بعد أن يزول جرم النجاسة ويذهب عينها من المكان المتنجس يقرص أثرها بالماء.
فيكون له ثلاث حالات: أولاً: إزالة ذلك الجرم بالحت، وكذلك الفرك.
ثانياً: القرص، وهو تحريكه بأطراف الأصابع.
ثالثاً: النضح، وهو غسله بالماء.(55/14)
تراجم رجال إسناد حديث (حتيه ثم اقرصيه بالماء ثم انضحيه)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن زيد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وإذا روى مسدد عن حماد غير منسوب فالمراد به ابن زيد، وإذا روى موسى بن إسماعيل عن حماد غير منسوب فالمراد به ابن سلمة، وإذا روى قتيبة عن حماد غير منسوب فالمراد به ابن زيد.
هكذا ذكر الحافظ المزي في آخر ترجمة حماد بن سلمة في تهذيب الكمال، وترجمة حماد بن زيد وترجمة حماد بن سلمة متجاورتين؛ لأن السين بعد الزاي.
[ح: وحدثنا مسدد حدثنا عيسى بن يونس].
قوله: [ح] هي التحول من إسناد إلى إسناد.
وعيسى بن يونس هو عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح: وحدثنا موسى بن إسماعيل] هو التبوذكي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد -يعني ابن سلمة -] حماد بن سلمة ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن هشام بهذا المعنى].
هو هشام بن عروة.(55/15)
شرح حديث: (سألت النبي عن دم الحيض يكون في الثوب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد، حدثنا يحيى -يعني ابن سعيد القطان - عن سفيان، حدثني ثابت الحداد، حدثني عدي بن دينار، قال: سمعت أم قيس بنت محصن رضي الله عنها تقول: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن دم الحيض يكون في الثوب قال: حكيه بضلع واغسليه بماء وسدر)].
أورد أبو داود حديث أم قيس بنت محصن، وهي أخت عكاشة بن محصن الصحابي المشهور ذكره في حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب حين ذكر النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم، فقام عكاشة بن محصن فقال: (ادع الله أن يجعلني منهم.
فقال: أنت منهم.
ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم.
فقال: سبقك بها عكاشة)، فـ عكاشة هذا مشهور، ولهذا يقال في ترجمتها: أخت عكاشة؛ لأن الشخص إذا كان مشهوراً ثم يكون من أقربائه من يذكر فإنه ينسب إليه، فيقال: أخو فلان، أو: هو ابن أخي فلان إذا كان مشهوراً، فهذه أم قيس يقال في ترجمتها: أخت عكاشة، وهي صحابية مشهورة، أخرج حديثها أصحاب الكتب الستة.
وقوله: [(حكيه بضلع)] قيل: إن المقصود بالضلع العود الذي يكون مائلاً على هيئة الضلع، والضلع -كما هو معلوم- العظم، والعظام لا يستنجى بها ولا تلوث بالنجاسة؛ لأنها -كما ورد في الحديث- طعام إخواننا من الجن.
إذاً: المقصود بالضلع هو العود يكون كهيئة الضلع، بحيث يحك به النجاسة إذا كان لها جرم، وإلا فبظفر أو أي شيء يزيل جرمها، ثم بعد ذلك يغسل ما بقي بماء وسدر.
قوله: [(واغسليه بماء وسدر)] يعني أن السدر يكون أكمل في النظافة، وإلا فإن الماء كاف دون أن يضاف إليه شيء، فإذا أضيف إليه سدر يكون أكمل في النظافة وأكمل في إزالة النجاسة.(55/16)
تراجم رجال إسناد حديث: (سألت النبي عن دم الحيض يكون في الثوب)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى -يعني ابن سعيد القطان -].
يحيى بن سعيد القطان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، ثقة فقيه، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثني ثابت الحداد].
هو ثابت بن هرمز الحداد، وهو صدوق يهم، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا عدي بن دينار].
عدي بن دينار وثقه النسائي، وحديثه أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[قال: سمعت أم قيس بنت محصن].
أم قيس بنت محصن رضي الله عنها حديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.(55/17)
شرح حديث: (قد كان يكون لإحدانا الدرع فيه تحيض وفيه تصيبها الجنابة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا النفيلي، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (قد كان يكون لإحدانا الدرع، فيه تحيض وفيه تصيبها الجنابة، ثم ترى فيه قطرة من دم فتقصعه بريقها)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث عائشة قالت: [(قد كان لإحدانا الثوب فيه تحيض وفيه تصيبها الجنابة، فترى فيه القطرة من الدم فتقصعه بريقها) والقطرة هي: نقطة يسيرة، وقد سبق أن قلنا على أحد التفسيرين للغسل بالريق: إنه إذا كان شيئاً يسيراً فهو معفو عنه، فإزالة القطرة اليسيرة بالريق هي لئلا اتتشوش بكونها تنظر إليها، وإلا فإنها معفو عنها.(55/18)
تراجم رجال إسناد حديث: (قد كان لإحدانا الدرع فيه تحيض وفيه تصيبها الجنابة)
قوله [حدثنا النفيلي].
النفيلي مر ذكره، وهو عبد الله بن محمد.
[عن سفيان] هو سفيان بن عيينة، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن أبي نجيح].
ابن أبي نجيح هو عبد الله بن أبي نجيح، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وأبو نجيح هو يسار المكي.
[عن عطاء].
هو عطاء بن أبي رباح المكي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة مر ذكرها.(55/19)
شرح حديث: (يكفيك غسل الدم ولا يضرك أثره)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عيسى بن طلحة، عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن خولة بنت يسار أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إنه ليس لي إلا ثوب واحد، وأنا أحيض فيه، فكيف أصنع؟ قال: إذا طهرت فاغسليه ثم صلي فيه.
فقالت: فإن لم يخرج الدم؟ قال: يكفيك غسل الدم ولا يضرك أثره)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن خولة بنت يسار سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثوبها التي تحيض فيه يكون فيه الدم، قال: (إذا طهرت فاغسليه ثم صلي فيه) قالت: فإن لم يخرج الدم؟ قال: (يكفيك غسل الدم ولا يضرك أثره) يعني: إذا غسلت ما يجب عليها بالغسل ولم يكن المكان الذي غسل بالصفاء والنقاء مثل بقية الثوب فإنه يكفيها الغسل ولا يضرها أثره.(55/20)
تراجم رجال إسناد حديث: (يكفيك غسل الدم ولا يضرك أثره)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد] هو قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا ابن لهيعة].
ابن لهيعة هو عبد الله بن لهيعة المصري، صدوق اختلط لما احترقت كتبه، وحديثه أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن يزيد بن أبي حبيب].
هو يزيد بن أبي حبيب المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عيسى بن طلحة].
هو عيسى بن طلحة بن عبيد الله التيمي، أبوه أحد العشرة المبشرين بالجنة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو أكثر السبعة حديثاً على الإطلاق رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
والله تعالى أعلم.(55/21)
الأسئلة(55/22)
الجمع بين القول بعصمة الأنبياء وبين ما وقع منهم من ذنوب
السؤال
نقل الحافظ ابن حجر رحمه الله في كتابه (فتح الباري) أن العلماء اتفقوا على أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الكبائر واختلفوا في عصمتهم من الصغائر، فهل الصواب أنهم معصومون من الكل؟
الجواب
هذه المسألة -كما هو معلوم- فيها خلاف بين أهل العلم، والمشهور هو ما ذكره الحافظ ابن حجر وذكره غيره، وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد ذكرت الأماكن التي ورد فيها هذا الكلام في مجموع الفتاوى وغيره في الفوائد المنتقاة من فتح الباري ومن كتب أخرى، فهي من جملة الأشياء التي ذكرتها وأحلت إلى أماكنها، فعلى القول بأن عندهم صغائر وأنهم يتوبون منها يكون ذلك فيه زيادة في حسناتهم ورفعة في درجاتهم.
أما ما حصل من بعض الأنبياء مما ذكره الله في القرآن، موسى عليه السلام لذلك الرجل فالقتل حصل حين الدفع، فيكون ذنباً، وقد سأل الله أن يتوب عليه فتاب عليه.(55/23)
حكم الشرب حال القيام
السؤال
ما حكم شرب المرء قائماً؟ وهل نقول لمن شرب قائماً: إنك آثم؟
الجواب
لا نقول له: إنك آثم، بل نقول: إن الشرب حال الجلوس هو الأولى والأفضل، والشرب حال القيام جائز.(55/24)
وجه كون شروط (لا إله إلا الله) شروط صحة
السؤال
هل شروط لا إله إلا الله شروط صحة أم شروط كمال؟
الجواب
شروط (لا إله إلا الله) شروط صحة؛ لأن الإنسان لا يحصل منه الإيمان إلا بها كلها، مثل: القبول المنافي للرد واليقين المنافي للشك، فإذا حصل الرد أو حصل الشك أو حصل التكذيب فهذا يدل على عدم حصول الإيمان.(55/25)
حكم الصلاة في جماعة خلف إمام محدث يجهل حدثه
السؤال
قال الزركشي رحمه الله: لو اقتدى المأموم بإمام محدث وهو جاهل حدثه فإن صلاته تصح وإن فاتته فضيلة الجماعة.
فهل قوله صحيح بانتفاء فضيلة الجماعة عن المأموم؟
الجواب
كيف تنتفي عنه فضيلة الجماعة؟! لو صلى إمام وهو محدث والناس يجهلون حدثه فالجماعة موجودة ولم تذهب فضيلتها، وهم قد أدوا ما عليهم وفعلوا ما يمكنهم، ففضيلة الجماعة لا وجه لذهابها؛ لأن الجماعة موجودة، وإنما النقص على من صلى محدثاً، فهو الذي يجب عليه أن يتوضأ ويعيد الصلاة، وهم لا يعيدون الصلاة.
وقد قال عليه الصلاة والسلام لما أخبر عن أمراء يأتون بعده: (يصلون لكم فإن أحسنوا فلكم ولهم، وإن أساءوا فلكم وعليهم).
ويقول عثمان رضي الله عنه كما في البخاري: (إن الصلاة من خير ما يفعل الناس، فإن أحسنوا فأحسن معهم، وإن أساءوا فاجتنب إساءتهم).(55/26)
أذكار الصلوات المفروضة وترتيبها
السؤال
الأذكار التي تقال بعد الصلوات هل ورد الترتيب فيها أم لا؟ وكيف يكون ذلك؟
الجواب
معلوم أن الذكر بعد السلام هو الاستغفار ثلاثاً، ثم بعد التكبير والتسبيح والتحميد ثلاثاً وثلاثين لكل واحدة، ثم بعد ذلك قراءة آية الكرسي، و (قل هو الله أحد)، والمعوذتين على ما جاء في الأحاديث، إلا أن قراءة (قل هو الله أحد) والمعوذتين تكون ثلاث مرات بعد صلاتي الفجر والمغرب.(55/27)
حكم تطيب الرجل من طيب المرأة
السؤال
هل يجوز للرجل أن يتطيب من طيب زوجته إذا لم يجد طيباً، ولو كان طيب زعفران لخصوصه بالمرأة دون الرجل، علماً بأن الزعفران ورد فيه النهي عن الاستعمال من قبل الرجال؟
الجواب
لا يستعمل الشيء الذي ورد فيه المنع، ولكن يستعمل الشيء الذي هو من خصائص النساء، وهو الذي يظهر أثره ويخفى ريحه.(55/28)
حكم الصلاة وغيرها من العبادات لمن حيضتها مضطربة
السؤال
امرأة حيضتها مضطربة غير منتظمة، فهي تأتيها مرة في أول الشهر ومرة في وسطه ومرة في آخره، ولا تميز الحيض، وفي شهر من الشهور جاءتها الصفرة والكدرة ولم تعلم هل كان ذلك في مدة الحيض أو قبله، فهل تمتنع عن الصلاة وتترك بعض الأفعال التعبدية من قراءة القرآن وغيره؟ ولو أنها أتتها في أول رمضان فماذا تصنع؟
الجواب
إذا كانت تعرف العادة بلونها ورائحتها فهذا هو الحيض، وكذلك إذا كانت عادتها مضطربة تتقدم أو تتأخر ولكنه معروف عندها رائحته ولونه، فذلك حيض، أما إذا كان هناك صفرة أو كدرة ولكن ليس فيها رائحة الحيض التي تعرفها النساء ولا لون الحيض الذي تعرفه النساء فهذا لا يمنعها من الصلاة؛ لأنها ما عندها عادة مستقرة بحيث يقال: جاءت الصفرة أو الكدرة في عادتها؛ لأن الصفرة والكدرة في زمن العادة حيض وفي زمن الطهر طهر، مثل ما قالت أم عطية في الحديث الذي سبق أن مر بنا: (كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئاً).(55/29)
حكم من أدركها رمضان الثاني ولم تستطع صوم ما عليها من شهر رمضان الأول
السؤال
زوجتي لم تصم بعض الأيام من رمضان السابق، ولم تقض تلك الأيام، وهي الآن حامل ولا تتحمل الصوم، وسيدخل عليها رمضان الثاني ولم تقض ما عليها، فماذا تصنع؟
الجواب
إذا كانت لا تتحمل الصوم ولا تستطيع الصيام فإنه يكون باقياً في ذمتها تلك الأيام التي مضت، فتصوم شهر رمضان الآتي، وبعد ذلك تقضي الأيام التي سبقت وتطعم عن كل يوم مسكيناً.(55/30)
حكم من بلغ من المسلمين ولم يختتن
السؤال
يوجد رجل مسلم في الثلاثين من عمره ولم يختتن، والناس يتحرجون من تزويجه، فما توجيهكم؟
الجواب
المسلم يجب عليه أن يبادر إلى الاختتان من حين يبلغ؛ لأن البلوغ إذا وجد وجب الاختتان، وقبل البلوغ لا يجب، ولكنه مستحب ومندوب، ولكن لا يجوز للإنسان أن يبقى بدون اختتان وقد وصل إلى سن البلوغ؛ لأن هذا فيه النظافة وفيه الطهارة، ولأن البول يكون في خارج الذكر في تلك القلفة التي تحيط به، والواجب هو إزالة تلك القلفة حتى تحصل الطهارة للإنسان، فهذا الأخ الواجب عليه أن يبادر إلى الاختتان.(55/31)
حكم لبس الحزام المخيط حال الإحرام
السؤال
هل يجوز لبس الحزام الذي فيه مخيط في الإحرام؟
الجواب
يجوز؛ لأن لبس الحزام ولو كان مخيطاً ولبس النعل ولو كان مخيطاً لا بأس به؛ لأن المخيط المحظور لبسه ما كان على هيئة اللباس، كالفنيلة وكالسراويل وكالقميص، أما الحزام المخيط -أو النعل المخيط- فلا يؤثر.(55/32)
حكم تطهير الثوب النجس بالماء والصابون
السؤال
هل غسل الثوب بالماء والصابون يطهره إذا كان نجساً؟
الجواب
نعم يطهره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الحائض أن تطهر بنجاسة ثوبها بماء وسدر والسدر فيه زيادة في التطهير، وإلا فإن الماء وحده يكون كافياً.(55/33)
مقدار الدم المعفو عنه
السؤال
ما مقدار الدم المعفو عنه؟
الجواب
لا أعلم له تحديداً، إنما قالوا: شيء يسير.(55/34)
كيفية المحافظة على الثنتي عشرة ركعة يوم الجمعة كسائر الأيام
السؤال
إذا قيل: إنه لا سنة قبل صلاة الجمعة راتبة فكيف التوفيق بين هذا وبين قوله صلى الله عليه وسلم: (من صلى الله عليه وسلم في يوم ثنتي عشرة ركعة بنى الله له بيتاً في الجنة)، أي: كيف يصلي أحدنا اثنتي عشرة ركعة في يوم الجمعة؟
الجواب
يوم الجمعة يصلي فيه ما أمكنه، كما جاء في الحديث (ما قدر له) يعني: يصلي ما كتب له، وليس للجمعة سنة معينة محددة قبلها، ولكن الإنسان إذا دخل المسجد يوم الجمعة فله أن يصلى ما قدر له أو ما كتب له، وإذا فعل ذلك حصل على الخير الكثير وحصل على زيادة إن شاء الله، أما الثنتي عشرة ركعة -كما هو معلوم- فهي أربع قبل الظهر، فإذا جاء قبل الجمعة فله أن يصلي ما شاء وما أمكنه، والصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا إذا دخلوا المسجد يصلون ما أمكنهم أن يصلوا ثم يجلسون ولا يقومون إلا للصلاة إذا أقيمت.(55/35)
الحكم على حديث: (أقامها الله وأدامها)
السؤال
هل ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان يقول إذا سمع (قد قامت الصلاة): أقامها الله وأدامها؟
الجواب
لم يثبت هذا، بل هو حديث ضعيف عند ابن ماجة، ولكن يقول: (قد قامت الصلاة) عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن) والإقامة أذان، فيقول مثل ما يقول المؤذن.(55/36)
حكم التوسل والدعاء بفضل الزمان أو المكان
السؤال
هل يجوز التوسل والدعاء بفضل الزمان أو المكان، كأن يقول: اللهم! إني أسألك بفضل يوم عرفة.
في يوم عرفة، أو يقول: اللهم! إني أسألك بفضل هذا المكان إن كان في أحد الحرمين؟
الجواب
لا يصح أن يتوسل الإنسان بفضل زمان ولا مكان، وإنما يتوسل بما ورد التوسل به، إما بأسماء الله وصفاته، أو بعمل الإنسان، كما جاء في قصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار وتوسلوا إلى الله عز وجل بصالح أعمالهم ونجاهم الله عز وجل، أما أن يتوسل بفضل زمان أو فضل مكان فلا، لكن يمكن أن يتوسل بربوبية الله عز وجل لبعض خلقه، كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل عالم الغيب والشهادة) أما أن يتوسل بفضل زمان أو مكان فلا، وإنما يأتي بالعبادة المشروعة في ذلك الزمان أو في ذلك المكان، ويسأل الله أن يتقبل منه.(55/37)
معنى قوله عائشة: (ثلاث حيض جميعاً)
السؤال
ما المراد من قول عائشة رضي الله عنها: (ثلاث حيض جميعاً)؟
الجواب
تعني: ثلاث حيضات متوالية في ثلاثة أشهر، أي: إذا كانت تحيض كل شهر فلها أن تصلي في ذلك الثوب إذا لم تصبه نجاسة.(55/38)
إعراب كلمة (لتصل)
السؤال
ما إعراب كلمة (لتصل)؟
الجواب
اللام لام الأمر، و (تصل) فعل مضارع معتل مجزوم بلام الأمر وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وأصل الفعل (تصلي) فجزم بحذف حرف العلة.(55/39)
عدم اشتراط استعمال شيء آخر مع الماء في إزالة دم الحيض
السؤال
هل يشترط في إزالة دم الحيض استعمال شيء كالأشنان أو غيره، أم يكفي استعمال الماء؟
الجواب
لا يشترط، بل يكفي استعمال الماء، وإن استعمل معه شيئاً آخر جاز، مثل السدر مع الماء، كما في حديث أم قيس، حتى وإن بقي الأثر، لكن يشترط ذهاب العين، وإذا استُعمِل مع الماء شيء آخر فلا بأس.
والله تعالى أعلم.(55/40)
شرح سنن أبي داود [056]
من الأحكام المتعلقة بأفعال المكلفين: حكم صلاة الرجل في ثياب أهله من اللحف والشُعُر، وكذلك صلاته في ثوب وقع فيه مني، وكيفية إزالة القذر الحاصل من المني، وغير ذلك من الأحكام التي ينبغي للمسلم علمها ومعرفتها.(56/1)
الصلاة في الثوب الذي يصيب أهله فيه(56/2)
شرح حديث أم حبيبة في صلاة النبي في الثوب الذي يجامع فيه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: الصلاة في الثوب الذي يصيب أهله فيه.
حدثنا عيسى بن حماد المصري، أخبرنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سويد بن قيس عن معاوية بن خديج، عن معاوية بن أبي سفيان (أنه سأل أخته أم حبيبة رضي الله عنهم أجمعين زوج النبي صلى الله عليه وسلم هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: يصلي في الثوب الذي يجامعها فيه؟ فقالت: نعم، إذا لم ير فيه أذى)].
ذكر في السند معاوية بن خديج بالخاء والصواب أنه معاوية بن حديج بالحاء المهملة.
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب: الصلاة في الثوب الذي يصيب أهله فيه].
أي صلاة الرجل في الثوب الذي يجامع أهله فيه هل يسوغ ذلك أو لا يسوغ؟ ومقتضى هذه الترجمة أنه إن كان هناك أذى في ذلك الثوب الذي يجامع المرء أهله فيه من نجاسة فإنه يجب غسل النجاسة، وإن كان فيه مني فإن كان يابساً فإنه يفرك، وإن كان رطباً فإنه يغسل حتى يذهب المنظر غير الحسن، وليس ذلك الغسل للنجاسة، وإنما لذهاب المنظر الذي يستساغ كالبصاق، فإن البصاق طاهر ولكن وجوده على الثوب غير حسن، فإنه يزال حتى لا يبقى له أثر.
والحاصل أن الثوب الذي يجامع الرجل أهله فيه إن كان فيه نجاسة فإنه يجب إزالتها، وإن كان الذي فيه منياً فإن كان يابساً فإنه يفرك ويكفي ذلك، وإن كان رطباً فإنه يغسل حتى يزول ذلك الذي يرى، ورؤيته غير مستساغة، هذا هو الذي يدخل تحت الترجمة.
أورد أبو داود رحمه الله حديث أم حبيبة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها أن أخاها معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه سألها: (هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في الثوب الذي يجامعها فيه؟ قالت: نعم.
إذا لم يكن به أذى).
يعني: أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي فيه إذا لم يكن به أذى، والأذى يحتمل النجاسة ويحتمل أن يكون منياً، والمني يفرك إن كان يابساً ويغسل إن كان رطباً، وأما إذا كان عليه شيء غير ذلك مما يجب غسله فإنه لابد من الغسل.
والحاصل أن كلمة الأذى هذه التي في الحديث إن كان المراد بها شيئاً غير المني مما يجب التطهر منه، فإنه يجب غسله، أما إن كان منياً فإنه إن كان يابساً فإنه يفرك، وإن كان رطباً فإنه يغسل، لا لنجاسته، ولكن لإزالة المنظر الذي لا يحسن النظر إليه، والذي هو نظير البصاق والمخاط الذي يكون على ثوب الرجل، فإن تركه على هذه الهيئة غير مستساغ، بل عليه أن يزيله وأن يغسل ذلك الذي على ثوبه من المني، فالحكم في ذلك أن الرجل إذا جامع أهله في ثوب فإن كان ذلك الثوب لا نجاسة فيه فإنه لا يجب غسله.(56/3)
تراجم رجال إسناد حديث أم حبيبة في صلاة النبي في الثوب الذي يجامع فيه
قوله: [حدثنا عيسى بن حماد المصري].
هو عيسى بن حماد المصري التجيبي، وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[أخبرنا الليث].
هو الليث بن سعد المصري، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يزيد بن أبي حبيب].
هو يزيد بن أبي حبيب المصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سويد بن قيس].
هو سويد بن قيس المصري، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن معاوية بن حديج].
معاوية بن حديج صحابي صغير، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن معاوية بن أبي سفيان].
هو معاوية بن أبي سفيان أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[أنه سأل أخته أم حبيبة].
هي أم المؤمنين رملة بنت أبي سفيان رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.(56/4)
مكانة وفضل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه
هذا الإسناد فيه ثلاثة من الصحابة يروي بعضهم عن بعض: معاوية بن حديج، وهو صحابي صغير يروي عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، ومعاوية يروي عن أخته أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وأرضاها.
ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنه هو أحد الأئمة الاثني عشر الذين قال فيهم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: (لا يزال أمر الإسلام عزيزاً ما وليهم اثنا عشر خليفة) أو (لا يزال الإسلام عزيزاً ما ولي الناس اثنا عشر خليفة)، فهو أحد الخلفاء الذين يدخلون تحت هذا الحديث، وهؤلاء الخلفاء الاثنى عشر هم من قريش، وللعلماء كلام في الثناء عليه وبيان منزلته وأنه لا يجوز التعرض له بسوء، وقد قيل لـ عبد الله بن المبارك: ماذا تقول في معاوية بن أبي سفيان فقال: ماذا أقول في رجل صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام في الصلاة: (سمع الله لمن حمده)، فقال معاوية وراءه: (ربنا ولك الحمد).
فهذا شيء ما حصل إلا للصحابة، و (سمع) بمعنى (استجاب)، فهذا ثناء على معاوية رضي الله عنه وأرضاه لكونه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو -أيضاً- ممن كتبوا الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في صحيح مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ابن عباس أن يدعو له معاوية، فذهب إليه فوجده يأكل، ثم أرسله إليه مرة أخرى فجاء وأخبره بأنه يأكل، فقال عليه الصلاة والسلام: لا أشبع الله بطنه)، وهذا الدعاء هو في الحقيقة دعاء له وليس دعاء عليه؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم! من دعوت عليه بدعوة ليس لها بأهل فأبدل ذلك له رحمة وزكاء).
والإمام مسلم رحمه الله أورد هذا الحديث بعد الأحاديث التي هي من هذا القبيل، والتي تتعلق بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم على أشخاص لا يريد الدعاء عليهم وإنما هو دعاء لهم، ومن تلك الأحاديث التي أوردها الحديث الذي فيه: (أن أم سليم أرسلت يتيمة عندها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد رآها وهي صغيرة، ثم إنه رآها تلك المرة وقد كبرت، فلما رآها قال: أنت هي؟ لا كبرت سنك.
فانطلقت تلك اليتيمة إلى أم سليم تبكي لأن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا عليها وقال فيها هذه المقالة، فجاءت أم سليم مسرعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما لك يا أم سليم؟ قالت: إنك دعوت على يتيمتي فقلت كذا.
فقال عليه الصلاة والسلام: أما علمت يا أم سليم -أنني اشترطت على ربي وقلت: اللهم! من دعوت عليه بدعوة ليس لها بأهل فأبدل ذلك له رحمة وزكاء)، ولما ذكر مسلم رحمه الله هذا الحديث عقبه مباشرة بحديث: (لا أشبع الله بطنه).
فيكون من هذا القبيل، وعلى هذا فإن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على معاوية بن أبي سفيان كان دعاءً له وليس دعاء عليه، وهذا من حسن تنظيم مسلم وترتيبه لصحيحه، وأنه يضع الحديث في مكانه المناسب، ولهذا فقد وضع هذا الحديث في هذا المكان المناسب الذي هو في الحقيقة يعتبر دعاء لـ معاوية وليس دعاء عليه رضي الله تعالى عنه وأرضاه.(56/5)
الصلاة في شعر النساء(56/6)
شرح حديث: (كان رسول الله لا يصلي في شعرنا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: الصلاة في شعر النساء.
حدثنا عبيد الله بن معاذ، حدثنا أبي، حدثنا الأشعث، عن محمد بن سيرين، عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلي في شُعُرنا أو في لُحُفنا) قال عبيد الله: شك أبي].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة، وهي الصلاة في شُعُر النساء، والشُعُر: جمع شعار، وهي الثياب التي تلي الجسد، والدثار هو الثوب الذي وراءه.
إذاً: الشعار يكون بين الجسد وبين الدثار، ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم لما توفيت ابنته زينب أعطى من يغسلنها شعاره وقال: (أشعرنها إياه) فأعطاهن ثوبه الذي كان يلي جسده ليجعلنه مما يلي جسدها.
وفي الحديث: (أن الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم في غزوة حنين لما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم ولم يعطهم شيئاً من الغنائم وجدوا في أنفسهم، فجمعهم النبي صلى الله عليه وسلم وتكلم فيهم وأثنى عليهم، وكان مما قاله عليه الصلاة والسلام: لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس وادياً لسلكت وادي الأنصار وشعبها، الأنصار شعار والناس دثار) قوله: (الأنصار شعار) يعني: أنهم في قربهم منه كقرب الشعار من جسد الإنسان.
وقوله: (والناس دثار) يعني الثوب الذي وراء الشعار.
والحاصل أن شُعُر النساء جمع شعار، ككتب وكتاب، فالمفرد شعار والجمع شُعُر، كالكتاب والكتب، فالكتاب مفرد والكتب جمع.
والترجمة معقودة في عدم الصلاة في شعر النساء؛ لأن الأحاديث التي أوردها أنه لا يصلى فيها، حيث قالت عائشة: (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلي في شعرنا أو في لحفنا) والشك هو من معاذ والد عبيد الله في الإسناد، حيث قال: (شعرنا، أو لحفنا) واللحاف هو الذي يكون فوق الشعار غالباً، أي: ما يلتحف به ويكون فوق الشعار، وقد يلتحف الإنسان بالشعار الذي يلي جسده.
والجمع بين أحاديث النهي عن الصلاة في شعر النساء وأحاديث الجواز هو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي في شعر نسائه إذا كان فيها شيء من الأذى، بأن يكون فيها شيء من دم الحيض أو شيء من النجاسة، فعدم الصلاة فيها لما قد يكون فيها من أذى، أما إذا تحقق من أنها نظيفة وأنه ليس فيها شيء من النجاسات فإنه يصلى فيها؛ لأنه سيأتي في بعض الأحاديث في الترجمة التي بعدها ما يدل على جواز ذلك، وعلى هذا فيجمع بين الأحاديث التي فيها الصلاة في اللحف والشعر بأنه لم يكن فيها شيء من النجاسة، والنهي والامتناع من الصلاة فيها إذا كان فيها شيء من النجاسة.(56/7)
تراجم رجال إسناد حديث: (كان رسول الله لا يصلي في شعرنا)
قوله: [حدثنا عبيد الله بن معاذ].
هو عبيد الله بن معاذ بن معاذ العنبري، ثقة، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا أبي].
أبوه هو معاذ بن معاذ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الأشعث].
هو الأشعث بن عبد الله.
وقيل: هو الأشعث بن عبد الملك الحمراني، لكني رأيت في تهذيب التهذيب في ترجمة أشعث بن عبد الله الحداني أنه روى عنه معاذ بن معاذ وروى هو عن محمد بن سيرين، فإذا كان الحمراني أيضاً روى عنه معاذ بن معاذ فإنه يحتمل الاثنين.
فيحتمل أن يكون المراد أشعث بن عبد الله الحداني الذي روى عنه معاذ بن معاذ، وروى هو عن محمد بن سيرين، ويحتمل أن يكون أشعث بن عبد الملك الحمراني، والحمراني ثقة، وأشعث بن عبد الله الحداني صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
[عن محمد بن سيرين].
محمد بن سيرين ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن شقيق].
هو عبد الله بن شقيق العقيلي، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عائشة].
هي عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق التي أنزل الله براءتها مما رميت به من الإفك في آيات تتلى من سورة النور، وهي من حفظة السنة وأوعيتها، وهي أحد سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(56/8)
شرح حديث: (أن النبي كان لا يصلي في ملاحفنا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي، حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد، عن هشام، عن ابن سيرين عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي في ملاحفنا)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث عائشة: (كان النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي في ملاحفنا) والملاحف هي اللحف التي يلتحف بها في النوم على الفراش، فكان لا يصلي إذا كان فيها شيء، أما إذا لم يكن فيها شيء فإنه يصلي فيها كما سيأتي.(56/9)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن النبي كان لا يصلي في ملاحفنا)
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
هو الحسن بن علي الحلواني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا سليمان بن حرب].
سليمان بن حرب، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن زيد؛ لأن حماد بن زيد هو الذي روى عن سعيد بن أبي صدقة، وحماد ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام] هو هشام بن حسان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن سيرين] ابن سيرين مر ذكره.
[عن عائشة].
قد مر ذكرها.
إذاً: فـ هشام بن حسان روى عن محمد بن سيرين، وحماد بن زيد وحماد بن سلمة كلاهما يرويان عن هشام بن حسان، ويروي عنهما سليمان بن حرب، ولكن سعيد بن أبي صدقة الذي سيأتي في كلام أبي داود بعد ذلك لم يرو عنه إلا حماد بن زيد.
إذاً: هذا الرجل المبهم هو حماد بن زيد، وحماد بن زيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(56/10)
رواية سعيد بن أبي صدقة لحديث: (أن النبي كان لا يصلي في ملاحفنا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال حماد: وسمعت سعيد بن أبي صدقة قال: سألت محمداً عنه فلم يحدثني، وقال: سمعته منذ زمان، ولا أدري ممن سمعته ولا أدري أسمعته من ثبت أو لا، فسلوا عنه.
].
ثم قال حماد: وسمعت سعيد بن أبي صدقة يقول: سألت محمداً عنه يعني محمد بن سيرين؛ لأن حماد بن زيد رواه في الطريق الأولى عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين، وأن محمد بن سيرين رواه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقول سعيد بن أبي صدقة: سألت محمداً عنه فلم يحدثني، وقال: سمعته منذ زمان، ولا أدري ممن سمعته، ولا أدري أسمعته من ثبت أو لا، فسلوا عنه.
أي: سلوا عن هذا الحديث غيري.
ومعناه أنه من طريق سعيد بن أبي صدقة لا يذكر شيئاً، ولكنه من طريق هشام بن حسان -وهو من أخص أصحاب محمد بن سيرين - رواه عنه مسنداً.
وقوله: [وسمعت سعيد بن أبي صدقة].
هو سعيد بن أبي صدقة، ثقة، أخرج حديثه أبو داود وابن ماجة في التفسير.(56/11)
الرخصة في الصلاة في شعر النساء(56/12)
شرح حديث: (أن النبي صلى وعليه مرط وعلى بعض أزواجه منه وهي حائض)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: في الرخصة في ذلك.
حدثنا محمد بن الصباح بن سفيان، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق الشيباني، سمعه من عبد الله بن شداد يحدثه عن ميمونة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى وعليه مرط، وعلى بعض أزواجه منه وهي حائض، وهو يصلي وهو عليه)].
أورد أبو داود رحمه الله [باب: في الرخصة في ذلك].
يعني: في جواز الصلاة في شُعُر النساء؛ لأن ذلك يرجع إلى الترجمة السابقة، وهي الصلاة في شعر النساء، وأورد حديثين في الترجمة السابقة في أنه كان لا يصلي فيها، ثم أورد أحاديث في هذه الترجمة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصلي في الشيء الذي يمس جسد المرأة وهي حائض، فأورد فيه حديث ميمونة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى وعليه مرط) والمرط هو ثوب يكون للرجل ويكون للمرأة.
وقولها: (وعلى بعض أزواجه منه وهي حائض، وهو يصلي وهو عليه) معناه أنه إذا سجد يكون على جسدها وهي حائض شيء من ذلك الثوب الذي يصلي فيه، فهذا يدل على أن الشيء إذا علم أنه لا نجاسة فيه فإنه يصلى فيه حتى ولو وقع ذلك الثوب على جسد المرأة الحائض؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد يقع جزء من المرط الذي يصلي فيه على جسد امرأته وهي حائض، فدل على أن ملامسة الثياب لجسد المرأة وهي حائض لا يؤثر؛ لأنها طاهرة، والحيضة في فرجها وليست في يدها وليست في جسدها، فغير مكان النجاسة طاهر، إلا إذا وقع عليه نجاسة، وإلا فالأصل طهارته، ولهذا سبق أن مر في أحاديث المضاجعة والمخالطة والمباشرة للحائض أن ذلك لا يضر، فكونه يتصل جسده بجسدها لا مانع منه، وإنما الممنوع هو الجماع للحائض في فرجها، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح).
فكونه صلى الله عليه وسلم يصلي في ذلك الثوب ومنه جزء على جسد المرأة وهي بجواره فهذا يدل على أن الممنوع ما إذا كان هناك نجاسة في الثوب الذي يكون على جسد المرأة، سواء أكان شعاراً أم لحافاً، وأنه إذا لم يكن فيه نجاسة فإنه يكون طاهراً ويصلى فيه.(56/13)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن النبي صلى وعليه مرط وعلى بعض أزواجه منه وهي حائض)
قوله: [حدثنا محمد بن الصباح بن سفيان].
محمد بن الصباح بن سفيان صدوق، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[حدثنا سفيان].
هو سفيان بن عيينة، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي إسحاق الشيباني].
أبو إسحاق الشيباني هو سليمان بن أبي سليمان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعه من عبد الله بن شداد].
هو عبد الله بن شداد الليثي، وهو ثقة، ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من كبار ثقات التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ميمونة].
هي ميمونة بنت الحارث الهلالية أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، وحديثها عند أصحاب الكتب الستة.(56/14)
شرح حديث عائشة: (كان رسول الله يصلي بالليل وأنا إلى جنبه وأنا حائض)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا وكيع بن الجراح، حدثنا طلحة بن يحيى، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل وأنا إلى جنبه وأنا حائض وعلي مرط لي وعليه بعضه)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث عائشة، وهو مثل حديث ميمونة المتقدم، ومعنى ذلك أنه كان على الرسول صلى الله عليه وسلم شيء من المرط الذي على جسد أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها.(56/15)
تراجم رجال إسناد حديث عائشة: (كان رسول الله يصلي بالليل وأنا إلى جنبه وأنا حائض)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا وكيع بن الجراح].
هو وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا طلحة بن يحيى].
هو طلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله، وهو صدوق يخطئ، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة].
هو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وهو من الستة المتفق على عدهم في الفقهاء السبعة، وهم: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وعروة بن الزبير بن العوام، وخارجة بن زيد بن ثابت، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وسعيد بن المسيب هؤلاء الستة متفق على عدهم في الفقهاء السبعة، والسابع اختلف فيه على ثلاثة أقوال: فقيل: إن السابع هو سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب.
وقيل: إن السابع هو أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام.
وقيل: السابع هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف.
[عن عائشة].
عائشة مر ذكرها.(56/16)
حكم المني يصيب الثوب(56/17)
شرح حديث عائشة: (لقد رأيتني وأنا أفركه من ثوب رسول الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: المني يصيب الثوب.
حدثنا حفص بن عمر عن شعبة عن الحكم عن إبراهيم عن همام بن الحارث (أنه كان عند عائشة رضي الله عنها فاحتلم، فأبصرته جارية لـ عائشة وهو يغسل أثر الجنابة من ثوبه -أو يغسل ثوبه-، فأخبرت عائشة رضي الله عنها فقالت: لقد رأيتني وأنا أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم).
قال أبو داود: ورواه الأعمش كما رواه الحكم].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة، وهي: [باب: المني يصيب الثوب]، يعني: ما حكم ذلك؟ هل يحتاج إلى تطهير أو لا يحتاج إلى تطهير؟ والواقع أن المني طاهر وليس بنجس، والدليل على طهارته أن عائشة رضي الله عنها كانت تفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصلي فيه، ولو كان غير طاهر لما كفى الفرك؛ لأن الفرك يمكن أن يزيل ما له جسم وجرم، ولو كان غير طاهر مثل دم الحيض يكون على ثوب الحائض فإنها تفركه وتحكه ثم بعد ذلك لابد من غسله؛ لأن الحك والفرك من أجل التخفيف بالنسبة لدم الحائض الذي يكون على الثوب، وأما المني فإنه يفرك فقط ولا يغسل، ففركه وعدم غسله دليل على طهارته؛ لأن النجاسة لا يطهرها الفرك، وإنما الفرك يخفف إذا كان هناك جرم أو شيء شاخص بارز، فإنه يتساقط بالفرك وبالحك، ولكن لابد من الغسل، فلما كانت تكتفي بالفرك دل ذلك على طهارته وأن الغسل ليس بواجب.
وأورد فيه حديث عائشة رضي الله عنها أن همام بن الحارث النخعي الكوفي كان عند عائشة، وأنه احتلم، ورأته جارية لـ عائشة يغسل ثوبه أو يغسل منياً من ثوبه، فأخبرت عائشة بذلك، فحدثت عائشة رضي الله عنها بهذا الحديث، وهو أنها كانت تفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي أن غسله ليس بلازم، ولكنه يغسل إذا كان رطباً حتى يزول الأثر الذي لا يستحسن النظر إليه، أما إن كان يابساً فإنه يفرك ويكفي ذلك، وإذا كان له أثر أو تبين أنه شيء يستقذر فإنه يغسل، لا لنجاسته، ولكن لذهاب الشيء الذي يستقذر، مثل البصاق الذي يكون على الثوب، فالمنظر إليه غير مستساغ، ولكنه ليس بنجس، فهو يزال من أجل إذهاب الشيء الذي يستقذر حال إليه.(56/18)
تراجم رجال إسناد حديث عائشة: (لقد رأيتني وأنا أفركه من ثوب رسول الله)
قوله: [حدثنا حفص بن عمر].
هو حفص بن عمر بن الحارث بن سخبرة النمري الحوضي، ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والنسائي.
[عن شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، وهو ثقة، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن الحكم].
هو الحكم بن عتيبة الكندي الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إبراهيم].
هو إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن همام بن الحارث].
هو همام بن الحارث النخعي الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أنه كان عند عائشة].
عائشة مر ذكرها.
قوله: [قال أبو داود: رواه الأعمش كما رواه الحكم].
يعني: رواه عن إبراهيم الأعمش كما رواه عن إبراهيم الحكم.(56/19)
شرح حديث: (كنت أفرك المني من ثوب رسول الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصلي فيه).
قال أبو داود: وافقه مغيرة وأبو معشر وواصل.
].
أورد أبو داود رحمه الله حديث عائشة من طريق أخرى وهو مثل الذي قبله: (كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصلي فيه) أي: كانت تكتفي بالفرك ولا تغسل، وهو دليل على طهارة المني كما عرفنا.(56/20)
تراجم رجال إسناد حديث: (كنت أفرك المني من ثوب رسول الله)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن سلمة، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن حماد بن أبي سليمان].
حماد بن أبي سليمان صدوق له أوهام، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن إبراهيم].
إبراهيم مر ذكره.
[عن الأسود].
الأسود هو ابن يزيد بن قيس النخعي، ثقة مخضرم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
عائشة مر ذكرها.
قوله: [قال أبو داود: وافقه مغيرة].
هو المغيرة بن مقسم، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وأبو معشر].
وأبو معشر هو زياد بن كليب الكوفي، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[وواصل].
هو واصل بن حيان الأحدب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(56/21)
شرح حديث عائشة في غسل المني من ثوب النبي صلى الله عليه وسلم مع بقاء أثره
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي، حدثنا زهير.
ح: وحدثنا محمد بن عبيد بن حساب البصري، حدثنا سليم -يعني ابن أخضر المعنى، والإخبار في حديث سليم - قالا: حدثنا عمرو بن ميمون بن مهران قال: سمعت سليمان بن يسار يقول: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: (إنها كانت تغسل المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالت: ثم أرى فيه بقعة أو بقعاً)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث عائشة رضي الله عنها: (وأنها كانت تغسل المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وترى فيه بقعة أو بقعاً)، وهذا الغسل ليس للنجاسة، وإنما لإزالة الأثر الذي لا يناسب أن يرى في الثوب، وهو من آثار الجماع، وغسله -كما عرفنا- لا لأن المني نجس، ولكن لإزالة ذلك الأثر الطاهر كالبصاق والمخاط، لكون النظر إليه لا يستساغ، فغسله وإزالته أمر مطلوب، وقد جاء أنه يفرك يابساً ويغسل رطباً، فإذا كان رطباً فإنه يغسل حتى يذهب أثره، وإذا كان يابساً فإنه يفرك حتى يذهب أثره.
وقولها: (فأرى فيه بقعة أو بقعاً) أي: من أثر الغسل.(56/22)
تراجم رجال إسناد حديث عائشة في غسل المني من ثوب النبي مع بقاء أثره
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا زهير] هو زهير بن معاوية، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وحدثنا محمد بن عبيد بن حساب البصري].
محمد بن عبيد بن حساب البصري ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا سليم -يعني ابن أخضر -].
سليم بن أخضر ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
قوله: [المعنى].
يعني أن الحديثين معناهما واحد.
وهذه طريقة الإمام أبي داود رحمه الله عندما يذكر الحديث من طريقين أحياناً فيقول: المعنى.
وفي بعض الأحيان يقول: المعنى واحد.
وهنا زاد على كلمة المعنى قوله: [والإخبار في حديث سليم] يعني أن حديث سليم هو الذي فيه التصريح بالإخبار أو السماع، وليس فيه عنعنة، فهنا السياق على ما يظهر على رواية سليم فيه تحديث وسماع وليس فيه عنعنة، وليس فيه ألفاظ أخرى غير ما يفيد الاتصال وما يفيد السماع وما يفيد الإخبار.
فقوله: [والإخبار في حديث سليم] يعني: هذه الروايات كلها فيها الإخبار، والمقصود بالإخبار ما كان سماعاً أو تحديثاً، فكل واحد يقول: سمعت، أو: حدثني، أو أخبرني.
[قالا: حدثنا عمرو بن ميمون بن مهران].
عمرو بن ميمون بن مهران ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال: سمعت سليمان بن يسار].
سليمان بن يسار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين.
[يقول: سمعت عائشة].
عائشة مر ذكرها.
والله تعالى أعلم.(56/23)
الأسئلة(56/24)
حكم الإتيان بأذكار الصلاة بعد صلاة الجنازة أو بعد السنة
السؤال
هل يمكن أداء الأذكار التي تكون عقب الصلاة بعد صلاة الجنازة أو بعد ركعتي السنة، أم يشترط أن تكون عقب الصلاة مباشرة؟
الجواب
تكون عقب الصلاة مباشرة، وقبل أن يأتي الإنسان بالسنة، وأما الجنازة فإنها إذا أمكن أن يأتي بها قبلها فذاك، وإلا فإنه يصلي الجنازة ثم يكمل الأذكار؛ لأن الجنازة تفوت ويذهب وقت الصلاة عليها، ولأنه يصلى عليها ثم يذهب بها، وأما صلاة السنة فهي بيد الإنسان، فعندما يفرغ من الذكر يأتي بالسنة.(56/25)
حكم المرأة تقضي الصيام ثم تفطر بسبب المرض
السؤال
امرأة أفطرت من رمضان بسبب الحيض، وعند القضاء كانت صائمة يوماً فأفطرت في النهار بسبب ألم ضرسها وتناولت، الدواء فماذا عليها؟
الجواب
إذا كانت أفطرت في ذلك اليوم الذي صامته فإن عليها أن تقضي ذلك اليوم.(56/26)
سبب تسمية حمزة بسيد الشهداء ووجه ذلك
السؤال
لماذا سمي حمزة رضي الله عنه بسيد الشهداء؟
الجواب
معلوم أن حمزة أحد الشهداء، ولا شك في أنه سيد، والتسمية هذه لا أدري من أين جاءت، لكنه لا شك في أنه سيد، وأما كونه سيد الشهداء أو أنه أفضلهم أو كذا فلا أعلم له وجهاً، بل هناك من هو أفضل منه وهم شهداء كـ عمر وعثمان وعلي، وكلهم شهداء.
وأما حديث (سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله) فهو إن ثبت فالأمر كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن لا يعني ذلك تفضيله على الأربعة الخلفاء.(56/27)
حكم العمرة عن الوالد المتوفى وغيره
السؤال
هل تجوز تأدية العمرة عن والدي المتوفى؟
الجواب
يمكن للإنسان أن يعتمر عن والده أو غير والده إذا كان المعتمر قد اعتمر عن نفسه.(56/28)
حكم الاتكاء على الدواليب التي فيها المصاحف في المسجد
السؤال
ما حكم الاتكاء على الدواليب الموجودة في المسجد التي وضعت فيها المصاحف؟
الجواب
إذا اتكأ المرء على ظهور الدواليب فلا بأس بذلك، أما إذا اتكأ عليها من أمامها وكانت المصاحف وراءه مباشرة فالأولى أن لا يفعل ذلك.(56/29)
حكم دفع الزكاة للإخوة الذكور والإناث
السؤال
ما حكم إعطاء زكاة المال لإخواني الذكور والإناث ممن هم أكبر مني أو أصغر الذين لا أعولهم بل هم يعولون أنفسهم؟
الجواب
إذا كان عندهم ما يكفيهم وهم أغنياء فلا يجوز أن يعطوا من الزكاة، وإن كانوا فقراء وهم بحاجة إلى الزكاة فيعطوا من الزكاة، لكن ينبغي أن يعلم أن القريب له حق غير الزكاة، فلا يجعل الإنسان الزكاة وقاية لماله، بمعنى أنه يتخلص من الحقوق التي عليه للأقارب بإعطائهم الزكاة ويقول: إن الزكاة ستخرج، وإذا لم أعطهم من الزكاة فسأعطيهم من مالي، وبدلاً من أن أعطيهم من مالي أعطيهم من الزكاة.
أقول: ليس للإنسان أن يفعل ذلك، أما إذا كان المال قليلاً والزكاة قليلة فإعطاؤها للقريب إذا كان فقيراً محتاجاً أولى من إعطائها للبعيد.(56/30)
حكم من أدرك الإمام بعد التكبيرة الثانية في صلاة الجنازة
السؤال
رجل أدرك التكبيرة الثانية مع الإمام في صلاة الجنازة، فهل يقرأ الفاتحة أم الصلاة الإبراهيمية؟ وكيف يكون الإتمام؟
الجواب
الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) وهذا يشمل الجنازة، لكن إذا دخل بعد التكبيرة الثانية التي هي محل الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم وأمكنه أن يقرأ الفاتحة والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا هو الذي ينبغي؛ لأن قراءة الفاتحة وقراءة الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم قبل الدعاء المقصود منهما أنهما من أسباب قبول الدعاء؛ لكونه يسبق بحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا تمكن من أن يأتي بالحمد والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم فليفعل، وإذا لم يمكن إلا الدعاء فإنه يصار إلى الدعاء؛ لأن الدعاء هو الأصل، وصلاة الجنازة ما شرعت إلا من أجل الدعاء.
أما إذا كان سيقرأ الحمد والصلاة على الرسول ويفوته الدعاء فليقرأ الدعاء ولو فات الحمد والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن المقصود من الصلاة هو الدعاء للميت.(56/31)
المقصود بالثوب الذي يجامع فيه المرء زوجته
السؤال
ما المقصود بالثوب الوارد ذكره في الحديث الذي كان يجامع فيه النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
يمكن أن يكون المراد به الثوب الذي يكون على جسده، ويمكن أن يراد به الثوب الذي يلتحفان به، كل ذلك يقال له: ثوب؛ لأن الثوب ليس المقصود به القميص، بل القطعة من القماش يقال لها: ثوب.(56/32)
حكم إطلاق لفظ (لوطي) على من يفعل فعل قوم لوط
السؤال
أنكر علينا بعض الإخوان إطلاقنا على من يفعل فعل قوم لوط بأنه لوطي، وقالوا: إن ذلك إساءة إلى نبي الله لوط عليه الصلاة والسلام.
فهل هذا الإنكار في مكانه؟
الجواب
لا أدري، لكن من المعروف أن ذلك الفعل يقال له: اللواط، والشخص يقال له: لوطي، نسبة إلى اللواط، وليس نسبة إلى لوط، وليس هو مضافاً إلى لوط، وإنما مضاف إلى قوم لوط وإلى فعل قوم لوط، لا أدري هل ينكر أو لا ينكر.(56/33)
حكم إلقاء نصيحة وكلمة في مناسبة العرس
السؤال
هل من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في مناسبة العرس إلقاء كلمة نصح عامة لأصحابه؟
الجواب
ما أعلم في ذلك شيئاً، لكن كون المرء يتكلم بنصيحة في مناسبة اجتماع الناس، وكونه يذكرهم بالخير لا بأس به، وما هناك مانع يمنع منه، لكن لا يقال: إن هذا سنة.
ولكنه من الأمور السائغة التي فيها تذكير للناس عند الحاجة إلى ذلك.(56/34)
حكم تحريك السبابة في التشهد في الصلاة
السؤال
هل ثبت تحريك السبابة في التشهد في الصلاة؟
الجواب
تحريك السبابة ثابت في التشهد عند قول: (أشهد أن لا إله إلا الله)، وعند ذكر الله عز وجل، مثل: (اللهم! صل على محمد)، (اللهم! بارك على محمد)، (اللهم! إني أعوذ بك من عذاب جهنم)، فيحركها ويدعو بها عند التشهد وعند الدعاء.(56/35)
حكم الدخول في البرلمانات
السؤال
ما حكم الدخول في البرلمان، بل زعم بعضهم أنه يجب على المسلمين الدخول في برلمان إحدى الدول الكافرة؟
الجواب
الدخول في هذه البرلمانات إذا كان يترتب عليه مضرة لا يجوز أبداً، ولا يجوز للمسلم أن يقدم على شيء فيه مضرة عليه في دينه أو مضرة على المسلمين، أما إذا كان الدخول فيها لا يلحق الإنسان فيه مضرة، وإنما يحصل فيه جلب خير للمسلمين أو دفع ضرر عن المسلمين فالعبرة بالمصالح والفوائد التي تترتب على ذلك، بشرط أن لا يلحق الإنسان ضرر في ذلك العمل.(56/36)
حكم تكرار العمرة من مكة
السؤال
أنا زائر من غير أهل المملكة، وأريد أن أعتمر عدة مرات وأنا في مكة، فهل يجوز ذلك لي؟
الجواب
ما أعلم شيئاً يدل على ذلك، فكونه يتردد بين التنعيم وبين الكعبة ما نعلم شيئاً يدل على هذا الفعل الذي هو التردد، لكن لو أنه جاء من المدينة أو خرج خارج المواقيت ورجع إلى مكة مرة أخرى فله أن يعتمر.(56/37)
حد النفاس الأدنى والأعلى وحكمه
السؤال
هل هناك حد أدنى وحد أعلى للنفاس؟
الجواب
النفاس له حد أعلى وهو أربعون يوماً، وليس له حد أدنى، فإذا طهرت المرأة في أي وقت وانقطع عنها الدم فإنها تعتبر طاهرة، وعليها أن تصلي وتصوم وتفعل الأفعال التي تفعلها الطاهرات، وأعلاه أربعون، بحيث إذا بلغ النفاس أربعين يوماً أو امتد إلى الأربعين فهو نفاس، وإذا تجاوزها فإنه دم فساد.(56/38)
حكم صلاة المذاء في ثوب النوم
السؤال
هل للمذاء أن يصلي في ثوب النوم؟
الجواب
إذا كان ثوب النوم فيه مذي فليس له أن يصلي فيه؛ لأن المذي نجس، ولا يصلى في ثوب نجس، فإذا كان ثوبه وقع عليه مذي وهو يعلم أنه لا يسلم من المذي لكونه مذاء كثير المذي فإنه لا يجوز له أن يصلي فيه.(56/39)
حكم الوضوء للمستحاضة قبل دخول وقت الصلاة بشيء يسير
السؤال
هل للمستحاضة أن تتوضأ قبل دخول الوقت بشيء يسير، خاصة إذا كان يشق عليها أحياناً الوضوء بعد دخول الوقت؟
الجواب
ليس لها أن تتوضأ إلا إذا دخل الوقت، وكيف يشق عليها بعد دخول الوقت ولا يشق عليها قبله؟(56/40)
حكم السباحة للمرأة في بيتها
السؤال
ما حكم ممارسة المرأة للسباحة إذا كان المسبح في بيتها مستوراً؟
الجواب
لا بأس إذا كانت المرأة في مسبح لا يراها فيه أحد، ولا ما نع من ذلك.(56/41)
حكم أخذ المني من الزوج بالحقن ووضعه في رحم زوجته
السؤال
في بعض المستشفيات الآن يستخدمون الحقن في التوليد، وذلك بأن يؤخذ المني من الرجل عن طريق الحقنة ونحقن به زوجته، وذلك لأن بعض النساء لا يلدن، أو عندهن صعوبة في الولادة، فهل هذا العمل جائز؟
الجواب
إذا كان محققاً أن هذا من الرجل وهذا من المرأة، وأنه ليس شيئاً من رجل آخر أو من امرأة أخرى فجائز، لكن الشبهة قائمة؛ لأنه يمكن أن يؤتى بالمني من رجل آخر ويجمع مثلاً في هذه الأنبوبة، وفي النفس منه شيء، فالأولى الابتعاد عنه وتركه والاعتماد على الله عز وجل وسؤاله أن يحقق للإنسان ما يريد بغير هذه الطريقة؛ لأن المسألة فيها ريبة، ومن يضمن أن هذا الماء من الرجل الذي هو الزوج وأنه لم يكن من رجل آخر، لاسيما مع قلة الأمانات عند كثير من الناس؟! والله تعالى أعلم.(56/42)
شرح سنن أبي داود [057]
جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يرش من بول الصبي الذي لم يأكل الطعام، ويغسل من بول الجارية، وإذا وقع البول على الأرض فإنه يطهر بالمكاثرة وصب الماء عليه حتى تذهب النجاسة.(57/1)
حكم بول الصبي إذا أصاب الثوب(57/2)
شرح حديث: (فأجلسه رسول الله في حجره فبال على ثوبه، فدعا بماء فنضحه ولم يغسله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: بول الصبي يصيب الثوب.
حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي، عن مالك، عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن أم قيس بنت محصن رضي الله عنها: (أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجره، فبال على ثوبه، فدعا بماء فنضحه ولم يغسله)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله: [باب في بول الصبي يصيب الثوب] يعني: ماذا يصنع فيه؟ وكيف يتم تطهيره من هذا البول الذي وقع عليه؟ وحكم بول الصبي حين يقع على الإنسان أنه يطهر بالرش وبالنضح، ولا يحتاج إلى أن يغسل كما تغسل النجاسات؛ فإنه جاء التخفيف في إزالة هذه النجاسة، وقد جاء في عدة أحاديث، منها حديث أم قيس بنت محصن الأسدية رضي الله تعالى عنها: (أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجلسه النبي صلى الله عليه وسلم في حجره فبال على ثوبه، فدعا بماء فنضحه ولم يغسله) أي أنه رشه رشاً ولم يغسله غسلاً، وهذا فيه تخفيف على الناس في التطهر من بول الغلام، وأنه يكون بهذا الوصف الذي هو الرش والنضح، ولا يلزم فيه أن يغسل وأن يدلك ويعصر كما يفعل بالنجاسات الأخرى، وكما يكون في بول الجارية الصغيرة، فإنها تختلف عن الصبي في ذلك الحكم، كما سيأتي في الأحاديث: (أنه يرش من بول الغلام ويغسل بول الجارية).
وهذه المسألة من المسائل التي يفترق الذكور والإناث فيها، والأصل هو التساوي في الأحكام بين الذكور والإناث إلا فيما جاءت به الشريعة من التفريق بين الذكور والإناث، فإنه عند ذلك يصار إلى التفريق الذي جاء في بعض المسائل، ومن ذلك هذه المسألة، وهي تطهير بول الصبي والصبية، فإن الصبي يرش بوله والصبية يغسل بولها.
ولقد ذكرت جملة من الفوائد المنتقاة من فتح الباري وكتب أخرى من المسائل التي يفترق فيها الذكور والإناث، ولم أعز هذه المسألة إلى كتاب، وهي المسألة الوحيدة التي لم تعز، وذلك لأنها مسائل مجمعة فيما يتعلق في الفرق بين الذكور والإناث، وليست مأخوذة من كتاب معين، ولكنني جمعتها في أوقات مختلفة وفي مناسبات مختلفة، فجمعت بعضها إلى بعض وأودعتها في ذلك الكتاب غير معزوة إلى كتاب، بخلاف المسائل الأخرى، وهي مسائل عديدة يختلف فيها الرجال عن النساء، أو يختلف فيها الذكور عن الإناث.(57/3)
رش بول الصبي ونضحه مالم يأكل طعاماً
قوله: [عن أم قيس بنت محصن رضي الله عنها: (أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجره، فبال على ثوبه فدعا بماء فنضحه ولم يغسله)].
هذا التقييد بقوله: (لم يأكل الطعام) يفيد أنه صغير، وأنه إذا أكل الطعام يختلف الحكم، ولهذا سيأتي في بعض الأحاديث: (ما لم يطعم) أي: ما لم يأكل الطعام.
إذاً: مادام أنه يتغذى باللبن ولم يتغذ بالطعام فإنه يرش من بوله، وأما إذا أكل الطعام فإنه يغسل، وأما الجارية فإنه يغسل بولها أكلت الطعام أو لم تأكل، كذلك الصبي إذا أكل الطعام فإنه يتساوى حكمه مع الأنثى فيغسل بوله غسلاً ولا ينضح نضحاً.
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يأتون بأولادهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحنكهم، وذلك بأن يمضغ تمرة ثم يخرجها إذا تفتت وذابت فيجعلها في حنك الصبي ويدلكه بها، فيصل إلى جوفه تلك الحلاوة، وتكون هذه الثمرة مما مسه جسد الرسول صلى الله عليه وسلم ومما اختلط بلعابه صلى الله عليه وسلم، وكانوا يتبركون بلعابه وبتحنيكه للصبيان، ويتبركون بشعره، ويتبركون بفضل وضوئه، ويتبركون ببصاقه ومخاطه صلى الله عليه وسلم، لكن هذا خاص به عليه الصلاة والسلام، فلا يذهب إلى أحد ليحنك من أجل التبرك به، وإنما الرجل يحنك ولده والمرأة تحنك ولدها، ولكن لا يذهب إلى أحد من أجل تحصيل بركة ريقه؛ لأن هذا خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأنهم لم يكونوا بعد ذلك يذهبون إلى أبي بكر أو عمر أو عثمان وعلي، وهم خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدل صنيع الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم على أن هذا يخصه، ولا يكون لغيره من الناس، كما كانوا يتبركون بشعره إذا حلق، وكذلك ببصاقه وبمخاطه وبعرقه وبفضل وضوئه صلى الله عليه وسلم، فهذا من خصائصه.
وأما قول الإمام النووي عليه رحمة الله: فيه استحباب التبرك بأهل الفضل فغير صحيح؛ لأن التبرك بشخص النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي ثبت، وأما غيره فلا.
ولهذا ذكر الشاطبي في كتابه (الاعتصام) بأن كون الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لم يفعلوا ذلك مع أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على أن هذا العمل إنما هو خاص به صلى الله عليه وسلم، ولا يتعداه إلى غيره؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ما مس جسده فهو مبارك، وقد جاء ما يدل عليه، ولم يأت شيء يدل على أن يعامل غيره بهذه المعاملة.(57/4)
فوائد الحديث
في هذا الحديث كمال خلقه صلى الله عليه وسلم ولطفه بالصبيان وحمله لهم وإجلاسهم في حجره صلى الله عليه وسلم.
وفيه -أيضاً- ما ترجم له المصنف من أنه يرش من بول الغلام، وأنه لا يحتاج إلى أن يغسل، ولكن هذا في حالة كونه لم يطعم الطعام ولم يتغذ بالطعام، فإذا تغذى بالطعام فإنه يغسل بوله كما يغسل بول غيره، وإنما خص الذكور دون الإناث لكثرة افتتان الرجال بهم، وكونهم يكونون معهم ويصطحبونهم ويحصل منهم ذلك البول على ثيابهم، فخفف التطهير لتلك النجاسة، وليس الرش لبول الغلام لأنه ليس بنجس، بل هو نجس، ولكنه خفف في إزالة تلك النجاسة لكثرة اصطحاب أو احتكاك أو اختلاط أو حمل الرجال للأطفال من الذكور، حيث يحصل منهم وقوع مثل هذه النجاسة، فجاءت الشريعة مخففة لتطهيرها بأن ترش رشاً ولا يحتاج فيها إلى أن تغسل.(57/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (فأجلسه رسول الله في حجره فبال على ثوبه، فدعا بماء فنضحه ولم يغسله)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي].
عبد الله بن مسلمة القعنبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة، الإمام المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
ابن شهاب هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ثقة فقيه، وهو الذي كلفه عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه بأن يدون السنة وأن يدون الحديث، وهذا التدوين باعتبار التكليف من ولي الأمر، وإلا فإن التدوين بالجهود الفردية والشخصية وعمل الأفراد كان موجوداً في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث كان بعض الصحابة يكتب الحديث، كما جاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه كان يكتب، وغيره كذلك كان يكتب، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (اكتبوا لـ أبي شاه) يعني الحديث الذي حدث به وسمعه وأراد أن يكتب له، فقد كانوا يكتبون.
ولكن الزهري دون الحديث بتكليف من ولي الأمر عمر بن عبد العزيز رحمة الله، ولهذا يقول السيوطي في الألفية: أول جامع الحديث والأثر ابن شهاب آمراً له عمر.
يعني: بأمر عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه.
[عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود].
عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ثقة فقيه، من فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وهم: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود هذا، وعروة بن الزبير بن العوام، وخارجة بن زيد بن ثابت، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وسعيد بن المسيب، هؤلاء الستة متفق على عدهم في الفقهاء السبعة، والسابع فيه ثلاثة أقوال: قيل: السابع سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب.
وقيل: السابع أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف.
وقيل: السابع أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام.
وهؤلاء الفقهاء السبعة أطلق عليهم هذا اللقب، ولهذا في بعض المسائل التي يتفقون عليها يأتي ذكرهم بهذا اللقب، فيقال: هذه المسألة قال بها الفقهاء السبعة.
فبدل أن يقال: فلان وفلان وفلان يؤتى بهذه الكلمة لتغني عن عندهم؛ لأنها لقب لهم، ولهذا في بعض المسائل التي يحصل اتفاق عليها -مسألة زكاة عروض التجارة- يقولون: وهذه المسألة قال بها الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة.
فالأئمة الأربعة هم: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، والفقهاء السبعة هم هؤلاء الذين ذكرتهم، فـ عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود هذا هو من فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين.
[عن أم قيس بنت محصن الأسدية].
هي أخت عكاشة بن محصن الأسدي الصحابي المشهور الذي هو من السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما ذكر السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب قام عكاشة بن محصن فقال: (يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم.
فقال: أنت منهم.
فقام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم.
فقال: سبقك بها عكاشة) فـ عكاشة هذا هو أخو أم قيس، ولهذا فإن الشخص إذا كان مشهوراً ينسب إليه بعض أقاربه أو بعض من له به صلة حتى يعرف؛ لأنه قرن بمعروف وبمشهور.
وأم قيس بنت محصن الأسدية صحابية أخرج حديثها أصحاب الكتب الستة.(57/6)
شرح حديث: (كان الحسين بن علي في حجر رسول الله فبال عليه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد بن مسرهد والربيع بن نافع أبو توبة المعنى، قالا: حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن قابوس، عن لبابة بنت الحارث رضي الله عنها قالت: (كان الحسين بن علي رضي الله عنهما في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبال عليه، فقلت: البس ثوباً وأعطني إزارك حتى أغسله.
قال: إنما يغسل من بول الأنثى وينضح من بول الذكر)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث لبابة بنت الحارث الهلالية رضي الله تعالى عنها أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما، فأجلسه النبي صلى الله عليه وسلم في حجره -وكان صغيراً- فبال في حجره على إزاره، فقالت: البس ثوباً وأعطني إزارك لأغسله.
فقال عليه الصلاة والسلام: (إنما يغسل من بول الأنثى وينضح من بول الذكر) يعني: الجارية يغسل بولها دائماً وأبداً، وأما الصبي الذكر فإنه ما لم يطعم الطعام فإنه ينضح بوله نضحاً ويرش رشاً ولا يغسل، وهذا فيه تخفيف للتطهير ولإزالة النجاسة من بول الغلام، وهذا فيه التنصيص على التفريق بين الذكر والأنثى؛ لأن الذكر ما لم يطعم الطعام يرش من بوله، وأما الأنثى فإنها دائماً وأبداً أكلت الطعام أو لم تأكل يغسل بولها.(57/7)
تراجم رجال إسناد حديث: (كان الحسين بن علي في حجر رسول الله فبال عليه)
قوله: [حدثنا مسدد بن مسرهد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[والربيع بن نافع أبو توبة].
هو الربيع بن نافع أبو توبة الحلبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
قوله: [المعنى].
يعني: أن الألفاظ مختلفة في رواية مسدد وأبي توبة والمعنى واحد.
[حدثنا أبو الأحوص].
أبو الأحوص هو سلام بن سليم الحنفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سماك].
هو سماك بن حرب، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن قابوس].
هو قابوس بن مخارق، لا بأس به، أي: صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن لبابة بنت الحارث].
هي لبابة بنت الحارث الهلالية أخت ميمونة بنت الحارث الهلالية أم المؤمنين، وهي أم الفضل بن العباس وأم عبد الله بن عباس وزوجة العباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنهم وعن الصحابة أجمعين، وهي التي حجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، ولما كان الناس بعرفة وتماروا واختلفوا فقال بعضهم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم صائم في ذلك اليوم، ومنهم من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم مفطر، قالت لبابة: أنا أبين لكم هل هو صائم أو مفطر، فأخذت قدحاً من لبن، وقالت: ناولوه إياه.
وكان على ناقته صلى الله عليه وسلم، فأخذه وشرب والناس يرون، فعرف الناس أنه مفطر وليس بصائم صلى الله عليه وسلم، وهذا من ذكائها وفطنتها، حيث أرادت أن يعلم الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم صائم أو مفطر دون أن يُسأل هل هو صائم أو مفطر.
ولهذا فإن يوم عرفة لا يصومه الحجاج اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما غير الحجاج فإن صيامهم له هو خير التطوع وأفضل صيام التطوع؛ لأنه يكفر السنة الماضية والسنة الآتية، كما جاءت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولبابة بنت الحارث الهلالية أم الفضل رضي الله عنها وأرضاها حديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.(57/8)
شرح حديث: (يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مجاهد بن موسى وعباس بن عبد العظيم العنبري المعنى، قالا: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثني يحيى بن الوليد، حدثني محل بن خليفة، حدثني أبو السمح رضي الله عنه قال: (كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أراد أن يغتسل قال: ولني قفاك.
فأوليه قفاي فأستره به، فأتي بـ حسن أو حسين رضي الله عنهما فبال على صدره، فجئت أغسله، فقال: يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام) قال عباس: حدثنا يحيى بن الوليد.
قال أبو داود: وهو أبو الزعراء.
قال هارون بن تميم: عن الحسن قال: الأبوال كلها سواء].
أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي السمح خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله تعالى عنه وأرضاه، (أنه كان يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أراد أن يغتسل قال: (ولني قفاك) يعني: اصرف عني وجهك وولني قفاك.
وذلك ليستره حتى لا يُنظر إليه، وبهذا العمل يكون أبو السمح لا يراه؛ لأنه قد ولاه خلفه وقفاه، وأيضاً يستر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
قوله: (فجاء حسن أو حسين فبال على صدره، فجئت أغسله) -يعني: يغسل بول الحسن أو الحسين، فقال عليه الصلاة والسلام: (يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام).
يعني أن بول الغلام لا يحتاج إلى غسل كما يحتاج بول الجارية إلى غسل، ولكنه يكفي فيه الرش والنضح.(57/9)
تراجم رجال إسناد حديث: (يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام)
قوله: [حدثنا مجاهد بن موسى].
هو مجاهد بن موسى الخوارزمي، ثقة، أخرج حديثه مسلم وأصحاب السنن.
[وعباس بن عبد العظيم العنبري].
هو عباس بن عبد العظيم العنبري البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
قوله: [المعنى].
يعني: أن هذين الشيخين ألفاظهما مختلفة ومعنى روايتهما واحد.
[قالا: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي].
هو عبد الرحمن بن مهدي البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني يحيى بن الوليد].
يحيى بن الوليد أبو الزعراء، لا بأس به، وهي بمعنى صدوق، أخرج حديثه أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثني محل بن خليفة].
محل بن خليفة ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثني أبو السمح].
هو أبو السمح خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة وليس له إلا هذا الحديث الواحد.
قوله: [قال عباس: حدثنا يحيى بن الوليد].
يعني أن عباساً شيخ أبي داود الثاني في الإسناد المتقدم لفظه (حدثنا يحيى بن الوليد) أي أن تعبير عباس يختلف عن تعبير مجاهد بن موسى؛ لأن مجاهد بن موسى قال: (حدثني) بالإفراد، وأما عباس بن عبد العظيم العنبري فقال: (حدثنا)، فالفرق بين هذا وذاك أن ذاك قال: (حدثني)، وهذا قال: (حدثنا)، فهذا هو وجه التفريق بين صيغة التحمل من عباس بن عبد العظيم العنبري ومن مجاهد بن موسى، فـ مجاهد قال: (حدثني)، يعني أنه سمع من عبد الرحمن بن مهدي وحده؛ لأنه إذا كان سمع وحده يقول: (حدثني)، أما إذا كان حدثه ومعه غيره فإنه يقول: (حدثنا)، هذا هو الفرق بين (حدثني) و (حدثنا)، وقد يأتي يقول الراوي: (حدثنا) وهو مفرد على ما يجري في التخاطب، بأن يقول الواحد عن نفسه: (نحن)، أو يقول: (حدثنا) أو: (أخبرنا) أو: (فعلنا) أو: (تركنا)، لكن الغالب أن (حدثني) تكون للإفراد و (حدثنا) تكون إذا حدثه ومعه غيره.
قوله: [قال أبو داود: وهو أبو الزعراء].
أي: يحيى بن الوليد هو أبو الزعراء، فهذا تعريف به أنه يكنى بـ أبي الزعراء.(57/10)
معنى قول الحسن: الأبوال كلها سواء
قوله: [قال هارون بن تميم: عن الحسن قال: الأبوال كلها سواء].
يعني أن الأبوال للكبار والصغار والذكور والإناث هي سواء، فإن كان المراد بأنها كلها نجسة فهذا صحيح، وإن كان المراد أن حكمها واحد في الغسل فهذا ليس بصحيح؛ لأن الحديث فرق بين بول الجارية وبول الغلام، بأن الجارية يغسل غسلاً وحول الغلام ينضح نضحاً ويرش رشاً.
وبعض أهل العلم ذهب إلى مقتضى الحديث من حيث التفريق بين الجارية والغلام بأن يرش بول الغلام ويغسل بول الجارية، وبعضهم سوى بين بول الجارية والغلام فذهب إلى أن كليهما يغسل غسلاً، ولكن الأخذ بما دل عليه الحديث والعمل بمقتضى الحديث هو الذي يصار إليه وينفذ؛ لأن التفريق جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فقول الحسن البصري: (الأبوال كلها سواء)، إن كان المقصود به النجاسة فنعم كلها سواء، وإلا فإن أبوال الحيوانات منها ما يكون طاهراً ومنها ما يكون نجساً؛ لأن ما يؤكل لحمه بوله طاهر وليس بنجس، كالإبل والبقر والغنم، فكل ما يؤكل لحمه بوله طاهر ليس بنجس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر العرنيين الذين جاءوا واجتووا المدينة أن يذهبوا إلى إبل الصدقة فيشربون من أبوالها وألبانها، فإذنه لهم بأن يشربوا من أبوالها يدل على أن بول مأكول اللحم طاهر وليس بنجس؛ لأنه لو كان نجساً لم يأذن النبي صلى الله عليه وسلم بشربه؛ لأنه لا يتداوى بحرام كما جاء ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يتغذى بحرام كما جاء بذلك الكتاب والسنة، إلا ما دعت إليه الضرورة مثل أكل الميتة من أجل إنقاذ النفس عندما يشرف المرء على الهلاك أو يخشى الهلاك وليس هناك إلا الأكل من الميتة، فيأكل بمقدار ما يسد حاجته، فهذا جاء به الكتاب والسنة وجاءت به الشريعة.
وأما الآدميون فأبوالهم نجسة، ولكن فرق بين الغلام والجارية، فالغلام الذي لم يأكل الطعام يكفي في إزالة نجاسة بوله الرش والنضح، وهذا تخفيف وتيسير في إزالة تلك النجاسة، بخلاف غيرها من النجاسات، فإنها تحتاج إلى غسل ولا يكفي فيها الرش، إلا فيما يتعلق بالمذي على الثوب فإنه يرش تخفيفاً.
قوله: [قال هارون بن تميم عن الحسن].
هارون بن تميم ما وقفت له على ترجمة.
والحسن بن أبي الحسن البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(57/11)
شرح أثر علي: (يغسل من بول الجارية وينضح من بول الغلام ما لم يطعم)
يقول المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن ابن أبي عروبة عن قتادة عن أبي حرب بن أبي الأسود عن أبيه عن علي رضي الله عنه قال: (يغسل من بول الجارية، وينضح من بول الغلام ما لم يطعم)].
أورد أبو داود رحمه الله هذا الأثر عن علي رضي الله عنه أنه قال: (يغسل من بول الجارية، وينضح من بول الغلام ما لم يطعم) أي: ما لم يعطعم الطعام ينضح من بوله، فإذا طعم الطعام صار بوله مثل بول الجارية يغسل، فبول الجارية يغسل دائماً وأبداً طعمت أو لم تطعم، والغلام ينضح ويرش بوله ما لم يطعم، فإذا طعم صار الحكم الغسل.(57/12)
تراجم رجال إسناد أثر علي: (يغسل من بول الجارية وينضح من بول الغلام ما لم يطعم)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن أبي عروبة].
هو سعيد بن أبي عروبة، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي حرب بن أبي الأسود].
أبو حرب بن أبي الأسود ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
هو أبو الأسود الديلي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن علي].
هو علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه، أمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، أبو الحسنين وأبو السبطين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وهو أفضل من مشى على الأرض بعد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهم وعن الصحابة أجمعين.
وأهل السنة والجماعة ينزلونه وينزلون غيره من أهل البيت المنازل التي يستحقونها بالعدل والإنصاف كما جاءت بذلك النصوص.
وأهل السنة والجماعة يحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كان منهم صحابياً يحبونه لصحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولقربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كان منهم غير صحابي فإنهم يحبونه لإيمانه وتقواه إذا كان من المؤمنين المتقين ويحبونه أيضاً لقربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم يسيرون في عقيدتهم طبقاً لما تأتي به النصوص من التفضيل ومن التقديم والتأخير، فهم يقدمون ويؤخرون طبقاً للنصوص وتبعاً للنصوص ليست للأهواء ولا للشهوات والرغبات، وإنما المعول في ذلك على الدليل، وقد جاءت الأدلة بتفضيل أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله تعالى عنهم وعن الصحابة أجمعين.(57/13)
شرح حديث: (يغسل من بول الجارية وينضح من بول الغلام ما لم يطعما الطعام)
قال المنصف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن المثنى، حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، عن أبي حرب بن أبي الأسود، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال، فذكر معناه ولم يذكر: (ما لم يطعم) زاد: قال قتادة: (هذا ما لم يطعما الطعام، فإذا طعما غسلا جميعاً)].
أورد أبو داود رحمه الله الحديث من طريق أخرى وهو مرفوع وأورد الأول موقوفاً، والموقوف في معنى المرفوع، إلا أنه ليس في المرفوع: (ما لم يطعما الطعام) يعني: بالتنصيص على الغلام كما مر في الأثر الموقوف، ولكنه جاء هنا: (إذا طعما غسلا جميعاً) يعني: إذا طعما استوى الذكر والأنثى، ولكن قبل أن يطعما الطعام، فإن الذكر يرش بوله رشاً والأنثى يغسل بولها غسلاً.(57/14)
تراجم رجال إسناد حديث: (يغسل من بول الجارية وينضح من بول الغلام ما لم يطعما الطعام)
قوله: [حدثنا ابن المثنى].
هو محمد بن المثنى العنزي أبو موسى الملقب بـ الزمن ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة رووا عنه مباشرة وبدون واسطة.
[حدثنا معاذ بن هشام].
هو معاذ بن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي وهو صدوق ربما وهم، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[حدثني أبي] هو هشام بن أبي عبد الله الدستوائي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة، عن أبي حرب بن أبي الأسود، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب].
قد مر ذكرهم جميعاً.(57/15)
شرح أثر أم سلمة في صبها الماء على بول الغلام ما لم يطعم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، عن يونس، عن الحسن، عن أمه: (أنها أبصرت أم سلمة رضي الله عنها تصب الماء على بول الغلام ما لم يطعم، فإذا طعم غسلته، وكانت تغسل بول الجارية)].
أورد أبو داود رحمه الله هذا الأثر عن أم سلمة رضي الله عنها أنها كانت تصب على بول الغلام ما لم يطعم.
أي: ترشه رشاً وتصب عليه الماء صباً ولا تفركه وتدلكه، وهذا إذا لم يطعم، فإذا طعم غسلته كما تغسل النجاسات الأخرى.
قولها: [وكانت تغسل بول الجارية].
أي: وكانت تغسل بول الجارية مطلقاً طعمت أو لم تطعم.(57/16)
تراجم رجال إسناد أثر أم سلمة في صبها الماء على بول الغلام ما لم يطعم
قوله: [حدثنا عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج أبو معمر].
عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج أبو معمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عبد الوارث].
هو عبد الوارث بن سعيد العنبري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يونس].
هو يونس بن عبيد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسن عن أمه].
الحسن مر ذكره، وأمه هي خيرة، وهي مقبولة، أخرج حديثها مسلم وأصحاب السنن.
[أنها أبصرت أم سلمة].
أم سلمة هي أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها هند بنت أبي أمية، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.(57/17)
حكم الأرض التي يصيبها البول(57/18)
شرح حديث: (صبوا عليه سجلاً من ماء)
قال المنصف رحمه الله تعالى: [باب: الأرض يصيبها البول.
حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح وابن عبدة في آخرين -وهذا لفظ ابن عبدة - قال: أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه (أن أعرابياً دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فصلى -قال ابن عبدة: ركعتين- ثم قال: اللهم! ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد تحجرت واسعاً.
ثم لم يلبث أن بال في ناحية المسجد، فأسرع الناس إليه فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين، صبوا عليه سجلاً من ماء -أو قال: ذنوباً من ماء-)].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة، وهي [باب: الأرض يصيبها البول].
يعني أن تطهر الأرض إذا أصابها البول بأن يكاثر عليها الماء ويصب عليها الماء، فتطهر بذلك، ولا يحتاج إلى أن يحفر التراب الذي وقع فيه البول ويخرج من المسجد، ويؤتى بتراب آخر أو يؤتى بشيء بدل الذي ذهب به، وإنما يكاثر الماء عليها حتى تطهر بذلك، وهذا يدلنا على أن الأرض تطهر بمكاثرة الماء عليها، بحيث يُصَب ويُكْثرَ من صبه كما جاء في هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن أعرابياً دخل المسجد وصلى ركعتين ودعا، وقال: [اللهم! ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً] فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: [(لقد تحجرت واسعاً)] يعني أن رحمة الله تعالى وسعت كل شيء، يقول الله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156]، فكونه يدعو بهذا الدعاء الذي يطلب فيه أن يحصل له ولرسول الله صلى الله عليه وسلم المغفرة دون غيرهما فيه حجر؛ ولذلك قال له: [(لقد تحجرت واسعاً)] يعني: أتيت بكلام فيه المنع.
لأن الحجر هو المنع، ومعناه أنك ضيقت رحمة الله الواسعة، وطلبت قصرها، أو أردت أن لا تتعدى إلى أحد غيري وغيرك.
فهذا هو معنى قوله: [(لقد تحجرت واسعاً)].
قوله: [(فما لبث أن بال في المسجد)] وذلك لجهله، كما هو معلوم أن الأعراب يغلب عليهم الجهل، ولهذا فإن أهل الحاضرة يكون عندهم من العلم ومن المعرفة أكثر مما يكون عند أهل البادية، ولهذا جعل الله الأنبياء كلهم من أهل الحاضرة، وما جعل نبياً من البادية، فالأنبياء كلهم من الحضر وليسوا من البدو، وذلك لما عند الحاضرة من الكمال، بخلاف البدو، فإن فيهم الجهل وهو يغلب عليهم، ولهذا جاء أن الأنبياء من أهل القرى، أي أنهم من الحضر وليسوا من البدو.
فلما بال في المسجد رأى الصحابة رضي الله عنهم أمراً خطيراً، رأوا النجاسة توضع في المسجد فأسرعوا، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: [(بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين، صبوا عليه سجلاً من ماء -أو قال: ذنوباً من ماء-)].
والسجل هو الدلو الكبيرة وكذلك الذنوب.
والشك حاصل في كونه قال: (سجلاً) أو قال: (ذنوباً) والحديث يدل على أن الأرض تطهر من النجاسة بالصب والمكاثرة للماء عليها.(57/19)
الحكمة من نهي الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة عن الإساءة إلى الأعرابي
إن الرسول صلى الله عليه وسلم نهاهم عن أن يسيئوا إلى الأعرابي أو يعنفوه لأن الأمر قد وقع؛ لأنه لو كان قبل أن يبول لأمكن التدارك، لكن بعد أن وجد البول فإنهم إن منعوه من البول فقد يقوم ويذهب فيتطاير البول يميناً ويساراً، وتتلوث أماكن متعددة من المسجد، وكذلك جسده وثيابه، لكن ما دام أن البول وقع فيبقى في مكان واحد حتى يكمل بوله، ثم تطهر البقعة التي حصل فيها البول، بخلاف ما لو قام قبل أن يكمل بوله، فإن البول يتقاطر هنا وهنا في بقع من المسجد يصعب تطهيرها، ويصعب الاهتداء إليها، وكذلك أيضاً يلوث جسده وثيابه، وهذا فيه دليل لقاعدة من قواعد الشريعة، وهي أنه يرتكب أخف الضررين في سبيل التخلص من أشدهما؛ لأن البول ووقوعه في المسجد ضرر، لكن كونه يقوم ويقطع بوله وينتشر البول في أماكن متعددة أشد ضرراً.
فالرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يبقى على أحد الضررين، وهو الأخف منهما، بحيث يمكن تطهير المكان في سبيل التخلص من أشدهما.
إذاً: فالضرر الأخف أهون من الضرر الأشد، ولهذا جاءت الشريعة بهذه القاعدة التي هي ارتكاب أخف الضررين في سبيل التخلص من أشدهما، وهذا الحديث دليل لهذه القاعدة.
وكان فيما قاله قوله صلى الله عليه وسلم للصحابة حين أرادوا منعه: (لا تزرموه) يعني: لا تعنفوه ولا تجعلوه ينطلق فيتناثر بوله هنا وهنا.(57/20)
تراجم رجال إسناد حديث (صبوا عليه سجلاً من ماء)
قوله: [حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح].
هو أحمد بن عمرو بن السرح المصري، ثقة، أخرج حديثه مسلم، وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[وابن عبدة].
هو أحمد بن عبدة الآملي، وهو صدوق، أخرج حديثه أبو داود والترمذي.
وهناك شخص آخر هو أحمد بن عبدة بن موسى الضبي، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
فـ أحمد بن عبدة الآملي يكنى أبا جعفر، وهو صدوق من الحادية عشرة.
أما أحمد بن عبدة بن موسى الضبي من العاشرة.
والاثنان يعتبران من شيوخ أبي داود، ففي عون المعبود قال: (أحمد بن عبدة) ولم يذكر شيئاً آخر وراء هذا.
إذاً: فيحتاج الأمر إلى أن يعين أحدهما، وذلك بمعرفة الشيخ الذي روى عنه، وهو هنا سفيان بن عيينة، لكن هل الاثنان رويا عنه أو أحدهما؟ إن رويا عنه فإنه يحتمل أن يكون المراد هذا وذاك؛ لأن أبا داود روى عن الاثنين، وإن كان أحدهما هو الذي روى عن ابن عيينة دون الآخر فيتعين أنه أحدهما.
قال في تهذيب التهذيب: إن أحمد بن عبدة الضبي هو الذي يروي عن ابن عيينة، وليس الآملي، والضبي ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
قوله: [في آخرين، وهذا لفظ ابن عبدة].
أي: أن الحديث رواه أبو داود عن ابن السرح وعن أحمد بن عبدة وأناس آخرين، وأتى بلفظ ابن عبدة الذي هو الشيخ الثاني.
[أخبرنا سفيان].
هو سفيان بن عيينة المكي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
الزهري مر ذكره.
وإذا جاء سفيان يروي عن الزهري غير منسوب فالمراد به ابن عيينة.
[عن سعيد بن المسيب].
سعيد بن المسيب ثقة فقيه، من فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(57/21)
شرح حديث ابن معقل في قصة الأعرابي الذي بال في المسجد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا جرير -يعني ابن حازم - قال: سمعت عبد الملك -يعني ابن عمير - يحدث عن عبد الله بن معقل بن مقرن قال: (صلى أعرابي مع النبي صلى الله عليه وسلم -بهذه القصة-.
قال فيه: وقال -يعني النبي صلى الله عليه وسلم-: خذوا ما بال عليه من التراب فألقوه، وأهريقوا على مكانه ماء).
قال أبو داود: وهو مرسل، ابن معقل لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم].
أورد أبو داود رحمه الله الحديث -وهو مرسل- من طريق عبد الله بن معقل بن مقرن وهو من التابعين، وفيه مخالفة للحديث السابق؛ لأن الحديث السابق فيه أنه يكاثر الماء على المكان المتنجس فتزول النجاسة بذلك، وهذا هو الذي جاء في الصحيحين وفي غيرهما، وأما الحديث الثاني الذي فيه أنهم يأخذون التراب ويلقونه ثم يصبون عليه ماءً فهو حديث مرسل، وهو مخالف لما صح وثبت من أنهم صبوا ذنوباً من ماء أو سجلاً من ماء، وأيضاً من حيث المعنى هو غير واضح؛ لأنهم إذا كانوا أخذوا التراب الذي فيه النجاسة فلماذا يصبون الماء في مكان ليس فيه نجاسة؟! فلا حاجة إلى أن يصبوا الماء، ما دام أنهم قد حفروا المكان المتنجس وأخرجوا التراب خارج المسجد، فلا حاجة إذاً إلى أن يصب الماء في ذلك المكان.
إذاً: الحديث -كما هو واضح- مرسل؛ لأن ابن معقل لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مخالف لما صح من أن التراب لا يحمل ولا يزال ولا يخرج، وإنما يصب عليه الماء.(57/22)
تراجم رجال إسناد حديث ابن معقل في قصة الأعرابي
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جرير -يعني ابن حازم -].
جرير بن حازم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الملك -يعني ابن عمير -].
عبد الملك بن عمير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن معقل بن مقرن].
عبد الله بن معقل بن مقرن ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وهذا الحديث تفرد به أبو داود.(57/23)
معنى قوله تعالى: (وجاء بكم من البدو) ووجه استشكال معناها
أما من استشكل قول يوسف عليه السلام: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} [يوسف:100] في كون يعقوب بدوياً لا حضرياً فهذه الآية الكريمة {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} ليس معناها أنهم بدو، إذ معلوم أن أهل الحاضرة إذا ذهبوا إلى البادية لم يخرجوا عن كونهم حاضرة، كما أن البدوي لو جاء إلى الحاضرة للبلد ومكث فيها أياماً أو أشهراً ثم رجع لا يقال: إنه حضري.
فيعقوب وأولاده ليسوا من سكان البادية، ولكنهم خرجوا إلى البادية ثم جاءوا من البادية.(57/24)
شرح سنن أبي داود [058]
لتطهير النجاسة كيفيات تختلف بحسب ما تصيبه، فقد تقع النجاسة على الأرض وقد تصيب ذيول ثياب النساء عند المشي، وقد تصيب النعال، فكل ذلك له كيفية خاصة في تطهيره.(58/1)
طهور الأرض إذا يبست(58/2)
شرح حديث ابن عمر: (وكانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد فلم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: في طهور الأرض إذا يبست.
حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب حدثني حمزة بن عبد الله بن عمر قال: قال ابن عمر رضي الله عنهما: (كنت أبيت في المسجد في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله سلم، وكنت فتى شاباً عزباً، وكانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد، فلم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب: في طهور الأرض إذا يبست].
هذه الترجمة -كما هو واضح- تتعلق بطهارة الأرض إذا يبست، ومن المعلوم أن الأرض قد تكون مكشوفة للسماء وينزل المطر عليها، فتطهر بذلك؛ لأن نزول المطر على الأرض المتنجسة يحصل به الطهارة لها، وقد تكون غير مكشوفة وتعلم النجاسة فيها، فإنه لا يطهرها حينئذٍ إلا الماء، بحيث يصب عليها ويكاثر حتى تحصل الطهارة بذلك، وقد سبق أن مر في الحديث في قصة الأعرابي الذي بال في المسجد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بعد أن فرغ من بوله بأن يصب عليه سجل من ماء أو ذنوب من ماء تحصل به الطهارة، فالأرض إذا كانت متنجسة وأصابها المطر فإنها تطهر بذلك، وإن كانت متنجسة وعلمت النجاسة في مكان لا يتعرض للمطر، كأن تكون في حجرة من الحجر أو في جزء من البيت مستور ومسقوف، فإن مجرد يبسها لا يجعلها طاهرة، بل يصب عليها الماء ويكاثر حتى تحصل طهارتها.
فهذا عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: إنه كان شاباً عزباً، وكان يبيت في المسجد، وكانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد، ولم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك.
والذي يتبادر من الحديث هو أن الكلاب كانت تبول في المسجد، لكن الصحيح أنها ما كانت تترك تبول في المسجد، لكن لو بالت في المسجد فإن الحكم هو أن يطهر ذلك المكان الذي بالت فيه، كما حصل بالنسبة للأعرابي الذي بال في المسجد وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصب عليه ذنوب من ماء، فلو تحقق وجود النجاسة في المسجد بسبب الكلاب أو غيرها في بقعة من الأرض معلومة فإنه يجب تطهيرها بالماء وصب الماء عليها، والذي يظهر من الحديث أنها كانت تبول خارج المسجد، وتدخل المسجد وتخرج مارة مسرعة، والناس لا يتركونها تمكث في المسجد، لكن يمكن أن تمر ذاهبة وآيبة، ولا تعلم نجاسة حصلت للمسجد بسببها، وإذا علمت بقعة من الأرض وقع عليها بول من الكلاب أو غيرها في المسجد فيتعين غسلها، ولا يكفي أن تطهر بيبسها، فإن مجرد يبس النجاسة لا يدل على طهارتها، كالثوب تقع فيه النجاسة وتيبس يجب غسله، وكذلك الأرض تكون فيها النجاسة وتيبس وهي غير مكشوفة للسماء بحيث لا ينزل عليها المطر فيطهرها، فإنها تحتاج إلى غسلها بالماء.
إذاً: فالحديث ليس فيه أنهم كانوا يرشون المسجد لإقبال الكلاب وإدبارها فيه، لكن لو حصل أن النجاسة علمت في مكان من المسجد فلا تترك حتى يطهرها اليبس، وإنما يصب عليها ماء، كما فعل ذلك رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه في البول الذي حصل من الأعرابي، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن يصب عليه ذنوب من ماء، وبذلك حصلت طهارته.
إذاً: إذا يبست النجاسة ففيها تفصيل: إن كانت الأرض مكشوفة وينزل عليها المطر فطهارتها بالمطر الذي ينزل عليها، وإن كانت غير مكشوفة وقد يبست وبها نجاسة فإنها لا تطهر بذلك، وإنما يجب غسلها.(58/3)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عمر: (وكانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد فلم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
هو أحمد بن صالح المصري، ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[عن عبد الله بن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن يونس].
هو يونس بن يزيد الأيلي ثم المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
ابن شهاب هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حمزة بن عبد الله بن عمر].
حمزة بن عبد الله بن عمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(58/4)
حكم الأذى يصيب الذيل(58/5)
شرح حديث أم سلمة في تطهير ذيل المرأة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: في الأذى يصيب الذيل.
حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن محمد بن عمارة بن عمرو بن حزم عن محمد بن إبراهيم عن أم ولد لـ إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أنها سألت أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (إني امرأة أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر، فقالت أم سلمة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يطهره ما بعده)].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة باب: [في الأذى يصيب الذيل].
والأذى هو ما يحصل من نجاسة أو غير نجاسة، والذيل هو ثوب المرأة الذي ترخيه وتجره وراءها، فهذا هو المقصود بالذيل الذي يصيبه الأذى، تعني: أنها كانت تمشي وترخي ذيل ثوبها بحيث تجره على الأرض وراءها، فيمر على الأرض وقد يكون فيها أذى.
فأم ولد لـ إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قالت لـ أم سلمة: (إني امرأة أطيل ذيلي) أي أنها تطيل الثوب بحيث تجره وراءها فيصيبه الأذى.
فقالت أم سلمة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يطهره ما بعده)، وهذا محمول على أن المقصود بذلك الأرض اليابسة، بحيث إذا علق بذيلها تراب فيه نجاسة ومرت بمكان ليس فيه نجاسة فإنه يطهر بذلك، أما إذا كانت الأرض رطبة وكانت النجاسة محققة ثم انسحب عليها ذيل المرأة فإنه لا يطهره إلا الغسل، ولا يطهر بكون المرأة تمشي وهو متنجس فتسحبه على الأرض فيكون طاهراً؛ لأن النجاسة تكون في داخله وظاهره.
وإذا مرت بماء في الطريق ولم يُتَحقق من أنه نجس فالأصل طهارة المياه التي تكون في الطرقات، ولكن إذا علم وتحقق من أن تلك المياه نجسة فعند ذلك يكون ما يصيبها متنجساً، فإذا كانت رطبة وأصابها البلل بتلك النجاسة فعند ذلك يتعين غسلها، ولا يطهرها كونها تنتقل من مكان إلى مكان؛ لأن النجاسة موجودة فيها.(58/6)
تراجم رجال إسناد حديث أم سلمة في تطهير ذيل المرأة
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
هو عبد الله بن مسلمة القعنبي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة، الإمام المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن عمارة بن عمرو بن حزم].
محمد بن عمارة بن عمرو بن حزم صدوق يخطئ، أخرج حديثه أصحاب السنن.
[عن محمد بن إبراهيم].
هو محمد بن إبراهيم التيمي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أم ولد لـ إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف].
أم ولد إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال عنها في التقريب: إنها مقبولة، ولكن رمز لها بغير أبي داود.
واسمها حميدة، وهي مقبولة، أخرج حديثها في مسند مالك.
فما أدري هل هي هذه وسقط رمز الدال لـ أبي داود أم أنها امرأة أخرى وهي آخر امرأة في كتاب التقريب، فآخر واحدة هي أم ولد عبد الرحمن بن عوف، وقد رمز لها بالدال، وقال: لا تعرف؟! لكن الأخيرة هي أم ولد عبد الرحمن بن عوف، وهذه أم ولد لـ إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وأم ولد عبد الرحمن رمز لها بالدال، وتروي عن أم سلمة، أما التي في الإسناد فهي أم ولد لـ إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وهي -أيضاً- هنا تروي عن أم سلمة، لكن سقط الرمز.
فيرجع إلى تهذيب الكمال؛ لأنه هو الذي يسمي الذين خرجوا للراوي من الأئمة.
[عن أم سلمة].
أم سلمة هي أم المؤمنين هند بنت أبي أمية رضي الله عنها وأرضاها، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.(58/7)
شرح حديث (إن لنا طريقاً إلى المسجد منتنة، فكيف نفعل إذا مطرنا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي وأحمد بن يونس قالا: حدثنا زهير حدثنا عبد الله بن عيسى عن موسى بن عبد الله بن يزيد عن امرأة من بني عبد الأشهل رضي الله عنها قالت: (قلت: يا رسول الله! إن لنا طريقاً إلى المسجد منتنة، فكيف نفعل إذا مطرنا؟ قال: أليس بعدها طريق هي أطيب منها؟ قالت: قلت: بلى.
قال: فهذه بهذه)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث امرأة من بني عبد الأشهل -وهي صحابية- سألت الرسول صلى الله عليه وسلم وقالت: [(إن لنا طريقاً إلى المسجد منتنة)].
تعني: فيها رائحة كريهة، وقد تكون تلك الرائحة الكريهة في نجاسة، وقد تكون في غير نجاسة.
وقولها: [(فكيف نفعل إذا مطرنا؟)] يعني: كيف نفعل إذا جاء المطر وصارت الأرض مبتلة.
فقال صلى الله عليه وسلم: [(أليس بعدها أرض هي أطيب منها؟)] قالت: بلى.
[(قال: فهذه بهذه)]، يعني أن الأرض إذا كان فيها أذى من نجاسة أو غير نجاسة وحصل المطر فمن المعلوم أن المطر إذا نزل على الأرض فإنه يطهرها، والذيل إذا سحب على ذلك المكان الذي فيه الأذى ثم انتقل إلى مكان آخر فإنه يطهر بذلك، ولكنه -كما عرفنا- إذا كان المطر قد نزل على مكان متنجس فإنه يطهره وإن لم يحصل انتقال إلى مكان آخر، لكن إذا كانت الأرض فيها أذى وفيها أماكن أخرى ليس فيها أذىً وحصل الانتقال من مكان إلى مكان والأرض ممطورة فإن الذي لامس الأرض -سواء أكان نعلاً أم ذيلاً- يكون طاهراً ولا يكون نجساً.(58/8)
تراجم رجال إسناد حديث (إن لنا طريقاً إلى المسجد منتنة، فكيف نفعل إذا مطرنا)
قوله: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي].
عبد الله بن محمد النفيلي ثقة، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن.
[وأحمد بن يونس].
هو أحمد بن عبد الله بن يونس الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زهير].
هو زهير بن معاوية، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن عيسى].
هو عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن موسى بن عبد الله بن يزيد].
هو موسى بن عبد الله بن يزيد الخطمي، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي في الشمائل وابن ماجه.
[عن امرأة من بني عبد الأشهل].
هذه المرأة من بني عبد الأشهل صحابية، وحديثها أخرجه أبو داود وابن ماجه.(58/9)
حكم الأذى يصيب النعل(58/10)
شرح حديث (إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى فإن التراب له طهور)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الأذى يصيب النعل.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا أبو المغيرة.
ح: وحدثنا عباس بن الوليد بن مزيد أخبرني أبي.
ح: وحدثنا محمود بن خالد حدثنا عمر -يعني ابن عبد الواحد - عن الأوزاعي -المعنى- قال: أنبئت أن سعيد بن أبي سعيد المقبري حدث عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى فإن التراب له طهور)].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة، وهي [باب: في الأذى يصيب النعل].
فالمقصود من هذه الترجمة أن النعل إذا أصابه شيء من الأذى فإنه يطهر بالتراب إذا كان في أسفل النعل، أما إذا كان الأذى أصاب النعل في داخله وظاهره، فإنه يحتاج إلى أن يطهره، وأن تغسل النجاسة التي أصابت أسفل النعل وأعلاه.
إذاً: إذا كان الأذى أسفل النعل وحصل السير عليه ودلكه فإنه يطهر بذلك؛ لأن الأذى الذي علق بالنعل أتى بعده شيء يزيله وينهيه، لاسيما إذا كان مر بماء بعد ذلك، فلا شك في أنه يطهر.
وقد أورد فيه أبو داود.
حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى فإن التراب له طهور) بمعنى أنه إذا مشى من مكان إلى مكان ودلك نعله على الأرض فإنه يطهر بذلك، وقد جاء -أيضاً- ما يدل على أن الإنسان عندما يأتي المسجد وفي نعله أذى فإنه يدلكه بالأرض، أو يدلك النعلين بعضهما ببعض، ثم بعد ذلك يصلي بهما.(58/11)
تراجم رجال إسناد حديث (إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى فإن التراب له طهور)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الإمام المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو المغيرة].
أبو المغيرة هو عبد القدوس بن الحجاج، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح: وحدثنا عباس بن الوليد بن مزيد].
عباس بن الوليد بن مزيد صدوق، أخرج حديثه أبو داود والنسائي.
[عن أبيه].
أبوه ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[ح: وحدثنا محمود بن خالد].
هو محمود بن خالد الدمشقي، وهو ثقة، أخرج حديثه أبو داود والنسائي وابن ماجه.
[عن عمر -يعني ابن عبد الواحد -].
عمر بن عبد الواحد ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجه.
[عن الأوزاعي].
الأوزاعي هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[المعنى].
يعني أن هؤلاء الذين مر ذكرهم في ثلاث طرق فيها ثلاثة شيوخ رواياتهم متفقة في المعنى مع اختلافها في الألفاظ.
[قال: أنبئت أن سعيد بن أبي سعيد].
قوله: معناه أن هناك واسطة محذوفة، وتلك الواسطة غير معروفة في هذا الإسناد، ولكن جاء في الإسناد الذي بعده أنه يروي عن محمد بن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد، فتكون تلك الواسطة التي كانت غير معلومة علمت من الإسناد الثاني، وهو محمد بن عجلان المدني.
وسعيد بن أبي سعيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو كيسان المقبري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(58/12)
شرح حديث (إذا وطئ الأذى بخفيه فطهورهما التراب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن إبراهيم حدثني محمد بن كثير -يعني الصنعاني - عن الأوزاعي عن ابن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه، قال: (إذا وطئ الأذى بخفيه فطهورهما التراب)].
أورد أبو داود رحمه الله الحديث من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله.(58/13)
تراجم رجال إسناد حديث: (إذا وطئ الأذى بخفيه فطهورهما التراب)
قوله: [حدثنا أحمد بن إبراهيم].
هو أحمد بن إبراهيم بن كثير الدورقي.
وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه.
[عن محمد بن كثير -يعني الصنعاني -].
محمد بن كثير الصنعاني صدوق كثير الغلط، أخرج حديثه أبو داود والترمذي والنسائي.
[عن الأوزاعي].
الأوزاعي مر ذكره.
[عن ابن عجلان].
هو محمد بن عجلان المدني، صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة].
قد مر ذكر الثلاثة.(58/14)
إسناد آخر لحديث تطهير النعل من الأذى وتراجم رجاله
قال رحمه الله تعالى: [حدثنا محمود بن خالد حدثنا محمد -يعني ابن عائذ - حدثني يحيى -يعني ابن حمزة - عن الأوزاعي عن محمد بن الوليد أخبرني -أيضاً- سعيد بن أبي سعيد عن القعقاع بن حكيم عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وآله سلم بمعناه].
ثم أورد أبو داود رحمه الله حديث عائشة، وهو بمعنى الحديث المتقدم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
قوله: [حدثنا محمود بن خالد حدثنا محمد -يعني ابن عائذ].
محمود بن خالد مر ذكره.
ومحمد بن عائذ صدوق، أخرج حديثه أبو داود والنسائي.
[عن يحيى -يعني ابن حمزة -].
يحيى بن حمزة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأوزاعي عن محمد بن الوليد].
الأوزاعي مر ذكره.
ومحمد بن الوليد هو الزبيدي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[أخبرني -أيضاً- سعيد بن أبي سعيد عن القعقاع بن حكيم].
سعيد بن أبي سعيد مر ذكره.
والقعقاع بن حكيم ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عائشة].
هي عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق، وهي أحد سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(58/15)
الإعادة من النجاسة تكون في الثوب(58/16)
شرح حديث عائشة (كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه شعارنا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: الإعادة من النجاسة تكون في الثوب.
حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث حدثتنا أم يونس بنت شداد قالت: حدثتني حماتي أم جحدر العامرية أنها سألت عائشة رضي الله عنها عن دم الحيض يصيب الثوب، فقالت: (كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلينا شعارنا، وقد ألقينا فوقه كساء، فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الكساء فلبسه، ثم خرج فصلى الغداة ثم جلس، فقال رجل: يا رسول الله! هذه لمعة من دم؟ فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يليها فبعث بها إلي مصرورة في يد الغلام، فقال: اغسلي هذه وأجفيها، ثم أرسلي بها إلي، فدعوت بقصعتي فغسلتها ثم أجففتها فأحرتها إليه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بنصف النهار وهي عليه)].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة، وهي [باب: الإعادة من النجاسة تكون في الثوب].
هذه الترجمة لا أدري ما المقصود بالإعادة فيها، هل هي إعادة الصلاة بسبب كون المصلي صلى وعليه ثوب متنجس؟ فإن هذا الحال لا تعاد فيه الصلاة؛ لأن الإنسان إذا صلى وعليه ثوب متنجس ولم يعلم إلا بعد فراغ الصلاة فإن صلاته صحيحة، والدليل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى وعليه النعلان وفيهما أذى، فجاء جبريل فأخبره في الصلاة فنزع النعلين وأتم الصلاة، فلو كانت الصلاة لا تصح في الثوب الذي فيه نجاسة لأعاد النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة من أولها.
فدل هذا على أن من صلى وعليه ثوب متنجس ولم يعلم إلا بعد فراغ الصلاة فإن صلاته صحيحة.
إذاً: الإعادة هنا لا أدري ما المراد بها، أو أن المراد بها إعادة الثوب الذي تنجس ليغسل، فهذا يطابق الترجمة إذا كان المقصود بها إعادة الثوب المتنجس ليغسل، لكن إن كان المقصود بالإعادة إعادة الصلاة فليس في الحديث ما يدل على إعادة الصلاة، بل وجد في الأحاديث ما يدل على أن الصلاة لا تعاد إذا صلى الإنسان في ثوب متنجس، وإنما تعاد الصلاة لو صلى وهو على غير وضوء؛ لأن الإنسان لو صلى وهو على غير وضوء فلا تصح صلاته، أما كونه يصلي وعليه ثوب متنجس ولم يعلم إلا بعد أن فرغ من الصلاة فصلاته صحيحة وليس عليه الإعادة.
تقول عائشة رضي الله عنها قالت: [(كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلينا شعارنا، وقد ألقينا فوقه كساءً)].
الشعار: هو الذي يلي الجسد، أما الكساء فهو الذي فوق الشعار.
وقالت: [(فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الكساء فلبسه، ثم خرج فصلى الغداة، ثم جلس فقال رجل: يا رسول الله! هذه لمعة من دم)] فخلع ذلك الكساء وقبض على المكان المتنجس وصره بيده وأعطاه غلاماً وأمره أن يذهب به إلى عائشة لتغسله وتجففه ثم تعيده، فغسلته وجففته وأحارته -أي: أعادته- إليه، فجاء في نصف النهار وهو عليه.
لكن ليس فيه شيء يدل على أنه أعاد الصلاة، وقد عرفنا أن الحكم أن الصلاة لا تعاد إذا كان الإنسان صلى وفي ثوبه نجاسة.
وقولها: [(فقال رجل: يا رسول الله! هذه لمعة من دم)].
أي: أن هذا من دم الحيض الذي حصل من عائشة.
وقولها: [(فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يليها فبعث بها إلي مصرورة في يد الغلام)].
أي: أنه قبض أطرافه بحيث كان المتنجس بارزاً، وهو الذي يغسل.
وقوله: [(أجفيها)] يعني: جففيه حتى ييبس.
وقولها: [(فأحرتها إليه)].
أي: أعدتها إليه.
فالحور هو الرجوع، كقوله تعالى: ((إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ)) [الانشقاق:14]، يعني: ظن أن لن يرجع.
وقولها: [(فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بنصف النهار وهي عليه)].
أي: تلك التي غسلت وأعيدت إليه.
والحاصل أن الترجمة غير واضحة، وإن كان المراد بها إعادة الصلاة فليس فيها شيء يتعلق بذلك، وإن كان المقصود إعادة الثوب بعد غسله فهذا الأمر فيه واضح، والحديث ضعيف؛ لأن فيه امرأتين مجهولتين في الإسناد.(58/17)
تراجم رجال إسناد حديث عائشة (كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه شعارنا)
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس].
هو محمد بن يحيى بن فارس الذهلي، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن.
ويأتي ذكره في بعض الأسانيد (محمد بن يحيى النيسابوري)، وهو نيسابوري، وفي بعضها: (محمد بن يحيى بن عبد الله)، وفي بعضها: (محمد بن يحيى بن فارس) و (فارس) جد من أجداده؛ لأنه محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد بن فارس، وهو هو الذهلي، فيأتي بصيغ مختلفة وهو شخص واحد.
[عن أبي معمر].
أبو معمر هو عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج المقعد، كذا قال المزي في تحفة الأشراف.
فما دام أن صاحب تحفة الأشراف عينه بهذا فيكون المقصود به عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الوارث].
هو عبد الوارث بن سعيد العنبري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أم يونس بنت شداد].
أم يونس بنت شداد لا يعرف حالها، أخرج حديثها أبو داود.
[قالت: حدثتني حماتي أم جحدر العامرية].
قولها: [حماتي] تعنى به أم زوجها، وأم جحدر العامرية أيضاً مجهولة، أخرج حديثها أبو داود.
[عن عائشة].
عائشة رضي الله عنها قد مر ذكرها.
ففي الحديث امرأتان مجهولتان، والحديث ضعيف.(58/18)
حكم البصاق يصيب الثوب(58/19)
شرح حديث (بزق رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوبه وحك بعضه ببعض)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: البصاق يصيب الثوب.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا ثابت البناني عن أبي نضرة قال: (بزق رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوبه وحك بعضه ببعض)].
أورد أبو داود رحمه الله [باب: في البصاق يصيب الثوب].
يعني أنه شيء من القذر، ولكنه ليس بنجس، وإنما منظره كريه ولا يستحسن أن يرى ويشاهد؛ لأن منظره مستقذر، وحكمه أن يحك الثوب ويدلك بعضه ببعض حتى يذهب أثره، ولو كان نجساً لاحتاج الأمر إلى أن يغسل، فدلكه يدل على طهارته، وأنه ليس بنجس.(58/20)
تراجم رجال إسناد حديث (بزق رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوبه وحك بعضه ببعض)
قوله: [قال: حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حماد].
هو حماد بن سلمة، ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن ثابت البناني].
هو ثابت بن أسلم البناني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي نضرة].
أبو نضرة هو المنذر بن مالك، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
والحديث مرسل هنا، لكن الحديث الذي بعده موصول، وهو دال على ما دل عليه.
والبزاق والبصاق بمعنى واحد.(58/21)
إسناد آخر لحديث (بزق رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوبه) وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن حميد عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله].
ثم أورد حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل المتن السابق، وهو أنه بصق أو بزق في ثوبه فحك بعضه ببعض، فالحديث هذا متصل، وهو دال على ما دل عليه الأول.
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل عن حماد عن حميد].
حميد هو حميد بن أبي حميد الطويل، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
هو أنس رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الإسناد من الأسانيد الرباعية لـ أبي داود، وهو أعلى الأسانيد عند أبي داود، حيث يكون بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أشخاص، وبهذا يكون قد انتهى كتاب الطهارة.
والله تعالى أعلم.(58/22)
الأسئلة(58/23)
حكم النظر إلى المخطوبة عبر الصورة الفوتوغرافية
السؤال
شخص يريد أن يخطب امرأة، ولكن لا يستطيع الذهاب إلى بلاده لرؤيتها، فهل يجوز في هذه الحالة أن ترسل له صورة شمسية حتى يتمكن من النظر إليها؟
الجواب
لا يجوز، وإنما إذا أراد أن يذهب لينظر إليها فليذهب وينظر إليها هو إذا كان يريد النظر، أما أن ترسل له الصورة فلا يصلح أن تؤخذ صور النساء وتعطى للأزواج؛ لأن الصورة تبقى وقد يستنسخ منها وتنتشر، أما إذا رآها فإن رؤيته لها تنتهي، فإن أعجبته تزوجها وإلا تركها، أما أن تكون الصورة بيد الرجل فيحتفظ بها أو يعطيها لغيره ويطلع غيره عليها فلا يجوز ذلك.(58/24)
موضع التورك في الصلوات المكتوبة
السؤال
متى يشرع التورك في الصلاة؟
الجواب
التورك في الصلاة يكون في الصلاة التي لها تشهدان وفي التشهد الأخير منهما، ويكون في جميع الصلوات المكتوبة ما عدا صلاة الفجر، فالتورك يكون في التشهد الأخير من الرباعية والثلاثية.(58/25)
حكم خروج المذي أثناء الصوم
السؤال
هل خروج المذي يبطل الصوم؟
الجواب
خروج المذي لا يبطل الصوم، وإنما الذي يبطله خروج المني.(58/26)
حكم تحية المسجد عند طلوع الشمس وعند غروبها
السؤال
ما حكم صلاة تحية المسجد عند طلوع الشمس وعند غروبها؟
الجواب
وقت طلوع الشمس ووقت غروبها وعند قيام قائم الظهيرة هذه الأوقات الضيقة لا يصلى فيها ولا يدفن فيها الموتى، وهو وقت يسير جداً.(58/27)
الحكم على حديث: (لا تنسنا يا أخيّ من دعائك)
السؤال
ما مدى صحة الحديث الذي فيه أنه عندما أراد عمر رضي الله عنه العمرة قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تنسنا يا أخيّ من دعائك).
الجواب
الحديث فيه كلام، لكن لا أدري بدرجة هذا الحديث، وأذكر أن فيه ضعفاً.(58/28)
حكم خطأ ابن حجر والنووي وأمثالهما في بعض مسائل العقيدة
السؤال
هل الحافظ ابن حجر والإمام النووي وأمثالهما من الأئمة ممن أخطأ في بعض مسائل العقيدة يعدون من أئمة أهل السنة والجماعة؟ لاشك في أنهم من أئمة أهل السنة والجماعة، وأخطاؤهم التي حصلت مغمورة في جنب صوابهم الكثير، والعلماء يعولون على كلامهم ويرجعون إلى كلامهم، فهم من أهل السنة الذين أخطئوا وحصل منهم أخطاء، والله تعالى يتجاوز عنهم، وقبلهم البيهقي رحمه الله صاحب السنن، فعنده أخطاء في العقيدة وهو من أهل السنة.(58/29)
معنى حديث ابن عمر في دخول الكلاب المسجد وتركهم رش أثرها
السؤال
في حديث ابن عمر الذي فيه أنه كان يبيت في المسجد قلتم: إن حديث ابن عمر لا يدل على أن الكلاب تبول في المسجد، وظاهر الحديث: أنها كانت تبول وتقبل وتدبر فلم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك)؟
الجواب
ليس هناك نص على أنها كانت تبول في المسجد، ولو بالت في المسجد فلا يعقل أن الناس يتركون البول ولا يطهرونه بالماء، وقد طهر النبي صلى الله عليه وسلم بول الأعرابي بالماء، والكلب أخبث نجاسة وأشد نجاسة من الإنسان.
أما قول ابن عمر: (فلم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك) فظاهره -والله أعلم- أنهم لم يكونوا يرشون المكان الذي تمر فيه؛ لأن النجاسة غير متحققة.
ثم إن الكلاب لا تترك لتدخل وتبول في المسجد، لكن قد تكون بالت خارج المسجد وبقي فيها آثار شيء يتقاطر، لكن كونها تقف وتبول في المسجد بعيد، ولو حصل ذلك فإنه لا يقال: إنه يترك بولها حتى ييبس ويطهر؛ لأنه لو كان اليبس لترك الرسول صلى الله عليه وسلم بول الأعرابي حتى ييبس.(58/30)
موضع بصر المصلي عند الركوع وغيره
السؤال
أين يقع بصر المصلي عند الركوع؟
الجواب
يكون بصر المصلي إلى موضع سجوده عند الركوع وغير الركوع.(58/31)
حكم تزوج الرجل بمن حملت منه من الزنا وإلحاق الولد به
السؤال
إذا تزوج الرجل بامرأة وهي حبلى من الرجل نفسه من الزنا فهل يصح نكاحهما؟ وهل لهما أحكام الإرث؟
الجواب
من زنى بامرأة وحملت منه ثم أراد أن يعقد عليها أو عقد عليها فالولد ليس له ولا ينسب إليه؛ لأنه ابن زنا، ولا يعتبر من أولاده، ولا توارث بينه وبينه، وأما زواج الزاني من الزانية فيصح وذلك لقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ} [النور:3] {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً} [النور:3]، فكل واحد منهما يصلح للثاني، فبدلاً من أن يفعلا الحرام فليكن ذلك في الحلال، لكن كونه يتزوج وهي حبلى منه من الزنا ويقول: إن الولد هذا له غير صحيح، فليس الولد له أبداً، ولا يصلح أن يتزوج بها وهي حبلى، وإنما يتزوجها بعد ذلك.
والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.(58/32)
شرح سنن أبي داود [059]
لقد فرض الله عز وجل الصلوات الخمس في السماء خمسين صلاة، ثم خففت إلى خمس صلوات في اليوم والليلة مع بقاء أجر الخمسين.
والصلاة هي أعظم ركن بعد الشهادتين، وهي عمود الدين، وهي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، وهي آخر وصية للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي حق لازم محتم على العبد لله تعالى، فعلى العبد أن يقدرها قدرها، ويؤديها في وقتها؛ لينال بذلك رضى الله تعالى عنه.(59/1)
كتاب الصلاة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الصلاة].
هذا هو الكتاب الثاني من الكتب التي اشتمل عليها كتاب السنن لـ أبي داود، وأول كتاب هو كتاب الطهارة، وكما قد عرفنا فيما مضى أن الأبواب المتعلقة بالطهارة -سواءٌ كانت إزالة نجاسة أم رفع الحدث الأصغر أم رفع الحدث الأكبر أم الاغتسال من الحيض- كلها أوردها تحت هذا الكتاب الذي هو كتاب الطهارة، وبعض أهل العلم يقسم هذا الكتاب إلى عدة كتب، فيذكر كتاب الوضوء على حدة، وكتاب غسل الجنابة على حدة، وكتاب الحيض على حدة، كما فعل الإمام البخاري رحمه الله تعالى.
وجرت عادة العلماء من محدثين وفقهاء أنهم في كتب الأحكام يبدءون بالطهارة؛ ولأنه شرط للصلاة، ولأنها لا تصح الصلاة إلا إذا وجدت الطهارة من رفع الحدث الأصغر بالماء الذي هو الوضوء، أو الأكبر بالاغتسال، أو التيمم عندما لا يوجد الماء، أو يوجد ولكن يكون هناك ضرر باستعماله، ثم إنه بعد ذلك أتى بكتاب الصلاة، وهو الكتاب الثاني كما قد عرفنا.(59/2)
معنى الصلاة لغة واصطلاحاً
الصلاة في اللغة: الدعاء، والدعاء لا شك في أنه من جملة ما اشتملت عليه الصلاة، فالتعريف اللغوي تعريف للصلاة بذكر شيء مما هو موجود تحتها، وقد تكون المعاني اللغوية أوسع وأعم وتكون المعاني الشرعية جزءاً من جزئيات المعاني اللغوية، وقد يكون المعنى الشرعي مشتملاً على المعنى اللغوي وزيادة على ذلك؛ لأن الصلاة هنا في اللغة الدعاء، والصلاة الشرعية -كما هو معلوم- هي أفعال وأقوال تشتمل على الدعاء وعلى غير الدعاء، لكن الدعاء موجود فيها بكثرة، فعند دخول الإنسان في الصلاة يقول: (الله أكبر)، وهو دعاء وعبادة، ثم يأتي بالاستفتاح، وهو دعاء وعبادة، أو دعاء مسألة، مثل قوله: (سبحانك -اللهم- وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك) فهذا دعاء عبادة، وقوله: (اللهم! باعد بيني وبين خطاياي) هذا دعاء مسألة، ثم بعد ذلك الركوع فيه دعاء، والرفع من الركوع فيه دعاء، والسجود فيه دعاء، وبين السجدتين هناك دعاء، وفي التشهدين دعاء عبادة ودعاء مسألة، فالدعاء في الصلاة يوجد بكثرة، بل إن أقوال الصلاة هي إما دعاء عبادة وإما دعاء مسألة.
أما الصلاة في الاصطلاح فهي أقوال وأفعال مخصوصة مبتدأة بالتكبير ومختتمة بالتسليم.
هذا هو تعريف الصلاة الشرعي.
فهي مبدوءة بـ (الله أكبر) ومختومة بـ (السلام عليكم ورحمة الله)، كما قال عليه الصلاة والسلام: (تحريمها التكبير وتحليلها التسليم).
أما المعنى الثاني -وهو كون المعاني اللغوية واسعة، بحيث يكون المعنى الشرعي جزءاً من جزئيات المعنى اللغوي- فمثل الصيام، فالصيام في اللغة: الإمساك، فأي إمساك يقال له: صيام.
وفي الشرع: إمساك مخصوص وهو الامتناع عن الأكل والشرب وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
وفي اللغة يقال لأي إمساك: صيام، فالإمساك عن الكلام صيام، والإمساك عن الأكل صيام، والدواب إذا أمسكت يقال عنها: إنها صيام، كما قال الشاعر: خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وخيل تعلك اللجما فالصيام في اللغة لفظ عام يشمل كل إمساك، وفي الشرع إمساك مخصوص.
والحج لغة: القصد مطلقاً، فأي قصد يقال له: حج.
وفي الشرع: قصد مخصوص، وهو قصد البيت للإتيان بأعمال مخصوصة.
والعمرة لغة: الزيارة.
فأي زيارة يقال لها: عمرة، وفي الشرع: زيارة البيت لأفعال مخصوصة، وعلى هذا فإن المعاني اللغوية أحياناً تكون أشمل وأوسع، ويكون المعنى الشرعي جزءاً من جزئيات المعنى اللغوي، وأحياناً يكون المعنى الشرعي أشمل أوسع ويكون أطلق عليه المعنى الشرعي لأن المعنى اللغوي موجود فيه، فالدعاء موجود في الصلاة بكثرة في ركوعها وسجودها وجلوسها وقيامها.(59/3)
مكانة الصلاة وعظمتها في الإسلام
إن الصلاة هي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، والإسلام بني على خمسة أركان، كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل وفي حديث ابن عمر وغيرهما، ففي حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان).
وفي حديث جبريل أنه قال: (أخبرني عن الإسلام.
قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)، فالصلاة هي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، والشهادتان هما الأساس وهما الركن الركين الذي كل عمل أو كل ركن سواه لا ينفع إلا إذا كان مستنداً إليه مبنياً عليه؛ لأنه إذا لم توجد الشهادتان فأي عمل من الأعمال لا قيمة له، أو وجدت شهادة أن لا إله إلا الله ولم توجد شهادة أن محمداً رسول الله معها من حين بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة؛ فإن أي عمل لا ينفع صاحبه ما دام أنه لم يستند على هذا الأساس الذي هو الشهادة لله بالوحدانية ولنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، والصلاة شأنها عظيم في الإسلام، وقد جاءت آيات وأحاديث تدل على عظم شأنها وأن شأنها أركان الإسلام بعد الشهادتين.
فمما ورد في بيان عظم شأنها: أن الله تعالى فرضها على نبيه صلى الله عليه وسلم وهو في السماء، ولم يفرضها عليه وهو في الأرض وإنما فرضت عليه وهو في السماء -صلوات الله وسلامه وبركاته عليه- ليلة المعراج، وفرضت عليه أولاً خمسين صلاة، وقد استسلم وانقاد وسلم الأمر لله ونزل لينفذ الذي أمر به، ولكنه لما مر بموسى بن عمران وهو في السماء السادسة عرض عليه وأشار عليه بأن يرجع إلى الله عز وجل ويسأله التخفيف، وقال: إنه قد كُلِّف بنو إسرائيل بأشياء ومع ذلك ما قاموا بها، فأشار عليه أن يرجع ويسأل التخفيف، فحصل ذلك، وتكررت المراجعة حتى صارت خمساً، وقال الله عز وجل: (هن خمس في العمل وخمسون في الأجر)، وذلك لأن الحسنة بعشر أمثالها، فيصلي الإنسان خمس صلوات في اليوم والليلة وتكون عن خمسين صلاة.
إذاً: فرضت عليه وهو في السماء صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، ونسخ العدد من خمسين إلى خمس قبل التمكن من الامتثال، وهذا يبين مدى استسلام الرسول صلى الله عليه وسلم وانقياده لأمر ربه، وأنه لما فرض عليه خمسين صلاة استعد للتنفيذ، ولكن الله خفف قبل أن يحصل التكليف على الناس، فخففت من خمسين إلى خمس والرسول صلى الله عليه وسلم في السماء قبل أن ينزل إلى الأرض، ففي هذا دليل على النسخ قبل التمكن من الامتثال.
ومثل هذا قصة الذبيح إسماعيل، حيث نسخ الأمر بالذبح قبل التمكن من الامتثال وقد حصل الاستسلام والانقياد من الذابح والمذبوح، وكل منهما استسلم لله عز وجل، ففائدة ذلك هو حصول وظهور استسلام الرسولين المكلفين بذلك، وهما نبينا محمد عليه الصلاة والسلام حيث استسلم وانقاد للقيام بخمسين صلاة فرضت عليه، وكذلك إبراهيم الخليل حيث أمر بذبح ابنه فأقدم على ذلك ونسخ الحكم قبل التنفيذ.
إذاً: فائدة ذلك -كما عرفنا- هو الاستسلام والإذعان والاستعداد للتنفيذ، وظهور الطاعة والقيام بتنفيذ ما طلب تنفيذه، فمما يدل على عظم شأن الصلاة أنها فرضت ورسول الله صلى الله عليه وسلم في السماء.
ومما يدل على عظم شأنها أن النبي عليه الصلاة والسلام أخبر بأنها عمود الإسلام، وذلك في حديث معاذ بن جبل الطويل الذي فيه عدة أمور، حيث قال له: (ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله)، وقوله: إنها عمود الإسلام يدل على عظم شأنها؛ إذ أن البنيان لا يتم ولا يقوم إلا على عمد، وكذلك الخيمة لا تقوم إلا على عمود أو على أعمدة، وإذا نزع العمود أو سقط العمود سقط البناء الذي عليها، كل هذا يدلنا على عظم شأن الصلاة في الإسلام.
ومما يدل على عظم شأنها أن النبي عليه الصلاة والسلام أخبر أنها آخر ما يفقد من الدين في هذه الحياة، حيث يقول: (أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة) والشيء إذا فقد أوله بقي منه شيء، لكن إذا فقد آخره لا يبقى منه شيء.
ومما يدل على عظم شأن الصلاة: ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، حيث يقول: (أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من عمله الصلاة)، فإن حصل النجاح في تلك المحاسبة فما سواها تابع لها، وإن حصلت خسارة فإنه يكون فيما سوى ذلك أخسر.
ومما يدل على عظم شأن الصلاة أن النبي صلى الله عليه وسلم وصى بها في آخر حياته، يقول علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في مرض موته: (الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم) يعني أنه يحث ويحرض على القيام بالصلاة وعلى الإحسان إلى من هم في ملك اليمين.
ثم يقول علي رضي الله عنه: (وهؤلاء الكلمات هن آخر شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم)، أي: أن علياً رضي الله عنه بعد أن سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا الكلام لم يسمعه بعد ذلك.
ومما يدل على عظم شأن الصلاة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر) فهذا يدل على عظم شأن الصلاة وأن تركها كفر.
ومما يدل على عظم شأنها أن الله تعالى أخبر أن الذين يدخلون سقر عندما يدخلون فيها ويسألون: ما الذي أوصلكم إلى سقر؟ يجيبون في أول ما يجيبون بأنهم لم يكونوا يصلون، قال عز وجل: ((كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:38 - 43]، فهذا من الأسباب التي توصل إلى سقر والعياذ بالله.
والحاصل أن أمر الصلاة عظيم وشأنها كبير، وقد جاءت النصوص الكثيرة الدالة على عظم شأنها، ثم هي تكون في اليوم والليلة خمس مرات، وهي صلة وثيقة بين العبد وبين ربه، وهي علامة الإيمان وعلامة الاستسلام والانقياد لأمر الإسلام، والإنسان إذا صاحب إنساناً يستطيع أن يعرف أنه من أولياء الله أو أنه من أعداء الله خلال أربع وعشرين ساعة، فإن رآه يصلي فهي علامة خير، وإن رآه لا يصلي فهي علامة شر، بخلاف بقية الأركان، فإنه لا يعرف حال الإنسان فيها كما يعرف في الصلاة؛ لأن الزكاة لا تجب في السنة إلا مرة واحدة، ولا تجب إلا على الأغنياء، والصيام لا يجب في السنة إلا شهراً واحداً، والحج لا يجب في العمر إلا مرة واحدة، لكن الصلاة في اليوم والليلة خمس مرات، فهي صلة وثيقة بين العبد وبين ربه، فهذا كله يبين لنا عظم شأن الصلاة وأهميتها، وأنها رأس مال المسلم، وأن عليه أن يحافظ عليها وأن يعنى بها وأن لا يتهاون فيها؛ لأنها أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، وقد عرفنا جملة من الأدلة الدالة على عظيم شأنها وعظم منزلتها في الإسلام.(59/4)
فرض الصلاة(59/5)
شرح حديثي طلحة بن عبيد الله في فرض الصلاة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الصلاة.
باب: فرض الصلاة.
حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن عمه أبي سهيل بن مالك عن أبيه أنه سمع طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه يقول: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقول، حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خمس صلوات في اليوم والليلة.
قال: هل عليّ غيرهن؟ قال: لا، إلا أن تطوع.
قال: وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم صيام شهر رمضان، قال: هل علي غيره؟ قال: لا إلا أن تطوع.
قال: وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الصدقة، قال: فهل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع.
فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق).
حدثنا سليمان بن داود حدثنا إسماعيل بن جعفر المدني عن أبي سهيل نافع بن مالك بن أبي عامر بإسناده بهذا الحديث، قال: (أفلح -وأبيه- إن صدق، دخل الجنة -وأبيه- إن صدق)].
قوله: [باب فرض الصلاة] المقصود بفرض الصلاة بيان أنها مفروضة، وليس المقصود بفرض الصلاة ابتداء فرضها؛ لأن ابتداء فرضها حصل ليلة المعراج، ولكن المقصود بالترجمة التي عقدها المصنف وأورد الحديث تحتها بيان أنها مفروضة وأن الله عز وجل فرضها، وأنها حق لازم متحتم لله تعالى، بل هي -كما عرفنا- أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين.
قوله: [(جاء رجل من أهل نجد ثائر الرأس يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقول، حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خمس صلوات في اليوم والليلة.
قال: هل علي غيرهن؟ قال: لا، إلا أن تطوع)] بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة، وبين له أن الذي يبدأ به بعد الدخول في الإسلام هو الصلاة، ولهذا جاء في وصية النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن أن يبدأ بدعوتهم إلى الصلاة بعد الدخول في الإسلام، فقال عليه الصلاة والسلام: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم)، فبدأ بالصلاة.
إذاً: أول شيء يدعى إليه بعد التوحيد هو الصلاة التي هي عمود الإسلام، وهذا -أيضاً- مما يبين لنا عظم شأن الصلاة وأنها أول شيء يدعى إليه بعد الدخول في الإسلام.
فهي خمس صلوات فرضها الله عز وجل في اليوم والليلة، فقال لهذا الرجل: [(خمس صلوات في اليوم والليلة.
قال: هل علي غيرهن؟ فقال: لا، إلا أن تطوع)] وهذا فيه دليل على أن الفرض الذي فرضه الله هو هذه الصلوات الخمس، وأن الوتر ليس بواجب محتم، ولكنه من آكد النوافل، ومن المعلوم أن الإنسان إذا تهاون بالنوافل فإنه يتهاون بالفرائض، والنوافل هي كالسياج وكالوقاية للفرائض، فينبغي أن لا يحصل تساهل فيها وتهاون، بل يؤدي الإنسان الفرائض ويأتي بالنوافل، والنوافل تكمل بها صلاة الفرض إذا حصل فيها نقص، كما جاء بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلى الإنسان أن يحافظ على الفرائض ويحرص على النوافل، وقد قال الله عز وجل في الحديث القدسي: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه)، ومن المعلوم أن الاقتصار على الفرائض هو الاقتصاد، ولكن السبق بالخيرات يكون بالإتيان بالواجبات وبالمفروضات وبالمنافسة في الخير وبالإتيان بالنوافل التي يتقرب بها العبد إلى الله عز وجل، ولهذا جاء في الحديث القدسي: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به) إلى آخر الحديث، فالإنسان عليه أن يحرص على الفرائض ويحرص على النوافل، ولا يتهاون بالنوافل؛ لأن التهاون بالنوافل قد يؤدي إلى التهاون بالفرائض، وقد جاء في الحديث: (أن الإنسان إذا كان في صلاته نقص فإنه وكان له نوافل فإنه يكمل بها ذلك النقص الذي حصل في صلاته.
إذاً: فالصلوات المفروضة في اليوم والليلة خمس صلوات، والحديث يدل على أن الوتر ليس بفرض، ولكنه متحتم، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحافظ على الوتر وعلى ركعتي الفجر في الحضر والسفر، فما كان يترك الوتر ولا ركعتي الفجر حتى في أسفاره صلى الله عليه وسلم، ويقول الإمام أحمد: إن الذي لا يصلي الوتر رجل سوء.
وفي الحديث -أيضاً- دليل على أن الجمعة فرض وأنها لازمة؛ لأنها من صلوات اليوم والليلة؛ [(خمس صلوات كتبهن الله في اليوم والليلة)] والجمعة هي فرض ذلك اليوم الذي هو يوم الجمعة.
قوله رسول الله صلى الله عليه وسم: [(وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم صيام رمضان، قال: هل علي غيره؟ قال: لا، إلا أن تطوع، وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الصدقة، قال: هل علي غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع، فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص.
معناه أنه يقتصر على الواجبات.
وقوله: [(أفلح إن صدق)] يدل على أن القيام بالواجبات هو الذي يسلم به الإنسان من الوقوع في الإثم؛ لأن الواجب يثاب فاعله ويعاقب تاركه، وأما المندوب فيثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، فقوله: [(أفلح إن صدق)] يعني: أتى بما يؤدي به إلى الفلاح، وبما يسلم به من عذاب الله عز وجل، ولكنه إذا زاد على ذلك بأن أتى بالنوافل يكون خيراً له وبركة، ويكون نوراً مضافاً إلى نور، وخيراً إلى خير، وقوله: [(أفلح إن صدق)] معناه: إن صدق فيما يقول وفيما حلف عليه أنه يأتي بما فرض الله عليه لا يزيد ولا ينقص فإنه يكون مفلحاً وآخذاً بسبب الفلاح، وهو القيام بما أوجبه الله جل وعلا عليه.(59/6)
أقوال العلماء في معنى: (أفلح وأبيه) وحكمها
جاء هنا في الحديث: [(أفلح وأبيه إن صدق، دخل الجنة وأبيه إن صدق)]، وهذا فيه لفظ قسم، وقد جاء في الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن الحلف بغير الله عز وجل، حيث قال: (من حلف بغير الله فقد أشرك)، وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد، ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون)، وقوله: (ولا تحلفوا إلا بالله) يعني: قصر الحلف على الله تعالى وأسمائه وصفاته، وليس المقصود أن يكون بلفظ الجلالة فقط، وإنما المقصود أن يكون الحلف بالله وبالرحمن وبالرحيم وبالسميع وبالبصير، فهذا حلف بالله؛ لأن من حلف بأسمائه فهو مثل الحالف بالله؛ لأن الله تعالى من أسمائه الرحمن، و (الرحيم) و (السلام) و (القدوس) وهكذا، فأي اسم ثبت لله عز وجل فإن الإنسان يجوز له أن يحلف به، فيحلف بالله وأسمائه وصفاته، ولا يحلف بغير ذلك، ولهذا قال: (ولا تحلفوا إلا بالله) يعني: لا تحلفوا بغير الله؛ لأن كل ما سوى الله مخلوق، والحلف إنما هو بالخالق دون المخلوق.
وقد جاء أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) يعني: لا يحلف، وإن كان حالفاً فحلفه يجب أن يكون بالله عز وجل.
وهنا يقول: [(أفلح وأبيه إن صدق)]، وقد أجاب العلماء عما ورد في هذا الحديث بأن قالوا: إن هذا كان قبل النهي.
ومنهم من قال: إن هذا من الألفاظ التي هي جارية على الألسنة ولا يراد بها القسم، وإنما هي من لغو اليمين، مثل قول القائل: لا والله، وبلى والله.
فهذه اليمين لا تنعقد إلا إذا أرادها الإنسان وعزم عليها، كأن يقول: والله لأفعلن كذا وكذا.
أما إذا كان اليمين شيئاً ما قصده الإنسان وما أراده، وإنما جرى على لسانه مثل: (لا والله) فـ) بلى بالله) فإن هذا من لغو اليمين الذي ليس فيه كفارة ولا تنعقد معه اليمين، فكذلك كلمة (وأبيه) يقال: إنها من الشيء الذي يجري على الألسنة ولا يراد به اليمين ولا يراد به القسم، مثل ما جرى في كلمات أخرى، كقوله: (عقرى حلقى) وقولهم: (تربت يمينك) و (تربت يداك)، فهو شيء يجري على الألسنة ولا يراد، ومن العلماء من قال: إن هذه الرواية شاذة مخالفة للروايات التي لم يذكر فيها (وأبيه)، فهي زيادة شاذة.
والحاصل أن الحلف بغير الله لا يجوز، وأن ما ورد في الحديث لا يقال: إنه دليل على جواز الحلف بغير الله؛ لأنه قد جاء ما يدل على المنع من ذلك؛ حيث قال: (لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد، ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون)، وقال ذلك لما سمع عمر يقول: (وأبي)، فعند ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الكلام، فقال عمر رضي الله عنه: (والله لا أحلف بذلك ذاكراً ولا آثراً) يعني: لا يحلف ذاكراً بأن يكون منه ولا آثرا ذلك عن غيره.
وهذا فيه استسلام الصحابة وانقيادهم لما يأتي عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من الأحكام.
ثم إن الحلف بغير الله أمره خطير، فقد جاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: (لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً) وذلك لأن الحلف بالله توحيد والكذب معصية، والحلف بغير الله شرك، ومن المعلوم أن المعصية دون الشرك، والذنب الذي يوصف بأنه شرك أو كفر يكون أعظم من غيره وأشد.(59/7)
تراجم رجال إسناد حديثي طلحة في فرض الصلاة
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة].
هو عبد الله بن مسلمة القعنبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة، الإمام المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عمه أبي سهيل بن مالك].
وعمه أبو سهيل هو نافع بن مالك بن أبي عامر الأصبحي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه هو مالك بن أبي عامر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أنه سمع طلحة بن عبيد الله].
طلحة بن عبيد الله رضي الله تعالى عنه هو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سليمان بن داود].
هو أبو الربيع الزهراني، وهو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[عن إسماعيل بن جعفر المدني].
إسماعيل بن جعفر المدني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سهيل نافع بن مالك بن أبي عامر بإسناده بهذا الحديث].
قد مر ذكره.(59/8)
شرح سنن أبي داود [060]
لقد جعل الله تعالى للصلاة مواقيت مخصوصة وأناطها بأمارات يعرفها الناس ويدركونها، ولكل فرض من فروض الصلاة وقت مخصوص له بداية ونهاية، والوقت بينهما، ولبعض الفروض وقت اختياري ووقت آخر اضطراري يصلي فيه من زال عذره من أهل الأعذار وتكون صلاته أداءً، وليحرص المرء على الصلاة أول الوقت، ولا ينبغي له أن يؤخر فرضاً إلى آخر وقته؛ لأن ذلك قد يكون سبباً في خروج الوقت قبل أداء الصلاة.(60/1)
ما جاء في المواقيت(60/2)
مقدمة فيما جاء في المواقيت
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: ما جاء في المواقيت].
هذا باب ما جاء في المواقيت، وقد عرفنا أن الله عز وجل جعل مواقيت العبادة أموراً معلومة مشاهدة معاينة يعرفها الخاص والعام، وليست بحاجة إلى حذق وإلى فطنة وإلى دقة وإلى ذكاء، وإنما هي أمور معلومة معروفة مشاهدة للخاص والعام وللحاضر والبادي، يعرف ذلك الحضري في قريته والبدوي في فلاته، وليس فيها خفاء، ومن هذه العبادات الصلوات الخمس، فقد حددت أوقاتها بأمور مشاهدة معاينة، فالظهر إذا زالت الشمس وتحول الظل من جهة الغرب إلى جهة الشرق، فعندما يحصل انكسار الفيء بعد انتصاف النهار يبدأ وقت الظهر إلى أن يكون ظل الشيء مثله، وكان عليه الصلاة والسلام يأمر بتأخير صلاة الظهر إذا اشتد الحر حتى تنكسر حدة الشمس، والعصر يصليها إذا انتهى وقت الظهر بحيث يكون ظل كل شيء مثله، وانتهاء وقت صلاة العصر حين يكون ظل الشيء مثليه، أو ما لم تصفر الشمس، أو كون الشمس حية مرتفعة نقية، وهذا هو الوقت الاختياري الذي للإنسان أن يؤخر إليه، ولكن -كما هو معلوم- ينبغي للإنسان ألا يعرض نفسه لتأخير الصلاة عن وقتها الاختياري؛ لأن تأخيرها إلى قرب الوقت قد يحصل معه الفوات، فعلى الإنسان أن يحتاط لدينه ويأتي بالصلاة في أول وقتها أو بعد ما يمضي شيء من الوقت، لكن لا يكون الوقت قريباً من الانتهاء والانصرام؛ لأن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، والذي يقرب من انتهاء الوقت قد يحصل منه الخروج من الوقت، فالاحتياط للإنسان في دينه أن لا يؤخرها، وأما وقت الاضطرار فإنه من حين اصفرار الشمس إلى الغروب، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب فقد أدرك الصلاة) يعني: أدركها مؤداة في وقتها، ما دام أنه أدرك منها مقدار ركعة، وكذلك من أدرك قبل طلوع الشمس ركعة يكون قد أدرك الفجر، أما المغرب فإن النبي عليه الصلاة والسلام كان يصليها إذا غربت الشمس وجاء وقت إفطار الصائم، وجاء أن آخر وقتها إذا غاب الشفق أو ما لم يغب الشفق، ويأتي بعدها وقت صلاة العشاء مباشرة من غير فاصل، ويمتد وقتها إلى نصف الليل، وهذا هو الوقت الاختياري، وليس للإنسان أن يؤخرها إلى آخر الوقت بحيث يكون الوقت عرضة للخروج، ولكن ما دام أنه صلاها قبل نصف الليل فإنه يكون بذلك قد أداها، ومن نصف الليل إلى طلوع الفجر يكون الوقت الاضطراري؛ لأن الإنسان إذا نام ولم يستيقظ إلا بعد انتصاف الليل فإنه يصليها، وتكون مؤداة؛ لأنه أداها في الوقت الاضطراري.
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس في النوم تفريط، إنما التفريط في اليقظة).
وكل الصلوات أوقاتها متصلة بعضها ببعض إما اختياراً وإما اضطراراً إلا الفجر، فإن آخر وقتها طلوع الشمس، والزمن من طلوع الشمس إلى الزوال ليس وقتاً لأي صلاة من الصلوات، ولا للظهر؛ لأن صلاة الظهر لا بد من أن تكون بعد الزوال، وصلاة الفجر لا يجوز أن تؤخر عن طلوع الشمس، ولو أخرت عن طلوع الشمس -سواءٌ أكان ذلك اختياراً أم اضطراراً- فإنها تعتبر مقضية؛ لأنها فعلت في غير وقتها، إلا أن الإنسان إذا صلى بعد طلوع الشمس مضطراً غير مفرط فإنه يكون قد أدى ما عليه قضاءً، ولكنه لا يأثم، أما إذا كان مفرطاً وحصل التأخير عن طلوع الشمس بتفريط منه فإن عليه أن يصلي، ولكنه أثم بكونه قصد التأخير أو أنه وجد منه التفريط الذي حصل بسببه التأخير.(60/3)
شرح حديث ابن عباس في المواقيت
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان حدثني عبد الرحمن بن فلان بن أبي ربيعة -قال أبو داود: هو عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة - عن حكيم بن حكيم عن نافع بن جبير بن مطعم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمّني جبريل عليه السلام عند البيت مرتين، فصلى بي الظهر حين زالت الشمس وكانت قدر الشراك، وصلى بي العصر حين كان ظله مثله، وصلى بي -يعني المغرب- حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق، وصلى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم، فلما كان الغد صلى بي الظهر حين كان ظله مثله، وصلى بي العصر حين كان ظله مثليه، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء إلى ثلث الليل، وصلى بي الفجر فأسفر، ثم التفت إلي فقال: يا محمد! هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت ما بين هذين الوقتين)].
هذه الأوقات التي تؤدى فيها الصلاة، ولا تؤدى قبلها ولا بعدها، إلا إذا كانت قضاءً بحيث يكون الإنسان قد حصل له نوم أو حصل له نسيان، فإنه يصلي الصلاة إذا ذكرها، وإلا فإن الواجب إيقاع الصلاة في أوقاتها، والله عز وجل لما شرع العبادات جعل لها مواقيت واضحة بينة لا تحتاج إلى أن يعرفها أناس مختصون، بل جعلت المواقيت للعبادات من الأمور المشاهدة التي يعرفها الحاضر والبادي؛ لأنها منوطة بطلوع الفجر، وبالزوال، وبكون ظل الشيء مثله أو مثليه، وبغروب الشمس، وبمغيب الشفق.
إذاً: المواقيت ليست من الأمور الدقيقة التي لا يعرفها إلا أناس عندهم حذق وعندهم فطنة، بل كل الناس يعرفونها؛ لأنها أمور مشاهدة ومعاينة.
فالصلوات حددت أوقاتها بأمور مشاهده تحصل في اليوم والليلة، فهي تتعلق بالشمس وبطلوعها وغروبها، وكذلك الشفق الذي يكون وراءها، وبطلوع الفجر، وكذلك بالنسبة لرمضان، فهو شهر يعرف دخوله عن طريق رؤية الهلال في السماء، والصيام يبدأ من طلوع الفجر وينتهي بغروب الشمس.
والحج كذلك يكون في أوقات معلومة، وتكون مبنية على معرفة الشهر ودخوله، بحيث يكون الوقوف بعرفة يوم التاسع من ذي الحجة ويوم النحر يوم العاشر، والأيام التي بعده شأنها كذلك.
إذاً: المواقيت تعرف عن طريق المشاهدة والمعاينة، وعن طريق رؤية الهلال، والمواقيت أمور مشاهدة يعرفها الخاص والعام والحضري في الحضر والبدوي في الفلاة، فإذا غابت الشمس جاء وقت الإفطار، وإذا طلع الفجر جاء وقت الإمساك وجاء وقت صلاة الفجر، وإذا زالت الشمس جاء وقت الظهر، وإذا كان ظل الشيء مثله انتهى وقت الظهر وبعد ذلك يبدأ وقت العصر، وهكذا.(60/4)
أول مواقيت الصلوات الخمس
قوله: [(أمني جبريل عند البيت مرتين)] أي: مرة في اليوم الأول، وكان ذلك في أول الوقت، ومرة في اليوم الثاني، وكان ذلك في آخر الوقت.
قوله: [(الصلاة بين هذين الوقت)] يعني: هذا أول الوقت وهذا آخره، ووقت الصلاة من هذه البداية إلى هذه النهاية.
فجبريل أم النبي صلى الله عليه وسلم مرتين: مرة في أول الوقت ومرة في آخر الوقت، والصلاة تؤدى بين الوقتين الذين هما بداية الوقت ونهايته، فمن أوله إلى آخره تؤدى بين ذلك.
وكان مجيء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعدما فرضت عليه الصلوات الخمس في السماء، فنزل عليه جبريل وصلى به الظهر في يوم من الأيام حتى جاء الفجر في أول الوقت، وفي اليوم الثاني بدأ بالظهر حتى الفجر في آخر الوقت، وفي هذا بيان أول الوقت وآخر الوقت.
قوله: [(عند البيت)] المقصود بالبيت الكعبة.
قوله: [(فصلى بي الظهر حين زالت الشمس وكانت قدر الشراك)].
الشمس تطلع من جهة الشرق والفيء يكون إلى جهة الغرب، فإذا توسطت واتجهت إلى جهة الغرب بدأ الظل يتجه إلى جهة الشرق، فإذا زالت الشمس عن الرأس وانكسر الفيء بحيث يصير الظل إلى جهة الشرق عند ذلك يبدأ وقت الظهر.
قوله: [(وكانت قدر الشراك)] يعني أن ظلها يكون شيئاً يسيراً تحت الجدران مثل سير النعل الذي يكون على ظاهر النعل، وهذا هو أول وقت الظهر.
قوله: [(وصلى بي العصر حين كان ظله مثله)].
يعني: عند انتهاء وقت الظهر؛ لأن أول وقت العصر إذا كان ظل الشيء مثله، بحيث تكون الصلاة بعد ذلك، وأما الظهر فيكون قبله، وصلاة العصر متصلة بصلاة الظهر ليس بينهما وقت، فإذا خرج وقت هذه دخل وقت هذه؛ لأنه لا فاصل بينهما، فصلاة الظهر ما لم تحضر العصر، كما جاء في بعض الأحاديث: (ما لم تحضر العصر).
وقوله: [(حين كان ظل الشيء مثله)]، ليس معنى ذلك أن وقت صلاة العصر يوافق آخر الظهر، بل إذا انتهى وقت الظهر دخل وقت العصر، لا أن الصلاتين متداخلتان، بحيث تكون هذه تؤدى في وقت هذه، وإنما إذا صار ظل الشيء مثله يكون الإنسان قد انتهى من صلاة الظهر.
قوله: [(وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم)].
يعني: عندما غربت الشمس؛ لأن إفطار الصائم يكون عند غروب الشمس.
قوله: [(وصلى بي العشاء حين غاب الشفق)].
الشفق هو الحمرة التي تكون بعد غروب الشمس، بحيث يأتي الظلام الذي يكون بعد النهار، فإذا جاء ذلك الوقت دخل وقت العشاء.
قوله: [(وصلى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم)].
يعني: عند طلوع الفجر؛ لأن طلوع الفجر تدخل به الصلاة ويحرم الأكل والشرب للصائم؛ لأن الأكل والشرب قبل طلوع الفجر جائز، والصلاة لا يؤتى بها قبل طلوع الفجر، وإنما يؤتى بها بعد طلوع الفجر، ومعنى هذا أن طلوع الفجر تحل به صلاة الفجر ويحرم به الأكل والشرب في حق الصائم؛ لأن عليه الإمساك من حين يدخل الوقت حين يوجد انفلاق الصبح الذي هو طلوع الفجر الثاني المعترض في الأفق الذي يستمر شيئاً فشيئاً حتى طلوع الشمس، فعندما يوجد ذلك الوقت يأتي أول وقت صلاة الفجر، وعنده ينتهي الأكل والشرب في حق من يريد الصيام.
إذاً: هذه مواقيت الصلوات التي صلاها في اليوم الأول، ففي اليوم الأول صلى الظهر عند زوال الشمس بعد الزوال حين صار الظل قدر الشراك، والعصر حين صار ظل الشيء مثله، والمغرب حين غربت الشمس، والعشاء حين غاب الشفق، والفجر حين طلع الفجر، هذه هي بداية الأوقات.(60/5)
آخر مواقيت الصلوات الخمس
قوله: [(فلما كان الغد صلى بي الظهر حين كان ظله مثله)].
يعني: عندما يكون ظل الشيء مثله، بحيث يبدأ وقت العصر، وليس معنى ذلك التداخل بحيث يكون وأن آخر وقت هذه هو أول وقت هذه، بل عندما تنتهي هذه تبدأ هذه.
قوله: [(وصلى بي العصر حين كان ظله مثليه)].
يعني: أن العصر يبدأ من كون الظل مثله إلى كون الظل مثليه.
قوله: [(وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم)].
ليس في هذا الموضع ذكر للوقت الثاني؛ لأنه في اليوم الأول صلى حين أفطر الصائم وفي اليوم الثاني صلى حين أفطر الصائم، ومن هنا أخذ بعض العلماء أن صلاة المغرب ليس لها إلا وقت واحد، وأن وقتها ليس بطويل، ولكن جاءت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن وقت المغرب إلى وقت العشاء، ووقت العشاء إذا غاب الشفق، فدلت الأحاديث الأخرى على أن صلاة المغرب لها وقت له بداية وله نهاية، فبدايته غروب الشمس ونهايته مغيب الشفق وحضور وقت صلاة العشاء، كما سيأتي في بعض الأحاديث الدالة على ذلك.
قوله: [(وصلى بي العشاء إلى ثلث الليل)].
في هذه الرواية ذكر ثلث الليل ولكن جاء في الروايات الأخرى أنها إلى نصف الليل، وسيأتي ذكر بعض الأحاديث الدالة على ذلك، ولعل التفاوت بين الثلث والنصف سببه أن شخصاً قدر بالثلث وشخصاً آخر قد بالنصف، لكن جاءت الروايات المتعددة محددة ذلك بنصف الليل، وهذا هو الوقت الاختياري، ولكن -كما هو معلوم- ينبغي للإنسان أن يحرص على أن يؤدي الصلاة في أول الوقت؛ لأن تأخيرها إلى آخر الوقت قد يؤدي إلى خروجها عن وقتها، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، والذي يحوم حول آخر الوقت يوشك أن يخرج الوقت وهو لم يصل، فيكون بذلك قد أخرج الصلاة عن وقتها ويكون مفرطاً، ولكنه إذا بادر إلى الصلاة في أول وقتها يكون بذلك قد بادر إلى الشيء الذي كلف به.
قوله: [(وصلى بي الفجر فأسفر)].
يعني: صلى حتى حصل الإسفار، وجاء في بعض الأحاديث: أن وقت الفجر ما لم تطلع الشمس، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أدرك ركعة من الصلاة قبل أن تطلع الشمس فليضف إليها أخرى) يعني: ويكون بذلك قد أدى الصلاة في وقتها، فوقت الفجر إلى طلوع الشمس، ولكن ينبغي للإنسان المسلم أن يؤديها بغلس وأن يؤديها في أول وقتها كما جاء ذلك عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، لكنها حيث أديت من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس تكون قد أديت في وقتها.
إذاً: على الإنسان أن لا يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت؛ لأن ذلك فيه قرب من النهاية، وقد يؤدي ذلك إلى التفريط وإخراج الصلاة عن وقتها، ثم إن من الصلوات ما لها وقت اضطراري ووقت اختياري، فصلاة العصر لها وقت اختياري ووقت اضطراري، فالاختياري يمتد إلى أن يكون ظل الشيء مثليه أو إلى اصفرار الشمس، أما الاضطراري فإلى غروب الشمس، بمعنى: أنه لو نام إنسان ولم يستيقظ إلا قبل غروب الشمس فإنه يصلي العصر في وقتها، وهو الوقت الاضطراري، وكذلك بالنسبة للعشاء، فامتداد وقتها إلى نصف الليل اختياري، وبعده إلى طلوع الفجر اضطراري؛ لأنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس في النوم تفريط، إنما التفريط أن يؤخر الصلاة حتى يأتي وقت الصلاة التي بعدها).
قوله: [(ثم التفت إلي فقال: يا محمد! هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت ما بين هذين الوقتين)].
أي: وقت الصلاة بين هذين الوقتين: الوقت الأول الذي حصل في اليوم الأول، والوقت الثاني الذي حصل في اليوم والثاني، فوقت الصلاة بين هذين الوقتين، وهي أوقات اختيارية كما هو واضح.(60/6)
تراجم رجال إسناد حديث ابن عباس في المواقيت
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد، ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن فلان بن أبي ربيعة].
هو عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة، وهو صدوق له أوهام، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد، وأصحاب السنن.
[عن حكيم بن حكيم].
حكيم بن حكيم صدوق، أخرج له أصحاب السنن.
[عن نافع بن جبير بن مطعم].
نافع بن جبير بن مطعم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(60/7)
شرح حديث: (نزل جبريل فأخبرني بوقت الصلاة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن سلمة المرادي حدثنا ابن وهب عن أسامة بن زيد الليثي أن ابن شهاب أخبره أن عمر بن عبد العزيز كان قاعداً على المنبر فأخر العصر شيئاً، فقال له عروة بن الزبير: أما إن جبريل صلى الله عليه وسلم قد أخبر محمداً صلى الله عليه وسلم بوقت الصلاة، فقال له عمر.
اعلم ما تقول، فقال عروة: سمعت بشير بن أبي مسعود يقول: سمعت أبا مسعود الأنصاري يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (نزل جبريل صلى الله عليه وسلم فأخبرني بوقت الصلاة فصليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه ثم صليت معه -يحسب بأصابعه خمس صلوات-، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر حين تزول الشمس، وربما أخرها حين يشتد الحر، ورأيته يصلي العصر والشمس مرتفعة بيضاء قبل أن تدخلها الصفرة، فينصرف الرجل من الصلاة فيأتي ذا الحليفة قبل غروب الشمس، ويصلي المغرب حين تسقط الشمس، ويصلي العشاء حين يسود الأفق، وربما أخرها حتى يجتمع الناس، وصلى الصبح مرة بغلس، ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها، ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات، ولم يعد إلى أن يسفر)].
قوله: [أخبره أن عمر بن عبد العزيز كان قاعداً على المنبر فأخر العصر شيئاً -يعني: بعض التأخير- فقال له عروة بن الزبير: أما إن جبريل قد أخبر محمداً صلى الله عليه وسلم بوقت الصلاة.
فقال له عمر: [اعلم ما تقول] يعني: ينبغي أن تكون متحققاً مما تقوله ومتثبتاً منه.
ولعل المقصود من قوله: (اعلم ما تقول) يتعلق بذكر إخبار جبريل، وإلا فإن عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه لا يخفى عليه أن الصلاة لها وقت له بداية وله نهاية، وأن تأخيره إنما هو تأخير مبني على أن الوقت باق، فقوله: [اعلم ما تقول] قيل: إنه يتعلق بكون عروة أخبر أن جبريل أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقت الصلاة، فعند ذلك حدث عروة بن الزبير بإسناده إلى أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري رضي الله تعالى عنه.
قوله: [قال عروة: سمعت بشير بن أبي مسعود يقول: سمعت أبا مسعود الأنصاري يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (نزل جبريل صلى الله عليه وسلم فأخبرني بوقت الصلاة، فصليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه)].
يعني أنه أخبره بالفعل وبالقول؛ لأنه أمه في أول الوقت في اليوم الأول وفي اليوم الثاني أمه في الصلوات الخمس في آخر الوقت، أي: الوقت الاختياري بالنسبة للصلاة التي لها وقت اختياري ووقت اضطراري.
ففيه إخبار بالقول وإخبار بالفعل؛ لأنه صلى به وقال له: (الوقت ما بين هذين الوقتين) وهنا ذكر الصلوات الخمس وعدها ولم يذكر التفصيل، وإنما ذكر ذلك مجملاً بقوله: [(صليت معه ثم صليت معه)].
فتحقق الإخبار من جبريل للرسول صلى الله عليه وسلم قد حصل، وأنه أخبره بالوقت وصلى معه، وإخباره به كان قولاً وفعلاً.
قوله: [(فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم)] يعني: فرآه يصلي الأوقات على هذا النحو الذي ذكره، وهذا ليس فيه بيان الشيء الذي فعله جبريل، وإنما فيه إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن جبريل أخبره بالوقت وأنه صلى معه خمس صلوات، ثم قال أبو مسعود: رأيته صلى الله عليه وسلم يفعل كذا وكذا.
أي: مما شاهده وعاينه، ومن المعلوم أن ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مبني على ما علّمه جبريل وبما أوحى الله إليه بعد ذلك فيما فيه زيادة على ما حصل في تعليم جبريل له صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قد جاء في حديث جبريل أنه صلى المغرب وقتاً واحداً، ولكن جاء من قوله صلى الله عليه وسلم: (وقت المغرب ما لم يغب الشفق -أو: ما لم يحضر وقت العشاء-) فدل ذلك على أن هناك زمناً أطول من الزمن الذي ذكر فيه أنه صلى المغرب عند غروب الشمس في اليومين الأول والثاني، وعلى هذا فحديث أبي مسعود فيه الإخبار بصلاة جبريل به وإخبار جبريل له بوقت الصلاة، ثم إن أبا مسعود أخبر عما شاهده وعاينه من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر حين تزول الشمس)].
يعني: حين يحصل الزوال، وهو رجوع الفيء من جهة الغرب إلى جهة الشرق، وإن كان شيئاً يسيراً، كما سبق أن مر في حديث ابن عباس أنه مثل شراك النعل.
والمهم أنه إذا وجد الزوال وتحقق وجود الفيء وإن كان شيئاً يسيراً فذلك هو بداية صلاة الظهر، ولا يجوز أن تؤدى قبل الزوال، ولو أديت قبل الزوال لكانت باطلة غير صحيحة، ومن صلاها قبل الزوال فتبين له أن الزوال لم يحصل يجب عليه أن يعيدها؛ لأن الصلاة قبل وقتها لا تصح ولا تعتبر.
قوله: [(وربما أخرها حين يشتد الحر)].
يعني أنه كان يؤخرها إذا اشتد الحر، وقد جاء ذلك من فعله، وجاء من قوله: (إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة -أو عن الصلاة-؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم).
قوله: [(ورأيته يصلي العصر والشمس مرتفعة بيضاء قبل أن تدخلها الصفرة)] يعني: لم تقرب من الغروب ولم يتغير لونها، بل لونها على صفائه وعلى بياضه لم يتغير بصفرة للقرب من الغروب، وإنما هي بيضاء في شدة وهجها مع وجود حرارتها، وهذا هو آخر الوقت الاختياري.
قوله: [(فينصرف الرجل من الصلاة فيأتي ذا الحليفة قبل غروب الشمس)].
يعني: يمشي إلى ذي الحليفة قبل غروب الشمس، وهذا فيه تقدير بالسير.
قوله: [(ويصلي المغرب حين تسقط الشمس)].
يعني: يصلي المغرب حين تغيب وتذهب عن الأبصار، وهو الوقت الذي يحل فيه الأكل للصائم حيث يفطر، ويحل فيه أداء صلاة المغرب.
قوله: [(ويصلي العشاء حين يسود الأفق)].
يعني: يصلي العشاء حين تذهب حمرة الشفق الذي كان من آثار النهار، ويسود الأفق بالظلام الدامس الذي ليس معه شيء من علامات النهار، والشفق هو الذي يأتي بعد غروب الشمس ويتبعها ويذهب بضوئها شيئاً فشيئاً حتى يأتي الظلام الشديد.
قوله: [(وربما أخرها حتى يجتمع الناس)].
كان من هديه صلى الله عليه وسلم في العشاء أنه إذا رآهم بكروا وعجلوا بالحضور عجل حتى لا يشق عليهم، وإذا رآهم أخروا أو لم يكتمل حضورهم فإنه يؤخر، وقد جاء في بعض الأحاديث أن وقتها إلى ثلث الليل، وفي بعضها إلى نصف الليل، أي: خروج الوقت الاختياري.
قوله: [(وصلى الصبح مرة بغلس)].
يعني: في الظلام بعد طلوع الفجر في أول الوقت.
قوله: [(ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها)].
يعني: حين وضح النهار وتبين الإسفار.
قوله: [(ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات ولم يعد إلى أن يسفر)].
يعني أنه كان يحافظ على الصلاة في أول وقتها ولم يعد إلى الإسفار، وإنما فعله في بعض الأحيان لبيان الجواز ولبيان أن ذلك سائغ، ولكن الذي داوم عليه والمعروف من فعله صلى الله عليه وسلم أنه كان يصليها بغلس.(60/8)
تراجم رجال إسناد حديث: (نزل جبريل فأخبرني بوقت الصلاة)
قوله: [حدثنا محمد بن سلمة المرادي].
هو محمد بن سلمة المرادي المصري، ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
[عن ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أسامة بن زيد الليثي].
أسامة بن زيد الليثي صدوق يهم، أخرج حديثه البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن ابن شهاب].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة بن الزبير].
هو عروة بن الزبير بن العوام، ثقة، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن بشير بن أبي مسعود].
بشير بن أبي مسعود له رؤية، وقيل: إنه من ثقات التابعين.
أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن أبيه].
أبوه هو أبو مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري الأنصاري رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(60/9)
حديث (نزل جبريل فأخبرني بوقت الصلاة) من طرق أخرى وتراجم رجال الإسناد
قوله: [قال أبو داود: روى هذا الحديث عن الزهري معمر ومالك وابن عيينة وشعيب بن أبي حمزة والليث بن سعد وغيرهم، لم يذكروا الوقت الذي صلى فيه ولم يفسروه].
أي: روى هذا الحديث عدد من أصحاب الزهري، وهم: معمر والليث، ومالك، وابن عيينة، وشعيب بن أبي حمزة لم يذكروا الوقت ولم يفسروه، أي: لم يبينوا أنه من كذا إلى كذا، وإنما ذكروه مجملاً، لا كما مر في أول الحديث في قوله: [(صليت معه ثم صليت معه)].
قوله: [روى هذا الحديث عن الزهري معمر].
معمر هو معمر بن راشد الأزدي البصري، ثم اليماني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة، الإمام المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[وابن عيينة].
هو سفيان بن عيينة المكي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وشعيب بن أبي حمزة].
هو شعيب بن أبي حمزة الحمصي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[والليث بن سعد].
هو الليث بن سعد المصري، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
قوله: [وكذلك -أيضاً- روى هشام بن عروة وحبيب بن أبي مرزوق عن عروة نحو رواية معمر وأصحابه، إلا أن حبيباً لم يذكر بشيراً].
أي أن هشام بن عروة رواه عن أبيه نحو رواية معمر، وكذلك حبيب بن أبي مرزوق رواه عن عروة نحو رواية معمر وأصحابه، يعني الذين ذكرهم بعده كما مر ذكرهم، إلا أن حبيباً لم يذكر بشير بن أبي مسعود، بل رواه عن عروة عن أبي مسعود.
[وكذلك -أيضاً- روى هشام بن عروة].
هشام بن عروة ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
قوله: [وحبيب بن أبي مرزوق].
حبيب بن أبي مرزوق ثقة، أخرج حديثه الترمذي والنسائي، وما ذكر رواية أبي داود عنه، ولعل الرواية التي تذكر في التعليقات لا يرمز لرواتها، وإنما يرمز للذين رووا في الأصول.(60/10)
ذكر روايات متعلقة بمواقيت الصلاة وتراجم رجالها
قوله: [وروى وهب بن كيسان عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقت المغرب، قال: (ثم جاءه للمغرب حين غابت الشمس -يعني من الغد- وقتاً واحداً)].
رواية وهب بن كيسان عن جابر هي فيما يتعلق بالمغرب، حيث جاءه في اليوم الثاني وصلى به المغرب وقتاً واحداً كما صلى في اليوم والأول.
إذاً: رواية جابر رضي الله عنه فيها أن وقت المغرب وقت واحد في اليومين الأول والثاني، وقد عرفنا أنه جاء في الأحاديث ما يدل على أن المغرب ليس وقته واحداً، بل وقته ممتد ما لم يحضر وقت العشاء حين مغيب الشفق.
قوله: [وهب بن كيسان].
وهب بن كيسان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
هو جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنه، صحابي ابن صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: [قال أبو داود: وكذلك روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثم صلى بي المغرب -يعني من الغد- وقتاً واحداً)].
هذا الذي جاء عن أبي هريرة هو -كذلك- فيما يتعلق بصلاة المغرب، وأن اليومين اللذين صلى فيهما جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم المغرب كان وقتهما واحداً.
قوله: [عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق.
قوله: [وكذلك روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص من حديث حسان بن عطية عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم].
أي: وكذلك روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص مثل الذي جاء عن جابر وعن أبي هريرة، وهو أن وقت المغرب كان واحداً، وقال: إنه من رواية حسان بن عطية عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
قوله: [من حديث حسان بن عطية].
حسان بن عطية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن شعيب].
هو عمرو بن شعيب صدوق، أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة، وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
أبوه شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، صدوق أيضاً، أخرج له البخاري في جزء القراءة والأدب المفرد، وأصحاب السنن الأربعة.
[عن جده].
هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، صحابي ابن صحابي، وهو أحد العبادلة الأربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وعلى هذا فهؤلاء الثلاثة الذين هم جابر وأبو هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص جاء عنهم ما يدل على أن وقت المغرب واحد.
وقد سبق أن مر في حديث ابن عباس أيضاً أنه قال: (وقتاً واحداً)، وقد جاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص -وسيأتي-: (أن وقت المغرب ما لم يحضر وقت العشاء -أو ما لم يغب الشفق-).(60/11)
شرح حديث: (الوقت فيما بين هذين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا عبد الله بن داود حدثنا بدر بن عثمان حدثنا أبو بكر بن أبي موسى عن أبي موسى رضي الله عنه: (أن سائلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليه شيئاً، حتى أمر بلالاً رضي الله عنه فأقام الفجر حين انشق الفجر، فصلى حين كان الرجل لا يعرف وجه صاحبه، أو أن الرجل لا يعرف من إلى جنبه، ثم أمر بلالاً فأقام الظهر حين زالت الشمس، حتى قال القائل: انتصف النهار.
وهو أعلم، ثم أمر بلالاً فأقام العصر والشمس بيضاء مرتفعة، وأمر بلالاً فأقام المغرب حين غابت الشمس، وأمر بلالاً فأقام العشاء حين غاب الشفق، فلما كان من الغد صلى الفجر وانصرف، فقلنا: أطلعت الشمس؟ فأقام الظهر في وقت العصر الذي كان قبله، وصلى العصر وقد اصفرت الشمس -أو قال: أمسى-، وصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق، وصلى العشاء إلى ثلث الليل، ثم قال: أين السائل عن وقت الصلاة؟ الوقت فيما بين هذين)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن سائلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوقت فلم يجبه بالقول والتفصيل، ولكنه أراد أن يوقفه بالفعل على أوقات الصلاة، فهو تعليم بالفعل، وبعد ذلك قال له: [(الوقت بين هذين الوقتين)] بعد أن صلى معه يومين وشاهد وعاين وعرف الوقت الذي يصلى فيه، فكان بيانه صلى الله عليه وسلم له بالفعل، بحيث يشاهد ويعاين صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوقت في أوله وفي آخره، ثم بعد ذلك قال له: [(الصلاة بين هذين الوقتين)].(60/12)
وقت الصلوات في اليوم الأول
قوله: [(أمر بلالاً فأقام الفجر حين انشق الفجر)].
يعني: في اليوم الأول حين طلع الفجر وبدأ أول الوقت أمره بأن يقيم الصلاة فأقام وصلى.
قوله: [(وصلى حين كان الرجل لا يعرف وجه صاحبه، أو أن الرجل لا يعرف من إلى جنبه)].
يعني أنه من الظلام كان الرجل لا يعرف وجه صاحبه، حيث صلى مبكراً في أول الوقت.
قوله: [(ثم أمر بلالاً فأقام الظهر حين زالت الشمس، حتى قال القائل: انتصف النهار)].
يعني أنه صلى في أول الوقت، وليس معناه الشك أو التردد في كون النهار قد انتصف، ولكن هذا إشارة إلى أنه صلى في أول الوقت.
قوله: [(وهو أعلم)] المقصود بذلك أنه يعلم أنه قد انتصف النهار، وليس هناك تردد في أنه انتصف أو لم ينتصف؛ لأنه لا يجوز أن تصلى الصلاة في وقت مشكوك فيه، بل الواجب أن يؤتى بالصلاة بعد تحقق دخول الوقت وليس في الشك، وإنما هذا فيه إشارة إلى المبادرة إلى الصلاة في أول الوقت، مثل ما جاء في قضية صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم في مزدلفة، حيث قيل في حديثها (هل طلع الفجر -أو أطلع الفجر-) وكذلك قول عائشة: (كان يصلي ركعتي الفجر حتى أقول: هل قرأ فيهما بأم القرآن؟) وهذه إشارة إلى تقليلها، وليس معنى ذلك الشك في أنه أكمل الفاتحة أو لم يكملها، فهذه العبارات يراد بها الإشارة إلى التقليل.
قوله: [(ثم أمر بلالاً فأقام العصر والشمس بيضاء مرتفعة، وأمر بلالاً فأقام المغرب حين غابت الشمس)].
يعني أنه صلاهما في أول الوقت.
قوله: [(وأمر بلالاً فأقام العشاء حين غاب الشفق)].
يعني: حين ذهب ذهبت الحمرة التي بعد غروب الشمس وجاء الظلام الشديد.(60/13)
وقت الصلوات في اليوم الثاني
قوله: [(فلما كان من الغد صلى الفجر وانصرف فقلنا: أطلعت الشمس؟)].
يعني: كادت أن تطلع بعد فراغه من الصلاة، وهذا في آخر الوقت.
قوله: [(فأقام الظهر في وقت العصر الذي كان قبله)].
يعني أول الوقت، وليس المقصود منه تداخل الوقتين، وإنما المقصود منه أنه بعد انتهاء وقت الظهر دخل وقت العصر؛ لأن الوقتين لا فاصل بينهما، وليس هناك تداخل في الوقت بحيث يكون آخر الظهر وقتاً لصلاة الظهر ولصلاة العصر معاً، بل حين ينتهي وقت صلاة الظهر يدخل مباشرة وقت صلاة العصر بدون فاصل من الوقت بينهما.
ومعناه أنه أخر الظهر إلى آخر وقت الظهر الذي يليه مباشرة أول وقت العصر.
قوله: [(وصلى العصر وقد اصفرت الشمس)].
يعني: في آخر وقتها الذي هو الوقت الاختياري.
قوله: [(أو قال: أمسى)].
يعني أنه جاء المساء.
قوله: [(وصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق)].
يعني: قرب صلاة العشاء؛ لأن وقت العشاء عند مغيب الشفق، وهذا فيه أن المغرب لها وقت طويل.
قوله: [(وصلى العشاء إلى ثلث الليل)].
يعني: صلى العشاء إلى ثلث الليل، وجاء في بعض الروايات الصحيحة الثابتة أنه إلى نصف الليل، فيكون الوقت الاختياري منتهياً بنصف الليل، ونصف الليل يتحدد بغروب الشمس وطلوع الفجر، ويطول الليل ويقصر، والحد الذي يمكن أن يعرف به مقدار الليل ومقدار نصفه بمقدار المدة التي بين غروب الشمس وطلوع الفجر، فنصفها نصف الليل، سواءٌ أطال الليل أم قصر، ولا تؤخر عن نصف الليل إلا إذا كان الإنسان مضطراً إلى ذلك بسبب نوم أو نسيان أو غفلة، وإلا فلا يجوز للإنسان أن يتعمد تأخيرها عن نصف الليل الذي هو آخر الوقت الاختياري.
قوله: [(ثم قال: أين السائل عن وقت الصلاة؟ الوقت فيما بين هذين)].
أي: لما سأل ذلك السائل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يجبه بتفصيل وبيان لفظي أراد أن يوقفه على ذلك بالفعل، وصلى معه يومين، ففي اليوم الأول صلى في أول الوقت، وفي اليوم الثاني صلى في آخر الوقت، ثم قال له: (الوقت فيما بين هذين الوقتين).(60/14)
تراجم رجال إسناد حديث: (الوقت فيما بين هذين)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا عبد الله بن داود].
هو عبد الله بن داود الخريبي، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا بدر بن عثمان].
بدر بن عثمان ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه في التفسير.
[حدثنا أبو بكر بن أبي موسى].
أبو بكر بن أبي موسى ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي موسى].
هو أبو موسى الأشعري، واسمه عبد الله بن قيس الأشعري، صحابي مشهور، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.(60/15)
طريق أخرى عن جابر في المواقيت، وتراجم رجال إسنادها
[قال أبو داود: روى سليمان بن موسى عن عطاء عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم في المغرب بنحو هذا، قال: (ثم صلى العشاء)، قال بعضهم: إلى ثلث الليل، وقال بعضهم: إلى شطره)].
قوله: [في المغرب بنحو هذا].
يعني أنه صلى المغرب قبل أن يغيب الشفق، وهذا يدل على أن لها وقتاً طويلاً.
قوله: [(وقال بعضهم: إلى شطره)].
يعني: نصف الليل.
قوله: [روى سليمان بن موسى].
هو سليمان بن موسى الأشدق، صدوق في حديثه بعض لين، أخرج حديثه مسلم في المقدمة وأصحاب السنن.
[عن عطاء].
هو عطاء بن أبي رباح، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر].
جابر قد مر ذكره.
قوله: [وكذلك روى ابن بريدة رضي الله عنه عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم].
يعني: روى ابن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما تقدم في وقت المغرب ووقت العشاء.
وقوله: [ابن بريدة] لا أدري هل هو عبد الله أو سليمان، وعبد الله وسليمان كل منهما ثقة، إلا أن عبد الله أخرج له أصحاب الكتب الستة، وسليمان أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
هو بريدة بن الحصيب الأسلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(60/16)
شرح حديث: (وقت الظهر ما لم تحضر العصر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن قتادة سمع أبا أيوب عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وقت الظهر ما لم تحضر العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت المغرب ما لم يسقط فور الشفق، ووقت العشاء إلى نصف الليل، ووقت صلاة الفجر ما لم تطلع الشمس)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، وفيه بيان أواخر الأوقات، وبقوله صلى الله عليه وسلم: [(وقت الظهر ما لم تحضر العصر)].
يعني أن وقت الظهر متصل بوقت العصر، فإذا انتهى وقت الظهر دخل وقت العصر، فالوقتان متصلان وليسا متداخلين.
قوله: [(ووقت العصر ما لم تصفر الشمس)].
يعني أن الوقت الاختياري ما لم تصفر الشمس، أي: ما دامت بيضاء مرتفعة نقية قبل أن يحصل اصفرارها وتغير لونها، فهذا هو آخر الوقت الاختياري للعصر.
قوله: [(ووقت المغرب ما لم يسقط فور الشفق)].
فور الشفق شدته، وهو الحمرة.
قوله: [(ووقت العشاء إلى نصف الليل)].
هذا هو آخر الوقت الاختياري.
قوله: [(ووقت صلاة الفجر ما لم تطلع الشمس)].
يعني: إلى طلوع الشمس.
فهذا بيان أواخر الأوقات.(60/17)
معنى أثر: (لا يستطاع العلم براحة الجسد)
هذا الحديث في مواقيت الصلاة رواه مسلم في صحيحه من عدة طرق من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، ثم بعد ذلك روى أثراً بإسناده عن يحيى بن يحيى التميمي عن عبد الله بن يحيى بن أبي كثير اليمامي قال: سمعت أبي يقول: (لا يستطاع العلم براحة الجسم).
فهذا الأثر جاء في كتاب الصلاة عند ذكر المواقيت، وبعد ذكر الطرق المتعددة لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما في بيان الأوقات.
قال النووي في الشرح: ولعل مسلماً لما رأى هذه الطرق المتعددة لحديث عبد الله بن عمرو تذكر أن العناية بالعلم والاشتغال به وتحصيل الطرق الكثيرة إنما يحصل بالتعب والنصب والمشقة روى هذا الأثر عن يحيى بن أبي كثير حيث قال: لا يستطاع العلم براحة الجسم.
يعني: من أراد أن يحصل علماً فإنه لن يحصله بالإخلاد إلى الراحة وبالكسل والخمول، وإنما يحصله بالجد والاجتهاد ويحصله بالنصب والتعب، كما يقولون: ملء الراحة لا يدرك بالراحة.
أي أن الشيء القليل لا يحصل بدون مقابل وبدون بذل جهد وبدون جد واجتهاد، فلا بد من النصب ومن التعب، ولا بد من المشقة، فمن أراد أن يحصل شيئاً فليبذل أشياءً، ومن أراد أن يحصل العلم فليبذل النفس والنفيس، ويشغل الوقت بالتحصيل ويجد ويجتهد، وبذلك يحصل العلم، ويقول الشاعر: لولا المشقة ساد الناس كلهو الجود يفقر والإقدام قتال فقوله: (لولا المشقة) يعني: لولاها لصار كل الناس سادة، وإذا كان السؤدد يحصل بدون تعب ومشقة فلن يبقى أحد غير سيد، بل كل يصير سيداً، لكن لما كان السؤدد لا يحصل إلا بالمشقة وليس كل واحد يصبر على المشقة تميز بذلك من هو سيد ومن ليس بسيد، وتميز بذلك من يكون سيداً ومن يكون مقدماً ومرجعاً يستفاد منه، وكل ذلك لا يحصل إلا بالتعب والنصب والمشقة: وقوله: (الجود يفقر) يعني أن الإنسان عندما يكون عنده المال يخشى الفقر فلا يبذل، فليس كل واحد يصبر على هذا ويقدم على هذا؛ لأن من الناس من يكون عنده المال ولكنه يمسكه خشية الفقر.
وقوله: (والإقدام قتال) أي أن الإقدام في الوغى فيه الموت، وليس كل واحد يعرض نفسه للموت.
والحاصل أن هذا الأثر عن يحيى بن أبي كثير اليمامي رحمة الله عليه يدل على أن تحصيل العلم لا يحصل إلا بالتعب، ومن المعلوم أن من عرف بالعلم من المتقدمين الذين خلد الله ذكرهم ونفع الله بعلمهم وبمؤلفاتهم ما حصلوا ما حصلوا إلا بتعب ونصب ومشقة، وما خلفوا ما خلفوا من التراث والعلم إلا بتعب ونصب ومشقة، ويختلف التعب في ذلك الزمن والنصب والمشقة عن هذا الزمن؛ إذ ما كان عند الناس وسائل الراحة، وما كان عندهم تصوير الكتب، وليس عندهم المطابع، وإنما يعولون على الكتابة ويكتبون بأيديهم، ومع الكتابة مقابلة، حتى يتحقق بأن الفرع مطابق للأصل، ومع ذلك كتبوا هذه الكتب العظيمة الواسعة الكثيرة التي لا نستطيع أن نقرأها مجرد قراءة، وهم قاموا بجمعها وترتيبها وتنظيمها وتدقيقها وتحقيقها، وأعمارهم مثل أعمارنا، فلم تكن عندهم أعمار طويلة بذلوها في ذلك، لكن ليس إلا التوفيق من الله عز وجل، والجد والاجتهاد وبذل الوسع والنفس والنفيس، بل إن منهم من ألف المؤلفات وخلف من العلم الواسع وعمره ليس بطويل، كما ذكروا عن أبي بكر الحازمي أنه توفي وعمره خمس وثلاثون سنة، وعنده المؤلفات العظيمة الكثيرة، منها: (كتاب الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار)، ومنها: (شروط الأئمة الخمسة)، وله كتب متعددة.
قال عنه الذهبي لما ذكره في كتابه: (من يعتمد قوله في الجرح والتعديل) مات وعمره خمس وثلاثون سنة، مات شاباً طرياً.
ومثله في المعاصرين الشيخ حافظ الحكمي رحمة الله عليه، مات وعمره خمس وثلاثون سنة وعنده المؤلفات الواسعة نظماً ونثراً في الفقه وفي العقيدة وفي المصطلح وفي الحديث، وكذلك الإمام النووي له المؤلفات الواسعة، منها المجموع، وهو من أوسع كتب الفقه، أي: من الكتب التي جمعت فقه الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم، فكتابه (المجموع شرح المهذب)، وكتاب المغني لـ ابن قدامة من أوسع الكتب التي تعنى بالفقه وجمع كلام الفقهاء من صحابة وتابعين وغيرهم، والمجموع هو كتاب واسع، ولم يتمه، وله المؤلفات الكثيرة الواسعة، ومات وعمره خمس وأربعون سنة.
وكذلك الإمام الشافعي مات وعمره أربع وخمسون سنة، وكذلك عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه معروف في فضله وفي علمه وفي عدله، ومات وعمره أربعون سنة.
فالحاصل أن العلم يحصل بالجد والاجتهاد، والأمر كما قال يحيى بن أبي كثير اليمامي: لا يستطاع العلم براحة الجسم.(60/18)
تراجم رجال إسناد حديث: (وقت الظهر ما لم تحضر العصر)
قوله: [حدثنا عبيد الله بن معاذ].
هو عبيد الله معاذ بن معاذ العنبري، ثقة، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا أبي].
أبوه هو معاذ بن معاذ العنبري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمع أبا أيوب].
أبو أيوب هو يحيى بن مالك، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[عن عبد الله بن عمرو].
هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، وقد مر ذكره، والله تعالى أعلم.(60/19)
شرح سنن أبي داود [061]
في هذه الأحاديث بيان وقت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للصلوات الخمس، وأنه كان يراعي حال الناس ولا يشق عليهم، فكان في العشاء إذا تأخروا عنها أخر حتى يجتمعوا، وإن تقدموا وكثروا عجل بها، وكان يصلي الفجر في الغلس، وكان يصلي الظهر في أول وقتها بعد الزوال ويبرد بها ويأمر بذلك في شدة الحر، وكان يصلي العصر في أول وقتها والشمس حية، وكان يصلي المغرب في أول وقتها فينصرف الصحابة وإن أحدهم ليرى موضع نبله من التبكير بها، فعلى العبد أن يعلم هذه المواقيت وأن يبادر بالصلاة في أول وقتها ليحصل له الأجر الجزيل من الله تعالى.(61/1)
وقت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وكيف كان يصليها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في وقت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وكيف كان يصليها.
حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا شعبة عن سعد بن إبراهيم عن محمد بن عمرو -وهو ابن الحسن بن علي بن أبي طالب - قال: (سألنا جابراً عن وقت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كان يصلي الظهر بالهاجرة، والعصر والشمس حية، والمغرب إذا غربت الشمس، والعشاء إذا كثر الناس عجل وإذا قلوا أخر، والصبح بغلس)].
قوله: [باب: في وقت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وكيف كان يصليها] هذه الترجمة تتعلق بالأوقات، والمصنف رحمه الله على طريقته في ذكر التراجم المختلفة واختيارها وإيراد الأحاديث تحتها أتى بهذه الترجمة، وهي تتعلق بالأوقات، وكان يمكن أن تدخل تحت ما تقدم في أوقات الصلاة؛ لأن الأحاديث مشتملة على أوقات الصلاة، ولكن لأنه جاء فيها ذكر وقت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم أتى بالترجمة من أجل ذلك، وإلا فإنها مثل الترجمة السابقة المتعلقة بمواقيت الصلاة.
وأورد أبو داود رحمه الله حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما أنه سأله محمد بن عمرو بن الحسن بن علي بن أبي طالب عن وقت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فقال (كان يصلي الظهر بالهاجرة) يعني: في وسط النهار عندما تزول الشمس.
قوله: (والعصر والشمس حية) يعني: بيضاء نقية من شدة وهجها وصفاء لونها.
قوله: (والمغرب إذا غربت الشمس).
يعني: إذا غربت الشمس وغاب قرصها فإنه يصليها، وهذا أول وقتها.
قوله: (والعشاء إذا كثر الناس عجل).
يعني: إذا كثر الناس بعد دخول وقتها -هو مغيب الشفق- عجل.
قوله: (وإذا قلوا أخر) يعني: لانتظارهم، وذلك لأن وقتها موسع، وتأخيرها ورد ما يدل على فضله، فكان إذا كثروا عجل حتى لا يشق عليهم، وإذا قلوا فإنه يؤخرها قليلاً.
قوله: (والصبح بغلس).
يعني: في الظلام بعد طلوع الفجر في أول وقتها.(61/2)
تراجم رجال إسناد حديث: (سألنا جابراً عن وقت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم)
قوله: [حدثنا مسلم بن إبراهيم].
هو مسلم بن إبراهيم الفراهيدي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعد بن إبراهيم].
عن سعد بن إبراهيم، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن عمرو].
هو محمد بن عمرو بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وهو ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[قال: سألنا جابراً].
هو جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، صحابي ابن صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(61/3)
شرح حديث: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر إذا زالت الشمس)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن أبي المنهال عن أبي برزة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر إذا زالت الشمس، ويصلي العصر وإن أحدنا ليذهب إلى أقصى المدينة ويرجع والشمس حية، ونسيت المغرب، وكان لا يبالي تأخير العشاء إلى ثلث الليل.
قال: ثم قال: إلى شطر الليل.
قال: وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها، وكان يصلي الصبح وما يعرف أحدنا جليسه الذي كان يعرفه، وكان يقرأ فيها من الستين إلى المائة)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله تعالى عنه في بيان وقت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر إذا زالت الشمس)].
يعني: عندما يوجد الزوال في أول وقتها.
قوله: (ويصلي العصر وإن أحدنا ليذهب إلى أقصى المدينة ويرجع والشمس حية).
يعني: أنه يصليها في أول وقتها ويذهب إلى أقصى المدينة ويرجع والشمس حية.
يعني أنه ما زال وقت العصر موجوداً.
قوله: (قال: ونسيت المغرب).
يعني أنه نسي الوقت الذي كان يصليها فيه، والذي نسب إليه النسيان هو أحد الرواة، وهو أبو المنهال سيار بن سلامة كما جاء في بعض الروايات.
قوله: (قال: وكان لا يبالي تأخير العشاء إلى ثلث الليل).
يعني أنه كان يستحب تأخيرها، ولكن خشية أن يشق على الناس كان إذا رآهم كثروا عجل.
قوله: (قال: ثم قال: إلى شطر الليل).
يعني: إلى نصف الليل، وشطر الليل الذي هو نصفه هو حد الوقت الاختياري لصلاة العشاء، ونصف الليل يكون تقديره بمعرفة وقت الغروب ووقت طلوع الفجر، ومجموع ما بين هذين الوقتين نصفه هو منتصف الليل.
قوله: (قال: وكان يكره النوم قبلها).
يعني: قبل صلاة العشاء، وذلك لأن النوم قبلها يؤدي إلى تفويت صلاة العشاء، إما تفويتها بأن يخرج وقتها الاختياري، أو تفويت صلاة الجماعة.
قوله: (والحديث بعدها) يعني السمر والحديث بعدها إذا كان لغير فائدة ولغير مصلحة، كعلم أو أمر فيه مصلحة تعود على الناس بالخير، فإذا كان الأمر كذلك فإنه لا بأس، لكن المهم هو أن لا يكون ذلك سبباً في التأخر عن صلاة الفجر، وذلك بأن ينام ثم لا يقوم لصلاة الفجر، فإذا كان الأمر كذلك فإن الحديث بعدها ولو كان في أمر مستحب لا يسوغ؛ لأن الاشتغال بما هو نافلة إذا كان سيفوت فريضة لا يجوز.
وقد قال بعض أهل العلم: من شغله الفرض عن النفل فهو معذور، ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور.
بمعنى أن الإنسان بعد صلاة العشاء لو كان في أمر مستحب من علم أو مصلحة عامة وكان ذلك يؤدي إلى فوات الفجر فإن ذلك لا يجوز، بل على الإنسان أن ينام مبكراً حتى يستيقظ مبكراً ويؤدي صلاة الفجر في وقتها مع جماعة المسلمين.
قوله: (وكان يصلي الصبح وما يعرف أحدنا جليسه الذي كان يعرفه).
يعني أنه يدخل في الصلاة مبكراً ويخرج منها وقد حصل الإسفار، بحيث يحصل معرفة الإنسان جليسه الذي كان يعرفه.
قوله: (وكان يقرأ فيها من الستين إلى المائة).
يعني: كان يقرأ فيها من ستين آية إلى مائة آية.(61/4)
تراجم رجال إسناد حديث: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر إذا زالت الشمس)
قوله: [حدثنا حفص بن عمر].
هو حفص بن عمر بن الحارث بن سخبرة، ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا شعبة عن أبي المنهال].
شعبة قد مر ذكره، وأبو المنهال هو سيار بن سلامة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي برزة].
هو أبو برزة الأسلمي، وهو نضلة بن عبيد الأسلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وهذا من الأسانيد الرباعية، فبين أبي داود ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيه أربعة أشخاص، وهم: حفص بن عمر، وشعبة، وأبو المنهال، وأبو برزة الأسلمي.(61/5)
وقت صلاة الظهر(61/6)
شرح حديث: (كنت أصلي الظهر مع رسول الله فآخذ قبضة من الحصى لتبرد في كفي)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: في وقت صلاة الظهر.
حدثنا أحمد بن حنبل ومسدد قالا: حدثنا عباد بن عباد حدثنا محمد بن عمرو عن سعيد بن الحارث الأنصاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: (كنت أصلي الظهر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فآخذ قبضة من الحصى لتبرد في كفي أضعها لجبهتي أسجد عليها لشدة الحر)].
قوله: [باب: في وقت صلاة الظهر].
لما ذكر فيما مضى جملة من الأحاديث التي فيها ذكر الصلوات الخمس وبيان مواقيتها ابتداء وانتهاء، ثم ذكر وقت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وذكر جملة من الأحاديث بدأ بذكر الأبواب لكل صلاة من الصلوات الخمس، فبدأ بالظهر، وختم بالفجر، وبدأ بالظهر لأن جبريل حين أم النبي صلى الله عليه وسلم في الصلوات الخمس بدأ بالظهر وختم بالفجر، وذلك بعد أن عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء وفرضت عليه الصلوات الخمس، فنزل جبريل في وقتها وبدأ بها، حيث صلى في اليوم الأول في أول الوقت وفي اليوم الثاني صلى في آخر الوقت بدءاً بالظهر وختماً بالفجر، فهذا هو السبب الذي جعل العلماء عندما يذكرون الصلوات يبدءون بالظهر فيقدمونها على غيرها، ولا يبدءون بالفجر مع أن الفجر هي أول صلوات النهار، ولا يبدءون بالمغرب مع أنها أول صلوات الليل، وإنما يبدءون بالظهر لأنها هي أول ما صلى جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم من الصلوات.
ثم بعد ذلك أورد بعض الأحاديث في وقت صلاة الظهر، فأورد حديث جابر رضي الله تعالى عنه أنه كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم وكانت الأرض شديدة الحرارة، وكان يشق عليهم السجود على الأرض، فكان يأخذ قبضة من الحصباء ويقبض عليها بيده حتى تبرد وتذهب حرارتها ثم يلقيها في موضع سجوده، وذلك لتخف عليه الحرارة؛ لأنه إذا سجد والحرارة شديدة يشغله ذلك عن الصلاة وعن الخشوع في الصلاة، فكان يفعل ذلك، وقد جاء في بعض الأحاديث أنهم كانوا يسجدون على أطراف ثيابهم يتقون حرارة الشمس.(61/7)
تراجم رجال إسناد حديث: (كنت أصلي الظهر مع رسول الله فآخذ قبضة من الحصى لتبرد في كفي)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الإمام المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[ومسدد].
هو مسدد بن مسرهد، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا عباد بن عباد].
هو عباد بن عباد المهلبي، ثقة ربما وهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا محمد بن عمرو].
هو محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي، وهو صدوق له أوهام، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن الحارث الأنصاري].
سعيد بن الحارث الأنصاري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر بن عبد الله].
جابر بن عبد الله قد مر ذكره.(61/8)
شرح حديث: (كانت قدر صلاة رسول الله في الصيف ثلاثة أقدام)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا عبيدة بن حميد عن أبي مالك الأشجعي سعد بن طارق عن كثير بن مدرك عن الأسود أن عبد الله بن مسعود قال: (كانت قدر صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصيف ثلاثة أقدام إلى خمسة أقدام، وفي الشتاء خمسة أقدام إلى سبعة أقدام)].
قوله: (كانت قدر صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصيف ثلاثة أقدام إلى خمسة أقدام).
يعني: كان يصلي الظهر عليه الصلاة والسلام في الصيف من ثلاثة أقدام إلى خمسة أقدام، وفي الشتاء من خمسة إلى سبعة؛ لأن الظل يطول في الشتاء ويقصر في الصيف.(61/9)
تراجم رجال إسناد حديث: (كانت قدر صلاة رسول الله في الصيف ثلاثة أقدام)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا عبيدة بن حميد].
عبيدة بن حميد صدوق ربما أخطأ، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن أبي مالك الأشجعي سعد بن طارق].
أبو مالك الأشجعي سعد بن طارق ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن كثير بن مدرك].
كثير بن مدرك وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن الأسود].
هو الأسود بن يزيد بن قيس النخعي، وهو ثقة مخضرم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن مسعود].
هو عبد الله بن مسعود الهذلي رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وهو صحابي مشهور، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(61/10)
شرح حديث: (إن شدة الحر من فيح جهنم، فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة)
قال المصنف رحمه الله: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا شعبة أخبرني أبو الحسن -قال أبو داود: أبو الحسن هو مهاجر - قال: سمعت زيد بن وهب يقول: سمعت أبا ذر يقول: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد المؤذن أن يؤذن الظهر فقال: أبرد.
ثم أراد أن يؤذن فقال: أبرد.
مرتين أو ثلاثاً، حتى رأينا فيءَ التلول، ثم قال: إن شدة الحر من فيح جهنم، فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي ذر رضي الله تعالى عنه، وهو يتعلق بالإبراد بصلاة الظهر في شدة الحر، وذلك بأن تؤخر ولا تصلى في أول الوقت، وعلى هذا فإن الظهر تصلى في أول وقتها إلا إذا اشتد الحر فإنه يبرد بها، وكذلك العشاء تصلى في أول وقتها إلا أنه إذا أمكن أن تؤخر ولم يكن هناك مشقة فلا بأس، وبقية الصلوات تصلى في أول وقتها، فالفجر في أول وقتها، والعصر في أول وقتها، والمغرب في أول وقتها، والتأخير إنما جاء للعشاء وللظهر.
وحديث أبي ذر رضي الله عنه جاء في أن المؤذن أراد أن يؤذن كالعادة في أول الوقت، فقال له صلى الله عليه وسلم: [(أبرد)] يعني: أخر الأذان حتى يحصل الإبراد وتخف الحرارة.
قوله: (حتى رأينا فيء التلول) التلول هي الرمال المنبطحة التي ليست قائمة كالجدار، ومن المعلوم أن ظلها إذا وجد فمعناه أنه مضى شيء من الوقت؛ لأن الذي يأتي ظله بسرعة هو القائم كالجدار، وأما التلول -وهي الكثير من الرمل وشبهه- فإنه لا يأتي ظلها إلا بعد وقت طويل.
قوله: (إن شدة الحر من فيح جهنم، فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة) يعني أنها تؤخر عن أول وقتها الذي فيه شدة الحرارة وكون الشمس على الرءوس حتى تميل بعد ذلك، والإبراد بها حتى تخف الحرارة عن الناس أمر مطلوب.
قوله: (إن شدة الحر من فيح جهنم) فسر هذا القول بتفسيرين: أحدهما: أن ذلك حقيقة، وأن هذا الذي يوجد من شدة الحر إنما هو من جهنم، وما يوجد من شدة البرودة في الشتاء إنما هو من زمهرير جهنم.
وقيل: إن المقصود من ذلك التشبيه، أي أن ذلك يشبه فيح جهنم، وهو ما يظهر وينتشر، فإن ذلك فيه حرارة كما أن ذاك فيه حرارة، لكن -كما هو معلوم- قد جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نار جهنم أعظم من نار الدنيا بسبعين مرة، بمعنى أن النار التي عند الناس في هذه الحياة الدنيا جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم في الحرارة، أي أن حرارتها في غاية الشدة وفي أعلى ما يكون من الشدة، وإذا كانت هذه النار التي في الدنيا يشاهدها الناس جزءاً من سبعين جزءاً من نار جهنم فكيف تكون نار الآخرة مع أنها تعدل سبعين ضعفاً بنار الدنيا؟!(61/11)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن شدة الحر من فيح جهنم فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة)
قوله: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي].
هو هشام بن عبد الملك، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعبة].
شعبة مر ذكره.
[أخبرني أبو الحسن -قال أبو داود: أبو الحسن هو مهاجر -].
أبو الحسن مهاجر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[سمعت زيد بن وهب].
زيد بن وهب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت أبا ذر].
هو أبو ذر الغفاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واسمه جندب بن جنادة، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(61/12)
طريق أخرى لحديث: (إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة) وتراجم رجال إسنادها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يزيد بن خالد بن موهب الهمداني وقتيبة بن سعيد الثقفي أن الليث حدثهما عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة -قال ابن موهب: بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي هريرة، وهو مثل حديث أبي ذر المتقدم، وذكره عن شيخين: أحدهما يزيد بن خالد بن موهب، والثاني قتيبة بن سعيد، وأحدهما قال: (فأبردوا عن الصلاة) وهو قتيبة، والثاني قال: (فأبردوا بالصلاة) وهو ابن موهب.
قوله: [حدثنا يزيد بن خالد بن موهب الهمداني].
يزيد بن خالد بن موهب الهمداني، أبو داود رحمه الله أحياناً يذكره ويقلل نسبه، وأحياناً يطوله، كما سبق أن مر في بعض الأحاديث أنه قال: (حدثنا يزيد بن خالد بن عبد الله بن يزيد بن موهب الهمداني) وهنا قال: [حدثنا يزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب الهمداني] وهو ثقة، أخرج حديثه أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[وقتيبة بن سعيد].
قتيبة بن سعيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أن الليث حدثهما].
هو الليث بن سعد المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن المسيب].
سعيد بن المسيب ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وهو من الستة المتفق على عدهم في الفقهاء السبعة.
[وأبي سلمة] هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وعلى هذا فالإسناد فيه واحد من الفقهاء السبعة باتفاق، وواحد من الفقهاء السبعة على قول في السابع منهم، وهو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف.
[عن أبي هريرة] هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق.(61/13)
شرح حديث: (أن بلالاً كان يؤذن الظهر إذا دحضت الشمس)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة رضي الله عنهما (أن بلالاً رضي الله عنه كان يؤذن الظهر إذا دحضت الشمس)].
أورد المصنف رحمه الله حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه [(أن بلالاً كان يؤذن الظهر إذا دحضت الشمس)] يعني: إذا زالت الشمس فالمقصود بالدحوض هنا الزوال، يعني أنه كان يؤذن في أول وقتها.(61/14)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن بلالاً كان يؤذن الظهر إذا دحضت الشمس)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن سلمة، ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن سماك بن حرب].
سماك بن حرب صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن جابر بن سمرة].
جابر بن سمرة رضي الله عنه حديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
والإسناد رباعي، حيث يروي فيه موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة.(61/15)
وقت صلاة العصر(61/16)
شرح حديث: (أن رسول الله كان يصلي العصر والشمس بيضاء مرتفعة حية) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: في وقت صلاة العصر.
حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن ابن شهاب عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه أخبره: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر والشمس بيضاء مرتفعة حية، ويذهب الذاهب إلى العوالي والشمس مرتفعة)].
أورد أبو داود رحمه الله [باب: في وقت صلاة العصر] وفيه حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: [(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر والشمس بيضاء مرتفعة حية، ويذهب الذاهب إلى العوالي والشمس مرتفعة)] يعني أنه كان في العصر يذهب الذاهب إلى أقصى المدينة ويرجع والشمس مرتفعة.
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن ابن شهاب عن أنس بن مالك].
أنس بن مالك هو خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، والباقون مر ذكرهم.(61/17)
شرح أثر الزهري في مقدار مسافة العوالي ومكانها وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري قال: والعوالي على ميلين أو ثلاثة.
قال: وأحسبه قال: أو أربعة].
ذكر في الحديث السابق العوالي، وأن الرجل عندما كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العصر قد يذهب بعدها إلى العوالي والشمس مرتفعة، فأراد الزهري أن يبين مقدار مسافة العوالي، والعوالي هي أعلى المدينة من جهة نجدها، أي: من جهة الأماكن العالية؛ لأن النجد المقصود به المكان المرتفع، وهو في الجهة الشرقية الجنوبية، وتهامتها أسفلها الذي في الجهة الشمالية الغربية، فبين الزهري مقدار مسافة العوالي أنها على ميلين أو ثلاثة من المدينة.
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
هو الحسن بن علي الحلواني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
الزهري مر ذكره.(61/18)
شرح أثر خيثمة في معنى (والشمس حية) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يوسف بن موسى حدثنا جرير عن منصور عن خيثمة قال: حياتها أن تجد حرها].
أورد المصنف أثراً عن خيثمة بن عبد الرحمن، وقد أورد أولاً أثراً عن الزهري بين فيه مسافة العوالي، ثم أورد أثراً عن خيثمة بين فيه معنى (والشمس حية)، حيث قال: [حياتها أن تجد حرها] يعني أن تكون الحرارة موجودة.
قوله: [حدثنا يوسف بن موسى].
يوسف بن موسى صدوق أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي في مسند علي وابن ماجة.
[حدثنا جرير].
هو جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن منصور].
هو منصور بن المعتمر الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن خيثمة].
هو خيثمة بن عبد الرحمن، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(61/19)
شرح حديث: (أن رسول الله كان يصلي العصر والشمس في حجرتها قبل أن تظهر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا القعنبي قال: قرأت على مالك بن أنس عن ابن شهاب: قال عروة: (ولقد حدثتني عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر والشمس في حجرتها قبل أن تظهر)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث عائشة > (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر والشمس في حجرتها قبل أن تظهر) أي: أنها لم ترتفع، وذلك أنه كان يصليها في أول وقتها، وكانت الحجرة صغيرة وجدرانها قصيرة، فكانت الشمس تدخلها ثم يصلي العصر والشمس لم ترتفع منها.(61/20)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن رسول الله كان يصلي العصر والشمس في حجرتها قبل أن تظهر)
قوله: [حدثنا القعنبي].
هو عبد الله بن مسلمة القعنبي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[قال: قرأت على مالك بن أنس].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة الإمام المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة.
[عن ابن شهاب].
ابن شهاب مر ذكره.
[قال عروة].
هو عروة بن الزبير بن العوام ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[ولقد حدثتني عائشة].
هي عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق، وهي أحد سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(61/21)
شرح حديث: (قدمنا على رسول الله المدينة فكان يؤخر العصر ما دامت الشمس بيضاء نقية)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عبد الرحمن العنبري حدثنا إبراهيم بن أبي الوزير حدثنا محمد بن يزيد اليمامي حدثني يزيد بن عبد الرحمن بن علي بن شيبان عن أبيه عن جده علي بن شيبان قال: [(قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فكان يؤخر العصر ما دامت الشمس بيضاء نقية)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث علي بن شيبان رضي الله عنه الذي قال فيه: (قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فكان يؤخر العصر ما دامت الشمس بيضاء نقية) يعني أنه عليه الصلاة والسلام كان يؤخر العصر ما لم تصفر الشمس؛ لأنه إذا جاءت الصفرة فإنه يبدأ الوقت الاضطراري، وكون الشمس بيضاء نقية هو الوقت الاختياري.(61/22)
تراجم رجال إسناد حديث: (قدمنا على رسول الله المدينة فكان يؤخر العصر ما دامت الشمس بيضاء نقية)
قوله: [حدثنا محمد بن عبد الرحمن العنبري].
محمد بن عبد الرحمن العنبري ثقة، أخرج حديثه أبو داود وحده.
[حدثنا إبراهيم بن أبي الوزير].
إبراهيم بن أبي الوزير صدوق، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا محمد بن يزيد اليمامي].
محمد بن يزيد اليمامي مجهول، أخرج حديثه أبو داود وحده.
[حدثني يزيد بن عبد الرحمن بن علي بن شيبان].
يزيد بن عبد الرحمن بن علي بن شيبان مجهول أيضاً، أخرج حديثه أبو داود وحده.
[عن أبيه].
أبوه هو عبد الرحمن بن علي بن شيبان، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود وابن ماجة.
[عن جده علي بن شيبان].
علي بن شيبان رضي الله عنه هو صحابي، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود وابن ماجة.(61/23)
شرح حديث: (حبسونا عن صلاة الوسطى صلاة العصر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ويزيد بن هارون عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن عبيدة عن علي رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الخندق حبسونا عن صلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الخندق: حبسونا) أي: المشركون من الأحزاب الذين تجمعوا لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
قوله: (حبسونا عن صلاة الوسطى صلاة العصر) هذا فيه بيان أن الصلاة الوسطى هي العصر، وهي التي ورد الحديث فيها ثابتاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها العصر، وهناك أقوال بأنها الظهر وبأنها العصر وبأنها العشاء وبأنها مجموع الصلوات، ولكن أصحها هو الذي جاء في هذا الحديث أنها صلاة العصر.
قوله: (ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً) هذا دعاء عليهم بأن يصيبهم العذاب في الدنيا وفي الآخرة.(61/24)
تراجم رجال إسناد حديث: (حبسونا عن صلاة الوسطى صلاة العصر)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
مر ذكره.
[حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة].
يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ويزيد بن هارون].
هو يزيد بن هارون الواسطي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام بن حسان].
هشام بن حسان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن سيرين].
محمد بن سيرين ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيدة].
هو عبيدة بن عمرو السلماني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن علي].
هو علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه، أمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(61/25)
شرح حديث: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله وصلاة العصر قانتين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا القعنبي عن مالك عن زيد بن أسلم عن القعقاع بن حكيم عن أبي يونس مولى عائشة رضي الله عنها أنه قال: (أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفاً، وقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238].
فلما بلغتها آذنتها، فأملت علي: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله وصلاة العصر قانتين.
ثم قالت عائشة: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث عائشة رضي الله عنها الذي فيه: أنها أملت على مولاها: (فأملت علي: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله وصلاة العصر قانتين).
وذلك أن عائشة أمرت مولاها أبا يونس أن يكتب لها مصحفاً، وأمرته إذا وصل إلى قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238] بأن يخبرها، فلما وصل إلى الآية أعلمها فأملت عليه وأضافت [(وصلاة العصر)] وهذا فيه التنصيص على صلاة العصر والقيام لها، وقالت: إنها سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولكن هذه القراءة شاذة وليست متواترة، والذي أثبت في المصحف: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238].(61/26)
تراجم رجال إسناد حديث: (حافظوا على الصلوات والصلاة والوسطى وقوموا لله وصلاة العصر قانتين)
قوله: [حدثنا القعنبي عن مالك عن زيد بن أسلم].
زيد بن أسلم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن القعقاع بن حكيم].
القعقاع بن حكيم وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي يونس مولى عائشة].
أبو يونس مولى عائشة ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[أمرتني عائشة].
عائشة قد مر ذكرها.(61/27)
شرح حديث: (كان رسول الله يصلي الظهر بالهاجرة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن المثنى حدثني محمد بن جعفر حدثنا شعبة حدثني عمرو بن أبي حكيم قال: سمعت الزبرقان يحدث عن عروة بن الزبير عن زيد بن ثابت قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي الظهر بالهاجرة، ولم يكن يصلي صلاة أشدَّ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منها؛ فنزلت: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238]، وقال: إن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه الذي فيه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة، ولم يكن يصلي صلاة أشدّ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منها).
يعني أنه لم تكن صلاة أشد على أصحاب الله صلى الله عليه وآله وسلم منها؛ لأنها في وقت شدة الحرارة.
قوله: (فنزلت: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238]، وقال: قبلها صلاتين وبعدها صلاتين).
هذا يفهم منه أن الصلاة الوسطى هي الظهر، لكن الذي ثبت النص فيها هي صلاة العصر، كما في الحديث الذي سبق أن مر، وهو قوله: (حبسونا عن صلاة الوسطى صلاة العصر) وهذا ليس فيه تنصيص على أنها صلاة الظهر، بل هي صلاة العصر، ولكن السياق قد يفهم منه ذلك.
قوله: (قبلها صلاتين وبعدها صلاتين) إذا كان المقصود بذلك الظهر فإن قبلها صلاة نهارية وهي الفجر؛ لأنها من النهار، والنهار يبدأ بطلوع الفجر، وصلاة ليلية، وهي العشاء، وبعدها صلاة نهارية، وهي العصر، وصلاة ليلية، وهي المغرب؛ لأنها في أول الليل بعد غروب الشمس، لكن الوسطى هي صلاة العصر.
ولعل المقصود بكونها وسطى الإشارة إلى تعظيم شأنها وأنها فضلى، وأنها أفضل من غيرها وأعظم من غيرها، أو أنها الصلاة الوسطى بعد فرض الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم بالليل، لأنه يكون قبلها صلاتان وبعدها صلاتان، قبلها الفجر والظهر وبعدها المغرب والعشاء، فهي الوسطى بالنسبة للصلوات بعد الفرض، ولكن عرفنا أن جبريل ما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم إلا في الظهر.(61/28)
تراجم رجال إسناد حديث: (كان رسول الله يصلي الظهر بالهاجرة)
قوله: [حدثنا محمد بن المثنى].
هو محمد بن المثنى العنزي الملقب بـ الزمن أبو موسى البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثني محمد بن جعفر].
هو محمد بن جعفر الملقب غندر، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعبة].
شعبة مر ذكره.
[حدثني عمرو بن أبي حكيم] عمرو بن أبي حكيم ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[سمعت الزبرقان].
هو الزبرقان بن عمرو وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن عروة بن الزبير].
عروة بن الزبير مر ذكره.
[عن زيد بن ثابت].
زيد بن ثابت رضي الله عنه، حديثه عند أصحاب الكتب الستة.(61/29)
شرح حديث: (من أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن الربيع حدثني ابن المبارك عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس عن أبي هريرة رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك، ومن أدرك من الفجر ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك)].
هذا الحديث فيه بيان لآخر وقت العصر وآخر وقت الفجر، ووقت العصر هنا هو الوقت الاضطراري، فالإنسان إذا أدرك ركعةً قبل أن تغرب الشمس يكون قد أدرك وقت صلاة العصر، ويصلي بعدها ثلاثاً.
قوله: (ومن أدرك ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك) يعني أنه أدرك صلاة الفجر مؤداة، ويضيف إليها أخرى.(61/30)
تراجم رجال إسناد حديث: (من أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك)
قوله: [حدثنا الحسن بن الربيع].
الحسن بن الربيع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني ابن المبارك].
هو عبد الله بن المبارك المروزي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن معمر].
معمر مر ذكره.
[عن ابن طاوس].
هو عبد الله بن طاوس، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه] هو طاوس بن كيسان، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[عن أبي هريرة].
قد مر ذكره.(61/31)
شرح حديث: (تلك صلاة المنافقين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا القعنبي عن مالك عن العلاء بن عبد الرحمن أنه قال: (دخلنا على أنس بن مالك بعد الظهر فقام يصلي العصر، فلما فرغ من صلاته ذكرنا تعجيل الصلاة -أو ذكرها- فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تلك صلاة المنافقين، تلك صلاة المنافقين، تلك صلاة المنافقين؛ يجلس أحدهم حتى إذا اصفرت الشمس فكانت بين قرني شيطان -أو على قرني الشيطان- قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً)].
أورد المصنف حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنه كان عنده جماعة بعد الظهر وقام لصلاة العصر في أول وقتها، فلما ذكروا التعجيل أشار إلى أن التعجيل هو الذي ينبغي؛ لأن فيه المبادرة إلى إبراء الذمة، وأما التأخير إلى أن يخرج الوقت الاختياري ويبدأ الوقت الاضطراري الذي هو عند اصفرار الشمس فقال عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (تلك صلاة المنافقين) يعني: الذين يفرطون ويقصرون ويخرجون الصلاة عن وقتها، فإذا اصفرت الشمس وكانت قريبة من الغروب قام الواحد منهم ونقر صلاة العصر أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً.
قوله: (يجلس أحدهم حتى إذا اصفرت الشمس فكانت بين قرني شيطان).
فسر هذا بأن الشيطان يكون عند غروبها مقارناً لها؛ ليكون سجود من يسجد لها له، ومن المعلوم أن من يعبد غير الله إنما يعبد الشيطان، وعبادته عبادة لغير الله عز وجل، والذين يعبدون الشمس هم يعبدون غير الله، ولكنه يريد من الذين يسجدون للشمس أن يكون سجودهم له، ولهذا جاء النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند قيامها في الظهيرة وعند غروبها، وذلك لأنها تطلع بين قرني شيطان وتغرب بين قرني شيطان، ففسر ذلك بهذا، وفسر بغير هذا أيضاً.(61/32)
تراجم رجال إسناد حديث: (تلك صلاة المنافقين)
قوله: [حدثنا القعنبي عن مالك عن العلاء بن عبد الرحمن].
العلاء بن عبد الرحمن الحرقي وهو صدوق ربما وهم، أخرج له البخاري في جزء القراءة، ومسلم وأصحاب السنن.
[دخلنا على أنس بن مالك].
قد مر ذكره، والحديث رباعي.(61/33)
شرح حديث: (الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث ابن عمر الذي فيه: (الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله)، يعني: سلبهم وأخذوا منه وبقي وحيداً فرداً ليس له أهل ولا مال، ومعنى هذا أنه كما أن المرء يحذر من أن يفقد أهله وماله، ويهمه ذلك كثيراً، فعليه أن يحذر من أن يتهاون بصلاة العصر حتى تفوته.
والمقصود هو إما أن تفوته بخروج وقتها الاختياري، وإما أن تفوته بخروج وقتها الاضطراري.
ويمكن أن يكون المقصود أنه تفوته صلاة الجماعة.(61/34)
تراجم رجال إسناد حديث: (الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله)
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك].
عبد الله بن مسلمة ومالك مر ذكرهما.
[عن نافع] هو نافع مولى ابن عمر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر] هو عبد الله بن عمر بن الخطاب، أحد العبادلة الأربعة، وأحد السبعة من الصحابة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(61/35)
اختلاف الرواة في لفظة (وتر) وتراجم رجال الإسناد
[قال أبو داود: وقال عبيد الله بن عمر: (أوتر) واختلف على أيوب فيه، وقال الزهري: عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وتر)] قوله: (أوتر) هو بدل (وتر)، وجاء بحذف الواو (أتر)، وهي مثل: (أقت) و (وقت)، و (أرخ) و (ورخ)، و (أكد) و (وكد)، فالهمزة تأتي بدل الواو.
قوله: [عبيد الله بن عمر].
هو عبيد الله بن عمر العمري المصغر، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
قوله: [واختلف على أيوب فيه].
أي: أيوب السختياني اختلف عليه فيه، فروي عنه (أوتر) وروي عنه (وتر) بالهمزة وبالواو، فجاء عنه هذا وجاء عنه هذا.
قوله: [وقال الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وتر)].
قوله: [(وتر)] بالواو، والمقصود من هذا ترجيح رواية (وتر) على (أتر)؛ لأن الرواة لها أكثر.
وقوله: [عن سالم].
هو سالم بن عبد الله بن عمر، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(61/36)
شرح أثر الأوزاعي في تفسير فوات صلاة العصر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمود بن خالد حدثنا الوليد قال: قال أبو عمرو -يعني الأوزاعي -: وذلك أن ترى ما على الأرض من الشمس صفراء].
أورد أبو داود هذا الأثر عن الأوزاعي في تفسير الفوات؛ لأن قوله: [وذلك] أي: فوات العصر.
قوله: [بأن ترى ما على الأرض من الشمس صفراء].
يعني أنه يصفر ما تقع عليه الشمس من الأرض، والمقصود من ذلك فوات الوقت الاختياري لصلاة العصر، بحيث تصلى في حال اصفرار الشمس بعد خروج وقتها الاختياري، فيكون ما جاء في الحديث من بيان الخسارة الفادحة والمضرة الكبيرة التي حصلت لمن فاتته صلاة العصر أن ذلك في حق من فاته أداؤها في الوقت الاختياري، وذلك أن الأوزاعي رحمه الله: [وذلك] أي: الفوات الذي مر في الحديث السابق.
[أن ترى ما على الأرض من الشمس صفراء] يعني: أن الشمس قد اصفرت وأن ما على الأرض يكون مصفراً باصفرارها.
ومعنى هذا أن الإنسان إذا أدى الصلاة في الوقت الاضطراري وأخرجها عن الوقت الاختياري يكون آثماً؛ لأنه أخرجها عن الوقت الذي حدد لها، وهو ما لم تصفر الشمس.(61/37)
تراجم رجال إسناد أثر الأوزاعي في تفسير فوات صلاة العصر
قوله: [حدثنا محمود بن خالد].
هو محمود بن خالد الدمشقي ثقة، أخرج حديثه أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا الوليد].
هو الوليد بن مسلم الدمشقي، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[قال: قال أبو عمرو -يعني: الأوزاعي -].
هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، كنيته أبو عمرو، واسم أبيه عمرو، وهو ممن وافقت كنيته اسم أبيه، وهو نوع من أنواع علوم الحديث: معرفة من وافقت كنيته اسم أبيه، وفائدة معرفة هذا النوع من علوم الحديث أن لا يظن التصحيف فيما لو جاء (ابن) بدل (أبو) أو (أبو) بدل (ابن)، فلو جاء في بعض الروايات عبد الرحمن أبو عمر فذلك صحيح؛ لأن كنيته أبو عمرو واسمه عبد الرحمن بن عمرو.
فالذي لا يعرف أن كنيته أبو عمرو لو وجده مكتوباً (عبد الرحمن أبو عمرو) سيقول: (أبو) مصحفة عن (ابن)؛ لأنه عبد الرحمن بن عمرو، مع أنها ليست مصحفة؛ لأن كنيته أبو عمرو، واسم أبيه عمرو، فلا تصحيف.
وهو ثقة، فقيه الشام ومحدثها، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.(61/38)
وقت صلاة المغرب(61/39)
شرح حديث: (كنا نصلي المغرب مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم نرمي فيرى أحدنا موضع نبله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: في وقت المغرب.
حدثنا داود بن شبيب حدثنا حماد عن ثابت البناني عن أنس بن مالك قال: (كنا نصلي المغرب مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم نرمي فيرى أحدنا موضع نبله)].
قوله: [باب: في وقت المغرب].
عرفنا فيما مضى أن وقت صلاة المغرب من غروب الشمس إلى مغيب الشفق حيث يحضر وقت العشاء، وعرفنا أنه ليس هناك فاصل بين وقت المغرب ووقت العشاء، بل إذا خرج وقت هذه دخل وقت هذه، كما أن العصر وقتها متصل بوقت الظهر، فإذا خرج وقت هذه دخل وقت هذه.
وأورد أبو داود رحمه الله حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كنا نصلي المغرب مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم نرمي فيرى أحدنا موضع نبله) يعني: بعد فراغهم من الصلاة يكون هناك ضياء النهار، ومعناه أنهم يبادرون بأدائها في أول وقتها، بحيث يفرغون منها وإن الواحد منهم إذا أرسل السهم يرى المكان الذي يقع فيه، وذلك لوجود الضياء الذي يكون موجوداً بعد غروب الشمس، وهذا فيه إشارة إلى أن الأولى والأفضل أنه يبادر بها في أول وقتها، وأما الوقت فإنه ليس وقتاً واحداً، بل هو وقت واسع، ولكنه من غروب الشمس إلى ما قبل مغيب الشفق الأحمر الذي يأتي عند سقوطه ومغيبه وقت صلاة العشاء، وقد سبق أن مرت بنا الأحاديث العديدة في ذلك الدالة على أول الوقت وعلى آخره.
ومما يدل على سعة وقت المغرب أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ مرة فيها بالأعراف، والأعراف جزء وربع، وقراءة الرسول صلى الله عليه وسلم مرتلة، ومعنى هذا أن وقتها طويل؛ لأن إيقاعها فيها وهي جزء وربع، وكون الرسول صلى الله عليه وسلم أداها في يوم من الأيام على هذا النحو يدلنا على أن وقتها واسع، وأنه ليس وقتاً واحداً كما جاء في بعض الروايات في حديث جبريل أنه في اليومين صلاها بعد غروب الشمس، بل قد جاء في الأحاديث بعد ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن وقتها إلى مغيب الشفق.(61/40)
تراجم رجال إسناد حديث: (كنا نصلي المغرب مع النبي ثم نرمي فيرى أحدنا موضع نبله)
قوله: [حدثنا داود بن شبيب].
داود بن شبيب وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري وأبو داود وابن ماجة.
[حدثنا حماد].
حماد هنا غير منسوب، ويحتمل أن يكون أحد الحمادين: حماد بن زيد وحماد بن سلمة، وذلك لأن داود بن شبيب يروي عنهما جميعاً، وهما جميعاً يرويان عن ثابت بن أسلم البناني، لكن حماد بن سلمة معروف بالإكثار عن ثابت البناني، فيحتمل أن يكون هو، وعلى كل حال فإن كلاً منهما ثقة، فسواء علم أحدهما وعين أو لم يعلم ولم يعين، فما دام أن الأمر دائر بين الحمادين وكل منهما ثقة فلا يضر عدم معرفة أحدهما، وإنما الذي يضر لو كان أحد الراويين ثقة والثاني ضعيفاً، هذا هو الذي يضر؛ لأنه يحتمل أن يكون الضعيف، لكن حيث يكون المروي عنهما هما حماد بن زيد وحماد بن سلمة وكل منهما ثقة فإن ذلك لا يؤثر.
ولا أدري هل جاء في بعض الطرق أو الروايات الأخرى تسمية أحدهما أم لا، ومعلوم أن من الطرق التي يمكن أن يعرف بها تعيين أحد الشخصين أن ينظر في الأسانيد في الكتب المختلفة، فإنه قد يأتي تسمية أحدهما عند بعض المؤلفين الذين يروون هذا الحديث نفسه، بأن يذكر أحدهما فيقال: حماد بن زيد، أو: حماد بن سلمة.
وما دام أن تعين أنه حماد بن سلمة وهو مكثر من الرواية عن ثابت بن أسلم البناني، فيكون المقصود حماد بن سلمة، وحماد بن سلمة ثقة، أخرج حديثه البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن ثابت].
هو ثابت بن أسلم البناني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس بن مالك] هو أنس بن مالك رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخادمه، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الإسناد من أعلى الأسانيد عند أبي داود؛ لأنه رباعي، وأعلى الأسانيد عند أبي داود الرباعيات، وهذا منها.(61/41)
شرح حديث: (كان النبي يصلي المغرب ساعة تغرب الشمس إذا غاب حاجبها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عمرو بن علي عن صفوان بن عيسى عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي المغرب ساعة تغرب الشمس، إذا غاب حاجبها)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث سلمة بن الأكوع، وهو يدل على المبادرة بصلاة المغرب، وفيه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي المغرب ساعة تغرب الشمس إذا غاب حاجبها) يعني: حاجبها الأخير؛ لأنها عند طلوعها يبدو حاجبها المقدم، وعند غروبها يغيب حاجبها المؤخر؛ لأنه يغيب بعضها ثم يبقى بعضها، أو يطلع بعضها ثم يلحقه بعضها الآخر فتظهر كلها، فعند طلوعها يظهر حاجبها المقدم، وعند غروبها يغيب أو يسقط حاجبها المؤخر، وهو طرفها أو مؤخرها، والمقصود هو المبادرة إلى الإتيان بالصلاة، وأنها حين تغرب الشمس ويسقط حاجبها، أي: يذهب آخرها وهو حاجبها الذي يكون آخر شيء يغيب منها.(61/42)
تراجم رجال إسناد حديث: (كان النبي يصلي المغرب ساعة تغرب الشمس إذا غاب حاجبها)
قوله: [حدثنا عمرو بن علي].
هو عمرو بن علي الفلاس، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة، رووا عنه مباشرة وبدون واسطة.
[عن صفوان بن عيسى].
صفوان بن عيسى ثقة، أخرج حديثه البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن يزيد بن أبي عبيد].
يزيد بن أبي عبيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سلمة بن الأكوع].
هو سلمة بن الأكوع صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(61/43)
شرح حديث: (لا تزال أمتي بخير ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبيد الله بن عمر، حدثنا يزيد بن زريع حدثنا محمد بن إسحاق حدثني يزيد بن أبي حبيب عن مرثد بن عبد الله قال: (لما قدم علينا أبو أيوب رضي الله عنه غازياً وعقبة بن عامر رضي الله عنه يومئذ على مصر فأخر المغرب، فقام إليه أبو أيوب فقال له: ما هذه الصلاة يا عقبة؟! فقال: شغلنا.
قال: أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تزال أمتي بخير -أو قال: على الفطرة- ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث مرثد بن عبد الله أن أبا أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه قدم مصر وعقبة بن عامر أمير عليها، فأخر المغرب، فقال له أبو أيوب: ما هذه الصلاة؟ فقال: شغلنا.
فقال: أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تزال أمتي بخير ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم) يعني: إلى أن تظهر النجوم وتبدو لوجود الظلام، ومن المعلوم أن النجوم تتضح قبل دخول وقت العشاء، لكن المقصود من ذلك هو المبادرة إلى الصلاة في أول وقتها، وإلا فإن وقت المغرب يمتد إلى مغيب الشفق، ولكن الذي أنكره أبو أيوب هو تأخير الصلاة عن أول وقتها وعن المبادرة إليها في أول وقتها.
وقول عقبة: [(شغلنا)] يعني: عن المبادرة إليها في أول وقتها.
وليس المقصود إخراجها عن وقتها، وإنما تأخيرها عن أول وقتها الذي هو الأولى.(61/44)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا تزال أمتي بخير ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم)
قوله: [حدثنا عبيد الله بن عمر].
هو عبيد الله بن عمر القواريري، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا يزيد بن زريع].
يزيد بن زريع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا محمد بن إسحاق].
هو محمد بن إسحاق المدني، وهو صدوق يدلس، أخرج حديثه البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثني يزيد بن أبي حبيب].
هو يزيد بن أبي حبيب المصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مرثد بن عبد الله].
هو مرثد بن عبد الله اليزني المصري، وهو ثقة، وكنيته أبو الخير، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[قدم علينا أبو أيوب] هو أبو أيوب الأنصاري، وهو خالد بن زيد رضي الله تعالى عنه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(61/45)
شرح سنن أبي داود [062]
لقد جاءت أحاديث كثيرة تحض على المحافظة على الصلوات الخمس في أوقاتها، وقد رتب الشرع على ذلك أحكاماً، منها: أن من حافظ عليها لوقتها كان له عند الله عهد أن يغفر له، أما من لم يحافظ عليها فليس له عند الله عهد، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه، وكذلك وردت أحاديث تبين فضل الصلاة في أول وقتها، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيكون بعده أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها، وأرشد المتبع لهديه أن يصليها في وقتها ثم يصليها معهم لتحصل الفضيلتان: فضيلة الصلاة في أول وقتها، وفضيلة جمع الكلمة ووحدة الصف.(62/1)
وقت صلاة العشاء(62/2)
شرح حديث: (كان رسول الله يصليها لسقوط القمر لثالثه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: في وقت العشاء الآخرة.
حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن بشير بن ثابت عن حبيب بن سالم عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: أنا أعلم الناس بوقت هذه الصلاة -صلاة العشاء الآخرة-، (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها لسقوط القمر لثالثة)].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة، وهي: [باب: في وقت صلاة العشاء الآخرة] وكلمة (الآخرة) المقصود بها تمييزها عن المغرب؛ لأن المغرب تكون في وقت العشي، والعشي يقال للوقت الذي بين العشاءين، فهي العشاء الآخرة بالنسبة للعشاء التي هي المغرب.
وأورد أبو داود رحمه الله حديث النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما قال: أنا أعلم الناس بوقت هذه الصلاة -صلاة العشاء الآخرة- (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها عند سقوط القمر لثالثة) يعني: إذا غاب القمر في ليلة الثالث فقد دخل وقت العشاء، فهذا تحديد وتقدير بالقمر ومغيبه، وذلك في أول الشهر حين يكون ابن ثلاث ليال، فإذا غاب فإنه يدخل وقت صلاة العشاء.
وقد عرفنا في الأحاديث الماضية أنه إذا غاب الشفق الأحمر -وهو الحمرة التي تكون بعد مغيب الشمس عندما تذهب ويكون الظلام الدامس الشديد- عند ذلك يبدأ وقت صلاة العشاء.
وفي حديث النعمان بن بشير هذا بيان من وجه آخر لوقت العشاء، وأنه عند مغيب القمر ليلة الثالث من الشهر.
وهذا في أول الوقت، وإلا فإن آخر الوقت الاختياري هو نصف الليل، وآخر الوقت الاضطراري طلوع الفجر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (ليس في النوم تفريط، إنما التفريط أن يؤخر الصلاة حتى يأتي وقت الصلاة التي بعدها).
ومن المعلوم أن تأخير الصلاة عن نصف الليل هو تفريط؛ لأنه لا يجوز تأخيرها عن نصف الليل إلا في حال الاضطرار، فإنها في حال الاضطرار تقع مؤداة إلى طلوع الفجر.(62/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (كان رسول الله يصليها لسقوط القمر لثالثة)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري، ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن أبي عوانة].
هو وضاح بن عبد الله اليشكري، ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وهو مشهور بكنيته.
[عن أبي بشر].
أبو بشر هو جعفر بن إياس المشهور بـ ابن أبي وحشية، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بشير بن ثابت].
بشير بن ثابت وهو ثقة، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[عن حبيب بن سالم].
حبيب بن سالم لا بأس به، أي: صدوق، أخرج حديثه مسلم وأصحاب السنن.
[عن النعمان بن بشير].
النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما صحابي ابن صحابي، وقد توفي رسول الله عليه الصلاة والسلام وعمره ثمان سنوات، فهو من صغار الصحابة، ولكنه تحمل عن النبي صلى الله عليه وسلم في حال صغره وأدى في حال كبره، وعند المحدثين إذا تحمل الصغير في حال الصغر وأدى في حال الكبر فهو معتبر.
وكذلك الكافر إذا تحمل في حال كفره وأدى في حال إسلامه، فإن ذلك معتبر، كما جاء في قصة أبي سفيان مع هرقل عظيم الروم، فإنه حكى ما حصل له معه في حال كفره، وقد حكاه في حال إسلامه، وكذلك النعمان بن بشير تحمل في حال صغره وأدى في حال كبره، وقد جاء عنه بعض الأحاديث التي يصرح فيها بالسماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك الحديث المشهور الذي في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما يقول فيه النعمان بن بشير: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الحلال بين وإن الحرام بين).(62/4)
شرح حديث: (مكثنا ذات ليلة ننتظر رسول الله لصلاة العشاء فخرج إلينا حين ذهب ثلث الليل أو بعده)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور عن الحكم عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (مكثنا ذات ليلة ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء، فخرج إلينا حين ذهب ثلث الليل أو بعده، فلا ندري أشيء شغله أم غير ذلك، فقال حين خرج: أتنتظرون هذه الصلاة؟ لولا أن تثقُل على أمتي لصليت بهم هذه الساعة.
ثم أمر المؤذن فأقام الصلاة)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: [مكثنا ذات ليلة] يعني: ليلة من الليالي، [ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء، فخرج إلينا حين ذهب ثلث الليل أو بعده، فلا ندري أشيء شغله أم غير ذلك] يعني: هل شغل عليه الصلاة والسلام أو أنه أراد التأخير ولم يشغله شاغل.
فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليهم وسلم وقال: [(أتنتظرون هذه الصلاة؟ لولا أن تثقل على أمتي لصليت بهم هذه الساعة)] يعني: لولا أن يكون في ذلك مشقة عليهم بالتأخير لصلاها في وقت متأخر، في وقتها الاختياري؛ لأن الوقت إلى نصف الليل كله داخل في الوقت الاختياري الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا دليل على أن تأخير الصلاة إذا لم يكن فيه مشقة جائز، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمنعه من ذلك إلا حصول المشقة وخشية المشقة على أمته صلى الله عليه وسلم.
ومن المعلوم -كما مر معنا- أن النبي صلى الله عليه وسلم بالنسبة للعشاء كان إذا رآهم في العشاء كثروا عجل وإذا رآهم قلوا أخر، من أجل انتظارهم، فصلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(62/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (مكثنا ذات ليلة ننتظر رسول الله لصلاة العشاء فخرج إلينا حين ذهب ثلث الليل أو بعده)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا جرير].
هو جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي ثم الرازي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن منصور].
هو منصور بن المعتمر الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحكم].
هو الحكم بن عتيبة الكندي الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
هو نافع مولى ابن عمر، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة [عن عبد الله بن عمر] عبد الله بن عمر رضي الله عنهما صحابي ابن صحابي، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(62/6)
شرح حديث: (اعتموا بهذه الصلاة؛ فإنكم قد فضلتم بها على سائر الأمم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عمرو بن عثمان الحمصي حدثنا أبي حدثنا حريز عن راشد بن سعد عن عاصم بن حميد السكوني أنه سمع معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول: (أبقينا النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة العتمة، فأخر حتى ظن الظان أنه ليس بخارج، والقائل منا يقول: صلى.
فإنا لكذلك حتى خرج النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له كما قالوا، فقال لهم: اعتموا بهذه الصلاة؛ فإنكم قد فُضَّلتم بها على سائر الأمم، ولم تصلها أمة قبلكم)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه قال: [(أبقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم)] يعني: انتظرناه لصلاة العشاء.
قوله: [في صلاة العتمة] وهي العشاء، وقد جاء ما يدل على أنه لا يقال للعشاء: العتمة.
وإنما يقال لها: العشاء، كما جاء ذلك في القرآن وكما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكونهم يقولونه يدل على الجواز، لكن إطلاق العشاء هو الأولى.
[فأخر حتى ظن الظان أنه ليس بخارج].
يعني: حتى ظن الظان أنه ليس بخارج عليهم.
قوله: [والقائل منا يقول: صلى] يعني أنه مر وقت طويل، ولم يكن معهوداً عنه صلى الله عليه وسلم أن يؤخر هذا التأخير.
قوله: [فإنا لكذلك حتى خرج النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له كما قالوا] أن واحداً قال كذا، وواحداً قال كذا.
قوله: [(اعتموا بهذه الصلاة)] يعني: أخروها في العتمة، والعتمة وهي الظلام، أي: مضي شيء من الليل.
قوله: [(فإنكم قد فضلتم على سائر الأمم بهذه الصلاة، ولم تصلها أمة قبلكم)].
يحتمل أن يكون المقصود أنهم فضلوا بصلاة العشاء، وأن تلك الأمم لم تفرض عليهم صلاة العشاء، ويحتمل أن يكون المقصود التأخير إلى هذا الوقت، وقد سبق أن مر في حديث جبريل لما ذكر له الأوقات أنه قال: (هذا وقت الأنبياء من قبلك) وهذا يدلنا على أن الصلوات الخمس فرضت على الأمم السابقة، ولكن كيفيتها الله تعالى أعلم بها.
فهذا الذي جاء في الحديث -وهو أن هذه الأمة فضلت بها- إذا فسر بأنها تعتم بها وتؤخرها فلا تنافي بينه وبين الحديث الذي سبق أن مر، ومعنى هذا أن هذه الصلاة كانت على الأمم السابقة، ولكن فضلت هذه الأمة بها بكونهم يؤخرونها، بخلاف الأمم السابقة، فإنها لم تكن تؤخرها مثل هذا التأخير.(62/7)
تراجم رجال إسناد حديث: (اعتموا بهذه الصلاة فإنكم قد فضلتم بها على سائر الأمم)
قوله: [حدثنا عمرو بن عثمان الحمصي].
هو عمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير الحمصي، صدوق، أخرج حديثه أبو داود والنسائي وابن ماجه.
[حدثنا أبي] هو عثمان بن سعيد بن كثير الحمصي، وهو ثقة، أخرج حديثه أبو داود والنسائي وابن ماجه.
[حدثنا حريز].
هو حريز بن عثمان الحمصي، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن.
[عن راشد بن سعد].
هو راشد بن سعد الحمصي، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد، وأصحاب السنن.
[عن عاصم بن حميد السكوني].
عاصم بن حميد السكوني صدوق مخضرم، أخرج حديثه أبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجه.
[أنه سمع معاذ بن جبل].
هو معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
وكان قد سكن الشام ومات بها سنة ثمان عشرة من الهجرة، ورجال الاسناد كلهم شاميون، والذين قبل معاذ كلهم حمصيون، ولا أدري هل معاذ سكن حمص فيكون رجال الاسناد كلهم حمصيين أم لا.(62/8)
شرح حديث: (صلينا مع رسول الله صلاة العتمة فلم يخرج حتى مضى نحو من شطر الليل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا بشر بن المفضل حدثنا داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عن قال: (صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العتمة، فلم يخرج حتى مضى نحو من شطر الليل، فقال: خذوا مقاعدكم.
فأخذنا مقاعدنا، فقال: إن الناس قد صلوا وأخذوا مضاجعهم، وإنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة، ولولا ضعف الضعيف وسقم السقيم لأخرت هذه الصلاة إلى شطر الليل)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العتمة، فلم يخرج حتى مضى نحو من شطر الليل).
يعني: قريب من نصف الليل في آخر وقتها الاختياري.
وقوله: [فقال: خذوا مقاعدكم، (فأخذنا مقاعدنا)] يعني: استووا للصلاة.
قوله: [فقال: (إن الناس قد صلوا)] يعني: غيركم.
قوله: [(وأخذوا مضاجعهم)] يعني: ناموا.
قوله: [(وإنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة)].
يعني: هذه المدة التي تنتظرون فيها الصلاة أنتم بها في صلاة، والإنسان إذا دخل المسجد وجلس ينتظر الصلاة فهو في صلاة ما انتظر الصلاة.
قوله: [(ولولا ضعف الضعيف وسقم السقيم لأخرت هذه الصلاة إلى شطر الليل)].
هذا مثل الذي تقدم في قوله صلى الله عليه وسلم: (لولا أن تثقل على أمتي لأخرتها إلى هذه الساعة).(62/9)
تراجم رجال إسناد حديث: (صلينا مع رسول الله صلاة العتمة فلم يخرج حتى مضى نحو من شطر الليل)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا بشر بن المفضل].
بشر بن المفضل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا داود بن أبي هند].
داود بن أبي هند ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي نضرة].
أبو نضرة هو المنذر بن مالك، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي سعيد الخدري].
هو سعد بن مالك بن سنان الخدري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مشهور بكنيته ونسبته، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(62/10)
وقت صلاة الصبح(62/11)
شرح حديث: (إن كان رسول الله ليصلي الصبح فينصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: في وقت الصبح.
حدثنا القعنبي عن مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي الصبح فينصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس)].
قوله: [باب: في وقت الصبح] يعني: باب في وقت صلاة الصبح، وهذه آخر الصلوات، وذكر وقتها آخر الأوقات لأنه بدأ بالظهر كما سبق أن مر، وقلت: إن السبب في ذلك أن جبريل أول ما نزل صلى بالرسول صلى الله عليه وسلم الظهر، فبدأ بالظهر وانتهى بالفجر، وهذه آخر الأحاديث المتعلقة بأوقات الصلوات الخمس.
وأورد أبو داود رحمه الله حديث عائشة رضي الله عنها، وفيه: [(إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي الصبح فينصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن أحد من الغلس)] أي: أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي الصلاة في أول وقتها، وأن النساء كن ينصرفن بعد الصلاة وهن ملتفات بثيابهن ما يعرفهن أحد من الغلس؛ لأن الظلام موجود.
وقد سبق أن مر أن الواحد كان يعرف جليسه، وهنا قالت: [(ما يعرفن من الغلس)]، ومن المعلوم أن هناك فرقاً بين من يكون إلى جانب المرء ومن يكون بعيداً منه.
وهذا الحديث يدل على أن الصلاة تصلى في أول وقتها، وفيه جواز خروج النساء للصلاة في الليل والنهار.(62/12)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن كان رسول الله ليصلي الصبح فينصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس)
قوله: [حدثنا القعنبي].
هو عبد الله بن مسلمة القعنبي، ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة الإمام المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن يحيى بن سعيد].
هو يحيى بن سعيد الأنصاري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرة بنت عبد الرحمن].
هي عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية ثقة، أخرج لها أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
هي عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق، وهي أحد سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(62/13)
شرح حديث: (أصبحوا بالصبح؛ فإنه أعظم لأجوركم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إسحاق بن إسماعيل حدثنا سفيان عن ابن عجلان عن عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان عن محمود بن لبيد عن رافع بن خديج رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أصبحوا بالصبح؛ فإنه أعظم لأجوركم -أو أعظم للأجر-)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث رافع بن خديج [(أصبحوا بالصبح فإنه أعظم لأجوركم أو أعظم للأجر)] وقد ورد في بعض الروايات: (أصبحوا بالفجر؛ فإنه أعظم للأجر) وهي مروية بالمعنى، وقوله: [(أصبحوا بالصبح)] قال بعض أهل العلم: هذا يوافق الأحاديث الدالة على أن الصلاة تصلى في أول وقتها؛ لأنه قال: [(أصبحوا)] يعني: صلوها في وقت الصبح، والصبح إنما يكون بطلوع الفجر، أي أن الصلاة تصلى في أول وقتها باعتبار أن القراءة تطال فيها، فيدخل فيها في أول الوقت، وإذا أطال القراءة فلا يخشى خروج وقتها عند الفراغ منها.(62/14)
تراجم رجال إسناد حديث: (أصبحوا بالصبح فإنه أعظم لأجوركم)
قوله: [حدثنا إسحاق بن إسماعيل].
هو إسحاق بن إسماعيل الطالقاني، وهو ثقة، أخرج حديثه أبو داود وحده.
[حدثنا سفيان].
هو سفيان بن عيينة، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عجلان].
هو محمد بن عبد الله المدني، صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان].
عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمود بن لبيد].
محمود بن لبيد صحابي صغير، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن رافع بن خديج] رافع بن خديج رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(62/15)
المحافظة على وقت الصلوات(62/16)
شرح حديث: (خمس صلوات افترضهن الله تعالى)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: في المحافظة على وقت الصلوات.
حدثنا محمد بن حرب الواسطي حدثنا يزيد -يعني ابن هارون - حدثنا محمد بن مطرف عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن الصنابحي قال: (زعم أبو محمد أن الوتر واجب، فقال عبادة بن الصامت: كذب أبو محمد؛ أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (زعم أبو محمد خمس صلوات افترضهن الله تعالى، من أحسن وضوءهن وصلاهن لوقتهن وأتم ركوعهن وخشوعهن كان له على الله عهد أن يغفر له، ومن لم يفعل فليس له على الله عهد، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه)].
قوله: [باب في المحافظة على وقت الصلوات] يعني: المحافظة على الإتيان بالصلاة في أوقاتها وعدم تأخيرها عن أوقاتها، والمقصود من ذلك الحث والترغيب على المحافظة على الأوقات.
وقد أورد أبو داود رحمه الله جملة من الأحاديث، أولها حديث عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه أنه لما بلغه أن أبا محمد -وهو رجل من الأنصار قيل: إنه صحابي- كان يقول: إن الوتر واجب قال: [كذب أبو محمد)] والمقصود بقوله: [كذب] أي: أخطأ، وليس المقصود أنه أتى بشيء خلاف الواقع وأنه أخبر بخبر غير مطابق للواقع، وإنما اجتهد في زعمه أن الوتر واجب، لكنه -كما هو معلوم- ليس واجباً كوجوب الصلوات، وإنما هو من الأمور المتأكدة التي كان عليه الصلاة والسلام لا يتركها في حضر ولا في سفر، وكذلك ركعتا الفجر ما كان يتركهما في حضر ولا في سفر.
ولاشك في أن الوتر ليس من الصلوات المفروضة اللاتي فرضهن الله، وهن خمس صلوات فرضن ليلة المعراج، وهن خمس في العمل وخمسون في الأجر، ولكن الوتر متأكد، وهو آكد السنن مع ركعتي الفجر.
وقد جاء عن الإمام أحمد أنه قال: إن الذي لا يصلي الوتر رجل سوء.
ومن المعلوم أن من يتهاون بالنوافل قد يتهاون بالفرائض، ومن يحافظ على النوافل من باب أولى أن يحافظ على الفرائض، فهي كالسياج للفرائض، فلا يتساهل المرء فيها؛ لئلا يحصل التساهل فيما وراءها، أي: الفرائض.
والحاصل أن (كذب) تأتي بمعنى (أخطأ) وليست بمعنى الافتراء والكذب، وقد جاء في الحديث: (صدق الله وكذب بطن أخيك) في قصة الذي شرب العسل.
وقد جاء في مواضع منها حديث عائشة رضي الله عنها: (من حدثكم أن محمداً رأى ربه فقد كذب) تعني: أنه قد أخطأ، وهناك عبارات تأتي من هذا القبيل.
قوله: [قال عبادة: كذب أبو محمد؛ أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خمس صلوات افترضهن الله تعالى)].
يعني: خمس صلوات ليس فيهن الوتر.
إذاً: هو ليس بواجب، ولكنه متأكد، بل هو آكد النوافل مع ركعتي الفجر.
قوله: [(من أحسن وضوءهن وصلاهن لوقتهن وأتم ركوعهن وخشوعهن كان له على الله عهد أن يغفر له)].
يعني كونه أتى بالشرط الذي هو الوضوء، بحيث أحسنه وأتقنه وأتى به على الوجه المطلوب.
قوله: [(وصلاهن لوقتهن وأتم ركعهن سجودهن وخشوعهن)] هو محل الشاهد، وهو المحافظة على وقت الصلاة، يعني: لم يؤخرهن عن أوقاتهن.
قوله: [(كان له عهد على الله أن يغفر له، ومن لم يفعل)] يعني: لم يحصل منه ذلك (فليس له على الله عهد) يعني: كالأول [(إن شاء غفر له وإن شاء عذبه)].(62/17)
تراجم رجال إسناد حديث: (خمس صلوات افترضهن الله تعالى)
قوله: [حدثنا محمد بن حرب الواسطي].
محمد بن حرب الواسطي صدوق، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود.
[حدثنا يزيد -يعني ابن هارون -].
هو يزيد بن هارون الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا محمد بن مطرف].
محمد بن مطرف ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زيد بن أسلم].
زيد بن أسلم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عطاء بن يسار].
عطاء بن يسار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن الصنابحي].
عبد الله الصنابحي قيل: هو صحابي.
وقيل: هو عبد الرحمن بن عسيلة المخضرم الذي قال عنه بعض أهل العلم كاد أن يكون صحابياً؛ لأنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما كان في الجحفة في الطريق إلى الرسول صلى الله عليه وسلم جاءه الخبر بأن الرسول صلى الله عليه وسلم توفي، فلم يكن بينه وبين الصحبة إلا شيء يسير.
والأحاديث التي باسم عبد الله الصنابحي جاءت عند أبي داود والنسائي وابن ماجه.
وأما عبد الرحمن بن عسيلة الذي هو أبو عبد الله الصنابحي فحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
فقال: [عبادة بن الصامت].
عبادة بن الصامت رضي الله عنه هو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(62/18)
وجه الاحتجاج على عدم كفر تارك الصلاة بقوله: (ومن لم يفعل فليس له على الله عهد، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه)
[(ومن لم يفعل فليس له على الله عهد، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه)].
هذا لا يدل على عدم كفر تارك الصلاة؛ لأنه ذكر أموراً فيها الإحسان وفيها إتمام الركوع والسجود، فمعناه أن الذي يحصل منه التمام والكمال هو الذي له عهد عند الله أن يغفر له، أما من لم يحصل منه التمام والكمال وحصل منه الإخلال فليس له ذلك العهد عند الله، بل أمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.(62/19)
شرح حديث: (سئل رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة في أول وقتها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عبد الله الخزاعي وعبد الله بن مسلمة قالا: حدثنا عبد الله بن عمر عن القاسم بن غنام عن بعض أمهاته عن أم فروة رضي الله عنها قالت: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة في أول وقتها).
قال الخزاعي في حديثه: عن عمة له يقال لها: أم فروة قد بايعت النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل].
أورد أبو داود رحمه الله حديث أم فروة الأنصارية رضي الله تعالى عنها قالت: [(سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة في أول وقتها)].
وهذا يدل على المحافظة على الصلاة في وقتها، بل في أول وقتها؛ لأن الإنسان إذا أداها في أول وقتها فقد بادر إلى إبراء الذمة، بخلاف الإنسان الذي يؤخرها إلى آخر الوقت، فقد تخرج عن الوقت، فيكون بذلك قد عرض صلاته لخروجها عن الوقت.
إذاً: المبادرة إليها فيها إبراء للذمة، وعدم تعريض الصلاة للتأخير عن وقتها.(62/20)
تراجم رجال إسناد حديث: (سئل رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة في أول وقتها)
قوله: [حدثنا محمد بن عبد الله الخزاعي].
هو محمد بن عبد الله بن عثمان الخزاعي، وهو ثقة، أخرج حديثه أبو داود وابن ماجه.
[وعبد الله بن مسلمة].
هو عبد الله بن مسلمة القعنبي، مر ذكره.
[حدثنا عبد الله بن عمر].
هو عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم العمري، وهو ضعيف، أخرج حديثه مسلم وأصحاب السنن.
[عن القاسم بن غنام].
القاسم بن غنام صدوق مضطرب الحديث، أخرج حديثه أبو داود والترمذي.
[عن بعض أمهاته].
أي: أمهات القاسم بن غنام، وهذا على رواية القعنبي.
وفي رواية محمد بن عبد الله الخزاعي [عن عمة له يقال لها: أم فروة، ومعنى هذا: أن القاسم بن غنام يروي عن أم فروة وأنها عمة له.
وقال الحافظ: لا يعرف اسمها ولا حالها، وأخرج لها أبو داود وحده.
[عن أم فروة].
أم فروة أنصارية أخرج حديثها أبو داود والترمذي.(62/21)
شرح حديث: (لا يلج النار رجل صلى قبل طلوع الشمس وقبل أن تغرب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن إسماعيل بن أبي خالد حدثنا أبو بكر بن عمارة بن رؤيبة عن أبيه رضي الله عنه قال: (سأله رجل من أهل البصرة فقال: أخبرني ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول: (لا يلج النار رجل صلى قبل طلوع الشمس وقبل أن تغرب) قال: أنت سمعته منه -ثلاث مرات-؟ قال: نعم.
كل ذلك يقول: سمعته أذناي، ووعاه قلبي.
فقال الرجل: وأنا سمعته صلى الله عليه وسلم يقول ذلك].
أورد أبو داود رحمه الله الحديث من طريق صحابيين أحدهما: عمارة بن رؤيبة، والثاني: رجل من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم.
قوله: [سأله رجل من أهل البصرة فقال: أخبرني ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يلج النار رجل صلى قبل طلوع الشمس وقبل أن تغرب)] أراد بذلك صلاة العصر وصلاة الفجر.
قوله: [أنت سمعته منه -ثلاث مرات-؟ قال: نعم.
كل ذلك يقول: سمعته أذناي ووعاه قلبي] يعني أنه متأكد وأنه ضابط للشيء، ومثل هذه العبارات تدل على الضبط والإتقان، ومثله حديث أبي شريح الخزاعي لما جاء إلى عمرو بن سعيد الأشدق وهو يجهز الجيوش لغزو ابن الزبير فقال: (ائذن لي -أيها الأمير- أن أحدث بحديث سمعته أذناي ووعاه قلبي ورأته عيناي وهو يحدث به) وذكر حديث حجة الوداع وما قال صلى الله عليه وسلم في يوم النحر من أن الله حرم مكة، فهذا يدل على التثبت.
قوله: [فقال الرجل: وأنا سمعته صلى الله عليه وسلم يقول ذلك] أي أنه لا أراد أن يتأكد منه أنه سمعه، وعند ذلك قال: وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: جاء هذا الحديث من طريق صحابيين صحابي معلوم، وهو عمارة بن رؤيبة والصحابي الآخر الذي سأله، وقال: إنه -أيضاً- سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهو يتعلق بصلاة الفجر وصلاة العصر والمحافظة عليهما، فهما الصلاتان قبل طلوع الشمس وقبل غروبها.(62/22)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا يلج النار رجل صلى قبل طلوع الشمس وقبل أن تغرب)
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى].
هو يحيى بن سعيد القطان، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن إسماعيل بن أبي خالد].
إسماعيل بن أبي خالد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو بكر بن عمارة بن رؤيبة].
أبو بكر بن عمارة بن رؤيبة مقبول، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن أبيه].
أبوه هو عمارة بن رؤيبة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.(62/23)
شرح حديث: (حافظ على العصرين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عمرو بن عون أخبرنا خالد عن داود بن أبي هند عن أبي حرب بن أبي الأسود عن عبد الله بن فضالة عن أبيه رضي الله عنهما قال: (علمني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكان فيما علمني: وحافظ على الصلوات الخمس.
قال: قلت: إن هذه ساعات لي فيها أشغال، فمرني بأمر جامع إذا أنا فعلته أجزأ عني.
فقال: حافظ على العصرين.
وما كانت من لغتنا، فقلت: وما العصران؟! فقال: صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروبها)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث فضالة الليثي رضي الله تعالى عنه أنه قال: [علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان فيما علمني: [(وحافظ على الصلوات الخمس)].
قال: قلت: يا رسول الله! إن هذه ساعات لي فيها أشغال؛ فمرني بأمر جامع إذا أنا فعلته أجزأ عني.
فقال عليه الصلاة والسلام: [(حافظ على العصرين)].
قال: وما كانت من لغتنا.
فقلت: وما العصران يا رسول الله؟ فقال: [(صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروبها)] يعني بذلك صلاتي الفجر والعصر، والحديث -كما ترجم له المصنف- دال على المحافظة على الصلوات.
حيث قال له: [(حافظ على الصلوات الخمس)] فلما قال: [إن هذه ساعات لي فيها أشغال فمرني بأمر جامع] أرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى أفضل الصلوات، وليس المقصود من ذلك أن الصلوات الأخرى يتهاون بها، ولكنه ذكر المحافظة على الجميع، ثم أرشد إلى ما له ميزة وفضل على غيره من الصلوات الخمس، وهما العصر والفجر، وذلك لأن هاتين الصلاتين هما اللتان تجتمع فيهما ملائكة الليل وملائكة النهار الذين ينزلون ويصعدون، ويجتمع الصاعدون والنازلون في صلاة العصر وصلاة الفجر.
ولهذا جاءت أحاديث كثيرة تدل على فضل هاتين الصلاتين، وهما صلاة العصر وصلاة الفجر.
[وما كانت من لغتنا] يعني أنه ما فهم لفظ العصرين، ومن المعلوم أن بعض الكلمات قد تخفى على بعض العرب، ويكون عندهم كلمة مشهورة حيث يكون لها معنى آخر عند بعض القبائل العربية، فلما قال: [(حافظ على العصرين)] لم يفهم المراد بهما، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بأنهما الفجر والعصر.
وقيل للفجر والعصر: العصران تغليباً لإحدى الكلمتين على الأخرى، كما يقال: العُمَرَان ويراد بذلك أبو بكر وعمر، ويقال: الأبوان ويراد بذلك الأب والأم، ويقال: القمران ويراد بذلك الشمس والقمر.
فيغلب أحد اللفظين فتحصل التثنية به، وإن كانت الكلمة الأخرى تطلق بلفظ آخر، أعني الشمس وأبا بكر والأم والفجر، فصار التغليب لأحد اللفظين فقيل: العصران؛ لأن هذه تكون في أول النهار وهذه في آخره.
والعصر هو متكون من الليل والنهار، فقيل لهما: العصران لأن هذه تقع في آخر النهار وهذه تقع في أول النهار.(62/24)
تراجم رجال إسناد حديث: (حافظ على العصرين)
قوله: [حدثنا عمرو بن عون].
هو عمرو بن عون الواسطي، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا خالد] هو خالد بن عبد الله الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن داود بن أبي هند].
داود بن أبي هند ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي حرب بن أبي الأسود].
أبو حرب بن أبي الأسود ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن فضالة].
عبد الله بن فضالة له رؤية، أخرج له أبو داود وحده.
[عن أبيه].
أبوه هو فضالة الليثي، وهو صحابي، أخرج حديثه أبو داود.(62/25)
شرح حديث: (خمس من جاء بهن مع إيمان دخل الجنة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عبد الرحمن العنبري حدثنا أبو علي الحنفي عبيد الله بن عبد المجيد حدثنا عمران القطان حدثنا قتادة وأبان كلاهما عن خليد العصري عن أم الدرداء عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خمس من جاء بهن مع إيمان دخل الجنة: من حافظ على الصلوات الخمس على وضوئهن وركوعهن وسجودهن ومواقيتهن، وصام رمضان، وحج البيت إن استطاع إليه سبيلاً، وأعطى الزكاة طيبة بها نفسه، وأدى الأمانة، قالوا: يا أبا الدرداء! وما أداء الأمانة؟ قال: الغسل من الجنابة)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (خمس من جاء بهن مع إيمان دخل الجنة)] يعني: من جاء بهذه الخمس وهو مؤمن.
لأن أي عمل من الأعمال بدون الإيمان لا عبرة به ولا قيمة له، كما قال الله عز وجل: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، ويحتمل أن يكون المقصود بالإيمان هو التصديق، مثل قوله: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).
ثم ذكر الخمس: [(من حافظ على الصلوات الخمس على وضوئهن وركوعهن وسجودهن ومواقيتهن)] والمقصود من الترجمة قوله: [(مواقيتهن)] أي: المحافظة عليها في أوقاتها، ثم ذكر صيام شهر رمضان والحج والزكاة وأداء الأمانة، فهذه هي الخمس.
قوله: [(وأعطى الزكاة طيبة بها نفسه)].
يعني أنه يؤديها وهو منشرح الصدر طيبة بها نفسه، ولا يؤديها وهو كاره، أو يؤديها وفي نفسه شيء من إخراجها.
وسئل أبو الدرداء عن الأمانة فقال: [(الغسل من الجنابة)] والغسل من الجنابة هو جزء من جزئيات الأمانة، وهذا -كما يقولون-: تفسير بالمثال؛ لأنه ليس المقصود بأداء الأمانة الغسل من الجنابة فقط، بل هذا مما هو داخل تحت الأمانة، وهو من النوع الذي يسمونه التفسير بالمثال وليس التفسير بالحصر، وكثير من تفسيرات السلف لآيات القرآن الكريم هي من قبيل اختلاف التنوع، إما تفسير بالمثال وإما بلفظ مقارب يؤدي المعنى ويوضحه، فإذا جاء هذا بلفظ وهذا بلفظ وهذا بلفظ كان ذلك كله حقاً.
إذاً: فقول أبي الدرداء: [(الغسل من الجنابة)] هو من الأمثلة التي تندرج تحت أداء الأمانة، وليس المقصود من ذلك أن غسل الجنابة هو الأمانة أو أداء الأمانة؛ لأن أداء الأمانات يكون في حقوق الله عز وجل وحقوق العباد، فهذه كلها أمانات، يقول عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] فهو شامل لكل ما هو أمانة، وليس بمقصور على شيء دون شيء.(62/26)
تراجم رجال إسناد حديث: (خمس من جاء بهن مع إيمان دخل الجنة)
قوله: [حدثنا محمد بن عبد الرحمن العنبري].
محمد بن عبد الرحمن العنبري ثقة، أخرج له أبو داود وحده.
[حدثنا أبو علي الحنفي عبيد الله بن عبد المجيد] أبو علي الحنفي عبيد الله بن عبد المجيد صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عمران القطان].
هو عمران بن داور القطان، صدوق يهم، أخرج له البخاري تعليقاً، وأصحاب السنن.
[حدثنا قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وأبان].
هو أبان بن أبي عياش، متروك، أخرج له أبو داود وحده.
[عن خليد العصري].
هو خليد بن عبد الله العصري منسوب إلى جماعة من بني عبد القيس بن ربيعة، وهو صدوق يرسل، أخرج حديثه مسلم وأبو داود.
[عن أم الدرداء عن أبي الدرداء].
أم الدرداء هي الصغرى، واسمها هجيمة، وهي ثقة، أخرج لها أصحاب الكتب الستة وأما أم الدرداء الكبرى فليس لها رواية في الكتب الستة، فإذا جاء ذكر أم الدرداء في الكتب الستة فالمقصود بها أم الدرداء الصغرى واسمها هجيمة.
[عن أبي الدرداء] وهو عويمر رضي الله تعالى عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(62/27)
شرح حديث: (إني فرضت على أمتك خمس صلوات)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حيوة بن شريح الحمصي حدثنا بقية عن ضبارة بن عبد الله بن أبي سليك الألهاني أخبرني ابن نافع عن ابن شهاب الزهري قال: قال سعيد بن المسيب: إن أبا قتادة بن ربعي رضي الله عنه أخبره قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: إني فرضت على أمتك خمس صلوات، وعهدت عندي عهداً أنه من جاء يحافظ عليهن لوقتهن أدخلته الجنة، ومن لم يحافظ عليهن فلا عهد له عندي)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري رضي الله عنه، وهو حديث قدسي يقول الله عز وجل فيه مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: [(إني فرضت على أمتك خمس صلوات، وعهدت عندي عهداً أنه من جاء يحافظ عليهن لوقتهن أدخلته الجنة، ومن لم يحافظ عليهن فلا عهد له عندي)] والمقصود منه المحافظة على الصلاة في أوقاتها، والحديث دال على ذلك، وهو من الأحاديث القدسية.(62/28)
تراجم رجال إسناد حديث: (إني فرضت على أمتك خمس صلوات)
قوله: [حدثنا حيوة بن شريح الحمصي].
حيوة بن شريح الحمصي ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه.
[حدثنا بقية].
هو بقية بن الوليد الحمصي، وهو صدوق كثير التدليس على الضعفاء، وحديثه أخرجه البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن ضبارة بن عبد الله بن أبي سليك الألهاني].
ضبارة بن عبد الله بن أبي سليك الألهاني مجهول، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
[أخبرني ابن نافع].
ابن نافع هو دويد بن نافع، مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجه.
[عن ابن شهاب الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال سعيد بن المسيب].
سعيد بن المسيب ثقة فقيه، من فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[إن أبا قتادة بن ربعي].
هو الحارث بن ربعي الأنصاري رضي الله عنه، وهو صحابي مشهور، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.(62/29)
حكم تأخير الإمام الصلاة عن الوقت(62/30)
شرح حديث: (كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يميتون الصلاة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: إذا أخر الإمام الصلاة عن الوقت.
حدثنا مسدد حدثنا حماد بن زيد عن أبي عمران -يعني الجوني - عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر! كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يميتون الصلاة، -أو قال: يؤخرون الصلاة؟ - قلت: يا رسول الله! فما تأمرني؟ قال: صل الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصلها فإنها لك نافلة)].
قوله: [باب: إذا أخر الإمام الصلاة عن الوقت] يعني: فما الحكم؟ هل يؤخر المرء الصلاة إلى أن يصلي مع الإمام، أم أنه يصلي الصلاة في وقتها ويصلي معه، وتكون الصلاة الأخيرة نافلة؟ والمقصود بالتأخير عن الوقت هو التأخير عن الوقت الاختياري إلى الوقت الاضطراري، كأن تؤخر صلاة العصر إلى اصفرار الشمس، وتؤخر صلاة العشاء إلى ما بعد نصف الليل، وليس المقصود التأخير بها عن وقت الصلاة، كأن يؤخرون صلاة الفجر إلى ما بعد طلوع الشمس، أو العصر يؤخرونه إلى ما بعد الغروب، وإنما المقصود أنهم يؤخرونها عن الوقت الاختياري ويوقعونها في الوقت الاضطراري، والسنة جاءت بأن الإنسان يصلي الصلاة لوقتها وتكون هي الفريضة، وإذا أدركها معهم فإنه يصليها معهم نافلة، ويكون في ذلك جمع بين الإتيان بالصلاة في وقتها الاختياري وبين جمع الكلمة وعدم الفرقة ومتابعة الأئمة في الصلاة.
فالأولى هي الفريضة والثانية هي النافلة، وكون الإنسان يؤدي الفرض ثم يصلي الصلاة مرة أخرى لسبب من الأسباب كوجود جماعة ثانية لا بأس بذلك؛ لأن السنة جاءت بأن الإنسان إذا صلى صلاة ثم وجدت جماعة فإنه يصلي معها ولو كان ذلك الوقت وقت نهي، مثل بعد صلاة الفجر أو بعد صلاة العصر، وقد جاء في الحديث: أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى الفجر، فلما صلى رأى رجلين لم يصليا في ناحية المسجد، فدعا بهما فجيء بهما ترتعد فرائصهما، فقال: (ما منعكما أن تصليا معنا؟ قالا: قد صلينا في رحالنا.
فقال: لا تفعلا، إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الإمام ولم يصل فليصل معه، فإنها له نافلة) أما كون الإنسان يصلي صلاتين متعمداً بحيث يزيد عن الخمس الصلوات فهذا لا يجوز؛ لأن الصلوات خمس، ولكن حيث يصلي الفرض ثم يجد جماعة ويصلي معها فإن تلك تكون له نافلة.
إذاً: هذه الصلاة الأخرى إذا كان لها سبب سائغ لا بأس بها ولو كان ذلك في أوقات النهي؛ لأن هذا مما يستثنى من قوله: (لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس).
وقوله [(أو قال: يؤخرون الصلاة؟)] هو شك من الراوي، ومعنى: (يميتونها) يؤخرونها عن وقتها الاختياري.(62/31)
تراجم رجال إسناد حديث: (كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يميتون الصلاة)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد، ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا حماد بن زيد].
حماد بن زيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي عمران -يعني الجوني -].
أبو عمران الجوني هو عبد الملك بن حبيب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن الصامت].
عبد الله بن الصامت ثقة، أخرج حديثه البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي ذر].
هو جندب بن جنادة رضي الله تعالى عنه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(62/32)
شرح حديث: (كيف بكم إذا أتت عليكم أمراء يصلون الصلاة لغير ميقاتها؟)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم الدمشقي حدثنا الوليد حدثنا الأوزاعي حدثني حسان -يعني ابن عطية - عن عبد الرحمن بن سابط عن عمرو بن ميمون الأودي قال: قدم علينا معاذ بن جبل رضي الله عنه اليمن رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا، قال: فسمعت تكبيرة مع الفجر رجل أجش الصوت، قال: فألقيت عليه محبتي، فما فارقته حتى دفنته بالشام ميتاً، ثم نظرت إلى أفقه الناس بعده، فأتيت ابن مسعود رضي الله عنه فلزمته حتى مات، فقال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيف بكم إذا أتت عليكم أمراء يصلون الصلاة لغير ميقاتها؟ قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك يا رسول الله؟! قال: صل الصلاة لميقاتها، واجعل صلاتك معهم سبحة)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، وهو مثل حديث أبي الدرداء أن الأمراء إذا صلوا الصلاة لغير ميقاتها -يعني الاختياري- فينبغي للإنسان أن يصلي الفرض في الوقت ويصلي معهم، وتكون سبحة، يعني: نافلة، ولهذا يقال: (سبحة الضحى) ويقال: (جمع بين الصلاتين ولم يسبح بينهما) أي: ولم يتنفل؛ لأن السبحة هي النافلة.
إذاً: قوله: [(واجعل صلاتك معهم سبحة)] يعني: نافلة، وذلك فيه جمع بين المصلحتين: بين مصلحة أداء الصلاة في وقتها، وبين جمع الكلمة وعدم الفرقة ومتابعة الأئمة.
قوله: [(فسمعت تكبيرة مع الفجر رجل أجش)] يعني: غليظ الصوت.
قوله: [(فألقيت عليه محبتي) يعني: ألقى الله تعالى محبته في قلبه فلازمه حتى مات ودفنه بالشام، ثم بحث عن رجل يكون فقيهاً، فسار إلى عبد الله بن مسعود ولازمه حتى مات، وكان مما حدثه به ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: [(كيف بكم إذا أتت عليكم أمراء يصلون الصلاة لغير ميقاتها؟!)] قال: قلت: فما تأمرني يا رسول الله؟ قال: [(صل الصلاة لميقاتها، واجعل صلاتك معهم سبحة)].(62/33)
تراجم رجال سناد حديث: (كيف بكم إذا أتت عليكم أمراء يصلون الصلاة لغير ميقاتها؟)
قوله [حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم الدمشقي].
دحيم هذا لقب، فالمصنف رحمه الله ذكر اسمه ولقبه، و (دحيم) مأخوذ من (عبد الرحمن)؛ لأن بعض الألقاب تؤخذ من الأسماء، فيقال: دحيم بن عبد الرحمن، وعباد بن عبد الله، وكذلك عبدان بن عبد الله، وهكذا تجد بعض الألقاب تؤخذ من الأسماء، ودحيم ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
[حدثنا الوليد].
هو الوليد بن مسلم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الأوزاعي].
هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني حسان -يعني ابن عطية -].
حسان بن عطية ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الرحمن بن سابط].
عبد الرحمن بن سابط صدوق ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن عمرو بن ميمون الأودي].
عمرو بن ميمون الأودي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن مسعود].
ابن مسعود رضي الله تعالى عنه صحابي جليل مشهور من فقهاء الصحابة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وكانت وفاة معاذ في الشام سنة ثماني عشرة، ووفاة عبد الله بن مسعود سنة اثنتين وثلاثين.(62/34)
شرح حديث: (إنها ستكون عليكم بعدي أمراء تشغلهم أشياء عن الصلاة لوقتها حتى يذهب وقتها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن قدامة بن أعين حدثنا جرير عن منصور عن هلال بن يساف عن أبي المثنى عن ابن أخت عبادة بن الصامت عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
ح: وحدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا وكيع عن سفيان -المعنى- عن منصور عن هلال بن يساف عن أبي المثنى الحمصي عن أَبي أُبيَّ ابن امرأة عبادة بن الصامت عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها ستكون عليكم بعدي أمراء تشغلهم أشياء عن الصلاة لوقتها حتى يذهب وقتها، فصلوا الصلاة لوقتها.
فقال رجل: يا رسول الله! أصلي معهم؟ قال: نعم إن شئت) وقال سفيان: (إن أدركتها معهم أأصلي معهم؟ قال: نعم إن شئت)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه، وهو مثل ما تقدم من الأحاديث، وفيه أن الإنسان يصلي الصلاة لوقتها إذا أخرها الأمراء عن وقتها الاختياري، وأنه إذا أدركها معهم فإنه يصليها، ولكنها تكون له نافلة.
وقوله: [(فقال رجل: يا رسول الله أأصلي معهم؟ قال: نعم إن شئت)] الذي يبدو أنه إذا لم يترتب على تركها معهم مضرة فالأمر إليه؛ لأنه أدى الواجب الذي عليه، ولكن إذا كان يترتب على تركها معهم مضرة فإنه يصلي معهم وتكون له نافلة.(62/35)
تراجم رجال إسناد حديث: (إنها ستكون عليكم بعدي أمراء تشغلهم أشياء عن الصلاة لوقتها حتى يذهب وقتها)
قوله: [حدثنا محمد بن قدامة بن أعين].
هو محمد بن قدامة بن أعين المصيصي، وهو ثقة، أخرج حديثه أبو داود والنسائي.
[حدثنا جرير].
هو جرير بن عبد الحميد الضبي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن منصور].
هو منصور بن معتمر الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هلال بن يساف].
هلال بن يساف ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن أبي المثنى].
هو ضمضم أبو المثنى الأملوكي الحمصي، وثقه العجلي، وأخرج له أبو داود وابن ماجه.
[عن ابن أخت عبادة بن الصامت].
في الإسناد الذي سيأتي أنه ابن امرأته، وهو أبو أبي بن أم حرام، وهو صحابي، أخرج حديثه أبو داود وابن ماجه.
[عن عبادة بن الصامت] عبادة بن الصامت رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
قوله: [ح: وحدثنا محمد بن سليمان الأنباري].
محمد بن سليمان الأنباري صدوق، أخرج له أبو داود وحده.
[حدثنا وكيع].
هو وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
قوله: [المعنى] يعني أن المعنى واحد والألفاظ مختلفة.
[عن منصور عن هلال بن يساف عن أبي المثنى الحمصي عن أبي أبي ابن امرأة عبادة بن الصامت عن عبادة بن الصامت].
قد مر ذكرهم جميعاً.(62/36)
شرح حديث: (يكون عليكم أمراء بعدي يؤخرون الصلاة فهي لكم وهي عليهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا أبو هاشم -يعني الزعفراني - حدثني صالح بن عبيد عن قبيصة بن وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يكون عليكم أمراء من بعدي يؤخرون الصلاة، فهي لكم وهي عليهم، فصلوا معهم ما صلوا القبلة)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث قبيصة بن وقاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [(يكون عليكم أمراء من بعدي يؤخرون الصلاة فهي لكم وهي عليهم)] أي: إذا كنتم تصلون الصلاة لوقتها وتصلون معهم فهي لكم نافلة وعليهم إثم التأخير؛ لأنهم إن أحسنوا فالإحسان لكم ولهم، وإن أساءوا فالإساءة عليهم وليس عليكم، وقد جاء مثل هذا عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه كما جاء في صحيح البخاري في (باب إمامة المفتون والمبتدع) أنه لما كان محصوراً في داره قيل له: يا أمير المؤمنين! إنك إمام عامة، وهذا الذي يصلي بالناس إمام فتنة، فماذا تأمرنا؟ قال: يا ابن أخي! الصلاة من خير ما يفعل الناس، فإن أحسنوا فأحسن معهم، وإن أساءوا فاجتنب إساءتهم).
وكذلك ورد في الحديث الآخر مثل هذا الحديث: (يصلون لكم -يعني الأمراء- فإن أحسنوا فلكم ولهم، وإن أساءوا فلكم وعليهم).
وقوله: [(فصلوا معهم ما صلوا القبلة)] يعني: ما دام أنهم مسلمون ويصلون إلى القبلة فصلوا معهم.(62/37)
تراجم رجال إسناد حديث: (يكون عليكم أمراء بعدي يؤخرون الصلاة فهي لكم وهي عليهم)
قوله: [حدثنا أبو الوليد الطيالسي].
هو هشام بن عبد الملك، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو هاشم -يعني الزعفراني -].
هو عمار بن عمارة لا بأس به، أخرج حديثه أبو داود.
[حدثني صالح بن عبيد].
صالح بن عبيد مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن قبيصة بن وقاص].
قبيصة بن وقاص صحابي، أخرج حديثه أبو داود.(62/38)
شرح سنن أبي داود [063]
من نام عن الصلاة أو نسيها فليؤدها حين يذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك، حتى وإن كان وقت ذكرها من أوقات النهي، فهي مستثناة من النهي عن الصلاة في أوقات النهي، ويشرع الأذان والإقامة للفائتة، وصلاة السنة الراتبة.(63/1)
من نام عن الصلاة أو نسيها(63/2)
شرح حديث أبي هريرة: (من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها، فإن الله تعالى قال: (أقم الصلاة لذكري)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: فيمن نام عن الصلاة أو نسيها.
حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب عن ابن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قفل من غزوة خيبر فسار ليلةً حتى إذا أدركنا الكرى عرس، وقال لـ بلال: اكلأ لنا الليل.
قال: فغلبت بلالاً عيناه وهو مستند إلى راحلته، فلم يستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم ولا بلال ولا أحد من أصحابه حتى إذا ضربتهم الشمس، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أولهم استيقاظاً، ففزع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا بلال! فقال: أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك بأبي أنت وأمي يا رسول الله.
فاقتادوا رواحلهم شيئاً، ثم توضأ النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر بلالاً فأقام لهم الصلاة وصلى بهم الصبح، فلما قضى الصلاة قال: من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها، فإن الله تعالى قال: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14]).
قال يونس: وكان ابن شهاب يقرؤها كذلك، قال أحمد: قال عنبسة -يعني عن يونس - في هذا الحديث: (لِذِكْرِي) قال أحمد: الكرى: النعاس].
قوله: [باب من نام عن الصلاة أو نسيها].
يعني: الإنسان إذا نسي الصلاة أو نام عنها فإنه يصليها حين يذكرها، ومعناه أن الصلاة لا يتأتى تأخيرها أو عدم فعلها من المسلم إلا لنوم أو نسيان، أما أن يتركها متعمداً فهذا لا يليق بالمسلم ولا يحصل من المسلم.
وأورد أبو داود رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله عنه: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قفل من غزوة خيبر فسار ليلة حتى إذا أدركنا الكرى عرّس] يعني أدركهم النوم وأصابهم النعاس، فنزل صلى الله عليه وسلم ليستريح هو ومن معه، ولكن خشوا أن يغلبهم النوم وتفوت عليهم صلاة الفجر، فقال لـ بلال: [(اكلأ لنا الليل)] يعني: راقب لنا الليل وكن مستيقظاً حتى إذا جاء وقت الفجر فأيقظنا.
قوله: [(فغلبت بلالاً عيناه وهو مستند إلى راحلته فلم يستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم ولا بلال ولا أحد من أصحابه حتى إذا ضربتهم الشمس)] يعني: أن بلالاً جاءه النوم وهو مستند إلى راحلته حين غلبته عيناه ونام من غير اختياره، وبقي الناس نائمين حتى طلعت الشمس وأصابهم حر الشمس.
قوله: [(فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أولهم استيقاظاً)] يعني أنه أول من استيقظ.
قوله: [(ففزع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا بلال!)] يعني: ما الذي حصل؟ يعاتبه على نومه.
قوله: [(فقال: يا رسول الله! أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك)] يعني: النوم الذي حصل لك حصل لي.
وقوله: [(بأبي أنت وأمي يا رسول الله)] يعني: أنت مفدىً بأبي وأمي.
قوله: [(فاقتادوا رواحلهم شيئاً)].
وجاء في بعض الروايات أنهم أمروا بأن ينتقلوا عن المكان الذي أصابتهم فيه الغفلة.
قوله: [(ثم توضأ النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بلالاً فأقام لهم الصلاة وصلى بهم الصبح)].
يعني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ وأقام بلال وصلى بهم الصبح صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس فيه ذكر الأذان، لكن في الأحاديث الأخرى عن أبي قتادة وغيره ذكر الأذان، وكذلك -أيضاً- جاء عن أبي هريرة في بعض الروايات ذكر الأذان.
قوله: [(فلما قضى الصلاة قال: (من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها)].
يعني: مثل ذلك النوم الذي حصل له، ولا يحصل عدم الإتيان بالصلاة إلا للنوم أو النسيان، وورد في بعض الأحاديث (من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك).
قوله: [(فإن الله تعالى قال: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِى} [طه:14])].
هذه قراءة شاذة، والقراءة المتواترة هي: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14].
قوله: [قال يونس: وكان ابن شهاب يقرؤها كذلك].
يعني: كان يقرؤها على هذه القراءة الشاذة.
قوله: [قال أحمد: قال عنبسة -يعني عن يونس - في هذا الحديث ((لِذِكْرِي))].
قال أحمد هو أحمد بن صالح، أحد الرواة في الإسناد.
وعنبسة هو ابن خالد الأيلي.
وقوله: [لِذِكْرِي] يعني: على القراءة المتواترة الصحيحة.
أما [للذكرى] فهذه قراءة شاذة، والقراءة المتواترة هي: (لِذِكْرِي).(63/3)
تراجم رجال إسناد حديث أبي هريرة: (من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها، فإن الله تعالى قال: (أقم الصلاة لذكري)
قوله: [قال عنبسة].
هو عنبسة بن خالد الأيلي، صدوق، أخرج حديثه البخاري وأبو داود.
[حدثنا أحمد بن صالح].
هو أحمد بن صالح المصري، ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني يونس].
هو يونس بن يزيد الأيلي ثم المصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن شهاب].
ابن شهاب مر ذكره.
[عن ابن المسيب].
سعيد بن المسيب مر ذكره.
[عن أبي هريرة].
أبو هريرة هو عبد الرحمن بن صخرالدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق.(63/4)
إسناد آخر لحديث أبي هريرة، وتراجم رجال الإسناد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان حدثنا معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه في هذا الخبر قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تحولوا عن مكانكم الذي أصابتكم فيه الغفلة.
قال: فأمر بلالاً فأذن وأقام وصلى)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي هريرة من طريق أخرى، وفيه أنه أمر بتحولهم من مكانهم الذي أصابتهم فيه الغفلة، وفي الحديث الأول قال: (فاقتادوا رواحلهم شيئاً) ولم يذكر السبب، وهنا ذكر سبب التحول، وهو أنه أصابتهم في ذلك المكان الغفلة، وفيه أنه أذن وأقام، فيكون ذكر الأذان مع الإقامة، وذكر الأذان مع الإقامة جاء -أيضاً- عن أبي قتادة وغيره من الصحابة، أي أنه يؤذن للفائتة ويقام.
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبان].
هو أبان بن يزيد العطار، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه.
[حدثنا معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة].
قد مر ذكرهم جميعاً.(63/5)
حكم الأذان والإقامة للمنفرد داخل المدينة
لو كان الإنسان منفرداً وفاتته الصلاة فالذي يبدو أنه يؤذن ويقيم حتى ولو كان وحده، لكن يؤذن بخفض صوت داخل المدينة، أما ما ورد عن أنس بن مالك من أنه أذن وأقام فمعناه أنه لا يكون برفع صوت.(63/6)
بيان من ذكر الأذان للفائتة من الرواة وتراجم رجال الإسناد
[قال أبو داود: رواه مالك وسفيان بن عيينة والأوزاعي وعبد الرزاق عن معمر وابن إسحاق، لم يذكر أحد منهم الأذان في حديث الزهري هذا، ولم يسنده منهم أحد إلا الأوزاعي وأبان العطار عن معمر].
يعني أن الأوزاعي وأبان العطار هما اللذان ذكرا الأذان.
قوله: [رواه مالك وسفيان بن عيينة وعبد الرزاق].
مالك هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة الإمام المشهور.
وسفيان بن عيينة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وعبد الرزاق بن همام ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن معمر وابن إسحاق].
معمر مر ذكره.
وابن إسحاق هو محمد بن إسحاق، صدوق يدلس، أخرج حديثه البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.(63/7)
شرح حديث: (إنه لا تفريط في النوم إنما التفريط في اليقظة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن ثابت البناني عن عبد الله بن رباح الأنصاري حدثنا أبو قتادة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر له، فمال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وملت معه، فقال: انظر.
فقلت: هذا راكب، هذان راكبان، هؤلاء ثلاثة.
حتى صرنا سبعة، فقال: احفظوا علينا صلاتنا -يعني صلاة الفجر-، فضرب على آذانهم فما أيقظهم إلا حرَّ الشمس، فقاموا فساروا هُنَيَّة ثم نزلوا فتوضئوا، وأذن بلال رضي الله عنه، فصلوا ركعتي الفجر، ثم صلوا الفجر وركبوا، فقال بعضهم لبعض: قد فرطنا في صلاتنا.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه لا تفريط في النوم، إنما التفريط في اليقظة، فإذا سها أحدكم عن صلاة فليصلها حين يذكرها، ومن الغد للوقت)].
أي أن الحكم في ذلك أنه يأتي بها ويصليها إذا ذكرها، وأنه لا كفارة لها إلا ذلك، وذلك في أي وقت يذكرها فيه ولو كان في وقت نهي؛ لأن قضاء الفوائت في أوقات النهي جاء في السنة ما يدل عليه، وهو هذه الأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها: (من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك)، وقد سبق ذكر حديث أبي هريرة من طريقين، وفي أحد الطريقين ذكر الأذان مع الإقامة، وفي الآخر لم يذكر الأذان وإنما ذكرت الإقامة، وكل من الأذان والإقامة ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه قد جاء في حديث أبي هريرة من بعض الطرق، وجاء عن غير أبي هريرة كـ أبي قتادة وغيره.
وقد أورد أبو داود رحمه الله هنا حديث أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه [(إن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر له، فمال رسول الله صلى الله عليه وسلم وملت معه، فقال: انظر.
فقلت: هذا راكب، هذان راكبان، هؤلاء ثلاثة.
حتى صرنا سبعة، فقال -عليه الصلاة والسلام-: احفظوا علينا صلاتنا)] يعني: من يكون منتبهاً يحفظ لنا الصلاة حتى لا يخرج وقت الصلاة.
فناموا وما أيقظهم إلا حر الشمس، فمشوا، وبعد ذلك نزلوا وتوضئوا وصلوا الركعتين اللتين هما السنة الراتبة، ثم صلى بهم الصبح صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
قوله: [(فقال بعضهم لبعض: قد فرطنا في صلاتنا)] أي: حيث نمنا عنها وأتينا بها في غير الوقت.
فقال عليه الصلاة والسلام: [(إنه لا تفريط في النوم إنما التفريط في اليقظة)] يعني بذلك كون الإنسان يؤخر الصلاة وهو مستيقظ، فهذا هو المفرط، وأما من يؤخر الصلاة وهو نائم كهذا النوم الذي ناموه بعد التعب، وكانوا حريصين على أن لا تفوتهم الصلاة؛ حيث طلب منهم صلى الله عليه وسلم أن يحفظوا عليهم الصلاة -أي: أن يكونوا متنبهين حتى لا يغلبهم النوم ويتأخرون عن الصلاة، أو يخرج وقت الصلاة- فيؤدونها في غير وقتها، من كان ذلك حاله فإنه ليس بمفرط، فمن نسي صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها.(63/8)
أقوال العلماء في معنى قوله: (ومن الغد للوقت)
قوله: [(ومن الغد للوقت)].
قال بعض العلماء: إن الإنسان إذا صلى الصلاة المقضية التي نام عنها أو نسيها في غير وقتها فإنه يصليها في الوقت من الغد عند الذكر، ويكون ذلك للاستحباب.
قال الخطابي: فلا أعلم أحداً من الفقهاء قال بها وجوباً.
وقال بعض أهل العلم: إن الحديث ليس فيه دلالة على أن الصلاة تصلى مرة ثانية في الوقت، وإنما المقصود من قوله: [(ومن الغد للوقت)] أي أنه يحافظ عليها من الغد في وقتها، أي: هذه الصلاة التي حصل النوم عنها وأدوها في غير وقتها يحافظ عليها في وقتها، وأيضاً قالوا: يحتمل أن يكون المراد بقوله: [(ومن الغد للوقت)] أن وقتها ثابت، وأنهم وإن أدوا الصلاة في غير وقتها للأمر الطارئ فإن هذا الذي فعلوه قضاء في غير الوقت، وهو الذي أمكنهم فعله، وهو الذي لم يستطيعوا سواه، ولكن من الغد تؤدى في وقتها، فلا يفهم أن الوقت تغير وأنه تحول، وإنما الوقت على ما هو عليه، وكذلك ما يستقبل من الأيام.
فقال بعض أهل العلم: ليس في هذا الحديث ما يدل على أن الصلاة تصلى مرتين مرة عندما تذكر ومرة أخرى إذا جاء الوقت من الغد، وإنما تؤدى حيث يذكرها الإنسان، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث: (لا كفارة لها إلا ذلك) يعني: ليس هناك شيء يلزم ويتعين للقيام بالواجب إلا أن يؤديها الإنسان إذا ذكرها، فليس هناك شيء وراء ذلك، ولا يقضيها من الغد ولا يكون عليه كفارة مالية كما يكون بالنسبة للأمور التي فيها كفارات، وإنما كفارتها هو أن يقضيها الإنسان إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك.
إذاً: فقوله: [(ومن الغد للوقت)] لا يكون فيه دليل على أن الصلاة تصلى مرتين مرة إذا ذكرت ومرة أخرى في الوقت الذي يأتي لتلك الصلاة التي نيم عنها أو نسيت وقضيت في غير وقتها، فتصلى في غير وقتها قضاءً ثم تفعل في وقتها مرة أخرى، ليس في الحديث دليل واضح على ذلك، وقد قال الخطابي: لم يقل أحد من أهل العلم بوجوب أداء الصلاة مرتين مرة عند ذكرها ومرة عند مجيء الوقت من الغد.(63/9)
تراجم رجال إسناد حديث: (إنه لا تفريط في النوم إنما التفريط في اليقظة)
قوله: [حدثني موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن سلمة البصري، ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن ثابت البناني].
هو ثابت بن أسلم البناني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن رباح الأنصاري].
عبد الله بن رباح الأنصاري ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا أبو قتادة].
هو الحارث بن ربعي الأنصاري رضي الله عنه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(63/10)
شرح حديث: (بعث رسول الله جيش الأمراء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا علي بن نصر حدثنا وهب بن جرير حدثنا الأسود بن شيبان حدثنا خالد بن سمير قال: قدم علينا عبد الله بن رباح الأنصاري من المدينة وكانت الأنصار تفقهه، فحدثنا قال: حدثني أبو قتادة الأنصاري رضي الله عنه فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش الأمراء -بهذه القصة-، قال: فلم توقظنا إلا الشمس طالعة، فقمنا وهلين لصلاتنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: رويداً رويداً.
حتى إذا تعالت الشمس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان منكم يركع ركعتي الفجر فليركعهما.
فقام من كان يركعهما ومن لم يكن يركعهما فركعهما، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينادى بالصلاة فنودي بها، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بنا، فلما انصرف قال: ألا إنا نحمد الله أنا لم نكن في شيء من أمور الدنيا يشغلنا عن صلاتنا، ولكن أرواحنا كانت بيد الله عز وجل، فأرسلها أنى شاء، فمن أدرك منكم صلاة الغداة من غد صالحاً فليقض معها مثلها)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه من طريق أخرى، وفيه: [(بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش الأمراء)]، وجيش الأمراء هو الجيش الذي ذهب في غزوة مؤتة، وسمي جيش الأمراء لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الأمراء وهم: زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة، وكلهم استشهدوا رضي الله عنهم وأرضاهم، وعند ذلك أخذ الراية خالد بن الوليد، فقيل له: جيش الأمراء.
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يذهب في ذلك الجيش، وإنما بعثه.
وهذا الحديث فيه أمور مشكلة، منها: ذكر جيش الأمراء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان فيه ولم يكن فيه، ومنها التخيير بين أن يركعوا ركعتي الفجر، ومنها: ما جاء في آخره من أنه إذا جاء من الغد يصلون معها مثلها.
فهذه مخالفة لما جاءت في الروايات الأخرى.
ولهذا قيل: إن الحديث شاذ.
أو: إن فيه وهناً بسبب بعض رواته، وهو الذي يروي عن عبد الله بن رباح، وهو خالد بن سمير الذي ذكر هذه الأمور الثلاثة، مع أن غيره لم يذكرها من الذين رووا عن أبي قتادة هذه الأمور.
فقالوا: إن هذه من أوهامه، وإن هذا خطأ حصل منه لم يكن عند غيره في هذه الرواية، بل الرواة الآخرون ما جاء عنهم ذلك، فتكون هذه الأمور الثلاثة خطأ، والشيخ الألباني قال: إن الحديث شاذ؛ لما فيه من المخالفات، فهو إما أن يكون شاذاً على اعتبار أنه ثقة خالف الثقات، أو أن فيه ضعفاً بسبب أن أحد رواته -وهو خالد بن سمير يهم-، ويكون هذا من أوهامه ومن أخطائه.
وقوله: [قدم علينا عبد الله بن رباح الأنصاري من المدينة وكانت الأنصار تفقهه].
أي: تصفه بالفقه.
[(فقمنا وهلين)].
يعني: فزعين؛ لأن الشمس طلعت وهم لم يصلوا الفجر.
قوله: [(فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (رويداً رويداً)].
يعني: أمرهم بأن يمشوا شيئاً فشيئاً.
قوله: [(حتى إذا تعالت الشمس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان منكم يركع ركعتي الفجر فليركعهما)].
ومعنى هذا أن هناك تخييراً في ركعتي الفجر، والنبي صلى الله عليه وسلم ما كان يترك ركعتي الفجر في حضر ولا في سفر، وإنما كان يداوم على ركعتي الفجر وعلى الوتر.
قوله: [(ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينادى بالصلاة فنودي بها)].
هذا فيه ذكر الأذان، وهو مثل ما جاء في الأحاديث الأخرى عن أبي قتادة.
قوله: [(ولكن أرواحنا كانت بيد الله عز وجل فأرسلها أنى شاء)].
يعني أن الله توفاها حيث شاء، ثم أرسلها في الوقت الذي شاء الله أن تعود فيه.
قوله: [(فمن أدرك منكم صلاة الغداة من غد صالحاً فليقض معها مثلها)].
يعني أنه يصلي الفجر ويصلي معها الفجر مرة أخرى عن هذا اليوم، لكن هذا مثل ما ذكرت في قوله: [(ومن الغد للوقت)] أي: ليس المقصود منه أنه يأتي بالصلاة مرتين، وإنما معناه أن الوقت مستقر، وأنه يحافظ على الصلاة في وقتها، وأنها من الغد تصلى في وقتها، لا أنه يقضي مثلها.
فالذي جاء في هذا الحديث فيه توضيح بأن الذي يؤتى به من الغد في الوقت إنما هو صلاة مقضية بالإضافة إلى الصلاة المؤداة، وتكون الصلاة فعلت مرتين، مرة عند الاستيقاظ من النوم، ومرة عند أداء الصلاة من الغد، فتكون صلاة الفجر تلك التي نيم عنها فعلت مرتين.
ولكن هذا الذي جاء في هذا الحديث فيه خالد بن سمير، وهو يهم، فتكون هذه الزيادة إما شاذة وإما ضعيفة.
وكذلك ذكر قصة الأمراء، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن في جيش الأمراء، وإنما بعثه وبقي الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، وكذلك التخيير بين ركعتي الفجر، مع أن ركعتي الفجر من آكد الرواتب، والنبي صلى الله عليه وسلم ما كان يتركهما في حضر ولا في سفر، وكذلك الوتر.(63/11)
تراجم رجال إسناد حديث: (بعث رسول الله جيش الأمراء)
قوله: [حدثنا علي بن نصر].
هو علي بن نصر بن علي بن نصر الجهضمي، ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا وهب بن جرير].
هو وهب بن جرير بن حازم، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الأسود بن شيبان].
الأسود بن شيبان ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
[حدثنا خالد بن سمير].
خالد بن سمير صدوق يهم، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
[قدم علينا عبد الله بن رباح قال: حدثني أبو قتادة الأنصاري].
عبد الله بن رباح وأبو قتادة قد مر ذكرهما.(63/12)
حديث (بعث رسول الله جيش الأمراء) من طريق ثانية وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عمرو بن عون أخبرنا خالد عن حصين عن ابن أبي قتادة عن أبي قتادة رضي الله عنه في هذا الخبر، قال: فقال: (إن الله قبض أرواحكم حيث شاء، وردها حيث شاء قم فأذن بالصلاة.
فقاموا فتطهروا، حتى إذا ارتفعت الشمس قام النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي قتادة من طريق أخرى وهو مختصر، وفيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر من يؤذن بقوله: [(قم فأذن)].
ثم صلى بالناس صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
قوله: [حدثنا عمرو بن عون].
هو عمرو بن عون الواسطي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا خالد].
هو خالد بن عبد الله الواسطي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حصين].
هو حصين بن عبد الرحمن، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن أبي قتادة].
هو عبد الله بن أبي قتادة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي قتادة].
قد مر ذكره.(63/13)
حديث (بعث رسول الله جيش الأمراء) من طريق ثالثة وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هناد حدثنا عبثر عن حصين عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه، قال: (فتوضأ حين ارتفعت الشمس فصلى بهم)].
ذكر هنا الحديث عن أبي قتادة مختصراً.
قوله: [حدثنا هناد].
هو هناد بن السري أبو السري، ثقة، أخرج حديثه البخاري في (خلق أفعال العباد) ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا عبثر].
هو عبثر بن القاسم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حصين عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه].
قد مر ذكر الثلاثة.(63/14)
حديث (بعث رسول الله جيش الأمراء) من طريق رابعة وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا العباس العنبري حدثنا سليمان بن داود -وهو الطيالسي - قال: حدثنا سليمان -يعني ابن المغيرة - عن ثابت عن عبد الله بن رباح عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس في النوم تفريط، إنما التفريط في اليقظة، أن تؤخر صلاة حتى يدخل وقت أخرى)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي قتادة من طريق أخرى، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: [(ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة، أن تؤخر صلاة حتى يدخل وقت أخرى)] وهذا دليل على أن كل صلاة يمتد وقتها إلى وقت التي بعدها إما اختياراً وإما اضطرراً، ويستثى من ذلك الفجر، فإنها تنتهي بطلوع الشمس، ثم إن طلوع الشمس إلى الزوال لا يعتبر وقتاً للصلاة.
فكل صلاة متصلة بالتي بعدها إما اختياراً وإما اضطراراً، فالظهر وقتها إلى العصر اختياراً، والعصر إلى اصفرار الشمس وقتها اختياري، ومن وقت الاصفرار إلى الغروب وقت اضطراري؛ لأنه جاء في الحديث: (من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك الصلاة) يعني: أدركها في الوقت، ولكنه اضطرار.
والمغرب وقتها متصل بوقت العشاء اختياراً، وأما صلاة العشاء فمن مغيب الشفق إلى نصف الليل اختياراً، ومن نصف الليل إلى طلوع الفجر اضطراراً، وأما الفجر فإنها تنتهي بطلوع الشمس، أما ما بعد طلوع الشمس إلى الزوال فليس وقتاً لصلاة من الصلوات.
قوله: [حدثنا العباس العنبري].
هو عباس بن عبد العظيم العنبري، ثقة، أخرج حديثه البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا سليمان بن داود -وهو الطيالسي -].
سليمان بن داود الطيالسي ثقة، أخرج حديثه البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا سليمان -يعني ابن المغيرة -].
سليمان بن المغيرة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ثابت عن عبد الله بن رباح عن أبي قتادة].
قد مر ذكر الثلاثة.(63/15)
شرح سنن أبي داود [064]
الصلاة شأنها عظيم وخطرها كبير، ولذا لم يسقطها زوال مناط التكليف حال النوم والنسيان، حيث أوجب الشرع على النائم عن الصلاة أو الناسي لها أن يصليها متى ما ذكر، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بفعله لتتأسى به الأمة في ذلك.(64/1)
تابع حكم من نام عن الصلاة أو نسيها(64/2)
شرح حديث: (من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن كثير أخبرنا همام عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها)] يعني: حين يذكرها يبادر إلى فعلها ولو كان في وقت نهي؛ لأنها مستثناة من النهي.
قوله: [(لا كفارة لها إلا ذلك)] يعني: ليس هناك شيء سوى أن تؤدى عند الذكر، وليس هناك كفارة مالية، وليس لأحد يصلي عن أحد، وإنما الواجب على من نسي الصلاة ثم ذكرها أن يبادر إلى فعلها، ولا يؤخر القضاء إلى وقت الغد بحيث إذا كان الإنسان عليه فوائت يصلي بعد كل صلاة صلاة، بل يسردها كلها في وقت واحد.(64/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
هو محمد بن كثير العبدي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا همام].
هو همام بن يحيى، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس بن مالك].
هو أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الإسناد من الرباعيات التي هي أعلى الأسانيد عند أبي داود.(64/4)
حديث (أن رسول الله كان في مسير له فناموا عن صلاة الفجر) وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا وهب بن بقية عن خالد عن يونس بن عبيد عن الحسن عن عمران بن حصين رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في مسير له فناموا عن صلاة الفجر، فاستيقظوا بحر الشمس، فارتفعوا قليلاً حتى استقلت الشمس، ثم أمر مؤذناً فأذن فصلى ركعتين قبل الفجر، ثم أقام ثم صلى الفجر)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث عمران بن حصين وفيه نفس القصة التي ذكرت في أحاديث أبي قتادة وغيره، وفيه ذكر الأذان وسنة الفجر التي هي الراتبة قبل الصلاة، ثم بعد ذلك الصلاة.(64/5)
حديث عمرو بن أمية الضمري في نوم النبي والصحابة عن صلاة الفجر وتراجم رجال إسناده
قوله: [حدثنا وهب بن بقية].
هو وهب بن بقية الواسطي، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي.
[عن خالد].
هو خالد الواسطي، وقد مر ذكره.
[عن يونس بن عبيد].
يونس بن عبيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحسن].
هو الحسن بن أبي الحسن البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمران بن حصين].
عمران بن حصين رضي الله عنه هو صحابي مشهور، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(64/6)
حديث ذي مخبر الحبشي في نوم النبي والصحابة عن صلاة الفجر وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عباس العنبري.
ح: وحدثنا أحمد بن صالح -وهذا لفظ عباس - أن عبد الله بن يزيد حدثهم عن حيوة بن شريح عن عياش بن عباس -يعني القتباني - أن كليب بن صبح حدثهم أن الزبرقان حدثه عن عمه عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فنام عن الصبح حتى طلعت الشمس، فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: تنحوا عن هذا المكان.
قال: ثم أمر بلالاً فأذن، ثم توضئوا وصلوا ركعتي الفجر، ثم أمر بلالاً فأقام الصلاة فصلى بهم صلاة الصبح)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث عمرو بن أمية الضمري وفيه ما في الحديث الذي قبله من كونهم لما حصل لهم النوم وخرج وقت صلاة الفجر واستيقظوا بحر الشمس أذنوا ثم ركعوا ركعتي الصبح، أي: السنة الراتبة، ثم بعد ذلك صلى النبي صلى الله عليه وسلم بهم الفجر، فكل هذه الأحاديث دالة على وجود الأذان وعلى ركعتي الفجر وعلى قضاء الصلاة بعد قيامهم بقليل، وفي هذا الحديث أنهم تنحوا عن المكان الذي أصابهم النوم فيه، وقد سبق أن مر في بعض الأحاديث أنهم تحولوا واقتادوا رواحلهم شيئاً.
قوله: [حدثنا عباس العنبري وحدثنا أحمد بن صالح].
أحمد بن صالح المصري ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
قوله: [وهذا لفظ عباس].
يعني أنه لفظ الشيخ الأول، وهو عباس العنبري.
[أن عبد الله بن يزيد حدثهم].
هو عبد الله بن يزيد المكي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حيوة بن شريح].
هو حيوة بن شريح المصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عياش بن عباس -يعني القتباني -].
عياش بن عباس القتباني ثقة، أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة، ومسلم وأصحاب السنن.
[أن كليب بن صبح حدثهم].
كليب بن صبح صدوق، أخرج حديثه أبو داود وحده.
[أن الزبرقان حدثه].
هو الزبرقان بن عبد الله الضمري، وهو ثقة، أخرج له أبو داود وحده.
[عن عمه عمرو بن أمية الضمري].
عمرو بن أمية الضمري صحابي مشهور، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(64/7)
إسناد رابع لحديث نوم رسول الله والصحابة عن صلاة الفجر وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إبراهيم بن الحسن حدثنا حجاج - يعني: ابن محمد - حدثنا حريز.
ح: وحدثنا عبيد بن أبي الوزير حدثنا مبشر -يعني الحلبي - حدثنا حريز -يعني ابن عثمان - حدثني يزيد بن صالح عن ذي مخبر الحبشي رضي الله عنه -وكان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم- في هذا الخبر، قال: (فتوضأ -يعني النبي صلى الله عليه وسلم- وضوءاً لم يلث منه التراب، ثم أمر بلالاً فأذن، ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم فركع ركعتين غير عجل، ثم قال لـ بلال: أقم الصلاة.
ثم صلى الفرض وهو غير عجل).
قال: عن حجاج عن يزيد بن صليح حدثني ذو مخبر رجل من الحبشة.
وقال عبيد: يزيد بن صالح].
أورد أبو داود رحمه الله حديث ذي مخبر الحبشي رضي الله عنه، وفيه مثل ما في قبله، من أنه حصل الأذان، وأنه صلى الركعتين وهو غير عجل، ثم صلى بالناس وهو غير عجل، يعني أنه لم يستعجل فيهما وأنه لم يخففهما.
قوله: [حدثنا إبراهيم بن الحسن].
هو إبراهيم بن الحسن المصيصي، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا حجاج -يعني ابن محمد -].
هو حجاج بن محمد المصيصي الأعور، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حريز].
هو حريز بن عثمان الحمصي، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[ح: وحدثنا عبيد بن أبي الوزير].
عبيد بن أبي الوزير لا يعرف حاله، أخرج حديثه أبو داود وحده.
[حدثنا مبشر -يعني الحلبي -].
هو مبشر بن إسماعيل الحلبي، صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حريز -يعني ابن عثمان - عن يزيد بن صالح].
يزيد بن صالح -ويقال أيضاً: ابن صليح - أخرج حديثه أبو داود.
[عن ذي مخبر الحبشي].
ذو مخبر الحبشي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يخدم النبي عليه الصلاة والسلام، وحديثه أخرجه أبو داود وابن ماجه.
وقوله: [عن حجاج عن يزيد بن صليح].
يعني: أن حجاجاً قال: يزيد بن صليح.
وقال الشيخ الثاني الذي هو عبيد بن أبي الوزير: يزيد بن صالح.
إذاً: بعض الرواة قال: صالح.
وبعضهم قال: صليح.
ولا فرق بينهما، ويقال له: صليح أكثر من (صالح).(64/8)
إسناد آخر لحديث نومه صلى الله عليه وسلم عن صلاة الفجر وذكر زيادته وتراجم رجاله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مؤمل بن الفضل حدثنا الوليد عن حريز -يعني ابن عثمان - عن يزيد بن صليح عن ذي مخبر ابن أخي النجاشي رضي الله عنه في هذا الخبر، قال: (فأذن وهو غير عجل)].
قوله: [(وأذن وهو غير عجل)] ذكر الأذان وهو غير عجل فيه إشكال؛ لأن الأذان حالته واحدة، وليس فيه استعجال، إنما الاستعجال في الإقامة، فهي التي تحدر حدراً.
قوله: [حدثنا مؤمل بن الفضل].
مؤمل بن الفضل صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا الوليد].
هو الوليد بن مسلم الدمشقي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حريز -يعني ابن عثمان - عن يزيد بن صليح عن ذي مخبر ابن أخي النجاشي].
مر ذكرهم.
وهنا قال: (صليح) بتصغير (صالح).(64/9)
شرح حديث: (أقبلنا مع رسول الله زمن الحديبية فقال: من يكلؤنا؟)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن المثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن جامع بن شداد سمعت عبد الرحمن بن أبي علقمة سمعت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يكلؤنا؟ فقال بلال: أنا.
فناموا حتى طلعت الشمس، فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: افعلوا كما كنتم تفعلون.
قال: ففعلنا، قال: فكذلك فافعلوا لمن نام أو نسي)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث عبد الله بن مسعود أنه قال: [أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية] وهذا يخالف ما تقدم في الروايات السابقة التي فيها أنه كان في غزوة خيبر، وأنه قفل من غزوة خيبر، وأما ما ذكر أنه كان في جيش الأمراء فهذا غير صحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان في تلك الغزوة.
وأما ذكر الحديبية فإنه يحمل على تعدد القصة، أو أن في ذلك وهماً، فإما أن تكون الحادثة متعددة، وإما أن تكون واحدة وفي الحديث وهم.
وقوله: [(من يكلؤنا؟)] يعني: من يكون متنبهاً بحيث لا تفوتنا صلاة الفجر.
قوله: [(فقال بلال: أنا.
فناموا حتى طلعت الشمس)].
هذا مثل ما تقدم في قصة خيبر؛ لأن بلالاً هو الذي كان مستنداً إلى راحلته وأخذه النوم، وبعد ذلك حصل ما حصل، حيث فاتتهم الصلاة وصلوها بعد طلوع الشمس.
قوله: [(فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (افعلوا ما كنتم تفعلون)] يعني أنهم يصلون الصلاة في ذلك الوقت كما كانوا يؤدونها في وقتها.
قوله: [(قال: فكذلك فافعلوا لمن نام أو نسي)].
يعني أن النائم أو الناسي يفعل في القضاء كما كان يفعل في الأداء، وذلك عند ذكره وعند تنبهه.(64/10)
تراجم رجال إسناد حديث: (أقبلنا مع رسول الله زمن الحديبية فقال: من يكلؤنا؟)
قوله: [حدثنا محمد بن المثنى].
هو محمد بن المثنى أبو موسى العنزي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا محمد بن جعفر].
هو محمد بن جعفر الملقب بـ غندر البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جامع بن شداد].
جامع بن شداد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت عبد الرحمن بن أبي علقمة].
عبد الرحمن بن أبي علقمة يقال: له صحبة.
ذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وأخرج حديثه أبو داود والنسائي.
[سمعت عبد الله بن مسعود].
هو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من المهاجرين، وأحد فقهاء الصحابة، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(64/11)
الأسئلة(64/12)
الكشف والمكاشفات
السؤال
قضية الكشف والمكاشفات قضية خطيرة تثيرها الصوفية وتدعيها لمشايخها وأقطابها، ويستدلون بقول عمر رضي الله عنه: (يا سارية! الجبل) فما هو الرد على هذه الشبهة؟
الجواب
أولياء الله عز وجل إذا حصل لهم شيء من الكرامات لا يتبجحون بها، ولا يذكرونها، ولا يشغلون الناس بها، وإنما يتواضعون لله عز وجل ويخفونها، هذا شأن أولياء الله، وأما الذين أضلهم الله عز وجل فهم يتخذون مما يحصل إذا حصل وسيلة لتقديسهم ولتعظيمهم ولجلب الأموال لهم بسبب ذلك، وقد يختلقون كرامات ويأتون بأشياء ليس لها أساس وليس لها وجود، وإنما يأتون بها من أجل أن يعظمهم الناس ويتبعهم الناس، وأما من يكون ولياً لله عز وجل حقيقة فإنه إذا حصل له شيء من الكرامة لا ينشره ولا يتبجح ولا يتعاظم ولا يترفع على الناس به، أما من يريد من الناس أن يقدسوه ويعظموه ويحققوا له ما يريد فهذا ليس شأنه شأن أولياء الله حقاً، ولهذا فإن ما يحصل من الصوفية ومن أهل البدع في السلوك وفي العقائد من ذلك فهو مما أضلهم الله عز وجل به، ومن الانحراف عن الجادة، ومن المعلوم أنهم يدعون دعاوى بحصول أشياء لا أساس لها ولا حقيقة لها، ولو وُجِدَ شيء من ذلك حقيقة لكان الذي يجب هو أن مثل ذلك يخفى ولا يبين ولا يظهر، وأما قصة (يا سارية! الجبل) فما أدري عن ثبوتها، ولكن إذا ثبتت فإنها من الكرامات التي يجريها الله عز وجل على يد بعض أوليائه، ولا شك في أن عمر رضي الله عنه من خيار الأولياء، بل هو أفضل ولي بعد الأنبياء والمرسلين وبعد أبي بكر رضي الله عنه، فهو أفضل هذه الأمة بعد أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.(64/13)
حقيقة حدثاء الأسنان الذين نهي عن أخذ العلم عنهم
السؤال
جاء كثير من العبارات عن السلف في النهي عن أخذ العلم عن حدثاء الأسنان، مع أننا نرى أن كثيراً من الأئمة تصدر للفتوى في سن مبكرة، فما هو معنى حدثاء الأسنان؟
الجواب
لعل المقصود من ذلك الناس الذين يستعجلون في الفتوى قبل أن يتمكنوا من العلم الشرعي، أما من تمكن وصار يستفاد منه ولو كان في سن مبكرة فلا بأس بذلك، وإنما المقصود من ذلك الذين يستعجلون أن يبرزوا وأن يظهروا، فهؤلاء هم الذين يذمون، وأما من يوفقه الله عز وجل وكان في صغره أو في سن مبكرة ممن يستفاد منه فلا بأس بذلك، ولاسيما إذا كان لا يوجد غيره في البلد والناس يحتاجون إليه، فمثل هذا لا بأس به.(64/14)
الصلاة مع الجماعة بعد أدائها في الرحال
السؤال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجلين اللذين صليا في رحالهما: (إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم) فهل هذا خاص بالجماعة التي تقام في المسجد دون غيرها؟
الجواب
ليس هذا خاصاً بجماعة المسجد، بل لو أن الإنسان وجد جماعة أخرى تصلي فله أن يصلي معها، فقد دخل رجل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن قضيت صلاة الجماعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه)، لأن هذا الذي سيتصدق قد صلى، فصلاته نافلة، فلو وجد المرء جماعة تصلي فصلى معهم فله ذلك.
وهذا لا يعارض حديث: (لا تصلوا صلاة في يوم مرتين)؛ لأن المنع فيما إذا كان الإنسان يؤديها بدون سبب، أما هذا فإنه بسبب، وهو وجود جماعة.(64/15)
ما يدعى به في السجود وبعد التشهد
هل يشترط للدعاء عند السجود أو بعد التشهد أن يكون من الأدعية المأثورة؟
الجواب
لا يشترط، ولكن كونه يأتي بالأدعية المأثورة ومما ثبتت به السنة هو الذي ينبغي، والإنسان إذا أتى بدعاء ليس بمأثور قد يقع منه الخطأ والزلل، وقد يكون الدعاء غير مستقيم، لكن إذا كان دعاء واضحاً ليس فيه إشكال فهذا هو الذي ينبغي، كأن يسأل الإنسان ما يريد من خيري الدنيا والآخرة، أو يسأل شيئاً يريده ويخصه ويدعو به بخصوصه فله ذلك، لكن الحرص على الأدعية المأثورة التي جاءت عن الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم هو الأولى والأفضل والذي ينبغي.(64/16)
حكم انتفاع المرتهن بالرهن مع رضا الراهن
السؤال
هل يجوز للمرتهن أن ينتفع بالرهن؟ علماً بأن الراهن قد رضي بذلك؟
الجواب
إذا كان الانتفاع بمقابل شيء، مثل الشاة يعلفها ويحلبها فهذا لا بأس به، فكون العلف يكون مقابل الحليب لا بأس به.(64/17)
تعريف الرهن
السؤال
ما هو الرهن؟
الجواب
الرهن هو توثقة دين بعين يمكن استيفاؤه منها أو من ثمنها.
فهو دين في الذمة، وهذا الرهن يوضع عند المرتهن حتى يطمئن صاحب الدين بأن حقه مقيد بهذه العين، بحيث إنه لو لم يحصل السداد فإنه يحصله عن طريق هذه العين.(64/18)
حكم ترك الأسباب المؤدية للاستيقاظ للصلاة استدلالاً بحديث: (ليس في النوم تفريط)
الجواب
هل صحيح أنه لا يجب على المسلم توقيت الساعة على وقت صلاة الفجر استدلالاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (ليس في النوم تفريط) مع أنه قد لا يستيقظ؟
الجواب
فعل الأسباب التي تؤدي إلى التنبه مطلوب، ولهذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من يكلؤنا) يعني: من يكون مستيقظاً حتى ينبههم.
وليس في النوم تفريط إذا كان الإنسان لم يحصل منه تفريط، لكن بعض الناس يفرطون، مثل الذين يسهرون الليل وإذا أقبل وقت الفجر ناموا ولا يقومون إلا بعد طلوع الشمس، فهؤلاء مفرطون.(64/19)
حكم أكل الحلويات المصنوعة في بلاد اليهود والنصارى وفيها مخ عظام البقر
السؤال
اشتريت من السوق بعض حلويات صنعت في أمريكا ووجدت أن فيها جلاتيناً بقرياً، فهل يجوز أكل هذه الحلويات؟
الجواب
ليس هناك مانع يمنع من هذا؛ لأن ذبائح اليهود والنصارى حلال لنا.(64/20)
حكم التحول عن المكان الذي نام فيه المسافر عن الصلاة
السؤال
هل يقال فيمن نام عن الصلاة في مكان وهو مسافر: إن السنة أن يتحرك من مكانه الذي نام فيه ويسير قليلاً.
أم يصلي في نفس مكانه الذي فاتته فيه الصلاة؟
الجواب
التحول عن ذلك المكان قليلاً هو الذي ينبغي.(64/21)
الجمع بين كونه صلى الله عليه وسلم نام عن الصلاة وبين قوله: (تنام عيناي ولا ينام قلبي)
السؤال
كيف نجمع بين هذا الحديث الذي فيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نام ولم يستيقظ حتى طلعت الشمس)، وبين حديث: (تنام عيناي ولا ينام قلبي)؟
الجواب
لا تنافي بينهما؛ لأن قوله: (تنام عيناي ولا ينام قلبي) يتعلق بالحدث، يعني: لا يحصل منه الحدث حال النوم، أما كونه يحصل منه النوم حتى تطلع الشمس فهذا لا ينافي ذلك الحديث الذي فيه ارتفاع الحدث عنه في حال نومه صلى الله عليه وسلم.(64/22)
إعادة الطواف بعد الوضوء لمن أحدث أثناء الطواف
السؤال
إذا أحدث الرجل أثناء الطواف، وذلك -مثلاً- بعد الشوط الثالث، فهل يعيد الطواف بعد الوضوء من أوله، أم يكمل الأشواط الأربعة الباقية في وقته؟
الجواب
الذي ينبغي له والأولى في حقه أنه يعيده من أوله.(64/23)
حكم تحويل الوقف واستبداله للمصلحة
السؤال
وهبت قطعة أرض ليقام عليها بالدور الأول مسجد، فهل يجوز استبدال هذه القطعة بقطعة أخرى في مكان آخر يحتاج فيه إلى مسجد وأبيع هذه القطعة؟
الجواب
إن كان يريد وقفها فالأمر بيده، فله أن يحول؛ لأنه لم يتم الوقف، أما إن كان قد تم الوقف فلا يحول الوقف عن المكان الذي هو فيه، إلا إذا كان لم يبن المسجد، وكانت المصلحة بأن يحوله إلى مكان آخر فله ذلك، وأما إذا وجد المسجد وتم استعماله كمسجد فيبقى المسجد، وإذا كان هناك مسجد آخر وأراد أن يبني مسجداً فلا يجعله قريباً منه.(64/24)
حكم التراخي عن قضاء الفائتة بعد خروج وقتها
السؤال
من استيقظ وقد فاتته صلاة الفجر فهل له أن يتراخى في الصلاة؛ لأن الأحاديث ورد فيها أنه صلى الله عليه وسلم قال: (رويداً رويداً)، وقال الراوي: (حتى تعالت الشمس)، وفيه أنه ليس قضاؤها على الفور؟
الجواب
كان ذلك التراخي من أجل الانتقال، وهذه الفترة هي التي حصل فيها الانتقال.(64/25)
حكم من جمع بين الظهر والعصر في مكان العمل ثم دخل بلده قبل دخول وقت العصر
السؤال
شخص يعمل في مكان يبعد عن المدينة مائة وستين كيلو متر، ويصل إلى المدينة قبل صلاة العصر بساعة تقريباً، والمدينة بلده، وهو يجمع الظهر والعصر في مكان عمله، فهل يصح ذلك؟
الجواب
إذا كان يصل إلى المدينة قبل أن يدخل وقت العصر فلا ينبغي له أن يجمع، وإنما يصلي الظهر في وقتها مقصورة، وإذا جاء وقت العصر يصليها مع الناس في وقتها، ولا يجمع بينهما ثم يأتي وينام ويقول: أنا قد صليت.(64/26)
حكم من نام عن الوتر حتى طلع الفجر
السؤال
من نام عن الوتر حتى طلع الفجر فهل يصليه قياساً على ركعتي الفجر اللتين صلاهما النبي صلى الله عليه وسلم بعد طلوع الشمس؟
الجواب
إذا نام الإنسان عن الوتر فإنه يصليه في الضحى، ولكن يضيف إليه ركعة حتى لا يؤدى وتراً في النهار، فإذا كان يصلي الوتر في الليل ثلاثاً فإنه إذا فاته يصليه أربعاً في الضحى، وإن كان يصلي خمساً يصلي ستاً في الضحى، وإن كان يصلي تسعاً يصلي عشراً في الضحى، وإن كان يصلي إحدى عشرة يصلي اثنتي عشرة في الضحى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا لم يصل صلاته من الليل لمرض أو لغير ذلك صلى من النهار أو من الضحى اثنتي عشرة ركعة؛ لأنه كان يصلي إحدى عشرة ركعة بالليل.(64/27)
حكم الأذان بغير وضوء
السؤال
جاء في حديث عمرو بن أمية الضمري أن للمؤذن أن يؤذن بدون وضوء؛ حيث ورد فيه: (ثم أمر بلالاً فأذن، ثم توضوءا وصلوا ركعتي الفجر) فما حكم أذان المؤذن وهو على غير وضوء؟
الجواب
بإمكانه أن يؤذن وهو على غير وضوء، لكن الحديث ليس فيه دليل يدل على ذلك؛ لأنه يحتمل أن يكون الذي أذن قد توضأ، لكن يصح أن يؤذن المؤذن وهو على غير وضوء.(64/28)
كيفية إخراج زكاة العنب الذي يباع
السؤال
نرجو منكم توضيح كيفية زكاة العنب، فهل هي بالخرص، أم بما ينتج عنه من قيمة؟
الجواب
هي زكاة العنب بالخرص كما هو معلوم، لكن إذا كان الناس يبيعونها وأراد أن يخرج زكاته فإن زكاته تدور بين نصف العشر أو العشر على حسب سقيه، فإن سقي بماء المضخات أو الآبار وما إلى ذلك؛ فإنه يخرج نصف العشر، أما إن سقي بماء العيون أو بماء الأنهار فإنه يكون عليه العشر، هذا إذا كان يباع كله، فيمكن أن يخرج نصف عشر القيمة أو عشر القيمة.(64/29)
شرح سنن أبي داود [065]
للمساجد في الشريعة الإسلامية مكانتها العظيمة وأحكامها الشرعية وآدابها الخاصة، وذلك لأنها دور عبادة الله تعالى، ومن أحكامها وآدابها: الاعتناء بنظافتها وتبخيرها وتطييبها، وأن يخصص مدخل للنساء بعيداً عن مدخل الرجال؛ لتفادي الاختلاط والفتنة، وقد ندب الشرع إلى الإكثار من بنائها حتى يسهل على الناس أداء الصلاة في الجماعة في المساجد.(65/1)
اتخاذ المساجد في الدور(65/2)
شرح حديث: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب اتخاذ المساجد في الدور.
حدثنا محمد بن العلاء حدثنا حسين بن علي عن زائدة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدُّور، وأن تُنظَّف وتُطيَّب)].
لما ذكر أبو داود رحمه الله في ترجمته السابقة ما يتعلق ببناء المسجد، وأورد الأحاديث في ذلك عقَّبه بهذه الترجمة، وهي: [اتخاذ المساجد في الدور].
والمقصود بالدُّور الأحياء والمحلات والمناطق من البلد، بمعنى أن كل حي أو كل محلة من البلد يكون فيها مسجد، ولا يلزم أن يكون في البلد الواحد مسجد واحد، ولو كان كبيراً، وإنما يمكن أن تتعدد المساجد، وأن تكون الأحياء والمحلات فيها مساجد، لكن لا تكون متقاربة تقارباً شديداً، وإنما يكون بينها مسافة، وهذا هو المقصود بالدور، وهي جمع دار، و (الدار) كما أنه يطلق على البيت الواحد ويطلق على المحلة وعلى الحي من المكان، فليس مقصوراً على المنازل، وهذا هو المقصود من أمره صلى الله عليه وسلم باتخاذ المساجد في المحلات والأحياء، حتى يتيسر لأهل تلك الأحياء شهود الجماعة وحضورها، بخلاف ما لو كان المسجد بعيداً، فقد يشق على بعض الناس شهود الجماعة لبُعد المسجد.
أما إذا كان المسجد قريباً، وكانت كل محلة فيها مسجد، فإن الإنسان يذهب إلى المسجد بسهولة ويرجع بسهولة، وذلك أدعى لعدم فوات الصلاة جماعة للرجال الذين يجب عليهم أن يصلوا جماعة في المساجد.
قوله: [(أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور، وأن تُنظَّف وتُطَّيب)] فيه ثلاثة أمور: الأول: اتخاذ المساجد في الدور، وهي المحلات والأحياء من البلد، حتى يسهل للناس حضور صلاة الجماعة، ولئلا يشق عليهم الذهاب إليها في مكان بعيد من البلد.
الثاني: أن تُنظَّف، فيزال عنها الأوساخ والقذر، وتصان وتحفظ، وإذا وقع فيها شيء من الأوساخ فإنه يزال.
الثالث: أن تُطيَّب، أي: يؤتى بالطيب فيها، حتى يشمّ الناس فيها رائحة طيبة.
وقد جاء في التراجم لرجال الحديث اسم: نعيم المجمر، ويسمى المجمر؛ أخذاً من تجمير المسجد، وهو الاتيان بالجمر الذي يوضع عليه العود من الطيب، فتفوح الرائحة الطيبة في المسجد.(65/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور)
قوله: [حدثنا محمد بن العلاء].
هو محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حسين بن علي].
هو حسين بن علي الجعفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن زائدة].
هو زائدة بن قدامة، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام بن عروة].
هشام بن عروة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه هو عروة بن الزبير بن العوام، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
والفقهاء السبعة هم: عروة بن الزبير بن العوام، وخارجة بن زيد بن ثابت، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وسعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وسليمان بن يسار هؤلاء الستة متفق على عدّهم، وأما السابع ففيه ثلاثة أقوال: الأول: أنه أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، والثاني: أنه أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، والثالث: أنه سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب.
وهؤلاء السبعة اشتهروا بهذا اللقب في المدينة النبوية المباركة في عصر التابعين، وكانوا في زمن متقارب، ويطلق عليهم هذا اللقب.
وأحياناً يأتي ذكرهم بهذا اللقب دون ذكر أسمائهم، كما إذا كان هناك مسألة اتفقوا عليها، فيقال: هذه المسألة قال بها الفقهاء السبعة فبدل أن يقال: فلان وفلان وفلان وفلان يطلق عليهم هذا اللقب: (الفقهاء السبعة)، مثل مسألة (زكاة عروض التجارة)، فعندما يذكرونها يقولون: قال بها الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة.
والأئمة الأربعة هم: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، والفقهاء السبعة هم هؤلاء الذين سبق ذكرهم، فإنهم جميعاً يقولون بوجوب الزكاة في عروض التجارة.
[عن عائشة].
وهي أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بن الصديق، وهي أحد سبعة أشخاص عُرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم ستة رجال وامرأة واحدة, وهذه المرأة هي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فهي من أوعية السّنّة وحَفَظَتها، لاسيما في الأمور المتعلقة بما يجري في البيوت بين الرجل وأهل بيته، فإن هذا مما روي كثيراً من طريقها؛ لأنها روت الكثير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(65/4)
شرح حديث: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالمساجد أن نصنعها في ديارنا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن داود بن سفيان حدثنا يحيى -يعني ابن حسان - حدثنا سليمان بن موسى حدثنا جعفر بن سعد بن سمرة حدثني خبيب بن سليمان عن أبيه سليمان بن سمرة عن أبيه سمرة أنه كتب إلى ابنه: (أما بعد: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا بالمساجد أن نصنعها في ديارنا، ونصلح صنعتها، ونطهرها)].
قوله: [(فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا بالمساجد أن نصنعها في ديارنا)].
أي: نبنيها في الديار، أي: في المَحِلات.
فالديار المقصود بها الدور، والمقصود بالدور المحلات، أي: المناطق والأحياء.
قوله: [(ونصلح صنعتها)].
أي أنهم يبنونها ويحسنون بناءها، لكن على وجه ليس فيه غلو وليس فيه زيادة عن قدر الحاجة، كما سبق الحديث في التشييد: (ما أُمرت بتشييد المساجد) أي: تشييدها على وجه زائد عن قدر الحاجة، أما بناؤها وإصلاحها على وجه يكون فيه بقاؤها وقوة بنائها وعدم تعرضها للتداعي والسقوط فإن هذا أمر مطلوب، ولكن المحذور أن يزاد على ذلك، وأن يُتجاوز الحد المطلوب، مثل أن تُزركش وتُزخرف ونحو ذلك مما جاء المنع فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(ونطهرها)].
تطهيرها المقصود به تنظيفها من الأوساخ، وعدم تعريضها للنجاسات، وما إلى ذلك، وكل ذلك يدخل تحت تطهيرها.
وهذا الحديث دالّ على ما دل عليه الحديث الذي قبله من بناء المساجد في الدُور والأمر بتطهيرها وتنظيفها، سواءٌ أكان من تطهيرها من الأنجاس أم من الأوساخ والأقذار التي ليست بنجاسة ولكنها مما يستقذر ويُكره النظر إليه وإن لم يكن نجساً.(65/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالمساجد أن نصنعها في ديارنا)
قوله: [حدثنا محمد بن داود بن سفيان].
محمد بن داود بن سفيان مقبول، أخرج حديثه أبو داود.
[حدثنا يحيى حدثنا -يعني ابن حسان -].
يحيى بن حسان؟ أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه.
[حدثنا سليمان بن موسى].
سليمان بن موسى فيه لين، أخرج له أبو داود وحده.
[حدثنا جعفر بن سعد بن سمرة].
جعفر بن سعد بن سمرة ليس بالقوي، أخرج له أبو داود وحده.
[حدثني خبيب بن سليمان].
خبيب بن سليمان مجهول، أخرج له أبو داود وحده.
[عن أبيه سليمان بن سمرة].
سليمان بن سمرة مقبول، أخرج له أبو داود وحده.
[عن أبيه سمرة].
هو سمرة بن جندب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
والحديث فيه من هو مقبول، وفيه من هو مجهول، ولكن الحديث الأول يدل على ما دل عليه من حيث بناء المساجد في الدور والأمر بتطهيرها.(65/6)
السرج في المساجد(65/7)
شرح حديث: (فإن لم تأتوه وتصلوا فيه فابعثوا بزيت يسرج في قناديله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في السرج في المساجد.
حدثنا النفيلي حدثنا مسكين عن سعيد بن عبد العزيز عن زياد بن أبي سودة عن ميمونة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: (يا رسول الله! أفتنا في بيت المقدس؟ فقال: ائتوه فصلوا فيه- وكانت البلاد إذ ذاك حرباً- فإن لم تأتوه وتصلوا فيه فابعثوا بزيت يُسرج في قناديله)].
قوله: [باب في السرج في المساجد.
يعني إضاءتها وإنارتها، وهذا أمر مطلوب في المساجد، والقيام بذلك من الأمور المطلوبة في المساجد؛ لأن كل ما فيه مصلحة ومنفعة في المسجد للناس أمر مطلوب، ومن قبل كانت تُتخذ السرج، ويستعملون الزيت لإيقادها.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث ميمونة مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها قالت: [يا رسول الله! أفتنا في بيت المقدس؟] والمقصود: المسجد الأقصى.
قولها: [فقال: (ائتوه وصلوا فيه)].
أي: اذهبوا إليه فصلوا فيه.
وهذا فيه شد الرحل إليه، وقد جاء في الحديث الصحيح: (لا تُشَدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا) فالمسجد الأقصى هو أحد المساجد التي لا تشد الرحال إلا إليها.
فليس هناك مسجد أو بقعة من الأرض تشدّ الرحال إليها من أجل التعبد فيها إلا هذه المساجد الثلاثة، ولا يقال: إن المقصود هو النهي عن شد الرحال إلى المساجد الأخرى فقط، أما الذهاب إلى أماكن أخرى غير المساجد، كالمقابر أو غيرها للعبادة والتبرك جائز؛ لأن الحديث إنما جاء في النهي عن شد الرحال إلى المساجد! هذا الكلام باطل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا تُشَدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) أي: لا تُشد إلى بقعة من أجل التقرب إلى الله عز وجل فيها، أو من أجل ميزتها وفضلها وشرفها إلا إلى هذه المساجد الثلاثة، فهي التي تشد الرحال إليها.
ولهذا روى النسائي عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمع أن فلاناً ذهب إلى مشاهدة الطور، فقال: لو كنت رأيته لما ذهب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تُشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد).
قوله: [(فإن لم تأتوه فابعثوا بزيت يُسرج في قناديله)] معناه: إضاءة القناديل بذلك الزيت؛ لأن الزيت هو مادة الإضاءة.
وإسراج المساجد وإضاؤتها من الطاعات والقربات، ولا شك في أن المسجد كلّما كان أفضل فإن العناية به تكون أهم، والإنفاق عليه يكون أكثر أجراً؛ لأن ذلك يتعلق بشيء فاضل، فالإنفاق عليه يكون له ميزة على غيره.
قولها: [وكانت البلاد إذ ذاك حرباً].
من المعلوم أن بيت المقدس لم يُفتح إلا في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهذا يعني أنه كان في ذاك الوقت لم يدخل تحت البلاد الإسلامية؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وصل إلى تبوك، وكان الشام لم يُفتح بعد، فهو في زمنه صلى الله عليه وسلم في بلاد حربٌ؛ لأن الذين فيها هم محاربون، ولم يكن تحت ولاية المسلمين، وإنما كانت بيد الكفار، ولم تفتح إلا في زمن عمر رضي الله عنه وأرضاه.(65/8)
تراجم رجال إسناد حديث: (فإن لم تأتوه وتصلوا فيه فابعثوا بزيت يسرج في قناديله)
قوله: [حدثنا النفيلي].
هو عبد الله بن محمد بن علي بن نفيل النفيلي، ثقة، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا مسكين].
هو مسكين بن بكير، وهو صدوق يخطئ، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[عن سعيد بن عبد العزيز].
هو سعيد بن عبد العزيز الدمشقي، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن زياد بن أبي سودة].
زياد بن أبي سودة ثقة، أخرج له أبو داود وابن ماجه.
[عن ميمونة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم].
ميمونة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم صحابية، أخرج حديثها أصحاب السنن.
والحديث ضعفه الألباني، وفي إسناده مسكين بن بكير صدوق يخطئ.
ولا أدري هل فيه علة أخرى غير هذه، لكن اتخاذ السرج مطلقاً وإضاءة المساجد أمرٌ مطلوب، ولا إشكال فيه، وإنما الإشكال في كون ذلك الأمر صدر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنسبة لبيت المقدس أم لا.
والحديث عزاه المنذري إلى ابن ماجه من طريق زياد بن أبي سودة عن أخيه عثمان عن ميمونة، وهو في الصحيح، كما قاله المزي في تهذيب الكمال، وتبعه تلميذه العلائي في جامع التحصيل وابن حجر في تهذيبه، ولفظ البوصيري في مصباح الزجاجة.
إسناد طريق ابن ماجه صحيح رجاله ثقات، وهو أصح من طريق أبي داود، وعلى هذا يكون فيه اتصال، ولكن إسناد ابن ماجه فيه عثمان.(65/9)
حصى المسجد(65/10)
شرح حديث (مطرنا ذات ليلة، فأصبحت الأرض مبتلة، فجعل الرجل يأتي بالحصى في ثوبه فيبسطه تحته)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: في حصى المسجد.
حدثنا سهل بن تمام بن بزيع حدثنا عمر بن سليم الباهلي عن أبي الوليد: سألتُ ابن عمر عن الحصى الذي في المسجد، فقال: (مُطرنا ذات ليلة، فأصبحت الأرض مبتلة، فجعل الرجل يأتي بالحصى في ثوبه فيبسطه تحته، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال: ما أحسن هذا!)].
قوله: [باب: في حصى المسجد]، أي: المسجد يُتخذ فيه الحصى، ويتخذ فيه التراب، وهل يخرج أو لا يخرج؟ وهل ينقل من مكان إلى مكان ليفترش؟ فهذه الترجمة تتعلق بهذه الأمور.
قوله: [فجعل الرجل يأتي بالحصى في ثوبه فيبسطه تحته] أي: على البلل وعلى الرطوبة التي في الأرض.
وقوله صلى الله عليه وسلم: [(ما أحسن هذا)] أي: ما أحسن هذا العمل الذي هو اتخاذ الحصى ليتقى به البلل عند الصلاة على الأرض المبتلة التي يحصل بها ابتلال الثياب، فيكون ذلك الحصى الذي وضع في مكان ذلك البلل واقياً منه.
ولا بأس باتخاذ الشيء ليمنع من وصول ما يشوش على الإنسان صلاته، أو يلوث ثيابه؛ لأن ذلك أمر مطلوب، كأن يوضع الفراش على مكان مبلول، أو يوضع أي شيء يُتقى به الماء والبلل الذي يكون في الأرض، فلا بأس بذلك.
وأما الحديث ففي رجال إسناده من هو مجهول، وعلى هذا فهو غير ثابت، ولكن لا بأس باتخاذ الشيء ليمنع مما فيه أذى وضرر، وليس هناك مانع يمنع منه.(65/11)
تراجم رجال إسناد حديث: (مطرنا ذات ليلة فأصبحت الأرض مبتلة)
قوله: [حدثنا سهل بن تمام بن بزيع].
سهل بن تمام بن بزيع ثقة وصدوق يخطئ، أخرج له أبو داود وحده.
[حدثنا عمر بن سليم الباهلي].
عمر بن سليم الباهلي صدوق له أوهام، أخرج له أبو داود وابن ماجه.
[عن أبي الوليد].
أبو الوليد هو الذي يروي عن ابن عمر، وهو مجهول، أخرج له أبو داود وحده.
[سألت ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، الصحابي المشهور، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(65/12)
شرح أثر: (إن الرجل إذا أخرج الحصى من المسجد يناشده)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية ووكيع قالا: حدثنا الأعمش عن أبي صالح قال: كان يقال: إن الرجل إذا أخرج الحصى من المسجد يناشده].
قوله: [يناشده] أي: يسأله أو يطلب منه أن لا يخرجه، وذلك حتى يبقى في تلك البقعة الطيبة.
هذا هو المقصود من الأثر، وهو مقطوع كما هو معلوم؛ لأنه كلام تابعي، وهو صحيح إليه، ولكن لا تثبت به حجة، ولا يثبت به حكم، ولا بأس بإخراج الحصى الذي في المسجد عند الحاجة إلى إخراجه وإبداله، وكذلك البلاط الذي يبلط به المسجد إذا احتيج إلى تغييره وتبديله والإتيان بشيء تدعو الحاجة إليه، ولم يثبت شيء في المنع من إخراجه، ولو ثبت شيء لحُمل ذلك على أنه إذا لم يكن هناك أمر يقتضيه، أما إذا وجد شيء يقتضيه مثل أن يكون منظره قبيحاً أو غير مستحسن، أو أنه صار متسخاً، فإن إخراجه في هذه الحالة لا بأس به، وعلى كل حال فإن إخراج الحصى وإدخاله وتبديله لا بأس به، وليس هناك مانع يمنع منه.(65/13)
تراجم رجال إسناد أثر: (إن الرجل إذا أخرج الحصى من المسجد يناشده)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا أبو معاوية].
هو أبو معاوية محمد بن خازم الضرير الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ووكيع].
هو وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي صالح].
اسمه: ذكوان، ولقبه السمان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(65/14)
شرح أثر: (إن الحصاة لتناشد الذي يخرجها من المسجد)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن إسحاق أبو بكر -يعني الصاغاني - حدثنا أبو بدر شجاع بن الوليد، حدثنا شريك، حدثنا أبو حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه -قال أبو بدر: أُراه قد رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم- قال: (إن الحصاة لتناشد الذي يخرجها من المسجد)].
أورد أبو داود رحمه الله الأثر من طريق أخرى، وهو إلى أبي هريرة، وأحد رواته -هو أبو بدر - يشك في أنه مرفوع، حيث قال: [أُراه قد رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم] أي: أظن أنه رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهو مثل الأثر الذي قبله من حيث إن الحصى يناشد من يخرجه من المسجد، أي: يسأله أو يطلب منه أن لا يخرجه من ذلك المكان الفاضل إلى مكان مفضول.(65/15)
تراجم رجال إسناد أثر: (إن الحصاة لتناشد الذي يخرجها من المسجد)
قوله: [حدثنا محمد بن إسحاق أبو بكر يعني الصاغاني].
محمد بن إسحاق أبو بكر الصاغاني ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
وجملة: [يعني الصاغاني] قالها من دون أبي داود؛ لأن هذا شيخ أبي داود، وعلى هذا فكلمة [يعني] التي أُتي بها لتوضيح من هو محمد بن إسحاق، وأنه الصاغاني هي ممن دون أبي داود؛ لأن أبا داود لا يحتاج إلى أن يقول: [يعني] وإنما كان سيقول: الصاغاني بدون كلمة [يعني]، وهذه الكلمة لها قائل، فقائلها هو مَن دون أبي داود.
وفي هذا ما يوضح أن بعض هذه الألفاظ -مثل كلمة (يعني) أو كلمة: (هو) قد تكون ممن دون صاحب الكتاب؛ لأن صاحب الكتاب لا يحتاج إلى أن يعبر بهذه الألفاظ، فهو يأتي بالعبارة كما يريد، فله أن يطيل وله أن يقصر في ذكر النسب، ولكن الاحتياج إلى ذلك يكون ممن دون المؤلف.
[حدثنا أبو بدر شجاع بن الوليد].
أبو بدر شجاع بن الوليد صدوق له أوهام، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو الذي شك في أن أبا هريرة رفع الأثر إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
[حدثنا شريك].
هو شريك بن عبد الله النخعي الكوفي، وهو صدوق يخطئ كثيراً، وحديثه أخرجه البخاري تعليقاً، ومسلم قال في السنن.
[حدثنا أبو حصين] هو عثمان بن عاصم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي صالح].
أبو صالح هو ذكوان السمان، وقد مرّ ذكره.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو أكثرهم على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.
والحديث ضعفه الألباني.(65/16)
كنس المسجد(65/17)
شرح حديث: (عُرضت علي أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد)
قال المصنف رحمه الله تعالى [باب: في كنس المسجد.
حدثنا عبد الوهاب بن عبد الحكم الخزاز أخبرنا عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد عن ابن جريج عن المطلب بن عبد الله بن حنطب عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (عُرضت علي أجور أمتي، حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد، وعرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنباً أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها)].
قوله: [باب في كنس المسجد].
أي: تنظيفه وإزالة ما يكون فيه من أوساخ، وهذا من الأمور المطلوبة، وقد سبق في حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر باتخاذ المساجد في الدور وأن تُنظّف وتُطيّب، وتنظيفها هو كنسها وإزالة ما يكون فيها من أوساخ، وكذلك كل ما هو مستقذر، سواءٌ أكان نجساً أم غير نجس.
وهذه الترجمة في كنس المسجد أورد فيها أبو داود رحمه الله حديثاً ضعيفاً، ولكن معنى الترجمة قد جاء في بعض الأحاديث الصحيحة، ومنها الحديث المتقدم، وهو حديث: (وأن تُنظّف)، والحديث الذي بعده (وأن تُطهر)، وهي تدل على أهمية تنظيف المساجد، وقد جاءت أحاديث في حرمة البصاق في المساجد.
قوله: (عُرضت علي أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد).
أي: حتى أجر إخراج القذاة من المسجد.
وقوله: [(أوتيها)] ليس الحديث خاصاً بالرجال، بل والنساء كذلك، ولكن ذكر الرجال؛ لأن الخطاب كان معهم، فذِكْر الرجل لا مفهوم له، بل المرأة كذلك حكمها حكم الرجل، والأصل هو التساوي بين الرجال والنساء في الأحكام، إلا إذا جاء نص خاص يميز الرجل عن المرأة في حكم من الأحكام، بأن يكون هذا الحكم للرجال وهذا الحكم للنساء، عند ذلك يتم التفريق، وإلا فإن الأحكام التي تكون للرجال هي للنساء، والأحكام التي للنساء هي للرجال، وخطاب النبي صلى الله عليه وسلم لواحد هو خطاب للجميع، والتفريق يكون بالنصوص الخاصة، فذكر الرجل هنا لا مفهوم له، مثل ما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: [(لا تتقدموا رمضان بيوم أو يومين، إلا رجل كان يصوم صوماً فليصُمه)] فكذلك المرأة مقصودة في هذا الحديث.
وهذا الحديث فيه عرض الأعمال على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيل: إنها عُرضت عليه ليلة المعراج.
ويحتمل أن يكون ذلك في المنام.
ومن المعلوم أن رؤيا الأنبياء وحي وحق، وهذا الحديث ضعيف؛ لأن فيه انقطاعاً بين المطلب بن عبد الله بن حنطب وأنس بن مالك، والمطلب كثير التدليس والإرسال، وهذا من إرساله؛ لأنه لم يسمع من أنس بن مالك رضي الله عنه، وفيه -أيضاً- عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، وفيه كلام.
قوله: [(فلم أر ذنباً أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها)].
هذا فيما إذا كان الإنسان قد أعرض عن القرآن ورغب عنه، أما إذا حصل منه ذلك نسياناً، كأن يحصل منه كسل أو تغافل أو طول ترك من غير قصد فإنه لا حرج على الإنسان في ذلك، ولكنه يخسر خسارة كبيرة، حيث يفوته مغنم كبير؛ لأنه كان سيتمكن من قراءة القرآن عند نومه غيباً، وفي سيره وفي جميع أحواله؛ لأنه إذا كان محفوظاً عنده فإنه يتمكن من ذلك، بخلاف ما إذا كان غير محفوظ، فإنه حينئذٍ لا بد من المصحف، والمصحف لا يتيسر له أن يقرأ به في كل أحواله، فلو كان مضجعاً أو في ظلام فإنه لا يتمكن من القراءة في المصحف، وإنما يقرأ من صدره ومن حفظه إذا كان حافظاً، فلاشك في أنه خسر خسارة عظيمة وفاته خير كثير، أما إذا كان الإنسان قد أعرض عنه عمداً فإنه قد ارتكب خطأً كبيراً.
ومن المعلوم أن حفظ القرآن ليس بواجب، ولكنه من الأمور المستحبة، ومن الأمور التي يحتاج إليها الإنسان؛ وذلك حتى يتمكن من القراءة في أي وقت شاء وعلى أي حال شاء.(65/18)
تراجم رجال إسناد حديث (عرضت علي أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد)
قوله: [حدثنا عبد الوهاب بن عبد الحكم الخزاز].
عبد الوهاب بن عبد الحكم الخزاز ثقة، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[أخبرنا عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد].
عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد صدوق يخطئ، أخرج حديثه مسلم وأصحاب السنن.
[عن ابن جريج].
هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، وهو ثقة يرسل ويدلس، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن المطلب بن عبد الله بن حنطب].
المطلب بن عبد الله بن حنطب صدوق كثير التدليس والإرسال، وحديثه أخرجه البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن.
[عن أنس بن مالك].
هو أنس بن مالك رضي الله عنه، خادم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(65/19)
اعتزال النساء في المساجد عن الرجال(65/20)
شرح حديث: (لو تركنا هذا الباب للنساء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: في اعتزال النساء في المساجد عن الرجال.
حدثنا عبد الله بن عمرو أبو معمر حدثنا عبد الوارث حدثنا أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو تركنا هذا الباب للنساء) قال نافع: فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات.
وقال غير عبد الوارث: قال: عمر، وهو أصح].
قوله: [اعتزال النساء في المساجد عن الرجال].
يستفاد من هذه الترجمة عدم الاختلاط بين الرجال والنساء، بحيث تكون النساء متميزات عن الرجال، ويكون الرجال متميزين عن النساء، سواءٌ أكان ذلك في الدخول من الأبواب أم في المكث في المسجد.
والذي أورده أبو داود هنا يتعلق بالدخول من الأبواب؛ لأن الأحاديث التي أوردها كلها تتعلق بالباب الذي يدخل منه النساء، ولكن قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على تميزهن عن الرجال أثناء الصلاة، كما في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها).
فصفوف الرجال كانت متميزة عن صفوف النساء، والصف الأول للرجال هو خير الصفوف؛ لأنه أبعد عن النساء، وآخر صفوف الرجال هو شر الصفوف؛ لأنه قريب من النساء، وأول صفوف النساء هو شر الصفوف؛ لأنه قريب من الرجال، وآخر صفوف النساء هو الذي يكون أفضل؛ لأنه أبعد عن الرجال.
وهذا عند عدم وجود حاجز يحجب الرؤية والأصوات، أما إذا كان هناك حاجز أو كان مكان النساء غير مكان الرجال، فلا بأس بأن يتقدمن في الصفوف؛ لأن المحذور حيث يمكن أن يرى الرجال النساء والنساء الرجال.
وحديث أبي هريرة الذي عند مسلم يدلّ على فضل ابتعاد النساء عن الرجال، وابتعاد الرجال عن النساء.
قوله: [(لو تركنا هذا الباب للنساء)].
أي: تدخل منه النساء فقط.
وهذا فيه دليل على مشروعية تخصيص بعض الأبواب لدخول وخروج النساء، حتى لا يحصل الاختلاط بين الرجال والنساء.
فالسنة جاءت بتمييزهن في المكث في المسجد، كما جاء في حديث أبي هريرة، وكذلك -أيضاً- في الدخول إلى المسجد، كما في حديث ابن عمر الذي أورده أبو داود هنا.
وقد سبق بيان أنه عند وجود الحاجز أو البنيان بين الرجال والنساء، بنتفي به المحذور من حيث النظر أو سماع الأصوات لا تكون الخيرية في آخر صفوف النساء، وإنما حيث يكون هناك إمكان أن يفتتن الرجال بالنساء والنساء بالرجال، أما حيث لا يكون هناك فتنة فإنهن لا يتكدسن في آخر الصفوف وإنما يتقدمن للصفوف الأولى.(65/21)
اختلاف الرواة في إضافة الحديث إلى عمر أو إلى ابنه عبد الله
قوله: [(قال نافع: فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات)].
أي: هذا الباب الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: [(لو تركنا هذا الباب للنساء)] لم يدخل منه ابن عمر حتى مات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى أنه يترك للنساء.
قوله: [وقال غير عبد الوارث: قال: عمر.
وهو أصح] سيذكر في الأحاديث التي بعده إسناده إلى عمر، ولكنه يكون بذلك منقطعاً؛ لأن نافعاً لم يدرك عمر ولم يرو عنه، وأما الاتصال فهو بين نافع وبين ابن عمر، فـ نافع يروي عن ابن عمر، وهو كثير الرواية عنه، بل أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر عند البخاري.
وإنما الانقطاع بين نافع وعمر؛ لأن عمر رضي الله عنه توفي سنة (23هـ) ونافعاً توفي سنة (117هـ) أو (119هـ) أو (120هـ) أي أن بين وفاتيهما ما يقرب من مائة سنة.
وأما حديث ابن عمر فهو متصل، والحديث صحيح إلى ابن عمر، وكون ابن عمر يرويه عن الرسول صلى الله عليه وسلم صحيح وثابت.
وعبد الوارث ثقة، وإن كان غيره أضافه إلى عمر ولم يروه عن ابن عمر، إلا أن عبد الوارث ثقة، وما جاء عنه يُعوّل فيه عليه ويحتمل تفرده.(65/22)
تراجم رجال إسناد حديث: (لو تركنا هذا الباب للنساء)
قوله: [حدثنا عبد الله بن عمرو أبو معمر].
هو أبو معمر عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج التميمي المنقري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الوارث].
هو عبد الوارث بن سعيد العنبري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أيوب].
هو أيوب بن أبي تميمة السختياني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
نافع هو مولى ابن عمر، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر، وقد مرّ ذكره.(65/23)
شرح أثر عمر: (لو تركنا هذا الباب للنساء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن قدامة بن أعين حدثنا إسماعيل عن أيوب عن نافع قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
-بمعناه-، وهو أصح].
ثم أورد أبو داود الحديث من طريق عمر، وهو موقوف عليه.
قوله: [وهو أصح].
أي: أن هذا الإسناد أصح، ولكن الطريق الأولى صحيحة أيضاً، وعبد الوارث بن سعيد وإن خالفه غيره لا يؤثر ذلك في روايته.
ومن هذا الأثر يتبين أن عمر هو الذي اقترح ترك هذا الباب للنساء، وهو الذي قال هذا، وجاء في الأثر الآخر أن عمر كان ينهى نفسه.(65/24)
تراجم رجال إسناد أثر عمر: (لو تركنا هذا الباب للنساء)
قوله: [حدثنا محمد بن قدامة بن أعين].
محمد بن قدامة بن أعين ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا إسماعيل].
هو إسماعيل بن علية، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم المشهور بـ ابن علية.
[عن أيوب عن نافع عن عمر].
أيوب ونافع قد مرّ ذكرهما، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه، هو الصحابي الجليل ثاني الخلفاء الراشدين، صاحب المناقب الجمّة والفضائل الكثيرة، رضي الله عنه وأرضاه.
ونافع لم يدرك عمر، فروايته عنه منقطعة، ولهذا ضعفّه الألباني؛ والسبب في ذلك هو الانقطاع بين نافع وبين عمر.(65/25)
شرح أثر عمر أنه كان ينهى أن يُدخَل من باب النساء
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة -يعني ابن سعيد - حدثنا بكر -يعني ابن مضر - عن عمرو بن الحارث عن بكير عن نافع قال: إن عمر بن الخطاب كان ينهى أن يُدخَل من باب النساء].
أورد المصنف ذلك الأثر عن عمر من طريق أخرى أنه (كان ينهى أن يُدخَل من باب النساء)، وفيه ما في الذي قبله من جهة الانقطاع بين نافع وعمر رضي الله تعالى عنه.(65/26)
تراجم رجال إسناد أثر عمر أنه كان ينهى أن يُدخَل من باب النساء
قوله: [حدثنا قتيبة -يعني ابن سعيد -].
قتيبة بن سعيد يقال فيه مثل ما مرّ في الصاغاني، أي أن جملة (يعني ابن سعيد) هذه قالها من دون أبي داود، أما أبو داود فهو ينسب شيخه كما يريد، وإنما الذي يحتاج إليها مَن دون تلميذ الشيخ.
ثم إنه ليس هناك أحد يماثل قتيبة في اسمه في رجال الكتب الستة، فليس هناك التباس، ولكن هذا من زيادة الإيضاح والبيان، ولا يوجد في التقريب من يُسمى قتيبة غير قتيبة بن سعيد.
وعلى هذا فإنه لو لم ينسب فليس له مشارك في اسمه حتى يلتبس به، فقوله: (يعني ابن سعيد) يس من أجل أن يميزه عن غيره، ولكن هذا من باب زيادة الإيضاح.
[حدثنا بكر -يعني ابن مضر -].
بكر بن مضر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه.
[عن عمرو بن الحارث].
هو عمرو بن الحارث المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بكير].
هو بكير بن عبد الله بن الأشج، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع أن عمر].
نافع وعمر قد مرّ ذكرهما.(65/27)
الأسئلة(65/28)
حكم صيام يوم السبت
السؤال
ما حكم صيام يوم السبت منفرداً أو موصولاً؟
الجواب
اختلف العلماء في صيام يوم السبت، فمنهم من قال: يُصام مطلقاً، ولا مانع من صيامه.(65/29)
شرح سنن أبي داود [066]
يشرع لمن دخل المسجد أن يقول الذكر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الدخول والخروج، وتشرع تحية المسجد لمن أراد الجلوس في المسجد، وهناك فضل عظيم للجلوس في المسجد للعبادة من صلاة وذكر وتسبيح وقراءة قرآن وغير ذلك، ويكره إنشاد الضالة في المساجد.(66/1)
فيما يقوله الرجل عند دخوله المسجد(66/2)
شرح حديث: (إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فيما يقوله الرجل عند دخوله المسجد.
حدثنا محمد بن عثمان الدمشقي حدثنا عبد العزيز -يعني الدراوردي - عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن عبد الملك بن سعيد بن سويد قال: سمعت أبا حميد أو أبا أسيد الأنصاري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، فإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك)].
قوله: [باب ما يقوله عند دخوله المسجد].
أي: ما يشرع للإنسان أن يدعو به وأن يذكره عند دخوله أي مسجد من مساجد الأرض، فإن الإسلام يشرع له أن يأتي بذلك الذكر عند دخوله المسجد وعند الخروج منه، كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
للمسجد آداب، منها: أن يأتي المسلم بالذكر المشروع عند دخول المسجد وعند الخروج منه، ولا يختص ذلك بمسجد معين، وإنما في المساجد كلها، فعندما يدخل المسجد عليه أن يصلي ويسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسأل الله أن يفتح له أبواب رحمته، وعند خروجه يفعل مثل ذلك، إلا أنه يسأل الله من فضله.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي حميد أو أبي أسيد رضي الله تعالى عنهما وهو واحد منهما، إما أبو حميد أو أبو أسيد.
قوله: (إذا دخل أحدكم المسجد).
أي: إذا أراد الدخول، وليس المقصود من ذلك أنه بعد دخوله يقول ذلك، وإنما عند الدخول وهذا مثل قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة:6] يعني: أن الإنسان يتوضأ إذا أراد القيام للصلاة.
قوله: (فليسلّم على النبي صلى الله عليه وسلم).
أي: إذا أراد أحدكم دخول المسجد، فإنه يأتي بهذا الذكر، وهو الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: (وليقل اللهم افتح لي أبواب رحمتك).
أي: أنه إذا دخل المسجد يريد التقرب إلى الله عز وجل بالعبادات التي شُرعت في المسجد، فهو يسأل الله أن يفتح له أبواب رحمته، وأن يوفقه لكل خير، وأن يرحمه ويرفع درجته عنده.
وأما إذا أراد الإنسان أن يخرج من المسجد ويذهب إلى بيته أو إلى عمله فإنه يصلي ويسلم على رسول الله عليه الصلاة والسلام، ويسأل الله من فضله، فناسب عند الدخول أن يسأل الله أن يفتح له أبواب رحمته، وعند الخروج أن يسأل الله من فضله، فيقول: (اللهم إني أسألك من فضلك) أي: أنه عندما يخرج يسأل الله الرزق الحلال من فضله، والله عز وجل يقول: {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10] يعني: يسألون الله من رزقه ومن فضله عندما يخرجون من المسجد عند الانتهاء من الصلاة، وقوله: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، فالرحمة تأتي ويراد بها أثر الصفة، ومن آثار هذه الصفة: الجنة؛ فإنها من رحمة الله عز وجل، وقد جاء في الحديث القدسي: (أن الله عز وجل قال للجنة: إنك رحمتي أرحم بكِ من أشاء، وقال للنار: إنك عذابي أعذب بك من أشاء).
وكذلك المائة الرحمة التي خلقها الله هي من آثار الصفة، فهناك صفة قائمة بالله عز وجل وهي الرحمة، وهناك آثار للصفة وهو ما خلقه الله عز وجل، مما يكرم به أولياءه، ومما خلقه الله عز وجل من الرحمة التي يتراحم بها الناس، وكذلك أيضاً الجنة التي هي من آثار رحمة الله كما جاء بذلك الحديث القدسي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(66/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم)
قوله: [حدثنا محمد بن عثمان الدمشقي].
محمد بن عثمان الدمشقي ثقة، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[حدثنا عبد العزيز -يعني الدراوردي -].
عبد العزيز الدراوردي صدوق، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن].
ربيعة بن أبي عبد الرحمن هو المشهور بـ ربيعة الرأي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الملك بن سعيد بن سويد].
عبد الملك بن سعيد بن سويد ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[قال: سمعت أبا حميد أو أبا أسيد].
[أبو حميد هو المنذر بن سعد بن منذر، وهو صحابي مشهور، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
وأبو أسيد هو مالك بن ربيعة الساعدي، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
ومن المعلوم أن الجهل بالصحابي لا يؤثر، فسواء كان هذا أو هذا لا يضر، بل إن الاحتمال في الرواة غير الصحابة فيما إذا كانوا ثقات مثل أن يشك الراوي بين ثقتين فإن ذلك لا يؤثر؛ لأنه حيثما دار فهو يقدّر على ثقة، وإنما الاختلال فيما إذا كان الشك بين ضعيف وثقة، فهذا هو الذي يؤثر فيه الشك، وأما بالنسبة للصحابة فالمجهول فيهم في حكم المعلوم، وسواء يكون هذا أو هذا أو لا يعرف اسمه فلا يؤثر هذا، بل يكفي أن يُعرف أنه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكفي أن يقال: عن رجل صَحِبَ النبي صلى الله عليه وسلم، وأما غير الصحابة فلا يكفي أن يقال: عن رجل؛ لأن هذا يصير مبهماً، ولا يُعوّل على الحديث الذي يكون فيه رجل مبهم سوى الصحابة رضي الله عنهم.(66/4)
شرح حديث: (أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إسماعيل بن بشر بن منصور حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن عبد الله بن المبارك عن حيوة بن شريح قال: لقيت عقبة بن مسلم فقلت له: (بلغني أنك حدثت عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل المسجد قال: أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم قال: أقطّ؟ قلتُ: نعم.
قال: فإذا قال ذلك قال الشيطان: حُفظ مني سائر اليوم)].
قوله: (قال أقط؟).
يعني: أهذا الذي بلغك فقط؟ لأن الهمزة للاستفهام؛ لأنه يوجد في الحديث زيادة على ذلك.
قوله: (قلت: نعم).
يعني: هذا هو الذي بلغني فقط، وهذا هو ما سمعت فقط.
قوله: (فإذا قال ذلك قال الشيطان: حفظ مني سائر اليوم).
أي: فإذا قال ذلك من يدخل المسجد قال الشيطان: حُفظ مني سائر اليوم؛ لأن من قال ذلك استعاذ بالله متوسلاً بأسمائه وصفاته بأن يعيذه من الشيطان الرجيم، فيقول الشيطان: حفظ مني سائر اليوم، يعني: باقي اليوم أو كل اليوم لأن كلمة (سائر) قيل: إن المقصود بها الباقي، أي: أنه يذكر شيئاً ثم يعبّر عن باقيه بكلمة (سائر).
وقيل: إن المقصود بها جميعاً؛ لأنها ليست مقصورة على الباقي الذي هو بمعنى السؤر، وهو الزائد الذي كان خارجاً عن الشيء الذي قد مضى، أو زائداً عن الشيء الذي مضى، وإنما يقصد به اليوم كله، فمعنى (سائر اليوم) يعني: جميع اليوم، وعلى أحد المعنيين في اللغة: أن سائر يراد بها الباقي، يعني إذا قالها في أي وقت من النهار فإنه يحفظ سائر اليوم، سواء كان في أوله أو في وسطه أو في آخره، فإذا قالها عند المغرب أو قالها عند العشاء أو قالها عند الفجر أو قالها عند الظهر، فمعناه أنه يحفظ سائر اليوم أو الليلة، ومعنى هذا: أن في ذلك حفظاً من الشيطان، وأنه يترتب على هذا الدعاء العظيم منفعة عظيمة، وهي الحفظ من الشيطان.
قوله: [(وسلطانه القديم)].
السلطان صفة من صفات الله، وهي صفة سلطته وملكوته وعظمته وغلبته؛ لأنه لا يُستعاذ بمخلوق، والحديث جاء فيه الاستعاذة بالله عز وجل وبصفاته، وأما كلمة (القديم) فالمقصود بها الأزلي، يعني: الذي صفاته وقدرته وغلبته وقهره ليس لها بداية، فهو متّصفٌ بذلك أزلاً، ولكن ليس من أسماء الله القديم، ولكن هذا وصفٌ لقهره وغلبته بأنها أزلية.(66/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم)
قوله: [حدثنا إسماعيل بن بشر بن منصور].
إسماعيل بن بشر بن منصور صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا عبد الرحمن بن مهدي].
هو عبد الرحمن بن مهدي، وهو البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن المبارك].
هو عبد الله بن المبارك المروزي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حيوة بن شريح].
هو حيوة بن شريح المصري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[لقيت عقبة بن مسلم].
هو عقبة بن مسلم المصري وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن عبد الله بن عمرو].
هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، الصحابي الجليل، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وهُمْ: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عباس.
والعبادلة الأربعة فيهم اثنان معروفان بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وهما: ابن عباس وابن عمر، وأما ابن الزبير وابن عمرو فليسا من الذين بلغت أحاديثهم بالكثرة التي توصل إلى حد السبعة الذين عُرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنهم جميعاً يقال عنهم: العبادلة الأربعة من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم من صغار الصحابة، وسنهم متقارب، مع أنه يوجد في الصحابة كثيرون ممن يقال له: عبد الله، ولكنّ لَقَب العبادلة اشتهر به هؤلاء الأربعة؛ لأنهم متقاربون في السن؛ ولأنهم من صغار الصحابة وقد أدركهم من لم يدرك كبار الصحابة مثل: عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، الذي توفي سنة (32هـ) فإنه متقدم الوفاة ولم يدركه من أدرك ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وعبد الله بن عمرو الذين هم من صغار الصحابة، وقد عاشوا بعد عبد الله بن مسعود.
وهناك أيضاً غير عبد الله بن مسعود ممن يقال له: عبد الله كـ عبد الله بن قيس الذي هو أبو موسى الأشعري، وعدد كبير من الصحابة ممن اسمه عبد الله، ولكن الذي اشتهر بلقب العبادلة هم هؤلاء الأربعة من الصحابة، وحديث عبد الله بن عمرو أخرجه أصحاب الكتب الستة.(66/6)
ما جاء في الصلاة عند دخول المسجد(66/7)
شرح حديث: (إذا جاء أحدكم المسجد فليصل سجدتين من قبل أن يجلس)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في الصلاة عند دخول المسجد.
حدثنا القعنبي حدثنا مالك عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن عمرو بن سليم الزرقي عن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جاء أحدكم المسجد فليصلَّ سجدتين من قبل أن يجلس).
].
قوله: [باب ما جاء في الصلاة عند دخول المسجد].
يعني: تحية المسجد، وأن الإنسان إذا دخل المسجد فإنه يصلي ركعتين قبل أن يجلس.
قوله: [(إذا جاء أحدكم المسجد فليصلَّ سجدتين من قبل أن يجلس)] أي: المقصود بالسجدتين الركعتين، ويطلق على الركعة سجدة، ويقال لها أيضاً: ركعة، ويقال لها: سجدة تسمية للكل باسم البعض؛ لأن الركعة فيها السجود وفيها الركوع، لكن الذي غلب في الاستعمال ذكر الركعة، والمقصود بصلاة الركعتين هو: الحد الأدنى، وإذا أراد أن يصلي أكثر من ذلك فلا بأس، ولكنه لا يصلي أقل من ركعتين؛ لأنه لا يُتنفل بأقل من ركعتين إلا في الوتر، ولا تُصلَّى الركعة الواحدة إلا في الوتر، حيث يصلي الإنسان ما شاء من الليل مثنى مثنى ثم يختم ذلك بركعة؛ لتكون صلاته وتراً، وذهب بعض أهل العلم إلى عموم ذلك في جميع الأوقات، بل حتى في أوقات النهي، قالوا: لأن هذا لفظ عام يراد به أنه كلما دخل الإنسان المسجد فإنه يصلي هاتين الركعتين.
وبعض أهل العلم قال: في أوقات النهي لا يصليهما؛ لعموم قوله: (لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس).
فمنهم من رجّح عموم هذا الحديث، ومنهم من رجّح عموم الأمر بتحية المسجد، ومنهم من رأى أنه لا يصلى أي صلاة في أوقات النهي إلا ما ورد بخصوصه حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الأمر بتحية المسجد.(66/8)
تراجم رجال إسناد حديث: (إذا جاء أحدكم المسجد فليصلَّ سجدتين من قبل أن يجلس)
قوله: [حدثنا القعنبي].
هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة [حدثنا مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة، الإمام المشهور الفقيه المبجل، وهو أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عامر بن عبد الله بن الزبير].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن سليم الزرقي].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي قتادة].
هو الحارث بن ربعي الأنصاري رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(66/9)
طريق أخرى لحديث: (إذا جاء أحدكم المسجد فليصلَّ سجدتين من قبل أن يجلس) وتراجم رجال الإسناد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا أبو عميس عتبة بن عبد الله عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن رجل من بني زريق عن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، زاد: (ثم ليقعد بعد إن شاء أو ليذهب لحاجته)].
أورد أبو داود رحمه الله الحديث من طريق أخرى عن أبي قتادة، وهو نحو الذي تقدّم، فهو يتفق معه في المعنى ويختلف في بعض الألفاظ؛ لأن كلمة (نحو) تعني أنه يتفق معه في المعنى مع اختلاف في اللفظ، بخلاف (مثل) فإنها تعني المماثلة في اللفظ والمعنى.
قوله: [(ثم ليقعد بعد ذلك إن شاء أو ليذهب لحاجته)].
يعني: من دخل المسجد فليصلَّ ركعتين ثم ليجلس أو ليذهب إلى حاجته إن شاء.
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا عبد الواحد].
هو عبد الواحد بن زياد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبو عميس عتبة بن عبد الله].
هو عتبة بن عبد الله المسعودي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عامر بن عبد الله بن الزبير].
عامر بن عبد الله بن الزبير قد تقدم ذكره.
[عن رجل من بني زريق].
وهو هنا مبهم، ولكنه مذكور في الطريق الأولى، وهو عمرو بن سليم الزرقي.
[عن أبي قتادة].
وقد مر ذكره.(66/10)
الأسئلة(66/11)
حكم من دخل المسجد ثم خرج دون أن يصلي تحية المسجد
السؤال
إذا دخل الإنسان من أحد أبواب المسجد وخرج من الباب الآخر ولا يريد الجلوس فهل يسن له صلاة ركعتين؟
الجواب
الذي ورد في بعض الروايات: (فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) فقوله: (لا يجلس) يفيد أن الإنسان إذا دخل المسجد ولا يريد أن يجلس، فإن له ألا يصلي، والحديث أخرجه أصحاب الكتب الستة، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وفيه ألفاظ مختلفة، ومن ألفاظه: (فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)، فمثلاً: عابر السبيل إذا دخل المسجد ماراً فلا يلزمه أن يصلي؛ لأنه ورد: (لا يجلس حتى يصلي ركعتين) فمعناه: أن الجلوس لابد أن يسبقه ركعتين ثم إن شاء أن يجلس جلس، وإن شاء أن ينصرف انصرف.(66/12)
فضل القعود في المسجد(66/13)
شرح حديث: (الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في فضل القعود في المسجد.
حدثنا القعنبي عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث أو يقم: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه)].
قوله: [باب في فضل القعود في المسجد].
يعني: الجلوس فيه لذكر الله عز وجل وقراءة القرآن، فإن فيه فضلاً عظيم؛ لأنه في صلاة ما دام منتظراً للصلاة، وكذلك بعد صلاته إذا جلس فالملائكة تصلي عليه وتستغفر له ما لم يؤذِ أو يحدث، تقول: اللهم ارحمه اللهم اغفر له، فهذا يدل على فضل الجلوس في المساجد، حيث أن الجلوس فيها عبادة؛ لأنها خير البقاع كما جاء في صحيح مسلم: (أحب البقاع إلى الله مساجدها، وأبغضها أسواقها).
فأحسن مكان في البلد المسجد؛ لأنه مكان العبادة ومكان ذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن، بخلاف الأسواق فإنها محل الصخب ومحل الأخذ والرد والكلام وعدم التمسك والتقيد بشرع الله.
ولهذا فإن المساجد لا يشتغل فيها بأمور الدنيا، فلا ينشد فيها ضالة ولا يباع فيها ويشترى وإنما هي لذكر الله عز وجل وعبادته، فإذا جلس الإنسان في المسجد فهو على خير؛ لأنه في مكان عبادة وليس مكان انشغال بأمور الدنيا، سواء كان جلوسه قبل الصلاة أو بعد الصلاة، فهو في صلاة ما انتظر الصلاة.
قوله: (الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه).
أي: تدعو له وتقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه؛ لأن صلاة الملائكة للمؤمنين هي الدعاء، والله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب:56].
فصلاة الله عز وجل على نبيّه هي ذكره في الملأ الأعلى، وصلاة الملائكة هي الدعاء له، وصلاة المسلمين هي أن يقولوا: اللهم صلّ وسلم على رسول الله، أي: يدعون له بأن يصلي الله ويسلم عليه، فصلى الله عليه وسلم.
فكذلك الملائكة يدعون ويصلون على الذين يجلسون في المساجد، سواءً كانوا ينتظرون الصلاة، أو كانوا قد فرغوا من الصلاة وجلسوا يذكرون الله، أو يقرءون القرآن، ما لم يحدث أحدهم أو يقم.
من المعلوم أن الصلاة في اللغة: الدعاء، وسميت الصلاة المفروضة بهذا الاسم؛ لأن أكثر أعمالها وهيئاتها فيها دعاء، فالإنسان وهو قائم في الصلاة، فإنه يقول دعاء الاستفتاح، وكذا عند قراءة الفاتحة هي دعاء، وكذلك قراءة القرآن، وكذلك أيضاً عند الركوع والقيام منه ثناء ودعاء، وفي السجود وبين السجدتين وفي التشهد، فكل ذلك دعاء، فقيل للصلاة: دعاء.
مع أن الصلاة المفروضة ليست مقصورة على الدعاء، بل هي أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير ومختتمة بالتسليم، والأقوال التي تكون في الصلاة هي دعاء.
قوله: (ما لم يحدث).
يعني: مادام على طهارة ولم ينتقض وضوءه فإنه يحصل له هذا الفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما لم يحدث) فهو إذا كان على طهارة فهو يذكر الله أو يصلي أو يقرأ القرآن، فهو على خير بهذا الدعاء من الملائكة.
قوله: (أو يقم) يعني: يترك مصلاه.
أما الكلام في المسجد عن شئون الدنيا، كأن يتحدث الإنسان في المسجد عن العقار، فهذا يحصل إثماً.(66/14)
تراجم رجال إسناد حديث: (الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه)
قوله: [حدثنا القعنبي عن مالك عن أبي الزناد].
أبو الزناد هو عبد الله بن ذكوان، لقبه أبو الزناد، وكنيته أبو عبد الرحمن، فتسميته بـ أبي الزناد لقب على صفة الكنية وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعرج].
هو عبد الرحمن بن هرمز وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو مشهور بلقب: الأعرج.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.(66/15)
الأسئلة(66/16)
حكم من قام من مصلاه في المسجد إلى مكان آخر
السؤال
قوله: (في مصلاه الذي صلى فيه) هل المراد البقعة التي صلى فيها أو عموم المسجد؟
الجواب
لاشك أن الإنسان إذا كان في المكان الذي صلى فيه فالأمر في ذلك واضح ليس فيه أي إشكال، وإنما الإشكال فيما إذا قام منه إلى مكان آخر، وما دام أنه موجود في المسجد فلا شك أنه على خير.
فمن كان ينتظر الصلاة فهو في صلاة والملائكة تدعو له، ولو أنه خرج لتجديد الوضوء فهذا من الأمور الضرورية التي لابد منها، ولا يعني ذلك أنه يعدم الأجر، أو أن الملائكة لا تصلي عليه؛ لأن الحاجة طرأت عليه فخرج، والخير حصل له قبل أن يذهب، كما جاء في الحديث: (من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس) الحديث، يعني: لو أن الإنسان قام ليحضر درساً أو قام من مكانه ليستند على عمود، فإن حضور الدرس لا يدخل في الحديث، وإن جلس في المصلى يذكر الله، وحديث: (من جلس بعد الفجر) فالذي يبدو أنه من جلس ليذكر الله أو يقرأ القرآن، أما كونه يحضر درساً فيبدو أنه يختلف عما جاء في الحديث، لكن الكل على خير بلا شك.(66/17)
شرح حديث: (لا يزال أحدكم في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا القعنبي عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال أحدكم في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه، لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة).
].
أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي هريرة وهو بمعنى الذي قبله.
قوله: [(لا يزال أحدكم في صلاة مادامت الصلاة تحبسه)].
يعني: مادام ينتظر الصلاة.
قوله: [(لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة)].
يعني: لا يمنعه أن ينصرف إلى أهله ويخرج من المسجد إلا انتظار الصلاة، فهو يؤجر كما يؤجر المصلي؛ لأنه في صلاة.(66/18)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا يزال أحدكم في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه)
[حدثنا القعنبي عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة].
وقد مر ذكرهم جميعاً.(66/19)
شرح حديث: (لا يزال العبد في صلاة ما كان في مصلَّاة ينتظر الصلاة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن ثابت عن أبي رافع عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال العبد في صلاة ما كان في مُصلَّاه ينتظر الصلاة، تقول الملائكة: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، حتى ينصرف أو يحدث، فقيل: ما يحدث؟ قال: يفسو أو يضرط)].
قوله: [(لا يزال العبد في صلاة ما كان في مُصلَّاه ينتظر الصلاة)].
وهذا الحديث مثل الذي قبله: (لا يزال أحدكم في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه).
قوله: [(تقول الملائكة: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه)].
يعني: تدعو له وهو في هذه المدة التي هو فيها جالساً في المسجد ينتظر الصلاة.
قوله: [(حتى ينصرف أو يحدث)].
يعني: حتى يخرج من المسجد أو يحصل منه الحَدَث.
قوله: (فقيل: ما يحدث؟ قال: يفسو أو يضرط).
هذا هو المقصود بالحدث لأنه قد يحتمل أكثر من معنى، فمثلاً: قد يكون بمعنى انتقاض الوضوء، أو حَدَث في الدين، أو حصول أمر منكر لا يسوغ، ففسّره بأنه ضراط أو فساء، والفساء: هو خروج الريحة التي ليس لها صوت، والضراط: هو خروج الريحة التي لها صوت، مثل ما جاء في الحديث الآخر: (لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) أي: حتى يسمع صوتاً للخارج من الريح، وهو الضراط أو يجد ريحاً للخارج من غير أن يكون له صوت وهو الفساء.(66/20)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا يزال العبد في صلاة ما كان في مصلَّاة ينتظر الصلاة)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن سلمة وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن ثابت].
هو ثابت بن أسلم البناني البصري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي رافع].
هو نفيع الصائغ وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
وقد مر ذكره.(66/21)
شرح حديث: (من أتى المسجد لشيء فهو حظُّه)
[حدثنا هشام بن عمار حدثنا صدقة بن خالد حدثنا عثمان بن أبي العاتكة الأزدي عن عمير بن هانئ العنسي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أتى المسجد لشيء فهو حظُّه)].
قوله: [(من أتى المسجد لشيء فهو حظُّه) يعني: أن من نوى المجيء إلى المسجد لشيء فله ذلك الشيء الذي أراده من مجيئه للمسجد، فيكون حظه ونصيبه من مجيئه للمسجد هو ذلك الذي أراده، وهذا من جنس قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه).
فمن جاء إلى المسجد من أجل أن يصلي فيه، أو من أجل أن يشهد الجماعة التي هي واجبة، أو من أجل أن يُحصّل الأجر في المسجد بالذكر وقراءة القرآن، فهو حظه وله ما أراد، ومن لم يدخل المسجد لهذا العمل العظيم، وإنما دخله لأمر من الأمور التي لا علاقة لها بالدين والطاعة فهو حظه، وله ما أراد من العمل بلا أجر؛ لكونه دخل لأجل حاجة معينة، ولم يدخل للصلاة ولا للطاعات.
والأجر إنما يحصله إذا كان جاء من أجل أن يصلي -سواء كان فرضاً أو نافلة- أو لقراءة قرآن أو لذكر الله عز وجل، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديثه عن المنافقين قال: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما -أي: من الأجر- لأتوهما ولو حبواً)، معناه: أن بعض عباد الله عز وجل يعرفون قدر صلاة الجماعة وعظم شأن صلاة الجماعة، فهم لو لم يستطيعون أن يأتوا إلا حبواً لَفَعلوا؛ لمعرفتهم وإيمانهم بالأجر الذي وعد الله عز وجل به.
والمنافقون لا تهمهم الآخرة وإنما تهمهم الدنيا، ولهذا قال بعد ذلك: (والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقاً سميناً أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء) أي: لو كان يعلم أن المسجد فيه لحم يُوزّع أو طعام يؤكل لجاء إلى العشاء ولحضر إلى المسجد من أجل أن يحصّل هذا الطعام في المسجد.
أما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان الواحد منهم يصيبه المرض، ثم لا تسمح له نفسه أن يصلي في بيته، مع أنه معذور لو صلى في بيته، ولكنه يأتي إلى المسجد يُهادى بين الرجلين، أي: يمسك رجل عضده اليمنى، ويمسك رجل آخر عضده اليسرى، ورجله تخط بالأرض حتى يقام في الصف؛ كل هذا من أجل الأجر الذي وعد الله تعالى به، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً).
وجاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس حيث يُنادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق).
أي: علامة النفاق التخلف عن الصلاة، كما جاء أيضاً عن عبد الله بن عمر أنه قال: (كنا إذا فقدنا الرجل في صلاة العشاء اتهمناه) يعني: اتهمناه بالنفاق، ثم قال: (ولقد كان الرجل يؤتى به يُهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف).(66/22)
تراجم رجال إسناد حديث: (من أتى المسجد لشيء فهو حظّه)
قوله: [حدثنا هشام بن عمار].
هشام بن عمار صدوق، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا صدقة بن خالد].
صدقة بن خالد ثقة، وحديثه أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا عثمان بن أبي العاتكة الأزدي].
عثمان بن أبي العاتكة الأزدي صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود وابن ماجة.
[عن عمير بن هانئ العنسي].
عمير بن هانئ العنسي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
وقد مر ذكره.(66/23)
كراهية إنشاد الضالة في المسجد(66/24)
شرح حديث: (من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا أدّاها الله إليك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في كراهية إنشاد الضالة في المسجد.
[حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري حدثنا عبد الله بن يزيد حدثنا حيوة - يعني ابن شريح - قال: سمعت أبا الأسود - يعني محمد بن عبد الرحمن بن نوفل - يقول: أخبرني أبو عبد الله مولى شداد أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من سمع رجلاً ينشُد ضالة في المسجد فليقل: لا أداها الله إليك؛ فإن المساجد لم تُبْنَ لهذا)].
إنشاد الضالة في المسجد هي: أن ينادي إنسان فيقول: من وجد لي كذا، أو ضاع مني كذا وكذا؟ هذا هو المقصود بإنشاد الضالة، قالوا: هي في الأصل تُطلق على الإبل، لكن المقصود بها هنا ما هو أعم من ذلك، سواء كانت من بهيمة الأنعام أو غيرها فليس للإنسان أن ينشد شيئاً ضائعاً له في المسجد مطلقاً؛ لأن المساجد ما بُنيت للكلام في أمور الدنيا، وإنما بُنيت لذكر الله عز وجل.
قوله: [(من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا أداها الله إليك)].
أي: يعامل بنقيض قصده، فكما حرص على الدنيا يدعى بألا يحصل له مقصوده من الدنيا؛ لأنه فَعَل ذلك في مكان لا يسوغ له أن يفعله فيه.
فهذا فيه دليل على منع ذلك في المسجد؛ لأنه لا يسوغ، ويدل أيضاً على أن الاشتغال بأمور الدنيا عموماً حكمه كذلك؛ لأن قوله: (فإن المساجد لم تُبْنَ لهذا) يشمل ما يتعلق بالضالة وغير الضالة من أمور الدنيا، حيث أن المساجد بُنيت لذكر الله، ولتعلم العلم، ولقراءة القرآن، وللصلاة وعبادة الله عز وجل، وليس للحديث في أمور الدنيا وطلبها والاشتغال بها، ولا لإنشاد ضالة ولا غير ضالة.
أي: ما بُنيت للاشتغال في أمور الدنيا، وإنما بنيت للاشتغال في أمور الآخرة.
والضالة لا تُنشد في المسجد سواء ضاعت في المسجد أو خارج المسجد.(66/25)
تراجم رجال إسناد حديث: (من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا أداها الله إليك)
قوله: [حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري].
عبيد الله بن عمر القواريري ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا عبد الله بن يزيد].
هو المقرئ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حيوة - يعني ابن شريح -].
حيوة بن شريح المصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت أبا الأسود - يعني محمد بن عبد الرحمن بن نوفل -].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني أبو عبد الله مولى شداد].
هو: سالم بن عبد الله وهو صدوق، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[أنه سمع أبا هريرة].
أبو هريرة رضي الله عنه قد مرّ ذكره.(66/26)
الأسئلة(66/27)
نشدان الضالة بطريقة نشر الأوراق
السؤال
يستخدم بعض الناس الآن طريقة الإعلان عن الضالة في الأوراق، فأحياناً تلصق ورقة على الباب في داخل المسجد أو أحياناً في الخارج، وفيها مثلاً: ضاع مني تلفون جوال، فمن وجده فليؤده إلى إمام المسجد.
وهكذا، فما حكم هذه الطريقة؟
الجواب
إذا نصبت الورقة خارج المسجد فإن شاء الله ليس في ذلك بأس؛ لأن هذا ليس فيه نداء في المسجد، بل خارج المسجد، وأيضاً لو نشد الضالة خارج المسجد فما في ذلك بأس؛ لأنه خارج المسجد.(66/28)
حكم البحث عن الولد في المسجد
السؤال
ما حكم إنشاد الولد في المسجد والبحث عنه؟
الجواب
من ضاع له ولد فلا يصلح أن ينادي عليه في المسجد، لكن له أن يسأل عنه الجهات المختصة، فيذهب للشرطة ويسألهم أو يسأل أصحاب المحلات الخيرية التي في المسجد، والتي هي مظنة ذلك، فما في ذلك بأس؛ لأن المسجد في داخله جهة مخصصة لهذا، لكن لا يقوم وينادي في الناس أنه ضاع لي ولد أو ضاع لي كذا.
وأما أن يسأل آحاد المصلين عن ولده فلا بأس؛ لأن الولد يختلف عن المال، فلا يقال: هذا حريص على الدنيا داخل المسجد، لكن البحث عن الولد يكون بدون إعلان أو تصويت.(66/29)
وجه عدم وجود حاجز بين الرجال والنساء في المسجد في عهد النبي
السؤال
لماذا لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ستار حاجز بين الرجال والنساء في المسجد؟
الجواب
يمكن أن يكون وضع شيء حاجز فيه مشقة، وأما إذا وجد فاصل فيكون ذلك أحسن، ولا ندري عن الذي حصل في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، هل وجد فاصل أو لم يوجد فاصل، فقد يمكن أن يوجد فاصل وهو قصير يمكن أن يرى ما وراءه، ما عندنا في ذلك علم.(66/30)
حكم من بالغ في الاستنشاق في نهار رمضان
السؤال
من بالغ في الاستنشاق في نهار رمضان ووصل الماء إلى حلقه، هل عليه إعادة ذلك اليوم؟
الجواب
الرسول صلى الله عليه وسلم جاء عنه أنه قال في الاستنشاق: (إلا أن تكون صائماً) لكن يبدو أنه لا يفطر؛ لأنه مثل الإنسان الذي دخل إلى حلقه شيء يسير غصباًَ عنه من غير اختياره فلا يضره.(66/31)
شرح سنن أبي داود [067]
من محاسن الدين الإسلامي أن جعل لكل شيء أحكاماً وآداباً تنظم أحوال الناس فيه، ومن ذلك آداب المساجد؛ لأنها بيوت الله، ولها مكانتها، وهي لم تُبْنَ إلا للعبادة، فلا ينبغي أن تُدنس بشيء من رجس الدنيا، فلا يتفل ولا يتنخم فيها، ومن طرأ له شيء فليتفل عن يساره تحت قدمه اليسرى، ثم ليدفنها إن كان المسجد مفروشاً بالحصى، وإلا فليتفل في ثيابه.(67/1)
ما جاء في كراهية البزاق في المسجد(67/2)
شرح حديث: (التفل في المسجد خطيئة وكفارته أن تواريه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في كراهية البزاق في المسجد.
حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام وشعبة وأبان عن قتادة عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التفل في المسجد خطيئة، وكفارته أن تواريه)].
قوله: [باب في كراهية البزاق في المسجد].
البزاق: هو ما يخرج من ريق الفم، وإذا كان من أدناه فهو تفل، وإذا كان من أقصاه يقال له: نخامة، ويقال له: بزاق ويقال له: بصاق، وكل ذلك مما لا يسوغ أن يفعل في المسجد؛ وذلك لكونه مستقذراً تشمئز منه النفوس، ومن أجل ذلك جاء ما يدل على النهي عنه في المساجد، وليس النهي لكونه نجساً؛ فإنه طاهر.
أورد أبو داود رحمه الله عدة أحاديث، منها ما يتعلق بلفظ التفل، ومنها بلفظ البصاق، ومنها بلفظ النخامة، وغير ذلك، وكلها في معنى واحد، ولكنها تتفاوت في هيئتها وكيفيتها، فالتفل دون البزاق والنخامة؛ لأن الذي يخرج من الحلق ويخرج من الجوف غير الذي يكون في الفم من الريق إذا تفله الإنسان، فكل ذلك من الأمور المستقذرة.
قوله: (التفل في المسجد خطيئة).
أي: أنه سيئ وأنه إثم، ووقوع في أمر مكروه لا يسوغ، ولكنه إذا وُجد فإن عليه أن يدفنه وأن يواريه، وهذا يدل على طهارته؛ لأنه لو كان نجساً فلا يكفي فيه أن يوارى، فالنجس يغسل ويصبّ عليه الماء، كما جاء في قصة الأعرابي الذي بال في المسجد، حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يراق عليه ذنوب من ماء حتى يطهر بذلك.
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد في البزاق إلى مواراته ودفنه؛ وذلك حتى لا تقع إليه الأنظار وحتى لا تشمئز منه النفوس؛ لكونه شيئاً مستقذراً تنفر منه الطباع إذا رأته، فإن كون الإنسان يتخلص من مغبة ذلك بأن يواريه وأن يدفنه في تراب المسجد وهذا فيما إذا كان المسجد ترابياً أو فيه حصباء، أما إذا كان مفروشاً أو مبلطاً فإن الوسخ يظهر عليه سواء كان رطباً أو يابساً، ولا يمكن مواراته.
وعلى كُلٍّ فعلى الإنسان في جميع الأحوال أن ينزه المسجد من هذه الأوساخ، ولا يأتي بشيء يسيء فيه إلى المصلين وإلى من في المسجد، بحيث تقع أبصارهم على شيء تشمئز منه نفوسهم وتنفر منه طباعهم، وإنما على الإنسان أن يبصق في ثوبه إذا كان مضطراً إلى ذلك، أو يبصق في التراب إذا كان المسجد ترابياً ثم يواريه، أو يبصق عن يساره ويدلكه برجله أو بنعله حتى لا يبقى له أثر.(67/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (التفل في المسجد خطيئة وكفارته أن تواريه)
قوله: [حدثنا مسلم بن إبراهيم].
هو مسلم بن إبراهيم الفراهيدي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا هشام].
هو هشام بن أبي عبد الله الدستوائي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وشعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، وهو ثقة، وُصِفَ بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[وأبان].
هو: ابن يزيد العطار وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري وهو ثقة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس بن مالك].
أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه، وأحد السبعة من الصحابة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(67/4)
طريق أخرى لحديث: (البزاق في المسجد خطيئة) وتراجم رجال الإسناد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن قتادة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها)].
أورد المصنف رحمه الله حديث أنس بن مالك من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله، إلا أنه بلفظ البزاق وهو اللفظ الذي في الترجمة، والكلام فيه كالذي قبله.
قوله: [حدثنا مسدد].
هو مسدد بن مسرهد البصري وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا أبو عوانة].
هو أبو عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري، وهو ثقة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، وهو مشهور بكنيته أبو عوانة، ويأتي ذكره كثيراً بهذه الكُنية.
[عن قتادة عن أنس].
قتادة وأنس قد مرّ ذكرهما.(67/5)
أعلى الأسانيد عند أصحاب الكتب الستة
الرباعيات هي من أعلى الأسانيد عند أبي داود، وليس عند أبي داود ثلاثيات.
وكذلك النسائي ليس عنده ثلاثيات، وأيضاً الإمام مسلم رحمة الله عليه ليس عنده ثلاثيات، وإنما الثلاثيات عند الثلاثة الباقين من أصحاب الكتب الستة، فـ البخاري عنده اثنان وعشرون حديثاً ثلاثياً، بين البخاري وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أشخاص، والترمذي عنده حديث واحد ثلاثي، وابن ماجة عنده خمسة أحاديث ثلاثية كلها بإسناد واحد وهو إسناد ضعيف.(67/6)
شرح حديث: (النخاعة في المسجد)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو كامل حدثنا يزيد -يعني ابن زريع - عن سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (النخاعة في المسجد) فذكر مثله].
أورد المصنف رحمه الله حديث أنس بن مالك من طريق أخرى وفيه: [(النخاعة في المسجد)] يعني: خطيئة وكفارتها دفنها، حيث ذكر أنه مثل الحديث الذي قبله، إلا أنه بدل البزاق في المسجد قال: (النخاعة في المسجد)، والنخاعة: هي النخامة، والبزاق هو البصاق، كل ذلك بمعنى.
قوله: [(النخاعة في المسجد)] أو (البصاق في المسجد) أو (التفل في المسجد) المقصود من الظرفية هو أن حصول ذلك في المسجد هو الشيء الممنوع والمحذور، وسواء كان ذلك ممن في المسجد أو ممن كان في غير المسجد.(67/7)
تراجم رجال إسناد حديث: (النخاعة في المسجد)
قوله: [حدثنا أبو كامل].
هو: فضيل بن حسين الجحدري وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا يزيد -يعني ابن زريع -].
يزيد بن زريع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد].
هو: سعيد بن أبي عروبة وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة عن أنس].
قتادة وأنس قد مر ذكرهما.(67/8)
شرح حديث: (من دخل هذا المسجد فبزق فيه أو تنخم فليحفر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا القعنبي حدثنا أبو مودود عن عبد الرحمن بن أبي حدرد الأسلمي سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من دخل هذا المسجد فبزق فيه أو تنخم فليحفر فليدفنه، فإن لم يفعل فليبزق في ثوبه ثم ليخرج به)].
قوله: (فليحفر فليدفنه).
أي: يخرج التراب ويضعه عليه، والحفر يكون بإخراج حفنة من التراب بيده، ويجعل ذلك البصاق في تلك الحفرة التي حفرها ويواريه بحيث يتغطى ولا تقع عليه الأبصار؛ وذلك لأنه مستقذر مع أنه ليس بنجس، وإنما المقصود من مواراته إزالة كل شيء مستقذر تشمئز منه النفوس وتنفر منه الطباع.
قوله: (فإن لم يفعل).
أي: فإن لم يحصل منه الدفن فإن عليه ألا يبصق في الأرض، بل يبصق في ثوبه ويخرج به معه.(67/9)
تراجم رجال إسناد حديث: (من دخل هذا المسجد فبزق فيه أو تنخم فليحفر)
قوله: [حدثنا القعنبي].
هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة.
[حدثنا أبو مودود].
هو عبد العزيز بن أبي سليمان وهو مقبول، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي.
[عن عبد الرحمن بن أبي حدرد الأسلمي].
وهو مقبول، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود.
[سمعت أبا هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق.
والحديث هو بمعنى الأحاديث التي جاءت قبله عن أنس بن مالك، وكذلك الأحاديث التي سوف تأتي، وهو وإن كان فيه مقبولان إلا أن هناك أحاديث كثيرة جاءت من طرق صحيحة تدل على ما دل عليه هذا الحديث.(67/10)
شرح حديث: (إذا صلى أحدكم فلا يبزق أمامه ولا عن يمينه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هناد بن السري عن أبي الأحوص عن منصور عن ربعي عن طارق بن عبد الله المحاربي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قام الرجل إلى الصلاة أو إذا صلى أحدكم فلا يبزق أمامه ولا عن يمينه ولكن عن تلقاء يساره إن كان فارغاً أو تحت قدمه اليسرى، ثم ليقل به)].
قوله: (ثم ليقل به).
أي: وليدلكه، كما جاء في رواية عند النسائي: (وإلا فليقل هكذا، وبصق تحت رجله ودلكه) فقوله: [(وليقل به)] المقصود به أنه إشارة إلى فعل يفعله بهذا الذي وضعه تحت قدمه اليسرى، بمعنى أنه يدلكه بحيث يتلاشى ويضمحل ولا يبقى له أثر.(67/11)
تراجم رجال إسناد حديث: (إذا صلى أحدكم فلا يبزق أمامه ولا عن يمينه)
قوله: [حدثنا هناد بن السري].
هناد بن السري ثقة، أخرج حديثه البخاري في خلق أفعال العباد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة.
[عن أبي الأحوص].
هو سلام بن سليم الحنفي وهو ثقة، مشهور بكُنيته، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن منصور].
هو منصور بن المعتمر الكوفي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ربعي].
هو ربعي بن حراش وهو ثقة مخضرم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن طارق بن عبد الله المحاربي].
وهو صحابي، أخرج حديثه البخاري في خلق أفعال العباد وأصحاب السنن الأربعة.(67/12)
شرح حديث: (إن الله تعالى قبل وجه أحدكم إذا صلى، فلا يبزق بين يديه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن داود حدثنا حماد حدثنا أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوماً إذ رأى نخامة في قبلة المسجد، فتغيظ على الناس، ثم حكّها، قال: وأحسبه قال: فدعا بزعفران فلطخه به، وقال: إن الله تعالى قِبَلَ وجه أحدكم إذا صلى، فلا يبزق بين يديه)].
قوله: (إذا رأى نخامة في قبلة المسجد) أي: في الجدار الأمامي الذي أمام الناس.
قوله: [(وأحسبه قال: فدعا بزعفران فلطخه به)] لأن الزعفران فيه رائحة طيبة، فأراد أن يجعل مكان ذلك الأثر المستقذر زعفراناً له رائحة طيبة.
قوله: [(فتغيظ على الناس)].
أي: حصل منه غضب، وظهر عليه التأثر لهذا الفعل الذي حصل، فحرمة المساجد عظيمة، فكيف يحصل لها مثل ذلك؟! فيجب أن تُصان وأن تُنّزه وأن تُنظّف، وألا يُفعل فيها شيء مما لا ينبغي، سواء كان ذلك يلصق في الجدار أو في الأرض، أو كان شيئاً منفصلاً كالقذارة التي سبق أن مر ذكرها في بعض الأحاديث.
قوله: [(ثم حكّها)] أي: باشر ذلك بنفسه صلى الله عليه وسلم.
قوله: (وقال: إن الله تعالى قبل وجه أحدكم)].
أي: أن الله تعالى قِبَلَ وجهه، والمقصود أمامه.
وهذا مثل الآية الكريمة: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115]، قال بعض أهل العلم: إن هذه الآية من آيات الصفات، والمقصود بالوجه هو وجه الله عز وجل الذي هو صفة من صفاته، وبعض أهل العلم قال: إن المقصود بالوجه هنا الوجهة، وهي القبلة.
ولكن كون المقصود بها آية من آيات الصفات هو الأوضح؛ لأنه قال: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] أي: أن الإنسان أينما اتجه فالله تعالى أمامه.
والمقصود من ذلك أن الله عز وجل فوق كل شيء ومحيط به، والمخلوقات في قبضة الله عز وجل، كما قال ابن عباس: (كالخردلة في كف أحدنا) ومن المعلوم أن ما داخل الخردلة المقبوض عليها بالكف أينما اتجه فهو أمام قابضها، ولله المثل الأعلى، وهذا أصح ما قيل في معنى هذه الآية، وأصح ما يقال في معنى هذا الحديث، فنهي الإنسان أن يبصق أمامه، وكذلك أيضاً عن يمينه؛ لأن فيه الملك كما جاء ذلك في بعض الأحاديث التي ستأتي؛ ولأن جهة اليمين مُكَرّمة، وهي تُصان مما لا تُصان منه الشمال.(67/13)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن الله قبل وجه أحدكم إذا صلى فلا يبزق بين يديه)
قوله: [حدثنا سليمان بن داود].
هو أبو الربيع الزهراني وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
والظاهر أن هذا هو الذي شكّ في الحديث بقوله: (وأحسبه قال)، لأن حماداً من طبقة شيوخ شيوخ أبي داود، ويحتمل أن يكون الذي شك نافع، ويحتمل غيره، والله أعلم.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن زيد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أيوب].
هو أيوب بن أبي تميمة السختياني وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع].
هو نافع مولى ابن عمر وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عمر].
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(67/14)
طريق أخرى لحديث: (إن الله قبل أحدكم إذا صلى فلا يبزق بين يديه)، وتراجم رجال الإسناد
[قال أبو داود: رواه إسماعيل وعبد الوارث عن أيوب عن نافع، ومالك وعبيد الله وموسى بن عقبة عن نافع نحو حماد، إلا أنه لم يذكروا الزعفران، ورواه معمر عن أيوب وأثبت الزعفران فيه، وذكر يحيى بن سليم عن عبيد الله عن نافع: الخَلوق].
أورد المصنف رحمه الله هذه المعلقات التي فيها الإشارة إلى أن جماعة رووه كما رواه حماد ولكنهم لم يذكروا الزعفران، وأن غير هؤلاء رواه وذكر الزعفران كما ذكره حماد، وأن أحد رواته ذكر الخلوق بدل الزعفران.
والخلوق: طيب فيه صفرة وحمرة، والزعفران أصفر.
وإسناد حماد الذي مرّ جاء فيه على الشك، حيث قال: (أحسبه قال) يعني: أنه دعا بزعفران فلطخه به.
قوله: [رواه إسماعيل].
هو إسماعيل بن جعفر وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وعبد الوارث].
هو عبد الوارث بن سعيد العنبري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أيوب عن نافع].
أيوب ونافع قد مرّ ذكرهما.
[ومالك].
مالك إمام دار الهجرة، الإمام المشهور، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[وعبيد الله].
هو عبيد الله بن عمر بن حفص بن عمر العمري المصغّر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وموسى بن عقبة].
هو موسى بن عقبة المدني وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن نافع نحو حماد].
يعني: هؤلاء رووا نحو ما رواه حماد، إلا أنهم لم يذكروا الزعفران الذي جاء في حديث حماد.
[ورواه معمر عن أيوب وأثبت الزعفران فيه].
أي: أثبت الزعفران كما جاء في حديث حماد، وحديث حماد على الشك.
[وذكر يحيى بن سليم].
هو يحيى بن سليم الطائفي وهو صدوق سيئ الحفظ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد الله].
عبيد الله قد مرّ ذكره.
[عن نافع: الخلوق].
نافع قد مرّ ذكره، والخلوق أي: بدل الزعفران، وكلها طيب.(67/15)
شرح حديث: (إن أحدكم إذا استقبل القبلة فإنما يستقبل ربه عز وجل والملك عن يمينه، فلا يتفل عن يمينه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن حبيب بن عربي حدثنا خالد -يعني ابن الحارث - عن محمد بن عجلان عن عياض بن عبد الله عن أبي سعيد الخدري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب العراجين ولا يزال في يده منها، فدخل المسجد فرأى نخامة في قبلة المسجد، فحكها، ثم أقبل على الناس مغضباً، فقال: أيسر أحدكم أن يُبْصَق في وجهه؟ إن أحدكم إذا استقبل القبلة فإنما يستقبل ربه عز وجل والملك عن يمينه فلا يتفل عن يمينه ولا في قبلته، وليبصق عن يساره أو تحت قدمه، فإن عجل به أمر فليقل هكذا)، ووصف لنا ابن عجلان ذلك: أن يتفل في ثوبه ثم يرد بعضه على بعض].
قوله: [(أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب العراجين)] المقصود بالعرجون: العود الذي تكون فيه الشماريخ، أو العود الأصفر الذي هو متصل بأصل النخلة وفي آخره الشماريخ التي فيها الرطب.
والعرجون إذا يبس اعوجّ وانحنى، ولهذا جاء في القرآن في صفة منازل القمر: {كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس:39]، يعني: الذي قد يبس ومضى عليه وقت طويل فصار منحنياً، فالهلال يكون كهذا العرجون.
قوله: [(فدخل المسجد فرأى نخامة في قبلة المسجد فحكها، ثم أقبل على الناس مغضباً)].
أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما تكلم مع الناس كان يظهر عليه الغضب.
قوله: [(أيسر أحدكم أن يبصق في وجهه؟)]، وهذه إشارة من النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن الإنسان إذا أراد أن يعرف مدى عدم مناسبة هذا الفعل الذي يفعله، فعليه أن يتصور ذلك في نفسه وفي حقه، هل يناسب في حقه أم لا؟ هل يناسبه أن يتفل أحد بين يديه وأمامه؟ وهذا الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من التنبيه إلى أن الإنسان عندما يتصور ما يحب أن يَعامَل به، فحينئذٍ يتضح له أن ذلك غير لائق، وأنه ليس من الأمور الحسنة، بل من الأمور السيئة؛ لأن الإنسان يجد من نفسه أنه إذا حصل ذلك بين يديه وأمامه فإن ذلك لا يعجبه.
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أحاديث كثيرة، منها الأحاديث التي في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما في حديث طويل، وفيه: قوله صلى الله عليه وسلم: (فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم والآخر، وليأتِ إلى الناس الذي يحب أن يُؤتى إليه) أي: عامِل الناس بمثل ما تحب أن يعاملوك به.
فكما أن الإنسان يكره أن يتفل أحد بين يديه أو أمامه، فكذلك لا يجوز له أن يبصق أمامه لا في المسجد ولا في غير المسجد، وإذا كان في المسجد وهو يصلي وهو بين يدي الله عز وجل فذلك أعظم وأشد.
قوله: (إن أحدكم إذا استقبل القبلة فإنما يستقبل ربه عز وجل).
يعني: أنه متّجه إلى الله عز وجل يناجيه، وليس المقصود من ذلك أنه مستقبل للقبلة، وأن المقصود باستقبال الله استقبال القبلة، بل المقصود به أن الله تعالى أمامه كما قال الله عز وجل: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115]، كما ذكرنا آنفاً.
قوله: (والملك عن يمينه).
يعني: والملك يكون عن يمينه، ثم إن اليمين مُكَرّمة ومُصانة.
قوله: [(فلا يتفل عن يمينه ولا في قبلته، وليبصق عن يساره أو تحت قدمه)].
وهذا لأن اليسار تختلف عن اليمين في الإكرام، ولهذا فإن هناك اختلافاً في استعمال اليد اليمنى واليسرى، اليسرى تستعمل في الأمور غير المناسبة واليمنى تصان عن ذلك.
قوله: [(فإن عجل به أمر)].
أي: إذا كان قد عاجله البصاق أو نحوه، وهو يريد أن يخرجه ولم يجد بداً من إخراجه، فلا يبصق أمامه ولا عن يمينه، ولكن يكون عن يساره، كما مر في الحديث السابق: (فلا يبزق أمامه ولا عن يمينه، ولكن عن تلقاء يساره إن كان فارغاً أو تحت قدمه اليسرى)].
قوله: [(فليقل هكذا، ووصف لنا ابن عجلان ذلك: أن يتفل في ثوبه ثم يرد بعضه على بعض)].
معناه: أن يأخذ بثوبه ويبصق فيه، ويردّ بعضه على بعض.(67/16)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن أحدكم إذا استقبل القبلة فإنما يستقبل ربه عز وجل والملك عن يمينه، فلا يتفل عن يمينه)
قوله: [حدثنا يحيى بن حبيب بن عربي].
يحيى بن حبيب بن عربي ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[حدثنا خالد -يعني ابن الحارث -].
هو خالد بن الحارث البصري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عياض بن عبد الله].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سعيد الخدري].
وهو سعد بن مالك بن سنان الخدري، مشهور بكنيته، ونسبته الخدري، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(67/17)
شرح حديث: (أن رجلاً أمّ قوماً فبصق في القبلة ورسول الله ينظر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني عمرو عن بكر بن سوادة الجذامي عن صالح بن خيوان عن أبي سهلة السائب بن خلاد -قال أحمد: من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- (أن رجلا أمّ قوماً فبصق في القبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ: لا يصلي لكم، فأراد بعد ذلك أن يصلي لهم فمنعوه وأخبروه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: نعم، وحسبتَ أنه قال: إنك آذيتَ الله ورسوله)].
قوله: [(فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم)].
أي: لما أخبروه بقول الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قاله لهم، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليعرف السبب في ذلك، فقال: (نعم، إنك آذيت الله ورسوله).
قوله: [(لا يصلي لكم)].
يعني: أن هذا الرجل لا يصلح أن يكون إماماً، فلما أراد أن يصلي بهم منعوه، وأخبروه بالسبب، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: (لا يصلي لكم)، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر ما ذكروا له فقال: (نعم، إنك آذيت الله ورسوله) أي: أن السبب هو حصول هذا العمل المنكر الذي فيه إيذاء لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن المعلوم أن الأذى بالنسبة لله عز وجل لا يصل إليه أحد ولا يناله أي أحد، ولكن هذا باعتبار صدور ذلك منه، وإلا فإن الله لا تنفعه طاعات المطيعين ولا تضره معاصي العاصين، بل هو النافع الضار، كما جاء في الحديث القدسي: (إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني).
فقوله: (إنك آذيت الله ورسوله) لا يعني أن الأذى يصل إلى الله أو أن الضرر يحصل لله عز وجل بسبب هذا، وهذا من جنس ما قال الله تعالى في الحديث القدسي: (يؤذيني ابن آدم: يسب الدهر، وأنا الدهر) فمعناه: أن من سبّ الدهر فإنما مسبّته تُوجّه إلى الله عز وجل؛ لأن الله تعالى في الحقيقة هو الذي يُسيّر الدهر، ولكن ليس معنى ذلك أن الله تعالى يناله ضرر، بل كما سبق في الحديث القدسي: (إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضرّي فتضروني)، بل الله عز وجل هو الذي ينفع وهو الذي يضر، فهو النافع الضار سبحانه وتعالى.
وهذا الحديث مثل ما جاء في القرآن: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب:57].(67/18)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن رجلاً أمّ قوماً فبصق في القبلة ورسول الله ينظر)
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح].
هو أحمد بن صالح المصري وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل.
[حدثنا عبد الله بن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني عمرو].
هو عمرو بن الحارث المصري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بكر بن سوادة الجذامي].
هو بكر بن سوادة الجذامي المصري وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن صالح بن خيوان].
صالح بن خيوان وثّقه العجلي، وأخرج حديثه أبو داود.
[عن أبي سهلة السائب بن خلاد، قال أحمد: من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم].
أحمد المصري الذي هو شيخ أبي داود قال ذلك ويمكن أن يكون ذكر ذلك؛ لأنه ليس من مشاهير الصحابة رضي الله عنه، ولهذا قال عنه: من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ حتى يبين أنه صحابي، وأن الحديث ليس مرسلاً.
وأبو سهلة أخرج حديثه أصحاب السنن.(67/19)
شرح حديث: (أتيت رسول الله وهو يصلي فبزق تحت قدمه اليسرى)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا سعيد الجريري عن أبي العلاء عن مطرف عن أبيه قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فبزق تحت قدمه اليسرى)].
قوله: (فبزق تحت قدمه اليسرى).
تلك الأحاديث السابقة من أقواله عليه الصلاة والسلام وأما هذا فهو من فعله.(67/20)
تراجم رجال إسناد حديث: (أتيت رسول الله وهو يصلي فبزق تحت قدمه اليسرى)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن سلمة وهو ثقة، وحديثه أخرجه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[أخبرنا سعيد الجريري].
هو سعيد بن إياس الجريري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي العلاء].
هو يزيد بن عبد الله بن الشخير وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مطرف].
هو مطرف بن عبد الله بن الشخير وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو عبد الله بن الشخير وهو صحابي، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.(67/21)
حديث (أتيت رسول الله وهو يصلي فبزق تحت قدمه اليسرى) من طريق أخرى وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد الجريري عن أبي العلاء عن أبيه بمعناه، زاد: (ثم دلكه بنعله)] أورد المصنف رحمه الله حديث عبد الله بن الشخير رضي الله عنه ولكنه من طريق أبي العلاء، فهو هناك يروي عن أخيه عن أبيه وهنا يروي عنه مباشرة؛ لأن أبا العلاء ومطرفاً أَخَوَان، فالمصنف روى الحديث السابق عن مطرف عن أبيه، وهنا يروي عن أبي العلاء عن أبيه عبد الله بن الشخير، فهو مثل الذي قبله، لكنه زاد: (ثم دلكه بنعله)، يعني: بزق تحت قدمه اليسرى ثم دلكه بنعله.
قوله: [حدثنا مسدد حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد الجريري عن أبي العلاء عن أبيه بمعناه].
قد مرّ ذكر هؤلاء جميعاًَ.(67/22)
الأسئلة(67/23)
فضل قعود المصلي في مصلاه بعد الفجر
السؤال
هناك من يرى أن من أراد أن يدرك فضل القعود بعد الفجر حتى تطلع الشمس، فعليه ألا يتحرك أبداً من مصلاه، ولا يقوم منه، فكان بعض من يرى هذا الرأي إذا سلّم على أحد بعد صلاة الفجر رأى أن الفضل قد فاته لاختلال الشرط، فما مدى صحة هذا القول؟
الجواب
لاشك أن الذي يلزم مصلّاه قد قطع الشك باليقين، فليس فيه إشكال، أما لو قام إلى مكان آخر فإنه يحصل الإشكال، وأما من يلزم مصلاه ثم يجيء أحد ويسلم عليه أو يقوم ليصافحه، فلا يقال: إنه قد اختل الشرط؛ فإن فضل الله واسع.(67/24)
حكم الدعاء عند ختم القرآن في الصلاة قبل الركوع
السؤال
ما حكم الدعاء عند ختم القرآن في الصلاة قبل الركوع؟
الجواب
لا أعلم دليلاً يدل عليه، ولكن قد جاء عن بعض العلماء القول بجوازه، معلّلاً ذلك بأن هذا من جنس الدعاء الذي يكون في الصلاة في جميع الأحوال، ويستدلون على ذلك بفعل أبي بكر رضي الله عنه لما أراد أن يتأخر والنبي صلى الله عليه وسلم أشار إليه بأن يبقى فرفع يديه وقال: اللهم لك الحمد وهو قائم يصلي، لكن لا أعلم نصّاً خاصّاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالدعاء في الصلاة.
لكن من صلى وراء إمام يدعو عند ختم القرآن أو يقنت في صلاة الفجر فعليه أن يتابع الإمام في ذلك، ولا ينفصل عنه بحجة أنه يدعو بعد ختم القرآن، أو يقنت في صلاة الفجر بصفة دائمة.
ومن المعلوم أن العلماء كانوا يختلفون في أمور أشد من ذلك، ومع ذلك يصلي بعضهم وراء بعض، مثل مسألة: الوضوء من لحم الإبل، بعض العلماء يرى أنه لا ينقض الوضوء، وبعضهم يرى أنه ينقض الوضوء، ويصلي الناس بعضهم وراء بعض؛ لأن هذه مسائل اجتهادية، والخلاف فيها سائغ بين أهل العلم.(67/25)
الموقف الحق من ابن حزم
السؤال
ما هو موقفنا من ابن حزم رحمه الله؟
الجواب
ابن حزم رحمة الله عليه من العلماء الذين حصل تباين في أمرهم، فإنه اتبع الظاهر في أمر ما كان ينبغي له أن يكون ظاهرياً فيه، وترك شيئاً ينبغي له أن يكون ظاهرياً فيه، فكان في العقيدة مؤوّلاً، وكان عليه أن يجري النصوص على ظاهرها، كما كان عليه السلف من غير تشبيه لله عز وجل، وكان في الفروع ظاهرياً لا يقول بالقياس، ولو عَكَسَ القضية لكان خيراً، أي: لو أجرى النصوص على ظاهرها في الصفات، وأخذ بالقياس في الأحكام الفقهية وبما تقتضيه النصوص، وألحق الشبيه بالشبيه والنظير بالنظير لكان أولى، وهو عنده صواب وعنده خطأ كغيره من العلماء.(67/26)
حكم تقليد ابن عمر في الأخذ من اللحية
السؤال
يقول بعض الناس: إن أخْذ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مما بعد القبضة من لحيته تُعدّ تفسيراً للأحاديث الواردة في إعفائها، فهل هذا قول صحيح؟
الجواب
لكن أباه عمر رضي الله عنه لا يفعل هذا الفعل، ومثله أكثر الصحابة لا يأخذون من اللحية شيئاً، والرسول صلى الله عليه وسلم -وهو القدوة والأسوة- هو الذي ما جاء عنه أنه أخذ من لحيته، والإنسان ما دام أنه يعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتعرض لها، فعلى الإنسان ألا يتعرض لها، وإذا كان حصل من ابن عمر رضي الله عنهما اجتهاد فإن العبرة بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس بما جاء عن أحد الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.
ومن الممكن أن يقال: إنه اجتهاد منه رضي الله عنه، وقد أخطأ في ذلك؛ لمخالفته للأحاديث الصحيحة الصريحة.(67/27)
معنى قول الراوي: (كذا أو كذا)
السؤال
مر معنا في الحديث: (إذا قام الرجل إلى الصلاة أو إذا صلى أحدكم)، فلماذا قال الراوي: (أو)؟
الجواب
هذا شك في الرواية.(67/28)
حكم الإتيان بعمرة قبل موسم الحج لمن يحج متمتعاً
السؤال
شخص يريد أن يحج متمتعاً فهل يجوز له أن يأتي الآن بعمرة على أن يأتي بعمرة التمتع في ذي الحجة؟
الجواب
يجوز، ولا مانع من ذلك.(67/29)
حكم نصب الأصم إماماً راتباً
السؤال
هل يصح نصب الأصم إماماً راتباً؟
الجواب
الإمام الأصم فيه نقص؛ لأنه إذا حصل منه شيء كالسهو أو نحوه، فإذا ذكرّه الناس فإنه لا يسمعهم ولا يتجاوب معهم، فيكون هو في وادٍ وهم في وادٍ آخر، فمثله لا يصلح أن يكون إماماً راتباً، وإنما الأولى أن يوضع شخص يسمع الناس لو حصل منه خطأ أو نسيان.(67/30)
معنى قوله: (فإن الله قِبَل وجه أحدكم)
السؤال
في عون المعبود عند شرح قوله: (فإن الله قِبَل وجه أحدكم) قال: هذا على سبيل التشبيه، أي: كأن الله تعالى في مقابل وجهه، فهل كلامه صحيح؟
الجواب
لا ليس بصحيح.(67/31)
حكم تقيّد مساجد المدينة النبوية بالمسجد النبوي في الأذان والإقامة
السؤال
هل يجب على مؤذني المساجد في المدينة النبوية أن يؤذّنوا ويقيموا الصلاة بعد المسجد النبوي وليس قبله؟
الجواب
لا يجب ذلك، وإنما المهمّ أن يكون الأذان بعد دخول الوقت، وأما الإقامة فيمكنهم أن يقيموا قبل المسجد النبوي أو بعده، وليس هناك ما يوجب عليهم أن يكونوا بعده.(67/32)
شرح حديث واثلة بن الأسقع: (أنه بصق على البوري ثم مسحه برجله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الفرج بن فضالة عن أبي سعيد قال: (رأيت واثلة بن الأسقع في مسجد دمشق بصق على البوري ثم مسحه برجله، فقيل له: لم فعلت هذا؟ قال: لأني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله)].
أبو سعيد الحميري قوله: (بصق على البوري).
المقصود بالبوري: الحصير الذي صُنع من القصب، ويقال له: بارية.
قوله: (ثم مسحه برجله، فقيل له: لم فعلت هذا؟ قال: لأني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله).
قد سبق أن مرت الأحاديث المتعددة في كون الإنسان يدفن النخامة أو البصاق ويواريه في تراب المسجد، وأن ذلك يدل على طهارته وعدم نجاسته، ولكنه يُدفن؛ لأنه شيء مستقذر، ورؤيته تنفر منها النفوس، وليس ذلك لكونه نجساً؛ لأنه لو كان نجساً فلا يكفي أن يدفن، بل يحتاج الأمر إلى تطهيره بالغسل.
والبصاق في المسجد على التراب معروف، ولكن الشيء الجديد الذي في هذا الحديث أنه على بساط قد يتبين فيه القذر.
وهذا الحديث قد جاء من طريق غير صحيحة وغير ثابتة؛ لأن في سنده الفرج بن فضالة، وهو ضعيف، وفيه أبو سعيد الذي هو صاحب واثلة بن الأسقع، ولا أدري ما حاله، ولكن يكفي أن الذي روى عنه وهو الفرج بن فضالة وهو ضعيف.
ولو كان الأمر مجرد البصاق في الأرض أو في تراب المسجد لم يكن هناك إشكال؛ لأن هناك نصوصاً صحيحة تدل على ما دل عليه، ولكن البصاق على بساط أو على حصير لم يأتِ فيه دليل صحيح، وعليه يؤثر فيه حتى ولو كان قد دلكه، فإنه قد يظهر الأثر عليه، ولا يمكن إزالة أثر البصاق بمجرد الدّلك.(67/33)
تراجم رجال إسناد حديث واثلة بن الأسقع: (أنه بصق على البوريّ ثم مسحه برجله)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
هو قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا فرج بن فضالة].
فرج بن فضالة ضعيف، أخرج حديثه أبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن أبي سعيد].
هو أبو سعيد الحميري الشامي وهو مجهول، روى له أبو داود.
[قال: رأيت واثلة بن الأسقع].
واثلة بن الأسقع هو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(67/34)
شرح حديث: (إن أحدكم إذا قام يصلي فإن الله قبل وجهه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن الفضل السجستاني وهشام بن عمار وسليمان بن عبد الرحمن الدمشقيان بهذا الحديث وهذا لفظ يحيى بن الفضل السجستاني قالوا: حدثنا حاتم بن إسماعيل حدثنا يعقوب بن مجاهد أبو حزرة عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: أتينا جابراً -يعني ابن عبد الله - وهو في مسجده، فقال: (أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجدنا هذا، وفي يده عرجون ابن طاب فنظر فرأى نخامةً، فأقبل عليها فحتها بالعرجون، ثم قال: أيّكم يحب أن يعرض الله عنه بوجهه؟ ثم قال: إن أحدكم إذا قام يصلي فإن الله قبل وجهه، فلا يبصقن قبل وجهه ولا عن يمينه، وليبزق عن يساره تحت رجله اليسرى، فإن عجلت به بادرة، فليقل بثوبه هكذا، ووضعه على فيه ثم دلكه، ثم قال: أروني عبيراً، فقام فتى من الحي يشتد إلى أهله فجاء بخلوق في راحته، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعله على رأس العرجون ثم لطخ به على أثر النخامة، قال: جابر فمن هناك جعلتم الخلوق في مساجدكم)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءهم في مسجدهم، وكان بيده عرجون من نخل ابن طاب، وهو نوع من النخل يعرف بابن طاب، وكان عندهم عدة أسماء لأنواع من التمر ومنها ابن طاب، والعرجون هو من هذا النوع من النخيل، والذي يفهم منه أنه كان يحك به النخامة من الجدار، وهذا معناه: أنه شيء صلب، وقد يكون رطباً ولكنه كان قوياً وقاسياً، المهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم حكه بهذا العرجون أو برأس هذا العرجون، وتكلم في الناس، وقال: (أيكم يحب أن يعرض الله عنه؟! ثم قال: إذا قام أحدكم يصلي فلا يبصقن قبل وجهه؛ فإن الله قبل وجهه ولا عن يمينه، وليبزق عن يساره تحت رجله) ثم إنه دعا بعبير، يعني: نوع من الطيب، فذهب غلام يجري ويركض فجاء بخلوق في راحته، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخذه وجعله على رأس العرجون وجعل يلطخ به المكان أو الأثر الذي بقي بعد حك تلك النخامة التي في قبلة المسجد، قال: جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (فمن هذا جعلتم الخلوق، في مساجدكم) يعني: كونها تطيب ويجعل فيها الطيب هذا مستنده ووجهه هو كون النبي صلى الله عليه وسلم أتي بالطيب وطيب هذا المكان.
قوله: [(أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجدنا هذا وفي يده عرجون ابن طاب)].
يعني: وفي يده هذا العود الذي يكون في أعلاه الشماريخ، ويقال له: القنو، والعرجون هو الذي يصل بين الشماريخ وبين أصل النخلة، وابن طاب نوع من النخل.
قوله: [(فنظر فرأى نخامة فأقبل عليها فحتها بالعرجون)].
يعني: رأى نخامة في الجدار فحتها بالعرجون، وهذا يدل على طهارة البصاق؛ لأنه حين يحته يقع على الأرض، ولو كان ذلك نجساً ما كان يفعل ذلك، بل كان سيخرج النجاسة ويغسل أثرها، أو يأتي بشيء يغطي النجاسة ويغلبها.
قوله: [(ثم قال أيكم يحب أن يعرض الله عنه بوجهه، ثم قال: إن أحدكم إذا قام يصلي فإن الله قبل وجهه، فلا يبصقن قبل وجهه)].
ذكرنا في الدرس الماضي أن المقصود من ذلك أن الله عز وجل محيط بكل شيء وفوقه، وأن الإنسان أينما اتجه فالله تعالى أمامه؛ لقول الله عز وجل: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115]، ويوضح ذلك الأثر الذي جاء عن ابن عباس: (إن السماوات والأرضين في كف الرحمن كالخردلة في كف أحدكم) ولله المثل الأعلى، فالذي يكون في داخل الخردلة فأينما اتجه الذي هو قابض لها وممسك بها فهو أمامه.
قوله: [(فلا يبصقن قبل وجهه ولا عن يمينه)].
مر في بعض الأحاديث السابقة: (فإن هناك ملكاً)، وأيضاً اليمين معلوم أنها تكرم عن الأشياء المستقذرة بخلاف الشمال.
والإنسان معه كاتب للحسنات وكاتب للسيئات، فمن أهل العلم من قال: كاتب الحسنات هو الذي يكون موجوداً في الصلاة؛ لأن الصلاة هي عبادة وقربة وحسنات، لكن هذا غير واضح؛ لأنه يمكن أن يكون هناك تقصير، ويمكن أن يكون هناك إساءة في الصلاة فيكتبها كاتب السيئات.
لكن الله تعالى أعلم بالحقيقة، وقال بعض أهل العلم: يمكن أن يكون الملك ليس موجوداً في جهة التفل، وإنما يكون متنحياً، فالله أعلم، ولكن هكذا جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(وليبزق عن يساره تحت رجله اليسرى، فإن عجلت به بادرة فليقل بثوبه هكذا).
وهذا كما هو معلوم إذا كانت الأرض ترابية، وكان يتوارى فيها البصاق والنخام، ولكن استعمال ذلك في المناديل وفي أطراف الثياب وما إلى ذلك هو المناسب، لا سيما في الأماكن التي فيها فرش، فإن البصاق عليها يقذرها ولو دلك؛ لأنه يبقى أثره، بخلاف التراب فإن البصاق يتوارى ويذهب في التراب ويضمحل.
قوله: [(ووضعه على فيه ثم دلكه)].
يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (هكذا) أخذ طرف ثوبه ووضعه على فيه، يعني: كأنه وضع فيه شيئاً ثم دلكه، وذلك بأن رد بعضه على بعض، وفعل هذا ليصف لهم بالفعل الطريقة التي يعملونها في وضع النخامة في الثياب.
قوله: [(ثم قال: أروني عبيراً)].
يعني: أعطوني عبيراً، فذهب غلام يشتد ويجري؛ ليأتي بالعبير، فجاء بخلوق في راحته، والخلوق طيب فيه حمرة وصفرة، فجعله النبي صلى الله عليه وسلم على رأس العرجون، وجعل يحركه على المكان الذي حتت منه النخامة.
قوله: [(فأخذه، فقام فتى من الحي يشتد إلى أهله، فجاء بخلوط في راحته، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعله على رأس العرجون، ثم لطخ به على أثر النخامة، قال: جابر: فمن هناك جعلتم الخلوق في مساجدكم)].
يعني: أن هذا هو الدليل على تطييب المساجد، وهو كون النبي صلى الله عليه وسلم طلب العبير، أو طلب الطيب، فجيء بالخلوق، فوضعه في المكان الذي حصل فيه الأذى الذي هو النخامة.(67/35)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن أحدكم إذا قام يصلي فإن الله قبل وجهه)
قوله: [حدثنا يحيى بن الفضل السجستاني].
يحيى بن الفضل السجستاني مقبول، أخرج حديثه أبو داود.
[وهشام بن عمار].
هشام بن عمار صدوق، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[وسليمان بن عبد الرحمن].
سليمان بن عبد الرحمن صدوق يخطئ، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن.
[الدمشقيان بهذا الحديث وهذا لفظ يحيى بن الفضل السجستاني].
يعني: أن هشام بن عمار وسليمان بن عبد الرحمن دمشقيان، والشيخ الأول سجستاني وقوله: (بهذا الحديث) يعني: الذي سيسوقه، وقوله: وهذا لفظ يحيى بن الفضل، يعني: الشيخ الأول.
[قالوا: حدثنا حاتم بن إسماعيل].
حاتم بن إسماعيل صدوق يهم، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا يعقوب بن مجاهد أبو حزرة].
يعقوب بن مجاهد أبو حزرة صدوق، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأبو داود.
[عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت].
عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[قال: أتينا جابراً يعني: ابن عبد الله].
جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما صحابي ابن صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(67/36)
شرح سنن أبي داود [068]
دخول المشرك إلى المسجد جائز للحاجة، وقد استقبل الرسول صلى الله عليه وسلم وفوداً من المشركين في المسجد، وبهذا يتبين لنا أن نجاسة المشرك ليست في ذاته، ولا تجوز الصلاة في المقبرة والحمام؛ لأن الصلاة في المقبرة ذريعة إلى الشرك، أما الحمام فإنه محل للنجاسات والقاذورات.(68/1)
ما جاء في المشرك يدخل المسجد(68/2)
شرح حديث: (دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد ثم عقله، ثم قال: أيكم محمد؟)
قال رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في المشرك يدخل المسجد.
حدثنا عيسى بن حماد حدثنا الليث عن سعيد المقبري عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر أنه سمع أنس بن مالك يقول: (دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد، ثم عقله، ثم قال: أيكم محمد؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم متكئ بين ظهرانيهم، فقلنا له: هذا الأبيض المتكئ، فقال له الرجل: يا ابن عبدالمطلب! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قد أجبتك، فقال له الرجل: يا محمد! إني سائلك) وساق الحديث].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة وهي: باب ما جاء في دخول المشرك المسجد يعني: أن ذلك سائغ للحاجة، فيجوز أن يدخل الكافر المسجد للحاجة، وذلك أن الكافر ليست نجاسته نجاسة ذاتية، بمعنى أنه إذا دخل تحصل النجاسة في المسجد؛ لأن نجاسة الكافر حكمية، وهي نجاسة الكفر وخبث النحلة والعقيدة، وكونه يشرك بالله عز وجل ويعبد مع الله غيره ولا يؤمن بالله سبحانه وتعالى، وإنما يعبد مع الله غيره ويشرك بالله غيره، فهذه هي النجاسة التي في الكفار، وقد قال الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28] والمقصود بالنجاسة هنا هي: النجاسة الحكمية، وهي نجاسة الكفر وليست نجاسة الذات، فليست ذواتهم نجسة بمعنى أنه إذا مس أحدهم شيئاً فإنه يكون نجساً، فدخوله المسجد سائغ وجائز، وقد جاءت في ذلك أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكر أبو داود جملة منها، وهناك أحاديث في غير أبي داود، منها: قصة الرجل الذي ربطه النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، ثم بعد ذلك فتح الله عليه ومنَّ الله عليه بالإسلام، فأطلقه الرسول صلى الله عليه وسلم، وذهب واغتسل وجاء، وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فكان قد ربطه في المسجد في سارية.
أورد أبو داود رحمه الله جملة من الأحاديث، أولها حديث أنس بن مالك رضي الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً مع أصحابه في المسجد بين ظهرانيهم وهم محيطون به أو حوله، فجاء رجل مشرك على راحلته، فأناخها في المسجد وعقلها، وجاء في الحديث الآخر الذي بعد هذا أنه أناخها على باب المسجد وعقلها، ودخول الدابة إلى المسجد للحاجة لا بأس به، مثلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وطاف بالبيت وهو راكب على بعير، ويمس صلى الله عليه وسلم الحجر بمحجن، أيضاً الإبل وغيرها مما يؤكل لحمه أرواثها وأبوالها لو وقعت فإنها طاهرة ليست نجسة، فالدخول للحاجة جائز، لكن هذا أدخل الراحلة إلى المسجد لغير حاجة، ولكن في الرواية الثانية أنه أناخها بالباب، ويحتمل أن تكون القصة واحدة، أو أن المقصود بالمسجد قرب المسجد أو في باب المسجد، فأطلق عليه أنه في المسجد.
وفي الحديث: (أنه دخل إلى النبي صلى الله عليه وسلم)، وهذا هو محل الشاهد، يعني: كون الكافر يدخل المسجد، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بين أصحابه، فقال: (أيكم محمد؟ فقالوا: هو هذا المتكئ الأبيض)، وكان عليه الصلاة والسلام لتواضعه لا يعرف، فإذا كان بين أصحابه الذي لا يعرفه لا يميزه، فأشاروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فخاطبه وقال: (يا محمد! فقال: قد أجبتك) يعني: قل ما تريد، فسأله وساق الحديث، يعني: أن أبا داود اختصر الحديث وأتى بأوله الذي يدل على محل الشاهد للترجمة، ثم أشار إلى أن الراوي ساق الحديث إلى آخره وسأله الأسئلة التي سأله إياها، ولكن المقصود من الحديث هو دخول المشرك المسجد، فإن هذا رجل كافر دخل المسجد، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بين أصحابه، والمتكي هو الذي يكون جالساً ومتمكناً في الجلوس، والمتربع يقال له: متكئ، وأيضاً يقال لمن كان معتمداً على أحد شقيه: متكئ، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى الثاني في حديث: (ألا أخبركم بأكبر الكبائر وكان متكئاً فجلس) يعني: أنه كان متمايلاً على شيء وبعدها جلس، أراد أن يبين لهم هذا الأمر الخطير وهذا الأمر العظيم وهذا الأمر الفظيع الذي هو قول الزور وشهادة الزور، قال: (فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت)، فالمتكئ يطلق على الذي يجلس متربعاً أو متمكناً على وطاء أو على فراش، ويطلق على من كان متكئاً على أحد شقيه، فسواء كان الإنسان متكئاً على شيء أو متكئاً على ذراعه أو على مرفقه فإن هذا يقال له: اتكاء، يعني.
معتمد على أحد جنبيه.
والحاصل: أن الحديث دال على دخول المشرك أو الكافر إلى المسجد، وقد ذكرنا أن ذلك لا مانع منه، وأن نجاسة الكفار ليست عينية، وإنما هي حكمية.
قوله: (فقال له الرجل: يا ابن عبدالمطلب!).
يعني: أنه خاطب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: (قد أجبتك) يعني: هات ما عندك.(68/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد ثم عقله، ثم قال: أيكم محمد؟)
قوله: [حدثنا عيسى بن حماد].
هو عيسى بن حماد التجيبي الأنصاري الملقب زغبة وهو ثقة أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
[حدثنا الليث].
هو الليث بن سعد المصري وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد المقبري].
هو سعيد بن أبي سعيد المقبري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر].
شريك بن عبد الله بن أبي نمر صدوق يخطئ، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، إلا الترمذي فإنه أخرج عنه في الشمائل وليس في السنن، ومن أخطائه التي جاءت في صحيح البخاري أخطاؤه في حديث الإسراء الطويل الذي ساقه البخاري، وفيه أوهام جاء بها شريك، واعتبروها من أخطائه ومن أوهامه، وهي من الأمور التي لم يوجد عنها جواب فيما أورد البخاري في صحيحه؛ لأن كثيراً من الأحاديث التي انتقدت على البخاري أجيب عنها بأجوبة والحق فيها أو في كثير منها مع البخاري، لكن هذا الذي جاء في حديث شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أنس في قصة الإسراء مشتمل على أوهام كثيرة انفرد بها شريك، وقد ذكرها ابن كثير في تفسير سورة الإسراء وقال: إن شريكاً وهم.
يعني: أن فيها ضعفاً وأن ما جاء من طريق شريك هو مما انفرد به وهو ضعيف، أما مسلم رحمه الله فإنه أورد الحديث من طريق ثابت بن أسلم عن أنس ثم أتى بطريق شريك ولم يسق لفظه، وإنما قال: فزاد ونقص وقدم وأخر، يعني: أن مسلماً رحمه الله أشار إلى حديث شريك إشارة وأن فيه زيادات ونقصاناً وتقديماً وتأخيراً، ولم يسق لفظه، وإنما ساق لفظ ثابت البناني أما البخاري فإنه ساقه بلفظه، وهذا الحديث من الأحاديث التي خالف فيها غيره، وفيه أشياء حصروها وذكروها وعدوها، وهي مذكورة في تفسير ابن كثير في سورة الإسراء، وفي كتاب الحافظ ابن حجر فتح الباري.
وكما هو معلوم أن شريك بن أبي نمر وشريكاً القاضي مختلفان في الطبقة؛ لأن هذا من طبقة التابعين يروي عن أنس وأما شريك القاضي فهو من طبقة شيوخ أصحاب الكتب الستة في طبقة متأخرة، فلا يلتبس هذا بهذا؛ لأن أحدهما يأتي في آخر الإسناد والآخر يأتي في أول الإسناد.
[أنه سمع أنس بن مالك].
أنس بن مالك رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخادمه، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(68/4)
شرح حديث: (بعث بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة إلى رسول الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عمرو حدثنا سلمة حدثني محمد بن إسحاق حدثني سلمة بن كهيل ومحمد بن الوليد بن نويفع عن كريب عن ابن عباس قال: (بعث بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم عليه فأناخ بعيره على باب المسجد ثم عقله، ثم دخل المسجد فذكر نحوه، قال: فقال: أيكم ابن عبد المطلب؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا ابن عبد المطلب، قال: يا ابن عبد المطلب) وساق الحديث].
أورد أبو داود رحمه الله حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأبو داود رحمه الله أورده بعد الحديث الأول، والذي يفهم منهما أن القصة واحدة إلا أن هذه الرواية جاءت عن ابن عباس والأولى جاءت عن أنس، وهذه الرواية فيها أنه أناخ البعير في باب المسجد، بخلاف الرواية السابقة ففيها أنه أناخه في المسجد، وأنه دخل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وخاطبه، والحديث فيه أن الكافر دخل المسجد، وهذا هو المقصود من إيراد الحديث تحت هذه الترجمة، ولم يسق باقي الحديث؛ لأن المقصود منه الاختصار والاقتصار على محل الشاهد للترجمة، وهو دخول الكافر أو المشرك المسجد.(68/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (بعث بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة إلى رسول الله)
قوله: [حدثنا محمد بن عمرو].
محمد بن عمرو الملقب زنيج ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود وابن ماجة.
[حدثنا سلمة].
هو سلمة بن الفضل وهو صدوق كثير الخطأ، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة في التفسير.
[حدثني محمد بن إسحاق].
هو محمد بن إسحاق المدني وهو صدوق أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثني سلمة بن كهيل].
سلمة بن كهيل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ومحمد بن الوليد بن نويفع].
محمد بن الوليد بن نويفع مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن كريب].
هو كريب مولى ابن عباس وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن عباس].
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(68/6)
شرح حديث: (أن اليهود أتوا النبي وهو جالس في المسجد)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري حدثنا رجل من مزينة ونحن عند سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه، فقالوا: يا أبا القاسم! في رجل وامرأة زنيا منهم)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في شأن رجل وامرأة زنيا منهم)، والمفهوم من ذلك أن اليهود دخلوا المسجد، وأنهم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، وهذا هو المقصود من إيراد الحديث، يعني: أن الكافر المشرك دخل المسجد، وهذا الحديث دال على ما دل عليه الذي قبله، ولكن الحديث في إسناده رجل مبهم، وهو رجل من مزينة، والحديث ضعفه الألباني، ولعله ضعفه بسبب هذا الرجل المبهم.
وقصة اليهودي الذي زنى ثابتة في الصحيحين، ولكن الكلام في قصة الدخول في المسجد.(68/7)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن اليهود أتوا النبي وهو جالس في المسجد)
قوله: [حدثنا محمد بن يحيى بن فارس].
هو محمد بن يحيى بن فارس الذهلي وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا عبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا معمر].
هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري].
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا رجل من مزينة].
لم نجد له تسمية، حتى في تهذيب التهذيب لما ذكر الزهري وذكر الذين روى عنهم مع الإبهام لم يذكر هذا معهم.
[عن أبي هريرة].
هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عنه صلى الله عليه وسلم، بل هو أكثر السبعة حديثاً على الإطلاق فرضي الله عنه وأرضاه، وسعيد بن المسيب ليس من رجال الإسناد في الحديث، وإنما ذكر أنهم كانوا عنده.(68/8)
ما جاء في المواضع التي لا تجوز فيها الصلاة(68/9)
شرح حديث: (جعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً)
[قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في المواضع التي لا تجوز فيها الصلاة.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن الأعمش عن مجاهد عن عبيد بن عمير عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً)].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة بعنوان: باب في المواضع التي لا تجوز فيها الصلاة، والأصل أن الأرض كلها مكان للصلاة، وأنه يصلى في أي مكان من الأرض إلا ما عرف أن فيه نجاسة وما عرفت نجاسته، أو ورد نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه لا يصلى في هذا المكان، وإلا فإن الأصل هو صحة الصلاة في أي مكان، ولهذا سبق أن مر في حديث عثمان بن أبي العاص الذي قال فيه: (إن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بأن يجعل مسجد الطائف حيث كانت طواغيتهم)، والحديث هذا في إسناده من ضعف به، ولكن كون الطواغيت هذه أزيلت، واتخذ مكانها مسجد لا بأس بذلك؛ لأن الأصل هو صحة الصلاة في أي مكان طاهر من الأرض، إلا ما جاء النهي عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً)، يعني: يتيمم فيها وتكون الطهارة لأرضها وترابها أو أي شيء منها، وجعلت مسجداً يصلى فيه، وجاء في حديث آخر: (فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره) يعني: أنه يتيمم ويصلي أينما أدركته الصلاة.
قوله: (جعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً) هذا يفيد بأن أي جزء من الأرض يتيمم به، وأنه لا يختص الأمر بالتراب والأرض الترابية، وليس معنى ذلك أن الإنسان إذا كان في أرض جبلية وأرض حجرية أو أرض ليس فيها تراب أنه لا يتيمم حتى يحصل تراباً، بل يتيمم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً)، فيتيمم الإنسان على الحصى ويتيمم على الحجارة ويتيمم على أي شيء من الأرض، وعموم الحديث يدل على ذلك، وما جاء في بعض الأحاديث أنه قال: (تربتها) فهذا لا يدل على اختصاص الحكم بالتربة دون غيرها، لأن هذا يدخل تحت القاعدة المشهورة: إذا جاء لفظ عام ثم جاء فرد من أفراد العام بحكم العام فإنه لا يخصص العام؛ لأن قوله: (جعلت الأرض طهوراً وجعلت تربتها طهوراً)، يدل على أن التربة هي جزء من الأرض، يعني: أنه جاء حكم عام للأرض، وجاء حكم خاص لشيء من الأرض، ووجود هذا الخاص لا يبطل العموم، ولكن أكثر ما يمكن أن يقال: إن هذا الخاص ذكر مرتين: مرة مندرجاً تحت اللفظ العام الذي هو التراب، ومرة جاء منصوصاً عليه بخصوصه، ومن القواعد الأصولية: أن إفراد فرد من أفراد العام بحكم العام لا يقصر عمومه عليه، يعني: لا يلغي العموم ثم يقصر الحكم على هذا النوع الذي جاء ببعض الألفاظ، سواءً كان مخصصاً أو محدداً وهو هنا التربة، ولهذا اختلف العلماء في هذا، فمنهم من قال: التيمم لا يكون إلا بالتراب ولا يكون إلا بالصعيد، ومنهم من قال: التيمم يكون بجميع أجزاء الأرض وأن الإنسان في أي مكان كان فإنه يتيمم ويصلي، ولو لم يكن عنده في الأرض رمل وتراب، لو كانت الأرض حجرية، فإنه يتيمم بالغبار الذي على الحجارة، مما يعلق بها، فإنه يكفي.
ومثل ذلك الحديث الذي فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الشفعة في كل شيء) ثم جاء حديث يبين ما يتعلق بالأرض والحدود والطرق، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (فإذا وضعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) فبعض العلماء يجعل الحكم بالشفعة إنما هو في العقار وفي الأرض، ومنهم من يرى عمومه في كل شيء، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الشفعة في كل شيء)، أي: سواء كان عقاراً أو غير عقار، فإذا كان لشخصين سيارة وأحد الشريكين باع نصيبه من السيارة فللآخر حق الشفعة، وكذلك إذا كان لاثنين بعير مشترك بينهما وأحد الشخصين باع حصته من البعير على شخص آخر، فلشريكه حق الشفعة، لعموم قوله: (الشفعة في كل شيء)، وقوله: (إذا وضعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) فالحديث الذي جاء في العقار لا يخصص الحكم بالعقار، وإنما أكثر ما في الأمر أن العقار ذكر في بعض الأحاديث، فلا يقصر عموم الشفعة في كل شيء عليه.
وكذلك الحديث الذي فيه: (من وجد متاعه عند رجل قد أفلس فهو أحق به من الغرماء)، هذا لفظ عام، وجاء في بعض الروايات: (إذا ابتاع الرجل سلعة ووجدها عند رجل قد أفلس فهو أحق بها من غيره) فقوله: (إذا ابتاع) يعني: أن السلعة دخلت عليه عن طريق البيع، وهذا لا يقصر الحكم قوله: (من وجد متاعه عند رجل قد أفلس فهو أحق به من الغرماء) يعني: أنه إذا كان وصل إليه عن طريق البيع فهذا هو الذي يصير أحق، وليس معنى ذلك أنه وصل إليه من أي طريق أخرى فإنه لا يكون أحق به، بل العموم باقٍ على عمومه، وإفراد فرد من أفراد العام لحكم العام لا يقصر عموم حكمه عليه.
والخاص يخرج من العام، لكن هناك حمل المطلق على المقيد، لكن القاعدة هذه فيها ذكر الخاص، يعني: أنه أفرد لكنه داخل تحت اللفظ العام، فكأنه ذكر مرتين: مرة على سبيل الانفراد، ومرة على سبيل دخوله مع غيره، فإفراد فرد منه لا يقصر عمومه عليه.(68/10)
تراجم رجال إسناد حديث: (جعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا جرير].
هو جرير بن عبد الحميد الضبي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن مجاهد].
هو مجاهد بن جبر المكي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبيد بن عمير].
عبيد بن عمير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي ذر].
هو جندب بن جنادة رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(68/11)
شرح حديث: (إن حبي نهاني أن أصلي في المقبرة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن داود، أخبرنا ابن وهب حدثني ابن لهيعة ويحيى بن أزهر عن عمار بن سعد المرادي عن أبي صالح الغفاري أن علياً رضي الله عنه مر ببابل وهو يسير، فجاءه المؤذن يؤذنه بصلاة العصر، فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة، فلما فرغ قال: (إن حبي صلى الله عليه وسلم نهاني أن أصلي في المقبرة، ونهاني أن أصلي في أرض بابل فإنها ملعونة)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث علي رضي الله عنه أنه قال: (إن حبي صلى الله عليه وسلم نهاني أن أصلي في المقبرة، ونهاني أن أصلي في أرض بابل فإنها ملعونة) والمقبرة جاء فيها حديث سيأتي، وفيه أنه لا يصلى في المقبرة، والنهي عن الصلاة في المقبرة هو لما يترتب على ذلك من التعلق بأصحاب القبور وصرف شيء لهم من دون الله عز وجل، ولهذا جاء في الحديث: (أن البيوت لا تتخذ قبوراً)، يعني: أنها لا تكون مثل المقبرة لا يصلى فيها، بل الناس يصلون في بيوتهم ولا يجعلونها مثل المقبرة ليست مكاناً للصلاة، وهذا فيه دليل على أن المقبرة ليست مكاناً للصلاة، وأنه لا يصلى في المقبرة، وليس المقصود هو النجاسة، نعم إذا كان هناك أي مكان متنجس فإنه لا يصلى فيه، ولكن المقصود هو سد الذرائع التي توصل إلى الشرك؛ لأن المقبرة إذا صلي بها واتخذت القبور مساجد تكون مكاناً للصلاة، فمعنى هذا: أن هؤلاء الموتى يصرف لهم شيء من حق الله، أو أن ذلك الفعل قد يؤدي إلى أن يحصل ذلك الأمر المحذور، فالمقبرة جاء فيها شيء غير حديث علي رضي الله عنه، جاءت فيها أحاديث عديدة.
وأرض بابل هي كغيرها من الأرض، والأصل في الأرض الطهارة، ولا يصار إلى ترك شيء إلا بدليل، وهذا الحديث الذي ورد فيه مقال من جهة أن أبا صالح الغفاري لم يسمع من علي رضي الله عنه، ففيه انقطاع، وعلى هذا فهو غير ثابت، هذا بالإضافة إلى الذين فيهم كلام في رجاله مثل ابن لهيعة وغيره ممن وصف بأنه مقبول، لكن العلة القوية هي علة الانقطاع.(68/12)
تراجم رجال إسناد حديث: (إن حبي نهاني أن أصلي في المقبرة)
قوله: [حدثنا سليمان بن داود].
هو أبو الربيع المصري المهري وهو ثقة، أخرج حديثه أبو داود والنسائي.
[أخبرنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني ابن لهيعة].
هو عبد الله بن لهيعة المصري وهو صدوق، احترقت كتبه فتغير حفظه أو اختلط، وحديثه أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
وأما النسائي فهو لم يخرج له، وقد مر بنا في سنن النسائي كثيراً أن النسائي إذا جاء معه غيره في الإسناد لا يسميه، وإنما يذكر من يريد أن يخرج عنه ويقول: أخبرنا أبو فلان ورجل آخر، فيحافظ على ذكر ما جاء في الإسناد فلا يحذف الشخص الذي جاء في الإسناد، ولكنه يبهمه، فيقول: ورجل آخر، وعمدته في ذلك الذي أظهره؛ لأنه لا يحتج بـ ابن لهيعة ولا يروي عنه في كتابه، ولهذا لم يذكر فيمن خرج له النسائي.
[ويحيى بن أزهر].
يحيى بن أزهر صدوق، أخرج له أبو داود.
[عن عمار بن سعد المرادي].
عمار بن سعد المرادي مقبول، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود.
[عن أبي صالح الغفاري].
هو سعيد بن عبد الرحمن وهو ثقة، أخرج له أبو داود.
[أن علياً].
علي بن أبي طالب رضي الله عنه أمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، أبو الحسنين صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة، فرضي الله تعالى عنه وأرضاه.(68/13)
طريق أخرى لحديث: (إن حبي نهاني أن أصلي في المقبرة) وتراجم رجال إسنادها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني يحيى بن أزهر وابن لهيعة عن الحجاج بن شداد عن أبي صالح الغفاري عن علي رضي الله عنه بمعنى سليمان بن داود قال: فلما خرج، مكان: فلما برز].
أورد أبو داود الحديث عن علي رضي الله عنه من طريق أخرى، وأحال فيها على الطريق السابقة، وذكر الفرق بين ما في الرواية الأولى وما في هذه الرواية وهي أن في الرواية الأولى (برز) وفي هذه الرواية (خرج) يعني: فلما خرج قال للمؤذن، وفي الأولى: لما برز قال للمؤذن.
قوله: [حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني يحيى بن أزهر وابن لهيعة عن الحجاج بن شداد].
الحجاج بن شداد مقبول، أخرج له أبو داود.
[عن أبي صالح الغفاري عن علي].
قد مر ذكرهما.(68/14)
شرح حديث: (الأرض كلها مسجد إلا الحمام والمقبرة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد ح وحدثنا مسدد حدثنا عبد الواحد عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال موسى في حديثه فيما يحسب عمرو: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الأرض كلها مسجد إلا الحمام والمقبرة).
أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الأرض كلها مسجد إلا الحمام والمقبرة)، وهذا فيه استثناء المقبرة والحمام، وقد ذكرنا أن المقصود من ذلك أنها ليست مكاناً للصلاة، وأنه منع من الصلاة فيها لما يترتب على ذلك من الأمور الخطيرة والأمور العظيمة، ويستثنى من ذلك صلاة الجنازة فإنه يمكن أن يصلى على الجنازة في المقبرة، وهذه الصلاة لا محذور فيها، لأن هذا شيء يتعلق بالميت والصلاة على الميت، وإنما المقصود هو الصلاة التي هي ذات ركوع وسجود، سواء كانت صلاة فرض أو نفل.
والحمام هو مكان الاستحمام؛ فإنه يكون فيه غالباً النجاسات، وليس المقصود بالحمام مكان الخلاء؛ فإنه أيضاً لا يكون محلاً للصلاة، وإنما تكون الصلاة في الأماكن الطاهرة والأماكن النظيفة والتي هي بعيدة عن النجاسات.(68/15)
تراجم رجال إسناد حديث: (الأرض كلها مسجد إلا الحمام والمقبرة)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا حماد].
هو حماد بن سلمة وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[ح وحدثنا مسدد].
ح هي للتحول من إسناد إلى إسناد، ومسدد بن مسرهد ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا عبد الواحد].
هو عبد الواحد بن زياد وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن يحيى].
هو عمرو بن يحيى بن عمارة المازني وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه هو يحيى بن عمارة المازني وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي سعيد].
هو أبو سعيد الخدري رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واسمه سعد بن مالك بن سنان وهو مشهور بكنيته ونسبته، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(68/16)
شرح سنن أبي داود [069]
للصلاة أحكام شرعية تخصها، منها: النهي عن أدائها في معاطن الإبل؛ لأنه لا يتمكن المصلي من الخشوع فيها لنفور الإبل وشدتها وغلظ طباعها، وقد يلحق به الضرر بذلك، ومن أحكامها أمر الصبيان بها عند بلوغ السابعة وضربهم عليها عند العاشرة، ليتعودوا عليها وليعلموا أحكامها قبل أن يكلفوا بها.(69/1)
النهي عن الصلاة في مبارك الإبل(69/2)
شرح حديث: (سئل رسول الله عن الصلاة في مبارك الإبل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب النهي عن الصلاة في مبارك الإبل.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن عبد الله بن عبد الله الرازي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مبارك الإبل فقال: لا تصلوا في مبارك الإبل؛ فإنها من الشياطين.
وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم، فقال: صلوا فيها؛ فإنها بركة).
أورد أبو داود رحمه الله تعالى هذه الترجمة، وهي: باب النهي عن الصلاة في مبارك الإبل، والمقصود من هذه الترجمة هو بيان أن الأماكن التي تبرك فيها الإبل وتكون مقراً لها وتعطن فيها لا يصلى فيها، وليس ذلك لنجاسة أبوالها وأرواثها، فإنها طاهرة، وبول وروث كل ما يأكل لحمه طاهر، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم أرشد العرنيين إلى أن يشربوا من أبوال الإبل وألبانها، وكذلك أدخل البعير في المسجد ليطوف عليه، وفي هذا دلالة على أن بوله وروثه ليس بنجس، ولكن المنع من ذلك والنهي عن ذلك إنما هو لما في الإبل من الشدة ولما فيها من الغلظة وأنها لو حصل منها شرود أو نفور فإنها تلحق الضرر بمن يصلي حولها، أو -على الأقل- تشوش عليه في صلاته، فيكون مشغولاً بما يحصل من نفورها أو شرودها، فيتشوش فكره وذهنه فينشغل عن صلاته، بخلاف الغنم فإنها ليست كذلك لهدوئها وسكينتها، ولو حصل منها نفور أو شرود فإنه لا يحصل الضرر لمن يصلي حولها، وإنما الضرر يكون من الإبل، ولهذا فإن أصحاب الإبل تغلب عليهم الشدة والغلظة، وتكون طباع الإبل وغلظتها وشدتها مؤثرة فيهم، بخلاف أصحاب الغنم، فإنه يكون عندهم السكينة والهدوء؛ لأن شأن الغنم كذلك.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الصلاة في مبارك الإبل فقال: (لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين).
وقوله: [(فإنها من الشياطين)] المقصود من ذلك ما في الإبل من الشدة والغلظة ونفرة الطباع، وهذه الشدة والغلظة صفات من صفات الشياطين، وليس معنى ذلك أن مادتها كمادة الشياطين؛ لأن الشياطين خلقت من نار والإنس أصل مادتهم من تراب.
فإذاً: ليس كونها من الشياطين بمعنى أنها خلقت من مادة الشياطين، وإنما المقصود من ذلك أنها من جملة الشياطين أو من جنس الشياطين المتمردة، والمتمرد من الإنس والجن يقال له: شيطان، فالإنس فيهم شياطين والجن فيهم شياطين، وهم المتمردون الذين عندهم الخبث وعندهم السوء وعندهم الشدة وعندهم الغلظة وعندهم الأذى.
فإذاً: هذا هو المقصود بكونها من الشياطين، ولهذا فإنه إذا حصل منها شيء والناس حولها يصلون في معاطنها وفي مباركها فإنه يحصل لهم بسببها ما يحصل من الضرر، وكذلك لو كانت ليست في مباركها ومعاطنها فيمكن أن تأتي والناس يصلون في معاطنها ومباركها فيحصل التأثير، وعلى هذا فإن المنع من الصلاة في مبارك الإبل ليس لنجاسة أبوالها وأرواثها، فإنها طاهرة، ولكن لما جاء فيها من وصف الشدة وأنها من الشياطين، أي: فيحصل منها الأذى ويحصل منها الضرر لمن يصلي في مباركها ومعاطنها، سواء أكانت موجودة فيها أم كانت في طريقها إليها أم كانت حولها، فإنه إذا صلى فيها أحد قد تأتي إلى مباركها فيحصل لمن يصلي حولها التشويش على الأقل في صلاته إن لم يحصل له شيء من الضرر بكونها تخبطه أو يحصل له ضرر بفعلها.
وقوله: [(وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم، فقال: صلوا فيها فإنها بركة)] يعني أنها فيها الهدوء وفيها السكينة، ولا يحصل ضرر على من يصلي في أماكنها؛ لأنها ولو حصل منها نفور فلن يحصل منها أنها تؤذي صاحبها أو من يكون حولها، بخلاف الإبل، فإنها تقتله وتهلكه وتقضي عليه.
والغنم وردت فيها بعض الأحاديث، ومنها الحديث الذي فيه ذكر العزلة، وأنه سيأتي زمان يكون فيه خير مال المرء غنيمة يتتبع بها شعف الجبال يفر من الفتن، ولكن المقصود هنا أن الغنم فيها هدوء وفيها سكينة وصاحبها يكون فيه تواضع، والإبل فيها شدة وأصحابها فيهم شدة، ولهذا جاءت الأحاديث في أصحاب الإبل تصفهم بالغلظة والشدة وتصف أصحاب الغنم بالهدوء والسكينة.(69/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (سئل رسول الله عن الصلاة في مبارك الإبل)
قوله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة].
عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
[حدثنا أبو معاوية].
أبو معاوية محمد بن خازم الضرير الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن عبد الله الرازي].
عبد الله بن عبد الله الرازي صدوق، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي في مسند علي وابن ماجة.
[عن عبد الرحمن بن أبي ليلى].
عبد الرحمن بن أبي ليلى الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن البراء بن عازب].
هو البراء بن عازب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(69/4)
متى يؤمر الغلام بالصلاة(69/5)
شرح حديث (مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب متى يأمر الغلام بالصلاة؟ حدثنا محمد بن عيسى -يعني: ابن الطباع - حدثنا إبراهيم بن سعد عن عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، وإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها)].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة، وهي: [باب متى يأمر الصبي بالصلاة؟] والمقصود من ذلك الوقت الذي يؤمر فيه الصغير بالصلاة، ولا فرق بين الذكر والأنثى، فإن ذكر الصبي أو ذكر الغلام ليس معناه اختصاص الأمر بالذكور دون الإناث، وإنما المقصود من ذلك الأولاد، ولهذا جاء في رواية أو في طريق من الطرق: (مروا أولادكم بالصلاة) والأولاد لفظ يشمل الذكور والإناث.
والمقصود من قوله: [متى يأمر الغلام بالصلاة] يعني: حتى يتمرن وحتى يتعود وحتى يكون على علم بالصلاة وكيفيتها، وما هو مطلوب فيها وما مطلوب لها، وما يتعلق بشروطها وأركانها والأمور التي يكون بها أداؤها، حتى إذا جاء سن التكليف يكون على علم سابق بما هو مكلف به، لا أن يترك حتى يبلغ ثم يُعَلم ويمرن، وإنما يمرن قبل أن يبلغ، يمرن وهو صغير، لكن متى؟ هل يؤمر وهو صغير جداً أم أن هناك حداً جاء أمر الآباء والأمهات بأن يأمروا عنده أبناءهم أو أولادهم بالصلاة؟ وردت الأحاديث في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه يؤمر وهو ابن سبع، فإذا بلغ سبعاً فإنه يأمره أبوه وأمه بالصلاة.
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث سبرة بن معبد الجهني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، وإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها) يعني أنه يؤمر كلاماً وترهيباًً وحثاً إذا بلغ سبع سنين، والأمر بالصلاة يكون بتعليمه إياها وكيفيتها وكذلك ما يسبقها من وضوء وما إلى ذلك، وإذا بلغ عشر سنين وحصل منه تهاون فيها أو امتناع عن أدائها فإنه يضرب على ذلك ضرباً غير مبرح ينفعه ولا يضره، ينفعه في الزجر والتخويف والردع، ولا يضره بأن يلحق به ضرراً في جسمه أو في أعضائه، فيضرب ضرباً غير مبرح ينفع ولا يضر؛ لأنه لا يكلف إلا إذا بلغ، ولكن هذا من أجل التعويد والتمرين والترويض حتى يكون على علم سابق قبل أن يصل إلى البلوغ، حتى إذا بلغ يكون قد عرف ما يتعلق بالصلاة وما هو مطلوب منه، فهو أمر للتمرين وللتعويد وليس لأنه مكلف؛ لأن القلم رفع عن الصغير حتى يبلغ، كما جاء في الحديث: (رفع القلم عن ثلاثة: المجنون حتى يفيق، والصغير حتى يبلغ، والنائم حتى يستيقظ) يعني أن هؤلاء مرفوع عنهم القلم، وعلى هذا فأمر الصبي إنما هو من أجل تعويده لا من أجل أنه مكلف.
قال بعض أهل العلم: وكون الغلام يضرب على الصلاة وهو لم يبلغ يدل على أن العقوبة إذا حصل البلوغ أشد.
قالوا: وليس هناك أشد من الضرب إلا القتل.
أي: أن القتل هو الذي يأتي وراء الضرب.
وقد اختلف العلماء في حكم تارك الصلاة هل يقتل حداً أو يقتل ردةً أو أنه لا يقتل ولكنه يسجن، على أقوال في ذلك، ولكن أرجحها أن من ترك الصلاة متعمداً فإنه يكون كافراً، وقد جاءت في ذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تدل على ذلك، ومنها قوله: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) وقوله: (بين الرجل وبين الكفر أو الشرك ترك الصلاة) وكذلك ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الخروج على الأئمة أنه لا يخرج عليهم إلا إذا وجد كفر بواح عند الناس فيه من الله برهان، وجاء أنهم لا ينابذوا ما صلوا، أي أنه إذا كانوا يصلون لا يخرج عليهم؛ لأنهم مسلمون، وإذا لم يصلوا فإنه يخرج عليهم، فكل هذه الأحاديث تدل على كفر تارك الصلاة.
والحاصل أن ما جاء في الحديث من ذكر الضرب لمن بلغ العشر وهو غير مكلف يدل على أنه إذا كلف تكون العقوبة أشد.(69/6)
تراجم رجال إسناد حديث: (مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين)
قوله: [حدثنا محمد بن عيسى يعني: ابن الطباع].
محمد بن عيسى بن الطباع ثقة، أخرج حديثه البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي في الشمائل وابن ماجة.
وكلمة [يعني: ابن الطباع] قالها من دون أبي داود؛ لأن أبا داود لا يحتاج إلى أن يقول: (يعني)، وإنما الذي يقول ذلك هو من دونه.
[حدثنا إبراهيم بن سعد].
إبراهيم بن سعد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الملك بن الربيع بن سبرة].
عبد الملك بن الربيع بن سبرة وثقه العجلي، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
[عن أبيه].
أبوه هو الربيع بن سبرة، ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن جده].
جده هو سبرة بن معبد الجهني رضي الله عنه، صحابي، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.(69/7)
شرح حديث: (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مؤمل بن هشام -يعني: اليشكري -حدثنا إسماعيل عن سوار أبي حمزة -قال أبو داود: وهو سوار بن داود أبو حمزة المزني الصيرفي -عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع).
] أورد أبو داود رحمه الله حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع)].
وهنا قال: [(مروا أولادكم)] وهذا يشمل الذكور والإناث، كما قال الله عز وجل: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]، فذكر الأولاد وأن ميراثهم للذكر مثل حظ الأنثيين، وذكر الأولاد يشمل الذكور والإناث، فقوله: [(أولادكم)] يعني ذكورهم وإناثهم.
وقوله: [(مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين)]، متفق مع حديث سبرة بن معبد الذي قبله، وهنا زيادة: [(وفرقوا بينهم في المضاجع)] يعني أنهم لا يضطجع بعضهم مع بعض؛ حتى لا يحصل شيء من دواعي الشر أو شيء من الشيطان بحيث يحرك بعضهم على بعض، فلا يكون هناك اضطجاع من بعضهم مع بعضهم، وإنما يكون هناك تفريق، سواء أكانوا ذكوراً وإناثاً أم ذكرواً فقط أم إناثاً فقط؛ لأنه عندما يحصل التقارب يحصل بسببه شيء من تحريك الشهوة أو الفتنة أو ما إلى ذلك، فجاءت السنة بأن يمرنوا على ذلك، وأن يعودوا على ذلك وهم صغار، بحيث يبتعد بعضهم عن بعض، ولا يكون هناك تلاصق وتقارب بحيث يحصل معه شيء لا تحمد عقباه.(69/8)
تراجم رجال إسناد حديث: (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين)
قوله: [حدثنا مؤمل بن هشام -يعني اليشكري -].
مؤمل بن هشام اليشكري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
وكلمة [يعني: اليشكري] هي ممن دون أبي داود؛ لأن مؤمل بن هشام شيخه، فلا يحتاج إلى أن يقول فيه (يعني) وإنما الذي يحتاج إليه هو من دونه.
[حدثنا إسماعيل].
هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي مولاهم، المشهور بـ ابن علية، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سوار أبي حمزة - قال أبو داود: وهو سوار بن داود أبو حمزة المزني الصيرفي].
لما ذكر أبو داود رحمه الله هذا الراوي الذي يروي عنه إسماعيل بن علية، وهو سوار أبو حمزة المذكور باسمه وكنيته أراد أن يوضح اسمه واسم أبيه ونسبته؛ لأنه حصل هناك اختلاف في ذكر اسمه في التقديم والتأخير، ووهم بعضهم في ذكر اسمه، فأراد المصنف أن يوضح اسمه ونسبه على الصواب؛ حتى يتبين بعد ذلك أن ما جاء خلاف ما نبه عليه غير صحيح، وأن الصحيح هو هذا، والذي جاء في هذه الرواية صحيح لكنه مختصر، ففي السند أنه سوار أبو حمزة، ولم يذكر اسم أبيه ولا نسبته، فذكرها المصنف وقال: [وهو سوار بن داود أبو حمزة الصيرفي] فـ أبو داود أراد أن يوضح هذا الشخص الذي ذكر باسمه وكنيته فقط؛ لأنه سينبه فيما بعد على أنه حصل خطأ من بعض الرواة في ذكر اسمه بالتقديم والتأخير بينه وبين أبيه، وبعضهم، وهم في اسمه كما سينبه على ذلك، فهذا هو السبب الذي جعل أبا داود يذكر في الإسناد واسمه واسم أبيه وكنيته ونسبته.
وهو صدوق له أوهام، أخرج له أبو داود وابن ماجة.
[عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده].
هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن، وهو يروي عن أبيه شعيب بن محمد بن عبد الله، وهو -أيضاً- صدوق، أخرج له البخاري في جزء القراءة وفي الأدب المفرد وأصحاب السنن الأربعة، وهو يروي عن جده، والمراد بالجد هو عبد الله بن عمرو بن العاص، والمقصود من ذلك أن شعيباً يروي عن جده وليس عن أبيه، والمقصود بالجد هو عبد الله بن عمرو جد شعيب، وهو -أيضاً- يكون جد عمرو بن شعيب، ولكن ليس المقصود أن الجد هو جد عمرو؛ فإنه سيكون محمداً وليس عبد الله بن عمرو، وإذا كان كذلك فإنه يكون مرسلاً؛ لأن محمداً تابعي، وليس له رواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والحديث متصل لا انقطاع فيه ولا إرسال، فـ عمرو يروي عن شعيب وشعيب يروي عن عبد الله، وليس عن محمد، ولهذا قال الحافظ ابن حجر صح سماعه من جده عبد الله بن عمرو.
يعني: صح سماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما صحابي جليل، وهو أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: عبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عباس.
ويقولون في الإسناد الذي فيه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: إنه يكون حسناً إذا صح الإسناد إلى عمرو.
فإذا صح الإسناد وإذا استقام الإسناد إلى عمرو فهو من قبيل الحسن؛ لأنه صدوق وأبوه صدوق، فالإشكال هو فيما إذا كان الضعف دون عمرو، وأما إذا وصل الإسناد إليه واستقام إليه فحديثه حسن.(69/9)
شرح حديث: (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين) من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا زهير بن حرب حدثنا وكيع حدثني داود بن سوار المزني بإسناده ومعناه وزاد: (وإذا زوج أحدكم خادمه عبده أو أجيره فلا ينظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة).
قال أبو داود: وهم وكيع في اسمه، وروى عنه أبو داود الطيالسي هذا الحديث فقال: حدثنا أبو حمزة سوار الصيرفي].
هنا وقع قلب في الإسناد، فـ داود بن سوار هو سوار بن داود، ولهذا فإن أبا داود رحمه الله لما قال في أثناء الإسناد المتقدم: [وهو سوار بن داود أبو حمزة الصيرفي] أراد أن يبين أنه سيأتي في هذا الإسناد اسمه مقلوباً.
وقوله: [بإسناده ومعناه وزاد: (وإذا زوج أحدكم خادمه عبده أو أجيره فلا ينظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة)].
يعني: أنه بمعنى الحديث المتقدم، وفيه زيادة: [(وإذا زوج أحدكم خادمه عبده أو أجيره فلا ينظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة)] لأن ذلك عورة، والمقصود بالخادم هنا الأمة، فإذا كان الإنسان له أمة وهي ملك يمين كما هو معلوم فله أن يجامعها وأن يستمتع بها ويطلع على عورتها وتطلع على عورته.
فإذا زوجها: فلا ينظر إلى ما فوق الركبة ودون السرة؛ لأن بضعها خرج من ملكه، وانتقل من كونه حلالاً له إلى كونه حلالاً لغيره وحراماً عليه؛ لأن الأمة التي تكون في عصمته هي التي تكون عنده يجامعها، ثم بعدما يستبرؤها ويزوجها يحرم عليه الاستمتاع بها ويحرم عليه النظر إلى عورتها، وكذلك أيضاً يمكن أن يكون الضمير في قوله: [(لا ينظر)] عائداً على الخادم، يعني: لا تنظر إلى السيد؛ لأنه صار حراماً؛ لأن في الحديث: (احفظ عورتك إلا من زوجتك وما ملكت يمينك)، وهي بالنسبة لملك اليمين خرجت عنه من حيث منفعة الاستمتاع إذا زوجها، وإنما تكون منفعة الاستمتاع له حيث لا تكون مزوجة، فإذا كانت كذلك فهو الذي يستمتع بها ويرى عورتها وترى عورته، لكن إذا زوجها صار الزوج هو الذي حل محله في ذلك بحيث يرى عورتها وترى عورته.
وقوله: (إذا زوج أحدكم خادمه عبده أو أجيره) يعني: غلامه الذي هو مملوك له، أو شخصاً أجيراً عنده، أي أنه حر، لكنه استأجره ليخدمه بالأجرة، فإذا زوجه أمته فليس للسيد أن ينظر إلى عورة الأمة؛ وليس له أن ينظر إلى بضعها ولا إلى عورتها، وكذلك الأمة لا تنظر إلى عورة سيدها؛ لأن الاستمتاع ليس له وإنما هو لغيره.(69/10)
تراجم رجال إسناد حديث (مروا أولادكم بالصلاة) من طريق أخرى
قوله: [حدثنا زهير بن حرب].
زهير بن حرب هو أبو خيثمة النسائي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي، وقد أكثر عنه الإمام مسلم، قال الحافظ في التقريب: روى عنه مسلم أكثر من ألف حديث، والأحاديث التي رواها عنه مسلم تبلغ ألفاً ومائتين وزيادة، وأكثر منه أبو بكر بن أبي شيبة، فإن مسلماً أكثر من الرواية عنه، والأحاديث التي رواها عنه تزيد على ألف وخمسمائة حديث.
[حدثنا وكيع].
هو وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثني داود بن سوار المزني].
داود بن سوار المزني هو سوار بن داود، وقد مر ذكره.
وقوله: [قال أبو داود: وهم وكيع في اسمه، وروى عنه أبو داود الطيالسي هذا الحديث فقال: حدثنا أبو حمزة سوار الصيرفي].
يعني: وهم وكيع في اسمه حيث قلبه، فذكر أن اسمه داود، وهو ليس اسمه داود وإنما اسمه سوار، واسم أبيه داود وليس سوار بن داود، وهذا هو الذي جعل أبا داود في أثناء الإسناد المتقدم يذكر اسمه واسم أبيه ونسبته؛ حتى يبين الوهم الذي حصل ممن رواه مقلوباً، وذلك بعد ذكر اسمه على الصواب مختصراً.
فإذاً: الذي في الإسناد داود بن سوار، وهو سوار بن داود، وإنما حصل خطأ، وليس هو شخصاً آخر غير الشخص الأول، وإنما هو الشخص الأول نفسه، ولهذا قال أبو داود: [وهم وكيع في اسمه] حيث قلبه وجعل اسمه لأبيه واسم أبيه له، فصار مقلوباً.
والحديث فيه أن الأجير هو الذي تزوج، والعبد هو الذي تزوج، والمقصود بالخادم في هذا الحديث الأمة، والسيد لا ينظر إلى عورة العبد، ولكن ينظر إلى عورة الأمة، لأنها حلال له، فله أن ينكحها ويستمتع بها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (احفظ عورتك إلا من زوجتك وما ملكت يمينك)، وكما قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:5 - 6] يعني: الزوجات والإماء.
والسيد لا ينظر إلى عورة الأمة إذا تزوجت، والأمة كذلك لا تنظر إلى عورة السيد؛ لأن الاستمتاع بينهما انتهى، وصار الاستمتاع بين هذه الأمة المزوجة وزوجها، سواءٌ أكان ذلك الزوج عبداً مثلها أو أجيراً استأجره سيدها، ومن المعلوم أن الحر لا ينكح الأمة إلا بالشرط الذي ذكره الله عز وجل في القرآن: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:25].
وقوله: [قال أبو داود: وهم وكيع في اسمه، وروى عنه أبو داود الطيالسي].
يعني: رواه عن سوار، وأبو داود الطيالسي هو سليمان بن داود أبو داود الطيالسي ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
فرواه على الصواب، ولكن فيه اختصار، حيث قال: [حدثنا أبو حمزة سوار الصيرفي وهذا صحيح مستقيم؛ لأنه هو أبو حمزة سوار الصيرفي]، ولكن لم يذكر اسم أبيه، ولم يهم فيه كما وهم وكيع.(69/11)
شرح حديث: (إذا عرف يمينه من شماله فمروه بالصلاة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سليمان بن داود المهري حدثنا ابن وهب حدثنا هشام بن سعد حدثني معاذ بن عبد الله بن خبيب الجهني قال: دخلنا عليه فقال لامرأته: متى يصلي الصبي؟ فقالت: كان رجل منا يذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن ذلك فقال: (إذا عرف يمينه من شماله فمروه بالصلاة)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث رجل من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الصبي متى يؤمر بالصلاة فقال: [(إذا عرف يمينه من شماله فمروه بالصلاة)]، وهذا مخالف لما جاء في الأحاديث السابقة التي فيها أن الأمر منوط بالسن وليس بمعرفة اليمين والشمال؛ لأن معرفة اليمين والشمال يمكن أن تحصل قبل بلوغ السنة السابعة، فيمكن للإنسان أن يعرف اليمين من الشمال في سن مبكرة، فالعبرة ليست في تعليق ذلك بمعرفة اليمين من الشمال، وإنما هي ببلوغ سبع سنين كما جاء بذلك حديث سبرة وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما.
فهذا الحديث فيه بيان أن الأمر بالصلاة منوط بمعرفة اليمين والشمال، ولكن الحديث غير صحيح وغير ثابت، والصحيح الثابت هو ما تقدم من إناطة ذلك بالسن وتعليقه بالسن وبلوغ الغلام سبع سنين.(69/12)
تراجم رجال إسناد حديث: (إذا عرف يمينه من شماله فمروه بالصلاة)
قوله: [حدثنا سليمان بن داود المهري].
سليمان بن داود المهري هو أبو الربيع المصري، وهو ثقة، أخرج حديثه أبو داود والنسائي.
[حدثنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا هشام بن سعد].
هشام بن سعد صدوق له أوهام، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثني معاذ بن عبد الله بن خبيب الجهني].
معاذ بن عبد الله بن خبيب الجهني صدوق ربما وهم، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن.
[قال: دخلنا عليه].
في عون المعبود قال: إن هشاماً قال: دخلنا عليه.
يعني: على معاذ بن عبد الله بن خبيب الجهني فقال لامرأته، وعلى هذا فالمدخول عليه مسمى في الحديث، لكن فيه إشكال من حيث الإسناد؛ لأنه قال: حدثني معاذ بن عبد الله بن خبيب الجهني قال: دخلنا عليه فقال لامرأته ومعنى هذا أن معاذاً ليس من رجال الإسناد، وأنهم سمعوا من امرأته، وأن امرأته هي التي قالت كذا وكذا، والإسناد هو عن هذه المرأة، وهذه المرأة ترويه عن الرجل الذي منهم، فيكون المعنى أنهم دخلوا عليه وأنه قال لامرأته وأخبرهم بما قالت، يعني: ما كانوا يسمعون الكلام بينه وبين امرأته، وإنما سألها وأخبرهم، وعلى هذا يكون التحديث على بابه.
لكن إذا كانوا دخلوا عليه وسأل امرأته فأجابت فهو إذاً ليس من رجال الإسناد، وإنما دخلوا عليه وهو سأل امرأته، وامرأته أخبرت عن رجل منهم -من جهينة- أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك فقال: [(إذا عرف يمينه من شماله فإنه يؤمر بالصلاة)] فالعبارة فيها إشكال من ناحية قوله: (حدثني) فإذا كان المقصود أنه من رجال الإسناد وأنهم لم يسمعوا امرأته وإنما كان هو يخبرهم عما حصل بينه وبين امرأته فعند ذلك يكون حدث هو عن امرأته، وامرأته حدثت عن الرجل الذي أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك.
وإذا كان ليس من رجال الإسناد فمعناه أنهم دخلوا عليه، وأنهم سمعوا كلامه من امرأته ورووا عن امرأته.
وامرأته لا أعرف عنها شيئاً، والإسناد -كما هو معلوم- فيه هذا الخفاء وفيه هذا الإبهام، ثم إن هذا الحديث مخالف للأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في إناطة ذلك بالسن وليس بمعرفة الشمال من اليمين؛ لأن معرفة الشمال من اليمين قد تحصل في زمن مبكر قبل سن السابعة والسادسة، فقد يكون الولد يعرف اليمين من الشمال قبل ذلك، وعلى هذا فيكون الناس متفاوتين في ذلك، ولا يكون هناك ميزان متساوٍ بين الناس، بل كل واحد يُسأل: هل يعرف الشمال من اليمين؟ وعند ذلك يؤمر، وأما إذا كان الاعتبار بالسن لحديث: (مروا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين) فكل من بلغه حديث السن يجعل الحد الفاصل هو العمر، وليس معرفة اليمين من الشمال.(69/13)
بدء الأذان(69/14)
شرح حديث: (اهتم النبي صلى الله عليه وسلم كيف يجمع الناس للصلاة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب بدء الأذان.
حدثنا عباد بن موسى الختلي وزياد بن أيوب -وحديث عباد أتم- قالا: حدثنا هشيم عن أبي بشر قال: قال زياد: أخبرنا أبو بشر عن أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار، قال: (اهتم النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة كيف يجمع الناس لها، فقيل له: انصب راية عند حضور الصلاة فإذا رأوها آذن بعضهم بعضاً.
فلم يعجبه ذلك، قال: فذكر له القنع -يعني: الشبور، وقال زياد: شبور اليهود- فلم يعجبه ذلك وقال: هو من أمر اليهود.
قال: فذكر له الناقوس، فقال: هو من أمر النصارى.
فانصرف عبد الله بن زيد بن عبد ربه رضي الله عنه وهو مهتم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأري الأذان في منامه، قال: فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال له: يا رسول الله! إني لبين نائم ويقظان إذ أتاني آت فأراني الأذان، قال: وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد رآه قبل ذلك فكتمه عشرين يوماً، قال: ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ما منعك أن تخبرني؟ فقال: سبقني عبد الله بن زيد فاستحييت.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بلال! قم فانظر ما يأمرك به عبد الله بن زيد فافعله.
قال: فأذن بلال رضي الله عنه، قال أبو بشر: فأخبرني أبو عمير أن الأنصار تزعم أن عبد الله بن زيد لولا أنه كان يومئذ مريضاً لجعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذناً)].
أورد أبو داود رحمه الله [باب: بدء الأذان] أي: حصول بدء الأذان، وكيف بدأ الأذان.
والأذان في اللغة: الإعلام.
وفي الشرع: الإعلام بدخول وقت الصلاة بألفاظ مخصوصة.
والألفاظ المخصوصة هي: الله أكبر الله أكبر إلى آخره، فهذا هو المعنى اللغوي والمعنى الشرعي، والمعنى الشرعي هو جزء من جزئيات المعنى اللغوي، وغالباً ما تأتي المعاني الشرعية بصورة أجزاء من المعاني اللغوية، حيث إن المعنى اللغوي عام والمعنى الشرعي خاص، أي أنه جزء منه.
مثل ذلك: الحج، فالحج لغة: القصد، وشرعاً: القصد إلى بيت الله الحرام لفعل أعمال مخصوصة.
والعمرة لغة: الزيارة -أيّ زيارة-، وفي الشرع: زيارة البيت الحرام للطواف به والسعي بين الصفا والمروة.
فالعمرة في الشرع: زيارة مخصوصة وليست كأي زيارة.
وكذلك الصيام، فهو في اللغة: الإمساك، أي إمساك عن أي شيء كالكلام والأكل وغيرهما، فهذا يقال له في اللغة: إمساك.
وفي الشرع: إمساك مخصوص عن الأكل والشرب وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
إذاً المعاني اللغوية أوسع في الغالب، والمعاني الشرعية تكون جزءاً من جزئيات المعنى اللغوي، وقد يأتي المعنى الشرعي أعم من المعنى اللغوي، مثل: الصلاة، فهي في الشرع أعم منها في اللغة؛ لأن الصلاة لغة: الدعاء، وأما في الشرع فهي أقوال وأفعال مخصوصة مبتدأة بالتكبير ومختتمة بالتسليم، فـ (تحريمها التكبير وتحليلها التسليم) كما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالأذان في اللغة: الإعلام وهو معنىً عام، وفي الشرع هو: الإعلام بدخول وقت الصلاة بألفاظ مخصوصة.
وكيف بدأ الأذان؟ إن الأذان أول ما بدأ كان عندما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ومكة لم يكن فيها أذان، بل كان هناك سرية بسبب الإيذاء، حيث كانوا إذا جهروا بالصلاة آذاهم المشركون، ولهذا جاء في القرآن: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء:110]، فكانوا يؤذونهم إذا رفعوا أصواتهم بالقراءة، وبعدما جاءوا المدينة بدأ الأذان.
وقد اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بأمر إعلام الناس بدخول الوقت، فتكلم مع أصحابه في ذلك، فبعضهم أشار بأن تنصب راية إذا دخل الوقت فإذا رآها الناس يخبر بعضهم بعضاً، فلم يعجبه ذلك، ومن المعلوم أن وضع الراية وإن كان يمكن أن يستفاد منه في النهار فلا يستفاد منه بالليل؛ لأن الراية لا تُرى في الليل، فذكر له ما كان يفعله اليهود فلم يعجبه، ثم ذكر له ما عند النصارى فلم يعجبه، وكان عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه قد اهتم كما اهتم الناس باهتمام النبي صلى الله عليه وسلم، فنام وجاءه في منامه آت وألقى عليه الأذان كما سيأتي مبيناً في الأحاديث القادمة أنه أخبره وقال: ألا أدلك على شيء.
فألقاه عليه بهذه الألفاظ التي هي خمس عشرة جملة، والتي سيأتي بيانها في حديث عبد الله بن زيد بن عبد ربه في باب: (كيف الأذان) والذي فيه ذكر ألفاظه، وترتيبه، وبيان الرؤيا التي رآها، وكيف رآها.
فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنها رؤيا حق إن شاء الله)، وأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتبرها وجاءه الوحي في ذلك، فأمر عبد الله بن زيد بن عبد ربه أن يلقي ذلك على بلال؛ لأنه أندى منه صوتاً، وليس لكون عبد الله بن زيد مريضاً كما جاء في آخر الحديث، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (القه على بلال؛ لأنه أندى منك صوتاً)، فأذن بلال وجاء عمر وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى نفس الرؤيا، فتواطأت رؤياهما، فقال له: [(لماذا لم تخبرني؟ فقال: سبقني عبد الله بن زيد فاستحييت)].
وقوله: [قال: فذكر له القنع يعني: الشبور].
القنع والشبور هو البوق، وهو من فعل اليهود.
ثم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بلالاً بأن يأخذ ألفاظ الأذان من عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري رضي الله عنه فأذن في الناس.
قوله: [قال أبو بشر -وهو الراوي عن أبي عمير بن أنس بن مالك -: فأخبرني أبو عمير أن الأنصار تزعم أن عبد الله بن زيد لولا أنه كان يومئذٍ مريضاً لجعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذناً] ليس بصحيح، لكن الأمر كما في الرواية التي ستأتي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إن بلالاً أندى منك صوتاً فألق الأذان عليه)، فأذن بلال رضي الله عنه بتلك الألفاظ التي أريها عبد الله بن زيد بن عبد ربه في المنام.(69/15)
تراجم رجال إسناد حديث: (اهتم النبي صلى الله عليه وسلم كيف يجمع الناس للصلاة)
قوله: [حدثنا عباد بن موسى].
عباد بن موسى الختلي ثقة، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[وزياد بن أيوب].
زياد بن أيوب ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[وحديث عباد أتم].
عباد هو الشيخ الأول، وقد ساق أبو داود الحديث على روايتي عباد وزياد.
[قالا: حدثنا هشيم].
هو هشيم بن بشير الواسطي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي بشر].
أبو بشر هو جعفر بن أبي وحشية وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[قال زياد: أخبرنا أبو بشر].
هذا يعني أن عباداً جاء عنده الإسناد في رواية هشيم عن أبي بشر بالعنعنة فقال: عن أبي بشر وأما في رواية زياد فقال: أخبرنا أبو بشر.
وذلك أن هشيماً مدلس، والأول روى بالعنعنة، والثاني صرح بالتحديث، فالتدليس هنا ليس فيه محذور ما دام أنه وجد التصريح بالتحديث أو بالإخبار في إحدى الطريقين، فهذا هو السبب الذي جعل أبا داود رحمه الله يبين اختلافهم في صيغة الأداء، وفيها فائدة، وهي أن التدليس لا يؤثر ما دام أنه قد وجد التصريح بالسماع.
[عن أبي عمير بن أنس].
هو أبو عمير بن أنس بن مالك، وقيل: اسمه: عبد الله وهو ثقة، أخرج حديثه أبو داود والنسائي وابن ماجة.
[عن عمومة له من الأنصار].
لا أعرف من هم، ولكن ذلك لا يؤثر؛ لأنه غالباً يكون المقصود أنهم صحابة، وقوله: [عن عمومة له] المقصود به ابن أنس بن مالك، فهم صحابة وهو تابعي ابن صحابي.
وكأنه يعني بالعمومة شخصاً واحداً من أعمامه.(69/16)
الأسئلة(69/17)
راوي حديث: (إذا عرف يمينه من شماله)
السؤال
جاء في الحديث: كان رجل منا يذكر عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن ذلك فقال: (إذا عرف يمينه من شماله فمروه بالصلاة)، فمن هو راوي هذا الحديث، أو من هو هذا الرجل؟
الجواب
هذا الرجل مجهول.(69/18)
شرح سنن أبي داود [070]
الأذان شعيرة من شعائر الدين، وهو إعلام بدخول وقت الصلاة، وأن تكون الصلاة في المسجد لا في البيت، وهو دال على صلاة الجماعة، وقد تعددت الروايات الثابتة في ألفاظه وألفاظ الإقامة، وكلها حق، ويحسن في المؤذن أن يكون ندي الصوت جهوراً فيه، حتى يسمع الناس الأذان ليقصدوا المساجد ولينتبه الغافل منهم.(70/1)
كيفية الأذان(70/2)
شرح حديث: (لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب كيف الأذان.
حدثنا محمد بن منصور الطوسي حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن محمد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربه قال: حدثني أبي: عبد الله بن زيد قال: (لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس يعمل ليضرب به للناس لجمع الصلاة طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوساً في يده، فقلت: يا عبد الله! أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ فقلت: ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟! فقلت له: بلى.
قال: تقول: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله.
قال: ثم استأخر عني غير بعيد ثم قال: ثم تقول إذا أقمت الصلاة: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة حي على الفلاح، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله.
فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما رأيت فقال: إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به؛ فإنه أندى صوتاً منك، فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به، قال: فسمع ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو في بيته، فخرج يجر رداءه ويقول: والذي بعثك بالحق -يا رسول الله- لقد رأيت مثلما رأى.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلله الحمد)].
قوله: [باب كيف الأذان].
المقصود من هذه الترجمة بيان كيفية الأذان، أي: ألفاظه، وصيغه، وكيفية أدائه، وبيان كيف يؤذن المؤذن، والألفاظ التي يؤذن بها، وهل يرفع صوته بذلك، واستحباب اختيار من يكون صوته ندياً، فإنه يكون مقدماً على غيره في ذلك، كل هذا هو المقصود من الترجمة.
وقد أورد المصنف رحمه الله جملة من الأحاديث التي فيها بيان كيفية الأذان، وهي بصيغ مختلفة في الزيادة والنقصان، وكذلك الإقامة، وما صح من ذلك فإن الاختلاف فيه من قبيل اختلاف التنوع، فكلها حق، وإذا أخذ المؤذن بأي صيغة مما ورد وثبت فإن ذلك يكون صحيحاً ويكون حقاً، وهو مثل ألفاظ التشهد وألفاظ الاستفتاح التي جاءت بصيغ مختلفة، فأي واحد منها يُعمل به فإنه يكون حقاً ما دام أنه ثابت، ويسمى الاختلاف هنا اختلاف تنوع، واختلاف التنوع لا يؤثر، والألفاظ المختلفة أو الأقوال المختلفة أو المتعددة كلها أنواع للحق لا اختلاف بينها ما دام أنها ثبتت كلها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليست من قبيل اختلاف التضاد الذي يكون فيه أحد الطرفين مصيباً والآخر مخطئاً، والذي ليس فيه كل مجتهد مصيب، بل المصيب واحد؛ لأن الحق واحد، فمن أصاب الحق حصّل أجرين، ومن أخطأه حصّل أجراً واحداً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد) أي أن المجتهدين ينقسمون إلى مصيب، ومخطئ، وإنما يصيب الحق من يصيبه ويخطئه من يخطئه، والكل مأجور مع التفاوت في الأجر، ولكن يصلح أن يقال: كل مجتهد مصيب أجراً، ولا يعدم المجتهد الأجر أو الأجرين، ولكن ليس كل مجتهد مصيباً حقاً؛ لأن الحق لا يتنوع إلا في اختلاف التنوع، أما اختلاف التضاد فلا، كأن يكون الأمر حلالاً وحراماً، أو تبطل به الصلاة، وتصح به الصلاة، أو ينقض الوضوء ولا ينقض الوضوء، فكل هذا من قبيل اختلاف التضاد، والمصيب فيه واحد فقط.
وأما اختلاف التنوع كاختلاف ألفاظ الأذان، واختلاف ألفاظ التشهد، واختلاف ألفاظ الاستفتاح، فكل ما صح وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الألفاظ فإن كل ذلك حق، وهو من قبيل اختلاف التنوع، وكلها أنواع وأوجه للحق.
وأورد المصنف رحمه الله حديث عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري رضي الله تعالى عنه في شأن الأذان وقد مرّ في الحديث الماضي أن النبي صلى الله عليه وسلم اهتم بشأن الأذان، أي: اهتم بشأن ما يكون وسيلة إلى إعلام الناس بدخول الوقت، وذُكر له نصب الراية عند دخول الوقت، حتى إذا رأوها يُذَكِّر بعضهم بعضاً، فلم يعجبه ذلك، ثم ذُكر له شبور اليهود فلم يعجبه ذلك، ثم ذُكر له ناقوس النصارى فلم يعجبه ذلك، ولكنه مال إلى استعماله، وأراد أن يأمر به مع كونه كارهاً له، وقبل أن يَنفُذَ ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم رأى عبد الله بن زيد بن عبد ربه في منامه أنه أتاه آتٍ فعلّمه الأذان، كما مرّ آنفاً، وهو خمس عشر جملة، فيها التربيع للتكبير أولاً، ثم الشهادة لله بالوحدانية والإلهية مرتين، والشهادة لمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة مرتين، ثم (حي على الصلاة) مرتين، و (حي على الفلاح) مرتين، و (الله أكبر) في آخر الأذان مرتين، وفي الختام: (لا إله إلا الله)، فيكون المجموع خمس عشرة جملة.
ثم علمه الإقامة، وهي إحدى عشر جملة، فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأمره أن يلقي الأذان على بلال لأنه أندى منه صوتاً، وصاحب الرؤيا لم يكن هو المؤذن، بل لأن بلالاً أندى منه صوتاً، أي: أرفع منه صوتاً، فألقاه عليه وأذن به بلال، ولما سمع عمر رضي الله عنه أذان بلال بهذه الألفاظ وكان عمر قد رآها في المنام، وطاف به طائف في المنام مثلما طاف بـ عبد الله بن زيد، جاء عمر وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه قد رأى مثل الذي رأى عبد الله بن زيد، فقال عليه الصلاة والسلام: (فلله الحمد).
إذاً: ثبت أن من ألفاظ الأذان والإقامة أن تكون ألفاظ الأذان خمس عشرة جملة، وأن تكون ألفاظ الإقامة إحدى عشرة جملة.
فهذا نوع من ألفاظ الأذان، وهو حق وثابت عن رسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنها رؤيا حق)، وأقرها واعتبرها، وجاءه الوحي بذلك، فأمر بأن يؤذن بهذا الأذان، وأن تكون الإقامة كذلك بهذه الصيغة التي جاءت عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه رضي الله عنه.
وقد جاءت ألفاظ الأذان كلها ذكراً لله عز وجل وثناء عليه، وتوحيداً له، ودعوة إلى الصلاة وإلى الفلاح، وما يترتب على الصلاة من فلاح ونجاح وخير في الدنيا والآخرة.
فجاء في أول الأذان: (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر) وجاء في صحيح مسلم: أنه يقول: (الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر) أي: يقول كل تكبيرتين في نَفَس واحد، ويؤتى بهما جملة واحدة، كما جاء في الصحيح: (إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر يقول أحدكم: الله أكبر الله أكبر وإذا قال: الله أكبر الله أكبر، يقول أحدكم: الله أكبر الله أكبر، وإذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله قال: أشهد أن لا إله إلا الله) إلى آخر الأذان، فكان ذكر الأربع التكبيرات في جملتين، أي: في نَفَسين، وأكثر ألفاظ الأذان هي التكبير؛ لأن التكبير جاء أربع مرات في أول الأذان، ومرتين في آخره قبل (لا إله إلا الله) فهذه ست جُمل كلها بلفظ التكبير، وفي ذلك تعظيم لله عز وجل وثناء عليه، وأنه أكبر من كل شيء، وأنه الذي يرجع إليه كل شيء سبحانه وتعالى.
ثم بعد ذلك الشهادة لله بالوحدانية مرتين (أشهد أن لا إله إلا الله) وهي شهادة بتوحيده سبحانه وتعالى، فهو الواحد في إلاهية وفي ربوبيته وفي أسمائه وصفاته، ففي ذلك إعلان الشهادة بالتوحيد.
ثم بعد ذلك الشهادة لمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، ومن المعلوم أنه لابد من الشهادتين معاً، والشهادتان متلازمتان، لا تنفع أحدهما بدون الأخرى من حين بعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم، ولن ينفع أحداً أن يشهد أن لا إله إلا الله دون أن يشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلابد من الشهادة لله بالوحدانية ولنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، ولهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة -يهودي ولا نصراني- ثم لا يؤمن بالذي جئت به إلا كان من أصحاب النار)، فالشهادة لله بالوحدانية ولنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة جاءت في ألفاظ الأذان، وكل منهما مكررة، فكررت (أشهد أن لا إله إلا الله) مرتين، وكررت (أشهد أن محمداً رسول الله) مرتين.
ومعنى (لا إله إلا الله) أي: لا معبود بحق سواه، فهو الإله الحق، والآلهة التي تُعبد من دون الله كلها باطلة، وصرف العبادة لها شرك بالله عز وجل يبطل العمل ويحبطه، ولا ينفع مع الشرك عمل؛ لقول الله عز وجل عن الكافرين المشركين: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، فإذا فقد شرط الإخلاص وحصل الشرك ودعوة غير الله معه وجعل الإنسان لله شريكاً في العبادة فعند ذلك يكون عمله مردوداً ما دام أنه مبني على الشرك وليس مبنياً على التوحيد، فلابد من الإخلاص لله وحده.
ولابد -أيضاً- من شهادة أن محمداً رسول الله، وهي تعني: تصديقه في جميع أخباره، وامتثال جميع أوامره، واجتناب نواهيه، وأن لا نعبد الله إلا طبقاً لما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولهذا فإن اليهود والنصارى الذين يقولون: إن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم رسول إلى العرب خاصة ولم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم كفار ومصيرهم إلى النار، ولا ينفعهم أي عمل يعملونه ولا أي قربة يتقربون بها؛ لأنه لابد من أن تكون الأعمال مستندة إلى التوحيد وإلى متابعة النبي الكريم محمد صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
ثم بعد ذلك (حي على الصلاة) وهذا هو المقصود من الأذان، لأن ما قبل ذلك وما بعده ثناء على الله عز وجل وتوحيد(70/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس)
قوله: [حدثنا محمد بن منصور الطوسي].
محمد بن منصور الطوسي ثقة، أخرج حديثه أبو داود والنسائي.
والذين يقال لهم: محمد بن منصور في الكتب الستة اثنان: أحدهما: محمد بن منصور الطوسي، والآخر: محمد بن منصور الجواز المكي، الذي يروي عنه النسائي بكثرة، وهو يروي عن سفيان بن عيينة المكي والجواز ليس من رجال أبي داود، وإنما هو من رجال النسائي وحده، ولهذا فإن الذي يأتي عند أبي داود ممن يسمى محمد بن منصور إنما هو الطوسي هذا؛ لأن محمد بن منصور الجواز من رجال النسائي وحده كما قلنا، وقد أكثر عنه النسائي، فيذكره كثيراً، ولا سيما في الرواية عن سفيان بن عيينة عن الزهري.
[حدثنا يعقوب].
هو يعقوب بن إبراهيم بن سعد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا أبي].
هو إبراهيم بن سعد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن إسحاق].
هو محمد بن إسحاق المدني، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن الأربعة.
[حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي].
وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربه].
وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري في (خلق أفعال العباد) مسلم وأصحاب السنن.
[عن أبيه].
هو عبد الله بن زيد بن عبد ربه رضي الله عنه، وهو صحابي مشهور، أخرج حديثه البخاري في (خلق أفعال العباد)، وأصحاب السنن.(70/4)
اختلاف الرواة في بعض ألفاظ حديث: (لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس)
[قال أبو داود: هكذا رواية الزهري عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن زيد، وقال فيه ابن إسحاق عن الزهري: الله أكبر الله أكبر.
الله أكبر الله أكبر، وقال معمر ويونس عن الزهري فيه: الله أكبر الله أكبر، لم يثنيا].
أورد أبو داود رحمه الله عدة روايات لهذا الحديث، فرواية الزهري عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه جاءت مثل اللفظ الذي جاء عن محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التيمي، وهو بتربيع التكبير في الأول، ومثله -أيضاً- رواية محمد بن إسحاق عن الزهري أيضاً؛ لأن فيها التربيع، فالروايتان عن محمد بن إسحاق متفقتان على تربيع التكبير في الأول أربع مرات: (الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر) وجاء عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه مثل ما جاء في الطريقة السابقة، بل إن محمد بن إسحاق قد جاء عنه من طريق أخرى ما يوافق هذه الطريقة السابقة التي فيها تربيع التكبير.(70/5)
تراجم رجال إسناد حديث (لما أمر رسول الله بالناقوس) المختلفين في بعض الألفاظ
قوله: [قال أبو داود: هكذا رواية الزهري].
الزهري هو: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن المسيب].
سعيد بن المسيب ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن زيد].
وقد مر ذكره.
[وقال معمر].
هو: معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ويونس].
هو يونس بن يزيد الأيلي ثم المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الزهري فيه].
يعني: في هذا الحديث: (الله أكبر الله أكبر).
وقوله: [لم يثنيا].
أي: ليس فيه تربيع، والمحفوظ هو التربيع؛ لأنه هو الذي جاء بالروايات المختلفة وبالطرق المتعددة، فهي المحفوظة، مع أنها كلها قصة واحدة وتتعلق برؤيا عبد الله بن زيد بن عبد ربه، فالمعتمد والمعتبر هو ما جاء من التربيع دون ما جاء من التثنية.(70/6)
شرح حديث: (يا رسول الله علمني سنة الأذان)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا الحارث بن عبيد عن محمد بن عبد الملك بن أبي محذورة عن أبيه عن جده قال: قلت: يا رسول الله! علمني سنة الأذان.
قال: فمسح مقدم رأسي وقال: (تقول: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر.
ترفع بها صوتك، ثم تقول: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله.
تخفض بها صوتك، ثم ترفع صوتك بالشهادة: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح.
فإن كان صلاة الصبح قلت: الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله)].
أورد المصنف رحمه الله حديث أبي محذورة رضي الله تعالى عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان صفة الأذان وكيفيته، وهو يشتمل على كيفية أخرى للأذان، وهي مثل الطريقة السابقة التي جاءت عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه، إلا أن فيها ترجيعاً، ويكون الترجيع للشهادتين بأن يؤتى بها أولاً بخفض الصوت، ثم يؤتى بها برفع الصوت، فتكون الصيغ تسع عشرة جملة، وفي حديث عبد الله بن زيد خمس عشرة جملة، لأنه ليس فيه ترجيع، وحديث أبي محذورة فيه الترجيع.
والترجيع أربع كلمات أو جمل هي (أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله)، تذكر مرتين: مرة في البداية بخفض صوت، ثم مرة أخرى برفع صوت، فتكون الألفاظ تسع عشرة جملة بإضافة الأربع التي هي بسبب الترجيع، والترجيع معناه أنه يرجع إلى اللفظ الذي قاله أولاً بخفض صوت فيأتي به برفع صوت.
فحديث أبي محذورة مثل حديث عبد الله بن زيد إلا أن فيه زيادة الترجيع ويكون الترجيح عند هذه الكلمات الأربع، أي: الشهادة لله بالوحدانية ولنبيه بالرسالة أربع مرات بخفض الصوت وأربع مرات برفع الصوت.
وإذا كان في أذان الصبح يضيف إلى ذلك: (الصلاة خير من النوم) مرتين، ويؤتى بها في ذلك الوقت لبيان أن الصلاة خير من هذا النوم الذي تلذذ فيه المتلذذون، وطاب لهم فيه فراش، وحصل لهم الارتياح والاطمئنان والهدوء، ومن المعلوم أنه ليس هناك تناسب بين الصلاة والنوم، فالصلاة عبادة لله عز وجل، والنوم إذا كان بنية التقوّي على عبادة أو على أمر ينفع فهذا شيء طيب، وأما إذا لم يكن كذلك فإنه قد يترتب عليه مضرة بأن ينام عن الصلاة، أو أن يؤخر الصلاة، ويترتب على ذلك ضرر.
فالمقصود من قول (الصلاة خير من النوم) هو أن ما تدعون إليه خير مما أنتم فيه، فهبُّوا من نومكم، وقوموا من فُرشكم، وتوضئوا واستعدوا للصلاة، وهلموا إلى المساجد لأداء الصلاة.
ولهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر)؛ لأن صلاة العشاء تأتي في أول الليل حيث يكون الناس بحاجة إلى الراحة والنوم بعد التعب والكدح في النهار، وصلاة الفجر تأتي في الوقت الذي طاب فيه الفراش وحصل الاستغراق في النوم والارتياح والتلذذ به، فجاء عند ذلك النداء: الصلاة خير من النوم لبيان أن ما يدعون إليه خير مما هم فيه.
قوله: [قلت: يا رسول الله! علمني سنة الأذان].
القائل هو أبو محذورة رضي الله عنه، والسنة في اللغة: الطريقة، كما في الحديث: (عليكم بسنتي)، يعني: طريقتي ومنهجي.
فمعنى سنة الأذان: طريقة الأذان، أو الكيفية التي يكون بها الأذان.
فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم هذه الجمل التسع عشرة، ويضاف إليها في الفجر (الصلاة خير من النوم) مرتين، فيكون المجموع إحدى وعشرين جملة في أذان الفجر، وفي غير الفجر تكون تسع عشرة جملة.
قوله: [قال: فمسح مقدّم رأسي].
هذا أبلغ في التعليم، كما جاء في حديث عبد الله بن عمر: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي وقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)؛ لأن هذا يكون أبلغ وأمكن في النفس، وكما فعل جابر بن عبد الله لـ محمد بن علي بن الحسين في قصة حجة الوداع، لما جاء إليه جماعة، وطلبوا منه أن يحدثهم، فسألهم عن أسمائهم، حتى عرف من بينهم محمد بن علي بن الحسين فقربه وجعل يده على صدره، وجعل يحدثهم بحديث صفة حج الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أطول حديث في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم، الذي جاء من طريق محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الملقب بـ الباقر رحمة الله عليه.
فهذه الطريقة في التعليم تجعل الحفظ يكون أمكن، وتساعد الإنسان على أن يتذكر الشيء الذي قيل له، ويعرف الهيئة التي كانت عند التحديث.(70/7)
تراجم رجال إسناد حديث: (يا رسول الله علمني سنة الأذان)
قوله: [حدثنا مسدد].
هو ابن مسرهد البصري، ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا الحارث بن عبيد].
هو الحارث بن عبيد الإيادي، وهو صدوق يخطئ، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأبو داود والترمذي.
[عن محمد بن عبد الملك بن أبي محذورة].
وهو مقبول، أخرج حديثه أبو داود وحده.
[عن أبيه].
وهو عبد الملك بن أبي محذورة، وهو مقبول، أخرج له البخاري في (خلق أفعال العباد) وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن جده].
أي: عن أبي محذورة، وقد اختلف في اسمه كثيراً، لكن أظن أنه أوس كما قدم الحافظ ابن حجر في اسمه أنه أوس، وذكر عدة أسماء، فقال: اسمه أوس، وقيل: سمرة.
وقيل: سلمة.
وقيل: سلمان.
وأبوه معير، لكنه مشهور بكنيته أبي محذورة الجمحي، وحديثه أخرجه البخاري في (الأدب المفرد)، ومسلم وأصحاب السنن الأربعة.
والحديث في سنده من هو مقبول، لكنه قد جاء من طرق يقوي بعضها بعضاً.(70/8)
شرح حديث: (الصلاة خير من النوم في الأولى من الصبح)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا أبو عاصم وعبد الرزاق عن ابن جريج قال: أخبرني عثمان بن السائب أخبرني أبي وأم عبد الملك بن أبي محذورة عن أبي محذورة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا الخبر، وفيه: (الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم) في الأولى من الصبح.
وقال أبو داود: وحديث مسدد أبين، قال فيه: (وعلمني الإقامة مرتين مرتين: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله).
قال أبو داود: وقال عبد الرزاق: (وإذا أقمت فقلها مرتين: قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة.
أسمعت؟) قال: فكان أبو محذورة رضي الله عنه لا يجزّ ناصيته ولا يفرقها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح عليها].
أورد الحديث من طريق أخرى بنحو هذا الخبر المتقدم، وفيها قول (الصلاة خير من النوم) مرتين في الأولى، أي: يحتمل أن يكون في الأذان الأول الذي هو قبل دخول الوقت، ويسمى الأذان الذي هو عند دخول الوقت بالأذان الأول بالنسبة للإقامة؛ لأن الأذان عند دخول الوقت يقال له: الأذان الأول، والإقامة يقال لها: الأذان الثاني، كما يقال في الأذان الذي زاده عثمان: الأذان الثالث؛ لأن الأصل أذانان: الإقامة، والأذان الذي عند صعود الخطيب المنبر، ولهذا عبروا عنه بالثالث.
وقوله: [قال أبو داود: وحديث مسدد أبين، قال فيه: (وعلمني الإقامة مرتين مرتين)].
هذا فيه أنه تعلم الإقامة، وقد ذكرنا أن في حديث أبي محذورة جاء الأذان تسع عشرة جملة، والإقامة سبع عشرة جملة؛ لأنه ليس فيها ترجيع، وليس فيها تربيع، وفيها زيادة (قد قامت الصلاة)، مرتين فيها.
وقوله: [(وعلمني الإقامة مرتين مرتين: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا ال، له أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله)].
هذه ثلاث عشرة جملة، بدون: (قد قامت الصلاة).
وقوله: [وقال عبد الرزاق: (وإذا أقمت فقلها مرتين: قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة)].
سيأتي في بعض الروايات أن الأذان تسع عشرة جملة والإقامة سبع عشرة جملة، وعلى هذه الرواية تصير خمس عشرة جملة مثل ألفاظ الأذان أو بعدد ألفاظ الأذان المذكورة في حديث عبد الله بن زيد بن عبد ربه.
ورواية عبد الرزاق فيها ذكر: (قد قامت الصلاة) وجملة (قد قامت الصلاة) جاءت في حديث عبد الله بن زيد بن عبد ربه، وأيضاً جاءت في حديث: (أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة إلا الإقامة) أي: إلا قد قامت الصلاة.
وقوله: [وقال عبد الرزاق: (وإذا أقمت فقلها مرتين: قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، أسمعت؟)].
يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم خاطب أبا محذورة بقوله: (أسمعت؟) يعني: هذا الذي قلته لك في هذه الألفاظ.
وقوله: [فكان أبو محذورة لا يجز ناصيته ولا يفرقها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح عليها].
يعني: لا يقصها ولا يفرقها، يعني: لا يجعل قسماً إلى اليمين وقسماً إلى الشمال، وهذا هو الفرق، بحيث يكون هناك خط في الوسط فيكون بعض نصف الرأس على الجهة اليمنى ونصفه على الجهة اليسرى، وقد ذكر الألباني أن الحديث صحيح من دون هذه الزيادة، ولعل السبب أن هذه ما جاءت إلا من طريق، بخلاف ألفاظ الأذان فإنها جاءت من طرق أخرى غير هذه الطريق.(70/9)
تراجم رجال إسناد حديث: (الصلاة خير من النوم في الأولى من الصبح)
قوله: [حدثنا الحسن بن علي].
هو الحسن بن علي الحلواني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا أبو عاصم].
هو الضحاك بن مخلد أبو عاصم النبيل، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وعبد الرزاق].
هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن جريج].
هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرني عثمان بن السائب].
عثمان بن السائب مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي.
[عن أبيه].
هو السائب، وهو مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي.
[وأم عبد الملك بن أبي محذورة].
أم عبد الملك بن أبي محذورة هي زوجة أبي محذورة، وهي مقبولة، أخرج حديثها أبو داود والنسائي.
[عن أبي محذورة].
هو أبو محذورة رضي الله عنه، وحديثه أخرجه البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن.(70/10)
شرح سنن أبي داود [071]
لقد جاءت الروايات في كيفية الأذان في صورة متعددة، وما صح منها فإن للمؤذن أن يأخذ به ولا حرج، والأذان هو حالة من حالات التحول في الصلاة في حياة المسلمين، وذلك أنهم كانوا يصلون فرادى فجمعهم النبي صلى الله عليه وسلم بالأذان، وكله ألفاظ خير وذكر لله تعالى وتعظيم له، وما أعظمه من شعيرة!(71/1)
(تابع) كيفية الأذان(71/2)
شرح حديث تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أبا محذورة الأذان والإقام وبيان عدد كل منهما
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا عفان وسعيد بن عامر وحجاج -والمعنى واحد- قالوا: حدثنا همام حدثنا عامر الأحول حدثني مكحول أن ابن محيريز حدثه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه الأذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة كلمة: الأذان: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله.
والإقامة: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله) كذا في كتابه في حديث أبي محذورة].
أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي محذورة من طريق أخرى عن عبد الله بن محيريز عن أبي محذورة رضي الله عنه، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الأذان تسع عشرة جملة، والإقامة سبع عشرة جملة، الأذان على ما تقدم من ذكر الجمل التي في حديث عبد الله بن زيد مع زيادة الترجيع الذي هو شهادة أن لا إله إلا الله مرتين وأن محمداً رسول الله مرتين، فيكون المجموع تسع عشرة جملة.
والإقامة سبع عشرة جملة، التكبير في الأول أربع مرات والشهادتان أربع مرات على ما عليه بدون ترجيع، فيكون المجموع خمس عشرة جملة، ويضاف إلى ذلك (قد قامت الصلاة) مرتين، فتصير سبع عشرة جملة، وهي مثل ألفاظ الأذان إلا أنه سقط منها الترجيع للشهادتين.
قوله: [كذا في كتابه في حديث أبي محذورة] يعني: في كتاب همام بن يحيى العوذي الذي هو شيخ شيوخ شيخه، من رواية عبد الله بن محيريز.(71/3)
تراجم رجال إسناد حديث تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أبا محذورة الأذان والإقام وبيان عدد كل منهما
قوله: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا عفان].
الحسن بن علي مر ذكره، وعفان هو عفان بن مسلم الصفار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وسعيد بن عامر].
سعيد بن عامر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[وحجاج].
هو حجاج بن محمد المصيصي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وحجاج بن محمد المصيصي هو الذي كثيراً ما يأتي في شيوخ أبي داود وكذلك النسائي، ولا أدري هل هو هذا أو ابن منهال؟ لكن كل منهما أخرج له أصحاب الكتب الستة، وكل منهما ثقة.
[والمعنى واحد].
يعني: هؤلاء الشيوخ الذين هم عفان وسعيد وحجاج الذين هم شيوخ الحسن المعنى واحد في الرواية عنهم، ولكن هناك اختلاف في الألفاظ بينهم.
[حدثنا همام].
هو همام بن يحيى العوذي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا عامر الأحول].
هو عامر بن عبد الواحد الأحول، وهو صدوق يخطئ، أخرج له البخاري في جزء القراءة، ومسلم وأصحاب السنن.
[حدثني مكحول].
هو مكحول الشامي، وهو ثقة، أخرج له البخاري في جزء القراءة، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن ابن محيريز].
هو عبد الله بن محيريز، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو يروي عن أبي محذورة، ولهذا قال: [كذا في كتابه في حديث أبي محذورة].(71/4)
وجه قوله: (أن ابن محيريز حدثه أن رسول الله علمه) وبيان عود الضمير
قوله: [أن ابن محيريز حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه].
سيأتي في الطرق الأخرى عن ابن محيريز عن أبي محذورة؛ لأن حديث أبي محذورة يصل إسناده إلى عبد الله بن محيريز، لكن عن أبي محذورة، أي: أن أبا محذورة حدث ابن محيريز أن النبي علم أبا محذورة الأذان، فالضمير في قوله: [علمه] يرجع إلى أبي محذورة لا إلى ابن محيريز؛ لأن ابن محيريز من التابعين.
ففيه الاكتفاء أبي محذورة في الآخر، أو أن هناك سقطاً، وعلى كل فسواءٌ أكان أبو محذورة موجوداً في آخر السند أم غير موجود فوجوده في الآخر كاف في صحة حديث أبي محذورة.(71/5)
شرح حديث (ألقى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم التأذين هو بنفسه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو عاصم حدثنا ابن جريج أخبرني ابن عبد الملك بن أبي محذورة -يعني عبد العزيز - عن ابن محيريز عن أبي محذورة رضي الله عنه قال: (ألقى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم التأذين هو بنفسه، فقال: قل: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله مرتين مرتين، قال: ثم ارجع فمد من صوتك: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله)].
أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى وفيه ذكر أبي محذورة، وفيه ذكر الأذان بالترجيع.(71/6)
تراجم رجال إسناد حديث (ألقى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم التأذين هو بنفسه)
قوله: [حدثنا محمد بن بشار].
محمد بن بشار هو الملقب بـ بندار، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة، كلهم رووا عنه مباشرة وبدون واسطة.
[حدثنا أبو عاصم].
(أبو عاصم مر ذكره وهو النبيل.
[حدثنا ابن جريج أخبرني ابن عبد الملك بن أبي محذورة -يعني عبد العزيز -].
ابن جريج مر ذكره، وعبد العزيز بن عبد الملك بن أبي محذورة مقبول، أخرج له أصحاب السنن.
[عن ابن محيريز عن أبي محذورة].
ابن محيريز وأبو محذورة قد مر ذكرهما.(71/7)
شرح حديث (ألقى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان حرفاً حرفاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا النفيلي حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن عبد الملك بن أبي محذورة قال: سمعت جدي عبد الملك بن أبي محذورة يذكر أنه سمع أبا محذورة رضي الله عنه يقول: (ألقى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان حرفاً حرفاً: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح.
قال: وكان يقول في الفجر: الصلاة خير من النوم)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي محذورة من طريق أخرى وفيه ذكر صيغ الأذان التي علمه النبي صلى الله عليه وسلم إياها حرفاً حرفاً فذكرها حتى انتهى من قوله: حي على الفلاح، ثم قال: (وكان يقول في صلاة الفجر: الصلاة خير من النوم) يعني: مرتين، واختصر الحديث فلم يذكر ما وراء: (الصلاة خير من النوم)، وهو: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله.(71/8)
تراجم رجال إسناد حديث (ألقى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان حرفاً حرفاً)
قوله: [حدثنا النفيلي].
النفيلي هو عبد الله بن محمد بن علي بن نفيل وهو ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن عبد الملك بن أبي محذورة].
إبراهيم بن إسماعيل بن عبد الملك بن أبي محذورة مجهول، وضعفه الأزدي، وحديثه أخرجه أبو داود.
[قال: سمعت جدي عبد الملك بن أبي محذورة يذكر أنه سمع أبا محذورة].
عبد الملك بن أبي محذورة مقبول، أخرج له البخاري في (خلق أفعال العباد)، وأبو داود والترمذي والنسائي.(71/9)
شرح حديث أبي محذورة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه الأذان)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن داود الإسكندراني حدثنا زياد -يعني ابن يونس - عن نافع بن عمر -يعني الجمحي - عن عبد الملك بن أبي محذورة أخبره عن عبد الله بن محيريز الجمحي عن أبي محذورة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه الأذان، يقول: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله) ثم ذكر مثل أذان حديث ابن جريج عن عبد العزيز بن عبد الملك ومعناه].
ذكر أبو داود حديث أبي محذورة من طريق أخرى وفيه ذكر التكبير في الأول مرتين، ولكن المحفوظ والثابت هو التربيع وليس التثنية فقط.(71/10)
تراجم رجال إسناد حديث أبي محذورة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه الأذان)
قوله: [حدثنا محمد بن داود الإسكندراني].
هو محمد بن داود بن ناجية الإسكندراني، ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي في عمل اليوم والليلة.
[حدثنا زياد يعني ابن يونس].
زياد بن يونس ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي في عمل اليوم والليلة.
[عن نافع بن عمر -يعني الجمحي -].
نافع بن عمر الجمحي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الملك بن أبي محذورة عن عبد الله بن محيريز الجمحي عن أبي محذورة].
قد مر ذكرهم.(71/11)
شرح حديث ذكر تثنية التكبير في أذان أبي محذورة
[قال أبو داود: وفي حديث مالك بن دينار قال: (سألت ابن أبي محذورة قلت: حدثني عن أذان أبيك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر فقال: الله أكبر، الله أكبر قط) وكذلك حديث جعفر بن سليمان عن ابن أبي محذورة عن عمه عن جده، إلا أنه قال: (ثم ترجع فترفع صوتك: الله أكبر، الله أكبر)].
وهذا فيه ذكر التكبير اثنتين في الأول، وكذلك الترجيع في التكبير، وكل ذلك غير صحيح؛ لأن الترجيع إنما هو في الشهادتين: أشهد أن لا إله الله مرتين، وأشهد أن محمداً رسول الله مرتين، هذه هي الألفاظ التي فيها الترجيع، أما (الله أكبر الله أكبر) فلا ترجع، إلا إن كان المقصود أنها تعاد مرتين مثل: (الله أكبر الله أكبر) بحيث تصير تربيعاً، فليس هناك إشكال، أما أن يرجع ويمد صوته ويخفض صوته في (الله أكبر الله أكبر)، ثم يرجع ويمد صوته بها مرة أخرى فهذا غير مستقيم، فالترجيع إنما هو في الشهادتين، وأما التكبير فهو أربع مرات.(71/12)
تراجم رجال إسناد حديث ذكر تثنية التكبير في أذان أبي محذورة
قوله: [قال أبو داود: وفي حديث مالك بن دينار].
مالك بن دينار صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً، وأصحاب السنن الأربعة.
[قال: سألت ابن أبي محذورة قلت: حدثني عن أذان أبيك].
ابن أبي محذورة هو عبد الملك بن أبي محذورة مقبول، أخرج له.
قوله: [وكذلك حديث جعفر بن سليمان عن ابن أبي محذورة].
جعفر بن سليمان صدوق، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن ابن أبي محذورة عن عمه].
يعني: أن ابن أبي محذورة يروي عن عمه عن أبي محذورة، ولا أدري من هو هذا العم.
لعله إبراهيم بن عبد العزيز بن عبد الملك بن أبي محذورة، أو إبراهيم بن إسماعيل بن عبد الملك بن أبي محذورة، يروي عن عمه عبد العزيز عن جده.(71/13)
شرح حديث ابن أبي ليلى في إحالات الصلاة والصيام
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عمرو بن مرزوق أخبرنا شعبة عن عمرو بن مرة قال: سمعت ابن أبي ليلى ح: وحدثنا ابن المثنى حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن عمرو بن مرة قال: سمعت ابن أبي ليلى قال: (أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال، قال: وحدثنا أصحابنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لقد أعجبني أن تكون صلاة المسلمين -أو قال: المؤمنين- واحدة، حتى لقد هممت أن أبث رجالاً في الدور ينادون الناس بحين الصلاة، وحتى هممت أن آمر رجالاً يقومون على الآطام ينادون المسلمين بحين الصلاة، حتى نقسوا أو كادوا أن ينقسوا.
قال: فجاء رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله! إني لما رجعت لما رأيت من اهتمامك رأيت رجلاً كأن عليه ثوبين أخضرين، فقام على المسجد فأذن، ثم قعد قعدة، ثم قام فقال مثلها، إلا أنه يقول:.
قد قامت الصلاة، ولولا أن يقول الناس -قال ابن المثنى: أن تقولوا -لقلت: إني كنت يقظاناً غير نائم- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، -وقال: ابن المثنى -: لقد أراك الله عز وجل خيراً -ولم يقل عمرو: لقد أراك الله خيراً- فمُر بلالاً فليؤذن.
قال: فقال عمر رضي الله عنه: أما إني قد رأيت مثل الذي رأى، ولكن لما سبقت استحييت).
قال: وحدثنا أصحابنا قال: (وكان الرجل إذا جاء يسأل فيخبر بما سبق من صلاته، وإنهم قاموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين قائم وراكع وقاعد ومصل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم).
قال ابن المثنى: قال عمرو: وحدثني بها حصين عن ابن أبي ليلى حتى جاء معاذ رضي الله عنه -قال شعبة: وقد سمعتها من حصين - فقال: (لا أراه على حال إلى قوله: كذلك فافعلوا).
قال أبو داود: ثم رجعت إلى حديث عمرو بن مرزوق قال: (فجاء معاذ فأشاروا إليه -قال شعبة: وهذه سمعتها من حصين - قال: فقال معاذ: لا أراه على حال إلا كنت عليها.
قال: فقال: إن معاذاً قد سن لكم سنة، كذلك فافعلوا).
قال: وحدثنا أصحابنا: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة أمرهم بصيام ثلاثة أيام، ثم أنزل رمضان وكانوا قوماً لم يتعودوا الصيام، وكان الصيام عليهم شديداً، فكان من لم يصم أطعم مسكيناً، فنزلت هذه الآية: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185]، فكانت الرخصة للمريض والمسافر فأمروا بالصيام).
قال: وحدثنا أصحابنا قال: (وكان الرجل إذا أفطر فنام قبل أن يأكل لم يأكل حتى يصبح، قال: فجاء عمر بن الخطاب فأراد امرأته فقالت: إني قد نمت.
فظن أنها تعتل فأتاها، فجاء رجل من الأنصار فأراد الطعام فقالوا: حتى نسخن لك شيئاً.
فنام، فلما أصبحوا أنزلت عليه هذه الآية: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة:187])].
أورد أبو داود رحمه الله هذا الحديث من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: [حدثنا أصحابنا].
وهذا يحتمل أن يكون الذين حدثوه صحابة ويحتمل أن يكونوا من التابعين، ولكن قد جاء في بعض المصنفات مثل مصنف ابن أبي شيبة وغيره أنه قال: (حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم) وعلى هذا فيكون من حدثه صحابة، وبهذا يثبت الحديث ويكون مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريق الصحابة، وليس مرسلاً أو عمن هو مبهم من التابعين.
فإذاً: هذا هو المقصود بقوله: أصحابنا.
ومعلوم أن جهالة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لا تؤثر، وإنما الجهالة تؤثر في غيرهم؛ لأن المجهول فيهم في حكم المعلوم، ولأن المقصود من معرفة الأشخاص هو معرفة العدالة والثقة، والصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم عدول لا يحتاجون إلى تعديل المعدلين ولا إلى توثيق الموثقين؛ لأنه قد حصل لهم من الله ومن رسوله صلى الله عليه وسلم الثناء.(71/14)
بين الإحالة الأولى
قوله: [(أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال)].
يعني: حولت من حال إلى حال أخرى، أو غيرت ثلاثة تغييرات.
قوله: [(وحدثنا أصحابنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لقد أعجبني أن تكون صلاة المسلمين أو قال المؤمنين واحدة)].
هذه هي الحال الأولى من الأحوال الثلاث، وهي أنهم كانوا يصلون فرادى، وبعد ذلك رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمعهم على إمام واحد، وأن يصلوا صلاة واحدة في جماعة، فعند ذلك اهتم بشأن الطريقة التي بها يجمعون.
قوله: [(حتى لقد هممت أن أبث رجالاً في الدور ينادون الناس بحين الصلاة)].
يعني: حتى لقد هم أن يبعث أناساً ينادون في المحلات والأحياء، وليس المقصود البيوت التي هي المساكن؛ لأن كل بيت يقال له: دار، ولكن الدار تطلق أيضاً على المحلة وعلى الحي.
قوله: [(وحتى هممت أن آمر رجالاً يقومون على الآطام ينادون المسلمين بحين الصلاة)].
الآطام: هي الحصون المرتفعة؛ فهؤلاء ينادون بالصلاة وبدخول وقت الصلاة.
قوله: [(حتى نقسوا أو كادوا ينقسوا)].
يعني: من الأشياء التي فكروا فيها استعمال الناقوس، وقد سبق أن مر أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يأمرهم بالناقوس، فهم كادوا أن يستعملوا الناقوس الذي تستعمله النصارى لإخبار الناس بدخول الوقت.
قوله: [(قال: فجاء رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله! إني لما رجعت لما رأيت من اهتمامك رأيت رجلاً كأن عليه ثوبين أخضرين)].
يعني: حين رجعت من عندك وقد أهمني ما أهمك لاهتمامك بهذا الأمر رأيت رجلاً عليه ثوبان أخضران.
قوله: [(فقام على المسجد فأذن، ثم قعد قعدة ثم قام فقال مثلها، إلا أنه يقول: قد قامت الصلاة)].
وهذا فيه أنه رأى الرجل أذن على المسجد وقعد قعدة ثم قال مثلها إلا أنه قال: قد قامت الصلاة.
يعني الإقامة، وهذا كما سبق أن مر في الروايات أنه قال: (فقولوا كذا وكذا) يعني: كأنه هناك ألقاه عليه، وهنا حصل منه التأذين على مكان مرتفع.
قوله: [(ولولا أن يقول الناس -قال ابن المثنى: أن تقولوا-)].
يعني: يقول عبد الله بن زيد: (ولولا أن يقول الناس) وهذا لفظ الشيخ الأول عمرو بن مرزوق، والثاني ابن المثنى قال: (أن تقولوا) فالأول كان تعبيره بالغيبة وهذا تعبيره بالخطاب.
قوله: [(لقلت: إني كنت يقضاناً غير نائم)].
يعني: لولا أن يقولوا: كذب لقلت: إني كنت بين النائم واليقظان كما سبق أن مر، ولكن معناه أنه تحققه كأنه يشاهده ويعاينه وكأنه يقظان.
قوله: [(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -وقال ابن المثنى -: لقد أراك الله عز وجل خيراً -ولم يقل: عمرو: لقد أراك الله خيراً-)].
يعني أن أحد الشيخين قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لقد أراك الله خيراً) يخاطب عبد الله بن زيد، والثاني لم يقل هذه الجملة.
قوله: [(فمر بلالاً فليؤذن)].
يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عبد الله بن زيد: (فمر بلالاً فليؤذن) فأذن بلال بهذه الألفاظ التي سمعها عبد الله بن زيد في منامه.
قوله: [(قال: فقال عمر رضي الله عنه: أما إني قد رأيت مثل الذي رأى ولكن لما سبقت استحييت)].
هذا فيه أن عمر رضي الله عنه أيضاً رأى هذه الرؤيا، وهي رؤيا التأذين في المنام، وقد سبق أن مر في الطريق الأولى ذكر قصة عمر، وكذلك في طريق أخرى بعدها.(71/15)
بيان الإحالة الثانية
قوله: [(قال: وحدثنا أصحابنا قال: وكان الرجل إذا جاء يسأل فيخبر بما سبق من صلاته)].
وهذه الحالة الثانية من الأحوال الثلاث، فالحال الأولى فيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعجبه أن يجتمع الناس للصلاة، ففكر في الطريقة التي يتم بها الاجتماع، ثم عند ذلك جاء ذكر الطريقة التي يتم بها إخبار الناس وهي الأذان، ثم بعدما صار الناس يصلون جماعة وتحولوا من كونهم فرادى إلى كونهم جماعة جاءت حالة أخرى، وهي أن الإنسان عندما يأتي وقد سبق بالصلاة يسأل فيخبر بالإشارة إنه فات كذا وبقي كذا، فكان يصلي ما فاته ثم يدخل مع النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(وإنهم قاموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين قائم وراكع وقاعد ومصل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم)].
يعني: الناس كانوا يصلون ما سُبِقُوا به ثم يلحقون ويدخلون مع النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(فقال معاذ: لا أراه على حال إلا كنت عليها)] أي: ثم بعد ذلك جاء معاذ رضي الله عنه ولم يفعل مثل ما فعل غيره، وقال: لا أراه على حال إلا فعلت مثل ما فعل ثم قضيت الذي سبقت به، يعني أنه لا يحتاج إلى سؤال ولا يشتغل بقضاء الذي فاته قبل أن يدخل مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن يأتي ويدخل مع النبي صلى الله عليه وسلم وإذا فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته قام وأتى بالشيء الذي سبق به، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن معاذاً قد سن لكم سنة، كذلك فافعلوا) يعني أن الإنسان يدخل مع الإمام إذا جاء، وبعد فراغ الإمام يقوم من فاته شيء فيقضيه ويتمه، ولا يحتاج إلى أن يسأل ولكنه يصلي، كما جاء في الحديث: (ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا).
فإذاً: حصل التغير من حال إلى حال، وهذه هي الحالة الثانية من الأحوال الثلاث.
قوله: [قال: (وكان الرجل إذا جاء يسأل فيخبر بما سبق من صلاته، وإنهم قاموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين قائم وراكع وقاعد ومصل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن المثنى: قال عمرو: وحدثني بها حصين عن ابن أبي ليلى: حتى جاء معاذ.
قال شعبة: وقد سمعتها من حصين)].
يعني أن عمرو بن مرة يروي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ويروي -أيضاً- عن حصين عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، أي أنه يروي بواسطة وبغير واسطة.
وكذلك شعبة قد سمعها من حصين كما سمعها من عمرو بن مرة.
قوله: [(فقال: لا أراه على حال إلى قوله: كذلك فافعلوا)].
يعني: فقال معاذ: لا أراه على حال إلا فعلت كما فعل، وفي آخر الأمر قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كذلك فافعلوا) مثل فعل معاذ.
[قال أبو داود: ثم رجعت إلى حديث عمرو بن مرزوق].
يعني: بعدما ذكر هذا الذي جاء عن عمرو بن مرة وشعبة وذكر حصيناً قال: (ثم رجعت إلى حديث عمرو بن مرزوق).
قوله: [(قال: فجاء معاذ فأشاروا إليه)].
يعني: أشاروا إليه يخبرونه بالذي بقي عليه، أشاروا إليه بالعدد إما بركعتين أو بركعة أو بثلاث بالأصابع.
قوله: [قال شعبة: وهذه سمعتها من حصين].
يعني: هذا سمعته في قصة معاذ.
قوله: [(فقال معاذ: لا أراه على حال إلا كنت عليها)].
يعني: لا أرى النبي صلى الله عليه وسلم على حال إلا كنت عليها، إن كان راكعاً ركعت معه، وإن كان ساجداً سجدت معه، وإن كان جالساً جلست معه، وإن كان قائماً قمت معه.
ثم بعد ذلك يقضي ما فاته.
قوله: [(قال: فقال: (إن معاذاً قد سن لكم سنة، كذلك فافعلوا)].
أي أن النبي صلى الله عليه وسلم بين لهم أن هذا الذي فعله معاذ هو الذي يصار إليه، وهو الذي يعول عليه، ويترك الناس ما كانوا عليه من قبل من كونهم يتعرفون على ما سبقوا به بالإشارة، ثم يفعلونه قبل أن يدخلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدخلون مع النبي صلى الله عليه وسلم ويسلمون معه، ولكنهم يختلفون معه في البداية، فما فعله معاذ يجعلهم يتفقون معه فيما فعله وبعد أن يسلم يأتون بالذي سبقوا به.(71/16)
بيان الإحالة الثالثة
الحالة الثالثة من الأحوال التي تتعلق بالصلاة ستأتي بعد ذلك في طريق أخرى، وفيها التعبير بقوله: الحال الثالث، وهي أنهم كانوا يصلون إلى بيت المقدس، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يرجو أن يحول إلى الكعبة، فحول إلى الكعبة وتغير الأمر.
وهذه الأحوال الثلاثة التي قال عنها في: [أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال:] الأول منها يتعلق بكونهم يصلون فرادى، ثم فكر النبي صلى الله عليه وسلم في طريقة الاجتماع كيف تكون، وانتهى الأمر إلى أن يكون الاجتماع بالأذان.
وبعدما وجدت الجماعة كان الواحد يأتي ويتعرف على ما سبق به، ثم يأتي به قبل أن يدخل مع النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم غير الأمر إلى ما فعله معاذ.
والحال الثالث أنهم كانوا يستقبلون بيت المقدس فغير الحال إلى أن يستقبلوا الكعبة.(71/17)
بيان إحالات الصيام
وهنا ذكر أن الصيام له ثلاثة أحوال، حيث قال: (وحدثنا أصحابنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة أمرهم بصيام ثلاثة أيام، ثم أنزل رمضان، وكانوا قوماً لم يتعودوا الصيام، وكان الصيام عليهم شديداً، فكان من لم يصم أطعم مسكيناً، فنزلت هذه الآية: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185]، فكانت الرخصة للمريض والمسافر فأمروا بالصيام)].
يعني أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة أمرهم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، ثم بعد ذلك أمروا بصيام رمضان، ولكن لم يكن صيام رمضان على الإلزام؛ لأن الصيام كان عليهم شديداً، فأمروا بأن يصوموا رمضان، ومن أراد أن لا يصوم فإنه يطعم عن كل يوم مسكيناً، ومع ذلك رغّبوا بأن الصيام خير لهم، ثم بعد ذلك نسخ الأمر وحصل التحول إلى حال ثالث، وهو أن من شهد الشهر يتحتم عليه صيامه، وأنه لا يفطر الإنسان إلا إن كان مسافراً أو مريضاً، وبقي الإطعام في حق الشيخ الكبير ومثله المريض الذي مرضه لا يرجى برؤه، فإنه بدل الصيام يأتي بالفدية التي هي إطعام مسكين عن كل يوم.
وجاء أنه حصل للناس حال أخرى، وهي أنه إذا جاء وقت الإفطار وكان الواحد منهم لم يأكل شيئاً ثم نام فإنه لا يأكل تلك الليلة ويواصل الصيام من الغد، ثم بعد ذلك نسخ بأن من نام فإن له إذا قام من الليل أن يأكل وله أن يجامع.
قوله: [(قال: وحدثنا أصحابنا قال: وكان الرجل إذا أفطر فنام قبل أن يأكل لم يأكل حتى يصبح)].
يعني: إذا جاء وقت الإفطار ولم يأكل شيئاً ثم نام فإنه لا يأكل شيئاً بعد استيقاظه من النوم حتى يصبح، ويواصل اليوم الذي وراءه.
قوله: [(قال: فجاء عمر بن الخطاب فأراد امرأته، فقالت: إني قد نمت)].
يعني: جاء عمر إلى امرأته وأرادها، فقالت: إني قد نمت، ومعنى هذا أنه من نام ثم استيقظ فإنه لا يأكل ولا يجامع حتى يأتي الصباح ويواصل الصيام حتى يأتي الليل الآخر فيأكل قبل أن ينام.
قوله: [(فظن أنها تعتل)] يعني: ظن أنها تعتذر للتخلص، أو أنها لا تريد ذلك الشيء، فلم يطمئن إلى قولها، أو ظن أنها تريد أن تعتذر فأتاها.
قوله: [(فجاء رجل من الأنصار فأراد الطعام فقالوا: حتى نسخن لك شيئاً.
فنام)].
يعني: جاء رجل من الأنصار وقد جاء وقت الإفطار، فطلب منهم أن يقدموا له شيئاً، فقالوا: حتى نسخن.
فاضطجع وجاءه النوم، فلما استيقظ لم يتمكن من الأكل؛ لأنهم ممنوعون من أن يأكلوا إذا ناموا.
قوله: [(فلما أصبحوا أنزلت عليه هذه الآية: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة:187])].
يعني: لما أصبحوا أنزلت الآية: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة:187] إلى قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] أي أن من نام واستيقظ في الليل فإن له أن يأكل وله أن يجامع، ونسخ ما كانوا عليه أولاً.(71/18)
تراجم رجال إسناد حديث ابن أبي ليلى في إحالات الصلاة والصيام
قوله: [حدثنا عمرو بن مرزوق].
عمرو بن مرزوق ثقة له أوهام، أخرج حديثه البخاري وأبو داود.
[أخبرنا شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، ثقة، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عمرو بن مرة].
هو عمرو بن مرة المرادي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت ابن أبي ليلى].
هو عبد الرحمن بن أبي ليلى الكوفي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[ح: وحدثنا ابن المثنى].
الحاء للتحول من إسناد إلى إسناد، وابن المثنى هو محمد بن المثنى، لقبه الزمن، وكنيته أبو موسى العنزي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة، رووا عنه مباشرة بدون واسطة.
[حدثنا محمد بن جعفر].
هو محمد بن جعفر الملقب غندر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شعبة عن عمرو بن مرة سمعت ابن أبي ليلى].
قد مر ذكرهم في الإسناد الأول.(71/19)
شرح سنن أبي داود [072]
الأذان شعيرة من شعائر الإسلام، وهو إعلام الناس بدخول وقت الصلاة، ولذا يستحب فيه رفع الصوت، وقد جاء أنه يغفر للمؤذن مدى صوته، ويشهد له بذلك يوم القيامة كل رطب ويابس سمع صوته، ويفر الشيطان من سماعه وله ضراط، وعلى المؤذن أن يحرص على تعاهد الوقت والعناية به، ويسن له أن يلتفت يميناً وشمالاً عند الحيعلتين في الآذان، فإذا فرغ من أذانه فليغنم المسلم الوقت بينه وبين الإقامة، فإن الدعاء فيه مستجاب.(72/1)
ما جاء في رفع الصوت بالأذان(72/2)
شرح حديث: (المؤذن يغفر له مدى صوته)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب رفع الصوت بالأذان.
حدثنا حفص بن عمر النمري حدثنا شعبة عن موسى بن أبي عثمان عن أبي يحيى عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المؤذن يغفر له مدى صوته، ويشهد له كل رطب ويابس، وشاهد الصلاة يكتب له خمس وعشرون صلاة، ويكفر عنه ما بينهما)].
أورد الإمام أبو داود رحمه الله: [باب رفع الصوت بالأذان] رفع الصوت بالأذان مطلوب، وذلك لأن الغرض منه هو إبلاغ الناس، ورفع الصوت يكون به الإبلاغ على وجه التمام، وعلى وجه يصل النداء إلى الناس، بحيث إذا لم يحصل رفع الصوت بالأذان لم يصل إليهم.
وأورد أبو داود رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (المؤذن يغفر له مدى صوته) يعني أن المؤذن يحصل له مغفرة ذنوبه على التمام والكمال بحصول نهاية صوته.
وقيل: إن في ذلك تشبيهاً، وإنه لو كانت الذنوب كثيرة وتصل إلى مكان الصوت لكثرتها فإنه يغفر له بسبب ذلك.
وعلى كل فإن رفع الصوت يحصل به إبلاغ الناس، وكل من بلغه صوت ذلك المؤذن واستفاد بسبب هذا الصوت وبهذا النداء فإن المؤذن يؤجر ويثاب ويغفر له بسبب ذلك.
قوله: [(ويشهد له كل رطب ويابس)] يعني: يشهد للمؤذن يوم القيامة كل رطب ويابس بلغه صوته.
قوله: [(وشاهد الصلاة يكتب له خمس وعشرون صلاة ويكفر عنه ما بينهما)] يعني أن الذي يشهد الصلاة ويستجيب لهذا النداء يحصل أجراً عظيماً، وهو أن له بتلك الصلاة خمساً وعشرين صلاة، ويغفر له ما بين الصلاتين.
ومن المعلوم أن المؤذن هو شاهد للصلاة وحاضر في المسجد ومحصل أجر صلاة الجماعة، وكذلك أيضاً يكفر له ما بين الصلاتين، فالذي يحصل للذين استجابوا لندائه هو حاصل له، ومع ذلك يثاب بكونه المتسبب في دعوتهم وفي وصولهم إلى المسجد، فكل هذه الأمور التي جاءت في الحديث حاصلة له من جهة أنه يغفر له مدى صوته، ويشهد له كل رطب ويابس، وهو شاهد الصلاة فيحصل بالصلاة خمساً وعشرين صلاة، ويكفر له ما بين الصلاتين، وأيضاً الذين استجابوا لندائه يثاب على كونه دعاهم، وكونه كان سبباً في وصولهم إلى المسجد.(72/3)
تراجم رجال إسناد حديث: (المؤذن يغفر له مدى صوته)
قوله: [حدثنا حفص بن عمر النمري].
حفص بن عمر النمري ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
[حدثنا شعبة].
هو شعبة بن الحجاج الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن موسى بن أبي عثمان].
موسى بن أبي عثمان مقبول، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجه.
[عن أبي يحيى].
هو أبو يحيى المكي، وهو مقبول، أخرج له البخاري في (خلق أفعال العباد) وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
[عن أبي هريرة].
هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو أكثر السبعة حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله تعالى عنه وأرضاه، والحديث ثابت وله شواهد.(72/4)
شرح حديث: (إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا القعنبي عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضي النداء أقبل، حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر، حتى إذا قضي التثويب أقبل، حتى يخطر بين المرء ونفسه، ويقول: اذكر كذا اذكر كذا لما لم يكن يذكر حتى يضل الرجل أن يدري كم صلى)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله عنه: [(إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين)] وذلك لأن النداء بالأذان فيه دعوة الناس إلى الخير وإقبالهم على الله، واتجاههم إلى المساجد لعبادة الله، والشيطان مهمته أن يصرف الناس عن عبادة الله، ومهمته أن يَكْثُرَ الغاوون والهالكون الذين يكونون معه في النار، فهو إذا سمع هذا النداء العالي الذي فيه دعوة الناس إلى الخير فإنه يدبر مسرعاً وله ضراط؛ لأنه يشق عليه أن يسمع هذا النداء الذي فيه دعوة الناس إلى الخير، وقيل: إن هذا الذي يحصل منه من الضراط بسبب أنه يحصل له تأثر عظيم فيحصل منه ذلك.
وقيل: إنه يحصل منه ذلك حتى يشتغل بسماعه عن سماع الأذان.
وقيل غير ذلك.
وفيه أن الشيطان يفر من ذكر الله عز وجل، لاسيما الذكر الذي منفعته عظيمة وفائدته كبيرة، مثل النداء بأصوات مرتفعة بأن يتجه الناس إلى الصلاة، وأن يأتوا إلى المساجد لعبادة الله عز وجل.
قوله: [(فإذا قضي النداء أقبل)] وذلك لأن فراره من جهة الصوت الذي سمعه يريد أن لا يسمعه.
قوله: [(فإذا ثوب بالصلاة أدبر)] يعني: إذا أقيمت الصلاة وحصل النداء مرة ثانية، والتثويب: هو الرجوع؛ لأنه حصل نداء فشرد وهرب، ثم أقبل لما فرغ من النداء، حتى إذا رجع إلى النداء مرة أخرى من أجل إقامة الصلاة فر -أيضاً- حتى لا يسمع.
فإذاً: قوله: [(ثوب)] يعني: أقيمت الصلاة ورُجِع إلى الذكر وإلى الأذان؛ لأن الإقامة أذان، إلا أن الأذان إعلام بدخول الوقت، والإقامة إعلام بالقيام إلى الصلاة، ولهذا كان بين الأذان والإقامة فرق من جهة أن الأذان تكون ألفاظه كثيرة؛ لأن المقصود من ذلك هو أن تتردد الكلمات حتى يسمعها من يسمعها من الناس، ولو فات بعضها بعض الناس فإنه يتمكن من سماع باقيها، وأيضاً يرفع الصوت بالأذان أكثر من الإقامة؛ لأن الأذان إعلام للناس في بيوتهم حتى يحضروا، والإقامة فيها الإسراع والحدر بأن يؤتى بها متتابعة، بخلاف الأذان فإنه يؤتى به بالترسل والتمهل، فكل من الأذان والإقامة أذان وذكر لله عز وجل، والشيطان يفر منهما.
أما الإقامة فهي دعوة الحاضرين وإخبار الحاضرين بأن الصلاة قد قامت، فيهبون ويقومون من مجالسهم ومن أماكنهم لكي يصفوا ويسووا صفوفهم ثم يدخلون في الصلاة.
قوله: [(حتى إذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه، ويقول: اذكر كذا اذكر كذا)].
يعني: إذا فُرِغ من الإقامة رجع حتى يخطر بين الإنسان وبين نفسه أو قلبه، فيذكره أشياء ما كان يذكرها ويتابعها بفكره وبذهنه حتى ينشغل عن صلاته، وحتى ينسى الركعات وأعداد الركعات.
قوله: [(حتى يضل الرجل أن يدري كم صلى)] يعني: حتى ينسى أعداد صلاته فلا يدري هل صلى ثلاثاً أو أربعاً أو اثنتين.
والحاصل أن الشيطان عدو للإنسان، وهو يسعى في غوايته وإضلاله، والصلاة التي هي عمود الإسلام والتي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين إذا دخل المصلي فيها جاء الشيطان ليحول بينه وبينها، وليشغله عنها بتذكيره بأمور يريد منه أن تكون شغله الشاغل، وأن ينصرف عن صلاته حتى يئول أمره إلى أنه لا يدري كم صلى من الركعات.(72/5)
تراجم رجال إسناد حديث: (إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين)
قوله: [حدثنا القعنبي].
القعنبي مر ذكره، واسمه عبد الله بن مسلمة، ويأتي ذكره أحياناً باسمه واسم أبيه، ويأتي أحياناً بنسبته، فيقال: عبد الله بن مسلمة أو القعنبي فقط.
[عن مالك].
هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه الإمام المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي الزناد].
هو عبد الله بن ذكوان المدني أبو عبد الرحمن، ولقبه أبو الزناد وهو لقب على صيغة الكنية وليس بكنية، بل الكنية أبو عبد الرحمن وأبو الزناد لقب له، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعرج].
هو عبد الرحمن بن هرمز المدني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
قد مر ذكره.
قوله: [(حتى يضل)].
إذا كانت بالضاد فهي بمعنى (ينسى)؛ لأن كلمة (يضل) تأتي بمعنى النسيان، وذلك كقوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة:282]، وأيضاً تأتي بمعنى الخطأ والضلال عن الشيء والتيه عنه، يعني أنه يعمى عن صلاته أو يخطئ في مقدار صلاته.
أما بالظاء: (حتى يظل) فالمعنى: يصير.(72/6)
ما يجب على المؤذن من تعاهد الوقت(72/7)
شرح حديث: (الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: ما يجب على المؤذن من تعاهد الوقت.
حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا محمد بن فضيل حدثنا الأعمش عن رجل عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين).
حدثنا الحسن بن علي حدثنا ابن نمير عن الأعمش قال: نبئت عن أبي صالح أنه قال: ولا أراني إلا قد سمعته منه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة، وهي: [باب: ما يجب على المؤذن من تعاهد الوقت] يعني أن المؤذن مؤتمن على الوقت وهو الذي عليه أن يحافظ على الوقت؛ لأن الناس يعولون على أذانه، ويجب أن يكون أذانه في الوقت لا يتقدم عليه ولا يتأخر عنه كثيراً؛ لأنه لو تقدم عليه أدى ذلك إلى أن الناس -لا سيما أصحاب البيوت والنساء- يصلون قبل الوقت، والصلاة قبل الوقت لا تجوز.
وإذا أخر الأذان عن الوقت وعن أوله قد يترتب على ذلك أن يأكل من يريد الصيام في نهار رمضان؛ لأن الإمساك يكون عند طلوع الفجر والأذان علامة عليه.
فإذاً: يجب على المؤذن أن يتعاهد الوقت، وأن يكون عارفاً به، وأن يكون أذانه عند دخول الوقت، لا يتقدم عليه فيترتب على ذلك صلاة الناس قبل الوقت، ولا يتأخر عنه فيترتب على ذلك أن يحصل منهم الأكل والشرب بعد طلوع الفجر بالنسبة للصائمين.
وأورد أبو داود رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: [(الإمام ضامن)] يعني أنه راع ومحافظ على الصلاة بالإتيان بأفعالها والمأمومون تبع له، فهو ضامن.
قوله: [(والمؤذن مؤتمن)] يعني أنهم يعولون على أذانه في صيامهم وفي صلاتهم، وفي أعمالهم التي تبنى على الأذان وتترتب على الأذان، فهو مؤتمن.
قوله: [(اللهم أرشد الأئمة)] يعني: أن يدلهم على القيام بما هو واجب عليهم من هذه المسئولية وهذه التبعة، التي وصف الإمام بأنه ضامن فيها.
قوله: [(واغفر للمؤذنين)] يعني: ما يحصل منهم من خطأ فيما يتعلق بالوقت من تقدم أو تأخر، من غير قصد ومن غير تعمد ومن غير تفريط.(72/8)
تراجم رجال إسناد حديث: (الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن)
قوله: [حدثنا أحمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الإمام المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا محمد بن فضيل].
هو محمد بن فضيل بن غزوان، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الأعمش].
هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن رجل].
يعني: غير مسمى مبهم.
[عن أبي صالح].
هو ذكوان السمان، واسمه ذكوان ولقبه السمان وكنيته أبو صالح، ويأتي ذكره كثيراً بالكنية، يروي عن أبي هريرة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، وقد مر ذكره.
[حدثنا الحسن بن علي].
هو الحسن بن علي الحلواني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي.
[حدثنا ابن نمير].
هو عبد الله بن نمير، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الأعمش قال: نبئت عن أبي صالح].
و (نبئت) معناها: أخبرت، وعلى هذا فهو مثل الذي قبله، أي: بينه وبين أبي صالح واسطة؛ لأنه لم يسمع منه.
وعلى هذا فيكون هناك واسطة مبهمة، ولكن جاء الحديث من طريق أخرى عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه، وكذلك أيضاً جاء عن الأعمش أنه قال: ولا أراني إلا قد سمعته من أبي صالح.
يعني أنه قد سمعه بدون واسطة.
وقد رجح الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في تعليقه على الحديث في جامع الترمذي اتصاله، وأنه قد جاء عن الأعمش من غير شك ومن غير تردد، وقد جاء -أيضاً- من غير طريق الأعمش، من رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه أبي صالح السمان، وهي شاهد لطريق الأعمش، والحديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(72/9)
الأذان فوق المنارة(72/10)
شرح حديث: (كان بيتي من أطول بيت حول المسجد وكان بلال يؤذن عليه الفجر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: الأذان فوق المنارة.
حدثنا أحمد بن محمد بن أيوب حدثنا إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير عن امرأة من بني النجار رضي الله عنها قالت: (كان بيتي من أطول بيت حول المسجد، وكان بلال يؤذن عليه الفجر، فيأتي بسحر فيجلس على البيت ينظر إلى الفجر فإذا رآه تمطى ثم قال: اللهم إني أحمدك وأستعينك على قريش أن يقيموا دينك.
قالت: ثم يؤذن، قالت: والله ما علمته كان تركها ليلة واحدة) تعني هذه الكلمات.
].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة، وهي: [باب الأذان فوق المنارة] يعني أن الأذان يكون على مكان مرتفع؛ لأن المقصود منه إبلاغ الناس، وكونه على مكان عال مع رفع الصوت كل هذه من الأسباب التي توصل الصوت إلى ما لا يصل إليه فيما لو كان في مكان منخفض، أو كان بغير رفع صوت.
والمنارة: هي مكان عال مرتفع، والمسلمون بنوا المآذن والمنارات لصعود المؤذنين عليها ولرفع الصوت منها، وأيضاً هي علامة على المساجد ودلالة على المساجد ويعرف بها المساجد من الأماكن البعيدة.
وأورد أبو داود رحمه الله حديث المرأة من بني النجار التي كان بيتها من أطول بيت في المدينة، وفيه أن بلالاً كان يأتي إلى هذا البيت المرتفع ويصعد عليه في السحر يرقب الصبح وينظر للفجر، فإذا طلع أذن على هذا المكان العالي المرتفع، وكان يقول هذه الكلمات التي ذكرتها المرأة عنه [اللهم أني أحمدك وأستعينك على قريش أن يقيموا دينك] وهذا كلام وليس بأذان، وإنما كان يقوله وتسمعه هي؛ لأنها صاحبة البيت.
والمقصود أن الأذان يكون على المكان المرتفع، وأن المسلمين اتخذوا المنارات على المساجد في تحقيق هذا الغرض الذي كان بلال يفعله، حيث يختار ذلك المكان الذي هو أرفع بيت حول المسجد فيؤذن عليه.(72/11)
تراجم رجال إسناد حديث: (كان بيتي من أطول بيت حول المسجد وكان بلال يؤذن عليه الفجر)
قوله: [حدثنا أحمد بن محمد بن أيوب].
أحمد بن محمد بن أيوب صدوق، أخرج حديثه أبو داود.
[حدثنا إبراهيم بن سعد].
إبراهيم بن سعد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن إسحاق].
هو محمد بن إسحاق المدني، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن.
[عن محمد بن جعفر بن الزبير].
محمد بن جعفر بن الزبير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عروة بن الزبير].
هو عروة بن الزبير بن العوام، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن امرأة من بني النجار].
وهي صحابية لم تسم، وحديثها أخرجه أبو داود واحده.(72/12)
استدارة المؤذن في أذانه(72/13)
شرح حديث أبي جحيفة: (أتيت النبي بمكة وهو في قبة حمراء من أدم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في المؤذن يستدير في أذانه.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا قيس -يعني ابن الربيع -، ح: وحدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا وكيع عن سفيان جميعاً عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وهو في قبة حمراء من أدم، فخرج بلال فأذن فكنت أتتبع فمه ههنا وههنا، قال: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه حلّة حمراء برود يمانية قطري.
وقال موسى: قال: رأيت بلالاً خرج إلى الأبطح فأذن فلما بلغ: (حي على الصلاة حي على الفلاح) لوى عنقه يميناً وشمالاً ولم يستدر، ثم دخل فأخرج العنزة) وساق حديثه].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة وهي: [باب في المؤذن يستدير في أذانه] يعني: عندما يؤذن يستدير، وهذه الاستدارة لا تكون بجسده كله بحيث ينحرف عن القبلة ويكون اتجاهه إلى جهة اليمين أو جهة الشمال بكليته، بل يكون مستقبل القبلة في أذانه من أوله إلى آخره، ولكنه عندما يأتي إلى قوله: (حي على الصلاة حي على الفلاح) يستدير برأسه وبعنقه، أي: يلوي عنقه مع اتجاهه إلى القبلة وعدم انصرافه عنها، وإنما مع اتجاهه إلى القبلة يستدير برأسه لا بكليته، هذا هو المقصود من الاستدارة بالرأس وليس بالجسد كله، ولهذا جاء في بعض الروايات بأنه لم يستدر، وهو عبر هنا بالاستدارة، والمقصود أن المنفي هو الاستدارة بالجسم كله، وذلك لا ينفي الاستدارة ببعض الجسم وهو أعلاه الذي هو الرأس حيث يلتفت يميناً وشمالاً عند قول: (حي على الصلاة حي على الفلاح).
وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي جحيفة وهب بن عبد الله السوائي رضي الله تعالى عنه أنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وهو في قبة حمراء من أدم) يعني: في خيمة مكونة من أدم، والأدم هو: الجلد من الأديم.
قوله: [فخرج بلال فأذن فكنت أتتبع فمه ههنا وههنا].
وهذا هو المقصود بالاستدارة في الأذان، وقوله: [فكنت أتتبع فمه ههنا وههنا]، يعني: يمينه وشماله، وهذا لا يكون إلا بالاستدارة، ولكنها استدارة -كما هو معلوم- ليست بالكل، فالإنسان يتجه إلى القبلة في أذانه ويستدير برأسه يميناً فيذهب صوته يميناً ويستدير شمالاً فيذهب صوته شمالاً، وذلك عندما يقول: (حي على الصلاة حي على الفلاح) وليس في كل الأذان يستدير المؤذن، وإنما يستدير عند قوله: (حي على الصلاة حي على الفلاح) لأن هذا هو المقصود بالأذان؛ لأن الأذان هو دعوة الناس إلى الصلاة، وقوله: (حي على الصلاة حي على الفلاح) معناه: هلموا وأقبلوا، فيلتفت يميناً وشمالاً يدعوهم إلى أن يقبلوا إلى الصلاة وأن يتجهوا إلى المساجد لأداء الصلاة، وليس في هذا الحديث الذي هنا ذكر: (حي على الصلاة حي على الفلاح)، ولكن جاء في صحيح مسلم بلفظ: (أتتبع فاه ههنا وههنا يميناً وشمالاً يقول: حي على الصلاة حي على الفلاح) يعني أن هذه الاستدارة وهذا الالتفات يميناً وشمالاً يكون عند قوله: (حي على الصلاة حي على الفلاح).
وقوله: [(ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه حلة حمراء برود يمانية قطري)].
يعني أن هذه الحلة مكونة من برود يمانية، وقوله: (قطري) أي أنها منسوبة إلى مكان في البحرين يقال له: قطر، وقيل: المعنى: كأنه قطري.
يعني أنه شبهها بالقطري، وبهذا يستقيم كونها يمانية وأنها قطري؛ لأن كونها يمانية غير القطري.
وقوله: [وقال موسى: قال: رأيت بلالاً خرج إلى الأبطح فأذن فلما بلغ: (حي على الصلاة حي على الفلاح) لوى عنقه يميناً وشمالاً ولم يستدر].
الأبطح هو المكان الذي نزله الرسول صلى الله عليه وسلم في حجته قبل الحج وبعد الحج؛ لأنه عليه الصلاة والسلام في حجه نزل بالأبطح أربعة أيام قبل الحج وبعد الحج عندما أراد أن يسافر إلى المدينة نزل بالأبطح أيضاً بعدما رجع من منى.
وقوله: (فأذن فلما بلغ حي على الصلاة حي على الفلاح لوى عنقه)، وهذا فيه أن هذا الالتفات في الأذان إنما يكون عند قول المؤذن: (حي على الصلاة حي على الفلاح)، وقد جاء ذلك في صحيح مسلم في حديث أبي جحيفة حيث قال: (أتتبع فاه ههنا وههنا يقول: حي على الصلاة حي على الفلاح).
وقوله: (لوى عنقه) يعني أنه التفت يميناً وشمالاً.
وقوله: (ولم يستدر) يعني: ولم يستدر بكليته، فلا ينفي استدارته برأسه؛ لأن الاستدارة بالرأس جاء ما يدل عليها في الرواية السابقة حيث قال: (فكنت أتتبع فمه ههنا وههنا يميناً وشمالاً يقول: حي على الصلاة حي على الفلاح).
وقوله: [ثم دخل فأخرج العنزة].
العنزة هي العصا التي في رأسها حديدة، وكانت تنصب لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تكون سترة له يصلي إليها.(72/14)
تراجم رجال إسناد حديث أبي جحيفة: (أتيت النبي بمكة وهو في قبة حمراء من أدم)
قوله: [حدثنا موسى بن إسماعيل].
هو موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا قيس يعني ابن الربيع].
قيس بن الربيع صدوق، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجه.
[وحدثنا محمد بن سليمان الأنباري].
محمد بن سليمان الأنباري صدوق، أخرج له أبو داود وحده.
[حدثنا وكيع].
هو وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سفيان].
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، ثقة فقيه، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[جميعاً عن عون بن أبي جحيفة].
عون بن أبي جحيفة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه هو أبو جحيفة، واسمه: وهب بن عبد الله السوائي رضي الله تعالى عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.(72/15)
حكم التفات المؤذن عند الإقامة
والتفات المؤذن عند قوله: (حي على الصلاة حي على الفلاح) الذي يبدو أنه في الأذان فقط؛ لأنَّه عند الإقامة يكون الناس موجودين حاضرين بخلاف الأذان، فالأذان هو الذي يحتاج إلى أن يلتفت المؤذن فيه ويرفع صوته.(72/16)
سبب نزول النبي صلى الله عليه وسلم في الأبطح
واختلف العلماء في سبب نزول النبي صلى الله عليه وسلم في الأبطح، فمنهم من قال: إنه حصل اتفاقاً، يعني أنه لم يكن مقصوداً، وإنما كان مكاناً مهيئاً من جهة دخول منى ومن جهة الذهاب إلى المدينة، ومنهم من قال: إنه كان مقصوداً وإن هذا المكان هو الذي تعاقدت فيه قريش على مقاطعة بني هاشم لما قاطعوهم مع النبي صلى الله عليه وسلم.
وكما هو معلوم لا يقال: إن هذا من سنن الحج ومن الأمور المطلوبة في الحج، سواءٌ نزل الناس الأبطح أو لم ينزلوا فالحج ليس له علاقة بهذا.(72/17)
ما جاء في الدعاء بين الأذان والإقامة(72/18)
شرح حديث: (لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في الدعاء بين الأذان والإقامة: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن زيد العمي عن أبي إياس عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة)].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة، وهي: [باب ما جاء في الدعاء بين الأذان والإقامة] يعني: في فضله، وأن ذلك من أسباب قبول الدعاء أو من الأوقات التي يقبل فيها الدعاء، وذلك أن الإنسان عندما يكون بين الأذان والإقامة ينتظر الصلاة هو في صلاة وفي عبادة وفي إقبال على الله عز وجل وبعد عن مشاغل الدنيا والحديث فيها والتعلق بها، فيكون ذلك من الأوقات التي يقبل فيها الدعاء ويرجى فيها قبول الدعاء.
وقد أورد أبو داود حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة)] يعني أنه يقبل.(72/19)
تراجم رجال إسناد حديث: (لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة)
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
هو محمد بن كثير العبدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا سفيان].
سفيان هو الثوري، وقد مر ذكره، وسفيان الثوري متقدم، ولكن محمد بن كثير كانت وفاته سنة (228هـ) ومات وعمره تسعون سنة، والثوري توفي سنة (161هـ) فـ الثوري متقدم الوفاة إلا أن محمد بن كثير كان عمره طويلاً، فقد بلغ تسعين سنة، وكان من كبار شيوخ البخاري وشيوخ أبي داود؛ لأنه روى له البخاري وروى له أبو داود بغير واسطة، فهو من كبار الشيوخ ومعمر، ولهذا أدرك الثوري وروى عن الثوري مع أن الثوري كانت وفاته سنة (161هـ) [عن زيد العمي].
هو زيد بن الحواري العمي، ضعيف، أخرج له أصحاب السنن.
[عن أبي إياس].
أبو إياس هو معاوية بن قرة، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس بن مالك].
أنس بن مالك رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والحديث في إسناده زيد العمي، ولكنه جاء من طرق أخرى، فهو ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يدل على فضل الدعاء في هذا الوقت.(72/20)
الأسئلة(72/21)
وجوب صلاة الجماعة على من لم يسمع الأذان إذا علم بوقت الصلاة
السؤال
من لم يسمع الأذان ولكن يعلم أن وقت الصلاة قد حان هل تكون صلاة الجماعة واجبة عليه؟
الجواب
يجب على الإنسان أن يحرص على الجماعة، وأن ينتبه للأذان، وأن يرتب نفسه على أساس أنه يكون في ذلك الوقت الذي هو وقت الأذان منتبهاً، وإذا كان نائماً يوصي من يوقظه، أو يجعل ما ينبهه، ولا يكون الأمر أنه لا يقوم إلا إذا سمع الأذان، بل عليه أن يتنبه وأن يتحرى، لا أن يغفل ويعرض.(72/22)
وسوسة الشيطان في الصلاة
السؤال
إذا كان الشيطان يفر من ذكر الله فكيف يأتي في الصلاة فيوسوس؟
الجواب
الأذان نداء عام يسمعه ما شاء الله عز وجل من خلقه، ولهذا ذكر صلى الله عليه وسلم أنه يشهد للمؤذن كل رطب ويابس بلغه ذلك الأذان، وقد قيل: من أسباب هروب الشيطان عند الأذان أنه لا يريد أن يكون من الذين يسمعون ويكون من الشاهدين للمؤذن فيما حصل منه، ومن المعلوم أن الأذان صوت مرتفع بذكر الله عز وجل وذلك يسوءه، وكونه يأتي ويشغل الإنسان في صلاته يريد بذلك أن يصده عن الذكر، وأما المؤذن فلا يمكن له أن يلهو عن الأذان أو يشغل عن الأذان؛ لأن الأذان حاصل، ولكن الذي يريد هو إشغال الإنسان عن الصلاة، فبعد أن استجاب الناس لنداء المنادي وجاءوا إلى الصلاة ودخلوا فيها فإنه يريد أن يفسدها عليهم.(72/23)
بيان ضعف حديث معاذ في كون النبي صلى إلى بيت المقدس ثلاثة عشر شهراً
السؤال
ذكر أنه صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً، وهذا غير ما ذكر في حديث معاذ، فهل ما جاء في حديث معاذ رواية شاذة؟
الجواب
الثابت هو ما جاء في الصحيحين، وأما هذه الرواية التي جاءت عن معاذ فهي تعتبر ضعيفة من جهة أن فيها انقطاعاً، وليس لها ما يشهد لها، ومن جهة أن في إسنادها أحد الأشخاص فيه كلام، وعلى هذا فما في الصحيحين من أنه صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً هو الثابت، وأما رواية ثلاثة عشر شهراً فهي غير ثابتة.(72/24)
حكم إجابة المؤذن في الإقامة
السؤال
هل نجيب الإقامة كما نجيب الأذان؟
الجواب
نعم يجاب المؤذن في الإقامة كما يجاب في الأذان، ولا فرق بين الأذان والإقامة؛ لأن كل ذلك داخل تحت قوله: (إذا سمعتم النداء فقولوا مثلما يقول المؤذن).(72/25)
وقت القيام إلى الصلاة
السؤال
متى يقام إلى الصلاة حين إقامتها؟
الجواب
إذا سمع صوت المؤذن بدأ ينادي بالإقامة فإنه يقوم، وبعض العلماء يقول: إنه يقوم عند قوله: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة.
والذي يبدو أن الإقامة ما دام أنها شرعت للإخبار بالقيام إلى الصلاة فإذا سمعها الإنسان أو سمع البداية بها يقوم إلى الصلاة.(72/26)
المفاضلة بين الأذان والإمامة
السؤال
أيهما أفضل الأذان أو الإمامة؟
الجواب
كلاهما فيه خير كثير، لكن المسئولية في الإمامة أكبر من المسئولية في الأذان، ولهذا جاء في حديث مالك بن الحويرث: (ليؤذن أحدكم وليؤمكم أكبركم).(72/27)
علاقة الإفطار والإمساك بالأذان
السؤال
هل الإفطار والإمساك عن الطعام مرتبطان بأذان المؤذن؟
الجواب
إذا كان المؤذن يحافظ على الوقت ويعتمد عليه الناس في ضبط الوقت فإنهم يمسكون عند سماع الأذان؛ لأن الأذان يكون عند دخول الوقت، والإمساك عن الأكل والشرب يكون عند دخول الوقت، ولهذا جاء في الحديث: (إذا أذن المؤذن والإناء في يد أحدكم فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه).(72/28)
حكم إعادة الأذان إذا أذن قبل الوقت
السؤال
أذن مؤذن خطأً قبل حلول الوقت بساعة كاملة، فهل يعاد الأذان مرة أخرى؟
الجواب
نعم يعاد الأذان؛ لأن الأذان حصل قبل دخول الوقت، والأذان إنما يكون عند دخول الوقت، أو يعاد حتى يتنبه الناس؛ لأن بعض الناس قد يصلي، ولكنه إذا سمع الأذان مرة أخرى عرف أنه حصل خطأ، فإذا كان قد صلى فإنه يعيد الصلاة، خاصة النساء في البيوت.(72/29)
كفارة اليمين الغموس
السؤال
رجل كلف رجلاً آخر بشيء يعمله فجاء على الموعد فقال له: أين هذا الذي كلفتك به؟ فقال له: والله إنه في السيارة، وهو كاذب في يمينه؛ لأنه يعرف أنه لم يعمل ذلك العمل، فما هي الكفارة في حقه؟
الجواب
هذه يمين غموس؛ لأنه حلف على خبر ولم يحلف على أمر يفعل في المستقبل بحيث يحنث أو لا يحنث؛ لأن اليمين التي لها كفارة هي التي تكون على أمر مستقبل بأنه سيفعل ثم لا يفعل، أو يريد أن لا يفعل ثم يفعل، فحصل الحنث فتحصل الكفارة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إلا أني لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير)، وأما اليمين على خبر كاذب فهذه هي اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في الإثم، وليس فيها إلا كون الإنسان يتوب إلى الله عز وجل ويندم ويستغفر من هذا الذنب، وليس فيها كفارة اليمين التي هي العتق أو الإطعام أو الكسوة لعشرة مساكين أو الصيام لمن لم يستطع، فلا هذا ولا هذا ولا هذا، ليس فيها إلا الاستغفار من هذا الكذب وهذا الذنب العظيم.(72/30)
حكم إضافة بعض الأدعية قبل الأذان أو بعده
السؤال
في بعض البلاد الإسلامية بعض المؤذنين يقولون بعض الأدعية قبل الأذان، فما حكم ذلك؟
الجواب
لا يجوز أن يضاف إلى الأذان شيء قبله ولا بعده، ولا أن يسمع الناس عن طريق المؤذن شيئاً من الكلام قبله أو بعده؛ لأن ألفاظ الأذان محصورة، وليس للإنسان أن يسمع الناس أو ينادي بأشياء يصنعها إلا الكلمات التي شرعت في الأذان.
ولا يصح الاستدلال بفعل بلال؛ لأنه كان يقول شيئاً لا علاقة له بالأذان، وبشيء لم يسمعه الناس، وإنما سمعته صاحبة البيت.(72/31)
حكم من أخر صيام رمضان لضعف لعدة سنوات
السؤال
امرأة بلغت سن الحيض وهي لا تطيق الصيام، وبقيت سنتين تعالج في الصوم شدة ويغشى عليها فتفطر، وقد بلغت قرابة أربعين سنة، فما حكم السنتين المذكورتين؟
الجواب
تقضي المقدار الذي أفطرته لضعفها أو لمرضها، ولكونها أخرت ما عليها حتى جاء رمضان آخر فيلزمها مع صيام كل يوم أن تطعم معه مسكيناً.(72/32)
سبب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم للمؤذنين بالمغفرة وللأئمة بالرشاد
السؤال
لماذا دعا النبي صلى الله عليه وسلم للأئمة بالرشاد، وللمؤذنين بالمغفرة؟
الجواب
قيل: إن الدعاء بالإرشاد إنما هو لأنهم تحملوا شيئاً ووصفوا بأنهم ضامنون له، ويحتاجون إلى العون والتيسير والدلالة على أن يؤدوا هذه المهمة على الوجه الذي يسلمون فيه من التبعة، وأما المؤذنون فالقضية هي إخبارهم بالوقت، وهو شيء متعلق بالأمانة، ولهذا إذا حصل منهم شيء من الخطأ غير المقصود جاء الدعاء بأن يتجاوز الله عنهم ذلك الخطأ.(72/33)
فرار الشيطان عند الإقامة
السؤال
هل يحصل للشيطان عند الإقامة ما يحصل له عند الأذان؟
الجواب
نعم.
يحصل له عند الإقامة مثلما يحصل له عند الأذان، فإذا ثوب إلى الصلاة أدبر وله ضراط، حتى لا يسمع الإقامة، كما جاء ذلك في الحديث.(72/34)
شرح سنن أبي داود [073]
الأذان شعيرة من شعائر الإسلام العظيمة التي يجب الاهتمام بها ومعرفة أحكامها، وقد جاءت أحاديث كثيرة في فضل الأذان والمؤذنين؛ لأن في ذلك رفعاً لذكر الله عز وجل وإعلاماً بوقت الصلوات، كما جاءت أحاديث أخرى في بيان فضل ما يقوله المؤذن، فينبغي للمسلم أن يحرص على ذلك الخير قدر استطاعته.(73/1)
ما يقول إذا سمع المؤذن(73/2)
شرح حديث: (إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما يقول إذا سمع المؤذن.
حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن)].
أورد الإمام أبو داود رحمه الله تعالى [باب ما يقول إذا سمع المؤذن]، يعني: بيان الشيء الذي يقوله الإنسان الذي يسمع النداء، أو ماذا يقول حين يسمع النداء، والمقصود أن الإنسان عندما يسمع المؤذن يؤذن يقول مثل ما يقول المؤذن، إلا في (حي على الصلاة حي على الفلاح) فإنه يستثنى من هذا العموم، ويقول بدل (حي على الصلاة حي على الفلاح): لا حول ولا قوة إلا بالله، كما جاء ذلك مبيناً في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي سيأتي.
وعلى هذا فحديث أبي سعيد الذي أورده أبو داود تحت هذه الترجمة وهو قوله: [(إذا سمعتم النداء فقولوا مثلما يقول المؤذن)]، هو باق على عمومه في جميع ألفاظ الأذان، ويستثنى من ذلك الحيعلتان: (حي على الصلاة حي على الفلاح)، فإن السامع يقول بدلاً من ذلك: لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا يقول: حي على الصلاة حي على الفلاح لا حول ولا قوة إلا بالله، فيجمع بين الحيعلة والحوقلة، وإنما يأتي بـ (لا حول ولا قوة إلا بالله) فقط كما جاء ذلك مبيناً في حديث عمر الذي سيأتي.
وعلى هذا فقوله صلى الله عليه وسلم: [(إذا سمعتم النداء فقولوا مثلما يقول المؤذن)] خص منه الحيعلتان، فإنه يؤتى بـ (لا حول ولا قوة إلا بالله) عندهما، وذلك أن ألفاظ الأذان كلها ذكر، فالإنسان يذكر الله عز وجل، فإذا قال المؤذن: (الله أكبر الله أكبر) يقول: (الله أكبر الله أكبر)، وهذا ذكر لله، وإذا قال: (أشهد أن لا إله إلا الله) يقول: (أشهد أن لا إله إلا الله)، وإذا قال: (أشهد أن محمداً رسول الله) يقول: (أشهد أن محمداً رسول الله) وإذا قال: (حي على الصلاة) لا يقول: حي على الصلاة؛ لأن قوله: (حي على الصلاة) نداء وطلب من الناس أن يأتوا إلى الصلاة، يعني: هلموا وأقبلوا، فهو ليس ذكراً، وإنما هو دعاء ونداء، وهو الذي يناسب من المؤذن أن يقول: (حي على الصلاة حي على الفلاح) أي: تعالوا، لكن غيره لا يقول: حي على الصلاة حي على الفلاح؛ لأنه لا ينادي أحداً وإنما يأتي بكلام مثل الذي يقوله المؤذن، ولكن بدلاً من ذلك يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، أي: أن الإتيان للصلاة والتمكن من ذلك لا يكون إلا بحول الله وقوته، ولا حول للإنسان ولا قوة له إلا بالله سبحانه وتعالى، فيقول: (لا حول ولا قوة إلا بالله)، فإذا قال: (الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله) يقول كما يقول، وعلى هذا فإن ألفاظ الأذان كلها ذكر، فيقول سامع المؤذن مثل ما يقول المؤذن، إلا جملة: (حي على الصلاة حي على الفلاح) فإنها ليست بذكر وإنما هي دعاء ونداء وهي مناسبة من المؤذن وليست مناسبة من غيره، فغيره لا يقول كما يقول وإنما يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فهذا الحديث خص منه الحيعلتان، فإنه يؤتى بالحوقلة عندهما، كما جاء ذلك مبيناً في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي سيأتي.
وإذا قال: (الصلاة خير من النوم) يقول: الصلاة خير من النوم، مثل ما يقول المؤذن؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: [(إذا سمعتم النداء فقولوا مثلما يقول)] فيدخل تحته أن كل الألفاظ التي يقولها المؤذن يقولها الإنسان، سواء في الإقامة أو في الأذان، حتى الإقامة يقول الإنسان فيها مثل ما يقول المؤذن، فيقول: (قد قامت الصلاة) حين يقول المؤذن: (قد قامت الصلاة)؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: [(إذا سمعتم النداء فقولوا مثلما يقول المؤذن)]، ولا يستثنى من ذلك إلا ما جاء في نص خاص عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو: (حي على الصلاة حي على الفلاح).
وما جاء عن بعض أهل العلم أنه يقول: (صدقت وبررت) عند قوله: (الصلاة خير من النوم) ليس عليه دليل، وإنما الدليل هو عموم قوله صلى الله عليه وسلم: [(إذا سمعتم النداء فقولوا مثلما يقول المؤذن)] ولا يستثنى من ذلك إلا: (حي على الصلاة حي على الفلاح) فيقال عند كل منهما: لا حول ولا قوة إلا بالله.(73/3)
شرح حديث: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليّ)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن سلمة حدثنا ابن وهب عن ابن لهيعة وحيوة وسعيد بن أبي أيوب عن كعب بن علقمة عن عبد الرحمن بن جبير عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي؛ فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله عز وجل لي الوسيلة؛ فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله تعالى، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: [(إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول)] يعني: إذا سمعتم المؤذن ينادي بالأذان فقولوا مثل ما يقول، وهذا مثل حديث أبي سعيد: (إذا سمعتم النداء -أي: الأذان- فقولوا مثل ما يقول المؤذن) وهنا قال: [(إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول)]، ويستثنى من ذلك -كما ذكرنا- قوله: (حي على الصلاة حي على الفلاح)، فإنه يقال عندها: (لا حول ولا قوة إلا بالله) وما عد ذلك فإنه يقال كما يقول المؤذن، سواءٌ أكان في الإقامة أم في الأذان في جميع الألفاظ، لعموم حديث أبي سعيد وحديث عبد الله بن عمرو.
وقوله: [(ثم صلوا علي)] يعني: قولوا مثل ما يقول المؤذن وبعد ذلك صلوا علي يعني: إذا انتهيتم من المتابعة وقلتم: (لا إله إلا الله) بعد ذلك صلوا على النبي صلى الله عليه وسلم، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين دعاء له وطلب من الله أن يصلي عليه، وصلاة الله على نبيه هي ثناؤه عليه في الملأ الأعلى وذكره في الملأ الأعلى صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
ثم بين عليه الصلاة والسلام أن من صلى عليه مرة واحدة صلى الله عليه بها عشراً، أي: أن الحسنة بعشر أمثالها، فإذا صلى الإنسان على النبي صلى الله عليه وسلم مرة يجازيه الله تعالى بأن يصلي عليه عشر مرات، والحسنة بعشرة أمثالها، والجزاء من جنس العمل.
وقوله: [(ثم سلوا الله لي الوسيلة)] بين عليه الصلاة والسلام الوسيلة وأنها منزلة خاصة في الجنة لا تتكرر ولا تتعدد، وإنما هي لعبد من عباد الله، ولا ينبغي أن تكون إلا لعبد من عباد الله، ويرجو أن يكون هو ذلك العبد، فالوسيلة منزلة خاصة في الجنة، وهي التي تسال للرسول صلى الله عليه وسلم.
وقوله: [(وأرجو أن أكون أنا هو)] يعني: أرجو أن أكون أنا ذلك العبد الذي تكون له الوسيلة وهي المنزلة المتميزة الخاصة التي تكون في الجنة.
وقوله: [(فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له شفاعتي)] يعني: من سأل الله لي الوسيلة بعد الأذان ودعا بهذا الدعاء بعد الأذان فإن هذا من أسباب كون فاعل ذلك وقائل ذلك ينال شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه سأل الله الوسيلة للنبي صلى الله عليه وسلم، فيحصل له نصيب من شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم.(73/4)
تراجم رجال إسناد حديث: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليّ)
قوله: [حدثنا محمد بن سلمة].
هو محمد بن سلمة المرادي المصري، ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
وهناك شخص آخر يقال له: محمد بن سلمة الباهلي، ولكنه في طبقة شيوخ شيوخ أبي داود، فإذا جاء محمد بن سلمة في شيوخ أبي داود فهو المرادي المصري، وإذا جاء محمد بن سلمة يروي عنه أبو داود بواسطة فهو الباهلي الحراني.
[حدثنا ابن وهب].
هو عبد الله بن وهب المصري، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ابن لهيعة وحيوة وسعيد بن أبي أيوب].
ابن لهيعة هو عبد الله بن لهيعة المصري، صدوق، احترقت كتبه فتغير، ورواية عبد الله بن وهب عنه هي من أعدل الروايات، وهو هنا -أيضاً- لم يأت وحده في الرواية، بل جاء مقروناً معه شخصان آخران: حيوة بن شريح المصري، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة، وسعيد بن أبي أيوب المصري، وهو ثقة أيضاً، أخرج له أصحاب الكتب الستة، فوجوده في الإسناد لا يؤثر؛ لأن العمدة على غيره.
وابن لهيعة أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه، والنسائي لم يخرج له، وإنما يذكر النسائي معه غيره ويعبر عنه بقوله: ورجل آخر.
فلا يحذفه لأنه موجود في الإسناد، ولكنه يذكره مبهماً؛ لأنه لا يخرج له.
[عن كعب بن علقمة].
كعب بن علقمة صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن عبد الرحمن بن جبير].
هو عبد الرحمن بن جبير المصري، ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[عن عبد الله بن عمرو بن العاص].
هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما الصحابي الجليل أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
وهذا الإسناد مسلسل بالمصريين؛ لأن كل الرجال فيه مصريون من أوله إلى آخره.(73/5)
حكم متابعة المؤذن
والأمر بمتابعة المؤذن بعض أهل العلم قال عنه: إنه للوجوب.
وبعضهم قال: إنه ليس للوجوب.
ويستدلون على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم سمع مؤذناً فلما قال: (أشهد أن لا إله إلا الله)، أثنى عليه، ولما قال: (لا إله إلا الله) قال: (خرج من النار) قالوا: فهذا فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يردد هذه الألفاظ.
والذين قالوا بالوجوب قالوا: إنه ليس فيه ما يدل على أنه لم يقل، وإنما فيه أنه قال هذا في حق ذلك المؤذن، فلا يمنع أن يكون قال ذلك كما هو المعتاد، وقالوا: ويحتمل أن يكون ذلك -أيضاً- قبل أن يشرع للناس أن يقولوا مثل ما يقول المؤذن.
وينبغي للإنسان أن يحرص على أن يأتي بمتابعة المؤذن، وأن لا يغفل عن ذلك.(73/6)
شرح حديث: (أن رجلاً قال: يا رسول الله إن المؤذنين يفضلوننا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن السرح ومحمد بن سلمة قالا: حدثنا ابن وهب عن حيي عن أبي عبد الرحمن -يعني الحبلي - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! إن المؤذنين يفضلوننا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل كما يقولون، فإذا انتهيت فسل تعطه)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما: [(أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن المؤذنين يفضلوننا)] يعني: بكونهم يأتون بهذا الذكر، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: [(قل كما يقولون، فإذا انتهيت فسل تعطه)] يعني: تابع المؤذن فيما يقول وائت بالذكر الذي يقول، ويستثنى من ذلك (حي على الصلاة حي على الفلاح) كما جاء مبيناً في حديث عمر رضي الله عنه.
وقوله: (فإذا انتهيت فسل تعط) يدل على أن الدعاء بعد الأذان من الدعاء الذي يجاب، ولهذا قال: (فسل تعطه) يعني: يسأل الله حاجته وما يريد، فهذا يفيد أنه من مواطن قبول الدعاء؛ لأنه قال: (فسل تعطه) وهو مثل الموطن الذي بين الأذان والإقامة الذي مر في حديث: (لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة).
وقوله: (يفضلوننا) يعني: لهم هذا الفضل والميزة علينا، فالرسول أرشد إلى أن الإنسان يذكر الله كما يذكرون ويأتي منه هذا الذكر كما يأتي منهم، ويؤجر على ذلك كما يؤجرون على ذلك، لكن كون المؤذنين يتسببون في دعاء الناس ونداء الناس وحضور الناس بسبب دعائهم وتنبيههم وعنايتهم بالأوقات لاشك في أنهم يؤجرون على ذلك، ولكن الإنسان الذي ليس مؤذناً إذا ذكر الله عز وجل بهذا الذكر الذي ذكره المؤذن فإنه يؤجر على هذا الذكر، ولكن المؤذن يتميز على غيره بأنه متسبب في هذا الخير، ومتسبب في دعوة الناس وفي وصول ذلك الصوت إلى الناس، ولكن من سمعه يشارك في الذكر، وأجر الذكر الذي يحصل للمؤذن يكون للذي يردد بعده نصيب منه؛ لأنه يقول مثل ما قال، لكن المؤذن يتميز بكونه دل الناس على الخير، فيؤجر بسبب ذلك، ويشهد له كل رطب ويابس، ويغفر له مدى صوته، وله غير ذلك من الأمور التي تحصل للمؤذنين من الفضل.(73/7)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن رجلاً قال: يا رسول الله إن المؤذنين يفضلوننا)
قوله: [حدثنا ابن السرح].
هو أحمد بن عمرو بن السرح المصري، ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
[ومحمد بن سلمة قالا: حدثنا ابن وهب عن حيي].
محمد بن سلمة وابن وهب مر ذكرهما.
وحيي هو ابن عبد الله المصري صدوق يهم، أخرج له أصحاب السنن.
[عن أبي عبد الرحمن -يعني الحبلي -].
أبو عبد الرحمن هو: عبد الله بن يزيد، ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.
[عن عبد الله بن عمرو].
عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قد مر ذكره.(73/8)
شرح حديث: (من قال حين يسمع المؤذن: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن الحكيم بن عبد الله بن قيس عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال حين يسمع المؤذن: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، رضيت بالله رباً، وبمحمد رسولاً، وبالإسلام ديناً غفر له)].
أورد أبو داود رحمه الله هذا الحديث عن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال حين يسمع المؤذن: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً غفر له)، وهذا يدل على فضل هذا الذكر عند الأذان، ويحتمل أنه يؤتى به عند الشهادتين، أي: عند قول المؤذن: (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله) وبعض أهل العلم يقول: إنه يؤتى به بعد الأذان.
ولكن الذي يبدو أنه يقال عند ذكر الشهادة.
وقوله: (وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً) هذه الأمور الثلاثة التي اشتمل عليها هذا الذكر -وهي: الرضا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً- هي الأصول الثلاثة التي بنى عليها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كتابه (الأصول الثلاثة وأدلتها)، أي أن هذه الأصول هي معرفة العبد ربه ودينه ونبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، فهذه الأصول الثلاثة هي التي كتب فيها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ذلك الكتاب العظيم الوجيز النافع المفيد الذي لا يستغني عنه العامي ولا طالب العلم، فطلبة العلم بحاجة إليه والعوام بحاجة إليه، وهو كتاب ينتفع به العوام والخواص؛ لأنه يتعلق بمعرفة الدين ومعرفة أصول الدين، ومعرفة العبد لربه ودينه ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وهي الأمور التي يسأل عنها في القبر، فالأسئلة في القبر هي عن الأمور الثلاثة، فالإنسان يسأل في قبره عن دينه وربه ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذه الأمور الثلاثة -الرضا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً- جاء ذكرها في الأذان، وجاء في أدعية الصباح والمساء، وجاء -أيضاً- في غير ذلك، كما في صحيح مسلم من حديث العباس بن عبد المطلب عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً).(73/9)
تراجم رجال إسناد حديث: (من قال حين يسمع المؤذن: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله)
قوله: [حدثنا قتيبة بن سعيد].
هو قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا الليث].
هو الليث بن سعد المصري، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن الحكيم بن عبد الله بن قيس].
الحكيم بن عبد الله بن قيس بن مخرمة صدوق، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.
[عن عامر بن سعد بن أبي وقاص].
عامر بن سعد بن أبي وقاص ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.(73/10)
شرح حديث: (أن رسول الله كان إذا سمع المؤذن يتشهد قال: وأنا وأنا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إبراهيم بن مهدي حدثنا علي بن مسهر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع المؤذن يتشهد قال: وأنا وأنا)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع المؤذن يتشهد -يعني: يقول: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله- قال: وأنا وأنا) يعني: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.(73/11)
تراجم رجال إسناد حديث: (أن رسول الله كان إذا سمع المؤذن يتشهد قال: وأنا وأنا
قوله: [حدثنا إبراهيم بن مهدي].
إبراهيم بن مهدي مقبول، أخرج حديثه أبو داود وحده.
[حدثنا علي بن مسهر].
علي بن مسهر ثقة له غرائب بعد أن أضر، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام بن عروة].
هشام بن عروة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه عروة بن الزبير بن العوام، ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة].
هي عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق، وهي من أوعية السنة وحفظتها، وهي أحد سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(73/12)
شرح حديث: (إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن المثنى حدثنا محمد بن جهضم قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر عن عمارة بن غزية عن خبيب بن عبد الرحمن بن إساف عن حفص بن عاصم بن عمر عن أبيه عن جده عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، فإذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فإذا قال: أشهد أن محمداً رسول الله قال: أشهد أن محمداً رسول الله، ثم قال: حي على الصلاة قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: حي على الفلاح قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: الله أكبر الله أكبر قال: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله قال: لا إله إلا الله من قلبه دخل الجنة)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما في متابعة المؤذن والقول مثل ما يقول، وهو مبين لما أجمل في الأحاديث المتقدمة، كقوله: (إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن) فذاك عام وهذا مفصل ومبين وموضح أن القول يكون مثل قول المؤذن في غير الحيعلتين، وأما الحيعلتان فيقال عند كل منهما: لا حول ولا قوة إلا بالله.
وفي هذا الحديث دليل على أنه عند التكبير يجمع بين اللفظين أو بين الجملتين: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، فإذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر يقول سامعه: الله أكبر الله أكبر، وهذا فيه أن الجملتين يؤتى بهما معاً.
والحديث ليس فيه ذكر للأذان بأكمله، ولكن ذكر فيه كل جملة تقال، فكما أن التكبير أربع في الأول أتى بتكبيرتين، وكما أن (أشهد أن لا إله إلا الله) تأتي مرتين أتى بها مرة واحدة، وشهادة أن محمداً رسول الله أتى بها مرة واحدة، وحي على الصلاة مرة واحدة، وهكذا؛ لأن المقصود هو بيان المتابعة لا بيان ألفاظ الأذان ومقدار ألفاظ الأذان وأعداد ألفاظ الأذان، وإنما المقصود من ذلك المتابعة، وترك الشيء الذي يكرر؛ لأن المقصود هو التوضيح والبيان لما يقوله، وليس هذا بياناً لألفاظ الأذان وأن الأذان يكون بهذه الألفاظ فقط، وإنما بالبيان هو الذي جاء في الأحاديث المتقدمة.
فحديث عمر إنما سيق هنا لبيان المتابعة للمؤذن، وأن السامع مثل ما يقول، وليس حصراً لألفاظ الأذان في ذلك، وإنما ألفاظ الإقامة هي التي تكون بهذه الطريقة، ويزاد عليها: (قد قامت الصلاة) وأما الأذان فإن التكبير فيه أربع مرات، والشهادة لله بالوحدانية مرتان، والشهادة لمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة مرتان، وحي على الصلاة مرتان، وحي على الفلاح مرتين، والله أكبر في آخره مرتان، و (لا إله إلا الله) مرة واحدة.
وقوله: [(ثم قال: حي على الصلاة قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: حي على الفلاح قال: لا حول ولا قوة إلا بالله)] يعني أنه لا يقول السامع: (حي على الصلاة حي على الفلاح)؛ لأن معناهما طلب من الناس أن يأتوا، إذ المعنى: هلموا وتعالوا.
وهذا يقوله المؤذن، لكن السامع لا يقول: (تعالوا)، وإنما يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، يعني: لا حول للإنسان ولا قوة ولا يستطيع أن يعمل شيئاً إلا بالله سبحانه وتعالى، فهو الذي يعين وهو الذي يوفق.
وفي آخره: [(قال: لا إله إلا الله من قبله دخل الجنة)] يعني أن هذه الألفاظ قالها من قلبه، وليس مجرد شيء قاله باللسان دون أن يصل إلى القلب، بل يتواطأ على ذلك القلب واللسان.(73/13)
تراجم رجال إسناد حديث: (إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكم)
قوله: [حدثنا محمد بن المثنى].
محمد بن المثنى هو أبو موسى الزمن العنزي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
[حدثنا محمد بن جهضم].
محمد بن جهضم صدوق، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا إسماعيل بن جعفر].
إسماعيل بن جعفر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن عمارة بن غزية].
عمارة بن غزية لا بأس به، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.
[عن خبيب بن عبد الرحمن بن إساف].
خبيب بن عبد الرحمن بن إساف ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن حفص بن عاصم بن عمر].
حفص بن عاصم بن عمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
أبوه ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه.
[عن جده عمر بن الخطاب].
جده عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة، فرضي الله عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.(73/14)
شرح حديث: (أقامها الله وأدامها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما يقول إذا سمع الإقامة.
حدثنا سليمان بن داود العتكي حدثنا محمد بن ثابت حدثني رجل من أهل الشام عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة رضي الله عنه -أو عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- أن بلالاً رضي الله عنه أخذ في الإقامة، فلما أن قال: قد قامت الصلاة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أقامها الله وأدامها) وقال في سائر الإقامة كنحو حديث عمر رضي الله عنه في الأذان].
أورد أبو داود رحمه الله [باب ما يقول إذا سمع الإقامة] يعني: إقامة الصلاة، والجواب أنه يقال عند سماع الإقامة مثل ما يقول المؤذن: (الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله)؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا سمعتم النداء فقولوا مثلما يقول المؤذن)، والإقامة أذان، وقد جاء إطلاق الأذان عليها في قوله صلى الله عليه وسلم: (بين كل أذانين صلاة) والمقصود: بين الأذان والإقامة، وكذلك جاء في الحديث الآخر: (تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قام إلى الصلاة، قلت: كم كان بين الأذان والسحور؟ قال: قدر خمسين آية) يعني: بين الأذان الذي هو الإقامة والسحور الذي هو الإمساك عند الأذان، فمقدار قراءة خمسين آية هو الفارق بين الأذان والإقامة، فأطلق على الإقامة بأنها أذان، وكذلك جاء الحديث الذي مر قبل: (إذا ثوب بالصلاة) يعني: رجع إلى النداء؛ لأن الأذان هو نداء، فالإقامة أذان، وهي نداء، إلا أن الأذان لإعلام الناس في بيوتهم بأن يأتوا، والإقامة إعلام الناس بأن يقوموا إلى الصلاة، فالذي تدل عليه الأحاديث هو أنه عند الإقامة يقال مثل ما يقول المؤذن تماماً، ولا يستثنى من ذلك إلا: (حي على الصلاة حي على الفلاح) فيقال: لا حول ولا قوة إلا بالله.
وقد أورد أبو داود رحمه الله في هذه الترجمة حديثاً ضعيفاً عن أبي أمامة رضي الله عنه أن بلالاً أخذ في الإقامة فلما قال: (قد قامت الصلاة) قال عليه السلام: [(أقامها الله وأدامها)] وقال في سائر ألفاظ الإقامة مثل ما جاء في حديث عمر في الأذان، يعني أنه يقول مثل ما يقول المؤذن، إلا أنه عند قوله: قد قامت الصلاة قال: [(أقامها الله وأدامها)].
فهذا الحديث الذي ورد في بيان ما يقال عند قوله: (قد قامت الصلاة) وباقي الحديث أحاله إلى حديث عمر المتقدم، وأنه يقول مثل ما يقول.
والصحيح أنه يقول مثل ما يقول في الإقامة كلها إلا الحيعلتين، وهو الذي تقتضيه الأحاديث التي مرت، وأما الحديث هذا فليس بصحيح بل هو ضعيف؛ لأن فيه هذا الرجل المبهم الذي هو من أهل الشام، فإنه غير معروف، وأيضاً فيه شهر بن حوشب، وهو كثير الإرسال والأوهام، وكذلك فيه -أيضاً- محمد بن ثابت صدوق لين الحديث.(73/15)
تراجم رجال إسناد حديث: (أقامها الله وأدامها)
قوله: [حدثنا سليمان بن داود العتكي].
سليمان بن داود العتكي هو أبو الربيع الزهراني، ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
[حدثنا محمد بن ثابت].
محمد بن ثابت العبدي صدوق لين الحديث، أخرج له أبو داود وابن ماجه.
[حدثني رجل من أهل الشام عن شهر بن حوشب].
شهر بن حوشب صدوق كثير الإرسال والأوهام، وحديثه أخرجه البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن [عن أبي أمامة].
أبو أمامة هو صدي بن عجلان الباهلي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
[أو عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم].
يعني أن الراوي شك هل هو عن أبي أمامة أو هو عن غيره، والجهالة في الصحابة لا تؤثر كما هو معلوم، وإنما تؤثر في غيرهم.(73/16)
ما جاء في الدعاء عند الأذان(73/17)
شرح حديث: (من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في الدعاء عند الأذان: حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل حدثنا علي بن عياش حدثنا شعيب بن أبي حمزة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، إلا حلت له الشفاعة يوم القيامة)].
أورد أبو داود رحمه الله [باب ما جاء في الدعاء عند الأذان] يعني الدعاء الذي يدعى به بعد الأذان، فإذا قال المؤذن: (لا إله إلا الله) التي هي آخر ألفاظ الأذان قال السامع: لا إله إلا الله، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم كما مر في الحديث السابق، ثم يسأل الله الوسيلة ويدعو بهذا الدعاء المشتمل على سؤال الله الوسيلة وغير الوسيلة للنبي صلى الله عليه وسلم.
وأورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: [(من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، إلا حلت له الشفاعة يوم القيامة)] وعند البخاري لا توجد لفظة (إلا).
وهذا الحديث فيه بيان مشروعية الدعاء بهذا الدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يؤتيه الله الوسيلة والفضيلة وأن يبعثه المقام المحمود الذي وعده، وأن من فعل ذلك يؤجر بهذا الأجر، وهو أن تحل له الشفاعة.
وهذا الحديث -أيضاً- مطابق لما تقدم من قوله: (ثم سلوا لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة فمن سأل لي الوسيلة حلت له شفاعتي).
وهذا الحديث فيه بيان لكيفية طلب الوسيلة للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن الإنسان يقول عقب الأذان: (اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته) والوسيلة بينها رسول الله عليه الصلاة والسلام في الحديث السابق أنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد، ويرجو أن يكون صلوات الله وسلامه وبركاته عليه ذلك العبد، والفضيلة هي كذلك منزلة عالية أو ميزة على غيره، والمقام المحمود هو الشفاعة العظمى التي يحمده عليها الأولون والآخرون، فصلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وهي الشفاعة للناس بالموقف بأن يخلصهم الله مما هم فيه.
وقيل لها: المقام المحمود لأنه يحمده عليها الأولون والآخرون، وكلهم يستفيدون من شفاعته من لدن آدم إلى الذين قامت عليهم الساعة، كلهم ينتهون من ذلك الموقف بشفاعة النبي محمد الله عليه وسلم، وهذه شفاعة خاصة به عليه الصلاة والسلام، وهي من خصائصه صلى الله عليه وسلم.
ولهذا جاء في الحديث: (أنا سيد الناس يوم القيامة) ثم بين أن الناس يموج بعضهم في بعض، وأنهم يأتون إلى آدم ويطلبون منه أن يشفع لهم ليخلصهم مما هم فيه فيعتذر ويحيلهم إلى نوح، فيذهبون إليه فيعتذر ويحيلهم إلى إبراهيم فيعتذر، ثم يحيلهم إبراهيم إلى موسى فيعتذر، وموسى يحيلهم إلى عيسى فيعتذر، وعيسى يحيلهم إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: (أنا لها) فيتقدم للشفاعة ويشفعه الله عز وجل، ويأتي الله عز وجل لفصل القضاء بين الناس، وينتهي ذلك الموقف بشفاعة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.
والنبي صلى الله ليه وسلم هو سيد ولد آدم في الدنيا والآخرة عليه الصلاة والسلام، ولكن نص على يوم القيامة لأنه يظهر سؤدده على الخلائق كلهم من أولهم إلى آخرهم من لدن آدم إلى الذين قامت عليهم الساعة، فهذا هو الوجه في قوله: (أنا سيد الناس يوم القيامة) فيوم القيامة هو اليوم الذي يظهر فيه السؤدد للنبي صلى الله عليه وسلم على الجميع والتميز على الجميع والفضل على الجميع، فصلوات الله وسلامه وبركاته عليه.(73/18)
تراجم رجال إسناد حديث: (من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة)
قوله: [حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل].
هو أحمد بن محمد بن حنبل الإمام المشهور أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا علي بن عياش].
علي بن عياش ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن.
[عن شعيب بن أبي حمزة].
شعيب بن أبي حمزة الحمصي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن محمد بن المنكدر].
محمد بن المنكدر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن جابر بن عبد الله].
هو جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما صحابي جليل، وهو صحابي ابن صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثيرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(73/19)
ما يقول عند أذان المغرب(73/20)
شرح حديث: (علمني رسول الله أن أقول عند أذان المغرب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما يقول عند أذان المغرب.
حدثنا مؤمل بن إهاب حدثنا عبد الله بن الوليد العدني حدثنا القاسم بن معن حدثنا المسعودي عن أبي كثير مولى أم سلمة عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول عند أذان المغرب: اللهم إن هذا إقبال ليلك، وإدبار نهارك، وأصوات دعاتك، فاغفر لي)].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: [باب ما يقول عند أذان المغرب] وأورد حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي علمها أن تقول عند أذان المغرب: [(اللهم هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك فاغفر لي)] والمقصود منه قوله: [(وأصوات دعاتك)] لأنه يعني أصوات المؤذنين، وذلك عند إقبال الليل وإدبار النهار، وهذا لا يكون إلا عند المغرب، ولكن هذا الحديث غير ثابت؛ لأن فيه أبا كثير مولى أم سلمة لم يذكروا في ترجمته شيئاً في توثيقه ولا تعديله ولا تجريحه إلا قول الترمذي: إنه لا يعرف.
هذا كل ما قاله في تهذيب التهذيب، وعلى هذا فهو مجهول، وأيضاً الحديث فيه المسعودي وفيه ضعف.(73/21)
تراجم رجال إسناد حديث: (علمني رسول الله أن أقول عند أذان المغرب)
قوله: [حدثنا مؤمل بن إهاب].
مؤمل بن إهاب صدوق له أوهام، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا عبد الله بن الوليد العدني].
عبد الله بن الوليد العدني صدوق ربما أخطأ، أخرج حديثه البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي والنسائي.
[حدثنا القاسم بن معن].
هو القاسم بن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
[حدثنا المسعودي].
المسعودي صدوق اختلط، أخرج حديثه البخاري تعليقاً وأصحاب السنن.
[عن أبي كثير مولى أم سلمة].
أبو كثير مولى أم سلمة مجهول، أخرج حديثه أبو داود والترمذي.
[عن أم سلمة].
هي أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، وحديثها عند أصحاب الكتب الستة.(73/22)
الأسئلة(73/23)
حكم التسمية بمحمد الله
السؤال
ما حكم التسمي بـ (محمدَ الله) أو (محمدُ الله) بالفتح والضم؟
الجواب
يترك ما يضاف إلى الله كـ (محمد الله) ويسمى كما سمي رسول الله صلى الله عليه وسلم (محمد).(73/24)
حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند التشهد في الأذان
السؤال
هل يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ويسلم عليه عندما يسمع اسمه في التشهد في قول المؤذن: أشهد أن محمداً رسول الله؟
الجواب
الذي ورد أنه يقال مثل ما يقول المؤذن، فإذا قال المؤذن: (أشهد أن محمداً رسول الله) يقول: (أشهد أن محمداً رسول الله) ولكن إذا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره فإنه يدخل تحت عموم ما ورد عن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند ذكره، لكن ألفاظ الأذان يؤتى بها كما جاءت، ولكن كونه يقول: صلى الله عليه وسلم، ثم يقول: (أشهد أن محمداً رسول الله) كما قال المؤذن لا بأس به؛ لأنه يكون داخلاً تحت عموم أنه ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم، فصلى عليه، لكن لا يقول: (أشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم) وإنما يقول: (صلى الله عليه وسلم) عندما يسمع المؤذن يقول الشهادة، وإذا فرغ قال: (أشهد أن محمداً رسول الله) كما قال.(73/25)
حكم طاعة المفتي أو الداعية لولي الأمر إذا أوقفه عن الفتيا أو الدعوة
السؤال
لو أن الحاكم أوقف داعية أو مفتياً عن الفتيا، فهل يلزمه السمع والطاعة؟
الجواب
نعم عليه أن يسمع ويطيع، وقد تكون المصلحة في إيقافه، فقد يكون حصلت منه أشياء تشوش وأشياء لا تليق، فكونه يوقف عليه أنه يمتثل؛ فإن عدم السمع له والطاعة يترتب عليه مضرة، فعليه أن يسمع ويطيع إذا كان يترتب على ذلك مضرة، وسوف يكفيه غيره ممن لا يشوش.(73/26)
تعريف لباس الشهرة
السؤال
ما هو لباس الشهرة؟ وما هي ضوابطه؟
الجواب
لباس الشهرة هو الذي يتميز به الإنسان ويشتهر به ويشار إليه من أجله بالبنان، هذا هو الذي يبدو من كلمة الشهرة.(73/27)
حكم لبس الثوب في البلد الذي يستغرب أهله منه
السؤال
ما حكم لبس الثوب في البلد الذي يستغرب منه أهله؟
الجواب
الذي ينبغي أنه يترك حتى لا يشار إليه، وحتى لا يتهم في عقله.(73/28)
حكم لبس البنطلون
السائل: هل يصلح لطالب العلم أن يلبس البنطلون؟
الجواب
لا، بل الثوب أو القميص هو لباس المسلمين، فيلبسه الإنسان المسلم في أي مكان، وإنما الذي لا ينبغي هو أن يكون في بلد ويأتي بلباس غريب على الناس، ويشار إليه بالبنان من أجله، لكن إذا كان لباساً شرعياً كالقميص فلا يخلعه؛ لأن القميص هو اللباس الشرعي.
كما أنه لا ينبغي للإنسان أنه يلبس لباس الكفار، ولا يصح للإنسان أن يلبس لباس الإفرنج.(73/29)
حكم اقتناء الكتاب النافع إذا كان مؤلفه مجهولاً
السؤال
إذا عرفنا كتاباً كل ما فيه خير وطيب إلا أن مؤلفه مجهول لا نعرفه، فهل لنا أن نقتنيه؟
الجواب
إذا كان فيه كلام سليم وكلام مستقيم فللإنسان أن يقتنيه ولو كان صاحبه مجهولاً.(73/30)
فضل أهل البيت المؤمنين
السؤال
ما صحة هذا الحديث: قال صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس! إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي، وإن أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما)؟
الجواب
لا أعرف صحة الحديث، ولكن أهل البيت يعطون ما يستحقون من المودة ومن المحبة إذا كانوا مؤمنين؛ لقرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولإيمانهم بالله عز وجل، والأصل هو الإيمان، فإذا إنضاف إلى الإيمان القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يحصل المودة والموالاة من أجل اجتماع الأمرين: الإيمان -وهو الأساس الذي يكون به الحب والبغض- والقرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيصير ذلك خيراً إلى خير، ويحب الإنسان لذلك.
فأهل البيت تعرف منزلتهم التي يستحقونها، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -وفي مقدمتهم أبو بكر وعمر - هم القدوة في ذلك في بيان قدر أهل البيت ومنزلة أهل البيت، فـ أبو بكر رضي الله تعالى عنه وأرضاه جاء عنه أثران في صحيح البخاري كل منهما يدل على منزلة أهل البيت وعظيم قدرهم وبيان عظيم منزلتهم، حيث قال رضي الله تعالى عنه كما في صحيح البخاري: (والله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصلهم من قرابتي) يعني: لأن أصل قرابة آل محمد عليه الصلاة والسلام أحب إلي من أن أصل قرابة آل أبي بكر.
والأثر الثاني يقول فيه: (ارقبوا محمداً صلى الله عليه وسلم في أهل بيته).
يعني: راعوا وصيته في أهل بيته.
وأما عمر رضي الله عنه فقد جاء عنه أثران أيضاً: أحدهما في صحيح البخاري، وذلك أنهم كانوا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إذا أجدبوا جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلبوا منه أن يستسقي لهم، ولما توفي رسول الله عليه الصلاة والسلام وحصل للناس الجدب والقحط طلب عمر رضي الله عنه من العباس أن يستسقي، واختاره وقدمه على غيره لقرابته من رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولهذا قال كما في صحيح البخاري: (اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قم -يا عباس - فادع الله) فذكر القرابة والصلة فقال: (بعم نبينا) يعني أن هذا هو وجه الاختيار، وعمر رضي الله عنه أفضل من العباس، وعدد من الصحابة أفضل من العباس، ولكنه اختاره لقربه من رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهذا يوضح معرفتهم قدر أهل البيت وتعظيم منزلتهم.
وأيضاً جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال للعباس: (إن إسلامك يوم أسلمت أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم) والخطاب هو أبوه، ولكن لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على إسلامه أحب عمر إسلامه.
فهذا كلام سيدي هذه الأمة وخير هذه الأمة أبي بكر وعمر في حق آل البيت وفي بيان عظيم منزلتهم ومقدارهم عند الله عز وجل، فإذا صح الحديث فإن المقصود من ذلك هو معرفة قدرهم ومنزلتهم، وهذا الذي أشار إليه أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما في هذه الآثار.
وهذا لا يكون إلا للصالح، أما الطالح الذي هو فاسد وهو من أهل البيت فالأمر كما قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)، ويقول الشاعر: لعمرك ما الإنسان إلا بدينه فلا تترك التقوى اتكالاً على النسب فقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الشرك النسيب أبا لهب فـ أبو لهب عم الرسول صلى الله عليه وسلم، ونسبه شريف؛ لأن نسبه هو نسب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن الشرك هو الذي وضعه، وسلمان الفارسي من الفرس، والإسلام هو الذي رفعه.(73/31)
حكم اتخاذ الجمة واللمة
السؤال
شاع الخلاف بين الشباب في حكم اتخاذ الجمة واللمة، فهل يليق ذلك بالنسبة لطلاب العلم أو لا؟
الجواب
الأمر في ذلك واسع، ومن المعلوم أن الشعر إذا تركه الإنسان ينشغل به، فالأمر في ذلك واسع، إن تركه فهو سائغ وإن حلقه أو قصه فهو سائغ، ولكن بالنسبة للشاب الذي يكون وسيماً ويكون جميلاً ثم يفعل مثل ذلك قد يكون في ذلك مضرة عليه وعلى غيره وفتنة له ولغيره.(73/32)
حكم اتخاذ السترة للمصلي
السؤال
ما حكم اتخاذ السترة للمصلي؟
الجواب
بعض أهل العلم قال بالوجوب وجمهور أهل العلم قالوا بأنه مستحب، ينبغي للإنسان أن يحرص على أن يتخذ السترة.(73/33)
معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود)
السؤال
ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود)، وهل تَبطُلُ الصلاة بذلك؟
الجواب
بعض أهل العلم قال بالبطلان وأنها تستأنف، وجمهور أهل العلم قالوا: إن هذا نقصان لها.(73/34)
شرح سنن أبي داود [074]
ينبغي للمؤذن ألا يأخذ أجراً على الأذان إلا لحاجة، وأن يتحرى وقت الصلاة، فلا يؤذن قبل الوقت، ولا يتأخر عن وقت الأذان، ويجوز للأعمى أن يكون مؤذناً إذا كان هناك من يعلمه بأوقات الصلوات، ولا يجوز الخروج من المسجد بعد الأذان إلا للضرورة.(74/1)
أخذ الأجر على التأذين(74/2)
شرح حديث (واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب أخذ الأجر على التأذين.
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد قال: أخبرنا سعيد الجريري عن أبي العلاء عن مطرف بن عبد الله عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: قلت -وقال موسى في موضع آخر: إن عثمان بن أبي العاص قال-: يا رسول الله! اجعلني إمام قومي.
قال: (أنت إمامهم واقتد بأضعفهم، واتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجراً)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب أخذ الأجر على التأذين] أي: حكم ذلك، وهل تؤخذ الأجرة على الأذان، أو أنها لا تؤخذ؟ والأذان أو التأذين والإمامة، وتعليم القرآن، وغير ذلك هي من القربات التي يتقرب بها إلى الله عز وجل، فهل يُؤخَذُ على ذلك أجر، أو لا يؤخذ؟ للعلماء في ذلك ثلاثة أقوال: منهم من قال: يجوز أن يأخذ.
واستدلوا على ذلك بما جاء في قصة اللديغ أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما علم أنهم أخذوا الأجرة على رقيته قال: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله).
وبعض أهل العلم قال: إن ذلك لا يجوز مطلقاً -أي: أخذ الأجرة-، ولكن يجوز أخذ الجُعْل، وهو: المبلغ الذي يرصد في أوقاف المسلمين، أو من متبرع في ذلك، أو ما يرصد من بيت المال لمن يقوم بهذه المهمة، فهذا جعل لا بأس به، وهو بخلاف الأجرة؛ لأن الأجرة هي اتفاق وارتباط وأنه لا يحصل منه ذلك إلا بمقدار معلوم، وأما الجعل فهو شيء مرصود لمن يقوم بهذه المهمة، إما وقف وإما شيء من بيت المال، وإما تبرعات وإحسان من المحسنين.
وبعض أهل العلم يقول: إن ذلك مثل ولي اليتيم: إن كان غنياً يستعفف وإن كان فقيراً يأكل بالمعروف.
والذي يظهر أن أخذ الأجرة لا يجوز والمؤاجرة على ذلك لا تجوز، وأما الجعل وأخذ ما يرصد لذلك من أوقاف وتبرعات وشيء يخصص لذلك من بيت المال فإن لا بأس به، وإنما الذي به بأس أن الإنسان يؤدي العمل وهو في عمله يأخذ في مقابله الأجر كما يأخذ النجار والحداد وغيرهم من أصحاب المهن بأن يكون هذا صاحب مهنة، وأنه يأخذ عليها أجراً كما يأخذ أصحاب المهن أجراً على تلك المهن، وفرق بين أصحاب المهن وبين القُرَبْ التي تفعل من أجل الثواب ورجاء ما عند الله عز وجل مما هو خير وأبقى، وإذا حصل جُعْل لمن يقوم بهذا العمل، ولم يكن هو الدافع للإنسان على هذا العمل فذلك خير وسائغ أخذه ولا بأس به.
وفد أورد أبو داود رحمه الله حديث عثمان بن أبي العاص الثقفي الطائفي رضي الله عنه أنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعله إمام قومه فقال: [(أنت إمامهم، واقتدِ بأضعفهم، واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً)] فجعله إمامهم، وكان والياً على الطائف، وسبق أن مر بنا الحديث الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجعل المسجد حيث تكون الطواغيت أو أماكن طواغيتهم أو طاغوتهم.
وقوله: [(واقتدِ بأضعفهم)] أي أنه عندما يصلي بهم يراعي حال الضعيف، وحال الكبير، وحال العاجز فيخفف ولا يطيل، لكنه التخفيف الذي لا يكون معه خلل ولا يكون معه نقص، ولكنه لا يطيل الطول الذي يشق، فأرشد عليه الصلاة والسلام إلى أن يراعي حال من يكون ضعيفاً، ومن يكون عاجزاً بحيث لا يطيل إطالة تشق عليه، وإنما يأتي بالصلاة غير مطولة مع إتمامها.
قال: [(واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً)] ومعناه أنه يجعل مؤذناً للوقت لكن لا يأخذ على أذانه أجراً، وقد كان السلف يكرهون مثل ذلك، وقد ذكر عن الإمام أحمد رحمة الله عليه أنه سئل عن إمام يقول لجماعته: أصلي بكم رمضان بكذا وكذا درهماً.
فقال الإمام أحمد: أسأل الله العافية، ومن يصلي خلف هذا؟! أي: الذي يكون هذا شأنه، وهمه الدنيا، ولا يفكر إلا في الدنيا، ويشارط الناس بمثل هذه العبارة، فهذا أمر غير سائغ.
وقوله: [(يا رسول الله! اجعلني إمام قومي)] طلب منه أن يسند إليه الإمامة، فهل يجوز طلب الإمامة؟
و
الجواب
إذا كان يترتب على ذلك مصلحة فلا بأس به؛ لأن الإمامة قربة وعبادة وفيها محافظة على الوقت، وهي تدفع الإنسان إلى أن يصلي الجماعة دائماً وأبداً، ولا تفوته الجماعة؛ لأنه هو الإمام، وكونه أيضاً يتعاهد القرآن، ويحرص على أن يقرأ القرآن ويتعاهده، إلى غير ذلك من المصالح التي تكون في الإمامة.
ومع ذلك فإن فيها مسئولية وفيها تبعة، وقد مر بنا الحديث: (الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن).(74/3)