حكم الصلاة على المقتول حداً
قوله (فصلى عليها ثم دفنت فيه) مسألة: الصلاة على المقتول في حد، وهي محل نزاع بين أهل العلم، فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يصل على ماعز الأسلمي وصلى على المرأة الغامدية، فهل يصلى على المحدود أو لا يصلى؟ العلماء في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: لا يصلى عليه.
والمذهب الثاني: يصلى عليه.
وهو الصحيح؛ لأن المقتول في حد لا يزال مسلماً، كما أن الذي قتل نفسه لا يزال مسلماً، والذي انتحر لا يزال مسلماً، لكن يفضل ألا يصلي عليه الإمام أو من يشار إليه بالبنان، أو أصحاب الفضل والعلم من باب الزجر لأمثالهم ألا يعملوا عمله؛ ولذلك رأى النبي عليه الصلاة والسلام من المصلحة الشرعية ألا يصلي على ماعز، حتى لا يبادر آحاد الناس أن يقعوا فيما وقع فيه ماعز، فيحظوا باستغفار النبي صلى الله عليه وسلم لهم والصلاة عليهم، وعلم عليه الصلاة والسلام أن المصلحة الشرعية تقتضي الصلاة على الغامدية التي زنت بعد ماعز حتى لا يقول الناس بعد ذلك إجماعاً: لا يصلى على المحدود أو على الزاني وإن حد؛ لذلك صلى عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فجمع بين المصلحتين: جواز صلاة الإمام على أصحاب الذنوب والمعاصي إن تابوا منها وأقيم الحد عليهم، ويترك ذلك أحياناً لزجر الأحياء ألا يقعوا في مثل هذه الجرائم والمهلكات.
فالراجح: النظر إلى المصلحة، إن دعت إلى الصلاة صلى الإمام، وإن دعت إلى ترك الصلاة ترك الإمام الصلاة وأمر الناس أن يصلوا، لكن في كل الأحوال يصلى على المحدود؛ لأنه لا يزال مسلماً، ولكن الخلاف قوي في: هل يصلي الإمام عليه أم يأمر الناس أن يصلوا ويدع الصلاة هو؟ وهذا ينظر فيه إلى مصلحة الأحياء، لا إلى مصلحة الميت فحسب، والله تعالى أعلم.(63/11)
شرح حديث: (الوليدة والغنم رد عليك وعلى ابنك جلد مائة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث -وهو ابن سعد - (ح) وحدثناه محمد بن رمح أخبرنا الليث عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أبي هريرة رضي الله عنه وزيد بن خالد الجهني أنهما قالا: (إن رجلاً من الأعراب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله)] هذا أعرابي، والأعراب فيهم من الغلظة والجفاء ما فيهم؛ ولذلك أتى هذا الأعرابي بشيء من الجفوة وقال: (يا رسول الله! أنشدك الله) يعني: أحلف عليك بالله أن تقضي بيننا بكتاب الله.
أي: بحكم الله، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يحكم إلا بحكم الله فما الداعي إلى أن يقول هذا الرجل مثل هذا القول؟ قال: [(فقال الخصم الآخر وهو أفقه منه: نعم.
فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي)] يعني: ائذن لي يا رسول الله! أن أتكلم، وكان هذا الخصم أكثر أدباً من الأعرابي، وإن كان في كلامه بعض الجفوة كذلك.
قال: [(فقال النبي عليه الصلاة والسلام: قل.
قال: إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته)] أي: ابني كان أجيراً عند هذا الرجل فزنى بامرأته، فهذه المرأة محصنة، أما هذا الرجل الذي زنى فكان بكراً.
قال: [(إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته، وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة)] والوليدة: ابنة الناقة.
أي: ما دام ابني سيرجم لا ترجموه، وخذوا مني بدل الرجم هذا مائة شاة ووليدة.
قال: [(فسألت أهل العلم فأخبروني أنما على ابني جلد مائة وتغريب عام)].
هذا كلام أهل العلم، فهو لما قص عليهم القصة قالوا: لا.
ليس عليه الرجم، ولا يصح منك الافتداء بمائة شاة ولا وليدة.
وإنما على ابنك جلد مائة وتغريب عام.
وهذا يدل على جواز استفتاء أهل العلم في حضرة النبي عليه الصلاة والسلام، أي: في زمنه.
كما يدل على جواز استفتاء المفضول في حضرة الفاضل.
وهذا الكلام محل اتفاق وليس عليه خلاف.
قال: [(فسألت أهل العلم فأخبروني أن ما على ولدي جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم)] فجواب أهل العلم دل على أن الزاني بكر، وأن الزانية محصنة.
قال: [(فقال النبي عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، الوليدة والغنم رد)] أي: الوليدة والغنم رد عليك حتى بعد قضاء القاضي.
وهذا يدل على وجوب أن يرجع القاضي في قضائه إذا تبين خطؤه، لا يقول: انتهى الأمر.
المحكمة حكمت بالإعدام.
وإن قيل: ما زال الرجل لم يعدم.
قالوا: لا.
لا نحرج على القاضي.
فإن قيل: وتقتلون نفساً بريئة حتى لا تحرجون على سيادة القانون؟ إن هذا القانون صنم يعبد من دون الله عز وجل، ولأجل سيادة القانون تراق الدماء ولا حرج.
قال: [(قال: والذي نفسي بيده، لأقضين بينكما بكتاب الله: الوليد والغنم رد)] أي: ترد إلى صاحبها حتى وإن حكم بها.
قال: [(وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام)] فوافق النبي عليه الصلاة والسلام أهل العلم في هذا الحكم.
قال: [(قال: واغد يا أنيس!)] وهو أنيس بن الضحاك الأسلمي، صحابي مشهور من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [(واغد يا أنيس! إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها)]، فاعترفت، فجيء بها إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فأمر برجمها فرجمت.
قال: [(فغدا عليها فاعترفت -أي: أتاها أنيس فاعترفت- فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت)].
قال: [وحدثني أبو الطاهر وحرملة قالا: أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس -فـ عبد الله بن وهب يروي عن يونس بن يزيد الأيلي - (ح) وحدثني عمرو الناقد حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد المدني قال: حدثنا أبي عن صالح - وهو ابن كيسان المدني - (ح) وحدثنا عبد بن حميد أخبرنا عبد الرزاق بن همام الصنعاني عن معمر بن راشد البصري الصنعاني كلهم -يروي- عن الزهري بهذا الإسناد نحوه].(63/12)
باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنا
(باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنا).
يعني: باب وجوب رجم اليهود إذا كانوا أهل ذمة ولجئوا إلى القاضي المسلم ليفصل بينهم، فهناك يهود ليسوا أهل ذمة وإنما هم محاربون، مثل اليهود في فلسطين، فهم يهود، لكن لا ذمة لهم ولا عهد بيننا وبينهم، لكن لو كان هناك عهد أو ميثاق بيننا وبين بعض اليهود فإنه لا يجوز قتلهم ولا قتالهم إلا إذا نقضوا العهد والميثاق، فإذا نقضوا العهد والميثاق لم يكن لهم عندنا عهد ولا ذمة؛ لأنهم هم الذين نقضوا العهد أولاً.
قال: (باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنا) وهذا الباب مبني على أمرين: الأمر الأول: أنهم لجئوا إلينا للفصل في هذه الحدود.
الأمر الثاني وهو محل نزاع عظيم جداً بين علماء الأصول: هل الكفار مطالبون بفروع الشريعة أم لا؟ أي: هل هم مطالبون بفروع شريعة الإسلام من صلاة وصيام وزكاة والتزام للحلال وابتعاد عن الحرام؟(63/13)
مسألة: هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة
هذه المسألة محل نزاع طويل عند علماء الأصول، والراجح: أنهم مطالبون بفروع الشريعة؛ وذلك لأنهم مطالبون اتفاقاً بأصول الشريعة، وأصول الشريعة هي التوحيد والإيمان، وأن شرع الله عز وجل طالب الناس جميعاً بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، وطالبهم بالإسلام، ولذلك اتفق أهل العلم على أن اليهود والنصارى والكفار عموماً مطالبون بأصول الشريعة، وأن شرع الله عز وجل شرع عام للعالمين جميعاً لعالم الإنس مؤمنهم وكافرهم وعالم الجن مؤمنهم وكافرهم.
ووقع الخلاف في فروع الشريعة فيما يتعلق بالكفار هل هم مطالبون؟ قال بعض أهل العلم: ليسوا مطالبين بفروع الشريعة ولم يحققوا أصولها، فكيف يطالبون بالفرع ولم يحققوا الأصل؟ وقال جمهور الأصوليين والعلماء: هم مطالبون بفروع الشريعة وإن لم تقبل منهم إلا بعد أن يحققوا أصول الشريعة.
وهذا هو الرأي الراجح؛ ولذلك لما لجأ اليهودي واليهودية إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليقضي بينهما بكتاب الله عز وجل في حد الزنا قضى عليهما بالرجم، والعجيب أن عند اليهود في توراة موسى التي نزلت عليه -عليه السلام- أن حد الزنا للمحصن الرجم، ولكنهم أرادوا إخفاء ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففضحهم عبد الله بن سلام الحبر الأعظم من أحبار اليهود، فلما تليت التوراة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وضع القارئ من اليهود أصبعه على آية الرجم فقال عبد الله بن سلام: (يا رسول الله! مره فليرفع يده عن هذه الآية.
فأمره النبي صلى الله عليه وسلم فرفع يده فإذا تحتها الرجم)، وهذا يدل على اتفاق شريعة اليهود مع شريعة محمد عليه الصلاة والسلام في أن من زنى وهو محصن فعليه الرجم، وقضى النبي عليه الصلاة والسلام في اليهودي واليهودية بالرجم قضاءً مبرماً في شرعنا.
وهذا يؤخذ منه: أن أهل الذمة إذا لجئوا إلى القاضي المسلم ليحكم بينهم وجب عليه أن يحكم بينهم بشرعنا لا بشرعهم.(63/14)
قضاء النبي صلى الله عليه وسلم في اليهودي واليهودية اللذين زنيا
قال: [أن عبد الله بن عمر أخبره: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بيهودي ويهودية قد زنيا، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء يهود فقال: ما تجدون في التوراة على من زنى؟)] لم يذهب النبي عليه الصلاة والسلام ليستخبرهم ولا ليقضي بين هذين بشريعة اليهود، وإنما ليثبت أن شريعة موسى التي لم تحرف موافقة لشريعته.
قال: [(قالوا: نسود وجوهمما ونحملهما)] يعني: نلطخ وجوه الزناة بالسواد ونحملهما على الجمل.
وفي رواية: (ونجملهما) ومعنى نجملهما: نجعلهما على الجمل.
قال: [(ونخالف بين وجوههما)] أي: نجعل ظهر الرجل على دبر الجمل أو الحمار، والمرأة ظهرها إلى قبالة الجمل أو الحمار، بحيث يصير الزاني والزانية كلاهما يركبان دابة واحدة، وكل واحد ينظر للثاني، ويطوفون بهما المدينة، ويفضحونهما بين الناس.
فقالوا: يا محمد نفعل هذا بالزناة، وهذا الذي نجده في توراة موسى التي نزلت عليه.
قال: [(قالوا: ويطاف بهما.
قال: فأتوا بالتوراة إن كنتم صادقين)] إذا كنتم صادقين في حكمكم هذا وأنكم تجدون حد الرجم على من زنى عندكم أنكم تلطخونه بالسواد، وتخالفون بين وجوههم على الدابة وتطوفون بهم وتفضحونهم فقط؛ فهاتوا التوراة نقرؤها إن كنتم صادقين.
قال: [(فجاءوا بها فقرؤوها، حتى إذا مروا بآية الرجم وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم، وقرأ ما بين يديها وما وراءها)].
يعني: التي قدامها والتي وراءها ولم يقرأ الآية نفسها.
قال: [(فقال له عبد الله بن سلام وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: مره فليرفع يده.
فرفعها فإذا تحتها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما)].
قوله: (فرجما) يدل على أنهما كانا محصنين.
[(قال عبد الله بن عمر: كنت فيمن رجمهما.
فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه)].
فانظر إلى العشق ما يفعل بأصحابه، فهما في الحفرة يذوقان الموت، ومع هذا يدافع عن عشيقته ومحبوبته حتى في لحظة الموت! قال: [وقال ابن وهب: (أخبرني رجال من أهل العلم منهم مالك بن أنس)].
وهذا الحديث ليس فيه جهالة؛ لأنه قال: أخبرني رجال من أهل العلم منهم مالك بن أنس، كما لو قال: أخبرني مالك بن أنس، فلو قال ابن وهب: أخبرني رجال من أهل العلم عن فلان فإنه يصير في الحديث جهالة؛ وبالتالي يصير ضعيفاً؛ وذلك لأن هذا المجهول لا نعلم عينه وبالتالي لا نعلم حاله، فإذا جهلنا عين الراوي جهلنا ما إذا كان ثقة أو غير ثقة، عدلاً أو غير عدل، ضابطاً أو غير ضابط، وإذا قال الراوي: حدثني الثقة عن فلان، اختلف أهل العلم في مثل هذا، فبعضهم قال: يصحح الحديث على مسئولية هذا الراوي الذي وثق شيخه وإن أخفى علينا عينه، لكن الراجح وهو مذهب جماهير المحدثين: أن قول الراوي: حدثني الثقة إسناد ضعيف؛ للجهالة؛ لأنه إذا كان عنده ثقة فلم لم يسمه؟ وربما يكون ثقة عنده، ولكنه ضعيف عند غيره وعند التحقيق والتدقيق؛ ولذلك لا بد من التصريح بعين الراوي حتى نعلم حاله.
فقول ابن وهب هنا: أخبرني رجال من أهل العلم.
لو اكتفى بهذا لقلنا: هذا الإسناد ضعيف.
لكنه قال: [منهم مالك]، ومالك ثقة، ويصح به الإسناد وحده، فما بالك وقد حدث ابن وهب أناس آخرون من أهل العلم متابعون لـ مالك بن أنس؟ قال: [أن نافعاً أخبرهم عن ابن عمر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم في الزنا يهوديين: رجلاً وامرأة زنيا، فأتت اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما) وساقوا الحديث بنحوه] أي: بمثل الحديث الأول.
فإن قيل: كيف رجم اليهوديان بالبينة أم بالإقرار؟ قلنا: ربما كان ذلك بالبينة أو بالإقرار، ولا حرج أن يقام الحد بالبينة أو الإقرار.(63/15)
شرح حديث البراء بن عازب في رجم اليهودي الذي زنى
قال: [عن البراء بن عازب قال: (مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمماً مجلوداً -يعني: مسوداً وجهه بالفحم مجلوداً- فدعاهم صلى الله عليه وسلم فقال: هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم.
فدعا رجلاً من علمائهم فقال: أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى! أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال: لا)] النبي عليه الصلاة والسلام يقول له: أستحلفك بالله يا رجل! فأنت حبر من أحبار اليهود، هل في كتابكم حد الزاني المحصن أنكم تسودون وجهه وتجلدونه؟ هل هذا حد الزنا عندكم؟ فأجاب: لا.
وهذا يدل على أن يهود الزمن الماضي أفضل من شارون القذر الوسخ ومن معه؛ لأن اليهود لو تستحلفهم مليون مرة يكذبون، ولكن كان جواب اليهودي للنبي صلى الله عليه وسلم يقول له: (لا.
ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك) يعني: الأصل فيه الكذب.
قال: [(ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجده الرجم)] أي: يا محمد! نجد في كتابنا الرجم.
قال: [(ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد؛ فقلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع)] بدلاً من أن نقيم الحد على الوضيع ونترك الشريف نتفق على عقوبة يستوفيها الشريف والوضيع.
قال: [(فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه، فأمر به فرجم، فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة:41] إلى قوله: {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} [المائدة:41] الآية في سورة المائدة.
يقول: ائتوا محمداً صلى الله عليه وسلم، فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه)] لماذا؟ لأن هذا يوافق ما افتريتموه، وحاشا النبي عليه الصلاة والسلام أن يوافقهم.
قال: [(وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا أن تأخذوه)]؛ لأنه سيردكم إلى ما كان من أمركم الأول.
قال: [(فأنزل الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47])] هذه ثلاث آيات في كتاب الله في سورة المائدة نزلت خاصة في اليهود، لكن مذهب جماهير العلماء أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهذه الآيات في المسلم كما أنها في الكافر على تفصيل طويل ليس هذا محله.(63/16)
حديث جابر وابن أبي أوفى في الرجم
قال: [أخبرني أبو الزبير عن جابر قال: (رجم النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من أسلم ورجلاً من اليهود وامرأته)] معنى (امرأته): التي زنى بها، يعني: خليلته وعشيقته وليست امرأته.
ولذلك أتى في رواية أخرى: (رجم النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من أسلم ورجلاً من اليهود وامرأة) ولم يقل: وامرأته.
فالمقصود: صاحبته التي زنى بها.
قال: [عن أبي إسحاق الشيباني قال: (سألت عبد الله بن أبي أوفى: هل رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم.
قال: قلت: بعدما أنزلت سورة النور أم قبلها؟ قال: لا أدري)] عبد الله بن أبي أوفى هذا صحابي مصري كبير، من أجلاء علماء مصر، ومع هذا يقول فيما لا يعلمه: لا أدري.
والعلماء يقولون: من أخطأ كلمة (لا أدري) فيما لا يعلم فقد أصيبت مقاتله.
أي: فقد قتل نفسه؛ لأنه قال على الله تعالى بغير علم، وهذا حرام.
قال: [عن أبي هريرة أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها -بالإقرار أو بالحمل- فليجلدها الحد ولا يثرب عليها -يعني: لا يسبها ولا يشتمها ولا يعيرها- ثم إن زنت فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر)].
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(63/17)
شرح صحيح مسلم - كتاب الحدود - إذا زنت الأمة فتبين زناها
لقد أوجب الإسلام حد الزنا على الزاني سواء كان حراً أم عبداً، إلا أنه خفف الحكم في حق العبد فجعله نصف ما على الحر، وأسقط عنه حد الرجم، فيجلد نصف الحد خمسين جلدة، ولا يرجم لأن في رجمه إهداراً لمال سيده، كما أباح الدين للسيد إقامة الحد على عبده أو أمته إذا ثبت منهما الزنا، ونهى عن التثريب، كما أمر أيضاً بتأخير الحد على النفساء والمريضة إلى البرء.(64/1)
تابع باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنا
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وبعد فما زلنا في باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنا.(64/2)
شرح حديث أبي هريرة: (إذا زنت أمة أحدكم فليحدها الحد ولا يثرب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثني عيسى بن حماد المصري أخبرنا الليث -وهو ابن سعد المصري - عن سعيد بن أبي سعيد] وهو المقبري.
لقبه: المقبري، وكذلك هذا اللقب ثابت لأبيه، قيل: لأنه كان بين بيته وبين المسجد مقبرة، فكان إذا ذهب إلى المسجد مر بها، وقيل: لأنه كان يسكن بجوار المقابر فلقب بـ المقبري تمييزاً لمن سمي (سعيد) في ذاك الزمان، وفي ذلك المكان، فهو سعيد بن أبي سعيد المقبري [عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمعه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها -يعني: ثبت زناها بالبينة- فليجلدها الحد ولا يثرب عليها)] يعني: لا يشتمها ولا يسبها ولا يعيرها ولا يفضحها؛ ولذلك قال يعقوب عليه السلام لبنيه: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف:92] يعني: لا لوم ولا توبيخ ولا مؤاخذة ولا عتب، فكذلك هذا السيد إذا زنت أمته فتبين له زناها -أي: ثبت بالبينة- فما عليه إلا أن يجلدها الحد.
قال: [(ثم إن زنت -أي الثانية- فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زنت -الثالثة- فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر)].(64/3)
شرح حديث أبي هريرة في بيع الأمة إذا تكرر زناها
وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم جميعاً عن ابن عيينة -وهو سفيان (ح) -يبدأ إسناد جديد- وحدثنا عبد بن حميد أخبرنا محمد بن بكر البرساني أخبرنا هشام بن حسان كلاهما عن أيوب بن موسى].
كلاهما أي: ابن عيينة وهشام بن حسان، ابن عيينة في الإسناد الأول، وهشام بن حسان في الإسناد الثاني، كلاهما يروي عن أيوب بن موسى.
انتبه إلى هذين الإسنادين، فقد التقيا عند أيوب بن موسى؛ لأن أيوب بن موسى سيتابعه كثرة من الرواة.
قال: [(ح) وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة - حماد بن أسامة - وابن نمير] محمد بن عبد الله بن نمير، ومن قبل قلت: إذا قال مسلم: حدثنا ابن نمير فهو محمد بن عبد الله بن نمير، وإذا كان ابن نمير في طبقة شيوخ الإمام مسلم سيكون هو الوالد، هو اسمه عبد الله بن نمير.
قال: [عن عبيد الله بن عمر].
وهذا هو الثاني المتابع لـ أيوب بن موسى.
إذاً أيوب بن موسى في الإسنادين الأولين وأنهما التقيا عنده، وفي الإسناد الثاني عبيد الله بن عمر العمري.
قال: [(ح) وحدثني هارون بن سعيد الأيلي حدثنا ابن وهب حدثنا أسامة بن زيد الليثي].
وهذا هو الثالث.
إذاً: أيوب وعبيد الله العمري وأسامة بن زيد الليثي.
قال: [(ح) وحدثنا هناد بن سري وأبو كريب - محمد بن العلاء الهمداني - وإسحاق بن إبراهيم -المعروف بـ ابن راهويه - عن عبدة بن سليمان عن محمد بن إسحاق] الإمام الكبير صاحب المغازي.
هؤلاء الأربعة: أيوب وعبيد الله العمري وأسامة بن زيد الليثي ومحمد بن إسحاق إمام المغازي قال الإمام: كل هؤلاء -أي: الأربعة الذين ذكرناهم- عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة.
يعني: بالإسناد الثالث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهو معروف بـ سعيد بن أبي سعيد المقبري أو يدعى سعيد المقبري، وأحياناً يقول الرواة: حدثنا المقبري.
فإن كان في طبقة نازلة فهو سعيد، وإن كان في طبقة عليا فهو أبو سعيد.
قال: [عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن ابن إسحاق -أي: كل هؤلاء يروون الحديث على نحو واحد إلا ابن إسحاق - قال في حديثه عن سعيد عن أبيه -فـ سعيد بن أبي سعيد يروي عن أبيه- عن أبي هريرة]، ويروي عن أبي هريرة، وهذه في الحقيقة مسألة قد أخذها علماء النقد وانتقدوا هذه الروايات، هل هي راوية سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة، أم روايته مباشرة عن أبي هريرة؟ فرواية سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة، أو روايته عن أبي هريرة مباشرة محل نزاع بين أهل العلم؛ ولذلك هذا الإسناد ليس على شرط البخاري إنما هو على شرط مسلم، ولو رجعت لترجمة سعيد، أو ترجمة أبيه عن أبي هريرة لوجدت تفصيلاً يغني طالب العلم فيما يتعلق بروايته والحكم عليها، وعلى أية حال هي في مرتبة الحسن لذاته ولا تقل عن ذلك.
قال: [غير أن ابن إسحاق قال في حديثه: عن سعيد عن أبيه -ولم يقل: عن سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم- قال في جلد الأمة إذا زنت ثلاثاً: (ثم ليبعها في الرابعة)].
إذاً: هذه رواية أيوب بن موسى ورواية عبيد الله العمري ورواية أسامة بن زيد الليثي ورواية الليث بن سعد، فهذه الرواية الأولى في الحديث من طريق الليث بن سعد، والليث بن سعد متابع لهؤلاء الأربعة.
فـ أيوب والليث بن سعد وعبيد الله وأسامة بن زيد هؤلاء جميعاً قالوا: (فليبعها ولو بحبل من شعر) بعد الثالثة، وابن إسحاق قال: (فليبعها ولو بظفي(64/4)
كلام النووي في أحاديث حد الأمة إذا زنت فتبين زناها
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وبعد فما زلنا في باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنا.(64/5)
اشتراط الرؤية أو الثبوت لإقامة الحد على الأمة
قال الإمام النووي رحمه الله: (قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها) التثريب: التوبيخ واللوم على الذنب، ومعنى (تبين زناها) أي: تحققه، إما بالبينة وإما برؤية أو علم عند من يجوز القضاء بالعلم في الحدود).
بعض الناس يقول: الحد يثبت بالعلم مطلقاً ولا يلزم فيه الرؤية، فإذا كان المراد بالعلم الإقرار فهذا كلام مستقيم، وإذا كان المراد بالعلم: غير الإقرار -أي: مجرد الأخبار التي تتناقل هنا وهناك واستقرار ذلك وقيامه مقام البينة- فهذا كلام غير سديد؛ ولذلك من قال: إن الحدود تثبت بالعلم مطلقاً فكلامه يحتاج إلى نظر؛ لأنه كلام غير صحيح ولا دليل عليه، والنبي عليه الصلاة والسلام لما سمع بإشاعة الناس عن فلانة أنها بغي وأنها زانية قال: (لو كنت مقيماً الحد على أحد بغير بينة لأقمت الحد على فلانة -أو قال-: على هذه) أي: على هذه المرأة التي تتحدثون عنها ويتحدث الناس كلهم عنها أنها زانية؛ وذلك لأن هذا العلم قام حتى استفاض وتواتر واشتهر بين الناس أن هذه المرأة بغي وزانية، وأنتم تعلمون أن البغايا في زمن الجاهلية وقبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام -كما هو الشأن في بيوت الدعارة في هذه الأيام- يطلبن الرجال صراحة، بل كانت عناقاً في زمن الجاهلية تقف وتضع علماً على صدرها، ويعرف أهل مكة أن عناق إذا وضعت العلم فإنما تطلب رجلاً، فإن استعصى عليها الرجال دعتهم إلى ضيافتها وإلى الوقاع بها صراحة.
هذا الكلام ليس غريباً أن يكون في الجاهلية؛ لأنه مجتمع جاهلي، وهذا الكلام يدار في هذا الزمان -لا أقول: في بلاد أوروبا وبلاد الكفر- بل في بلاد المسلمين، بل أكثر من ذلك أن هذه البيوت وهذه الخرابات مرخصة، وقد اتخذت لها الاحتياطات الكاملة للتأكد من سلامة وصحة هذه البغي.
قال: (تحققه إما بالبينة أو بالرؤية).
هل يشترط في رؤية الزنا بالإماء أربعة؟
الجواب
لا يشترط ذلك، بل لو رآها سيدها فقط ولم يرها معه أحد كان له أن يقيم عليها الحد، وهذا معنى قوله: (فتحقق -أي: زناها- إما بالبينة وإما بالرؤية)؛ لأن بعض الناس يتصور أن أحكام الإماء كأحكام الحرائر سواء بسواء، فالأمة والحرة بينهما فروق، من هذه الفروق: أن الأمة إذا رآها سيدها تزني أقام عليها الحد، وهو الذي يقيم عليها الحد، ولا بأس أن يقيم السلطان الحد عليها، لكن لو أقام السيد على عبده أو أمته الحد فهذا ليس مخالفاً للسنة، وإذا رآها غير سيدها إن أنكرت لا يقام عليها الحد، وإن أقرت فيقام عليها الحد بإقرارها.
هذا كلام الإمام ابن قدامة في المغني.(64/6)
وجوب إقامة حد الزنا على الإماء والعبيد
قال: (وفي هذا الحديث دليل على وجوب حد الزنا على الإماء والعبيد).
وقد كان العرب يعتبرون زنا الإماء والعبيد ليس شيئاً؛ بخلاف الحرائر، فالحرة لا تزني لأن هذا عين العيب، لكن لو رأوا أمة تزني فكأنهم لم يروا شيئاً؛ لأن الأمة ليست كالحرة، ولذلك كان زنا الحرائر عيباً شديداً جداً بخلاف زنا الإماء والعبيد.(64/7)
حكم إقامة السيد الحد على أمته
قال: (وفيه أن السيد يقيم الحد على عبده وأمته.
وهذا مذهبنا ومذهب مالك وأحمد وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم.
وقال أبو حنيفة في طائفة ليس له ذلك).
أي: ليس للسيد أن يقيم الحد على عبده وأمته.(64/8)
سقوط عقوبة الرجم عن العبد والأمة
قال: (وهذا الحديث صريح في الدلالة للجمهور) أي: والرد على أبي حنيفة: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها) أي: فليجلدها هو الحد.
قال: (وفي هذا الحديث دليل على أن العبد والأمة لا يرجمان سواء كانا مزوجين أو لا؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها) ولم يفرق بين مزوجة وغيرها).
وربنا يقول: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} [النساء:25] يعني: تزوجن {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ} [النساء:25] يعني: زنين بعد هذا الإحصان الذي هو الزواج {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء:25] فكيف ينصف الرجم والرجم موت؟ وهل يمكن أن يموت الشخص نصف موت؟ إذاً: الذي ينصف هو الجلد.
وذكر أن مصطفى محمود جاء مرة وكتب عدة مقالات في الجريدة.
قال: أخبروني عن تفسير هذه الآية: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء:25] قال: فأنا أريد أن أفهم هذا الكلام، وهو لا يريد أن يفهم بل هو يتحدى، ويشكك في السنة، فأسياده في الغرب انتهى معين بحورهم النكدة إلى توجيه الشبه لسنة النبي عليه الصلاة والسلام وتفكيك المسلمين والشباب في دينهم وعقيدتهم، فلم يبق أمام مصطفى محمود إلا كلام الله عز وجل، وصدق الله إذ يقول: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82] فلما انتهت حججه وشبهه في سنة النبي عليه الصلاة والسلام استدار بعد ذلك إلى كتاب الله عز وجل.
قال: هذه الآية تقول: إن الإماء إذا أحصن تزوجن فعليهن نصف ما على المحصنات الحرائر من العذاب فكيف ذلك؟ الجلد ينصف؛ لأن الحرة البكر إذا زنت تجلد مائة جلدة وتغرب أو لا تغرب على الخلاف المشهور الذي أخذناه من قبل.
هب أن الراجح: الجلد دون التغريب.
إذاً: الأمة إذا زنت وهي بكر فعليها نصف ما على المحصنة من العذاب، فتجلد خمسين، وإذا أحصنت الأمة وزنت فكيف يكون عليها نصف عذاب الحرة؟ لأن الحرة المحصنة إذا زنت رجمت حتى الموت، فكيف ينصف هذا بالنسبة للأمة المحصنة المزوجة؟ فأراد مصطفى محمود أن يشكك في هذه الآية، وما علم أن إجماع الأمة منعقد على أنه لا رجم على الأمة ولا على العبد، إنما عليهما الجلد، والجلد إما أن يكون قبل الإحصان، فتجلد الأمة، ويجلد العبد بغير عدد ولا يبلغ الخمسين، فإذا أحصن العبد وأحصنت الأمة وزنيا فعليهما نصف ما على الأحرار والحرائر من العذاب، فإذا كانت الحرة قبل الإحصان تجلد مائة فالأمة بعد الإحصان تجلد خمسين، وإذا زنت الأمة قبل الإحصان والزواج فلا عذاب عليها إلا من باب اللوم والتوبيخ والتعزير لا من باب الحد، وهذا التأديب والتعزير يصدر من السيد إلى عبده وأمته، فلا يكون الحد في حق الإماء والعبيد إلا بعد الإحصان، ولا يزيد عن خمسين جلدة.
هذا في المرة الأولى والثانية والثالثة واختلف في بيعها بعد ذلك.
هل تباع بعد الثالثة أم بعد الرابعة؟ على الشك الوارد في الروايات هنا، فإذا قلنا: تباع بعد الثالثة فهذا ظاهر الروايات وإذا قلنا: تباع بعد الرابعة فهذا أمر يرجع إلى اجتهاد السيد وأخذه بأحد القولين، وإذا باعها يبيعها بأبخس الأثمان ويعرِّف المشتري ببيعها.
قال: (وفي هذا الحديث دليل على أن العبد والأمة لا يرجمان سواء كانا مزوجين أم لا، لقوله عليه الصلاة والسلام: (فليجلدها الحد) ولم يفرق بين مزوجة وغيرها.
وفي هذا الحديث أنه لا يوبخ الزاني بل يقام عليه الحد فقط)، لا يوبخ أياً كان حراً أو عبداً لا يوبخ؛ لأنها معصية ارتكبها في وقت غفلة، وهي من باب إعانة الشيطان عليه، وأنتم تعلمون أن النبي عليه الصلاة والسلام لما رجم الغامدية سبها خالد وقال فيها قولاً شديداً، وفي إحدى الروايات لما رجع عليه الدم قال: يا زانية! فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تفعل) أي: لا تقل ذلك، فإنها تابت توبة لو تابها سبعون من أهل المدينة لوسعتهم.
ففي هذا: إثبات رحمة النبي عليه الصلاة والسلام لأصحاب المعاصي واحترام آدميتهم وكرامتهم وتقدير توبتهم، وأنهم يغسلون من هذا الذنب غسلاً كأنه لم يكن، وأن الله تعالى لا يحاسبهم على ذلك يوم القيامة؛ لأنكم تعرفون أن مرتكب الكبيرة ليس كافراً كما هو مذهب الخوارج، بل لا تسلب عنه الأخوة الإيمانية؛ لأن الأخوة الإيمانية ثابتة للفاسق الملي كما عبر بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في الواسطية فقال: (لا يسلب اسم الإيمان عن الفاسق الملي) أي: على من كان على ملة النبي عليه الصلاة والسلام ودينه، فإنه يفسق بكبيرته، ويثبت له الإيمان على قدر ما عنده من إيمان، فمرتكب الكبيرة عند أهل السنة مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، خلافاً للمعتزلة الذين جعلوه في الدنيا في منزلة بي(64/9)
حكم من تكرر منه ما يستوجب الحد
قال: (قوله عليه الصلاة والسلام: (إن زنت فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر) فيه أن الزاني إذا حد ثم زنا ثانياً يلزمه حد آخر).
وهذا في كل الحدود، فالسارق إذا سرق تقطع يده اليمنى، فإذا سرق الثانية تقطع اليسرى، فإذا سرق الثالثة تقطع رجله اليمنى، فإذا سرق الرابعة تقطع اليسرى، وكالذي شرب الخمر مرة وجاء وأقر أو رآه الناس يشرب الخمر فأقيم عليه حد الخمر، فرجع فشرب مرة أخرى فأقيم عليه مرة ثانية، ورجع فشرب ثالثاً فأقيم عليه الحد، وفي الرابعة خلاف بين أهل العلم، وأرجح الأقوال فيه: أنه إذا شرب الرابعة يقتل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا شرب فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه)، وأنتم تعرفون الشيخ أحمد شاكر عليه رحمة الله، له كتاب رائع جداً، اسمه: (قتل مدمني الخمر) واعتبر أن العود للسكر والشرب مرة ثالثة ورابعة إدمان، والنص صريح في مسند الإمام أحمد: (إذا شرب فاجلدوه، ثم إذا عاد فاجلدوه، ثم إذا عاد فاجلدوه، ثم إذا عاد في الرابعة فاقتلوه).
والشيخ أحمد شاكر صحح هذه الرواية، ثم انطلق بعد ذلك إلى الحياة العملية للإفتاء، وأنتم تعرفون أن الرجل هذا كان قاضياً شرعياً، وكان من القضاة المرموقين في زمانه، وكان جريئاً في الحق لا يخشى في الله لومة لائم، فقال: الحكم الشرعي في مدمن الخمر: القتل وهذا الذي تطمئن إليه النفس لصحة الدليل وقوته وصراحته؛ لأنه لا يحتاج إلى تأويل، فكذلك الذي يرتكب أي حد من حدود الإسلام يطبق عليه فإن عاد يطبق.
فإن قيل: شخص زنا ثم زنا ثم زنا ثم أتى فأقر بين يدي القاضي قال: أنا يا سيدي القاضي! زنيت مائة مرة، فهل نقيم عليه الحد مائة مرة؟ إذا جاز هذا عقلاً في غير المحصن؛ فإنه لا يجوز عقلاً ولا شرعاً في المحصن، فالمحصن لو جاء وقال: أنا متزوج، وقد زنيت أربع مرات فهل يقول القاضي: نرجمك أربع مرات؟ فلما اتفق أهل العلم على أن من ارتكب ما يستوجب الحد أقيم عليه فإن عاد أقيم عليه ثانياً، لكن إذا ارتكب ما يستوجب الحد عدة مرات فلا يقام عليه الحد إلا مرة واحدة، سواء كان محصناً أو غير محصن.
قال: (الزاني إذا حد ثم زنا ثانياً يلزمه حد آخر، فإن زنا ثالثة لزمه حد ثالث، فإن حد ثم زنا لزمه حد رابع وهكذا أبداً، قال: وأما إذا زنا مرات ولم يحد لواحدة منهن فيكفيه حد واحد للجميع، فإذا شرب مراراً ولم يحد في واحدة فإنما يلزمه حد واحد).(64/10)
الحث على ترك مخالطة الفساق
قال: (وفي هذا الحديث ترك مخالطة الفساق وأهل المعاصي وفراقهم؛ وهذا البيع المأمور به مستحب ليس بواجب عندنا وعند الجمهور).
أخذنا هذا من قوله: (فإذا زنت الثالثة فليبعها ولو بضفير) يعني: يتخلص منها، وأنتم تعلمون أن مرتكب الكبيرة فاسق، وهذا الحديث يقول: وفي هذا استحباب التخلص من صحبة ومخالطة الفساق بترك صحبتهم وفراقهم، وهناك آيات وأحاديث كثيرة جداً تحث على صحبة أهل الإيمان، وعلى ملازمة أهل الإيمان وخاصة أهل العلم؛ لأنهم أعلم الناس بالله وأعلم الناس بكلامه وبكلام رسوله عليه الصلاة والسلام وأحواله وسننه وأيامه، وهم الذين يناط بهم في الدرجة الأولى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصلاح العباد والبلاد وغير ذلك، فمخالطتهم أنفع لمن خالطهم.(64/11)
حكم بيع الأمة إذا تكرر زناها
قال: (وهذا البيع المأمور به مستحب، وليس بواجب عندنا وعند الجمهور.
وقال داود الظاهري: هو واجب).
ولم يصرفه صارف.
والصارف عند الجمهور: أن هذا العبد أو تلك الأمة ملك لسيدها، والمعلوم أن المالك لا يحمل على بيع ما يملك؛ لأن هذا أمر مستقر، فأنت تملك الكتاب الذي معك وليس لأحد قط أن يحملك على بيع هذا الكتاب الذي معك؛ لأنه ملكك، ولو كانت ملكيتك للكتاب مشروطة بأن تبيعه لأول آمر يأمرك ببيع هذا الكتاب فلا تكون الملكية لهذا الكتاب ملكية حقيقية؛ ولذلك حمل الجمهور الأمر للسيد ببيع أمته الزانية على أنه أمر استحباب وندب، وليس أمر وجوب؛ حتى لا يتعارض هذا مع الملكية الحقيقة لهذه الأمة.
والله أعلم.
قال: (وفي هذا الحديث جواز بيع الشيء النفيس بثمن حقير)، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (فليبعها ولو بضفير).
أي: بعها ولو ببسيط.
يعني أي: أنصحك تتخلص منها ولو بأقل الأثمان.
قال: (وفيه جواز بيع الشيء النفيس بثمن حقير، وهذا مجمع عليه إذا كان البائع عالماً به).
يعني: البائع يعرف أنه يبيع سلعة غالية فيبيعه بأبخس الأثمان؛ إذلالاً واحتقاراً لهذا الشيء رغم أنه في نفسه ثمين.
قال: (فإن كان جاهلاً فعند الجمهور جهله وعلمه سواء).
واحد اشترى أمة بـ (100) جنيه، ولما فعلت فعلتها كان ثمنها عند الناس (1000) جنيه، وهو لا يعرف شيئاً عن هذا الغلاء.
فلما باعها بـ (100) جنيه فوجئ بعد بيعها أنها صارت عند الناس بألف، فعند الجمهور سواء، سواء علم بغلائها أو برخصها أو جهل غلاءها.
قال: (ولأصحاب مالك فيه خلاف).
أي: في هذه المسألة لـ مالك خلاف مشهور معروف (وهذا المأمور به يلزم صاحبه أن يبين حالها للمشتري؛ لأن هذا عيب في السلع)، فالعبيد والإماء يملكها الأسياد، ومن أراد أن يبيع سلعة يجب أن يبين عيبها إذا كان يغلب هذا العيب على السلعة، وهذا ليس فيه فضح للأمة إذا زنت؛ لأنه يخبر المشتري الذي تكون له ولاية عليها بعد الشراء، فلابد أن يعلم عيبها، إذا إن عيبها عيب خفي والعيب الخفي حكمه: أن يبينه البائع، فإن قبل المشتري أن يشتري السلعة بهذا العيب فليس للمشتري أن يرجع ويقول: أنت أعطيتني أمة زانية؛ لأن البائع قد أخبره أنها زانية، فليس للمشتري أن يرجع، لكن إذ كان هذا العيب خفياً وأخفاه البائع، ثم تبين للمشتري بعد ذلك أن هذه الأمة زانية أو أنها صرحت لسيدها الثاني أن سيدها الأول باعها لأجل الزنا، فله أن يرجع؛ لأن البائع أخفى عيباً لا يظهر في الغالب، لكن إنما إذا كان العيب من العيوب الظاهرة فليس من حقه أن يرجعه، كالعبد الأعمى الذي يباع، فليس للمشتري حق في إرجاعه وإلا أصبح أعمى مثله! لأنه كيف يشتري عبداً من غير أن ينظر فيه؟ قال: (فإن قيل: كيف يكره شيئاً ويرتضيه لأخيه المسلم؟) يعني: كيف يكره لنفسه أن يمسك هذه الأمة عنده ويبيعها له؟ مع أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) وهو نفسه الذي يقول: (فإن زنت الثالثة فبعها ولو)؟
الجواب
النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمرنا بالبيع، لكن بشرط إظهار العيب، فالناس درجات ومراتب.(64/12)
بيان معنى إحصان الأمة والرد على شبهة مصطفى محمود في ذلك
قال: (وفي الحديث الآخر: (أن علياً رضي الله تعالى عنه خطب فقال: (يا أيها الناس أقيموا على أرقائكم الحد، من أحصن منهن ومن لم يحصن).
قال الطحاوي: وفي الرواية الأولى لم يذكر أحد من الرواة قوله: (ولم يحصن) غير مالك وأشار بذلك إلى تضعيفها.
وأنكر الحفاظ هذا على الطحاوي.
قالوا: بل روى هذه اللفظة أيضاً: ابن عيينة ويحيى بن سعيد عن ابن شهاب كما قال مالك، فحصل أن هذه اللفظة صحيحة، وليس فيها حكم مخالف؛ لأن الأمة تجلد نصف جلد الحرة، سواء كانت الأمة محصنة بالتزويج أم لا.
وقوله هنا: (محصنة بالتزويج) من أجل أن يبين أن الإحصان المذكور في الآية وهو التزويج؛ لأن بعض أهل العلم قال: الإحصان هو الإسلام، فبين هنا أن القول الراجح من أقوال المفسرين: أن الإحصان المقصود به: التزويج.
قال: (وفي هذا الحديث بيان من لم يحصن، وقوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء:25] فيه بيان من أحصنت، فحصل من الآية الكريمة والحديث بيان أن الأمة المحصنة بالتزويج وغير المحصنة تجلد -إذاً: الأمة سواء كانت محصنة أو غير محصنة فالحكم فيها الجلد- وهو معنى ما قاله علي رضي الله عنه وخطب الناس به قال: (أقيموا على أرقائكم الحد من أحصن منهن ومن لم يحصن) -أي: الاثنين سواء- فإن قيل: فما الحكمة في التقييد في قوله تعالى: (فإذا أحصن) مع أن عليها نصف جلد الحرة سواء كانت الأمة محصنة أم لا؟ ف
الجواب
أن الآية نبهت على أن الأمة وإن كانت مزوجة لا يجب عليها إلا نصف جلد الحرة).
يعني: ألا تعرفون أن الأمة إذا لم تتزوج تجلد على النصف من جلد الحرة؟! وهذا أحد المناهج، فإذا كنتم تعلمون ذلك فاعلموا أن هذا حكم جار حتى في حق الإماء بعد الإحصان، وهذا الذي نبهت عليه الآية.
قال: (لأنه الذي ينتصف -أي: الجلد دون الرجم- وأما الرجم فلا ينتصف، فليس الرجم مراداً في الآية بلا شك، فليس للأمة المزوجة الموطوءة في النكاح حكم الحرة الموطوءة في النكاح، فبينت الآية هذا؛ لئلا يتوهم أن الأمة المزوجة ترجم).
وبهذا نكون رددنا على شبهة مصطفى محمود.
قال: (وقد أجمع أهل العلم على أنها لا ترجم سواء كانت محصنة أو غير محصنة، وأما غير المزوجة فقد علمنا أن عليها نصف جلد المزوجة بالأحاديث الصحيحة، منها حديث مالك هذا، وباقي الروايات المطلقة: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها) وهذا يتناول المزوجة وغيرها.
وهذا الذي ذكرناه من وجوب نصف الجلد على الأمة سواء كانت مزوجة أو لا، وهو مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد وجماهير علماء الأمة.
وقال جماعة من السلف: لا حد على من لم تكن مزوجة من الإماء والعبيد، ممن قاله: ابن عباس وطاوس وعطاء وابن جريج وأبو عبيدة).
إذاً: الأمة غير المحصنة إذا زنت عقابها توبيخ ولوم وتأديب -أي: من باب التعزير- وهذا مذهب ثالث.
وهذه المذاهب الثلاثة قد ذكرها الإمام ابن كثير عليه رحمة الله بالتفصيل في شرح هذه الآية من سورة النساء، فيمكنك الرجوع إليها.(64/13)
باب تأخير الحد عن النفساء
قال: (باب: تأخير الحد عن النفساء) النفساء هي: المرأة حديثة الولادة، أو المرأة التي وضعت.
والنفاس يختلف عن الحيض، إذ إن الحيض: هو العادة الشهرية التي تحدث للمرأة، أما النفاس: فهو المدة الزمنية التي تقضيها المرأة غير طاهرة بعد الولادة، وأقصاها عند عامة النساء: أربعون يوماً، كما في حديث أم سلمة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن مدة النفاس أربعون يوماً)، وهذا الأصل العام لا يمنع أن يقل النفاس عن هذه المدة أو يزيد أو ينقطع في أثناء هذه المدة ثم يعود، لكن الغالب عند عامة النساء أن هذه المدة أربعون يوماً.
قال الإمام: (باب تأخير الحد عن النفساء).
يعني: لا تحد الزانية في نفاسها، كما أنها لا تحد في أثناء حملها، وهذا بالاتفاق، أما الحد في الرضاع فمحل نزاع، فبعضهم يعتمد على حديث الغامدية ويقول: لا تحد في الرضاع مطلقاً.
والبعض يقول: تحد في الرضاع إذا كان هناك من يرعى هذا الرضيع.
قال: [حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي حدثنا سليمان أبو داود الطيالسي حدثنا زائدة بن قدامة عن السدي عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن.
قال: خطب علي رضي الله عنه فقال: (يا أيها الناس! أقيموا على أرقائكم الحد.
من أحصن منهم ومن لم يحصن، فإن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت، فأمرني أن أجلدها، فإذا هي حديث عهد بنفاس فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها؛ فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: أحسنت) إذاً: الحجة في تقرير النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [وحدثناه إسحاق بن إبراهيم أخبرنا يحيى بن آدم حدثنا إسرائيل عن السدي بهذا الإسناد، ولم يذكر: (من أحصن منهم ومن لم يحصن).
وزاد في الحديث: (اتركها حتى تماثل)] يعني: تعافى من هذا الداء ويذهب داؤها وعلتها.
قال الإمام النووي: (في هذا الحديث: أن الجلد واجب على الأمة الزانية، وأن النفساء والمريضة ونحوهما يؤخر جلدهما إلى البرء، والله أعلم).
وأنتم تعلمون أن الغرض من الجلد ليس الموت، وإنما هو تطهير المرء من الذنب.(64/14)
الأسئلة(64/15)
تقييم كتاب الروح لابن القيم
السؤال
ما رأيك في كتاب الروح لـ ابن القيم وهل تنصح بقراءته؟
الجواب
الحقيقة الكتاب ممتع جداً في الجملة، وذكر مسائل في غاية الأهمية، لكنه خلط وأساء غاية الإساءة في مواطن في أثناء الكتاب، ولذلك العلماء يقولون: هذا الكتاب ليس شبيهاً بكلام الإمام ولا بقلمه ولا بعلمه الراسخ، فمنهم من يقول: ابن القيم ألفه في أول عمره العلمي.
وفي هذا إشارة إلى أن الطالب في أول الطلب لا ينبغي له أن يكتب، وكثير من الشباب يتفرع جداً في هذا الباب، ويكتب كلاماً، ويتصور أن هذا دين ربنا تبارك وتعالى، وأن هذا ليس باباً من أبواب الهوى.
ولا يزال الشيطان ينفخ فيه حتى يطبع ما كتب ويعرض فيه عقله، فعندما يكبر ويعرف العلم على حقيقته يأتي فينظر لكتبه فيتمنى لو أن الأرض تنشق وتبلعه، وقد قعد سنين يعادي من نصحه في أول الأمر بألا يطبع.
وأذكر في هذه المناسبة قصة للشيخ الألباني سنة (1985م): دفع إلينا كتاباً فيه ثمانون ورقة، وقد ألفه وله من العمر ثمانية عشر عاماً.
فسألناه: لم لم تطبعه يا شيخ؟! قال: تركته من أجل أن أريكم وأقول لكم: إنه من العيب على الشخص أن يؤلف كتاباً وهو ما زال عظمه طرياً، فلا بد أن يجيزك أهل العلم أولاً؛ لأن ما كتبت سيقابل ملايين العقول، وكل عقل له منهج في طريقة تفكيره، فكتابك هذا سيمر على كل هذه العقول، فكيف تسوغ لنفسك أن تكتب وأنت ما زلت في مقتبل العمر؟ إذاً: العلماء يقولون: إن صح نسبة كتاب الروح لـ ابن القيم فهو من أخطائه العظيمة جداً، وأحسن العذر أنه ألف ذلك في أول حياته وما طُبع ونشر للناس إلا بعد موته؛ لأن معظم كتب أهل العلم ما طبعت إلا بعد موتهم، فأنا في الجملة لا أنصح بقراءة هذا الكتاب مطلقاً إلا لطالب علم راسخ في عقيدة السلف، خاصة الطالب الذي قرأ في كتب الاعتقاد، وعلم أين مستقر أرواح الكافرين وأرواح المؤمنين وأرواح الشهداء وأرواح الأنبياء، فإذا استقرت هذه العقيدة فلا حرج حينئذ أن تقرأ في كتاب الروح، فإنك بعد استقرار العقيدة في هذه المسألة ستعرف مباشرة أن هذا غلط، لكن حينما يأتي شخص لا يعرف أي شيء عن الروح ويقرأ هذا الكتاب فإنه سيقع في المحذور.(64/16)
الحكم على حديث: (الكيس من دان نفسه) وحديث: (الحجر الأسود يمين في الأرض)
السؤال
بالنسبة لحديث: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت) وحديث: (الحجر الأسود يمين الله في الأرض) أرجو الإفادة في درجة هذين الحديثين وجزاكم الله خيراً، علماً بأن الشيخ الألباني ضعفهما؟
الجواب
في الحقيقة الشيخ محمد عمرو عبد اللطيف عمل رسالة لطيفة جداً منذ حوالي (15) سنة تقريباً اسمها (القسطاس في تصحيح حديث الأكياس)، والمقصود به: جمع كيس، وقد صحح هذا الحديث.
وهذا الكتاب قد أتى فيه الشيخ بقواعد حديثية تنبئ عن تبحره في هذا الفن، لكن للأسف الشديد أن هذه الفرحة لم تستمر؛ لأن الشيخ غير منهجه في مبدأ ترقية الحديث الضعيف إلى الحسن، فبعد أن صنف هذا الكتاب وأثبت أن هذا الحديث صحيح ذهب مرة أخرى إلى ما يخالف ذلك، ورأينا أن الحجج التي انقلب بها الشيخ على هذا الأصل حجج غير قوية، وأن الحجج الأولى أقوى مما هو عليه الآن؛ ولذلك نحن لا زلنا نعتقد أن حديث: (الكيس من دان نفسه) حديث حسن.
أما حديث: (الحجر الأسود يمين الله في الأرض) فهو ضعيف.
وأنا أنسحب من كلامي عندما قلت: إنه حديث صحيح أو حسن؛ وذلك لأنني ذهبت إلى مكتبتي وبحثت الحديث بجدية فإذا بالحديث لا يرتقي قط إلى الحسن.(64/17)
حكم البحث عن الزاني إذا أقرت المرأة بالزنا
السؤال
هل يقاطع الناس المرأة الزانية ويبحثون عمن زنى بها حتى يقام عليه الحد؟
الجواب
أنتم تعلمون أن المرأة الغامدية لما اعترفت بالزنا لم يسألها النبي صلى الله عليه وسلم عمن زنى بها، وإنما أخذها بإقرارها على نفسها لا على غيرها، لكن إذا اتفق عند القاضي إقرار بذكر اسم الزاني طالبه القاضي بالإقرار، فإن أقر أقام عليه الحد، وإن أنكر لم يقم عليه الحد، وإنما يقيم على من أقر.
وأنتم تعلمون أن رجلاً كان له ولد أجير عند فلان فزنى بامرأته، فأفتوه أناس بفتاوى، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: اقض فينا بكتاب الله عز وجل قال: (نعم.
الغنم والوليدة رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة والرجم، واذهب يا أنيس إلى امرأة هذا فإن هي اعترفت فارجمها، فذهب أنيس إليها فاعترفت فرجمها).
ومفهوم المخالفة: فإن لم تعترف لا ترجمها.
ومن هنا يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ما أرسل إلى هذه المرأة إلا لما ذكر له أن الزنا وقع بها، وأنها امرأة هذا الرجل الذي جاء إليه يطلب قضاءه، فعندما يذهب شخص إلى القاضي ويقول: أنا زنيت، فيقول له: بمن؟ فهذا قاضٍ جاهل لا يعرف شيئاً عن القضاء.(64/18)
حكم الأخذ من اللحية
السؤال
هل يجوز الأخذ من اللحية؟
الجواب
من حيث الجواز يجوز، وقد فعله كثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كـ أبي هريرة وسلمان وأبو الدرداء وعبد الله بن عمر، وكان عبد الله بن عمر إذا حج أو اعتمر -وهو راوي أحد الأحاديث في وجوب إطلاق اللحية- قبض على لحيته فأخذ ما فضل.
وكان هذا يعرف من ابن عمر؛ ولذلك الشيخ الألباني رحمه الله كان يذهب في أول الأمر إلى وجوب إطلاق اللحية وحرمة الأخذ منها.
وأنا ليس لي علاقة بفعل عبد الله بن عمر؛ لأن السنة تقول: أطلقوا أعفوا أرخوا وهذه كلها تدل على الإطلاق بلا قيد، حتى اللغة تدل على عدم الأخذ، إنما كون عبد الله بن عمر خالف ذلك بأن أخذ من لحيته ففعله هذا يدخلنا في مسألة أصولية وهي: لو أن صحابياً روى شيئاً فخالفه فالحجة بروايته أم بفعله؟
الجواب
الحجة في روايته.
ومذهب آخر يقول: الحجة في فعله.
قالوا: لأنه لابد أن يكون عنده ناسخ لهذا القول أو مبيح أو مجيز، وإلا فظاهر الصحابة أنهم لا يخالفون سنة النبي عليه الصلاة والسلام.
ورد الجمهور عليهم وقالوا: لا.
ما خالف روايته إلا لغلبة الظن أنه قد نسي الرواية فعمل بخلافها، والنسيان لا يقدح في عدالة الراوي.
فأقول: هذه محل نزاع بين أهل العلم، والشيخ الألباني رحمه الله بعدما كان متشدداً جداً في حرمة الأخذ من اللحية الآن يذهب إلى وجوب الأخذ من اللحية، والعجيب أنه يذهب للوجوب، فلو قال: (الجواز فقط) لا بأس؛ لأن الوجوب يقتضي إثم من لم يأخذ من لحيته شيء فلو قال الشيخ الألباني بجواز الأخذ من اللحية لكان الكلام مستقيماً، لكن الشيخ يقول بالوجوب وهذا ما لم يوافقه عليه أحد، وله حجج كلها عقلية، وأما حجة شرعية، أو نص ثابت في إثبات الوجوب وحرمة الإطلاق فهيهات أن يكون هناك دليل على هذا الكلام!(64/19)
حكم من دخل المسجد وصلى وهو جنب
السؤال
ما حكم الدين في رجل دخل المسجد وهو جنب، وهو يعلم ذلك، وصلى مخافة أن يقول عليه الناس: (إنه لا يصلي)، فهل عليه كفارة لهذا الذنب؟
الجواب
هذا قد جعل الله تعالى أهون الناظرين إليه، يخاف من الناس ولا يخاف من الله، ويقف بين يديه وهو جنب! هذا الفعل محرم، وعلى صاحبه أن يتوب إلى الله عز وجل منه.
وقد استقر في أذهان العوام: أن الشخص لو ذهب إلى بيت واحد من أصحابه وأجنب يصلي وهو جنب ولا يطلب الغسل؛ لكي لا يسيء صاحب البيت به الظن!! وهذا لا يصح، فهذه حدود وهذا شرع ربنا تبارك وتعالى.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(64/20)
شرح صحيح مسلم - كتاب الحدود - حد الخمر [1]
الخمر ما خامر العقل وغطاه، وقد جاء تحريم الخمر في كتاب الله عز وجل، وجاءت السنة ببيان حده، فجلد النبي صلى الله عليه وسلم فيها أربعين جلدة، وجلد بعده الصديق مثل ذلك، فلما كان في عهد عمر جلد فيها ثمانين جلدة، وكل ذلك سنة.(65/1)
باب حد الخمر
بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
فمع الباب الثامن من كتاب الحدود وهو باب: حد الخمر.
والخمر هو: كل ما خامر العقل.
أي: ستره وغطاه.
وهذا طبعاً عند جماهير العلماء، خلافاً للأحناف؛ فإنهم يقولون: إن الخمر لا يكون إلا من عصير العنب فقط، أما عند جماهير العلماء هو كل ما أسكر أو كل ما خامر العقل.(65/2)
شرح حديث أنس بن مالك في جلد شارب الخمر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال: سمعت قتادة يحدث عن أنس بن مالك: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين)].
فالذي يجلد بجريدة أربعين جلدة يكون قد جلد أربعين، والذي يجلد بجريدتين أربعين يكون قد جلد ثمانين، والذي يجلد بثلاث جرائد يكون قد جلد مائة وعشرين وهكذا، كما قال الله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص:44] والضغث: هو حزمة من شماريخ النخل، وهي متشعبة جداً.
فلما أقسم أيوب عليه السلام أن يضرب امرأته مائة ضربة وشق عليه ذلك أنزل الله تعالى التخفيف فقال: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} [ص:44] أي: من هذه النخلة.
قال: {فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص:44] أي: فاضرب به حتى لا تحنث في يمينك.
فالذي يضرب بشيئين يكون قد ضرب ضربتين، والذي يضرب بثلاث يكون قد ضرب ثلاثاً، فهنا لما جيء برجل قد شرب الخمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ضربه بجريدتين أربعين.
وفي هذه الرواية: (نحو أربعين) يعني: تقريباً.
وكلمة: (نحو) تدل على أن العادَّ لم يُحص العد على وجه الدقة والحساب، وإنما قدر ذلك تقديراً، فكان نحو أربعين.
قال: [قال: (وفعله أبو بكر)]، والضمير يعود على هذا العقاب الذي أوقعه النبي عليه الصلاة والسلام بشارب الخمر.
(وفعله) أي: فعل هذا الحد أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
قال: [(فلما كان عمر استشار الناس، فقال عبد الرحمن - وهو ابن عوف -: أخف الحدود ثمانين، فأمر به عمر)].
والحدود التي أمر الله عز وجل بها في كتابه منصوص عليها، كحد الزنا مائة جلدة لغير المحصن، وحد السارق قطع اليد، وأخف هذه الحدود حد القذف؛ فإن حد القذف المنصوص عليه في القرآن ثمانون جلدة، فلما استشار عمر أصحابه: كيف يحد شارب الخمر؟ قالوا: يا أمير المؤمنين! حده بأخف الحدود المنصوص عليه في القرآن الكريم.
فأخف الحدود حد القذف وهو ثمانون جلدة، فأنفذها عمر رضي الله عنه في حق شارب الخمر.
قال: [وحدثنا يحيى بن حبيب الحارثي قال: حدثنا خالد - يعني: ابن الحارث - حدثنا شعبة حدثنا قتادة قال: سمعت أنساً يقول: (أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل) فذكر نحو الحديث السابق.
حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا معاذ بن هشام - وهو ابن أبي عبد الله الدستوائي - يحدث عن أبيه عن قتادة عن أنس بن مالك: (أن نبي الله صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال)].
يعني: يضرب الحد بالنعل كما يضربه بالجريد والعصي.
قال: [(ثم جلد أبو بكر أربعين، فلما كان عمر ودنا الناس من الريف والقرى)].
حيث سيلان الماء وكثرة الزرع وظهور التمر والعنب واتخاذ الخمر منهما ومن غيرهما كاتخاذه من الشعير والبر وغير ذلك؛ فإنه لما كثرت الفتوحات في زمن عمر وامتدت الرقعة الإسلامية شرقاً وغرباً وكثر الخير وكثر الزرع والثمار اتخذ الناس الخمر من سائر أنواع الزروع والثمار، فكان يجاء بهم إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
قال: [(فلما دنا الناس من الريف والقرى قال عمر رضي الله عنه -لأصحابه -: ما ترون في جلد الخمر؟)] يعني: هل نتشدد فيه أم نبقيه على أمره الأول؟ فبعضهم أقر عمر أن يجلد ثمانين، أقره علي بن أبي طالب كما أقره عبد الرحمن بن عوف.
قال: اجلدهم ثمانين.
مع أن النص الوارد عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه جلد في الخمر نحو أربعين، وجلد على هذا النحو أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
قال: [(قال: ما ترون في جلد الخمر؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: أرى أن تجعلها كأخف الحدود.
قال: فجلد عمر ثمانين)] وهذا حد القذف.
قال: [حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا يحيى بن سعيد - وهو القطان - قال: حدثنا هشام - وهشام هو ابن أبي عبد الله الدستوائي - بهذا الإسناد مثله].
أي: بنفس الإسناد السابق.
قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن هشام عن قتادة عن أنس(65/3)
شرح حديث جلد عثمان بن عفان للوليد بن عقبة في شربه الخمر
قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وعلي بن حجر قالوا: حدثنا إسماعيل] وهو ابن إبراهيم بن مقسم الأسدي الضبي البصري، أمه اسمها علية.
مشهور بالنسبة إليها، يقال: إسماعيل بن علية.
قال: [عن ابن أبي عروبة].
بفتح العين وهو سعيد ابن أبي عروبة لا غيره، وهذا ليس اسماً له كما قال أحد الرواة: حدثنا فلان وفلان وفلان وعدة، فقام إليه أحد الطلاب وقال: (عدة) ابن من؟ قال: عدة ابن فقدتك.
يعني: عدمتك.
قال: [عن عبد الله الداناج].
و (الداناج) كلمة فارسية معناها: العالم، وهو عبد الله بن فيروز مولى ابن عامر المعروف بـ الداناج.
[وحدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي واللفظ له أخبرنا يحيى بن حماد حدثنا عبد العزيز بن المختار حدثنا عبد الله بن فيروز مولى ابن عامر الداناج حدثنا حضين بن المنذر] حضين وليس حصين، وهو الوحيد في الكتب الستة اسمه حضين، كنيته: أبو ساسان.
قال: [شهدت عثمان بن عفان وأتي بـ الوليد].
وهو الوليد بن عقبة بن أبي معيط وكان أخاً لـ عثمان من أمه، وكان يشرب الخمر وحد فيه مراراً، وكان يشربها حتى يهذي، فإذا هذى افترى.
وأعظم ما ورد عنه من افتراء: أنه صلى الصبح بهم أربعاً وكان إمام المدينة في زمانه، فقالوا له: صليت الصبح أربعاً؟! قال: وما في ذلك، إن شئتم زدتكم.
فالخمر هي أشد شيء يحط من كرامة الإنسان، بل حتى قبل الإسلام تنبه لخطورتها بعض من كانوا في الجاهلية فلم يشربوها؛ لعلمهم أنها تحط من كرامتهم، فلم يثبت قط أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يشربها، ولم يكن يجلس مجلساً يدار عليه الخمر، وكان يتعجب من عاقل يدله عقله على إباحة شرب الخمر، وكان هذا قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [(شهدت عثمان بن عفان، وأتي بـ الوليد قد صلى الصبح ركعتين ثم قال: أزيدكم؟ فشهد عليه رجلان)].
أي: أنه كان مخموراً.
وفي رواية: أنه صلى الصبح أربعاً.
ذكرها الإمام الذهبي في كتابه: سير أعلام النبلاء في ترجمة الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وذكر أنه كان فاسقاً.
وهذا ليس طعناً في الصحبة وليس طعناً في عدالة هذا الرجل، فيكفيه إثبات للشرف أنه صحب النبي صلى الله عليه وسلم، وأظن أن الإمام الذهبي تجاوز حده في إثبات الفسق لهذا الصاحب، وكان ينبغي أن يحمل ما وقع من الوليد على حسن توبته، وأنه مات تائباً من هذا الذنب، أو أن هذا الذنب يعافى من إثمه ما دام قد كان يقام عليه الحد، أو أن لهذا الصاحب من الحسنات والفضائل ما يمحو جبالاً من السيئات؛ لأن بعض الناس سألني هذا
السؤال
كيف يقول الذهبي عن أحد أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام: أنه صحابي فاسق؟
الجواب
كلام الذهبي له وجه قوي، وأنتم تعلمون أن صاحب الكبيرة لا يكفر وإنما يفسق بها، وشرب الخمر كبيرة من الكبائر، والصحابة مثل غيرهم في سائر الكبائر، من وقع منهم في كبيرة كان فاسقاً بكبيرته حتى يتوب منها أو يقام عليه الحد، وكل ما هنالك: أن الإمام الذهبي أطلق الفسق عليه لثبوت شربه الخمر وعدم ثبوت التوبة، والذي يترجح لدي -إحساناً للظن بأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام- أنهم ما فعلوا كبيرة إلا وقد تابوا منها، فأنتم تعلمون عموماً أن مرتكب الكبيرة والمصر على الصغيرة كلاهما فاسق وليس بكافر، فإن أقيم عليه الحد فهو كفارته، وإن تاب تاب الله عز وجل عليه، وإن مات مصراً غير مستحل فهو في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه.
قال: [(فشهد على الوليد رجلان أحدهما حمران - وهو مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه - أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيأ)] فالشهادة على إقامة حد الخمر تكون بشاهدين، فلا بد أن يشهد عند القاضي أو الوالي والسلطان اثنان: أن فلاناً شرب الخمر.
أما حمران فقد رآه يشرب الخمر، وأما الآخر فلم يره يشرب الخمر وإنما رآه يتقيأ.
فهذه ليست شهادة على شرب الخمر وإنما هي قرينة تدل على شرب الخمر، والحدود إنما تقام بإثبات شهادة الشهود أو الإقرار، ولا تقام بهذه القرائن التي احتفت بإثبات القضية؛ ولذلك اجتهد عثمان بن عفان رضي الله عنه لما يعلمه من حال الوليد من قبل، فـ حمران مولاه شهد عنده أنه قد رأى الوليد يشرب الخمر، والثاني قال: وأنا رأيته يتقيأ، فـ(65/4)
شرح حديث علي بن أبي طالب في ديته لشارب الخمر إذا جلد فمات
قال: [حدثني محمد بن منهال الضرير حدثنا يزيد بن زريع البصري حدثنا سفيان الثوري عن أبي حصين] عن أبي حَصِين مكبراً، وهو عثمان بن عاصم الأسدي الكوفي.
قال: [عن عمير بن سعيد عن علي رضي الله عنه قال: (ما كنت أقيم على أحد حداً فيموت فيه فأجد منه في نفسي إلا صاحب الخمر؛ لأنه إن مات وديته)].
أي: إن مات في أثناء الحد غرمت ديته.
يعني: ألزمت نفسي بدفع الدية.
قال: [(لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسنه)].
وهذا كلام يحتاج إلى وقفة وبيان، فالنبي جلد أربعين -لفظاً صريحاً- بالجريد والنعال، وجلد نحو أربعين، وجلد بجريدتين أربعين.
فكأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: لعل النبي صلى الله عليه وسلم كان يضرب الشارب من باب التعزير لا من باب الحد، وذلك لأن قوله: (نحو أربعين) لا يدل على أنه حد، فلو كان حداً لا نقول فيه: نحو ثمانين ولا نحو أربعين ولا نحو عشرة؛ لأنه لا بد أن يكون الحد محدداً بيناً واضحاً، والنبي صلى الله عليه وسلم ضرب بالجريد أو بالنعال أربعين، وعمر رضي الله عنه ضرب ثمانين، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين) وعمر منهم رضي الله عنه؛ ولذلك قال علي رضي الله عنه: (جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين، وكل سنة).
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين) ولم يعترض على عمر أحد من الصحابة، فـ عمر لم ينكر عليه علي، بل أقره على ذلك، وكل ما هنالك أن أحب الجلد إليه الجلد الأول؛ ولذلك يقول العلماء في هذه المسألة الخلافية: الخلاف فيها معتبر ومحترم، فلا يقول العلماء: هذا خطأ وهذا صواب، وإنما يقولون: راجح ومرجوح، وإلى يومنا هذا يترجح لدى بعض أهل العلم أن الثلاث طلقات تقع ثلاثاً، عملاً بسنة عمر رضي الله عنه، والجماهير على أن الثلاث تقع واحدة؛ عملاً بالأصل الذي كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وأبو بكر، وعليه عمر في صدر خلافته.
فـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: (ما كنت أقيم على أحد حداً فيموت فيه فأجد منه في نفسي - يعني: أجد في نفسي حرجاً من هذا الموت - إلا صاحب الخمر.
قال: لأنه إن مات وديته).
يعني: دفعت إليه الدية.
وعلل ذلك بأن عقوبة شارب الخمر قد لا تكون من باب الحد ولعلها وقعت في الشرع من باب التعزير.
وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول ذلك؛ لأنه شك أن تكون العقوبة وقعت في الصدر الأول من الإسلام على شارب الخمر من باب التعزير والتأديب لا من باب الحد.
ولو اعتبرنا أن أقل الأقوال هو أن الضرب كان من باب التعزير لا من باب الحد، فلو مات المعزر بسبب حد التعزير أو بسبب أسواط التعزير وجبت ديته، بخلاف المحدود، فلو مات المحدود في الحد فلا تجب له الدية، ولا دية له أصلاً، لكن المعزر إذا مات في أثناء التعزير أو بسبب التعزير فإنه يودى، والذي يوديه السلطان من بيت المال.
وهذا أرجح الأقوال.
وقيل: بل من مال الأمير نفسه.
وقيل: لا يودى.
وقيل: ديته على عاقلة المعزر.
أي: الجلاد.
وللجلاد عند جلده شروط، منها: ألا ترتفع يده عن كتفه، حتى إن بعض أهل العلم غلا في ذلك وقال: ألا يغادر عضده إبطه.
قال: (لأن رسول الله لم يسنه) يعني: لم يترك لنا فيه سنة واضحة بينة.
وعلى أية حال: هذا اجتهاد من سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أن النبي لم يسن حداً مقدراً معيناً لشرب الخمر.
وهذا الذي قاله علي بن أبي طالب خالفه فيه أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام.
فقالوا: إن النبي عليه الصلاة والسلام جعل حد الشارب للخمر أربعين.
وفي هذا الحديث: أن فعل الصحابي سنة يعمل بها، وهو موافق لقوله صلى الله عليه وسلم: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ) في حديث العرباض بن سارية عند الترمذي وغيره.(65/5)
كلام النووي في أحاديث باب حد الخمر
بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
فمع الباب الثامن من كتاب الحدود وهو باب: حد الخمر.
والخمر هو: كل ما خامر العقل.
أي: ستره وغطاه.
وهذا طبعاً عند جماهير العلماء، خلافاً للأحناف؛ فإنهم يقولون: إن الخمر لا يكون إلا من عصير العنب فقط، أما عند جماهير العلماء هو كل ما أسكر أو كل ما خامر العقل.(65/6)
نقل الإجماع على تحريم شرب الخمر ووجوب حد شاربه
قال النووي: (وأما الخمر فقد أجمع المسلمون على تحريم شرب الخمر، وأجمعوا على وجوب الحد على شاربها سواء شرب قليلاً أو كثيراً).
أي: سواء سكر أو لم يسكر، فالعبرة بمجرد الشرب لا بحجم المشروب ولا بأثر المشروب، فحجم المشروب قليلاً كان أو كثيراً سواء، فهو شارب للخمر، وسواء سكر من هذا الشراب أو لم يسكر.(65/7)
حكم قتل شارب الخمر
قال: (وأجمعوا على أنه لا يقتل بشربها).
إجماع أهل العلم على أن شارب الخمر لا يقتل بشربها لكنه يحد، كما قال تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] فالثيب الزاني يرجم حتى الموت، والتارك لدينه المفارق للجماعة يرجم حتى الموت، أما شارب الخمر فإنه يحد أربعين.
وهذا الراجح وهو الأحوط.
وما زاد على ذلك فهو راجع إلى اجتهاد الإمام، إن شاء زاد من باب التعزير لا من باب الحد، وإن شاء توقف عند الحد الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أربعون جلدة.
والإجماع المنعقد على أن شارب الخمر لا يقتل بها يرد على الحديث الذي عند أحمد وغيره: (من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد - في الرابعة - فاقتلوه).
وإجماع المحدثين على أن هذا الحديث صحيح، ولكن الإجماع منعقد على أن هذا الحديث منسوخ.
وذهب الشيخ أحمد شاكر رحمه الله إلى عدم ثبوت النسخ في حق هذا الحديث، وأن الحديث محكم غير منسوخ، وأن من شرب الخمر ثم حد، ثم رجع فحد، ثم عاد فحد، ثم شرب الخمر الرابعة فليقتل حينئذ، والمسألة محل نزاع.
قال: (وأجمعوا على أنه لا يقتل بشربها وإن تكرر منه).
هكذا حكى الإجماع فيه الإمام الترمذي وخلائق.
وحكى القاضي عياض رحمه الله تعالى عن طائفة شاذة أنهم قالوا: يقتل بعد جلده أربع مرات).
يعني: إذا جلد في الخمر أربع مرات يقتل في الخامسة.
قال: (للحديث الوارد في ذلك).
وهذا القول باطل مخالف لإجماع الصحابة ومن بعدهم على أنه لا يقتل وإن تكرر منه أكثر من أربع مرات.
فـ الوليد بن عقبة كان يشرب الخمر كل يوم حتى ضجر الناس منه، وذهبوا إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقولون: يا أبا عبد الرحمن! ألا تنصح صاحبك في أخيه؟ يعني: لماذا لا تكلم عثمان بن عفان في موضوع أخيه هذا، يخلصنا منه ويريحنا منه.
قال: ما لنا فيه بد، ما رأينا شيئاً وإنما الناس بظواهرهم، فإذا بدا لنا منه شيء أخذناه به، وقد نهانا الله عن التجسس.
فأبى رضي الله عنه.
ولما حملوا أبا عبد الرحمن على نصيحة عثمان في أخيه قال: أتظنون أنا لا ننصحه سراً؟ والله ما كنا لننصح الأمير علناً قط، وقد بذلنا له النصيحة غير مرة سراً.
فنصح الأمراء والوجهاء وذوي الهيئات لا يتم علناً، وإنما يتم سراً؛ حفاظاً على وجاهتهم ومكانتهم خلافاً لسائر الناس.
قال: (وهذا الحديث منسوخ.
قال جماعة: دل الإجماع على نسخه).
يعني: هذا منسوخ بدلالة الإجماع لا بنص ناسخ له.
يعني: أجمعت الأمة كلها، فإننا لم نسمع في زمن من الأزمنة من لدن النبي عليه الصلاة والسلام حتى يومنا هذا أن واحداً شرب الخمر أربع مرات فقتلوه في الخامسة، وهذا يشعر بإجماع الأمة على أن شارب الخمر لا يقتل بشربه إنما يحد فقط.
قال: (وقال بعضهم: نسخه قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة)).(65/8)
اختلاف العلماء في مقدار حد الخمر
قال: (واختلف العلماء في قدر حد الخمر.
فقال الشافعي وأبو ثور وداود - الظاهري - وأهل الظاهر: حده أربعون.
قال الشافعي رحمه الله: وللإمام أن يبلغ به ثمانين).
أي: وللإمام أن يبلغ بحد الشرب ثمانين.
قال: (وتكون الزيادة على الأربعين تعزيرات على تسببه في إزالة عقله، وفي تعرضه للقذف والقتل، وأنواع الإيذاء وترك الصلاة وغير ذلك).
هذا مذهب الشافعي وأهل الظاهر: أن الحد أربعون، والزيادة موكول أمرها للإمام على حسب حال هذا المحدود.
قال: (ونقل القاضي عياض عن الجمهور -جماهير أهل العلم- من السلف والفقهاء منهم مالك وأبو حنيفة والأوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق رحمهم الله تعالى أنهم قالوا: حده ثمانون).
هذا مذهب الجمهور، أن حد الشارب ثمانون؛ خلافاً للشافعي وأهل الظاهر.
قال: (واحتجوا بأنه الذي استقر عليه إجماع الصحابة).
أتوا بهذا الإجماع من فعل عمر وعدم ظهور المخالف له، فحد شارب الخمر ثمانون؛ لأن هذا الذي حده عمر؛ واستقر عليه العمل بدليل أن أحداً لم ينكر على عمر رضي الله تعالى عنه.
قال: (واحتجوا كذلك أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن للتحديد).
فالنبي لما جلد الشارب أربعين لم يقصد تحديداً، ولذلك جاء في رواية: أنه جلد نحو أربعين، وأنه جلد بجريدتين.
قال: (وحجة الشافعي وموافقيه - من أهل الظاهر - أن النبي إنما جلد أربعين كما صرح به في الرواية الثانية.
وأما زيادة عمر تعزيرات، والتعزير إلى رأي الإمام، إن شاء أنفذه وإن شاء تركه بحسب المصلحة في فعله وتركه، فرآه عمر ففعله، ولم يره النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا علي فتركوه.
أما الأربعون فهي الحد المقدر الذي لا بد منه.
والفرق بين الحد والتعزير: أن الإمام ليس حراً في تنفيذ الحد لا سلباً ولا إيجاباً، كما أنه ليس حراً في تخفيضه، لكنه حر في تخفيض التعزير من عشرة إلى خمسة إلى ثلاثة، وقد يترك الضرب مطلقاً ويكتفي بالتوبيخ واللوم والمعاتبة وغير ذلك على حسب حال المعزر، أما الحد فإذا بلغ السلطان فلا بد من إقامته كما جاء به الكتاب والسنة.
قال: (ولو كانت الزيادة حداً لم يتركها النبي عليه الصلاة والسلام ولم يتركها وأبو بكر رضي الله عنه ولم يتركها كذلك علي رضي الله عنه بعد فعل عمر؛ ولهذا قال علي رضي الله عنه: وكل سنة.
معناه: الاقتصار على الأربعين وبلوغ الثمانين.
فهذا الذي قاله الشافعي رضي الله عنه، وهو الظاهر الذي تقتضيه هذه الأحاديث ولا يشكل شيء منها.
ثم هذا الذي ذكرناه هو حد الحر، أما العبد فدائماً حد العبد على النصف من حد الحر كما في الزنا والقذف).
كما أن حد الأمة على النصف من حد الحرة أيضاً.
قال: (وأجمعت الأمة على أن الشارب يحد سواءً سكر أم لا).
فالعبرة بالشرب.(65/9)
اختلاف العلماء في حكم شرب النبيذ
قال: (واختلف العلماء في من شرب النبيذ).
والنبيذ: هو كل ما ينتبذ من سوى العنب.
لأن الذي يتخذ من العنب لا خلاف في أنه الخمر، فالعرب لم تكن تطلق مصطلح الخمر إلا على ما يتخذ من عصير العنب، وما يتخذ من غير العنب لا يقولون عنه: خمر، إنما يقولون عنه: نبيذ.
والنبيذ: هو النقع؛ ولذلك: (نهى النبي عليه الصلاة والسلام أن ينبذ التمر مع البسر، وأن ينبذ البسر مع الجنيب، وأن ينبذ الجنيب مع الرطب في إناء واحد)، (وكانت عائشة رضي الله عنها تنبذ التمر للنبي عليه الصلاة والسلام فيأكله في اليوم الأول، ويأكله في اليوم الثاني، ويطرحه في الثالث).
أي: لا يشرب منه في اليوم الثالث.
وفي حديث أنس من طريق المختار بن فلفل عند النسائي في سننه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخليطين) أي: من الثمر.
وفي رواية: (نهى أن ينبذ شيئان في إناء واحد).
يعني: لما تأتي بالتمر مع الزبيب وتنبذهما جميعاً هذا خمر، وذهب أهل العلم إلى حرمة ذلك أو كراهته، على خلاف بين أهل العلم هل هذا مكروه أو محرم؟ حتى قال الإمام النووي في المجموع وكذلك الإمام الشوكاني في كتاب نيل الأوطار في باب الأشربة والأطعمة في آخر مجلد: واختلف أهل العلم: هل هذا الحديث على ظاهره وإن لم يسكر، أو يجوز أن ينبذ كل صنف لوحده، فإذا أراد الشارب أن يشرب خلطهما فشربهما؟ يعني: لو أني في رمضان أتيت بالزبيب ونقعته في آنية على حدة، ثم جئت بالتمر ونقعته كذلك في آنية مستقلة، ولما أُذِّن للمغرب خلطت منقوع التمر مع منقوع الزبيب وشربته، هل هذا العمل مشروع؟
الجواب
غير مشروع، فإما أن يكون تمراً لوحده كما يفعل عامة الناس، وإما أن يكون أي نوع من أنواع الثمار.
وبعض الناس لديهم أكلة يسمونها سلطة الفواكه: يأتون بالموز والعنب والتمر والتفاح والخوخ وغيرها من الفواكه ثم يقطعونها ليصنعوا منها سلطة فواكه بشكل جميل، وهي بغير ماء، فلا بأس بذلك؛ لأنه لا يقال للنبيذ نبيذاً إلا بالنقع، والنقع لا يكون إلا في الماء، فإذا وضعت هذه الثمار مجتمعة في ماء فهو نبيذ يحرم عليك أكله أو يكره على خلاف بين أهل العلم، وإذا قطعت وخلطت هذه الثمار بغير نقع -أي: لم توضع في ماء- ولم تخرج هي ماءها فتنتبذ فيه فلا حرج في ذلك.
وكذلك العصائر من عدد من ثمار الفواكه وما نسميه نحن بالكوكتيل، فهو عصير، والعصير هذا هو أصل مادة النقع وليس منقوعاً ولا منتبذاً.
ومن أراد أن يراجع المسألة فليرجع إلى نيل الأوطار في كتاب باب: ما جاء النهي عن الخليطين.
وقبله بأبواب وبعده بأبواب، فالمسألة مبحوثة على أعلى مستوى عند الفقهاء.
قال: (واختلف العلماء في من شرب النبيذ وهو ما سوى عصير العنب من الأنبذة المسكرة، فقال الشافعي ومالك وأحمد رحمهم الله وجماهير العلماء من السلف والخلف: هو حرام يجلد فيه كجلد شارب الخمر).
كل العلماء قالوا: النبيذ مثل الخمر بالضبط.
ومعلوم أن الخمر: ما اتخذ من العنب؛ ولذلك الأحناف يقولون: الخمر لا يكون إلا من العنب.
والجمهور على خلاف ذلك، وردوا على الأحناف في ذلك: أن معنى كلمة خمر: التغطية والستر، ومن هنا سمي الخمر خمراً؛ لأنه يستر العقل ويغطيه، فيستوي أن يكون هذا من العنب أو من التمر أو من البر أو الشعير، فالعلة واحدة.
والأحناف لم يوافقوا الجمهور على ذلك.
وأدنى ما قيل من متأخري الحنفية أنهم قالوا: الخمر حرام أصلاً، وأنها من العنب، وغيرها من الخمر يقاس عليها.
ويفهم من قولهم: أن بقية أنواع الخمور ليست حراماً لذاتها وإنما هي حرام بالقياس.
يعني: ليست حراماً بالنبذ وإنما هي حرام بالقياس على الأصل الأصولي وهو: أن ما كان حراماً بالنص تقدم حرمته على ما كان حراماً بالقياس.
فنحن نقول: السجائر حرام.
ونقول: الخمر حرام.
فحرمة الخمر ثابتة بالنص، أما السجائر فثبتت حرمتها بالقياس.
وقد جاء في الأثر: أن أم يعقوب الأسدية أتت عبد الله بن مسعود تقول له: بلغني أنك تلعن كيت وكيت -يعني: الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله- قال: وما لي لا ألعن من لعنه الله ورسوله.
قالت: لقد قرأت ما بين الدفتين -أي: القرآن كله- فما وجدت فيه.
قال: لو كنتِ قرأتيه لا بد أن تجدي ذلك فيه.
قالت: أين أجده؟ قال: أما قرأتِ قول الله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]؟ قالت: بلى.
قال: إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لعن الله الواصلة والمستوصلة) الواصلة: هي التي تصل الشعر.
والمستوصلة: هي الطالبة لذلك.
قال: (والواشمة والمستوشمة) وهي التي تضع الكحل الأخضر تحت جلدها من أجل أن يظهر في وسط بياضها الشاهق لون مخالف أخضر، وهو ل(65/10)
شرح صحيح مسلم - كتاب الحدود - حد الخمر [2]
جاء الشرع بالتدرج في تحريم الخمر، وبعد أن استقر الأمر على التحريم فرض حداً على شاربها، فجلد النبي صلى الله عليه وسلم وجلد من بعده أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وفي هذا رد على من أنكر حد الخمر من المغمورين المفتونين، والذين زعموا أن القرآن إنما جاء بتحريمها دون بيان الحد على شاربها.(66/1)
كلام النووي في أحاديث باب حد الخمر
بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وبعد: فما زال الكلام عن الخمر موصولاً، وفي الدرس الماضي سردنا الأحاديث المتعلقة بحد الخمر، وذكرنا طرفاً من كلام الإمام النووي عليه رحمة الله في معرض كلام علي بن أبي طالب: (ما كنت أقيم على أحد حداً فيموت فيه فأجد منه في نفسي -أي: أجد منه حرجاً في نفسي- إلا صاحب الخمر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مات ولم يسنّه).
وقال علي: وصاحب الخمر إذا مات وديته.
أي: غرمت ديته.(66/2)
حكم من حد في شرب الخمر فمات
قال النووي في قوله: (لأن النبي صلى الله عليه وسلم مات ولم يسنّه) معناه: (لم يقدر فيه حداً مضبوطاً).
وقلنا: اختلف أهل العلم في حد شارب الخمر، فمنهم من قال: أربعين.
ومنهم من قال: ثمانين.
ومنهم من قال: حد النبي صاحب الخمر بنحو أربعين، وكلمة (نحو) تفيد أن الحد غير مضبوط، لكن الغالب -وهو مذهب جماهير الفقهاء- أن حد شارب الخمر أربعون جلدة، وما زاد على ذلك -كما فعل عمر رضي الله عنه: أنه حد شارب الخمر بثمانين جلدة.
ووافقه علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما في بعض الروايات- فهو من باب التعزير.
إذاً: الاتفاق بين جماهير العلماء: أن الحد أربعون، وأن الزيادة على الأربعين هي من باب التعزيز مردها إلى الإمام.
ولذلك قال النووي: (وقد أجمع العلماء على أن من وجب عليه الحد جلده الإمام أو جلاّده الحد الشرعي).
يعني: إما أن يباشر الجلد الإمام أو القاضي أو الجلاّد أو من ينوب عن الإمام عموماً، ولو أنه باشر الحد بنفسه أو بنائبه، فمات المحدود فلا دية له ولا كفارة عليه.
لو أن السلطان قال مثلاً: هذا شرب الخمر فأقيموا عليه الحد.
فبينما الجلاد يجلده مات أثناء إقامة الحد.
فهل له دية؟ أو هل على الأمير أو الجلاد كفارة؟ قال جماهير العلماء: ليس على الإمام ولا على جلاّده ولا على بيت المال كفارة ولا دية.
يعني: لا تلزم الجلاّد ولا الأمير كفارة ولا دية، لا من ماله ولا من بيت مال المسلمين.
والمعلوم أن هذا لو تم فإنه قتل على سبيل الخطأ لا العمد؛ فإذا حُد فلان من الناس في جناية ارتكبها فمات في أثناء الحد، فالذي كان يقيم عليه الحد لا يقصد بإقامة الحد قتله، إلا أن يكون الحد الرجم، فإنما قصد الراجم إزهاق المرجوم؛ لأن الشرع أذن بذلك.
أما إذا كان الحد جلداً فالمعلوم أن الجلاد لا يقصد بذلك القتل، فلو وقع القتل يكون خطأً، ودية القتل الخطأ يكون على العاقلة.
وأما قتل العمد، فإنه إذا تنازل أولياء المقتول عن القصاص -أي: النفس بالنفس- ستكون الدية في مال القاتل إذا كان القتل عمداً، أما إذا كان خطأً فقولاً واحداً: أن الدية تلزم العاقلة.
والعاقلة: هم عصبة القاتل، فالدية تلزم من مالهم: وأنتم تعرفون الفرق بين الحد والتعزير، فالحد: ذكر في القرآن أو ذكر في السنة حداً محدوداً بأعداد معدودة ومضبوطة بغير زيادة ولا نقصان، ولذلك من الفروق بين التعزير وبين الحد: أن الحد إذا بلغ أمره إلى السلطان فلا شفاعة فيه، ولا اختيار للسلطان فيه، بل لا بد أن يقيمه بغير زيادة ولا نقصان، فالزاني غير المحصن يجلد مائة جلدة، فلا يمكن أن يجلد تسعاً وتسعين جلدة، بل لا بد أن يكون مائة جلدة، ولا يمكن أن تكون مائة جلدة وجلدة؛ لأن الشرع سماها حدوداً.
أي: محدودة، ومفروضة، ومضروبة على نحو واحد وجهة واحدة، فلا يجوز الزيادة فيها ولا النقصان عنها بخلاف التعزير، إذ إن التعزير راجع إلى المعزر أياً كان: السلطان، أو الزوج على زوجه، أو الوالد على ولده، فابنك إذا أخطأ خطأً ليس لك أن تضربه أكثر من عشر ضربات؛ لأنه لا يضرب أكثر من ذلك إلا في حد من حدود الله عز وجل، فأقصى حد للتعزير من جهة الضرب عشر جلدات، وما زاد على ذلك فهو إثم للضارب أو المعزر، ولك أن تعدل إلى أقل من ذلك، بل لك أن تعدل عن الضرب كله وتكتفي بتوجيه اللوم والتوبيخ والتقريع، وتستمر في تأنيبه النهار كله؛ وذلك لأنه بهذه الطريقة يصلح وينضبط، فمن الناس من لا يحب أن يشتم أو يهان، ولكنه ينصاع بالعتاب الرقيق، ومن الناس من ينصاع وينضبط بنظرة، عندما تنظر إليه نظرة استنكار يرجع عما فعل، وإن كانت المرأة لا يجدي معها إلا الضرب فتضرب ضرباً لا يكسر عظماً ولا يسيل دماً كما قال عليه الصلاة والسلام.
إذاً: التعزير راجع إلى اجتهاد المعزِّر ونظرته إلى المعزر، وأي وسائل التعزير تنفعه.(66/3)
حكم من مات من عقوبة التعزير
مسألة: من مات من التعزير.
منهجنا وجوب ضمانه بالدية والكفارة.
وفي محل ضمانه قولان للشافعية: أصحهما: تجب الدية على عاقلة الإمام، والكفارة في ماله.
والثاني: تجب الدية في بيت المال.
وفي الكفارة على هذا وجهان لأصحابنا -أي: الشافعية- أحدهما: في بيت المال أيضاً.
والثاني: في مال الإمام.
وهذا مذهب الشافعي.
وقالت جماهير العلماء: لا ضمان فيه على الإمام ولا على عاقلته ولا في بيت المال.
وهذا هو الراجح: أن المعزر كالمحدود لا ضمان ولا كفارة، إذ كيف يضمن الإنسان نتيجة فعله الشرعي، وأنتم تعلمون أن الشرع أخباره أوامر.
أي: أخبار تتطلب منا التصديق الجازم واليقين التام، وأوامر تحتاج منا إلى تنفيذ، فالشرع أمرني أن أضرب هذا مائة جلدة؛ لأنه زانٍ، وفي أثناء الضرب مات.
فما بالي أضمن هذا الموت وأضمن هذه الحياة؟ كيف ذلك؟! وكذلك التعزير، فإنني لم أضرب ولدي أو من كنت سلطاناً عليه إلا لأجل التأديب، فلم أرد انتقاماً، فضلاً عن أنه مات بعدم إراداتي، فكيف أضمن روحه والذي فعلته أنا أمر شرعي؟ فالذي يترجح لدي هو مذهب جماهير العلماء: أنه لا ضمان فيه ولا كفارة.(66/4)
أقوال العلماء في ما يمكن اتخاذ الخمر منه
جماهير العلماء يقولون: كل ما أذهب العقل فهو خمر؛ لأن الخمر لغة: هو ما خمر العقل وستره وغطاه، فكل مُذهِب للعقل ومسكر حرام؛ لأنه خمر، قال عليه الصلاة والسلام: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام).
وفي رواية البخاري ومسلم: (كل مسكر حرام)، سواءً كان خمراً أو ليس بخمر، فالمسألة محل نزاع بين أهل العلم، لكن الإمام أبا حنيفة قال: إنما الخمر من العنب، وما دون ذلك ليس عنده بخمر، وهذا يكاد يكون كلاماً فاسداً أو باطلاً، والصحيح هو مذهب جماهير العلماء.
وأما ما يذكره العامة على ألسنتهم إذا أرادوا أن يبالغوا في ذكر شيء أو في إثباته فيقولون: فلان يقول في فلان ما قال مالك في الخمر.
فهذا الكلام يشعر أن مالكاً تفرد بقول دون جماهير العلماء في الخمر، وما قال مالك في الخمر إلا ما قاله جماهير العلماء، فقد قال مالك إن الخمر يتخذ من كل شيء، من جميع الثمار.
والإمام أبو حنيفة هو الذي انفرد في ذلك فقال: لا يكون إلا من العنب.
فينبغي أن يكون المثل السائر على لسان الناس: (قال فلان في فلان ما قال أبو حنيفة في الخمر)، وليس كما قال مالك في الخمر؛ لأن مالك لم يقل شيئاً شاذاً ولا منكراً.
إذاً: أهل العلم متفقون على وجوب حد شارب الخمر، وعلى أن حده الجلد، ولكنهم مختلفون في مقداره، فذهب الأحناف ومالك إلى أنه ثمانون جلدة، والشافعي إلى أنه أربعون.
وجاءت عن الإمام أحمد روايتان كما في المغني لـ ابن قدامة إحداهما: ثمانون.
وقال علي بن أبي طالب لما استشاره عمر: إذا سكر هذي -أي: قال كلاماً غير مفهوم ولا قيمة له- وإذا هذي افترى -أي: تعدى وظلم- فحده حد المفتري، وأنتم تعلمون أن حد المفتري ثمانون جلدة.
فهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوافق عمر رضي الله عنه في إحدى الروايتين عنه.(66/5)
حد الخمر والرد على الملاحدة في إنكارهم ثبوت حد شارب الخمر
مسألة: حد الخمر.
مسألة محل نزاع؛ ولذلك الملاحدة يقفون عند حد الخمر بالذات ويقولون: لم يرد في القرآن الكريم سوى ذكر تحريم الخمر، أما حده فلم يرد كالسرقة.
قال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} [المائدة:38].
الجواب
هذا كلام عام، فالله تعالى قال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38]، فمن أين تقطع اليد؟ فالكف يطلق عليها اليد، والساعد يد، والعضد يد، والمنكب يد، وكل هذا في اللغة، وفي الاصطلاح يسمى يداً، فلو أننا قطعنا يد السارق من منكبه لغة نكون قد أخطأنا؛ لأن السنة بينت أن القطع من الرسغ: الفاصل الذي بين الكف والساعد.
وقال عليه الصلاة والسلام: (لا قطع في أقل من ربع دينار).
وفي رواية الصحيحين يقول: (لا قطع إلا في ربع دينار فصاعداً)، والربع الدينار (50) جنيهاً تقريباً، وقد يكون الربع دينار (100) جنيه، لكن نحن نقول: (50) جنيهاً، حتى لا نشجع الناس على السرقة.
وقال عليه الصلاة والسلام: (لا قطع في ثمر ولا كثر)، والكثر: هو جمار النخل، فلو أن الواحد منا يمشي في طريقه فنزل بستاناً فإن له أن يأكل منه بشرط ألا يحمل معه منه شيئاً.
هب أنه أكل من هذا البستان بما يزيد على (50) جنيهاً، فهل لصاحب البستان أن يقول له: أنت أكلت شجرة كاملة وهذه إنتاجها عندي معدود وموزون، تساوي (100) جنيه، فأنت الآن سارق؟ وهل يقام عليه الحد أو لا؟ مثال آخر: لو أن واحداً في عام قحط وجدب سرق ليأكل هو وأولاده، فكانت نسبة المسروق أكثر من حد القطع هل يقام عليه الحد حينئذٍ؟ هل تجدون هذه الاستثناءات كلها في كتاب الله؟
الجواب
لا.
إذاً: قولهم: لا نجد حد الخمر في كتاب الله نرد عليهم فنقول لهم: ولا تجدون كذلك بقية الحدود كلها في كتاب الله عز وجل، فلمَ التمسك إذاً والتشدق بأنكم قرآنيون، وأنكم مستعدون لتلقي الأوامر عن الله لا عن رسوله عليه الصلاة والسلام؟ خاصة وأن الله تعالى جعل طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام هي عين طاعته سبحانه وتعالى، وجعل معصية الرسول صلى الله عليه وسلم هي عين معصية الله عز وجل.
والنبي عليه الصلاة والسلام قد حذر من هؤلاء وأنبأ بوجودهم، فقال: (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته شبعان، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: دعونا من هذا.
ما وجدنا في كتاب الله حلالاً حللناه، وما وجدنا في كتاب الله حراماً حرمناه، ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه).
قال ذلك ثلاثاً.
والسنة هي الحكمة المذكورة في القرآن الكريم، قال تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34].
وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:2].
وغير ذلك من الآيات.
قال الشافعي: (أجمع كل العلماء أن الحكمة في كتاب الله عز وجل هي سنة النبي عليه الصلاة والسلام، ولا خلاف بين السلف في وجوب الاحتجاج بسنة النبي عليه الصلاة والسلام متى صحت).(66/6)
الحالات التي يثبت بها الحد
قال الإمام تحت باب: ما يثبت به الحد.
ويثبت بالإقرار أو بالشهادة، وهذا ليس خاصاً بشرب الخمر.
الرجل إذا أقر وهو سكران هل يقام عليه الحد؟
الجواب
شهادته غير معتبرة.
أي: أن إقراره غير معتبر مع أن الحالة بينة، لأننا لا ندري هل شرب الخمر مختاراً أم مكرهاً؟ وهل هو لما نطق بالشهادة أو أقر بين يدي القاضي كان عقله ذاهباً أم حاضراً؟
الجواب
كان ذاهب العقل، وذاهب العقل إقراره أو شهادته غير معتبرة، فلو أنك قلت: إن إقرار الشارب معتبر في حال شربه وحال سكره فلا بد أن تقول: إن شهادة السكران بين يدي القاضي في حال سكره معتبرة؛ لأن الشهادة والإقرار هما من باب البينة، ولا بد أن يكون المبين عاقلاً مدركاً لما يقول، وأن يكون بالغاً غير صبي.
فإذا أتى الرجل وهو سكران بين يدي القاضي وقال: شربت خمراً فأقم علي الحد.
لا يقام عليه الحد فإقراره ليس معتبراً؛ وذلك لأنه أقر في حال سكره وذهاب عقله.
وإقراره معتبر بعد ذهاب سكره وإتيانه مختاراً إلى القاضي، وقال: لقد شربت خمراً فأقم علي الحد.
فإذا فعل ذلك وأصر على هذا الإقرار فيجب على القاضي أن يعتبر هذا الإقرار ويقام عليه الحد، وإذا رجع عن هذا الإقرار قبل قيام الحد عليه فليس للقاضي أن يقيم عليه الحد؛ لأن المقر حر في الرجوع حتى يقام عليه الحد، فإذا أقيم عليه الحد فلا عبرة برجوعه، فإذا كان الحد رجماً فرجم مات، فلا مجال للرجوع، وإذا كان جلداً يجلد.
إذاً: الحد يثبت بالإقرار، وشهادة شاهدين عدلين في الخمر وأربعة في الزنا.
بعض أهل العلم يقيمون الحد بالعلم لا بالشهادة، كـ الوليد بن عقبة بن أبي معيط كان معلوماً شربه الخمر، فلما جيء به إلى عثمان بن عفان شهد عند عثمان رجلان، أما أحدهما فقال: قد رأيته يشرب الخمر.
وأما الثاني فقال: رأيته يتقيأ.
فقال عثمان: لولا أنه شرب لم يتقيأ.
فـ عثمان بن عفان اعتبر أن علامة الشرب هي القيء.
وهذه العلامة محل نزاع؛ فكلنا نتقيأ بغير شرب للخمر! وقد يشرب شخص الخمر ولكنه لا يتقيأ.
إذاً: لا يلزمه أن يتقيأ إذا كان ما شربه خمراً، ولكن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يعتمد العلم في قيام الحد؛ لذلك فإن بعض أهل العلم يأخذ بالإقرار والشهادة، وهذا مذهب الجماهير، وبعض أهل العلم يعتبر العلم في الحد كالشهادة والإقرار.
مثال ذلك: شخص يقول لك: إن ابنك عمل كذا وكذا.
تقول: صحيح هو فعلاً عمل ذلك؛ لأنه معلوم عنه أنه يفعل ذلك كثيراً.
وهذا الرجل الذي اشتكى من ولدي أنا على يقين أنه صادق، كما أني على يقين أن ولدي فعل ذلك؛ لأنني أعلم أن ولدي يفعل ذلك دائماً.
فلما جيء بـ الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى عثمان وشهد لديه شاهد واحد أنه رآه يشرب الخمر، وأما الثاني فقال: أنا ما رأيته يشرب، ولكن رأيته يتقيأ- أقام عليه عثمان الحد وقال لـ علي: قم يا أبا الحسن! فأقم على الوليد الحد، فأمر علي ولده الحسن، فأبى فأمر عبد الله بن جعفر رضي الله عن الجميع فجلده وعلي بن أبي طالب يعد.
فـ عثمان رضي الله عنه كان ممن يذهب إلى أن العلم اليقيني أو غلبة الظن تقوم مقام الشهادة؛ لأن الوليد محدود عدة مرات من قبل ذلك في شرب الخمر، وهو رجل مشهور بذلك.
وأنا قلت لكم في الدرس الماضي: إن الإمام الذهبي قال: هو صحابي فاسق.
يعني: ممن كان يقيم على المعصية ويشرب الخمر ولم يتب منها.
فهذا الذي غلب على ظن الإمام الذهبي حتى تجرأ على القول بذلك في هذا الصحابي.
وأنتم تعلمون أن عقيدة أهل السنة والجماعة تابعة للصحابة رضي الله عنهم، والإيمان بحبهم إلى قيام الساعة، وأن مرتكب الكبيرة فاسق بكبيرته مؤمن بإيمانه، وأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام كلهم مؤمنون موحدون، ومنهم الوليد غير أنه ابتلي بشرب الخمر وأقيم عليه الحد غير مرة.
اختلف الفقهاء في ثبوت الحد بالرائحة، وأنتم تعلمون قصة ماعز لما أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (يا رسول الله! زنيت فأقم علي الحد، فقال: لعلك فاخذت لعلك قبلت قال: يا رسول الله! زنيت.
حتى قال له: أتدري ما الزنا؟ قال: نعم.
يا رسول الله! قال: أدخل هذا منك في ذاك منها كما يدخل الرشاء في البئر؟ قال: نعم.
يا رسول الله!) إذاًَ هو يفهم معنى الزنا وقد أقر على نفسه أربع مرات، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى قومه وقال: (أبه جنون؟).
وهذا من موانع قيام الحد.
قالوا: (لا يا رسول الله! ما علمنا عليه من مس) فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أسكر صاحبكم؟).
يعني: هذه الشهادة والإقرار على نفسه ربما يكون في حال سكره، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((66/7)
شروط إقامة الحد
شروط إقامة الحد: فأول شرط منها: أن يكون عاقلاً، وهذا احتراز من الجنون، فلو أن مجنوناً وجد زجاجة خمر وشربها فإننا لا نقيم عليه حد السكر؛ لأنه غير مكلف؛ لزوال عقله، ويلحق به المعتوه عند كثير من أهل العلم.
الشرط الثاني: البلوغ، وهذا احتراز من الصبا، فلو شرب الصبي الصغير الذي لم يبلغ الخمر أو زنى لا يقام عليه الحد؛ فلا حد -مطلقاً- على الصغير، ولكن يمكن تعزيره؛ للتدريب والتعليم.
الشرط الثالث: الاختيار.
يعني: أشرب الخمر مختاراً لها مقبلاً عليها غير مكره، والإكراه له شروط، وأول شرط في الإكراه الشرعي الصحيح: أن يكون المكره قادراً على تنفيذ ما أكره، كأن يهددك سلطان قوي وأنت على يقين أنه قادر على هذا التهديد، ولذلك الإمام مالك لما سئل: عن رجل أجبر على طلاق امرأته، قال: الطلاق ليس معتبراً مع الإكراه، فكذلك إذا أجبرني السلطان على شرب الخمر وإلا أوقع بي كيت وكيت وكيت، ويبلغ ضرره فوق ضرر شرب الخمر، كأن يقول: إما أن تشرب الخمر أو أقتلك ويخرج أمامي سيفاً، وأنا على يقين أنه لا يتورع عن القتل، ولا يحاسبه أحد، فهذا مكره قادر على تنفيذ ما أكره، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) أو: (وما أكرهوا عليه).
وإذا كان الإثم مرفوعاً مع الإكراه فمن باب أولى أن يرفع معه الحد.
يعني: إذا كان المرء بالإكراه غير آثم عند الله فمن باب أولى أن يرتفع عنه الحد في الدنيا.
وكذلك حالة الاضطرار، أنتم تعلمون أن الخمر يقوم مقام الماء أحياناً، كما أن الخنزير يقوم مقام الطعام أحياناً، فلو أن شخصاً عطش وليس أمامه إلا الخمر فإما أن يشرب الخمر وإما أن يهلك عطشاً ويموت، فإنه يجب عليه أن يشربها، وإلا مات منتحراً، لكنه يشرب منها ما يسد الرمق أو يبل الريق.
يعني: لا يشرب حتى يروى؛ لأن شرب الخمر استثنائي والاستثناء يقدر بقدره، فشارب الخمر في حال الاضطرار لا يقام عليه الحد.
الشرط الرابع: العلم.
أن يعلم الشارب أنه يشرب خمراً، فلو أن شخصاً قال لك: تفضل.
اشرب هذا المشروب الغازي، وإذا بالذي داخل الزجاجة هو خمر، وأنت لا تعرف الخمر ولا تعرف طمعها، فلما شربتها سكرت؛ لأنها كانت خمراً؛ والشركة تصنع الخمر وتصنع المشروب الغازي وحصل خطأ في العبوات، فوضعت زجاجات المشروب الغازي بدلاً من زجاجات الخمر، ووضعت زجاجات الخمر بدلاً من زجاجات المشروب الغازي، فهل يقام عليك الحد حينئذٍ؟ لا يقام عليك الحد.
وإذا تناول من الشراب ما هو مختلف في كونه خمراً بين الفقهاء فإنه لا يقام عليه الحد؛ لأن للخلاف شبهة.
إذا كان أهل العلم اختلفوا في مسألة على قولين أو أكثر، ومدار اختلافهم على فهم الدليل فالأصل احترام رأي الآخر، وإن كنت مخالفاً؛ لأنك في الحقيقة لست صاحب الحق البحت؛ لأن الدليل واحد، والكل يفهمه فهماً يختلف عن فهم الآخرين، فبالتالي لا ينبغي للإنسان أن يعتبر أن فهمه لهذا الدليل هو أصح الأفهام.
هذا إذا كان الخلاف معتبراً.
أما إذا كان الخلاف غير معتبر فإنه لا عبرة بمن خالف الدليل.
قال: (الحد على من تناول الخمر وهو غير عالم بالتحريم إذا كان في دار الحرب أو قريب عهد بالإسلام).
مثال ذلك: شخص في أمريكا أسلم وكان يشرب الخمر قبل الإسلام وشربها بعد الإسلام.
هل يقام عليه الحد؟
الجواب
لا يقام عليه الحد؛ لأنه قريب عهد بإسلام وهو في ديار كفر، فلا يقام عليه الحد؛ لجهله بالتحريم.
وقد نقلت إليكم ذات مرة أننا التقينا بامرأة أسلمت حديثاً في إحدى الولايات وهي باقية على الزنا، كل ما فيها أنها تعد الزنا فعلاً قبيحاً لكن لا علم لها بالتحريم، فهي نفسياً ليست مطمئنة للفعل، لكن لا تعلم بتحريمه في الشرع، وفوجئت بالتحريم لأول مرة لما وقفنا نتكلم معها.(66/8)
اشتراط الحرية والإسلام في قيام الحد على شارب الخمر
هل يشترط في الذي يقام عليه الحد أن يكون حراً أم أن هذا يشمل العبيد والإماء؟
الجواب
يشمل العبيد والإماء، وكذلك لا يلزم أن يكون مسلماً؛ لأن المتيقن أن الله تبارك وتعالى ما أحل على لسان رسول قط الخمر، فإنه لا يتصور أن الله تعالى -مثلاً- أحل الخمر على لسان موسى أو على لسان عيسى أو على لسان إبراهيم! وغير الحر طبعاً في جميع الحدود يقام عليه نصف الحد.
قال تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء:25]، فالكتابيون من اليهود والنصارى الذين يتجنسون بجنسية الدولة المسلمة ويعيشون معهم مثل أقباط مصر، وكذلك الكتابيون أهل الذمة الذين يقيمون مع المسلمين بعقد أمان كالأجانب يقام عليهم الحد؛ لأن لهم ما لنا وعليهم ما علينا.
قال: (ولأن الخمر محرمة في دينهم، وكذلك لسوء آثارها وضررها البالغ في الحياة العامة والخاصة، والإسلام يريد صيانة المجتمع الذي تظله راية الإسلام، ويحتفظ به نظيفاً قوياً متماسكاً لا يتطرق إليه الضعف من أي جانب)، لا من ناحية المسلمين ولا من ناحية غير المسلمين وهذا مذهب جماهير الفقهاء، والأحناف فقط هم الذين خالفوا وقالوا: غير المسلمين لهم أن يشربوا الخمر في بلاد المسلمين.
وهذا مذهب مردود.(66/9)
حكم التداوي بالخمر
مسألة: حكم التداوي بالخمر: التداوي بالخمر محل خلاف، فمذهب الجماهير -وهو الراجح- على أن التداوي بالخمر غير جائز؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن التداوي بالخمر وقال: (إنها داء وليست بدواء).
وقال: (إن الله أنزل الداء والدواء، فجعل لكل داء دواء فتداووا عباد الله ولا تتداووا بحرام).
وقد روى أبو داود: (أن ديلم الحميري سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إنا بأرض باردة نعالج فيها عملاً شديداً وإنا نتخذ شراباً من هذا القمح نتقوى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا؟ قال رسول الله: هل يسكر؟ قال: نعم.
قال: فاجتنبوه.
فقال الرجل: فإن الناس ليسوا بتاركيه.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إن لم يتركوه فقاتلوهم).
وبعض أهل العلم أجاز التداوي بالخمر بشرط عدم وجود دواء من الحلال يقوم مقام الحرام، وهذا مذهب مرجوح.
ومثَّل الفقهاء لذلك بمن غص بلقمة في حالة الاضطرار فكاد يختنق ولم يجد ما ينزلها سوى الخمر فله أن يأخذ شربة من الخمر أو من أشرف على الهلاك من البرد ولم يجد ما يدفع به هذا الهلاك سوى جرعة من خمر فله ذلك؛ لأن الهلاك من البرد متيقن.
أو من أصابته أزمة قلبية وكاد يموت؛ فأخبره الطبيب الحاذق أنه لا يجد ما يدفع به الخطر سوى شرب مقدار معين من الخمر؛ فهذا من الضرورات التي تبيح المحظورات، وإلا فلا.(66/10)
باب قدر أسواط التعزير
قال الإمام في الباب التاسع: (باب: قدر أسواط التعزير).
لم يرد كيفية معينة في ضرب الحد أو التعزير، لكنه ضرب وسط بين الشدة والرخاوة، ومثَّل الفقهاء بنوع هذا الضرب بألا يغادر العضد الإبط.
وبعضهم قال: عليه أن يرفع عضده حتى لا يرتفع على منكبه.
أي: يضرب ضرباً معتدلاً، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا يشج رأساً ولا يكسر عظماً).
وكذلك هذا القدر في الحد والتعزير.(66/11)
شرح حديث: (لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط)
قال: [حدثنا أحمد بن عيسى حدثنا ابن وهب - وهو عبد الله بن وهب المصري - عن عمرو بن وهب - وهو عمرو بن الحارث المصري عن بكير بن عبد الله بن الأشج قال: بينما نحن عند سليمان بن يسار إذ جاءه عبد الرحمن بن جابر فحدثه، فأقبل علينا سليمان فقال: حدثني عبد الرحمن بن جابر عن أبيه عن أبي بردة الأنصاري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله)] والأسواط: جمع سوط.
إذاً: هذا أقل حد في الحدود، والحديث هنا يقول: (لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله).
والمقصود: أن حد التعزير أقصاه عشرة أسواط، ولا يضرب المرء أكثر من عشرة ابتداءً من أربعين فما فوقها إلا في حد من حدود الله عز وجل.(66/12)
حكم الزيادة على عشرة أسواط في التعزير
وقد اختلف العلماء في التعزير: هل يقتصر فيها على عشرة أسواط فما دونها ولا تجوز الزيادة أم تجوز الزيادة؟ فقال ابن حنبل وبعض من المالكية والشافعية: لا تجوز الزيادة على عشرة أسواط.
أما جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم فذهبوا إلى جواز الزيادة.
ثم اختلف هؤلاء فقال مالك وأصحابه وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور والطحاوي: لا ضبط لعدد الضربات.
يعني: هم قالوا بجواز الزيادة فقط، واختلفوا في الضابط في ذلك، فلم يذكروا عدداً معيناً، بل ذلك راجع إلى رأي الإمام، وله أن يزيد على قدر الحدود، كما أنهم استندوا إلى فعل سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما حد صاحب الخمر ثمانين، ونحن نعلم أن الحد المضبوط الذي حده علي بن أبي طالب، وحده من قبله النبي عليه الصلاة والسلام وأبو بكر هو أربعون، أما عمر فحد ثمانين، يعني: عزر بأربعين، وجمع بين الحد والتعزير في مجلس واحد، وربما زاد على ذلك؛ لحديث النبي عليه الصلاة والسلام: (جلد النبي صلى الله عليه وسلم شارب الخمر نحواً من أربعين)، يعني: قريباً من أربعين.
والقريب من هذا سبعة وثلاثون، ثمانية وثلاثون، وربما يكون اثنين وأربعين، أو ثلاثاً وأربعين جلدة زائدة.
وهذا مذهب جماهير العلماء: أن التعزير ربما يبلغ الحد وزيادة.
قال الجمهور: لأن عمر رضي الله عنه ضرب من نقش على خاتمه مائة، وضرب صبياً أكثر من الحد، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: (لا يبلغ به أربعين؛ لأنه أقل الحد).
وقال ابن أبي ليلى: (خمسة وسبعون)، وهي رواية عن مالك وأبي يوسف وعن عمر: لا يجاوز به ثمانين، يعني: يضرب الحد، لكن لا يبلغ به ثمانين.
وعن ابن أبي ليلى في رواية أخرى: (هي دون المائة)، وهو قول ابن شبرمة، وقال ابن أبي ذئب وابن أبي يحيى: (لا يضرب أكثر من ثلاثة في الأدب)، يعني: في التأديب والتعزير لا يضرب أكثر من ثلاث.
وقال الشافعي والجمهور من أصحابه: لا يبلغ تعزير كل إنسان أدنى حدوده فلا يبلغ بتعزير العبد عشرين، أي: نصف حد الخمر؛ لأن العبد إذا شرب الخمر حد على نصف حد الحر، فإذا كان حد الحر أربعين فحد العبد عشرون، ولا يبلغ تعزير الحر أربعين، وقال بعض أصحابنا: لا يبلغ بواحد منهما أربعين، وقال بعضهم: لا يبلغ بواحد منهما عشرين، وأجاب أصحابنا عن الحديث: بأنه منسوخ؛ وإلا فإن الحديث سيهدم هذه الآراء كلها؛ لأنه لا اجتهاد مع وجود النص والاجتهاد مع وجود النص باطل.
فقال: أجابوا عن هذا الحديث بأنه منسوخ، واستدلوا بأن الصحابة رضي الله عنهم جاوزوا عشرة أسواط، وتأوله أصحاب مالك على أنه كان مختصاً بزمن النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه كان يكفي الجاني منهم هذا القدر، وهذا التأويل ضعيف.
ولذلك مذهب من قال: بأن هذا النص منسوخ وأن الزيادة جائزة في التعزير عن عشرة أسواط رأي ضعيف وإن كان رأي الجمهور، فمذهب الجمهور: جواز الزيادة، والحقيقة أن النص قاضٍ عليهم.
وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(66/13)
شرح صحيح مسلم - كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات - باب القسامة
القسامة هي الأيمان في الدماء، وصورتها أن يوجد قتيل بموضع لا يعرف من قتله، ولا بينة، ويدعي وليه قتله على شخص أو جماعة، وتوجد قرينة تشعر بصدقه، فيحلف على ما يدعيه خمسين يميناً ويحكم له بالدية أو القصاص، وقد كان أهل الجاهلية يعملون بالقسامة فأقرها الإسلام كما في حديث مقتل عبد الله بن سهل، فهو أصل من أصول الشرع وقاعدة من قواعد الأحكام، وركن من أركان مصالح العباد، به أخذ العلماء كافة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وقد بسط أهل العلم مسائل هذا الباب، وأجمعوا على أنه لا قصاص ولا دية بالدعوى المجردة حتى تقترن بشبهة يغلب الظن بها.(67/1)
باب القسامة
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، أما بعد: كتاب القسامة، والمحاربين، والقصاص، والديات.
الباب الأول وهو: (باب القسامة):(67/2)
شرح حديث قتل عبد الله بن سهل في خيبر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث -وهو الليث بن سعد المصري - عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن بشير بن يسار الحارثي -مولى الأنصار وهو مدني ثقة، فقيه- عن سهل بن أبي حثمة]-وهو ابن سعيد بن عامر الأنصاري الحزرجي المدن وهو صحابي صغير، ولد سنة ثلاث من الهجرة-[قال يحيى -أي: الأنصاري - وحسبت قال- وعن رافع بن خديج] يعني: سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديج [أنهما قالا: (خرج عبد الله بن سهل بن زيد ومحيصة بن مسعود بن زيد -وهما أبناء عمومة- حتى إذا كانا بأرض خيبر تفرقا في بعض ما هنالك - أي: تفرقوا في النخل والبساتين، هذا ذهب من جهة والآخر ذهب في ناحية أخرى - ثم إذا محيصة يجد عبد الله بن سهل قتيلاً، فدفنه ثم أقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وحويصة بن مسعود، وعبد الرحمن بن سهل، وكان أصغر القوم)].
القصة باختصار: أن عبد الله بن سهل بن زيد ومحيصة بن مسعود بن زيد ذهبا إلى أرض خيبر، فلما وصلا إلى خيبر تفرقا، وسار كل منهما في طريق، فإذا بـ محيصة قد وجد عبد الله بن سهل بن سعد بن زيد قتيلاً، فرجع أي: محيصة إلى المدينة وقبل أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أخاه حويصة، وأخبر كذلك أخا القتيل واسمه عبد الرحمن بن سهل بن زيد.
فهذه القصة فيها أربعة أشخاص: محيصة، وحويصة، وعبد الله، وعبد الرحمن فذهبوا جميعاً -أي: الثلاثة- إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
[(فذهب عبد الرحمن ليتكلم -أي: مع النبي عليه الصلاة والسلام قبل صاحبيه- أي: قبل ابني عمه حويصة ومحيصة - لأنه شقيق المقتول، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: كبر)] أي: ما دام حويصة أكبر منك سناً فلا ينبغي لك أن تتقدم بين يديه بالكلام؛ لأنه أكبر منك.
[(فصمت - أي: سكت - فتكلم صاحباه وتكلم معهما - أي: بعدهما - فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مقتل عبد الله بن سهل، فقال لهم: أتحلفون خمسين يميناً فتستحقون صاحبكم)] يعني: أتحلفون خمسين يميناً بالله أن فلاناً قتله؟ أتتهمون أحداً بعينه؟ أيغلب على ظنكم أن فلاناً قتل أخاكم؟ إذا كنتم تشكون أو تظنون أو يغلب على ظنكم هذا فاحلفوا خمسين يميناً وحينئذ أقضي لكم بالقصاص منه أو بالدية.
قال: [(أتحلفون خمسين يميناً فتستحقون صاحبكم أو قاتلكم؟ قالوا: وكيف نحلف ولم نشهد) أي: نحن لم نشهد القتل، وإنما بيننا وبين خيبر عهد وميثاق كما تعلم، وأهل خيبر يهود، واليهود أنقض الناس للعهود وأغدر الناس ولذلك نحن نتوقع أن يكونوا هم الذين قتلوا أخانا عبد الله بن سهل.
قال: [(قالوا: وكيف نحلف ولم نشهد -أي: لم نر بأعيننا، ولم نشاهد القتل بأنفسنا- قال النبي عليه الصلاة والسلام: فتبرئكم يهود بخمسين يميناً)] أي: يحلف اليهود خمسين يميناً فتبرأ ساحتهم من دم أخيكم.
[(قالوا: وكيف نقبل أيمان قوم كفار)] هؤلاء يهود يا رسول الله وهم كفار فكيف نقبل أيمانهم وهم كفار [(فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى عقله)] أي: دفع لهم الدية.
ومعنى عقله.
أي: ربط الإبل بعقلها في ساحة أولياء القتيل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في القتل الخطأ: (وديته على العاقلة) والعاقلة هم أولياء القاتل؛ لأنهم يعقلون الإبل التي تدفع دية لأولياء القتيل، يعقلونها في ساحة أولياء القتيل، ولذلك سميت الدية على هذا النحو (عاقلة).
لما رأى النبي عليه الصلاة والسلام قوماً يأبون الحلف؛ لأنهم لم يشهدوا، ولم يقبلوا أيمان الآخرين؛ لأنهم كفار، فأراد أن يطيب خاطرهم بأن ساق الدية من عند نفسه عليه الصلاة والسلام.(67/3)
شرح حديث: (يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته)
قال: [وحدثني عبيد الله بن عمر القواريري حدثنا حماد بن زيد حدثنا يحيى بن سعيد -وهو الأنصاري - عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديج: (أن محيصة بن مسعود وعبد الله بن سهل انطلقا قبل خيبر -أي: ناحية خيبر- فتفرقا في النخل -أي: في البساتين- فقتل عبد الله بن سهل فاتهموا اليهود، فجاء أخوه عبد الرحمن وابنا عمه حويصة ومحيصة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فتكلم عبد الرحمن في أمر أخيه، وهو أصغر منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كبر الكبرى - يعني: كبر الكبير - أو قال: ليبدأ الأكبر -أي: بالكلام- فتكلما في أمر صاحبهما - أي: حويصة ومحيصة -.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقسم خمسون منكم على رجل منهم)]، والمعلوم أنه لا يقسم إلا صاحب الولاية، وابن العم ليس ولياً، والخطاب لهؤلاء الثلاثة [(قال: يقسم خمسون منكم)] وإجماع أهل العلم أنه لا يجب القسم إلا على الوارث، والوارث هنا واحد وهو عبد الرحمن أخو عبد الله.
فقوله: [(يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته)] البرمة هو: الحبل الذي يربط به الرجل، فيساق إلى ساحة القصاص.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: [(يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته -أي: يأخذ هذا الذي أقسم أنه قاتل، من رقبته حتى يوضع في المكان الذي يقام عليه فيه الحد- قالوا: أمر لم نشهده، كيف نحلف يا رسول الله؟ قال: فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم)] يعني: إما أن تحلفوا فتستحقوا، وإما ألا تحلفوا فيحلف اليهود فتسقط عنهم الدية والقصاص، وكذلك يبرءونكم من اليمين الذي لا يغلب على ظنكم أو لا تظنوا ظناً ينبني عليه العمل أنهم قد قتلوا أخاكم.
[(قالوا: يا رسول الله! قوم كفار -أي: كيف نقبل أيمانهم- قال: فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبله)] أي: فدفع له الدية من عند نفسه.
[قال سهل: فدخلت مربداً لهم يوماً -والمربد: هو المكان الذي تربط فيه الإبل- فركضتني ناقة من تلك الإبل ركضة برجلها.
قال حماد: هذا أو نحوه].
سهل بن أبي حثمة يقول: وأنا قد حفظت هذا الحديث حفظاً جديداً لا أخرم منه حرفاً.
أي: أرويه كما لو أن الحادثة تمت الآن، فدلل على ذلك بأمارة وهي أن الإبل التي دفعها النبي عليه الصلاة والسلام دية لأولياء القتيل قد دخلت أنا مربدها فبعير أحمر منها رفسني رفسة أوجعتني، أو أصابتني، أو آلمتني.(67/4)
شرح الأحاديث في مقتل عبد الله بن سهل ودية الرسول صلى الله عليه وسلم له من عنده
قال: [وحدثنا القواريري حدثنا بشر بن المفضل -وهو ابن لاحق الرقاشي أبو إسماعيل البصري - حدثنا يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة عن النبي صلى الله عليه وسلم: نحو هذا الحديث وقال في حديثه: (فعقله رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده)] أي: أعطاه العاقلة من عنده.
يعني: الدية.
ولم يقل في حديثه: فركضتني ناقة.
حدثنا عمرو بن الناقد، حدثنا سفيان بن عيينة (ح) وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الوهاب -وهو ابن عبد المجيد الثقفي - جميعاً عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة بنحو حديثهم].
[حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي حدثنا سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار: (أن عبد الله بن سهل بن زيد ومحيصة بن مسعود بن زيد الأنصاريين ثم من بني حارثة خرجا إلى خيبر في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي يومئذ صلح، وأهلها يهود)] وهذا الصلح مع اليهود لم يتم إلا بعد فتح خيبر.
وهذا يدل على أن هذه الحادثة إنما حدثت في مدة الصلح التي كانت بين المسلمين وبين اليهود: أن يزرع اليهود خيبر على أن يكون للمسلمين نصيب من هذا الثمر، فهذه الحادثة تمت في مدة الصلح الذي كان بين اليهود والمسلمين.
قال: [(فتفرقا في حاجتهما، فقتل عبد الله بن سهل فوجد في شربة مقتولاً)] والشربة هي: الحوض الصغير بجوار النخل، [(فدفنه صاحب)] الذي كان معه هو محيصة.
[(ثم أقبل إلى المدينة -أي: رجع إلى المدينة- فمشى أخو المقتول عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم شأن عبد الله وحيث قتل فزعم بشير وهو يحدث عمن أدرك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لهم: تحلفون خمسين يميناً وتستحقون قاتلكم)] أي: لو أنكم حلفتم خمسين يميناً على واحد منهم لأتينا به لتقتلوه قصاصاً.
[(قالوا: يا رسول الله! ما شهدنا ولا حضرنا.
فزعم أنه قال: فتبرئكم اليهود بخمسين)] أي: بخمسين يمين [(فقالوا: يا رسول الله! كيف نقبل أيمان قوم كفار، فزعم بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عقله من عنده).
وحدثنا يحيى بن يحيى أخبرنا هشيم عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار: (أن رجلاً من الأنصار من بني حارثة يقال له: عبد الله بن سهل بن زيد انطلق هو وابن عم له يقال له: محيصة بن مسعود بن زيد) وساق الحديث بنحو حديث الليث بن سعد إلى قوله: (فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده).
قال يحيى: فحدثني بشير بن يسار قال: أخبرني سهل بن أبي حثمة قال: لقد ركضتني فريضة من تلك الفرائض بالمربد].
والفرائض هنا: جمع فريضة، والفريضة هو الشيء المحدد بتحديد الشرع، فرض الله صلاة الظهر أربع ركعات.
أي: حدد الله تعالى عدد ركعات الصلاة بأربع، وفرض الله عز وجل على كل مسلم رجل أو امرأة، عبد أو حر، كبير أو صغير، صدقة الفطر صاعاً من تمر، أو من بر، أو من شعير، أو من زبيب، أو من أكل، ففرض بمعنى حدد، وفرض الله عليكم الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، أي: حدد الله عز وجل لكم هذه الفرائض.
فقوله هنا: لقد ركضتني فريضة أي: بعير من الإبل المحددة لهذه الدية، وليس الفريضة بمعنى الهرمة كما في قوله تعالى: {لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة:68]، لا فارض بمعنى الهرمة، ولا بكر بمعنى الصغيرة، فهناك فارق بين الفارض والفريضة، فالفارض الهرم، والكبير، والعجوز، أما الفريضة فهي الشيء المحدد بتحديد الشرع، فهو يريد أن يقول: أن بعيراً من إبل الدية قد رفسني وركضني في موضع من بدني، وهذا الذي ركضني إنما هو من إبل الدية.(67/5)
شرح حديث: (فوداه بمائة من إبل الصدقة)
قال: [حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا أبي حدثنا سعيد بن عبيد وهو الطائي حدثنا بشير بن يسار الأنصاري عن سهل بن أبي حثمة الأنصاري أنه أخبره (أن نفراً منهم انطلقوا إلى خيبر فتفرقوا فيه)].
والنفر يطلق على الواحد وعلى الجماعة، قال تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] قال العلماء بالإجماع: النفر يطلق على الواحد كما يطلق على الجماعة، والنفر هم من بني حارثة.
قال: [(فوجدوا أحدهم قتيلاً) وساق الحديث.
وقال فيه: (فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه)] يعني: كره أن يجعل دمه هدراً؛ ولو جعله هدراً لكان محقاً، ولم يجعله هدراً لأنهم لم يحلفوا؛ كما أنهم أبوا أن يقبلوا يمين الكفار، (قالوا: هم يهود يا رسول الله، كيف يحلفو) فلما كره النبي عليه الصلاة والسلام أن يهدر دمه وداه من عند نفسه [(فوداه مائة من إبل الصدق)] قوله: (إبل الصدقة) لا بد من تأويله وإلا فقد حكم كثير من المحدثين والشراح بأن هذه اللفظة وهم من الرواة، لأن هذا هو السياق الوحيد الذي يثبت أن الإبل كانت من إبل الصدقة، أما بقية الروايات فمجمعة على أن النبي إنما وداه من عند نفسه، وسنعرف الفارق بين أن تكون الدية من إبل الصدقة، أو من عند الآخرين، وهو فارق جوهري عظيم سنتعرض له بإذن الله تعالى.(67/6)
شرح حديث: (إما أن يدفعوا الدية لكم أو يأذنوا بحرب)
قال: [حدثني إسحاق بن منصور -المعروف بـ الكوسج - أخبرنا بشر بن عمر -وهو ابن الحكم الزهراني أبو محمد البصري - قال: سمعت مالك بن أنس يقول: حدثني أبو ليلى عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل عن سهل بن أبي حثمة أنه أخبره عن رجال من كبراء قومه: (أن عبد الله بن سهل ومحيصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهم فأتى محيصة فأخبر أن عبد الله بن سهل قد قتل وطرح في عين أو فقير)]، العين ضد الفقير؛ لأن العين فوهتها ضيقة وقعرها بعيد، بخلاف الفقير: فهي سهلة الإدراك، لو وضعت رجلك فيها ربما لا يبلغ ماؤها إلى الركبة، وعينها واسعة جداً، كحفرة على سطح الأرض.
[(قال: قتل عبد الله بن سهل وطرح في عين أو فقير، فأتى يهود فقال: أنتم والله قتلتموه.
قالوا: والله ما قتلناه، ثم أقبل حتى قدم على قومه فذكر لهم ذلك، ثم أقبل هو وأخوه حويصة وهو أكبر منه وعبد الرحمن بن سهل فذهب محيصة ليتكلم -وهو الذي كان بخيبر- فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ محيصة: كبر كبر)] أي: ليتكلم أخوك وهو حويصة، يريد أنه أحق بالكلام منه لكبر سنه.
[(فتكلم حويصة، ثم تكلم محيصة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إما أن يدوا صاحبكم، وإنما أن يؤذنوا بحرب)] أي: إما أن يدفعوا الدية لكم، أو يؤذنوا بحرب، لأنهم بقتلهم عبد الله بن سهل فقد نقضوا العهد، وإذا نقض العهد أحد الطرفين في صلح أو معاهدة فقد استوجب الحرب [(فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم بذلك)] أي: كتب إلى اليهود، إما أن تدفعوا الدية أو الحرب.
[(فكتبوا إليه: إنا والله ما قتلناه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لـ حويصة ومحيصة وعبد الرحمن: أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم)].
أي: إذا حلفتم خمسين يميناً فقد استحققتم قاتلكم قصاصاً أو دية على خلاف سيأتي معنا بإذن الله.
[(قالوا: لا)].
أي: ما شهدنا يا رسول الله! كيف نحلف على أمر نشك فيه [(قال: ستحلف لكم يهود.
قالوا: ليسوا بمسلمين، فواده رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة ناقة حتى أدخلت عليهم الدار)]، الضمير يعود على دار أولياء عبد الله المقتول.
[فقال سهل: فلقد ركضتني منها ناقة حمراء].(67/7)
شرح حديث: (أن رسول الله أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية)
قال: [وحدثنا أبو الطاهر وحرملة بن يحيى، قال أبو الطاهر: حدثنا، وقال حرملة: أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس بن يزيد الأيلي عن ابن شهاب الزهري أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري وسليمان بن يسار مولى ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها، وهي زوج النبي صلى الله عليه وسلم: (عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية)] يعني: موضوع القسامة بخمسين يمين كان موجوداً في الجاهلية والنبي عليه الصلاة والسلام أقره وأبقاه في الإسلام.
فمن الأحكام ما كان موجوداً قبل الإسلام وبعد الإسلام.(67/8)
قضاء النبي صلى الله عليه وسلم بين الأنصار واليهود بالقسامة
قال: [حدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا ابن جريج حدثنا ابن شهاب بهذا الإسناد مثله وزاد: (وقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ناس من الأنصار في قتيلاً ادعوه على اليهود)] وهي نفس القصة التي معنا.
[وحدثنا حسن بن علي الحلواني حدثنا يعقوب -وهو ابن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم المدني الزهري - حدثنا أبي عن صالح -وهو ابن كيسان المدني - عن ابن شهاب الزهري - أن أبا سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار أخبراه عن ناس من الأنصار عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث ابن جريج].
انتهت أحاديث الباب عند الإمام مسلم.(67/9)
كلام النووي في شرح أحاديث القسامة
قال النووي: [قال القاضي عياض: حديث القسامة أصل من أصول الشرع، وقاعدة من قواعد الأحكام) فكان من حق هذا الحديث أن يضم إلى جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام.
ومعنى جوامع الكلم أي: الكلام القليل الذي تنبني عليه أحكام عدة، وهو قليل جداً في مبناه، كثير في معناه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر).
فهذا من جوامع الكلام، وموجود في الأربعين النووية، وفي جامع العلوم والحكم، فكل قضية، أو نزاع، أو خصومة، إنما يجب على المدعي أن يقدم بينة فإن عجز عن تقديم البينة وجب على المدعى عليه أن يحلف اليمين.
هذا أصل في كل قضية من القضايا، الذي يزعم أنه صاحب حق فهو مدع يجب عليه أن يقدم البينة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (البينة على المدعي).
فإن عجز عن تقديم البينة فالمتهم أو المدعى عليه يجب عليه أن يحلف اليمين، فإن حلف وإلا ثبتت عليه التهمة.
وإجماع الأمة أن حديث (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) أصل من أصول الإسلام، وقاعدة عظيمة جداً من قواعد الأحكام وهو كذلك.
وكان ينبغي أن يضم هذا الحديث عقب ذاك الحديث، لأن حديث القسامة على العكس تماماً من حديث البينة، فاليمين هناك على المدعي، والبينة على المدعي في حديث البينة، واليمين على المدعي في حديث القسامة، بل في القسامة اليمين على الطرفين، فهذا الحديث أي: حديث القسامة كالمتمم، والمكمل لقواعد الخصومات بين يدي القاضي فيما يتعلق بالأيمان، والديات، والقصاص، فكان ينبغي أن يكون هذان الحديثان في مكان واحد، وهما من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم.
(قال القاضي عياض: حديث القسامة أصل من أصول الشرع، وقاعدة من قواعد الأحكام، وركن من أركان مصالح العباد، وبه أخذ العلماء كافة من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم من علماء الأمصار الحجازيين، والشاميين، والكوفيين، وغيرهم رحمهم الله تعالى، وإن اختلفوا في كيفية الأخذ بهذا الحديث، فهم متفقون ومجمعون على وجوب الأخذ بحديث القسامة).(67/10)
خلاف العلماء في كيفية الأخذ بحديث القسامة
(أما كيفية الأخذ والتطبيق العملي فمحل نزاع بينهم، وروي عن جماعة إبطال القسامة قالوا: نحن لا نأخذ بهذا الحديث ولا نعمل به، وممن قال بهذا سالم بن عبد الله بن عمر وسليمان بن يسار والحكم بن عتيبة، وقتادة، وأبو قلابة، ومسلم بن خالد الزنجي، وابن علية، والإمام البخاري وغيرهم.
وعن عمر بن عبد العزيز روايتان كالمذهبين).
يعني: قال باعتبارها.
والرأي الثاني: بعدم اعتبارها والأخذ بها.
قال: (واختلف القائلون بالقسامة واعتبارها إذا كان القتل عمداً هل يجب القصاص بها أو الدية؟ فقال معظم الحجازيين: يجب القصاص.
وهو قول الزهري وربيعة الرأي وأبي الزناد ومالك وأصحابه والليث والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وداود.
كل هؤلاء قالوا بوجوب القصاص إذا كان القتل عمداً.
وهو قول الشافعي في مذهبه القديم، وروي عن ابن الزبير، وعمر بن عبد العزيز.
قال أبو الزناد: قلنا بها وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوفرون.
يعني: قلنا: إن القصاص يجب في القسامة إذا كان القتل عمداً.
قال: وإني لأرى أنهم ألف رجل فما اختلف منهم اثنان).
هذا المذهب الأول.
المذهب الثاني: قال: (وقال الكوفيين والشافعي رضي الله عنه في أصح قوليه: لا يجب بها القصاص وإنما تجب الدية).
ودليل الجمهور هو هذا الحديث، ولا دليل لمن أبطل القسامة، بل أدلتهم كلها شبهات مردودة مدفوعة فيكون الرأي الصحيح عندي هو القول بالقسامة مثل الرأي الثاني.
واختلف القائلون بالقسامة في كيفية تطبيق هذا الحديث أو هذا الحكم، فمنهم من قال: إذا كان القتل عمداً وجب القصاص وهم الجمهور.
ومنهم من قال وهم الكوفيون أي: أصحاب الرأي وهم الأحناف، والشافعية في أصح القولين عنهم أنهم قالوا: (لا يجب القصاص بل تجب الدية.
وهو مروي عن الحسن البصري، والشعبي، والنخعي، وعثمان الليثي، والحسن بن صالح.
وروي أيضاً عن أبي بكر وعمر، وابن عباس، ومعاوية رضي الله عنهم أجمعين).
قالوا: تجب الدية ولا يجب القصاص حتى لو كان القتل عمداً.(67/11)
خلاف العلماء في من يحلف القسامة
قال: (واختلفوا فيمن يحلف في القسامة) يعني: من يبدأ بالحلف بالقسامة، وسميت قسامة؛ إما لكثرة القسم، وإما لوجوب القسم على الطرفين؛ لأنه في أي خصومة أخرى فإن القسم على المدعى عليه، وهو المتهم، أما في القسامة فالقسم على المتهم وهو المدعى عليه أو على المدعي، فإما أن يكون لكثرة القسم وأنه ليس يميناً واحداً ولا ثلاثة بل خمسين يميناً، وإما أن ذلك لوجوب القسم على الطرفين فسمي قسامة.
أما من الذي يحلف: (قال مالك والشافعي والجمهور: يحلف الورثة -يعني: كل من وجب له الإرث- ويجب الحق بحلفهم خمسين يميناً).
ولو أن أولياء القتيل خاصة وهم الورثة حلفوا خمسين يميناً فقد استوجبوا واستحقوا صاحبهم -أي: القاتل- فإن عفوا عن القصاص فلهم الدية.
وهذا الحديث فيه التصريح بالابتداء بيمين المدعي، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لهم: (احلفوا خمسين يميناً)، فلم يطالبهم بالبينة، وإنما طالبهم بالقسم، فإذا أقسموا استحقوا صاحبهم وإلا حلف صاحبهم فبرأت ساحته، وهذا عند النكول عن القسم والامتناع، أما إذا أقسم أولياء القتيل أو الورثة فقد استحقوا حق صاحبهم.
قال الجمهور: (يحلف الورثة، ويجب الحق بحلفهم خمسين يميناً، واحتجوا بهذا الحديث الصحيح، وفيه التصريح بالابتداء بيمين المدعي وهو ثابت من طرق كثيرة صحاح لا تندفع.
قال مالك: الذي أجمعت عليه الأئمة قديماً وحديثاً أن المدعين -أي: أولياء القتيل- يبدءون في القسامة؛ لأن جنبة المدعي صارت قوية باللوث) أي: بالأمارات وشبه الدلالات، ولأنهم أصحاب دعوى ليسوا محل تهمة، وأعظم دليل على ذلك ما سماه العلماء هنا باللوث، واللوث هو الطي، واللي، والشر، والجراحات، واللوث عند الشافعي رحمه الله تعالى هو: شبه الدلالة.
واللوث في حديث القسامة: أن يشهد شاهد واحد على إقرار المقتول قبل أن يموت أن فلاناً قتلني.
فهذا اللوث هو الشاهد الوحيد الذي يشهد بيمينه على إقرار المقتول قبل أن يموت، أو يشهد الشاهدان على عداوة بينهما أيضاً، وهذا لوث إيضاً، وهو شبه دلالة، أو إشكال أو أمارة أن القاتل هو فلان، للعداوة التي كانت بينهما أو تهديد منه له قبل أن يموت أو نحو ذلك، كما في قصة قتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما قتله غلام المغيرة بن شعبة أبو لؤلؤة المجوسي عليه لعنة الله لما طعن عمر، قال عمر: من قتلني؟ مع أنه لم يقتل بعد.
قالوا: غلام المغيرة أبو لؤلؤة.
قال: الحمد لله الذي جعل قتلي على يد رجل لم يسجد لله.
أي: الحمد لله الذي جعل قتلي على يد شخص مشرك.
ثم قال: لقد هددني العلج آنفاً، والعلج: الغلام القبيح.
وقصة التهديد: أن غلام المغيرة لما جاء إلى عمر وهو أمير المؤمنين يشكو إليه الخراج الذي فرضه عليه مولاه وسيده المغيرة، قال له عمر: كم تدفع؟ قال: ثلاثة دنانير.
قال: ماذا تعمل؟ قال: أصنع الرحى، وأصنع كذا وكذا، فقال عمر: ما خراجك بكثير.
يعني: لم يظلمك المغيرة.
اصنع لنا رحى يا أبا لؤلؤة.
فقال أبو لؤلؤة: سأصنع لك رحى تتكلم عنها العرب والعجم.
فهذا كلام حمال يحمل على أني سأصنع لك رحى هي من الأعاجيب في الدنيا، يتمناها كل الناس، أو سأجعلك تدور في بركة دمائك، فلما طعن عمر من الغد قال: لقد هددني العلج آنفاً.
يعني: قد أنفذ ما هددني به البارحة، ففهم عمر رضي الله عنه بسرعة الدلالة من كلامه السابق فكان فيها لوث.
(قال القاضي: وضعف هؤلاء رواية من روى الابتداء بيمين المدعى عليهم، قال أهل الحديث هذه الرواية وهم من أحد الرواة؛ لأنه أسقط الابتداء بيمين المدعي ولم يذكر رد اليمين؛ لأن الروايات كلها متفقة على أن الذي يبدأ اليمين في القسامة هو المدعي، ثم إذا نكصوا ونكلوا عن القسامة رد اليمين إلى المدعى عليه).
يعني: تحول اليمين إلى المدعى عليه.
(ولأن من روى الابتداء بالمدعي معه زيادة، ورواياتها صحاح من طرق كثيرة مشهورة فوجب العمل بها ولا تعارضها رواية من نسي وقال: كل من لم يوجب القصاص واقتصر على الدية يبدأ بيمين المدعي، أو المدعى عليه إلا الشافعي وأحمد فقالا بقول الجمهور أن يبدأ بيمين المدعي فإن نكل ردت على المدعى عليه.(67/12)
الإجماع على أنه لا قصاص ولا دية بمجرد الدعوى
قال: (وأجمع العلماء على أنه لا يجب قصاص ولا دية بمجرد الدعوى).
يعني: قبل اليمين، فمن قال لشخص أنت قاتل أبي، لا يثبت بهذا حق، بل هذا مجرد ادعاء، فلا يدخل في حد التنفيذ إلا إذا أقسم المدعي خمسين يميناً أن المدعي عليه هو القاتل، أو يحلف خمسين يميناً أنه لم يقتل، حينئذ تبرأ ساحته، فإجماع العلماء أنه لا يجب قصاص ولا دية بمجرد الدعوى.
أي: الدعوى المجردة عن اليمين.
قال: (حتى تقترن بها شبهة يغلب الظن بها.
واختلفوا في هذه الشبهة المعتبرة الموجبة للقسامة لها سبع صور).(67/13)
صور الشبهة المعتبرة الموجبة للقسامة(67/14)
الصورة الأولى: أن يقول المقتول في حياته: دمي عند فلان
قال: (الصورة الأولى: أن يقول المقتول في حياته: دمي عند فلان، وهو قتلني أو ضربني وإن لم يكن به أثر، أو فعل بي هذا من إنفاذ مقاتلي أو جرحني.
ويذكر العمد فهذا موجب للقسامة عند مالك والليث، وادعى مالك رضي الله عنه أنه مما أجمع عليه الأئمة قديماً وحديثاً.
قال القاضي: ولم يقل بهذا من فقهاء الأمصار غيرهما، ولا روي عن غيرهما، وخالف في ذلك العلماء كافة فلم ير أحد غيرهما في هذا قسامة.
واشترط بعض المالكية وجود الأثر والجرح في كونه قسامة).
قالوا: من أجل أن ننفذ القسامة في هذا الباب لا بد من وجود الأثر أو الجرح.
(واحتج مالك في ذلك بقضية بني إسرائيل في قول الله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة:73].
قالوا: فأحيا الله الرجل فأخبر بقاتله).
لكن هذا استشهاد بعيد، وهذا تم من باب الإعجاز الحسي في بني إسرائيل، أما عندنا فيكفي الدليل العقلي.
(واحتج أصحاب مالك أيضاً بأن تلك حالة يطلبها غفلة الناس، فلو اشترطنا الشهادة وأبطلنا قول المجروح أدى ذلك إلى إبطال الدماء غالباً).
فالقاتل إنما ينتهز فرصة تفرد أو غياب المقتول عن أعين الناس، فيطعنه، أو يضربه، فلو أبطلنا قوله لأبطلنا أحكام كثيرة.
قوله: بأن تلك الحالة حالة يطلب فيها غفلة الناس، يعني: القاتل ينتهز فرصة غفلة الناس عن الإيقاع بالمقتول، فلو اشترطنا الشهادة وأبطلنا قول المجروح أدى ذلك إلى إبطال الدماء غالباً.
يريد أن يقول: لا بد من اعتبار قول المجروح: أن فلاناً هو الذي قتلني.
أو أعان على قتلي، ولو قلنا: لا بد أن يشهد شاهدان أو أكثر فمعناه: أننا سنجعل قول المجروح هدراً، وأدى ذلك إلى إبطال الدماء غالباً.
يعني: من جانب القاتل أن القاتل ينتهز خلوة، فينقض على غريمه، فلو أن غريمه قال: قتلني فلان فلا بد من اعتبار القول؛ وإلا فسيؤدي عدم اعتبار قوله إلى إبطال كثير من الدماء.
الحجة الثانية: أن المقتول يغلب عليه في هذه الحالة الصدق؛ لأنه يعلم أنه مفارق لدنياه ذاهب إلى الآخرة فلا ينفعه إلا الصدق، ولا مصلحة له في أن يتهم فلاناً أو فلاناً ممن لم يضربه ولم يجرحه؛ ولأنه في حالة قرب من الله عز وجل، فهو يتحرى ويتقرب بالصدق إلى الله عز وجل، ويتجنب الكذب والمعاصي، ويتزود البر والتقوى فوجب قبول قوله.
(واختلف المالكية في أنه هل يكتفي في الشهادة على قوله بشاهد أو لا بد من اثنين؟) فمنهم من قال: يكتفي على قول المجروح بشاهد.
ومنهم من قال: لا بد من شاهدين.
والصواب: أنه يكتفي مع قول المجروح وإقراره بشاهد واحد.
والمجروح لو قال: قتلني فلان ولم يسمعه أحد فإن قول المجروح لا يصل إلى القاضي؛ إلا عن الذي يبلغ إقرار المجروح، فلذا يكفي في ذلك شاهد واحد.(67/15)
الصورة الثانية: اللوث من غير بينة على معاينة القتل
(الصورة الثانية: اللوث من غير بينة على معاينة القتل.
وبهذا قال مالك والليث والشافعي.
ومن اللوث: شهادة العدل ولو كان واحداً.
وكذا قول جماعة ليسوا عدولاً).
واللوث الذي هو شبه الدلالة يتحقق بشهادة رجل واحد عدل أو جماعة وإن كانوا فساقاً، أو كفاراً، فلو أن مسلمين يمشيان في الشارع بينهما خصومة ونزاع ودار بينهما شجار فقتل أحدهما الآخر في حضرة عشرة من النصارى، فأتى النصارى العشرة إلى القاضي وقالوا: شهدنا أن هذا يقتل ذاك.
تقبل شهادتهم مع أن الشاهد ينبغي أن يكون عدلاً لكن ليس في كل قضية تلزم عدالة الشاهد، لأن هذه قضية لم يرها إلا فاسق أو كافر، والخلاف إنما دار في شهادة الفاسق وحده أو الكافر وحده، لكن لو شهد جماعة من الفساق أو جماعة من الكفار قبلت شهادتهم؛ لحديث: (صدقك وهو كذو) فأثبت له الصدق في هذه القضية؛ لأنه لا مصلحة له في الكذب حينئذ، فهو في هذه القضية صدق مع أن الأصل فيه الكذب.(67/16)
الصورة الثالثة: إذا شهد عدلان بالجرح فعاش بعده أياماً ثم مات قبل أن يفيق منه
الصورة الثالثة: إذا شهد عدلان بالجرح فعاش بعده أياماً ثم مات قبل أن يفيق منه.
قال مالك والليث: هو لوث.
وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا قسامة هنا بل يجب القصاص بشهادة العدلين).
يعني: إذا شهد عدلان فقالا: ضرب فلان فلاناً فجرحه فأغمي عليه، ومات بسبب هذا الجرح قبل أن يفيق من جرحه، لكنه في الغالب ليس من باب القسامة لشهادة الشاهدين العدليين.(67/17)
الصورة الرابعة: أن يوجد المتهم عند المقتول أو قريباً منه ومعه آلة القتل
(الصورة الرابعة: يوجد المتهم عند المقتول أو قريباً منه أو آتياً من جهته، ومعه آلة القتل).
يعني: تصور لو أنك دخلت حارة فوجدت رجلاً يجري أمامك وفي يده سكين والدم يقطر منها، وبعد ذلك رفع السكين فوقك وأنت تركته، ومشيت إلى آخر الطريق فوجدت شخصاً ملقى على الأرض مقتول ودمه ينزف، فالذي قتله هو الرجل الذي كان يجري وبيده سكين، ومع ذلك فإنك لن تحلف أنه هو الذي قتل، لأنك لم تر القاتل، ولم تشاهد، لكن هناك لوث وقرينة قوية على أنه هو القاتل.
وصاحب السيارة إذا أخذ شخصاً كان في الطريق، وقدر الله عليه بحادث فمات الراكب، فالقانون الوضعي يحمل صاحب السيارة المسئولية، هذا بخلاف القوانين الشرعية التي أمرتنا بالاعتصام، والتقارب، والتلاحم، والود، وغير ذلك.(67/18)
الصورة الخامسة: أن تقتتل طائفتان فيوجد بينهما قتيل
(الصورة الخامسة: أن تقتتل طائفتان فيوجد بينهما قتيل فإن كان من أحد الطرفين ففيه القسامة، وعند مالك في رواية عنه والشافعي وأحمد وإسحاق: لا قسامة فيه بل الدية على الطائفة الأخرى، وإن كان المقتول من غيرهما فعلى الطائفتين ديته).(67/19)
الصورة السادسة: وجود الميت في زحمة الناس
(الصورة السادسة: وجود الميت في زحمة الناس.
قال الشافعي: تثبت فيه القسامة، وتجب بها الدية، وقال مالك: هو هدر أي: لا دية له.
وقال الثوري وإسحاق: تجب الدية من بيت المال، وروي مثله عن عمر وعلي).(67/20)
الصورة السابعة: أن يوجد القتيل في محلة قوم أو قبيلتهم أو مسجدهم
(الصورة السابعة: أن يوجد في محلة قوم أو قبيلتهم أو مسجدهم).
يعني: شخص من القبيلة الأولى وجد مقتولاً في القبيلة الأخرى، وكلاهما معاد للأخرى، فمن الطبيعي جداً أن الذي قتله هم أهل القبيلة الثانية.
(فقال مالك والليث والشافعي وأحمد وداود وغيرهم: لا يثبت بمجرد هذا قسامة، بل القتل هدر؛ لأنه قد يقتل الرجل الرجل ويلقيه في محلة الطائفة الأخرى لينسب إليهم.
قال الشافعي: إلا أن يكون في محلة أعدائه لا يخالطهم فيها غيرهم، فيكون كالقصة التي جرت بخيبر، فحكم النبي صلى الله عليه وسلم بالقسامة لورثة القتيل، لما كان بين الأنصار وبين اليهود من العداوة، ولم يكن هناك سواهم، وعن أحمد نحو قول الشافعي.
وقال أبو حنيفة والثوري ومعظم الكوفيين: وجود القتيل في المحلة والقرية يوجب القسامة، يعني: بمجرد وجوده في قرية العدو يوجب القسامة، والدية على العدو.
ولا تثبت القسامة عندهم في شيء من الصور السبع السابقة إلا في هذه الصورة السابعة فقط؛ لأنها عندهم هي الصورة التي حكم فيها النبي صلى الله عليه وسلم بالقسامة، ولا قسامة عندهم إلا إذا وجد القتيل وبه أثر.
قالوا: فإن وجد القتيل في المسجد حلف أهل المحلة، ووجبت الدية في بيت المال، وذلك إذا ادعوا على أهل المحلة.
وقال الأوزاعي: وجود القتيل في المحلة -يعني: في الحي- يوجب القسامة وإن لم يكن عليه أثر، وروي نحو ذلك عن داود الظاهري، وهذا كلام القاضي عياض رحمه الله والله أعلم).(67/21)
استحباب تقديم الأكبر في السن والعلم والمنزلة
أما قوله: (فذهب عبد الرحمن يتكلم قبل صاحبه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كبر كبر) يعني: قدم الكبير في السن أن يتكلم، وفي الحقيقة فإن كثيراً من الإخوة أو كثيراً من المسلمين يتصورون أن التقدم دائماً لمن كان على اليمين في الدخول، أو الخروج، أو الطعام، والشراب وغير ذلك، وليس هو كذلك، بل ورد في السنة أحاديث كثيرة جداً تدل تارة على أن التقدم لمن كان على اليمين، أو التقدم لكبير السن، أو التقدم لكبير الشأن، فليس التقدم على نسق واحد يتعلق بالسن، بل قال عليه الصلاة والسلام: (البركة مع أكابرك) وقال: (أمرني جبريل أن أكبر) يعني: أقدم الكبير.
أي: في الطعام، والشراب، والتقدم والمشي وغير ذلك.
قال مالك بن مغول كنت أمشي مع طلحة بن مصرف فصرنا إلى مضيق -يعني: إلى طريق ضيق لا يأخذنا جميعاً وإنما يتقدم أحدنا دون الآخر- فتقدمني ثم قال لي: لو كنت أعلم أنك أكبر مني بيوم ما تقدمتك.
وهذا يدل على جواز التقدم لمن كان كبير السن وإن كان على جهة الشمال.
وعن الفضل بن موسى قال: انتهيت -أي: وصلت- أنا وابن المبارك إلى قنطرة -أي: معبر طريق- فقلت له: تقدم.
وقال لي: بل تقدم أنت.
فحاسبته فإذا أنا أكبر منه بسنتين.
والسلف كان بينهم من اللطائف أمر عجيب جداً.
وأيضاً: لو كان التقدم من جهة اليمين مستقر عند السلف ولا شيء غيره لم يكن هناك حاجة إلى حساب السن، حتى لو كان أفضل منه في العلم، ولما لم يكن هذا مستقراً لدى السلف وأن التقدم على أنحاء كثيرة فكان أحدهما حين يتقدم على الآخر إما لعلمه، أو فضله، أو لمكانته ومنزلته، وأحياناً بعضهم يتقدم لسنه.
وانتهى الحسن بن عمارة وأبو حنيفة إلى قنطرة فقال أبو حنيفة للحسن: تقدم.
قال الحسن: بل تقدم أنت، أنت أفقهنا، وأعلمنا، وأفضلنا، فالتقدم يكون لأهل العلم، والفقه، والفضل.
وقال يعقوب بن سفيان الفسوي: بلغني أن الحسن بن صالح وعلي بن صالح كانا توأمين، فنزل الحسن قبل علي فما تقدم عليه علي قط ولا تكلم في مجلس فيه الحسن احتراماً للحسن، مع أن علي من الثقات الأثبات الفقهاء، وكلامهما مشهور بالعبادة، والزهد، والصلاح.
يعني: يريد أن يقول لك: لم يكن بينهما نصف ساعة.
الحسن نزل من بطن أمه أولاً ومن بعده علي فهما توأمان، لكن علي يحفظ هذا التقدم في السن ولو كان نصف ساعة، وغير ذلك مما كان هو محل مفاضلة بين أهل العلم من السلف فليس بلازم أن تكون أنت على اليمين فيثبت لك الحق المطلق فربما يكون من كان على الشمال هو أولى منك بهذا الحق كأن يكون عالماً أو جواداً سخياً يجود على الناس وينفعهم وأنت لست كذلك، أو يكون والدك، أو عمك، أو جدك، أو معلمك أو مدرسك، أو غير ذلك فكل هؤلاء لهم الحق عليك في التقدم، وفي الشراب، وفي الكلام والمحادثة وغير ذلك، إذا وجدت واحداً من هؤلاء فقدمه على نفسك، وهذا من باب الأدب.
ونحن نعرف أن عبد الرحمن بن سهل بن زيد أخو القتيل، أما محيصة وحويصة فكلاهما ابن عم له، وابن العم ليس وارثاً ولا ولياً، إنما وليه عبد الرحمن، فـ عبد الرحمن هو الوحيد الذي له الحق في أن يرث عبد الله وله الحق في أن يتكلم، فلما استخدم هذا الحق في طرح القضية وعرضها على النبي عليه الصلاة والسلام، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال له: (كبر)، لأن محيصة أصغر من حويصة، فـ حويصة هو الذي يتكلم أولاً، وإذا أراد محيصة أن يتكلم فليفعل بعد أخيه، أما عبد الرحمن فآخر من يتكلم؛ لأنه الصغير، مع أنه صاحب الحق الأول وهؤلاء لا حق لهم، فلما قدم النبي عليه الصلاة والسلام حويصة على عبد الرحمن إنما أمر بذلك؛ ولم يكن المراد بكلامه حقيقة الدعوى بل سماع القصة، والنبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يعرف القضية ما هي؟ وما هو الذي حصل؟ ليس في معرض تحقيق وتفصيل القضية، وإثبات الحق لفلان ونفيه عن فلان، أو اتهام فلان وثبوت الحق لفلان، وإنما يريد أن يفهم ما الذي حصل؟ فالنبي عليه الصلاة والسلام إنما حرم عبد الرحمن من الابتداء بالكلام رغم أنه صاحب الحق في الولاية لمعرفة صورة القضية، لا لتحقيق الحق وإثبات التهمة، لكن إذا قلنا تكلم عن الحق ونحكم فيه بالدية أو القصاص أو غير ذلك فإن صاحب الحق عبد الرحمن، ويحتمل أن عبد الرحمن وكل حويصة في الدعوى ولكنه استشرفت نفسه بمساعدته،(67/22)
بيان كيفية يمين القسامة وردها على الطرف الآخر
أما قوله عليه الصلاة والسلام: (أتحلفون خمسين يميناً فتستحقون صاحبكم أو قاتلكم).
قد يقال: كيف عرضت اليمين على الثلاثة مع أن حويصة ومحيصة، لا يجب عليهما اليمين، بل لا يشرع لهما، وإنما يكون اليمين للوارث خاصة الذي هو عبد الرحمن لأنه أخو القتيل، وأما الآخران فابنا عم لا ميراث لهما مع الأخ؟
الجواب
أنه كان معلوماً عندهم، أن صورة الخطاب للعموم لكن المعلوم عند المخاطبين أن الذي سيحلف واحد منهم، وأما الآخران فابنا عم لا ميراث لهما مع الأخ، فاليمين تختص بالوارث، فأطلق الخطاب لهما، والمراد: من تختص به اليمين، أي: الذي تلزمه اليمين، واحتمل ذلك لكونه معلوماً للمخاطبين، كما سمع كلام الجميع في صورة قتله، وكيفية ما جرى له.
يثبت الحق قصاصاً كان أو دية بعد الحلف عليه، واختلف العلماء في ذلك: فمنهم من قال: قصاص.
ومنهم من قال: الدية.
ومنهم من قال: هدر لا قصاص ولا دية.
واعلم أنهم إنما يجوز لهم أن يحلفوا خمسين يميناً إذا علموا يقيناً أن فلاناً قتل ولا إشكال هنا، ويجوز لهم أن يحلفوا خمسين يميناً مع غلبة الظن مع القرائن الدالة كاللوث.
ولا يجوز لأحد أن يقسم هذه الأيمان في القسامة بمجرد الظن، أو الظن المجرد، بل لا بد من ظن مقترن بقرائن، أما مجرد الظن أو مطلق الظن فلا يستوجب اليمين، ولا يجوزها من باب أولى، وإنما عرض عليهم النبي صلى الله عليه وسلم اليمين إن وجد فيهم هذا الشرط، وليس المراد بالإذن لهم بالحلف من غير ظن، ولهذا قالوا: (كيف نحلف ولم نشهد).
أما قوله لما قالوا: (كيف نحلف ولم نشهد يا رسول الله، قال: فتبرئكم يهود بخمسين يميناً) أي: ترد اليمين إلى الطرف الآخر وإن كانوا يهوداً فيحلفون خمسين يميناً، فإن فعلوا ذلك برئت ساحتهم بمجرد هذه الأيمان.
وقيل معناه: يخلصنكم من اليمين بأن يحلفوا فإذا حلفوا انتهت الخصومة، ولم يثبت عليهم شيء، وخلصتم أنتم من اليمين.
وفي هذا الحديث دليل لصحة يمين الكافر والفاسق، وهذا بخلاف الشهادة، فإنه يشترط فيها العدالة إلا في مواطن، أما القسامة فيصح فيها يمين الكافر ويمين الفاسق من باب أولى، وإنما وداه رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعاً للنزاع، وإصلاحاً لذات البين، فإن أهل القتيل لا يستحقون إلا أن يحلفوا، أو يستحلفوا المدعى عليهم وقد امتنعوا من الأمرين.
يعني: أهل القتيل قالوا: لا نحلف، ولا نقبل اليهود أن يحلفوا؛ فأراد صلى الله عليه وسلم جبرهم وقطع المنازعة وإصلاح ذات البين بدفع الدية من عنده.
أما قوله: (فوداه من إبل الصدقة) جمهور المحدثين على أنه وهم من الراوي؛ لأن مجموع الروايات تقول: إنما وداه من عنده، ومن عند نفسه.
أي: من ماله الخاص عليه الصلاة والسلام، وربما جمعنا بين اللفظين أن هذا كان من مال الصدقة عامة، فلما وزع مال الصدقة اشتراه النبي عليه الصلاة والسلام من مالكه بعد توزيعه عليه، لأن بعض الناس يتصور أن هذا إنما تم توزيعه من زكاة المال ولا يصح ذلك؛ لأن الديات ليست من مصارف الزكاة.(67/23)
فوائد من أحاديث باب القسامة
(وفي هذا الحديث: أنه ينبغي للإمام مراعاة المصالح العامة والاهتمام بإصلاح ذات البين.
وفيه: إثبات القسامة.
وفيه: الابتداء بيمين المدعي في القسامة لا المدعى عليه.
وفيه: رد اليمين على المدعى عليه إذا نكل المدعي في القسامة -أي: رفض الحلف- وفيه: جواز الحكم على الغائب وسماع الدعوى في الدماء من غير حضور الخصم.
يعني: الحكم الغيابي.
وفيه: جواز اليمين بالظن وإن لم يتيقن.
وهذا مشروط بالقرائن.
وفيه: أن الحكم بين المسلم والكافر يكون مرده إلى الشريعة الإسلامية).
ومن أبواب الضلال والانحراف التي يعيشها المسلمون في بلاد أوروبا وأمريكا وغيرها أن الدعاوى والخصومات بشأن النكاح والأحوال الشخصية تتم في الكنائس، وفي مسألة الأحوال الشخصية يتم بلاء عظيم جداً، فالمسلم يسافر من بلاد المسلمين للحصول على الشرف السرمدي كما يزعمون، ولا يحصل عليه إلا بالزواج، ولما تسمع كلمة زواج تعرف أنها النطيحة، والمتردية، والموقوذة، وما أكل السبع، فيقال: الأخ الفلاني تزوج امرأة أمريكية، فهي من قلة الأزواج والعشاق تزوجت شخصاً مسلماً يريد أن يحصل على الشرف، أو امرأة مريضة عليلة لا تقوم من الفراش المهم أنها تكون أمريكية تحت أي علة لا تتزوج شخصاً أجنبياً وإن شئت فقل مسلماً للأسف الشديد، وهو يقبل هذا أحياناً، تجد الشخص يجلس معها ويقول لها: هذا الزواج هو صوري في مقابل أن لك كذا، والقضية لا تتم بهذا الشكل، بل لا بد أن الزواج يتم في المحكمة ويوثق هناك، والقاضي يعرف هذه الأشياء، يعرف أن المصريين بالذات يعملون هذه الأمور.
فإنه سيقول للرجل المسلم: أنت متزوج هذا المرأة؟ يقول له: نعم.
يقول له: قبلها.
فيقبلها.
ثم يقول له: احضنها، فيحضنها، ثم يأخذها القاضي على جنب ويقول لها: هو يستخدم معجون أسنان أو لا؟ هو يريد أن يتأكد أنهم جالسين مع بعض في شقة واحدة أم لا.
تقول له: نعم.
فيقول لها: ما لونه؟ فتقول له: أبيض، ثم يأخذه على جنب ويسأله عن معجون الأسنان؟ وما لونه؟ فيقول له: أحمر.
فيبطل القاضي الزواج وصاحبنا يكون قد قبلها وحضنها.
فهم يجعلون هناك عراقيل في إتمام النكاح؛ لأنهم لم يرون أنه ليس شرفاً لأمريكا أن أحداً من المسلمين ينسب إليها، والواحد منا يعتبر أن الشرف كل الشرف أنه يحصل ولو على تأشيرة من السفارة الأمريكية، وهذا ما وصل إليه الكفار من عز، وما وصل إليه المسلمون من انهزام نفسي، فهذا أمر مخجل جداً، وموجع للقلوب والرؤوس.
قال: (وفي هذا الحديث أن القسامة إنما تكون على واحد فقط، وبه قال مالك وأحمد، وقال أشهب وغيره يحلف الأولياء على ما شاءوا ولا يقتلون إلا واحداً).
أي: الواحد بواحد.
يعني: يقتل المسلم بالمسلم والنفس بالنفس.
(ولا يجوز قتل المسلم بالكافر، وهذه المسألة محل نزاع، ومذهب الجماهير فيها وهو الراجح إن لم يكن هو الصحيح أن المسلم لا يقتل بكافر قط لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يقتل مسلم بكافر)).
وقال الشافعي رضي الله عنه: إن ادعوا -أي: أولياء القتيل- على جماعة حلفوا عليهم وثبتت عليهم الدية على الصحيح، وفي قول أنه يجب القصاص عليه وإن حلفوا على واحد استحقوا عليه وحده، والمقصود بذلك أن أولياء المقتول إذا حلفوا على جماعة أنهم قتلوا قتيلهم استحقوا قتل واحد دون الجماعة، وإذا حلفوا على قوم أنهم قتلوا قتيلهم أخذوا الدية ولم يقتل واحد منهم، وهذه مذاهب العلماء في ذلك).
ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: (إما أن يدوا صاحبكم، وإما أن يؤذنوا بحرب) معناه: إن ثبت القتل عليهم بقسامتكم لو أنكم حلفتم وثبت عليهم القتل، فإما أن يدفعوا لكم ديته، وإما أن يعلمونا أنهم متنعون من التزام أحكامنا والانصياع لشرعنا فينتقض عهدهم ويصيرون حرباً لنا.
وفي هذا دليل لمن يقول: الواجب في القسامة الدية دون القصاص.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(67/24)
شرح صحيح مسلم - كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات - حكم المحاربين والمرتدين
ذكر الله تعالى في كتابه أن جزاء المحاربين لله ورسوله والذين يقطعون طريق الناس ويخوفونهم ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا إذا قتلوا النفس بغير حق، أو يصلبوا وتقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إذا قتلوا النفس وأخذوا المال، أما إذا أخذوا المال فإنه تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض، ويعزروا إذا قطعوا الطريق وأخافوا السبيل ولم يقتلوا ولم يأخذوا المال.(68/1)
باب حكم المحاربين والمرتدين
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، أما بعد: فمع كتاب المحاربين.
قال الإمام النووي: (باب حكم المحاربين والمرتدين).(68/2)
تعريف المحاربة
المحاربة: هي المضادة والمخالفة، وهي صادقة على الكفر؛ لأن من كفر فقد حاد الله ورسوله، وشاق الله ورسوله، كما أن من ارتد بعد إيمانه وإسلامه فقد حاد الله ورسوله، وضاد الله ورسوله، فكذلك المحاربة تصدق على الردة، وعلى الكفر الأصلي، كما تصدق كذلك على قاطع الطريق.
فلو أن رجلاً انطلق خارج المصر فاتخذ له طريقاً غير مسلوكة، أو طريقاً مهجوراً، يخيف الناس، ويأخذ متاعهم، ويزهق أرواحهم، فلا شك أن هذا محارب، وعلى هذه الصورة ينطبق كلامنا في هذه الليلة، وكذلك من أخاف السبيل، أو أفسد في الأرض.
وبعض أهل العلم يعتبر أن أي إفساد في الأرض سواء كان في المصر أو خارجه من المحاربة.
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول في الحديث الذي هو غصة في حلوق كثير من العلمانيين: (من بدل دينه فاقتلوه).
وتبديل الدين يعني: الردة.
أي: من ارتد عن دين الإسلام فاقتلوه.
وقال عليه الصلاة والسلام: (لا يحل قتل مسلم بغير حق).
وفي رواية: (إلا بثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه).
أي: الذي ارتد عن دينه.
والعلمانيون يوردون على هذا الحديث شبهاً ويقولون: إذا كان قوله عليه الصلاة والسلام: (من بدل دينه فاقتلوه) فإن النصراني إذا أسلم فقد بدل دينه، وإن اليهودي إذا أسلم فقد بدل دينه، حتى وإن كان هذا التبديل إلى الإيمان والتوحيد، فيجب قتله حينئذ.
والرد على هذه الشبهة وإن كانت لا تحتاج إلى رد؛ لأن هذا من كيس العلمانيين والملاحدة، الرد عليهم أن نقول: إن الدين عند الله الإسلام، فكل من كان على دين غير دين الإسلام فهو على دين الكفر عياذاً بالله، وإنما مهمة الأنبياء والرسل إخراج الناس من الكفر إلى الإيمان، فلما كان عيسى عليه السلام، أو موسى عليه السلام، أو نوح عليه السلام، أو غيرهم من الأنبياء في أزمانهم وجب على الناس اتباع كل نبي أرسل فيهم، فحينئذ لا يحل لهم تبديل ديانتهم مع وجود أنبيائهم أو مع عدم إرسال رسول آخر غيره.
أما وقد أرسل الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في العالمين فوجب على كل صاحب رسالة وشريعة ومتبع لنبي سابق أن يترك ذلك كله، وأن يكون تابعاً لنبينا عليه الصلاة والسلام، فمدار الأمر كله على ترك كل ديانة أو شريعة سبقت، واتباع شريعة محمد عليه الصلاة والسلام، فيكون قوله: (من بدل دينه) أي: من بدل إسلامه وإيمانه بمحمد عليه الصلاة والسلام فإنما هو مرتد وقد استوجب القتل بهذه الردة، والخطاب موجه إلى أصحابه بالدرجة الأولى، وهو عام للأمة إلى قيام الساعة.
والمعنى: يا معشر الصحابة! من بدل دين الإسلام بعد أن دخل فيه فإنما حده القتل، وهو ضربة بالسيف.(68/3)
شرح حديث أنس بن مالك في قصة العرنيين
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن يحيى التميمي وأبو بكر بن أبي شيبة كلاهما عن هشيم -وهو ابن بشير بن القاسم السلمي أبو معاوية الواسطي - واللفظ لـ يحيى ومعناه لـ أبي بكر بن أبي شيبة قال هشيم: أخبرنا أو عن عبد العزيز بن صهيب -وهو البناني البصري - وحميد -وهو ابن أبي حميد الطويل - عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن ناساً من عرينة)] وعرينة وعكل، وبجيلة، أسماء قبائل في البحرين.
[(قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فاجتووها)].
أي: أصابهم بها داء يسمى داء الجوى، وهو داء يغير لون الجلد، والوجه، ويجعل البطن منتفخة.
قال الأطباء: الجوى داء يصيب الجوف، يؤثر على الجلد، ويؤثر على لون الوجه.
ومنهم من قال: الجوى داء يصيب الصدر، والأمر قريب بين الجوف والصدر.
[فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن شئتم أن تخرجوا إلى إبل الصدقة فتشربوا من ألبانها وأبوالها)].
أي: فافعلوا.
وإبل الصدقة كانت على مشارف المدينة أو على مداخل المدينة.
والنبي عليه الصلاة والسلام أمرهم أن يشربوا من ألبان وأبوال إبل الصدقة، وربما يقول قائل: وهل هذا جائز أن يشرب الناس من أبوال وألبان الإبل، أو أن يأكلوا، ويشربوا من عموم أموال الصدقة؟
الجواب
أن ذلك جائز، خاصة إذا كانوا فقراء كهؤلاء الذين أتوا من عرينة وعكل، فالنبي عليه الصلاة والسلام إنما أذن لهم باعتبارهم فقراء، وباعتبارهم أبناء سبيل.
وإبل الصدقة كان يقوم عليها مولىً لرسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه يسار، ولما رأى رسول الله من صلاحه، وحسن صلاته ما رأى أعتقه وجعله على إبل الصدقة، وكان مع إبل الصدقة العامة للمسلمين إبلاً أخرى للنبي عليه الصلاة والسلام.
أي: هذه الإبل كان معظمها إبل الصدقة، وهذا لا يمنع أن يكون فيها بعض الإبل للنبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [(ففعلوا)] أي: ذهبوا إلى هناك، فشربوا من ألبانها وأبوالها.
وهذا دليل للقائل أن بول وسؤر ما يؤكل لحمه طاهران.
وهذا أمر محل نزاع بين أهل العلم.
فمنهم من قال أنه طاهر.
ومنهم من قال أنه نجس.
فمن قال: إن بول ما يؤكل لحمه طاهر فلا إشكال عنده حينئذ أن يتداوى به.
وأما من قال: إن بول ما يؤكل لحمه نجس فيجعل هذا حادثة عين خاصة للمرض وللتطبيب، وهذا أمر جائز عند جمهور أهل العلم، أنه يجوز التداوي بالنجاسات أو بالنجس ما لم يكن خمراً، ومعظم الأدوية التي يتعاطاها الناس الآن الله أعلم بحالها ففيها من النجاسات والأخباث والأجناس ما فيها، ومع هذا يتعاطاها الناس الآن بغير نتيجة.
قال: [(ففعلوا فصحوا)].
أي: فبرءوا من علتهم ودائهم؛ لما شربوا أبوال وألبان الإبل.
[(ثم مالوا على الرعاة فقتلوهم)] أي: ثم قاموا على يسار ومن معه من الرعاة فقتلوهم وارتدوا عن الإسلام.
لا بد أن تعرف جناية القوم: أولاً: لما صحوا وبرءوا من علتهم قاموا على الرعاة فقتلوهم، وارتدوا عن الإسلام، وفي رواية: [(فلما صحوا ارتدوا وقتلوا الرعاة، وجعلوا الشوك في أعينهم)].
يعني: بعد أن قتلوا الرعاة، غرزوا العيدان -الشوك- في أعين الرعاة، وهذا ما يسمى بالتسمير، أو التسميل.
قال: [(وساقوا ذود رسول الله صلى الله عليه وسل)].
أي: ساقوا الإبل التي شربوا ألبانها وأبوالها أمامهم في انطلاقهم إلى بلادهم.
أي: إلى البحرين.
وجنايتهم: أنهم ارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الرعاة، وسملوا أو سمروا أعينهم، وسرقوا الإبل، فهذه جنايات متعددة.
[(فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث في إثرهم)] أي: أرسل قوماً من الأنصار في طريق هؤلاء ليدركوهم ويأتون بهم إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [(فأتي بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم)] ابتداءً قطع أيديهم وأرجلهم [(من خلاف، وسمل أعينهم، وتركهم في الحرة حتى ماتوا)] والحرة: اسم مكان لجبل حجارته سوداء حامية.
ومعنى (من خلاف) أي: يقطع القدم اليمنى مع اليد اليسرى، واليد اليمنى مع القدم اليسرى.
ومعنى سمل أعينهم: أي: فقأها، وأذهب ما فيها.
مثلما نقول: سخت عينه.(68/4)
شرح حديث أبي قلابة في قصة العرنيين
[حدثنا أبو جعفر -وهو الدولابي البزاز البغدادي ثقة حافظ اسمه محمد بن الصباح - وأبو بكر بن أبي شيبة واللفظ لـ أبي بكر قال: حدثنا ابن علية - إسماعيل - عن حجاج بن أبي عثمان -وهو أبو الصلت البصري - قال: حدثني أبو رجاء مولى أبي قلابة -واسمه سلمان، ليس له في الصحيحين حديث إلا هذا الحديث- عن أبي قلابة -وهو عبد الله بن زيد الجرمي البصري - قال: حدثني أنس: (أن نفراً من عكل)].
والحديث الأول أنهم كانوا من (عرينة)، وهنا أنهم من (عكل) وفي رواية (من بجيلة)، ووجه الجمع أن هذه كلها قبائل من البحرين انتدبت أناساً منهم فاجتمعوا جميعاً فأتوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [(أن نفراً من عكل ثمانية قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعوه على الإسلام)] في هذه الرواية إثبات أنهم أسلموا.
وفي الحديث الأول إثبات أنهم ارتدوا.
قال: [(فاستوخموا الأرض وسقمت أجسامهم)].
استوخموا أي: أصابهم الوخم، وهو داء يصيب البدن يجعل الإنسان كالتالف لا يقدر أن يقوم من مقامه، فهو إنسان كسول، ويحس بالفتور والخمول، والوخم، لا يستطيع أن يزاول عمله، ولا أن يعود إلى نشاطه، وهذا داء يصيب الإنسان إذا غير أرضاً إلى أرض، أو مكاناً إلى مكان، أو جواً إلى جو، ولذلك نحن في تغير الفصول يكون الشخص يشعر بالكسل، وهو تالف، وجسمه مكسر، وغير ذلك؛ لأن هذا انتقال من فصل الشتاء إلى فصل الصيف، فالمدينة ومكة بالذات هما البلدان اللذان يحس الداخل فيهما لأول مرة بهذا الداء، فيشعر بالوخم، وأنه غير قادر على المشي، ولا على الحركة والنشاط.
ومعنى: وسقمت أجسامهم.
أي: مرضت واعتلت.
[(فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: ألا تخرجون مع راعينا في إبله فتصيبون من أبوالها وألبانها؟ فقالوا: بلى يا رسول الله! فخرجوا فشربوا من أبوالها وألبانها فصحوا)] أي: زالت علتهم ووخمهم [(فقتلوا الراعي، وطردوا الإبل)].
وفي رواية: (وأطردوا النعم).
أي: ساقوها أمامهم في طريق عودتهم إلى بلادهم.
[(فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث في آثارهم)] أي: خلفهم على نفس الطريق الذي صاروا فيه.
[(فأدركوا، فجيء بهم، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم، ثم نبذوا في الشمس حتى ماتوا)].
قال ابن الصباح في روايته: (وأطردوا النعم) أي: ساقوها أمامهم.
وقال: (وسمرت أعينهم) أي: دكت بالمسامير المحمية، وهذا الذي يعرف في الشرع بالمثلة.
والتمثيل بجثة الإنسان: أن يجدع أنفه، أو تقطع أذنه، أو يقطع له أي عضو، أو تسمل أو تسمر عينه بالمسامير والشوك وغير ذلك.
ومعلوم أن (النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن المثلة)، ومع هذا قد مثل بهؤلاء؟ وجواب ذلك: إما أن يكون مثل عليه الصلاة والسلام قبل النهي، ومذهب الجماهير أن النهي عن التمثيل إنما هو نهي تنزيه وكراهة، وليس نهي حرمة.
وبعضهم قال: إنما فعل النبي عليه الصلاة والسلام بهؤلاء كما فعلوا قصاصاً.
وهو الراجح.
والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا يحرق بالنار إلا رب النار).
وهذا نهي شديد وزجر أكيد عن الحرق والإيذاء بالنار، لكن لو أن واحداً أحرق غيره بالنار، فيجوز حرق هذا الحارق بالنار قصاصاً.
أي: يستثنى من النهي القصاص؛ لأن هذا خالف النهي، وارتكب الإثم، فأحرق غيره بالنار، فالقصاص يستوجب أن من قتل يقتل بالكيفية التي قتل بها.
قال: [حدثنا هارون بن عبد الله، حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد عن أيوب -وهو ابن أبي تميمة السختياني - عن أبي رجاء سلمان مولى أبي قلابة قال: قال أبو قلابة: حدثنا أنس بن مالك قال: (قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم من عكل أو عرينة فاجتووا، فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بلقاح)].
واللقاح هي الناقة ذات الدر، الناقة التي تحلب [(وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها) وذكر الحديث بمعنى حديث حجاج بن أبي عثمان السابق.
قال: (وسمرت أعينهم، وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون)].
وقوله: (يستسقون فلا يسقون) ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بألا يستجيب أحد لسقايتهم، كما أنه ليس فيه أنه نهى عن سقيهم.
(قال القاضي عياض: وقد أجمع المسلمون على أن من وجب عليه القتل فاستسقى لا يمنع الماء قصداً -أي: لا يتعمد أحد منع الماء عنه- فيجمع عليه عذابين: عذاب القتل، وعذاب منع السقاية).
قلت: قد ذكر(68/5)
شرح حديث أبي قلابة وعنبسة في قصة العرنيين
قال: [وحدثنا محمد بن المثنى - العنزي البصري - حدثنا معاذ العنبري، (ح) وحدثنا أحمد بن عثمان النوفلي، حدثنا أزهر بن سعد السمان - أبو بكر الباهلي البصري - قال: حدثنا ابن عون، حدثنا أبو رجاء مولى أبي قلابة عن أبي قلابة قال: كنت جالساً خلف عمر بن عبد العزيز فقال للناس: ما تقولون في القسامة؟ فقال عنبسة: قد حدثنا أنس بن مالك كذا وكذا.
فقلت: إياي حدث أنس -يعني: وأنا كذلك حدثني أنس - قدم على رسول الله قوم.
وساق الحديث بنحو حديث أيوب وحجاج.
قال أبو قلابة: فلما فرغت قال عنبسة: سبحان الله! قال أبو قلابة: أتتهمني يا عنبسة؟ قال: لا.
هكذا حدثنا أنس بن مالك: لن تزالوا بخير يا أهل الشام ما دام فيكم هذا أو مثل هذا.
وحدثنا الحسن بن أبي شعيب الحراني، حدثنا مسكين -وهو ابن بكير الحراني - أخبرنا الأوزاعي -إمام الشام الجبل الأشم العظيم-.
(ح) وحدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي أخبرنا محمد بن يوسف عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة عن أنس قال: (قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية نفر من عكل، بنحو حديثهم السابق وزاد في الحديث: ولم يحسمه)].
والحسم هو الكي، وهو في حد الحرابة، وحد السرقة، وغيرها إذا قطعت الأيدي، أو الأيدي والأرجل من خلاف، كان من عادة أهل الإسلام الأوائل أنهم إذا أقاموا الحد لقطع اليد كانوا يربطونها من بعد القطع أو من قبل القطع، إذا قطعت اليد من الرسغ ربطوها من قبل القطع مباشرة وكووها في الزيت، أو في الماء الساخن المغلي، حتى تلتحم العروق ولا ينزف الدم كله، حتى لا يموت المحدود.
والنبي عليه الصلاة والسلام لم يحسمهم، أي: لم يكو جروحهم، بل وتركهم ينزفون في الحرة تحت حرارة الشمس حتى ماتوا.(68/6)
شرح طرق وروايات أخرى لحديث أنس في قصة العرنيين
قال: [وحدثنا هارون بن عبد الله قال: حدثنا مالك بن إسماعيل، حدثنا زهير حدثنا سماك بن حرب عن معاوية بن قرة عن أنس رضي الله عنه قال: (أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من عرينة فأسلموا وبايعوه، وقد وقع في المدينة الموم)] وهو البرسام، وهو اسم فارسي معرب وهو نوع من اختلال العقل، ويطلق على ورم الرأس وورم الصدر، وهو يشبه سرطان المخ، أو شيء من هذا.
قال: [ثم ذكر نحو حديثهم وزاد: (وعنده شباب من الأنصار قريب من عشرين)] أي: النبي عليه الصلاة والسلام لما سمع بما فعل هؤلاء بالرعاة وبالإبل التفت إلى من بجواره فوجدهم قرابة عشرين شاباً من الأنصار.
[(فأرسلهم إليهم وبعث معهم قائفاً يقتص أثرهم)] والقائف: هو من ألحق الشبه بشبهه، والمثيل بمثيله، والأثر بالمؤثر، فهو الذي يعرف الأشباه والنظائر.
أما علمتم حديث النبي عليه الصلاة والسلام في أمر زيد بن حارثة وولده أسامة، وكان زيد أبيض وأسامة أسود أو العكس على ما أذكر، وكانت العرب تقول: إن أسامة ليس أبناً لـ زيد، فقد كانوا يرمون أمه بالزنا رضي الله عنها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتأذى بكلام العرب، أو بغمز بعض المسلمين في هذا الأمر، فجاء أعرابي قائف إلى بيت النبي عليه الصلاة والسلام وعنده زيد وأسامة نائمان قد بدت أرجلهما -يعني: هو لا يعرف لا أسامة ولا يعرف زيداً فضلاً أنهما نائمان ومغطيان ولم يبد منهما إلا أطراف الأقدام- فقال الرجل لنبي الله عليه الصلاة والسلام: يا رسول الله! إن هذه الأقدام بعضها من بعض.
يعني: هذا أبو ذاك أو ذاك ولد هذا.
ففرح بذلك النبي عليه الصلاة والسلام وقال لـ عائشة (أما سمعت ما قال الرجل في زيد وابنه أسامة إن هذه الأقدام بعضها من بعض).
فالقائف هو الذي يعرف الآثار في الصحراء، ويفرق بين أثر قدم الشاة والغنم مع أنهما متحدتان، لكنه إذا نظر في الأثر عرف أنها شاة، أو معز أو خف بعير.
أنتم تعلمون أن قريشاً ما تتبعت أثر خروج النبي عليه الصلاة والسلام هو وأبو بكر لما خرج إلى غار ثور إلا بآثار البعيران اللذان رباهما أبو بكر رضي الله عنه في هذه الرحلة.
قال: (وبعث معهم قائفاً يقتص أثرهم)، فالقائف مهمته هي معرفة الطريق الذي صاروا فيه.
قال: [حدثنا هداب بن خالد، حدثنا همام -وهو ابن يحيى بن دينار - قال: حدثنا قتادة عن أنس.
(ح) وحدثنا ابن المثنى -وهو محمد - حدثنا عبد الأعلى، حدثنا سعيد عن قتادة -وسعيد الذي يروي عن قتادة هو سعيد بن أبي العروبة - عن أنس وفي حديث همام: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم رهط من عرينة.
وفي حديث سعيد: من عكل وعرينة، بنحو حديثهم.
وحدثني الفضل بن سهل الأعرج حدثنا يحيى بن غيلان حدثنا يزيد بن زريع عن سليمان بن طرخان التيمي عن أنس قال: (إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين أولئك؛ لأنهم سملوا أعين الرعاء)].
أي: الجزاء من جنس العمل، مع أنه نهى عن المثلة؛ فإنه سمل أعين الرعاة قصاصاً.(68/7)
كلام الإمام النووي في أحاديث باب حكم المحاربين والمرتدين
الإمام النووي قال في حديث العرنيين: (فيه حديث العرنيين أنهم قدموا المدينة وأسلموا واستوخموها، وسقمت أجسامهم، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج إلى إبل الصدقة -يشربوا من أبوالها وألبانها- فخرجوا فصحوا، فقتلوا الراعي، وارتدوا عن الإسلام.(68/8)
حكم قتل الجماعة بالواحد
معلوم أن القاتل رجل واحد، ولو تمالأ أهل بلد على قتل واحد قتلوا به جميعاً، وهذه مسألة محل نزاع بين الفقهاء، لو أن قوماً اجتمعوا على قتل واحد، هل يقتلون جميعاً به؟ أما يقتل به الذي باشر القتل وحده؟ فلو اتفق واجتمع العدد الكثير على قتل واحد قتلوا به جميعاً.
وهذه مسألة معروفة في الحدود، أما إذا قتل الجماعة الواحد أو الواحد الجماعة، فسيأتي معنا بإذن الله في الحدود.
فسواء كان هو يسار الراعي، أو كان معه رعاة آخرون، فالحكم سواء؛ لأن الجماعة لو تمالأت واتفقت واجتمعت على قتل الواحد قتلوا به جميعاً حتى وإن لم يباشر القتل إلا البعض، أو واحداً منهم.
قال: (وارتدوا عن الإسلام، وساقوا الذود، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، وتركهم في الحرة يستسقون فلا يسقون، حتى ماتوا جميعاً).(68/9)
بيان حد الحرابة
قال: (هذا الحديث أصل في عقوبة المحاربين، وهو موافق لقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:33]).
ذكر لهم أربع عقوبات، {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة:33 - 34] أي: الجماعة هؤلاء الذين تابوا وجاءوا إلى المصر، ودخلوا على السلطان أو الوالي، أو الأمير، أو الحاكم، وقالوا: نحن قطاع الطريق، نحن محاربون، ولكننا تبنا إلى الله عز وجل وأتينا إليكم على حال توبتنا، {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:34] يعني: لا سبيل لكم عليهم.
وهذا الحديث، وهاتان الآيتان إنما يحكمان في الحدود ما يسمى بحد الحرابة، وسمي بذلك؛ لأن الله صدر الأمر بذكر أوصافهم، فقال: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ} [المائدة:33]، فسمي هذا الحد حد الحرابة، وحد الحرابة القتل، أو تقطيع الأيدي والأرجل، أو النفي من الأرض، أو الصلب، حتى يموتوا صبراً.(68/10)
خلاف العلماء في المراد بقوله تعالى: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله)
قال: (واختلف العلماء في المراد بهذه الآية الكريمة).
فمنهم من قال: نزلت في قوم مشركين.
ومنهم من قال: بل نزلت عتاباً للنبي عليه الصلاة والسلام أنه سمل أعينهم، وليس هذا براجح، إنما الراجح أن هذه الآية وإن نزلت قبل هذه الحادثة إلا أنها صالحة للعمل إلى قيام الساعة، فهي من باب عموم اللفظ، والأصل الأصيل: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهذه الآية محكمة وليست منسوخة، وعليها العمل، وقد عمل بها السلف، خاصة الصحابة، والخلفاء الراشدون، وكلهم يقولون: هذه الآية عامة.
وفيما يتعلق بسبب نزولها أو ببقائها فهي غير منسوخة أي: محكمة إلى قيام الساعة.
قال: (واختلف العلماء في المراد بهذه الآية، فقال مالك: هي على التخيير).
يعني لو جيء بالمحارب إلى السلطان فهو مخير بين أن يقتل، أو يصلب، أو يقطع، أو ينفي من الأرض، لأن الآية ذكرت التخيير: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:33] فـ (أو) عند مالك وغيره أنها للتخيير، فيخير الإمام بين هذه الأمور، إلا أن يكون المحارب قد قتل فيتحتم على الإمام قتل هذا المحارب.
(وقال أبو حنيفة وأبو مصعب المالكي: الإمام بالخيار وأن قتلوا).
وهذا رأي ضعيف جداً.
(وقال الشافعي وآخرون: هي على التقسيم).
وهو الراجح وهو مذهب الجماهير وعلى رأسهم الإمام الشافعي: أن العقوبة على التقسيم لا على التخيير.
(فإن قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا).
والمحارب هو شخص شرد عن الجماعة واتخذ له طريقاً غير مسلوكة، بعيداً عن البلد، وتسلح استعداداً لقتال وحرب كل من مر به وأخذ متاعه حتى وإن أدى ذلك إلى قتله وإزهاق روحه، فإذا تصرف قوم على هذا النحو واجتمعوا، وقاموا على الإمام، أي: يحاربون أهل البلد، ويحاربون الإمام، وجب على الإمام أن يقاتلهم وإن قتلهم جميعاً، وإن لم يكونوا قد ارتدوا؛ لأن المحارب ليس مرتداً، أما النفر من عرينة وعكل فهؤلاء قتلوا ردة؛ لأنهم ارتدوا عن الإسلام، لكن حديث عكل وعرينة موافق للآية فيما يتعلق بأحكام المحاربين.
أما المحاربون المسلمون إن قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا قصاصاً، وإن قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، فالقتل من القتل، والصلب لأخذ المال، فإن أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، بأن تقطع يده اليمنى مع الرجل اليسرى، والعكس بالعكس.
قال: (فإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا شيئاً ولم يقتلوا طلبوا حتى يعزروا -أي: ينفوا من الأرض- وهو المراد بالنفي عند الشافعية).
(قال: قال أصحابنا -أي الشافعية- لأن ضرر هذه الأفعال مختلف فكانت عقوباتها مختلفة).
أي: لأن ضرر الحرابة مختلف؛ فالضرر منه القتل، ومنه أخذ المال وغير ذلك فتنوعت كذلك العقوبة لتنوع الضرر.
فهذه حجة الشافعية.
قال: (لما نوع الله تعالى العقوبة دل ذلك على تنوع الضرر، فناسب أن يكون لكل ضرر عقوبة).
فقول الشافعية هو أرجح الأقوال وهو: إن قتلوا فقط قتلوا، وإن قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإن أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإن أخافوا السبيل ولم يأخذوا شيئاً ينفوا من الأرض.
قال: (ولم تكن (أو) لتخيير، وتثبت أحكام الحرابة في الصحراء).
وهذا بخلاف القرية أو المصر أو المدينة، ولذلك العلماء يقولون: شرط الحرابة أن تتم خارج المصر لا في داخل المصر.(68/11)
مسألة: هل تثبت الحرابة في المصر؟
قال: (وهل تثبت في الأمصار؟) فيه خلاف بين أهل العلم، والراجح أنها لا تثبت في المصر، إنما تثبت في الصحراء.
قال أبو حنيفة: لا تثبت الحرابة في المصر إنما تثبت في الصحراء، وقال مالك والشافعي: تثبت كذلك في الأمصار.
قال القاضي عياض رضي الله عنه ورحمه: اختلف العلماء في معنى حديث العرنيين.
قال بعض السلف: كان هذا قبل نزول الحدود، وآية المحاربة، والنهي عن المثلة، فهو منسوخ.
وقيل: ليس منسوخاً.
وفيهم نزلت آية المحاربة، وإنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بهم ما فعل قصاصاً؛ لأنهم فعلوا بالرعاة مثل ذلك، وقد رواه مسلم في بعض طرقه، فرواه ابن إسحاق وموسى بن عقبة، وأهل السير، والترمذي، وقال بعضهم: النهي عن المثلة نهي تنزيه ليس بحرام).
من الناس من يأخذ حديثاً سمعه بطريق مستقيم فيجعله من حديث أناس آخرين.
يعني: لو أن محمداً يروي عن عمرو وزيد بإسناد عمرو وبإسناد زيد فإنه يأخذ حديثه الذي سمعه من زيد فيجعله من طريق عمرو؛ لأنه يعرف أن طريق زيد ضعيف، فهو يسرق الحديث من طريق زيد ويقول: حدثني عمرو، وليس هذا الحديث من طريق عمرو وإنما هو من طريق زيد، فتحويل الحديث من طريق إلى طريق عمداً هو سرقة الحديث، وهو شر أنواع التدليس, وهو فوق التدليس بكثير.
نكتفي بهذا القدر، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(68/12)
الأسئلة(68/13)
الرد على شبهة هدم الأصنام في أفغانستان
السؤال
هناك شبهة في أمر هدم الأصنام التي يفعلها إخواننا في أفغانستان وهي: (لماذا لم يهدم الصحابة عند دخول مصر أبا الهول؟) وجزاكم الله خيراً.
الجواب
هم يقولون القطعة التي ذهبت من أنف أبي الهول إنما هي بسبب فعل الحملة الفرنسية لما دخلت مصر، أرادت أن تتخلص من الأصنام؛ لأن هذا شرك.
هم يقولون في التاريخ المزور: إن الحملة الفرنسية لم تأت إلا لتكتشف حجر رشيد، وهذا تزوير في وجه التاريخ، والمعلومة التي يجب أن تعرفها تماماً: هي أن الفرنسيين نصارى، ربما يقدسون أبا الهول، ويعتبرونه إلهاً معبوداً.
فهل يتصور أن يقوموا عليه ويجدعوا أنفه، أو يكسروه، أو يدفنوه؟ إن الذي فعل ذلك هم أوائل المسلمين لما دخلوا مصر، تعرضوا لهدم الأهرامات كما تعرضوا لتكسير وتحطيم أبي الهول، لكن هذه المحاولات لم تتم.
تصور أن هذه القطعة من الحجارة التي كسرت كانت بعد محاولات استمرت ثلاثة أشهر، فكيف بتحطيم أبي الهول كله؟ بل كيف بتحطيم الأهرامات كلها؟ فهذا أمر بلا شك يذهب الغالي والنفيس في دولة في طور تكوينها، فأيهما أولى: ترك ذلك وبناء الدولة؟ أما تخريب الدولة من الداخل بإنفاق اقتصادها وأموالها في تكسير حجر، ليس معبوداً في ذلك الوقت؟ بلا شك أن المصالح والمفاسد تقول: بناء الدولة مقدم.
الرد الثاني: أن عمرو بن العاص رضي الله عنه لما نزل مصر، كان موطنه في الفسطاط -أي: مصر القديمة- ولم يكن هناك بلد تسمى الجيزة، وكانت من الفسطاط إلى الأهرامات صحراء قاحلة لا زرع فيها ولا ماء، فـ عمرو بن العاص رضي الله عنه اعتبر أن بعد الأهرامات وبعد أبي الهول وعدم اكتراث واهتمام الناس بزيارة هذه الأماكن أمر يشرع معه تأخير تكسير مثل هذه الأصنام، ولذلك هل ثبت أن صنماً من الأصنام كان في المدينة وتركه عمرو؟ هل كان هناك صنم في البنيان والعمران وتركه عمرو بن العاص ومن معه من المسلمين؟ فهذا رد عن الشبهة في تكسير الأصنام في مصر.
أما حكم ما يفعله إخواننا هناك في هذا المعبود المزيف، فهو أمر مشروع اتفاقاً، ومن نطح في ذلك فإنما ينطح فيه بهوى أو خوف، وإن كان توقيت ذلك عندي فيه نظر، لكن هذا النظر يدفعه أن هؤلاء ممكنون في أفغانستان فلم التأخير إذاً؟ وهذا الصنم إنما يعبد من دون الله عز وجل، ولذلك أرى من الحكمة أنهم هدموا هذا الصنم ولم يهدموا القباب والقبور مع أنها تعبد من دون الله هناك.
وحجتهم في ذلك: أن القباب تحتاج إلى فترة لتعليم الناس؛ لأنهم درجوا على الصلاة في هذه المساجد التي بها قبور، أما (بوذا) فإنه يعبد من بعض أهل البلد، ومن القادم من الخارج خصيصاً؛ لأنه عندهم إله.
أما المقبورون فإنهم لا يمثلوا هذه الدرجة عند من اتخذهم، أو توسل بهم، أو غير ذلك وإن كانت كل هذه مظاهر من مظاهر الشرك.
تصور لو أنك في بيتك وقد اتخذ ولدك حجراً يعبده من دون الله عز وجل فإنك ممكَّن حينئذ من تكسير هذا الإله.
ولو أنك تخلفت عن هذا ولم تفعل أثمت بذلك، لأنك ممكن، فهؤلاء رأوا أنهم ظاهرون ممكنون، وأنهم أصحاب نجدة.
وقد اتخذ القوم إلهاً في بلدهم يعبد من دون الله عز وجل، فلما علموا ذلك من أنفسهم قاموا فاقتلعوا هذا الإله من جذوره، ودمروه تدميراً، فجزاهم الله تبارك وتعالى على ما صنعوا خيراً.
أما الشبهة أن هذا أمر يعطي صورة سيئة عن الإسلام للعالم كله، فهذا كلام لا يقوله إلا الملاحدة أو الجهلة من المسلمين؛ لأن الشريعة لو طبقت في العالم كله إلا في بلاد أوروبا وأمريكا وكسر وهشم بوذا لكانت نفس الشبهة باقية وقائمة، تردد حتى على ألسنة بعض المتدينين في مصر بلد الإسلام، وبلد الأزهر.
ونرد عليهم بأن النبي عليه الصلاة والسلام لما رجع إلى مكة فاتحاً كسر الأصنام؛ لأنه قادر ممكن، ولأن الدولة صارت دولة إسلامية، والبلد فتح فما الحجة في تأخير تكسير ثلاثمائة وستين صنماً حول الكعبة تعبد من دون الله عز وجل؟ فقد كسرها النبي عليه الصلاة والسلام وهو يتلو قول الله عز وجل: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81].
أي: ضعيف لا أوتاد له، ولا أساس له.
فلماذا لم يقل المشركون الذين لم يدخلوا في الإسلام بعد في ذلك الوقت: إن فعل محمد وأصحابه بهذه الأصنام يعطي صورة سيئة عن الإسلام، وعن الدين الجديد؟ فمرد هذه الشبهة إلى العلمانيين والملاحدة في هذا البلد، أو في غيره من البلدان.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد.(68/14)
شرح صحيح مسلم - كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات - الصائل على نفس الإنسان أو عضوه إذا دفعه المصول عليه لا ضمان عليه
الصائل هو الظالم الباغي المعتدي، ومن اعتدي عليه فله أن يدفع المعتدي بما يندفع به تدرجاً، وإن لم يندفع إلا بتلف عضو من أعضائه أو قتله فهو هدر لا ضمان عليه ولا دية ولا قصاص، والضمان والدية والقصاص لا تكون إلا عند المبالغة في دفع الصائل بما يمكن أن يندفع بما هو دونه يقيناً.(69/1)
باب الصائل على نفس الإنسان أو عضوه إذا دفعه المصول عليه فأتلف نفسه أو عضوه لا ضمان عليه
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: فمع الباب الرابع من كتاب القسامة: (باب الصائل على نفس الإنسان أو عضوه إذا دفعه المصول عليه فأتلف نفسه أو عضوه لا ضمان عليه).
أي: دفع الظالم أو الباغي المعتدي بغير حق على الآخرين، وهو المعروف بالصائل؛ لأن الصائل هو الظالم.
ولو أن واحداً اعتدى عليك في نفسك، أو مالك، أو عرضك، فدفعته فمات من هذه الدفعة، أو أتلفت عضواً من أعضائه، فهل تضمن أنت هذا التلف؟ هذا التلف إما أن يكون حدث في النفس.
بمعنى: أنك لو دفعته قتل من هذه الدفعة.
أو مات من هذه الدفعة، أو كان لا يمكن دفعه إلا بالقتل؛ لأن العلماء مجمعون على أن الصائل لا يدفع بأكثر من الوسيلة المطلوبة في دفعه، فلو أن واحداً اعتدى عليك فدفعته بيدك فاندفع فلا يجوز دفعه بالسوط، وإذا كان يمكن دفعه بالسوط فدفعته بعصا فهذا لا يشرع لك ولا يحل، وإذا كان يمكن الفرار منه بعدم الإتلاف أو بعدم تمكنه من الظلم بأن هربت منه فلا يجوز لك أن تتعرض له؛ لأنك لو عرضت نفسك له فإنما أوقعت نفسك في التهلكة.
فالشاهد من هذا: أن الإسلام يدعو إلى الحفاظ على النفس، والعرض، والمال بأي وسيلة مشروعة متاحة كانت، فلو أن ظالماً أو معتدياً أو صائلاً سطا أو ظلم وبغى على النفس أو المال أو العرض فيجب دفعه بالوسيلة المتاحة التي يمكن بها دفعه، نبدأ بالأقل، ثم الأكثر، ثم الزيادة، ولا يمكن قط أن يأذن الشرع لمن وقع عليه الضرر -أي: للمصول عليه- أن يدفع الصائل بوسيلة هي أعظم من مجرد جرم هذا الصائل، فلو أن واحداً سطا عليك في بيتك في الليل أو في النهار فكان يمكن أن يدفع هذا الصائل بمجرد التخويف فلا يجوز دفعه بالضرب، وإذا كان لا يندفع إلا بالضرب فلا يجوز القتل وغير ذلك.
أما أن يفكر المصول عليه في قتل الصائل أولاً وابتداءً فهذا يجب عليه أن يضمن ما أتلف، سواء أتلف النفس، أو المال، أو أتلف عضواً من أعضائه فإنما لا يضمنه إذا كان لا يمكن الدفع إلا بالقتل، أو ليس بين يدي المصول عليه إلا وسيلة يقتل بها، أو غلب على ظن المصول عليه أنه لا يمكن دفع هذا إلا بالقتل أو الجرح، أو قطع عضو من أعضاء الصائل فإنه حينئذ لا ضمان عليه، لأن هذا الصائل لا يدفع إلا بهذه الوسيلة، وهي المتاحة، ولذلك بوب النووي هنا وقال: (باب الصائل على نفس الإنسان أو عضوه).
فلو أن شخصاً شهر سيفه وغلب على ظنك أنه لا بد أن يقتلك فلا شك حينئذ أنك لو قتلته فإن قتله غير مضمون عليك.
بمعنى: أنك لا تكلف به قصاصاً، ولا دية، لأنه لا يمكن والحالة هذه دفعه إلا بالقتل، إما إذا كان بإمكانك أن تدفعه بغير القتل وهذا معلوم من ظروف وملابسات الواقعة؛ فإنك تضمنه إذا أتلفت روحه.
وكذلك لو قال لك إنسان: مد إلي يدك لأقطع كفك، لا سبيل لك إلا ذلك، فابتدرته لما علمت أنه فاعل ما يهدد به فقطعت يده التي يهدد بها؛ فإن لم يمكنك قطع يده إلا أن تقطع رقبته فلا حرج عليك حينئذ ولا تضمن.
أما إذا صال عليك صائل، وبغى عليك ظالم ثم بمجرد التهديد أو التخويف أو علمه أنك في البيت، بأن سمع صوتك، أو أنك تنحنحت، أو تكلمت، فعلم أن في البيت رجل يكف عن هذه الصيالة فحينئذ اندفع وهرب فلا يجوز لك أن تعدو خلفه فتقتله؛ فإن قتلته فأنت ضامن، لأنه اندفع بأقل من ذلك، واندفع بالفعل، فلم تعديت أنت حد الصيالة حينئذ؟! وهكذا يقول الإمام النووي: (باب الصائل على نفس الإنسان أو عضوه) ولو أن ظالماً ظلمك في نفسك أو في أحد أعضائك إذا دفعه المصول عليه فأتلف نفسه أو عضوه لا ضمان عليه.(69/2)
شرح حديث: (أيعض أحدكم كما يعض الفحل لا دية له)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر -وهو المعروف بـ غندر - حدثنا شعبة عن قتادة عن زرارة وهو ابن أوفى عن عمران بن حصين قال: قاتل يعلى بن منية أو ابن أمية رجلاً].
منية هي أم يعلى، وأمية هو أبو يعلى، فيصح أن يقال فلان بن فلانة، أو فلان بن فلان، أما في الآخرة فإنه لا يدعى إلا فلان بن فلان باسم أبيه.
وما ورد عند الطبراني وغيره: (أن المرء في يوم القيامة ينادى باسم أمه) فهذا غير صحيح، بل هو حديث باطل.
قال: [(قاتل يعلى بن منية أو ابن أمية رجلاً فعض أحدهما صاحبه، فانتزع يده من فمه فنزع ثنيته)].
أي: فانكسرت أسنان العاض.
وقال ابن المثنى: ثنيتيه.
[فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أيعض أحدكم كما يعض الفحل؟! لا دية له)].
مع أن الله تعالى يقول: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة:45].
وهذا الذي نزع يده من فم العاض إنما أسقط ثنيتيه، ومع هذا لم يحكم النبي عليه الصلاة والسلام بالقصاص، ولا بالدية، لأن الذي عض ابتدأ الظلم، وهو في حكم الصائل.
أي: الظالم المعتدي بغير حق.(69/3)
شرح حديث: (أن رجلاً عض ذراع رجل فجذبه فسقطت ثنيتيه فرفع إلى النبي فأبطله) وذكر رواياته وطرقه
قال: [وحدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن قتادة عن عطاء عن ابن يعلى عن يعلى عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله.
وحدثنا أبو غسان المسمعي -واسمه عبد الواحد - حدثنا معاذ -وهو ابن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي - قال: حدثني أبي عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن عمران بن حصين: (أن رجلاً عض ذراع رجل فجذبه -أي: فجذب ذراعه من فمه- فسقطت ثنيته فرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأبطله)] يعني: جعله هدراً لا قصاص ولا دية.
[(وقال: أردت أن تأكل لحمه؟!)].
أي: أردت أيها العاض أن تأكل لحم أخيك؟ كأنه يوبخه ويقول له: أتريد أن أقضي لك وأنت قد أردت ابتداءً أن تأكل لحم أخيك فماذا أقضي لك؟ وكيف تأمرني أن أقضي لك؟ فأبطل حقه عند صاحبه.
قال: [وحدثنا أبو غسان المسمعي حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن بديل -وهو ابن ورقاء - عن عطاء بن أبي رباح عن صفوان بن يعلى (أن أجيراً لـ يعلى بن منية عض رجل ذراعه فجذبها، فسقطت ثنيته فرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأبطلها وقال: أردت أن تقضمها كما يقضم الفحل)] وهو البعير.
[حدثنا أحمد بن عثمان النوفلي حدثنا قريش بن أنس عن ابن عون عن محمد بن سيرين عن عمران بن حصين: (أن رجلاً عض يد رجل فانتزع يده فسقطت ثنيته أو ثناياه فاستعدى رسول الله صلى الله عليه وسلم)].
يعني: طلب منه أن يكون بجواره، وهذا من سوء الأدب أن يذهب أحد الخصوم إلى حاكم أو قاض في غير مجلس القضاء والخصومة، وأن يحكي له الحكاية حتى يستعديه على الطرف الآخر بغير أن يسمع القاضي من الطرف الآخر، فهذا من سوء الأدب في القضاء ابتداءً، بل هذا لا يصح في الأذهان أن يذهب أحد الخصوم لمن يظن أنه يقضي له، أو يستميل قلبه ليتألب على الطرف الآخر ويكون رأياً قبل سماع الطرف الآخر.
فاستعدى رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: فطلب منه أن يعادي الآخر، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما تأمرني؟) كلام للتوبيخ والتقريع.
[(ما تأمرني؟! تأمرني أن آمره أن يدع يده في فيك تقضمها كما يقضم الفحل)].
أي: أنت ماذا تتصور؟ وأنت ماذا تريد مني؟ أتريد مني أن أقضي لك أن يبقي خصمك يده في فمك تأكل لحمه وعظمه؟ [(قال: ادفع يدك حتى يعضها ثم انتزعها)] إذا كنت متصور أنني سأقضي لك فإنما أقضي لك بنحو أن يقع عليك منه كما وقع عليه منك، فاذهب فضع يدك في فمه ومكنه أن يقضمها كما قضمت يده فحينئذ لا قصاص ولا دية، أما أن تتصور أنني أحكم لك مع أنك الباغي، والصائل، والمتعدي، والظالم فهذا لا يصح لا شرعاً ولا عقلاً.
قال: [(ما تأمرني؟ تأمرني أن آمره أن يدع يده في فيك - أي: في فمك - تقضمها - أي: تعضها - كما يقضم الفحل ادفع يدك حتى يعضها ثم انتزعها)] أي: ثم انتزعها أنت من فمه حتى تسقط أسنانه فحينئذ يكون السن بالسن، والعضة بالعضة، إذا كنت تريد عدلاً فهو هذا، وهذا الكلام بلا شك خرج مخرج التقريع وليس المراد بتمكينه يده ليعضها وإنما معناه الإنكار عليه.
أي: أنك لا تدع يدك في فيه يعضها فكيف تنكر أن ينتزع يده من فيك وتطالبه بما جنا في جذبه بذلك.
قال: [حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا همام -وهو ابن يحيى بن دينار - حدثنا عطاء وهو ابن أبي رباح عن صفوان بن يعلى بن منية عن أبيه قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل وقد عض يد رجل فانتزع يده فسقطت ثنيتاه قال: فأبطلها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أردت أن تقضمه كما يقضم الفحل).
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة حماد بن أسامة أخبرنا ابن جريج -وهو عبد الملك بن عبد العزيز الأموي - قال: أخبرني عطاء -وهو ابن أبي رباح - أخبرني صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه قال: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك، قال: وكان يعلى يقول: تلك الغزوة أوثق عملي عندي -يعني: أرجى عمل لي عند الله عز وجل- فقال عطاء: قال صفوان: قال يعلى: كان لي أجير فقاتل إنساناً فعض أحدهما يد الآخر، قال: لقد أخبرني صفوان أيهما عض الآخر، فانتزع المعضوض يده من في العاض(69/4)
باب إثبات القصاص في الأسنان وما في معناها
الباب الخامس: (باب إثبات القصاص في الأسنان وما في معناها) أي: فيما دق وجل من بدن الإنسان، كل عضو من أعضاء الإنسان ما دام عضواً منفصلاً له اسم ووقع عليه اعتداء أو صيالة، أو بغي فيثبت فيه القصاص.(69/5)
شرح حديث: (القصاص القصاص)
قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عفان بن مسلم -وهو المعروف بـ الصفار - قال: حدثنا حماد أخبرنا ثابت عن أنس: (أن أخت الرُبيع وهي أم حارثة جرحت إنساناً فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القصاص القصاص)] يعني: أدوا القصاص، ومكنوا من جرحتموه أن يجرحكم كما جرحتموه؛ لأن هذا هو الحكم في كتاب الله تعالى، قال الله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45].
(فقالت أم الرُبيع: يا رسول الله أيقتص من فلانة، والله لا يقتص منها.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: سبحان الله! - كلمة تعجب أو إنكار - يا أم الرُبيع القصاص كتاب الله - يعني: هذا حكم الله تعالى فيما وقع من فلانة أنه يقتص منها - قالت: لا والله لا يقتص منها أبداً.
قال: فما زالت حتى قبلوا الدية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره)] يعني: أبر الله تعالى قسمه، وهذه المرأة ليست معترضة على الله عز وجل، وليست رادة لحكم الله ولا لكتاب الله عز وجل.(69/6)
كلام النووي في حديث الباب(69/7)
مخالفة مسلم للبخاري في رواية حديث الباب
ولذلك يقول الإمام النووي: الإمام البخاري خالف مسلماً في هذه الرواية فرواها عن أنس أن عمته الرُبيع كسرت ثنية حارثة وطلبوا إليها العفو فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبوا إلا القصاص.
(فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص، فقال أنس بن النضر: يا رسول الله أتكسر ثنية الرُبيع؟ لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كتاب الله القصاص، فرضي القوم فعفوا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره).
وهذا لفظ البخاري، فحصل الاختلاف بين رواية البخاري ورواية مسلم في موطنين: الأول: أن في رواية مسلم أن الجارحة أخت الرُبيع، وفي رواية البخاري أنها الرُبيع نفسها.
والاختلاف الثاني: أن في رواية مسلم أن القائل: لا تكسر ثنيتها هي أم الربيع.
وفي رواية البخاري أنه أنس بن النضر.
ولذلك قال العلماء: المعروف في الروايات رواية البخاري، وقد ذكرها البخاري من طرق صحيحة كما ذكرنا هنا، وكذا رواه أصحاب كتب السنن.
والإمام النووي يقول كذلك في هذا الباب: إنهما قضيتان لا قضية واحدة: أما الرُبيع الجارحة في رواية البخاري وأخت الجارحة في رواية مسلم فهي بضم الراء وفتح الباء يعني الرُبَيع.
وأما في رواية مسلم فيها الربيع لا الرُبَيع.(69/8)
معنى قوله: (القصاص القصاص)
قال: (أما قوله: (القصاص القصاص) بالفتح.
يعني: أدوا القصاص وسلموه إلى مستحقيه.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (كتاب الله القصاص) في الرواية الثانية.
أي: حكم الله وحكم كتاب الله وجوب القصاص في السن، وهو قوله تعالى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة:45]).(69/9)
معنى قوله: (والله لا يقتص منها)
قال: (وأما قولها: والله لا يقتص منها.
فليس معناه رد حكم النبي صلى الله عليه وسلم، ولا الرد على الله تعالى، ولا على كتابه بل المراد به الرغبة إلى مستحق القصاص أن يعفو، إما بعرض الدية عليه).
وكثير من الناس يقبل الدية ولا يقبل القصاص؛ لأنه لا غنى في القصاص، إنما الغنى في الدية.
تصور لو أن واحداً قتل آخر خطأً، فالمعلوم أن القتل الخطأ إنما تجب فيه الدية، فلو أن الناس أخذوا الدية ومقدار الدية مائة بعير، وقلنا في الدرس الماضي أن قيمتها في هذا الزمان تقريباً أربعمائة ألف أو خمسمائة ألف جنيه، فلو أن أسرة فقيرة أخذت هذا المبلغ لصارت غنية بعد فقر، وعزيزة بعد ذل، فالدية أنفع لهم من القصاص، وماذا ينتفعون بإهراق دم القاتل؟ خاصة لو كان القتل على سبيل الخطأ ليس متعمداً، فبلا شك أن الدية فيها غنىً لأصحاب المقتول أو لأولياء المقتول.
فقال هنا: (بل المراد به الرغبة إلى مستحق القصاص أن يعفو وإلى النبي صلى الله عليه وسلم في الشفاعة إليهم في العفو).
يعني: نذهب إليه يا رسول الله ونكلمه وتشفع معنا عنده أن يتنازل من القصاص إلى الدية.
(وإنما حلف الحالف ثقة بهم أنهم لا يحنثوه).
حلف الحالف وقال: والله لا يقتص من فلانة.
أي: بعد شفاعتك يا رسول الله فإنهم لا يردوا هذه الشفاعة، فاذهب معنا لتشفع.
والمعلوم أن الحدود لا شفاعة فيها، فكيف أقسم هؤلاء على النبي عليه الصلاة والسلام أن يشفع لدى أصحاب هذا الذي كسرت ثنيته؟ وما هو وجه الجمع؟ في الحقيقة أنتم تعلمون أن الحد في مثل هذا إما القصاص وإما الدية، فالدية هي الحد، وهؤلاء لم يطالبوا بشفاعة النبي عليه الصلاة والسلام لإلغاء الحد، وإنما لانتقال القصاص إلى البدل، والبدل حد، فلم يطالبوا بشفاعة النبي عليه الصلاة والسلام لإلغاء الحد كما في قصة أسامة بن زيد رضي الله عنهما، وإنما طالبوا الانتقال من درجة إلى أخرى في ذات الحد، والمعلوم أن الحدود لا شفاعة فيها.
أي: لا شفاعة تبطلها، بخلاف التعزير فإن الشفاعة فيه قائمة.
قال: (وإنما حلف ثقة بهم ألا يحنثوه، أو ثقة بفضل الله ولطفه ألا يحنثه بل يلهمهم العفو، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام لما قبلوا الدية وتنازلوا عن القصاص قال: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره)) يعني: من عباد الله عباداً لو أقسموا على الله تعالى لأبر الله تعالى قسمهم، لما لهم من منزلة بحسن تقواهم وعبادتهم لله، وقربهم منه سبحانه وتعالى أنهم لو أقسموا على الله تعالى لأبر الله تعالى وألان قلوب الآخرين لقبول شفاعتهم أو قبول معذرتهم.
والنبي عليه الصلاة والسلام يبين ويبرر هذه القاعدة بحديث آخر، لما رأى رجلاً من أصحاب الوجاهة والسؤدد والسيادة في المجتمع يمر في مجلس المدينة والنبي عليه الصلاة والسلام قائم بين أصحابه قال: (ما تقولون في هذا الرجل؟ قالوا: يا رسول الله والله إنه لحري إذا تكلم أن يسمع له، وإذا نكح أن ينكح).
وذلك لأنه وجيه وعظيم في قومه، فإذا تكلم لا بد للناس جمعياً أن يسمعوا له، وإذا ذهب إلى بيت أحد لينكح أي: ليخطب ابنتهم أو يتزوج لحري به أن يقبل طلبه وألا يرد.
(ثم مر آخر) وهو من أهل الابتذال والمسكنة والفقر (فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ما تقولون في هذا الرجل؟ فقالوا يا رسول الله: والله إنه لحري إذا تكلم ألا يسمع، وإذا نكح ألا ينكح.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أشهد أن هذا خير من ملء الأرض من ذاك).
أي: أشهد أن هذا الفقير المبتذل خير من ملء الأرض من الرجل الأول الذي قلتم عنه إنه لحري إذا تكلم أن يسمع، وإذا نكح أن ينكح؛ لأن المفاضلة بين الخلق في الدنيا والآخرة إنما هي بتقوى الله عز وجل، وكان هذا من عباد الله، بخلاف الأول.
وقد قرر القرآن الكريم هذه القاعدة بقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] لا أوجهكم، ولا أغناكم، ولا أكثركم مالاً، ولا وجاهة ولا حسباً، ولا نسباً، وإنما الخيرية في الدنيا والآخرة متعلقة بتقوى المرء وحسن عبادته، وأن الله تعالى يكرم العباد كما قال عليه الصلاة والسلام والحديث في الصحيحين كذلك: (رب رجل أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره).
أي: رب رجل أشعث أغبر لو أنه ذهب إلى قوم لدفعوه عن بابهم، وعن بيتهم، لا يريدونه؛ لأنه معرة بالنسبة لهم.
أيقال: فلان المبتذل الفقير دخل عند فلان؟ هذا العبد عنده بين جنباته من الإيمان والتقوى ما يزن الجبال، ولذلك فضله الله تعالى على كثير، وجعل له كرامة وعلامة تدل على تقواه وهي: (أنه لو أقسم على الله لأبره).
وهذا أمر لا يحتاج إلى تجربة وإن كان مجرباً: يوم ما كنا في الأردن كان معنا شخص اسمه شريف السبع من دمياط وكان رجلاً حقيقة أشعث أغبر لكنه كان من أهل التقوى، يعرفها في وجهه من نظر إليه، وأقسم بالله أني كنت ألجأ إلى هذا وأطلب منه أن يدعو ب(69/10)
حكم الحلف على الشيء المظنون
قال: (وفي هذا الحديث من الفوائد: جواز الحلف فيما يظنه الإنسان).
أي: يجوز أن يحلف المرء على شيء مظنون، وهذا أمر مستقر لا خلاف عليه؛ لأن المرء إذا غلب على ظنه وليس هذا الظن من باب الخبط والتخمين، وإنما هو الظن الذي تنبني عليه الأحكام الشرعية.(69/11)
حكم الثناء على كل من لا يخاف عليه الفتنة
قال: (ومنها: جواز الثناء على كل من لا يخاف عليه الفتنة بذلك).
والنبي عليه الصلاة والسلام أثنى على كثير من أصحابه في حضورهم وفي غيبتهم، كما أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن المدح، ونهى عن الإطراء، أما في حق نفسه عليه الصلاة والسلام فقد قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم وإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله).
وهذا محمول منه على الورع الذي يناسب منزلة النبوة.
أما النهي كما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب).
أي: إذا رأيتم المداحين الذين يمدحون من يخاف عليه الفتنة، أما إذا رأيت رجلاً لا يتأثر بهذا المدح بل المدح والذم عنده سواء، فلا بأس بذكر ما فيه من شمائل، ومكارم الأخلاق، وهذا بيت القصيد فيه: أنك لا تخاف عليه الفتنة.(69/12)
استحباب العفو عن القصاص والشفاعة في ذلك
قال: (ومنها: استحباب العفو عن القصاص) قال تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة:178] أي: من القصاص إلى الدية {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ} [البقرة:178] يعني: أداء في الدية إليه {بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178].
ومنها: استحباب الشفاعة في العفو مع بقاء وثبوت الحد.(69/13)
بيان أن الخيرة في القصاص والدية لمستحقه لا المستحق عليه
قال: (ومنها: أن الخيرة في القصاص والدية إلى مستحقه لا إلى المستحق عليه)، وهذا باب من أبواب القضاء، يفهمه كثير من الناس على غير وجه شرعي، إذا كانت هناك خصومة بين اثنين شخص عليه مثلاً مائة جنيه للآخر، والآخر يطالب بالمائة جنيه؛ فيذهبا إلى المحكمة، والمحكمة تقضي له بثمانين جنيهاً.(69/14)
إثبات القصاص بين الرجل والمرأة
قال: (ومنها: إثبات القصاص بين الرجل والمرأة).
يعني لو أن امرأة كسرت ثنية رجل تكسر ثنيتها قصاصاً، ولو أن رجلاً كسر ثنية امرأة تكسر ثنيته بها، وإن كانت هذه المسألة محل نزاع بين أهل العلم وفيها ثلاثة مذاهب: الأول: أنه لا قصاص بينهما في نفس ولا طرف، وهذا مذهب الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح المكي؛ لأنه لا يقتل رجل بامرأة، ولا امرأة برجل، وكذلك لو أن امرأة قطعت ذراع رجل لا يقطع به ذراعها، والعكس بالعكس، ومذهب عطاء والحسن مذهب فاسد.
ثم قالا: بل تتعين دية الجناية تعلقاً بقوله: {وَالأُنثَى بِالأُنثَى} [البقرة:178].
والمذهب الثاني: وهو مذهب جماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، وهو ثبوت القصاص بينهما في النفس وفيما دونها، أي: مما يمكن القصاص فيه، وهذا هو المذهب الحق، أن المرأة لو قتلت رجلاً قتلت به، أو قطعت منه عضواً قطع عضوها به، والعكس بالعكس.
واحتج الجمهور بقول الله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] هذا وإن كان شرعاً لمن قبلنا، وفي الاحتجاج به خلاف مشهور للأصوليين فإنما الخلاف إذا لم يرد شرعنا بتقريره وموافقته، وقد ورد في شرعنا هذا.
أما المذهب الثالث: فهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه: يجب القصاص بين الرجال والنساء في النفس، ولا يجب فيما دون النفس، وهي الأطراف: كالذراع والعين، والسن، والقدم، وغير ذلك.(69/15)
وجوب القصاص أو الدية في السن
قال: (ومنها: وجوب القصاص في السن وهو مجمع عليه).
يعني: لا خلاف بين أهل العلم في أن واحداً لو كسر سنة آخر أن يكسر سنه بسنه الذي كسر.
يعني: لو أنك ضربت شخصاً بلكمة في أسنانه فسقطت فلا بد من تمكينه من أنه يلكمك بأسنانك حتى يسقط منها ما سقط منه، وهذا بالإجماع بين أهل العلم، لكن إن عفا صاحب القصاص عن القصاص وقبل الدية تقوم السن بالدية وتدفع له.
قال: (ومنها وجوب القصاص في السن وهو مجمع عليه، فإن كسر بعضها ففيه وفي كسر سائر الأعضاء خلاف مشهور للعلماء، والأكثرون على أنه لا قصاص فيه إنما تجب فيه الدية).
والدية في السن عشرة من الإبل، وهذا من باب حفاظ الإسلام على كرامة الإنسان.(69/16)
ما يباح به دم المسلم
الباب السادس: (ما يباح به دم المسلم).(69/17)
شرح حديث ابن مسعود: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث)
قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا حفص بن غياث وأبو معاوية -وهو محمد بن خازم الضرير - ووكيع بن الجراح - العتكي الكوفي - عن الأعمش - سليمان بن مهران الكوفي - عن عبد الله بن مرة عن مسروق بن الأجدع عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله)].
وهذا يبين أن المرء لا يثبت له الإسلام إلا بالشهادتين.
قال: [(إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزان)] والأرجح (الثيب الزاني) بإضافة الياء، وإن كان هذا له وجه صحيح فصيح كما في قول الله تعالى: {الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد:9] ولم يقل المتعالي.
فقال: (الثيب الزاني) لأن الثيب إذا زنا فحكمه الرجم حتى الموت، وهذا إجماع أهل العلم أن الثيب إذا زنا رجم حتى الموت، ولا تصح الشفاعة هنا بأنه يدفع الدية، لأن الزنا ليس فيه دية، أما في القتل والجرح فإنه يجوز أن ننزل من القصاص إلى الدية؛ لأننا لا زلنا في حد الشرع وحكم الشرع، أما في الزنا فإن الشرع لم يشرع أكثر ولا أقل من الرجم للثيب، والثيب هو كل من نكح، والنكاح بمعنى البناء، سواء طلق أو لم يطلق، فلو أن شخصاً تزوج امرأة وبنا بها ثم طلقها يقال عنه ثيب، ويعتبر ثيباً حتى وإن وقع منه الزنا في وقت لم تكن تحته زوجة، المهم أنه باشر النساء بنكاح صحيح، ولذلك هذه المباشرة هي الموجبة للرجم، أما عدم المباشرة فهي الموجبة للجلد أو التغريب على اختلاف بين أهل العلم.
ولذلك إذا عقد إنسان عقد نكاح ولم يبن ثم زنا.
أي بغير المعقود عليها؛ لأن المعقود عليها لا يسمى زنا بل هي زوجته وإن كان لا ينبغي له إتيان هذه المرأة، فهذا أمر مخل بالمروءة والأدب، ومناقض ومناهز لأعراف المجتمعات الإسلامية.
فإذا زنا العاقد بغير المعقود عليها فإنه يجب عليه الجلد، لأنه لم يبن بهذه المرأة المعقود عليه.
قال: [(والنفس بالنفس)].
يعني: من قتل يقتل، النفس بالنفس، ويستثنى منها: نفس الكافر، والمرتد، والمحارب؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا يقتل مسلم بكافر).
وهذا المذهب الذي رجحناه من أقوال أهل العلم في الدرس الماضي.
قال: [(والتارك لدينه المفارق للجماعة)].
التارك لدينه.
أي: المرتد.
أما المفارق للجماعة فهذا يمكن أن يكون المقصود به هم البغاة.
وقوله: (المفارق للجماعة) ليست للتوكيد، فالتارك لدينه تعني المرتد، وأما المفارق للجماعة فإن مذهب الجماهير أن المفارق هو من فارق جماعة المسلمين، واتخذ طريقاً ليقطع الطريق، والخلاف قائم بين العلماء في (التارك لدينه المفارق للجماعة) هل هما بمعنى واحد ينطبق على عدة أعيان؟ أو أنهما عين واحد؟ ولو اطلعت على كلام الإمام النووي لوجدت الخلاف، لكن الخلاف عند البخاري في هذه المسألة واسع جداً.
والتارك لدينه في حقيقة الأمر هو مفارق للجماعة، فلا يمكن أن يكون واحداً من المسلمين قولاً واحداً.
لكن قيل: المفارق للجماعة هم البغاة.
وقيل هو: الصائل إذا بغى.
يعني: هو الصائل أي الظالم إذا اتخذ طريقاً مهجوراً وقطع الطريق.
وقيل: بل هو قاطع الطريق خاصة.
وقيل: هو الباغي الذي تميز؛ بخلاف الباغي في المصر والحي لكنه لم يخرج عن عموم جماعة المسلمين، فالبغاة المميزون كالخوارج مثلاً، فإنهم تميزوا وتحيزوا واتخذوا لهم مصراً وأعلنوا الحرب على الإمام، فحينئذ وجب على الإمام أن يقاتلهم لا لأنهم كفار وإنما لأنهم فارقوا الإمام وبغوا عليه.(69/18)
شرح روايات وطرق حديث الباب
قال: [حدثنا ابن نمير حدثنا أبي عبد الله بن نمير (ح) وحدثنا ابن أبي عمر محمد بن يحيى حدثنا سفيان بن عيينة (ح) وحدثنا إسحاق بن إبراهيم وعلي بن خشرم قال: أخبرنا عيسى بن يونس -وهو ابن أبي إسحاق السبيعي - كلهم عن الأعمش بهذا الإسناد مثله.
حدثنا أحمد بن حنبل ومحمد بن مثنى واللفظ لـ أحمد قالا: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (والذي لا إله غيره لا يحل دم رجل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا ثلاثة نفر: التارك الإسلام - يعني: المرتد - المفارق للجماعة، والثيب الزاني، والنفس بالنفس) قال الأعمش: فحدثت به إبراهيم -يعني النخعي - فحدثني عن الأسود -يعني ابن يزيد النخعي - عن عائشة بمثله].
فهذا الحديث ثابت من طريق عبد الله بن مسعود ومن طريق عائشة.
قال: [وحدثني حجاج بن الشاعر والقاسم بن زكريا قالا: حدثنا عبيد الله بن موسى عن شيبان -وهو ابن عبد الرحمن النحوي - عن الأعمش بالإسنادين جميعاً نحو حديث سفيان ولم يذكرا في الحديث قوله: (والذي لا إله غيره)].(69/19)
كلام النووي في شرح حديث الباب: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث)(69/20)
إثبات قتل الزاني المحصن
قال الإمام النووي: (في هذا الحديث إثبات قتل الزاني المحصن.
والمراد: رجمه بالحجارة حتى يموت، وهذا بإجماع المسلمين).
لأنه لم ترد آية في كتاب الله تدل على الرجم، وإنما الرجم منسوخ تلاوة وكتابة.(69/21)
ثبوت القصاص بشرطه
قال: (وأما قوله: (والنفس بالنفس) فالمراد به: القصاص بشرطه).
يعني: القصاص إذا توفرت شروطه.
(وقد يستدل به أصحاب أبي حنيفة في قولهم: يقتل المسلم بالذمي).
لأن الآية عامة، (النفس بالنفس)، والكافر نفس، فلو أن مسلماً قتل كافراً قتل المسلم بهذا الكافر، لأن المسلم نفس والكافر نفس، والله تعالى يقول: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] فأخذوا الآية على عمومها.
(أما جمهور العلماء فعلى خلاف ذلك).
وقالوا: هذه الآية مخصصة بقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يقتل المسلم بكافر).(69/22)
حكم التارك لدينه المفارق للجماعة
قال: (وقوله: (والتارك لدينه المفارق للجماعة) فهو عام في كل مرتد عن الإسلام بأي ردة كانت، سواء كانت ردته اعتقاداً، أو قولاً، أو عملاً، أما إذا ارتد في اعتقاده مع بقائه على أحكام الإسلام الظاهرة فهذا عند الله كافر أما عند العباد فمسلم، وهذا شأن المنافقين، أما إذا ارتد قولاً أو ارتد فعلاً فلا شك أنه يجب على أولياء الأمور الحكم بردته وقتله، كما قال عليه الصلاة والسلام: (من بدل دينه فاقتلوه) فسواء كان تبديل هذا الدين أي الردة بالقول، أو العمل، أو الاعتقاد، أما الاعتقاد فإنه لا سبيل للعباد عليه، لأنه أمر قلبي لا اطلاع لأحد عليه، أما إذا أظهر ردته بالقول أو العمل فوجب على أولياء الأمور أن يأخذوه به، ويجب قتله إن لم يرجع إلى الإسلام.
(قال العلماء: ويتناول أيضاً كل خارج عن الجماعة ببدعة، أو بغي، وغيرها، وكذا الخوارج).
لأن الخوارج الذين خرجوا على علي بن أبي طالب بغاة، والباغي ليس كافراً، ولذلك لما سئل علي بن أبي طالب: أهؤلاء كفاراً أم ماذا؟ مع أنهم تميزوا وقاتلوا علياً وهو الإمام، فقال: من الكفر فروا.
يعني: ليسوا كفاراً، مع أن عملهم يعتبر خروجاً عن الإمام الحق، ومع هذا لم يكفرهم الإمام.
كذلك ما وقع من الذين خرجوا على عثمان بن عفان حتى قتلوه، وهذا في دفع الصائل كذلك، يعني هذه الأحكام فيما يتعلق بـ علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وغيرهما ممن وقع عليهم الظلم والبغي والصيالة، كانوا يدعون إلى عدم المقاتلة حتى لا يظن الظان أن المقاتلة إنما كانت بسبب الردة والكفر؛ لأن الباغي ليس كافراً.
ثم سئل علي رضي الله عنه عن الخوارج: إذاً فمن هم؟ قال: هم إخواننا بالأمس بغوا علينا اليوم.
والله تعالى يقول: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الحجرات:9] ماذا حدث بينهم؟ {اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9]، فسمى الله تعالى الطائفتين مؤمنتين، كما قال الله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} [البقرة:178]، ولم يقل: من قاتله، أو من القاتل الكافر، وإنما قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} [البقرة:178].
فأثبت له أخوة الإيمان، وهذا يدل على أن مرتكب الكبيرة ليس كافراً بكبيرته، وإن كانت من أعظم الكبائر.
أما ما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ليس لقاتل المؤمن عمداً توبة.
فقد ثبت رجوعه عن ذلك، وإن لم يثبت فلا عبرة بخلافه لمجموع الصحابة رضي الله عنهم؛ لأن هذه المسألة -أي: الحكم على القاتل بالكفر- مسألة يردها الكتاب والسنة، كما تردها السنة العملية للصحابة ومن بعدهم إلى يومنا هذا أن القاتل ليس كافراً وإنما ارتكب جرماً عظيماً جداً، وهو على خطر بين يدي الله عز وجل إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، وإن أقيم عليه الحد فالحد كفارته؛ لأن الحدود كفارات لأهلها، وإن تاب منها تاب الله عز وجل عليه، والله أعلم.
أما قوله عليه الصلاة والسلام: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)؛ فالسب فسق، لكنه لا يخرج به من الملة، كما أن قتال المؤمن أو قتال المسلم كذلك كفر وهو عند الإطلاق كفر عملي، ما لم يستحله مع قيام الحجة عليه، فإذا استحله مع قيام الحجة عليه وأن هذا مما حرمه الله، فأقدم على القتل وهو يعلن أن هذا دمه حلال بغير بينة ولا حجة فلا شك أنه يكفر بذلك ويخرج من الملة، لا لعين القتل، وإنما لكونه أحل ما حرمه الله.
قال: (قوله: (التارك لدينه المفارق للجماعة) هو عام في كل مرتد عن الإسلام بأي ردة كانت فيجب قتله إن لم يرجع إلى الإسلام.
قال العلماء: ويتناول أيضاً كل خارج عن الجماعة ببدعة، أو بغي، وغيرهما، وكذا الخوارج.
واعلم أن هذا عام يخص منه الصائل، الذي هو المفارق للجماعة، فيباح قتله في الدفع).
كما قلنا في الباب قبل الماضي أن الصائل إذا لم يندفع إلا بالقتل قتلناه، لا لكونه مرتداً وإنما لكونه لا يدفع إلا بهذه الوسيلة، فيباح قتله في الدفع.
قال: (وقد يجاب عن هذا بأنه داخل في المفارق للجماعة) ليس لأنه مفارق للإسلام، وإنما هو مفارق للجماعة.
(أو يكون المراد لا يحل تعمد قتله قصداً إلا في هذه الثلاث).
يعني: لا يحل قتل المؤمن عمداً إلا في هذه المسائل الثلاث، والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(69/23)
الأسئلة(69/24)
بيان الكفر الاعتقادي والعملي
السؤال
ما هو الكفر الاعتقادي والعملي؟
الجواب
الكفر الاعتقادي موطنه القلب.
أما الكفر العملي إما أن يكون باللسان أو بعمل الجوارح، حتى وإن أعلن خلاف ما يعتقد.
يعني: لو أن واحداً سب دين الله عز وجل، أو سب الرسول صلى الله عليه وسلم.
وتحققت فيه الشروط من العقل، والقدرة، وغير ذلك، وانتفت عنه الموانع.
أي: موانع الإكراه، والجهل وغير ذلك، مع أن هذه المسائل لا يعذر فيها الإنسان بجهله فسب الله وسب الدين وغير ذلك ليس فيها إعذار، فهذا الإنسان يكفر ويخرج عن الملة؛ لأنه ارتد ردة قولية، وهو كفر اعتقادي، وهو في الوقت نفسه كفر عملي، لأنه باشره باللسان.
أما إذا جاء رجل بكتاب الله عز وجل ووطأه بقدمه، وهو بالغ، عاقل، راشد، ليس مجنوناً، ولا سفيهاً، ولا مكرهاً، وهو يقول: أشهد أن هذا هو كلام الله عز وجل المنزل من فوق سبع سماوات على محمد عليه الصلاة والسلام بواسطة جبريل عليه السلام، وأنا أومن بذلك إيماناً جازماً، ومع هذا هو مستمر في وطئ المصحف وتقطيعه، وتمزيقه، وإلقائه في المزابل، فإنه يكفر.
فهذا كفر عملي وإن كان يصرح بخلاف ذلك، وهذا الكفر العملي يخرجه عن الملة.(69/25)
حكم من أقسم بغير الله أو بالخروج من دين الإسلام وكفارة ذلك
السؤال
ما هي كفارة من أقسم بغير الله، أو بالخروج من الإسلام على ترك معصية وعاد لها؟
الجواب
بلا شك أن هذا لا يكفر، وإن كان كذلك فقد دخل في خطر عظيم جداً، لأنه أقسم بغير الله عز وجل، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من أقسم بغير الله فليقل: لا إله إلا الله) فدل على أن هذا كفارة ذلك.
وقال عليه الصلاة والسلام: (من أقسم بغير الله فقد كفر أو أشرك) وهذا الكلام قد استوعبناه بحثاً في كتاب الأيمان، فلا داعي للإطالة فيه.
أو قال الإنسان: أكون بريئاً من دين الإسلام لو أني فعلت كذا، أو لو ثبت علي كذا.
فلا شك أنه لا يقصد الخروج من الملة وإنما قصد نفي التهمة عنه، أو قصد أن يحمل فلاناً على فعل كذا أو ترك كذا فإن بر قسمه فلا شك أنه على خطير عظيم جداً ولا يعود لذلك.
وإن حنث فلا شك أنه يلزمه كفارة اليمين مع بقاء الخطر الأول.
والله تعالى أعلم.(69/26)
كيفية حثي التراب في وجوه المداحين
السؤال
حديث: (إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب) كيف يحثى التراب في وجوه المداحين؟
الجواب
كان عبد الله بن عمر يفعل ذلك حقيقة، إذا مدحه إنسان تناول كفاً من حصى وألقاه في وجه المادح، وإن كان مذهب جماهير الصحابة وغيرهم من علماء الأمة بحثو الوجه بالتراب هو الزجر الشديد للمادحين، وإثبات أن هذا الأمر لا ينبغي للمسلم أن يقدم عليه، فالحديث محمول على الزجر الشديد، ولكن بعض أهل العلم كالظاهرية ذهبوا إلى وجوب إلقاء التراب في وجوه المداحين.(69/27)
حكم ما يفعله بعض الناس من خوارق العادات، وتوبة الساحر
السؤال
هل للساحر توبة، مع العلم أن هذه الظاهرة انتشرت في بعض الشباب حيث يأتون ببعض الأعمال الخارقة للعادة؟
الجواب
بلا شك أن الشباب الذين يفعلون ذلك أو يأتون بشيء خارج عن عادة الخلق وهي المعروفة بالخوارق، ينظر إلى عمل هذا الذي جرت على يديه الخارقة؛ فإن كان من أهل الإيمان والتقوى فالمعلوم أن هذه كرامة من الله عز وجل، وأما إذا كان غير ذلك فهو استدراج من الشيطان، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إذا رأيتم عمل العامل خارق للعادة فلا تحكموا عليه حتى تنظروا إلى عمله، وهذا الفارق بين عباد الرحمن وأولياء الشيطان، وقد ذكر الفروق بينهما شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه: (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) فيرجع إليه.
أما الأمر الثاني: هل للساحر توبة؟ ف
الجواب
نعم، السحر وإن كان ضرباً من ضروب الكفر والردة، إلا أن الساحر لو تاب لتاب الله عز وجل عليه، ولا يزال باب التوبة مفتوحاً حتى تطلع الشمس من مغربها.(69/28)
الحكم على حديث أن النبي عليه الصلاة والسلام كان له جار يهودي يضع القاذورات على بابه
السؤال
ما حكم الحديث الذي يحكي أن يهودياً كان جاراً للنبي عليه الصلاة والسلام يضع على بابه قاذورات وفي يوم من الأيام لم يجد النبي عليه الصلاة والسلام هذه القاذورات فسأل عن هذا اليهودي؟ فقالوا: إنه مريض، فذهب إليه ليعوده؟
الجواب
على أية حال هذا ليس حديثاً من الأصل، وإنما هي حكاية تروى عن أبي حنيفة، أنه كان له جار يهودي إلى آخر القصة، أما أنه حديث مرفوع فليس عندي به علم، وأغلب الظن أنه حديث موضوع.(69/29)
الحكم على حديث: (قلب القرآن يس)
السؤال
ما صحة حديث: (إن لكل شيء قلب وقلب القرآن (يس) لا يقرأها رجل يريد الله ورسوله والدار الآخرة إلا غفر له، اقرؤها على موتاكم)؟
الجواب
على أية حال هذه الأحاديث وغيرها مما جاء في فضل سورة (يس) لا يصح منها حديث واحد، وليس معنى ذلك أن (يس) ليس لها فضل، فهي كلام الله عز وجل، ولكننا نتكلم عن مبدأ ثبوت هذه الروايات، فهذه الروايات غير ثابتة، ويدور أمرها بين الضعف الشديد والوضع، وليس منها حديث ضعيف فحسب بل الأحاديث الواردة في هذا وفي كثير من السور أحاديث كلها موضوعة وضعها رجل يسمى بـ نوح الجامع، وهو المعروف بأنه جمع كل شيء إلا الصدق، أخذ القرآن من أوله إلى آخره مائة وأربع عشرة سورة، ووضع في كل سورة حديثاً، فأنبته نفسه بعد ذلك، فقال: ليس معقولاً أن أضع في سورة البقرة حديثاً واحداً، وسورة الإخلاص حديثاً واحداً، فوضع في البقرة ما يناسبها حجماً، فوضع ثمانية وعشرين حديثاً، وبعد ذلك ثمانية عشر، وبعد ذلك خمسة عشر، من أجل قسمة العدل بين أحجام السور.(69/30)
حكم العمل في البنوك الربوية في الأقسام التي لا يكون التعامل فيها بتداول المال
السؤال
هل يجوز العمل في البنوك الربوية في الأماكن التي لا يكون التعامل المباشر فيها بتداول المال؟
الجواب
في الحقيقة -أخي الكريم- وإن جوز بعض أهل العلم العمل في البنوك في الأماكن التي لا تباشر الربا ولا تعانيه، فلا يبقى إلا أن نقول: إن هذا العمل مشبوه.
يعني: إن لم يكن هناك جزم بحرمته فلا أقل من الحكم بأنه عمل فيه شبهة عظيمة، فإذا كنت على البر -يعني لم تعمل- فابحث عن عمل آخر، والله تعالى ييسر لك أمرك، (ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه).(69/31)
حكم تارك الصلاة
السؤال
ما حكم تكفير تارك الصلاة؟
الجواب
أنا ما ترددت في مسألة من مسائل الشرع كترددي في تكفير تارك الصلاة؛ لأن خلاف أهل العلم في هذه القضية خلاف قوي جداً، فأحياناً يترجح لدي تكفيره، وأحياناً يترجح لدي عدم تكفيره، وأنا الآن يترجح لدي التكفير.(69/32)
حكم الشيعة
السؤال
هل الشيعة كفار؟
الجواب
لا يصلح توجيه هذا السؤال على هذا النحو ابتداءً؛ لأن قوله عليه الصلاة والسلام في حديث الفرق: (كلها في النار إلا واحدة) لا يلزم منه الخلود الأبدي السرمدي، كما أنهم إذا دخلوا النار فلا يلزم أن يكون دخولهم في النار بسبب كفرهم، وإلا فالنبي عليه الصلاة والسلام في أول الحديث قال: (وستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين)، فهل أحد من أمته كافر؟ فالذي يترجح لدي أن هؤلاء يدخلون النار بسبب بدعتهم، كما أنه لا يمكن النظر إلى هذه الفرق باعتبار أنها مبتدعة بدعة لا تخرجها من الملة، أو أنهم جميعاً خارجون عن الملة؛ لأن هذا وذاك يصطدمان مع حديث النبي عليه الصلاة والسلام، إنما ينظر لكل أحد مبتدع على حدة، ويفرق بين الداعية إلى البدعة العالم بها وبين عامة الناس ورعاع الناس، فيفرق مثلاً بين عامة الخوارج وبين زعماء وقادة الخوارج، ومنظري الخوارج، كما أنه كذلك لا يمكن أن يستوي قط رجل يمشي في شوارع إيران لا يعرف الخمسة من الطمسة وهو شيعي، وبين الخميني، لا يستويان قط، فهذا عالم وذاك جاهل نشأ في بيئة متشيعة فتشيع بتشيعها، لأنه ليس من أهل العلم، ولا يطلب العلم، إنما هو من رعاع هذه الفرقة، وقد تكلمنا عن الخوارج والشيعة وغيرهما من الفرق فنقيس هذا الكلام عليهما.(69/33)
الكلام في نسبة كتاب الروح لابن القيم
السؤال
هل كتاب الروح من تأليف الإمام ابن القيم؟
الجواب
كتاب الروح محل نزاع، والنزاع فيه يدور بين أمرين: الأول: إما أن ابن القيم كتب كتاب الروح قبل أن يتأهل لذلك.
يعني: في مبدأ طلبه، وفي أيام صغره وشبابه.
الثاني: وإما أن هذا الكتاب منسوب له زوراً، ليس كتابه؛ لأنه فعلاً فيه كلام لا يتوافق قط مع علم ابن القيم، ولا مع منهجية ابن القيم في الدعوة، والعلم، والعمل.(69/34)
معنى قوله: (ليس بحادث)
السؤال
ما معنى: ليس بحادث؟
الجواب
سميت الحوادث بهذا الاسم لأنها حدثت بعد أن لم يكن لها وجود.
يعني: الحادث هو من لم يكن موجوداً فوجد، أما أن تكون هناك حوادث لا أول لها -يعني أزلية- فهذا لا يمكن أن ينسب إلا إلى الله تعالى؛ لأن الله تعالى هو الأول بلا ابتداء، وليس حدثاً سبحانه وتعالى، وهذا الكلام كلام تمقته النفس والقلب جداً ولكني أردت أن أبين سؤال الأخ الكريم.(69/35)
حكم المسح على العمامة
السؤال
ما حكم المسح على العمامة؟
الجواب
المسح على العمامة أمر مشروع، إن كانت العمامة تعم جميع الرأس فيمسح عليها، ولا يلزم فيها ما يلزم المسح على الخف؛ لأن المرء إذا مسح على العمامة جاز له أن يخلعها حتى وإن نقض وضوءه ثم لبسها لا يلزمه أن يخلعها حين الوضوء فيمسح رأسه، بل إذا توضأ وأدرك الوضوء وهو لابس عمامته فلا بأس أن يمسح عليها حتى وإن كان نزعها وقت نقضه لهذا الوضوء خلافاً للخف أو للجورب، وإذا كانت العمامة في بعض الرأس دون البعض فإنما يمسح على الشعر المكشوف -أي: في مقدم رأسه- ويتم المسح على بقية العمامة، والرجل والمرأة في ذلك سواء.(69/36)
حكم رفع اليدين في التكبير بعد الانتهاء من التشهد الأوسط وهو قاعد لم يقم
السؤال
ما حكم رفع اليدين في التكبير بعد الانتهاء من التشهد الأوسط والمصلي جالس ولم يقف بعد؟
الجواب
فعل ذلك النبي عليه الصلاة والسلام أحياناً، أما غالب أحيانه عليه الصلاة والسلام أنه ما كان يرفع يديه إلا بعد الانتقال، يعني ما كان يرفع يديه إلا بعد أن يقف، كما جاء عند الحاكم وابن خزيمة وغيرهما (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا قام إلى الثالثة كبر ورفع يديه، وكان يرفع يديه وهو جالس أحياناً قبل أن يقوم) فكلمة أحياناً تدل على أن الأصل أنه ما كان يرفع يديه إلا بعد القيام.(69/37)
كيفية تحريك السبابة في التشهد
السؤال
كيف يكون الوضع الصحيح لسبابة اليمنى أثناء التشهد؟
الجواب
المسألة هذه فيها نزاع على اعتبار شذوذ زيادة زائدة بن قدامة من عدمها، فمن قال بزيادة زائدة بن قدامة مع أنها في صحيح مسلم وشذوذها يقول: السنة في الأصبع أو السبابة اليمنى الإشارة فقط.
ومن قال بأن هذه الزيادة زيادة ثقة قال بجواز رفع السبابة والخفض، فتكون اليد على الفخذ والإشارة بها على المذهب الأول وهو الذي يترجح لدي، أما بعض الناس فيتكلف هيئات أخرى للإشارة بالسبابة لا دليل عليها.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(69/38)
شرح صحيح مسلم - كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات - بيان إثم من سنّ القتل
القتل من الكبائر والجرائم التي حرمتها كل الشرائع، فمن قتل نفساً فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً، وأول ما يحاسب عليه المرء يوم القيامة الصلاة والدماء، وقد بين الشرع أن لولي القتيل الخيار بين أن يقتص من القاتل عمداً أو يأخذ الدية أو يعفو، والعفو خير له.(70/1)
باب بيان إثم من سن القتل
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، أما بعد: فمع الباب السابع من كتاب القسامة والمحاربين (باب بيان إثم من سن القتل).
أي: باب إثم من أحدث القتل أولاً.(70/2)
شرح حديث: (لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها)
قال المصنف رحمه الله: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير واللفظ للأول -أي: لـ أبي بكر - قالا: حدثنا أبو معاوية -وهو محمد بن خازم الضرير - عن الأعمش - سليمان بن مهران الكوفي - عن عبد الله بن مرة عن مسروق بن الأجدع عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها؛ لأنه كان أول من سن القتل)] أي: أحدثه.
أول مخلوق أحدث القتل هو قابيل، حينما قتل أخاه هابيل، ظلماً بغير حق.
ومعنى (كفل من دمها).
أي: حظ ونصيب؛ لأنه كان أول من سن القتل وأحدثه واخترعه.
قال: [وحدثناه عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير -وهو ابن عبد الحميد الضبي - وحدثنا إسحاق بن إبراهيم -المعروف بـ ابن راهوية - أخبرنا جرير وعيسى بن يونس -وهو ابن أبي إسحاق السبيعي - وحدثنا ابن أبي عمر - محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني نزيل مكة- قال: حدثنا سفيان].
وإذا حدث العدني عن سفيان فإنما هو ابن عيينة [كلهم عن الأعمش] يعني: جرير وعيسى بن يونس وسفيان بن عيينة كلهم يروون عن الأعمش [بهذا الإسناد]، عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن ابن مسعود.
[وفي حديث جرير وعيسى بن يونس (لأنه سن القتل) وليس فيه (أول).
] أي: ولم يذكرا لفظ (أول) وإنما (لأنه سن القتل).
أي: لأنه أول من سن القتل.(70/3)
كلام النووي في حديث الباب
قال النووي: في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها؛ لأنه كان أول من سن القتل).
قال: الكفل هو الجزء والنصيب.
يعني: لا بد أنه يأخذ شيئاً وحظاً ونصيباً من كل أحداث القتل التي تكون إلى قيام الساعة؛ لأنه هو الذي لفت أنظار الخلق إلى هذا الجرم العظيم، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها -أي اقتدى به فيها- لا ينقص ذلك من أوزارهم شيء).
وهذا إلى قيام الساعة.
كما (أنه من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً).
وكذلك هذا إلى قيام الساعة.
فالذي يسن خيراً له نصيب ممن اقتدى به؛ لأنه سبب ذلك، وهو الذي سن الخير، والذي يسن شراً لا بد أن له نصيباً من هذا الشر.
لأنه أول من أحدث الشر.
وقال عليه الصلاة والسلام: (الدال على الخير كفاعله، والدال على الشر كفاعله وإن لم يفعل).
لأن الدلالة على الشر قامت مقام الفعل، فلو أنك أعطيت سكيناً لرجل وقلت له: اذهب فاقتل فلاناً فأنت قاتل وإن لم تباشر القتل بنفسك؛ لأنك متواطئ على القتل.
ولذلك قيل لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لم يقتلها فلان وفلان.
قال: ألم يتواطئوا على قتلها؟ قالوا: بلى.
قال: لو تمالأ وتواطأ أهل اليمن على قتلها لقتلتهم بها.
وهذا مذهب جماهير العلماء: أن العدد الكثير يقتل بالواحد إذا تواطئوا على قتله، فلو تواطأ جماعة على قتل رجل قتلوا به.
والمعلوم أنه قتل بضربة واحد لا بضربة المجموع، ولكنهم لما تواطئوا، واتفقوا واتخذوا لذلك الوسائل لإزهاق الروح كانوا في حقيقة أمرهم قتلة، وإن لم يباشروا جميعاً القتل.
قال النووي: (هذا الحديث من قواعد الإسلام).
أي من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام.
(وهو أن كل من ابتدع شيئاً من الشر كان عليه مثل وزر كل من اقتدى به في ذلك العمل إلى يوم القيامة، ومثله من ابتدع شيئاً من الخير كان له مثل أجر كل من يعمل به إلى يوم القيامة، وهو موافق للحديث الصحيح (من دل على خير فله مثل أجر فاعله) وللحديث الصحيح: (ومن سن سنة حسنة).
(ومن سن سنة سيئة) وللحديث الصحيح (ما من داع يدعو إلى هدى).
(وما من داع يدع إلى ضلالة)] إلا كان له حظ من الهدى، وكان له حظ من الضلالة، والأحاديث كلها في هذا الباب تدور في فلك واحد.
ولا يفهم من حديث (أن من سن سنة حسنة في الإسلام له أجرها) أنه يبتدع أو أنه يجوز له أن يبتدع في دين الله الشيء الحسن؛ لأن الحسن ما حسنه الشرع، والقبيح ما قبحه الشرع، فلا يمكن أن يؤذن أو يسمح لأحد من أهل الإسلام أن يأتي بشيء يدخل به على الإسلام وليس منه، ونعده حينئذ من باب الحسنات، أو من باب السنن الحسنة؛ لأننا لا بد أن ننظر إلى مناسبة هذا الحديث: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً).
وهو (أن قوماً من مضر أتوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام مجتابي النمار) أي: قتلهم الهزال، والضعف، والجوع، والحاجة، (فلما رآهم النبي عليه الصلاة والسلام تمعر وجهه).
يعني: تغير وجهه وحزن وغضب لما نزل بهم من فقر وحاجة (فعرف ذلك أحد أصحابه فقام فأتى بما عنده) أي: من طعام أو شراب أو كسوة (فلما رآه أصحابه قد فعل ذلك وسر النبي عليه الصلاة والسلام بفعل هذا الصاحب، قام كل واحد منهم إلى بيته فمنهم من أتى بكسرة خبز، ومنهم من أتى بطعام، ومنهم من أتى بشراب، ومنهم من أتى بملبس، فوضعوه في نطع ثم حملوه، والنطع هو الفرش من الجلد، فحملوه حتى كادت أيديهم أن تكل - أي تعجز عن حمل هذا النطع بل قد كلت، فأتوا به إسعاداً لنبي الله عليه الصلاة والسلام ومساعدة لهؤلاء الفقراء المحتاجين - فلما رأى النبي عليه الصلاة والسلام من أصحابه ذلك أراد أن يكافئ من سن هذه السنة الحسنة أولاً فقال: من سن في الإسلام سنة حسنة) فلو أننا نظرنا إلى أصل هذا الحديث لوجدنا أن هذا الصاحب الأول قد فعل شيئاً يأذن به الشرع؟ فإنه الذي ذهب إلى بيته فأتى بما عنده مع قلته، فهو ما ابتدع في الإسلام شيئاً، بل إنه قرر مبدأً عظيماً، أو مبادئ عظيمة في الإسلام وهو مبدأ مواساة الفقراء والمحتاجين، وهذا أصل أصيل في الإسلام، وخدمة الفقراء، وإعانة الملهوفين، وإغاثتهم كل هذا إنما فعله هذا الصاحب؛ لأن الإسلام قد سنه أولاً فهو ما زاد على أنه ذكَّر الأصحاب بواجبات شرعية قد أذن وأمر وحث عليها الشرع، فلم يأت بجديد.
ولو نظرت إلى مجموع البدع التي أحدثت في الإسلام لوجدت أنها في مجموعها أمور خيرية لا بأس بها إذا لم تفعل على أنها من الدين، أما لو فعلت على أنها دين فهذا هو الابتداع؛ لأن خطر الابتداع يكمن في اتهام الله عز وجل، واتهام الرسول عليه الصلاة والسلام(70/4)
باب المجازاة بالدماء في الآخرة
الباب الثامن: (باب المجازاة بالدماء في الآخرة).
المجازاة: المقاصة.
أي: تقتص ممن أسال دمك، وأزهق روحك، فالجزاء بمعنى المقاصة، وأنها أول ما يقضى فيه بين الناس يوم القيامة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (أول ما يحاسب عليه المرء يوم القيامة: صلاته فإن صحت صح ما بعدها، وإن فسدت فسد ما بعدها).
وهنا يبين هذا الحديث أن أول شيء يقضى فيه بين العباد يوم القيامة هو الدماء، فظاهر الأمر التعارض بين الحديثين، ولا يمكن أن يقال: (من أول ما يقضى فيه بين العباد الدماء).
فلا يمكن إدخال (من) التي هي للتبعيض أو للتجزئة، ولا يستقيم المعنى، فإذا كان الحديث الأول يقول: (أول ما يقضى فيه بين العباد يوم القيامة الدماء).
والحديث الثاني يقول: (أول شيء يحاسب عليه المرء يوم القيامة الصلاة).
فهنا يكون التعارض.
وأهل العلم يقولون: عند تعارض ظواهر النصوص لا بد من بحث مسألة أولية وهي: إثبات صحة هذه الأدلة، فإن تبين لنا أن أحد الأدلة ضعيف والآخر صحيح لم يبق حينئذ إشكال؛ لأن الضعيف يكفي في رده أنه ضعيف، ويسلم لنا دليل واحد فلا يكون حينئذ في القضية أي تعارض، لكن المشكل إذا صح الدليلان وظاهرهما التعارض فلا بد من إضافة مسألة اعتقاديه في هذا المقام وهي: أن هذان الدليلان إذا صحا فلا بد من القول بأنهما قد خرجا من مشكاة واحدة، إما أن يكون الذي قال هذا هو الله عز وجل، أو أنه رسوله عليه الصلاة والسلام، وقول الرسول وحي بلا خلاف عند أهل السنة، والله تعالى يقول: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، فإن كنا نؤمن أن كل الوحي المتلو وغير المتلو هو من عند الله عز وجل، وأن الذي يأتي من قبل الله عز وجل لا يمكن أن يكون فيه تعارض فلا بد أن نرجع على أنفسنا فوراً بالاتهام بقصور الفهم.
نقول: هذان الدليلان وإن كان ظاهرهما التعارض إلا أن هذا التعارض فيما يبدو للناظر ليس في أصل الخبرين؛ لأنك لو قلت: إن التعارض في النص لا بد أنك ستتهم الله تعالى، أو تتهم الرسول عليه الصلاة والسلام، وأنتم تعلمون أن هذا كفر لا نزاع فيه، فإذا ثبت صحة الدليلين فإما أن نقول بأن أحدهما سابق والآخر لاحق، وهذه المسألة يتطرق إليها ما يسمى عند العلماء بالنسخ.
أي: أن أحد الدليلين ناسخ للآخر، لكننا لا نذهب إلى النسخ إلا إذا استحال الجمع؛ لأن الأصل أن إعمال الدليلين خير من إهمال أحدهما، فأن أعمل بالنصين خير من أن أرد نصاً بغير بينة ولا حجة، وأعمل بالنص الآخر، فإعمال الدليلين وذلك بمحاولة التأليف بين النصين للعمل بهما معاً أفضل، فمثلاً: حديث طلق بن علي رضي الله عنه: (لما سأل النبي عليه الصلاة والسلام يا رسول الله! أنتوضأ من مس الذكر؟ قال: لا.
إنما هو بضعة منك).
أي: جزء منك مثل الساق، ومثل القدم، ومثل بقية أعضائك.
وفي حديث بسرة قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من مس ذكره فليتوضأ).
فلا شك أن التعارض ظاهر، والخطوة الأولى التي اتفقنا عليها، وهي أنهما صحيحان.
الخطوة الثانية: لا يمكن مع ثبوت صحة الدليلين أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام أخطأ في أحدهما، فمن اعتقد ذلك فقد كفر.
الثالثة: إذا أمكننا الجمع بين هذين النصين وإلا صرنا إلى النسخ، ولذلك بعض العلماء ذهب إلى النسخ مباشرة وقال: إذا ثبت عندنا السابق واللاحق صرنا إلى النسخ، ولا حاجة بنا إلى تكلف الجمع.
وعلامة النسخ: هو ظهور الاختلاف في النصين، وأن طلق بن علي أسبق إسلاماً من بسرة، فيكون حديثه هو المنسوخ، وحديث بسرة هو الناسخ، وحديث طلق (إنما هو بضعة منك) جاء في أول الإسلام، وأن من مس ذكره في أول الإسلام لا وضوء عليه، لكن لما استقر الأمر وتفقه الناس قال عليه الصلاة والسلام: (من مس ذكره فليتوضأ).
هكذا ذهب جماهير العلماء.
والأحناف ومن معهم قالوا: لا نسخ في هذه القضية؛ لأن الجمع ممكن؛ لأن الأصل الأصيل: إعمال الدليلين خير من إهمال أحدهما.
قالوا: لا نسخ في القضية.
والدليل: أن حديث طلق بن علي مع حديث بسرة محمولان على أن من مس ذكره بشهوة.
وهذا مقصود النبي عليه الصلاة والسلام، فمن فعل ذلك فعليه الوضوء، ومن مس ذكره بغير شهوة فلا وضوء عليه.
نرجع إلى أصل موضوعنا: (أول ما يقضى فيه بين العباد هو الدماء)، هذا فيما يتعلق بالقضاء والفصل في المنازعات بين الخلق؛ لأنها من حقوق العباد، فأول ما يقضى فيه من حقوق العباد هو الدماء، أما الصلاة فإنها من حق الله تعالى ولذلك أول ما يحاسب عليه المرء يوم القيامة فيما يتعلق بحق الله هو الصلاة، فلم يبق في هذين الحديثين تعارض.(70/5)
شرح حديث: (أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء)
قال: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم بن راهويه ومحمد بن عبد الله بن نمير جميعاً عن وكيع -هو ابن الجراح - عن الأعمش، (ح) وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبدة بن سليمان ووكيع عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله -إذا روى أبو وائل عن عبد الله فإنما هو عبد الله بن مسعود قولاً واحداً- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء)] والقيد هنا: بين الناس.
أما إذا ورد القضاء مطلقاً فيكون بين العباد وبين الله عز وجل.
قال: [وحدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي (ح) وحدثني يحيى بن حبيب الحارثي حدثنا خالد بن الحارث (ح) وحدثني بشر بن خالد -وهو أبو محمد العسكري الفرائضي نزيل البصرة- حدثنا محمد بن جعفر - غندر - (ح) وحدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار -وهما فرسي رهان- قالا: حدثنا ابن أبي عدي كلهم عن شعبة عن الأعمش عن أبي وائل -وهو شقيق بن سلمه الكوفي - عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله غير أن بعضهم قال عن شعبة يعني: (أول ما يقضى) وبعضهم قال: (يحكم بين الناس)] والقضاء شعبة من شعب الحكم.(70/6)
باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال
الباب التاسع: (باب تغليظ تحريم الدماء، والأعراض، والأموال).
والشرع إنما جاء لحفظ خمسة أشياء: حفظ الدماء، والأعراض، والأموال، والعقل، والدين.
وحفظ وهدف الإسلام الدماء بتحريم القتل.
إذا: الأغراض الأساسية للتشريع خمسة: حفظ الدماء بحرمة القتل، وحفظ الأعراض بحرمة الزنا، وحفظ الأموال بحرمة السرقة، وحفظ العقل بحرمة الخمر، وحفظ الدين بحرمة الردة.
هذه الخمسة الأشياء ينبغي على كل طالب علم أن يحفظها؛ لأنها هي الأغراض الأساسية لدين الله عز وجل.
أما هذا الحديث فإنه تناول أغراضاً من أغراض الشرع، وهي: حفظ الدماء، والأموال، والأعراض، حتى وإن كانت أموال الكفار، وأعراض الكفار، فلا يجوز الاعتداء على أموالهم والسطو عليها، ولا يجوز انتهاك أعراضهم بالزنا، ولا يقول بجواز ذلك إلا إنسان قد ذهب عقله، فدماؤهم محفوظة وأموالهم محفوظة، وأعراضهم محفوظة كحفظ دماء وأعراض وأموال المسلمين تماماً بتمام، ولا تستباح دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، وسيأتي هذا معنا بإذن الله في كتاب الجهاد.(70/7)
شرح حديث: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض)
[حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ويحيى بن حبيب الحارثي وتقاربا في اللفظ، قالا: حدثنا عبد الوهاب -وهو ابن عبد المجيد الثقفي - عن أيوب -وهو ابن أبي تميمة كيسان السختياني البصري - عن ابن سيرين -وهو محمد - عن ابن أبي بكرة وهو عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبي بكرة الثقفي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض)].
أي: كيوم خلق الله السماوات والأرض.
يعني: هذا التبديل والتغيير في أشهر الله تعالى إنما أحدثه الخلق، أما الله تعالى فقد خلق الأيام والشهور، وخلق السموات والأرض على غير ما أحدثه وابتدعه المبتدعون وبدلوا فيه وغيروا وحرفوا، فوافق دخول النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع مكة المكرمة استقامة الدنيا، واستقامة السموات والأرض على نحو ما خلقها الله منذ أول يوم، وسيأتي مناسبة ذلك.
قال: [(السنة اثنا عشر شهراً)] وهي في كل الأحوال اثنا عشر شهراً.
يعني: المبدلون والمغيرون لم يستطيعوا أن يجعلوا السنة إحدى عشر أو ثلاث عشر، لكن التبديل والتغيير إنما جعل في ترحيل شهر مكان شهر، وتبديل شهر مكان شهر.
قال [(منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات)] يعني: ثلاثة أشهر متواليات شهر بعد شهر، وإن كانت في سنتين، وهي: (ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم) مع أن الاثنين الأولين في سنة والثالث أول السنة التالية.
ثم قال: [(ورجب مضر)] سمي بذلك لأن قبيلة مضر كانت تعظم هذا الشهر، لا تتطرق إليه بنسيئة.
يعني: لا تبدله ولا تأخره ولا تغيره، بخلاف غيرها من قبائل العرب.
وسميت بالأشهر الحرم؛ لأن الله تعالى حرم فيها القتل والحرب، وكان هذا معروفاً معلوماً في الجاهلية قبل الإسلام، وقد كان العرب لا يقاتلون فيها، وينتظرون مرور هذه الأشهر في أمان وسلام وإعداد للقتال، وبعد مرور هذه الأشهر يقع القتل والحرب والخراب بين القبائل أو العشائر، أما في هذه الأشهر فأمر محال أن يحدث، ولكنهم احتالوا على حرمة هذه الأشهر كما احتال اليهود على السبت، لما حرم الله تعالى عليهم صيد البحر في السبت ورموا الشباك يوم السبت ورفعوها في يوم الأحد.
وهذه حيلة لا تخفى على الله؛ لأن الله تعالى لا يخفى عليه شيء، فكذلك هؤلاء الوثنيون العرب احتالوا على حرمة الأشهر، لا بأنهم اعدوا عدتهم في هذه الأشهر فقاتلوا بعدها كما فعلت اليهود بل كانوا شراً من ذلك، لأنهم رحلوا الشهر نفسه إلى شهر آخر، فجعلوا شهر المحرم ينتقل إلى صفر، ويحل صفر مكانه، فيقاتلون بعضهم البعض في شهر محرم ويزعمون أنهم يقاتلون في شهر صفر، وفي العام المقبل ينتقل صفر إلى شهر أسبق أو ألحق، وهكذا حتى إذا كان صفر هو الشهر الثاني في السنة فربما يكون في سنة هو الأول، وربما يكون في سنة هو الثالث، أو هو الرابع، أو الخامس، وهكذا حرم الله تعالى عليهم النسيئة، وهو: التأخير.
أي: تأخير أشهر الحرم حتى يتسنى لهم القتل بزعمهم في أشهر ليست حرماً، وظلوا على هذا النحو حتى كان شهر المحرم في عام هو الشهر الثاني، وفي العام الذي بعده هو الثالث، أو الرابع، أو الخامس، حتى مرت الأيام ورجع شهر المحرم إلى موطنه الذي جعله الله فيه وهو الشهر الأول في السنة، فلما كان حجة الوداع ناسب ذلك، ووافق ذلك ترتيب الشهور على النحو الذي خلقها الله عز وجل عليه في أول الأمر، فقال النبي عليه الصلاة والسلام حينئذ: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض).
يعني: هذه السنة التي نحن حججنا فيها حجة الوداع قد رجعت إلى أصلها وهو الترتيب الطبيعي للأشهر الذي رتبه الله عز وجل؛ لأن هؤلاء قد أحدثوا، وابتدعوا في ترتيب الأشهر ما لم يأذن به الله عز وجل.
قال: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ثلاثة متواليات) وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم (ورجب الفرد).
سمي رجب الفرد؛ لأنه انفرد، ولم يكن تابعاً ولا متوالياً مع هذه الأشهر، فهو يسمى رجب الفرد أو رجب مضر.
قال: [(ورجب شهر مضر، الذي بين جمادى وشعبان)].
لأن رجب هو الذي يسبق شعبان ويلحق جمادى الآخر.
[ثم قال: (أي شهر هذا؟)]، المعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام إنما وضع لهم أصل القضية الأولى وهي أن الله سبحانه وتعالى خلق السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم، والنبي عليه الصلاة والسلام يخطب في منى في المنحر، ومعلوم أنه لا يخفى على الصحابة في حجة الوداع أن المكان هذا اسمه منى، أو البلد الحرام، وأن الحج في شهر ذي الحجة، ولا بد أن يبدأ من يوم التروية، وهو يوم الثامن، وينتهي إما في الثالث عشر، أو الرابع عشر، فهذه المسألة ثابتة، فكان النبي عل(70/8)
معنى قوله: (ألا ليبلغ الشاهد الغائب)
قال: [(قال: ألا ليبلغ الشاهد الغائب)] وفي هذا: إثبات أن الدعوة إلى الله عز وجل فرض كفائي إذا فعله البعض سقط عن الباقين.
يقول جمهور العلماء: وهذا فيما يتعلق بمسائل الاجتهاد.
أي: المسائل التي تحتاج إلى علم وبصيرة وأدلة.
أما المسائل العامة التي لا تحتاج إلى دليل فإن تبليغها واجب على كل إنسان، كالصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، وتحريم الفواحش، وحل الطيبات، فهذا كل الناس يعلمونه، حتى الكافر يعلم ذلك، فإنه إذا رأى إنساناً يمد يد العون والصدقة، أو يغيث الملهوف أو غير ذلك لإنسان آخر فإنه لا يخفى عليه أن هذا عمل صالح.
ولو أن كافراً رأى مسلماً يزني، أو يسرق، أو يشرب الخمر، فقال له: اتق الله هذا مما حرمه الله؛ لأن الله تعالى حرم ذلك حتى على اليهود والنصارى، فهل يقول له المسلم: أنا لا أقبل منك؛ لأنك كافر.
لا يحل له ذلك، والنبي عليه الصلاة والسلام قال لـ أبي هريرة عن الشيطان: (صدقك وهو كذوب).
فقد صدقه في هذا الموطن؛ لأنه لا حاجة له تدعوه إلى الكذب، فأحياناً الصدق والحق والخير يأتي من الكافر، والعدل قامت عليه السماوات والأرض، والحكمة هي ضالة المسلم فإنه يلتمسها حتى وإن كانت على يد كافر.
والنبي عليه الصلاة والسلام أمر أصحابه ومنهم جعفر بن أبي طالب بالهجرة إلى الحبشة؛ لأن ملكها النجاشي رحمه الله لا يظلم عنده إنسان.
هذه هي العلة.
ولذلك لما ذهب عمرو بن العاص قبل إسلامه وكان داهية من دواهي العرب إلى الحبشة، قال للنجاشي: إنهم يقولون في عيسى قولاً عظيماً.
فلم يرد على قول عمرو ابتداءً، ويقل له: أنت كذاب، وأنت مفتر، بل أمر بأن يحضر جعفر ومن معه فقال له: ماذا تقولون في عيسى؟ وماذا قال نبيكم وقرآنكم في عيسى؟ فقرأ عليه آيات من سورة مريم.
فقال النجاشي حينئذ: والله لا يعدو قول عيسى هذا العرجون، وتناول عصاً من الأرض، والعصا تسمى في لغة الحبشة العرجون.
قال: والله ما فارق أمر عيسى هذا العرجون.
يعني: القرآن الذي جاء الله به على لسان نبيكم وحي السماء، ليس أكثر ولا أقل منه في شأن عيسى، ولذلك نخر البطارقة الذين حضروا هذا المشهد نخراً عظيماً، وعلت أصواتهم كأنهم ينكرون على النجاشي أمره.
قال: والله لا يعدو أمر عيسى هذا العرجون مهما نخرتم وارتفعت أصواتكم.
لأنه رجل عدل، فإذا جاءتنا النصيحة ولو من مشرك كافر وثني قبلناها، وإذا جاءنا الشر من أعبد الخلق رددناه عليه.
الواحد منا إذا أتاه خبر من محب قبله، وإن كان شراً ستره ولم يفضحه؛ وهذا شيء طيب، لكن الذي يحتاج إلى تقويم هو أننا نرد الشر على من جاء به وإن كان محباً، ونقبل الخير ممن جاء به، ولو كان كافراً، ودائماً نقول: الحق يقبل من كل من جاء به، والشر يرد على كل من جاء به.
نحن قد وصلنا في وقت من الأوقات أننا لا نقبل أي شيء نهائياً من الأزهر، ومبرر ذلك أن علماء الأزهر هؤلاء علماء سلطة، علماء مال، نعم هم كذلك لكن ليس كلهم، فإن فيهم أناساً أفاضل.
وبعض الناس يقول: لو أن الأزهري قرأ القرآن سوف أتهمه.
وهذا بصراحة بغض مفرط جداً بصراحة، وغلو شديد جداً، وأنا شخصياً من سألني في مسألة الطلاق أقول له: اذهب إلى الأزهر، فإن هذه المسألة من مسائل الطلاق بعيدة عن الأموال والسياسة، ليس لهم فيها مصلحة، فإنهم يفتون بشرع الله، ففي هذه المسائل هم علماء فيها، وأساتذة كبار، حتى أنني مرة من المرات ذهبت مع شخص طلق زوجته فذهبت به إلى شيخ أزهري، فسأله الشيخ أسئلة كانت لا يمكن أن تخطر ببالي، تصور أنني قد عقدت في نفسي حكماً معيناً لهذه القضية المطروحة، ولما ذهبت وجلست بين يدي هذا الشيخ غيرت رأيي في القضية بناءً على إجابة هذا الإنسان السائل لأسئلة هذا الشيخ.
قال: [(ألا فليبلغ الشاهد الغائب)].
هذا فيه: حجة لجماعة التبليغ، فهم يحتجون بآيات القرآن الكريم التي تتكلم عن الجهاد أنه جهاد الدعوة، الدعوة نوع من أنواع الجهاد لكنها واجبة على أهل العلم، هم لا يقولون أنهم أهل علم، وفي حقيقة الأمر هم لا يسمحون لأحد قط أن يلقي درساً بين أيديهم، إنما الذي يلقي الدرس والذي يلقي البيان والذي يعمل كل شيء، والذي يقوم في الناس ويكلمهم يكون منهم.
تصور أن شخصاً منهم كان يشرب الخمر، ويقطع الصلاة ثم يهتدي ويدخل المسجد ثم يلقي البيان، ويحتج بقول النبي عليه الصلاة والسلام: (بلغوا عني ولو آية).
والمراد بـ (بلغوا عني ولو آية) يعني بلغوا العلم، ليس المقصود عين الآية، أو المقصود عين المسألة العلمية، إذا سألتني فيها وأنا على علم بها وجب علي البلاغ والإخبار.
إذاً: هذا الكلام كله الذي يستشهد به جماعة التبليغ من الكتاب والسنة على صحة منهجهم ليس استشهاداً صحيحاً في محله، إنما هو في غير محله، ومراد الله تعالى، ومراد الرسول عليه الصلاة والسلام من هذه الآيات وهذه الأحاديث ليس هو منهج جماعة التبليغ،(70/9)
باب صحة الإقرار بالقتل
الباب العاشر (باب صحة الإقرار بالقتل).
يعني: لو أتى شخص وقال: أنا قتلت.
صح إقراره، ويثبت عليه الحكم؛ لأن الإقرار سيد الأدلة، فهذا الإقرار وإن كان كلاماً ليس منصوصاً عليه في الشرع لكنه على أية حال كلام شرعي.
والإقرار له شروط: أن يكون المقر بالغاً، عاقلاً، سليماً من الآفات.
فلا يصح إقرار المجنون على نفسه أنه قاتل؛ لأن المجنون يقول كلاماً يضره وهو لا يدري أنه يضره، فالإقرار إما ابتداءً أو ادعاءً.
ابتداءً يعني: هو لما قتل أتى إلى القاضي وقال: أنا قتلت.
مثل المرأة الغامدية لما زنت، أتت من طور إراداتها، وقالت: يا رسول الله! فجرت فلا تفعل معي كما فعلت بـ ماعز بالأمس.
يعني: لا تقررني مثلما قررت ماعزاً بالأمس، أنا أتيت أقول لك: أنا فجرت فطهرني، وأعرف ما معنى أني فجرت، وأيضاً أنا حبلى من الزنا.
والنبي عليه الصلاة والسلام لم يفعل معها كما فعل مع ماعز.
قال لها: اذهبي حتى تضعي الحمل.
لم يقل: ما هذه الفضيحة؟ وزوجها سوف يطلقها، وبيتها سوف يخرب، والعائلة سوف تتشرد، أو لا بد أن تذهب إلى دكتور يجهضها.
لا.
إنما حافظ النبي على حرمة الجنين حتى وإن كان ماؤه هدراً -لأنه من زنا- فأمر ووصى أولياء المرأة بالمحافظة على المرأة وعدم المساس بها أو التعرض لها بأذى حتى تضع الحمل.
فرجعت مرة ثانية، وهذا من إصرارها على التوبة، فأتت بولدها بعد عامين وفي يده كسرة خبز، وقالت: أقم علي الحد، حينئذ أقام النبي عليه الصلاة والسلام عليها الحد، وأثبت المغفرة لها، وأنها من أهل الجنة فقال: (لقد تابت توبة لو تابها سبعون من أهل المدينة لقبل منهم).
ومعلوم أن الله تعالى يقبل توبة من تاب، فحينئذ لو أقر الإنسان ابتداءً بين يدي الحاكم أو القاضي أو السلطان، أو من أنيط به إقامة الحد وفصل المنازعات ووضع القضاء، وقال له: أنا فعلت كيت وكيت.
فالواجب على الحاكم فقط أنه يتأكد أن عقله سليم أم لا، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال عن ماعز: (أبه جنون؟ قالوا: والله ما به جنون.
قال: لعله سكر -أي: الرجل ممكن أنه كان سكران- ثم أدناه النبي منه حتى استنكهه).
يعني: شم ريحة فمه بنفسه عليه الصلاة والسلام من أجل أن يتأكد أنه خالٍ من العوارض كلها، فإن خلا من العوارض قامت عليه بعد ذلك الحجة، ولزمه إقراره.
والإقرار ابتداءً، هو من غير أي دعوى، كأن يذهب إلى الحاكم ويقول له: أنا حصل مني كيت وكيت، ويطلب منه أن يقيم عليه الحد، وهذا إقرار ابتدائي.
أما الإقرار الدعوي فهو لم يقر إلا بعد أن أقيمت عليه الدعوى، ففي هذه الحالة الإقرار معتبر في كل الأحوال.
وفي سحب الإقرار نزاع بين أهل العلم، كأن يقر شخص أنه قتل وحكم عليه بالإعدام، لكن عند التنفيذ العملي لما رأى حبل المشنقة، قال: لست قاتلاً، إنما القاتل فلان، وسأورد لكم الأدلة.
في هذه الحالة الإقرار غير معتبر، وهذا هو الراجح من أقوال أهل العلم، إذا رجع المقر عن إقراره وأقام البينة على ذلك لم يكن هناك اعتبار لإقراره الأول، لكن بشرط البينة والأدلة، وهذا الكلام سوف نأتي إليه بإذن الله.
فقوله هنا: (وتمكين ولي القتيل من القصاص).
أي: إنما يقتله السلطان، ولا بأس أن يقتل ولي القتيل القاتل، لكن ذلك لا يكون إلا بأمر السلطان؛ لأن القتل له مؤهلاته، وله أسبابه وفقهه، وله أحكامه، فقد يكون القاتل مجنوناً فمن قتله ثأراً فإنما هو قتل غير شرعي، والذي يعمل في الصعيد نوع من هذا، وهو من الهمجية، وإن كانت الهمجية القديمة أحسن مما نحن فيه، فالهمجية التي تكون بحكم القبائل فيها شيء من الشرع، بخلاف الذي نحن عليه ليس فيه رائحة الشرع، فالناس لا يلتزمون بالشرع في الغالب، إنما يلتزمون بظواهر الشرع، أما بواطن الشرع وحقيقة الشرع في المعاملات، والأخلاق والسلوك والآداب وغيرها فلا، فحقيقة الأمر: نحن بعيدون كل البعد عن الشرع، ولا نتمسك إلا بظواهر الشرع، وهذا أمر يحتاج منا إلى وقفة مع الذات ووقفة مع النفس.
قال: (واستحباب طلب العفو منه).
أي: من القصاص إلى الدية، ومن الدية إلى العفو.(70/10)
شرح حديث: (إن قتله فهو مثله)
[حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري حدثنا أبي حدثنا أبو يونس عن سماك بن حرب أن علقمة بن وائل] وهو وائل بن حجر الحضرمي الكوفي.
وقيل: أن علقمة لم يسمع من أبيه.
والصواب أنه سمع بدليل أنه قال: إن أباه حدثه.
فحدثه هنا تصريح بالسماع.
[قال وائل بن حجر: (إني لقاعد مع النبي عليه الصلاة والسلام إذ جاء رجل يقود آخر بنسعة)].
وهو الحبل المفتول من جلد.
وفي هذا: جواز إذلال صاحب المعصية بما يرده عن معصيته ويردعه.
[فقال يا رسول الله: (هذا قتل أخي.
فقال رسول الله: أقتلته؟ قال: إنه لو لم يعترف أقمت عليه البينة)].
يعني: ولي القتيل لما سمع النبي عليه الصلاة والسلام وهو يسأل القاتل قال له: لو لم يعترف لأقمت عليه البينة.
وهذا الأصل الأصيل، قال عليه الصلاة والسلام: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر).
لكن لا بأس أن المدعى عليه يقر فإذا أقر ارتفع النزاع، فإذا لم يقر وجب على المدعي أن يقيم البينة ولا يقبل منه يمين؛ لأن يمينه لا يحل محل البينة من المدعى عليه، ولا ينتقل حق المدعى عليه إلى المدعي، والبينة على المدعي، وهذا الكلام من أعلام النبوة، وكلام من جوامع الكلم عليه الصلاة والسلام، فقال: (البينة على المدعي).
فالنبي عليه الصلاة والسلام يسأل المدعى عليه يقول له: هل أنت قتلته.
قال له: يا رسول الله هذا لو لم يعترف وأقر أنا أقيم عليه البينة.
[(فقال: نعم قتلته)].
وهذا بالإقرار.
[قال: (كيف قتلته؟ قال: كنت أنا وهو نختبط)] الخبط عند العرب لم يكن من أجل الثمر نفسه بل ربما يكون للورق يتخذونه أعلافاً لدوابهم، كانوا يخبطون الأشجار، فتنزل الأوراق فيطعمون بها الدواب.
[(قال: يا رسول الله كنت أنا وهو نختبط من شجرة فسبني فأغضبني، فضربته بالفأس على قرنه فقتلته)].
والقرن هو ناحية الرأس وليس وسط الرأس، فضربه به فقتله [(فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: هل لك من شيء تؤديه عن نفسك)].
لأن هذا قتل عمد، فإنه قصد قتله بما يقتل غالباً وهو الفأس.
قال: [(قال: ما لي مال إلا كسائي وفأسي)] يعني: هو ليس له مال غير الكساء الذي هو يلبسه والفأس فقط.
قال [(قال: فترى قومك يشترونك)] أي: الأصل في قتل العمد القصاص، لكن لو أنا شفعت لك ونزلوا من القصاص إلى الدية فهل أهلك ممكن أن يدفعوا الدية عنك؟ قال: [(فقال: أنا أهون على قومي من ذاك)] أي: لا يوجد أي شخص يحترمه، هم يريدون أن يتخلصوا منه وربما نازعوا في مسألة الدية، وطالبوا بالقصاص، من أجل أن يتخلصوا منه بالكامل.
قال: [(فرمى إليه بنسعته)] يعني: رمى الحبل من يده وسلمه لولي المقتول، وبعد ذلك ولي القتيل حس أن النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يشفع له من القصاص إلى الدية، والقاتل ليس عنده شيء، ولا أهله مستعدون أن يساعدوه، بل يريدون أن يتخلصوا منه [(فرمى إليه بنسعته وقال: دونك صاحبك، فانطلق به الرجل فلما ولى -أي: لما ذهب- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قتله فهو مثله.
قال: فرجع إليه الرجل، فقال: يا رسول الله! إنه بلغني أنك قلت: إن قتله فهو مثله، وأخذته بأمرك)] أي: أنت الذي أعطيتني الحبل وقلت لي: خذه وتصرف فيه، وأنت حر فيه.
[(فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ألا تريد أن يبوء بإثمك وأثم صاحبك)] أي: أما تريد أنت يا صاحب الحق أن يتحمل عنك هذا القاتل ذنوبك الكثيرة، كما يتحمل ذنوب أخيك الذي قتله؟! بلا شك أن الواحد يتمنى ذلك.
وهذه شفاعة لكنها في صورة دلال وحب زائد، فالنبي يقول له: أنا أنصحك مع ثبوت الحق لك -أي: الحق ثابت لك في القصاص- فإن شئت أن تنزل إلى الدية فهو أفضل، لكن الأفضل من ذلك أن تعفو لأنك لو قتلته ستكون مثله، وإن لم تقتل سيتحمل ذنوبك، وذنوب أخيك الذي قتله.
وهذه درجة عظيمة جداً وثمرة طيبة للعفو.
قال: [(قال: يا نبي الله بلى)].
أي: أنا أريد شخصاً يحمل عني [(قال: فإن ذاك كذاك)] يعني: لو أنك عفوت عنه باء بإثمك وإثم القتيل.
قال: [(فرمى بنسعته وخلى سبيله)].
قال له: بما أن وعد النبي صلى الله عليه وسلم لي أنك سوف تحمل عني وعن أخي عفوت عنك.(70/11)
كلام النووي في حديث (إن قتله فهو مثله)
أما قوله عليه الصلاة والسلام: (إن قتله فهو مثله) فالصحيح في تأويله أنه مثله في أنه لا فضل ولا منة لأحدهما على الآخر؛ لأنه ليس هناك فضل؛ لأنه استوفى حقه منه بخلاف ما لو عفا عنه، فحينئذ يكون له العفو والمنة واليد عليه طول حياته.
وقيل وهو الرأي الثاني: هو مثله في أنه قاتل، وإن اختلف في الحكم، والحل، والحرمة، هذا قاتل وهذا قاتل، لكن الأول قتل ظلماً، والثاني قتل حقاً.
فحينئذ هو مثله وإن اختلف الحكم، لكنهما استويا في طاعتهما الغضب، فالأول حمله الغضب من السب والشتم على القتل، والثاني حمله الغضب من القتل الذي وقع على أخيه أنه تشفى بالقصاص، فهما سواء في طاعتهما الغضب ومتابعة الهوى، لاسيما وقد طلب النبي عليه الصلاة والسلام منه العفو.
وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا اللفظ الذي هو صادق فيه لإيهام مقصود صحيح وهو أن الولي ربما خاف فعفا، والعفو فيه مصلحة للولي والمقتول، كما أن فيه مصلحة للقاتل أنه بقيت حياته، ومصلحة لولي القتيل لذهاب الإثم والحرج عنه، وتحمل الآخرين عنه ذنوبه، وهذا معنى قوله: (يبوء بإثمك وإثم صاحبك) أي: وإثم أخيك.
قال: (وقد قال الضمري: يستحب للمفتي إذا رأى مصلحة في التعريض للمستفتي أن يعرض تعريضاً يحصل به المقصود، مع أنه صادق) لأن المعاريض يلزم فيها الصدق؛ والمعاريض كلمة تحتمل وجهين المراد الوجه البعيد، والمقصود هو الوجه القريب.
فلو جاء إليك شخص وقال لك: أنا سوف أقتل فلاناً فهل لي من توبة؟ فقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لا توبة للقاتل.
وهو رأي باطل مردود.
وقيل: إنه رجع عنه.
والصواب هو مذهب الجماهير الذين قالوا: إن القتل ذنب، وكبيرة من الكبائر، فيأخذ حكم بقية الكبائر، فحينئذ لو أنك عرضت لمثل هذا بقول ابن عباس ردعاً له عن اقتراف الذنب أكنت محقاً في ذلك أم مبطلاً.
لو أتى ألي هذا الوقت شخص وقال: يا شيخ السكينة في يدي وشخص من الإخوة الذين يحضرون معك قد أخذ مالي فإن لم يعطني مالي الآن أنا سوف أقتله هذا الوقت، فهل لي من توبة لو قتلته؟ أقول له: ليس لك توبة؛ لأن ابن عباس قال: لا توبة لقاتل.
مع أنني لا أعتقد صحة هذا القول، لكنني صادق في نقل كلام ثبت عن ابن عباس، فحينئذ يجوز المعاريض لدفع البلاء، يجوز لشخص أن يعرض بقول هو صادق فيه لدفع بلاء أعظم من هذا التعريض.
وفي الأثر: إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه وسلم.(70/12)
شرح صحيح مسلم - كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات - في دية الجنين
لقد فرضت الشريعة الدية على قتل الخطأ، سواء كان المقتول رجلاً أو امرأة أو طفلاً أو حتى جنيناً في بطن أمه، وجاء التفصيل في دية الجنين، فإن خرج الجنين ميتاً كانت ديته غرة عبداً أو أمة، وإن استهل ثم مات فديته دية كاملة إما ذكراً وإما أنثى.(71/1)
باب في دية الجنين ووجوب الدية في قتل الخطأ وشبه العمد على عاقلة الجاني
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: فمع الباب الحادي عشر والأخير من كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات وهو (باب: في دية الجنين ووجوب الدية في قتل الخطأ وشبه العمد على عاقلة الجاني).
الدية تكون في القتل العمد على القاتل إذا عفا أهل القتيل عن القصاص، بخلاف القتل الخطأ أو شبه العمد فإن الدية على العاقلة، وسميت العاقلة بهذا الاسم؛ لأنها تأتي بالدية وتعقلها في دار أولياء القتيل.
فقوله: (باب دية الجنين).
أي: باب إثبات دية الجنين ووجوب الدية في القتل الخطأ، إلا أن يعفو الأولياء.
وكذلك وجوب الدية في شبه العمد على عاقلة الجاني.
وهناك فرق بين قتل العمد، وشبه العمد، والخطأ؛ لأن هذه الصور الثلاث يتم بها القتل، فمنه ما يكون عمداً كأن يقصد قتل فلان بمحدد، أو بمثقل، أو بآلة من شأنها القتل، فيضربه بها فيقتله، ويزداد هذا العمد بظروف أخرى ربما يكون لها تأثير فيما يسمى عند الفقهاء بالإصرار على القتل، كأن يحمل معه آلة من شأنها القتل كالسكين، أو غير ذلك، أو أن يتلصص أو يختبأ للمجني عليه في مكان يعلم يقيناً أن المجني عليه يمر به عادة الساعة الفلانية أو في الوقت الفلاني، أو أن يكون الظرف يساعد على إيقاع الجريمة كالليل مثلاً، سواء كانت جريمة قتل أو جريمة سرقة أو غير ذلك.
وشبه العمد: هو استخدام آلة غير قاتلة ووقع بها القتل، هو أراد أن يضرب فلاناً لا أن يقتله، فلما ضربه بآلة ليس من شأنها القتل قتل، وربما أراد أن يقتل فلاناً من الناس فضربه بسهم فأصاب السهم رجلاً آخر.
فهذه صورة الخطأ لا تنفي عنه عقوبة شبه العمد؛ لأنه تعمد القتل عموماً، ولكنه لم يقتل من تعمده إنما قتل شخصاً آخر، ويميز هذا من ذاك الآلة التي استخدمها، وهذا قد تكلمنا فيه بالتفصيل في الدروس الماضية.(71/2)
شرح حديث أبي هريرة في قضاء النبي في الجنين بغرة
أما دية الجنين فقد قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك عن ابن شهاب -أي: الزهري - عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن امرأتين من هذيل -وهي اسم قبيلة- رمت إحداهما الأخرى)] أي: رمتها بحديدة، أو بحجر، أو بعمود فسطاط أو غير ذلك [(فطرحت جنينها)] أي: المضروبة طرحت جنينها فسقط ميتاً [(فقضى فيه النبي صلى الله عليه وسلم بغرة)].
والغرة بينها النبي عليه الصلاة والسلام بأنها عبد أو أمة، وكلاهما من الرقيق، فالعبد من الذكور والأمة من الإناث، فالنبي عليه الصلاة والسلام جعل دية الجنين غرة.
[وحدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث -وهو ابن سعد - عن ابن شهاب عن ابن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتاً بغرة عبد أو أمة)] هذا الحكم والقضاء منه عليه الصلاة والسلام في الحادث الذي عرض عليه، وهو أمر المرأتين أحدهما من لحيان والثانية من هذيل، وكانتا تحت رجل واحد، فكلاهما ضرة للأخرى، فقامت إحداهما إلى الثانية فضربتها فسقط الجنين ميتاً، فقضى فيه النبي صلى الله عليه وسلم بأن جعل ديته غرة عبد أو أمة، ثم إن المرأة التي قضي عليها بالغرة توفيت.
(عليها هنا بمعنى لها).
أي: قضي لها بالغرة، وهي أم الجنين، فالمجني عليها هي التي ماتت لا الجانية.
[(فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها لبنيها وزوجها)].
أي: ميراث هذه الأم وهي المجني عليها لأولادها وزوجها.
[(وأن العقل على عصبتها)].
والضمير في عصبتها يعود إلى الجانية، وهذه الرواية ظاهرها مشكل جداً لكن هذا هو التأويل الصحيح الذي يوافق الرواية الصحيحة التي جاءت عند البخاري (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتاً بغرة عبد أو أمة، ثم إن المرأة التي قضي لها بالغرة توفيت) أي: فكانت هي وجنينها في عداد الموتى.
(فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: فحكم- بأن ميراثها لبنيها وزوجها -أي: لأولادها وزوجها- وأن العقل -أي: أن الدية- على عصبة القاتلة) وجعل الدية على العصبة؛ لأنها لم تتعمد القتل ولو تعمدت لوجبت الدية في مالها دون عصبتها.
قال: [حدثنا أبو الطاهر قال: حدثنا ابن وهب (ح) وحدثنا حرملة بن يحيى التجيبي قال: أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس -وهو ابن يزيد الأيلي - عن ابن شهاب عن ابن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: (اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها -يعني: هي وجنينها- فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها، وورثها ولدها ومن معه)].
الضمير في قوله: (ورثها) يرجع إلى المقتولة.
أي: جعل ميراثها خاص بزوجها وأبنائها.
[فقال حمل بن مالك بن النابغة الهذيلي: (يا رسول الله كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك يطل)] فـ حمل بن النابغة يعترض على النبي عليه الصلاة والسلام، وهو من عصبة القاتلة، فهو يقول: كيف أدفع دية الأم ودية الجنين لزوج المقتولة وإخوة الجنين والذي سقط ميتاً، فلا هو أكل، ولا شرب، ولا استهل صارخاً.
يعني: لم ينزل صارخاً، أو متحركاً، أو ضاحكاً، ولم تكن فيه حياة قط.
ثم قال: ومثل ذلك يطل.
ومعنى يطل.
أي: يهدر ولا يضمن.
كأنه قال له: مثل هذا الذي ينزل ميتاً لا دية له، فكيف تحملني أن أدفع ديته غرة، وأن أدفع الدية كاملة لأمه التي ماتت فقال النبي عليه الصلاة والسلام: [(إنما هذا من إخوان الكهان من أجل سجعه الذي سجع)] والسجع هو: موافقة أطراف الكلام أو أطراف الجمل، ووزن السجع جميل لكنه أقبح ما فيه أنه اعتراض على النبي عليه الصلاة والسلام ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إنما هذا -أي: حمل بن النابغة - من إخوان الكهان).
من أجل سجعه الذي سجع.
قال: [حدثنا عبد بن حميد قال: أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: (اقتتلت امرأتان) وساق الحديث بقصته السابقة ولم يذكر (وورثها ولدها ومن معه) وقال: (وقال قائل)] الذي هو(71/3)
شرح حديث المغيرة بن شعبة: (وجعل النبي صلى الله عليه وسلم غرة لما في بطنها)
قال: [حدثنا إسحاق بن راهويه أخبرنا جرير -وهو جرير بن عبد الحميد الضبي - عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم بن يزيد النخعي عن عبيد بن نضيلة الخزاعي عن المغيرة بن شعبة قال: (ضربت امرأة ضرتها بعمود فسطاط وهي حبلى، فقتلتها)] يعني: أنهما كانتا زوجتان لرجل واحد، فضربت إحداهما الأخرى بعمود فسطاط، وهو الذي تقام به الخيمة، فالقاتلة من هذيل، والمقتولة من بني لحيان.
قال: [(فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دية المقتول على عصبة القاتلة)] لأن الأم ماتت هي والجنين، فلها ديتها الكاملة لكنها على العاقلة، لأن هذه الضرة بضربها لضرتها لم تقصد قتلها، لكنها ماتت بفعل هذا الضرب، وهذا قتل خطأ، ولذلك لم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديتها من مال القاتلة نفسها وإنما من مال العاقلة.
أي: العصبة.
[(وجعل النبي صلى الله عليه وسلم غرة لما في بطنها -والغرة هي: عبد أو أمة- فقال رجل من عصبة القاتلة -الذي هو حمل - أنغرم دية من لا أكل، ولا شرب، ولا استهل، فمثل ذلك يطل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسجع كسجع الأعراب؟ قال: وجعل عليهم الدية)] يعني: فرضها عليهم.
[وحدثني محمد بن رافع حدثنا يحيى بن آدم حدثنا مفضل عن منصور عن إبراهيم عن عبيد بن نضيلة عن المغيرة بن شعبة: (أن امرأة قتلت ضرتها بعمود فسطاط، فأتي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى على عاقلتها بالدية، وكانت حاملاً فقضى في الجنين بغرة.
فقال بعض عصبتها: أندي من لا طعم، ولا شرب، ولا أكل، ولا استهل، مثل ذلك يطل)].
ومعنى (أندي) من الدية.
يعني: كيف نجعل له دية وهو لم يأكل ولم يشرب ولم ينطق ولم يستهل حياً.
يعني: لم يعطس ولم يضحك، ولم يصرخ، ولم يتحرك.
فهذه علامات الحياة، فكيف ندفع له الدية وقد نزل ميتاً؟ [فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (سجع كسجع الأعراب)] فهو ينكر على هذا السجع.
قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن المثنى وابن بشار قال: حدثنا محمد بن جعفر - غندر - عن شعبة عن منصور بإسنادهم الحديث بقصته غير أن فيه: (فأسقطت -أي: المرأة المضروبة أسقطت جنينها- فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى فيه بغرة وجعله على أولياء المرأة)] أي: على أولياء القاتلة.
وهم الذين يسمون بالعصبة.
ولم يذكر في الحديث دية المرأة استغناءً لما ذكره في بقية الطرق، أو أن السائل إنما سأل عن حكم الجنين إذا سقط ميتاً بأذىً وقع على أمه فذكر الشاهد من الحديث ولم يذكر الحديث بتمامه.(71/4)
شرح حديث استشارة عمر بن الخطاب الناس في ملاص المرأة
قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب وإسحاق بن إبراهيم واللفظ لـ أبي بكر قال إسحاق: أخبرنا، وقال الآخران: حدثنا وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه عن المسور بن مخرمة قال: استشار عمر بن الخطاب الناس في ملاص المرأة].
هذا الإسناد مما استدركه الدارقطني على الإمام مسلم وقال: هو مما أخطأ فيه مسلم؛ لأن الصواب هو: عن هشام بن عروة عن أبيه: أن عمر سأل الناس.
إلى آخر الحديث.
وقال الدارقطني: الصواب عدم ذكر المسور بن مخرمة، وإنما هو من طريق المغيرة بن شعبة وهو محفوظ للمغيرة.
وقال: وهذا الإسناد على جهة الخصوص هو من طريق هشام بن عروة عن أبيه: أن عمر سأل الناس، فعلى هذا يكون هذا من المراسيل، أو الإسناد المنقطع؛ لأن عروة بن الزبير لم يدرك عمر؛ لأنه كان صغيراً، فليس لـ عروة رواية عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
والإمام النووي دفع هذا القول للدارقطني وقال: هذا لا يصح.
والصواب: أن هشام بن عروة حفظ ذلك من طريق المسور بن مخرمة، ولا يستقيم الإسناد إلا بذكر المسور حتى لا يكون هناك انقطاع، وإن كان فإن هذا أمر لا يعنينا.
ولو رجعت إلى كتاب العلل للإمام الدارقطني ستجد كلاماً طويلاً جداً في إسناد هذا الحديث، أخذاً ورداً في هذا الإسناد.
والحقيقة أن كثيراً من الإخوة دائماً يكتبون لي رسائل فيها مسائل في الفقه تقول: عند شرحك للحديث تذكر الفوائد التي فيه، وليس هذا مجال التعمق في دراسة هذه المتون؛ لأن الدرس ليس درس فقه، ولا تشرح الأسانيد ولا تتكلم عن العلل وعن الرواة جرحاً وتعديلاً.
وهذا صحيح، فأنا فعلاً أفعل هذا، وذلك لأني لا أستوعب الكلام عن الإسناد، كما أني لا أغوص في شرح هذه النصوص، والعلة تكمن فيكم أنتم؛ لأننا لما فعلنا ذلك في مكان ما من الأماكن، وتكلمنا عن ثلاثة أسانيد أكثر من ثلاثة أشهر، نتكلم عن الرواة جرحاً وتعديلاً، ونتكلم عن العلل وغيرها، فأبى هؤلاء أن يحضروا بعد ذلك، وقالوا: لا حاجة لنا أن نسمع ساعتين كاملتين في ترجمة راوٍ واحد، فـ وكيع بن الجراح رجل ثقة ويكفي، وسفيان الثوري لا يحتاج إلى كلام، فإنه وسفيان بن عيينة كلاهما اتهما بالتدليس.
ولما يقول ابن منده: البخاري مدلس، فإننا نقف عند هذه العبارة وندفع قول من قالها أو اتهمه بتدليس، لكن لا بد أن ندفع هذه التهمة بأدلة وإلا فلا يصح دفعها، وهذا من باب حب البخاري، وإلا فالتأصيل العلمي لا يعرف للعاطفة سبيلاً.
[قال المسور بن مخرمة: استشار عمر بن الخطاب الناس في ملاص المرأة -والملاص هو الجنين الذي يسقط قبل أوانه- فقال المغيرة بن شعبة: (شهدت النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى فيه بغرة عبد أو أمة) فقال عمر: ائتني بمن يشهد معك، فشهد له محمد بن مسلمة].
يعني: شهد في مجلس عمر مع المغيرة بن شعبة أن النبي قضى في الجنين بغرة عبد أو أمة.(71/5)
كلام النووي في شرح أحاديث باب دية الجنين(71/6)
معنى قوله: (غرة عبد أو أمة)
قال العلماء: قوله عليه الصلاة والسلام: (عبد أو أمة) هنا (أو) ليست للشك وإنما هي للتقسيم.
والمراد بالغرة: العبد أو الأمة، فالغرة اسم لكل واحد منهما سواء كان ذكراً أو أنثى.
قال: (قال الجوهري: كأنه عبر بالغرة عن الجسم كله).
لأن الأصل في الغرة هي في الجبهة، والنبي عليه الصلاة والسلام لما أراد بهذه الدية الغرة لم يرد بها جبهة العبد أو جبهة الأمة، وإنما عبر عن الكل بالجزء، أو أطلق الجزء وأراد الكل، كما في عتق رقبة.
وأصل الغرة بياض في الوجه.
ولهذا قال أبو عمرو: المراد بالغرة: الأبيض منهما خاصة.
يعني: سواء كان ذلك عبداً أو أمة، لأنه لو كان الأسود مراد النبي عليه الصلاة والسلام فلا قيمة أن يذكر الغرة، وسوف يقول: دية الجنين عبد أو أمة.
وإنما قال: (غرة عبد أو أمة) ليثبت أن المراد هو الحسن والجمال في العبد أو الأمة الذي جعل دية لهذا الجنين.
قال أبو عمرو: ولا يجزئ الأسود، ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد بالغرة معنى زائداً على شخص العبد والأمة لما ذكرها.
فالمعنى الزائد هو: أن يكون عبداً أبيضاً مليحاً، أو أمة بيضاء أو حسناء، أو زهية، أو غير ذلك، لأن الفرس الأغر هو الفرس الذي في وجهه بياض، كما جاء في الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام زار المقبرة فقال: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمؤمنات يغفر الله لنا ولكم، ليتنا نرى إخواننا.
فقالوا: يا رسول الله أولسنا إخوانك؟ قال: بل أنتم أصحابي، وإخواني يأتون من بعدي يؤمنون بي ولا يروني) نسأل الله أن نكون كذلك، وألا نكون مبدلين ولا مغيرين فنطرد عن الحوض.
(قالوا: يا رسول الله! كيف تعرفهم؟ قال: يأتون غراً محجلين).
فالغرة بياض في الجبهة.
والتحجيل بياض في الساق.
(من آثار الوضوء).
أي: بسبب الوضوء (فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل).
ولذلك أبو هريرة رضي الله عنه كان إذا توضأ شمر عن عضديه وساقيه فجعل الماء يبلغ إبطه.
يعني: كان يغسل ذراعه إلى حد الإبط، وكان يتخبأ إذا فعل ذلك، وكان يغسل رجليه حتى يبلغ ركبتيه، فلما رآه أو اطلع عليه أحد أصحابه قال: يا أبا هريرة ماذا تصنع؟ قال: أو قد رأيتني، إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (تبلغ الحمية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء) والحمية أي: تبلغ الغرة والتحجيل من المؤمن حيث يبلغ الوضوء.
فـ أبو هريرة ما ترك ذلك قط بعد أن سمع هذا الحديث من النبي عليه الصلاة والسلام، والشاهد من ذلك كله: أن الغرة بياض في الوجه، ولولا أن النبي عليه الصلاة والسلام أراد اختيار الأمة الحسناء أو العبد الجميل المليح أن يكون دية للجنين الذي مات بسبب الاعتداء على أمه لما كان لقوله: (غرة) معنى؛ فدل ذلك على أن المراد بالغرة معنى زائد على مجرد أن هذا عبد أو أمة، وهو الحسن، أو الشيء النفيس.
قال الإمام النووي: وهو خلاف ما اتفق عليه الفقهاء.
يعني: أبو عمرو يقول: لا يجزئ الأسود بل لا بد أن يكون صاحب حسن، وجمال.
لكن الإمام النووي يقول: هذا القول من أبي عمرو خلاف ما اتفق عليه الفقهاء أنه يجزئ فيها السوداء ولا تتعين البيضاء، وإنما المعتبر عندهم أن تكون قيمتها عشر دية الأم.
ونحن نعرف أن دية المرأة على النصف من دية الرجل، وإذا كانت دية الرجل مائة بعير فدية المرأة خمسين بعيراً، فإن دية الجنين عُشر دية الأم.
أي: خمسة أبعرة.
قال: (وإنما المعتبر عندهم أن تكون قيمتها عشر دية الأم، أو نصف عشر دية الأب.
قال أهل اللغة: الغرة عند العرب هي أنفس الشيء وأطلقت هنا على الإنسان؛ لأن الله تعالى خلقه في أحسن تقويم، وأما ما جاء في بعض الروايات في غير الصحيح (بغرة أمة، أو عبد، أو فرس، أو بغل) فرواية باطلة، وقد أخذ بها بعض السلف.
وحكي عن طاوس وعطاء ومجاهد: أنها عبد، أو أمة، أو فرس.
وقال داود: كل ما وقع عليه اسم الغرة يجزئ؛ فالغرة هي: عبد، أو أمة.
ومن قال أنها فرس أو بغل فهذا قول لم يصح به الدليل، حتى وإن أخذ به بعض أهل العلم.(71/7)
بيان دية الجنين
واتفق العلماء على أن دية الجنين هي الغرة، سواء كان الجنين ذكراً أو أنثى؛ وهذا مذهب الجماهير: أن الدية تجب للجنين إذا نزل ميتاً، حتى وإن لم يظهر له إلا بعض أمارات التخلق كالأصابع أو غير ذلك؛ ولم يكن مخلقاً كاملاً، وسواء كان الجنين ذكراً أم أنثى.
قال العلماء: وإنما كان كذلك؛ لأنه قد يخفى فيكثر فيه النزاع.
أي: لم يعرفوا هو ذكر أو أنثى، لأنه لم يتحدد، فهذا أمر يخفى على المتخصصين، ولذلك العبرة أن يكون جنيناً، وليست العبرة بالذكورة أو الأنوثة، فلما كان يمكن أن يخفى على المتخصصين في معرفة الذكورة والأنوثة جعل الشرع ضابطاً لذلك يقطع النزاع وهو أنه جنين سواء كان خلقه كامل الأعضاء أم ناقص الأعضاء، أو كان مضغة تصور فيها خلق آدمي، ففي كل ذلك الغرة بالإجماع، والمضغة ما سميت مضغة إلا لأنها على القدر الذي يوضع بين الأضراس فتمضغها، ومن المعلوم أن المضغة لا يمكن معرفة كونها ذكراً أم أنثى، فلما كان ذلك خافياً جعل الشرع ضابطاً محكوماً لا يتزعزع وهو أن كون الجنين ساقطاً.
أي: في جميع مراحله.(71/8)
ذكر من يرث دية الجنين
قال: (وهذا شخص يورث ولا يرث).
يعني: هو لا يرث من أحد وإنما الآخرين يرثون منه.
وهذه حالة فريدة لا يقاس عليها إلا عبد بعضه حر وبعضه عبد.
(وحكى القاضي عن بعض العلماء: أن الجنين كعضو من أعضاء الأم فتكون ديته لها خاصة؛ لأنه انسلخ عنها فكان كما لو وقع الاعتداء على ذراعها فقطع، أو أذنها، أو أنفها، أو أي جزء أو عضو من أعضائها).
لكن مذهب الجمهور هو الصواب: أن الجنين عضو منفصل عن الأم.
والقول فيه أو في ديته: أن الورثة يرثونها.
واعلم أن المراد بهذا كله إذا انفصل الجنين ميتاً؛ أما لو نزل حياً ثم مات فإن فيه دية كاملة، وهي مائة من الإبل؛ لأن هذا اعتداء على نفس حية، فلو أنه استهل صارخاً، أو متحركاً، أو باكياً، أو غير ذلك وعلمت حياته ثم مات بسبب الضربة ففي هذه الحالة سيأخذ الدية كاملة؛ لأنها دية النفس.
فلو أن شخصاً ضربك بسكين فقعدت أربعة أيام في المستشفى وبعد ذلك مت، وقرر الأطباء أنه بسبب الضربة، فإنه يعد قتل عمد، والقتل العمد فيه قصاص.
وإذا نزل الجنين حياً ثم مات فتجب فيه الدية كاملة، فإن كان ذكراً وجب مائة بعير، وإن كان أنثى وجب خمسون بعيراً، وهذا مجمع عليه.(71/9)
وجوب الغرة دية للجنين على العاقلة
قال: (ومتى وجبت الغرة فهي على العاقلة لا على الجاني.
وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وسائر الكوفيين.
وقال مالك والبصريون: تجب على الجاني.
وقال الشافعي وآخرون: يلزم الجاني الكفارة.
وهي: صيام شهرين.
وقال بعضهم: لا كفارة عليه، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والله أعلم).
والدية التي هي الغرة تكون على العاقلة، واختلاف الفقهاء فيما يتعلق بأنها على الجانية نفسها لا على العاقلة، لأن مذهب الجمهور أن هذه المرأة لما ضربت الأخرى على بطنها فأسقطت جنينها ميتاً لم تكن تقصد القتل.
الجمهور قالوا: الأصل عدم توجه الإرادة والقصد إلى قتل الجنين، بل هي من العداوات التي تكون بين الضرائر، والقانون المصري يعتبر أن من ضرب شخصاً على ظهره فمات أن هذا قتل شبه عمد، وهذا من الإجرام، أنهم لم يعتبروه قتل خطأ وإنما قتل شبه عمد، وهذا بصراحة إجرام لا يمكن أن يكون هذا دين أبداً، هذا قتل خطأ، غير متعمد للقتل، ولم تتوجه الإرادة لقتله وإنما ضربه لينفعه فضره بذلك بغير قصد.
وحجتهم أنهم قالوا: كان ينبغي أنه يتوقع أنه سيموت من هذه الضربة، مثل المرأة لما تمسك فسطاط حديد أو تأتي بحجر وتضرب به ضرتها، لكن ربما لم تقصد أنها تضربها في بطنها، ربما أرادت أن تضربها في ظهرها فأدارت جسمها فوافق الحجر إليها فأصاب بطنها مع أنها قصدت أن تضربها في ظهرها، لكنها ابتداءً تعمدت وقوع الضرر والأذى، لكن قصدها ونيتها لم تنصرف إلى قتل الأم ولا إلى قتل الجنين، فكيف يتفق أن تكون هذه الصورة شبه عمد؟ ولذلك الذي يترجح هو المذهب الأول: أن المرأة التي ضربت ضرتها إنما قصدت إيقاع الضرر الذي يكون بين الضرائر لا أنها قصدت بضربها أن تسقط الجنين، أو أن تميته في بطنها.
والذي يترجح: أن هذا القتل الذي تم لهذا الجنين ونزل ميتاً إنما تجب فيه الدية، وديته على العاقلة؛ لأن القتل قتل خطأ، وليس كل ضرب بحديد أو بحجر يقصد الضارب إيقاع القتل به، لا يلزم منه ذلك، ولذلك قد ورد في طرق هذه الروايات أن الأم وجنينها قد ماتا، أما الأم فديتها كاملة وهي خمسين بعيراً، وتجب على العاقلة.
ومنهم من قال: بل تجب على الجانية.
أما الجنين فالقول الراجح فيه: أن دية الجنين على العاقلة؛ لأن الضارب أو الضاربة لم يقصدا إحداث الموت، وإزهاق الروح.
قال: (متى وجبت الغرة فهي على العاقلة لا على الجاني.
وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وسائر الكوفيين).(71/10)
معنى قوله: (فضربتها بعمود فسطاط)
وقوله: (فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية المرأة على عاقلتها) لأن القتل خطأ.
وفي الرواية الأخرى (أنها ضربتها بعمود فسطاط) قال العلماء: هذا محمول على عمود صغير لا يقصد به القتل غالباً.
أي: ليس من شأنه إحداث القتل غالباً.
فلو أن شخصاً معه سيف فضرب به رجلاً فمات فإنه قتل عمد؛ لأن الآلة المستخدمة في سبيل ذلك من شأنها غالباً إحداث القتل.
أما لو ضربه بحديدة صغيرة فمات فهذا قتل خطأ لأنه ابتداءً لم يقصد إيقاع القتل وإزهاق الروح، لأن هذه الحديدة الصغيرة أو الحجر الصغير ليس من شأنه إحداث القتل فيكون القتل خطأً.
قال: (فيكون شبه عمد تجب فيه الدية على العاقلة، ولا يجب فيه قصاص، ولا دية على الجاني.
وهذا مذهب الشافعي والجماهير).(71/11)
معنى قوله: (سجع كسجع الأعراب)
أما قوله عليه الصلاة والسلام لهذا الرجل الذي اسمه حمل بن النابغة الهذلي لما قال: (يا رسول الله! كيف أغرم من لا شرب، ولا أكل، ولا نطق، ولا استهل، ومثل ذلك يطل) يعني: أنه هدر.
وفي رواية: (مثل ذلك بطل) يعني: هدر.
ومعنى يطل: أي: هدر غير مضمون.
فهذا صورته صورة اعتراض على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى حكمه الذي نطق به وحي السماء، فقال النبي عليه الصلاة والسلام فيه: (هذا سجع كسجع الأعراب) وفي رواية قال: (إنما هذا من إخوان الكهان.
من أجل سجعه الذي سجع).
وقوله هذا عند العلماء على وجهين: الوجه الأول: أنه عارض به حكم الشرع، ورام إبطاله.
وقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما هذا من إخوان الكهان) يحتمل معنيين: المعنى الأول: أنه اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم في حكمه ورام إبطال الشرع في هذه القضية.
المعنى الثاني: أنه تكلف في مخاطبته، وربما لم يقصد الرجل إبطال الشرع وإنما قصد إلحاق السجع أو إيجاده، فعابه النبي عليه الصلاة والسلام عليه؛ لأنه تكلفه، والسجع المتكلف مذموم، بخلاف السجع الذي ليس فيه تكلف، وفي القرآن من السجع الذي لا تشعر فيه بالتكلف، وفي كلام النبي صلى الله عليه وسلم من الكلام الذي هو مسجوع بغير تكلف الشيء الكثير، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يحسن قرض الشعر، وإنما كان أحياناً إذا أراد أن يقول شعراً صحح شعره أبو بكر الصديق، فيرد عليه ويقول له: لا يا رسول الله! الأمر ليس على ما قلت، الأمر كذا وكذا، فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلف الشعر، ولم يتعمد إيجاد السجع، وإنما كان أحياناً في كلامه سجع غير متكلف.
ولذلك قال: (وهذان الوجهان من السجع المذمومان، أحدهما الذي فيه تكلف، وأما السجع الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوله في بعض الأوقات وهو المشهور في الحديث فليس من هذا؛ لأنه لا يعارض به حكم الشرع ولا يتكلف).
إذاً: السجع في الشعر المذموم هو الذي يدعو إلى الرذيلة، أو يكون متكلفاً فيه السجع، أو يعارض الشرع، أما الشعر الذي يدعو إلى الفضيلة ويثبت الأحكام، أو يشهد للقرآن أو السنة فهذا كلام جميل، وهو من كلام العرب، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يقال بين يديه الشعر الجميل الحسن فلا ينكر ذلك، بل طلب عليه الصلاة والسلام من حسان بن ثابت أن يقوم فيرد على المشركين قولهم، فقام وقرأ الشعر بين يديه، وفي هذا إقرار النبي عليه الصلاة والسلام لـ حسان بن ثابت وغيره.
أما قوله عليه الصلاة والسلام: (إن من البيان لسحرا) البيان هو الفصاحة، والشعر باب من أبواب البيان، فيشهد لما قلناه.
أما قوله عليه الصلاة والسلام: (لئن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً) المراد به: الشعر المتكلف الذي يدعو إلى الرذيلة، أو يعارض به حكم الشرع، وهذا جمع بين الروايات التي وردت تمدح الشعر في ناحية، وتذم الشعر في ناحية أخرى، فلا بد أن يحمل المدح على الشعر الهادف الذي يدعو إلى مكارم الأخلاق وغير ذلك، ويحمل الذم على الشعر المتكلف المسجوع بغير فائدة، الذي يعارض به حكم الشرع أو يدعو إلى الرذيلة.
هذا هو وجه الجمع بين هذه الروايات.
أما قوله: (سجع كسجع الأعراب) أي: هذا كلام متكلف مسجوع، أشار إلى أنه مذموم، وأنه كسجع الأعراب المذموم.(71/12)
بيان أن دية الخطأ على العاقلة دون أصول وفروع القاتل
(أما قوله: (ضربت امرأة ضرتها) قال أهل اللغة: كل واحدة من زوجتي الرجل ضرة للأخرى، سميت بذلك لحصول المضارة بينهما في العادة، وأن كل واحدة منهما تتضرر بوجود الأخرى؛ لأنها شريكة لها.
قوله: (فجعل النبي صلى الله عليه وسلم دية المقتول على عصبة القاتل) هذا دليل لما قاله الفقهاء أن دية الخطأ على العاقلة إنما تختص بعصبات القاتل سوى أبنائه وآبائه؛ لأن الأبناء والآباء في حكم الشخص نفسه، ونحن نعرف أن أصحاب الأصول وإن علوا، والفروع وإن نزلوا هم أصحاب الفرائض، أما العصبات فهم ما دون ذلك من الورثة، ولذلك الدية تجب على العصبات لا على أصحاب الفروض.
يقول في باب دية الجنين:(71/13)
بيان دية الجنين إذا انفصل عن أمه
(إذا مات الجنين بسبب الجناية على أمه عمداً أو خطأً ولم تمت أمه وجب فيه غرة سواء انفصل عن أمه وخرج ميتاً أم مات في بطنها -أي: الأمرين سواء- وسواء كان ذكراً أم أنثى، أما إذا خرج حياً ثم مات ففيه الدية كاملة، فإن كان ذكراً وجبت مائة بعير.
وإن كان أنثى وجب خمسون بعيراً.
وتعرف الحياة بالعطاس، أو التنفس، أو البكاء، أو الصياح، أو الحركة أو غير ذلك مما يدل على أن الجنين نزل حياً.
واشترط الشافعي في حالة ما إذا مات في بطن أمه أن يعلم بأنه قد تخلق وجرى فيه الروح، وفسره بما ظهر فيه من صورة الآدمي كظهور اليد والأصبع، وأما مالك فإنه لم يشترط هذا الشرط بل قال: كل ما طرحته المرأة من مضغة أو علقة مما يعلم أنه ولد ففيه الغرة).
وهذا الكلام هو مذهب الجمهور ليس كلام مالك فحسب.
ويرجح رأي الشافعي بأن الأصل براءة الذمة، وعدم وجود الغرة، فإذا لم يعلم تخلقه فإنه لا يجب شيء، وقدر الغرة في دية الجنين هي غرة عبد، أو أمة، أو فرس، أو بغل، أو غير ذلك، وهذا كله بالنسبة لجنين المسلمة.(71/14)
بيان دية جنين الذمية
قال: (وأما جنين الذمية -أي: التي بين المسلمين وبينهم عهد ذمة وأمان، أو أنهم أهل الذمة من اليهود والنصارى- قال: فقد قال صاحب بداية المجتهد: قال مالك والشافعي وأبو حنيفة فيه عشر دية أمه، لكن أبا حنيفة على أصله في أن دية الذمية هي دية المسلمة، فجنين المرأة الذمية عند الجمهور على العشر من دية أمه، ودية المرأة الذمية على النصف من دية المرأة المسلمة ومعلوم أن دية المرأة المسلمة خمسين بعيراً، فدية المرأة الذمية خمسة وعشرون بعيراً كما أن دية الأمة المسلمة على النصف من دية الحرة.
أي: خمسة وعشرين بعيراً.
وهذا فيه تساوٍ بين دية المرأة الكافرة بدية الأمة المسلمة، مع أن بعض أهل العلم يقول بذلك، لكن الذي يترجح لدي: أن دية الذمية على النصف من دية الأمة المسلمة، فتكون دية الذمية اثنا عشر ونصف، ودية ولد الذمية عشر دية أمه الذمية.
قال: (والشافعي قال: دية الذمي هي ثلث دية المسلم.
ومالك قال: دية الذمي نصف دية المسلم).
يعني: المسألة فيها خلاف.
أما مسألة على من تجب الدية فعند مالك وأصحابه والحسن البصري أنها تجب في مال الجاني.
لكن الجمهور يقولون: تجب على العاقلة، وهي جناية خطأ فوجبت على العاقلة، وهذا هو الراجح.
وأما مالك والحسن فقد شبهاها بدية العمد إذا كان الضرب عمداً.
ولكن الأول أصح، فالدية للورثة على قدر حصصهم، والرأي الثاني تجب للأم على اعتبار أن الجنين عضو من أعضائها، والراجح أنها دية للورثة.(71/15)
حكم الكفارة في قتل الجنين خطأً
واتفق العلماء على أن الجنين إذا خرج حياً ثم مات ففيه الكفارة مع الدية، وهي: صيام شهرين، وأما وجوب الكفارة مع الغرة إذا خرج ميتاً ففيه نزاع، قال الشافعي وغيره: تجب؛ لأن الكفارة عنده تجب في الخطأ والعمد.
وقال أبو حنيفة: لا تجب.
لأنه غلب عليه حكم العمد، والكفارة لا تجب في العمد عنده.
واستحب مالك الكفارة؛ لأن ضرب الجنين وسقوطه ميتاً أمر متردد بين الخطأ وبين العمد.
انتهى الكلام في كتاب القصاص والقسامة، ونتوقف إن شاء الله تعالى في الكلام على كتاب الحدود، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(71/16)
شرح صحيح مسلم - كتاب الإيمان - معنى شهادة التوحيد
توحيد الله عز وجل أعظم وأكبر فرض في دين الإسلام، ولا يمكن لإنسان أن يكون مؤمناً بالله عز وجل حتى يأتي به، وتوحيد الله عز وجل أقسام، أعظمها توحيد الألوهية، وهو الذي أنكره المشركون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوا أن يقروا به، وينبغي الحذر مما يناقض التوحيد من الأمور المخالفة له، والتي تخرج الإنسان من دائرة الإيمان بالله عز وجل.(72/1)
تعريف الإسلام
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد: (قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لجبريل لما سأله: يا محمد! ما الإسلام؟ -وفي رواية: أخبرني عن الإسلام؟ - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً).
وقد بينا في المحاضرة السابقة معنى الإسلام، وقلنا: إن معناه في اللغة: الاستسلام والإذعان والانقياد، أي: التسليم المطلق لله عز وجل ولأوامره وأحكامه، وأما من حيث المعنى الاصطلاحي لهذه الكلمة فقلنا: إنه إذا ذكر منفرداً فيعنى به الإيمان والإسلام على حد سواء، وإذا ذكر مقروناً مع الإيمان كان له مدلول غير مدلول الإيمان، بمعنى: أن له فرائض وأحكاماً غير فرائض وأحكام الإيمان.
وقد عرف النبي عليه الصلاة والسلام هنا الإسلام بفرائضه، فقال: (الإسلام أن تشهد)، يعني: الإسلام هو أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ثم عدد باقي الفرائض.(72/2)
توحيد الاتباع
وسنعيش في هذا الدرس مع أول فرض من فروض الإسلام، وهو أعظمها على الإطلاق، وهو توحيد الله عز وجل، وقد عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام بقوله: (الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله).
وهذا التعريف أفاد موضوعين: الموضوع الأول: توحيد المعبود سبحانه وتعالى، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه.
والموضوع الثاني: توحيد المتبوع صلى الله عليه وسلم، فإنه لا متبوع غيره، وكل من هو دون النبي صلى الله عليه وسلم غير معصوم، سواء كان من الصحابة أو من التابعين أو من الأئمة المتبوعين أو غيرهم، وصدق مالك وغيره من علماء السلف رحمهم الله عندما أشاروا إلى قبر النبي عليه الصلاة والسلام وقالوا: كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: عليكم بالأمر العتيق -أي: الأمر القديم-.
وقال: إذا كان أحدكم مستناً فليستن بمن قد مات، ولا يستن بمن هو حي، فإن الحي يقول القول اليوم ويرجع عنه غداً، وأما الذي مات فقد انقطع كلامه وأثره، ويبقى الكلام المسطور حجة له أو عليه، فإن أصاب الكتاب والسنة فهو حق، وإن خالف الكتاب والسنة فيرد، سواء كان لقائله أجر واحد، أو مع تأثيمه إن كان من أهل البدع والضلال.
والله عز وجل قد فرض توحيده عز وجل، كما فرض اتباع نبيه صلى الله عليه وسلم دون غيره؛ لأن الله عز وجل خص الأنبياء بما حرم منه البشر جميعاً، فخصهم بالعصمة في أمور الشريعة، وما أمروا بتبليغه للخلق، وهذه العصمة هي التي تجعل المقلد للرسول الله صلى الله عليه وسلم والمتبع له مطمئن القلب إلى تقليده واتباعه؛ لأنه معصوم عن الخطأ والنسيان في بيان الشريعة، والأنبياء غير معصومين في أمور الدنيا، بل يصيبون ويخطئون، وأما ما أمروا بتبليغه لأقوامهم فإنهم معصومون فيه بكل حال، فما من نبي إلا وقد بلغ أمته ما أمره الله عز وجل به وما أنزله عليه، ولم يقصر أحد منهم في البلاغ ولا في البيان، وهذه هي العقيدة الصحيحة في النبوة، فما من نبي إلا وقد بلغ ولم يقصر، والأمم إما متبعة وإما مبتدعة وإما محاربة لأنبيائها، كبني إسرائيل، وأما هذه الأمة المباركة فإنها في غالب أحوالها متبعة لنبيها، وقد ظهرت البدع والضلالات بعد وفاة نبينا صلى الله عليه وسلم مع ظهور الفتن.
فالشاهد هنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله).
وهذا فيه بيان توحيد الله عز وجل وتوحيد المتبوع، وهو النبي صلى الله عليه وسلم المعصوم المأمون خطؤه وزلَلُهُ، ولذلك قال الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، ولم يقل: فيه وفي أصحابه أو في صالحي الأمة، وإنما خص نبيه بهذا، فالأسوة مخصوصة بنبينا صلى الله عليه وسلم.(72/3)
التوحيد العلمي الاعتقادي
والتوحيد أنواع: توحيد العبادة: وهو توحيد القصد والطلب، وهو الذي يعبر عنه بتوحيد الألوهية أو توحيد الإلهية.(72/4)
إثبات الأسماء والصفات لله تعالى
والتوحيد الاعتقادي العلمي، وهو الذي يختص بأسماء الله وصفاته.
والمقصود به: إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من أسماء وصفات؛ لأنها توقيفية.
فلا يجوز لأحد أن يسمي الله تعالى أو يصفه بغير ما سمى أو وصف به نفسه، أو بغير ما سماه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، بل نثبت لله ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تمثيل ولا تكييف، أي: من غير أن نمثل الله تعالى بشيء من خلقه، ولا نكيفه تكييفاً، كما قال الإمام مالك ومن قبله أم سلمة وشيخه ربيعة الرأي - ربيعة بن أبي عبد الرحمن - وقد كان فقيه أهل المدينة، وإمام الرأي فيها لما سئل عن قول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ثم أمر بإخراج ذلك السائل من المسجد؛ لأنه سأل تعنتاً ولم يسأل تعلماً.
فقال: الاستواء معلوم، أي: أنه معلوم في لغة العرب، فالاستواء بمعنى: العلو والارتفاع، فالله عز وجل مستو على عرشه، بائن من خلقه، بمعنى: أنه عال ومباين لخلقه.
وأما آيات وأحاديث المعية فهي محمولة على معية العلم والسمع والبصر، {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7].
فمعية الله عز وجل لخلقه هي معية علم وسمع وبصر وإحاطة، وأما الله عز وجل فقد استوى على عرشه، فالاستواء معلوم عند سلفنا، بل وفي لغة العرب، ويعلمه البدوي والحضري على السواء.
ثم قال: والكيف مجهول، أي: مجهول للخلق، ولا يجهل الله عز وجل ذاته وكنهه، كما قال بعض الأساتذة: الكيف مجهول على الله، وهذا في حد ذاته قول كفر، فإن الكيف مجهول على الخلق لا على الخالق سبحانه وتعالى.
وقوله: الاستواء معلوم، أي: معلوم بأنه الارتفاع والعلو، والكيف مجهول.
وكان السلف يفوضون الكيف لا المعنى، ولا العلم؛ لأن صفات الله عز وجل معلومة بمعانيها، وأما كيفيتها فلا يعلمها إلا الله عز وجل.
قال: والسؤال عنه بدعة، أي: السؤال عنه تعنتاً لا تعلماً، ومن أراد أن يعرف كيفية الاستواء فاعلم أنه صاحب قلب مريض؛ لأنه لا يمكن تشبيه الخالق سبحانه وتعالى بالمخلوق.
قال: وينفي عن الله عز وجل ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، كما قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11].
فنفى مثلية الله عز وجل لخلقه ومشابهة الخلق له سبحانه وتعالى، ثم أثبت لنفسه بعض الصفات حتى يرد على المثبتة أو المجسمة ويرد على النفاة.
فهذه الآية ترد من جهة إثبات الله عز وجل لأسمائه وصفاته على النفاة، كما ينفي الله عز وجل عن نفسه ما قاله عنه المجسمة، فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].
مع الإيمان بمعاني ألفاظ هذه النصوص وما دلت عليه.(72/5)
حكم التمثيل والتعطيل والتأويل في الأسماء والصفات
والتمثيل والتعطيل في أسماء الله عز وجل وصفاته كفر، وأما التحريف الذي يسميه أهل البدع تأويلاً من الأشاعرة وغيرهم فمنه ما هو كفر كتأويلات الباطنية الإسماعيلية، ومنه ما هو بدعة ضالة، كتأويلات نفاة الصفات، ومنه ما يقع خطأً من صاحبه، كما قلنا من قبل في ترجمة الحافظ النووي والحافظ ابن حجر عليهما رحمة الله، فإنه قد وقع في بعض كلامهما تأويل على سبيل الخطأ، لا على سبيل البدعة والضلالة، ولا على سبيل الكفر والجحود.
وكذلك وحدة الوجود، واعتقاد حلول الله عز وجل في شيء من مخلوقاته فإن هذا كفر، والقائل به مع علم كافر، فإن من قال إن الله تعالى متحد بخلقه أو حل في الخلق حتى كان الخالق كالمخلوق، أو أن الله تعالى لما حل في الخلق صار الخالق والمخلوق شيئاً واحداً فقد كفر، فإن هذا لم يقل به إلا الحلولية من غلاة الصوفية وغيرهم، ولا شك أن هذا قول كفر.(72/6)
الإيمان بأركان الإيمان في كلياتها وجزئياتها
والإيمان بالملائكة الكرام إجمالاً، وأما تفصيلاً فبما صح به الدليل من أسمائهم وصفاتهم وأعمالهم بحسب علم المكلف.
وكذلك الإيمان بالكتب المنزلة جميعها، وأن القرآن الكريم أفضلها وناسخها، وهو المهيمن والمسيطر على هذه الكتب التي سبقته، وأما ما قبله فقد طرأ عليه التحريف والتبديل، ولذلك وجب اتباعه دون غيره من الكتب السابقة؛ لأنه ناسخ لجميع الكتب السابقة عليه.
والإيمان بأنبياء الله عز وجل ورسله صلوات الله وسلامه عليهم، وأنهم أفضل ممن سواهم من البشر، ومن زعم غير ذلك فقد كفر.
فمن قدم علياً على النبي عليه الصلاة والسلام وفضله عليه فلا شك أنه كافر بنبي الله صلى الله عليه وسلم، وما صح به الدليل بعينه فيهم -أي: في الأنبياء- وجب الإيمان به على جهة التعيين.
ويجب الإيمان بسائرهم إجمالاً، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضلهم وآخرهم، وأن الله تعالى أرسله للناس جميعاً.
والإيمان بأن الوحي قد انقطع بموت نبينا صلى الله عليه وسلم، وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين، ومن اعتقد خلاف ذلك فهو كافر بالله العظيم، ومن اعتقد أن الوحي لا يزال مستمراً وأن النبوة لم تنقطع بموت نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقد كفر بالله العظيم.
وكذلك الإيمان باليوم الآخر، وكل ما صح فيه من الأخبار وبما يتقدمه من العلامات والأشراط.
والإيمان بالقدر خيره وشره من الله تعالى؛ وذلك بالإيمان بأن الله تعالى علم ما يكون قبل أن يكون وكتب ذلك في اللوح المحفوظ، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون إلا ما يشاء، والله تعالى على كل شيء قدير، وهو خالق كل شيء وفعال لما يريد.
والإيمان بما صح الدليل به من الغيبيات، كالعرش والكرسي، والجنة والنار، ونعيم القبر وعذابه، والصراط والميزان والحشر والحساب، وغيرها، دون تأويل شيء من ذلك، إلا ما صح فيه الدليل.
والإيمان بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وشفاعة الأنبياء والملائكة والصالحين وغيرهم يوم القيامة، كما جاء تفصيله في الأدلة الصحيحة، وأن المؤمنين يرون ربهم عز وجل يوم القيامة، كما يرون القمر ليلة البدر، وهذا في الجنة وفي المحشر.
والمحشر حق، ومن أنكر الرؤية أو أولها فهو زائغ ضال، وهي غير ممكنة في الدنيا بحال، فمن ادعى أنه قد رأى الله عز وجل في الدنيا فلا شك أنه ضال مضل، وهذا يرد به على الفرية القائلة بأن الإمام أحمد بن حنبل رأى ربه تسعاً وتسعين مرة، وهذا افتراء على الإمام رضي الله تعالى عنه ورحمه.
كما أن من أجزاء الإيمان، الإيمان بمعجزات الأنبياء، وكرامات الأولياء والصالحين، وكل ذلك حق، وليس كل أمر خارق للعادة كرامة، بل قد يكون استدراجاً من الله عز وجل، وقد يكون من تأثير الشياطين والمبطلين، والمعيار في ذلك هو موافقة الكتاب والسنة، فإذا رأيت رجلاً يطير في الهواء أو يمشي على الماء فلا تحكم بأنه ولي من أولياء الله عز وجل، أو أنه شيطان حتى تنظر إلى عمله، فإن كان عمله موافقاً للكتاب والسنة فاعلم أن ذلك كرامة من الله عز وجل له، وإذا كان مخالفاً للكتاب والسنة فاعلم أنه استدراج من الله عز وجل، وأن ذلك من فعل الشياطين وتأثيرهم.
والمؤمنون كلهم أولياء لله عز وجل، وكل مؤمن فيه من الولاية بقدر إيمانه، فمن كان إيمانه زائداً وكاملاً كان كامل الولاية لله عز وجل، ومن كان إيمانه ينقص عن ذلك ففيه من الولاية بقدر ما فيه من الإيمان.(72/7)
توحيد الألوهية
وأما التوحيد الإرادي الطلبي فهو توحيد الألوهية، وهو: إفراد الله عز وجل بالوحدانية والربوبية، فلا يعبد غيره؛ لأنه لا إله غيره، فهو لا شريك له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وهو رب العالمين المستحق لجميع أنواع العبادة، كالدعاء والاستغاثة والاستعانة والنذر والذبح والتوكل والخوف والرجاء والحب ونحوها، وصرف شيء منها لغير الله عز وجل شرك أكبر.
ومن أصول العبادة أن الله تعالى يعبد بالحب والخوف والرجاء، فلا يعبد بالرجاء وحده؛ لأن من عبد الله بالرجاء وحده قصر في العمل وأرجأ فيه، فإذا قلت له: صل يا فلان! قال: إن رحمة الله واسعة، وإذا قلت: صم يا فلان! قال: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء:147].
وأنا -الحمد لله- أقول في كل دقيقة: اللهم لك الحمد والشكر، وأنا مؤمن بالله، لكني مقصر ومفرط.
فمن عبَد الله بالرجاء -أي: طمع في رحمته وعفوه وغفرانه فقط- ولم يخش الله عز وجل وقع في التفريط العظيم، وهذا يؤدي بالعبد إلى الكفر بالله عز وجل، ومن خاف الله عز وجل وحده ولم يرجه وقع في الإياس من رحمة الله عز وجل، ولا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون.
وقال بعض العلماء: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ.
وهذا التوحيد يستلزم: التسليم والرضا والطاعة المطلقة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك من الإيمان به رباً وإلهاً، فلا شريك له في حكمه وأمره، كما قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:40].
فصرف شيء من الحكم لغير الله كفر بالله عز وجل.(72/8)
التحاكم إلى غير الله عز وجل وتقسيم الدين إلى حقيقة وشريعة
قال: وتشريع ما لم يأذن به الله والتحاكم إلى الطاغوت، واتباع غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وتبديل شيء منها كل ذلك كفر، ومن زعم أن أحداً يسعه الخروج عن هذه الشريعة وهذه العبودية فلا شك أن هذا أيضاً كفر.
والحكم بغير ما أنزل الله كفر أكبر، وقد يكون كفراً أصغر إذا كان العدول عن شرع الله عز وجل في واقعة معينة لهوى مع الاعتقاد بأن شرع الله عز وجل مقدم على غيره من بقية الضلالات والأحكام، ولا شك أن مخالفة شرع الله عز وجل وحكمه وتقديم حكم غير الله عز وجل على حكم الله كفر، فإن فعل هذا عن اعتقاد بأن حكم الله عز وجل أفضل الأحكام على الإطلاق وأن غيره ضلال، ولكنه مع هذا وقع في التحاكم إلى غير شرع الله فهذا كفر أصغر.
وأما من تحاكم إلى الطاغوت محباً لذلك ومستحسناً له ومقدماً إياه على حكم الله وعلى شرعه فلا شك أن هذا خارج عن ملة الإسلام ولا كرامة.
قال: وتقسيم الدين إلى حقيقة يتميز بها الخاصة، وشريعة تلزم العامة دون الخاصة لا شك أنه من بدع الصوفية، فهم الذين قسموا الدين إلى حقيقة وإلى شريعة، وقالوا: الحقيقة مختصة بأقطاب الصوفية، وأما الشريعة فإنها خاصة بأهل الظاهر، وهذا كلام من أبطل الباطل وأفسد الفساد.
وكذلك فصل السياسة عن الدين، كقول القائل: لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة، وهذا القول قائله من أكفر الكفار؛ لأنه خالف ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وما كان عليه أصحابه، بل خالف صريح الكتاب والسنة.
وقوله: وكل ما خالف الشريعة من حقيقة أو سياسة أو غيرها فهو إما كفر وإما ضلال بحسب درجته من الجحود والإنكار أو من البدعة والخطأ.(72/9)
الإيمان بالغيب من أجزاء توحيد الألوهية
ومن أجزاء هذا التوحيد الإيمان بأن الله تعالى هو المتفرد بعلم الغيب وحده، فلا يعلم الغيب إلا هو سبحانه وتعالى، واعتقاد أن أحداً غير الله تعالى يعلم الغيب كفر بالله، مع الإيمان بأن الله يطلع بعض رسله على شيء من الغيب، فالغيب غيبان: غيب لا يعلمه إلا الله، وغيب أطلع الله عز وجل بعض رسله عليه.
ومن أجزاء هذا التوحيد أن اعتقاد صدق المنجمين والكهان مناف لهذا التوحيد، وهو كفر، فمن ذهب إلى الساحر وصدقه أو إلى الكاهن وصدقه فلا شك أنه يكفر بالله العظيم، وإتيانهم والذهاب إليهم مع عدم تصديقهم كبيرة من الكبائر، فمن ذهب إليهم ولم يصدقهم لم يقبل الله تعالى منه صلاة أربعين يوماً.(72/10)
التوسل والوسيلة
الوسيلة المأمور بها في القرآن هي ما يقرب إلى الله تعالى من الطاعات المشروعة.
والتوسل كذلك ثلاثة أنواع: إما توسل مشروع، أو توسل بدعي، أو توسل شركي.
والتبرك من الأمور التوقيفية، فلا يجوز التبرك إلا بما ورد به الدليل، فالتبرك بذوات الأشخاص لا يجوز إلا في حق الأنبياء.
والتبرك بذوات الأنبياء أو بآثارهم مشروع اتفاقاً.
وأما التبرك بذوات الأشخاص من غير النبي صلى الله عليه وسلم أو بآثارهم ففيه نزاع طويل، والراجح من الأدلة عدم جوازه.
وأفعال الناس عند القبور وزيارتها ثلاثة أنواع: منه ما هو مشروع، كقول النبي عليه الصلاة والسلام: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها؛ فإنها تذكر الآخرة).
فالزيارة المشروعة هي ما كان القصد منها تذكر الآخرة.
ومنها ما هو بدعي، ومنها ما هو شركي ينافي التوحيد، وهو صرف شيء من أنواع العبادة لصاحب القبر، كدعائه من دون الله عز وجل أو الاستعانة به أو الاستغاثة به كذلك، أو الطواف حوله أو الذبح أو النذر له، ونحو ذلك.
والوسائل لها حكم المقاصد والغايات، وأما المثل القائل: الغاية تبرر الوسيلة فهو من أبطل الباطل، وهو اعتقاد غير اعتقاد المسلمين؛ لأن الله عز وجل افترض علينا أن تكون الوسيلة مشروعة كما أن الغاية مشروعة، فلا يسلك أحد مسلكاً يخالف الشرع ثم يقول: أنا غرضي في الآخر شريف أو نبيل، أو أني سلكت هذا المسلك لأصل إلى أمر مشروع، وذلك مثل التي ترقص وتغني مثلاً وتقول: من أجل أن تسدد ديون مصر، فالغرض سليم، ولكن الوسيلة غير مشروعة.(72/11)
توحيد الألوهية والربوبية بين جاهلية الأمس وجاهلية اليوم
وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب عليه رحمة الله تكلم عن توحيد الألوهية، وأكد عليه كغيره من العلماء الذين سبقوه والذين أتوا من بعده؛ لأنه بيت القصيد ومربط الفرس، فقال: اعلم رحمك الله أن التوحيد هو إفراد الله بالعبادة، وهو دين الرسل جميعاً، فما من نبي أتى إلا ودعا قومه أن يفردوا الله عز وجل بالعبادة دون سواه.
والله عز وجل أرسلهم به إلى عباده، فأولهم نوح عليه السلام، أرسله الله إلى قومه لما غلوا في الصالحين: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر.
وآخر الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي كسر صور الصالحين، فقد أرسله الله إلى قوم يتعبدون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله كثيراً، ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله، {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، أي: نحن نعلم أنهم ليسوا آلهة ولا شيء من ذلك، ولكنهم أناس طيبون وصالحون، وهم واسطة بيننا وبين الله، وهذا ضرب من ضروب الكفر الذي ما أرسل الله عز وجل نبيناً إلا وحاربه، وأهل الجاهلية كانوا يعلمون جيداً أن النافع الضار هو الله عز وجل الذي في السماء، ولما أتاه أحد الجاهليين قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (كم تعبد؟ قال: سبعة، واحد في السماء وستة في الأرض)، يعني: حتى أهل الجاهلية كانوا يقرون بأن الله تعالى في السماء، بخلاف الموجودين في هذه الأزمان.
فالمسلمون الآن يقولون: الله موجود في كل مكان، وأهل الجاهلية المشركون الكفار كانوا يوقنون بأن الله تعالى في السماء، (قال: إلى من تلجأ إذا نزل بك الضر؟ قال: إلى الذي في السماء)؛ لأنه يعلم أنه لا يصرف الضر ولا يفرج الهم إلا الله.
قال: ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله، يقولون: نريد منهم التقرب إلى الله، يقربونا إلى الله عز وجل، ونريد شفاعتهم عنده، مثل: الملائكة، وعيسى ومريم وأناس غيرهم من الصالحين، فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم عليه السلام، الذي أرسله الله بالحنيفية السمحة، ويخبرهم أن هذا الاعتقاد محض حق الله تعالى، لا يصلح منه شيء لغير الله، لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل فضلاً عن غيرهما.(72/12)
إقرار أهل الجاهلية الأولى بتوحيد الربوبية
وهؤلاء المشركون مقرون أن الله تعالى هو الخالق وحده لا شريك له، ويشهدون بذلك.
وتوحيد الربوبية هو: اعتقاد أن الله تعالى الخالق البارئ المصور المهيمن المدبر لأمر الخلائق المحيي المميت؛ وكل هذا كان يعتقده أهل الجاهلية، بخلاف ما عليه المسلمون اليوم، فإنهم يعتقدون أن الرازق الله وغير الله، ولذلك تجد أحدهم يقول: إن رزقي عندك، أو إن رزقي عند هذا المدير، أو عند رئيس مجلس الإدارة، أو إن أكلي وأكل أولادي في يده، وكل هذا شرك في الربوبية.
قال: وأنه لا يرزق إلا هو، ولا يحيي إلا هو، ولا يميت إلا هو، ولا يدبر الأمر إلا هو، وأن جميع السماوات السبع ومن فيهن والأرضين السبع ومن فيهن عبيده، وتحت تصرفه وقهره وتدبيره.
فأهل الجاهلية كانوا يعتقدون ذلك، ولم يكونوا يشركون مع الله عز وجل في ربوبيته أحداً.
وإذا أردت الدليل على أن هؤلاء المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهدون بهذا، ويقرون بتوحيد الربوبية فاقرأ قول الله عز وجل: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} [يونس:31]، فهم يردون ويقولون: الله هو الذي يملك هذا كله، {فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [يونس:31].
وقوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:84 - 89].
فكل هذه الآيات وغيرها من الأحاديث تدل على أن أهل الجاهلية المشركين ما كانوا يشركون في ربوبية الله عز وجل، وإنما كان شركهم في العبادة، فقد كانوا يشركون مع الله عز وجل في العبادة آلهة غيره.
فإذا تحققت أنهم مقرون بهذا، وأنه لم يدخلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفت أن التوحيد الذي جحدوه هو توحيد العبادة، كما كانوا يدعون الله سبحانه ليلاً ونهاراً، ثم منهم من يدعو الملائكة لأجل صلاحهم وقربهم من الله ليشفعوا له، أو يدعو رجلاً صالحاً مثل اللات والعزى، أو نبياً مثل عيسى، وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم على هذا الشرك، ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده كما قال تعالى: {فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18].
وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} [الرعد:14]، وتحققت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم ليكون الدعاء كله لله عز وجل، فلا يدعى غيره سبحانه وتعالى، وأن يكون النذر كله لله، فمن نذر لغير الله فقد عصى الله عز وجل وأشرك، وأن يكون الذبح كله لله تعالى، لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل ولا لأحد الصالحين، ولا استعانة إلا بالله عز وجل، وجميع أنواع العبادة كلها لله يجب صرفها لله عز وجل، فمن صرف شيئاً مما يجب صرفه لله عز وجل لغير الله فلا شك أنه قد أشرك مع الله عز وجل إلهاً غيره.
فإذا عرفت أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام، وأن قصدهم الملائكة أو الأنبياء أو الأولياء إنما كان لأجل أنهم يريدون شفاعتهم والتقرب إلى الله بذلك، وأنه هو الذي أحل دماءهم وأموالهم، عرفت حينئذ التوحيد الذي دعت إليه الرسل، وأبى عن الإقرار به المشركون، وهذا التوحيد هو معنى قولك: لا إله إلا الله، أو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله).
فإن الإله عندهم هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور، سواء كان ملكاً أو نبياً أو ولياً أو شجرة أو قبراً أو جنياً، ولم يريدوا أن الإله هو الخالق الرازق المدبر، فإنهم يعلمون أن ذلك لله وحده، يعني: هم لا يشركون في الربوبية، وإنما يشركون في العبادة والألوهية.
فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم ليدعوهم إلى كلمة التوحيد، وهي قوله: لا إله إلا الله.(72/13)
أسباب امتناع المشركين من الإقرار بكلمة التوحيد
والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد التلفظ بها، ولو كان المطلوب هو مجرد التلفظ بها لما كان هناك حرب ضروس على مدار هذه القرون الطويلة، ولما حارب النبي عليه الصلاة والسلام أحداً؛ لأنه كان بإمكان كل أحد أن يقولها، ولذلك كان العرب في زمن النبي عليه الصلاة والسلام -المشركون واليهود وغيرهم- يعلمون جيداً قيمة قولهم: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وكانوا يعلمون ما تحمل هذه الكلمة في طياتها من معان وتكاليف وأحكام، ومن تغيير لما هم عليه من عقيدة فاسدة، ولذلك امتنعوا عن التلفظ بها، لأنهم يعلمون معنى هذه الكلمة.
قال: والكفار الجهال يعلمون أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة هو إفراد الله تعالى بالتعلق، فلا يتعلق قلبك ولا بدنك إلا بالله عز وجل إذا نطقت بهذه الكلمة، والكفر بما يعبد من دون الله عز وجل والبراءة منه، فإنه لما قال لهم قولوا: لا إله إلا الله قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، أي: أجعل الآلهة التي نعبدها هذه كلها إلهاً واحداً؟! وكان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، وهذه أصنام عامة، وقد كان لكل واحد أن يعبد ما شاء من هذه الأصنام، وكان لكل واحد في بيته إله من عجوة أو من خشب أو من حديد، فقد كان لكل واحد منهم إله مخصوص وإله عام، والإله المخصوص هو الذي كان يصنعه بيده، وأما الإله العام فقد كانت تشترك فيه القبائل، إما في صنعه وإما في دفع ثمنه للصانع، وربما يأتي شخص بعجوة أو بأي شيء ويصنع منه إلهاً، ويجعل له عينين ويعبده، وهو الذي عمله! وهذا هو الخبل والغباء.
فإذا عرفت أن جهال الكفار يعرفون ذلك فالعجب ممن يدعي الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفار، بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب لشيء من المعاني، والحاذق منهم يظن أن معناها: أنه لا يخلق ولا يرزق إلا الله، ولا يدبر الأمر إلا الله، ولا يعرف أن هذا هو توحيد الربوبية، وأن المطلوب منه شيء آخر، وهو توحيد الألوهية، ولا خير في رجل جهال الكفار أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله.(72/14)
الفرق بين المشركين في عهد الرسالة ومشركي هذا الزمان
اعلم أن شرك الأولين أخف من شرك أهل هذا الزمان بأمرين، يعني: أن المشركين الأولين كانوا أحسن من الذين يشركون اليوم لأمرين: الأمر الأول: أن الأولين ما كانوا يشركون ويدعون الملائكة والأولياء والأوثان مع الله إلا في فترة الرخاء.
بل إن فرعون الذي هو أكفر أهل الأرض عندما أدركه الغرق قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:90].
ولكن هذا لم ينفعه؛ لأنه وصل إلى الغرغرة، ولم يقلها إلا في هذا الوقت، وقد قال جبريل عليه السلام للنبي عليه الصلاة والسلام: (لو رأيتني لما غرق فرعون أجيء بالطين فأضعه في فيه مخافة أن تدركه رحمة الله)، يعني: حتى جبريل كان لا يتمنى له أبداً أن يؤمن، وخاصة بعد أن ادعى الألوهية وقال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51]، وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24].
بل إن هلاكه أفضل.
قال: لكن إذا اشتدت عليهم الأمور، أي: إذا نزلوا البحر وجاءهم الموج لجئوا إلى الله عز وجل، والآن تجد السفينة في البحر وعليها الخمر والزناة والسكارى، وجميع أنواع الفساد، والسفينة تغرق والذي يزني يزني، والذي يشرب الخمر يشرب، والوضع كما هو عليه.
وإلى الله المشتكى.
قال: وأما في الشدة فيخلصون لله الدين.
هؤلاء هم المشركون الأولون، ففي الشدة يخلصون لله الدعاء، وأما في الرخاء فيشركون بالله، كما قال الله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء:67].
وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:40 - 41].
وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا} [الزمر:8]، أي: راجعاً إليه أواباً مخبتاً، إلى قوله تعالى: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر:8].
وقال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان:32].
فمن فهم هذه المسألة التي وضحها الله في كتابه، وهي أن المشركين الذي قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يدعون الله تعالى ويدعون غيره في الرخاء، وأما في الضر والشدة فلا يدعون إلا الله تعالى وحده لا شريك له، وينسون ساداتهم تبين له الفرق بين شرك أهل زماننا هذا وشرك الأولين، ولكن أين من يفهم قلبه هذه المسألة فهماً جيداً راسخاً؟ هذه المسألة الأولى.
الأمر الثاني الذي يتميز به المشركون الأوائل عن مشركي أهل هذا الزمان: أن الأولين كانوا يدعون مع الله أناساً مقربين عند الله -يعني: يدعون أناساً صالحين- إما أنبياء وإما أولياء وإما ملائكة، أو غيرهم ممن أطاع الله عز وجل وظهرت طاعته لله عز وجل.
ومن يفعل هذا فإنه يكفر بذلك، ولكنه أحسن ممن يدفن حماراً في قبر ويطوف حوله، أو يعبد كافراً، أو يواليه.
وفي الأسبوع الماضي وأنا مسافر إلى المنصورة ركبت مع سائق فقال لي: أتعلم يا شيخ! ما الذي عملوا في رابين؟ فقلت له: وما الذي يحزنك؟! قال: موت هذا الرجل خسارة، قلت له: خسارة ماذا؟! فقال: إنه كان ينشر السلام، فقلت: سلام ماذا؟! قال لي: ألا تقرأ الجرائد؟ قلت له: أنا لا أقرأ جرائد، فقال لي: إنه كان محترماً، نشكو إلى الله الذين قتلوه، قلت له: أتحبه؟! قال: نعم، والله أحبه، فقلت له: ألا تعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من أحب قوماً فهو معهم)، أي: يحشر معهم، قال لي: يا ليت! فقلت له: الأخ نصراني أو مسلم أو كافر أو ماذا؟ واستمر الكلام بيننا حتى وصلنا المنصورة، وبمجرد أن وصلت قلت له: أوقف السيارة، قال: لماذا؟ قلت له: كي أستريح، فأوقف السيارة، فقلت له: كم تريد؟ قال: ستة جنيهات، قلت له: تفضل، وإن أردت أن أزيدك إلى العشرة سأفعل، ولكن انصرف عني فقد أزعجتني، وأنا أريد أن أذهب إلى محاضرة، ولا أريد أن أذهب وقد اغتظت منك، فذهب مسافة قصيرة ثم عاد فقال: لا يصح أن أتركك يا شيخ! المعذرة، فقلت له: إذا أردت أن تأخذني فلا تزعجني بالأغاني وبأمثالها من المعاصي، أو بمثل ذاك الحديث، فقال: هناك أغانٍ سيئة وأغانٍ ليست بسيئة.
فهؤلاء الناس أصبحت عندهم المعاصي لا شيء؛ لأنهم تعودوا عليها.
وأنت إذا رأيت امرأة متبرجة ولكن ليست مواكبة لموضة هذه الأيام فإنك تتضايق من هذه الفتنة، بينما كثير من الناس ينظرون إليها نظرة احتقار، وكأنها أتت من الريف، ولا تعرف الموضة وال(72/15)
التوحيد هو أعظم ما فرضه الله على عباده
ومعلوم أن التوحيد هو أعظم فريضة جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أعظم من الصلاة والزكاة والصوم والحج، ومعلوم أنه من جحد شيئاً من هذه الأشياء -أي: من الصلاة أو الصوم أو الزكاة- فقد كفر، وخرج بهذا الجحود من ملة الإسلام، فكيف بمن يجحد ما هو أعظم من الزكاة والصيام والصلاة والصدقة وغيرها، وهو إفراد الله عز وجل بالعبادة؟ فمن جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم كفر، ولو عمل بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن جحد توحيد الله عز وجل سواء كان توحيد الربوبية أو الألوهية فهو كافر بالله العظيم، وما أكثر الجهال الذين يشركون مع الله عز وجل في العبادة غيره، وفي الربوبية غيره كذلك، ومشركو العرب سابقاً ما كانوا يشركون في الربوبية، واليوم المسلمون -فضلاً عن المشركين- يشركون في الربوبية والألوهية على حد سواء.(72/16)
نواقض الإسلام
اعلم أيها الأخ المسلم أن الله سبحانه أوجب على جميع العباد الدخول في الإسلام والتمسك به، والحذر مما يخالفه، وبعث نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم للدعوة إلى ذلك، وأخبر عز وجل أن من اتبعه فقد اهتدى، ومن أعرض عنه فقد ضل، وحذر في آيات كثيرة من أسباب الردة وسائر أنواع الشرك والكفر.
وذكر العلماء رحمهم الله تعالى في باب حكم المرتد أن المسلم قد يرتد عن دينه بأنواع كثيرة من النواقض.(72/17)
الشرك بالله عز وجل
ومن أعظم هذه النواقض وأخطرها: الشرك بالله عز وجل، وهو شرك العبودية، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:48]، وقوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] يدل على أن من أتى بالأصل نفعه المقتضى، ومن لم يأت بالأصل لم ينفعه المقتضى، فمن أتى بالتوحيد الكامل نفعه بعد ذلك واجبات الشرع، من الصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها، ونفعته النوافل والسنن، ومن أتى بكل الفرائض والنوافل والسنن وأشرك مع الله عز وجل إلهاً غيره لا ينفعه ذلك ألبتة.
وهذا فيه رد على سؤال من يسأل: لو أن رجلاً صلى قبل أن ينطق بالشهادتين هل لا يعتبر مسلماً، رغم أنه يتشهد في الصلاة، ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ ونقول: هذه الصلاة باطلة، ولا يدخل في الإسلام بها؛ لأنها انعقدت في حال كفره وشركه بالله، فيبقى على كفره، فهي غير صحيحة ولا مقبولة؛ لأنها انعقدت في أولها والمرء غير مسلم، والله تعالى يقول: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72].
ومن أنواع الشرك بالله دعاء الأموات، أي: أن يدعو المسلم رجلاً ميتاً، سواء كان صالحاً أو غير صالح، أو أن يستغيث به أو ينذر له أو يذبح له؛ لأن هذه العبادات لا يجوز صرفها إلا لله عز وجل، فالذبح عبادة، والاستعانة عبادة، والاستغاثة عبادة، والدعاء عبادة، والخوف عبادة، والرجاء عبادة، وسائر أصناف العبادة إذا صرف منها شيء لغير الله فقد وقع الصارف في الشرك بالله عز وجل.(72/18)
اتخاذ الوسائط بين العبد وبين ربه
والناقض الثاني: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة ويتوكل عليهم، ومن فعل هذا فقد كفر إجماعاً، فدعاء غير الله عز وجل -كدعاء الحسين أو البدوي أو عائشة أو نفيسة أو غير ذلك من سائر المدعوين من دون الله عز وجل- شرك.
ونحن نرى كثيراً من الناس يأتون من أطراف الدنيا ويحضرون معهم العجول من أجل أن يذبحوها عند السيد البدوي، وهناك عربات في القطار مخصصة لهذه العجول، فيدخلونها إلى العربة ويكتبون على كتاب معلق في عنقها هذه ذبيحة السيد البدوي قدمها فلان، فإذا وصل إلى القاهرة نزل وأخذ عجله وركب أي سيارة حتى توصله إلى السيد البدوي أو الحسين أو غيره ويذبح عجله، وهذا كفر؛ لأنه يذبح لغير الله عز وجل، فهو مثل الذبح للنصب والأصنام وغيرها.(72/19)
عدم تكفير الكافر أو الشك في كفره
الناقض الثالث: من لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم، فمن فعل ذلك فهو كافر.
وهناك مسألة مشهورة عند الناس وهي: أن من لم يكفر الكافر فهو كافر، وهذا الكلام يصدق في حالتين دون الثالثة، وهاتان الحالتان هما: الحالة الأولى: الكافر كفراً أصلياً، يعني: من لم يدخل في الإسلام ألبتة، فالذي لا يكفر المجوس ولا اليهود ولا النصارى ولا غير المسلم فلا شك أنه كافر بذلك؛ لأنه يجب على المسلم أن يكفر الكافر، وإذا لم يكفره فقد خالف الكتاب والسنة، ورد حكم الله عز وجل؛ لأن الله تعالى كفرهم في كتابه، والنبي صلى الله عليه وسلم كفرهم في سنته، فلابد أن تكون متبعاً لكتاب الله ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا خالفت ذلك فأنت كافر؛ لردك لكتاب الله ولسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الصورة الثانية: من ارتد وعلمت ردته واتفق على كفره، بمعنى أنه كان مسلماً، ثم ارتد ردة صريحة عن الإسلام، وتحققت فيه الشروط وانتفت عنه الموانع، ولم يكن جاهلاً ولا مكرهاً ولا غاضباً، أي: أنه لم يقل الكفر في حال غضبه، كما ألقى موسى الألواح {وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ} [الأعراف:154]، وغير ذلك من الموانع التي تمنع من تكفيره.
فمن ارتد عن دين الله عز وجل ردة صريحة واتفق على أنه كافر خارج عن ملة الإسلام فقد وجب عليك أن تكفره، وإن لم تفعل فأنت مثله في الحكم.
الصورة الثالثة التي تأخذ حكماً مخالفاً: من كان مسلماً ولكنه فعل أفعالاً جعلت أهل العلم يختلفون فيه، فمنهم من كفره، ومنهم من لم يكفره، فاختلاف أهل العلم فيه لا يوجب عليك أن تقطع له بأحد القولين، فعليك أن تكل أمره إلى الله عز وجل، وإذا ترجح لديك أحد القولين فقل به، ولا بأس عليك ولا حرج؛ لأنك مسبوق إلى هذا القول.
إذاً: قول القائل: من لم يكفر الكافر فهو كافر متعلق بالكافر الأصلي، والذي ارتد عن دين الإسلام وأجمع على كفره أهل الإسلام، وأما الذي لم يحصل بشأنه إجماع وكان فعله يحتمل الكفر وغيره فأنت في حل من شأنه.(72/20)
اعتقاد أن هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم أكمل وأحسن من هديه صلى الله عليه وسلم
الناقض الرابع: من اعتقد أن هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه وأحسن منه.
وهذا لا شك أنه كافر، راد لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فمن قدم هدي غير النبي عليه الصلاة والسلام على هديه فهو كافر بذلك، أو اعتقد أن حكم غيره أحسن من حكمه -كالذين يفضلون حكم الطواغيت على حكمه- فهو كافر، أو تحاكم إلى غير شرع الله وإلى غير ما أنزل الله عز وجل وبإمكانه أن يحصل على حقه دون اللجوء إلى هذه القوانين والطوغيت، فمن هذا حاله فهو مستحسن لغير شرع الله، ومقدم له على شرع الله عز وجل.
ويدخل في هذا من اعتقد أن الأنظمة والقوانين التي يسنها الناس أفضل من شريعة الإسلام، وتجد الناس إذا كان القانون في صالحهم يلهجون بالثناء عليه وتعظيمه وإن كان مخالفاً لشريعة الإسلام، وهم بذلك يردون حكم الله عز وجل.
والأصل في المسلم أن يقدم شرع الله عز وجل حتى وإن خالف هواه؛ لأن شرع الله عز وجل مصلحة كله، وما خفي أن فيه مصالح البشرية الآن فلا بد أن تظهر مصالحه فيما بعد، وما تكرهه الآن تظهر لك مصالحه بعد ذلك، فينبغي عليك أن تقبل شرع الله عز وجل، وإن استثقلت بعض أحكامه عليك الآن فينبغي عليك أن تراجع إيمانك، وأن تقبل شرع الله عز وجل كله بحذافيره.
أو يعتقد أن نظام الإسلام لا يصلح تطبيقه في القرن العشرين.
وهذه الكلمة نسمعها اليوم كثيراً، فهناك من يقول: كان الإسلام ينفع البدو في القرون الأولى، وكان جميلاً جداً، وعندما كان مناسباً للعصر والمكان والزمان ساد الأمم كلها، ولكنه لا ينفع الآن في المدنية وفي النظام العالمي الواحد، ومع الطائرات والصواريخ والتكنولوجيا، ومن قال هذا وقدم غير شرع الله عز وجل فهو كافر بالله، وهذا لابد أن يكون عقيدة مستقرة، يعني: صلاح شرع الله عز وجل للحياة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها لابد وأن يكون من البديهيات التي لا تحتاج منا إلى إقرار، فلا ينبغي السؤال هل الشريعة صالحة الآن أو غير صالحة؟ والجواب بأنها صالحة، فهذا الكلام خطأ؛ لأن هذا لا بد أن يكون عقيدة مستقرة في قلبك، كما استقر في قلبك أنه لا يستحق العبادة إلا الله عز وجل.
وهناك رأي شر من الرأي الأول، وهو يقول: إن سر التخلف الذي نحن فيه هو الإسلام.
وقائل هذه الكلمة قد خرج من ملة الإسلام بلا شك ولا ريب.
وهناك من يقول: الإسلام في المسجد فقط، وأما الشارع فله قوانين أخرى تحكمه، وقائل هذا يشبه الإسلام بالكنيسة في العصور الوسطى، فقد حجر على النصرانية وجعلت في الكنيسة فقط، وكأن الزمن يدور الآن، وإذا دار الزمان فدر مع القرآن حيث دار، وهكذا يكون المسلم.(72/21)
بغض شيء مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم
الناقض الخامس: من أبغض شيئاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو عمل به فقد كفر؛ لقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9].
فلو قال قائل: هذه القضية لابد أن أحكم فيها بالقانون -وإن كان الشرع فيها واضحاً وبيناً جداً- لأن حكم القانون هنا أحب إلي من حكم الرسول صلى الله عليه وسلم أو من حكم الله عز وجل فهو كافر.
ولا يأتي شخص بعد أن نذكر هذه المكفرات ويقول: إنك مكفر، فأنا أكفر بالكتاب والسنة، وليس هناك مشكلة.(72/22)
الاستهزاء بشيء من الدين
الناقض السادس: من استهزأ بشيء من دين الله عز وجل.
والاستهزاء ليس له علاقة بالجهل ولا بالإكراه ولا بشيء أبداً.
والموانع التي تمنع من لحوق الحكم بالقائل أو الفاعل ليس لها علاقة أبداً بالاستهزاء، فالاستهزاء كله كفر، وقد ثبت عن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال: من قال لعمامة الرجل: عُميمة -والتصغير للتحقير- احتقاراً لسنيتها فقد كفر.
وقال الإمام النووي عليه رحمة الله تعالى في أحد كتبه في شرح حديث النبي عليه الصلاة والسلام في فضل الذي يخرج من بيته في طلب العلم: إن بعض الناس رأوا طالب علم خرج من بيته مسرعاً فاعترضوه، وقالوا له: ارفع قدمك حتى لا تكسر أرجل ولا أجنحة الملائكة -يستهزءون به- فأصبحوا مكسوري الأيدي والأرجل والظهور.
فعاقبهم الله عز وجل بنفس صنيعهم، والجزاء من جنس العمل.
فمن استهزأ بشيء من شرع الله عز وجل ومن دين الله عز وجل، أو من الثواب والعقاب فإنه كافر بذلك، والله عز وجل يقول: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ} [التوبة:65 - 66].
فسمى الاستهزاء كفراً.(72/23)
السحر
الناقض السابع: السحر، وبعض الناس يقولون: هذا الساحر يعلم الغيب، وهذا خروج من ملة الإسلام؛ لأنه صرف لما يجب لله عز وجل لغيره عز وجل، فقد ادعى أن غير الله يعلم الغيب، ولا يعلم الغيب إلا الله، والله عز وجل يقول: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102].
أي: أن تعلم السحر كفر.(72/24)
موالاة الكافرين على المسلمين
الناقض الثامن: مظاهرة المشركين، يعني: معاونتهم ومساندتهم وموالاتهم على المسلمين، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51].
فمن كان ظهيراً ومساعداً ومسانداً ومحباً وموالياً للكفار فليعلم أنه منهم، ومن أحب قوماً فهو معهم، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51].(72/25)
اعتقاد أن هناك من يسعه الخروج عن شريعة الإسلام
الناقض التاسع: من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فقد كفر؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85].(72/26)
الإعراض عن تعلم الدين والعمل به
الناقض العاشر: الإعراض عن دين الله عز وجل، بحيث لا يتعلمه ولا يعمل به، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} [السجدة:22]، أي: أعرض عن الذكر وعن العمل، وعن السماع، فهو يعرض عن ذكر الله عز وجل وعن أحكامه وآياته، وعما يجب عليه أن يعتقده في ذات الله عز وجل وفي أسمائه وصفاته.
ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازئ والجاد، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله أو من غضب الله يهوي بها في النار سبعين خريفاً، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله عز وجل يدخل بها الجنة).
هذه بعض المسائل التي تتعلق بتوحيد الله عز وجل وبتوحيد اتباع النبي صلى الله عليه وسلم.(72/27)
الأسئلة(72/28)
الحكم على حديث: (لا تلقوا السلام على يهود أمتي) وبيان معناه
السؤال
ما مدى صحة حديث: (لا تلقوا السلام على يهود أمتي، قلنا: يا رسول الله ومن يهود أمتك؟ قال: تاركو الصلاة)؟
الجواب
حديث: (لا تلقوا السلام على يهود أمتي، قلنا: يا رسول الله! ومن يهود أمتك؟ قال: تاركو الصلاة)، غير صحيح، وليس معناه أن من يريد ترك الصلاة يتركها.(72/29)
حكم الحجامة والشروط التي يجب توافرها في الحجام
السؤال
هل الحجامة مشروعة، وما هي الشروط التي يجب أن تتوافر فيمن يزاول هذه الصنعة؟
الجواب
ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام ديناراً، والصحابة احتجموا من بعده.
والحجامة هي أحد وسائل علاج الأبدان.
وقد كان العرب إذا وجد أحدهم مرضاً في رأسه أو صداعاً يحتجم، فيحلق بعض رأسه في مكان الصداع أو قريباً منه حتى يبدو جلد الرأس، ثم يأتي بإناء أو كوب ويشعل فيه النار، ثم يضع الكوب مقلوباً على ذلك المكان، وبمجرد وضعه تنطفئ النار، ويخرج دخان، وينحبس هذا الدخان داخل الكوب، ويتجمع على الجلد فيجذبه إلى داخل الكوب، ثم ينتظر حتى لا يشعر بألم، ثم يرفع الكوب فيجد أن المكان الذي جذبه الكوب لونه مختلف عن بقية الرأس بتأثير الدخان والنار، فيأتي بمشرط مطهَر ويجرح به ذلك المكان عدة جرحات بطرف المشرط، وعندما ينزل منها الدم يعيد العملية من جديد، فيشعل النار في الكوب ثم يضعه في نفس المكان من الرأس، فيسحب الكوب الدم كله.
وهذا الدم هو الذي سبب له هذا الصداع.
وبعد أن يمتلئ الكوب ينزعه ثم يغتسل ويستريح وينام، ويذهب الصداع من رأسه.
هذه هي صورة الحجامة.
ويفضل أن يكون الذي يصنع الحجامة رجلاً له علاقة بالطب، وعندما كنا في الأردن سنة 1983م عمل شخص حجامة لأخيه في السكن، فقطع شرايينه وعروقه وأوردته، وجلس في المستشفى سنة كاملة.
فلا بد أن يكون الذي يعمل الحجامة له علاقة بالطب، من أجل أن يكون عالماً، هل المكان الذي سيحجمه فيه شريان أو عروق أو لا؟ ويشرط بحذر شديد جداً، مثل الأطباء عندما يشرطون بحذر شديد، ولا يشترط أن يكون طبيباً، وإنما أن يكون فاهماً لهذا الأمر.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(72/30)
شرح صحيح مسلم - كتاب الإيمان - شروط لا إله إلا الله السبعة
لا تتم شهادة أن لا إله إلا الله إلا بشهادة أن محمداً رسول الله، ولا تتم محبة الله إلا بمحبة رسوله، فالشهادتان متلازمتان، ولا يكفي فيهما النطق المجرد باللسان، بل لابد من العلم بمعناهما والقبول والانقياد لمقتضاهما، إلى غير ذلك من الشروط التي يجب توافرها في قائلهما.(73/1)
شروط كلمة التوحيد
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد: في الدرس الماضي تكلمنا عن أهم ركن من أركان الإسلام، وهو شهادة التوحيد، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله)، وتكلمنا عن معنى الشهادة، وأنها الركن الركين في أركان الإسلام، وأعلاها وأعظمها وأهمها، وأن من أتى بهذا الأصل ربما نفعه المقتضى، ومن أتى بدونه لم ينفعه المقتضى، ولا يصح عمل المرء وإن أتى بالطاعات والصالحات جميعاً حتى يدخل من هذا الباب الأساسي، وهو توحيد الله عز وجل.
وشروط توحيد الله عز وجل هي ما جاء في قول الناظم عليه رحمة الله: وبشروط سبعة قد قيدت وفي نصوص الوحي حقاً وردت فإنه لم ينتفع قائلها بالنطق إلا حيث يستكملها العلم واليقين والقبول والانقياد فادر ما أقول والصدق والإخلاص والمحبة وفقك الله لما أحبه هذه هي الشروط السبعة لقول لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الأول: العلم، والثاني: اليقين: والثالث: القبول، والرابع، الانقياد، والخامس: الصدق، والسادس: الإخلاص، والسابع: المحبة.
وقول الناظم هنا: (وبشروط سبعة قد قيدت)، أي: قولك لا إله إلا الله محمد رسول الله، مقيد بهذه الشروط السبعة، وقد جاء ذلك في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وفي قوله: (وفي نصوص الوحي حقاً وردت)، أي: هذه الشروط أتت في كتاب الله عز وجل، وفي سنة نبيه الصحيحة.
والدليل حتى يصح لابد أن يتوفر فيه شرطان: الشرط الأول: أن يكون هذا الدليل صحيحاً.
والشرط الثاني: أن يكون هذا الدليل صريحاً في المسألة، فإذا احتججت بحديث صحيح في غير بابه، فنقول: نعم، إن هذا الحديث صحيح، ولكنه لا يصلح للاحتجاج به في هذه المسألة؛ لأنه يتكلم في باب، والنزاع في باب آخر.
فالدليل حتى يصح الاحتجاج به لابد أن يكون صحيحاً وصريحاً في محل النزاع، فإذا احتججت بحديث ضعيف في محل النزاع، قلنا: إن هذا الحديث لا يقوى على حل النزاع حتى وإن كان صريحاً في المسألة، لأنه غير صحيح.
فالأدلة التي يجوز الاحتجاج بها لابد أن تكون صحيحة من جهة، وصريحة من جهة أخرى.
قال الناظم: (فإنه لم ينتفع قائلها)، أي: لم ينتفع المتلفظ والناطق بالشهادتين إلا باستكمال هذه الشروط، وباجتماعها في القائل وفي الناطق بها.
وقوله: (بالنطق إلا حيث يستكملها)، أي: إلا إذا اجتمعت فيه، واستكمل هذه الشروط السبعة.
ثم بدأ يعدد هذه الشروط، فقال: (العلم واليقين والقبول والانقياد فادر ما أقول)، أي: اسمع وأنصت إلى ما أقوله.
(والصدق والإخلاص والمحبة وفقك الله لما أحبه)، آمين.
فهذه الشروط السبعة لابد من توفرها فيمن وحد الله عز وجل، حتى يوحد الله عز وجل على علم وبصيرة وانقياد واستسلام وإخلاص ومحبة.(73/2)
العلم
قوله: (والعلم)، هذا أول شرط فيمن يوحد الله عز وجل، فلابد أن يوحد الله عز وجل على علم لا جهل فيه، والمقصود: بالعلم أي: بمعنى لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولا شك أن العلم بلا إله إلا الله معناه: أنك لابد وأن تعلم يقيناً أن الإله الحق هو الله عز وجل وحده، وما عداه فإنما هي آلهة باطلة وطواغيت من دون الله عز وجل.
ولا بد من العلم بمعناها المراد منها نفياً وإثباتاً؛ لأن الكلمة في حد ذاتها تشمل النفي والإثبات، فقولك: لا إله نفي لجميع الآلهة، وإلا الله إثبات لإله واحد ورب لجميع من ادعى أنه إله من دون الله عز وجل.
فهذه الكلمة في حد ذاتها تشمل نفي جميع الآلهة، وإثبات إله وحد، وفي البلاغة تفيد الحصر؛ فهي هنا تفيد حصر الألوهية في الله عز وجل، وتنفي الألوهية عما عداه، كقول الله عز وجل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} [آل عمران:144]، فهي تفيد حصر الرسالة في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وليس معنى ذلك نفي الرسالة عمن عداه من إخوانه من المرسلين والأنبياء، وإنما هذا كلام خاص بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وإثبات أنه مبعوث مرسل من عند الله عز وجل.
وقال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19].
وبوب الإمام البخاري في كتاب العلم، باب: العلم قبل القول والعمل، وقد أراد الإمام البخاري بهذا أن يبين أنه لا يصح قول ولا عمل إلا بعلم، وأنه لابد لكل قائل وكل عامل أن يكون قوله وعمله صادراً عن علم بالله عز وجل، وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فمن عمل بغير علم فهو شبيه بالنصارى؛ لأن العمل بغير علم ضلال.
والتقول على الله عز وجل إنما هو من غضب الله عز وجل على المرء، ولذلك في أواخر سورة الفاتحة، يدعو المؤمنون الله عز وجل أن يهديهم الصراط المستقيم، لا صراط الذين غضب الله عليهم ولا الضالين، وهم اليهود والنصارى.
وقال تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} [الزخرف:86]، أي: بلا إله إلا الله، فشهادة الحق هي لا إله إلا الله، قال: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86]، أي: يعلمون بقلوبهم معنى لا إله إلا الله، وما نطقت به ألسنتهم.
وقال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18]، فالله عز وجل والملائكة وأولو العلم جميعاً شهدوا بأنه لا إله إلا هو العزيز الحكيم.
وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9].
وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، فكلما ازداد العبد علماً بالله عز وجل كلما ازداد منه خشية، ولذلك لما نودي الأعمش، أو شعبة أيها العالم! قال: إنما العالم من يخشى الله.
وأعلى مراتب العلم بالله عز وجل خشيته عز وجل.
وقال تعالى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43].
وفي الصحيح عن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة)، وقد بوب الإمام النووي لهذا الحديث في صحيح مسلم بباب: الدليل على أن مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً.(73/3)
اليقين
الشرط الثاني من شروط لا إله إلا الله: اليقين المنافي للشك، واليقين الذي لا شك فيه هو الاعتقاد الجازم أن الله تعالى إله واحد، بحيث لا يساور قائلها ريب ولا شك بمدلولها.
والإيمان لا ينفع فيه إلا علم اليقين لا علم الظن، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15]، أي: لم يشكوا في الإيمان بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم، {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15].
فاشترط الله عز وجل في صدق إيمانهم بالله ورسوله كونهم لم يرتابوا ولم يشكوا؛ لأن الارتياب صفة المنافقين والعياذ بالله تعالى، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ} [التوبة:45]، أي: في التخلف عن الجهاد، {الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة:45]، أي: في شكهم يتحيرون ويتيهون.
وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة).
فيشترط اليقين بالله عز وجل، وبأنه واحد أحد، فرد صمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، فمن شك في شيء من ذلك فإنه لم يحقق اليقين، وقد فقد شرطاً من شروط توحيد الله عز وجل، ولا شك أنه بفقد الشرط يفقد المشروط.
وفي رواية: (لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما فيحجب عن الجنة).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث طويل: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه بنعليه وقال له: اذهب بنعليَّ هاتين، فمن لقيت خلف هذا الحائط -أي: خلف هذا البستان- يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة، فكان أول من لقي أبو هريرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فسأله عمر: ما هذان النعلان يا أبا هريرة؟! قال: هما نعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني بهما - أي: كدلالة وعلامة على وجوده داخل الحائط والبستان - فقال: يا أبا هريرة! اذهب فمن لقيت خلف هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة، قال: فضربني عمر بين ثديي فخررت لاستي، ثم هرولت وأسرعت إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وفي أثري عمر - أي: وعمر خلفي مباشرة - حتى جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: يا رسول الله! إن عمر ضربني بين ثديي فخررت لاستي، فلما سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك أقر بأنه قد فعل ذلك، فقال: ما الذي حملك على ذلك يا عمر؟! قال: يا رسول الله! لا تبشرهم فيتكلوا دعهم يعملون، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: دعهم يا عمر - أي: دعهم يعملون -) وأقره على فهمه واجتهاده رضي الله عنه.
فاشترط النبي صلى الله عليه وسلم في دخول قائلها الجنة أن يكون مستيقناً بها قلبه غير شاك فيها، وإذا انتفى الشرط انتفى المطلوب.(73/4)
القبول
الشرط الثالث من شروط قول لا إله إلا الله محمد رسول الله: القبول لما اقتضته هذه الكلمة بقلبه ولسانه، وموافقة القلب للسان، يعني: أن يتوافق لسانك وقلبك سوياً على النطق بهذه الكلمة وعلى قبولها ومعرفة معناها واليقين بمدلولها، وقد قص الله عز وجل علينا من أنباء ما قد سبق من إنجاء من قبلها، وانتقامه ممن ردها وأباها، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الزخرف:23 - 25].
وقال الله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس:103]، يعني: من قبل هذه الكلمة سماه الله مؤمناً، ومن ردها فهو إما كافر وإما منافق، ومعلوم ما وقع بالكافرين والمنافقين ممن رد هذه الكلمة، وكذلك معلوم جزاء المؤمنين عند الله عز وجل في الدنيا والآخرة لقبولهم لهذه الكلمة والعمل بمقتضاها.
وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47].
وكذلك أخبرنا بما أعده لمن ردها من العذاب فقال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات:22 - 24] إلى قوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35]، أي: يستكبرون عن قبولها ويردونها، {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات:36]، وهذا كأنه سؤال تعجب من هؤلاء الجهلة السفلة، وقد علموا أنه ليس بشاعر ولا مجنون.
فجعل الله تعالى علة تعذيبهم وسببه هو استكبارهم عن قول لا إله إلا الله، وتكذيبهم من جاء بها، فلم ينفوا ما نفته، ولم يثبتوا ما أثبتته، بل إنهم قالوا إنكاراً واستكباراً: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} [ص:5 - 6].
وسبحان الله! {أَتَوَاصَوْا بِهِ} [الذاريات:53].
والله عز وجل في هذه الآية يصور المعركة بين أهل الإيمان وأهل الكفر والنكران، فقال تعالى: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}.
وهذا قول أهل الكفر والجحود والنكران في ميدان عام التقى فيه أهل الإيمان وأهل الكفر، فقال أهل الكفر: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا} [ص:5 - 6]، أي: امشوا من أمام أهل الإيمان والعلم والحجة والبيان خشية أن تصابوا بما أصيبوا به، وانصرفوا من أمامهم حتى لا يصيبكم ما أصابهم، {وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} [ص:6] أي: وتمسكوا بآلهتكم، {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص:6]، أي: يراد بكم، {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص:7]، أي: ابتداع ابتدعوه من عند أنفسهم واصطنعوه، تعالى الله عز وجل عن قولهم علواً كبيراً.
وقالوا هنا: {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات:36].
فكذبهم الله عز وجل ورد عليهم ما اتهموا به رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:37]، أي: بل جاء النبي عليه الصلاة والسلام بالحق من عند الله عز وجل، ((وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ))، أي: ووافقت دعوته دعوة المرسلين من قبله، فلم يكن هذا اختلاقاً ولا ابتداعاً ولا اصطناعاً، وإنما هو موافق لأهل التوحيد من الأنبياء والمرسلين قبله، فلم يكن بدعاً من الرسل صلى الله عليه وسلم، فدعوته هي دعوة لتوحيد الله عز وجل، وتوحيد الطريق الموصل إلى الله عز وجل، كدعوة غيره من الأنبياء كذلك.
ثم قال في شأن من قبلها وأثنى عليهم الله عز وجل: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات:40]، أي: الذين عبدوا الله تعالى بإخلاص، {أُوْل(73/5)
الانقياد
الشرط الرابع: الانقياد والإذعان والاستسلام لله عز وجل، يعني: الانقياد لكل ما أمر الله عز وجل به، والانتهاء عن كل ما نهى الله عنه؛ فلا يجدك الله عز وجل حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك، قال الله عز وجل: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} [الزمر:54]، أي: وارجعوا إلى ربكم، {وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:54].
وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النساء:125] ومعنى: {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي: وهو موحد، ومعنى: {أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ}، أي: انقاد لله عز وجل وهو موحد.
وقال تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [لقمان:22]، أي: بلا إله إلا الله، والعروة الوثقى هي: العقد الأوثق المتين بينك وبين الله عز وجل في الدين، والسبب الموصل لرب العالمين.
فهي العروة الوثقى التي لا انفصام لها ولا انقطاع لها.
{وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [لقمان:22]، ومعنى: ((يُسْلِمْ وَجْهَهُ))، أي: ينقاد لله عز وجل، ((وَهُوَ مُحْسِنٌ))، يعني: موحد، ومن لم يسلم وجهه إلى الله ولم يك محسناً فإنه لم يستمسك بالعروة الوثقى، وهذا هو المقصود بقول الله عز وجل بعد ذلك: {وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ} [لقمان:23]، أي: ومن لم يستمسك بهذه العروة الوثقى وبهذا العقد المتين في الدين بينه وبين الله فاعلم أنه قد آثر الكفر على الإيمان وفضل الضلالة على الهدى، والعمى على البصيرة، ولهذا قال الله عز وجل ذاماً لهم: ((وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ))، وفي هذا سلوى للنبي عليه الصلاة والسلام، وأنه لا يضره كفر من كفر، كما لا ينفعه كذلك إيمان من آمن، {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لقمان:23 - 24].(73/6)
الصدق
الشرط الخامس من شروط لا إله إلا الله: الصدق في هذه الكلمة؛ فتكون صادقاً مع الله عز وجل ومع نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ومع نفسك في إيمانك كذلك، فيكون نطقك لهذه الكلمة بكل صدق وإخلاص.
فمن شروط هذه الكلمة: الصدق المنافي للكذب، أي: الصدق الذي ليس معه أدنى كذب، وهو أن يقولها صدقاً من قبله، ويوافق قلبه لسانه، يعني: يتفق ما يخرج من لسانه مع ما يعتقده ويستقر في قلبه، قال الله عز وجل: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:1 - 2]، فلابد من الفتنة حتى يعلم الله عز وجل الصادق من الكاذب، وحتى يميز الخبيث من الطيب، {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3]، إلى آخر الآيات.
وقال تعالى في شأن المنافقين الذين قالوها كذباً وزوراً وبهتاناً: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8].
و (ما) هنا نافية، فقولهم لا يوافق ما في قلوبهم من كفر ونفاق وضلال، وإنما: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:9]، والله عز وجل لا يخدعه خادع ولا يمكر به ماكر، {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:9 - 10]، يعني: ليسوا صادقين في ادعائهم الإيمان وإنما هم كاذبون، ففضحهم الله عز وجل في مثل هذا الموطن وفي غيره كذلك.
وقد ذكر الله تعالى شأنهم، وكشف أستارهم وهتكها وأبدى فضائحهم في غير ما موضع من كتابه، كسورة البقرة وآل عمران والنساء والأنفال والتوبة، وخصص لهم سورة كاملة في كتابه، وهي سورة المنافقون.
وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من أحد يشهد أن لا إله إلا وأن محمداً عبده ورسوله صدقاً من قلبه).
فلابد من موافقة ومواطأة ما يخرج من اللسان مع ما هو مستقر في القلب، فلا بد أن يكون صادقاً من قلبه من يقول: لا إله إلا الله، فإن قالها كذباً فإنما هو من الكافرين أو المنافقين، والحال لا يختلف كثيراً بينهما.
قال: (ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله تعالى على النار).
فاشترط في إنجاء من قال هذه الكلمة من النار أن يقولها صدقاً من قلبه، فلا ينفعه مجرد التلفظ بها بدون مواطأة القلب لذلك.
وفيهما -أي: البخاري ومسلم - من حديث أنس بن مالك وطلحة بن عبيد الله الأنصاري رضي الله عنهما: (في قصة الأعرابي -وهو ضمام بن ثعلبة وافد بني سعد- لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شرائع الإسلام، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، قال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع، قال: والله لا أزيد عليها ولا أنقص منها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق)، وفي رواية: (أفلح وأبيه إن صدق)، وفي بعض الروايات: (إن صدق ليدخلن الجنة)، أي: إن صدق في هذه الكلمة وطابق لسانه قلبه فالله عز وجل يدخله الجنة، والنبي عليه الصلاة والسلام أكد ذلك بمؤكدين هنا: بلام التوكيد ونون التوكيد، فقال: (إن صدق ليدخلن الجنة)، ولم يقل: إن صدق دخل الجنة، ولكنه قال: ليدخلن، فاللام والنون المشددة لبيان التأكيد والوعد الحتمي، فاشترط في فلاحه ودخوله الجنة أن يكون صادقاً.(73/7)
الإخلاص
الشرط السادس من شروط قول لا إله إلا الله محمد رسول الله: الإخلاص، وهو تصفية العمل بصالح النية، فلابد أن تكون نيتك خالصة لله عز وجل، والله تعالى لا يقبل العمل إلا إذا توفر فيه شرطان: الشرط الأول: أن يكون خالصاً لله عز وجل، بحيث لا يبتغي بالعمل إلا وجه الله عز وجل.
الشرط الثاني: متابعة النبي عليه الصلاة والسلام في هذا العمل، ولذلك قلنا في تعريف قول لا إله إلا الله: هو توحيد المعبود، وفي قول: وأن محمداً رسول الله: هو توحيد المتبوع صلى الله عليه وسلم، وتوحيد الطريق الموصلة إلى الله عز وجل، ولابد أن يكون ذلك من خلال متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، فمن تعدى حد العبودية لله عز وجل وقع في الكفر، ومن تعدى حد اتباع النبي صلى الله عليه وسلم واجتهد في العبادة من عند نفسه أو بوصية شيخ أو طريقة أو غير ذلك، كان عمله غير مقبول ومردود على صاحبه؛ لأنه وقع في الابتداع، وقد جاء في الصحيح من حديث عائشة مرفوعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، وفي اللفظ الآخر قال: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد)، أي: مردود عليه، ولا يؤجر عليه، وإنما هو مأزور.
قال: الإخلاص هو تصفية العمل بصالح النية عن جميع شوائب الشرك، قال الله تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3].
والدين هنا بمعنى العبادة، وقد عرف شيخ الإسلام ابن تيمية العبادة بقوله: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله تعالى ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة.
فالخوف والرجاء والتوكل والرهبة والرغبة، والخشوع والخشية والإنابة والخضوع، والاستعانة والاستغاثة والنذر عبادة، لابد أن تؤدى لله عز وجل، فلا تشرك في هذه العبادة مع الله عز وجل أحداً غيره.
وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5].
وقال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:2].
وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:11].
وقال تعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر:14].
وقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:145 - 146].
وغير ذلك من الآيات.
وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه، أو قال: خالصاً من نفسه).
فليس هناك شريك لله ولا ند ولا مثيل.
وفي الصحيح عن عتبان بن مالك أيضاً أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله عز وجل)، أي: لا يبتغي بذلك جاهاً ولا عرضاً.
ولا غير ذلك مما يمكن أن يعترضه في حياته الدنيا.(73/8)
المحبة
والشرط السابع والأخير من شروط لا إله إلا الله: المحبة، أي: المحبة لهذه الكلمة ولما اقتضته ودلت عليه، ولأهلها والعاملين بها من الملتزمين لشروطها، وبغض ما ناقض ذلك، أي: حب الله عز وجل وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، وعقد الولاء على الحب والبغض في الله عز وجل.
قال الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54].
فأخبرنا الله عز وجل أن عباده المؤمنين أشد حباً له؛ وذلك لأنهم لم يشركوا معه في محبته أحداً، كما فعل مدعو محبته من المشركين الذين اتخذوا من دونه أنداداً يحبونهم كحبه، وعلامة حب العبد ربه: تقديم محابه وإن خالفت هواه وشهوته، وبغض ما يبغضه الله عز وجل وإن مال إليه هواه، وموالاة من والى الله تعالى ورسوله، ومعاداة من عاداه، واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، واقتفاء أثره، واتباع هديه، وكل هذه علامات وشروط في المحبة لا يتصور وجود المحبة بدونها.
قال الله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان:43].
وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية:23]؟ فكل من عبد مع الله غيره، فهو في الحقيقة عبد لهواه، بل كل ما عصي الله عز وجل به من الذنوب سببه تقديم العبد هواه على أوامر الله ونواهيه.
وقال الله تعالى في شأن الموالاة والمعادة: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4].
وقال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22].
فلا يمكن أن يجتمع أبداً محبتك لمن حاد الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم ومحبة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ} [المجادلة:22].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة:23].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1].
إلى آخر السورة، وهي سورة الممتحنة.
وقال الله تعالى في اشتراط اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران:31].
قال الحسن البصري: ما ابتلي المحبون بمثل هذه الآية، فكل من ادعى محبة الله عز وجل ابتلي بمتابعة النبي عليه الصلاة والسلام واتباعه عليه الصلاة والسلام، فمن كان مدعياً محبة الله عز وجل فليكن متبعاً لنبيه صلى الله عليه وسلم.
وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:31 - 32].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله تعالى منه كما يكره أن ي(73/9)
أهمية الإخلاص والمتابعة في قبول الأعمال
واستكمالاً لشروط لا إله إلا الله نقول: اعقل وتوكل وبادر وانهض إلى المعالي، واطلب ولا تبالي، واحذر من التواني، والعيش في الأماني، وإن كنت تطلب الوصول إلى الغايات فأخلص واعمل بغير تواني.
وجناحان لا ينفكان: إخلاص لله ومتابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تحليق بواحد منهما، قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود:7]، ولما سئل الفضيل بن عياض عليه رحمة الله عن هذه الآية قال: لا يكون العمل مقبولاً إلا إذا جمع العبد بين الإخلاص وبين المتابعة، هذا إحسان العمل، فمن عمل بدونهما فهو من المنقطعين الهالكين، ومن عمل بهما وقال لم ترد قولته، ومن تكلم بهما علت على الخصوم كلمته، فهما روح الأعمال ومحك الأحوال، وفي أيام الفتن لا يثبت إلا أصحابهما المخلصون العاملون المتبعون، ويشرفون بنصر الله وتمكينه لهم في الأرض؛ ليجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين، ووالله ما منح العبد منحة أفضل من منحة القول الصادق الصالح الثابت.(73/10)
الهمة العالية في اتباع الدين
ويروى أن أحد الجواسيس الفرنجة توغل داخل بلاد المسلمين في الأندلس، فرأى طفلاً من أطفال المسلمين يبكي تحت شجرة، فسأله: ما يبكيك يا بني! قال: لأنني لم أستطع إصابة الهدف الذي حدد لي، وهو صيد العصفور فوق الشجرة، فقال الجاسوس: هون عليك أيها الطفل وعاود الكرة مرة أخرى، فقال الطفل المسلم: إن الذي يبكيني أعمق من صيد العصفور فوق الشجرة؛ يبكيني أنني قلت في نفسي: إن لم أستطع صيد العصفور بسهم واحد فكيف أستطيع أن أقتل عدوي وعدو الله غداً؟ فهذا إخلاص وصدق عند هذا الطفل؛ فدهش الجاسوس وبلغ الخبر إلى ملك الفرنجة، فقال ملكهم: الرأي عندي إن كنتم تأخذون برأيي ألا تعترضوهم؛ فإنهم كالسيل يحمل من يصادفه، أي: من وقف أمامه حمله، وهذا لا يتوفر ولا يتحقق إلا في أهل الإيمان المخلصين الصادقين، قال: ولهم نيات تغني عن كثرة العدد، وقلوب تغني عن حصانة الدروع، وواحد كألف، وصدق وهو كذوب.
فانصب وجهك لله، واملأ قلبك بحب الله وخشيته، واجعل همك مرضاة الله تعالى لا مرضاة عباده، فإنك إن فعلت ذلك كفاك الله مئونة الخلق.
لا لك الدنيا ولا أنت لها فاجعل الهمين هماً واحداً إني لأربأ بك واربأ بنفسك أيها الأخ المسلم! أن ترى في المسجد مصلياً خاشعاً ثم ترى في السوق مرابياً، أو ترى في البيت والشارع والمنتدى غير محكم لشرع الله في نفسك أو أهلك أو ولدك أو من تعول، وكيف يليق بك أن تنظم الحياة من حولك ثم تترك الفوضى في قلبك.
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس وفي الحديث: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، وايم الله لو مرضت قلوبكم وصحت أجسامكم لكنتم أهون على الله من الجعلان والخفافيش.
فكيف يصنع من أقصاه خالقه لا ليس ينفعه طب الأطباء من غص داوى بشرب الماء غصته فكيف يصنع من قد غص بالماء إن الفيصل استقامة السر، فمتى استقام باطنك - أيها الأخ! - استقامت لك الأمور، وصدق عندها الفعل والقول في العلانية والسر، والمشهد المغيب، فإذا أنت بسام بالنهار بكاء بالليل، كاللؤلؤة أينما كانت فحسنها معها، وكسبيكة الذهب إن نفخت عليها النار احمرت، وإن وزنتها لم تنقص، ولسان الحال يقول: دع الذي يفنى لما هو باقٍ.
يا طالب العلم! إني أعوذك بالله أن تكون في عينيك عظيماً وعند الله وضيعاً حقيراً، وأن تتزين بما ليس فيك، ثم أعيذك أخرى أن تجمع الإخلاص مع حب المدح والثناء، فإنهما ضدان لا يجتمعان أبداً، يقول ابن القيم عليه رحمة الله: لا يجتمع الإخلاص في القلب مع حب المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار، فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فأقبل على الطمع فاذبحه بسكين اليأس، وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما، فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء سهل عليك الإخلاص، فإن قلت: وما الذي يسهل علي ذبح الطمع والزهد في الثناء، قلت -والقائل هنا هو ابن القيم، وأما نحن فلا ينبغي لنا أن ننصح في هذا، ففاقد الشيء لا يعطيه، فنحن نشكو مما تشكون منه-: أما ذبح الطمع فيسهله عليك علمك اليقيني أنه ما من شيء يطمع فيه إلا وبيد الله تعالى خزائنه، فإذا كان كل شيء خزائنه بيد الله عز وجل فعلام الطمع فيما في أيدي الناس؟ وصدق ابن القيم رحمه الله، فالقناعة بما يكفي وترك التطلع إلى الفضول هو أصل الأصول، والعز ألذ من كل لذة، وهل عز أعز من القناعة؟ ولما دخل أحدهم البصرة، قال: من سيد هذه القرية؟ قالوا: الحسن البصري، قال: بم ساد على هؤلاء القوم؟ أو بم ساد أهل البصرة؟ قالوا: احتجنا إلى دينه واستغنى عن دنيانا.
مر الحياة لمن يريد فلاحاً حلو ويفلح من يريد فلاحاً وأما الزهد في الثناء فيسهله عليك علمك أن أحداً لا ينفع مدحه ويزين ويضر ذمه ويشين إلا الله عز وجل، فازهد في مدح من لا يزينك مدحه وذم من لا يشينك ذمه، وارغب فيمن كل الزين في مدحه، وكل الشين في ذمه، ولن تقدر على ذلك إلا بالصبر واليقين، فإذا فقدتهما كنت كمن يريد السفر بلا دابة.
يقول مالك بن دينار: إن الصدق يبدو في القلب ضعيفاً كما يبدو نبات النخلة، أي: ينبت في القلب نباتاً ضعيفاً، كما يبدو نبات النخلة، فهي تبدو غصناً واحداً؛ فيسقى فينتشر، ثم يسقى فينتشر، حتى يكون لها أصل أصيل عظيم يوطأ، وظل يستظل به، وثمرة يؤكل منها، كذلك الصدق مع الله عز وجل يَنبت في القلب ضعيفاً أولاً، ويتفقده صاحبه ويزيده الله تعالى، حتى يجعله الله تعالى بركة على نفسه، فيكون كلامه دواء للخاطئين، ويحيي الله تعالى به الفئام من الناس، وربما صاحبه لا يعلم بذلك.
ويروى أن قاصاً كان بقرب محمد بن واسع عليه رحمة الله تبارك وتعالى يقول: ما لي أرى القلوب لا تخشع والعيون لا تدمع والجلود لا تقشعر؟ فقال ابن واسع: ما أرى القوم أوتوا إلا من قبلك، ما أرى القوم بمثل ما تنقصتهم به إلا من قبلك؛ إن الذكر إذا خرج من القلب وقع عل(73/11)
الأسئلة(73/12)
حكم الوديعة إذا سرقت
السؤال
استودعت وديعة فسرقت مني، فهل علي ضمانها؟
الجواب
هذا فيه تفصيل، فإن كانت السرقة بإهمال منك وتفريط فلا شك أنك ضامن لها، وإن أحرزتها وحفظتها ثم تسللت إليها الأيدي العابثة رغماً عنك فلا ضمان عليك، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا ضمان على مؤتمن).
وفي حديث: (من أودع وديعة فلا ضمان عليه).
وهذا محمول على أنه حافظ عليها ولم يفرط فيها، وأما حديث أنس: أن عمر بن الخطاب استودعه وديعة فسرقت هذه الوديعة من بين مال أنس فغرمه عمر بن الخطاب ثمنها فمحمول على أن أنساً رضي الله عنه فرط في حفظها وصيانتها.
والله تعالى أعلم.(73/13)
حكم تكفير المجتمع
السؤال
هناك من يقول: إن المجتمع كافر إلا من رحمه الله، فهل هذا صحيح؟
الجواب
العلماء في كل مساجد السنة يقولون: إن المجتمع ليس كافراً؛ وإن حكم بأحكام الكفر، ولا أرى إلا أن هذا بوابة إلى التكفير.(73/14)
ضابط قاعدة: (من لم يكفر الكافر فهو كافر)
السؤال
هل علي أن أكفر المجتمع، وإن لم أفعل أكون مثلهم، لأن من لم يكفر الكافر فهو كافر؟
الجواب
هذا في الكفر الأصلي لا الكفر المختلف فيه.(73/15)
الحكم على حديث (الصلاة بعمامة أفضل من خمسين صلاة بلا عمامة)
السؤال
روى ابن عساكر عن ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة تطوع أو فريضة بعمامة تعدل خمسين صلاة بدون عمامة، وجمعة بعمامة تعدل سبعين بدون عمامة)، ما صحة هذا الحديث؟
الجواب
هذا حديث موضوع، لا يصح نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم ألبتة.(73/16)
معنى معية الله لخلقه
السؤال
أليس اعتقاد المصلي في الصلاة بأنه واقف بين يدي الله عز وجل، أو أن الله تعالى معه، يتعارض مع الاعتقاد بأن الله تعالى مستوٍ على العرش في السماء؟
الجواب
لا تعارض؛ لأن معية الله تعالى لخلقه إنما هي معية علم وسمع وإحاطة وبصر.(73/17)
معنى إطلاق الشارع لفظ الكفر على بعض الأعمال
السؤال
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: إطلاق الشارع لفظ الكفر لا يعني الخروج من الملة، واستدل لذلك بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً)، وقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، ومعاملة النبي صلى الله عليه وسلم للمنافقين على أنهم مسلمون رغم قولهم الكفر، وتكفير الله لهم في القرآن الكريم، فهل يستقيم هذا المعنى أم لا؟
الجواب
إطلاق لفظ الكفر لا يعني الخروج من الملة إلا بالنظر إلى الفعل وإلى الفاعل كذلك، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)، لا يعني أن من حلف بالنبي صلى الله عليه وسلم مثلاً أو بغير الله عز وجل أنه كافر وخارج عن ملة الإسلام، فهذا كفر دون كفر، فإطلاق الكفر من الشارع لا يعني أنه المخرج من الملة، فربما يكون كفراً دون كفر.(73/18)
كيفية جهاد المنافقين
السؤال
ذكرت أن المنافقين لهم حكمان، حكم في الدنيا وحكم في الآخرة، وهم معصومون -أي: معصومو الدم في الدنيا - لأنهم أقروا باللسان، فهل هذا يتعارض مع قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73]؟
الجواب
لا تعارض بين ما قررناه وبين قول الله عز وجل: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ)).
قال ابن مسعود: بيده، أي: واغلظ على المنافقين بيدك، فإن لم تستطع فلتكفهر في وجوه المنافقين.
وقال ابن عباس: أمره الله تعالى بجهاد الكفار بالسيف، والمنافقين باللسان، وذهاب الرفق عنهم.
وقال مجاهد: مجاهدة المنافقين بالكلام، وكذا قال قتادة والربيع ومقاتل، ولا منافاة بين هذه الأقوال؛ لأنه تارة يؤاخذهم بهذا وتارة بهذا حسب الأحوال.
وقال ابن جرير: إذا أظهروا النفاق جاهدهم بالسيف، وهذا شرط، وأما إذا كانوا مستورين فيتعامل معهم كما تعامل معهم النبي صلى الله عليه وسلم.(73/19)
تقييم كتاب الإتحافات السنية في الأحاديث القدسية، وبعض المراجع المفيدة في الأحاديث القدسية
السؤال
كتاب الإتحافات السنية في الأحاديث القدسية للشيخ العلامة محمد المدني صححه وعلق عليه محمود أمين، فهل هذا التخريج للكتاب موافق لتخريج أهل الحديث؟
الجواب
الشيخ محمود أمين لم يبذل جهداً في هذا الكتاب، والذي بذل جهداً فعلاً في انتقاء هذه الأحاديث القدسية أخونا عصام الصابطي صاحب كتاب مجموعة الأحاديث القدسية، وهو في ثلاثة مجلدات، طبعة مؤسسة الريان، وهناك أيضاً كتاب صحيح الأحاديث القدسية لأخينا الشيخ مصطفى العدوي، وهناك غيرهما من الكتب، فبإمكانك أن تقتني هذه الكتب وتستعين بها في طلبك للعلم.(73/20)
الحكم على حديث: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من سوء القضاء)، ومعنى سوء القضاء
السؤال
يقول: ما مدى صحة الدعاء المأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من درك الشقاء وشماتة الأعداء وسوء القضاء)، وما المقصود بسوء القضاء؟
الجواب
هذا الحديث صحيح، وهو متفق عليه بين البخاري ومسلم.
والمقصود بسوء القضاء سوء المقضي لا سوء القضاء نفسه؛ لأنه ما من قضاء يقضيه الله عز وجل إلا وهو حسن كله، وخيره كله.(73/21)
شرح صحيح مسلم - كتاب الإيمان - بيان أركان الإسلام - ترجمة زهير بن حرب
معرفة أسماء الرواة وأنسابهم وألقابهم من أهم علوم مصطلح الحديث، فبه يمكن التمييز بين الرواة وطبقاتهم، وقد تفرع عن هذا أحكام ومسائل كثيرة، مثل وصف الرواة بصفة نقص أو نسبتهم إلى أمهاتهم، وغيرها من المسائل، وقد بين العلماء أحكام هذه المسائل جميعها وأصلوا قواعد هذا العلم بما لم يدع زيادة لمستزيد.(74/1)
أهمية دراسة مصطلح الحديث
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: دراسة الأحاديث مباشرة دون دراسة أصول علم الحديث أمر يصعب معه معرفة علم الحديث، ولذا آثرنا أن نتعرض لمسائل هذا العلم -علم المصطلح- كلما دعت الضرورة إلى ذلك، ولن نحاول أن نستقصي هذه المسائل في دروس متتالية أو متتابعة حتى لا يمل كثير من السامعين، وإنما سنعرج على ذلك في أثناء تعرضنا لشرح الأسانيد والتعليق على الرجال وكذا المتون؛ حتى لا يمل السامع؛ لأنها مسائل لابد منها، وكل علم لم تعرف أصوله لا يعرف عنه شيء، وإذا بدأنا بعلم المصطلح لطال هذا الأمر جداً، وقد شرحناه في أماكن أخرى في ثلاث سنوات أو أكثر، فمن أراد الرجوع إلى الأشرطة فليفعل، ومن لم يرد فليحرص على أن يتابع معنا الكلام على أصول وفروع هذا العلم من خلال تعرضنا للأسانيد والمتون.(74/2)
متن حديث جبريل في بيان مراتب الدين
قال المصنف رحمه الله: [حدثني أبو خيثمة زهير بن حرب حدثنا وكيع عن كهمس عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر (ح)، وحدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري وهذا حديثه، حدثنا أبي -وهو معاذ العنبري - حدثنا كهمس عن ابن بريدة].
ولم يقل: عن عبد الله بن بريدة؛ لأنه قال في الإسناد السابق: عن عبد الله بن بريدة، فيستوي هنا أن يقول: عن عبد الله بن بريدة أو يقول ابن بريدة؛ لأنه قد علم من الإسناد السابق أنه عبد الله وليس سليمان؛ لأن ابن بريدة إما أن يكون هو عبد الله أو سليمان، ولما كان الراوي لهذا الحديث هو عبد الله وقد بين في موطن لم يضر إبهامه في الموطن الثاني؛ لأنه قد علم سلفاً أنه عبد الله وليس سليمان، فأمن بذلك اللبس من أن يكون هو سليمان، وسليمان أوثق من أخيه عبد الله، وكلاهما ثقة، ولكن سليمان مقدم في الرواية على عبد الله.
قال: [عن يحيى بن يعمر قال: كان أول من قال في القدر بالبصرة]، أي: أول من قال: لا قدر وأن الأمر أنف، وأن الله تعالى لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها، وأما قبل وقوعها فلا.
قال: [معبد الجهني -عليه من الله ما يستحق-، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري -أي: من البصرة- حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر]، يعني: يا ليتنا نوفق أن نرى أحداً من علماء الصحابة فنكلمه عن هؤلاء القوم الذين ظهروا حديثاً وتكلموا بكلام لم نعهده من قبل.
قال: [فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما].
وهو إمام جليل من أئمة الصحابة، ومن أكثر الصحابة التزاماً وفهماً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: [فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلاً المسجد -وهو مسجد مكة- فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي].
والظن هنا بمعنى: غلبة الظن، يعني: ترجح لدي أن صاحبي -وهو حميد بن عبد الرحمن - سيكل الكلام إلي، أي: سيوكلني في أن أتكلم وأعرض ما عندي على عبد الله بن عمر.
قال: [فقلت: أبا عبد الرحمن!].
أي: يا أبا عبد الرحمن! ولكنه حذف حرف النداء (يا)، فقال: أبا عبد الرحمن! وهذا فيه تلطف عن ذكر حرف النداء، وفيه ود واسترعاء لأفهام المتكلم أو أفهام السامع.
قال: [أبا عبد الرحمن! إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم].
فقوله: (إنه قد ظهر قبلنا) أي: ناحيتنا في جهة البصرة، وقوله: (ويتقفرون العلم) يعني: يطلبونه طلباً حثيثاً.
قال: [وذكر من شأنهم -أي: وقص عليه من أخبارهم- وأنهم يزعمون أن لا قدر -يعني: يقولون: لا قدر- وأن الأمر أنف، قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم -والقائل هنا هو عبد الله بن عمر - أني بريء منهم -لأن هذا قول محدث في دين الله عز وجل- وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر - وعبد الله بن عمر لا يحلف إلا بالله وبأسمائه وصفاته- لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر].
لأن القدر من أعظم أركان الإيمان، وفي الحديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بالقدر).
قال رحمه الله: [ثم قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب قال: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، قال: صدقت، قال: فعجبنا له -والقائل هنا عمر - يسأله ويصدقه)].
لأن هذا على خلاف عادة السائل الجاهل، إذ إنه يسأل عما خفي عليه، فإذا علم الجواب أخذه وانصرف، وأما هذا السائل فهو يسأل السؤال ثم يقول للمجيب: أنت صادق في هذه الإجابة، أي: أنه عنده علم سابق، وسؤاله هذا ليس لغرض التعلم، وإنما له غرض آخر، وهو أن يعلم الحضور جواب هذا السؤال.
قال: [(قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وم(74/3)
سبب عدم إخراج البخاري لحديث جبريل
وهذا الحديث انفرد به مسلم دون البخاري، فلم يخرجه البخاري في صحيحه نظراً لخلاف وقع في إسناده، فآثر البخاري السلامة ولم يخرجه في صحيحه، وهو حديث صحيح ثابت بلا أدنى شك، ولكن البخاري عليه رحمة الله له شروط أشد من شروط مسلم، ولذلك لم يخرج هذا الحديث؛ لعلة لا تقدح في الإسناد ولا في صحة الرواية.
وليس كل علة في الإسناد يرد بها الحديث برمته؛ لأن من العلل ما هو قادح ومنها ما ليس بقادح.(74/4)
ترجمة زهير بن حرب شيخ الإمام مسلم
والإمام مسلم بدأ هذا الحديث بذكر شيخ له أكثر عنه وهو زهير بن حرب رحمه الله تعالى، فقال: [حدثني أبو خيثمة زهير بن حرب].
وذكر أول شيخ له بكنيته واسمه سواء، فلم يقل: حدثني أبو خيثمة فقط، ولم يقل: حدثني زهير بن حرب فقط، ولكنه جمع بين الاثنين، ولو قال: حدثني أبو خيثمة لعلم أنه زهير بن حرب، ولو قال: حدثني زهير بن حرب لعلم أنه أبو خيثمة، ومع ذلك جمع بين الاثنين، بين الكنية وبين الاسم؛ لأن الرجل يعرف بأربع، إما بكنيته، وإما باسمه، وإما بلقبه، وإما بنسبه، فإذا قال الإمام مسلم: حدثني أبو خيثمة فليس في طبقة شيوخ مسلم وهم الطبقة العاشرة من يكنى بهذه الكنية إلا زهير بن حرب، وكان يكفي أن يقول: حدثني زهير بن حرب أو حدثني أبو خيثمة، ولكنه جمع بين الاسم وبين الكنية، وهذا فيه تعظيم للشيخ وإجلال له، وقد قال الخطيب البغدادي في كتاب الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع في الجزء الثاني: ويفضل أن يجمع الراوي بين كنية شيخه واسمه إجلالاً له وتعظيماً.
وأبو خيثمة زهير بن حرب أصله من نسأ أو من نِسأ، فنسبته أنه نسائي أو نسوي، كالإمام النسائي، أو تقول: الإمام النسوي، والنسبة صحيحة في الحالين، وقد نزل بغداد فنسب إليها، فيقال: أبو خيثمة زهير بن حرب النسوي أو النسائي البغدادي.
وهناك من يكنى بهذه الكنية أبي خيثمة، ولكنه متقدم على زهير بن حرب، وهو زهير أيضاً، ولكنه زهير بن معاوية بن حديج الكوفي، وهو من الطبقة السابعة، وليس شيخاً للإمام مسلم، وإنما هو فوق شيوخه بطبقة.(74/5)
استحباب التكني للشخص ولو لم يكن له ولد
وزهير بن حرب شيخ مسلم لم يكن له ولد يسمى خيثمة الذي تكنى به، وليس بلازم أن يكنى الرجل بولده، والمعلوم عند الكثير من الناس اليوم أنه لابد أن يكون للرجل ولد حتى يكنى به، ويا حبذا! لو كان ولده الأكبر، ولكن هذا ليس بلازم ولا بشرط، فالإمام زهير بن حرب لم يكن له ولد يسمى خيثمة حتى يقال: أبو خيثمة، بل للرجل والمرأة أن يكنيا أنفسهما حتى وإن لم يكن لهما ولد، وإن حرما الولد فيستحب للرجل والمرأة أن يتخذا لهما كنية، بل وأكثر من ذلك يستحب لك أن تكني أطفالك الصغار الذين لم يتزوجوا بعد، والذين لم يبلغوا أو يميزوا بعد، وقد روى النسائي من حديث أنس: أن أخاً له رضيع كان له نغير، وهو طائر صغير كالعصفور، وهو فوق العصفور ودون اليمامة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا زار أم سليم وأبا طلحة في بيتهما يداعب الأطفال ويلاعبهم.
وكان من خلقه صلى الله عليه وسلم أنه يمازح الأطفال ويقضي حاجتهم، حتى كانت الجارية الصغيرة في السن تأخذ بيده وتنطلق به في سكك المدينة حتى تقضي حاجتها، ولا ينصرف عنها حتى تنصرف عنه صلى الله عليه وسلم، وليس في هذا أيضاً جواز مصافحة النساء، لأن الجارية المقصود بها هنا هي التي لم تبلغ بعد، وأما المصافحة فحرام وأدلتها كثيرة في الصحيحين وغيرهما.
فالنبي صلى الله عليه وسلم عندما كان يزور أنساً أو أم سليم أو أبا طلحة في بيتهم كان يلاعب هذا الغلام أخو أنس من أمه أم سليم، وكان يقول له: (يا أبا عمير! ما فعل النغير؟) يعني: ما هي أخبارك مع العصفور، وهذا فيه مداعبة للأطفال، كما أن فيه أيضاً إثبات سنية واستحباب تكنية الأطفال؛ لأنه قال له: (يا أبا عمير!)، وهذا ليس اسم الغلام، وإنما هو كنية له كناه بها النبي صلى الله عليه وسلم، ونعم من كنى وسمى صلى الله عليه وسلم.
وفي الحديث أيضاً فوائد أخرى كثيرة، وقد صنف أحد القدامى في فوائد حديث أبي عمير، وذكر فيه أكثر من ستين فائدة، وهذا الجزء مطبوع متداول.
والنبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين وهي زوجه وليس لها ولد منه: (يا عائش! تكني بابن أختك عبد الله).
وهو عبد الله بن الزبير ابن أسماء بنت أبي بكر الصديق، وقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عائش! تكني بـ أم عبد الله).
فكانت كنية عائشة رضي الله عنها أم عبد الله.(74/6)
توثيق الأئمة لزهير بن حرب
زهير بن حرب من الأئمة الثقات الأثبات الذين كان يضرب بهم المثل في الحفظ والإتقان، وقدمه النسائي وغيره على أبي بكر بن أبي شيبة، ولو عرفت محل أبي بكر بن أبي شيبة من العلم لعظم عندك مكانة أبي خيثمة زهير بن حرب، وأبو خيثمة صاحب مصنفات، كما أن أبا بكر بن أبي شيبة صاحب مصنفات عظيمة جداً، والتي من أعظمها مصنفه المعروف بمصنف ابن أبي شيبة.
وزهير بن حرب من أكابر شيوخ الإمام مسلم، وقيل: إن مسلماً روى عنه ألف حديث، وسئل الإمام يحيى بن معين عن أبي خيثمة زهير بن حرب فقال: أبو خيثمة ثقة ثقة، يكفي قبيلة، يعني: يغني قبيلة بالتحديث والعلم والورع والزهد والإقبال على الطاعة والعبادة.
وهذا القول من إمام فحل جليل كـ يحيى بن معين، كأنه انتزع من بين فكي أسد؛ لأن يحيى بن معين كان من قسم المتشددين والمتعنتين جداً في الكلام في الرجال، فما كان أحد يظفر من يحيى بن معين بثقة ولا بصدوق، حتى قيل: إن الرواة يمرحون ويلعبون ما داموا بعيدين عن يحيى، فإذا وقفوا أمامه أتى كل منهم بأحسن حديثه مخافة أن يقع لـ يحيى بن معين حديثهم الضعيف أو الواهي فيحكم عليهم بأنهم رواة الأباطيل، أو أنهم كذابون أو وضاعون أو ضعفاء، فكان الواحد منهم إذا وقف أمام يحيى بن معين كأنه في امتحان عسير صعب لا يكاد أن ينجو منه.
فإذا قال هذا الإمام الذي هو بهذه المكانة من الشدة والعنت: ثقة ثقة، يكفي قبيلة، فاعلم مكانة زهير بن حرب.
وكان الإمام أحمد وهو من أقرانه يجله ويعظمه ويفخم أمره ويرفعه على كثير من الناس، وكفى بـ زهير جلالة توثيق هؤلاء له.
والإمام أحمد من فريق المعتدلين، وأما يحيى بن معين فمن فريق المتعنتين المتشددين في الرجال، واختلف في الإمام النسائي هل هو من المتشددين أو من المعتدلين؟ وبكل قول قال فريق من أهل العلم، والراجح على الإمام النسائي أنه من المتشددين أيضاً، ومع هذا فقد رفع شأن زهير بن حرب أبي خيثمة النسائي.
ويؤخذ من هذا أيضاً أنه يستحب أن ينادى المسلم بكنيته؛ لأن الكنية فيها تعظيم وفيها إجلال وتفخيم لصاحب هذه الكنية، فيفضل أن تقول: يا أبا فلان! وإن سميته باسمه بعد ذكرك لكنيته فهو حسن، وإن كان يكره أن يذكر اسمه فينبغي عليك ألا تذكره إلا بالكنية فقط.(74/7)
طرق معرفة الرجال من أسمائهم
الرجل يعرف بأربع: إما بكنيته، والكنية لابد وأن يسبقها حرف أبو، وإما باسمه ونسبه، فإذا قلت: سفيان فقيل: سفيان من؟ فقلت: ابن سعيد الثوري فقد عرف، وإن قلت: سفيان بن عيينة فقد عرف.
فلابد في معرفة الرجل من ذكر اسمه مجرداً، وإن لم يكن علماً عليه فينبغي ذكر نسبه حتى يتميز عن غيره، خاصة وإن كان معه في الطبقة من يتسمى باسمه أيضاً؛ حتى لا يختلط بغيره.
وإما بذكر لقبه أو نسبته سواء كانت نسبة بلد، فيقال: فلان المصري أو المكي أو العراقي أو الكوفي أو البصري، أو نسبته إلى حرفة كفلان الجزار أو الحداد، أو نسبته إلى صنعة، كفلان الحائك أو الصائغ، أو نسبته لمكان أو لغير ذلك.
وأما الألقاب فمنها القبيح ومنها الجيد، فإذا كان اللقب جيداً فلا بأس به، ولا يحتاج هذا إلى إذن الملقب لندائه بهذا اللقب، وإذا كان قبيحاً فلا ينادى به، والأصل في ذلك قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} [الحجرات:11].
فهذا من التنابز بالألقاب، ولكنه يباح لضرورة، مثل النصيحة في الدين، أو لتمييزه إن لم يمكن تمييزه إلا بذكره بهذا اللقب، فإذا قيل مثلاً: حدثنا إسماعيل لقيل: من إسماعيل؟ فإذا قيل: هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم وعددنا خمسة أسماء أو أكثر من ذلك لربما عسر على المستمع إدراك وتمييز من هذا الراوي، فلو قيل: حدثنا ابن علية لعرف، وعلية أمه، وهذا لقب له، فنسب إلى أمه، وكان يكره ذلك، ولكنه لا يعرف إلا بهذا، فيحرم ذكره بهذا اللقب على سبيل الذم والتنقص، ويجوز على سبيل المصلحة والتمييز والتعريف عن غيره.
ويا حبذا قول الشافعي عليه رحمة الله! وهو الذي بلغ في الأدب مبلغاً عظيماً، فكان يجمع بين ذكر الراوي بلقبه والتبري من التنابز بالألقاب، فكان يقول: حدثنا إسماعيل الذي يقال له: ابن علية، يعني: لست أنا القائل، فهنا حصل التمييز وحصل التبري.(74/8)
الجمع بين الكنية والاسم عند مخاطبة الشيخ
يقول الإمام الخطيب البغدادي: والجمع بين اسم الشيخ وكنيته أبلغ في إعظامه وأحسن في تكرمته.
وعن الحسن البصري قال: يجب للعالم ثلاث خصال: تخصه بالتحية، يعني: إذا دخلت مجلساً فيه رجل من أهل العلم فقل: السلام عليكم، ثم قل: السلام عليك أيها الشيخ! فتسلم على الناس ثم تخص الشيخ بالسلام، ولا تخصه بالسلام دون الناس، بل لابد من أن يشتمل سلامك على الناس، وإلا دخلت في شرط وعلامة من علامات الساعة، وهو التخصيص بالسلام، وفي حديث ابن مسعود: (أن رجلاً قال له وهو داخل المسجد معه أصحابه: السلام عليك يا أبا عبد الرحمن! قال: الله أكبر، سبحان الله! لقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن تسليم الخاصة من أشراط الساعة، وأنت سلمت علي وتركت أصحابي)، ولو سلم عليه وعلى أصحابه ثم خصه بالسلام لحصل المقصود بقول الحسن: ثم تخص الشيخ بالتحية.
قال: وتعمه بالسلام مع الجماعة، ولا تقل: أخبرنا فلان، وقل: أخبرنا أبو فلان، يعني: تذكره بكنيته ولا تذكره باسمه.
وعن العباس الدوري قال: رأيت أحمد بن حنبل في مجلس روح بن عبادة سنة خمس ومائتين يسأل يحيى بن معين عن أشياء يقول له: يا أبا زكريا! كيف حدثت كذا، وكيف حدثت كذا؟ يريد أحمد أن يتثبت منه في الحديث، ويتأكد من الحديث الذي عند يحيى بن معين، قال: وقلما سمعت أحمد بن حنبل يسمي يحيى بن معين باسمه، إنما كان يقول: قال أبو زكريا، دخل أبو زكريا، خرج أبو زكريا، فهذا أمر وسنة عظيمة قد ماتت عند الكثير، وبالذات من الشعب المصري، وإلا فهي بحمد الله موجودة في شعوب العرب، فقد كانوا يعرفون بعضهم البعض بكناهم، وربما يخفى عليهم أسماؤهم، ونحن نجد في الرواة من عرف بكنيته واختلف في اسمه على أكثر من ثلاثين قولاً كـ أبي هريرة رضي الله عنه، فقد كناه النبي عليه الصلاة والسلام بـ أبي هريرة، فاشتهرت هذه الكنية حتى طغت على اسمه، فاختلف من أتى من بعده في اسم أبي هريرة؛ لأنه عرف وعلم عند الناس بكنيته دون اسمه، وكذلك لو اقتصر على الاسم والنسب لكان هذا جائز.(74/9)
ذكر الرواة بأسمائهم دون أنسابهم إن لم يشكل ذلك
وهناك جماعة من المحدثين اقتصر في الرواية عنهم على ذكر أسمائهم دون أنسابهم، إذا كان ذلك لا يشكل، فلو قلت: حدثنا زهير بن حرب فلن تسأل عنه أبداً؛ لأنه واحد فقط، ولو قلت: عبد الله بن المبارك، فهو واحد فقط، ولو قلت: أحمد بن حنبل فهو واحد فقط، بل ربما لو ذكرته بكنيته لخفي أمره، فلو قلت: قال الفقيه أبو عبد الله لما عرفته؛ لأن الفقهاء كثير منهم تكنوا بهذه الكنية، ولو قلت: قال أحمد بن حنبل لعلم عند العوام قبل الخواص أنه الإمام الجليل المحدث الفقيه، فربما اقتصر على بعض ذكر أسماء المحدثين دون ألقابهم ودون كناهم؛ لتميزهم وأمن اللبس والاختلاط بغيرهم.
وقد قال سلمة بن سليمان: أخبرنا عبد الله، فقال له رجل: عبد الله ابن من؟ فقال: يا سبحان الله! -فـ عبد الله الذي في طبقته هو عبد الله بن المبارك - أما ترضون في كل حديث حتى أقول: أخبرنا عبد الله بن المبارك أبو عبد الرحمن الحنظلي الذي منزله في سكة كذا؟ وهذا كالشيخ ابن عثيمين، مشهور في القصيم في عنيزة باسمه وليس بنسبته، فهو مشهور هناك بالشيخ محمد، فإذا ذكر هناك الشيخ محمد فلا يجوز لأحد أن يسأل: الشيخ محمد من؟ لأنه إذا ذكر الشيخ محمد فإنما هو علم على مسمى علم أيضاً، وهو الشيخ ابن عثيمين.
فقال سلمة: إذا قيل بمكة عبد الله فهو ابن الزبير، يعني: إذا قيل عبد الله المكي فهو ابن الزبير، وإذا قيل بالمدينة فهو عبد الله بن عمر الصحابي، وإذا قيل بالكوفة فهو عبد الله بن مسعود الصحابي رضي الله عنه، وهو إمام أهل الكوفة، وإذا قيل بالبصرة فهو عبد الله بن عباس؛ لأنه رحل إليها، وإذا قيل بخراسان عبد الله فإنما هو ابن المبارك.
وربما لم ينسب المحدث إذا كان اسمه مفرداً عن أهل طبقته، كـ مسلم بن خالد المكي الملقب بـ الزنجي، فلو قيل: حدثنا الزنجي، فإنه لا يوجد أحد اسمه الزنجي غير هذا، وقد قال عنه ابن أبي حاتم: مسلم بن خالد الزنجي إمام في الفقه والعلم، وكان أبيض مشرباً بحمرة، وإنما لقلب بـ الزنجي لمحبته التمر، قالت جاريته له ذات يوم: ما أنت إلا زنجي، يعني: أنت تحب التمر فقط وليس لك في العمل، وهذه النسبة فيها نظر كبير، والعرب لا تعرف هذا الأسلوب في النسبة، والراجح ما قاله سويد بن سعيد فقد قال: سمي مسلم بن خالد الزنجي؛ لأنه كان شديد السواد، وهذا هو الراجح، وإلى الآن يقال للسود زنوج، وليس هذا من باب التنابز بالألقاب وإنما من باب التمييز، فهؤلاء السكان في هذه البقعة تغلب عليهم السمرة، وليس هذا قادحاً فيهم، بل ربما يقدح فينا؛ لأنه ليس لأبيض على أسود ولا لعجمي على عربي فضل إلا بالتقوى.(74/10)
بعض من غلب لقبه على اسمه من الرواة
وقد غلبت بعض الألقاب على جماعة من أهل العلم على أسمائهم، فاقتصر الناس على ذكر ألقابهم في الرواية عنهم، فمنهم غندر وهو محمد بن جعفر البصري، فلو قلت: حدثنا محمد بن جعفر لسئلت: من محمد بن جعفر؟ ولو ذكرت اسم جده وجد أبيه ونسبه، ولكن لو قلت: حدثنا غندر، لعرف أنه محمد بن جعفر خاصة إذا كان هذا اللقب يذكر في إسناد أهل البصرة؛ لأن الملقب بغندر كثير، ولكنه إذا جاء في إسناد أهل البصرة فإنما هو محمد بن جعفر، والذي لقبه بهذا ابن جريج المدني، وابن جريج كان مدلساً، فنزل البصرة ذات مرة، فحدث بأشياء عن الحسن البصري، ومعلوم أن غندر أعلم بحديث الحسن من ابن جريج؛ لأنه بلده، فكلاهما بصري، فلما حدث ابن جريج عن الحسن بكلام لا يعرفه غندر كان يقاطعه، ويقول: يا شيخ! من أين أتيت بهذا، خاصة وأن ابن جريج مدلس، فكان كلما تكلم بكلام لا يعرفه محمد بن جعفر شغب عليه وشوش عليه وقال: من أين أتيت بهذا؟ فقال ابن جريج: اسكت يا غندر! أي: يا مشاغب! فلقب به، وأهل المدينة يقولون للمشاغب: غندر.
ومنهم لوين وهو لقب، وهو محمد بن سليمان بن حبيب المصيصي، قال ابن جرير: إنما لقب المصيصي بـ لوين لأنه كان يبيع الدواب ببغداد، ويقول: هذا الفرس له لوين، هذا الفرس له قديد، فلما كثر قوله: هذا الفرس له لوين لقب بـ لوين.
ومنهم مشكدانة، ومنهم عارم، وعارم هو شديد البأس والطيش، ومنهم سعدويه، وهو سعيد بن سليمان الواسطي، قال أحمد بن يونس بن سنان الرقي: قدمت العراق في طلب العلم فصرت إلى البصرة، ثم صرت إلى بغداد، ثم صرت إلى أبي نعيم -وهو الفضل بن دكين شيخ البخاري - في الكوفة، فقال لي أبو نعيم: ممن أنت؟ قال: قلت: من أهل الرقة، قال: فقال لي: وفيم قدمت؟ قال: قدمت إلى العراق في طلب العلم، قال: فقال لي: وإلى أين صرت؟ قال: قلت له: إلى البصرة، قال: فمن محدث البصرة؟ قال: قلت له: مسدد بن مسرهد بن مسربل بن مغربل بن مرعبل بن أرندل بن فرندل بن عرندل الأسدي البصري، أبو الحسن الحافظ، وقد قال الحافظ ابن حجر: ليس هذا اسمه ألبتة، ولكنه من صنع الذين يتفكهون، وإنما هو معلوم بأنه: مسدد بن مسرهد الأسدي البصري أبو الحسن، وبقية الأسماء غريبة جداً قال أبو نعيم: لو كان في هذه النسبة بسم الله الرحمن الرحيم لكانت رقية العقرب! يعني: لو أضفت إلى هذا بسم الله الرحمن الرحيم، لظن القارئ لها أنها تنفع من لدغة العقرب، وهذا استبعاد لأن يكون مسدد هذا اسمه.
ثم قال لي: وإلى أين صرت؟ قال: إلى بغداد، قال: فمن محدث بغداد؟ قلت: سعدويه، قال: فمن قاضيهم؟ قلت: شعبويه -أي: الشعبي - قال: فمن قاصهم -أي: واعظهم-؟ قال: سيفويه.
قال: سبحان الله! ويحك وتمطرون مع هذا؟! أي: وينزل عليكم المطر من السماء مع هذا كله؟ وهذا فيه جواز ذكر الرجل بلقبه إن لم يعرف إلا به.
ومنهم صاعقة، وهو محدث كبير، واسمه محمد بن عبد الرحيم البغدادي أبو يحيى، قال الكرجي: سمي صاعقة؛ لأنه كان جيد الحفظ، وكان أستاذ ابن خراش، وابن خراش له مكان في العلم عظيم، وهذا كان أستاذه، ولقب بـ الصاعقة لأنه ما ناظر أحداً إلا وغلبه، كالإمام الشافعي قال عنه تلميذه الربيع: ما ناظر الشافعي أحداً إلا ورأيت أنه كالسبع يلتهمه.
ومنهم مطين وهو لقب، فإذا ذكر فقد علم أنه محمد بن عبد الله الحضرمي قال أبو نعيم الحافظ: بلغني عن أبي جعفر الحضرمي قال: كنت ألعب مع الصبيان في الطين، وقد تطينت -أي: أصابني الطين والوسخ- وأنا صبي لم أسمع الحديث -أي: ما زلت صغير- إذ مر بنا أبو نعيم الفضل بن دكين وكان بينه وبين أبي مودة وصحبة، فنظر إلي فقال: يا مطين! قد آن لك أن تحضر المجلس لسماع الحديث، ثم حملت إليه بعد ذلك بأيام، فإذا هو قد مات.
ومنهم نفطويه وهو أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرعرة النحوي إمام النحو، قال عنه الذهبي عليه رحمة الله في السير: العالم ال(74/11)
بعض من غلبت عليه كنيته من الرواة
وأما أصحاب الكنى من المحدثين فهم جماعة اكتفى الرواة عنهم بذكر كناهم، أو ألقابهم إذا كانوا معلومين بذلك، كـ أبي الزناد، وأبي مسهر، وأبي معاوية الضرير، وأبي النضر، وأبي الوليد، وأبي خيثمة، وهو زهير بن حرب، وغيرهم من الرواة.
فإذا ذكر أبو نعيم فإنما هو الفضل بن دكين في ذلك الزمان وفي ذلك العصر.(74/12)
مواقف تظهر فكاهة الفضل بن دكين
فقال الباغندي: سمعت أبا نعيم، وقال له رجل من الواسطيين: يا أبا نعيم! ما الاسم؟ فتهكم عليه أبو نعيم وقال له: إذا أتيت أمك فأقرئها مني السلام كثيراً، وأنا يا بني! واثلة بن الأسقع.
وواثلة بن الأسقع صحابي، فهو يتهكم عليه من وجهين، وقد كان أبو نعيم مشهوراً بالفكاهة والطرفة.
وكانت له حوادث مع المحدثين يطول ذكرها يثبت فيها أنه كان صاحب فكاهة، ومنها أنه كان يحب أن يجلس في مكان مرتفع، ولما قفل أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأحمد بن منصور الرمادي من صنعاء من عند عبد الرزاق الصنعاني مروا على الفضل بن دكين، وكان يحيى بن معين فيه اختبار وامتحان للرواة؛ خشية أن يكونوا قد اختلطوا وتأثروا بعوارض الزمان، فقال يحيى بن معين لـ أحمد: تعال نختبر الفضل بن دكين أبو نعيم، قال له: هو ثبت ثقة، قال: لابد لي من ذلك، فلما لم يجد أحمد بد مشى معه، وكان الإمام أحمد مؤدباً بشدة عليه رحمة الله، وقد ترجم له ابن الجوزي في مجلد كبير جداً، وله ترجمة عظيمة جداً في سير أعلام النبلاء والتاريخ الكبير.
فعمد يحيى بن معين إلى ثلاثين حديثاً من أحاديث أبي نعيم الفضل بن دكين وخالف في أسانيدهم من الأول إلى التاسع وأقام العاشر صحيحاً، ثم من الحادي عشر إلى التاسع عشر وأقام العشرين، وكذا فعل في رقم ثلاثين، وأعطى الورقة لـ أحمد بن منصور الرمادي، من أجل أن يكون بعيداً عن التهمة، ولكن هذا لم يخف على أبي نعيم، فلما جلس الثلاثة أمامه قرأ عليه الورقة، فقرأ الأول والثاني وعينا الفضل بن دكين شاخصة بشدة وقال: ليس هذا من حديثي فلما قرأ العاشر قال: أثبت هذا فإنه من حديثي، وكذا فعل في العشرين والثلاثين، ثم نظر إلى أحمد! وقال: أما أنت يا أحمد! فآدب من أن تفعل ذلك، أي: أدبك يمنعك، وأما أنت يا أحمد بن منصور! فأقل من ذلك -أي: لا تستطيع أن تعمل هذا- وأما أنت فأنت هو يا يحيى بن معين! ورفسه رفسة انقلب منها ثلاث مرات ولو أن شيخاً رفس أحدنا الآن وقال له: لماذا لم تحضر الدرس لقال: إن جئت فلنفسي وإن لم آت فلنفسي أيضاً.
فقام يحيى بن معين وقبله بين عينيه، وقال: والله لهذه الرفسة أحب إلي من سفرتي.
يقول زكريا بن يحيى المدائني: قال رجل لـ أبي نعيم الفضل بن دكين: يا أبا نعيم! أشتهي أن أكتب اسمك من فيك، فقال: واثلة بن الأسقع، قال علي بن القاسم: فحدثني شيخ من أصحابنا قال: رأيت شيخاً خراسانياً بمكة يحدث يقول: أخبرنا واثلة بن الأسقع، وبينه وبين واثلة بن الأسقع أربع طبقات، يقول الراوي لما سمع هذا: فعلمت أن مزاح الفضل بن دكين دخل على هذا الرجل ولم ينتبه له.(74/13)
أدب طالب العلم في سؤاله شيخه عن اسمه
وهناك أدب ينبغي أن يسلكه الطالب إذا أراد أن يعرف اسم شيخه، وهو ما حدث مع إسحاق بن إبراهيم الموصلي، قال: جلس إلي مدني ذات مرة فحدثته، فلما أراد الانصراف قال لي: أحب المعرفة، وأجلك عن المسألة عن اسمك، قال: أنا إسحاق بن إبراهيم الموصلي، فانظر إلى الأدب والتلطف، وقد قال إبراهيم عليه السلام عندما أتته الملائكة: {قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:27]، وهذا فيه أدب وتلطف وليس مثل قوله: (كل)، وإن كانت (كل) أيضاً ثابتة في حديث أبي بكر الصديق، ولكن أفضل منها كلام إبراهيم الخليل، {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:27].
ففيها مودة وتلطف ورفع لشأن الضيف وإكرام، فلو أنكم أكلتم عندي فستكرموني بذلك.
وقال أبو العيناء محمد بن القاسم: أتيت أبا الهذيل في أول يوم لقيته فتكلمت، فقال: أبو من لا عدمت كانياً، أي: لا عدمت مكنى، فخبرته، فقال لي: في المسألة عن الاسم بشاعة، يعني: لا أحب أن أقول: ما اسمك؟ ولكني إذا أردت أن أتعرف عليك أقول: أبو من أنت؟(74/14)
بعض من نسب من الرواة إلى أمهاتهم وحكم ذلك
وإذا كان الراوي معروفاً باسم أمه وهو الغالب عليه جاز نسبته إلى أمه، مثل ابن بحينة، وهو عبد الله بن مالك وبحينة أمه، ولكنه مشهور ومعروف بنسبته لأمه، وكذلك عبد الله بن أم مكتوم، وقيل: هو عمرو بن أم مكتوم، وأم مكتوم أمه، فهو معروف بنسبته إليها، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يناديه بذلك، فدل ذلك على جواز أن يلقب الرجل بلقب وأن ينسب بنسبة لتمييزه، وهي وإن كانت في أصلها منقصة إلا أنه إذا كان الحامل عليها التمييز وبيان المصلحة فهذا أمر جائز.
وكذلك يعلى بن منية ومنية هي جدته أم أبيه.
ومعاذ بن عفراء هو معاذ بن الحارث، وعفراء أمه.
وبشير بن الخصاصية، والخصاصية أمه، وهو بشير بن معبد بن شراحيل السدوسي.
وشرحبيل بن حسنة، وحسنة أمه، وهو شرحبيل بن عبيد الله بن المطاع.
وهؤلاء المذكورون كلهم من الصحابة، ومن بعدهم منصور بن صفية، وهو منصور بن عبد الرحمن الحدبي، وصفية أمه، وكذلك إسماعيل بن علية، وعلية أمه، وغيرهم.
وقد قال الإمام أحمد بن حنبل لـ يحيى بن معين: يا أبا زكريا! بلغني أنك تقول: أخبرنا إسماعيل بن علية؟ فقال يحيى: نعم هكذا أقول، قال أحمد: فلا تقله، وقل: إسماعيل بن إبراهيم، فإنه بلغني أنه كان يكره أن ينسب إلى أمه.
فقال يحيى لـ أحمد بن حنبل: قد قبلنا منك يا معلم الخير.
وقد كان الإمام يحيى بن معين أكثر تقدماً وتفنناً من أحمد في علم الرجال، وأحمد أكثر تفنناً منه في جمع الروايات، وكلاهما كان إمام زمانه، وكانوا أقراناً، وكان أحمد أكبر سناً من يحيى بن معين، حتى استنكر عبد الله ابن الإمام أحمد تبجيل أبيه لـ يحيى بن معين ذات مرة، وقد كان أحمد يقيم الليل كله، فإذا زاره يحيى بن معين ترك أحمد قيام الليل، وأقبل على يحيى وهو نائم على ظهره رافع قدميه على الحائط ويجلس عند رأسه ويقول له الإمام أحمد: ما يقول الإمام في فلان؟ ما يقول الإمام في فلان بن فلان؟ وهو أصغر منه، ولكن هذا علم، فقال له عبد الله: يا أبت! إنك تترك قيام الليل إذا زارنا هذا فلم؟ قال: يا بني! إن قيام الليل يدرك بعد، وأما فوات الفائدة من هذا فلا تدرك.
وهذا هو الأدب والتواضع في طلب العلم، فقد كان يطلب العلم ممن هو أصغر منه، ولا يرى بذلك بأساً، وقد ذكر أهل الحديث وعلماء المصطلح باباً يسمى رواية الأكابر عن الأصاغر، والآباء عن الأبناء، وهذا ليس بعيب، والعلم رزق كالطعام والشراب، فقد يجده عند من هو أعلى منه أو من هو مثله أو من هو دونه.(74/15)
حكم تعريف المحدث بصفة نقص
وأما تعريف المحدث بصفات من صفات النقص كالعمى والبرص والعور ونحوها من الآفات فهو جائز إن لم يكن منه بد، ولم يختلف العلماء أنه يجوز ذكر الشيخ وتعريفه بصفته التي ليست نقصاً في خلقته كالطول، فالطول ليس صفة نقص، بل صفة كمال، فيقال في المثل: الطول هيبة وإن كان خيبة، وكذلك الحمرة والصفرة وغيرها، فهناك من يلقب حميد الطويل وإسحاق بن يوسف الأزرق، وحسين بن الحسن الأشقر، وجعفر بن زياد الأحمر، ومروان الأصفر وغير ذلك، وكلها ألوان، ولكنها ألوان جيدة.
وكذلك يجوز وصفه بالعرج والقصر والعمى والعور والعمش والحول والاقعاد والشلل.
وممن ذكر بذلك في الرواية عنه: عمران القصير، وأبو معاوية الضرير، وهارون بن موسى الأعور، وسليمان الأعمش الكوفي، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وعاصم الأحول، وأبو معمر المقعد، ومنصور بن عبد الرحمن الأشل.
ولم يعترض أحد على مناداتهم وذكرهم بهذه الألقاب التي هي ألقاب نقص إذا كان المقصود بها التمييز.
قال وكيع: سمعت الأعمش الذي هو سليمان بن مهران يقول: أنا أعمش، وإبراهيم أعور، وعلقمة أعرج، والمغيرة أعمى، ومسروق مفلوج، والقاضي شريح سنوط، وسنوط: لا لحية له.
وقال إسرائيل بن زياد: كان سعيد بن أبي عروبة إذا لقيني ومعي ألواح، يقول: ما تريد؟ قلت: أكتب الحديث، قال: اكتب أخبرنا الأعرج عن الأعمى عن الأعرج عن الأعمى، أي: سعيد بن أبي عروبة الأعرج عن قتادة الأعمى عن أبي حسان الأعرج عن ابن عباس الأعمى، وابن عباس رضي الله عنهما كف بصره في آخر حياته.
وعن حفص بن عبد الرحمن قال: قال سعيد بن أبي عروبة: إذا حدثت عني فقل: حدثني سعيد الأعرج، فهو هنا راض بتلقيبه بهذا اللقب، وإذا كان راضياً فلا إشكال، وإذا لم يكن راضياً فقد ذهب جماهير المحدثين إلى جواز ذكره على جهة التمييز، وأما على سبيل الذم فحرام، وهو من باب التنابز بالألقاب.
قال: إذا حدثت عني فقل: حدثني سعيد الأعرج عن قتادة الأعمى عن حسن الأحدب.
وقال عارم: أخبرنا ثابت بن يزيد أبو زيد الأحول أخبرنا عاصم الأحول، ثم تبسم وضحك، فقيل له: ما يضحكك، قال: أنا أحول، وثابت أحول، وعاصم أحول، فاجتمعنا الثلاثة في الحول، وهذا أيضاً فيه رضاه بإطلاق اللقب.
وعن عبدة بن سليمان قال: سمعت ابن المبارك وسئل عن فلان القصير وفلان الأعرج وفلان الأصفر وحميد الطويل، قال: إذا أراد صفته ولم يرد عيبه فلا بأس، أي: إذا أراد أن يميزه ولم يرد أن يعيبه بذكر هذا الوصف فلا بأس بذلك.
فباب الألقاب باب واسع ينبغي التعرض له وذكره.
وقد صنف فيه كثير من أهل العلم بلغوا خمسة، وأحسن من صنف فيهم هو الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله، فقد صنف نزهة الألباب في الألقاب، وهو مجلدان، وقد طبع الكتاب منذ أعوام قلائل.(74/16)
معنى حرف (ح) في أسانيد صحيح مسلم
قال: [حدثني أبو خيثمة زهير بن حرب حدثنا وكيع -وهو ابن الجراح - عن كهمس عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر].
ثم رسم حرف الحاء.
وحرف الحاء يدل على تحويل الإسناد؛ ليبدأ المصنف إسناداً جديداً، أو أن حرف الحاء يعني لفظة الحديث، كما تقول: إلخ، أو تقول: قال الله تعالى وتذكر صدر الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3] الآية، ثم تضع نقاطاً وتقفل القوس، وتقول بعد القوس: الآية، يعني: الآية بتمامها.
فالحاء إما أن تفيد تحويل الإسناد وهو الراجح، وإما أن تفيد ذكر بقية الحديث، والفائدة الثالثة لمعنى الحاء هي ما قاله بعض أهل العلم: إنما هي بالخاء المعجمة وليس بالحاء المهملة، ومعناها: آخر الحديث، فيكون لفظة حاء هنا تفيد أي: إلى آخر الحديث كأنك تقول: إلخ.
هذه ثلاثة تعريفات لحرف الحاء، ليبدأ إسناد جديد للإمام مسلم.
قال فيه: [وحدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري].(74/17)
الفرق بين حدثني وحدثنا عند مسلم
لو نظرت إلى الإسناد الأول والإسناد الثاني لـ مسلم في هذا الحديث لوجدت أن شيخه الأول زهير بن حرب، وشيخه الثاني هو عبيد الله بن معاذ العنبري، ولكنه لم يرو الحديث عنهما بصيغة واحدة، وإنما رواه عن الأول بقوله: حدثني زهير، ورواه عن الثاني بقوله: حدثنا عبيد الله، والإمام مسلم عليه رحمة الله امتاز عن الإمام البخاري بالدقة والتحري في الألفاظ والأداء والرواية، كقوله حدثنا وأخبرنا وأنبأنا، والتمييز بين اختلاف الروايات بعضها عن بعض في الإسناد الواحد.
فقوله: حدثني يفيد عند علماء أصول الحديث أنه سمعه من لفظ الشيخ على حدة، يعني: حدثني وحدي، وإذا كان الراوي يحدث على ملأ من الناس وملأ ومن الطلبة، وأراد الطالب الذي سمع عنه في هذا المجلس أن يحدث عنه فيقول: حدثنا، واللغة تشهد بهذا، فحدثني يعني: على انفراد، وحدثنا يعني: في جماعة.
وقد اختلف العلماء أيهما أقوى: حدثني أو حدثنا؟ فبعضهم قال: حدثني أقوى، وبعضهم قال: حدثنا أقوى، والذين قالوا: حدثني أقوى.
حجتهم أن حدثني كلفظ سمعت من الشيخ، أي: أن هذا سماع من لفظ الشيخ مباشرة بدون واسطة، ثم إن القائل والمتحدث هو الشيخ وليس غيره، وأما لفظ حدثنا فممكن أن يكون من غير لفظ الشيخ؛ لأنه لم يكن هناك مكبرات صوت في ذلك الزمان، وكان يحضر مجلس التحديث آلاف الطلبة، وكان هناك مبلغون، وربما بلغ عدد المبلغين في المجلس الواحد عشرين أو أكثر، فإذا قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي فقد لا يكون عبد الرحمن بن مهدي هو الذي حدثه، وإنما سمعه من لفظ المبلغ، وربما يقع التصحيف أو التحريف في لفظ المبلغ، فيكون لفظ حدثني أقوى من لفظ حدثنا.
ولو قال الراوي: حدثني، فيما ينبغي أن يقول فيه: حدثنا لكان هذا قادحاً في عدالته ونقله.
ولفظ حدثني لابد فيه من سماع لفظ الشيخ، وأما لفظ حدثنا فلا يشترط فيه ذلك.
ولذلك استخدم بعض أهل العلم لفظة حدثنا في الإجازة، كما استخدموها في العرض على الشيخ، وهذا أيضاً أحد صور التحمل؛ فبدلاً من أن يأتي الشيخ بنسخته والطلبة يكتبون، يقرأ أحدهم على الشيخ والطلبة يسمعون، فإذا سكت الشيخ فهذا يعني أنه راض ومقر بما يقرؤه هذا الطالب، فيجوز للذي سمع أن يقول: حدثنا الشيخ، فيستخدمون لفظ حدثنا في العرض على الشيخ، وأما لفظ حدثني فلا يستخدم أبداً إلا في السماع من لفظ الشيخ.
فحدثني وسمعت أقوى من حدثنا وسمعنا، هذا الرأي الراجح.
ومن الأدلة على ذلك أيضاً: أنه يمكن أن ينام الشيخ أثناء العرض عليه.(74/18)
شرح صحيح مسلم - كتاب الإيمان - بيان أن القدر من أركان الإيمان - ترجمة وكيع بن الجراح
وكيع بن الجراح أحد العلماء الأثبات الثقات، وقد أثنى عليه العلماء وعدلوه، وقد كان من الحفاظ الكبار، جامعاً للعلم والورع والعبادة والزهد، ولم يتلطخ بوظائف السلطان وأعماله.
فرحمه الله تعالى.(75/1)
ترجمة وكيع بن الجراح
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
قال المصنف رحمه الله: [حدثني أبو خيثمة زهير بن حرب حدثنا وكيع]، وهو وكيع بن الجراح بن مليح البهرامي الرؤاسي، أبو سفيان الكوفي الحافظ، روى عن الأئمة، وروى عنه أئمة.(75/2)
علم وكيع بن الجراح
قال عبد الله ابن الإمام أحمد عن أبيه: ما رأيت أوعى للعلم من وكيع بن الجراح، ولا أحفظ له منه.
وهذا الكلام له قيمته ووزنه، خاصة إذا صدر من مثل أحمد بن حنبل، مع كثرة شيوخ الإمام أحمد عليه رحمة الله، فهو له من الشيوخ الأجلاء الكثير والكثير، ولكنه يقول: ما رأت عيناي مثل وكيع بن الجراح.
وقال: كان مطبوعاً على الحفظ، يعني: كان مجبولاً على الحفظ، إذا سمع شيئاً ولو مرة واحدة حفظه.
قال: وكان وكيع حافظاً حافظاً، وكان أحفظ من عبد الرحمن بن مهدي كثيراً كثيراً.
ولو عرفنا مناقب وترجمة عبد الرحمن بن مهدي لعلمنا قدر وكيع، فإن عبد الرحمن بن مهدي كان عظيم القدر عالي الكعب في هذا العلم، وكان وكيع أعظم منه وأكثر حفظاً وضبطاً، وإن كان يقع في الخطأ أحياناً، وقد قيل له: إنك حدثت بألف وخمسمائة فأخطأت في ثلاثة أحاديث، فقال: وهل يعد هذا خطأ!(75/3)
موقف وكيع من السلطان
وقال أحمد: وكيع لم يتلطخ بالسلطان، وفي الحديث الحسن: (من اقترب من السلطان افتتن).
فـ وكيع عليه رحمة الله لم يتقرب ولم يتزلف إلى سلاطين زمانه ألبتة.
وما رأيت أحداً أوعى للعلم منه، ولا أشبه بأهل النسك منه، يعني: كان يجمع إلى العلم الورع والعبادة والزهادة والحفظ والإتقان وغير ذلك.
وكان وكيع يحفظ ألف ألف حديث، أي: مليون حديث.
ويقول: قد عرض على وكيع أن يعمل قاضياً للكوفة فامتنع وفر منه.
وكان كثير من علماء السلف يهربون من هذه المناصب رغم أنها مناصب شرعية، إلا أنهم كانوا يفرون منها فرارهم من الأسد، وكانوا يفرون من هذه المناصب بقدر إقبالنا عليها الآن، وحرصنا على أن نحوز منها نصيباً ولو كان تافهاً أو بسيطاً أو حقيراً.
وقد روي أن الوالي أرسل إلى سفيان الثوري فأتاه، فقال: يا سفيان! تول القضاء، فجعل سفيان الثوري نفسه معتوهاً لا يعرف أي شيء، وفتح فمه، فصدق ذلك السلطان وقال: هذا لا ينفع أن يكون قاضياً وهو بهذا الشكل، فقالوا: يا سلطان! إنه يفعل هذا لأجل أن يفر منه، فعندما تنبه السلطان قال: يا سفيان! إنك لن تلعب علينا، وإنك ستتولى القضاء، فلما لم يجد سفيان بداً من الحيلة احتال مرة أخرى، فقال له: يا سفيان! عدني أنك تعود مرة أخرى، فوعده، ثم لما خرج من عنده عاد في نفس الوقت؛ لأنه ترك نعله هناك، فرجع وأخذ النعل ومشى، فبعض الحاضرين أدرك المسألة فقال: يا سلطان! هذا لن يرجع إليك، فإنه قد رجع كما وعد، فأخذ نعله وانصرف.
فكان السلف يهربون من هذه المناصب، وأما نحن الضعفاء المساكين فنقبل عليها إقبال الجريء الغبي الجاهل، ووكيع عرض عليه القضاء فلم يقبله أبداً.(75/4)
ثناء العلماء على وكيع وتوثيقهم له
قال أحمد: ما رأيت رجلاً قط مثل وكيع في العلم والحفظ والإسناد والأبواب مع خشوع وورع، وكان يذاكر في الفقه فيحسن، ولا يتكلم في أحد، يعني: إذا ذاكر في الفقه كان فقيهاً يحسن أن يتكلم في الفقه، ولكنه كان لا يتكلم في أحد.
وعن أحمد قال: كان وكيع إمام المسلمين في وقته.
وعنه قال: عليكم بمصنفات وكيع.
وأعظم ما كتب كتاب الزهد، وهذا الكتاب يعتبر أصلاً في هذا الباب، فهو أصل لمن كتب في الزهد والورع ممن أتى بعده.
وقال ابن معين: الثبت بالعراق وكيع.
ويحيى بن معين من المتشددين جداً في أمر الرجال، وإذا وثق المتشدد راوياً فعض عليه بالنواجذ، وإذا جرح فانظر هل وافقه أحد أو انفرد به؛ وهل هو عنده حجة أو ليس بحجة؟ فـ يحيى بن معين على تشدده وتعنته في التوثيق يقول: الثبت بالعراق وكيع، وكأنه يقول: ليس هناك من هو أثبت ولا أوثق في العراق من وكيع.
وقال ابن معين أيضاً: ما رأيت أفضل من وكيع، قيل له: فـ ابن المبارك؟ يعني: ما رأيك في ابن المبارك؟ قال: قد كان له فضل، ولكن ما رأيت أفضل من وكيع، كان يستقبل القبلة ويحفظ حديثه ويقوم الليل ويسرد الصوم سرداً ويفتي بقول أبي حنيفة، ووالله ما رأيت أحداً يحدث لله تعالى غير وكيع، يعني: ما رأيت أحداً يحدث بإخلاص لله تعالى دون أن يصبو إلى غرض من أغراض الدنيا، وما رأيت أحفظ منه، ووكيع في زمانه كـ الأوزاعي في زمانه.
وعن ابن معين قال: ما رأيت رجلاً يحدث لله تعالى إلا وكيعاً والقعنبي.
وعن ابن معين قال: ما رأيت أحفظ من وكيع، قيل له: ولا هشيم؟ قال: وأين يقع؟ أي: وأين يقع هشيم من وكيع، يعني: إذا قرن به فلا يساوي شيئاً.
وقال أبو نعيم الفضل بن دكين -وهو إمام جليل-: مادام هذا التنين حياً فلن يفلح أحد، أي: مادام وكيع حياً يرزق ويدرس وله حلقة فلن يفلح أحد من المحدثين.
ولم ينصب وكيع حلقة للعلم إلا وأثرت على باقي حلقات أهل زمانه.
وقال أحمد بن سيار عن صالح بن سفيان: قدم وكيع مكة فانجفل الناس إليه، أي: أتوا أفواجاً ودفعات، وحج تلك السنة غير واحد من العلماء، وكان ممن قدم عبد الرزاق الصنعاني، فقد أتى من اليمن ليحج، فلما وصل إلى الكعبة لم يجد أحداً سأل عنه، ولم يلتف حوله أحد من طلبة العلم، فأثر ذلك في نفسه، فلما رجع إلى بيته وحدث بأن وكيعاً في الحرم قال: هذا هو، أي: هذا الذي منع عني الطلاب والتلاميذ.
قال: فخرج عبد الرزاق ونظر إلى مجلسه فلم ير أحداً فاغتم، ثم خرج فلقي رجلاً فقال: ما للناس؟ قال: قدم وكيع، قال: فحمد الله تعالى، وقال: ظننت أن الناس تركوا حديثي، أي: أنه ظن أن الناس لهم موقف من حديثه، ولكنهم لما قارنوه بـ وكيع قدموا وكيعاً، فعرف عبد الرزاق بيت القصيد، وأن الذي صرف الناس عنه إنما هو مجلس وكيع.
قال: وأما أبو أسامة فخرج فلم ير أحداً، فقال: أين الناس؟ فقالوا: قدم أبو سفيان، فقال: هذا التنين لا يقع في مكان إلا أحرق ما حوله، يعني: إذا نزل وكيع في مكان كان كالنار التي تحرق ما حولها.
وقال أبو هشام الرفاعي: دخلت المسجد الحرام فإذا عبيد الله بن موسى يحدث والناس حوله كثير، قال: فطفت أسبوعاً، ثم جئت فإذا عبيد الله قاعد وحده، فقلت: ما هذا؟ قالوا: قدم التنين فأخذهم، أي: وكيع بن الجراح.
وقال علي بن خشرم: رأيت وكيعاً وما رأيت بيده كتاباً قط، إنما هو يحفظ، فسألته عن دواء الحفظ، فقال: ترك المعاصي، ما جربت مثله للحفظ.
وقال هارون الحمال: ما رأيت أخشع من وكيع.
وقال سعيد بن منصور: قدم وكيع مكة فقال له فضيل: ما هذا السمن؟ -يعني: ما لك ضخم يا وكيع! - وأنت راهب العراق؟ ومعلوم أن الراهب قليل الطعام، أي: أن هذا لا يستقيم مع ضخامة حجم وكيع، فقال له وكيع: هذا من فرحي بالإسلام.
فليس كل سمن دال على أن صاحبه أكول، بل منه ما هو بسبب الأكل ومنه ما هو بسبب السرور، ومنهم من إذا غضب أو مرض نقص وزنه، فليس لازماً أن كل من سمن أن ذلك مصدره كثرة الطعام.
وقال(75/5)
طلب وكيع للحديث عند الأعمش
وقال أبو داود: كان الجراح بن مليح على بيت المال، فكان إذا روى عنه قرنه بآخر، يعني: أن وكيعاً كان إذا روى عن أبيه جعل له قريناً من أجل أن يمشي حديثه؛ لأن أباه لم يكن في مرتبة الحفظ والإتقان، فلم يكن يستحل أن يروي عن أبيه وحده.
كان الجراح بن مليح الرؤاسي أميراً على بيت مال المسلمين في الكوفة، وكان له مع الأعمش سليمان بن مهران الكوفي موقف في غاية الطرافة والفكاهة، فـ الأعمش كان معروفاً عنه أنه شحيح الرواية، وقد جاءه قوم وقالوا له: يا إمام! حدثنا بعشرة أحاديث، قال: ولا بخمسة، قالوا: حدثنا بخمسة، قال: ولا باثنين، قالوا: حدثنا باثنين، قال: ولا بواحد، قالوا: حدثنا بحديث واحد، قال: ولا بنصف، قالوا: حدثنا بنصف حديث، قال: اختاروا إن شئتم حدثتكم سنداً أو حدثتكم متناً، يعني: إما أن أقول لكم: حدثني فلان عن فلان عن النبي عليه الصلاة والسلام ثم أتوقف، فإن وضعتم له متناً كنتم كذابين، وإما أن أحدثكم بالمتن فقط، فإن وضعتم له إسناداً كنتم كذلك كذابين.
فقد كان شحيح الرواية جداً، وكان قائماً على تربية تلاميذه وطلابه.
فأرسل الجراح بن مليح ابنه وكيعاً وهو حدث صغير السن إلى الأعمش، وقال له: اذهب إلى الأعمش فقل له: إن أبي أرسلني إليك لتحدثني، فذهب وكيع وهو لا يعلم من هو الأعمش، وقد كان الأعمش يصرف له راتبه من بيت المال، وكان الذي يصرف له هذا المال أبو وكيع، فأخر الجراح راتب الأعمش حتى يحدث وكيعاً، فلما أتى وكيع إلى الأعمش قال له: ما اسمك يا غلام؟! قال: وكيع، قال: اسم نبيل ما أحسب إلا سيكون لك نبأ، أين تنزل من الكوفة؟ قلت: في بني رؤاس، قال: أين من منزل الجراح بن مليح؟ قال: قلت: ذاك أبي -وكان على بيت المال- قال: فقال لي: اذهب فجئني بعطائي وتعال حتى أحدثك بخمسة أحاديث، قال: فجئت إلى أبي فأخبرته، فقال: خذ نصف العطاء فاذهب به، فإذا حدثك بالخمسة فخذ النصف الآخر فاذهب به حتى يكون عشرة، قال: فأتيته بنصف عطائه، فأخذه فوضعه في كفه، وقال: هكذا، ثم سكت، فقلت: حدثني، قال: اكتب، فأملى علي حديثين، قال: قلت: وعدتني خمسة، قال: فأين الدراهم كلها؟ أحسب أن أباك أمرك بهذا، ولم يعلم أن الأعمش مدرب، وهو معتاد على مثل هذا.(75/6)
ترجمة كهمس بن الحسن البصري
قال: [عن كهمس].
وكهمس هو ابن الحسن البصري.
وهذا الإسناد فيه لطيفة جميلة، وهو أن سنده عراقي، يدور بين الكوفة والبصرة.
وكهمس هو ابن الحسن البصري وثقه غير واحد من أهل العلم، وسئل عنه أحمد بن حنبل: أثقة هو؟ قال: نعم وزيادة، يعني: وزيادة على كونه ثقة.(75/7)
ترجمة عبد الله بن بريدة
قال: [عن عبد الله بن بريدة].
وبريدة هو بريدة بن الحصيب الصحابي رضي الله تبارك وتعالى عنه، وكان له ولدان يرويان عنه، عبد الله وسليمان، وكان أحمد بن حنبل يقدم سليمان على عبد الله، وكان أحفظ وأتقن منه، وإن كان التوثيق يشمل الاثنين.(75/8)
ترجمة يحيى بن يعمر البصري
قال: [عن يحيى بن يعمر البصري].
ويحيى بن يعمر له مزية وفضل على كل من أتى بعده؛ وذلك أنه هو الذي نقط المصحف، وقد كان لغوياً بليغاً أديباً محدثاً حافظاً ثقة، وكلام أهل العلم فيه كثير جداً.
ويحيى بن يعمر أخذ النحو واللغة عن شيخ النحو واللغة أبي الأسود الدؤلي، وقيل: إن الذي نقط المصحف هو أبو الأسود نفسه، والصحيح أنه يحيى بن يعمر، ونقطه بأمر أبي الأسود الدؤلي، والعمل ينسب للفاعل والآمر، كما يقال: انتصر فلان في غزوة كذا، وربما أن فلاناً هذا لم يمارس أو يعان أي جهد في المعركة، وإنما جنوده هم الذين عانوا الحرب وانتصروا، فنسب النصر إليه؛ لأنه المسئول عن ذلك أو الآمر بذلك، فـ أبو الأسود الدؤلي هو الذي أمر يحيى بن يعمر بنقط المصحف وتشكيله، والمخطوطات القديمة إنما هي خطوط وحروف فقط، وليس فوقها ولا تحتها ولا فيها نقط ولا حركات، فالشدة والفتحة والكسرة والضمة والسكون وغير ذلك لم يكن في عهد السلف، والكلمة في المخطوطات تقرأ على عدة أوجه، وقد أوقع هذا كثيراً من الناس في التصحيف، سواء في القرآن أو في الحديث.
فـ يحيى بن يعمر له الفضل والمنة بعد الله عز وجل على كل من أتى بعده؛ لأنه هو الذي أقام وصحح القراءة بنقطه وضبطه وتشكيله لكتاب الله عز وجل، وكان لغوياً بليغاً، وكان آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، وكان يعيش في زمن الحجاج بن يوسف الثقفي عليه من الله تعالى ما يستحق؛ فهو الذي آذى الصحابة وقتل التابعين، ويكفيه عاراً وشناراً أنه قتل سعيد بن جبير وآذى أنس بن مالك وابن عباس وابن عمر، رضوان الله تبارك وتعالى عليهم جميعاً.(75/9)
بين الحجاج ويحيى بن يعمر
أقبل الحجاج بن يوسف على يحيى بن يعمر بوجهه، وقال: يا يحيى! أتراني ألحن؟ يعني: أخطئ إذا تكلمت؟ قال: الأمير أجل من ذلك، أي: الأمير أجل من أن يلحن ويخطئ، فقال: عزمت عليك إلا أخبرتني، فقال: نعم تلحن، وعزائم الملوك كانت محل احترام عند السلف، قال: في أي شيء؟ قال: في كتاب الله تلحن.
والحجاج ليس له حسنة إلا أنه كان يكرم القراء ويحب القرآن، فقال: في كتاب الله؟ قال: نعم، قال: ائتني، قال: إنك تقول: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم) إلى (أحبُّ إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله)، وهي: أحبَّ، فقال: نعم، لقد أثبت لي أني ألحن، ثم قال: يا يحيى! والله لن تسمعني بعد ذلك ألحن، فاستبشر يحيى بن يعمر خيراً وقال: سيتعلم اللغة أو شيئاً من العلم من أجل ألا يلحن، فإذا به ينفيه إلى مرو، فاستقبله قتيبة بن مسلم وجعله قاضياً على مرو.
ثم أرسل الحجاج يزيد بن المهلب على رأس سرية إلى نيسابور ليقاتل هناك، فلما دارت المعركة قال الحجاج لـ يزيد: وافني بأخبار المعركة أولاً بأول، وكان يزيد بن المهلب جواداً سخياً، وهذا مشهور من سيرته، حتى قيل: إنه ذهب ليحج، وفي يوم النحر أعطى الحلاق الذي حلق رأسه ألف دينار، فقال الحلاق: والله لن أحلق لأحد بعدك، فقال: أعطوه ألفاً أخرى، قال: أذهب فأبشر أمي، قال: أعطوه ألفين، فأصبحت أربعة آلاف، فقال: امرأتي طالق إن حلقت لأحد بعدك، وكانت لغته ليست فصيحة، فلما وصف المعركة للحجاج كتب له أخبار المعركة كلها، وقال: والعدو في عرعرة من الجبل ونحن في الحضيض.
فلما قرأ الحجاج قوله: عرعرة تساءل من أين أتى بهذا الكلام؟ فـ يزيد معروف أنه لا يعرف شيئاً، فمن أين أتى بهذه الكلمة؟ فلما سأل، قالوا: إن يحيى بن يعمر هناك، فقال: هذا هو، يعني: أنه أتى بهذا الكلام من عند يحيى بن يعمر؛ لأنه كان بليغاً، ويحيى بن يعمر أخذ اللغة عن أستاذها وعن مصدرها أبي الأسود الدؤلي.(75/10)
أمثلة من تصحيفات القراء
فـ يحيى بن يعمر له الفضل علينا جميعاً، فإذا قرأنا القرآن عرفنا النون من الباء ومن التاء ومن الثاء، وعرفنا الجيم من الحاء ومن الخاء، وعرفنا ننطق حروف القرآن كلها، وهذا أمر غلط فيه كثير من الناس في الأزمنة المتقدمة، حتى قيل: إن أحد الناس قرأ أمام أبيه القرآن فقال: الم ذلك الكتاب لا زيت فيه، فقال له: يا بني! على من قرأت؟ قال: لم أقرأ عند أحد، لقد قرأت واجتهدت، فقال له: دع الكتاب واذهب إلى الكُتَّاب، فأنت ليس لك أن تقرأ، ولذلك كان العلم عند السلف يؤخذ عن طريق التلقي، ولا يقرأ الشخص وحده من الكتاب إلا إذا لم يكن له باب إلا هذا، كأن يفقد الشيخ والمعلم، وأما إذا وجد الشيخ فكان يحرص على أن يبرك عند ركبه ويتعلم منه.
وقد ذكر الحافظ البغدادي طرفاً من أخبار المصحفين في كتاب الله وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: عن أبي العباس بن عمار الكاتب: انصرفت من مجلس عبد الله بن عمر بن أبان القرشي المعروف بـ مشكدانة، قال: فمررت بـ محمد بن عباد بن موسى الذي هو سندولا، فقال: من أين أقبلت؟ قلت: من عند أبي عبد الرحمن مشكدانة، فقال: ذاك الذي يصحف على جبريل عليه السلام؟ يريد قراءته: ولا يغوث ويعوق وبشراً؛ لأن نسراً وبشراً لو حذفت النقاط من فوقها وتحتها فستنطق بشراً وتنطق نسراً.
وهذا هو التصحيف.
فالتصحيف هو بقاء الكلمة كما هي في الحروف، ولكن النقط يختلف، بخلاف التحريف.
قال الحسن بن الحباب المقرئي: إن عبد الله بن عمر بن أبان مشكدانة قرأ عليهم في التفسير: ولا يغوث ويعوق وبشراً، فقيل له: إنما هو: {وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23].
فقال: هي منقوطة بثلاثة من فوق، فقيل له: النقط غلط، فقال: إذاً أرجع إلى الأصل الذي معي، لأرى وأراجع نفسي مرة أخرى، وهذا لا شك أنه كلام خرج مخرج الجهل بكتاب الله.
وقال محمد بن جرير الطبري: قرأ علينا محمد بن حميد الرازي وهو ضعيف جداً في الرواية فضلاً عن القرآن الكريم، فقال: وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يجرحوك، وهي في القرآن: {أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال:30].
فحذف النقطة من فوق ووضعها تحت فقال: أو يجرحوك.
وقرأ الباغندي قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان:63]، قرأها: هوياً.
ولم يحك عن أحد من المحدثين أنه صحف أكثر مما حكي عن عثمان بن أبي شيبة، وعثمان بن أبي شيبة هو أخو عبد الله المعروف بـ أبي بكر بن أبي شيبة صاحب المصنف.
وقيل: إنه لم يكن حفظ القرآن، وكانت هذه سبة في حقه.
قال السبري: سمعت عثمان بن أبي شيبة يقرأ: فإن لم يصبها وابل فظل، وقرأ مرة: الخوارج مكلبين، وهي {الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة:4]، وقرأ مرة: وإذا بطاسيم طاسيم خبازين، فقيل له: أنه: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء:130].
وقال ابن المنادي: كنا في دهليز عثمان بن أبي شيبة فخرج إلينا فقال: {ن وَالْقَلَمِ} [القلم:1] في أي سورة هي؟ قال ابن أرومة الأصبهاني: قرأ عثمان بن أبي شيبة: وجعل السقاية في رجل أخيه، فقيل له: {فِي رَحْلِ أَخِيهِ} [يوسف:70]، فقال: تحت الجيم واحدة، -يعني: نقطة- فكيف أرجع إلى قولكم وأترك النسخة التي عندي؟! وقال إبراهيم الخصاف: قرأ علينا عثمان بن أبي شيبة في التفسير: فلما جهزهم بجهازهم جعل السفينة في رجل أخيه، فقيل له: إنما هي: {جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ} [يوسف:70]، فقال: أنا وأخي أبو بكر لا نقرأ لـ عاصم! وقرأ عثمان بن أبي شيبة: فضرب بينهم بسنور له ناب، فقال له بعض أصحابه: {بِسُورٍ لَهُ بَابٌ} [الحديد:13]، فقال: أنا لا أقرأ لـ حمزة، قراءة حمزة عندنا بدعة، فلم يستح ولم يخجل، مثل الذي حدث بأحاديث مكذوبة عن يحيى بن معين وأحمد بن حنبل، وظل يقول: حدثني يحيى بن معين وأحمد بن حنبل ويأتي من عنده بأحاديث موضوعة، ويحيى بن معين وأحمد بن حنبل في المجلس يسمعان، وكل واحد منهما ينظر إلى صاحبه باستغراب، ويقول: هل حدثته بهذا؟ فيقول: لا والله ولا أعلم عن هذا شيئاً، فلما أخذ النوال ممن سمع منه نادى عليه يحيى بن معين وأحمد بن حنبل(75/11)
أول من أثبت حرف (ح) عند تحويل الإسناد
ثم إن الإمام مسلماً صنع صنيعاً تفوق به على أقرانه ومن سبقوه، بل ومن أتوا من بعده، وهو أنه حول الإسناد بحرف الحاء، فكتب حرف حاء بعد يحيى بن يعمر، وهذا يفيد تحويل الإسناد، فهو اختصار لكلمة تحويل الإسناد، أو اختصار لكلمة الحديث، ليبدأ إسناد جديد للإمام مسلم مرة أخرى لهذا الحديث.(75/12)
ترجمة عبيد الله بن معاذ العنبري
قال: [(ح) وحدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري].
وهنا قال: حدثنا، وفي شيخه الأول الذي هو زهير بن حرب أبي خيثمة قال: حدثني، والفرق بين حدثني وحدثنا أن حدثنا في جماعة، وحدثني وحدي.
وعبيد الله بن معاذ العنبري وثقه كثير من أهل العلم، إلا أن يحيى بن معين تكلم فيه بكلام لا يضره، ولا يؤثر في قبول روايته.
قال: [وهذا حديثه].
وهنا فائدة لطيفة من لطائف تحويل الإسناد، فقد قال هنا: وهذا حديثه، ولم يقل هذا القول بعد كلام زهير بن حرب؛ لأن الإمام مسلماً له هنا شيخان، الأول زهير بن حرب، وهذا السياق الذي يسوقه الإمام مسلم لهذا الحديث ليس هو لفظ زهير، وإنما هو من لفظ عبيد الله بن معاذ العنبري، فدل ذلك على أن لفظ زهير بن حرب لا يطابق أو يماثل لفظ عبيد الله بن معاذ العنبري، فقوله: (وهذا حديثه) أو (وهذا لفظه) يدل على أن هذا السياق سياق عبيد الله، وسياق زهير بن حرب يكون بنحوه أو شبهه، وليس مثله؛ لأن المثلية تستدعي وتستلزم المطابقة، ولو كان لفظ زهير بن حرب هو نفس لفظ عبيد الله لكان قال: حدثني زهير بن حرب، ثم قال: وعبيد الله بن معاذ العنبري، ولم يقل: وهذا حديثه؛ لأنه في هذه الحال لا فائدة من ذكر هذه اللفظة أو الكلمة.
فقوله: (وهذا حديثه) يدل على فائدة زائدة، وهي: أن اللفظ المسوق هو لفظ عبيد الله بن معاذ العنبري.(75/13)
ترجمة معاذ بن معاذ العنبري
قال: [حدثنا أبي].
وأبوه هو معاذ بن معاذ العنبري، قال أحمد: معاذ بن معاذ ثقة في الحديث.
وقال في موضع آخر: إليه المنتهى في التثبت بالبصرة، أي: في الرواية والتثبت والإتقان في البصرة.
وقال: وما رأيت أحداً أعقل من معاذ بن معاذ، وكان معاذ بن معاذ يشبه أحمد بن حنبل في الحياء والأدب.
وقال يحيى بن سعيد القطان وهو من شيوخ أحمد عن معاذ بن معاذ: طلبت الحديث مع رجلين خالد بن الحارث ومعاذ بن معاذ وأنا مولى، فوالله ما استبقاني إلى محدث قط فكتبا شيئاً حتى أحضر، وما أبالي إذا تابعاني من خالفني من الناس.
يحيى بن سعيد القطان كان من المتشددين جداً، والمتعنتين أيضاً في توثيق الرجال، فيقول: لو وافقني معاذ بن معاذ لا أبالي بعد ذلك من خالفني، وكأن هذا اللفظ هو أعلى درجات التعديل.
قال: وكان شعبة يحلف لا يحدث فيستثنيهما، يعني: يستثني خالد بن الحارث ومعاذ بن معاذ، يعني: إذا حلف شعبة ألا يحدث أحداً، يقول: إلا خالد بن الحارث ومعاذ بن معاذ، وهذا يدل على مكانة معاذ وخالد بن الحارث.
وقال أيضاً: سمعت يحيى يقول: ما بالبصرة ولا بالكوفة ولا بالحجاز أثبت من معاذ بن معاذ، ولا شك أن هذه البقاع الكوفة والبصرة والمدينة كانت في ذلك الزمان من أكثر البلدان محدثين ورواة، فقدم يحيى بن معين معاذ بن معاذ العنبري على كل من عاصره.
فالشاهد هو بيان وذكر مكانة معاذ بن معاذ العنبري.(75/14)
سبب عدم تحويل الإمام مسلم للإسناد قبل كهمس في حديث جبريل في مراتب الإيمان
قال: [حدثنا كهمس عن ابن بريدة عن يحيى بن يعمر].
نتوقف هنا لنبين تحويل الإسناد.
وكهمس هنا هو الراوي المشترك بين الإسناد الأول والإسناد الثاني، والأصل إذا أردت أن أحول هذا الإسناد أن أضع حرف الحاء قبل كهمس؛ لأن كهمس هو الراوي المشترك، وبعد ذلك أقول: كهمس عن ابن بريدة عن يحيى بن يعمر، لكن الإمام مسلماً لم يضع حرف الحاء قبل كهمس لثلاث نكت يعرف منهن لماذا لم يتم اختصار الإسناد بطريقة أكثر اختصاراً من هذه الطريقة التي اختصرها بها مسلم، فقد وضع مسلم حرف الحاء بعد يحيى بن يعمر، رغم أن يحيى بن يعمر موجود في الإسنادين، فكان من الممكن أن يضعه قبل يحيى بن يعمر، وفيه كذلك عبد الله بن بريدة مشترك كذلك بين الإسنادين، لكن في الإسناد الأول قال: عبد الله بن بريدة، وفي الإسناد الثاني قال: ابن بريدة فقط، وبريدة رضي الله عنه كان له ابنان، سليمان وعبد الله، فلو وضع حرف الحاء قبل يحيى بن يعمر للزمه أن يروي الاسم على جهة واحدة، فإما أن يقول في الإسنادين عبد الله بن بريدة، فيكون قد كذب على الراوي؛ لأن أحدهم قال: عبد الله، والثاني قال: ابن بريدة، وممكن أن الراوي الثاني يقصد سليمان بن بريدة، خاصة وأن أبا داود روى هذا الحديث عن سليمان بن بريدة.
وإما أن يقول: ابن بريدة في الحالين، فيكون قد أنقص عبد الله، وللمستمع أن يحمل ذلك على أنه سليمان لا عبد الله.
فلم يضع حرف الحاء قبل كهمس؛ لأن الأمر سيكون فيه كذب؛ لأن وكيعاً عندما روى عن كهمس قال: عن كهمس، ومعاذ لما رواه عن كهمس قال: حدثنا كهمس، ومعلوم أن هناك فرقاً كبيراً جداً بين عن وبين حدثنا.
وأما لماذا يضع حرف الحاء قبل يحيى بن يعمر مع أنه ليس هناك إشكال لأن يحيى بن يعمر في الإسنادين واحد فقد أجاب على هذا الإمام النووي فقال: ووقفت على طريق لهذا الحديث، وفيه: حدثنا يحيى ولم يذكر ابن يعمر ولم ينسبه، فناسب هذا الأمر عند مسلم أن يضع حرف الحاء بعد يحيى بن يعمر؛ لأنه قد ورد في طرق أخرى خارج الصحيح أنه يحيى غير منسوب، وهذه كلها لطائف.
ثم اللطيفة الثالثة: أنه ميز بين رواية زهير بن حرب ورواية عبيد الله بن معاذ العنبري؛ لأنه ساق الحديث من لفظ عبيد الله، فناسب أن توضع الحاء بعد يحيى بن يعمر والله تعالى أعلم.(75/15)
إنكار معبد الجهني للقدر
قال: [قال يحيى بن يعمر: كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني].
ومعلوم أن القدر من أركان الإيمان، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بالقدر)، والله عز وجل قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف عام، وله عز وجل العلم الأزلي، والعلم صفة من صفات الله عز وجل، فهو يعلم ما كان وما يكون وما سيكون، ولا يخفى عليه شيء من أمر العباد ولا من أمر الخلائق جميعاً.
ومعبد الجهني قتله الحجاج صبراً، وهو القائل: إن الله تعالى لا يعلم الأمور إلا بعد وقوعها، ولم يقدر شيئاً على العباد، وإنما كل منهم يختار لنفسه، فإذا وقع الفعل من العبد علمه الله تعالى، وأما قبل ذلك فلا، وهذا معنى قوله: إن معبداً الجهني أول من قال في القدر، أي: أول من نفى إثبات القدر الذي عليه أهل السنة والجماعة، فهو الذي نفاه، وقال: إن الأمر أنف، يعني: لا يعلمه الله عز وجل إلا بعد وقوعه، تعالى الله عز وجل عن قوله علواً كبيراً، والنبي صلى الله عليه وسلم بين في غير ما حديث أن أركان الإيمان: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
وهذا الحديث سيق هنا لأجل إثبات القدر.
فـ يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن الحميري البصري لما ذهبا إلى مكة ولقيا عبد الله بن عمر حدثاه بأمر معبد الجهني ومن كان معه على هذا الفكر الضال من أهل البصرة، وليس من ساقطة في الأرض إلا ولها لاقطة، ومهما تكلم العبد بكلام حتى وإن كان خزعبلات وخرافات فلابد أن يجد له أنصاراً وأتباعاً.
فلما تكلم معبد الجهني في القدر التف حوله كثير من الناس، وكان معبد الجهني يتعلم في حلقة الحسن البصري، وكان تلميذاً للحسن البصري حتى تكلم في القدر، فتكلم فيه الحسن، ثم صار له حلقة وأتباع يحملون منهجه وفكره في العقيدة.
قال يحيى بن يعمر: [فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين].
والحميري هنا نسبة إلى شخص وليس إلى حمير.
وحميد هذا يقول ابن سيرين عليه رحمة الله: حميد كان أفقه أهل البصرة.(75/16)
وجوب سؤال الإنسان عما يشكل عليه حتى من عالم لمن هو أعلم منه
قال: [فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر].
وهذا فيه لطيفة: وهي أنه ينبغي على من خفي عليه أمر من أمور العلم أن يبحث عمن يعلم هذه الأمور، أو يبحث على من تفقه في دين الله عز وجل؛ ليطلب على يديه العلم، أو يطلب المزيد من العلم.
وكذلك فيه جواز سؤال العالم حتى وإن كنت عالماً، لبيان الفائدة لمن هو دونك في العلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يطرح المسألة على أصحابه ليختبر بذلك ذكاءهم، وكذلك كان الواحد منهم يطرح السؤال على النبي صلى الله عليه وسلم لا لأجل أن يعلم الحق من الباطل، وحتى يعلم بقية الصحابة جواب النبي صلى الله عليه وسلم، كما فعل جبريل في هذا الحديث، فإنه أتى وسأل وهو يعلم، ومما يبين ذلك أنه قال: صدقت، عندما أجابه لما سأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، حتى قال عمر: فعجبنا له يسأله ويصدقه؛ لأن هذا ليس من عادة العرب ولا من لسانهم أن يسأل السائل ويصدقه على الجواب؛ لأن الغالب أن السائل إذا سأل إنما يسأل للاستفادة لنفسه، أي: لينفي عن نفسه الجهل.
فجاء يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن إلى مكة حاجين أو معتمرين، وهما يتمنيان لو وفق الله تعالى لهما من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام من يجيبهم على سؤالهم هذا، فهم يريدون أن يسألوا عما دار في بلدهم -أي: في البصرة- من أقوال هؤلاء المبتدعة الضالين، الذين أحدثوا كلاماً لا يعرفونه، ولم يعرفه من سبقهم من أهل زمانهم.(75/17)
عدالة الصحابة، وسب الرافضة لهم
قال: [فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب].
وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن الصحابة كلهم عدول بتعديل الله عز وجل لهم، وبتعديل الرسول صلى الله عليه وسلم لهم.
ونحن نذكر تراجم الرواة؛ لأنهم يخضعون لقواعد علم الجرح والتعديل من تعديل وجرح، وأما الصحابة رضي الله عنهم فإنهم مبرءون من هذا؛ لأنهم عدول قولاً واحداً، إلا ما يقوله الرافضة عليهم من الله ما يستحقون من تكفير جل الصحابة إلا سبعة أو تسعة أو خمسة عشر؛ فقد كفروهم وأخرجوهم عن ملة الإسلام، فعجباً كل العجب لمن سب صحابياً فضلاً عن أن يكفره أو يخرجه من الملة، والنبي عليه الصلاة والسلام أوصى خيراً بأصحابه، فقال: (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه).
وكفى بالصحابة فخراً وجلالة أنهم تحملوا الكثير من الصعاب في نقل هذا الدين إلينا، وخاضوا لأجله الحروب، وسفكت دماؤهم وانتهكت أعراضهم، وتخلفوا عن زوجاتهم وأهليهم، وقتل أبناؤهم لأجل هذا، وضحوا بكل ذلك في سبيل إعلاء هذا الدين، فكيف يأتي بعد ذلك من بعدهم من يقول فيهم قولاً سيئاً فضلاً عمن يكفرهم ويخرجهم من الملة؟! ألا لعنة الله تعالى على الكافرين.
والتعرض لذكر شيء من مناقب الصحابة أمر يطول، وقد سمعت شيخاً تكلم عن مناقب عمر ستة أشهر على المنبر، فكيف نتكلم نحن عنه الآن؟ ولكن يكفينا قول واحد، وهو أنه إذا ذكر عمر بن الخطاب ذكر العدل كله، وذكر الإنصاف كله، وذكرت القوة كلها، وذكر دحر الأعداء دحراً شديداً ورفع راية الإسلام عالية خفاقة، هذا قول مجمل في عمر.
وأما ولده عبد الله فإنه من أكثر الناس رواية عن النبي عليه الصلاة والسلام بعد أبي هريرة رضي الله عنه، وقيل: إنه مقدم في الرواية على عائشة، وقيل: إن عائشة مقدمة عليه من حيث الكثرة، والأمر محل خلاف بين أهل العلم.
وقد كان من أشد الناس تمسكاً بسنة النبي عليه الصلاة والسلام، حتى أنه كان يحاكيه فيما هو خاص من عادته صلى الله عليه وسلم، يعني: سنن العادة التي لم يكلف بها ولم تكلف بها الأمة كان عبد الله بن عمر يأخذ نفسه بها، فإذا سار في طريق سار فيه من قبل مع النبي عليه الصلاة والسلام كان يحاكي ويصنع مثلما كان يصنع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو غير مكلف بذلك، ولكنه كان يحب أن يحاكي النبي صلى الله عليه وسلم في كل شيء.(75/18)
حكم زيارة المسجد النبوي، وقبر الرسول صلى الله عليه وسلم
قال: [فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما داخلاً المسجد].
والمسجد هنا هو مسجد مكة، والذي يدل على أنه مسجد مكة قوله: حاجين أو معتمرين، وهذه المناسك موجودة في مكة، وأما المدينة ففيها الزيارة، وتكون الزيارة للمسجد نفسه، وأما القبر فلا يقصد أصلاً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى).
فلا تشد الرحال إلا إلى هذه الثلاثة مساجد، وأما زيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام فإنما تأتي تبعاً لزيارة مسجده، فلا يكون هو الباعث للذهاب إلى هناك، بل يكون الباعث للذهاب نية الصلاة في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، ثم تأتي بعد ذلك لزيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام وتسلم عليه، ويستحب ألا تستقبل قبر النبي عليه الصلاة والسلام؛ للذب عن حياض التوحيد، وإن كنت سليم العقيدة؛ إذ لو رآك من هو دونك في العقيدة لظن أن عملك هذا مشروع، فوقف وتوسل، فسلم على النبي عليه الصلاة والسلام، ثم سلم على أبي بكر، ثم سلم على عمر وانصرف من هذا الموقف، ولا يكن فعلك كفعل الجهال أصحاب العقائد الفاسدة.(75/19)
حرص السلف على طلب العلم
قال: [فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله].
ولو أنك نظرت إلى هذا اللفظ لعلمت مدى ما كان عليه السلف من الحرص في طلب العلم، فوقف أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله حتى يسمعانه، وقوله: (فاكتنفته) س أي: وضعت كنفي في كنفه، يعني: كتفي في كتفه وذراعي في ذراعه، حتى يكون ذلك أوثق وأضمن للسماع.
قال: [فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي]، ومعنى ظننت أي: ترجح في ظني أنه سيكلني في أن أتكلم مع عبد الله بن عمر.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.(75/20)
الأسئلة(75/21)
حكم العمل بالحديث المرفوع وغيره
السؤال
ما حكم الأخذ بالأحاديث المرفوعة وغيرها؟
الجواب
الحديث المرفوع هو: ما أسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو: ما كان من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، بخلاف الموقوف فإنه من كلام الصحابي، وبخلاف المقطوع فإنه من كلام التابعي، والمقطوع في غالب أقوال أهل العلم غير المنقطع؛ لأن المنقطع هو: ما سقط من إسناده راو أو أكثر على مدار الإسناد.
والحديث المرفوع يحتج به إن صح السند إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وليس كل حديث مرفوع يحتج به ويعمل به، فمن المرفوع ما هو ضعيف، ومنه ما هو موضوع، ومنه ما هو حسن، ومنه ما هو صحيح، ومنه ما هو متواتر، فكل بقدره، فإذا صح المرفوع عمل به، وإلا فلا.
وأما باقي الأحاديث فيقبل منها الصحيح والحسن، ويرد الضعيف بجميع أنواعه، فالمقبول يحتج به، والمردود لا يحتج به ولا حتى في فضائل الأعمال.(75/22)
الحكم على أثر: (لا يتعلم مستح ولا متكبر)، والمقصود بالحياء الوارد فيه
السؤال
أين نجد هذا الأثر: صناع العلم بين اثنتين: الكبر والحياء أو ما شابه ذلك؟
الجواب
صح عن ابن مسعود رضوان الله تبارك وتعالى عليه أنه قال: لا يتعلم مستح ولا متكبر، وهذا موجود في صحيح البخاري في كتاب العلم، ومعلوم أن هذا هو الحياء المذموم الذي يقصر بالعبد عن طلب الخير والصلاح والطاعة والفلاح.
وأما الحياء فهو شعبة من شعب الإيمان، كما صح في الأخبار الكثيرة، وأما هذا فالمقصود به الحياء الذي يمنع صاحبه من تحصيل العلم، فإنه مذموم، وأما الحياء الذي يدفع صاحبه إلى طلب العلم وتحصيله فلا شك أنه من الحياء الممدوح، كما ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: رحم الله نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين.
فالحياء الممدوح هو الذي يدفعك إلى أن تدفع عنك وعن نفسك الجهل بشرع الله عز وجل، وأما الحياء المذموم فهو الذي يقصيك ويبعدك عن مجالس العلم.(75/23)
حكم تدريس الرجل للنساء
السؤال
شاب مجيد للغة العربية، هل يجوز له أن يعطي دروساً للفتيات في قريته، وهذا الشاب ملتزم؟ وهل يجعل ستارة بينه وبينهن، أو يتركها؟
الجواب
إذا كان هذا الشاب لا رغبة له في النساء، أو أنه متزوج، أو غير ذلك فأصل الأمر على الجواز، وتحدث الرجل مع النساء الأصل فيه أنه على الجواز إلا أن تخشى الفتنة، وكذلك إذا دعت الضرورة والمصلحة إلى ذلك، وأما مجرد الكلام هكذا فالأصل فيه المنع، يعني: الأصل في محادثة الرجال للنساء بغير ضرورة المنع، وإذا كان لضرورة فالأصل فيه الإباحة إلا أن تكون هناك فتنة، فإن كان الأمر هكذا فافعل، ولكن بشرط أن يكون هناك من يؤمن مع وجوده وقوع الفتنة أو ميل القلوب أو غير ذلك.
ولو أردت رأيي فأنا أقول لك: لا داعي لهذا؛ لأنه لا يختم إلا بما لا يحمد عقباه.
والله تعالى أعلم.(75/24)
فضل العمرة في رمضان
السؤال
هل يوجد حديث: (إن من اعتمر في رمضان له أجر حجة معي)؟
الجواب
نعم، قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عمرة في رمضان كحجة معي).
والمقصود بهذا الحديث: أن له ثواب حجة مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا لا يسقط عنه حج الفريضة، بل لابد من الحج إن استطاع إلى ذلك سبيلاً.(75/25)
مدى صحة الأحاديث الواردة في فضائل السور
السؤال
ما صحة الأحاديث التي وردت في فضائل بعض السور في القرآن الكريم، حيث إن بعض علماء الحديث قال: إنها موضوعة؟
الجواب
معظم الأحاديث التي وردت في فضائل سور القرآن الكريم هي أحاديث موضوعة.
وميسرة بن عبد ربه التراس الأكول هو الذي كان يصنع هذه الأحاديث ويضعها في فضل القرآن الكريم، وقد وضع في فضل كل سورة حديثاً، وكان تراساً أكولاً، يعني: كان يأكل أكلاً لا يأكله حمار، وقد ذهب مرة إلى قوم يزورهم ومعه حماره، فلما استضافوه ونزل عن حماره ذبحوه وشووه وقدموه له، فأكله عن آخره، فلما أراد أن ينصرف أعطوه ثمنه.
وكان يزوق سقوف البيوت هو وعمال آخرون، فقال له رجل: زوق سقف المطبخ لنا، وبينما هو يزوق السقف وجد أكلاً يكفي ثلاثين نفساً، فنزل فأكله، ثم صعد يعمل كأنه لم يعمل شيئاً، فدخل الرجل يريد أن يغرف أكلاً، فلم يجد الأكل، ووجد العظم، فقال: سبحان الله! والله إنه فعل الجن، وصار اضطراب واختلاف في الأصوات، وهاجت الناس وماجت، فنظر أحد العمال إلى ميسرة وقال: أوعندكم ميسرة بن عبد ربه؟ والله إنه الذي أكل الطعام، فدافع عنه صاحب البيت، وأقسم أنه ليس هو ميسرة، فقال ميسرة: يا عبد الله! لا تقسم، أنا الذي أكلت الطعام، وإن كنت لا تصدقني فاصنع مثله وانظر، يعني: اطبخ مرة أخرى، وانظر سآكله أم لا؟ ونذرت امرأة أن تشبع ميسرة إن فعل الله بها كيت وكيت، فأتت المرأة إلى ميسرة وقالت: يا ميسرة! اتق الله واقتصد وأوجز، قالت المرأة: فكان ما كفاه يكفي سبعين نفساً.
ودخل رجل على ميسرة فقال: يا ميسرة! كم يشبعك؟ قال: من بيتي أم من بيت غيري؟ قال: من بيتك، قال: رغيف أو رغيفين، قال: من بيت غيرك، قال: اخبز واطرح، وأخبار ميسرة يطول ذكرها جداً، وقد كان وضاعاً، ومن فمن أراد ترجمته فليراجعها في ميزان الاعتدال في نقد الرجال للإمام الذهبي.(75/26)
شرح صحيح مسلم - كتاب الإيمان - ما روي في أن أول من قال بالقدر معبد الجهني
الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان، لا يتم إيمان العبد حتى يأتي به، وقد أجمع العلماء على كفر منكره؛ لأن إنكاره يستلزم رمي الله عز وجل بالجهل.
والإيمان بالقدر أنواع ومراتب، وقد أنكرت بعض الفرق بعض أنواعه، فبدعها العلماء وضللوها، وللإيمان بالقضاء والقدر فوائد كثيرة، تعود على العبد المؤمن بهما بالخير في الدنيا والآخرة.(76/1)
مراتب القدر وعقيدة أهل السنة فيه
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
[عن يحيى بن يعمر قال: أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلاً المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي، فقلت: أبا عبد الرحمن! إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم، أي: يجمعون العلم ويحرصون عليه ويهتمون به- وذكر من شأنهم، وأنهم يزعمون ألا قدر وأن الأمر أنف].
أي: أنهم يزعمون أنه لا شيء اسمه قدر، وأن الأمر أنف، وأن الله تعالى لا يعلمه إلا بعد وقوعه.
قال: [فإذا لقيت أولئك فأخبرهم -وهذا قول عبد الله بن عمر - أني بريء منهم، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر].
وسنبين هنا ما هو القدر، وما هو الذي أنكره معبد الجهني حتى استلزم أن يكفره عبد الله بن عمر ويتبرأ منه.
ومراتب القدر أربع مراتب، المرتبة الأولى: العلم، والمرتبة الثانية: الكتابة، والمرتبة الثالثة: المشيئة، والمرتبة الرابعة: الخلق.
فأوائل القدرية نفوا المرتبتين الأوليين، العلم والكتابة.
وأول من قال بنفي القدر معبد الجهني، فقد ادعى أن الله عز وجل لا يعلم الأشياء قبل وقوعها، وأنكر أن الله تعالى أمر بكتابة القدر، وهذا بدعة في الدين.
ويقال: القدَر والقدْر بفتح الدال وإسكانها لغتان مشهورتان، وحكاهما ابن قتيبة عن الكسائي وقالهما غيره.
قال الإمام النووي: واعلم أن مذهب أهل الحق إثبات القدر، أي: أن الله تبارك وتعالى علم الأشياء قبل وقوعها، وكذا أمر بكتابتها قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.
ومعناه: أن الله تبارك وتعالى قدر الأشياء في القدم، وعلم سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة عنده سبحانه وتعالى، وعلى صفات مخصوصة، وفي أمكنة معلومة، فهي تقع على حسب ما قدرها الله سبحانه وتعالى.(76/2)
الإيمان بالقدر بين القدرية والجبرية
وأنكرت القدرية هذا، وزعمت أنه سبحانه وتعالى لم يقدرها ولم يتقدم علمه سبحانه وتعالى بها، وأنها مستأنفة العلم، أي: لا يعلمها إلا بعد وقوعها، وهذا معنى مستأنفة، أي: أن الله تعالى لا يعلم ما سيقع في ملكه إلا بعد أن يقع، تعالى الله عز وجل عن قولهم علواً كبيراً، أي: إنما يعلمها سبحانه بعد وقوعها، وكذبوا على الله سبحانه، وسميت هذه الفرقة قدرية لإنكارهم القدر.
قال أصحاب المقالات من المتكلمين: وقد انقرضت القدرية القائلون بهذا، يعني: لم يبق منهم اليوم أحد يدعي أن الله تعالى لا يعلم الأشياء ولم يكتبها، وإنما القدرية الموجودة الآن -وهم بعض أهل الاعتزال- إنما يتعلق إنكارهم بالقدر بالمشيئة والخلق، وخاصة الخلق، ويقولون: الخير من الله والشر من غيره، فأشبهوا المجوس الذين قالوا بوجود إلهين، إله للخير وإله للشر، وإله للنور وإله للظلمة.
حكى أبو محمد بن قتيبة في كتابه غريب الحديث وأبو المعالي وإمام الحرمين الإمام الجويني في كتابه الإرشاد في أصول الدين أن بعض القدرية قالوا: لسنا بقدرية، بل أنتم القدرية؛ لأنكم تثبتون القدر، فحق لكم أن تنسبوا إلى القدرية، وأما نحن فإننا ننفي القدر، والأصل فيه النفي، وهذا الكلام مردود عليهم، ولذلك سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة؛ لأنهم تشبهوا بالمجوس القائلين بوجود إلهين خالقين؛ إله للظلمة وإله للنور، وإله للخير وإله للشر، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (القدرية مجوس هذه الأمة).
وهذا الحديث حسن بمجموع طرقه.
والحاكم أبو عبد الله أخرج هذا الحديث وقال: صحيح على شرط الشيخين، وليس كذلك، وإنما هو حديث حسن.
قال الخطابي: إنما جعلهم صلى الله عليه وسلم مجوساً لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس في قولهم بالأصلين النور والظلمة، وزعمهم أن الخير من فعل النور، والشر من فعل الظلمة، فصاروا ثنوية.
وكذلك القدرية يضيفون الخير إلى الله تعالى والشر إلى غيره، والله سبحانه وتعالى خالق الخير والشر جميعاً، ولا يكون شيء منهما إلا بمشيئته، فهما مضافان إليه سبحانه وتعالى خلقاً وإيجاداً، وهذه المرتبة الرابعة من مراتب الإيمان بالقدر، فإن الشر منسوب إلى الله عز وجل من جهة الخلق والإيجاد، وهو منسوب إلى العبد من جهة العمل والكسب، أي: أن الله تعالى أوجد هذا الشر وخلقه بإرادته الكونية، ولكن الفاعل الحقيقي لهذا الشر إنما هو العبد، فمسألة الشر التي ضل فيها متأخرو المعتزلة متعلقة بخلق الشر، فإنهم ينفون أن الله تعالى خلق الأفعال كلها.
والخلق جميعه منسوب إلى الله عز وجل، فما من شيء من خير وشر إلا والله تعالى قد خلقه، فأما خلق الخير فلا إشكال فيه، وإنما الإشكال عند المعتزلة في خلق الشر، وهو كذلك منسوب إلى الله عز وجل من جهة الخلق والإيجاد والإتمام، ولكنه ينسب إلى العبد من جهة الكسب والعمل، أي: أن العبد هو الذي اكتسب وعمل هذا الفعل.
قال: فهما مضافان -الخير والشر- إلى الله سبحانه وتعالى خلقاً وإيجاداً، وإلى الفاعلين لهما من عباده فعلاً واكتساباً.
والله أعلم.
قال الخطابي: وقد يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر إجبار الله سبحانه وتعالى العبد وقهره على ما قدره وقضاه، وهذا كلام الجبرية، يعني: يقولون: إن العبد إنما أجبر على فعل الخير والشر، وبناء عليه فلا يحاسب، ولا يضره ما يأتيه من خير ولا شر.
وليس الأمر كما يتوهمونه، وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم الله سبحانه وتعالى بما يكون من اكتساب العبد وصدوره عن تقدير منه.
قال: والقدر اسم لما صدر مقدراً عن فعل القادر سبحانه وتعالى، يقال: قدرت الشيء وقدرته بالتخفيف والتثقيل بمعنى واحد، والقضاء في هذا معناه الخلق، كقوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:12]، أي: خلقهن.
قلت: وقد تظاهرت الأدلة القطعيات من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأهل الحل والعقد من السلف والخلف على إثبات قدر الله عز وجل، وقد أكثر العلماء من التصنيف فيه، ومن أحسن المصنفات فيه وأكثرها فوائد كتاب الحافظ الفقيه أبي بكر البيهقي رضي الله عنه، وقد قرر الأئمة من المتكلمين ذلك أحسن تقرير، بدلائلهم القطعية السمعية والعقلية.
والله أعلم.(76/3)
سبب تكفير العلماء للقدرية
ومعنى براءة ابن عمر من هؤلاء تكفيرهم، وحق لـ عبد الله بن عمر أن يكفر هؤلاء؛ لأنهم أنكروا معلوماً من الدين بالضرورة، وهو إثبات علم الله عز وجل، وإثبات قدرة الله عز وجل على الكتابة القديمة الأزلية، فـ عبد الله بن عمر عندما تبرأ منهم دل ذلك على أنهم نفوا أصلين عظيمين كانا معلومين عند العامة والخاصة، وهما علم الله عز وجل وكتابته الثابتين في غير ما آية وحديث من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، فبراءة عبد الله بن عمر منهم فيه تلميح وتلويح بتكفيرهم، وعلى هذا جمهور السلف في تكفير من أنكر علم الله عز وجل من القدرية أو من قال بمقولة معبد الجهني.
ومسألة القضاء والقدر وإن كانت أصلاً عظيماً من أصول الإيمان كما ورد ذلك في كتاب الله عز وجل وفي غير ما حديث من أحاديثه صلى الله عليه وسلم إلا أنها أخذت بعداً عظيماً وأخذاً ورداً بين القدامى والمُحْدَثين، وهو أكثر ركن من أركان الإيمان أحدث اضطراباً وخللاً عظيماً، وذلك لما خفي على كثير من الناس من أن الإيمان بالقدر متعلق بأمر الهداية والإضلال، أو متعلق بأمر الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، أو متعلق بمراتب القدر نفسها.(76/4)
معنى القضاء في الكتاب والسنة
جاء القضاء في القرآن الكريم وفي السنة بعدة معان، منها: الحكم، كما قال الله عز وجل: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ} [النساء:65]، أي: مما حكمت، {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].
وجاء بمعنى الأمر التكليفي التشريعي، مثل قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23]، ومعنى: ((قَضَى رَبُّكَ)) أي: أمر ربك أمراً شرعياً تكليفياً.
وجاء بمعنى الإخبار والإعلام، كما في قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} [الإسراء:4]، ومعناه: أعلمناهم وأخبرناهم أنهم يفسدون في الأرض مرتين.
وجاء بمعنى الإنجاز والإتمام والانتهاء، مثل قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} [الجمعة:10]، أي: فإذا انتهت وتمت الصلاة، ومثل: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج:29].
وجاء بمعنى قضاء الله النافذ في خلقه الذي لا مرد له، كما جاء في قول الله تعالى: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:117].
وقوله: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} [مريم:21].(76/5)
معنى القدر في الكتاب والسنة
وأما القدر فهو تقدير الله سبحانه وتعالى للأشياء تقديراً يبين هيئاتها ويحددها كماً وكيفاً، زماناً ومكاناً على حسب ما سبق في علم الله الأول، وتقدير الله للأشياء مسبقاً قبل أن توجد يشمل تحديد الأشياء من حيث هيئاتها وزمانها ومكانها، وهذا التقدير تم قبل أن يخلق الله الأرض والسماء بخمسين ألف سنة، وهذا يدل على عظمة الله وقدرته.
يقول عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة).
وهذا نص في إثبات الكتابة، وهي المرتبة الثانية من مراتب القدر، (وكان عرشه على الماء).
وهذا الحديث عند مسلم في صحيحه.
فكل شيء قد قدر زماناً ومكاناً كما أراد الله سبحانه، وقد جاء في آيات كثيرة من القرآن الكريم بيان ذلك، والمتأمل فيها يجد أن آيات القدر تحمل في طياتها بيان وإثبات عظمة الله وجلاله وقدرته، فمثلاً في أول سورة الفرقان أخبر الله سبحانه وتعالى أن كل شيء بقدر، وأنه قدر المخلوقات تقديراً، وقبل أن يثبت ذلك قدم له بقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1]، إلى أن قال الله سبحانه: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2].
فهو سبحانه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولذلك لما جاء مشركو قريش يخاصمون الرسول صلى الله عليه وسلم في القدر نزل قول الله تعالى يرد عليهم إفكهم وافتراءهم وزورهم ويقول: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49].
ثم عقب بما يبين عظمته وشمول قدرته فقال: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:50].
والعقول القاصرة التي عجزت عن أن تفهم أن الله سبحانه محيط بكل شيء -بما كان وما سيكون- ليس لها من نور الإيمان بالقضاء والقدر نصيب، كما قال عبادة بن الصامت لابنه عند الموت: إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من مات على غير هذا فليس مني).
وفي الحديث الآخر: (لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بالقدر)، أي: لا يؤمن على غير هذا الاعتقاد، وهو أن الله قدر كل شيء وأحاط بكل شيء علماً.(76/6)
أنواع التقدير
والتقدير أنواع، وكل أنواعه سابقة في علم الله سبحانه وتعالى، وهو يحدث من أمره ما يشاء، ويكون إحداث الله للأشياء في الوقت الذي شاء الله سبحانه أن توجد فيه، فنجد مثلاً التقدير الأول، وهو ما قدره الله على جميع العباد قبل خلقهم وخلق السماوات والأرض من سعادة وشقاوة ونعيم وجحيم، كما جاء في الحديث: (كتب الله مقادير الخلائق)، الحديث، وهو تقدير الله عز وجل التقدير العام لجميع المخلوقات قبل أن يخلق السماوات والأرض، فإن الله عز وجل قد علم كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض.
وأما التقدير الثاني فهو الذي يكون لكل إنسان وهو في بطن أمه، وهو تقدير خاص لكل إنسان على حدة، وهو يحدث للجنين في بطن أمه.
قال: فحينما تحمل المرأة وتمضي فترة معينة من الحمل يرسل الله سبحانه وتعالى ملكاً إلى الجنين، فينفخ فيه الروح، ويأمره أن يكتب سعادته وشقاوته ورزقه وأجله، وفي هذا جاء حديث الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم الذي رواه ابن مسعود وغيره، وفيه يقول: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها).
والعكس بالعكس.
وهذا الحديث متفق عليه.
وفي هذا الحديث الشريف بين النبي صلى الله عليه وسلم أن النطفة بعدما توضع في الرحم وتمر بهذه الأطوار الثلاثة -نطفة ثم علقة ثم مضغة- يرسل الله عز وجل ملكاً فيكتب رزقه وأجله وشقي أو سعيد.
ثم أرشد الحديث إلى أن أقدار الله غالبة والعاقبة غائبة، فعلى الإنسان ألا يغتر بظاهر الحال، فقد يعمل الإنسان بعمل أهل السعادة وقد كتب من أهل الشقاء، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الشقاوة فيدخل النار، والعكس بالعكس كذلك، وهذا ما يعرف بسوء الخاتمة أو حسنها، نعوذ بالله من سوء الخاتمة.
وقد كان السلف رضوان الله تبارك وتعالى عليهم يخافون من سوء العاقبة، وكانوا يسألون الله عز وجل أن يقيهم فتنة الممات وسكرات الموت، حتى لا يفتنون لحظة خروجهم من الحياة، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة منبهة على أهمية كلمة التوحيد في هذا الوقت، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة).
والتقدير الثالث: تقدير سنوي، وهو يحدث في كل عام في ليلة القدر، ولا يبتدئه الله ابتداء، وإنما هو تقدير تابع للعلم السابق الذي قدره الله عز وجل، وهذا التقدير يتم في ليلة القدر، قال الله تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدخان:1 - 5].
وأما التقدير الرابع: فهو التقدير اليومي، قال الله تعالى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29]، يعني: يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويرفع أقواماً، ويخفض ويضع آخرين، يغني فقيراً ويفقر غنياً، يذل أقواماً ويعز أقواماً، كل يوم هو في شأن سبحانه وتعالى.(76/7)
وجوب الإيمان بمراتب القدر
ومراتب الإيمان بالقضاء والقدر يجب على كل مؤمن أن يؤمن بها ويعتقدها حتى يكون مؤمناً بقضاء الله وقدره، وذكر علماء السلف أنها أربع مراتب، وأنه لابد من تحققها وتوفرها في كل عبد حتى يكون مؤمناً بقضاء الله وقدره.
المرتبة الأولى: علم الله السابق وشموله لكل شيء، والمُحدَثُون يقولون: علم الله القديم، ولفظ القديم لم يكن يعرفه السلف، ومع حسن الظن بهم نقول: إن مقصود قولهم القديم أي: السابق الذي لم يسبقه شيء، وإلا ففي اللغة يدل لفظ القديم على أن هناك من هو أقدم منه، ولكنهم لما ذكروا هذا المصطلح الذي لم يعرفه السلف حملناه على حسن نيتهم من أنهم يقصدون العلم السابق الأولي لله عز وجل.
والله عز وجل لا يوصف بكونه قديماً، وإنما يوصف بأنه الأول، فنقول: الأول والآخر والظاهر والباطن، ولا نقول: القديم سبحانه وتعالى.
المرتبة الثانية من مراتب الإيمان بالقدر: كتابة المقادير كلها قبل خلق السماوات والأرض.
المرتبة الثالثة: مشيئة الله الشاملة لكل ما يقع في الكون من خير وشر، والشر يتعلق بمشيئة الله وإرادته الكونية القدرية، والذي يقع من خير إنما هو متعلق بإرادته ومشيئته الشرعية الدينية.
يقول: لا يكون في كونه من صغيرة ولا كبيرة، ولا تقع ورقة من شجرة ولا تتحرك نملة إلا بمشيئة الله تبارك وتعالى.
المرتبة الرابعة: خلق الله سبحانه وتعالى لأفعال العباد، والخلق هنا بمعنى الإيجاد من العدم.(76/8)
مرتبة العلم
المرتبة الأولى: علم الله السابق، وهذا أمر ينبغي أن يكون مسلماً ولا يجادَل فيه؛ لوضوحه وبيانه التام، وقد نص كثير من أهل العلم على أن منكري مرتبة العلم السابق لله عز وجل قد انقرضوا، وقد كان منهم معبد الجهني.
قال: ومن أنكر علم الله السابق برئت منه ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين؛ لأنه بإنكاره يكون قد وصف الله عز وجل بالعجز؛ لأن الجهل صفة عجز، فالذي يقول: إن الله تعالى لم يكن يعلم إنما ينسب النقص والعجز لله عز وجل، تعالى عن قوله علواً كبيراً.
والله سبحانه وتعالى أخبر عن علمه السابق للأشياء كلها في آيات كثيرة من القرآن الكريم، قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:30 - 31].
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:34].
وآيات كثيرة تثبت علم الله عز وجل السابق الأولي.
فالذي ينكر العلم إنما ينكر آيات كثيرة من كتاب الله عز وجل وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فما من صغيرة ولا كبيرة إلا والله قد أحاط بها علماً، ومن كان عنده شيء من العلم فليعلم أن الله فوقه: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76].
هذه مرتبة العلم الثابتة لله عز وجل أولاً.(76/9)
مرتبة الكتابة
المرتبة الثانية: مرتبة الكتابة، وهي تعني: أن الله سبحانه وتعالى كتب كل ما سيكون إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105].
وقال: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12]، أي: في كتاب مبين، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر: (أن الله لما قضى الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي، أو إن رحمتي سبقت غضبي).
والشاهد: أن الله سبحانه كتب كل شيء كما في الحديث الصحيح: (كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء).
وكتب في الذكر أي: في الكتاب كل شيء، والإمام البخاري عليه رحمة الله تبارك وتعالى كان في غاية التوفيق عندما عقد باباً في كتاب القدر بعنوان: باب: جف القلم على علم الله تعالى، ولقد أمر الله تعالى القلم بالكتابة، فكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة، كما في حديث عبادة بن الصامت، وفي حديث: (إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: وماذا أكتب؟) وهذا فيه نقاش وجواب وكلام بين الله عز وجل وبين القلم، (اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة).
وأكد الله ذلك في القرآن الكريم، فنص على أنه كتب كل شيء، فقال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22].
فقوله سبحانه: ((مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ))، أي: إلا في كتاب قد سبق أولاً، وهو مكتوب، فكل مصيبة أصابتك في نفسك أو ظهرت في الأرض أو البر فإن الله عز وجل قد كتبها في كتاب، ((مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا)) أي: من قبل أن نخلقها، ((إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)).
وجاء ختام الآية هكذا حتى لا تضل العقول وتظن أن هذا أمر صعب أو مستحيل.
فالله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ومن ذلك كتابة ما سيكون، وهو أمر يسير على الله تبارك وتعالى الخبير العليم، ((إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)).
والكتابة كتابتان: كتابة لا تتبدل ولا تتغير، وهي المكتوبة في اللوح المحفوظ عند الله عز وجل، فلا يلحقها محو ولا إثبات، وأما الذي يحدث فيه التغيير والتبديل فهو الكتاب الذي مع الملائكة، ولذلك قال الله عز وجل: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39].
فقوله: ((يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ)) هذا في الكتب التي مع الملائكة، وأما أم الكتاب فليس فيها محو ولا إثبات، ولا يلحقها المحو والإثبات.(76/10)
مرتبة المشيئة
والمرتبة الثالثة: مرتبة مشيئة الله سبحانه وتعالى الشاملة العامة لكل شيء، وتسمى المشيئة أو الإرادة، فالله سبحانه وتعالى شاء كل ما يقع في هذا الملكوت مشيئة مطلقة، وليست مشيئة خاصة، فلا يقع في ملكه إلا ما شاء، والمشيئة مشيئتان، والإرادة إرادتان، إرادة شرعية متعلقة بالمحبة والرضا، أي: بمحبة الله عز وجل ورضاه عن هذا الفعل، وتشريعه إياه وإلزامه العباد به، وإرادة كونية قدرية، أي: أنه لا يقع في الكون ما لا يرضاه الله عز وجل، ولا يقع في ملكه إلا ما يريد وقوعه، ولكنها إرادة ومشيئة كونية، لا إرادة ومشيئة شرعية دينية.
قال: فالله سبحانه وتعالى شاء كل ما يقع في هذا الملكوت مشيئة مطلقة، حتى كفر الكافر شاءه الله عز وجل كما قال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام:35].
وقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود:118].
وشاء ذلك لحكمة يعلمها، أي: شاء الله عز وجل مشيئة قدرية كونية أن يكفر الكافر وأن يفسق الفاسق لحكمة يعلمها هو سبحانه وتعالى، فشاء تعالى وقوع المعاصي في الأرض لحكمة علمها من علمها وجهلها من جهلها.
وقد اشتبه هذا الأمر عند بعض الناس فقالوا: كيف يشاء الله الكفر ويشاء العصيان، وهو يقول: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205]، ويقول: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7]؟
و
الجواب
أن المحبة في قوله: ((وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ)) محبة شرعية دينية، وأما قوله: ((وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ)) أي: أن الله تعالى كره الكفر وذمه، وكره الفساد وذمه وحذر منه، ووقوعه في ملكه يدل على أن الله تعالى إنما أذن في وقوعه إذناً كونياً قدرياً لا إذناً شرعياً دينياً.
وعقيدة أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه وتعالى له مشيئة عامة لكل ما يقع في الكون، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
وقال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29].
وحتى أنت -أيها الإنسان! - لك مشيئة ولكنها مندرجة ومرتبطة بمشيئة الله عز وجل، ومشيئة الله فوق مشيئتك، وإذا لم يؤمن العبد بذلك لا يعد من المؤمنين بالقضاء والقدر.(76/11)
مرتبة الخلق
والمرتبة الرابعة: مرتبة الخلق، أي: مرتبة خلق أفعال العباد، وهذه المرتبة من المراتب التي اشتبهت على بعض الناس، وضلت فيها المعتزلة، الذين قالوا بعدم خلق أفعال العباد، أي: أن الله تعالى لا دخل له في خلق أفعال العبد، وأن العبد يخلق فعله.
وهؤلاء أكثر من الثنوية ضلالاً، وأكثر ضلالاً من الذين قالوا بوجود إله للخير وإله للشر، لأنهم نفوا تماماً الخلق عن الله عز وجل، وقالوا: إن الله تعالى لا دخل له أبداً بخلق هذه الأفعال، وإنما الذي خلقها هو العبد.
فالذي يقول بأن العبد يخلق فعله لازم كلامه أن هناك آلهة متعددة، وإذا كان العبد هو الذي يخلق فعله لكان كل مخلوق خالقاً في الوقت نفسه، وهذا يرد عليه بمعتقد أهل السنة المستند إلى أدلة كثيرة، منها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى خالق كل صانع وصنعته)، أي: وما يعمل، أي: أن الله تعالى خالق كل مخلوق وما يصدر عن هذا المخلوق من أعمال وأقوال.(76/12)
اختلاف الفرق حول مسألة خلق الله لأفعال العباد
وهذه المرتبة ضلت فيها فرق كثيرة وعلى رأسها المعتزلة، وقد تحدث السلف في كتبهم عن مسألة خلق أفعال العباد، وصنف الإمام البخاري كتاباً مستقلاً سماه خلق أفعال العباد.
والحق: أن الله تعالى خالق لأفعال العباد جميعها من خير وشر، فالمعصية التي يقوم بها العبد خلقها الله تعالى وكتبها وقدرها عليه؛ لأنه لا يكون في ملكه إلا ما يريد، ولا شيء إلا والله تعالى خالقه، والمسلمون تفرقوا في هذه المسألة فرقاً كثيرة، ولم يستطيعوا بعقولهم القاصرة بعد ابتعادهم عن القرآن والسنة أن يفهموا أن الله تعالى خالق لأفعال العباد.
ونجى الله تعالى سلف هذه الأمة من كل شر، ووقاهم الانحراف والوقوع في البدع والضلالات، فهم أسعد الناس بالحق، وأشد الناس حرصاً عليه وتمسكاً به، وقد فهموا هذه المسألة وآمنوا بها متبعين لا مبتدعين.
يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: كل شيء بقدر الله حتى العجز والكيس.
ومسائل الإيمان بالقضاء والقدر مسلمة عند عامة المسلمين، فهم يؤمنون بها، إلا مسألة خلق الفعل، فهم فيها في اضطراب عظيم.
ويرد على الذين اضطربوا واختلفوا في مسألة الإيمان بخلق الله عز وجل لأفعال العباد أن الفعل له جهتان، جهة قائمة بالرب سبحانه وتعالى، وهي علمه وقدرته ومشيئته وخلقه وإيجاده؛ أي: علمه سبحانه وتعالى بأن هذا العبد سيفعل كذا في يوم كذا وعلى هيئة كذا وبصفة كذا، وأن الله تعالى قدر ذلك عليه إما تقديراً شرعياً أو كونياً، وشاء ذلك وخلقه، وأوجده من جهة العبد، والجهة الثانية متعلقة بالعبد، وهي فعله وكسبه.
فالفعل الذي يفعله العبد له متعلقان: متعلق بالله عز وجل من جهة الإرادة والعلم والمشيئة والخلق والإيجاد؛ لأنه لا يكون في ملك الله إلا ما يريد ويشاء، وقد علمه قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.
وهذا متعلق بجميع مراتب القدر، العلم والكتابة والمشيئة والخلق، فالفعل له تعلق بالله عز وجل من هذه الجهات الأربع، وأما تعلقه بالعبد فمن جهة العمل والكسب، أي: أن العبد هو الفاعل حقيقة لما فعل، بخلاف الجبرية الذين يقولون: إن الفاعل الحقيقي للفعل هو الله، وهذا كلام باطل ومردود، ويقولون: لا دخل للعبد ألبتة بالفعل لا من جهة الخير والشر، ولا من جهة الثواب والعقاب، وهذا كلام في غاية التناقض، فإن العبد هو الذي اكتسب الفعل وعمله بجوارحه القلبية أو الظاهرة، فهو من كسب العبد وعمله.
ومثال لذلك: قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس:22].
فالله سبحانه هو الذي يسيرنا، ونحن نقوم بأداء الفعل وهو السير، فالذي يسير في البحر هو العبد، والذي أراد هذا السير وخلقه وأوجده ووفق العبد له هو الله عز وجل، وقد علم هذا السير وكتبه في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.
ولو أن رجلاً زنى أو سرق، فالزاني والسارق هو العبد، فهو الذي اكتسب هذا الفعل وعمله بجوارحه، فهو متعلق به من جهة الكسب ومن جهة العمل، والله عز وجل هو الذي قدره عليه؛ لأنه لا يقع في ملك الله عز وجل إلا ما أراده الله عز وجل، ومن قال: إنه يقع في ملك الله ما لا يريده فقد كفر.
والله عز وجل إذا شاء وقوع فعل فلابد أن يقع وإن اجتمع الخلق جميعاً على عدم إيقاعه، والعكس بالعكس.
وإذا زنى العبد فإن الله عز وجل يكره هذا، وقد حرمه ونهى عنه، والله لا يحب الفساد، وهذا فساد وإفساد في الأرض، والله عز وجل يحب الطهارة، وقد أمر بها وحض عليها، وهو تعالى يحب المتطهرين حباً شرعياً دينياً، ويكره الزنا والخبث، وقد نهى عنه وحذر منه تحذيراً شرعياً.
والذي يقع فيما يكرهه الله ويبغضه قد علم الله تعالى سلفاً وأولاً أنه سيقع فيه، والله عز وجل قد نهاه عنه نهياً شرعياً، وحذره منه تحذيراً شرعياً، ووقوع العبد فيه وقوع كوني، أي: متعلقاً بالكون وبقدر الله عز وجل الذي كتبه على العبد قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.
وأما الإرادة الشرعية فهي متعلقة بكل ما يحبه الله تعالى ويرضاه، وهو شرع الله عز وجل الذي أمر به وحض عليه وحث عليه الناس جميعاً.
فمن أتى ما أمر الله عز وجل به نقول: إنه وافق فيه إرادة الله الشرعية الدينية، فالله عز وجل أمر بتوحيده، وبالصلاة والصيام والزكاة والحج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن أتى فعلاً من هذه الأفعال فقد وافق إرادة الله الشرعية الدينية، وأما الذي يسرق ويزني ويفسد في الأرض فنقول: إنه وافق إرادة الله الكونية القدرية، أي: المتعلقة بما يقع في الكون كله، أي: المتعلقة بإرادة الله المطلقة التي تشمل الشرعية والقدرية، وأما إرادة الله الشرعية فإنها لا تنصب إلا على ما يحبه الله تعالى ويرضاه.(76/13)
الرد على من يحتج بالقدر على ترك العمل
وبعض الناس يقول: إذا كانت هذه المسائل مكتوبة، وأن الله تعالى قدر وعلم وكتب هذه الأعمال كلها قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة فلم العمل؟ ونقول: لابد أن تعمل؛ لأن كل مخلوق ميسر لما خلق له، وأعظم جواب يرد به على هذا القائل: أنه لا يعلم ما الذي كتب له؛ لأنه مخفي عنه، فلابد من العمل، والله عز وجل ييسره للعمل، فإن كان من أهل الشقاوة يسره الله لعمل أهل الشقاوة، وإن كان من أهل السعادة يسره الله لعمل أهل السعادة.
قال: وقد يظن بعض الناس أن العمل لا فائدة منه مع الإيمان بهذه المراتب، وهذا كلام من أبطل الباطل، وقد وضح الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الأمر أتم توضيح وأبينه، وأزال كل الالتباس، وبين أن الإيمان بالقضاء لا يتنافى مع العمل، ففي حديث علي بن أبي طالب في الصحيحين قال: (كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه مخصرة، فجعل ينكس أو ينكت بمخصرته في الأرض، ثم قال: ما من نفس منفوسة إلا كتب مكانها من الجنة والنار)، أي: أن الله تعالى علم عن كل نفس منفوسة من أول الأمر أنها من أهل الجنة أو من أهل النار، وكذلك كتب هذا الأمر أنه من أهل الجنة أو من أهل النار.
قال: (إلا وقد كتبت شقية أو سعيدة، فقال رجل: يا رسول الله! أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فقال: لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم قول الله عز وجل: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5 - 10]).
ومن هذا يظهر بوضوح أن الله تعالى شاء كل شيء، وخلق جميع أفعال العباد، وأوجدها من خير وشر، والعبد يقوم بفعل ما خلقه الله فيه وأوجده، وقد جاء عن عبد الله بن عباس مرفوعاً: (الله خالق كل صانع وصنعته).
وقد جاء في القرآن الكريم ما يؤيد ذلك أيضاً في قوله تعالى: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:95 - 96]، أي: أتنحتون هذه الآلهة من هذه الحجارة ثم تعبدونها، والله عز وجل خلقكم وما صنعتم، أي: أن الله تعالى هو الذي خلقكم وأوجدكم، وكذلك خلق وأوجد ما صنعتم بأيديكم، فكل ذلك من خلق الله عز وجل، يعني: أن الله تعالى خلقكم وما تعملون من نحت وغيره.
قال: وهذه القضية يجب على كل مسلم أن يوقن بها، ويعلم أنه يعمل فيما قدر عليه وفرغ منه.(76/14)
منشأ ضلال المعتزلة في قولهم بعدم خلق أفعال العباد
وطائفة الاعتزال هي التي ابتدعت القول بأن العبد يخلق فعل نفسه، وقد تصدى لهم أهل السنة والجماعة، وبينوا ضلالهم في ذلك، وأطلقوا عليهم مجوس هذه الأمة، والشبهة التي أوقعتهم في ذلك وجعلتهم ينفون خلق الله لأفعال العباد ما رأوه من شر وعصيان؟ وكفر يقع في ملكوت الله عز وجل، فقالوا: كيف يريد الله عز وجل الكفر والشر والعصيان؟ فأرادوا بزعمهم تنزيه الله عز وجل عن ذلك، والذي أوقع المعتزلة في هذا الضلال هو أنهم لم يفرقوا بين الإرادة الشرعية والإرادة القدرية الكونية، ولذلك استعظموا جداً أن ينسب الشر إلى الله، فقالوا: إن الله عز وجل لم يخلق أفعال العبد أبداً، لا خير ولا شر، وكانوا يريدون القول بأن الله تعالى إنما خلق الخير فقط دون الشر، ولكنهم خافوا أن يطالبوا بالدليل على هذه التفرقة، فقالوا: إن الله تعالى لم يخلق أفعال العباد، وإنما الذي خلقها هو العبد نفسه، فانحرفوا عن عقيدة السلف الصالح، ولقد رد عليهم إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد بن حنبل في رسالة تسمى السنة، وهي من أعظم الرسائل في الرد على هؤلاء؛ لأن المجوس قالوا بوجود إلهين أحدهما للخير والثاني للشر، ومن هنا لحقت المعتزلة بهم.
والله سبحانه وتعالى إله واحد، والإله له ذات، وهذه الذات متصفة بصفات الجلال والكمال.(76/15)
الرد على المعتزلة في قولهم بعدم خلق الله لأفعال العباد
و
الجواب
على هذا الإشكال الذي ابتدعته المعتزلة بالتمييز والتفريق بين الإرادة الكونية القدرية المتعلقة بكل ما يقع في الكون من خير وشر، وأن الله تعالى أراد الشر إرادة كونية ليس لها تعلق بالمحبة والرضا، وبين الإرادة الشرعية المتعلقة بالمحبة والرضا.
يقول: إرادة كونية قدرية، وهذه الإرادة شاملة وعامة لكل ما يقع في الكون، قال الله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107]، أي: من خير وشر.
وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125].
فهذه إرادة كونية، فالله سبحانه وتعالى قال: ((فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ))، فهو يريد الهداية ويأمر بها، وهي إرادة شرعية، وقال: ((وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ))، وهذه الإرادة إرادة كونية قدرية، ومعنى أراده أي: أن الله عز وجل علم أن العبد سيختار الضلال على الهداية، كما قال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17].
فهم الذين استحبوا واختاروا العمى على الهدى، والله عز وجل علم أولاً وأزلاً أن هؤلاء القوم سيختارون الضلال على الهدى ويفعلونه، فعلمه سابقاً ثم كتبه في اللوح المحفوظ.
فالله سبحانه وتعالى خلق الشر كما خلق الخير، بمعنى: أنه أوجده وشاءه وأراده إرادة كونية قدرية، بخلاف الإرادة الشرعية.
قال: ولكنه ليس من صفاته، أي: هذا الشر ليس من صفات الله عز وجل، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (والشر ليس إليك)، أي: ليس من صفات الباري سبحانه وتعالى.
وهو لا يدخل في أفعاله، وإنما يدخل في مفعولاته بطريق العموم، كما في قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:1 - 2].
فقد خلق الشر، وأمر بالاستعاذة منه، فالخير بيديه والشر ليس إليه.
ونسأل الذين ينكرون خلق الله لأفعال العباد لهذه الشبهة سؤالاً: من الذي خلق إبليس وهو رأس الشر؟ وهم لا يترددون في أن الله عز وجل خلق إبليس، فالله خالق كل شيء من خير ومن شر، وإذا أنكروا أن الله تعالى خلق إبليس فقد كفروا وخرجوا من الملة، وإذا قالوا: إن الله تعالى هو الذي خلق إبليس قلنا لهم: نردكم إلى قولكم وإنكاركم بأن الله تعالى خلق الشر كذلك؛ لأنه خلق رأس الشر، وهو إبليس عليه لعنة الله تبارك وتعالى.(76/16)
أنواع الإرادة
والإرادة إرادتان، الأولى: الإرادة الدينية الشرعية وهي المتضمنة للمحبة والرضا، وهي المتضمنة لما أمر الله عز وجل به وشرعه على عباده، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء:27].
فهذه إرادة شرعية؛ لأن إرادة التوبة إرادة شرعية.
وقال الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185].
وإرادة العسر إرادة قدرية كونية، وأما إرادة اليسر فهي إرادة شرعية دينية.
والثانية: الإرادة الكونية القدرية، وهي تستلزم وقوع المراد، أي: لابد أن تقع كما أراد الله عز وجل؛ لأنه لا يمكن أن يقع في ملك الله ما لا يريده الله عز وجل، والإرادة المطلقة متضمنة للإرادة الكونية والإرادة الشرعية في الوقت نفسه.
قال: ولا تستلزم المحبة، يعني: الإرادة الكونية القدرية تستلزم وقوع المراد ولا تستلزم محبة المراد، أي: ولا تستلزم محبة الفعل، فمثلاً: لا يمكن للعبد أن يزني إذا لم يقدر الله عليه ذلك، ولا يمكن أن يقع في ملك الله ما لا يريده حتى الكفر نفسه، ومن قال بذلك فهو كافر، والله عز وجل لا يحب الكفر، ولا يرضاه لعباده.
فالإرادة الكونية القدرية لا تعلق لها بالرضا، بخلاف الإرادة الشرعية فلها تعلق بالرضا والمحبة، فلو أن العبد أطاع وآمن فقد وافق إرادة الله الشرعية المتضمنة والمستلزمة لمحبته ورضاه، وأما إذا اختار الكفر على الإيمان فقد وافق إرادة الله القدرية الكونية التي لا تستلزم محبة الله عز وجل ورضاه، بل تستجلب سخطه وغضبه سبحانه وتعالى.
قال: الإرادة الكونية القدرية تستلزم وقوع المراد، ولا تستلزم محبته، فيدخل فيها إرادة الإيمان والكفر وغيرهما، وأما الإرادة الثانية فلا تستلزم وقوع المراد وتستلزم محبته، وهي الإرادة الشرعية.
وهذا يفسر لنا قول الذي يقول حينما يشاهد رجلاً يقترف معصية: هذا يفعل ما لا يريده الله ولا يرضاه.
ولو رأيت شخصاً يسرق مثلاً فقلت له: يا فلان! إن الله تعالى لا يريد هذا ولا يرضاه ولا يحبه، فمعنى كلامك: أن الله تعالى لا يريد هذا إرادة شرعية، ولكنه أراده إرادة كونية؛ لأنه لا يقع في ملكه إلا ما يريد، أي لا يريده إرادة شرعية دينية، وهي المتعلقة بالمحبة والرضا؛ لأن الله لا يحب الفساد، وإن كان الله تعالى أراده إرادة كونية قدرية؛ لأنه لا يكون ولا يقع إلا ما يريد، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
والله سبحانه وتعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء، فيهدي من يشاء هداية شرعية دينية، ويضل من يشاء ضلالاً قدرياً كونيناً، كما جاء في القرآن الكريم: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل:93]، أي: أراد الهداية والضلال إرادة عامة كونية قدرية، وهو لا يريد الضلال ديناً وشرعاً، وإنما يريد الهداية ديناً وشرعاً؛ لأن الهدى متعلق بالإرادة الشرعية، والضلال متعلق بالإرادة الكونية القدرية.(76/17)
أنواع الهداية
والهداية لها أنواع كثيرة، منها هداية عامة للكون جميعاً، وهي الهداية العامة، فقد خلق الله الكون وهداه إلى ما ينظم به حياته، قال الله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:1 - 3].
وقال تعالى: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50].
والنوع الثاني من أنواع الهداية: هداية البيان والإرشاد والدلالة، فقد أنزل الله عز وجل الكتب وأرسل الرسل لتبين للناس وترشدهم، قال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17]، أي: أما ثمود فبينا لهم وأرشدناهم ونصحناهم إلى طريق الهداية، وميزنا لهم بين الضلال والحق، ولكنهم تركوا الحق واختاروا الضلال.
وهداية البيان والإرشاد ثابتة للرسول صلى الله عليه وسلم كما أنها ثابتة لله عز وجل، كما قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]، أي: إنك لتبين وترشد إلى الصراط المستقيم وإلى طريق الصالحين.
النوع الثالث من أنواع الهداية: هداية التوفيق، أي: توفيق العبد إلى طريق الهدى، فهذه الهداية متعلقة بإرادة الله عز وجل وحده، وليس لأحد فيها نصيب ولا حتى الأنبياء، فقال الله عز وجل: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل:93].
ومن هذه الهداية: تحبيب الإيمان وتزيينه في قلوب المؤمنين، وهذه الهداية منفية عن جميع الخلق حتى عن الرسول صلى الله عليه وسلم كما قلت، قال الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56].
وهداية التوفيق متعلقة بالله عز وجل دون أحد من خلقه، لا نبي مرسل ولا ملك مقرب.
وقال الله تعالى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ} [النحل:37]، وهذا الكلام موجه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل:37]، يعني: رغم حرصك يا محمد! صلى الله عليه وسلم على هداية هؤلاء فإن الله تعالى لا يهدي من كتب عليه الضلال، وعلم أنه سيختار الضلال في الأزل.
النوع الرابع من أنواع الهداية: هداية المؤمنين إلى الجنة والكافرين إلى النار، قال الله تعالى عن المؤمنين بعد دخولهم الجنة: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف:43].
فهذا إقرار واعتراف بأن الهادي إلى الجنة هو الله عز وجل، قال: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43].(76/18)
حكم من أنكر القدر
وكان أول من قال بنفي القدر هو معبد الجهني، وقد أخذ ذلك عن شيخه سوسن النصراني، فقد كان رجلاً نصرانياً بالبصرة يقول بالقدر ويعتقده، فتلقاه عنه معبد الجهني، ومن بعده ظهرت الفتنة، وكل فرقة من الفرق فيها غلاة وفيها أتباع ورعاع، وقد حكم العلماء على معبد الجهني وغيره بالكفر؛ لأنه أنكر معلوماً من الدين بالضرورة.
وقد حكم عليهم عبد الله بن عمر بالكفر، ولا يزال أهل السنة يتشبثون بحكمه إلى يومنا هذا وما بعده إن شاء الله تعالى، فالقائل بنفي القدر عن الله عز وجل، وأن الله تعالى لا يعلم الأشياء ابتداء، وأنه لم يكتبها ولم يقدرها ابتداء قد أنكر معلوماً من الدين بالضرورة.(76/19)
فوائد الإيمان بالقدر
والثمرة المرجوة والمسلك العملي الذي يعود على من آمن بقدر الله: الإلحاح في دعاء لله عز وجل بأن يهدينا إلى صراطه المستقيم، وأن يحبب إلينا الإيمان ويزينه في قلوبنا، ويكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، فإذا علمتُ أن هدايتي وضلالي بيد الله عز وجل، وأن الجنة والنار والخير والشر بيد الله عز وجل فهذا يدعوني لأن أضرع إلى الله عز وجل وأستغيث وأستعيذ بالله عز وجل من كل شر، وأن يجعلني من أهل الصلاح والفلاح والهداية، ومن أهل الجنة في الآخرة، ومن أهل السعادة في الدنيا والآخرة.
وكذلك الجدية في العمل والمسارعة إلى الخيرات، كما جاء في الحديث: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له).
فنسأل الله حسن الخاتمة؛ لأن أقدار الله غالبة، والعاقبة غائبة -أي: غائبة عنا-، فعلى العباد الاجتهاد كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ونصح به.
فإذا كان أمري معلوماً عند الله عز وجل يقيناً وأنا لا أعلمه فإن ذلك يدفعني إلى الاستزادة من العمل الصالح؛ رجاء أن يتقبل الله عز وجل هذا العمل مني، وأن يجعلني من أهل الصلاح والفلاح.
وكذلك التسليم الكامل لما قدره الله وقضاه؛ لأنه لا يجوز أبداً الاحتجاج بالقدر على المعاصي، وإنما الواجب الاحتجاج بالقدر على المصائب، فإذا نزلت بك مصيبة بعد أن اتخذت كامل الأسباب وعوامل الاحتياط في دفعها، فقل: إنا لله وإنا إليه راجعون، قدر الله وما شاء فعل.
وهذا كلام المؤمنين النابع من إيمانهم بقدر الله عز وجل فإذا وقعت المصائب بأحدهم كالمرض مثلاً أو كالسقوط أو وقوع الجدار أو نزول أي بلية بعد أخذ الاحتياط اللازم لدفعها فعليه أن يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى، ثم يصبر بعد ذلك ويحتسب، وهذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزلت به المصيبة.
ولا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعاصي، وإنما على المصائب، وهذا لا يكون أيضاً إلا بعد اتخاذ الأسباب، فقل: قدر الله وما شاء فعل، وهنا يظهر الإيمان بالقدر، فإذا مات والدك فلا تصح وتبكي وتلطم خدك وتشق جيوبك مدة ثلاثة أو أربعة أشهر، ثم تقول: أستغفر الله العظيم، قدر الله وما شاء فعل، إنا لله وإنا إليه راجعون.
فالإيمان بالقدر يظهر في وقته، فتقول في نفس الوقت: إنا لله وإنا إليه راجعون، إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى.
ووقوع الخير أو وقوع الشر في العباد له منافع، فمثلاً المرض فيما يبدو للعبد شر، ولكنه في علم الله عز وجل خير، وإن بدا لنا أنه شر، حتى إن بعض الأطباء يقولون: إن هناك جراثيم لا يمكن أبداً أن يقتلها دواء أو غيره، ولا يقتلها إلا مرض أو أمراض معينة تصيب العبد، فالمرض وإن كان شراً للعبد إلا أن الله عز وجل قد خبأ له الخير.
والزنا شر، والله عز وجل فرض حداً على العبد الزاني إما جلد مائة وتغريب عام، أو الرجم، فلو أن الزاني رجم في ميدان عام، وتفرج العالم على هذا الحد فلاشك أن من يريد الزنا سيراجع نفسه ألف مرة قبل أن يقدم عليه.
وهذا خير.
فالخير والشر من الله عز وجل خلقاً وإيجاداً، ولكنه من العبد اكتساباً وفعلاً.
ومن فوائد الإيمان بالقدر أنه يورث التسليم الكامل بما قدره الله عز وجل وقضاه، فإذا وقعت مصيبة بالعبد سلم أمره إلى مولاه دون جزع، وقد قال بعض السلف: القدر يحتج به في المصائب ولا يحتج به في المعايب، فإذا أذنب العبد ذنباً استغفر، ولا يجوز له الاحتجاج بالقدر؛ لأن الله تعالى خلقه وهداه، وجعل له مشيئة، كما قال: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:28].
ولما زنى عبد في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه جيء به إلى عمر فقال: ما الذي حملك على هذا؟ قال: القدر، فأمر برجمه، فقال: يا أمير المؤمنين! أترجمني في شيء قدره الله تعالى علي؟ قال: نعم، فإنما وقعت فيما وقعت فيه بقدر الله، وإنما نعاقبك بقدر الله عز وجل، يعني: العقاب نفسه من قدر الله عز وجل، بل هو من قدر الله الشرعي الذي أمر به وأحبه، وحث عليه في كتابه وفي سنة نبيه، وأما الذي وقعت فيه فإنما هو من قدر الله الكوني القدري.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(76/20)
شرح صحيح مسلم - كتاب الإيمان - حديث جبريل عليه السلام يعلم الصحابة دينهم
حديث جبريل عليه السلام في بيان مراتب الدين حديث عظيم، فقد اشتمل على أركان الدين الثلاثة: الإسلام والإيمان والإحسان، وبين بعض علامات الساعة، وهو حديث ذو فوائد جمة، وقد اشتمل على مسائل مهمة، ولذلك توسع العلماء في شرحه وإيضاح ما يتعلق به من أركان الدين.(77/1)
شرح حديث جبريل عليه السلام في بيان مراتب الدين
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد: قال المصنف رحمه الله: [قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: حدثني أبي عمر بن الخطاب قال: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر -وفي رواية: لا نرى عليه أثر السفر- ولا يعرفه منا أحد)].
وهذا الذي دعا عمر بن الخطاب إلى أن يستنكر الأمر، لأن هذا الرجل ليس معروفاً عندهم في المدينة، فهو ليس من أهل المدينة ولا مما جاورها، وهو لا تبدو عليه علامات المسافر، فإن المسافر يكون في الغالب أشعث أغبر متسخ الملابس، وهذا الرجل الذي دخل عليهم كان شديد سواد الشعر، أي: ليس على شعره تراب، بل مرجل الشعر، وشديد بياض الثياب، ومعلوم أن المسافر يكون على غير هذه الهيئة والصفة.(77/2)
صفة جلوس المتعلم بين يدي شيخه
قال: [(حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه)]، أي: جعل هذا الرجل ركبتيه بمحاذاة ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: [(ووضع كفيه على فخذيه)].
والضمير هنا يعود على جبريل نفسه، أي: أنه وضع يديه على فخذيه هو، وليس على فخذي النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا لكان وضعاً من أوضاع سوء الأدب بين التلميذ وشيخه، فهذا جبريل عليه السلام جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمحاذاته وقبالة وجهه، ثم وضع يديه على فخذي نفسه على هيئة جلسة المتعلم بين يدي شيخه وأستاذه.(77/3)
بيان معنى الإسلام والإيمان في حديث جبريل عليه السلام
قال: [(ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ -أي: قل لي: ما الإسلام وما فرائضه وأركانه؟ - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله)].
والنبي صلى الله عليه وسلم عدد له هنا فرائض الإسلام، وإلا فالإسلام بمعناه اللغوي والشرعي أكثر من ذلك، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم عد الفرائض فقط، ولم يعد باقي الخصال، كما لم يعدها أيضاً في بقية السؤالات على الإيمان والإحسان وأشراط الساعة، وإنما ذكر أشهر الأمور والفرائض.
قال: [(فقال صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً.
قال: صدقت -أي: صدقت يا محمد! - فقال عمر بن الخطاب: فعجبنا له يسأله ويصدقه)]؛ لأن هذا أمر مثير للعجب؛ لأن السائل من شأنه أنه يسأل ليتعلم، ولا يسأل لأجل أن يصدق على كلام المجيب.
قال: [(ثم قال الرجل: أخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره)].(77/4)
مذاهب العلماء في معنى الإسلام والإيمان
وسنبحث هنا في معنى الإسلام والإيمان؛ لأنهما اشتملا على مباحث كثيرة، وهذه المباحث هي: أولاً: بيان ماهية الإيمان والإسلام.
ثانياً: الفرق بين مطلق الإسلام ومطلق الإيمان.
ثالثاً: هل الإيمان يزيد وينقص أم لا؟ رابعاً: هل الأعمال داخلة في مسمى الإيمان أم لا؟ خامساً: بم يدخل الكافر في الإسلام؟ سادساً: الاستثناء في الإيمان وكذا في الكفر.
سابعاً: حكم مرتكب الكبيرة، وهل هو من أهل القبلة أم لا؟ وهذه المباحث السبعة ذكرها الإمام النووي في شرحه لمقدمة هذا الحديث عند ذكر الإسلام والإيمان، ولكنه داخل بين كل مبحث من هذه المباحث مع بقية المباحث، ونحن نلتزم ترتيبه، ونبين كلامه ونشرحه، وعلى الله التكلان.
يقول الإمام النووي عليه رحمة الله: (أهم ما يذكر في الباب اختلاف العلماء في الإيمان والإسلام وعمومهما وخصوصهما -أي: عموم الإيمان والإسلام وخصوص الإيمان والإسلام- وأن الإيمان يزيد وينقص أم لا؟ وأن الأعمال من الإيمان أم لا؟ وقد أكثر العلماء رحمهم الله تعالى من المتقدمين والمتأخرين القول في كل ما ذكرناه).
ثم يقول: (وأنا أقتصر على نقل أطراف من متفرقات كلامهم يحصل منها مقصود ما ذكرته مع زيادات كثيرة).
هنا يذكر الإمام النووي كلام الأئمة الذين تقدموا عليه وسبقوه، وعادة النووي في شرحه للصحيح أنه يعتمد النقل عن غيره، وقلما يتكلم من عند نفسه.
قال: (قال الإمام أبو سليمان -وهو الإمام الخطابي أبو سليمان أحمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي البستي الفقيه الأديب الشافعي المحقق رحمه الله تعالى- في كتابه معالم السنن: ما أكثر ما يغلط الناس في هذه المسألة -أي: مسألة الإيمان والإسلام- فأما الزهري فقال: الإسلام الكلمة، والإيمان العمل] والزهري من فحول كبار أهل السنة والجماعة وفحولهم، ولم يخالف أهل السنة ولو في خردلة، إلا هذا القول فيه مخالفة لأهل السنة، ولم يثبت عن الزهري قط، بل له كلام في الإيمان والإسلام والإحسان يخالف ما نقله النووي عن الخطابي أنه قال: الإسلام الكلمة، والإيمان العمل.
وقوله: الإسلام الكلمة، أي: أن تقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
والإيمان العمل، أي: أن الأعمال هي حقيقة الإيمان، وليس الأمر كذلك، وهذا لم يثبت عن الزهري؛ لأنه قد ثبت عنه خلافه، وهذا النقل إما أن فيه تصحيفاً وتحريفاً عليه ويكون المعنى: قال الزهري: الإسلام: الكلمة والإيمان والعمل، وحذف الواو هنا أدى إلى هذا المعنى المختلف، فقد فرق بين الإسلام والإيمان، فأصبح النقل: الإسلام: الكلمة، والإيمان: العمل، ولكن النقل الصحيح الذي يوافق ما ثبت عنه في مناسبات أخرى وفي كتب أخرى: أن الإسلام هو كالإيمان من حيث الكلمة ومن حيث العمل.
قال: (وذهب غيره -أي: غير الزهري - إلى أن الإسلام والإيمان شيء واحد).
وهذا الغير قد يقصد به أهل السنة، فأهل السنة عندهم أن الإسلام والإيمان شيء واحد عند الإفراد والتفرق لا عند الاقتران، وأما عند الاقتران فلكل منهما معنى ومسمى مغاير لمعنى الآخر ومسماه.
ثم قال: (واحتج بقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35 - 36].
قال الخطابي -أي: بعد نقله لكلام الزهري -: وقد تكلم في هذا الباب رجلان من كبراء أهل العلم، وصار كل واحد منهما إلى قول من هذين -أي: إلى قول من هذين القولين السابقين- ورد الآخر منهما على الأول، وصنف عليه كتاباً يبلغ عدد أوراقه المئين -يعني: عدة مئات-.
قال الخطابي: والصحيح من ذلك أن يقيد الكلام في هذا)، يعني: إذا أردنا أن نعرف ماهية الإسلام والإيمان واختصاص كل واحد منهما بأمر لا يندرج تحت المسمى الآخر فينبغي أن يقيد الكلام، ولا يطلق في تحديد ماهية الإسلام وماهية الإيمان.
قال: (وذلك أن المسلم قد يكون مؤمناً في بعض الأحوال، ولا يكون مؤمناً في بعضها)، يعني: أن المسلم إذا حافظ على طاعة الله عز وجل، ولم يرتكب كبيرة ولم يصر على صغيرة فلا شك أنه في هذه الحالة مسلم ومؤمن، وإذا ارتكب كبيرة أو أصر على صغيرة فإنه يبقى على إسلامه وينتفي عنه الإيمان، أو يقال: إنه مؤمن عاص، أو مؤمن فاسق، ولا غضاضة في الجمع بين الاثنين، أي: في الجمع بين الإيمان والفسق.
قال: (والمؤمن مسلم في جميع الأحوال -حتى وإن ارتكب المعاصي- فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً)، يعني: بينهما عموم وخصوص، فكل مؤمن يلزم منه أن يكون مسلماً، ولا يلزم من كونه مسلماً أن يكون مؤمناً، أي: لا يلزم من ثبوت الإسلام للمرء ثبوت الإيمان له؛ لأن الإيمان درجة أعلى، فإذا ثبت له الأدنى لم يلزم من ذلك ثبوت الأعلى، وإذا ث(77/5)
معنى الإسلام والإيمان في اللغة
قال: (وأصل الإيمان التصديق).
وهذا القول هو قول أهل اللغة، فقد قالوا: إن أصل الإيمان التصديق، وهو معنى قول إخوة يوسف: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17].
أي: وما أنت بمصدق لنا، أي: أنت لا تصدق كلامنا وإن صدقناك القول.
واعترض بعض أهل العلم على هذا التعريف، وقال: أصل الإيمان الإقرار، وهذا الاعتراض وإن كان وجيهاً إلا أن الراجح قول أهل اللغة، والمعترض على أن أصل الإيمان هو التصديق قال: لا يستوي أبداً أن تقول: آمنت بكذا أي: صدقت به؛ فإن قولك: آمنت بكذا يفيد الاطمئنان والإقرار القلبي، وأما قولك: صدقت بكذا فلا يفيد هذا المعنى.
وهذا هو قول الشيخ ابن عثيمين.
ثم قال - الخطابي -: (أصل الإيمان: التصديق، وأصل الإسلام الاستسلام والانقياد -أي: في اللغة- فقد يكون المرء مستسلماً في الظاهر -في أعمال الجوارح- غير منقاد في الباطن -وهذا نسميه مسلماً- وقد يكون صادقاً في الباطن غير منقاد في الظاهر).
وهذا نسميه مسلماً عاصياً، فهذا مؤمن من داخله ولكنه غير منقاد، يعني: أنه مسلم بكل ما قال الله وقاله رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكنه قائم على معصية الله عز وجل وغير منقاد في الظاهر، ويأتي بجوارحه ما يغضب الله عز وجل، فمثل هذا يقال عنه: مسلم عاص.
فمعنى الإسلام في اللغة: الاستسلام والانقياد، ومعنى الإيمان في اللغة: التصديق، أو الإقرار على مذهب.(77/6)
معاني الإسلام والإيمان إذا اجتمعا أو افترقا
والإسلام إذا اقترن مع الإيمان افترق عنه، وكان له مدلول خاص، وكذلك الإيمان، وإذا انفرد عن الإسلام شمله، كما أن الإسلام إذا انفرد عن الإيمان شمله، فلو قلنا مثلاً: الإسلام وسكتنا فهذا يدل على أننا سنتكلم عن الإسلام والإيمان، وإذا قلنا: الإيمان فقط فإننا نتكلم عن الإيمان والإسلام، وإذا جمعنا بين اللفظين الإسلام والإيمان فيكون لكل منهما مدلوله الذي يغاير مدلول الثاني.
وفي هذا الحديث -حديث عمر بن الخطاب - اجتمع الإسلام والإيمان، فقد سأله عن الإسلام ثم سأله عن الإيمان، وقد أجاب النبي عليه الصلاة والسلام بمدلول لمعنى الإسلام وفرائضه، وأجاب بمدلول آخر لمعنى الإيمان وفرائضه، ولذلك يقول أهل العلم: الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا، وإذا افتقرا اجتمعا، يعني: إذا اجتمع مصطلح الإسلام والإيمان دلا على أن كل واحد منهما له مدلول يختلف عن المدلول الآخر، وأما إذا انفرد أحدهما عن الآخر فإن كل واحد منهما يشمل الآخر في طياته.(77/7)
حكم إطلاق وصف الإيمان على من أتى ببعض شعبه
قال الإمام الخطابي في شرح حديث (الإيمان بضع وسبعون شعبة): (في هذا الحديث بيان أن الإيمان الشرعي اسم لمعنى ذي شعب وأجزاء، له أعلى وله أدنى)، لأنه قال: (أعلاه لا إله إلا الله، وأدناه إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من شعب الإيمان).
قال: (والاسم يتعلق ببعضها كما يتعلق بكلها)، يعني: لو أن رجلاً أتى بجميع هذه الشعب فإننا نسميه مؤمناً، ولو أن رجلاً أماط الأذى عن الطريق لقلنا: هذا رجل مؤمن؛ لأنه أتى بشعبة من شعب الإيمان، فالاسم يتعلق بالجزء كما يتعلق بالكل، ولكن الحقيقة لا تثبت إلا لمن أتى بالكل، ولا يثبت الإيمان المطلق إلا لمن أتى بجميع شعب الإيمان وفرائضه.
وهناك فرق بين الإيمان المطلق ومطلق الإيمان، فالإيمان المطلق هو الإيمان الكامل، وهذا لا يثبت إلا لمن أتى بجميع شعب الإيمان وفرائضه، وأما مطلق الإيمان فهو أصل الإيمان الذي هو التصديق والإقرار.(77/8)
حكم الاتصاف بالإيمان الكامل
قال: (والحقيقة تقتضي جميع شعبه)، أي: أن حقيقة كمال الإيمان إنما تتعلق بجميع الشعب وتقتضي جميع أجزائه، وأنت إذا رأيت رجلاً واقفاً بين يدي الله عز وجل يقرأ فاتحة الكتاب تقول: هذا الرجل يصلي، مع أنك لم تر كل أجزاء الصلاة، ولكن لا تثبت له حقيقة الصلاة إلا بالإتيان بها كلها، فلا يكون مصلياً إلا إذا استكمل جميع أجزاء الصلاة.
وكذلك الإيمان، يثبت ولو بشعبة واحدة من شعب الإيمان، أي: يثبت أصله للمسلم إذا أتى ولو بشعبة واحدة، وأما كماله وتمامه فلا يثبت إلا بالإتيان بجميع أجزاء وشعب الإيمان، وهو الذي يعبر عنه أهل العلم بحقيقة الإيمان، أي: الإتيان بجميع الشعب.
ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (الحياء شعبة من الإيمان).(77/9)
تفاضل الناس في الإيمان
وفي هذا الحديث أيضاً إثبات التفاضل في الإيمان، يعني: أن بعض الناس أفضل من بعض، فليس إيمان النبيين كإيمان أتباعهم، وليس إيمان المرسلين كإيمان غيرهم، ولا شك أن إيمان النبيين أعلى من كل إيمان البشر، وقد ورد أنه لو وضع إيمان أبي بكر الصديق في كفة وإيمان الأمة في كفة لرجحت كفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
وهذا يدل على أن الناس يتفاضلون ويتفاوتون في مراتب الإيمان، فبعضهم أعلى من بعض وبعضهم أدنى من بعض.(77/10)
الدين يطلق على الإسلام والإيمان
قال: (وقال الإمام أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي الشافعي رحمه الله في حديث سؤال جبريل صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام وجوابه، قال: جعل النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام اسماً لما ظهر من الأعمال)، أي: جعله اسماً لمسمى الأعمال الظاهرة؛ لأنه لما قال له: (ما الإسلام؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله).
وهذا أمر ظاهر نسمعه نحن إذا نطق بلسانه، إلا أن يمنعه خرس أو غيره، فقال: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله).
وهذا من عمل اللسان الظاهر، قال: (وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً).
وكل هذه أعمال ظاهرة، فنسب الإسلام إلى أعمال ظاهرة أي: يأتيها المرء بجوارحه.
قال: (وجعل الإيمان اسماً لما بطن من الاعتقاد)؛ لأنه قال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره).
وكل هذا إنما هو من أعمال القلب لا من أعمال الجوارح.
قال: (وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان، والتصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل ذلك تفصيل لجملة هي كلها شيء واحد، وجماعها الدين، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ذاك جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)).
فسمى هنا الدين بالأعمال الظاهرة والأعمال الباطنة، فالدين هو اسم يشتمل على الأعمال الظاهرة والأعمال الباطنة، وليس معنى ذلك أن ما يطلق عليه الإسلام لا يطلق عليه الإيمان، أو أن ما يطلق عليه الإيمان لا يطلق عليه الإسلام، بل كلاهما عند الافتراق يطلق على مسمى ومدلول الاسم الآخر، فإن فرائض الإسلام وأركانه يطلق عليها الإيمان، وكذلك الإيمان يطلق على مسمى الإسلام، والكل يسمى ديناً.(77/11)
معاني الدين في القرآن
والدين قد ورد في الكتاب إما على سبيل الجزاء، وإما على سبيل العمل، فمما ورد بمعنى الجزاء قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]، أي: مالك يوم الجزاء والحساب والعقاب والجنة والنار، فهنا لفظ الدين بمعنى الجزاء.
وكذلك قول الله تعالى: {ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} [الانفطار:18].
فيوم الدين هنا بمعنى الجزاء.
وقد ورد أيضاً الدين بمعنى العمل، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19].
فالدين هنا بمعنى العمل بالإيمان والعمل بالإسلام.
وقال الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا} [آل عمران:85]، أي: عملاً يتقرب به إلى الله تعالى، {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85].
فقوله: ((وَمَنْ يَبْتَغِ)) أي: ومن يتحرى غير الإسلام عملاً لم يأمر به الله عز وجل ولا رسوله صلى الله عليه وسلم يتقرب به إلى الله عز وجل فقد دخل في حد البدعة، ولن يقبله الله تعالى منه.
وقال تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، أي: عملاً تتقربون به إلى الله عز وجل، فأخبر سبحانه وتعالى أن الدين الذي يرضاه ويقبله من عباده هو الإسلام، ولا يكون الدين في محل القبول والرضا إلا بانضمام التصديق إلى العمل؛ لأننا لو قلنا في معنى قول الله عز وجل: ((وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا))، وقوله: ((إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ))، وقوله: ((وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ)): إن الدين هنا بمعنى العمل لاستلزم ذلك أن الله تعالى لا يقبل العمل هذا إذا لم يكن نابعاً من تصديق قلبي، وهذا يدل على أن الإسلام في هذه الآيات يشمل العمل الظاهر والباطن، والعمل الظاهر هو الذي ورد في الحديث في مراتب وفرائض الإسلام، والإيمان ورد في مراتب وفرائض الإيمان الباطنة المتعلقة بالقلب.(77/12)
زيادة التصديق ونقصانه والرد على من أنكر ذلك
قال: (قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن محمد بن الفضل التميمي الأصبهاني الشافعي رحمه الله في كتابه التحرير في شرح صحيح مسلم: الإيمان في اللغة هو التصديق، فإن عنى به ذلك فلا يزيد ولا ينقص)، أي: أن الأصبهاني يقول: إن كانوا يزعمون أن الإيمان الذي لا يزيد ولا ينقص هو مجرد التصديق فنحن نوافقهم على هذا.
والصواب: أنه حتى لو كان الإيمان هو التصديق فهو أيضاً يزيد وينقص؛ لأننا نقول: إن إيمان أبي بكر أفضل من إيمان عمر بن الخطاب، وإيمان عمر أفضل من إيمان عثمان، وإيمان عثمان أفضل من إيمان علي، وهكذا الناس يتفاضلون، والأنبياء أعظم تصديقاً من غيرهم من الناس ومن الأتباع، فإذا كان الإيمان هو مجرد التصديق فإنه كذلك يزيد وينقص.
يقول: (لأن التصديق ليس شيئاً يتجزأ حتى يتصور كماله مرة ونقصه أخرى).
ونقول: صحيح أنه لا يلزم منه أن يتجزأ، ولكن يلزم منه الكمال وغير الكمال، ويلزم منه الأدنى والأعلى، وأنت تمر بهذا في حياتك اليومية، فإذا حدثك رجل ثقة عندك بخبر من الأخبار فإنك تصدقه، فإن أتاك آخر وشهد بهذا الخبر عندك ازداد تصديقك، فإن أتاك جماعة كبيرة بلغ عندك درجة اليقين، ولذلك هناك علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، وهذه مسائل معلومة، فالتصديق أيضاً على مراتب، فإن الرجل الذي آمن بالله رباً، وآمن بأن في يده الجزاء والعقاب، والثواب والحسنات، وأراد الإقدام على معصية ثم استشعر وجود الله عز وجل ومراقبته فإن ذلك يمنعه من اقتراف المعصية، والرجل الذي هو مصدق بوجود الله وبالإيمان به عز وجل وغير ذلك ولكنه غافل فإنه يقدم على المعصية.
فالإيمان إذا كان بمعنى التصديق فإنه أيضاً يزيد وينقص.
وإبراهيم عليه السلام قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة:260] وقد كان مصدقاً بالله عز وجل، وبأن الله تعالى يبعث الميت بعد أن يموت، وكان مؤمناً بالله عز وجل حق الإيمان، ولكنه أراد مزيداً على ما عنده من الإيمان.
وهذا أيضاً مما يستدل به على زيادة الإيمان سواء في حقيقته الشرعية أو في أصله اللغوي.
فقال له ربه: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} [البقرة:260]، أي: أولم تصدق بوعدي؟ {قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260].
ومعنى: ((لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)) أي: بزيادة الإيمان لا بأصل الإيمان، ولو قلنا: إن الإيمان ليس إلا مرتبة واحدة لكان هذا طعناً في إبراهيم عليه السلام، وحاشاه أن يشك في ربه عز وجل.
قال: (والإيمان في لسان الشرع: هو التصديق بالقلب والعمل بالأركان، وإذا فسر بهذا تطرق إليه الزيادة والنقصان)؛ لأن الأعمال هنا تدخل في مسمى الإيمان، فإذا ازداد المرء من الأعمال الصالحة وأعمال الطاعات زاد إيمانه، وإذا نقص منها نقص إيمانه.
قال: (وهذا مذهب أهل السنة).(77/13)
حكم إيمان من لم يأت بأي عمل مع التصديق
قال: (فالخلاف في هذا على التحقيق إنما هو: أن المصدق بقلبه إذا لم يجمع إلى تصديقه العمل بموجب الإيمان هل يسمى مؤمناً مطلقاً أم لا؟)، أي: إذا لم يأت بالعمل مع التصديق، يعني: إذا اكتفى بالتصديق فقط، ولم يأت بأعمال البر والطاعة هل يسمى مؤمناً مطلقاً أم لا؟ فهذا يثبت له مطلق الإيمان، أي: أصل الإيمان الذي هو التصديق؛ لأن مطلق الإيمان غير الإيمان المطلق، فالإيمان المطلق هو كمال الإيمان وتمامه، وأما مطلق الإيمان فهو أصل الإيمان، وهو التصديق، وهذا لم يأت مع التصديق بالعمل، مع أن هناك بعض الأعمال اختلف أهل العلم إذا لم يأت بها المرء هل يخرج عن ملة الإسلام أم لا؟ قال: (والمختار عندنا: أنه لا يسمى به).
والصواب أنه يسمى به، ويثبت له مطلق الإيمان.
قال: (قال صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) الحديث؛ لأنه لم يعمل بموجب الإيمان، فيستحق هذا الإطلاق.
هذا آخر كلام صاحب التحرير).(77/14)
مذهب أهل السنة والجماعة في الإيمان
قال: (وقال الإمام أبو الحسن على بن خلف بن بطال المالكي المغربي في شرح صحيح البخاري: مذهب جماعة أهل السنة من سلف الأمة وخلفها: أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، والحجة على زيادته ونقصانه، قول الله عز وجل: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4].
وقال تعالى: {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13].
وقول الله تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم:76].
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد:17].
وقوله تعالى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر:31].
وقوله تعالى: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [التوبة:124].
وقوله تعالى: {فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} [آل عمران:173].
وقوله تعالى: {وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22].
قال ابن بطال: فإيمان من لم تحصل له الزيادة ناقص -لأنه إن لم يزدد في إيمانه فلابد أن يستلزم ذلك النقصان- قال: (فإن قيل: الإيمان في اللغة: التصديق؟ ف
الجواب
أن التصديق يكمل بالطاعات كلها، فإذا ازداد المؤمن من أعمال البر كان إيمانه أكمل، وبهذه الجملة يزيد الإيمان وبنقصانها ينقص).
وهذا كلام في غاية المتانة والجودة، فالإيمان عند أهل السنة قول وعمل، يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهذا الكلام ينبغي حفظه والعض عليه بالنواجذ.
قال: (فمتى نقصت أعمال البر نقص كمال الإيمان).
ولم يقل: ينقص أصل الإيمان؛ لأن الأعمال هي المنسوب الذي به يزيد الإيمان وينقص، وكأن الأعمال لا علاقة لها بأصل الإيمان؛ لأن الأصل هو عقد القلب على الإقرار والتصديق، وأما الأعمال فإنما تأثيرها في الزيادة والنقصان.
قال: (ومتى زادت زاد الإيمان كمالاً، هذا توسط القول في الإيمان.
وأما التصديق بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فلا ينقص)، يعني: إن التصديق نفسه لا يزيد ولا ينقص، وقد قدمنا أنه يزيد وينقص حتى في أصل التصديق على المذهب الراجح.
قال: (ولذلك توقف مالك رحمه الله تعالى في بعض الروايات عن القول بالنقصان؛ إذ لا يجوز نقصان التصديق).
فهم قد تأولوا كلام الإمام مالك هكذا، والإمام مالك لم يتكلم عن نقصان التصديق أو زيادته حتى لا يشتبه قوله بقول الخوارج.
قال: (إنما توقف مالك عن القول بنقصان الإيمان خشية أن يتأول عليه موافقة الخوارج الذين يكفرون أهل المعاصي من المؤمنين بالذنوب، وقد قال مالك بنقصان الإيمان مثل قول جماعة أهل السنة.
قال عبد الرزاق: سمعت من أدركت من شيوخنا وأصحابنا سفيان الثوري ومالك بن أنس وعبيد الله بن عمر والأوزاعي ومعمر بن راشد وابن جريج وسفيان بن عيينة يقولون: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، وهذا قول ابن مسعود وحذيفة والنخعي والحسن البصري وعطاء وطاوس ومجاهد وعبد الله بن المبارك، فالمعنى الذي يستحق به العبد المدح والولاية من المؤمنين هو إتيانه بهذه الأمور الثلاثة، التصديق بالقلب، ثم الإقرار باللسان، والعمل بالجوارح).
فلا بد من اجتماع هذه الثلاثة، التصديق بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالجوارح والأركان، وعمل الجوارح والأركان سماه النبي صلى الله عليه وسلم إسلاماً، والإقرار باللسان أيضاً داخل في مسمى الإسلام، ثم التصديق بالإيمان في القلب هو الذي يسمى الإيمان، والإيمان يزيد وينقص، فيزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
قال: (وذلك أنه لا خلاف بين الجميع أنه لو أقر وعمل -أي: لو صدق وعمل- على غير علم منه ومعرفة بربه لا يستحق اسم مؤمن.
ولو عرفه وعمل وجحد بلسانه وكذب ما عرف من التوحيد لا يستحق اسم مؤمن، وكذلك إذا أقر بالله تعالى وبرسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ولم يعمل بالفرائض لا يسمى مؤمناً بالإطلاق، وإن كان في كلام العرب يسمى مؤمناً بالتصديق).
وكأن الإمام النووي أراد أن يقول: لابد من اجتماع هذه الثلاثة حتى يسمى الرجل مسلماً مؤمناً.
قال: (فذلك غير مستحق في كلام الله تعالى؛ لقوله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [الأنفال:2 - 3]].
فهو هنا يتكلم عن صفات المؤمنين، وأدخل(77/15)
مذهب المرجئة والكرامية في الإيمان والرد عليهم
قال: (وإنما أراد الرد على المرجئة في قولهم: إن الإيمان قول بلا عمل)؛ لأن المرجئة يؤخرون العمل عن مسمى الإيمان، ويقولون: لا علاقة للعمل بمسمى الإيمان، وعندهم أن أطوع الناس لله كأفجر الناس وأفسقهم، فالطائع عندهم كالعاصي تماماً، فكلاهما يسمى مؤمناً؛ لأن الإيمان عندهم هو التصديق فقط، ولا علاقة للعمل بمسمى الإيمان، فأراد البخاري أن يرد على المرجئة الذين يقولون: إن الإيمان قول بلا عمل، وأن يبين غلطهم وسوء اعتقادهم، ومخالفتهم للكتاب والسنة ومذاهب الأئمة.
قال: (ثم قال ابن بطال في باب آخر: قال المهلب: الإسلام على الحقيقة هو الإيمان).
يعني: الإيمان والإسلام في حقيقة الأمر اسمان لمعنى واحد ومسمى واحد، وهو الدين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما سأله جبريل عن الإسلام والإيمان والإحسان وأشراط الساعة وأجابه قال: (أتاكم يعلمكم دينكم).
قال: (الذي هو عقد قلب المصدق لإقرار اللسان الذي لا ينفع عند الله تعالى غيره.
وقالت الكرامية وبعض المرجئة: إن الإيمان هو الإقرار باللسان دون عقد القلب).
يعني: لو قال شخص: أنا مؤمن بالملائكة، أو أنا مؤمن بالله فإنهم يقولون: هو مؤمن، حتى وإن لم يكن ذلك في حقيقة قلبه، ويقولون: إن هذا هو الإيمان، فهم يقولون: ليس الإيمان هو التصديق، وإنما هو الإقرار باللسان، فمن أقر بلسانه كان مؤمناً حقاً، وهذا قول باطل، ولو كان كلامهم صحيحاً فليس على وجه الأرض كافر، واليهود الذين حاربوا النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة كانوا يعترفون ويقرون في أنفسهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم مرسل من عند ربه.
قال: (ومن أقوى ما يرد به عليهم إجماع الأمة على إكفار المنافقين).
فالمنافقين في حقيقتهم بينهم وبين الله تعالى كفار، ولكنهم معصومو الدم؛ لأنهم أقروا بألسنتهم، فلهم حكم في الدنيا وحكم في الآخرة، فنحن نعاملهم على أنهم مسلمون، وهم عند الله تعالى كفار، ونمتنع من مقاتلهم؛ لأنهم يقرون بألسنتهم بأنهم مسلمون.
فهو هنا يقول: الرد على المرجئة وعلى الكرامية بأن الإقرار باللسان لا يكفي لإثبات حقيقة الإيمان، وإجماع أهل السنة والجماعة أن المنافقين ليسوا مؤمنين.
قال: (وإن كانوا قد أظهروا الشهادتين، قال الله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:84]-فسمى المنافقين كفاراً- إلى قوله تعالى: {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:55].
هذا آخر كلام ابن بطال).(77/16)
ما يثبت به الإسلام للشخص
قال: (وقال الشيخ الإمام أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: (الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً والإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره)، هذا بيان لأصل الإيمان، وهو التصديق الباطن، وبيان لأصل الإسلام، وهو الاستسلام والانقياد في الظاهر.
وحكم الإسلام في الظاهر ثبت بالشهادتين، وإنما أضاف إليهما الصلاة والزكاة والحج والصوم لكونها أظهر شعائر الإسلام وأعظمها، وبقيامه بها يتم استسلامه وانقياده، وتركه لها يشعر بانحلال قيد انقياده أو اختلاله)، يعني: أن النبي عليه الصلاة والسلام لما ذكر الإسلام والإيمان، ذكر شعب وفرائض وأركان كل منهما؛ ليدل على أن أصل الإسلام هو الاستسلام والانقياد، على أن أصل الإيمان هو التصديق في الباطن، وأما بقية هذه الشعب أو الأركان أو الفرائض فمن لوازم الإسلام أو الإيمان وأنه بانخرام واحدة ينخرم الأصل الذي عنده، والحقيقة أنه ينخرم الكمال، ولا ينخرم الأصل الموجود لديه.(77/17)
العلاقة بين الإسلام والإيمان
قال: (ثم إن اسم الإيمان يتناول ما فسر به الإسلام -أي: أن الإيمان والإسلام بمعنى واحد، فهو يقول: اسم الإيمان يتناول ما فسر به الإسلام- في هذا الحديث وسائر الطاعات؛ لكونها ثمرات للتصديق).
فمثلاً لا يمكن لرجل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر أن ينكر الصلاة؛ لأن الأعمال الظاهرة إنما مبعثها الإيمان بالله عز وجل، وانقيادك في الظاهر يدل على حسن باطنك مع الله عز وجل.
فالعلاقة وثيقة جداً بين مسمى الإيمان والإسلام، الذي هو عمل الباطن وعمل الظاهر، وأنت لن يبدو عليك ظاهر الإسلام إلا إذا كان هذا منبثقاً عن حسن اعتقادك في الله، وحسن ما تبطن تجاه الله عز وجل من إقرارك وعقد قلبك وتصديقك بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، وغير ذلك من فرائض الإيمان، وأنت لا تؤمن بهذا إلا إذا دفعك إلى حسن العمل في الظاهر، فالعلاقة وثيقة جداً بين الإيمان وبين الإسلام.
قال: (لكونها ثمرات للتصديق الباطن الذي هو أصل الإيمان ومقويات ومتممات وحافظات له، ولهذا فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان في حديث وفد عبد القيس).
فلما أتى وفد عبد القيس إلى النبي عليه الصلاة والسلام قالوا: (يا رسول الله! إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، وإنا لا نأتيك إلا في شهر الله الحرام، فمرنا بأمر نعمل به ونلزم به من بعدنا أو من خلفنا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع) والحديث سيأتي في صحيح مسلم، وهو عند البخاري أيضاً قال: (آمركم بالإيمان، أتدرون ما الإيمان؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: الإيمان أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وأن تقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتصوموا رمضان، وتحجوا البيت).
فهنا عرف الإيمان بالإسلام؛ لأنه لم يتكلم عن الإسلام وإنما تكلم عن الإيمان فقط، فعرف الإيمان بشعائر الإسلام، ولو أنهم سألوه عن الإسلام أو أمرهم بالإسلام لعرفهم على مسمى الإيمان والإسلام معاً، ولا يفهم من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد أن يخبرهم بشعائر الإسلام دون شعائر الإيمان ومراتبه، وإنما إذا ذكر الإسلام وحده شمل معه الإيمان، وإذا ذكر الإيمان وحده شمل معه الإسلام، وإذا ذكرا معاً كان لكل واحد منهما مدلوله، كما هو الحال والشأن في الحديث الذي بين أيدينا حديث عمر بن الخطاب.
قال: (كما ورد في حديث وفد عبد القيس بالشهادتين والصلاة والزكاة وصوم رمضان وإعطاء الخمس من المغنم، ولهذا لا يقع اسم المؤمن المطلق على من ارتكب كبيرة أو بدل فريضة) -فلا نثبت له الإيمان المطلق، وإنما نثبت له مطلق الإيمان، وهو أصل الإيمان- لأن اسم الشيء مطلقاً يقع على الكامل منه، ولا يستعمل في الناقص ظاهراً إلا بقيد، ولذلك جاز إطلاق نفيه عنه في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)).
وكلمة حين أي: وقت ارتكاب المعصية، فدل ذلك على أن الإيمان يثبت له قبل ذلك وبعد ذلك، وأما وقت ارتكاب المعصية فلا يثبت له مطلق الإيمان، أي: لا يثبت له كمال الإيمان وتمامه، وإنما يثبت له أصل الإيمان.
قال: واسم الإسلام يتناول أيضاً ما هو أصل الإيمان، وهو التصديق الباطن، ويتناول أصل الطاعات، فإن ذلك كله استسلام لله عز وجل.
قال: فخرج مما ذكرناه وحققنا: أن الإيمان والإسلام يجتمعان ويفترقان).
بمعنى: إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، أي: إذا ذكر كل واحد منهما على حدة فإنما يشمل الآخر، وإذا ذكرا معاً كان لكل منهما مدلوله.
قال: (وأن كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً.
قال: وهذا تحقيق وافر بالتوفيق بين متفرقات نصوص الكتاب والسنة الواردة في الإيمان والإسلام، التي طالما غلط فيها الخائضون، وما حققناه من ذلك موافق لجماهير العلماء من أهل الحديث وغيرهم.
هذا آخر كلام الشيخ أبي عمرو بن الصلاح عليه رحمة الله تبارك وتعالى).
وإذا سمعت في شرح صحيح مسلم قال أبو عمرو بن الصلاح أو قال القاضي عياض فانتبه جيداً، وخاصة لكلام القاضي عياض في غير كتاب الإيمان؛ لأن كلامه كالمسمار في الصاج، فهو كلام متين في غاية المتانة، وأبو عمرو بن الصلاح من أعاظم وفحول المحققين، وكان أستاذ التأويل والجمع بين الروايات والأقوال، وعندما يتكلم النووي عن مسألة ويذكر فيها عشرة أقوال فإنك تتحير أمام هذه الأقوال أيها الراجح وأيها المرجوح، فإذا قال لك: وقال أبو عمرو بن الصلاح فاعلم أنك قد أصبحت في بر الأمان مباشرة.
فـ أبو عمرو بن الصلاح لا يستهان به، ولا بأقواله قط، وكذلك القاضي عياض في غير التأويل، والإمام النووي كان يعتمد على القاضي عياض، وكان عنده أشعرية، عليه رحمة الله تبارك وتعالى.
قال: (فإذا تقرر ما ذكرناه(77/18)
من الأدلة على نقصان الإيمان
ومما يدل على نقصان الإيمان حديث حنظلة: (نافق حنظلة).
وهذا حديث جيد في إثبات الزيادة والنقصان.
وكذلك حديث: (يا معشر النساء! تصدقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار، قلن: ولم يا رسول الله؟! قال: لأنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير)، ثم قال: (وما رأيت أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن، يحسن إليها الدهر كله) إلى آخر الحديث، وفي الحديث الآخر قال: (أليس إذا حاضت تركت الصلاة فذلك نقصان دينها، أليس شهادتها على النصف من شهادة الرجل، وهذا نقصان عقلها)، والحديث الأول يدل على نقصان الدين، وهذا الحديث يثبت النقصان.(77/19)
الرد على المتكلمين إنكار زيادة الإيمان ونقصانه
قال: (وأنكر أكثر المتكلمين زيادة الإيمان ونقصانه، وقالوا: متى قبل الزيادة كان شكاً وكفراً)، يعني: بعض المتكلمين وبعض علماء المسلمين الذين تأثروا بالفلسفة قالوا: الإيمان لا يزيد ولا ينقص؛ لأنه لو قبل الزيادة لقبل النقصان، وإذا قبل النقصان كان شكاً، ويقولون: إن الإيمان هو التصديق، فلو قبل النقصان لكان شكاً، ومن شك في الله كفر، وهذا القول مردود؛ لأننا نتكلم عن زيادة الإيمان ونقصانه غير المتعلق بأولى المنازل التي هي التصديق، ومعلوم أن الإيمان منازل ومراتب، فأول منزلة فيه التصديق، ثم بعد ذلك يزيد مراتب متعددة على حسب الطاعات والأعمال الصالحة وأعمال البر، والإيمان بهذا يقبل الزيادة والنقصان.
وهم عندما يقولون: إن الإيمان إذا قبل النقص صار شكاً، إنما يتكلمون عن أصل الإيمان وهو التصديق بالله عز وجل وبفرائض الإيمان، ونحن إن وافقناهم على أن أصل الإيمان والمرتبة الأولى هي التصديق إلا أنا نقول: إنها تزيد وتنقص، ونقصان التصديق لا يلزم منه وقوع الشك؛ لأن التصديق نفسه مراتب، ولا يلزم من نزول الشخص من مرتبة إلى مرتبة في داخل المنزلة الأولى من منازل الإيمان -وهي التصديق- أن يكون شاكاً في الله عز وجل، ولو قلنا: إن نقصان التصديق يستلزم الشك لقلنا: إن إبراهيم كان شاكاً في الله عز وجل، وهذا محال.
فالرد عليهم: أن الإيمان يزيد وينقص، حتى وإن كانت هذه الزيادة والنقصان في أصل الإيمان والمنزلة الأولى منه، وهي التصديق، وذلك لا يستلزم شكاً؛ لأن هذه المنزلة الأولى على مراتب أيضاً عند أهل السنة والجماعة، فليس إيمان النبيين كإيمان الصديقين، ولا كإيمان الشهداء، فكل له مرتبة ومنزلة.
قال: (قال المحققون من أصحابنا المتكلمين -أي: الشافعية- نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص -وعندنا أن نفس التصديق يزيد وينقص- والإيمان الشرعي يزيد وينقص -فهو يتكلم هنا عن الإيمان الشرعي باعتبار العمل يزيد وينقص- بزيادة ثمراته -أي: بزيادة أعمال الطاعات والبر ونقصانها- قالوا: وفى هذا توفيق بين ظواهر النصوص التي جاءت بالزيادة وأقاويل السلف، وبين أصل وضعه في اللغة وما عليه المتكلمون، وهذا الذي قاله هؤلاء وإن كان ظاهره حسناً إلا أن الأظهر والله تعالى أعلم أن نفس التصديق -والكلام للإمام النووي - يزيد بكثرة النظر وتظاهر الأدلة -أي: يزيد بكثرة النظر والتفكر في آلاء الله عز وجل، وتظاهر الأدلة- ولهذا يكون إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم؛ بحيث لا تعتريهم الشبه).
ولو جلست مع رجل من أهل البدع وألقى عليك شبهة فإنك ستتزعزع، مع أن عندك شيئاً من أصل التصديق، فالتصديق نفسه يزيد وينقص.
قال: (ولا يتزلزل إيمانهم بعارض، بل لا تزال قلوبهم منشرحة نيرة، وإن اختلفت عليهم الأحوال.
وأما غيرهم من المؤلفة ومن قاربهم ونحوهم فليسوا كذلك -وإن كان مسمى الإيمان يشمل الجميع- فهذا مما لا يمكن إنكاره، ولا يتشكك عاقل في أن نفس تصديق أبي بكر الصديق رضي الله عنه لا يساويه تصديق آحاد الناس، ولهذا قال البخاري في صحيحه: قال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل).(77/20)
إطلاق الإيمان على الأعمال عند أهل السنة
قال: (وأما إطلاق اسم الإيمان على الأعمال فمتفق عليه عند أهل الحق)، يعني: أهل السنة والجماعة يطلقون على الأعمال الإيمان، ويطلقون على الإيمان الأعمال، فالأعمال هي حقيقة الإيمان، وهي ثمرة من ثمراته.
قال: (ودلائله في الكتاب والسنة أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تشهر، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143]).
وإجماع المفسرين على أن هذه الآية نزلت لما وجل الصحابة من تغيير القبلة، فخافوا على صلاتهم السابقة هل قبلت أم لا؟ فأنزل الله عز وجل لما سألوا نبيه عن ذلك، قال: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ))، أي: صلاتكم السابقة محسوبة لكم عند الله تعالى يجازيكم بها خيراً، فسمى هنا العمل إيماناً.
فالصلاة عمل، وقد سماها الله تعالى إيماناً؛ لأنها من لوازم الإيمان الباطن، وبين الإسلام والإيمان علاقة وثيقة جداً، فإذا ذكر أحدهما دل على الآخر، وإذا افترقا افترقا في المدلول.
وقد عرف النبي صلى الله عليه وسلم تارة الإيمان بالإسلام، وعرف الإسلام بالإيمان، وكذلك ورد في غير ما آية من كتاب الله عز وجل تعريف الإيمان بالإسلام، وتعريف الإسلام بالإيمان، كما أن الله تعالى أثبت أن الأعمال هي الإيمان أو من ثمرات الإيمان، كما قال: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ))، أي: صلاتكم وأعمالكم.
قال: (وأما الأحاديث فستمر بك في هذا الكتاب كثيرة).(77/21)
صفة المؤمن الذي يحكم له بأنه من أهل القبلة ولا يخلد في النار
قال: (واتفق أهل السنة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين على أن المؤمن الذي يحكم بأنه من أهل القبلة ولا يخلد في النار لا يكون إلا من اعتقد بقلبه دين الإسلام اعتقاداً جازماً خالياً من الشكوك)؛ لأن من شك كفر، فمن شك في وجود الله عز وجل يكفر، ومن شك في أن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم يكفر كذلك، فالمؤمن الذي يدخل الجنة ولا يخلد في النار الذي آمن بجميع فرائض الإيمان والإسلام من غير شك.
قال: (ونطق بالشهادتين).(77/22)
حكم إسلام من نطق بإحدى الشهادتين دون الأخرى
قال: (فإذا اقتصر على إحداهما).
أي: لو قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ولم يقل: أشهد أن محمداً رسول الله، هل يحكم له بالإسلام أو لا يحكم له؟ اختلف الفقهاء في ذلك.
قال: (فإن اقتصر على إحداهما لم يكن من أهل القبلة أصلاً)، يعني: لو قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ولم يقل: وأشهد أن محمداً رسول الله لم يكن من أهل القبلة من الأصل، أي: لا يدخل بهذا في الإسلام.
قال: (إلا إذا عجز عن النطق لخلل في لسانه، أو لعدم التمكن منه لمعاجلة المنية).
يعني: لو قال: أشهد أن لا إله إلا الله ثم مات، فهذا يحكم له بالإسلام، أو على الأقل نتوقف فيه، والراجح أنه يحكم له بالإسلام، ولو قال رجل: أشهد أن لا إله إلا الله فأصابه الخرس بعد أن نطق بها، ولم يستطع أن ينطق بالشهادة الثانية حكمنا له بالإسلام في الظاهر وأمره إلى الله، وإن لم يعترضه عارض وعلة تمنعه من النطق بالشهادتين حكم عليه بالكفر.(77/23)
حكم اشتراط التلفظ بالبراءة مما خالف دين الإسلام لمن دخل في الإسلام
قال: (أما إذا أتى بالشهادتين فلا يشترط معهما أن يقول: وأنا بريء من كل دين خالف الإسلام)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله)، ولم يقل: وأن يتبرءوا من الكفر، وإنما سكت عن هذا.
قال: (إلا إذا كان من الكفار الذين يعتقدون اختصاص رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى العرب خاصة).
فإذا كان يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أرسل إلى العرب على جهة الخصوص كما كان كل نبي من قبل يرسل إلى قومه فقط وجب عليه أن يقول: وأنا بريء من كل دين يخالف دين الإسلام.
هذا رأي.
والراجح لمطلق النصوص وظاهرها أنه يكفيه للحكم عليه بالإسلام أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
قال: (وأما إذا اقتصر على قوله: لا إله إلا الله، ولم يقل: محمد رسول الله، فالمشهور من مذهبنا ومذاهب العلماء أنه لا يكون مسلماً، ومن أصحابنا من قال: يكون مسلماً ويطالب بالشهادة الأخرى، فإن أبى جعل مرتداً، ويحتج لهذا القول بقوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا اله إلا الله، فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم))، أي: باعتبار أن هذا الحديث لم يذكر الشهادة الثانية، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم اكتفى بإحدى الشهادتين عن ذكر الأخرى؛ لأنها من لوازمها، فليس في هذا حجة، ولا يثبت إيمان المرء إلا بالإتيان بالشهادتين على السواء.(77/24)
حكم إسلام من أتى بالعمل دون النطق بالشهادتين أو العكس
قال: (أما إذا أقر بوجوب الصلاة أو الصوم أو غيرهما من أركان الإسلام وهو على خلاف ملته التي كان عليها، فهل يجعل بذلك مسلماً؟)، يعني: لو قال شخص: إن الله عز وجل قد افترض الصلاة، وأنا موقن بذلك، هل يثبت له الإسلام بهذا؟ لا يثبت له الإسلام إلا إذا أتى بالشهادة، ولو أتى بجميع فرائض الإسلام بدون الشهادتين فلا يحكم له بالإسلام.
وإن أتى بالشهادتين وترك العمل فقد اختلف أهل العلم في تكفيره بترك الأعمال أو عدم تكفيره.(77/25)
الاستثناء في الإيمان والتكفير
قال: (واختلف العلماء من السلف وغيرهم في إطلاق الإنسان قوله: أنا مؤمن، أو قوله: أنا مؤمن إن شاء الله).
وهذه المسألة تعرف بمسألة الاستثناء في الإيمان، وقد قال الله عز وجل: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32].
فيجوز للمرء أن يقول: أنا مؤمن إذا كان يقصد مطلق الإيمان، وهو التصديق، ولا يجوز له أن يقول: أنا مؤمن إذا كان القصد منه الإيمان المطلق؛ لأنه في هذه الحالة يزكي نفسه، أو أنه يجوز ذلك من باب الإخبار، فيجوز أن يخبر عن نفسه وعن حقيقة قلبه بأنه يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره؛ لأن من لم يكن كذلك فليس من المؤمنين.
وأما الاستثناء فباعتبار الخاتمة والعاقبة، يعني: باعتبار أنه لا يعلم ما سيختم له به، فالاستثناء هنا جائز، ولا يجوز الاستثناء في الإيمان إلا بهذا الاعتبار، أي: باعتبار الخاتمة والعاقبة؛ لأنه لا يدري ما يختم له به.
قال: (وأما الكافر ففيه خلاف غريب لأصحابنا، منهم من قال: يقال: هو كافر، ولا يقال: إن شاء الله، ومنهم من قال: هو في التقييد كالمسلم على ما تقدم، فيقال على قول التقييد: هو كافر إن شاء الله؛ نظراً إلى الخاتمة وأنها مجهولة.
وهذا القول اختاره بعض المحققين).
والمذهب الراجح أن الكافر لا يستثنى فيه، فالكافر يقال: إنه كافر، حتى وإن أسلم بينه وبين نفسه إن لم يظهر هذا الإسلام، فيجوز للمسلمين أن يطلقوا عليه لفظ الكفر، مادام قد أخفى إيمانه، وأخفى الأعمال التي تدل على إسلامه أو إيمانه.
ويجوز للمسلم أن يطلق عليه لفظ الكفر ولا يستثني في ذلك، فيكون كافراً عند الناس، ويكون عند الله تعالى مؤمناً.
وهذه الشبهة دخلت على بعض المحققين من الاستثناء في إطلاق الكفر، أي: هل نقول للكافر في الظاهر: أنت كافر، أو نقول له: أنت كافر إن شاء الله؟ فقالوا: نحن لا ندري ما حقيقة أمره بينه وبين الله، ولا ما الخاتمة التي يختم له بها، ولذلك اختار بعض المحققين أن يقال: هو كافر إن شاء الله، وهذا قول مرجوح، والراجح أن الكافر إذا لم يعلن إسلامه وإيمانه أنه يقال فيه: كافر دون استثناء، وأما عاقبته فبينه وبين الله عز وجل.(77/26)
مذهب أهل السنة في التكفير بالذنب
قال: (واعلم أن مذهب أهل الحق أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب).
وقد أطلق المسألة هنا؛ لأن الذنوب منها ما يكفر به صحابه، فلو سب رجل مسلم الله عز وجل، أو استهزأ بالرسول فإنه يكفر بهذا.
فينبغي تقييد هذا الذنب، فنقول: أهل الحق وأهل السنة لا يكفرون أحداً من أهل القبلة بذنب إلا ذنباً يخرج من الملة.
قال: (ولا يكفر أهل الأهواء والبدع -أي: أهل السنة لا يكفرون أهل الأهواء والبدع إلا ببدعة يكفرون بها- وأن من جحد ما يعلم من دين الإسلام بالضرورة حكم بردته وكفره، إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة ونحوه ممن يخفى عليه فيعرف ذلك).
يعني: لو جاء أعرابي من البادية لا يعرف أي شيء عن فرائض الإسلام، حتى الصلاة فيعرف بذلك، وهذه المسألة ليست بعيدة، وهناك أناس في جنوب أفريقيا إلى الآن لا يعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل ولا أن اسمه محمد، وقد حدثني أحدهم في مكة العام الماضي أنه مصري، ولقي رجلاً من مصر دعاه إلى التوحيد وإلى الإيمان وإلى الإسلام، قال: وهذه أول مرة أسمع أن هناك نبياً أو رسولاً اسمه محمد، فإذا أسلم هذا الرجل فلا شك أنه لا يعرف في أول الأمر أركان الإيمان والإسلام، وشرائع الإيمان والإسلام، فمثل هذا الرجل لابد وأن يعلم أولاً، ولا يبادر بتكفيره، ولا بتفسيقه، فإن تعلم ما هو معلوم من الدين بالضرورة، ثم أنكر بعد قيام الحجة الرسالية عليه فإنه يكون مرتداً كافراً خارجاً عن ملة الإسلام.
قال: (فإن استمر حكم بكفره، وكذا حكم من استحل الزنا)؛ لأنه لا يخفى على مسلم أن الزنا حرام، وهذا معلوم من دين الله بالضرورة، فمن استحل ما حرم الله فهو كافر بعد أن يعلم، ومن حرم ما أحل الله فهو أيضاً كافر إذا كان هذا أمراً معلوماً بالضرورة، فالذي يحرم ما أحل الله، أو يحرم ما أحل الله خارج عن دائرة الإسلام إذا كان أمراً معلوماً بيناً عنده.
قال: (فهذه جمل من المسائل المتعلقة بالإيمان قدمتها في صدر الكتاب تمهيداً لكونها مما يكثر الاحتياج إليه، ولكثرة تكرارها وتردادها في الأحاديث، فقدمتها لأحيل عليها إذا مررت بما يخرج عليها.
والله أعلم بالصواب).
فأهل السنة لا يكفرون أحداً من أهل القبلة بذنب إلا ذنباً يكفر به، معنى ذلك: فالزاني لا يكفر عندهم، ولا يلزم من حديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، أن يكون كافراً، بل إنه يكون في لحظة هذا الفعل وارتكاب هذا الإثم على إسلامه وعلى أصل التصديق، وينفى عنه زيادة الإيمان وكماله وتمامه.
فأهل السنة لا يكفرون أحداً بذنب من أهل القبلة، وإنما يثبتون له الإسلام وأصل الإيمان، ولا يكفرون إلا من استحل ما حرم الله، أو حرم ما أحل الله بعد قيام الحجة عليه.(77/27)
مذهب أهل السنة في مرتكب الكبيرة
وأهل السنة والجماعة يقولون: من ارتكب كبيرة من الكبائر فأقيم عليه الحد فإن الله لا يحاسبه على هذه الكبيرة، فمن سرق وأقيم عليه حد السرقة وقطعت يده لا يحاسبه الله تعالى؛ لأن الحدود كفارات لأهلها، وإذا لم يقم عليه الحد وتاب تاب الله عليه، كما قال تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70].
فمن تاب إلى الله تاب الله عليه، وهذا وعد الله، ووعد الله لا يتخلف، والله تعالى إن شاء أنفذ وعيده وإن شاء عفا عنه.
وهذا معتقد أهل السنة والجماعة في الوعد والوعيد.
وأما إذا لم يقم عليه الحد، ولم يتب من هذا الذنب، وكان مصراً عليه ومات على هذا الإصرار، وهو يعلم أنه مذنب فهو هنا تحت مشيئة الله.(77/28)
شرح صحيح مسلم - كتاب الإيمان - ركن الإيمان بالله عز وجل
وجود الله عز وجل تشهد به العقول والفطر المستقيمة، كما يشهد به الحس أيضاً، وقد جاء الشرع بذلك.
والإيمان بالله عز وجل له أركان وشروط لا يكون العبد مؤمناً إلا بتحقيقها واستيفائها، ومن لم يحققها لم يكن مؤمناً بالله عز وجل.(78/1)
ما يستلزمه الإيمان بالله
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله هي الركن الركين والأصل الأصيل في أركان الإسلام.
فقد قال لما سئل: (ما الإسلام؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)، ثم عدد بعد ذلك فرائض الإسلام، فقال: (وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً).
وسنؤخر الكلام عن بقية الشرائع؛ لأنه سيأتي لها كلام مستفيض من خلال تعرضنا لشرح الفقه من صحيح مسلم، فهناك أبواب خاصة بالصلاة، وأخرى بالزكاة، وأخرى بالصوم والحج كذلك.
ثم سأل جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، فقال: (ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأن تؤمن بالقدر خيره وشره)،.
وسنتعرض هنا لأول ركن من أركان الإيمان، وهو الإيمان بالله عز وجل، وأركان الإيمان -كما هو معروف- ستة: الإيمان بالله، والإيمان بالملائكة، والإيمان بالكتب، والإيمان بالرسل، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره.
والإيمان بالله يستلزم أمرين: الأمر الأول: الإيمان بوجود الله عز وجل.
والأمر الثاني: الإيمان بتوحيد الله عز وجل.
ولابد من هذين الركنين حتى يستقيم الإيمان بالله عز وجل، فلابد من الإيمان بوجود الله تعالى، ثم توحيده عز وجل، فهذان ركنان ركينان لابد منهما، ولا يستقيم إيمان العبد بواحد منهما دون الآخر، فمن آمن بوجود الله عز وجل ولم يوحده فليس بمؤمن، ومن وحد الله عز وجل ولم يكن مؤمناً بوجوده عز وجل فلا شك أنه يجري خلف سراب، وقد ركب مركباً صعباً، إذ كيف يوحد عدماً أو سراباً؟! فلا يستقيم توحيد العبد لله عز وجل إن لم يكن مؤمناً بوجود الله عز وجل.
وأما الركن الثاني فهو توحيد الله عز وجل، وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلوهية أو الإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات.
فمن لم يؤمن بوجود الله عز وجل فليس بمؤمن، ومن آمن بوجود الله ولم يؤمن بانفراده بالربوبية فليس بمؤمن كذلك، ومن آمن بالله وأنه منفرد عز وجل بالربوبية ولكنه لم يؤمن بألوهية الله عز وجل فليس بمؤمن كذلك.
وتوحيد الألوهية هو الذي أرسل الله عز وجل من أجله الرسل وأنزل عليهم الكتب؛ حتى يقام توحيد الله عز وجل، وتوحيد الإلهية يسمى كذلك توحيد العبادة، ومن آمن بالله وانفراده بالربوبية والألوهية ولم يؤمن بأسمائه وصفاته فليس بمؤمن.(78/2)
الأدلة على وجود الله تعالى
السؤال عن وجود الله عز وجل لا يصدر من أهل التوحيد والإيمان، ولكنه قد يصدر من أهل الشرك والكفران والجحود، أو من المنافقين الشاكين المرتابين، أو من جهال المسلمين كذلك، وهذا ليس على سبيل إنكار وجود الله عز وجل، ولكن ربما يكون هذا السؤال مفاده معرفة الله عز وجل بالأدلة القطعية.
ولو كان هذا السؤال صادراً من أهل الشرك والكفران والجحود والنفاق فإننا نقول لهم: معرفة وجود الله عز وجل ثابتة بالعقل والحس والفطرة والشرع.
ولم نقدم هذه الثلاثة على الشرع لأن الشرع يستحق التأخير، بل الشرع مقدم على كل شيء، ولكن قدمناها على الشرع لأننا نرد على إنسان لم يؤمن بالله عز وجل، ومن الصعب أن نحاجه بآيات الله عز وجل وبأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، فينبغي أن نخاطب عقله وحسه وفطرته، ثم بعد ذلك نقول له: إن الذي ثبت عندك من خلال العقل والحس والفطرة قد ورد به الشرع، ثم نسرد له بعد ذلك الأدلة على وجود الله عز وجل.(78/3)
أولاً: دلالة العقل على وجود الله تعالى
فأما دلالة العقل على وجود الله عز وجل فنقول: هل هذه الكائنات الموجودة وجدت بنفسها وبذاتها، أو وجدت هكذا صدفة؟ وهذا سؤال يطرح على أصحاب العقول؟ فإن قال ذلك المسئول: وجدت بنفسها؟ ف
الجواب
أن ذلك مستحيل عقلاً مادامت معدومة، وإذا كانت هي في أصلها معدومة فكيف وجدت؟ وكيف تكون موجودة وهي معدومة؟ فالمعدوم ليس بشيء حتى يوجد، فضلاً عن أنه يوجد غيره.
وإن قال: وجدت صدفة فنقول: أيضاً هذا يستحيل، ثم نسأل هذا الجاحد: هل ما أنتج من الطائرات والصواريخ والسيارات والآلات وأنواعها من زخارف الدنيا وجدت بنفسها أو وجدت هكذا مصادفة؟ فلا شك أنه سيقول: إن لها صانعاً، فيقال له: لا يمكن أن يكون غير ذلك، وكذلك هذه الجبال والشمس والقمر والنجوم والشجر والرمال والبحار وغير ذلك لا يمكن أن توجد هكذا صدفة أو أن توجد نفسها.
وقد قيل: إن طائفة من أهل الهند أتوا إلى أبي حنيفة رحمه الله -وكان أبو حنيفة رحمه الله من أذكياء العالم في ذلك الزمان- يسألونه عن وجود الله عز وجل، وقد كانوا جاحدين ومنكرين لوجود الله، وأصل الشرك ظهر في الهند، وسيطر الشيطان من أول أمره على بلاد الهند في عبادة غير الله عز وجل، فقال أبو حنيفة: ائتوني بعد يوم أو يومين، فلما جاءوه قالوا: ماذا قلت، أو ماذا فعلت؟ قال أبو حنيفة: أنا أفكر في سفينة مملوءة بالبضائع والأرزاق جاءت تشق عباب الماء حتى أرست في الميناء وأنزلت الحمولة ثم ذهبت وليس فيها قائد ولا حمالون، فقالوا له: أتفكر في هذا وأنت إمام المسلمين؟ قال: نعم، قالوا: إذاً: ليس لك عقل، فهل يعقل أن سفينة تأتي بدون قائد وتنزل وتنصرف بدون قائد ولا حمال، فهذا ليس بمعقول، فقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: كيف لا تعقلون هذا وتعقلون أن هذه السماوات والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب والناس كلها بدون صانع ومدبر وخالق لها؟! فعرفوا أن الرجل خاطبهم بعقولهم وعجزوا عن جوابه.
والجاحد لآيات الله عز وجل ولوجوده لابد أن يخاطب بما يفهمه، أو بما تفنن فيه وتخصص فيه، ولذلك العرب الذين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم تحداهم القرآن أن يأتوا بمثل القرآن أو بعشر سور، أو حتى بسورة واحدة، وقد كانوا أهل بلاغة وفصاحة، وحتى الذي كان منهم يفتري على الله عز وجل الكذب، ويأتي بآيات من عنده مفتراة ومكذوبة كان أصحابه يعلمون أنه يكذب، ويعلمون أن كلامه كلام بشر، وليس كلام الله عز وجل.
وقيل لأعرابي من البادية: بم عرفت ربك؟ فقال: الأثر يدل على المسير.
وقد كان العرب ينظرون في الصحراء إلى أثر الأقدام، ويعرفون المار من خلال آثار الأقدام، وقد بلغوا في هذا مبلغاً عظيماً، فقد كانوا يقولون: صاحب هذا القدم هو ابن لصاحب هذا القدم.
قال الأعرابي: الأثر يدل على المسير، والبعر يدل على البعير -أي: أن البعرة على الأرض إنما هي نتاج طعام وشراب لبعير كان هناك- فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا تدل على السميع البصير؟ ولهذا قال الله عز وجل ذاماً وموبخاً للمكذبين الضالين: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35].
ومعنى الآية: هل خلقوا صدفة؟ أم هم الذين أوجدوا أنفسهم؟ وهذا الكلام خرج مخرج التوبيخ والتقريع لهؤلاء المكذبين الضالين.
فدلالة العقل دلالة قطعية على وجود الله عز وجل.(78/4)
ثانياً: دلالة الحس على وجود الله عز وجل
وأما دلالة الحس على وجود الله عز وجل فإن الإنسان يدعو الله عز وجل ويقول: يا رب! ويدعو بشيء ويستجاب له في هذا الشيء الذي دعا ربه به.
وهذه دلالة حسية يراها الإنسان بعيني رأسه، ويرى إجابة الله تعالى لسؤاله ودعائه، فهو لم يدع إلا الله وقد استجاب الله له، وقد رأى ذلك رأي العين، وكذلك نسمع عمن مضى وعمن هو موجود ممن دعا واستجاب الله تعالى لدعائه وآتاه سؤاله، وقد صنف الحافظ ابن أبي الدنيا كتاباً بعنوان: مجابو الدعوة، وكثير من الصحابة رضي الله عنهم كانوا مجابي الدعوة، وكذلك الأنبياء كلهم بلا استثناء كانوا مجابي الدعوة.
وقد دخل أعرابي والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يوم الجمعة فقال: هلكت الأموال يا رسول الله! وانقطعت السبل، وهلك الضرع والزرع -فشكا هذا الأعرابي القحط والجدب بسبب ارتفاع المطر وعدم نزوله، حتى كادت المدينة أن تهلك- فادع الله عز وجل أن يغيثنا بالمطر، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه إلى السماء ودعا الله عز وجل، يقول أنس: ووالله ما في السماء من سحاب ولا قزعة -أي: ولا قطعة سحاب ولا علامة سحاب- وما بيننا وبين سلع -وهو جبل في المدينة، تأتي من قبله السحب- من بيت ولا دار، أي: أننا لا يحجبنا عن المكان الذي يأتي منه السحاب بيت ولا دار، فكنا نرى السماء صافية تماماً، ولكن لما دعا النبي عليه الصلاة والسلام بهذه الأدعية نزل المطر ولم يكف مدة أسبوع كامل، فدخل ذلك الأعرابي في الجمعة المقبلة، وقال: يا رسول الله! هلك الزرع والضرع، أي: بسبب كثرة مياه الأمطار وغزارتها، فادع الله لنا.
وهذا يدل على أن الله تعالى استجاب دعاء نبيه في الجمعة الأولى وفي الجمعة الثانية، وهذه دلالة حسية على وجود الله عز وجل، وهذا أمر واقع وموجود، وهو يدل على وجود الخالق دلالة حسية.
وقال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60].
وقال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186].
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (دعاء المسلم بين ثلاث)، وفي رواية قال: (ما لأحدكم يدع الدعاء، يقول: دعوت ربي فلم يستجب لي؟ ودعاء المسلم بين ثلاث: إما أن يعجل الله تعالى له سؤاله في الدنيا -أي: بمجرد أن تسأل الله عز وجل يؤتيك سؤالك، ولعل هذا يكون أهونها، وأقلها فائدة لك- وإما أن يدفع عنه من البلاء مثله وأعظم، وإما أن يدخرها له في الآخرة فيكافئه الله بها)، وفي القرآن الكريم قال الله تعالى على لسان أيوب: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} [الأنبياء:83]، أي: إذ دعا ربه {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83].
ونحن نعلم ما نزل بأيوب عليه السلام من البلاء والضر في بدنه وفي ماله وفي أهله وفي امرأته كذلك، حتى قيل: إن لحمه تساقط، ولم يبق في بدنه إلا العصب والعظم والقلب يسبح الله تعالى به، وتناثر لحمه، وخرجت رائحته، حتى كان لا يكاد أحد يجرؤ على أن يقترب منه من نتن هذه الرائحة، ولم يكن يقترب منه في ذلك الوقت إلا امرأته، وظل هذا البلاء بأيوب عليه السلام ثمانية عشر عاماً، وكان إخوانه وأصدقاؤه وأصحابه يقولون له: إن هذا البلاء ما نزل بك إلا بذنب، ورجوه في أول الأمر أن يدعو الله عز وجل أن يرفع عنه البلاء، فرفض في أول الأمر، ثم لما كانت فتنة عظيمة دعا ربه وقال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83].
فالله عز وجل قال: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} [الأنبياء:84].
وقد قيل: إن امرأته احتاجت إلى أن تعمل خادمة في البيوت حتى تعيل نفسها وتعيل أيوب عليه السلام، وكثرت الروايات في هذا، ومنها ما هو غريب، ومنها ما هو من الإسرائيليات وغيرها.
ولم يثبت أن نبياً من الأنبياء أكل من تكفف الناس أو سؤالهم، فامرأة أيوب كانت تعمل عند الناس مقابل أجر، ولم تكن تتكفف الناس حتى يعيلوا أيوب، وإنما كانت تعمل وتأخذ أجرها فتنفق منه على أيوب عليه السلام في مرضه، قال تعالى: ((فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ)).
فلما رجعت امرأته ذات يوم وجدت أيوب عليه السلام في أحسن صورة وأكمل هيئة، فتوارت عنه ولم تعرفه، حتى قال لها: أنا أيوب، قالت: سبحان الله! واستنكرت، فأخبرها أنه دعا ربه أن يرفع عنه الضر، فرفع عنه الضر، وأبدله صحة وعافية، وأرجع إليه أهله وماله وأولاده، {فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء:84].
وهذه دلالة أيضاً حسية على وجود الله عز وجل، وليس هو موجوداً من باب أنه اسم مفعول بمعنى مخلوق، فهذا كفر، وإنما موجود بمعنى واجد، فهو اسم مفعول على وزن فاعل.(78/5)
ثالثاً: دلالة الفطرة على وجود الله عز وجل
والدلالة الثالثة على وجود الله عز وجل دلالة الفطرة، وكثير من الناس الذين لم تنحرف فطرهم يؤمنون بوجود الله عز وجل، حتى البهائم العجماوات تؤمن بوجود الله عز وجل.
وروي عن أبي الصديق الناجي في قصة سليمان: أنه خرج بقومه يستسقون، فوجد نملة نائمة على ظهرها أو مستلقية رافعة يديها أو رجليها إلى السماء تستسقي الله عز وجل، فقال سليمان لقومه: ارجعوا فقد سقيتم بدعاء النملة.
وهذه الرواية منقطعة بين أبي الصديق وسليمان عليه السلام، ولا تعرف هذه الرواية من قول النبي عليه السلام، ولا من قول أحد من أصحابه، وربما كانت من الإسرائيليات، وللإمام ابن القيم الجوزية عليه رحمة الله كلام كثير حول هذه الرواية في كتابه: اجتماع الجيوش الإسلامية.
والفطرة مجبولة على معرفة الله عز وجل، ولا أدل على ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة -وفي رواية: إلا يولد على فطرة الإسلام- فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه).
فهذا الحديث يدل على أن الجبلة والفطرة الأولى التي خلق الله تعالى عليها الخلق أولاً هي فطرة التوحيد وفطرة الإسلام، ثم يأتي اللوث والنجس والوسخ بعد ذلك بسبب الآباء والمجتمعات، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، أي: يجعلانه يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً.
وهذا الحديث يبين أن اليهودية والنصرانية والمجوسية من الكفر، وأن الإنسان إذا لم يكن مسلماً فلا بد وأن يكون كافراً.
وقد أشار الله عز وجل إلى دلالة الفطرة في قلب ابن آدم، فقال الله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172].
وهذه آية الميثاق التي أخذها الله عز وجل على ذرية آدم، فالله عز وجل أخرج هذه الذرية من ظهر آدم وصلبه وأشهدهم على أنه تعالى هو ربهم وإلههم، فشهدوا بذلك وأقروا به، فقال الله عز وجل: {قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172]، أي: فلو قلتم هذا فلن يقبل منكم هذا العذر {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} [الأعراف:173].
وهذا أيضاً عذر أقبح من ذنب، وهو غير مقبول ومردود عليكم، فمن أحسن فلنفسه ومن أساء فعليها.
فالذي يأتي بإحسان وبإسلام إلى الله عز وجل يتقبل الله تعالى منه ويجازيه جزاء المحسنين، ومن أتى بكفر وشرك وضلال فإن الله تعالى يعاقبه في الأولى والآخرة.(78/6)
رابعاً: دلالة الشرع على وجود الله عز وجل
وأما دلالة الشرع فهو ما جاءت به الرسل من شرائع الله عز وجل المتضمنة لجميع ما يصلح الخلق، وهذا يدل على أن الذي أرسلهم بها رب رحيم كريم عليم، ولاسيما هذا القرآن المجيد الذي أعجز الإنس والجن عن أن يأتوا بمثله.(78/7)
أنواع التوحيد
والأمر الثاني اللازم للإيمان بالله عز وجل هو توحيد الله عز وجل، وهو ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.(78/8)
أولاً: توحيد الربوبية
فأما توحيد الربوبية فلم يكن محل إنكار عند المشركين أولاً، فقد كانوا يعلمون أن الله تعالى هو رب الأرباب، وهو الخالق الرازق المدبر لأمر خلقه وشئون كونه، ولكن اللوث دخل بعد ذلك.
ومعنى توحيد الربوبية: إفراد الله عز وجل بالخلق والأمر والملك، والأمر بمعنى التدبير، أي: تدبير الكون والخلائق.
فحتى تكون مؤمناً لا بد أن توقن بأن الله تعالى رب دون ما سواه، وأنه تعالى متفرد بالخلق، ولا خالق غيره، ومتفرد بالتدبير فلا مدبر غيره، ومتفرد بالملك فلا مالك على الحقيقة غيره، ودليل ذلك قول الله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54].
ووجه الدلالة من هذه الآية أنه لما قدم الجار والمجرور أفاد أن الخلق والأمر متفرد بهما الله عز وجل لا يشاركه فيهما غيره، ولو قلنا: الخلق والأمر لله لجاز أن نقول: لله ولغير الله، فتقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر، بمعنى: أنه لا يصرف شيء من هذا إلى غيره، وألا أداة تنبيه، فالله عز وجل يستجمع القلوب والحواس وينبههم إلى خطورة هذا الأمر، ثم قال: ((لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ))، فقدم له، والأصل أنه كان في الآخر، أي: الخلق والأمر له، فلما قدم هذا الجار والمجرور على أصل الجملة دل ذلك على أن الخلق والأمر منحصر لله تعالى، وهو المتفرد بهما، ولا يجوز لأحد أن يدعي الخلق أو يدعي الأمر.
وأما الملك فدليله قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:189].
ونقول في وجه الدلالة من هذه الآية ما قلناه في قول الله عز وجل: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54].
أي: كان الأصل أن يقول: ملك السماوات والأرض لله، ولكنه قدم ما كان حقه التأخير فأفاد الحصر، أي: أن ملك السماوات والأرض لله وحده لا شريك له.
إذاً: فالرب عز وجل منفرد بالخلق والملك والتدبير.(78/9)
شبهة حول النصوص التي أثبتت خلقاً لغير الله والرد عليها
فإن قال قائل: كيف تجمع بين ما قررت وبين إثبات الخلق لغير الله؟ يعني: أن هناك من خلق الله عز وجل من أثبت الله تعالى له الخلق أو أثبت الرسول صلى الله عليه وسلم له الخلق، وقد ثبت هذا في قول الله عز وجل: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14].
وكلمة أحسن تفيد بظاهرها أن هناك خالق، ولكنه ليس بأحسن خلقاً من الله عز وجل، وإنما الله عز وجل أحسن الخالقين على الإطلاق، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في المصورين: (يقال لهم: أحيوا ما خلقتم)، وهذا كلام خرج على سبيل التقريع والتوبيخ للمصورين الذين ينحتون ويصورون الصور يضاهئون بها خلق الله عز وجل، ومثل قول الله تعالى في الحديث القدسي: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي).
و
الجواب
أن يقال: إن الخلق في اللغة خلقان: خلق بمعنى الإيجاد والتكوين من العدم، وخلق بمعنى التحويل، والله عز وجل له الخلق المطلق، أي: الإيجاد والتكوين الأصلي، وأما الذي يطلق عليه خالق من دون الله عز وجل فإنما يطلق عليه ذلك مجازاً، فيقال للنجار الذي يصنع هذا الطاولة مثلاً: قد خلقها وصنعها وفطرها، وليس معنى ذلك أنه خلقها من عدم، فمادة هذه الطاولة هي من خلق الله عز وجل، ولو اجتمع أهل الأرض جميعاً على أن يصنعوا ويخلقوا هذا الخشب فلن يقدروا على ذلك؛ لأن هذا هو ما تفرد الله عز وجل به منذ الأزل.
فالخلق نوعان: خلق بمعنى الإيجاد والتكوين والإحياء، وخلق بمعنى التحويل، فالنجار قام بتحويل هذا الخشب إلى دولاب أو طاولة أو كرسي أو غير ذلك من الأشياء التي ينتفع بها، فإذا قيل: إن النجار هو خالق ذلك الشيء الذي صنعه، فإنما ذلك من باب المجاز أو باعتبار التحويل الذي هو عليه في الواقع.
وقد قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج:73].
فقوله: ((إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)) (الذين) اسم موصول يشمل كل من دعي من دون الله عز وجل من ملائكة ومن أنبياء ورسل، ومن أولياء ومن شجر وحجر وشمس وغير ذلك، فكل من دعي من دون الله عز وجل يدخل تحت هذه الآية.
فقول الله عز وجل: ((إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ)) كأنه تحد لهم، فلو كانوا يخلقون كخلق الله عز وجل فاجعلوهم وأمروهم أن يخلقوا ذبابة، والله عز وجل لما ضرب هذا المثال أراد به تعجيز من ادعى أنه يخلق كخلق الله عز وجل، فتحداهم أن يخلقوا أتفه وأصغر حشرة وهي الذباب، وإذا كانوا في حال اجتماعهم لا يقدرون على ذلك، فكيف بحال انفراد كل واحد منهم؟ ثم قال الله عز وجل: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} [الحج:73]، أي: لو أن الذباب وقع على وجه ملك من ملوك الدنيا وأخذ منه شيئاً من طيبه أو من بدنه، فلن يستطيع ذلك الملك بجيوشه الجرارة أن يسترد من ذلك الذباب ما أخذه منه من طيب أو مسك أو غير ذلك.
فانظر إلى تحدي الله عز وجل بأقل حشرة مما خلق الله عز وجل.
ثم قال: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73].
وهذه هي النتيجة، فالله تعالى هو الخالق المدبر لأمر الكون.(78/10)
الجمع بين النصوص التي تثبت تفرد الله بالملك والنصوص التي تثبت ملكاً وتدبيراً للمخلوق
فإن قال قائل: كيف تجمع بين قولك: إن الله تعالى متفرد بالملك وبين إثبات الملك للمخلوقين، كما في قول الله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} [النور:61]، وقوله تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:6]؟ ف
الجواب
أن الجمع بينهما من وجهين، الأول: أن ملك الإنسان للشيء ليس عاماً شاملاً، فلو أنك تملك كتابك فلا شك أنك لا تملك كتابي، فملك الإنسان قاصر عن ملك الله عز وجل؛ لأن ملك الله تعالى عام وشامل، وأما ملك الإنسان فمخصوص ببعض الأشياء، والخلائق وما يملكون ملك لله عز وجل.
والثاني: أن ملك الإنسان للشيء ليس ملكاً حقيقياً، ولكنه ملك تصرف فقط، بدليل أنه لا يجوز له أن يتصرف فيما يملكه بدون شرع الله عز وجل، فإذا وهبه الله تعالى مالاً فليس حراً في إنفاق هذا المال فيما شاء، فليس حراً في أن يشرب به الخمر، ولا في إنفاقه في أي وجه إلا ما أمره الله عز وجل بإنفاقه فيه.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن علمه ماذا عمل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه).
والبعض يقول: هذا بدني وأنا حر فيه، هذا عمري وأنا حر فيه، وهذا وقتي وأنا حر فيه، وهذا فهم قاصر، فهو ليس حراً في عمره ولا في شبابه ولا في بدنه، والمقصود بالشباب هنا البدن؛ لأنه قال: (وعن شبابه فيما أبلاه).
وهذا يدل على أن البلى يقع على البدن، ولو كان الإنسان حراً في شبابه لجاز له قتل نفسه، أو التردي من جبل، أو شرب السم، ولكن من يفعل هذا فإنه يكون منتحراً قاتلاً لنفسه بغير حق، ولو أن الله تعالى وهب الشخص مالاً من حلال فأنفقه في حرام لحاسبه عليه.
فملك الإنسان في الحقيقة ملك قاصر ومحدود، وأما من حيث إباحة التصرف فليس له مطلق التصرف إلا فيما أذن الله تعالى له فيه.
وأما التدبير فللإنسان تدبير.
والفرق بين تدبير الإنسان وتدبير الله عز وجل من وجهين كالوجهين المذكورين في الملك، فالإنسان لا يستطيع تدبير إلا ما كان تحت حيازته وملكه، ولا بد أن يكون تدبيره على وفق الشرع الذي أباح له هذا التدبير.
وخلق الله تعالى وملكه وتدبيره عام مطلق لا يستثنى منه شيء.
وهذا هو توحيد الربوبية.(78/11)
أسباب نزول المرض بالعباد
وقد ذكر هذا شيخ الإسلام ابن القيم، ومن قبله شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية عليهما رحمة الله تبارك وتعالى، فينزل المرض بالعبد الصالح حتى يرفع الله تعالى به درجاته، وينزل على العبد العاصي حتى يكفر الله تعالى عنه خطاياه، وينزل بالأنبياء لفوائد عديدة جداً، منها: حتى لا يبلغ بهم أتباعهم مبلغ الألوهية؛ لأن المرض صفة نقص تلحق الإنسان، والله تعالى لا يلحقه مرض ولا تعب ولا كلل ولا ملل؛ لأن هذه صفات نقص تلحق المخلوقين دون الخالق سبحانه وتعالى، فهو سبحانه وتعالى منزه عن كل صفات النقص.
فالله عز وجل يبتلي الأنبياء حتى لا يبلغ بهم أتباعهم مبلغ الألوهية، كما بلغت النصارى بعيسى بن مريم عليه السلام، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل)، أي: ثم الأصلح فالأصلح، ولا يمنع هذا أن ينزل بلاء بأصحاب المعاصي، حتى يكفر الله عز وجل عنهم خطاياهم ومعاصيهم.(78/12)
ثانياً: توحيد الألوهية
القسم الثاني من أقسام التوحيد: توحيد الألوهية، وما من نبي أرسل في قومه إلا لأجل هذا التوحيد على جهة الخصوص، وكل العرب والمشركين والصابئة وغيرهم الذين كانوا في عهد إبراهيم ومن قبل إبراهيم عليه السلام كانوا يقرون بوجود الله عز وجل وأنه رب الأرباب، وأنه الخالق الرازق المدبر المحيي المميت، وغير ذلك من صفات الربوبية، ولكنهم كانوا يعبدون غيره، ومنهم من قال: إنه إله، وهو في السماء، ولا ينبغي أن ندخل عليه هكذا، وإذا كنا لا ندخل على الملوك دخولاً مباشراً فمن باب أولى -وهنا حكموا القياس والعقول- ألا ندخل على الإله وألا ندعوه إلا من خلال وسائط، وهذا تلبيس الشيطان عليهم.
ويمكن مراجعة هذه المسألة في كتاب الداء والداء في منتصفه تقريباً لشيخ الإسلام ابن القيم.
وقد فرض فرضاً فقال: إن المشركين لما عبدوا غير الله عز وجل واتخذوا الوسائط والشفعاء إلى الله عز وجل لم يكن قصدهم الشرك بالله، وإنما كان قصدهم تعظيم الله عز وجل وتبجيله، فكيف يعذبهم الله عز وجل ويعاقبهم على ذلك؟ ثم أجاب على ذلك جواباً متيناً جداً فيما يقرب من عشرين أو ثلاثين صفحة.
فقد قسم الشرك إلى أنواع متعددة، شرك متعلق بذات الله عز وجل، وشرك متعلق بالعبادة، وشرك متعلق بالإرادة، وشرك متعلق بالأقوال والأفعال.
ويمكن مراجعة هذا في الداء والدواء.
فتوحيد الربوبية: هو إفراد الله عز وجل بالخلق والأمر الذي هو تدبير أمر الخلق والملك، الخلق المطلق، والتدبير المطلق، والملك المطلق.
وأما خلق أو تدبير أو ملك المخلوق فليس مطلقاً، فإنك تقول: فلان رحيم، والله عز وجل تقول عنه: الرحيم، ورحمة المخلوق ليست كرحمة الخالق أبداً، وكما أنه لا نسبة أو قياس بين الخالق والمخلوق فكذلك لا يجوز قياس صفة من صفات المخلوق على صفة من صفات الخالق سبحانه وتعالى.
وتوحيد الألوهية هو: إفراد الله عز وجل بالعبادة، يعني: ألا تصرف شيئاً من عبادتك إلى غير الله عز وجل، ولو صرفت شيئاً من العبادة إلى غير الله فإنك لا تكون موحداً ولا عابداً على الحقيقة لله عز وجل، فلا تكون عبداً لغير الله عز وجل، ولا تعبد ملكاً ولا نبياً ولا ولياً ولا شيخاً ولا أماً ولا أباً، ولا تعبد إلا الله تعالى وحده، فتفرد الله عز وجل وحده بالتأله والتعبد، ولهذا يسمى توحيد الألوهية، أي: أنك لا تعبد إلا إلهاً واحداً، فتتأله وتتعبد له وحده، ومن هنا سمي هذا التوحيد بتوحيد الإلهية، أو توحيد الألوهية، ويسمى أيضاً توحيد العبادة، فباعتبار إضافته إلى الله تعالى يسمى توحيد الإلهية، وباعتبار إضافته للفاعل يسمى توحيد العبادة.(78/13)
أركان العبادة
والعبادة مبنية على أمرين عظيمين وهما المحبة والتعظيم، والتعظيم يستلزم الخوف، ولو أنك نفذت أمراً من أوامر ملوك الدنيا فإن تنفيذك لهذا الأمر غير تنفيذك لأوامر الله عز وجل، فتنفيذ أوامر المخلوقين ربما يختل فيها شرط من هذين الشرطين، فلو أن جباراً من الجبابرة أمرك أن تفعل شيئاً لفعلته من باب الخوف، ولكنك لا تفعله من باب المحبة أبداً، والعبادة لابد أن تكون قائمة على محبة الله عز وجل والإقبال على هذه العبادة بحب وشغف، ولا بد أن تكون مقترنة بالتعظيم والخوف والرجاء لله عز وجل، فلا بد فيها من الخوف من الله عز وجل ومن عقابه ومن ناره، وكذلك الرجاء في رحمة الله عز وجل وفضله وثوابه وجنته وجزائه الأحسن في الدنيا والآخرة.
قال الله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90].
فالرغب المحبة، والرهب التعظيم المستلزم للخوف والرجاء، فبالمحبة تكون الرغبة، وبالتعظيم تكون الرهبة والخوف، ولذلك كانت العبادة أوامر ونواه، أوامر مبنية على الرهبة وطلب الوصول إلى الآمر سبحانه وتعالى، ونواه مبنية على التعظيم والرهبة من هذا العظيم سبحانه وتعالى.
فإذا أحببت الله عز وجل رغبت فيما عنده وفي الوصول إليه، وطلبت الطريق الموصلة إليه، ولا يمكن أن يكون هذا الطريق إلا من خلال النبي صلى الله عليه وسلم، فالطريق إلى الله هو طريق الأنبياء والرسل، وطريق نبينا صلى الله عليه وسلم نسخ جميع الطرق وجميع الكتب، فينبغي أن يوصل إلى الله عز وجل من خلال نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، والقيام بطاعته على الوجه الأكمل، فإنك إن عظمته خفت منه، وكلما هممت بمعصية استشعرت عظمة الخالق سبحانه وتعالى فنفرت منها، والله تعالى يقول: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} [يوسف:24].
وهذه نعمة من الله على العبد، فإنه إذا هم بمعصية وجد الله أمامه فهابه وخافه وتباعد عن المعصية؛ لأنه يعبد الله تعالى رغبة ورهبة.
فالعبادة تستلزم شرطين: الشرط الأول: المحبة، والشرط الثاني: التعظيم.(78/14)
مفهوم العبادة
العبادة تطلق على أمرين: على الفعل وعلى المفعول، فهي تطلق على الفعل الذي هو التعبد، فلو أن رجلاً رآك وأنت تقوم وتركع وتسجد، لقال: إنك تعبد الله عز وجل بهذه الحركات التي تؤديها، فهي هنا تطلق على الفعل، وهو التعبد نفسه، كما تطلق على المفعول، وهو الذي تقربت به إلى الله تعالى، وهو التكاليف الشرعية من صلاة وصوم وزكاة وحج وغير ذلك.
وقد عرفها شيخ الإسلام ابن تيمية فقال: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله تعالى ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
وهذا التعريف ينصب على المفعول، أي: على أعمال الجوارح وأعمال القلوب، وأقوال الجوارح وأقوال القلوب، أي: معتقدات القلوب، فشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عرف العبادة بالمعنى الثاني، وهو إطلاقها على المفعول دون الفاعل.(78/15)
الأدلة على تفرد الله تعالى بالألوهية
والدليل على أن الله تعالى متفرد بالألوهية قول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25].
فالله تعالى واحد في ألوهيته.
وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36].
فالخلق إنما خلقوا لعبادة واحد فقط، وهو الله عز وجل، حتى تتعلق قلوبهم به تألهاً وتعظيماً وخوفاً ورجاء وتوكلاً ورغبة ورهبة، وحتى ينسلخوا عن كل شيء من الدنيا، والمخلوق لا بد أن يكون لخالقه قلباً وقالباً في كل شيء، وقد كانت دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام إلى هذا الأمر الهام العظيم عبادة الله وحده لا شريك له، ولم يكن الرسل الذين أرسلهم الله عز وجل إلى البشر يدعون إلى توحيد الربوبية بالدرجة الأولى، وإنما يدعون إلى توحيد الألوهية؛ لأن منكري توحيد الربوبية قليلون جداً، مثل فرعون لما قال لموسى: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23].
ففرعون أثبت لنفسه الربوبية والألوهية، فقد قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38].
وقال: ((وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ)).
وهذا كلام في معرض الإنكار على موسى عليه السلام.
أي: أتدعي يا موسى! أن هناك رباً غيري؟ وقال: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} [غافر:36]، أي: من أجل أن أصعد وأنظر إلى إله موسى، {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر:37]، أي: بل هو كذاب وضال.
وقال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران:18].
فأول من شهد له بالألوهية هو الله عز وجل، فشهد الله أنه لا إله إلا هو، ثم ثنى بعد ذلك {وَالْمَلائِكَةُ} [آل عمران:18]، ثم قال: {وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران:18].
والقسط وهو: العدل، ولو ولم يكن لأهل العلم إلا هذه المنقبة لكفى.
والله عز وجل أثنى على أهل العلم فقال: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]؟ وكلما ازداد الرجل علماً ازداد معرفة بخالقه ومولاه وإلهه، والعالم بالله عز وجل يعلم حقيقة ما يجب لله عز وجل، ولا شك أنه يفرق عن غيره من الزهاد وغيرهم.
ثم قرر الله عز وجل هذه الشهادة بقوله: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18].
وهذا دليل واضح على أنه لا إله إلا الله عز وجل، وهذه الشهادة هي الشهادة الحق، وهي أعظم الشهادات.(78/16)
شبهة حول تسمية القرآن لأصنام المشركين آلهة والرد عليها
فإذا قال قائل: كيف تقرون هذه الشهادة مع أن الله تعالى في كتابه يثبت أن هناك آلهة أخرى غيره، كما قال تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الشعراء:213]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [المؤمنون:117].
قال: ((وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ))، أي: ومن يدع مع الله إلهاً آخر فإنما حسابه عند ربه؟ وقوله: ((لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ)) جملة خبرية اعتراضية، يقرر الله عز وجل فيها أن من عبد مع الله عز وجل إلهاً آخر لا يكون له عليه دليل ولا برهان، وبعض القراء يفهم من هذا أنه يجوز له أن يدعو مع الله عز وجل إلهاً آخر إذا كان له برهان، وهذا مثل الذين يؤولون ويحرفون الكلم عن مواضعه في قوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130].
فيقولون: نحن لا نأكله أضعافاً مضاعفة.
وهذا فهم خاطئ لكلام الله عز وجل وآياته، وهو تحريف للكلم عن مواضعه.
فقوله: ((وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ)) تقرير من الله عز وجل وإخبار بأن من دعا مع الله إلهاً آخر، فهذا الإله لا برهان له لا من جهة نفسه، ولا من جهة من ألهه وعبده، فلا يكون له دليل على صرف العبادة إلى غير الله عز وجل، ولذلك عقب الله تعالى بقوله: ((فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ))، أي: سيعاقبه عليه يوم القيامة، وأتبع ذلك بقوله: {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون:117].
وقال الله عز وجل: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [هود:101]، وقال تعالى على لسان إبراهيم: {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} [الصافات:86]، أي: تبغون وتشرئب أعناقكم إليها، فأنتم تعبدون إفكاً وزوراً، وتعبدون التراب الذي صنعتموه بأيديكم، فتتوجهون إليه بالعبادة والتأله وأنتم قد صنعتموه بأيديكم، أفليس لكم عقل وفكر وقلوب واعية؟! ف
الجواب
أن ألوهية ما سوى الله تعالى باطلة، وهي مجرد تسمية فقط، ولذلك قال سبحانه وتعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم:23].
فسماها الله تعالى آلهة باعتبار تسميتهم هم، ثم ذكرها في معرض النقص والذم والتوبيخ والعجز، وأنها لا تملك نفعاً ولا ضراً، وكل ذلك بيد الله عز وجل، فهي باطلة، وما عبدها وتأله إليها إلا من ضل فهي ليست أهلاً لأن تعبد، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} [لقمان:30].
وهذان النوعان من أنواع التوحيد -توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية- لم يكن يجحدهما ولا ينكرهما أحد من أهل القبلة المنتسبين إلى الإسلام من قبل، ولكن هناك الآن من ينكر توحيد الألوهية، وهناك من ينكر توحيد الربوبية، وهذه الأمة لن تعدم خيراً، ولن تعدم شراً كذلك، فهناك من بني جلدتنا من يتكلم بألسنتنا بل ويتكلم بالكتاب والسنة -عياذاً بالله- وينكر أموراً معلومة من الدين بالضرورة، ويزحزح ثوابت ثبتت في قلوب الأمة وفي عقولها.
وحسبنا الله ونعم الوكيل.
والهنود يعبدون البقرة، وهناك من يعبد الملائكة، وهناك من يعبد الشيطان، وهناك من يعبد الشجر والحجر والشمس والقمر، وغير ذلك من المعبودات التي هي من خلق الله عز وجل.(78/17)
تأليه السبئية لعلي بن أبي طالب
وعبد الله بن سبأ اليهودي دخل الإسلام ليكيد للإسلام من باطنه، فادعى ألوهية علي بن أبي طالب، وقد دخل من بوابة التشيع وحب آل البيت، حتى بلغ إلى الرفض، ثم بلغ بعد ذلك إلى تأليه علي بن أبي طالب، ولما علم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بهذا أرسل في إثره يطلبه هو وأتباعه من السبئية الذين يتبعون عبد الله بن سبأ، ثم خد لهم علي بن أبي طالب الأخاديد وأجج فيها النيران؛ ليحرق هذه الفرقة الضالة التي زاغت عن سبيل الله عز وجل، وأدعت ألوهية غير الله عز وجل في أحد من خلقه وهو علي بن أبي طالب.
وقيل: إن عبد الله بن سبأ هرب منه، فلم يستطع علي أن يمسك به، وحرق أتباعه، وهم السبئية.
ولما حرق علي بن أبي طالب أصحاب عبد الله بن سبأ قال: الآن أيقنت أنك أنت الله، فلم يرجع عن معتقده الفاسد، بل قال: الآن أيقنت أنك أنت الله؛ لأنه لا يحرق بالنار إلا رب النار.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: لقد صنع عبد الله بن سبأ كما صنع بولس حين دخل في دين النصارى ليفسد دين النصارى.
وهناك بين اليهود والنصارى من العداوة والخلاف ما الله به عليم، ولكنهم يجتمعون لأن العدو واحد، وهو الإسلام وأهله، ولكنهم لو فرغوا من هذا -وهذا أبعد عليهم والشمس أقرب إليهم من هذا- فإننا سنرى بعد ذلك العداوة البغيضة بين اليهود والنصارى، وبين طوائف النصارى ذاتها، وقريباً أسلم رجل فقلت له: أنت كنت أرثوذوكسياً؟ فقال: أعوذ بالله أنا كنت كاثوليكياً.
وكله كفر.
وقد قسم التوحيد إلى هذه الأنواع بعد الأئمة الأربعة، فهم لم يكن معلوماً عندهم هذا التقسيم، وإن كان صورته معلومة في قلوبهم كأي علم من العلوم.(78/18)
ثالثاً: توحيد الأسماء والصفات
توحيد الأسماء والصفات هو الذي كثر الخوض فيه، وهو بيت القصيد في خلاف الفرق الإسلامية.
وتوحيد الأسماء والصفات اختلف فيه الناس إلى طرفين ووسط، فمنهم الممثل والمشبه، وهذا يدور أمره بين التكذيب والتحريف، وعلى النقيض -أي: وعلى الطرف المقابل- هناك المعطل، والتعطيل قرين الشرك، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وكل معطل مشرك، فدل بهذا على أن التعطيل قرين الشرك.
وهناك المعتدل وهم أهل السنة والجماعة.(78/19)
أول ظهور بدعة الخوارج
وأول بدعة ظهرت في هذه الأمة هي بدعة الخوارج الذين خرجوا على علي بن أبي طالب، وقد خرج زعيمهم على النبي عليه الصلاة والسلام، وهو ذو الخويصرة التميمي، عندما دخل على النبي عليه الصلاة والسلام وهو يقسم ذهبية أتت إليه من اليمن من عند علي بن أبي طالب، فقال: (يا محمد! اعدل، قال: ويحك، ومن يعدل إذا لم أعدل؟).
وقد كان هذا أول خروج على الجناب النبوي، وهذه جرأة عجيبة وتبجح، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (سيخرج من ضئضئ هذا من يقاتل المسلمين)، أو قال: (من تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم وصيامكم إلى صيامهم، ثم قال: يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ولئن لقيتهم لأقتلنهم).
ثم خرج أبناء ذلك الرجل التميمي ذي الخويصرة على علي بن أبي طالب وغيره، وقاتلوا المسلمين في عدة مواقع في الجمل وصفين وغيرها، وكانت لهم علامات وأمارات عرفوا بها، والنبي صلى الله عليه وسلم حددهم ووصفهم بأوصاف وأمارات، فظهروا بهذه العلامات التي وصفهم بها النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (سيخرج من ضئضئي هذا قوم تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم وصيامكم إلى صيامهم).
أي: أنهم أصحاب عبادة، وقال كذلك: (يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم -أو قال: حناجرهم-).(78/20)
العبادة على علم وبصيرة
وليس كل من عبد الله عز وجل وفي قلبه زيغ وضلال تشفع له هذه العبادة.
وقد تجد رجلاً من أهل البدع أو من الجهال أو العباد لا يحسن من دينه إلا العبادة فقط وبمجرد أن تلقى عليه شبهة يصدقها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة: (لا يزال الناس يسألونك عن العلم يا أبا هريرة! حتى يقول أحدهم: من خلق السماء؟ من خلق الأرض؟ من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول قائلهم: من خلق الله؟)، وهؤلاء هم أصحاب عبادة، قال أبو هريرة: (فإذا أنا ذات يوم في المسجد إذ دخل علي قوم من البادية، فقالوا: يا أبا هريرة! من خلق السماء؟ قلت: الله، قالوا: من خلق الأرض؟ قلت: الله، قالوا: من خلق كذا فظلوا يسألون عن العلم، قالوا: هذا الله خلق كل شيء، فمن خلق الله؟ فقال: فكان في يدي حصباء، أو قال: فتناولت كفاً من حصى فألقيته في وجوههم وقلت: قوموا عني صدق خليلي).
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر رواه البخاري ومسلم: (يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا، من خلق كذا؟ فتقولون: الله، فيقول: ومن خلق الله؟ فإذا بلغ بكم ذلك المبلغ فقولوا: أعوذ بالله من الشيطان، أو قال: فاستعيذوا بالله وانتهوا)، وفي رواية مسلم قال: (قولوا: آمنا بالله ورسوله).
فلا يغرنك عبادة أهل البدع، فإنما في قلوبهم مرض، ولذلك كان علي بن أبي طالب يؤدب العباد ويأمرهم بأن يتعلموا العلم أولاً، وأن يقفوا على ما يجب لله وما لا يجب له، وما يستحيل عليه من صفات النقص وغير ذلك، وكان يأمرهم أن يتعلموا دينهم أولاً، ثم إذا أرادوا أن يتفرغوا للعبادة تفرغوا لها، وهذا الكلام ذكره الخطيب البغدادي في كتاب الفقيه والمتفقه، كما ذكره أيضاً ابن عبد البر في كتاب جامع بيان العلم وفضله، فمن أراد فليرجع إليه للاستزادة، فهو حسن إن شاء الله تعالى.
فأول بدعة هي بدعة الخوارج، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟! قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي).
نسأل الله أن نكون منهم، وهم أهل السنة والجماعة.
يقول الإمام ابن تيمية: إن هذه الفرق الكثيرة التي هي ثلاث وسبعون مدارها على أربع فرق أو خمس، الخوارج، والقدرية، والمرجئة، والمعتزلة، والأشاعرة.
وهذا الكلام في الأجزاء الأول من الفتاوى، وهو كلام مبعثر في عدة مجلدات، وأحيلك على العشرة الأجزاء الأولى من الفتاوى، فارجع إليها واستفد من كلام شيخ الإسلام عليه رحمة الله، وإن شئت فارجع إلى كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.(78/21)
بدعة القدرية
ثم بعد الخوارج حدثت بدعة القدرية، وهم الذين قالوا: بنفي علم الله عز وجل، وبنفي كتابة الله عز وجل لما كان ولما سيكون إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها.(78/22)
بدعة المرجئة
ثم حدثت بعد ذلك بدعة الإرجاء، والمرجئة هم الذين قالوا بتأخير العمل عن مسمى الإيمان، وقالوا: العمل لا علاقة له بالإيمان؛ لأن الإيمان هو التصديق والإقرار، فمن قال: أنا مؤمن وإن كان من أفسق الناس وأضل الناس فإيمانه كإيمان جبريل وميكائيل، وهم القائلون: لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وقاسوا هذا في مقابلة ذاك، فقالوا: ما دام لا ينفع الكافر طاعة فكذلك لا يضر المؤمن معاصية، وإن سرق وزنى وقتل وارتكب جميع الموبقات والمحرمات والكبائر فلا يضره ذلك، ولا يخرجه عن إيمانه مادام أقر بأنه يؤمن بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
وهذا كلام مخالف لكلام أهل السنة والجماعة.(78/23)
بدعة المعتزلة
ثم جاء قوم من الأذكياء بعد هذه الثلاث الفرق وهم المعتزلة، فأخذوا قليلاً من مذهب المرجئة، وقليلاً من مذهب الخوارج، وكونوا مذهباً جديداً، وقالوا: إن العقل مقدم على الوحي، والوحي ضلال.
وسأذكر لك مثالاً ظريفاً جداً لتقديم العقل على النقل، حتى تعلم أن الذي يستمسك بالوحي يستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، وأن الذي يعتمد على عقله لابد وأن يضل ويزل، ووقت الحاجة إليه لا يجده، ويفر منه فراره من الأسد.
يقول صلاح الدين الصفدي في كتاب الوافي بالوفيات حاكياً عن شهاب الدين القرافي، وهو كان إماماً في المعقول، وكان كل شيء يعرضه على عقله، فإن وافق العقل قبله، وإن خالف العقل رده، وعن العلامة الإمام القرطبي صاحب التفسير عليه رحمة الله، وكان إماماً في الأثر، ومتمسك بالكتاب والسنة والأثر، قال: جمعت الرحلة بين القرطبي وبين شهاب الدين القرافي إلى الفيوم، قال: فلما دخلاها ارتادا مكاناً ينزلان فيه، فدلا على مكان، فلما أتياه قال لهما إنسان: يا مولانا! بالله لا تدخلاه؛ فإنه معمور بالجان، فقال القرافي: ادخلوا ودعونا من هذا الهذيان، ثم إنهما توجها إلى جامع البلد حتى يفرش الغلمان المكان، ثم عادا، فلما استقرا بالمكان سمعا صوت تيس من المعز يصيح من داخل الخرستان، وكرر ذلك الصياح، فامتقع لون القرافي، وخارت قواه وبهت، ثم إن الباب فتح، وخرج منه رأس تيس وجعل يصيح، فذاب القرافي خوفاً وارتمى على الأرض، وأما القرطبي فإنه قام إلى الرأس وأمسك بقرنيه وجعل يتعوذ ويبسمل ويقرأ قول الله عز وجل: {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس:59].
ولم يزل كذلك حتى دخل الغلام ومعه حبل وسكين، وقال: يا سيدي! تنح عنه، فأخرجه وأنكاه -أي: وطرحه أرضاً- وذبحه، فقالا له: ما هذا؟ فقال: لما توجهتما إلى الجامع رأيته مع شخص فاسترخصته واشتريته؛ لنذبحه لكم ضيافة لتأكلاه، وأودعته في هذا الخرستان، فأفاق القرافي من حاله وقال: يا أخي! لا جزاك الله خيراً ما كنت قلت لنا وإلا طارت عقولنا، يعني: وقت احتياجه إلى العقل لا يجد العقل، ولكنك لو كنت مستمسكاً بالأثر وطلبت أن تحتاج إليه تجده إن شاء الله تعالى.
ثم إن المعتزلة الذين يدعون أن العقل مقدم على الوحي قالوا قولاً بين قول المرجئة وقول الخوارج، فقالوا: الذي يفعل الكبيرة ليس بمؤمن -كما قال الخوارج- وليس بكافر -كما قال المرجئة- وإنما هو في منزلة بين منزلتين، كرجل سافر من مدينة إلى مدينة وهو في الطريق بين المدينتين، فلا هو في المدينة التي خرج منها، ولا هو وصل إلى المدينة التي هو ذاهب إليها، هذا في أحكام الدنيا، وأما في الآخرة فهو مخلد في النار.
هذا كلام المعتزلة.
وهو كلام كله تخبط وضلال.(78/24)
بدعة الجهمية
ثم حدثت بدعة الجهمية، وهم الجهم بن صفوان وأتباعه، وهذه البدعة لا تتعلق بمسألة الأسماء والأحكام، بل تتعلق بذات الخالق سبحانه وتعالى، فقد تدرجت البدع في صدر الإسلام، حتى وصلت إلى الخالق جل وعلا! وهذا لا يقبل العقل أن يتصف الله به.
وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(78/25)
شرح صحيح مسلم - كتاب الإيمان - الإيمان بالملائكة
الإيمان بالملائكة فرع عن الإيمان بالله تعالى، وركن من أركان الإيمان التي لا يقبل إيمان عبد إلا به، ويلزم منه الإيمان بأنهم خلق من خلق الله، خلقهم لعبادته، وتنفيذ أوامره في الكون، والتصديق بما يقومون به من أعمال، وكونهم من عالم الغيب لا يمنع من الإيمان الجازم الذي لا يخالطه شك بوجودهم.(79/1)
خلق الملائكة وصفتهم
الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
وبعد: فالإيمان بالملائكة وبالكتب وبالرسل وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره فرع عن الإيمان بالله عز وجل.
فإذا تكلمنا عن الإيمان بالملائكة فهذا يعني أننا نتكلم عن أحد فروع الإيمان بالله عز وجل؛ لأنا إذا أيقنا أن الملائكة رسل الله عز وجل استلزم هذا أن نؤمن بهم.
الملائكة: جمع ملأك بالهمز، أو جمع ملاك بالتسهيل، وأصل ملأك مألك بالتقديم والتأخير في الهمز؛ لأنه من الأَلُوكة أو الأَلْوَكة، والألوكة في اللغة هي الرسالة، قال الله تعالى: {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر:1].
وهم عالم غيبي خلقهم الله عز وجل من نور، وجعلهم طائعين له متذللين، ولكل منهم وظائف خصه الله تبارك وتعالى بها، وقد خلقهم الله تبارك وتعالى من نور، وهذا مصداق ما رواه مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها من أن المادة التي خلقوا منها هي النور، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم)، يعني: من طين من حمأ مسنون، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين لنا أي نور هذا الذي خلقوا منه.
ولذلك اختلفت الأقوال والآراء، هل هو من نور الصدر والذراعين، أو غير ذلك؟ فقد ورد عن ابن عمر وعطاء وغيرها، وهو غير صحيح عنهم، ولم يثبت عنهم ذلك.
ونحن علينا أن نؤمن بأن الله تبارك وتعالى خلق الملائكة من نور ونسكت، ولا نؤول هذا النور بغير دليل واضح في هذا الأمر.(79/2)
خلق الملائكة قبل البشر
الملائكة خلقوا قبل خلق البشر، قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30].
فهذا الخبر أخبر الله تبارك وتعالى به الملائكة قبل أن يخلق آدم، فقال: ((إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً))، أي: إني سأجعل في الأرض خليفة، وهذا يدل على أن الملائكة خلقوا قبل خلق آدم عليه السلام.
وقال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر:29].(79/3)
عظم خلق الملائكة واختلاف شكلهم عن الآدميين
الملائكة من حيث الخلق أعظم خلقاً من الآدميين، يعني: أكبر حجماً -طولاً وعرضاً- من الآدميين، بل شكل الملائكة الطبيعي الذي خلقهم الله تبارك وتعالى عليه يختلف عن شكل الآدميين.
قال الله تبارك وتعالى عن ملائكة النار: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، فوصف الملائكة هنا بأنهم غلاظ شداد، فطبيعة خلقهم ومادة خلقهم أشد من مادة وطبيعة خلق الآدميين.
ومن الأمثلة على ذلك: عظم خلق جبريل عليه السلام، فقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن مسعود قال: (رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته وله ستمائة جناح، كل جناح منها قد سد الأفق -فالجناح الواحد يسد الأفق، أي: ما بين السماء والأرض- يسقط من جناحه التهاويل -وهي الأشياء المختلفة الألوان- من الدر واليواقيت).
قال ابن كثير عليه رحمة الله: وفي سنن الترمذي: هذا حديث إسناده جيد، أي: رواية الإمام أحمد بن حنبل.
وفي سنن الترمذي بإسناد صحيح أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في جبريل: (رأيته منهبطاً من السماء ساداً عظم خلقه ما بين السماء والأرض)، يعني: جبريل سد ما بين السماء والأرض لعظم خلقه.
وقال الله تعالى في وصفه: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:19 - 21].
والمراد بالرسول الكريم هنا جبريل، وذي العرش أي: رب العزة سبحانه وتعالى.
ومثال آخر يدل على عظم خلق الملائكة: روى ابن أبي حاتم وأبو داود عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أذن لي أن أحدث عن أحد حملة العرش أن ما بين شحمة أذنه وعاتقه مسيرة سبعمائة عام).
فكيف بحجم بدنه كله؟! وفي رواية أخرى لـ ابن أبي حاتم: (لخفقان الطير) أو قال: (يخفق الطير -أي: يطير فيها الطائر- مسيرة سبعمائة عام).
وروى الطبراني في معجمه الأوسط بإسناد صحيح عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أذن لي أن أحدث عن أحد حملة العرش رجلاه في الأرض السفلى وعلى قرنه العرش، وبين شحمة أذنيه وعاتقه خفقان الطير سبعمائة عام، يقول -أي: الملك-: سبحانك حيث كنت).
والملائكة لها أجنحة كثيرة، فمنهم من له جناحان، ومنهم من له ثلاثة، ومنهم من له أربعة، ومنهم من له أكثر من ذلك إلى ستمائة جناح، وهذا يدل على أن الملائكة يتفاوتون أيضاً في الخلق وفي القدرة.
قال الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر:1]، يعني: يزيد بعد ذلك في أصل الخلق أو في الأجنحة، {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فاطر:1].(79/4)
جمال الملائكة
خلق الله تبارك وتعالى الملائكة على أحسن صورة وأجملها، كما قال تعالى عن جبريل عليه السلام: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم:5 - 6].
ومعنى: ((ذُو مِرَّةٍ)) أي: ذو جمال وحسن منظر، كما ذكر ذلك ابن عباس، وقال قتادة: ((ذُو مِرَّةٍ)) أي: ذو خَلْق طويل حسن، وقيل: ((ذُو مِرَّةٍ)) أي: ذي قوة، واللغة تحتمل هذا وذاك، وقد تقرر عند الناس أنهم يصفون الجميل بأنه ملك من الملائكة، كما ذكر في قصة صواحب يوسف عليه السلام أنهن قلن: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف:31].
وقد قلن هذا لما رأين جمال يوسف عليه السلام وحسن منظره.
والملائكة في أصل خلقتهم ليس بينهم وبين البشر شبه، فهم لا يشبهون بني آدم قط، وإنما يشبهونهم إذا تمثلوا في صورة آدميين، فهم لهم القدرة على التشكل والتلون، فإذا تشكلوا في صورة آدميين أشبهوهم، ومصداق هذا قول النبي عليه الصلاة والسلام: (رأيت جبريل فإذا أقرب من رأيت به شبهاً دحية)، أي: دحية بن الحارث الكلبي.
وهذا الشبه بين صورة جبريل وصورة دحية الكلبي إنما هو في الصورة التي يكون بها جبريل عندما يتمثل في صورة دحية؛ لأن أصل خلقة الملائكة تختلف عن أصل خلقة الآدميين.(79/5)
الملائكة متفاوتون في المقامات والخيرية
للملائكة عند ربهم مقامات متفاوتة معلومة، ولذلك قالوا: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} [الصافات:164].
فليست مقامات الملائكة عند الله عز وجل يشبه بعضها بعضاً، وإنما هي متفاوتة ومختلفة، وقد قال الله تبارك وتعالى في جبريل: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير:19 - 20]، أي: له مكانة ومنزلة عالية رفيعة عند الله.
وقيل: إن جبريل عليه السلام منزلته عند الله تبارك وتعالى أعلى من منزلة أي ملك من بقية الملائكة.
وأفضل الملائكة كذلك هم الذين شهدوا وقعة بدر، كما ذكر ذلك البخاري في صحيحه من حديث رفاعة بن رافع: (أن جبريل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تعدون من شهد بدراً فيكم؟ قلت: خيارنا، قال: وكذلك من شهد بدراً من الملائكة هم عندنا خيار الملائكة).(79/6)
الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا يفترون
الملائكة لا يوصفون بالذكورة ولا الأنوثة، والمشركون هم الذين يذكرونهم بهذا أو ذاك، والخوض في هذا الغيب من أسباب ضلال بني آدم، وبعضهم يحاول إخضاع هذه العوامل لمقاييسه البشرية الدنيوية، وقد رأينا أحد هؤلاء يتعجب في مقال له في صحيفة منشورة من أن جبريل كان يصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ثوان من إرساله إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ويتساءل كيف يأتي بهذه السرعة الخارقة، والضوء يحتاج إلى ملايين السنوات الضوئية ليصل إلينا بعضه؟ فهو أراد أن يطعن في سرعة الملائكة، ويقيسها على أكبر سرعة معلومة للعقل والعينين، وهو قياس فاسد.
والملائكة كذلك لا يأكلون ولا يشربون، ولذلك ورد في قصة الملائكة الذين أتوا إبراهيم عليه السلام: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} [هود:70]، وهذا لما قرب إليهم العجل الحنيذ السمين.
وكذلك الملائكة لا يملون ولا يتعبون، وإنما يقومون بعبادة الله تبارك وتعالى وطاعته وتنفيذ أوامره بلا كلل ولا ملل، ولا يدركهم ما يدرك البشر من ذلك، قال الله تبارك وتعالى في وصفهم: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20].
والفتور هو الملل والكسل، فهذا لا يلحق الملائكة ألبتة.
وقال تعالى في الآية الأخرى: {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت:38].
ومعنى السأم أي: الملل، يقال: سئم شيئاً إذا مله.(79/7)
مساكن الملائكة ونزولهم إلى الأرض
وأما منازل الملائكة ومساكنهم فهي السماء، كما قال الله تبارك وتعالى: {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الشورى:5].
وقد وصفهم الله تعالى بأنهم عنده، فقال: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت:38].
ومعنى: فالذين عند ربك، أي: فالذين في السماء.
وهم ينزلون إلى الأرض بأمر الله لتنفيذ مهمات نيطت بهم ووكلت إليهم، كما قال الله تبارك وتعالى على لسان جبريل: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم:64].
ويكثر نزولهم في مناسبات خاصة كليلة القدر، كما قال تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر:3 - 4]، والروح هو جبريل عليه السلام، {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} [القدر:4].(79/8)
عدد الملائكة وأسماؤهم
والملائكة خلق كثير لا يعلم عددهم إلا الذي خلقهم، كما قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31].
ومما يدل على كثرتهم قول النبي صلى الله عليه وسلم عن البيت المعمور الذي هو في السماء السابعة: (فإذا هو يدخله في كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه آخر ما عليهم)، أي: لا يعودون إليه مرة أخرى.
والحديث متفق عليه.
وعند مسلم من حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها).
وعلى هذا فالذين يأتون بجهنم فقط يوم القيامة أربعة مليارات وتسعمائة مليون ملك.
وإذا تأملت النصوص الواردة في الملائكة التي تقوم على الإنسان علمت مدى كثرتهم، فهناك ملك موكل بالنطفة، وملكان لكتابة أعمال كل إنسان، وملائكة لحفظه، وقرين ملكي لهدايته وإرشاده.
وللملائكة أسماء، ونحن لا نعرف من أسماء الملائكة إلا القليل، كجبريل وميكال، قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:97 - 98].
وجبريل هو الروح الأمين المذكور في قوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} [الشعراء:193 - 194].
وهو الروح المعني في قوله تبارك وتعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [القدر:4].
وهو الروح الذي أرسله الله تبارك وتعالى إلى مريم، {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} [مريم:17].
وهو الموكل بالوحي ينزل به من الله تبارك وتعالى إلى الرسل، كما أن إسرافيل هو الذي ينفخ في الصور، فإسرافيل هو الموكل بالنفخ في الصور، وجبريل هو الموكل بالوحي، وميكائيل هو الموكل بالقطر من السماء والنبات في الأرض، ولذلك يقولون: إن هؤلاء الملائكة الثلاثة مختصون بالحياة، فجبريل عليه السلام اختص بالوحي، والوحي فيه حياة القلوب، وميكائيل عليه السلام موكل بالقطر من السماء، وبه ينبت الزرع والثمار والفواكه والأطعمة من الأرض، وبه تحيا الأجسام والأبدان.
وأما إسرافيل عليه السلام فهو الموكل بالنفخ في الصور، أي: بإعادة الحياة إلى الأجسام البالية، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر هؤلاء الملائكة الثلاثة في دعائه في قيام الليل، فقد كان يقول: (اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم).
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتوسل في قيامه في الليل بربوبية الله تبارك وتعالى لهؤلاء الملائكة الثلاثة، جبريل وميكائيل وإسرافيل.
وهنا أيضاً مالك خازن النار، قال الله تبارك وتعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77].
وهناك رضوان، وهو خازن الجنة، وقد جاء مصرحاً به في بعض الأحاديث.
ومن الملائكة الذين سماهم الرسول صلى الله عليه وسلم منكر ونكير، وقد استفاض في الأحاديث ذكرهما في سؤال القبر.
ومنهم ملائكة سياحون في الأرض يلتمسون حلق الذكر والعلم، فإذا رأوها جلسوا يحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، يعني: أن الملائكة تحف مجالس العلم ويصعد بعضهم فوق بعض حتى يكون هناك اتصال بين مجلس العلم في الأرض وبين السماء.
ومنهم ملائكة يتعاقبون على بني آدم في الليل والنهار، كما قال الله تبارك وتعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11].
ومنهم ملائكة ركع وسجد لله في السماء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أطت السماء وحق لها أن تئط -والأطيط: هو صرير الرحل- ما من موضع أربع أصابع منها إلا وفيه ملك قائم لله أو راكع أو ساجد).(79/9)
الملائكة مخلوقات لها أجساد وعقول
فيجب علينا أن نؤمن بالملائكة، وأنهم عالم غيبي لا يشاهدون، وقد يشاهدون والأصل أنهم عالم غيبي، وهم مخلوقون من نور، ومكلفون بما كلفهم الله به من العبادات، وخاضعون لله عز وجل أتم الخضوع، كما قال تعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} [التحريم:6].
فالملائكة جبلوا على عبادة الله تبارك وتعالى وعلى عدم المعصية؛ لأنهم ليس فيهم شهوة، وهذا هو الذي حدا ببعض أهل العلم إلى القول بأن الملائكة لم يكلفوا كما كلف بنو آدم؛ لأنهم ليست لهم شهوة، والصحيح أن الملائكة كلفوا تكليفاً خاصاً بهم من الله عز وجل، وهذا يظهر من قوله تعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ}.
والأمر تكليف؛ إذ إن التكليف أمر ونهي وخشية ورجاء، وغير ذلك، فقوله: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] يدل على أنهم مكلفون، ولكن قد تختلف طبيعة تكليفهم عن طبيعة تكليف الآدميين؛ لاختلاف ذات الملائكة عن ذات الآدميين.
وهم أجساد بدليل قوله تعالى: {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ} [فاطر:1]، يعني: أصحاب أجنحة وذوات أجنحة، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم -كما تقدم- جبريل عليه السلام وله ستمائة جناح قد سد الأفق، وهذا خلافاً لمن قال: إنهم أرواح، فهم أجساد نورانية.
وقد أخطأ رجل من أكابر أهل العلم وأهل السنة فقال: الملائكة لا يعقلون؛ لأنهم أجساد نورانية، فليس لهم عقول، ونقول: قد قال الله تبارك وتعالى: ((لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ))، ومعلوم أن الأمر لا يكلف به إلا عاقل.
وقال الله تبارك وتعالى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20].
فهل هؤلاء الذين يسبحون ليست لهم عقول؟ وهل يأتمرون بأمر الله، ويفعلون ما أمرهم الله به، ويبلغون الوحي وليس لهم عقول؟! فأحق من يوصف بعدم العقل من قال: إن الملائكة لا عقول لهم.(79/10)
ملك الموت وقبض أرواح الموتى
هناك من يقول: إن ملك الموت هو عزرائيل، وهذا مذكور في بعض الكتب، إلا أنه ليس له أصل، فملك الموت اسمه ملك الموت، وإن كان له اسم آخر فالله تبارك وتعالى لم يطلعنا عليه ولم يخبرنا به، وإنما أخبرنا بأنه ملك الموت، والعوام يقولون: عزرائين بالنون، كما يقولون عن إسماعيل إسماعين، من باب التخفيف أو الإبدال.
وملك الموت هو الذي وكل بقبض الروح، قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة:11].
ومعنى: ((يَتَوَفَّاكُمْ)) أي: يقبض أرواحكم.
وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:61].
وهنا إشكال، فقد قال في الآية الأولى: ((قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ))، فأخبر أن الذي يتوفى هو ملك الموت، وقال: ((حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا))، ولم يقل: توفاه ملك الموت، وقال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر:42].
فهذه ثلاث آيات، فهل الذي يتوفى الأنفس الله تبارك وتعالى، أم الرسل، أم ملك الموت؟
و
الجواب
أنه لا منافاة بين هذه الآيات الثلاث؛ فملك الموت يخرجها من البدن ويكون معه ملائكة، فإذا أخرج الروح من البدن تلقفها الملائكة الذين بجوار ملك الموت، فإذا كان الرجل من أهل الجنة كان معهم حنوط من الجنة وأكفان من أكفان الجنة، فيأخذون هذه الروح الطيبة، ويجعلونها في هذا الكفن، ويصعدون بها إلى الله عز وجل، حتى تقف بين يدي الله، ثم يقول: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض، فترجع الروح إلى الجسد من أجل الاختبار في القبر، فيسأله الملكان: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ وإن كان الميت غير مؤمن -والعياذ بالله- فإنه ينزل إليه ملائكة معهم كفن من النار وحنوط من حنوط النار، فيأخذون الروح ويجعلونها في هذا الكفن، ثم يصعدون بها إلى السماء فتغلق أبواب السماء دونها وتطرح إلى الأرض، وهذا مصداق قول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31].
ثم يقول الله تبارك وتعالى: اكتبوا كتاب عبدي في سجين.
نسأل الله تعالى السلامة والعافية.
فهؤلاء الملائكة يأخذون الروح بعد أن يقبضها ملك الموت.
فالذي يقبض الروح من أصلها هو ملك الموت، ثم يتسلمها منه هؤلاء الرسل الذين قال الله عنهم: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:61].
فهؤلاء موكلون بأخذ الروح من ملك الموت إذا قبضها، وملك الموت هو الذي يباشر مسألة قبض الروح بنفسه، فلا منافاة بينهما.
ولما كان الآمر بقبض الروح على الحقيقة هو الله تبارك وتعالى نسبت الوفاة إليه في قول الله تبارك وتعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر:42].(79/11)
الملكان اللذان يسجلان أعمال العبد
ذكر بعض أهل العلم أن هناك ملكين يسمى أحدهما رقيباً والآخر عتيداً، والصواب: أنه ليس هناك من الملائكة من يسمى رقيباً ولا عتيداً، وقد أخذوا هذا من قول الله تبارك وتعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:17 - 18].
وما ذكروه غير صحيح، فالرقيب والعتيد هنا وصف للملكين اللذين يسجلان أعمال العباد، ومعنى رقيب وعتيد أي: ملكان حاضران شاهدان لا يغيبان عن العبد، وليس المراد أنهما اسمان للملكين.(79/12)
موت الملائكة عند نفخة الصعق
الملائكة يموتون كما يموت الإنس والجن، وقد جاء ذلك صريحاً في قول الله تبارك وتعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68].
والذين في السماء هم الملائكة، فالملائكة تشملهم هذه الآية لأنهم في السماء.
يقول الحافظ ابن كثير عليه رحمة الله في تفسير هذه الآية: هذه هي النفخة الثانية وهي نفخة الصعق، وهي التي يموت بها الأحياء من أهل السماوات والأرض إلا من شاء الله، كما جاء ذلك مصرحاً به في حديث الصور المشهور، ثم يقبض أرواح الباقين حتى يكون آخر من يموت ملك الموت؛ لأنه موكل بقبض الأرواح، حتى إذا لم يبق روح إلا روحه هو قبض روح نفسه، وينفرد الحي القيوم الذي كان أولاً وهو الباقي آخراً بالديمومة والبقاء، ويقول: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر:16] ثلاث مرات، ثم يجيب نفسه فيقول: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16].
ومما يدل أيضاً على أنهم يموتون قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88].
والوجه هنا تعبير عن ذات الله تبارك وتعالى.
وأما هل يموت أحد منهم قبل نفخة الصور؟ فهذا ما لا نعلمه ولا يعلمه أحد من البشر، فهو مما استأثر الله تبارك وتعالى بعلمه.(79/13)
صفات الملائكة الخُلُقية(79/14)
الملائكة كرام بررة
وأما عن الصفات الخلقية للملائكة فإن الله تبارك وتعالى وصفهم بأنهم كرام بررة في قوله: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس:15 - 16]، أي: القرآن بأيدي سفرة، والسفرة هم الملائكة الذين هم بمنزلة السفراء والرسل بين الله تبارك وتعالى وبين خلقه، وقد وصف الله تبارك وتعالى هؤلاء الملائكة بأنهم كرام بررة، أي: خلقهم كريم حسن شريف، وأخلاقهم وأفعالهم بارة طاهرة كاملة، ويؤخذ من هذا أنه ينبغي على حامل القرآن أن يكون في أفعاله وأقواله على السداد والرشاد.
وقد روى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرؤه وهو عليه شاق فله أجران).(79/15)
حياء الملائكة
ومن أخلاق الملائكة الحياء، فهم أشد حياء من بني آدم، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مضطجعاً في بيتها رضي الله عنها كاشفاً عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر، فأذن له وهو على تلك الحال -أي: لم يعتدل-، فتحدث، ثم استأذن عمر، فأذن له وهو كذلك، فتحدث، ثم استأذن عثمان، فجلس الرسول صلى الله عليه وسلم وسوى عليه ثيابه، فدخل فتحدث، فلما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عثمان، فجلست وسويت ثيابك؟ فقال: ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟).
فهذا وصف لبيان أن الملائكة تستحي، والحياء خلق عظيم، وهو من أخلاق أهل الإيمان، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة: أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)، ثم خص الحياء من بين شعب الإيمان بالذكر، فقال: (والحياء شعبة من شعب الإيمان).(79/16)
قدرة الملائكة على التشكل والانتقال بسرعة
وهب الله تبارك وتعالى الملائكة القدرة على التشكل والتلون، فقد أرسل الله تبارك وتعالى جبريل عليه السلام إلى مريم في صورة بشر، فقال: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم:16 - 17]، فقوله تعالى: ((فَتَمَثَّلَ لَهَا))، أي: صار مثل البشر، وتشكل في صورتهم، {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا} [مريم:18].
ومعنى الآية: قالت: إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً فابعد عني ولا تمسني بسوء وأذى؛ لأنها لما رأته في صورة بشر ظنته من البشر ولم تظنه جبريل ولا الروح الأمين، فاستعاذت بالله من شر الإنس، {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} [مريم:19].
وإبراهيم عليه السلام جاءته الملائكة في صورة بشر، ولم يعرف أنهم ملائكة حتى كشفوا له عن حقيقة أمرهم.
وجاءوا إلى لوط في صورة شباب حسان الوجوه، وضاق لوط بهم، وخشي عليهم قومه؛ لأنهم كانوا يأتون الذكران شهوة من دون النساء، والملائكة أحسن صورة من البشر، ولذلك خاف لوط عليه السلام أن يفضح بين أضيافه من فعل قومه، فقد كانوا قوم سوء يفعلون السيئات ويأتون الذكران من العالمين، كما قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود:77]، يعني: أن هذا اليوم لن يمر على خير إن رآكم قومي الذين أرسلت فيهم.
يقول ابن كثير: تبدى لهم الملائكة في صورة شباب حسان امتحاناً واختباراً حتى قامت على قوم لوط الحجة، وأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.
وقد كان جبريل يأتي الرسول صلى الله عليه وسلم في صفات متعددة، فتارة يأتيه في صورة دحية بن خليفة الكلبي الصحابي، وقد كان جميل الصورة جداً، وتارة في صورة أعرابي كما في حديث عمر بن الخطاب رضي الله تبارك وتعالى عنه.
وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فيما بعد أن السائل الذي جاءه وسأله هذه الأسئلة عن الإيمان والإحسان وأشراط الساعة، هو جبريل؛ ليعلمهم دينهم.
وقد رأت عائشة الرسول صلى الله عليه وسلم واضعاً يده على معرفة فرس دحية الكلبي -أي: عرف الفرس- ودحية الكلبي راكب عليه يحدث النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سألته عن ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: ذلك جبريل، وهو يقرئك السلام.
فهي تصورت أنه دحية، ولكنه جبريل.
وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده وابن سعد بسند حسن.
وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، وأنه لما هاجر تائباً جاءه الموت في منتصف الطريق، وهو مسافر إلى الأرض التي هاجر إليها، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فحكموا بينهما ملكاً أرسله الله تبارك وتعالى إليهم في صورة آدمي، يقول عليه السلام: (فجاءهم ملك في صورة آدمي، فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو لهم).
وهم إنما حكموه بأمر الله تبارك وتعالى.
والقصة في صحيح مسلم في باب التوبة.
وكذلك جاء في قصة الثلاثة الأبرص والأعمى والأقرع الذين ابتلاهم الله تبارك وتعالى من بني إسرائيل أن الملك تشكل بصورة كل منهم، وأتى كل واحد منهم على حدة.
وهذا يدل على أن الله تبارك وتعالى منح الملائكة القدرة على التشكل والتلون.
وأما عن عظم سرعتهم فإنهم بلغوا الذروة في السرعة، فقد كان السائل يسأل النبي صلى الله عليه وسلم فينزل جبريل عليه السلام بالجواب من السماء قبل أن ينصرف السائل، وهذا قد ورد في مناسبات كثيرة جداً.(79/17)
علم الملائكة
الملائكة أعلم من بني آدم في العلم الذي علمهم الله تعالى، وبنو آدم أعلم من الملائكة في معرفة الأشياء، ولذلك قال الله تبارك وتعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ} [البقرة:31]، فآدم علم الأسماء أولاً قبل أن يعلم الملائكة ذلك: {فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا} [البقرة:31 - 32].
وهذا إقرار واعتراف بأن آدم عليه السلام أعرف من الملائكة بمعرفة الأشياء والتعرف عليها.
فالإنسان يتميز بالقدرة على التعرف على الأشياء واكتشاف سنن الكون، والملائكة يعلمون ذلك بالتلقي المباشر عن الله تبارك وتعالى، ولكن الذي علمهم الله تبارك وتعالى إياه أكثر مما يعرفه الإنسان.
وقد أعطوا علماً عظيماً وهو علم الكتابة، قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10 - 12].
والملائكة تتحاور فيما بينها فيما خفي عليها من وحي ربها، ويدور بينها مناظرات ومحاورات كما يدور أيضاً بين أهل العلم من البشر.
ففي سنن الترمذي ومسند أحمد عن ابن عباس بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني الليلة ربي تبارك وتعالى في أحسن صورة) وهذا الحديث هو حديث اختصام الملأ الأعلى، وفيه إثبات أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه رؤية منامية.
والكافرون محجوبون عن الله تبارك وتعالى، فلا يرونه حتى في يوم القيامة، ولا يدخلون الجنة حتى يرونه، وأما المؤمنون فإنهم يرون الله تبارك وتعالى في عرصات القيامة قبل أن يدخلوا الجنة، فإذا دخلوها رأوا الله تبارك وتعالى على رأس كل أسبوع في يوم المزيد الذي هو يوم الجمعة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم لما سئل: (هل نرى ربنا يا رسول الله؟! قال: هل تضامون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا، قال: فإنكم ترون ربكم -أي: في الجنة ويوم القيامة- كما ترون القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب).
فكل من يدخل الجنة يرى الله تبارك وتعالى في يوم المزيد.
فهنا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أتاني الليلة ربي تبارك وتعالى في أحسن صورة).
وهذه الرؤية رؤية منامية، والنبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه عياناً في اليقظة قط، وإنما رآه في المنام.
(فقال -أي: الله تبارك وتعالى-: يا محمد! هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا، فوضع يده بين كتفي، حتى وجدت بردها بين ثديي، فعلمت ما في السماوات وما في الأرض، فقال: يا محمد! هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: نعم، في الكفارات والدرجات، فأما الدرجات: فإطعام الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام، وأما الكفارات: فانتظار الصلاة إلى الصلاة، والمشي على الأقدام إلى الجماعات، وإسباغ الوضوء في المكاره، قال: صدقت يا محمد! ومن فعل ذلك عاش بخير، ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه، وقال: يا محمد! إذا صليت فقل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وتتوب علي، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون).
وهذا الحديث قال عنه ابن كثير رحمه الله: هو حديث المنام المشهور، ومن جعله يقظة فقد غلط في ذلك.(79/18)
نظام الملائكة ودقتهم في تنفيذ الأوامر
الملائكة منظمون في كل شئونهم، فهم منظمون في عبادتهم، وقد حثنا النبي صلى الله عليه وسلم على الاقتداء بهم في ذلك، فقال: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ قالوا: وكيف يصفون عند ربهم؟ قال: يكملون الصفوف الأول فالأول، ويتراصون في الصف).
رواه الجماعة إلا البخاري.
وقد فضلنا الله على بقية الأمم بأن جعل صفوفنا كصفوف الملائكة، وهذا الحديث في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن اليمان.
وفي يوم القيامة كذلك تأتي الملائكة صفوفاً منتظمة، كما في قول الله تبارك وتعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22].
ويقفون صفوفاً بين يدي الله تبارك وتعالى، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ:38].
والروح هو جبريل عليه السلام.
ونلاحظ دقة تنفيذ الملائكة للأوامر من الحديث الذي في صحيح مسلم ومسند أحمد عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آتي باب الجنة فأستفتح، فيقول الخازن -واسمه رضوان-: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك).
وفي حديث الإسراء جبريل كان يستأذن في كل سماء، ولا يفتح له إلا بعد الاستفسار، من أنت؟ ومن معك؟ وهل بعث؟ وهل أرسل؟ وغير ذلك.(79/19)
عبادة الملائكة
الملائكة مطبوعون مجبولون على طاعة الله تبارك وتعالى، وليس لديهم القدرة على العصيان، قال تعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} [التحريم:6]، يعني: إذا وجه إليهم أمر فإنهم لا يعصون الله تبارك وتعالى، {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
فتركهم للمعصية وفعلهم للطاعة جبلة جبلهم الله تبارك وتعالى عليها، وقد فطرهم وخلقهم على ذلك، فلا تكلفهم الطاعة أدنى مجاهدة؛ لأنهم لا شهوة لهم.
ولعل هذا هو الذي دعا فريقاً من العلماء إلى القول: بأن الملائكة ليسوا مكلفين، ولا داخلين في الوعد والوعيد، ونحن نقول: إنهم ليسوا مكلفين بنفس التكاليف التي كلف بها بنو آدم، وأما القول بعدم تكليفهم مطلقاً فهو قول مردود، ترده الآيات والأحاديث، ومنها قول الله تبارك وتعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:50].
فقد قال في الآية: إنهم يخافون ربهم، والخوف نوع من أنواع التكاليف الشرعية، بل هو من أعلى أنواع العبودية.
وقال تعالى: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:28].
والملائكة لهم مكانة عظيمة عند الله تبارك وتعالى، وهذا بخلاف ما افتراه المشركون في قولهم: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} [الأنبياء:26]، فرد عليهم سبحانه بقوله: {سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء:26] فالله تبارك وتعالى وصفهم بأنهم عباد مكرمون، فوصفهم بأنهم عباد، أي: حق العبودية، فهم يعبدون الله تبارك وتعالى حق العبادة، ويقدرون الله حق قدره، وهم كذلك مكرمون.
ثم قال: {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:27 - 29].
فالملائكة عباد يتصفون بكل صفات العبودية، وهم قائمون بالخدمة، ومنفذون للأوامر، وعلم الله تبارك وتعالى بهم محيط، فلا يستطيعون أن يتجاوزوا الأوامر أو يخالفوا التعليمات الملقاة إليهم، بل هم خائفون وجلون، وعلى احتمال أن يتعدى أحدهم حده فإن الله تبارك وتعالى يعذبه جزاء تمرده.
ومن تمام عبوديتهم لله تبارك وتعالى أنهم لا يتقدمون بين يدي ربهم مقترحين، ولا يعترضون على أمر من أوامره، بل هم عاملون بأمره، مسارعون مجيبون، {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:27].
وهم لا يفعلون إلا ما يؤمرون به، فالأمر هو الذي يحركهم ويوقفهم، كما في صحيح البخاري عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: (ألا تزورنا أكثر مما تزورنا؟ -يعني: هل لك أن تزرونا أكثر من هذا؟ - فنزل قول الله تبارك وتعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64].
والشاهد من ذلك: أن الملائكة لا يصدر منهم فعل ولا قول ولا حركة ولا سكنة إلا بأمر الله تبارك وتعالى.
والملائكة يسبحون الله تبارك وتعالى، ويذكرونه بالتسبيح والتهليل والتعظيم، كما قال تعالى عن حملة العرش: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [غافر:7].
وليس حملة العرش هم الذين يسبحون الله تبارك وتعالى فقط، بل التسبيح ورد في عموم الملائكة، كما قال تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الشورى:5]).
وتسبيح الملائكة لله تبارك وتعالى دائم لا ينقطع، لا في الليل ولا في النهار، قال تعالى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20]، أي: لا يملون ولا يسأمون.
ولكثرة تسبيحهم كانوا هم المسبحون حقاً، وحق لهم أن يفخروا بذلك، وقد قالوا: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [الصافات:165 - 166].
فلما اتصل تسبيحهم وذكرهم لله تبارك وتعالى ولم ينقطع، ولم يفتروا أو يسأموا من ذلك حق لهم أن يفخروا بأنهم هم المسبحون على الحقيقة؛ وغيرهم يعتريه الملل والسأم والكلل، فحق للملائكة أن ينسب إليهم أنهم هم المسبحون حقاً.
والتسبيح أفضل الذكر، كما روى مسلم في صحيحه عن أبي ذر أنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذكر أفضل؟ قال: ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده -أي: الذي اصطفى الله لملائكته أو لعباده، وما هنا اسم موصول بمعنى الذي والذي اصطفاه الله تب(79/20)
حج الملائكة
وأما حج الملائكة فإن لهم كعبة في السماء السابعة يحجون إليها، وهي التي أسماها الله تبارك وتعالى: البيت المعمور، وأقسم بها سبحانه كما في سورة الطور: {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} [الطور:4].
قال ابن كثير عند تفسير هذه الآية: ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث الإسراء بعد مجاوزته السماء السابعة: (ثم رفع بي إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألفاً لا يعودون إليه آخر ما عليهم)، يعني: يتعبدون فيه، ويطوفون به كما يطوف أهل الأرض بكعبتهم، والبيت المعمور هو كعبة أهل السماء السابعة، وقد وجد النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج إبراهيم عليه السلام مسنداً ظهره إلى البيت المعمور؛ لأنه باني الكعبة الأرضية، والجزاء من جنس العمل، فلما بنى الكعبة لأهل الأرض أكرمه الله تعالى بدخول الكعبة التي هي في السماء السابعة.
وذكر ابن كثير أن البيت المعمور بحيال الكعبة، أي: في موازاة ومحاذاة الكعبة، ولذلك ورد في الخبر أن البيت المعمور لو خر على الأرض لخر على الكعبة، أي: لسقط على الكعبة، فالبيت المعمور في السماء السابعة في مقابلة الكعبة، أي: فوقها، فلو وقع لوقع عليها.
وذكر أن في كل سماء بيتاً يتعبد فيه أهلها، ويصلون إليه، والذي في السماء الدنيا يقال له: بيت العزة.
وقد ثبت من حديث علي بن أبي طالب: (أنه سئل: ما البيت المعمور؟ قال: بيت في السماء يقال له: الضراح، وهو بحيال الكعبة من فوقها، حرمته في السماء كحرمة البيت في الأرض، يصلي فيه كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة، ولا يعودون فيه أبداً).
وهذا موقوف على علي بن أبي طالب، وهو لا يقال من قبل الرأي، وهو إن كان فيه خالد بن عرعرة وهو مستور إلا أن له شاهداً مرسلاً من حديث قتادة بن دعامة، وهو (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوماً لأصحابه: هل تدرون ما البيت المعمور؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه مسجد في السماء تحته الكعبة، لو خر لخر عليها).
قال الشيخ الألباني رحمه الله: وجملة القول: إن هذه الزيادة -أي: (حيال الكعبة) - ثابتة بمجموع طرقها، وهذا يدل على ثبوت الحديث.(79/21)
خوف الملائكة من الله تبارك وتعالى
مما يبين شدة خوف الملائكة من الله تبارك وتعالى وخشيتهم له ما رواه النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله أن يوحي بالأمر أخذت السماوات منه رجفة -يعني: ترتجف السماوات وتهتز وترتج رجة عظيمة- أو قال: رعدة شديدة خوفاً من الله تبارك وتعالى، فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخروا لله سجداً -أي: صعقوا من رعدة السماء- فيكون أول من يرفع رأسه جبريل عليه السلام، فيكلمه الله تعالى من وحيه بما أراد).
وعند الطبراني في الأوسط بسند حسن عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مررت ليلة أسري بي بالملأ الأعلى، وجبريل كالحلس البالي من خشية الله تعالى).
والحلس البالي: هو الكساء الذي يبسط في أرض البيت، مثل السجادة عندما تصبح قديمة جداً ومهلهلة، فكذلك كان جبريل في حال خوفه من الله تبارك وتعالى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وصل اللهم على نبينا محمد.(79/22)
الأسئلة(79/23)
المدة المطلوبة لشرح صحيح مسلم
السؤال
إذا استمررنا في الدراسة بهذه الطريقة فهل سنكمل كتاباً واحداً من صحيح مسلم في سنة، وقد قلت: إننا إن شاء الله تعالى سوف نكمل صحيح مسلم في أربع سنوات؟
الجواب
نحن لسنا في الجامعة، ولسنا مطالبين بمنهج نكمله في ستة أشهر، وأنا لم أقل: إنني سأنتهي من شرح صحيح مسلم في أربع سنوات، فقد تصحف عليك السماع، بل قلت: إنني الآن أشرح كتاب المساجد في مسجد الهدى في الهرم، وكتاب المساجد في الجزء الخامس من شرح صحيح مسلم، وقد بدأت في شرح صحيح مسلم هناك من قبل وقضيت هناك في كتاب الإيمان عاماً ونصف عام، وكان الدرس في يومي الأحد والأربعاء، ثم ائذن لي أن أسألك: ما الذي يضرك في هذا؟ وهل تهتم بالكم أو بالكيف؟ نحن نعلم أن حديث جبريل عليه السلام حديث يشمل الدين كله، وهناك مقولة لبعض أهل العلم تقول: ينبغي على من تعرض لشرح هذا الحديث أن يشرح الدين كله، ونحن لا نقوم بهذا ولا بعشره؛ لأننا لا نعلم من الدين عشره ولا أقل من ذلك، ولكنه جهد المقل، وإنما نجمع مقولات أهل العلم؛ لنبلغها لطلاب العلم والمحبين لهذا الدين.
ونحن الآن نشرح كتاب الإيمان، ولابد من استقصاء الكلام في الإيمان الذي منه الإيمان بالله عز وجل، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله، وبيان معنى الإيمان والإسلام؛ لأننا بعد كتاب الإيمان سوف ندخل في الأحكام والفرائض والنوافل والسنن.
وهذه فرصة للتعرف على الإيمان بأركانه وحقائقه ومذهب السلف في كل مسألة من مسائله من خلال شرحنا لكتاب الإيمان، الذي عموده حديث جبريل، وهذا الكلام الذي تسمعه 90% منه فوائد لي أنا، لم أكن وقفت عليها من قبل، فأنا أريد أن أبلغه إليك، ونحن إن شاء الله سنحاول إنها كتاب الإيمان في ثلاث سنوات.(79/24)
حكم الصلاة والصيام عن الميت
السؤال
هل يصح الصيام والصلاة عن المتوفى، مع الدليل على ذلك؟
الجواب
الصلاة لا تجوز ولا تصح، وأما الصيام ففيه خلاف كبير بين أهل العلم، فالجمهور قالوا: لا يجوز الصيام عن الميت، وحملوا الأحاديث التي فيها قول النبي عليه الصلاة والسلام: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه) على الإطعام عنه.
وهذا تأويل يغاير ظاهر النص، ولا بأس بإجراء النص على ظاهره، وقد اختلف العلماء في هل يصوم عنه الفرض أو الواجب، فصيام النذر واجب، والراجح جواز الصيام عن الميت.
والله تعالى أعلم.(79/25)
شرح صحيح مسلم - كتاب الإيمان - الكلام في الأسماء والصفات
لقد تسمى الله عز وجل بأسماء، ووصف نفسه بصفات، ولما كانت هذه الأسماء والصفات غيباً عنا كان طريق إدراكها هو كتاب الله عز وجل، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو ما سلكه أهل السنة والجماعة في باب الأسماء والصفات، ووضعوا القواعد والأصول في هذا الباب على ضوئه، وقد ضل في هذا الباب طائفتان، طائفة غلت في إثبات الأسماء والصفات حتى شبهت الله بخلقه، وطائفة عطلتها، وحكموا أهواءهم وعقولهم في هذا الباب.(80/1)
افتراق أهل القبلة في توحيد الأسماء والصفات
الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: الإيمان بالله يستلزم أمرين: الأمر الأول: الإيمان بوجود الله عز وجل، والأدلة على الإيمان بوجود الله هي العقل والفطرة والحس والشرع، ودليل الشرع قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25].
ودليل الحس إجابة الدعاء.
ودليل الفطرة حديث: (ما من مولود يولد إلا ويولد على الفطرة)، وفي رواية: (إلا ويولد على هذه الملة)، وفي رواية: (إلا ويولد على ملة الإسلام)، أي: على فطرة الإسلام.
وقيل: إن الفطرة ما كتبه الله عليه من الشقاء أو السعادة أو ما هيئ له.
والراجح من الأدلة أن الفطرة هي فطرة الإسلام.
والأمر الثاني: توحيد الله وإخلاص العبادة له.
أنواع التوحيد ثلاثة، وهي: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.
ومعنى توحيد الربوبية: أن الله سبحانه وتعالى متفرد بالخلق والأمر والملك.
والأمر هنا بمعنى التدبير.
والفرق بين ملك الله عز وجل وملك العبد أن ملك الله عز وجل مطلق وهو عام وشامل، وأما ملك العبد فإنه مقصور ومحدود عليه.
وتوحيد الألوهية هو: إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة والتوحيد والألوهية.
افترقت فرق الإسلام في توحيد الأسماء والصفات على طرفين ووسط، فكانت المشبهة والممثلة والمجسمة والمنزهة على طرف، والمعطلة على طرف، وأهل السنة هم الوسط بين هؤلاء وهؤلاء.
وكانت أول الفرق ظهوراً هي الخوارج، ثم حدثت بعد ذلك القدرية، ثم المرجئة، ثم المعتزلة، ثم الأشاعرة.
انقسمت هذه الفرق في توحيد الأسماء والصفات أقساماً عديدة كالآتي: القسم الأول قالوا: لا يجوز أبداً أن نصف الله بوجود أو بعدم، ولا نثبت له الوجود ولا العدم؛ لأنه إن وصف بالوجود أشبه الموجودات، وإن وصف بالعدم أشبه المعدومات، قالوا: ومحال على الله عز وجل أن يوصف بالوجود أو بالعدم؛ لأنه يستلزم من وجوده أن يشبه الموجودات والمخلوقات.
ومن أجل ذلك قالوا: يجب نفي الوجود والعدم عن الله عز وجل؛ لأنه لا ينبغي أن يشابه الموجودات ولا أن يشابه المعدومات.
وحقيقة ما ذهبوا إليه هو أنهم شبهوا الخالق بالممتنعات والمستحيلات؛ لأن العدم والوجود لا يجتمعان ولا يرتفعان في الوقت نفسه، وكل عقول بني آدم تنكر هذا الشيء ولا تقبله، فهم فروا من شيء ووقعوا فيما هو شر منه وهذا عين الضلال.
القسم الثاني قالوا: نصفه تعالى بالنفي ولا نصفه بالإثبات، فهم يقولون: ليس بميت، ولا يقولون: إنه حي سبحانه وتعالى، ويقولون: ليس بجاهل، ولا يقولون: عليم.
مع أن الله تعالى أثبت لنفسه في الكتاب أكثر مما نفى، فلو أتينا إلى كتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم لوجدنا أن الإثبات أكثر من النفي، وهؤلاء يثبتون النفي ولا يثبتون الإثبات، ولاشك أن هذا الرأي أيضاً مردود عليهم، ولو احتججت على هؤلاء بأن الله تعالى قال عن نفسه: سميع بصير، أو أن الله تعالى أثبت لنفسه صفات، لردوا عليك بأن هذه النسبة أو هذه الأسماء والصفات التي أثبتها الله تعالى إنما هي نسبة إضافة، وليست نسبة حقيقة لله عز وجل، فهم يقولون: ليس له سمع، ولكن له مسموع، والمسموع هو خلقه.
ثم ظهر قسم آخر داخل هذا القسم يقول: هذه الأوصاف إنما هي لمخلوقاته وليست له، أما هو سبحانه وتعالى فلا نثبت له صفة.
القسم الثالث قالوا: نثبت له الأسماء دون الصفات، فهم لا يثبتون له صفات، وإنما يثبتون له الأسماء فقط، وهؤلاء هم المعتزلة، فقد أثبتوا لله تعالى الأسماء فقط، وقالوا: إن الله قدير حكيم عليم، ولكن قدير بلا قدرة، وحكيم بلا حكمة، وعليم بلا علم.
القسم الرابع قالوا: نثبت له الأسماء حقيقة -يعني: أن هذا الفريق وافق المعتزلة في إثبات الأسماء لله عز وجل- ونثبت له صفات معينة دل عليها العقل؛ لأن العقل يقبل نسبة هذه الصفات لله عز وجل، ولا يقبل نسبة غيرها من الصفات وهؤلاء هم الأشاعرة.
فالمعتزلة والأشاعرة يلتقيان في تحكيم العقل في صفات الله عز وجل، وإن كان الأشاعرة أخف وطأة من المعتزلة.
ومن أصول المعتزلة في هذا الباب: تقديم العقل على النقل.
فالأشاعرة أخف وطأة من المعتزلة؛ لأن المعتزلة نفوا جميع الصفات، وأما الأشاعرة فأثبتوا منها سبع صفات؛ لأنها تتفق مع العقل، ونفوا الباقي، والصفات التي أثبتوها مجموعة في قول الشاعر: له الحياة والكلام والبصر سمع إرادة وعلم واقتدار أي: القدرة.
فكأنهم آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعضه، ولكن هذا الكفر لم يكن كفر جحود ونكران، و(80/2)
مذهب المعطلة في أسماء الله وصفاته
والذين نفوا صفات الله عز وجل زعموا أن هذا تنزيه، فوقعوا في التعطيل.
والجهمية أتباع الجهم بن صفوان ينكرون جميع صفات الله عز وجل، والغلاة منهم ينكرون الأسماء، ويقولون: لا يجوز أن نثبت لله تعالى اسماً ولا صفة، وهؤلاء هم غلاة الجهمية، وأما عموم الجهمية، فإنما يثبتون لله تعالى الأسماء دون الصفات.
والغلاة منهم يقولون: إذا أثبت له اسماً شبهته بالمسميات، وإذا أثبت له صفة شبهته بالموصوفات.
فهم لا يثبتون لله اسماً ولا صفة، وما أضاف الله إلى نفسه من الأسماء فهو من باب الإضافة المجازية، وليس من باب التسمي بهذه الأسماء.
والجهمية والمعتزلة والأشاعرة يشملهم قسم التعطيل؛ لأنهم عطلوا الله عز وجل عن صفاته، وعطلوا الصفات عن الموصوف بها وهو الله عز وجل، ولكن بعضهم عطل تعطيلاً كاملاً كالجهمية، وبعضهم تعطيلاً نسبياً كالمعتزلة والأشاعرة، فالمعتزلة عطلوا الصفات، والأشاعرة عطلوا أكثرها وأثبتوا القليل منها.(80/3)
مذهب أهل التمثيل في أسماء الله وصفاته
وأما أهل التمثيل -وهم المشبهة- فيثبتون لله تعالى الصفات، ويقولون: يجب أن نثبت لله الصفات؛ لأنه أثبتها لنفسه، لكن يقولون: إنها مثل صفات المخلوقين.
ويقولون: نثبت لله تعالى اليد، ولكنها كيد المخلوق، ووجهاً كوجه المخلوق، ورجلاً كرجل المخلوق، وسمعاً كسمع المخلوق.
وهكذا بقية الأسماء والصفات، تعالى الله عز وجل عن قولهم علواً كبيراً.
ويقولون: إذا أثبتنا لله عز وجل الوجه فينبغي أن يكون هذا الوجه مشابهاً لوجه المخلوقين، وليس كأي وجه، وإنما نختار أجمل الناس وجهاً فنقول: وجه الله كهذا الوجه، وإذا أثبتوا لله تعالى السمع أتوا بأشد حاسة للسمع عند أي مخلوق وقالوا: إن الله تعالى يسمع كسمع هذا المخلوق، ويبصر كبصر هذا المخلوق، وهكذا، وهذا كله ضلال وكفر.
فهو على زعمهم والعياذ بالله مثل أحسن شخص من الشباب الإنساني، ويدعون أن هذا هو المعقول، وليس هو بمعقول.
فهؤلاء غلوا في الإثبات، وأهل التعطيل غلوا في التنزيه.(80/4)
مذهب أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات
وأما أهل السنة والجماعة فقالوا: نأخذ بالحق الذي مع الجانبين، أي: جانب أهل التعطيل وجانب أهل التمثيل والتشبيه، فنأخذ بالحق في باب التنزيه فلا نمثل، ونأخذ بالحق في جانب الإثبات فلا نعطل، بل إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تعطيل.
فكان أهل السنة والجماعة وسط في باب الصفات بين طائفتين متطرفتين، طائفة غلت في التنزيه والنفي، وهم أهل التعطيل من الجهمية وغيرهم، وطائفة غلت في الإثبات، وهم الممثلة.
وأهل السنة والجماعة تمسكوا بالنصوص التي أثبتت ونفت، كقول الله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11].
وهذا نفي للتشبيه، وبقوله تعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ))، على أن الله تعالى لا يشابه أحداً من خلقه، و (شيء) هنا نكرة تفيد العموم، أي: ليس شيء من خلقه يشبهه في صفاته ولا في ذاته، فكما أن المخلوق يختلف عن الخالق في الذات فلابد وأن يختلف لزاماً في الصفات والأسماء كذلك.
ثم قال تعالى: ((وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)).
وهذا فيه إثبات الصفات والأسماء لله عز وجل.
وخلاصة القول: إن أهل السنة والجماعة وسط بين هاتين الطائفتين، بين المعطلة وبين الممثلة والمشبهة، فلا يثبتون إثبات المشبهة، ولا ينفون نفي أهل التعطيل.
والذي يطالع كتب القوم -أي: أهل الكلام والفلاسفة والذين تكلموا في العقائد- الذين اعتنوا بأقوال الناس في هذا الأمر يرى العجب العجاب.
فهم يقولون في كتبهم: كيف يتفوه عاقل بإثبات صفات وأسماء الله عز وجل؟ ومن قرأ كتبهم فإنه يتعجب غاية العجب من نفيهم عن الله عز وجل ما أثبته لنفسه، ومن قولهم: إنما نثبت لله ما أثبته العقل وإن كان منفياً في الكتاب، وننفي عن الله تعالى ما ينفيه العقل وإن كان مثبتاً في الكتاب.
فجعلوا العقل هو الميزان الأكبر الذي يوزن به أسماء الله تعالى وصفاته.
والحقيقة أن الميزان الأكبر هو الكتاب والسنة، ولهذا ينبغي دائماً أن نسأل الله عز وجل الثبات على منهج أهل السنة والجماعة، وكثيراً ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك).
وكان يقول: (اللهم يا مصرف القلوب! صرف قلبي إلى طاعتك).
فينبغي على الإنسان الثبات على منهج أهل السنة والجماعة في كل أبواب العلم، وخاصة ما يتعلق بذات الإله سبحانه وتعالى، في أسمائه وصفاته وفي توحيد الربوبية والألوهية كذلك.
ومن تمام مقتضى حكمة الله عز وجل أنه يقيض لهذا الدين من يذب عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، فالله عز وجل هو الذي تكفل بحفظ هذا الدين وبإظهاره على الأديان والشرائع كلها، قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
فالله عز وجل هو الذي حفظ هذا الدين، فإذا تخلى رجل أو جماعة أو طائفة أو فرقة من أبناء هذه الملة عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم وعن طريق الكتاب العزيز، فإن الله تعالى يقيض له من يرده إلى الصواب، أو من يظهر الصواب والحق لبقية الأمة.(80/5)
قواعد وأصول في الأسماء والصفات
هناك قواعد وأصول ينبغي حفظها واعتقادها ودراستها دراسة متأنية حتى يكون عندنا الإيمان الكامل التام بأسماء وصفات الله عز وجل، وسنعيش مع هذه القواعد ونذكر ما تيسر لنا منها.(80/6)
الإيمان بالأسماء والصفات من لوازم الإيمان بالله
القاعدة الأولى: إن الإيمان بالأسماء والصفات من لوازم الإيمان بالله عز وجل، فإن ادعى رجل أنه يؤمن بالله عز وجل وأنه يوحده توحيد الربوبية والألوهية ولكنه لا يؤمن بالأسماء والصفات قلنا له: لست بمؤمن، فإن أنكر الأسماء والصفات إنكار جحود قلنا له: أنت كافر ولا كرامة، وإن كان ينكرها كما أنكرها الجهمية أو متأخرو الجهمية والمعتزلة والأشاعرة -أي: إنكار تأويل- فلا نكفره، ولكنا نقول له: إنك من أهل القبلة ولست من أهل السنة.
ووجه ذلك: أن الإيمان بالله عز وجل يستلزم الإيمان بأسمائه وصفاته، فذات الله تعالى تسمى بأسماء وتوصف بأوصاف، ولا يتصور ذات مجردة عن الأسماء والصفات لا في الشرع ولا في العقل ولا في الواقع كذلك، فالإيمان بالله عز وجل يستلزم أن تؤمن بصفات الله عز وجل وأسمائه؛ لأنه سبحانه وتعالى ذات مسمى بأسماء وموصوف بأوصاف، فلا يتصور أبداً لا في العقل ولا في النقل أن تؤمن بذات الله ثم تنفي عنه الأسماء والصفات.(80/7)
صفات الله من الأمور الغيبية
القاعدة الثانية: صفات الله عز وجل من الأمور الغيبية، والواجب على الإنسان نحو هذه الأمور الغيبية أن يؤمن بها على ما جاء دون أن يرجع إلى شيء سوى النصوص، فالأمور الغيبية الفيصل في إثباتها وعدم إثباتها وجود النص، ولو اجتمعت الأمة كلها -بل لو اجتمع أهل الأرض- على أن يثبتوا أمراً غيبياً ليس عليه دليل لا من كتاب ولا من سنة فقولهم مردود؛ لأنه لا يعلم الغيب إلا الله، والله عز وجل لا يطلع على غيبه أحداً من خلقه لا من الملائكة ولا الرسل إلا من أراد إطلاعه على ذلك فضلاً منه ومنة.
وإن ادعى رجل علم الغيب وأنه يأتيه وحي من الشيطان، وذكر أشياء فظهرت حقيقة بعد ذلك فهذا لا يخرجه عن كذبه وزوره وضلاله؛ لأننا عندنا أصل أصيل، وهو أنه لا يعلم الغيب إلا الله، ولما كانت ذات الله عز وجل غائبة عنا ويجب علينا الإيمان بذاته سبحانه وتعالى وبوجوده عز وجل لزم من ذلك أن نؤمن بأسمائه وصفاته، وكما أن الذات غائبة عنا فلابد وأن تكون الأسماء والصفات غائبة عنا، فلا نثبت منها لله تعالى اسماً أو صفة لم يثبته لنفسه، ولم يثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم.
وفي المقابل لا ننفي عن الله عز وجل اسماً أثبته لنفسه، ولا ننفي عنه اسماً أثبته له النبي صلى الله عليه وسلم.
فالأسماء والصفات من الأمور التوقيفية؛ لأنها عبادة، ومعنى أنها توقيفية: أننا نتوقف عن النفي والإثبات حتى يأتينا الدليل، فهي ليست محل اجتهاد الأمة؛ لأنها من الأمور الغيبية، فلا يجوز لنا أن نثبت ما لم يثبت، ولا أن ننفي ما هو ثابت لله عز وجل.
قال الإمام أحمد بن حنبل عليه رحمة الله: لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله، لا يتجاوز القرآن والحديث، أي: لا يحل لنا أن نتجاوز في الإثبات والنفي ما جاء في كتاب الله عز وجل وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فلا نصف الله إلا بما وصف به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
ويدل على ذلك القرآن الكريم والعقل الصحيح الموافق للنقل الصريح، ففي كتاب الله عز وجل يقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33].
وفي هذا تحريم القول على الله تعالى بغير علم، فإذا كان هذا في الإفتاء وفي البلاغ وفي البيان فكيف بإثبات ما هو لازم لله عز وجل من أسمائه وصفاته؟ لا شك أن هذا أنكى وأشر.
وقال الله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36].
ولو أننا أثبتنا لله تعالى ما نفاه عن نفسه، أو نفينا عن الله تعالى ما أثبته لنفسه فلاشك أننا قد قفونا ما ليس لنا به علم، والله تعالى سيحاسبنا على أقوالنا وأسماعنا وأبصارنا وغير ذلك، كما في قوله: ((إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)).
وأما الدليل العقلي في إثبات الأسماء والصفات لله عز وجل فهو: أن صفات الله عز وجل من الأمور الغيبية، ولا يمكن أن يدركها العقل، فلا نصف الله بما لم يصف به نفسه ولا نكيف صفاته؛ لأن ذلك غير ممكن لنا، وغير معقول كذلك في الفطر السليمة.
ونحن الآن لا ندرك كيفية نعيم الجنة، رغم أن الجنة والنار مخلوقتان الآن، وهما لا تفنيان ولا تبيدان، والله عز وجل يقول في الحديث القدسي: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).
والنبي صلى الله عليه وسلم لما وصف لنا شيئاً من ذلك ما وصفه إلا بعد أن اطلع عليه ورآه في الجنة، ولكنه ليس وصفاً تفصيلياً، وإنما وصف مجمل، والله عز وجل يقول: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17].
فالله تعالى أخفى علينا ما هو مخلوق الآن من نعيم الجنة وعذاب النار، وروحك التي بين جنبيك -والتي إذا خرجت منك صرت جثة هامدة- مخلوقة لله عز وجل، ولا يمكن وصفها رغم أنها موجودة في بدنك، فكيف نصف الله عز وجل ونشبهه بخلقه؟ فلابد من الإيمان بالأسماء والصفات كما جاءت، وهذا كان منهج السلف جميعاً، فقد كانوا يؤمنون بأسماء الله وصفاته، ويمرونها كما جاءت، ويؤمنون بها ولا يكيفونها، وإنا لنعلم قول أم سلمة وربيعة الرأي ومن بعدهم مالك لما سئل عن الاستواء قال: الاستواء معلوم -أي: في لغة العرب، وهو الارتفاع والعلو- والكيف مجهول.
ومذهب أهل السنة والجماعة تفويض الكيف لا تفويض المعنى، ومن قال: إن السلف كانوا يكيفون المعنى فقد أعظم عليهم الفرية، فإن السلف لم يكونوا يكيفون، بل كانوا يفوضون الكيف دون المعنى.
قال: الاستواء معلوم والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدع(80/8)
الواجب تجاه صفات الله تعالى
القاعدة الثالثة من قواعد الأسماء والصفات: هي أننا لا نصف الله تعالى بما لم يصف به نفسه، وإنما نثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وننفي عنه عز وجل ما نفاه عن نفسه.(80/9)
إجراء نصوص الكتاب والسنة في الأسماء والصفات على ظاهرها
القاعدة الرابعة: إجراء نصوص الكتاب والسنة على ظاهرها، لا نتعدى ذلك ولا نخوض فيه.
فلا نقول: إن الله تعالى يسمع كسمعنا، ولا يبصر كبصرنا؛ لأن الله تعالى له سمع يختلف عن سمعنا، وبصر يختلف عن بصرنا، فكما أن أسماءه تختلف عن أسماء المخلوقين، فكذلك صفاته تختلف عن صفات المخلوقين، وقد وصف الله نفسه بأن له عيناً، كما في قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]، وقوله تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14].
فلا نقول: إن المقصود بالعين هنا الرؤية؛ لأننا بذلك نكون قد نفينا عن الله عز وجل صفة من صفاته وهي العين، وإذا قلنا: إن اليد المقصود بها القدرة فإننا نكون بذلك قد نسبنا كلام الله إلى الهزل، فإن الله تعالى قد أثبت لنفسه اليد، وأثبت القدرة، وهكذا تكلم الله عز وجل كلاماً على الحقيقة، وليس مخلوقاً له، وإنما هو كلامه الذي هو صفة من صفاته اللازمة لذاته سبحانه وتعالى منذ الأزل وإلى الأبد.
والله تعالى لما أثبت لنفسه اليد والقوة والقدرة دل هذا على أن اليد شيء والقدرة شيء آخر.
فتعدد الأوصاف يستلزم تباينها، فليست القدرة هي اليد، ولا اليد هي القدرة؛ لأن كلاً منهما ثابت لله عز وجل.(80/10)
صفات الله عز وجل ذاتية وفعلية
القاعدة الخامسة: صفات الله عز وجل نوعان، صفات ذاتية وصفات فعلية.
فالصفات الذاتية لم يزل الله عز وجل ولا يزال متصفاً بها، وهي كذلك نوعان: معنوية وخبرية.
فالمعنوية: مثل الحياة والعلم والقدرة والحكمة وما أشبه ذلك من صفاته المعنوية.
وأما الصفات الخبرية فمثل اليدين والوجه والعينين، وغير ذلك مما له نظير في الاسم فقط عند مخلوقاته، فجوارح المخلوقين مثل العين واليد والوجه وغير ذلك تسمى صفات خبرية لله عز وجل، ولكنها ليست جوارح لله عز وجل، فإن الله تعالى له يد لكنها ليست كأيدي المخلوقين، وله وجه ليس كوجه المخلوقين، وله عين ليست كعين المخلوقين.
فهذه صفات خبرية لله عز وجل.
والله تعالى لم يزل له يدان ووجه وعينان منذ الأزل وإلى الأبد، ولم يحدث له يدان وعينان ووجه بعد ذلك، تعالى الله عن ذلك.
وهو سبحانه وتعالى لا ينفك عن شيء من هذه الصفات في المستقبل، أي: أن هذه الصفات الذاتية تظل باقية لله عز وجل؛ لأنها لازمة لذاته، وهذه الصفات مثل صفة الحياة والعلم والقدرة، فإن الله لم يزل حياً ولا يزال حياً، ولم يزل عالماً ولا يزال عالماً، ولم يزل قادراً ولا يزال قادراً، فلا تتجدد حياته كتجدد حياة المخلوقين، ولا تتجدد قدرته كتجدد قدرة المخلوقين، بل هو موصوف بهذا أزلاً وأبداً، وتجدد المسموع لا يستلزم تجدد السمع، فأنا مثلاً عندما أسمع الأذان الآن فهذا ليس معناه أنه حدث لي سمع جديد عند سماع الأذان، بل هو موجود منذ خلقه الله تعالى، ولكن المسموع يتجدد، يعني: ما دامت الأصوات موجودة فأنا أسمعها ما دامت هذه الحاسة لم تتعطل، وهذا يقال فيه: تجدد المسموع، وتجدد المسموع هذا إنما هو في حق المخلوق دون الخالق سبحانه وتعالى، فالله تعالى لا يزال سميعاً بصيراً، ولم يزل سميعاً بصيراً منذ الأزل وإلى الأبد.
وقد اصطلح العلماء رحمهم الله تعالى على أن يسموا هذه الصفات صفات ذاتية؛ لأنها ملازمة للذات لا تنفك عنه سبحانه وتعالى.
وأما الصفات الفعلية، فهي الصفات المتعلقة بمشيئة الله عز وجل، سواء المشيئة الشرعية أو القدرية الكونية، والصفات الفعلية المتعلقة بالمشيئة نوعان: صفات لها سبب معلوم، كالضحك والرضا والغضب والسخط.
فكل هذه صفات لها سبب معلوم، فإذا أتيت ما يستوجب رضا الله عز وجل رضي عنك، وإذا أتيت ما يستوجب سخطه عز وجل سخط عليك وغضب عليك.
قال الله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7].
ومعنى ((وَلا يَرْضَى)) يعني: يسخط ولا يقبل ذلك ويرده على صاحبه.
وقال: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر:7]، أي: وإن تؤمنوا ((يَرْضَهُ لَكُمْ)).
ومعنى الشكر هنا: هو الإيمان؛ لأنه قال في أول الآية: ((إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ))، أي: وإن تؤمنوا بالله عز وجل وتشكروه على هذه النعمة يرضى ذلك منكم.
فهذه الآية أثبتت الرضا والسخط لله عز وجل.
وأما الصفات التي ليس لها سبب معلوم فكصفة النزول إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، وظاهر الروايات تدل على أن الله تعالى إنما ينزل رحمة بعباده، ولكن الله تعالى قادر على أن يرحمهم وهو في السماء السابعة مستو على عرشه، فالحكمة من نزول الله عز وجل لا يعلمها أحد من الخلق.
ومن الصفات ما يجمع بين صفات الذات وصفات الفعل باعتبارين، فكلام الله عز وجل صفة فعلية لله عز وجل باعتبار آحاده، وهو في أصله صفة ذات، ومعنى ذلك: أن الله تعالى لم يزل متكلماً ولا يزال متكلماً، فهي بهذا الاعتبار صفة ذات، والله تعالى يتكلم إذا شاء ومتى شاء بما شاء، فتكون بهذا الاعتبار صفة فعل.
والصفات الفعلية اصطلح العلماء على تسميتها صفات فعلية؛ لأنها من فعله سبحانه وتعالى، ولها أدلة كثيرة من كتاب الله عز وجل، مثل قول الله عز وجل: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22].
فهذه تثبت المجيء لله عز وجل.
وقول الله عز وجل: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} [الأنعام:158].
والذي يقول: إتيان الرب هنا إنما هو إتيان أمره كلام باطل؛ لأن تعقيب هذا الكلام بقوله: {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام:158]، يدل على التباين بين الأمر وبين الرب سبحانه وتعالى، وأن الله تعالى إنما يأتي بذاته، وكذلك يأتي بأمره، فقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام:158]، يدل على أن إتيان الأمر هو غير إتيان الرب سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة:119]، فيه إثبات صفة الرضا لله عز وجل، وهذه صفة فعل، وليست صفة ذات(80/11)
لا مدخل للعقل في باب الأسماء والصفات
القاعدة السادسة: العقل لا مدخل له في باب الأسماء والصفات؛ لأن الأسماء والصفات من الأمور التوقيفية الغيبية، أي: التي نعتمد فيها على السمع دون سواه، ومعنى السمع: النقل، والنقل هو: الوحي الذي هو الكتاب والسنة، فصفات الله عز وجل وأسماؤه لا دخل للعقل فيها، والعقول لا تحكم على الله أبداً، وإنما المدار على السمع، خلافاً للأشعرية والمعتزلة وكذلك الجهمية وغيرهم من أهل التعطيل الذين جعلوا المدار في إثبات الصفات أو نفيها على العقل، وقالوا: ما اقتضى العقل إثباته أثبتناه سواء أثبته الله لنفسه أم لا، وما اقتضى نفيه نفيناه عن الله تعالى وإن أثبته لنفسه، وهذا رد صريح وتحريف للكلم عن مواضعه في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وما لا يقتضي العقل إثباته ولا نفيه فمعظم هذه الفرق من المعتزلة والأشعرية والجهمية ينفونه كذلك.
فنفوا عن الله عز وجل صفات لم ينفها عنه العقل الذي يستندون إليه، وهذا يدل على أن من اعتمد على عقله ضل وزل، وحجتهم في ذلك: أن دلالة العقل إيجابية، فإن أوجب الصفة أثبتوها، وإن لم يوجبها نفوها.
ومنهم من توقف في ذلك فلم يثبتها؛ لأن العقل لا يثبتها، ولم ينفها أيضاً؛ لأن العقل لا ينفيها، ويقول: نتوقف عن إثبات أو نفي ما لم يثبته العقل أو ما لم ينفه عن الله عز وجل، فصار هؤلاء يحكمون فيما يجب أو يمتنع على الله عز وجل، فما اقتضى العقل وَصْف الله تعالى به وُصِفَ به، وإن لم يكن في الكتاب والسنة، وما اقتضى العقل نفيه عن الله نفوه، وإن كان في الكتاب والسنة.(80/12)
إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه في كتابه من الأسماء والصفات وما أثبته له رسوله
القاعدة السابعة: أن نثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه في كتابه، والكتاب هو: كلام الله عز وجل الذي تكلم به على الحقيقة، وسمي كتاباً لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ، ومكتوب مع الحفظة البررة، ومكتوب في المصاحف التي بين أيدينا.
فنثبت له ما تكلم به سبحانه وتعالى وأثبته لنفسه في كتابه وفي قرآنه، وكذلك نثبت له عز وجل ما أثبته له رسوله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما تكلم وفعل وأقر بالوحي، فنثبت لله تعالى ما أثبته له رسوله عن طريق القول وعن طريق الفعل وعن طريق الإقرار.
فأما قوله صلى الله عليه وسلم فهو كثير جداً في السنة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (ربنا الله الذي في السماء).
فهنا أثبت الفوقية والعلو لله عز وجل، (تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض).
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان يحلف كان يقول: (لا ومقلب القلوب).
وكان يقول: (قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء).
فهذا فيه إثبات الصفات لله عز وجل من قول النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما الفعل فهو أقل من القول دائماً، وقد أثبت النبي صلى الله عليه وسلم لربه صفات عن طريق الفعل، وهي أقل من التي أثبتها عن طريق القول، وذلك مثل إشارته صلى الله عليه وسلم إلى السماء يستشهد الله على إقرار أمته بالبلاغ، فقد قال لهم في حجة الوداع في آخر الخطبة الطويلة: (وإنكم مسئولون عني فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: لقد بلغت وأديت يا رسول الله! فأشار إلى السماء بالسبابة، وقال: اللهم اشهد اللهم اشهد).
فأشار إلى السماء إلى الله عز وجل ونكس بيده إلى الأرض إشارة على إقرار الأمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ الأمانة وأدى الرسالة، ورفع يده إلى السماء ثلاث مرات وقال: اللهم اشهد، أي: اشهد على هذه الأمة أن يقولوا يوم القيامة: ما أتانا من بشير، وما أتانا من نذير.
فأثبت العلو والفوقية لله عز وجل عن طريق الإشارة.
وجاءه رجل وهو يخطب على المنبر وقد أصاب المدينة قحط وجدب، فقال: (يا رسول الله! ادع الله لنا أن يغيثنا بالماء -أو قال: بالمطر- فقد هلك الزرع والضرع، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه إلى السماء يستمطر ويدعو الله عز وجل أن ينزل الغيث، فلما حضرت الجمعة المقبلة دخل ذلك الرجل وقال: يا رسول الله! ادع الله تعالى أن يرفع عنا ذلك، فقد هلك الزرع والضرع -أي: من كثرة الماء- فرفع يديه إلى السماء وفعل مثلما فعل في الجمعة الماضية، فما نزل حتى رفع الله تعالى الماء، وصارت السماء صحواً وفيها الشمس).
فهذا يدل على إقراره عليه الصلاة والسلام أن الله تعالى في السماء، ولو كان الله تعالى في الأرض بذاته للزم من ذلك أن ينظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأرض.
ولا يزال عوام الناس إذا دعوا الله عز وجل توجهوا إلى السماء.
وفي حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه أنه لما لطم الجارية على خدها استعظم ذلك الأمر، فظن أن له توبة على يد النبي صلى الله عليه وسلم فذهب يسأله عن ذلك، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الجارية وقال لها: (أين الله؟ قالت: في السماء) فلم يقل لها: نعم، هو في السماء، وإنما سكت، وسكوت النبي صلى الله عليه وسلم إقرار؛ لأنه لا ينبغي للنبي صلى الله عليه وسلم أن يسكت على باطل؛ لأنه لو رأى رجلاً يتكلم أو رأى رجلاً يفعل فعلاً وسكت عنه فإن ذلك ينسب للنبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك الصحابة كانوا يقولون: كنا نفعل كذا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
وعلماء الحديث يقولون: إذا قال الصحابي: كنا نفعل كذا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فله حكم المرفوع، وكأنه من قول النبي عليه الصلاة والسلام أو من فعله عليه الصلاة والسلام؛ لأنه لا يسكت عن باطل أو منكر.
فنثبت لله عز وجل ما أثبته لنفسه في كتابه وما أثبته له رسوله عن طريق القول والفعل والإقرار.
وأسماء الله الحسنى هي التي أثبتها الله لنفسه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، وآمن بها جميع المؤمنين، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:180].
وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110].
وقال تعال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه:8].
وقال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا(80/13)
أسماء الله تعالى ليست محصورة في التسعة والتسعين اسماً
القاعدة الثامنة: أسماء الله تعالى ليست منحصرة في التسعة والتسعين اسماً، بل هي أكثر منها، والدليل على ذلك حديث ابن مسعود عند أحمد وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أصاب أحداً قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك).
وهذا هو الشاهد، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل الله تعالى بالأسماء التي استأثر بها في علم الغيب عنده، ولم يطلع عليها أحداً من خلقه، لم يعلمها أحداً منهم، ولا أنزلها في كتابه.
وهذا يدل على أن هناك أسماء أخرى استأثر الله عز وجل بعلمها وجعلها من الغيب الذي لا يعلمه أحد.
قال: (أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وهمي، إلا أذهب الله حزنه وهمه وأبدله مكانه فرحاً).
يقول الإمام النووي رحمه الله أثناء شرحه لحديث: (إن لله تعالى تسعة وتسعين اسماً): اتفق العلماء على أن هذا الحديث ليس فيه حصر لأسمائه سبحانه وتعالى، وإنما هي أكثر من ذلك.
قال: فليس معناه أنه ليس له أسماء غير هذه التسعة والتسعين، وإنما مقصود الحديث أن هذه التسعة والتسعين من أحصاها دخل الجنة، فكأن المراد الإخبار عن دخول الجنة بالإحصاء لا الإخبار بحصر أسمائه، وكأن هذا الحديث فائدته أنه يبين لك أنك لو أحصيت التسعة والتسعين اسماً دخلت الجنة، وليس فيه دلالة على أن أسماء الله تعالى منحصرة في التسعة والتسعين.
فيكون المقصود الإخبار عن دخول الجنة بإحصاء هذه الأسماء، وليس المقصود الإخبار بحصر أسماء الله عز وجل في هذه التسعة والتسعين.(80/14)
من أسماء الله ما لا يطلق عليه إلا مقترناً بمقابله
القاعدة التاسعة: من أسماء الله عز وجل ما لا يطلق عليه إلا مقترناً بما يقابله، فهناك أسماء لا يجوز نسبتها لله عز وجل إلا بما يقابلها، فإذا أطلق عليه الاسم وحده أوهم نقصاً لله تعالى، فمنها المعطي والمانع، ومنها الضار والنافع، والقابض والباسط، والمعز والمذل، والخافض والرافع، فلا يطلق على الله عز وجل المانع الضار القابض المذل الخافض؛ لأن هذه الأسماء إذا أطلقت فإنها تحدث شبهة عند السامع بأن هذه الصفات صفات نقص، فلا يجوز أن تقول: إن الله هو المانع إلا إذا قلت: إن الله تعالى هو المعطي والمانع، ولا يجوز أن تقول: إن الله تعالى هو الضار إلا أن تقول: إن الله تعالى هو النافع الضار، ولا أن تقول: إن الله تعالى هو القابض إلا أن تقول: إن الله تعالى هو القابض الباسط، وكذلك الخافض الرافع، وغير ذلك.
فلا يجوز إطلاق الاسم الذي يوهم النقص لله عز وجل إلا مقترناً بما يقابله من الاسم الذي أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، فلابد من ازدواجها، فهما لم يطلقا في الوحي إلا كذلك.
ومن ذلك المنتقم وهي صفة لله عز وجل، فلا يجوز أن نقول: إن الله تعالى هو المنتقم؛ لأنها لم تأت في القرآن إلا مضافة أو مقيدة، فمثال ما أتت فيه مضافة قوله تعالى: {عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [آل عمران:4]، أي: صاحب انتقام.
وتأتي مقيدة بالمجرمين، كقوله تعالى: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} [السجدة:22]، أي: أن الله تعالى ينتقم من المجرمين.(80/15)
بعض أفعال الله أطلقها على نفسه على سبيل الجزاء والمقابلة
القاعدة العاشرة: ورد في القرآن أفعال أطلقها الله عز وجل على نفسه على سبيل الجزاء العدل والمقابلة، بأنه لو فعل الإنسان كذا لفعل الله به كذا وكذا، فالله عز وجل لما أطلق على نفسه هذه الأفعال إنما أطلقها في مقابلة الجزاء العدل، وهي فيما سيقت فيه مدح وكمال، لكن لا يجوز أن يشتق له تعالى منها أسماء، ولا أن تطلق عليه تعالى في غير ما سيقت له.
فلابد من شرطين لإطلاقها عليه تعالى: الشرط الأول: لا يجوز إطلاق هذه الأفعال على الله عز وجل إلا فيما سيقت له، وفي مناسبتها، فإذا أطلقت في غير ما سيقت له لكانت صفات نقص، والله عز وجل منزه عن كل نقص، ومتصف بكل كمال وجلال.
وهذه الأسماء مثل قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142].
فلا نثبت الخداع لله عز وجل إلا في مقابلة خداع المنافقين، ولا يجوز لنا أن نشتق من هذا صفة لله عز وجل أو اسماً، ولا يجوز أن نقول: إن الله مخادع؛ لأن هذه صفة فعل، يوصف بها الله عز وجل في مقابلة من استحق ذلك، أي: في مقابلة خداع المنافقين.
ومنها قوله عز وجل: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:54].
فلا يجوز أن نقول: إن الله تعالى هو الماكر، ولكن نقول: إن الله تعالى يمكر في مقابلة مكر الماكرين، ومكر الكافرين، ومهما مكروا فمكر الله تعالى أعظم من مكرهم.
ومنها قوله تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة:14 - 15].
فلا يجوز أن نقول: إن الله تعالى هو المستهزئ، ولكن نقول: إن الله تعالى يستهزئ في مقابلة استهزاء المنافقين، ونحو ذلك مما يتعالى الله تعالى عنه، ولا يقال: يستهزئ ويخادع ويمكر وينسى على سبيل الإطلاق، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
ولـ ابن القيم عليه رحمة الله كلام كثير وعظيم جداً في هذا، فهو يقول: إن الله تعالى لم يصف نفسه بالكيد والمكر والخداع والاستهزاء مطلقاً، ولا ذلك داخل في أسمائه الحسنى، ومن ظن من الجهال المصنفين في شرح الأسماء الحسنى أن من أسمائه تعالى الماكر المخادع المستهزئ الكائد فقد فاه بأمر عظيم -أي: تفوه بأمر عظيم- تقشعر منه الجلود، وتكاد الأسماع تصم عند سماعه، وغر هذا الجاهل أنه سبحانه وتعالى أطلق على نفسه هذه الأفعال فاشتق له منها أسماء.
فالصفات تشتق من الأسماء، وليس العكس، فإننا نقول: إن الله تعالى حليم بحلم، فالحليم اسم والحلم صفة لله عز وجل، ونقول: عليم بعلم، وسميع بسمع، وبصير ببصر، وقوي بقوة.
فالأسماء تستلزم الصفات، وأما الصفة فلا يشتق منها الاسم، ولذلك أخطأ كثير جداً ممن صنفوا في الأسماء والصفات، وهناك كتب كثيرة وقعت في الخطأ، ومنها: الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، فقد ذكر فيه لله عز وجل أكثر من ثلاثمائة اسم؛ لأنه اشتق من الصفات أسماء، فقال مثلاً: إن الله تعالى هو المنتقم، وهو الماكر، وهو المخادع.(80/16)
دلالة أسماء الله على حقيقتها دلالة مطابقة وتضمن والتزام
القاعدة الحادية عشرة: دلالة أسماء الله تعالى على حقيقتها دلالة مطابقة وتضمن والتزام، فدلالة اسمه تعالى الرحمن على ذاته عز وجل دلالة مطابقة، يعني: أن الله تعالى هو الرحمن، فالرحمن هو الله، والله هو الرحمن، قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء:110].
ويدل على صفة الرحمة تضمناً؛ لأن الاسم إذا كان ثابتاً لله عز وجل فهو يتضمن أن يكون الله تعالى متصفاً بهذه الصفة.
فليست الأسماء منفكة عن الله عز وجل، بل هي ملازمة لذاته سبحانه وتعالى، فإن الله تعالى هو الرحمن، فالاسم مطابق للذات، وهو يتضمن اتصاف الله تعالى بما يدل عليه هذا الاسم، فإذا أثبتنا أن الله تعالى هو الرحمن أثبتنا له الرحمة تضمناً.
وهذا الاسم يدل على الحياة وغيرها التزاماً، فإذا أثبتنا أن الرحمة صفة لله عز وجل وأثبتنا أنه الرحيم ذاتاً فلابد أن نثبت له الحياة ذاتاً والتزاماً؛ لأنه لا يتسمى بالرحيم ولا يتصف بالرحمة إلا من هو حي، فأسماء الله عز وجل تدل على حقيقتها لله مطابقة وتضمناً والتزاماً.(80/17)
أسماء الله تعالى غير مخلوقة
القاعدة الثانية عشرة: أسماء الله تعالى غير مخلوقة، وهذه مسألة عظيمة ضلت فيها الفرق وخاصة الجهمية، فإنهم قالوا: إن صفات الله تعالى حادثة، ومعنى حادثة: أنها كانت بعد أن لم تكن، أي: أنها حدثت لله عز وجل بعد أن لم تكن من قبل.
وقد رد عثمان الدارمي عليه رحمة الله على بشر المريسي وغيره ممن قال: إن صفات الله تعالى مخلوقة، وأجاد في تبيين هذه القاعدة.
والكلام صفة من صفات الله، وهذا القرآن الذي بين أيدينا صفة من صفات الله، وصفات الله عز وجل غير مخلوقة؛ لأنها أزلية وأبدية، يعني: لا يزال الله عز وجل متصفاً بها، فهو لا يزال متكلماً، ولو قلت: إن صفة الكلام حادثة لله عز وجل للزم من ذلك أن تقول: إن هذه الصفة مخلوقة، وكل مخلوق يطرأ عليه الفناء، فيلزم من قولك: إن صفات الله تعالى مخلوقة أن تقول: إن صفات الله تعالى لابد وأن تزول، ويلزم من ذلك أيضاً أن تقول: إذا كانت صفات الله تعالى مخلوقة أن تقول: إن الله تعالى لم يكن متصفاً بها منذ الأزل، وهذه صفة نقص، والعقلاء والمجانين جميعهم متفقون على أن الله تعالى متصف بصفات الكمال والجلال.(80/18)
شرح صحيح مسلم - كتاب الإيمان - التحريف والتعطيل في الأسماء والصفات
يؤمن أهل السنة والجماعة بأسماء الله وصفاته الواردة في الكتاب والسنة، ويثبتونها لله عز وجل بدون تشبيه ولا تعطيل، ويفهمون معناها المراد منها، ويفوضون كيفيتها إلى الله عز وجل.
وهم لا يشبهونها بصفات المخلوقين وأسمائهم، ولا يعطلون الخالق جل وعلا عنها، وإنما يؤمنون بها على مراد الله، ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، ويمرونها كما جاءت.(81/1)
تعريف التحريف
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد: فمن الإيمان بالله عز وجل الإيمان بما وصف الله تعالى به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.
وأكاد أجزم بأن كثيراً من طلبة العلم، أو من يرتادون دروس العلم يحفظون هذه القيود الأربعة -التحريف والتعطيل والتكييف والتمثيل- ولا يعرفون معانيها.
والتحريف في اللغة: التغيير، يقال: حرفت الشيء أي: غيرت شكله ومضمونه، وهو إما أن يكون في اللفظ أو في المعنى، والذي يلحق اللفظ إما أن يكون في نص الكلمة أو شكلها، مثل تحريف حمزة إلى جمرة، أو تحريف واصل الأحدب إلى عاصم الأحول، والعكس بالعكس.
فالتغيير والتحريف اللفظي يلحق الكلمة إما في شكلها وإما في ضبطها.
وهذا النوع اهتم به أهل العلم قديماً وحديثاً، حتى يضبطوا ويحرروا الألفاظ التي وردت إلينا في الكتاب والسنة، وقد تطرقنا إلى هذا النوع من قبل عندما تكلمنا عن تصحيفات بعض القراء لكتاب الله عز وجل.
وقد تطرق الحافظ ابن كثير وابن الصلاح وكل من صنف في علم المصطلح إلى التصحيف والتحريف، وكان الأقدمون لا يرون فرقاً بين ما هو تصحيف وبين ما هو تحريف، وأول من فرق بينهما الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله، فجعل التصحيف غير التحريف.
وقد وقع من ذلك شيء كثير لجماعة من الحفاظ وغيرهم ممن تزيا بزي المحدثين وليس منهم، وقد صنف العسكري في التصحيف والتحريف مجلداً، وأكثر ما يقع ذلك لمن أخذ من الصحف.
والتصحيف والتحريف يكون بكثرة عند من أخذ العلم من الكتاب دون الشيوخ وقد كان منهج أهل السنة والجماعة في العلم التلقي من شيخ حافظ.(81/2)
بعض تصحيفات القراء والمحدثين
نقل كثير من الناس عن عثمان بن أبي شيبة أنه كان يصحف في قراءة القرآن، وهذا غريب جداً؛ لأن عثمان له كتاب في التفسير، ويمكن أن تحمل الغرابة هنا على أن عثمان بن أبي شيبة لم يكن له علم في أول حياته بالقراءة فكان يتصحف عليه القرآن، وتتصحف عنده الآيات، ولكنه بعد ذلك تفقه في كتاب الله حتى صار فيه إماماً مفسراً.
وتصحيفات المحدثين منها ما يكاد اللبيب يضحك منها، كما حكي عن بعضهم أنه جمع طرق حديث: (يا أبا عمير! ما فعل النغير).
وهو حديث في البخاري ومسلم.
وهذا الحديث كان يقوله النبي صلى الله عليه وسلم ممازحاً ومداعباً لأخ لـ أنس بن مالك صغير، كان معه طائر صغير كالعصفور يسمى في أرض الجزيرة بالنغير، وهو تصغير نغر، فكان يقول له: (يا أبا عمير! ما فعل النغير)، يعني: ما هي أحوالك مع هذا الطائر الذي تلعب به؟ فلما جمع الحافظ طرق هذا الحديث تصحف عليه النغير، فكان يقول: يا أبا عمير! ما فعل البعير، ولو أنك حذفت النقط من على البعير أو النغير لكان الشكل واحداً، فكان يقول: يا أبا عمير ما فعل البعير؟ ثم تكلف تأويل هذا الحديث، ولم يفهم الحضور معنى هذا الحديث، حتى قال أحد التلاميذ لإخوانه وأقرانه: لقد تصحف هذا الحديث على الشيخ، وصوابه: (يا أبا عمير! ما فعل النغير؟).
وكذا وقع لبعض مدرسي المدرسة النظامية في بغداد ففي أول يوم إجلاسه أورد حديث: (صلاة في إثر صلاة كتاب في عليين)، فتصحف عليه بدلاً من أن يقول: (كتاب في عليين) قال: كنار في غلس، فبدّل (كتاب) بقوله: (كنار)، وعليين ليس تحتها نقط، فتنطق عليين أو غلس أو علس أو شيء من هذا، فقال: كنار في غلس، فلما سئل عن معنى هذا الحديث، قال: هذا لمزيد الوضوح والإضاءة والبيان؛ لأن الغلس هو اختلاط الظلام بنور الصباح، فيكون الجو أغبش، فإيقاد النار في هذا الوقت تضيء المكان.
وهذا كثير جداً عند المحدثين، وقد أورد ابن الصلاح عليه رحمة الله من هذا شيئاً كثيراً.
وهذا النوع يسمى عند أهل المصطلح بالتصحيف والتحريف.(81/3)
تفريق الحافظ ابن حجر بين التصحيف والتحريف
وقد قسم الحافظ ابن حجر التصحيف إلى قسمين، فما تغير فيه حرف أو حروف بتغيير النقط مع بقاء صورة الخط سماه تصحيفاً، وما تغير في الشكل سماه تحريفاً، وهو اصطلاح جديد للحافظ ابن حجر، وهو اصطلاح جيد.
فجعل تغيير شكل الكلمة مثل: كنار في غلس تحريفاً، وأما حمزة وجمرة فشكل الكلمتين واحد فيسميه تصحيفاً، والمتقدمون يعتبرون الأمرين شيئاً واحداً فيطلقون على التصحيف تحريفاً وعلى التحريف تصحيفاً، وهذا ما كان عليه الدارقطني والعسكري، وغيرهما ممن صنفوا في هذا الأمر.(81/4)
منشأ التصحيف ومواطنه
وقولهم: هذا صحفي دليل على أن هذا الخطأ إنما مبعثه ومنشؤه هو الأخذ من الصحف، فتشتبه عليه الحروف.
وقال غير واحد: أصل هذا أن قوماً كانوا أخذوا العلم عن الصحف من غير أن يلقوا فيه العلماء، فكان يقع فيما يروونه التغيير والتحريف والتبديل، فكان يقال عنهم: قد صحفوا، فكانوا يطلقون التصحيف على التصحيف وعلى التحريف في الوقت نفسه، أي: أنهم رووا من الصحف، وهم مصحفون، والمصدر التصحيف.
والتصحيف والتحريف قد يكون في الإسناد أو في المتن، والسند هو سلسلة الرواة الموصلة إلى المتن، والمتن هو ما انتهى إليه السند من الكلام، وسواء كان هذا المتن من كلام النبي عليه الصلاة والسلام أو من كلام غيره ممن دونه.
وقد يكون التصحيف في السماع، فقد تجلس بجوار أخيك فيتكلم بكلام، فتسمعه مصحفاً، فتقول له: أنت قلت كذا؟ فيقول لك: إنما قلت كذا، ولم أقل ما سمعته أنت، فيكون هذا من باب تصحيف السماع، لا تصحيف الفهم ولا اللفظ؛ لأن اللفظ لابد أن يكون مكتوباً.
قال: وقد يكون أيضاً في المعنى.
وهذا هو الذي يعنينا في أسماء الله وصفاته.
فهو تحريف المعنى وصرف النص عن ظاهره.
وتحريف المعنى ليس من التحريف والتصحيف على الحقيقة، وإنما هو من باب الخطأ في الفهم.(81/5)
الخطأ في الفهم أخطر من الخطأ في اللفظ
وخطأ الفهم أخطر بكثير جداً من الخطأ في اللفظ، ومن ذلك ما تصحف على يحيى بن معين في العوام بن مراجم القيسي الراوي عن أبي عثمان النهدي والذي روى عنه شعبة، فقال: يحيى بن معين: العوام بن مزاحم، بدلاً من أن يقول: العوام بن مراجم.
وهذا تصحيف لغوي؛ لأنه غير في النص وفي الضبط، وأما شكل الكلمة فواحد، فهذا يقال له: تصحيف، ولا يقال له: تحريف؛ لأن التحريف في مصطلح الحافظ ابن حجر يلزم منه تغيير شكل الكلمة.
ومنه حديث روي عن معاوية قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يشققون الخطب تشقيق الشعر)، فصحفه وكيع فقال: الحطب، فقال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يشققون الحطب تشقيق الشعر.
وكان هناك بعض الملاحين فلما سمع ذلك قال: يا قوم! فكيف نعمل والحاجة ماسة؟ ومنه أيضاً ما ذكره بعض المؤلفين من تصحف خالد بن علقمة على بعض أهل العلم فقال: مالك بن عَرْفَصَة أو عُرْفُصة، وهذا تحريف؛ لأن شكل الكلمة نفسه تغير، وهذا يسمى عندهم تصحيف السماع أو تحريف السماع.
ومن أمثلة تصحيف السماع تصحف عاصم الأحول على بعضهم فقال: عن واصل الأحدب، وهذا تحريف في السماع.
قال ابن الصلاح: وقد ذكر الدارقطني أنه من تصحيف السمع لا من تصحيف البصر؛ لأن تصحيف البصر يلزم منه أن ترى الاسم مكتوباً في الورق، وليس هكذا.
ومنه أيضاً: أن ابن لهيعة روى عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم في المسجد، والصواب: احتجر بالراء وليس بالميم، ومعنى احتجر أي: اتخذ له حجرة في المسجد من حصير، والحديث عند البخاري ومسلم.
ومنه أيضاً: حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى عنزة)، وهي اسم قرية في بلاد نجد، واسم القرية عنزة بتسكين النون، ويطلق على فصيلة الشياه من المعز.
وقوله صلى الله عليه وسلم إلى عنزة بفتح العين والنون والزاي، والعنزة: هي عصا كمؤخرة الرحل، كان النبي صلى الله عليه وسلم يغرزها أمامه فيتخذها سترة له إذا صلى في فضاء.
ولما سمع بعض المحدثين من قرية عنزة من بلاد نجد هذا الحديث قال: الحمد لله نحن قوم لنا شرف، فقيل له: وما شرفكم؟ قال: وأي شرف بعد أن صلى النبي صلى الله عليه وسلم إلينا؟ أي: صلى إلى بلادنا، فتصحف عليه عَنَزة إلى عَنْزة وتصورها بلاده، فاشتبه عليه، وهو الحافظ أبو موسى محمد بن المثنى العنزي من قبيلة عنزة.
وكان أبو طاهر بن لوقا يحدث يوماً أو يقرأ على الإمام الطبراني أبي القاسم ذات يوم حديث: (كان صلى الله عليه وسلم يغسل حصى جماره)، وهو حديث ليس بثابت ولا أصل له، ولكنه موجود في الكتب، فتصحف على الحافظ أبي طاهر بن لوقا وهو يحدث الإمام الطبراني فقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يغسل خطى حماره، فانتبه إلى ذلك الإمام الطبراني وأدرك هذا التصحيف، فقال: وما أراد بذلك يا أبا طاهر؟! أي: لماذا كان يعمل النبي صلى الله عليه وسلم هذا؟ قال: التواضع يا أبا القاسم! يعني: تكلف له تأويلاً، فتبسم الطبراني وقال: أنت ولدي يا أبا طاهر! قال: وأنت كذلك يا أبا القاسم! وعن رجل أنه حدث عن النبي عليه الصلاة والسلام فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال جبريل عن الله عن رجل، وكان حاضراً بعض المحدثين فاستنكر الأمر جداً، قال: فنظرت من ذا الذي يستحق أن يكون شيخاً لله! وإذا بها عن الله عز وجل، فتصحف عليه (عز وجل) إلى (عن رجل)، فقال: عن الله عن رجل، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.(81/6)
بعض تصحيفات الفقهاء
وقد صنف الإمام صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي كتاباً سماه: تصحيح التصحيف وتحرير التحريف، وذكر فيه جملة مستكثرة من تصحيف المحدثين والفقهاء.
ومما قال فيه: وأما تصحيف الفقهاء فهو كثير أيضاً، ومن ذلك: قال يوماً بعض المدرسين: ولا يكون النذر إلا في قرية، والصواب: أنه لا يكون النذر إلا في قربة، أي: قربة إلى الله عز وجل، فتصحف عليه قربة إلى قرية، وشاهد هذا الكلام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه).
فلابد أن يكون النذر في قربة لله عز وجل، فمن نذر أن يعصي الله عز وجل فليكفر عن يمينه ولا يعص الله عز وجل.
وقال بعضهم: ويكره القرع، ويحب الخيار، والصواب: ويكره القزع، ويجب الختان، والقزع هو حلق بعض الرأس وترك البعض الآخر، أو ترك مقدم الرأس وحلق بقية الشعر، مثل ما يسمونه اليوم كبوريا.
وقال بعضهم يوماً: قال الشافعي: ويستحب في المؤذن أن يكون صبياً، فقيل له: ولم ذاك؟ قال: ليكون قادراً على الصعود في درج المئذنة، وقد كانوا يبنون المآذن في المساجد، فإذا أراد المؤذن أن يؤذن صعد عليها، وإنما قال الشافعي: ويستحب في المؤذن أن يكون صيتاً، يعني: ذا صوت جميل، فتصحف عليه صيتاً إلى صبي.(81/7)
بعض تصحيفات الكتاب
وأما الكتاب فقد صحف منهم جماعة بحضرة الخلفاء والملوك، فقد قرأ يوماً بعضهم: أبا معسر المتخم، والصواب إنما هو أبو معشر المنجم.
وقرأ يوماً بعض كتاب المأمون قصة فقال: أبا ثريد بالثاء، فقال المأمون: كاتبنا اليوم جوعان؛ لأنه يفكر في الثريد، أحضروا له ثريداً، فأكل، فقرأ بعد ذلك: فلان الخبيصي بدل الحمْصي، فقال: هو معذور، ليس بعد الثريد إلا الخبيص، أحضروا له خبيصاً، فأكل منه.
وكتب سليمان بن عبد الملك إلى ابن حزم أمير المدينة -وهو أبو بكر محمد بن عمرو بن حزم، وليس ابن حزم الفقيه المعروف- أن احص من قبلك من المخنثين، أي: عدهم، فصحف كاتبه -أي: كاتب سليمان بن عبد الملك - فقال: اخص بالخاء، فدعاهم الأمير وخصاهم أجمعين.
ويقول الصفدي: وحكى لي بعض الأصحاب أن الأمير علاء الدين الطنبغا نائب حلب جاءته رسالة من بعض الولاة يذكر فيها أنه وجد في بعض الأماكن شخصاً مقتولاً، وخرجه تحت إبطه، والصواب: وجرحه تحت إبطه، فصحف الجرح إلى خرج.
إلى غير ذلك من التصحيفات التي وقعت في الكلمات سواء في شكلها أو في ضبطها.(81/8)
لا يحكم بالتصحيف إلا أهل العلم
وقد وقع في هذا كثير من أهل العلم، بل وقع فيه بعض الحفاظ الثقات المتقنين كـ يحيى بن معين وغيره، ولذلك لا ينبغي التقدم في هذا العلم بالتخطئة والتصويب إلا أهل العلم.
ونحن نرى كثيراً من الناس المحققين يخرجون لنا عشرات بل مئات الكتب كل يوم، ويحكمون على النصوص بأنها تصحيف وتحريف، فيأتي المحقق يحقق كتاباً فيقف عند لفظة يخفى عليه معناها، بل ويستغربها ولا يهون عليه أن ينظر في معاجم اللغة أو الأدب أو غير ذلك، فيسرع إلى تخطئة هذا اللفظ ورمي المصنف بالتصحيف والتحريف، وقد كان العلماء يذكرون اللفظة كما هي، ثم يقولون: كذا في الأصل، ولا ندري معناه؛ لأن الذي خفي عليك معناه قد يظهر لغيرك، وقد حدث هذا مع كبار المحققين في هذا الزمان وقبل هذا الزمان.
فالتحريف اللفظي هو: تغيير الشكل أو النص، وهو غالباً يقع من الجهال، وهو غير التحريف المعنوي الذي وقع فيه كثير من الناس بعمد أو بغير عمد، بتأويل أو بغير تأويل، بدليل أو بغير دليل، وهو الذي يعنينا في أسماء الله عز وجل وصفاته.(81/9)
المحرفة في أسماء الله وصفاته بين التحريف والتأويل
قال: (أهل السنة والجماعة إيمانهم بأسماء الله تعالى وصفاته إنما يخلو من هذه المعايب الأربع التحريف والتعطيل والتكييف والتمثيل)، فهم وسط في أسماء الله عز وجل وصفاته بين المعطلة والمشبهة.
وتغيير المعنى وتحريفه في أسماء الله وصفاته يسميه القائلون به تأويلاً، لأن التأويل منه ما هو سائغ ومنه ما ليس بسائغ، بل منه ما هو محمود وجيد وعليه دليل، ومنه ما ليس بمحمود ولا جيد وليس عليه دليل.
وتسميتهم له تأويلاً إنما هو هروب من رد كلامهم، إذ لو سموه تحريفاً لنادوا على أنفسهم ببطلان كلامهم ورده، ولذلك سموه تأويلاً؛ لأن كلمة التأويل لها وقع على الأذن؛ لأن التأويل أيضاً بمعنى التفسير، وأما التحريف فلا يكون إلا باطلاً، ولذلك هربوا من قولهم: هذا تحريف، إلى قولهم: هذا تأويل، فكلمة التأويل تقبلها النفس، وتحتمل الصواب والخطأ، وهي في نظرهم تحتمل الصواب لا غير، ولذلك لجئوا إلى هذا المصطلح، وردوا اللفظ الآخر، وهو التحريف.
والتعبير بالتحريف أولى من التعبير بالتأويل خاصة في أسماء الله عز وجل وصفاته، لعدة وجوه: الوجه الأول: أن هذا اللفظ وهو التحريف هو الذي جاء به القرآن الكريم، قال الله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء:46]، قال الحافظ ابن كثير عليه رحمة الله: أي: يتأولونه على غير تأويله، ويفسرونه بغير مراد الله عز وجل قصداً منهم وافتراء.
والتحريف لا يطلق إلا على الأمور الباطلة، وصرف النص عن ظاهره إلى غير مراد الله عز وجل، وأما التأويل فمنه ما يكون على مراد الله، ومنه ما لا يكون على مراد الله عز وجل.
والذين تعرضوا للتأويل والتحريف في صفات الله عز وجل، الأولى أن يطلق عليهم: محرفون، ولا يطلق عليهم مؤولون ولا متأولون؛ لأن هذا اللفظ والمصطلح إنما ورد في كتاب الله عز وجل في بني إسرائيل وهم اليهود، قال تعالى: ((مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ))، أي: يؤولونه ويصرفونه على غير مراد الله عز وجل.
الوجه الثاني: أن المؤول بغير دليل محرف، والأولى به أن يسمى محرفاً لا مؤولاً؛ لأن الذين انحرفوا بأسماء الله وصفاته عن منهج أهل السنة والجماعة يسمون محرفين؛ لأنهم انحرفوا عن المنهج الحق وصراط الله المستقيم، وهذا من العدل، ومن وضع النقاط على الحروف.
الوجه الثالث: أن التأويل بغير دليل باطل، ويجب البعد عنه والتنفير منه، وأما إذا استند إلى دليل فهو صحيح مقبول، وإطلاق التحريف أبلغ تنفيراً من التأويل، فلو قلت لرجل تأول بغير دليل: إنك محرف ومبدل ومغير لكان أبلغ من قولك: إنك متأول؛ لأن التأويل منه ما هو صحيح مقبول مستند إلى دليل، وأما التحريف: فلا يقبله أحد، بل ينفر الإنسان منه.
وإذا كان كذلك فإن وصف طريق من خالف طريقة السلف بالتحريف أولى من وصفها بالتأويل.
الوجه الرابع: أن التأويل ليس مذموماً كله، بخلاف التحريف، فالتحريف كله مذموم تأباه النفوس الطيبة التي جبلت على فطرتها السليمة، وأما التأويل فليس بمذموم كله، قال النبي صلى الله عليه وسلم في حق ابن عباس رضي الله عنهما: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل).
والتأويل هو التفسير، ولذلك جاء في رواية البخاري صريحاً: (وعلمه الكتاب) أي: القرآن الكريم.
وقد دل هذا أن التأويل في الرواية الأولى مقصود به تأويل الكتاب، أي: تفسير الكتاب.
وقال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7].
وعلى قراءة من أوجب الوقوف على العلم يكون المعنى: أن العلماء إنما عرفوا تأويل المشتبهات، والآية فيها خلاف، هل يجب الوقف على لفظ الجلالة {َالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7]؟ فمنهم من يقف على قوله: ((وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ))، ثم يقرأ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7].
وهناك من يرى وجوب الوقف على العلم، أي: ((وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ))، ويقولون: إن الله تعالى لم يخاطبنا بمهمل، وإنما خاطبنا بما يفهمه ولو بعض الناس، وهم العلماء، فيجب الوقوف على لفظ العلم، ويكون التقدير: أي: وأهل العلم يعلمون تأويل المشتبهات في الأسماء والصفات وغيرها، وأن الله عز وجل امتدح أهل العلم بأنهم يعلمون التأويل.(81/10)
معاني التأويل
والتأويل له معان متعددة.
فيأتي بمعنى التفسير، وبمعنى العاقبة والمآل، وبمعنى صرف اللفظ عن ظاهره.
فقولك: تأويل هذه الآية كذا وكذا، أي: تفسير هذه الآية كذا وكذا؛ لأننا أولنا الكلام، أي: جعلناه يئول إلى معناه المراد به.
وأما التأويل الذي هو بمعنى عاقبة الشيء فقد يكون في الطلب وقد يكون في الخبر.
فمثال التأويل الوارد في الخبر قول الله عز وجل: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف:53].
فقوله: ((هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ)) أي: ما ينتظر هؤلاء إلا عاقبة ومآل ما يخبرون به، ويوم يأتي ذلك المخبر به {يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف:53].
ومنه قول يوسف لما خر له أبواه سجداً: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف:100]، أي: هذا وقوع رؤياي؛ لأنه لم يقل هذا إلا بعد أن سجدوا له بالفعل.
ومثاله في الطلب قول عائشة رضي الله عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده بعد أن أنزل عليه قول الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] إلى آخر السورة: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي، يتأول القرآن)، يعني: يعمل به.
وإذا كان التأويل في معرض الطلب، والطلب للأمر كان التأويل بمعنى العمل به دون سواه.
المعنى الثالث للتأويل: صرف اللفظ عن ظاهره، وهذا النوع ينقسم إلى محمود ومذموم، فإن دل عليه دليل فهو محمود؛ لأنه يكون بمعنى التفسير أو العاقبة أو المآل، وإن لم يدل عليه دليل فهو مذموم، ويكون من باب التحريف وصرف النص واللفظ عن ظاهره، وليس من باب التأويل.
وهذا هو الذي درج عليه أهل التحريف في صفات الله عز وجل، وسار عليه من تنكب طريق السلف في صفات الله عز وجل، فكانوا يصرفون اللفظ عن ظاهره على غير مراد الله عز وجل.
فمثلاً قول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5].
فاستوى معلوم المعنى عند السلف وعند العرب في لسانهم؛ فهو بمعنى: علا وارتفع.
وهم يقولون: استوى بمعنى استولى، ولا شك أن من يقول هذا يكون قد صرف اللفظ عن ظاهره بغير دليل، وهذا تحريف.
والذي يحرف صفات الله عز وجل عن ظاهرها بغير دليل الأولى أن يقال عنه: إنه محرف.
والذين يقولون: نحن نؤول كلام الله عز وجل حتى نفهمه، ونؤول صفات الله عز وجل حتى نفهمها إنما هم محرفون، وليسوا مؤولين.
وأما صرف اللفظ عن ظاهره بدليل فمثل قول الله عز وجل: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1].
(فأتى) فعل ماض، (وأمر الله): الساعة، وهي لم تأت بعد، فيكون تفسير {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل:1] أي: سيأتي أمر الله، فيكون الله عز وجل عبر عن المستقبل بصورة الماضي، وهذا جائز على الله عز وجل.
ومثل قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:23].
فكان تفيد الماضي في حق غير الله عز وجل، ولو كانت في غير كلام الله عز وجل لقلنا: إنها زائدة، لأن قوله: ((إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا)) بمعنى إن الله غفور رحيم، فحذف كان لا يغير المعنى ولا السياق.
فيكون معنى قوله تعالى: ((أَتَى أَمْرُ اللَّهِ)) أي: سيأتي أمر الله، والدليل على ذلك تعقيبه بقوله تعالى: ((فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ))، ومعلوم أن الاستعجال على أمر قادم، وليس على أمر فائت، وهذا يدل على أن الله تعالى عبر عن المستقبل بصورة الماضي في قوله عز وجل: ((أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ)).
ومثل قول الله عز وجل: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98].
والاستعاذة معلوم أنها في أول القراءة، وبهذا تكون الآية مصروفة عن ظاهرها، بدليل عمل النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، فقد كان إذا قرأ القرآن استعاذ بالله في أول القراءة.
فيكون معنى قوله تعالى: ((فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ)) أي: فإذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم.
وهذا مثل حديث أنس بن مالك قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث).
والخبث: ذكور الشياطين، والخبائث: إناثهم.
فقوله: إذا دخل يعني: إذا أراد أن يدخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث، أي: قبل أن يدخل؛ لأنه لا ينبغي أن يذكر الله عز وجل في مثل هذه الأماكن والأنتان والحش.
وأما التأويل الذي ليس عليه دليل صحيح الأولى أن نسميه تحريفاً؛ لعلل، منها: أن لفظ التحريف قد جاء في كتاب الله عز وجل، ولأنه ألصق بطريق ال(81/11)
أنواع التحريف وبيان الواقعين فيه
ومن الإيمان بالله عز وجل أن نؤمن بصفات الله عز وجل التي وصف الله تعالى بها نفسه، أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف.
والتحريف منه ما يكون في اللفظ ومنه ما يكون في المعنى، والتحريف الذي يلحق اللفظ إما أن يكون في الشكل أو في النقط، فيتغير إما شكل الكلمة وإما نطقها، وهذا النوع قليل جداً، ولا يصدر إلا من جاهل.
وأما تحريف المعنى فشر أنواعه، وهو: صرف اللفظ عن ظاهره في أسماء الله تعالى وصفاته.
وأصحاب هذا العمل يسمون بالمؤولة، ومعظمهم من الأشاعرة.
ويتلوهم المعتزلة، والمعتزلة أسبق في التأويل من الأشاعرة، ولكن الأشاعرة غلو في التأويل.(81/12)
التعطيل لأسماء الله وصفاته
ثم يقول: (من غير تحريف ولا تعطيل).
التعطيل في اللغة: التخلية والترك، تقول: عطلت كذا أي: تركته أو خليته، كقوله تعالى: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} [الحج:45]، أي: خالية متروكة.
وهو في الاصطلاح: إنكار ما أثبت الله لنفسه من الأسماء والصفات، سواء كان هذا التعطيل والإنكار كلياً أو جزئياً.
وهناك من الطوائف من أنكر أسماء الله تعالى وصفاته بالكلية، ومنهم من أثبت الأسماء وأنكر الصفات، ومنهم من أثبت الأسماء والصفات إلا سبع صفات.
قال: (وهذا الإنكار لأسماء الله تعالى وصفاته إما أن يكون كلياً أو جزئياً)، وسواء كان ذلك بتحريف أو بجحود؛ لأنه لا يلزم من التحريف أن يكون بجحود، كما هو حال بني إسرائيل اليهود الذين حرفوا الكلم عن مواضعه جحوداً، فقد حرفوه وصرفوه عن ظاهره جحوداً وافتراء على الله عز وجل وعلى رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم.
فهذا كله يسمى تعطيلاً، سواء كان هذا التعطيل جزئياً أو كلياً.(81/13)
الشرك في ذات الله بتعطيل أسمائه وصفاته
وقد تكلم شيخ الإسلام ابن القيم عليه رحمة الله تبارك وتعالى عن التعطيل بأحسن كلام، وبينه وفصله تفصيلاً عظيماً جداً في كتاب الداء والدواء، فقال في باب الشرك: الشرك شركان -أي نوعان-: شرك يتعلق بذات المعبود وأسمائه وصفاته وأفعاله، أي: بذات الله عز وجل وبأسمائه وصفاته وأفعاله، وشرك في عبادته ومعاملته، وهذا هو الشرك في العبادة، أي: أن تصرف شيئاً مما وجب لله لغير الله، أو أن تتعامل مع الله أو مع الخلق رياء وسمعة.
يقول: وهذا وإن كان صاحبه -أي: الذي أشرك في العبادة والمعاملة- يعتقد أنه سبحانه لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.
والنوع الأول من الشرك هو الشرك في ذات الإله سبحانه وتعالى، كأن تعتقد أن لهذا الكون إلهين، مثل إله الظلمة وإله النور عند الثنوية، أو تعتقد أن هذا البلد مثلاً له إلهان؛ إله في السماء وإله في الأرض يشرع من دون الله عز وجل، فهذا كفر مخرج من الملة بالكلية؛ لأن هذا شرك في ذات الإله.
وهذا هو النوع الأول من الشرك الذي تكلم عنه ابن القيم عليه رحمة الله، وهو الشرك في ذات المعبود.
أي: تعطيل الله عز وجل عن أسمائه وصفاته وأفعاله.
قال: (الشرك الثاني: أن تجعل لله نداً وهو خلقك) أي: أن تجعل مع الله إلهاً آخر.
ثم تكلم عن الشرك في ذات الإله بتعطيل أسمائه وصفاته وأفعاله، إلى أن قال: وهو نوعان: شرك التعطيل، وهو أقبح أنواع الشرك، كشرك فرعون إذ قال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23]؟ فقد كان فرعون ينكر على موسى عليه السلام ويسخر منه.
أي أنه يقول له: ليس هناك رب غيري، كما قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38].
وقال تعالى مخبراً عنه أنه قال لهامان: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر:36 - 37].
ومعنى أظن: أعتقد، والظن إما أن يأتي بمعنى الشك، وإما بمعنى القطع فقوله: ((وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا)) أي: وإني لأعتقد أنه كاذب.(81/14)
تلازم الشرك والتعطيل
يقول ابن القيم: والشرك والتعطيل متلازمان، فكل مشرك معطل، وكل معطل مشرك.
لكن الشرك لا يستلزم أصل التعطيل، فقد يكون المشرك مقراً بالخالق سبحانه وتعالى وصفاته، ولكنه عطل حق التوحيد، وهذا كمن يطوف حول قبر البدوي أو الحسين أو يستغيث بالسيدة نفيسة، ويذبح لفلان أو ينذر له ويقول: إنما هم وسائط وشفعاء إلى الله، وليس هناك إله يعبد إلا الله، فهذا جاهل وغبي وأحمق باتخاذه لهم وسائط وشفعاء، فيكون قد عطل الله عز وجل حقه الأعظم، وهو التوحيد، وصرف العبادة لغير الله عز وجل عندما نذر وذبح وطاف على غير مراد الله عز وجل، وقد صرف العبادة إلى غير الله، فهو قد عطل حق التوحيد الذي ينبغي صرفه لله دون سواه، ولكن لا يلزم من هذا الشرك التعطيل؛ لأنه مقر بالخالق سبحانه وتعالى، ولكنه عطل حق التوحيد.
وأصل الشرك وقاعدته التي يرجع إليها هو التعطيل.(81/15)
أقسام التعطيل
والتعطيل أنواع وأقسام، الأول: تعطيل المصنوع عن صانعه، فلو قال شخص: إن هذا الرجل خلقته وصنعته الطبيعة لكنا قد عطلنا هذا المصنوع الحادث عن الله عز وجل الذي أحدثه وخلقه وصنعه.
وهذا النوع لم يكن عند مشركي العرب، فإنهم كانوا مقرين بتوحيد الربوبية، وبأن الله تعالى هو الخالق المالك المدبر الرازق، وغير ذلك من صفات الله وأفعاله التي تدل على ربوبيته سبحانه وتعالى.
الثاني: تعطيل الصانع سبحانه وتعالى عن كماله المقدس.
والصانع ليس من أسماء الله عز وجل، ولكن العلماء من أهل السنة والجماعة تناولوا هذا الاسم في حق الله عز وجل من غير نسبته إلى الله عز وجل.
قال: (تعطيل الصانع سبحانه عن كماله المقدس بتعطيل أسمائه وأوصافه وأفعاله).
فلو قلنا: إن الله تعالى لا يتصف بالرحمة، أو أنه رحيم بلا رحمة، وعليم بلا علم، وسميع بلا سمع، وبصير بلا بصر لكنا قد عطلنا الله عز وجل عن صفاته.
وهذا النوع هو الذي يتأوله المتأولون، وهم محرفون لا مؤولون.
الثالث: تعطيل معاملته عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد، وهو صرف العبادة إلى غير الله عز وجل، ومن هذا شرك طائفة أهل وحدة الوجود -وزعيمهم ابن عربي - الذين يقولون: ما ثم خالق ومخلوق، بل الخالق هو المخلوق والمخلوق هو الخالق.
ويقولون: إن الحق المنزه هو عين الخلق المشبه، أي: إن الحق سبحانه وتعالى المنزه هو ذات وعين الخلق المشبه المرئي.
ومنه شرك الملاحدة القائلين بقدم العالم وأبديته، وأنه لم يكن له أول، وليس له آخر.
وهذه الأوصاف إنما تنطبق على الله عز وجل، وليس على كل حادث، والله عز وجل هو الأول والآخر والظاهر والباطن، وليس دونه ولا فوقه شيء.
وهذا النوع هو نوع شرك الملاحدة الذين يعطلون أسماء الله تعالى وصفاته.
قال: (وأنه لم يكن معدوماً من الأصل، بل لم يزل ولا يزال)، أي: هذه الدنيا كلها بأحداثها وبأجرامها والسماوات والأرضين أبدية وأزلية، لم يكن لها أول، وليس لها انتهاء.
وهذا كلام في غاية البطلان.
قال: والحوادث بأسرها مستندة عندهم إلى أسباب ووسائط اقتضت إيجادها يسمونها بالعقول والنفوس، ومن هذا شرك من عطل أسماء الرب تعالى وأوصافه وأفعاله من غلاة الجهمية والقرامطة، فلم يثبتوا له اسماً ولا صفة -يعني: عطلوا الأسماء والصفات عن ذات الإله سبحانه وتعالى- بل جعلوا المخلوق أكمل منه، إذ كمال الذات بأسمائها وصفاتها، أي: أن الذين يعطلون الأسماء والصفات عن الله عز وجل من الجهمية والقرامطة وغيرهم إنما يرفعون المخلوق على الخالق؛ لأنهم لما عطلوا الأسماء والصفات للمخلوق، فيكونون بذلك قد عطلوا أسماء الله تعالى وصفاته وأثبتوها للمخلوق، وبذلك يكونون قد رفعوا المخلوق على الخالق.
ولا شك أن من عطل جحوداً ونكراناً ليس من أهل السنة.(81/16)
شرك من جعل مع الله إلهاً آخر
قال: (النوع الثاني: شرك من جعل مع الله إلهاً آخر، ولم يعطل أسماءه وصفاته وربوبيته، كشرك النصارى الذين جعلوه ثالث ثلاثة).
وقد اختلف النصارى في ذات الإله على ثلاثة أقوال، فمنهم من جعله واحداً، ومنهم من جعله اثنين، ومنهم من جعله ثلاثة، فكانوا يقولون: إن الله ثالث ثلاثة، فجعلوا المسيح إلهاً، وأمه إلهاً، والله تعالى إلهاً، وجعلوا الله تعالى ثالث الآلهة وليس أولها.
قال: ومن هذا شرك المجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلي النور وحوادث الشر إلى الظلمة.
ومن هذا شرك القدرية القائلين بأن الحيوان هو الذي يخلق أفعال نفسه، أي: بدون علم الله وبدون تدخل منه عز وجل وبدون إرادة الله عز وجل.(81/17)
الإقرار بالأسماء والصفات بين أهل السنة وبين المعتزلة والأشاعرة
وأهل السنة والجماعة لا يعطلون أي اسم من أسماء الله عز وجل، بل يثبتونها لله عز وجل من غير تحريف ولا تعطيل.
قال: (لا يعطلون أي صفة من صفات الله، ولا يجحدونها، بل يقرون بها إقراراً كاملاً)، ومعنى كاملاً أي: غير مقيد بقيد.
والمعتزلة والأشاعرة يقيدون ذلك بما يقبله العقل ويتوافق معه، فقد قالوا: نثبت لله تعالى من الصفات ما يقره العقل ويقبله، وإن لم يكن موجوداً في الكتاب والسنة، وننفي عن الله عز وجل الأسماء والصفات إذا كان العقل لا يقبلها، وإن كانت موجودة في الكتاب والسنة، فجعلوا الميزان الأكبر الذي توزن به الأسماء والصفات هو العقل، والميزان الأعظم عند أهل السنة والجماعة هو كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(81/18)
الفرق بين التعطيل والتحريف
والفرق بين التحريف والتعطيل أن التحريف في الدليل، والتعطيل يكون في المدلول والمعنى الذي يدل عليه الدليل.
مثل قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64]، فالضمير عائد على الله عز وجل، فلو قلنا: أي: قوتاه، لكنا بذلك قد حرفنا في الدليل؛ لأن الله تعالى أثبت لنفسه اليد، وأثبت لنفسه القوة، وأثبت لنفسه القدرة، وأثبت لنفسه أنه المتين، فلو قلنا: إن اليد تعني القوة لكنا محرفين للدليل وصارفين له عن مراد الله عز وجل وعن ظاهره، وكذلك نكون معطلين للمراد الصحيح؛ لأن المراد هو إثبات اليد الحقيقية لله عز وجل، وعدم تشبيهها بأيدي المخلوقين، فنقول: إن لله تعالى يداً ليست كيد المخلوق، فنثبت اليد لله تعالى على الحقيقة؛ لأن الله تعالى أثبتها لنفسه.
ولو قلنا: إن اليدين المعني بهما القوة لكنا قد عطلنا المعنى المراد وأثبتنا معنى غير مراد، وكذلك لو قلنا في قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] لا ندري ما معنى اليدين، ولكنا نفوض هذا الأمر إلى الله عز وجل فإنه يدري معنى ذلك؛ لكنا قد وقعنا في التعطيل، ومعلوم أن الله تعالى إنما خاطبنا بكلام نعرف معناه ولا نجهله، فلو قلنا: إننا نجهل معناه لتنافى هذا مع البيان الذي أمر الله عز وجل به نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89].
والتعطيل شر من التحريف.(81/19)
الرد على من يقول: طريق السلف أسلم وطريق الخلف أعلم وأحكم
وأهل السنة والجماعة يتبرءون من الطريقين طريقة أهل التحريف وطريقة أهل التعطيل، ويثبتون اليد الحقيقية لله عز وجل، وهي غير القوة وغير النعمة، فعقيدة أهل السنة والجماعة بريئة من التحريف والتعطيل.
وبهذا نعرف ضلال أو كذب من قالوا: إن طريقة السلف أسلم وستجد هذه الجملة في كتب كثيرة من كتب العقيدة، فبعضهم يقول: إن طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أحكم وأعلم.
وهذا كلام خاطئ، وفي منتهى الخبث والضلال؛ لأن طريقة السلف لن تكون أسلم إلا بحكمة وعلم، فلا يمكن أن تكون سليماً إلا إذا كنت على بصيرة وهداية ونور وعلم، {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108].
فالسلامة لا تكون إلا من خلال الحكمة والعلم، ولا يمكن أن يسلم المرء من غير حكمة ولا علم أبداً، ومن كان معه حكمة وعلم فلابد أن يكون سالماً ومستقيماً على الجادة.
فالصواب أن يقال: إن طريقة السلف أسلم وأحكم وأعلم، وإن طريقة الخلف مخالفة ومنافية لما كان عليه السلف.(81/20)
المقصود بالسلف والخلف
والخلف هم الذين أولوا وصرفوا النص عن ظاهره، فكل من انحرف عن منهج السلف في أسماء الله عز وجل وصفاته وأفعاله فهو معدود في الخلف.
وطريقة السلف في الأسماء والصفات أنهم يثبتونها لله عز وجل، ويعلمون معناها علماً حقيقياً، ويفوضون كيفية ذلك لله عز وجل، فهم لا يفوضون الإثبات ولا المعنى، وإنما يفوضون الكيف، فمن قال بغير ذلك ولو في القرن الأول فهو من الخلف، ومن قال بقول السلف ولو عند قيام الساعة فهو من السلف.
فلا نظن أن السلف هم أصحاب القرون الأولى، والخلف هم من أتى بعد ذلك، وأن هناك حداً فاصلاً بين السلف والخلف، بل من قال بقول الصحابة والأئمة المتبوعين الذين وافقوا الصحابة في أسماء الله تعالى وصفاته وأفعاله فهو متبع للسلف، وإن كان في القرون المتأخرة التي لم تأت بعد.(81/21)
ندم علماء الكلام في أواخر حياتهم على مخالفة منهج السلف
ومن علماء الخلف مثلاً الفخر الرازي الذي أفنى حياته في علم الكلام، وفي التفنن في تقرير منهج الخلف، ثم ندم قبل أن يموت وقال: لعمري لقد طفت المعاهد كلها وصيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سن نادم يعني: أصبح يعض على يديه؛ لأنه ما ترك سبيلاً من سبل الخلف إلا وسلكه، ولا مدرسة انحرفت عن منهج السلف إلا ودرس طريقتها، وأفنى حياته في الدفاع عن منهج الخلف وترك منهج السلف، فندم على أنه قضى حياته في مثل هذا، وتمنى لو أنه يرجع إلى منهج السلف.
وهذه الطريقة التي سلكها يقول عنها: إنه ما وجد فيها إلا واضعاً كف حائر على ذقن، أي: لأنه ليس عنده علم، أو آخر قارعاً سن نادم، أي: لأنه لم يسلك طريق السلامة أبداً.
وقال الرازي أيضاً: نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا وغاية دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا ومعلوم أن القيل والقال إذا لم يكن مستنداً إلى دليل من الكتاب والسنة لا ينفع صاحبه.
ثم يقول الفخر الرازي: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ووجدت أقرب الطرق طريقة القرآن.
ثم يقول: اقرأ في الإثبات -أي: إثبات الصفات لله عز وجل والأسماء-: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5].
{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10].
واقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، وقوله: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110].
ثم يقول: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.
فهو قد أفنى عمره كله في الطرق الكلامية والفلسفية، ثم تاب إلى الله عز وجل في آخر حياته.
وأنت إذا عرفت كلامهم هذا وأنت في مقتبل عمرك البحثي والعلمي فينبغي عليك أن تسلك مسلك السلف، وأن تنبذ بقلبك منهج الخلف؛ لأن فحول الخلف لما بلغوا ما بلغوا بعد أن قضوا أعمارهم وأفنوا حياتهم في هذا المنهج أدركوا في النهاية أن طريقة السلف هي أسلم وأحكم وأعلم.
والإمام أبو المعالي الجويني وهو أيضاً مؤول من الخلف يقول: أتمنى أن أموت على عقيدة عجائز نيسابور، لأنهن يؤمن بالله عز وجل على فطرهن، فـ أبو المعالي الجويني الذي كان يجري كل الناس وراءه، وكان يشار إليه بالبنان في ذلك الزمان، وكان إمام الحرمين، أفنى حياته كلها في تقرير مذهب الخلف، وتقرير الطرق العقلانية والفلسفية والكلامية، ثم تمنى في آخر حياته أن لو مات على دين جدته وجده، والعجائز من عوام الناس، فهو تمنى أن يعود إلى الأمية، فهل يقال: إن هذا المذهب أعلم وأحكم؟!(81/22)
مفاسد تفويض معاني الصفات ومجانبته لمذهب السلف
وطريقة التفويض -أي: تفويض المعنى- طريق خاطئ؛ لأنه يتضمن ثلاث مفاسد: الأولى: تكذيب القرآن؛ لأن صاحبه يضطر إلى رد الأسماء والصفات التي وردت في كتاب الله عز وجل.
الثانية: تجهيل الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما خوطب بكلام يفهمه ويعقل معناه، ويعرف حقيقته، ولكنه يفوض كيفيته إلى الله عز وجل.
الثالثة: أن ترفع الفلاسفة والمتكلمين على كتاب الله وعلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
والذين قالوا: إن طريقة السلف هي التفويض كذبوا على السلف؛ إلا إذا قصدوا بالتفويض تفويض الكيف.
فهم قد اتهموا السلف بتفويض المعنى دون تفويض الكيف، والسلف يثبتون اللفظ والمعنى، ويقررونه ويشرحونه بأوفى شرح.
وأهل السنة والجماعة لا يحرفون ولا يعطلون، ويقولون بمعنى النصوص الواردة في كتاب الله عز وجل، فقوله تعالى: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] بمعنى: علا عليه، وليس معناه: استولى، وقوله: ((بِيَدِهِ)) يثبت بها أهل السنة والجماعة اليد إثباتاً حقيقياً لله عز وجل، ولكنهم لا يخوضون في الكيف، ولا يقولون: المقصود بها القوة والنعمة، فلا تحريف عند أهل السنة ولا تعطيل.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(81/23)
شرح صحيح مسلم - كتاب الإيمان - التكييف والتمثيل في الأسماء والصفات
يثبت أهل السنة والجماعة أسماء الله تعالى وصفاته كما جاءت في القرآن والسنة بدون تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، بخلاف غيرهم من الفرق التي ضلت في هذا الباب حينما حكمت عقولها في أسماء الله وصفاته فضلت وأضلت.(82/1)
التكييف وموقف أهل السنة والجماعة منه
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد: ذكرنا في الدرس الماضي أن أهل السنة والجماعة يؤمنون بأسماء الله وصفاته من غير تحريف ولا تعطيل، وشرحنا معنى التحريف والتعطيل، وبقي معنا أنهم يؤمنون بها من غير تكييف ولا تمثيل، ونتكلم في هذه الليلة بعون الله تعالى على التكييف والتمثيل.
لم يرد لفظ التكييف لا في الكتاب ولا في السنة، ولكن ورد ما يدل عليه، والتكييف هو الذي تسأل عنه بكيف، مثل قولك: كيف جاء زيد؟ فيكون
الجواب
جاء راكباً، أو جاء راجلاً، أي: أنك تصف حاله حين المجيء.
أهل السنة والجماعة لا يكيفون صفات الله عز وجل، فمثلاً: يقولون عن صفتي المجيء والنزول: إن الله تعالى ينزل، ويجيء، نزولاً ومجيئاً لا يعلم كيفيته إلا الله، ولكن المجيء والنزول وبقية صفات الله عز وجل معلومة من حيث اللفظ والمعنى، وأما الكيفية فلا نعلمها، بل نفوض أمرها إلى الله عز وجل، فهو الذي يعلم كيف يأتي، وكيف ينزل، وغير ذلك من الصفات.
فأهل السنة والجماعة الذين هم على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إنما يفوضون الكيف، ولا يفوضون المعنى، فإن المعنى ثابت كما ثبت اللفظ.(82/2)
أدلة أهل السنة على تفويض الكيف(82/3)
الأدلة النقلية لأهل السنة على تفويض الكيف
ويستدل أهل السنة والجماعة على تفويض الكيف بأدلة من المنقول والمعقول، وكذلك من الفطرة، ومن أدلتهم: أن لفظ التكييف لم يرد في الكتاب والسنة، ولكن أتى ما يدل عليه نقلاً، وثبت عقلاً وفطرة، ومما يدل على تفويض الكيف وعدم الخوض فيه من كتاب الله عز وجل، قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33].
فالشاهد في هذه الآية قوله تعالى: ((وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ))، فمن قال: إن الله تعالى ينزل كنزول هذا خطوة خطوة، من درج، أو من منبر أو غير ذلك، فإنه قد قال على الله تعالى بغير علم؛ لأنك لو سألته: هل أخبرك الله تعالى بأنه ينزل كنزولك هذا؟ لكان
الجواب
لا، ولو قال: نعم، فلن يجد على قوله دليلاً لا في الكتاب ولا في السنة.
فالذي يصف مجيء الله تعالى ونزوله إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل بصفة أو هيئة أو كيفية معينة فقد قال على الله تعالى ما لا علم له به، وأعظم على الله تعالى الفرية، ولذلك قال الإمام أبو شامة عليه رحمة الله -وهو من أجل علماء السنة-: من وصف الله تعالى بصفة من صفاته التي يجب فيها التفويض إليه سبحانه وتعالى ينبغي أن ينكل بمثل ما أتى، فمن قال: إن لله تعالى عيناً كعيني هذه، أو قال: إن له يداً كيدي هذه، أو قال: إن له رجلاً كرجلي هذه -هذا كلام أبي شامة رحمه الله- فنقول: تفقأ عينه، وتقطع يده ورجله؛ لأنه شبه الخالق بالمخلوق، ومثل الخالق بالمخلوق، وكيف الخالق بتكييفات المخلوق.
سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.
فإذا جاء رجل وقال: إن الله استوى على العرش على هذه الكيفية، ووصف كيفية معينة كأن يجلس على كرسي ويقول: إن الله تعالى جلس على الكرسي فوق السماء السابعة كجلوسي هذا قلنا له: إن هذا تقول على الله ليس لك به علم، وهل أخبرك الله بأنه استوى على هذه الكيفية؟ فسيكون جوابه: لا؛ لأنه لو قال: نعم لقلنا له: أين الدليل؟ فالله تعالى لم يخبرنا كيف استوى، ونقول: هذا تكييف وقول على الله بغير علم، ولهذا قال بعض السلف: إذا قال لك الجهمي -والجهمي هو من يعطل الصفات-: إن الله ينزل إلى السماء، فكيف ينزل؟ فقل له: إن الله تعالى أخبرنا بأنه ينزل، ولم يخبرنا بكيفية النزول، وشعارنا أن نقول: سمعنا وأطعنا، وصدقنا وآمنا، فكل ما أخبرنا الله تعالى به وطلبه منا فعلينا أن نؤمن به، علمنا منه الحكمة أو لم نعلم ذلك، فإذا كان الله تعالى قد استأثر بعلم الكيفية وحده فلا يجوز لنا أن نخوض في بيانها ومعرفتها، بل نقول: إن الله استوى استواء يليق بجلاله، لا يشابه استواؤه استواء المخلوقين؛ لأنه لما كان الله تعالى مبايناً ومغايراً لخلقه في الذات فلابد أن يكون مبايناً ومغايراً لهم في الصفات، والاستواء صفة، فدل ذلك على أن استواء المخلوق غير استواء الخالق سبحانه وتعالى.
ودليل آخر من المنقول وهو قول الله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36]، أي: لا تتبع نفسك ما ليس لك به علم، {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36].
الشاهد هنا: أنك لا تتبع ما ليس لك به علم؛ لأنك مسئول عن سمعك وقلبك وفؤادك.(82/4)
الدليل العقلي عند أهل السنة على تفويض الكيف
وأما الدليل العقلي على نفي التكييف فهو أن كيفية الشيء لا تدرك إلا بواحدة من ثلاث: إما مشاهدة الشيء نفسه حتى يتسنى لنا أن نكيفه، وإما مشاهدة نظيره ومثيله، وإما خبر الصادق به.
فالتكييف من جهة العقل لا يمكن إلا بأحد ثلاثة أمور، الأول: أن ترى الشيء نفسه، والله عز وجل لم يره أحد من البشر، فكيف نصف النزول والمجيء والغضب والرضا وغير ذلك ونحن لم نره؟ والأمر الثاني: أن الله تعالى ليس له شريك ولا ند ولا مثيل حتى نقول: هذا المثيل والشريك والند مرئي لنا، حتى نقول عن صفة الغضب مثلاً: إن الله تعالى يغضب كغضب فلان.
وهذا لما كان ممتنعاً ومستحيلاً دل ذلك على أن هذا الطريق أيضاً طريق مغلق، وأنه لا بد من تفويض الكيف؛ لأننا لا نرى الله مشاهدة بالعين في الدنيا، كما أنه ليس له مثيل حتى نقيس الله عز وجل عليه؛ لأن الله تعالى لا يقاس بشيء من خلقه.
والأمر الثالث: أنه لم يأتنا خبر صادق عن الله ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم بكيفية النزول ولا المجيء ولا الاستواء وغير ذلك.
لما امتنع هؤلاء الثلاثة دل ذلك على وجوب تفويض الكيف إلى الله عز وجل.(82/5)
كيفية صفات الله لا يعلمها إلا هو سبحانه
ولهذا قال بعض العلماء في جواب لطيف على كيفية صفات الله عز وجل: إن معنى قولنا: بدون تكييف، أي: أننا نثبت الصفة لله عز وجل بدون تكييف، وليس معنى هذا أنه ليس لها كيفية، بل لها كيفية يعلمها الله عز وجل، فالله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا بصفة وبكيفية معلومة له عز وجل، وليست معلومة لنا، فلا يجوز أن ننفي الكيفية عن صفة المجيء، ولا عن صفة النزول، ولا عن صفة الاستواء، ولا عن غيرها من الصفات، بل نثبت أن الله تعالى له صفات بكيفية معينة لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى، وإلا فنفي التكييف تماماً عن الصفة يستلزم العدم، فلو قلنا: إن الله تعالى يأتي بلا كيفية، أو ينزل بلا كيفية، أو يستوي بلا كيفية لكان هذا عدماً، ولكنه يستوي بكيفية، ويأتي بكيفية، وينزل بكيفية لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى، وهذه الكيفية استأثر الله تعالى بعلمها وأخفاها على خلقه.(82/6)
شرح جواب الإمام مالك لمن سأله عن معنى الاستواء
ولما سئل الإمام مالك عليه رحمة الله تبارك وتعالى عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، كيف استوى؟ أطرق برأسه إلى الأرض ثم رفعه وقال: (الاستواء غير مجهول)، وغير مجهول يساوي أنه معلوم، ومعنى أنه معلوم أي: معلوم المعنى.
فالاستواء غير مجهول، أي: معلوم المعنى، ولا نقول: معلوم الكيف؛ لأننا نفوض الكيف إلى الله عز وجل، وأما معنى الاستواء فمعلوم عند العرب.
وكلمة استوى لم تأت في لغة العرب إلا معداة بعلى، أي: استوى على، وعلى في اللغة تفيد العلو والارتفاع، فدل ذلك على أن معنى استوى في الكتاب والسنة بمعنى علا وارتفع.
فمعنى الاستواء معلوم، وهو العلو والارتفاع، وهذا معنى قول الإمام مالك: الاستواء غير مجهول، أي: معلوم المعنى، وهو الارتفاع والعلو، فالاستواء غير مجهول.
(والكيف غير معقول)، أي: أن العقول لا تدرك كيفية ذلك، ولذلك خبأها الله تعالى على الخلق رحمة بهم؛ لأن الله تعالى لو وصف لنا كيفية استوائه فإن بعض العقول ستصدق ذلك، وبعض العقول سترد ذلك، ولذلك فرض الله تعالى علينا أن نؤمن بأنه استوى، ولم يبين لنا الكيف؛ لأن العقل لا يدرك الكيف، فإذا انتفى الدليل السمعي والعقلي عن الكيفية وجب الكف عنها.
ثم أتبع ذلك الإمام مالك بقوله: (والإيمان به واجب)، يعني: لابد من الإيمان باستواء الله عز وجل وبمجيئه ونزوله عز وجل وغير ذلك من الصفات كما جاءت، وإمرارها دون الخوض في تأويلها وتحريفها وتعطيلها؛ لأن الله أخبر به عن نفسه فوجب تصديقه.
(والسؤال عنه بدعة)، أي: السؤال عن كيفية الاستواء أو عن كيفية النزول والمجيء وغير ذلك من الصفات إما أن يكون سؤال متعنت فهو بدعة، وإما أن يكون سؤال جاهل فينبغي أن يوجه إلى عدم السؤال عن هذين الأمرين، وأنه يحاسبه الله تعالى على عدم السؤال عليه، وإنما الذي يجب عليه أن يؤمن بأن الله تعالى يأتي وينزل ويستوي وغير ذلك، ويؤمن بهذه الصفات كما جاءت ويمرها، وهذا من فوائد الإيمان بالغيب.
والله عز وجل افترض على أهل الإيمان أن يؤمنوا بالغيب، وصفات الله تعالى غيبية، وإن كان لا يؤمن الشخص بالغيب فكيف يؤمن بالصفة، فهذا ابتلاء واختبار من الله تعالى لينظر هل نؤمن بصفات الله عز وجل دون أن نخوض فيها أم لا، فينبغي علينا أن نقول: سمعنا وأطعنا، وآمنا بالله وصدقنا، وهذا قول أهل الإيمان.
والصحابة رضي الله عنهم لم يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن كيفية أي صفة من صفات الله عز وجل، وهم أسوة وسلف وقدوة لنا بعد النبي عليه الصلاة والسلام، ولابد أن نكون مثلهم، خاصة في أمور الغيب.
فهم لما سمعوا قول الله تعالى: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] عرفوا عظمة الله تبارك وتعالى، ولم يسألوا عن كيفية الاستواء؛ لأنهم عرفوا أن المقصود بهذه الآية هو العلو والعظمة والارتفاع.
وكلام الإمام مالك رحمه الله تعالى ليس خاصاً بصفة الفوقية فقط، وإنما هو كلام عام وميزان أصيل توزن به جميع الصفات، لا تسأل عن الكيفية، ولكن سل لتعلم معنى الصفة، فلو قلت: ما معنى استوى؟ ف
الجواب
علا وارتفع، ولو قلت: كيف استوى؟ لقلنا: إنك مبتدع أو جاهل.
السؤال عن معنى صفات الله جائز، بل هو من أشرف العلوم وأعلاها؛ لأنه متعلق بعلم التوحيد وعلم العقيدة، وهو من أشرف العلوم وأعلاها؛ لأنه متعلق بذات الله عز وجل، ثم يتلوه في الفضل علوم القرآن؛ لأنها متعلقة بكلام الله عز وجل، وهو صفة من صفاته سبحانه وتعالى، فلما كان الله عز وجل أعلى كل شيء وأحسن من كل شيء دل ذلك على أن كل ما يتعلق بذاته وتوحيده يقدم على غيره من العلوم، ثم يتلوه كلام الله عز وجل، وهو كتابه القرآن الكريم، فكل ما يتعلق بالقرآن من تفسير وتلاوة وفك غريب وغير ذلك يأتي في المرتبة الثانية بعد ذات الله عز وجل؛ لأنه صفة من صفاته، والصفة تابعة للذات.
ثم يأتي بعد ذلك علوم السنة، وهي في الفضل والعظمة تتلو علوم القرآن، ثم يأتي بعد ذلك علوم الآلة من اللغة وغيرها وبقية علوم السنة وأصول الفقه وأصول الحديث، وهي التي تخدم علم الكتاب والسنة، ثم يتلوها بعد ذلك علوم الدنيا الطبيعية وغيرها.
فكلام الإمام مالك رحمه الله ميزان لجميع الصفات، فإن قيل لك مثلاً: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا، كيف ينزل؟ فقل: النزول غير مجهول، أي: معلوم، فالله تعالى ينزل؟ والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، والذين يسألون: كيف يمكن النزول وثلث الليل ينتقل؟ فنقول: السؤال هذا بدعة، إذ كيف تجيز لنفسك أن تسأل سؤالاً لم يسأله الصحابة رضوان الله عليهم؟ فهم أحرص منا على الخير وعلى العلم بما يجب لله تعالى، ولسنا بأعلم من الرسول صلى الله عليه وسلم.
والإمام مالك رحمه الله رد على ذلك الرجل؛ لأنه سأل تعنتاً، فقال: ما أراك إلا مبتدعاً، ثم أمر به فأخرج من المسجد؛ لأن السلف كانوا يكرهون أهل البدع وكلامهم واعتراضا(82/7)
وجوب التسليم للنصوص في باب الأسماء والصفات
عليك أيها المسلم التسليم المطلق لله عز وجل في هذا الباب، فمن تمام إسلامك لله عز وجل واستسلامك ألا تبحث في هذه الأمور، ولهذا أحذر نفسي وإياكم دائماً من البحث فيما يتعلق بأسماء الله عز وجل وصفاته على سبيل التعنت والتنطع، والشيء الذي ما سأل عنه الصحابة ينبغي ألا يسأل عنه أحد ممن أتى بعدهم، وينبغي أن يكون كلامنا: سمعنا وآمنا وصدقنا وأطعنا، أي: آمنا وصدقنا بالخبر، وأطعنا الطلب، وسمعنا القول حتى نسلم ويسلم لنا ديننا ودنيانا.
فأي إنسان يسأل فيما يتعلق بصفات الله عز وجل سؤالاً ما سأل عنه الصحابة فهو كما قال مالك: ما أراك إلا مبتدعاً.(82/8)
فهم السلف لمعاني الصفات
ورد عن السلف ما يدل على أنهم يفهمون معاني ما أنزل الله على رسوله من الصفات، كما نقل عن الأوزاعي وغيره بأنهم قالوا في آيات الصفات وأحاديثها: أمروها كما جاءت بلا كيف، أي: لا تكيفوها، ولكن آمنوا بها على معناها الذي وردت به، ولا تخوضوا في الكيفية، ومعنى قولهم أنهم يمرونها بلا كيف، أي: أنهم يثبتون المعنى، ولو لم يكونوا يؤمنون بالمعنى لقالوا: أمروها كما جاءت معنى وكيفاً، ولكنهم لما قالوا: آمنوا بها وأمروها كما جاءت بلا كيف ولم يذكروا المعنى دل على ثبوتها عندهم.
فكلامهم هذا يدل على أنهم يفهمون المعنى وذلك من وجهين: الوجه الأول: أنهم قالوا: أمروها كما جاءت، ومعلوم أنها ألفاظ جاءت لمعان؛ لأن الله تعالى يستحيل أن يخاطبنا بالكلام المجمل أو بكلام لا نفهمه نحن، ولا يفهمه أنبياؤه ورسله، وإلا لخاطبنا الله تعالى بالمجمل وبكلام لا معنى له، وهذا عبث ولعب نزه الله تعالى نفسه عنه، ونزهه أنبياؤه والمؤمنون.
والأمر الثاني: قولهم بلا كيف، لأن نفي الكيفية يدل على فهم المعنى، أو على وجود المعنى؛ لأن نفي الكيفية عن شيء لا يوجد لهو وعبث.
فكلام السلف هذا يدل على أنهم يثبتون لهذه النصوص معنى.
والكيف هو ذكر صفة من الصفات بهيئتها وحالها وكيفيتها، كما تقول: جاء زيد راكباً، أو جاء زيد راجلاً، أي: يمشي على رجليه.
فهذا بيان لصفة المجيء، والتكييف والحال والوصف بمعنى واحد.(82/9)
العلاقة بين التكييف والتمثيل
وأهل السنة يؤمنون بصفات الله عز وجل من غير تمثيل، فأهل السنة يتبرءون من تمثيل الله عز وجل بخلقه، سواء في ذاته أو في صفاته أو في أفعاله.
فهو تعالى متفرد في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله، فلا يشاركه أحد في أفعاله، كما لا يشاركه أحد في صفاته ولا في ذاته.
قال: (والتمثيل: هو ذكر المماثل للشيء، وبينه وبين التكييف عموم وخصوص مطلق)، يعني: بين التكييف والتمثيل عموم وخصوص مطلق؛ لأن كل ممثل مكيف، فلو قلت: مشي محمد كمشي أحمد، أو جلوسه كجلوس إبراهيم، أو قيامه كقيام عمرو فهذا تمثيل وتكييف؛ لأنني وصفت حال قيامك وجلوسك ومجيئك، وهذا تكييف، ولما ذكرت لك شبيهاً في القيام والقعود والمشي والمجيء والذهاب والإياب كان هذا تمثيلاً، فكل ممثل مكيف، وليس كل مكيف ممثلاً؛ لأن التكييف ذكر كيفية غير مقرونة بمماثل، مثل قولي: إن إتيانك إتيان جميل، فهذا تكييف، ولا يلزم أن يكون كإتيان إبراهيم مثلاً، وهذا يدل على أن كل مكيف لا يلزم منه أن يكون ممثلاً، ولكن كل ممثل يلزم منه أن يكون مكيفاً، فبين التمثيل والتكييف عموم وخصوص، يعني: اجتماع وافتراق، فالممثل لابد وأن يكون مكيفاً، ولا يلزم أن يكون المكيف ممثلاً.(82/10)
إثبات أهل السنة صفات الله دون تمثيل
وأهل السنة والجماعة يثبتون لله عز وجل الصفات بدون مماثلة، فهم يقولون: إن الله تعالى استوى ولكن ليس كاستوائنا، ويأتي ولكن ليس كإتياننا، فهم يفوضون الكيف ويثبتون المعنى بدون تمثيل، بل يثبتون لله تعالى الصفات، ويقولون: ليس له مثيل ولا شريك، فإنه متفرد في وحدانيته وفي ذاته وفي أفعاله وفي صفاته.
ويقولون: إن الله عز وجل له حياة ولكن ليست كحياتنا؛ لأن حياتنا يعتريها النقص والعلل والأمراض والأسقام، وأما حياة الله تعالى فهي منزهة عن هذا كله، فهم يثبتون لله تعالى الحياة، ولكن ليست كحياتنا، وكذلك سمعنا ليس كسمع الله، ولا علمنا كعلم الله، ولا إتياننا كإتيان الله، ولا مجيئنا كمجيء الله، ولا استواؤنا كاستواء الله، بل لما كانت الذات منافية للذات لابد أن تكون الصفات منافية للصفات.(82/11)
أدلة أهل السنة والجماعة على نفي التمثيل(82/12)
الأدلة النقلية على نفي التمثيل
وقد استدل أهل السنة على نفي التمثيل عن الله عز وجل بالمنقول والمعقول، بل والفطرة، ومن الأدلة النقلية التي استندوا إليها قول الله تعالى -وهذا في الخبر-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11].
وهذا في التمثيل والتكييف، أي: أن الله تعالى لا يشبهه أحد من خلقه، فليس له من خلقه مثيل ولا شبيه، ولذلك قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.
وتنكير شيء في سياق النفي يفيد العموم، فلذلك قال: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ))، يعني: ما من شيء تذكره إلا والله تعالى مباين ومغاير له، فليس مثله شيء، ولا يشبهه شيء من خلقه.
فالآية فيها نفي صريح للتمثيل، وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65].
هذا إنشاء بمعنى الخبر، وهو استفهام بمعنى النفي يفيد التحدي، وقولك: ليس له سمي أقل بكثير من قول الله تعالى: ((هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا))؛ لأن الله تعالى استفهم بهذا استفهاماً في سياق الإنكار، وهذا السياق يفيد التحدي، فالله تعالى ليس له سمي، والقول بأن الله تعالى له سمي كذب وزور وافتراء، وهذا كله على نفي المماثلة.
وأما الطلب فقول الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا} [البقرة:22].
فهنا أمر الله ألا نجعل له نداً ولا شريكاً ولا مثيلاً، كما قال تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:74]، يعني: لا تقل: الله مثل فلان، أو فلان مثل الله، وقد ورد في بعض كتب الأدباء: أن أديباً دخل على تلميذ له، وكان لتلميذه ثوب واحد قديم جداً، فقال: إن فيك صفتين من صفات الله الوحدانية والقدم، وهذا تمثيل وتكييف، وكل ممثل مكيف، فهذا مثل وكيف كالذي يستهزئ بآيات الله وبكتابه وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن فعل ذلك فقد كفر وخرج عن الملة، كما قال تعالى: {لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} [التحريم:7]، وهذا لا شك أنه كافر وخارج من الملة؛ لأنه نازع الله تعالى أو وصف خلق الله بصفات الله عز وجل، فوحدانية الله عز وجل هي أعلى ما يتصف الله تعالى به من الصفات، فهو صاحب الوحدانية في الألوهية والربوبية والذات والصفات والأفعال، وغير ذلك مما يخص الله تبارك وتعالى من أسماء وصفات، فهو يقول له: إن فيك صفتين من صفات الله الوحدانية والقدم.
ولا يجوز أن يوصف الله تعالى بالقديم ولا بالقدم؛ وإنما يوصف الله تعالى بالأول والآخر والظاهر والباطن، وأما اسم القديم فهو غير ثابت لله عز وجل.
وأسماء الله تعالى توقيفية، أي: أننا نتوقف في إثبات الاسم إلى أن يأتي به الخبر الصحيح الثابت، فلا نثبت لله تعالى اسم القديم؛ لأنه لم يرد إلينا في النصوص.
قال: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:74].
فمن مثل الله بخلقه فقد كذب الخبر وعصى الأمر، ولهذا أطلق بعض السلف القول بتكفير من مثل الله بخلقه، ومن هؤلاء الأئمة نعيم بن حماد الخزاعي، وهو إمام جليل من أئمة أهل السنة، عاش في عصر الإمام أحمد بن حنبل، وكان شيخ البخاري، وقد تعرض لفتنة خلق القرآن، ووشى به إلى المعتصم أحمد بن أبي دؤاد عالم السلطان في ذلك الزمان، وهو من المعتزلة، وكان المعتزلة يقولون بخلق القرآن، فوشى أحمد بن أبي دؤاد إلى المعتصم بالإمام أحمد ونعيم بن حماد وغيرهما من أهل العلم من السلف، فعذبهم ونكل بهم نكالاً عظيماً، وكان من بين من نكل بهم نعيم بن حماد رحمه الله تبارك وتعالى، فقد سجنه المعتصم، حتى مات نعيم بن حماد في سجنه، فألقي في حفرة، ولم يكفن ولم يغسل ولم يصل عليه، رضي الله تبارك وتعالى عنه.
فأهل العلم تحملوا المشاق العظام في سبيل أن يوصلوا إلينا هذا الدين، ولولا أن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها لقلنا: إن هؤلاء الناس تكلفوا فوق وسعهم.
قال الإمام نعيم بن حماد: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله تعالى به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيهاً.
يقول الذهبي بعد أن ذكر هذا القول في سير أعلام النبلاء في ترجمة نعيم بن حماد: هذا الكلام حق، نعوذ بالله من التشبيه، ومن إنكار أحاديث الصفات، فما ينكر الثابت منها من فقه، وإنما بعد الإيمان بها هناك مقامان مذمومان، أي: بعد أن تؤمن بصفات الله عز وجل اعلم أن هناك مقامين مذمومين.
المقام الأول: تأويلها وصرفها عن موضوع الخطاب، أي: تأويل الصفة، وهذا التأويل هو التحريف.
فالمقام المذموم الأول هو تحريف الصفة وصرفها عن موضوع الخطاب، مع أن السلف لم يؤولوا ولم يحرفوا ألفاظها عن مواضعها، بل آمنوا بها وأمروها كما جاءت.
وأما المقام المذموم الثاني: فهو المبالغة في إثباتها، أي: لا نبالغ في إثبات الصفات التي أثبتها الله تعا(82/13)
الأدلة العقلية على نفي التمثيل
وأما الأدلة العقلية على انتفاء التماثل بين الخالق والمخلوق فمن وجوه: الوجه الأول: أن صفات الخالق غير صفات المخلوق، فمثلاً صفة الوجود ثابتة لله عز وجل، وثابتة للإنسان، ووجود الله تعالى غير وجود الإنسان، فوجود الله تعالى واجب لذاته، وأما وجود المخلوق فجائز، فقياس صفات الخالق على صفات المخلوق قياس فاسد، بل أفسد القياس.
فأنا أقول: أنا موجود والله تعالى موجود، ولكن وجودي غير وجود الله، فوجود الله تعالى واجب لذاته، وأما وجودي فممكن، والله تعالى وجوده منزه عن كل نقص، وأما وجودي فمعرض لكل نقص، فلا يمكن أن يكون الخالق مماثلاً للمخلوق عقلاً.
الوجه الثاني: أننا نجد التباين العظيم بين الخالق والمخلوق في صفاته وفي أفعاله، فمثلاً الله تعالى يسمع كل صوت مهما بعد وخفي، وأما المخلوق فلا يسمع إلا ما هو حوله، وربما يكون الصوت حوله فيسمعه ولا يميزه، وربما لا يسمع الإنسان صوت الذي بجواره فيطلب منه إعادة الكلام، وهذا يدل على أن سمعه فيه نقص وعيب، والله تعالى يتكلم بلا عيب ولا نقص، ويسمع بلا عيب ولا نقص.
وهذا يدل على أن صفة السمع عند المخلوق غير صفة السمع عند الله عز وجل، فسمعك ثابت وسمع الله ثابت، ولكن شتان بين السمعين، وقد قال تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1].
قالت: عائشة رضي الله عنها كما في البخاري: إن هذه المرأة أتت وجادلت النبي صلى الله عليه وسلم في جانب الغرفة وأنا في جانبها الثاني -يعني: في نفس الغرفة- ولكن خفي علي بعض حديثها، وسمعها الله تعالى من فوق سبع سماوات.
فالمخلوق يشارك الله عز وجل في مجرد اسم الصفة فقط.
الوجه الثالث: الله تعالى مباين ومغاير ومفارق للخلق بذاته؛ لأن الله تعالى معنا بسمعه وعلمه وإحاطته، وليس معنا بذاته؛ بل هو سبحانه وتعالى مستو على العرش فوق السماوات السبع، قال تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255].
وقال تعالى: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:67].
ولا يمكن لأحد من الخلق أن يكون هكذا، فلا يمكن لأحد من الخلق أن يقول: أنا وسع كرسيي السماوات والأرض.
وهذا يدل على أن الله تعالى مباين ومغاير لذات خلقه، والذي يدل عليه قول الله تعالى: ((وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).
فلا يمكن لأحد أن يدعي أن الأرض في قبضته يوم القيامة.
والصفات تابعة للذات، فلما كان الخالق مبايناً للمخلوق في ذاته دل ذلك على أنه لا يمكن أن يتماثل الخالق والمخلوق في الصفات ولا في الأفعال ولا في الذات.
الرابع: أننا نشاهد في المخلوقات أشياء تتفق في الأسماء وتختلف في المسميات، فنجد الناس يختلفون في صفاتهم، فهذا قوي البصر وهذا ضعيف، ويقال لكل منهما: بصير أو مبصر، وهذه العيوب التي تدخل على البشر لا يمكن دخولها على الله، وهذا يدل على أن المخلوق يشارك الخالق أصل التسمية، وأما في بقية فروع القياس فيستحيل؛ لأن سمعك غير سمع الله، وبصرك غير بصر الله عز وجل.
وإذا كان التباين في المخلوقات التي هي من جنس واحد فما بالك بالمخلوقات المختلفة الأجناس، فالتباين بينها أظهر، فلا يمكن لأحد أن يقول: إن لي يداً كيد الجمل، أو كيد الحمار، أو كيد الشاة، مع أنها كلها أيدٍ؟ وكثير من الحيوانات ذوات الأربع وذوات الاثنتين لها يد ولها رجل، وإذا كان هذا التباين بين المخلوقات نفسها فما بالك في التباين بين الخالق والمخلوق سبحانه وتعالى؟ فإذا جاز التفاوت بين المسميات في المخلوقات مع اتفاق الاسم، فجوازه بين الخالق والمخلوق من باب أولى، بل هو واجب، فالتباين بين الخالق والمخلوق واجب لابد من التسليم به.(82/14)
الدليل الفطري على نفي التمثيل
وأما الدليل الفطري فهو أن الإنسان بفطرته يعرف الفرق بين الخالق والمخلوق، ولولا هذه الفطرة ما ذهب يدعو الخالق، فهو كلما نزل به كرب أو ضر أو مكروه رفع يده إلى السماء ودعا الله عز وجل، وهذا يدل على أنه مقر من داخله بأن الله تعالى مباين لخلقه بذاته وبأسمائه وصفاته وأفعاله، ولو كانت المماثلة حاصلة بين المخلوق وبين الخالق فكيف يدعو الخالق إذا كان هو مثل الله؟ فهذا يدل على وجود الفرق والمباينة والاختلاف.
ومن هذا يتبين أن التمثيل بين الخالق والمخلوق مستحيل من جهة السمع ومن جهة العقل والفطرة كذلك.(82/15)
الرد على من يقول بوجود التمثيل في حديث: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر)
إذا قال قائل: إن هناك أحاديث ظاهرها يوحي بالمماثلة، أو يوحي بالتكييف والتشبيه مثل حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لما سئل: هل نرى ربنا؟ قال: هل ترون القمر في ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب).
فكما أنك ترى القمر ليلة البدر واضحاً إذا لم يكن هناك غيم ولا سحاب فإنك سترى الله عز وجل في الآخرة كما ترى القمر ليلة البدر.
وقد يقول قائل: إن هذا فيه تمثيل، ونرد على هذا ببيان أصلين: الأصل الأول: أصل عام.
والأصل الثاني: أصل خاص، وفيه الرد على هذه الشبهة.
فالأصل العام: أن كل ما تكلم الله تعالى به حق وصدق، وليس هناك خلاف في ذلك، فكل ما جاء في كتاب الله عز وجل حق، وكذلك كل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم حق لا ينازع في شيء من ذلك إذا صح الدليل، وأما إذا كان الدليل ضعيفاً، فيجب رده، ولا نتكلف له التأويل، لا أن آتي بحديث صحيح يثبت صفة، وحديث ضعيف ينفي نفس الصفة وأقول: بينهما تعارض، وإنما أنظر إلى الدليلين هل هما ثابتان أم لا، فإن كان أحدهما ضعيفاً والآخر ثابتاً وجب رد الضعيف فيبقى الصحيح دون معارض، وإذا كان الدليل ثابتاً صحيحاً في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فينبغي أن نؤمن إيماناً قوياً متيناً من أعماق قلوبنا أن الله تعالى لا يتكلم بالمتناقض أبداً، وكذلك نبيه صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يتفوه بغير الحق.
وإنما أتت هذه الشبهة من القصور في الفهم والعلم، فالذي أمرنا أن نؤمن بصفات الله من غير تكييف ولا تعطيل ولا تمثيل ولا تشبيه هو الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والذي قال: (إنكم سترون ربكم) هو الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن أن يكون هناك تعارض ولا تناقض بين أقواله، وهذه المسألة ينبغي أن نسلم بها، فالمشكاة التي خرج منها الكتاب والسنة مشكاة واحدة، وهي مشكاة الوحي، والوحي لا يمكن أن يخطئ؛ لأنه من عند الله، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82].
وهذا يدل على أنه من عند الله فقط، سواء كان كتاباً أو سنة، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4].
وفي حديث عبد الله بن عمرو لما عيرته العرب بأنه يكتب عن النبي عليه الصلاة والسلام في وقت الغضب والرضا، فقال: (يا رسول الله! إن قريشاً تقول: إنك تكتب عن صاحبكم وهو بشر يتكلم في الغضب والرضا، قال: اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حقاً، وأشار إلى فيه صلى الله عليه وسلم).
وهذا يدل على أنه لا يمكن أن يقع التعارض في النصوص الثابتة في كتاب الله أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما تأتي المشكلة من القصور في الفهم، وهنا يجب الرجوع إلى أهل العلم، {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43].
وقد تعرض ابن خزيمة وابن قتيبة والإمام الشافعي رحمهم الله وغيرهم، للتأويل والتوثيق والجمع بين النصوص التي ظاهرها التعارض، ولذلك يجب عليك أن تقول: النصوص التي ظاهرها التعارض، لا النصوص المتعارضة؛ لأنها في حقيقة الأمر ليست متعارضة.
فـ ابن خزيمة عليه رحمة الله يقول: ليس هناك في الكتاب ولا في السنة دليلان متعارضان، فمن وجود شيئاً من ذلك فليأتني بهما أؤلف له بينهما، فها هو جبل من الجبال ألا وهو الشيخ ابن خزيمة، فمن عنده إشكال فليذهب إليه، وابن خزيمة مات نعم، ولكن السنة موجودة وكلامه موجود، وما ترك شبهة إلا وتكلم فيها، فإذا عن لك شيء فكتب تأويل المتشابه مشهورة عند أهل العلم، فهناك تأويل الحديث لـ ابن قتيبة، وشرح مشكل الآثار للإمام الطحاوي، وهناك كتاب ابن خزيمة، وغيرها من الكتب التي تكلمت وجمعت وألفت بين النصوص التي ظاهرها التعارض، فإذا وجدت شيئاً من ذلك أو دخلت عليك شبهة، فالجأ إلى أهل العلم، وأحمد بن حنبل عليه رحمة الله إمام أهل السنة والجماعة رد على الزنادقة بكتاب سماه الرد على الزنادفة، وهو كتاب صغير الحجم لا يبلغ أكثر من خمسين صفحة، رد فيه على الزنادقة رداً في متشابه القرآن، وهو من أمتن وأقوى وأحسن ما تقرؤه في هذا الباب، ولو علمت قيمة العلم وأنت تقرأ تحس بحلاوة لا تجدها وأنت تأكل أشهى أكل عندك؛ لأن العلم له لذة، ولكن عند من يلتذ به، وهناك أناس لا يلتذون إلا بالشهوات والشبهات.
الأصل الثاني عن قوله: (إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته)، أي: لا يحصل ضيم لكم في رؤيته، فإنكم ترون الله تعالى يوم القيامة، وترونه في الجنة كما ترون القمر ليلة البدر.
فالكاف هن(82/16)
الرد على من يستدل لجواز التمثيل بحديث: (خلق الله آدم على صورته)
ويستدلون بشبهة أخرى في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى خلق آدم على صورته).
والحديث صحيح، أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين، والصورة تعني لأول وهلة المماثلة، فلو أنك تصورت عند المصور ثم أطلعتني على الصورة، لقلت: هذه صورتك؛ لأنها مماثلة لك؛ لأن أوصافها مثلك تماماً.
فالصورة تستدعي وتستلزم المماثلة، فقوله هنا: (إن الله تعالى خلق آدم على صورته)، هذا يستلزم المماثلة وإثبات الصورة لله عز وجل، وفي هذه الحالة يكون المعنى: إن الله تعالى خلق آدم على صورة الرحمن، وهذا تفسير جاء في بعض الروايات.
والرواية التي فيها: (إن الله تعالى خلق آدم على صورة الرحمن) رواية منازع فيها بين الصحة والضعف، بل ضعف بعض أهل العلم الرواية التي في البخاري ومسلم: (إن الله تعالى خلق آدم على صورته)، وقالوا: إنها منكرة من جهة المتن لا من جهة السند.
لو كان هذا الحديث ضعيفاً، لكفى ضعفه في رده، ولو كان صحيحاً وهو الراجح من أقوال أهل العلم والذي عليه الأدلة الكثيرة فينبغي تأويل هذا الحديث.
وتأويل هذا الحديث على وجهين: الوجه الأول: ينبغي الرجوع في تأويل النص إلى المناسبة التي ورد فيها النص، والمناسبة هي أن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه لطم جاريته على خدها، ثم ندم فذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام يستعتبه ويطلب منه لو أن هناك كفارة أو شيئاً من هذا، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم ألا يضرب الوجه ولا يقبح، ثم قال: (إن الله تعالى خلق آدم على صورته)، أي: أن الله تعالى خلق آدم على صورة المضروب، أي: فلا تقبح هذا الوجه ولا تضربه مرة ثانية، فإن الله تعالى خلق آدم على صورته، فالضمير هنا الذي في (صورته) يعود على المخلوق، هذا تأويل.
وبعض أهل العلم قالوا: هذا الضمير يعود على الله؛ لأنه جاء في رواية أخرى صريحة: (إن الله تعالى خلق آدم على صورة الرحمن)، فحملوا الضمير في قوله صلى الله عليه وسلم (على صورته) على لفظ: (الرحمن)، فيكون الحديث: (إن الله تعالى خلق آدم على صورة الرحمن).
والحذف في كتاب الله عز وجل وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم كثير، ومنه قوله تعالى على لسان مريم أم عيسى عليه السلام: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا} [مريم:18]، فهذا على تقدير محذوف، وتأويله: قالت: إني أعوذ بالرحمن منك، ثم تقف، إن كنت تقياً فابعد عني، فهي تذكره بتقوى الله؛ لأنه عندما أتاها الملك في صورة بشر خشيت على عرضها وخافت، فقالت: إني أعوذ بالله منك، وتقدير الكلام: إن كنت تقياً فابعد عني، أو فانصرف عني، أو فإليك عني، ولما كان العرب يفهمون هذا أثبته الله تعالى من باب الإيجاز في الكلام وعدم الإطناب.
فقوله هنا: (إن الله تعالى خلق آدم على صورته)، أي: على صورته التي خلقه الله تعالى عليها، ويكون التقدير أيضاً: إن الله تعالى خلق هذا المضروب على صورة آدم التي خلقه الله تعالى عليها، فلا يكون الأمر هنا فيه مماثلة بين وجه الخالق ووجه المخلوق.
ويكون التقدير في قوله: (على صورة الرحمن): إن الرحمن خلق هذا الوجه على ما صوره الرحمن في آدم، وهذا على فرض ثبوت لفظ الرحمن، فينبغي ألا تضرب هذا الوجه ولا تقبحه ولا تلعنه، كما أنه يحرم عليك أن تقبح وجه آدم وأن تضربه وأن تلعنه.
وبهذا تزول هذه الشبهة، والضمير يعود على أقرب مذكور، وهذا وجه آخر.
والذين قالوا: الضمير عائد على الله قالوا: إن الضمير يعود على الصورة وليس على آدم، فالهاء تعود على الصورة؛ لأنها أقرب مذكور، والخلاف بين أهل العلم: ما هو أقرب مذكور للضمير الصورة أو آدم؟ وجواب آخر: وهو أن الإضافة من باب إضافة المخلوق إلى خالقه، فقوله: (على صورته)، مثل قول الله عز وجل في آدم: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر:29]، فليس المعنى: أن الله عز وجل أعطى آدم جزءاً من روحه، بل المراد إضافة الروح التي خلقها الله عز وجل في آدم إلى الله نفسه من باب التشريف، كما نقول: عباد الله، وبيت الله، وأمة الله، وعبد الله، وغير ذلك.
فقوله: (خلق آدم على صورته)، يعني: على الصورة التي خلقه الله تعالى عليها، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [الأعراف:11].
والمصور آدم.
فالله هو الذي صوره على هذه الصورة التي تعد أحسن صورة في المخلوقات، ولهذا قال: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4]، أي: في أحسن صورة، فإضافة الله الصورة إليه من باب التشريف، فكأنه عز وجل اعتنى بهذه الصورة، ومن أجل ذلك لا تضرب الوجه فتعيبه حساً، ولا تقبحه، فلا تقل: قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك، فتعيبه معنى؛ لأن هذه الصورة قد صورها الله وأضافها إلى نفسه تشريفاً وتكريماً،(82/17)
صفات الله تعالى المثبتة كلها صفات كمال
والله تعالى جمع لنفسه فيما وصف به نفسه وسمى به نفسه بين النفي والإثبات، والإثبات في الكتاب أكثر من النفي، فصفات الله عز وجل تنقسم إلى قسمين: صفات مثبتة، وصفات منفية، يعني: أثبت لنفسه صفات ونفى عن نفسه صفات، ولذلك أهل العلم يقولون: إن صفات الله تعالى إما صفات مثبتة، وإما صفات منفية -أو يقولون سلبية-، والسلب بمعنى النفي في اللغة، إلا أن النفي أحب إلى كثير من أهل العلم من لفظ السلب؛ لأن لفظ السلب فيه معنى الأخذ عنوة.
والصفات المنفية عن الله عز وجل صفات نقص، فصفات الله عز وجل قسمان: مثبتة ومنفية، فالصفات المثبتة: هي كل ما أثبته الله تعالى لنفسه، وكلها صفات كمال ليس فيها نقص بوجه من الوجوه.
ومن كمالها أنه لا يمكن أن يكون ما أثبته دالاً على التمثيل، فإذا أثبت الله تعالى لنفسه السمع دل ذلك على أن له مطلق السمع والسمع المطلق، بخلاف المخلوق فربما يكون سمع المخلوق معيباً، وربما يولد المخلوق لا سمع له ولا بصر له، فالصفات جائزة للمخلوق، كما أن وجود المخلوقين جائز، وأما وجود الخالق فواجب، وصفاته واجبة ولازمة له سبحانه وتعالى بكمالها وتمامها، ولا يلحقها عيب ولا نقص، وأما المخلوق فلما كان وجوده جائزاً كانت صفاته كذلك جائزة، فربما يولد سميعاً أو بدون سمع، وربما يولد سميعاً ويفقده بعد ذلك، وربما يستمر معه السمع.
فإثبات الصفات لله لا يستلزم مماثلة للمخلوق، وقد ضل أهل التحريف الذين زعموا أن الصفات المثبتة تستلزم التمثيل؛ لأن الإثبات عندهم يساوي التمثيل، فلما فروا من ذلك وقعوا في التعطيل، وأما أهل السنة فقد حفظ الله تعالى بهم الملة، وحفظ بهم ما يجوز وما يجب وما يستحيل لله عز وجل، فأثبتوا لله تعالى أسماءه وصفاته من غير غلو في الإثبات ومن غير تعطيل.(82/18)
مباحث في الأسماء والصفات(82/19)
أسماء الله تعالى وصفاته توقيفية
وأسماء الله تعالى توقيفية، فلا نثبت لله تعالى اسماً إلا ما أثبته له بنفسه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، وقال بعض أهل العلم: إنها اجتهادية، وهذا الكلام يخالف ما عليه جمهور أهل العلم من السلف والخلف، فصفات الله تعالى توقيفية كالأسماء تماماً، فلا يجوز أن نثبت صفة لله عز وجل إلا ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم.(82/20)
أقسام الصفات الثابتة لله عز وجل
والصفات تنقسم إلى ثلاثة أقسام، صفات كمال مطلق، وصفات كمال مقيد، وصفة نقص، وهي الصفات المنفية أو الصفات السلبية؛ لأن الله تعالى لا يتصف بها ألبتة.
فالله تعالى يتصف بنوعين من الصفات، صفات كمال مطلق، وصفات كمال مقيد.
فأما صفات الكمال المطلق فإنها ثابتة لله عز وجل، كالكلام، قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164].
وهذه صفة فعل، وليس في أسماء الله المتكلم، وإنما الكلام صفة من صفات الله عز وجل وهي ثابتة بالفعل، قال تعالى: ((وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا)).(82/21)
قاعدة اشتقاق الصفات من الأسماء
وليس كل صفة يشتق منها اسم، وهذه قاعدة مهمة جداً: فكل الأسماء يشتق منها صفات، وليس كل الصفات يشتق منها أسماء، ولو قلت: الصفات يشتق منها أسماء فسيلزمك أشياء كثيرة جداً؛ فيلزمك أن تقول: إن الله هو الماكر والمخادع والمستهزئ، ومن قال هذا فقد خرج من ملة الإسلام، فالأسماء يشتق منها صفات، فالحليم يشتق منه الحلم، والعظيم يشتق منه العظمة.
وليس في أسماء الله الستار، وأما ستير فهو صفة، وقد وردت في قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله حيي ستير يحب الحياء والستر).
فالأسماء يشتق منها صفات، فهناك تسعة وتسعون صفة، وهناك أيضاً صفات يشتق منها أسماء، ولو كانت الأسماء بقدر الصفات لقلنا بضرورة الأمرين، أي: أن الأسماء يشتق منها صفات، والصفات يشتق منها أسماء، ولكن الصفات أكثر من الأسماء، فكل اسم يدل على صفة، فإن الله حليم بحلم، عظيم بعظمة، كريم بكرم، قدير بقدرة، وهناك صفات زائدة على الصفات المشتقة من الأسماء، ولا يجوز أن نشتق منها أسماء لله عز وجل، وكأن بين الأسماء والصفات عموم وخصوص، فكل اسم يدل على صفة، وليست كل صفة تدل على اسم.(82/22)
شرح صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - مقدمة فضل الجهاد من القرآن والسنة
الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الأمر، وهو من العبادات المعلومة من الدين بالضرورة، ولم يشرع الجهاد لإزهاق الأرواح، وإراقة الدماء، واحتلال البلاد، وإنما شرع لإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، وقد بين القرآن والسنة ما أعد الله للمجاهدين في سبيله من عز وتمكين في الدنيا، ونعيم مقيم في الآخرة.(83/1)
أهمية الجهاد وفضله في كتاب الله عز وجل
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستغفره ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فقد توقفنا عند كتاب الجهاد، وهو من أوجب الواجبات على هذه الأمة في هذه الأيام، ويحسن أن نقدم للكلام عن أحكام الجهاد التي وردت في صحيح مسلم بمقدمة تبين أهمية الجهاد وفرضيته خاصة إذا احتاجت إليه الأمة في وقت من الأوقات، والأمة في حاجة إلى الجهاد حتى آخر لحظة من لحظات حياتها، كما أن هذه المقدمة تعالج عند كثير من الناس ما يشاع عن الجهاد في سبيل الله أو الحرب أو القتال أنه حرب مدمرة وخسارة.
فنقول: لا يرتدع الظالم المعتدي إلا بهذا، فإذا كان ذلك وتعين فلا بأس به في لسان الشرع.
فنقدم بمقدمة من كتاب الله عز وجل ثم من سنة النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن ندخل في ذكر تفاصيل أحكام الجهاد من خلال الأحاديث في صحيح مسلم.(83/2)
آيات القتال في سورة البقرة
قال الله عز وجل: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ} [البقرة:154]؛ لأن الظاهر أن الذي يقتل في الجهاد أنه قد مات، والله عز وجل يضبط هذا الميزان ويقول: {بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة:154] أي: هم عند الله تعالى أحياء حياة لا يعلمها إلا هو عز وجل.
وقال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190].
وقال الله تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة:191] أي: وجدتموهم {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:191] فالفتنة في الدين أشد من أن يقتل المرء لأجل دينه.
قال تعالى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:191] إلى آخر الآيات.
وقال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة:193].
وقال الله عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216] النفس بطبيعتها تكره ذلك، بل النفس تكره أي تكليف مهما كان يسيراً خفيفاً؛ لأنه تكليف؛ ولذلك قال الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] أي: في مقدورها.
وقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216].
وقال الله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217].
إذاً: الحرب لا يمكن أن تنتهي، ما دام على وجه الأرض كفر وإيمان فلا يمكن أن تنتهي هذه الحرب مطلقاً، قال تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217].(83/3)
آيات القتال في سورة آل عمران
وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [آل عمران:156].
وقال تعالى: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [آل عمران:157].
الموت حق على كل نفس، فلأن يموت الإنسان في سبيل الله خير له من أن يموت وهو يجمع حطام الدنيا، قال تعالى: {وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} [آل عمران:158].
وقال تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:168] هو مدرككم في ساحة القتال أو في غيرها ولو كنتم في بروج مشيدة.
قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران:169 - 170].(83/4)
آيات القتال في سورة النساء
قال تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:74].
وقال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا * الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:75 - 76].
وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ} [النساء:77] يخشون الناس بعد أن فرض الله تعالى عليهم القتال كما يخشون الله تعالى {أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء:77].
وقال تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا} [النساء:84].
وقال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا} [النساء:89] أي الكفار يودون ويتمنون أن نكفر ككفرهم {فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء:89].(83/5)
آيات القتال في سورة الأنفال
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} [الأنفال:15].
فإذا لقيتم الأمريكان يزحفون إلى أرض الأفغان فلا تولوهم الأدبار.
هذا معنى كلام الله عز وجل في واقعنا الذي نمر به؛ ولذلك يتعين القتال على أهل هذه المنطقة وعلى من تلاهم؛ حتى يردوا العدو إلى أرضه خاسراً خاسئاً، أو يقتلوه ويجعلوا أرض أفغانستان مقبرة للأمريكان.
هذا هو الواجب على المسلمين في هذا الزمان، ومن استطاع أن يذهب إلى هناك بغير خسارة فقد تعين عليه الجهاد، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} [الأنفال:15 - 16] ويريد أن يقاتلهم من ناحية أخرى، أو أن يلحق بسرية أو كتيبة في مكان ولو كان بعيداً عن ساحة القتال، المهم أنه ما ولى الدبر إلا لأحد هذين الغرضين، وإلا {فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:16].
قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38] أي: إن دخلوا في الإسلام وتابوا من الكفر فإن الإيمان والإسلام يجب ما كان قبله {وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال:38].
وقال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال:39].
وقال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ} [الأنفال:47] بطراً: أشراً وعجباً ورياء {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [الأنفال:47].
وقال تعالى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ} [الأنفال:57] أي: إذا وجدتهم يا محمد أنت ومن معك أنت وأمتك في الحرب فشرد بهم، قال تعالى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال:57 - 58].
وقال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60].
ولم يقل: أعدوا لهم كما هي عدتهم، وتسلحوا لهم بسلاحهم، وإنما يكفي أهل الإيمان بأن النصر من عند الله عز وجل، ويجب عليك أن تلتمس الأسباب وإن كانت هذه الأسباب قليلة وضعيفة، المهم أن هذه الأسباب هي التي في مقدورك واستطاعتك، فأنت لا تكلف إلا أن تتخذ الأسباب المتاحة والمستطاعة، قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7].
قال تعالى: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [الأنفال:60] كان أعظم طاغوت قبل طاغوت الأمريكان هو طاغوت الروس، ومع هذا سقط هذا الطاغوت، وسقط التاج الذهبي من فوق رأسه في الوحل والطين على أرض الأفغان، وعلى أيدي أناس عزل لا يملكون شيئاً، وما كان معهم من سلاح إلى يومنا هذا إلا سلاح الغنيمة التي غنموها من أعدائهم، فهذا يدل على قوة الإسلام في حد ذاته.
تصور أن رجلاً واحداً قد أضج مضاجع الكافرين في أوروبا وأمريكا، فلو أن الأمة كلها أسامة بن لادن فماذا كان يصنع الأمريكان أو أوروبا أو غيرهم من سائر ملل الكفر؟ ما كانوا يجرءون أن يتكلموا بكلمة واحدة بل انهزموا في عقر دارهم، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ونصرت بالرعب مسيرة شهر) أي: على بعد شهر، وقبل أن يخرج العدو من أرضه يغلب ويهزم وهو في أرضه بمجرد أن يسمع بـ أسامة بن لادن، فضلاً عن أن يسمع بالنبي عليه الصلاة والسلام أو الخلفاء الراشدين، أو الدولة الأموية، أو العباسية أو غيرها من هذه الدول القوية.
والعجيب أن هذه التهمة لم تثبت إلى الآن، وكنا نتمنى أن تثبت، لكنه على أية حال -والواقع نمر به ونعيشه- شرف لا ندعيه، ويا ليته ثبت لكانت القضية حلت منذ أول لحظاتها، ولكنها الحرب بين الإيمان والكفر، أراد شارون الذي ينسب إلى حيي بن أخطب أن يشعل المنطقة العربية ناراً، وأن يفرّغ تلك البقعة الشامية له،(83/6)
آيات القتال في سورة التوبة
قال تعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً} [الأنفال:61] لا يراعون فيكم إلاً ولا ذمة {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} [الأنفال:61] كلام معسول جداً، فلا يتكلمون إلا عن السلام العادل والشامل {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ * اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ * فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} [التوبة:8 - 12].
وهؤلاء القوم نكثوا أيمانهم وطعنوا في ديننا! قال تعالى: {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ} [الأنفال:61] ما الذي يحجبكم عن قتالهم؟ الخشية؟ تخافونهم؟ {فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [التوبة:13].
وقال تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:14 - 15].
{قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29].
وقال تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:36].
وقال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ)) لم يقل: تثاقلتم، لكن قال: ((اثَّاقَلْتُمْ)) وهذا يدل على الخلود المتناهي في الأرض، وحب البقاء وترك الخير.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا} [الأنفال:61] أي: جاهدوا {فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ} [التوبة:38 - 39] يعذبكم أنتم {عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:39 - 40] لا بد أن تعتقد أن معية الله تبارك وتعالى ملازمة لك؛ لأنك في معسكر الإيمان، والله تعالى مع المؤمنين معية خاصة، قال: {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:40].
وقال تعالى: {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة:41] على الأقدام وركباناً، قلة أو كثرة {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة:41].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:123].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التحريم:9].(83/7)
آيات متفرقة من كتاب الله في القتال
قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39].
وقال تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ} [محمد:4] أي أكثرتم القتل وأمعنتم القتل في رقابهم {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:4 - 6].
وقال تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} [محمد:20 - 21].
{رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [محمد:20] لا يحبون القتال، ويعتبرونه هلكة، وقد سمعنا تصريحات كثيرة تقول: حرب؟! لم الحرب؟! ثم يقول: الحرب ما شرعت إلا للسلام بعدها، وللكلام بعدها، وللاتفاق بعدها، فإذا كان يمكن الاتفاق والسلام والكلام قبلها فما قيمة الحرب حينئذ؟ ثم يقول بعد ذلك قائلهم: الحرب دمار وخراب! لماذا ينظر إلى الحرب على أنها دمار وخراب شامل للبلاد والعباد، والأموال والأنفس والأرواح؟ لماذا هذه النظرة المشئومة فقط، ولا ينظر إلى أن المؤمن في القتال ينتظر أحد أمرين: إما النصر وإما الشهادة؟ لماذا لا ينظر إلى القتال والحرب والجهاد على أنه عز أهل الإيمان وشرفهم، ومحافظة على الأوطان والبلدان؟ لماذا لا ينظر هذه النظرة؟
الجواب
لأنه أخلد إلى الأرض ورضي بالحياة الدنيا، بل رضي أن يعيش ذليلاً حقيراً.
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4] تصور أن الله تعالى يحب أن نكون صفاً كالملائكة في الصلاة، وأن نكون صفاً في القتال كصفنا في الصلاة {كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف:10]؟
الجواب
{ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف:11].
هذه بعض الآيات التي إذا سمع المؤمن آية واحدة منها اشتاق إلى لقاء العدو طلباً لمغفرة الله عز وجل.(83/8)
أهمية الجهاد وفضله في السنة النبوية
صنف ابن أبي عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني كتاباً عظيماً جداً في الجهاد فقال في الباب الأول:(83/9)
ما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الجنة وحض عقب ذكرها على الجهاد
(ما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الجنة وحض عقب ذكرها على الجهاد).
عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم لأصحابه: (ألا هل من مشمر إلى الجنة؟ ألا هل من مشمر إلى الجنة؟ فإن الجنة لا خطر لها -أي: لا عوض لها ولا مثيل- هي ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز، ونهر مضطرد، وقصر مشيد، وفاكهة كثيرة نضيجة، وحلل كثيرة، وزوجة حسناء جميلة في مقام أبداً، في حبرة ونعمة ونضرة، في دار عالية سليمة بهية.
فقالوا: نحن المشمرون لها يا رسول الله! قال: قولوا: إن شاء الله.
ثم ذكر الجهاد وحض عليه) أي: أنه لا ينال الجنة بهذه الأوصاف إلا رجل آمن بالله وجاهد في سبيل الله عز وجل.(83/10)
بيان أن الجهاد من أفضل الأعمال عند الله
قال: وعن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل: (أي الأعمال خير وأفضل يا رسول الله؟! قال: إيمان بالله ورسوله.
قال: ثم أي؟ قال: ثم جهاد في سبيل الله، قيل: ثم أي؟ قال: حج مبرور).
وهذا الحديث في الصحيحين من حديث أبي ذر بدون ذكر الحج.
وعن سهل بن سعد الساعدي قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ساعتان لا تردان -أو قلما تردان- الدعاء عند النداء، وعند البأس).
عند النداء أي: بين الأذان والإقامة.
وعند البأس.
أي: عند التقاء العدو.
(يلحم بعضهم بعضاً).
أي: يلتقي الصفان والمعسكران.
وعن أبي عمرو الشيباني عن عبد الله بن مسعود قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة لوقتها.
قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين.
قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله عز وجل).
وعن ماعز قال: (سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله.
قال: ثم أي عمل يا رسول الله! أفضل؟ قال: الجهاد في سبيل الله).
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله! أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله وتصديق بكتابه وجهاد في سبيله).
وفي رواية: (إيمان بالله وتصديق به وجهاد في سبيله).
وفي رواية: (إيمان بالله وتصديق برسوله وجهاد في سبيله) فهذه أفضل الأعمال.
وعن عبد الله بن حبشي الخثعمي رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان لا شك فيه، وجهاد لا غلول فيه).
والغلول هو: الأخذ من الغنيمة قبل أن يوزعها الإمام، وهي كبيرة من الكبائر وإن غل عوداً من أراك، قال الله تعالى {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161].
وعن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! علمني عملاً يعدل الجهاد) أي: أخبرني بعمل يساوي الجهاد في الفضل.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا أجده) ليس هناك عمل أفضل من الجهاد.
قال: (هل تستطيع إذا خرج المجاهد للقتال أن تدخل أنت في محرابك ومسجدك فتقوم لا تفتر، وتصوم لا تفطر؟ قال: لا أستطيع).
قال أبو هريرة: إن فرس المجاهد ليستن في طوله.
يستن: أي: يذهب ويجيء في طوله -أي: الحبل- فرس المجاهد المربوط لا يزال في مربطه يروح ويجيء، فإن هذا الرواح وهذا الغدو لهذا الفرس كله في سبيل الله وفي صحيفة حسنات صاحبه، حتى عدو الفرس وطعامه وبوله وشرابه وروثه كل ذلك في صحيفة حسنات صاحبه.
قال أبو هريرة: إن فرس المجاهد ليستن في طوله فتكتب له الحسنات.
أي: تكتب لصاحبه الحسنات.
وعن أبي هريرة: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! أي الأعمال أفضل؟ قال: الإيمان.
قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله).
وعنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن مثل المجاهد في سبيل الله كمثل القائم الصائم).
القائم الذي لا يفتر، الصائم الذي لا يفطر.
قال: (إن مثل المجاهد في سبيل الله كمثل القائم الصائم الخاشع الراكع الساجد).
تصور أن المجاهد الذي يجاهد ولو ما بين الأذان والإقامة لا يعدل جهاده إلا رجل يقوم فلا يفتر ولا يمل، ويصوم فلا يفطر.
ومن حديث أبي هريرة قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما يعدل الجهاد في سبيل الله عز وجل؟ قال: لا تستطيعوه، فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثاً كل ذلك يقول: لا تستطيعوه، وقال في الثالثة: مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد من الجهاد في سبيل الله عز وجل).
فتصور أن هؤلاء الذين وقفوا على هذه الثغور في بلاد الإسلام، الواحد منهم بوقوفه فقط وأدائه للفرائض فقط مع رباطه في هذا الثغر يساوي منا أن نقوم أعمارنا فلا نفتر، وأن نصوم نهارنا جميعاً فلا نفطر، وهذا يدل على شرف الجهاد في سبيل الله عز وجل.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أي الناس أفضل؟ قال: مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله).
وكل حديث من هذه الأحاديث قد ورد بروايات متعددة واللفظ واحد.(83/11)
بيان ما أعده الله للمجاهدين في سبيله
قال عليه الصلاة والسلام في حديث أبي مالك الأشعري: (إن الله أعد للمجاهدين في سبيل الله مائة درجة -أي: في الجنة- بين كل درجتين ما بين السماء والأرض) ونحن نعلم أنه بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، اضرب خمسمائة عام في مائة فتكون هذه منازل المجاهدين في سبيل الله في جنة عرضها السماوات والأرض.
ومن حديث أبي هريرة في الصحيحين قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لولا أن أشق على أمتي ما تخلفت عن سرية) حتى لا تعتقد الأمة بعد ذلك أن الجهاد فرض عين.
(ولكن لا أجد حمولة) أي: لا أجد ما أحمل عليه، وليس عندي ما أحمل الأمة عليه، فمنه ما هو فرض عين ومنه ما هو فرض كفاية.
وعن عبد الله بن حبشي: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له: أي الجهاد أفضل؟ قال: من جاهد المشركين بنفسه وماله.
قيل: فأي القتل أشرف؟ قال: من أهريق دمه وعقر جواده) أي: من ذهب دمه وذهب جواده، فهذا أشرف القتل.
وعن أبي فاطمة أنه قال: (يا رسول الله! أخبرني بعمل أستقيم عليه وأعمله.
قال: عليك بالجهاد في سبيل الله فإنه لا مثل له).
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مات ولم يغز وليس في نفسه -أي ولم تحدثه نفسه بالغزو- مات على شعبة من شعب النفاق).
وعن أنس بن مالك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (المجاهد في سبيل الله علي ضامن -الله تعالى يضمن من خرج في سبيله- إن قبضته أورثته الجنة، وإن أرجعته أرجعته بأجر وغنيمة).
(إن قبضته) أي: قتل في الجهاد كان من أهل الجنة، وإن رجع إلى أهله رجع بأجر وغنيمة.
وعن الحسن مرسلاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال ربكم: من خرج مجاهداً في سبيلي ابتغاء وجهي فأنا له ضامن، إن أنا قبضته في وجهه -أي: في قتاله وجهاده هذا- أدخلته الجنة، وإن أنا أرجعته أرجعته بما أصاب من أجر وغنيمة).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (توكل الله -أي تكفل الله- للمجاهد في سبيله أن يدخله الجنة أو يرجعه سالماً بما نال من أجر وغنيمة).
وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة كلهم ضامن على الله عز وجل: رجل خرج غازياً في سبيل فهو ضامن على الله عز وجل حتى يتوفاه فيدخله الجنة، أو يرده بما نال من أجر وغنيمة، ورجل ذهب إلى المسجد -أي: لصلاة الجماعة مع الإمام- فهو ضامن على الله حتى يتوفاه -أي في طريقه هذا- فيدخله الجنة، أو يرده بما نال من أجر وغنيمة، ورجل دخل بيته بسلام فهو ضامن على الله عز وجل).
رجل دخل بيته فألقى السلام على أهل بيته فهو ضامن على الله عز وجل.
أما المنافق الذي ضمن الله تعالى وتكفل الله تعالى بدخوله النار فسيأتي معنا حديثه بإذن الله تعالى.
وعن أبي مالك الأشعري قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله تبارك وتعالى قال لمن انتدب خارجاً في سبيله) أي: لمن تبرع بنفسه وخرج للجهاد في سبيل الله ابتغاء وجهه وتصديق وعده وإيماناً برسله (إنه على الله ضامن، فإما أن يتوفاه في الجيش بأي حبس شاء -أي: بأي طريقة مات بها- فيدخله الجنة، وإما أن يسيح -يذهب- في ضمان الله وإن طالت غيبته حتى يرده إلى أهله سالماً مع ما نال من أجر وغنيمة، ومن فصل في سبيل الله فمات أو قتل فإنه شهيد، ومن وقصه فرسه أو فصيله أو بعيره أو لدغته هامة أو مات على فراشه بأي حتف شاء الله، فإنه شهيد وإن له الجنة).
أي وإن كان السهم قد أتاه وهو نائم على فراشه في أرض الرباط والثغر والقتال فهو شهيد، وإن كان يمشي ويروح ويجيء فانفجرت فيه قنبلة أو لغم أو غير ذلك فهو شهيد، وليس بلازم أن تكون الشهادة حين التحام الصفوف، بل يموت الرجل وهو يكون عند الله شهيداً إذا كان ذلك في ساحة القتال بأي طريق وبأي حتف شاء الله.
وعن أنس قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبسة -اسم رجل- عيناً -أي: جاسوساً يستطلع الأخبار- ينظر ما صنعت عير أبي سفيان، فجاء وما في البيت غيري وغير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحدثه الحديث.
قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلم فقال: إن لنا طلِبة -أي: مطلبة- فمن كان ظهره حاضراً فليركب معنا) أي: أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول لأصحابه في هذه الغزوة حينما استطلع عير أبي سفيان في غزوة بدر قال: (إن لنا طلِبة، من كان جاهزاً وحاضراً الآن فليركب وليتبعني).
قال الناس: (فجعل رجال يستأذنونه في ظهرانهم في علو المدينة) أي: انتظر يا رسول الله! حتى نأتي(83/12)
فضل الإنفاق في سبيل الله وتجهيز المقاتلين
وقال خريم بن فاتك الأسدي: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من أنفق نفقة في سبيل الله كتبت له بسبعمائة ضعف).
تصور لو أنك وضعت جنيهاً واحداً، وهذا على الأقل أن تجاهد بمالك فإذا عجزت عن الجهاد بالنفس فلا أقل أن تجاهد بمالك وإن قل، فلا تحقرن من المعروف شيئاً فإنك ستحتاج في يوم من الأيام إلى أن تكون قد تصدقت ولو بشق تمرة تكون حجاباً وساتراً بينك وبين النار، فما بالك لو أنك تصدقت بفضل مالك لإخوانك المجاهدين هنا وهناك؟ إنسان يتصدق بجنيه يجده سبعمائة حسنة في عشرة في سبعمائة، والله تعالى يضاعف بعد ذلك لمن يشاء!! وقال أبو مسعود البدري: (أتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إنه قد أبدع بي -أي: انقطع بي السبيل- فاحملني يا رسول الله! قال: اذهب إلى فلان فأقرئه مني السلام وقل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك: احملني.
فذهب الرجل إلى ذلك المبعوث فحمله، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: من دل على خير فله مثل أجر عامله) والحديث عند مسلم.
وعن ابن مسعود: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بناقة مخطومة فقال: يا رسول الله! هذه في سبيل الله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة).
إذاً: ما أنفقت من نفقة أجرت بمثلها سبعمائة ضعف، فلا تستقل!! وعن صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه قال: (غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة حملت فيها على بكر -أي: على جمل صغير- كان أوثق عملي في نفسي) أي: أوثق الأعمال وأحبها إلى نفسي هو غزوي مع الرسول عليه الصلاة والسلام على قدر استطاعتي.
وعن أبي هريرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاثة حق على الله عونهم) والذي فرض هذا الحق هو الله عز وجل.
قال: (المجاهد في سبيل الله) أولهم: المجاهد في سبيل الله بإخلاص؛ ولذلك قيدت النصوص كلها الجهاد بأنه في سبيل الله، أما إذا كانت في سبيل الشيطان أو رياء أو سمعة فإنه لا إعانة له.
ثلاثة حق الله عونهم: (المجاهد) وشرطه: في سبيل الله، و (الناكح) شرطه: يريد العفاف، أما الناكح الذي يريد أن يتسلى بأعراض الناس فهذا لا يعينه الله عز وجل وإنما يفضحه على رءوس الناس؛ لأنه ما ابتغى بهذا العمل وجه الله، ولا حتى ابتغى أن يعف نفسه ولا أن يعف المرأة، وإنما أراد بذلك أن يتلذذ بأعراض الناس، فإذا فرغ من هذه انتقل إلى تلك، وإذا فرغ من تلك انتقل إلى هذه، فهو يجمع امرأة واثنتين وثلاث وأربع ثم يطلق الرابعة ليستبدل مكانها، ثم يطلق هذه المستبدلة ليستبدل بها وغير ذلك، فهذا لا يريد العفاف وإن أراد العفاف أعفه الله وستره، ومن لا يرد العفاف فإن الله تعالى لا يعينه.
وكذلك (المكاتب) وشرط: يريد الأداء.
وهو العبد الذي يكاتب سيده على أن يحصل على العتق من الرق في مقابل مبلغ من المال، فإذا كان هذا المكاتب يريد أداء ما كتب عليه فإن الله تعالى يؤديه عنه، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله) أتلفه هو.
ولم يقل: أتلف الله ماله، وإنما قال: (أتلفه الله).
وعن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في غزوة بني لحيان: (من رجل يخلف صاحبه؟) في غزوة بني لحيان نادى على بني لحيان وقال لهم: سيخرج نصفكم إلى الجهاد والنصف الآخر لا يخرج، مهمتهم أن يخلفوا المجاهدين بخير في أهليهم وأموالهم وذويهم وأطفالهم.
فقال: (من رجل يخلف صاحبه؟ -من الذي يقوم في أسرة المجاهد خليفة- للقاعد منهما الذي يخلف الغازي في أهله وماله مثل نصف أجره) أي: لو أن مجاهداً قمت أنت خليفة في أهله وماله وولده وعمله وأغنيت المجتمع بما كان يقوم به ذلك المجاهد قبل أن يذهب إلى الجهاد فلك مثل نصف أجر ذلك المجاهد تماماً بتمام وسواء بسواء.
وعن أبي سعيد بلفظ آخر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى بني لحيان: ليخرج من كل رجلين رجل، ثم قال للقاعد: أيكم خلف الخارج في أهله بخير) وهذا شرط: بخير لا بغش وخداع وتخبيب للمرأة وإفساد لها على زوجها وغير ذلك.
قال: (كان له مثل نصف أجر الخارج).
وعن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من صاحب إبل ولا غنم لا يؤدي حقها إلا أقعد لها يوم القيامة بقاع قرقر) أي: بقاع أملس، كالرخام.
تصور أن عندك أغناماً وأبقاراً ومواشي وإبلاً وغير ذلك، ولا تؤدي زكاتها، فتأتي هذه الأنعام يوم القيامة فتُطرح لها على أرض ملساء كالصفا، ثم تظل هذه الأنعام تطؤك بأظلافها وأظافرها وأرجلها، كلما فرغت أعادت الدورة من جديد.
قال: (ما م(83/13)
بيان فضل المجاهد الذي اغبرت قدماه في سبيل الله
عن معاذ بن جبل قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده ما تغبرت قدما عبد قط ولا وجهه في شيء أفضل عند الله بعد الصلاة المفروضة من الجهاد في سبيل الله عز وجل).
إذاً: فأعظم مشوار تذهب إليه وتغبر فيه قدماك بعد إدراك الصلاة مع الإمام في جماعة هو الجهاد في سبيل الله عز وجل.
وفي رواية: (والذي نفسي بيده ما شحب وجه ولا اغبرت قدم في عمل تبتغي فيه درجات الجنة بعد الصلاة المفروضة كجهاد في سبيل الله).
وقال عليه الصلاة والسلام: (من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمهما الله على النار).
وهذه حرمة عظيمة للمجاهد.
وعن أبي هريرة قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف امرئ مؤمن.
أو قال: مسلم).
لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم، فإما هذا وإما ذاك، فالذي اغبرت قدماه في سبيل الله أو وجهه في سبيل الله حرم الله بدنه على النار.
وعن عائشة قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من خرج في سبيل الله فدخل الرهج -الغبار- في جوفه حرم الله جلده على النار).
وعن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: (أن مكاتباً دخل عليها ببقية مكاتبته -أي: أنه دخل عليها ببعض المال ليدفع ما تبقى عليه في المكاتبة- فقالت: إنك غير داخل علي بعد مكاتبتك هذه؛ لأنك ستكون حراً فعليك بالجهاد في سبيل الله، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما خالط قلب امرئ رهج في سبيل الله إلا حرمه الله على النار).
وعن عبد الله بن مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عجب ربنا من رجلين) والله تعالى يعجب كيف شاء ليس كعجب الخلق.
قال: (عجب ربنا من رجلين: رجل سار من فراشه ولحافه -أي: انسل من لحافه وفراشه- من بين أهله وحبه أو حشمه إلى صلاته فيقول الله عز وجل لملائكته: انظروا إلى عبدي.
سار من بين لحافه من بين أهله وحبه أو حشمه إلى صلاته رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي، ورجل غزا في سبيل الله ففر أصحابه، فعلم ما عليه في الفرار -أي: من الوزر- وما له في الرجوع إلى العدو، فرجع حتى أهريق دمه).
عجب ربنا تبارك وتعالى من رجل يترك فراشه ويترك زوجه وعروسه ويقوم فينتصب لله عز وجل قائماً في الليل، ورجل فر مع أصحابه من الجهاد ولكنه راجع نفسه وعلم أن هذا فرار من الزحف، وأنه من أكبر الكبائر فاتقى الله ورجع ليقاتل العدو حتى أريق دمه.
قال: (قال الله تعالى لملائكته: انظروا إلى عبدي.
رجع حتى أهريق دمه رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي).
وعن عتبة بن عبد قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (القتلى في سبيل الله ثلاثة: مؤمن قرف على نفسه من الذنوب والخطايا) قرف أي: اكتسب، رجل مؤمن لكنه عاص بذنوبه.
قال: (رجل مؤمن قرف على نفسه من الذنوب والخطايا حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يقتل) هو مؤمن صاحب ذنوب ومعاصي وخطايا، لكنه إذا لقي العدو ثبت وقاتل العدو حتى قتل.
قال: (فتمصمصه) أي: تطهره.
إذاً: ليس القتال في سبيل الله هلكة، بل هو مكسب عظيم جداً، فالرجل صاحب الذنوب تمحو الحروب والجهاد خطاياه وذنوبه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فتمصمصه فمحت ذنوبه وخطاياه.
إن السيف محاء للخطايا) ولم يقل: إن السيف يمحو الخطايا، وإنما قال: (محاء) صيغة مبالغة من المحو، كأن المجاهد لا يبقى عليه في الجهاد والقتل في سبيل الله ذنب قط.
(والثاني: مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يقتل، فذاك في خيمة من خيام الله في الجنة لا يفضله النبيون إلا بدرجة النبوة).
إذاً: اثنان: مؤمن مذنب وعاص وصاحب خطايا، والسيف محاء لذلك كله، ومؤمن بلا ذنب أو بلا كبيرة، فهذا في الجنة يتلو منزلة الأنبياء والمرسلين مباشرة، ولا تحجبه عنهم إلا درجة النبوة.
قال: (ومنافق جاهد بنفسه وماله، حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يقتل، فذاك في النار، إن السيف لا يمحو النفاق).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قاتل في سبيل الله فواق ناقة فله الجنة) وفي رواية: (حرمه الله على النار).
وفي رواية: (حرم الله وجهه على النار).
وفواق الناقة هو: المدة الزمنية بين الحلبتين.
وهذا على عادة الناس في الأماكن المختلفة، فالعرب يحلبون نوقهم في كل يوم، أما الفلاحون فإنهم يحلبون نوقهم في كل يوم مرتين: في الصباح مرة وفي المساء مرة، فأياً كان وعلى أقصى تقدير لو أن الواحد قاتل من أول النهار إلى آخره، أو إلى مطلع النهار الثاني في سبيل الله عز وجل حرم الله وجهه على النار.
وعن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال(83/14)
شرح صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - مقدمة فضل الجهاد من السنة
فرض الله الجهاد على هذه الأمة لحماية حوزة دينها، ولإعلاء كلمة ربها، ولحفظ وصيانة أعراض أفرادها، فأعز الله هذا الدين برجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وأظهروا أروع المواقف البطولية في التاريخ، فحقق الله لهم النصر والتمكين، مع ما لهم يوم القيامة من أجور جارية ورزق كريم، وكرامات أكرمهم الله وميزهم بها على سائر المؤمنين.(84/1)
تابع أهمية الجهاد وفضله في السنة النبوية
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستغفره ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: تتمة لما سبق بالأمس في استكمال بقية الأحاديث الصحيحة في كتاب الجهاد لـ ابن أبي عاصم.(84/2)
فضل الحراسة في سبيل الله
قال: عن أبي ريحانة قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فسمعته يقول: (حرمت النار على عين بكت من خشية الله، وحرمت النار على عين سهرت في سبيل الله).
فهاتان عينان حرمت عليهما النار، أو حرمتا على النار.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (عينان لن تمسهما النار: عين بكت في جوف ليل من خشية الله تعالى) أي: وهو منفرد بربه، وهذا موطن الإخلاص لله عز وجل.
قال: (وعين باتت تحرس سرية في سبيل الله).
فلو أن الجنود يعلمون قيمة هذا الكلام لما هربوا من الخدمة، ولتسارعوا جميعاً إلى الحراسة في سبيل الله عز وجل، وما عليهم إلا أن يصححوا نيتهم، وأن يعلموا أن هذا عمل مشروع في سبيل الله.
وعن أنس كذلك: (عينان لا تمسهما النار: عين باتت تكلأ المسلمين -أي: ترعى وتحرس المسلمين في سبيل الله- وعين بكت في خلاء من خشية الله) أي: في خلوة.
وعن سهل بن الحنظلية: (أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فأطنبوا السير -أي: تابعوا السير- حتى كان عشية، فحضرت الصلاة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه رجل فارس فقال: يا رسول الله! إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا، فإذا أنا بهوازن على بكرة أبيهم) أي: بقبيلة هوازن قد جاءوا جميعاً.
قال: (بظعنهم -أي: نسائهم- ونعمهم -أي: إبلهم ومواشيهم- وشائهم -جمع شاء- اجتمعوا في وادي حنين، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: تلك غنيمة للمسلمين غداً إن شاء الله).
أتت هوازن في غزوة حنين، واجتمعوا بنسائهم وإبلهم ومواشيهم وأموالهم في الوادي، ورآهم ذلك الرجل، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (تلك غنيمة المسلمين غداً إن شاء الله).
وهذا تبشير بالنصر قبل وقوعه.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يحرسنا الليلة؟ فقال أنس بن أبي مرثد الغنوي: أنا يا رسول الله! فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اركب -أي: اذهب فاحرس- فركب فرساً له، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: استقبل هذا الشعب) أي: اذهب فاعل هذا الشعب لتحرس من فوق.
قال: (ولا نُغرن من قِبلك الليلة) أي: لا تدع فرصة للعدو أن ينال منا ويصيبنا وأنت نائم، وكأنه يحضه على أن يستيقظ طيلة الليل.
قال: (فلما أصبحت) القائل هنا سهل بن الحنظلية راوي الحديث.
قال: (فلما أصبحت خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصلاه فركع ركعتين ثم قال: هل حسستم فارسكم؟) أي: هل أحسستم بفارسكم الذي يحرسكم؟ قال: (فقال رجل: يا رسول الله! ما حسسنا، فثوب بالصلاة -أي: فأقيم لها- فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي يلتفت إلى الشعب حتى قضى صلاته وسلم.
قال: أبشروا.
فقد جاء فارسكم، فجعلنا ننظر إلى خلال الشجر في الشعب فإذا هو قد جاء حتى وقف على رسول الله -أي: عند رسول الله صلى الله عليه وسلم- فسلم ثم قال: إني انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب يا رسول الله! كما أمرتني، فلما أصبحنا اطلعت الشعبتين -أي: رأيت الشعبتين كلتيهما- فنظرت فلم أر أحداً) أي: فلما ثوب بالصلاة وقد بدأ نور الفجر رأيت الناس ورأيت أنه لا يمكن أن ينال العدو منا نيلاً.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنزلت الليلة؟ قال: لا يا رسول الله! ما نزلت إلا مصلياً أو قاضي حاجة) أي: ما تركت مكاني إلا لصلاة الليل وقضاء الحاجة.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (قد أوجبت) أي: قد وجبت لك الجنة.
وهذا بسبب الحراسة في سبيل الله عز وجل.
قال: (فلا عليك أن لا تعمل بعد هذا) أي: لا يضرك ما عملت بعد ذلك من معصية، فإن العمل الذي عملته الآن -وهو حراسة المسلمين في سبيل الله- كفارة لذنوبك الماضية والمستقبلة.
وهذا فضل عظيم جداً للحراسة في سبيل الله عز وجل.(84/3)
بيان أن خير الناس المجاهد في سبيل الله
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أخبركم بخير الناس؟ رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله) أي: بلجامه وخطامه ورقبته ومقدمته، وهو مستعد ومتأهب للقاء العدو في سبيل الله عز وجل، فهذا خير الناس.
ثم قال: (ألا أخبركم بالذي يليه؟ -أي: في الخير والفضل رجل معتزل في غنيمة) رجل قد اعتزل الناس في غنم يرعاها (وأخبركم بشر الناس؟ رجل يسأل بالله ولا يعطى به).
أي: دائماً يحلف بالله في سؤاله: بالله عليك يا فلان أعطني، والمسئول لا يعطي ولا يراعي حرمة هذا القسم، مع حرمة السؤال أو كراهة السؤال بوجه الله عز وجل، فكلاهما قد وقعا في الإثم.
أما قوله عليه الصلاة والسلام: (ألا أخبركم بالذي يليه؟ رجل معتزل في غنيمة) فهذا عند عموم الشر وطغيانه؛ فيكون خير ما للمرء غنيمات يتبع بها شعف الجبال، وهذا في آخر الزمان.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج عليهم وهم جلوس فقال: (ألا أخبركم بخير الناس؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: رجل ممسك برأس فرسه في سبيل الله حتى يُقتل أو يموت) فذكر نحو الحديث السابق.
وعن ابن عباس كذلك قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم تبوك فقال: (ما في الناس مثل رجل آخذ برأس فرسه في سبيل الله، ويجتنب شرور الناس، ومثل آخر باد أو بادي -أي: في البادية- في غنمه نعمة يقري ضيفه -أي يكرم ضيفه- ويعطيه حقه).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أخبركم بخير الناس منزلة؟ رجل آخذ بعنان فرسه في سبيل الله عز وجل).(84/4)
بيان أن الجهاد في سبيل الله بالنفس والمال وعدم الرجوع بهما أفضل من العمل الصالح في العشر الأوائل من ذي الحجة
وعن ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من هذه الأيام.
يعني: العشر الأوائل من ذي الحجة) ليس هناك عمل أحب إلى الله عز وجل من العمل الصالح في هذه العشرة الأيام.
وهناك تعارض بينها وبين العشر الأواخر من رمضان؛ لعموم الأدلة هنا وهناك، وقد ربط ابن تيمية عليه رحمة الله بين أحاديث الخيرية في أيام العشر الأول من ذي الحجة، وفي العشر الأواخر من رمضان بأن الأيام في ذي الحجة خير من الأيام في رمضان، وأن الليالي في رمضان خير من الليالي في ذي الحجة.
قال: (ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من هذه الأيام.
يعني: عشر ذي الحجة.
قيل: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل يخرج بماله ونفسه، ثم لم يرجع من ذلك بشيء)، فالجهاد مع عدم رجوع المرء لا بنفسه ولا بماله يعدل العمل الصالح في عشر ذي الحجة.(84/5)
بلوغ الشهداء الفردوس الأعلى
عن أنس: أن حارثة بن الربيع جاء يوم بدر نظاراً حارساً، فجاء سهم فقتله فقالت أمه التي هي الربيع: (يا رسول الله قد علمت مكان حارثة مني -هو ولدها فلذة كبدها- فإن كان في الجنة فسأصبر وإلا فسترى ما أصنع) أي كأنها تقول: وإن لم يكن في الجنة فسأولول وأبكي وأدعو بدعوى الجاهلية وأنوح عليه وغير ذلك فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (يا أم حارثة إنها ليست بجنة واحدة إنها جنان وهو في الفردوس الأعلى، فقالت: سوف أصبر) ما دام له عند الله عز وجل هذه المنزلة فسأصبر على فراق هذا الولد.(84/6)
فضل الرمي في سبيل الله
عن عبد الله بن الزبير قال: (كنت أنا وعمر بن أبي سلمة) وهو ربيب النبي صلى الله عليه وسلم -أي: تربى في حجره؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان زوجاً لـ أم سلمة رضي الله عنها- في الأطم -أي: الحصون- فيطأطئ لي، فأعلو ظهره).
عبد الله بن الزبير يقول: أنا وعمر كنا نتناوب في الحصون النظر إلى العدو أو إلى الجيش، فكان مرة يطأطئ لي فأصعد على ظهره، ومرة أطأطئ له فيصعد على ظهري.
قال: (فرأيت أبي وهو يجول) أي: يذهب ويجيء في معسكر العدو، ويحمل على هؤلاء مرة وعلى هؤلاء مرة، وكأن جيش العدو كان على ميمنة وميسرة، فهو يحمل على الميمنة وعلى الميسرة وحده.
قال: (فلما رجع قلت: يا أبه! لقد رأيتك اليوم.
قال: وقد رأيتني؟ لقد جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه فقال: إيه فداك أبي وأمي) النبي عليه الصلاة والسلام لم يجمع أبويه قط إلا للزبير بن العوام ولـ سعد بن أبي وقاص.
قال لـ سعد: (ارم فداك أبي وأمي) وقال للزبير بن العوام: (إيه فداك أبي وأمي) وهي كلمة تعجب أو غير ذلك.
وعن عتبة بن عبد السلمي قال: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالقتال قال: فرمى رجل بسهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أوجب هذا) أي: بمجرد أنه يرمي ولو بسهم واحد وجبت له الجنة.
وهذا يدل على شرف الجهاد خاصة الطويل منه، إنسان يرابط حياته كلها لله عز وجل، أو يحرس في سبيل الله، أو يرمي في سبيل الله، أو يجاهد في سبيل الله بالليل والنهار، فإذا كان الذي يضرب بسهم واحد في سبيل الله قد وجبت له الجنة فما بالك بمن رمى بأسهم كثيرة؟ وعن شرحبيل بن السند أنه قال لـ عمرو بن عبسة رضي الله عنه: يا عمرو! حدثنا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من رمى بسهم في سبيل الله بلغ العدو أو لم يبلغ كان له عدل رقبة).
قوله: (في سبيل الله) أي: ليس فيه رياء ولا سمعة، ولا أشر ولا بطر، وإنما فعل ذلك ابتغاء وجه الله وإعلاءً لكلمة الله عز وجل، والإخلاص عليه مدار العمل، وكذا اتباع السنة.
قال: من فعل ذلك ولو مرة واحدة فهو كمن أعتق رقبة في سبيل الله عز وجل.
وعن أبي نجيح السلمي قال: (حاصرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قصر الطائف.
قال: فسمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: من رمى بسهم في سبيل الله فبلغ فله درجة في الجنة) أي: فبلغ العدو وأصابه فله درجة في الجنة.
قال رجل: (يا نبي الله! إن رميت فبلغت فلي درجة؟ قال: نعم.
فبلغ يومئذ ستة عشر سهماً) أي: أن الرجل حرص أن يكون له في الجنة أعلى الدرجات فحصل من المائة درجة ستة عشر درجة بستة عشر سهماً.
قال: وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من رمى بسهم في سبيل الله فهو عدل محرر) أي: عدل رقبة حررها سيدها.(84/7)
فضل الشيب في الإٍسلام
وعن أبي شيبة قال: قلت لـ عمرو بن عبسة: حدثنا حديثاً ليس فيه وهم ولا نسيان.
وعمرو صحابي، وأبو شيبة تابعي.
وهذا يدل على جواز الوهم والنسيان على الصحابة، كيف لا والنسيان وارد في حق الأنبياء، وهذا لا يؤثر في درجة النبوة ولا في منزلتها، فإن الأنبياء لم ينسوا شيئاً من الوحي ابتداء، ً وأما نسيانهم فبعد البلاغ والبيان.
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من خرجت له شعرة بيضاء في سبيل الله كانت له نوراً يوم القيامة).
من خرجت له شعرة بيضاء في بدنه أو في شعره أو لحيته كانت له نوراً يوم القيامة، وهذا تحذير لمن خرجت له شعرة بيضاء أن يصبغها بالسواد، فهذا منهي عنه، أو شاب يريد أن يظهر الوقار فيصبغ شعره ببياض ليدل على كبر السن وحسن المنزلة وغير ذلك، ويصرف وجوه الناس إليه، فلا الصبغ للشباب بالبياض جائز ولا الصبغ بالسواد للشيب جائز، كلاهما قد نهى عنه الشرع، كما أن الشعر الأبيض نور يوم القيامة، فمن يريد أن يحرم نفسه هذا النور؟ وبعض الإخوة حينما يرى في لحيته شعرة بيضاء يقوم بأخذها، ويقول: ليكن شعري أسود دائماً.
هذا لاشك مخالفة للشرع.
قال: (ومن رمى بسهم في سبيل الله أخطأ أو أصاب كانت له عتق رقبة من ولد إسماعيل) أي: رقبة مؤمنة.
وعن عمرو بن عبسة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من شاب شيباً في سبيل الله كانت له نوراً يوم القيامة، ومن أصابته شيبة في سبيل الله كانت له نوراً يوم القيامة).
وعن فضالة بن عبيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من شاب شيباً في سبيل الله كانت له نوراً يوم القيامة، فقال رجل: إن رجالاً ينتفون الشيب يا رسول الله! قال: من شاء أن ينتف شيبه -أو قال: نوره- فليفعل).
وهذا ليس على سبيل التخيير كما قال تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، وإنما هو وعيد وتهديد.(84/8)
فضل الصيام حال الجهاد في سبيل الله
وعن عقبة بن عامر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله منه جهنم مسيرة مائة عام) يوم واحد في سبيل الله.
وفي رواية: (سبعين خريفاً).
وفي رواية: (مائة خريف).
وقد جمع العلماء بين ذلك في الفرض والنافلة، قالوا: الأحاديث التي وردت بالمباعدة بين الصائم وبين جهنم مسيرة مائة عام محمولة على من صام فرضاً في سبيل الله، وأما التي تقضي بسبعين خريفاً فهي في النوافل.
وعن عمرو بن عبسة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من صام يوماً في سبيل الله باعده الله من النار سبعين خريفاً) وقد تقدم وجه الجمع بين الروايتين.(84/9)
كرامات الشهداء
عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مجروح يجرح في سبيل الله) القيد: (في سبيل الله) أي: ابتغى بالجهاد وجه الله.
قال: (إلا بعثه الله -أي: يوم القيامة- وجرحه يثعب دماً -أي: يجري وينضح- اللون لون الدم، والريح ريح المسك).
وهذه كرامة للشهيد، فإنه لا يغسل ويدفن في ملابسه، ثم يبعث على حاله التي مات عليها، جرحه يثعب دماً، اللون لون الدم أحمر، والريح ريح المسك.
وعن عبد الله بن ثعلبة قال: (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مسح وجهه وقال لقتلى أحد الذين قتلوا في الله ووجدوهم مثلوا بهم).
أي: قطع بعض أعضائهم كالأنف والفم والأذن وخرقت أعينهم وغير ذلك.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام حينما رآهم على هذا النحو: (زملوهم بجراحهم -أي: غطوهم وهم بجراحهم- ولا تغسلوهم فإنه ليس كلم -أي: جرح- يكلم في الله إلا أتى الله يوم القيامة لونه لون الدم وريحه ريح المسك).
وقال عليه الصلاة والسلام: (كل كلم -أي: كل جرح- يكلم في سبيل الله تكون كهيئتها يوم طعنت) أي: يبعث على نفس الحال التي مات عليها، إذا كان مقاتلاً في سبيل الله ومات في القتال بعث على نحو ما مات، وإذا كان محرماً ومات في إحرامه بعث في إحرامه ملبياً، فيبعث المرء على ما مات عليه.
قال: (تتفجر دماً.
اللون لون الدم والعرف عرف المسك)، أي: الرائحة رائحة المسك.
وعن جندب -وهو ابن عبد الله البجلي - قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غارة فنكبت إصبعه -أي جندب - فقال: هل أنتِ إلا إصبع دميتِ وفي سبيل الله ما لقيتِ يخاطبها) وسيأتي معنا بأطول من ذلك بإذن الله.(84/10)
فضل من سأل الله الشهادة بصدق
عن معاذ بن جبل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من سأل الله الشهادة صادقاً من نفسه ثم مات أو قتل فإن له أجر شهيد).
قال: (من سأل الله تعالى الشهادة صادقاً) وهذا شرط وقيد، وقال في رواية: (من سأل الله تعالى الشهادة بصدق بلغه الله تعالى منازل الشهداء وإن مات على فراشه) وإن كان هذا نص حديث فيه نظر، لكن هذا المعنى تشهد له بقية الأحاديث، وسيأتي بعضه بإذن الله.
وعن أبي مالك الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من سأل الله القتل في سبيله صادقاً من نفسه ثم مات أو قتل فله أجر شهيد).
وعن أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سأل الله الشهادة صادقاً من قلبه أعطيها ولو لم تصبه) أي: أعطي أجر الشهيد وإن لم يقتل في الجهاد.
وفي رواية: (من سأل الله الشهادة صادقاً من قلبه بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه) وهذا المعنى كما قلنا تشهد له الروايات المتقدمة، وهناك روايات أخرى أعرضنا عنها.(84/11)
خفة ويسر ما يجده الشهيد من ألم القتل
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما يجد القتيل مس القتل إلا كما يجد أحدكم مس القرصة) وهذه بشارة عظيمة جداً، فنحن نرى الرجل يضرب بالنار أو بالصاروخ أو بالطائرة أو بالقنابل أو غير ذلك، فيقطع مئات وآلاف القطع في الهواء والسماء، فنشفق عليه أيما إشفاق، وهو في حقيقة الأمر لم يشعر بذلك، وهذه كرامة من الله عز وجل وخاصية للشهيد، لا يجد في وقت قتله وضربه من الألم إلا كما يشعر أحدنا بالقرصة، أو بوخزة الإبرة، أو غير ذلك، وهذه بشارة عظيمة تبعث النفوس على حب الجهاد والقتال.
وعن جابر بن عبد الله قال: حينما قُتل أبي يوم أحد قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا جابر! ألا أخبرك ما قال الله لأبيك؟ قال: بلى يا رسول الله! قال: وما كلم الله أحداً إلا من وراء حجاب إلا أباك، كلم الله أباك كفاحاً -أي مواجهة- فقال: يا عبد الله! تمن علي أعطك) أي: اطلب ما شئت، وإذا تمنيت أعطيتك ما تمنيت.
قال: (فقال: يا رب! فردني -أي: إلى الدنيا- فأُقتل فيك ثانية)؛ لأنه وجد حلاوة القتال وحلاوة أن يُصرع المشركون بين يديه، ثم إنه لو قُتل لا يجد مس القتل، وهذا مكسب عظيم بغير أدنى خسارة ولا ألم.
قال: (يا رب! فردني فأُقتل فيك ثانية، فقال الله عز وجل: سبق مني أنهم إليها لا يرجعون.
قال: يا رب! فأخبر من ورائي -أي: بما نحن فيه من نعيم- فأنزل الله عز وجل: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]).
وهذا الحديث فيه إثبات صفة من صفات الله عز وجل وهي صفة الكلام، وأن الله تعالى يتكلم بما شاء وكيف يشاء في أي وقت شاء: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] أما كيفية الكلام فنحن لا نعلمها، وأما معنى الكلام والعلم به فذلك معلوم يقيناً، والسلف رضي الله عنهم ليس من منهجهم ولا من عقيدتهم تفويض العلم ولا تفويض المعنى، وإنما منهجهم تفويض الكيف.
وعن أنس بن مالك قال: (لما قتل حمزة وأصحابه يوم أحد قالوا: يا ليت لنا من يخبر إخواننا بالذي صرنا إليه من كرامة الله.
قال: فأوحى ربهم جل ثناؤه إليهم: أني رسولكم إلى إخوانكم بما أحببتم.
قال: فأنزل الله: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]).(84/12)
بيان ما أعده الله للشهيد في الجنة
عن ابن مسعود حدث: أن الثمانية عشر الذين قتلوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الله أرواحهم في الجنة في طير خضر تسبح في الجنة، أو تطير في الجنة كما ثبتت بذلك الروايات.
وعن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الشهداء ببارق نهر بباب الجنة -أي: بجانب نهر بباب الجنة- في قبة خضراء، يخرج عليهم رزقهم غدوة وعشية).
وعن المقدام بن معد يكرب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن للشهيد عند الله سبع خصال) سبع كرامات وخلال للشهيد عند الله عز وجل، وهذا ليس على سبيل الحصر، فإن للشهيد عند الله أكثر مما في هذا الحديث مما بينته بعض النصوص الأخرى.
قال: (أول خطوة يغفر له عند أول دفعة من دمه -يغفر له الكبائر والصغائر عند أول دفعة من دمه- ويرى مقعده من الجنة، ويحلى حلة الإيمان، ويزوج من الحور العين ثنتين وسبعين زوجة) وهذا العدد الهائل من الحور العين ليس إلا للشهيد، وأما بقية المسلمين فإنه كل مسلم يتزوج باثنتين فقط.
قال: (ويجار من فتنة القبر -يأمن فتنة القبر- ويأمن يوم الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة الواحدة منه خير من الدنيا وما فيها، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه).
أرأيتم هذه الكرامات هذه؟ وهناك كرامات أخرى للشهيد.
وعن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن للجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين كل درجتين ما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس، فإنها وسط الجنة وأعلاها، وفوقها عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة).
وعند أبي داود: أن رجلاً سمع ولده يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها، فقال: يا بني! إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (سيأتي أقوام يعتدون في الدعاء والطهور، إذا سألت الله فاسأله الفردوس الأعلى) فمن دناءة الهمم أن تسمع رجلاً أحياناً يقول: يا رب! أدخلني الجنة وإن كنت آخر الناس دخولاً الجنة، أي أنك رضيت لنفسك أن تكون آخر الناس دخولاً الجنة، ورضيت لنفسك أن تدخل النار فتمكث فيها ما شاء الله أن تمكث حتى تكون أنت آخر الموحدين خروجاً منها ودخولاً الجنة، فهذه همة دنيئة جداً، لماذا لا تقول: اللهم إني أسألك الفردوس الأعلى، منازل الأنبياء والشهداء والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقاً؟ أصحاب المنازل العليا في جنة عرضها السماوات والأرض، وفوقها عرش الرحمن.
وعن أبي أمامة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بينما أنا نائم أتاني رجل فأخذ بضبعه -أي: بعضده- من هاهنا، ثم أشرف بي شرفاً آخر -أي: صعد بي مكاناً عالياً- فإذا ثلاثة نفر يشربون من خمر لهم) يشربون من خمر الجنة، أما من شرب خمر الدنيا حُرمها في الآخرة، وخمر الآخرة لا سكر فيها ولا مضرة.
قال: (فإذا ثلاثة نفر يشربون من خمر لهم، فقلت: من هؤلاء؟ قال: جعفر وزيد وابن رواحة) وهؤلاء استشهدوا في غزوة مؤتة على هذا التتابع.
وعن أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من نفس لها عند الله خير يسرها أن ترجع إلى الدنيا فتقتل إلا الشهيد) أي: كل واحد يموت، ويرى مقعده من الجنة، وتطمئن نفسه، ويتمنى ألا يرجع إلى الدنيا قط إلا الشهيد (يتمنى أن يرجع فيقاتل فيقتل، ثم يرجع فيقاتل فيقتل) لما له من خير عظيم، وهذا لا يكون إلا بفضل الشهادة في سبيل الله.
قال: (لما يرى من فضل الشهادة) أي: في سبيل الله عز وجل.
وعن أنس بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أهل الجنة أحد يسره أن يرجع إلى الدنيا وله عشرة أمثالها إلا الشهيد، فإنه ود لو أنه رُد إلى الدنيا فقتل شهيداً عشر مرات لما يرى من الفضل).
إن شباب اليوم لو وضعوا في الصحراء، وكان معهم رجل صادق مع الله عز وجل، يعظهم ويذكرهم بالله، ويبين لهم فضل الجهاد وفضل الإقدام وخطورة الإحجام، فإن هذا الشباب سيأكل الأرض أكلاً، ولو أنهم ذهبوا إلى فلسطين فبصقوا على اليهود لأغرقوهم في البصاق.
جيش من الشباب يحرص على الموت حرص اليهود على الحياة، فاليهود يريدون الحياة وإن كانت مهينة، أما المسلم فالأصل فيه أن يعيش عزيزاً كريماً، وأن يموت على هذا النحو كذلك.
ولو فتح باب الجهاد لأتوا الملايين من الشباب من كل بلد عربي وإسلامي، فلِم لا تسمح حكومتنا بذلك؟ وإذا أرادت التخلص من الشباب فإن الجهاد فرصة للتخلص منهم، فلماذا لا يتخلصون منا؟ ألم نزعجهم؟ فنحن بهذه اللحى غصة في حلوق كثير من الطوائف، فلماذا لا يتخلصوا منا بهذه الطريقة؟ فنحن نريد أن ننال فضل الشهادة، وأنتم أيها الحكام! ستتخلصون منا ومن اليهود في وقت واحد، وستتفرغون للأجيال القاد(84/13)
بشارة النبي صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بالشهادة والجنة
وعن موسى بن أنس -وهو ابن أنس بن مالك - قال: لما كان حين انكشف الناس يوم اليمامة فقال أنس بن مالك: فأتيت ثابت بن قيس -وهو ابن شماس هذا الرجل الذي كان جهوري الصوت- وقد حسر عن فخذيه وهو يتحنط.
أي: يضع الحنوط في بدنه وثوبه كأنه يتجهز للموت، ويعد كفنه قبل الدخول في المعركة.
قال: فقلت: يا عم! ما يحبسك ألا تجيء؟ فقال: يا ابن أخي! الآن -أي: سآتيك الآن- اذهب وأنا وراءك.
قال: وجعل يتحنط ثم جاء فجلس فقال: هكذا عن وجوهنا حتى نضارب القوم.
كأنه يدفع الناس عن وجهه يمنة ويسرة حتى يخلص للعدو.
قال: ما هكذا كنا نقاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم لبئس ما عودتم أقرانكم.
إن أنس بن مالك كان في زمن النبوة صغيراً، فكان إذا شارك في القتال يصنع الطعام أو يجمع العتاد أو يأتي بالسيوف من هنا أو هناك، ولا يشارك مشاركة فعلية في القتال؛ لأنه كان صغيراً، والنبي صلى الله عليه وسلم ما كان يجيز أحداً من أصحابه إلا إذا بلغ (15) عاماً، ومرة أجاز من عمره (14) عاماً بشرط أن يكون في مؤخرة الجيش لا في مقدمته، فـ ثابت بن قيس لم يعجبه الذي كان من أنس بن مالك، فكيف لو أن ثابت بن قيس رأى حالنا الآن.
هل سيعجبه حالنا؟ فيضرب ثابت أنس في صدره ويقول له: ارجع حتى أصل إلى هؤلاء القوم، لبئس ما عودتم أقرانكم، كان قتالنا مع الرسول عليه الصلاة والسلام أن نخلص إلى القوم في جرأة وشجاعة.
قال: ثم قاتل حتى قتل.
ألم يبشر النبي صلى الله عليه وسلم هذا بالجنة؟ نعم.
وذلك حينما نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2] وكان جهوري الصوت فظن أن الآية نزلت في حقه، قال: أنا من أهل النار وقد حبط عملي، فلما وصل الخبر إلى النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ائتني به وبشره بالجنة) فلما أتى ثابت إلى النبي صلى الله عليه وسلم قام النبي صلى الله عليه وسلم إليه يجر إزاره ويقول: (مرحباً برجل يزعم أنه من أهل النار وأنا أزعم أنه من أهل الجنة).
هذا هو ثابت بن قيس بن شماس.
عن عطاء الخراساني قال: قدمت المدينة فسألت عمن يحدثني بحديث ثابت بن قيس، فأرسلوني إلى ابنته.
فسألتها فقالت: سمعت أبي يقول -وفي هذا جواز أخذ العلم عن النساء- قالت: سمعت أبي يقول: (لما أنزل الله على رسوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:18] اشتد على ثابت وغلق عليه بابه وطفق يبكي، فأُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه، فسأله بما كبر عليه منها؟ فقال: أنا رجل أحب الجمال، وأحب أن أسود قومي، فظن أن هذا هو محبط للعمل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنك لست منهم بل تعيش بخير، وتموت بخير، ويدخلك الله الجنة) وهذا شرف عظيم.
قالت: (فلما أنزل الله على رسوله: {وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ} [الحجرات:2] فعل مثل ذلك، فأُخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فبشره بالجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنك لست منهم بل تعيش بخير، وتقتل شهيداً، ويدخلك الله الجنة).
فلما استنفر أبو بكر المسلمين إلى أهل الردة واليمامة ومسيلمة الكذاب؛ سار ثابت بن قيس فيمن سار، فلما لقوا مسيلمة -وقد كان بنو حنيفة هزموا المسلمين ثلاث مرات- قال ثابت وسالم مولى أبي حذيفة: ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحفرا لأنفسهما حفيرة كالخندق صغير، ودخلا يقاتلان من خلالهما حتى قتلا).
ونظام الخنادق معروف في الجيش إلى الآن.(84/14)
قصة استشهاد أنس بن النضر يوم أحد
وعن أنس: (أن أنس بن النضر تغيب عن قتال بدر، فقال: تغيبت عن أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لئن أراني الله قتالاً ليرين الله ما أصنع.
قال: فلما كان يوم أحد انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل وأقبل سعد بن معاذ فقال: يا أبا عمرو! إني أجد ريح الجنة دون أحد.
فقاتل حتى قتل، فقال سعد: والله يا رسول الله! ما أطقت ما أطاق -أي: أنه بذل مجهوداً في الحرب والقتال لا أطيقه أنا- فقالت أخته: والله ما عرفت أخي إلا ببنانه.
ووجد فيه بضع وثمانون جراحة ما بين ضربة بالسيف أو رمية بسهم أو طعنة برمح) كل هذا في مقابل أحدنا حينما يأخذ حقنة ثم ينام، وصار له حق في ذمة المسلمين أن يعودوه؛ لأنه مريض بسبب إبرة، وهذا الرجل به فوق الثمانين جراحة وهي ضربة بسيف أو طعنة برمح.
قال: (فأنزل الله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23]).
وعن أنس بن النضر: غاب عن قتال بدر فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء -أي: المشركين- وسل سيفه وظل يقاتل حتى قتل.(84/15)
بيان فضل القتل في سبيل الله ولو في غير معركة
وعن نعيم بن همار: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أي الشهداء أفضل؟ قال: الذين يلقاهم القوم في الصف فلا يلفتون وجوههم حتى يقتلوا، أولئك يتلبطون في الغرف العلى -أي: يتمرغون ويتنعمون في الغرف العلى من الجنة- يضحك إليهم ربك، وإذا ضحك ربك إلى عبد في موطن فلا حساب عليه) هذا أفضل الشهداء.
وعن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: (يا رسول الله! ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهداء؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: كفى ببارقة السيف على رأسه فتنة).
أي: بلمعان السيف، في ضوء القمر وضوء الشمس فوق رأسه كفى بها فتنة، فاستعاض الله عز وجل بفتنة القبر للشهيد فتنة هذا السيف ثم ثبته الله عز وجل في الفتنة.
وعن عقبة بن عامر: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من صرع عن دابته في سبيل الله فهو شهيد).
أي: الذي يقع عن دابته في القتال فهو شهيد، وقيده: (في سبيل الله) حتى وإن لم يشارك في القتال، وإن لم يكن هذا الموت بأيدي الأعداء.
وعن محمد بن عبد الله بن جحش أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إن قتلت في سبيل الله؟ -كأنه قال: ما لي؟ - قال النبي صلى الله عليه وسلم: لك الجنة.
فلما ولى قال: لا إلا الدين.
سارني به جبريل).
إذاً: الشهيد يغفر له كل شيء إلا الدين، كما جاء في روايات كثيرة.
عن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال: اختلف عامر ومرحب، وعامر هو ابن الأكوع، وهو أخو سلمة، ومرحب هو ابن ملك خيبر اليهودي، وعائلة الأكوع كلها كانت قوية أبدانهم.
ذكر أن سلمة بن الأكوع حينما دخل الكوفة قال له رجل من أهل الكوفة: ناولني يدك التي بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقبلها.
قال: فلما وضعها في يدي كأنها خف بعير، وكان سلمة بن الأكوع يغزو أمام المسلمين وكان في مقدمة الجيش لوحده، وكان يجري بفرسه أولاً، وذات مرة تعثر فرسه فجرى على قدميه خلف العدو، وكلما أدرك رجلاً ضربه على قفاه فخر ميتاً، وهو يقول: أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع فعن إياس بن سلمة بن الأكوع قال: قال أبوه: (اختلف عامر ومرحب ضربتين، فوقع سيف مرحب في ترس عامر، فرجع السيف على ساقه فقطع أكحله، فكانت فيها نفسه، قال سلمة: فلقيت من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: بطل عمل عامر.
قتل نفسه، فشق ذلك علي، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! بطل عمل عامر؟ قال: من قال ذلك؟ قال: يقول ذلك أصحابك.
قال: كذبوا بل له أجره مرتين) إذاً: هو لم يقتل نفسه، وإنما حينما انطلق السيف من يد مرحب وقع في ترس عامر، فأصاب يد عامر في الأكحل الذي نسميه عرق الشريان.(84/16)
الإخلاص شرط في جهاد أعداء الله
وعن أبي موسى قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ليقال: عنه شجاع، ويقاتل حمية -عصبية جاهلية- ويقاتل رياء وسمعة، أي ذلك في سبيل الله؟)، فالنبي صلى الله عليه وسلم استبعد الثلاثة وقال له: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) إذاً: فالإخلاص شرط.
وعن أبي موسى: (أن شيخاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئاً على عصا، فقال: يا رسول الله! ما الجهاد في سبيل الله؟ فإن الرجل يقاتل ليذكر، ويجاهد ليغنم، ويجاهد لكذا وكذا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: من جاهد لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) هذا هو الجهاد، أن تقاتل بنية رفع راية التوحيد.(84/17)
وصف شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم في القتال
وعن البراء بن عازب قال: (وكان إذا احمر البأس يتقى به) أي: كان إذا احمر البأس وحمي الوطيس واشتدت الحرب احتموا بالنبي عليه الصلاة والسلام.
قال: (وإن الشجاع الذي يحاذى به).
فـ البراء بن عازب هنا يصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه شجاع، بدليل أنه كان إذا حمي الوطيس احتموا بالنبي عليه الصلاة والسلام، ولا يحتمى إلا بالشجاع.
وهذا قد ورد عن علي بن أبي طالب أنه قال: (لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ -أي: نلجأ ونحتمي- برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من أقربنا إلى العدو) أي: أنه لا يرجع إلى الخلف ولا يهرب.
ومعنى هذا: بأنه كان أشجع الناس، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع نفيراً أو صوتاً غير عادي بالليل انطلق تجاهه، وذات مرة تبعه الصحابة، فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم قد رجع من جهة الصوت يقول: (لا عليكم لا عليكم).
عن البراء: (أن رجلاً قال له: أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟ قال البراء: لكن رسول الله لم يفر.
إن هوازن كانوا قوماً رماة، وإنما حينما حملنا عليهم انهزموا، وإن القوم أقبلوا على الغنائم، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة بيضاء، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بلجامها وهو يقول: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب).
وأنتم تعلمون أن التعبيد في أسماء الله تعالى الحسنى لا يكون إلا بالثابت منها، وليس من أسماء الله المطلب، فما بال النبي صلى الله عليه وسلم يقر ذلك فيقول: أنا ابن عبد المطلب؟
الجواب
أن ذلك كان في الجاهلية قبل ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم وقبل مبعثه من باب أولى، فأقر النبي عليه الصلاة والسلام على ما كان واقعاً ومعروفاً أنه ابن عبد المطلب سواء كان خطأ أو صواباً، لكنه ليس من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أراد أن يقرر واقعاً وأنه ابن المعروف بعبد المطلب.
وذهب جماهير العلماء إلى أنه لا يجوز التعبيد لله عز وجل إلا بالثابت من أسمائه إلا عبد المطلب للنبي عليه الصلاة والسلام لا لغيره.(84/18)
خبر غزوة مؤتة واستشهاد قادتها الثلاثة
عن ابن عمر قال: (أمر النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة مؤتة زيد بن حارثة فقال: إن قتل زيد فـ جعفر بن أبي طالب، فإن قتل جعفر فـ عبد الله بن رواحة) قال ابن عمر: فكنت معهم في تلك الغزوة فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدنا بما أقبل جسده بضعاً وتسعين ما بين رمية وطعنة.
وعن أنس قال: حضرت حرباً فقال ابن رواحة: يا نفس ما لي أراكِ تكرهين الجنة أقسمت بالله لتنزلنه طائعة أو لتكرهنه فهو يؤدب نفسه ويقول لها: تخوضين الحرب وأنتِ طائعة أو لأنزلنكِ كارهة.
لا يكره الآخرين إنما يكره نفسه.
قال: وأما جعفر بن أبي طالب حين قتل دعا الناس: يا عبد الله بن رواحة! وهو في جانب المعسكر ومعه ضلع جمل ينهشه -أي: يأكل فيه ولم يكن ذاق طعاماً قبل ذلك بثلاث، فرمى بالضلع ثم قال: وأنت مع الدنيا! يؤدب بهذا نفسه! ثم تقدم فقاتل فأصيبت إصبعه، فارتجز فجعل يقول: هل أنتِ إلا إصبع دميتِ وفي سبيل الله ما لقيتِ يا نفس إلا تقتلي تموتِ هذا حياض الموت قد صليتِ وما تمنيتِ فقد لقيتِ إن تفعلي فعلهما هديتِ وإن تأخرتِ فقد شقيتِ أي: لا بد أن تتقدمي وتفعلي ما فعل الصاحبان، ثم قال: يا نفس إلى أي شيء تتوقين؟ إلى فلانة إلى فلانة امرأته إنها طالقة، وإلى فلان وفلان -أي: من غلمانه والعبيد- فهم أحرار، وإلى معجف -اسم حائط له بستان- قال: هو لله ولرسوله، وهكذا تخلص من كل متاع، فبستانه وهبه لله ورسوله، والعبيد حررهم، والنساء طلقهن، فما الذي بقي؟ فقال: يا نفس ما لكِ تكرهين الجنة أقسم بالله لتنزلنه طائعة أو لتكرهنه فطالما قد كنت مطمئنة هل أنت إلا نطفة في شنة قد أجلب الناس وشدوا الرنة شدوا الرنة.
أي: بدأوا القتال.
ثم قاتل حتى قتل.
وعن أنس قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة معتمراً قبل الفتح، وابن رواحة يمشي بين يديه وهو يقول: خلوا بني الكفار عن سبيله اليوم نضربكم على تنزيله ضرباً يزيل الهام عن مقيله ويذهب الخليل عن خليله يقول ذلك مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان داخلاً مكة معتمراً لا مقاتلاً، وكأن ابن رواحة يحث الناس ويقول: أبعدوا الكفار من طريق الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلا لنقاتلنهم مقاتلة تذهب الخليل عن، خليله وتزيل الهام عن مقيله.(84/19)
الجهاد والنية الصالحة فيه باقية إلى يوم القيامة
عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا هجرة بعد الفتح) أي لا هجرة من مكة بعد فتحها؛ لأنها صارت دار الإسلام إلى قيام الساعة، فلا هجرة منها بعد الفتح.
قال: (ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا).
(لا هجرة بعد الفتح)، إذاً لا يمكن في يوم من الأيام أن تكون مكة دار كفر، فهي دار إيمان وإسلام إلى قيام الساعة تماماً (ولكن جهاد ونية)، وهذا يدل على أن الجهاد فريضة ماضية في الأمة إلى قيام الساعة، فهو جهاد مستمر، وكما أنه لا هجرة أبداً من مكة فكذلك الجهاد والنية الصالحة فيه باقية إلى قيام الساعة.
ثم قال: (إذا استنفرتم -إلى الجهاد وحسن النية- فانفروا).
وقال النبي عليه الصلاة والسلام في أثناء رجوعه من غزوة تبوك: (إن بالمدينة لأقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم شاركوكم الأجر.
قالوا: يا رسول الله! بالمدينة شاركونا الأجر؟ قال: نعم.
حبسهم العذر).
إذاً: قوله: (ولكن جهاد ونية) ولكن جهاد حقيقي ومشاركة فعلية أو نية الجهاد.
قال: (من لم يغز أو لم تحدثه نفسه بالغزو فمات مات على شعبة نفاق).(84/20)
عظم التولي والفرار يوم الزحف
عن أبي أيوب: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الكبائر فقيل: وما الكبائر يا رسول الله؟! قال: الإشراك بالله، وقتل النفس التي حرم الله، وفرار يوم الزحف).
وفي رواية: أنه قال: (الإشراك بالله، وقتل النفس المسلمة، وفرار يوم الزحف).
وفي حديث أبي هريرة: (اجتنبوا السبع الموبقات) أي: المهلكات التي إذا اجتمعت على صاحبها أهلكته أو واحدة منها.
قالوا: (يا رسول الله! وما هن؟ قال: الإشراك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات -أي: الحرائر العفيفات- المؤمنات الغافلات).
والشاهد منه: (والتولي يوم الزحف) أي: يوم لقاء العدو.
وعن سهل بن أبي حثمة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الكبائر سبع: الشرك بالله، وقتل النفس، والفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، والتعرض بعد الهجرة).
قوله: (التعرض بعد الهجرة) أي: بعد أن يهاجر من دار الكفر إلى دار الإيمان يرجع مرة أخرى إلى دار الكفر فيسكن البادية أو غير ذلك.
والتعرض أي: أن يصير مع العرب في البادية بعد أن هاجر.(84/21)
خبر الغزو في البحر وغزوة الهند والغزو مع المسيح عيسى وتبشير الغازين فيهن بالجنة
وعن أم حرام قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي إذ استيقظ وهو يضحك، فقلت: بأبي أنت وأمي.
ما يضحكك يا رسول الله؟! فقال: عُرض علي ناس من أمتي يركبون ظهر هذا البحر كالملوك على الأسرة -وهذا فيه بيان جواز الغزو في البحر- فقلت: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: اللهم اجعلها -أي: أم حرام - منهم، ثم نام فاستيقظ فذكر مثله ثانياً وثالثاً).
وعن عمرو بن الأسود: أنه حدثه: أنه أتى عبادة بن الصامت وهو في ساحل حمص في بناء له، ومعه امرأته أم حرام، فحدثتنا أم حرام أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول جيش من أمتي يغزو هذا البحر قد أوجبوا) أي: قد وجب دخولهم الجنة.
قالت أم حرام: (يا رسول الله! وأنا فيهم؟ قال: نعم.
وأنت فيهم).
قال أبو بكر: لا أعلم بالشام إسناداً يشبه هذا.
أي: في قوته وحسن سياقته.
وعن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عصابتان من أمتي أحرزهما الله من النار -أي حفظهما الله تعالى وعصمهما من النار- عصابة تغزو الهند، وعصابة تكون مع عيسى بن مريم) صلى الله على محمد وعلى عيسى.
قوله: (عصابة تغزو الهند) هذه العصابة مع المهدي؛ لأن المهدي المنتظر هو الذي يفتح الهند حتى لا تجد فيها عابد بقر، فيدخلون في الإسلام كافة على يد المهدي المنتظر.
والعصابة الثانية: في أرض الشام مع عيسى بن مريم، يكسرون الصليب ويقتلون الخنزير ويضعون الجزية، ويدعون بدعوة النبي محمد عليه الصلاة والسلام.
فهاتان العصابتان: عصابة تذهب إلى الهند، وعصابة تبقى في أرض الشام كلاهما يدعو بدعوة النبي عليه الصلاة والسلام، فهما محفوظتان من النار بإذن الله تعالى.
وعن أبي هريرة قال: (وعدنا الله ورسوله غزوة الهند فإن أدركها أنفق فيها نفسي ومالي).
أي: أتمنى لو أدرك هذه الحرب وهذه الغزوة، ولو كان ذلك لأنفقت فيها نفسي ومالي.
قال: (فإن قتلت كنت كأفضل الشهداء) وهذا يدل على أن من مات في هذه الغزوة كان أفضل الشهداء.
قال: وإن رجعت فأنا أبو هريرة المحرر.
أبو هريرة الذي كان عبداً وأعتق.(84/22)
خبر أبي دجانة وأخذه سيف رسول الله بحقه
عن أنس بن مالك: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من يأخذ هذا السيف؟ فبسطوا أيديهم جميعاً.
يقول هذا: أنا، ويقول هذا: أنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فقال أبو دجانة وحده: أنا يا رسول الله! آخذه بحقه.
قال: فأخذه ففلق به هام المشركين) وهنا يكون قد أخذه بحقه وهو رجل بمفرده.(84/23)
قتال علي بن أبي طالب يوم خيبر
عن ابن عباس قال: جاء علي بسيفه إلى فاطمة.
بعد الحرب رجع وفي يده السيف، وهذا السيف في يد علي بن أبي طالب كالكوب في يد أحدنا.
إن علي بن أبي طالب في غزوة خيبر خلع باب الحصن -وهو من حديد- واتخذه درعاً بيده الشمال، وكان يقاتل بالسيف بيده اليمنى، وسيف علي إلى الآن موجود ويحمله أربعة من الرجال، وهو سيف كان يقاتل به ويصول به ويجول.
فيأتي بسيفه ويلقيه إلى فاطمة وقال لها: خذيه حميداً -أي: هذا السيف سيف مبارك- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن كنت أحسنت القتال اليوم فقد أحسنه سهل بن حنيف) وكأنه يقول له: لست وحدك من قاتل بجد، فممن قاتل معك سهل بن حنيف والحارث بن الصمة وأبو دجانة وعاصم بن ثابت.
مع أن علياً كان إذا دخل الجيش هرب الجيش أمامه، فلماذا لا يظهر مثل هؤلاء الرجال في هذه الأمة؟(84/24)
الخيلاء صفة يبغضها الله إلا عند قتال الأعداء
عن ابن عتيك الأنصاري عن أبيه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأما الخيلاء التي يحبها الله اختيال الرجل بنفسه عند القتال وعند الصدقة).
فالخيلاء يبغضه الله عز وجل إلا في موطن واحد وهو: الاختيال في الصف ليراه العدو، كما في حديث أبي دجانة رضي الله تعالى عنه.(84/25)
بيان أن المرابط في سبيل الله ينمى له عمله ويجرى له رزقه
عن العرباض بن سارية قال: (كل عمل ينقطع عن صاحبه إذا مات إلا المرابط في سبيل الله عز وجل، فإنه ينمى له عمله، ويجرى عليه رزقه إلى يوم الحساب).
أي: أن أجر المرابط يظل ينمو ويستمر ويربو حتى يبعث يوم القيامة.
وعن واثلة بن الأسقع قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من مات مرابطاً في سبيل الله أجرى الله له مثل أجر المرابط في سبيل الله، حتى يبعثه الله يوم الحساب).
وعن عثمان بن عفان وهو بمنى حاجاً قال: يا أيها الناس! إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (رباط يوم في سبيل الله أفضل من ألف يوم فيما سواه من القربى) أي: من أي عمل صالح.
قال: فليرابط امرئ كيف شاء.
وقال عليه الصلاة والسلام: (من مات على مرتبة من هذه المراتب بعثه الله عليها يوم القيامة).
أي: من مات على الصلاة بعث على الصلاة، ومن مات على الحج بعث على الحج، ومن مات على الجهاد بعث على الجهاد، ومن مات على الفسق والفجور والخنا والعصيان بعث عليها.
قال: (فليختر كل امرئ لنفسه ما شاء فإنه مجزي به).
وعن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سلمان: (رباط يوم أو ليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، ومن مات أجري عليه عمله الذي كان يعمل وأجري عليه رزقه، وأُمن من الفتان) أي: كان من الفتان في مأمن.
وآخر حديث: حديث فضالة بن عبيد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما من ميت يموت إلا ختم على عمله إلا من مات مرابطاً في سبيل الله، فإنه ينمو له عمله ويأمن من فتنة القبر).
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد.(84/26)
الأسئلة(84/27)
حكم صبغ الشعر بالسواد حال الحرب
السؤال
هل يجوز أن يصبغ الشعر الأبيض بالأسود في حال الحرب أم النهي مطلق؟
الجواب
النهي مطلق، ولكن بعض أهل العلم جوز ذلك لأجل إظهار الشباب في القتال وإرهاب العدو.(84/28)
حكم بقاء الزوجة بعد إسلامها مع زوجها الكافر
السؤال
ظهرت فتوى لبعض الأفاضل مضمونها بقاء الزوجة بعد إسلامها مع زوجها الكافر، فهل هذا جائز أم لا؟
الجواب
هذا محرم، والله تعالى قال: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141] فالزوجة إذا أسلمت بانت من زوجها.(84/29)
حكم حلق رأس المولود في اليوم السابع والتصدق عن الشعر بوزنه ذهباً
السؤال
هل من السنة حلق رأس المولود في اليوم السابع والتصدق عنه بالفضة أم بالذهب؟
الجواب
الذهب أحب إلى الله تعالى من الفضة، والواجب عند من يذهب إلى وجوب ذلك هو الفضة، تقدر بوزن شعر المولود بعد حلقه في اليوم السابع فضة لا ذهباً، وإن كان ذهباً فهو أحب إلى الله عز وجل من الفضة، والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(84/30)
شرح صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام
يشرع للإمام تأمير الأمراء على الجيوش، والخروج معهم لتشييعهم إلى خارج البلد، ووصية الجيش وأميره بتقوى الله والإخلاص، وتذكيرهم بآداب الغزو، ووصية الأمير بالرفق بأفراد الجيش، والعدل والإنصاف مع العدو إذا أرادوا المعاهدة والنزول على حكمه.(85/1)
باب جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، أما بعد: فمع الدرس الأول من كتاب الجهاد والسير، وقبل الشروع في أبواب الكتاب وأحاديثه نعرف معنى قوله: الجهاد والسير فنقول: الجهاد: هو بذل الجهد وإفراغ الوسع.
والسير: جمع سيرة.
أي: هديه صلى الله عليه وسلم في الجهاد إلى الله عز وجل، ماذا كان يفعل؟ وما هي أحكام الجهاد، وآدابه وأخلاقه، وما يلزم له؟ كتاب الجهاد والسير في صحيح مسلم ضم مسائل كثيرة مما يتعلق بهذه الأحكام والآداب، أول باب من كتاب الجهاد والسير: (باب جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام).
كأن هذا شرط.
قال: باب جواز الإغارة، ولم يقل: باب وجوب الإغارة؛ لأن الإغارة ليست واجبة.
الإغارة على العدو أو مزاحفة العدو وهو غار -أي: غافل- ليست واجبة بشرط: أن تكون دعوة الإسلام قد بلغته من غير تقدم الإعلام بالإغارة.
أي: لا يلزم الإنذار.(85/2)
شرح حديث نافع مولى ابن عمر في الإغارة على بني المصطلق
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن يحيى التميمي حدثنا سليم بن أخضر -وهو البصري الثقة الضابط- عن ابن عون] وهو عبد الله بن عون بن أرطبان البصري أبو عون الثقة الفقيه، المأمون الفاضل، وهو من أقران أيوب بن أبي تميمة السختياني في العلم والعمل والسن.
قال ابن عون: [كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال؟].
قوله: (كتبت إلى نافع) وهو نافع الفقيه مولى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
والدعاء هنا بمعنى: الإنذار والبلاغ، ما حكمه؟ قال: [(فكتب إلي: إنما كان ذلك في أول الإسلام -أي: الإنذار كان واجباً في أول الإسلام- قد أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق، وهم غارُّون)] أي: غافلون نائمون، أو في وقت الضحى يلعبون، لا علم عندهم بمقدم جيش الإسلام.
قال: [(وأنعامهم تسقى على الماء -أنعامهم تروح وتأتي وتسرح وتشرب وتأكل على الماء- فقتل مقاتلتهم وسبى سبيهم)] والذي فعل ذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق، وبنو المصطلق عرب.
قال: [(وأصاب النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ جويرية بنت الحارث -أي: أنها كانت من السبي- وحدثني هذا الحديث عبد الله بن عمر وكان في ذاك الجيش)].
عبد الله بن عمر حدث نافع، ونافع أوقف الحديث على عبد الله بن عمر حتى لا يقال: هذا اجتهاد من نافع، بل هذا حديث عبد الله بن عمر، وكأن نافعاً سأل ابن عمر بنفس السؤال الذي سأله إياه عبد الله بن عون بن أرطبان، فقال نافع: يجوز الإغارة على العدو من غير إنذار، وإنما الإنذار كان واجباً في أول الإسلام، كأن وجوب الإنذار أمر منسوخ؛ لقول نافع: إنما كان ذلك في أول الإسلام، والتقدير: وأما الآن فلا، بدليل: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون).
أي: غافلون بغير سابق إنذار، حدثه به عبد الله بن عمر الذي كان في غزوة بني المصطلق.
[وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا ابن أبي عدي -وهو محمد بن إبراهيم أبو عمرو البصري عن ابن عون بهذا الإسناد مثله، وقال: جويرية بنت الحارث ولم يشك].
لأن الإسناد الأول فيه شك، هل قال: وأصاب يومئذ ابنة الحارث أو قال: جويرية، شك الراوي، وهنا بغير شك.(85/3)
مذاهب العلماء في حكم إنذار العدو قبل الإغارة
في هذا الحديث: جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم الدعوة من غير إنذار بالإغارة.
وفي هذه المسألة ثلاثة مذاهب، حكاها المازري والقاضي عياض: المذهب الأول: يجب الإنذار مطلقاً.
أي: سواء بلغتهم الدعوة أو لم تبلغهم.
فإذا أراد المسلمون أن يغيروا الآن على بلد من بلاد الكفر، كأن أرادت ليبيا مثلاً أن تغير على إيطاليا باعتبار أنها أقرب بلاد بعد البحر إليها؛ لأنها في مقابلها على البحر، أو أرادت الجزائر أن تغير على فرنسا، أو المغرب أن تغير على أسبانيا، أو هذه البلاد كلها المجتمعة أن تغير على أمريكا، فهل يلزم أن تنبّه هذه البلاد الإسلامية البلد المطلوب الإغارة عليه وتنذره ثلاثاً أو أكثر من ذلك؟
الجواب
لا يجب.
لكن المذهب الأول يقول بالوجوب.
فالمذهب الأول: وجوب الإنذار مطلقاً، كما قال مالك وغيره.
وهذا مذهب ضعيف؛ وذلك لصراحة النص بخلاف ذلك؛ لقول نافع في رده على سؤال ابن عون قال: إنما كان ذلك في أول الإسلام.
كان الإنذار واجباً في أول الأمر؛ وذلك لأنه يغلب على الظن أنهم لم يسمعوا بالإسلام، لكن الناس الآن جميعاً يعلمون الإسلام، وقد سمعوا بالنبي محمد عليه الصلاة والسلام ودعوته، وسمعوا بالقرآن والشريعة الإسلامية، فلا يلزم النذارة، فيكون المذهب الأول الذي يقضي بوجوب الإنذار مذهب ضعيف.
المذهب الثاني يقول: لا يجب مطلقاً.
وهذا أضعف من المذهب الأول، بل هو باطل.
المذهب الثالث: يجب إن لم تبلغهم الدعوة، ولا يجب إن بلغتهم لكن يستحب، وهذا هو الصحيح، وبه قال نافع مولى ابن عمر والحسن البصري والثوري والليث والشافعي وأبو ثور وابن المنذر والجمهور.
إذاً: الراجح: عندما أريد أن أغير على بلد من بلاد الكفار أُنذرهم أولاً، اقبلوا الدعوة إلى الإسلام! ادخلوا في دين الله عز وجل! وهذا الإنذار ليس واجباً ولا مكروهاً ولا محرماً في نفس الوقت، إنما هو مستحب، سواء بلغتهم الدعوة أو لم تبلغهم.
قال ابن المنذر: وهو قول أكثر أهل العلم، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على معناه.
ومنها هذا الحديث وحديث قتل كعب بن الأشرف، وحديث قتل ابن أبي الحقيق.(85/4)
حكم استرقاق العرب
في هذا الحديث أيضاً: جواز استرقاق العرب.
أي: اتخاذ العرب أرقاء وأسرى حرب؛ لأن بعض أهل العلم يقول بعدم جواز استرقاق العرب، وفي الحقيقة الأدلة تظاهرت على جواز استرقاق العربي، مع خلاف أهل العلم في كلمة عربي، ما معناها؟ هل العربي الذي ولد لأبوين عربيين؟ أم هو الذي يتكلم اللغة العربية؟ والأعجمي هل هو الذي يتكلم غير العربية أو أنه أعجمي وإن كان من أبوين عربيين؟ فيه خلاف بين أهل العلم، وفي هذا الحديث جواز استرقاق العرب؛ لأن بني المصطلق عرب من خزاعة، وهذا قول الشافعي في الجديد وهو الصحيح، وبه قال مالك وجمهور أصحابه وأبو حنيفة والأوزاعي، وجمهور العلماء.
وجماعة من العلماء قالوا: العرب لا يسترقون.
وهو قول الإمام الشافعي في القديم، فكأن هذا اتفاق من أهل العلم على جواز استرقاق العرب.
والعرب منهم الكافر ومنهم المؤمن، وهذا الكافر إما أن يكون يهودياً أو نصرانياً أو مشركاً، وأنتم تعلمون أن عامة العرب في مكة كانوا مشركين، وعامة العرب في المدينة كانوا يهوداً وهم عرب.(85/5)
باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها
الباب الثاني: (باب: تأمير الإمام الأمراء على البعوث) والبعوث: جمع بعث.
وهو: السرية أو الكتيبة.
فإذا أرسل الإمام سرية أو كتيبة أو بعثاً أمّر عليهم أميراً، وأمره بأشياء، وحضه على آداب وأحكام وأخلاق.
قال: (ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها).
قد يقول قائل: هل للغزو آداب؟
الجواب
نعم.
الغزو له آداب وله أحكام، وكثير ممن يقولون بالغزو والجهاد الآن يغفلون عن هذه الآداب وتلك الأحكام.(85/6)
شرح حديث بريدة بن الحصيب في وصية النبي لأمير السرية والجيش
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا وكيع بن الجراح عن سفيان -وإذا حدث وكيع عن سفيان فهو سفيان الثوري وكلاهما كوفي- (ح) وحدثنا إسحاق بن إبراهيم -وهو المعروف بـ ابن راهويه - أخبرنا يحيى بن آدم قال: حدثنا سفيان قال: أملاه علينا إملاءً -يعني: يحيى بن آدم يقول: أملى سفيان الثوري علينا هذا الحديث إملاء- (ح) وحدثني عبد الله بن هاشم واللفظ له] أي: هذا السياق ليس سياق أبي بكر بن أبي شيبة ولا سياق إسحاق بن راهويه وإنما هو سياق عبد الله بن هاشم، كأن الإمام مسلماً روى هذا الحديث من طرق متعددة: من طريق أبي بكر بن أبي شيبة في الإسناد الأول، ثم من طريق إسحاق بن راهويه، ثم من طريق عبد الله بن هاشم، ولكنه اختار أن يكون السياق واللفظ من كلام عبد الله بن هاشم.
قال: [حدثني عبد الرحمن -يعني: ابن مهدي - قال: حدثنا سفيان -وهو الثوري - عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه -وأبوه هو بريدة بن الحصيب - قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً على جيش أو سرية)] وليس (إذا) هنا بمعنى أن ذلك أمر محتمل، بل جرت سنة النبي صلى الله عليه وسلم في تأمير الأمراء على كل جيش أو سرية، فلا يصلح أمر القتال والجهاد في سبيل الله إلا بأمير، والأمير يتخذ له بطانة من الجيش يعينونه على المشورة والفصل في المنازعات، وإبداء النصح عند الحاجة إليه، وغير ذلك مما يلزم القتال في سبيل الله عز وجل، فكلمة (إذا) هنا ليست زائدة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤمّر على كل جيش أو سرية أميراً ليدير دفّة القتال والجهاد، وكان إذا فعل ذلك [(أوصاه خاصته بتقوى الله)].(85/7)
توصية الأمير بتقوى الله في خاصة نفسه ومن معه من المسلمين
كان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي الأمير ابتداءً أن يتقي الله عز وجل في نفسه وفي دينه، وفيمن معه من أفراد السرية أو الجيش، وتقوى الله هي وصية الله عز وجل للأولين والآخرين من الأنبياء المرسلين وعامة الخلق، فكان النبي عليه الصلاة والسلام يوصي الأمير بتقوى الله في خاصة نفسه؛ لأن النصر لا يكون إلا بتقوى الله، وتقوى الله هي سبب استمطار الرحمة من السماء، كما أن إعداد العدة أمر لازم، ولكنا نعتقد أن دفع الزكاة سبب في النصر، فالنصر من عند الله عز وجل وله أسباب: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7] و (إن) هنا شرطية، بمعنى: لو نصرتم الله نصركم الله عز وجل، ونصر الله تعالى يكون بالتزام طاعته، ولزوم تقواه سبحانه وتعالى؛ ولذلك من أعجب العجب أن ترى أمم الكفر شرقاً وغرباً في هذه الأيام تتحرك بأساطيلها وأجنادها لتقابل ثلة قليلة ضعيفة معزولة السلاح كأنها لا تستحي أن تواجه بعض الأفراد العُزّل، ومع هذا قد قذف الله عز وجل في قلوب هؤلاء الرعب عند ملاقاتهم هذه الثلة المؤمنة، واحد، أو ثلاثة، أو عشرة، أو مائة قد أثاروا الرعب في قلوب الكفار مع قوة عددهم وعدتهم، والله تعالى هو الذي قذف في قلوبهم الرعب، وهو القائل: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] فالله عز وجل هو الذي يقاتل أعداءه.
والعجيب أن نواب هذه الأمة في رفع راية الجهاد في هذا العصر في هذه البقعة الطاهرة الطيبة قد قبروا في أرض أفغانستان أعظم قوة من بلاد الكفر وهي روسيا تحت التراب، وإن شاء الله تعالى يتحقق على أيديها قبر القوة الثانية في العالم وهي أمريكا في هذه الأرض الطيبة المباركة.
أما سائر أفراد الأمة وبلاد الأمة فتستحق الضرب بالنعال حتى تُهان أعظم إهانة؛ لأنهم لم ينصروا الله عز وجل، ولم يفكروا في الرمي الذي أمر الله عز وجل به، وقد امتلأت الأمة أمراضاً بل اتصفت بأخبث الأمراض، وما من مرض في أمة من الأمم السابقة إلا واتصفت به هذه الأمة الآن.
أما حكومة طالبان في تلك البقعة المباركة فقد علموا منذ أول لحظة في لقاء مع عدوهم أنهم لا ينتصرون بعدد ولا عدة، إنما ينتصرون بتقوى الله، فحققوا ذلك أولاً، ووعد الله تعالى لا يخلف، خلافاً لوعيده فهو يفعل فيه ما يشاء سبحانه وتعالى، يخلف أن يُنفد وعيده، أما وعده فلا يخلف، وهذا محض فضل الله عز وجل.
لو أنك نظرت إلى أي بلد من بلاد الإسلام لوجدت الخذلان والمعاصي والفجور والزنا والخنا، وشرب الخمر وأكل الربا وكل البلايا خلافاً لهذه البقعة وهذه الطائفة المؤمنة من الناس؛ ولذلك كل البلاد بجيوشها وخيلها ورجلها مرعوبة أشد الرعب من تهديداتهم، بل هذه البلاد الإسلامية خائفة ووجلة لا ينامون الليل، ويفكّرون في كل حين ولحظة: لو داهمتنا أمريكا ماذا نصنع؟ خلافاً لهذه الطائفة المؤمنة في تلك البقعة المباركة، فإنهم لا يعبئون بهذا، فقد أنزل الله تبارك وتعالى عليهم السكينة والرحمة لاتصالهم بالله عز وجل وتقواهم، وقد جادل أحدهم بعض الصحفيين المنافقين الملاحدة.
قالوا: إن أمريكا أتتكم بكذا وكذا وكذا، هل أنتم مستعدون للقاء العدو؟ قالوا: نعم.
نحن مستعدون، قالوا: وهل أعددتم لهذه الأساطيل وهذه الجيوش العدة؟ قالوا: نعم.
قد أعددنا.
قالوا: كيف أعددتم وماذا أعددتم؟ قال هذا المؤمن: أعددنا لهم معية الله عز وجل، فالله تعالى معنا، ومن كان الله معه لا يهزم ولا يُغلب؛ لأن الحرب دائرة مع الله عز وجل: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق:15 - 17] (إن الله ليمهل للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) كما في حديث عبد الله بن عمر في الصحيحين وغيرهما، فمن كان الله تعالى معه فقد آوى إلى ركن شديد، لا يستطيع أحد أن يخترق هذا الركن ولا أن يغلبه؛ لأن الله تعالى لا يُغلب البتة.
إذاً: كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا أرسل جيشاً أو سرية أمّر عليهم أميراً، وأوصاه بتقوى الله في خاصته هو أولاً، انظروا إلى دولة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، كانت على أي مستوى من التقوى وإلى دولة عمر وإلى دولة علي وعثمان، وإلى دولة أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز! انظروا إلى صدر الأمة المبارك، ماذا كانت عليه الأمة! وماذا حققت من خير وانتصارات حتى صار الإسلام يسري في الأرض وينتشر انتشار النار في الهشيم، وأسرع من ذلك، حتى بلغ مشرق الأرض ومغربها؛ لأن الأئمة على رءوس الإسلام والمسلمين في ذلك الوقت حققوا تقوى الله عز وجل؛ ولذلك يقول الحسن البصري: أعمالكم عمالكم.
كيفما تكونوا يولى عليكم، فإذا كان الوالي والقائد والحاكم ليس تقياً فإنما هو من جنس أمته وشعبه.
قال: [(إذا أمّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله،(85/8)
الوصية ببدء الغزو بذكر الله وفي سبيل الله
الوصية الثانية: أنه كان يقول له: (اغز باسم الله).
من الآداب أن يبدأ هذا العمل المبارك بذكر الله تعالى أولاً (اغز باسم الله في سبيل الله) وهو احتراز من الرياء.
قوله: (اغز باسم الله)، أي: ابدأ هذا الغزو والجهاد بذكر الله تعالى، واعلم أن هذا الجهاد يجب أن يكون في سبيل الله؛ ولذلك سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! الرجل منا يقاتل حمية، ويقاتل شجاعة، ويقاتل ليرى مكانه، أي ذلك في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله).
هذا القتال الأوحد الذي هو في سبيل الله، أما غير ذلك فلا يُقبل عند الله عز وجل، فالذي يقاتل شجاعة وحمية، ويقاتل ليرى مكانه، وليقال: مجاهد وغير ذلك، فليس مأجوراً بل هو مأزور عند الله، وإن قُتل وإن تعرّض لبارقة السيوف، فليس له عند الله أجر ولا فضل.(85/9)
النهي عن التمثيل والغدر والغلول
قال: [(ولا تمثلوا)] وفي رواية (ولا تمثّلوا) وفي حديث: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة) والمثلة هي تمزيق البدن بعد الموت، أو قبل الموت، فإذا أصاب سهمك العدو ووقع ميتاً فلا تقل: هذا لا يكفيني، فتذهب إلى أنفه فتقطعه، وإلى اليد فتقطعها، وإلى الساق وغير ذلك من أطرافه وأعضائه، فتمثّل به تمثيلاً، فقد نهى الإسلام عن التمثيل بالكافر فضلاً عن المؤمن.
قال: (اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله).
إذاً: القتال لا يُنصب ابتداء إلا في وجه الكفار.
قال: [(اغزوا ولا تغلوا)].
وفي رواية: (ضموا الغنائم) أي: اجمعوا بعضها إلى بعض.
والغلول: هو الأخذ من الغنيمة والفيء قبل توزيعها، وأنت في الجيش ربما قضى الله عليك بالنزال مع أحد الكفار، فتأخذ سلبه، تأخذ ما معه من سلاح ومال وغير ذلك، والأصل أن تأخذ هذا وتضمه إلى بقية الغنائم حتى يودعه الإمام، أما قبل ذلك فلا يجوز لك أن تأخذ شيئاً بغير علم الإمام؛ ولذلك أثنى الله تعالى على أنبيائه ورسله أنهم لا يغلون شيئاً.
قال: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161] من أخذ شيئاً من الغنيمة قبل توزيعها أتى به يوم القيامة؛ ولذلك حينما مات مولى للنبي عليه الصلاة والسلام في القتال قال الصحابة: مات مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنا لنراه من أهل الجنة، فلما سمع النبي عليه الصلاة والسلام هذه المقالة قال: (والله وإني لأراه في نار جهنم بسبب شملة غلها).
والشملة: ثوب أو عباءة، فنهى النبي عليه الصلاة والسلام عن الأخذ من الغنيمة ولو كان عوداً من أراك، وهو بعض السواك، ومن فعل ذلك حُرم ثواب الشهداء، وتعرّض للعقوبة.
ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اغزوا ولا تغلوا) والنهي هنا للتحريم [(ولا تغدروا)] أي: ولا تغدروا عدوكم.
ويُحمل هذا الغدر على النهي عن الغدر مع المسلمين من باب أولى، ومع الأمير من الأولى والأولى، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (يُرفع لكل غادر لواء يوم القيامة على استه) أي: على مؤخرته ومقعدته، يشهده القاصي والداني يوم القيامة قال: (يُرفع لكل غادر لواء يوم القيامة على إسته يقال: هذه غدرة فلان ابن فلان).
قال: [(ولا تقتلوا وليداً)] أي: صغيراً، وهذا النهي نهي عام مطلق في عدم قتل الولدان والصبيان الصغار بشرط ألا يشاركوا في القتال، كما جاء النهي كذلك عن قتل النساء وقتل الشيوخ الكبار، والعُبّاد في صوامعهم، كل هذا النهي على عمومه إلا أن يشارك هؤلاء في القتال فيقتلوا بمشاركتهم، فإذا شاركوا في القتال يقتلون أصلاً لا تبعاً، ويقتلون تبعاً إذا تترس بهم الكفار، أو كان لا يمكن الوصول إلى جيش العدو مع قوة شوكته وخطورته على جيش الإسلام إلا بقتل هؤلاء، فحينئذ يُقتلون تبعاً لا أصلاً.
يعني: لا يكون القصد قتلهم، وإنما القصد: الوصول إلى العدو، ولا يصل إليه إلا بقتل هؤلاء، وهذا أمر مستقر في الشرع، كما يُقتل المرء لفتنته وليس بلازم أن يكون كافراً، ولذلك قتل خالد بن عبد الله القسري الجعد بن درهم؛ لقوله الخطير في باب القدر، وأنه أنكر أن الله تعالى كلّم موسى تكليماً واتخذ إبراهيم خليلاً.
قال خالد بن عبد الله القسري بعد فراغه من خطبة عيد الأضحى: أيها الناس! ضحوا تقبّل الله منا ومنكم، فإني مضح بـ الجعد بن درهم ونزل من المنبر وقتله، فلما سئل عن ذلك أخبر أنه قتله لمقالته الخطيرة التي ضلّت بها الأمة في ذلك الزمان، فهو قتله لا لأجل كفره وإنما لأجل فتنته التي لا تخمد إلا بقتله، فليس بلازم أن يقتل المرء لأجل كفره؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة).(85/10)
ذكر الخصال التي يدعى إليها المشركون قبل قتالهم
قال: [(وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم)] أي: إذا دعوتهم إلى الأولى فقبلوا ذلك منك فاقبل منهم وكف عنهم.
أي: لا تقاتلهم.
قال: [(ثم ادعهم إلى الإسلام)] (ثم) هنا زائدة أو ابتدائية، وهي بداية الثلاث خصال.
فالخصلة الأولى: إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى الإسلام.
قال: (فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم) أي: كف عنهم قتلك فيهم، أي: لا تقتلهم إن هم أجابوك إلى هذه الخصلة الأولى.
قوله: (ثم ادعهم إلى الإسلام) أي: أن يقولوا: أسلمنا، نشهد أن لا إله إلا الله، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، فحينئذ لا يجوز قتلهم، فمن قتلهم كان بمنزلتهم قبل أن يقول هذه الكلمة، كما جاء في حديث الأسود بن يزيد أنه قال: (يا رسول الله! أرأيت إن قاتلت مشركاً أو كافراً فقام فقطع يدي بالسيف، فلما أمكنني الله منه قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أو قال: أسلمت، أفأقطع يده يا رسول الله؟! قال: لا.
قال: يا رسول الله! لقد قطع يدي، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لا تفعل.
فإنك إن فعلت كنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال).
وهذا دليل على وجوب قبول ذلك من الكافر إذا أسلم؛ ولذلك قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه مقتلة عظيمة في غزوة من الغزوات، فلما تمكّن من رجل ووقع السيف منه نطق بالشهادتين، فكفّ عنه علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
أما أسامة بن زيد رضي الله عنهما فقتل رجلاً في الجهاد بعد أن قال هذه الكلمة، وقال: (ما قال ذلك إلا تعوّذاً يا رسول الله!) أي: تعوذ ليهرب من القتل، وما قال ذلك يقيناً، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (هل شققت عن قلبه لتعرف ما فيه؟!) وظل يعنّفه حتى قال أسامة رضي الله عنه: ما تمنيت أني أسلمت إلا بعد هذا.
ندم ندماً عظيماً على فعلته التي فعل، ولكن أسامة كان مجتهداً في ذلك؛ ولذلك لم يوده النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يطالبه بالدية.
قال: [(ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم)] وهذا السؤال يتوجه به الكثير من الإخوة في الشيشان أو الإخوة في المناطق التي يُرفع فيها راية الجهاد خلافاً لفلسطين؛ لأنه لم يثبت إلى الآن أن يهودياً حينما تعرّض للقتل نطق بالشهادتين؛ وما ذلك إلا لأن الكفر متأصل فيه.
فإخواننا في الشيشان يقولون: الضابط الروسي والعقيد الروسي حينما يقع في الأسر يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، لكننا متأكدون أنهم يقولون هذا ليهربوا من القتل.
نقول: أنت لست متأكداً، بل أنت ظان، فهو إن كان كاذباً أو مخادعاً فالله تعالى يتولاه: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} [الأنفال:62]، فالذي يدافع عنك في هذه الحالة هو الله عز وجل، فإنه لا يضرك بإذن الله، كما أن هناك إجراءات وقائية لمن غلب على ظنه أنه قال ذلك تعوذاً، جرّده من السلاح، واجعله في خدمة الجيش، يعد الطعام ويعد الشراب وغير ذلك، واجعل المخلص من جندك وجيشك يتقدم في الصفوف، وهذا الذي نطق الشهادتين يؤخذ ويجرب على هذه الأعمال حتى يغلب على ظنك أنه قد استقام على الهدى والإسلام.
[(ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين)].
قوله: (ثم ادعهم إلى التحول) أي: أن يهاجروا، ويتركوا بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، وكان في أول الأمر يأمرهم أن يتحولوا من ديار الكفر إلى المدينة المنورة؛ لأن المدينة كانت في ذلك الوقت هي دار الإسلام الوحيدة، وهي دار المهاجرين التي هاجر إليها النبي عليه الصلاة والسلام ومن كان معه من أصحابه، والهجرة واجبة ما بقيت الأيام والليالي من ديار الكفر إلى ديار الإسلام.
وفي هذا الحديث إشارة إلى كراهة الهجرة من بلاد الإسلام إلى بلاد الكفر.
قال: [(فإن هم أجابوك -أي: إلى الإسلام- فادعهم إلى التحول من دارهم إلى ديار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك -أي: إن أسلموا وهاجروا من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام- فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا -أي: من ديارهم التي أوذوا فيها إلى المدينة المنورة- فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين) وأعراب المسلمين فيهم فقراء وفيهم أغنياء، خلافاً لمن خرج من المدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم ليقاتل، فالأعراب إذا أخذوا مالاً أخذوا من مال الصدقة ومن مال الزكاة، ولا يأخذون من الغنائم ولا من الفيء.
والغنيمة: هي التي يغنمها الجيش بعد القتال.
والفيء: هو المال الذي يغنمه الجيش بغير قتال.
فإذا كان الأمر كذلك فإن الأعراب في بواديهم لا حظ لهم لا في الغنيمة ولا في الفيء، إنما حظهم في بواديهم في الزكاة والصدقات العامة.
فهؤلاء إذا هاجروا وتحولوا من دار الهزيمة والإغارة(85/11)
إعطاء الأمير للعدو ذمته وذمة أصحابه إن أراد المعاهدة
قال: [(وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله)].
إذا طالب الأعداء أن تجعلوا بينكم وبينهم ذمة الله وذمة رسوله فلا تعطوهم ولا تعاهدوهم على ذمة الله وذمة رسوله؛ وذلك لأنكم ربما تغدرون، أو يغدر أحد أصحابك.
فالنبي عليه الصلاة والسلام في الحديبية وافق على الشروط التي قدمها المشركون، حتى مسح النبي صلى الله عليه وسلم وصفه الشريف من الصحيفة، فتضايق عمر بن الخطاب وقال: (يا رسول الله! ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: بلى.
قال عمر: فلِم نعطى الدنية في ديننا؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إني رسول الله ولن يضيّعني).
قال النبي صلى الله عليه وسلم: وإن حاصرت أهل حصن، فأرادوا أن يأخذوا عليك العهد والميثاق بذمة الله وذمة الرسول فلا تعطهم هذا العهد، أعطهم ذمتك أنت وذمة أصحابك الذين معك.
قل لهم: ألتزم لكم أنا وأصحابي بالعهد الذي بيننا وبينكم، وليس بعهد الله ولا عهد رسوله، لأنك أيها الأمير! لا تضمن أن يقوم أحد من أصحابك متهوّراً فيخفر هذه الذمة، فتقع في الإثم، لأنك خفرت ذمة الله وذمة رسوله، ولأن تعطي أهل الحصن ذمتك وذمة أصحابك أهون عند الله عز وجل من أن تخفر ذمة الله وذمة الرسول صلى الله عليه وسلم.(85/12)
إنزال الأمير العدو على حكمه واجتهاده في ذلك
قال: [(وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله وحكم الرسول عليه الصلاة والسلام فلا تنزلهم على حكم الله وحكم رسوله)]، وذلك لأنهم ربما يسألونك حكم الله وحكم ورسوله في مسألة من المسائل، وأنت لا علم لك بحكم الله وحكم الرسول صلى الله عليه وسلم، فتحكم بغير ما حكم به الله وبغير ما حكم به رسوله عليه الصلاة والسلام.
قال: [(فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك أنت)] أي: قل لهم: هذا حكمي فيكم.
ومعنى (أنزلهم): اقبل منهم.
فقل لهم: هذا حكمي فيكم، وربما وافق هذا الحكم حكم الله وربما خالفه، ولكنك اجتهدت في إصابة الحكم، ولا يلزم من التحقق والاجتهاد إصابة الحق.
قال: [(فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا).
قال عبد الرحمن بن عوف هذا أو نحوه -يعني: الحديث بهذا السياق أو قريباً من ذلك- وزاد إسحاق بن راهويه في آخر حديثه عن يحيى بن آدم قال: فذكرت هذا الحديث لـ مقاتل بن حيان -قال يحيى: يعني: أن علقمة يقوله لـ ابن حيان - فقال: حدثني مسلم بن هيصم عن النعمان بن مقرن عن النبي صلى الله عليه وسلم ونحوه].
يعني: هذا الحديث من حديث النعمان ومن حديث بريدة بن الحصيب رضي الله تعالى عنهما.
[وحدثني حجاج بن الشاعر حدثني عبد الصمد بن عبد الوارث حدثنا شعبة قال: حدثني علقمة بن مرثد أن سليمان بن بريدة حدثه عن أبيه.
قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميراً أو سرية دعاه فأوصاه) -أي: أوصاه في خاصة نفسه وفيمن معه من المسلمين- وساق الحديث بمعنى حديث سفيان].(85/13)
باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير(85/14)
شرح حديث: (بشروا ولا تنفروا)
[حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب محمد بن العلاء الهمداني -واللفظ لـ أبي بكر - قالا: حدثنا أبو أسامة حماد بن أسامة الكوفي عن بريد بن عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري عن أبي بردة -أي: عن جده- عن أبي موسى الأشعري عبد الله بن قيس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أحداً من أصحابه في بعض أمره قال: (بشروا ولا تنفروا).
قال: (في بعض أمره ولم يقل: في سرية أو جيش)، يعني: سواء كان من أمر الدنيا أو أمر الآخرة.
قال: (بشروا ولا تنفروا) يذكر الأضداد: بشروا ولا تنفروا، وكان من الممكن أن يقول: بشروا فقط، لكنه لا يؤدي المعنى المراد؛ لأن (بشّروا) يطلق على من بشّر مرة أو مرتين أو ثلاث مرات، ثم نفّر بقية حياته؛ فبشّروا ولا تنفروا تأكيد للنهي عن التنفير وإثبات التبشير، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الأمر وضده، ولا يكتفي بذكر الأمر، حتى يجتمع نفي التنفير وإثبات التبشير.
ثم قال: [(ويسروا ولا تعسروا)] والتعسير ضد التيسير، فأنت مأمور بالتيسير منهي عن التعسير، فإنما جمع في هذه الألفاظ بين الشيء وضده لأنه قد يفعلهما في وقتين، فلو اقتصر على (يسروا) لصدق ذلك على من يسّر مرة أو مرات، وعسر في معظم الحالات، فإذا قال: (ولا تعسروا) انتفى التعسير في جميع الأحوال من جميع وجوهه، وهذا هو المطلوب، وكذا يقال في: بشروا ولا تنفروا، وفي بقية أجزاء أحاديث الباب.(85/15)
شرح حديث: (يسروا ولا تعسروا)
[وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع بن الجراح عن شعبة بن الحجاج العتكي البصري عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه أبي بردة عن جده أبي موسى الأشعري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه ومعاذاً إلى اليمن)].
وبعث أيضاً علي بن أبي طالب إلى اليمن، فالثلاثة مبعوثون من جهة النبي عليه الصلاة والسلام، وحينما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل إلى اليمن قال لهما: [(يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا)].
قوله: (تطاوعا) أي: اتفقا ولا تختلفا، أي: ليلن كل منكما جانبه لأخيه، وليخفض كل منكما جناحه لأخيه، وكان بإمكانه أن يقول: (تطاوعا)، ولا يذكر و (لا تختلفا)،فالاختلاف ضد التطاوع والاتفاق والائتلاف؛ ولذلك ذكرهما ليثبت أمره وينفي ما عساه يخالفه، فإنهما قد يتطاوعان في وقت ويختلفان في وقت، وقد يتطاوعان في شيء ويختلفان في شيء آخر.(85/16)
بيان آداب الداعية وما ينبغي أن يكون عليه من التدرج في الدعوة
وفي هذا الحديث: الأمر بالتبشير بفضل الله، وعظيم ثوابه، وجزيل عطائه وسعة رحمته، والنهي عن التنفير بذكر التخويف وأنواع الوعيد محضاً، فترى الواعظ لا يعرف للجنة طريقاً، تخصصه دائماً نار، فلا يحسن أن يتكلم إلا عن النار، وفي ذلك تنفير للناس من رحمة الله عز وجل، فتجد ضعيف الإيمان في أول طريقه يقول: ما دامت المسألة كلها نار نار نار فلماذا نصلي؟ ولماذا نصوم؟ ولماذا نزكي ونحج؟ ويترك الفرائض والواجبات ويرتكب المحرمات حتى يقع في الشرك البواح؛ لأن هذا الواعظ ما أحسن أن يأخذ بمفاتيح قلبه، ولا بد للواعظ أن يكون عالماً بما يريح القلوب، عاملاً به، فمثلاً المحسوسات لو أردت أن تفتح باب المسجد بمفتاح ليس هو مفتاحه، فمن الممكن أن تقف مائة عام على الباب ولا يمكن أن تفتح هذا الباب وهو جماد؛ وذلك لأنك لم تُحسن اختيار المفتاح الذي يُستخدم في فتح هذا الباب، ولكل قلب مفتاح، فعلى الداعية أن يتلون على كل وجه، كأن يكون لطيفاً مع الناس، وهذا يفتحه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا يفتحه بالكلام عن القلوب وأنواع القلوب، وهذا يفتحه بمسألة فقهية، وهذا بمسألة علمية، وهكذا.
فينبغي أن يكون الداعية أهلاً لهذا كله، يعرف مغاليق القلوب، ومفاتيح القلوب كذلك.
قال: (وفيه: تأليف من قرب إسلامه).
يذكر أن شخصاً أسلم وحضر مجلساً إسلامياً، فقال له الشيخ: أنت أسلمت لماذا؟ قال: يا شيخ! لأن الإسلام هذا جميل وحلو.
قال الشيخ: فأين مظاهر الجمال؟ أقول لك: لا تظن أننا سعيدون بإسلامك أبداً، فنحن عندنا ملايين المسلمين، فنحن غير محتاجين إليك، والله لو تذهب في داهية فهو أحسن لنا.
والله حدث هذا الكلام، وهذا شيء سيئ جداً والله!! وكانت هناك راهبة كبيرة وكان لها تأثير عجيب في وسط النساء النصرانيات، فأخذت ما يزيد على (200) من نساء النصارى، وذهبت بهن إلى مكان من الأمكنة حتى يشهرن إسلامهن، وهذه المرأة الراهبة معروفة بإسلامها وجهدها الطيب على نساء النصارى، وكانت تعرف المفاتيح والأقفال، فقالت لأحد المسئولين: أتيتك بغنيمة، وهي أن (200) امرأة تم إسلامهن على يدي، فقال لها: لا أريد أحداً أن يسلم، خذيهن واذهبي بهن إلى الخارج.
وخرجت هذه المرأة من عنده وهي تقول: ما خرجت مترددة في ترك الإسلام إلا في هذا الموقف، وما قالت هذا الكلام إلا من فرط غضبها.
قال: (وفيه: تأليف من قرب إسلامه، وترك التشديد عليه).
يقول العلماء: لا تُطلق أحكام الكفر على المعيّن إلا بعد قيام الحجة عليه، فربما كان جاهلاً أو قريب عهد بجاهلية أو قريب عهد بالإسلام، فكلاهما يصلح.
أذكر أن امرأة أسلمت في أمريكا وكانت تزني -عياذاً بالله- لتنفق على أولادها، وحينما كلمناها في حرمة الزنا، قالت: والله أنا لا أعلم أن الزنا حرام، كنت أظن أن الزنا فقط مجرد عيب، وأنا الآن متعبة وأستحي من هذا العمل.
وتسميه عملاً.
تقول: فأنا أتعاطى حبوباً أو شيئاً من الحقن حتى لا أشعر بهذه العملية الفظيعة في أثناء وقوعها.
وكذلك من قارب البلوغ من الفتيات، فعندما نعرف أن البنت حاضت، نريد أن نجري عليها أحكام الإسلام كما لو كانت بنت ابن تيمية، فتجد الأب من أول لحظة يقول لها: أنت الآن أصبحت مكلّفة بجميع تكاليف الإسلام وأحكامه وشرائعه، ويبدأ يملي عليها ويقعد لها كالصقر، مع أنها من سن السابعة إلى يومنا هذا لم يعلمها أبوها شيئاً، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (علموا أولادكم الصلاة لسبع).
ومذهب الجماهير: أن الصلاة ليست مذكورة لعينها، بل يقاس عليها غيرها من تكاليف الإسلام وأحكامه من حلال وحرام وفرائض وغير ذلك؛ حتى إذا بلغ سن التكليف كان قد تجاوز مرحلة التدريب العملي على الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج وغير ذلك، والصحابة رضي الله عنهم قاموا بذلك خير قيام، فكانوا يعطون الحلوى أو الدينار أو غير ذلك للولد إذا صام إلى الظهر، أو إذا صام إلى العصر، وكانوا يدربونهم على الصلاة، حتى إذا بلغوا كانوا قد تعلموا أحكام الإسلام، لكنك أنت تريد أن تلزمها بفرائض الإسلام وأحكامه بمجرد أن تبلغ، دون أن يسبق ذلك فترة تعليم أبداً، وهذا تصرف لا يصح.
أذكر أنه في السودان لما أعلنوا تطبيق الشريعة الإسلامية والعمل به بدءوا بإقامة الحدود، وهذا تخبّط.
هل تقام الحدود على أمة غرقت مئات السنين في العلمانية وفي المعاصي ومخالفة الأمر والابتعاد عن كتاب الله وسنة رسوله؟ فهم أناس لا يعلمون شيئاً عن دينهم، فكان لا بد أن يسبق هذه المرحلة مدة من الزمان تبلغ السنوات؛ لتعليم هذه الأمة أحكام دينها، ثم بعد ذلك تبدأ العقوبة.
ومن ارتكب معصية وتاب، ترى من يعرف ذلك يشدد عليه حتى ييأس من رحمة الله عز وجل! والمفروض أن المرء إذا تاب يؤخذ بالرفق والرحمة واللين، بخلاف الإنسان الذي يعصي وهو يعلم أنه يعصي ويُدعى إلى التوبة فيستهزئ ويسخر، فمثل هذا تحذره من شفير جهنم، بخلاف من وقع في معصية ثم تاب منها وأتاك يضطرب قلبه وجلاً خائفاً، فلا شك أن التنفير في هذا الموطن يجعل المرء ييأس من(85/17)
شرح صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - تحريم الغدر
الغدر صفة ذميمة وخلق مرذول، والغادر يرفع له يوم القيامة لواء ويفضح على رءوس الأشهاد، جزاء وفاقاً على ما كان يعتمل في صدره من السوء، وكما حرم الله الغدر في السلم فقد حرمه في الحرب، إلا ما يكون من الخدعة في الحرب فإنه جائز لما فيه من تسهيل ظهور المسلمين على أعدائهم، إلا أن يكون في الخدعة نقض لعهد أو أمان فحينئذ يدخل ذلك في الغدر المحرم.(86/1)
باب تحريم الغدر
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وبعد: فمع الباب الرابع من كتاب الجهاد: (باب تحريم الغدر).(86/2)
شرح حديث: (يرفع لكل غادر لواء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا محمد بن بشر وأبو أسامة - حماد بن أسامة -.
(ح) وحدثني زهير بن حرب وعبيد الله بن سعيد -يعني: أبا قدامة السرخسي - قالا: حدثنا يحيى -وهو ابن سعيد القطان - وكلهم عن عبيد الله بن عمر العمري.
(ح) وحدثنا محمد بن عبد الله بن نمير -واللفظ له- حدثنا أبي عبد الله بن نمير حدثنا عبيد الله عن نافع].
فمدار هذه الأسانيد كلها على عبيد الله بن عمر العمري يروي هذا الحديث عن نافع عن ابن عمر [قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يُرفع لكل غادر لواء، فقيل هذه غدرة فلان بن فلان)].
قال: (إذا جمع الله الأولين يوم القيامة)، (إذا) هنا زائدة وليست للشك، ولا بد أنهم مجموعون يوم القيامة.
قال: (يُرفع لكل غادر لواء، فقيل: هذه غدرة فلان ابن فلان).
والغدر هو نقض العهد ونقض الميثاق وعدم الوفاء به.
فالغدر: هو النكوث عن الوفاء بالعهود والمواثيق، حتى وإن كان ذلك مع الكفار، والحديث عام: (يُرفع لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة فيقال: هذه غدرة فلان ابن فلان).
ولعلكم تلحظون أن المرء ينادى باسمه وينسب إلى أبيه يوم القيامة، ولم يقل: يقال هذه غدرة فلان ابن فلانة.
وإنما يقال: هذه غدرة فلان ابن فلان.
وقد انطبع في أذهان العوام أن الناس يوم القيامة ينادى عليهم ويُنسبون إلى أمهاتهم، وهذا خطأ فادح، إنما يُنسب الرجل إلى والده.
[حدثنا أبو الربيع العتكي قال: حدثنا حماد حدثنا أيوب أيوب بن أبي تميمة السختياني البصري.
(ح) وحدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي حدثنا عفان -وهو ابن مسلم الصفار - حدثنا صخر بن جويرية كلاهما عن نافع].
أي: صخر وأيوب يرويان عن نافع، وهذا يعني: أنهما متابعان لـ عبيد الله بن عمر العمري في الإسناد الأول-[عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث].(86/3)
شرح حديث: (إن الغادر ينصب الله له لواء يوم القيامة)
قال: [وحدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر -أي: علي بن حجر السعدي - عن إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن دينار -أي: المتابع لـ نافع - أنه سمع عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الغادر ينصب الله له لواء يوم القيامة).
وهذا يدل على أن الذي يتولى نصب اللواء بيده هو الله عز وجل، وما تولى الله عز وجل فعل شيء بنفسه إلا لعظم هذا الشيء في الخير للحض عليه، أو في الشر للزجر عنه.
قال: [(إن الغادر ينصب الله له لواء يوم القيامة فيقال: ألا هذه غدرة فلان)].(86/4)
شرح حديث: (لكل غادر لواء يوم القيامة)
قال: [حدثني حرملة بن يحيى التجيبي المصري قال: حدثنا ابن وهب -وهو عبد الله بن وهب القاضي المصري - أخبرني يونس عن ابن شهاب - يونس إذا جاء بين ابن وهب وابن شهاب فهو يونس بن يزيد الأيلي لا ريب- عن حمزة وسالم ابني عبد الله بن عمر عن أبيهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لكل غادر لواء يوم القيامة).
وحدثنا محمد بن المثنى وابن بشار -وهما فرسا رهان في العلم والعمل والعبادة والسن، حتى في سنة الوفاة ماتوا في سنة واحدة- قالا: حدثنا ابن أبي عدي.
ح وحدثني بشر بن خالد أخبرنا محمد -يعني: ابن جعفر الملقب بـ غندر - كلاهما عن شعبة عن سليمان -وشعبة إذا روى عن سليمان فإنما هو سليمان بن مهران الأعمش أبو محمد الكوفي الإمام الكبير المشهور- عن أبي وائل شقيق بن سلمة الكوفي عن عبد الله أي: ابن مسعود رضي الله عنه -وإذا ذُكر عبد الله في طبقة الصحابة غير منسوب فإنما هو عبد الله بن مسعود خاصة إذا كان الإسناد كوفياً- قال: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لكل غادر لواء يوم القيامة يقال: هذه غدرة فلان)].
فقد ورد حديث عبد الله بن عمر، ثم من بعده حديث عبد الله بن مسعود.
قال: [وحدثنا إسحاق بن إبراهيم -المعروف بـ ابن راهويه المروزي - أخبرنا النضر بن شميل.
(ح) وحدثني عبيد الله بن سعيد حدثنا عبد الرحمن -أي: ابن مهدي - جميعاً عن شعبة في هذا الإسناد].
يعني: عن شعبة عن سليمان بن مهران الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود.
[وليس في حديث عبد الرحمن: يقال: (هذه غدرة فلان) وإنما فيه: (لكل غادر لواء يوم القيامة) ولم يذكر عبد الرحمن بن مهدي: (فلان بن فلان) واقتصر على ذكر بعض الحديث دون تمامه وكماله.
[وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن آدم عن يزيد بن عبد العزيز عن الأعمش عن شقيق -وهو أبو وائل - عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل غادر لواء يوم القيامة يُعرف به.
يقال: هذه غدرة فلان)].
أما الحديث الثالث وهو حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
قال: [حدثنا محمد بن المثنى وعبيد الله بن سعيد قالا: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة عن ثابت -تلميذ أنس بن مالك وهو ثابت بن أسلم البناني البصري - عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل غادر لواء يوم القيامة يُعرف به).
وحدثنا محمد بن المثنى وعبيد الله بن سعيد قالا: حدثنا عبد الرحمن -أي ابن مهدي - حدثنا شعبة عن خليد عن أبي نضرة -وأبو نضرة هو المنذر بن مالك بن قطعة - عن أبي سعيد الخدري - سعد بن مالك بن سنان المدني وهذا هو الحديث الرابع- قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة)].
فلكل غادر لواء يُغرز عند استه.
أي: عند مقعدته ومؤخرته، فلو أن كل غادر يعلم فضيحته على رءوس الأشهاد يوم القيامة ما غدر أحد قط، والتزم الناس بمواثيقهم وعهودهم، فالذي يغدر في عهده أو ميثاقه أو في شرطه بغير عذر حري به أن يؤتى يوم القيامة فيُفضح على رءوس الأشهاد، ويُرفع له لواء عند استه ويراه الناس، كما أنه ينادى على الملأ: هذه غدرة فلان ابن فلان.(86/5)
شرح حديث: (لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره)
قال: [وحدثنا زهير بن حرب حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثنا المستمر بن الريان حدثنا أبو نضرة عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل غادر لواء يوم القيامة يُرفع له بقدر غدره)].
أي: إذا كانت الغدرة عظيمة جداً يرفع له لواء عظيم جداً، فالزيادة في هذا الحديث تبيّن أن قدر الراية على قدر الغدر، فإذا كان الغدر عظيماً جداً ومضرته متعدية فسيكون اللواء عظيماً جداً والفضيحة أشد عظماً، وإذا كانت الغدرة بسيطة وسهلة ومن الممكن أن تتدارك، فإن اللواء يُرفع على قدر الغدرة.
تصور -مثلاً- أن راعياً يغش رعيته، أو أميراً يغش من تأمّر عليهم، أو خليفة يغش أمة بأسرها، فإنه سيكون لواءه أعظم لواء، فعندما تُبعث من القبور ترى لواءه في أرض المحشر، أعظم لواء يراه الناس من بعيد؛ وذلك لغدره الذي غدر به، ضيّع أمته، وضيّع دينه، فحينئذ يكون لواؤه أعظم لواء؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما من راع يسترعيه الله رعية لم يحطها بنصيحة إلا لم يدخل معهم الجنة) فإذا لم يكن بقدر المسئولية ولم يأنس من نفسه رشداً كما آنس يوسف عليه السلام: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]؛ لأنه آنس من نفسه رشداً وهو نبي، وذلك لما علم أنه لا أحد في هذا البلد يؤتمن على خزائن المال، ففرض عين عليه حينئذ أن يكون أميناً على خزائن المال، وهذه ليست تزكية للنفس، وإنما هي فرض عين عليه، ولا يصلح في هذا الموطن الهروب وليس من الورع في شيء، أما أن يعلم أنه ليس أهلاً لذلك ويطلب الإمارة أو الولاية أو السلطة ويغدر ويغش رعيته، فالأحرى أن يُفضح في الدنيا والآخرة.
قال: [(لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره، ألا ولا غادر أعظم غدراً من أمير عامة)].
وليس هناك أعظم جرماً من رجل استرعاه الله تعالى رعية ولم يحطهم بنصيحة ويعلمهم العلم الشرعي، ويقيمهم على الجادة، ويحضهم على السنن، وينهاهم عن البدع، وإذا علمهم وحضهم على السنن ونهاهم عن البدع فلا شك أنه قد أدى ما عليه، وأجره عند الله عز وجل.
قال الإمام: (اللواء: هو الراية العظيمة، لا يمسكها إلا صاحب جيش الحرب أو صاحب دعوة الجيش، ويكون الناس تبعاً له).
فمعنى (لكل غادر لواء) أي: علامة يُشهر بها في الناس؛ لأن اللواء أعظم خاصية فيه الشهرة والاجتماع عند الرئيس، وقد كان هناك عرب تنصب الألوية في الأسواق المليئة بالناس لغدرة الغادر تشهره بذلك، فيسأل الناس: لمن رُفعت هذه الراية؟ فيقولون: لفلان.
إنه غدر في كذا وكذا.
فغالب رفع الراية عند العرب للغدر فيما يسمى بالجوار، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أجرنا من أجرت يا أم هانئ) والإجارة أو الجوار: هو كف الأذى عن المجار أياً كان مسلماً أو كافراً، وهذا أمر معروف عند العرب للمؤمن والكافر، وأنتم تعلمون أن أبا بكر الصديق دخل في جوار ثم خرج منه، والنبي صلى الله عليه وسلم دخل في جوار وخرج منه، والمشركون دخلوا في جوار النبي عليه الصلاة والسلام وفي جوار أبي بكر وفي جوار أم هانئ.
وكان المجير يخرج إلى الكعبة وينادي في الناس: إن فلاناً دخل في جواري أو دخل في جوار فلان.
وهذا يعني: ألا يتعرض له أحد بإيذاء وإلا فهذا انتهاك لحرمة القبيلة كلها.
والغادر هو: الذي يواعد على أمر ولا يفي به.
وكذلك يقال: غدر يغدر -بالكسر-.(86/6)
تحريم الغدر وذم أهله
في هذه الأحاديث: بيان غلظ تحريم الغدر لا سيما من صاحب الولاية العامة؛ لأن خطره عظيم، وغدره يتعدى ضرره إلى خلق كثيرين.
وقيل: لأنه غير مضطر إلى الغدر، ولا شك أن الفقير الكذّاب مبغض عند الله، والذي هو أشد منه بغضاً: الملك الكذّاب؛ لأنه ليس في حاجة إلى الكذب.
كذلك الكبر من الغني مبغض، لكنه يكون أشد بغضاً من الفقير.
وكذلك الغادر إذا كان صاحب ولاية عامة فغدره أشد بغضاً وعقوبة وإثماً من الذي لا يتعدى ضرره إلى الآخرين، والمشهور أن هذا الحديث وارد في ذم الإمام الغادر.
أي: إمام العامة.
لكن القاضي عياض ذكر احتمالين.
قال: (أحدهما: أن هذا الحديث ورد في ذم الغادر من الأئمة الغادرين، وهو نهي الإمام أن يغدر في عهوده لرعيته وللكفار وغيرهم، أو غدره للأمانة التي تقلدها لرعيته والتزم القيام بها، والمحافظة عليها، ومتى خانهم أو ترك الشفقة عليهم أو الرفق بهم فقد غدر بعهده).
أي حينما يُعَيَّن فلان من الناس والياً أو رئيساً أو زعيماً أو غير ذلك فمن الطبيعي أنهم يضعون يده على المصحف ويقولون: احلف باليمين الدستوري أقسم بالله أقسم بالله أقسم بالله أن أعمل بكتاب الله، وبسنة رسول الله، وأن أرعى مصالح الأمة، ومصالح الشعب -أخذوا كأنه شيء عادي بلادي بلادي، لكِ حبي وفؤادي- وقبل أن يخرج من المجلس يكون قد غدر بالكتاب، والسنة، والأمة.
أليس هذا بغدر؟ بلى.
انظروا إلى الأحكام الشرعية والمصطلحات الشرعية أصبحت محل استهزاء الناس.
قال: (والاحتمال الثاني: أن يكون المراد: نهي الرعية عن الغدر بالإمام، فلا يشقوا عليه العصا ولا يتعرضوا لما يخاف حصول فتنة بسببه).
والصحيح الأول.(86/7)
باب جواز الخداع في الحرب
الباب الخامس: (باب جواز الخداع في الحرب).
انظر إلى اللفتة الطيبة للإمام مسلم، ثم من بعده تبويب الإمام النووي، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل غادر لواء يُرفع له عند استه يُعرف به.
يقال: هذه غدرة فلان ابن فلان)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (الحرب خدعة)، فلذلك قام الإمام مسلم بسردها متتابعة في بابين؛ حتى يفرّق بين الغدر، وبين الخداع في الحرب، ويُعلم أن الخداع في الحرب ليس من باب الغدر.
قال: [وحدثنا علي بن حجر السعدي وعمرو الناقد وزهير بن حرب -واللفظ لـ علي وزهير.
قال علي: أخبرنا، وقال الآخران: حدثنا سفيان -أي: ابن عيينة - قال: سمع عمرو جابراً -وعمرو هو ابن دينار المكي - سمع جابر بن عبد الله الأنصاري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحرب خُدعة)] أو (خدْعة) أو (خُدَعة) على ثلاث لغات.
[وحدثنا محمد بن عبد الرحمن بن سهم قال: أخبرنا عبد الله بن المبارك أخبرنا معمر بن راشد البصري عن همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحرب خدعة).(86/8)
جواز الخداع في الحرب وتحريم نقض العهد والميثاق
اتفق العلماء على جواز خداع الكفار في الحرب، كيفما أمكن الخداع إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يحل، والكلام هذا في غاية الأهمية، فلو أنه نقض عهد أمان أو ميثاق أمان، فهذا نسميه غدراً.
إذاً: الأول: خدعة.
والثاني: غدر.
ومن الأمثلة على الخدعة في الحرب: الإغارة على العدو بياتاً أو صباحاً، فيأتي المسلمون صبحاً، وليس هناك مجال إلا التسليم ورفع الراية، وذلك بالدخول عليهم من غير إنذار سابق، وقد سبق لهم العلم بالإسلام فلم يدخلوا فيه، وأنتم تعلمون أن مذهب الجماهير بجواز الإغارة على العدو ما دامت الدعوة قد بلغته، ولا يلزم الإنذار الخاص، فحينئذ يجوز التبييت أو التخضيع أو الإغارة ليلاً أو نهاراً بغير إذن، وهذا من باب الخدعة.
مثال آخر: أن يرسل أمير الجيش إلى العدو: لقد أتيناكم في ألف بعير وخمسمائة فرس، ونحن قادمون إليكم وسنفعل بكم كيت وكيت وكيت، وفي حقيقة الأمر معهم مائة ألف بعير، وهو في رسالته لم يكذب، بل بالفعل أتى ومعه ألف بعير وزيادة، فرتّب العدو جيشه على اعتبار أن جيش المسلمين هو جيش العدو بالنسبة لهم.
كذلك حفر الخنادق خدعة حتى إذا أتى العدو وقع في الخندق، وغير ذلك من الخدع التي يصطنعها الناس في حروبهم، فالحرب خدعة إلا أن يكون في هذه الخدعة نقض عهد أو أمان فلا يحل حينئذ.
مثال ذلك: أتيت العدو وأخذ مني عهداً وميثاقاً أن يكون بيننا هدنة عشر سنوات، فقمت أنا بالقتال في العام السابع أو الثامن أو التاسع دون أن ينقض العدو العهد، فهذا لا يحل في الشرع، وإنما يحل الحرب بعد انتهاء المدة المعروفة بيننا، أما في أثناء العهد والأمان فلا يحل بحال إلا إذا نقض العدو العهد أو الميثاق، فحينئذ لم يأت الغدر من قبلي، وإنما أتى من قِبله.(86/9)
بيان الحالات التي يجوز فيها الكذب
وقد صح في الحديث جواز الكذب في ثلاثة أشياء: أحدها: في الحرب، والكذب على الزوجة، والكذب للإصلاح بين المتخاصمين -الكذب الصريح- لكن بعض أهل العلم قالوا: الكذب هنا المقصود به: المعاريض، وفي حقيقة الأمر مذهب جمهور العلماء: أن الكذب الصريح حلال في هذه المواطن.
فأقول: معي مائة ألف فرس، ولم يكن معي إلا مائة فرس فقط، فهذا لا شك أنه صريح، لكني ما قلته إلا لإرهاب العدو.
وكذلك الكذب على الزوجة، كأن تقول لها: ما أجملكِ وألطفكِ وأنعمكِ، وهي في الحقيقة في قمّة الدمامة وثقل الدم وقلة الأدب وغير ذلك، لكنك تقول لها هذا الكلام حتى يتلطّف الجو بينك وبينها.
وكذلك الصلح بين المتخاصمين، وهذا يقابل النميمة، فالمختصمان كل منهما ثائر وغاضب في وجه صاحبه، وفي غيبته يسبه ويشتمه ويلعنه، فأنت تذهب إلى أحدهما وتقول له: قال فيك فلان: كذا وكذا ويثني عليك خيراً ويحبك، ويعجب من تفريق الشيطان بينكما وغير ذلك، فلا شك أن الثاني مع التكرار يقبل هذا الكلام، وتذهب للثاني وتقول له مثلما قلت للأول، فلا شك أن هذا يبعث في القلوب التآلف والتحاب والتواد.
أما النميمة، فهي: أن تأخذ كلاماً من فلان وتذهب به إلى علان وتقول: هو قال عنك كذا، بل وتزيد عليه من عندك كلاماً حتى تزيد العداوة بين الاثنين، فهذه هي النميمة، وكفى فيها قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يدخل الجنة نمّام) أي: لا يدخل الجنة لأول وهلة، والنميمة كبيرة من الكبائر.
قال الطبري: إنما يجوز من الكذب في الحرب المعاريض دون حقيقة الكذب.
وهذا الكلام يُرد به على الإمام الطبري عليه رحمة الله.(86/10)
باب كراهة تمني لقاء العدو والأمر بالصبر عند اللقاء
الباب السادس: (باب كراهة تمني لقاء العدو والأمر بالصبر عند اللقاء).
أي: لا تتمن لقاء العدو، لكن إذا لقيته فاصبر، فإذا صار أمراً مقدراً حتماً فإنه يجب عليك في حينه الصبر، فعليك أن تسلك المسلك الطيب والنهج المستقيم، وهو أن تدعو الله عز وجل أن يصرف عنك عدوك مهما كان، حتى لو كان من المسلمين، أن تدعو الله أن يصرف عنك كيد الكائدين وعداوة الأعداء، لكن إذا لقيت العدو فحينئذ وجب عليك الصبر.(86/11)
شرح حديث النهي عن تمني لقاء العدو
[حدثنا الحسن بن علي الحلواني وعبد بن حميد قالا: حدثنا أبو عامر العقدي عن المغيرة -أي: ابن عبد الرحمن الحزامي - عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمنوا لقاء العدو فإذا لقيتموهم فاصبروا)] أي: فإذا كان أمراً واقعاً حتماً مفروضاً فالذي يجب عليكم حينئذ الصبر.
[حدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج أخبرني موسى بن عقبة عن أبي النضر عن كتاب رجل من أسلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له: عبد الله بن أبي أوفى] وهو صحابي مشهور، مصري.
وانظر هنا إلى قول موسى بن عقبة: عن أبي النضر عن كتاب رجل من أسلم.
أي: أنه لم يسمع، وإنما نقله من كتاب؛ ولذلك العلماء يقولون: من أسانيد التحمل: الوجازة أو الكتابة أو الإجازة، والإجازة شرحها يطول، فنكتفي بالكتابة أو الوجازة.
ما هي الكتابة؟ أن أكتب لك بخط أنت تعرفه، مذيلاً باسمي وأقول: ارو عني هذا.
فهذه تسمى كتابة مشفوعة بالإجازة.
أما الكتابة غير المشفوعة بالإجازة: فهي التي يسميها العلماء بالوجادة.
والوجادة: هي أن يترك عالم كتاباً له معروفاً بخطه ومعروفاً بأن هذه الأحاديث من حديثه توجد في مكان يغلب أنها من روايته كالبيت، فإذا مات الرجل وجد هذا الكتاب في بيته، وعلم أن هذه أحاديثه كان يحدّث بها، وأن هذا خطه، لكنه غير مذيل فحينئذ أقول: وجدت في كتاب فلان: (قال: حدثنا فلان قال: حدثنا فلان إلى آخر الحديث)، كما لو أتيت لتنظر في مسند الإمام أحمد بن حنبل فإنك تجد فيه زيادات لـ عبد الله ابن الإمام أحمد.
قال: وجدت في كتاب أبي قال: حدثنا فلان، ولا يخفى على عبد الله بن أحمد بن حنبل أحاديث أبيه، كما لا يخفى عليه خطه ابتداء، قد وجد عبد الله كتباً في غرفة أبيه بعد وفاته لم يسمعها منه، فحدّث بها وجادة.
كذلك أبو النضر يقول: عن كتاب.
أي: إني أُحدثكم من كتاب رجل من أسلم يقال له: عبد الله بن أبي أوفى من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام.
ولو قال أبو النضر: وجدت في كتاب قال: حدثنا فلان، لما كان الحديث صحيحاً.
لأنه سيكون فيه انقطاع وجهالة.
قال: [فكتب إلى عمر بن عبيد الله حين سار إلى الحرورية -ليحاربهم- يخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في بعض أيامه التي لقي فيها العدو ينتظر حتى إذا مالت الشمس قام فيهم فقال: (يا أيها الناس! لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية)] أي: لا تتمنوا لقاء العدو بقلوبكم وألسنتكم، واسألوا الله تعالى بقلوبكم وألسنتكم العافية.
قال: [(فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف، ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب! اهزمهم وانصرنا عليهم)].
قوله: (اللهم منْزل الكتاب) فيه لغتان: منْزل ومنزّل.(86/12)
الحكمة من النهي عن تمني لقاء العدو
وإنما نهى صلى الله عليه وسلم عن تمني لقاء العدو؛ لما فيه من صورة الإعجاب والاتكال على النفس، والوثوق بالقوة، وهو نوع من البغي.
أي: أن الإنسان يبغي على نفسه في هذا الموطن، إلا أن يلزم من ذلك النزال.
ولأنه يتضمن قلة الاهتمام بالعدو واحتقاره، وهذا من أعظم أسباب الفشل، كأن تقول: من هي إسرائيل؟ إنما هم قليل لا يتجاوز عددهم مليوني نسمة، فلو أن الواحد منا بصق لأغرقهم.
هذا الكلام صحيح، لكن هذا لا يدعونا إلى الاستهانة بقوة العدو.
قال: (وتأوله بعضهم على أن النهي عن التمني في صورة خاصة، وهي إذا شك في المصلحة فيه وحصول ضرر، وإلا فالقتال كله فضيلة وطاعة).
لكن الصحيح هو الرأي الأول، ولهذا تممه عليه الصلاة والسلام بقوله: (واسألوا الله العافية) وقد كثرت الأحاديث في الأمر بسؤال العافية، وهي من الألفاظ العامة المتناولة لدفع جميع المكروهات في البدن والباطن في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم إني أسألك العافية العامة لي ولأحبائي ولجميع المسلمين -هذا دعاء الإمام النووي - اللهم آمين.(86/13)
الصبر آكد أركان القتال
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (وإذا لقيتموهم فاصبروا) فهذا حث على الصبر في القتال، وهو آكد أركان القتال.
فأهم شيء في القتال: الصبر؛ لأن بريق السيوف فتنته عظيمة جداً، ولو أيقن المرء أنه لا يصاب من هذا السيف إلا كما يشعر أحدنا بوخز الإبرة لصبر، لكن بريق السيف فتنة في حد ذاته.
ولذلك سأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم: ما بال الناس يُفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة) أي: فوق رأسه فتنة، وقد أغناه ذلك عن أن يفتن في قبره على يد منكر ونكير.
وقد جمع الله سبحانه آداب القتال في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال:45] والثبات بمعنى: الصبر {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال:45 - 46] أطيعوا الله ورسوله خاصة في موطن القتال، وموطن المواجهة واللقاء، فلو أن قائد الجيش قال: قاتلوا يمنة، فتقول: لا لا، نحن لا نرى أن القتال يمنة بل نقاتل يسرة.
يقول: تقدموا.
نقول: تأخرنا.
تأخروا تقول: تقدمنا.
إذا كان الأمر كذلك فإنه لا يمكن أبداً لهذا الجيش أن يكتب له النصر ولا النجاح، بل لا بد أن يسمع كلام القائد، وإن بدا أن كلام القائد غير صحيح فلا أقل من أنه معذور في ذلك بلا نزاع، حتى وإن كان كلامه في عين الحقيقة ليس كلاماً سديداً، ولكنه بذل وسعه واجتهد رأيه في إقامة الحق، فهذا لا إثم عليه، كما أن هذا لا يبيح للجيش أن يخالف، بل يجب عليهم جميعاً أن يمتثلوا أمره ويلتزموا طاعته، قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أي: قوتكم {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا} [الأنفال:46 - 47] أي: فخراً وعجباً ورياء {بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ} [الأنفال:47] أي: ورياء للناس {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال:47].
فهذه الآيات قد جمعت آداب الجهاد في سبيل الله وبعض أحكام الجهاد في سبيل الله عز وجل.(86/14)
الجهاد في سبيل الله سبب في تحصيل الجنة
قوله: (واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف).
قال الإمام النووي: (معناه: ثواب الله).
هذا تأويل غير سائغ ولا مقبول من الإمام النووي، بل ينبغي إجراء هذا الكلام على ظاهره، أن الجنة تحت ظلال السيوف.
أي يحصّل المرء النعيم السرمدي الأبدي في جنة عرضها السماوات والأرض بسبب الجهاد في سبيل الله عز وجل.
وفي الحديث: (إن الله تعالى أعد للشهيد مائة درجة في الجنة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض).
وفي رواية: (ما بين كل درجتين مسيرة خمسمائة عام).
فالجهاد هو السبب الموصل إلى الجنة عند الضرب بالسيوف في سبيل الله، فاحضروا فيه بصدق واثبتوا.(86/15)
بيان الأوقات التي كان يقاتل فيها النبي صلى الله عليه وسلم العدو
قوله: (حين سار إلى الحرورية، يخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في بعض أيامه التي لقي فيها العدو ينتظر، حتى إذا مالت الشمس قام فيهم فقال: (يا أيها الناس) إلى آخر الحديث.
أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقاتل الناس إذا مالت الشمس ناحية الغرب.
فمعنى: مالت: تضيّقت إلى ناحية الغرب وظهر الفيء.
أي: كان النبي صلى الله عليه وسلم يغير على العدو ويقاتله بعد صلاة الظهر، وربما يكون ذلك لمصلحة متعلقة بالصلاة، أنه كان يجمع الظهر والعصر جمع تقديم، ويؤخر المغرب إلى العشاء جمع تأخير لحاجة الحرب.
والله أعلم.
قال: في هذا الحديث: أن النبي عليه الصلاة والسلام انتظر حتى مالت الشمس، فقام فيهم فقال: (يا أيها الناس!) إلى آخره.
ففي هذا الحديث وفي غيره: أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تزول الشمس، والمعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معظم قتاله بعد صلاة الصبح، لكنه كان يؤخر القتال أحياناً لحاجة الحرب أو لجهد أصحابه حتى يأخذ الصحابة قسطاً من الراحة أو غير ذلك.
قال العلماء: سببه أنه أمكن للقتال -يعني: سبب التأخير إلى الظهر أنه أمكن للقتال- فإنه وقت هبوب الريح ونشاط النفوس، وكلما طال ازدادوا نشاطاً وإقداماً على عدوهم وقد جاء في صحيح البخاري: أخّر حتى تهب الأرواح وتحضر الصلاة.
قالوا: وسببه: فضيلة أوقات الصلوات والدعاء عندها.
قوله: (ثم قام النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (اللهم منزل الكتاب، ومجرى السحاب، وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم)) فيه استحباب الدعاء عند اللقاء والاستنصار.
أي: طلب النصر من الله عز وجل.(86/16)
باب استحباب الدعاء بالنصر عند لقاء العدو
الباب السابع: (باب استحباب الدعاء بالنصر عند لقاء العدو) أو التكبير -الله أكبر- في الحرب خاصة عند كل شرف، وهذا مسنون حتى في غير الحرب، فعند أي مكان مرتفع وأنت تصعده تقول: الله أكبر الله أكبر، وإذا نزلت تقول: سبحان الله.
[حدثنا سعيد بن منصور قال: حدثنا خالد بن عبد الله -وهو الطحان الواسطي - عن إسماعيل بن أبي خالد الأحمسي عن عبد الله بن أبي أوفى قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب فقال: (اللهم منزل الكتاب سريع الحساب! اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم).
وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع بن الجراح عن إسماعيل بن أبي خالد قال: سمعت ابن أبي أوفى -وهو عبد الله - يقول: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل حديث خالد].
ولا يظن الظان أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع خالداً يدعو فقام يدعو.
قال: [بمثل حديث خالد، غير أنه قال: (هازم الأحزاب) ولم يذكر قوله: (اللهم)].
قال: [وحدثناه إسحاق بن إبراهيم -الذي هو ابن راهويه - وابن أبي عمر جميعاً عن سفيان بن عيينة عن إسماعيل بهذا الإسناد.
وزاد ابن أبي عمر في روايته: (مجري السحاب).
وحدثني حجاج بن الشاعر حدثنا عبد الصمد حدثنا حماد عن ثابت عن أنس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول يوم أحد: اللهم إنك إن تشأ لا تُعبد في الأرض)] وفي رواية: (يوم بدر)، والجمع بينهما ممكن بإثبات الدعاء في بدر وفي أحد، ولا منافاة بين هذا وذاك.
هذا كلام فيه حذف، وهذا من البيان، أنه يذكر بعض الكلام ويستغني عن بعضه الآخر للزومه وضرورته، وعدم استقامة الكلام إلا به.
أما قوله: (اللهم اهزمهم وزلزلهم) أي: أزعجهم وحركهم بالشدائد، يعني: ما دام من تقدير الله تسلّط هؤلاء الكفار علينا، فمن تقدير الله عز وجل كذلك الدعاء الذي يقطع البلاء، فنحن ندعوك أن تهزمهم وتزلزلهم بالفتن والزلازل والبراكين والشدائد، وغير ذلك من البلايا التي تنزل بهؤلاء الكفار.
قال العلماء: وفي هذا الحديث التسليم لقدر الله تعالى، والرد على غلاة القدرية الزاعمين أن الشر غير مراد ولا مقدّر، بل الشر مراد لله عز وجل، لكن إرادة كونية قدرية.
وهذا الكلام متضمن أيضاً طلب النصر، وجاء في هذه الرواية أنه صلى الله عليه وسلم قال هذا يوم أحد، وقاله يوم بدر، وهو المشهور في كتب السير والمغازي، ولا معارضة، فقد قاله في الغزوتين صلى الله عليه وسلم.(86/17)
باب تحريم قتل النساء والصبيان في الحرب
الباب الثامن: (باب تحريم قتل النساء والصبيان في الحرب).
المقصود: بالصبيان: الصبيان الذين لم يشاركوا في الحرب.
واليهود يقولون: أليس الدين الإسلامي يحرّم قتل الأطفال، إلا إذا شاركوا في الحرب؟ نقول لهم: ألستم تقتلون الأطفال الفلسطينيين، لأن الأطفال الآن هم الذين يحاربون؟! فإني أعجب ممن يركب الدبابة ويجري خلف الطفل!(86/18)
شرح حديث النهي عن قتل النساء والصبيان
[حدثنا يحيى بن يحيى ومحمد بن رمح قالا: أخبرنا الليث.
(ح) وحدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث عن نافع عن عبد الله: (أن امرأة وجدت في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: أن النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي كان على رأس هذه الغزوة- مقتولة، فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان).
فالذين ينهى عن قتلهم: النساء، ثم الصبيان، ثم الشيوخ.
والشيوخ بمعنى: كبار السن، إلا أن يخرجوا مقاتلين محاربين إما مادياً أو معنوياً، فحينئذ يقتلون أصلاً.
والمشاركة المعنوية: أن يخرج الواحد منهم -أي: من النساء والشيوخ الكبار- لرسم خطة الحرب.
وأنتم تعرفون أن دريد بن الصمة كان قد تجاوز عمره (100) عام، وخرج مع المشركين للحرب، وليرسم لهم الخطة، فقال: تخرجون بأموالكم ونسائكم وأطفالكم؛ وذلك ليكون المال والنساء والأطفال أعظم حافز لكم على القتال والنزال وترك الفرار، وكانت هذه الخطة وبالاً عليهم، وهوجم الجيش وأُسر منهم مأسرة عظيمة، وقُتل منهم مقتلة عظيمة، وقتل دريد؛ لأنه خرج ليضع خطة الحرب، ولم يُنكر النبي عليه الصلاة والسلام قتله مع أنه شيخ، فأمثال هؤلاء إذا خرجوا محاربين وإن كان حرباً معنوياً فحينئذ لا بأس بقتالهم.
وفي حديث عبد الله بن عمر قال: (وجدت امرأة مقتولة في بعض تلك المغازي، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان).(86/19)
تحريم قتل النساء والصبيان
أجمع العلماء على العمل بهذا الحديث، وتحريم قتل النساء والصبيان إذا لم يقاتلوا، فالنساء والصبيان، والشيوخ، والرهبان، والخدم والرعاة -خمسة أصناف- لا يُقتلون إلا إذا قاتلوا، كما أن الفلاح لا يُقتل؛ لأنه ليس محارباً.
قال الإمام: (أجمع العلماء على العمل بهذا الحديث، وتحريم قتل النساء والصبيان إذا لم يقاتلوا).
وهذا يعني: أنهم إذا قاتلوا قُتلوا.
الأمر الثاني: أن العدو إذا تترس بهم قُتلوا تبعاً لا قصداً، كمن يتترس خلف امرأة فتقتل المرأة معه.
إذاً: إذا تترس العدو بهؤلاء يُقتلون جميعاً، لكن لا يُقتلون إلا تبعاً، مثال ذلك: لم أجرؤ على قتل المرأة إلا لأجل الوصول إلى من وراءها ومن بعدها، فقُتلت تبعاً لا قصداً، وإذا لم يمكن الوصول إلى عدوي إلا بهذا الطريق فلا بأس بذلك، فإن قاتلوا -قال جماهير العلماء- يُقتلون، وأما شيوخ الكفار فإن كان فيهم رأي قتلوا.
إذاً: النساء، والصبيان، والشيوخ، والخدم، والرهبان -خمسة أصناف- هؤلاء أمرنا الشرع بالكف عن قتلهم؛ لأنهم ليسوا أهل قتال، فإن زالت العلة زال الحكم، فإذا قاتل هؤلاء قتلوا قصداً.(86/20)
باب جواز قتل النساء والصبيان في البيات من غير تعمد
الباب التاسع: (باب جواز قتل النساء والصبيان في البيات من غير تعمد).
الأصل فيهم عدم القتل إلا إذا قاتلوا، و (إلا) وما بعد (إلا) ناسخ لما قبلها.
قال: (باب جواز قتل النساء والصبيان)، وهؤلاء يسميهم الشرع الذراري، فالذراري: الأولاد والنساء.
قال: باب جواز قتل النساء والصبيان في البيات من غير تعمد.
البيات هي: الإغارة على العدو ليلاً، فحينما أغير على العدو ليلاً هل أظل أنقّي وأقول: هذا طفل، وهذه امرأة؟ لا أستطيع؛ لأنني أضرب من بعيد، ولم آت لأفرز: هؤلاء أطفال، وهؤلاء نساء، وهؤلاء شيوخ، وهؤلاء رهبان، فقصدي قتل المحاربين، فلا يمنع أن يُقتل في الحالة هذه غير المحاربين من دون قصد، وحينئذ الأطفال والنساء والشيوخ والرهبان يُقتلون تبعاً لا قصداً، وفي هذه الحالة يأخذون حكم المحاربين.
قال ابن عباس: عن الصعب بن جثامة قال: (سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الذراري من المشركين يبيتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم؟ فقال: هم منهم).
أي: أنهم والمحاربون سواء في الحكم، فليس عليكم شيء إن أغرتم عليهم ليلاً فاقتلوهم جميعاً؛ لأن حكمهم واحد: (هم منهم).
وفي رواية عن الصعب كذلك قال: (قلت: يا رسول الله! إنا نصيب في البيات من ذراري المشركين.
قال: هم منهم).
ومن حديث ابن عباس عن الصعب كذلك: (أن النبي عليه الصلاة والسلام قيل له: لو أن خيلاً أغارت من الليل فأصابت من أبناء المشركين؟ قال: هم من آبائهم).
يعني: هم وآباؤهم في الحكم سواء في الإغارة ليلاً.
وتقديره: أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن حكم المشركين الذين يبيّتون فيصاب من نسائهم وصبيانهم بالقتل فقال: (هم من آبائهم) أي: لا بأس بذلك؛ لأن أحكام آبائهم جارية عليهم في الميراث وفي النكاح، وفي القصاص والديات وغير ذلك، والمراد: إذا لم يتعمدوا من غير ضرورة.
وأما الحديث السابق في النهي عن قتل النساء والصبيان فالمراد به إذا تميزوا؛ ولذلك يقول الله تعالى: {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ} [الفتح:25] أي: لو تميزوا حينئذ لا يحل قتل النساء والصبيان والأصناف التي نهى عن قتلها الشرع.
قال: {لَوْ تَزَيَّلُوا} [الفتح:25] أي: لو تميّزوا وتحيّزوا، هؤلاء في ناحية وهؤلاء في ناحية أخرى، حينئذ لا يحل قتل هؤلاء الأصناف التي نهانا الشرع عن قتلهم، فإن اختلطوا بهم ولم يمكن الوصول إلى المحاربين إلا بقتل هؤلاء؛ فيأخذون حكماً واحداً: (هم من آبائهم)، أي: أنهم في الحكم سواء.
وهذا مذهب جماهير العلماء.
وفي هذا الحديث: دليل على جواز البيات.
أي: أن الحرب خدعة.
قال: البيات: هي مفاجأة العدو ليلاً في عقر داره.
وفيه: جواز الإغارة على من بلغتهم الدعوة من غير إعلامهم بذلك.
وفيه: أن أولاد الكفار حكمهم في الدنيا حكم آبائهم، وأما في الآخرة ففيهم -إذا ماتوا- خلاف، فمنهم من قال: حكمهم في الآخرة حكم آبائهم -أي: كفار أيضاً- ومنهم من قال بالتوقف.
أي: لا نحكم لهم بإيمان ولا بكفر.
ومذهب ثالث قال: يُعقد لهم اختبار وابتلاء فإن نجحوا -أي: في التوحيد- ووحدوا الله تعالى دخلوا الجنة، وإلا فهم من أصحاب النار.
والصواب: أن أطفال المشركين إذا ماتوا قبل بلوغ الحلم ولم يجر عليهم القلم فهم في الجنة.
هذا الرأي الرابع وهو الصواب.
والله تعالى أعلم.(86/21)
باب جواز قطع أشجار الكفار وتحريقها
الباب العاشر: (باب: جواز قطع أشجار الكفار وتحريقها).
أنتم تعلمون أن الشرع قد نهى عن قطع الأشجار، وقد أجاز مع وجود هذا النهي قطع أشجار الكفار وتخريب ديارهم بأيديهم وأيدي المؤمنين.
[حدثنا يحيى بن يحيى ومحمد بن رمح قالا: أخبرنا الليث بن سعد المصري.
وحدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث عن نافع عن عبد الله: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرّق نخل بني النضير وقطع)].
يعني حرّق جزءاً وقطع جزءاً من النخل، وكلمة النخل لا تطلق إلا على نفس التمر والبلح، ونخل بني النضير كان في مكان يسمى البويرة.
[زاد قتيبة وابن رمح في حديثيهما: (فأنزل الله عز وجل: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} [الحشر:5])].
واللينة هي أنواع الثمر كلها، إلا العجوة كما يقول ابن منظور.
وبعضهم قال: بل كل الأشجار والنخيل تسمى لينة للينها وتمايلها.
قال تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر:5].
[حدثنا سعيد بن منصور وهناد بن السري قالا: حدثنا ابن المبارك عن موسى بن عقبة - وهو إمام المغازي والسير- عن نافع عن ابن عمر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع نخل بني النضير وحرق)] أي: أنه قطع جزءاً وحرّق جزءاً، أو قطع النخل ثم حرّقه بعد ذلك.
قال: [(ولها يقول حسان -أي: حسان بن ثابت رضي الله عنه يقول لذلك شعراً-: وهان على سراة بني لؤي حريق بالبويرة مستطير -والسراة: أشرف القوم- وفي ذلك نزلت: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً} [الحشر:5] الآية)].
قال الإمام: (وقد ذكرنا قبل هذا أن أنواع نخل المدينة مائة وعشرون نوعاً).
وهذا ليس ببعيد، فأنت إذا ذهبت إلى المدينة المنورة أو مكة المكرمة إلى سوق التمور لوجدت هناك من الأنواع ما لا حصر له، منها الرديء ومنها الجيد، والغالي والرخيص.
(وفي هذا الحديث: جواز قطع شجر الكفار وإحراقه، وبه قال عبد الرحمن بن القاسم ونافع مولى ابن عمر).(86/22)
باب تحليل الغنائم لهذه الأمة خاصة
الباب الحادي عشر: (باب تحليل الغنائم لهذه الأمة خاصة).
النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (فُضّلت على الأنبياء بخمس.
منها: وأُحلّت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي)، أما من كان قبل النبي صلى الله عليه وسلم من الأنبياء فقد كانوا يجمعون الغنائم ثم تنزل نار من السماء فتأكل هذه الغنائم.
وهذا دليل على أن الله تقبّل هذه الغنائم من هذا النبي ومن كانوا معه.
وعلِم الله تعالى ضعفنا وحاجتنا -خاصة في أول الرسالة المحمدية- إلى المال، فأحل الله تعالى لهذه الأمة الغنائم، قال: (فُضّلت على الأنبياء بخمس.
منها: وأُحلّت لي الغنائم ولم تحل لأحد من الأنبياء قبلي).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام: (غزا نبي من الأنبياء -قيل: هو يوشع بن نون عليه السلام- فقال لقومه: لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبن) يقول لهم: أنا ذاهب لأحارب، فالذي يريد أن يأتي معي فليأت، ولكن بشرط ألا يكون فيكم من عقد على امرأة ولم يبن بها بعد؛ لأنه سيكون مشغولاً بحبيبة القلب، فهذا لا يصلح للجهاد، ولا بد للمجاهد أن يفرغ القلب تماماً لله عز وجل.
قال: (وهو يريد أن يبن بها، ولمّا يبن) أي: أنه لم يبن بعد ولكنه سيبني في المستقبل، فـ (لمّا) لنفي الماضي وجواز تحقق المستقبل.
(ولا آخر قد بنى بنياناً ولمّا يرفع سقفها)؛ لأن هذا الذي يبني بيتاً يتمنى لو أنه بلغ بهذا البيت التمام والكمال، فهو سيكون مشغولاً بذلك، وهذا لا يصلح للجهاد قال: (ولا آخر قد اشترى غنماً أو خلفات) والخلفات: هي الحوامل من الغنم والبقر وغير ذلك.
قال: (وهو منتظر ولادها) وهذا رأس مال العرب.
(قال: فغزا بمن معه، فأدنى للقرية حين صلاة العصر) أي أنه اقترب من القرية التي يريد القتال معها عند صلاة العصر.
قال: (أو قريباً من ذلك، فقال للشمس) فهل هذه الشمس عاقلة وتسمع، وتؤمر فتأتمر بالأمر؟ قال الله: {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11] جعل الله عز وجل لها إدراكاً ففهمت الأمر وأجابت، ولكل نبي معجزات، فقال هذا النبي للشمس: (أنتِ مأمورة وأنا مأمور) وانظروا إلى هذا الخطاب الجميل جداً بين النبي وبين آية من آيات الله وهي الشمس.
أي: أنتِ مسخّرة وأنا مسخّر، كلانا عبد الله عز وجل.
قال هذا النبي: (اللهم احبسها علي شيئاً).
وهذا الحديث غصة في حلوق كثير ممن يُنسبون إلى العلم، فهم يقولون: هذا العلم من الخرافات مع أنه في الصحيحين، كيف يحبس الله الشمس بدعوة رجل؟ نقول هذا: الرجل في نفسه آية من آيات الله، ونبي من الأنبياء.
قال: (فحبست عليه حتى فتح الله عليه)؛ وقد يكون ذلك إما لأنهم ما كانوا يحاربون إذا دخل الليل، أو أن ذلك محمول على أنه خشي فوات صلاة العصر، فدعا الله عز وجل أن يحبس عليه الشمس.
أي: يوقفها ويثبتها فلا تتحرك ولا تغيب حتى يفتح الله عز وجل عليه هذه القرية.
قال: (ففعل).
قال: (فجمعوا ما غنموا، فأقبلت النار لتأكله فأبت أن تطعمه) أي: جمع الغنائم، ثم رفعها في قمة جبل لتنزل النار فتأكلها، فنزلت النار فلم تأكلها ولم تطعمها، وهذه علامة من علامات رد القربان، فمن المؤكد أن هناك شيء؛ لأن علامة قبول القربان والطاعة أن تأكل النار هذه الغنائم.
فقال هذا النبي للجيش: (فيكم غلول) أي: أنه لا بد أن أحدكم غل وأخذ من الغنيمة وسرق، فقال: (فيكم غلول.
فليبايعني من كل قبيلة رجل -يبايعني يعني: يصافحني- فبايعوه فلصقت يد رجل بيده، فقال: فيكم الغلول.
فلتبايعني قبيلتك.
فبايعته قال: فلصقت بيد رجلين أو ثلاثة، فقال: فيكم الغلول، أنتم غللتم، قال: فأخرجوا له مثل رأس بقرة من ذهب.
قال: فوضعوه في المال وهو بالصعيد -أي: ألحقوه ببقية الغنائم على مكان مرتفع- قال: فأقبلت النار فأكلته، فلم تحل الغنائم لأحد من قبلنا -هذا الشاهد- ذلك بأن الله تبارك وتعالى رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا).
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(86/23)
شرح صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - الأنفال واستحقاق القاتل سلب القتيل
أحل الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ولأمته من بعده الغنائم والأنفال، وجعل حظ المقاتلة من هذه الغنائم الحظ الأوفر؛ لما يقدمونه في سبيل الله من دماء وفداء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته ينفل المقاتلة زيادة على حقهم في الغنيمة، وجعل لمن قتل قتيلاً سلبه كاملاً.(87/1)
باب الأنفال
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستغفره ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وبعد: مع الباب الثاني عشر من كتاب الجهاد، وهو: (باب الأنفال).(87/2)
تعريف الأنفال
والأنفال: محل نزاع بين أهل العلم، فمنهم من قال: الأنفال هي الغنائم عموماً ومطلقاً.
أي: أن الأنفال: هي الغنائم التي يكسبها المسلمون من الكفار في حروبهم وجهادهم.
أو هي الفيء الذي يأخذه المسلمون سلماً من أعدائهم بغير حرب.
وقيل: الأنفال هي: الغنائم بعد تقسيمها.
وتقسيم الغنائم يكون أربعة أخماس، وخمس للرسول عليه الصلاة والسلام، فقالوا: الأنفال هي هذا الخمس الذي يأخذه النبي صلى الله عليه وسلم يفيء به على من يشاء من العباد، ومن الجند خاصة.
وقيل غير ذلك فيما يتعلق بالأنفال.(87/3)
الأحاديث الواردة في باب الأنفال
[وحدثنا قتيبة بن سعيد قال: حدثنا أبو عوانة -وهو الوضاح بن عبد الله اليشكري - عن سماك بن حرب عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص -رحمه الله تعالى ورضي عن أبيه- عن أبيه قال: (أخذ أبي من الخمس سيفاً)]؛ أي: أخذ من حظ النبي صلى الله عليه وسلم من الخمس.
ولم يقل: أخذ من الغنائم، ومصعب بن سعد يتكلم عن أبيه ويقول: [(أخذ أبي من الخمس سيفاً، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هب لي هذا)]؛ أي: اجعل هذا السيف هبة لي.
وهذا يدل على أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كان يعلم أن هذا السيف إنما خرج في خمسه عليه الصلاة والسلام، وهو خاص به عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك طلب منه أن يجعله له هبة.
قال: [(فأبى)] أي: رفض أن يُعطي سعداً هذا السيف هبة، كيف لا وهو مالك لذلك، فالنبي عليه الصلاة والسلام حكم فيما يملك.
أي: في الخمس الخاص به [(فأنزل الله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال:1])].
[حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار -وابن بشار.
اسمه محمد، كلاهما بصري في سن واحدة كانا كفرسي رهان في العلم والعبادة، حتى إنهما ماتا في سنة واحدة- واللفظ لـ ابن المثنى قالا: حدثنا محمد بن جعفر -وهو المعروف بـ غندر أي: مشاغب- حدثنا شعبة بن الحجاج العتكي] إمام البصرة، إمام الجرح والتعديل، وسيد العلل في زمانه، ومحمد بن جعفر ربيبه، تزوج شعبة بأم محمد بن جعفر حينما مات أبوه.
[عن سماك بن حرب عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: (نزلت فيّ أربع آيات)] سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يبيّن أن الله تعالى أنزل فيه أربع آيات.
قال: [(أصبت سيفاً فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم)] أي: أنه أخذ سيفاً من الخمس، فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم [(فقال: يا رسول الله! نفلنيه)] أي: أعطنيه نافلة -أي: بغير حق- ليس هذا حظ سعد في الغنيمة، وإنما هذا فوق حظه في الغنيمة؛ ولذلك طلب من النبي عليه الصلاة والسلام أن يجعله له نافلة [(فقال: نفّلنيه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ضعه -أي: اترك السيف- ثم قام فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ضعه من حيث أخذته.
ثم قام فقال: نفلينه يا رسول الله! فقال: ضعه، فقام فقال: يا رسول الله! نفلينه! أأُجعل كمن لا غناء له؟)] والغناء بمعنى: الكفاية.
أي: أتجعلني يا رسول الله كغيري؟ فـ سعد رضي الله عنه يرى أن له ميزة على غيره، فقد كان فارساً مجاهداً شجاعا ًقوياً مقداماً، وغيره ربما لا يكون كذلك، فضلاً عن قرابة سعد من النبي عليه الصلاة والسلام، فـ سعد خال للنبي عليه الصلاة والسلام، وأنتم تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد قال: (ارم سعد فداك أبي وأمي) ولما سُر النبي عليه الصلاة والسلام بشجاعة سعد قال: (هذا سعد خالي فليرني أحدكم خاله) يفاخر عليه الصلاة والسلام بخاله سعد بن أبي وقاص.
قال: [(فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ضعه من حيث أخذته.
قال: فنزلت هذه الآية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال:1])].
هناك أربع آيات نزلت في سعد بن أبي وقاص: هذه الآية، وآية في بر الوالدين، وآية في تحريم الخمر، وقول الله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام:52].
والحديث عند مسلم بزيادة -أي: بإثبات هذه الثلاث- في مناقب سعد بن أبي وقاص.
[حدثنا يحيى بن يحيى -أي التميمي - قال: قرأت على مالك عن نافع عن ابن عمر قال: (بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية وأنا فيهم قِبَل نجد -ونجد الآن تمثّل منطقة الرياض وما حولها- فغنموا إبلاً كثيرة)] أي: كان من آثار هذه السرية ودخولهم مع المشركين أن غنموا بعد نصرهم على عدوهم إبلاً كثيرة.
قال: [(فكانت سهمانهم اثنا عشر بعيراً، أو أحد عشر بعيراً، ونُفّلوا بعيراً بعيراً)].
أي: أنه كان سهم كل واحد من السرية اثني عشر بعيراً أو أحد عشر بعيراً، أما الأنفال فواحد لكل فارس.
إذاً: السهم من أصل الغنيمة: لكل واحد اثنا عش(87/4)
باب استحقاق القاتل سلب القتيل
الباب الثالث عشر: (باب استحقاق القاتل سلب القتيل).
(باب استحقاق القاتل) أي: في الجهاد (سلب القتيل) أي: من الكفار.
هذا في الجهاد في سبيل الله عز وجل بين المؤمنين والكافرين، أن المؤمن إذا قتل الكافر فما تركه الكافر هو سلب للمؤمن، كالفرس والذهب والفضة وغير ذلك.(87/5)
شرح حديث أبي قتادة: (من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه)
[حدثنا يحيى بن يحيى التميمي أخبرنا هشيم بن بشير عن يحيى بن سعيد عن عمر بن كثير بن أفلح عن أبي محمد الأنصاري] وهو نافع بن عباس الأ قرع المدني مولى عقيلة الغفارية قيل: هو مولى أبي قتادة، لكنه في الحقيقة ليس مولى له، وإنما قيل له: مولى؛ لأنه أصلاً مولى، لكن ليس لـ أبي قتادة وإنما لـ عقيلة الغفارية، لكن الغالب في الرواية يقولون: حدثنا أبو محمد الأنصاري مولى أبي قتادة.
قيل له: مولى أبي قتادة؛ وذلك لكثرة ملازمته لـ أبي قتادة، لكنه مولى لـ عقيلة الغفارية.
قال: [عن أبي محمد الأنصاري وكان جليساً لـ أبي قتادة قال: قال أبو قتادة.
واقتص الحديث].
[وحدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث عن يحيى بن سعيد عن عمر بن كثير عن أبي محمد مولى أبي قتادة أن أبا قتادة قال.
وساق الحديث].
وفي هذين السندين نكتتان: النكتة الأولى: اجتماع ثلاثة من التابعين يحيى بن سعيد الأنصاري وعمر بن كثير وأبو محمد، يروي بعضهم عن بعض.
النكتة الثانية: ليس من عادة مسلم رحمه الله أن يذكر: وساق الحديث، واقتص الحديث، وذكر الحديث، إلا لحديث قد سبق، أما حديث سيأتي فليس من عادته، وهذا ما يسميه العلماء بالتلوين.
أقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا وكذا.
حدثني بهذا فلان عن فلان عن فلان عن أبي هريرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكره.
وهذا على غير العادة، فالمألوف أن الإسناد هو الأول ويعقبه المتن، أما المتن ويعقبه الإسناد فهذا نادر جداً على غير العادة، لكنه صحيح.
فالإمام مسلم رحمه الله ذكر الإسناد، ثم ذكر إسناداً آخر لنفس الحديث الذي سيأتي بعد الإسناد الثالث، فقوله: وساق الحديث أي: وساق الحديث الذي سيأتي بعد، ولذلك اغتر بعض أهل العلم فتصوروا أن قوله: وساق الحديث -أي: المتقدم- وليس كذلك، وإنما ساق الحديث الذي سيأتي معنا.
قال: [حدثنا أبو الطاهر وحرملة -واللفظ له- أخبرنا عبد الله بن وهب قال: سمعت مالك بن أنس يقول: حدثني يحيى بن سعيد عن عمر بن كثير بن أفلح عن أبي محمد مولى أبي قتادة عن أبي قتادة قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حنين -أي: في غزوة حنين- فلما التقينا كانت للمسلمين جولة)] أي: انهزام وضعف، ولم يقل: كان للنبي صلى الله عليه وسلم جولة؛ لأن إجماع أهل العلم منعقد على حُرمة قول: انهزم النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يُهزم، ولا تُكتب له الهزيمة، إنما تقع الهزيمة في بعض جيشه، لا على يده عليه الصلاة والسلام، فكان لبعض المسلمين في نواحي الجيش جولة وضعف وانهزام، وليس ذلك في جانب النبي عليه الصلاة والسلام، ولا يُنسب لنبي قط خسيسة حتى وإن كانت اجتماعية، فإنه حرام وصف الأنبياء بالعمل الخسيس.
فنحن نقرأ أن في كتب السنة أن من الأنبياء من كان نجاراً كزكريا عليه السلام، ومنهم من كان حداداً كداود عليه السلام، ومنهم من كان يرعى الغنم، بل جُل الأنبياء رعوا الغنم، لكن راعي الغنم في زماننا هذا مهنة غير محترمة، والحدادة كذلك، والنجارة كذلك، فقد تعارف الناس على أن أصحاب هذه المهن لا وزن لهم ولا شأن، مع احترامنا الشديد لكل مسلم موحّد، فالنبي عليه الصلاة والسلام رعى الغنم، فيحرم على المسلم في هذا الزمان أن يقول: النبي صلى الله عليه وسلم كان راعياً للغنم -على سبيل الامتهان- فإنه لا يُنسب لنبي قط خسة وإن كانت في أصلها شرفاً، فما دام العرف قد تعارف على أن هذا العمل خسيس، فلا يُنسب إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ولا يُذكر أنه كان كذلك إلا من باب سرد سيرته عليه الصلاة والسلام، أنه كان يفعل ذلك؛ ولذلك كتب السيوطي والسخاوي وغير واحد من أهل العلم يدافعون عن جناب النبوة صلى الله عليه وسلم.
قال: [(فلما التقينا كانت للمسلمين جولة.
قال: فرأيت رجلاً من المشركين قد علا رجلاً من المسلمين)] أي: قد أوقعه وتمكّن منه، أو جلس فوق صدره ليقتله.
قال: [(فاستدرت إليه حتى أتيته من ورائه فضربته على حبل عاتقه -أي: بين رقبته والكتف- وأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت)] أي: أنه كان لا يزال على قيد الحياة، وكان صاحب قوة وفتوة فقام من على هذا المسلم لينظر من ضربه، فإذا به أبو قتادة(87/6)
شرح حديث قتل معاذ ومعوذ ابني عفراء لأبي جهل وأخذ معاذ بن عمرو بن الجموح سلبه
قال: [حدثنا يحيى بن يحيى التميمي أخبرنا يوسف بن الماجشون عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن جده -أي عبد الرحمن بن عوف - أنه قال: (بينما أنا واقف في الصف يوم بدر، نظرت عن يميني وشمالي فإذا أنا بين غلامين من الأنصار)] قيل هما: معاذ ومعوذ ابنا عفراء.
قال: [(فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما -يعني صغار في السن- تمنيت لو كنت بين أضلع منهما)].
عبد الرحمن بن عوف نظر إلى نفسه واقفاً في الصف، فوجد على يمينه طفلاً صغيراً وعلى يساره طفلاً صغيراً، قال: يا ليتني كنت واقفاً بين اثنين كبيرين فارسين.
قال: [(فغمزني أحدهما فقال: يا عم! هل تعرف أبا جهل؟ قال: فقلت: نعم.
وما حاجتك إليه يا ابن أخي؟! قال: أخبُرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا)] أي: حتى يموت الذي قدّر الله له الموت قبل صاحبه.
قال: [(فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يزول في الناس)] لم أنشب.
أي: لم ألبث، بمجرد ما انتهيت من الحديث مع الولدين، فإذا بـ أبي جهل يصول ويجول ويتحرك ويذهب ويجيء في وسط الناس.
قال: [(فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألان عنه)] أي: هذا هو أبو جهل، فأروني ماذا أنتم فاعلون فيه.
قال: [(فابتدراه -أي- فأعجلاه- فضرباه بسيفيهما حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه، فقال: أيكما قتله؟)].
والمغزى من معرفة القاتل: إعطاؤه السلب.
قال: [(فقال: أيكما قتله؟ فقال كل واحد منهما: أنا قتلت)] كل منهما يقول: أنا الذي قتلت يا رسول الله! فقال: [(هل مسحتما سيفيكما من الدم؟ قالا: لا.
فنظر النبي صلى الله عليه وسلم في السيفين فقال: كلاكما قتله، وقضى بسلبه لـ معاذ بن عمرو بن الجموح)].
معاذ بن عمرو بن الجموح هو الذي يأخذ السلب، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهذين: كلاكما قتله، ولاشك أن هذا أمر مشكل؛ ولذلك اختلف أهل العلم في معنى هذا الحديث.
فقال الشافعية: اشترك هذان الرجلان في جراحته فقط، لكن معاذ بن عمرو بن الجموح أثخنه أولاً فاستحق السلب.
أثخنه أي: قتله.
فقتل بسبب ضرب معاذ بن عمرو بن الجموح، أما معاذ ومعوذ ابنا العفراء فكل واحد منهما أصاب بدنه بسيفه، لكن هذه الإصابة لم تكن سبباً في القتل، إنما الذي قتل على الحقيقة هو معاذ بن عمرو بن الجموح.
وإنما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كلاكما قتله) تطييباً لقلبيهما بحيث إن كل واحد منهما له مشاركة في قتله، والقتل الشرعي الذي يتعلق به استحقاق السلب وهو الإثخان، وإخراجه عن كونه ممتنعاً إنما وجد من معاذ بن عمرو بن الجموح؛ فلهذا قضى له بالسلب.
قال: (وإنما أخذ السيفين ليستدل بهما على حقيقة كيفية قتلهما، فعلم أن ابن الجموح أثخنه، ثم شاركه الثاني بعد ذلك وبعد استحقاقه السلب، فلم يكن له حق في السلب.
هذا مذهب الشافعية.
وقال الإمام مالك: إنما أعطاه لأحدهما لأن الإمام مخير في السلب يعطيه من يشاء).
وقد سبق الرد على هذا المذهب.
فهذه الرواية أثبتت أن المشارك معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن العفراء.
ورواية أخرى تقول: انطلق معاذ ومعوذ ابنا عفراء، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بالسلب لـ ابن الجموح.
على خلاف.(87/7)
شرح حديث عوف بن مالك الأشجعي في استحقاق القاتل سلب من قتل ولو كان كثيراً
[وحدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن سرح أخبرنا عبد الله بن وهب أخبرني معاوية بن صالح عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك الأشجعي قال: (قتل رجل من حمير رجلاً من العدو، فأراد سلبه فمنعه خالد بن الوليد وكان والياً عليهم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عوف بن مالك فأخبره فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ خالد: ما منعك أن تعطيه سلبه؟ قال: استكثرته يا رسول الله! قال: ادفعه إليه)] وانظروا إلى هذا العدل، فهذه التصرفات كانت أيضاً موجودة في الصحابة.
قال: (ادفعه إليه) أي: أنه أمر خالد أن يدفع السلب مع كثرته للقاتل.
قال: [(فمر خالد بـ عوف فجر بردائه)] أي: مع رجوع خالد بن الوليد من المحاكمة النبوية وصدور القرار فيها مر خالد بـ عوف، فقام عوف بجر ردائه، وقال له: ألم أقل لك بأن تعطه لي.
أي: أنك لا تفعل حتى أشتكي بك إلى النبي صلى الله عليه وسلم أم ماذا؟ قال: [(فمر خالد بـ عوف فجر بردائه، ثم قال: هل أنجزت لك ما ذكرت لك من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟)] كأنه قال له قبل هذا هل تعطيني السلب؟ قال: لا أعطيه.
قال: إذا لم تعطه فسأذهب وآخذه عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم، فحينما رفع عوف الأمر إلى النبي عليه الصلاة والسلام قضى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك له، فشد عوف رداء خالد وقال له: [(هل أنجزت لك ما قلت لك من رسول الله؟ فلما سمع النبي عليه الصلاة والسلام عوف بن مالك يعاتب خالداً غضب لـ خالد قال له: لا تعطه يا خالد! لا تعطه يا خالد!)] أي: بعد أن قال له: أعطه.
قال له: لا تعطه.
وليس هذا تراجعاً من النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما هو تأديب للجيش ولأمته وتعليمهم طاعة الوالي، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيّن للجيش وللمسلمين أن الأمير له كلمته، وله اجتهاده، وأن اجتهاده معمول به في الناس لا يُراجع فيه، إنما يُستشار فقط في مشروعيته وفي أحقيته، وإذا أخطأ الأمير فقد اجتهد وله أجره، ولا يُلام على ذلك.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [(لا تعطه يا خالد! لا تعطه يا خالد! هل أنتم تاركون لي أمرائي؟)] ألا تريدون أن تتركوا الأمراء في أن يتصرفوا كما يريدون أم لا؟ فمن حق الأمير أن يجتهد، ومن حق الأمير أن يفعل ما يشاء إلا في معصية الله تعالى! قال: (إنما مثلكم ومثلهم -أي: مثلكم يا عامة الناس! ومثل الأمراء- كمثل رجل استُرعي إبلاً أو غنماً فرعاها، ثم تحين سقيها -أي: ذهب ليسقيها- فأوردها حوضاً فشرعت فيه -أي: فبدأت تشرب من الماء- فشربت صفوه وتركت كدره -أي: وتركت الماء المعكّر الذي خالطه التراب- فصفوه لكم وكدره عليهم)] صفوه لكم يا معشر الناس، وكدره على الأمراء.
أي أن أمير الجيش بعد أن تضع الحرب أوزارها، ويكتب الله النصر لجيش المسلمين يقوم بجمع الغنائم الهائلة كلها ويقسمها خمسة أخماس وهذا العمل ليس هيناً، ثم ينظر الأمير في الجند من مات ومن بقي منهم، فيوزّع على الفارس سهمه، وعلى الفرس سهمه، وأنتم تعلمون أن الفارس له سهمان، والفرس له سهم.
ثم الخمس الخامس -وهو الأنفال- يجتهد فيه الإمام فينفل من شاء ويمنع من شاء، وهذا مجهود عظيم جداً، فأنت باعتبارك جندياً وفرداً في الجيش ما الذي تعمله بعد أن يُكتب لك النصر؟ تذهب للنوم في خيمتك إلى أن يأتوا ويعطوك سهمك من الغنيمة، وسهمك من الأنفال، وهذا السهم لم يصل إليك إلا بعد عناء ومشقة، والذي عانى هو الأمير.
إذاً: الأمير هو الذي يتولى ويكون له الكدر والتعب والمشقة وأنت لك الصفو.
أي: أنك لك خيرها، وإذا كان فيها شر فهو على الأمير، فهو الذي يتكبّد المشاق والمتاعب.
وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (فصفوه لكم وكدره عليهم) أي: على الأمراء.
وقال عليه الصلاة والسلام في حديث عوف أيضاً: [(خرجت مع من خرج مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة -ومؤتة قرية بالشام- ورافقني مددي من اليمن)] مددي أي: بعض مدد الجيش.
قال: [وساق الحديث غير أنه قال عوف: فقلت: يا خالد! أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل؟ قال: بلى، ولكني استكثرته].(87/8)
شرح حديث سلمة بن الأكوع في أن سلب الجاسوس لمن قتله
قال: [وعن إياس بن سلمة -وهو ابن سلمة بن الأكوع - قال: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هوازن، فبينما نحن نتضحى -أي: نتغدى وقت الضحى- مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على جمل أحمر فأناخه، ثم انتزع طلقاً من حقبه)] والطلق: العقال من جلد، والحقب هو: الوعاء من جلد يُجعل في مؤخرة حقو البعير، أي: كأن هذا الرجل انتزع عقالاً من جلد من حقيبة كانت في مؤخرة البعير.
قال: [(فقيد به الجمل، ثم تقدم يتغدى مع القوم وجعل ينظر، وفينا ضعفة ورقة في الظهر)] أي: نحن جيش ضعيف، من الهزال والضعف والفقر وقلة الطعام وغير ذلك، والظهر هو المركوب من الفرس والإبل.
أي: جيش فقير وهزيل.
قال: [(وبعضنا مشاة)] أي: بعضنا يمشي على قدمه ليس له ظهر يركبه.
قال: [(إذ خرج يشتد)] أي: هذا الرجل الذي أتى على جمل أحمر فرح بما نزل بجيش المسلمين من ضعف وهزال وفقر وقلة طعام وقلة ظهر، فخرج يعدو ويشتد ويُسرع المشي.
قال: [(فأتى جمله فأطلق قيده، ثم أناخه وقعد عليه، فأثاره -أي: غمزه حتى قام- فاشتد به الجمل -أي: أنه صار يعدو ويجري به الجمل في الصحراء- فاتبّعه رجل -من المسلمين- على ناقة ورقاء)] والناقة الورقاء هي: الناقة التي فيها بياض مخلوط بسواد.
قال سلمة: [(وخرجت أشتد -أي: خرج وراءه يشتد ويعدو- فكنت عند ورك الناقة)] أي: أدركت الرجل حتى كنت عند رجلها في المؤخرة.
قال: [(ثم تقدمت أكثر من ذلك حتى كنت عند ورك الجمل، ثم تقدمت حتى أخذت بخطام الجمل فأنخته -أي: جعلت الجمل يقعد- فلما وضع ركبته في الأرض اخترطت سيفي -أي: أخرجت سيفي من غمده- فضربت رأس الرجل فندر)] أي: فسقط ميتاً؛ لأن هذا كان جاسوساً من جواسيس الأعداء.
قال: [(ثم جئت بالجمل أقوده عليه رحله وسلاحه -أي: سلبه- فاستقبلني رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه فقال: من قتل الرجل؟ قالوا: ابن الأكوع هو الذي قتله قال: له سلبه أجمع)]، فيه شيء من السجع غير المتكلّف ولا المقصود؛ لأن تكلّف السجع في الكلام مكروه.
وفي هذا الحديث: جواز قتل الجاسوس الكافر الحربي، وهو كذلك بإجماع المسلمين.
وفي رواية النسائي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أمرهم بطلبه وقتله.
وأما الجاسوس المعاهد والذمي فقال مالك والأوزاعي: يصير ناقضاً للعهد، فإن رأى استرقاقه أرقه، ويجوز قتله.
وجماهير العلماء قالوا: لا ينتقض عهده بذلك، والأول أحب إلى قلبي.
وفي هذا الحديث دلالة ظاهرة لمذهب الشافعي وموافقيه: أن القاتل يستحق السلب، وأنه لا يُخمّس.
أي: أن سلبه هذا لا يدخل في عموم الغنائم، فكل من قتل يأخذ سلب القتيل، والباقي يُخمّس.
وفيه: استحباب مجانسة الكلام إذ لم يكن فيه تكلف ولا فوات مصلحة والله أعلم.
والله تعالى يتقبّل منا ومنكم صالح الأعمال والأقوال، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(87/9)
شرح صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - باب حكم الفيء
لقد خص الله سبحانه وتعالى هذه الأمة من بين سائر الأمم بأن أحل لها الغنائم رحمة ورفقاً بها، والغنيمة هي ما حصل عليه المسلمون من متاع وسبي وأموال العدو بعد جهاد وكر وفر، وقد بين الهل تعالى مصارف الغنيمة ووجوهها وجعل لنبيه صلى الله عليه وسلم خمسها، ثم إنه سبحانه أباح لنبيه صلى الله عليه وسلم الفيء، وهو ما حصل عليه المسلمون من العدو من غير قتال، فجعله خاصاً بالإمام يجعله حيث يشاء من المصارف الشرعية.(88/1)
باب حكم الفيء
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وبعد: فقد تكلمنا في الدرس الماضي في الفرق بين الفيء والغنيمة، أما الفيء: فإنه ما حصّله المسلمون بغير حرب ولا قتال، ومن غير أن يدركوه بخيل ولا ركاب، والفيء خاص بالإمام ينفقه حيث شاء في المصارف الشرعية.
وأما الغنيمة: فللنبي صلى الله عليه وسلم خمسها، وأربعة أخماسها يوزّع على الغانمين، أو على المحاربين المقاتلين؛ دليل ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام: [(أيما قرية أتيتموها وأقمتم فيها فسهمكم فيها)] أي: أن حقكم من العطايا موجود في هذه القرية وهو الفيء الذي حُصّل دون قتال.
قال: [(وأيما قرية عصت الله ورسوله فإن خمسها لله ولرسوله، ثم هي لكم)] أي: أن الخمس لله ورسوله، ثم أربعة أخماسها لكم أيها المقاتلون! وفي الحديث الثاني: قال مسلم -وإن كنا قد ذكرناه من قبل: [عن مالك بن أوس بن الحدثان قال عمر رضي الله عنه: (كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله)].
معنى أفاء الله على رسوله أي: أخذها صلحاً وبغير قتال.
قال: [(مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب -أي: لم يقاتلوا عليه- فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فكان ينفق على أهله نفقة سنة)] أي: يحتجز لأهله من هذا الفيء ما يكفيهم لمدة عام، وإن كان الواقع يقول: إن النبي عليه الصلاة والسلام ما احتجز طعاماً قط يكفيه لبضعة أيام وإنما كان ينفق منه، وهذا يدل على جواز الادخار لأهل البيت، كما يدل على استحباب الإنفاق من هذا المال المدخر؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان ينفق منه، وكان يدعو الله تعالى أن يجعل رزق آل محمد قوتاً.
أي: على قدر قوت يومهم.
قال: [(وما بقي يجعله في الكراع -الخيل- والسلاح عدة في سبيل الله عز وجل)].
أي: أنه كان يستعد من هذا الفيء للجهاد في سبيل الله، وأنتم تعلمون أن أحد مصارف الزكاة والصدقات العامة والخاصة هو سبيل الله، وسبيل الله عند الإطلاق هو الجهاد في سبيل الله تعالى.
قال: [وحدثني عبد الله بن محمد بن أسماء الضبعي حدثنا جويرية] وهو ابن أسماء الضبعي، فـ جويرية اسم رجل، وأبوه اسمه أسماء اسم رجل كذلك، فهو جويرية بن أسماء بن عبيد الضبعي البصري [عن مالك -أي: الإمام- عن الزهري: أن مالك بن أوس حدثه قال: أرسل إلي عمر بن الخطاب فجئته حين تعالى النهار -أي: حين طلعت الشمس وأشرقت، وكأنه يقول: أتيته وضوحاً- قال: فوجدته في بيته جالساً على سرير مفضياً إلى رماله].
الرمال: هو ما ينسج من جريد النخل أو سعف النخل؛ ليضطجع عليه صاحبه، لكن في الغالب أن هذا الرمال يوضع عليه كساء أو شيء من قطن، أو شيء ناعم ليّن حتى ينعم الجالس بجلسته.
قال: [مفضياً إلى رماله، متكئاً على وسادة من أدم -الوسادة: المخدة.
من أدم: أي من جلد محشوة- فقال لي: يا مال!] وهو ترخيم مالك، والترخيم مستحب، وكان النبي عليه الصلاة والسلام أول من رخّم عائشة رضي الله عنها، فكان يقول لها: يا عائش! ولا يقول لها يا عائشة! وهذا من باب الدلال والترخيم الذي يفيد الود والقرب بين المرخِّم والمرخَّم.
قال: [يا مال! إنه قد دف أهل أبيات من قومك]، أي قد أتانا أهل بيوت من قومك سراعاً.
وقيل: بطئاء؛ لأن كلمة دف من ألفاظ الأضداد، فهي تستخدم استخدامات عكسية، فكلمة دف عند قوم من العرب بمعنى: أسرع.
وعند آخرين بمعنى: أبطأ.
أي: قد أتونا على استحياء ليطلبوا عطايا.
وعند تفسير آخر: قد أتونا مسرعين ليطلبوا عطايا.
قال: [وقد أمرت فيهم برضخ].
وهذا قول عمر أي: يا مالك! قد أتانا أناس من قومك يطلبون العطايا، وأمرنا لهم برضخ.
أي: بعطية قليلة.
قال: [فخذه فاقسمه بينهم].
وكان مالك سيداً في قومه.
[قال مالك: قلت: لو أمرت بهذا غيري؟] تقدير الكلام: لو أمرت أن يقسّم المال فيهم غيري لكان أحسن.
قال: [خذه يا مال! -أي: أنت الذي تقسّمه- قال: فجاء يرفا]، وفي رواية: يرفأ، ولعلها كلمة فارسية ليست عربية، وهي اسم للحاجب والخادم، وفي الغالب أن العرب كانوا إذا استخدموا كلمة ليست عربية في موطنها المعروف في ذلك الوقت يستخدمون كلمات فارسية، فقوله: فجاء يرفأ.
أي:(88/2)
موقف المسلم من اختلاف العلماء والأقران
ابتداء نقول: إن كلام الأقران إذا لم يمكن توجيهه وتأويله يطوى ولا يروى، ولا تعلق عليه أحكام، ولا يجوز لمن أتى بعد هؤلاء الأقران أن يعتمد سب زيد في عمرو، ولا سب عمرو في زيد؛ لأنهما أقران، كما أني وفلان من أقران نختلف ونتصالح، ولا يجوز لأحد ممن يسمعنا أن يتعلق بخصومتي بفلان من أقراني، ولا بخصومة غريمي معي، ولا يجوز لأحد من طلبة العلم، أو ممن يستفيد من كلامي وكلام قريني أن يتكئ على خصومة بيني وبين فلان أو علّان.
وهذا خطأ في أصل منهج التربية لدى الشباب، أنه إذا اختلف الشيخ الفلاني مع قرينه أو العالم الفلاني مع قرينه، فإنهم يتحيزون ويتميزون وتدب المشاكل والخلافات بين الأتباع التي يمكن أن يتطاير شررها هنا وهناك، ويعظم الأمر ويفحش ولا يكون له بعد انتشاره حلاً، فالأدب الذي علمه النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه وعلّمه الصحابة لمن بعدهم: أن كلام الأقران بعضهم في بعض يطوى ولا يروى.
ويقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: إن الغيرة بين أهل العلم أشد من الغيرة بين التيوس في زروبها.
أي: أن الذي يبعثهم على الكلام في بعضهم البعض هو الغيرة، وكم من إنسان من سلف الأمة ومن عظماء العلماء تكلم في أقرانه، أو تكلم فيمن سبقه، وإن كان هذا لا نوافق عليه والأصل عدمه، وهناك نماذج طيبة مشرقة في أهل العلم، لم يتكلموا في أحد، وإنما تكلم فيهم، وبلا شك أن الأصل والأولى: أن يتصدق المرء بعرضه على من انتهك عرضه، فلا أقل من أنه رد الظلم بظلم، أو رد الإساءة بإساءة، والبادئ أظلم وإن كانت الأولى أحسن وأفضل.
فالشاهد من هذا الكلام كله: أن أبناء الصحوة لا علاقة لهم بما يدور بين الكبار، فلعلهم معذورون، ولعلهم متأولون، ولعلهم مخطئون، فلا علاقة للشباب بما وقع بين الكبار، كما أنه يجب على الكبار كذلك إذا كان هناك شيء من الإحن والفتن بينهم أن يخفوها عن الطلاب وجوباً شرعياً، فإن بدا شيء بغير قصد فلا يجوز استغلال هذا الشيء الذي بدا من هذه القضايا.(88/3)
تأويل قوله: (اقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر)
قال: [اقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن]، بلا شك أن علي بن أبي طالب ليس فيه شيء من هذا كله، وكل سبة من هذه السباب لها مدلول في اللغة وفي الاصطلاح، فالكاذب هو: من تكلم بالكلام على غير حقيقته وعلى غير أصله المشروع، سواء كان في ذلك متعمداً أو جاهلاً أو ناسياً، فيُحمل الكذب على هذه المعاني في اللغة ابتداء، ثم الشرعي أو الاصطلاحي.
ولا شك أن علي بن أبي طالب مبرأ من هذا كله، وإلا فكيف يكون كذلك وهو المبشّر بالجنة؟! ويحمل هذا كذلك على ما يعتقد العباس رضي الله عنه؛ لأن كل واحد قد اختلف مع الآخر، ويغلب على ظنه أنه على الحق وأن الآخر على الباطل، وإلا فلا يحل لأحد أن يختلف مع أخيه وهو يعلم أن أخاه على الحق المبين، خاصة إذا كان هذا الخلاف واقعاً بين أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا العباس يعتقد أن الحق معه وأن علياً على الباطل في الخصومة المرفوعة بين يدي أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه.
ولكنه تجاوز في طرح قضيته بهذه الألفاظ.
ثم لو انسدت جميع الأبواب أمامنا في تأويل هذه السباب فإننا نقول: إن الصحابة رضي الله عنهم وقع بينهم شيء من هذا وزيادة على هذا، ولا علاقة لنا بذلك كله، فالذي دار بينهم يطوى ولا يروى، ونعتقد أن لهم من الفضل والسبق والعلم والجهاد والهجرة وغير ذلك ما يكفّر جبالاً من الذنوب.
فهذه الألفاظ نحن نقرأها فقط من باب أنها مروية ومأثورة، ولكننا لا نتوقف عندها، بل نحسّن الظن بجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ونستغفر لهم مما بدر منهم ومما لم يصدر عنهم.(88/4)
بيان خصومة العباس مع علي بن أبي طالب والعلة في منع الخلفاء لهم من أخذ ميراث النبي
قال: [فقال القوم -أي: عبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد وعثمان: أجل يا أمير المؤمنين! فاقض بينهم وأرحهم].
وكأن الخصومة كانت قديمة، وهذه الخصومة باختصار شديد: أن العباس كان يريد أن يأخذ ميراث النبي عليه الصلاة والسلام، وأن فاطمة كانت تريد أن تأخذ ميراثها من أبيها، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (نحن لا نورث -أي: معشر الأنبياء- ما تركنا صدقة) وخاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم مات وترك بنتاً وعماً، فإن الميراث يكون مناصفة؛ فلو مات ميت وترك عماً وترك ابنة فللبنت النصف وللعم النصف، فكان العباس يريد أن يأخذ نصف الفيء الذي تركه النبي عليه الصلاة والسلام، وفاطمة تريد أن تأخذ النصف، وكانا لا يريدان أن يأخذاه على سبيل الميراث؛ لأنهم جميعاً أقروا بسماعهم قوله عليه الصلاة والسلام: أنه لا يورث وإنما تركه صدقة، فكانوا يعلمون ذلك وأقروا به، لكنهم كانوا يريدون أن يقوموا في هذا الفيء مقام النبي صلى الله عليه وسلم، فخشي أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن يتقادم الزمان ويظنوه ميراثاً، وخشي من بعده عمر ومن بعده عثمان حتى علي بن أبي طالب رضي الله عنه خشي من ذلك حينما انتقل إليه الفيء، فكان لا يعد هذا الفيء ميراثاً، وإنما كان ينفق منه على اعتبار أنه حظ أهل البيت من الفيء، ويجب أن يُنفق في المصارف المشروعة.
فمطالبة العباس عمه ومطالبة علي بن أبي طالب بحق امرأته بنت النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن من باب الميراث، ولكن الخلفاء حينما غلب على ظنهم أنه يمكن أن يقول الناس: إن فاطمة ورثت مع وجود النص، وإن العباس ورث مع وجود النص منعوا ذلك؛ لأن العباس كان يطالب بشطر الفيء، وفاطمة تطالب بشطر الفيء، وهذا يوافق تقسيم الميراث مناصفة بين العم وبين البنت، فخشي من إدخال هذا في ذاك، فمنع الخلفاء الراشدون أن تأخذ فاطمة شيئاً حتى وإن كان على سبيل حقها في الفيء؛ لأنه يناسب تماماً حقها في الميراث ولا ميراث لها، فـ أبو بكر الصديق أغلق الباب أمامها؛ حتى لا يقول الناس: إن فاطمة ورثت، وإن أبا بكر تأثّر بذلك أو خضع في ذلك، وأراد أن يداري بنت النبي عليه الصلاة والسلام مع وجود النص، ومع أنه السامع لهذا النص من النبي عليه الصلاة والسلام؛ فمنع ذلك، ثم منعه عمر، ثم منعه عثمان ومنعه علي بن أبي طالب كذلك، وذلك حين صار هذا الفيء في يد علي في إمارته وخلافته منعه آل البيت ومنعه فاطمة رضي الله عنها، فليس في ذلك خطأ من أبي بكر ولا ممن أتى بعده.(88/5)
قضاء عمر بين علي والعباس في شأن فدك وخيبر
أما القوم فقالوا: أجل يا أمير المؤمنين! إن هؤلاء قد اختلفوا وطال خلافهم، فاقض بينهم وأرحهم.
[فقال مالك بن أوس: يُخيّل إلي أنهم قد كانوا قدموهم لذلك].
أي أن عبد الرحمن بن عوف وسعد والزبير وغيرهم يخيّل إلى مالك بن أوس أنهم سبقوا العباس وعلي إلى مجلس أمير المؤمنين عمر؛ حتى يُطلعوا عمر بن الخطاب على أصل القضية، وأنهم قد أمروا العباس وعلياً أن يأتياه بعد قليل من دخولهم على أمير المؤمنين.
[فقال عمر: اتئدا.
أي: أبطئا وانتظرا فسأقضي بينكم.
فقال: أنشدكم بالله! -أي: أستحلفكم بالله- الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا نورث ما تركنا صدقة)؟] أي: نحن معاشر الأنبياء لا نورث، وإنما الذي تركناه صدقة.
أنشدكم بالله! أبلغكم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا؟ [قال: قالوا: نعم].
أي: قال القوم الذين حضروا دون العباس وعلي، وهذا الكلام موجه للصحابة الذين دخلوا أولاً.
قال: [ثم أقبل عمر على العباس وعلي فقال: أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض].
فالقاضي إذا أراد القضاء في أمر ذكَّر الشهود بالله تعالى، وبعظمته وجبروته وكبريائه، وأنه يقصم ظهورهم إن كذبوا وخانوا وغدروا وغشوا، وهذا أصل من أصول القضاء، أن القاضي يذكّر الناس ويذكّر المتخاصمين والشهود بالله تعالى حتى لا يكذبوا ويؤثروا الدنيا على الآخرة.
فقال: [أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، أتعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث ما تركناه صدقة)؟ قالا: نعم].
أي: أن العباس يعلم ذلك، ويعلم أنه لا ميراث له، وعلي يعلم أنه لا ميراث لابنة النبي عليه الصلاة والسلام وهي فاطمة التي كانت تحته.
قال: [قالا: نعم.
فقال عمر: إن الله جل وعز كان خص رسوله صلى الله عليه وسلم بخاصة لم يخصص بها أحداً غيره].
وهذا هو الشاهد من الحديث في حكم الفيء.
فـ عمر يقول لهم: الذي قد استقر في الأذهان وأجمعت عليه الصحابة رضي الله عنهم أن الله تعالى خص نبيه بخاصة ليست لغيره، وهذه الخاصة هي أن جعل مال الفيء تحت تصرفه عليه الصلاة والسلام يتصرف فيه كيف يشاء؛ لأنه لم يُبذل فيه جهد من المسلمين، ولم يوجفوا عليه بخيل ولا ركاب، فهذا خاص به عليه الصلاة والسلام.
[قال: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر:7] قال: فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم بينكم أموال بني النضير].
وكأنه يقول: يا علي! ويا عباس! أما قسّم النبي صلى الله عليه وسلم بينكم أموال بني النضير؟ قالا: نعم.
وقال: هل استأثر بأموال بني النضير أحداً دونكم؟ قالا: لا، إنما قسّمه فينا، ولم يعط أحداً شيئاً؛ لأنه ليس لأحد حق في هذا المال، لأن أموال بني النضير -وهم يهود المدينة- إنما أخذه النبي صلى الله عليه وسلم صلحاً وفيئاً بغير قتال.
قال: [فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم بينكم أموال بني النضير، فوالله ما استأثر عليكم -أي ما قدّم عليكم أحداً- ولا أخذها دونكم].
أي: لم يستأثر بها هو دونكم يا أهل بيت النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [حتى بقي هذا المال -أي: حتى بقي منه ما بقي- فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ منه نفقة سنة، ثم يجعل ما بقي أسوة المال].
أي: ثم يدخل ما بقي عن حاجتكما وحاجة أهل بيته في بيت مال المسلمين.
فقوله: (أسوة المال) أي: بيت المال.
[ثم قال: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون ذلك؟] أي: أتعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاكم أموال بني النضير ولم يعط أحداً غيركم؟ [قالوا: نعم.
ثم نشد عباساً وعلياً بمثل ما نشد به القوم: أتعلمان ذلك؟ قالا: نعم.
قال: فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر: أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فجئتما.
تطلب ميراثك من ابن أخيك -يا عباس - ويطلب هذا - علي بن أبي طالب - ميراث امرأته من أبيها؟] أي: مع علمكم بهذا قد أتيتم تطلبان ميراثكما من النبي عليه الصلاة والسلام؟ [قال: فقال أبو بكر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما نورث.
ما تركنا صدقة) فرأيتماه كاذباً آثماً غادراً خائناً] مع أنهما لم يصرّحا بذلك، أي: أن العباس(88/6)
تأويلات مطالبة علي والعباس بمال الفيء مع علمهما بأنه صدقة وليس ميراثاً
قد يقول قائل: بما أنهما يعلمان قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نورث -أي: معشر الأنبياء- ما تركنا صدقة) فلِم كانا يصران على ذلك أولاً، ووقعت الخصومة والشحناء والنفرة بينهما بسبب هذا المال؟
الجواب
تأويلات متعددة: إما أنهما كانا يطلبان هذا المال -مال الفيء- للتوزيع كما ذكرنا، وليس لاستعمالهم الخاص.
وهذا قول راجح.
وقول آخر: أنهم تأولوا حديث النبي عليه الصلاة والسلام: لا نورث من المال الذي هو ذو بال أيضاً الفيء، ولا يمنع هذا أن نرث ما دون ذلك أي: من أثاث ومتاع وغير ذلك مما تركه عليه الصلاة والسلام في بيوته.
هكذا تأولوا، وهذا وجه من وجوه التأويل؛ لأنه لا يتصور قط أن الصحابة رضي الله عنه يظهر لهم الحديث عياناً بغير تأويل ثم هو يخالفونه، فالصحابة لم يكونوا كذلك، بل كانوا وقّافين عند حدود النص الشرعي.
يذكر أن السفاح خطب أول خطبة قام بها، فقام إليه رجل وقد علّق المصحف في صدره، فقال: أنشدك الله يا إمام! إلا ما حكمت بيني وبين خصمي بهذا المصحف.
قال السفاح: ومن خصمك؟ قال: أبو بكر في منعه فدك، وهي أرض كانت لليهود أفاء الله عز وجل بها على نبيه بغير قتال ولا حرب.
قال: أظلمك؟ قال: نعم.
-وهذا كان من أهل بيته عليه الصلاة والسلام ومن أولاد علي بن أبي طالب - قال: فمن بعده؟ قال: عمر.
قال: أظلمك؟ قال: نعم.
قال: فمن بعده عثمان؟ قال: نعم.
قال: أظلمك؟ قال: نعم.
قال: فمن بعده علي؟ قال: نعم.
قال: أظلمك؟ فسكت الرجل؛ لأنه لا يجرؤ أن يصف الإمام بالظلم وإلا انهدم أصل مذهبه، وهو نصرة علي على أبي بكر وعمر وعثمان.
والإمام عند الشيعة معصوم لا يخطئ، أي: أن الشيعة عندهم أن النبي صلى الله عليه وسلم يخطئ ولكن الإمام لا يخطئ؛ لأنهم يعتقدون -كما نعتقد نحن- أن الوحي يأتي إلى الأنبياء ولا يأتي إلى الأئمة، فلا حاجة إلى عصمة الأنبياء؛ لأن الأنبياء يأتيهم الوحي ولا يتصرفون إلا بوحي، فما قيمة العصمة إذاً؟ أما الإمام فلا بد أن يكون معصوماً؛ لأن خطأه يدمّر الأمة كلها، فيلزم أن يكون الإمام معصوماً حتى تقتدي به الأمة من بعد النبي صلى الله عليه وسلم وهو علي بن أبي طالب؛ ولذلك قال له: فمن بعد هؤلاء الثلاثة علي؟ قال له: نعم.
قال له: أظلمك؟ فـ السفاح رغم أنه سفّاح يعتقد أن علي بن أبي طالب لم يأخذ هذا الفيء لنفسه، وإنما حينما أخذه أنفقه في المصارف الشرعية التي يُنفق فيها الفيء، فإذا كان علي بن أبي طالب أنفق مال الفيء في وجوه البر ولم يستأثر لنفسه بشيء، ولم يأخذ منه ولا فاطمة شيئاً.
فماذا تقول في ذلك؟ فإذا كان هذا ظلماً فأيكما أعلم بذلك: أنت أم علي بن أبي طالب؟ بلا شك أن علي بن أبي طالب أعلم بهذه الأحكام.
فإذا كان علي قد غُلب في زمن أبي بكر ثم في زمن عمر ثم في زمن عثمان فحينما كانت الخلافة في يديه والمال تحت يديه، فلِم لم يأخذه إذاً؟ وما ذلك إلا لأنه يعتقد أنه لا حق له في هذا المال.
فالذي يأتي بعد ذلك ويقول: إن أبا بكر وعمر وعثمان قد ظلموا علياً، فهذا قول من أعظم الباطل على الخلفاء الراشدين وأشد الضلال.
فلما سكت الرجل أغلظ له السفاح القول.
ولذلك فالاعتذار عن علي والعباس رضي الله عنهما أنهما ترددا إلى الخليفتين مع قوله عليه الصلاة والسلام: (لا نورث، ما تركناه صدقة) وتقرير عمر رضي الله عنه أنهما يعلمان ذلك، فأمثل ما فيه ما قاله بعض العلماء: أنهما طلبا أن يقسّماها بينهما نصفين ينفقان بها على حسب ما ينفق الإمام بها لو وليها بنفسه، فكره عمر رضي الله عنه أن يوقع عليها اسم القسمة؛ لأنها شبيهة بالميراث؛ ولئلا يُظن لذلك مع تطاول الأزمان أنها ميراث وأنهما ورثاه، لا سيما أن قسمة الميراث بين البنت والعم نصفان، فيلتبس ذلك، ويُظن أنهم تملكوا ذلك.
حدثنا إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن رافع وعبد بن حميد -قال ابن رافع: حدثنا، وقال الآخران: أخبرنا- عبد الرزاق بن همام الصنعاني أخبرنا معمر بن راشد البصري اليمني عن الزهري المدني عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: أرسل إلي عمر بن الخطاب فقال: إنه قد حضر أهل أبيات من قومك بنحو حديث مالك الإمام، غير أنه فيه: فكان ينفق على أهله منه سنة، وربما قال معمر: يحبس قوت أهله منه س(88/7)
باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نورث، ما تركنا فهو صدقة)
الباب السادس عشر، وهو باب يحتاج الباب السابق إلى ضمه إليه: (باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نورث ما تركنا فهو صدقة)).
[حدثنا يحيى بن يحيى التميمي النيسابوري قال: قرأت على مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أنها قالت: إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أردن أن يبعثن عثمان بن عفان إلى أبي بكر فيسألنه ميراثهن من النبي صلى الله عليه وسلم.
قالت عائشة لهن: أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا نورث.
ما تركنا فهو صدقة)؟ حدثني محمد بن رافع أخبرنا حجين حدثنا ليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة: أنها أخبرته: (أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلت إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء عليه بالمدينة وفدك، وما بقي من خمس خيبر)]؛ لأن خيبر فُتحت عنوة وليس صلحاً، فكان حظه عليه الصلاة والسلام من الغنيمة الخمس.
وقد سبق أن قلنا قبل هذا: أن من الفروق بين الغنيمة والفيء: أن الفيء كله تحت تصرف النبي عليه الصلاة والسلام، وأن الغنيمة له منها الخمس فقط، أما تخميس الخمس فهو مذهب الشافعي، وليس له من يؤيده لا قبله ولا بعده.
قالت: [(مما أفاء الله على نبيه صلى الله عليه وسلم بالمدينة وفدك، وما بقي من خمس خيبر فقال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث، ما تركنا صدقة، إنما يأكل آل محمد صلى الله عليه وسلم في هذا المال)].
أي أنه ليس من حقكم إلا أن تأكلوا وتشربوا فقط، أما أن تأخذوه فلا؛ لأنه ليس ميراثاً، إنما تأكلون وتطعمون ما شئتم، وبقية هذا يدخل في بيت المال، أما غير ذلك فلا.
قال: [(وإني والله لا أغير شيئاً من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التي كانت عليها)].
إنَّ الصديق رضي الله عنه رغم ظهور المصلحة، إلا أنه كان حريصاً ألا يحيد قيد أنملة عمّا كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام، فقد قيل له في جمع المصحف فأبى مع أن المصلحة ظاهرة في جمع المصحف.
وحجته: كيف أفعل شيئاً لم يفعله النبي عليه الصلاة والسلام، فكان وقّافاً عند حدود الشرع.
فقال: [(وإني والله لا أغير شيئاً من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة شيئاً، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك)].
وجدت بمعنى: غضبت، من الوجد لا من الإيجاد.
قال: [(فهجرته)].
وربما تكون هذه من نوع الهجرة المشروعة.
وقد يكون المعنى: لم تكلمه في أمر الميراث بعد ذلك، فإنه لم يثبت قط أن أبا بكر سلّم عليها فلم ترد عليه.
وهذا هو المقصود بالهجرة عند الإطلاق، لكن لم يثبت هذا، ولم يثبت أنها خرجت من تحت إمرته، أو خرجت عليه بالسيف أو بالقول أو بالفعل.
وهذا على أية حال مباح، فأنا إن غضبت منك قليلاً فمن الممكن أن أهجرك، بمعنى: أنني لا أهتم بلقائك ولا أزورك، وإن زرتني وجب عليّ استقبالك، وإن سلّمت عليّ وجب عليّ رد السلام، لكن الأمر أو الحاجز بين أبي بكر وفاطمة أنهما لم يحدث بينهما لقاء، وما زار أحد منهما أخاه، وبالتالي فلم يكن هناك ما يؤذي أبا بكر، ولا يؤذي فاطمة غير ما قد منع أبو بكر الصديق رضي الله عنه من أخذ المال الفيء إلى فاطمة.
قال: [(فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت)].
والمحمول في هذا الكلام: فلم تكلمه في أمر الفيء حتى توفيت.
قال: [(وعاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر)] وقيل: تسعة.
وقيل: ثمانية.
وقيل: سبعة.
وقيل: أربعة.
وقيل: شهران.
وأرجح الأقوال: أنها عاشت بعد النبي عليه الصلاة والسلام ستة أشهر.(88/8)
الأعذار المبينة لما حصل بين علي وأبي بكر من سوء فهم
قال: [(فلما توفيت دفنها زوجها علي بن أبي طالب ليلاً ولم يؤذن بها أبا بكر] وإعلام الإمام بمن مات أمر مستحب وليس بواجب، فإذا ترك الإنسان المستحب فلا يلام عليه، وفي هذا جواز الدفن ليلاً وإن كان الدفن بالنهار أولى وأفضل، لكن على أية حال هو جائز.
ونحن نرى في هذا الوقت أن مريضاً لو قيل له: بماذا توصي؟ يقول: أوصي بألا يصلي عليّ فلان ولا يشيّع جنازتي؛ لأني غضبان منه.
نقول: وهل إذا كنت غضباناً منه توصي بهذا؟ إذاً: هذا وضع طبيعي في البشر، فـ علي بن أبي طالب قال: ما دام فاطمة ماتت وهي غضبانة من أبي بكر وكانت قد هجرته، فأنا أيضاً غضبان لغضب فاطمة، إذاً ندفن فاطمة ليلاً قبل أن يصل الخبر لـ أبي بكر فيأتي، وهذا يشعر بأن الخلاف الموجود بين فاطمة وبين أبي بكر لا يمنع أبا بكر من المشاركة في دفن فاطمة، فإنه كان قلبه نقياً.
قال: [(وكان لـ علي من الناس وجهة حياة فاطمة)].
أي: أنه كان علي بن أبي طالب من أهل بيته عليه الصلاة والسلام، فهو ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام، لكن على أية حال كانت حياة فاطمة كصمام الأمان لـ علي بن أبي طالب، وكان الناس يوادون علي بن أبي طالب لمكانة ابنة النبي عليه الصلاة والسلام، وبلا شك أن البنت في المنزلة أولى من ابن العم، فهكذا كان لـ علي بن أبي طالب وجهة ومنزلة سامية عند الناس طالما فاطمة كانت حية.
قال: [(وكان لـ علي من الناس وجهة حياة فاطمة -أي في حياة فاطمة - فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس)] أي: أنه لم يتغير الناس إلا بعد وفاة فاطمة رضي الله عنها.(88/9)
مراجعة علي الأمر المعروف ومبايعته لأبي بكر
قال: [(فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته)] وفي هذا إثبات أن علي بن أبي طالب لم يكن قد بايع أبا بكر لمدة ستة أشهر بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام، كما أنه لا يلزمه البيعة، وذلك لأن البيعة لا تلزم جميع الناس، وعلي من الناس، وإن فرضنا أنه من خاصة الناس وأنه كان عضواً في مجلس الحل والعقد، فهل يلزم أن يبايع جميع أهل الحل والعقد أم يكفي أغلبية المجلس؟
الجواب
يكفي أغلبية المجلس.
إذاً: علي رضي الله عنه لم يخالف في تركه البيعة لـ أبي بكر، كما أنه لم يثبت عليه أنه ذم أبا بكر، أو تكلم في عدم مشروعية بيعته أو خلافته أو غير ذلك.
لكن علياً كان غاضباً من أبي بكر؛ لأنه كان يتصور أنه لا يقطع في أمر دونه، وأنه حينما يموت النبي صلى الله عليه وسلم، ويجتمع الناس في سقيفة بني ساعدة يدعونه، وهذه على أية حال قلوب بشر، وهو لم يخطئ في ذلك، كما أن عمر رضي الله عنه لم يكن يعلم باجتماع الصحابة في سقيفة بني ساعدة أثناء موت النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما ذهب إليهم بقدر الله، وطار الخبر إلى أبي بكر بخلاف المهاجرة والأنصار في الإمارة والخلافة من بعده عليه الصلاة والسلام، فذهب إليهم ليحل القضية، فلما علم بذلك عمر طار إليهم، ثم قضى بما قضى من حجج لديه، بأن أولى الناس المهاجرون، وأولى المهاجرين هو أبو بكر الصديق بدليل كذا وكذا وكذا وذكر من القرآن والسنة ما يؤيد قوله وهو القول الصحيح في هذه القضية.
وبالتالي أجمع العلماء على صحة إمامة أبي بكر وأنه أولى الناس بعد النبي عليه الصلاة والسلام، لكن علي بن أبي طالب كان مشغولاً بتجهيز النبي عليه الصلاة والسلام وتغسيله وتكفينه فتركوه لذلك، ثم إن المصلحة راجحة في عقد الخلافة لآحاد الناس؛ حتى لا يختلفوا بعد ذلك فيمن يصلي على النبي؟ ومن يكفّن النبي؟ ومن يدفن النبي؟ ومن يتولى أمر النبي في الفيء وغيره؟ فالمصلحة راجحة، فرأى أبو بكر وعمر تقديم إثبات الخلافة لـ أبي بكر على تجهيزه عليه الصلاة والسلام، وعلى انتظارهم لمشورة علي أو عثمان أو غيرهما، فانشغلوا بهذا، وكان علي مشغولاً بتجهيز النبي عليه الصلاة والسلام، فالقضايا كلها كأنها لبس أو سوء فهم، وليست قضية خلافية جوهرية بين الصحابة رضي الله عنهم.
قال: (وكان لـ علي من الناس وجهة حياة فاطمة، فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته)].
قال: ليس هناك وجه لاستنكار الناس إلا لأنني لم أبايع أبا بكر إلى الآن؛ وذلك لأنني لست من عامة الناس، فأنا إنسان مرموق ومن أعلام الصحابة.
قال: [(ولم يكن بايع تلك الأشهر فأرسل إلى أبي بكر: أن ائتنا)].
ولو كان أبا بكر في حالة غضب من علي فلن يأتيه وإن أُرسلت إليه أكثر من رسالة، أو لقال: إذا كنت تريدني فائتني أنت، وهذا نظامنا نحن.
قال: [فأرسل إلى أبي بكر: أن ائتنا، ولا يأتنا معك أحد]، وهنا يقصد عمر مع أن أمر الميراث لم يكن له أي اتصال بـ عمر، وكان هذا الكلام في خلافة أبي بكر، وأبو بكر هو رجل الدولة المتصرّف في كل شيء، فما هي علاقة عمر بهذا الأمر؟ لا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد.
قال: [(فائتنا ولا يأتنا معك أحد؛ كراهية محضر عمر بن الخطاب)] أي: لا تصطحبه معك.
قال: (فقال عمر لـ أبي بكر: والله لا تدخل عليهم وحدك).
وأنتم تعلمون لباقة علي وفصاحته وبلاغته، فيمكن أن يمسك أبا بكر ويعظه حتى يبكي أبو بكر فيرق له، ويعطيه ما يريد، ويمكن أن يطالبه علي بن أبي طالب بشيء من خاصة أبي بكر، فيحمل الحياء أبا بكر على دفعه إليه، ويستحي أن يدافع عن نفسه، ويتمنى لو أن الغير قد تكلم عنه، حتى عمر رضي الله عنه لو أن له حقاً يستحيي أن يطلبه ولا يرضى، وتأبى عليه كرامته أن يطالب به، لكن لو أن لغيره الحق لطالب به، فالإنسان يطالب لغيره بعلم وجرأة؛ لأنه لا يطلب لنفسه فهو غير متهم.
إذاً: أبو بكر الصديق قال: أنا سأذهب لـ علي بن أبي طالب، وعمر قال له: لا تذهب بمفردك ولا بد أن آتي معك، حتى إذا كلمك في شيء أدفع عنك وأذود عنك وأتكلم؛ لأن حياءك سيمنعك من الرد على(88/10)
طرق أخرى لرواية حديث مبايعة علي لأبي بكر ومنع الميراث بعد النبي صلى الله عليه وسلم
[حدثنا إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن رافع وعبد بن حميد -قال ابن رافع: حدثنا، وقال الآخران: أخبرنا- عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة: (أن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما حينئذ يطلبان أرضه من فدك وسهمه من خيبر، فقال لهما أبو بكر: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم) وساق الحديث بمثل حديث عقيل عن الزهري غير أنه قال: ثم قام علي فعظّم من حق أبي بكر وذكر فضيلته وسابقته، ثم مضى إلى أبي بكر فبايعه فأقبل الناس إلى علي فقالوا: أصبت وأحسنت، فكان الناس قريباً إلى علي حين قارب الأمر المعروف].
وفي الطريق الذي يلي ذلك طريق عروة: [أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته: (أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم سألت أبا بكر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقسم لها ميراثها مما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه فقال لها أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث ما تركنا صدقة).
قال: وعاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر، وكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها مما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة؛ فأبى أبو بكر عليها ذلك، وقال: لست تاركاً شيئاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به، إني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ].
وهنا تبيّن لنا شفافية أبي بكر إلى هذا الحد، فإنه يعتقد أنه لو خالف نصاً واحداً من النصوص الشرعية يزيغ قلبه ولا يهتدي.
قال: [فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى علي وعباس، فغلبه عليها علي، وأما خيبر وفدك فأمسكهما عمر وقال: هما صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه].
وكأنه يقول: إن خيبر وفدك هي أراض لا أبيعها، ولا أعطيكم منها شيئاً أبداً إلا ما أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الهبة من المال فخذوه، وهذه الهبات التي كانت تأتيه من المدينة، أما السهم في خيبر والفيء في فدك فلا والله لا أعطيكم منه شيئاً؛ لأنه كان لمن يأتيه عليه الصلاة والسلام في أمر، أو تنزل به نازلة أو مصيبة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يجعل ذلك في هذه الأبواب المشروعة، وهذا عمل الإمام وليس عمل الأفراد، أما عموم الصدقات -أي: الهبات- التي كانت تأتيه من هنا ومن هناك، من المدينة ومن غيرها والهدايا فهي لكم، افعلوا فيها ما شئتم.
قال: [وأمرهما إلى من ولي الأمر].
أي: أمر فدك وأمر سهم خيبر إلى من ولي الأمر.
وهذا يدل على أن الخمس ليس خاصاً به عليه الصلاة والسلام، وإنما هو لكل إمام إلى قيام الساعة.
قال: [فهما على ذلك إلى اليوم]، أي: هما على ذلك إلى يوم القيامة.
[حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقتسم ورثتي ديناراً)] أي: لا يرث ورثتي مني ديناراً، وهذا بلا شك تنبيه بالأدنى على الأعلى، فإذا كان الدينار ممنوعاً فمن باب أولى ما فوق الدينار.
قال: [(ما تركت بعد نفقة نسائي ومئونة عاملي فهو صدقة)].
قوله: (ما تركت) أي: من الفيء، بعد نفقة أهل بيتي وخدمي وعمّالي فهو صدقة، أي: لا يقع تحت الميراث.
[وحدثنا ابن أبي خلف حدثنا زكريا بن عدي أخبرنا ابن المبارك عن يونس عن الزهري عن الأعرج عن أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا نورث.
ما تركنا صدقة).(88/11)
كلام النووي في أحاديث: (لا نورث، ما تركنا صدقة)
قال الإمام في بعض فوائد هذه النصوص التي ذكرناها: (الحكمة في أن الأنبياء صلوات الله عليهم لا يورّثون: أنه لا يؤمن أن يكون في الورثة من يتمنى موته فيهلك).
أي: لأن المورث إذا كبر في السن تمنى بعض الورثة موته، ولو تمنى أحد موت النبي لهلك ودخل النار.
وهذا باب من أبواب بغض النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أبغض النبي كفر بالله، فبغض النبي كفر عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك أنتم تعلمون من حديث ابن شماسة المهري عند مسلم أنه قال: (دخلنا على عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت فبكى طويلاً، ثم حوّل وجهه ناحية الجدار، فقال له ابنه: يا أبتاه! أما بشّرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا؟ قال: يا بني! إن أفضل ما نعد -أي: للقاء الله عز وجل- شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإني كنت على أطباق ثلاث -أي: على أحوال ثلاث: لقد رأيتني وما أحد أبغض إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحب إلي أني استمكنت منه فقتلته، ولو أني مت على تلك الحال لدخلت النار).
ففي هذا تصريح بأن من أبغض النبي وتمنى موته كفر بالله ودخل النار، ولكن هذا كان من عمرو قبل إسلامه.
ثم تأتي المرحلة الثانية والمرحلة الثالثة.
قال: (فلما شرح الله صدري للإسلام أتيت النبي عليه الصلاة والسلام فقلت: يا رسول الله! ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه فقبضت يدي قال: ما لك يا عمرو؟! قلت: يا رسول الله! أريد أن أشترط قال: تشترط بماذا؟ قلت: أشترط أن يغفر لي.
قال: يا عمرو! أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ أما علمت أن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ أما علمت أن الحج يهدم ما كان قبله؟ قال عمرو: ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب الناس إلي، ولو أن أحداً سألني أن أصفه ما أطقت ذلك؛ لأني ما كنت أملأ عيني منه إجلالاً وتعظيماً له صلى الله عليه وسلم).
والطبق الثالث قال: (ثم ولينا من هذا الأمر شيئاً ولا ندري ما الله فاعل معنا فيه، فإذا أنا مت فلا تتبعوني بنائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فشنوا علي التراب شناً، وامكثوا عند قبري قدر ما أن تنحر جزور ويقسم لحمها، كي أستأنس بكم وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي) انتهى الحديث.
فالشاهد منه: الطبق الأول، وهو: أن من أبغض النبي وتمنى موته وقتله هلك ودخل النار فهذه الحكمة من عدم توريث الأنبياء؛ لأنه لا يؤمن أن يكون في الورثة من يتمنى موته فيهلك؛ ولئلا يُظن بهم الرغبة في الدنيا لوارثه فيهلك الظان وينفر الناس عنه.
وأنتم تعلمون أن الأنبياء ما بعثوا لتحصيل الدنيا وإنما بعثوا لتحصيل الآخرة، وأما كون عمر حلف ألا يدخل عليهم أبو بكر وحده، فحنّثه أبو بكر ودخل وحده ولم يأخذ معه عمر، مع أنه قال: والله لا تدخل عليهم وحدك أي: أنني سآتي معك، فحنثه أبو بكر في هذا.
ففي هذا: دليل عن أن إبرار القسم إنما يؤمر به الإنسان إذا أمكن احتماله بلا مشقة، ولا تكون فيه مفسدة، وعلى هذا يُحمل الأمر بإبرار القسم، فمن حق المسلم على المسلم إبرار القسم، وإبرار القسم هذا إذا كان أمراً ميسوراً لي ولم يكن فيه مفسدة، لكن عندما يكون أمراً يشق علي أو فيه مفسدة فلا يلزم إبرار القسم، كما أنه لا يلزم الكفارة على الذي أقسم.
وفي هذا الحديث من الفوائد: بيان صحة خلافة أبي بكر وانعقاد الإجماع عليها.
ولا تلزم عمر الكفارة؛ لأن هذا واجب على المقسم عليه وليس على الذي أقسم، فلا يلزمه الكفارة، ولا يجوز كذلك للمقسم عليه أن يحنّث الحالف إلا بعذر، أما إذا قال الإنسان: والله لأفعلن كذا ثم لم يفعل لزمته الكفارة.
فلا يلزم عمر الكفارة؛ لأن الوجوب على أبي بكر وليس على عمر، لكن إذا كان قد حلف على شيء أنه سيفعله، فإذا لم يفعله ولم يكن هناك عذر فبلا شك أن الكفارة واجبة عليه، أما إذا قام العذر أو ترجّح لديه وجه آخر كما قال عليه الصلاة والسلام: (من حلف على شيء فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير) فحينئذ يلزم الحالف -وليس المحلوف عليه- الكفارة.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(88/12)
شرح صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - كيفية تقسيم الغنيمة بين الحاضرين
كانت غزوة بدر فرقاناً، أنعم الله عز وجل فيها على نبيه وأصحابه بالنصر المؤزر على صناديد الكفر من أهل مكة، وأمدهم بالملائكة تقاتل معهم وتقذف الرعب في قلوب المشركين، حتى قتل في هذه المعركة جل مشيخة قريش، وعلى رأسهم أبو جهل وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف، ومن رجع منهم رجع يجر أذيال الخيبة والخسران والحسرة على من خلَّفهم وراءه في القليب.(89/1)
باب كيفية تقسيم الغنائم بين الحاضرين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
الباب السابع عشر: (باب: كيفية قسمة الغنيمة بين الحاضرين).
أي: بين الغانمين أو المجاهدين.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن يحيى وأبو كامل -الجحدري- فضيل بن حسين كلاهما عن سليم -وهو سليم بن أخضر - قال يحيى: أخبرنا سليم بن أخضر عن عبيد الله بن عمر -وهو العمري - قال: حدثنا نافع -وهو نافع الفقيه المدني مولى عبد الله بن عمر - عن مولاه عبد الله بن عمر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم في النفل: للفرس سهمين، وللرجل سهماً)].
وأنتم تعلمون أن النفل ليس محلاً للقسمة، وإنما النفل للنبي عليه الصلاة والسلام ينفله من يشاء كيف شاء، أو للإمام ينفله كيف شاء ومتى شاء، ويحرم منه من شاء، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام أراد بهذا النفل: الغنيمة.
وسماها تجوزاً نفلاً؛ لأنها في اللغة: نفل.
والنفل في اللغة هو الزيادة والعطية.
وقوله: (للرجل) رجل: مفرد رجال، بخلاف الراجل، فهو الذي يمشي على رجليه وهو مفرد راجلون أو رجال: (رجالاً وركبانا).
[حدثناه ابن نمير قال: حدثنا أبي حدثنا عبيد الله بهذا الإسناد مثله ولم يذكر: (في النفل)].
أي: (قسم النبي عليه الصلاة والسلام للفرس سهمين وللرجل سهماً) هذه رواية الجماهير.
وهناك رواية أخرى يقول في بعضها: (للفرس سهمين وللراجل سهم) أي: الذي يمشي على رجليه يأخذ سهماً، والذي يركب فرساً يأخذ سهمين: (سهم له وسهم لفرسه).
وفي بعضها: (للفارس سهمين).
والمراد بالنفل هنا كما قلنا: الغنيمة، وأطلق عليها اسم النفل؛ لكونها تسمى نفلاً لغة، فإن النفل في اللغة: الزيادة والعطية، وهذه عطية من الله تعالى، وزيادة لهذه الأمة على ما كانت الأمم من قبل، فإن إباحة الغنائم من خصائص أمة الإسلام، ولم تكن حلالاً للأمم السابقة.(89/2)
أقوال العلماء في سهم الفارس والراجل من الغنيمة
اختلف العلماء في سهم الفارس والراجل من الغنيمة.
هذا أمر محل نزاع بين الجمهور وبين الأحناف.
أما الجمهور فقالوا: يكون للراجل سهم واحد وللفارس ثلاثة أسهم، سهمان بسبب فرسه وسهم له هذا مذهب الجمهور.
وممن قال بهذا: ابن عباس ومجاهد والحسن وابن سيرين وعمر بن عبد العزيز ومالك والأوزاعي والثوري والليث والشافعي وأبو يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وابن جرير وآخرون.
فمذهب الجمهور: الذي يركب خيلاً له سهم، ولخيله سهمان، فتكون عنده هنا ثلاثة أسهم.
أما الذي شارك في الجهاد على رجليه -الراجل- فله سهم واحد.
إذاً: سواء كان راجلاً أو راكباً فله سهم، أما الفرس فله سهمان.
وأما الأحناف وبالذات أبو حنيفة قال: للفارس سهمان فقط: سهم له وسهم لفرسه.
قالوا: ولم يقل بقوله هذا أحد.
أي: كأن أبا حنيفة تفرد بهذا.
وهو في الحقيقة لم يتفرّد؛ لأن ذلك قد روي عن علي بن أبي طالب وأبي موسى الأشعري.
أما حجة الجمهور فهذا الحديث، وهو صريح على رواية من روى: (للفرس سهمين، وللرجل سهماً) بغير ألف في الرجل.
يعني: لم يقل: للراجل.
ومن روى: (وللراجل) فروايته محتملة، فيتعين حملها على موافقة الأولى جمعاً بين الروايتين.
فالمذهب الراجح في القضية وهو مذهب الجمهور: أن من شارك في الجهاد بفرسه يأخذ ثلاثة أسهم: واحداً لنفسه، واثنين لفرسه.
أما من شارك في الجهاد بغير فرس -أي: على رجليه- فله سهم واحد.
وأما مذهب الأحناف فمذهب مرجوح إن لم يكن ضعيفاً، وقد جاء عن غير واحد من السلف (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم: سهماً له، وسهمين لفرسه).
هذه الرواية صريحة أن للفارس سهماً وللفرس سهمين.
ومثله من رواية ابن عباس وأبي عمرة الأنصاري رضي الله عنهم: (ولو حضر بأفراس -جمع فرس- لم يسهم إلا لفرس واحد).
أي: لو يأتي بخمسة من الخيل أو ثلاثة أو عشرة أو أقل أو أكثر، وأراد أن يأخذ لكل فرس من هذا الخيل سهمين يمنع من ذلك.
وهذا مذهب الجمهور، فلا يسهم له إلا لفرس واحد.
والقائل بهذا المذهب: الحسن ومالك وأبو حنيفة والشافعي ومحمد بن الحسن رضي الله عنهم.
أما الأوزاعي والثوري والليث وأبو يوسف رضي الله عنهم قالوا: يسهم لفرسين.
ويروى مثله أيضاً عن الحسن ومكحول ويحيى الأنصاري وابن وهب وغيره من المالكيين.
قالوا: ولم يقل أحد: إنه يسهم لأكثر من فرسين إلا شيئاً روي عن سليمان بن موسى: أنه يُسهم لما هو أكثر من ذلك.
لكن الأصل: أن من شارك في الجهاد بأفراس فمذهب الجمهور أنه لا يُسهم إلا لفرس واحد.
وغير الجمهور قالوا: يُسهم لفرسين دون بقية الأفرس، فلو أنه شارك بعشرة لا يُسهم إلا للاثنين، وفي الحقيقة ليس هناك دليل على منع إعطاء الأسهم لما هو أكثر من واحد؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (للفارس سهم وللفرس سهمان) والمعلوم أن الفارس صاحب الأفرس لا يجاهد إلا على فرس واحد.
والمعلوم أن بقية الأفرس لا قيمة لها حتى يستخدمها مجاهدون آخرون، ولو أنها تركت في الجهاد بغير قتال أو بغير فارس فإنها لا تنفع ولا تشفع حينئذ، فلا بد أن يوجهها وأن يركبها فارس مجاهد.
فتبيّن لو أن واحداً أتى إلى الجهاد راجلاً واستخدم فرس غيره: هل يُسهم له أو لا يُسهم؟ الذي يترجّح لدي أن هذا الفرس يُسهم له سهمان، لكن من يأخذ هذا السهم؟ هل صاحبه الذي يأخذه، أم الفارس الذي ركبه؟ هذه المسألة محل نزاع بين العلماء.(89/3)
باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم
الباب الثامن عشر: (باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم).
الغنائم مباحة على هذه الأمة حرام على غيرها.
قال: [حدثنا هناد بن السري حدثنا ابن المبارك -وهو عبد الله بن المبارك - عن عكرمة بن عمار حدثني سماك الحنفي -وهو سماك بن الوليد الحنفي - قال: سمعت ابن عباس يقول: حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر].
أراد أن يتكلم فقطعه إسناد آخر، ثم ينضم بداية الحديث وطرفه الأول مع طرفه الثاني.
قال: [(ح) وحدثنا زهير بن حرب -واللفظ له- قال: حدثنا عمر بن يونس الحنفي] وقوله: (واللفظ له) أي: لـ زهير؛ ليدل على أن السياق الآتي إنما هو سياق زهير بن حرب وليس سياق هناد بن السري، وهنا معنا إسنادان لـ مسلم أحدهما من طريق هناد والآخر من طريق زهير، فهذا السياق الذي في هذا الحديث إنما هو سياق زهير بن حرب.
قال: [حدثنا عكرمة بن عمار حدثني أبو زميل -وهو سماك بن الوليد الحنفي - قال: حدثني عبد الله بن عباس قال: حدثني عمر بن الخطاب قال: (لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف)] والحقيقة أنهم كانوا أكثر من ألف، فقد كانوا ألفاً وثلاثمائة تقريباً، والمسلمون كانوا ثلاثمائة فقط أو ثلاثمائة وبضعة عشر، فنظر النبي عليه الصلاة والسلام إلى المشركين وكانوا كثرة في العدد نسبة إلى عدد المسلمين.
قال: [(وهم ألف -أي: تقريباً- وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً، فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة -أي: تحول واستدار ناحية القبلة- ثم مد يديه فجعل يهتف بربه)].
يهتف: يستغيث ويدعو ويصيح ويرفع صوته.
قوله: (استقبل نبي الله القبلة، ثم مد يديه وجعل يهتف بربه) هذا من آداب الدعاء: أن يستقبل القبلة وأن يرفع يديه.
والحافظ السيوطي له كتاب عظيم جداً في بابه اسمه: (فض الوعاء في أحاديث رفع اليدين بالدعاء).
وهذا من الآداب وليس من الأحكام؛ ولذلك العلماء يعتبرون أن في باب المتواتر المعنوي: رفع الأيدي في الدعاء، وأنها فطرة فطر الناس عليها، من أراد أن يدعو حتى وإن كان أجهل الناس ولا علم له بالكتاب ولا بالسنة يرفع يديه، حتى الأم أو الجدة التي لم تطلب علماً أول ما تريد أن تدعو ترفع يديها، فهذه فطرة وليست كما قيل: السماء قبلة الدعاء.
فهذا كلام غير صحيح.
نعم.
الله تعالى في السماء، لكن بعض أهل العلم نسب كلام آحاد الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وليست هذه النسبة بصحيحة.
قال: [(فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه -جعل يهتف أي: ينادي ويصيح- ويقول: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني -أي: آتني ما وعدتني- اللهم إن تهلك هذه العصابة -أي: هذه الجماعة من الناس ومن الجنود والصحابة- اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبد في الأرض، فما زال يهتف بربه ماداً يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله كذاك مناشدتك ربك -وفي رواية: كفاك مناشدتك ربك- فإنه سينجز لك ما وعدك؛ فأنزل الله عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9]-أي: متتابعين- فأمده الله بالملائكة.
قال أبو زميل - سماك الحنفي - فحدثني ابن عباس قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد -أي: يعدو ويسرع المشي- في أثر رجل من المشركين أمامه -أي: خلف رجل من المشركين- إذ سمع ضربة بالسوط فوقه -أي: فوق العدو- وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم، فنظر الرجل -أي: المسلم- إلى المشرك أمامه فخر مستلقياً، فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه -أي: جذع أو شُق أنفه- وشق وجهه كضربة السوط، فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدّث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صدقت.
ذلك من مدد السماء الثالثة.
فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين.
قال أبو زميل: قال ابن عباس: فلما أسروا الأسارى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر وعمر: ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ فقال أبو بكر: يا نبي الله! هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام)].
والنبي صلى الله عليه وسلم استشار أبا بكر وعمر فحسب، وهذ(89/4)
كلام النووي في حديث الإمداد بالملائكة يوم بدر
الباب الثامن عشر: (باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم).
الغنائم مباحة على هذه الأمة حرام على غيرها.
قال: [حدثنا هناد بن السري حدثنا ابن المبارك -وهو عبد الله بن المبارك - عن عكرمة بن عمار حدثني سماك الحنفي -وهو سماك بن الوليد الحنفي - قال: سمعت ابن عباس يقول: حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر].
أراد أن يتكلم فقطعه إسناد آخر، ثم ينضم بداية الحديث وطرفه الأول مع طرفه الثاني.
قال: [(ح) وحدثنا زهير بن حرب -واللفظ له- قال: حدثنا عمر بن يونس الحنفي] وقوله: (واللفظ له) أي: لـ زهير؛ ليدل على أن السياق الآتي إنما هو سياق زهير بن حرب وليس سياق هناد بن السري، وهنا معنا إسنادان لـ مسلم أحدهما من طريق هناد والآخر من طريق زهير، فهذا السياق الذي في هذا الحديث إنما هو سياق زهير بن حرب.
قال: [حدثنا عكرمة بن عمار حدثني أبو زميل -وهو سماك بن الوليد الحنفي - قال: حدثني عبد الله بن عباس قال: حدثني عمر بن الخطاب قال: (لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف)] والحقيقة أنهم كانوا أكثر من ألف، فقد كانوا ألفاً وثلاثمائة تقريباً، والمسلمون كانوا ثلاثمائة فقط أو ثلاثمائة وبضعة عشر، فنظر النبي عليه الصلاة والسلام إلى المشركين وكانوا كثرة في العدد نسبة إلى عدد المسلمين.
قال: [(وهم ألف -أي: تقريباً- وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً، فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة -أي: تحول واستدار ناحية القبلة- ثم مد يديه فجعل يهتف بربه)].
يهتف: يستغيث ويدعو ويصيح ويرفع صوته.
قوله: (استقبل نبي الله القبلة، ثم مد يديه وجعل يهتف بربه) هذا من آداب الدعاء: أن يستقبل القبلة وأن يرفع يديه.
والحافظ السيوطي له كتاب عظيم جداً في بابه اسمه: (فض الوعاء في أحاديث رفع اليدين بالدعاء).
وهذا من الآداب وليس من الأحكام؛ ولذلك العلماء يعتبرون أن في باب المتواتر المعنوي: رفع الأيدي في الدعاء، وأنها فطرة فطر الناس عليها، من أراد أن يدعو حتى وإن كان أجهل الناس ولا علم له بالكتاب ولا بالسنة يرفع يديه، حتى الأم أو الجدة التي لم تطلب علماً أول ما تريد أن تدعو ترفع يديها، فهذه فطرة وليست كما قيل: السماء قبلة الدعاء.
فهذا كلام غير صحيح.
نعم.
الله تعالى في السماء، لكن بعض أهل العلم نسب كلام آحاد الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وليست هذه النسبة بصحيحة.
قال: [(فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه -جعل يهتف أي: ينادي ويصيح- ويقول: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني -أي: آتني ما وعدتني- اللهم إن تهلك هذه العصابة -أي: هذه الجماعة من الناس ومن الجنود والصحابة- اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبد في الأرض، فما زال يهتف بربه ماداً يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله كذاك مناشدتك ربك -وفي رواية: كفاك مناشدتك ربك- فإنه سينجز لك ما وعدك؛ فأنزل الله عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9]-أي: متتابعين- فأمده الله بالملائكة.
قال أبو زميل - سماك الحنفي - فحدثني ابن عباس قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد -أي: يعدو ويسرع المشي- في أثر رجل من المشركين أمامه -أي: خلف رجل من المشركين- إذ سمع ضربة بالسوط فوقه -أي: فوق العدو- وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم، فنظر الرجل -أي: المسلم- إلى المشرك أمامه فخر مستلقياً، فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه -أي: جذع أو شُق أنفه- وشق وجهه كضربة السوط، فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدّث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صدقت.
ذلك من مدد السماء الثالثة.
فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين.
قال أبو زميل: قال ابن عباس: فلما أسروا الأسارى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر وعمر: ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ فقال أبو بكر: يا نبي الله! هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام)].
والنبي صلى الله عليه وسلم استشار أبا بكر وعمر فحسب، وهذ(89/5)
معنى قوله: (لما كان يوم بدر)
قال النووي رحمه الله: (اعلم أن بدراً هو موضع الغزوة العظمى المشهورة، وهو ماء معروف، وقرية عامرة على نحو أربع مراحل من المدينة، بينها وبين مكة -أي: في طريق مكة- قال ابن قتيبة: بدر: بئر كانت لرجل يسمى بدراً، فسميت باسمه.
قال أبو اليقظان: كانت لرجل من بني غفار.
وكانت غزوة بدر يوم الجمعة لسبع عشرة خلت من شهر رمضان، في السنة الثانية من الهجرة).
وثبت في صحيح البخاري عن ابن مسعود أن يوم بدر كان يوماً حاراً.(89/6)
استحباب استقبال القبلة في الدعاء
أما قوله: (فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يده فجعل يهتف بربه: اللهم أنجز لي ما وعدتني).
(يهتف) فمعناه: يصيح ويستغيث بالله بالدعاء.
وفي هذا الحديث: استحباب استقبال القبلة في الدعاء ورفع اليدين فيه.(89/7)
خلاف العلماء في مواطن رفع اليدين في الدعاء
ولكن هل هو في هذا الموطن فحسب أم في كل المواطن؟ بعض أهل العلم قال: لا تُرفع الأيدي إلى السماء، ولا يستقبل القبلة إلا في المواطن التي صح فيها استقبال القبلة ورفع الأيدي في الدعاء.
وجماهير الفقهاء يقولون: يستحب رفع الأيدي في الدعاء واستقبال القبلة في كل دعاء، واعتبروه من المتواتر المعنوي، ولا أقصد قنوت الفجر، فالأصل ألا يقنت في الفجر، وإنما يُقنت في جميع الصلوات في النوازل، وهذه هي السنة التي استقر عليها كلام المحققين.
فأنت بطبيعة الحال إذا كنت في الصلاة فإنك ستكون مستقبلاً القبلة، فترفع يديك، وهذا المسنون والوارد عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان يرفع يديه شهراً كاملاً في صلاته يدعو على رعل وذكوان، وكان يرفع يديه في صلاة الاستسقاء، وكان يرفع يديه إذا زار البقيع، إلا في يوم الجمعة، فإنه لم يثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يرفع يديه، وإنما كان يرفع السبابة إذا دعا عليه الصلاة والسلام، أما المأموم فلا يرفع لا يديه ولا السبابة، بل قد ورد عند ابن أبي شيبة في المصنف وعبد الرزاق في المصنف كذلك: أن بعض السلف كـ عطاء والسدي وقتادة وغير واحد: كان إذا رأى رجلاً من الناس رفع أصبعه أو رفع يديه كان يخفضها يزجره زجراً.
بمعنى: يضربها له أو يخبطها يزجره عن ذلك، فإذا كان هذا ثابتاً عن بعض السلف بغير نكير ولا مخالفة فيكون بلا شك أن: السنة ترك رفع المأمومين أيديهم خلف الإمام.
ويسن للإمام إذا دعا أن يرفع السبابة ولا يرفع يده وهذا في أثناء الجمعة.(89/8)
حكم رفع الصوت بالدعاء
وفي هذا الحديث: أنه لا بأس برفع الصوت في الدعاء، إذا كان الأمر يحتمل ذلك أو يتطلب رفع الصوت، وإلا فالأصل في الدعاء خفض الصوت؛ ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم رأى أصحاباً له يدعون الله تعالى بصوت عالٍ؛ فقال: (أربعوا على أنفسكم؛ فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً).
أربعوا أي: أمهلوا على أنفسكم، ولا ترفعوا أصواتكم بهذه الطريقة فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً.
قوله: (اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض) فالعصابة بمعنى: الجماعة.(89/9)
الحكمة من مبالغة النبي صلى الله عليه وسلم في مناشدة ربه النصر يوم بدر
وقوله: (كذاك مناشدتك ربك) والنشيد: هو رفع الصوت.
وفي رواية: (حسبك مناشدتك ربك) وكلها بمعنى واحد.
أي: بمعنى: كفاك دعاء لربك، فإن الله تعالى منجز لك ما وعدك.
قال: (العلماء: هذه المناشدة إنما فعلها النبي صلى الله عليه وسلم ليراه أصحابه بتلك الحال من الذل والخضوع لله عز وجل، فيتواضعون ويذلون ويخضعون، فتقوى قلوبهم بدعائه وتضرعه، مع: أن الدعاء عبادة مستقلة).
كما قال عليه الصلاة والسلام: (الدعاء هو العبادة).
فالدعاء عبادة مستقلة سواء كان للداعي حاجة أو لم يكن له حاجة، فالدعاء عبادة مستقلة.
قال: (وقد كان وعده الله عز وجل إحدى الطائفتين: إما العير، وإما الجيش).
أي: عير التجارة، وأنتم تعلمون أن قافلة المشركين كانت قادمة من الشام، فتلقاها النبي عليه الصلاة والسلام عند ماء بدر، والمعلوم أن العير قد مضت ولم يدركهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم ذهاب، وإنما أدركهم وهم رجوع وإياب، فلم يبق إلا الجيش لأن العير قد انتهت، وقد باعوا تجاراتهم بالشام، وفي حين قدومهم ورجوعهم رجعوا بجيش، أما العير فقد انتهت ومضى أمرها، فهناك اعتقاد جازم ويقين قوي بأن النبي صلى الله عليه وسلم سينتصر في هذه الغزوة؛ لأن الله وعده إحدى الطائفتين، فواحدة ذهبت ولم يبق إلا الثانية، فلا بد أن الله تعالى منجز له ما وعده، فلِم الدعاء إذاً؟
الجواب
لأنه عبادة.
قال: (وقد كان وعد الله تعالى إحدى الطائفتين إما العير وإما الجيش، وكانت العير قد ذهبت وفاتت، فكان على ثقة من حصول الأخرى، وهي أنه يتمكن من رقاب المشركين، ولكن سأل تعجيل ذلك وتنجيزه من غير أذى يلحق المسلمين).(89/10)
استجابة الله لدعاء نبيه وإمداده بالملائكة
أما قوله: {أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9] أي: سأعينكم أيها المؤمنين بألف من الملائكة متتابعين.
أما قول هذا الأنصاري: أنه سمع في السماء صوتاً يقول: (أقدم حيزوم).
قال: (الحيزوم) أو (الحيزون) على روايتين: اسم فرس الملك، كأن هذا الملك نزل من السماء وهو راكب فرساً، وهذا الفرس اسمه (حيزوم) بالميم أو (حيزون) بالنون، وكأن الملك يدفع الفرس دفعاً ويستعجله ويتعجّله ويقول له: أقدم وتقدم ليضرب عنق هذا المشرك، فهذا الصوت سمعه الأنصاري ولم ير مصدر الصوت.
(أقدم حيزوم): كلام سمعه من الملك، وحيزوم: اسم فرس.
ولكن هل للفرس الذي كان يركبه الملك سهمين، وكذلك الملك هل له سهم؟
الجواب
لا يأخذ شيئاً لا هو ولا فرسه.
ولو أسميت فرسك (حيزوماً) أو (حيزوناً) فلا بأس بذلك، ولو أسميت ناقتك العضباء لكان أولى؛ لأن هذه ناقة النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: (وحيزوم اسم فرس الملك، كأنه قال له يناديه: يا حيزوم! أقدم).
من الإقدام.
قال: (وهي كلمة زجر للفرس معلومة في كلام العرب)، والملك إنما نادى على الفرس بنداء يفهمه السامع، كأنها بشارة لهذا الأنصاري نحن معك، مدد من السماء قد جاء.
قال: (فإذا هو قد خُطم أنفه) الخطم هو: الأثر على الأنف.
أي: كأنه كسّر له أنفه.(89/11)
حكم الإسلام في مفاداة الأسرى من الكفار
قوله: (فقال عمر: (هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها) جمع صنديد، وهم العتاة في الكفر؛ لأن الكفر له أهل، وأهله أئمة كبار، كالإسلام والإيمان بالضبط، فالإسلام والإيمان له عامة المؤمنين وله خاصة المؤمنين من أهل العلم وأئمته، وأئمة العلم، فكذلك الكفر والشرك له عامة الأتباع وله صناديده وأئمته: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة:12] فسمى الله تعالى كبار الكافرين أئمة ومن لهم مشورة وغير ذلك.
قال: (فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر).
أي: أحب ذلك واستحسنه، وهو من الهوى: المحبة.
(ولم يهو ما قلت) أي: ولم يهو النبي صلى الله عليه وسلم ما قال عمر رضي الله عنه.
وأما قوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال:67].
أي: يكثر القتل والقهر في العدو.
وهذا أولى.
لكن بلا شك قضية الأولى وعدم الأولى متعلقة بتوابع أخرى موجودة في كتب الفقه المطولة، كالمغني والمجموع وغير ذلك.
أي: لو كان هناك إمام يقاتل الكفار بجيش المسلمين، فأُسر من المسلمين ألف، وأُسر من الكافرين ألف، فماذا نعمل؟ هل نقتل الأسرى أم نبدّلهم؟
الجواب
نبدّل الأسرى بلا شك؛ لأن حذاء المسلم المجاهد أغلى من رقاب جميع الكافرين، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا يُقتل مؤمن بكافر).
فإذا كان عند الكافرين ما يوازي عدد ما عندي لهم من أسرى، أو أقل مما عندي فأنا أفدي عشرة من المسلمين بمائة من الكافرين ولا حرج.
وفي هذا بيان آخر: هل الأسرى الذين عندي من أئمة الكفر وأصحاب المشورة.
أي: أصحاب الخطط العسكرية التكتيكية الذين يتوقف هزيمة الكفار ونصر الكفّار عليهم أم لا؟
الجواب
لا بد أن هناك اعتبارات أخرى كثيرة، لكن لو أن عامة المأسورين من المسلمين وعامة الأسرى عندي من عامة المشركين فلا بأس بالبدل حينئذ.
أما إذا كان عندي من الأسرى ما ليس عندهم، كأن لم يأخذوا مني أسرى، وأنا قد أخذت منهم، فالأولى بلا نزاع -وهو الذي يوافق نص الآية- قتل هؤلاء إلا أن يسلموا، ولو حتى أسلموا في القتل.(89/12)
حكم من نطق بالشهادة من الكفار أثناء المعركة
يسأل كثير من الناس حينما كانت الحرب على أشدها وتدور رحاها بين الروس والشيشان يقولون: نحن أول ما نأسر رجلاً أو قائداً من قواد الروس ينطق بالشهادتين، فماذا نفعل؟ هل نعتبر هذه الشهادة أم نردها ونقتله؟
الجواب
نعتبر ذلك ولا نقتله بغير خلاف، فقد تقول: قال ذلك تعوذاً، وهكذا كان ظن أسامة بن زيد رضي الله عنه، حينما تمكّن من رقبة رجل قال: أشهد أن لا إله إلا الله فقتله، فلما صار الخبر إلى النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟ قال: يا رسول الله! إنما قالها تعوذاً -يريد أن يهرب من السيف- قال: أشققت عن صدره يا أسامة؟!) وظل النبي صلى الله عليه وسلم يردد هذا لـ أسامة حتى قال أسامة: يا ليتني! ما أسلمت إلا اليوم، ولم يثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام اقتص من أسامة؛ لأن أسامة كان متأولاً ولم يكن قاتلاً عمداً بغير تأويل، وإنما غلب على ظنه أنه باق على كفره، وما قال هذا الذي قاله إلا هروباً من القتل، ولم يكن اجتمع في قلبه حقيقة الإيمان، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم عامل الناس على أصل ظاهرهم، وحينئذ هذا حكم الله عز وجل الذي يكون إلى يوم القيامة، فلو أن أحداً من جند الكفر نطق بكلمة الإسلام والإيمان في أثناء القتال فلا بد من رفع السيف عن رقبته فوراً وترك قتاله، وله ما لنا وعليه ما علينا، وإذا وقع الشك في قلوبنا مما يمكن أن يكون قال ذلك تعوذاً فلا بأس برقابته، أو وضعه في أماكن أخرى في صفوف المؤخرة من القتال، ومراقبته ومراقبة أحواله وحركاته، والتزامه بأحكام الشرع وغير ذلك، فلا يصح إلا الصحيح، والصحيح هو الذي جاء به الشرع.(89/13)
باب ربط الأسير وحبسه وجواز المن عليه
الباب التاسع عشر: (باب ربط الأسير وحبسه وجواز المن عليه).
أي: باب: جواز ربط الأسير، وجواز حبس الأسير، والمن عليه بإطلاق سراحه.
وهذا هو المعنى المتبادر الأول من كلمة المن، بخلاف العطية، فالعطية في باب الصدقات عند الإطلاق، كما قال الله تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة:263]، وقال عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة لا يكلمهم الله تعالى ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل إزاره، والمنان، والمنفّق سلعته بالحلف الكاذب) والمنان الذي يعطي الإنسان عطية ويمن عليه: أنا يوم كذا أعطيتك كذا، ويوم كذا أعطيتك كذا.
والمن في القرآن كذلك بمعنى: الطير.
قال تعالى: {الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [البقرة:57]، والسلوى: هي الحلوى وهو طعام بني إسرائيل الذي أعطاهم الله تعالى إياه.
قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث عن سعيد بن أبي سعيد -وهو المقبري - أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً قِبل نجد)] والخيل: هي السرية، عبّر هنا بالخيل عن السرية، ونجد هي المعروفة الآن بالرياض والمدن المجاورة لها.
قال: [(فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة -واليمامة من بلاد نجد- فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا عندك يا ثمامة؟!)] تصور أن مسئولاً كبيراً يؤتى من خلفه ويُربط في عمود من أعمدة المسجد، فهذا موقف عز عظيم جداً، ولم يأت هو ليهاجمهم فأسروه، ولكنهم هم الذين ذهبوا وأتوا به، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بربطه في سارية المسجد -أي: في العمود- وبعد كل فترة يمر عليه فيقول: [(ماذا عندك يا ثمامة؟! فقال: عندي يا محمد! خير إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تُنعم تُنعم على شاكر)] هو مشرك، ولكنه كلام موزون جداً؛ ولذلك لم يحز السيادة في العرب إلا من كان أهلاً لها.
قال: يا محمد أنا بخير، إن أردت أن تمن عليّ بفكاك الأسر فستجدني لك شاكراً، وإن قتلتني فأنا عظيم في قومي صاحب دم، ولا يمكن لمن ورائي أن يفرطوا في دمي.
وهذا يدل على أن لديه عزاً مع أنه مشرك.
يقول له: فأنت لو قتلتني لن يتركوك قومي، فكأنه يريد أن يقول هذا، وهذا أرجح الأقوال في معنى ذلك.
وهناك أقوال أخرى سنتعرف عليها.
قال: [(وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان من الغد فقال: ماذا عندك يا ثمامة؟! فقال: عندي ما قلت لك، إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أطلقوا ثمامة)] حتى تعلم أننا لن نقتلك ولا نريد منك المال، لكي تعرف أننا أفضل منك، وهذا من عليه.
قال: [(فانطلق إلى نخل قريب من المسجد -أي: بستان قريب من المسجد النبوي- فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)].
أرأيتم هذا الكلام الجميل! فهو خشي أن ينطق بهذا وهو في الأسر حتى لا يقولوا: إن هذا مجرد خوف، وما أسلم إلا فراراً من القتل! فالسيد يظل سيداً طيلة عمره، والسيد لا يصلح أن يكون عبداً في أخلاقه وأدبه، فهذا الرجل أبى أن يُسلم في حال الأسر، حتى لا يقال: إن الحامل له على الدخول في الإسلام الخوف والرعب.
وأيضاً يرد بقوة فيقول: فأنت لو قتلتني فلن يتركوك قومي، فاغتسل ثم دخل المسجد فنطق بالشهادتين ثم قال: [(يا محمد! والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي)] وهكذا الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب.
قال: [(والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين كله إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة)] أي قد كنت أتيت لأجل العمرة، وهذا يدل على أن الحج والعمرة نسك قديم منذ زمن إبراهيم عليه السلام.
وقيل: منذ زمن آدم عليه السلام، وأنتم تعلمون أن النبي عليه الصلاة والسلام حج مرتين قبل البعثة على ملة إبراهيم عليه السلام، فالمشركون كانوا يحجون ويعتمرون إلى البيت.
قال: [(وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟)] أي: بماذا تشير علي؟ هل تأمرني بالذهاب إلى العمرة؟ وهذا أدب شديد؛ لأنه علم أنه بجوار النبي صلى الله عليه وسلم ليس سيداً، بل هو مؤتمر بأوامره منته عما نهاه عنه.
قال: فماذا ترى يا رسول الله؟! قال: [(فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل:(89/14)
كلام الإمام النووي في حديث إسلام ثمامة
الباب التاسع عشر: (باب ربط الأسير وحبسه وجواز المن عليه).
أي: باب: جواز ربط الأسير، وجواز حبس الأسير، والمن عليه بإطلاق سراحه.
وهذا هو المعنى المتبادر الأول من كلمة المن، بخلاف العطية، فالعطية في باب الصدقات عند الإطلاق، كما قال الله تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة:263]، وقال عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة لا يكلمهم الله تعالى ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل إزاره، والمنان، والمنفّق سلعته بالحلف الكاذب) والمنان الذي يعطي الإنسان عطية ويمن عليه: أنا يوم كذا أعطيتك كذا، ويوم كذا أعطيتك كذا.
والمن في القرآن كذلك بمعنى: الطير.
قال تعالى: {الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [البقرة:57]، والسلوى: هي الحلوى وهو طعام بني إسرائيل الذي أعطاهم الله تعالى إياه.
قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث عن سعيد بن أبي سعيد -وهو المقبري - أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً قِبل نجد)] والخيل: هي السرية، عبّر هنا بالخيل عن السرية، ونجد هي المعروفة الآن بالرياض والمدن المجاورة لها.
قال: [(فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة -واليمامة من بلاد نجد- فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا عندك يا ثمامة؟!)] تصور أن مسئولاً كبيراً يؤتى من خلفه ويُربط في عمود من أعمدة المسجد، فهذا موقف عز عظيم جداً، ولم يأت هو ليهاجمهم فأسروه، ولكنهم هم الذين ذهبوا وأتوا به، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بربطه في سارية المسجد -أي: في العمود- وبعد كل فترة يمر عليه فيقول: [(ماذا عندك يا ثمامة؟! فقال: عندي يا محمد! خير إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تُنعم تُنعم على شاكر)] هو مشرك، ولكنه كلام موزون جداً؛ ولذلك لم يحز السيادة في العرب إلا من كان أهلاً لها.
قال: يا محمد أنا بخير، إن أردت أن تمن عليّ بفكاك الأسر فستجدني لك شاكراً، وإن قتلتني فأنا عظيم في قومي صاحب دم، ولا يمكن لمن ورائي أن يفرطوا في دمي.
وهذا يدل على أن لديه عزاً مع أنه مشرك.
يقول له: فأنت لو قتلتني لن يتركوك قومي، فكأنه يريد أن يقول هذا، وهذا أرجح الأقوال في معنى ذلك.
وهناك أقوال أخرى سنتعرف عليها.
قال: [(وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان من الغد فقال: ماذا عندك يا ثمامة؟! فقال: عندي ما قلت لك، إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أطلقوا ثمامة)] حتى تعلم أننا لن نقتلك ولا نريد منك المال، لكي تعرف أننا أفضل منك، وهذا من عليه.
قال: [(فانطلق إلى نخل قريب من المسجد -أي: بستان قريب من المسجد النبوي- فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)].
أرأيتم هذا الكلام الجميل! فهو خشي أن ينطق بهذا وهو في الأسر حتى لا يقولوا: إن هذا مجرد خوف، وما أسلم إلا فراراً من القتل! فالسيد يظل سيداً طيلة عمره، والسيد لا يصلح أن يكون عبداً في أخلاقه وأدبه، فهذا الرجل أبى أن يُسلم في حال الأسر، حتى لا يقال: إن الحامل له على الدخول في الإسلام الخوف والرعب.
وأيضاً يرد بقوة فيقول: فأنت لو قتلتني فلن يتركوك قومي، فاغتسل ثم دخل المسجد فنطق بالشهادتين ثم قال: [(يا محمد! والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي)] وهكذا الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب.
قال: [(والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين كله إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة)] أي قد كنت أتيت لأجل العمرة، وهذا يدل على أن الحج والعمرة نسك قديم منذ زمن إبراهيم عليه السلام.
وقيل: منذ زمن آدم عليه السلام، وأنتم تعلمون أن النبي عليه الصلاة والسلام حج مرتين قبل البعثة على ملة إبراهيم عليه السلام، فالمشركون كانوا يحجون ويعتمرون إلى البيت.
قال: [(وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟)] أي: بماذا تشير علي؟ هل تأمرني بالذهاب إلى العمرة؟ وهذا أدب شديد؛ لأنه علم أنه بجوار النبي صلى الله عليه وسلم ليس سيداً، بل هو مؤتمر بأوامره منته عما نهاه عنه.
قال: فماذا ترى يا رسول الله؟! قال: [(فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل:(89/15)
حكم دخول الكافر المسجد
يقول النووي رحمه الله: (في هذا الحديث جواز ربط الأسير وحبسه، وجواز إدخال المسجد الكافر).
أي: جواز إدخال الكافر في المسجد.
(ومذهب الشافعي جوازه بإذن مسلم، سواء كان الكافر كتابياً أو غيره).
أي: أن مذهب الشافعي يقول: الكافر يدخل المسجد، لكن لا يدخله إلا بإذن مسلم، وباتفاق أهل العلم أن حمامات المساجد ليست من المساجد، وكذلك الأماكن الملحقة بالمسجد ليست من المسجد، فلا بأس أن يدخلها الكافر، ولا بأس بدخوله المسجد أيضاً، فالمسألة محل نزاع وخلاف بين أهل العلم، لكن الراجح: جواز دخوله، فلو أنه لا يمكن وصوله إلى الحمام إلا بالدخول من المسجد فلا بأس بذلك، لكن مذهب المالكية يقول: لا يجوز.
نقول: لو كان لا يجوز مطلقاً فلِم أدخل النبي صلى الله عليه وسلم ثمامة في المسجد وربطه؟ ألم تعلم أن الأعراب كانوا يأتون فيربطون إبلهم خارج المسجد ويدخلون؟ كذلك الرجل الذي بال في المسجد.
وفي رواية البخاري: أنه أتى فربط بعيره في المسجد.
وفي رواية: خارج المسجد ودخل فبال، أي: بمجرد أن دخل بال.
فالنبي صلى الله عليه وسلم كان بإمكانه أن يربط هذا الكافر أو المشرك خارج المسجد، ولعله في يوم من الأيام تصيبه كلمة.
أي لو أن نصرانياً دخل الحمامات فبلا شك أنه سيستغرق وقتاً في الدخول والخروج وقضاء الحاجة، وربما سمع كلمة فكانت فيها هدايته، فلا بأس بذلك.
وعلى أية حال فأصل القول بالجواز هو هذا الحديث، أن النبي صلى الله عليه وسلم ربط ثمامة في المسجد، وكان بإمكانه أن يربطه في أي مكان آخر ولو في بيت أحد من أصحابه، أو أن يؤدبه بأي طريقة شاء لو كان دخول الكافر المسجد لا يصح بكل حال.
ثم لا يقال: إن فلاناً يدخل ويخرج ويدخل ويخرج، فإن ثمامة بن أثال مكث ثلاثة أيام في المسجد، وليس مروراً ولا عبوراً، وإنما مكث وإقامة.
ومذهب الشافعي: جوازه بإذن مسلم.
وأتى الشافعي بهذا الشرط من أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمر بربطه في المسجد، والأمر بمعنى الإذن.
قال: (وقال عمر بن عبد العزيز وقتادة ومالك: لا يجوز).
أي: لا يجوز دخول الكافر المسجد.
قال: (وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: يجوز لكتابي دون غيره).
يجوز لكتابي أي: ليهودي أو نصراني ولا يجوز للمشرك.
وثمامة كان مشركاً ولم يكن كتابياً.
قال: (ودليلنا على الجميع هذا الحديث) فكأن الإمام النووي يقول: وكل هذه الأقوال غير صحيحة، والصحيح: الجواز، ودليلنا على الجواز هذا الحديث، فإما أن يرد الجميع هذا الحديث، أو أن يقبلوه.
ولا يحل لهم أن يردوه؛ لأنه ثابت فلا يبقى لهم إلا القول بمقتضى هذا الحديث وهو جواز الدخول.
وأما قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة:28] فهو خاص بالحرم، ونحن نقول: لا يجوز إدخاله الحرم.
أي: أن الحرم المكي له خاصية تختلف في بعض الأحكام عن بقية المساجد.(89/16)
معنى قوله: (إن تقتل تقتل ذا دم)
قال: (قوله: (إن تقتل تقتل ذا دم) -أي: صاحب دم- اختلفوا في معناه، فقال القاضي عياض في المشارق وأشار إليه في شرح مسلم: معناه: إن تقتل تقتل صاحب دم لدمه موقع يشتفي بقتله قاتله، ويدرك قاتله به ثأره.
أي: لرياسته وفضيلته).
أي: إذا أردت قتلي يا محمد! فاقتلني فلست خائفاً، ولكن لا بد أن تعلم أن ورائي رجالاً يثأرون لدمي، ويأخذون بدمي ولا يدعونه هدراً، فإني رئيس ولي فضيلة في قومي.
قال: (وحذف هذا المفهوم من النص؛ لأنه مفهوم في عرف العرب وفي عرف المتكلم والسامع.
وقال آخرون: معناه: تقتل من عليه دم ومطلوب به، وهو مستحق عليه فلا عتب عليك في قتله).
يريد أن يقول: أنا مطلوب دمي.
أي: شيء جيد أنك أسرتني، فإذا قتلتني فأنت تريحني؛ لأن هناك أناساً خلفك قتلت لهم قتيلاً وهم يطلبون دم قتيلهم، ولو أدركوني لقتلوني، فأنا في كل الأحوال سأُقتل إذاً: فاقتلني.
قال: (وفي رواية عند أبي داود (وإن تقتل تقتل ذا ذم -وليس ذا دم- أي: ذا ذمام وحرية في قومه، ومن إذا عقد ذمة وفى بها.
قال القاضي: (هذه الرواية ضعيفة؛ لأنها تقلب المعنى).
وأرجح الأقوال أنها مصحفة، فإن من له حرمة لا يستوجب القتل.
قال: (ويقول القاضي: ويمكن أن تكون صحيحة على معنى التفسير الأول، أي: يقتل رجلاً جليلاً يحتفل قاتله بقتله، بخلاف ما إذا قتل ضعيفاً مهيناً فإنه لا فضيلة في قتله ولا يدرك به قاتله ثأره).
أي: يمكن أن تكون هذه الرواية صحيحة: (إن تقتل تقتل ذا ذم) بالذال على معنى: أنه صاحب شرف في قومه، فلو كان ضعيفاً هزيلاً لا قيمة له، فلا فضيلة في قتله، إنما الفضيلة في قتل الشريف؛ ولذلك في الحروب الآن يُقتل أناس كثيرون بالمئات والآلاف، وربما لم نعرف لهم أسماء ولا أنساب ولا بلاد ولا أهل ولا جيران وغير ذلك، لكن لو قُتل عظيم شريف يُشار إليه بالبنان لكان قتله ذا شأن.
ولذلك فنحن نفرح حين يُقتل صنديد كبير من صناديد الكفر أو يؤسر، خلاف فرحنا بأسر ألف واحد، فأسر ألف واحد لا يساوون أسر كبير من كبرائهم.(89/17)
جواز المن على الأسير
قوله عليه الصلاة والسلام: (أطلقوا ثمامة).
فيه: جواز المن على الأسير، والجواز لا يعني وجوب المن على الأسير، والمن: هو إطلاق سراحه بغير قتل ولا فداء.
فهل هذا جائز في الشرع؟ نعم.
هو جائز، لكن ذلك يرجع إلى الإمام، فالإمام هو الذي يملك ذلك، وهذا مذهب الجمهور ومنهم الشافعية.(89/18)
حكم اغتسال المشرك إذا أراد الدخول في الإسلام
قال: (قوله: (فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل)، قال الشافعية: إذا أراد الكافر الإسلام بادر به ولا يؤخره للاغتسال).
وهذه المسألة محل نزاع.
هل الغسل يلزم أولاً لمن أراد أن يدخل في الإسلام ويترك الكفر، أو ينطق بالشهادة أولاً ثم يغتسل بعد النطق؟
الجواب
ينطق بالشهادة أولاً، ولكن الرواية التي بين أيدينا تقول: أنه انطلق إلى نخل فاغتسل، وأتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: يا رسول الله أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك عبد الله ورسوله.
أي: أنه اغتسل أولاً وكان بين الغسل وبين النطق بالشهادة وقت، عندما أتى من هذا النخل ودخل المسجد فشهد الشهادتين.
والمضمون: أنه ربما يكون نطق بالشهادة قبل الاغتسال، أو بعد الاغتسال مباشرة، ثم جددها بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: (ولا يحل لأحد أن يأذن له في تأخيره، بل يبادر به ثم يغتسل).
فلو أن إنساناً أراد أن يسلم الآن فنقول له: اذهب إلى الحمامات اغتسل ثم ائتنا، فلما ذهب إلى الحمامات مات، فالذي يتحمل إثم الرجل هو الرجل الذي أفتاه.
قال: (ولا يحل لأحد أن يأذن له في تأخيره، بل يبادر بالنطق بالشهادتين ثم يغتسل.
ومذهبنا: أن اغتساله واجب إن كان عليه جنابة في الشرك).
أي: إن أسلم في حال كونه جنباً، فالاغتسال واجب سواء كان اغتسل منها أم لا.
قال: (وقال بعض أصحابنا: إن كان اغتسل أجزأه وإلا وجب).
أي: بعض الشافعية يقولون: إن اغتسل من الجنابة أجزأه هذا الغسل وإن كان قبل النطق بالشهادة، وإلا صار واجباً عليه بعد النطق بها.
إن هذا الأمر أصله الدخول في الإسلام، وأنه يجب ما كان قبله، لكنه لا يجب الجنابة، وإنما يلزمه إذا لم يكن قد اغتسل منها قبل الإسلام، فبعض أهل العلم قالوا: يجزئه هذا الاغتسال ولا يلزمه الغسل بعد النطق ولا قبله.
ومنهم من قال: إذا كان على جنابة اغتسل منها أو لم يغتسل منها قبل النطق لزمه الاغتسال بعد النطق بالشهادة، وإن كان عليه جنابة وأسلم قبل الاغتسال فيلزمه قولاً واحداً أن يغتسل بعد النطق بشهادة الإسلام.
قال: (وقال بعض أصحابنا: إن كان قد غسل أجزأه وإلا وجب.
وقال بعض أصحابنا وبعض المالكية: لا غسل عليه، ويسقط حكم الجنابة بالإسلام كما تسقط الذنوب).
لكن في الحقيقة الجنابة ليست ذنباً، والذي يُجب ويُغفر هو الذنوب، وأعظم الذنوب الكفر والشرك، فهذا الكلام لا يستقيم.
قال: (وضعّفوا هذا بالوضوء فإنه يلزمه بالإجماع، ولا يقال: يسقط أثر الحدث بالإسلام، هذا كله إذا كان أجنب في الكفر، أما إذا لم يجنب أصلاً ثم أسلم فالغسل مستحب له إذا بلغ الحلم)، والذي يجنب هو الذي بلغ؛ لأن الجنابة والمني أحد علامات البلوغ، بل أعظم علامات البلوغ.
هب أن رجلاً أسلم قبل البلوغ هل يجب عليه الغسل؟
الجواب
لا يجب، بل يستحب له الغسل.
وهذا مذهب الجماهير.
أما أحمد فقال: يجب عليه الغسل كما لو كان بالغاً.
أما النخل الذي انطلق إليه ثمامة فهو ماء قليل منبعث من الأرض.
وقيل: ماء جار.(89/19)
تأليف النبي لثمامة بسؤاله: (ماذا عندك يا ثمامة؟)
قال: (قوله: (ما عندك يا ثمامة؟!) وكرر ذلك ثلاثة أيام، هذا من تأليف القلوب -فالنبي عليه الصلاة والسلام يؤلّف قلب ثمامة - وهذا فيه ملاطفة لمن يرجى إسلامه من الأشراف الذين يتبعهم على إسلامهم خلق كثير).
كما أرسل النبي عليه الصلاة والسلام إلى هرقل فقال: (من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم) وهذا من باب التأليف.
قد يقول قائل: وهل يجوز أن يكون هذا من باب التوبيخ؟
الجواب
نعم يجوز أن نوبّخهم، وتعلمون أن هارون الرشيد كتب رسالة وقال: من أمير المؤمنين هارون الرشيد إلى نقفور كلب الروم، الجواب على رسالتك ما ترى لا ما تسمع، وسأرسل إليك جيشاً أوله عندك وآخره عندي؛ لأنه موقف عزّة.
أما موقف النبي صلى الله عليه وسلم فهو موقف تألف يؤلف قلبه، وهو قادر على العزة، والعزة حينما يكون العدو بعيداً عني وأنا أناقشه بلغة التهديد، لكن في هذا الوقت العدو بين يدي فلماذا أهدده؟ فمن الممكن أن أمسكه وأقتله، فلا قيمة للتهديد حينئذ، فهو بين يدي ضعيف لا حيلة له! فأنا في هذه الحالة ألاطفه بالشمائل والمكارم، فطالما يكون الذي آذاك وخانك وغشّك بعيداً عنك، وأنت تقول: سوف أعمل به كذا وكذا، وسوف أنتقم، ولكن إذا أتاك إلى البيت، هل ستقول له: سأنتقم وأعمل بك كذا وكذا وكذا، وسوف أغشك وأخدعك كما خدعتني، أم أنك ستقول: عفا الله عما سلف، ونفتح صفحة جديدة؟ فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم فعل معه.(89/20)
أمر النبي لثمامة بأداء عمرته وما فيه من إغاظة المشركين
قال: (وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره النبي عليه الصلاة والسلام وأمره أن يعتمر) يعني: بشره بما حصل له من الخير العظيم بسبب الإسلام، وأن ما أنت فيه الآن لا يمكن أن يعدله ما كنت عليه آنفاً من إرادة الخير بإدراك العمرة، وأن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأما أمره له بالعمرة فاستحباب، حتى لا يأخذ أحد بأن العمرة واجبة، وحمل الأمر هنا على أنه أمر استحباب.
والمسألة محل نزاع بين أهل العلم: هل العمرة مستحبة أم واجبة؟ فالجمهور: على استحبابها، وغيرهم على وجوبها أخذاً من هذا الحديث، ومن قول الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] ((وَأَتِمُّوا الْحَجَّ)) وعطف عليه العمرة، والمعلوم أن الحج فرض.
ولكن الجمهور ردوا على من قال بظاهر هذه الآية من وجوب العمرة.
قالوا: المقصود من قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} أي: إذا تلبستم بهما، فصار إتمامها واجباً.
أي: إذا تلبست بنافلة صار إتمامها واجباً إلا ما خرج بالنص، كقوله عليه الصلاة والسلام: (الصائم المتطوع أمير نفسه، إن شاء صام وإن شاء أفطر) ولم يرد هذا التخيير في عبادة من نوافل العبادات غير الصيام، فتبيّن أن من دخل في صلاة نافلة وجب عليه إتمامها ولا يجب عليه إنشاؤها.
مثلاً: سنة العشاء أو سنة المغرب إذا لم أصلها فإنه ذهب عني أجرها ولا يجب عليّ أداؤها، لكني لو أحرمت بها وجب عليّ إتمامها.
فكذلك قول الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] التأويل الأول: إذا لبّثتم بالحج والعمرة وأحرمتم بهما وجب إتمامهما.
هذا معنى الآية.
والمعنى الثاني: أي أخلصوا العبادة لله تعالى في الحج والعمرة؛ لأنه قال: لله، فليس ظاهر الآية عطف العمرة على الحج في الوجوب، وهذا الذي رد به الجمهور على من قال بأن العمرة واجبة.
فالأمر بالعمرة استحباب؛ لأن العمرة مستحبة في كل وقت لا سيما من هذا الشريف المطاع إذا أسلم، وجاء مراغماً لأهل مكة.
قال: (فطاف وسعى وأظهر إسلامه وأغاظهم بذلك).
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(89/21)
الأسئلة(89/22)
حكم سب الدين
السؤال
ما هي كفارة سب الدين، وما هو الحال إن كان جاهلاً؟
الجواب
إذا قصد بسبه دين الله عز وجل يكفر جاهلاً كان أو عالماً، إلا ما كان من تفصيل شيخ الإسلام ابن تيمية.
قال: لو سب الدين بمعنى: أنه يسب الأخلاق لا يقصد دين الله الذي نزل من السماء فهو لا يكفر بذلك، وإنما يأثم ويعزّر.(89/23)
حكم وليمة الزواج
السؤال
هل الوليمة في الزواج واجبة أم مستحبة؟ وهل وقتها الأصلي بعد الدخول أم يجوز قبله؟ وهل يجب فيها اللحم؟
الجواب
لا.
هي مستحبة، وبعض أهل العلم أوجبها، ووقتها يبدأ بعد صبيحة البناء، ولا يجب فيها اللحم، فالنبي عليه الصلاة والسلام أولم على إحدى نسائه بغير لحم، وما كان يأمر إلا القادرين، كما أمر عبد الرحمن بن عوف قال: (أولم ولو بشاة).(89/24)
حكم الاتكاء على اليد اليسرى
السؤال
هل يوجد نهي عن الاتكاء على اليد اليسرى في المسجد؟
الجواب
ورد في المسجد وفي غير المسجد، والنهي عند أبي داود.(89/25)
أحكام المسح على الجوارب
السؤال
نرجو التفصيل في شرح المسح على الجورب؟
الجواب
المسح على الجورب جائز، فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يمسح على الخفاف، والتساخين.
وهي الجوارب.
وكل ما يُطلق عليه جورب جاز عليه المسح، وإن كان رقيقاً وإن كان صفيفاً، وإن كان مخرّقاً أو غير مخرّق، لكن في النفس من الشرابات الشفافة شيء.
وهناك شروط قاسية جداً نجدها في كتب الفقه القديمة أنه لا بد أن يكون الشراب قوياً جداً ومتيناً جداً ويصلح للمشي عليه (5) كيلو متر أو (10) كيلو متر بغير أن يتأثر بذلك، ولو وضعنا الماء عليه يجري.
لماذا هل هو جلد؟ هو مجرد شراب، فإن وضعت عليه نقطة ماء حتى وإن كان سمكه كالبطانية لا يجري.
وقد يقرأ قارئ أحياناً شروطاً لبعض أهل العلم في المسح على الخفّين، أو يسمع أن بعض أهل العلم يقولون: لا بد من شروط في الجورب، ويبدأ يسرد الشروط، وإذا أردت أن تطبق هذه الشروط على الجوارب مهما كان حجمها لا يمكن أن تنطبق، فيعتقد المرء أن هذه الجوارب التي يتكلم عنها الفقهاء لا يصنعها إلا حداد أو نجار.(89/26)
حكم الاعتكاف في غير المسجد
السؤال
هل يجوز الاعتكاف في شقة مبنية فوق المسجد؟
الجواب
لا يجوز الاعتكاف إلا في المسجد، والله تعالى يقول: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] فلا يجوز الاعتكاف إلا في المسجد، والاعتكاف جائز في كل أيام السنة، ولكن لا يجوز الاعتكاف مطلقاً إلا في المسجد.(89/27)
حكم رفع الأيدي في قنوت الوتر، وعند دعاء الخطيب يوم الجمعة
السؤال
هل ترفع الأيدي في قنوت الوتر، وحين دعاء الخطيب يوم الجمعة؟
الجواب
قلنا فيما يتعلق بدعاء الخطيب: لا ترفع الأيدي، وإنما ترفع في قنوت الوتر، والله تعالى أعلم.(89/28)
معنى الألفاظ الآتية: (علماني) و (شيوعي) و (ملحد)
السؤال
وما معنى علماني وشيوعي وملحد؟
الجواب
علماني وشيوعي وملحد هذه كلها أسماء لمعنى واحد وهو الكفر.(89/29)
جريان الأجر وعدم انقطاعه لمن ابتكر شيئاً يخدم به المسلمين
السؤال
أعمل في المنظفات الصناعية، وأعطاني الله موهبة الابتكار، واخترعت أشياء تباع بأسعار غالية، وعملتها بيدي بأسعار رخيصة جداً، وبعض الناس يريد أن أعلّمه المهنة، فهل إن علّمته يكتب لي مع كل ما عمل وربح حسنات أم مرة واحدة -الأولى- فقط، وهل يجوز لي أن آخذ منه مبلغاً نظير التعليم؟
الجواب
لك أن تفعل معه ما تشاء، فتأخذ منه نظير التعليم، وإن أخذت منه هذا المبلغ فإن شاء الله لا ينقطع أجرك ما دمت قد يسرت على المسلمين ورفعت عنهم الغلاء بهذه الاختراعات، وجزاك الله خيراً.(89/30)
حكم الصلاة على من مات وهو تارك للصلاة
السؤال
هل تجوز الصلاة على إنسان كان تاركاً للصلاة، ومات من المخدرات، وهل يجوز اتباع جنازته؟
الجواب
الذي يترجّح لدي أن تارك الصلاة لا يصلى عليه؛ لأنه مات على الكفر.(89/31)
حكم قراءة المأموم الفاتحة في الصلاة الجهرية
السؤال
هل يجوز ترك قراءة الفاتحة وراء الإمام في الصلاة الجهرية أم لا؟
الجواب
قراءة الفاتحة واجبة في أرجح أقوال أهل العلم.(89/32)
قراءة الفاتحة للمأموم
السؤال
هل يجوز أن أقرأ الفاتحة مع الإمام بحيث يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] فأقول مثله، ثم يقول: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] وهكذا، أم أنه يقولها كاملة ثم أقول: آمين، ثم أبدأ في قراءتها؟
الجواب
المعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يُحفظ عنه سكتات في الصلاة إلا سكتة بعد تكبيرة الإحرام يقرأ فيها الأذكار، وسكتة قبل الركوع، أما سكتة بعد قراءة الفاتحة وقبل البدء فيما تيسر من الآيات، فلم يُحفظ عنه ذلك، بل عدّها شيخ الإسلام ابن تيمية في الاختيارات الفقهية من البدع المنكرة في الصلاة.
فالأصل إذا فرغ الإمام من الفاتحة وبدأ بعد التأمين مباشرة بسورة، فلا وقت إذاً للمأموم أن يقرأ الفاتحة إلا أن يقرأها آية آية مع الإمام، لكنك ربما تقول: أنتظره وأسكت وأسمع الإمام فإذا فرغ قرأت الفاتحة، فلك أن تفعل ذلك، وقد تقرأ الفاتحة إذا كنت مسبوقاً وأتيت إلى الصلاة بعد فراغ الإمام من فاتحة الكتاب، فكل هذا جائز.(89/33)
حكم الصلاة عند مدافعة الأخبثين
السؤال
إذا توضأت فجاءني ريح فهل يجوز أن أحبسه حتى أصلي أم يجب أن أخرجه وأتوضأ من جديد؟
الجواب
هذا الريح يمكن حبسه أو لا يمكن حبسه إلا بجهد ومشقة ودفع عظيم يشغلني عن الخشوع في الصلاة، وأنتم تعلمون أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا صلاة بحضرة الطعام ولا هو يدافع الأخبثين) لكن المدافعة هذه تختلف ما بين القوة والضعف، ما بين دفع يسير ودفع يحتاج إلى مشقة عظيمة جداً، وينشغل المرء بذهنه وقلبه عن الصلاة أبداً، ويتمنى لو أن الإمام فرغ من صلاته، فحينئذ لا يجوز له أن يدخل في الصلاة وهو على هذه الحال، وإنما يذهب فيتوضأ ثم يصلي مع الإمام، وإن أدرك الصلاة فكان خيراً، وإن كانت الأخرى فله أجر الجماعة، وما خلّفه عن الجماعة إلا العذر، أما من كان بإمكانه أن يدخل في الصلاة مع شيء يسير من المدافعة فلا بأس بذلك، وإنما المنهي عنه المدافعة التي تشق على صاحبها.(89/34)
حكم الصلاة بحضرة الطعام
السؤال
لو حضر الطعام وكان المصلي جائعاً، ودخل الصلاة في حالته هذه فما الحكم؟
الجواب
الحديث يقول: (ولا صلاة بحضرة الطعام) أي: أنه لا بد أن يكون الطعام حاضراً وموجوداً، ولكن قد يكون الطعام موجوداً أمامك، ولكنك لا تريد أن تأكل منه، وقد تكون جائعاً لكن لا تريد أن تأكل منه ولا تشتهيه نفسك، لكنك مع هذا الجوع إن أكلت منه أكلت على مضض، ولولا الجوع ما أكلت.
وهناك إنسان ربما يكون شبعان لكن إذا وضع أمامه طعام جيد فتح شهيته، فإذا ذهب إلى الصلاة بهذا الوضع فإنه سينصرف عن الخشوع في الصلاة، فلا صلاة بحضرة الطعام.
أي: والطعام موجود وتتوق نفسك إليه، فإن كان الطعام غير موجود وأنت جائع فيجوز لك الصلاة في هذه الحالة؛ لأن الطعام غير موجود، وتشتهيه وتتوق إليه نفسك.(89/35)
بيان أن التوبة تجب ما قبلها
السؤال
هل لي من توبة فقد عصيت الله كثيراً وأريد أن أكون ملتزماً بديني؛ خوفاً من الله عز وجل؟
الجواب
نسأل الله تعالى أن يثبتنا وإياك على العمل الصالح والإيمان الصادق، وباب التوبة يا أخي الكريم! مفتوح حتى تبلغ الروح الحلقوم.
هذه التوبة الخاصة بكل أحد، وباب التوبة العام مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها، فباب التوبة مفتوح، ولا يؤيّسك ولا يقنّطك من رحمة الله أحد، فلا تسمع لأحد يحول بينك وبين التوبة، فباب التوبة مفتوح، والله تعالى لا يرد سائلاً له قط.
فإذا كنت من أصحاب المال فتصدق بمالك، وإذا كنت غير ذلك فأكثر من الصلاة والصيام والزكاة، وإذا كنت صاحب مال فحج واعتمر وأكثر من الصالحات.
وقبل كل ذلك يجب عليك أن تطلب العلم وتعرف الله، فأصل الثبات على الدين طلب العلم ومعرفة الله تعالى، فكلما عرفت الله تعالى كلما أحببته أكثر، والمعلوم أن المحب يطيع حبيبه، فطلب العلم مفتاح السعادة، وهو باب كل خير، وإذا تنكبت هذا الطريق فإنك ستعيش مع عامة الناس، وربما جرّتك الفتن وشياطين الإنس والجن إلى المعصية مرة أخرى، وخرجت عن حد الالتزام الذي من الله تعالى به عليك.(89/36)
شرح صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - إجلاء اليهود عن الحجاز ورد المهاجرين إلى الأنصار منائحهم وجواز الأكل من طعام الغنيمة
أجلى الرسول صلى الله عليه وسلم اليهود من المدينة وذلك لنقضهم العهد وإثارتهم للفتن ومحاربتهم للإسلام وأهله، فهم لا يرقبون في مؤمن إلَّاً ولا ذمة، ثم أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته من بعده بإجلائهم من جزيرة العرب، فأجلاهم عمر رضي الله عنه في خلافته من خيبر، وقد اختلفت أقوال العلماء في المراد بجزيرة العرب التي لا يجتمع فيها دينان، وجمهور العلماء على أنها أرض الحجاز.(90/1)
باب إجلاء اليهود من الحجاز
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
الباب العشرون من كتاب الجهاد: (باب: إجلاء اليهود من الحجاز).
الإجلاء: الطرد في مذلة ومهانة، والإجلاء بخلاف الانسحاب والخروج.
قوله: (باب إجلاء اليهود من الحجاز).
ليس اليهود فحسب، وإنما اليهود والنصارى وسائر ملل الكفر، وإنما أشار الحافظ النووي إلى ذكر اليهود للدلالة على أنهم شر أهل الكتاب، ومن باب أولى أن يكون غيرهم أشد جلاءً.(90/2)
شرح حديث أبي هريرة: (اعلموا أن الأرض لله ولرسوله وأني أريد أن أجليكم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث -وهو الليث بن سعد المصري - عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه] وهو سعيد بن أبي سعيد المقبري لُقّب بـ المقبري؛ لأن بيته كان بجوار البقيع، فكان في الذهاب والإياب يمر على المقابر.
[عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (بينا نحن في المسجد)] و (بينما) كُتبت (بينا) لكن في النطق (بينما) كما أنه يكتب (ثنا) ولكنها تُنطق (حدثنا) كذلك (أنا) تُنطق (أخبرنا أو أنبأنا) وكذلك (نا) وتُنطق (أخبرنا).
قال: [(بينا نحن في المسجد إذ خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: انطلقوا إلى يهود -أي: لقتالهم- فخرجنا معه حتى جئناهم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فناداهم فقال: يا معشر يهود! أسلموا تسلموا)] وهذا من الجناس اللفظي بين الكلمات: (أسلموا تسلموا) كما يقول الشاعر: سميته يحيى ليحيا، فالأول هو الاسم والثاني هو الرجاء (ليحيا).
وهنا قال: (أسلموا تسلموا) أي: تسلموا من القتال وتأمنوا من إراقة الدماء.
قال: [(فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم!)] أي: إذا كنت تريد أن نشهد بأنك قد بلّغت، فإنا نشهد بذلك ونُقر بذلك عينك [(فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك أريد)] هذا الذي أريد أن أنتزعه منكم أن تشهدوا لي أني قد بلغتكم؛ لأن الأنبياء ليس عليهم إلا البلاغ: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48] أما الهداية فهي بيد الله عز وجل، وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67]، إذاً: الرسول ما عليه إلا البلاغ المبين، وما غير ذلك فهو لله عز وجل.
قال: (أسلموا تسلموا، فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم! فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك أريد.
فقال لهم الثالثة فقال: اعلموا أنما الأرض لله ورسوله -وهذا في قتاله مع بني النضير- وأني أريد أن أجليكم من هذه الأرض، فمن وجد منكم بماله شيئاً فليبعه)] من استطاع منكم أن يبيع متاعه أو عقاره بشيء فليبعه ولا يتأخر؛ لأني أريد أن أجليكم عنها، ولا تأخذون معكم في الإجلاء إلا ما تحمله النوق، أما غير ذلك فلا.
قال: [(وإلا فاعلموا أن الأرض لله ورسوله)] أي: لا يمكن أن تأخذوا من الأرض شيئاً.(90/3)
شرح حديث عمر بن الخطاب في إجلاء اليهود من المدينة
قال: [وحدثني محمد بن رافع وإسحاق بن منصور -المعروف بـ الكوسج.
قال ابن رافع: حدثنا، وقال إسحاق بن منصور: أخبرنا- عبد الرزاق بن همام الصنعاني قال: أخبرنا ابن جريج عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي عن موسى بن عقبة -إمام المغازي- عن نافع الفقيه مولى عبد الله بن عمر عن مولاه وسيده ابن عمر رضي الله عنهما: (أن يهود بني النضير وقريظة حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: أنهم توافروا واتفقوا وتكاتفوا على قتال النبي صلى الله عليه وسلم- فأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير -أي: أجلاهم عن المدينة كلها- وأقر قريظة ومنَّ عليهم)] أقر قريظة أن يمكثوا في مكانهم، ومنّ عليهم النبي عليه الصلاة والسلام.
بمعنى: أعطاهم عقد أمان، بمقابل وبشروط.
قال: [(حتى حاربت قريظة بعد ذلك)] يعني: نقضت العهد وخانت الميثاق والأمان الذي أعطاها النبي صلى الله عليه وسلم، فحاربوا النبي عليه الصلاة والسلام ووضعوا أيديهم في أيدي المشركين، وظاهروا على النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [(فقتل رجالهم، وقسم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين)] يعني: سباهم وأخذ الأموال، أما الرجال فقتلهم النبي عليه الصلاة والسلام، كل ذلك كان في المدينة.
قال: [(إلا أن بعضهم -أي: بعض بني قريظة من اليهود- لحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فآمنهم وأسلموا)] حينما لحقوا واعتذروا مما كان منهم وأسلموا أمنّهم النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [(وأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود المدينة كلهم)].
أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم ابتداءً عشرة أيام، ثم أعطاهم ثلاثة أيام بعد ذلك، أن يخرجوا من المدينة ولا يأخذوا معهم إلا ما تحمل إبلهم فقط، أما دون ذلك فلا، فوضعوا أثمن ما يحتفظون به في رحال هذه النوق، وخرجوا من المدينة مطرودين إلى الشام، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يمنعهم أن يأخذوا معهم دون ذلك، أو أكثر من ذلك، كما كان يمنعهم أن يأخذوا معهم السلاح، ومن باب أولى الأرض.
وهكذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يتعامل مع اليهود بمنتهى الشدة والحدة؛ لأن الله تعالى أخبره من فوق سبع سماوات أنه لا يصلح مع هؤلاء اليهود الأنجاس إلا هذه المعاملة، والمشركون في مكة كانوا أوفى من اليهود عهداً، وأعظم منهم ميثاقاً مع شركهم وكفرهم وضلالهم، فقد كانوا رجالاً عند كلمتهم، لا يخونون العهد والميثاق، بل يلتزمون به، ويعاتبون من نقض العهد والميثاق، أما اليهود فطريقهم الطويل يحكي غير هذا، ويقول: إنهم لم يوفوا بعهد أبداً، وكانوا يخفرون الذمم دوماً، أما أن يلتزموا كما التزم المشركون فلا، ولذلك لم يثبت في السنة المطهرة ولا في السيرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام أنه تهاون مع اليهود يوماً ما، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتهاون أحياناً مع المشركين؛ لعلمه أنهم رجال، وأنهم عند العهد والميثاق، أما اليهود فالوضع كان يختلف عن ذلك تماماً؛ ولذلك حينما نقضوا مرة وثانية أمرهم النبي عليه الصلاة والسلام أن يخرجوا من المدينة، فانصرفوا إلى قريتين للشام تسميان أريحا وتيما، أما أريحا فهي قريبة من بلاد مصر، وأما تيما فهي قريبة من بلاد سوريا أو دمشق، وكلاهما يطلق عليه أرض الشام.
قال: [(وأجلى رسول الله عليه الصلاة والسلام يهود المدينة كلهم)] وهم بنو قينقاع، وهم قوم عبد الله بن سلام -الإسرائيلي الذي آمن وحسن إيمانه وإسلامه- ويهود بني حارثة، وكل يهودي كان بالمدينة.
ولم يذكر عبد الله بن عمر بني النضير؛ لأنه كان أجلاهم من قبل، ولم يبق إلا بنو قينقاع وكذلك قريظة.
ومنهم من استقر بخيبر في طريقه إلى الشام، ولصق بأقرانه وأصوله في خيبر، ولذلك يصرّح كثير من زعماء اليهود وأمريكا في هذه الأيام بأن المدينة أرض يهودية، وذلك بعد أحداث (11) سبتمبر التي غيّرت وجه الأرض هناك وهنا في بلاد المسلمين، حتى صارت كالتاريخ الهجري، فيقال: أحداث ما قبل الحادي عشر من سبتمبر وبعد الحادي عشر من سبتمبر، فصار هذا الحدث جللاً في تاريخ اليهود والنصارى في هذه البلاد المشئومة.
ولذلك بدأ اليهود والنصارى يدندنون، ويتكلمون -بقصد أو بغير قصد- عن بلادهم الأصيلة كما يقول النصارى في مصر: إن مصر بلد قبطي، ولبسوا السواد لذلك.
هؤلاء القساوسة والبطارقة يلبسون السواد حتى في أيام أعيادهم يلبسون السواد حزناً على ضياع مصر من أيديهم، وبغض النصارى لـ عمرو بن العاص في مصر أشد من بغضهم للنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه هو الذي أذلهم وأخذ الأرض، وفتح البلاد وقلوب العباد رغماً عنهم.
هكذا يعتقدون في عمرو بن العاص.
[وحدثني أبو الطاهر قال:(90/4)
باب إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب
الباب الحادي والعشرون: (باب إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب).
في الباب الأول قال: باب: إجلاء اليهود من الحجاز، وهنا قال: باب: إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، فهل المقصود بجزيرة العرب: الحجاز، أم أن جزيرة العرب أوسع وأشمل معنى لبلاد الحجاز، أو لبلدان أخرى غير بلاد الحجاز؟ هذا ما سنتعرف عليه.
[حدثني زهير بن حرب أبو خيثمة النسائي قال: حدثنا الضحاك بن مخلد القطواني عن ابن جريج.
(ح) وحدثني محمد بن رافع -واللفظ له- حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير -وهو محمد بن مسلم بن تدرس المكي - أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: أخبرني عمر بن الخطاب: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلماً)] أي: حتى لا أترك فيها إلا رجلاً مسلماً، أما غير ذلك فلا.
وقال عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: (لا يجتمع أهل دينين في جزيرة العرب أبداً) وقال: (لا يجتمع أهل ملتين شتى في جزيرة العرب).
[وحدثني زهير بن حرب حدثنا روح بن عبادة أخبرنا سفيان الثوري.
(ح) وحدثني سلمة بن شبيب حدثنا الحسن بن أعين حدثنا معقل -وهو ابن عبيد الله - كلاهما عن أبي الزبير بهذا الإسناد مثله].(90/5)
كلام النووي في أحاديث إجلاء اليهود من الحجاز وجزيرة العرب
قال الإمام النووي: (في هذا الحديث أن المعاهد والذمي إذا نقض العهد صار حربياً وجرت عليه أحكام أهل الحرب)؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمّن ومنَّ على بني قريظة، ولكنهم نقضوا العهد، فأمره الله تعالى أن يخرج إليهم، فأمر أصحابه: أن اخرجوا إلى يهود، ولما ذهب إليهم ناداهم وقال: (اعلموا أن الأرض لله ورسوله).
هي لله تعالى يورثها من عباده من يشاء، وأن الله تعالى مالكها، وأن المسلم إذا ظاهر على أرض صارت ملكاً له.
وهذا الذي يرد به على النصارى إذ يقولون: إن مصر أرض قبطية، وكثير من الناس يتحرّج أن يكون له أصول قبطية، بل هو شرف عظيم جداً أن تفارق أباك الكافر؛ ولذلك حينما دخل عمرو بن العاص مصر كان أهلها في ذلك الزمان أقباطاً، -أي: نصارى- فمنهم من دخل في الإسلام ومنهم من لم يدخل، وأما من دخل فلا شك أن نسله مسلم إلى يومنا هذا، فربما يكون لك أصول نصرانية، أو أصول يهودية، أو أصل أتى من جزيرة العرب مع الفاتحين والغزاة، فأياً كان نسبك ونسلك فلا حرج عليك حينئذ، أما نحن فنقول: إن الأرض كانت قبطية، وبمجرد ظهور عمرو بن العاص عليها صارت أرضاً إسلامية لا حق لليهود ولا للنصارى ولا لساكني هذه الأرض فيها.
وهذه من مسائل الإجماع في قضايا الاعتقاد والجهاد: أن المسلم إذا ظاهر على أرض -أي: غلب أهلها في قتال وغزو خلف أمير- فلا شك أن هذه الأرض تصير ملكاً لله تعالى ورسوله، وهذه الملكية تنتقل إلى الولاة والأمراء المسلمين.
فلما يقول هؤلاء إن الأرض لهم.
فقولهم مجرد أمانٍ وهيهات أن تتحقق لهم هذه الأماني، فإن الأرض لله تعالى يورثها من يشاء من عباده.
فإذا نقض صاحب العهد عهده أو صاحب الذمة ذمته وصاحب الأمان والمن ما أمن عليه صار حربياً، وجرت عليه أحكام أهل الحرب.
أي أن دمه صار هدراً حلالاً، وللإمام سبي من أراد منهم، وله المن على من أراد.
وفي هذا الحديث: (أنه إذا من عليه ثم ظهرت منه محاربة انتقض عهده، وإنما ينفع المن فيما مضى لا فيما بقي أو في المستقبل، وكانت قريظة في أمان أعطاهم النبي عليه الصلاة والسلام ومن عليهم بهذا، ثم حاربوا النبي عليه الصلاة والسلام ونقضوا العهد، وظاهروا قريش -أي: تواطئوا واتفقوا مع قريش- على قتال النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا} [الأحزاب:26] إلى آخر الآية الأخرى).
والإمام النووي عليه رحمة الله تكلم فيما يتعلق بإجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب بكلام طويل، لكن على أية حال أقوى من هذا الكلام ما ذكره غيره كالحافظ ابن حجر.
وجاء في صحيح مسلم كذلك في كتاب المساقاة، قال الإمام: حدثنا محمد بن رافع وإسحاق بن منصور الكوسج قالا: عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج حدثني موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر نفس الحديث ونفس الإسناد، أن عمر بن الخطاب أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز.
إذاً: لم يجل النبي عليه الصلاة والسلام اليهود من أرض الحجاز تماماً، وإنما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بضرورة إجلائهم، ويتمكن من ذلك عند نقض العهد والميثاق، فإنه إذا حصل شيء من ذلك في وقت ما فعلى إمام الزمان المعيّن إجلاءهم، فـ عمر أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز، ولما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيبر أراد إخراج اليهود منها، والمعلوم أن خيبر أُخذت عنوة ولم تؤخذ صلحاً ولا سلماً، فأراد إخراج اليهود منها، وكانت الأرض حين ظُهر عليها لله ولرسوله وللمسلمين مع أنها كانت لليهود، لكنها تنتقل إلى المسلمين فوراً بمجرد الغلبة والقهر لعدوهم، وقد سأل اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم بها على أن يكفوه عملها.
أي: أنهم يعملون فيها لصالح النبي عليه الصلاة والسلام ولصالح المسلمين، ولهم نصف الثمر.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نقركم بها على ذلك ما شئنا).
أي: على هذا الشرط الذي اشترطتموه بشرط إخراجكم منها متى نشاء.
وفي هذا: جواز عقد المؤاجرة أو المساقاة المفتوح غير المحدد المدة، وهذا فيما يتعلق بكراء الأرض.
قال: (نقركم بها على ذلك ما شئنا، فقروا بها حتى أجلاهم عمر إلى تيماء وأريحاء).
وفي هذا دليل على أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب: إخراجهم من بعضها لا من جزيرة العرب كلها، وهذا البعض هو الحجاز خاصة؛ لأن تيماء من جزيرة العرب، لكنها ليست من الحجاز، فحينما أجلاهم إلى تيماء تبيّن أن المقصود بجزيرة العرب: الحجاز.
والإمام مالك في كتاب الموطأ في الباب ال(90/6)
أقوال العلماء في المراد بجزيرة العرب التي يتم إجلاء اليهود والنصارى منها
أرض العرب هي الحجاز كله.
ويقال: الحجاز هي مكة والمدينة واليمامة، واليمامة هي نجد الرياض.
قال: (وقال أبو عبيد: قال الأصمعي جزيرة العرب من أقصى عدن وما والاها، إلى ريف العراق طولاً، ومن جدة وما والاها، من ساحل البحر إلى أطراف الشام عرضاً.
إذاً: من جدة إلى الشام ومن اليمن إلى العراق طولاً وعرضاً هي جزيرة العرب.
وأما في العرض فمن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام، ومصر في المغرب وفي المشرق ما بين المدينة إلى منقطع السماوة).
فهل المقصود بإجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب من هذه البقعة العظيمة: من اليمن إلى العراق، ومن جدة إلى الشام؟ قال كثير من أهل العلم بأن هذه مجموع جزيرة العرب، لكن هل المراد بإجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب من هذه الأراضي كلها؟ أو من الحجاز فقط؟ مذهب جماهير العلماء أن المقصود بالإجلاء: الحجاز فقط.
والحجاز: هي مكة والمدينة واليمامة التي هي الرياض والمدن المجاورة والمحيطة بها، وإن اليهود الآن والنصارى يعيثون فساداً في الرياض، وأعظم من فسادهم فساد الأمريكان؛ لأن الأمريكان عند الإطلاق يعنون: النصارى، لكن الأمريكان فيهم نسبة ليست قليلة من اليهود، والذين أتوا إلى بلاد الحجاز في حرب صدام مع الكويت لم يكونوا نصارى فقط، بل قد جاء معهم يهود، واليهود لهم في كل مصيبة باع طويل، وهم السبب في هذه الحرب المفتعلة في بلاد العرب.
فإذا اتفقنا أن اليمامة من بلاد الحجاز وأن اليمامة المقصود بها: نجد والرياض، فإن اليهود يعيشون هناك، والذي يسافر إلى هناك يعلم أن اليهود ينتشرون رجالاً ونساء، والنساء يمشين في الشوارع عرايا كما لو كن في شوارع القاهرة مثلاً، أو في شوارع لبنان، فلاشك أن هذا مخالفة لهدي النبي عليه الصلاة والسلام ولأوامره التي قضت بإجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب، والأصل أن يجلى اليهود والنصارى من بلاد الإسلام قاطبة لا من جزيرة العرب أو من بلاد الحجاز خاصة، لكن إن بقوا في بلاد الإسلام دون بلاد الحجاز، فإنما يكون بعهد وأمان وميثاق، وعليهم أن يلتزموا بذلك، فإن نقضوا ذلك صاروا أهل حرب لا أهل عهد ولا ميثاق ولا أهل ذمة.
وهذا هو حال اليهود والنصارى في بلاد المسلمين، أنهم في هذه الأيام أهل حرب وليسوا أبداً أهل ذمة، فقد خفرت ذمة النصارى وذمة اليهود في كل بلاد العالم بسبب إعلان الحرب على الإسلام والمسلمين بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، فاليهود والنصارى نقضوا العهد بمحاربة الإرهاب، والمقصود بالإرهاب: الإسلام.
ولا يتصور -جدلاً- لو افترضنا أن فاعل هذه الأحداث بعض شباب من المسلمين أن يؤخذ جميع المسلمين بجريمة البعض، ويُقتل الأبرياء وتُشرد النساء وتُبقر بطون الحوامل؛ لشُبهة قامت لدى هذا الزعيم الذي يُسمى بوش، فلذلك فإنه لا بد من تكاتف المسلمين ووحدتهم لإجلاء الأمريكان من بلاد الإسلام، وتاريخ شعب أفغانستان مشرّف إلى أقصى حد في حماية الإسلام والدفاع عنه، وتثبيت وترسيخ عقيدة التوحيد في قلوب أبنائه، لكنه لا حظ له على مدار التاريخ مع حرصه الشديد جداً على ترسيخ الإسلام والتوحيد إلا أنه دائماً شعب يعاني الفقر والمرض والجوع، ومثل هؤلاء كانوا تبعاً للنبي عليه الصلاة والسلام، فإنه ما انتصر النبي عليه الصلاة والسلام بالأغنياء ولا بالوجهاء، وإنما انتصر بالصعاليك والفقراء والعبيد والموالي.(90/7)
ما جاء من فدع يهود خيبر ليدي ابن عمر ورجليه، وإجلاء عمر لهم
أخرج الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الشروط في الباب الرابع عشر قال: إذا اشترط في المزارعة إذا شئت أخرجت.
قال: حدثنا أبو أحمد حدثنا محمد بن يحيى أبو غسان الكناني أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما فدع أهل خيبر عبد الله بن عمر.
أي: عذّبوه وضربوه وخلعوا كفه من ذراعه.
والفدع: هو الإصابة الشديدة في الكف أو في المفصل بين الكف والذراع.
قال: فلما فدع أهل خيبر عبد الله بن عمر قام عمر خطيباً رضي الله عنه فقال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل يهود خيبر على أموالهم) أي: صالحهم، لهم النصف ولنا النصف (وقال: نقركم ما أقركم الله) وجعل الأمر مفتوحاً لم يضرب لهم مدة زمنية محددة، سنة سنتين عشرة عشرين، وإنما قال: (نقركم ما أقركم الله) أي: ما شاء الله لكم أن تقروا في هذا المكان، فإذا رأينا إخراجكم أخرجناكم.
قال: (وإن عبد الله بن عمر خرج إلى ماله هناك) أي: إلى سهمه الذي ضُرب له بعد فتح خيبر؛ ليرعى مصلحة أرضه.
قال: (فعُدي عليه من الليل) وفي هذا دليل على أن يهود خيبر هم الذين فدعوا يديه.
قال (فعُدي عليه من الليل ففدعت يداه ورجلاه، وليس لنا هناك عدو غيرهم).
أي: أنه لا يمكن أن يفعل بـ عبد الله بن عمر شيء من ذلك إلا أن يكون عدواً، وليس لنا في خيبر عدو إلا اليهود، فهذا حكم مبني على القرائن.
قال: (هم عدونا وتهمتنا).
يعني: نحن نتهمهم ولا نتهم غيرهم؛ لأنه ليس لنا عدو غيرهم.
قال: (وقد رأيت إجلاءهم، فلما أجمع عمر على ذلك) أي: فلما استقر لدى عمر أن يجليهم من خيبر (أتاه أحد بني أبي الحقيق) عائلة أبي الحقيق كلها منافقة، ابتداء من أبي الحقيق وأبنائه وعمومته.
قال: (أتاه أحد بني أبي الحقيق، فقال: يا أمير المؤمنين!) وهذه مداهنة فإنه لم يأته ويقول له: يا أمير المؤمنين إلا لأنه مقر بأن هذا هو أمير المؤمنين.
قال: (قال: يا أمير المؤمنين أتخرجنا وقد أقرنا محمد صلى الله عليه وسلم؟).
وهذا عندما يصير اليهودي والنصراني في موطن الذلة.
أخرجنا شريطاً سنة 1981م من كنيسة بالمنصورة ينصح فيها قسيس أبناء الكنيسة، فيقول لهم: إذا حكمك المسلم أطعه حيثما أمرك، وإذا حكمت المسلم فأذله حيث شئت.
وهذا هو وضع اليهود والنصارى، بل وضع أعداء المسلمين عموماً.
قال: (قال: يا أمير المؤمنين! أتخرجنا وقد أقرنا محمد صلى الله عليه وسلم وعاملنا على الأموال وشرط ذلك لنا؟) وكأنه يقول له: هل أنت تبع لمحمد أم لا، فهو سيدك ورسولك؟ هو الذي أقرنا وجعلنا آمنين، وأعطانا العهد والميثاق أن نظل ونزرع الأرض، وأنتم لكم النصف ونحن لنا النصف، فلِم تخفر أنت ذمة رسولك؟ ويذكره عمر بالميثاق (فقال عمر: أظننت أني نسيت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف بك يا ابن أبي الحقيق! إذا أخرجت من خيبر تعدو بك قلوصك ليلة بعد ليلة) أي: بأن عمر يقول: أنت تذكرني بالعهد والميثاق الذي من النبي صلى الله عليه وسلم معكم، فأنا سمعته بأذني -ولم أنس ذلك- يقول لك: سيأتي عليك يوم يا ابن أبي الحقيق! تخرج من خيبر على رحلك تعدو بك ليلة واثنتين وثلاثة.
قال: (فقال: كان ذلك هزيلة) أي: كان نبيكم -صلى الله عليه وسلم- يمزح معنا، وقد صالحنا وعاملنا على أن لنا نصف الثمار فقط وليس نصف الأرض، على أن نزرعها ونكفيكم المؤونة.
فحينما بدأ يسب النبي صلى الله عليه وسلم قال: عمر: (كذبت يا عدو الله!) أي: أنه لم يفعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم هزيلة، (فأجلاهم عمر وأعطاهم قيمة ما كان لهم من الثمر مالاً وإبلاً وعروضاً من أقتاب وحبال وغير ذلك).
قال الحافظ ابن حجر في قول عمر رضي الله عنه: (فعدي على عبد الله بن عمر من الليل): قال الخطابي: كأن اليهود سحروا عبد الله بن عمر فالتوت يداه ورجلاه، واليهود هؤلاء أهل سحر وأهل ربا، وأهل غدر، فجميع القبائح التي يمكن أن يتصف بها آدمي مصدرها اليهود، كأن اليهود سحروا عبد الله بن عمر فالتوت يداه ورجلاه.
هكذا قال الإمام الخطابي.
ويحتمل أن يكونوا ضربوه ويؤيده تقييده بالليل.
ووقع في رواية عند البخاري بلفظ: فلما كان زمان عمر غشوا المسلمين، وألقوا ابن عمر من فوق بيت ففدعوا يديه.
أي:(90/8)
أسباب إجلاء عمر ليهود خيبر
أيضاً: هناك سببان آخران لإجلاء عمر لليهود من خيبر: الأول: رواه الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: ما زال عمر حتى وجد الثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: أن عمر لم يجلهم حتى ثبت لديه يقيناً بغير شك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجتمع بجزيرة العرب دينان) فقال: من كان له من أهل الكتابين عهد فليأت به أنفذه له.
يعني: أعطه وأوفه حقه، وإلا فإني مجليكم فأجلاهم.
وهذا الحديث عند ابن أبي شيبة بسند صحيح.
الثاني: رواه عمر بن شبة -في كتابه العظيم: أخبار المدينة المنورة- من طريق عثمان بن محمد الأحمسي قال: لما كثر العيال -أي: الخدم والموالي والعبيد- في أيدي المسلمين، وقووا على العمل أجلى عمر رضي الله عنه اليهود إلى الشام وقسم المال بين المسلمين إلى اليوم.
يعني: بعد فتح خيبر لم يكن هناك من يزرعها ولا من يستثمرها، فأقر النبي صلى الله عليه وسلم اليهود فيها على اعتبار أن يكون له نصف الثمر ولهم النصف في مقابل الزرع والكلفة حتى لا تبور الأرض، لكن حينما زالت هذه العلة وكثر العبيد والموالي ومن دخلوا في الإسلام ممن يمكن أن يعمل في الأرض ويزرع، وله شيء من الثمر -قام عمر بن الخطاب وأجلى اليهود، ويُحتمل أن يكون كل من هذه الأشياء جزء علة في إخراجه، والإجلاء: هو الإخراج عن المال والوطن على وجه الإزعاج والكراهة.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه من كان له سهم بخيبر فليحضر حتى نقسمها، فقال: ابن أبي الحقيق: لا تخرجنا ودعنا كما أقرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، فقال له عمر: أتراه سقط علي، أي: أتراني نسيت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيف بك يا ابن أبي الحقيق! إذا رقصت بك راحلتك نحو الشام يوماً ثم يوماً ثم يوماً) يعني: أخذتك ناحية الشام.
فقسمها عمر بين من كان شهد خيبر من أهل الحديبية.
وفي هذا الحديث كما قال المهلب: دليل على أن العداوة توضح المطالبة بالجناية، كما طالب عمر اليهود بفدع ابنه عبد الله، ورجح ذلك بأن قال: ليس لنا عدو غيرهم، فعلق المطالبة بشاهد العداوة، وإنما لم يطلب القصاص؛ لأن هذا مبني على الظن، والظن اعتمد على قرينة، وهذه القرينة أفادت عند عمر وجوب الإجلاء مع غير ذلك من الأدلة؛ لأنه لا عدو لهم في هذا البلد إلا اليهود، ولم يطالب بالقصاص، لأنه ليس عنده يقين أن فلاناً من اليهود هو الذي فدع ولده، فقد فُدع ولده عبد الله وهو نائم في الليل، فلم يعرف أشخاصهم، ولكنه رضي الله عنه طالب بالإجلاء.
وفيه: أن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله محمولة على الحقيقة حتى يقوم دليل على المجاز.(90/9)
باب رد المهاجرين إلى الأنصار منائحهم من الشجر والثمر حين استغنوا عنها بالفتوح
الباب الرابع والعشرون: (باب رد المهاجرين إلى الأنصار منائحهم من الشجر والثمر حين استغنوا عنها بالفتوح).
أي: حين حصل لهم الغنى بسبب الفتوح، فالجهاد باب عظيم للشباب، والذي لم يجد ما يتزوج سيجد بعد ذلك، والذي لم يجد ما يحج سيحج بعد ذلك.
فـ سعد بن أبي وقاص هو الذي قال: لقد رأيتني سادس ستة أو سابع سبعة مع النبي صلى الله عليه وسلم ليس لنا طعام إلا ورق الشجر، ثم يصير الأمر معهم حتى يصير ملكاً من ملوك الدنيا، وهذا بسبب الجهاد.
قال: [وحدثني أبو الطاهر وحرملة بن يحيى التجيبي قالا: أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس بن يزيد الأيلي عن ابن شهاب عن أنس بن مالك قال: (لما قدم المهاجرون من مكة المدينة قدموا وليس بأيديهم شيء -أي: خرجوا من أمولاهم وأهليهم وتجارتهم وكل شيء لله تعالى- وكان الأنصار أهل الأرض والعقار -أي: أهل زراعة وحرث وماشية، خلافاً لأهل مكة فإنهم أهل تجارة- فقاسمهم الأنصار على أن أعطوهم أنصاف ثمار أموالهم كل عام)].
وهذه هي النصرة التي لا يستطيع أن يعملها إلا رجل بمعنى الكلمة.
والحقيقة أنه ورد في تراجم كثير من أهل العلم أنهم إذا نزل بهم ضيف من أهل العلم يفعلون معه هذا، كما فعل عبد الرزاق الصنعاني مع أحمد بن حنبل حين نزل عليه في صنعاء، فقال له عبد الرزاق: إنا أهل حرث وزرع، وإننا نتكل على غنيمتنا -أي: على زرعنا وثمارنا- في موسمها -أي: إذا حُصدت- فلك نصفها.
قال أحمد: لو أخذت من غيرك لأخذت منك.
الشاهد أن عبد الرزاق عرض عليه نصف الثمار.
وهكذا الأنصار فعلوا مع المهاجرين، حتى ثبت عن أحدهم أنه قال: ولي زوجتان انظر إليهما أُطلّق أجملهما لتتزوجها.
وهذا أمر جائز، وليس فيه ما يتعلق بالتحليل أو التحريم.
قال أنس: (لما قدم المهاجرون من مكة إلى المدينة قدموا وليس بأيديهم شيء، وكان الأنصار أهل الأرض والعقار فقاسمهم الأنصار على أن أعطوهم أنصاف ثمار أموالهم كل عام، ويكفونهم العمل والمئونة)] أي: أن المهاجرين يعملون مزارعين عند الأنصار.
قال: [(وكانت أم أنس بن مالك وهي تدعى أم سليم وكانت أم عبد الله بن أبي طلحة وكان أخاً لـ أنس لأمه، وكانت أعطت أم أنس رسول الله صلى الله عليه وسلم عذاقاً لها -جمع عذق وهي النخلة- فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن مولاته أم أسامة بن زيد).
قال ابن شهاب: فأخبرني أنس بن مالك: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من قتال أهل خيبر وانصرف إلى المدينة رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم)] منائحهم: جمع منيحة.
وهي المنحة والعطية.
أي: ردوا ما كانوا قد أخذوا منهم؛ لأنهم غنموا مغانم عظيمة من خيبر فصاروا أغنياء.
قال: [(فرد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم من ثمارهم، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمي عذاقها -أي: نخلها- وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن مكانهن من حائطه)].
والحائط: البستان؛ وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام حينما رجع إلى المدينة طلب من أم أيمن أن تعطي النخلة التي أعطاها لـ أم سليم فأبت ذلك ظناً منها أنها هبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن الرجوع في الهبة، وكانت أم أيمن في منزلة أم النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنها الحاضنة والمربية له عليه الصلاة والسلام، فهي ظنّت أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها هذا على سبيل التملك الدائم.
قال ابن شهاب: [وكان من شأن أم أيمن أم أسامة بن زيد أنها كانت وصيفة لـ عبد الله بن عبد المطلب -أي: أنها كانت مولاة وخادمة لـ عبد الله والد النبي عليه الصلاة والسلام- وكانت من الحبشة، فلما ولدت آمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما توفي أبوه، فكانت أم أيمن تحضنه حتى كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقها، ثم أنكحها زيد بن حارثة، ثم توفيت بعد ما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة أشهر].
قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وحامد بن عمر البكراوي ومحمد بن عبد الأعلى القيسي كلهم عن المعتمر، وهو المعتمر بن سليمان بن طرخان التيمي عن أبيه عن أنس: (أن رجلاً كان يجعل للنبي صلى الله عليه وسلم النخلات من أرضه، حتى فتحت عليه قريظة والنضير، فجعل بعد ذلك يرد عليه(90/10)
كلام النووي في أحاديث رد المهاجرين إلى الأنصار منائحهم
قال: (قال العلماء: لما قدم المهاجرون آثرهم الأنصار بمنائح من أشجارهم، فمنهم من قبلها منيحة محضة -أي: هبة وعطية بغير مقابل، وليس ديناً يستقر في الذمة- ومنهم من قبلها بشرط أن يعمل في الشجر والأرض وله نصف الثمار، ولم تطب نفسه أن يقبلها منيحة محضة؛ وهذا لشرف نفوسهم وكراهتهم أن يكونوا كلاً على غيرهم -أي: عالة على غيرهم- وكان هذا مساقاة أو في معنى المساقاة، فلما فُتحت عليهم خيبر استغنى المهاجرون بأنصبائهم فيها عن تلك المنائح، فردوها إلى الأنصار.
ففي هذا: فضيلة ظاهرة للأنصار في مواساتهم وإيثارهم لإخوانهم من المهاجرين، وما كانوا عليه من حب الإسلام وإكرام أهله، وأخلاقهم الجميلة، ونفوسهم الطاهرة، وقد شهد الله تعالى لهم بذلك؛ فقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} [الحشر:9]).
فهذه شهادة الله سبحانه وتعالى من فوق سبع سماوات للأنصار، أنهم يحبون من هاجر إليهم.
قال: قوله: وكان الأنصار أهل أرض وعقار، وزرع وحرث، والعقار هو في الغالب: النخل، أو كل ما له أصل.
وقيل: هو النخل خاصة.
وكانت -أي: أم أنس - أعطت رسول الله صلى الله عليه وسلم عذاقاً لها، -أي: نخلاً لها- فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أم أيمن.
وفي هذا دليل لما قدمنا عن العلماء أنه لم يكن كل ما أعطت الأنصار على المساقاة، بل كان فيه ما هو منيحة ومواساة بغير مقابل ولا ديناً مستقراً في الذمة، وهذا منه.
أم أنس بن مالك أم سليم حينما أعطت المنيحة والنخل للنبي صلى الله عليه وسلم ما أرادت إرجاعه، وما استقر في ذمة النبي صلى الله عليه وسلم كدين، وإنما فهم النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا منيحة محضة فأعطاها لـ أم أيمن، وهو محمول على أنها أعطته صلى الله عليه وسلم ثمارها يفعل فيها ما شاء، من أكله بنفسه وعياله وضيفه، وإيثاره بذلك لمن شاء، ثم له أن يعطيها حتى لو كانت على سبيل الهدية، وفي هذا إبطال لما استقر في أذهان العامة أن الهدية لا تهدى ولا تباع، بل هي تهدى وتباع وتُرد، والراد للهدية يحمل المردود إليه، لكن ليس لمن أهدى أن يطالب بالهدية؛ فلهذا آثر النبي عليه الصلاة والسلام أم أيمن، ولو كانت إباحة له خاصة لما أباحها لغيره؛ لأن المباح له بنفسه لا يجوز له أن يبيح ذلك الشيء لغيره، بخلاف الموهوب له نفس رقبة الشيء، فإنه يتصرف فيه كيف شاء.
قال: (رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم من ثمارهم)، في هذا دليل على أنها كانت منائح ثمار، دون تمليك للعين، فإنها لو كانت هبة لرقبة النخل لم يرجعوا فيها، وإنما هذا كان في الثمار فحسب؛ فإن الرجوع في الهبة بعد القبض لا يجوز، أما قبل القبض يجوز).
والأحوط: إذا وجدت الموهوب يُباع فلا تشتر، وأنتم تعلمون أن عمر بن الخطاب وهب فرساً فوجده يباع في الأسواق، فأراد أن يشتريه فنهاه النبي عليه الصلاة والسلام، فإن الرجوع في الهبة بعد القبض لا يجوز، أما قبل القبض فيجوز.
قال: (وإنما كانت إباحة للثمار كما ذكرنا، والإباحة يجوز الرجوع فيها متى شاء الواهب، ومع هذا لم يرجعوا فيها حتى اتسعت الحال على المهاجرين بفتح خيبر، واستغنوا عنها فردوها على الأنصار فقبلوها -أي: الأنصار- وقد جاء في الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لهم ذلك).
قوله: (قال ابن شهاب: وكان من شأن أم أيمن التي هي أم أسامة بن زيد أنها كانت وصيفة لـ عبد الله بن عبد المطلب وكانت من الحبشة.
فهذا تصريح منه أنها حبشية).
وفي قصة أم أيمن أنها امتنعت من رد تلك المنائح التي عوضها عشرة أمثالها إنما فعلت هذا لأنها ظنت أنها هبة مؤبدة وتمليك لأصل الرقبة، وأراد النبي عليه الصلاة والسلام استطابة قلبها في استرداد ذلك، فما زال يزيدها في العوض حتى رضيت، وكل هذا تبرع منه صلى الله عليه وسلم وإكرام لها؛ لما لها من حق الحضانة والتربية عليه.(90/11)
باب جواز الأكل من طعام الغنيمة في دار الحرب
الباب الخامس والعشرون: (باب جواز الأكل من طعام الغنيمة في دار الحرب).
دار الحرب هي: الدار التي بينها وبين أهل الإسلام حرب.
[حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا سليمان بن المغيرة حدثنا حميد بن هلال عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: (أصبت جراباً من شحم -والجراب: هو الوعاء من جلد- يوم خيبر -أي: من دهن- قال: فالتزمته فقلت: لا أعطي اليوم أحداً من هذا شيئاً.
قال: فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متبسماً).
حدثنا محمد بن بشار العبدي حدثنا بهز بن أسد العمي حدثنا شعبة حدثني حميد بن هلال قال: سمعت عبد الله بن مغفل يقول: (رُمي إلينا جراب فيه طعام وشحم يوم خيبر) والذي رماه هم اليهود؛ وذلك لأن المسلمين لم يكن لديهم شيء، فرُمي إليهم بجراب فيه طعام وشحم.
قال: (فوثبت لآخذه.
قال: فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحييت منه).
وحدثناه محمد بن المثنى حدثنا أبو داود الطيالسي حدثنا شعبة بهذا الإسناد غير أنه قال: (جراب من شحم) ولم يذكر الطعام].(90/12)
كلام النووي في أحاديث باب جواز الأكل من طعام الغنيمة في دار الحرب(90/13)
إباحة أكل طعام الغنيمة في دار الحرب
قال النووي: (وفي هذا الحديث إباحة أكل طعام الغنيمة في دار الحرب).
أي: إذا كانت الحرب في هذا الوقت دائرة بين المسلمين وبين أهل الكتاب، وقد جعت وأمامي طعام من غنيمة غنمناها من اليهود والنصارى، وأنا في ساحة القتال، فإنني آكل ولا حرج عليّ، وليس هذا من باب الغلول في شيء.
قال: (قال القاضي: أجمع العلماء على جواز أكل طعام الحربيين ما دام المسلمون في دار الحرب، فيأكلون منه قدر حاجاتهم -يعني: سد رمق- ويجوز بإذن الإمام وبغير إذن الإمام).
حتى وإن قال الإمام: لا تأكلوا؛ نأكل حاجتنا؛ لأننا سنهلك بغير طعام.
قال: (ولم يشترط أحد من العلماء استئذانه إلا الإمام الزهري، وجمهورهم على أنه لا يجوز أن يخرج معه منه شيء إلى عمارة دار الإسلام).
أي: تأكل وتترك المتبقي مكانه، وهذا مذهب جماهير العلماء، كما أنني أنزل بساتين وثمار أهل الإسلام أو أهل الكفر على الطريق، فلا بأس أن آكل منه ولهم في ذلك أجر، ولا يجوز أن آخذ منه لأهل بيتي، كذلك حين تخرج من دار الحرب طعاماً إلى دار الإسلام لا يجوز، فإن أخرجه لزمه رده إلى المغنم.
قال: (وقال الأوزاعي: لا يلزمه رد ما خرج به من بلاد الحرب إلى بلاد الإسلام، وأجمعوا على أنه لا يجوز بيع شيء منه في دار الحرب ولا في غيرها).
فهذا طعام، فإما أن يباع به أكلاً وشرباً على قدر الحاجة، وإما أنه من أصل الغنيمة، أما بيعه في دار الحرب للحربيين أو للمسلمين فإن ذلك لا يجوز، وهذا من مسائل الإجماع.
قال: (فإن بيع منه شيء لغير الغانمين كان بدله غنيمته، ويجوز أن يركب دوابهم -يجوز للمسلم أن يركب دواب أهل الكتاب- ويلبس ثيابهم، ويستعمل سلاحهم في حال الحرب بالإجماع، ولا يفتقر إلى إذن الإمام، أما الأوزاعي فإنه شرط إذنه).
وخالف جماهير العلماء في ذلك، كما خالف الزهري الجماهير في المسألة الأولى.(90/14)
حكم أكل ذبائح اليهود والنصارى
قال: (وفي هذا الحديث دليل على جواز أكل شحوم ذبائح اليهود) واليهود ليسوا كالنصارى، إذ إن النصارى يأكلون الموقوذة والمنطوحة، والمتردية، وأي نتن أو جيفة يأكله النصارى؛ لأنهم يتقربون إلى الله تعالى -بزعمهم- بهذه الأنتان والأوساخ، لكن اليهود رغم أنهم أخبث الخلق على الإطلاق، إلا أنهم لا يأكلون شيئاً إلا مذبوحاً، حتى في أمريكا تجد المصانع هناك والشركات حريصة كل الحرص على أن تضع على البضائع والمطعومات والمشروبات علامة صناعة يهودية، وكذا الدواء فوزارة الصحة تمر على المحلات فتأخذ عينة من الدواء فتقوم بتحليلها كل فترة من الفترات، فإذا وجدوا أن الأوصاف المذكورة لدى وزارة الصحة غير موجودة أو فيها خلل صارت مصيبة سوداء لا يمكن علاجها.
فهم على أية حال كفار، لكن يحترمون قوانينهم الأرضية، ونحن مسلمون، لكن لا نحترم الله ولا نحترم الرسول، ولا القرآن ولا الشريعة، وهم أيضاً يحترمون كفرهم، ونحن لا نحترم إيماننا ولا نحترم ديننا؛ وهذا سبب ذلنا وإهانتنا.
فاليهود لا يمكن أن يأكلوا ذبيحة إلا إذا كانت مذبوحة، وفوق هذا لابد أن يذبحوا بأنفسهم، وحرموا على أي مجازر أخرى أن تذكر اسم اليهود على منتجاتها ومصنوعاتها من اللحوم والشحوم وغير ذلك، إلا إذا كان هذا المصنع ملكاً لليهود أبداً.
وكان اليهود من قبل لا يتحرزون قط من ذبائح المسلمين، فكانوا يأكلونها بغير تردد، أما الآن لا يأكلونها مطلقاً؛ وذلك لعلمهم أن المسلمين تهاونوا في قضية الذبح على الشريعة الإسلامية، فهم على الأقل يأخذون هذا من باب الصحة لا من باب التدين، واليهود يختلفون معنا في ضوابط الذبح، فنحن نذبح من الحلق والأوداج وهم يذبحون من الرقبة، وذبحنا شرعي وذبحهم غير شرعي، لكن على أية حال هم يذبحون ولا يصعقون بالكهرباء، ولا يردونها من مكان عال ولا يقتلونها، أما النصارى فقد يجدون جيفة على سطح الأرض فيأكلونها؛ لأن النصارى في الغالب يميلون في عبادتهم إلى النجاسات والأنتان والأوساخ والأقذار، خلافاً لليهود.
قال: (وفي هذا الحديث دليل لجواز أكل شحوم ذبائح اليهود، وإن كانت شحومها محرمة عليهم، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وجماهير العلماء).
واليهود لا يأكلون الخنزير، وإنما النصارى هم الذين يأكلون الخنزير، مع أن الله تعالى حرّم على النصارى الخنزير، أي: أنه ليس حلالاً.
قال: (قال الشافعي وأبو حنيفة والجمهور في شحوم اليهود: لا كراهة فيها، وقال مالك: هي مكروهة.
وقال أشهب وابن القاسم المالكيان وبعض أصحاب أحمد: هي محرمة.
وحكي هذا أيضاً عن مالك واحتج الشافعي والجمهور بقول الله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة:5].
أي: ذبائح أهل الكتاب).
ولا يقصد بالطعام الفاصوليا والبطاطس فهذا حلال حتى وإن كان في أرض مجوسية، فإنه حلال.
إذاً: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة:5] يحمل معنى مقيداً عن مطلق الطعام وهو الذبائح، فإذا ذبح اليهود وذبح النصارى فذبيحة اليهودي وذبيحة النصراني قد أحلها الله تعالى لنا، أما ذبيحة تارك الصلاة فهي حرام، قال الله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة:5] طعامهم حل لكم في كل وقت في الحرب وفي غير الحرب.
قال: (قال المفسرون: المراد به: الذبائح ولم يستثن منها شيئاً لا لحماً ولا شحماً ولا غيره.
وفي هذا الحديث: حل ذبائح أهل الكتاب وهو مُجمع عليه ولم يخالف في ذلك إلا الشيعة).
فالشيعة لا يأكلون من ذبائح أهل الكتاب، ولا شك أن هذا مخالف لما عليه أهل السنة والجماعة.
قال: (ومذهبنا ومذهب الجمهور إباحتها سواء سموا الله تعالى عليها أم لا.
وقال قوم: لا يحل إلا أن يسموا الله تعالى، فأما إذا ذبحوا على اسم المسيح أو كنيسة ونحوها فلا تحل تلك الذبيحة عندنا) وهذا الذي يترجّح لدي، إذا ذبحوا باسم الصليب أو المسيح أو الكنيسة فإن هذا شرك بالله تعالى، أما اليهود الذين يعتقدون أن الله تعالى في السماء، والنصارى الذين يعتقدون أن الله تعالى في السماء، وأن عيسى هو نبي الله وكلمته وروح منه ألقاها إلى مريم، فإذا كان هذا معتقد اليهودي أو النصراني وذبح فإن ذبيحته حلال، ودون ذلك خرط القتاد.
قال: (وبهذا قال جماهير العلماء).
أما قوله: (فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحييت منه) أي: حينما أُلقي إليه جراب من شحم أو لحم قال: فأخذته فاحتضنته مخافة أن يأخذه غيري.
قال: والله لا أعطي اليوم من هذا أحداً شيئاً.
ثم نظر بعد أن قال كلمته فإذا رسول الله عليه الصلاة والسلام قد سمع الكلمة وابتسم لها، فهذه الابتسامة الرقيقة اللطيفة جعلت الحياء يذبح قائلها فقال: (فاستحييت منه).
والله(90/15)
شرح صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - جواز قتال من نقض العهد وجواز إنزال أهل الحصن على حكم حاكم عدل
بين لنا الدين أن الأصل في الدماء الحرمة، ولكنه أجاز لنا قتال من نقض العهد، وإنزال أهل الحصن على حُكم حاكم عدل أهل للحكم، وقد نزل بنو قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرد حكمهم إلى سعد بن معاذ، الذي حكم فيهم بحكم الله عز وجل.(91/1)
باب جواز قتال من نقض العهد
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، أما بعد، فمع الباب الثاني والعشرون: (باب: جواز قتال من نقض العهد).
وأنتم تعلمون أن من كان في عهد أو ذمة أو ميثاق يحرم قتله، قال عليه الصلاة والسلام: (من قتل ذمياً فليس مني).
وفي رواية: (فليس منا).
وقال عليه الصلاة والسلام: (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة).
فالدماء الأصل فيها المنع والحرمة، فالإنسان ذاته يحرم عليه أن يقتل نفسه، وفي الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تحسى سماً فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تردى من جبل فهو يتردى من جبل في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً) ولا يصح من المسلم أن يقول: أنا حر فيقتل نفسه، إنما هو عبد لله تعالى، لا يصدر إلا عن أمر الله وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام.
هذا شأن الإنسان مع نفسه، وشأنه كذلك مع أهل العهد والذمة، ثم شأنه مع عامة الدماء، الحرمة الأكيدة؛ ولذلك أخرج البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)، وقال عليه الصلاة والسلام: (لزوال الدنيا أهون على الله عز وجل من قتل مؤمن بغير حق).
والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة جداً: (ولا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيّب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة)، وقال عليه الصلاة والسلام: (من بدّل دينه فاقتلوه) أي: من بدّل دين الإسلام وارتد عنه فحكمه القتل، أما غير ذلك فلا، تحت هذا التبويب فنقول: لا يجوز قتال أهل العهد والذمة والميثاق من غير المسلمين.
لكن لو نقضوا العهد هل يجوز قتالهم؟
الجواب
نعم.
يجوز قتالهم؛ لأنهم نقضوا العهد، ولا يحل للمسلم أن يبدأ هو بنقض العهد؛ لأن الأصل في المسلمين الالتزام بالمواثيق والعهود.
قال: (وجواز إنزال أهل الحصن على حكم حاكم عدل أهل للحكم).
انظر إلى الألفاظ: (على حكم حاكم عدل أهل للحكم).
يعني: أن يكون من أهل الاجتهاد، فلا آتي برجل من الشارع لا علاقة له بالشرع ولا بالدين ولا يعرف شيئاً وأقول له: احكم بيننا.
فإنه ما أضاع الدين إلا هذه المجالس العرفية التي لا تمت إلى الإسلام بصلة، فالمجلس الذي يحكم بكتاب الله وسنة رسوله لا شك أن حكمه مقدّم على أحكام القوانين الوضعية كلها، أما إذا حكم بالهوى والرأي فحكمه وحكم المحكمة سواء؛ لأن كلاهما حكم بغير ما أنزل الله.
أما إذا كان القاضي أو العمدة أو المُحكّم في قرية أو في مدينة أو في حي من الأحياء يحكم في هذه المجالس التي تسمى بالمجالس العرفية، فلا بأس بهذا القضاء إذا كان يستند إلى كتاب الله وإلى سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن في الغالب أن هذه المجالس إنما تعتمد على الاجتهادات الشخصية والآراء الفرعية التي لا علاقة لها بدين الله تعالى.
فمن صفة الحاكم: أن يكون إنساناً عدلاً، والعدل في اصطلاح العلماء عموماً: هو من كان له ملكة تحمله على ملازمة التقوى والمروءة.
وأنتم تعلمون أن الفسق يخرم العدالة، فالحاكم العدل يكون ملازماً للتقوى والمروءة ويتعفف عن المباح؛ لأن هذا المباح يستهجنه العرف في حق ذوي الهيئات.
فأنت من الممكن أن تأكل وتشرب في الشارع، لكن حينما يكون شيخاً كبيراً أو رئيس مجلس إدارة شركة ويمسك (سندويتش) ويأكل في الشارع فإن الناس يستغربون منه إذا رأوه يأكل في الشارع، فهو يتعفف عن هذا مع أنه مباح.
تصور أن شيخاً محترماً يشرب سيجارة -وهي محرمة- ويمشي في الشارع ويقابل آخر يشرب السيجارة، فالسيجارة من الملتحي أشد نكارة، والذي يُنكر عليه هو الحليق الذي يشرب الدخان فيقول له: يا شيخ! عيب عليك.
فعامة الناس يقسّمون الناس أقساماً، ويجعلون لكل قسم هيئته وحشمته، فلا ينبغي للإنسان أن يتنازل عن ذلك.
فلابد أن يكون الحاكم عدلاً أهلاً للحكم.
أي: مجتهداً.
أي: أنه حصّل أدوات الاجتهاد وأذن له الشرع أن يجتهد في إنزال الأحكام الشرعية منازلها الطبيعية.(91/2)
شرح حديث نزول بني قريظة على حكم سعد بن معاذ
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن المثنى وابن بشار] ومحمد بن المثنى ومحمد بن بشار كلاهما فرسا رهان في السن والعلم والتقوى والعبادة، فإذا قرأت ترجمة أحدهما فكأنما تقرأ ترجمة الاثنين إلا أنهما يختلفان في الاسم.
قال: [وألفاظهم متقاربة.
قال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا غندر عن شعبة]، وغندر لقب له بمعنى: مشاغب في لغة الحجازيين، فـ محمد بن جعفر البصري كان يشغب على ابن جريج عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي، فكان ابن جريج يقول له: اسكت يا غندر! فلقّب بـ غندر واشتهر بهذا اللقب.
[وقال الآخران: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن سعد بن إبراهيم المدني قال: سمعت أبا أمامة بن سهل بن حنيف قال: سمعت أبا سعيد الخدري -وهو سعد بن مالك بن سنان المدني - قال: نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ].
وهم يهود؛ لأن يهود المدينة كانوا ثلاث قبائل: بني قريظة، وبني قينقاع، وبني النضير، وحاربهم النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: [(نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ)] ومعنى نزل.
أي: قبلوا أن يحكم فيهم سعد بن معاذ، وسعد بن معاذ سيد الأوس.
قال: [(فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد فأتاه على حمار)] وفي هذا: جواز ركوب الحمار، وهذا أمر يعرفه القاصي والداني، حتى أجهل الجهال يركبون الحمير بغير حرج ولا نكير، وكان للنبي عليه الصلاة والسلام حمار يسمى (يعفور) فكان يركبه ويردف خلفه بعض أصحابه، كما أردف معاذ بن جبل وأردف أسامة بن زيد وأردف الحسن والحسين.
والإرداف: أن يأخذ المرء آخر خلفه لا أمامه، فالإرداف دائماً يكون في الخلف.
والحمار لا يؤكل لحمه.
لكن هب أن هذا الحمار عرق، فأصاب ثوبك بعرقه، فهل يتنجّس الثوب؟
الجواب
لا يتنجّس مع أنه غير مأكول اللحم، فعرقه لا يضر.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن عرق ما لا يؤكل لحمه ينجّس.
ومذهب جماهير العلماء: أن عرق غير مأكول اللحم لا ينجّس.
وهو الصواب.
والنبي عليه الصلاة والسلام ركب الحمار من عرفات وتوضأ وضوءاً خفيفاً، فقال أسامة بن زيد: (يا رسول الله! الصلاة.
قال: الصلاة أمامك) أي: في مزدلفة، ونزل من على حماره فصلى المغرب والعشاء.
قال: [(فلما دنا قريباً من المسجد)] أي: سعد بن معاذ لما اقترب من المسجد، والنبي صلى الله عليه وسلم كان في بني قريظة، وبنو قريظة كانوا في عوالي المدينة، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان فيهم حين طلب سعد بن معاذ ليحكم فيهم، فقوله: (فلما دنا سعد من المسجد) المسجد عند الإطلاق يعني: المسجد النبوي، ولكن بعض أهل العلم حكوا أن لفظ: (من المسجد) وهم من الراوي، فذكره تصحيفاً أو باجتهاد منه، أو روى ذلك رواية بالمعنى؛ لأن سعداً كان في المسجد حينما أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم من عوالي المدينة وهو في بني قريظة.
والمقصود: أن النبي صلى الله عليه وسلم اختص مكاناً في بني قريظة ليصلي فيه، فأسماه الراوي مسجداً؛ لأن المسجد في اللغة: هو كل أرض يُسجد عليها، والنبي صلى الله عليه وسلم اختص مسجداً طيلة مدة بقائه في بني قريظة حتى يصلي فيه، وأعلم أصحابه أنه إذا حان وقت الصلاة اجتمعوا في هذا المكان، فسماه الراوي: مسجداً.
قال: [(فلما دنا قريباً من المسجد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى سيدكم، أو قال: قوموا إلى خيركم).
وفي هذا استحباب القيام لأهل الفضل ومن يشار إليهم بالبنان، ولا حرج في ذلك، وكثير من الناس يتحرّج من ذلك ويفهم القضية على غير وجهها، خاصة بعض طلاب العلم المبتدئين الذين علموا بقول النبي صلى الله عليه وسلم حينما دخل على أصحابه فقاموا إليه فقال: (لا تفعلوا كما تفعل الأعاجم بملوكها) أي: لا تقوموا لي كما كانت الأعاجم تقوم لملوكها، فحملوا هذا النهي على عمومه المطلق، وقالوا: لا يجوز القيام لأحد قط مهما بلغ قدره وعلت منزلته.
وهذا فهم خاطئ؛ لأنه إذا أردت أن تخرج بحكم واحد من قضية اختلفت فيها ظواهر الروايات؛ فينبغي أن تجمع الروايات كلها في الباب الواحد، ثم تؤلّف بينها لتخرج بحكم موافق للصواب، وإلا فلا يحل لك أن تنظر في دليل واحد ثم تخرج بحكم، وتعتقد به مدة من الزمان وتعمل به، ثم تفاجأ بنص آخر يهدم هذا المعتقد، ويهدم هذا العمل الذي عملته منذ كذا وكذا، ولذلك عمل بعض السلف برواي(91/3)
شرح حديث مجيء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد غزوة الأحزاب وأمره بقتال بني قريظة
قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن العلاء الهمداني كلاهما عن ابن نمير] وابن نمير هو عبد الله وليس محمد بن عبد الله؛ لأن ابن نمير يُطلق على الوالد وعلى الولد، فالوالد عبد الله بن نمير والولد هو محمد بن عبد الله بن نمير وكلاهما يقال له: ابن نمير، فإذا كان في طبقة شيوخ مسلم فهو الولد محمد، وإذا كان في طبقة شيوخ شيوخ مسلم فهو الوالد عبد الله.
[قال ابن العلاء -أي: محمد بن العلاء الهمداني: حدثنا ابن نمير حدثنا هشام عن أبيه، وهو هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه -أي: عن عروة بن الزبير - عن عائشة]، عروة بن الزبير عائشة بالنسبة له خالته.
قال: [عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أصيب سعد يوم الخندق -أي: سعد بن معاذ الأوسي يوم الخندق- رماه رجل من قريش يقال له: ابن العرقة).
حِبّان بكسر الحاء رجل من قريش ابن امرأة يقال لها: العرقة.
والعرقة: هي المرأة الطيبة الرائحة، فكانت هذه المرأة تُكثر من الطيب، ولذلك لُقّبت بالعرقة.
وفي هذا: جواز أن يُنسب الرجل إلى أمه، وقد استقر في أذهان العامة أن الناس يُنادون بأسماء أمهاتهم يوم القيامة، وهو ليس كذلك.
والصواب: أن الرجل ينادى باسمه واسم أبيه.
أما جواز أن يُنسب الرجل إلى أمه، أو أن يُنادى ويُعرف بأمه، فهذا أمر يعرفه القاصي والداني، فـ ابن علية من المحدثين الكبار، وممن روى له البخاري ومسلم، وعليّة أمه، ولم ير المحدثون حرجاً في أن ينادوه ويسمونها فيقولون: حدثنا ابن عُليّة وأخبرنا ابن عُليّة؛ وذلك لأن نسبته إلى أمه صارت علماً عليه، فهم يقولون: حدثنا ابن عُليّة من باب التمييز له عن غيره ممن تسمى باسمه في نفس الطبقة؛ لأنهم لو قالوا: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم فهناك في نفس الطبقة إسماعيل بن إبراهيم، فيقولون: ابن عُليّة تمييزاً، وهو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي الضبي.
وكان إسماعيل هذا يقول: من قال عني: ابن عُليّة لا أُجيزه على الصراط.
أي: أنه كان يكره ذلك، لكن كان العلماء يقولون: ابن عُليّة مع هذا التحذير الشديد، وليس من باب التعيير ولا التنابز بالألقاب، ولكن من باب التمييز له عن غيره، ومن باب النصيحة في الدين، فكانوا يفعلون ذلك.
أما الشافعي فكان يهرب من هذا وذاك ويقول: حدثنا إسماعيل الذي يقال عنه: ابن عُليّة، أي: أنه لا يلقبه هو وإنما كان يسمع الناس يقولون عنه ذلك.
[قالت عائشة: (أُصيب سعد يوم الخندق رماه رجل من قريش يقال له: ابن العرقة، رماه في الأكحل -أي: أصابه في أكحل اليد، وهو العرق المتشعّب في اليد- فضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد يعوده من قريب)] أي: أنه حينما أُصيب سعد في غزوة الخندق.
أقام النبي صلى الله عليه وسلم خيمة له في مسجده حتى يتسنى للنبي صلى الله عليه وسلم زيارته بين الحين والحين، ويكون قريباً منه، وأنتم تعلمون أن بيوت النبي كانت في مسجده عليه الصلاة والسلام، فكان يسهل عليه أن يزور الجرحى، وعلى رأس الجرحى سعد بن معاذ.
وفي هذا رسالة جديدة للمسجد وهو تطبيب المرضى ومداواة الجرحى، وغير ذلك مما هو أساس في رسالة المسجد في مجتمع الإسلام، فالمسجد ليس للصلاة فحسب، بل الصلاة هي أعظم نُسك يؤدى في المسجد ولأجلها بنيت المساجد، لكن كان الحبشة يلعبون في المسجد، والنبي ينظر إليهم عليه الصلاة والسلام، وعائشة تنظر إليهم وإلى لعبهم بغير نكير من الصحابة، ولا يحل لأحد أن يُنكر مع إقرار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
ورسالات المسجد قد صُنّفت فيها رسائل كثيرة، وأعظمها رسالة الشيخ جمال الدين القاسمي في مجلد كبير ذكر فيه رسالة المسجد في الإسلام، فمن أراد الرجوع إليها فليرجع.
قال: [(فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق وضع السلاح)]؛ وذلك لأن الحرب وضعت أوزارها وانتهت، فكل إنسان معه سلاح وهو راجع من الغزو من الطبيعي جداً أن يضع السلاح ويخلع لأمته ويغتسل، ويلبس ملابس أخرى.
قال: [(فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق وضع السلاح فاغتسل، فأتاه جبريل عليه السلام(91/4)
استجابة الله لدعاء سعد واستشهاده بسبب الجرح الذي أصابه
قال: [حدثنا أبو كريب - محمد بن العلاء الهمداني - حدثنا ابن نمير عن هشام أخبرني أبي عن عائشة رضي الله عنها: أن سعداً قال وتحجّر كلمه للبرء] تحجّر.
أي: يبس وتماثل جرحه للشفاء.
والكلم: هو الجرح.
رجل مكلوم.
أي: مجروح أو مصاب، كالإنسان الذي عضّه الكلب، فأثر العض يسمى كلِب، ولذلك فالعيادات التي خُصصت لمعالجة عضات الكلاب والحيوانات تسمى عيادات (الكلِب).
والكلم: هو الجُرح.
ومن الأخطاء اللغوية أن تقول: جرح؛ لأن الجرح ضد التعديل.
فلما أقول: فلان هذا فاسق، فلان ضعيف، فلان ثقة أو لا بأس به، أو فلان كذّاب، فهذا يسمى جَرحاً، فأنا أجرح فلاناً، أي: أذكر فيه قولاً شديداً سيئاً؛ لأنه يناسب حالته ويناسب عدالته.
ولما أقول: حافظ، إمام، ثقة، أمير المؤمنين، فهذا يسمى تعديلاً.
أي: أني أقول فيه قولاً عدلاً.
قال: [وتحجّر كلمه للبرء]، والبرء هو: الشفاء، أي: تماثل جرح سعد بن معاذ للشفاء.
قال: [(فقال -أي: سعد بن معاذ - اللهم إنك تعلم أن ليس أحد أحب إلي أن أجاهد فيك من قوم كذّبوا رسولك وأخرجوه)].
أي: أنه يقول: يا رب! إنك لتعلم مني ومن سريرتي أنه ليس هناك عمل أحب إليّ من أن أُقاتل قوماً كذّبوا نبيك وأخرجوه من بلده.
ثم قال: [(اللهم فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني أجاهدهم فيك، اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها واجعل موتي فيها)] أي: فأيقظها مرة أخرى وأحيها ليكون شيهداً.
قال: [(فانفجرت من لبّته)].
اللبّة هي: النحر.
وفي رواية: (فانفجرت من ليلته).
قال القاضي عياض: وهو الصواب.
أي: بمجرد أن دعا سعد بن معاذ انفجرت.
قال: [(فانفجرت من لبّته فلم يرعهم إلا والدم يسيل إليهم)] أي: دم سعد بن معاذ يسيل إليهم في الخيمة التي ضُربت في المسجد، فكان الدم يسيل منه وينهمر انهماراً ربما أفزع كل من رأى الدم من لبّته، هذا هو الأصل الذي ذكره الحافظ في الفتح.
فانفجر الدم أي: سال الدم.
قوله: (من لبّته) أي: من صفحة عنقه، كأنه أُصيب في عنقه رضي الله عنه وكانت له خيمة في المسجد.
قال: [(فلم يرعهم إلا والدم يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة! ما هذا الذي يأتينا من قِبلِكم؟ فإذا سعد جرحه يغذ دماً)] يغذّ يعني: يسيل سيلاناً عظيماً، فمات منها رضي الله عنه.
وفي هذا أن الله تعالى استجاب له وجعل حتفه فيها؛ لأنه قال: فافجرها واجعل موتي فيها.
فإن قيل: ألا يتعارض دعاء سعد مع: (لا يتمنين أحدكم الموت)؟
الجواب
النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به)، فيدعو الإنسان على نفسه فيقول: يا رب! أهلكني، يا رب! خذني، يا رب! أمتني ونحن نسمع الجُهّال يقولون هذا، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تمني الموت لمجرد نزول الضر والبأس بالعبد، لكن سعد بن معاذ تمنى الموت شهيداً، وأنتم تعلمون ما للشهيد من مناقب وفضائل، فهو تمنى الموت بعد بذل الجهد في الجهاد؛ ليموت ويلقى الله تعالى شهيداً.
وأنت نفسك الآن تتمنى لو أن الحرب تقوم في بلد من البلدان فتشارك فيها فتُقتل فتكون شهيداً، فهذا تمنٍ للموت، لكنه تمنٍ للموت في ساحة الوغى، في ساحة الجهاد والقتال، ولا بأس بتمني الموت هاهنا، أما تمني الموت المنهي عنه هو أن يتمنى المرء الموت لضر نزل به ولألم أو هم، فيقول: يا رب! لم يبق إلا الموت فأنا أريد أن أموت الآن.
وقوله: (فافجرها) فيه رأيان، والرأي الذي رجّحه الحافظ في الفتح: أي: فافجر الحرب بيننا وبينهم مرة أخرى حتى أشارك فيها وأموت.
أما النووي فقد رجّح أنه طلب أن يفجّر الله الجرح مرة أخرى بعد أن كان جفّ، فسال الدم من هذا الجرح -إما من الأكحل وإما من اللبة: صفحة العنق- حتى مات منها.(91/5)
شرح حديث عائشة في موت سعد بن معاذ
[وحدثنا علي بن الحسين بن سليمان الكوفي قال: حدثنا عبدة -وهو عبدة بن سليمان - عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة غير أنه قال: (فانفجر من ليلته -أي: فانفجر الجرح من ليلته- فما زال يسيل حتى مات).
وزاد في الحديث قال: فذاك حين يقول الشاعر: ألا يا سعد سعد بني معاذ فما فعلت قريظة والنضير وفي رواية: لما فعلت قريظة والنضير.
قال: لعمرك إن سعد بني معاذ غداة تحملوا لهو الصبور] أي: أنه كان صبوراً جداً في القتال.
قال: [تركتم قدركم لا شيء فيها وقدر القوم حامية تفور] وهذا موطن الشاهد، فهذا الشاعر يلوم ويعاتب سعد بن معاذ، فأنت يا سعد من حلفائنا تحكم فينا بقتل المقاتلة وسبي الذراري والنساء؟ أي: أنك لم تفعل ما فعله عبد الله بن أُبي ابن سلول مع بني قينقاع، الذي ذهب ليشفع لهم عند النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قبِل النبي صلى الله عليه وسلم شفاعة عبد الله بن أُبي ابن سلول في بني قينقاع وعفا عنهم، وكان حليفاً لهم، أما أنت يا سعد! فلم تفعل معنا ونحن حلفاؤك كما فعل ابن سلول مع حلفائه من بني قينقاع، فقدرهم يغلي أي: بيوتهم عامرة بهم أحياء يمارسون حرياتهم، أما أنت فقد حكمت علينا بالقتل والسبي، وتركت قدورنا فارغة، فعبّر عن الخيام عن البيوت وأحياء بني قريظة بالقدور.
قال: [تركتم قدركم لا شيء فيها وقدر القوم حامية تفور وقد قال الكريم أبو حباب أقيموا قينقاع ولا تسيروا] وأبو حباب هي كنية عبد الله بن أبي ابن سلول، وكأنه يقول: التزموا أماكنكم ولا تسيروا.
قال: [وقد كانوا ببلدتهم ثقالاً كما ثقلت بميطان الصخور] قال الإمام النووي: (وإنما قصد هذا الشاعر تحريض سعد على استبقاء بني قريظة حلفاءه، ويلومه على حكمه فيهم، ويذكّره بفعل عبد الله بن أُبي، ويمدحه بشفاعته في حلفائهم بني قينقاع).(91/6)
باب المبادرة بالغزو، وتقديم أهم الأمرين المتعارضين
الباب الثالث والعشرون: (باب المبادرة بالغزو -المبادرة: المسارعة- وتقديم أهم الأمرين المتعارضين).
أي: لو كان عندي أمران متعارضان أُقدّم أهم الأمرين، ولذلك يقول العلماء: ليس بفقيه من فرّق بين الخير والشر، إنما الفقيه من عرف شر الشرين وخير الخيرين.
أما معرفة الخير من الشر فهو أمر معلوم لكل إنسان، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الحلال بيّن والحرام بيّن) أي بيّن لكل الناس، من مِن الناس لا يعرف أن الزنا حرام، وأن القتل حرام، وشرب الخمر حرام، والسرقة حرام؟ كل الناس يعرفون ذلك، وكل الناس يعرفون أن الله أوجب الصلاة والصيام والزكاة والحج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنه بيّن قال: (وبينهما -أي: بين الحلال والحرام- أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس) ومفهوم المخالفة أنه: يعلمهن قليل من الناس، وهم الذين قال الله عنهم: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] أي: أهل العلم.(91/7)
شرح حديث ابن عمر في خروج المسلمين إلى بني قريظة
قال: [وحدثني عبد الله بن محمد بن أسماء الضبعي قال: حدثنا جويرية بن أسماء عن نافع عن عبد الله بن عمر قال: (نادى فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: صاح فينا بصوت عال، وفي هذا جواز رفع الصوت بالعلم- يوم انصرف عن الأحزاب -أي: منصرفه من غزوة الأحزاب- أن لا يصلين أحد الظهر إلا في بني قريظة)].
وفي حديث آخر: (فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة الأحزاب وضع سلاحه واغتسل فقال جبريل: يا محمد! أوضعت السلاح؟ قال: نعم.
قال: أما والله ما وضعنا السلاح اذهب إلى بني قريظة، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم منادياً في قومه: أن لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة) وفي رواية: (لا يصلين أحد الظهر إلا في بني قريظة).
قال: [(فتخوّف ناس فوت الوقت، فصلوا دون بني قريظة)] أي: صلوا قبل أن يصلوا إلى بني قريظة، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تصلوا إلا في بني قريظة.
قال: [(وقال آخرون: لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم)] أي: حتى لو خرج الوقت ودخل علينا المغرب لا نصلي العصر إلا في بني قريظة كما أمرنا عليه الصلاة والسلام.
[(وإن فاتنا الوقت قال -أي عبد الله بن عمر - فما عنّف واحداً من الفريقين)] أي: فلما أُخبر عليه الصلاة والسلام أن قوماً من أصحابه صلوا قبل أن يصلوا إلى بني قريظة، وأن قوماً لم يصلوا العصر حتى دخل وقت المغرب ما عنّف واحداً من الفريقين؛ وذلك لأن كليهما مجتهد.(91/8)
اختلاف العلماء في كون الخلاف داخلاً تحت تعدد الحق
اختلف العلماء في الخلاف: هل الخلاف حق وباطل، أم أن الحق متعدد؟ والمسألة محل نزاع مبحوث في كتب أدب العلم، وقد استوعبه بحثاً الحافظ الكبير ابن عبد البر في كتاب (جامع بيان العلم وفضله)، وذكر هذين الرأيين وأتى بأدلة لكل رأي، ورجّح أن الخلاف إذا كان مبناه على الدليل فهو راجح ومرجوح، وإذا كان مبناه على غير الدليل فهو خطأ وصواب، أو حق وباطل.
أي أننا حينما نختلف في مسألة شرعية، فأنت تأتي عليها بأدلة من الكتاب والسنة، وأنا لا آتي عليها إلا بالرأي والهوى والمزاج والعقل، فالحق مع الكتاب والسنة، وما دام الحق معك فالباطل معي.
لكن هذا الخلاف الذي وقع بين الصحابة: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) فيه رأيان: الرأي الأول: من قال: النبي عليه الصلاة والسلام أراد بهذا الأمر البشارة، فاجتهدوا وأولوا.
قالوا: فنحن مستقرٌ عندنا أنه لا يحل لواحد من المسلمين أن يترك صلاة حتى يخرج وقتها، فمعنى كلام النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) التبشير بأن النصر سيكون قبل دخول المغرب، وأنكم يا معشر الصحابة! ستصلون في بني قريظة، فهو لم يرد ظاهر الأمر.
إذاً هؤلاء اجتهدوا اجتهاداً يسمح به النص، وعندهم فيه حق.
الرأي الثاني: الذين اجتهدوا كذلك في النص، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك ولا يأمر عن هوى، إنما يأمر بوحي السماء، وقد أمرنا ألا نصلي العصر إلا في بني قريظة، ولا نصليه إلا في بني قريظة حتى لو خرج الوقت، فالذي يتحمل هذه المسئولية هو النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه هو الذي أمر بذلك: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4] منه سبحانه وتعالى.
فحينئذ أخذ بعض أصحابه بظاهر النص والتزموا ترك الصلاة حتى فتحت على أيديهم ديار بني قريظة.
فلما اجتهدوا في هذا وذاك علم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم ما فعلوا ذلك عن هوى ولا عن رأي غير معتبر، وإنما فعلوا ذلك عن اجتهاد، فأقر كل واحد على اجتهاده، وما عنّف واحداً من الفريقين، فلم يقل للذي صلى: لم صليت وقد أمرتك ألا تصلي إلا في بني قريظة؟ ولم يقل للذي أخر: لم أخّرت وأنت تعلم أن تأخير الصلاة عن وقتها حرام وإثم عظيم، ربما يؤدي إلى كفر صاحبه، والخروج به من الملة.
ولكنه لم يعنّف هذا ولا ذاك؛ لأنه علم أن هذه الأفعال ما صدرت إلا عن اجتهاد؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إذا اجتهد الحاكم -أي: المجتهد- فأصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر واحد).
وفي هذا: جواز الاجتهاد لكن لمن ملك أداة الاجتهاد، ويخرج من ذلك الذي لا يملك أداة الاجتهاد.
ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم (لكل مجتهد)؟ وأهل الاجتهاد هم أهل الحل والعقد في الأمة، والأثبات من أهل العلم، وأما اجتهاد من هم دون هؤلاء فغير معتبر.(91/9)
الجمع بين حديثي: (لا تصلوا الظهر) و (لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة)
في رواية: (لا تصلوا الظهر إلا في بني قريظة)، ولكن أشهر الروايات (لا تصلوا العصر) وهي رواية الجمهور.
قال الإمام النووي: لنعتبر أن كلا الروايتين صحيحة، رواية: (لا تصلوا الظهر إلا في بني قريظة).
ورواية: (لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة)؛ لأنه يمكن الجمع بين الروايتين، والجمع بينهما أولى من رد أحدهما، فإن قلت: إن إحدى الروايتين صحيحة والأخرى باطلة -فأنا في هذه الحالة سأرد هذه الرواية، ولا أعمل بها مطلقاً- فلا شك أن إعمال الدليلين خير من إهمال أحدهما، وهذه قاعدة أصولية.
قال الإمام النووي: (فيُحمل قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تصلوا الظهر إلا في بني قريظة) أن هذا الأمر وجّه إلى مقدمة الجيش الذي سبق في أول الأمر، وحينما اجتمعت مؤخرة الجيش في وقت متأخر -أي: قرب صلاة العصر- قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة).
فهم قد صلوا الظهر في المدينة، أما الذي خرج قبل صلاة الظهر -أي: في مقدمة الجيش- فقال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تصلوا الظهر إلا في بني قريظة)).
ويقول: (وأما اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في المبادرة بالصلاة عند ضيق وقتها وتأخيرها، فسببه أن أدلة الشرع تعارضت عندهم).
صلوا أو لا تصلوا.
ووجه التعارض أنه قال: (لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة) والذي يعارضه هو الذي استقر عندهم قولاً وعملاً أنهم يصلون الصلاة لوقتها، وأن أفضل الأعمال الصلاة على وقتها، فالسنة العملية بيّنت ذلك، فهذا تعارض عندهم فيما استقر عندهم وعملوا به عشر سنوات أو قريباً من ذلك، وبين قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة) فلما تعارضت الأدلة عندهم اجتهدوا، بأن الصلاة مأمور بها في الوقت مع أن المفهوم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يصلين أحد الظهر -أو العصر- إلا في بني قريظة)، المبادرة بالذهاب إليهم.
أي: كما تقول أنت لابنك: لا يزال هناك وقت إلى أن يؤذن المغرب تقريباً نصف ساعة، فلابد أن تصل إلى الشيخ الذي تحفظ عنده القرآن وتصلي عنده المغرب، فانتبه أن تتأخر، وحينما تصل هناك اتصل بي أو أنا أتصل بك، وسأكلم الشيخ بنفسي، أو اجعل الشيخ يتصل بي ويكلمني.
فأنا في هذه الحالة ما أردت أن ابني لو أدركه المغرب في الطريق لا يصلي إلى أن يدخل وقت العشاء، وإنما أردت المبادرة والمسارعة إلى الذهاب للشيخ.
قال: (أراد بذلك المبادرة بالذهاب إليهم، وأن لا يُشتغل عنه بشيء).
أي: لا يُشتغل عن مجاهدة ومقاتلة بني قريظة بشيء، إلا أن تأخير الصلاة مقصود في نفسه من حيث إنه تأخير.
(فأخذ بعض الصحابة بهذا المفهوم نظراً إلى المعنى لا إلى اللفظ).
وفي هذا الحديث دلالة لمن يقول بالمفهوم والقياس ومراعاة المعنى، وهذا مذهب جماهير العلماء خلافاً للظاهرية الذين يأخذون بظاهر النص.
وفي هذا الحديث أنه لا يُعنف المجتهد فيما فعله باجتهاده، إذا بذل وسعه في الاجتهاد.
يعني: إذا أدى ما عليه حتى وإن أخطأ فلا يلام، المهم أنه بذل الوسع واستفرغ الجهد، وكان أهلاً لهذا الاجتهاد، فحينئذ لو أخطأ لا يلام؛ لأنه قد أدى ما عليه، وإذا كان الله تعالى يؤجره على اجتهاده فكيف تعنّفه أنت على النتيجة التي وصل إليها؟ وقد يستدل بهذا الحديث طائفة على أن كل مجتهد مصيب، وطائفة أخرى تقول: لم يصرح بإصابة الطائفتين.
يعني: ليس هناك تصريح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهؤلاء: أنتم عندكم حق.
وقال لهؤلاء: عندكم حق.
وإنما سكت ولم يعنّف.
والأئمة يقولون في قضية الإجماع السكوتي الذي هو محل نزاع بين أهل العلم الأصوليين: هل يُنسب لساكت قول أم لا؟ الشافعي يقول: لا يُنسب لساكت قول.
أما النبي عليه الصلاة والسلام فيختلف عن بقية الأمة؛ لأن سكوتي أنا عن الباطل يبقيه باطلاً كما هو، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لا يسكت على باطل قط، بل لا يحل له أن يسكت على باطل قط؛ ولذلك قال العلماء في تعريف السنة: هي أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته.
فإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: كذا فهذا سنة.
وإذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً كان سنة.
إذا رأى شيئاً أو سمع بشيء ولم يُنكره كان كما لو كان هو الذي فعل، أو هو الذي قال؛ لأنه لو كان باطلاً لوجب على النبي صلى الله عليه وسلم وجوباً شرعياً أن ينكره على الفور والتو.
فلو فعل صحابي شيئاً بحضرة النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يُنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم نُسب هذا الفعل إلى النبي عليه الصلاة والسلام؛ وذلك لأن الحجة ليست في فعل الصاحب، وإنما في إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لفعل صاحبه، والنبي عليه الصلاة والسلام عصمه ربه في تلقي الوحي عن الله، وفي تبليغ الوحي إلى الناس، والسنة التقريرية من الوحي المبلّغ.
وكذلك من سنته: أوصافه عليه الصلاة(91/10)
شرح صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل يدعوه
بعد أن استقر أمر الدعوة بصلح الحديبية، وتوطدت أركان الإسلام في الجزيرة العربية، قام الرسول صلى الله عليه وسلم بإرسال الرسائل إلى خارج الجزيرة، إلى ملوك فارس والروم يدعوهم إلى الإسلام، ومن هؤلاء الملوك عظيم الروم هرقل الذي عرف أن محمداً هو النبي المنتظر في آخر الزمان، إلا أن حبه للملك والرياسة منعه من قبول الحق والإذعان، وبقي على الضلالة والطغيان، حتى أذهب الله ملكه، وأورث الأرض عباده الصالحين.(92/1)
باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
الباب السادس والعشرون من كتاب الجهاد والسير (باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم على هرقل يدعوه إلى الإسلام).
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي -وهو المعروف بـ إسحاق بن راهويه - وابن أبي عمر - محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني -نزيل مكة- ومحمد بن رافع وعبد بن حميد -واللفظ لـ ابن رافع - قال ابن رافع وابن أبي عمر: حدثنا، وقال الآخران: أخبرنا عبد الرزاق -وهو ابن همام الصنعاني اليمني - أخبرنا معمر -وهو ابن راشد البصري اليمني - عن الزهري - محمد بن مسلم بن شهاب الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة - ابن مسعود المسعودي الهذلي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن أبا سفيان أخبره من فيه إلى فيه -أي: من فمه إلى فمه مشافهة- قال -أي: أبو سفيان: (انطلقت في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم)] وهذه المدة هي المعروفة بصلح الحديبية بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش، وكانت مدتها عشر سنوات عقدت في آخر العام السادس الهجري، ولكن المشركين نقضوا عهدهم مع النبي عليه الصلاة والسلام، فغزاهم وفتح مكة في العام الثامن من الهجرة، فهذه هي المدة التي كانت بين النبي عليه الصلاة والسلام وبين كفار قريش.(92/2)
انطلاق أبي سفيان إلى الشام ولقاؤه برسول رسول الله إلى هرقل الروم
يقول أبو سفيان: (انطلقت في المدة التي كانت بيني)؛ لأن المدة في الغالب كانت معقودة بين قريش متمثلة في صورة أبي سفيان، وبين المؤمنين متمثلة في صورة النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [(انطلقت في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينما أنا بالشام إذ جيء بكتاب من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل -يعني: عظيم الروم- قال: وكان دحية الكلبي جاء به)].
وهو دحية بن خليفة الكلبي من كبار أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، جاء بهذا الكتاب إلى هرقل.
قال: [(فدفعه إلى عظيم بصرى)] أي: لم يدفعه إلى هرقل مباشرة وإنما دفعه إلى أمير بصرى، وبصرى: قرية بين المدينة والشام.
دفع دحية الكلبي هذا الكتاب إلى عظيم بصرى؛ ليدفعه بدوره إلى هرقل، وعظيم بصرى هو الحارث بن أبي شمر الغساني، وبصرى هي المعروفة بحوران.
قال: [(فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل، فقال هرقل: هل ها هنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قالوا: نعم)] أي: هل هاهنا في بلاد الشام رجل من قوم ذاك الرجل الذي خرج في مكة ويزعم أنه نبي؟ أجابوه: نعم.
ولا بد أن يكون في الشام أحد من مكة، لكنه طلب مطلباً أخص من ذلك أن يكون هذا الموجود من أقارب ذلك الرجل الذي يزعم أنه نبي عليه الصلاة والسلام، وفي رواية: أن هرقل قال: قلّبوا الشام ظهراً إلى بطن وائتوني بقريب لذاك الذي يزعم أنه نبي، ففعلوا فوجدوا أبا سفيان.
قال: [(فدعيت في نفر من قريش)]، وفي رواية: أن هؤلاء النفر كانوا ثلاثين رجلاً وخرج بهم أبو سفيان إلى الشام في تجارة.
قال: [(فدخلنا على هرقل فأجلسنا بين يديه فقال: أيكم أقرب نسباً من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: قلت: أنا فأجلسوني بين يديه -أي: بين يدي هرقل - وأجلسوا أصحابي خلفي)] أجلسوا بقية الثلاثين أو الثلاثين الذين كانوا في هذا الركب مع أبي سفيان للتجارة خلف أبي سفيان، أما أبو سفيان نفسه فجلس مستقبلاً هرقل وبين يديه.
وهذه مجالس الملوك في الغالب، أن الوجيه إذا دخل على ملك من ملوك الدنيا أجلسه بين يديه، وأجلس أصحابه من بعده ومن دونه.
وهناك حكمة استخدمها هرقل في وضع هؤلاء خلف أبي سفيان؛ قال للترجمان الذي كان بينه وبين أبي سفيان: إني سائل هذا الرجل فإن كذب علي فأخبر هؤلاء أن يكذبوه، وإنكم لتعلمون أن أبا سفيان كان شريفاً عظيماً مرموقاً في الجاهلية وبين قومه، وإذا كان للرجل في قومه هذه المهابة وهذه المكانة فيصعب على أتباعه وقومه أن يكذّبوه وجهاً لوجه؛ ولذلك أجلسهم خلفه حتى إذا كذب كذبوه، ويسهل عليهم تكذيبه ولو بالإشارة؛ لأنه إن أجلسهم في مقابلة أبي سفيان ربما منعهم الحياء أو الخوف والمهابة أن يكذّبوه إذا كذب، فهذه الجلسة التي اختارها هرقل بحكمته وفطنته وذكائه فلا يبعد أن يكذّب هؤلاء القوم أبا سفيان إذا كذب.
قال: [(فدعا بترجمانه)] وكلمة ترجمان بفتح التاء أفصح من تُرجمان بضمها.(92/3)
موقف أبي سفيان بين يدي هرقل ملك الروم يسأله عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: [(فقال له: قل لهم: إني سائل هذا عن الرجل الذي يزعم أنه نبي، فإن كذبني فكذبوه.
قال: فقال أبو سفيان: وايم الله لولا مخافة أن يؤثر علي الكذب لكذبت) يقسم بالله أبو سفيان لولا أنه يؤثر عليه الكذب -أي: يتناقل العرب أن أبا سفيان كذب في يوم من الأيام مع شركه وكفره وعبادته للأصنام؛ فكان يستقبح الكذب إما بشرع من قبلنا وإما بالعرف والعادة، وما كان عليه بعض العرب من مكارم الأخلاق، وأن الكذب كان عندهم مستهجن ومستقبح؛ ولذلك تمنى أبو سفيان أن يكذب في هذا الموطن؛ لأن رأس مال أبي سفيان محاربة هذا النبي، ولذلك حينما سأله هرقل: هل يكذب هذا النبي؟ قال: لا، ثم رجع، فقال: إنه ساحر كذاب، فلم يلتفت إليها هرقل.
وفي رواية: أن هرقل قال: لا أريد شتمه.
فقال أبو سفيان: (وايم الله لولا مخافة أن يؤثر علي الكذب لكذبت).
وفي رواية: (فوالله لولا الحياء من أن يؤثر علي كذباً لكذبت عنه).
قال: [(ثم قال لترجمانه: سله: كيف حسبه فيكم؟ -والحسب: هو النسب- قال: قلت: هو فينا ذو حسب)] وأبو سفيان ذو حسب، وأنتم تعلمون أن أبا سفيان يلتقي مع الجد الرابع للنبي عليه الصلاة والسلام عبد مناف، فـ أبو سفيان إذا نفى نسب النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه نفاه عن نفسه.
قال: [(هو فينا ذو حسب.
قال: فهل كان من آبائه ملك؟) هل كان محمد هذا منحدر من سلالة فيها ملك؟ قال: (قلت: لا.
قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ -أي: قبل أن يزعم أنه نبي مرسل- قلت: لا)].
قال: [(ومن يتبعه: أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟)] ومعنى الأشراف هنا: أصحاب الكبر والوجاهة والنخوة.
فقال: [(قلت: بل ضعفاؤهم)] وهذا لا يعني: أن يكون هذا الكلام خرج مخرج الغالب؛ لأنه كان من أفضل أشراف العرب أتباع النبي عليه الصلاة والسلام كـ أبي بكر وعمر.
قال: [(أيزيدون أم ينقصون؟ قال: قلت: لا.
بل يزيدون قال: هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟)] أي: كرهاً وبغضاً في الدين؛ لأنه ربما يخرج من الدين أحد مكرهاً، فينطق بكلمة الردة وهو مكره، وهو لا يخرج في حقيقة الأمر، لكن في الظاهر أمام الناس أنه قد خرج، وربما يخرج الرجل من الدين ليس من باب السخط والكره لهذا الدين وإنما لمصلحة ينالها، أو لمال يقصده كـ عبيد الله بن جحش، ما ترك الدين إلا لحظ من حظوظ الدنيا.
قال: [(قلت: لا.
قال هرقل: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم.
قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قال: قلت: تكون الحرب بيننا وبينه سجالاً -أي: مداولة مرة لنا ومرة علينا- يصيب منا ونصيب منه.
قال: فهل يغدر؟ قلت: لا.
ونحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها)].
أي: لكن لا بد أن تعلم يا هرقل أننا الآن في مدة وعهد وأمان، ولا ندري ماذا يصنع فيها ربما يغدر، كأنه أراد أن يقول: ربما يغدر؛ لأن هرقل ضيّق عليه الخناق جداً، فما سأله إلا أسئلة صريحة واضحة لا تحتمل إلا نوعاً واحداً من الجواب إما سلباً وإما إيجاباً، فإنه ترك السلب مخافة أن يؤثر عنه الكذب، وأجاب بإجابات صريحة كلها في صالح النبي عليه الصلاة والسلام، إلا هذه الثغرة: هل يغدر؟ قال: لا، وربما يغدر؛ لأننا في مدة بيننا وبينه، والعهد لم ينته فربما يغدر، والله تعالى عاقبهم بأنهم هم الذين غدروا ولم يغدر النبي عليه الصلاة والسلام، فلما غدروا صاروا محاربين، فحاربهم النبي عليه الصلاة والسلام وفتح مكة في العام الثامن من الهجرة.
قال: [(فوالله ما أمكنني من كلمة أُدخل فيها شيئاً غير هذه)] أي: ما ترك لي ثغرة أبداً أتنقّص فيها محمداً أو أسبّه أو أغلبه إلا هذا السؤال.
وهذا يدل على ذكاء وفطنة وحكمة هرقل فقد كان ذكياً.(92/4)
تعليق هرقل على إجابات أبي سفيان
قال: [(فهل قال هذا القول أحد قبله؟ قال: قلت: لا.
قال لترجمانه: قل له: إني سألتك عن حسبه فزعمت أنه فيكم ذو حسب، وكذلك الرسل تُبعث في أحساب قومها)] أي: في أشرف الأقوام، وما أرسل الله تعالى رسولاً ولا نبياً إلا أرسله في أشرف أهل زمانه، وأنتم تعلمون أن قريشاً أشرف العرب في الجاهلية والإسلام إلى يومنا هذا، ومنهم النبي عليه الصلاة والسلام، بل هو خيار من خيار، وبنو عبد المطلب أشرف قوم في قريش ومنهم النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [(وسألتك هل كان في آبائه ملك؟ -وفي رواية: هل كان في آبائه من ملك؟ -وفي قراءة: من ملِك- فزعمت أن لا.
فقلت: لو كان من آبائه ملك قلت: رجل يطلب ملك آبائه)] فهذا في صالح النبي عليه الصلاة والسلام، لو كان أحد من آبائه ملكاً فربما قامت الشبهة أن هذا الرجل ما خرج بالذي خرج به إلا لطلب ملك آبائه، ولكنك تزعم الآن أنه ليس من آبائه ملك، فانتفت عنه هذه الشبهة.
قال: [(وسألتك عن أتباعه: أضعفاؤهم أم أشرافهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم -ثم يقرر هرقل حقيقة عظيمة- قال: وهم أتباع الرسل)] أي الضعفاء؛ لأن الأغنياء دائماً يأنفون أن يكونوا أتباعاً لرجل يظنون أنه من مستواهم وهم من مستواه، فكيف يكونون في يوم من الأيام تبعاً له، فالغني يأنف والكبير يأنف والشريف يأنف، ولا يأنف الضعيف المسكين المتذلل الخاضع أن يكون تابعاً لغيره؛ ولذلك تجدون أن أصبر الناس على طلب العلم هم الفقراء؛ ولذلك كان مالك رحمه الله إذا استشاره أحد للقضاء يقول: لا تتول القضاء حتى تتم العلم؛ لأنك إن عزلت عن القضاء لا ترجع إلى مجلس العلم؛ لأنه صار شريفاً بالقضاء.
ومن المستحيل أنه بعد أن كان قاضياً يجلس أمام مالك، وهكذا شأن الأغنياء، ونسمع كثيراً -خاصة من العرب- اليوم من يقول: لِم العلم إذاً؟ لأجل المال نحن أصحاب مال.
إذاً: لا قيمة للعلم، كثير من العرب يقيسون طلب العلم بهذا القياس، فإن إبليس لا يخطر على باله قياس العلم على المصالح الدنيوية بهذا الشكل.
قال: [(قلت: بل ضعفاؤهم وهم أتباع الرسل.
وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت أن لا)] لأنهم كانوا ينادونه في الجاهلية قبل الإسلام: محمد الصادق.
قال: [(فقد عرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس، ثم يذهب فيكذب على الله)] وهذا قياس أولوي: أنت تزعم أنه لم يكن يكذب في حديث الناس، أي أنه حينما كان يتكلم معكم لم يكن يكذب، واشتهر عنه الصدق في القول ونقل الأخبار، فإذا كان هذا على هذا النحو معكم وبينكم فسيدع الكذب على الله من باب أولى.
أي: يستحيل أن يكون صادقاً مع الناس وكاذبا ًمع ربه.
قال: [(وسألتك: هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخله سخطة له؟ -أي: كرهاً وبغضاً في هذا الدين- فزعمت أن لا، وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب)] وكذلك الإيمان لا يمكن أن يخرج من القلب إذا تذوق القلب حلاوة الإيمان، إذا خالط بشاشة الإيمان انشراح الصدر تمكّنت منه ولا يمكن أن تخرج منه.
قال: (وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب).
وفي رواية: (إذا خالطت بشاشته القلوب).
قال: [(وسألتك: هل يزيدون أو ينقصون؟ -أي: أتباع هذا الرجل- فزعمت أنهم يزيدون)] وهذا بيان عملي على أن الإيمان يزيد وينقص، وأن المؤمنين دائماً في زيادة، فهو مؤمن لأنه دائماً يصلي ويصوم ويزكي ويحج ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فبدأ الإيمان نظرياً قولاً فحسب، فلما نزلت التكاليف والأعمال كانت ركناً من أركان الإيمان؛ ولذلك من مات في مكة قبل العمل مات على كمال الإيمان وتمامه؛ لأنه لم يكلف إلا ما قد بُلّغ، وبعد نزول التكاليف لا يمكن أن يُنسب كمال الإيمان وتمامه إلى أحد من المسلمين إلا أن يأتي بهذه الأعمال، فكلما ازداد المرء عملاً في الإيمان والإسلام ازداد به إيماناً.
قال: [(وكذلك الإيمان -أي: يزيد- حتى يتم)] أي: حتى يكمل ويكون تماماً، ولذلك بعد أن نزلت العقائد والتكاليف والأحكام والحلال والحرام والحدود والآداب والأخلاق وغير ذلك -قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3] أي: تمت وكملت وصارت في قمة الكمال والتمام.
فلو قيل: لِم لم تنزل هذه الآية في مكة في الزمن الأول، وإنما نزلت في مكة في عرفات في حجة الوداع، أي: في أواخر عهد النبوة عند كمال الشريعة وتمام الإيمان؟
الجواب
لأن الدين لم يكمل ولم يتم بعد.
قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] أي على هذا النحو بعد كماله وتمامه.
قال: [(وسألتك: هل قاتلتموه؟ فزعمت أنكم قد قاتلتموه، فتكون الحرب بينكم وبينه سجالاً ينال منكم وتنالون منه، وكذلك الرسل تبتلى -لي(92/5)
شهادة هرقل بأن محمداً هو نبي آخر الزمان وتعظيمه له
قال: [(إن يكن ما تقول فيه حقاً)] أي: إن كان يا أبا سفيان! ما قد أجبت به عن صاحبك [فإنه نبي]؛ لأن هذه رسالة الأنبياء، وهذه الأسئلة التي طرحتها عليك وأجبت عنها إنها لعلامات في نبي آخر الزمان، وإنا نعلم ذلك ونعلم أنه نبي، ولكننا ما كنا ندري أنه منكم.
أي: أن هذه الكتب التي بين أيدينا علمنا منها أمارات وعلامات لنبي آخر الزمان، وهذا يدل على أن هرقل كان عالماً من علماء أهل الكتاب، مع أنه لم يكن من بني إسرائيل ولا يهودياً ولا نصرانياً، ولكنه دخل النصرانية بعد التبديل والتحريف، ومع هذا خاطبه النبي عليه الصلاة والسلام: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} [آل عمران:64] فالمرء وإن خالف الكتاب الذي بين يديه أو الكتاب الذي هو تابع له إلا أنه ينسب إليه مع هذا التقصير والتفريط والمخالفة، فأهل الكتاب هم أهل الكتاب، ولا يزالون أهل كتاب إلى قيام الساعة وإن بدلوا وحرفوا وعصوا الكتب التي يزعمون أنها كتبهم.
قال: [(إن يكن ما تقول فيه حقاً فإنه نبي، وقد كنت أعلم أنه خارج -أي: عندي علم من الكتب السابقة أنه خارج- ولم أكن أظنه منكم، ولو أني أعلم أني أخلص إليه)] أي: أذهب إليه وأنتهي إليه بأمان وسلام وبغير قتل.
قال: [(لأحببت لقاءه)]، وفي رواية البخاري: (لتجشمت لقاءه).
والتجشم: هو الكلفة وتحمل المشقة وبذل الجهد في الوصول إلى الغرض.
قال: [(ولو أعلم أني أخلص إليه)] أي: أنتهي إليه وأذهب إليه في أمان ولو بمشقة لتجشمت لقاءه.
قال: [(ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه)] أي ولو خلصت إليه لغسّلت قدميه، وهذا تبجيل واحترام للنبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [(وليبلغن ملكه ما تحت قدمي)] أي: أن هذا الملك لا بد أن يصل إلى إيليا وإلى القدس والشام كلها؛ لأننا نجد في الكتب السابقة أن ملك نبي آخر الزمان سيبلغ ما بلغ الليل والنهار، وهذه البشارات بشّر بها النبي عليه الصلاة والسلام.(92/6)
قراءة هرقل لرسالة رسول الله
قال أبو سفيان: [(ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه)] أي: طلب هرقل كتاب النبي صلى الله عليه وسلم فقرأه على هؤلاء الناس جميعاً.
قال: [(فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم)] طبعاً هذا كلام على خلاف ما يقوله النصارى: باسم الأب والابن والروح القدس، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقول ذلك وإنما قال: بسم الله الرحمن الرحيم.
وفي هذا: استحباب أن تبدأ الرسائل والمكاتبات بين الخلق بهذه البسملة: بسم الله الرحمن الرحيم.
قال: [(من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم)] ولا شك أن الرسالة صفة للنبي عليه الصلاة والسلام، فهو موصوف بالرسالة، فما زاد وما بالغ في شأن نفسه.
قال: (من محمد) وهذا تواضع النبوة وأدبها، ثم أخبره بصفته قال: أنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: (من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم) ولم يقل: ملك الروم، وذلك لأنه بمجرد أن أرسل الله تعالى رسولنا زالت في الحقيقة كل مملكة وكل ملك، فلا يكون ملكاً شرعياً ولا مملكة شرعية؛ لأن الإسلام لا يعترف بها، وكل أرض هي مغنم للإسلام والمسلمين، فإذا دخلوها صارت ملكاً لهم، ولا يجوز لأهلها أن يزعموا أنها أرض لهم، فبمجرد فتحها انتقلت ملكيتها إلى الإسلام والمسلمين، فقال: (من محمد رسول الله إلى هرقل) ولم يقل: ملك الروم؛ لعدم مشروعية ملكه ومملكته، وإنما قال: (عظيم الروم) لأن هذا يوافق الحقيقة فهو فعلاً عظيم من عظماء الروم وكبير من كبرائهم ورئيس من رؤسائهم، وربما قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك تأليفاً لقلبه.
قال: [(سلام على من اتبع الهدى)] ولم يقل: السلام عليكم؛ لأنه عليه الصلاة والسلام نهانا أن نبدأ المشركين بالسلام، وإذا قابلناهم في الطريق قال: (فاضطروهم إلى أضيقها).
أي: حافة الطريق.
المسلم يمشي في وسط الطريق، وذلك حينما تكون دولة إسلامية لها عز وسيادة وريادة فالمسلم يمشي في وسط الطريق، والكافر يمشي على حافة الطريق، فإذا كان الأمر كذلك (فاضطروهم إلى أضيقها)، بل الكافر حينما يجد إسلاماً صحيحاً فهو في نفسه يذهب إلى أضيق الطريق.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (سلام على من اتبع الهدى)؛ لأنه في الحقيقة لم يسلم؛ وكأنه يقول: فإن كنت متبعاً للهدى فسلام عليك وإلا فلا سلام ولا كلام، فهذا من باب الخبر وليس من باب إلقاء السلام.
ومن قبل قسّمنا المكاتبات والرسائل إلى أقسام: المقدمة.
الغرض.
الخاتمة.
فالمقدمة: فيها البسملة والصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام، ثم يذكر من أرسل ومن أُرسل إليه، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام هنا: (من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم)].
قال جمهور العلماء: يستحب أن يبدأ المرسل بذكر اسمه أولاً: من فلان إلى فلان، فلا يقول: إلى فلان من فلان، فيذكر نفسه أولاً ثم يذكر المرسل إليه، يقول: من فلان إلى فلان.
ويستحب أن يشاطره الأدب، أي: أنه لا يقول: من فلان الفلاني العالم الفاضل الشيخ إلى محمد بن عبد الله! فإن المرسل إليه أول ما يبادئ الرسالة ويستطلع هذه الكلمات الطيبة ينشرح صدره للرسالة بمجرد قراءته العنوان، إلا أن تكون الرسالة في مظروف فتقول مباشرة: إلى فلان.
قال: [(فإني أدعوك بدعاية الإسلام)] أي: بدعوة الإسلام.
وفي رواية: (بداعية الإسلام) وداعية الإسلام هي كلمة التوحيد.
أي: إني أُطالبك بتوحيد الله عز وجل ونبذ الكفر والشرك.
قال: [(أسلم تسلم)] استخدم السلم في أمرين متقابلين أسلم يا هرقل! تسلم من الإثم، وإن أسلمت يا هرقل! سلمت من الحرب والقتل والسبي والتشريد وأخذ الأموال والأرض.
(أسلم تسلم) من كل أذى ومن كل مكروه، كما يقول الشاعر: سميته (يحيى ليحيا).
أي: أنه سماه يحيى ليعيش.
فهذا من الجناس اللذيذ.
قال: [(أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين)] المرة الأولى أنه كان تابعاً لعيسى عليه السلام ولا شك أنه مأجور على تبعيته لعيسى، ولو أنه ترك شريعة عيسى وآمن بمحمد عليه الصلاة والسلام مع إيمانه بعيسى واتبع شريعة محمد عليه الصلاة والسلام لكان له الأجر مرتين: أنه آمن بعيسى وآمن بمحمد عليه الصلاة والسلام.
فالتفسير الأول لقوله: (وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين) مرة لإيمانك بعيسى ومرة لإيمانك بمحمد عليه الصلاة والسلام.
والتفسير الثاني: (يؤتك الله أجرك مرتين) أي: أجرك أنت باعتبارك رئيساً وزعيماً عظيماً في قومك، ويؤتيك أجر من أسلم بإسلامك: (ومن سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً).
قال: [(وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين)] وفي رواية عند(92/7)
رواية البخاري لسياق رسالة رسول الله إلى هرقل
ساق الإمام البخاري هذا الحديث ولكن فيه زيادة.
قال: (قال ابن الناطور) وابن الناطور -لقب معناه: حارس البستان، ولعلها كلمة فارسية- (وكان صاحب إيليا).
أي: أن ابن الناطور كان أميراً على بيت المقدس، وكان صديقاً حميماً لـ هرقل، فـ هرقل كان زعيم الروم على حمص، والحارث بن أبي شمر كان على حوران، وابن الناطور كان على القدس، وكان ابن الناطور أسقفاً على نصارى الشام -أي: زعيماً وسيداً- يحدث: أن هرقل حين قدم إيليا أصبح يوماً خبيث النفس -أي: مهموماً مغموماً.
وإيليا: كلمة عبرية معناها: بيت الله، فذهب هرقل من حمص إلى بيت المقدس ليزور ابن الناطور، فنام ثم قام من النوم خبيث النفس.
قال: (أصبح يوماً خبيث النفس) وهذا خبر عن حال الغير، وهل يجوز إنسان أن يقول عن نفسه: خبثت نفسي؟ أو إذا سألته تقول: ما لك؟ يقول: خبيث النفس أو يقول المسلم: أنا نفسي خبيثة؟
الجواب
لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، وقال: (لا يقولن أحدكم: خبثت نفسي).
قال: فقال بعض بطارقته: (قد استنكرنا هيئتك).
قال ابن الناطور: وكان هرقل حزاء -أي: أنه كان منجّماً يعرف الأخبار عن طريق النجوم.
فقال لهم حين قالوا له: قد استنكرنا هيئتك.
قال: (إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر).
وفي رواية: (مُلك الختان قد ظهر).
وهذا يدل على أن العرب في الجاهلية قبل الإسلام كانوا يختتنون.
أي: أن الختان ليست عادة فرعونية.
قال: (إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر، فمن يختتن من هذه الأمة؟).
أي: أنه يريد أن يعرف من على وجه الأرض يختتن؟ قال: (قالوا: ليس يختتن إلا اليهود).
وكأنهم يقولون له: النصارى لا يختتنون، إنما اليهود من عادتهم الختان.
قالوا: (فلا يهمنك شأنهم).
أي: يا هرقل! لا يهمك، وهذه هي بطانة السوء التي تستدرجه.
قالوا: لا تخف.
الذين يختتنون على وجه الأرض كلها اليهود.
قالوا: (واكتب إلى مدائن ملكك فيقتلوا من فيهم من اليهود).
وكأن هذه نصيحة يقولون له فيها: ابعث رسائل للولاة والأمراء والملوك من الباطن أن يتتبعوا رعاياهم فإن وجدوا يهودياً قتلوه.
قال: (فبينما هم على أمرهم) أي: وهم يتداولون الكلام.
قال: (أُتي هرقل برجل أرسل به ملك غسان) والملك هو الحارث بن أبي شمر الغساني أرسل برجل يخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: (فلما استخبره هرقل قال: اذهبوا فانظروا: أمختتن هو أم لا؟).
وحينما أتى شخص من مكة لحق به ملك غسان، وأرسله إلى حمص عند هرقل، فدخل عليه فقال هرقل: أريد أن أنظر أصحاب مكة: هل هم يختتنون أم لا؟ قال: (فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن).
إذاً: الملك والرئاسة والنبوة الجديدة هذه أتت من جزيرة العرب.
قال: (وسأله عن العرب: أهم يختتنون؟ قال: نعم.
فقال هرقل: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر، ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية، وكان اسمه ضغاطر، وكان نظيره في العلم) أي وكان ينظر في النجوم.
قال: (وسار هرقل إلى حمص) وحمص فتحها أبو عبيدة بن الجراح.
قال: (فلم يرم حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج النبي صلى الله عليه وسلم وأنه نبي).
أي: أن هرقل أرسل رسالة لـ ضغاطر وقال له: قد رأيت بعد نظري في النجوم أن نبي هذه الأمة العربي قد ظهر، فما رأيك: هل توافقني على ذلك أم لا؟ قال: ثم انطلق، وفي أثناء سيره إلى وجهته أتاه كتاب ضغاطر، وقد نظر في النجوم مثله فوافقه على أن ملك هذه الأمة قد ظهر، فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص).
والدسكرة: هو القصر العظيم وحوله بيوت قد فتحت أبوابها في دهليز هذا القصر.
قال: دعا هرقل الناس جميعاً العظماء وغير العظماء في هذه الدسكرة وكان بحمص، ثم أمر بأبوابها فغلقت، ثم اطلع فقال: يا معشر الروم! هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي؟ قال: فحاصوا حيصة حمر الوحش -أي: كالبهائم- إلى الأبواب، فوجدوها قد غلقت، فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من الإيمان -أي: أيس من إيمانهم بهذا النبي وفقد الأمل- قال: ردوهم علي.
وقال: إني قلت مقالتي آنفاً أختبر بها شدتكم على دينكم).
وهو في حقيقة الأمر كان يدعوهم إلى الإسلام، فلو أن هؤلاء وافقوه لكان هو أول من أسلم، لكنه حينما رأى نفرتهم وحيصتهم خاف على نفسه وعلى ملكه وعلى حياته.
وفعل ضغاطر في روميا نفس الذي فعله هرقل في الشام، فحاصوا عليه حيصة عظ(92/8)
موقف النبي صلى الله عليه وسلم من جواب هرقل
أرسل هرقل رسالة سرية إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول له فيها: إني مسلم، فلما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم رسالة هرقل قال: (كذب).
وفي رواية: (كذب هرقل.
إنه كافر) فيجب علينا أن نصدق النبي عليه الصلاة والسلام، ثم يأتي الدليل العملي بعد ذلك أن الذي حارب المسلمين في غزوة مؤتة هو هرقل.
إذاً: أراد أن يخدع النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن كيف يُخدع من يأتيه الوحي من السماء؟ ولذلك حينما أراد أن يخدعه نفى النبي عليه الصلاة والسلام هذه الشبهة من قلوب أصحابه، وأخبرهم أنه باق على كفره.
قال لهم: (كذب هرقل.
هو كافر).
فمع هذا الكلام المعسول لكنه يبقى كافراً، ولا يمنع كونه كافراً أن يكون كلامه طيباً ومؤدباً، أو أن يكون عنده خلة وشملة من خلال وشمائل الخير، كإطعام الطعام وإلقاء السلام والبر والصلة والصدق في الحديث.(92/9)
معنى قول أبي سفيان: (إنه ليخافه بنو الأصفر)
أما قول أبي سفيان: إنه ليخافه بنو الأصفر.
قيل: بنو الأصفر هم الروم، يقول ابن الأنباري: سموا ببني الأصفر؛ لأن جيشاً من الحبشة غلب على بلادهم -أي: على الروم، وهؤلاء الروم بيض- فوقع رجال الحبشة على نساء الروم فأتى الولد بين السواد والبياض أي: أصفر، فلُقّبوا بعد ذلك ببني الأصفر.
أما أبو إسحاق بن إبراهيم الحربي فقال: كلام ابن الأنباري هذا مردود ومرفوض، وإنما هم نسبوا إلى الأصفر بن الروم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام.
قال القاضي عياض: وهذا أشبه من قول ابن الأنباري.
أي: أن هذا أقوى وأصح من قول ابن الأنباري.(92/10)
كلام النووي على رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل(92/11)
دعاء الكفار إلى الإسلام قبل قتالهم
الإمام النووي عليه رحمة الله يذكر فوئد وفرائد لهذا الحديث، منها: (دعاء الكفار إلى الإسلام قبل قتالهم).
أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل رسالة إلى هرقل وقال له: (أسلم تسلم).
وهذه دعوة إلى الإسلام قبل القتال، وهذا الدعاء واجب والقتال قبله حرام إن لم تكن بلغتهم دعوة الإسلام، وإن كانت بلغتهم فالدعاء مستحب -أي: دعوتهم مستحبة- وهذا مذهب الشافعية، وقد ذكرنا هذا في أول كتاب الجهاد.(92/12)
وجوب العمل بخبر الواحد
ومن الفوائد: (وجوب العمل بخبر الواحد).
فأنتم تعلمون أن دحية الكلبي أخذ هذا الكتاب، وذهب من مكة إلى هرقل في الشام، وهرقل علم أن خبر الواحد يحتج به في العقائد والإسلام، فـ هرقل يعتقد وجوب العمل بخبر الواحد، والمعتزلة المنسوبون إلى الإسلام لا يعتقدون ذلك.
قال الإمام النووي: ومن فوائد هذا الحديث: (وجوب العمل بخبر الواحد، وإلا فلم يكن في بعثه مع دحية فائدة، وهذا إجماع من يُعتد به، أن خبر الواحد يجب الاحتجاج به في العقائد والأحكام على السواء).
ولذلك هرقل لم يقل له: لا يا دحية! نحن لن نقبل منك هذا الكلام؛ لأنك واحد وخبرك خبر واحد، وإنما أقرّه واحترمه.
وفي بعض الروايات: أن هرقل حينما قرأ رسالة النبي عليه الصلاة والسلام طبّقها ووضعها على رأسه، ثم وضعها في صندوق من ذهب، وظل هذا الصندوق يتوارثه الأجيال.(92/13)
استحباب تصدير الكتاب باسم الله
قال: (ومنها: استحباب تصدير الكتاب ببسم الله الرحمن الرحيم، وإن كان المبعوث إليه كافراً).
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: (كل أمر ذي بال لا يُبدأ فيه بحمد الله فهو أجذم) أي: أقطع ناقص ومبتور، وهذا الحديث عند جماهير المحدثين ضعيف.
والمراد بالحمد لله: ذكر الله تعالى.(92/14)
جواز السفر بالآية والآيتين إلى أرض العدو
ومنها: (أنه يجوز أن يسافر إلى أرض العدو بالآية والآيتين).
بل يجوز السفر إلى أرض الكفر بالقرآن كله ما لم يكن هناك حرب بين الدولتين يخشى منها أن يصيب هؤلاء من القرآن الكريم.
أي: حينما يكون هناك حرب مع دولة كافرة فليس لأهل الإسلام أن يدخلوها بالقرآن الكريم مكتوباً.
ومنها: (أنه يجوز للمحدث والكافر مس آية أو آيات يسيرة مع غير القرآن).
أي: ضمن كتاب.(92/15)
التوقي في المكاتبة واستعمال الورع
ومنها: (أن السنة في المكاتبة والرسائل بين الناس أن يبدأ الكاتب بنفسه) فيقول: من زيد إلى عمرو، وهذه مسألة مختلف فيها.
قال أكثر العلماء: يستحب أن يبدأ بنفسه.
ومنها: (التوقي في المكاتبة، واستعمال الورع فيها، فلا يُفرط ولا يفرّط).
لا يظل يثني ويطري ويمدح ويغالي في ذلك سواء في نفسه أو في غيره، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إلى هرقل عظيم الروم) فلم يقل: ملك الروم؛ لأنه لا ملك له ولا لغيره إلا بحكم دين الإسلام، ولا سلطان لأحد إلا لمن ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أول ولاه من أذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرط، وإنما ينفذ من تصرفات الكفار ما تنفذه الضرورة، ولم يقل: إلى هرقل فقط، وإنما قال: عظيم الروم؛ تأليفاً لقلبه، وامتثالاً لقول الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] وقال: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه:44].
ومنها: استحباب البلاغة والإيجاز: (أسلم تسلم).
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(92/16)
شرح صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - كُتب النبي صلى الله عليه وسلم لملوك الكفار يدعوهم - قصة النجاشي
بعد أن وضعت الحرب أوزارها بين النبي صلى الله عليه وسلم وقريش إثر صلح الحديبية، بدأ النبي بمراسلة ملوك وأمراء البلاد المحيطة بالجزيرة ودعوتهم إلى الإسلام، وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم كتباً إلى الملوك والأكاسرة في عهده، ولم يؤمن منهم إلا النجاشي ملك الحبشة، والذي كان له مناقب كثيرة، منها إيواء المهاجرين من مكة إليه، وتجهيز أم حبيبة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم عند وفاته صلاة الغائب ولم يصلها على أحد غيره.(93/1)
باب كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الكفار يدعوهم إلى الله عز وجل
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
الباب السابع والعشرون من كتاب الجهاد والسير: (باب كُتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الكفار يدعوهم إلى الله عز وجل).
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثني يوسف بن حماد المعنى حدثنا عبد الأعلى عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة بن دعامة البصري عن أنس رضي الله عنه: (أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي، وإلى كل جبّار يدعوهم إلى الله تعالى، وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم)].
أي: أن هذا النجاشي ليس هو النجاشي الذي آمن بالنبي عليه الصلاة والسلام، وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم حينما توفي صلاة الغائب.
قال: [وحدثناه محمد بن عبد الله الرزي حدثنا عبد الوهاب بن عطاء عن سعيد عن قتادة قال: حدثنا أنس].
في الإسناد الأول قتادة عن أنس.
وفي الإسناد الثاني: عن قتادة حدثنا أنس وقتادة مدلّس، فإذا قال: حدثنا انتفت عنه شبهة التدليس.
قال: [عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله.
ولم يقل: (وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم)].
أي: أن الإسناد الأول من طريق عبد الأعلى عن سعيد.
والإسناد الثاني من طريق عبد الوهاب عن سعيد.
ففي طريق عبد الأعلى: (وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي عليه الصلاة والسلام).
أما في طريق عبد الوهاب بن عطاء ليس فيه هذه الزيادة.
قال: [وحدثنيه نصر بن علي الجهضمي أخبرني أبي حدثني خالد بن قيس عن قتادة عن أنس ولم يذكر: (وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم)].(93/2)
كلام النووي على أحاديث باب كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الكفار
قال النووي: (قوله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي وإلى كل جبّار يدعوهم إلى الله تعالى، وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم).
أما كسرى وكَسرى: لقب لكل ملك من ملوك الفُرس).
والفُرس: هي إيران وما حولها.
وهذه الممالك الفارسية كلها تقع تحت مملكة كسرى، فكسرى لقب، وآخر كسرى لفارس من زعماء الدين هو الخميني، وكان رجال الدين في تلك البلاد يطلقون أحياناً على الخميني: آية الله.
وأحياناً يقولون: كسرى فارس.
قال: (وأما قيصر: فهو لقب لكل من ملك الروم).
أي: الشامية إلى روما.
قال: (والنجاشي: لقب لكل من ملك الحبشة.
وخاقان: لقب لكل من ملك الترك.
وفرعون: لقب لكل من ملك القبط.
والعزيز: لقب لكل من ملك مصر.
وتُبّع: لقب لكل من ملك حمير).(93/3)
جواز مكاتبة الكفار ودعائهم إلى الإسلام
قال: (وفي هذا الحديث جواز مكاتبة الكفار ودعائهم إلى الإسلام).
وفي الحقيقة أنا فكّرت في هذا مراراً وتكراراً بعد أحداث (11) سبتمبر، قلت: إذا كانت القلوب بين يدي الله عز وجل يقلبها كيف يشاء، يجعل من يشاء سعيداً، ويجعل من يشاء شقياً، يجعل من يشاء مؤمناً، ويجعل من يشاء كافراً، والمرء لا يملك قلبه، فما المانع أن نُذكّر هؤلاء الطغاة الجبابرة أمثال بوش وشارون ذاك الكلب اليهودي؟ ما المانع أن نذكرهم بالله تعالى؟ فلو كان هناك مانع لكان أولى الناس بهذا المانع نبينا عليه الصلاة والسلام الذي كتب إلى جبابرة الأرض حينذاك يدعوهم إلى الإسلام، فكتب إلى كسرى وإلى قيصر، فلا مانع حينئذ أن ينشط بعض الدعاة الذين لهم صلة بالإنترنت ويكتبون مراسلات، بل قد كتب بعض الدعاة وأهل العلم في هذا الزمان رسالة إلى بوش يدعوه فيها إلى الإسلام، وهو الشيخ سفر الحوالي حفظه الله.(93/4)
جواز العمل بالخبر الواحد
قال النووي: (في هذا الحديث: جواز مكاتبة الكفار ودعاؤهم إلى الإسلام، والعمل بالكتاب، وبالخبر الواحد).
قوله: (والعمل بالكتاب) أي: اعتبار أن هذا الكتاب حجة وإن كان خبراً واحداً.
ولا تزال الأمة تعمل بخبر الواحد في العقيدة والأحكام والآداب والأخلاق والمعاملات حتى ظهر المعتزلة ومن بعدهم من الفلاسفة، فأخذ الفلاسفة بمذهب المعتزلة، واستفادت المعتزلة من مذهب الفلاسفة بعد الترجمة في زمن الرشيد، فخرجوا عن الأمة ببدعة عظيمة كادت تهدم أكثر من نصف الدين، وأكثر من ثلاثة أرباع عقيدة التوحيد، وهذا مبني على قولهم المنكر: إن خبر الواحد لا يُحتج به في العقيدة.
وبعضهم يقول: لا يُحتج به لا في العقيدة ولا في الأحكام.
والذين يقولون ذلك إذا وافق النص أهواءهم احتجوا به حتى وإن كان نصاً ضعيفاً أجمع المحدثون على ضعفه، فتجدهم حين الحاجة إلى هذا النص يحتجّون به.
والأدلة على أن خبر الواحد حجة كثيرة في كتاب الله تعالى وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، منها: أن النبي عليه الصلاة والسلام أرسل معاذاً إلى اليمن، كما أنه أرسل الرسل إلى شتى بقاع الأرض في ذلك الزمان يدعو الملوك إلى الإسلام، فأرسل واحداً إلى اليمن، وأرسل إلى الشام، وكلهم كانوا أفراداً.
ولم يقل النبي عليه الصلاة والسلام حينما أرسل معاذاً إلى اليمن: اذهب إلى اليمن لعلهم يقبلون منك وإن كنت فرداً.
وإنما أرسله وقال له: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب.
فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله).
وهذه عقيدة، فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن خبر الواحد لا يحتج به في العقيدة لأرسل جمعاً من الصحابة يبلغ حد التواتر إلى أهل اليمن.
وكذلك أهل اليمن يعلمون أن خبر الواحد إذا صح وجب العمل به والصيرورة إليه؛ ولذلك لم ينكروا على معاذ أنه أتى فرداً، وإنما قبلوا منه وعملوا بمقتضى خبره في العقائد والأحكام؛ لأنه دلهم على العقيدة أولاً، فلما استجابوا لذلك ودخلوا في الإسلام -أمرهم بالصلاة والزكاة والصيام وغير ذلك من فرائض الإسلام، مع أن هذا خبر واحد، وكذلك أرسل علياً بعد ذلك.
وأبو موسى الأشعري ذهب إلى أهل الكوفة، وعبد الله بن مسعود ذهب من قبله إلى أهل الكوفة، وغير هؤلاء ممن بعثهم النبي عليه الصلاة والسلام إلى الولاة والأمصار أفراداً ووحداناً، بغير نكير لا ممن أرسلهم ولا ممن استقبلهم.
فهذا يدل على أن خبر الواحد معمول به بلا خلاف بين سلف الأمة.
أما الأدلة على ذلك تفصيلاً فمحلها كثير من الكتب.(93/5)
نبذة عن حياة النجاشي رحمه الله
قال سفيان الثوري عليه رحمة الله: عند ذكر الصالحين تتنزّل الرحمة.
فبعد أن افتقدنا سير السلف منذ أكثر من سنتين، نعيش في هذه الليلة مع النجاشي رضي الله تعالى عنه ورحمه.(93/6)
تسمية النجاشي وعده في الصحابة
النبي عليه الصلاة والسلام كتب كتباً إلى الجبابرة وملوك الأرض، فكتب إلى كسرى وقيصر والنجاشي، لكنه ليس النجاشي الذي صلى عليه النبي عليه الصلاة والسلام؛ وذلك لأننا اتفقنا على أن النجاشي لقب يُطلق على كل من ملك الحبشة، أما النجاشي الذي صلى عليه النبي عليه الصلاة والسلام اسمه أصحمة، ومعنى أصحمة باللغة العربية: عطية.
فهو اسم جميل وممدوح، وهو معدود في الصحابة رضي الله عنهم، وأنا لا أدري كيف عُد في الصحابة؟ ولم أجد جواباً مقنعاً لعداده في الصحابة، فإن تعريف الصحابي: هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك.
فنقول: إن أصحمة نجاشي الحبشة آمن بالنبي عليه الصلاة والسلام، ومات على الإيمان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتخلل ذلك ردة.
بل: قيل رُفع سريره -أي: نعشه- إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرآه وهو في المدينة في سنة (9هـ) فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن أخاكم توفي اليوم فقوموا، فصفّهم النبي عليه الصلاة والسلام وصلى على النجاشي).
فهو يرى سريره والصحابة لا يرونه.
قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى سريره -أي نعش النجاشي- فقام فصف أصحابه وصلى عليه صلاة الغائب؛ وذلك لأن الصحابة الذين هاجروا الهجرة الأولى والثانية إلى أرض الحبشة كانوا يرحلون من الحبشة إلى المدينة أفواجاً وجماعات وأفراداً، وكان آخر من قدم من مهاجرة الحبشة من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام جعفر بن أبي طالب، وذلك في غزوة خيبر في سنة (7 هـ).
ومات النجاشي على أصح الأقوال في العام التاسع من الهجرة، فصلى عليه النبي عليه الصلاة والسلام.
فكيف يقال حينئذ: إنه من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام وهو لم يلق النبي عليه الصلاة والسلام.
والصاحب: هو من لقي.
وهذا أول شرط، والنجاشي قطعاً لم يلق النبي عليه الصلاة والسلام؛ فكيف يُعد صاحباً؟ ربما يكون ذلك للموقف المحمود جداً، فإنه لم يقف أحد من أهل الأرض في ذلك الزمان هذا الموقف المشرّف جداً تجاه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، فقد أكرمهم وأعزهم وشرّفهم وأمّنهم في بلاده وأنفق عليهم، وزوّج أم حبيبة للنبي صلى الله عليه وسلم، ودفع مهرها كاملاً، فمناقبه كثيرة لا تكاد تُحصى، فربما استثنى النبي عليه الصلاة والسلام ذلك الرجل من شروط وأركان الصحبة بسبب ذلك، لكن أنا على أية حال لم يتبيّن لي وجه صحبته.
قال الذهبي: معدود في الصحابة رضي الله عنهم، وكان ممن حسن إسلامه ولم يهاجر -أي: لم يترك الحبشة- ولا له رؤية، فهو تابعي من وجه، وصاحب من وجه.
قوله: (هو تابعي من وجه) لأنه رأى الصحابة الذين هاجروا من مكة إلى الحبشة، وأكرمهم وأعزهم كما قلنا، ونحن نعلم أن التابعي: هو من لقي الصحابة، وقد لقي النجاشي الصحابة، فهو تابعي على هذا النحو اصطلاحاً لا غبار على ذلك، لكن كيف يكون صاحباً.
قال الذهبي: فهو تابعي من وجه صاحب من وجه، وقد توفي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فصلى عليه بالناس صلاة الغائب، ولم يثبت أنه عليه الصلاة والسلام صلى على غائب سواه.(93/7)
قصة رجوع ملك الحبشة إلى النجاشي كما رواها عروة
قصت أم سلمة قصة النجاشي، إذ قال لـ عمرو بن العاص: فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد عليّ ملكي، وأنتم تعلمون أن عمرو بن العاص كان في ذلك الوقت مشركاً ولم يكن قد آمن بعد، فلما ذهب عبد الله بن عمرو بن العاص ليدفع الهدايا للنجاشي كي يرد هؤلاء المؤمنين، ويطردهم من بلده، ويسفّه أحلامهم، ويرد عليهم دعوتهم علم النجاشي أنهم كذبة وأنهم فجرة، وأن الحق مع أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام، فأمر سعاته وولاته أن يدفعوا تلك الهدايا لـ عمرو بن العاص فلا حاجة للنجاشي إليها، ثم قال: فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي وما أطاع الناس في فأُطيع الناس فيه.
قال عروة -وهو الراوي لهذا الحديث- للزهري: قال: أتدري يا زهري! ما هذا؟ قال: لا.
قال: إن عائشة رضي الله عنها حدثتني أن أباه كان ملك قومه.
أي: أبو النجاشي هذا كان ملك الحبشة، ولم يكن له ولد إلا النجاشي، وكان للنجاشي عم له من صلبه اثنا عشر رجلاً، فأهل الحبشة قالوا: لو أن أبا النجاشي توفي لم يكن له من عقبه إلا ولد واحد، وماذا نفعل إذا مات هذا الولد بعد أن صار ملكاً؟ فالأولى لنا أن نؤمّن الحبشة بملوكها مدة طويلة من الزمان، فأرادوا نقل الملك من أبي النجاشي إلى أخيه الذي له من الولد اثنا عشر ولداً، حتى إذا مات انتقل الملك مباشرة إلى أولاده، فماذا صنعوا؟ تآمروا على قتل والد النجاشي، وكانوا أهل بيت مملكة الحبشة فقالت الحبشة بينها: لو أنا قتلنا أبا النجاشي وملّكنا أخاه، فإنه لا ولد له غير هذا الغلام، وإن لأخيه اثني عشر ولداً فتوارثوا ملكه من بعده فبقيت الحبشة بعده دهراً؛ فعدوا على أب النجاشي -أي: فوثبوا عليه- فقتلوه، وملّكوا أخاه، فمكثوا على ذلك مدة من الزمان ونشأ النجاشي مع عمه -أي: أن النجاشي الذي صلى عليه النبي عليه الصلاة والسلام نشأ في ملك عمه- وكان لبيباً حازماً من الرجال، فغلب على أمر عمه -أي: قرّبه جداً هذا العم وأدناه منه لذكائه وفطنته- ونزل من عمه بكل منزل، فلما رأت الحبشة مكانه من عمه قالت بينها: والله إنا لنتخوف أن يملّكه -أي: يترك أولاده ويملّك ابن أخيه، إذاً: لا نكون قد صنعنا شيئاً- ولئن ملكه علينا ليقتلنا جميعاً؛ وذلك لأننا قد قتلنا أباه، فذهبوا إلى عمه فقالوا له: إما أن تقتل هذا الفتى وإما أن تخرجه من بين أظهرنا، فإنا قد خفنا على أنفسنا منه.
قال: ويلكم قتلتم أباه بالأمس وأقتله اليوم؟ بل أخرجوه من بلادكم -ارتكاب أخف الضررين وهو النفي- قال: فخرجوا به فباعوه من رجل تاجر بستمائة درهم، ثم قذفه في سفينة فانطلق به، حتى إذا كان المساء من ذلك اليوم هاجت سحابة من سحاب الخريف على الحبشة، فخرج عمه يستمطر تحتها -أي: يطلب المطر- فأصابته صاعقة فقتلته، ففزعت الحبشة إلى ولده، فإذا هم حمقى ليس في ولد من أولاده خير -كلهم بلد مجانين صرعى، فكيف يملكون مجنوناً عليهم- فمرج على الحبشة أمرهم، فلما ضاق عليهم ما هم فيه من ذلك قال بعضهم لبعض: تعلمون والله أن ملككم الذي لا يقيم أمركم غيره الذي بعتموه غدوة، لا سبيل لكم إلا أن تذهبوا فتأتون به مرة أخرى وتملّكوه أمركم، فإن كان لكم بأمر الحبشة حاجة فأدركوه -أي: إذا كنتم حريصين على البلد ومصلحة البلد فملكوا النجاشي- فخرجوا في طلبه حتى أدركوه، فأخذوه من التاجر ثم جاءوا به، فعقدوا عليه تاجه، وأجلسوه على سرير الملك وملكوه.
قال: فجاءهم التاجر: إما أن تعطوني مالي وإما أن أكلمهم ذلك.
-أي: أنهم أخذوا منه النجاشي ولم يعطوه ما قد أخذوه منه- فقالوا: لا نعطيك شيئاً.
قال: إذا: والله لأكلمنه.
قالوا: فدونك -كأنهم يقولون له: اذهب فكلمه بما تريد- فجاءه فجلس بين يديه فقال: أيها الملك! ابتعت غلاماً -وانظر إلى أدب التاجر فلم يقل له: أنت عبدي وأنا اشتريتك- قال: أيها الملك! ابتعت غلاماً من قوم في السوق بستمائة درهم، فأسلموه إلي وأخذوا دراهمي، حتى إذا صرت بغلامي أدركوني فأخذوا غلامي ومنعوني دراهمي.
فقال لهم النجاشي: لتعطنه دراهمه أو ليسلّمن غلامه في يديه فليذهبن به حيث شاء! قالوا: بل نعطيه دراهمه.
قالت أم سلمة: فلذلك يقول: ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي.
قال ذلك لأن هذا الملك هو ملك النجاشي وليس ملك ابن عمه، بل هو ملك أبيه ينتقل إليه، فلما حاولوا زحزحة الملك إلى العم بقتل أخيه انتقل الملك بعد ذلك إلى الأولاد، ولكن الأولاد لم يصلح منهم أحد لهذه المهمة؛ فاضطر أهل الحبشة إلى إرجاع الملك إلى النجاشي.
هل حاباهم بشيء؟ هل دفع لله رشوة أن رد عليه ملكه؟ حاشى؛ ولذلك قال لـ عمرو بن العاص: ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي، فآخذ الرشوة فيه.
وكان ذلك أول ما عرف من صلابته في دينه وعدله في حكمه.
هذا كان أول موقف من مواقف النجاشي، أنه صاحب عدل وصلابة وقوة في الحق، حتى وإن كان ذلك على حساب ملكه.
ثم قالت(93/8)
حديث أم سلمة في قصة النجاشي مع وفد قريش
روى الإمام أحمد في المسند من حديث أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي، آمنا على ديننا وعبدنا الله تعالى لا نؤذى ولا نسمع شيئاً نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشاً ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جلدين.
أي: تواطئوا واتفقوا أن يجعلوا في أثر هؤلاء الصحابة رجلين صلبين قويين صاحبي حجة ولسان وبيان، حتى يفضحا هؤلاء المهاجرة عند النجاشي.
قالت: فلما فعلوا أهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها إليه الأدم.
أي: الخضار أو البقول أو غير ذلك مما يُطهى ويُطبخ.
قالت: فجمعوا له أدماً كثيراً.
أي: أنواعاً متعددة من الغذاء.
قالت: ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً إلا أهدوا إليه هدية، ثم بعثوا بذلك مع عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي وعمرو بن العاص السهمي وأمّروهما أمرهم.
أي: أرسلوا سرية عليها عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص.
وقالوا لهما -أي: قريش قالت لـ عبد الله بن أبي ربيعة ولـ عمرو بن العاص - ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تُكلموا النجاشي فيهم.
يستميلون بطانة السوء أولاً بالهدية، ثم يرجون عندهم نوالاً ومساعدة، حتى إذا اشتُريت ذمم البطارقة يسهل عليهم أن يضغطوا على النجاشي.
ثم قالت قريش لهما: ثم قدموا له هداياه.
أي: بعد أن يأخذوا البطارقة الهدايا، قدّموا الهدايا إلى النجاشي، ثم سلوه أن يسلمهم إليكم قبل أن يكلمهم.
وإلى ذلك الوقت لا يزال النجاشي لم يتكلم مع هؤلاء الصحابة، ولكنه علم بخبرهم.
قالت: فخرج عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص، فقدما على النجاشي ونحن عنده بخير دار عند خير جار، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته، وقال له: إنه قد صبا إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه أن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم.
أي: أن دوركم أيها البطارقة! حينما ندخل على الملك ونطلب منه أن يسلمنا هؤلاء الذين أتوا بدين مبتدع جديد هو مساعدتنا، وتقولون له: ادفع إليهم هؤلاء بغير أن يدخلوا عليك وبغير أن تتحدث معهم ولا تكلمهم؛ فإن قومهم أعلى بهم عيناً -أي: أخبر بهم، وأعلم بما عابوا عليهم- فقالوا لهم: نعم.
ثم إنهما قربا هدايا النجاشي فقبِلها منهم، ثم كلماه فقالا له: أيها الملك! إنه قد صبا -أي: أوى إليك- وإلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً وأعلم بما عابوا عليهم.
قالت أم سلمة: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله وعمرو من أن يسمع النجاشي كلامهم -أي: أنهم كانوا في غاية الحذر أن يسمع النجاشي كلام هؤلاء المهاجرة؛ وذلك لأنهم يعرفون أن الحق أبلج، وله نور وضياء وسلطان في القلب- فقالت بطارقته من حوله: صدقوا أيها الملك! وانظروا إلى الكذّابين المنافقين وكأنهم يقولون: سلم لهم هؤلاء الناس ولا تسمع منهم، كل هذا لأجل الهدايا التي أخذوها من قبل، وهناك من يبيع دينه بفلس، وآخر لا يفرّط في أدنى شعيرة من دينه ولو كان الثمن الدنيا وما فيها، والناس مذاهب.
قالت: فقالت بطارقته من حوله: صدقهما أيها الملك! فأسلمهم إليهما.
فغضب النجاشي غضباً شديداً، ثم قال: لا ها الله إذاً: لا أسلمهم إليهما، ولا أكاد قوماً جاوروني.
أي: لا أكيد بقوم جاوروني، ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فأسألهم.
ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا فقالوا: ماذا نقول للرجل إذا جئناه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا، وما أمرنا به نبينا عليه الصلاة والسلام.
أي: أن هذا لا يحتاج إلى تفكير منا في الذي نقول له؛ لأنا لا نعلم ما هي أسئلته المحددة.
قالت: فقال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا، وما أمرنا به نبينا عليه الصلاة والسلام كائناً في ذلك ما كان.
وهذا لقوة إيمانهم.
فما هي النتيجة؟ هل يقتلنا؟ إذاً: يقتلنا، فلن نقول إلا الحق، وإذا أراد طردنا من الحبشة فليطردنا ومع ذلك لا نقول إلا الحق.
قالت: فلما جاءوه وقد دعا النجاشي أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله -أي: الصحف- سألهم فقال: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الأمم؟ قالت أم سلمة: وكان الذي يكلمه جعفر بن أبي طالب.
فقال له: أيها الملك! إنا كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ون(93/9)
رواية جعفر بن أبي طالب لقصة هجرته مع أصحابه إلى الحبشة وهجرته إلى المدينة
عن عبد الله بن جعفر عن أبيه قال: بعثت قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بهدية من أبي سفيان إلى النجاشي، فقالوا له ونحن عنده: قد جاء إليك ناس من سفلتنا وسفهائنا، فادفعهم إلينا.
قال: لا.
حتى أسمع كلامهم.
فأمر النجاشي منادياً فنادى: من آذى أحداً منهم فأغرموه أربعة دراهم، ثم قال: يكفيكم؟ أي: أتكفيكم الأربعة الدراهم؟ قال جعفر: قلنا: لا.
فأضعفها.
أي: جعلها ثمانية دراهم.
قال: (فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وظهر بها قلنا له: إن صاحبنا قد خرج إلى المدينة، وهاجر، وقتل الذي كنا حدثناك عنهم -أي: في غزوة بدر- وقد أردنا الرحيل إليه.
فزودنا.
قال: نعم.
فحملنا -أي: على البعير والخيل والحمير- وزودنا وأعطانا، ثم قال: أخبر صاحبك بما صنعت إليكم، وهذا رسولي معك، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنه رسول الله، فقل له: يستغفر لي.
قال: فخرجنا حتى أتينا المدينة، فتلقاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعتنقني وقال: ما أدري أنا بفتح خيبر أفرح، أو بقدوم جعفر؟).
لأنه كان قد أتى من غزوة خيبر، فوافق الرجوع قدوم جعفر من الحبشة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أدري أنا بفتح خيبر أفرح، أو بقدوم جعفر؟ ثم جلس، فقام رسول النجاشي فقال: هو ذا جعفر) أي: يا رسول الله! هذا جعفر الذي كان عندنا.
قال: (فسله ما صنع به صاحبنا -أي: النجاشي- فقلت: نعم -أي: قد ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم ما صنع صاحبكم بنا- قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوضأ، ثم دعا ثلاث مرات: اللهم اغفر للنجاشي اللهم اغفر للنجاشي اللهم اغفر للنجاشي فقال المسلمون: آمين، فقلت للرسول: انطلق.
فأخبر صاحبك ما قد رأيت).
وعن عمير بن إسحاق أن جعفراً قال: (يا رسول الله! ائذن لي حتى أصير إلى أرض أعبد الله فيها، فأذن له فأتى النجاشي).(93/10)
رواية عمرو بن العاص لقصة النجاشي معه ومع من هاجر إليه
حدثنا عمرو بن العاص قال: لما رأيت جعفراً آمن بها هو وأصحابه حسدته، فأتيت النجاشي فقلت: إن بأرضك رجلاً ابن عمه بأرضنا يزعم أنه ليس للناس إلا إله واحد، وإنك إن لم تقتله وأصحابه لا أقطع إليك هذه النطفة أبداً لا أنا ولا أحد من أصحابي.
أي: إذا لم تقتله فلن ترانا أبداً ولا واحداً منا، ولا أي طعام يأتي من ناحيتنا، وهذا يدل على أن الحبشة فقيرة، وكان أحب شيء للنجاشي أن يأتيه من مكة الأدم والطعام، فكأنهم فقراء.
قال: اذهب إليه فادعه.
قلت: إنه لا يجيء معي، فأرسل معي رسولاً، فأتيناه وهو بين ظهري أصحابه يحدثهم.
قال له: أجب.
قال: فلما أتينا الباب ناديت: ائذن لـ عمرو بن العاص، ونادى جعفر: ائذن لحزب الله.
أي: أن عمرو بن العاص يطرق باب النجاشي وهو يقول: ائذن لـ عمرو بن العاص بالدخول، وجعفر لم يقل: ائذن لـ جعفر، وإنما قال: ائذن لحزب الله، فانظر إلى الاستعلاء بكلمة الإيمان والتوحيد، وأعظم نداء ينادي به العبد أمة الدعوة بدمه وبماله.
وهذه هي محل البيعة ومحل السلعة التي ساوم الله تبارك وتعالى عليها عباده الصالحين: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] فهذا محل البيعة.
فقال: فنادى جعفر: ائذن لحزب الله، فسمع صوته فأذن له قبلي.(93/11)
رواية أبي بردة عن أبي موسى قصة عمرو بن العاص مع نجاشي الحبشة
عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننطلق مع جعفر إلى أرض النجاشي، فبلغ ذلك قريشاً، فبعثوا عمراً وعمارة بن الوليد، وجمعوا للنجاشي هدية، فقدما عليه وأتياه بالهدية فقبلها وسجدا له ثم قال عمرو: إن أناساً من أرضنا رغبوا عن ديننا وهم في أرضك.
فقال: في أرضي؟ قال: نعم.
فبعث إلينا فقال لنا جعفر: لا يتكلم منكم أحد.
أنا خطيبكم اليوم)؛ لأنه آنس من نفسه رشداً.
قال: لا يتكلم أحد مع النجاشي، فأنا الذي أتولى الرد.
قال: (فانتهينا إلى النجاشي وهو جالس في مجلس عظيم، وعمرو عن يمينه وعمارة عن يساره، والقسيسون والرهبان جلوس سماطين -أي: في وجهه- وقد قال له عمرو: إنهم لا يسجدون لك) وهذه الخدعة الثالثة.
أي: كما دخلنا وسجدنا لك فهؤلاء لن يسجدوا لك.
قال: (إنهم لا يسجدون لك، فلما انتهينا بدرنا من عنده من القسيسين: أن اسجدوا) أي: حينما تدخلون على النجاشي اسجدوا له.
قال: (قلنا: لا نسجد إلا لله عز وجل، فلما انتهينا إلى النجاشي قال: ما منعك أن تسجد؟ قال: لا نسجد إلا لله.
قال: وما ذاك؟ قال: إن الله بعث فينا رسولاً وهو الذي بشّر به عيسى عليه السلام فقال: يأتي من بعدي اسمه أحمد، فأمرنا أن نعبد الله ولا نُشرك به شيئاً، ونقيم الصلاة ونؤتي الزكاة، وأمرنا بالمعروف ونهانا عن المنكر، فأُعجب النجاشي من قوله، فلما رأى ذلك عمرو قال: أصلح الله الملك! إنهم يخالفونك في ابن مريم).
حينما فشل في هذه تدارك نفسه بسرعة فقال له: هم يخالفونك في عقيدتهم في ابن مريم.
قال: (فقال النجاشي لـ جعفر: ما يقول صاحبكم في ابن مريم؟ قال جعفر: يقول فيه قول الله: هو روح الله وكلمته أخرجه من البتول العذراء التي لم يقربها بشر.
فتناول النجاشي عوداً من الأرض فرفعه فقال: يا معشر القسيسين والرهبان! ما يزيد على ما تقولون في ابن مريم ما تزن هذه.
مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده، فأنا أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بشَّر به عيسى، ولولا ما أنا فيه من الملك) أي: لو أنه يترك البلاد والملك لاستولوا عليه البطارقة.
قال: (ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أقبِّل نعله.
امكثوا في أرضي ما شئتم، وأمر لنا بطعام وكسوة وقال: ردوا على هذين هديتهما.
وكان عمرو رجلاً قصيراً، وكان عمارة رجلاً جميلاً، وكانا أقبلا في البحر إلى النجاشي، فشرب مع عمرو وامرأته).
-أي: عمارة - الخمر، قال: فلما شربوا من الخمر قال عمارة لـ عمرو: مر امرأتك فلتقبلني.
قال عمرو لـ عمارة: ألا تستحي.
فأخذ عمارة عمراً يرمي به في البحر، فجعل عمرو يناشده الله حتى تركه، فحقد عليه عمرو.
وظل يكتمها عمرو بن العاص إلى أن فشلا بين يدي النجاشي، وكان عمارة رجلاً جميلاً ووضيئاً، فقال عمرو للنجاشي: إنك إذا خرجت خلّفك عمارة في أهلك، فدعا بـ عمارة فنفخ في إحليله فصار مع الوحش.
لكن سبقت هذه القصة خدعة، وهذه الخدعة هي مكر عمرو بـ عمارة.
قال: يا عمارة! إنك رجل جميل، فاذهب إلى امرأة النجاشي، فتحدث عندها إذا خرج زوجها، فإن ذلك عون لنا في حاجتنا.
فخرج عمارة إلى بيت النجاشي، وذهب عمرو إلى موطن الملك وقال للنجاشي: إن عمارة رجل جميل.
إذا خرجت خلّفك في أهلك، وإذا شئت فأرسل إلى بيتك الآن فإنه في بيتك ومع أهلك، فأرسل النجاشي رسولاً إلى بيته، فوجد أن عمارة يتكلم مع امرأته، فصدق النجاشي الخدعة، فأتى به فنفخ في إحليله، وألقاه في البرية مع الوحوش.
قال: ثم ألقوه في جزيرة من جزائر البحر فجن واستوحش مع الوحش.
أي: صار شبيهاً بالوحوش.(93/12)
رواية عائشة في تثبيت النجاشي ملكه في الحبشة
عن عائشة قالت: لمّا مات النجاشي كنا نتحدث أنه لا يزال يرى على قبره نور، فأما عمارة فإنه بقي إلى خلافة عمر بن الخطاب مع الوحوش، فدُل عليه أخوه، فسار إليه وتحيّن وقت وروده الماء، فلما رأى أخاه فر فوثب وأمسكه، فبقي يصيح: أرسلني أرسلني يا أخي! فلم يرسله فخارت قوته من الخوف ومات في الحال.
فعداده في المجانين الذين يبعثون على ما كانوا عليه قبل ذهاب العقل، فيُبعث هذا الرجل على الكفر والعداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
نسأل الله تعالى المغفرة والسلامة.
قالت: واجتمعت الحبشة فقالوا للنجاشي: فارقت ديننا.
أي: أنه لم يبق بين رسل قريش من الكافرين وبين النجاشي شيء، واستقر الأمر لدى النجاشي أن هؤلاء أصحاب الحق ودخل النجاشي في الإسلام.
فقامت حرب جديدة بين النجاشي وبين أهل الحبشة.
قالوا له: فارقت ديننا.
قالت: وخرجوا عليه، فأرسل إلى جعفر وأصحابه فهيأ لهم سفناً، وقال: اركبوا فإن هزمت فامضوا وإن ظفرت فاثبتوا.
أرأيتم الموقف الرائع جداً.
ولو أني كنت مكان النجاشي لقلت لهم: ألست أنا الذي ضيّعت نفسي من أجلكم؟ إذاً: فقفوا بجانبي حتى وإن تقطعت إرباً كما وقفت بجانبكم! ولكنه صنع لهم سفناً وأركبهم البحر، وزودهم بالطعام والشراب الكافي، وقال لهم: حرب بيني وبين قومي لا علاقة لكم بها، فانتظروني في البحر فإن أنا ظفرت بهم فاثبتوا في الأرض، وإن هزمت فانطلقوا إلى بلادكم آمنين.
قالت: ثم عمد إلى كتاب فكتب فيها: هو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، ويشهد أن عيسى عبده ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم.
هذه الكلمات التي كتبها النجاشي، وإنه واجب على من آمن أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
أما قوله: وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته وروح منه وغير ذلك فهذا من باب المستحبات لا من باب الواجبات، وأنتم تعلمون أن النجاشي كان نصرانياً؛ فأراد أن يبيّن مسألة مهمة في اعتقاده أن عيسى كان عبداً لله وليس ابناً لله.
قالت: ثم جعله في قباءة وخرج إلى الحبشة، وصفوا له -أي: التقى الصفان- فقال: يا معشر الحبشة! فانظروا إلى هذا الذكاء، فإنه لم يقاتلهم فجميعهم قد خرج عليه؛ فمن سيقاتل؟ فقال: يا معشر الحبشة! ألست أحق الناس بكم؟ قالوا: بلى.
قال: فكيف رأيتم سيرتي فيكم؟ قالوا: خير سيرة.
قال: فما بالكم أي: خرجتم علي؟ قالوا: فارقت ديننا وزعمت أن عيسى عبد.
قال: فما تقولون فيه؟ قالوا: هو ابن الله.
فقال بعد أن وضع يده على صدره على قبائه: هو يشهد أن عيسى لم يزد على هذا شيئاً.
فهو حينما أمّن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام في البحر أتى بورقة وقال أنه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبد الله ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وروح منه وكلمته ألقاها إلى مريم، وقام بإطباق الورقة وجعلها في قباءة ولم يسلمها لـ جعفر، وخرج على الحبشة وقال لهم: فما تقولون أنتم؟ قالوا: نقول: إنه ابن الله، فوضع يده على القباءة وقال: والله ما فارقت ما هو كائن.
أي: أنه يقول مثل هذا، فهم فهموا أنه موافق بذلك، ولكنه يشير إلى الورقة التي بداخل القباءة.
وهذا ذكاء من الملك، ولكن منهم من كان ذكياً في الخير ومنهم من كان ذكياً في الشر.
فقال لهم: فما تقولون أنتم؟ قالوا: هو ابن الله؟ قال: والله وأنا لا أعدو هذا.
وفي هذا جواز استخدام المعاريض، والنجاة من القتل حتى وإن كان هذا بالحلف الكاذب؛ لأن الحرب خدعة، فقال بعد أن وضع يده على قبائه: هو يشهد أن عيسى لم يزد على هذا شيئاً، وإنما عنى ما كتب، فرضوا وانصرفوا عنه ظناً منهم أنه وافقهم أنه ابن الله، واستقر له الملك، ولم يدخل في حرب مع هؤلاء، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مات النجاشي صلى عليه واستغفر له.(93/13)
تجهيز النجاشي أم حبيبة للنبي صلى الله عليه وسلم
ومن محاسن النجاشي كذلك: أن أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان بن حرب الأموية أم المؤمنين أسلمت مع زوجها عبيد الله بن جحش في مكة وهاجرا إلى الحبشة، فولدت له حبيبة ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إنه أدركه الشقاء فأعجبه دين النصرانية فتنصّر بعد أن كان مسلماً، فلم ينشب أن مات بالحبشة وهو نصراني مرتد، فلما وفّت العدة أي حينما وفّت العدة بتركه لها بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبها فأجابت، فنهض في ذلك النجاشي وشهد زواجها بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأعطاها الصداق عن النبي عليه الصلاة والسلام من عنده أربعمائة دينار ذهباً، فحصل لها شيء لم يحصل لغيرها من أمهات المؤمنين، ثم جهّزها النجاشي، وكان عمرها حينما قدمت المدينة بضعاً وثلاثين سنة.
وعن أم حبيبة: أنها كانت تحت عبيد الله بن جحش وكان رحل إلى النجاشي، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها بالحبشة، زوجه إياها النجاشي ومهرها أربعة آلاف درهم من عنده، وبعث بها مع شرحبيل بن حسنة، وجهازها كله من عند النجاشي.
قال ابن سعد في سيرته: عن أم حبيبة قالت: رأيت في النوم كأن عبيد الله بن جحش بأسوأ صورة وأشوهها ففزعت فإذا هو يقول حين أصبحت يا أم حبيبة! إني نظرت في الدين فلم أر ديناً خيراً من النصرانية، وكنت قد دنت بها، ثم دخلت في دين محمد فقد رجعت إليها.
قالت: فأخبرته بالرؤيا، فلم يحفل بها -أي لم يعبأ بها- وأكب على الخمر حتى مات، فأريت في النوم كأن آتياً يقول لي: يا أم المؤمنين! ففزعت فأولتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوجني.
وهي لم تكن بعد أماً للمؤمنين، ولكنها رأت في الرؤيا رجلاً يقول لها: يا أم المؤمنين! فما دامت ستصبح أم المؤمنين فالنبي صلى الله عليه وسلم سيتزوجها.
قالت: فما هو إلا أن قد انقضت عدتي، فما شعرت إلا ورسول النجاشي على بابي يستأذن، فإذا جارية له يقال لها: أبرهة كانت تقوم على ثيابه ودهنه -أي: العطر- فدخلت علي فقالت: إن الملك يقول لكِ: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتب إلي أن أزوجك.
فقلت: بشركِ الله بخير.
قالت: يقول الملك: وكلي من يزوجك.
فأرسلت إلى خالد بن سعيد فوكلته.
وأعطت أم حبيبة أبرهة سوارين من فضة، وخواتيم كانت في أصابع رجليها، وخدمتين كانتا في رجليها.
فلما كان العشي أمر النجاشي جعفر بن أبي طالب ومن هناك من المسلمين، فحضروا فخطب النجاشي فقال: الحمد لله الملك القدوس السلام.
وهذا الكلام يحتج به ويقال من باب السنن في عقد النكاح.
قال: الحمد لله الملك القدوس السلام، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأنه الذي بشر به عيسى عليه السلام.
ثم خطب خالد بن سعيد وزوجها وقبض أربعمائة دينار، ثم دعا بطعام فأكلوا.
قالت: فلما وصل إلي المال عزلت خمسين ديناراً لـ أبرهة.
أي: خمسين ديناراً ذهباً، والدينار بحوالي مائتي جنيه.
أي: عشرة آلاف جنيه.
إذاً: فهذا مهر كبير جداً، ولكنه ليس كبيراً على أم المؤمنين.
قالت: فلما وصل إلي المال عزلت خمسين ديناراً لـ أبرهة، فأبت أبرهة، وأخرجت حقاً فيه كل ما أعطيتها فردته عليّ.
وقالت: عزم عليّ الملك ألا أرزأكِ شيئاً.
أي: أنقصكِ من مالكِ شيئاً.
ثم تقول أبرهة لأم المؤمنين: أنا لي عندكِ طلب واحد، وهو أن تقرئي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مني السلام، ثم جاءتني من عند نساء الملك بعود وعنبر وزباد كثير.
فقيل: بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة (6هـ).
وقال خليفة: دخل بها سنة (7هـ)، ولما توفي قال النبي عليه الصلاة والسلام للناس: (إن أخاً لكم قد مات بأرض الحبشة، فخرج بهم إلى الصحراء وصفهم صفوفاً ثم صلى عليه) فنقل بعض العلماء أن ذلك كان في شهر رجب سنة (9هـ).
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصل اللهم على النبي محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم.(93/14)
شرح صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - غزوة حنين
لقد ابتلى الله عز وجل المؤمنين في غزوة حنين بلاء عظيماً، ليبين لهم أن النصر ليس متوقفاً على قوة العدة وكثرة العدد، وإنما هو بنصر الله وتوفيقه وتأييده، فدارت الدائرة على المؤمنين أول الأمر، فلما استوعبوا الدرس وعادوا إلى ربهم وأيقنوا بأن النصر من الله أظهر الله عباده المؤمنين على عدوهم ونصر جنده وشفى صدور قوم مؤمنين.(94/1)
باب في غزوة حنين
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
مع الباب الثامن والعشرين من كتاب الجهاد والسير: (غزوة حنين).
قال النووي: (باب في غزوة حنين، أو هوازن أو أوطاس)، فكل هذه المصطلحات تُطلق على هذه الغزوة.
فالسبب في تسمية هذه الغزوة بغزوة (هوازن): أن هوازن من سكان الطائف، عز عليهم ما قد فتح الله عز وجل على نبينا عليه الصلاة والسلام من فتح وانتصارات، فقامت بقيادة مالك بن عوف، وجمعوا جموعهم لمقاتلة النبي صلى الله عليه وسلم، ورده إلى الخسارة بعد هذه الانتصارات التي حققها، فنزلوا في واد يسمى بوادي (أوطاس) بين مكة والطائف، في مكان يسمى حنين، وتفرقوا في الشعاب واختبئوا، ونزل النبي عليه الصلاة والسلام باثني عشر ألفاً من أصحابه عشرة آلاف من المدينة وألفين من مسلمة الفتح، نزلوا في هذا الوادي ولم يكن لهم علم بسبق هوازن إلى هذا الوادي، وكانوا قد دخلوا قرابة الصبح، ولا يزال يخلط الظلام بضياء النهار، فقامت عليهم هوازن في تلك البقعة من الأرض، وخرجوا عليهم من الشعاب على حين غرّة، فانقضوا عليهم انقضاضة واحدة، فتفرّق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هنا وهناك كأنهم اعتقدوا أنهم قد غُلبوا، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام ثبت في هذا الموطن ثباتاً عظيماً مما كان سبباً في رباطة جأش أصحابه حينما نادى عليهم: يا أهل الأنصار! يا أهل الأنصار! يا أهل الخزرج! وغير ذلك من النداءات التي ناداها النبي عليه الصلاة والسلام، فاجتمعوا حوله، ولم يجتمع حول النبي عليه الصلاة والسلام حينئذ إلا مائتان من أصحابه عليه الصلاة والسلام من المهاجرين والأنصار، وعلى أيدي هؤلاء تم انتصاره عليه الصلاة والسلام في تلك الغزوة.(94/2)
شرح حديث العباس بن عبد المطلب في قتال حنين
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وحدثني أبو الطاهر - أحمد بن عمرو بن سرح قال: أخبرنا ابن وهب حدثني يونس -وهو ابن يزيد الأيلي - عن ابن شهاب قال: حدثني كثير بن عباس بن عبد المطلب -أي: ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام- قال: قال عباس: (شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب -وهو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم- رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نفارقه)].
وفي هذا من الود وعطف الأقارب بعضهم على بعض عند الشدائد، وذب بعضهم عن بعض ما فيه.
قال العباس بن عبد المطلب: (لزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نفارقه ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة) وقيل: ابن نعامة، والصواب: الأول فروة بن نفاثة وكان مشركاً، واختلف أهل العلم في بيان ما إذا كان أسلم أم لا؟ ولكن النبي عليه الصلاة والسلام قبِل منه الهدية وكان مشركاً، ثم وقع النزاع بعد ذلك هل أسلم أم لا؟ وهذه البغلة البيضاء التي تسمى (الشهباء)، وأحياناً تسمى (دلدل)، أما الحمار الذي كان يركبه عليه الصلاة والسلام فهو يعفور، ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة سوى هذه البغلة.
قال: [(فلما التقى المسلمون والكفار -أي: في غزوة حنين- ولى المسلمون)] أي: ولوا الأدبار، وأنتم تعلمون أن تولية الدبر إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة من أكبر الكبائر.
قال: [(ولى المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض على بغلته قِبل الكفار)] أي: ينهزها أن تسرع السير والعدو باتجاه الكفار، فإدبار أصحابه وتوليهم لم يكن فيه باعث له عليه الصلاة والسلام أن يهرب هو كذلك من الميدان، وإنما زاده ذلك إصراراً على ملاقاة العدو ومقابلة الكفار صلى الله عليه وسلم.
قال العباس: [(وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفها إرادة ألا تسرع)] كأن النبي صلى الله عليه وسلم ينهزها، لتسرع ويخشى العباس من سرعة عدوها وجريانها أن تنكفئ برسول الله عليه الصلاة والسلام، فكان يأخذ بلجامها ويكفكفها مخافة أن تقع بالنبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [(وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي عباس! ناد أصحاب السمرة -وسمرة: اسم الشجرة التي بايع تحتها أصحاب بيعة الرضوان- فقال العباس وكان رجلاً صيّتاً)] أي: له صوت جهوري عال ومرتفع، إذا نادى أسمع.
وقيل: إنه كان بينه وبين رعاة إبله وغنمه اثنا عشر ميلاً، وكان إذا صعد على تبة أو جبل صغير ونادى على الرعاة على مدار اثني عشر ميلاً سمعوا نداءه ولبوه.
قال: [(فقال عباس -وكان رجلاً صيتاً- فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة؟ قال: فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها)] أي أنهم حينما سمعوا صوتي أنادي عليهم أتوا مسرعين كما تُسرع قطيع البقر إذا غابت عنها أولادها، كأنه يعبّر عن شدة جريان هؤلاء، وسرعة عودهم إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فكلهم هرع وبادر الرجوع والقدوم على النبي صلى الله عليه وسلم، حتى لكأنهم قد اختلط بعضهم ببعض.
قال: [(فقالوا: يا لبيك! يا لبيك!)] لبيك أي: إجابة بعد إجابة، وسماع بعد سماع، واستجابة بعد استجابة.
قال: [(فاقتتلوا والكفار)] أي: فاقتتل النبي عليه الصلاة والسلام ومعه أصحاب السمرة -أصحاب بيعة الرضوان- مع الكافرين.
قال: [(والدعوة في الأنصار يقولون: يا معشر الأنصار! يا معشر الأنصار)] كأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يركّز جداً على أن تكون المقاتلة معه من الأنصار.
قال: [(ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج فقالوا: يا بني الحارث بن الخزرج! يا بني الحارث بن الخزرج!)] فكانت معظم النداءات للأنصار على جهة الخصوص.
قال: [(فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول عليها، كأن عنقه اشرأبت مرتفعة إلى قتال هؤلاء الكافرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا حين حمي الوطيس)].
فأول من قال: حين حمي الوطيس هو نبينا عليه الصلاة والسلام.
قال: [(ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيات، فرمى بهن وجوه الكفار، ثم قال: انهزموا ورب محمد.
قال: فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى.
قال: فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته فما زلت أرى حدهم كليلاً)] أي: قوت(94/3)
شرح روايات أخرى لحديث العباس في قتال حنين
قال: [وحدثنا إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن رافع وعبد بن حميد جميعاً عن عبد الرزاق -وهو ابن همام الصنعاني اليمني - أخبرنا معمر -وهو ابن راشد الصنعاني - عن الزهري بهذا الإسناد نحوه، غير أنه قال: فروة بن نعامة الجذامي -والصواب: أنه ابن نفاثة الجذامي - وقال: (انهزموا ورب الكعبة -أي: ولم يقل: ورب محمد، وإنما قال- انهزموا ورب الكعبة انهزموا ورب الكعبة) وزاد في الحديث: (حتى هزمهم الله)]، وهذا إثبات الهزيمة لأهل الكفر في غزوة حنين، وبيان أن كافة النصر كان للنبي عليه الصلاة والسلام والأصحاب الكرام.
قال العباس: [(وكأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يركض خلفهم على بغلته)] يعني: يجري خلفهم، وهم قد ولوا الدبر.
قال: [وحدثناه ابن أبي عمر -وهو محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني نزيل مكة- حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري قال: أخبرني كثير بن العباس عن أبيه العباس بن عبد المطلب قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين، وساق الحديث بمثل الحديث السابق، غير أن حديث يونس وحديث معمر أكثر منه وأتم.(94/4)
شرح حديث البراء بن عازب في قتال حنين
قال: [حدثنا يحيى بن يحيى أخبرنا أبو خيثمة، وهذا أبو خيثمة ليس هو زهير بن حرب؛ لأن أبا خيثمة زهير بن حرب يروي عنه مسلم مباشرة، أما أبو خيثمة الذي فوق ذلك بطبقتين فهو زهير بن معاوية بن حديج الجعفي، كوفي نزل الجزيرة، وهو ثقة ثبت، غير أن سماعه من أبي إسحاق السبيعي كان بآخرة.
قال: [أخبرنا أبو خيثمة عن أبي إسحاق] وهو أبو إسحاق السبيعي الكوفي عمرو بن عبد الله بن عبيد الهمداني، ثقة ومكثر وعابد، لكنه اختلط في آخر حياته.
وكنا من قبل تكلمنا تقريباً عن أحكام المختلطين وأحكام الاختلاط، وقلنا: إن الراوي إما أن يكون ثقة في ذاكرته وحفظه، وإما أن يكون ثقة في كتابه، فإما أن يكون قد اعتمد في تحصيل العلم وبثّه على ذاكرته وحفظ صدره، وإما أن يكون قد اعتمد على كتابه وقلمه، وهذا ما يسميه أهل الحديث بالضبط، فيسمون الأول بضبط الصدر، ويسمون الثاني بضبط الكتاب، ولضبط الكتاب شروط، ولضبط الصدر شروط.
أما شروط ضبط الكتاب فهي: الشرط الأول: أن يكتب خلف الشيخ، أو يكتب خلف المستملي الذي يقرؤه في حضرة الشيخ.
الشرط الثاني: أن يعرض ما كتبه على الشيخ، فيقره الشيخ بصحة ما كتب، فإن اعتذر الشيخ عن معارضة الكتاب أو مقابلته انتقلنا إل الشرط الثالث.
الشرط الثالث: أن يراجع ويقابل هذه النسخة على المستملي الذي يقرأ على الشيخ، أو على أقرانه الذين كانوا قد سمعوا منه في مجلس التحديث.
الشرط الرابع: أن يحافظ على الكتاب من التلف والحرق والغرق وغير ذلك من سائر أسباب التلف، حتى يتسنى له التحديث من هذا الكتاب.
الشرط الخامس: إذا حدّث من الكتاب فإنه ممنوع عليه أن يحدّث من حفظه، ولا يعتمد على ذاكرته إلا أن يكون ممن يعتمد عليه في ضبط صدره وكتابه.
وهناك مذاهب لأهل العلم: أن ضبط الصدر أحياناً يكون ضبط صدر وضبط كتاب، كالإمام الدارقطني مثلاً كان من أئمة الحفظ، ومع هذا كان يكتب، وتعجّب منه بعض أصحابه ذات يوم.
قالوا: أتكتب؟ إن الذي يكتب لا يدرك الحفظ خلف الشيخ، وكان قد كتب خلف الشيخ في مجلس واحد (18) حديثاً، وكان الواحد منهم إذا كتب ذهب إلى بيته ليحفظ ما كان قد كتبه خلف الشيخ، فقال الدارقطني لأصحابه وأقرانه: إن شئتم حدثتكم من كتابي، وإن شئتم حدثتكم من حفظي، فلما تحدوه أن يكون قد حفظ ما قد كتب كرر عليهم الأحاديث مرتبة، ولم يخالف في حرف واحد، فهذا كان قد جمع بين ضبط الصدر وضبط الكتاب.
لكننا نقول بالشروط الأولى لمن اعتمد على الكتاب فحسب.
أما ضبط الصدر فشرطه: أن يكون قادراً على الإتيان بالمعلومة أو بالرواية، أو بالراوي سنداً أو متناً في أي وقت طُلب منه ذلك.
أحياناً تلحق الآفة ضبط الصدر وضبط الكتاب، فيمكن للكتاب أن يغرق أو يُحرق أو يتلف، أو يقع عليه سائل يزيله ويمسحه من الصحيفة أبداً، وربما هذا الراوي لم يتقن ما في هذا الكتاب، وربما ذهب ليحدث بما علق في ذهنه، فصار يركّب أسانيد لمتون، ويُلحق متوناً بأسانيد ليست لها، أو ربما يروي عن راو حديثاً معيناً، والحقيقة أن هذا الحديث عن راو آخر، فهو لم يكذب، ولكنه غلب على ظنه أنه قد أتقن حفظ هذا الحديث، فحدّث به على ما غلب على ظنه، وإذا بالحقيقة تخالف ذلك.
وإن المحدثين والرواة عنه إذا أدركوا شيئاً من ذلك امتنع بعضهم أن يحدث عنه بعد ضياع الكتاب أو حرقه أو غرقه أو غير ذلك، فلو أنهم امتنعوا عن الرواية عنه فتكون أحاديثهم عن هذا الراوي صحيحة؛ لأنهم لم يرووا عنه إلا في حال إتقانه وضبطه للكتاب، فلما وقع به الاختلاط أمسكوا عن الرواية عنه، وأما من حدّث عنه بعد الاختلاط فروايته مردودة قولاً واحداً.
وأما من حدث عنه قبل الاختلاط وبعد الاختلاط ولم يُعلم في هذه الرواية بعينها أكانت هذه الرواية قبل الاختلاط أم بعده؟ فالأمر في ذلك محل اجتهاد المحدثين، فإن كان لهم شواهد ومتابعات أخرى تدل على أن هذه الرواية قد وافق فيها هذا الراوي المختلط غيره من الثقات فيستأنس بهذه الراوية وإلا فلا.
وكثير من الحُكام والولاة والسلاطين وأبناء الرواة، حينما وقع الاختلاط حبسوا هؤلاء الرواة ومنعوهم من الرواية، وليس إهانة لهم بل تكريماً وأي تكريم، إذ تبقى روايتهم بغير خدش، فهذا الراوي حينما اختلط منعناه من الرواية.
لتكون أحاديثه كلها التي رواها وحدث بها أحاديث صحيحة، فهذا من باب التكريم له لا من باب الإهانة، وهذا تماماً كما يسميه العلماء (الحجر على السفيه)، حينما اختل عقله منعوه بعد ذلك من التصرفات ولم يلزموه بتصرف من تصرفاته.
فهذا الراوي وهو أبو خيثمة زهير بن معاوية بن حديج الجعفي روى عن أبي إسحاق السبيعي بعد أن اختلط أبو إسحاق، ونحن اتفقنا أن الراوي إذا روى عن الراوي الآخر أو عن شيخه بعد الاختلاط فروايته مردودة، فما(94/5)
شرح حديث البراء: (كنا والله إذا احمر البأس نتقي به)
قال: [حدثنا أحمد بن جناب المصيصي حدثنا عيسى بن يونس] وعيسى، هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي يحدث أحياناً عن جده وأحياناً بينه وبين جده واسطة كـ زكريا، وهو زكريا بن أبي زائدة الهمداني الوادعي أبو يحيى الكوفي، وهو ثقة إمام جليل، ولكنه كذلك سمع من أبي إسحاق بعد اختلاطه.
[قال أبو إسحاق: (جاء رجل إلى البراء فقال: أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة؟! فقال: أشهد على نبي الله صلى الله عليه وسلم ما ولى، ولكنه انطلق أخفاء من الناس وحُسّر إلى هذا الحي من هوازن، وهم قوم رماة، فرموهم برشق من نبل -أي: بسهام من نبل- كأنها رجل من جراد)] الرجل بمعنى: القطعة.
هذا في لغة العرب، يقال: رجل من جراد أي: قطعة من جراد.
قال: [(فانكشفوا -أي: فانهزم هؤلاء- فأقبل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان بن الحارث يقود به بغلته، فنزل ودعا واستنصر وهو يقول: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب اللهم نزل نصرك).
قال البراء: (كنا والله إذا احمر البأس نتقي به عليه الصلاة والسلام)] الضمير يعود على النبي عليه الصلاة والسلام، وقوله: (كنا والله إذا احمر البأس) أي: اشتد الكرب في القتال، وقوله: (نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: نحتمي به.
قال: [(وإن الشجاع منا للذي يحاذي به)] أي: أن أشجع من كان منا كان يذهب فيتقي بالنبي عليه الصلاة والسلام.(94/6)
طرق وروايات لحديث البراء في قتال حنين
[وحدثنا محمد بن المثنى وابن بشار -وهما فرسا رهان- واللفظ لـ ابن المثنى قالا: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء وسأله رجل من قيس] وشعبة بن الحجاج العتكي سمع من أبي إسحاق هنا قبل الاختلاط.
قال: [سمعت البراء وسأله رجل من قيس: (أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟ فقال البراء: ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفر، وكانت هوازن يومئذ رماة وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا)] أي: بعد أن صففنا تحت قيادة النبي صلى الله عليه وسلم وحملنا على هوازن؛ انكشفوا وولوا هم مدبرين، لكن هذا كان في آخر المعركة بعد أن أصابت هوازن من هؤلاء الشبان.
قال: [(فأكببنا على الغنائم فاستقبلونا بالسهام)] وهذا هو نفس الموقف في غزوة أحد، حينما غلب على ظنهم أنهم قد غلبوا وأن هؤلاء قد فروا بغير رجعة انقضوا على الغنائم يأخذوها، فاستقبلهم أهل هوازن بالسهام.
قال: [(ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء، وإن أبا سفيان بن الحارث آخذ بلجامها، وهو يقول: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب).
وحدثني زهير بن حرب ومحمد بن المثنى وأبو بكر بن خلاد -وهو محمد بن خلاد الباهلي أبو بكر البصري، ثقة- قالوا: حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن سفيان الثوري قال: حدثني أبو إسحاق عن البراء قال: قال له رجل: يا أبا عمارة! فذكر الحديث، وهو أقل من حديثهم، وهؤلاء أتم حديثاً].(94/7)
حديث سلمة بن الأكوع في غزوة حنين
قال: [وحدثنا زهير بن حرب حدثنا عمر بن يونس الحنفي حدثنا عكرمة بن عمار حدثني إياس بن سلمة حدثني أبي -وهو سلمة بن الأكوع رضي الله عنه- قال: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنيناً، فلما واجهنا العدو تقدمت، فأعلو ثنية -أي: مكاناً عالياً مرتفعاً- فاستقبلني رجل من العدو فأرميه بسهم، فتوارى عني -اختبأ مني- فما دريت ما صنع -هل مات أم لا؟ - ونظرت إلى القوم فإذا هم قد طلعوا من ثنية أخرى -أي أنهم لفوا من مكان آخر، وصعدوا على ثنية أخرى- فالتقوا هم وصحابة النبي صلى الله عليه وسلم، فولى صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وأرجع منهزماً)] وكأنه عز عليه أن يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مهزوم رضي الله عنه.
قال: [(وعليَّ بردتان متزراً بإحداهما مرتدياً بالأخرى، فاستطلق إزاري -أي: انطلق مني- فجمعتهما جميعاً)] أي: ولفهما على بدنه حفاظاً على عورته.
قال: [(ومررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهزماً -أي: حال كوني منهزماً- وهو على بغلته الشهباء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد رأى ابن الأكوع فزعاً)] أي: إني لأرى في ابن الأكوع الفزع مما قد نزل به.
قال: [(فلما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة، ثم قبض قبضة من تراب من الأرض)] في الرواية الأولى: (من حصيات)، وفي هذه الرواية: (من تراب).
قال: [(ثم استقبل به وجوههم -أي: وجوه الكفار- فقال: شاهت الوجوه -أي: قُبّحت قبحها الله عز وجل- فما خلق الله منهم إنساناً إلا ملأ عينيه تراباً بتلك القبضة، فولوا مدبرين)] قبضة واحدة تملأ عيون جميع الجيش، وهذه معجزة.
قال: [(فولوا مدبرين فهزمهم الله عز وجل، وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين)].
هذه غزوة من أعظم وأعجب غزوات النبي صلى الله عليه وسلم التي شارك فيها وقادها حتى تم للمسلمين النصر وتقسيم الغنائم.
وكما قلنا: كان المسلمون بقيادة النبي عليه الصلاة والسلام، وكان الكفار بقيادة مالك بن عوف سيد هوازن، وكانت هذه الغزوة في سنة (8هـ) في شهر شوال، وكان المسلمون مع النبي عليه الصلاة والسلام اثني عشر ألفاً، عشرة آلاف منهم قدموا من المدينة، وهم الذين فتح الله تعالى بهم مكة، وألفان من مسلمة الفتح.
أي: من حديثي العهد بالإسلام.(94/8)
أقوال أهل العلم في حكم الاستعانة بذوات المشركين أو سلاحهم
في هذه الغزوة استعار النبي صلى الله عليه وسلم من صفوان بن أمية السلاح، إذا لم يكن مع المسلمين سلاح كافٍ، فاستعار النبي عليه الصلاة والسلام من صفوان بن أمية السلاح وكان لا يزال على الشرك.
وفي هذا وقفة لأهل العلم: صفوان بن أمية قال للنبي صلى الله عليه وسلم حينما استقرضه السلاح قال: (يا محمد أنهبة؟! -أي: أنك تأخذ السلاح وتنكر؟ - فقال النبي عليه الصلاة والسلام: بل عارية مؤداة).
فهذا هو أدب النبوة، استعارة ترجع إلى صاحبها مرة أخرى، لكن الموقف الذي وقفه أهل العلم هنا هو: مدى الاستعانة بالمشركين بسلاحهم أو بذواتهم، وهل هناك فرق بين هذا وذاك؟
الجواب
نعم.
هناك فرق، فالاستعانة بسلاح المشرك محل اتفاق بين أهل العلم إذا دعت الضرورة إلى ذلك، والحاجة ماسة أن أستعين بسلاح المشرك دون المشرك فهو أمر جائز، وعلى ذلك درجت الأمم كلها المؤمنة والكافرة، وإن لم يخطر ببالهم حكم هذه المسألة في الشرع، إلا أننا لا زلنا نشتري السلاح من هنا وهناك من بلاد الكفر، وشراء السلاح من بلاد الإسلام أولى من بلاد الكفر، لكن الشاهد هنا: لو احتجنا إلى سلاح من بلاد الكفر، هل يحل لنا أن نشتري منهم، أو أن نستعيره؟
الجواب
نعم.
باتفاق، فلا يأت آت ويقول: لا يجوز لمسلم أن يشتري سلاحاً أو أن يستعيره من كافر، فإن قال ذلك فقد خالف الإجماع.
أما الاستعانة بذوات المشركين ومعهم السلاح، فمحل نظر بين أهل العلم على مذاهب شتى: المذهب الأول: الجواز، ودليلهم في ذلك: أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما أراد أن يهاجر من مكة إلى المدينة استعان بمشرك ليدله على الطريق.
المذهب الثاني: عدم الجواز وهم جماهير العلماء.
ودليلهم في ذلك: أن رجلاً عرض نفسه للقتال مع النبي عليه الصلاة والسلام من المشركين ضد المشركين مع المؤمنين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هل أسلمت؟ قال: لا.
قال: ارجع فإنا لا نستعين بمشرك) وهذا الذي يترجّح لدي في هذه القضية.
المذهب الثالث: جواز الاستعانة بالمشرك بشروط، وهو المذهب الراجح، فانظر إلى هذه الشروط، وأنزل هذه الشروط على واقع المسلمين اليوم.
الشرط الأول: أن يكون المشرك ذليلاً عند المسلمين.
أي: لا يكون صاحب شوكة ولا نجدة ولا نصرة كما اتخذ النبي عليه الصلاة والسلام هذا المشرك ليدله على الطريق فقط، لكن لا علاقة له بأصل الهجرة، فما هو إلا دليل يدل في مقابل مال لا يُخشى منه إلحاق أي أذى بالنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه، فهذا الرجل كان في موطن الذل وموطن الضعف، فلا يخشى منه أن يفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه.
الشرط الثاني: أن يكون المسلم قوياً منصوراً صاحب الغلبة.
الشرط الثالث: أن يكون في قدرة المسلم الاستغناء عن الكافر متى تسنى له ذلك، على ألا يرد عليه المشرك قوله.
أي أن أمريكا تخرج من البلد، لا بد أن يخرجوا، أما أن يأتوا ويبنوا المستوطنات ويحفروا آبار البترول، فحينئذ لا يجوز مطلقاً ما فعله المسلمون اليوم، هؤلاء المترفون المنعّمون، الذين لا قِبل لهم بحرب الكافرين مع ضعف الكافرين وهوانهم على الله عز وجل، إلا أنه حينما شابههم المسلمون في الترف والتنعّم رفع الله تعالى عليهم هؤلاء المشركين.
وغير ذلك من الشروط التي تبحث في محلها، ليس هذا أوانها.(94/9)
حكم اتخاذ الجواسيس في الحرب وبيان شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم
أرسل النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين عبد الله بن أبي حدرد عيناً وجاسوساً على هوازن وحنين، ليرى عدتهم وعتادهم وقوتهم وغير ذلك من حالهم، فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك؛ فيستعد النبي صلى الله عليه وسلم بقوة أعظم من قوتهم، وفي هذا جواز اتخاذ العيون والجواسيس في الحرب، والحرب خدعة وإن كان ثمن ذلك أن يقول الجاسوس في النبي صلى الله عليه وسلم أو في الأمير من بعده قولاً عظيماً للنجاة بنفسه، والحفاظ على المهمة التي أرسل من خلالها.
أما الجرأة في الحرب والشجاعة، فلقد ضرب النبي عليه الصلاة والسلام المثل الأعلى في الشجاعة حتى كان يحتمي به كبار أصحابه إذا حمي الوطيس واشتد الحرب، وكلمة: (حمي الوطيس) كناية عن شدة الحرب.(94/10)
حكم خروج النساء في القتال
خرجت أم سليم وهي أم أنس بن مالك وزوج أبي طلحة الأنصاري مع النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة حنين، وكانت تملك خنجراً، فرآها النبي عليه الصلاة والسلام ومعها الخنجر قال: (ما هذا يا أم سليم؟! قالت: خنجر يا رسول الله! قال: وماذا تصنعين به؟ قالت: إذا اقترب مني مشرك بقرت بطنه، فابتسم النبي عليه الصلاة والسلام) وابتسامته إقرار لها.
لكن المبحث في هذه القضية هل يجوز خروج النساء للقتال؟ الأصل أن النساء لا جهاد عليهن، وجهادهن الحج والعمرة.
قالت عائشة: (أفلا نجاهد؟ قال: عليكن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة) أما إذا خرجت المرأة لمداواة الجرحى وصنع الطعام وغير ذلك من الأعمال التي تتناسب مع طبيعة النساء فلا بأس بذلك، ولأجل ذلك خرجت أم سليم ولم تخرج مقاتلة، وإنما خرجت في سرية الخدمة: خدمة طبية، خدمة طعام وشراب وثياب وغير ذلك، فقد خرجت لأجل هذه المهمة، وهذا جائز باتفاق، ولم يخالف في ذلك أحد، بشرط أن يؤمن عليهن الفتنة، ويغلب على الظن عدم تناول الكفار لهن، وإلا فلا يجوز خروج النساء مطلقاً ولا حتى لتلك المهمة.
ولكن تبقى حالة واحدة وهو وجوب أن تخرج المرأة للقتال في حالة جهاد الدفع، فيجوز لكل من لا يجوز له القتال أو يجب عليه أن يخرج للقتال، وجهاد الدفع أن يأتي العدو إلى بيتك أو بلدك أو قريتك فيداهمك فيها، فيجب على كل من قدر على القتال أن يخرج حتى الأطفال والصبيان والنساء؛ لأن الجهاد حينئذ فرض عين على كل مكلف قادر، والمرأة في جهاد الطلب تخرج بمحرمها، أما في جهاد الدفع فلا يلزم أن تخرج بمحرم ولا يلزمها إذن الوالدين.(94/11)
كلام النووي في أحاديث غزوة حنين
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
مع الباب الثامن والعشرين من كتاب الجهاد والسير: (غزوة حنين).
قال النووي: (باب في غزوة حنين، أو هوازن أو أوطاس)، فكل هذه المصطلحات تُطلق على هذه الغزوة.
فالسبب في تسمية هذه الغزوة بغزوة (هوازن): أن هوازن من سكان الطائف، عز عليهم ما قد فتح الله عز وجل على نبينا عليه الصلاة والسلام من فتح وانتصارات، فقامت بقيادة مالك بن عوف، وجمعوا جموعهم لمقاتلة النبي صلى الله عليه وسلم، ورده إلى الخسارة بعد هذه الانتصارات التي حققها، فنزلوا في واد يسمى بوادي (أوطاس) بين مكة والطائف، في مكان يسمى حنين، وتفرقوا في الشعاب واختبئوا، ونزل النبي عليه الصلاة والسلام باثني عشر ألفاً من أصحابه عشرة آلاف من المدينة وألفين من مسلمة الفتح، نزلوا في هذا الوادي ولم يكن لهم علم بسبق هوازن إلى هذا الوادي، وكانوا قد دخلوا قرابة الصبح، ولا يزال يخلط الظلام بضياء النهار، فقامت عليهم هوازن في تلك البقعة من الأرض، وخرجوا عليهم من الشعاب على حين غرّة، فانقضوا عليهم انقضاضة واحدة، فتفرّق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هنا وهناك كأنهم اعتقدوا أنهم قد غُلبوا، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام ثبت في هذا الموطن ثباتاً عظيماً مما كان سبباً في رباطة جأش أصحابه حينما نادى عليهم: يا أهل الأنصار! يا أهل الأنصار! يا أهل الخزرج! وغير ذلك من النداءات التي ناداها النبي عليه الصلاة والسلام، فاجتمعوا حوله، ولم يجتمع حول النبي عليه الصلاة والسلام حينئذ إلا مائتان من أصحابه عليه الصلاة والسلام من المهاجرين والأنصار، وعلى أيدي هؤلاء تم انتصاره عليه الصلاة والسلام في تلك الغزوة.(94/12)