حكم قبول هدية المشرك
قال الإمام النووي: (اختلف العلماء في إسلام فروة بن نعامة أو ابن نفاثة على الصحيح.
قال القاضي: قال الطبري: أسلم وعمّر عمراً طويلاً.
وقال غيره: لم يسلم، وفي صحيح البخاري أن الذي أهداها له ملك أيلة، واسمه يحنة بن روبة.
فإن قيل: ففي هذا الحديث قبوله صلى الله عليه وسلم هدية الكافر).
لو قلنا بأنه لم يسلم لزمنا القول بأنه عليه الصلاة والسلام قبِل الهدية من الكافر، وهذا ليس جائزاً.
قال: (وفي الحديث الآخر: قال عليه الصلاة والسلام: (هدايا العمال غلول) مع حديث ابن اللتبية) رضي الله عنه حينما أرسله النبي عليه الصلاة والسلام ليأتي بالصدقات؟ فكان يهدى إليه خلافاً لأموال الصدقات، فلما أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام قال: هذا لكم وهذا أُهدي إلي، فغضب النبي عليه الصلاة والسلام وصعد المنبر ثم قال: (إن أحدكم إذا أرسلته أتاني فقال: هذا لكم وهذا أُهدي إلي، هلا جلس في بيت أبيه أو أمه فينظر ماذا يُهدى إليه؟).
وفي رواية: (فينظر هل يهدى إليه أم لا؟).
وبلا شك أنه لو جلس في بيت أبيه أو أمه ما أُهدي إليه.
إذاً: هذه الهدايا التي دخلت عنده أو أتته ما أتت إلا بسبب العمل، وهو يسميها هدية، وهي في الحقيقة غلول، وإن كان أصل الغلول الأخذ من الغنيمة قبل توزيعها على الغانمين.
قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161].
وحينما شهد أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام لمولى من مواليه حينما قُتل في القتال: أنه من أهل الجنة، قال: (والله إني لأرى النار تشتعل عليه بسبب الشملة التي غلها).
فهذا أمر عظيم جداً؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (هدايا العمال غلول) أي: كالأخذ من الغنيمة قبل توزيعها، فحينما أخذ النبي عليه الصلاة والسلام الهدية من فروة بن نفاثة قامت الشبهة لدى البعض، كيف يقبلها النبي عليه الصلاة والسلام مع أنه قال: (هدايا العمال غلول)؟ وفي الحديث الآخر: أنه عليه الصلاة والسلام رد بعض هدايا المشركين وقال: (إنا لا نقبل زبد المشركين)، فكيف نجمع بين هذه الأحاديث؟ قال بعض العلماء: إن هذه الأحاديث التي تمنع قبول هدية المشرك ناسخة للأحاديث المجيزة لقبول هدية المشرك.
وقال الجمهور: لا نسخ في هذه الأحاديث؛ لأنكم تعلمون أن السبب الرئيسي في ادعاء النسخ هو معرفة التاريخ.
فقالوا: بل سبب القبول: أن النبي عليه الصلاة والسلام مخصوص بالفيء الحاصل بلا قتال، فالغنائم تطلق على المكاسب العسكرية أو المكاسب المادية جراء القتال، أما ما أخذه المسلمون بغير قتال فهو فيء وليس غنيمة، والفيء صاحبه النبي عليه الصلاة والسلام.
قالوا: فهذا المشرك حينما أهدى النبي صلى الله عليه وسلم بغلة أهداها بغير قتال، فهي فيء مخصوص للنبي عليه الصلاة والسلام بخلاف غيره، فقبل النبي عليه الصلاة والسلام هذه البغلة منه لعلة أخرى وليس لعلة الفيء، هذه العلة هي طمعه عليه الصلاة والسلام في إسلامه وتأليفه لمصلحة يرجوها للمسلمين، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كافأه بذلك، وأعطاه هدية مكافئة لذلك تأليفاً لقلبه، وطمعاً في إسلامه، وهذا لا شك غرض شرعي، حتى بين المسلمين فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (تهادوا تحابوا).
وفي مفهوم المخالفة: أن رد الهدية له أثر سلبي في القلب؛ ولأجل ذلك قبل النبي صلى الله عليه وسلم من هذا المشرك الهدية، وكافأه ولم يكن في قبولها مصلحة؛ لأن الهدية توجب المحبة والمودة.
أي: إذا كنتم تخافون أن الهدية هذه التي أخذها من المشرك تعمل عملها في قلب النبي صلى الله عليه وسلم فيميل إلى هذا المهدي المشرك بالمودة والحب؛ فهذا ممنوع عن النبي عليه الصلاة والسلام، بل مستحيل أن يقع في قلب النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: (وأما غير النبي عليه الصلاة والسلام من العمال والولاة، فلا يحل له قبولها لنفسه) البتة، فإن أخذها كانت من حق بيت المال أي: من حق المسلمين عامة.
هذا إن أخذها والأصل ألا يأخذها، لكنه إن أخذها ودفعها إلى بيت مال المسلمين فلا حرج عليه، فإن أخذها لنفسه فلا تحل له، فهذا القول هو قول جماهير العلماء، وهو القول الراجح.
قال: (فإن قبلها كانت فيئاً للمسلمين فإنه لم يهدها إليه إلا لكونه إمامهم، وإن كانت من قوم هو محاصرهم فهي غنيمة.
قال القاضي: وهذا القول قول الأوزاعي ومحمد بن الحسن وابن القاسم وابن حبيب وحكاه ابن حبيب عمن لقيه من أهل العلم.
وقال آخرون -وهو المذهب الثالث- هي للإمام خاصة دون غيره).
وقد سبق التفصيل: وأن للإمام أن يقبلها نيابة عن المسلمين على أن يضعها(94/13)
شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم وإقدامه
قال: (قوله: (ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء) قال العلماء: ركوبه عليه الصلاة والسلام البغلة في مواطن الحرب، وعند اشتداد الناس هو النهاية في الشجاعة والثبات، ولأنه أيضاً يكون معتمداً) أي: يكون بارزاً للناس؛ لأن الذي يركب يكون في أعلى الناس، فركوب الدابة شجاعة.
قد يقول قائل: من التواضع أن ينزل عن الدابة، حتى يكون في غبراء الناس.
أقول: لكن الشجاعة في موطن الشدة أولى من التواضع، والكبر في هذا الموطن أولى من التواضع، كان أبو دجانة يمشي في القتال بين الصفين مختالاً، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن هذه المشية يبغضها الله ورسوله إلا في هذا الموضع) يستعلي بإيمانه على هذا الواقع الباطل الذي يعيشه، يستعلي بإيمانه على أهل الكفر والشرك، فلا يمشي ذليلاً خاضعاً، بل يستعلي بإيمانه في موقف يستدعي الاستعلاء، فالنبي عليه الصلاة والسلام ترك موطن التواضع هنا ولم ينزل عن الدابة، بل كان راكباً دابته ليظهر للناس، وكأنه يقول للمشركين: أنا لا أخاف منكم، فأنا باد لكم وظاهر أمامكم، ولم يكن أحد من أصحابه قد بدا بدوه وظهر ظهوره للمشركين أكثر من بدوه عليه الصلاة والسلام، فهذا منتهى الجرأة والشجاعة في القتال والإقدام وترك الإدبار منه صلى الله عليه وسلم.
(والفائدة الثانية: حتى يرجع المسلمون إليه في مسائلهم، وتطمئن قلوبهم به وبمكانه)، وأنه لا يزال موجوداً وحياً عليه الصلاة والسلام.
(وإنما فعل هذا عمداً وإلا فقد كانت له عليه الصلاة والسلام أفراس معروفة.
ومما ذكره في هذا الحديث من شجاعته عليه الصلاة والسلام: تقدمه يركض -أي: يسرع العدو- خلف المشركين، وقد فر الناس عنه.
وفي الرواية الأخرى: أنه نزل إلى الأرض حين غشوه.
وهذه مبالغة في الثبات والشجاعة والصبر).
{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران:120] فالصبر والتقوى من أعظم عدة النصر في ساحة القتال.
(وقيل: فعل ذلك مواساة لمن كان نازلاً على الأرض من المسلمين، وقد أخبرت الصحابة رضي الله عنهم بشجاعته في جميع المواطن).
فضد الشجاعة هو الجبن، والنبي عليه الصلاة والسلام موصوف بكل كمال بشري في جميع الصفات، وهذا من عقائد المسلمين، لم يكن هناك موطن خسة للنبي فيه أدنى نصيب، بل ضرب المثل الأعلى في جميع صفات الكمال البشري، من شجاعة وأدب ورفعة وكرم ضيافة وحسن خلق وحسن عشرة وغيرها، فربما يكون في الأمة من اتصف بالشجاعة وعنده خلل في بقية الصفات، وربما اتصف أحد بالحلم والصبر، ولكن عنده خلل في الصفات الأخرى، وربما اتصف أحد بالعلم، ولكنه أرعن وأهوج وغير ذلك من صفات السلب والنقص.
أي: أنك لا تجد إنساناً إلا وقد برز في خصلة أو خصلتين أو ثلاث خصال، ولكن عنده عجز في بقية الصفات، أما الذي حاز الكمال البشري في ذروته وكماله وتمامه في جميع الصفات هو نبينا عليه الصلاة والسلام، فما كانت هناك خصلة من خصال الخير إلا قد برز فيها بروزاً لم يلحقه أحد ممن سبقه ولا ممن لحقه إلى قيام الساعة، وهذا هو نبينا عليه الصلاة والسلام.
قال: (وفي صحيح مسلم: إن الشجاع منا الذي يحاذي به، وإنهم كانوا يتقون به).
أي أن أشجع واحد في أصحابه في هذا الموطن كان يقتدي بالنبي عليه الصلاة والسلام، وحينما سمع أهل المدينة جلبة صوت عظيم جداً قاموا ينظرون إلى مصدر الصوت ما هو؟ فإذا بهم يخرجون خارج المدينة إلى ناحية الصوت، وفي حال خروجهم من المدينة إذا بالنبي عليه الصلاة والسلام راجع من مصدر الصوت وهو يقول لهم: (لم تراعوا لم تراعوا) ذهب صلى الله عليه وسلم بمفرده ولم ينتظر أبا بكر ولا عمر ولم ينتظر أحداً، بل ذهب ورجع بنفسه عليه الصلاة والسلام، فهذا يدل على شجاعته عليه الصلاة والسلام.(94/14)
استجابة أهل بيعة الرضوان لنداء رسول الله يوم حنين
قال: (قوله: (يا عباس! ناد أصحاب السمرة) أصحاب بيعة الرضوان، ومعناه: ناد أهل بيعة الرضوان يوم الحديبية.
قوله: (فقال عباس وكان رجلاً صيتاً، فوالله لكأن عطفتهم) والعطفة: الجلبة، أي: كما لو كان جيش على قمة جبل ونزل في الوادي، بلا شك أنه سيكون لهم جلبة وصوت وهمهمة وغير ذلك، فهؤلاء حينما سمعوا صوت العباس: هلموا إلى رسول الله أتوا جرياً وهم يقولون: (يا لبيك! يا لبيك!).
قال العلماء: في هذا الحديث دليل على أن فرارهم لم يكن بعيداً، وأنه لم يحصل الفرار من جميعهم، وإنما فتحه عليهم من في قلبه مرض من مسلمة أهل مكة المؤلفة، ومشركيها الذين لم يكونوا أسلموا، وإنما كانت هزيمتهم فجأة لانصبابهم عليهم دفعة واحدة ورشقهم بالسهام، ولاختلاط أهل مكة معهم ممن لم يستقر الإيمان في قلبه، وممن يتربص بالمسلمين الدوائر، وفيهم نساء وصبيان خرجوا للغنيمة، فتقدم أخفاؤهم، فلما رشقوهم بالنبل ولوا، فانقلبت أولاهم على أخراهم إلى أن أنزل الله تعالى سكينته على المؤمنين كما ذكر الله تعالى في القرآن).
قال الله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} [التوبة:25] فرحوا وقالوا: لن نُغلب اليوم من قلة، بخلاف يوم بدر: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران:123] أي: متذللين خاضعين عاجزين.
وفي تفسير آخر: ((أَذِلَّةٌ)) يعني: قلة في مقابلة يوم حنين كانوا كثرة {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} [التوبة:25]، هم اثنا عشر ألف مقاتل فقالوا: من الذي يستطيع أن يغلبنا؟ مع أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ولن يُهزم اثنا عشر ألفاً من قلة) إذاً: فبماذا يهزمون؟ بسبب آخر غير الكثرة هذه، وهو الذي سمعتموه الآن: منافقين، ومشركين، وفي قلوبهم مرض، وغير مخلصين، وناس خرجت من أجل الغنيمة فقط، لكن اثنا عشر ألف مقاتل مخلص ما خرجوا إلا لله تعالى فقط، فمن الذي يستطيع غلبتهم؟ لا أحد يستطيع أبداً.
ومن الذي استطاع غلبة إخواننا في طالبان؟ فهم لم يُغلبوا، ولكن ما أصابهم الذي أصابهم إلا بسبب المنافقين.
قال تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25] ونحن عرفنا من الذي ولى مدبراً يوم حنين، ولم يثبت إلا بضع مئات من أصحابه عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: {ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:26] حينما ولوا مدبرين بعد ذلك أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين {وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة:26] وهؤلاء هم جنود السماء {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:26 - 27].(94/15)
معنى قوله: (هذا حين حمي الوطيس)
أما قوله: (هذا حين حمي الوطيس) أول قائل له هو نبينا عليه الصلاة والسلام، وصار مثلاً بعد ذلك لاشتداد الأمر، وليس لازماً أن يكون للحرب فقط.
قيل: الوطيس: هو شيء شبه التنور الفرن.
وقيل: هو التنور نفسه.
وقيل: هي حجارة مدورة يحمى عليها حتى تصير كالجمر فلا يطيقها أحد، ولا يستطيع أحد أن يطأها.
وقيل: الوطيس: هو الضرب في الحرب.
وقيل: هو الحرب الذي يطيس الناس.
أي: يدق الناس دقاً.
وهذا من فصيح كلامه عليه الصلاة والسلام وبديعه.(94/16)
معجزات النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين
قوله: (فرماهم بحصيات).
وفي رواية: (بتراب).
فقيل: بتعدد الرمي، فمرة رماهم بحصى، ومرة رماهم بتراب.
وقيل: بل أخذ كفاً من الأرض قد اختلط الحصى فيه بالتراب.
قال: (فما زلت أرى حدهم كليلاً).
أي: ضعيفاً.
أما رميه لهم ورشقه لعيونهم وأبصارهم بالتراب والحصى حتى ولوا جميعاً مدبرين ففيه معجزات لنبينا عليه الصلاة والسلام.
المعجزة الأولى فعلية، والأخرى خبرية، فإنه صلى الله عليه وسلم أخبرنا بهزيمتهم، وقال: (انهزموا ورب الكعبة) أو: (انهزموا ورب محمد) فهذا خبر منه عليه الصلاة والسلام أنهم قد انهزموا.
ورماهم بالحصيات فولوا مدبرين، وفي آخر الباب أنه قال: شاهت الوجوه فما خلق الله منهم إنساناً إلا ملأ عينيه تراباً من تلك القبضة، وهذا أيضاً فيه معجزتان: خبرية، وفعلية، ويحتمل أنه أخذ قبضة من حصى وقبضة من تراب، فرمى بذا مرة وبذا مرة.
ويحتمل أنه أخذ قبضة من حصى وتراب فرمى بها جميعاً.(94/17)
تأدب البراء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم سئل عن فرارهم يوم حنين
قال: (قوله: (يا أبا عمارة! فررتم يوم حنين؟ قال: لا والله ما ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه خرج شبان أصحابه وأخفاؤهم حُسّراً ليس عليهم سلاح).
هذا الجواب الذي أجاب به البراء رضي الله عنه من بديع الأدب ونوادره؛ لأن تقدير الكلام: (فررتم كلكم) فيقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم وافقهم في ذلك، فقال البراء: لا والله ما فر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن جماعة من الصحابة جرى لهم كذا وكذا).
وقوله: (أخفاؤهم) الأخفاء: جمع خفيف، وهم المسارعون المستعجلون.
ومعناه: ما سبق من خروج من خرج معهم من أهل مكة، ومن انضاف إليهم ممن لم يستعد للقتال، وإنما خرج إلى الغنيمة من النساء والصبيان ومن في قلبه مرض، فشبهه بغثاء السيل، ليس معهم سلاح ولا هم مستعدون لذلك، فرشقهم العدو رشقاً فاضطروا إلى الفرار، ولكن رسول الله عليه الصلاة والسلام لم يفر.(94/18)
استحباب الدعاء عند قيام الحرب
قوله: (فنزل النبي صلى الله عليه وسلم واستنصر).
أي دعا ربه أن ينصره هو وأصحابه.
قال النووي: (في هذا: استحباب الدعاء عند قيام الحرب).
وفي صحيح مسلم والبخاري من حديث أنس (أن النبي عليه الصلاة والسلام نزل يوم حنين -أي: من على بغلته- فرفع يديه إلى السماء ودعا بدعاءين فصل بينهما فصلاً) أي: أنه دعا مرتين، وبينهما فصل.
قال في هذا الفصل: (أنا عبد الله ورسوله) ليثبت الذل في هذا الموطن، مع أنه كان أذل الناس لربه وأعبد الناس لربه، ولكن هذا الموطن يحتاج إلى بيان الذل والخضوع أكثر من غيره خاصة مع ما قد علمه النبي صلى الله عليه وسلم من بعض من خرج معه أنهم أعجبتهم قوتهم وكثرتهم، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيّن لهم في هذا الموطن أن النصر لا يأتي إلا بالذل والعبودية لله، فالتزم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وأجراه على نفسه حتى يقتدي به أصحابه عليه الصلاة والسلام.(94/19)
نفي صفة الشعر عن النبي صلى الله عليه وسلم
قوله: ((أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب)).
فهذا في ظاهره يا إخواني! أنه شعر، مع أن الله تعالى يقول: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69].
قوله: ((وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ)) أي: وما خلقناه شاعراً.
وأيضاً: لا ينبغي لهذا النبي أن يقول الشعر.
والظاهر أن هذا شعر: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب) فلا شك أن بين الآية وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم هذا تعارض في الظاهر؟ قال الأئمة في رد هذه الشبهة: (أنكر بعض الناس كون الرجز شعراً).
وهذا من الرجز: (أنا النبي لا كذب) والرجز هو الذي يقال في الحرب ولتحفيز الناس على القتال وغير ذلك، أو هو الذي يقال في محافل الناس، فأنكر كثير من العلماء أن يكون الرجز شعراً، فقالوا: الرجز شيء، والشعر شيء آخر، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال رجزاً ولم يقل شعراً.
قالوا: وهذا مذهب الأخفش، واحتج به على فساد مذهب الخليل في أنه قال: الرجز شعر.
وأجابوا عن هذا بأن الشعر هو ما قُصد إليه، والشعر له علامات وشروط، الشعر هو أن يقصد قائله أن يقول شعراً، واعتمد الإنسان أن يوقعه موزوناً مقفى يقصد به القافية.
إذاً: فالشعر له علامات: أن يكون موزوناً، وأن يلتزم فيه الشاعر القافية، فاتحاد القافية شرط في الشعر، والوزن على بحر من البحور المعروفة هذا الشرط الثاني.
والثالث: أن يقصد الشاعر أن يقول شعراً.
ويقع في ألفاظ العامة كثير من الألفاظ الموزونة، ولا يقول أحد: إنها شعر، ولا إن قائل هذا الكلام شاعر.
يعني: أحياناً أنت تفاجأ بأنك على المنبر فتقول كلاماً موزوناً، وقد التزمت بحراً من البحور، وأنت نفسك لا تعرف البحر، لكن صاحب البحور عندما يسمع يعلم أن هذا الكلام يوافق البحر الفلاني، فيسألك: أنت شاعر؟ تقول: لا والله ولا عمري قلت الشعر، فيقول لك: أنت كنت قلت كذا وهذا في البحر الفلاني.
تقول: لا أعرف بحراً ولا غير ذلك، وإنما أتى ذلك عرضاً.
فهل كل من قال كلاماً موزوناً على بحر من البحور يعد شاعراً؟ إنسان ليس شاعراً ولا يعرف أصول الشعر، لكنه قصد أن يقول شعراً، هل يعد بهذا القصد فقط شاعراً؟ وآخر قال كلاماً التزم فيه القافية لكنه ليس كلاماً موزوناً وما قصد به الشعر، هل يعد شاعراً؟
الجواب
لا.
إذاً: الشعر له أصول ثلاثة: القصد، والتوجه، أن يكون موزوناً، أن يكون متحد القافية، وإذا اختل شرط من هذه الشروط فلا يكون شعراً ولا يكون قائله شاعراً، فعندما نأتي نطبّق الشروط هذه على النبي عليه الصلاة والسلام سنجدها كلها مختلة، فلم يقصد بها القافية، ولم يقصد أن يكون موزوناً، وما قصد أن يقول شعراً، فلا يكون النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ شاعراً.
والقافية هي اتحاد الحرف في آخر الأبيات كالنونية مثلاً، فعندما تأتي لتنظر نونية ابن القيم تجد كل أبياتها ملتزمة حرفاً واحداً، هل ابن القيم قصد ذلك؟ نعم.
قصد ذلك.
الكلام هذا موزون؟ نعم.
الكلام موزون، وتجد ابن القيم أنه قال شعراً.
إذاً: فهو شاعر.
وابن الأكوع لم يكن شاعراً، لكنه قال في هذه الغزوة أيضاً: أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع أتت على لسانه ولكنه ليس شاعراً، مع أنه كلام موزون ومقفى، لكنه لم يقصد الشعر.
وكثير من كلام الله عز وجل توفر فيه إما الوزن وإما القافية، ولكن هل نقول عن الله أنه شاعر؟ معاذ الله! فإذا كنا ننفي هذا عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو من باب أولى أن يكون منفياً عن الله عز وجل، ففي قول الله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92]، وفي قوله تعالى: {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف:13] شيء من ذلك، لكن لا يمكن أن يقال: إن هذا شعر.(94/20)
معنى قوله: (أنا ابن عبد المطلب)
المبحث الثاني: أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن الفخر بالأحساب والأنساب، وأثبت أن هذا من فعل الجاهلية، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يدعونهن: الطعن في الأنساب، والفخر بالأحساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة).
والحديث عند مسلم من حديث أنس.
فهنا النبي عليه الصلاة والسلام قد افتخر بجده عبد المطلب في الظاهر: (أنا ابن عبد المطلب) فكيف ينهى عن الفخر ويفتخر هو؟
الجواب
إن النبي عليه الصلاة والسلام هو ابن عبد الله بن عبد المطلب، لكن عبد الله مات شاباً قبل أن يكون له وزن في قومه وعشيرته، حتى كاد يُنسى، وكانت العرب قبل الإسلام تنادي محمداً عليه الصلاة والسلام بأنه محمد ابن عبد المطلب، فخاطبهم النبي عليه الصلاة والسلام بما كانوا ينادونه به قبل الإسلام: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب) وهذا ليس من باب الفخر، ولكنه من باب نسبة الرجل بما اشتهر به، فاشتهر بجده أو بأمه أو بلقبه أو كنيته أو قبيلته أو بلده أو عمله، فيسن حينئذ أن يُنسب الرجل إلى ما يعلم به حتى لا يختلط بغيره.
فلو قال: أنا محمد بن عبد الله فربما يكون في أصحاب الذين يقاتلون معه أنه محمد بن عبد الله، لكنه خاطبهم بما كانوا يعرفون آنفاً، أنه محمد بن عبد المطلب: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب) فليس هذا على سبيل الفخر، وإنما خاطبهم بما كانوا ينادونه به.(94/21)
حكم التسمي بـ (عبد المطلب)
المسألة الثالثة: هل المطلب من أسماء الله تعالى؟ لا.
ليس من أسماء الله تعالى، فلِم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا ابن عبد المطلب) مع أنه يعلم أن المطلب ليس من أسماء الله تعالى؟
الجواب
إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل ذلك إلا ليقرر واقعاً، هذا الواقع لا دخل للنبي صلى الله عليه وسلم فيه؛ لأن عبد المطلب هذا جده، وقد تسمى بهذا الاسم قبل ميلاد النبي عليه الصلاة والسلام، بل إن عبد المطلب لم يسم نفسه، بل سماه قومه أو أبوه أو أمه، فلا دخل للنبي صلى الله عليه وسلم في اختيار هذا الاسم، بل فُرض عليه أنه هو ابن عبد المطلب.
هذا أمر.
الأمر الثاني: أن العلماء قالوا: لا يجوز لأحد أن يسمي ابنه عبد المطلب إلا النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا مخصوص به ومفروض عليه.(94/22)
شرح صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - غزوة الطائف - غزوة بدر - فتح مكة
غزا النبي صلى الله عليه وسلم لنشر دين الله غزوات عدة، منها غزوة بدر والطائف وفتح مكة، وفي كل غزوة من هذه الغزوات من العبر والعظات والفوائد ما يسطر به الصفحات، ويؤلف فيه المصنفات، فقد جعل الله نبيه صلى الله عليه وسلم أسوة لعباده المؤمنين، في حله وترحاله، وفي مقامه وقتاله.(95/1)
باب غزوة الطائف
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
الباب التاسع والعشرون: (باب غزوة الطائف).(95/2)
شرح حديث عبد الله بن عمرو في حصار الطائف
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وابن نمير جميعاً عن سفيان -هؤلاء جميعاً يروون عن سفيان بن عيينة - قال زهير: حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو -إذا حدّث سفيان بن عيينة عن عمرو فهو عمرو بن دينار المكي - عن أبي العباس الشاعر الأعمى عن عبد الله بن عمرو بن العاص].
وقيل: هو عبد الله بن عمر بن الخطاب، أي: أن بعض الروايات أثبتت أن صاحب الرواية هو عبد الله بن عمرو بن العاص، وبعضها -كما عند البخاري - أن راوي الحديث هو عبد الله بن عمر بن الخطاب.
وبعض الروايات جمعت على سبيل الشك والجزم أنهما اثنان: عبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عمر بن الخطاب، والأمر فيها يسير، وهذا ما يسميه العلماء بالعلة غير القادحة، فيستوي عندي أن يكون هذا الراوي هو عبد الله بن عمر أو هو عبد الله بن عمرو، حتى لو قال الراوي من التابعين: حدثنا رجل من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ولم يسمه أصلاً، لكنه ذكر صفته وقال: هو أحد أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، فهذه من العلل غير القادحة.
أما العلل القادحة: أن يضطرب الراوي في من سمع منه: هل هو فلان أم فلان، ويكون أحدهما ضعيفاً والآخر ثقة.
فلو قال الراوي: حدثنا سفيان فقلنا: من سفيان؟ اختلفنا هل هو ابن عيينة أم هو الثوري لا يضر هذا، وكلاهما ثقة، فهذا من العلل غير القادحة، لكن لو كان أحدهما ضعيفاً والآخر ثقة لكان هذا هو الإشكال.
[عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: (حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف، فلم ينل منهم شيئاً)] أي: حاصرهم ولم يحصل قتال، وإنما الذي حصل مجرد محاصرة خارجية لسور المدينة لأهل الطائف، لكن النبي عليه الصلاة والسلام [فقال: (إنا قافلون إن شاء الله -أي: لا نقاتل، بل سنرجع بغير قتال- قال أصحابه: نرجع ولم نفتتحه؟)] استعظموا جداً أن يأتوا من المدينة إلى الطائف ليفتحوها، فتم لهم الحصار وهو نوع من الغلبة والنصر والتمكين، ثم يرجعون بغير قتال! فقالوا: كيف هذا يا رسول الله؟! نرجع ولا نقاتل هؤلاء ولا نفتتحها؟! قال: [(فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: اغدوا على القتال)] يعني: في الصباح وبعد صلاة الفجر إذا كانت لكم نية في القتال فقاتلوا، وظني أن النبي عليه الصلاة والسلام قال ذلك كالمنكّل بأصحابه؛ لكونهم خالفوه في أمره: (إنا قافلون إن شاء الله) أو: (إنا قافلون غداً) يعني: غداً سنرجع إلى بلادنا بغير قتال، ولكنه قال: إن شاء الله، فعلّق الأمر على مشيئة الله، وربما غر هؤلاء تلك المشيئة فقالوا: (نرجع ولم نفتتحه يا رسول الله؟! قال: اغدوا على القتال) أي: في الصباح قاتلوا هؤلاء، وإنما فعل ذلك النبي عليه الصلاة والسلام لعلمه بقوة القتال لأهل هذه القرية، أو بقوة عدتهم وزيادة عددهم وغير ذلك.
وهذا يذكرني تماماً بنهيه عليه الصلاة والسلام عن الوصال في الصيام، قالوا: (يا رسول الله! إنك تواصل، فقال: إني لست كهيئتكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني) فلما أُخبر أن بعض أصحابه واصل أمرهم بالوصال، وليس ذلك من باب التشريع ولكن من باب التنكيل والتأديب لأصحابه رضي الله عنهم وصلى الله على نبينا محمد، فلما واصلوا ثلاثة أيام كادوا يقعون من شدة الجوع والإعياء والتعب، وما أنقذهم من ذلك المأزق إلا دخول العيد، وصيامه حرام، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: (لو طالت بكم الأيام -أي: أيام رمضان- لواصلت بكم) كالمنكّل لهم والمؤدب لهم.
وبعضهم يقول: هذا رسول الله الذي غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهو ليس في حاجة إلى العبادة، وهو أول من تنشق عنه الأرض، ولا يدخل أحد الجنة إلا من بعده، وغير ذلك من مناقبه وشمائله عليه الصلاة والسلام.
وكان هناك ثلاثة تقالّوا عبادته: أما أحدهما فيقول: أنا أصوم ولا أفطر.
والثاني يقول: أنا لا أتزوج النساء.
والثالث يقول: أنا أقوم الليل ولا أرقد.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألستم القائلين كذا وكذا؟ قالوا: نعم.
يا رسول الله! قال: أما إني أتقاكم وأخشاكم له، ولكني أقوم وأرقد، وأتزوج النساء، وأصوم وأُفطر، فمن رغب عن سنتي فليس مني).
قوله عليه الصلاة والسلام: (أما إني أخشاكم لله وأتقاكم له).
أي: أنا أعلمكم بالله، وكلما ازداد المرء علماً ازداد لله عبادة وطاعة، فهو يصحح لهم عليه الصلاة والسلام خطأً في أذهانهم، فهم تصوروا أنه ما دام هو أتقى الناس وأخشى(95/3)
وجوب طاعة الأمير وعدم مخالفته
في هذا الحديث: وجوب سماع أمر الأمير وعدم مخالفته، فإذا كان الشخص قد تأمر على سرية أو كتيبة أو جيش فلا شك أنه ما تأمر من فراغ، وإنما تأمّر لأنه أعلم الناس بخطط الحرب، وأعلم الناس بما ينفع قومه ويضر بهم، والخلاف والتنازع في الرأي يؤدي إلى الفشل: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46] أي: تضعف قوتكم، فحينئذ يجب على كل من كان تحت راية أمير أن يسمع له وأن يطيع ما دام السمع والطاعة في طاعة الله عز وجل؛ لأنه لا طاعة إلا في المعروف، ولا طاعة في المعصية؛ ولذلك تأمر أمير على سرية أرسله النبي عليه الصلاة والسلام فيها، فأجج ناراً وأمرهم أن يقذفوا أنفسهم فيها.
قالوا: منها فررنا، أي: نحن قد فررنا من النار بإيماننا ودخولنا في الإسلام، فكيف تأمرنا بأن ندخل النار؟ فما أطاعوه في ذلك، وكان ظن هذا الصاحب أنه مطاع في كل أمر يأمر به، فلما رجع إلى المدينة أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بذلك، وأخبره أصحابه بذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الجند: (لو أطعتموه ما خرجتم منها أبداً) لو أطعتموه في هذا الأمر -لأنه أمر في معصية الله- ما خرجتم منها أبداً، فالحمد لله أنهم لم يمتثلوا أمره لأنه معصية، ولا يُعذّب بالنار إلا رب النار كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام.
لكن إذا كان أمر الأمير محل اجتهاد كأن يقول: نمشي من هذه الطريق أو من هذه الطريق؟ فاختلف أهل الشورى وأهل الحل والعقد الوجهاء في الجيش أو السرية، فبعضهم يقول: نمشي يمنة والبعض يقول: نمشي يسرة، ولكن الأمير اختار طريق الميمنة، فوجب على الجميع أن يسمعوا له ويطيعوا حتى الذين قالوا: نمشي على الميسرة، فالخلاف يكون في الرأي لا في العمل، كما أنه لا يفسد القلوب على الأمير، وإذا كان الأمر محل اجتهاد فليس اجتهاد الناس أو عامة الناس أو غبراؤهم أولى من اجتهاد الأمير، فاجتهاده يفصل النزاع؛ ولذلك سن النبي عليه الصلاة والسلام الإمارة في السفر فقال: (إذا كنتم ثلاثة في سفر فأمّروا أحدكم) لِم؟ حتى يفصل النزاع حين وجود النزاع.
فإن قيل: نأكل أو لا نأكل؟ البعض يقول: نأكل.
والبعض الآخر يقول: لا نأكل.
فالأمير يقول: نأكل إذا نزلنا في المكان الفلاني، فرأي الأمير يرفع الخلاف ويمحو النزاع.
أو يقال: نمشي من هنا أم من هاهنا؟ نبيت أو لا نبيت؟ نسير أو نقف؟ نستريح أو نستمر؟ وغير ذلك من المسائل التي تعترض المسافرين.
فحينئذ أمر الأمير فيها يفصل النزاع، ولا يحل لمخالف له أن يقول: أنت وشأنك أنا باق هنا، إذا أردت أن تطعم فاطعم أما أنا فلا أطعم وهكذا، لا يحل لأحد أن يخالف أميره في شيء مما جعل الشرع له الإمارة فيه.
وإذا كان الأمير يرى أن الخير للمسلمين في قيام الصلح مع أعدائهم، فلا يحل لأحد أن ينازع الأمير في ذلك؛ لأنه صاحب دين، ويجر المصلحة والنفع للمسلمين، وإذا رأى أن المصلحة للمسلمين هي القتال والجهاد فلا يحل لأحد أن يتخلف عنه إلا لعذر شرعي، وهذا باب عظيم يسمى بعلم السياسة الشرعية، أو بمسائل الإمامة.(95/4)
باب غزوة بدر
الباب الثلاثون: (باب غزوة بدر).
[حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عفان -وهو ابن مسلم الصفار البصري - قال: حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت وثابت هو ابن أسلم البناني - عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان قال: فتكلم أبو بكر فأعرض عنه، ثم تكلم عمر فأعرض عنه، فقام سعد بن عبادة الأنصاري فقال: إيانا تريد؟ يا رسول الله! والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها -يعني: لو أمرتنا أن نخيض الخيل البحر لفعلنا ذلك- ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا.
قال: فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس -أي: حثهم على القتال- فانطلقوا حتى نزلوا بدراً، ووردت عليهم روايا قريش -أي: الذين ذهبوا ليتحسسوا وجود الماء.
روايا: جمع راوية.
وهو الذي يذهب ليستقي للناس- وفيهم غلام أسود لبني الحجاج، فأخذوه -أي: فأخذه المسلمون- فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه عن أبي سفيان وأصحابه؟ فيقول: ما لي علم بـ أبي سفيان -أي: أنا لا أعرف عنه شيئاً- ولكن هذا أبو جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف، فإذا قال ذلك ضربوه) أي: ضربه أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام (فقال: نعم.
أنا أخبركم هذا أبو سفيان، فإذا تركوه فسألوه فقال: ما لي بـ أبي سفيان علم، ولكن هذا أبو جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف في الناس، فإذا قال هذا أيضاً ضربوه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، فلما رأى ذلك انصرف)] أي: سلّم من صلاته بعد أن أتمها بسرعة وعجلة.
وفي هذا جواز -بل استحباب- تعجيل الصلاة إذا نادى عليك مناد ذو هيئة، كالأم والأب، أو صاحب عذر كمريض يستغيث أو غريق أو إمام أو أمير أو سلطان أو عالم جليل، كل هؤلاء أصحاب هيئات ووجاهات، فإذا نادى عليك أحدهم وهو لا يعلم أنك في صلاة فعجّل بها إذا كانت نافلة؛ ولذلك نادى النبي عليه الصلاة والسلام على أبي بن كعب وهو يصلي فاستمر في صلاته، فلما سلّم من صلاته أتى وقال: (لبيك يا رسول الله! قال: ما منعك أن تُجيبني إذ دعوتك؟ قال: يا رسول الله! كنت أصلي.
قال: أما قرأت قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]؟ أما قرأت هذا يا أبي؟) فكان من كان يصلي نافلة من أصحابه عليه الصلاة والسلام ورسول الله يناديه يقطع الصلاة استجابة وتلبية لأمر النبي عليه الصلاة والسلام، لكن هذا الحكم منسوخ بموت النبي عليه الصلاة والسلام، ويبقى استحبابه لأهل الوجاهات والهيئات كما ذكرنا آنفاً بتعجيل الصلاة لا بقطعها.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن انصرف من صلاته: [(والذي نفسي بيده لتضربوه إذا صدقكم وتتركوه إذا كذبكم)] أي: أنتم تقولون له: ماذا تعرف عن أبي سفيان؟ فيقول: أنا لا أعرف عنه شيئاً، ولكن أعرف عن فلان وفلان وفلان، فتضربونه حتى يأتي لكم بخبر أبي سفيان، وفي الحقيقة هو لا يعلم خبر أبي سفيان.
وهذه معجزة للنبي عليه الصلاة والسلام أنه أخبر عن صدقه وهو لم يكن معه.
فقال: (تضربونه إذا صدقكم وتتركونه إذا كذبكم).
وكأن النبي عليه الصلاة والسلام ينعى على أصحابه ضرب المتهم، وأنه متهم حتى تثبت إدانته؛ لأن الأصل في الشرع أن الإنسان بريء حتى تثبت إدانته، فالإنسان بريء وليس متهماً، أما سلوك سبيل الضغط والتعذيب والكهربة والسحب والجر على الأرض والرمال وغير ذلك حتى يتكلم بشيء لم يعلمه أو لا علاقة له به أو غير ذلك فهذا مذهب المجرمين لا مذهب الموحدين؛ ولذلك نعى النبي عليه الصلاة والسلام على أصحابه أنهم ضربوا هذا الغلام الأسود المشرك الذي جعله قومه عيناً وجاسوساً على المسلمين، نعى عليهم أنهم ضربوه، لأنه صادق فيما يُخبرهم، فهو لا يعلم شيئاً عن أبي سفيان، ولكنه من شدة التعذيب والضرب يقول لهم: نعم.
أنا أعلم خبر أبي سفيان فيخبرهم بخبر أو بخبرين فيتركونه، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي حمله على الكذب تعذيبهم له.
قال أنس: [فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا مصرع فلان) هنا سيموت فلان، وهنا سيموت فلان، أي: من صناديد الشرك والكفر.
قال: [(هذا مصرع فلان، ويضع يده على الأرض ها هنا وها هنا قال: فما أماط -أي: فما تباعد- أحدهم عن موضع(95/5)
سبب غزوة بدر
كان هذا في غزوة بدر، وأنتم تعلمون أن غزوة بدر هذه غيّرت وجه التاريخ، بالضبط كأحداث سبتمبر، إذ أصبح لأوروبا وأمريكا تاريخاً في هذا الوقت كالتاريخ الهجري لنا، فنحن لنا أيام وهي الأيام الهجرية والشهور العربية، فكذلك هؤلاء صار لهم تاريخ مشرّف جداً وهو (11) سبتمبر، فيقال: أحداث ما قبل (11) سبتمبر، وأحداث ما بعد (11) سبتمبر، وهذا شيء طيب أن يكون لهم تاريخ، ونحن لا نكره أن يكون لهم تاريخ، فأعظم حدث بعد هجرة النبي عليه الصلاة والسلام في الإسلام عامة هو غزوة بدر، وأنتم تعلمون أن الصحابة رضي الله عنهم إنما حُملوا حملاً على الهجرة من مكة، فكانت الهجرة الأولى إلى الحبشة، ثم الهجرة الثانية إلى الحبشة، ثم ذهب فلان وفلان من صناديد الشرك والكفر في مكة لمقابلة النجاشي والتحريش بينه وبين هؤلاء المهاجرين، وتم رجوع بعضهم إلى مكة، وبعضهم صبر هناك حتى هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فقدم من الحبشة إلى المدينة، والهجرة تمت بعد (13) سنة من مكة إلى المدينة، وكانت أعظم حدث عرفه التاريخ، وكانت هجرته عليه الصلاة والسلام نصراً وأي نصر، ورفعاً للراية، وإسماعاً للعالم بالدعوة الجديدة وبنبي آخر الزمان، وأنتم تعلمون أن الذين هاجروا إلى الحبشة أو إلى المدينة قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد النبي صلى الله عليه وسلم، ومع النبي صلى الله عليه وسلم تركوا أموالهم وديارهم وأهليهم، ومنهم من ترك أولاده، كل ذلك في سبيل الله عز وجل.
ومنهم من مُنع من الهجرة إلا أن يخرج من مكة ليس معه شيء إلا زاد الطريق، فلما كان ثمن ذلك الجنة باعوا كل شيء في سبيل الجنة؛ ولذلك بشّرهم النبي عليه الصلاة والسلام بربح البيع.
فلما سمع النبي عليه الصلاة والسلام في العام الثاني من الهجرة بأن عير قريش قادمة من الشام إلى مكة وهي محملة بالخيرات والأموال وغير ذلك أراد أن يخرج إليهم ليعوّض ما قد أخذوه من أصحابه في مكة، فما خرج لقتال ولا لجهاد ولا لثأر، وإنما خرج ليأخذ مال القافلة ومال العير، وهو شيء مما قد تركوه لهم في مكة، وهذا حق.
كان أبو سفيان في ذلك الوقت مشركاً، وكان زعيماً لهذه القافلة، وقد علم بمقدم النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام، فحاول بشتى الطرق الخلاص بالقافلة مع العبيد والإماء من طريق جانبي فرعي إلى مكة، وأخبر أهل مكة وصناديد الشرك والكفر فيها بأن محمداً يعترض القافلة، فقام صناديد الكفر في مكة بتجهيز جيش بلغ الألف وزيادة، وقاموا قومة رجل واحد قادمين إلى المدينة لملاقاة أبي سفيان في معسكر واحد لحرب النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا (314) شخصاً، واحتدم القتال عند بئر بدر على تفصيلات ليس هذا وقتها.
وإنما وقع القتال بين الطائفتين، والنبي عليه الصلاة والسلام قام يدعو ربه ويستغيثه بالليل، وكان ذلك في ليلة الجمعة، وكان القتال في صبيحة الجمعة، حتى أشفق عليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وسقط عنه رداؤه من على كتفه الشريف إلى الأرض، فأخذه أبو بكر ووضعه على كتف النبي صلى الله عليه وسلم وقال: رفقاً بك يا رسول الله! فوالله لينجزن الله لك ما وعدك، فأنزل الله تبارك وتعالى ملائكته على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقاتلوا دونه قتالاً عنيفاً حتى كان عدد الأسرى من المشركين سبعين نفساً، والقتلى مثلهم، واستشهد من جيش المسلمين أربعة عشر شهيداً فقط، ورجع الثلاثمائة، وقد أُخذ القتلى من قريش وأُلقوا في قليب بدر، وهي حفرة عظيمة جداً، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم على رءوسهم وهو يقول: (يا أهل بدر! هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً، فإنا وجدنا ما وعد ربنا حقاً؟) يا فلان ابن فلان! هل وجدت ما وعد ربك حقاً؟ ويا فلان ابن فلان هل وجدت ما وعدك ربك حقاً؟ فقال عمر رضي الله عنه: (يا رسول الله! أتحدث قوماً قد ماتوا؟ وإنهم لا يسمعون) وهذا أمر يدل على استقرار عدم سماع الأموات لدى الصحابة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن أن هؤلاء لهم خاصة فقال: (والله ما أنتم بأسمع لما أقول منهم) ففي هذا إثبات أن أهل القليب كانوا يسمعون النبي عليه الصلاة والسلام، لكن هذا سماع خاص، والأصل أن الميت لا يسمع شيئاً، إلا مواضع معيّنة استثناها الشرع، منها أنه يسمع قرع نعال من شيعوه.
وهذا نوع من أنواع الإسماع.
وهذا مخصوص بهذا الموطن دون غيره من بقية المواطن، فما أثبت الشرع كتاباً وسنة أن الميت يسمع في موطن معيّن، فهو لا يتجاوز هذا الموطن سماعاً، وإلا فالأصل أنه لا يسمع.(95/6)
جواز ضرب الكافر الذي لا عهد له
في هذا الحديث: جواز ضرب الكافر الذي لا عهد له وإن كان أسيراً، ونحن نتكلم عن الأحكام الشرعية التي تخصنا نحن، لا نتكلم ونقول: هل يجوز للكفار أن يضربوا أسرى المسلمين؟ فهل هم ملتزمون بالشرع حتى نقول: إنه يجوز أو لا يجوز؟ فنحن نتكلم عن شرعنا نحن والأحكام التي تحكمنا: هل يجوز لنا ضرب الأسير الكافر الذي لا عهد له؟ نعم.
يجوز ضربه.(95/7)
معجزات النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر
وفي هذا الحديث معجزتان من أعلام النبوة: إحداهما: إخباره عليه الصلاة والسلام بمصرع جبابرتهم، فلم ينفلت واحد منهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: فلان سيموت هنا، وفلان يموت هنا، وفلان يموت هنا، فإذا بنفس الأشخاص يموتون في نفس الأماكن، وهذه معجزة ظاهرة للنبي عليه الصلاة والسلام.
الثانية: إخباره بأن الغلام الذي كانوا يضربونه يصدق إذا تركوه ويكذب إذا ضربوه.(95/8)
باب فتح مكة
الباب الحادي والثلاثون: (باب فتح مكة).(95/9)
شرح حديث أبي هريرة في فتح مكة
[حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا سليمان بن المغيرة حدثنا ثابت بن أسلم البناني عن عبد الله بن رباح عن أبي هريرة قال: وفدت وفود إلى معاوية، وذلك في رمضان -وفدت وفود يعني: أتت الأفواج والسرايا والرهط إلى معاوية، ومعاوية كان مقيماً بالشام- فكان يصنع بعضنا لبعض الطعام].
وفي هذا جواز المناوبة في الخدمة إذا كانت قافلة مسافرة، فلهم أن يوزعوا أنفسهم: فلاناً للطبخ، وفلاناً للغسل، وفلاناً لبري الأقلام، وفلاناً لصقل السيوف وغير ذلك، فلا بأس بهذا وهو من السنة، فليس هناك واحد يقول: أنا آكل فقط، فهذا بلا شك سيبقى على غيره ثقلاً وعبئاً.
قال: [فكان أبو هريرة مما يكثر أن يدعونا إلى رحله].
يعني: أبو هريرة كان أكرم هؤلاء، مع أنكم تعلمون أنه كان من الصحابة الفقراء جداً، وكان من أهل الصفة، لكن الواحد يجود بالموجود فقط، فكان أبو هريرة أكثر الناس دعوة لهم إلى الطعام.
قال عبد الله بن رباح: [فقلت: ألا أصنع طعاماً فأدعوهم إلى رحلي؟] فهو يكلم نفسه، ألا يوجد مرة من المرات أسبق أبا هريرة في هذا الخير؟ قال: [فأمرت بطعام يصنع، ثم لقيت أبا هريرة من العشي، فقلت: الدعوة عندي الليلة فقال: سبقتني؟ قلت: نعم.
فدعوتهم فقال أبو هريرة: ألا أعلمكم بحديث من حديثكم يا معشر الأنصار؟! ثم ذكر فتح مكة فقال: (أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قدم مكة، فبعث الزبير على إحدى المجنبتين)].
والمجنّبة: الميمنة أو الميسرة.
والخميس: اسم للجيش؛ لأن له ميمنة وميسرة ومقدمة ومؤخرة وقلب، هناك نظام حتى في القتال، فالإسلام دين النظام، فلا أقول: الذي يريد أن يقاتل يخرج ليقاتل، فهناك نظام، فالمقدمة تقاتل، ويبقى هناك ميمنة وميسرة، ثم إذا هزمت -عياذاً بالله- يتقدم فوج آخر، ويكون بين العدو وبين المجاهد مسافة تسمح بإبطال القذائف: كيلوان، ثلاثة كيلو، خمسة كيلو، عشرة كيلو؛ حتى إذا قذف قذيفة تقع ويبطل مفعولها قبل أن تصل إليك، وتكون أنت في هذا الوقت قد استنفذت قوة عدوك.
قال: [(فبعث الزبير على إحدى المجنبتين، وبعث خالداً - ابن الوليد - على المجنبة الأخرى، وبعث أبا عبيدة على الحسّر) والحسّر: هم الراجلة الذين لا دروع معهم ويمشون على أرجلهم.
قال: [(فأخذوا بطن الوادي)] أي: فمشى هؤلاء الراجلة في بطن الوادي، فهناك جبلان وواد، فجعل الميمنة على الجبل الأيمن والميسرة على الجبل الأيسر، والمقدمة في نهاية هذا الوادي، والقلب في وسط الوادي، وفي مؤخرة الوادي هؤلاء الحُسّر الذين نسميهم نحن المشاة؛ لأنهم لا يركبون، وإنما يمشون على الأرض.
قال: [(ورسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبة)] والكتيبة لا بد أن يكون فيها الرئيس، فلا تكون هناك كتيبة إلا إذا كان فيها قائد الجيش الكبير، وأنتم تعلمون أن كل فوج لا بد أن يكون له قائد، لكن لا يقال: كتيبة إلا إذا كان فيها قائد الجيش، ولو راجعت المغازي والسير فإنك لن تجد كتيبة إلا وفيها الرسول عليه الصلاة والسلام، فإذا لم يكن فيها الرسول صلى الله عليه وسلم كان اسمها سرية، والسرية لها قائد، والميمنة سرية، والميسرة سرية، والمقدمة سرية، والقلب سرية، والمؤخرة سرية، وقد عيّن النبي صلى الله عليه وسلم على كل سرية قائداً، فالجيش كله الذي يقوده النبي صلى الله عليه وسلم اسمه كتيبة.
قال: [(فنظر فرآني فقال: أبو هريرة؟ قلت: لبيك)] وفي هذا استحباب أن يقول المنادى للمنادي: (لبيك).
قال: [(قلت: لبيك يا رسول الله! فقال: لا يأتيني إلا أنصاري)].
زاد غير شيبان فقال: (اهتف لي بالأنصار) يعني: نادهم بصوت عال.
قال: [(فأطافوا به)] يعني: أتوا بسرعة جداً حتى كانوا حول النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [(ووبشت قريش أوباشاً لها وأتباعاً)] يعني جمعت وضمّت من كل صنف من العجم والعرب والأسود والأبيض أناساً لا يقاتلون لغاية إلا المال، ونحن نسميهم في هذا الوقت الجيوش المرتزقة، جيوش مستعدة للقتال في أي مكان وفي أي دولة، تقاتل مسلمين أو تقاتل كفاراً.
قال: [(فقالوا: نقدم هؤلاء)] صناديد الكفر والشرك قالوا: نحن ندفع بهؤلاء في المقدمة، ودائماً الجيوش إذا أرادت الخلاص من أحد تقدمه إلى خط النار.
قالوا: [(فإن كان لهم شيء كنا معهم، وإن أصيبوا أعطينا الذي سُئلنا)] أي: وإن قتلوا جميعاً وهجم علينا جيش المسلمين وسألونا شيئاً أعطيناهم، في الوقت الذي يكون قد تخلصوا فيه من الأوباش.
قال: [(فقال ر(95/10)
روايات وطرق أخرى لحديث باب غزوة فتح مكة
قال: [وحدثنيه عبد الله بن هاشم حدثنا بهز -وهو ابن أسد العمي - حدثنا سليمان بن المغيرة بهذا الإسناد.
وزاد في الحديث (ثم قال بيديه إحداهما على الأخرى: احصدوهم حصداً)] أي: اقتلوهم قتلاً.
[وقال في الحديث: (قالوا: قلنا ذاك يا رسول الله؟! قال: فما اسمي إذاً؟ كلا.
إني عبد الله ورسوله)].
قال: [حدثني عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي حدثنا يحيى بن حسان حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا ثابت عن عبد الله بن رباح قال: وفدنا إلى معاوية بن أبي سفيان وفينا أبو هريرة، فكان كل رجل منا يصنع طعاماً يوماً لأصحابه، فكانت نوبتي فقلت: يا أبا هريرة! اليوم نوبتي، فجاءوا إلى المنزل ولم يُدرك طعامنا.
أي: أن الطعام لم يكن جاهزاً بعد.
قال: فقلت: يا أبا هريرة! لو حدثتنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يُدرك طعامنا.
فقال: (كنا مع رسول الله عليه الصلاة والسلام يوم الفتح، فجعل خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى، وجعل الزبير على المجنبة اليسرى، وجعل أبا عبيدة بن الجراح على البياذقة -والبياذقة: هي الراجلة الذين لا دروع معهم- وبطن الوادي -أي: الراجلة الذين يمشون في بطن الوادي- فقال: يا أبا هريرة! ادع لي الأنصار، فدعوتهم فجاءوا يهرولون فقال: يا معشر الأنصار! هل ترون أوباش قريش؟ قالوا: نعم.
قال: انظروا.
إذا لقيتموهم غداً أن تحصدوهم حصداً، وأخفى بيده -أي: جعلها في الأرض إشارة على ألا يُبقوا منهم أحداً- ووضع يمينه على شماله وقال: موعدكم الصفا.
قال: فما أشرف يومئذ لهم أحد إلا أناموه)] أي: لم يرفع أحد رأسه إلا وقطعوه.
فقوله: (فما أشرف) أي: فما برز لهم أحد للقتال إلا قتلوه.
قال: [(وصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا، وجاءت الأنصار فأطافوا بالصفا، فجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله! أُبيدت خضراء قريش، لا قريش بعد اليوم.
قال أبو سفيان: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن.
فقالت الأنصار: أما الرجل فقد أخذته رأفة بعشيرته ورغبة في قريته، ونزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: قلتم: أما الرجل فقد أخذته رأفة بعشيرته ورغبة في قريته.
ألا فما اسمي إذاً؟!)] يريد أن يقول لهم أنا عبد الله ورسوله، أنا لست كآحاد الناس، يأخذ الميثاق ويغدر، ويعطي العهد ويغدر، فأنا عبد الله ورسوله.
قال: [(أنا محمد عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، فالمحيا محياكم، والممات مماتكم.
قالوا: والله ما قلنا إلا ضناً بالله ورسوله.
قال: فإن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم)].(95/11)
معجزة كسره صلى الله عليه وسلم للأصنام بطرف قوسه
يقول الإمام النووي في قوله عليه الصلاة والسلام: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء:81] وهو يضرب الأصنام، فكان يضربها بقوس، فحينما كان عليه الصلاة والسلام يضرب الأصنام التي هي من صخور وحجارة قوية جداً لا تنكسر: (وإنما كانت تلك معجزة أخرى للنبي عليه الصلاة والسلام، إذا كان يضرب الصنم بطرف قوسه فيخر الصنم تراباً في الأرض).
أي: أن هذا الحجر يفقد خواصه التي خلقه الله عليها بأمره سبحانه، فيكون رماداً في الأرض.
الإمام النووي يقول: وهذا الفعل -الذي هو ضرب الصنم بالقوس- إذلال للأصنام ولعابديها، وإظهار لكونها لا تضر ولا تنفع ولا تدفع عن نفسها، كما قال الله تعالى: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73] أي: أن الصنم هذا لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ضراً ولا نفعاً لدرجة أن الذبابة لو أخذت من على فم هذا الصنم شيئاً ما استطاع هذا الصنم أن يرد ما أخذ منه.
وفي هذا: استحباب قراءة هاتين الآيتين عند إزالة المنكر: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء:81].
وقد اختلف أهل العلم: هل فُتحت مكة عنوة أم فُتحت سلماً؟ والصواب: أنها فُتحت عنوة.(95/12)
استحباب اشتراك المسافرين في الأكل
قال: (أما قول أبي هريرة: وفدنا إلى معاوية رضي الله عنه وفينا أبو هريرة، فكان كل رجل منا يصنع طعاماً يوماً لأصحابه فكانت نوبتي).
فيه: دليل على استحباب اشتراك المسافرين في الأكل، واستعمالهم مكارم الأخلاق، وليس هذا من باب المعارضة حتى يشترط فيه المساواة في الطعام.
أي: أن هذه مسائل يسمونها الغبن اليسير.
فإذا أردنا مثلاً أن نأكل فكل منا سيدفع مبلغاً متساوياً مع الآخر، لكن في النهاية لا يمكن أن كل واحد سيأكل مثل الآخر، بل هناك من يأكل كثيراً وهناك من يأكل قليلاً وليس كل الناس يشبعون على درجة واحدة من الطعام؛ ولذلك في هذه المسائل تقوى الله أعظم زاد.
قال: (وليس هذا من باب المعاوضة حتى يشترط فيه المساواة في الطعام، وألا يأكل بعضهم أكثر من بعض، بل هو من باب المروءات ومكارم الأخلاق، وهو بمعنى الإباحة، فيجوز وإن تفاضل الطعام؛ لأن الناس يتعافون فيما بينهم في مثل هذا) فليس هذا من باب الربا ولا من باب الحرام، بل هي من باب مكارم الأخلاق.
ولذلك الإمام النووي يقول: فيجوز وإن تفاضل الطعام واختلفت أنواعه، ويجوز وإن أكل بعضهم أكثر من بعض، لكن يستحب أن يكون شأنهم إيثار بعضهم بعضاً.(95/13)
استحباب الاجتماع على الطعام
قال: (وفي هذا الحديث كذلك: استحباب الاجتماع على الطعام وجواز دعائهم إليه قبل إدراكه، واستحباب حديثهم في حال الاجتماع بما فيه بيان أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وغزواتهم ونحوها، مما تنشط النفوس لسماعه، وكذلك غيرها من الحروب ونحوها مما لا إثم فيه، ولا يتولد منه في العادة ضر في دين ولا دنيا ولا أذى لأحد؛ لتنقطع بذلك مدة الانتظار ولا يضجروا، ولئلا يشتغل بعضهم مع بعض في غيبة أو نميمة أو نحوها من الكلام المذموم).(95/14)
استحباب طلب الحديث من أهل الفضل والصلاح
قال: (وفي هذا الحديث: يستحب إذا كان في الجمع رجل مشهور بالفضل أو العلم أو الصلاح أن يُطلب منه الحديث، فإن لم يطلبوا استحب له الابتداء بالحديث، كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يبتديهم بالتحديث من غير طلب منهم.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (موعدكم الصفا).
يعني: أنه قال هذا لـ خالد ومن معه الذين أخذوا أسفل بطن الوادي، وأخذ هو صلى الله عليه وسلم ومن معه أعلى مكة، والنبي صلى الله عليه وسلم حينما دخل مكة دخلها من العوالي، ولذلك فالشارع الذي دخله إلى الآن اسمه شارع المعلاة وهو أعلى مكة، دخلها من أعلاها وخرج من أسفلها، أما خالد ومن معه فقد دخلوا مكة من الوادي، أي: من أسفلها.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(95/15)
الأسئلة(95/16)
حكم كشف المرأة المسلمة على أخيها أو أبيها أو خالها الكافر
السؤال
كنت نصرانية، والحمد لله أسلمت، فهل يجوز لي أن أتكشّف على محارمي مثل أبي وأخي وخالي، أم هم أجانب بالنسبة لي؟
الجواب
نسأل الله تعالى أن يثبّتك على الإيمان والإسلام! هذه المرأة المسلمة لا يجوز لها أن تتكشّف على الكافرين والكافرات إلا فيما يتعلق بالوجه والكفين، أما ما دون ذلك فلا، فالمسلمة لا تكشف شيئاً من بدنها على الكافرين والكافرات إلا الوجه والكفّين.(95/17)
حكم التقاط مال في الشارع
السؤال
إذا وجدت مالاً في الشارع فهل ألتقطه أم لا؟
الجواب
لك أن تلتقطه ولك ألا تلتقطه، فإذا التقطته وكان مالاً ذا قيمة في العرف فعرّفه سنة، بشرط ألا يكون من المتلوفات، كأن تجد مثلاً كرتون تفاح أو طماطم أو بيض فهذا لا تعرفه؛ لأنه من المتلوفات.(95/18)
حكم متابعة المأموم لإمامه في القنوت لصلاة الفجر، وحكم الصور الفوتوغرافية
السؤال
إذا لم يقنت المأموم خلف الإمام في صلاة الفجر هل يأثم؟ وهل ورد حديث بتخصيص صلاة الفجر بالقنوت؟ وما حكم الدين في الصور الفوتوغرافية؟
الجواب
الصور الفوتوغرافية في الحقيقة وقع فيها نزاع، بل مجرد التصوير وقع فيه النزاع: هل هو حرام أم حلال؟ والذي أعتقده الحرمة إلا ما توقفت مصالح الناس وحياة الناس عليها، كالمصالح التي تحتاج إلى صور للبطاقات الشخصية وغير ذلك مما لا تسير حياة الناس إلا به.
أما القنوت فلم يقل بجوازه في صلاة الفجر إلا الإمام الشافعي، وقد أخطأ في ذلك واعتمد على حديث منكر لـ أنس بن مالك أنه قال: لا يزال النبي صلى الله عليه وسلم يقنت في صلاة الفجر حتى فارق الدنيا.
وإجماع المحدثين أن هذا حديث منكر، ولو صح هذا الحديث لحل الإشكال، والصواب في القنوت: أنه مسنون إذا نزلت نازلة وفي الصلوات الخمس، وليس في صلاة واحدة.
لكن بيت القصيد في هذا السؤال للسائل أنه يقول: هل يلزمني إذا صلّيت خلف إمام يقنت في صلاة الفجر أن أدعو معه وأقنت معه، أم لا أرفع يدي ولا أقنت؟ في الحقيقة أنا أعتقد أنه يلزمك أن تتابع الإمام في القنوت وإن كنت مخالفاً له في الأصل؛ لأن هذه مسألة محل نزاع بين أهل العلم، وتركك للقنوت مع هذا الإمام قد يحدث فتنة بين المصلين، ودرء المفاسد مقدّم على جلب المصالح.(95/19)
حكم العمل في شركات يهودية أو نصرانية
السؤال
إني أعمل في شركة لتركيب الأبواب، وعرضت علي شركة بيبسي عرضاً، فهل هذا فيه شيء تجاه الشرع، ونرجو توضيح المقاطعة: هل هي في الشراء أم في البيع؟
الجواب
نحن ندعو الناس جميعاً إلى مقاطعة جميع السلع والمنتجات اليهودية والنصرانية، ولأجل ذلك كان المؤتمر السابق الذي حضرتموه، لكن نفرّق بين المقاطعة بالشراء وإرباح هؤلاء من أموالنا، وبين التكسّب لنا من ورائهم، فبلا شك الموظف الذي يعمل في شركة بيبسي أنا أقول له: اشتغل فيها، فهو يأخذ (500) جنيه أو (800) جنيه أو (1000) جنيه في الشهر، لكن إذا قال: أشتري زجاجة بيبسي فأقول له: لا تشتر.
صورة أخرى: أنت ذهبت عند فلان ضيفاً، فقدّم لك البيبسي مفتوحاً، هل تشرب أم لا تشرب؟ فهذا قد اشترى بالفعل وانتهى فاشرب، ونحن دعونا إلى المقاطعة ليس من باب أن التعامل معهم حرام، أو أن البيبسي حرام، وإنما من باب التأديب ومقابلتهم بالمثل، ومن باب إلحاق الخسارة بهم، وليس من باب أن هذا حرام أبداً.(95/20)
حكم أخذ أهل المقتول زيادة فوق الدية التي حددها الشرع
السؤال
سمعتكم تحكون قصة رئيس مباحث مدينة مصر الذي عذّب شابين حتى مات أحدهما، وأُصيب الآخر إصابات قاسية جداً، وأصيب ببعض التشوهات الدائمة، وتم إيقاف الضابط ومعاونيه، وأمرت النيابة بحبسه أربعين يوماً على ذمة التحقيق بتهمة ضرب أفضى إلى موت وتعذيب بريئين، وذلك بفضل الله ثم بجهود أهل الخير،
و
السؤال
أن الضابط يعرض التعويض على أهل القتيل والآخر بمبلغ ضخم مقداره مليون جنيه، وكذلك تسهيلات في أمور كثيرة مقابل التنازل عن القضية، فهل يعتبر هذا دية شرعية حيث إنهم فقراء جداً، أم لا يجوز أخذ التعويض ويستمر في القضاء؟
الجواب
يا أخي الكريم! النبي عليه الصلاة والسلام حدد الدية، والله تعالى شرع لنا أخذ الدية، فلأهل هؤلاء القتيل أن يأخذوا الدية، والدية أنفع لهم، بل ترك الدية أنفع وأنفع.
قال الله تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة:237].
والإسلام يخيّرني بين القصاص والدية والعفو، وهذه من خصائص الإسلام؛ لأن الدية عند اليهودية إلزام وعلى القاتل أن يدفع، وعلى ولي القتيل أن يأخذ، فليس هناك تنازل في اليهودية، فالله هو الذي ألزمهم بهذا الأخذ والعطاء على الطرفين، والنصرانية ألزمهم الله تعالى بالعفو، لكن نحن جعلنا في خيار: إما القصاص، وإما الدية، وإما العفو، وهذا من رحمة الله بنا، وقد رفع الله عنا الإصر والأغلال التي كانت على الأمم السابقة.
فهذا الرجل لو عفا تماماً لكان أولى، لكن أنا لا أنصحه بالعفو هنا؛ لأنه قال في السؤال: أنا فقير، فله أن ينتفع بالدية ولا يتعداها، والدية هي (100) بعير للرجل الحر المسلم، ولو قلنا: البعير بـ (3000) جنيه، فحينئذ تكون الدية ثلاثمائة ألف جنيه، وما دام هذا الضابط عرض مليون جنيه فأنت خذ نصف المليون للذي مات، وللذي أُصيب بتشوهات خطيرة، فالذي مات يأخذ ورثته ثلاثمائة ألف جنيه وهذه ديته الشرعية، والثاني يأخذ بقية المبلغ، أما أن تأخذ مليون جنيه فأين تذهب من الله؟ وأنا أتصور أن العفو في هذه القضايا يأتي بثمار طيبة جداً، وما ترك أحد شيئاً لله إلا عوّضه الله خيراً منه، لكن إذا كنت في حاجة فهو حقك الذي فرضه الله تعالى لك، إن شئت فخذ وإن شئت فدع، لكن لا تأخذ هذا المليون المعروض؛ لأن نصف هذا المبلغ ليس لك، إلا إذا قهرك وضغط عليك أن تأخذه بطيب نفس منه فهنيئاً مريئاً.(95/21)
شرح صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - باب إزالة الأصنام من حول الكعبة - لايقتل قرشي صبراً بعد الفتح - صلح الحديبية
لقد أعز الله هذا الدين، ودخل الناس فيه أفواجاً بعد فتح مكة، وأزال النبي صلى الله عليه وسلم كل الأصنام التي كانت حول الكعبة، وقد كان فتح مكة ثمرة لصلح الحديبية الذي كره الصحابة بنوده أول الأمر؛ ظناً منهم أنها مجحفة في حق المسلمين، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن قريشاً لن تعود إلى الكفر بعد أن أسلمت إلى يوم القيامة، وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم.(96/1)
باب إزالة الأصنام من حول الكعبة
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
الباب الثاني والثلاثون من كتاب الجهاد والسير: (باب إزالة الأصنام من حول الكعبة) وهذا في مقام الخبر، كأن الإمام النووي عليه رحمة الله أراد أن يخبر أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما دخل مكة فاتحاً أزال الأصنام من حول الكعبة، فهو يخبرنا بما جرى حقيقة وفعلاً، لكن هذا الحكم ينسحب على المنكر بعد ذلك، فمن تمكن من إزالة المنكر بغير منكر أعظم منه وجب عليه تغيير المنكر.(96/2)
شرح حديث ابن عباس في دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة وتكسير الأصنام
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو بن الناقد وابن أبي عمر -واللفظ لـ ابن أبي شيبة - قالوا: حدثنا سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح - عبد الله بن يسار المكي، أبو يسار الثقفي مولاهم- عن مجاهد -وهو مجاهد بن جبر المكي من كبار تلاميذ ابن عباس - عن أبي معمر -وهو رواية تابعي عن تابعي، وأبو معمر هو عبد الله بن سخبرة الكوفي الأزدي - عن عبد الله بن مسعود قال: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة -أي: يوم الفتح- وحول الكعبة ثلاثمائة وستون نصباً)]، وفي رواية: (صنماً).
حول الكعبة (360) نصباً أو صنماً، أي: بعدد أيام السنة، لا أدري هل كانوا يعبدون هذه الأصنام كلها في وقت واحد وفي كل يوم، أو أنهم كانوا يعبدون في كل يوم صنماً آخر يختلف عن صنم الأمس، ويختلف عن صنم الغد، بل كان لكل مشرك في مكة أربعة أصنام يعبدها: الصنم الأول في الحرم، والثلاثة الأصنام الباقية في بيته، كان إذا دخل بيته وقبل أن يخرج من بيته يسجد لها ويعبدها ويدعوها من دون الله عز وجل، بل إذا أراد أن يسافر انتخب وأقرع بين هذه الآلهة الثلاثة، فاصطحب من خرجت عليه القرعة في سفره حتى لا يُحرم من الشرك في هذه الرحلة.
قال: [(دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول الكعبة ثلاثمائة وستون نصباً، فجعل يطعنها بعود كان بيده، ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ:49]) زاد ابن أبي عمر: يوم الفتح].
يعني: دخل مكة يوم الفتح.
قال: [وحدثناه حسن بن علي الحلواني وعبد بن حميد كلاهما عن عبد الرزاق -وهو ابن همام الصنعاني - أخبرنا الثوري عن ابن أبي نجيح] فكأن السفيانين رويا عن ابن أبي نجيح، في الرواية الأولى سفيان بن عيينة وفي الرواية الثانية سفيان الثوري.
[بهذا الإسناد إلى قوله: {زَهُوقًا} [الإسراء:81] ولم يذكر الآية الأخرى، وقال بدل (نصباً): صنماً].
أنتم تعلمون أن أعظم أوجه الشرك عبادة الأصنام من دون الله عز وجل، ولذلك الذي صنعه إخواننا في طالبان من تكسير ذاك الصنم (بوذا) كان من أعظم الأعمال التي قاموا بها، بل هي من أعلى مظاهر التوحيد التي قدّمتها حكومة طالبان للعالم كله، أنهم كفوا أهل الشرك عن شركهم خاصة في بلادهم التي هي تحت سلطانهم.
إذاً: هم قوم لهم الإمارة ولهم الرياسة في هذه البقعة من الأرض، ويأتي الناس من هنا وهناك ليشركوا بالله تعالى على أرض هؤلاء الموحدين، فكان من أوجب الواجبات الشرعية عليهم أن يتخلصوا من هذه الشركيات، كما أنهم تخلصوا من تلك القبور التي كانت تعبد من دون الله عز وجل، كما أنهم كذلك قاموا بحرق جميع حقول المخدرات والحشيش والأفيون وغير ذلك، فكلها مظاهر تدل على أن هؤلاء كانوا على النهج السديد القويم.
فالذي يغلب على ظني أنه لا يحب هؤلاء إلا مؤمن، ولا يُبغضهم إلا منافق أو جاهل.
يعني: أقل أحواله أنه جاهل بأحوال هؤلاء، أما إذا كان عالماً بأنهم كانوا قائمين على الحق وهو مع هذا يُبغضهم فلا أقل من كونه منافقاً.
ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بُغض الأنصار) فهذا الحب والبُغض اللذان هما من علامات الإيمان أو النفاق للأنصار إنما مرده إلى حب الأنصار؛ لأنهم نصروا الله ورسوله، فإذا كان هؤلاء في أفغانستان قد نصروا الله تعالى ورسوله، وعملوا بالشرع بالليل والنهار، وأفنوا حياتهم في سبيل إعلاء كلمة التوحيد فإن مبغضهم منافق.(96/3)
باب لا يقتل قرشي صبراً بعد الفتح
الباب الثالث والثلاثون: (لا يُقتل قرشي صبراً بعد الفتح).
معنى الصبر: الحبس على الأكل والشرب حتى الموت، وكذلك أن يُقيّد ويُكبّل من يديه من خلف ظهره ويُطعن، هذا أيضاً قتل صبر، وقتل الصبر أنواع كثيرة.
فلا يُقتل قرشي صبراً بعد الفتح.
أي: بعد فتح مكة.(96/4)
شرح حديث: (لا يقتل قرشي صبراً)
قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا علي بن مسهر ووكيع عن زكريا عن الشعبي -والشعبي هو عامر بن شراحيل قال مكحول: ما رأيت أفقه منه، وكان من أوثق الناس- قال: أخبرني عبد الله بن مطيع عن أبيه -أي: مطيع بن الأسود قيل: العدوي وقيل العذري المدني، وعبد الله بن مطيع له رؤية للنبي عليه الصلاة والسلام، أما أبوه فمن أصحابه عليه الصلاة والسلام ولا خلاف في ذلك، أسلم يوم الفتح، فهو من مسلمة الفتح، وكان اسمه العاص فسماه النبي صلى الله عليه وسلم مطيع؛ لأن الطائع ضد العاص، والأصل أن العرب يقولون: العاصي ولكن المحدثين يقولون: العاص.
أي: أن المحدثين يقولون عمرو بن العاص، أما اللغويون فيقولون: عمرو بن العاصي، وغير ذلك من الأسماء فالمحدثون يحذفون الياء واللغويون يثبتون الياء.
فحينما كان في لسان العرب اسمه: العاصي وأسلم سماه النبي عليه الصلاة والسلام مطيعاً.
فالذي زكاه هو النبي عليه الصلاة والسلام، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يغيّر الأسماء القبيحة إلى أسماء حسنة، كما أراد أن يغير اسم حزن؛ لأن الحزن بمعنى: الصعب الشديد.
قال ما اسمك؟ قال: حزن، قال: بل أنت سهل.
قال: لا.
أنا حزن، السهل يرتقى -يعني: دعني كما أنا حزن - وهو جد سعيد بن المسيب، فـ سعيد بن المسيب بن حزن أبوه وجده صحابيان، وسعيد من كبار التابعين، ومن أئمة الدين، ومن علماء المدينة المنورة.
قال سعيد: لا زلنا نشعر بالحزونة.
أي: بالحدة والشدة والغلظة، مع أن أهل المدينة لا يتصفون بذلك؛ وذلك لأن جده رد على النبي عليه الصلاة والسلام اسم سهل، فلو قبِله لكانت فيه السهولة وفي أولاده.
قال: [سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول يوم فتح مكة: (لا يُقتل قرشي صبراً بعد هذا اليوم -أي: بعد فتح مكة- إلى يوم القيامة)].
فهذه شهادة من النبي عليه الصلاة والسلام لقريش -وهم من أهل مكة- أنهم لا يُقتلون صبراً إلى قيام الساعة.
قال: [حدثنا ابن نمير قال: حدثنا أبي -وهو عبد الله بن نمير - حدثنا زكريا بهذا الإسناد.
وزاد: قال: ولم يكن أسلم أحد من عصاة قريش غير مطيع].
أي: ممن كان اسمه في قريش العاص، العاص بن فلان والعاص بن فلان، والعاص بن فلان وكانوا أكثر من عشرين، لم يسلم منهم يوم الفتح إلا هذا الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم مطيعاً.
ومعنى (لا يُقتل قرشي صبراً بعد هذا اليوم إلى يوم القيامة): الإعلام بأن قريشاً يسلمون كلهم.
وهذه من معجزاته عليه الصلاة والسلام، وإخباره بالغيب، ودليل ساطع من دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام.
فقوله: (لا يقتل قرشي صبراً) ليس نفياً بأن يقتل القرشي صبراً، وإنما هذا إخبار أن قريشاً كلهم سيسلمون، وفعلاً لم يبق أحد من قريش على الكفر والشرك، فهذا إعلام منه عليه الصلاة والسلام بأن قريشاً يسلمون كلهم، ولا يرتد أحد منهم كما ارتد غيرهم بعده ممن حورب وقتل صبراً.
وليس المراد: أنهم لا يقتلون ظلماً صبراً، فقد جرى على قريش أكثر من معركة قُتلوا فيها صبراً.
وإنما معناه: أن كل قريش يدخلون في دين الإسلام.(96/5)
معنى قوله: (ولم يكن أسلم من عصاة قريش غير مطيع)
قال: [(ولم يكن أسلم من عصاة قريش غير مطيع) كان اسمه العاصي، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم مطيعاً].
قال النووي: (قال القاضي عياض: العصاة هنا: جمع العاص، وهو من أسماء الأشخاص لا من الصفات، مثل العاص بن وائل السهمي والعاص بن هشام أبو البختري والعاص بن سعيد بن العاص بن أمية والعاص بن هشام المخزومي والعاص بن منبه بن الحجاج، لم يسلم أحد من هؤلاء سوى العاص بن الأسود العذري، فغيّر النبي صلى الله عليه وسلم اسمه وسماه مطيعاً، وقد أسلم عصاة قريش وعتاتهم كلهم بحمد الله تعالى، ولكن بعد ذلك، وقد ترك النبي عليه الصلاة والسلام أبا جندل بن سهيل بن عمرو على اسمه، وهو ممن أسلم واسمه أيضاً العاص، فإذا صح هذا فيُحتمل أن هذا لمّا غلبت عليه كنيته وجُهِل اسمه؛ لأن كنيته أبو جندل وكان معروفاً ومشهوراً بذلك، إذ كان اسمه العاص؛ ولذلك لم يستثنه كما استثنى مطيع بن الأسود والله أعلم).(96/6)
باب صلح الحديبية في الحديبية
الباب الرابع والثلاثون: (باب صلح الحديبية في الحديبية).
منهم من يقول: في الحديبيّة.
ومنهم من يسهّل فيقول: الحديبية بغير التشديد، كالجعْرانة والجعرّانة.
قال: باب: (صلح الحديبية في الحديبية)، أي: أن الصلح تم في الحديبية وليس في داخل مكة.
والحديبية: مكان يبعد عن مكة بعض الأميال أو الفراسخ.(96/7)
شرح حديث البراء بن عازب في صلح الحديبية
[حدثني عبيد الله بن معاذ العنبري حدثنا أبي -وهو معاذ العنبري - حدثنا شعبة عن أبي إسحاق -وهو السبيعي - قال: سمعت البراء بن عازب يقول: (كتب علي بن أبي طالب الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين يوم الحديبية)].
أي: أن الذي كان يكتب حينذاك وثيقة الصلح بين المسلمين والكافرين هو علي بن أبي طالب، وهذا يدل على أن علياً كان كاتباً ولم يكن أمياً.
قال: [(فكتب: هذا ما كاتب عليه محمد رسول الله)] أي: ما صالح عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: [(فقالوا: لا تكتب: رسولُ الله، فلو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك)] أي: إذا أردت أن تكتب فاكتب: هذا ما كاتب عليه محمد بن عبد الله؛ لأننا لو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك، فكيف تحتج علينا بصفة لا نؤمن بها، ولا بد أن نتناقش بلغة نتفق عليها.
قال: [(فقال النبي عليه الصلاة والسلام لـ علي: امحه)] أي: امح كلمة: رسول الله، واكتب: محمد بن عبد الله.
قال: [(فقال علي: ما أنا بالذي أمحاه)] وليس هذا من باب الرد على النبي صلى الله عليه وسلم، بل هذا من باب الأدب الزائد مع النبي عليه الصلاة والسلام، وأحياناً يكون الشيء في نظر العرف يتنافى مع الأدب، وهو في حقيقته عين الأدب، كما كان السلف يفعل بعضهم مع بعض، فغير واحد من علماء السلف كان يتعامل مع شيخه بالليل أنه يمشي أمامه وبالنهار يمشي خلفه، فلما سُئل عن ذلك؟ قال: أخشى أن تدركه حفرة فيقع فيها، أما بالنهار فالطريق مكشوفة فهو يمشي أولاً، ولا شك أن الولد إذا مشى أمام والده أو التلميذ مشى أمام شيخه يدل هذا على سوء الأدب، ولكنه ليس من سوء أدب عند التحقيق إذا دعت إلى ذلك الضرورة، والأصل أن يتقدم الشيخ وأن يتقدم الوالد، والسلطان، وأصحاب الوجاهات، ويكون الأتباع من ورائهم.
قال: [(فقال علي: ما أنا بالذي أمحاه)] وفي رواية: (ما أنا بالذي أمحوه).
قال: [(فمحاه النبي صلى الله عليه وسلم بيده.
قال: وكان فيما اشترطوا أن يدخلوا مكة فيقيموا بها ثلاثاً)] الذي اشترط هذا الشرط هم المشركون، ودخول مكة يكون في العام المقبل؛ لأن الرواية هذه مختصرة جداً.
حصل الاتفاق بين المشركين وبين النبي عليه الصلاة والسلام، وكان كاتب النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الاتفاق هو علي بن أبي طالب، والذي ناب عن قريش هو سهيل بن عمرو، وكان هذا الصلح له ثلاثة شروط: الشرط الأول: ألا يدخلوا مكة من هذا العام ويدخلوها من العام المقبل، ويمكثوا بها ثلاثة أيام فحسب، ولا يأتوا معهم من السلاح والكراع إلا الشيء اليسير.
الشرط الثاني: أن يرد المسلمون من أتاهم من المشركين مسلماً.
الشرط الثالث: ألا تُلزم قريش برد من أتاها مرتداً.
أي: أن الذي يأتي إلى قريش من طرف محمد يقبلونه، ولا يلزمون برده، أما الذي يأتي مسلماً من قريش إلى محمد عليه الصلاة والسلام فلا يقبل، بل يجب على المسلمين رده.
قال: [(وكان فيما اشترطوا أن يدخلوا مكة فيقيموا بها ثلاثاً، ولا يدخلها بسلاح إلا جلبان السلاح)] أي: الأجربة اليسيرة التي يوضع فيها السهم والرمح، أي: أنها أشياء لا تصلح للقتال إلا شيئاً يسيراً.
[قلت -أي: قال شعبة - لـ أبي إسحاق: وما جلبان السلاح؟ قال: القراب وما فيه] أي: الجراب الذي يوضع فيه السيف.
وإنما اشترطوا هذا لوجهين: الوجه الأول: ألا يظهر منه دخول الغالبين القاهرين.
أي: لتقول قريش: أن محمداً دخل بغير سلاح؛ لأنه لو دخل بسلاح فإنه سيدخل في صورة الداخل الفاتح المنتصر، فهم لا يريدون ذلك.
والثاني: أنه إن عُرض فتنة يكون هناك صعوبة في الاستعداد بالسلاح، أي: لا يجد سلاحاً يدافع به عن نفسه، ومع هذا رضي النبي عليه الصلاة والسلام بهذا.
[حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر -وهو المعروف بـ غندر - حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال سمعت البراء بن عازب يقول: (لما صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية كتب علي كتاباً بينهم.
قال: فكتب: محمد رسول الله) ثم ذكر بنحو حديث معاذ غير أنه لم يذكر في الحديث: (هذا ما كاتب عليه)].(96/8)
شرح رواية أخرى لحديث البراء في صلح الحديبية
[حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي -وهو المعروف بـ إسحاق بن راهويه - وأحمد بن جناب المصيصي.
جميعاً عن عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي -واللفظ لـ إسحاق - قال: أخبرنا عيسى بن يونس أخبرنا زكريا عن أبي إسحاق عن البراء.
قال: (لما أحصر النبي صلى الله عليه وسلم عند البيت -أي: قريباً من مكة- صالحه أهل مكة على أن يدخلها فيقيم بها ثلاثاً، ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح السيف وقرابه، ولا يخرج بأحد معه من أهلها، ولا يمنع أحداً يمكث بها ممن كان معه.
قال لـ علي: اكتب الشرط بيننا: بسم الله الرحمن الرحيم.
هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله)] قاضى بمعنى: فاصل.
من المفاصلة والمنازعة والاستقرار على شرط معيّن.
قال: [(فقال له المشركون: لو نعلم أنك رسول الله تابعناك -وفي رواية: بايعناك- ولكن اكتب محمد بن عبد الله)] لأن هذا هو الاسم الذي نعرفك به ولا ننكرك، أما رسول الله فنحن ننكر ذلك.
قال: [(فأمر علياً أن يمحاها، فقال علي: لا والله لا أمحاها.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أرني مكانها)] وهذا يدل على أنه عليه الصلاة والسلام كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب.
قال: [(فأراه مكانها فمحاها، وكتب: ابن عبد الله)] أي: وكتب علي مكان رسول الله ابن عبد الله، فتصير الجملة: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله.
قال: [(فأقام بها ثلاثة أيام -وهذا يعني: أنه أقام بها من العام المقبل- فلما أن كان يوم الثالث قالوا لـ علي: هذا آخر يوم من شرط صاحبك)].
إن النبي عليه الصلاة والسلام عازم على الوفاء بالعهد، وسيخرج من آخر اليوم، ولكنهم احتاطوا لأنفسهم، فنبّهوا علياً في أول النهار: [(هذا آخر يوم من شرط صاحبك فأمره فليخرج.
فأخبره بذلك فقال: نعم)] أي: هذا شرط بيننا من العام الماضي أننا لو أتينا مكة في هذا العام لا نمكث بها إلا ثلاثة أيام وأنا أذكر هذا الشرط، وبالتالي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يخرجوا من مكة وخرج أمامهم، دخل مكة من أعلاها وخرج من أسفلها عليه الصلاة والسلام.
[وقال ابن جناب في روايته مكان تابعناك: (بايعناك)].(96/9)
شرح حديث أنس بن مالك في صلح الحديبية
قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عفان -وهو ابن مسلم الصفار - حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت -وهو ابن أسلم البناني - عن أنس: (أن قريشاً صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم فيهم سهيل بن عمرو)].
أي: الذي كان يتزعَم قريش في ذلك الوقت هو سهيل بن عمرو.
قال: [(فقال النبي عليه الصلاة والسلام لعلي: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم.
قال سهيل: أما باسم الله فما ندري ما بسم الله الرحمن الرحيم، ولكن اكتب: باسمك اللهم)] حتى نخرج من الخلاف.
واليهود في المدينة كانوا يعظّمون اسم الرحمن، أما المشركون في مكة فما كانوا يعرفون الرحمن ولا الرحيم، إنما كانوا يعرفون (باسم الله) أو (باسمك اللهم)؛ ولذلك حينما دخل النبي عليه الصلاة والسلام المدينة وسمع به عبد الله بن سلام أتاه وقال: (يا محمد! إني سائلك ثلاثة أسئلة لا يعرفها إلا نبي أو رجل أو رجلان) أي: فإن أجبت فأنت نبي.
فكان السؤال الأول هو: (ما أول طعام أهل الجنة؟) والسؤال الثاني: (ما أول أشراط الساعة؟) والسؤال الثالث: (كيف ينزع الولد؟) فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أما أول طعام أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وأما أول أشراط الساعة فنار تخرج من اليمن تحشر الناس إلى الشام، وإذا غلب ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد إليه) أي: إذا سبق في الإنزال والقذف ماء الرجل ماء المرأة وافق الولد لأبيه، أي: في الذكورة أو في الشبه، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزع الولد إليها.
أي: في الأنوثة أو في الشبه.
قال: (أشهد أنك نبي، وقال: يا عبد الله بن سلام! أرأيت ما قد أجبتك لم يكن لي به علم، فلما سألتني نزل جبريل فأخبرني.
قال: أو الذي ينزل عليك من السماء هو جبريل يا رسول الله؟! قال: نعم.
قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة) فاليهود كانوا يعادون جبريل، فلما أسلم عبد الله قال: (يا رسول الله! ادع اليهود وسلهم عني قبل أن تخبرهم بإسلامي، فدعاهم النبي عليه الصلاة والسلام وقال: ما تقولون في عبد الله بن سلام؟ قالوا: هو سيدنا وابن سيدنا، وفقيهنا وابن فقيهنا، وعالمنا وابن عالمنا وصاروا يمدحونه، فخرج عليهم عبد الله بن سلام من خلف الخباء قال: فإني آمنت بالله ورسوله.
قالوا: أنت سفيهنا وابن سفيهنا، وحقيرنا وابن حقيرنا).
فاليهود أقذر خلق الله في كل زمان ومكان.
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه له أرض في عوالي المدينة، وذات يوم ذهب إلى أرضه فطمِع فيه يهود بني النضير.
قالوا: يا عمر! لو كان ينزل على صاحبك غير جبريل لاتبعناه، فاذهب إليه واجعله يغيّر جبريل أو ينظر غيره من الملائكة.
قال لهم عمر: أي يمين فيكم أعظم؟ يعني: بماذا أحلف لكم حتى تصدقوني؟ قالوا: الرحمن؛ لأنهم يطمعون في الجنة، والرحمن من الرحمة.
فلما قالوا: الرحمن قال: والرحمن.
والشاهد: أن اليهود كانوا يعظّمون الرحمن، والله تعالى يقول: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110].
قال: [فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي بن أبي طالب: (اكتب بسم الله الرحمن الرحيم.
قال سهيل: أما باسم الله، فما ندري ما بسم الله الرحمن الرحيم؟ ولكن اكتب ما نعرف: باسمك اللهم، فقال: النبي عليه الصلاة والسلام: اكتب: من محمد رسول الله.
قالوا: لو علمنا أنك رسول الله لاتبعناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اكتب: من محمد بن عبد الله.
فاشترطوا على النبي عليه الصلاة والسلام أن من جاء منكم لم نرده عليكم -أي: الذي يأتينا من طرفك يا محمد! لا نرده- ومن جاءكم منا رددتموه علينا.
فقالوا: يا رسول الله! أنكتب هذا؟ فقال: نعم.
إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله)] أي: من يريد أن يكفر فليكفر، وهذا موقف عظيم جداً من مواقف التربية على الإيمان والعقيدة، فالذي يريد أن يخرج من المسلمين ليتنصر أو يصبح يهودياً فلا مرحباً به، فليذهب حيث شاء: (أبعده الله) وهذا دعاء عليه، وهل بعد أن يترك دينه ويرتد على عقبيه ويختار الكفر على الإيمان بعد عن الله؟ فلو كان بين أيدينا لأقمنا عليه حد الردة: (من بدّل دينه فاقتلوه) أما إذا غافل المسلمين وخرج من بينهم إلى بلاد الكفر فأبعده الله عز وجل، والحدود لا يقيمها إلا الحاكم.
ثم في الصحيح أن خباب بن الأرت أتى النبي صلى الله عليه وسلم -وكان ذلك في مكة قبل الهجرة، وقد نزل به وبأصحابه من المشركين أذى كثيراً- فقال(96/10)
شرح حديث شقيق بن سلمة وذكره خطبة سهل بن حنيف في صفين
قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن نمير (ح) وحدثنا ابن نمير -وتقاربا في اللفظ- حدثنا أبي حدثنا عبد العزيز بن سياه قال: حدثنا حبيب بن أبي ثابت عن أبي وائل -وهو شقيق بن سلمة - قال: (قام سهل بن حنيف يوم صفّين فقال: أيها الناس اتهموا أنفسكم)].
سهل بن حنيف كان من الذين قاتلوا يوم صفّين، وكانت الحرب بين الخوارج وبين علي بن أبي طالب، وكان سهل بن حنيف في جانب علي بن أبي طالب، وكان أصحاب معاوية حينما أحسّوا بالخطر رفعوا المصاحف على أسنة الرماح، وبعض ممن كان مع علي بن أبي طالب: قال: كيف نقاتل قوماً رفعوا كتاب الله.
ولكن علي بن أبي طالب كان فطناً فعلِم أن هذه خدعة، فاضطر إلى التحكيم والصلح وكان أصحابه يرفضون الصلح، فقام سهل بن حنيف خطيباً فيهم وقال: (أيها الناس! اتهموا أنفسكم) أي: أنه ينبغي أن تعتقدوا أنكم أخطأتم، ويجب أن تكونوا تبعاً لإمامكم علي بن أبي طالب؛ لأنه أعرف الناس وأفهمهم وأفظنهم، وإذا اختار الإمام خيرة فلا يجوز لأحد ممن كان معه أن يرى شيئاً آخر، وإن رأى شيئاً آخر فلا ينبغي أن يخالف في العمل إمامه؛ لأننا كنا في صلح الحديبية ننكر على النبي عليه الصلاة والسلام تلك الشروط التي وافق عليها في صلح الحديبية، ثم تبيّن لنا بعد ذلك أن الخير كل الخير فيما وافق النبي عليه الصلاة والسلام عليه.
قال: [(أيها الناس! اتهموا أنفسكم، لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، ولو نرى قتالاً لقاتلنا، وذلك في الصلح الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه سلم وبين المشركين، فجاء عمر بن الخطاب فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: نعم.
قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى.
قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا)] أي: بما أنك توافقني في أننا على الحق وهم على الباطل، وقتلانا في الجنة وقتلاهم في النار، فلماذا اخترت هذا الدون ووافقت على هذه الشروط؟ يا رسول الله دنية ونحن لا يمكن أن نوافق عليها، والدنية: هو الشيء الدوني الهابط النازل.
قال: [(فقال: يا ابن الخطاب! إني رسول الله، ولن يضيعني الله أبداً.
قال: فانطلق عمر فلم يصبر متغيظاً، فأتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر! ألسنا على حق وهم على باطل؟ قال: بلى.
قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى.
قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟)] يعني: لماذا نرجع إلى المدينة والحرب لم نعتمر أو نقاتلهم.
قال: [(فقال: يا ابن الخطاب! إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبداً)] فكانت موافقة أبي بكر تمام الموافقة لكلام النبي صلى الله عليه وسلم دليل قوي على أن أبا بكر كان ملهماً، كما يدل ذلك على المنزلة السامية لـ أبي بكر، فإن عمر لم يذهب إلى غير أبي بكر إلا لاعتقاده أن أبا بكر هو الرجل الأول بعد النبي عليه الصلاة والسلام.
وهذه إشارة عظيمة جداً لمشروعية استخلاف أبي بكر، كما أن إمامة أبي بكر ثابتة بالنص الصريح الصحيح، وهناك نصوص أخرى تُفهم منها إشارات إلى إمامة أبي بكر بعد النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [(فنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفتح)] أي: أنزل الله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1] والفتح المبين: هو فتح مكة، وهذه الآية نزلت بعد صلح الحديبية وقبل فتح مكة، والله تعالى أعلم.
قال: {إِنَّا فَتَحْنَا} [الفتح:1] ولم يقل: إنا سنفتح، خاطبه بأسلوب الماضي للدلالة على تحقق ما سيأتي في المستقبل مع أنه لم يتم الفتح بعد، ولكنه سيتم.
قال: [(فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه)] عندما نزلت الآيات هذه من أول سورة الفتح بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمر {فقال: يا رسول الله! أوفتح هو؟)] أي: هل من المعقول أنه يعقب هذه الشروط خير وفتح [(قال: نعم.
فطابت نفسه ورجع)] طابت نفس عمر ورجع عن قوله الذي كان يقول.(96/11)
قصة أبي جندل وأبي بصير وهروبهما من قريش
قال: [حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء ومحمد بن عبد الله بن نمير.
قالا: حدثنا أبو معاوية وهو محمد بن خازم ضرير عن الأعمش - سليمان بن مهران الكوفي - عن شقيق - أبي وائل - قال: سمعت سهل بن حنيف يقول بصفين: (أيها الناس! اتهموا رأيكم.
والله لقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أني أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته)] أي: ليت النبي صلى الله عليه وسلم جعل لنا حرية الاختيار نقبل أو نرد، ولو كان كذلك لكنت أول من رد هذا.
قال: [(ووالله ما وضعنا سيوفنا على عواتقنا إلى أمر قط إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه إلا أمركم هذا)] أي: القتال الواقع بينكم وبين أهل الشام.
إن يوم أبي جندل رضي الله عنه كان يوماً عجيباً جداً؛ وذلك لما حصل في أثناء كتابة وثيقة الصلح التي بين المشركين وبين النبي عليه الصلاة والسلام، كان فيها: من أتاكم منا يا محمد! لا تقبلوه بل يجب عليكم رده.
ذكر البخاري أن أبا جندل كان أسلم ونزل من طريق سفلي حتى هبط إلى المسلمين في الحديبية، وكان أبو جندل في معسكر الشرك أثناء كتابة الصحيفة، فقال سهيل بن عمرو: يا محمد! هذا أول شرط معك قد أتاك أبو جندل مسلماً منا إذاً: وجب عليك رده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لم نكتب الصحيفة بعد.
وذلك أنه لم يتم الختم عليها، ولا تتم الصحيفة إلا بالأختام، والنبي صلى الله عليه وسلم كان له ختم.
قال: إذاً والله لا أُعاهدك أبداً على شيء.
وسهيل بن عمرو والد أبي جندل، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ردوا عليه ولده، فقام أبو جندل يضرب الأرض ويقول: كيف تردونني إلى المشركين وقد أتيتكم مسلماً؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ردوه إلى قومه.
فردّوه إلى قومه، وحينما وثق النبي عليه الصلاة والسلام الصحيفة رجع إلى المدينة، فأتاه أبو بصير من مكة مسلماً، وكان في إثره اثنان من زعماء قريش من المشركين، فقالا: يا محمد! قد أتاك منا أبو بصير وإنه ليلزمك أن ترده إلينا حسب الاتفاق الذي بيننا وبينك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لـ أبي بصير: (اذهب معهم لا نقبلك.
قال: سمعاً وطاعة لرسول الله) والحديث في البخاري.
فمشى معهما أبو بصير حتى نزلوا ذا الحليفة وهو ميقات أهل المدينة، فقال أبو بصير لأحدهما: ما أجمل سيفك! قال: نعم.
ما أجمله وأحده، لقد قتلت به فلاناً وفلاناً وفلاناً وصار يعدد شمائل هذا السيف.
فقال: أرني أنظر إليه، فدفعه إليه فقام إليه أبو بصير فقتله، فلما رأى الثاني ما كان من أبي بصير ولى هارباً إلى المدينة، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لقد ذعر فلان) أي: أصابه الفزع، وكأن شيئاً قد حصل، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل أبي بصير صاحبه.
ولم يرجع أبو بصير إلى المدينة، بل اختبأ في الطريق المؤدي ما بين مكة والشام، وذاع أمره وانتشر صيته في الأرض، فعلم أهل مكة أن أبا بصير في الطريق، فلحق به أبو جندل، وأنتم تعملون أن قتال الكهوف والجبال ليس له حل، وكان كل من أسلم من قريش لحق بـ أبي جندل وأبي بصير؛ حتى كونوا جيشاً عظيماً، وكلما مرت قافلة لأهل مكة ذاهبة إلى الشام أو قادمة من الشام إلى مكة خرجوا إليها وقتلوا من فيها، وأخذوا ما معهم من إبل وزاد وطعام وشراب.
إذاً: الشرط الذي تضايق منه عمر كان شرطاً جميلاً جداً، ولكنكم فعلاً قوم تستعجلون!! قال: [وحدثني إبراهيم بن سعيد الجوهري حدثنا أبو أسامة عن مالك بن مغول عن أبي حَصين] وهو عثمان بن عاصم بن حصين الأسدي الكوفي ثقة ثبت سني، وكانت كلمة سني عند السلف تُطلق على الرجل الداعية إلى مذهب السلف في الاعتقاد خلافاً للشيعة.
قال: [قال: عن أبي حَصين عن أبي وائل قال: سمعت سهل بن حنيف بصفين يقول: (اتهموا رأيكم على دينكم، فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ما فتحنا منه في خصم إلا انفجر علينا منه خصم)] أي أنه كلما أصلحنا من أمركم شيئاً ظهر شيء آخر.
قال: [وحدثنا نصر بن علي الجهضمي حدثنا خالد بن الحارث حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة أن أنس بن مالك حدثهم قال: ((96/12)
ما يستفاد من أحاديث صلح الحديبية من أحكام(96/13)
حكم مصالحة الكفار
في هذه الأحاديث دليل على جواز مصالحة الكفار إذا كان فيها مصلحة، كحقن دماء المسلمين، وإعادة ترتيب الصفوف، والاستعداد بالسلاح والكراع والطعام وغير ذلك لملاقاة الأعداء، فهذه مصالحة على هدنة من الوقت والزمن لإعادة الترتيب.
كما أنه يجوز مصالحة الكفار إذا دعت الضرورة إلى ذلك، وهذا محل إجماع لم يخالف فيه أحد، لكنهم اختلفوا في المدة.
قال الله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال:61]، فمنهم من قال: أقصاها عشر سنوات، ومنهم من قال: خمس.
وسبع، وثلاث، وسنة.
وأرجح الأقوال قول مالك حيث قال: مرد ذلك إلى الإمام، ويراعي في ذلك مصلحة المسلمين، لا حد لذلك، بل يجوز ذلك -قل أم كثر- بحسب رأي الإمام.(96/14)
معنى قول عمر: (ففيم نعطي الدنية في ديننا)
أما قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ففيم نعطي الدنية في ديننا؟ فإنه لم يكن هذا الكلام من عمر شكاً بل طلباً لكشف ما خفي عليه، وحثاً على إذلال الكفار بظهور الإسلام، كما عُرف من خلقه رضي الله عنه وقوته في نصرة الدين وإذلال المبطلين.
وأما جواب أبي بكر رضي الله عنه لـ عمر بمثل جواب النبي عليه الصلاة والسلام فهو من الدلائل الظاهرة على عظيم فضله وبارع علمه وزيادة عرفانه، ورسوخه في كل ذلك، وزيادته فيه كله على غيره رضي الله عنه.(96/15)
إعلام الإمام كبار أصحابه بما يقع من الأمور المهمة
وفي هذا الحديث كذلك إعلام الإمام والعالم كبار أصحابه بما يقع له من الأمور المهمة، والبعث إليهم لإعلامهم بذلك؛ ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام حينما نزلت عليه الآيات التي تبشّره بهذا النصر أرسل إلى عمر، وأراد أن يُقدّم المعذرة بين يديه عليه الصلاة والسلام، وإلا كان بإمكانه أن يقول له: ما كان الأمر إلا شورى.
فالأمر شورى وليس ديمقراطية، فالديمقراطية ليست مذهباً شرعياً وإسلامياً، بل هو مذهب كفري؛ لأنها تعني: أن الحكم لغير الله؛ فتعريف الديمقراطية: حكم الشعب بالشعب، أي الناس هم الذين يحكمون بعضهم البعض، والله سبحانه وتعالى ليس له علاقة بالناس، فأين الحاكمية لله عز وجل؟ إذاً: كلمة الديمقراطية تعني: لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة، والدين في المساجد، وكان من قبل يقولون لنا: إن الدين النصراني داخل الكنيسة، فهو ليس له علاقة بالحياة، والآن تريد النصرانية الصليبية العالمية قتال الإسلام، وهذا دليل على كذبهم.
وأراد النبي عليه الصلاة والسلام بذلك تصبير الناس على الصلح، وإعلامهم بما يرجى بعده من الخير، فإنه يرجى مصيره إلى خير، وإن كان ظاهره في الابتداء مما تكرهه النفوس، كما كان شأن صلح الحديبية، وهذا الحديث من المعجزات.(96/16)
ثمرات وفوائد صلح الحديبية
قال العلماء: والمصلحة المترتبة على إتمام هذا الصلح ما ظهر من ثمراته الباهرة وفوائده المتظاهرة التي كانت عاقبتها فتح مكة وإسلام أهلها كلها، ودخول الناس في دين الله أفواجاً، وذلك أنهم قبل الصلح لم يكونوا يختلطون بالمسلمين، ولا تتظاهر عندهم أمور النبي عليه الصلاة والسلام كما هي، ولا يحلون بمن يعلمهم بهذه الشريعة مفصلة، فلما حصل صلح الحديبية اختلط المشركون بالمسلمين، وجاءوا إلى المدينة، وذهب المسلمون من المدينة إلى مكة، وحلوا بأهلهم وأصدقائهم وغيرهم ممن يستنصحونهم، وسمعوا منهم أحوال النبي عليه الصلاة والسلام مفصلة بجزئياتها ومعجزاته الظاهرة، وأعلام نبوته المتظاهرة، وحسن سيرته، وجميل طريقته، وعاينوا بأنفسهم كثيراً من ذلك، فمالت نفوسهم إلى الإيمان، حتى بادر خلق منهم إلى الإسلام قبل فتح مكة، أي: في السنة التي كانت بين صلح الحديبية وبين فتح مكة، فأسلموا بين صلح الحديبية وفتح مكة، وازداد الآخرون ميلاً إلى الإسلام، فلما كان يوم الفتح أسلموا جميعاً، لما كان قد تمهد لهم من الميل، وكانت العرب من غير قريش في البوادي ينتظرون بإسلامهم إسلام قريش، فلما أسلمت قريش عن بكرة أبيها في يوم الفتح أسلم جميع هؤلاء البوادي، فنزل قول الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على النبي محمد.(96/17)
الأسئلة(96/18)
حكم رفع المصاحف على أسنة السيوف، والخوض فيما وقع بين الصحابة
السؤال
من رفع المصاحف على أسنة السيوف هل يكفر؟
الجواب
رفع المصاحف على أسنّة السيوف والرماح ليس كفراً ولا خطيئة، وإنما فعلوا ذلك إعلاماً منهم أنهم يريدون أن يتحاكموا إلى كتاب الله، ولا يجوز لك يا أخي المسلم! أن تخوض في هذه الفتنة، فمثلك كمثل رجل يحرص أن يعرف كيف يصلي وكيف يصوم، ومنهج سلف الأمة أننا لا نخوض فيما وقع بين الصحابة رضي الله عنهم، ونحسّن الظن بهم جميعاً، وأن ما وقع بينهم لم يكن إلا عن اجتهاد.(96/19)
حكم الأكل من المال الحرام إذا ترتب على ذلك مضرة
السؤال
أعمل طبيباً وقد دخلت الجيش، والقوم في ذلك المكان يأخذون الأدوية من المخزن ويعطونه لمستودعات الطعام، ويأخذون كميات كبيرة من اللحوم وغيرها، ومن لم يأكل منه يُهان ويُحبس في المكان، ويُعامل معاملة سيئة، فهل آكل منه وأتصدق بقيمة ما أكلت، أم ماذا أفعل؟
الجواب
أحسنت المخرج، إذا ترتب على ذلك مضرة عظيمة لك فكل وتصدّق بثمنه، ولا بأس أن تكون هذه الصدقة في وسط الجند، أي: في نفس المكان.(96/20)
بيان أقل المهر وأكثره
السؤال
أنا لا أستطيع أن أشتري إلا حجرة نوم فقط وشقة، ولا أستطيع أن أشتري ذهباً، فهل حديث النبي عليه الصلاة والسلام (التمس ولو خاتماً من حديد) يوجب علي أن أشتري خاتماً على سبيل الهدية؟
الجواب
على أية حال الصداق ليس لأكثره حد، وأقله ما تعارف عليه العرف أنه مال، بل من صحابيات النبي عليه الصلاة والسلام من قبِلت أن تتزوج على نعل.
أترضين من نفسكِ بنعل؟ قالت: بلى، أنا أقبل أن يكون صداقي هو النعل.
والحقيقة لا يزال الخير في الأمة، ولي أخ تزوج وقدّم الصداق كتاب فتح الباري.(96/21)
الحكم على حديث: (لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه)
السؤال
ما مدى صحة قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه)؟
الجواب
حديث صحيح.(96/22)
حكم الصلاة خلف إمام يلحن في قراءته لحناً خفياً
السؤال
ما حكم الصلاة خلف إمام يقرأ بلحن خفي، مع أنه رجل نحسبه على خير؟
الجواب
الصلاة صحيحة، إذا كان يلحن لحناً خفياً لا يعرفه إلا أهل التخصص فلا بأس بذلك، في الغنة والمد والإخفاء والإدغام وغير ذلك، أما إذا كان يلحن لحناً جلياً يقلب المعاني رأساً على عقب، فهذا لا تصح الصلاة خلفه.(96/23)
حكم من أذن وخرج ليدعو أي شخص ليصلي معه
السؤال
كنت أؤذن في مسجد لا يأتي فيه أحد وكنت أخرج بعد الأذان لكي أدعو أي شخص أجده ليصلي معي، فهل دخلت في حكم حديث النهي؟
الجواب
لا، فأنت خرجت تطلب وتريد من يصلي معك جماعة، فأنت خرجت بنية الدخول مرة أخرى، وهذا لا يدخل في حديث النهي.(96/24)
حكم الدخول في المناقصات وبيع الرجل ما ليس عنده
السؤال
هل يجوز الدخول في المناقصات التي تعينها بعض الجهات الحكومية أو المحافظة أو البلدية، وإن كان هذا الرجل الذي يريد ذلك ليس عنده هذه الأشياء المطلوبة، ولكن بعد إرساء المناقصة عليه سيقوم بشراء هذه الأصناف من السوق؟
الجواب
لا يجوز له ذلك؛ لأن هذا الرجل الذي رست عليه المناقصة يبيع ما ليس عنده، وقد نهى النبي عليه الصلاة والسلام أن يبيع الرجل ما ليس عنده، ونهاه أن يبيع الشيء حتى ينقله إلى رحله، فالذي يبيع أشياء ليست عنده فالبيع ليس صحيحاً، والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(96/25)
شرح صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - وجوب الوفاء بالعهد - الأحزاب - أُحد
الوفاء بالعهد من الصفات التي حث عليها الإسلام، ولا فرق في أن يكون المعاهد صديقاً أو عدواً، مسالماً أو محارباً، بل هو في العداوة والحرب أولى لما في ذلك من إظهار لأخلاق الإسلام، وبيان رفضه لأخلاق الغدر والخيانة ومحاربته لها.(97/1)
باب الوفاء بالعهد
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
الباب الخامس والثلاثون من كتاب الجهاد والسير: (باب الوفاء بالعهد).
أي: باب وجوب الوفاء بالعهد.(97/2)
شرح حديث: (انصرفا نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة] وهو أخو عثمان وأخو القاسم.
هم ثلاثة، وأبو بكر، أوثقهم وأعدلهم وأعلمهم وهو صاحب الكتاب العظيم المعروف بمصنف ابن أبي شيبة.
قال: [حدثنا أبو أسامة - حماد بن أسامة - عن الوليد بن جميع حدثنا أبو الطفيل - عامر بن واثلة بن الأسقع - آخر من مات من الصحابة على الإطلاق- قال: حدثنا حذيفة بن اليمان -اليمان لقب، أما أبوه فاسمه حسل أو حسيل - قال حذيفة: (ما منعني أن أشهد بدراً إلا أني خرجت أنا وأبي حسيل قال: فأخذنا كفار قريش.
قالوا: إنكم تريدون محمداً؟ فقلنا: ما نريده.
ما نريد إلا المدينة)] حينما أراد أن يخرج من مكة هو وأبوه اعترضهم كفار مكة.
قالوا: ما تريدون إلا أن تلحقوا بمحمد لتقاتلونا معه.
قالوا: ما نريد محمداً إنما نريد أن ندخل المدينة.
قال: [(فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه)] أي: إذا كنتم صادقين فيما تزعمون أنكم تريدون المدينة، ولا تريدون أن تلحقوا بمحمد وجيشه -عليه الصلاة والسلام- فأعطونا العهد والميثاق على ألا تقاتلونا مع محمد عليه الصلاة والسلام.
قال: [(فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر فقال: انصرفا.
نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم)].
قوله: (انصرفا) أي: لا تشاركانا في قتال قريش، وفاء لهم بعهدهم والتزاماً بميثاقهم، مع أنهم كفار ومشركون إلا أننا أعطينا العهد والميثاق ألا نقاتل، فيجب الوفاء والالتزام بهذا العهد، وهذا يدل على حرمة نقض العهد بغير مبرر.
أما إذا نقض صاحب العهد معنا عهده فنحن لا نطالب باحترام العهد، بل نحن في حل من العهد، فإذا عاهد اليهود المسلمين أو النصارى المسلمين أو الكفار عموماً المسلمين في دار الحرب أو في دار السلم على قطع القتال وإعطاء الأمان مدة معينة من الزمان أو مدة غير معينة؛ فحينئذ يجب على الطرفين احترام العهد والميثاق، والأصل في المسلم ألا يغدر وألا يغش؛ فإن غدر العدو فهل يلزمنا نحن بعد ذلك الغدر؟ الجواب لا، فنحن لا نغدر في كل الأحوال، وإنما الذي يأتي منا بعد نقض العهد هو الرجوع إلى الأصل الأول قبل العهد، حتى لا يقال حينما غدر اليهود فغدر المسلمون، فلا يسمى رد فعل المسلمين على غدر اليهود بغدر، وإنما بمجرد وقوع الغدر تحلل الطرفان من الميثاق والعهد، فرجع المسلمون إلى الأصل الأول قبل العهد والميثاق، فحينئذ لا يقال لرد فعل المسلمين على اليهود بعد نقض عهدهم: (قد غدروا)؛ لأن المسلم لا يغدر في كل الأحوال؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (انصرفا) أي: يا حذيفة أنت وأبوك انصرفا.
لا تقاتلا معنا؛ لأنكم أعطيتم العهد والميثاق.
ثم قال علة ذلك: (نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم).
أي: نفي لهم بعهدهم من قبلك أنت وأبيك، أما نحن فنستعين الله تعالى عليهم، وكان هذا الكلام في غزوة بدر.(97/3)
كلام النووي على حديث حذيفة وأبيه في معاهدة كفار قريش(97/4)
حكم الكذب في الحرب
قال العلماء في هذا الحديث: (جواز الكذب في الحرب) لأن الحرب خدعة، إذ إن حذيفة قال كلاماً لم يرد حقيقته.
أنتم تريدون أن تلحقوا بمحمد؟ قالوا: ما نريد محمداً إنما نريد المدينة، وهم في حقيقة الأمر ما أرادوا إلا محمداً عليه الصلاة والسلام، ولو كان محمداً في الحبشة أو في الشام أو في مصر لذهبوا إليه دون قصد البلد، وإنما قصدوه هو وقصدوا اللحاق به.
فلما قالوا: ما نريد محمداً.
فهذا في حقيقة الأمر كذب، لكنه من الكذب المباح؛ لأن الكذب أحياناً يكون مباحاً، والغيبة أحياناً تكون مباحة، كغيبة الفاسق المعلن فسقه فغيبته حينئذ ليست حراماً، بل أحياناً تكون واجبة، فلو أن امرأة سارت في طريق فيه قاطع طريق لقلنا لها: لا تسلكي هذا الطريق؛ لأن به فلان بن فلان وهو قاطع طريق.
وهذا في حقيقة الأمر غيبة، ولكنه حينما سلك هذا المسلك الدنيء وهو قطع الطريق، وأعلن هذه المعصية ونتج عنها إيذاء أقوام قد سبقوا ومروا بهذا الطريق؛ فلا بأس حينئذ من إعلان فسقه دون أن يكون ذلك في وجهه.
وكذلك تجوز الغيبة فيما يتعلق بالمصلحة العامة للمسلمين، وهو ما يسميه العلماء بالجرح والتعديل، تقول: فلان ضعيف.
فلان منكر.
فلان وضاع سراق.
فلان يسرق الحديث، فلان لا يساوي شيئاً في الرواية وغير ذلك كل هذا من باب الغيبة، لكنها من الغيبة الجائزة حفاظاً على المصلحة العامة وعبادة المسلمين إلى قيام الساعة، ولولا جواز الغيبة في هذا الباب لاختلط الحابل بالنابل واختلط الصحيح بالضعيف، وما استطاع أحد أن يميّز ما كان من الدين أصلاً وما كان عليه دخيلاً، فأجاز العلماء بالإجماع الغيبة فيما يتعلق بإثبات العدالة من نفسها، وكذلك الكذب فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (الحرب خدعة) فلو لم يكن إلا الكذب جاز.
والأولى من الكذب التعريض كما قال السلف: (إن في المعاريض مندوحة عن الكذب).
ولا يصار إلى المعاريض إلا في أضيق الحدود، حتى لا يكون دين المرء كله معاريض، إذا علم عن إنسان أنه يستخدم المعاريض دائماً فلا شك أنه تسقط هيبته وتسقط الثقة بكلامه؛ وذلك لأنني مضطر أمام سماع كلام هذا الشخص الذي علم عنه استخدام المعاريض دائماً أن أسيء به الظن وأن أغربل كلامه غربلة: لعله يقصد كذا، ولعله يقصد كذا، ولعله يقصد كذا.
أما المعاريض فالأصل فيها ألا تستخدم إلا في أضيق نطاق، وكذلك الكذب يجوز لدفع وقوع الظلم، وإن كان بعض أهل العلم قال: بل الصدق منجاة.
فلو أنه دخل علي رجل مذعور مفزوع من ظالم أو طاغية يريد أن أستره في بيتي، فأتاني ذلك الظالم المعتدي الغاشم وقال: أعندك فلان؟ أفلان هنا؟ جاز لي أن أقول: ليس هنا.
وهذا في حقيقته كذب، لكنه لدفع المضرة الأعظم وهي إهراق دم امرئ مسلم بغير حق.
وثبت عن أحمد بن حنبل أنه عرض في فتنة خلق القرآن حينما دخل عنده رجل ممن كان على مذهبه وهو مذهب أهل السنة والجماعة ممن يقول بأن القرآن كلام الله ليس مخلوقاً، فلما تبعه أعوان السلطان في ذلك الزمان وكان المعتزلة ممن يقولون بخلاف قول أحمد رحمه الله فطرقوا عليه الباب.
قالوا: أعندك فلان؟ فأشار الإمام أحمد بسبابته في باطن كفه اليسرى وقال: فلان ليس هنا.
وهذا من باب المعاريض.
أي: ليس في كفه أو في يده.
وهذا استخدام للمعاريض للخروج قدر الإمكان من الكذب الصريح، لكن لو لم يكن من مخرج إلا الكذب في هذه المواطن لجاز الكذب؛ لأن الحرب خدعة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام.
وكذلك الكذب في الصلح بين المتخاصمين، كل من الخصمين يقول في صاحبه ما لو بلغه لاشتد حنقه وغضبه عليه، ولكنك تسمع من هذا الخصم كلاماً في صاحبه فتذهب وتقول: لقد قال فيك صاحبك أجمل كلام وأطيب كلام، وهو يبجلك ويحترمك ويحبك ويثني عليك الخير كله وغير ذلك.
وعند تكرار ذلك يرق القلب، مع أن صاحبه ما قال شيئاً من ذلك، وهذا كذب صريح، لكن حينما كانت المصلحة منه أعظم من المفسدة لجأ الشرع إليها وأباح الكذب فيها.
وكذلك الكذب على الزوجة لدوام العشرة وإلف الحياة، تقول لها: أنت جميلة، وما رأيت أجمل منك.
وهي في حقيقة الأمر دميمة.
كذلك تقول لها: ما أحلى طعامك! وما أحلى نظامك! وهي في الحقيقة لا تعرف طريق النظام ألبتة ولا تصنع شيئاً، وتقدم لك طعاماً لو وضع أمام القطط والفئران لا يأكلونه، ومع هذا أنت لا تمل أن تثني على هذا الطعام، ولو صنعت لك المرأة أحلى طعام هي وأنت والناس جميعاً يشهدون بأنه أحلى طعام، ولكنك قلت من باب الافتراء: طعامكِ هذا ليس بجيد، لما نسيت ذلك ما بقيت.
فأنت تعلم أن المرأة دائماً تحب أن تنتقد الرجل، فإذا كان هذا معلوماً لديك فلماذا تغضب طالما أنك تعرف أن الأصل عندها أن الناس يغشونك ويخدعونك إذا اشتريت منهم شيئاً؟(97/5)
أحكام الوفاء بالعهد مع الكفار
قال: (وفيه: وجوب الوفاء بالعهد) وإن كان هذا العهد مع الكفار، قد يلتزم المسلم مع نصراني مثلاً في العمل أو مع جاره في السكن بعهد وميثاق وإن كان شفوياً؛ لأن المسلم يقف عند كلامه، وآخر شيء يفكر المسلم فيه أن يرتبط بميثاق مكتوب؛ لأن اللسان هو الذي يربطك، فـ حذيفة وأبوه لم يكتبوا عهداً مع المشركين، وإنما هو عهد وميثاق باللسان.
كثير منا يلتزم مع النصارى بشرط معين، ثم يكون هو الناقض له، وقد دعينا في أكثر من حادثة للأسف الشديد فوجدنا أن الأخ هو الذي نقض العهد، وهذا دين الله عز وجل فإما أن تلتزم ابتداء وتوفي بما التزمت به؛ لأن هذا هو دين الله، وإما ألا تلتزم من الأصل حتى لا تلام بعد ذلك، ويلام من معك من المسلمين، ويقال: إنكم تخفرون ذمة الله وتخفرون ذمة الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا توفون بعهد ولا ميثاق.
فيحسب هذا على دينكم، والدين منه براء، فإما أن تلتزم بما التزمت به من عهد وميثاق بالأداء والمنع والترك وإما ألا تلتزم أصلاً فيكون الأمر أهون.
قال: (وقد اختلف العلماء في الأسير يعاهد الكفار ألا يهرب منهم).
أي ربما يأسر الكفار منا أسيراً، ويقولون له: أنت مسلم؟ يقول: نعم.
فيقولون: أنت تلتزم بكلمتك، ودينكم يأمركم بذلك؟ يقول: نعم.
فيقولون: إذاً: نتركك في الشارع هذا ونقول لك: لا تتحرك من هذا الشارع، وإذا تحركت للضرورة فارجع لنفسك مرة أخرى، فلن نقيدك بالقيود ونسلسلك بالأغلال ونغلق عليك الأبواب لأنك مسلم، فالتزم بعهدك وميثاقك.
فهل لو تم هذا بين الأسير المسلم وبين كفار الحرب يلزم المسلم الوفاء به، أم يجوز له الهرب؟ قال: (فقال الشافعي وأبو حنيفة والكوفيون: لا يلزمه ذلك؛ والحجة لأننا في حالة حرب والحرب خدعة، فمتى أمكنه الهرب هرب.
وقال مالك: يلزمه الوفاء بهذا العهد.
واتفقوا على أنه لو أكرهوه فحلف ألا يهرب لا يمين عليه؛ لأن هذا يمين المكره.
وأما قضية حذيفة وأبوه فإن الكفار استحلفوهما ألا يقاتلا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر فحسب، فأمرهما النبي عليه الصلاة والسلام بالوفاء، وليس هذا من باب الإيجاب).
أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهما أن يفيا للمشركين بعهدهم وميثاقهم، وهو ليس على سبيل الوجوب؛ لأنه لا يجب الوفاء بترك الجهاد مع الإمام ونائبه؛ لأن هذا يتعارض مع وجوب طاعة الإمام، ولزومه في القتال، ولكن أراد النبي عليه الصلاة والسلام ألا يشاع عن أصحابه أنهم ينقضون العهد.
وأنتم تعلمون أن المنافق مرتد، وأن الردة حكمها القتل: (من بدل دينه فاقتلوه).
والنبي عليه الصلاة والسلام كان يعلم المنافقين بأعيانهم وذواتهم وأسمائهم، ومع هذا ما قتلهم حتى لا يشاع عنه أن محمداً يقتل أصحابه، فحينئذ يكون هذا باباً من أبواب الصد عن سبيل الله عز وجل؛ ولذلك الإسلام يحترم كلام الناس في كثير من الأحيان، وإذا كان كلام الناس يتعارض مع المصلحة العامة للإسلام والمسلمين، فلا بد أنه كلام معتبر، فقد قال عمر بن الخطاب: (يا رسول الله! مكني من فلان فلأقتلنه).
وفي رواية: (فلأضربن عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمر! أتريد أن يقول الناس: إن محمداً يقتل أصحابه؟).
ولو أشيع ذلك في الناس لخاف الكل من الدخول في الإسلام؛ لأنه ربما دخل في الإسلام فارتكب ما يوجب الكفر أو ارتكب ما يوجب القتل فقتله محمد عليه الصلاة والسلام، فحينئذ يخشى الناس ويفكرون ألف مرة قبل الدخول في الإسلام؛ لأنهم قادمون على القتل وليسوا قادمين على الإسلام.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (يا عائشة! لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم)؛ وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام لو نقض الكعبة وبناها على القواعد الأولى لإبراهيم عليه السلام لقال المشركون واليهود والنصارى: انظروا إلى محمد هدم البيت المعظم، كما يقال: ما من ساقطة في الأرض إلا ولها لاقطة.
ولا بد أن يتأثر بهذه الفرية بعض الناس، فيكون هذا باباً من أبواب الصد عن سبيل دخول هؤلاء في دين الله عز وجل، فترك النبي صلى الله عليه وسلم ذلك حتى لا يصد الناس عن الإسلام.
وكذلك قال لـ حذيفة وأبيه: التزما الوفاء بعهد قريش ولا تقاتلا معنا في بدر؛ لأنكما أعطيتماهم العهد والميثاق، ولو خفرتما هذا العهد والميثاق لقال الناس: إن محمداً وأصحابه ينقضون العهود والمواثيق.
وفي هذا إسقاط لمنزلة النبي عليه الصلاة والسلام في قلوب العرب، وفي قلوب المشركين الذين كانوا يدعونه قبل الإسلام بالصادق المصدوق.(97/6)
باب غزوة الأحزاب
الباب السادس والثلاثون: (باب غزوة الأحزاب).
غزوة الأحزاب في مذهب جماهير العلماء كانت في العام الخامس من الهجرة.
وقيل: بل كانت في العام الرابع.
قال ذلك مالك ووافقه على ذلك الإمام البخاري، فأورد في صحيحه في كتاب السير والمغازي: أن غزوة الأحزاب كانت في العام الرابع من الهجرة.
وهذا كلام يخالف كلام جماهير العلماء، بل قد انفرد به ثلاثة فقط من أئمة العلم، أما جماهير العلماء فاتفقت كلمتهم على أن غزوة الأحزاب في السنة الخامسة من الهجرة، وهي المعروفة بغزوة الخندق.
وفي المدينة جبل يسمى جبل سَلع أو سِلع، وأنتم تعلمون أن اليهود كان يسكنون المدينة، وهم: يهود بني النضير، ويهود بني قينقاع، ويهود بني قريظة، وكان بينهم وبين النبي عليه الصلاة والسلام عهد وميثاق، فلما خفر بنو النضير عهدهم وميثاقهم أمهلهم النبي عليه الصلاة والسلام ثلاثة أيام حتى يخرجوا من المدينة، ولا يخرجون إلا بما تحمله إبلهم وأما فوق ذلك فلا، فأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن المدينة تماماً، ونزلوا في جهة الشام عند خيبر وما بعدها من البلدان، وأما بنو قريظة فالتزموا بعهدهم مع النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن بني النضير لما أُجلوا عن المدينة ذهبوا إلى قريش في مكة، وألبوا المشركين على النبي عليه الصلاة والسلام، وأعطوا العهود والمواثيق لقريش أنهم سيجتمعون معهم لقتال محمد عليه الصلاة والسلام، فلما أقنعوا قريشاً وصناديد الشرك في مكة بقتال محمد عليه الصلاة والسلام اتفقوا على ذلك، فانطلق يهود بني النضير إلى غطفان وأقنعوهم بأن الحرب قادمة، وأن محمداً وأصحابه على وشك الانتهاء والإزالة من على وجه الأرض.
والشاهد من ذلك: أن غطفان اقتنعت بهذه الخطة، فانضم صوت غطفان إلى قريش وبني النضير، ثم انطلق اليهود إلى بني فزارة ثم بني مرة؛ فأقنعوهم بالخطة وتحزب الأحزاب لقتال النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يبق أمام بني النضير إلا إقناع بني قريظة عن طريق سيدهم كعب بن أسد القرظي فلا زال يهود بني النضير بـ كعب بن أسد حتى أقنعوه بالاشتراك في الحرب على أن يكون يهود بني النضير والأحزاب يقاتلون من خارج المدينة، ويقاتل بنو قريظة في الجبهة الداخلية، فأرسل النبي عليه الصلاة والسلام سعد بن معاذ ليأتيه بخبر هؤلاء.
وفي هذا: جواز استخدام الجواسيس والعيون لمعرفة أخبار العدو، وكان الأحزاب عشرة آلاف، والمسلمون ثلاثة آلاف، فلما نزل النبي صلى الله عليه وسلم منزله قال له سلمان الفارسي: (يا رسول الله! أهذا منزل أنزلكه الله عز وجل، أم هو الرأي والمشورة؟ قال: بل هو الرأي والمشورة.
قال: ليس هذا بمنزل.
اذهب بنا إلى مكان كذا، نحفر لهم خندقاً ونجعل الجبل -أي: جبل سلع- في ظهرنا) فاستحسن النبي صلى الله عليه وسلم الفكرة وكانت جديدة على العرب؛ لأن أمر حفر الخنادق ليس من شأن العرب، بل هو من شأن العجم، وسلمان فارسي من بلاد فارس، فاستحسن النبي صلى الله عليه وسلم الفكرة ونزل على مشورة سلمان.
وفي هذا: استخدام الشورى، وأن الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها.
اشترك النبي عليه الصلاة والسلام مع أصحابه في حفر الخندق اشتراكاً فعلياً، حتى غطى التراب صدره وبطنه وشعره، وكان النبي عليه الصلاة والسلام كثير الشعر، وحينما ضرب أحد أصحابه بفأسه حجراً استعصى عليه الحجر، ولم يجد من يشكو له صعوبة الحجر إلا النبي عليه الصلاة والسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا آتيك، وأخذ فأسه وضرب الحجر ضربة ثم نظر فيه وقال: (إني لأرى سواري كسرى وقيصر).
في هذا الموقف العصيب يبشرهم النبي عليه الصلاة والسلام بأن ملك كسرى وقيصر سيئول إلى المسلمين.
يقول جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه: (لقد نزل بنا من الجوع ما الله به عليم، وإني لأنظر إلى بطن النبي صلى الله عليه وسلم قد غطاها التراب، قد التصق لحمه بعظمه من شدة الجوع حتى إنه ربط الحجر على بطنه، فقلت: يا رسول الله! ائذن لي.
فأذن لي فذهبت إلى امرأتي وقلت لها: هل عندكم من طعام؟ قالت: عندنا عجين لم نعجنه بعد، وعندنا عنز قائمة.
فقال: اذبحي العنز واعجني العجين، ثم لحقت بالنبي عليه الصلاة والسلام فقال: أين كنت؟ قلت: آمر امرأتي أن تذبح العنز وأن تعجن العجين.
قال: أعجنته؟ قلت: بعد يا رسول الله! -أي: لم تفعل- قال: اذهب إليها وائتني بعجينها، فذهبت فأتيت بالعجين، فبرك عليه النبي صلى الله عليه وسلم فلا زالت تخبز منه حتى أكل منه الجيش كله، وأما اللحم فوضع في القدر حتى طهي فبرك عليه النبي عليه الصلاة والسلام حتى أكل منه الناس جميعاً وبقي اللحم كما هو).
وهذه معجزة ظاهرة للنبي عليه الصلاة والسلام، وكانوا ثلاثة آلاف رجل.
وكان النبي عليه الصلاة والسلام يحفر مع أصحابه، وأصحابه يقولون ويرتجزون: نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما(97/7)
شرح حديث حذيفة بن اليمان في غزوة الأحزاب
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا زهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم جميعاً عن جرير -وهو ابن عبد الحميد الضبي الكوفي - قال زهير: حدثنا جرير عن الأعمش سليمان بن مهران عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: (كنا عند حذيفة فقال رجل: لو أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلت معه وأبليت.
فقال حذيفة: أنت كنت تفعل ذلك؟)] وهذا ما نحدث به أنفسنا الآن.
فالواحد منا حينما يسمع عن غزوة الأحزاب، وما نزل بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من البلاء يتمنى لو أنه كان معهم، وهو في الحقيقة لو كان معهم لكان أول المخذولين، وربما يكون سبب الهزيمة.
هل كنت تستطيع على فعل مثل هذا؟ لو علم الله فيك خيراً لجعلك من أهل القرن الأول وجعلك من أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم.
قال عبد الله بن مسعود: إن الله نظر في قلوب العباد فوجد أن أطهرهم قلباً هو قلب محمد عليه الصلاة والسلام فاصطفاه لرسالته، ثم نظر في قلوب العباد فوجد أن قلوب أصحابه أطهر القلوب فاصطفاهم لصحبته، فهم أعظم الناس عبادة، وأقل الناس تكلفاً، وأكثر الناس علماً إلى غيرها من الأوصاف التي ذكرها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
سمع حذيفة رجلاً يقول: لو أني مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم لكنت فعلت كذا وكذا وكذا، وكنت سأنصره نصراً مؤزراً.
قال حذيفة: أنت كنت تفعل شيئاً من ذلك؟ وكأنه يريد أن يقول له: هل أنت متصور أنك لو كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم لكنت أشد بلاءً وأكثر تحملاً من أصحابه؟ لا والله لا يكون، فالصحابة رضي الله عنهم قد بذلوا المهج، بذلوا النفس والنفيس والغالي والرخيص في سبيل نصرة النبي عليه الصلاة والسلام وتعزيره وتأييده، وفي سبيل رفع راية التوحيد، وقد خدموا دينهم أعظم خدمة، قدموا فيه الولد والوالد والمال، وقدموا فيه كل شيء، كان كل واحد منهم إذا تعارض دينه أو ما يملك من المال والأهل والنفس والولد مع الدين قدم الدين، وهذا فارق جوهري بيننا وبين أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام.
قال حذيفة: (أنت كنت تفعل ذلك؟).
وهنا الإمام مسلم ما أراد أن يذكر الغزوة بجميع تفاصيلها، ولكنه أراد أن يذكر مشهداً واحداً من مشاهد البطولة والشهامة والإيمان لأصحابه عليه الصلاة والسلام.
قال حذيفة: (لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وأخذتنا ريح شديدة وقر) والقر هو: البرد.
وهذا يدل على أن هذه الغزوة كانت في الشتاء.
قال: [(لقد أخذتنا ريح شديدة وقر، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ألا رجل يأتيني بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟)].
أي: هل هناك عين؟ والعين يجعلها اللغويون من ألفاظ الاشتراك، أي أن لها معانٍ متعددة، ويفهم معناها المراد من السياق، فعندما تقول: شربت من العين، فالعين هنا: عين مائية.
وعندما تقول: نظرت بالعين فالعين هنا العين المبصرة.
وعندما تقول: أرسلت عيناً ليأتيني بالأخبار.
فالعين هنا المقصود به: الجاسوس وهكذا فالعين من الألفاظ المشتركة التي لها معانٍ متعددة، ويفهم المعنى المراد من السياق.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: [(ألا رجل يأتيني بخبر القوم؟)] أليس فيكم أحد مستعد لأن يذهب ويتجسس على العدو، ويأتيني بالأخبار؟ قال: (فلم يجبه أحد)]؛ وذلك لوجود البرد والرياح الشديدة والظلام.
قال: [(فسكتنا)] طبعاً يسكتون على مضض، فهم يريدون هذه الدرجة لكن ليس باستطاعتهم دفع الثمن، فالرياح شديدة جداً والبرد شديد كذلك.
قال: [(فلم يجبه منا أحد.
ثم قال: ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟ فسكتنا.
فلم يجبه منا أحد، فقال: قم يا حذيفة!)].
فهل يسع حذيفة أن يقول: اعذرني يا رسول الله! وابعث محمد بن مسلمة أو ابعث المغيرة بن شعبة، أو أبو بكر هو خير الناس فابعثه؟ لا.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1] حينئذ يحرم على أحد أن يرد على النبي صلى الله عليه وسلم حياً أو ميتاً، يحرم عليك أن ترد على سنته، أو تؤولها على غير ما يحتمله النص، أو تلحد في أسماء الله تعالى وصفاته، أو تصرف كلام النبي صلى الله عليه وسلم عن مراده كما يفعله الملاحدة الآن والمجرمون والعلمانيون.
ما سمعنا الشافعي قال لـ أحمد بن حنبل: أتحداك، أو أحمد قال للشافعي: أتحداك.
أو إماماً قال لإمام: أتحداك.(97/8)
باب غزوة أحد(97/9)
شرح حديث أنس: (ما أنصفنا أصحابنا)
قال: [حدثنا هداب بن خالد الأزدي -وهداب: لقب، والاسم: هدبة، وقيل: هدبة لقب، واسمه: هداب - قال: حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد وثابت البناني] وعلي بن زيد هو علي بن زيد جدعان وهو راوٍ ضعيف، والإمام مسلم لم يرو عنه فحسب، بل جعل ثابت البناني متابعاً له، فقال: حماد بن سلمة عن علي بن زيد وثابت البناني.
إذاً: علي بن زيد وثابت البناني في طبقة واحدة.
ستقول: فكيف يروي مسلم عن الضعفاء؟ أقول: هو لم يعتمد على رواية الضعيف بل اعتمد على رواية الثقة وهو ثابت البناني.
هب أن حماد بن سلمة روى هذا الحديث عن ثابت البناني عن أنس، فهنا سيكون صحيحاً.
إذاً: زيادة علي بن زيد لا تؤثر؛ فاعتبر أن علياً ليس في السند.
[عن أنس بن مالك: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش)].
أي: أن المشركين استفردوا بالنبي عليه الصلاة والسلام ولم يكن معه في ناحيته إلا سبعة من الأنصار، واثنان من المهاجرين.
قال: [(فلما رهقوه)] أي: غشوه.
وقيل: كلمة رهقوه لا تقال إلا في الشر؛ لأن كلمة أدركوه تقال في الخير والشر، تقول: أدركت فلاناً لأقتله، كما تقول: أدركت فلاناً لأكرمه.
لكن قولك: (رهقت فلاناً).
أي: أرهقته وأدركته لأوجعه ضرباً.
فقال: (فلما رهقوه) أي: تمكنوا منه وكادوا يقتلونه، قال النبي عليه الصلاة والسلام: [(من يردهم عنا وله الجنة أو هو رفيقي في الجنة؟)].
ولذلك بادر واحد من الأنصار السبعة رضي الله عنهم إلى الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان الثمن هو الجنة فنعم الثمن هو، ولو كان ذلك في مقابل النفس والمال.
قال: [(فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل -أي: حتى قتله المشركون- ثم رهقوه ثانية فقال: من يردهم عنا وله الجنة أو هو رفيقي في الجنة؟ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة)] وهذه منقبة عظيمة جداً للأنصار، فالنبي عليه الصلاة والسلام تمنى لو أنه كان أنصارياً، والمعلوم أن المهاجرين أفضل من الأنصار بنص القرآن الكريم، وأن القرآن أثنى على المهاجرين أولاً ثم ثنى بالثناء على الأنصار، وهذا لا ينفي أن الأنصار لهم المنزلة السامية والمكانة الرفيعة المرموقة في الإسلام وعند الله عز وجل؛ ولذلك جعل النبي عليه الصلاة والسلام حب الأنصار دليلاً وعلامة وآية وأمارة على الإيمان.
قال: (لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق).
ولما وزع النبي صلى الله عليه وسلم غنائم بعض الغزوات على المهاجرين تارة وعلى المشركين الذين أسلموا تارة وغير ذلك، ولم يعط الأنصار شيئاً، تكلم الأنصار فيما بينهم: إن محمداً صلى الله عليه وسلم أعطى قومه ولم يعطنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم يطيب خاطر الأنصار ويبين مكانتهم في الإسلام: (يا معشر الأنصار! ألستم قلتم كذا وكذا؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: أما ترضون أن يرجع الناس إلى رحالهم بالدينار والدرهم وترجعون أنتم برسول الله صلى الله عليه وسلم؟).
قال أنس [: (فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه -أي: للقرشيين-: ما أَنصَفْنا أصحابَنا)] أي: أنه حيث دفعناهم واحداً تلو الآخر حتى قتلوا جميعاً، وكان ينبغي أن يدخل المهاجرون بين الأنصار؛ فقال: (ما أنصفنا أصحابنا) حيث اندفعوا جميعاً.
أي: كان ينبغي أن تدفعوا بأنفسكم في القتال والدفاع، ولا تنتظروا حتى يقتل آخر أنصاري.
وفي رواية: قال: (ما أنصفنا أصحابنا) أي: أصحابنا الذين تخلوا عنا، لا يقصد الأنصار، وإنما يقصد من فر وترك النبي صلى الله عليه وسلم.(97/10)
شرح حديث سهل بن سعد في ذكر جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد
قال: [حدثنا يحيى بن يحيى التميمي حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم - أبو حازم هو سلمة بن دينار - عن أبيه أنه: (سمع سهل بن سعد الساعدي يسأل عن جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد؟ فقال: جرح وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته)].
والرباعية: هو السن سواء كان في الفك العلوي أو السفلي قبل الناب وبعد القاطعين.
قال: [(وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه -وفي رواية: وكسرت البيضة- على رأسه، فكانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تغسل الدم، وكان علي بن أبي طالب يسكب عليها بالمجن، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة حصير فأحرقته حتى صار رماداً، ثم ألصقته بالجرح فاستمسك الدم)] فهذا طب قديم وهو أحسن من الطب الحديث.
أي: أنها ظلت تغسل الجرح، وكلما غسلته زاد نزيفاً، فأتت بقطعة حصير ثم أحرقتها حتى صارت رماداً، فوضعتها على الجرح، فوقف الدم.
وهذا بقدرة الله.
قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا يعقوب -يعني: ابن عبد الرحمن القاري - عن أبي حازم: (أنه سمع سهل بن سعد، وهو يسأل عن جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أَمَ والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كان يسكب الماء)] فالذي كان يغسل جرحه فاطمة، والذي كان يسكب الماء هو علي بن أبي طالب.
قال: [(وبماذا دووي جرحه؟)] دووي بقطعة الحصير.
[ثم ذكر نحو حديث عبد العزيز غير أنه زاد: (وجرح وجهه وقال (مكان هشمت): كسرت)].
قال: [وحدثناه أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر جميعاً عن سفيان بن عيينة (ح) وحدثنا عمرو بن سواد العامري أخبرنا عبد الله بن وهب أخبرني عمرو بن الحارث المصري عن سعيد بن أبي هلال المصري.
وحدثني محمد بن سهل التميمي حدثني ابن أبي مريم حدثنا محمد -يعني: ابن مطرف - كلهم عن أبي حازم عن سهل بن سعد بهذا الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.
في حديث ابن أبي هلال: (أصيب وجهه عليه الصلاة والسلام)، وفي حديث ابن مطرف: (جرح وجهه)].(97/11)
كلام النووي في شرح أحاديث غزوة أحد(97/12)
وقوع الابتلاء بالأنبياء وبيان الحكمة من ذلك
قال الإمام: (وفي هذا -أي الحديث- وقوع الانتقام والابتلاء بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لينالوا جزيل الأجر).
هل هناك أشرف من النبي عليه الصلاة والسلام؟ لا أحد، ومع هذا نزل به وحل به في غزواته من البلاء ما لا يمكن لأحدنا أن يطيقه وهو نبي الله وهو حبيب الله، ولن يضيعه الله، ومع هذا نزل به ما قد سمعتم، حتى لا يقال: إذا كان هؤلاء مؤمنين حقاً وعلى حق فلم فعل الله بهم كذا وكذا؟ فهذه سنة الله تعالى في الخلق، (وأشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل).
والنبي عليه الصلاة والسلام في الأمور البشرية مثله مثل غيره بل زيادة، أليس هو الذي قال: (إني أوعك كما يوعك رجلان منكم)؟ أي: حينما تنزل بي الحمى والمرض تنزل بي الآلام مضاعفة كما لو كان اثنان منكما قد نزل بهم الضر، وهو نبي الله بمنطق العصر أو بمنطق أهل الدنيا، أو بمنطق من لا علم له بالسنن الكونية.
قد يقول قائل: إذا كان هذا هو النبي حقاً فإنه لا يمرض ولا ينزل به البلاء.
فاستمراراً لهذه الغفلة نقول: إذا كان هو النبي حقاً فكان لزاماً عليه أن يجلس في بيته وأن يدعو ربه، فإن دعاء الأنبياء مستجاب، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام كان يشارك في الصفوف المقدمة بقتال العدو حتى يسن ذلك لأمته، وكان بإمكانه أن يجلس في برج من عاج، ولكنه لم يفعل ذلك؛ ليكون قدوة لكل من تولى إمرة الإسلام والمسلمين من بعده، ولكن الأمة خالفت فوقعت فيما وقعت فيه.
قال: (وفي هذا وقوع الانتقام والابتلاء بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لينالوا جزيل الأجر، ولتعرف أممهم وغيرهم ما أصابهم ويتأسوا بهم.
قال القاضي عياض: وليعلم الناس أنهم من البشر تصيبهم محن الدنيا، ويطرأ على أجسامهم ما يطرأ على أجسام البشر، ليتيقنوا أنهم مخلوقون مربوبون، ولا يفتتن بما ظهر على أيديهم من المعجزات، وتلبيس الشيطان من أمرهم ما لبسه على النصارى وغيرهم).
فالنصارى زعموا أن عيسى إله.
ومنهم من زعم أنه ابن الله لما رأوا على يدي عيسى عليه السلام من المعجزات وخوارق العادات، فقالوا: هذا لا يمكن أن يتم على يد بشر، هذا لا بد أنه إله، أو أنه ابن الله، والله أراد أن يكرم ولده.
تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.
فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يبين لهم وأراد الله تعالى أن يبين لهذه الأمة أن النبي صلى الله عليه وسلم مثلكم في بشريته كما أنكم بشر، فينزل به المرض والابتلاء، وينال منه العدو، وينال من العدو، والحرب سجال ينال منا وننال منه وغير ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم في هذا كغيره من الناس.
وفي مجموع هذا كله دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر، فأنتم تعلمون: إلى الآن أن بعض غلاة الصوفية يعدون النبي صلى الله عليه وسلم إلهاً.
بل منهم من يقول: هو أول خلق الله.
ونسمع هذا كثيراً في إذاعة القرآن الكريم التي ما أنشئت إلا لنشر التصوف في الأمة، يقولون: يا أول خلق الله! ويا نور عرش الله! فهل النبي صلى الله عليه وسلم هو نور عرش الله؟ ويعتمدون على الحديث الموضوع حديث جابر: أول ما خلقت نور نبيك يا جابر! وهذا حديث موضوع مكذوب لا قيمة له، فنحن نسمع الناس في هذا الوقت يقولون: يا أول خلق الله! ويا نور عرش الله! فما هو الفرق بين هذا القول وبين قول النصارى: عيسى ابن الله؟ هذا ضلال وذاك ضلال.
وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فقال: وما أكتب.
قال: اكتب كل شيء إلى قيام الساعة، فجرى القلم بما هو كائن إلى قيام الساعة).
وهذا نص صريح أن أول المخلوقات هو القلم.
وهناك خلاف: هل القلم أول المخلوقات أم العرش؛ لقول الله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7].
على أية حال ليس هذا أوان البحث في هذه المسألة، ولكنا أردنا أن نبين أنه قد لُبس على بعض المسلمين في أوصاف للنبي عليه الصلاة والسلام، فذكروا أوصافاً ليست له لا في الكتاب ولا في السنة.
فليتق الله أقوام يجعلون للرسول ما هو خاص لله، ويجعلون لمن دون الرسول صلى الله عليه وسلم ما هو خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولكل ذي حق حقه!!(97/13)
اتخاذ الأسباب ليس قادحاً في التوكل
قال: (وفي هذا الحديث: استحباب لبس البيضة والدروع على الرأس والصدر، وهو من أسباب التحصن في الحرب، وأنه ليس بقادح في التوكل).
وهذا الأمر خالفت فيه الصوفية أيضاً.
فالصوفية يقولون: إن الأخذ بالأسباب يتنافى مع التوكل.
أرأيتم البلوى؟ لو كان أخذ الأسباب يتنافى مع التوكل لما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم -وهو أحب الخلق إلى الله- بسبب واحد، ولما أمرنا أن نتوكل على الله حق توكله، فحينئذ يرزقنا ولا نتخذ الأسباب، إن التوكل على الله بغير اتخاذ الأسباب إنما هو تواكل وضعف وفساد في الاعتقاد، فالواجب عليك أن تأخذ الأسباب ولا تعتمد عليها، بل تعتمد على الله عز وجل.
والعلماء يقولون: الاعتماد على الأسباب شرك بالله.
وترك الأسباب قدح في التوحيد.
مثال ذلك: إذا تزوجت فقد التمست أسباب تحصيل الولد، وليس من اللازم أن ترزق الولد، ولكن في المقابل لا يقول أحد: إذا كان الله قدر لي الولد فإنه سيرزقني الولد بغير زوجة! كما أنك لو كنت جائعاً لا تأكل.
فقد يزعم شخص التوكل في أمر حبله طويل، وإن كان حبله قصيراً فإنه لا يستطيع، كالجماعة الكرماوية الذين يلبسون عمائم خضراء وكوفيات خضراء ويخضبون لحاهم بالأخضر.
فهؤلاء شغلهم الشاغل أنه لا يوجد شيء اسمه أسباب؛ ولذلك يتركون العمل فتراهم لا يعملون.
قيل لي ذات مرة: نريدك أن تناقش شخصاً، فذهبت لأناقشه، أقسم بالله العظيم حينما رأيت والده كأنني رأيت شيطاناً لا إنسياً، فجلست مع والده أكثر من ساعتين انتظاراً لخروج ولده من غرفته التي أغلق بابها عليه، فقلت لأبيه: دعني أكسر الباب وأدخل عليه قال: لا.
هو سيخرج بنفسه.
فإذا به خرج وقال: ماذا تريد؟ قلت له: أريد أن أعرف مذهبك فإذا وجدت أنه حق اتبعته.
فهش وبش وقال لي: كنت في الغرفة وقد تأخرت عليك، وما أخرني عنك -والله- إلا جبريل.
فقلت له: جبريل ينزل عليك؟ قال: نعم.
قلت له: هذا عدو اليهود من الملائكة.
قال: أنت يهودي؟ قلت: لا.
أنا مسلم والحمد لله.
فقال: أنت مسلم على ملة محمد أم على ملة الرجل الصالح؟ قلت: أنا مسلم على ملة الرجل الصالح محمد صلى الله عليه وسلم.
فقال: إما هذا وإما ذاك.
قلت: ومن الرجل الصالح؟ قال: إذا دخلت في ديني عرفت هذا الرجل.
فقلت: ومن الرجل الصالح؟ قال: رجل من السويس، لا يمكن الوصول إليه إلا إذا آمنت بمبادئه.
وصار يعدد المبادئ، منها وأعظمها: ترك الأسباب؛ لأنه يتنافى مع التوكل.
وهذا الشاهد من القصة كلها، فالقصة طويلة ولا أريد أن أضيع وقتكم، لكن هذه الكرماوية، وأشهد بالله أنهم خرجوا من الملة بما يقولون ويعتقدون أن جبريل ينزل عليهم، والحقيقة أن الذي ينزل عليهم هو الشيطان وليس جبريل، فقد انقطع نزول جبريل بالوحي على محمد عليه الصلاة والسلام بعد موته.
فالصوفية منهم من يقول بهذا المذهب ويعتقد أن اتخاذ الأسباب يقدح في التوكل، فترى الواحد منهم يهيم على وجهه في الصحراء ويسافر المفاوز والجبال بغير أن يتخذ له زاداً أو طعاماً وشراباً.
لماذا؟ يقول: لأن هذا يتنافى مع التوكل.
وطبعاً هذا كلام فاسد في غاية الفساد، ولو أنك في الحقيقة تقول: إن اتخاذ الأسباب يتنافى مع التوكل، فلا تتزوج واطلب الولد بغير زواج، واطلب الشبع والري بغير طعام ولا شراب، فإن هذه الاعتقادات الفاسدة جعلت جماعة الكرماوية يسطون على المحلات، ويسرقون محلات الذهب ومحلات الطعام والشراب وغير ذلك.
حضرنا ذات مرة في بيت محمد الكرماوي الكبير زعيم الكرماوية، ولم نكن نعرف أنه هو الرجل الصالح، وهو سويسي ومن سكان شبرا، والمشهور أن شبرا من أماكن الفتن.
أقول: لم أعرف ماذا قالوا بعد حضرة طويلة، وكان هذا سنة (1982م)، فقمت وقلت له: يا شيخ محمد! وما هو الدليل على هذا؟ ولم أفق إلا في الشارع من ضربهم لي.
فقلت: هل من المعقول أن النبي الجديد يعامل الناس الذين يريدون أن يتبعوه بهذه المعاملة؟ فهذا سيصبح ديناً فاسداً، فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يضرب أحداً ولم يكن يؤذي أحداً، بل كان يواسي كل من أتاه عليه الصلاة والسلام.
فالأصل أن المرء يفر من مواطن البدع كما يفر من الأسد، لكننا ما عرفنا أن هذا أصل من أصول أهل السنة إلا حينما قرأنا في أصول أهل السنة، لـ ابن بطة واللالكائي، وأصول السنة للإمام أحمد وولده عبد الله، والخلال وغير ذلك من الكتب العظيمة جداً التي صنفت في أصول السنة.(97/14)
إثبات أن المداواة ومعالجة الجراح لا تنافي التوكل
قوله: (يسكب عليها بالمجن) أي: يصب عليها بالترس.
والترس: هو الإناء الذي يوضع فيه الماء.
وفي هذا الحديث: إثبات المداواة، ومعالجة الجراح، وأن ذلك لا يقدح في التوكل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله مع قوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58](97/15)
شرح حديث أنس (كيف يفلح قوم شجوا نبيهم)
قال: [حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد وشج في رأسه)] شج أي: قطع الجلد، ولو كان كسر لقال: كسر عظم رأسه.
قال: [(فجعل يسلت الدم عنه -أي: يزيل الدم عن الجرح- ويقول: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم وكسروا رباعيته؟)] قد يكون هذا موجهاً إلى أصحابه الذين تخلوا عنه، أو غفلوا عن حراسته في هذه الحرب حتى نزل به ما نزل، فيكون هذا من باب التقريع والزجر لهم، ولفت الأنظار ألا يبرحوه.
ومذهب الجماهير: أن هذا تقريع لقريش الذين شجوا رأسه وكسروا رباعيته عليه الصلاة والسلام، وأنه منهم أو أنه ابن لهم، باعتبار الأمر الأول: (كيف يفلح قوم شجوا نبيهم) أي: النبي الذي خرج منهم وهو ابنهم.
قال: [(وهو يدعوهم إلى الله، فأنزل الله عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128])].(97/16)
شرح حديث ابن مسعود: (رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)
قال: [حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا وكيع حدثنا الأعمش عن شقيق -وهو أبو وائل شقيق بن سلمة الكوفي - عن عبد الله قال: (كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: رب! اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)].
وهذا يدل على مزيد شفقته عليه الصلاة والسلام على قومه.
هل منا أحد يقول ذلك؟ لو أن أباك المسلم ضربك وشجك وكسر رباعيتك فإنك ستدعو عليه مع أنه أبوك ومع أنه مسلم، فانظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال لهؤلاء المشركين يدعو لهم: [(اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)] وهذا منتهى الشفقة والرحمة والرأفة، وهو ينضح الدم عن جبينه.
قال: (وفي هذا: بيان ما كانوا عليه صلوات الله وسلامه عليهم من الحلم والتصبر، والعفو والشفقة على قومهم، ودعائهم لهم بالهداية والغفران، وعذرهم في جنايتهم على أنفسهم بأنهم لا يعلمون، وهذا النبي المشار إليه من المتقدمين، وقد جرى لنبينا صلى الله عليه وسلم مثل هذا يوم أحد).(97/17)
باب اشتداد غضب الله على من قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم
الباب الثامن والثلاثون: (باب اشتداد غضب الله على من قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم).
أي: أن الله تعالى اشتد غضبه على من قتله نبي من الأنبياء.
قال: [حدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اشتد غضب الله على قوم فعلوا هذا برسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو حينئذ يشير إلى رباعيته- وقال النبي عليه الصلاة والسلام: اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله في سبيل الله عز وجل)].
التقييد بأن هذا القتل كان في سبيل الله احترازاً ممن قتله رسول الله في حد أو قصاص؛ لأن هذا ليس محلاً لغضب الله، بل هو محل سعة رحمة الله عز وجل، فالذي ارتكب ما يوجب الحد أو القصاص فأقيم عليه الحد غفر له ذنبه، ومغفرة الذنب تتنافى مع غضب الله عز وجل.
فقوله: (لقد اشتد غضب الله على رجل قتله رسول الله في سبيل الله) احتراز ممن قتله رسول الله في حد أو قصاص، وإنما شدة الغضب على من قتله النبي صلى الله عليه وسلم يكون قتله في سبيل الله.
أي: في ساحة القتال؛ وذلك لأن هذا المقتول الذي قتل بيد الرسول صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على قتل الرسول عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك اشتد غضب الله عز وجل عليه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد.(97/18)
شرح صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى الكفار والمنافقين - قتل أبي جهل - قتل كعب بن الأشرف
أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، وكان أشد الخلق بلاء سيد ولد آدم محمداً صلى الله عليه وسلم، فقد لاقى من أذى المشركين والمنافقين ما تعجز عن حمله الجبال، ومع ذلك صبر عليهم وأخذهم بالعفو والصفح رجاء أن يخرج من ظهورهم من ينصر الله به دينه ويعلي كلمته، وأما من سبق في علم الله موتهم على الكفر من صناديد الكفر فقد جعل الله قتلهم عبرة للمعتبرين، وآية للمتفكرين.(98/1)
باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين
الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
هذا الباب التاسع والثلاثون من كتاب الجهاد والسير: (باب: ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين).(98/2)
شرح حديث ابن مسعود في وضع المشركين لسلا الجزور على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن عمر بن محمد بن أبان الجعفي قال: حدثنا عبد الرحيم -يعني: ابن سليمان - عن زكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحاق السبيعي عن عمرو بن ميمون الأودي عن ابن مسعود رضي الله عنهما قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس، وقد نحرت جزور بالأمس فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سلا جزور بني فلان فيأخذه فيضعه في كتفي محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فأخذه، فلما سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه.
قال: فاستضحكوا وجعل بعضهم يميل على بعض وأنا قائم أنظر -أي: ابن مسعود - لو كانت لي منعة طرحته عن ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم ساجد ما يرفع رأسه، حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءت وهي جويرية -تصغير جارية- فطرحته عنه ثم أقبلت عليهم تشتمهم، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته رفع صوته ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا دعا ثلاثاً وإذا سأل سأل ثلاثاً، ثم قال: اللهم عليك بقريش ثلاث مرات، فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك وخافوا دعوته.
ثم قال: اللهم عليك بـ أبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عقبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط، وذكر السابع ولم أحفظه)].
جاء في رواية أخرى عند البخاري: أن هذا السابع هو عمارة بن الوليد.
قال: (فوالذي بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق لقد رأيت الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب -أي: البئر الذي حُفر لهم- قليب بدر).
[قال أبو إسحاق: الوليد بن عقبة غلط في هذا الحديث].
أي: أن ذكر الوليد بن عقبة خطأ من الراوي في هذا الحديث؛ وذلك لأن الوليد بن عقبة كان في ذلك الوقت لا يزال طفلاً رضيعاً صغيراً.
وصوابه: الوليد بن عتبة وليس ابن عقبة، وإنما تصحّف على الراوي أو أخطأ في سماعه فقال: الوليد بن عقبة وهو ابن عتبة بالتاء لا بالقاف.
حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار -وهما فرسا رهان في العلم والفضل والعبادة، بل وفي سنة الولادة وسنة الوفاة، ولدا جميعاً وماتا جميعاً، فما يستطيع أحد أن يميّز بينهما -واللفظ لـ ابن المثنى - قالا: حدثنا محمد بن جعفر] وهو محمد بن جعفر البصري إمام كبير من أئمة البصرة وهو ربيب شعبة بن الحجاج العتكي البصري، كان شعبة بعد وفاة جعفر تزوج أمه فتربى محمد في حجره فرضع منه العلم، وكان فيه نوع من الشغب والحدة؛ ولذلك كان إذا دخل مكة وحضر مجلس ابن جريج يشغب عليه، فكلما تكلم ابن جريج في مسألة يقول له: من أين لك هذه؟ وما دليلها؟ وهل سمعت من فلان؟ أو أنك تدلّس في هذه؟ وابن جريج كان مدلّساً معروفاً، وهو الذي قال له: اسكت يا غندر! وكان أهل مكة يسمّون المشاغب (غندر)، فهو محمد بن جعفر المشهور باللقب أكثر منه بالاسم.
أي: إذا قلنا: حدثنا غندر فهو محمد بن جعفر.
قال: [حدثنا شعبة قال: سمعت أبا إسحاق يحدث عن عمرو بن ميمون عن عبد الله قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد وحوله ناس من قريش، إذ جاء عقبة بن أبي معيط بسلا جزور)].
وولد عقبة بن أبي معيط اسمه الوليد، كان سكّيراً جلد في الخمر مراراً، وكان مسلماً، وهو الذي صلى بالناس الفجر في زمن بني أمية، فقالوا له: صليت الصبح أربعاً.
قال: إن شئتم لزدتكم.
والإمام الذهبي عليه رحمة الله يترجم له في سير أعلام النبلاء، وذكر أنه كان فاسقاً، وبلا شك أن شرب الخمر كبيرة، ومن ارتكب الكبيرة فقد فسق بها، سواء كان صحابياً أو غيره، وقد حُد مراراً في الخمر.
قال: [(إذ جاء عقبة بن أبي معيط بسلا جزور، فقذفه على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يرفع رأسه، فجاءت فاطمة فأخذته عن ظهره ودعت على من صنع ذلك.
فقال: اللهم عليك بالملأ من قريش -أي: بهذا الجمع من قريش- أبا جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، و(98/3)
كلام النووي في شرح حديث عبد الله بن مسعود في أذية المشركين لرسول الله وهو ساجد
عقبة بن أبي معيط هو الذي أتى بسلا جزور.
السلا: هي تلك اللفافة التي يكون فيها الولد، وهي عند جميع الحيوانات تسمى السلا، وعند المرأة تسمى المشيمة.
والمشيمة معروفة، فقال: إن بني فلان قد ذبحوا جزوراً لهم بالأمس -والجزور هو البعير أو الجمل- فاذهب يا عقبة! وائتنا بسلا هذا الجزور، فضعوه بنتنه ونجاسته ودمه وقيحه على ظهر محمد وبين كتفيه وهو ساجد لربه عند الكعبة.
انظروا إلى أي مدى تعرّض النبي صلى الله عليه وسلم للأذى! بلا شك أن الأمة كلها لو كانت في هذا الموقف بدلاً من محمد عليه الصلاة والسلام لكان هذا أخف وطئاً من أن يكون هذا النتن على ظهر نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.
ويُرد بهذا النص على من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعرّض لأذى كما تتعرض أمته الآن.
فقد سنّ النبي عليه الصلاة والسلام لنا تحمّل هذا الأذى والصبر عليه، فكان أوّل من أوذي في هذه الأمة، سُب وشُتم ولُعن وأُوذي في أهله وفي نسائه وفي خاصة نفسه، وطرد من أحب البلاد والبقاع إليه إلى غيرها من البلدان، وأُوذي في أصحابه، فأمر بتهجيرهم إلى الحبشة هجرة أولى ثم ثانية، ثم أوذي في أصحابه فأمرهم بالهجرة إلى المدينة فسبقوه إليها، ثم هاجر هو عليه الصلاة والسلام، وترك هو وأصحابه الأهل والأموال والأولاد كل ذلك ليبيعوا أنفسهم لله تعالى وأرواحهم وأموالهم؛ لأنهم يعلمون أن المقابل لذلك هي تلك السلعة الغالية الجنة.(98/4)
أجوبة العلماء على إشكال استمرار النبي في الصلاة وسلا الجزور على ظهره
قال: (وفي هذا الحديث إشكال، فإنه يقال: كيف استمر النبي عليه الصلاة والسلام في الصلاة مع وجود النجاسة على ظهره؟).
فهذا السلا به قيح وصديد ودم، والدم نجس؛ فكيف استمر النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته مع وجود النجاسة على ظهره؟ هل يصح من إنسان أن يصلي وهو يعلم أن بثوبه نجاسة، أو بالأرض التي يسجد عليها نجاسة؟ الجواب لا.
والطهارة شرط في صحة الصلاة.
فكيف استمر النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته مع وجود هذه النجاسة على ظهره؟ أجاب العلماء بأجوبة منها: (إجابة القاضي عياض: بأن هذا ليس بنجس.
قال: لأن الفرث ورطوبة البدن طاهران، والسلا من ذلك وإنما النجس الدم).
فأول
الجواب
أن الفرث والدم ليسا بنجسين، إذا وضعت على جسمك بدناً من الأبدان تشعر برطوبة له، وكذلك الفرث الذي هو ما دون الدم ليس عند القاضي عياض بنجس.
(وهذا الجواب يصح على مذهب الإمام مالك ومن وافقه: أن روث ما يؤكل لحمه طاهر).
أي: أن هذا على مذهب المالكية يستقيم؛ لأنهم يعتقدون أن روث ما يؤكل لحمه طاهر، ومن باب أولى ما فوق ذلك.
(أما مذهب الشافعية والأحناف: أن هذا نجس، وهذا الجواب الذي ذكره القاضي عندهم ضعيف أو باطل، وعندهم جواب آخر؛ لأن هذا السلا يتضمن النجاسة من حيث إنه لا ينفك من الدم في الغالب والدم نجس، ولأنه ذبيحة عُبّاد الأوثان فهو نجس من وجه آخر).
إذاً: هذا السلا أو تلك المشيمة تجاوزاً لا يمكن أن تخلو من شيء من الدم، والدم نجس حتى عند المالكية، فهذا وجه.
الوجه الثاني: أن هذه الذبيحة ذبيحة عُبّاد الأصنام والأوثان وهي حرام باتفاق ونجسة.
أي: هي حرام لنجاستها، وكذلك اللحم وجميع أجزاء الجزور، ولا تؤكل ذبيحة المشرك قط، وإنما أحل الله لنا ذبيحة أهل الكتاب: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة:5].
فحينئذ ذبيحة أهل الكتاب حلال لنا، لكن بشرط أن تكون ذبيحة، فإذا قتلوها أوقدوها أو صعقوها أو خنقوها فإنها لا تحل لنا حتى وإن كانت من قبل مسلم؛ لأنها ليست ذبيحة حينئذ.
(وأما الجواب المرضي -عند جماهير العلماء- أنه صلى الله عليه وسلم لم يعلم ما وضع على ظهره، فاستمر في سجوده استصحاباً للأصل، والأصل الطهارة).
مثال ذلك: واحد أتى وأنا أصلي ووضع عليّ شيئاً، فما يدريني ما الذي وضع عليّ، فلعله كذا ولعله كذا؟ إذاً: لا يمكن إلا أن أستصحب الأصل، والأصل الطهارة حتى أتيقن النجاسة.
فالنبي لم يعلم عليه الصلاة والسلام ما الذي وضع على ظهره.
قال: (وما ندري هل كانت هذه الصلاة فريضة فتجب إعادتها على الصحيح عندنا، أم غيرها فلا تجب)؟ ولنا أن نتصور أن هذه الحادثة تمت في أول العهد المكي قبل أن تُفرض الصلاة، فلا يمكن أن نقول إلا أن هذه الصلاة التي كان يصليها النبي صلى الله عليه وسلم نافلة، أو لعله كان ساجداً سجوداً لا علاقة له بالصلاة، وإنما من باب مطلق العبادة، ولا يلزم أن يكون السجود دائماً داخل صلاة، فلعله كان ساجداً ولم يكن مصلياً، ولعله كان يصلي نافلة، أما كون هذه الصلاة فرضاً فهذا أمر بعيد غير متصور.
وإن كان فرضاً وجبت الإعادة فالوقت واسع، وما يدرينا أنه أعاد في بيته إذا كان ذلك فرضاً؟ فإن قيل: يبعد أنه لم يكن يشعر بما وضع على ظهره وكان لا بد أن يشعر به.
قلنا: وإن أحس به فإنه لم يتحقق عليه الصلاة والسلام من نجاسته.
أما قول عبد الله بن مسعود: (فلما سجد وضعه عقبة بين كتفيه قال: فاستضحكوا) أي: أنهم لم يضحكوا، والألف والسين والتاء إذا دخلت على الفعل دلّت على الطلب، فقولك: (ضحكوا) أي: غلبهم الضحك.
واستضحكوا: طلبوا الضحك تكلفاً؛ ولذلك قال: وجعل بعضهم يميل على بعض، وهذا فعل الفُسّاق والمُجّان والتائهين أنهم لا يريدون أن يضحكوا ولم يغلبهم الضحك، ولكنهم تكلّفوا الضحك حتى مال بعضهم على بعض كما يصنع شباب المجون والفسق.
قال: (وأنا قائم أنظر) تصور أن ابن مسعود رضي الله عنه سادس ستة في الإسلام من الأوائل ومن السابقين، يرى هذا المنظر ثم لا يملك أن يدفع الأذى عن نبي الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر يكاد يقتل ابن مسعود.
قال: وأنا قائم أنظر لو كانت لي منعة طرحته عن رسول الله.
أي: لو كانت لي قوة أو عشيرة تمنعني من هؤلاء المجرمين المشركين عُبّاد الأوثان والأصنام لكنت طرحت ذلك عن كتف النبي عليه الصلاة والسلام؛ ولكن لم يطرحه لأنه يعلم أنه لو طرحه لربما قاموا عليه وعلى صاحبه فقتلوهما، فلم يطرحه خوفاً من إلحاق الأذى وإعلان الحرب على النبي عليه الصلاة والسلام ومن معه.
هذا الذي جعلني أرجّح أن الصلاة التي كان يصليها النبي عليه الصلاة والسلام لم تكن فرضاً؛ لأن الصلاة لم تفرض إلا في أواخر العهد المكي وقُبيل الهجرة مباشرة، أما في أوائل العهد المكي فالمسلمون كانوا قلة خلافاً لأواخر العهد المكي، فلو كان هذا في أواخر العهد المكي لكانت بعض الق(98/5)
استجابة الله دعوة نبيه في ملأ قريش
فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته رفع صوته بالدعاء يدعو على هؤلاء، وكان إذا دعا كرر دعاءه ثلاثاً إلحاحاً بالطلب، وكان يقول: (اللهم عليك بقريش) أي: أهلكهم كما أهلكت الذين من قبلهم، فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك.
وهذا يدل دلالة قوية على أنهم كانوا يعتقدون أنه نبي، وأنه مُجاب الدعوة، وإلا لكان ازدادت سخريتهم وازداد ضحكهم، والنبي صلى الله عليه وسلم مجاب الدعوة، فذهب عنهم من فرط روعهم وشدة خوفهم من قبول دعوته، ثم قال: (اللهم عليك بـ أبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عقبة -والصواب كما قلنا: ابن عتبة - وعقبة بن أبي معيط).
فقال: (فوالذي بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق لقد رأيت الذين سمى صرعى يوم بدر، ثم سُحبوا إلى القليب قليب بدر).
في هذا القول بيان لإحدى معجزاته عليه الصلاة والسلام، أي أنه دعا على هؤلاء بالاسم، ولكنهم ماتوا في العام الثاني من الهجرة، وكان الدعاء بمكة شيئاً من الاغترار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يلزم من قبول دعوته أن تجاب على التو والفور، بل ربما يدعو في أول نبوته وتكون الإجابة في آخر نبوته.
وكثير من الإخوة يقولون: نحن دعونا للمجاهدين كثيراً ولكننا لا نجد أثراً، وندعو في كل وقت، ومللنا أن يقول لنا الدعاة: إن واجبكم الدعاء.
يستهينون بهذا، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (دعاء المسلم بين ثلاث: فإما أن يجاب -أي: يجاب لك فوراً- وإما أن يُدفع عنك من البلاء مثله، وإما أن يُدخّر لك يوم القيامة) فما يدريك أنه لم يُقبل دعاؤك؟ فهو قُبل ولكنه قُبل في أحد هذه الثلاث، ولا يلزم أن ترى أثر الدعوة فوراً، بل ربما يكون الله تعالى قد قدّر لك بلاء، وقدّر لك الدعاء، فكان سبباً في رفع البلاء وأنت لا تدري! وربما يكون الله تعالى قدّر لك حادثاً خارج هذا المسجد وأنت قادم إليه، وبحسن دعائك وشدة حرارته وإلحاحك على الله رفع عنك هذا الحادث وأنت لا تدري، أو يدّخر لك ذلك إلى يوم القيامة فيجازيك ويكافئك به؛ ولذلك أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من يقول: لقد دعوت فلم يستجب لي حتى يدع الدعاء، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يستجاب لأحدكم مالم يعجل الإجابة فيقول: قد دعوت ربي فلم يستجب لي، فيدع الدعاء) هذا بلا شك مخالف لأحكام وآداب الدعاء.
فالنبي عليه الصلاة والسلام مُجاب الدعوة وهذه إحدى معجزاته عليه الصلاة والسلام.
قال: (وإنما وضعوا في القليب تحقيراً لهم؛ ولئلا يتأذى الناس برائحتهم، وليس هو دفناً).
فالحربي إذا قُتل لا يُدفن؛ لأن الدفن من أعظم مظاهر التكريم، فالكافر الحربي لا يُكرَّم، وإنما يلقى على المزابل كما تلقى الجيف والأنتان، لا يكفّن ولا يُدفن ولا يُحترم لا حياً ولا ميتاً، ولكنه يُدفن في حالة واحدة إذا كان يمكن أن يتأذى به الأحياء، يُدفن ليس لذاته وإنما لغيره، وليس هذا من باب الإكرام له، بل من باب الإكرام للأحياء.
قال الشافعية: (بل يُترك في الصحراء -أي: الحربي الميت- إلا أن يتأذى به الأحياء.
قال القاضي عياض: اعترض بعضهم على هذا الحديث في قوله: (رأيتهم صرعى ببدر).
ومعلوم أن أهل السير قالوا: إن عمارة بن الوليد وهو أحد السبعة كان عند النجاشي).
وهو السابع الذي نسيه الراوي، فأنتم تعلمون قصة عمارة بن الوليد حينما ذهب مع عمرو بن العاص إلى النجاشي ليؤلّبا النجاشي على من هاجر الهجرة الأولى إلى الحبشة، وكان رجلاً جميلاً ذا وجاهة، فلما خدع عمرو بن العاص خدعه عمرو بن العاص عند النجاشي.(98/6)
شرح حديث عائشة في أشد يوم أتى على النبي صلى الله عليه وسلم وما لقي فيه من الأذى
[وحدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن سرح وحرملة بن يحيى وعمرو بن سواد العامري قالوا: حدثنا ابن وهب -كل هؤلاء الرواة مصريون، وهذا شرف عظيم جداً- قال: أخبرني يونس -وهو ابن يزيد الأيلي - عن ابن شهاب حدثني عروة بن الزبير: أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حدثته: أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟)] فقد كان يوم أحد يوماً شديداً وعصيباً جداً، فهي تسأله وتقول له: هل كان هناك يوم في حياتك أشد من يوم أحد؟ قال: [(لقد لقيت من قومكِ وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب -اسم مكان بجوار مكة- فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني فقال: إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم قال: فناداني ملك الجبال وسلّم عليّ ثم قال: يا محمد! إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟)] أي: إن شئت فعلت.
والأخشبان: هما جبلان في مكة: أبو قبيس والجبل المقابل له.
[فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً)].
هذا مظهر عظيم جداً من مظاهر رحمته عليه الصلاة والسلام ورأفته بقومه: (بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً).
فأهل مكة فعلوا بالنبي صلى الله عليه وسلم مثلما فُعل به بالطائف، وأهل الطائف أهل خير وإيمان وصلاح وبر وعبادة، وهم أهل مدح عند من يعرفهم.
فلو كان النبي عليه الصلاة والسلام استجاب لدعوة ملك الجبال حينذاك في أن يجعل الطائف رأساً على عقِب؟ وأهل مكة الآن لو كانوا على كفرهم وشركهم وأن النبي صلى الله عليه وسلم استجاب لملك الجبال هل كان يأمن أحدنا أن يعتمر أو يحج؟ أبداً ما كان يأمن أحدنا أن يعتمر أو يحج.
فهذه نظرة لآلاف السنين نظرها النبي عليه الصلاة والسلام، فلم يكن ينظر تحت قدمه وإنما كان همّه تحقيق العبودية الكاملة التامة لله عز وجل؛ انتظاراً لقومه وعشيرته ولأهل الكفر والإلحاد في شرق الأرض وغربها، وصبره عليهم حتى يدخلوا في الإيمان.
فلو كنا نحن مكان النبي عليه الصلاة والسلام لكنا اخترنا لأول وهلة إهلاك هؤلاء جميعاً، وهذا الفارق بيننا وبين النبي عليه الصلاة والسلام، أن نظرته أعمق من نظرة أمته كلها، وأن صبره وحلمه وعفوه وصفحه قد بلغ فيه مبلغ الكمال والتمام البشري، بل هو الذي حقق الكمال في كل مكارم الأخلاق، وربما حقق الواحد من الأمة مكارم الأخلاق في خصلة من خصال الأخلاق، أو في ثنتين أو في ثلاث، لكن لم يُكمل أحد من الأمة الكمال والتمام في مكارم الأخلاق كلها إلا نبينا عليه الصلاة والسلام.
قال: (بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً).(98/7)
شرح حديث إصابة النبي صلى الله عليه وسلم في إصبعه في غزوة من الغزوات
[حدثنا يحيى بن يحيى وقتيبة بن سعيد كلاهما عن أبي عوانة -وأبو عوانة هو الوضاح بن عبد الله اليشكري - قال يحيى: أخبرنا أبو عوانة].
وأبو عوانة هذا كان عبداً عند يزيد بن الأسود، فأتى سائل فسأل يزيد بن الأسود أن يعطيه نوالاً فمنعه يزيد.
فقال: أتمنعني؟ والله لأكيدن لك، ثم انطلق فانطلق خلفه أبو عوانة فأعطاه نوالاً حتى يبعد عن سيده، وهذا من منتهى الإخلاص في الولاية، فقال: من أنت؟ قال: أنا أبو عوانة مولى يزيد.
قال: والله لأنصرنك ولأنفعنّك، وفي موسم الحج حج هذا السائل، وحين نزول الناس من عرفة إلى مزدلفة وقف هذا السائل يقول كلما مر فوج: أيها الناس! اذهبوا فهنئوا يزيد بن الأسود، فإنه قد أعتق أبا عوانة، فلما تكاثر الناس على يزيد قال: يا أبا عوانة! ماذا أصنع؟ اذهب فأنت حر لوجه الله.
أرأيتم المكيدة؟! [أخبرنا أبو عوانة عن الأسود بن قيس عن جندب بن سفيان قال: (دميت إصبع رسول الله صلى الله عليه وسلم)] أي: أُصيبت بجُرح -بضم الجيم- وأما بفتحها فهو مقابل التعديل.
فحينما أقول: فلان ضعيف.
فهذا هو الجَرح بفتح الجيم، ولكن حينما أقول: فلان أُصيب في أصبعه.
بمعنى: جُرح.
فالجَرح شيء معنوي، والجُرح شيء محسوس.
قال: [(جُرح النبي عليه الصلاة والسلام في أصبعه في بعض تلك المشاهد فقال: هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت)].
وكأنه يريد أن يقول لها: هين جداً أن الواحد يُجرح في سبيل الله.
(هل أنت إلا إصبع دميتِ): أي: جُرحت وسال منكِ الدم، لكن هذا في سبيل الله وهو هيّن.
قال: (وفي سبيل الله ما لقيتِ) وفي رواية: (هل أنتِ إصبع دميتْ وفي سبيل الله ما لقيتْ) فهذا كأنه شعر، لكن العلماء مختلفون في الرجز: هل هو شعر أو لا؟ فقوله: (هل أنتِ إلا إصبع دميتِ وفي سبيل الله ما لقيتِ).
رجز باتفاق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة).
فإذا كنا قد اتفقنا أن هذا رجز، فهل الرجز من الشعر أم لا؟ بعض أهل العلم قالوا: الرجز شعر.
وجمهور العلماء يقولون: الرجز ليس شعراً، ولا يلزم فيه قواعد الشعر.
فإذا قلنا: إن الرجز ليس شعراً فيلزمنا أن نقول: النبي صلى الله عليه وسلم ليس شاعراً، ولا يمكن أن يكون شاعراً بالرجز؛ لأنه ليس شعراً، وأسوأ الفروض أن الرجز شعر، فينبغي أن ندافع عن النبي عليه الصلاة والسلام الذي أثبت ربه بأنه ليس شاعراً فكيف قال الشعر؟ أنتم تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أحياناً ينطق بالبيت من الشعر فيصححه له أبو بكر، وهذا يدل على أنه ليس يحسن الشعر عليه الصلاة والسلام.
وبالتالي نقول: إن الشعر المذموم هو الشعر المتكلّف المقصود.
أي: الذي قصده صاحبه وشاعره الذي توفرت فيه أركانه وقواعده، وليس بيت من أبياته عليه الصلاة والسلام قط توفرت فيه هذه الشروط، وإذا توفّرت فينتفي منها قصد الشعر، فلا يكون شاعراً قط عليه الصلاة والسلام وما قرظ الشعر، ولو كان من صناعته ذلك لكان بإمكانه أن يقرظ ملايين الأبيات، فلما لم يكن منه ذلك دل على أنه لا يحسن هذا الباب، فليس شاعراً عليه الصلاة والسلام.
[وحدثناه أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم -وهو المعروف بـ إسحاق بن راهويه - جميعاً عن - ابن عيينة وهو سفيان - عن الأسود بن قيس بهذا الإسناد وقال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار فنُكبت إصبعه)].
نُكبت أي: جُرحت، لكنه كان في غار هل دخل عليه أحد الغار؟ والرواية السابقة تقول: كان في بعض مشاهده، أو كان في بعض تلك المشاهد فجرحت إصبعه فقال: (هل أنتِ إلا إصبع دميتِ وفي سبيل الله ما لقيتِ) فكيف نوفّق بين الروايتين، وأنه كان في بعض المشاهد؟ الجمع: أن الغار يُطلق على الجيش، والجمع من المقاتلين، فقوله: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار.
أي: كان في جيش وجمع من أصحابه المجاهدين في بعض المشاهد، فجُرحت إصبعه عليه الصلاة والسلام.(98/8)
شرح حديث سبب نزول سورة الضحى
[حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا سفيان عن الأسود بن قيس أنه سمع جندباً يقول: (أبطأ جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: تأخر بنزول الوحي- فقال المشركون: قد وُدِّع -أي: قد استغنى عنه صاحبه جبريل، قلاه وابتعد عنه وتخلى عنه- فأنزل الله عز وجل {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:1 - 3]).
((مَا وَدَّعَكَ)) رد على زعم المشركين أن جبريل ودّع محمداً وتخلى عنه، حيث قالوا: هذا الذي يزعم أن جبريل ينزل عليه فلِم لم ينزل عليه منذ فترة من الزمان؟ وقال المشركون: إن رب محمد قد أبغض محمداً وقلاه وأبعده.
فأقسم الله تعالى بعد أن أقسم على ذلك بآيتين من آياته سبحانه وتعالى بالضحى -النهار- وبالليل، أقسم بآيتين عظيمتين من مخلوقاته، والله تعالى أمرنا عند القسم أن نُقسم به وبأسمائه وصفاته وما دون ذلك شرك، ولكن الله تعالى إذا أراد أن يُقسم أقسم بالعظيم من مخلوقاته، فقال: {وَالْعَصْرِ} [العصر:1]، وقال: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة:1 - 2]، وقال: {وَالضُّحَى [الضحى:1]، وقال: {وَالشَّمْسِ} [الشمس:1]، {وَنَفْسٍ} [الشمس:7] وغير ذلك من مخلوقات الله تعالى.
فإذا أراد أن يؤكد شيئاً أو يبيّن أهمية شيء يُقسم بالعظيم من مخلوقاته، فأقسم الله تعالى هنا رداً على المشركين بـ: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} [الضحى:1 - 3] يا محمد! كما يفتري هؤلاء المشركون {وَمَا قَلَى} [الضحى:3] ولم يقل: وما قلاك.
والسياق يقول: ما ودعك وما قلاك، ولكن الله تعالى قال: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3] لينفي أدنى البغض وأدنى البُعد، فلا يكون هناك شيء قط من البُغض.
واللغة دائماً إذا كان فيها زيادة مبنى تدل على زيادة المعنى.
فقد تقول: ما جاءنا من بشير، فما الفارق بينها وبين قولك: ما جاءنا بشير؟
الجواب
اللغويون يقولون: من حرف جر زائد، إذا كان هذا من جهة الإعراب فمسلّم، وإذا كان من جهة المعنى فغير مسلّم؛ لأنه ما جاءنا من بشير أي ما جاءنا من بشير قط، وهذا نفي لجنس البشير، فقوله: (وما جاءنا بشير) لا تنفي أن يكون قد جاءهم بشيران وثلاثة وأربعة، كما تقول بالضبط ما جاءنا من ضيف.
وتقول: ما جاءنا ضيف، بل قد جاءنا اثنان وثلاثة وأربعة وضيوف، لكن (ما جاءنا من ضيف) نفي لجنس الضيافة.
فهناك فرق بين هذه الكلمات بعضها مع بعض.
قال: [حدثنا إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن رافع -واللفظ له- قال إسحاق: أخبرنا، وقال ابن رافع: حدثنا يحيى بن آدم حدثنا زهير عن الأسود بن قيس قال: سمعت جندب بن سفيان يقول: (اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلتين أو ثلاثاً -أي: مرض النبي عليه الصلاة والسلام فترك قيام الليل ليلتين أو ثلاثاً- فجاءته امرأة فقالت: يا محمد! إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث.
قال: فأنزل الله عز وجل {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:1 - 3]).
قال ابن عباس: ((مَا وَدَّعَكَ)) أي: ما قطعك منذ أرسلك.
وما قلى.
أي: ما أبغضك.
وسمى الوداع وداعاً؛ لأنه فراق.
وقوله: ما ودّعك هو بالتشديد خلافاً لمن قرأ: (ما ودعك) بالتسهيل.
[وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن المثنى وابن بشار قالوا جميعاً: حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة، وحدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرني الملائي حدثنا سفيان كلاهما عن الأسود بن قيس بهذا الإسناد نحو حديثهما].(98/9)
باب في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وصبره على أذى المنافقين
الباب الأربعون: (في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وصبره على أذى المنافقين).
الأول كان صبره على أذى المشركين، وهنا صبره على أذى المنافقين.
والمشركون في مكة، والمنافقون في المدينة، أي: أنه كان في حرب بين أهله وقومه، وفي دار هجرته عليه الصلاة والسلام.
والإخوة يتصورون أن الذي ينزل بالأمة الآن أمر لا يمكن الصبر عليه ولا يمكن أن نطيقه، ولا بد أن نتحرك وننظر ماذا نفعل، فهذه سنة الله تعالى في الخلق.
ألم تعلموا أن الغلام قال للراهب: لقد كان من أمري أني واجهت دابة حبست الناس.
فقلت: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة، فرماها بحجر فقتلها.
فقال الراهب لهذا الغلام: إنك اليوم أفضل مني، وإنك ستُبتلى.
ولا بد أن نقف عند هذا، وهذا يدل على سنة الله تعالى الكونية في أهل الإيمان، فالبلاء دائماً ينزل بهم حتى يطهّرهم الله تعالى تماماً، فهؤلاء أهل الإيمان لهم معاص وذنوب، وإن كانت من نوع آخر غير الأنواع التي يقع فيها الفُسّاق والمُجّان المعلنون بمعاصيهم وذنوبهم، فنحن جميعاً عندنا ذنوب، ولكن الله حيي ستير يحب الحياء والستر.(98/10)
شرح حديث أسامة بن زيد في صبره صلى الله عليه وسلم على أذى ابن سلول
قال: [حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ومحمد بن رافع وعبد بن حميد -واللفظ لـ ابن رافع قال ابن رافع: حدثنا وقال الآخران: أخبرنا- عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة: أن أسامة بن زيد أخبره: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب حماراً)] وهذا يدل على تواضعه عليه الصلاة والسلام، بخلاف ركوب الفرس، فالذي يركب فرساً أو بغلاً ليس كالذي يركب حماراً.
قال: [(ركب حماراً عليه إكاف)] والإكاف: البردعة.
والدثار: هو الملاصق للبدن، سواء كان اللابس آدمياً أو حيواناً، فالذي يلاصق البدن من الثوب اسمه الدثار؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: (أنتم مني معشر الأنصار كالدثار) أي: أنكم ألصق الناس بقلبي وأحب الناس إليّ.
وفي رواية قال: (الناس شعار والأنصار دثار)؛ لأن الشعار بعيدة عن البدن، والملاصق للبدن اسمه الدثار، وما فوق الدثار يسمى إكافاً بالنسبة للحمار، وبالنسبة للآدمي يسمى الشعار، فالإكاف للحمار يساوي الشعار للآدمي.
قال: [(تحته قطيفة فدكية -نسبة إلى قرية تسمى فدك بجوار المدينة- وأردف وراءه أسامة)] أي: أسامة بن زيد وهو مولاه، والنبي عليه الصلاة والسلام قد أردف كثيراً من أصحابه كباراً وصغاراً، أردف معاذاً، وأردف حذيفة، وأردف أسامة بن زيد، وأردف أباه زيداً، وأردف قثم بن العباس، وأردف الفضل، وأردف علياً، وأردف كثيراً من أصحابه عليه الصلاة والسلام.
ولا يقال للرجل: رديفاً.
فالرديف ليس له قيمة ولا معنى، لكن الرديف في لغة الشرع: هو من ركب خلف الصدر.
أي: حينما تجد واحداً يركب خلفي على الحمار فهذا رديفي، ولو أني أخذته أمامي فهذا لا يصبح رديفاً، كصدر المجالس، إذ لا يتصدر المجالس إلا أصحاب الوجاهات والشهرة، أما غيرهم فهم في غبراء الناس وفي وسط الناس، فكذلك الرديف هو الذي يركب في الخلف، والذي يركب الأمام هو الصدر.
قال: [(وأردف وراءه أسامة وهو يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج -أي: أن سعد بن عبادة هذا خزرجي- وذاك قبل وقعة بدر، حتى مر بمجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود فيهم عبد الله بن أُبي، وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمّر عبد الله بن أبي أنفه بردائه، ثم قال: لا تغبروا علينا).
وعجاجة الدابة: التراب الذي يتناثر حين تضرب الدابة بحافرها الأرض، فـ عبد الله بن أُبي حينما دخل عليه النبي عليه الصلاة والسلام وأصابه شيء من غبار الدابة قام بوضع يده على أنفه وقال: لا تغبّروا علينا، ارجع من حيث أتيت.
قال: [(فسلّم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم)].
وفي هذا جواز السلام على مجلس فيه أخلاط، وتكون نية المسلّم إلقاء السلام على المسلم.
أو يقول: السلام على من اتبع الهدى.
قال: [(ثم وقف فنزل فدعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن)].
هذه طريقة الدعوة إلى الله السلام أولاً، ثم دعوتهم إلى الإسلام، وقراءة شيء من الوحي عليهم.
قال: [(فقال عبد الله بن أبي: أيها المرء! لا أحسن من هذا)] كأنه أراد أن يقول: الأحسن من هذا أن ترجع من حيث أتيت، وربما يكون التقدير: لأحسن من هذا، أي: لو قلت كلاماً غير ذلك لكان أحسن، فيكون المعنى: إما أن ترجع وهذا أحسن، وإما أن تحوّل الموضوع وتتكلّم في شيء آخر.
ثم قال: [(إن كان حقاً ما تقول فلا تؤذنا في مجالسنا، وارجع إلى رحلك، فمن جاءك منا فاقصص عليه)] إذا كنت تعتقد أنك صاحب حق، فاقعد مكانك والذي يأتيك من جهتنا ادعه كيفما تريد.
قال: [(فقال عبد الله بن رواحة: اغشنا في مجالسنا فإنا نُحب ذلك.
قال: فاستب المسلمون والمشركون واليهود، حتى هموا أن يتواثبوا، فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفّضهم -أي: يهدئهم ويسكتهم- ثم ركب دابته حتى دخل على سعد بن عبادة فقال: أي سعد! -أي: بمعنى: (يا)، وهو حرف نداء (يا سعد) - ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب؟ يريد عبد الله بن أبي قال: كذا وكذا)] أي أنه قال: الأحسن لك أن ترجع إلى رحلك وتدعو من جاءك من عندنا ولا تغشنا في مجالسنا.
[قال سعد بن عبادة: (اعف عنه يا رسول الله! واصفح، فوالله لقد أعطاك الله الذي أعطاك)] أنت تعلم أن الله أعطاك النبوة وأعطاك الرسالة، وهذا أشرف شيء يمكن أن ي(98/11)
شرح حديث أنس في ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم وبعض الصحابة إلى عبد الله بن أبي
قال: [حدثنا محمد بن عبد الأعلى القيسي حدثنا المعتمر -وهو ابن سليمان بن طرخان التيمي - عن أبيه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: لو أتيت عبد الله بن أُبي؟ قال: فانطلق إليه).
وهذه وقفة تربوية الناس يقولوا للنبي عليه الصلاة والسلام: لو تذهب إلى عبد الله بن أبي! ومن يكون عبد الله بن أبي هذا حتى يذهب النبي صلى الله عليه وسلم إليه؟ فهو يأتي -وهو أقل من ذلك- للنبي عليه الصلاة والسلام.
أليس الوضيع يذهب إلى الشريف؟ فعندما يذهب الوضيع للشريف فإنه يزداد بذلك شرفاً، ويرتفع عنه شيء من وضاعته، لكن لو ذهب الشريف إلى الوضيع فهذا شرف عظيم جداً للوضيع وليس فيه أدنى شرف للشريف، اللهم إلا التواضع.
لكن انظروا إلى هذا القول قال: (فانطلق) ولم يقل: (فذهب إليه)، كأن النبي صلى الله عليه وسلم أحب أن يذهب، فانطلق مسرعاً إليه.
ولو أن هناك أخاً متخاصماً مع أخيه، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (خيرهما الذي يبدأ بالسلام) فقد يقول واحد منهما: اذهب وقل له بأن يكون هو أخير مني ويأتيني إلى هنا! والله يا إخواني! ما هو إلا نوع من أنواع الجاهلية أن تسمع كلام الله وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم ثم تُعرض عنه نصاً ومعنى، فينبغي أن تُسارع في تطبيق كلام الله تعالى وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم على نفسك، وهذا باب عظيم من أبواب تأديب النفس وتهذيبها، إذا سمعت كلام الله وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم قل: سمعاً وطاعة.
فإذا أمرني الله بهذا والرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا به فيجب أن أنسى نفسي وأهضم نفسي تماماً، فمن أنا حتى أقول: لا.
هو الذي يأتيني؟! إذاً: هو سيأتيك فهو خير منك؛ لأنه سمع كلام الله عز وجل وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وما فعل ذلك إلا طلباً للخيرية، فكل منكما أولى؛ ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم بيّن فقال: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فيلتقيان فيُعرض هذا ويُعرض هذا -فهذا الإعراض من الشيطان- وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) هذا من الرحمن تبارك وتعالى، حرب بين الخير والشر، بين الطاعة والمعصية.
أكبر من ذلك: أن اثنين يكونان من أصحاب الوجاهة ولنفرض أنهما من الدعاة، هذا عند العامة من الدعاة والعلماء، وذاك عند العامة من الدعاة والعلماء، ولو قلت لواحد منهما: اذهب إليه وناقشه في مسائل الخلاف، يقول لك: أنا أذهب إليه؟ هذا مستحيل ولا يمكن أن أذهب إليه! قال: [(فانطلق إليه وركب حماراً وانطلق المسلمون)] أي: جمهرة من الصحابة مع النبي عليه الصلاة والسلام يذهبون إلى بيت عبد الله بن أُبي قال: [(وهي أرض سبخة -المدينة- فلما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم قال: إليك عني)] وانظر إلى هذا الجفاء! تصور بعد كل التواضع والحرص يقول له: ابعد عني.
قال: [(إليك عني! فوالله لقد آذاني نتن حمارك)].
وهذا شيء يجعل الشخص يفقد شعوره؛ ولذلك قال رجل من الأنصار: [(والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحاً منك.
قال: فغضب لـ عبد الله رجل من قومه.
قال: فغضب لكل واحد منهما أصحابه.
قال: فكان بينهم ضرب بالجريد وبالأيدي وبالنعال)].
هل هذه عصبية جاهلية أم شرعية؟ في حق الصحابة عصبية شرعية، يقاتلون ويدافعون عن النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا واجب عليهم شرعاً.
قال: [(فبلغنا أنها نزلت فيهم: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9])].(98/12)
باب قتل أبي جهل
الباب الحادي والأربعون: (باب: قتل أبي جهل).
قال: [حدثنا علي بن حجر السعدي أخبرنا إسماعيل بن علية حدثنا سليمان -وهو ابن طرخان التيمي - حدثنا أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ينظر لنا ما صنع أبو جهل؟ فانطلق ابن مسعود)] وهذا كان في غزوة بدر، فـ أبو جهل قُتل في غزوة بدر، فالنبي عليه الصلاة والسلام علم أنه قُتل، وكان يعلم قبل الغزوة أنه سيُقتل وسيُقتل في هذا المكان بالذات، كما مر بنا أنه أشار إلى مواطن القوم فما برحوها.
أي: مواطن قتلهم فما برحوها.
قال: (من ينظر لنا ما صنع أبو جهل؟) عرف أنه قد مات، ولكنه يريد أن يجعل ذلك أمراً عاماً يتحدث به الناس إعلامياً، فيذهب أحد ليراه ثم يقول: يا رسول الله! إنه مات في المكان الفلاني، فيسمع جميع الناس أن أبا جهل قد خلّص الله المسلمين من شره.
قال: [(فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضربه ابنا عفراء - معاذ ومعوذ - حتى برك) أي: سقط.
وفي رواية: (حتى برد).
وبرد بمعنى: مات.
وفي الحقيقة أن معاذاً ومعوذاً قد ضرباه أولاً حتى أثخناه في دمائه، ولكن الذي جز رأسه هو ابن مسعود.
قال: [(فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برك.
قال: فأخذ بلحيته فقال: آنت أبو جهل؟ فقال: وهل فوق رجل قتلتموه أو قال: قتله قومه؟).
قال: وقال أبو مجلز: (قال أبو جهل: فلو غير أكّار قتلني)].
الأكّار: الفلاح والمزارع؛ لأن الذي قتله أنصارياً وليس مكياً، فلما علم أبو جهل أن اللذين قتلاه طفلان صغيران قال: لو أن الذي قتلني من علية القوم لكان هذا أشرف لي؛ لأنه أنصاري وأنتم تعلمون أن عمل الأنصار الزراعة، وعمل أهل مكة التجارة، فهو كان يتمنى لو أن تاجراً كبيراً مشهوراً هو الذي يقتله وليس فلاحاً من الأنصار.
فقال: [(فلو غير أكّار قتلني؟)] وهكذا ختم الله له بالوضاعة.
أي: أنه عاش وضيعاً ومات وضيعاً.(98/13)
باب قتل كعب بن الأشرف طاغوت اليهود
الباب الثاني والأربعون: (باب: قتل كعب بن الأشرف طاغوت اليهود).
كان يهودياً ولم يُسلم، وكان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد أمان وميثاق.
والعهد هو: ألا يُعين كعب أحداً على النبي عليه الصلاة والسلام، ولا يقاتل النبي صلى الله عليه وسلم مع أحد ممن أراده.
فهذا هو العهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين كعب بن الأشرف.(98/14)
بيان أن الغدر صفة ملازمة لليهود عبر الدهور
اليهود في كل زمان ومكان أغدر خلق الله، لا يعرفون أماناً ولا ميثاقاً قط.
وهذا هو تاريخ اليهود منذ موسى عليه السلام إلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة، فهم لا يلتزمون، لكنهم أحسن من يتكلم عن السلام والأمان، واحترام العهود والمواثيق، ومؤتمر جنيف، ومؤتمر بكّين وغيرها من المؤتمرات، لكن لا يمكن عملياً أن يلتزموا بهذا، وتاريخهم الأسود معروف، والأمة تمر به الآن.
يضرب اليهود عرض الحائط بأقوى القرارات لأقوى الدول؛ لأنهم يعلمون حقيقة أنهم أصحاب تأثير قوي في قرارات أمريكا، بل هم الذين يسيّرون العالم الآن، وربما يسأل السائل نفسه: كيف يتحكم اليهود وهم قلة في أمريكا التي هي أعظم دولة في العالم؟ الحقيقة أن من ملك قوته ملك قراره، فاليهود أكبر قوة اقتصادية في العالم كله، وهم الذين يتحكمون في اقتصاد أمريكا، وبالتالي لا بد أنهم يتحكمون في قرارات أمريكا.
اليهود نسبة وجودهم في أمريكا (6 %) من عدد السكان، وعدد السكان (250) مليون نسمة، عدد كراسي اليهود في المجالس النيابية كلها في أمريكا (20 - 22 %)، فعندما يكون عددهم (6 %) معناه: أن عدد النصارى في أمريكا لا يقل عن (90 %) أو قل: (80 %) وبقية الديانات تمثّل الفارق بين هذا وذاك، فالطبيعي أن يكون للنصارى مقاعد في المجالس النيابية يمثّل (80 %)، لكن عدد الكراسي (24) كرسياً في مجلس الأمن، فعندما يكون لليهود 20% من (24) كرسياً، فسيكون مقاعد اليهود حينئذ كثيرة، وهذا يدل على تحكمهم في القرارات وفي السياسة كلها.
شارون كلب اليهود إذا ذهب إلى كلب أمريكا يحل في نيويورك حتى يأتي كلب أمريكا من أي مكان ومن أي ولاية إلى المكان الذي ينزل فيه رئيس وزراء إسرائيل دائماً، فرئيس وزراء إسرائيل له مكان معلوم في نيويورك ينزل إليه، فيأتيه رئيس أمريكا أياً كان هذا الرئيس.
وقد حدث في عدة زيارات أن شارون لم يأذن لـ بوش بالدخول عليه، ورجع بوش يجر أذيال الخيبة والعار، رجل يأتي من فلسطين إلى أمريكا، فيدخل عليه رئيس أعظم دولة في العالم فلا يأذن له؟ هذا يدل على أنه يضع نعله فوق هامته وفوق رأسه.
أما ادعاء أمريكا الآن أنها دولة سلام فقد بان للعالم كله أن هذه كذبة، وأهل العلم كانوا يعلمون منذ أن تعلّموا العلم أن اليهود كذبة، وخونة وأصحاب غدر، كما شهد بذلك حبرهم في زمن النبوة عبد الله بن سلام قال: يا رسول الله! إن اليهود قوم بُهت.
هذه شهادة حبر من أحبارهم، وهذه الشهادة تساوي ملايين؛ لأنها شهادة خبير بهم، بل كان منهم، ولكن الله تعالى نجّاه بحسن إسلامه، فشارون اليهود في زمن النبوة كعب بن الأشرف.(98/15)
شرح حديث جابر بن عبد الله في قتل محمد بن مسلمة لكعب بن الأشرف
قال: [حدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الزهري كلاهما عن ابن عيينة قال: حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال: سمعت جابراً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لـ كعب بن الأشرف؟ -أي: من منكم مستعد لقتل كعب بن الأشرف - فإنه قد آذى الله ورسوله -العلة أنه آذى الله ورسوله- فقال محمد بن مسلمة: يا رسول الله! أتحب أن أقتله؟ قال: نعم.
أُحب أن أقتله، قال: ائذن لي فلأقل)] أي: اسمح لي يا رسول الله! فهذا لزوم العمل، اسمح لي بأن أتكلّم فيك، وفي الشريعة التي أنت أتيت بها، وسأتكلم في نفسي أيضاً، أي: أقول كلاماً ظاهره عليك؛ لأنه لا يمكن إتمام الحيلة إلا بهذا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: [(قل.
فأتاه محمد بن مسلمة فقال له وذكر ما بينهما وقال: إن هذا الرجل قد أراد صدقة)] أي: أن محمداً أتى ليأخذ أموالنا.
قال: [(وقد عنّانا)] أي: أتعبنا وأرهقنا.
قال: [(إنه رجل أراد صدقة، وقد عنّانا، فلما سمعه -أي: كعب بن الأشرف - قال: وأيضاً والله لتملنه، قال: إنا قد اتبعناه الآن)] فـ محمد بن مسلمة لم يكن يرضى أبداً لنفسه بما رضيته الأمة لنفسها الآن، فالأمة في هذا الوقت ثلة من الأطفال، أما هو فيقول: نحن اتبعناه وأظهرنا اتباعه، وسرنا معه بعض السير قال: [(إنا قد اتبعناه الآن، ونكره أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير أمره.
قال: وقد أردت أن تسلفني سلفاً.
قال: فما ترهنني؟ قال: ما تريد.
قال: ترهنني نساءكم.
قال: أنت أجمل العرب! أنرهنك نساءنا؟ قال له: ترهنوني أولادكم.
قال: يسب ابن أحدنا فيقال: رهن في وسقين من تمر.
ولكن نرهنك اللأمة -يعني السلاح- قال: فنعم.
وواعده أن يأتيه بـ الحارث، وأبي عبس بن جبر، وعباد بن بشر.
قال: فجاءوا فدعوه ليلاً فنزل إليهم.
قال سفيان: قال غير عمرو: قالت له امرأته: إني لأسمع صوتاً كأنه صوت دم.
قال: إنما هذا محمد بن مسلمة ورضيعه وأبو نائله! إن الكريم إذا دعي إلى طعنة ليلاً لأجاب.
قال محمد: إني إذا جاء فسوف أمد يدي إلى رأسه فإذا استمكنت منه فدونكم.
قال: فلما نزل نزل وهو متوشح.
فقالوا: نجد منك ريح الطيب.
قال: نعم.
تحتي فلانة هي أعطر نساء العرب.
قال: فتأذن لي أن أشم منه.
قال: نعم.
فشم.
فتناول فشم.
ثم قال: أتأذن لي أن أعود.
قال: فاستمكن من رأسه ثم قال: دونكم.
قال: فقتلوه].(98/16)
شرح صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - غزوة ذي قرد - قصة سلمة بن الأكوع
كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم عامرة بالجهاد، حافلة بالغزوات، فقد شرع الله عز وجل لهذه الأمة الجهاد لتبليغ الدعوة والدفاع عن حرمة الأمة وحياض الدين، ومن الغزوات التي خلدتها كتب السير غزوة ذي قرد، والتي كان أحد أبطالها العظام ورجالاتها المسمين سلمة بن الأكوع، الذي ضرب أروع مثال في الاستبسال والفداء، دفاعاً عن دين الله سبحانه وتعالى.(99/1)
باب غزوة ذي قرد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
الباب الخامس والأربعون من كتاب الجهاد: (باب: غزوة ذي قرد وغيرها).
وذي قرد: اسم لموضع يبتعد عن المدينة مسافة يوم.
أي: للسائر على قدميه أو الراكب على دابة بطيئة السير.
فقوله: (باب: غزوة ذي قرد) أي: باب ذكر ما حدث في تلك الغزوة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا حاتم -وهو ابن إسماعيل - عن يزيد بن أبي عبيد قال: سمعت سلمة بن الأكوع رضي الله عنه يقول: (خرجت قبل أن يؤذن بالأولى)] أي: قبل أن يؤذن لصلاة الظهر؛ لأنها أول صلاة صلاها النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [(وكانت لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم)] اللقاح: جمع لقحة، وهي: حديثة العهد بالولادة، أي: ذات اللبن.
قال: [(وكانت لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم ترعى بذي قرد، فلقيني غلام لـ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فقال: أُخذت لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت من أخذها؟ قال: غطفان)] وغطفان هي موضع لقرار اليهود وسكنهم.
قال: [(فصرخت ثلاث صرخات: يا صباحاه!)] أي: أنه كان ينادي ثلاث مرات ويقول: يا صباحاه! قال: [(فأسمعت ما بين لابتي المدينة)] أي: ما بين جبلي المدينة، والمدينة معلوم أنها بين جبلين، فصرخ سلمة وكان قوياً جداً ثلاث مرات ينادي على كل من أصبح من المسلمين في المدينة أن يجتمع: يا صباحاه! أي: اجتمعوا يا من أصبح عليكم الصباح! قال: [(ثم اندفعت على وجهي حتى أدركتهم بذي قرد)] أي: انطلق مسرعاً باتجاه الموضع الذي أُخذت فيه لقاح النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: [(وقد أخذوا يسقون من الماء، فجعلت أرميهم بنبلي)] أي: غطفان حينما أصبح عندهم سلمة بن الأكوع وجدهم يسقون في أول النهار.
قال: [(فجعلت أرميهم بنبلي وكنت رامياً)].
نعم.
سلمة بن الأكوع معدود في الرماة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: [(وأقول: أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضّع)].
يقول العلماء: فيه جواز قول مثل هذا الكلام في القتال، وتعريف الإنسان بنفسه إذا كان شجاعاً ليرعب خصمه.
أي: إذا كان هذا الإنسان معروفاً بالشجاعة والقوة والإقدام وعدم الإحجام، فلا بأس أن يذكر اسمه لبث الرعب في قلوب الأعداء؛ ولذلك قال لهم: أنا ابن الأكوع، لكن ما قصة واليوم يوم الرضّع؟ قالوا: معناه: اليوم يوم هلاك اللئام.
أي: اليوم أرسلني الله تعالى إليكم لأهلككم فأنتم رضع أي: لئام، من قولهم: لئيم راضع.
أي: رضع اللؤم وهو في بطن أمه.
وقيل: لأنه يمص حلمة الشاة والناقة لئلا يسمع الضيفان صوت الحلاب فيقصدونه، وكان البخيل الشحيح من العرب إذا أراد أن يحلب الناقة وضع ثديها في فمه ورضعها، حتى لا يسمع السائل أو الضيف صوت الحلاب فيضطر آسفاً أن يقدم له شيئاً من اللبن.
فيقال: هذا أشد اللؤم وأخبثه.
فقال: أنتم يا غطفان! مشهور عندكم هذا، أنكم إذا أردتم حلب الشياه أو النوق مصصتم اللبن من الثدي مصاً حتى لا تقدموا شيئاً للضيفان أو للسائلين.
وقيل: لأنه يرضع طرف الخلال الذي يخلل به أسنانه.
أي: إذا حلب وضعه في فمه يرضعه رضاعاً، ويمص ما يتعلق به من فضلات الطعام، وفيه أيضاً إشارة إلى الشح والبخل.
وقيل معناه: اليوم يُعرف من رضع كريمة فأنجبته، أو لئيمة فهجنته.
وقيل معناه: اليوم يُعرف من أرضعته الحرب من صغره، وتدرب بها وعُرف بها.
كأنه يتحداهم بشجاعتهم ويقول: أنا ابن الأكوع وبيني وبينكم هذا اليوم إما أنا وإما أنتم.
فقال: أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضّع قوله: [(فأرتجز -أي: من الرجز شيئاً أكثر من ذلك- حتى استنقذت اللقاح منهم)]، حتى أخذ اللقاح من غطفان.
قال: [(واستلبت منهم ثلاثين بردة -والبردة: هي العباءة- وجاء النبي صلى الله عليه وسلم والناس فقلت: يا نبي الله! إني قد حميت القوم الماء -أي: إني قد منعت القوم أن يشربوا من الماء- وهم عطاش فابعث إليهم الساعة)] أي: إذا شئت أن تبعث إليهم فابعث، فقال: (يا ابن الأكوع! ملكت فأسجح)] أي: تمكنت منهم فاعف.
انظروا إلى رحمة النبي عليه الصلاة والسلام حتى لهؤلاء اليهود.
يقول: [(يا ابن الأكوع! ملكت فأسجح)].
ورجل ساجح وامرأة سجحاء أي: معروف بالحلم والصفح والعفو عند المقدرة.
قال: [(ثم رجعنا ويردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته حتى دخلنا المدينة)].
أي: أركبني خلفه على الداب(99/2)
معجزة سقي من كان مع رسول الله من بئر في الحديبية
قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا هاشم بن القاسم، وحدثنا إسحاق بن إبراهيم -وهو المعروف بـ ابن راهويه الإمام الكبير- أخبرنا أبو عامر العقدي كلاهما عن عكرمة بن عمار، وحدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي وهذا حديثه -أي: وهذا السياق سياق الدارمي - أخبرنا أبو علي الحنفي عبيد الله بن عبد المجيد حدثنا عكرمة -أي: ابن عمار - حدثني إياس بن سلمة حدثني أبي سلمة بن الأكوع قال: (قدمنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم)] يحكي القصة باستفاضة، والذي يحكيها باستفاضة هو الإمام عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي.
[يقول سلمة بن الأكوع (قدمنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم)] أي: قدموا من المدينة حتى وصلوا إلى الحديبية وهو موضع قبيل مكة، والمعروف مكانه بصلح الحديبية.
قال: [(ونحن أربع عشرة مائة)] أي: ألف وأربعمائة رجل.
وقيل: ألف وثلاثمائة وقيل: ألف وخمسمائة، والراجح وهو مذهب جمهور العلماء والرواة: أنه ألف وأربعمائة شخص.
قال: [(وعليها خمسون شاة لا ترويها)] أي: مع هذا الوفد العظيم جداً خمسون شاة فقط، ولاشك أن هذه الشياه لا تكفي هذا العدد ولا ترويهم.
قال: (فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبا الركية) والركية هو: البئر.
وجبا أي: حافة.
فقعد النبي صلى الله عليه وسلم على حافة البئر، وربما كان المقصود: أن ماء الحديبية لا تروي تلك الشياه، فهذا الماء إما أن يكون قليلاً لا يكفي لري هذه الشياه، وإما أن تكون هذه الشياه المقصود: أنها إذا حُلبت لا تروي هذا العدد الكثير.
قال: [(فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبا الركية، فإما دعا وإما بسق فيها)] أي: في بئر الحديبية قعد على حافتها، إما دعا وبرّك في الماء، وإما بسق وبصق وبزق بمعنى واحد، الثلاثة بمعنى التفل.
فقال: [(فجاشت فسقينا واستقينا)] أي: فاض البئر بالماء وامتلأ.
وهذا فيه إثبات معجزة محسوسة للنبي عليه الصلاة والسلام، أنه ببصاقه اجتمع هذا الماء الكثير في هذا المكان حتى شرب الجميع وسقوا الشياه.(99/3)
بيعة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أصل الشجرة وبيعة سلمة خاصة
قال: [(ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعانا للبيعة في أصل الشجرة)] أي: عند جذع الشجرة، جلس عندها وطلبنا لنبايعه.
قال: [(فبايعته أول الناس -كنت أول من بايع- ثم بايع وبايع)] أي: ثم بايع فلان وفلان وفلان، وهكذا.
قال: [(حتى إذا كان في وسط من الناس قال: بايع يا سلمة! قال: قلت: يا رسول الله قد بايعتك في أول الناس قال: وأيضاً)] أي: وبايع أيضاً الآن.
قال: (ورآني رسول الله صلى الله عليه وسلم عزلاً) وهي الرواية الفصيحة.
يقال: فلان عزل وفلان عزب، ويمكن فلان أعزل.
أي: لا سلاح معه، وفلان أعزب أي: لا زوجة له.
لكن الفصحى: فلان عزل، وفلان عزب.
قال: [(ورآني رسول الله صلى الله عليه وسلم عزلاً -يعني: ليس معه سلاح- فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم حجفة أو درقة -هما شبيهتان بالترس- ثم بايع حتى إذا كان في آخر الناس قال: ألا تبايعني يا سلمة -وهذه المرة الثالثة- قلت: يا رسول الله! قد بايعتك في أول الناس وفي أوسط الناس قال: وأيضاً -يعني: تبايعني الثالثة- فبايعته الثالثة.
ثم قال لي: يا سلمة! أين حجفتك أو درقتك التي أعطيتك؟ -يعني: أين الترس الذي أعطيتك إياه؟ - قال: قلت: يا رسول الله! لقيني عمي عامر عزلاً)] أي: عامر بن الأكوع وهو أخوه، بعض الروايات أثبتت أنه أخوه، وبعض الروايات أثبتت أنه عمه، فـ الحافظ يجمع بين الروايتين بأنه عمه وأخوه في الرضاعة.
قال: [(لقيني عمي عامر عزلاً فأعطيته إياها)] مع أن هذا ترس النبي عليه الصلاة والسلام ولا يمكن لأحد أن يفرّط فيه، ومع هذا أعطاه سلمة لعمه عامر.
قال: [(فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إنك كالذي قال الأول -أي: أنت كالذي قال في أول الزمان- اللهم أبغني حبيباً هو أحب إلي من نفسي)].
ولكني أرى هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحك، والضحك إقرار، فكأنه أقره على إهداء الهدية، وهذا يصحح قول العامة: إن الهدية لا تهدى ولا تباع، فالهدية تهدى وتُباع، وبمجرد أن استقرت في ذمة المهدى إليه صارت ملكاً له، وللمالك أن يتصرف فيما يملك بأي وجه من أوجه التصرف الحلال، ومنها البيع والهدية.(99/4)
صلح الحديبية وما أعقبه من خفر المشركين لذمتهم
قال: [(ثم إن المشركين راسلونا الصلح)] أي: أرسلوا إلينا طلباً في الصلح.
قال: [(حتى مشى بعضنا في بعض)] يعني: اصطلحنا بالفعل واختلط بعضنا ببعض فقد اتفقوا معنا على العهد والميثاق والصلح المشروط، أن يأمن كل منا صاحبه وألا يغدر أحد منا بصاحبه وغير ذلك.
وتاريخ الإسلام لم يثبت قط أن أحداً من المسلمين أو من خلفاء الإسلام غدر في عهده وميثاقه بأهل الكتاب ولا بالمشركين، وإنما الغدر كان دائماً في اليهود، فهم قوم غُدر.
قال: [(ثم إن المشركين راسلونا الصلح حتى مشى بعضنا في بعض واصطلحنا، وكنت تبيعاً لـ طلحة بن عبيد الله -تبيعاً أي: خادماً- أسقي فرسه وأحسه وأخدمه، وآكل من طعامه)] (أحسّه) أي: أمسح ظهر الفرس بالمحسة، والتي يسميها الفلاحون الآن المجسّة، وهي: شيء مثل الحديد يمسح بها ظهر الفرس.
قال: [(وتركت أهلي ومالي مهاجراً إلى الله ورسوله)] أعظم الأعمال الهجرة إلى الله تعالى ورسوله.
قال: [(فلما اصطلحنا نحن وأهل مكة واختلط بعضنا ببعض -أي: في صلح الحديبية- أتيت شجرة فكسحت شوكها)] أي: مسحت ما تحتها من شوك ثم نمت تحتها.
قال: [(فاضطجعت في أصلها.
قال: فأتاني أربعة من المشركين من أهل مكة فجعلوا يقعون في رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: يتناولونه بالسب أو الشتم أو التنقّص وهم مشركون- فأبغضتهم فتحولت إلى شجرة أخرى)]، وقد يكون هذا السب والشتم في أصل عقد الصلح ناقضاً للصلح، وربما لا يكون كذلك، وربما سب المسلمون المشركين وشتموهم، وليس هذا بغدر ولا نقض للعهد والميثاق.
قال: [(فجعلوا يقعون في رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبغضتهم، فتحولت إلى شجرة أخرى، وعلّقوا سلاحهم واضطجعوا)] هم أيضاً علّقوا أسلحتهم في الشجرة وناموا تحتها.
قال: [(فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من أسفل الوادي: يا للمهاجرين! قُتل ابن زنيم -وهو أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- قال: فاخترطت سيفي -أي: سللته وأخرجته من غمده- ثم شددت على أولئك الأربعة وهم رقود)] (شددت) أي: أتيتهم وفزّعتهم حتى قاموا.
قال: (فأخذت سلاحهم فجعلته ضغثاً في يدي) (ضغثاً) أي: حزمة، أخذ سلاح الأربعة ووضعه في يد واحدة وفي يده الأخرى سلاحه، وكان هذا شيئاً عجيباً، فـ سلمة بن الأكوع بايع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، فلما نزل الكوفة بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام قال أهل الكوفة: يا سلمة! ناولنا يدك التي بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم نقبلها.
قال الراوي: فناولني يده فوضعتها في يدي فإذا بها كخف البعير، وليس بعظيم أن يأخذ سلاح الأربعة ويضعه في يد واحدة، هذا علي بن أبي طالب خلع باب حصن في غزوة خيبر اتخذه اليهود ليتحصنوا به ضد المسلمين، ووضعه في يده اليسرى، واتخذه درعاً في أثناء القتال، أي: يتفادى الأسهم بباب الحصن بيده اليسرى ويضرب بيده اليمنى، أي: أن هؤلاء كأنهم خلقوا ثم ماتوا، ولا يمكن أن يكرر هذا مرة أخرى، لكن -الحمد لله- الأمة فيها خير كثير بإذن الله تعالى.
قال [(فأخذت سلاحهم فجعلته ضغثاً في يدي -أي: حزمة- ثم قلت: والذي كرم وجه محمد عليه الصلاة والسلام لا يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه -أي: ضربت عنقه- قال: ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: وجاء عمي عامر برجل من العبلات -وهم قوم من قريش، كانت أمهم تسمى عبلة بنت عبيد - يقال له: مكرز، يقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس مجفف -أي: فرس مجهّز عليه سرجه- في سبعين من المشركين)] أي: أنه جاء بـ مكرز ومعه كذلك سبعون آخرون.
قال: [(فنظر إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: دعوهم)].
وكلمة (دعوهم) تُغضب الصحابة، خاصة خالد بن الوليد وعمر بن الخطاب، وكذلك سلمة بن الأكوع لا يمكن أن ينسى أن هؤلاء الأربعة شتموا النبي عليه الصلاة والسلام فكيف يدعونهم؟ قال: (دعوهم يكن لهم بدء الفجور وثناه) أي: خلوا سبيلهم وليعلموا أنهم نقضوا العهد أولاً وآخراً، فهم الذين نقضوا العهد مرتين، مرة في أول العهد ومرة في آخر العهد، فسبّوا وشتموا ثم غدروا أكثر من ذلك.
قال: [(دعوهم يكن لهم بدء الفجور وثناه، فعفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح:24].
قال: ثم خرجنا راجعين إلى المدينة)]، وفي رحلة العودة إلى المدينة سيتعامل النبي صلى الله عليه وسلم فيها مرة أخرى مع اليهود.
قال: [(فنزلنا منزلاً -وهم في طريق عودت(99/5)
قصة سلمة بن الأكوع مع عبد الرحمن الفزاري الذي أغار على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم
قال: [(ثم قدمنا المدينة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهره مع رباح غلامه صلى الله عليه وسلم)] أي: بعث بناقته أو ببعيره أو بحماره ودابته التي كان يركبها، بعث بها إلى المدينة مع غلامه رباح.
قال: [(وأنا معه، وخرجت معه بفرس طلحة)]؛ لأنه كان تبيعاً عنده، أي: خادماً عند طلحة بن عبيد الله.
قال: [(أنديه مع الظهر)]، أي: أسقيه الماء ثم أورده على المرعى، ثم أرجعه الماء، ثم أسقيه، ثم أعلفه وغير ذلك، وفي رواية: (أبديه) وهي رواية ضعيفة، ومعناه: جعلته في البادية.
قال: [(أنديه مع الظهر، فلما أصبحنا إذا عبد الرحمن الفزاري قد أغار على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم)] عبد الرحمن الفزاري -وهو من أهل المدينة- قد أغار على رباح وأخذ منه الدابة التي كان يستظهرها النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [(فاستاقه أجمع -فأخذه كله من رباح - وقتل راعيه قال: فقلت: يا رباح! خذ هذا الفرس فأبلغه طلحة بن عبيد الله)] خذ الفرس هذا وأعطه لـ طلحة بن عبيد الله، ودعني مع عبد الرحمن الفزاري هذا لأنظر هل يأخذ هذا الظهر وهذا القطيع أم سأرجع به مرة أخرى، كأن رباح لم يُقتل وإنما الذي قُتل هو الراعي.
قال: [(وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المشركين قد أغاروا على سرحه -أي: على ظهره- قال: ثم قمت على أكمة -أي: على جبل مرتفع صغير- فاستقبلت المدينة فناديت ثلاثاً: يا صباحاه! ثم خرجت في آثار القوم أرميهم بالنبل وأرتجز أقول: أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع فألحق رجلاً منهم فأصك سهماً في رحله حتى خلص نصل السهم إلى كتفه)] أي: أنه كلما أدرك واحداً منهم ناوله بالنبل أو بالسهم حتى يقضي عليه وعلى رحله.
قال: [(قلت: خذها وأنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع قال: فوالله ما زلت أرميهم وأعقر بهم)] وفي رواية: (أردّيهم) من الردى أي: الهلاك، أي فلا زلت أدرك القوم وأعقر خيولهم وأفراسهم.
[(فإذا رجع إليَّ فارس أتيت شجرة فجلست في أصلها، ثم رميته فعقرت به، حتى إذا تضايق الجبل فدخلوا في تضايقه)] أي: أن الجيش كله يجري أمام سلمة بن الأكوع، يركبون البغال والحمير والنوق وغير ذلك، ومعهم كل الأسلحة، وهم مستعدون للحرب وما قدموا إلا للحرب، وسلمة بن الأكوع ليس معه إلا سهمه ويمشي على قدميه، رجل واحد في الأمة هذه إمكانيته.
قال: [(حتى تضايق بهم الجبل والطريق)] كأنه أراد أن يقول: دخلوا في جحر من الجبل، فانظر إلى واحد يؤثر في جيش من المشركين إلى هذا الحد.
قال: [(حتى إذا تضايق الجبل فدخلوا في تضايقه، علوت الجبل -صعد على قمته- فجعلت أرديهم بالحجارة)].
إذاً: الحجارة التي يستخدمها المجاهدون في فلسطين لها أصل، استخدمها أخوهم سلمة بن الأكوع رضي الله عنه.
قال: [(فجعلت أردّيهم بالحجارة)] أي: كلما ألقى حجراً فأصاب واحداً أرداه قتيلاً.
قال: [(فما زلت كذلك أتبعهم، حتى ما خلق الله من بعير من ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خلّفته وراء ظهري)] أي: حتى أصبحت الغنيمة كلها وراء ظهره متمكناً من إرجاع الظهر إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: [(وخلوا بيني وبينه، ثم اتبعتهم أرميهم)].
لم يكتف بأنه أخذ ما سلب من غلام النبي صلى الله عليه وسلم، بل تبعهم بعد ذلك بالضرب والرمي.
قال: [(حتى ألقوا أكثر من ثلاثين بردة وثلاثين رمحاً، يستخفون)] أي: أنهم تركوا الذي معهم من متاع وإبل وسلاح وغير ذلك كي يستطيعوا أن يجروا.
قال: [(ولا يطرحون شيئاً إلا جعلت عليه آراماً -أي: أعلاماً- من الحجارة)] حتى إذا رجع لا يفوته شيء من لم الغنائم.
قال: [(يعرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حتى إذا أتوا متضايقاً من ثنية، فإذا هم قد أتاهم فلان ابن فلان البدري الفزاري)] أي: من بدر -وليس ممن شهد بدراً- الفزاري، وربما يكون المقصود: هو عبد الرحمن الفزاري الذي قتل غلام النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: [(فجلسوا يتضحون -أي: يتغدون في وقت الضحى- وجلست على رأس قرن)] وهو الجبل الصغير، ولك أن تتصور أنهم يجلسون على الوادي ليتغدوا، وهذا يجلس على رأس جبل صغير كالصقر ينظر إليهم.
قال: [(قال الفزاري: ما هذا الذي أرى؟ قالوا: لقينا من هذا البرح)] أي: أن هذا الذي تستهين به لقينا منه البرح -والبرح: هو الشدة، وأذاقنا المر من الأمس إلى اليوم، [(والله ما فارقنا منذ غلس)] أي: من(99/6)
استشهاد عامر بن الأكوع يوم خيبر وقتل علي بن أبي طالب لمرحب اليهودي
قال: [(فوالله ما لبثنا إلا ثلاث ليال حتى خرجنا إلى خيبر)] انظروا إلى هذا الجهد الجهيد الذي مر به الصحابة، ومع ذلك لم يخذلوا النبي صلى الله عليه وسلم، والأمة الآن خذلت رسولها أيما خذلان، ولو أن أحدنا كان مع الصحابة في ذلك الزمان لما استطاع أن يمشي معهم من مكة إلى المدينة.
قال: [(ما لبثنا إلا ثلاث ليال حتى خرجنا إلى خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فجعل عمي عامر يرتجز بالقوم: تالله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا ونحن عن فضلك ما استغنينا فثبت الأقدام إن لاقينا وأنزلن سكينة علينا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من هذا؟ -أي: من الذي يرتجز هذا الكلام الطيب- قال: أنا عامر بن الأكوع.
قال: غفر لك ربك)] وهذا الكلام يحمل معنيين: إما دعاء، وإما أنك ستموت شهيداً مغفوراً لك، وإذا قيل هذا الدعاء في القتال فيعني: أن هذا سيُقتل، كالمرأة التي أتت إلى عمر وقالت: يا أمير المؤمنين! إن زوجي يصوم النهار ويقوم الليل.
قال: ما أحسنه.
فقال رجل: يا أمير المؤمنين! إنها تشكوه ولا تمدحه، فقال: حيث إذ فهمتها فاقض بينهما أنت، وهذا كلام ظاهره المدح، لكن له معنى آخر.
وهذا قال له عليه الصلاة والسلام: [(قد غفر لك ربك.
قال: وما استغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان يخصه إلا استشهد قال: فنادى عمر بن الخطاب وهو على جمل له: يا نبي الله لولا متعتنا بـ عامر؟)].
فهم عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم يُخبر عن مقتل عامر، فقال له: يا رسول الله! دعنا نستمتع به في القتال وفي الرجز.
قال: [(فلما قدمنا خيبر خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه)].
أي: أنه يقلب سيفه في ضوء الشمس؛ لأنهم دخلوا خيبر غداة، ولذلك حينما خرج الراعي بالإبل والبقر والغنم ورأى الجيش قال: محمد والخميس، أي: وصل محمد وجيشه، وسمي الجيش خميساً لأنه يتكون من خمسة أجزاء: ميمنة، وميسرة، ومقدمة، ومؤخرة، وبطن أو قلب.
قال: [محمد والخميس، وكان ذلك غدوة أي: بعد صلاة الفجر.
قال: (فلما قدمنا خيبر خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه ويقول: قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب).
وشاكي السلاح أي: تام القوة، أي: سلاحي في يدي في غاية القوة، لا يستطيع أحداً أن يغلبني.
قال: (قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب إذا الحروب أقبلت تلهب قال: وبرز له عمي عامر، فقال: قد علمت خيبر أني عامر شاكي السلاح بطل مغامر)].
أي: يركب غمرات الحرب ولا يحجم عنها ويرتكب شدائدها، ويلقي بنفسه فيها.
قال: [(فاختلفا ضربتين، فوقع سيف مرحب في ترس عامر، وذهب عامر يسفل له -أي: يضربه في أسفله- فرجع سيفه على نفسه -رجع سيف عامر على عامر - فقطع أكحله فكانت فيها نفسه)].
فظن بعض الصحابة الذين رأوا هذا المنظر أن عامراً قتل نفسه، لم يصبر على الطعنة أو الضربة التي ضربه فيها مرحب فقتل نفسه، وظنوا أنه شبيه بمن قال النبي صلى الله عليه وسلم عنه ذات غزوة، حينما قال الصحابة: (إنا نرى فلاناً من أهل الجنة يقاتل في الجيش كأنه جيش لوحده.
قال: وأنا أراه من أهل النار، قال: ففزع القوم) كل من أُعجب بقتال هذا الرجل وإقدامه فزع حينما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (وأنا أراه من أهل النار.
قال رجل: فتتبعته كلما عدا عدوت، وكلما وقف وقفت، حتى أصابه سهم فلم يصبر عليه، فوضع ذبابة سيفه في بطنه واتكأ عليه فخرج من ظهره فمات)] فهو الذي قتل نفسه؛ فظنوا أن عامراً كهذا الرجل، وكان هذا الرجل الذي قتل نفسه من المنافقين، أما عامر فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم له.
قال: (قد غفر لك ربك).
قال سلمة: [(فخرجت فإذا نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: بطل عمل عامر -أي: لأنه قتل نفسه بزعمهم- فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقلت: يا رسول الله! بطل عمل عامر؟ قال رسول الله: من قال ذلك؟ قال: قلت: ناس من أصحابك.
قال: كذب من قال ذلك، بل له أجره مرتين)]، والكذب عند أهل السنة هو الكلام الذي لم يوافق الحقيقة سواء تعمده صاحبه أو لم يتعمده خلافاً للكذب عند المعتزلة، فإن الكذب عندهم هو ما تعمده صاحبه.
قال: [(ثم أرسلني إلى علي وهو أرمد)] أي: مصاب برمد في عينيه.
قال: [(لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله أو يحبه الله ورسوله)].
عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذه الغزوة يقول: ما تطلعت قط(99/7)
فوائد حديث قصة سلمة بن الأكوع(99/8)
ذكر معجزات النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة
قال النووي: (واعلم أن في هذا الحديث أنواعاً من العلم -أي: أنواعاً من الفوائد- سوى ما سبق التنبيه عليه).
قال: (منها أربع معجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إحداها: تكثير ماء الحديبية.
والثانية: إبراء عين علي رضي الله عنه.
والثالثة: الإخبار بأنه يفتح الله على يديه.
أي: على يدي علي بن أبي طالب: (لأعطين الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه).
وقد جاء التصريح به في رواية غير مسلم هذه.
والرابعة: إخباره صلى الله عليه وسلم بأنهم يقرون في غطفان، وكان كذلك).
هذه أربع معجزات له صلى الله عليه وسلم.(99/9)
جواز الصلح مع العدو
قال: (ومنها: جواز الصلح مع العدو) إذا دعت مصلحة المسلمين إلى ذلك، وإذا لم تكن هناك مصلحة فلا صلح معهم، وللصلح مع اليهود أو مع الأعداء عموماً شروط كثيرة ليست هي التي ينعق بها هؤلاء أصحاب الطاقيات الحمراء ليل نهار، فهؤلاء يفتون بفتاوى مدفوعة الثمن مقدماً.(99/10)
جواز بعث الطلائع في أول الجيش
قال: (ومنها: بعث الطلائع)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما بعث رباحاً وكان معه سلمة بن الأكوع، فهذه كانت طليعة الجيش.
(ومنها: جواز المسابقة على الأرجل بلا عوض، وفضيلة الشجاعة والقوة.
ومنها: مناقب سلمة بن الأكوع وأبي قتادة والأخرم الأسدي رضي الله عنهم أجمعين).(99/11)
جواز الثناء على من فعل جميلاً إذا أمن الفتنة
ومنها: (جواز الثناء على من فعل جميلاً في وجهه، واستحباب ذلك ما لم تخش عليه الفتنة)، وكم مدح النبي صلى الله عليه وسلم أناساً في وجوههم، وكم منع النبي صلى الله عليه وسلم من المدح، فتبين أن الفيصل بين هذا وذاك أمن الفتنة أو خوفها، فإذا كان مأمون الفتنة ويصدّق ويُخشى عليه الفتنة والاغترار بهذا المدح فيحرم مدحه في وجهه، أما إذا كان في مأمن من ذلك فيستحب مدحه.(99/12)
جواز عقر خيل العدو في الحرب واستحباب الرجز
قال: (ومنها: جواز عقر خيل العدو في القتال، واستحباب الرجز في الحرب، وجواز قول الرامي والطاعن والضارب: خذها وأنا فلان ابن فلان، بشرط أن يكون شجاعاً قوياً ذا مهابة في قلب العدو).(99/13)
جواز الأكل من الغنيمة قبل توزيعها
قال: (ومنها: جواز الأكل من الغنيمة قبل توزيعها)، وأخذنا هذا من ذبيحة بلال، ولا يقال عن الغنائم بعد التوزيع: غنائم، وإنما يقال: أسهم، أما قبل توزيع الغنيمة فهي غنيمة.
قال: (وفيه جواز الأكل من الغنيمة -أي: قبل التوزيع- والأكل عام فالجيش كله سيأكل، واستحباب التنفيل من الغنيمة لمن صنع صنيعاً جميلاً في الحرب، وهل هناك أجمل مما صنعه سلمة؟)(99/14)
حمل معاوية بن أبي سفيان لسلمة بن الأكوع على دابته بعد الرجوع من خيبر
كان سلمة بن الأكوع خادماً لـ طلحة بن عبيد الله، وأنتم تعلمون أن طلحة هذا من المبشرين، وسلمة بن الأكوع يكفيه ما فعل في الحديبية، وما فعل مع غطفان، وبني لحيان، ومع اليهود في خيبر، فهو مجهود لا تقوم به الآن أمة كاملة؛ لذلك أحب النبي عليه الصلاة والسلام أن يكرمه، وكان هناك أماكن على مشارف المدينة لعلية القوم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم حينما يأتيه ضيوف يجعلهم في هذه الأماكن؛ فقال لرجل من أصحابه - وهو معاوية بن أبي سفيان -: (خذ سلمة وأنزله في عوالي المدينة)، وأنتم تعلمون أن معاوية هو الشريف ابن الشريف، فيركب سلمة من أمام المسجد النبوي على ظهر الجمل؛ ويأمر معاوية أن يفزّع الجمل ليقوم، وظل معاوية يسوق الجمل لـ سلمة حتى تضررت قدماه من الحر، فقال: يا سلمة! احملني خلفك، فلم يرد عليه، فلما اشتد عليه الوجع قال: يا سلمة! ناولني نعلك.
قال سلمة: إنما يكفيك ظل البعير، فمشى معاوية في ظل البعير حتى بلّغه مراده.
ومع مرور الأيام أصبح معاوية أميراً للمؤمنين رضي الله عنه وعن أبيه، ويدخل عليه سلمة بن الأكوع حافياً، لكن معاوية كان حليماً وكان سموحاً -قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الأعراف:43]- ونزل معاوية واصطحبه حتى أجلسه على سريره، فهؤلاء هم الرجال الذين ربّاهم النبي عليه الصلاة والسلام، ينزل معاوية بنفسه ابتغاء وجه الله قال: يا ابن الأكوع! أترى سريري أفضل أم بعيرك؟ فضحكا وانتهى الموقف على ذلك.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(99/15)
شرح صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - باب قوله تعالى: (وهو الذي كف أيديهم عنكم) - غزوة النساء مع الرجال - عدد غزوات النبي
لقد شرع الله تعالى لهذه الأمة حمل السلاح للذب عن جناب الدين، ولتبليغ الدعوة ونشرها في أرجاء المعمورة، وقد حمل هذا العبء مع رسول الله الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، لا فرق في ذلك بين رجل أو امرأة أو طفل، والشريعة لم تغفل جهد أحد من المسلمين في هذا السبيل مهما قل هذا المجهود، بل قررت لكل واحد منهم ما يناسبه من الغنيمة.(100/1)
باب قول الله تعالى: (وهو الذي كف أيديهم عنكم)
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: فإن أصدق الحدث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
الباب السادس والأربعون من كتاب الجهاد (باب قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} [الفتح:24].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثني عمرو بن محمد الناقد حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا حماد بن سلمة عن ثابت بن أسلم البناني عن أنس بن مالك: (أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا -أي: نزلوا- على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلحين)] ثمانون مشركاً نزلوا من جبل التنعيم، وهو في مدخل مكة، وكانوا متسلحين، نزلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدون قتله هو ومن معه.
قال: [(يريدون غرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه)].
أي: يتحينون غفلة منه عليه الصلاة والسلام لينقضوا عليه وعلى أصحابه.
قال: [(فأخذهم سلماً أو سلَماً)] أي: صلحاً، أي: فاصطلح معهم، عندما غلبت قوة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قوة هؤلاء المشركين، فآثر المشركون السلم والصلح، فانتهزوا فرصة عرض الصلح عليهم فقبلوه، وفي لفظ: (فأخذهم سَلَماً) أي: أسرى.
فإما أن تُنطق سلِماً أو سَلَماً يعني: صلحاً أو أسرى.
قال: [(فأخذهم سلماً أو سلِماً فاستحياهم، فأنزل الله عز وجل: ((وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ)) [الفتح:24]-أي: أيدي المشركين عنكم- {وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح:24]).
قال الإمام النووي: (فأخذهم سلماً) ضبطت بوجهين إما بفتح السين واللام، أي: سَلَماً، والثاني: بإسكان اللام مع كسر السين أي: سلْماً، وفتحها الحميدي ومعناه: الصلح.
قال القاضي في المشارق: هكذا ضبطه الأكثرون.
وفي الشرح: أن الرواية الأولى أظهر وأولى ومعناها: أسرهم.
والسَلَم هو الأسر.
وجزم الخطابي بفتح اللام والسين، قال: والمراد به الاستسلام والانقياد والإذعان، كقول الله تعالى: {وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} [النساء:90] أي: الانقياد والاستسلام والإذعان والخضوع، وهو مصدر يقع على الواحد والاثنين والجمع.
قال ابن الأثير: هذا هو الأشبه بالقصة، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذهم أسرى، فإنهم لم يؤخذوا صلحاً، وإنما أخذوا قهراً وأسلموا أنفسهم عجزاً.
قال: وللقول الآخر -أي: سِلْماً- وجه، وهو أنه لما لم يجر معهم قتال بل عجزوا عن دفعهم والنجاة منهم رضوا بالأسر، فكأنهم قد صولحوا على ذلك).(100/2)
باب غزوة النساء مع الرجال
الباب السابع والأربعون: (باب غزوة النساء مع الرجال).
يعني: هل يجوز أن تغزو النساء مع الرجال؟(100/3)
شرح حديث أم سليم في خروجها مع النبي للغزو
[حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس: (أن أم سليم) -وهي أم أنس بن مالك وزوج أبي طلحة الأنصاري - اتخذت يوم حنين خنجراً -وقيل: خِنجراً.
إما بكسر الخاء أو بفتحها- فكان معها، فرآها أبو طلحة -أي: زوجها- فقال: يا رسول الله! هذه أم سليم معها خِنجر.
فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا الخنجر؟ قالت: اتخذته.
إن دنا مني أحد من المشركين بقرت به بطنه -أي: شققت به بطنه- فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك.
قالت: يا رسول الله! اقتل من بعدنا -أي من وراءنا- من الطلقاء)] وهم الذين أسلموا في فتح مكة، وكان في دينهم رقة وضعف، فتصورت أم سليم أن هؤلاء قد نافقوا، فحكمت عليهم بالقتل؛ لأنهم منافقون، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام بيّن لها أنهم في غنى عن هذا، حتى عن قتال هؤلاء دون النبي صلى الله عليه وسلم، وليسوا كما تزعمين يا أم سليم، بل هم مسلمون لكن في دينهم رقة وضعف.
قالت: [(يا رسول الله! اقتل من بعدنا من الطلقاء، انهزموا بك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أم سليم! إن الله قد كفى وأحسن).
وحدثنيه محمد بن حاتم حدثنا بهز -وهو ابن أسد العمي - حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك في قصة أم سليم عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث ثابت].
قال الإمام النووي في قولها: (اقتل من بعدنا من الطلقاء) قال: (سموا بذلك -أي: الطلقاء- لأن النبي صلى الله عليه وسلم من عليهم وأطلقهم، وكان في إسلامهم ضعف، فاعتقدت أم سليم أنهم منافقون، وأنهم استحقوا القتل بانهزامهم وغيره.
[حدثنا يحيى بن يحيى قال: أخبرنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس بن مالك قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بـ
أم سليم -أي: أنها كانت تخرج معه في غزواته- ونسوة من الأنصار معه إذا غزا -ليس بـ
أم سليم وحدها- فيسقين الماء ويداوين الجرحى)].
إذاً: مهمة النساء في الغزو ليس القتال، وإنما مهمتهن: سقي الماء، ومداواة الجرحى، وطبخ الطعام، وغير ذلك من مهام النساء(100/4)
شرح حديث أنس في رؤية أبي طلحة لخدم ساقي عائشة في غزوة أحد
قال: [حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي حدثنا عبد الله بن عمرو أبو معمر المنقري حدثنا عبد الوارث -وهو ابن سعيد البصري - حدثنا عبد العزيز -وهو ابن صهيب البصري تلميذ أنس - عن أنس قال: (لما كان يوم أحد انهزم ناس -أي: من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- من الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو طلحة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم مجوّب عليه بحجفة)] أي: مترس عليه بترس ليقيه سلاح العدو، أي: أنه قد اتخذ سلاحاً وترساً ليحمي نفسه ضد العدو.
قال: [(وكان أبو طلحة رجلاً رامياً شديد النزع، وكسر يومئذ قوسين أو ثلاثاً.
قال: فكان الرجل يمر معه الجعبة من النبل)] أي: يمر معه الجعبة مليئة بالنبال.
قال: [فيقول النبي عليه الصلاة والسلام: (انثرها لـ أبي طلحة)] أي: أخرجها من جعابها وناولها لـ أبي طلحة؛ لأنه أرمى الناس.
قال: [(ويشرف نبي الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم)] أي: يخرج من خبائه وينظر إلى المشركين، فيخاف عليه أبو طلحة إذا نظر وأشرف وخرج من خبائه أن يراه المشركون فيوجّهوا إليه سهامهم.
[فيقول أبو طلحة: (يا نبي الله! بأبي أنت وأمي -أي: فداك أبي وأمي- لا تشرف -أي لا تتطلع إلى القوم- لا يصبك سهم من سهامهم)] أي: حتى لا يصيبك سهم من سهامهم.
قال: [(نحري دون نحرك)] أي: رقبتي دون رقبتك.
كأنه أراد أن يقول: يا رسول الله أنا أموت دونك وأُنحر ولا تُنحر، أُقتل ولا تُقتل، دعني أنا أواجه العدو، أما أنت فامكث واثبت في خبائك، لا تطّلع على القوم حتى لا يروك فيوجهوا إليك سهامهم فيقتلوك.
نحري دون نحرك يا رسول الله! وفي هذا منقبة عظيمة جداً لـ أبي طلحة الأنصاري الذي يقول: (بأبي أنت وأمي) يفدّيه بأبيه وأمه، كما يقول له: (نحري دون نحرك) أي: أنا أُقتل ولا تُقتل، أُصاب بكل أذى ولا تُصاب أنت بأدنى أذى.
قال: [(ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم) -وعائشة هي أم المؤمنين، وأم سليم هي زوج أبي طلحة - وإنهما لمشمرتان) أي: مشمرتان الساعد أو الذراع؛ لأن التشمير لا يقال إلا لهذين، إما الساعد وإما الذراع.
قال: [(أرى خدم سوقهما -أي موضع الخلخال، وهو الذي يوضع في أسفل الساق- تنقلان القرب على متونهما -أي: يحملان الماء فينقلانه من مكان إلى مكان على ظهورهما- ثم تفرغانه في أفواههم -أي: في أفواه القوم يسقيان الجرحى- ثم ترجعان فتملآنها، ثم تجيئان تفرغانه في أفواه القوم، ولقد وقع السيف من يدي أبي طلحة إما مرتين أو ثلاثاً من النعاس)].
وهذا يدل على شدة الجهد وأنهم واصلوا الليل بالنهار في القتال، ولم يكن هناك وقت للراحة أبداً فضلاً عن النوم والنعاس؛ مما جعل السيف يسقط من فرط الجهد ومن قلة النوم من يدي أبي طلحة مرتين أو ثلاثاً لقلة النوم.(100/5)
الرد على شبهة الاحتجاج بهذا الحديث على جواز النظر إلى غير المحارم من النساء
هنا شبهة يستخدمها كثير من الناس، يقولون: النظر إلى غير المحارم من النساء جائز، بدليل أن أبا طلحة نظر إلى خدم سوق عائشة رضي الله عنها، وهي أم المؤمنين، أي: أم أبي طلحة في المنزلة والمكانة وزيادة، وأمه في التحريم الأبدي، فلا يحل لأحد من الناس أن يتزوج بإحدى زوجات النبي وإن طلقها عليه الصلاة والسلام، فهي أم في التعظيم والتبجيل والاحترام والنكاح، وليست أماً في بقية المسائل، ولذلك إذا ماتت أم من أمهات المؤمنين فلا يحل لأحد أن يرثها إلا ورثتها.
فيقولون: هذا الحديث ظاهر في الدلالة على جواز النظر إلى ساق المرأة أو إلى ذراع المرأة، وهذا نظر وإن كانت هناك نصوص محرّمة إلا أن هذا النص يبيح النظر إليها، فهذا التحريم إما أن يصرف تماماً فلا يكون حراماً، وإما أن يكون النظر مكروهاً؛ وذلك لأن آيات التحريم لا تقع فيها أحاديث جواز النظر إلى عائشة رضي الله عنها، وإلى إحدى نساء النبي عليه الصلاة والسلام، وإلى تلك المرأة سفعاء الخدين، وغير ذلك من النصوص.
يقول الإمام النووي: (وأما السوق: فجمع ساق، وهذه الرواية للخدم لم يكن فيها نهي -أي: هذا الموضع من المرأة لم ينزل فيه النهي لأول وهلة- لأن هذا كان يوم أحد قبل أمر النساء بالحجاب، وتحريم النظر إليهن).
إذاً: تدفع هذه الشبهة من وجهين: الوجه الأول: أن هذا كان قبل تحريم النظر، وقبل نزول آيات الحجاب.
ولأنه لم يذكر هنا أنه تعمد النظر إلى نفس الساق، فهو محمول على أنه حصلت تلك النظرة فجأة بغير قصد كما لم يثبت أنه داوم عليها، فهو قبل آيات التحريم -وإن سلّمنا جدلاً أنه بعد آيات التحريم- فهذا نظر الفجأة الذي سأل عنه علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (يا رسول الله! أرأيت لو نظرت إلى المرأة نظر الفجأة قال: اصرف بصرك فإن الأولى لك والثانية عليك).
فهذا أبو طلحة نظر إلى قدم عائشة رضي الله عنه وهي أمه قبل آيات التحريم، وكانت هذه النظرة من نظرات الفجأة، ولم يدم النظرة إليها، وإنما وقع بصره عليها ثم انصرف، فلا حجة بعد هذه التبريرات لمن تمسك بطرف هذا النص بجواز النظر إلى المرأة الأجنبية.
والعجيب أن بعض المذيعات كن يقدمن برنامجاً، وقد استضفن فيه بعض علماء مشايخ الأزهر، فحينما أنكر المسلمون على هذا الشيخ كيف تجلس مع امرأة متبرجة تنظر إليها وتنظر إليك؟ أجاب هذا الشيخ بهذا الحديث، وبلا شك أنه إذا أجاب بهذا الحديث وكان المعترض عليه جاهلاً بهذا الحديث أو بتأويل هذا الحديث لا شك أنه سيسكت، بل قد سكّت بالفعل، وكان هذا في مسجد عام كبير، يقال له: (مسجد النور) في (العباسية)، والآلاف يسمعون؛ مما جعل الناقد حين سماع هذا الحديث يسكت، فكان في سكوته فتنة عظيمة للمستمعين عظيماً؛ لأن الحديث صحيح، وهو ظاهر في الجواز، وهذا فرق كبير جداً بين من ينتهج في فهم النصوص منهج السلف ومنهج الخلف، أما الذي ينتهج نهج الخلف فلا يضره أن يسمع الحديث من فلان أو علان بفهمه هو، ولكن الرجل الذي يحرص أن يفهم دينه على مذهب السلف لا بد أن يرجع إلى النص ويعلم ماذا قال فيه السلف، فبعد سماعنا لهذا النص ومعرفتنا بتأويله، وأن ذلك كان قبل التحريم، ولو سلّمنا أنه بعد التحريم فهو محمول على الفجأة، وكل منهما جائز مباح، وفي ذلك عصمة لنا، ودائماً كلام السلف رضي الله عنهم عصمة لهم ولمن بعدهم.(100/6)
باب النساء الغازيات يرضخ لهن ولا يسهم والنهي عن قتل صبيان أهل الحرب
الباب الثامن والأربعون: (النساء الغازيات يرضخ لهن ولا يُسهم).
ومعنى يرضخ: يأخذن أخذاً من الغنيمة بغير تحديد ولا تعيين، لا تأخذ سهماً ولا سهمين ولا أكثر من ذلك ولا أقل، وإنما تأخذ جزافاً ويعطى لها بغير حساب وغير عد؛ لأنها ليست مقاتلة، وليس للمرأة أن تقاتل إلا في أضيق الحدود وفي ظروف معينة، وذلك إذا تعيّن عليها القتال، أما دون ذلك فلا، لكن لها أن تداوي الجرحى، وأن تعد الطعام، وأن تسقي الماء وغير ذلك من الأعمال التي تناسب المرأة، فالمرأة إذا شاركت في الغزو رضخ لها الإمام ولا يسهم لها سهماً، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل صبيان أهل الحرب.(100/7)
شرح حديث كتاب ابن عباس إلى نجدة الحروري
قال: [حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب -وهو المعروف بـ القعنبي - حدثنا سليمان بن بلال عن جعفر بن محمد -وهو ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه- عن أبيه عن يزيد بن هرمز: أن نجدة كتب إلى ابن عباس].
ونجدة هو نجدة الحروري من زعماء الخوارج، وكان ابن عباس يبغضه أشد البغض لبدعته، ولكن نجدة [كتب إلى ابن عباس يسأله عن خمس خلال، فقال ابن عباس: لولا أن أكتم علماً ما كتبت إليه].
أي: أن ابن عباس كان يكره نجدة لبدعته وهي كونه من الخوارج الذين يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ولكن حينما سأله عن العلم لم يمكنه كتمه فاضطر إلى إجابته، وقال: لولا أن أكتم علماً ما كتبت إليه، أي: لولا أني إذا تركت الكتابة أصير كاتماً للعلم مستحقاً لوعيد كاتمه لما كتبت إليه.
ثم أمر ابن عباس يزيد بن هرمز أن يكتب فأملاه ابن عباس وكتب خلفه يزيد.
[كتب إليه نجدة أما بعد: فأخبرني هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء؟ وهل كان يضرب لهن بسهم؟ وهل كان يقتل الصبيان؟ ومتى ينقضي يتم اليتيم؟ وعن الخمس لمن هو؟ فكتب إليه ابن عباس: (كتبت تسألني هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء؟ قد كان يغزو بهن فيداوين الجرحى، ويحذين من الغنيمة -أي: يعطين شيئاً كالهدية أو المنحة أو الهبة ليس سهماً؛ لأنه كان يغزو بهن لمداواة الجرحى وليس للقتال- قال: وأما بسهم فلم يضرب لهن.
وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يقتل الصبيان فلا تقتل الصبيان -أي: يا نجدة! لا تقتل الصبيان لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقتل الصبيان- قال: وكتبت تسألني متى ينقضي يتم اليتيم؟ فلعمري إن الرجل لتنبت لحيته وإنه لضعيف الأخذ لنفسه -أي: أنه ربما يكون رجل لحيته في وجهه، ولكنه لا يعرف مصلحته، فيذهب فيتصرف في ماله فيضر نفسه- ضعيف العطاء منها، فإذا أخذ لنفسه من صالح ما يأخذ الناس فقد ذهب عنه اليتم -أي: إذا بلغ الرشد وعلم مصلحته فقد ذهب عنه اليتم- وكتبت تسألني عن الخمس: لمن هو؟ وإنا -أي: أهل البيت بني هاشم وبني المطلب- كنا نقول: هو لنا، فأبى علينا قومنا ذلك)].
والمقصود بالخمس هنا: خمس الخمس الذي هو للنبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، فـ ابن عباس يقول: كنا نحن نعتقد أن هذا السهم لنا، لكن بني أمية أبوا علينا ذلك وقالوا: ليس لكم ذلك، إنما هو للفقراء والمساكين وابن السبيل.
قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم كلاهما عن حاتم بن إسماعيل عن جعفر بن محمد عن أبيه عن يزيد بن هرمز: أن نجدة كتب إلى ابن عباس يسأله عن خلال.
بمثل حديث سليمان بن بلال غير أن في حديث حاتم: وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يقتل الصبيان].
حينما سأله هل كان يقتل الصبيان؟ قال: لم يكن رسول الله يقتل الصبيان.
[فلا تقتل الصبيان إلا أن تكون تعلم ما علم الخضر من الصبي الذي قتل].
فهنا ابن عباس يعرف أن نجدة هذا لا دين له ولا خلق، وإنه يقع من النصوص على مواطن الشبه، فـ ابن عباس يوقفه ويقطع عليه الطريق؛ لأنه لو قال له: إن رسول الله لم يكن يقتل الصبيان سيقول له: ولكن الخضر قتل الصبي الصغير.
إذاً: يجوز قتل الصبيان الصغار، فـ ابن عباس لم يمكّنه من هذه وسد عليه الباب.
[وزاد إسحاق في حديثه عن حاتم: وتميز المؤمن].
أي: وتميّز المؤمن من الكافر باعتبار ما سيكون.
أي: تميّز أنت يا نجدة! المؤمن من الكافر بعد البلوغ مع أنه صبي لم يبلغ بعد، فهو يريد أن يقول له: إذا كان لديك علم لدنّي تعلم به أن هذا الصبي إذا بلغ سيكون مؤمناً، وذاك إذا بلغ سيكون كافراً فاقتل الكافر ودع المؤمن، وهذا تعجيز فمن أين له ذلك؟ الله تعالى علم الخضر فيما يتعلق بالصبي الذي قتله، وليس لـ نجدة أن يتعلم ما تعلمه الخضر، فكأنه يعجزه.
قال: [فتقتل الكافر وتدع المؤمن].
قال: [حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن إسماعيل بن أمية عن سعيد المقبري -أي: سعيد بن أبي سعيد - عن يزيد بن هرمز قال: كتب نجدة بن عامر الحروري -وحروراء اسم مكان- إلى ابن عباس يسأله(100/8)
كلام النووي في أحاديث الرضخ للنساء من الغنيمة والنهي عن قتل صبيان الكفار(100/9)
بيان أنه يرضخ للنساء من الغنيمة ولا يسهم لهن
الإمام النووي عليه رحمة الله يقول في قوله: (كان يغزو بالنساء فيداوين الجرحى ويحذين من الغنيمة، وأما بسهم فلم يضرب لهن) (وفيه: حضور النساء الغزو.
أي: فيه جواز أن تخرج المرأة للغزو وتداوي الجرحى على أن يعطين من الغنيمة عطية تسمى الرضخ وليست سهماً.
وفي هذا أن المرأة تستحق الرضخ ولا تستحق السهم، وبهذا قال أبو حنيفة والثوري والليث والشافعي وجماهير العلماء.
أما الأوزاعي فقال: تستحق السهم إن كانت تقاتل أو تداوي الجرحى.
وقال مالك: لا رضخ لها فضلاً عن السهم -أي: لا سهم ولا رضخ- ولا شك أن هذا الحديث الصحيح الصريح، يرد على مالك وعلى الأوزاعي).
ويبقى عندنا أن مذهب الجمهور -وهو المؤيد بالدليل- أن المرأة لها أن تغزو مع الرجال، فتكون في مؤخرة الرحال تداوي الجرى وتطببهم وتصنع الطعام، وما يكون من طبيعة النساء على أن يرضخ لها ولا يسهم.
وهذا هو المذهب الراجح.(100/10)
بيان أن العبد يرضخ له من الغنيمة ولا يسهم
أما قوله: (وسألت عن المرأة والعبد) هل يسهم لهما؟ أو هل كان لهما سهم معلوم إذا حضروا البأس أي: إذا حضروا الحرب، فإنهم لم يكن لهم سهم معلوم إلا أن يحذيا من غنائم القوم؟ في هذا الكلام فائدة: أن العبد يُرضخ له كذلك ولا يسهم له.
إذاً: المرأة والعبد يرضخ لهما ولا يسهم، وبهذا قال الشافعي وأبو حنيفة وجماهير العلماء.
وقال مالك: لا رضخ للعبد.
إذاً: مالك منع الرضخ للعبد وللمرأة، أما الحسن وابن سيرين والنخعي والحكم قالوا: إن قاتل -أي: العبد- أسهم له.
والحديث كذلك يرد عليهم.
أي: يُرضخ لهما.(100/11)
النهي عن قتل الصبيان إذا حضرت الحرب
قال: (وأما قوله: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يقتل الصبيان فلا تقتل الصبيان).
فيه: النهي عن قتل صبيان أهل الحرب، وهو حرام إذا لم يقاتلوا).
صبيان المشركين والكفرة قتلهم حرام، إلا أن يقاتل الصبية فلا يكونوا صبية حينئذ، وإنما يكونوا محاربين مقاتلين فيجوز قتلهم.
والاستثناء الثاني: أنه إذا لم يكن يمكن الوصول إلى المقاتلين المحاربين إلا بقتل الصبيان والنساء فيقتلون تبعاً لا أصلاً، كما أنهم يقتلون في الثغر والتترس، فإذا تترس المشركون في مكان أو بشيء واتخذوا الأطفال ستاراً لهم، ولا يمكن الوصول إلى المقاتلين المحاربين إلا بقتل الصبيان فلا بأس حينئذ بقتلهم.
إذاً: الحرام تعمد قتل الصبيان والنساء والخدم ابتداءً.(100/12)
أحكام اليتيم إذا بلغ سن الرشد
قوله: (وكتبت تسألني: متى ينقضي يتم اليتيم؟ فلعمري إن الرجل لتنبت لحيته وإنه لضعيف الأخذ لنفسه ضعيف العطاء منها، فإذا أخذ لنفسه من صالح ما يأخذ الناس فقد ذهب عنه اليتم).
أي: فإذا بلغ رشداً علم به مصلحته في الأخذ والعطاء، في البيع والشراء، في التعاملات والتصرفات، فإن هذا دليل على بلوغه الرشد وذهاب اليتم، والسن مختلف فيه.
قال: (ومعنى هذا: متى ينقضي حكم اليتم ويستقل اليتيم بالتصرف في ماله؟) طبعاً في قانون الأحوال الشخصية المصري ينقضي يتم اليتيم بواحد وعشرين سنة، وهذا أوفق في صحة التصرفات، وأما نفس اليتم فينقضي بالبلوغ، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا يتم بعد الحلم) أي: بعد بلوغ الصبي سن الحلم يذهب عنه اسم اليتم، ويبقى حكم اليتم حتى يبلغ الرشد.
إذاً: هناك فرق بين سن البلوغ وسن الرشد، فسن البلوغ أن تظهر عليه علامات البلوغ من نبات الشعر في الوجه أو في العانة أو في الإبط، أو ظهور الثدي عند البنت، أو ابتداء الشهوة لدى الولد أو البنت، كل هذه علامات تدل على البلوغ.
أما الرشد فيبقى عنه بضعة أعوام بعد سن البلوغ، فقد يبلغ في العاشرة أو في الحادية عشرة أو في الثانية عشرة، ولكنك لا تجيز تصرفه حتى يبلغ العشرين أو زيادة أو أقل.
قال: (وأما نفس اليتم فينقضي بالبلوغ، وقد ثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا يتم بعد الحلم).
وفي هذا دليل للشافعي ومالك وجماهير العلماء: أن حكم اليتم لا ينقطع بمجرد البلوغ ولا بعلو السن -هذا حكم اليتم، أما اسم اليتم فيزول عنه بمجرد البلوغ- بل لا بد أن يظهر منه الرشد في دينه وماله.
وقال أبو حنيفة: إذا بلغ خمساً وعشرين سنة زال عنه حكم الصبيان، وصار رشيداً يتصرف في ماله، ويجب تسليمه إليه وإن كان غير ضابط له، وأما الكبير إذا طرأ تبذيره -أي: بعد سن خمسة وعشرين، إذا كان إنساناً مسرفاً جداً ومبذّراً سفيهاً لا يضبط تصرفاته- فمذهب مالك وجماهير العلماء وجوب الحجر عليه لا لليتم وإنما للسفه؛ لأنه كبير.
وقال أبو حنيفة: لا يحجر.
وقال ابن القصار: الصحيح الأول وكأنه إجماع).
أي: الكبير الذي بلغ سن الرشد ولكنه سفيه في تصرفاته يحجر عليه لا من باب اليتم ولكن من باب السفه.
والله أعلم.(100/13)
بيان مصارف الخمس من المغنم
قال: (قوله: (وكتبت تسألني عن الخمس لمن هو؟ وإنا كنا نقول: هو لنا، فأبى علينا قومنا ذاك).
معناه: خمس خمس الغنيمة الذي جعله الله تعالى لذوي القربى، وقد اختلف العلماء فيه، فقال الشافعي مثل قول ابن عباس، وهو أن خمس الخمس من الفيء والغنيمة يكون لذوي القربى، وهم عند الشافعي والأكثرين: بنو هاشم وبنو المطلب).
وهذا هو الراجح.
قال: (وقوله: (ولكن أبى علينا قومنا ذاك) أي: رأوا أنه لا يتعين صرفه إلينا، بل يصرفونه في مصالح العامة، وأراد بقومه ولاة الأمر من بني أمية).(100/14)
النهي عن قتل الصبيان في الحرب
قال: (أما قوله: فلا تقتل الصبيان إلا أن تكون تعلم ما علمه الخضر من الصبي الذي قتل.
معناه: أن الصبيان لا يحل قتلهم، ولا يحل لك أن تتعلق بقصة الخضر وقتله صبياً؛ فإن الخضر ما قتله إلا بأمر الله؛ ولذلك قال الله تعالى حاكياً عن الخضر: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82]) فإن كنت أنت تعلم من صبي ذلك فاقتله، (ومعلوم أنه لا علم له بذلك، فلا يجوز له القتل).(100/15)
باب عدد غزوات النبي صلى الله عليه وسلم
الباب التاسع والأربعون: (باب عدد غزوات النبي صلى الله عليه وسلم).
أي: كم غزوة غزاها النبي عليه الصلاة والسلام.
والغزوة تختلف عن السرية.
السرية هي سرية صغيرة أو مناورة أو استطلاع أو شيء من هذا.
إنما الغزوة بمعنى: الجيش الذي يكون على رأسه النبي عليه الصلاة والسلام أو الإمام، فهذه الغزوة عند الإطلاق.
فكم غزوة غزاها النبي عليه الصلاة والسلام؟ لك أن تتصور أن غزوات النبي عليه الصلاة والسلام كلها كانت خلال ثمان سنوات؛ لأن أول غزوة غزاها هي غزوة بدر وكانت في العام الثاني من الهجرة، وهو عليه الصلاة والسلام مات في العام العاشر.
قال: [عن أبي إسحاق أن عبد الله بن يزيد خرج يستسقي بالناس فصلى ركعتين ثم استسقى.
قال: (فلقيت زيد بن أرقم -وقال- ليس بيني وبينه غير رجل -أو بيني وبينه رجل- قال: فقلت له: كم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: تسع عشرة غزوة.
فقلت: كم غزوت أنت معه؟ قال: سبع عشرة غزوة -فاتته غزوتان- قال: فقلت: فما أول غزوة غزاها؟ قال: ذات العُسير أو العُشير)]، والراجح: أنها غزوة ذات العُشير بالمعجمة وليس بالمهملة، وهي سرية كانت قبل بدر، ولكن سماها غزوة من باب المجاز؛ لأنها تقوم بنفس مقام الغزوة الكبرى، فسماها غزوة وليست كذلك.
والعشير: هي من أرض مذحج.
[وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن آدم حدثنا زهير -وهو ابن معاوية بن حديج الجعفي - عن أبي إسحاق السبيعي عن زيد بن أرقم سمعه منه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا تسع عشرة غزوة، وحج بعدما هاجر حجة واحدة لم يحج غيرها وهي حجة الوداع)].
سُميت الوداع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ودّع فيها أصحابه قال: (خذوا عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا).
قال الصحابة فيما بينهم قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم: هذه حجة الوداع.
أي: التي فيها ودّع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وأمته، وفارق بعدها الدنيا صلى الله عليه وسلم.
والنبي عليه الصلاة والسلام حج على ملة إبراهيم عليه السلام على الحنفية السمحاء قبل البعثة مرتين، وحج بعد البعث مرة واحدة.
[وحدثنا زهير بن حرب حدثنا روح بن عبادة حدثنا زكريا أخبرنا أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: (غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة)].
إذاً: عد زيد بن أرقم يتوافق مع عد جابر بن عبد الله الأنصاري.
والفارق بين زيد بن أرقم وجابر: أن زيداً سئل: كم غزا النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: تسع عشرة.
وجابر قال: غزوت معه تسع عشرة.
وهذا يعني: أن جابراً حضر جميع الغزوات مع النبي عليه الصلاة والسلام، لكن بعد ذلك [قال جابر: لم أشهد بدراً ولا أحداً]، إذاً: حضر مع النبي صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة، ولكنه لم يشهد بدراً ولا أحداً.
إذاً: يكون عدد الغزوات واحداً وعشرين غزوة.
هل نفى جابر الغزوات بعد ذلك؟ هل أتى رجل وقال: لم يغز النبي صلى الله عليه وسلم إلا واحداً وعشرين غزوة؟ لو قال ذلك لكانت هذه صيغة اختصاص لم يغز إلا هذا العدد، ولكن جابر يقول: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة ولم أحضر بدراً ولا أحداً، ولم ينف جابر أنه غزا أكثر من ذلك، فهو يقول: أنا حضرت تسعة عشر غزوة، لكن للأسف لم أحضر بدراً ولا أحداً، وهذا لا ينفي أنه لم يحضر غير بدر ولا أحد، لكن حينما كانت هاتان الغزوتان هما أعظم غزوات النبي عليه الصلاة والسلام فهو يتحسّر أنه لم يحضرهما، وحضر بعد ذلك تسع عشرة غزوة، لا ينفي أن تكون فاتته غزوة أو غزوتين أو ثلاثاً أو أربعاً.
قال: [منعني أبي -أي: من بدر وأحد- فلما قُتل عبد الله يوم أحد لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة قط].
هذا الكلام الأخير يفيد الحصر عند جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغز إلا واحداً وعشرين غزوة، حضر منها تسع عشرة وتخلف عن غزوتين.
زيد بن أرقم يقول: الغزوات تسع عشرة غزوة.
إذاً: كل منهما أخبر بما عنده من علِم.
[وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا زيد بن الحباب (ح) وحدثنا سعيد بن محمد الجرمي حدثنا أبو تميلة -كنية جميلة جداً، وهي اسم لـ يحيى بن واضح الأنصاري المروزي - قالا جميعاً: حدثنا حسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه بريدة بن ا(100/16)
باب غزوة ذات الرقاع
الباب الخمسون: (باب غزوة ذات الرقاع).
قال: [حدثنا أبو عامر عبد الله بن براد الأشعري ومحمد بن العلاء الهمذاني -واللفظ لـ أبي عامر - قال: حدثنا أبو أسامة حماد بن أسامة عن بريد بن أبي بردة عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة ونحن ستة نفر -إذاً: فهذه تسمى سرية- بيننا بعير نعتقبه)] أي: نتعاقب عليه وكل منا يركبه فترة.
وفي هذا: جواز هذا الصنيع ما دامت الدابة مطيقة وغير متضررة.
قال: [(فنقبت قدماي -أي: دميت أو تشققت وكلّت -وسقطت أظفاري) ولك أن تتصور شدة الجهد الذي بذله أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، حتى نقبت وتشققت أقدامهم من المشي في الصحراء الحارة الرمضاء.
قال: [(فكنا نلف على أرجلنا الخرق -وهم هؤلاء الذين نصر الله تعالى بهم الدين- فسميت غزوة ذات الرقاع)] وهذا أقوى الأسباب في تسميتها بذات الرقاع، كان معهم رقع من الجلد أو خرق القماش لفوا بها أرجلهم؛ ولذلك سميت الغزوة بغزوة ذات الرقاع.
قال: [(لما كنا نعصّب على أرجلنا من الخرق.
قال أبو بردة: فحدث أبو موسى بهذا الحديث، ثم كره ذلك).
وقال: ليتني لم أحدث بهذا، من باب ستر العمل الصالح وعدم إفشائه؛ حتى يكون بين العبد وبين ربه.
قال: (كأنه كره أن يكون شيئاً من عمله أفشاه) قال أبو أسامة: وزادني غير بريد والله يجزي به].
قال الإمام النووي: (في هذا استحباب إخفاء الأعمال الصالحة، وما يكابده العبد من المشاق في طاعة الله تعالى، ولا يظهر شيئاً من ذلك إلا لمصلحة، مثل بيان حكم ذلك الشيء، والتنبيه على الاقتداء به فيه ونحو ذلك، وعلى هذا يحمل ما وجد للسلف من الإخبار بذلك).
أي أنهم كانوا يعملون الأعمال الصالحة ثم يفشونها؛ حتى يقتدي بهم من بعدهم، لا من باب المفاخرة أو الرياء والسمعة.(100/17)
باب كراهة الاستعانة في الغزو بالكافر
الباب الأخير في كتاب الجهاد وهو (باب كراهة الاستعانة في الغزو بكافر).
قال: (باب كراهة) ولم يقل: باب تحريم، كما أنه لم يقل: باب جواز، وإنما أخذ الكراهة من نصين: نص يجيز مطلقاً، ونص يمنع مطلقاً، والذي اعتمد على المنع المطلق قال بالتحريم، والذي اعتمد على النص المجيز مطلقاً قال بالجواز، والمذهب الراجح هو التفصيل والوسط بين المذهبين، وسنتعرض لهما.
[حدثنا زهير بن حرب حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن مالك، وحدثنيه أبو الطاهر -واللفظ له- حدثنا عبد الله بن وهب عن مالك بن أنس عن الفضيل بن أبي عبد الله عن عبدالله بن نيار الأسلمي عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أنها قالت: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبل بدر -أي: ناحية بدر- فلما كان بحرة الوبرة -وهو اسم موضع على بعد أربعة أميال من المدينة- أدركه رجل قد كان يذكر منه جرأة ونجدة)] أي: قوة وشجاعة في الحرب، وكان الصحابة يعلمون ذلك منه، غير أنه كان مشركاً وكافراً.
قال: [(ففرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه)] أي: ظنوا أنه قد أسلم وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم ليقاتل معه.
قال: [(فلما أدركه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئت لأتبعك وأصيب معك)] أنا جئت لكي أقاتل معك ويكون لي شيء من الغنيمة، أي: أن هذا الرجل أتى مقاتلاً لأجل الغنيمة، طبعاً هذا ليس له حسبة ولا نية صالحة؛ لأنه كافر.
[قال: (قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا)] أرأيتم مثل هذه الجرأة؟ لم يقل: أنا مؤمن بالله ولكن لست مؤمناً بك أنت، كالمشركين في مكة قالوا: نحن نؤمن بالله لكن لا نؤمن أنك رسول من عند الله، أما هذا فقد نفى الكل، فأنا لست مؤمناً بالله ولا مؤمناً بك.
قال: [(تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا.
قال: فارجع فلن أستعين بمشرك.
قالت عائشة: ثم مضى -أي: ثم انصرف النبي عليه الصلاة والسلام تجاه بدر- حتى إذا كنا بالشجرة -أي عند شجرة في مكان- أدركه الرجل مرة أخرى فقال له كما قال أول مرة: جئتك لأتبعك على أن أصيب معك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أول مرة: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا.
قال: فارجع فلن أستعين بمشرك.
ثم رجع فأدركه بالبيداء -مكان صحراء عند بدر- فقال له كما قال أول مرة: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: نعم.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فانطلق)].
أي: ادخل في وسط الجيش وقاتل.
وفي هذا الحديث فوائد ينبغي الوقوف عندها.(100/18)
حكم الاستعانة بالكافر في الحرب
من فوائد هذا الحديث: أن هذا الرجل حينما أقر بالإيمان وأذن له النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد دون تربية سابقة وإعداد للقتال كان استثناءً؛ لأن الرجل أتى وقد التقى الجيشان -جيش الإيمان وجيش الكفر- وهذا الرجل أعلن الإيمان في اللحظة التي يعقبها القتال، فيسأل: هل أنت مؤمن؟ قال: نعم.
أنا مؤمن.
فيقول له: ادخل دون صلاة ولا صيام ولا زكاة.
ولا أي معلم من معالم الإيمان غير أنه نطق بالشهادتين.
لكن الجيش الذي خرج به النبي عليه الصلاة والسلام من المدينة كان جيشاً متربياً على الإيمان، فالأصل أن التربية قبل الجهاد، فالذي يزعم أن الجهاد يعقبه التربية هذا زعم غلط، وهو مخالف لسيرة النبي عليه الصلاة والسلام وسيرة أصحابه، فالجهاد يحتاج إلى إعداد إيماني متين؛ ولذلك الأمة لا يمكن أن تجاهد كلها إنما يجاهد منها فئة مخلصة مؤمنة هم أتباع الرسل، وهم أتباع الرسول عليه الصلاة والسلام، الذين يستشرفون بعد عشرات السنين في العلم والصلاة والزكاة والصيام وقيام الليل والتدريب على التقوى والإيمان، هؤلاء هم الذين يثبتون حين اللقاء، أما الذين لم يتربوا وقد دعوا إلى القتال لا نية لهم ولا يعرفون معنى الراية؛ لأنهم ليسوا تحتها ابتداء ولا أصلاً، ولا يحمونها؛ ولذلك هم يعدون القتال مع العدو مهلكة للدماء، ومهلكة للأموال وللأنفس، وخراب للاقتصاد، وضياع للبلاد وهكذا نسمع في كل يوم أنهم يقولون هذا، أنهم يقولون: لِم نقاتل وبعد القتال نصطلح؟ فلماذا لا نصطلح من البداية قبل القتال.
ثم يقولون: نقاتل لماذا؟ إنما نحمي بلادنا، فلا علاقة لنا بفلسطين ولا بالشيشان ولا بأفغانستان هؤلاء لم يفهموا شيئاً في دين الله عز وجل، ولا علاقة لهم به؛ لأن علاقتهم بالله منقطعة أصلاً، وعلاقتهم بالدين وبالأحكام الشرعية منقطعة ابتداء، فهم قد حجب الله تعالى عنهم نور الإيمان، ويتكلمون بالكلام النجس النتن الذي يتعلمونه في سياساتهم، أما دين الله عز وجل فهم أبعد الناس عنه، فكيف يقاتلون إذاً؟ كما أنهم ربوا شعوبهم وربوا هذه الأمة على هذه الأخلاق الفاسدة والعقائد الباطلة، فصارت هناك أجيال تربت على الزنا والخنا وشرب الخمر والميوعة وغير ذلك، فيقولون: نقاتل بمن؟ نعم فعندكم حق، لا قاعدة معكم تسندكم في هذا القتال؛ لأنكم ربيتم الأمة كلها على الفساد وعلى الباطل حتى إذا احتجتموهم في موطن الهلاك والضيق لم تجدوا واحداً.
وهذا ثمرة الأعمال، فحينما ربيتموهم على الفساد لا ينفعوكم عند الحاجة أبداً.
والعجيب أنهم يخافون من رفع راية الجهاد وتسليم الراية إلى المجاهدين حقاً مخافة على أنفسهم، فهم يفهمون هذه القضية جيداً، ويفهمون أن ثلة قليلة من المؤمنين أوقفت أعظم دولة كافرة في العالم على أظافرها، وألحقوا بهم مضرات لا قبل لهم بها، فيقولون: فما بالهم لو تفرغوا لنا! كل هذا مخافة على الكراسي والأموال وغير ذلك؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون.
فالأصل التربية قبل الجهاد، فالذي يقول: الجهاد قبل التربية مخطئ، ولو أنه استند إلى مثل هذا النص فنقول له: هذا استثناء وليس أصلاً، بدليل أن الجيش نفسه الذي خرج به النبي صلى الله عليه وسلم لم يخرج به لأول وهلة، بمجرد أنه آمن، وإنما حينما آمن رباه في مكة ثلاثة عشر عاماً، حتى كان الإيمان في قلوبهم كالجبال الرواسي، وازدادوا بالأنصار في المدينة فصاروا جيشاً تتزلزل أمامه الجبال الرواسي، فلا تترك هذا كله وهو الأصل وتتمسك بالاستثناءات، لك أن تتصور أن النبي صلى الله عليه وسلم وضعه في المكان المناسب، هل النبي صلى الله عليه وسلم سيضعه في مكان أبي بكر أو في مكان عمر؟ بل لا بد أن يرجع إلى الخلف، فأنت حينما تذهب لأي جيش من الجيوش يقبلك على مضض؛ لأنك لست مدرباً ولا مهيأً، ولا تعرف طبيعة الأرض ولا تعرف طبيعة الحرب في هذا المكان بالذات؛ لأن كل أرض لها طبيعة، حتى لاعب الكرة يقول: الأرض تلعب مع أصحابها.
إذاً: فلا بد أن يقاتل من عرف طبيعة الأرض، ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد وضعه في المكان المناسب.
ولذلك جاء في الحديث الآخر: أن النبي عليه الصلاة والسلام استعان بـ صفوان بن أمية قبل إسلامه رضي الله عنه، طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقاتل فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم أن يقاتل؛ وذلك لأن صفوان بن أمية كان متعاطفاً مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى قبل الإسلام، وكان محباً للنبي صلى الله عليه وسلم ومحباً للإسلام، ومسالماً للنبي عليه الصلاة والسلام ومن معه، كما أن أبا طالب والد علي رغم كفره إلا أنه كان متعاطفاً مع ابن أخيه، وكان يذب عنه ويدافع عنه، فهذا كافر ولكنه مسالم، بخلاف الكافر المحارب.
والمصيبة أنك حينما تدخل شركات مسلمة تجد المصنّعين مسلمين، ولكنك تجده ليس له طعم ولا لون ولا رائحة، ولا علاقة لهم بالإسلام، فهم لا يصلون ولا يصومون ولا يؤدون زكاة ولا شيئاً من الدين أبداً، وربما تجد صاحب الشركة النصراني يؤ(100/19)
شرح صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - مراجعة في كتاب الجهاد والسير
الجهاد هو ذروة سنام الدين، وحامي حياض الملة المحمدية، وناشر دعوتها في أقطار المعمورة، وعلى ما في القتال من سفك للدماء، وإزهاق للأرواح، والذي ظاهره العذاب، إلا أنه في شريعة الإسلام باب من أبواب الرحمة؛ لما يحمله بين طياته من أهداف وآداب، أهداف لإنقاذ البشرية من ظلمات الكفر والشرك، وآداب في التعامل مع أعداء الدين من المقاتلين وغيرهم.(101/1)
باب جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام من غير تقدم الإعلام بالإغارة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، فقد كنا انقطعنا عن مواصلة السير في كتاب الجهاد والسير بعد أن تعرضنا له في محاضرتين أو ثلاث، فأقول: يحسن بنا أن نراجع مراجعة سريعة كتاب الجهاد من أوله حتى يتصل حبل الفكر، ونتذكر ما كان قد مضى.
الباب الأول: (باب جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام من غير تقدم الإعلام بالإغارة).
لأنهم قد سبقتهم دعوة الإسلام ابتداءً، وهذه المسألة محل نزاع بين أهل العلم، فمنهم من جوز الإغارة مطلقاً، ومنهم من منعها مطلقاً، والصواب -وهو الرأي الثالث- أن من بلغتهم دعوة الإسلام فالإغارة عليهم جائزة، ومن لم تبلغهم دعوة الإسلام فالإغارة عليهم ممنوعة إلا بعد إعلامهم بدعوة الإسلام، في هذا الباب حديث ابن عون أنه قال: [كتبت إلى نافع وهو مولى عبد الله بن عمر أسأله عن الدعاء قبل القتال، أي: عن دعوة الناس قبل قتالهم.
قال: فكتب إلي: (إنما كان ذلك في أول الإسلام.
قد أغار النبي صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون -أي: وهم غارون في بيوتهم لا يعلمون عن قتاله عليه الصلاة والسلام شيئاً- وأنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم وسبى سبيهم، وأصاب يومئذ جويرية بنت الحارث)].(101/2)
باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث
والباب الثاني: (باب: تأمير الإمام الأمراء على البعوث، ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها).
أي: باب: وجوب تأمير الإمام العام الأمراء على البعوث والسرايا، ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها.
فيه حديث سليمان بن بريدة عن أبيه [قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله عز وجل ومن معه من المسلمين خيراً)] أوصاه في نفسه وفيمن معه من المسلمين خيراً وأوصاه بتقوى الله.
[ثم قال: (اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا)] والغلول: هو الأخذ من الغنيمة قبل توزيعها.
أي: بغير إذن الإمام.
قال: [(ولا تغدروا ولا تمثلوا)] أي: لا تقطعوا الجثث بعد موتها، فإذا مات انتهى أمره، وليست هناك حاجة ولا ضرورة إلى التمثيل بجثته أو تقطيعها.
قال: [(ولا تقتلوا وليداً)] أي: ولا تقتلوا صبياً أو طفلاً صغيراً.
قال: [(وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم: ثم ادعهم إلى الإسلام -ادعهم أن يدخلوا في هذا الدين- فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم -أي: لا تقاتلهم- ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين)] أي: من بلد الكفر إلى المدينة المنورة.
قال: [(وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين)] لأن الأعراب والبدو لهم أحكام في الشرع تخصهم خاصة في نتاج الجهاد.
قال: [(يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء)] وهذا هو حكم البدو الذين لم يشاركوا في القتال.
قال: [(ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم)].
إذاً: المرحلة الأولى: ادعهم إلى الإسلام، فإن أبوا فاقبل منهم الجزية، فإن أبوا فقاتلهم.
وهذه المراحل الثلاث مراحل جهاد الطلب؛ لأنه لا يتصور أبداً في جهاد الدفع أن يفرض المسلمون على العدو أن يدخلوا في الإسلام، خاصة وأن العدو قد أتاهم من بلاده ليقاتل المسلمين في بلادهم، وما سمي جهاد الدفع بهذا الاسم إلا لأنك تدفع العدو إذا أغار عليك، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام جوز للمسلمين أن يغيروا على بلاد الكفر ويخيروهم بين ثلاث: الإسلام، أو دفع الجزية عن يد وهم صاغرون، أو القتال.
فقال: [(فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم)] أي فإن أبوا أن يدفعوا الجزية فاستعن بالله وقاتلهم.
قال: [(وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذممكم -أي: إن ترجعوا عن هذه الذمة أو تخطئوا فيها- خير لكم وأهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تُنزلهم على حكم الله فلا تُنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري: أتُصيب حكم الله فيهم أم لا)].(101/3)
باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير
والباب الثالث: في الأمر بالتيسير وترك التنفير، وليعلم العالم أن الجهاد في سبيل الله مبني على التيسير والتبشير، وترك التنفير والتعسير، وهذا باب اعتراضي في أثناء أبواب الجهاد؛ ليدل على أن الجهاد باب عظيم جداً من أبواب رحمة الله تعالى بخلقه.(101/4)
باب تحريم الغدر
في الباب الرابع يتكلم عن بيان تحريم الغدر، وفيه: حديث ابن عمر وحديث ابن مسعود وحديث أنس وحديث أبي سعيد الخدري.
وهذه الأحاديث كلها بمعنى واحد، فحديث عبد الله بن عمر يقول: [سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا جمع الله الأولين والآخرين -أي: يوم القيامة- يُرفع لكل غادر لواء عند استه -أي: عند مؤخرته- ويقال على الملأ وعلى رءوس الأشهاد: هذه غدرة فلان ابن فلان)] وفي رواية بزيادة يقول فيها: (ألا ولا غادر أعظم غدراً من أمير عامة) ليس هناك غدر أعظم من غدر إمام لعامة، وإمام العامة هو صاحب الولاية العامة كرئيس دولة، أو محافظ، أو وزير، أو غير ذلك ممن تولى الإمارة العامة والرئاسة العامة، وكان في يده نوع من أنواع الولاية العامة لا الولاية الخاصة، فإذا غدر هذا فلا شك أنه أعظم غدراً؛ لأنه يغش الأمة بأسرها حينئذ.
وما ضيع إخواننا المجاهدين في أفغانستان إلا غدر أئمة العامة، فهؤلاء المنافقون يتظاهرون بالإسلام ابتداء وهم يبطنون النفاق ويبطنون اعتقادهم مذهب الشيوعية، كما أن منهم أصحاب مصالح ووجاهة وكراسي، وتصبو أعينهم إلى رئاسات يركنون من أجلها إلى الغرب تارة وإلى الشرق تارة أخرى، فلو أن الجاهل سكت لقل الخلاف، ولو أن الله تعالى نجى المجاهدين المخلصين الموحدين من غدر الغادرين في هذه البلاد لكانت الحرب قد وضعت أوزارها منذ زمن بعيد، ولكن شاء الله عز وجل أن يسلط هؤلاء على أولئك حتى يبتليهم ويختبرهم؛ ليميز الله الخبيث من الطيب، وهذه سنة كونية في الكون، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام أول من ابتلي بذلك.
أنتم تعلمون أن صفوف المنافقين في المدينة كثيرة، وقد نخروا في عظام الإسلام في صدره الأول، والنبي عليه الصلاة والسلام عرفهم، ولكنه تركهم لحكمة عظيمة مخافة أن يقول الناس: إن محمداً يقتل أصحابه، وليسوا أصحابه في الحقيقة، وإنما هم كفار منافقون.(101/5)
باب جواز الخداع في الحرب
بعد أن تكلم الإمام عن حرمة الغدر بين أن الغدر في الحرب جائز، حتى لا يُعمم هذا الحكم الأول وأن الغدر كله ممنوع، وإنما الخدعة في الحرب نوع من أنواع الغدر وهي جائزة، فقال: (باب: جواز الخداع في الحرب، أما في غير الحرب فلا).
وقال عليه الصلاة والسلام: (الحرب خدعة).
وأنتم تعلمون أن الخداع في الحرب ربما يكون نوعاً من الكذب، أو ربما يستلزم الكذب، وحينما أرسل النبي عليه الصلاة والسلام في إثر أبي الحقيق أو غيره من المشركين والمنافقين لقتلهم قال من تولى المهمة: يا رسول الله! ائذن لي، أي: أن أقول فيك قولاً لا أعتقده، فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ثبت في الحديث أن الكذب حرام إلا في ثلاث مواطن: الكذب على العدو -أي: في الحرب- والكذب على الزوجة، وكذلك الكذب للإصلاح بين المتخاصمين، وقد صحت بذلك الأدلة.(101/6)
باب كراهة تمني لقاء العدو، والأمر بالصبر عند اللقاء
الباب السادس: (باب: كراهة تمني لقاء العدو، والأمر بالصبر عند اللقاء).
فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(لا تمنوا لقاء العدو، فإذا لقيتموهم فاصبروا)] أي: لا تتمنوا لقاء العدو، وإذا لقيتموهم فاصبروا.
[وعن أبي النضر عن كتاب رجل من أسلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له: عبد الله بن أبي أوفى المصري: أنه كتب إلى عمر بن عبيد الله حين سار إلى الحرورية وهم شر فرق الخوارج: (يخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في بعض أيامه التي لقي فيها العدو ينتظر حتى إذا مالت الشمس قام فيهم)] أي: أنه ينتظر حتى تزول الشمس أي: بعد الظهيرة [(فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يا أيها الناس! لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا)].
وكثير من الإخوة يتمنى لقاء العدو أياً كان نوع هذا العدو، فإذا لقيه خار ولم يصبر؛ لمخالفته سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فالأصل أن الإنسان يسأل ربه العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، فإذا ما اضطر إلى الوجود في أرض البلاء في يوم من الأيام فليطلب من الله تعالى الصبر على هذا البلاء، أما قضية الفتوة فإنها لا تصح في هذا الموقف أبداً، فأنت منهي أن تتمنى لقاء العدو، أما إذا فُرض العداء عليك فالرجولة والشهامة والإيمان أن تصبر في هذا الموقف.
قال: [(واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف)] أي: أن السيوف سبب لدخول الجنة، وهذا يعني: الشهادة في سبيل الله، وأنتم تعلمون أن الشهيد من أهل الجنة.
قال: [(ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم)].
ولذلك يُسن الدعاء ويستحب استحباباً أكيداً في وقت القتال والمنازلة.(101/7)
باب تحريم قتل النساء والصبيان في الحرب
الباب الثامن: (باب تحريم قتل النساء والصبيان في الحرب).
أي: باب تحريم قتل نساء الكفار وأطفال الكفار في الحرب، والمقصود: باب: تحريم قصد قتلهم، لكنهم يُقتلون تبعاً، فإذا كان لا يمكن قتل العدو المراد قتله إلا من خلال قتل النساء والصبيان فلا بأس بذلك؛ لأن المسلم لا يقصد قتل الأطفال والنساء ابتداء، وإنما يقصد قتل العدو المعادي المحارب، فلما لم يمكن قتله إلا بقتل من معه من النساء والأطفال فهم منهم، أي: يأخذون أحكامهم.
فعن عبد الله [: (أن امرأة وجدت في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم مقتولة فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان)].
وفي رواية: (نهى عن قتل النساء والصبيان).(101/8)
باب جواز قتل النساء والصبيان في البيات من غير تعمد
الباب التاسع يبين الاستثناء من الباب الأول باب: النهي عن قتل النساء والصبيان، فيبين جواز قتل النساء والصبيان في البيات من غير تعمد.
في البيات أي: في الإغارة عليهم وهم غارون؛ لأن ذلك لا يمكن أبداً أن يميز السيف أو السهم أو الطائرة أو الدبابة، بينما إذا كان هذا طفلاً وذاك رجلاً محارباً، فالسهم ينطلق فيأخذ كل من كان في طريقه، فأنا ما ضربت السهم لقتل النساء والأطفال، وإنما أطلقته لقتل المحارب الذي يحاربني، فأصاب طفلاً أو امرأة فلا بأس في هذه الحالة، وهذه حالة لا يشملها النهي الأول.
فعن الصعب بن جثامة قال: [(سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الذراري من المشركين؟ -أي: عن أطفال المشركين- يبيتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم؟ فقال: هم منهم)].
أي: يشتركون معهم في الحكم؛ لأنك ما تعمدت قتل هؤلاء وإنما تعمدت قتل الرجال المحاربين.
وفي رواية: (هم من آبائهم).(101/9)
باب جواز قطع أشجار الكفار وتحريقها
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: [(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير وقطع -أي: حرق بعضاً وقطع بعضاً آخر- وهي البويرة)] بستان عظيم جداً لبني النضير في عوالي المدينة، في قرية على مشارف المدينة، وهي الآن من داخل المدينة، تسمى البويرة.
وقال الله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} [الحشر:5] واللينة: هي أنواع الثمر كلها إلا العجوة.
قال تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر:5].
وقال حسان بن ثابت عن تقطيعه نخل بني النضير وهذا البستان كان لسراة أو غناة اليهود في ذلك الزمان.
قال: وهان على سراة بني لؤي حريق بالبويرة مستطير أي: أنه هان عليهم ذلك، وحرق النبي عليه الصلاة والسلام نخل بني النضير، مع أن الأصل المنع، لكن هذا نوع من أنواع الإثخان في العدو بتحريق نخيله وقطع ثماره وغير ذلك.(101/10)
باب تحليل الغنائم لهذه الأمة خاصة
الباب الحادي عشر: (باب: تحليل الغنائم لهذه الأمة خاصة).
وكانت الغنائم محرمة على كل نبي سبق إلا على نبينا عليه الصلاة والسلام وعلى أمته كذلك، فهي حلال للنبي عليه الصلاة والسلام ولأمته معه ومن بعده صلى الله عليه وسلم.
فهذا أبو هريرة رضي الله عنه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [(غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه: لا يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبن)] أي: أنه عقد على امرأة، ولم يبن بها؛ لأن هذا الرجل مشغول بامرأته وبيته ونكاحه، ومشغول بيوم لقائه بهذه المرأة، وهذا يبين أن المشغول لا يصلح في الغالب في الجهاد، وإنما الجهاد يحتاج إلى تفريغ وقت وجهد وبذل للنفس والمال، وهذه أحكام تجري مجرى الغالب، وإلا فهناك من يتزوج الثانية والثالثة والرابعة ويترك هؤلاء جميعاً ويذهب للجهاد في سبيل الله، فهذا يُحفظ ولا يقاس عليه، أما الغالب فهو أن من ملك بضع امرأة فإنه لا يتفرغ للجهاد؛ ولذلك حينما روى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكلام عن الأنبياء السابقين لم يُعقب عليهم بالخطأ، وإنما رواه وسكت عنه.
قال: [(ولا آخر قد بنى بنياناً ولما يرفع سقفها)] أي: أن واحداً بنى بيتاً ولم يسقفه بعد، فهو مشغول جداً بإتمام هذا البناء ورفعه.
قال: [(ولا آخر قد اشترى غنماً أو خلفات -أي: حوامل- وهو منتظر ولادها)] وهذا عند العرب له قيمة عظيمة جداً، وتتعلق به قلوبهم.
قال: [(فغزا هذا النبي فأدنى للقرية حين صلاة العصر)] أي: اقترب من القرية التي يريد أن يقاتل أهلها وقت صلاة العصر.
قال: [(أو قريباً من ذلك فقال للشمس: أنتِ مأمورة وأنا مأمور.
اللهم احبسها علي شيئاً فحُبست عليه حتى فتح الله عليه)] هذه الجزئية في الحديث غصة في حلوق من يزعمون أنهم أصحاب العقول النيرة، ويقولون: الشمس آية من آيات الله، لا تُحبس لأحد قط، ونحن نخالفهم في ذلك، وقد صح الحديث أن النبي طلب من ربه أن يحبس الشمس عليه شيئاً حتى يستطيع مواصلة القتال قبل دخول الليل؛ لأن العرب قبل دخول الليل كانوا يكفون عن القتال ولا يقاتلون في الليل، وإنما يقاتلون في النهار ويستريحون في أول الليل، ويسيرون في آخر الليل، فلما قارب فتح هذه القرية قبيل المغرب طلب هذا النبي من ربه أن يحبس الشمس في مكانها بغير نقصان أو نزول أو غروب حتى يفتح عليه القرية، فحبس الله تعالى له الشمس، وهذه آية وعلامة من علامات نبوة ذاك النبي.
قال: [(فجمعوا ما غنموا -أي: من هذه القرية- فأقبلت النار لتأكله فأبت أن تطعمه)] وكانت هذه علامة قبول هذا العمل من النبي ومن أمته قبل نبينا عليه الصلاة والسلام، كانوا إذا غنموا غنيمة معينة جمعوها ولم يستثنوا منها شيئاً، فتنزل من السماء نار فتأكل هذه الغنائم، وأكل النار لهذه الغنائم دليل على قبول الله تعالى لهذا العمل، فجمع هذا النبي تلك الغنائم من هذه القرية، فنزلت النار ولم تأكل وأبت أن تطعم هذه الغنائم، فأدرك النبي العلة: [(فقال: فيكم غلول)] أي: لا بد أن أحدكم غل، وأخذ من الغنائم، ولا نقول قبل توزيعها؛ لأنه لا توزيع لها، إنما التوزيع في شريعتنا.
فقال: (فيكم غلول) أنتم يا معشر المجاهدين معي قد غل أحدكم، أو غلت إحدى القبائل أو الأقوام المجاهدين معي، ولذلك أبت النار أن تأكل الغنيمة.
فقال: [(فليبايعني من كل قبيلة رجل)] كل قبيلة تندب رجلاً منها فليبايعني، ويضع يده في يدي.
قال: [(فبايعوه فلصقت يد رجل بيده)] وهذا علامة على أن الغلول في قومه، ولا يلزم أن يكون هو الذي غل.
فقال: [(فيكم الغلول.
فلتبايعني قبيلتك)] أي: واحداً واحداً [(فبايعته فلصقت بيد رجلين أو ثلاثة)] أي: لصقت يد هذا النبي بيد رجلين أو ثلاثة [(فقال: فيكم الغلول.
أنتم غللتم)] أي: أنتم الذين أخذتم من الغنيمة.
قال: [(فأخرجوا له مثل رأس بقرة من ذهب.
قال: فوضعوه في المال وهو بالصعيد -أي: في ناحية من الأرض- فأقبلت النار فأكلته)].
الشاهد من هذا الحديث: قوله عليه الصلاة والسلام: [(فلم تحل الغنائم لأحد من قبلنا، ذلك بأن الله تبارك وتعالى رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا)].
فالغنائم كانت حراماً على كل أمة سبقت هذه الأمة المباركة، وأحلها الله عز وجل لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام ولأمته، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أُحلت لنا خمس) وذكر من بينها الغنائم.(101/11)
باب الأنفال
الباب الثاني عشر: باب الأنفال.
قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال:1]، وقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال:41] إلى آخر الآيات، فمحل النفل قيل: هو أصل الغنيمة.
أي: أن كل الغنيمة التي يغنمها المسلمون من حربهم مع الكافرين.
أي: كل ما يغنمه المسلمون من الكفار أنفال.
والرأي الثاني: أن النفل هو أربعة أخماس الغنيمة.
والرأي الثالث وهو الصواب: أن الأنفال هي خمس الخمس، أو أن الأنفال الخمس الباقية.
فيُجعل أنصبة المجاهدين من الأربعة أخماس، والخمس الخامس هو الأنفال، ويجعل توزيعه أو تفريقه أو عدم تفريقه للإمام، والتنفيل ثابت بالإجماع، ويكون التنفيل لمن صنع في الحرب صنيعاً غير عادي، أي: أنه بذل مجهوداً خارقاً جداً، فبلا شك أن هذا يحتاج إلى مزيد عناية وعطية أكثر من الجيش، فإن رأى الإمام أن يعطيه أعطاه فضلاً عن سهمه في الأربعة أخماس.
أي: أنه يأخذ سهمه الطبيعي أولاً، ثم ينفل من الخمس الخامس، فهذه هي الأنفال، ولا تكون إلا بإذن الإمام، وتكون في كل غنيمة إلى قيام الساعة، فالأنفال هي العطايا من الغنيمة -كما قلنا- غير السهم المستحب.
عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: (أخذ أبي من الخمس سيفاً فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هب لي هذا، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يهب له السيف، فأنزل الله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال:1]) أي: لا يفرض على الإمام شيء في أن يهب فلاناً أو لا يهب آخر.
ولذلك قال سعد: (نزلت في أربع آيات: أصبت سيفاً فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم) أصبت سيفاً في غزوة من الغزوات، ولكنه أُعجب به جداً فأراد أن يأخذه إما من الغنيمة أو من الأنفال إما من أصل الغنيمة أربعة أخماس أو من الأنفال، وإذا كان هذا أو ذاك فلا بد أن يأذن الإمام وإلا صار غلولاً؛ ولذلك أتى ليستأذن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: (ضعه -لا تأخذه- ثم قام فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ضعه من حيث أخذته، ثم قام فقال: يا رسول الله! نفلنيه -أعطنيه من باب النافلة- فقال: ضعه، فقام فقال: يا رسول الله! نفلنيه -عدة مرات- أأجعل كمن لا غناء له؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ضعه من حيث أخذته، فنزلت هذه الآية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال:1])].
[وعن ابن عمر قال: (بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية وأنا فيهم قِبل نجد -ونجد الآن هي الرياض وما حولها من المدن- فغنموا إبلاً كثيرة، فكانت سهمانهم اثنا عشر بعيراً أو أحد عشر بعيراً)] أي: أن أسهمهم من أصل الغنيمة لكل واحد اثنا عشر بعيراً أو أحد عشر بعيراً.
قال: [(ونُفلوا بعيراً بعيراً)] أي: من الخمس الخامس أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم فوق سهمهم -الذي هو اثنا عشر بعيراً- لكل واحد بعيراً بعيراً.
إذاً: فهم أخذوا اثني عشر بعيراً وهذا سهم القتال، وأخذوا فوق ذلك بعيراً بعيراً من الأنفال.(101/12)
باب استحقاق القاتل سلب القتيل
الباب الثالث عشر: (باب: استحقاق القاتل سلب القتيل).
هو في الحقيقة ليس من باب الوجوب، وإنما من باب النافلة للتشجيع، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (من قتل قتيلاً فله سلبه)، ولو أن سلب القتيل واجب رده أو دفعه إلى قاتله لما كان هناك غنائم ولما بقي للجيش غنائم، وإنما هذا من باب الاستحباب والنافلة؛ حتى يبذل المجاهدون أقصى ما في وسعهم من إثخان العدو.
[عن عمر بن كثير عن أبي محمد الأنصاري واقتص الحديث]، والحديث سيأتي معنا وهو: [عن أبي قتادة قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حنين، فلما التقينا كانت للمسلمين جولة قال: فرأيت رجلاً من المشركين قد علا رجلاً من المسلمين، فاستدرت إليه حتى أتيته من ورائه -وهذا كلام أبي قتادة - فضربته على حبل عاتقه، وأقبل علي فضمني ضمة شممت منها رائحة الموت، ثم أدركه الموت فأرسلني -أي: تركني- فلحقت عمر بن الخطاب فقال: ما للناس؟ فقلت: أمر الله -أي: شيء من الهزيمة قد لحق الناس- ثم إن الناس رجعوا، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من قتل قتيلاً له عليه بينة)] وهذا محل نزاع بين أهل العلم: هل يلزم إقامة البينة على أن فلاناً قتل فلاناً أم لا يلزم؟ الراجح من أقوال أهل العلم وهو ظاهر النصوص: أن البينة لازمة: (من قتل قتيلاً له عليه بينة) وهذا شرط، وإلا فلو كانت البينة غير لازمة لادعى أناس دماء أناس وأموالهم، أي: لو لم تكن البينة لازمة في مثل هذه الأمور لادعى أقوام أنهم قتلوا وسلبوا.
قال: (من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه).
والسلب هو: المتاع من خيل أو إبل أو عدة أو عتاد أو ذهب أو غير ذلك أي: كل ما تركه القتيل.
هذا يسمى السلب.
قال: (فقمت فقلت: من يشهد لي؟) أبو قتادة يقول: هل فيكم أحد يشهد لي أني قتلت فلاناً؟ قال: [(فقمت فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست، ثم قال مثل ذلك فقال: فقمت فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست، ثم قال ذلك الثالثة، فقمت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما لك يا أبا قتادة؟! فقصصت عليه القصة فقال رجل من القوم: صدق يا رسول الله! -هو الذي قتل فلاناً من الكفار- سلب ذلك القتيل عندي)] أي: هذا الذي قتله [أبو قتادة سلبه عندي، وأنا رأيت أبا قتادة يقتله (فأرضه من حقه، وقال أبو بكر الصديق: لاها الله)] يحلف أبو بكر أنه لا يمكن أحد أن يأخذ شيئاً إلا ببينة.
قال: [(إذاً: لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله وعن رسوله فيعطيك سلبه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق.
فأعطه إياه)] أي: صدق أبو قتادة والشاهد الذي شهد له.
فأعطه سلبه، وكان أبو بكر الصديق يريد أن يمنعه ذلك السلب ويقول: يعمد أحدكم إلى أسد من أسد الله فلا يأخذ شيئاً، ثم هو يدعي أنه قتل فلاناً أو فلاناً، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم صدق الخبر في قتل أبي قتادة لذلك الكافر بوحي السماء.
قال أبو قتادة: ([فأعطاني -أي: السلب- قال: فبعت الدرع فابتعت به مخرفاً في بني سلمة)] أي: بستاناً عظيماً في بني سلمة.
قال: [(وإنه لأول مال تأثلته في الإسلام)] أي: اغتنمته في الإسلام.
[وعن عبد الرحمن بن عوف: أنه قال: (بينما أنا واقف في الصف يوم بدر نظرت عن يميني وشمالي فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما -أي: صغار في السن- تمنيت لو كنت بين أضلع منهما)].
وكأن عبد الرحمن يقول: تمنيت لو كنت بين اثنين من الكبار، ولكني نظرت عن يميني وشمالي فإذا أنا بين غلامين صغيرين.
قال: [(فغمزني أحدهما فقال: يا عم! هل تعرف أبا جهل؟ قال: قلت: نعم.
وما حاجتك إليه يا ابن أخي؟! قال: أُخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم)] هذا طفل يغار على عرض النبي عليه الصلاة والسلام، وأمتنا الآن لا تغار على دين ولا شرع ولا رسالة ولا وحي ولا نبوة ولا أي شيء، أمة جديرة بأن تُسحق لولا أن الله كتب لها البقاء.
قال: [(أُخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده -أي: لا أفارقه ولا أفارق شخصه- حتى يموت الأعجل منا)] أي: حتى يُقضى بالموت على من كُتب له أن يموت أولاً.
قال عبد الرحمن بن عوف: [(فتعجبت لذلك)] أي: من هذا الطفل الصغير الذي عنده هذه الغيرة وهذه الحمية على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: [(فغمزني الآخر -أي: الذي عن شماله- فقال مثلها.
قال: فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يزول في الناس -أي: يصول ويجول، ويذهب(101/13)
باب التنفيل وفداء المسلمين بالأسرى
الباب الرابع عشر: (باب التنفيل وفداء المسلمين بالأسرى).
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا زهير بن حرب - أبو خيثمة النسائي - حدثنا عمر بن يونس حدثنا عكرمة بن عمار حدثني إياس بن سلمة وهو ابن سلمة بن الأكوع قال: حدثني أبي قال: (غزونا فزارة وعلينا أبو بكر -أي: كان أمير الجيش أبا بكر - أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا، فلما كان بيننا وبين الماء ساعة -الساعة في لغة العرب تطلق على بعض الوقت- أمرنا أبو بكر فعرسنا)] والتعريس: هو النزول آخر الليل للراحة، وليس للمبيت ولا للإقامة.
قال: (ثم شن الغارة) أي: بعد هذا التعريس شن الغارة، ومعنى شن: فرق الناس.
أي فرق أبو بكر الناس هنا وهناك، حتى يهيج العدو ويجعلهم في حيرة من أمرهم من يقاتلون، فإنه إذا تفرق الجيش هنا وهناك فإن العدو يحار: يُقاتل من ويدع من؟ وهذا من باب إشغال العدو، أو من باب فقدانه السيطرة على مواقع القتال والضرب، وهذه خطة عسكرية.
نسأل الله أن ينبه إليها إخواننا في أفغانستان وغيرها.
قال: [(ثم شن الغارة فورد الماء فقتل من قتل عليه وسبى، وأنظر إلى عنق من الناس -أي: جمع من الناس من فزارة- فيهم الذراري -أي: فيهم الأطفال الصغار- فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل، فرميت بسهم بينهم وبين الجبل، فلما رأوا السهم وقفوا)] وهذه خطة ظريفة: قوم من فزارة من الكفار أرادوا أن يلجئوا إلى الجبل؛ ليحتموا به، وذلك حينما رأوا الجنود تفرقوا هنا وهناك، قال: وخشيت أن أضربهم بسهم فيصيب الذراري، أي: أنه احترز بقدر الإمكان أن يصيب الأطفال وهذا هو الأصل، لكن إذا لم يكن قتل الكبار إلا بقتل الأطفال جاز، وأنتم تعلمون ذلك.
قال: [(فرميت بسهم بينهم وبين الجبل، فلما رأوا السهم -أمامهم- وقفوا، فجئت بهم جميعاً أسوقهم، وفيهم امرأة من بني فزارة عليها قشع -أي: نطع: قطعة من الجلد- من أدم.
قال: مع ابنة لها من أحسن العرب)] أي: امرأة جميلة.
وانظر إلى قوله: (معهم ابنة لها من أحسن العرب) وهذا يدل على جواز أسر العرب؛ لأن بعض أهل العلم قال: لا يجوز أسر العرب، وإنما يجوز أسر غير العرب من العجم وغيرهم.
قال: [(فسقتهم حتى أتيت بهم أبا بكر فنفلني أبو بكر ابنتها)]، وفي هذا رد على من يزعم أن النفل للرسول صلى الله عليه وسلم فحسب، فقد نفله أبو بكر هذه المرأة الجميلة.
قال: [(فقدمنا المدينة وما كشفت لها ثوباً)] أي: وما كشفت لهذه البنت ثوباً، وهذا كناية عما يُستقبح ذكره إذا كان اللفظ يؤدي الغرض، وهكذا ألفاظ القرآن وألفاظ السنة رائعة أيما روعة في طرح هذه المسائل المستقذرة المستقبحة بأسلوب عربي أصيل مبين لا يثير الغرائز، فلو أن واحداً كُلف بكتابة قصة -ولتكن قصة يوسف عليه السلام- لربما كتب قصة أثارت غرائز كل من قرأها أو جُل من قرأها، ولكنك تقرأ بالليل والنهار سورة يوسف عليه السلام فلا تتحرك فيك كوامن الغريزة أبداً؛ لأنه كلام اللطيف الخبير سبحانه وتعالى، وهذا الرجل سلمة بن الأكوع عبر بهذا.
قال: (وما كشفت لها ثوباً) كناية عن أنه لم يجامعها؛ لأنه بمجرد أن ينفله الإمام إياها حل له جماعها.
فقال: [(فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم في السوق فقال: يا سلمة! هب لي المرأة -أي: اعطها لي من باب الهبة- فقلت: يا رسول الله! والله لقد أعجبتني)] أي: أنها أعجبتني جداً، فكيف أعطيها لك؟ قال: [(وما كشفت لها ثوباً، ثم لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد في السوق فقال لي: يا سلمة! هب لي المرأة لله أبوك)] كأنه يقول: لله درك، وهذا من كلام العرب يُطلق للتدليل والمؤانسة.
فكأنه يقول له: يغفر الله لأبيك! أعطني هذه المرأة على سبيل الهبة.
[(فقلت: هي لك يا رسول الله!)] فانظروا إلى عدم ضن الصحابة رضي الله عنهم بأغلى ما يملكون للنبي عليه الصلاة والسلام، فهذه المرأة من أجمل بنات العرب، ومن يملكها منا لا يفرط فيها، وما ينزل بالمسلمين هو منهم ومن أنفسهم، فنحن نضن على الله تعالى بأموالنا وأنفسنا، والواحد منا يحب الدينار أكثر من حبه لله ورسوله، فإنه عند المحك الطبيعي الذي يحتك بحياتك تأبى أن تتحاكم للإسلام، أما في وقت السلام والإسلام لا يمس حياتك تزعم أنك تقبل الإسلام بكل نواحيه وجوانبه، فإذا ما مس الإسلام شيئاً من حياتك تبرمت وتنكرت وربما جحدت، أما سلمة فقال: [(هي لك يا رسول الله! فوالله ما كشفت لها ثوباً -إكراماً للنبي عليه الصلاة والسلام- فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة، ففدى بها ناساً من المسلمين)].
انظروا! فالنبي صلى الله عليه وسلم لم ي(101/14)
باب حكم الفيء
الباب الخامس عشر: (باب حكم الفيء).
وفي الحقيقة لا بد أن نفرق بين الفيء والغنيمة.
أما الغنيمة فهي: ما غنمه الجيش بعد قتال، استمر بينهم وبين المشركين قتال حتى كُتب لأهل الإسلام النصر وأخذ الغنائم.
هذه الغنائم تُقسم خمسة أخماس، أربعة أخماس هي أسهم المجاهدين رجالاً وركباناً، أما الراجل الذي يمشي على رجليه له سهم، وأما الراكب فله سهمان.
والخمس الخامس هو الأنفال، ويُقسم على النحو الذي ذكرناه آنفاً.
أما الفيء فهو: ما أفاء الله تعالى على المسلمين من غير قتال، ويُجعل للإمام، فخمس الأنفال للإمام يجعله حيث شاء، وكذلك الفيء كله للإمام يفرقه حيث يشاء ويمنعه ممن شاء؛ لأن هذا فيء لم يوجفوا عليه بخيل ولا ركاب، إما أن تُفتح بصلح أو معاهدة أو اتفاق أو غير ذلك، لكن إذا كانت البلد تُفتح عنوة -أي: بالقتال- فيكون أمرها في الغنيمة.
قال المصنف رحمه الله: [حدثنا أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى- ومحمد بن رافع قال: حدثنا عبد الرزاق -وهو ابن همام الصنعاني اليمني - أخبرنا معمر -وهو ابن راشد البصري اليمني - عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فذكر أحاديث منها هذا الحديث وهو: (أيما قرية دخلتموها وأقمتم فيها -أي: فتحت لكم صلحاً- فإنما طعامكم وشرابكم وأسهمكم فيه.
وأيما قرية عصت الله ورسوله -أي: أبت فقوتلت- فإن خمسها لله ولرسوله، ثم هي لكم)].
أي: باقي هذه الغنائم لكم بعد ذلك، وكأنه يفرق بين قرية فُتحت سلماً وصلحاً وبين قرية فتحت عنوة، أما القرية التي فتحت صلحاً وسلماً بغير قتال فحكم الداخل منها حكم الفيء: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [الحشر:7] ومن بعده الأئمة والولاة والسلاطين، إذا فُتحت لهم قرية صلحاً أو سلماً فهي للإمام يفرقها حيث شاء، كما لو كان يفعل ذلك في باب الأنفال، وأما إذا فُتحت عنوة فإن لله ولرسوله من هذه الغنائم الخمس يفرقها الإمام أنفالاً ينفل به من شاء، ويمنعه ممن شاء، ويستحب أن يُعطي كل قتيل سلبه من الأنفال، أما الأربعة أخماس الباقية فإنها للجند الذين قاتلوا.
[وحدثنا قتيبة بن سعيد ومحمد بن عباد وأبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم -المعروف بـ ابن راهويه واللفظ لـ ابن أبي شيبة - قال إسحاق: أخبرنا وقال الآخرون: حدثنا].
ولا يزال العلماء يفرقون بين اللفظين على اعتبار أن (حدثنا) لا تستخدم إلا في السماع الصريح، أما (أخبرنا) فتستخدم في السماع وفي الإجازة.
[قال الآخرون: حدثنا سفيان -وهو ابن عيينة - عن عمرو بن دينار المكي عن الزهري عن مالك بن أوس] وهو مالك بن أوس بن الحدثان وبعضهم أسقط الزهري وأخطأ في ذلك.
[قال مالك بن أوس: عن عمر قال: (كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله) وبنو النضير أنتم تعلمون أنهم كانوا يسكنون عوالي المدينة، وبنو النضير هم الذين أرادوا أن يقتلوا النبي عليه الصلاة والسلام بحجر من على السطح.
قال: [(كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله، مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب)].
الإيجاف: الإسراع.
أي: أنه لم يشتد المسلمون لقتال بني النضير، وإنما فتحها الله تعالى سلماً.
قال: [(فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة)] لم يقل: كان خمسها.
وإنما قال: فكانت؛ وذلك لأنها أتت إلى المسلمين عن طريق الفيء وليس عن طريق الغنيمة.
قال: [(فكان النبي صلى الله عليه وسلم يُنفق على أهله نفقة سنة)] أي: يحجز لنسائه ومواليه ما يكفيهم لمدة عام، وهذا جائز خاصة في وقت ليس فيه استغلال ولا قحط ولا جدب وإلا فلا يحل ذلك في أوقات الشدة، كمن يذهب إلى السوق فيشتري طعاماً يكفي لمدة سنة أو سنتين أو أقل من ذلك أو أكثر، وهو يعلم أن المسلمين يمرون بجدب وقحط وجوع، فلا يحل له ذلك، بل ينبغي أن يموت مع من يموت وأن يعيش مع من عاشوا.
نعم.
يشاركهم آلامهم وأحزانهم، أما أن يحرص على نجاته وإن كان في ذلك هلاك الآخرين فلا، ليس هذا من أخلاق الإسلام.
ولذلك ضرب المثل الرائع في ذلك عمر بن الخطاب ناهيك عن النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو المثل الأعلى في كل شيء، ولو أنك فتشت في سيرته وحياته لوجدت أنموذجاً حياً نقياً طيباً مباركاً له في كل مجالات الحياة، أما عمر فهو الذي حرم نفسه من أن يأكل حتى يشبع أطفال المسلمين، وأن ينام حتى يشبع أطفال المسلمين، وما كان نومه إلا خفقات فإذا حُدث في ذلك قال: إن(101/15)
شرح صحيح مسلم - كتاب الأيمان والنذور - أحكام النذر
النذر لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل، فمن نذر نذر طاعة فقد أوجب على نفسه هذه الطاعة، وأما من نذر أن يعصي الله فلا يعصه، ومن شروط النذر أن يكون الناذر مكلفاً عاقلاً بالغاً مختاراً، ومتى ما فقد شرط من هذه الشروط لم يلزمه الإتيان به.(102/1)
تعريف النذر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: النذر في اللغة: هو الإيجاب.
وبين هذا التعريف اللغوي والتعريف الاصطلاحي وجه عظيم من أوجه الشبه، وهو: أن المرء يوجب على نفسه ما لا يوجبه الله عز وجل عليه.
وهو في اصطلاح الفقهاء: إلزام مكلف مختار نفسه لله تعالى بالقول شيئاً غير لازم بأصل الشرع.
وقوله: (مكلف) احتراز من غير المكلف، وغير المكلف هو الصبي الذي لم يبلغ، والمجنون غير العاقل، فلو أن مجنوناً ألزم نفسه بنذر لم يلزمه الوفاء؛ لأنه ليس مكلفاً، كما أن الصبي الذي لم يبلغ لو نذر لله نذراً مشروطاً أو مطلقاً وتحقق شرطه فإنه لا يلزمه الوفاء بالنذر؛ لأنه ليس من أهل التكليف.
وكذلك لو أكره عبد مكلف عاقل على النذر لله عز وجل لم يلزمه الوفاء؛ لأن الإكراه في أصح أقوال أهل العلم لا يقع به التكليف.
فلو أن صاحب السلطة حبس رجلاً في زنزانة وحمله على أن يطلق امرأته وإلا فعل به كيت وكيت وكيت، وهو قادر على تنفيذ تهديده لم يقع طلاقه، أما إن كان لا يملك ولا يقدر على إيقاع التهديد فلا، فشرط الإكراه أن يملك المكرِه تنفيذ ما هدد إيقاعه بالمكرَه، فلو أن مكرهاً أكره على النذر لم يلزمه الوفاء.
فالنذر في الشرع: هو إلزام مكلف عاقل مختار على نفسه لله عز وجل ما لم يوجبه الشرع ابتداء عليه، كأن يقول المكلف العاقل البالغ المختار: يا رب! لو أني نجحت في الجامعة فسأذبح لله شاة، فهذا نذر مشروط بالنجاح، وهو لم يكن يلزمه لو لم ينذر، فالنذر هو: إلزام المكلف العاقل البالغ المختار نفسه ما لم يلزمه الشرع ابتداءً.
وهناك ارتباط وثيق بين المعنى اللغوي للنذر وبين المعنى الاصطلاحي، فالنذر في اللغة هو: الإيجاب، وفي الاصطلاح هو: إيجاب العبد المكلف البالغ العاقل المختار على نفسه ما لم يكن واجباً عليه ابتداء لله تعالى.
فهناك شبه قوي بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي.(102/2)
شروط النذر
شروط النذر: أن يكون الناذر محلاً للتكليف، بمعنى: أن يكون بالغاً عاقلاً، فنذر المجنون كأن لم يكن؛ لأنه ليس من أهل التكليف، لقوله عليه الصلاة والسلام (رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يحتلم -أي: يبلغ سن الحلم وهو سن التكليف- وعن النائم حتى يستيقظ).(102/3)
حكم نذر الكافر
ويصح النذر من كافر بإجماع أهل العلم بشروط ستأتي، والدليل على ذلك: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نذر في الجاهلية قبل إسلامه أن يعتكف ليلة، فلما أسلم قبل الوفاء بالنذر أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بما كان منه، فقال عليه الصلاة والسلام: أوف بنذرك).
فالنذر بإجماع أهل العلم يصح من الكافر، ولم يخالف في ذلك أحد من أهل العلم.(102/4)
حكم النذر وأدلته
أدلة النذر من الكتاب والسنة والإجماع: فأما الأدلة من الكتاب: فقول الله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} [الإنسان:7].
فإنه تعالى لما تكلم عن أهل الإيمان مدحهم بأنهم يوفون بالنذر.
وقال تعالى: {ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29].
وقال تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة:270].
إلى غيرها من الآيات التي تبين أن أدلة الكتاب تشهد بوجوب الوفاء بالنذر.
وأما الأدلة من السنة فكثيرة جداً، وأحاديث النذر منها ما هو متفق عليه بين الشيخين، ومنها ما هو من انفرادات مسلم، ومنها ما هو من انفرادات البخاري كذلك، وهناك عند أصحاب السنن والمسانيد ما ليس في الصحيحين، وكل هذه الأحاديث تشهد بمشروعية النذر.
وقد انعقد إجماع أهل العلم على أن النذر مشروع.
واختلفوا هل هو واجب أو مستحب أو مباح أو مكروه؟ والراجح من أقوال أهل العلم أنه واجب في جانب العمل والفعل والأداء، وهذا الحكم حكم عام؛ لأن النذر أقسام، ولكل قسم حكم يخصه، ولكن جمهور أهل العلم على أن النذر من جهة الشرع مكروه، ومن جهة العمل واجب إذا كان مطلقاً أو مشروطاً وتحقق الشرط.
وأما من جهة التكليف الشرعي والحكم الفقهي للنذر فإنه مكروه؛ لأنه لا يغير من القدر شيئاً، وإنما يستخرج به من البخيل، يعني: أنه معاملة لله عز وجل بالحد الأدنى، فكأنك تقول: اعمل لي حتى أعمل لك، ومفهوم المخالفة: إذا لم تفعل لي فلن أفعل لك، مثل قولك: إذا نجحتني فسأذبح لك خروفاً، وإذا لم تنجحني فلن أذبح، وهذا بلا شك معاملة لله عز وجل بالحد الأدنى من الطاعة والعبادة، وهذا الخروف الذي هو محل النذر أو شرط النذر لا يغير في المقدور ولا في القدر فيما يتعلق بنجاح هذا أو رسوبه شيئاً؛ لأن هذا النجاح أو الرسوب قد كتب في اللوح المحفوظ، فالنذر لا يغير شيئاً؛ ولذلك يفضل أن يتقرب العبد إلى مولاه وسيده بما استطاع من طاعة مالية أو زمانية أو ما يمكن أن يتقرب به بغير شرط؛ لأن هذا الشرط لا يغير شيئاً في المكتوب، وما دام أنه لا يغير شيئاً في المكتوب فلا تشرط على ربك.(102/5)
أقسام النذر
أقسام النذر خمسة على الصحيح، وهي: أولاً: النذر المطلق، ومعنى المطلق: الذي لم يقيد بقيد، ولم يشرط بشرط، مثل أن يقول: لله عليَّ نذر ولم يسم هذا النذر، فيلزمه كفارة يمين.
يعني: عند العجز عن أداء النذر المطلق يلزمه أن يكفر كفارة يمين.
الثاني: نذر اللجاج والغضب، وهو تعليق نذره بشرط بقصد المنع منه، أو الحمل عليه، أو التصديق أو التكذيب، فيخير بين فعله أو كفارة يمين، والراجح في ذلك: أنه يكفر في هذا القسم كفارة يمين.
الثالث: النذر المباح، كلبس الثوب أو ركوب الدابة، وحكم هذا النوع كالثاني تماماً، يعني: فيه كفارة يمين، وقال بعضهم: ليس فيه كفارة.
وإن كان نذره مكروهاً استحب له أن يكفر ولا يفعله.
والنذر إما أن يكون في طاعة أو أن يكون في معصية، كما قال عليه الصلاة والسلام: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه).
فهذا في الحلال الصرف، وذاك في الحرام الصرف.
وأما إذا نذر في طاعة أو في حلال نذراً مطلقاً، أو مقيداً بقيد أو مشروطاً بشرط فيلتزمه عند تحقق الشرط، لأنه إذا تحقق الشرط تحقق المشروط كما قال العلماء.
وأما إذا نذر في معصية كأن يقول: يا رب! لك علي إن نجحت في الامتحان أو أنجبت امرأتي أو كذا وكذا أن أشرب الخمر، فيطلب من ربه منة وفضلاً، ويشترط أنه إذا تحقق هذا تقرب إليه بمعصيته، أو يقول: رب! لأن أطعمتني كذا لأشربن الخمر، أو لأسرقن جاري، فهذا النذر لا يلزمه الوفاء به، ويجب عليه كفارة يمين، وهذا هو الراجح من أقوال أهل العلم أن الناذر في المكروه لا يلزمه الوفاء، وإنما تلزمه الكفارة.
الرابع: نذر المعصية كشرب الخمر وصوم يوم الحيض، كأن تقول المرأة: لو أن الله شفاني لأصومن في أيام حيضي، أو أصوم يوم النحر، أو أيام التشريق، أو يوم الفطر، وهذه الأيام صومها حرام على الرجل والمرأة، وسواء كانت المرأة طاهرة أو حائضة فيحرم الصيام في هذه الأيام، ولا يحل للناذر أن يصومها، ويجب عليه الكفارة.
الخامس: نذر التبرر، وهو مأخوذ من البر والطاعة، فلو أن أحداً نذر أن يطيع الله تعالى براً وطاعة وتقوى لله عز وجل لزمه ذلك، وسواء كان هذا النذر نذراً مطلقاً، أي: لم يقيد بقيد، أو معلقاً على شرط، ولا يلزمه الوفاء بالنذر في النذر المعلق إلا بتحقق الشرط الذي علق عليه النذر، كقوله: إن شفى الله مريضي أو سلم أو وصل قريبي الغائب فلله علي أن أصلي لله ركعتين، فلا يلزمه الوفاء بصلاة ركعتين إلا بتحقق الشرط، وإذا لم يشف المريض فلا يلزمه أن يأتي بالركعتين على جهة النذر، فإذا وجد الشرط لزمه الوفاء بنذره، إلا إذا نذر الصدقة بماله كله، كأن يقول: لو أن الله تعالى وفَّق ولدي في امتحان هذا العام فلله علي أن أتصدق بجميع مالي، فمذهب الجمهور: أنه لا يلزمه التصدق بكل المال وإنما بثلثه، لورود بعض النصوص في ذلك وإن كان فيها ضعف، وقياساً على حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في الوصية، وقد مر بنا.(102/6)
حكم التتابع لمن نذر صيام شهر
ومن نذر صوم شهر لزمه التتابع، والتتابع هو أن يأتي بالشهر كاملاً من غير أن يفرق بين بعضه البعض إلا تفريقاً حرمه الشرع، فلو قال شخص: لله علي أن أصوم شهراً، فعلى مذهب الحنابلة الذين قالوا بوجوب التتابع لا يحل قطع هذا الشهر إلا بدخول أيام حرم الشرع صيامها كيوم العيد، أو أيام التشريق، أو أيام حيض المرأة، وكذلك يقطع بدخول رمضان؛ لأن رمضان يستوعب بعبادة أخرى من نفس العبادة، فلا يمكن لأحد أن يقول: لله علي أن أصوم شهر رمضان؛ لأن رمضان ليس محلاً للنذر بالصيام؛ لأنه محل صيام الفرض، وهو لا يسع عبادة مماثلة فيه، فلا يمكن أن يأتي شخص ويقول: نويت أن أصوم رمضان هذا العام ثلاث مرات أو أربعاً؛ لأنه لا يمكن صيامه إلا مرة واحدة.(102/7)
حكم نذر صيام أحد أيام رمضان بنية الفرض والنافلة
ولو نذر شخص صيام يوم الإثنين من رمضان بنية صيام رمضان وبنية صيام النافلة التي كان يصومها طوال السنة فلا يقبل منه إلا صيام الفرض فقط؛ لأن هذه العبادة قد استوعبت الوقت كله، فلا تحل عبادة مماثلة معها في نفس اليوم.(102/8)
حكم نذر الوصال في الصيام
وكذلك لا يصح نذر الوصال؛ لأن الوصال بالنسبة لنا مكروه، والوصال: هو أن يصل يومين أو ثلاثة بلياليهن من غير طعام ولا شراب، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال، فقالوا: يا رسول الله! (إنك تواصل، فقال: إنني لست كهيئتكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني).(102/9)
حكم نذر صيام الليل
ونذر صيام الليل مكروه، والمكروه حكمه: عدم الوفاء به مع إخراج الكفارة.
والكفارة في النذر كفارة يمين، وهي إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو صيام ثلاثة أيام.(102/10)
حكم التتابع لمن نذر صياماً
قال: (ومن نذر صوم شهر لزمه التتابع، وإن نذر أياماً معدودة لم يلزمه التتابع إلا بشرط أو نية)، أي: إلا إذا شرط على نفسه التتابع، أو نوى التتابع في نفسه، فمن نذر أن يصوم شهراً يلزمه التتابع إلا إذا نوى أو شرط عدم التتابع لفظاً في حال نذره، وأما إذا لم يشرط أو لم ينو التتابع حال نذره فإنه يلزمه على الراجح التتابع، وإذا نوى أن يصوم شهراً وبدأ من أول الشهر العربي فإنه ينتهي مع الشهر العربي، فيصوم الشهر سواء كان تسعة وعشرين أو ثلاثين.(102/11)
حكم النذر للأموات
النذر للأموات: جاء في كتب الأحناف: أن النذر الذي يقع للأموات من أكثر العوام، وما يؤخذ من الدراهم والشمع والزيت ونحوها إلى ضرائح الأولياء تقرباً إليهم، كأن يقول: يا سيدي فلان! إن ردت ضالتي أو عوفي مريضي أو قضيت حاجتي فلك من النقد أو الطعام أو الشمع أو الزيت كذا وكذا فهو بالإجماع باطل وحرام.
وهذا نذر معصية، ونذر المعصية لا يلزم الوفاء به، ويجب على الناذر كفارة يمين وتوبة، أي: أن يتوب من هذه المعصية؛ لأنها كبيرة من الكبائر، وهذا النذر له تعلق بالإيمان والشرك، فالتوبة فيه والاستغفار آكد وألزم مما لو نذر نذراً مكروهاً؛ لأن هذا محرم بالإجماع.
والأدلة على ذلك: أنه نذر لمخلوق، والنذر للمخلوق لا يجوز؛ لأنه لا يجوز لأحد أن يتقرب إلى أحد، وإنما القربى كلها لله عز وجل، وهذا يتقرب إلى مخلوق، وهذا باب عظيم من أبواب الشرك، ولو أن أحداً نذر أن يشرك بالله لم يحل له ذلك.
وفي سنة (1981م) في أحد المؤتمرات أتت امرأة إلى أحد العلماء الحاضرين في هذا المؤتمر -وأنا حاضر- وفي يدها طفل، فقالت: يا شيخ! أنا كنت أعتبر تحقيق أمر معين مستحيل، فتجرأت وقلت: لو أن الله تعالى قضى لي كذا لألقين ولدي هذا في النار، فوقع الأمر، وكان موجود بجانب الشيخ حوالي خمسة وعشرين أو ثلاثين رجل أمن دولة وعسكري وأمن مركزي، فقال لها: ألقيه في وسط هؤلاء، وهذا ذكاء شديد جداً من الشيخ، وإن كان في جانب الفقه لا يصح، ولكنه طرفة، فنذر المعصية حرام.
وجاء عند ابن الجوزي في أحد كتبه أن امرأة نذرت الزنا لو حصل لها ما تريد، فاستفتت ابن الجوزي في ذلك، وكان الواجب عليه أن يقول لها: يحرم عليك الوفاء بما نذرت؛ لأن هذا النذر في معصية، ولكنه أفتاها فتيا أخرى، وهو وإن كان فقيهاً إلا أنه جانبه الصواب في هذه الإجابة، فأفتاها بأن تظهر خصلة من شعرها؛ لأن المرأة إذا خرجت من بيتها متعطرة أو كاشفة شعرها فهي كذا وكذا، يعني: زانية، كما في رواية الترمذي، وهذا الجواب غير سليم، لكنه بيان لحقيقة الكثير من النساء، فالمرأة إذا خرجت متعطرة استشرفها الشيطان، وإذا خرجت متزينة أو متبرجة أو كاشفة شعرها أو شيئاً مما حرمه الله تعالى فالأمر كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي أخرجه الترمذي وغيره: (فهي كذا وكذا، يعني: زانية).
واختلف أهل العلم من الذي قال: (يعني: زانية)، هل هو الراوي، أم النبي عليه الصلاة والسلام؟ والراجح أنه الراوي، وهو أبو هريرة رضي الله عنه.
قال: النذر للأموات حرام؛ لأنه ينذر للمخلوق، وهو لا يجوز؛ لأنه عبادة، ولا تكون إلا لله عز وجل.
الوجه الثاني من أوجه الحرمة: أن المنذور له ميت، والميت لا يملك.
الوجه الثالث: أنه إن ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون الله تعالى فاعتقاد ذلك كفر، والعياذ بالله.
وأنتم تعلمون أن عامة الصوفية أو جل الصوفية يعتقدون أن الكون يحاط بأقطاب وأوتاد يتصرفون في الكون، بل يرفعون السيد البدوي حتى على الحسين، فهم يقرون أن الحسين صحابي، وأنه من نسل النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن سر السيد البدوي عظيم أكثر من الحسين، وهذا مشاهد، وهم يقولون هذا، حتى أن سخفاءهم وسفهاءهم صنفوا الكتب ليثبتوا الكرامات لأنفسهم، ويقولون: لقد ذهبنا إلى قبر الحسين وإلى قبر البدوي، فلما سلمنا على البدوي أخرج يده من تحت القبر فسلم علينا ثم ردها، وهؤلاء يخاطبون جهلاء أجهل منهم، وأغبياء وحمقى.
وشخص آخر يعبد الشعراني من دون الله عز وجل، ويقول: أقسم بالله العظيم أنني شققت بالأرض طريقاً من بيتي إلى قبر الشعراني، وكلما ضربت الأرض خرج بحر من الدم.
ولو قرأت في كتاب طبقات الشعراني فإنك تجد في كل ترجمة ممن يترجم لهم خزي وعار من زنا ولواط وسرقة وغش وخداع، وما من ترجمة في هذا الكتاب إلا وفيها عار وشنار، ويستحي المرء أن يقول: إن هذا الكتاب من كتب أهل الإسلام.
ولا شك أن من نذر لهؤلاء فإنه يلزمه الكفارة والتوبة إلى الله عز وجل.
والتصوف في المغرب أعتى من التصوف في مصر، بل أصل الانحراف والضلال إنما أتى من بلاد المغرب على يد الفاطميين، فتجد أن الواحد منهم ينذر قربة للأحياء، ولو أنه أوصل إلى الحي قربة لله عز وجل لصح نذره، فلو قال: يا رب! لك علي ذبح شاة وسلخها وتوزيع لحمها، أو إعطاء لحمها لفلان إن عافيتني، لكان جائزاً؛ لأنه نذر أن يتقرب إلى الله، لا إلى هذا الحي، ولكنهم في المغرب يجعلون الحي محلاً للنذر، أما جعل الميت محلاً للنذر فهذا هو عمل المصريين في موسم الحج، وكذلك الإيرانيين، فمن وجب عليه هدي المتمتع أو القارن أو الفداء لمن فرط في واجب من واجبات الحج فعليه دم، وهذا الدم فداء لمن فرط في واجب من واجبات الحج للمتمتع أو القارن، فيقول أحدهم: لن أذبحه هنا(102/12)
حكم أكل الناذر من نذره، وكيفية تقسيم الأضحية
والناذر لا يأكل من نذره شيئاً، ولا من تلزمه كفالته وعيالته.
والمضحي يقسم أضحيته ثلاثة أثلاث: لنفسه ثلث، وثلث هدايا، والثلث الثالث للفقراء.
والعقيقة هي: ما يذبح عن المولود يوم سابعه، فللغلام شاتان وللجارية شاة، والعبرة فيها إراقة الدم، ولذلك بعض أهل العلم يقول: ولأب الولد أن يأكل عقيقته كلها؛ لأنه أراق الدم بنية العقيقة، والعبرة بإراقة الدم؛ لأنها نسك من الأنساك، ولكن جمهور أهل العلم على ما قال أبو الطيب في كتاب التحفة: وقد جرى عمل أهل الإسلام على اجتماع الناس في مثل هذه المناسبات.
فإذا ولد لك مولود فلا تذبح خروفين وتضعهما في الثلاجة وتأكل من اللحم شهرين، وإن كان هذا العمل جائزاً؛ لأن العبرة بالمقصد الأدنى في هذا بإراقة الدم، وقد أريق.(102/13)
مسائل متفرقة في النذر
ولو أنه نذر أن يتصدق على أهل بلد معين، أو في مكان معين لزمه ذلك، ولو نذر أن يصلي في مسجد معين ركعتين لله عز وجل لم يلزمه إذا كان في هذا المسجد قبر أو ضريح؛ لأن الصلاة في هذه المساجد لا تصح.
وإذا نذر أن يصلي في مسجد ليس فيه ضريح فعلى الراجح من أقوال أهل العلم أنه لا يلزمه ذلك، إلا أن ينذر أن يصلي في مسجد من المساجد الثلاثة ذات الشرف والفضل، وهي التي قال فيها عليه الصلاة والسلام: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا)، أي: المسجد النبوي فيلزمه الوفاء بنذره في هذه الأماكن؛ لشرفها وفضلها، وزيادة ثواب الصلاة فيها على غيرها.
ومن نذر أن يطوف حول البدوي سبعاً أو سبعين لكان مشركاً، فالطواف لا يكون إلا حول الكعبة لمن استطاع، فإذا عجز عن الوفاء بالنذر في الطواف حول الكعبة أجزأه كفارة يمين.
ولو أن أحداً نذر لله عز وجل أن يذبح شاة في مكان يعبد فيه صنم من دون الله عز وجل، كالأوثان أو الأصنام أو الصليب أو غير ذلك لم يلزمه ذلك؛ لأن هذا المكان مكان شركي، يعبد فيه الصليب من دون الله عز وجل، فالذبح في هذا المكان فيه شبهة التقرب إلى الصليب، لا إلى الله عز وجل فإنه لا يلزمه الوفاء بالتزام المكان، ويلزمه أن يذبح في مكان آخر.
وفي السنن من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إني نذرت أن أذبح كذا وكذا بمكان يذبح فيه أهل الجاهلية، فقال عليه الصلاة والسلام: لصنم؟ قالت: لا، قال: فأوف بنذرك).
وأهل الجاهلية كانوا يذبحون هناك؛ لصنم كانوا يعبدونه.
ويجوز للمسلم أن يذبح في نفس المكان الذي كان يذبح فيه الكافر؛ لأنه مكان مباح، يذبح فيه المسلم ويذبح فيه الكافر، وليس فيه أصنام ولا أوثان؛ فيجوز للمسلم أن يذبح فيه.(102/14)
باب الأمر بقضاء النذر
قال النووي: باب الأمر بقضاء النذر.
وهذا هو الباب الأول من كتاب النذر.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن يحيى التميمي ومحمد بن رمح بن المهاجر -وهو المصري- قال: أخبرنا الليث -وهو ابن سعد المصري- وحدثنا قتيبة بن سعيد الثقفي حدثنا ليث عن ابن شهاب -وهو الزهري المدني- عن عبيد الله بن عبد الله -وهو ابن عتبة المسعودي - عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (استفتى سعد بن عبادة رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في نذر كان على أمه توفيت قبل أن تقضيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فاقضه عنها)].
وأم سعد بن عبادة كان عليها نذر، وتوفيت قبل الوفاء بهذا النذر، والنذر ثلاثة أنواع، نذر بدني، ونذر مالي، ونذر بدني مالي، فالنذر البدني كالصلاة والصيام، والنذر المالي كالنذر بالتصدق بالمال، والنذر البدني المالي كالحج، ولم تبين الرواية نوع النذر الذي نذرته أم سعد بن عبادة، ولكن الإجابة كانت عامة، وإذا كان السؤال عاماً، أي: يقتضي العموم، والجواب بالإيجاب فإنه يدخل في هذا العموم كل أجزائه، وكذلك إذا كان الجواب عاماً في معرض جهالة أو سؤال مجهول، فقوله: (فاقضه)، هذا الضمير يعود على النذر، والجهالة في السؤال والجواب مع لفظ العموم في الجواب يدل على أن القضاء يشمل كل الأنواع، سواء كان النذر في المال، أو في البدن، أو في البدن والمال على السواء.
قال: [وحدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك.
وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم بن راهويه عن ابن عيينة، وحدثني حرملة بن يحيى التجيبي -وهو المصري- أخبرنا عبد الله بن وهب المصري، أخبرني يونس]، وهو الراوي الثالث مع مالك وابن عيينة، ويونس هو ابن يزيد الأيلي.
قال: [وحدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد قالا: أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر -وهو الراوي الرابع، وهو ابن راشد المصري اليمني- وحدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا عبدة بن سليمان عن هشام بن عروة عن بكر بن وائل -وهو الراوي الخامس، وهو ابن داود التميمي الكوفي - كلهم عن الزهري عن الليث بن سعد بهذا الإسناد بمعنى الحديث].(102/15)
كلام النووي على حديث نذر أم سعد بن عبادة
قال النووي: باب الأمر بقضاء النذر.
وهذا هو الباب الأول من كتاب النذر.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن يحيى التميمي ومحمد بن رمح بن المهاجر -وهو المصري- قال: أخبرنا الليث -وهو ابن سعد المصري- وحدثنا قتيبة بن سعيد الثقفي حدثنا ليث عن ابن شهاب -وهو الزهري المدني- عن عبيد الله بن عبد الله -وهو ابن عتبة المسعودي - عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (استفتى سعد بن عبادة رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في نذر كان على أمه توفيت قبل أن تقضيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فاقضه عنها)].
وأم سعد بن عبادة كان عليها نذر، وتوفيت قبل الوفاء بهذا النذر، والنذر ثلاثة أنواع، نذر بدني، ونذر مالي، ونذر بدني مالي، فالنذر البدني كالصلاة والصيام، والنذر المالي كالنذر بالتصدق بالمال، والنذر البدني المالي كالحج، ولم تبين الرواية نوع النذر الذي نذرته أم سعد بن عبادة، ولكن الإجابة كانت عامة، وإذا كان السؤال عاماً، أي: يقتضي العموم، والجواب بالإيجاب فإنه يدخل في هذا العموم كل أجزائه، وكذلك إذا كان الجواب عاماً في معرض جهالة أو سؤال مجهول، فقوله: (فاقضه)، هذا الضمير يعود على النذر، والجهالة في السؤال والجواب مع لفظ العموم في الجواب يدل على أن القضاء يشمل كل الأنواع، سواء كان النذر في المال، أو في البدن، أو في البدن والمال على السواء.
قال: [وحدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك.
وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم بن راهويه عن ابن عيينة، وحدثني حرملة بن يحيى التجيبي -وهو المصري- أخبرنا عبد الله بن وهب المصري، أخبرني يونس]، وهو الراوي الثالث مع مالك وابن عيينة، ويونس هو ابن يزيد الأيلي.
قال: [وحدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد قالا: أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر -وهو الراوي الرابع، وهو ابن راشد المصري اليمني- وحدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا عبدة بن سليمان عن هشام بن عروة عن بكر بن وائل -وهو الراوي الخامس، وهو ابن داود التميمي الكوفي - كلهم عن الزهري عن الليث بن سعد بهذا الإسناد بمعنى الحديث].(102/16)
حكم الوفاء بالنذر إذا كان طاعة أو معصية أو مباحاً
قال النووي: (أجمع المسلمون على صحة النذر، ووجوب الوفاء به إذا كان الملتزم طاعة)، ودليله: (من نذر أن يطيع الله فليطعه).
وهذا فعل أمر، ونذر الطاعة يخرج منه الحرام والمكروه، فهذا نذر حلال، ومحله الحلال من جهة الناذر والمنذور، كأن يكون المنذور ذبح شاة، فذبح الشاة حلال، بخلاف ما لو قال: لو أن الله تعالى شفى مريضي فله علي أن أذبح خنزيراً، فهذا لا يلزمه، فإما أن يكفر عن محل هذا النذر بذبح شاة مكان الخنزير؛ لأن الخنزير مثل الشاة، أو يكفر كفارة يمين.
قال: (أجمع المسلمون على صحة النذر ووجوب الوفاء به إذا كان الملتزَم -الذي هو محل النذر- طاعة، وأما إذا نذر في معصية تتحقق له، أو تقرب إلى الله بمعصية وهي محل النذر فإنه لا يلزمه الوفاء، بل يلزمه الكفارة والتوبة.
فإن نذر معصية أو مباحاًَ، كدخول السوق مثلاً لم ينعقد نذره، ولا كفارة عليه عند مالك، وبه قال جمهور العلماء، وقال أحمد وطائفة: فيه كفارة يمين).
أي: أنه لو نذر نذراً لم يصادف محلاً فليس عليه شيء، فلو جاء شخص وقال: لله علي إن فعل بي كذا وكذا لأذبحن الشاة التي في بيتي، فلما ذهب إلى بيته وجد الشاة قد ماتت فهذا النذر لم يصادف محلاً؛ لأنه لما نذر ماتت الشاة دون أن يدري، ونذره وقع على شاة بعينها، وكان صادقاً في أن يتقرب بها إلى الله عز وجل، فلما أراد أن يوفي بالنذر وجد الشاة قد ماتت بغير إرادته، فلا يلزمه ذلك؛ لأن نذره انصب على شاة بعينها، بخلاف ما لو قال: لله علي إن فعل كذا لأتقربن إليه بشاة، فيجزئه أن يقدم شاة من بيته أو أي شاة غيرها.
قال: (فإذا نذر معصية أو مباحاً كدخول السوق لم ينعقد نذره)، أي: لم ينعقد نذره في جانب المعصية.
قال: (ولا كفارة عليه في نذر المباح).
وهذا عند الشافعية والجمهور، وأما الظاهرية والحنابلة فيقولون: في نذر المعصية ونذر المباح الذي لم يتمكن من فعله كفارة يمين.
وهذا أحوط.(102/17)
المبادرة بقضاء الحقوق الواجبة على الميت
وفي قوله عليه الصلاة والسلام لـ سعد بن عبادة: (فاقضه عنها) دليل لقضاء الحقوق الواجبة على الميت على العموم: سواء كانت حقوقاً مالية، أو بدنية، أو مالية بدنية.
فأما الحقوق المالية فمجمع عليها، والحقوق التي يجب إخراجها من التركة قبل الميراث هي الديون، ودين الله تعالى أحق بالوفاء.
فلو نذر شخص في ماله نذراً فهذا حق لله عز وجل يجب الوفاء به.
وأما الحقوق البدنية ففيها خلاف، كما تقدم في مواضع من هذا الكتاب، فلو أن ميتاً مات وعليه صيام النافلة فلا يلزم القضاء عنه على الراجح، ولو أن شخصاً صام الإثنين أو الخميس ثم ذهب لزيارة صاحبه وهو صائم فوجده يأكل أكلاً لذيذاً فجلس يأكل معه فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (المتطوع أمير نفسه).
ثم إن الجمهور: على أنه لا يلزمه القضاء؛ لأنه متطوع، وهذا صيام تطوع ونافلة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (المتطوع أمير نفسه)، يعني: هو الذي اختار الصيام لنفسه، فإذا كان يريد أن يواصل واصل، وإذا كان يريد أن يقطع الصيام قطعه، وجاء الحديث عند البخاري بلفظ: (إلا أن تطوع فهذا شيء لك).
ففرق بين الفرائض وبين التطوع، فمن جهة الوجوب والإلزام بعد الفرائض ليس عليك إلا أن تطوع، فهذا تطوع منك، والبعض يقول: المعنى: إلا أن تطوع فيجب عليك؛ لأنه قال: (هل علي غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع)، يعني التقدير: إلا أن تطوع فيجب عليك، فالقائلون بهذا الرأي قالوا: إلا أن يشرع في التطوع فيجب عليه، والقائلون بوجوب إعادة التطوع يشترطون التلبس والدخول في الطاعة.
وإذا أراد شخص أن يصلي سنة المغرب وهو متردد أيصلي أم لا؟ فإنه لا يأثم بذلك مع أن سنة المغرب سنة مؤكدة، فإذا عزم أن يصلي فقام وتوجه إلى القبلة ثم كبر، ولم يقرأ الفاتحة -لأنه يصلي سنة- لم تصح صلاته؛ لأنه بمجرد شروعه في النافلة قد أوجبها على نفسه من جهة العمل والإتمام، يعني: أوجب إتمامها وأداءها على نفسه، لا أنها في نفسها واجبة، ولكن وجوب الإتمام فيها كالفريضة.
ولو أن إنساناً ذهب ليحج حج نافلة قارناً فأهل من الميقات وساق الهدي معه ودخل مكة لم يجز له أن يتخلف متعمداً عن الوقوف بعرفات ويقول: أنا متنفل، بل يلزمه أداء الحج إلى آخره؛ لأنه قد تلبس به، وإن كان في أصله نافلة.
وفي المسألة مذاهب أخرى لا داعي لسردها، ولكن هذين أقوى المذاهب في المسألة.
قال: (ثم مذهب الشافعي وطائفة أن الحقوق المالية واجبة على الميت من زكاة وكفارة ونذر يجب قضاؤها، سواء أوصى بها أم لا).
وهذا مشروط بأن يترك مالاً يكفي للوفاء بهذا، وسواء أوصى بذلك أم لا؛ لأن هذا حق لله عز وجل عليه، وحقوق الله عز وجل مقدمة على حقوق العباد فيما يتعلق باستخراجها من التركة قبل توزيع الميراث، فإذا كان عليه زكاة مال وقد وجبت عليه ومات قبل أن يخرجها كأن تكون الزكاة وجبت عليه اليوم ومات بعد أسبوع مثلاً، ولكنه لم يكن قد أخرجها -والزكاة لا تجب إلا بالملك، أي: بملك النصاب، وحولان الحول، فمعنى قولنا: إنه قد وجبت عليه الزكاة يعني: أنه يملك- فهذا حق الله عز وجل، يجب على الورثة إخراج هذا المال أوصى أو لم يوص.
وبعض أهل العلم قال: لا يلزمهم ذلك إلا بوصية؛ وهذا مذهب مرجوح، والراجح أنه يلزمهم إخراج حق الله من كفارة يمين، أو نذر، أو زكاة مال من مال الميت أوصى أو لم يوص ما دام أنه ترك ما يفي بهذا النذر أو كفارة اليمين أو زكاة المال.(102/18)
اختلاف العلماء حول نذر أم سعد بن عبادة
قال: (قال القاضي عياض: واختلفوا في نذر أم سعد).
فقصة أم سعد بن عبادة ورد فيها أقوال كثيرة جداً، فقد قيل: إنها نذرت صوماً، وقيل: مالاً، وقيل: حجاً، وقيل: صلاة، وكل هذا ورد في ترجمتها في السير وغيرها، وهذا الحديث الذي بين أيدينا هو أحد هذه الأحاديث الواردة في قصة نذر أم سعد.
فبعض العلماء يقول: نذر أم سعد كان صياماً، ويستشهد بحديث الصيام، ولكن حديث الصيام الذي ورد في ترجمة أم سعد ليس فيه بيان أن هذا النذر كان في حال قوتها وصحتها، وهل أدته أم لا؟ فبعضهم حمل نذر أم سعد على الصيام، والبعض الثاني حمله على الحج، والبعض الثالث حمله على المال، ومنهم من حمله على غير ذلك.
وأقوى الأقوال في هذا أنه نذر مبهم، فيحمل على عموم ما يمكن النذر فيه.
وبعضهم قال في حديث سعد بن عبادة: (إن أمي نذرت أن تعتق، أفأعتق عنها؟ قال: فأعتق عنها).
والذين قالوا: إن نذر أم سعد كان مالياً لا يتعارض مع من قال: إنه كان عتقاً؛ لأن الرقيق والعبيد مال.(102/19)
حكم قضاء النذر عن الميت
قال النووي: (واعلم أن مذهبنا ومذهب الجمهور: أن الوارث لا يلزمه قضاء النذر الواجب على الميت إذا كان غير مليء، أو كان مليئاً ولم يترك وفاء، وإنما يستحب ذلك)؛ لأن نفي الوجوب لا يلزم منه نفي الاستحباب، كما أن نفي الحرمة لا يلزم منه نفي الكراهة.
وهذا كلام الأصوليين.
ولو أن النذر استوعب المال كله فالغالب أنه لا يلزمه إلا في الثلث.(102/20)
حكم قضاء النذر غير المالي عن الميت
قال: (ولو كان النذر في غير المال كأن يكون في العبادة مثل الصيام فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه).
ومذهب الجمهور: أن الأمر هنا للاستحباب.
ومذهب الظاهرية والحنابلة وبعض الشافعية: أن الأمر للوجوب والتعيين)، ومعنى التعيين: أنه يلزم منه العوض، فلا يوجد فيه كفارة، إلا إذا عجز الولي؛ لأن الذي عليه الصيام نفسه لو أنه عجز عن الصيام لنفسه لانتقل إلى البدل وهو الكفارة، وهي إطعام مسكين عن كل يوم، فإذا كان أولياء الميت كلهم ليس لديهم قدرة على الصيام فعليهم أن يطعموا عن كل يوم مسكيناً، فإذا كانوا لا يملكون حتى قوت يومهم، وعجزوا عن الإطعام لم يلزمهم كفارة؛ لأن الكفارة وإن كانت واجبة إلا أن كل واجب في الإسلام يسقط بعدم القدرة عليه، وكذلك تسقط الكفارة إن لم يكن للميت من يصوم عنه، فالكفارة تسقط بعدم القدرة كمن عجز عن الوضوء وعن التيمم يلزمه أن يصلي فاقد الطهورين، وهذا أمر مقرر وأنتم تعلمونه.
وإذا كان ورثة أو أولياء الميت قادرين على الصوم، وكان على الميت صيام فرض أو صيام نذر، أي: الصيام الواجب، وأما صيام النافلة فلا يلزمهم؛ لأنه لا يلزم الميت أصلاً.
ولو مات شخص وعليه عشرة أيام من رمضان، وعنده خمسة أولاد، فصام كل منهم عنه عشرة أيام -أي: صاموا عنه خمسين يوماً، والذي على الميت عشرة أيام فقط- فالذي يجزئ عنه عشرة أيام فقط، وأما الأربعون يوماً الباقية لم تصادف محلاً.
ويجوز تقسيم الأيام على الأولاد، وصيامهم إياها جميعاً في يوم واحد، فلو قسمت العشرة أيام على الخمسة الأولاد فسيكون على كل واحد منهم يومان فقط، فلو صاموها جميعاً في يومين فصيامهم صحيح.
وقال بعض أهل العلم: لا بد من تقسيم العشرة أيام على عشرة أيام، أي: على عشرة نهارات، وهذا تحكم بغير دليل، وهم يستدلون على ما ذهبوا إليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فليصم عنه وليه)، أي: ولي واحد، لأنه لم يقل: فليصم عنه أولياؤه، وهذه ظاهرية شديدة جداً، وهو كمن يكثر مثلاً من النهي عن الصلاة بين السواري، فإذا رأى في مسجد سارية واحدة لم ينه عن الصلاة بجانبها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بين السواري وليس السارية الواحدة، فهو تحجر على ظاهر النص، في حين أن المقصود علة النص، وعلة النص هي عدم قطع الصف، وهذه العلة تتحقق في السارية والساريتين والثلاث، فلا يقولن أحد: الحديث نهى عن الصلاة بين السواري ولم ينه عن الصلاة بجانب السارية الواحدة.
وهذا مثل ابن حزم عندما قال: لو أن أحداً بال في الماء وهو واقف نجسه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم)، وفي رواية: (في الماء الراكد)، يعني: الجاري، (ثم يغتسل فيه من الجنابة)، أي: أن العلة هي التنجيس، يقول ابن حزم: فلو أنه بال في قارورة أو في ركوة ثم صب البول في الماء فإنه لا يتنجس.
قال: لأنه لم يبل مباشرة في الماء، والحديث يفهم منه أن يبول في الماء، ولا يقال لغة لمن بال في زجاجة ثم ألقى البول في الماء الراكد أنه قد بال.
وهذا تحكم بغير برهان، وإنما هو وقوف عند ظاهر النص بغير النظر إلى العلة، ومن المعلوم قطعاً عند المسلمين أن الشرع إنما أتى لحكمة عظيمة جداً، وهذا قد غفل عن الحكمة من النص؛ لأنه فرق بين المتماثلين، وجمع بين النقيضين بغير دليل ولا برهان.
وهذا الفقه المخالف لما عليه جماهير علماء الأمة لا بد أن يطرح جانباً؛ والشيخ أحمد شاكر عليه رحمة الله لما تصدى لتحقيق كتاب المحلى لـ ابن حزم قال: ما أتعبني أحد قط في حياتي العلمية ما أتعبني ابن حزم؛ لأن له من المخالفات سواء الحديثية أو الفقهية الشيء الكثير، عليه رحمة الله.
ومذهب الجمهور أن الوارث لا يلزمه قضاء النذر الواجب على الميت إذا كان غير مالي، فلو قال الوارث: لن أصوم عن الميت؛ لأن الأمر الصادر إلينا بالصوم عنه أمر استحباب، والاستحباب لا إكراه فيه، ولا إجبار.
وقضاء الصوم عن الميت أولى، فإن امتنع الولي عن قضاء الصيام أجزأته الكفارة خلافاً للأولى، وبعضهم يمتنع عن الصيام عن الميت ويقول: أنا خرجت من رمضان متعباً، ولا أقدر على الصيام، فسأطعم عنه ثلاثين مسكيناً، أو حتى ثلاثمائة.
قال: (وإذا كان مالياً ولم يخلف تركة يستحب له ذلك، وهذا مذهب الجمهور) أي: أنه يستحب له أن يصوم عنه، ويستحب له كذلك أن يقضي عنه نذره إن كان مالياً ولم يكن للميت ما يقضى به هذا النذر، فإذا كان الوارث أو الولي عنده من المال ما يفي بنذر ميته فإنه لا يجب عليه القضاء عنه، وإنما يستحب في حقه.
قال: (وقال أهل الظاهر: بل يلزمه ذلك؛ لحديث سعد هذا.
ودليلنا: أن الوارث لم يلتزمه فلا يلزم)، وهذا الوارث إنما يلزمه الصوم إذا ألزم نفسه بذلك، ويلزمه قضاء الدين عن الميت إذا ألزم نفسه بذلك.
وهذا كله بصرف النظر عن وصية الميت، يعني: إذا كان ال(102/21)
الأسئلة(102/22)
حكم إعطاء النذر المالي لأبناء الناذر
السؤال
إذا نذر رجل أن يتصدق بمبلغ من المال ثم أعطاه لأبنائه، فهل يكون قد وفى بنذره؟
الجواب
لو نذر الناذر التصدق بمائة جنيه وكان له عشرة أولاد فأعطى كل واحد منهم عشرة جنيهات فهذا يعني أنه قد رجع إليه مرة أخرى، ولذلك إجماع أهل العلم أن محل النذر لا يكون للناذر ولا لمن يعول.(102/23)
خطورة القدح في العلماء وعاقبة ذلك
السؤال
أحد الإخوة يقدح في الشيخ ابن باز وفي العلامة محمد بن عبد الوهاب، بل ويقدح في المذهب الحنبلي، وهذا الشخص لا علم له إطلاقاً، ويبدو أنه سمع هذا القدح من بعض أهل البدع، فأرجو أن توجه نصيحة له، فهو الآن يسمعك، وأرجو ذكر كلمة ولو مختصرة في الدفاع عن هؤلاء العلماء؟
الجواب
هؤلاء العلماء ليسوا في حاجة إلى دفاعنا، فإنهم جبال شامخات، وهم ليسوا في حاجة إلى كلمة منا، وأحذر هذا الأخ أن تنزل عليه صاعقة من السماء فتجتاحه، أو أن الله تعالى يسلط عليه أقرب الناس إليه فيذله ذلاً.
وأذكر بهذه المناسبة أننا كنا في أثناء غزو العراق للكويت في أحد النوادي في شارع الهرم، وكان بعض إخواننا على خلاف مع الشيخ ابن باز فيما يتعلق بمسألة استقدام الكفار أو الأجانب إلى الجزيرة، ثم زاد استهزاء وسخرية وتهكماً على الشيخ ابن باز، وكان يلعب الكرة، فذهب مسرعاً إلى أقصى حد ليأتي بها بعد أن تهكم في الملعب على الشيخ ابن باز، فظل يجري حتى ارتطم بحائط النادي فوقع ميتاً في الحال، فأيقنت -وأنا موقن، ولا أزكي الشيخ على الله رحمه الله- أنه من أولياء الله عز وجل، وأنه من أهل العلم الأفذاذ، فقد ضرب في كل فن من فنون العلم بباع طويل.
وأذكر هذا الأخ وغيره ممن يقعون في أهل العلم بما أخرجه ابن عساكر عن كثير من أهل العلم: أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، ومن تعرض لهم بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب.
وتصور أن رجلاً يمشي على الأرض وقلبه ميت بسبب وقيعته في أهل العلم، واعلم أن الأمر كما قال ابن القيم وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهما: الغيبة والنميمة حرام في حق الكافر المسالم -وهو ضد المحارب- وهي أشد حرمة في حق المسلم، حتى إن كان ما تقوله فيه حقاً، وهي في أعظم درجات الحرمة إذا كانت في حق أهل العلم؛ لأنهم ليسوا كغيرهم من الناس، يعني: إن الوقيعة في المسلم العادي حرام، وأما الطعن والوقيعة في أعراض أهل العلم فهو باب عظيم من أبواب الصد عن سبيل الله عز وجل؛ لأن هؤلاء العلماء هم الدلالة بيننا وبين الله عز وجل، وهم الذين يبينون عن الله عز وجل، أي: يبلغوننا مراد الله تعالى من كلامه، ومراد رسوله عليه الصلاة والسلام من كلامه، فهم الواسطة بيننا وبين فهم كلام ربنا وسنة نبينا عليه الصلاة والسلام، فإذا وقعت فيهم فمن الذي يبلغنا؟ ومن الذي يعلمنا؟ فالوقيعة في العلماء إنما هو قطع للصلة بين الأمة وبين علمائها، والقدح في العالم بكلمة واحدة تسقط هيبته والثقة به، فلا يتبعه أحد بسبب كلمة واحدة.
وقائل هذا الكلام من أجهل الناس، وغالباً ما يكون -وهذا أمر مطرد- جاهلاً لا يعرف أهل العلم ولا فضلهم، ولا معنى أن هذا عالم، ولا غير ذلك، فهو بعد أن جهل كل هذا هان عليه الوقيعة في أهل العلم وفي غيرهم.
فإذا كان يتعرض لأهل العلم بهذا الكلام القبيح فمن باب أولى أن يتعرض لعموم الأمة بالتكفير والتبديع والتفسيق، وهذا باب عظيم جداً من أبواب أهل البدع.
أسأل الله سبحانه أن يغفر لهذا الأخ، وأن يهديه ويهدينا الصراط المستقيم.(102/24)
الحكم على حديث: (توسلوا بجاهي)، وحديث: (لا تسيدوني في الصلاة)
السؤال
أرجو بيان درجة هذين الحديثين: الحديث الأول: (توسلوا بجاهي؛ فإن جاهي عند الله عظيم) والحديث الثاني: (لا تسيدوني في الصلاة).
الجواب
الحديث الأول موضوع، والحديث الثاني أكثر منه وضعاً، بل الصواب حتى من جهة اللغة أن يقول: (لا تسودوني)، وعلامة الوضع الخطأ اللغوي في الرواية.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم.(102/25)
شرح صحيح مسلم - كتاب الأيمان والنذور - مقدمة كتاب الأيمان
القسم هو تعظيم للمقسم به، ولا ينبغي للعبد صرف هذا التعظيم لغير الله سبحانه وتعالى، حتى لو كان المقسم به ملكاً أو نبياً أو والداً، وقد شدد الشرع في هذه المسألة أيما تشديد، وأرشد من وقع في مخالفة هذا إلى قول لا إله إلا الله؛ تكفيراً عما فعله من القسم بغير الله، وإخلاص العبودية والتوحيد لله عز وجل.(103/1)
تعريف اليمين
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
نحييكم ونحيي هذه الوجوه الطبية المتوضئة الطاهرة، ونعرب عن شدة شوقنا إليكم.
ودرج أهل العلم على أن يقدموا كتاب الأيمان على كتاب النذور في التصنيف، إلا أن الإمام مسلماً قدم كتاب النذور قبل الأيمان.
والأيمان: جمع يمين، واليمين تطلق على اليد اليمنى المقابلة لليد اليسرى.
وأما في الشرع: فتطلق على الأمر الذي يحلف عليه الحالف ويؤكد عليه عزمه.
وبين المعنى الشرعي والمعنى اللغوي ارتباط؛ لأن العرب كانت إذا أرادت أن تحلف على شيء أشارت باليمين إلى السماء؛ لتؤكد عزمها على صحة المحلوف عليه، فسمي الفعل باسم المصدر.
وقوله: (كتاب الأيمان) أي: الكتاب الذي يذكر فيه مسائل تتعلق بالأيمان.(103/2)
الصحيحان لم يستوعبا المسائل المتعلقة بالأيمان
والمعلوم أن كل كتاب من كتابي الصحيحين لا يشمل جميع الفرعيات المتعلقة بالباب، فلو رجعنا مثلاً إلى الكتاب السالف الذكر وهو كتاب النذور لوجدنا أن الإمام مسلماً ذكر بعض مسائل النذور؛ لأنه ذكر الروايات التي هي على شرطه فقط، وكذلك البخاري عليه رحمة الله لما صنف كتاب النذور ذكر المسائل المتعلقة بالروايات التي على شرطه كذلك.
ولو راجعت كتاب الأيمان أو كتاب النذور في أي كتاب من كتب الفقه خاصة الكتب الموسعة أو الموسوعات لوجدت زيادات عظيمة جداً وأدلة أخرى كثيرة من الكتاب والسنة لم ترد في الصحيحين أو في أحدهما.
ومرد ذلك إلى أن هذين الكتابين هما في الحديث لا في الفقه ابتداءً.
والأمر الثاني: أن كل واحد من أصحاب الصحيحين له شرط في الرواية في صحيحه، ولذلك فهو لا يدخل في صحيحه إلا ما كان على شرطه، ولذلك نجد أحاديث كثيرة جداً في النذر وأحكامه وكفارته وغير ذلك في سنن أبي داود أو في سنن الترمذي أو في مسند أحمد أو في موطأ مالك أو في غيرها ولا نجدها في الصحيحين؛ لأنها ليست على شرط البخاري ولا على شرط مسلم، ولذلك لا تجدها في هذين الكتابين.
ولا يعني هذا أن البخاري قصر أو أن مسلماً قصر، بل إنما التزم كل واحد منهما أن يروي ما صح عنده على شرطه، والإمام مسلم اشترط ذلك صراحة في صحيحه، والبخاري علم أنه اشترط بالاستقراء؛ لأن البخاري عليه رحمة الله لم يقل: أنا شرطي في صحيحي كيت وكيت وكيت، وإنما علم أن له شرطاً أسد وأشد وأقوى من شرط مسلم باستقراء أهل العلم الذين أتوا من بعده.(103/3)
باب النهي عن الحلف بغير الله
قال النووي رحمه الله: (باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى) أي: المعلوم أنه بغير الله وبغير أسمائه وصفاته؛ لأن أسماء الله تعالى لازمة لذاته، وصفات الله تعالى لازمة لذاته لا تنفك عنه.
والله تبارك وتعالى سمى نفسه بأسماء، وسماه كذلك رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام -بوحي من الله عز وجل- بأسماء، والله تعالى وصف نفسه بأوصاف هي لازمة لذاته، ووصفه رسوله عليه الصلاة والسلام -بوحي من الله كذلك- بصفات كذلك، فيجوز للمسلم أن يحلف بالله وأسمائه وصفاته.
وقد شدد الحنابلة في النكير على من نادى الصفة كما لو قلت: يا علم الله! يا رحمة الله! يا فضل الله! يا لطف الله، وقال: إن هذا النداء شرك بالله عز وجل؛ لأنه نداء للصفة لا للموصوف، بخلاف ما لو قلت: وعزة الله، وجلال الله؛ فإن هذا قسم بالله بأحد أوصافه، فهذا جائز ومشروع، بخلاف الصورة الأولى، وهناك فرق كبير بين قولك: يا عزة الله، وبين قولك: يا عزيز، فأنت في قولك: يا عزيز تنادي الله عز وجل بأحد أسمائه، أما في الصورة الأولى فإنك تنادي الصفة دون الموصوف.(103/4)
مذهب أهل السنة في الأسماء والصفات في التفويض
والكلام ثابت لله عز وجل، والله تبارك وتعالى يتكلم بحرف وصوت كلاماً يليق بجلاله وكماله، والكلام الثابت لله عز وجل يعتقد فيه ما يعتقد في أي صفة من صفات الله تعالى، سواءً صفات الذات أو صفات الأفعال، فنؤمن بها ولا نتعرض للخوض في كيفيتها؛ لأننا إذا جهلنا كيفية الذات فمن باب أولى أن نجهل كيفية الصفات، وعلينا أن نؤمن أن الله تعالى وصف نفسه بأوصاف وسمى نفسه بأسماء، ولا نفوض معانيها، وإنما نفوض الكيفية، فمثلاً: لا نفوض معنى صفة العلم، وعلينا الإيمان يقينياً بأن الله تعالى ذو رحمة واسعة، وأنها وسعت كل شيء، ولكن لا يستطيع أحد أن يكيف رحمة الله، ولا أن يصف رحمة الله؛ لأن رحمة الله تعالى فوق كل إدراك للخلق.
وكذلك صفة الاستواء كما في قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5].
فالاستواء صفة لله عز وجل لا يحل لأحد أن يجحدها، ولكن القضية التي زلت فيها الأقدام اختلاف أهل البدع مع أهل السنة والجماعة في معنى الاستواء، فأهل البدع يقولون: الاستواء بمعنى الاستيلاء، وهذا تنقص لجلال الله عز وجل من حيث أرادوا تنزيهه؛ لأن الاستيلاء يستلزم المدافعة، فمعنى قولنا: فلان استولى على الشيء الفلاني بمعنى أنه استلبه وأخذه ممن كان في يده سابقاً.
والعرش لم يكن لأحد قبل أن يستولي عليه الله عز وجل، ولم يكن هناك منازعة كتبت الغلبة لله عز وجل فيها، ولو نظرنا في لسان العرب -أي: في كلام العرب ولهجاتهم ولغاتهم- لما وجدنا أن الاستواء بمعنى الاستيلاء، وإنما هو بمعنى العلو والارتفاع، فيكون تقدير الآية: الرحمن على العرش علا وارتفع، وهذا الكلام فضلاً عن تأييده للأدلة الشرعية فإن العقول السليمة والفطر النقية تقبله، وهو صفة من صفات الله عز وجل.
بخلاف الأشاعرة والمعتزلة الذين قالوا بغير هذا القول، فقد قالوا: فوق العرش ملائكة كروبيون، ولا ندري إلى الآن ما معنى (كروبيون)، وفوق الملائكة (الكروبيون) الله عز وجل، وهو ينزل إلى السماء الدنيا، بل ينزل إلى الأرض، بل يدخل في جميع الأمكنة بذاته، هكذا يقولون، وهذا الكلام مخالف لعقيدة المسلمين.
وأما أهل السنة فيعتقدون أن الله تعالى مستو على العرش بذاته، وأنه تبارك وتعالى ينزل في كل ليلة إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله وكماله إذا انقضى ثلث الليل الآخر أو ثلثاه، وأن هذا لا يتنافى مع علوه واستوائه سبحانه وتعالى.
والبعض يقول: أنا لا أفهم كيف يكون الله عز وجل في السماء مستو على عرشه وهو في نفس التوقيت في الأرض، أو في السماء الدنيا، وهذه الشبهة إنما دخلت عليه لأنه قاس نزول الله تعالى بنزول الإنسان، ولا يجوز أن يتوهم المسلم أن صفات الله عز وجل كصفات أحد من خلقه، ولو انتفى عنا هذا التوهم، وأثبتنا لله تعالى ما أثبته لنفسه على المعنى اللائق به سبحانه لسلمت لنا كل صفة، وكل اسم من أسمائه سبحانه وتعالى.
وكذلك الكلام الذي بين دفتي المصحف، فلا يجوز لأحد أن يقسم أو أن يحلف يميناً على كتاب الله على أنه مجرد كتاب، بل يقسم يميناً على كتاب الله أو على المصحف على أنه كلام الله عز وجل، وأنه صفة من صفاته سبحانه وتعالى.
وما في المصحف كلام الله عز وجل تكلمه بحرف وصوت، وأن الله تعالى لا يزال متكلماً، ولا يفنى كلامه ولا يبيد، فهو يتكلم حيث شاء ومتى شاء بما شاء، وكلامه لا ينتهي سبحانه وتعالى، فهذا الذي بين أيدينا من كلام الله عز وجل، أنزله رب العزة تبارك وتعالى ليصلح العباد والمعاد إلى قيام الساعة.
ويجوز للإنسان أن يحلف بالمصحف أو على المصحف؛ لأنه صفة من صفات الله عز وجل، وهو كلامه الذي تكلم به بحرف وصوت.
والإمام مسلم لم يضع تبويبات لأحاديثه التي أودعها في الصحيح، فلم يبوب كتاب الأيمان، ولا باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى، خلاف الإمام البخاري، فإنه هو الذي صنف الأبواب والكتب ووضع تراجم الأبواب في صحيحه، وأما صحيح مسلم فقد وضع أبوابه وكتبه كل من تعرض لشرحه، ولذلك تجد تبويبات الإمام النووي بخلاف تبويبات السيوطي، وبخلاف تبويبات السخاوي، وبخلاف تبويبات غيرهم، وقد شرح صحيح مسلم أكثر من مائة شارح، ولكل واحد منهم تبويبات تخصه باجتهاده، بخلاف الإمام البخاري فإنه هو الذي وضع تبويبات كتابه.
والإمام مسلم إنما سرد الأحاديث سرداً وراء بعضها، وقد قال في أول حديث حدثني فلان، ثم في الثاني والثالث: وحدثني فلان وحدثني فلان، وهكذا، ولذلك كان الأصل في أول هذا الكتاب وأول حديث في الباب أن يقول مسلم: حدثني فلان، لا وحدثني فلان؛ لأنه أول حديث في الكتاب وفي الباب، ولكن الإمام مسلماً زاد حرف الواو في قوله: وحدثني؛ لأنه معطوف على ما قبله، باعتبار أنه سرد الأحاديث كلها سرداً على نسق واحد، ولم يقسم هذا كتاب كذا، وهذا باب كذا، وإنما هذا التقسيم من صنع من شرح صحيحه.(103/5)
سبب فصل الإمام مسلم بين رواية أبي الطاهر ورواية حرملة بن يحيى
قال: [وحدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن السرح -وهو المصري- حدثنا ابن وهب]، وهو أبو محمد عبد الله بن وهب المصري القرشي مولاهم، يعني: أنه مولى لقريش، وهو مصري، وهو فقيه ثقة حافظ عادل، وتولى القضاء في مصر في زمانه.
قال: [عن يونس]، وإذا روى ابن وهب عن يونس فـ يونس هو يونس بن يزيد الأيلي، ولو روى عن عمرو فهو عمرو بن الحارث المصري.
ثم وضع الإمام مسلم بعد يونس حرف ح، وهو اختصار لكلمة الحديث، كما لو أنك استشهدت بآية طويلة، فإنك تذكر طرف الآية الأول ثم تقول: الآية، يعني: كأنك أردت إكمال الآية، وإنما منعك من إكمال الآية علم المستمع لها، أو بمحل الشاهد فيها، فهو أراد بقوله هنا: ح، أي: الحديث بتمامه، أو أنها بمعنى اختصار الحديث، أو تحويل الإسناد، يعني: أن الإسناد إلى هنا سيتحول، ويبدأ إسناد جديد للإمام مسلم، وبعد حرف الحاء لابد أنك تجد حرف الواو.
قال: [وحدثني حرملة بن يحيى]، والقائل وحدثني مسلم، وليس يونس بن يزيد، وإنما هو مسلم ليبدأ إسناداً جديداً، فكأن حرملة بن يحيى التجيبي متابع لـ أبي الطاهر بن السرح، وكأن مسلماً أراد أن يقول: حدثني أبو الطاهر وحرملة، هذا التقدير، ولكنه لم يقل ذلك، لأن أبا الطاهر قال في الإسناد الأول: حدثنا ابن وهب، وأما حرملة بن يحيى التجيبي فقال: أخبرنا ابن وهب، ولا يزال أهل الحديث يفرقون بين أداة التحمل حدثنا، وأداة التحمل أخبرنا، وهما وإن كانت كل واحدة منهما تفيد السماع إلا أن إفادة السماع من حدثنا أقوى من أخبرنا، كما أن حدثنا تستخدم عند المحدثين في السماع مشافهة، بخلاف أخبرنا فإنها تستخدم عند المحدثين في السماع مشافهة وإجازة، فلما اختلف أسلوب التحمل ما كان يحل لـ مسلم أن يجمع بينهما، فهو بإمكانه أن يقول: حدثني فلان وفلان، ولكنه ليس بإمكانه أن يتصرف في رواية أبي الطاهر ورواية حرملة ويقول: حدثني فلان وفلان؛ لأن أبا الطاهر قال: حدثنا ابن وهب، وأما حرملة فقال: أخبرنا ابن وهب، وكان بإمكانه أن يقول هذا، ولكن هذا الأمر يطول؛ ولذلك ساقه على هذا النسق.
وحرملة بن يحيى هو المعروف بـ التجيبي بكسر الجيم، وهو مصري، وكنيته أبو محمد، نزيل دمياط.
قال: [أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس].
وفي الطريق الأول قال ابن وهب: عن يونس، وفي الطريق الثاني قال: أخبرني يونس.
عن ابن شهاب، وهو الإمام الكبير المعروف محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن زهرة، مشهور بـ الزهري أو ابن شهاب.
قال: [عن سالم بن عبد الله عن أبيه]، وسالم سيد من سادات التابعين وفقيه من فقهاء المدينة، وهو ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب، فهو يروي هنا عن أبيه عن جده، وما أسعد الرجل وهو يقول: عن أبي عن جدي، يعني: السلالة كلها سلالة علم ورواية، وهذا مثل عبد الملك بن شعيب بن الليث بن سعد عن أبيه عن جده، وهذه سلسلة مصرية؛ لأن الليث بن سعد إمام مصر كلها، وهو فخر المصريين في زمانه، وكان سيداً من سادات العلماء، وهو شيخ الإمام الشافعي، وأحمد من باب أولى، فروى ولده شعيب عنه، وروى عبد الملك ولد عن أبيه، فـ عبد الملك يروي عن أبيه شعيب عن جده الليث بن سعد، وهذا شيء يفرح جداً، ولو أننا نظرنا إلى هذه النكتة فإنه ينبغي أن يحافظ كل منا على تربية ولده، خاصة في هذه الأيام التي اختلط فيها الحابل بالنابل، وانتشر فيها الشر حتى كان كالأصل في البلاد والعباد، والذي ينجي ولده من هذه النار المؤججة في هذه البلاد وغيرها وفي هذا الزمان عموماً فكأنه أخرجه من بين فكي أسد.(103/6)
شرح حديث: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)
قال: [عن سالم بن عبد الله عن أبيه -وهو عبد الله بن عمر - قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)].
وهذا الحديث له مناسبة، وهي أن النبي عليه الصلاة والسلام كان في طريق مع ركب فتأخر عنهم، ثم أدركهم، وفيهم عمر يحلف بأبيه، فقال: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)، وهذا النهي موجه إلى الأمة لثلاثة أدلة: الدليل الأول: عموم اللفظ، (إن الله ينهاكم)، وهو وإن كان موجهاً بالدرجة الأولى إلى الصحابة الذين كانوا معه في هذه الفترة على جهة الخصوص إلا أنه يعم الأمة كلها.
والدليل الثاني: قول الأصوليين: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، يعني: أن السبب الذي جعل النبي عليه الصلاة والسلام يقول هذا القول هو أنه سمع عمر يحلف بأبيه، فلم يقل له: يا عمر! لا تحلف، وإنما قال: (إن الله ينهاكم)، أي ينهى عمر ومن مع عمر، والأمة كلها من بعد عمر إلى قيام الساعة، فالعبرة بعموم اللفظ الوارد في القضية، وليس بالسبب الذي لأجله قيل هذا اللفظ.
الدليل الثالث: أن هذا قول من النبي عليه الصلاة والسلام، والأصل في القول أنه تشريع للأمة، خاصة إذا فهم هذا من ظاهر الخطاب، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينهاكم) يدل على هذا، أي: ينهاكم يا معشر المؤمنين! ويا معشر المؤمنات! أي: لا ينهى عمر فقط، وإنما ينهى عمر ومن معه من الأمة إلى قيام الساعة عن الحلف بالآباء.
وقد وردت روايات كثيرة جداً تنهى عن الحلف بالآباء، وعن الحلف باللات والعزى أو بالأصنام أو باليهودية والنصرانية، وعن قول القائل: أنا بريء من ملة الإسلام إن لم يكن كيت وكيت، وغير ذلك من الروايات التي أخذ منها أهل العلم عموم التحريم أو الكراهة، إلا إذا كان الحلف بالله وأسمائه وصفاته.
ووردت روايات تحض وتحث المسلم إذا أراد الحلف أن يحلف بالله وأسمائه وصفاته، فضلاً أن عمل الأمة من زمن النبي عليه الصلاة والسلام إلى يومنا هذا على أن اليمين المنعقدة إنما هي إذا كانت بالله فرداً أو ثلاثاً، ومعنى: فرداً، يعني: أن يحلف بالله مرة واحدة، أو أن يحلف بالله ثلاثاً حتى يعقد اليمين عقداً، ويعلم خطورة الكذب فيه وأنه يمين غموس إذا كان كاذباً أو حنث في هذا اليمين.
قال: [قال عمر -أي: لما سمع قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)].
(فوالله)، لم يقل: وأبي، أو تربة جدي، أو وقبر الحسين، أو غير ذلك، وإنما لما سمع النهي غيَّر يمينه وقال: [(فوالله ما حلفت بها -أي: بآبائي- منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها ذاكراً ولا آثراً)، يعني: لم يحلف قط بغير الله عز وجل بعد أن سمع النهي في ذلك، ولا أنه نقل يمين غيره، وهذا معنى: (ولا آثراً)، أي: لا يروي كلاماً عن الآخرين فيه يمين بغير الله.
وهذا يدل على شدة التزام الصحابة واتباعهم لأوامره عليه الصلاة والسلام، وانتهائهم عن نواهيه.
قال: [وحدثني عبد الملك بن شعيب بن الليث حدثني أبي عن جدي حدثني عقيل بن خالد]، وعُقيل بالتصغير، وجده عَقيل، فهو عُقيل بن خالد بن عَقيل الأموي، سكن المدينة ثم انتقل إلى الشام ثم استقر في مصر ومات بها، وإليه ينتهي هذا الإسناد ليبدأ إسناد جديد لـ مسلم من أول الأمر.
قال: [وحدثنا إسحاق بن إبراهيم] وهو المعروف بـ إسحاق بن راهويْه، أو راهويَه.
قال: [وعبد بن حميد]، وعبد لقب، واسمه عبد الحميد، وقيل: بل عبد اسم، لكن الراجح أن عبداً لقب، واسمه عبد الحميد.
[قالا -أي: إسحاق وابن حميد - حدثنا عبد الرزاق -وهو ابن همام الصنعاني اليماني، إمام اليمن- قال: أخبرنا معمر -وهو ابن راشد البصري تحول من البصرة وسكن صنعاء في اليمن- كلاهما عن الزهري]، وهذا الضمير يعود على معمر وعُقيل بن خالد فكلاهما يروي عن الزهري.
[بهذا الإسناد]، قوله: بهذا الإسناد فيه إشارة إلى السند السابق، الذي هو الزهري عن سالم عن عبد الله عن أبيه عمر، وكأنه أراد أن يقول هنا: كلاهما -أي: عُقيل ومعمر - عن الزهري عن سالم عن عبد الله بن عمر عن أبيه عمر ب(103/7)
اعتبار المحدثين لكل طريق من طرق الحديث حديثاً مستقلاً
والمحدثون يعتبرون الطريق أو الوجه حديثاً، ويقولون: حديث: (إنما الأعمال بالنيات) ليس حديثاً واحداً، وإنما سبعمائة حديث، مع أن الجميع يحفظه على أنه حديث واحد، أخرجه البخاري ومسلم، قالوا: لأن الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم هو عمر، والذي رواه عن عمر هو علقمة بن وقاص الليثي، والذي رواه عن الليثي هو محمد بن إبراهيم التيمي، والذي رواه عن التيمي هو يحيى بن سعيد الأنصاري، والذي رواه عن الأنصاري سبعمائة نفس، وكل نفس عن الأنصاري عن التيمي عن الليثي عن عمر عن النبي عليه الصلاة والسلام يعدونه حديثاً.
فالمحدثون يعتبرون أن كل وجه أو كل طريق أو كل إسناد يروى به الحديث حديث قائم بذاته، ويقولون: قد صح عن النبي عليه الصلاة والسلام عشرة ملايين حديث، وآخر يقول: لا، بل هي مليوني حديث، ونحن لا يوجد بين أيدينا أحاديث صحيحة بلغت مائة ألف، وإنما هذه الملايين باعتبار الطرق والأسانيد والأوجه التي يروى بها كل حديث على حدة، فهم لا ينظرون إلى المتن وإنما ينظرون إلى السند، بخلاف الفقهاء الذين ينظرون إلى المتن ولا ينظرون إلى الإسناد، فتعدد الأسانيد لا يلزم الفقهاء، كما أن المحدثين في الغالب لا ينظرون إلى المتن، ولست أعني بذلك أنهم لا يعتنون بنقد المتون والروايات، بل هذا عمل المحدثين، وإنما لا ينظرون إلى المتن من جهة عد الروايات، وغالب اعتمادهم على الأسانيد والطرق والأوجه.
فهنا يقول: [غير أن في حديث عُقيل: (ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنها، ولا تكلمت بها)، ولم يقل: (ذاكراً ولا آثراً)].
وقوله: (وفي حديث عُقيل: ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنها) لا يدل على أن عُقيلاً سمع النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما التقدير: غير أن في حديث عُقيل عن الزهري عن سالم عن عبد الله عن عمر أنه قال: (ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنها ولا تكلمت بها)، ولم يذكر عُقيل في طريقه قول عمر: (ذاكراً ولا آثراً).(103/8)
رواية ابن عمر لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الحلف بالآباء
قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة]، وهو عبد الله بن إبراهيم بن أبي شيبة الكوفي، وهو إمام كبير، صاحب المصنف المعروف بمصنف ابن أبي شيبة.
قال: [وعمرو الناقد وزهير بن حرب -وهو أبو خيثمة النسائي نزيل بغداد- قالوا -أي: هؤلاء الثلاثة، عمرو وأبو بكر وزهير - حدثنا سفيان بن عيينة -وهو الإمام الكبير أبو محمد - عن الزهري عن سالم عن أبيه].
ولو جمعنا هذا الإسناد إلى الأسانيد السابقة فسيكون مفترق الطرق من بعد ابن شهاب؛ لأن ابن شهاب في كل الأسانيد التي مضت موجود، ففي الإسناد الأول يروي يونس عن الزهري، وفي الإسناد الثاني يروي معمر وعُقيل عن الزهري، وفي هذا الإسناد يروي سفيان بن عيينة عن الزهري، فالرواة عن الزهري أربعة، وهذا الإسناد جعل الحديث عن ابن عمر، وهذه نكتة لطيفة جداً، فلو أردنا أن نكشف عن هذا الحديث في تحفة الأشراف للإمام المزي الذي يذكر فيه أسانيد الكتب الستة لوجدناه في مسند عمر بن الخطاب، وسنجد هذا الإسناد في مسند ولده عبد الله بن عمر؛ لأن عبد الله بن عمر في الإسناد الأول قال: سمعت عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا رواه عمر عن النبي عليه الصلاة والسلام، وفي هذا الإسناد قال: عن سالم عن أبيه - عبد الله بن عمر -قال: (سمع النبي صلى الله عليه وسلم عمر يحلف بأبيه).
فجعله من كلام عبد الله بن عمر، ومن مسانيده.
قال: [بمثل رواية يونس ومعمر]، أي: بمثل رواية يونس في الإسناد الأول، ورواية معمر في الإسناد الثاني، مع أن رواية معمر جاءت في إسناد واحد مع رواية عُقيل، ولكنه ألف في هذه الرواية الثالثة بين الرواية الأولى والرواية الثانية.
قال: [وحدثنا قتيبة بن سعيد -وهو الثقفي من ثقيف- حدثنا ليث -وهو الليث بن سعد - وحدثنا محمد بن رمح واللفظ له]، وكلمة واللفظ له يدل على أن هذا ليس سياق قتيبة بن سعيد، فالإمام مسلم له شيخان في هذا الحديث: الأول: قتيبة، والثاني: ابن رمح، ولكنه لما قال بعد ابن رمح: واللفظ له، أي: هذا السياق هو من رواية ابن رمح لا من رواية قتيبة، ولكنه ذكر قتيبة في هذا الموضع لأن روايته نحو رواية ابن رمح وليست مثلها تماماً، ولو كانت مثلها لم يكن لقوله (واللفظ له) معنى.
قال: [أخبرنا الليث عن نافع عن عبد الله]، ونافع هو المدني الفقيه، مولى عبد الله بن عمر، الإمام الكبير.
قال: [عن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب -أي: في جماعة وفوج في طريق- وعمر يحلف بأبيه، فناداهم -ولم يقل: فناداه- رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله -أي: بالله أو بأسمائه وصفاته- أو ليصمت)]، وفي رواية: (أو ليسكت).
والمعنى واحد.
وأما قوله: (ألا إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)، فهذه كلها توكيدات، فـ (ألا) من أساليب التوكيد، و (إنَّ) من أساليب التوكيد، وكون هذا التحريم أو النهي من الله عز وجل صورة من صور التوكيد.
وقال: (إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)، ولم يقل: احلفوا بالله، وقال: (فمن كان)، أي: فمن اضطر للحلف فليكن يمينه بأسماء الله وصفاته.(103/9)
حكم اليمين
يقول العلماء: الأصل في اليمين الكراهة، حتى لا نتخذ الله تعالى وأسماءه وصفاته عرضة لأيماننا، وهذا قد ورد الإرشاد إليه في كتاب الله تعالى وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام.
والأصل أن المسلم صادق في قوله وفي فعله وفيما أخبر عنه بغير أن يضطر إلى اليمين، ولكن الإنسان يضطر أحياناً إلى اليمين، والنبي عليه الصلاة والسلام -وهو الصادق المصدوق- كان يحلف من غير أن يستحلف، والعلماء مجمعون على أن ذلك كان منه عليه الصلاة والسلام لبيان أهمية المحلوف عليه، أو لتنبيه المستمع لليمين إلى عظم الأمر الذي يقسم عليه النبي عليه الصلاة والسلام، لكن كثرة الحلف مكروهة بلا شك.
وأحياناً يجب اليمين على المرء وجوباً شرعياً.
وبعض القضايا والجنايات والتهم يلزم فيها يمين، بل لا تبرأ ساحة المتهم إلا باليمين، والنبي عليه الصلاة والسلام قضى بالشاهد الواحد مع اليمين، وهناك قضايا كثيرة جداً في الحدود والجنايات يقضى فيها باليمين، فلا يأتي شخص وهو في قفص الاتهام وواقف في المحكمة أمام القاضي ويقول: الأصل في اليمين الكراهة، وأنا لا يمكن أن أحلف باليمين، ولا يحل له ذلك، بل يجب عليه أن يقسم، ولو كانت براءته متعلقة باليمين فلم يحلف فاتهم فقتل أو أعدم أو سجن أو غير ذلك فإنه يأثم بذلك، ولو قتل لعُد منتحراً.
وبعض الناس يتهم بسرقة بعض المال أو المتاع، ولا يكون مع القرائن والبينات محل اتهام إلا هو، فيأتي به صاحب الشيء المسروق ويقول له: يا فلان! قامت القرائن على أنك سارق هذا المال، وهذا عندنا ظن، وينتفي هذا الظن بيمينك، وإلا اضطررنا إلى الكلام على أنك السارق، فيقول: أنا لا أحلف على أشياء تافهة مثل هذه، وهذا الكلام لا ينفع؛ لأن هذا دين، ولو كان ديناراً واحداً، فإن اتهمت ذمتك به فإنه يلزمك على ذلك اليمين لتبرئة ساحتك، وعدم إطلاق الناس ألسنتهم في عرضك، فحتى لو دفعت لهم ألف جنيه أو ألفين والمسروق جنيهاً واحداً فلن يسلم عرضك من ألسنتهم، ولذلك يقال: من كان سبباً في اتهام الناس له فلا يلومن إلا نفسه، وجاء الشرع بحث المسلم على أن يبتعد عن مواطن الشبهات، حتى لو كانت الشبهة ليست مما يقطع بحرمتها، فالأصل في المسلم أن يبرئ دينه وعرضه من الوقيعة فيه، ومن ألسنة الناس أن تنطلق حداداً في عرضه.
وقوله: (فمن كان حالفاً) يعني: فمن اضطر إلى الحلف، أو من أراد أن يحلف، وهذا يدل على أن الأصل عدم الحلف، ولكن إذا اضطر إلى الحلف فليكن يمينه بالله عز وجل.
والرجل منا الآن يقسم أيماناً مغلظة بالله وأسمائه التسعة والتسعين، ولو أنه علم من أسماء الله تعالى أكثر من ذلك لأقسم بها وكلها أيمان كاذبة، وهو يعرف أنه كاذب، ثم إذا امتحن في عزيز لديه قال: لا أقسم، وهذا كلام عظيم جداً في أن يتهاون المرء في أن يقسم بالله، يعني: إذا طلب منه اليمين كأنه يقول: جاء الفرج، وهذا مثل شخص تقول له: تحلف يميناً أنك لم تسرق؟ فيقول: نعم أحلف ألف يمين، فإذا قيل له: لا داعي أن تحلف، بل قل: امرأتي طالق إن كنت سرقت، فيقول لك: لا، لقد طلقت قبل ذلك مرتين، ويجعل الله تعالى أهون من فقدانه لامرأته، وهذا بلاء عظيم جداً، والأصل أن يفضل المرء أن يقطع إرباً ويرمى في النار ولا يقسم بالله العظيم كذباً إلا في مواطن أجازها الشرع للضرورات القصوى وستأتي معنا.(103/10)
ذكر طرق أخرى لحديث ابن عمر في النهي عن الحلف بالآباء
قال: [وحدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا أبي، وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا يحيى (وهو القطان) عن عبيد الله]، ويحيى بن سعيد القطان يروي عن عبيد الله بن عمر العمري، وهذا الرجل له أخ اسمه عبد الله، وقلنا: عبيد الله المصغر هذا إمام وفقيه وثقة وجبل من جبال الحفظ.
والطريق الأول لهذا الحديث انتهى إلى عبد الله بن نمير، فـ محمد يروي عن أبيه عبد الله بن نمير، فالإسناد الأول انتهى عند عبد الله بن نمير والإسناد الثاني انتهى عند عبيد الله.
قال: [وحدثني بشر بن هلال -وهو أبو محمد الصواف النميري - قال: حدثنا عبد الوارث -وهو ابن سعيد بن ذكوان البصري - حدثنا أيوب]، وهو ابن أبي تميمة السختياني البصري الإمام الجليل.
وهنا ينتهي هذا الإسناد، فهؤلاء ثلاثة انتهى إليهم الإسناد، وهم عبد الله بن نمير، وعبيد الله العمري، وأيوب السختياني.
قال: [وحدثنا أبو كريب -وهو محمد بن العلاء الهمداني - حدثنا أبو أسامة -وهو حماد بن أسامة - عن الوليد بن كثير] وهو المخزومي أبو محمد المدني ثم الكوفي، استقر في الكوفة، وهو إمام في المغازي، وهذا الرابع ممن ينتهي إليهم الإسناد.
قال: [وحدثنا ابن أبي عمر]، وهو محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني نزيل مكة، أصله من عدن اليمن، انتقل من الجنوب إلى الشمال واستقر في مكة، وتتلمذ على يد سفيان بن عيينة.
قال: [حدثنا سفيان]، وإذا قال ابن أبي عمر: حدثنا سفيان فهو ابن عيينة، وليس غيره؛ لأن سفيان بن عيينة مكي وابن أبي عمر عدني مكي، بخلاف سفيان الثوري فهو كوفي، وكان بعيداً عن لقاء ابن أبي عمر.
قال: [عن إسماعيل بن أمية]، وهو الأموي، وهذا الخامس ممن ينتهي إليهم الإسناد.
[ح وحدثنا ابن رافع -وهو محمد بن رافع - حدثنا ابن أبي فديك]، وهو محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك المدني أبو إسماعيل - قال: أخبرنا الضحاك وابن أبي ذئب]، وابن أبي ذئب هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب.
[وحدثنا إسحاق بن إبراهيم وابن رافع عن عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني عبد الكريم]، وهو عبد الكريم بن مالك الجزري أبو سعيد الخضرمي نسبة إلى قرية في اليمن تسمى خِضرم.
[كل هؤلاء عن نافع]، أي: هؤلاء الثمانية الذين عددناهم كلهم عن نافع.
[عن ابن عمر بمثل هذه القصة عن النبي صلى الله عليه وسلم]، أي: قصة أن النبي عليه الصلاة والسلام لقي عمر بن الخطاب يحلف بأبيه فنهاه عن ذلك.
وعندما آخذ روايات هذا الحديث الذي أمامي أقول إنه ثمانية أحاديث؛ لأن له ثمان طرق عن نافع عن ابن عمر.(103/11)
شرح حديث: (من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله)
قال: [وحدثنا يحيى بن يحيى -وهو أبو زكريا النسابوري - ويحيى بن أيوب وقتيبة -وهو ابن سعيد الثقفي - وعلي بن حجر]، وهؤلاء أربعة.
[قال يحيى -وهو يحيى بن يحيى النيسابوري -: أخبرنا، وقال الآخرون: حدثنا إسماعيل، وهو ابن جعفر ابن أبي كثير الأنصاري الزرقي أبو إسحاق القارئ، والقارئ نسبة إلى القراءة والحرف في كتاب الله عز وجل، بخلاف القارِّي الذي هو عبد الرحمن القارِّي نسبة إلى قارة، وليس إلى القراءة.
قال: [عن عبد الله بن دينار أنه سمع ابن عمر]، وعبد الله بن دينار هنا متابع لـ نافع، وليس متابعاً لـ سالم، فحديث سالم فيه ذكر عمر، وأما حديث نافع هذا وحديث عبد الله بن دينار فلا يوجد فيهما ذكر عمر، فـ عبد الله بن دينار متابع لـ نافع متابعة تامة.
والمتابعة التامة هي: أن يشترك راويان في شيخ واحد.
فهنا عبد الله بن دينار يروي عن عبد الله بن عمر، ونافع يروي كذلك عن عبد الله بن عمر، فشيخهما واحد، وهو عبد الله بن عمر.
قال: [قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله)].
فلو قال قائل: أنا سأحلف بأمي، أو بأختي، أو بقبر الحسين؛ لأن هذه الأشياء لست بمنهي عنها، والنهي إنما ورد عن الحلف بالآباء فنقول: قد ورد النهي عن ذلك في حديث: (لا تحلفوا إلا بالله).
وهذا يدل على أن جميع الأيمان بغير الله أيمان باطلة أو آثمة، يأثم صاحبها إذا تعمدها، ولا تنعقد يمينه، على خلاف بين أهل العلم في ذلك.
وقوله: (من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله) هذه صيغة حصر وقصر، بما وإلا، وما وإلا عند البلاغيين من أساليب الحصر والقصر، كقوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ} [آل عمران:144]، وكقولنا: (لا إله إلا الله)، فهذا حصر للألوهية في الله عز وجل، وحصر للرسالة في محمد عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ))، فقوله هنا: (من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله) هذا أسلوب حصر وقصر، فلا يجوز لك بحال أن تحلف إلا بالله.
[وكانت قريش تحلف بآبائها]، أي: سبب هذا الحديث أن قريشاً كانت تحلف بآبائها.
قال: [فقال: (لا تحلفوا بآبائكم)].
فعمم النهي، ثم أرشد إلى اليمين الجائز، وهو اليمين بالله عز وجل.(103/12)
باب من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله
قال: [باب من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله]، أي: فكفارته أن يقول: لا إله إلا الله.
والحلف القصد منه التعظيم، والتعظيم لا يكون إلا لله عز وجل وأسمائه وصفاته؛ لأن الحلف يدل على تعظيم المحلوف به، فإذا حلف بغير الله فيجب عليه أن يرجع إلى الذي يستحق التعظيم ويترك ما دونه، فيقول: لا إله إلا الله، وهذا يدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك).
وهذا يدل على أن هذا كفر عملي أو شرك عملي، وليس هو الكفر المخرج من الملة، ولذلك لم يخرجه النبي عليه الصلاة والسلام من الملة، ولم يحكم بكفره وردته عن الإسلام، ويلزمه ما يلزم المرتد إذا أراد العودة إلى الإسلام، كما أنه لم يأمره بالكفارة كذلك، يعني: بكفارة عينية، وإنما أمره فقط أن يقول: لا إله إلا الله، وهذا ليس من باب أن يدخل الإسلام من جديد، ولكن من باب رد التعظيم إلى الله عز وجل.
قال: [حدثني أبو الطاهر -وهو أحمد عمرو بن السرح المصري - حدثنا ابن وهب عن يونس]، وابن وهب هو عبد الله، عن يونس بن يزيد الأيلي.
قال: [وحدثني حرملة بن يحيى التجيبي أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب أخبرني حميد بن عبد الرحمن بن عوف]، وهو الزهري المدني، ابن الصحابي المعروف.
قال: [أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حلف منكم فقال في حلفه: باللات)].
وأحرف اليمين ثلاثة: الباء والواو والتاء، فالباء كأن تقول: بالله، والواو كأن تقول: والله، والتاء كأن تقول: تالله، وهذه الحروف الثلاثة تسبق المقسم به.
[(فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك فليتصدق)، وقوله: (تعال أقامرك) من القمار والميسر، مثل من يقول لآخر: تعال نلعب الشطرنج على عشرة جنيهات، فكأنه قال: تعال أقامرك، والقمار هو الميسر، فمن دعا صاحبه لأن يصنع معه ذلك وجب عليه أن يتصدق، واختلف أهل العلم بماذا يتصدق، فقال الإمام الخطابي: يتصدق بما قامر عليه.
ومذهب الجمهور -وهو الصحيح- أنه يتصدق بأي شيء يصدق عليه الصدقة، ولو بشق تمرة؛ وذلك لما جاء في الرواية التي ستأتي بعد هذه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فليتصدق بشيء)، وهذا يدل على مطلق الصدقة بجميع الأشياء قلت أم كثرت، صغرت أم كبرت، ويتصدق لو قالها مازحاً.(103/13)
ترجمة سويد بن سعيد ورواية الإمام مسلم عنه
قال: [وحدثني سويد بن سعيد]، وهو أبو محمد الهروي، وكان ثقة فقيهاً في نفسه، ولكنه لما كبر سنه ورق عظمه وعمي صار يتلقن، يعني: كان إذا حدثه أحد برواية كان يقبلها ويرويها دون أن يمحص فيها، ولذلك روى المناكير والروايات غير المستقيمة، وقد أفحش القول فيه جداً ابن معين -وهو إمام الجرح والتعديل- وقال: لو كان معي سيف وفرس لغزوت سويد بن سعيد، يعني: لأجل أن يجلسه في البيت حتى يسكت ولا يروي أبداً، وهذا غلو في نظر ابن معين.
ورواية سويد بن سعيد عند مسلم ليست في الأصول، وإنما في المتابعات، وهذا أمر لا يعيب مسلماً قط، فإذا روى له مسلم فإنما روى له في المتابعات والشواهد، وأما في الأصول فلم يخرج له مسلم، وأيضاً فإن مسلماً احترز مما نسب إليه من اختلاط ولم يرو له إلا ما كان قبل إصابته بالعمى وفقد البصر، وقبل أن يتلقن سويد بن سعيد، فهو شيخ الإمام مسلم، ومسلم أدرى به وبروايته.
[حدثنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي]، والوليد بن مسلم مدلس، وقد روى عن الأوزاعي بصيغة عن، والمدلس إذا قال: قال فلان أو عن فلان؛ كانوا يتوقفون في روايته، لكن مسلماً روى له مع هذه العلل في المتابعات، بدليل أنه ساق الرواية من طريق آخر.(103/14)
مقدار الصدقة في كفارة من دعا صاحبه إلى قمار
قال: [وحدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد قالا: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر كلاهما عن الزهري]، وكلاهما تعود على الأوزاعي ومعمر، فـ الأوزاعي في نهاية الطريق الأول، ومعمر في نهاية الطريق الثاني.
[كلاهما عن الزهري بهذا الإسناد]، أي: عن الزهري عن نافع عن ابن عمر.
[وحديث معمر مثل حديث يونس، غير أنه قال: (فليتصدق بشيء)]، ولم يقل: (فليتصدق)، وإنما قال: (فليتصدق بشيء)، وهذا يدل على أن الصدقة بأي شيء تجزئه حتى وإن كان قليلاً.
[وفي حديث الأوزاعي: (من حلف باللات والعزى)] وفي الإسناد الأول: (من حلف باللات فليقل: لا إله إلا الله)، والعلماء يقولون: حتى من حلف بالعزى قياساً على اللات، ولأنه منكر من القول وزور، فكل من أقسم بغير الله حتى وإن أقسم بنبي مرسل أو ملك مقرب يجب عليه الكفارة، وهي قول: لا إله إلا الله.(103/15)
عدد الأحاديث التي انفرد الزهري بروايتها
[قال أبو الحسين مسلم]، وهو صاحب الصحيح، وهو أبو الحسين القشيري النيسابوري مسلم بن الحجاج.
[هذا الحرف] يعني: قوله: تعال أقامرك فليتصدق]، يقصد هذه الجملة وسماها حرفاً، وأحياناً يطلق الحرف على الحديث كله حتى وإن كان عدة صفحات، وهذا الكلام ليس بعيداً عن لسان العرب، والعرب تقول للجملة المفيدة: كلمة، والكلمة تطلق على الاسم والفعل والحرف، والعرب تستخدمها في الجملة المفيدة، وتستخدمها في الكلمة والمحاضرة الطويلة، وتستخدمها في الرسالة المرسلة إلى هنا أو هناك، وقد يقول شخص: ألقى أخي كلمة في ساعتين، وسماها مع ذلك كلمة، وهذا الكلام مقبول في لسان العرب.
[لا يرويه أحد غير الزهري، قال: وللزهري نحو من تسعين حديثاً]، ولو قال: حرفاً لكان صادقاً.
[يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيه أحد بأسانيد جياد]، وجياد جمع جيد، يعني: أنه انفرد برواية حوالي تسعين حديثاً في الصحيح، ومدارها عليه هو، أي: لم تأت هذه الأحاديث إلا من طريقه، وهذا يذكرنا بكلام أبي حاتم بن حبان عندما قال: إن الحديث العزيز هو الذي روي من طريقين ولو في طبقة واحدة من طبقاته.
ثم زاد وقال: وهذا شرط الصحيح.
وهذا الكلام خطأ ومردود على ابن حبان، بدليل: أن الزهري له في الصحيحين أكثر من تسعين حديثاً لم تأت إلا من طريقه هو، لا في الصحيح ولا في غيره، وهي من باب الغريب.(103/16)
تعريف الحديث الغريب والعزيز والمشهور
الغريب هو: ما رواه راو واحد ولو في طبقة واحدة من طبقات السند.
والعزيز هو: ما رواه اثنان ولو في طبقة واحدة من طبقات السند.
والمشهور هو: ما رواه ثلاثة ولو في طبقة واحدة من طبقات السند أو أكثر من ذلك ما لم يبلغ حد التواتر.
والمشهور والعزيز والغريب من أقسام الآحاد، وزاد الأحناف المستفيض، وقيل: المستفيض هو المشهور.
وهذا الكلام قد ذكرناه قبل هذا الدرس، ولا أريد أن أعيده، ولا أريد أن نكون مثل الأستاذ الذي كان يحفظ الأولاد جزء عم، حتى إذا وصل إلى سورة النبأ أتى واحد وجلس في الحلقة، فرأى الأستاذ أنه لأجل فلان لابد أن يعيد من الأول، وبهذه الطريقة يبقى الأولاد في جزء عم حتى يدركهم الموت؛ لأنه كلما وصل الأولاد إلى سورة النبأ يرجع الأستاذ من الأول لأجل الجديد، مع أنه لا يأتي إلا مرة واحدة، على سبيل الخطأ، ولو أتى واستمع قبل أن يجلس فلربما لا يجلس، لكن من أجل إكرام الضيف يبدأ من جديد، ويظل الأستاذ على هذه الحالة من الرجوع إلى الأول إلى ما لا نهاية.
وهذا منهج خاطئ في التربية وفي التعليم، فمن أجل أن تفهم لابد أن تدرس علم المصطلح دراسة أصولية منظمة، بحيث ترتق درجة درجة حتى تصل إلى الآحاد بأقسامه والمتواتر، وغير ذلك من مسائل المصطلح.(103/17)
شرح حديث عبد الرحمن بن سمرة في النهي عن الحلف بالطواغيت أو الآباء
قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الأعلى عن هشام عن الحسن عن عبد الرحمن بن سمرة]، وعبد الرحمن بن سمرة صحابي معروف، والحسن البصري يروي عنه، وهو الحسن بن أبي الحسن يسار البصري، وهشام الذي يروي عن الحسن هو هشام بن حسان الأزدي.
قال: [قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحلفوا بالطواغي ولا بآبائكم)].
وهذا الحديث مثل الحديث السابق في النهي عن الحلف باللات والعزى، يعني: لا تحلفوا باللات ولا بالعزى ولا بالطواغي ولا بآبائكم، فكل هذه منهيات، والشاهد: أن كل ما دون أسماء الله عز وجل وصفاته منهي أن نحلف به.
قال أهل اللغة: الطواغي هي الأصنام، واحدها طاغية، بخلاف الطواغيت واحدها طاغوت، ومنه: هذه طاغية دوس، أي: صنمهم ومعبودهم، وسمي باسم المصدر لطغيان الكفار بعبادته؛ لأنه سبب طغيانهم وكفرهم، وكل ما جاوز الحد يقال: طغى، كما في قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} [الحاقة:11]، أي: لما فاض وتجاوز الحد بالطغيان والثوران والسيلان، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحلفوا بالطواغيت)، وهو جمع طاغوت، وهو الصنم أو الشيطان، أو هو كل ما تجاوز الحد راضياً بذلك، فيقال له: طاغوت، ولذلك قال الله تعالى: {واجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا} [الزمر:17].
وقال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النساء:60].(103/18)
الأسباب التي أدت بالعرب إلى عبادة الأصنام
قال الإمام ابن الجوزي في كتاب تلبيس إبليس في السبب الذي حمل العرب على عبادة الأصنام: قال هشام الكلبي: حدثني أبي أن إسماعيل عليه السلام لما سكن مكة ولد له أولاد كثير، حتى ملئوا مكة وضاقت عليهم ووقعت بينهم الحروب والعداوات، وأخرج بعضهم بعضاً وانتشروا في البلاد لطلب المعاش، وكان لا يذهب أحد إلا احتمل معه حجراً من حجارة الحرم؛ تعظيماً للحرم وصبابة بمكة، فحيثما نزلوا وضعوه وطافوا به كطوافهم بالبيت حباً للبيت وصبابة به، ثم عبدوا ما استحسنوه ونسوا ما كانوا عليه من دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، واستبدلوا به غيره، وعبدوا الأصنام، واستخرجوا ما كان يعبد قوم نوح عليه السلام وصاروا إلى ما كان عليه الأمم من قبلهم، ومع ذلك فيهم بقايا من شريعة إبراهيم وإسماعيل يتمسكون بها، من تعظيم البيت والطواف به والحج والعمرة والوقوف بعرفة، إلى غير ذلك.
ثم يقول: أول من بدل دين إبراهيم عليه السلام عمرو بن لحي.(103/19)
اتخاذ العرب لمناة
يقول: وبهذا السبب اتخذت العرب الأصنام، فأول صنم وأقدم صنم اتخذه العرب هو مناة، قال: وكان منصوباً على ساحل البحر بين مكة والمدينة، وكانت العرب كلهم يعظمونه ويذبحون له، ولم يكن أحد أشد إعظاماً له من الأوس والخزرج.
أي: لأنه أول صنم، فكان محل إعظام وتقدير وعبادة جميع العرب، وكان أشد الناس عبادة لهذا الصنم الأوس والخزرج في يثرب في المدينة المنورة، كما قال ابن هشام: كان الأوس والخزرج ومن جاورهم -يعني: العرب- من أهل يثرب وغيرها يحجون ويقفون المواقف كلها، لكنهم لا يحلقون رءوسهم إلا إذا نفروا نفروا إلى مناة فحلقوا عندها، وكانوا لا يرون لحج تماماً إلا بذلك.
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح علي بن أبي طالب رضي الله عنه فهدمها، أي: فهدم هذا الصنم.(103/20)
اتخاذ العرب للات
ثم اللات وكانت إله العرب بالطائف، والطائف بجوار مكة، وتبعد عنها شيئاً يسيراً حوالي سبعين كيلو أو يقل قليلاً، فقد اتخذ أهل الطائف اللات، وهي أحدث من مناة، فقال أهل الطائف وهم ثقيف: ما دام أن الأوس والخزرج اتخذوا لهم مناة إلهاً فنحن نتخذ لنا اللات إلهاً بجوارنا، حتى يكون إلههم وصنمهم بينهم، ولا يأتون إلى قرب المدينة أو قرب يثرب في ذلك الوقت، وكانت اللات عبارة عن صخرة مربعة بنوا عليها بيتاً، وكان سدنتها من ثقيف، والسدنة هم الخدم، مثل سدنة الحسين وسدنة البدوي، فهؤلاء سدنة لهذه الأوثان؛ لأن هذه أصنام أو أوثان وليست قبوراً، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد).
وكانت قريش وجميع العرب تعظمها، أي: تعظم اللات، فلم تزل كذلك حتى أسلمت ثقيف، أي: دخل أهل الطائف في الإسلام، فبعث النبي عليه الصلاة والسلام المغيرة بن شعبة فهدمها بل حرقها بالنار.
وبعضهم يقول: اللات ليست حجارة، وإنما هو رجل كان يلت العجين والسويق للحجيج، وهذا على قراءة من قرأ: (اللاتَّ) بالتشديد، وهو اسم فاعل ممن يلت العجين لتاً ويصنعه خبزاً للقادمين في مواسم الحج والعمرة.
قالوا: وكان هذا رجلاً من العرب يلت السويق والعجين ويقدمه للحجيج، فلما مات صوروا له تصاوير، ثم عظموه، فلما تقادم العهد أتى الأحفاد ثم أحفادهم فعبدوا هذا الرجل.(103/21)
اتخاذ العرب للعزى
وأما العزى فهي أحدث من اللات، ويقال: سموه اللات اشتقاقاً من اسم الله (الله)، وسموا العزى اشتقاقاً من اسم الله (العزيز).
وكانت بواد يسمى وادي نخلة، فوق ذات عرق، وذات عرق هي ميقات أهل العراق ومن مر بها من غير أهلها، وكانوا يسمعون منها الصوت، وقد قال أبو سفيان يوم أحد وهو يحارب النبي عليه الصلاة والسلام لما كان مشركاً: لنا العزى ولا عزى لكم.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ردوا عليه، قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم)، وهذا هو التوحيد في مقابلة الشرك.
وقد جاء من حديث ابن عباس عند النسائي وأبي يعلى والبيهقي في الدلائل وأبي نعيم من طريق أبي الطفيل قال: (لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة)، أي: إلى وادي نخلة، وكان في الجهة اليسرى، فأتاها خالد بن الوليد وكانت على ثلاث سمرات، يعني: على ثلاث شجرات، السمرة هي الشجرة، فقطع السمرات وهدم البيت الذي كان عليها، ثم أتى النبي عليه الصلاة والسلام فأخبره أنه قطع الأشجار الثلاث، فقال: ارجع فإنك لم تقطع شيئاً، أي: لم تقتل العزى بعد، فرجع خالد، فلما نظرت إليه السدنة أمعنوا في الجبل، يعني: دخلوا في الجبل، وعلموا أنه أتى من عند من يأتيه خبر السماء، وأنه لم يقتل العزى بعد، فانطلقوا في الجبل وهم يقولون: يا عزى! خبليه، وإلا فموتي رغم أنفك، يعني: إذا كنت إلهاً حقاً فخبليه، يعني: اجعليه مخبولاً مجنوناً، أو على الأقل اجرحيه، وشجيه، أو اكسري عظامه، وإلا فإن لم تكوني قادرة على ذلك فموتي رغم أنفك أو حتف أنفك، وتصور شخصاً يقول لإلهه هكذا، قال: فأتاها خالد، فإذا امرأة عريانة سوداء ناشرة شعرها، واضعة ثدييها على كتفيها.
وتصور هذا الموقف، امرأة ضخمة سوداء لها ثدي يزن القناطير، أو له طول عظيم جداً بحيث أنه يوضع على الأكتاف، وهي منتفشة الشعر، وتحثو التراب على رأسها، فهذا منظر مرعب فعممها خالد بسيفه فقتلها، فلما رجع إلى النبي عليه الصلاة والسلام قال له: تلك العزى، يعني: قد قتلت العزى، وكان خالد يتصور أن العرب يعبدون العزى وهي شجرة، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنها ليست العزى، إنما العزى امرأة خلف هذه الأشجار الثلاثة، وأنه قطع الأشجار ولم يقتل العزى التي هي إلههم المزعوم الباطل، فلما رجع خالد رأى هذا المنظر فعلم أنها العزى، فعمها بالسيف فقتلها، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه هي العزى.
وكان خالد بن الوليد يقول لها: يا عزى! كفرانك لا سبحانك، إني رأيت الله قد أهانك.(103/22)
اتخاذ العرب لهبل
وكذلك هبل كان من آلهة العرب، قال ابن هشام: هبل عندهم أعظمها- أي: أعظم آلهة العرب هبل، وكان من عقيق أحمر، يعني: من الأحجار الثمينة على صورة إنسان، وكان مكسور اليد اليمنى، وهكذا أدركته قريش، وجعلوا له يداً من ذهب، وكان في جوف الكعبة وفي قدامه قداح، وكانوا إذا أرادوا أمراً من السفر وغيره أتوه فاستقسموا عنده بتلك القداح، وهذا معروف عند العرب بثالثة الأثافي، وهو مشهور عند العرب أو في كتب الأمثال العربية.
وقصة ثالثة الأثافي أنه كان الواحد منهم يذهب إلى هبل فيطوف به، وتلك عبادته في البيت الحرام، ويكون عنده ثلاثة أحجار اتخذها آلهة في بيته يعبدها، يضعها في كل مكان في البيت، يعبدها هو ومن دخل البيت، وكان هذا من إكرام الضيف وتحية الداخل، وكان إذا أراد أن يسافر يقرع بين هذه الآلهة في بيته، والذي تخرج عليه القرعة يأخذه معه؛ لأجل أنه إذا نزل من سفر يتمكن من عبادته، وكانت الأحجار من الأثافي، وهذا ثالثة الأثافي الذي وقفت عليه القرعة وأخذه معه، فمعنى المثل: أنك وقعت في بلوى عظيمة جداً كثالثة الأثافي.(103/23)
اتخاذ العرب لإساف ونائلة
وإساف ونائلة وهذان لا يخفيان على أحد، فقد كانا صنمين من أصنام العرب في بيت الله الحرام، وإساف كان على الصفا، ونائلة كانت على المروة، وإساف رجل، ونائلة امرأة، وهي أمور مخزية جداً.
وبعض الناس قد يسمي ابنه يساف، وفي الرواة من اسمه يساف، مثل عبد الرحمن بن يساف، ولغة هذيل التخفيف، والأصل فيه إساف، ولغة هذيل يبدلون الهمزة ياء، فيقولون: يساف، وهذه اللغة تسميها العرب لغة التسهيل أو التخفيف، فـ إساف هو يساف، وكان رجلاً.
وكان إساف رجلاً، ونائلة كانت امرأة، وكلاهما من قبيلة جرهم، وكانا يتعشقان في أرض اليمن، فهما أصلهما يمنيان، وقبيلة جرهم كانت في جنوب اليمن، فكانا يحبان بعضهما، ويريدان الوقيعة، ولما كان هذا عيباً في قبيلة جرهم أتيا الحج بعيداً عن الأهل والجيران والأقربين وغير ذلك، فدخلا البيت، فوجدا غفلة من الناس وخلوة في البيت ففجرا فيه.
وتصور أن رجلاً نفسه تطاوعه أن يفجر ويفحش داخل بيت الله الحرام، هذا لا يصح أن يكون إنساناً إلا في صورته، فمسخا حجرين بمجرد أن وقعت منهما الفاحشة، هذا حجر على صورة رجل، وهذه حجر على صورة أنثى، فأصبح الناس فوجدوهما ممسوخين، فأخرجوهما ووضعوهما عند الكعبة؛ ليتعظ الناس بهما؛ لأنهما فجرا في الكعبة، والكعبة لها حرمة، فوضعوهما في ذلك المكان ليتعظ الناس بهما، ثم مع تقادم الأجيال وذهاب جيل ومجيء آخر عبدوهما من دون الله عز وجل، فحسن الظن وحده لا يجدي ولا ينفع.
قال: فلما طال الزمان وعبدت الأصنام عبدا مع سائر الأصنام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وجد حول البيت ثلاثمائة وستين صنماً، على عدد أيام السنة العربية، وقد اختلف أهل العلم هل كان الداخل يعبد كل هذه الأصنام، أم كل واحد داخل يعبد صنماً معيناً، أم صنماً واحداً يعبد في كل يوم ثم لا يعبد في بقية أيام السنة؟ فلما دخل النبي عليه الصلاة والسلام مكة فاتحاً أتى الكعبة وكان يشير بعصاه إلى هذه الأصنام الثلاثمائة والستين، فإذا أشار إلى صنم بعصاه خر تراباً، فيفقد القوة والصلابة بمجرد إشارة النبي عليه الصلاة والسلام، وهذه قدرة إلهية من الله عز وجل.
قال: (وجعل يطعن بقوسه وجهها وعيونها ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81]).
وهي تتساقط على رءوسها ثم أمر بها فأحرقت، أو فأخرجت من المسجد وطَهُر منها.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.(103/24)
شرح صحيح مسلم - كتاب الأيمان والنذور - النهي عن الحلف بغير الله تعالى
الحلف بغير الله تعالى يقتضي تعظيم المحلوف به، وحقيقة العظمة مختصة بالله تعالى، فلا يضاهي المرء به غيره، وقد جاء النهي الشديد عن الحلف بغير الله تعالى، وأنه شرك بالله تعالى، فمن حلف باليهودية أو النصرانية أو الأصنام أو الأمانة فقد وقع في الشرك، وعليه أن يجدد إيمانه وتوحيده بأن يقول: لا إله إلا الله.(104/1)
ملخص ما ذكر في بابي: النهي عن الحلف بغير الله، ومن حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
في الدرس الماضي من كتاب الأيمان في هذا الكتاب، ذكر قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم.
قال عمر رضي الله عنه: فوالله ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها ذاكراً ولا آثراً) أي: لا عن نفسي، ولا نقلاً عن غيري.
وفي رواية: (ألا إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، وفي رواية: (من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله).
وكانت قريش تحلف بآبائها؛ فقال: (لا تحلفوا بآبائكم).
وفي رواية أبي هريرة قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من حلف منكم فقال في حلفه: باللات؛ فليقل: لا إله إلا الله)، وفي رواية: (من حلف منكم باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك فليتصدق)، وفي رواية: (فليتصدق بشيء)، وهذا لا يلزم منه أن يتصدق بنفس الذي قامر عليه، وإنما يجزئه أن يتصدق بأي شيء، حتى ولو كان قليلاً.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تحلفوا بالطواغي -جمع طاغية- ولا بآبائكم).
يقول الإمام النووي معلقاً على هذه الروايات: (الحكمة في النهي عن الحلف بغير الله تعالى: أن الحلف يقتضي تعظيم المحلوف به، وحقيقة العظمة مختصة بالله تعالى، فلا يضاهى به غيره)، أي: فلا يعظم غيره باليمين.
ثم قال: (وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لأن أحلف بالله مائة مرة فآثم خير من أن أحلف بغيره فأبر).(104/2)
توجيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أفلح وأبيه إن صدق)
يورد الإمام النووي هنا شبهة ويجيب عنها: قال: (فإن قيل: الحديث مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم: (أفلح وأبيه إن صدق)) وهذا الحديث في الصحيحين: (أن رجلاً -وهو ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه- لما أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فسأله عن فرائض الإسلام، فأخبره النبي عليه الصلاة والسلام أن الله افترض عليه خمس صلوات في اليوم والليلة، فقال: يا رسول الله! هل عليّ غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع، ثم ذكر الصيام فقال: إن الله افترض عليك صيام شهر في كل سنة -وهو شهر رمضان- فقال: يا رسول الله! هل عليّ غيره؟ قال: لا، إلا أن تطوع، حتى ذكر له أركان الإسلام، فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص، قال النبي عليه الصلاة والسلام: أفلح وأبيه إن صدق)، وفي رواية البخاري: قال: (أفلح إن صدق)، والزيادة صحيحة؛ بدليل أنها في صحيح مسلم، ولم تكن من الأحرف التي تناولها النقاد بالنقد أو الشذوذ أو غير ذلك.
ولذلك تأولها العلماء، فقالوا: هذا كلام درج على ألسنة العرب لا يقصدون به اليمين، أي: أنه كلام عادي يقوله الناس، لكن لا يعني ذلك أنه يجوز الحلف بالنبي عليه الصلاة والسلام، يكاد اليمين بالنبي أن يكون يميناً عند المصريين، مع أن كثيراً من الناس لا يقصد به اليمين، فيكون غير منعقد من أساسه، إنما يذكرونه على سبيل الكلام الدارج الذي درج على الألسنة، كثيراً ما يقول الناس: والنبي تفعل، والنبي لا تفعل، والنبي تقول، والنبي لا تقول، وهم لا يقصدون به عين اليمين، ولم تنعقد نيتهم على أنه يمين يحنث به أو غير ذلك، وإنما هذا كلام درج على الألسنة، وإن كنا نتمنى أن يوفق الله تعالى هذا الشعب كله لترك هذا الكلام؛ لأنه مخالف لظواهر النصوص التي نهت عن الحلف إلا بالله عز وجل وأسمائه وصفاته.
أما هذا الحديث الذي بين أيدينا: (أفلح وأبيه إن صدق)، ففي الدرس الماضي قلنا: إن أي يمين يسبق بالواو أو الباء أو التاء هي يمين منعقدة، لكن الشبهة هنا قوله عليه الصلاة والسلام: (أفلح وأبيه إن صدق)، فهل يجوز الحلف بالأب هنا؟
الجواب
لا؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا تحلفوا بآبائكم)، فمن باب أولى ألا يحلف هو صلى الله عليه وسلم بأبيه ولا بأبي غيره، والأولى به ألا يحلف بذلك لا ذاكراً ولا آثراً كما فعل عمر رضي الله عنه، والنبي عليه الصلاة والسلام هو مصدر التشريع لا عمر، فإذا صدر هذا من عمر والتزمه عمر، فمن باب أولى النبي عليه الصلاة والسلام أن يلتزم بذلك، فما باله عليه الصلاة والسلام قال هذا.
هذا له تأويلان: التأويل الأول: أن ذلك كان كلاماً دارجاً على ألسنة العرب لا تقصد به ذات الحلف ولا عين اليمين، وبالتالي فإنه لا حرج حينئذ أن يقول عليه الصلاة والسلام: (أفلح وأبيه إن صدق).
التأويل الثاني: أن النبي عليه الصلاة والسلام قصد به اليمين قبل أن يخبره الوحي بأن الحلف بغير الله محرم أو مكروه، فكأن النبي عليه الصلاة والسلام حلف هذا اليمين أولاً، ثم أخبره الله تعالى بحرمة الحلف بغير الله عز وجل، فلم يحلف بعدها قط إلا بالله وأسمائه وصفاته.
والتأويل الأول أرجح؛ لتعلق تعظيم الله عز وجل بجميع الشرائع التي سبقت شريعة نبينا عليه الصلاة والسلام.
قال النووي: (فإن قيل: الحديث مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم: (أفلح وأبيه إن صدق)؛ فجوابه أن هذه كلمة تجري على اللسان لا يقصد بها اليمين، فإن قيل: أقسم الله تعالى بمخلوقاته)، كقوله عز وجل: {وَالصَّافَّاتِ} [الصافات:1].
{وَالذَّارِيَاتِ} [الذاريات:1].
وقال: {وَالطُّورِ} [الطور:1].
{وَالنَّجْمِ} [النجم:1].
{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} [الشمس:1 - 4].
وقال: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2].
وقال: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين:1]) وغير ذلك من الآيات الكثيرة، وكلها أيمان أقسم الله عز وجل بها، وكل هذه المقسم بها من مخلوقات الله عز وجل، فالله تعالى ينهانا أن نقسم بالمخلوقات وهو سبحانه يقسم بالمخلوقات، ربما يكون الأمر فيه لبس أو شبهة حينئذ، لكن العلماء يقولون كما قال الإمام النووي: (ف
الجواب
أن الله تعالى يقسم بما شاء من مخلوقاته تنبيها على شرفه)، أي: تنبيهاً على شرف هذا المخلوق وفضل هذا المخلوق، لكن يقول شيخنا الشيخ سيد سابق رحمه الله: كان العرب يهتمون بالكلام المبدوء بالقسم، بل كل إ(104/3)
الحكمة من إقسام الله تعالى بخلقه
قال سيد سابق رحمه الله تعالى: كان العرب يهتمون بالكلام المبدوء بالقسم، فيلقون إليه السمع مصغين؛ لأنهم يرون أن قسم المتكلم دليل على عظم الاهتمام بما يريد أن يتكلم به، وأنه أقسم ليؤكد كلامه، وعلى هذا جاء القرآن يقسم بأشياء كثيرة، منها: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1].
ومنها: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1].
{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل:1 - 2]، وإنما كان ذلك لحِكَمٍ كثيرة في المقسم به والمقسم عليه.
من هذه الحكم: لفت النظر إلى مواضع العبرة في هذه الأشياء المقسم بها، والحث على تأملها؛ حتى يصلوا إلى وجه الصواب فيها.
فقد أقسم الله تعالى بالقرآن لبيان أنه كلام الله حقاً، وبه كل أسباب السعادة.
وأقسم بالملائكة لبيان أنهم عباد الله خاضعون له، وليسوا بآلهة يعبدون.
وأقسم بالشمس والقمر والنجوم؛ لما فيها من الفوائد والمنافع، وأن تغيرها من حال إلى حال يدل على حدوثها -أي: على أنها مخلوقة- وأن لها خالقاً وصانعاً حكيماً، فلا يصح الغفلة عن شكره والتوجه إليه.
وكذلك أقسم سبحانه بالريح والطور والقلم والسماء ذات البروج؛ إذ إن ذلك كله من آيات الله التي يجب التوجه إليها بالفكر والنظر.
أما المقسم عليه فأهمه وحدانية الله عز وجل، ورسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعث الأجساد مرة أخرى بعد الموت، ويوم القيامة؛ لأن هذه هي أسس الدين التي يجب أن تعمق جذورها في النفس، والقسم بالمخلوقات مما اختص الله تعالى به نفسه.
يعني: لا يجوز لأحد أن يقسم بشيء من المخلوقات، إنما ذلك قسم خاص بالله عز وجل، أما نحن البشر فلا يصح لنا أن نقسم إلا بالله، أو بصفة من صفاته على النحو الذي قدمناه كثيراً.
قال الإمام النووي: (وفي هذا الحديث إباحة الحلف بالله تعالى وصفاته كلها، وهذا مجمع عليه.
وفيه النهي عن الحلف بغير أسمائه سبحانه وتعالى وصفاته، وهو عند أصحابنا -أي: الشافعية- مكروه ليس بحرام) يعني: أن الحلف بغير الله وأسمائه وصفاته محل نزاع بين أهل العلم: فمنهم من ذهب إلى الحرمة.
ومنهم من ذهب إلى الكراهة.(104/4)
حكم الحلف باليهودية والنصرانية والبراءة من الإسلام والنبي
قال النووي: (أما قوله صلى الله عليه وسلم: (من حلف منكم فقال في حلفه: باللات والعزى؛ فليقل: لا إله إلا الله)، إنما أمر بقول: لا إله إلا الله؛ لأنه تعاطى تعظيم صورة الأصنام حين حلف بها، قال أصحابنا: إذا حلف باللات والعزى وغيرهما من الأصنام، أو قال: إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني، أو بريء من الإسلام، أو بريء من النبي صلى الله عليه وسلم أو نحو ذلك؛ لم تنعقد يمينه)، بل هذا لا يصلح أن يكون يميناً؛ ولذلك لو قال إنسان: أكون يهودياً إن فعلت كذا، فهل هذا يعد يميناً؟
الجواب
لا، كما أنه لا يحل لأحد أن يقول هذا؛ لأن من قال: أنا يهودي إن فعلت كذا أو نصراني، أو أنا بريء من الإسلام، فهذا الكلام كله على خلاف بين أهل العلم، منهم من يقول: عليه أن يتوب إلى الله عز وجل، وإن حنث في اليمين فلا كفارة عليه.
ومنهم من يقول: بل عليه كفارة يمين.
ومنهم من يقول: إذا انعقدت نيته على أنه يمين انعقد يميناً.
وأخطر من ذلك اختلافهم في كفره أو عدمه.
فمنهم من قال: من قال: أنا يهودي إن فعلت كذا وفعل، أو أنا بريء من الإسلام إن لم أفعل كذا ولم يفعله، أي: حنث في هذا الكلام؛ فمنهم من قال: لو توجهت نيته إلى ذلك يلزمه كفارة يمين.
ومنهم من قال: حنثه باليمين أولى من وقوع الكفر عليه؛ لأن اليهودية كفر، والنصرانية كفر، وكل ما دون الإسلام كفر، فلو علق المرء إيمانه على هذه الملل والنحل الباطلة كان الأولى به، يستدلون بحديث النبي عليه الصلاة والسلام: (من قال: أنا بريء من دين الإسلام، أو أنا يهودي؛ فإن كان كاذباً فهو أولى به، وإن كان صادقاً فلن يرجع إلى الإسلام سالماً).
قال النووي: (أو قال: إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني، أو بريء من الإسلام، أو بريء من النبي صلى الله عليه وسلم أو نحو ذلك؛ لم تنعقد يمينه، بل عليه أن يستغفر الله تعالى ويقول: لا إله إلا الله، ولا كفارة عليه سواء فعله أم لا، هذا مذهب الشافعي ومالك وجماهير العلماء)، يعني: هذا ليس يميناً، حتى وإن حنث فيه فما عليه إلا أن يستغفر الله تعالى.
ثم قال: (وقال أبو حنيفة: تجب الكفارة في كل ذلك -أي: إذا حنث وجب عليه أن يكفر- إلا في قوله: أنا مبتدع، أو بريء من النبي صلى الله عليه وسلم، أو واليهودية)، يعني: إذا حلَّف القاضي شخصاً فقال: قل: والله العظيم لأقولن الحق، ثم قال: واليهودية لأقولن الحق، فلو أنه قال ذلك فهو عند الأحناف يجب عليه كفارة، إن كان كاذباً أو حنث في اليمين.
ثم قال: (واحتج بأن الله تعالى أوجب على المظاهر الكفارة؛ لأنه منكر من القول وزور، والحلف بهذه الأشياء منكر وزور)، لكن كلام الجمهور في مقابلة الكلام للأحناف يحتاج إلى توثيق واحتياط في ما يتعلق بمن حلف بغير الله كمن حلف باليهودية.
الجمهور يقولون: لا تنعقد عليه، وإنما يلزمه أن يتوب إلى الله تعالى.
والاستغفار والتخلص من هذا بأن يقبل على طاعة الله كصلاة أو صيام أو تسبيح أو ذكر أو قراءة قرآن أو غير ذلك، وبين إنسان خطر بقلبه أن يسرق، ثم اتخذ لذلك الوسائل المؤدية إلى حصول السرقة، استقر في قلبه تماماً، فانطلق وأعد العدة واتخذ آلة لما عساه أن يكون بينه وبين إكمال السرقة، ثم ركب الدابة وانطلق إلى المكان الذي أراد سرقته، فلما ذهب إلى هناك وجد العسكر والحراس وغير ذلك، فحال بينه وبين وقوع السرقة منه هؤلاء، وهذا أمر خارج عن إرادته؛ فلا يستوي قط.
فهذا الرجل اتخذ الوسائل المؤدية إلى إتيان المعصية أو الذنب، ففرق بين إنسان انتبه من غفلته ورجع عن ذنبه بمجرد أن خطر على قلبه ذلك، بخلاف هذا الذي لم يرجع إلا لأنه لم يتمكن من المعصية، فإنه يأثم؛ لأنه اتخذ خطوات عملية لإتمام الذنب والمعصية، وهذه الخاطرة لم تكن خاطرة فحسب، بل استقرت هذه الخاطرة، فانطلقت الجوارح لإتمام مراده، لكن حال بينه وبين وقوع الذنب حوائل خارجة عن إرادته.
كان لي زملاء وطلاب في الجامعة، والجامعة في كل زمان ومكان هي أس البلاء والفساد، وهي مرتع خصب للشياطين، فيها شباب في مقتبل نضجهم البدني والعقلي، لكن الموفق من حفظه الله تعالى، والهالك من انحرف عن طريق الله عز وجل، فهؤلاء الطلاب أثاروا شبهة: أن الله خالق كل شيء، فمن خلق الله؟ فبعضنا سدد ووفق بتوفيق الله عز وجل له، وتصدى لهذا الكلام الباطل بأنه لا يجوز إثارته أصلاً؛ لأنه من الشيطان لا محالة.
والبعض الآخر قال: هذا كلام وجيه، وهو بصيغة سؤال يطرح، فَلِمَ لا تجيبون عليه؟ إذاً: أنتم ضعفاء، ولا علم عندكم، وهذا كلام تريدون أن تستروه عن الأذهان، فلما انجرفوا في هذا التيار إذا بهم الآن من كبار الملاحدة: من كتاب وصحفيين، وأنا أعرف كثيراً ممن كانوا زملاء لي هم الآن أقلام للعلمانية والماسونية والإلحاد وغير ذلك، ولذلك إذا تذكرت أحدهم قلت: اللهم لك الحمد على التوفيق والسداد، فالهداية نعمة عظيمة جداً تستوجب الشكر، فكون الله عز وجل يعصمك وأنت(104/5)
معنى الأيمان لغة وشرعاً
يقول الشيخ سيد سابق: (الأيمان: جمع يمين، وهي اليد المقابلة لليد اليسرى، وسمي بها الحلف لأنهم كانوا إذا تحالفوا أخذ كل بيمين صاحبه، وقيل: لأنها تحفظ الشيء كما تحفظه اليمين)، يعني: بالحلف يحفظ الشيء ويجعله في مأمن، كما لو وضعت شيئاً في يمينك، فإن هذه اليمين تحفظ هذا الشيء.
ثم قال: (ومعنى اليمين في الشرع: تحقيق الأمر أو توكيده بذكر اسم الله تعالى أو صفة من صفاته، أو هو عقد يقوي به الحالف عزمه على الفعل أو الترك)، يعني: كأن يقول إنسان: والله العظيم لا أتركن قط -إلا لعذر- صلاة السنن الراتبة، فهو حلف بهذا اليمين؛ لأنه رأى من نفسه كسلاً، إذا صلى الفرض تساهل بالسنة البعدية، وكذلك إذا دخل المسجد متأخراً ففاتته السنة القبلية للظهر مثلاً تركها، وهو ينام عن سنة العشاء، وينام عن سنة الوتر وغير ذلك؛ فوصل إلى مرحلة ميئوس منها؛ لأنه حصل منه كسل وفتور، ومن يحصل عنده كسل في السنن لا بد أن يحصل عنده كسل في الفروض، لكن نوع الكسل يختلف، فقد لا يترك الفروض ولكن يترك الجماعات.(104/6)
حكم الحلف بغير ملة الإسلام
قوله عليه الصلاة والسلام: (من حلف بغير ملة الإسلام فهو كما قال) قال العلماء: إن المقصود به الزجر الشديد، ليس المقصود به الظاهر.
يعني: ليس من قال: واليهودية والنصرانية وحنث؛ فهو يهودي أو نصراني.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (من حلف بغير الله فقد أشرك)، فإذا حلف شخص بالنبي فهذا حلف بغير الله؛ فيكون مشركاً حينئذ، ولو أجرينا هذا على ظاهره للزمنا أن نكون من جماعة التكفير، بل من مؤسسي مذهب الخوارج؛ لأن هذا ليس بمقصود، إنما المقصود أن هذا باب عظيم جداً من أبواب ترك الالتزام بشرع النبي عليه الصلاة والسلام، كقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من فعل كذا).
ماذا يقول الخوارج في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من خبب امرأة على زوجها)، أو (ليس منا من غير منار الأرض)؟ هم يجرون هذه النصوص على ظاهرها، ويكفرون بمثل هذه النصوص.
ومعنى (منار الأرض): أي: علامات الطريق، فلو أتى شخص على علامة في الطريق مكتوب عليها: طريق السويس مائة وعشرين كيلو، والسهم ذاهب إلى ناحية الشمال، فقام هذا وحول السهم إلى الناحية الأخرى، فالذي يريد الذهاب إلى السويس لا يعرف الطريق فيسلك طريقاً آخر، فالنبي صلى الله عليه وسلم لعن فاعل هذا.
لقد ضبط الشرع في حياة المسلم كل شيء، حتى الخراءة كما في الحديث، حتى كيفية الاستنجاء، بين لك الإسلام كيف تستنجي، وبأي يد تستنجي، وبأي شيء تستنجي، يعني: لم يترك لك تفعل في خاصة نفسك ما تشاء، بل هو دليلك وقرينك، فالإسلام معك حتى في الحمام.
فالإسلام رحمة عظيمة جداً، ومنة من الله عز وجل على العباد.
فقوله: (ليس منا)، أي: ليس من أخلاقنا ولا من هدينا ولا من سنتنا ولا من طريقنا أو طريقتنا، إنما هو من أخلاق غيرنا، فينبغي ألا يتخلق أحد من المسلمين بأخلاق غير المسلمين التي منها كيت وكيت وكيت مما ذكرت آنفاً.
وليس المقصود أن من فعل ذلك صار كافراً، وهل يصدق أحد أن من غير منار الأرض يكون كافراً؟ هذا لا يصدقه إلا واحد من الخوارج، أو من جماعة التكفير؛ لأنهم يجرون النصوص على ظاهرها.
قال الشيخ: (وإذا كانت اليمين لا تكون إلا بذكر الله، أو ذكر صفة من صفاته؛ فإنه يحرم الحلف بغير ذلك)، يعني: أن الشيخ سيد سابق يرجح حرمة الحلف بغير الله وأسمائه وصفاته؛ لأن الحلف يقتضي تعظيم المحلوف به، والله وحده هو المختص بالتعظيم، فمن حلف بغير الله فأقسم بالنبي أو الولي أو الأب أو الكعبة أو ما شابه ذلك؛ فإن يمينه لا تنعقد، ولا كفارة عليه إذا حنث، ولكنه آثم بتعظيمه غير الله، فينبغي عليه أن يتوب إلى الله وأن يستغفره.
عن ابن عمر رضي الله عنهما عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم) إلى آخر الحديث.
وفي حديث ابن عمر أيضاً: (أنه سمع رجلاً يحلف فقال: لا، والكعبة! فقال: إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من حلف بغير الله فقد أشرك).
وقال أبو هريرة: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من حلف منكم فقال في حلفه: باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله).(104/7)
شرح صحيح مسلم - كتاب الأيمان والنذور - فيمن حلف يميناً فرأى غيرها خيراً منها
من فضل الله تعالى على عباده أن جعل لهم فسحة في الأيمان، فلو حلف المسلم على أمر ثم رأى من المصلحة ومن البر والتقوى فعل الأمر الذي حلف ألا يفعله، فله فعله مع إخراج الكفارة عن يمينه، بل قد يتوجب عليه فعل ما حلف على تركه، لما في ذلك من المصلحة العظيمة المرجوة من وراء ذلك الفعل، وقد يحرم الوفاء باليمين، وذلك حين يحلف على ترك واجب أو فعل محرم.(105/1)
باب ندب من حلف يميناً فرأى غيرها خيراً منها أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه
إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد: فهذا الباب الثالث من كتاب الأيمان والنذور: وهو باب ندب من حلف يميناً فرأى غيرها خيراً منها، أن يأتي الذي هو خير، ويكفر عن يمينه.
يعني: باب إذا أقسم المرء على شيء، ثم تبين له أن غير ما أقسم عليه هو الخير وهو المصلحة، فإنه يكفر عن يمينه، وأن يأتي الذي هو خير.(105/2)
شرح حديث: (وإني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين ثم أرى خيراً منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا خلف بن هشام -وهو ابن ثعلب البزار المقرئ - وقتيبة بن سعيد ويحيى بن حبيب الحارثي واللفظ لـ خلف، قالوا -أي: جميعاً-: حدثنا حماد بن زيد -إمام البصرة- عن غيلان بن جرير -وهو المعولي الأزدي البصري - عن أبي بردة عن أبي موسى قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في رهط من الأشعريين نستحمله)] أي: جئت في جماعة من بني قومي نطلب منه أن يحملنا، وأن يزودنا للقتال بالبعير التي نركب عليها، وبالزاد والمال الذي ننفقه في أثناء غزونا.
قوله: [(فقال: والله لا أحملكم! -وهذا قسم- ثم قال: وما عندي ما أحملكم عليه)] أولاً: أقسم عليه الصلاة والسلام أنه لا يحملهم، ثم أخبر بعد ذلك عن نفسه أنه ليس عنده ما يحملهم عليه.
قوله: [(قال -أي: أبو موسى الأشعري -: فلبثنا ما شاء الله، ثم أُتي بإبل)] أي: ثم جاء صاحب إبل فدفع إبله إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(فأمر لنا بثلاث ذود)] أي: أمر النبي عليه الصلاة والسلام للأشعريين بثلاثة أبعرة.
ثم قال: [(غر الذرى)] الغر: هو الأبيض اللاشية، والذرى من الذروة، وهي أعلى شيء، وهو في الإبل السنام، فكأنه قال: فزودني عليه الصلاة والسلام بثلاثة أبعرة أسنمتها بيضاء.
قوله: [(فلما انطلقنا قلنا -أي: فلما أخذنا هذه الأبعرة- أو قال بعضنا لبعض: لا يبارك الله لنا؛ أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم نستحمله، فحلف ألا يحملنا، ثم حملنا -أي: بعد قسمه- قوله: فأتوه فأخبروه)] بما تحرجوا منه، أنه حلف أولاً ألا يحملهم، ثم هو بعد ذلك عليه الصلاة والسلام حملهم، فخشوا أن يكون هذا عن غفلة أو نسيان منه عليه الصلاة والسلام، وأنهم السبب في حنثه عليه الصلاة والسلام، فخشوا من ذلك ألا يبارك الله تعالى لهم في ذلك.
قال: [(فأتوه فأخبروه؛ فقال: ما أنا حملتكم)] أي: لست أنا الذي حملتكم من مالي، وإنما الذي حملكم هو الله عز وجل.
قوله: [(فقال: ما أنا حملتكم، ولكن الله حملكم، وإني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين ثم أرى خيراً منها، إلا كفرت عن يميني، وأتيت الذي هو خير)] يعني: لو فرض أن النبي عليه الصلاة والسلام حلف ألا يحملهم، ثم وجد عنده ومن ماله الخاص ما يحملهم عليه؛ فهذا لا يمنعه أن يأتي الذي هو خير، وأن يكفر عن يمينه، ثم يحملهم، ولكن الذي حملهم هو الله عز وجل.(105/3)
شرح حديث: (إن رسول الله يحملكم على هؤلاء فاركبوهن)
قال: [حدثنا عبد الله بن براد الأشعري ومحمد بن العلاء الهمداني -المعروف بـ أبي كريب - وتقاربا في اللفظ، قالا: حدثنا أبو أسامة حماد بن أسامة، عن بريد -وهو بريد بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري - عن أبيه عن جده أبي موسى قال: (أرسلني أصحابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله لهم الحملان -أي: أن يحملهم- إذ هم معه في جيش العسرة -وهي غزوة تبوك- فقلت: يا نبي الله! إن أصحابي أرسلوني إليك لتحملهم، فقال: والله لا أحملكم على شيء، ووافقته وهو غضبان ولا أشعر، فرجعت حزيناً من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن مخافة أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وجد في نفسه علي)] أي: غضب عليه.
فـ أبو موسى الأشعري لما بان له بعد ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام كان غضبان، خشي أن يكون هو الذي أغضب النبي عليه الصلاة والسلام؛ فأهمه وأغمه أمران: الأول: منع النبي صلى الله عليه وسلم إياهم من الحمل.
الأمر الثاني: أن يكون قد أغضب النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال: [(فرجعت إلى أصحابي فأخبرتهم الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم ألبث إلا سويعة إذ سمعت بلالاً ينادي: أي عبد الله بن قيس!)] يعني: بعدما رجع من عند النبي عليه الصلاة والسلام لم يلبث إلا وقتاً يسيراً، وسويعة هي تصغير ساعة، والساعة هي المدة من الزمان، لا الساعة المعلومة الآن بين أيدينا، فلبث وقتاً هو أقل من ساعة، يعني: وقتاً يسيراً جداً حتى سمع بلالاً ينادي: أي عبد الله بن قيس، يعني: تعال يا أبا موسى الأشعري! قال: [(فأجبته، فقال: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك -أي: يطلبك- فلما أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خذ هذين القرينين، وهذين القرينين، وهذين القرينين)] والقرينان هما بعيران أو جملان قرن كل منهما بالآخر، أو ربط كل منهما بحبل صاحبه، أو القرين: هو من تساوى مع قرينه في الرتبة والعمر، فيحمل قوله: (خذ هذين القرينين) على أنهما تقاربا في السن، وتقاربا كذلك في الجودة والعمل، أو في العطاء؛ أو لأنهما ربطا جميعاً.
في هذا الحديث ذكر ستة ذود، وفي الحديث الأول ثلاثة أبعرة، وسيأتي معنا أنهم خمسة أبعرة، ولا تنافي بين هذه الأعداد؛ لأنها إما أن تحمل على اختلاف الحوادث أو اختلاف المطالب، أو أن النبي عليه الصلاة والسلام أعطاهم الثلاثة أولاً، ثم زاد لهم بعد ذلك.
قوله: [(قال: خذ هذين القرينين وهذين القرينين وهذين القرينين، لستة أبعرة ابتاعهن حينئذ من سعد)] أي: من سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وقوله: (ابتاعهن)، أي: اشتراهن النبي صلى الله عليه وسلم، هل اشتراهن من ماله الخاص أم من بيت مال المسلمين؟ هذه المسألة محل نزاع، والراجح فيها أنه عليه الصلاة والسلام اشترى هذه الأبعرة من بيت مال المسلمين.
ثم قال: [(فانطلق بهن إلى أصحابك يا أبا موسى، فقل: إن الله -أو قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم- يحملكم على هؤلاء فاركبوهن، قال أبو موسى: فانطلقت إلى أصحابي بهن، فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحملكم على هؤلاء، ولكن والله لا أدعكم حتى ينطلق معي بعضكم إلى من سمع مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سألته لكم، ومنعه في أول مرة، ثم إعطاءه لي بعد ذلك) أي: أراد أبو موسى الأشعري أن يبرئ ساحته أمام أصحابه، حتى لا يقول قائل: أتيتنا قبل سويعة وقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم منعنا الحمل، ثم أنت الآن تأتينا بستة أبعرة، وتقول: إن رسول الله يحملكم عليها؛ فقال: والله لا أحملكم حتى ينطلق معي بعضكم إلى النبي عليه الصلاة والسلام فيسمع منه أنه منعني أولاً، ثم أعطاني بعد ذلك.
ثم قال: (لا تظنوا أني حدثتكم شيئاً لم يقله)] أي: حتى لا تسيئوا بي الظن، أو أن أحدكم تحدثه نفسه أني أتكلم من عند نفسي.
قوله: [(فقالوا لي: والله إنك عندنا لمصدق!)] أي: أنت يا أبا موسى فينا صادق ومصدق.
قوله: [(ولنفعلن ما أحببت)] يعني: سيذهب بعضنا معك ليسمع؛ حتى ننفذ ما أحببت.
قوله: [(فانطلق أبو موسى بنفر منهم، حتى أتوا الذين سمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنعه إياهم، ثم إعطاءهم بعد، فحدثوهم بما حدثهم به أبو موسى سواء)] أي: بنفس الكلام الذي حدثهم به أبو موسى آنفاً.(105/4)
شرح حديث: (إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير)
قال: [حدثني أبو الربيع العتكي حدثنا حماد -يعني: ابن زيد - عن أيوب -وهو ابن أبي تميمة السختياني البصري - عن أبي قلابة -هو عبد الله بن زيد الجرمي البصري - وعن القاسم بن عاصم التميمي عن زهدم الجرمي -وهو ابن مضرب أبو مسلم البصري الجرمي - قال أيوب: وأنا لحديث القاسم أحفظ مني لحديث أبي قلابة قال: (كنا عند أبي موسى، فدعا بمائدته وعليها لحم دجاج، فدخل رجل من بني تيم الله أحمر شبيه بالموالي، فقال له -أي: أبو موسى -: هلم! -أي: أقدم على الطعام- فتلكأ -أي: فتأخر ولم يتقدم لأول وهلة، - فقال: هلم! فإني قد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل منه، فقال الرجل: إني رأيته يأكل شيئاً فقذرته؛ فحلفت ألا أطعمه، فقال: هلم أحدثك عن ذلك!)] أي: فيما يتعلق بيمينك الذي أقسمته ألا تأكل لحم دجاج، قال: إذا كان الأمر كذلك، وأنك لما رأيت رجلاً يأكل لحم دجاج فاستقذرته، فحلفت ألا تأكله قط، فأنا سأحدثك عن حكم هذا اليمين.
قال: [(إني أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من الأشعريين نستحمله، فقال: والله لا أحملكم، وما عندي ما أحملكم عليه، فلبثنا ما شاء الله، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنهب إبل -أي: فأتي للنبي عليه الصلاة والسلام بغنيمة من الإبل- فدعا بنا، فأمر لنا بخمس ذود غر الذرى -أي: بخمسة أبعرة بيض السنام- قال: فلما انطلقنا، قال بعضنا لبعض: أغفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه)] يعني: أخذناه على غرة، فجعلناه يقع في الحنث بسبب يمينه الأول الذي أقسمه وحلف به ألا يحملنا، ثم بعد ذلك حملنا، [(لا يبارك لنا!)] أي: بسبب هذا نخشى ألا يبارك الله لنا، [(فرجعنا إليه، فقلنا: يا رسول الله! إنا أتيناك نستحملك، وإنك حلفت ألا تحملنا، ثم حملتنا، أفنسيت؟! قال: إني والله إن شاء الله! لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها؛ إلا أتيت الذي هو خير، وتحللت عن يميني)] أي: كنت منها في حل، ولا يكون الإنسان في حل من يمينه إلا إذا كفر عنه، أو عجز عجزاً مطلقاً عن الكفارة، بمعنى أنه فقير، لا رقبة عنده يعتقها، ولا مال عنده يكسو أو يطعم، وهو مريض عليل ليس عليه صيام؛ فحينئذ تسقط هذه الكفارة، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
ثم قال: [(فانطلقوا؛ فإنما حملكم الله عز وجل)] يعني: أن الله تعالى آتاني ما حملتكم عليه.
قال: [وحدثنا ابن أبي عمر محمد بن يحيى العدني المكي، قال: حدثنا عبد الوهاب الثقفي -وهو ابن عبد المجيد الثقفي - عن أيوب عن أبي قلابة والقاسم التميمي عن زهدم الجرمي قال: كان بين هذا الحي من جرم وبين الأشعريين ود وإخاء، فكنا عند أبي موسى الأشعري، فقرب إليه طعام فيه لحم دجاج فذكر نحو الحديث السابق.
وحدثني علي بن حجر السعدي وإسحاق بن إبراهيم -وهو المعروف بـ ابن راهويه - وابن نمير -وهو محمد بن عبد الله بن نمير - عن إسماعيل بن علية - وعلية أمه، وهو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي الضبي البصري - عن أيوب -هو ابن أبي تميمة السختياني كيسان - عن القاسم التميمي عن زهدم الجرمي.
وحدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان -هو ابن عيينة - عن أيوب عن أبي قلابة عن زهدم الجرمي.
وحدثني أبو بكر بن إسحاق حدثنا عفان بن مسلم -وهو الصفار البصري - حدثنا وهيب حدثنا أيوب عن أبي قلابة والقاسم عن زهدم الجرمي قال: كنا عند أبي موسى واقتصوا جميعاً الحديث بمعنى حديث حماد بن زيد] يعني: ذكروا معنى الحديث الذي جاء من طريق حماد بن زيد.
قال: [وحدثنا شيبان بن فروخ حدثنا الصعق بن حزن -وهو الصعق بن حزن بن قيس البكري أبو عبد الله البصري الزاهد- حدثنا مطر الوراق -وهو مطر بن طهمان الوراق أبو رجاء السلمي الخراساني، ولكنه تحول من خراسان فسكن البصرة، وحديثه في مرتبة الحسن، إلا في روايته عن عطاء خاصة فهو ضعيف- حدثنا زهدم الجرمي قال: دخلت على(105/5)
شرح حديث: (إني لا أحلف على يمين أرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير)
قال: [وحدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا جرير -وهو ابن عبد الحميد الضبي - عن سليمان التيمي -وهو سليمان بن طرخان التيمي - عن ضريب بن نقير القيسي -وهو المعروف بـ أبي السَّلِيل بشد السين وفتحها، وكسر اللام البعدية- عن زهدم عن أبي موسى الأشعري قال: (أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم نستحمله فقال: ما عندي ما أحملكم والله ما أحملكم، ثم بعث إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة ذود بقع الذرى -والبقع هي العلامة- فقلنا: إنا أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم نستحمله فحلف ألا يحملنا فأتيناه فأخبرناه، فقال: إني لا أحلف على يمين أرى غيرها خيراً منها؛ إلا أتيت الذي هو خير).
حدثنا محمد بن عبد الأعلى التيمي حدثنا المعتمر عن أبيه قال: حدثنا أبو السليل -وهو ضريب بن نقير كما ذكرنا- عن زهدم يحدثه عن أبي موسى قال: (كنا مشاة -أي: كنا نغزو على أقدامنا مشاة غير محمولين- فأتينا نبي الله صلى الله عليه وسلم نستحمله) بنحو حديث جرير].(105/6)
شرح حديث: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأتها وليكفر عن يمينه)
قال: [حدثني زهير بن حرب -وهو أبو خيثمة النسائي نزيل بغداد- حدثنا مروان بن معاوية الفزاري أخبرنا يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: (أعتم رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رجع إلى أهله فوجد الصبية قد ناموا -أي: صلى العتمة أو العشاء الآخرة مع النبي عليه الصلاة والسلام، ثم رجع إلى أهله فوجد أولاده قد ناموا- فأتاه أهله بطعامه، فحلف لا يأكل؛ من أجل صبيته)] رجل يحب أن يأكل مع أولاده، فلما وجدهم قد ناموا دخله من الحزن ما دخله، وهذا باب عظيم جداً من أبواب التربية والحفاظ على الأولاد والحرص عليهم، والأنس بهم إلى غير ذلك، فلما وجدهم قد ناموا حلف ألا يأكل، رغم أن المائدة قد أعدت له.
قال: [(ثم بدا له فأكل -يعني: يبدو أنه كان جائعاً جداً، فرأى أن يأكل بعد أن أقسم- فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها؛ فليأتها، وليكفر عن يمينه)] أي: فليفعل ما قد حلف عليه آنفاً.
هنا قال: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها؛ فليأتها وليكفر عن يمينه).
وستأتي معنا رواية: (فليكفر عن يمينه، وليأت الذي هو خير)، والمعنى واحد، لكننا نستفيد حكماً آخر، وهو: جواز تقديم الكفارة على الحنث، وجواز تأخير الكفارة على الحنث، أما قبل اليمين فلا، (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها، فليأتها، وليكفر عن يمينه).(105/7)
شرح حديث: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه وليفعل)
قال: [وحدثني أبو الطاهر حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني مالك عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها؛ فليكفر عن يمينه وليفعل)] وهذه هي الرواية الثانية التي فيها تقديم الكفارة قبل الحنث.(105/8)
شرح حديث: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه)
قال: [وحدثني زهير بن حرب حدثنا ابن أبي أويس حدثني عبد العزيز بن المطلب عن سهيل بن أبي صالح المدني، عن أبيه -وهو أبو صالح السمان ذكوان المدني - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها؛ فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه)] يعني: يقدم العمل على الكفارة.
قال: [وحدثني القاسم بن زكريا حدثنا خالد بن مخلد -وهو المعروف بـ القطواني - حدثني سليمان -يعني: ابن بلال المدني - حدثني سهيل -وهو ابن أبي صالح - بمعنى حديث مالك: (فليكفر عن يمينه، وليفعل الذي هو خير)].(105/9)
شرح حديث: (من حلف على يمين ثم رأى أتقى لله منها فليأت التقوى)
قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جرير، عن عبد العزيز بن رفيع عن تميم بن طرفة قال: (جاء سائل إلى عدي بن حاتم رضي الله عنه فسأله نفقة في ثمن خادم أو في بعض ثمن خادم)] يعني: يسأله أن يتصدق عليه بما يعادل ثمن خادم بأكمله، أو يعادل ثمن نصف خادم، [(فقال: ليس عندي ما أعطيك إلا درعي ومغفري)] يعني: ليس عندي ما أساعدك به إلا درعي الذي أقاتل به، ومغفري الذي أضعه على رأسي، يعني: الخوذة، [(قال: ليس عندي ما أعطيك إلا درعي ومغفري، فأكتب إلى أهلي أن يعطوكها؟ قال: فلم يرض، فغضب عدي)] يعني: سائل وطامع، يقول له: ما عندي إلا درعي ومغفري، وأكتب لك كتاباً تذهب إلى أهل بيتي وتعطيهم المكتوب، وتأخذ الدرع والمغفر، فالسائل لم يرغب في ذلك، فلما رأى السائل عدياً قد غضب غضباً شديداً، وقال: [(أما والله لا أعطيك شيئاً، ثم إن الرجل رضي)] أي: بعد أن غضب عدي وأغضبه السائل وأقسم ألا يعطيه شيئاً، رضي السائل بأن يأخذ الدرع والمغفر، (فقال: أما والله! لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من حلف على يمين، ثم رأى أتقى لله منها؛ فليأت التقوى، ما حنثت في يميني) أي: فليأت العمل الذي هو تقوى لله عز وجل، وهو الحنث، فهو أتقى لله عز وجل.
في هذا الباب الحديث الأول: حديث أبي موسى الأشعري.
والحديث الثاني: حديث أبي هريرة.
والحديث الثالث: حديث عدي بن حاتم رضي الله عنهم أجمعين، قال: (من حلف على يمين ثم رأى أتقى لله منها؛ فليأت التقوى، ما حنثت يميني)، يعني: لولا أني سمعته عليه الصلاة والسلام يقول هذا ما حنثت في يميني، ولأمضيت هذا اليمين، ولكني أرجع عنه وأكفر، وأعطيك الدرع والمغفر.(105/10)
شرح حديث: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليترك يمينه)
قال: [وحدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن عبد العزيز بن رفيع عن تميم بن طرفة عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين، فرأى غيرها خيراً منها، فليأت الذي هو خير، وليترك يمينه)].
يعني: إذا قلت له: كفر عن يمينك، يقول: أنا لا أقدر على الكفارات، فنقول: إذا أقسمت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها، فمن مرضاة الله عز وجل أن تكفر عن يمينك، وأن تفعل الذي هو أتقى، والذي يقربك إلى الله عز وجل، وليس الذي يقربك في هذه الحالة هو الوقوف عند يمينك، وعدم التكفير عنه، إنما الذي يقربك إلى الله تعالى حينئذ هو أن تفعل الخير، وأن تفعل البر، وأن تكفر عن يمينك، هذا هو الأصلح.
قال: [حدثني محمد بن عبد الله بن نمير ومحمد بن طريف البجلي واللفظ له، قالا: حدثنا محمد بن فضيل عن الأعمش -وهو سليمان بن مهران الكوفي - عن عبد العزيز بن رفيع عن تميم الطائي عن عدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا حلف أحدكم على اليمين فرأى خيراً منها، فليكفرها، وليأت الذي هو خير).
وحدثنا محمد بن طريف حدثنا محمد بن فضيل عن الشيباني -هو أبو إسحاق الشيباني - عن عبد العزيز بن رفيع عن تميم الطائي عن عدي بن حاتم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ذلك] أي: يقول: (إذا حلف أحدكم على اليمين، فرأى خيراً منها؛ فليكفرها، وليأت الذي هو خير).(105/11)
شرح حديث: (من حلف على يمين ثم رأى خيراً منها فليأت الذي هو خير)
وحدثنا محمد بن المثنى وابن بشار -وهما كفرسي رهان، ولدا في عام واحد، وماتا في عام واحد، وكانا في التوثيق والعدالة في مرتبة واحدة- قالا: حدثنا محمد بن جعفر -وهو ربيب شعبة، تربى في حجره؛ لأن شعبة تزوج أمه بعد وفاة أبيه- قال: حدثنا شعبة عن سماك بن حرب عن تميم بن طرفة قال: (سمعت عدي بن حاتم وأتاه رجل يسأله مائة درهم، فقال: تسألني مائة درهم وأنا ابن حاتم؟! والله لا أعطيك شيئاً، ثم قال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من حلف على يمين، ثم رأى خيراً منها؛ فليأت الذي هو خير)] أي: ما فعلت ذلك، ولكني أحنث في يميني وأعطيك، وأكفر عنه.
قال: [حدثني محمد بن حاتم حدثنا بهز -وهو ابن أسد العمي - حدثنا شعبة -وهو ابن الحجاج العتكي البصري، أول من تكلم بالجرح والتعديل في البصرة- قال: حدثنا سماك بن حرب قال: سمعت تميم بن طرفة قال: سمعت عدي بن حاتم: أن رجلاً سأله فذكر مثله، وزاد: ولك أربعمائة في عطائي].
يعني: أن عدي بن حاتم الطائي رجل كريم، فتضايق حين سئل مائة درهم؛ لأن هذا الشيء لا يتناسب مع كرم الطائيين، وكبيرهم هو حاتم الطائي وهو المعني، فكيف تسألني مائة درهم؛ لذلك لا أعطيك؛ لأن هذا شيء تافه لا يتناسب معنا.
فالناس مراتب ودرجات، فأنت لو ذهبت إلى ملك من ملوك الدنيا مثلاً وقلت له: أقرضني عشرة جنيهات، أو مائة جنيه، فكأنك تسبه، لكن عندما تأتي إلى شخص من نفس مرتبتك، وتقول له: أقرضني عشرة جنيهات لأقرضك دون حرج، لكن أن يذهب شخص إلى بيت حاتم الطائي ويقول له: أعطني مائة درهم، كأنك قلت له: أعطني عشرة جنيهات، فـ عدي قال له: أنا سأعطيك المائة التي طلبت وفوقها أربعمائة.
ولذلك من أبهة الملك ألا يرد الملك أو الزعيم أو الرئيس سائل مهما كان سؤله، إن سأل مالاً أعطاه الذي سأله وزيادة؛ ليس لأنه يريد أن يعطي، لكن لا يتناسب مع المكانة والمنزلة ألا يعطي، فيقال عنه: إنه ملك بخيل أو رئيس بخيل.
أما الآن فالرؤساء لا يصل إليهم السائل، حتى وإن الشعوب لم تعد تسأل، ولذلك كانت الشعوب في المائة الأولى تعلم قدر الملوك ومنزلتهم.
فقيل: إن أعرابياً دعي لتناول طعام عند ملك من الملوك، فأطعمه الملك على مائدته وأكل معه، فقال الملك والأعرابي يتناول الطعام: يا أعرابي! هذه شعرة في طعامك، فغضب الأعرابي غضباً شديداً، وقال: أتراقبني مراقبة من يرى الشعرة في طعامي! فحينئذ شعر الملك بخطورة الأمر، فقال: استرها علي يا أعرابي ولك بها مائة بعير، قال: على أن تكون معجلة، فوافق الملك ودفع إليه مائة من بعير معجلة، على ألا يتكلم بها، لكن الأعرابي تكلم بها بعد وفاة الملك، وهو قد وفَّى بعض الشيء.
وقيل: إن أعرابياً ذهب إلى ملك من ملوك الدنيا، فقال له الملك: تتعشى معي، فقال: أنا شبعان، فقام إليه رجل وقال: إن طعام الملك ليس للشبع وإنما هو للشرف، أي: ليقال: إن الملك يأكل مع الأعراب أو البدو، ويقول البدوي: إني أكلت مع الملك، فليس كل دعوة توجه إليك قابلة للرد، كما أنه ليس كل مائدة منصوبة لم تدع إليها يحل لك أن تجلس عليها.(105/12)
شرح حديث عبد الرحمن بن سمرة (وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير)
قال: [حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا جرير بن حازم حدثنا الحسن -وهو ابن أبي الحسن يسار البصري إمام التابعين وسيد الزاهدين- قال: حدثنا عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عبد الرحمن بن سمرة! لا تسأل الإمارة -أي: لا تسأل أن تكون زعيماً أو سيداً أو قائداً أو غير ذلك-؛ فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة؛ أعنت عليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها؛ فكفر عن يمينك، وائت الذي هو خير)]، في هذا الحديث كراهة سؤال الإمارة، والقضاء والحسبة وغير ذلك.
ومنها ما هو معلوم الآن الترشيح لمجلس النواب ومجلس الشعب، فضلاً عن مشروعية جواز الترشيح لدخول هذه المجالس التشريعية التي تشرع من دون الله عز وجل، وتبدل وتغير شريعة الله عز وجل في الأرض، وتحكم الناس بأهوائهم وآرائهم، أقول: هب أن هذا العمل مشروع فهل يجوز لأحد أن يبادر وأن يقاتل وأن يوالي وأن يعادي وأن يسارع إلى أخذ مكان في هذا المجلس؟
الجواب
لا؛ لأن هذا نوع من أنواع الولاية العامة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها)، أي: أوكلك الله تعالى إليها، وأنت ضعيف وأنت عاجز، وأنت لا توفي؛ لأن الله تعالى يتخلى عنك حينئذ.
(وإن أعطيتها عن غير مسألة)، يعني: أرغمت عليها؛ فإن الله تبارك وتعالى يجعل لك العون والسداد والتوفيق؛ لأنك كلفت بها وأنت كاره؛ فحينئذ تنزل عليك معونة الله عز وجل.
والشاهد من الحديث: (وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها؛ فكفر عن يمينك، وائت الذي هو خير).(105/13)
كلام الإمام النووي في باب ندب من حلف يميناً فرأى غيرها خيراً منها
يقول الإمام النووي: (في هذه الأحاديث دلالة على من حلف على فعل شيء أو تركه، وكان الحنث خيراً من التمادي على اليمين، استحب له الحنث، وتلزمه الكفارة، وهذا متفق عليه) يعني: هذه المسألة انعقد عليها الإجماع، فلو أنك حلفت أن تفعل شيئاً أو أن تترك شيئاً لا تفعله، ثم رأيت خلاف ما حلفت هو الخير والبر والتقوى؛ فيستحب لك ترك ما حلفت عليه وفعل الخير، وتلزمك الكفارة حينئذ.
ثم قال: (وأجمعوا على أنه لا تجب عليه الكفارة قبل الحنث، وعلى أنه يجوز تأخيرها عن الحنث، وعلى أنه لا يجوز تقديمها على اليمين) يعني: لو حلفت مثلاً: ألا أدخل بيت فلان، فيجوز لي أن أكفر عن هذا اليمين قبل الدخول، ويجوز لي أن أؤخر الكفارة بعد الدخول، أما الكفارة قبل اليمين فعلى أي شيء تكون؟! لا تكون؛ لأنه لا يمين هنالك استلزم الحنث، حتى أكفر قبل الدخول، فأنت الآن جرى في ذهنك فقط ألا تدخل بيت فلان، أنت لم تتلفظ ولم تحلف أنك لا تدخل بيته، فعلى أي شيء تلزم الكفارة؟! لم يحصل يمين، كما أنه لم تحصل مخالفة؛ فحينئذ لا كفارة قبل اليمين، إنما الكفارة دائماً بعد اليمين؛ لأن الكفارة إنما هي كفارة الحنث في اليمين الذي وقع، لا الذي سيقع، وإنما في الذي وقع مني على الحقيقة، فحينئذ أكفر في حالين: إما أن أكفر قبل أن أفعل الخير، وإما إن أكفر بعد فعل الخير.
هناك شخص يقول: أنا مخاصم لأمي من أربعة أشهر وهي مستريحة وأنا كذلك، حلفت يميناً ألا أدخل بيتها نهائياً.
نقول لهذا: كيف تخاصم أمك؟! لو كانت تلك المقاطعة لزوجتك لا تجوز، فما بالك بأمك، يعني: لو حلفت ألا تدخل بيت امرأتك أو بيت أهلها أظن أن هذا أمر منكر، والبر والصلة أن تحنث في يمينك، ويعد هذا من الطاعات، ومن نعم الله عليك، أما هذا المخاصم لأمه منذ أربعة أشهر، وكل واحد منهم مستريح، فأنا أخشى أن تستريح أيها المخاصم لأمك حتى تدخل القبر، فتحاسب على هذا، وتعلم أنها كانت من أعظم المصائب التي ابتليت بها، فكما أن بر الوالدين من أعظم الطاعات، فإن عصيانهما من أكبر الذنوب، وهذا معلوم، فالله تبارك وتعالى قرن طاعة الوالدين بطاعته، وقرن الإحسان إلى الوالدين بتوحيده، فكيف يعد المرء قطيعة أمه من النعم التي تستوجب حمد الله تبارك وتعالى عليها؟ هذه الأمور كلها معكوسة ومخلوطة، لا يمكن أن يجد هذا لا في اليهودية، ولا في النصرانية، لا يمكن أن يجد لهذا الكلام دليلاً أو برهاناً في شريعة نزلت من عند الله عز وجل قط، فضلاً أن يكون ذلك هو دين محمد عليه الصلاة والسلام الذي أتى به إلى الناس كلهم.(105/14)
أقوال العلماء في جواز إخراج الكفارة بعد اليمين وقبل الحنث
قال: (واختلفوا في جوازها بعد اليمين وقبل الحنث) يعني: أنا حلفت ألا آكل طعامك، ثم رأيت بيني وبين نفسي أن آكل الطعام وهو البر والخير، فقلت: أكفر أولاً عن يميني ثم آكل.
فالعلماء اختلفوا، فقال بعضهم: المعروف أن التكفير يكون بعد الوقوع وبعد العمل؛ لأنه يكون قد حنث في يمينه، أما قبل العمل فلم يحصل حنث، والحقيقة أن هذا اجتهاد مع ورود النص؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها؛ فليكفر عن يمينه، وليأت الذي هو خير)، وفي رواية: (فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه)، فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام بهذين النصين قد أجاز لنا الكفارة بعد اليمين وبعد الحنث وقبله فهما سواء، وتكون الكفارة حينئذ لمجرد أن المرء اعتقد أن الخير في غير ما حلف عليه، ولا يلزم من ذلك إتيانه الفعل المخالف لما حلف عليه، حتى تجب عليه كفارة اليمين.
قال: (واختلفوا في جوازها بعد اليمين وقبل الحنث: فجوزها مالك والأوزاعي والثوري والشافعي وأربعة عشر صحابياً، وجماعات من التابعين، وهو قول جماهير العلماء، لكن قالوا: يستحب كونها بعد الحنث) يعني: قالوا بجواز الكفارة قبل الحنث، ولكن بعد الحنث تكون مستحبة.
ثم قال: (واستثنى الشافعي التكفير بالصوم) يعني: الشافعي مع الجمهور في المذهب السابق، لكنه استثنى فقط إذا كانت الكفارة بالصوم، فما هي حجته؟ (فقال: لا يجوز الصيام قبل الحنث؛ لأنه عبادة بدنية، فلا يجوز تقديمها على وقتها، كالصلاة، وصوم رمضان) يعني: أيجوز أنني أصوم رمضان في شعبان؟ لا يجوز، ولا يجزئ عني، وإذا دخل علي رمضان يجب علي أن أصوم، حتى وإن صمت شعبان كله بنية رمضان، هذا لا يصلح، وهي عبادة ساقطة من الأصل؛ لأنها في غير وقتها، فكذلك إذا كان المكفر ليمينه فقيراً لا يستطيع أن يطعم ولا أن يكسو ولا أن يعتق، فيتعين حينئذ عليه الصيام؛ فلذلك قال: إلا الصيام فلا يصح أن يكون قبل الحنث؛ لأن الحنث هو الوقت الذي يجب بعده الصيام.
ثم قال: (وأما التكفير بالمال فيجوز تقديمه كما يجوز تعجيل الزكاة) وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب من العباس زكاة ماله معجلة عاماً أو عامين، وأخذها وأنفقها في سبيل الله.
فهذا دليل تعجيل الزكاة، فإذا كان عندك مال وجبت فيه زكاة فلا بأس قبل حلول الحول بعام كامل أن تدفع كل شهر مائة جنيه، إذا كانت هناك حالة تستدعي المساعدة، وهي من مصارف الزكاة؛ فلا بأس أن تدفع لها زكاة مالك عاماً أو عامين أو ثلاثة أو أربعة أو عشرة، لا بأس بذلك أبداً، زكاة معجلة، أما التأخير فلا يجوز، بدليل أن الزكاة إنما تجب بشرطين: حولان الحول، وبلوغ النصاب، فلا يجوز تأخيرها، وعلى ذلك إجماع أهل العلم.(105/15)
وجه تبويب الإمام البخاري بقوله تعالى: (والله خلقكم وما تعملون) لحديث: (ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم)
ثم قال رحمه الله: (قوله عليه الصلاة والسلام: (ما أنا حملتكم، ولكن الله حملكم)، ترجم البخاري لهذا الحديث قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]).
لقد كان الإمام البخاري أمة، وهذا دليل ساطع وبرهان بين على أن هذا الرجل كان مفتوحاً عليه من الله تعالى، فالإمام البخاري لما ذكر هذا الحديث بوب له بباب: ((وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ))، والمعلوم يقيناً عند أهل السنة والجماعة أن الله تعالى لا خالق غيره، ولا رب سواه، والله تعالى خلقنا وأعمالنا.
وهذه القضية كانت مثار جدال عظيم جداً فيما يتعلق بالفتنة التي مر بها الإمام أحمد مع الدولة العباسية، فيما يتعلق بكلام الله عز وجل، هل كلام الله تعالى مخلوق أم غير مخلوق؟ قالت المعتزلة: كلام الله تعالى مخلوق، وقال أهل السنة والجماعة: كلام الله تعالى صفة من صفاته، لازمة لذاته، يتكلم بما شاء، وكيف شاء، وفي أي وقت شاء، وكلام الله تعالى لما كان صفة من صفاته، فصفاته غير مخلوقة.
إذاً: فيكون كلامه غير مخلوق.
لكن العلماء بعد ذلك وقعوا في مسألة أخرى، وهي: هل اللفظ بالقرآن مخلوق أم غير مخلوق؟ لما عجزوا أن يجادلوا علماء أهل السنة فيما يتعلق بخلق القرآن، أثاروا الذعر في الأمة مسألة فرعية أخرى وهي: هل اللفظ بالقرآن مخلوق أم غير مخلوق؟ اللفظ مخلوق؛ لأن اللفظ هذا هو نطقك أنت، إذا تلوت آية من كتاب الله فإنما تخرج منك بحرف وصوت ولهاة وأضراس وأسنان ولسان يتكلم، فهذه الحركات التي تخرج مني الآن وتسمعون بها صوتي مخلوقة.
إذاً: هذه الحركات التي أفعلها الآن مخلوقة، تكلمت بالقرآن أو بغير القرآن، يعني: الآن لا أتكلم عن القرآن إنما أنا أتكلم عن طريقتي أنا كمخلوق في النطق، سواء نطقت بالقرآن أو بغير القرآن، فكل ما نعمل من خير وشر هو مخلوق لله عز وجل.
فالإمام البخاري بوب لهذا الحديث: (ما أنا حملتكم، ولكن الله حملكم)، قال: باب: ((وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ))، يعني: أن النبي عليه الصلاة والسلام لما أتته الإبل غنيمة دفعها إلى الأشعريين، فكون النبي عليه الصلاة والسلام تسلم الغنيمة، ثم دفع منها ستة أو خمسة أو ثلاثة أبعرة للأشعريين، فهذا العمل أو هذه الحركة التي فعلها النبي عليه الصلاة والسلام مخلوقة، ومع ذلك النبي عليه الصلاة والسلام لم يملك ذلك؛ لأنها من أموال الغنائم، فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يحمل الأشعريين على الحقيقة، وما هو إلا عبارة عن أداة أخذت ثم أعطت، لكن المال في الحقيقة هو مال الله عز وجل.
إذاً: أراد الإمام البخاري بهذا الباب أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، وهذا مذهب أهل السنة، خلافاً للمعتزلة كما قلنا.
قال النووي: (وقال الماوردي: معناه: أن الله تعالى آتاني ما حملتكم عليه، ولولا ذلك لم يكن عندي ما أحملكم عليه.
قال عياض: ويجوز أن يكون أوحى الله تعالى إليه أن يحملهم، أو يكون المراد دخولهم في عموم من أمر الله تعالى بالقسم فيهم).(105/16)
حكم لحم الدجاج والسمك
قال: (أما قوله في لحم الدجاج: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يأكل منه)، فيه إباحة لحم الدجاج وملاذ الأطعمة، والدجاج يطلق على الذكور والإناث).
من العجيب أن شخصاً يقول: الدجاج حرام، هل هناك من يقول: إن الدجاج حرام؟! الإمام النووي في القرن السادس الهجري يقول: وفي هذا الحديث دليل على أن لحم الدجاج حلال، فأحياناً نأخذ أقوالاً لأهل العلم نظن أنها من البديهيات، ثم نفاجأ بأنها من الأمور اللازمة فعلاً لإزاحة الغمة عن الأمة، كيف؟ عندما أسمع أن هناك شيخاً في هذا الزمان يقول: إن الكلب حلال طاهر يجوز أكله، ولحم الدجاج الأبيض نجس لا يجوز أكله، ما دليله الذي يزعمه، يقول: إن هذه الفراخ البيضاء أو الدجاج الأبيض إنما يأكل طعاماً قد اختلط بالدم، والدم المسفوح دم نجس، وبالتالي فإن الدجاج الذي يأكل هذا الطعام الذي اختلط بالدم يكون نجساً، نقول: لا يمكن أن يكون هذا أبداً فقهاً؛ لأن الذي يقرأ كتب الفقه يعلم أن هذا ليس فقهاً، وإذا كان هذا فقهاً فكبر على الأمة كلها أربعاً، إذا كان هؤلاء هم الفقهاء المتصدرون فلا حياة للأمة بهذا الشكل أبداً.
وقد دعاني أحد الإخوة إلى غداء فقال: ماذا تريد أن تأكل؟ قلت: أنا أحب السمك.
قال: وأنا أحرمه.
فقلت: يقول النبي عليه الصلاة والسلام في البحر: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته)، فهذا نص صريح لا يجوز لنا الاجتهاد معه، ثم وصلت بالنقاش معه على هذا.
فهذا كلام لا يستحق النقاش، لابد أن يترك من أول وهلة؛ لأنه كلام لا يتفق مع قرآن، ولا مع سنة، ولا مع أقوال أهل العلم، ولا مع العقلاء، لكن صار كلاماً يحتاج إلى نقاش، فمثل من يقول: الظهر ثلاث ركعات، أو مثل من ينظر إلى الشمس ويقول: قد انتهى اليوم، وهي ما زالت في رابعة النهار، فهذا الكلام لا يحتاج إلى نقاش، بل يحتاج إلى نعال، فإذا بهذا الأخ يقول: أنا يغلب على ظني تحريم السمك؛ ولذلك أنا لا آكله عند أحد، قلت له: ولم؟ قال: لأن السمك يأكل لحم الأموات الذين يغرقون في البحار.
لو قال هذا الكلام أمام أناس عوام لصدقوه، يقول: كم من طائرات تسقط في البحر؟ وكم من سفن تغرق في البحر؟ ولحم الإنسان حرام، والسمك يأكله، فالسمك بهذا يكون حراماً.
هذا الكلام لا يمكن أبداً أن يصدق، ولا يمكن أبداً أن يكون ديناً، فأرجو ألا تكون هذه شبهة، ومطلوب مني الرد عليها.
فقوله: (في هذا الحديث إباحة لحم الدجاج، وملاذ الأطعمة، ويقع اسم الدجاج على الذكور والإناث) يعني: أن هذا الدجاج حلال، وهذا فيه الرد على من يقول: إنه حرام، بحجة أن كل مصانع الصناعات الغذائية التي تصنع أغذية الطيور والحيوانات يضيفون نسبة (1%) من الدم الناشف المجفف المعالج على الطعام.
أتتصورون أيها الإخوة أن التحريم متعلق بـ (1%)؟ أعطيكم مثالاً: لو أن راوياً روى مائة حديث، ولكنه خلط في حديث واحد، فهل نقبل المائة الحديث كلها ونعمل بها، أم نرد المائة حديث كلها؛ لأجل أنه خلط في حديث واحد غير معلوم لنا؟ نأخذ الكل، وهذا الكلام محل اتفاق، فلا أحد يخالف فيه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث)، معنى ذلك: أن الكثرة دائماً تغفر الإساءة، فأنت عندما تدخل بلاداً وتجد فيها شخصاً خبيثاً وبقية أهل القرية كلهم طيبين، لا يمكن أن تخرج أبداً من هذه القرية بحكم أن في هذه القرية واحداً منهم غير مرغوب فيه، فهذا ظلم في الحكم على الآخرين.
فالدجاج يأكل نسبة دم (1%) و (99%) من الغذاء حلال، من يقول: إن هذا الطعام حرام أكله، فضلاً أن نتاج هذا الطعام يحرم من باب أولى؟ ما يقول هذا إلا إنسان بالفعل قد فقد عقله، إنسان مخبول، فالبيضة حلال من باب أولى.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث النعمان بن بشير في الصحيحين: (الحلال بين والحرام بين)، وقد شرحنا هذا الحديث مراراً، حتى لا يقول أحد: هذا الطعام الذي يعد للدجاج الأبيض محل شبهة، نقول: لا، ليس شبهة، فنسبة (1%) لا تعد شبهة؛ لأنه لا يصح أبداً أن نجعل ديننا كله عبارة عن شبهات، نتوقف في كل شيء لأجل أن فيه شبهة، ولا أريد أن أعيد هذا الكلام؛ لأننا شرحنا هذا الحديث في أربع محاضرات، فيغني عن إعادته، فلا أريد أن أسمع شخصاً يقول: إن طعام الدجاج فيه شبهة لأجل (1%) من دم في وسط (99%) من طعام حلال، فلا خلاف على حله.(105/17)
أقسام اليمين باعتبار المحلوف عليه
الأصل أن يفي الحالف باليمين، ويجوز له العدول عن الوفاء إذا رأى في ذلك مصلحة راجحة وبراً وتقوى، كما قال الله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} [البقرة:224]، أي: لا تجعلوا الحلف بالله مانعاً لكم من البر والتقوى والإصلاح، فتقول: أنا أعرف أن هذا بر وتقوى وإصلاح، لكن أنا حلفت، نقول: لا يكون اليمين عائقاً في طريق البر والتقوى والإصلاح، بل جعل الله تعالى لنا فسحة الرجوع عما حلفنا لمصلحة أرجح، وهي تحصيل البر والتقوى والإصلاح.
وقال الله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2]، أي: شرع الله لكم تحليل الأيمان بعمل الكفارة، وجاء في الحديث: (إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها؛ فائت الذي هو خير، وكفر عن يمينك).
يقول سيد سابق رحمه الله: (أقسام اليمين باعتبار المحلوف عليه).
يعني: أحياناً يكون حراماً، وأحياناً يكون مكروهاً، وأحياناً يكون واجباً، وأحياناً يكون مستحباً، وأحياناً يكون مندوباً، فذكر فيه الأحكام الشرعية الخمسة.
قال: (أن يحلف على فعل واجب أو ترك محرم، فهذا يحرم الحنث فيه؛ لأنه تأكيد لما كلف الله تعالى به عباده) كالذي يقول: والله لأبرن والدي، فهو حلف على شيء واجب عليه ابتداء، أو يقول: والله لا أزني، والله لا أسرق؛ لأنه في هذه الأبواب ينطلق لا يلوي على شيء، تأتيه الفاجرة فيفجر بها، أو يتيسر له المال الحرام فيسرقه أو ينهبه، فهو بهذا اليمين أراد أن يربي نفسه، ولا سبيل له إلا اليمين؛ فقال: والله لا أسرق بعد ذلك، هذا يمين واجب، فهو يحلف على ترك محرم؛ فهذا يحرم الحنث فيه؛ لأنه لو حنث فقد وقع في حرام آخر، وقع في الزنا والسرقة.
إذاً: الأول: أن يحلف على فعل الواجب وترك المحرم، فالحنث فيها من أعظم المعاصي في هذه الحالة؛ لأنه سيجمع بين معصيتين: التفريط في الواجب، وفعل المحرم، والوقوع في الحنث.
النوع الثاني: (أن يحلف على ترك واجب، يقول: والله لا أزور والدتي) هذا المثال واضح، وهو بلاء عام مستشر في المجتمع، لكن لو قال: والله لأضربن زوجتي، فإذا كان هناك موجب للضرب، وذلك بأن يكون قد تدرج معها في الإصلاح، حتى تعين في حقه لها الضرب لأجل الإصلاح؛ فحينئذ يجب عليه أن يضرب للإصلاح لا للانتقام، لكن إذا لم تأت زوجته بموجب الضرب، ولم تفعل فعلاً يستوجب ضربها، ثم هو يقول: والله لأضربنها؛ فهذا قد حلف على فعل محرم، فهذا يجب الحنث فيه؛ لأنه حلف على معصية، كما تجب الكفارة في ذلك.
الثالث: (أن يحلف على فعل مباح أو ترك هذا المباح؛ فهذا يكره فيه الحنث ويندب البر).
الرابع: (أن يحلف على ترك مندوب أو فعل مكروه؛ فالحنث مندوب، ويكره التمادي فيه، وتجب الكفارة).
الخامس: (أن يحلف على فعل مندوب أو ترك مكروه فهذا طاعة لله تعالى، فيندب له الوفاء، ويكره الحنث.
أما قول الله عز وجل: {لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة:225]، لغو اليمين أن يقول: لا والله، وبلى والله، فهذا كلام درجت عليه الألسنة دون أن تقصد حقيقة اليمين، فهذا لا كفارة فيه، ولا يأثم في لغو اليمين.
لقد تدرج الناس من الحلف بالله إلى الحلف بأشياء أخرى، تجد الشخص يحلف باستمرار: علي الطلاق إلا ما شربت معي الشاي، عليّ الطلاق إلا ما أكلت معي, امرأتي طالق إذا لم تأت معي، وكثير من التطليقات تقع بهذا، يقول الإمام الماوردي: مثل هذه المصطلحات وضعها الشارع لأداء مهمة معينة في حياة المكلفين، فلا يجوز التلاعب بها.(105/18)
الألفاظ الصريحة في الشرع لا تستعمل لغير معناها المراد أصلاً
يقول العلماء: قول الرجل لامرأته: أنت طالق، هذا لفظ صريح، واللفظ الصريح لا يحتاج معه إلى نية.
بخلاف اللفظ الضمني، لو قال لامرأته: اخرجي من بيتي، أو اغربي عن وجهي، أو الحقي بأهلك، فنقول له: ما هي نيتك في ذلك؟ لأن هذه اللفظة يجوز أن تكون للتهديد، ويجوز أن تكون لمجرد الزيارة؛ فقوله لها: الحقي بأهلك يعني: اذهبي لزيارتهم؛ لأنها لم تزرهم من مدة طويلة، ففي هذه الحالة لابد من سؤاله عن نيته، لكن لو كان اللفظ صريحاً، كأن يقول لها: أنت طالق، ففي هذه الحالة هذا طلاق واضح، سواء قصد أو لم يقصد، نوى إيقاع الطلاق أو لم ينو؛ لأنه صريح لا يحتاج إلى نية، فإذا قال: أنا لم أنو، نقول: لا تتلاعب بألفاظ الشرع؛ لأن الشارع قد وضع لفظ: (أنت طالق) لإيقاع الطلاق، فلا يجوز أن تستخدم هذا اللفظ في غير محله، وما أعد له في الشرع.
فمثلاً: أحد كبار القوم يفتي ويقول: من لم يخرج ثلاثة أيام في الشهر، أو أربعين يوماً في السنة، أو أربعة أشهر في العمر فهو كافر مرتد، هكذا قال، وهو من كبار القوم، فلما ناقشناه في ذلك، قال: أنا ما قلت، وهذا الكلام ملفق علي، فلما وجدنا الشريط الموجود فيه هذا الكلام، وسمعه بنفسه، أحرج، فأراد أن يخرج من هذا، وقال: معذرة، نحن معاشر الجماعة لنا معان خاصة لمصطلحات خاصة.
نقول: هذا كلام لا يوافق شرعاً ولا لغة؛ لأن الشارع وضع كلمة (مرتد) لشيء معين، وكلمة (كافر) لشيء معين؛ فلا يجوز التلاعب بهذه المصطلحات التي لها مدلول صريح، فأنا عندما أقول: فلان هذا كافر مرتد، ماذا تفهم من ذلك؟ تفهم منه أنه خرج من الملة، فلا يجوز استخدام هذه المصطلحات في غير ما وضعت له لغة ولا شرعاً، أما أن تطلقها على الناس وبعد ذلك تقول: هذه مصطلحات خاصة، فبأي دليل صارت هذه المعاني خاصة؟ هذا هروب من المأزق فقط، لكن هب أننا سنسلم أن لها معاني معينة مخصوصة عندكم في الجماعة، فهذه الجماعة تتكون من أناس لا علاقة لهم بالعلم الشرعي، ولا بالتكاليف الشرعية، بل ربما معظمهم لا يصلي ولا يصوم، وقد جمعتهم من المقاهي والطرقات وغير ذلك، ثم أنت تسمعهم وعلى الملأ في خطبة الجمعة هذا الكلام، فإنه قد يأتي إلي أنا ويسألني: هل خرجت يا شيخ؟! فأقول له: لا، فيقول: أنت كافر مرتد.
إذاً: هذه الجماعات ستتحول من صوفية إلى خوارج في المستقبل، أن تتكون لدى عامة الجماعة فكرة أن من ترك الخروج فهو مرتد وكافر.
قبل ذلك كنا نعاني من جماعة التكفير، ولا زلنا نعاني منهم بعض الشيء، لكن بحدود، وأنا أخشى في المستقبل أن نعاني من هذه الجماعة، جماعة الدعوة والتبليغ.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(105/19)
شرح صحيح مسلم - كتاب الأيمان والنذور - يمين الحالف على نية المستحلف
من حفظ الشريعة لحقوق الناس أن جعلت يمين الحالف على نية المستحلف، وأنه لا يجوز التورية والمعاريض في الأيمان المتعلقة بالحقوق، وخاصة عند التخاصم أمام القاضي، أما في غير الحقوق فتجوز التورية والمعاريض حتى عند القاضي، خاصة إذا ألزمه بالحلف بغير الله تعالى، كالحلف بالطلاق والعتاق، ولا يجوز الاستثناء في اليمين إلا باتصال الاستثناء باليمين، وكون الحالف قد نوى الاستثناء قبل الفراغ من اليمين؛ لأن الاستثناء المتصل باليمين يمنع انعقاده.(106/1)
باب يمين الحالف على نية المستحلف
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
وهذا هو الباب الرابع من كتاب الأيمان.
قال النووي رحمه الله تعالى: (باب يمين الحالف على نية المستحلف) يعني: اليمين ليس على نية الحالف، إنما على نية المستحلف، فإذا حلَّفك القاضي يميناً فلا يصح لك أن توَرِّي في هذا اليمين، أو تستخدم المعاريض؛ لأن القاضي لا يحلِّف أحداً إلا إذا كانت هذه الخصومة يترتب عليها إثبات حقوق للآخرين أو نفيها، فحينئذ هذه اليمين لا تصح فيها التورية؛ لأنها تمنع الآخرين حقهم، أو تثبت حقاً لإنسان ليس له حق، فلا يصح أن تتذرع بعد استحلاف القاضي لك أنك ما كنت تقصد ما حلفت عليه؛ لأن هذا بإجماع أهل العلم غير جائز.(106/2)
شرح حديث: (يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن يحيى وعمرو الناقد، قال يحيى: أخبرنا هشيم بن بشير عن عبد الله بن أبي صالح، وقال عمرو: حدثنا هشيم بن بشير أخبرنا عبد الله بن أبي صالح] عبد الله بن أبي صالح لأول مرة تقريباً يمر معنا، وقيل: اسمه عباد، وقال بعض أهل النقد: عبد الله، فبعضهم يجعل عبد الله اسماً وعباداً لقباً، وبعضهم يجعل اسمه عباداً وعبد الله لقباً له، وهو ابن أبي صالح السمان ذكوان، وله أخ مشهور بالرواية هو سهيل بن أبي صالح الذي يروي عن أبيه عن أبي هريرة غالباً، فـ سهيل إمام كبير ثقة، مكثر للرواية، بخلاف عباد أو عبد الله فإنه مقل جداً في الرواية، كما أنه في العدالة والتوثيق يقل عن أخيه كثيراً.
قال: [أخبرنا عبد الله بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك -وقال عمرو -: يصدقك به صاحبك)] أي: يمينك على ما يستحلفك عليه صاحبك، فهو يطلب منك أن تصدقه في مراده.(106/3)
شرح حديث: (اليمين على نية المستحلف)
قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يزيد بن هارون عن هشيم عن عباد بن أبي صالح -وهو عبد الله المذكور في الإسناد الأول- عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اليمين على نية المستحلِف)] وهذا اسم فاعل، بخلاف المستحلَف فإنه اسم مفعول، فليس اليمين على نية المستحلَف، وإنما هو على نية الحالف.(106/4)
مذهب الشافعية في معنى حديث: (اليمين على نية المستحلف)
قال النووي: (وهذا الحديث محمول على الحلف باستحلاف القاضي) يعني: هذا الحديث محمول على فض المنازعات والخصومات وغيرها، واستحلاف القاضي للخصوم أو للشهود على نية المستحلِف، أي: على نية القاضي الذي طلب منك اليمين أن تقسمه على إثبات شيء أو نفيه، وهذا محل إجماع، واختلف بعد ذلك إذا لم يكن المحلف هو القاضي، فمنهم من قال: لا يحنث ولا يأثم بذلك إذا ورى، ومنهم من قال: يأثم ويحنث، ولا تقبل منه التورية، لكن المسألة المجمع عليها أن القاضي إذا حلَّف متهماً أو خصماً أو شاهداً فلا تصح التورية من المستحلَف حينئذ.
ثم قال: (فإذا ادعى رجل على رجل حقاً، فحلفه القاضي فحلف، وورَّى فنوى غير ما نوى القاضي؛ انعقدت يمينه على ما نواه القاضي -لا على ما نواه المستحلِف- ولا تنفعه التورية، وهذا مجمع عليه، ودليله هذا الحديث والإجماع).
والتورية: هي أن توهم الذي أمامك إذا سألك سؤالاً أنك تجيب على عين السؤال، وإجابتك تصلح أن تكون لأكثر من سؤال.
مثال ذلك: إذا طرق عليك الباب أحد، فردت امرأتك من خلف الباب فسألها الطارق: فلان موجود، فقالت: ليس موجوداً هنا، وتشير إلى مكان بعينه تقصده، أي: خلف الباب، وأنت في غرفة من الغرف، فهي قد ورَّت في كلامها، واستخدمت المعاريض في كلامها، كما لقي بعض المشركين النبي صلى الله عليه وسلم وهو في طريقه إلى المدينة، وهم لو عرفوه لقصدوا قتله، فلما لقوه هو ومن معه قالوا: (من أين القوم؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: نحن من ماء)، يقصد: {وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30]، فهو لم يكذب، لكنه أراد شيئاً، والسائل أراد شيئاً آخر.
فهذه هي التورية أو المعاريض، ولها صور أخرى حتى لا يسميها أحد بالكذب، وكما قال السلف: (إن في المعاريض مندوحة عن الكذب).
فإذا طلب القاضي من إنسان أعمى أن يحلف اليمين: هل رأيت فلاناً يفعل كذا، فيقول الشاهد الأعمى: لا والله ما رأيته، مع أنه سمعه، فالقاضي من كثرة ما اعتاد أن يحلِّف اليمين على نحو معين، قال لهذا الشاهد الأعمى الذي جيء به ليشهد أنه سمع: هل رأيت فلاناً يقول كذا؟ فيقول: لا والله ما رأيته.
فيمضي القاضي شهادته على ما ورى به.
والأصل أن اليمين تنعقد على نية القاضي، أما يمين هذا المستحلَف فلا تصح منه؛ لأنه استخدم المعاريض.
وانعقاد الإجماع على أن اليمين على نية القاضي؛ لتعلق هذا اليمين بحقوق الآخرين.
ثم قال: (فأما إذا حلف بغير استحلاف القاضي وورَّى تنفعه التورية، ولا يحنث، سواء حلف ابتداء من غير تحليف، أو حلفه غير القاضي وغير نائبه في ذلك، ولا اعتبار بنية المستحلِف غير القاضي).
يعني: هم يفرقون بين حالتين: في حالة أن تذهب إلى المحكمة فيحلفك القاضي، فهذا فيه الإجماع على أن اليمين على نية المستحلِف لا على نية المستحلَف.
أما لو ذهبت أنت إلى المحكمة ولم يحلفك القاضي أو نائبه، وإنما أنت ابتدرته باليمين دون استحلاف منه، واستخدمت في يمينك تورية، وقصدت ما كان مطلوباً منك مستخدماً التورية، فتنفعك التورية، ولا تحنث في يمينك، سواء حلفت ابتداءً من غير تحليف، أو حلفك غير القاضي وغير نائبه، ولا اعتبار لنية المستحِلف من غير القاضي أو نائبه.
ثم قال: (وحاصله أن اليمين على نية الحالف في كل الأحوال، إلا إذا استحلفه القاضي أو نائبه في دعوى توجهت عليه فتكون على نية المستحلف وهو مراد الحديث) يعني: اليمين على نية الحالف في كل الأحوال إلا في حالة واحدة، وهي إذا حلفه القاضي.
ثم قال: (أما إذا حلف عند القاضي من غير استحلاف القاضي في دعوى؛ فالاعتبار بنية الحالف لا بنية المستحلِف، وسواء في هذا كله اليمين بالله تعالى أو بالطلاق والعتاق، إلا أنه إذا حلفه القاضي بالطلاق أو بالعتاق؛ تنفعه التورية) لأنه لا يجوز للقاضي أن يحلف أحداً إلا بما ينعقد به اليمين الشرعي، وهو بالله وأسمائه وصفاته.
فإذا قال: عبدي معتق إن كان كذا، أو إن لم يكن كذا، فلا يعتق العبد عند جماهير العلماء، وكذلك إذا قال: امرأتي طالق إن كان كذا، فلا تطلق امرأته عند جمع من العلماء.
قال: (وسواء في ذلك كله اليمين بالله تعالى، أو بالطلاق أو العتاق، إلا أنه إذا حلفه القاضي بالطلاق أو بالعتاق تنفعه التورية، ويكون الاعتبار بنية الحالف؛ لأن القاضي ليس له التحليف بالطلاق والعتاق، وإنما يستحلِف بالله تعالى).
يعني: إذا حلفك القاضي بالله؛ فلا يجوز لك أن توري، أما إذا حلفك بالطلاق فوريت في هذا فتنفعك التورية؛ لأنه لا يحل للقاضي أن يحلفك بالطلاق ولا بالعتاق، فلو أن اسم امرأتك (طالق) في البطاقة الشخصية، فقال القاضي: قل: امرأتي طالق ما فعلت كذا، القاضي يقصد اليمين، وهذا يقصد ذكر اسمها، فقال: امرأتي طالق ما فعلت كذا، فهو ورى وقصد ذكر اسم امرأته.
وكذلك لو حلفه القاضي وقال: قل: امرأتي طالق، فقال: بل امرأتي طلاق، فقبل القاضي منه ذلك؛ لأنه يعلم الفرق بين كلمة طالق وطلاق، فطلاق أبلغ، ثم أُخبِرَ القاضي بعد ذلك ب(106/5)
مذهب المالكية في معنى حديث: (اليمين على نية المستحلف)
قال النووي: (ونقل القاضي عياض عن مالك وأصحابه في ذلك اختلافاً وتفصيلاً، فقال: لا خلاف بين العلماء أن الحالف من غير استحلاف ومن غير تعلق حق بيمينه له نيته، ويقبل قوله).
يعني: إذا حلف من غير أن يستحلفه أحد فيوري، أو حلف بعد أن يحلفه أحد غير القاضي كذلك له أن يوري، لكن نتيجة هذا الحلف لا يتعلق بها حق للآخرين، فلو حلف مستخدماً التورية أو المعاريض؛ فإنه لا يأثم بذلك ويقبل قوله.
ثم قال: (وأما إذا حلف لغيره في حق أو وثيقة متبرعاً، أو بقضاء عليه؛ فلا خلاف أنه يحكم عليه بظاهر يمينه، سواء حلف متبرعاً باليمين أو باستحلاف) يعني: لو ابتدأ هو اليمين، أو حلفه الآخرون؛ فإنه حينئذ يأثم، وتلزمه التوبة.
ثم قال: (وأما فيما بينه وبين الله تعالى فقيل: اليمين على نية المحلوف له).
اختلف المتأخرون في إعادة الضمير في قوله: (له) هل هو المفعول له إذا أتى الشاهد فحلِّف، فلا شك أنه يحلف لمصلحة أحد المتنازعين، فهل المقصود في عود الضمير في قوله: (على نية المحلوف له) هل هو أحد الخصمين المتنازعين، أو المحلوف له، أي: القاضي؟ على خلاف، الراجح أنه القاضي، واليمين حينئذ على نية المستحلِف وهو القاضي.
ثم قال: (وقيل: على نية الحالف، وقيل: إن كان مستحلَفاً؛ فعلى نية المحلوف له، وإن كان متبرعاً باليمين؛ فعلى نية الحالِف، وهذا قول عبد الملك وسحنون، وهو ظاهر قول مالك وابن القاسم، وقيل عكسه، وهي رواية يحيى عن ابن القاسم، وقيل: تنفعه نيته فيما لا يقضى به عليه، ويفترق التبرع وغيره فيما يقضى به عليه، وهذا مروي عن ابن القاسم أيضاً.
وحكي عن مالك أن ما كان من ذلك على وجه المكر والخديعة فهو فيه آثم حانث، وما كان على وجه العذر فلا بأس به) يعني: إذا كنت تحلف وتستخدم التورية على سبيل المكر والخديعة، فأنت تأثم بذلك، حتى وإن كنت المبتدئ باليمين.
أما إذا استخدمت التورية وحلفت، وكان على وجه العذر، فأنت معذور في ذلك، ولا بأس عليك.
ثم قال: (وقال ابن حبيب -من المالكية- عن مالك: ما كان على وجه المكر والخديعة فله نيته، وما كان في حق فهو على نية المحلوف له.
قال القاضي: ولا خلاف في إثم الحالف بما يقع به حق غيره، وإن ورَّى، والله أعلم).
إذاً: اليمين على نية المستحلِف، خاصة إذا كان المستحلِف قاضياً، فإذا حلفك القاضي بالله فلا يحل لك أن توري في هذا اليمين، هذا أمر.
الأمر الثاني: إذا كان هذا اليمين متعلقاً بحق الآخرين، فهذا أوكد في أن اليمين على نية المستحلِف، أما إذا حلفت على شيء مبتدئاً بالله تعالى، فلا يجوز لك كذلك أن توري، وهذا هو الراجح في مذهب المالكية دون الشافعية.
ونقلنا الإجماع على أن المقصود بهذا القاضي.
على أية حال يترجح لدي في نهاية الأمر مذهب مالك: أن اليمين على نية المستحلِف، خاصة إذا كان المستحلِِف هو القاضي؛ لتعلق حقوق الآخرين به، وهذا أوكد في حرمة التورية إذا حلفك القاضي بالله تعالى.
أما إذا ابتدرت أنت اليمين، فالراجح من مذهب مالك لا يحل لك التورية؛ لأن الذي أمامك إنما يحملك على ظاهر قولك، ويسمع منك هذا، فإذا كان الذي أمامك يقبل منك ظاهر قولك، وتريد أن تستخدم التورية والمعاريض فلا بأس بذلك بغير يمين.
هذا هو الذي يترجح لدي في الباب كله من أوله إلى آخره.(106/6)
باب الاستثناء
قال: (باب الاستثناء).
الاستثناء: هو ما جاء بعد (إلا) غالباً، أو ما كان معلقاً على المشيئة، حتى وإن سبقه يمين، كما لو قلت: والله لأفعلن كذا إلا أن يشاء الله، فقولك: والله لأفعلن كذا، هذا يمين قد انعقد على الجزم بفعل هذا الشيء، فإن لم تفعله ستحنث في اليمين ويلزمك الكفارة، أما إذا قلت: والله لأفعلن كذا إلا أن يشاء الله، أي: إلا أن يشاء الله ألا أفعله فلا أفعله، هذا هو التقدير، فإذا لم تستثن وحنثت لزمتك الكفارة.
والاستثناء دائماً رافع للكفارة، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من حج أو اعتمر فأهل وشرط؛ فلا حنث عليه).
وقال للمرأة: (أهلي واشترطي على ربك، وقولي: لبيك اللهم عمرة أو حجاً، فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني) يعني: تشترط من الميقات.
بعض الناس يتصور أن الدخول في الإهلال والنسك بمجرد لبس الإزار والرداء، وليس الأمر كذلك، حتى لو لبستهما من بيتك فإن النسك لا ينعقد إلا في الميقات المكاني، وهو لأهل مصر الجحفة أو رابغ، ولأهل اليمن يلملم، وللعراق ذات عرق، وللمدينة ذو الحليفة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (هن لهن -أي: هذه المواقيت- ولمن مرَّ بهن من غير أهلهن، لمن أراد الحج أو العمرة).
فهذه المواقيت هي بداية الدخول والتلبس بالنسك، لكن هب أنك قلت: لبيك اللهم عمرة! ثم بدأت تلبي حتى وصلت إلى المطار أو الميناء أو غير ذلك، فإذا هناك من الأعذار ما يسمح للقائمين على الأمر إلى ردك لبلدك، كأن تكون الفيزة مثلاً غير صحيحة، أو أوراقك غير رسمية أو غير ذلك من الأعذار، فأرجعوك إلى صالة المغادرة، وركبت الطائرة ورجعت إلى بلدك، فماذا عليك حينئذ؟ الذي عليك أن تذبح شاة لفقراء الحرم؛ لأنك لم تشترط ولم تقل: فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، أما لو اشترطت فأرجعوك فلا شيء عليك ولا دم؛ لأنك قلت: يا رب! أنا تلبست بنسك، فإن حبسني حابس فمحلي، أي: فتحللي من ملابس الإحرام ومواصلة النسك حيث حبستني، أي: في نفس المكان الذي حبستني فيه، ولا حرج علي حينئذ، ولا دم علي حينئذ، فدائماً الاستثناء والاشتراط في اليمين يقطع الحنث، كما يقطع كذلك الكفارة.
فلو قلت مثلاً: والله إني لا أزور فلاناً قط إلا أن يشاء الله، فهذا قد تحقق الشرط المستثنى، وهذا الاستثناء يمنع انعقاد اليمين.(106/7)
شرح حديث أبي هريرة في طواف سليمان بن داود على نسائه في ليلة واحدة
قال: [حدثني أبو الربيع العتكي وأبو كامل الجحدري فضيل بن حسين واللفظ لـ أبي الربيع، قالا: حدثنا حماد بن زيد البصري، حدثنا أيوب بن أبي تميمة السختياني البصري عن محمد بن سيرين البصري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان لسليمان ستون امرأة، -أي: سليمان بن داود عليهما السلام- فقال: لأطوفن عليهن الليلة)].
الطواف كناية عن الجماع، كأنه قال: لأجامعن نسائي الليلة كلهن.
ثم قال: [(فتحمل كل واحدة منهن، فتلد كل واحدة منهن غلاماً فارساً يقاتل في سبيل الله، فلم تحمل منهن إلا واحدة، فولدت نصف إنسان؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كان استثنى؛ لولدت كل واحدة منهن غلاماً فارساً يقاتل في سبيل الله)].
يعني: لو قال: إن شاء الله.
قال: [وحدثنا محمد بن عباد وابن أبي عمر واللفظ له، قالا: حدثنا سفيان بن عيينة عن هشام بن حجير المكي عن طاوس بن كيسان اليماني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال سليمان بن داود نبي الله: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة، كلهن تأتي بغلام يقاتل في سبيل الله، فقال له صاحبه أو الملك: قل: إن شاء الله، فلم يقل، ونَسِي)].
وفي رواية: (ونُسِّي).
فقوله: (صاحبه أو الملك) يعني: ربما يكون أحد أصدقائه، وربما يكون القرين من الملائكة.
ثم قال: [(فلم تأت واحدة من نسائه، إلا واحدة جاءت بشق غلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولو قال: إن شاء الله لم يحنث، وكان دركاً له في حاجته)] أي: كان لحاقاً له في حياته.
قال: [وحدثنا ابن أبي عمر العدني محمد بن يحيى حدثنا سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله أو نحوه.
وحدثنا عبد بن حميد أخبرنا عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليمني أخبرنا معمر بن راشد البصري اليمني عن عبد الله بن طاوس عن أبيه طاوس عن أبي هريرة قال: (قال سليمان بن داود: لأطيفن الليلة على سبعين امرأة)].
(أطيفن) و (أطوفن) هما لغتان فصيحتان.
قال: [(لأطيفن الليلة على سبعين امرأة تلد كل امرأة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله، فقيل له: قل: إن شاء الله، فلم يقل، فأطاف بهن، فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قال: إن شاء الله لم يحنث، وكان دركاً لحاجته)].
أي: كان دركاً ولحاقاً لتحقق مراده، وهو أن يرزق من كل امرأة بولد، ولكنه لم يرزق من أي امرأة بإنسان؛ لأنه لم يقل: إن شاء الله، ولم يستثن.
قال: [وحدثني زهير بن حرب - أبو خيثمة النسائي نزيل بغداد- حدثنا شبابة -وهو ابن سوار المدائني نسبة إلى المدائن ببلاد فارس- حدثني ورقاء -هو ابن عمر اليشكري أبو بشر الكوفي نزيل المدائن- عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال سليمان بن داود: لأطوفن الليلة على تسعين امرأة)].
بعض الحمقى وإن شئت فقل: بعض الملاحدة يرد هذا؛ وحجته في ذلك أمران: الأمر الأول: اضطراب هذه الروايات، مرة ذكر تسعين، ومرة سبعين، ومرة ستين، وفي غير الصحيح أكثر من تسعين، كما جاء في رواية: (لأطوفن الليلة على نسائي التسع والتسعين)، وفي رواية: (لأطوفن الليلة على مائة امرأة)، قال: هذا اضطراب.
الأمر الثاني: كيف لرجل أن يطوف على هذا العدد، وهذا معلوم استحالته في حق أي بشر.
و
الجواب
أن هذا العدد له مفهوم يسمى عند الأصوليين: مفهوم العدد، فهل مفهوم العدد حجة؟ مذهب جماهير الأصوليين أن مفهوم العدد ليس بحجة، وإنما المراد منه الكثرة، وليس المراد اعتبار عين العدد، كما لو قلت لصاحبك: أنا اتصلت بك مائة مرة، أو أتيتك للزيارة مائة مرة ولم أجدك، وفي حقيقة الأمر أنت ما أردت تحديد العدد، أنك حقاً أتيت مائة مرة عداً، وإنما أردت أن تخبره أنك أتيته كثيراً.
إذاً: مفهوم العدد عند جماهير العلماء ليس بحجة، وإنما المراد ذكر الكثرة؛ هذا أحد وجوه الرد.
الرد الثاني: أن سياق الروايات ليس سياق حصر، قال: (لأطوفن الليلة على ستين امرأة)، وفي رواية: (سبعين امرأة)، وفي رواية: (تسعين امرأة)، وفي رواية: (تسعة وتسعين)، وفي رواية: (مائة) فهل ثبت أن سليمان بن داود كان مت(106/8)
كلام النووي في أحاديث باب الاستثناء(106/9)
من فوائد حديث أبي هريرة في طواف سليمان بن داود على نسائه في ليلة واحدة
قال الإمام النووي: (في هذا الحديث فوائد: منها: أنه يستحب للإنسان إذا قال: سأفعل كذا أن يقول: إن شاء الله؛ لقوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24]).
واستخدام المشيئة دائماً يكون في أمر مستقبلي، بخلاف الحمد فإنه في أمر قد مضى.
فمثلاً: لا تقل: أنا فعلت كذا بالأمس إن شاء الله؛ لأنه لا وجه له؛ لكن تقول: أنا فعلت كذا بالأمس والحمد لله، فهو كلام مستقيم جملة وتفصيلاً، ولا تقل: أنا سأفعل كذا غداً والحمد لله، بل قل: أنا سأفعل كذا غداً بإذن الله، أو بمشيئة الله، أو إن شاء الله.
إذاً: فتعليق العمل على المشيئة يكون في أمر مستقبلي، أما إذا كان في الماضي فإنه يتعلق بالحمد.
ثم قال: (ومنها: أنه إذا حلف وقال متصلاً بيمينه: إن شاء الله تعالى؛ لم يحنث بفعله المحلوف عليه، وأن الاستثناء يمنع انعقاد اليمين؛ لقوله في هذا الحديث: (لو قال: إن شاء الله لم يحنث، وكان دركاً لحاجته)).
هنا يذكر شرطاً مهماً، وهذا الشرط محل اتفاق، وهو أنه لو وصل الاستثناء بالحلف، فقال: والله العظيم لأفعلن كذا يوم الجمعة القادمة إن شاء الله، فهذا لم يقع فيه نزاع، إذا لم يفصل بين اليمين والاستثناء فإنه لا ينعقد به يمين، ولا يحنث لمخالفة هذا اليمين، لكن لو قال لولده: والله لو فعلت كذا لأضربنك، وفي اليوم التالي قال: إن شاء الله، فلا يصح، أما لو قال لولده: والله لو فعلت كذا لأضربنك إن شاء الله، ففعل الولد المحلوف عليه؛ فلا يلزم الأب هذا اليمين، ولو ترك الضرب لولده لم يحنث؛ لأنه علق الضرب على مشيئة الله، وقد شاء الله ألا يضربه؛ فلا يحنث بهذا اليمين، ولا تلزمه الكفارة.(106/10)
شروط صحة الاستثناء
قال: (ويشترط لصحة هذا الاستثناء شرطان: أحدهما: أن يقوله متصلاً باليمين).
أن يقول: والله لأفعلن كذا إن شاء الله، والله لأتركن كذا إن شاء الله.
إذاً: فتعليق المشيئة يكون متصلاً باليمين.
ثم قال: (والثاني: أن يكون نوى قبل فراغ اليمين أن يقول: إن شاء الله تعالى) وهذا الشرط محل نزاع: قال البعض: متى تنعقد هذه النية، قبل أن يحلف، أم في مبتدأ اليمين، أم في أثناء اليمين، أم قبل أن يفرغ من اليمين؟ كل رأي من هذه الآراء قال به بعض أهل العلم.
الشرط الأول وهو أن يتصل الاستثناء باليمين، هو محل اتفاق.
أما الشرط الثاني، فمثاله: لو قلت لولدي: لو فعلت كذا لأضربنك، فأدركت نفسي وقلت: إن شاء الله، فمتى انعقدت النية؟ في آخر اليمين، صحيح أن الكلام متصل، لكن النية انعقدت في آخر اليمين.
بخلاف ما أن أسمع صوته في الشارع وأعرف أنه إنسان مشاغب ومشاكس، فأخرج له ناوياً تهديده وتعليق الضرب بالمشيئة، فأقول له: والله لأضربنك إن شاء الله، فالكلام كله متصل، وهذا ليس فيه نزاع.
ثم قال: (قال القاضي: أجمع المسلمون على أن قوله: (إن شاء الله) يمنع انعقاد اليمين بشرط كونه متصلاً).
يعني: الاستثناء يجعل اليمين غير منعقدة، بمعنى أنك لو خالفت ما نويت عليه لا تحنث ولا تلزمك الكفارة؛ لأن الاستثناء يبطل اليمين، فلو قلت له: والله لأضربنك إن شاء الله، فتركت ضربه فلا حرج عليك، ولا إثم ولا كفارة ولا حنث؛ لأنه ليس يميناً.
ثم قال: (ولو جاز منفصلاً كما روي عن بعض السلف؛ لم يحنث أحد قط في يمين، ولم يحتج إلى كفارة) يعني: خالف بعض أهل العلم وقالوا بجواز أن يكون الاستثناء منفصلاً، فيرد القاضي عياض عليهم ويقول لهم: إذا جاز الاستثناء منفصلاً لا يحنث أحد قط في يمين، كما لا يحتاج أحد قط إلى كفارة يمين، فإذا كنتم تتفقون معنا في أن اليمين منعقدة، وأن الحالف الحانث تلزمه الكفارة لأنه حنث في يمينه؛ فحينئذ يلزمكم أن تقولوا بإثبات الاتصال، وبعدم جواز الانفصال في الاستثناء.
فمثلاً: لو أن شخصاً يشرب ماء بارداً ومزاجه جيد للغاية، ويقول لزوجته: يا أم محمد! فتجيب عليه: نعم؟ فيقول لها: أنت طالق! فهو غير غضبان، ولا سكران، بل يأكل ويشرب وهو مستريح للغاية، ثم يذهب إلى شيخ ليفتيه فيقول له: ماذا فعلت؟ فيقول: أنا كنت أمزح معها! فيفتيه المفتي بأن طلاقه وقع، ويقول له: لو لم يقع الطلاق بهذا اللفظ على نحو ما ذكرت؛ فليس في الدنيا شيء اسمه طلاق.
كذلك الذي يقول بجواز الانفصال بين الاستثناء واليمين، لا بد أن يبطل مدلول الآيات في كتاب الله في كفارة الأيمان والحنث، ويلزمه كذلك رد هذه الأحاديث الصحيحة.
إذاً: لو أن رجلاً الآن حلف على شيء وغداً يستثني أو بعد غد يستثني أو بعد شهر، أو بعد عام يستثني، هل يصح منه هذا الاستثناء؟ لا يصح، وهذا مذهب جماهير العلماء.(106/11)
أقوال العلماء في قدر وقت اتصال الاستثناء باليمين
قال: (واختلفوا في الاتصال، فقال مالك والأوزاعي والشافعي والجمهور: هو أن يكون قوله: (إن شاء الله) متصلاً باليمين من غير سكوت بينهما، ولا تضر سكتة النفس) يعني: كأن يقول: والله العظيم لأفعلن كذا وكذا إن شاء الله، والذي فصل بين اليمين والاستثناء أنه أراد أن يتنفس، فهذا أقوى الآراء في المسألة، وهو الذي تشهد له الأدلة الشرعية، وهو مذهب جماهير العلماء.
ثم ذكر الرأي الثاني: (وعن طاوس والحسن وجماعة من التابعين: أن له الاستثناء ما لم يقم من مجلسه) هؤلاء جعلوا الحد الجائز انفصال المجلس، هب أن هذا المجلس طال ساعتين أو ثلاثاً أو أربعاً، عندهم مهما طال.
ثم قال: (وقال قتادة: ما لم يقم أو يتكلم.
وقال عطاء: قدر حلبة ناقة.
وقال سعيد بن جبير: بعد أربعة أشهر.
وعن ابن عباس: له الاستثناء أبداً متى تذكره، وتأول بعضهم هذا المنقول عن هؤلاء على أن مرادهم أنه يستحب له قول: إن شاء الله تبركاً، قال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24]، ولم يريدوا به حل اليمين ومنع الحنث).
يعني: الجمهور قالوا: سنقبل قول عطاء والحسن وابن عباس وسعيد بن جبير، لكن ليس على سبيل الاستثناء في الحكم، إنما على سبيل الاستثناء للبركة بذكر اسم الله تعالى، إلا أن يشاء الله، كما في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24].(106/12)
حكم الاستثناء في الطلاق والعتق
ثم قال: (أما إذا استثنى في الطلاق والعتق وغير ذلك سوى اليمين بالله تعالى، فقال: أنت طالق إن شاء الله تعالى، أو أنتَ حر إن شاء الله تعالى، أو أنتِ علي كظهر أمي إن شاء الله تعالى، أو قال: لزيد في ذمتي ألف دينار أو درهم إن شاء الله، أو إن شفى الله تعالى مريضي فلله علي صوم شهر إن شاء الله أو ما أشبه ذلك؛ فمذهب الشافعي والكوفيين وأبي ثور وغيرهم بصحة الاستثناء في جميع الأشياء، كما أجمعوا عليها في اليمين بالله تعالى، فلا يحنث في طلاق ولا عتق، ولا ينعقد ظهاره ولا نذره، ولا إقراره ولا غير ذلك مما يتصل به قوله: إن شاء الله.
وقال مالك والأوزاعي: لا يصح الاستثناء في شيء من ذلك إلا اليمين بالله تعالى) تنبه لهذا الأمر، تكلم العلماء في هذه المسألة فقط من باب تقرير مسألة شرعية، فلا تظل كلما دخلت بيتك أو خرجت منه قلت لامرأتك: أنت طالق إن شاء الله لا؛ فهذا عند الجمهور تلاعب بألفاظ الشرع، وإن قال جمهور العلماء أن الاستثناء في هذا لا يحنث به المرء؛ فاعلم أن مالكاً ومن معه قالوا: لا يصح فيه الاستثناء بل يقع، يعني: المسألة محل نزاع بين أهل العلم في الطلاق والعتق وغير ذلك.
فهب أن الطلاق والعتق لا يقعان بالاستثناء، فلا يصح من مسلم أن يتلاعب بألفاظ الشرع.
قال: (وقوله صلى الله عليه وسلم: (لو قال: إن شاء الله لم يحنث)، فيه إشارة إلى أن الاستثناء يكون بالقول ولا تكفي فيه النية) يعني: لابد فيه من التلفظ؛ لأن اليمين قد تلفظ به، فلو استثنى في قلبه لا يصح منه ذلك، بل لابد أن يتلفظ بقوله: إن شاء الله، اتصالاً باليمين، أما لو عقد النية على الاستثناء لا يقبل منه ذلك، ولا يكون قد استثنى، وإنما يحنث لانعقاد يمينه.
وهذا للقادر على الكلام، أما غير القادر كالذي لا يتكلم وإنما يتعامل بالإشارة، فالأخرس مثلاً إذا أراد أن يحلف أشار إلى السماء، فعلم منه أنه يريد القسم، أو ربما إن كان يسمع لكنه لا يتكلم، وإنما يتعامل بالإشارة، فحينئذ يجب عليه وصف الاستثناء بالإشارة.
أو أن إنساناً لا يستطيع أن يشير ولا يتكلم، لكنه يتعامل كتابة، فحينئذ يلزمه أن يكتب الاستثناء والمشيئة بعد كتابته لليمين، وإلا فلا يقبل منه غير ذلك.
ثم قال: (أما قوله صلى الله عليه وسلم: (فقال له صاحبه: قل إن شاء الله) -أي: صاحب سليمان- قد يحتج به من يقول بجواز انفصال الاستثناء) يعني: بعد أن حلف سليمان عليه السلام وانتهى من الحلف قال له صاحبه: قل إن شاء الله، فهذا حجة لمن قال بجواز الفصل؛ لأن صاحبه قال له: قل إن شاء الله، ومع ذلك بعد أن ذكره نسي مرة أخرى.
فهذه شبهة.
ثم قال: (وأجاب الجمهور عنه بأنه يحتمل أن يكون صاحبه قال له ذلك وهو بعد في أثناء اليمين) يعني: وهو مازال يتكلم قال له صاحبه ذلك، فبعد أن فرغ من كلامه نسي.
ثم قال: (أو أن الذي جرى منه ليس بيمين، فإنه ليس في الحديث تصريح بيمين).
وفي رواية قال: (والله لأطوفن الليلة على كذا وكذا)، قالوا: لفظ الجلالة هنا لم يقصد به اليمين، وإنما ما أراد به لفظاً دارجاً، لم يقصد منه حقيقة اليمين.
أما قوله: (فتحمل كل واحدة منهن، فتلد كل واحدة منهن غلاماً فارساً يقاتل في سبيل الله) هذا قاله سليمان على سبيل التمني للخير، وقصد به الآخرة والجهاد في سبيل الله تعالى، لا لغرض من أغراض الدنيا.
(أما قوله: (فولدت نصف إنسان، أو شق غلام) قيل: هو الجسد الذي ذكره الله تعالى أنه ألقي على كرسيه.
وأما قوله: (لو كان استثنى لولدت كل واحدة منهن غلاماً فارساً يقاتل في سبيل الله)، هذا محمول على أن النبي صلى الله عليه وسلم أوحي إليه بذلك في حق سليمان، لا أن كل من فعل هذا يحصل له هذا) يعني: ليس بلازم أن تقول: والله لأجامعن امرأتي الليلة وتأتي بغلام أو بمجاهد يجاهد في سبيل الله، ليس بلازم أن تأتي بغلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عما كان من أمر سليمان، لا عن أمر كل إنسان، وليس المقصود أن كل إنسان لو حلف واستثنى فيما يتعلق بجماع امرأته يكون ذلك حقيقة؛ لأن إخواننا الذين لم يرزقوا بأولاد ذكور، أو لم يرزقوا بأولاد ولا حتى بإناث، لو كان هذا وعداً لكل من أقسم، لما كان هناك حاجة لأطباء العقم وغيرهم بالمرة، ولقالوا ذلك، وحصلوا على الولد.(106/13)
حكم استخدام كلمة (لو) و (لولا) فيما مضى وفيما يستقبل
قال: (أما قوله: (لو قال: إن شاء الله لجاهدوا) فيه جواز قول: لو، ولولا.
قال القاضي: وهذا يستدل به على جواز قول: لو، ولولا، وقد جاء في القرآن كثيراً، وفي كلام الصحابة والسلف، بل ترجم البخاري على هذا الحديث: باب: ما يجوز من اللو).
ظاهره التعارض مع قوله عليه الصلاة والسلام: (فلا تقل: لو كان كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان)، فيتوهم التعارض، توجد آيات وأحاديث فيها: (لو، ولولا)، وهذا حديث ينهانا أن نقول لشيء: لو كان كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فالجمع كما في قول الله تعالى: (في قول لوط صلى الله عليه وسلم: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80]-فهنا استخدم لو- وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كنت راجماً بغير بينة لرجمت هذه)).
قاله عليه الصلاة والسلام لامرأة بغي معلومة البغاء، وذاع خبرها وانتشر صيتها، وهذه المرأة هي عناق كانت في الجاهلية بغياً، وكان بيتها بيت دعارة، وبيت زنا، وكانت تقف على باب دارها وتدعو الناس إليها، حتى أسلم صاحبها، فلما دخل مكة مستخفياً رأته، فقالت: يا فلان! ألك حاجة في أن تبيت عندنا الليلة؟! قال: لا، وهذا الرجل قد استأذن النبي عليه الصلاة والسلام أن يتزوجها، فلم يأذن له، فقال: إني استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم أن أتزوجك فلم يأذن لي، قالت: أليس لك أن تبيت عندنا الليلة؟! قال: لا، قد منعني من ذلك إسلامي وإيماني، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لو كنت راجماً أحداً بغير بينة لرجمت هذه)، ولكنه أُمر في الشرع ألا يرجم إلا من أقرت بالزنا على نفسها، أو رآها أربعة شهود رأي عين، فلما لم يكن هذا وذاك قال: (لو كنت راجماً)، أي: لو أذن لي ربي أن أرجم امرأة بغير بينة لرجمت هذه، ولكن لما كانت البينة شرطاً لم يرجمها النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: (وقوله: (لو مد لي الشهر لواصلت)) يعني: استخدم كلمة (لو)، وذلك لما نهى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عن وصال الصوم، فواصلوا، فواصل بهم، ولكن أدركهم عيد الفطر، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لو مد لي الشهر لواصلت)؛ أي: عقوبة لأصحابه الذين خالفوا أمره وواصلوا الصوم، رغم نهيه عن ذلك؛ ليرى كيف سيعمل الصحابة.
ثم قال: (وقوله عليه الصلاة والسلام: (لولا حدثان قومكِ بالكفر لأتممت البيت على قواعد إبراهيم) وقال عليه الصلاة والسلام: (لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار)) فاستخدم (لولا) في الحديثين مع أنه قد نهى عنها، وأمثال هذا كثير.
ثم قال: (والذي يفهم من ترجمة البخاري وما ذكره في الباب من القرآن والآثار: أنه يجوز استعمال (لو، ولولا) فيما يكون للاستقبال، أما جواز ذلك في أمر قد مضى على سبيل التحسر والتأثم وترك الإيمان بالقدر فهو غير جائز) يعني: لك أن تستخدم (لو) كما لو قلت: لو أصبح بي الصباح لزرتك، هذا كلام مباح، وهو في المستقبل، أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا تقولن لشيء: لو كان كذا لكان كذا وكذا)؛ لأنه في شيء مضى، وقلته على سبيل التندم والتحسر، وترك الإيمان بالقدر، ولذلك قال: (ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل)، يعني: في الأمور الماضية، أما في الأمور المستقبلة فلا بأس بكلمة (لو، ولولا).
قال: (وأما هذا الحديث الذي نحن فيه، فإنما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن يقين نفسه، أن سليمان لو قال: (إن شاء الله لجاهدوا) إذ ليس هذا مما يدرك بالظن والاجتهاد، وإنما أخبر عن حقيقة أعلمه الله تعالى بها، وهو نحو قوله صلى الله عليه وسلم: (لولا بنو إسرائيل لم يخنز اللحم، ولولا حواء لم تخن امرأة زوجها)) هذا الحديث في الصحيحين؛ لأن الله عز وجل منَّ على بني إسرائيل بالمن والسلوى، المن هو اللحم، والسلوى هي الحلوى، فالله عز وجل وهب بني إسرائيل الطعام والحلوى، وأمرهم بالأكل منهما، فادخروهما، فكان أول لحم أنتن في بني إسرائيل.
أما قوله: (لولا حواء لم تخن امرأة زوجها)، هو تأثير إبليس عليها بالغواية والإضلال، وإقناعها قبل إقناع آدم بالأكل من الشجرة، ثم سلطها إبليس بعد ذلك على آدم، حتى أكل من الشجرة، قال: (لولا حواء لم تخن أنثى زوجها)، فخيانة حواء أن قبلت بغواية إبليس فأغوت زوجها.
فها هو استخدم هنا كلمة: (لولا).
ثم قال: (فلا معارضة بين هذا وبين حديث النهي عن (لو)، وقد قال الله تعالى: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران:154].
وقال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28].
وكذلك ما جاء من (لولا) كقوله تعالى: {(106/14)
الأسئلة(106/15)
حكم من أقسم عليه صاحبه ولم يبر يمينه
السؤال
أقسم رجل على امرأته بالله أن تفعل شيئاً مباحاً مقدوراً عليه، فرفضت إبرار قسمه فهل عليه كفارة؟
الجواب
جعل النبي عليه الصلاة والسلام من حق المسلم على المسلم أن يبر قسمه، سواء كان ذكراً أم أنثى، فمن حق المسلم على المسلم إبرار القسم، فهذا حق لكل مسلم على أخيه، سواء كان بين الزوجين أو بين المسلمين على العموم.
فيجب على من أقسم عليه أخوه بيمين أن يبره، فإذا لم يفعل ذلك وهو قادر على أن ينفذه فهو آثم، لكن تجب على الحالف الكفارة.(106/16)
حكم من حلف على أنه لا يستريح قلبه حتى يتحدث مع أحد الشيوخ
السؤال
كنت أنوي التحدث مع أحد الشيوخ، فلم يشأ الله عز وجل في ساعتها، فقلت: والله لن يستريح قلبي حتى أتكلم معه، فماذا أفعل الآن؟
الجواب
أنت لم تقسم على شيء، ولذلك ليس في هذا القسم حنث، أنت قلت: لن يستريح قلبي إلا عندما أتكلم مع هذا الشيخ، فأنا أقول لك: تعال وكلم واحداً من الشيوخ، ولو كنت تريد أن تحدثني بعد المحاضرة فتعال.(106/17)
حكم تصريف الفوائد الربوية
السؤال
وضعت أموالي في البنك، ولما علمت أنها تعطي فوائد ربوية أخذت المال وأخرجت منه المال الأصلي ونزعت الفوائد، فهل يجوز لي أن أتبرع بها في مشروع كفالة اليتيم؟
الجواب
أولاً: جزاك الله خيراً، وأحسن إليك، وسددك حين فعلت ذلك، أما هذا المال لا بد أن تعلم أنه مال خبيث، وبالتالي فإنه لا يحل طعامه ولا شرابه، لا يطعم به ولا يشرب، وإنما ينفق في المصارف العامة، كبناء المستشفيات مثلاً أو المدارس أو إنشاء الطرق أو بناء الحمامات أو غير ذلك؛ أما بناء المساجد وإطعام الفقراء والأيتام به وغير ذلك فلا وألف لا؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أيما جسم نبت من سحت فالنار أولى به).(106/18)
الحكم على حديث: (ولولا حواء لم تخن امرأة زوجها)
السؤال
ما حكم حديث: (ولولا حواء لم تخن امرأة زوجها)؟
الجواب
حديث: (ولولا حواء لم تخن امرأة زوجها) حديث صحيح.(106/19)
شرح صحيح مسلم - كتاب الأيمان والنذور - النهي عن الإصرار على اليمين
من سنن الله عز وجل في خلقه أن جعل بعض عباده لبعض سخرياً، وممن سخره الله لبعض عباده الخدم والموالي، وقد نظم سبحانه العلاقة بين الخادم وسيده، فلم يعط للسيد الحق المطلق في استخدام العبد فيما لا يطيق أو يحسن، كما ندب إلى حسن صحبة الخادم والرفق في معاملته، وحرم ظلمه والإساءة إليه، بل وحصر بعض الكفارات عند الوقوع في بعض المعاصي في إعتاق العبيد، وما ذاك إلا لعظم حقهم وخطورة الإضرار بهم وظلمهم.(107/1)
باب النهي عن الإصرار على اليمين فيما يتأذى به أهل الحالف مما ليس بحرام
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: الباب السادس من كتاب الإيمان في صحيح مسلم: قال النووي رحمه الله: (باب النهي عن الإصرار على اليمين فيما يتأذى به أهل الحالف مما ليس بحرام).
يعني: لو حلف الرجل على أهله يميناً أن يفعل كذا أو ألا يفعل كذا، وكان أهل الحالف يتضررون من هذا اليمين ضرراً جسيماً بليغاً، والحنث في هذا اليمين ليس بمعصية فيجب عليه أن يحنث؛ حتى لا يتضرر أهله بسبب هذا اليمين.
فلو قال رجل لامرأته: والله لا تذهبي إلى بيت أهلك، ولم يقل لها: أنت طالق إن ذهبت، وإنما قال: والله لا تذهبي إلى بيت أهلك فهذا فضلاً عن مخالفته لهدي الشرع والآداب المحمدية يتنافى مع آداب الحياة الزوجية، فنقول له: كفر عن يمينك وائت الذي هو خير، فلو قال: لا، أنا أشعر بالإثم في الحنث، وأتورع عن الحنث، واستمر وأصر على هذا اليمين، فنقول له: السنة في مثل هذا أن تحنث وأن تكفر، وإصرارك على اليمين أعظم إثماً من الحنث، هذا إذا ثبت الإثم، ولا إثم في الحنث ما دمت ستكفر.
فإذا حلف الرجل على أهله يميناً يتضررون به وجب عليه أن يحنث وأن يكفر عن يمينه ما لم يكن الحنث معصية.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها].
وصحيفة همام عن أبي هريرة صحيفة معروفة.
قال: [وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله لأن يلجَّ أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي فرض الله)].
فالنبي عليه الصلاة والسلام يقسم هنا مع أنه صادق بغير قسم، لكن لتوكيد الأمر، قال: (لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله)، واللجاج هو الإصرار، يعني: لئن يصرَّ أحدكم على يمينه الذي حلفه على أهله أن يفعل كذا، أو ألا يفعل كذا.
(آثم له)، يعني: أكثر إثماً وأعظم جرماً له.
(عند الله عز وجل من أن يعطي كفارته التي فرض الله)، يعني: يجب عليه أن يحنث، وأن يكفر عن هذا الحنث، وألا يعبأ بهذا اليمين بعد الكفارة؛ لأن إصراره على اليمين الذي تضرر به أهله وليس معصية لله عز وجل أعظم من الحنث.
قال النووي: (معنى الحديث: أنه إذا حلف يميناً تتعلق بأهله ويتضررون بعدم حنثه، والحنث ليس بمعصية؛ فينبغي له أن يحنث، فيفعل ذلك الشيء ويكفر عن يمينه، فإن قال: لا أحنث، بل أتورع عن ارتكاب الحنث وأخاف الإثم فيه فهو مخطئ بهذا القول، بل استمراره في عدم الحنث وإدامة الضرر على أهله أكثر إثماً).(107/2)
باب نذر الكافر إذا أسلم
قال: (باب نذر الكافر وما يفعل فيه إذا أسلم).
والنذر واجب، فلو أن إنساناً نذر أن يصوم فإن هذا النذر ليس من باب النافلة، وإنما هو صوم واجب، وإذا نذر أن يصلي نافلة كذلك، أي: أن هذه النافلة تصبح واجبة، فلم تعد بالنذر من باب المندوبات والمستحبات، بل من باب الواجبات، فالنذر واجب.
فإذا نذر الكافر -أي: في أيام كفره- ثم أسلم بعد ذلك، فيلزمه أداؤه بعد الإسلام.
قال: [حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ومحمد بن المثنى وزهير بن حرب واللفظ لـ زهير قالوا جميعاً: حدثنا يحيى -وهو ابن سعيد القطان - عن عبيد الله العمري قال: أخبرني نافع عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام).
وأهل الجاهلية كانوا يعظمون المسجد الحرام، فـ عمر في أيام جاهليته وحال كفره كان قد نذر لله تعالى أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام له بعد إسلامه: [(فأوف بنذرك)]، أي: يلزمك الوفاء بنذرك.
ففي هذا الحديث: نذر عمر أن يعتكف ليلة، وقد اختلف أهل العلم فيما يتعلق بشرط الصوم في الاعتكاف، فبعضهم يقول: الصوم شرط في الاعتكاف، والبعض الآخر يقول: ليس بشرط، وهو الذي يترجح من كلام أهل العلم، ودليلهم هذا الحديث، فـ عمر نذر أن يعتكف ليلة، والليل ليس محلاً للصيام، وإنما محل الصيام هو النهار، فكونه قد نذر ليلة أن يعتكف في المسجد الحرام والنبي صلى الله عليه وسلم أمره بالوفاء بهذا النذر يدل على عدم اشتراط الصوم في الاعتكاف.
قال: [وحدثنا أبو سعيد الأشج -وهو عبد الله بن سعيد الكندي الكوفي - حدثنا أبو أسامة -وهو حماد بن أسامة - وحدثنا محمد بن المثنى -وهو العنزي المعروف بـ الزمن - حدثنا عبد الوهاب -وهو ابن عبد المجيد الثقفي - وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن العلاء وإسحاق بن إبراهيم جميعاً عن حفص بن غياث، (ح) وحدثنا محمد بن عمرو بن جبلة بن أبي رواد حدثنا محمد بن جعفر -وهو غندر - حدثنا شعبة كلهم عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر، وقال حفص -أي: حفص بن غياث - من بينهم عن عمر]، أي: ولم يقل: عن ابن عمر فحسب، بل قال: عن ابن عمر عن عمر.
قال: [أما أبو أسامة وعبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي ففي حديثهما (اعتكاف ليلة)، وأما في حديث شعبة فقال: (جعل عليه يوماً يعتكفه)].
والمعروف أن اليوم إذا أطلق فإنه يراد به النهار بخلاف الليل، ولذلك كتب الأذكار كلها دائماً تسمى بأذكار اليوم والليلة، فاليوم ليس أربعاً وعشرين ساعة، وإنما هو من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، والليلة من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، فهناك فرق بين اليوم وبين الليلة، ولكن أهل اللغة يطلقون تجوزاً على الليل يوماً، وإن كان هذا ليس من جهة التقسيم اللغوي.
قال: [وليس في حديث حفص ذكر يوم ولا ليلة].
وكأن عمر رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! إني نذرت أن أعتكف في الجاهلية)، ولم يذكر يوماً ولا ليلة، فقال عليه الصلاة والسلام: (أوف بنذرك).
قال: [وحدثني أبو الطاهر أخبرنا عبد الله بن وهب حدثنا جرير بن حازم أن أيوب -وهو ابن أبي تميمة السختياني البصري - حدثه أن نافعاً -وهو نافع الفقيه مولى عبد الله بن عمر - حدثه أن عبد الله بن عمر حدثه: (أن عمر بن الخطاب سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة بعد أن رجع من الطائف، فقال: يا رسول الله! إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف يوماً في المسجد الحرام، فكيف ترى؟ قال: اذهب فاعتكف يوماً، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطاه جارية من الخمس، فلما أعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا الناس سمع عمر بن الخطاب أصواتهم يقولون: أعتقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال: ما هذا؟ فقالوا: أعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا الناس، فقال عمر: يا عبد الله! اذهب إلى تلك الجارية فخل سبيلها).
وهذا الحديث يبين أن النب(107/3)
اختلاف ألفاظ حديث نذر عمر في الجاهلية
وقد اختلفت ألفاظ هذا الحديث، ففي بعضها أنه سأله في الجعرانة وهو راجع من الطائف، وفي بعضها أنه سأله وهو راجع من حنين، وفي بعضها أنه سأله عن نذر يوم، وفي بعضها أنه سأله عن اعتكاف ليلة.
فكأن عمر رضي الله عنه نذر في الجاهلية مرة أن يعتكف ليلة، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم باعتكاف هذه الليلة، ونذر مرة أخرى في الجاهلية أن يعتكف يوماً، وكان قد نسي هذا لما سأل أولاً عن اعتكاف الليلة، فلما تذكر نذره الثاني في الجاهلية -وهو أنه نذر كذلك أن يعتكف يوماً- سأل النبي عليه الصلاة والسلام فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (أوف بنذرك).
وهذا هو الجمع بين الروايات، وبعض الناس يقول: يطلق على الليل اليوم، فيكون مرد ذلك كله إلى أن عمر نذر أن يعتكف يوماً لا ليلة، وهذا كلام مردود حتى على قول من قال بلزوم الصوم في الاعتكاف؛ لأن الكافر لا يصح منه الصوم، وعمر بن الخطاب لم يكن قبل الإسلام يهودياً ولا نصرانياً من أهل الكتاب، بل كان مشركاً عابد وثن، ولا يصح منه صيام والحالة هذه، ولذلك سأل بعد إسلامه عن حكم هذا النذر، وسواء نذر أن يعتكف ليلة أو يعتكف يوماً؛ لأن كلاهما وقع منه رضي الله عنه.
والنبي عليه الصلاة والسلام أمره بأن يوفي بنذره في الحالين، وليست الحجة في نذر عمر، بل الحجة في قول النبي عليه الصلاة والسلام، ونذر عمر هذا شيء ثانوي؛ ولكن الحجة في أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالوفاء بنذره، فالحجة في أمره عليه الصلاة والسلام، قال: (أوف بنذرك)، والنذر وقع في حالين: في حال الليل وفي حال النهار.
قال: [وحدثنا أحمد بن عبدة الضبي حدثنا حماد بن زيد حدثنا أيوب عن نافع قال: ذكر عند ابن عمر عمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة، فقال: لم يعتمر منها، قال: وكان عمر نذر اعتكاف ليلة في الجاهلية، ثم ذكر نحو حديث جرير بن حازم ومعمر عن أيوب.
وإنكار عبد الله بن عمر هنا لعمرة النبي صلى الله عليه وسلم من الجعرانة إنما هو إنكار متعلق بعلم عبد الله بن عمر، وليس إنكاراً مطلقاً، وهذا الإنكار فيه نفي حدوث العمرة من الجعرانة، وهو نفي لعلم ابن عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام اعتمر من الجعرانة، ولكن قد ثبت في الحديث عند مسلم: أن النبي عليه الصلاة والسلام اعتمر أربع عمر، إحداهن من الجعرانة، والحديث ثابت وصحيح.
وأما ابن عمر فأنكر ما لم يكن في علمه، والإنكار ليس اتهاماً للآخرين، والكذب يطلق أحياناً ويراد به غير الحقيقة، فليس من لازم الكذب تأثيم قائله، كما قال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى لـ ابن عباس: (إن نوف البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى بن عمران، أي: ليس هو موسى النبي، وإنما هو موسى غيره، فقال ابن عباس: كذب عدو الله).
فالكذب يطلق على الكلام الذي خرج على غير حقيقته في الواقع، سواء تعمده صاحبه أم لم يتعمده، هذا تعريف الكذب عند أهل السنة، بخلاف المعتزلة.(107/4)
كلام النووي في أحاديث باب حكم نذر الكافر
قال: (باب نذر الكافر وما يفعل فيه إذا أسلم).
والنذر واجب، فلو أن إنساناً نذر أن يصوم فإن هذا النذر ليس من باب النافلة، وإنما هو صوم واجب، وإذا نذر أن يصلي نافلة كذلك، أي: أن هذه النافلة تصبح واجبة، فلم تعد بالنذر من باب المندوبات والمستحبات، بل من باب الواجبات، فالنذر واجب.
فإذا نذر الكافر -أي: في أيام كفره- ثم أسلم بعد ذلك، فيلزمه أداؤه بعد الإسلام.
قال: [حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ومحمد بن المثنى وزهير بن حرب واللفظ لـ زهير قالوا جميعاً: حدثنا يحيى -وهو ابن سعيد القطان - عن عبيد الله العمري قال: أخبرني نافع عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام).
وأهل الجاهلية كانوا يعظمون المسجد الحرام، فـ عمر في أيام جاهليته وحال كفره كان قد نذر لله تعالى أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام له بعد إسلامه: [(فأوف بنذرك)]، أي: يلزمك الوفاء بنذرك.
ففي هذا الحديث: نذر عمر أن يعتكف ليلة، وقد اختلف أهل العلم فيما يتعلق بشرط الصوم في الاعتكاف، فبعضهم يقول: الصوم شرط في الاعتكاف، والبعض الآخر يقول: ليس بشرط، وهو الذي يترجح من كلام أهل العلم، ودليلهم هذا الحديث، فـ عمر نذر أن يعتكف ليلة، والليل ليس محلاً للصيام، وإنما محل الصيام هو النهار، فكونه قد نذر ليلة أن يعتكف في المسجد الحرام والنبي صلى الله عليه وسلم أمره بالوفاء بهذا النذر يدل على عدم اشتراط الصوم في الاعتكاف.
قال: [وحدثنا أبو سعيد الأشج -وهو عبد الله بن سعيد الكندي الكوفي - حدثنا أبو أسامة -وهو حماد بن أسامة - وحدثنا محمد بن المثنى -وهو العنزي المعروف بـ الزمن - حدثنا عبد الوهاب -وهو ابن عبد المجيد الثقفي - وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن العلاء وإسحاق بن إبراهيم جميعاً عن حفص بن غياث، (ح) وحدثنا محمد بن عمرو بن جبلة بن أبي رواد حدثنا محمد بن جعفر -وهو غندر - حدثنا شعبة كلهم عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر، وقال حفص -أي: حفص بن غياث - من بينهم عن عمر]، أي: ولم يقل: عن ابن عمر فحسب، بل قال: عن ابن عمر عن عمر.
قال: [أما أبو أسامة وعبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي ففي حديثهما (اعتكاف ليلة)، وأما في حديث شعبة فقال: (جعل عليه يوماً يعتكفه)].
والمعروف أن اليوم إذا أطلق فإنه يراد به النهار بخلاف الليل، ولذلك كتب الأذكار كلها دائماً تسمى بأذكار اليوم والليلة، فاليوم ليس أربعاً وعشرين ساعة، وإنما هو من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، والليلة من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، فهناك فرق بين اليوم وبين الليلة، ولكن أهل اللغة يطلقون تجوزاً على الليل يوماً، وإن كان هذا ليس من جهة التقسيم اللغوي.
قال: [وليس في حديث حفص ذكر يوم ولا ليلة].
وكأن عمر رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! إني نذرت أن أعتكف في الجاهلية)، ولم يذكر يوماً ولا ليلة، فقال عليه الصلاة والسلام: (أوف بنذرك).
قال: [وحدثني أبو الطاهر أخبرنا عبد الله بن وهب حدثنا جرير بن حازم أن أيوب -وهو ابن أبي تميمة السختياني البصري - حدثه أن نافعاً -وهو نافع الفقيه مولى عبد الله بن عمر - حدثه أن عبد الله بن عمر حدثه: (أن عمر بن الخطاب سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة بعد أن رجع من الطائف، فقال: يا رسول الله! إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف يوماً في المسجد الحرام، فكيف ترى؟ قال: اذهب فاعتكف يوماً، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطاه جارية من الخمس، فلما أعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا الناس سمع عمر بن الخطاب أصواتهم يقولون: أعتقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال: ما هذا؟ فقالوا: أعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا الناس، فقال عمر: يا عبد الله! اذهب إلى تلك الجارية فخل سبيلها).
وهذا الحديث يبين أن النب(107/5)
حكم نذر الكافر
قال النووي رحمه الله: (اختلف العلماء في صحة نذر الكافر، فقال مالك وأبو حنيفة وسائر الكوفيين وجمهور أصحابنا -أي: من الشافعية-: لا يصح من الكافر نذر.
وقال المغيرة المخزومي وأبو ثور والبخاري وابن جرير وبعض أصحابنا: يصح، وحجتهم ظاهر حديث عمر.
وأجاب الأولون عنه: أنه محمول على الاستحباب، أي: يستحب لك أن تفعل الآن مثل ذلك الذي نذرته في الجاهلية).
فالجمهور على أن نذر الكافر لا يصح، وغير الجمهور على صحته، ودليلهم هذا الحديث، ولو كان نذر الكافر لا يصح منه وليس بمعتبر لقال عليه الصلاة والسلام لـ عمر: لا بأس عليك، أو لا حرج عليك، أو لا تفعل، فلما قال له: (أوف بنذرك) دل على اعتبار نذره الذي نذره في الجاهلية، وهذا فيه دليل على أن النذر واجب في حقه، وأما أنه مندوب ومستحب كما قال بعض أهل العلم فهذا كلام غير سديد.(107/6)
حكم الاعتكاف بغير صوم
قال: (وفي هذا الحديث دلالة لمذهب الشافعي وموافقيه في صحة الاعتكاف بغير صوم، وفي صحته بالليل كما يصح بالنهار، وسواء كانت ليلة واحدة أو بعضها أو أكثر، ودليله حديث عمر هذا: (إني نذرت أن أعتكف ليلة)، وليست محلاً للصيام.
وأما الرواية التي فيها اعتكاف يوم فلا تخالف رواية اعتكاف ليلة؛ لأنه يحتمل أنه سأله عن اعتكاف ليلة وسأله عن اعتكاف يوماً)، يعني: حدث منه هذا وذاك.
قال: (فأمره بالوفاء بما نذر، فحصل منه صحة اعتكاف ليلة واحدة لما أمره باعتكاف الليل، ثم أمره باعتكاف النهار حسبما وجه إليه من سؤال، فهذا يدل على صحة الاعتكاف في الليل كما يصح الاعتكاف في النهار.
وفي رواية عند الدارقطني بإسناد جيد لما نذر عمر أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: (أوف بنذرك، فاعتكف عمر ليلة).
فهذا صريح في أن الاعتكاف قد تم بالفعل، (فاعتكف عمر ليلة)، وهذا مذهب الشافعي، وبه قال الحسن البصري وأبو ثور وداود وابن المنذر، وهو أصح الروايتين عن أحمد.
قال ابن المنذر: وهو مروي عن علي وابن مسعود، وقال ابن عمر وابن عباس وعائشة وعروة بن الزبير والزهري ومالك والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق في رواية: لا يصح إلا بصوم، وهو قول أكثر العلماء).
وهذا القول ليس قولاً سديداً ولا صحيحاً، وإنما الصحيح صحة الاعتكاف من غير صوم، وأنت تعمل هذا في الحياة العملية، ففي رمضان عندما تريد الاعتكاف تذهب إلى عملك صباحاً وترجع عصراً إلى معتكفك ثم تخرج منه في الفجر.
ففي الحقيقة أنت لم تعتكف صائماً، وإنما اعتكفت مفطراً في الليل، وكثير من الناس يدخل المعتكف بعد أن يفطر في بيته ويذهب إلى المسجد لصلاة العشاء، وينوي الاعتكاف إلى الصلاة، وهذا على رأي ضعيف.(107/7)
باب صحبة المماليك وكفارة من لطم عبده
قال: (صحبة المماليك وكفارة من لطم عبده).
ولفظ صحبة المماليك لفظ لطيف جداً، فكأن السيد صاحب لعبده، وكأن العبد صاحب لسيده، وليس خادماً ولا مولى ولا عبداً ولا رقيقاً عنده، فهذه الكلمة مشعرة بالود والتراحم بين المسلمين حتى مع اختلاف درجاتهم وطبقاتهم.(107/8)
شرح حديث ابن عمر في كفارة من لطم عبده
قال: [حدثني أبو كامل فضيل بن حسين الجحدري حدثنا أبو عوانة -وهو الوضاح بن عبد الله اليشكري - عن فراس -وهو ابن يحيى الهمداني أبو يحيى الكوفي المعروف بـ المُكتب - عن ذكوان أبي صالح السمان عن زاذان أبي عمر -وهو الكندي البزاز، نسبة إلى البز وهي الثياب، وقيل: هو متاع البيت الخاص بالثياب، والبزاز هو بائع أو صانع الثياب- قال: (أتيت ابن عمر وقد أعتق مملوكاً، قال: فأخذ من الأرض عوداً أو شيئاً، فقال: ما فيه من الأجر ما يسوى هذا)].
والأصح: ما يساوي هذا، وأما (ما يسوى) فهو من الألفاظ العامية، ولعل هذا من تصرف بعض الرواة.
قال ابن عمر [: (إلا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه)].
والعلماء يفرقون في ضرب المماليك أو في ضرب الخدم -والخدم هم الإماء الرقيق- بين الضرب المبرح والضرب الخفيف، وقال الدارقطني: إذا كان ضرباً مبرحاً فإنما كفارته العتق، وإذا كان ضرباً خفيفاً لا يتأذى به المملوك فليس على سيده شيء.
وعبد الله بن عمر لما أعتق هذا المملوك أخذ عوداً من الأرض وظل ينكت به في الأرض وهو يقول: (ما في عتق هذا المملوك من الأجر ما يسوى هذا)، يعني: كأنه يقول: ليس لي في عتق هذا المملوك أجر إلا أجراً ضئيلاً جداً؛ لأنني ما أعتقته احتساباً لله عز وجل، وإنما أعتقته كفارة، أي: أنه لم يكن منه العتق الأولي بغير كفارة.
قال: [وحدثنا محمد بن المثنى وابن بشار واللفظ لـ ابن المثنى قالا: حدثنا محمد بن جعفر -وهو المعروف بـ غندر - حدثنا شعبة عن فراس الهمداني قال: سمعت ذكوان يحدث عن زاذان: (أن ابن عمر دعا بغلام له، فرأى بظهره أثراً -أي: أثر الضرب الذي ضربه إياه ابن عمر - فقال له: أوجعتك؟ قال: لا، قال: فأنت عتيق)].
وقول العبد لما قال له سيده عبد الله بن عمر: أوجعتك؟ قال: لا، يدل على أن هذا الضرب غير مبرح، وعلى هذا يكون أعتقه ابن عمر استحباباً وخروجاً من الخلاف، وربما يكون جواب العبد بقوله: لا، أو: ما أوجعتني على سبيل التأدب مع سيده، مع أنه قد أوجعه، فأراد ابن عمر رضي الله عنه أن يخرج من ذنبه مخافة أن يكون دفعه الحياء إلى عدم ذكر ألمه ووجعه، فقال: فأنت عتيق، أي: أنت حر لوجه الله.
[(قال: ثم أخذ شيئاً من الأرض فقال: ما لي فيه من الأجر ما يزن هذا، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من ضرب غلاماً له حداً لم يأته، أو لطمه فإن كفارته أن يعتقه)].
(من ضرب غلاماً له حداً)، أي: قدر ما يساوي حداً، ولا حد في أقل من عشرة أسواط، فمهما فعل المرء من ذنب، فإنه يحرم على المؤدب أو المعلم أو السلطان أو السيد أن يضربه تعزيراً فوق عشرة أسواط، إذا لم يكن هذا الذنب كبيرة من كبائر الذنوب، ويستحق إقامة الحد عليه، وأقل الحد عشرة أسواط.
وهذا يدخل فيه المعلم والمدرس والكبير والزوج والأب، وننبه جميع المسئولين ومن كان تحت أيديهم رعايا أنه إذا أخطئوا فإنما يعزرون ما لم يبلغ خطؤهم إلى درجة الحد، ولا إقامة للحد في هذه الأزمان -ولا حول ولا قوة إلا بالله- فلم يبق لنا إلا التعزير، والتعزير أقصاه عشرة أسواط، وليس بلازم أن تأتي بأقصى عقوبة في التعزير، والتعزير منه التوبيخ والوعظ والزجر واللوم والهجر، ويكون الضرب في نهاية الأمر، ويكون ضرباً غير مبرح.
وليس لازماً أن يبلغ الضرب في التعزير أقصاه، بل ربما يكفي ضربه ضربة واحدة أو اثنتين أو ثلاثاً، وقد يضرب الواحد منا ولده فوق هذا الحد، أي: العشرة الأسواط، وربما يضرب المعلم التلميذ فوق العشرة الأسواط، وربما يضرب السيد عبده فوق العشرة الأسواط، فإذا كان ذلك بغير بلوى قد وقع فيها العبد فيكون هذا السيد قد حده في غير ما يستوجب الحد، فكفارته أن يعتق، وكذلك إذا لطمه على وجهه، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (إذا ضرب السيد عبده حداً لم يأته، أو لطمه)، والمعروف أن اللطمة لطمة واحدة، وتكون على صفحة الوجه أو ما غطى من الوجه، فانظر إلى هذا الفقه العجيب، فإن ضربه فوق العشرة أسواط، أو لطمه على وجهه لطمة واحدة ففي الحالتين الكفارة إعتاق هذا العبد؛ لأن الوجه له حرمة تختلف عن حرمة بقية البدن، ولما لطم معاوية بن الحكم السلمي جارية له ذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (يا رسول الله! إني لطمت جاريتي)، ولا يقال للضرب لطم إلا إذا كان في الوجه.
(قال: أين هي؟ قال: هي ذي، فأدناها النبي عليه الصلاة و(107/9)
شرح حديث معاوية بن سويد في كفارة من لطم عبده
قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن نمير، وحدثنا ابن نمير واللفظ له حدثنا أبي حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل -وهو الحضرمي أبو يحيى الكوفي - عن معاوية بن سويد -وهو ابن مقرن أبو سويد الكوفي - قال: (لطمت مولى لنا فهربت، ثم جئت قبيل الظهر فصليت خلف أبي، فدعاه ودعاني -أي: دعا ولده الذي لطم، ودعا الملطوم وهو المولى أو العبد- ثم قال: امتثل منه -أي: قال للعبد: اقتص من هذا الولد- فعفا)]، أي: استعفى، وطلب أن يعافيه سيده من القصاص، أو فعفا عن الولد.
[(ثم قال: كنا بني مقرن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لنا إلا خادم واحدة)].
والأصل أن يقول: خادم واحد، ولكن الخادم يطلق على الذكر والأنثى، فيقال: رجل خادم وامرأة خادم، ولا يقال: امرأة خادمة، فهذه ليست فصيحة، وإنما الفصيح: (امرأة خادم).
قال: [(فلطمها أحدنا، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أعتقوها، قالوا: ليس لهم خادم غيرها، قال: فليستخدموها، فإذا استغنوا عنها فليخلوا سبيلها)]، يعني: أنه أمرهم أن يعتقوها، فلما قالوا: ليس لهم خادم غيرها، قال: (فليستخدموها، فإذا استغنوا عنها فليعتقوها أو ليخلوا سبيله).
وقوله: (امتثل منه) معناه: عاقبه قصاصاً، وقيل: افعل به مثل ما فعل بك، وهذا محمول على تطييب نفس المولى المملوك، وإلا فلا يجب القصاص في اللطمة ونحوها، وإنما الواجب التعزير، ولكنه تبرع فأمكنه من القصاص فيها.
وفي هذا الحديث: الرفق بالموالي واستعمال التواضع.(107/10)
حديث سويد بن مقرن في كفارة من لطم عبده
قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير واللفظ لـ أبي بكر قالا: حدثنا ابن إدريس -وهو عبد الله بن إدريس بن يزيد الأودي، أبو محمد الكوفي - عن حصين -وهو ابن عبد الرحمن السلمي أبو الهذيل الكوفي - عن هلال بن يساف قال: (عجل شيخ فلطم خادماً له -يعني: تعجل وأسرع ولطم خادماً له- فقال له سويد بن مقرن: عجز عليك إلا حر وجهها؟ -يعني: لم تلق إلا صفحة وجهها- لقد رأيتني سابع سبعة من بني مقرن ما لنا خادم إلا واحدة لطمها أصغرنا؛ فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نعتقها)].
والأصل أنه لا يعتق منها إلا حظ اللطمة، أو إلا حظ من لطمها.
والعبد مال تجوز فيه الشراكة، يعني: يجوز أن يشترك اثنان وثلاثة وأربعة وعشرة ومائة في عبد واحد، فإذا لطم سيد واحد من هؤلاء عبداً فالأصل أن يعتق نصيبه فيه، فيكون بعض العبد حراً، والبعض الآخر رقاً، وهذا أمر جائز.
ولكن النبي عليه الصلاة والسلام أمرهم جميعاً بالعتق، وهذا محمول على أن النبي عليه الصلاة والسلام عرف أنهم على استعداد لأن يعتقوا العبد، فأمرهم جميعاً بإعتاق العبد.
قال: [حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن حصين عن هلال بن يساف قال: (كنا نبيع البز في دار سويد بن مقرن أخي النعمان بن مقرن، فخرجت جارية فقالت لرجل منا كلمة فلطمها، فغضب سويد)، فذكر نحو حديث عبد الله بن إدريس.
وحدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد حدثنا أبي حدثنا شعبة قال: قال لي محمد بن المنكدر: ما اسمك؟ قلت: شعبة فقال محمد: حدثني أبو شعبة العراقي -وهو المزني مولاهم الكوفي، معروف بكنيته- عن سويد بن مقرن: (أن جارية له لطمها إنسان، فقال له سويد: أما علمت أن الصورة محرمة؟ فقال: لقد رأيتني وإني لسابع إخوة لي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لنا خادم غير واحد، فعمد أحدنا فلطمه فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نعتقه).
وحدثناه إسحاق بن إبراهيم -وهو المعروف بـ ابن راهويه - ومحمد بن المثنى عن وهب بن جرير أخبرنا شعبة قال: قال لي محمد بن المنكدر: ما اسمك؟ فذكر الحديث بمثل حديث عبد الصمد].(107/11)
شرح حديث أبي مسعود الأنصاري في كفارة من ضرب عبده
قال: [حدثنا أبو كامل الجحدري -وهو فضيل بن حسين - حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا الأعمش عن إبراهيم التيمي - وهو إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي الكوفي.
عن أبيه قال: قال أبو مسعود البدري]، وهو عقبة بن عمرو الأنصاري، ويقال له: بدري، والغالب أنه لم يشهد بدراً، وإنما كان يسكن مكاناً اسمه بدر فنسب إليه، وهو ليس ممن شهد بدراً.
قال أبو مسعود: [(كنت أضرب غلاماً لي بالسوط، فسمعت صوتاً من خلفي: اعلم أبا مسعود! فلم أفهم الصوت من الغضب، قال: فلما دنا مني إذ هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يقول: اعلم أبا مسعود! اعلم أبا مسعود!)] وهذا التكرار فيه تهديد ووعيد شديد.
[(قال: فألقيت السوط من يدي)، وفي رواية: (فسقط السوط من يدي).
(فقال: اعلم أبا مسعود! أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام)] وهذا تهديد ووعيد شديد.
والنبي عليه الصلاة والسلام رأى رجلاً يضرب دابة فقال: (من لم يَرحم لا يُرحم)، وفي رواية: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) وهذه دابة، فكيف بالغلام الذي هو إنسان كما أنك إنسان؟ [(قال: فقلت: لا أضرب مملوكاً بعده أبداً)]، لأنه استشعر أن قدرة الله تعالى عليه أعظم من قدرته على ذلك العبد.
قال: [وحدثناه إسحاق بن إبراهيم أخبرنا جرير، (ح) وحدثني زهير بن حرب حدثنا محمد بن حميد المعمري]، والمعمري نسبة لملازمته لـ معمر بن راشد البصري قال: [عن سفيان، (ح) وحدثني محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق أخبرنا سفيان، (ح) وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عفان حدثنا أبو عوانة كلهم عن الأعمش بإسناد عبد الواحد نحو حديثه، غير أن في حديث جرير: (فسقط من يدي السوط من هيبته)]، أي: من هيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: [وحدثنا أبو كريب محمد بن العلاء حدثنا أبو معاوية -وهو محمد بن خازم الضرير - حدثنا الأعمش -وهو سليمان بن مهران الكوفي - عن إبراهيم التيمي -وهو إبراهيم بن يزيد بن شريك الكوفي التيمي - عن أبيه عن أبي مسعود الأنصاري قال: (كنت أضرب غلاماً لي فسمعت من خلفي صوتاً: اعلم أبا مسعود! لله أقدر عليك منك عليه، فالتفت فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! هو حر لوجه الله؛ فقال: أما لو لم تفعل للفحتك النار، أو لمستك النار)]، أي: للفحتك النار يوم القيامة، حيث يقتص الله عز وجل لهذا العبد أو لهذا المملوك منك بالعذاب في النار.
قال: [وحدثنا محمد بن المثنى وابن بشار واللفظ لـ ابن المثنى قالا: حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن سليمان].
وإذا روى شعبة عن سليمان؛ فاعلم أنه سليمان بن مهران الأعمش.
قال: [عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي مسعود: (أنه كان يضرب غلامه، فجعل يقول: أعوذ بالله! فجعل يضربه).
ويبدو أن الغضب كان قد تسلط عليه جداً، حتى أنه لم يسمع استعاذة العبد بالله أول مرة، وقد يغضب الشخص غضباً شديداً فيضرب امرأته أو ولده فيستعيذ بالله ويستجير به وهو لا يكف عنه، وليس هذا من باب عدم تعظيم الله عز وجل وإجلاله، ولكن ثورة الغضب قد تطغى على عقله، فيندفع يضرب ولده ليس تهاوناً بأمر الله تعالى واستخفافاً بهذه الاستعاذة، وإنما فرط الغضب أدى به إلى ذلك، مع إجلاله وتعظيمه لله عز وجل.
قال: [(فقال الغلام: أعوذ برسول الله! فتركه)].
والذي يعظم رسول الله فمن باب أولى لابد أن يعظم الله عز وجل، وإذا كان العبد لا يعظم الله فتعظيمه لرسول الله لا ينفعه، وربما استعاذ هذا الغلام برسول الله بعد أن هدأت ثورة سيده شيئاً ما فأدرك استعاذة المضروب أو المملوك.
قال: [(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لله أقدر عليك منك عليه، قال: فأعتقه)]، أي: أبو مسعود.
قال: [وحدثنيه بشر بن خالد أخبرنا محمد بن جعفر عن شعبة بهذا الإسناد، ولم يذكر قوله: (أعوذ بالله)، أو قوله: (أعوذ برسول ال(107/12)
فوائد من أحاديث باب صحبة المماليك وكفارة من لطم عبده
قال العلماء في أحاديث هذا الباب: فيها الرفق بالمماليك، وحسن صحبتهم، وكف الأذى عنهم، كما أجمع المسلمون على أن عتقه بهذا ليس واجباً، وإنما هو مندوب رجاء كفارة ذنبه، فعتق العبد لأجل اللطمة مندوب وليس واجباً، وهذا إجماع.
وهذه الأحاديث فيها إزالة إثم ظلمه، ومما استدلوا به لعدم وجوب إعتاقه: حديث سويد بن مقرن بعده؛ لأن الأمر للوجوب في قوله: (فأمره أن يعتقه).
والأمر للوجوب إلا أن يصرفه صارف، وهذا الصارف في حديث سويد بن مقرن أنه لما اعتذر عن إعتاق العبد لأنهم ليس لهم خادم إلا هو قال عليه الصلاة والسلام: (فليستخدموها، فإذا استغنوا عنها فليخلوا سبيلها).
ولو كان أمراً واجباً حتماً حالاً لما قبل النبي صلى الله عليه وسلم معذرة هؤلاء.
وأجمع العلماء أنه لا يجب إعتاق العبد بشيء فعله مولاه به.
قال: (واختلفوا فيما كثر من ذلك وكان شنيعاً من ضرب مبرح منهك لغير موجب لذلك، أو حرقه بالنار، أو قطع عضواً له، أو أفسده، أو نحو ذلك مما فيه مثلة -أي: تشويه لبدنه- فذهب مالك وأصحابه والليث إلى عتق العبد على سيده بهذا)، أي: بهذا الضرب أو المثلة، وقال بعض أهل العلم: للعبد على سيده العتق، ويكون ولاؤه له، ويعاقبه السلطان على فعله.
وقال جمهور العلماء: لا يعتق عليه، أي: لا يجب عليه، حتى وإن ضربه ضرباً مبرحاً لا يعتقه، أي: ليس ذلك على سبيل الوجوب وإنما هو على سبيل الندب والاستحباب.
واختلف أصحاب مالك فيما لو حلق رأس الأمة، أو لحية العبد، واحتج مالك بحديث ابن عمرو بن العاص في الذي جب عبده فأعتقه النبي صلى الله عليه وسلم، أي: قطع ذكره، فأمره النبي عليه الصلاة والسلام بإعتاقه.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (من ضرب غلاماً له حداً لم يأته أو لطمه فإن كفارته أن يعتقه)، فهذه الرواية مبينة أن المراد ضربه بلا ذنب، وليس على سبيل التعليم والتأديب.(107/13)
التغليظ على من قذف مملوكه بالزنا
قال: (باب: التغليظ على من قذف مملوكه بالزنا)، يعني: اتهمه بهذه التهمة دون أن يأتيها العبد.
قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا ابن نمير -وهو عبد الله - (ح) وحدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا أبي حدثنا فضيل بن غزوان قال: سمعت عبد الرحمن بن أبي نعم حدثني أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: (من قذف مملوكه بالزنا يقام عليه الحد يوم القيامة، إلا أن يكون كما قال)]، أي: يقام عليه الحد يوم القيامة، إلا أن يكون هذا العبد قد زنى بالفعل، واتهام السيد له اتهام صحيح، وقد تحقق منه.
قال: [وحدثناه أبو كريب حدثنا وكيع، (ح) وحدثني زهير بن حرب حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق كلاهما عن فضيل بن غزوان بهذا الإسناد، وفي حديثهما: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم نبي التوبة يقول: (من قذف مملوكه بالزنا يقام عليه الحد يوم القيامة، إلا أن يكون كما قال)].
وهذا الحديث فيه إشارة إلى أنه لا حد على قاذف العبد في الدنيا.(107/14)
فروق الأحكام بين العبد والحر
والعبد يفترق عن الحر فيما يتعلق ببعض الأحكام، لا بأصل الأفضلية، فإنه لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود، ولا لحر على عبد، ولا لعبد على حر إلا بالتقوى، وهذا في يوم القيامة، وأما في الدنيا فإنهما يختلفان في بعض الأحكام، فلو أن حراً اتهم حراً بالزنا بغير بينة ولا شهادة فإنه يجلد حد القذف؛ لأنه اتهم عرض الآخرين بغير بينة، بل لو رأى ثلاثة نفر رجلاً يزني بامرأة ورأوا الإيلاج، فلا يحل لهؤلاء الثلاثة أن يقولوا: فلان زان، أو زنا بفلانة، إلا أن يكونوا أربعة؛ لأن هذا من شرط الشهادة في الزنا، فلو قام هؤلاء الثلاثة وشهدوا عند الحاكم أو القاضي بأن فلاناً زنى بفلانة فإنه يجب على القاضي أن يقيم عليهم حد القذف؛ لعدم اكتمال عدد شهود الزنا، ولو حلفوا مع هذه الشهادة أيماناً مغلظة فإن ذلك لا يصلح ولا ينفعهم، بل لابد من بلوغ الأربعة.
وأما لو اتهم سيد عبده بالزنا فإنه يقام عليه الحد لكن في يوم القيامة، وأما في الدنيا فلا، وهذا مجمع عليه، ولكن يعزر قاذفه، يعني: يعزر السيد، ولا يقام عليه الحد إلا في الآخرة.
والتعزير باب واسع ومتروك لاجتهاد السلطان، بخلاف الحد فإنه لا اجتهاد للحاكم أو السلطان فيه.
وإذا بلغه ما يستوجب الحد فليس حراً بأن يقيمه أو لا يقيمه، بل لابد من إقامته؛ لأن هذا حق الله عز وجل، وإذا تاب العبد بينه وبين ربه قبل أن يبلغ الحد إلى السلطان فإنه لا يلزمه إقامة الحد، كما أنه لا يلزم العبد كذلك أن يبلغ أمره إلى السلطان؛ لأنه تكفيه التوبة بينه وبين الله عز وجل.
قال: فيه إشارة إلى أنه لا حد على قاذف العبد في الدنيا، وهذا مجمع عليه، ولكن يعزر قاذفه؛ لأن العبد ليس بمحصن، وسواء في هذا كله من هو كامل الرق وليس فيه سبب حرية، وكذلك المدبر.(107/15)
من أحكام المدبر
والمدبر هو: العبد الذي أعتقه سيده بشرط أن يكون ذلك بعد موته، فهذا العبد يطلق عليه: مدبر، أي: أنه حر في دُبر حياة سيده، وهذا مثل أن يقول شخص: لو مت فداري موقوفة على الأيتام، فما دام حياً فداره ملك له، فكذلك لو قال: عبدي حر إذا أنا مت، أو بعد مماتي عبدي حر، فهذا العبد لا يورث إذا مات سيده؛ لأنه مدبر، يعني: أخذ الحرية في دبر حياة سيده.(107/16)
من أحكام المكاتب
والمكاتب عنده سبب للحرية، ولكنه ليس حراً تماماً، فالمكاتب عبد، ولكنه كاتب سيده على أن يطلقه ليعمل ويتكسب؛ ليؤدي لسيده المال المتفق على إعتاقه، فلو كان لشخص عبد فقال له: تعال أكاتبك على أن تدفع لي ألف دينار كل يوم كذا، أو كل أسبوع كذا، أو كل شهر كذا لمدة كذا، فليس له الحرية في التصرف فيه باعتبار نفسه سيداً وباعتبار المكاتب عبداً؛ لأنه بهذه المكاتبة قد أطلق سراحه للعمل والتكسب؛ ليقضي له المال الذي اكتتبا عليه في مقابل حريته وعتقه، هذا هو المكاتب.
فالمكاتب ليس حراً تماماً وليس عبداً تماماً، بل هو في مدة المكاتبة حر أو شبه حر، وذلك من أجل أن يتكسب؛ لأن الأصل أن العبد وما يملك ملك لسيده، إلا أن يكون مكاتباً فماله ملكه، يقضي منه عن نفسه لسيده حتى يعتق في نهاية المدة المتفق عليها.(107/17)
من أحكام أم الولد
وأم الولد، وهي امرأة رقيق عند سيدها، ولكن سيدها استعملها حتى أنجب منها ولداً، فالأم أخذت الحرية من حرية ولدها، فهناك فرق بين الأمة وأم الولد، فأم الولد كانت في أصلها أمة ليست زوجة، ولكنها أمة، والأمة هي ملك اليمين، وليست حرة، وأما الزوجة فهي حرة، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:5 - 6].
فملك اليمين هي المملوكة، ولسيدها أن يأتيها أو لا يأتيها، فإن أتاها وأنجب منها فتنتقل بسبب حرية ولدها -لأن الولد هو السبب في عتقها- من أمة إلى أم ولد، ولا تكون حرة تماماً، ولكنها بين الحرية وبين الرق، فهي أم ولد.
قال: ومن بعضه حر، أي: ومن بعضه حر وبعضه عبد.
هذا في حكم الدنيا، وأما في حكم الآخرة فيستوفى له الحد من قاذفه؛ لاستواء الأحرار والعبيد في الآخرة.(107/18)
معنى أن النبي صلى الله عليه وسلم نبي التوبة
وقوله: (سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم نبي التوبة)، سمي بذلك لأنه بعث صلى الله عليه وسلم بقبول التوبة بالقول والاعتقاد، وكانت توبة من قبلنا بقتل أنفسهم، وكانت علامة توبة اليهود أن يقوموا على أنفسهم بالتقتيل، ولذلك أورد ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره: أن توبة بني إسرائيل كانت بالقتل، حتى اجتمع سبعون ألفاً منهم في ليلة مظلمة فقاموا على أنفسهم قتلاً حتى قبل الله تعالى توبتهم، وتخيل هذا الشيء.
فرحم الله عز وجل هذه الأمة وجعل نبيها نبي التوبة ونبي الرحمة.
قال: ويحتمل أن يكون المراد بالتوبة الإيمان والرجوع عن الكفر إلى الإسلام؛ لأن أصل التوبة الرجوع.
نكتفي بهذا القدر، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(107/19)
الأسئلة(107/20)
الوقت المعتبر للاستثناء في اليمين
السؤال
هل يكون الاستثناء قبل أو وقت أو بعد اليمين، أرجو التوضيح من فضيلتكم؟
الجواب
الاستثناء في اليمين محل خلاف على هذه الأقوال الثلاثة المذكورة في السؤال، والراجح الاستثناء قبل اليمين أو في أثناء اليمين، أما بعد اليمين بوقت طويل فإن هذا لا يصح.(107/21)
حكم الصدقة الجارية عن الميت
السؤال
هل يجوز أن أعمل صدقة جارية لشخص قد مات من مالي أنا، وهل يكون لي من الأجر شيء؟
الجواب
هذا بإذن الله تعالى صدقة جارية لمن فعله تنفعه وتنفع الميت على كل حال.
والله أعلم.(107/22)
حكم قراءة التشهد كاملاً في التشهد الأوسط
السؤال
ما حكم قراءة التشهد الذي بعد الركعتين كاملاً في الصلاة الرباعية والثلاثية؟
الجواب
أعتقد أن قراءة التشهد إلى قولك: إنك حميد مجيد، في التشهد الأول والثاني سواء، وهذا مذهب الشافعية والظاهرية، وهو الذي يترجح لدي لقوته، وأما من فرق بين التشهد الأول والثاني في الصلاة غير الثنائية وقال: إن التشهد إلى منتصفه في التشهد الأول، وفي الثاني إلى قوله: إنك حميد مجيد فتقسيمه هذا ليس عليه دليل، والتشهد كله مذكور في حديث ابن عباس وابن مسعود وغيرهما وفي نهايته: (أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله).
ثم علمهم النبي عليه الصلاة والسلام الصلاة والسلام عليه لما نزل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وسألوه: (يا رسول الله! السلام عليك قد عرفناه، فكيف نصلي عليك؟ قال: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم) إلى آخر هذه الصلاة المعروفة المحفوظة، كما أمرهم صلى الله عليه وسلم بجعلها في الصلاة، فانضمت إلى ما كان أولاً.
فأما من ضمها في التشهد الأخير وأسقطها في التشهد الأول فيحتاج إلى حجة وبرهان، ولا برهان ولا حجة على هذا التقسيم.
فالذي يترجح لي من قول أهل العلم: أن التشهد يقال كاملاً في التشهد الأول والثاني إلى قولك: إنك حميد مجيد، ويزاد في التشهد الثاني الدعاء.
والله تعالى أعلم.
وهذا نفس قراءة الفاتحة إذا كنت تعتقد أن الفاتحة واجبة القراءة خلف الإمام، فإذا صليت خلف إمام أسرع في القراءة، أو أدركت الإمام في الركوع فإن الوجوب يسقط عنك لفوات المحل، وكذلك لو صليت خلف إمام يعجل بقراءة التشهد، أو يقرأ نصفه ويقوم فلا حرج عليك إذا قرأت من التشهد القدر الذي يسمح به الجلوس ومتابعة الإمام بعد ذلك في القيام إلى الثالثة، فلا حرج عليك حينئذ لفوات محل الوجوب كذلك.
وأما إذا صليت أنت بالناس فإنما يلزمك أن تعبد الله تعالى بما يترجح لديك.(107/23)
حكم ضرب الزوجة وأهمية التربية
السؤال
هل يجوز للزوج ضرب وجه الزوجة مداعباً؟ وإذا ضرب وجه زوجته جاداً فهل هناك كفارة لذلك، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
هذا إثم عظيم يحتاج للتوبة، وإلى طلب المسامحة من المضروب، وأما الضرب للتأديب والتعليم في غير الوجه فإنه يجوز في كل حال.
وأوصي نفسي كما أوصي الجميع بالرفق بالنساء إلا فيما يتعلق بتأديبهن وتعليمهن، وهذا الأمر جاد وخطير، وهو يؤدي إلى التفلت، وليس من التعليم ولا التأديب.
فلا يصح للرجل الذي رفع شعار التوحيد وشعار الالتزام أن يضرب في الوجه؛ لأن الأمر خطير جداً، وأشرف مكان في البدن الوجه.
والحالات التي يتربى عليها المرء لها تأثير في شخصيته كثيراً، فإذا تربى الولد أو الغلام أو الطفل الصغير على الرقة والكرامة والسيادة ولم يؤذ في ضرب ولا إيذاء ولا شتم فإنه يكبر بهذه الأخلاق، ولا يجرؤ أحد قط أن يضربه أو يشتمه فضلاً أن يلطمه، ولذلك لو صار سيداً في مكان من الأمكنة أو في محل الرياسة والحكم أو غير ذلك فإنه لا يقبل بإيذاء الغير، وأما إذا تربى التربية الخطأ، مثل اللطم في الوجه أو غير ذلك، فسيكبر بهذه الأخلاق ويكون ضعيف الشخصية، ويذم عليه ذلك.
فالطريقة التي يتربى بها الطفل تؤثر فيه كثيراً جداً، وهذا يدل على أهمية التربية.(107/24)
حكم شهادة الفاسق
السؤال
ما حكم شهادة الفاسق؟
الجواب
الجمهور على عدم جوازها، بخلاف الأحناف فإنهم قالوا بصحة هذه الشهادة، والراجح اشتراط العدالة، أما وقد عمت البلوى فإن شهادة الفاسق الآن معمول بها في القضاء كله، وأما من جهة الفقه فالمسألة فيها نظر.(107/25)
حكم من مات وعليه صوم من رمضان
السؤال
توفيت أختي في شهر رمضان وكانت مريضة ولم تستطع الصوم في شهر رمضان بأكمله، فما هي الفدية على ذلك؟
الجواب
هذه المريضة التي ماتت -يرحمها الله عز وجل- ينظر كم صامت في هذا الشهر وكم بقيت فيه، لأن السائلة تقول: ماتت في رمضان، فإذا كانت ماتت مثلاً في يوم عشرين وقد صامت عشرة أيام وبقي عليها عشرة، فهذه السائلة -وهي أختها الحية- بالخيار، فإما أن تصوم عنها هذه الأيام العشرة أو تطعم عنها في كل يوم مسكيناً.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(107/26)
شرح صحيح مسلم - كتاب الأيمان والنذور - إطعام المملوك مما يأكل، وإلباسه مما يلبس، ولا يكلفه ما يغلبه
لقد جاءت الشريعة الإسلامية بالإحسان إلى العبد المملوك والرفق به، ومراعاة حاله، وعظمت أجر المملوك القائم بحقوق الله وحق سيده، وجعلت له أجرين على ذلك.(108/1)
باب إطعام المملوك مما يأكل، وإلباسه مما يلبس، ولا يكلفه ما يغلبه(108/2)
شرح حديث أبي ذر في كيفية معاملة المملوك في المأكل والملبس وعدم تكليفه ما لا يطيق
قال المصنف رحمه الله: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع -وهو ابن الجراح الرؤاسي - حدثنا الأعمش عن المعرور بن سويد قال: (مررنا بـ أبي ذر بالربذة -وهي اسم مكان- وعليه برد وعلى غلامه مثله)]، والبرد هو الثوب الواحد، بخلاف الحلة فهي ثوبان، وأثمن وأنفس ثياب العرب الحلل، بخلاف البرد فإنها من عامة لباس العرب.
وفي الأثر أن ابن عباس سأل عكرمة مولاه عن معنى آية فلم يعرفها، فربطه في سارية المسجد ثلاثة أيام حتى أتى بالمعنى على وجهه، قال عكرمة: فحلني ابن عباس وأهداني حلة، فكانت عندي تساوي الدنيا وما فيها.
قال: [(وعليه برد وعلى غلامه مثله، فقلنا: يا أبا ذر! لو جمعت بينهما كانت حلة -أي: لو أخذت برد غلامك وضممته إلى بردك لكانت حلة- فقال: إنه كان بيني وبين رجل من إخواني -أي: من المسلمين- كلام، وكانت أمه أعجمية -أي: ليست عربية- فعيرته بأمه -أي: سبته وشتمته بأمه- فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا ذر! إنك امرؤ فيك جاهلي)].
والجاهلية عند الإطلاق تعني الكفر، وهي هنا ليست بمعنى الكفر، وإنما هي معصية، ولذلك أخرج البخاري هذا الحديث في كتاب الإيمان وعنون له: باب المعاصي من أمر الجاهلية، أي: من أخلاق الجاهلية وليست من أخلاق الإسلام.
قال: [(قلت: يا رسول الله! من سب الرجال سبوا أباه وأمه)]، يعني: يا رسول الله! هو سبني، فأنا سببته، فلما سبني في شخصي سببته بأمه وهو المعتدي أولاً، فظن أبو ذر أن ابتداء وقوع السب عليه يؤهله ويجوز له أن يتعدى هو في سب الآخرين، فالرجل سبه أولاً، ثم قام أبو ذر بسب هذا الرجل بأمه وعيره وشتمه بأمه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: [(يا أبا ذر! إنك امرؤ فيك جاهلية، هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فأطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم ما يغلبهم؛ فإن كلفتموهم -أي: ما يغلبهم وما لا يطيقون- فأعينوهم)].
حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير -وهو ابن معاوية بن حديج الجعفي - (ح) وحدثنا أبو كريب -وهو محمد بن العلاء الهمداني - حدثنا أبو معاوية -وهو محمد بن خازم الضرير - (ح) وحدثنا إسحاق بن إبراهيم -وهو المعروف بـ ابن راهويه - أخبرنا عيسى بن يونس -وهو ابن أبي إسحاق السبيعي - كلهم يروي عن الأعمش بهذا الإسناد]، يعني: عن الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبي ذر.
[وزاد في حديث زهير وأبي معاوية بعد قوله: (إنك امرؤ فيك جاهلية)، قال: قلت -أي: أبو ذر - على حال ساعتي من الكبر؟]، يعني: كأنه استنكر أن يكون فيه خصلة من خصال الجاهلية بعد تقدمه في السن، وبعد هذا العمر الطويل الذي قضاه في الإسلام هل لا يزال فيه بعض أخلاق الجاهلية، فقال: (على حال ساعتي من الكبر يا رسول الله؟!) يعني: هل يعقل بعد هذه المدة وبعد هذا العمر كله في الإسلام لا تزال بعض أخلاق الجاهلية فيَّ؟! [قال: (قلت: على حال ساعتي من الكبر؟ قال: نعم)، وفي رواية أبي معاوية: (نعم، على حال ساعتك من الكبر)، وفي حديث عيسى: (فإن كلفه ما يغلبه فليبعه)].
وفي الحقيقة هذا اللفظ فيه تصحيف، والذي يترجح هو رواية معظم الرواة: (فإذا كلفه ما يغلبه فليعنه).
[وفي حديث زهير: (فليعنه عليه)، وليس في حديث أبي معاوية: (فليبعه)، ولا (فليعنه)، انتهى عند قوله: (ولا يكلفه ما يغلبه).
حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار -واللفظ لـ ابن المثنى - قالا: حدثنا محمد بن جعفر -وهو المعروف بـ غندر - حدثنا شعبة -وهو ابن الحجاج العتكي - عن واصل الأحدب -وهو واصل بن حيان الأحدب الأسدي الكوفي - عن المعرور بن سويد قال: (رأيت أبا ذر وعليه حلة وعلى غلامه مثلها، فسألته عن ذلك؟ قال: فذكر أنه ساب رجلاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم -والمسبوب هو بلال بن رباح - فعيره بأمه، قال: فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له -أي: فاشتكى المسبوب سبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم- فقال النبي صلى(108/3)
شرح حديث أبي هريرة في حق المملوك على سيده
قال: [وحدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن سرح أخبرنا ابن وهب -وهو عبد الله بن وهب المصري - أخبرنا عمرو بن الحارث -وهو المصري- أن بكير بن عبد الله بن الأشج حدثه عن العجلان مولى فاطمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق)].
فقوله: (للمملوك)، أي: على سيده، فله حق له واجب في ذمة سيده، وهو إطعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق.
قال: [وحدثنا القعنبي قال: حدثنا داود بن قيس -وهو داود الفراء الدباغ أبو سليمان القرشي مولاهم المدني- عن موسى بن يسار -وهو المطلبي مولاهم المدني- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا صنع لأحدكم خادمه طعامه ثم جاءه به وقد ولي حره ودخانه)]، يعني: إذا صنع الخادم لك طعاماً أو شراباً وقد عانى من حره ودخانه وإعداده وصنعته، ومن فعل هذا فلا شك أنه قد شم هذا الطعام، وتاقت نفسه إليه، وهو لم يأكل منه بعد.
قال: [(فليقعده معه -وهذا أمر للسيد أن يقعده معه- فليأكل، فإن كان الطعام مشفوهاً قليلاً)]، ومعنى مشفوهاًَ، أي: امتدت وكثرت عليه الشفاه، والشفاه جمع شفه، بمعنى: أن الأيدي والأفواه التي تأكل من هذا الطعام كثرت جداً بحيث يصير الطعام بالنسبة إلى من اجتمع عليه قليلاً، حتى وإن كان في أصله كثيراً، مثل أن يعد طعاماً يكفي خمسة، ثم يجتمع عليه خمسون، فيكون هذا الطعام قليلاً بالنسبة لهم، ولو وضع لثلاثة لفضل عنهم؛ لأنه كثير، ولو وضع لعشرين فسيكون قليلاً؛ لأنه لم يعد لهذا العدد، وإنما أعد لأقل من ذلك.
قال: [(فإن كان الطعام مشفوهاً قليلاً فليضع في يده منه أكلة أو أكلتين)]، يعني: يضع في يد الخادم لقمة من هذا الطعام أو لقمتين.
[قال داود: يعني لقمة أو لقمتين.
قال النووي: (الظاهر أنه كان عبداً تحت أبي ذر)؛ لأنه قال: (كان بيني وبين بعض إخواني كلام)، أو (رجل من إخواني كلام).
قال: (والظاهر أنه كان عبداً، وإنما قال: (من إخواني)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إخوانكم خولكم، فمن كان أخوه تحت يده) إلى آخر الحديث.
وأما قوله: (إنك امرؤ فيك جاهلية)، أي: هذا التعبير من أخلاق الجاهلية).
فهذا الذي قلته وعيرت به أخاك هذا من أخلاق الجاهلية، ففيك خلق من أخلاقهم، وينبغي للمسلم ألا يكون فيه شيء من أخلاق الجاهلية.(108/4)
نقاش الشيخ مع أحد أفراد جماعة التكفير والهجرة
وفيه النهي عن التعيير وتنقيص الآباء والأمهات، وإثبات أن ذلك من أخلاق الجاهلية.
وهذا اللفظ ليس على ظاهره كما توهمه الخوارج في هذا الزمان وقبل هذا الزمان من أن كل لفظ فيه براءة الذمة أو فيه: (ليس منا)، أو فيه ذكر للجاهلية، أو غير ذلك من هذه الألفاظ يحمل على الظاهر، ويخرجون صاحبه من الملة.
وعندما تناقشت مع بعض قيادات جماعة التكفير قال: لو أننا حملنا هذه النصوص على غير الظاهر لعطلنا نصوصاً كثيرة، فانظر كيف دخل عليهم الشيطان، فقال: إن النصوص التي يقول فيها عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من فعل كذا)، أو (من فعل كذا فقد برئت منه الذمة) لا بد من حملها على ظاهرها، وأن من فعل كذا فليس من المسلمين، يعني: من الكافرين، فقلت: لم يحملها هذا المحمل إلا الخوارج، قال: هم أعلم الأمة، قلت: لا يشاركك في هذا القول أحد، أي: من أهل السنة والجماعة، بل علماء الأمة قاطبة لهم تأويلات كثيرة جداً لهذه الأحاديث، وليس هذا منها، بل ما أولوا ظواهر هذه النصوص إلا رداً لهذه المقالة التي تقولها أنت الآن، فقال: إن معنى قول: من فعل كذا ليس منا، أي: ليس من أخلاقنا ولا من هدينا ولا من طريقتنا ولا من سنتنا تعطيل للنص النبوي، كما أنه من باب أولى تعطيل لكلام الله عز وجل، فقلت: إذا كان الأمر كذلك فماذا تقول في أبي ذر الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إنك امرؤ فيك جاهلية)؟ قال: كافر! قلت: هذا الرجل الذي هو أمة وحده، وله من المناقب والشمائل والفضائل ما يعجز عنه الآلاف من أصحابه عليه الصلاة والسلام، وله المنزلة العليا والمكانة السامية، وهو إن شاء الله تعالى من أهل الجنة، كيف تستبيح أن تطلق عليه هذا؟ ثم قرأت عليه ترجمة أبي ذر من كتاب سير أعلام النبلاء، وغيرها من الكتب التي ترجمت للصحابة، كمعرفة الصحابة لـ أبي نعيم، وكتاب الحافظ ابن حجر الإصابة في تمييز الصحابة وغيرها.
فقال: كل هؤلاء ليس لهم عبرة عندي، أو كلمة نحو هذه الكلمة؛ لأنه لا يعبأ ولا يحترم إلا رأسه وعقله فقط، قال: والمعلوم من لفظ الجاهلية عند الإطلاق أنه بمعنى الكفر، فقوله: (إنك امرؤ فيك جاهلية) يعني: فيك كفر، وهكذا العلم عند هؤلاء (1+1 =2) ليس له تأويل ولا تفسير، وهذا بلا شك كلام باطل.
وخلاصة كلامي مع هذا المنازع: أنني حكمت بيني وبينه أحد العلماء في الأردن في سنة (1985م)، وهو الشيخ محمد إبراهيم شقرة في مكتبه في وزارة الأوقاف، وقلت: بيني وبين هذا خصومة، وأصلها: حديث أبي ذر، فقد قال فيه كذا، فاحكم بيننا.
فقال: يا بني! أنت من التكفير؟ قال: أنا من جماعة المسلمين.
قال: لا عليك من الأسماء، الآن عرفت مذهبك.
فقلت: هو قال لي كذا وكذا.
قال: لا، أنا ما قلت هذا.
قلت: إذاً تقسم على كتاب الله عز وجل ثلاثاً أنك ما قلت هذا.
قال: أنا لا أقسم.
قال الشيخ: إنما يلزمك القسم؛ لأن هذا معرض التهمة، فيلزمك القسم.
فلما أوشك على القسم هدده الشيخ وخوفه بالله عز وجل.
فقال: أنا قلت.
فقلت له: على منهجك فأنت كافر.
قال: ولم؟ قلت: لأنك كذبت، والكذب نفاق أو صفة من صفات النفاق، قال عليه الصلاة والسلام: (ثلاث من كن فيه كان منافقاً خالصاً: إذا حدث كذب)، ومن كانت فيه واحدة منها كانت فيه خصلة من نفاق، والنفاق كفر.
فقال له الشيخ: ماذا تقول الآن؟ وأنا في الحقيقة في تسلسل النقاش أوافق أبا الأشبال أنك تكفر بهذا، فما موقفك؟ قال: وأنا أوافقكم.
وسهل جداً الإيمان والكفر عند هؤلاء.(108/5)
مناقشة الشيخ محمد شقرة مع زعيم جماعة التكفير
وقد أتى زعيمهم الكبير فناقش الشيخ الألباني ثلاثة أيام، وفي نهاية الأمر ضاق الشيخ منه ففتح شباك الغرفة -عليه رحمة الله- وقال له: يا شيخ محمود! أترى أن هؤلاء الناس الذين في الشارع كفار؟ فقال: والناس لماذا؟ انظر نفسك أنت!! ثم قال الشيخ بعد ثلاثة أيام: هذا فراق بيني وبينك، انتهى الأمر.
فاصطحبته إلى الشيخ أبي مالك محمد بن إبراهيم شقرة، وكان للشيخ محمد هيبة عظيمة جداً، وهو رجل من أهل العلم الأثبات، وكنت على اتصال دائم في كل يوم لمعرفة نتيجة مباحثات اليوم كله مع الشيخ الألباني، فقال الشيخ محمد: تعالوا غداً إلى مكتب الأوقاف، فذهبت به في الغد إليه، فقال له الشيخ: اسمع، الكلام معنا لا بد أن يكون محدداً ومركزاً، ولا نريد خروجاً عن الموضوع.
قال: أفعل.
قال: لماذا المجتمع كافر؟ قال: لأنه يتعامل مع الحكام الكفرة.
قال الشيخ: يعني: من تعامل مع الكفار يكفر؟ قال: نعم.
قال: فقد تعامل النبي عليه الصلاة والسلام مع اليهود، أما علمت أنه مات عليه الصلاة والسلام ودرعه مرهونة عند يهودي؟ فاستعظم الأمر، وقال: يا شيخ! دعنا من هذه.
قال: فأنت عندما أتيت إلى الأردن كيف أتيت؟ قال: جهزت لي جوازاً كما يفعل الناس.
قال: أظن أنه إذا كانت الحكومة كافرة فلا أقل من أن يتركز الكفر في وزارة الداخلية التي أخذت منها الجواز، فأنت تعاملت مع الكفار، صحيح أم لا؟ قال: صحيح.
فقال له: وهذا أليس كفراً؟ قال: بلى، هذا كفر.
قال الشيخ: هذه الثياب التي تلبسها من الذي صنعها؟ مصر أم غيرها؟ فأخذت أنظر إلى الثوب فقلت: والله يا شيخ! واضح أنه ياباني.
فقال: بلاد اليابان دولة كافرة أم لا؟ قال: كافرة.
فقال الشيخ: ومن الذي حاكها وصنعها؟ وهل صنعت في مصر؟ قال: نعم.
قال: وهل أنت متأكد أن الذي صنعها واحد من جماعتك أم من عامة الناس؟ قال: من عامة الناس.
فقال: فأنت قد لبست ثوباً صنعه كافر.
ثم قال: وماذا ركبت إلى هنا؟ هل ركبت حماراً؟ قال: لا، ركبت طيارة.
قال: ولم شاركت هؤلاء الكفار في سياراتهم وطائراتهم؟ أليس هذا كفراً؟ قال: بلى.
وظل الشيخ يعدد له في كل حياته حتى أسود وجهه وقال: يا شيخ! أنا لا أخفيك أني والله كافر.
وهكذا قال! ولا يمكن أن يبقى العلم بهذا الشكل أبداً، ولا يمكن أن يصلح هذا ديناً، ومن قال: إن هذا دين الله عز وجل الذي أنزله من السماء فقد أعظم على الله الفرية، ولا يمكن أبداً أن يقاس الدين بالقلم والمسطرة نهائياً، فهذا ليس دين الله عز وجل، بل دين الله يؤخذ من أفواه أهل العلم، أما الاجتهادات الشخصية والفردية وإغلاقك على نفسك باب بيتك ثم تقرأ وتفهم كما يحلو لك فهذا أول طريق الانحراف.(108/6)
حكم الرد على الشاتم بشتم أمه وأبيه
قول أبي ذر: قلت: يا رسول الله! من سب الرجال سبوا أباه وأمه، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر! إنك امرؤ فيك جاهلية فمعناه أن أبا ذر اعتذر عن سبه أم ذلك الإنسان بقوله: إنه سبني يا رسول الله! ومن سب إنساناً سب ذلك الإنسان أبا الساب وأمه، فأنكر عليه النبي عليه الصلاة والسلام ذلك وقال له: لا، هذه من أخلاق الجاهلية، فسبك أباه إذا سبك من أخلاق الجاهلية، وأما لو سبك فسببته لكان تعادلاً، وإن عفوت فهو أفضل، وأما أن تتعدى إلى الوالدين فهو تعد، وهذا كأن يسبك إنسان فتضربه، وهذا بلا شك مقابلة السيئة بأعظم منها، فسب الرجل أبا الساب لا شك أنه تعد في القصاص، ولذلك قال: هذا من أخلاق الجاهلية، فلا يباح للمسبوب إلا أن يسب الساب نفسه بقدر ما سبه، ولا يتعرض لأبيه ولا لأمه، وهذه آداب عظيمة نحتاجها في حياتنا اليومية.(108/7)
الإحسان إلى العبد المملوك
وقوله: (هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فأطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم) أي: المماليك، والأمر بإطعامهم مما يأكل السيد وإلباسهم مما يلبس محمول على الاستحباب لا على الإيجاب، وكأن المعنى: أطعموهم وألبسوهم، ولا تجعلوهم عرايا ولا جوعى، ولا يلزم إذا أتى مثلاً السيد ببدلة له بألف جنيه أو بسبعمائة جنيه أن يعطي العبد مثلها، بل يأتي له بثوب متوسط جديد ويكفي، ولا بأس بذلك، المهم ألا يدعه عرياناً.
وإذا صنع طعاماً فليطعمه من هذا الطعام، أو على الأقل يطعمه مما هو من أمثاله على قدر حاجته، وهذا الأمر للسيد ليس على سبيل الوجوب بل على سبيل الاستحباب، وهذا إجماع المسلمين.
وأما فعل أبي ذر في أنه ألبس غلامه برداً في مقابلة برده فإنما فعل ذلك على سبيل الاستحباب لا على سبيل الوجوب.
والذي يجب على السيد نفقة المملوك وكسوته بالمعروف بحسب البلدان والأشخاص، وسواء كان ذلك من جنس نفقة السيد ولباسه أو دونه أو فوقه، ولو قتر السيد على نفسه تقتيراً خارجاً عن عادة أمثاله إما زهداً وإما شحاً فلا يحل له التقتير على المملوك وإلزامه موافقته إلا برضاه.
ولو كان السيد رجلاً زاهداً متقشفاً وليس له علاقة بالدنيا نهائياً، ولا يأكل إلا قليلاً ولا يلبس إلا اليسير من اللباس فليس له إلزام عبده بهذا التقشف والزهد، وإنما يطعمه ويلبسه على قدر ما عنده من مال، يعني: أن العبد الذي يعمل خادماً أو مملوكاً لدى هذا السيد ربما يأمر الشرع سيده بأن يلبسه ويطعمه أفضل مما يلبس ويطعم كثير من الأحرار؛ لأن هذا هو الذي يناسب المستوى المادي لهذا السيد.
وأما اختيار السيد نفسه طريقاً آخر للزهادة فهذا شيء يرجع إليه هو، ولا يحل لهذا السيد أن يحمل عبده أو مملوكه على التقشف والزهادة إلا إذا كان ذلك برضى من العبد.
وأجمع العلماء على أنه لا يجوز للسيد أن يكلف العبد من العمل ما لا يطيقه، فإن فعل ذلك لزمه إعانته إما بنفسه أو بغيره، كأن يشتري رقيقاً آخر لمعاونة هذا العبد، أو غير ذلك من أوجه المساعدة.
وأما قوله: (للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيقه) فهو موافق لحديث أبي ذر السابق.
وقوله: (إذا صنع لأحدكم خادمه طعامه ثم جاءه به وقد ولي حره ودخانه، فليقعده معه فليأكل فإن كان الطعام مشفوهاً قليلاً فليضع في يده منه أكلة أو أكلتين)، قال داود: يعني: لقمة أو لقمتين.
فأما الأكلة فهي اللقمة، وأما المشفوه فهو القليل، أي: بالنسبة إلى من اجتمع عليه من الناس.
وفي هذا الحديث: الحث على مكارم الأخلاق، والمواساة في الطعام، ولا سيما في حق من صنعه أو حمله؛ لأنه ولي حره ودخانه، وتعلقت به نفسه، وشم رائحته، وهذا كله محمول على الاستحباب لا على الوجوب.
ومن الأخلاق النادرة جداً التي تجدها في هذا الزمان: أن يكون لشخص خدم يصنعون له طعاماً، وتكون رائحته شهية جداً تتعلق به النفوس، ثم لا يدعوهم إليه، وقد جعل الشرع له مخرجاً، فإذا كان قد دعا أناساً ولديه طباخون وخدم يخدمونه في بيته، وقد أعدوا المائدة للطعام، وهو يستنكف أن يدعو العبيد ليأكلوا معه على نفس المائدة فلا بأس أن يناولهم من هذا الطعام، يعني: يعد لهم طعاماً أو سفرة يأكلون منها ولو كانت بجوار المائدة أو في مكان آخر، ولا يحرم من أعدها ومن صنعها منها.(108/8)
باب ثواب العبد وأجره إذا نصح لسيده، وأحسن عبادة الله
قال: (باب ثواب العبد وأجره إذا نصح لسيده وأحسن عبادة الله)، ومعنى نصح: أخلص في الخدمة لسيده.
قال: [حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك عن نافع عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا نصح لسيده وأحسن عبادة الله، فله أجره مرتين)]، أي: مرة على حسن عبادته لله، ومرة على حسن خدمته لسيده.
[وحدثنا زهير بن حرب ومحمد بن المثنى قالا: حدثنا يحيى -وهو ابن سعيد القطان -، (ح) وحدثنا ابن نمير -وهو محمد - قال: حدثنا أبي، (ح) وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا ابن نمير -وهو عبد الله - وأبو أسامة -وهو حماد بن أسامة - كلهم عن عبيد الله -وهو ابن عمر العمري - (ح) وحدثنا هارون بن سعيد الأيلي حدثنا ابن وهب حدثني أسامة جميعاً عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث مالك السابق.
حدثني أبو الطاهر وحرملة بن يحيى قالا: أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس -وهو ابن يزيد الأيلي - عن ابن شهاب الزهري قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (للعبد المملوك المصلح أجران)].
والمصلح ضد المفسد، وهذا يدل على أن هذا العبد لا يستحق الأجرين إلا إذا كان مملوكاً مصلحاً، أي: مخلصاً ناصحاً لسيده.
[(والذي نفس أبي هريرة بيده لولا الجهاد في سبيل الله والحج وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك)].
وهذا الكلام قاله أبو هريرة، وفي بعض الروايات عند أبي داود قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (للعبد المملوك المصلح أجران، والذي نفسي بيده لولا الجهاد في سبيل الله والحج لأحببت أن أموت مملوكاً).
وظاهر هذه الرواية لا تدل على الإدراج، والإدراج هو: إدخال كلام في كلام آخر بياناً للمعنى، أو إظهاراً لحكم من الأحكام، أو إثبات أمنية متعلقة بنص الحديث.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (للعبد المملوك المصلح أجران)، هذا الكلام يمكن أن يصدر من النبي عليه الصلاة والسلام ولا حرج فيه.
ثم قوله: (والذي نفسي بيده) يدل على أنه تابع للحديث، ولكنه كلام مدرج، أي: ملحق بالكلام الأصل وليس منه.
فالكلام الأول: (للمملوك المصلح أجران) كلام النبي صلى الله عليه وسلم قطعاً، وأما قوله: (لولا الجهاد وبر أمي لأحببت أن أموت مملوكاً) فلا يمكن أن يكون هذا من كلام النبوة، فقوله: (لولا الجهاد والحج) يمكن أن يصدر هذا الكلام من النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن المستحيل أن يقول: (وبر أمي)؛ لأن أمه كانت قد ماتت منذ زمن أيام أن كان صغيراً، وكذلك لا يتمنى نبي مرسل أن يكون مملوكاً؛ لأن الثابت أن الله تعالى ما أرسل نبياً ولا رسولاً إلا من أشراف وأحساب وأنساب قومه، والرق ينزل العبد، بخلاف الحرية، والله تعالى لم يرسل رسولاً حراً فحسب، بل أرسله من أفضل أحرار قومه، ومن أحسنهم وأشرفهم نسباً، فكيف يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (وبر أمي لأحببت أن أموت مملوكاً).
كما أنه لم يكن مملوكاً قط صلى الله عليه وسلم.
قال سعيد: [وبلغنا أن أبا هريرة لم يكن يحج حتى ماتت أمه لأجل صحبتها].
وسعيد بن المسيب هو زوج ابنة أبي هريرة، والذي يترجح لدي أن هذا الكلام وصله بلاغاً عن أبي هريرة عن طريق امرأته، يعني: ابنة أبي هريرة التي كانت تحت سعيد، فهي التي أخبرت سعيداً أن أبا هريرة لم يكن يحج حتى ماتت أمه؛ لأجل صحبتها، وهذا محمول على حج النافلة دون حج الفريضة؛ لأن أبا هريرة رضي الله عنه أسلم في العام السابع من الهجرة، في أعقاب غزوة خيبر أو في أثنائها، وحج مع النبي عليه الصلاة والسلام حجة الوداع، وكانت هي الفريضة لـ أبي هريرة ولم يكن حج قبلها، فيكون معنى كلامه (لولا الجهاد في سبيل الله والحج -أي: حج النافلة- وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك)؛ وهذا طمعاً في أن يكون له أجران: الأجر الأول: أجر عبادة ربه.
والأجر الثاني: أجر خدمة سيده.
فهو لم يتمن الرق إلا لأجل الثواب.
وأما قوله: (إن أبا هريرة لم يكن يحج حتى ماتت أمه لصحبتها)، فهذا يدل على وجوب بر الوالدين.
وقد تكلم الشافعية حول ما إذا تعارضت حاجة الوالدين مع حج(108/9)
باب من اعتق شركاً له في عبد
قال: (باب من أعتق شركاً له في عبد).
والعبد يمكن أن يجتمع فيه عدة أسياد أو شركاء، ويمكن أن يكون سلماً لرجل، أي: ليس له فيه شريك، فإذا قام أحد الشركاء بإعتاق نصيبه في هذا العبد فيكون بعض العبد حراً، والبعض الآخر رقيقاً، فيقوم العبد، فإذا كان في مقدور من أعتق شركه أن يعتق الباقي من ماله فيجب عليه ذلك؛ حتى لا يتضرر العبد ولا بقية الشركاء.(108/10)
شرح حديث ابن عمر فيمن أعتق شركاً له في عبد
قال: [حدثنا يحيى بن يحيى قال: قلت لـ مالك: حدثك نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أعتق شركاً له في عبد فكان له مال يبلغ ثمن العبد -أي: فكان لمن أعتق نصيبه مال يبلغ ثمن العبد- قوم عليه قيمة العدل -أي: مثل قيمة العبد من غير وكس ولا شطط، ومن غير نقصان ولا جور ولا زيادة- فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد؛ وإلا فقد عتق منه ما عتق)]، يعني: لا بد من شيء من اثنين، فإما أن يعتق الباقي كأن يكون له ربع العبد، وهذا العبد بألف دينار مثلاً، فأعتق نصيبه - أي: المائتين والخمسين ديناراً- فإذا كان هذا المعتق صاحب مال قوم هذا العبد، ودفع لكل شريك من هؤلاء مائتين وخمسين ديناراً، ويكون هذا السيد الذي أعتق هذا العبد قد أعتق رقبة في سبيل الله، والعتق من أكبر الطاعات لله عز وجل، فمن أعتق شركاً له في عبد قوم عليه العبد إن كان صاحب مال، فيعطي بقية الشركاء حصصهم، ويعتق عليه العبد، يعني: يكون هذا العبد عتيقه، ويكون ولاؤه لهذا الرجل وحده، وليس للأربعة.
وإذا لم يكن صاحب مال فيكون قد أعتق حصته فقط، ويكون الثلاثة الباقون شركاء في ثلاثة أرباع العبد، يعني: بعد أن كان هذا العبد مكلفاً بخدمة أربعة يكلف الآن بخدمة ثلاثة.
قال: [حدثنا ابن نمير حدثنا أبي حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أعتق شركاً له من مملوك فعليه عتقه كله إن كان له مال يبلغ ثمنه -وهذا شرط- فإن لم يكن له مال عتق منه ما عتق)]، يعني: نصيبه فقط.
وفي رواية ابن عمر: (من أعتق نصيباً له في عبد فكان له من المال قدر ما يبلغ قيمته قوم عليه قيمة عدل، وإلا فقد عتق منه ما عتق).
وفي رواية قال عبد الله: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أعتق عبداً بينه وبين آخر -أي: في شركة بينه وبين آخر- قوم عليه في ماله قيمة عدل، لا وكس ولا وشطط -والوكس: البخس والنقص والشطط: الزيادة والجور- ثم عتق عليه في ماله إن كان موسراً)]، ودائماً الشركاء يدور أمرهم بين الوكس والشطط.
فمثلاً: إذا كان اثنان أصحاب محل، أو كانا وارثين ولهما أخت ففي الغالب يأخذ الولدان الميراث، ويزعمان أنهما استرضيا الأخت الوارثة، وأن البنت لا أصول لها، يعني: أن البيت ليس لها نصيب فيه، والأرض ليس لها نصيب فيها، ويقولان: نعطيها قرشين وينتهي الأمر، فالبنات في هذا الزمان بالذات لا نصيب لهن في الميراث وهذا ظلم عظيم جداً.
والعجيب أن الرجال الذين يأخذون الميراث ويذهبون به دون البنات يبتلون بأخبث الأمراض في أنفسهم وأهليهم وأولادهم، ويبتلون كذلك بالفشل في حياتهم وفي خاصة أنفسهم، ولا يعتبر أحد، ثم يموت ويأتي ولده فيكرر نفس المأساة التي فعلها أبوه، ويأتي الحفيد ويكرر نفس المأساة التي فعلها أبوه وجده، ولا يعتبر مع أنه ذاق السم الزعاف في خدمة والده وهو مريض وقعيد وطريح الفراش عشرات السنين، ويعلم أن هذا بسبب الظلم، وأنها عقوبة من السماء نزلت، ثم هو يأتيها، فإذا تمكن من الظلم ظلم، ومعظم البلاء الذي ينزل بالأمة بسبب الظلم؛ لأن العدل قامت على أساسه السماوات والأرض، فمن خالف ناموس الكون وميزانه الرباني الذي لأجله خلق الخلق فلا بد أن يبتليه الخالق سبحانه وتعالى.
قال ابن عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أعتق شركاً له في عبد عتق ما بقي في ماله -يعني: ألزم بإعتاق بقية العبد من ماله- إذا كان له مال يبلغ ثمن العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق)]، أي: فلا يكلف ولا يلزم إلا بنصيبه؛ لأنه ليس صاحب مال.(108/11)
شرح حديث أبي هريرة في الضمان على من أعتق نصيبه من العبد
قال: [وعن بشير بن نهيك عن أبي هريرة رضي الله عنه: (عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المملوك بين رجلين: فيعتق أحدهما، قال: يضمن)]، يعني: إذا كنت أنا وأنت شريكان في عبد، فأعتقت أنا نصيبي فأنا أضمن عتق بقية العبد بشرط أن أكون صاحب مال، وإلا فقد أعتقت نصيبي الذي يخصني.
وفي رواية قال عليه الصلاة والسلام: [(من أعتق شقيصاً من مملوك؛ فهو حر من ماله)].
والشقيص هو: الحظ والنصيب، فمن أعتق نصيبه في مملوك؛ فهذا المملوك حر من مال هذا الذي أعتق.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(من أعتق شقيصاً له في عبد فخلاصه في ماله إن كان له مال، فإن لم يكن له مال استسعي العبد غير مشقوق عليه)]، والمشقوق هو: المشدود، من الشدة، أي: لا نشق عليه، (استسعي العبد غير مشقوق عليه)، ويكون إما بطلب عتق العبد من بقية الشركاء، أو من الشريك الذي أعتق حظه، أو بالمكاتبة يقوم بها العبد.
فإذا قوم مثلاً بألف دينار، والسيد الذي يملك نصفه قد أعتق نصيبه، وليس عنده مال ليعتق النصف الآخر، فإن كان صاحب مال فهو ضامن، وإن لم يكن صاحب مال استسعي العبد في نصيب الذي لم يعتق غير مشقوق عليه؛ لأن الأصل أن العبد مال، وصاحب الحق في هذا العبد له حرية التصرف في نصيبه في العبد، والشريك الثاني له حق أخذ نصف ثمن العبد وهو يريده، فإذا كان الذي أعتق صاحب مال فيعتق كله، وإما أن يكاتب السيد الثاني هذا العبد على أن يعتقه بغير خدمة حتى يجمع له ثمن النصف الثاني، ثم يستسعى في نصيب الذي لم يعتق غير مشقوق عليه.(108/12)
شرح حديث عمران بن حصين: (أن رجلاً أعتق ستة مملوكين له عند موته)
قال: [حدثنا علي بن حجر السعدي وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب قالوا: حدثنا إسماعيل بن علية عن أيوب -وهو ابن أبي تميمة السختياني - عن أبي قلابة - وهو عبد الله بن زيد الجرمي البصري - عن أبي المهلب عن عمران بن حصين: (أن رجلاً أعتق ستة مملوكين له عند موته -أي: أن رجلاً حراً كان عنده ستة من العبيد اعتقهم جميعاً عند موته- لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزأهم أثلاثاً)]، يعني: قسمهم: اثنين، اثنين، اثنين؛ لأن هذا الحر ليس حراً في إعتاق الستة؛ لأن هذا قائم مقام الوصية، والعبد ليس له أن يوصي من ماله إلا بمقدار الثلث، وهذا الثلث ينفذ حتى لو لم يرض الورثة، ولا ينفذ ما زاد على الثلث إلا برضا الورثة، وهذا الحر لم يكن له إلا ستة مملوكين فأعتقهم جميعاً، فرد النبي عليه الصلاة والسلام هذا التصرف باستدعاء جميع المملوكين، وجزأهم ثلاثة أثلاث، اثنين، اثنين، اثنين، وأقرع بينهم، أي: ليخرج من يعتق، واللذان وقعت عليهما القرعة أعتقهما، وأما الباقون فهم مال انتقل بالميراث إلى أولاد المعتق؛ لأن العبد مال يورث.
وهذه الصورة ظاهرة من فعله عليه الصلاة والسلام، وهذا يدل على مشروعية بل وجوب العمل على نحو ما عمل النبي عليه الصلاة والسلام.
وبعض العلماء نازع في هذه الصورة، وقال: القرعة ليست جائزة، والحديث يرد عليهم، وكلامهم خطأ، وقالوا: إنما يعتق من كل عبد ثلثه؛ لأن العبيد الستة لو أعتقنا ثلث كل واحد لتم لنا في نهاية الأمر عتق الثلث، ولا نعتق اثنين ونجعل الأربعة عبيداً للورثة، وهذا سيدخلنا في دوامة أخرى، وهي إبطال تصرف صاحب المال الذي أوصى بعتق هؤلاء جميعاً، ولو كان ذلك صواباً لفعله النبي عليه الصلاة والسلام.
وأما كونه قد عدل عن هذه الصورة وأعتق ثلث المال المتمثل في اثنين دون الستة فهذا يدل على أهمية هذا التصرف واستحبابه.
قال عمران بن حصين: [إن رجلاً أعتق ستة مملوكين له عند موته لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزأهم أثلاثاً، ثم أقرع بينهم -وهذا يدل على استحباب القرعة- فأعتق اثنين وأرق أربعة -أي: جعلهم رقيقاً- وقال له قولاً شديداً)]، أي: قال النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الذي أعتق الستة ومات قولاً شديداً، وهذا القول هو: (لو أدركت ذلك ما صليت عليه)، يعني: لو أني علمت هذا قبل أن أصلي عليه صلاة الجنازة ما صليت عليه، وهذا يدل على الزجر الشديد جداً، وقوله: (لو أدركت ذلك ما صليت عليه)، لا ينفي صلاة عامة الناس على أصحاب المعاصي وأصحاب الكبائر، وإنما يدل على أن الإمام له أن يتخلى عن الصلاة على أصحاب المعاصي والكبائر؛ زجراً لأمثالهم ألا يقعوا فيما وقعوا فيه.
والنبي عليه الصلاة والسلام شهد لـ ماعز الأسلمي بالجنة، ولكنه ما صلى عليه؛ زجراً لغيره أن يقترف ما اقترف ماعز رغم أنه تاب.
وصلى على الغامدية، رغم أنها أتت ما قد أتى ماعز، ولكن المقام استدعى الصلاة هنا، واستدعى ترك الصلاة هناك، وربما كان هناك في المصلين على ماعز من ينزجر بترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على أمثال هؤلاء الذين وقعوا في كبائر الذنوب.
فللإمام أن يمتنع من الصلاة على أصحاب الكبائر زجراً لأمثالهم، ولكن لا يحل لمجموع من كلفوا بالصلاة على هذا الميت أن يمتنعوا جميعاً، وإلا أثموا جميعاً؛ لأن الصلاة على الميت حتى وإن كان صاحب ذنب وصاحب كبيرة فرض كفاية، إذا فعله البعض سقط عن الباقين، ويستحب للإمام ولا يجب عليه، وإن صلى على صاحب كبيرة فلا حرج عليه، حتى وإن مات وهو مصر عليها ولم يتب لا حرج على الإمام أن يصلي عليه، ولكن ترك الإمام للصلاة عليه لا شك أنه من باب السنة، ومن باب الزجر.
وفي رواية: [(أن رجلاً من الأنصار أوصى عند موته، فأعتق ستة مملوكين)].
يقول: (في هذا الحديث دلالة لمذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وداود وابن جرير والجمهور في إثبات القرعة في العتق ونحوه، وأنه إذا أعتق عبيداً في مرض موته أو أوصى بعتقهم وكانوا أكثر من الثلث أقرع بينهم، فيعتق ثلثهم بالقرعة.
وقال أبو حنيفة: القرعة باطلة، لا مدخل لها في ذلك، والحديث يرد عليه).(108/13)
باب جواز بيع المدبر
قال: (باب جواز بيع المدَبَّر).
والمدبَّر: هو من أوصى سيده بعتقه في دبر حياته، فهو عبد ولكن سيده أوصى في مرض موته، أو لما غلب على ظنه أن الحياة به ستنتهي أن يعتق هذا العبد في دبر حياته، وهذا جائز عند الجمهور، والدليل على جواز بيع المدبَّر الآتي: قال: [حدثنا أبو الربيع سليمان بن داود العتكي حدثنا حماد بن زيد عن عمرو بن دينار المكي عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما: (أن رجلاً من الأنصار أعتق غلاماً له عن دبر -أي: بشرط أن يكون ذلك في دبر حياته- لم يكن له مال غيره، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يشتريه مني؟ -وكان لا يزال الرجل صاحب المال حياً، والنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي عرض هذا العبد للبيع- فاشتراه نعيم بن عبد الله النحام بثمانمائة درهم فدفعها إليه)].
أي: أخذ النبي عليه الصلاة والسلام الثمانمائة درهم وأعطاها لصاحب هذا العبد الذي أعتقه عن دبر.
قال: [قال عمرو: سمعت جابر بن عبد الله يقول: عبداً قبطياً مات عام أول]، يعني: كان هذا العبد عبداً نصرانياً، والقبطي مصري، ولكن عند الإطلاق القبطي هو النصراني.
ولا بأس باتخاذ العبيد من النصارى واليهود، وقد كان أبو لؤلؤة المجوسي مجوسياً، ومن باب أولى يجوز اتخاذ العبيد من اليهود والنصارى.
نسأل الله أن يمكننا من رقابهم رجالاً ونساءً.
وهذا الرجل الأنصاري اسمه أبو مذكور، واسم الغلام المدبَّر يعقوب.
قال: [وعن عمرو بن دينار قال جابر: (دبر رجل من الأنصار غلاماً له لم يكن له مال غيره، فباعه رسول الله صلى الله عليه وسلم)، قال جابر: فاشتراه ابن النحام].
والنحام لقب لـ نعيم بن عبد الله، وفي الحديث: (إني دخلت الجنة فوجدت نحمة لـ نعيم) وقيل: (نحنحة)، واسم الصوت: نَحمة ونُحمة ونحنحة، هذا معنى النحام، فلما أخبر نعيماً بذلك لقبه الصحابة بـ النحام، أي: الذي كان يتنحم في الجنة وسمعه النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [عبداً قبطياً مات عام أول في إمارة ابن الزبير].(108/14)
كلام النووي على حديث جابر في بيع المدبر
قال: (في هذا الحديث دلالة لمذهب الشافعي وموافقيه أنه يجوز بيع المدبر قبل موت سيده لهذا الحديث، وقياساً على الموصى بعتقه، فإنه يجوز بيعه بالإجماع، وممن جوزه عائشة وطاوس وعطاء والحسن ومجاهد وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود الظاهري.
أما أبو حنيفة ومالك وجمهور العلماء والسلف من الحجازيين والشاميين والكوفيين فقالوا: لا يجوز بيع المدبر، وإنما باعه النبي صلى الله عليه وسلم في دين كان على سيده، وقد جاء في رواية للنسائي والدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (اقض به دينك).
يعني: هذا العبد المدبَّر لما باعه النبي صلى الله عليه وسلم بثمانمائة درهم أعطاها لسيده وقال: (اقض بها دينك).
وقالوا: وإنما دفع إليه ثمنه ليقضي به دينه، وتأوله بعض المالكية على أنه لم يكن له مال غيره فرد تصرفه، لأنه لا يحل له أن يتصرف فيه كله، وإنما في ثلثه.
وقال هذا القائل: وكذلك يردُّ تصرف من تصدق بكل ماله، وهذا ضعيف بل باطل، والصواب نفاذ تصرف من تصدق بكل ماله.
وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى: الأشبه عندي أنه فعل ذلك نظراً له، إذ لم يترك لنفسه مالاً، والصحيح ما قدمناه أن الحديث على ظاهره، وأنه يجوز بيع المدبَّر بكل حال ما لم يمت السيد، والله أعلم.
وأجمع المسلمون على صحة التدبير، ثم مذهب الشافعي ومالك والجمهور أنه يحسب عتقه من الثلث.
يعني: لو كان معتقاً يعتق منه الثلث فقط، والتدبير محل إجماع بين أهل العلم، لا خلاف بينهم في ذلك، والتدبير يقع في أشياء كثيرة، وليس في العبد فقط، فبإمكانك أن تقول: هذه الدار وقف على الأيتام في المكان الفلاني بعد موتي، فهذا تدبير في الدار، وبإمكانك أن تقول: هذا البستان وقف على الأرامل في المكان الفلاني بعد موتي، فهذا التصرف جائز، وهو صورة من صور التدبير، أي: إيقاف نفاذ التصرف إلى بعد موت من أوقفه.
وفي هذا الحديث من الفوائد كذلك: نظر الإمام في مصالح رعيته، وأمره إياهم بما فيه الرفق بهم، وإبطال ما يضرهم من تصرفاتهم التي يمكن فسخها.
وفيه جواز البيع فيمن يدبَّر، وهو مجمع عليه الآن، وقد كان فيه خلاف ضعيف لبعض السلف نقلناه آنفاً، ولكن هذا الخلاف خلاف ضعيف، وليس عليه العمل.
أقول قولي هذا وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
وصلى الله على نبينا محمد.(108/15)
الأسئلة(108/16)
دليل حمل حديث الأمر بإطعام العبد مما يأكل سيده على الاستحباب
السؤال
ما الدليل على حمل أحاديث إطعام العبد مما يأكل سيده وإلباسه مما يلبس على الندب والاستحباب؟
الجواب
الإجماع على أن هذا الأمر على الاستحباب وليس على الوجوب.(108/17)
حكم من عجز عن الوفاء بالنذر
السؤال
أقسمت على إلزام نفسي بعمل بعض النوافل، وعند القسم لم اشترط الاستطاعة في ذلك، كأن لا أشعر بالنوم مثلاً، فهل إذا لم أستطع أن أعملها يجب علي الكفارة أم لا؟ وهل إذا قضيتها علي الكفارة؟ بمعنى إذا لم أفعلها في الوقت الذي حددته ثم قضيتها؟
الجواب
بإمكانك أن تنوي بنومك طاعة، ولكن إذا كنت أقسمت أن تلزم نفسك بعبادة معينة في وقت معين، كأن أقسمت أن تصلي إحدى عشرة ركعة في كل ليلة مثلاً، ثم عجزت عن الوفاء بهذا النذر في ليلة من الليالي أو في بعض الليالي فقد قال عليه الصلاة السلام: (كفارة النذر كفارة اليمين).
فعليك أن تكفر عن هذا النذر الذي عجزت عنه بكفارة يمين.(108/18)
حكم منع الوالدة ولدها من صوم النافلة
السؤال
لو طلبت مني والدتي ألا أصوم النوافل لعلة أني ضعيف جسمياً فهل لي أن أصوم دون علمها؟
الجواب
لا، ليس لك ذلك؛ لأنك إذا كنت ضعيفاً وهزيلاً في بدنك فإن الصوم يضرك، وهذا هو ظاهر السؤال، لا بأس أن تجمع بين ترك الصوم وطاعة أمك، وهو أولى بلا شك، وقديماً حدث مثل هذا بين عبد الله بن عمرو بن العاص وبين نبينا عليه الصلاة والسلام، فـ عبد الله بن عمرو بن العاص كان من أعبد الصحابة على صغر سنه، وقد تزوج أول مرة وعمره اثنا عشر عاماً، وكان صواماً قواماً، تالياً لكتاب الله عز وجل، فكان يقرأ القرآن في كل يوم مرة، ويصلي طوال الليل ويصوم النهار، فلما تزوج امرأة من قريش تركها وأقبل على عبادة ربه في الليل، فلما أصبح أتاه أبوه عمرو بن العاص رضي الله عنه فسأل امرأته عن حاله، فقالت: نعم العبد هو، يقوم الليل ويصوم النهار، ففهم ما تريد، فأخذ ولده عبد الله وذهب به إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله! هذا العبد فعل كذا وكذا، وهما في طريقهما إلى النبي عليه الصلاة والسلام قال له: سودت وجهي أمام قريش وفعلت كذا وكذا، وشيء من هذا الكلام، فقال عليه الصلاة والسلام: (يا عبد الله! كيف تصوم؟ قال: أسرد الصوم -يعني: أصوم كل يوم- فقال: إنما يكفيك أن تصوم ثلاثة أيام من كل شهر)، أي: ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر، وتصور أن عبداً يصوم طوال السنة وطوال العمر، والنبي عليه الصلاة والسلام يحجمه في ثلاثة أيام، فقال: (يا رسول الله! أطيق أكثر من ذلك، فقال: اجمع إلى هذا صيام الإثنين والخميس، قال: أطيق أكثر من ذلك، قال: صم يوماً وأفطر يوماً -وهذا صيام نبي الله داود، فسكت على مضض- ثم قال له: كيف تقرأ القرآن؟ قال: في كل يوم مرة -وكيف بمن يختمه مرة في العمر- فقال له: بل اقرأه في شهر، فقال: يا رسول الله! أطيق أكثر من ذلك، قال: اقرأه في كل شهر مرتين، قال: أطيق أكثر من ذلك -حتى قال له-: اقرأه في ثلاث، ومن قرأ القرآن في أقل من ثلاث لم يفقه -فسكت؛ لأنه حدد له الحد الأدنى- ثم قال له: كيف صلاتك؟ قال: أصلي الليل كله، فقال: بل صل بعضه ونم بعضه، فقال عبد الله بن عمرو: فلما كبر سني ورق عظمي وضعفت عما أمرني به النبي عليه الصلاة والسلام تمنيت أني ما رددت عليه أمره).
فالأخ لماذا ينذر أن يصوم أو يقوم أو يفعل طاعة معينة؟ والنذر كما قال عليه الصلاة والسلام: (إنما يستخرج بالنذر من البخيل)، فإن كنت قادراً على طاعة فاعملها بغير نذر؛ لأن النذر لا تضمنه، وأنت ضعيف لا تقدر عليه، وإذا كنت قادراً اليوم فربما تعجز عنه غداً، فأنت ابن يومك، وابن طاعة يومك، فإذا قدرت على طاعة ما في وقت ما فافعلها بغير نذر، مثل الذي يقول: يا رب! لو نجحت ولدي فسأذبح شاة، ولماذا لا يذبح الشاة لله إذا نجح ولده من غير نذر، وهذه ألطف.
فهو في الصورة الأولى: يعامل الله بالحد الأدنى من العبودية، كأنه يقول: يا رب! إذا عملت لي فسأعمل لك، وإذا لم تعمل لي لن أعمل لك.
وأما الصورة الثانية: فإنه يقدمها طيبة بها نفسه، وفي الغالب فإن الناذر إذا أوفى الله له العطاء ضن وبخل، ودائماً أسئلة الناذرين تقول: يا شيخ! أنا كنت قلت: لو أن الله تعالى فعل لي كذا فسأذبح خروفاً فهل ينفع أن آتي بخمسة كيلو من الجزار؟ وأقول: لا ينفع ذلك؛ لأن العبرة كلها بإهراق الدم بنية العبادة والقربة وإطعام اللحم.
وآخر يقول: أنا نذرت أصوم كل إثنين وخميس طول عمري، ثم تأتي عليه أيام لا يقدر على صيام شهر رمضان لكبر سن أو ضعف أو علة أو أي شيء، فلماذا يكلف الإنسان نفسه بأشياء عافاه الله تعالى منها؟ ولماذا لا يجعل طاعته لله تعالى بغير شرط، وهذا بلا شك أولى، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما يستخرج بالنذر من البخيل).(108/19)
حكم النذر الذي لم يتلفظ به الإنسان
السؤال
ما حكم النذر الذي نذره الإنسان في نفسه ولم يتلفظ به؟
الجواب
لو نواه في صدره ولم يتلفظ به لا يلزمه، فيشترط في النذر التلفظ.(108/20)
موضع رفع اليدين عند القيام من التشهد الأوسط
السؤال
هل رفع اليد في الصلاة في التشهد الأول يكون بعد القيام أم قبل القيام وهو في حالة الجلوس بعد الفراغ من التشهد؟ وما الدليل على ذلك؟
الجواب
النبي عليه الصلاة والسلام كان يرفع يديه بعد القيام، وكان غالب أمره الرفع بعد القيام، (كان عليه الصلاة والسلام إذا قام إلى الثالثة رفع يديه وكبر)، وقام فعل ماضي، (وكان يرفع يديه قبل القيام أحياناً).
هكذا الرواية.
وهذا يدل على استحباب الصورة الأولى، وجواز الصورة الثانية.(108/21)
بيان متى يقدم الحج على الزواج والعكس
السؤال
أيهما يقدم في عصرنا الحج أم الزواج؟
الجواب
هذه قضية نسبية تتعلق بكل شخص على حدة، فإذا كان الشاب مثلاً تواقاً إلى النساء وما معه من مال لا يكفي إلا للحج أو الزواج فلا شك أن الزواج يقدم في حقه، ويكون غير مستطيع للحج، ولا حرج عليه حينئذ.
وأما إذا كان أمر النساء لا يعنيه في شيء، ولا يفكر فيه، ويطرحه خلف ظهره، ويقدر على أن يصبر بغير عنت فلا شك أن الحج هو الفريضة، وهو الواجب في حقه قبل الزواج.(108/22)
حكم استحلال المعاصي والإصرار عليها
السؤال
هل مستحل الصغائر أو الكبائر المصر عليهما لا يكفر ويبقى على الإسلام ويصلى عليه؟
الجواب
لا، وتوجيه السؤال بهذا النحو خطأ، وعلى أي حال فالمستحل للذنب وإن كان صغيراً بعد قيام الحجة عليه وإصراره على الحل يكفر.(108/23)