وقت الصيام لمن لم يجد الهدي
قوله صلى الله عليه وسلم: (فمن لم يجد هدياً) المراد لم يجده هناك إما لعدم الهدي، وإما لعدم ثمنه، وإما لكونه يباع بأكثر من ثمن المثل، وإما لكونه موجوداً لكنه لا يبيعه صاحبه، ففي كل هذه الصور يكون عادماً للهدي، فينتقل إلى الصوم.
فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحجة وسبعة إذا رجع على ما جاء في نص القرآن الكريم، ويجب صوم هذه الثلاث قبل يوم النحر الذي هو اليوم العاشر، وصيام عرفات مسنون لغير الحاج، ويكره للحاج صيامه.
وجمهور العلماء على أن الصيام واجب في الأيام الأولى من شهر ذي الحجة، أي: بعد دخول المتمتع مكة وأداء العمرة، أي: أن هذه الثلاثة الأيام تكون بين العمرة وبين الحج، أي: وهو متحلل.
قال: (ويجب صوم هذه الثلاثة قبل يوم النحر، ويجوز صوم يوم عرفة منها، والأفضل ترك صيامه، والأولى أن يصوم الأيام الثلاثة قبله، والأفضل ألا يصومها حتى يحرم بالحج بعد فراغه من العمرة، فإن صامها بعد فراغه من العمرة وقبل الإحرام بالحج أجزأه على المذهب الصحيح عندنا، وإن صامها بعد الإحرام بالعمرة وقبل فراغها لم يجزئه على الصحيح).
وأما صوم السبعة فيجب إذا رجع إلى أهله، والصحيح في مذهبنا أنه إذا رجع إلى أهله، وهذا هو الصواب؛ لهذا الحديث الصحيح الصريح، والمذهب الثاني: إذا فرغ من الحج ورجع إلى مكة من منى، ولكن المذهب الأول هو الصحيح.
ومن لم يتمكن من صيام الثلاثة الأيام في مكة لم يسقط عنه، بل يلزمه صيام العشرة عند أهله، لكن يبدأ بالثلاثة أولاً، ثم يجعل بينها وبين السبعة فاصلاً من إفطار؛ حتى يفرق بين الثلاثة وبين السبعة، ولو صامها كاملة أجزأه ذلك، والأولى أن يفرق بينها بإفطار.
فإذا لم يجد الهدي لأي عذر من الأعذار فعليه الصيام، ولو كان معه قيمة الهدي والتمس الهدي في يوم النحر ولم يجد هدياً يشتريه أو سرق ماله لزمه الصيام، فيصوم بعد أيام التشريق، وأما أيام التشريق فيحرم صومها؛ لأنها أيام عيد.
ولو مات قبل الصيام فلا شيء عليه، ويجب على وليه الصوم عنه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من مات وعليه صيام فليصم عنه وليه).
ويجزئ أن يتعدد الأولياء، يعني: لا بأس أن يصوم كل ولي من أوليائه يوماً عنه، بحيث يجتمع عشرة أيام يصومها عشرة من الأولياء، أو واحد يصوم عشرة أيام، أو اثنان كل منهما خمسة، فالمهم أن يصام عنه عشرة أيام، سواء تعدد الأولياء أو لم يتعددوا.(29/25)
باب بيان أن القارن لا يتحلل إلا في وقت تحلل الحاج المفرد
الباب الخامس والعشرون: بيان أن القارن لا يتحلل إلا في وقت تحلل الحاج المفرد.
والمفرد يتحلل من الحج يوم النحر إما بعد التحلل الأصغر بأداء منسكين، أو بعد التحلل الأكبر بأداء ثلاثة مناسك، ومنها الطواف والسعي؛ لأن النساء لا يحللن للرجال إلا بعد الطواف والسعي.
فإذا كان الحاج مفرداً فإنه يذهب مباشرة إلى منى أو حتى إلى عرفات إذا لم يدرك يوم التروية، ولا شيء عليه في عدم إدراكها؛ لأن إدراك يوم التروية في منى سنة، وليست واجبة، وكذلك المبيت بمنى في هذه الليلة ليس واجباً، بل هو مسنون، فإذا أدرك الرجل الوقوف بعرفة فإنه ينزل بعد ذلك إلى مزدلفة بعد غروب شمس اليوم التاسع، فيصلي المغرب والعشاء جمع تأخير بمزدلفة، ويبيت بها، والمبيت بها واجب، ثم ينطلق بعد شروق الشمس يوم النحر إلى منى، فيرمي جمرة العقبة الكبرى بعد الزوال، أي: بعد الظهر في يوم النحر، ثم يحلق، وبذلك يتم له التحلل الأول، وهو الذي يحل له كل شيء إلا النساء.
فإذا نزل إلى مكة -أي: أفاض إلى مكة- وطاف طواف الإفاضة وسعى بين الصفا والمروة حل له كل شيء حتى النساء، وهذا يسمى عند أهل العلم التحلل الأكبر، يعني: الذي يحل له كل شيء حتى النساء، ولا يبقى عليه محظور من محظورات الإحرام.
والمفرد ليس عليه هدي، وإنما الهدي على المتمتع والقارن.
ولذلك ذهب أهل العلم إلى أن أفضل صور الحج الإفراد؛ لكماله وتمامه، وهم يرون أن الهدي عند القران والتمتع إنما هو لجبران الخلل والنقص فيهما، وهذا النقص هو عدم إلزام القارن والمتمتع بالخروج إلى الميقات في يوم التروية.
ومعنى ترجمة الباب: أن القارن والمفرد يشتركان في هذه الصورة، فكل منهما لا يتحلل إلا في يوم النحر، حتى لو جاء القارن قبل الحج بأسبوعين، والقارن يستحب له أن يدخل مكة في أول ذي الحجة أو قبل الحج مباشرة؛ حتى إذا اعتمر في اليوم السادس أو الخامس أو السابع من ذي الحجة لا يبقى إلا يوماً واحداً، ثم ينطلق بملابس إحرامه إلى منى في يوم التروية، ولا يمكث كثيراً بملابس إحرامه في بيوت مكة أو في بيت الله الحرام.
فلو أتى قبل ذلك بأسبوع أو بأسبوعين فإنه يلزمه أن يبقى في ملابس إحرامه ولا يتحلل لا تحللاً أصغر ولا أكبر حتى يؤدي حجه، ويتحلل من الحج في يوم النحر، كالمفرد تماماً.
فالقارن والمفرد يشتركان في أن كلاً منهما يتحلل في يوم النحر، بخلاف المتمتع، فالمتمتع بمجرد أن يدخل مكة ويعتمر يتحلل بعد الحلق عند جبل المروة، ثم يحل له كل شيء حتى النساء، ثم يهل من مكانه بالحج يوم التروية، أما القارن فلا يجوز له أن يتحلل إلا بعد ثلاثة من رمي جمرة العقبة الكبرى والذبح والحلق والطواف حول البيت والسعي بين الصفا والمروة.
قال: [عن حفصة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (يا رسول الله! ما شأن الناس حلوا ولم تحلل أنت من عمرتك؟ -يعني: لماذا بعض الناس ومعهم بعض أصحابك أو كثير منهم حلوا بعد أن أدوا العمرة وأنت لم تحلل وقد اعتمرت معهم؟ - قال: إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر)]، يعني: حتى أذبح في يوم النحر.
وتلبيد الرأس قد بيناه في الدروس الماضية، وأما تقليد الهدي أو إشعاره فهو سوق الهدي من الميقات مقلداً مشعراً، وسوق الهدي من الميقات يجب على القارن، وأما المتمتع فإنه يشتري هديه من أي مكان، سواء من منى، أو من عرفة، أو من مزدلفة، أو من مكة، أو من أي مكان، ولا يلزمه أن يسوقه، فإن ساقه صار قارناً، وإذا ساق الهدي من الميقات يسن أن يشعره في خده الأيمن أو في صفحة وجهه الأيمن، وأن يقلده في قدمه، إما بلبس نعل، أي: يلبسه جلداً في قدمه، أو يحيط قدمه بحبل أو شيء ليميزه بذلك.
ومعنى إشعار الهدي في صفحة وجهه الأيمن أي: جرح الهدي وتلطيخه بالدم في جانبه الأيمن، أو جرح أذنه؛ حتى يعلم من نظر إليه أنه هدي، وليس أمراً مشاعاً يلتقط، فإذا التقطه أحد لزمه أن ينادي عليه؛ لأنه قد أوقف لله عز وجل.
فالإشعار هو: جعل علامة أو دليل أو أمارة في وجه الهدي بجرحه في صفحة خده الأيمن أو بوضع علامة في أذنه أو غير ذلك، والتقليد بمعنى: تقليد قدمه بشيء، أي: وضع علامة في قدمه، إما خيط يميزه، أو حبل، أو لبس نعل من الجلد، أو غير ذلك بحيث يميز؛ حتى إذا نظر إليه ناظر عرف أنه هدي موقوف لله عز وجل.
قال: (إني لبدت رأسي وقلدت هديي -أي: سقت هديي من الميقات- فلا أحل حتى أنحر).
وهذا الحديث دليل على المذهب الصحيح المختار الذي قدمناه واضحاً بدلائله في الأبواب السابقة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً في حجة الوداع.
وفي رواية أنه قال لها: (فلا أحل حتى أحل من الحج).
قال: [وقالت حفصة رضي الله عنها: (إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أزواجه أن يحللن عام حجة الوداع، قالت حفصة: فقلت: ما يمنعك أن تحل أنت كذلك؟ -يعني: أنت تأمرنا أن نحل بعد أداء العمرة فما الذي يمنعك أن تحل أنت كذلك؟ - إني لبدت رأسي وقلدت هديي -أي: س(29/26)
شرح صحيح مسلم - كتاب الحج - حجة النبي صلى الله عليه وسلم
لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، وقد بين لنا صلوات الله وسلامه عليه المناسك وأمرنا أن نأخذها عنه، وقد حرص جمع غفير من أصحابه على حفظ كل صغيرة وكبيرة فيما يتعلق بصفة حجته، ونقلوها لمن بعدهم حتى وصلت إلينا كأنها رأي عين.(30/1)
تابع باب وجوب الدم على المتمتع، وأنه إذا عدمه لزمه صوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة.
إن الحاج إذا لم يجد ما يشتري به شاة فالواجب في حقه صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، وكذلك إذا كان معه المال الذي يشتري به الشاة ولكنه لم يجد شاة ليشتريها فالواجب عليه أن يصوم.
أما قول من قال: يقيم الشاة ويتصدق بثمنها على فقراء الحرم فهذا ليس بصحيح، والصحيح: أن من لم يجد عين الشاة وجب عليه الصيام، سواء أكان لا يملك ما يشتري به الشاة، أو يملك المال ولكنه لم يجد الشاة نفسها.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب وجوب الدم على المتمتع، وأنه إذا عدمه لزمه صوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله].
قال: [عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج)].
قوله: (تمتع النبي صلى الله عليه وسلم)، ونحن نعلم أن التمتع الاصطلاحي ليس هو حج النبي عليه الصلاة والسلام فالنبي صلى الله عليه وسلم حج قارناً، فالتمتع هنا هو التمتع اللغوي، وهو الالتفاف والانضمام، وهو أنه جمع العمرة إلى الحج، وجمع الحج إلى العمرة قراناً من جهة الاصطلاح، وإن كان من جهة اللغة يسمى القران تمتعاً.
فالاصطلاح أن النبي عليه الصلاة والسلام أحرم من ذي الحليفة بالحج مفرداً، ولما قارب مكة نوى إدخال العمرة على الحج فكان قارناً، فهو أول الأمر كان مفرداً، ثم قرن قبل طواف القدوم.
قال: [تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى، فساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة -يعني: لما خرج من مكة أهل بالعمرة- ثم أهل بالحج، وتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج، فكان من الناس من أهدى -أي: من الناس من ساق الهدي معه من الميقات- ومنهم من لم يهدي -أي: ومنهم من لم يسق معه الهدي من الميقات- فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس: من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه)]، يعني: من ساق الهدي معه من الميقات فإن حجه قران، والقارن لا يحل من حجه حتى يتم حجه الأكبر؛ لأن الحج يطلق على العمرة من باب المجاز، والحج الأكبر هو بعد رمي الجمرات والنحر والحلق والطواف حول الكعبة، والسعي بين الصفا والمروة، فحينئذ يحل له.
والمفرد لا يحل إلا في يوم النحر، وكذلك القارن لا يحل إلا في يوم النحر، أما المتمتع الذي لم يسق الهدي فإنه إذا اعتمر تحلل من إحرامه تماماً وحل له كل شيء حتى النساء، ثم يهل بالحج يوم التروية، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول لأصحابه: (من كان منكم أهدى -أي: ساق الهدي- فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه)، يعني: يوم النحر.
قال: [(ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة، وليقصر وليحلل)] يعني: الذي لم يسق الهدي يعتمر، فيطوف بالبيت ويسعى بالصفا والمروة، ويقصر أو يحلق ويكون بذلك قد تحلل من عمرته تماماً، وهذا للمتمتع.
قال: [(ثم ليهل بالحج وليهد)]، أي: يهل يوم الثامن وهو يوم التروية.
قال: (ثم ليهل بالحج ثم ليهد)، والهدي يكون في يوم النحر أو في أيام التشريق الثلاثة سواء كان ذلك بالنسبة للقارن أو للمتمتع قال: [(فمن لم يجد هدياً)]، وهذا القول متوجه للمتمتع؛ لأن القارن سيتحدد موقفه من الميقات، إذا كان قد ساق الهدي أو لم يسقه، فإذا كان قد ساق الهدي معه فهو قارن لا محالة، وإذا لم يكن قد ساق الهدي فإما أن يجد هدياً في مكة أو لا يجد، فإذا وجد كان متمتعاً وإلا فلا.
قال: (ثم ليهل بالحج وليهد، فمن لم يجد هدياً) أي: من المتمتعين الذين تحللوا من عمرتهم تماماً، وفصلوا بينها وبين الحج فليصم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله.
أما كيفية حجه صلى الله عليه وسلم قال: [(وطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة، فاستلم الركن أول شيء)]، أي: الركن اليماني الذي فيه الحجر الأسود؛ لأن الركن اليماني يطلق على الركنين اليمانيين، بخلاف الركنين الشاميين اللذين هما في مقابل الركنين اليمانيين.
قال: (فاستلم الركن أول شيء)، وهذا طبعاً فيه بيان أن الطائف حول البيت لا بد أن يبدأ الطواف من عند الحجر الأسود، وليجعل البيت عن شماله ثم يكمل طوفة كاملة، فمن الحجر إلى الحجر طوفة، ولا بد أن يطوف من خارج حجر إسماعيل؛ لأنه إن طاف ومر من بين الحجر والكعبة فلا يحسب له طواف؛ لأن حجر إسماعيل من الكعبة،(30/2)
شروط وجوب هدي التمتع
قال الإمام النووي: (هدي التمتع واجب بشروط، اتفق الشافعية على أربعة واختلفوا في ثلاثة: أما اتفاقهم فأوله أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج)، وأشهر الحج هي: شوال وذو القعدة والعشر الأوائل من ذي الحجة، فإذا أتى المعتمر إلى مكة، واعتمر في هذه الأشهر جاز له أن يتحلل من إحرامه انتظاراً ليوم التروية، وليهل بالحج من مكانه.
قال: (الثاني: أن يحج من عامه)، أي: يحج في نفس العام الذي أدى في أشهر الحج منه عمرته.
مثال ذلك: شخص ذهب اليوم واعتمر وهو متمتع، ولما جاء الحج لم يهل بالحج، وقال: أنا باقٍ إلى العام القادم، فهنا لا يظل متمتعاً؛ لأن شرط التمتع أن تقع العمرة والحج في عام واحد، وأنتم تعرفون أن آخر أشهر العام الهجري هو شهر ذي الحجة، فلا يجوز له أن يدعي أنه متمتع إلى العام المقبل، بل من دخل مكة في أشهر الحج فاعتمر وتحلل بنية إدخال الحج على العمرة تمتعاً فإنه لا بد أن يدخل الحج من نفس العام، وهذا محل اتفاق.
قال: (الثالث: أن يكون آفاقياً لا من حاضري المسجد)، ما معنى آفاقياً؟ يعني: من الآفاق البعيدة، وليس من أهل مكة، وحاضره يعني: حاضر أهل الحرم ومن كان منه على مسافة لا تقصر فيها الصلاة.
يعني: أن يكون آفاقياً لا من حاضري المسجد، وحاضروه هم أهل الحرم، ومن كان منه على مسافة لا تقصر معها الصلاة، يعني: يكون من أماكن بعيدة، أما أهل مكة فالأصل في حجهم الإفراد.
قال: (الرابع: ألا يعود إلى الميقات لإحرام الحج)، يعني: ألا يعود إلى الميقات حتى يهل بالحج في يوم التروية، وإنما يهل من بيته، أو من مكانه، سواء كان مكانه الحرم أو البيت أو السوق أو في أي مكان.
قال: (وأما الثلاثة المختلف فيها: فأحدها نية التمتع).
فمثلاً: واحد ذهب إلى المدينة يوم العيد بعدما اعتكف العشر الأواخر من رمضان في مكة، وقعد في المدينة يومين أو ثلاثة أيام، ولما رجع إلى مكة أحرم بالعمرة، وليس له نية أبداً في التمتع، لكنه قال: أنا أستفيد بعمرة.
فأحرم من ذي الحليفة ودخل مكة مرة أخرى على اعتبار أنه يعتمر ويذهب إلى جدة فيسافر، فلما دخل الحرم قال: ما المانع أن الواحد يمكث في الحرم ويجاور إلى أن يحج؟ قال ذلك بعدما عبر الميقات بزمن، فهل يلزمه الآن أن يخرج إلى الميقات إذا أراد الحج؟
الجواب
يحرم من مكانه، حين تنبعث به راحلته يوم التروية، ويبقى متمتعاً؛ لأن عمرته وقعت في أشهر الحج من نفس العام، فإذا دخل منى يوم التروية ومنع من الحج وأمر بترحيله فإنه يلزم في حقه دم، فإن قال: (لبيك اللهم حجة، فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني)، ثم تعرض له هؤلاء وأمروا بترحيله فليس عليه شيء؛ لأنه اشترط.
قال: (فإن حبسني حابس)، أي: منعني مانع (فمحلي)، أي: فأذن لي أن أتحلل بغير قيد ولا شرط كفارة.
قال: فالثلاثة المختلف فيها قال: النية، لا يلزم المتمتع أن ينوي في الميقات التمتع على أرجح أقوال أهل العلم، كما أنه لا يلزم القارن؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أهل بالحج فقط من ذي الحليفة، ولما أتى ووصل إلى الجعرانة أدخل معها العمرة، بدليل أنه لما دخل مكة طاف وسعى بين الصفا والمروة وقصر شعره، ثم لم يحلل حتى كان يوم النحر.
ومعلوم أن الذي يفرد الحج أو يهل بالحج من الميقات لا يلزمه ذلك، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام أدخل العمرة على الحج وهي إلى أبد الأبد، ليست خاصة له ولا لأصحابه، فعلى ذلك يجوز إدخال العمرة على الحج الأبد.
الثاني: كون الحج والعمرة في شهر واحد.
والراجح: أنه لا يلزم أن تقع العمرة والحج في شهر واحد؛ لأن أشهر الحج ثلاثة وليست شهراً واحداً.
والثالث: كونهما عن شخص واحد، والأصح أن هذه الثلاثة لا تشترط، والله تعالى أعلم.(30/3)
حكم الحاج إذا لم يجد هدياً
أما قوله: من لم يجد هدياً فالصيام، قال: فالمراد: لم يجده هناك؛ إما لعدم الهدي؛ وإما لعدم ثمنه؛ وإما لكونه يباع بأكثر من ثمن المثل؛ وإما لكونه موجوداً لكنه لا يبيعه صاحبه، ففي كل هذه الصور يكون عازماً للهدي.
قال: [(فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع)]، فهو موافق لنص القرآن الكريم، ويجب صوم هذه الثلاث قبل يوم النحر.
ويوم النحر هو يوم العاشر، واليوم الذي قبله يوم عرفات، وأنتم تعلمون أن صيام عرفات مسنون لغير الحاج، ويكره للحاج صوم عرفات.
إذاً: هذه هي الأيام الثلاثة التي يصومها في أشهر الحج، وجمهور العلماء على أن الصيام واجب في الأيام الأول من شهر ذي الحجة، أي: بعد دخول المتمتع مكة وأداء العمرة، فتكون هذه الثلاثة الأيام واقعة بين العمرة والحج، أي: وهو متحلل.
قال: (ويجب صوم هذه الثلاثة قبل يوم النحر، ويجوز صوم يوم عرفة منها، أما الأفضل ترك ذلك، لكن الأولى أن يصوم الثلاثة قبله، والأفضل ألا يصومها حتى يحرم بالحج بعد فراغه من العمرة، فإن صامها بعد فراغه من العمرة، وقبل الإحرام بالحج أجزأه على المذهب الصحيح عندنا، وإن صامها بعد الإحرام بالعمرة وقبل فراغها لم يجزئه على الصحيح).
قال: (أما صوم السبعة فيجب إذا رجع إلى أهله) وفي المراد بالرجوع خلاف.
قال: (الصحيح في مذهبنا: أنه إذا رجع إلى أهله، وهذا هو الصواب لهذا الحديث الصحيح الصريح.
والمذهب الثاني: إذا فرغ من الحج ورجع إلى مكة من منى، ولكن المذهب الأول هو الصحيح.
ولو لم يكن الثلاثة ولا السبعة حتى عاد إلى وطنه لزمه صوم عشرة أيام)، يعني: من لم يتمكن من أداء الثلاثة في مكة لا يسقط عنه صومها، بل يلزمه صيام العشرة عند أهله.
لكن يبدأ بالثلاثة أولاً، ثم يجعل بينها وبين السبعة فاصلاً من إفطار، حتى يفرق بين الثلاثة وبين السبعة، ولو صامها كاملة لأجزأه ذلك، والأولى أن يفرق بينها بإفطار.(30/4)
باب بيان أن القارن لا يتحلل إلا في وقت تحلل الحاج المفرد
الباب الخامس والعشرون: بيان أن القارن لا يتحلل إلا في وقت تحلل الحاج المفرد، إذا لم يجد بأي عذر من الأعذار عدم الوجوب فعليه الصيام.
فلو التمس الهدي في يوم النحر ولم يجد هدياً، أو لم يجد نقوداً يشتري بها الهدي، أو أن نقوده سرقت، فكل هذه الصورة تعني: انعدام الهدي، فيلزمه الصيام حينئذ، ولا يصوم أيام التشريق، فإنه يحرم صومها؛ لأنها أيام عيد، ولو مات قبل الصيام لا شيء عليه، وصيامه يجب في حق الأولياء؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من مات وعليه صوم فليصم عنه وليه).
ويجزئ أن يتعدد الأولياء.
يعني: لا بأس أن يصوم كل ولي من أوليائه يوماً له، بحيث يجتمع له عشرة أيام يقوم بها عشرة من الأولياء، أو واحد يصوم عشرة أيام، أو اثنان يصوم كل منهما خمسة.(30/5)
بيان حج المفرد
قال: (بيان أن القارن لا يتحلل من إحرامه إلا في اليوم الذي يتحلل منه المفرد)، والمفرد يتحلل يوم النحر، إما تحللاً أصغر بأداء منسكين، وإما تحللاً أكبر بأداء ثلاث مناسك منهن الطواف والسعي؛ لأن النساء لا يحللن للرجال إلا بعد الطواف والسعي.
فإذا كان الحاج مفرداً فإنه يذهب مباشرة إلى منى، أو إلى عرفات إذا لم يدرك يوم التروية، ولا شيء عليه؛ لأن إدراك يوم التروية في منى من السنن وليس من الواجبات، وكذلك المبيت بمنى في هذه الليلة ليس بواجب، بل هو مسنون، فإذا أتى الرجل وأدرك الوقوف بعرفة فإنه ينزل بعد ذلك إلى مزدلفة بعد غروب شمس التاسع، فيصلي المغرب والعشاء جمع تأخير بمزدلفة، ويبيت بها وجوباً، ثم ينطلق بعد ذلك -أي: بعد شروق الشمس من يوم النحر- إلى منى، ثم يرمي جمرة العقبة الكبرى بعد الزوال -أي: بعد الظهر في يوم النحر- ثم يحلق، وبذلك يتم له التحلل الأول الذي يحل له كل شيء إلا النساء.
فإذا نزل إلى مكة -أي: أفاض إلى مكة وهو يطوف طواف الإفاضة ويسعى بين الصفا والمروة حل له كل شيء حتى النساء، وهذا يسمى عند أهل العلم التحلل الأكبر، ولا يبقى هناك محظور من محظورات الإحرام التي تعرفنا عليها آنفاً.
والمفرد ليس عليه هدي كما اتفقنا، إنما الهدي على المتمتع والقارن؛ ولذلك ذهب أهل العلم كما عرفنا في الدروس الماضية إلى أن أفضل صور الحج الإفراد لكماله وتمامه، وهم يرون أن الهدي عند القران والتمتع إنما هو لجبر خلل ونقص في الصورة، هذا الخلل وهذا النقص يتمثل في عدم إلزام القارن والمتمتع بالخروج من الميقات يوم التروية.(30/6)
اشتراك المفرد والقارن في وقت التحلل
قال: باب بيان أن القارن لا يتحلل إلا في وقت تحلل الحاج المفرد، يعني: القارن والمفرد يشتركان في هذه الصورة، أن كلاً منهما لا يتحلل إلا في يوم النحر، حتى ولو جاء القارن قبل الحج بأسبوعين.
ويستحب للقارن أن يدخل مكة في أول ذي الحجة، أو قبل الحج مباشرة، حتى إذا اعتمر في اليوم السادس أو الخامس أو السابع من ذي الحجة لم يبق له بملابس إحرامه إلا يوم واحد، وينطلق بهذه الملابس أو بهذا الإحرام إلى منى في يوم التروية، فلا يمكث كثيراً في بيوت مكة، أو في بيت الله الحرام بملابس الإحرام.
فإن افترضنا أنه أتى قبل ذلك بأسبوع أو بأسبوعين أو بثلاثة فيلزمه أن يبقى في ملابس إحرامه ولا يتحلل -لا تحللاً أصغر ولا تحللاً أكبر- حتى يؤدي حجه ويتحلل من الحج في يوم النحر، كالمفرد تماماً والذي ذكرنا صورته الآن.
فالقارن والمفرد كلاهما يشترك في صورة، وهي تحلل كل منهما في يوم النحر، بخلاف المتمتع، فالمتمتع يدخل مكة ويعتمر ويتحلل بعد الحلق عند جبل المروة، ثم يهل من مكانه يوم التروية، والمتمتع إذا أدى عمرته حل له كل شيء حتى النساء، بخلاف القارن فلا يجوز له أن يتحلل إلا بعد رمي جمرة العقبة الكبرى والذبح أو الحلق والطواف حول البيت والسعي بين الصفا والمروة.(30/7)
معنى إشعار الهدي وتقليده
قال: [عن عبد الله بن عمر أن حفصة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (يا رسول الله! ما شأن الناس حلوا ولم تحلل أنت من عمرتك؟ -يعني: كثير من أصحابك حل بعد أن أدى العمرة وأنت اعتمرت معهم ولكنك لم تحلل- قال: إني لبدت رأسي وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر)] أي: الذبح يكون يوم النحر.
وقد عرفنا معنى تلبيد الرأس في الدروس الماضية، ثم قال: (وقلدت هديي) وتقليد الهدي: إشعار الهدي وسوقه من الميقات مقلداً مشعراً، وسوق الهدي من الميقات يكون للقارن، أما المتمتع فإنه يأخذ هديه من أي مكان: من منى، من عرفة، من مزدلفة، من مكة، من أي مكان، ولا يلزمه أن يسوقه، فإن ساقه صار قارناً.
وإذا ساق الهدي من الميقات يسن أن يكون هذا الهدي مشعراً في خده الأيمن أو في صفحة وجهه اليمنى، وأن يكون مقلداً في قدمه، إما بلبس نعل أو لبس جلد في قدمه، أو إحاطة القدم بحبل أو شيء يميزه.
ومعنى إشعار الهدي في صفحة وجهه اليمنى: جرح الهدي في جانبه الأيمن أو في أذنه حتى يعلم من نظر إلى هذا الهدي أنه هدي، وأنه ليس بلقطة، وإذا التقطه يلزمه أن ينادي عليه؛ لأن هذا أوقف لله عز وجل، وهذا معنى الإشعار.
فالإشعار: هو قيام العلامة والدليل والأمارة في وجه الهدي، يجرحه في صفحة خده الأيمن أو بوضع علامة في أذنه اليمنى أو غير ذلك.
وتقليده بمعنى: تقييد قدمه بشيء، أي: وضع علامة في قدمه، إما خيط يميزه أو حبل أو لبس نعل من الجلد وغير ذلك، حتى إذا نظر إليه ناظر عرف أن هذه البقرة أو أن هذا البعير أو أن هذه الشاة إنما أوقفت لله عز وجل، فالذي يأخذها يحترم نفسه ويرجعها بسرعة؛ لأنه رزق حرام.
قال: (إني لبدت رأسي وقلدت هديي -أي: سقت هديي من الميقات- فلا أحل حتى أنحر) وهذا الحديث دليل على المذهب الصحيح المختار الذي قدمناه واضحاً بدلائله في الأبواب السابقة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً في حجة الوداع.
وفي رواية: قال لها: (فلا أحل حتى أحل من الحج)، وقالت حفصة رضي الله عنها: (إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أزواجه أن يحللن عام حجة الوداع.
قالت حفصة: فقلت: ما يمنعك أن تحل أنت كذلك؟ قال: إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر هديي).(30/8)
باب جواز التحلل بالإحصار وجواز القران واقتصار القارن على طواف واحد وسعي واحد
الباب السادس والعشرون: باب بيان جواز التحلل بالإحصار وجواز القران.
يعني: لو أحصرت.
هل لك أن تتحلل من إحرامك؟
الجواب
نعم.
لك ذلك.
وهل يجوز لك أن تدخل الحج على العمرة قراناً؟
الجواب
نعم.
يجوز لك ذلك وإن لم تنو من الميقات ذلك.
خرج عبد الله بن عمر رضي الله عنهما معتمراً، وكان ذلك في أيام الفتنة التي دارت بين الحجاج بن يوسف الثقفي وعبد الله بن الزبير، وأنتم تعلمون أن الحجاج دخل كما تدخل البهائم والحمير بلد الله الحرام، فضرب الكعبة بالمنجنيق، وكانت فتنة عظيمة جداً أكلت الأخضر واليابس.
فـ عبد الله بن عمرو دخل مكة في عام الفتنة معتمراً، وقال: [(إن صددت عن البيت صنعنا كما صنعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم)]، يعني: إن حال بيننا وبين البيت حائل تحللنا من إحرامنا كما تحللنا في عمرة الحديبية.
فالنبي صلى الله عليه وسلم أتى إلى مكة في عام الحديبية معتمراً، وصده المشركون عن البيت، وقامت هناك شروط واتفاقيات من أحد بنودها أن يرجع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في هذا العام ولا يدخلوا مكة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أحرم، فتحلل من إحرامه في الحديبية، فـ عبد الله بن عمر قال: إن صدني الحجاج أو صدتني الفتنة القائمة بمكة فما الذي يمنعني أن أتحلل في المكان الذي صددت فيه كما تحللنا مع النبي عليه الصلاة والسلام في عام الحديبية.
قال: [(فخرج فأهل بعمرة وسار، حتى إذا ظهر على البيداء التفت إلى أصحابه فقال -يعني: بعد أن دخلت في حدود أرض الحرم، وليس المسجد الحرام- ما أمرهما إلا واحد -أي: لو صددنا عن العمرة كما لو صددنا عن الحج والعمرة، فهما سواء- أشهدكم أني قد أوجبت الحج مع العمرة)].
قال ذلك بعد أن عبر الميقات بأيام ليس بخطوات؛ لأنه أهل من ذي الحليفة بعمرة، وأدخل معها الحج في مكة، ويشترط شرطاً وحيداً أصيلاً فيمن أدخل الحج على العمرة: أن يكون ذلك قبل طواف القدوم، أما المتمتع فله أن يدخل الحج على العمرة بعد طواف القدوم، أما القارن فإنه يلزمه أن يدخل الحج على العمرة قبل بداية الطواف.
قال: (ما أمرها إلا واحد، أشهدكم أني قد أوجبت الحج مع العمرة، فخرج حتى إذا جاء البيت طاف به سبعاً، وبين الصفا والمروة سبعاً لم يزد عليه، ورأى أنه مجزئ عنه وأهدى).
قال: [وعن نافع أن عبد الله بن عبد الله وسالم بن عبد الله كلما عبد الله حين نزل الحجاج لقتال ابن الزبير.
قالا: لا يضرك ألا تحج العام، فإنا نخشى أن يكون بين الناس قتال يحال بينك وبين البيت].
يعني: عبد الله بن عبد الله وأخوه سالم يقولون لـ عبد الله بن عمر: أترك الحج هذه السنة؛ لأن هناك قتالاً وفتنة عظيمة جداً بين الحجاج وابن الزبير، ونخشى ألا تتمكن من الحج.
قال: [(فإن حيل بيني وبينه فعلت كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه حين حالت كفار قريش بينه وبين البيت، أشهدكم أني قد أوجبت عمرة -يعني: أحرم بالعمرة من الميقات- فانطلق حتى أتى ذا الحليفة فلبى بالعمرة، ثم قال: إن خلي سبيلي قضيت عمرتي، وإن حيل بيني وبينه فعلت كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه، ثم تلا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، ثم سار حتى إذا كان بظهر البيداء -أي: بالمكان الفسيح الذي بجوار الحرم- قال: ما أمرهما إلا واحد -أي: حكم الصد في العمرة كحكم الصد في العمرة والحج- إن حيل بيني وبين العمرة حيل بيني وبين الحج، أشهدكم أني قد أوجبت حجة مع عمرة، فانطلق حتى ابتاع بقديد -مكان بالحرم- هدياً ثم طاف لهما طوافاً واحداً بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم لم يحل منهما حتى حل منهما بحجة يوم النحر)]، وبقية الأحاديث في الباب تشهد للمعنى الذي ذكرناه.
وفي هذه الأحاديث جواز التحلل بالإحصار، وفيه صحة القياس والعمل به؛ لأن عبد الله بن عمر اجتهد فقاس هذا على ما كان من حياة النبي عليه الصلاة والسلام، والصحابة رضي الله عنهم كانوا يستعملون القياس؛ فلهذا قاس الحج على العمرة في حكم الإحصار من عدمه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام إنما تحلل من الإحصار عام الحديبية من إحرامه بالعمرة وحدها.
وفي هذا الحديث: أن القارن يقتصر على طواف واحد وسعي واحد، وهو مذهب جماهير العلماء.(30/9)
باب في الإفراد والقران
الباب السابع والعشرون: باب في الإفراد والقران.
يعني: في جواز الإفراد بالحج وجواز القران بين الحج والعمرة.
قال: [عن ابن عمر قال: (أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفرداً)]، هذا كان من ميقات ذي الحليفة، والنبي عليه الصلاة والسلام حج في الجاهلية.
قيل: حج مرة وقيل: حج مرتين، والراجح: أنه حج مرة قبل البعثة.
لكن هذا الحديث في حجه عليه الصلاة والسلام من ذي الحليفة -أي: بعد البعثة- وفي العام العاشر، وهو المعروف بحجة الوداع، ويؤيد ذلك أدلة، منها أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يحج بعد الإسلام إلى حجة واحدة، وكان إهلاله من ذي الحليفة، ويقول عبد الله بن عمر: (وأنا معه)، ومعلوم أن عبد الله بن عمر لم يحج مع النبي عليه الصلاة والسلام قبل البعثة؛ لأن عبد الله بن عمر لم يكن موجوداً.(30/10)
اختلاف العلماء في نوع الحجة التي حجها النبي صلى الله عليه وسلم
قوله: (أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفرداً) أي: أنه بدأ أول مشوار الحج مفرداً، فلما أتى إلى الجعرانة أدخل عليها العمرة فاعتمر أولاً، ولم يتحلل إلا في يوم النحر؛ وهذا يرد على العلماء الذين يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفرداً فقط.
وقد اختلف العلماء في أي الحج أفضل: الإفراد أو التمتع أو القران؟ وكل من قال بقول قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، وظهر هذا في بعض الأدلة.
أما الذي قال: التمتع أفضل اعتمد على ظاهر بعض الروايات التي تقول: تمتع النبي عليه الصلاة والسلام بالعمرة إلى الحج، ورددنا على هذا القول برأيين: الرأي الأول: أن التمتع في هذا الحديث محمول على التمتع اللغوي لا التمتع الاصطلاحي.
والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي من الميقات).
فالذي يسوق الهدي من الميقات هو القارن لا المتمتع.
الأمر الثالث: أن النبي عليه الصلاة والسلام لما اعتمر لم يتحلل إلا في يوم النحر بعد أداء هذه المناسك، فهذه كلها شواهد وأدلة تدل على أنه كان قارناً.
والذي يقول: الإفراد أفضل، واعتمد على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفرداً في حجه، فاعتمد على منشأ الحج.
أي: أصل الحج في ذي الحليفة، فقد أهل النبي عليه الصلاة والسلام بالحج فقط من ذي الحليفة، والصواب والصحيح: أنه لما بدأ الحج مفرداً أدخل عليه من الجعرانه العمرة، فكان أولاً مفرداً وقبل أداء العمل في الحج أدخل عليه العمرة؛ فاعتمر أولاً ثم حج.
إذاً: كان في أول مشواره مفرداً ولكنه لم يتم هذا الإفراد، بل أدخل عليه العمرة فصار قارناً، وهو الراجح بل الصحيح.
ومعلوم أن سوق الهدي على سبيل الاستحباب للمفرد والمعتمر، فالنبي صلى الله عليه وسلم ساق الهدي استحباباً؛ لأنه نوى الإفراد، ولكنه شجعه سوق الهدي على إدخال العمرة فصار قارناً.
وهناك اتفاق بين أهل العلم أن المعتمر لا هدي عليه، وأن المفرد لا هدي عليه، لكن لا يمنع ذلك من أن يهدي المفرد والمعتمر، وليس هناك مانع شرعي.
قال: [وقال أنس: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة جميعاً)]، وهذا يورد خلافاً بينه وبين عبد الله بن عمر، فـ أنس يقول: سمعته يلبي بالحج والعمرة، وعبد الله بن عمر يقول: أنا كنت معه، وما كان يلبي إلا بالحج فقط.
قال أنس بن مالك: أنا لم أكن صغيراً، لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم مفرداً، فقد سمعته يقول: (لبيك اللهم حجاً وعمرة)، وعبد الله بن عمر يقسم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لبيك اللهم حجة).
وتفسير هذا الخلاف أن عبد الله بن عمر حكى ما قد سمعه من أول المشوار، من ميقات ذي الحليفة، وأنس بن مالك كان يأخذ بخطام ناقته في مناسك الحج ابتداءً من الجعرانة حتى قضى حجه، فسمعه يقول: (لبيك اللهم عمرة وحجة) فلما أدخل النبي عليه الصلاة والسلام العمرة على الحج سمعه أنس فحكى ما سمعه، وعبد الله بن عمر حكى ما سمعه من أول المشوار، وعلى أية حال كل واحد من الصحابة يحكي ما قد سمعه، وكلام أهل العلم كلام جميل في الجمع بين الخبرين.
وفي رواية: [أن بكر بن عبد الله قال: حدثنا أنس: (أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم جمع بينهما -بين الحج والعمرة- قال: فسألت ابن عمر فقال: أهللنا بالحج، فرجعت إلى أنس فأخبرته ما قال ابن عمر، فقال: كأنما كنا صبياناً)]، يعني: لم نكن نحن أطفالاً حتى تثيروا بيننا هذه الفتنة كلها.
الإمام النووي يقول: (قدمنا أن الرأي المختار -بل الصحيح- في حجة النبي عليه الصلاة والسلام: أنه كان في أول إحرامه مفرداً، ويحمل عليه حديث عبد الله بن عمر، ثم أدخل العمرة على الحج فصار قارناً، وهذا حديث أنس وبهذا اتفقت الروايات، وجمعنا بين الأحاديث أحسن جمع، فحديث ابن عمر محمول على أول إحرامه، وحديث أنس محمول على أواخره وأثنائه، وكأنه لم يسمعه أولاً، ولا بد من هذا التأويل أو نحوه؛ لتكون رواية أنس موافقة لرواية الأكثرين كما سبق بيان ذلك).(30/11)
باب ما يلزم من أحرم بالحج ثم قدم مكة من الطواف والسعي
الباب الثامن والعشرون: باب ما يلزم من أحرم بالحج ثم قدم مكة من الطواف والسعي.
يعني: من أحرم بالحج فقط.
قال [وبرة: (كنت جالساً عند ابن عمر، فجاءه رجل فقال: أيصلح لي أن أطوف بالبيت قبل أن آتي الموقف؟ -والموقف: هو عرفة، يعني: أنا أحرمت بالحج فقط، فهل أطوف بالبيت قبل أن أذهب إلى عرفة؟ - فقال: نعم.
فقال: فإن ابن عباس يقول: لا تطف بالبيت حتى تأتي الموقف فقال ابن عمر: فقد حج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت قبل أن يأتي الموقف، فبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تأخذ، أو بقول ابن عباس إن كنت صادقاً؟)].
انظر الكلام الجميل في التأصيل الفكري عند السلف.
يقول: النبي عليه الصلاة والسلام طاف وسعى، وابن عباس: يقول: لا.
فأيهما أحق: الأخذ بقول النبي صلى الله عليه وسلم وبفعله أو بقول ابن عباس؟ يقول: فإن كنت صادقاً في محبة الرسول عليه الصلاة والسلام فاتبعه.
صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة طاف وسعى، لكنه كان قارناً، فالسؤال وجه لمن أفرد الحج: هل يلزمه الطواف والسعي؟
الجواب
لا يلزمه، ولو أنه دخل البيت فيطوف طواف القدوم الذي لا علاقة له بالنسك، ويكون هذا الطواف دون أن يسعى بين الصفا والمروة.
قال: [وبرة: (سأل رجل ابن عمر رضي الله عنهما: أطوف بالبيت وقد أحرمت بالحج؟ فقال: وما يمنعك؟ قال: إني رأيت ابن فلان -يقصد ابن عباس - يقول له: أنا رأيت ابن فلان يكرهه، وأنت أحب إلينا منه)].
يقول له: المسألة هذه فيها خلاف بينك وبين ابن عباس، لكنك أحب إلينا من ابن عباس، فأنت رجل عالم وزاهد ورجل فاضل، وابن أمير المؤمنين، أما ابن عباس فقد فتن وفتحت عليه الدنيا، وكان قد تولى الإمارة في البصرة، وعادة الأمراء أنهم أصحاب أموال وأصحاب وجاهة وغير ذلك، فأنت يا ابن عمر! أحب إلينا من ابن عباس، ورأيك إن شاء الله محل احترام، وسنعمل به! فانظر على الفتنة قول وبرة: (أنت أحب إلينا من ابن عباس) كأن هذا الأمر ليس بالعلم، وإنما بالفقر، فهو يستفتي الفقير، والفقير أحب إليه من الغني، هذا كلام غير صحيح، فالأمر كله مداره على العلم الصحيح المؤيد بالدليل.
فقال ابن عمر: (وأينا -وفي رواية: وأيكم- لم تفتنه الدنيا).
فـ ابن عمر لم يستغل الموقف، ولم يقل: نعم.
والله صحيح، فعلاً ابن عباس فتنته الدنيا وأنا رجل فاضل، ولو شاء لحط يده في يد وبرة، وصارا يؤلبان الناس على ابن عباس كما يفعل أهل هذا الزمان.
ولا أزكي نفسي.
ثم قال -أي ابن عمر: (رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم بالحج وطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة، فسنة الله ورسوله أحق أن تتبع من سنة فلان إن كنت صادقاً).
المخطئ في هذا كله كما قلنا ابن عمر؛ لأن ابن عمر يفتي من أراد الحج والعمرة، سواء كان متمتعاً أو قارناً، أما السؤال الموجه في الإفراد فالحق مع ابن عباس.
قال: [عن عمرو بن دينار: (سألنا ابن عمر عن رجل قدم بعمرة -يعني: ما أحرم إلا بعمرة- فطاف بالبيت ولم يطف بين الصفا والمروة.
أيأتي امرأته؟)] أي: أحرم بالعمرة فطاف دون أن يسعى بين الصفا والمروة، هل تحل له امرأته؟ ومعلوم أنه تحل له امرأته بعد أن يطوف بين الصفا والمروة ويحلق أو يقصر.
قال: [(فقال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعاً، وصلى خلف المقام ركعتين، وبين الصفا والمروة سبعاً، وقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)]، يعني: لا تحل امرأته إلا إذا أحل.(30/12)
باب ما يلزم من طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة من البقاء على إحرامه حتى يتحلل في يوم النحر
الباب التاسع والعشرون: باب ما يلزم من طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة من البقاء على إحرامه حتى يتحلل في يوم النحر.
هذا الباب في حكم القارن لا المتمتع؛ لأن المتمتع إذا طاف وسعى وحلق أو قصر جاز له كل شيء حتى النساء، أما المفرد فيأتي مباشرة إلى منى أو إلى عرفات.
ويتحلل في يوم النحر، وربما لم يبق لإحرامه إلا يومان: يوم عرفة ويوم النحر، على فرض أنه لم يدرك يوم التروية.
قال: [عن محمد بن عبد الرحمن: (أن رجلاً من أهل العراق قال له: سل لي عروة بن الزبير عن رجل يهل بالحج، فإذا طاف بالبيت أيحل أم لا؟ فإن قال لك: لا يحل فقل له: إن رجلاً يقول ذلك -يعني: هناك رجل يقول: يحل- قال: فسألته فقال: لا يحل من أهل بالحج إلا بالحج -يعني: إلا بأداء الحج- قلت: فإن رجلاً كان يقول ذلك، قال: بئس ما قال.
فتصداني الرجل -أي: فاعترضني- فسألني فحدثته فقال: فقل له: فإن رجلاً كان يخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك، وما شأن أسماء والزبير فعلا ذلك.
قال: فجئته فذكرت له ذلك، فقال: من هذا؟ -أي: من الذي يرسلك إلي ويسألك ويقول لك: إذا قال لك كذا فقل له كذا؟ - قال: قلت: لا أدري.
قال: فما باله لا يأتيني بنفسه يسألني؟ أظنه عراقياً -وهذا يدل على أن السلف كانوا يعرفون أن أهل العراق هم أهل فتنة- قلت: لا أدري.
قال: فإنه قد كذب.
قد حج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرتني عائشة رضي الله عنها أن أول شيء بدأ به حين قدم مكة أنه توضأ، ثم طاف بالبيت)] وهذا مذهب الجماهير: أن الوضوء شرط في صحة الطواف، وأن الطواف صلاة إلا أن الله أحل فيه الكلام، ولا تكون الصلاة بغير وضوء، إلا أبا حنيفة فإنه قال: الوضوء ليس شرطاً في صحة الطواف ولكن يستحب، والراجح: الأول.
قال: [(ثم حج أبو بكر فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم يكن غيره -يعني: لم يفعل غير ذلك- ثم عمر مثل ذلك، ثم حج عثمان فرأيت أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم يكن غيره، ثم معاوية وعبد الله بن عمر، ثم حججت مع أبي -أي: الزبير بن العوام - فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت، ثم لم يكن غيره، ثم رأيت المهاجرين والأنصار يفعلون ذلك، ثم لم يكن غيره، ثم آخر من رأيت فعل ذلك ابن عمر ثم لم ينقضها بعمرة، وهذا ابن عمر عندهم أفلا يسألونه، ولا أحد ممن مضى ما كانوا يبدءون بشيء حين يضعون أقدامهم أول من الطواف بالبيت، ثم لا يحلون -يعني: لا يعتبرون أن هذا الطواف يجيز لهم التحلل- وقد رأيت أمي وخالتي -أمه أسماء، وخالته عائشة - حين تقدمان لا تبدءان بشيء أول من البيت تطوفان به، ثم لا تحلان أي: إلا بعد السعي والتقصير أو الحلق، والتقصير في حق النساء قيد أنملة من كل ضفيرة.
قال: وقد أخبرتني أمي أنها أقبلت هي وأختها والزبير وفلان وفلان بعمرة قط، فلما مسحوا الركن حلوا)].
هذا الكلام لا بد من تأويله: (لما مسحوا الركن حلوا)، ويقصد الركن الذي فيه الحجر الأسود، وأن الماسح للركن يمسحه في مبدأ الطواف، وهل هناك تحلل بمجرد البدء بالطواف، أم أن التحلل يكون بعد السعي والحلق والتقصير؟ إذاً: لا بد من تأويل هذا النص.
قال: فلما مسحوا الركن حلوا، والتأويل: أنهم لما انتهوا من الطواف والسعي والتقصير حلوا، هذا تأويل ولا بد منه حتى لا تتضارب الروايات.
قال: وقد كذب فيما ذكر من ذلك، وبقية الروايات على نحو هذا.(30/13)
تحلل أسماء بنت أبي بكر لعدم وجود الهدي وعدم تحلل الزبير لوجود الهدي معه
قال: [قالت أسماء بنت أبي بكر: (خرجنا محرمين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان معه هدي فليقم على إحرامه، ومن لم يكن معه هدي فليحلل)]، أي: من كان معه هدي فليقم على إحرامه حتى يؤدي حجه ويتحلل في يوم النحر، وهذا القارن.
ومن لم يكن معه هدي فليحلل بعد أداء العمرة.
قالت: [(فلم يكن معي هدي فحللت، وكان مع الزبير هدي فلم يحلل.
قالت: فلبست ثيابي ثم خرجت فجلست إلى الزبير)]، هذا كلام أسماء بدليل أنه كان مع الزبير هدي فلم يتحلل بعد عمرته حتى تحلل يوم النحر بعد أداء المناسك، أما أسماء نفسها فلم يكن معها هدي، فتحللت بعد أداء العمرة؛ لأنها كانت متمتعة.
قالت: [(ثم خرجت فلبست ثيابي فجلست إلى الزبير -يعني: قعدت بجوار زوجها فقال: قومي عني، فقلت: أتخشى أن أثب عليك؟)] قال الزبير ذلك لأنه كان محرماً، وهل يأمن المرء على نفسه إذا كان في هذا الموطن وعلى هذه الصفة من الإحرام أن تحدثه نفسه بوقاع امرأته، فهي متحللة، فإذا اشتهت زوجها ربما وثبت عليه، من أجل هذا أنكرت فقالت: لا تعتقد أني جئت لأفسد عليك حجك؟ لا.
لن يكون هذا مني أبداً.
وفي رواية: قالت: [(قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج)، ثم ذكر بمثل حديث ابن جريج] لما أدخلوا العمرة على الحج، فكان بعضهم ساق الهدي فكان قارناً، وبعضهم لم يكن معه الهدي فصار متمتعاً.
قال: [غير أنه قال: فقال: استرخي عني -يعني: ابعدي عني- فقلت: أتخشى أن أثب عليك؟] قال: [وعن عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر حدث: (أنه كان يسمع أسماء كلما مرت بالحجون تقول: صلى الله على رسوله وسلم)].
الحجون: أعالي مكة، والنبي عليه الصلاة والسلام دخل مكة من أعلاها وخرج من أسفلها؛ ولذلك يسمون مكان الدخول المعلاة إلى الآن، ويسمون مكان الخروج المسفلة، وهذه الشوارع معروفة بهذه الأسماء إلى الآن.
قال: [(كلما مرت أسماء بالحجون تقول: صلى الله على رسوله وسلم.
لقد نزلنا معه هاهنا -أي: دخلنا مكة من أعاليها- ونحن يومئذ خفاف الحقائب -يعني: أمتعتنا قليلة وكنا فقراء- قليل ظهرنا -أي: يركب البعير اثنان أو ثلاثة- قليلة أزوادنا، فاعتمرت أنا وأختي عائشة والزبير وفلان وفلان، فلما مسحنا البيت أحللنا)] أي: لما طفنا وسعينا، يقال: فلان مسح الأرض، يعني: طاف بها، وجابها شرقاً وغرباً؛ ولذلك يقال للمسيح الدجال: المسيح؛ لأنه يمسح الأرض شرقاً وغرباً، ويضع قدمه عند منتهى بصره، وقد ورد في بعض الروايات أنه ينظر وهو في المشرق إلى الغرب فيكون نظره في منتهى الغرب، فتصور أنه ينظر من المشرق إلى المغرب، وفي خطوة واحدة يمسح الأرض، ولا ينجو من فتنته إلا من أراد الله له النجاة.
قالت: (فلما مسحنا البيت) أي: فلما أدينا مناسك العمرة في البيت؛ لأن العمرة كلها في بيت الله الحرام، ومناسك العمرة: طواف وسعي وحلق، والنية تسبق ذلك.
قالت: [(ثم أهللنا من العشي بالحج)]، يعني: ثاني يوم بعد الظهر أهللنا بالحج، أي: دخلوا مكة يوم السابع من ذي الحجة واعتمروا، وما مر عليهم إلا الليل وأوائل يوم الثامن، وفي العشي -والعشي يطلق على ما بعد الظهيرة- انطلقوا إلى منى مهلين بالحج.(30/14)
باب في متعة الحج
الباب الثلاثون: في متعة الحج.
أي: في التمتع بالحج، وهو أحد أنواع الحج.
قال: [عن مسلم القري قال: (سألت ابن عباس، رضي الله عنهما عن متعة الحج فرخص فيها، وكان ابن الزبير ينهى عنها)]، أنتم تعرفون أن التمتع محل نزاع بين الصحابة، لكن الإجماع انعقد على أن الحج قران وإفراد وتمتع، ومعلوم أن الإجماع بعد الخلاف يرفعه.
قال: (سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن متعة الحج فرخص فيها، وكان ابن الزبير ينهى عنها) أي: عبد الله بن الزبير، واسم أمه أسماء.
قال عبد الله بن عباس: هذه أم ابن الزبير فإذا كان ابن الزبير ينكر التمتع بالحج، فإن أمه حجت مع النبي صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن الزبير صحابي صغير، ولم يثبت أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، بل كان طفلاً صغيراً فلم يحج، فإذا أردت أن تسأل فاسأل أمه، فهي خبيرة بذلك.
قال: [(هذه أم ابن الزبير تحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص فيها)] أي: التمتع إما قراناً وإما تمتعاً؛ لأن أسماء رضي الله عنها هي التي نقلت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من كان معه هدي فلا يحلل حتى يحلل يوم النحر، ومن لم يكن معه هدي فليطف بالبيت وليسع بين الصفا والمروة، وليقصر وليحلل، وليهل بالحج يوم التروية).
قال: تحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في المتعة، فادخلوا عليها فاسألوها.
قال: فدخلنا عليها فإذا أمرأة ضخمة عمياء.
طبعاً هذا الكلام لو قيل على سبيل التنقص لكان غيبة وكان حراماً، لكنه على سبيل التحقق أنه قد دخل وعرف أن هذه أسماء فسألها، وأسماء كانت مثل سودة رضي الله عنها في ضخامتها؛ ولذلك لما لبست سودة النقاب وخرجت إلى حاجتها، وكان عمر يغار على أزواج النبي عليه الصلاة والسلام: فقال: (يا سودة! إنك لا تخفين)، يعني: مهما تفعلي نحن نعرفك؛ لأنها كانت ضخمة جداً، فكان عمر يعرف أنها سودة، وأسماء كانت ضخمة، لكن ليست بضخامة سودة رضي الله عن الجميع.
قال: [(فإذا امرأة ضخمة عمياء فقالت: قد رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها)].
قال: [وقال مسلم القري: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: (أهل النبي صلى الله عليه وسلم بعمرة وأهل أصحابه بحج، فلم يحل النبي صلى الله عليه وسلم ولا من ساق الهدي من أصحابه وحل بقيتهم -أي: بعد أداء العمرة لمن كان متمتعاً- فكان طلحة بن عبيد الله فيمن ساق الهدي فلم يحل)].(30/15)
باب جواز العمرة في أشهر الحج
الباب الحادي والثلاثون: باب جواز العمرة في أشهر الحج.
وهذه نقطة فيها مخالفة لما كان عليه أهل الجاهلية، فأهل الجاهلية كانوا يقولون: عمرة في أشهر الحج لا تصح، بل كانوا يعدون أداء العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور.
قال: [عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كانوا يرون أن العمرة فى أشهر الحج من أفجر الفجور فى الأرض)].
هذه -الحمد لله- ظلمة أخرجنا الله عز وجل منها على يد نبينا عليه الصلاة والسلام.
قال: [(كانوا يرون أن العمرة فى أشهر الحج من أفجر الفجور فى الأرض، ويجعلون المحرم صفراً)]، وهذا النسيء الذي تكلم الله عز وجل عنه في القرآن الكريم وفي قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة:37].
وكان أهل الجاهلية يرون أن القتال وإراقة الدماء في الأشهر الحرم منقصة عظيمة لا تجوز، والأشهر الحرم هي: ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب، ورجب ليس مع الأشهر المذكورة في الترتيب، بل هو قبل هذه الأشهر بشهرين، ولذلك سموه رجب الفرد، يعني: رجب لوحده، والثلاثة الأشهر الحرم الباقية هي: ذو القعدة، ذو الحجة، المحرم، لكنهم بمزاجهم، يقولون: المهم أن هناك أربعة شهور حرماً لا نحارب فيها، فيقومون بالنسيء، وهو أن يؤخروا شهراً ويقدموا شهراً مكانه، هذا النسيء الذي حرمه الله عز وجل في القرآن، وجعله مظهراً من مظاهر الكفر.
قال: [(كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، ويجعلون المحرم صفراً، ويقولون: إذا برأ الدبر وعفا الأثر وانسلخ صفر حلت العمرة لمن اعتمر)].
قولهم: (إذا برأ الدبر) يقصدون: برأ أدبار وأظهار الإبل من التعب والكل وكثرة المشي.
وقولهم: (وعفا الأثر) أثر الجمال في مشيها في الصحراء مع طول الوقت تأتي الرياح بالرمال فتجعل هذه الآثار كأن لم يكن جمل مر من هنا من قبل.
وقولهم: (وانسلخ صفر) يعني: انقضى صفر.
وقولهم: (حلت العمرة لمن اعتمر) يعني: الذي يريد أن يعتمر يعتمر بعد صفر.
قال: [(فقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة)] يعني: دخل مكة يوم الرابع من ذي الحجة، يعني: في نفس التوقيت الذي حرم أهل الجاهلية تأدية العمرة فيه.
قال: [(مهلين بالحج، وأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم، فقالوا: يا رسول الله! أي الحل؟ قال: الحل كله)] يعني: تحللوا تماماً من أعمال العمرة، حتى تؤدى العمرة وحدها والحج وحده في أشهر الحج، خلافاً لما كان عليه الجاهلية.
قال: [عن أبي العالية البراء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لأربع خلون من العشر وهم يلبون بالحج، فأمرهم أن يجعلوها عمرة)].
قال: [عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح بذي طول وقدم لأربع مضين من ذي الحجة، وأمر أصحابه أن يحولوا إحرامهم بعمرة، إلا من كان معه الهدي)]، فالذي كان معه الهدي يبقى قارناً، يعتمر ويبقى في إحرامه حتى يتحلل يوم النحر.
قال: [قال ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذه عمرة استمتعنا بها)] قوله: استمتعنا بها يشمل القارن والمتمتع؛ لأنه ما كان قد نوى عمرة من الميقات، وإنما نوى حجاً فقط، فلما أدخل العمرة على الحج صار مستمتعاً بالعمرة، مع أنه كان قارناً؛ فهذا الاستمتاع في حق القارن استمتاع لغوي، أما في حق المتمتع فإنه تمتع اصطلاحي.
قال: [(فمن لم يكن عنده الهدي فليحل الحل كله، فإن العمرة قد دخلت في الحج إلى يوم القيامة)].
قال: [عن أبي جمرة قال: (تمتعت فنهاني ناس عن ذلك، فأتيت ابن عباس فسألته عن ذلك فأمرني بها -أي: قال: تمتع.
ولا تلتفت إلى الجماعة التي تنهاك، ولا يضرك هذا- ثم انطلقت إلى البيت فنمت -يعني: انطلق إلى بيت الله الحرام فنام- فأتاني آت في منامي فقال: عمرة متقبلة وحج مبرور)].
إذاً: هذه بشارة، والحق مع ابن عباس لا مع من نهى أبا جمرة عن التمتع.
قال: [(فأتيت ابن عباس فأخبرته بالذي رأيت، فقال: الله أكبر، الله أكبر، سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم)].(30/16)
باب تقليد الهدي وإشعاره عند الإحرام
قال: [باب تقليد الهدي وإشعاره عند الإحرام] يعني: من أول الإهلال لمن ساق هديه، طبعاً هذا الكلام بالنسبة للقارن إذا ساق الهدي، بل يجب عليه أن يسوق الهدي من الميقات إذا تيسر له ذلك، وإلا فبنيته يلتقط من أي مكان.
قال: [قال ابن عباس رضي الله عنهما: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بذي الحليفة، ثم دعا بناقته فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن معنى أشعرها: جرحها وخدشها -وسلت الدم- يعني: نظف الدم في موضع الجرح- وقلدها نعلين) يعني: ألبسها نعلين، أتى بجلد فربطه على مؤخرة قدم هذا الهدي، قال: (ثم ركب راحلته) لم يركب التي قلدها وأشعرها، وإنما واحدة أخرى غيرها؛ لأن الهدي لا يركب؛ فقد صار وقفاً لله عز وجل يمنع استخدامه.
قال: [(ثم ركب راحلته، فلما استوت به على البيداء أهل بالحج)].
قلنا: إن من أهل من الميقات إنما يهل إذا استوت به ناقته أو دابته وانبعثت، وذكرنا أن بعض أهل العلم قال: إن الإهلال بالنسك سواء كان حجاً أو عمرة يكون بعد الصلاة وقبل أن يقوم من مقامه في مسجد الميقات.
والصواب: أنه يهل إذا ركب دابته وانبعثت به، أي: وقامت، فبعد أن يتحرك الباص يبدأ في الإهلال، أما الإهلال من المسجد أو بعد الصلاة أو من الساحة أو من البيداء المجاور للمسجد أو غير ذلك فكل هذا ليس صحيحاً، ولذلك ابن عمر قال: (هذه البيداء التي تكذبون فيها على رسول الله عليه الصلاة والسلام، وتزعمون أنه ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عند الشجرة)، وقد بينا في الدروس الماضية أن الشجرة هذه كانت عند باب مسجد ذي الحليفة، ولكن عمر قطعها حتى لا يعبدها الناس من دون الله عز وجل.
إذاً: إذا ركب الرجل دابته وقامت أو تحركت بدأ في الإهلال، أما قبل ذلك وبعد ذلك فلا، فإنه إذا أهل بعد ذلك وجب عليه أن يذبح دماً؛ لأنه قد أهل بعد أن مضى، أو بعد أن عبر الميقات.
قال: (صلى الرسول عليه الصلاة والسلام الظهر بذي الحليفة، ثم دعا بناقته فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن، وسلت الدم وقلدها نعلين، ثم ركب راحلته فلما استوت به على البيداء أهل بالحج).
والإشعار: هو أن يجرحها في صفحة سنامها اليمنى بحربة أو سكين أو حديدة أو نحوها، ثم يسلت الدم عنها، وأصل الإشعار والشعور: الإعلام والعلامة، ويقال: إشعار الهدي لكونه علامة له، وهو مستحب؛ ليعلم أنه هدي، فإن ضل رده واجده، وإن اختلط بغيره تميز؛ ولأن فيه إظهار شعار، وفيه تنبيه غير صاحبه على فعل مثل فعله.
وأما صفحة السنام: فهي جانبه، والصفحة مؤنثة، ومعلوم أن الإشعار سنة وليس بواجب، ويكون الإشعار في الإبل والبقر دون الغنم؛ لأن الغنم أضعف من أن تحتمل الجرح، فضلاً عن أن شعرها وصوفها ووبرها يغطي هذا الإشعار، فلا تكون له فائدة حينئذ.
قال: [قال أبو حسان الأعرج: (قال رجل من بني الهجيم لـ ابن عباس: ما هذه الفتيا التي قد تشغفت أو تشغبت بالناس أن من طاف بالبيت فقد حل؟ فقال: سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم وإن رغمتم)]، قال له: ما هذا الذي عملت يا ابن عباس؟! أنت عملت فتنة في وسط الناس، أأنت قلت: إن الذي يطوف بالبيت يتحلل؟ قال له: نعم.
سنة نبيكم وإن رغمت أنوفكم، ولكن هذا للمتمتع.
قال ابن عباس: (لا يطوف بالبيت حاج ولا غير حاج إلا حل -وهذا زيادة من ابن عباس - قلت لـ عطاء: من أين يقول ذلك؟ قال: من قول الله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:33]).
طبعاً هذا مذهب مخالف لمذهب جماهير الصحابة، فـ ابن عباس مخطئ في ذلك، فـ ابن عباس يقول: (من طاف بالبيت) فلو كان يقصد التمتع فكلامه منضبط، أما إذا كان يقصد أن مجرد الطواف يحل للطائف الحل ويحتج بقول الله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:33]، أي: الكعبة، فإنه سيكون مجرد وصول الأغنام أو الأبقار أو الإبل إلى البيت العتيق يجعل صاحب الهدي حلالاً وإن لم يطف؛ لأنه قال: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:33]، فهذا المذهب خطأ من ابن عباس، خالفه غيره من الصحابة.
ولذلك يقول النووي: هذا الذي ذكره ابن عباس هو مذهبه، وهو خلاف مذهب الجمهور من السلف والخلف، فإن الذي عليه العلماء كافة سوى ابن عباس أن الحاج لا يتحلل بمجرد طواف القدوم، بل لا يتحلل حتى يقف بعرفات، ويرمي ويحلق ويطوف طواف الزيارة، فحينئذ يحصل التحللان الكبير والصغير، ويحصل الأول باثنين من هذه الثلاث التي هي رمي جمرة العقبة والحلق والطواف.
وأما احتجاج ابن عباس بالآية فلا دلالة له فيها؛ لأن قوله تعالى: {مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ ال(30/17)
باب التقصير في العمرة
باب التقصير في العمرة.
يعني: باب جواز التقصير، بل الاستحباب للمعتمر الذي يريد التمتع أن يقصر دون أن يحلق، ويحلق في يوم الكمال والتمام وهو يوم النحر.
قال: [عن ابن عباس قال: (قال لي معاوية: أعلمت أني قصرت من رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المروة بمشقص؟ فقلت له: لا أعلم هذا إلا حجة عليك)].
قال ابن عباس: إن معاوية بن أبي سفيان أخبره قال: قصرت من رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص وهو على المروة، أو رأيته يقصر عنه بمشقص وهو على المروة.
هذا الحديث فيه جواز الاقتصار على التقصير وإن كان الحلق أفضل، وسواء في ذلك الحاج والمعتمر؛ إلا أنه يستحب للمتمتع أن يقصر في العمرة ويحلق في الحج؛ ليقع الحلق في أكمل العبادتين.
وفيه: أنه يستحب أن يكون تقصير المعتمر أو حلقه عند المروة؛ لأنها موضع تحلله كما قلنا من قبل، وهذا الحديث محمول على أنه قصر عن النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة الجعرانة لا في عمرة حجة الوداع؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يقصر في عمرة الوداع، وإنما طاف وسعى فقط، ثم انطلق بعد ذلك إلى منى، وحلق في يوم العاشر؛ لأن القارن لا يلزمه التقصير ولا الحلق من عمرته، لأنه قرن بين المنسكين الحج والعمرة، فلا يلزمه الحلق في عمرته أو التقصير، وإنما يلزمه الحلق أو التقصير في حجه.
قال: وهذا الحديث محمول على أنه قصر عن النبي عليه الصلاة والسلام في عمرة الجعرانة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع كان قارناً، وثبت أنه عليه الصلاة والسلام حلق بمنى، وفرق أبو طلحة شعره بين الناس، فلا يجوز حمل تقصير معاوية على حجة الوداع، ولا يصح حمله أيضاً على عمرة القضاء؛ لأن عمرة القضاء هذه كانت في سنة سبع من الهجرة، ومعاوية لم يكن أسلم في هذا العام، وإنما أسلم في العام الثامن.
يعني: بعد ذلك بعام، والله أعلم.
قال أبو سعيد الخدري: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نصرخ بالحج صراخاً -هذا كان في حجة الوداع- فلما قدمنا مكة أمرنا أن نجعلها عمرة، إلا من ساق الهدي، فلما كان يوم التروية ورحنا إلى منى أهللنا بالحج) أي: من بيوت مكة.(30/18)
باب إهلال النبي صلى الله عليه وسلم وهديه
قال: [الباب الرابع والثلاثون: باب إهلال النبي صلى الله عليه وسلم وهديه.
عن أنس رضي الله عنه: (أن علياً قدم من اليمن، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: بم أهللت؟ فقال: أهللت بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، قال: لولا أن معي الهدي لأحللت)].
إذاً: المتمتع لا يسوق الهدي، والقارن يسوق الهدي، وإذا ساق الهدي لا يتحلل من عمرته بخلاف المتمتع يتحلل ويهل بالحج من مكانه في يوم التروية.
تتكرر الأحاديث والخلاف بين عبد الله بن عمر وبين أنس بن مالك في مسألة الحج والعمرة.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده ليهلن ابن مريم بفج الروحاء حاجاً أو معتمراً أو ليثنينهما).
وهذا يدل على أن عيسى بن مريم هو أحد أفراد أمة النبي عليه الصلاة والسلام، وهو تابع للنبي عليه الصلاة والسلام، وإن كان نبياً مستقلاً إلا أنه في آخر الزمان يكون تابعاً لأمة الإسلام.
فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: عيسى بن مريم سيأتي في آخر الزمان، إما أن يحج أو يعتمر أو يجمع الحج والعمرة، وهذا يدل على جواز إفراد الحج وجواز التمتع والقران.(30/19)
باب بيان عدد عُمَرِ النبي صلى الله عليه وسلم وزمانهن
الباب الأخير وهو الخامس والثلاثون: باب بيان عدد عُمَرِ النبي صلى الله عليه وسلم وزمانهن.
يعني: كم عدد العمر التي اعتمرها؟ وفي أي الشهور اعتمر؟ أما عدد العمر فقد وقع الخلاف بين مالك والجمهور: مالك يقول: اعتمر ثلاث مرات، والجمهور: على أنه اعتمر أربع مرات.
والصواب: هو الجمع بينهما، أن مالكاً قال: اعتمر ثلاثاً غير عمرة حجة الوداع، فلم يعدها، وبذلك تنسجم الروايات ويتألف كلام أهل العلم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم حج مرة واحدة بعد البعثة، وحج مرة أو مرتين قبل البعثة على ملة إبراهيم عليه السلام.
قال: [قال أنس: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر، كلهن في ذي القعدة، إلا التي مع حجته)]، يعني: ثلاث عمرات في ذي القعدة، وواحدة في يوم الرابع من ذي الحجة.
قال: [(عمرة من الحديبية أو زمن الحديبية في ذي القعدة، وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة، وعمرة من جعرانة حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة، وعمرة مع حجته)] أي: في ذي الحجة.
الخلاف بين زيد بن أرقم وبين أنس وبين عائشة وابن عمر وغيرهم أن النبي عليه الصلاة والسلام اعتمر أقل من ذلك، والصواب ما ذكرناه، وأخطأ من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب، وما اعتمر في رجب قط، كان عبد الله بن عمر يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم اعتمر مرة في رجب، والصواب: أنه لم يعتمر في رجب، وراجعته عائشة، ولما راجعته عائشة سكت ولم يتكلم.
قالت: (يرحم الله أبا عبد الرحمن فإنه قد أخطأ، ما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في رجب قط، وعبد الله بن عمر يسمع إنكارها فلم يرد عليها)، فتبين أنه لم يضبط أحد زمن عمرات النبي عليه الصلاة والسلام قدر ما ضبطته عائشة وأنس وبقية أصحابه رضي الله عنهم أجمعين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(30/20)
الأسئلة(30/21)
تكفير الحج المبرور للذنوب
السؤال
هل يلزم مغفرة الذنوب لكل من وقف بعرفة؟
الجواب
ليس كل من وقف بعرفات يغفر له، إنما يغفر له من كان حجه مبروراً.
وفي الحديث: (من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه).
واختلف العلماء في قوله: (كيوم ولدته أمه) ومعلوم أن من ولد لا ذنب عليه، فهل الحج يغفر الذنوب جميعاً كبيرها وصغيرها، أو يغفر الصغائر دون الكبائر.
والراجح من أقوال أهل العلم وهو مذهب الجماهير: أن الحج يكفر الذنوب جميعاً كبيرها وصغيرها، وهذا فضل من الله.(30/22)
بيان ما تفعله الفتاة إن أجبرها والدها على خلع النقاب
السؤال
لما لبست النقاب غضب والدي وحلف بالطلاق من أمي إن لم أخلع النقاب فماذا أفعل؟
الجواب
اخلعي النقاب، ولا شيء لك غير ذلك، فإذا رزقت بمن يحفظ عليك أمر دينك فنعما به، لأن كثيراً من الآباء لا يستحقون أن يكونوا آباءً، كما أن الجمع الغفير من الأبناء لا يستحقون أن يكونوا أبناءً.
فالأصل في ضبط هذه المسألة أن كل واحد -أب أو أم- يقف عند حد الشرع، ومن تجاوز ذلك فحسابه على الله عز وجل.
أقول لهذه الفتاة أن تخلع النقاب، وألا تخرج من بيتها إلا لضرورة ملحة، وأن تلبسه في خروج يترتب عليه فتنة.(30/23)
الحكم على حديث (كنت كنزاً مخفياً)
السؤال
يقول أحد المشايخ: إن الله عز وجل يقول في حديث قدسي: (كنت كنزاً مخفياً وأردت أن أعرف وخلقت الخلق حتى يعرفوني) فهل يوجد حديث بهذا اللفظ، وإن كان فما المعنى الذي يدل عليه، وما رأيكم في هذا الشيخ؟
الجواب
هذا الحديث حديث موضوع غير صحيح، والذي أذكره أن هذا السائل وجه نفس السؤال في الدرس الماضي، وزاد في
السؤال
أن هذا الشيخ قال: (حتى يعرفوني) أي: حتى يعرفوا عظمتي وجلالي.
أقول: إن هذا الشيخ الذي قال ذلك -سواء كنتم تعلمونه أو لا- هو في العقيدة ليس على منهج السلف، بل هو يتأول الصفات على منهج الأشاعرة.
فعلى أية حال هو شيخ جليل، وله باع عظيم جداً في الدعوة إلى الله عز وجل، ونحسبه مخلصاً إلا في قضية الصفات، فإنه ليس ينهج نهج أهل السنة، فاحذروا مسائله في الصفات.
أما أن تحذروه برمته فهذا ليس من العدل، بل جهوده مشكورة جداً في الدعوة إلى الله عز وجل، وقد تاب على يديه آلاف الناس.(30/24)
حكم تقصير القارن لعمرته وحلقه يوم النحر
السؤال
هل يجوز للقارن أن يقصر في عمرته ويحلق في يوم النحر؟
الجواب
نعم.
يجوز له ذلك، أما وجوباً فلا.(30/25)
أخطاء العلماء
السؤال
الشيخ أبو زهرة كان حاقداً وناقماً على منهج السلف، فما رأيك فيه؟
الجواب
الشيخ أبو زهرة كغيره من أهل العلم، وهو رجل أبلى بلاءً حسناً في نشر دين الله عز وجل، وكان حجر عثرة في وجوه أعداء الله عز وجل في داخل الأزهر وخارجه، وله من الجهود العلمية والمصنفات الفقهية وغيرها ما يحمد له ويشكر، غير أنه أكب هنا، وكان يسلك مسلكاً غير مسلك السلف في بعض القضايا لا في كل شيء، وهذا لا يخلو منه عالم.
فأظن أن منهج أهل السنة في مثل هذا أن يوهب شره لخيره، والنظر إلى ما أخطأ فيه أبو زهرة أو غيره كالشيخ محمد عبده أو رشيد رضا أو غيرهم ما أخطئوا فيه لا أظن أنهم متعمدون للخطأ.(30/26)
شرح صحيح مسلم - كتاب الحج - السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به
من أركان الحج: السعي بين الصفا والمروة، فلا يصح الحج إلا بالإتيان به، وهو مرة في حق المفرد والقارن، ومرتان في حق المتمتع، فمرة يسعى لعمرته، ومرة يسعى لحجته، كما يشرع للحاج رمي جمرة العقبة ضحى يوم النحر، ثم يرمي الجمار الثلاث أيام التشريق الأول والثاني والثالث.(31/1)
حكم السعي بين الصفا والمروة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به].
فالسعي بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج، لا يصح إلا بالإتيان به؛ لأن الركن داخل في ماهية الشيء، وفي تكوينه وأساسه بخلاف الواجب، فإن الواجب يجبر بدم، كالمبيت بمنى في أيام التشريق فإنه واجب، فمن حج ولم يبت بمنى في هذه الليالي فإن عليه دماً؛ لأنه لابد أن تعرف أن أي واجب يقصر فيه الحاج يجبر بدم، وأي ركن في الحج يقصر فيه بمعنى لا يأتيه ألبتة فإنه يبطل به حجه.
فقوله: باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به، يعني: من لم يسع لا حج له، وهذا السعي في حق المتمتع مرتان: مرة مع العمرة، ومرة مع الحج.
يعني: يطوف ويسعى بين الصفا والمروة، ويحلق ويتحلل؛ لأنه لا يتحلل قط معتمر إلا بعد السعي بين الصفا والمروة.
أما القارن فله أن يطوف بالبيت ويصلي ركعتين، ثم يرجع إلى الحجر فيقبله، أو يستلمه، أو يشير إليه مكبراً، ولا يسعى بين الصفا والمروة، ولا يحلق، ثم ينطلق يوم التروية إلى منى فيؤدي الحج، لكنه في يوم النحر إذا نزل إلى مكة وجب عليه أن يطوف بالبيت، وأن يسعى بين الصفا والمروة.
إذاً: القارن ليس عليه من الوجوب إلا سعي واحد بين الصفا والمروة، فإن فعل هذا السعي بعد طواف القدوم، أو بعد طواف العمرة، فليس عليه سعي في يوم النحر، وإنما يطوف بالبيت فقط.
وإذا لم يأت به في أداء عمرته، فيجب عليه أن يأتي به في يوم النحر على الخلاف المذكور.
فالذي لا يطوف ولا يسعى في يوم النحر، وتحلل بأداء المنسكين: رمي جمرة العقبة والذبح، أو الحلق فله أن يتحلل، وهذا المعلوم عند أهل العلم بالتحلل الأصغر الذي يحل له كل شيء إلا النساء؛ لأن حل النساء هو التحلل الأكبر.
ولا يحل له النساء إلا بعد الطواف والسعي، فإذا طاف وسعى وأتى منسكين آخرين حل التحلل الأكبر، بمعنى: كل شيء يحل له كان حراماً عليه في حال إحرامه حتى النساء، والذي لا يطوف في نهار النحر، ودخل عليه الليل ولم يطف وأراد أن يطوف بالليل، أو أن يطوف في اليوم الثاني أو الثالث أو الرابع وهي: أيام التشريق، فيجب عليه أن يلبس ملابس الإحرام من جديد.
لكن الشيخ عادل العزازي حفظه الله راجعني في هذه القضية وقلت له: أنا ظننت أن هذه المسألة مستقرة عندك؛ لأننا تلقيناها عن الشيخ الألباني، والشيخ الألباني صاحب دليل فيها، وإن لم يقل فيها أحد من أهل العلم السابقين قبله بقول، إلا ما ورد إشارة عند النووي في شرح الصحيح في شرح حديث جابر الطويل في صفة حجه عليه الصلاة والسلام.
ولكن الشيخ الألباني وقف عندها وأكد عليها وساق لها الدليل، أن من أدركه الليل في يوم النحر ولم يطف ولم يسع فعليه الإحرام، والحديث صحيح.
ولكني حاولت مراراً وبذلت جهداً جهيداً أنا وإخواني الذين يهتمون ويعنون بكتب التراث للحصول على نسخة كتاب: مناسك الحج والعمرة للشيخ الألباني، ولكن للأسف الشديد لم نجد الكتاب إلى الآن.
فهذه المسألة من أراد أن يرجع إليها بالتفصيل فليرجع إلى كتاب: مناسك الحج والعمرة للشيخ الألباني.
وهذه قضية مهمة؛ لأن كثيراً من الناس يغفل عنها، بل ربما لا يعرفها من الأصل، فإن الذي لم يطف ولم يسع في يوم النحر عليه أن يلبس ملابس الإحرام إذا جن عليه الليل، والذي نقل هذا الكلام إلى الشيخ عادل لم يذكر له أني قلت: إذا جن عليه الليل.
فظن الشيخ أنني ألزم الناس بلبس ملابس الإحرام في كل وقت، وفي كل حين حتى في نهار النحر قلت: أنا لم أقل هذا، وما آفة الأخبار إلا رواتها، قلت: أنا لم أقل هذا وحاكمني الشيخ عادل، ولكني قلت له: بيني وبين القوم الشريط والكلام مسجل، وهو أني قيدت ذلك بدخول الليل، فاشترطت دخول الليل.(31/2)
حكم لبس الباروكة للمرأة تتزين بها لزوجها
المسألة الثانية التي يسرني جداً أن أعتذر عنها، وأن أنسحب منها قبل البدء في الدرس وهي أنني قلت: إن لبس الباروكة للمرأة المسلمة تتزين بها لزوجها أمر جائز، وامتثالاً لقوله عليه الصلاة والسلام: (الدين النصيحة) وهذه النصيحة أنا أولى بها من أي إنسان آخر.
وقول عمر لـ أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: يا أبا موسى أو قال له: يا عبد الله بن قيس، اعلم أن الرجوع بالحق خير من التمادي بالباطل.
وقول أبي حنيفة: إنما نحن بشر نقول القول اليوم ونرجع عنه غداً.
والحقيقة: اللياقة والمرونة والشهامة هي: أن المرء إذا علم أنه أخطأ يرجع عن خطئه، وهذا تمام العلم وكماله، ولا أدعيه لنفسي، لكن على أية حال لا بأس أن نتمسك بأسلافنا رحمهم الله.
فهذه المسألة أنا قد أخطأت فيها حتى أوقفتني امرأتي جزاها الله خيراً على فتوى للجنة الدائمة، لما وجه إليها
السؤال
ما حكم لبس المرأة ما يسمى بالباروكة لتتزين بها لزوجها؟ فأجابت اللجنة المباركة: ينبغي لكل من الزوجين أن يتجمل أحدهما للآخر بما يحببه فيه، ويقوي العلاقة بينهما، لكن في حدود ما أباحته شريعة الإسلام دون ما حرمته، ولبس ما يسمى بالباروكة بدأ في غير المسلمات، فهو أصلاً من زينة الكافرات، واشتهرن بلبسه والتزين به حتى صار من سيمتهن.
فلبس المرأة المسلمة إياها، وتزينها بها ولو لزوجها فيه تشبه بالكافرات، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: (من تشبه بقوم فهو منهم).
ولأنه في حكم وصل الشعر بل أشد منه وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ولعن فاعله.
وإني أنسلخ من الكلام الأول انسلاخاً تاماً، وأقول: هذه عقيدتي في هذه القضية، جزاكم الله خيراً، وأرجو أن تسامحوني.(31/3)
باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به
الباب الثالث والأربعون: باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به.
والسعي بين الصفا والمروة للمتمتع يكون مرتين؛ لأن العمرة الأولى لا تتم إلا بطواف وسعي، والحج لا يتم إلا بطواف وسعي.
أما القارن فإن عمرته تتم بغير سعي إذا كان سيسعى مع طوافه في يوم النحر، يعني: أن القارن إما أن يؤخر السعي، وإما أن يعجل السعي، فإذا عجل السعي فالسعي في يوم النحر مستحب وليس واجباً.
أما المفرد إذا أخره فالسعي في يوم النحر في حقه واجب؛ لأن المفرد ليس له إلا سعي واحد.
قال: [عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: أو قلت لها: إني لأظن رجلاً لو لم يسع بين الصفا والمروة ما ضره، قالت: لم؟ قلت: لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158] إلى آخر الآية، فقالت: ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة]، يعني: عروة بن الزبير يقول لـ عائشة: أنا أرى أن واحداً حج أو اعتمر ولم يسع بين الصفا والمروة ليس عليه حرج، وأن السعي بين الصفا والمروة إنما أذن فيه الشارع لبيان مسألة عقدية كانت على أيام الجاهلية؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158].
فوقف عند قوله: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ} [البقرة:158] يعني: المسألة ليست عزيمة، فالذي يريد أن يسعى فلا جناح عليه، والذي لا يريد لا شيء عليه، فلا جناح عليه أن يطوف بهما.
قالت عائشة رضي الله عنها له: لو كان الأمر كما تقول لكان: فلا جناح عليه ألا يطوف بهما؛ يعني يطوف أو لا يطوف، إذا كنت تعتبر أن هذا الطواف أو السعي بين الصفا والمروة من باب الاستحباب لكان سياق الآية يختلف عن سياق المتواتر، فلا جناح عليه ألا يسعى، فالآية ليست كما تظن أو كما فهمت، بل الآية حجة عليك، وليست حجة لك، فهي تريد أن تقول له: أنت لا تفهم الحديث إلا إذا عرفت سبب ورود الحديث، ولا تفهم الآية إلا إذا عرفت سبب نزول الآية، فقوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158]، كانت الأنصار في الجاهلية يعبدون صنمين هما: إساف وكان على الصفا، ونائلة وكانت على المروة، ثم تحول الصنمان إلى حجر الكعبة، ثم إلى جوار الكعبة، فكانوا يسعون بين الصفا والمروة لأجل عبادة الصنمين.
فالأنصار لما دخلوا في الإسلام وأتوا إلى مكة معتمرين تحرجوا أن يطوفوا بين الصفا والمروة؛ لأنهم كانوا يسعون في الجاهلية عبادة للأصنام.
فقولها: إنما كان ذاك أن الأنصار كانوا يبلون في الجاهلية لصنمين على شاطئ البحر يقال لهما: هتاف ونائلة، وقولها: على شاطئ البحر هذا خطأ، وإنما الذي كان على شاطئ البحر شيء آخر.
قالت: ويأتون إلى الصفا والمروة فيعبدون هذين الصنمين، ثم يجيئون فيطوفون بين الصفا والمروة، ثم يحلقون، فلما جاء الإسلام كرهوا أن يطوفوا بينهما للذي كانوا يصنعونه في الجاهلية، أي: يطوفون بين الصفا والمروة لعبادة الصنمين.
قالت: فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158]، أي: ليستا عبادة الصنمين، وإنما هما من شعائر الله، {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ} [البقرة:158] أي: فلا يتحرج أن يطوف بين الصفا والمروة كما كان يطوف في الجاهلية، فإنه الآن من شعائر الإسلام.
قال: [قال عروة: قلت لـ عائشة: (ما أرى علي جناحاً ألا أطوف بين الصفا والمروة، قالت: لم؟ قلت: لأن الله عز وجل يقول: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158]، قالت: لو كان كما تقول لكان: (فلا جناح عليه ألا يطوف بهما) إنما أنزل هذا في أناس من الأنصار كانوا إذا أهلوا أهلوا لمناة في الجاهلية -ومناة هذه هي التي كانت على شاطئ البحر- فإذا دخلوا الحرم توجهوا إلى الصفا والمروة فعبدوا هذين الصنمين، فيطوفون بين الصفا والمروة، فلما قدموا مع النبي صلى الله عليه وسلم للحج ذكروا ذلك له، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فلعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة)].
قولها: فلعمري هذا قسم، (ما أتم الله حج امرئ أتى للحج ما لم يطف بين الصفا والمروة)، يعني تريد أن تقول له: إن السعي هذا ركن من لم يأت به فلا حج له.(31/4)
باب بيان أن السعي لا يكرر
الباب الرابع والأربعون: باب بيان أن السعي لا يكرر.
وهو أن السعي لا يكرر في حق القارن، وهذا الكلام قدمناه، والمتمتع يكرر سعيه، والمفرد لا سعي عليه إلا سعياً واحداً، فالقارن الذي ساق الهدي من الميقات ولم يتحلل بعد عمرته انتظاراً للإهلال في يوم التروية عليه سعي واحد.
قال: [وقال جابر: (لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً)].
وفي الدروس الماضية تكلمنا مراراً وأثبتنا أن النبي عليه الصلاة والسلام كان قارناً.
ومعنى قول جابر: (ما طاف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه إلا طوافاً واحداً)، أي: ولا أصحابه الذين ساقوا الهدي.
أما من لم يسق الهدي فإنه يجب عليه سعيان، وهو المتمتع.(31/5)
باب بيان وقت استحباب الرمي
الباب الثالث والخمسون: باب بيان وقت استحباب الرمي.
والرمي رميان: رمي في يوم النحر، ورمي في أيام التشريق.
ورمي الجمرات بحصى الخذف، فإذا زادت عن ذلك أو نقصت جاز مع الكراهة، لكن على أية حال: يكره إذا تعمد الملتقط أن يلتقط أصغر من حصى الخذف أو أكبر، أما من لم يجد إلا أكبر أو أصغر فلا حرج عليه.
فمثلاً: لا يلتقط المحرم حصى خذف مثل حبة الأرز، وإن فعل سيجزئه لكن مع الكراهة.
ولا يلتقط سبعة أحجار كبار تقع في وجوه الناس من الناحية المقابلة له، ويعتبر أن هذه عبادة، فعلى اعتبار أنه لو رمى بحصى الخذف وجاءت في وجوه المقابلين له لا تضرهم، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف فقال: (إنه لا ينكأ عدواً، وإنما يفقأ العين).
وقد كنا نخذف ونحن نرعى الأغنام، والحمد لله ما من نبي إلا ورعى الغنم.
فباب بيان وقت استحباب الرمي.
قال: [عن جابر قال: (رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة يوم النحر ضحى -ويوم النحر هو يوم العيد- وأما بعد -أي: وأما بعد يوم النحر- فإذا زالت الشمس)].
إذاً: الجمرة جمرتان: جمرة العقبة الكبرى، وهي التي ترمى فقط يوم النحر، ورميها ضحى، ويجوز أن ترمى إلى وقت المغرب، لكن أحب الأوقات في رميها الضحى بعد أن تنزل من مزدلفة إلى منى.
وجمرة العقبة الكبرى في منى، لما تنزل من مزدلفة ستنزل إلى منى يوم النحر بعد الشمس، وقدر المشي ساعة ما بين مزدلفة إلى منى، فإذا وصلت إلى منى وبحثت عن جمرة العقبة الكبرى كنت في وقت الضحى، ولذلك يجوز أن تلتقط حصى الخذف الذي ترمي بها جمرة العقبة من مزدلفة، أو من طريقك إلى منى، أو من منى نفسها.
وبعض الحجاج في ليلة المبيت بالمزدلفة يبيتون مهمومين ومنشغلين بجمع سبع حصيات لكي يذهبوا إلى منى وينطلقوا منها مباشرة.
والخطأ الثاني أيضاً: بعض الحجاج يطيب حصى الخذف وهو محرم، والمحرم لا يجوز له أن يستعمل الطيب، فهو عندما يطيب هذه الحصيات سيمس من الطيب، وهذا خطأ كبير أيضاً.
بعض أهل العلم هناك يفتي بوجوب الدم؛ لأن هذا تنطع في عدة مسائل، فالصحابة ما غسلوا الحجارة، لأن الأصل فيها الطهارة، لحديث: (جعلت لي الأرض طهوراً) أي: الأرض كلها بحصاها وترابها ووحلها وطينها طهور.
لكن قد يقال: نحن نطيبها لأنها تقع في يد الله عز وجل، من الذي نص على أن هذه الحصيات تقع في يد الله إذا رميتها؟! والشيعة عليهم لعنة الله لا يلتقطون الحصى إنما يلتقطون أكياس الدم، فكل واحد منهم يأتي بسبع أكياس دم، وهذه إشارة لمقتل الحسين، فهم يرجمون الشيطان بأكياس الدم.
تصور أن كل شيعي يرمي بسبعة أكياس دم، والأكياس تقع في محل الشاهد فتنفجر، فيرجع الدم على الحجاج، فهذا بلاء عظيم مع ما في هذا اليوم من شدة الزحام، والذي يسقط على الأرض فكبر عليه أربعاً لوفاته، سواءً كان كبيراً أو صغيراً، رجلاً أو امرأة، فلا مجال أبداً لحياته إلا أن يأذن الله تبارك وتعالى له بذلك.
فحصى الخذف لا تغسل ولا تطيب ولا شيء من هذا، وتلتقط من أي مكان، ولا مانع للحاج -وهذا يحصل لما يأتي يوم عشرين من ذي القعدة- أن يأخذ من بلاده حصى فيضعها في الشنطة مثلاً ويحافظ على هذه السبع الحصيات.
و
السؤال
هل يجوز رمي الجمرة أياً كانت: الوسطى أم الصغرى أم الكبرى بجمار رمي بها من قبل؟
و
الجواب
لا يجوز، إنما الجمرة يرمى بها مرة واحدة.
ولذا فإن عربيات البلدية هناك تقوم برفع كل هذا الحصى وترميه بعيداً في الجبل؛ من أجل اليوم الثاني يرمي الناس الجمرات بحصى جديدة، وقد يلتقط الناس ثاني يوم أو ثالث يوم أو رابع يوم الذي هو ثالث أيام التشريق نفس الجمرات التي رموا بها بالأمس أو قبل الأمس، لكن هذا لا يضر، لأن الذي يغلب على الظن: أن هذه الجمار التي تلتقط من بعيد لم يرم بها، إنما التي رمي بها هي التي تأخذها من الجو، أو التي أخذتها في أثناء الرمي من محل الشاهد نفسه، أو من البير نفسه، فإن الموجود في هذا البير يقيناً عندك أنه قد رمي به، فلا يجوز التقاطه مرة أخرى، إنما إذا مررت بالجبل والتقطت منه وإن رمي به ألف مرة فإن الأصل فيه عدم الرمي، وهذا جهل لا يضرك.
فمن شك هل رمي بها أو لم يرم بها، فالأصل عدم الرمي ما دامت بعيداً.
والحوض لابد أن تقع الحصى فيه، ولا يصح الرمي إلا أن تقع في الحوض نفسه.
جابر رضي الله عنه يقول: (رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة يوم النحر) وهي جمرة العقبة الكبرى، أما الكبرى والوسطى والصغرى فهي ترمى في أيام التشريق الثلاثة إلا لمن تعجل، كما قال تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:203].
يعني: الذي هو مستعجل ويريد أن يسافر أو ينطلق، ولذلك المتعجل لا يجوز له أن يبقى في مكة رابع أيام التشريق، ولذلك قال: {لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة:203] يعني: هذه المسألة مربوطة بتقوى الله عز وجل، {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْ(31/6)
باب بيان أن حصى الجمار سبع
الباب الرابع والخمسون: باب بيان أن حصى الجمار سبع.
قال: حصى الجمار، ولم يقل: حصى الجمرة الكبرى.
أيام التشريق فيها رمي الجمرات الثلاث، بخلاف يوم النحر، ففيه رمي جمرة العقبة الكبرى فقط بسبع حصيات.
قال: [قال جابر رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الاستجمار تو، ورمي الجمار تو، والسعي بين الصفا والمروة تو، والطواف تو، وإذا استجمر أحدكم فليستجمر بتو)].
يريد أن يقول لك: إن العدد سبعة مستحب في بعض العبادات، وواجب في البعض الآخر.(31/7)
باب استحباب طواف الإفاضة يوم النحر
الباب الثامن والخمسون: باب استحباب طواف الإفاضة يوم النحر.
قال: [يقول ابن عمر: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر، ثم رجع فصلى الظهر بمنى).
قال نافع: (فكان ابن عمر يفيض يوم النحر، ثم يرجع فيصلي الظهر بمنى، ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله)].
يعني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر، بمعنى: طاف طواف الإفاضة، فالنبي عليه الصلاة والسلام في يوم النحر طاف طواف الإفاضة، ثم رجع فصلى الظهر بمنى.
إذاً: أول مافعله النبي عليه الصلاة والسلام هو أنه أتى من مزدلفة إلى منى ثم رمى جمرة العقبة، ثم حلق، ثم ذبح، ثم انطلق إلى مكة، فطاف طواف الإفاضة، وسعى بين الصفا والمروة، ثم رجع إلى منى فصلى بها الظهر.
والنبي صلى الله عليه وسلم حج في ذلك الوقت راكباً، وهذا أخص.
قال: [وعن عبد العزيز بن رفيع قال: قلت لـ أنس بن مالك: (أخبرني عن شيء عقلته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أين صلى الظهر يوم التروية؟ قال: بمنى، قلت: فأين صلى العصر يوم النحر؟ قال: بالأبطح، ثم قال: افعل ما يفعل أمراؤك)].
يعني: أنت ليست لك علاقة بالنبي عليه الصلاة والسلام، إنما النبي عليه الصلاة والسلام فعل هذا لأنه الأحسن، لكن لا يمنع أن يكون هناك خلاف الأحسن وهو الجائز، يعني خلاف المستحب الجائز أو المباح.
فقال له أنس رضي الله عنه: إن النبي صلى الله عليه وسلم فعل كيت وكيت، لكن لا يلزمك هذا، إنما الذي يلزمك هو اتباع الأمراء؛ لأن مخالفة الأمير سبب فتنة عظيمة، ونحن في الدروس الماضية ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قصر الصلاة بمنى، وأبو بكر وعمر قصرا الصلاة بمنى، إلا عثمان رضي الله عنه فإنه صلى أربعاً، وصلى خلفه ابن مسعود رضي الله عنهما أربعاً، فقيل لـ ابن مسعود: لمَ صليت وقد علمت أن عثمان خالف السنة في ذلك؟ قال: الخلاف شر.
يعني: يرضيكم أن ابن مسعود يصلي في مكة ركعتين، ولا يصلي مع الإمام أربعاً، فصلاة الظهر بمنى أربع ركعات جائزة، وإن كان الأولى اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لو خالف أحد فصلى أربعاً تصح صلاته.
وهذه السنة العظيمة خفيت على عثمان بن عفان، وهنالك مسائل مشهورة ومستفيضة عند الصغار قد خفيت على الكبار؛ ليجري الله عز وجل سنته في الخلق مهما بلغت قيمته ومنزلته أنه لا يحظى بالعلم كله.
وموسى عليه السلام وهو نبي ذهب إلى الخضر وأخذ منه العهود والمواثيق الغليظة أنه لا يعترض عليه، ومع هذا أخطأ ثلاث مرات وأول مرة وثاني مرة قبل عذره، ولما أخطأ في المرة الثالثة فارقه، ولذلك قال له الخضر: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف:78]، أي: أنت لا تنفع للصحبة أبداً، مع أنه نبي لكنه بشر في النهاية، ولذلك هو معصوم في جهة الشرع، أما في غير جهة الشرع فليس معصوماً.
ولا يجوز على الأنبياء ارتكاب الكبائر باتفاق، أما الصغائر فالخلاف فيها قائم، والراجح جواز وقوع الأنبياء في الصغائر التي لا علاقة لها بالشرع.
إذاً: طواف الإفاضة ليس بواجب يوم النحر بل هو مستحب، يعني: يجوز لك أن تؤخره إلى اليوم الثاني والثالث والرابع؛ لأنه مستحب يوم النحر، وليس بواجب، بل بعض أهل العلم قالوا: إنما يجب أداء طواف الإفاضة في شهر ذي الحجة، ومن لم يفعله في شهر ذي الحجة فلا حج له، أي: ما أتم الله حجه كما قالت عائشة رضي الله عنها.
أما المستحب وهو أن يطوف في يوم النحر، وليس في ليلة الحادي عشر؛ لأن لغة الشرع تفرق بين اليوم والليلة.
فالليل يطلق على الليل، واليوم يطلق على النهار دون الليل.
ولذلك فإن الكتب التي عنيت بأعمال اليوم والليلة تجد فيها مثلاً: أذكار اليوم والليلة، أي: أذكار النهار والليل، لأن اليوم يطلق على النهار دون الليل.
فطواف الإفاضة في يوم النحر مستحب، ولا يتحلل التحلل الأكبر إلا به، أما إذا تحلل التحلل الأصغر بأداء منسكين من بقية المناسك، فإنه يحل له كل شيء إلا النكاح.
ولا يرخص في ترك المبيت إلا لأهل السقاية، وهم الذين يأتون بالماء من مكة، ويوم التروية سمي يوم التروية لأن الحجاج يتروون فيه، يعني: يأخذون ما يرويهم من العطش من مكة إلى منى.
وأيام التشريق سميت تشريقاً لأن اللحم كان فيها يشرق بمعنى: أنه يجفف، أو يشقق قطعاً ثم يجفف.(31/8)
باب وجوب المبيت بمنى
قال: [باب وجوب المبيت بمنى].
اعلم أن المبيت بمنى واجب، الذي هو ليلة الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، لكن هذا الوجوب ينسحب على من بقي في المكان ولو جزءاً يسيراً من الليل.
فاللغة والشرع يسمحان بإطلاق لفظ المبيت على من أدرك المبيت بمنى، ولو جزءاً يسيراً من الليل.
ثم اختلفوا هل هذا الجزء اليسير يكون في أول الليل أم في آخره؟ ومن تمكن من البقاء والمبيت بمنى من أول الليل فهذا بلا شك أولى، وأخرج له من الخلاف، وإذا لم يتمكن إلا من البقاء في منى جزءاً يسيراً من الليل من أوله أو من آخره، ما دام أنه لم يتمكن من ذلك إلا على هذا النحو فإنه يجبره.
وهذه المسألة ستقابلها في منى، فإن بقاءك في النهار ليس بلازم؛ لأن القصد أن ترمي الجمرات الثلاث بعد الزوال.
فبقاؤك من الفجر إلى الظهر في منى ليس بلازم، بإمكانك أن تنطلق خارج منى، وبقاؤك بعد الزوال إلى غروب الشمس ليس بلازم، إنما لأجل رمي العقبات الثلاث، فإذا رميتها بعد الزوال ثم انطلقت إلى مكة لتحظى بفضل وثواب الصلاة في المسجد الحرام فلك ذلك، يعني أن تذهب فتصلي العصر هناك، ولا بأس أن تصلي المغرب والعشاء هناك، فتكون صليت العصر والمغرب والعشاء، والصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، أي: بثلاثمائة ألف صلاة، يعني: بحوالي مائة وخمسين ألف يوم في الحياة العادية، أو بمائتي ألف يوم في الحياة العادية لو أن الله تقبل ذلك وأثابك عليه.
والمبيت في منى أفضل من المبيت بالمسجد الحرام؛ لأن المبيت بالمسجد الحرام لا فضل فيه غير الأمن والأمان، مع أن الأمن والأمان في موسم الحج عموماً، أو في بيت الله عموماً سواءً كان ذلك بالليل أو بالنهار.
أما إدراك المبيت في منى فإن بعض أهل العلم ذكر أن المبيت لا يكون إلا بإدراك أول الليل، وبعضهم قال: بل آخر الليل يجزئه، ولكن الأحوط أن يحرص الحاج أن يكون من أول الليل إلى آخره في منى حتى يخرج من هذا الخلاف، لكن إذا لم يتمكن إلا بالوقوف ولو ساعة من آخر الليل، أو من أوله فلا حرج عليه إلا أهل السقاية، وهم الذين يخدمون الحجيج بشربهم وطعامهم وغير ذلك بغير عوض.
كان العباس يستأذن النبي عليه الصلاة والسلام عدم المبيت بمنى لقيامه على أمر السقاية للحجيج، والحمد لله السقاية في الحج الآن على أعلى مستوى.(31/9)
باب في الصدقة بلحوم الهدي وجلودها وجلالها
الباب الواحد والستون: باب في الصدقة بلحوم الهدي وجلودها وجلالها.
قال: [قال علي: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه)]، البدن: جمع بدنة، والبدنة في اللغة تطلق على البقرة والبعير والشاة، ولكنها عند الإطلاق تطلق على البعير فقط، قال علي رضي الله عنه: [(أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه، وأن أتصدق بلحمها وجلودها وأجلتها، وألا أعطي الجزار منها شيئاً)].
يعني: أجر الجزارة تكون مالاً، فلا يأخذ الجزار شيئاً من الذبيحة، وهذا الحكم ينسحب على الأضاحي، لكن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (كنت نهيتكم عن الادخار فوق ثلاث).
يعني: كان حتى لو بقي ولم يتلف لا يأكله.
ثم أتى الناسخ لهذا الحديث وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (كنت نهيتكم عن الادخار فوق ثلاث ألا فكلوا وادخروا)، يعني: الآن كلوا وادخروا بخلاف الأول فإنه لم يكن يحل لأحد أن يدخر فوق ثلاثة أيام.
ولا يعطى الجزار على سبيل الإجارة والعوض منها شيئاً، فإذا سقت الهدي من الميقات، وقلدته وأشعرته فقد أوقفته على الله عز وجل، فهو كالنذر تماماً، فلا يجوز لك أن تبيع شيئاً من هذه الذبيحة، ولا ترم حتى الظفر ولا ينتفع به أحد، ويحرم عليك أن تبيع شيئاً من النذر أو الأضحية أو العقيقة أو الهدي، وأما النذر فيحرم عليك أن تأكل منه شيئاً؛ لأنك نذرتها لله عز وجل، وإن كان النذر مكروهاً؛ لأن النذر إنما يستخرج به من البخيل.
والبخيل جعل الله تبارك وتعالى أهون الناظرين إليه، وأهون أصحاب الحقوق عليه، فظل يلتمس لنفسه الأعذار حتى يتخلص من أداء حق الله عز وجل له.
فلا يجوز للناذر أن يأكل من نذره شيئاً، ولا من يعولهم، أي: من تلزمه نفقتهم، ويجب إخراج النذر كله لله عز وجل، دون أن ينتفع منه بشيء إلا بالثواب الذي دفعه للتخلص من هذا النذر لله عز وجل.
أما الأضحية فلك أن تأكل منها، وتهدي وتتصدق منها قياساً على الهدي، فإن للمهدي أن يأكل من هديه، وأن يتصدق منه بالثلث الثاني، وأن يهدي منه الثلث الثالث، فإن تصدق بها كلها كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام فهو حسن، وهذا عين الكمال والتمام، والنبي عليه الصلاة والسلام ذبح عدداً عظيماً جداً بلغ ستين ناقة، وأمر علي بن أبي طالب أن يتصدق بكل شيء فيها بحيث لا يبقي منها شيئاً، وهذا عين الكمال والتمام الذي لا يكاد يصدر إلا عن النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام.
والشاة لا يصح فيها الشراكة، وأما البدنة التي هي البعير أو البقرة، فإنها تصح وتشرع لسبعة، وللآكل أن يأكل من الهدي ما شاء.
وسن الحياة محل خلاف؛ لأن تحديد السن ليس فيه دليل، وأقل عمر الشاة أن يكون ثمانية شهور، وأكثره ألا يزيد عن سنة، لكن لو أنه قدم أقل من ثمان، أو أكثر من عام فإنه يجزئ؛ لأنه لا دليل في التنصيص على هذه القضية المعينة.(31/10)
باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض
الباب السابع والستون: باب وجوب طواف الوداع، وسقوطه عن الحائض.
طواف الوداع في الحج بلا خلاف واجب على الحجاج، ويجوز لك الجمع بالنية بين طواف الإفاضة الذي هو ركن، وبين طواف الوداع الذي هو واجب، وطواف الإفاضة في يوم النحر، وسمي الإفاضة لأن الإنسان يفيض من منى إلى مكة، أي: ينزل من منى إلى مكة، ثم يرجع إلى منى فيبقى بها ثلاثة أيام، فمن انطلق من منى إلى مطار جدة ليركب الطائرة أو الباخرة ولم يطف طواف الوداع فإن عليه دماً؛ لأن طواف الوداع للحج واجب، وبعض أهل العلم قالوا باستحبابه للمعتمر.
والصواب بل الصحيح: أنه لا طواف وداع للمعتمر أياً كانت عمرته في أي وقت من السنة شاء.
أما طواف الوداع فواجب، وقيل: سنة، والراجح أنه واجب يجبر بدم، يعني: من فرط فيه أو قصر فيه فعليه الدم حتى لو تركه ناسياً أو جاهلاً، فإنه يرتفع عنه الإثم وتبقى عليه الكفارة، وهي: ذبح شاة لفقراء الحرم.
فالذي يطوف طواف الإفاضة في يوم النحر يلزمه بعد انتهائه من الحج طواف آخر هو طواف الوداع، ولو أخر طواف الإفاضة لليوم الثالث أو الرابع، وجمع بالنية بينه وبين طواف الوداع جاز ذلك وأجزأه، لكنه لا يعجل ويقدم طواف الوداع مع طواف الإفاضة ويطوفهما طوافاً واحداً في يوم النحر لاختلاف الزمان.
وسمي طواف الوداع وداعاً لأنك ستغادر مكة بعده مباشرة، ولذلك ذهب كثير من أهل العلم إلى عدم الاتجار بعد طواف الوداع؛ لأنه سيطوف طواف الوداع وينطلق من المسجد الحرام إلى سفره مباشرة، فلا يجوز ولا يصح أن يطوف إنسان في يوم النحر مع طواف الإفاضة مع أنه يعلم أنه يبقى أكثر من ثلاثة أيام في منى أو في بلد الله الحرام.
وفي صحيح مسلم وعند البخاري كذلك أن الحاج لا يجوز له البقاء في مكة بعد أداء الحج ثلاثة أيام إلا أن يكون مجاوراً، يعني: إلا أن ينوي البقاء في مكة، أما الذي أتى إلى الحج فبعد ثلاث ينطلق.
قال: [قال ابن عباس: (كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت)] أي: بالطواف، يعني الناس لما كانوا يرمون الجمرات في ثالث أيام التشريق ثم ينطلق كل واحد منهم إلى حال سبيله، فالرسول عليه الصلاة والسلام قال: (لا ينصرفن أحدكم -أي: بعد أداء الحج- حتى يكون آخر عهده بالبيت) بالطواف.
وهذا بخلاف طواف الإفاضة.
وفي حديث ابن عباس: [(أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض)].
يعني: المرأة الحائض ليس عليها طواف وداع، إنما عليها طواف الإفاضة، ولكنها تؤخره حتى يرتفع عنها الدم، وأهل العلم في هذا الزمان يفتون بجواز أن تتعاطى المرأة أدوية ترفع الدورة حتى يتم حجها؛ وعائشة لما حاضت في الحج كان الأمر بيد النبي عليه الصلاة والسلام، فكان له أن يصدر أوامره للصحابة كلهم بالبقاء في مكة اليوم الثاني والثالث إلى أن تنتهي الدورة.
أما الآن فيطلب منك أن تكون في المطار الساعة كذا، وفي الميناء الساعة كذا، وإن تأخرتم فإنه سيترككم.
فالعلماء جوزوا أن تتعاطى المرأة أي أدوية ترفع الدورة وتحتفظ بها حتى يتم حجها، أو تتم عمرتها.
أما الصيام فليس في ذلك ضرورة، إنما في ذلك تنطع.(31/11)
باب ما يقول إذا قفل من سفر الحج وغيره
باب ما يقول إذا قفل من سفر الحج وغيره.
قال: [عن عبد الله بن عمر: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قفل من الجيوش -يعني: من الغزو- أو السرايا، أو الحج، أو العمرة إذا أوفى -يعني: إذا بلغه- على ثنية، أو فدفد -يعني: إذا صعد شيئاً مشرفاً عالياً- كبر ثلاثاً)].
وهذه السنة لما تكون مسافراً تطلع على كبري، أو على تبة، وأنت طالع الكبري أو التبة فتقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ثم تقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون، عابدون، سائحون -أو ساجدون -ومعنى (آيبون) يعني: راجعون منيبون- لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.
وهذا يسن لمن رجع من سفر الطاعة كرجوع الجيش من الغزو، أو رجوع الحاج من الحج، أما السفر العادي فلا يسن فيه: (صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده).
وفي رواية: أنه كبر مرتين، ولا بأس أن يكبر ثلاثاً لورود ذلك أيضاً.(31/12)
باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة
الباب التاسع والسبعون: باب في فضل الحج والعمرة، ويوم عرفة.
قال: [قالت عائشة رضي الله عنها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة -يعني: لا يوجد يوم أكثر عتقاً من الرقاب من النار أكثر من يوم عرفة- وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟)]، أي: يرجون رحمتك، ويخافون عذابك كما في بقية الحديث الآخر، قال: (يرجون رحمتي ويخافون عذابي، ولم يروه)، أي: ولم يروا عذابي، فكيف لو رأوه.
فقوله: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة) لا يتعارض مع حديث: (خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة)، ووجه الجمع بين الحديثين: أن خير أيام الأسبوع هو يوم الجمعة، وخير أيام السنة هو يوم عرفة.
والدنو دنو حقيقي يليق بالله عز وجل، والإمام النووي عليه رحمة الله كان يقع في التأويل أحياناً، وتلاميذه من فحول أهل العلم اعتذروا عن النووي بأنه لم يتقن مسائل العقيدة، وتصدر للتصنيف والتأليف في الفقه والأصول وغير ذلك قبل أن يستيقن من مسائل الاعتقاد، فكلما مرت عليه المسألة في أثناء تصنيفه تكلم فيها ونقل فيها عن أهل العلم، فتارة ينقل، وتارة يسكت، وتارة يوافق المتأولة.
وله تأثر بعلماء زمانه ومشايخه، وأنهم كانوا متأولة، فقد كانوا في العقيدة أشاعرة، فقد قال النووي في شرحه لهذا الحديث: قال القاضي عياض: قال المازري: معنى (يدنو) أي: تدنو رحمته وكرامته، لا دنو مسافة ومماسة.
وهذا تأويل أيضاً، لأن دنو الرحمن صفة فعل لله عز وجل، وصفة أفعاله لا يعلم كيفيتها إلا الله عز وجل، كما لا يعلم صفات ذاته إلا هو سبحانه.
فأهل السنة يثبتون جميع الصفات لله عز وجل على المعنى اللائق به، ولا نخوض فيها بكيف ولا تأويل، إنما نؤمن بها كما جاءت ونمرها كما أمرها سلفنا رضي الله عنهم، وهذا أسلم وأحكم وأعلم.(31/13)
باب ما بين القبر والمنبر روضة من رياض الجنة
الباب الثاني والتسعون: باب ما بين القبر والمنبر روضة من رياض الجنة والإمام النووي قد أثبت يقيناً أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قبر في بيته، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: (ما بين قبري ومنبري) وهو لا يعرف مكان القبر، وأنتم تعلمون أن الأنبياء يدفنون حيث يموتون، وهذه سنة خاصة بالأنبياء.
رجل صوفي بنى مسجداً، وحفر لنفسه قبراً، ولما مرض واشتد عليه المرض قال: أنا سأمكث في المسجد من أجل إذا مت أدفن فيه.
ولو كان هذا الرجل صادقاً لكان ينام دائماً في القبر لا في الغرفة من أجل أن يدفن في الناحية التي مات فيها، ولما تحقق الإمام النووي من موته لم يتحرج أن يقول: ما بين القبر ومنبر المسجد النبوي روضة من رياض الجنة، والمقصود بالبيت هو بيت عائشة الذي مات فيه النبي عليه الصلاة والسلام وصار بعد ذلك قبراً له صلى الله عليه وسلم.
أما قوله عليه الصلاة والسلام: (ما بين قبري ومنبري) فهذا حديث غير صحيح، والصحيح: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة).
واختلف العلماء في معنى قوله: (روضة من رياض الجنة): القول الأول: أن ذلك الموضع بعينه ينقل إلى الجنة؛ لأنه موضع من مواضع الجنة وروضة من رياضها.
والثاني: أن العبادة فيه تؤدي بصاحبها إلى الجنة.
قال الطبري: المراد ببيته هو القبر، قاله زيد بن أسلم.
والثاني: المراد بالبيت: سكناه، يعني على ظاهره، وإن كان القولان كلاهما يؤدي إلى معنى واحد، لكن حرص الناس على أن يصلوا في الروضة هذا حرص مشكور؛ لأن العبادة في هذا الموطن لها فضل يختلف عن غيره، وحرص الناس أحياناً يؤدي إلى وقوع مفسدة عظيمة جداً خاصة مع الزحام الشديد.
ولذلك فإن هناك مآسي منها ما يفعله غالب الحجاج كالباكستانيين والهنود وغيرهم كل واحد فيهم يجلس في الطابور من أجل أن يصلي ركعتين في الروضة.(31/14)
باب أحد جبل يحبنا ونحبه
الباب الثالث والتسعون: باب أحد جبل يحبنا ونحبه.
أي: باب إثبات أن جبل أحد يحبنا ونحبه.
جاء في حديث أبي حميد الساعدي أنه قال: [(خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك - وساق الحديث وفيه- ثم أقبلنا حتى قدمنا وادي القرى، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: إني مسرع فمن شاء منكم فليسرع معي، ومن شاء فليمكث، فخرجنا حتى أشرفنا على المدينة فقال: هذه طابة -أو طيبة، أو طِيبة وهي المدينة- وهذا أحد وهو جبل يحبنا ونحبه)].
وفي رواية: (إن أحداً جبلٌ يحبنا ونحبه)، والسبب لا يعلمه إلا الله عز وجل.
وبعض أهل العلم يتأول هذا الحديث فيقول: يحبنا أهل الجبل من الإنس والجن والملائكة، لكن هذا تأويل، ولا يمنع إجراء هذا الحديث على ظاهره، وأن الله تعالى يرزق هذا الجبل الأصم تمييزاً يحب به ويبغض، كما أنطق الله عز وجل الجمادات والأحجار والمياه والحيوانات والطيور للنبي عليه الصلاة والسلام.
وهذا الحديث من معجزاته الكثيرة عليه الصلاة والسلام، فإن الله ميز بعض الجمادات وأعطاها تمييزاً لتبكي وليعز عليها فراق النبي عليه الصلاة والسلام، أو لتستجيب لأمره عليه الصلاة والسلام، أو تنتهي بنهيه عليه الصلاة والسلام، فلا مانع أن يرزق الله تعالى ذاك الجبل تمييزاً يحب به ويبغض، فأحب النبي عليه الصلاة والسلام، وأحب أصحابه، وأحب المسلمين الموحدين جميعاً؛ لأن قوله: (إن أحداً جبل يحبنا ونحبه) (يحبنا) أي: نحن المسلمين، وقيل: الصحابة.
والراجح: أن هذا اللفظ عام يطلق ويراد به عموم الموحدين وعموم المسلمين، ولذلك: (لما صعد النبي عليه الصلاة والسلام جبل أحد هو وأبو بكر وعمر وعثمان فارتجف الجبل واهتز، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان).
فثبت أحد، ولما يرتجف بعد ذلك، وهذا يدل على أن الله تعالى رزق الجبل تمييزاً، فائتمر بأمره عليه الصلاة والسلام.(31/15)
فضل الصلاة في المسجد الحرام والمسجد النبوي
الباب الرابع والتسعون: في إثبات فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة.
قال: [قال النبي عليه الصلاة والسلام: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام)].
فإذاً: الصلاة في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام أحسن من جميع المساجد بألف صلاة، أما المسجد الحرام فإن الصلاة فيه بمائة ألف صلاة.
قال: [قال أبو هريرة رضي الله عنه: (صلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء، وإن مسجده آخر المساجد)].
يعني: آخر المساجد التي لها هذا الفضل، والمسجد الأقصى هو مسجد داود وسليمان عليهما السلام، ونحن أحق بداود وسليمان من اليهود عليهم لعنة الله، وإثبات الفضل لهذه المساجد، لأن الذي بناها أنبياء، فإن أول من أسس قواعد البيت الحرام وكذلك المسجد الأقصى هو آدم عليه السلام، وهذا الذي رجحه الحافظ ابن كثير، وابن تيمية وغيرهما من أهل العلم.
والذي رفع القواعد في البيت الحرام هو إبراهيم وإسماعيل، والذي رفع القواعد في المسجد الأقصى هو داود وسليمان.
والذي بنى المسجد النبوي هو النبي عليه الصلاة والسلام.
فيقول أبو سلمة: لم نشك أن أبا هريرة كان يقول الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، منعنا ذلك أن نستثبت أبا هريرة عن ذلك الحديث، حتى إذا توفي أبو هريرة تذاكرنا ذلك، وتلاومنا ألا نكون كلمنا أبا هريرة في ذلك حتى يسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان سمعه منه، فبينما نحن على ذلك جالسنا عبد الله بن إبراهيم بن قارظ، فتذاكرنا ذلك الحديث، فقال لنا عبد الله بن إبراهيم بن قارظ: أشهد أني سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فإني آخر الأنبياء، وإن مسجدي آخر المساجد).
فهذا الحديث قد ورد موقوفاً ومرفوعاً من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
قال: [عن ابن عباس أنه قال: (إن امرأة اشتكت شكوى فقالت: إن شفاني الله لأخرجن فأصلين في بيت المقدس -يعني: كانت وجعة مريضة، فنذرت لله عز وجل إذا شفاها أن تخرج إلى بيت المقدس لتصلي به- فبرئت ثم تجهزت تريد الخروج، واستعدت للرحلة من المدينة إلى الشام، فجاءت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تسلم عليها فأخبرتها ذلك وقالت: اجلسي وكلي ما صنعت -أي: كلي الأكل الذي أنت عملتيه ومتزودة به في الطريق- وصلي في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد الكعبة)]، الذي هو البيت الحرام.
فـ ميمونة رضي الله عنها اجتهدت في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا يدل على جواز الاجتهاد عند الصحابة، وعدم الرجوع في اجتهادهم أحياناً إلى النبي عليه الصلاة والسلام إذا كانت الحجة واضحة وظاهرة.
كما أن في هذا الحديث جواز العدول عن عين النذر إلى ما هو أفضل منه، فإن الصلاة في المسجد النبوي بألف صلاة، فهي تجزئ عن الصلاة المنذورة في المسجد الأقصى.
وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى).
وشد الرحال: هو اتخاذ الرحلة إلى هذه المساجد.
الإمام أبو محمد الجويني يقول: يحرم شد الرحال إلى غير هذه المساجد، والإمام النووي يقول: هذا الكلام غلط، والصواب: هو مذهب الجمهور، أن هذا الحديث فيه فضيلة هذه المساجد الثلاثة، وفضيلة شد الرحال إليها؛ لأن معناه عند جمهور العلماء: لا فضيلة في شد الرحال إلى مسجد غيرها، فمهما شددت رحالك إلى جميع المساجد في بقاع الأرض، فليس لها فضل شد الرحال كما لهذه المساجد، ولا ينفي ذلك جواز شد الرحال إلى غيرها لطلب العلم أو غيره.
وعبارة يحرم شد الرحال إلى غير هذه المساجد الثلاثة، لم يقل بها إلا الإمام الجويني فقط، وغلطه وخطأه أهل العلم، وحملوا الحديث على أنه لا فضيلة في شد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، وهذا لا ينفي أن تشد الرحال إلى غير هذه المساجد، لكن ليس لها فضل شد الرحال كفضل شد الرحال إلى الثلاثة المساجد.
يعني: كأن الحديث معناه: لا فضيلة في شد الرحال إلا إلى هذه المساجد الثلاثة.
فمن ذهب مثلاً من القاهرة إلى قليوب أو إلى غيرها لسماع محاضرة -مثلاً- فإن هذا من شد الرحال، فعلى مذهب أبي محمد الجويني يحرم، وعلى مذهب علماء الأمة أن هذا الفعل جائز، لكن ليس فيه فضيلة شد الرحال كما في هذه المساجد الثلاثة.
ونريد أن نبين مسألتين: المسألة الأولى: ذكر اسم الشيخ بالقدح مناف للأدب في طلب العلم، والأفضل أن يقال:(31/16)
باب بيان المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم
باب بيان أن المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم كما جاء في كتاب الله عز وجل هو مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، وليس هو مسجد قباء كما هو مشهور عند الناس.
قال: [(عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال: مر بي عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري فقلت له: كيف سمعت أباك يذكر في المسجد الذي أسس على التقوى؟ قال: قال أبي: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت بعض نسائه فقلت: يا رسول الله! أي المسجدين الذي أسس على التقوى؟ قال: فأخذ كفاً من حصباء فضرب به الأرض ثم قال: هو مسجدكم هذا - لمسجد المدينة - قال: فقلت: أشهد أني سمعت أباك هكذا يذكره)].
ليس معنى ذلك: أن مسجد قباء ليس له فضل، بل لقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ركعتان في مسجد قباء تعدل عمرة).
والصلاة في مسجد قباء تعدل ثواب عمرة، لكن عمرة في رمضان تعدل حجة مع النبي عليه الصلاة والسلام.
قال ابن عمر: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور قباء راكباً وماشياً).
وعنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباءٍ راكباً وماشياً فيصلي فيه ركعتين).
وكان يأتيه كل يوم سبت، وفي هذا جواز تخصيص يوم من أيام الأسبوع لعبادة معينة، كما يقول الإمام النووي في ذلك.
قال: (وفي هذا الحديث بيان فضل مسجد قباء، وفضل الصلاة فيه، وفضيلة زيارته، وأنه تجوز زيارته راكباً وماشياً، وهكذا جميع المواضع الفاضلة تجوز زيارتها راكباً أو ماشياً، وفيها أنه يستحب أن تكون صلاة النفل بالنهار ركعتين كصلاة الليل.
وقوله: كل سبت، فيه جواز تخصيص بعض الأيام للزيارة، وهذا هو الصواب وهو قول الجمهور، وكره ابن مسلمة المالكي ذلك، قالوا: لعله لم تبلغه هذه الأحاديث ولله الحمد والمنة)، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(31/17)
شرح صحيح مسلم - كتاب الحج - فتاوى وأسئلة(32/1)
مدى صحة قصة أن الشجاع الأقرع ظهر لميت كان تاركاً للصلاة في المدينة عام 1420هـ
السؤال
هذه نشرة مجهولة تحذر تارك الصلاة من الشجاع الأقرع، وتحكي عقوبة حدثت لشخص ببقيع الغرقد في المدينة المنورة في شهر صفر سنة 1420هـ كان تاركاً للصلاة، إنا لله وإنا إليه راجعون، وقد شاهدها جمع من الناس، وقد صرع بعضهم، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ومصور في النشرة إنسان مدفون، وهو في كفنه، وقد التف عليه ثعبان.
الجواب
هذا كله كلام فارغ، فالشجاع الأقرع الذي يظهر في القبر للميت يظهر بمناسبة عدم تأديته للزكاة، وقد أراد ربنا سبحانه أن يفضح هذا الأفاك الكذاب، فظن أن الشجاع الأقرع سيظهر لتارك الصلاة، مع أن النصوص دلت على أن الشجاع الأقرع إنما يظهر لتارك الزكاة، فهذا الكلام افتراء على الشرع، ونحن لا نهون من عذاب القبر، ولكن نقول: إنه استخدم هذه النصوص كذباً في غير محلها، ففضحه الله عز وجل.(32/2)
سبب عدم شرح الشيخ لبعض الأبواب في الصحيح
السؤال
ذكرتم أنه لن يتم شرح كتاب النكاح وما بعده حتى كتاب البيوع؛ لأنكم قمتم بشرح هذه الكتب في مسجد العزيز بالله، وأغلب الحاضرين في هذا المسجد لم يحضروا شرح هذه الكتب، وهم بذلك سيحرمون من شرحها، وهي هامة جداً، وأنا أهيب بك أن تسير بالترتيب في شرح الصحيح حتى تتم الفائدة لنا ولك؟
الجواب
إذا كنت حريصاً على العلم فاحضر هناك، والأشرطة موجودة في مسجد العزيز من أول درس إلى آخر درس، فأنا منذ سنتين أشرح البخاري، فهل أعيده هنا مرة أخرى، وبعد ذلك ستطلب مني أن آتي لك إلى البيت، وهذا قد فعله أناس، وقد طالبوني بشرح الصحيحين في بيوتهم مرة أخرى من أول درس، فقلت: من يطلب هذا الطلب لاشك أنه غير موفق وغير مسدد، ولا يمكن أن يستمر، ولن يكون طالب علم أبداً، والذي يطلب هذا الطلب إنسان بلطجي وفوضوي، وليس طالب علم، ولو لبينا له طلبه فإنما هما درسان أو ثلاثة، ثم يقول لك: لا يا شيخ! الكلام هذا صعب جداً وكثير، ثم إن هذه المنهجية لم نرها عند السلف، فالذي كان يريد أن يحضر الدرس يذهب إلى الشيخ في المسجد ويجلس أمامه.
وأنا علي واجبات عينية، وعندي شغل أتكسب منه، وعندي أولاد، وعندي دعوة عامة، والدعوة العامة أشرح فيها علم، وأشرح فيها كتب العلم، والواحد إذا كان واقفاً أمام واحد ليس كمن يقف أمام مائة، وربنا يفتح لما يكون العدد كبيراً، فكل من يستمع يدور في ذهنه شيء غير الذي يدور في ذهن الثاني والثالث والرابع، ولو كان الحاضر واحداً فقط فلن يوجه كل هذه الأسئلة، ولا يمكن أن يدور في ذهنه إلا سؤال أو سؤالان، فالذي يريد طلب العلم فليطلبه بصدق وإخلاص، ويأتي إلى المسجد ويجلس بجوار أفقر الناس وأدناهم، حتى يتعلم الذل والتواضع والخشوع والإنابة لله عز وجل؛ لأن الله تعالى لا يقبل من عبد عملاً إلا بتقواه.(32/3)
أسباب تسمية السور بأسمائها المعروفة
السؤال
لماذا سميت سورة البقرة بهذا الاسم؟
الجواب
لأن أعظم حدث فيها هو الحدث الذي فعله بنو إسرائيل عليهم لعنة الله في مراجعتهم لنبيهم في البقرة المذكورة في هذه السورة المباركة، وكل سورة لها أكثر من اسم، وإنما تعرف وتشتهر بأسماء معينة؛ لأن هذا الاسم في الغالب يكون أعظم حدث تكلمت عنه السورة.
والله أعلم.(32/4)
التكبير عند صعود المرتفعات في السفر
السؤال
عند الصعود يسن التكبير، فهل عند الاستواء في أعلاه يسن التكبير أيضاً أم أثناء الصعود نفسه؟
الجواب
أثناء الصعود فقط، وفي أثناء النزول يسبح، كما جاء في الحديث الذي في الصحيحين: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبر على كل شرف)، يعني: يكبر على كل مكان مشرف، يعني عال.
(ويسبح عند كل هبوط).
فيسن إذا كنت صاعداً أن تكبر، وإذا كنت نازلاً أن تسبح، وتقول: سبحان ربي الأعلى.(32/5)
حكم التضحية بالشاة إذا ولدت
السؤال
اشترى رجل شاة ليضحي بها يوم العيد، فولدت قبل شهر ونصف، فهل يجوز له أن ينحرها يوم العيد علماً بأنها ترضع صغارها وهم بحاجة إلى الرضاعة؟
الجواب
يستعيض عنها بشاة أخرى، وإن كان قد أوقفها هي بعينها فله أن يستعيض عنها شاة أخرى؛ لأن ما حاد عن هذا الوقف بعينه إلا لضرورة وعذر.
والله أعلم.(32/6)
شرح الشيخ محمد عبد المقصود لأعمال الحج والعمرة
السؤال
نرجو أن توجزوا لنا أعمال الحج والعمرة بالترتيب، ومسائلهما في الزمان والمكان في بحث صغير؟
الجواب
شرح شيخنا الشيخ محمد عبد المقصود أعمال الحج والعمرة يوم الأربعاء الماضي في حوالي خمس ساعات، فقد جلس من صلاة المغرب تقريباً حتى الساعة الواحدة في الليل في مسجد السلام في المعادي، وأنا لما سمعت الخبر في إذاعة المسجد قلت: الذي عنده استعداد يبيت هنا يتفضل، وشيخنا شغوف بذكر الأدلة وسردها، فلا يتكلم إلا بدليل، وسجل حوالي أربعة أشرطة أو خمسة في أعمال الحج من أولها إلى آخرها.
وشيخنا محمد عبد المقصود هو عالم الصحوة، وإذا كانت الرحلة تستحب أو تجب لأحد في هذا الزمان فإنما تجب إليه، ولا أزكي أحداً بعده في باب العلم والدعوة إلى الله عز وجل، أما في باب علم الحديث فإن الرحلة أول ما تكون لشيخنا الشيخ محمد عمرو عبد اللطيف، ويلحق بالشيخ محمد عبد المقصود الشيخ محمد إسماعيل حفظه الله في الإسكندرية، وأذكر بهذا الكلام قول من قال: إن المحامد قد طووا جياعاً، فهذا محمد عبد المقصود، وهذا محمد إسماعيل، وهذا محمد عمرو عبد اللطيف، فهؤلاء المحامد الرحلة إليهم من أقرب القربات في هذا الزمان.
والله تعالى أعلم.(32/7)
ترتيب المساجد الشريفة الثلاثة في البناء
السؤال
أيهما بني أولاً مسجد النبي عليه الصلاة والسلام أم المسجد الأقصى؟
الجواب
المسجد الأقصى، فالذي وضع القواعد في المسجد الأقصى سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام، وفي الصحيحين من حديث أبي ذر: (أن النبي عليه السلام سئل: أي المساجد وضع أولاً؟ قال عليه الصلاة والسلام: المسجد الحرام، قيل: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قيل: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة).
والمسجد النبوي في آخر الزمان؛ لأنه مرتبط بآخر الأنبياء صلوات ربي وسلامه عليه.(32/8)
كيفية تقسيم الأضحية، وحكم تقسيمها
السؤال
كيف تقسم الأضحية، وهل الرأس والحواشي تدخل في التقسيم؟
الجواب
تقسيم الأضحية ليس واجباً بل مستحباً، ولا يلزم أن تقسمها بالميزان ثلاثة أثلاث، بل تقسمها بالنظر، والأفضل أن تتخلص من هذه الحواشي وألا تجعلها في قسمك، فإذا جعلتها في قسمك فاجعل قسمك كقسم غيرك.(32/9)
حكم إعطاء الجزار من الأضحية
السؤال
أجرة الجزار هل تكون من نصيب صاحب الشاة أم من نصيب الأقارب؟
الجواب
لا هذا ولا ذاك، وإنما الجزار يعطى أجره من خارج الذبيحة، فإذا أعطيته شيئاً من الذبيحة فإنه يخرج من التقسيم، يعني: أن الباقي يقسم ثلاثة أثلاث، أو أن تجعل الجزار إذا كان فقيراً من قسم الصدقة، وإن كان صديقاً تجعله من قسم الهدية.(32/10)
التحذير من اتباع الكفار
السؤال
هل حديث حرب هرمجدون صحيح، وإذا كان صحيحاً فنرجو نبذة عنه؟
الجواب
حرب هرمجدون من وضع اليهود، وليس هناك حديث صحيح في تسميتها بهذا الاسم، وأرجو ألا نصدق من يردد مصطلحات اليهود، وألا نسير في ركاب اليهود والنصارى، ونؤمن بكل شيء يقولونه، ونعتقد أنهم يعرفون كل شيء عن العالم؛ لأن هذا انبهار بعالم الكفر، ونحن مطالبون بأن نضع عالم الكفر تحت أقدامنا، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي هاتين).
فمظاهر الكافرين الخاصة الذين لم يتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم تحت أقدامنا.
واليوم يقولون: أمريكا تعرف كل شيء، وأن عندها من التكنولوجيا ما أظهر الفتات في قاع البحار، ولو كان المسيح الدجال حي الآن على معتقدنا لأتوا به، ولكان القمر الصناعي قد أتى به، فالقمر الصناعي قد أظهر النقير والقطمير، ولم يترك شيئاً، ومع هذا لم يخبرنا ولم ينبئنا عن مكان المسيح الدجال، ولو كان حقاً لأظهره، ويكذبون بأحاديث صحيحة في الصحيحين؛ بسبب أن القمر الصناعي اكتشف كل شيء، ولماذا لم يكشف أسامة بن لادن الذي دوخهم سنين؟ فهذا كذب يريدون أن يخربوا به عقيدتنا، وهذا في منتهى الخطورة، ونحن للأسف الشديد نقرأ الجريدة ونصدق، مع أننا في دروس العلم نقول: العلم لابد فيه من التلقي، ولا ينفع أخذه من الصحف، وهذه المسألة ليست مسألة فقهية أو فرعية بل هي في العقيدة.
وهم يريدون من هذا أن يستقر في قلوبنا عدم منابذة هذا البلد -أمريكا- مع أنها أضعف، والباطل مهما انتفش فهو ضعيف، والحق مهما ضعف فهو يشتمل على القوة بين جنباته، والمسلمون في هذا الوقت رغم هزالهم وضعفهم إلا أن الغرب الكافر الملحد يحسب لهم مليون حساب مع ضعفهم؛ لأنهم يعلمون أن معهم المنهج القويم، ولو عادوا في يوم لمنهجهم وعرفوا أنهم على الحق المبين فإن الغرب سيتأخرون، ولو سمعت أمريكا وأوربا أن زعماء العرب اجتمعوا وقرروا الجهاد لخرجت أرواحهم وهم جالسون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نصرت بالرعب مسيرة شهر).
وهذا الحديث عام في الأمة، وهذا مذهب الجمهور.
وبعضهم قال: هو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الصواب أنه عام للأمة.(32/11)
الحث على تربية الأبناء، وبيان أن ميزان التفاضل عند الله بالتقوى
السؤال
كلما نظرت إلى الشيوخ استحقرت نفسي، وخاصة عندما أنظر إلى طلاب العلم وأجد نفسي ضعيفاً في طلب العلم، وعزائي أني أربي ابني ليكون مثل العلماء الكبار، وأنا أحضر مجلسك عسى أن يكون فيه قليل بركة، فهل هذا يكفي؟
الجواب
إن شاء الله يكفيك، فقيامك بتربية ولدك وتنشئته تنشئة صالحة من أفضل الأعمال في هذا الزمان الذي انتشر فيه الباطل في كل مكان وانتفش، وإذا تركت ولدك لحظة ضاع منك، وربما رجع وربما لم يرجع، فمن أفضل الأعمال حرص الآباء على تربية أبنائهم وتنشئتهم في هذا الزمان تنشئة صالحة، والجيل الذي نحن فيه يظهر والله أعلم أن لا بركة فيه ترتقب، ولا يمكن أن يكتب النصر على يديه، والأمل معقود في أبنائنا وأبناء أبنائنا، وأن وجه الأرض سيتغير بهم إن شاء الله، ومع إيماننا أن الله تعالى قادر على أن يغير الأرض في أقل من قوله: (كن) سبحانه وتعالى، لكن السنن الكونية والنواميس الشرعية تقضي بأن: {اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].
ولما كان التغير من جهة الواقع أمر يحتاج إلى مدة من الزمان عقدنا الأمل في أبنائنا وأبناء أبنائنا.
وأما نظر الأخ للعلماء أو للدعاة أو للمشايخ على أنهم أفضل منه واحتقاره لنفسه فربما يكون بهذا أفضل ممن احتقر نفسه أمامه.
فليست المسألة عند الله بأن هذا شيخ أو طالب، أو أن هذا فقير وهذا غني، بل المسألة كلها مربوطة ومرهونة بالتقوى، وربما يكون عندك من التقوى والإخلاص لله عز وجل ما ليس عند كثير من الشيوخ، فحذار أن تحتقر نفسك إلى هذا الحد، ولكن هذا مظهر من مظاهر الخضوع والذل والتواضع لله عز وجل، وعدم الكبر والعجب بالنفس الذي هو آفة الآفات.(32/12)
الأدب مع العلماء
السؤال
هل من الأفضل الصمت عند ذكر العلماء أم بيان ما يفعلون؟
الجواب
منهج السلف بين يدي علمائهم السماع وعدم الاعتراض، إلا إذا أشكل عليهم أمر وجب السؤال عنه.(32/13)
حكم إرجاع المطلقة في العقد وقبل الدخول
السؤال
هل للمطلقة من عقد القران رجعة؟
الجواب
نعم، لها رجعة بعقد جديد ومهر جديد، فإذا عقدت على امرأة ولم تبن بها ثم طلقتها فإنما جاز لك أن ترجع إليها بعقد جديد ومهر جديد، ويحق لها ما قد فرضته لها أولاً في العقد الأول من صداق كامل إذا كنت قد خلوت بها، أو نصف الصداق إذا لم تكن بينكما خلوة، ورجوعها إليك بالعقد الثاني يبقي لها في ذمتك طلقتان.(32/14)
حكم تحريم الزوجة
السؤال
رجل قال لزوجته: أنت حرام علي في الدنيا والآخرة ثم عاشرها، فما الحكم؟
الجواب
لو أن الله تعالى أدخلها الجنة ما دامت مسلمة فالأمر كما قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الأعراف:43].
فلن يكون بينك وبينها غل، يعني: أن الله تعالى ينسيك ما كان بينك وبين امرأتك من خلافات ومشكلات وغير ذلك، والمرأة إذا دخلت الجنة فهي زوجة لزوجها الذي تزوجها في الدنيا.
فإن قصد بقوله: أنت علي حرام في الدنيا الظهار؛ وقع ظهاراً، وإن قصد به طلاقاً وقع طلاقاً، فقول الرجل لامرأته: أنت علي حرام هو من الألفاظ التي تحتمل وقوع الطلاق وتحتمل عدمه، فإذا قال لها: أنت علي حرام ونوى به الطلاق وقع الطلاق؛ لأن النية شرط في إيقاع الطلاق الضمني، بخلاف الصريح، ولو قال لامرأته: أنت طالق وقع الطلاق حتى وإن لم ينو الطلاق؛ لأنه لفظ صريح لا يحتاج إلى نية، وأما اللفظ الضمني الذي يحتمل وقوعه وعدم وقوعه فإنه يحتاج إلى نية، ومنها لفظ: أنت علي حرام، فإذا كان يقصد بهذا اللفظ إيقاع الظهار وقع الظهار، فيصوم شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا، وإذا كان ممن يجب عليه الصيام في رمضان فليعلم أن صيام الكفارة واجب في حقه كوجوب رمضان تماماً بتمام، فإذا عجز عن الصيام أو لم يكن من أهله وجب عليه إطعام ستين مسكيناً، وإذا كان نوى بهذا القول طلاقاً فيقع طلاقاً، ولو لم ينو الطلاق ولا الظهار فعليه كفارة يمين.(32/15)
حكم لطم المرأة وجهها
السؤال
امرأة لطمت وجهها فما كفارتها؟
الجواب
أن تتوب إلى الله عز وجل؛ لأن هذا من فعل الجاهلية، ولو أضافت إلى التوبة أعمال البر من الصدقة وكثرة النوافل وغير ذلك فهذا أحب.(32/16)
حكم تارك الصلاة، وحكم إقامة الزوجة معه
السؤال
امرأة زوجها لا يصلي إلا كل شهر أو شهرين الجمعة، فما حكم معاشرته لها، وهي تنصحه كثيراً ويأبى، فبماذا تنصح الزوجة، ومع هذا هو يشدد عليها في النفقة؟
الجواب
روى أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري: (أن امرأة أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! إن زوجي لا يصلي، وإذا صمت فطرني، وإذا صليت ضربني، وإن زوجي هو صفوان بن المعطل هذا -وأشارت إليه في مجلس النبي عليه السلام- وإني من قوم إذا نمنا لا نستيقظ).
أي: أن القبيلة كلها مبتلاة بهذه البلوى.
فقال صفوان (إني من أهل بيت لا يقومون إلا إذا طلعت الشمس، فقال: يا صفوان! إذا قمت فصل، قال: يا رسول الله! وإني نهيتها أن تصلي بسورتين في كل ركعة، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المرأة وقال: إنما يكفيك سورة واحدة، قالت: وإني إذا صمت فطرني، قال صفوان: يا رسول الله! إني رجل شاب، وإن هذه المرأة تنطلق في صبيحتها تصوم حتى تفرض الصوم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لها: لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها حاضر إلا بإذنه).
فلو أن هذه المرأة صادقة فيما تقول من أن زوجها لا يصلي إلا بعض الصلوات ويترك بعضها، أو يصلي أحياناً ويتركها أحياناً فلتعلم أنه لا يكفر حتى على مذهب من يكفر تارك الصلاة؛ لأن الذي يكفر تارك الصلاة إنما يكفر الذي يتركها بالكلية، ولا يصلي جمعة ولا جماعة نهائياً، وبعض العلماء أو الشيوخ إنما يطلقون القول من باب الترهيب والوعيد الشديد لتارك الصلاة حتى لفرض واحد، وهذا من حكمة الدعوة إلى الله عز وجل، وأما التأصيل العلمي فإنه شيء آخر يختلف عن الدعوة وترهيب الناس من المعاصي وغير ذلك، ويجب على هذه المرأة أن تمتنع من زوجها ولا تمكنه من نفسها حتى يأتي بالصلوات على وجهها، ولا إثم عليها حينئذ.
والله تعالى أعلم.(32/17)
حكم قراءة سورتين في ركعة واحدة
السؤال
هل يفهم من حديث صفوان بن المعطل عدم جواز قراءة سورتين في ركعة واحدة؟
الجواب
كان هذا في أول الأمر.(32/18)
حكم صلاة الفجر بعد طلوع الشمس لمن كان نائماً
السؤال
هل يجوز لمن ينام حتى طلوع الشمس الصلاة عند الاستيقاظ؟
الجواب
لا يجوز له ذلك، فهذه الحالة لا تجوز إلا لـ صفوان، ولمن كان مثل صفوان وإلا فلا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما أنكر عليه، وإنما قال له: (إذا قمت فصل).(32/19)
حكم التضحية على الزوجة في وجود الزوج وكيفية صرف الأموال الربوية
السؤال
هل يجوز إسقاط الدين عن شخص إذا كان من أموال ربوية مع العلم أن الدائن قريب من المدين، وهل يجوز للزوجة التضحية والزوج قادر؟
الجواب
نعم، وإذا كانت هي قادرة فإن الأضحية عليها وليست عليه.
وأما هل يجوز إسقاط دين عن شخص من أموال ربوية مع العلم أن الدائن قريب من المدين فالأموال الربوية لا يجوز صرفها إلا فيما يمتهن، وبعض أهل العلم تجوزوا في صرف أموال الربا في الديون الواجبة الحالة الأداء إذا لم يكن عنده مال حلال يقضي دينه منها وإلا فلا، والأمر كما قال عليه الصلاة والسلام: (درهم ربا ينفقه الرجل أو يأكله الرجل وهو يعلم أنه ربا أشد عند الله من ست وثلاثين زنية).
وهذا أمر خطير جداً.(32/20)
أصناف الأنعام التي يجوز الاشتراك فيها في الأضحية
السؤال
ما هي الأصناف التي يجوز الاشتراك في التضحية بها؟
الجواب
يكون الاشتراك في البقرة والبدنة، وأما الشاة فليس فيها شراكة.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(32/21)
شرح صحيح مسلم - كتاب الهبات - كراهة شراء الإنسان ما تصدق به ممن تصدق عليه
الهبات والصدقات من العقود التي لا يقابلها عوض، بخلاف عقود البيع والشراء والإجارة وغير ذلك فهي عقود تكون بعوض، وقد نهى الشارع عن الرجوع في الهبات والصدقات، واختلف العلماء في مسألة الرجوع فيها بعد القبض، فمنهم من حرمه، ومنهم من جعل النهي للتنزيه، بينما أجمعوا على جواز رجوع الوالد في هبته لولده للحاجة.(33/1)
باب كراهة شراء الإنسان ما تصدق به ممن تصدق عليه
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الهبات] الهبات: جمع هبة، والهبة هي: كل عطية بغير عوض.
أي: بغير عوض مادي في الدنيا.
كالهبات والصدقات وغير ذلك مما لا ينتظر المتصدق شيئاً مقابلاً وعوضاً عما تصدق به أو وهبه، ولك أن تقول: هي العقود التي بغير عوض، بخلاف عقود المعاوضات، فإنها كل عقد أجري بعوض، كعقود البيع والشراء: أعطيتك داراً في مقابل المال.
أعطيتك مالاً في مقابل الأرض.
أعطيتك مالاً في مقابل السلعة، فإن قولنا: في مقابل كذا، أي: عقد مقابلة، هذا شيء مقابل شيء، فهذا عقد المقابلة، أو عقد المعاوضة، يعني: لا أعطيك شيئاً إلا بعوض، أما عقود الهبات فكلها بغير عوض في الدنيا، أما عوضها فعند الله عز وجل.
إذاً: فالهبات هي: العقود التي بغير عوض.
قال: [باب كراهة شراء الإنسان ما تصدق به ممن تصدق عليه].
يعني: لو أنك تصدقت بشيء على فلان فلا يجوز لك أن تشتري هذا الشيء من فلان هذا، لكن لو باعه هذا الرجل إلى غيرك فيجوز لك أن تشتري ما تصدقت به من غير من تصدقت عليه، أما ممن تصدقت به عليه فلا، ربما تكون الحكمة من ذلك أن المتصدَّق عليه إذا ذهب المتصدِّق ليشتري من محل الصدقة، أو محل الهبة، تسامحا في شيء من ثمنها، فربما يكون ثمنها الأصلي ألف دينار، فيبيعها بخمسمائة دينار فقط وليس بألف؛ فأكون قد رجعت في بعض هذه الصدقة مما يوازي ما نقص من ثمنها، وكون المرء يرجع في صدقته هذا أمر منهي عنه، ولذلك الذي يعطي المرأة المخطوبة ذهباً ينوي به هدية، أو هبة، أو صدقة فلا يجوز له أن يرجع فيه والحالة هذه لو أنه فسخ الخطبة؛ لأنه أعطاه لا على سبيل إتمام النكاح، وإجراء هذا الزواج والاستمرار فيه، وإنما أعطاه بنية الهبة؛ لكونها فقيرة أراد أن يتصدق عليها، سواء تم الزواج أو لم يتم لا يأخذ هذا الذهب منها.
وربما استحى أن يقول لها: هذه صدقة عليك وعلى والديك، فقال لها: هذه هدية، أو هذه هبة، أو هذه منحة، وهو ينوي غير ما ينويه عامة الناس، من أن الذهب الذي يقدم للمخطوبة لأجل إتمام الزواج، وفي الغالب أنه من المهر، ولذلك الفرق بين تقديم الذهب لإتمام الزواج وتقديمه هبة أو صدقة؛ أن الأول إذا فسخ الخطبة بسبب منه أو بسبب منها فله أن يسترد الذهب، وإذا قدمه هبة أو صدقة فليس له أن يسترد الذهب، كأنه قال: أنا قدمت الذهب ولا يهمني إتمام هذا الزواج أو عدم إتمامه؛ لأني ما قدمته بنية الزواج أو النكاح، وإنما قدمته لله من باب التعاون أو غير ذلك.(33/2)
شرح حديث: (العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه)
قال: [حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب -وهو المعروف بـ القعنبي أبو عبد الرحمن البصري وأصله مكي- حدثنا مالك بن أنس عن زيد بن أسلم -وهو زيد بن أسلم العدوي المدني، وكان مولى لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه- عن أبيه -أي: أسلم العدوي - أن عمر بن الخطاب قال: (حملت على فرس عتيق في سبيل الله)] (حملت على فرس عتيق) أي: حملت فلاناً على فرس لي سريع جيد، يعني: فرس عربي أصيل، فمعنى العتيق: الجيد الأصيل، والحمل تمليك بإجماع أهل العلم، إلا أن يشترط الحامل الحمل، كأن يقول: حملت فرسي هذا على الجهاد في سبيل الله، فإذا فرغ من الجهاد رد الفرس إليه، ولكن إذا نودي للجهاد وجب عليه أن يدفع فرسه لمن يحمل عليه، أي: للمحتاج إليه.
الشاهد من هذا: أن حمل الفرس في الجهاد بخلاف حمل الفارس على الفرس، الحمل تمليك، إذا دفعت إليك الفرس وقلت لك: حملتك عليه، أي: ملكتك إياه ليحملك في الجهاد، وهذا معنى الحمل.
فقول عمر: (حملت على فرس عتيق في سبيل الله)، كأنه أراد أن يقول: ملكت فلاناً الفرس للحمل عليه في سبيل الله عز وجل.
ثم قال: [(فأضاعه صاحبه)] أي: مالكه ضيع هذا الفرس الذي حملته عليه، بمعنى لم يعتن به ولم يعلفه ولم يكرمه، بل قصر في خدمة الفرس من حيث الإطعام؛ لأن هذا المحمول كان فقيراً قليل المال، حتى أصيب الفرس بضعف وهزال، ولكنه على أية حال بمجرد أن انتقل من ملك عمر رضي الله عنه فقد تملكه هذا المسلم.
ثم قال: [(فأضاعه صاحبه فظننت أنه بائعه برخص)] يعني: غلب على ظني لقلة مال المحمول أنه في يوم لا بد أن يبيعه؛ لأنه ليس له مال، ولا يستطيع أن يقوم على خدمة الفرس.
فوقع في نفس عمر شراء هذا الفرس مرة أخرى؛ لأنه فرس عتيق جيد سريع.
ثم قال: [(فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك)].
يعني: أن الصحابة رضي الله عنهم ما تردد في أنفسهم شيء يتعلق بالحلال والحرام إلا ويرجعون إلى المرجعية العظمى، وهو النبي عليه الصلاة والسلام في معرفة الحلال والحرام في جميع شئونهم.
ولما حاك في نفس عمر رضي الله عنه أن يشتري هذا الفرس لو أراد صاحبه أن يبيعه، ظن أن هذا البيع ربما يكون فاسداً وباطلاً، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليسأله، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: [(لا تبتعه، ولا تعد في صدقتك)] أي: لا تشتره، معنى الابتياع: الشراء.
فالنبي عليه الصلاة والسلام سمى شراء الصدقة رجوعاً فيها، حتى ولو كان بعوض، فما بالك بمن يتصدق ويرجع في صدقته، أو يتصدق ويمنُّ بهذه الصدقة، لا شك أن المن بالصدقة من الكبائر؛ ولذلك أخرج مسلم في صحيحه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله تعالى، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المنان، والمسبل، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب).
(المنان)، أي: الذي يعطي العطية ثم يقول لمن أعطاه: أنا أعطيتك يوم كذا وكذا وكذا، ويظل يمن بها عليه، فهذا بلا شك قد أضاع أجره، ولو قال قولاً معروفاً ولم يتصدق لكان خيراً له، فهنا قال: [(لا تبتعه ولا تعد في صدقتك، فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه)].
يعني: الذي يتصدق ويأخذ الصدقة مرة أخرى، ولو عن طريق الشراء، كالكلب يقيء ما في بطنه، ثم يأكل هذا القيء مرة أخرى.
جمهور أهل العلم على أن القيء نجس، خاصة قيء الكلب، ولذلك مثل به النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن لم يقل: كالرجل مثلاً يعود في قيئه، وإنما قال: (كالكلب)؛ لأن الكلب نجس لعابه، وهذا مذهب جميع الفقهاء، فإذا كان اللعاب نجساً، فكذلك قيئه يكون نجساً.
وذهب جماهير العلماء إلى أن آكل القيء كآكل النجس، وهو حرام، وهذا مذهب من قال: إن العودة في الصدقة حرام، وبعضهم قال: مكروه إلا الوالد مع ولده.(33/3)
شرح حديث: (لا تبتعه وإن أعطاكه بدرهم)
قال: [وحدثنيه زهير بن حرب أبو خيثمة النسائي نزيل بغداد، قال: حدثنا عبد الرحمن يعني: ابن مهدي - وعبد الرحمن بن مهدي إمام كبير ثقة، بل حجة حافظ، تلميذ الإمام الثوري، وهو بصري- عن مالك بن أنس بهذا الإسناد وزاد: (لا تبتعه، وإن أعطاكه بدرهم)].
أي: لا تشتر صدقتك التي تصدقت بها ممن تصدقت عليه، ولو كان سيبيعها منك بأبخس الأثمان، لا تفرح بذلك.
فهذا الفرس الذي تصدق به عمر رضي الله عنه يشار إليه بالبنان، ومع هذا لو باعه صاحبه بدرهم فليس لـ عمر رضي الله عنه أن يشتريه منه؛ لأنه قد وهبه له أو تصدق به عليه، ولا يجوز الرجوع في الهبة ولا في الصدقة.(33/4)
شرح حديث: (لا تشتره وإن أعطيته بدرهم)
قال: [وحدثني أمية بن بسطام -وهو أبو بكر العيشي البصري - حدثنا يزيد بن زريع حدثنا روح بن القاسم أبو غياث التميمي البصري العنبري عن زيد بن أسلم المدني عن أبيه عن عمر: (أنه حمل على فرس في سبيل الله، فوجده عند صاحبه وقد أضاعه، وكان قليل المال، فأراد أن يشتريه -يعني: فأراد عمر أن يشتري هذا الفرس- فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: لا تشتره، وإن أعطيته بدرهم؛ فإن مثل العائد في صدقته كمثل الكلب يعود في قيئه)].
عند ابن سعد في كتاب الطبقات أن اسم هذا الفرس الورد.
قال: [وحدثناه ابن أبي عمر محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني اليماني -انتقل إلى مكة واستقر بها، وتتلمذ على يد ابن عيينة - حدثنا سفيان -وهو ابن عيينة - عن زيد بن أسلم بهذا الإسناد، غير أن حديث مالك وروح أتم وأكثر.(33/5)
شرح حديث: (لا تبتعه ولا تعد في صدقتك)
قال: وحدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك عن نافع -وهو نافع الفقيه مولى ابن عمر - عن ابن عمر: (أن عمر بن الخطاب حمل على فرس في سبيل الله فوجده يباع، فأراد أن يبتاعه -أي: يشتريه- فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال: لا تبتعه، ولا تعد في صدقتك).
وحدثناه قتيبة بن سعيد وابن رمح جميعاً عن الليث بن سعد، (ح) وحدثنا المقدمي -وهو محمد بن أبي بكر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي - ومحمد بن المثنى البصري قالا: حدثنا يحيى -وهو ابن سعيد القطان - (ح) وحدثنا ابن نمير قال: حدثنا أبي، (ح) وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة -وهو حماد بن أسامة - كلهم عن عبيد الله، كلاهما عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث مالك].
وعبيد الله هو ابن عمر العمري أخو عبد الله، لكن عبيد الله المصغر إمام كبير ثقة حجة، بخلاف عبد الله المكبر فهو ضعيف، وكلاهما من نسل عمر بن الخطاب.
أما قوله: (كلاهما) الأصل عدم وجودها؛ لأن الأربعة يروون عن عبيد الله، وعبيد الله تلميذ نافع، وليس تلميذ ابن عمر؛ فالصواب حذف (كلاهما)؛ لأن (كلاهما) تدل على اثنين.
ولأن الإسناد الأول ينتهي إلى الليث، والثاني ينتهي إلى القطان، والثالث إلى ابن نمير، والرابع إلى أبي أسامة، فهؤلاء كلهم عن عبيد الله، وعبيد الله عن نافع، أما (كلاهما) فلم أجد لها مسوغاً هنا، حتى إن الحافظ ابن حجر حينما علق على هذا الإسناد لم يذكر (كلاهما) في الفتح.(33/6)
شرح حديث (لا تعد في صدقتك يا عمر)
قال: [حدثنا ابن أبي عمر وعبد بن حميد واللفظ لـ عبد - وهو عبد الحميد بن حميد، أما عبد فلقب- قال: أخبرنا عبد الرزاق -وهو ابن همام الصنعاني اليمني - أخبرنا معمر -وهو ابن راشد البصري اليمني - عن الزهري -وهو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن زهرة الزهري - عن سالم -وهو سالم بن عبد الله بن عمر - عن ابن عمر: (أن عمر حمل على فرس في سبيل الله، ثم رآها تباع فأراد أن يشتريها، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تعد في صدقتك يا عمر)]، أي: لا تشتر الصدقة، حتى وإن كان في ذلك مصلحة لك.(33/7)
الفوائد المستنبطة من باب كراهة شراء الإنسان ما تصدق به ممن تصدق عليه
فوائد هذا الباب: إذا كان الغرض من الصدقة هو ثواب الآخرة، فكأن الراجع في صدقته قد آثر الحياة الدنيا على الآخرة، وكأنه يقول بلسان حاله: ثواب الدنيا خير من ثواب الآخرة؛ ولذلك نهى النبي عليه الصلاة والسلام.
ويلتحق بالصدقة والهبة الكفارات والأجور والزكوات وغيرها، فلو أن رجلاً عنده إبل، أخرج زكاة الإبل، أو غنماً أخرج منها خمس شياه، فوجد هذه الشياه بعد أن وصلت إلى يد الفقير يبيعها في السوق، هل يجوز له أن يشتريها؟ هل الزكوات من عقود الهبات أم المعاوضات؟ فكل خارج يخرج من يدك إلى الآخرين بغير عوض؛ فهو من عقود الهبات، فالكفارات كلها بجميع أنواعها، والنذور بجميع أنواعها، والزكوات والواجبات والصدقات بعمومها وإطلاقها؛ كل هذه أموال تخرج من يدك بغير عوض، فحكمها واحد.
وأفاد الحديث كذلك: كراهة الرجوع في الصدقة، وبعضهم حرمه قال: لفظ الحديث وظاهره يفيد التحريم، وذلك بضرب المثل، ثم هو ظاهر النهي، فقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تبتعه يا عمر!) هنا نهي، والنهي يدل على التحريم، ما لم يصرفه صارف، لكن قال الجمهور: النهي هنا للتنزيه، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهاه نهي إرشاد، فحملوا النهي على الإرشاد.
ودليل القائلين بأن النهي هنا للتحريم: المثل المضروب، فإن الراجع في هبته أو في صدقته كالكلب يرجع في قيئه، قالوا: وهذا زجر شديد جداً لا يستقيم مع الكراهة، إنما يستقيم مع التحريم.
والذي يترجح لدي أن الراجع في صدقته يحرم عليه ذلك.
كما أفاد الحديث: فضل الحمل في سبيل الله عز وجل للغزو والقتال والجهاد، والمعاونة على ذلك بشتى أنواع الحمل، لا يلزم أن تحمله على فرس، بل تجهيز الغازي في سبيل الله عز وجل بالمال كاف؛ لأن المال حمل، بالطعام كاف، بالفرس، بالطائرة، بالدبابة بغير ذلك مما هو في مقدور الحامل، فلو فعله لكان حاملاً في سبيل الله عز وجل؛ ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من لم يغز ولم يجهز غازياً، ولم تحدثه نفسه بالغزو، فمات يوم يموت، إلا مات ميتة جاهلية).
ومن لا ينفع غيره، ولا تحدثه نفسه أن يشارك، فإلى متى يظل بهذا الشكل؟ لابد للإنسان أن يقعد مع نفسه مرة ويسأل نفسه: إلى متى نظل نسمع الدعاة يعظوننا في المشاركة في الجهاد، وليس عندنا أي استعداد أبداً للتجاوب مع أي دعوة؟ لا، لابد أن نستعد من الآن؛ حتى إذا أتى الوقت المناسب لا ننتظر حتى نستعد، ولا ينادى علينا للجهاد، فنقول: لماذا الجهاد؟ وما الذي حصل؟ إذاً: ينبغي أن يظل الواحد منا يحدث نفسه عن الجهاد، وضرورة الاستعداد له.
كما أفاد الحديث كذلك: أن الحمل في سبيل الله تمليك، فإذا أعطيتك فرساً، فإن هذا الفرس ملكك؛ ولذلك لا يجوز لي أخذ هذا الفرس مرة أخرى، ولو بالبيع والشراء.
كما يجوز للمحمول على الفرس أن يبيعه، وأن ينتفع بثمنه، إما قبل الغزو والجهاد، وإما بعد الغزو والجهاد عليه، يستوي هذا وذاك.(33/8)
كلام النووي في حديث عمر: (حملت على فرس عتيق في سبيل الله)
قال النووي: (قوله: (حملت على فرس عتيق في سبيل الله)، معناه: تصدقت به ووهبته لمن يقاتل عليه في سبيل الله، والعتيق: هو الفرس النفيس الجواد السابق) أي: المسرع الذي يسبق غيره.
ثم قال: (قوله: (فأضاعه صاحبه)، أي: قصر في القيام بعلفه ومؤنته.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تبتعه ولا تعد في صدقتك)، هذا نهي تنزيه لا تحريم، فيكره لمن تصدق بشيء أو أخذه في زكاة أو كفارة أو نذر ونحو ذلك من القربات أن يشتريه ممن دفعه هو إليه، أو يهبه، أو يتملكه باختياره منه، فأما إذا ورثه منه فلا كراهة فيه).
يعني: الوالد إذا وهب ولده شيئاً؛ فله أن يرجع في هذه الهبة، أما الولد إذا وهب والديه أو أحدهما شيئاً؛ فلا يجوز له أن يأخذ هذه الهبة إليه مرة أخرى، إلا عن طريق الميراث؛ لأنه لما وهبه وهبه بالطريقة الشرعية، ولما انتقل إليه الميراث انتقل بطريق شرعي.
حدثت مشكلة منذ عدة أشهر وهي: أن رجلاً كان موسعاً عليه في المال، وكان يعطي والده ووالدته من بعد والده من ماله، فلما ماتت والدته نازع الورثة بأن هذا الولد الذي كان يعطي لوالديه المال لا يجوز له أن يأخذ من هذا الميراث، واستدلوا بهذا الحديث، قالوا: لأنه كان واهباً ومتصدقاً، وهذا المال الذي ينتقل الآن عن طريق الإرث معظمه مال هذا المتصدق، وبالتالي فلا يحل له أن يأخذ منه شيئاً.
فجاءوا إلي فقلت لهم: ينتقل إليه عن طريق الميراث.
قالوا: دليلك؟ قلت: دليلي كيت وكيت وكيت قالوا: كثير من العلماء لم يقولوا كذا.
المهم حصلت مشكلة مفادها أن ذلك اتباع للهوى، وهذا هو حال كثير من الناس، ما دام في صالحه وافقك، وإلا لو أتيته بمئات الأدلة من كتاب الله ومن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن هذه الأدلة تمنعه من أخذ بعض متاع الدنيا، فإنه لا يوافقك.
المهم أنك إن وافقتهم وافقوك، وإن خالفتهم ولو كان معك الكتاب والسنة خالفوك.
ثم قال: (وقد سبق بيان هذا في كتاب الزكاة، وكذا لو انتقل إلى ثالث ثم اشتراه منه المتصدق فلا كراهة).
يعني: لو أن هذا الرجل الذي تصدقت عليه وحملته على هذا الفرس اسمه عمرو، فقام عمرو وباع هذا الفرس من غيرك، فيجوز لك أنت كمتصدق بهذا الفرس أصلاً أن تشتريه من غيره بلا كراهة، إنما المحظور أن تشتريه ممن تصدقت عليه، أما من غيره فلا حرج في ذلك، لكن يشترط أن يكون البائع الآخر مالكاً له، لا موكلاً من قبل صاحبه؛ لأن الموكل والوكيل كلاهما سيحابي صاحب الفرس المتصدق به أولاً.
أما الآخر فإنه يبيعه دون محاباة، وينازع في الحصول على أعلى سعر لهذا الفرس، بخلاف المتصدق عليه.
ثم قال: (هذا مذهبنا ومذهب الجمهور، وقال جماعة من العلماء: النهي عن شراء صدقته للتحريم لا للكراهة، والله أعلم).(33/9)
ذكر الفوائد المستنبطة من باب كراهة شراء الإنسان ما تصدق به ممن تصدق عليه
فوائد هذا الباب: إذا كان الغرض من الصدقة هو ثواب الآخرة، فكأن الراجع في صدقته قد آثر الحياة الدنيا على الآخرة، وكأنه يقول بلسان حاله: ثواب الدنيا خير من ثواب الآخرة؛ ولذلك نهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام.
ويلتحق بالصدقة والهبة الكفارات والأجور والزكوات وغيرها، فلو أن رجلاً عنده إبل، أخرج زكاة الإبل، أو غنماً أخرج منها خمس شياه، فوجد هذه الشياه بعد أن وصلت إلى يد الفقير يبيعها في السوق، هل يجوز له أن يشتريها؟ هل الزكوات من عقود الهبات أم المعاوضات؟ فكل خارج يخرج من يدك إلى الآخرين بغير عوض فهو من عقود الهبات، فالكفارات كلها بجميع أنواعها، والنذور بجميع أنواعها، والزكوات والواجبات والصدقات بعمومها وإطلاقها؛ كل هذه أموال تخرج من يدك بغير عوض، فحكمها واحد.
وأفاد الحديث كذلك: كراهة الرجوع في الصدقة، وبعضهم حرمه، قال: لفظ الحديث وظاهره يفيد التحريم، وذلك بضرب المثل، ثم هو ظاهر النهي، فقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تبتعه يا عمر!) هنا نهي، والنهي يدل على التحريم، ما لم يصرفه صارف، لكن قال الجمهور: النهي هنا للتنزيه، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهاه نهي إرشاد، فحملوا النهي على الإرشاد.
ودليل القائلين بأن النهي هنا للتحريم: المثل المضروب، فإن الراجع في هبته أو في صدقته كالكلب يرجع في قيئه، قالوا: وهذا زجر شديد جداً لا يستقيم مع الكراهة، إنما يستقيم مع التحريم.
والذي يترجح لدي أن الراجع في صدقته يحرم عليه ذلك.
كما أفاد الحديث: فضل الحمل في سبيل الله عز وجل للغزو والقتال والجهاد، والمعاونة على ذلك بشتى أنواع الحمل، لا يلزم أن تحمله على فرس، بل تجهيز الغازي في سبيل الله عز وجل بالمال كاف؛ لأن المال حمل، بالطعام كاف، بالفرس، بالطائرة، بالدبابة بغير ذلك مما هو في مقدور الحامل، فلو فعله لكان حاملاً في سبيل الله عز وجل؛ ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من لم يغز ولم يجهز غازياً، ولم تحدثه نفسه بالغزو، فمات يوم يموت إلا مات ميتة جاهلية).
ومن لا ينفع غيره، ولا تحدثه نفسه أن يشارك، فإلى متى يظل بهذا الشكل؟ لابد للإنسان أن يقعد مع نفسه مرة ويسأل نفسه: إلى متى نظل نسمع الدعاة يعظوننا في المشاركة في الجهاد، وليس عندنا أي استعداد أبداً للتجاوب مع أي دعوة؟ لا، لابد أن نستعد من الآن، حتى إذا أتى الوقت المناسب لا ننتظر حتى نستعد، ولا ينادى علينا للجهاد فنقول: لماذا الجهاد؟ وما الذي حصل؟ إذاً: ينبغي أن يظل الواحد منا يحدث نفسه عن الجهاد وضرورة الاستعداد له.
كما أفاد الحديث كذلك: أن الحمل في سبيل الله تمليك، فإذا أعطيتك فرساً فإن هذا الفرس ملكك؛ ولذلك لا يجوز لي أخذ هذا الفرس مرة أخرى، ولو بالبيع والشراء.
كما يجوز للمحمول على الفرس أن يبيعه، وأن ينتفع بثمنه، إما قبل الغزو والجهاد، وإما بعد الغزو والجهاد عليه، يستوي هذا وذاك.(33/10)
كلام النووي في حديث عمر في باب كراهة شراء الإنسان ما تصدق به ممن تصدق عليه
قال النووي رحمه الله تعالى: (قوله: (حملت على فرس عتيق في سبيل الله)، معناه: تصدقت به ووهبته لمن يقاتل عليه في سبيل الله، والعتيق: هو الفرس النفيس الجواد السابق) أي: المسرع الذي يسبق غيره.
قال: (قوله: (فأضاعه صاحبه)، أي: قصر في القيام بعلفه ومؤنته.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تبتعه ولا تعد في صدقتك)، هذا نهي تنزيه لا تحريم، فيكره لمن تصدق بشيء أو أخذه في زكاة أو كفارة أو نذر ونحو ذلك من القربات أن يشتريه ممن دفعه هو إليه، أو يهبه، أو يتملكه باختياره منه، فأما إذا ورثه منه فلا كراهة فيه).
يعني: الوالد إذا وهب ولده شيئاً فله أن يرجع في هذه الهبة، أما الولد إذا وهب والديه أو أحدهما شيئاً فلا يجوز له أن يأخذ هذه الهبة إليه مرة أخرى إلا عن طريق الميراث؛ لأنه لما وهبه وهبه بالطريقة الشرعية، ولما انتقل إليه الميراث انتقل بطريق شرعي.
حدثت مشكلة منذ عدة أشهر وهي: أن رجلاً كان موسعاً عليه في المال، وكان يعطي والده ووالدته من بعد والده من ماله، فلما ماتت والدته نازع الورثة بأن هذا الولد الذي كان يعطي لوالديه المال لا يجوز له أن يأخذ من هذا الميراث، واستدلوا بهذا الحديث، قالوا: لأنه كان واهباً ومتصدقاً، وهذا المال الذي ينتقل الآن عن طريق الإرث معظمه مال هذا المتصدق، وبالتالي فلا يحل له أن يأخذ منه شيئاً.
فجاءوا إلي فقلت لهم: ينتقل إليه عن طريق الميراث.
قالوا: دليلك؟ قلت: دليلي كيت وكيت وكيت قالوا: كثير من العلماء لم يقولوا كذا.
المهم حصلت مشكلة مفادها أن ذلك اتباع للهوى، وهذا هو حال كثير من الناس، ما دام في صالحه وافقك، وإلا لو أتيته بمئات الأدلة من كتاب الله ومن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم لكن هذه الأدلة تمنعه من أخذ بعض متاع الدنيا فإنه لا يوافقك.
المهم أنك إن وافقتهم وافقوك، وإن خالفتهم ولو كان معك الكتاب والسنة خالفوك.
قال: (وقد سبق بيان هذا في كتاب الزكاة، وكذا لو انتقل إلى ثالث ثم اشتراه منه المتصدق فلا كراهة).
يعني: لو أن هذا الرجل الذي تصدقت عليه وحملته على هذا الفرس اسمه عمرو، فقام عمرو وباع هذا الفرس من غيرك، فيجوز لك أنت كمتصدق بهذا الفرس أصلاً أن تشتريه من غيره بلا كراهة، إنما المحظور أن تشتريه ممن تصدقت عليه، أما من غيره فلا حرج في ذلك، لكن يشترط أن يكون البائع الآخر مالكاً له، لا موكلاً من قبل صاحبه؛ لأن الموكل والوكيل كلاهما سيحابي صاحب الفرس المتصدق به أولاً.
أما الآخر فإنه يبيعه دون محاباة، وينازع في الحصول على أعلى سعر لهذا الفرس، بخلاف المتصدق عليه.
قال: (هذا مذهبنا ومذهب الجمهور، وقال جماعة من العلماء: النهي عن شراء صدقته للتحريم لا للكراهة، والله أعلم).(33/11)
باب تحريم الرجوع في الصدقة والهبة بعد القبض إلا ما وهبه لولده وإن سفل
قال: [باب تحريم الرجوع في الصدقة والهبة بعد القبض، إلا ما وهبه لولده وإن سفل].
قوله: (وإن سفل).
يعني: وإن نزل، يعني: ولده أو ولد ولده وإن نزل.
فقوله: (باب تحريم الرجوع في الصدقة والهبة بعد القبض)، يعني: لو أني الآن نويت أن أتصدق عليك بصدقة، وهذه الصدقة لم أدفعها إليك، ولكني ميزتها عن بقية المال، فقلت: هذه الصدقة أو هذا الفرس سوف أعطيه غداً صباحاً إن شاء الله لفلان، فلما جاء الليل قلت: لا، هذا الفرس لن أتصدق به، ثم أتيت في اليوم الثاني فقلت: بل أتصدق به، وأتيت بهذا الفرس بخطامه ولجامه فدفعته إليك فقبضته مني فانصرفت عني.
فصورة الرجوع الأولى التي بدَّلت فيها وغيَّرت نيتي، هل آثم بذلك؟ والصورة الثانية بعد أن دفعته إليك وقبضته مني، هل يجوز لي الرجوع فيها بعد القبض؟ هذا الذي يفرق فيه أهل العلم بين الصدقة المقبوضة وغير المقبوضة.
في غير المقبوض يجوز للمتصدق أو الواهب أن يرجع عنها، أما بعد القبض فلا يجوز له ذلك.
فقوله هنا: (باب تحريم الرجوع في الصدقة والهبة بعد القبض إلا ما وهبه لولده وإن سفل) هنا استثنى واحداً، وهو أن يتصدق الوالد على ولده؛ فله أن يرجع في صدقته إن احتاجه، فالأصل ألا يرجع هو كذلك؛ لكن إذا احتاج إلى الرجوع فله أن يرجع ولا حرج عليه؛ لأن الولد وما يملك لأبيه.(33/12)
شرح حديث: (مثل الذي يرجع في صدقته كمثل الكلب يقيء ثم يعود في قيئه فيأكله)
قال: [حدثني إبراهيم بن موسى الرازي وإسحاق بن إبراهيم -أي: ابن راهويه - قالا: أخبرنا عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، حدثنا الأوزاعي -وهو عبد الرحمن بن عمرو البيروتي اللبناني إمام الشام في زمانه- عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين عن ابن المسيب - وهو سعيد بن المسيب المدني - عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل الذي يرجع في صدقته، كمثل الكلب يقيء ثم يعود في قيئه فيأكله)].
هذا مثل نبوي عظيم جداً يصور الأمر كأنه صورة حية أمامه، كلب يقيء ما في بطنه ثم يعود فيأكل قيئه، وهكذا المتصدق الذي يعود في صدقته.
قال: [وحدثناه أبو كريب محمد بن العلاء الهمداني الكوفي أخبرنا ابن المبارك عن الأوزاعي قال: سمعت محمد بن علي بن الحسين يذكر بهذا الإسناد، نحوه.
وحدثنيه حجاج بن الشاعر حدثنا عبد الصمد -وهو ابن عبد الوارث - حدثنا حرب حدثنا يحيى -وهو ابن أبي كثير اليمامي - حدثني عبد الرحمن بن عمرو -وهو الأوزاعي - أن محمد بن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثه بهذا الإسناد نحو حديثه.
وحدثني هارون بن سعيد الأيلي وأحمد بن عيسى قالا: حدثنا ابن وهب -وهو عبد الله بن وهب القاضي المصري - أخبرني عمرو -وهو عمرو بن الحارث المصري - عن بكير -وهو ابن عبد الله الأشج - أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: سمعت ابن عباس يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما مثل الذي يتصدق بصدقة ثم يعود في صدقته كمثل الكلب يقيء ثم يأكل قيئه)].(33/13)
شرح حديث: (العائد في هبته كالعائد في قيئه)
قال: [وحدثناه محمد بن المثنى -وهو العنزي البصري المعروف بـ الزمن - ومحمد بن بشار -وهو الملقب بـ بندار - قالا: حدثنا محمد بن جعفر -وهو الملقب بـ غندر، وغندر في لغة أهل الحجاز المشاغب، وكان محمد بن جعفر يشغب على ابن جريج؛ فلقبه بهذا- قال: حدثنا شعبة: سمعت قتادة يحدث عن سعيد بن المسيب].
قتادة بن دعامة السدوسي البصري إمام من أئمة الرواية، ولكنه مدلس، والمدلس إذا صرح قبل حديثه وإلا فلا، وهنا قد صرح، فقول شعبة: (سمعت قتادة يحدث عن سعيد) كأنه يقول: قال سعيد أو عن سعيد، لكن رواية قتادة عن شيوخه إذا كانت من طريق شعبة؛ فمحمولة على السماع وإن لم يصرح؛ لأن شعبة قال: أنا أكفيكم رواية قتادة؛ فإني كنت أتتبع فاه، فما قال فيه: سمعت وحدثنا رويته عنه، وما قال فيه: قال، أو عن لم أروه عنه.
والتدليس خمس مراتب، والمدلسون على خمس طبقات، والكلام في التدليس إذا كان كلاماً عاماً مطلقاً فهو محمول دائماً على النوع الثاني من التدليس.
وسنتكلم عن أنواع التدليس بعد أن ننتهي من الباب.
لكن اعلم أن حديث قتادة وإن لم يصرح فيه بالسماع إذا كان من طريق شعبة فهو محمول على السماع، فما بالك إن صرح كما هو الآن، كما لم ينفرد بهذه الرواية، إنما له عشرات الرواة وافقوه على روايته هذه.
قال: [حدثنا شعبة: سمعت قتادة يحدث عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العائد في هبته كالعائد في قيئه).
وحدثناه محمد بن المثنى حدثنا ابن أبي عدي عن سعيد عن قتادة بهذا الإسناد مثله].
بعض الرواة صحف سعيداً إلى شعبة؛ لأنهما في الرسم واحد، فحينما تكتب سعيداً وتكتب شعبة بغير ضبط ولا نقط ولا تشكيل؛ يمكن تصحيف سعيد إلى شعبة، وشعبة إلى سعيد؛ لأن الرسم واحد، كحمزة وجمرة أو حمرة الرسم واحد، ودائماً حينما تأتي تنظر في المخطوطات القديمة تجدها بغير نقط ولا ضبط ولا تشكيل ولا غير ذلك، ولذلك تصحف على كثير من المحدثين والعلماء كثير من قراءتهم من المخطوطات القديمة.
ويدرك ذلك أهل العلم الذين تلقوا العلم من أفواه العلماء، أو أهل اللغة الذين يعرفون استقامة المعنى من عدمه في أثناء سماعهم لهذا من أفواه العلماء.
ولذلك إذا روى عن قتادة سعيد فهو سعيد بن أبي عروبة، فإذا أتاك أي إسناد في أي كتاب من كتب السنة سعيد عن قتادة وسعيد هذا غير منسوب، فهو سعيد بن أبي عروبة لا غيره، مع أنه روى عن قتادة من اسمه سعيد كثيرون، لكن بغير نسبة فهو سعيد بن أبي عروبة؛ لأنه كان معروفاً بالملازمة لـ قتادة، وعلى يديه تخرج سعيد بن أبي عروبة.(33/14)
شرح حديث: (العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه)
قال: [وحدثنا إسحاق بن إبراهيم -المعروف بـ ابن راهويه - أخبرنا المخزومي -وهو المغيرة بن سلمة أبو هشام البصري - حدثنا وهيب حدثنا عبد الله بن طاوس عن أبيه -وهو طاوس بن كيسان اليماني - عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه)].
يقول الإمام النووي: (هذا ظاهر في تحريم الرجوع في الهبة والصدقة بعد إقباضهما، وهو محمول على هبة الأجنبي، أما إذا وهب لولده وإن سفل؛ فله الرجوع فيه كما صرح به في حديث النعمان بن بشير، ولا رجوع في هبة الإخوة والأعمام وغيرهم من ذوي الأرحام، وهذا مذهب الشافعي، وبه قال مالك والأوزاعي، وقال أبو حنيفة وآخرون: يرجع كل واهب إلا الولد، وكل ذي رحم محرم).
الذي يترجح هو مذهب جماهير العلماء دون مذهب الأحناف، أن كل واهب يحرم عليه أن يرجع في هبته إلا الوالد، فله أن يرجع في هبته لولده، ولو كان ذلك بعد القبض.(33/15)
حقيقة التدليس وأنواعه
التدليس: هو الإيهام، أي: ذكر كلام يفهمه المستمع على نحو، ويريد منه المتكلم نحواً آخر.
يعني: أنا أوهمك أني سمعت فلاناً يقول شيئاً، وأنا قد سمعته فعلاً وتتلمذت على يديه، لكن هذا الكلام بالذات الذي أنقله لك الآن لم أسمعه منه، فأنا لا أقول: حدثني فلان، ولا أخبرني فلان، ولا سمعت فلاناً، وإنما أقول: قال فلان، وعن فلان.
فمثلاً: سمعت منه جزءاً حديثياً له، وهذا الجزء فيه مائة حديث، لكني لم أسمع منه إلا تسعين حديثاً فقط، وتوفي الشيخ أو رحل قبل أن أسمع العشرة الباقية، ولكن وقع في يدي نسخة الأحاديث لهذا الشيخ، فعز علي بعد أن سمعت معظم هذا الجزء أن أروي بعضه، فقلت في التسعين حديثاً: حدثني فلان حدثني فلان حدثني فلان، والناس يعرفون أني تلميذ له، وأني سمعت هذا الجزء الحديثي منه، ثم أتيت على العشرة الأحاديث الباقية فقلت فيها: عن فلان، أُعَرّضُ للمستمع بروايتي عنه، وأنا لم أسمع منه هذه الأحاديث العشرة.
فهذا يسمى تدليس الإسناد؛ ولذلك نحن نقول: شرط تدليس الإسناد: أن يصرح المدلس بالسماع من شيخه.
أما تدليس التسوية فهو نوع ثان من أنواع التدليس، وهو أشر من تدليس الإسناد.
وتدليس التسوية: أن يكون المدلس أدرك الشيخ الذي يروي عنه، بل وهذا الحديث بعينه الذي يرويه قد سمعه حقاً من الشيخ، فهو يقول فيه: حدثني فلان، وهو صادق في هذا، لكن المدلس بهذا النوع يعمد إلى راو ضعيف فوق شيخه لا تقبل روايته فينقصه من الرواية والإسناد، فمثلاً: إذا كان بقية بن الوليد يروي عن الأوزاعي عن الحارث عن فلان، والحارث ضعيف، فيقوم بقية فيسقط الحارث؛ لأنه ضعيف، فبدل ما كان الأوزاعي يقول: حدثني الحارث عن إبراهيم أو عن سعيد، يقول: قال الأوزاعي: عن سعيد، ويكون قد أسقط راوياً ضعيفاً بين راويين ثقتين، وسمي هذا بتدليس التسوية؛ لأن المدلس يعمد إلى شيخ شيخه وهو ليس عدلاً ولا أهلاً للرواية فيسقطه ليسوي الإسناد كله ثقات، وهذا ما كان يفعله بقية؛ ولذلك يقول علي بن مسهر: كن من بقية على تقية؛ فإن أحاديثه ليست نقية.
فـ بقية هو أستاذ تدليس التسوية، فأي إسناد فيه بقية احذر منه، وتوقف عند كل راو، وانظر كيف تحمَّل، هل تحمل سماعاً أو عنعنة، ولذلك بقية لما كان يسقط شيوخ الأوزاعي الضعفاء، والأوزاعي مع إمامته كان يروي عن ضعفاء، فقيل لـ بقية: لم أسقطت فلاناً؟ قال: لأنه ضعيف، وأنا أجلُّ الأوزاعي أن يروي عن ضعفاء.
ما يخصك من ذلك؟ هو روى عنه، فأنت لا تسقط من روى عنه، فمن أثبت الإسناد فقد برئت ذمته وعهدته، وهذا من الأصول عند أهل العلم.
يقول العلماء: في تدليس الإسناد يلزم المدلس فقط التصريح بالسماع من شيخه، أما في تدليس التسوية فيلزم المدلس بالتصريح بالسماع من عنده إلى آخر السند؛ لأن تدليسه يقع على الإسناد كله وليس على طبقته هو فقط، ولذلك أي إسناد فيه مدلس معروف بتدليس التسوية يُلزم التصريح بالسماع في جميع طبقات السند فوق المدلس.
أما تدليس الشيوخ فهو: أن يكون المدلس ليس له إلا شيخ واحد، فيسميه مرة، ويكنيه مرة، ويلقبه مرة، مما يوهم المستمع أن هؤلاء شيوخ متعددون وكثرة، وهو في الحقيقة شيخ واحد.
واشتهر بهذا الخطيب البغدادي وابن الجوزي وغيرهما من أهل العلم.
أما تدليس البلاد، فالحامل عليه والغرض منه إيهام المستمع الرحلة في طلب العلم، كأن تقول مثلاً: حدثني فلان فيما وراء النهر، وفي الحقيقة إنما توجد ترعة بينك وبين الذي حدثك، فتقول: حدثني فلان في بلاد ما وراء النهر، وأنت تقصد تلك الترعة التي بينك وبينه، فالمستمع له يظن بلد ما وراء النهر حقيقة.
كذلك مثلاً: لو قال: حدثني فلان بالأندلس، المستمع سيظنه الأندلس القطر المعروف، ثم يفاجأ بأن الأندلس هذه اسم لشارع، أو اسم حي شعبي، ففي هذه الحالة هذا تدليس.
كذلك حينما يقول شخص: وقد ألفت هذا الكتاب في مدينة الرياض في سنة كذا، وانتهيت منه بعد صلاة العشاء، فالقارئ سيقع في قلبه أنها الرياض التي في أرض الحجاز، وهي في الحقيقة عبارة عن عزبة اسمها الرياض، فذلك من تدليس البلاد، وهو نوع من أنواع كثيرة، لكن على أية حال أخطر أنواع التدليس على الإطلاق تدليس التسوية، ثم يليه الإسناد، ثم يليه الشيوخ.(33/16)
طبقات المدلسين
أما طبقات المدلسين فخمس طبقات: الطبقة الأولى: أناس لم يدلسوا قط إلا في حديث أو حديثين؛ فننظر إلى الشخص من حيث الإمامة والمكانة، مثل: يحيى بن سعيد الأنصاري، هذا روى أكثر من ثلاثمائة ألف حديث، ولم يدلس إلا في حديث، وهو نفسه يقول: ما دلست إلا في حديث واحد، فما بورك لي فيه.
ولكن لم يقل ما هو هذا الحديث، ولم يعرف أحد هذا الحديث، فهل نطرح هذه الآلاف المؤلفة من الأحاديث من أجل حديث واحد؟ لا، ولا يقول بهذا إلا إنسان مجنون.
فهذه الطبقة الأولى، فنحن احتملنا هذا التدليس، ولا نبحث حتى مجرد البحث عن هذا الحديث الذي ثبت أنه دلس فيه.
الطبقة الثانية: أناس عرفت أمامتهم وجلالتهم دلسوا، ولكن تدليسهم بجنب روايتهم لا يكاد يذكر، مثل: سفيان بن عيينة والثوري مع إمامتهما وجلالتهما، واتفاق الشيخين البخاري ومسلم على الرواية لهما.
الطبقة الثالثة من المدلسين: هم كثرة كاثرة من الرواة دلسوا تارة تدليس التسوية، وتارة الإسناد الذي قد ذكرته هنا، فهذا التدليس نتوقف فيه إلى أن يثبت لنا السماع.
الطبقة الرابعة: قوم مدلسون وهم ضعفاء، أو مختلف فيهم، فالذي يثبته يقبل حديثه بشرط الطبقة الثالثة، أي إذا صرح، والذي يضعفه يرد روايته.
وينظر في ضعفهم، هل ضعفهم مما يجبر، أو لا يجبر؟ وهذا محل ضبط وبحث عند أهل السند.
الطبقة الخامسة: قوم وضاعون أو كذابون أو ضعفاء ضعفاً لا يحتمل، ومع ذلك هم مدلسون، فهؤلاء لو صرحوا بالتحديث لا تقبل روايتهم؛ لأنهم كذابون وضاعون أو ضعفاء جداً أو منكرو الحديث.
ومناط البحث في التدليس هو الطبقة الثالثة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(33/17)
الأسئلة(33/18)
حكم من حلف عدة أيمان ولم يكفر عنها وقد نسي مقدارها
السؤال
حلف شخص عدداً من الأيمان، ولا يتذكر منها إلا القليل، ولم يكفر عن هذه الأيمان فماذا يفعل؟
الجواب
على أية حال هو غير مكلف بتكفير الأيمان التي نسيها، وإنما ما تذكره يكفر عنه وجوباً، وإن كثرت الأيمان على الشيء الواحد كثرت الكفارات، يعني: لو حلف على شيء واحد عدة أيمان، وحنث فيها؛ فإنه يلزمه مع كل يمين كفارة، ليس مع كل عمل.(33/19)
حكم بيع الفرس الموهوب للجهاد قبل الجهاد به
السؤال
ما الدليل على جواز البيع للفرس الموهوب قبل الجهاد به؟
الجواب
هذا الحديث نفسه من رواية ذكرها الإمام البخاري في كتاب الهبة، يقول: (حمل عمر على فرس له في سبيل الله عز وجل، فوجد المحمول فرسه هزيلاً من قلة الطعام)، يقول الحافظ ابن حجر: أي وجده المحمول لا يصلح للجهاد.
فرجح الحافظ ابن حجر في الفتح جواز بيع الفرس الموهوب قبل أداء مهمة الهبة أو الصدقة.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(33/20)
شرح صحيح مسلم - كتاب الهبات - العمرى
العمرى من العقود المختلف فيها بين العلماء، فمنهم من جعلها عقد تمليك، ومنهم من جعلها عقد منفعة كالعارية، ومنهم من فصل فيها؛ فإن كانت غير مشروطة فهي للموهوبة له ولعقبه، ولا تعود إلى الواهب، وإن كانت مشروطة فالمسلمون على شروطهم، وهذا هو أرجح الأقوال.(34/1)
باب العمرى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
هذا هو الباب الرابع من كتاب الهبات وهو: باب العمرى، والعمرى بالألف المقصورة لا بالتاء المربوطة.(34/2)
شرح حديث: (أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه؛ فإنها للذي أعطيها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن يحيى التميمي النيسابوري أبو زكريا، قال: قرأت على مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه؛ فإنها للذي أعطيها، لا ترجع إلى الذي أعطاها؛ لأنه أعطى عطاءً وقعت فيه المواريث)].
يعني: من منح أخاه منحة، أو هبة، أو أي شيء بغير عوض؛ لأن العمرى هي عقد بغير عوض، وتسمى رقبى، وسنعرف السر في تسمية العمرى بالرقبى بعد قليل.
فقوله: (أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه) أي: هي له ولعقبه، أو أن الواهب المعمِر قال للمعمَر: هذه العمرى لك ولولدك من بعدك، أياً كان ولدك، الابن أو ابن الابن وإن نزل.
مثال العمرى كأن أقول لك: أعمرتك هذه الدار، أي: جعلت هذه الدار لك مدة عمرك، أو مدة عمري، فأينا مات أولاً ترد الدار إلى الثاني، ومن هنا سميت عمرى؛ لأنها متعلقة بالعمر، سواء كان هذا العمر هو عمر المعمِر أو المعمَر.
ويمكن أن تكون مقيدة، ويمكن أن تكون بغير قيد، كما لو قال المعمِر للمعمَر: أعمرتك هذه الدار على أنك لو مت قبلي ردت إلي.
وفي هذه الصورة نزاع بين أهل العلم: هل تصح العمرى ويبطل الشرط، أو أن العمرى باطلة من الأصل؟ فقوله: (أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه)، أي: أعطاه المعمِر هذه الدار مثلاً على اعتبار أنها تئول إلى أولاد المعَمر من بعده؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (فإنها للذي أعطيها)، أي: فإنها للمعمَر، (لا ترجع إلى الذي أعطاها)، أي: وهبها وأعمرها؛ والعلة: (لأنه أعطى عطاءً وقعت فيه المواريث) أي: أن المعمِر أو الواهب أو المعطي أعطى للمعطَى أو للمعمَر أو للموهوب له هذه الدار، وانبنى عليها أنه لما مات المعَمر انتقلت إلى ورثته، ولذلك اختلف أهل العلم في العمرى، هل هي عقد تمليك أم لا؟ واتفقوا على أن المعمَر يملك منفعة العين، لكنهم اختلفوا هل يملك الرقبة أم لا؟ يعني: هل يملك أصل الشيء المعمَر أم لا؟ فذهب الجمهور إلى أن العمرى عقد تمليك لأصل الشيء ومنفعته، وإلا فكيف تنتقل الدار إلى الورثة فيرثونها من بعد المعمَر ولا تكون تمليكاً، ربما تنتقل الأذهان إلى عقود الإيجار التي لم تحدد بمدة، وهذه عقود باطلة من جهة الشرع، عقود الإيجار المعروفة بالمشاهرة عقود باطلة في الشرع؛ لأن عقود المنفعة التي بعوض أعظم شرط فيها التحديد، إلا عقود البيع فالبائع لا يحتاج إلى تحديد، إنما عقود المنفعة التي بعوض لا بد فيها من التحديد، إذا خلا عقد الإجارة عن شرط التحديد فهو عقد باطل.
إذاً: عقود إيجار الشقق والمحلات التي يؤجرها الناس مشاهرة.
يعني: تبقى مدى العمر حتى يرثها الأبناء والأحفاد، هذه العقود باطلة، فمن كان بإمكانه أن يتخلص من مثل هذا ابتغاء مرضاة الله عز وجل فإنه من باب الطاعات والأعمال الصالحة.(34/3)
شرح حديث: (من أعمر رجلاً عمرى له ولعقبه فقد قطع قوله حقه فيها)
قال: [حدثنا يحيى بن يحيى ومحمد بن رمح قالا: أخبرنا الليث بن سعد، (ح) وحدثنا قتيبة حدثنا ليث عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أعمر رجلاً عمرى له ولعقبه فقد قطع قوله حقه فيها، وهي لمن أعمر ولعقبه)] يعني: بمجرد أن قال له: أعمرتك هذه الدار لك ولعقبك؛ انقطعت صلته بهذه الدار، فلا يجوز له أن يرجع في ذلك قط.
فقوله: (من أعمر رجلاً)، أي: من أعطى رجلاً داراً، أو شيئاً، أو متاعاً، على سبيل العمرى له ولعقبه، (فقد قطع قوله حقه فيها)، أي: قوله للمعمَر: أعطيتك، أو أعمرتك هذا الشيء.
(وهي لمن أعمر ولعقبه)، أي: لأبنائه وأبناء أبنائه.
قال: [غير أن يحيى قال في أول الحديث: (أيما رجل أعمر عمرى فهي له ولعقبه)].(34/4)
شرح حديث: (أيما رجل أعمر رجلاً عمرى له ولعقبه، فقال: قد أعطيتكها وعقبك ما بقي منكم أحد)
قال: [حدثنا عبد الرحمن بن بشر العبدي، أخبرنا عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليمني، أخبرنا ابن جريج -وهو عبد الملك بن عبد العزيز الأموي المشهور بـ ابن جريج - أخبرني ابن شهاب -وهو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن زهرة الزهري - عن العمرى وسنتها، فحدثني عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصاري أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أيما رجل أعمر رجلاً عمرى له ولعقبه فقال: قد أعطيتكها وعقبك ما بقي منكم أحد؛ فإنها لمن أعطيها، -أي فإنها لذلك المعطى ولعقبه حتى ينقطع نسله- وإنها لا ترجع إلى صاحبها -أي: الذي أعمرها-؛ من أجل أنه أعطى عطاءً وقعت فيه المواريث)].(34/5)
مذهب جابر بن عبد الله رضي الله عنهما والزهري في العمرى
قال: [حدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد واللفظ له، قال: أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر قال: (إنما العمرى التي أجازها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يقول الرجل: هي لك ولعقبك، فأما إذا قال: هي لك ما عشتَ؛ فإنها ترجع إلى صاحبها)] لأنه أجاز العمرى بشرط الحياة، وعند أهل اللغة: أن العمرى لا تسمى عمرى إلا إذا قال المعمِر للمعمَر: أعمرتك هذه الدار مدة حياتك؛ ولذلك العلماء يسمونها الرقبى، لأن كلاً من المعمَر والمعمِر يرقب وفاة صاحبه لتحقق الشرط، فلو قال الرجل لأخيه: أعمرتك هذه الدار مدة حياتك، وهذا الأمر كان معروفاً في الجاهلية بشروط أتى الشرع فأبطلها، ولذلك لما هاجر المهاجرون من مكة إلى المدينة قام الأنصار رضي الله عنهم وأعمروا إخوانهم دوراً وحيطاناً، أي: بساتين وزروعاً ونخيلاً وغير ذلك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الأنصار! لا تفسدوا أموالكم -وفي رواية: لا تهلكوا أموالكم-؛ فإن من أعمر شيئاً فهي لمن أُعمر ولعقبه)، حتى لا تكون العمرى بين المهاجرين والأنصار سبب نزاع وشقاق في المستقبل، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الأنصار! انظروا ما تصنعون؛ فإن من أعمر منكم لأحد من المهاجرين شيئاً فهي للمعمَر ولعقبه) لذلك وقع النزاع في العمرى هل تكون مدة حياة المعمر أو أنها تنتقل إلى الورثة؟ وهل العقد صحيح والشرط باطل بحيث تنتقل العين إلى ورثته؟ قال جابر: (إنما العمرى التي أجازها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: هي لك ولعقبك، وأما إذا قال: هي لك ما عشتَ؛ فإنها ترجع إلى صاحبها)، يعني: لو قال له: هي لك ولعقبك؛ تنتقل إلى الورثة، أما إذا شرط وقال: هي لك ما عشتَ، أي: هي لك مدة بقائك وحياتك؛ فإذا مات المعمَر رجعت الدار إلى المعمِر، فهذه وقع النزاع فيها.
قال معمر: (وكان الإمام الزهري عليه رحمة الله يفتي به) وهو راوي الحديث، فضلاً عن جابر الذي روى هذا الحديث بعدة طرق عنه، فإن هذا هو الذي فهمه جابر من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، أن الرجل يفرق بين لفظين: فإذا قال: هذه عمرى لك، أو عمرى لك ولعقبك، فإنهما سواء؛ لأن العمرى عند الإطلاق تعني التمليك والانتقال عن طريق الميراث، إلا إذا اشترط واستثنى وقال: العمرى لك ما عشتَ، أو عمرى لك ما عشتُ، فيكون تعلقه بعمر المعمَر أو بعمر المعمِر، فأيهما مات أولاً انتقلت إلى الآخر، فإذا قال المعمِر للمعمَر: هذه الدار عمرى لك، أي: تعمرها وتسكنها، وتنتفع بها مدة بقائك وحياتك، فإذا متَّ انتقلت إلي، وإذا متُّ انتقلت لورثتي، فهذا الشرط محل اتفاق عند قوم، ومحل نظر عند آخرين.(34/6)
شرح حديث: (أن رسول الله قضى فيمن أعمر عمرى له ولعقبه قال: فهي له بتلة)
قال: [حدثنا محمد بن رافع، حدثنا ابن أبي فديك -وهو محمد بن إسماعيل - عن ابن أبي ذئب -وهو محمد بن عبد الرحمن - عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى -أي: حكم- فيمن أعمر عمرى له ولعقبه، فهي له بتلة، لا يجوز للمعطي فيها شرط ولا ثنيا)] قوله: (بتلة) أي: عطية ماضية غير راجعة إلى الواهب، والثنيا هي الاستثناء، يعني: لا يجوز له أن يشرط ولا أن يستثني.
لأنه أطلق أولاً، فقال: هذه عمرى لك ولعقبك، ولأن هذا هو مذهب جماهير العلماء، إذا قال: هي لك ولأولادك من بعدك، فأي شرط مع هذا اللفظ يبطل، وأي استثناء يبطل، فصيغة الكلام أولاً كأنه عقد بيع لكن بغير عوض، ونحن نعلم أن عقد البيع لا يجوز فيه شرط ولا استثناء، فلا يصح أن أقول لك: بعتك هذه الدار على أن تردها إلي بيعاً وشراء إذا أردت.
ولا يصح أن أقول لك: بعتك هذه الدار على ألا تسكنها أنت، لا يصح هذا الشرط.
واختلف أهل العلم في مثل هذا.
فبعضهم أبطل البيع أصلاً، وبعضهم صحح البيع وأبطل الشرط، والراجح أن البيع صحيح والشرط باطل لا يلزم به المشتري.
قال: [قال أبو سلمة: لأنه أعطى عطاءً وقعت فيه المواريث، فقطعت المواريث شرطه].
الصورة الأولى: هي قول المعمِر للمعمَر: أعمرتك هذه الدار مدة حياتك، هل يستوي قولك: أعمرتك هذه الدار مدة حياتك، مع قولك: أعمرتك هذه الدار لك ولعقبك من بعدك؟ لا يستويان.
الصورة الأولى: لا تفيد التمليك.
الصورة الثانية: تدل على التمليك.
فقولك: أعمرتك هذه الدار لك ولعقبك؛ تفيد هذه الصورة ملك الرقبة؛ لأن المعلوم قطعاً أنه لا ينتقل بالميراث إلى الورثة إلا ما كان ملكاً للمورث.
أما إذا قال المعمِر للمعمَر: أعطيتك هذه الدار مدة حياتك، فإذا أنت مت انتقلت إلي، أو ردت إلي، هل يصح في مثل هذه الميراث؟
الجواب
لا يصح؛ لأنها عمرى مشروطة بعمر المعمَر، إذا انتهى عمره انتهت العمرى، وردت إلى صاحبها ومالكها الأول.(34/7)
شرح حديث: (العمرى لمن وهبت له)
قال: [حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري حدثنا خالد بن الحارث، حدثنا هشام -وهو ابن أبي عبد الله الدستوائي - عن يحيى بن أبي كثير حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العمرى لمن وهبت له).
وحدثناه محمد بن المثنى حدثنا معاذ بن هشام -وهو معاذ بن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي - حدثني أبي عن يحيى بن أبي كثير، حدثنا أبو سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال بمثله.
وحدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير بن معاوية بن حديج، حدثنا أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي عن جابر بن عبد الله الأنصاري يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وحدثنا يحيى بن يحيى، واللفظ له، أخبرنا أبو خيثمة -هو زهير المتقدم- عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها؛ فإنه من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حياً وميتاً، ولعقبه)].
يعني: أنه لما هاجر المهاجرون إلى المدينة وتركوا أرضهم وديارهم، أشفق عليهم الأنصار فأعمروهم أرضاً، وآثروهم على أنفسهم مع ما كان بهم من خصاصة، لكن كان الأمر في الجاهلية أن من أعمر شيئاً رده في أي وقت شاء، فالنبي صلى الله عليه وسلم بين أن العمرى إنما هي عقد هبة، ولا يجوز للواهب أن يرجع في هبته، والراجع في هبته كالكلب يرجع في قيئه، كما أن الذي يهب هبة ويرجع فيها ليس من مكارم الأخلاق، فلو أن رجلاً أعطى هدية لأهله، فلما تشاجرا طالبهم برد الهدية، فهذا في العرف من مساوئ الأخلاق، فكانوا في الجاهلية يتخلقون بهذا الخلق، فجاء الإسلام وبين أن العمرى من عقود الهبات التي هي بغير عوض, ولا يجوز لأحد أن يرجع فيها، كما أن ذلك ليس من مكارم الأخلاق، وإنما ذلك من مساوئها.
فلما أعمر الأنصار المهاجرين ذلك، خشي النبي عليه الصلاة والسلام أن يتمثل الأنصار أخلاق الجاهلية، وأن يطالبوا المهاجرين بما وهبوهم إياه بعد مدة من الزمان، أو في أي وقت شاءوا؛ فقال: (مهلاً يا معشر الأنصار! فإن من أعمر عمرى -أي: لأخيه- فهي له حياً وميتاً، وإذا مات انتقلت إلى ورثته).
فلا بد أن تعلموا هذا، وهذا عند الإطلاق بغير قيد ولا شرط، يعني: إذا قال أحدهم لأخيه: أعمرتك هذه الدار؛ فلا بد أن يعلم أن هذه الدار سوف تنتقل إلى ورثة المعمَر، إلا إذا اشترط، وعلى المعمَر أن يقبل العمرى بشرطها أو بغير شرطها من أول الأمر.(34/8)
شرح حديث: (جعل الأنصار يعمرون المهاجرين، فقال النبي: أمسكوا عليكم أموالكم)
قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن بشر العبدي، حدثنا حجاج بن أبي عثمان، (ح) وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم عن وكيع عن سفيان -وهو ابن عيينة؛ لأن سفيان بن عيينة هو الذي يروي عنه وكيع بن الجراح - وحدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد حدثني أبي عن جدي عن أيوب -وهو السختياني - كل هؤلاء عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى حديث أبي خيثمة المتقدم، وفي حديث أيوب من الزيادة قال: (جعل الأنصار يعمرون المهاجرين، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أمسكوا عليكم أموالكم)] أي: لا تعمروها حتى يعلم الواحد منكم إذا أعمر شيئاً بشرط فله شرطه، وإذا أعمر بغير شرط؛ فليعلم أن هذه العمرى لا ترد إليه.(34/9)
شرح حديث جابر في حكم العمرى غير المشروطة
قال: [حدثنا محمد بن رافع وإسحاق بن منصور -وهو الكوسج البغدادي - قال: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير عن جابر قال: (أعمرت امرأة بالمدينة حائطاً لها ابناً لها، ثم توفي وتوفيت بعده، وتركت ولداً وله إخوة بنون للمعمِرة، فقال ولد المعمرة: رجع الحائط إلينا، وقال بنو المعمر: بل كان لأبينا حياته وموته، فاختصموا إلى طارق مولى عثمان -هو والي المدينة لـ عبد الملك بن مروان بعد إمارة ابن الزبير - فدعا جابر -أي: دعا طارق جابر بن عبد الله ليشهد على هذه الحالة- فشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرى لصاحبها، فقضى بذلك طارق، ثم كتب إلى عبد الملك فأخبره ذلك، وأخبره بشهادة جابر فقال عبد الملك: صدق جابر، فأمضى ذلك طارق، فإن ذلك الحائط لبني المعمر حتى اليوم)] يعني: للورثة حتى رواية هذا الأثر.
فهذه العمرى إنما أعمرتها المرأة أحد أولادها بغير قيد ولا شرط، فالذي يعمر بغير قيد ولا شرط ولا استثناء يحمل على الإطلاق، أي: أنها للمعمَر ولولده من بعده، وليس في هذا أدنى تعارض مع الميراث؛ لأن هذا من باب عقود الهبات التي لا يحل لأحد أن يرجع فيها، فربما أن تكون أعمرت هذه المرأة ولدها لعلة لحقته، أو لآفة، أو لحاجة، أو غير ذلك، وهذا على أية حال في مذهب الحنابلة جائز، أن يخص الوالد ولده أو المرأة ابنها بشيء دون بقية إخوته إذا دعت الضرورة إلى ذلك، كأن يكون صغيراً وقد كبر إخوته، أو يكون مريضاً وإخوانه صحاح أو غير ذلك من العلل، حتى إن الإمام أحمد في فتوى له رجح ذلك، قال: إذا كبر الأولاد، وتزوجوا، وبنو دورهم من أموال آبائهم، وكان أحد الأبناء صغيراً قاصراً، فلابد أن نقدر له ما يساوي ما أعطي بقية إخوته، ثم يقسم الميراث بعد ذلك.
هذه فتوى رائعة جداً أفتى بها الإمام أحمد بن حنبل عليه رحمة الله.
قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم واللفظ لـ أبي بكر، قال إسحاق: أخبرنا، وقال أبو بكر: حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو -وإذا حدث سفيان بن عيينة عن عمرو؛ فهو عمرو بن دينار المكي لا غير- عن سليمان بن يسار: أن طارقاً قضى بالعمرى للوارث؛ لقول جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم] يعني: قضى بأن تنتقل العمرى إلى الورثة.(34/10)
شرح أحاديث: (العمرى جائزة، والعمرى ميراث لأهلها)
قال: [وحدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر البصري، حدثنا شعبة بن الحجاج العتكي البصري، قال: سمعت قتادة يحدث عن عطاء عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العمرى جائزة)].
(جائزة) أي: ماضية، أو حلال ومشروعة، والمعاني كلها متقاربة.
قال: [حدثنا يحيى بن حبيب الحارثي، حدثنا خالد -وهو ابن الحارث - حدثنا سعيد -هو سعيد بن أبي عروبة البصري - عن قتادة عن عطاء عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العمرى ميراث لأهلها)] العمرى عند الإطلاق وعدم التقييد بأنها له ولعقبه، فلا شك أنها ميراث لعقبه.
قال: [حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العمرى جائزة).
وحدثنيه يحيى بن حبيب حدثنا خالد بن الحارث حدثنا سعيد عن قتادة بهذا الإسناد، غير أنه قال: (العمرى ميراث لأهلها)، أو قال: (جائزة)].
يعني: إما أنه قال: العمرى جائزة أو قال: العمرى ميراث لأهلها.(34/11)
أحكام العمرى وأحوالها وصورها
قال العلماء في تعريف العمرى لغة: أعمرتك هذه الدار مثلاً، أو جعلتها لك عمرك، أو حياتك، أو ما عشت، أو ما حييت، أو ما بقيت، أو ما يفيد هذا المعنى، وعقب الرجل: هم أولاده وما تناسلوا عنه، يعني: أبناؤه وأبناء أبنائه، وإن نزلوا.
أحسن مذهب هو مذهب الشافعية فيما يتعلق بالعمرى؛ لأن العمرى تختلف: منهم من منعها مطلقاً، ومنهم من أجازها مطلقاً وأبطل الشرط، فالشافعية أتوا بتفصيل رائع.
قال النووي: (قال الشافعية: العمرى ثلاثة أحوال: أحدها: أن يقول: أعمرتك هذه الدار، فإذا متَّ فهي لورثتك أو لعقبك؛ فتصح بلا خلاف) يعني: هذه العمرى صحيحة بلا خلاف بين أهل العلم، ويملك المعمَر بهذا اللفظ رقبة الدار، والرقبة هي الملك، والدار ليس لها رقبة، لكن الرقبة هنا تعبر عن أصل الشيء، فقولك: أعمرتك هذه الدار لبنيك، أي: لورثتك، هذا عقد تمليك بغير عوض؛ لأن العمرى من عقود الهبات، والعلة في كون العمرى بهذه الصورة عقد تمليك، أنه أعطى عطاءً وقعت فيه المواريث، كما جاء في الحديث، (لأنه أعطى عطاءً وقعت فيه المواريث)، ففي هذه الصورة وهذه الحالة العمرى جائزة بلا خلاف.
ثم قال: (ويملك بهذا اللفظ المعمَر رقبة الدار، وهي هبة، لكنها بعبارة طويلة).
فإذا أردنا أن نضع حداً وتعريفاً لهذه العمرى لعرفناها بألفاظ طويلة، والأصل في التعريف أنها قليلة المبنى، فلو قلنا: عقد البيع هو عقد ينتقل به الشيء إلى المشتري في مقابل عوض، فينتج عن هذا التعريف أشياء كثيرة جداً عندما نأتي لنشرحه، ومعظم التعاريف والحدود التي وضعها العلماء بعقد العمر ما هي إلا شرح لصور العمرى، وليس تعريفاً واحداً لها.
قال: (فإذا مات فالدار لورثته، فإن لم يكن له وارث فلبيت المال، ولا تعود إلى الواهب بحال خلافاًَ لـ مالك).
يعني: مالك هو الوحيد الذي أفتى بأن تعود إلى الواهب، أما جمهور أهل العلم فقالوا: لا تعود إليه بحال؛ لأنها خرجت من ذمته على سبيل الهبة، لا على سبيل المنفعة، فإذا مات هذا الرجل المعمَر؛ فقد ترك مالاً هو يملكه، ولا حق لمالك هذه الدار الأول فيها مطلقاً، فكيف تنتقل إليه وقد خرجت من ذمته هبة؟ يعني: تصور لو أنك أعطيت بعض مالك لرجل، وبمجرد أن وقع المال في يده فوضعه في جيبه خر ميتاً، هل يحل لك أن تأخذ هذا المال مرة أخرى؟ هذا المال قد خرج منك على سبيل الهبة، فإذا أخذته فكأنما رجعت تأكل قيئك مرة أخرى، والنبي عليه الصلاة والسلام ضرب بذلك أسوأ المثل بالكلب، ولا ينبغي لأحد أن يتشبه به.
قال: (الحال الثاني: أن يقتصر على قوله: جعلتها لك عمرك، ولا يتعرض لما سواه، ففي صحة هذا العقد قولان للشافعي، أصحهما وهو الجديد: صحته، وله حكم الحال الأول).
يعني: مذهب الشافعي الجديد الذي صنفه في مصر وأفتى به في العراق: أن هذا العقد صحيح، وحكمه نفس أحكام الحال الأول، وساوى بين قول المعمِر: أعمرتك إياها، وبين قوله: أعمرتك إياها ولعقبك من بعدك، فلو قال وأطلق: أعمرتك الدار، فهو كما لو قال: أعمرتك إياها ولعقبك من بعدك.
قال: (والثاني وهو القديم: أنه باطل.
وقال بعض أصحابنا: إنما القول القديم أن الدار تكون للمعمَر حياته، فإذا مات عادت إلى الواهب أو ورثته؛ لأنه خصه بها حياته فقط.
وقال بعضهم: القديم أنها عارية يستردها الواهب متى شاء، فإذا مات عادت إلى ورثته)، ذكرنا أن الرأي الأول هو الراجح في مذهب الشافعية.
ثم قال: الثالث: أن يقول: جعلتها لك عمرك، فإذا متَّ عادت إلي أو إلى ورثتي إن كنت مت) يعني: ما دمت حياً فهي لك اعمرها واسكنها مثلما تريد، فإذا أنت متَّ ردت إليَّ، وإذا مت أنا فتردها لورثتي.
ثم قال: (ففي صحته خلاف عند أصحابنا، منهم من أبطله، والأصح عندهم صحته، ويكون له حكم الحال الأول، واعتمدوا على الأحاديث الصحيحة المطلقة: (العمرى جائزة) وعدلوا به عن قياس الشروط الفاسدة، والأصح الصحة في جميع الأحوال، وأن الموهوب له يملكها ملكاً تاماً، ويتصرف فيها بالبيع وغيره من التصرفات، وهذا مذهبنا، وقال أحمد: تصح العمرى المطلقة دون المؤقتة)، يعني: العمرى المشروطة بشرط غير صحيحة، إنما الصحيح منها المطلقة التي تنتقل إلى الورثة.
ثم قال النووي: (وقال مالك في أشهر الروايات عنه: العمرى في جميع الأحوال تمليك لمنافع الدار مثلاً، ولا يملك فيها رقبة الدار بحال، وقال أبو حنيفة بالصحة كنحو مذهبنا، وبه قال الثوري والحسن بن صالح وأبو عبيدة، حجة الشافعي وموافقيه هذه الأحاديث الصحيحة).
يعني: التي سبق ذكرها.
قال: (أما قوله عليه الصلاة والسلام: (أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها) إلى آخر الحديث، فالمراد به إعلامهم أن العمرى هبة صحيحة ماضية، يملكها الموهوب له ملكاً تاماً لا يعود إلى الواهب أبداً، فإذا علموا ذلك(34/12)
تعريف العمرى والعارية والرقبى والفرق بينها
العمرى لغة بضم العين وإسكان الميم: هي ما تجعله للرجل مدة عمرك أو عمره، وقال ثعلب وهو إمام من أئمة اللغة: العمرى: أن يدفع الرجل لأخيه داراً فيقول: هذه لك عمرك، أو عمري، أينا مات دفعت الدار إلى أهله، أي: إلى ورثته.
وعرفها الحنفية والحنابلة بأنها: جعل المال في شيء يملِّكه لشخص آخر عمر أحدهما.
وعرفها المالكية والشافعية بأنها: جعل المال في شيء يملكه لشخص آخر عمر هذا الشخص.
وهناك ألفاظ مرادفة للفظ العمرى، منها: الإعارة، فبعض أهل العلم سوى بين العارية وبين العمرى، فالإعارة تمليك منفعة مؤقتة بلا عوض، كأن أقول لك: أعرتك هذا الذهب لتلبسه امرأتك، أو أعرتك هذا المسجل لتسمع به ثم ترده إلي.
والإعارة: هي عقد يقع على المنفعة بغير عوض، والفرق بين العمرى وبين العارية أن العمرى مقيدة بالعمر، بخلاف العارية.
وأما العريّة بغير ألف بعد العين، فهي أن يهب لك ثمر نخلة، أو ثمر شجرة دون أصلها؛ لتنتفع بثمرها، ولا علاقة لك بها.
أما المنيحة فليست في الشجر، ولا في النخل، إنما المنيحة في الدواب كالبقر، والغنم، والإبل، منحتك هذه الناقة لتحلبها وتأخذ لبنها ثم تردها إلي، أو البقرة، أو الشاة، أو المعز، والمنيحة إنما سميت منيحة لمنحك الممنوحة لبنها، والمنيحة خاصة بلبن الشاة أو البقر أو الغنم أو غير ذلك، ثم ترجعها إلى صاحبها.
ومن الألفاظ المرادفة للعمرى الرقبى، والرقبى في اللغة: مأخوذة من المراقبة، يقال: أرقبت زيداً الدار إرقاباً، والرقبى هي نفس العمرى، ولذلك الإمام البخاري في كتاب الهبات قال: باب العمرى والرقبى، فسوى بينهما.
وقال ابن عباس: العمرى والرقبى سواء.
فهو يرى أن العمرى هي الرقبى، وسميت الرقبى بذلك لأن كل واحد من طرفيها يرقب موت صاحبه لتبقى له، يعني: أعمرك عمرى، ثم انتظر موتك؛ لأنه بعد الموت ترد إليه داره.
والرقبى في الاصطلاح عند جمهور الفقهاء: هي أن يقول الشخص: أرقبتك الدار مثلاً، أو هي لك رقبى مدة حياتك، على أنك إن مت قبلي عادت إلي، وإن متُّ قبلك فهي لك ولعقبك.
وقال المالكية: هي أن يقول الرجل للآخر: إن مت قبلي فدارك لي، وإن مت قبلك فداري لك.
ذهب الفقهاء في الجملة إلى جواز العمرى ومشروعيتها؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حياً وميتاً، ولعقبه).
ولقوله عليه الصلاة والسلام: (العمرى جائزة لأهلها).
والعمرى نوع من الهبة يفتقر إلى ما يفتقر إليه سائر الهبات من الإيجاب والقبول والقبض، أو ما يقوم مقام ذلك.
إذاً: العمرى لابد فيها من إيجاب وقبول، وكذلك قبض، فلو قلت لك: أعمرتك هذه الدار، ولكني لازلت ساكناً فيها فلا تصح هذه العمرى؛ لأن الشرط فيها الانتقال والقبض، أو ما يقوم مقامه.
وقد اختلف الفقهاء في كون العمرى تمليك للعين ذاتها أو للمنفعة، فقال الجمهور عدا المالكية -يعني: الأحناف والشافعية والحنابلة-: هي تمليك عين في الحال؛ لما روى جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها؛ فإن من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حياً وميتاً، ولعقبة)، وفي لفظ: (قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرى أنها لمن وهبت له)، لكن المالكية والليث بن سعد قالوا: إنه ليس للمعمر فيها إلا المنفعة، فإذا مات عادت إلى المعمِر؛ لما روى يحيى بن سعيد عن عبد الرحمن بن القاسم قال: سمعت مكحولاً يسأل القاسم بن محمد عن العمرى: ما يقول الناس فيها؟ فقال القاسم: ما أدركت الناس إلا على شروطهم في أموالهم وما أعطوا)، يعني: الناس إذا اشترطوا ملك المنفعة فلهم ذلك، وإذا اشترطوا أنها له ولعقبه فلهم ذلك.
وقال أبو إسحاق الحربي عن ابن العربي: لم يختلف العرب في العمرى والرقبى والمنحة ونحوها، أنها على ملك أربابها) -أي: على ملك أصحابها الأول- ومنافعها لمن جعلت له.
وهذا الكلام مخالف لما قلناه؛ لأن مقصود ابن العربي أن عقود الهبات كلها على ملك صاحبها الأول، لكن هذا خلاف التمليك؛ لأن التمليك لا يتأقت، كما لو باعه إلى مدة، فإذا كان لا يتأقت حمل قوله: على تمليك المنافع؛ لأنه يصلح توقيته.
كما لو قال المعمِر للمعمَر: أعطيتك أو أعمرتك هذه الدار مدة حياتك، فإذا أنت متَّ ردت إليَّ، قال العلماء: الأقرب أنه عقد منفعة، وعقود المنفعة لا تمليك فيها.
فإذا كان التمليك لا يتأقت حمل قوله عليه الصلاة والسلام على تمليك المنافع، أي: له حق المنفعة له ولعقبه من بعده، وهذا يرتبط ارتباطاً شديداً جداً مع قوله عليه الصلاة والسلام: (فإنه أعطى عطاءً وقعت فيه المواريث) وكافة أهل العلم على أن المواريث لا تقع على المنافع، إنما تقع على العين، فالذي يصح عندنا هو مذه(34/13)
كلام الحافظ في الفتح عن العمرى وأحكامها
ذكر الحافظ ابن حجر في كتاب الهبات في الباب الثاني والثلاثين من الفتح: باب ما قيل في العمرى والرقبى، قال: أعمرته الدار، فهي عمرى، أي: جعلتها له، كما في قوله تعالى: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود:61]، أي: جعلكم عماراً، ثم ذكر حديث جابر: (قضى النبي عليه الصلاة والسلام بالعمرى أنها لمن وهبت له)، وذكر حديث أبي هريرة: (العمرى جائزة)، وهو كذلك في حديث جابر.
ثم قال: والعمرى مأخوذة من العمر، والرقبى مأخوذة من المراقبة؛ لأنهم كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية، فيعطي الرجل الدار ويقول: أعمرتك إياها، أي: أبحتها لك مدة عمرك، فقيل لها: عمرى لذلك، وكذا قيل لها: رقبى؛ لأن كلاً منهما يرقب صاحبه متى يموت لترجع إليه، وكذا ورثته، فيقومون مقامه في ذلك، هذا أصلها، يعني: حتى الورثة يرقبون موت مورثهم، يعني: إما أنها سميت رقبى لأن كلاً من المعطي والآخذ ينتظر موت صاحبه، وكذلك الورثة ينتظرون ويرقبون موت مورثهم؛ حتى تنتقل إليهم هذه الدار.
وأما شرعاً: فالجمهور على أن العمرى إذا وقعت كانت ملكاً للآخر، ولم يخالف في ذلك غير مالك وقال: عقد منفعة، أما الجمهور على أن العمرى إذا وقعت كانت ملكاً للآخر، ولا ترجع إلى الأول إلا إن صرح باشتراط ذلك، لكنه إذا قال المعمر حين العقد للمعمَر: أعمرتك إياها مدة حياتك، فإذا متَّ ردت إليَّ، هذا شرط، والمؤمنون عند شروطهم، ما لم يحلوا حراماً أو يحرموا حلالاً.
ثم قال: (وذهب الجمهور إلى صحة العمرى، إلا ما حكاه أبو الطيب الطبري عن بعض الناس، والماوردي عن داود الظاهري وطائفة، لكن ابن حزم الذي هو شيخ الظاهرية صحح عقد العمرى، ثم اختلفوا إلى ما يتوجه التمليك، هل يتوجه إلى الرقبة أم إلى المنفعة؟ فالجمهور على أن العقد يتوجه إلى الرقبة، بخلاف المالكية فإنهم قالوا: يتوجه إلى المنفعة.
ثم ساق الأحاديث التي وردت في مشروعية العمرى، فقال بعد ذلك: فيحصل لنا من هذه الروايات ثلاثة أحوال: الأولى: أن يقول: هي لك ولعقبك، فهذا صريح في أنها للموهوب له ولعقبه؛ فلا إشكال في ذلك.
الحالة الثانية: أن يقول: هي لك ما عشتَ، فإذا متَ رجعت إليَّ؛ فهذه عارية مؤقتة، وهي صحيحة، فإذا مات رجعت إلى الذي أعطى، وقد بينت هذه والتي قبلها رواية الزهري.
يعني: التي كان يفتي بها الإمام الزهري، وكذلك جابر بن عبد الله، وبه قال أكثر العلماء ورجحه عامة الشافعية، والأصح عند أكثرهم أنها لا ترجع إلى الواهب، واحتجوا بأنه شرط فاسد، فكأنه كالشرط الملغي، لكن الأول هو الراجح.
الصورة الثالثة: أن يقول: أعمرتكها، ويسكت، لم يقل: ولعقبك، فرواية أبي الزبير تدل على أنها تأخذ حكم ما لو قال له: أعمرتك ولبنيك؛ لأنه إذا لم يشترط الرجوع إليه فكأن نيته انصرفت إلى التمليك المطلق.
إذاً: لدينا صورتان من صور العمرى كلاهما عقد تمليك، وصورة واحدة عقد ملك المنفعة.
الصورة الأولى: لو قال المعمِر للمعمَر: أعمرتك الدار ولعقبك من بعدك؛ انتقلت هذه الدار بالميراث إلى الورثة؛ لأنها دخلت في ملك المعمَر.
الصورة الثانية: لو أطلق ولم يخير ولم يشرط؛ فتأخذ نفس الحكم.
أما الصورة الثالثة: لو قيد ذلك بالعمر: أعمرتك إياها مدة عمرك، أو مدة عمري؛ فأينا مات ردت إلى أهله، فالشرط هنا ينبغي اعتباره، وأن الأصل في هذه الصورة أنها تمليك للمنفعة لا تمليك للعين، وهي صحيحة عند الجمهور، وأبطلها بعضهم.(34/14)
شروط صحة العمرى
شروط صحة العمرى ثلاثة: الشرط الأول: الإيجاب.
الشرط الثاني: القبول، وهذان الشرطان في أي عقد من العقود: إيجاب، وقبول، الإيجاب: أعمرتك هذه الدار، والقبول: قبلت هذه العمرى، إيجاب من المعمِر، وقبول من المعمَر.
الشرط الثالث: القبض أو ما يقوم مقامه، فإذا كان الشيء مما ينقل؛ كالسيارة، في هذه الحالة سوف يكون هناك قبض مال، وانتقال مال، أما الدار فبالسكنى يكون القبض.(34/15)
شرح صحيح مسلم - كتاب اللقطة - مقدمة الكتاب والتعريف باللقطة والضيافة والمواساة بفضول المال
من التقط مالاً أو شيئاً له قيمة فعليه أن يعرفه سنة، فإن وجد له صاحباً وإلا حفظ أوصاف لقطته وانتفع بها وبقيت عنده وديعة حتى يأتيه صاحبها، أما إن كانت اللقطة في الحرم فإنه لا يأخذها إلا من نوى أن يعرفها مدة حياته.(35/1)
شرح أحاديث سؤال النبي عن اللقطة
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فنحن في كتاب اللقطة.
قال المصنف رحمه الله: [حدثنا يحيى بن يحيى التميمي قال: قرأت على مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن] وربيعة الرأي لم يكن كأهل الأثر في اتباع الأثر، وإنما دائماً كان مذهبه يميل إلى الرأي في الغالب.
قال: [وعن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد الجهني أنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن اللقطة -أي: ما يلتقطه المرء ويأخذه- قال: اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة -يعني: أخبر بها الناس على مدار السنة- فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها)].
أي: وإلا فهي لك.
كأنه يسأله عن اللقطة وهي ما دون الحيوان، وهي ما يمكن أن يجده الإسان ويأخذه إما أن يكون ضالة وإما أن يكون لقطة، والفرق بين الاثنين أن الضالة: هي الحيوان من ذوات الأربع وما دون ذلك لقطة؛ لحديث: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن اللقطة ثم سأله بعد ذلك عن الضالة).
إذاً: هناك فرق بين اللقطة وبين الضالة، فإذا ضاع على الإنسان ذهب أو خشب أو جماد أو غير ذلك فيقال عنه لقطة.
كذلك لو أنك وجدت شاة تمشي أو تائهة أو ضالة فأخذتها فلا تقول: أنا أخذت لقطة وإنما تقول: أنا أخذت ضالة، وقوله عن اللقطة: (اعرف عفاصها) العفاص: هو الإناء أو الوعاء الذي يوضع به هذا الشيء.
(ووكاءها) وهو الحبل الذي تربط به.
(ثم عرفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا وشأنك بها) يعني: هي لك.
فسأله بعد ذلك عن ضالة الغنم.
قال: [(هي لك أو لأخيك أو للذئب)] يعني: إما أن تأخذها أو يأخذها غيرك أو يأكلها الذئب؛ لأن الغنم أو الماعز ضعيف يسطو عليه الذئب أو السبع فيأكله.
قال: [(فضالة الإبل قال: ما لك ولها -يعني: هذه لا تلتقط- معها سقاؤها وحذاؤها)].
سقاؤها: البعير عنده القدرة على أن يشرب من الماء الشيء الكثير فيخزن الماء في المعدة فإذا عطش استخدم هذا الماء الذي شربه.
وكذلك عنده القدرة على أن يأكل طعاماً فوق طاقته فيخزنه فإذا جاع أخرجه من المعدة إلى الفم فمضغه ثم ابتلعه مرة أخرى فيشبع بذلك.
وكذلك معها حذاؤها وهو الخف الذي تستطيع به السير، ومعها الطعام والشراب الذي تستطيع به الشبع فهي لا تحتاج إلى التقاط.
وبالتالي لا تكون ضالة.
قال: [(ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها)] أي: حتى يلقاها صاحبها.
وكره بعض الناس إطلاق كلمة الرب على الممتلكات، وهذا بلا شك كلام ترده الأدلة، والصحيح: أن هذه الأشياء تضاف إلى أصحابها من باب أنه ربها.
قال: [وحدثنا يحيى بن أيوب، وقتيبة، وابن حجر، قال: ابن حجر أخبرنا وقال الآخران: حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن يزيد مولى المنبعث، عن زيد بن خالد الجهني: (أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة، فقال: عرفها سنة -وهي مدة التعريف- ثم اعرف وكاءها وعفاصها ثم استنفق بها)].
يعني: أنفقها بعد مرور السنة بشرط ألا يظهر صاحبها.
[(فإن جاء ربها -أي: صاحبها- فأدها إليه)].
حتى بعد مرور السنة، وإن جاز للرجل أن يستنفق وأن ينتفع بهذه اللقطة إلا أنها لا تزال ديناً في ذمته إذا ظهر صاحبها ولو بعد مرور السنة.
[(فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: فضالة الغنم؟ قال: خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب.
قال: يا رسول الله: فضالة الإبل؟ قال: فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرت وجنتاه أو احمر وجهه، ثم قال: ما لك ولها؟)] يعني: أنه صلى الله عليه وسلم قضى وأفتى وهو غضبان، وفي كتاب الأقضية لا يجوز للقاضي أن يقضي وهو غضبان، وغضب النبي عليه الصلاة والسلام ليس كغضبنا إذا غضبنا فمنا من يتمالك نفسه ومنا من يهرف ويسرف فيما لا يعلم، أما النبي عليه الصلاة والسلام فإنه لا ينطق إلا بالحق في حال غضبه وفي حال رضاه صلى الله عليه وسلم.
ثم قال: [(معها حذاؤها وسقاؤها حتى يلقاها ربها)].
قال: [وحدثني أبو الطاهر أخبرنا عبد الله بن وهب أخبرني أبو سفيان الثوري، ومالك بن أنس، وعمرو بن الحارث وغيرهم أن ربيعة بن أبي عبد الرحمن حدثهم بهذا الإسناد مثل حديث مالك غير أنه زاد: (أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه فسأله عن اللقطة)].
كلمة (وأنا معه) قالها زيد بن خالد الجهني الذي هو راوي لهذا الحديث.
[(قال: فسأله عن اللقطة.
وقال عمرو - أي: عمرو بن الحارث - فإذا(35/2)
شرح حديث: (ضالة الإبل)
[وحدثني إسحاق بن منصور] وهو المعروف بـ الكوسج، والكوسج: لقب لمن كان شعره خفيفاً في ذقنه يعني: ليس له شعر في العارضين وإنما شعرات يسيرة شكلها مثل اللحية.
[قال: أخبرنا حبان بن هلال حدثنا حماد بن سلمة حدثني يحيى بن سعيد، وربيعة الرأي بن أبي عبد الرحمن]، ومما يذكر في ترجمة ربيعة أن أبا عبد الرحمن والد ربيعة خرج في غزوة وترك لامرأته وهي حامل ثلاثين ألف دينار من الذهب، فغاب ثمانية عشر عاماً وقيل: إحدى وعشرين عاماً، فلما رجع أبو عبد الرحمن إلى المدينة طرق الباب فخرج إليه ربيعة، فلما فتح الباب دخل أبو عبد الرحمن، فدفعه ربيعة على اعتبار أنه رجل غريب قد اقتحم البيت بغير إذن أو غير ذلك، فتشاجر ربيعة مع أبي عبد الرحمن، وأصر أبو عبد الرحمن على أن هذا بيته وله أن يدخل فحينئذ تغلظ ربيعة على أبيه وأخرجه خارج البيت، وفي نفس الوقت سمع الأذان فانطلق إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي العصر، فوجد بعد الصلاة حلقة عظيمة وشاباً يحاضر فيها فاستمع إليه فأعجب جداً بكلامه، فلما فرغ المحاضر من محاضرته أسرع أبو عبد الرحمن إلى بيته فدخل على امرأته وقال: إني سمعت رجلاً شاباً يتكلم في العلم بكلام ما أجمله وما أحلاه عند العمود الفلاني أو عند السارية الفلانية، ولكني أسألك أين المال الذي تركته لك الثلاثين ألف دينار؟ قالت: لقد أنفقتها على ولدك ربيعة الذي سمعته يتكلم بأجمل الكلام.
قال: أهذا ولدي؟ لقد قمت في ولدي من بعدي بأحسن قيام.
هذه القصة في الحقيقة ليس لها أقدام تثبت عليها بل هي عرجاء أو أصابها الكساح، ولها في نقدها وجوه عديدة، لكن الذي أريد أن أبلغكم إياه أن هذه القصة لا تثبت وهي غير صحيحة.
قال: [حدثني يحيى بن سعيد، وربيعة الرأي بن أبي عبد الرحمن، عن يزيد مولى المنبعث، عن زيد بن خالد الجهني: (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ضالة الإبل؟ -زاد ربيعة - فغضب حتى احمرت وجنتاه واقتص الحديث بنحو حديثهم وزاد: فإن جاء صاحبها فعرف عفاصها وعددها ووكاءها فأعطها إياه وإلا فهي لك)] والنبي عليه الصلاة والسلام كان يخاطب بهذا الكلام الصحابة، فكل واحد منهم مطالب بهذا.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة، فإن لم تعرف فخذها)، أنا عندي تعريفان: التعريف الأول: تعريف مجمل.
والتعريف الثاني: تعريف مفصل.
قال: [وحدثني إسحاق بن منصور أخبرنا أبو بكر الحنفي، حدثنا الضحاك بن عثمان بهذا الإسناد وقال في الحديث: (فإن اعترفت) يعني: فإن اعترف بها صاحبها.
أي: أتى بالتعريف كاملاً على وجهه.
[(فأدها)] والتقدير أدها إليه أي: ادفعها إليه؛ لأنها أمانة، (وإلا فاعرف عفاصها ووكاءها وعددها)، يقول: (فإن اعترفت فأتي بها) يعني: فإن تعرف عليها صاحبها فادفعها إليه.
والتقدير: وإن لم تعترف ولم يظهر صاحبها ويتعرف عليها فاعرف أنت للمرة الثانية هذا التعريف الثاني: (فاعرف عفاصها ووكاءها وعددها) وهذا هو التعريف الدقيق المفصل الذي يلزمني أنا إذا أعطيتها، فتستقر في ذمتي الأوصاف الدقيقة المفصلة لهذه اللقطة.(35/3)
شرح حديث في كيفية تعريف السوط لمن وجده
قال: [حدثنا محمد بن بشار -المعروف بـ بندر - حدثنا محمد بن جعفر] المعروف بـ غندر ربيب شعبة يعني: شعبة تزوج أمه بعد وفاة أبيه، [وحدثني أبو بكر بن نافع قال: حدثنا غندر حدثنا شعبة، عن سلمة بن كهيل قال: سمعت سويد بن غفلة قال: (خرجت أنا وزيد بن صوحان، وسلمان بن ربيعة غازين)] أي: خرجنا مجاهدين في غزوة.
[(فوجدت سوطاً فأخذته فقالا لي: دعه)] أي: سويد بن غفلة، وزيد بن صوحان قالا لـ سويد بن غفلة اترك السوط لا تأخذه، [(فقلت: لا)] أي: سآخذه، [(ولكني أعرفه)] أي: أنا سآخذه وأقول: الذي ضايع له سوط، [(قالا: فإن جاء صاحبه وإلا استمتعت به.
قال: فأبيت عليهما)] أي: قال سويد بن غفلة لـ زيد بن صوحان وسلمان أنا سآخذه وانتفع به، [(قال: فلما رجعنا من غداتنا قضي لي أني حججت)] يعني: يسر الله لي الحج، فأتيت المدينة فلقيت أبي بن كعب فأخبرته بشأن السوط وبقولهما لي: لا تأخذه ولا تلتقطه.
وقولي لها: أنا سألتقطه وأعرفه سنة.
فقال: أي: أبي: (إني وجدت صرة فيها مائة دينار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) والدينار أربعة جرام وربع جرام ذهب صافي عيار أربعة وعشرين، وكلمة (الصافي) يعني الخالص النقي الذي هو أربعة وعشرين ليس فيه رصاص ولا نحاس ولا شيء من هذا.
[قال: (إني وجدت صرة فيها مائة دينار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: عرفها حولاً.
قال: فعرفتها فلم أجد من يعرفها، ثم أتيته فقال: عرفها حولاً)] أي: حولاً ثانياً [(فعرفتها فلم أجد من يعرفها، ثم أتيته فقال: عرفها حولاً)] أي: حولاً ثالثاً.
[(فعرفتها فلم أجد من يعرفها، فقال: احفظ عددها ووعاءها)] الذي هو العفاص، [(ووكاءها فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها)] ثم قال: [(فاستمتعت بها)].
وهذا يدل على أن صاحبها لم يظهر.
قال: [(فلقيته بعد ذلك بمكة.
فقال: لا أدري بثلاثة أحوال أو حول واحد)] والشك من الراوي، فالرواية التي تحدد التعريف بثلاثة أحوال فيها شك، وبقية الروايات مجمعة على أن التعريف حول واحد.
وعلى فرض صحة الرواية يصير التعريف فوق السنة ليس واجباً وإنما هو مستحب، والأولى اعتبار الزيادة شاذة بسبب شك الراوي؛ لموافقة الراوي في السنة الأولى بقية الرواة الذين لم يزيدوا على سنة واحدة.
قال: [وعن سلمة بن كهيل أو أخبر القوم وأنا فيهم قال: سمعت سويد بن غفلة قال: خرجت مع زيد بن صوخان وسلمان بن ربيعة فوجدت سوطاً واقتص الحديث بمثله إلى قوله: (فاستمتعت بها)] أي: بالسوط.
قال شعبة: فسمعته بعد عشر سنين يقول: عرفها عاماً واحداً.
وهذه الرواية أوثق من رواية بقية الرواة.
وفي رواية حماد بن سلمة قال: (فإذا جاء أحد يخبرك بعددها ووعائها ووكائها فأعطها إياه).
الذي يأتي ليتعرف على الشيء الذي ضاع منه المطلوب منه أن يأتي بالتعريف المفصل.
وزاد سفيان في رواية وكيع: (وإلا فهي كسبيل مالك).
يعني: كسائر مالك.
يعني: لو لم يظهر صاحبها وعرفها تعريفاً دقيقاً مفصلاً ومر العام فهو حر ينفقها أو لا ينفقها فهي ماله.
وفي رواية ابن نمير: وإلا فاستنفع بها.(35/4)
باب في لقطة الحاج
الباب الأول: في لقطة الحاج.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثني أبو الطاهر، ويونس بن عبد الأعلى قالا: أخبرنا عبد الله بن وهب المصري، أخبرني عمرو بن الحارث المصري، أخبرنا بكير بن عبد الله بن الأشج المصري، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن عبد الرحمن بن عثمان التيمي: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لقطة الحاج) فمكة لا تلتقط لقطتها، وهذه من الأحكام الخاصة بمكة، فإذا رأيت لقطة في الأرض فأنت مخير بين أمرين: إما أن يغلب على ظنك أن الدنيا أمان وأن هذه اللقطة ستبقى في مكانها حتى يرجع إليها صاحبها فيأخذها فاتركها، وإما أن البلد ليست كذلك وأنه قد يأخذها رجل خائن ليس أميناً فيضمها إلى ماله ولا يعرفها، فحينئذ إذا أخذت هذه اللقطة وأشهدت أحد الثقات العدول على أنك التقطتها من المكان الفلاني وعرفتها أمامه ونظر إليها وشهد بذلك أو أنك أخبرته بها تفصيلاً ثم إنك ما أخذتها بعد ذلك إلا لتنشدها ولتعرفها؛ فإنه لا تحل لقطة مكة إلا لمنشد.
أي: إلا بنية التعريف أما غير ذلك فلا.
وقوله: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لقطة الحاج).
الحج رمز وإنما المقصود مكة كلها، في موسم الحج وفي غير موسم الحج.
قال: [وعن أبي سالم الجيشاني] وهو سفيان بن هانئ المصري وهو تابعي مخضرم، والتابعي هو الذي رأى أحد الصحابة أو لقيه.
والتابعي المخضرم: هو الذي أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، فهو لم يلق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لو لقيه لكان من الصحابة.
ولو قلنا أن الصحابي هو من رأى النبي عليه الصلاة والسلام سنخرج من الصحابة ابن أم مكتوم مثلاً وبعض الصحابة الذين أصيبوا بالعمى قبل رؤيتهم النبي عليه الصلاة والسلام، فالصحابي: هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك.
فقولنا: (مؤمناً به هذا) احتراز وشرط، فلو كان رجلاً رآه مراراً ولم يسلم إلا بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام لا يكون صحابياً؛ لأنه لم تثبت له الرؤية حال الإيمان.
أما الرجل الذي لقي النبي عليه الصلاة والسلام ولو لحظة واحدة ثم مات النبي عليه الصلاة والسلام أو مات هذا الرجل فتجوز له الصحبة بشرف النبي عليه الصلاة والسلام، ولفظ (صاحب) في اللغة لا يثبت للرجل إلا مع طول المدة وطول الصحبة وغير ذلك، لكنه في اللغة شيء وفي الاصطلاح شيء آخر في حق النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [عن أبي سالم الجيشاني، عن زيد بن خالد الجهني، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من آوى ضالة فهو ضال ما لم يعرفها)] الضالة هي الحيوان الذي يقدر على أن يحمي نفسه كالجاموس والبقر والحصان والحمار بحيث لا يستطيع السبع الصغير أن ينهشه حتى يقتله، فهناك فارق بين السباع الصغيرة التي لا تؤثر في الضوال الكبيرة وبين السباع الكبيرة التي تؤثر في الضوال الكبيرة والصغيرة على السواء.
فقوله هنا: (من أوى ضالة فهو ضال ما لم يعرفها)، فالضوال لا تلتقط إلا إذا غلب على الظن هلاكها، فالإبل لا تلتقط؛ لأن حذاءها ووكاءها وسقاءها وطعامها وشرابها معها وتستطيع أن تحمي نفسها، والأصل فيها الانطلاق والانبعاث حتى يجدها ربها أو هي ترجع إلى أرضها، لكن إذا غلب على الظن أن هذا البعير الذي يمشي في الصحراء قادم على بيت للأسود أو السباع، وأنه إذا قدم عليها هلك ولابد ففي هذه الحالة يجب التقاطها وإيواؤها وذلك للضرورة رغم أنها لا تلتقط، فلا تؤخذ إلا بنية تعريفها، فلو أخذتها وقصدت التعريف فحينئذ لا حرج علي، وهذا معنى قوله: (من آوى ضالة فهو ضال ما لم يعرفها) ولو رأيت بعيراً يتوجه إلى ناحية فيها لصوص فبلا شك أن أخذي لهذا البعير بغرض تعريفه حتى يظهر صاحبه خير من أن يذهب إلى هؤلاء اللصوص فيأخذونه ويذبحونه ويأكلونه.(35/5)
باب تحريم حلب الماشية بغير إذن مالكها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: تحريم حلب الماشية بغير إذن مالكها]، أي: لابد أن يأذن مالكها أو يغلب على الظن أنه يفرح بذلك لما بيني وبينه من ود.
وهذه المسألة مسألة عرفية، وهي في الوقت نفسه نسبية، بشرط عدم اختراق الحواجز والحرمات، فالناس يختلفون، فإنسان له أناس مقربين يحب أن يعطيهم إبله، وهناك أناس لا يحب أن يعطيهم أي شيء، فلو أني غلب على ظني أنك تحب أن تراني أحلب شاتك فأنا أفعل ذلك لأجل إدخال السرور عليك وإلا فالأصل المنع؛ لأن هذا مال الغير ولا يحل أخذه إلا بإذن صاحبه، قال النبي عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر: (لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه، أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فينتفل طعامه؟!).
والنبي عليه الصلاة والسلام يضرب مثلاً، وفي هذا جواز ضرب الأمثال.
والمشربة: غرفة المتاع وتسمى غرفة الخزين أو المعاش، وضرع الماشية عبارة عن المشربة التي يخزن فيها ويعبأ فيها الطعام، فكما أنك لا تحب أن تكسر هذه المشربة ويؤخذ منها الطعام، فكذلك لا يحل لأحد أن يهجم على ضرع ما شيتك فيأخذ منها اللبن ويشربه.
وفي هذا فائدة أخرى: أن اللبن يطلق عليه طعام وإن كان الأصل فيه أنه شراب، فلو حلف إنسان ألا يطعم هذا اليوم فلا يحل له أن يشرب اللبن، فلو شربه لزمته الكفارة، ويقع منه الطلاق إن علق طلاقه على الطعام وشرب اللبن.
قال صلى الله عليه وسلم: (إنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم) ولم يقل: أشربتهم عليه الصلاة والسلام، (فلا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه)، والإمام مسلم عليه رحمة الله أورد عدة أبواب في كتاب اللقطة لم يتبين لي أو ما وجدت كلاماً لأهل العلم من الشراح في ذكر مناسبة هذه الأبواب في باب اللقطة؛ ولا أدري ما العلاقة بين هذه الأبواب وبين كتاب اللقطة.(35/6)
باب الضيافة ونحوها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [الباب الثالث: باب الضيافة ونحوها: قال أبو شريح العدوي: (سمعت أذناي وأبصرت عيناي حين تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم)] يريد يقول: أنه متأكد، [(فقال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته.
قالوا: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: يومه وليلته)] يعني: الضيف له إكرام مدته ثلاثة أيام بلياليها، لكن يوم الجائزة هو يوم النزول.
وكان العلماء يفرقون بين البادية والمدينة، فالمدينة فيها الفنادق والمطاعم، أما البادية فليس فيها مثلما في المدينة.
واليوم الأول يسمى يوم الجائزة -أي: يوم التحفة- يعني: يكرمك فيه المضيف أكثر من إكرامه لك في بقية الأيام، ففي أول يوم يذبح لك ويحمر ويشمر لك، وبعد ذلك يعطيك مما هو موجود، لا بأس بذلك، ولو تكلف لك في كل يوم فلابد أن يقع هو في الإثم وتقع أنت في الحرج؛ لأنه ربما لا يكون قادراً على ذلك في كل يوم.
وأذكر في ترجمة الإمام أحمد بن حنبل أنه نزل هو ومن معه على أحد تلاميذه فقدم لهم مائدة يتكلم عنها العرب.
يعني: تكلف لهم جداً، فقال بعض أصحاب أحمد وأظن أنه إسحاق بن منصور الكوسج قال: يا فلان لقد تكلفت.
فقال الإمام أحمد بن حنبل: دعه يفعل ما يشاء فلو جاء بالدنيا بحذافيرها بين يدي إخوانه ما وفاهم حق الأخوة.
وهذا في يوم الجائزة.
لكن لا يتصور أن تكون هذه الجائزة وهذه التحفة في كل يوم، بل هذا أمر يؤدي إلى الحرج والضيق في نفس المضيف.
والضيافة ثلاثة أيام فما كان وراء ذلك فهو صدقة من المضيف على الضيف، ولذلك عبد الله بن عمر كان إذا سافر أخذ معه مولاه نافعاً، وكان إذا فرغ من الثلاثة الأيام قال: يا نافع ائتنا بطعامنا وشرابنا فنحن لا نقبل الصدقة من أحد.
يعني: الحد الفاصل ثلاثة أيام ثم بعد ذلك ينفق من كيسه وطعامه على نفسه وعلى مولاه نافع الفقيه.
وقال: [(من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)].
وقال أبو شريح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الضيافة ثلاثة أيام وجائزته يوم وليلة، ولا يحل لرجل مسلم أن يقيم عند أخيه حتى يؤَثمه أو يؤُثمه) يعني: لا يحل لك أن تبقى عندي وتمكث أكثر من ثلاثة أيام حتى لا توقعني في الإثم، فلا يحل لك أن تحملني على الوقوع في الإثم فأقوم بطردك مثلاً.
قال: [(قالوا: يا رسول الله وكيف يؤثمه؟ قال: يقيم عنده ولا شيء له يقريه به)] يعني: ما عندي شيء أضيفك به، والغرض الشرعي هو عدم إيقاع المضيف في الإثم والحرج، ونعمة الإحساس نعمة عظيمة جداً، أن الإنسان يشعر بأخيه من غير أن يشكو له.
مثلاً: أنت ذهبت ضيفاً فإذا بهذا المضيف شديد الفقر وليس عنده شيء ينفقه على أولاده وعلى من تجب عليه العناية بهم، ثم أنت تذهب تكلفه فوق ذلك إثماً، وتريد أن تأخذ حقك الثلاثة الأيام فليس من حقك ذلك، فشرط الضيافة أن يقريك بما عنده، أما إذا كان عنده حاجة فإنه لا يأثم، فمن حقوق الأخوة الإيمانية: أن تنخلع من جلدك لا من ثيابك، وهذا هو الإحساس، أما الإنسان الذي لا يشعر بإخوانه فهذا إنسان فقد شيئاً كثيراً من دينه.
قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يحل لرجل مسلم أن يقيم عند أخيه حتى يؤثمه.
قالوا: يا رسول الله: وكيف يؤثمه؟ قال: يقيم عنده ولا شيء له يقريه به) أي: لا يستطيع أن يقوم بحق الضيافة.
قال: [وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: (قلنا: يا رسول الله إنك تبعثنا فننزل بقوم فلا يقروننا)] أي: لا يضيفونا، [(فما ترى؟ فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا)] أي: يؤدون الذي عليهم وأنتم تأخذون ما لكم، [(فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم)] ولم يقل: الذي ينبغي لكم، وإنما قال: (الذي ينبغي لهم) أي: بما يتناسب مع حالهم، إنسان لا يستطيع إلا أن يقدم كسر الخبز، والثاني يستطيع أن يقدم بقرة أو شاة أو بعير، فإذا كان هذا الحق لكم أن تأخذوا بعيراً فخذوه منه ولو كان ذلك على سبيل العنوة؛ لأن هذا حق لابد أن يذهب إلى أصحابه.(35/7)
باب استحباب المواساة بفضول المال
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب استحباب المؤاساة بفضول المال] يعني: ما فضل عن حاجتك وحاجة من تعول؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول).
يعني: إذا كان معي ما يزيد عن حاجتي وحاجة امرأتي ووالدي وأبنائي ومن أعولهم -وعيالتهم تلزمني- فما زاد عن هذا فلا بأس أن يتصدق به المرء.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان عنده فضل زاد).
ولم يقل: من كان عنده زاد، وإنما قال: (من كان عنده فضل زاد فليعد به على من لا زاد له، ومن كان عنده فضل ظهر) يعني: مكان على الدابة واسع، (فليعد به على من لا ظهر له).
فإذا كان الظهر الذي عندي يكفيني، والطعام الذي عندي في الطعام يكفيني، أو المال الذي عندي يكفيني على قدر ما أريد فلست مطالباً بالصدقة حينئذ، قال عليه الصلاة والسلام كما في حديث أبي سعيد الخدري: (بينما نحن في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على راحلة له، قال: فجعل يصرف بصره يميناً وشمالاً) الرجل نفسه يلمح ما يصرح، (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له).
وذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل.
يعني: حتى ظن الصحابة أن فضول الأموال وفضول الظهور التي معهم ليست حقهم، وكأنها حقوق عامة مشاعة لجميع المسلمين.(35/8)
باب استحباب خلط الأزواد إذا قلت والمواساة فيها
قال المصنف رحمه الله تعالى: (باب: استحباب خلط الأزواد) أي: القوت والطعام والمتاع (والمؤاساة فيها)، وهذا ليس من باب الربا، بعض الناس يتصور أننا لما نكون مضطرين لجمع ما معنا أن هذا من باب الربا، والإمام النووي ينفي هذا ويقول: لا علاقة لهذا بالربا قطعاً.
وكلمة الاستحباب تنفي الوجوب، أما نفي الوجوب فلا ينفي الاستحباب، فيستحب خلط الأزواد، والنبي عليه الصلاة والسلام كان إذا اضطر إلى ذلك فرش النطع من الجلد ودعا الناس أن يأتوا بما عندهم، فمنهم من يأتي بكسر الخبز، ومنهم من يأتي بشراب ومتاع ولبن وغير ذلك حتى تجتمع الأزواد فيدعو على هذا الطعام فيزداد نماء وبركة، وهذا من معجزاته عليه الصلاة والسلام وخرقه للعادات؛ حتى يأكل الجميع ويحملوا منه في مزاداتهم.
قال: [حدثني أحمد بن يوسف الأزدي حدثنا النضر -يعني ابن محمد اليمامي - حدثنا عكرمة -وهو ابن عمار - حدثنا إياس بن سلمة عن أبيه - سلمة بن الأكوع - قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فأصابنا جهد)] أي: مشقة، [(حتى هممنا أن ننحر بعض ظهرنا)] يعني: حتى هممنا أن ننحر بعض الإبل، وأنتم تعلمون أن نحر الإبل في الغزو خسارة، قال: [(فأمر نبي الله صلى الله عليه وسلم فجمعنا مزاودنا فبسطنا له نطعاً فاجتمع زاد القوم على النطع، قال: فتطاولت لأحرزه كم هو؟)] يعني: أقدر هذا الزاد.
قال: [(قال: فحزرته كربضة العنز)]، يعني: كمبرك الشاة.
قال: [(ونحن أربعة عشرة مائة، قال: فأكلنا حتى شبعنا جميعاً ثم حشونا جربنا)] جمع جراب بكسر الجيم، وكلمة حشونا تدل على أن كل واحد كان يحشو فزاده بعد أن شبع، [فقال صلى الله عليه وسلم: (فهل من وضوء؟)] أي: هل أحد عنده ماء لكي نتوضأ؟ قال: [(فجاء رجل بإداوة له فيها نطفة)] أي: قليل من الماء (فأفرغها في قدح)] أي: في قدح واسع، [(فتوضأنا كلنا ندغفقه دغفقة)] يعني: نصبه صباً شديداً مع أن الأصل فيه أنه شيء قليل جداً؛ لكن النبي صلى الله عليه وسلم دعا فيه بالبركة فنما وكان يخرج من بين أصابعه عليه الصلاة والسلام.
قال: [(ثم جاء بعد ذلك ثمانية فقالوا: هل من طهور؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فرغ الوضوء)] يعني: انتهى الماء، وهذا فيه إعجاز للنبي عليه الصلاة والسلام.
وهذه الأبواب لا علاقة لها بباب اللقطة وأحكامها، لكن يبقى أن نتعرف على اللقطة من جهة الأحكام الفقهية، والكتاب الذي يأتينا بعد ذلك هو كتاب الجهاد والسير، فأنا رأيي أن نتكلم على اللقطة من جهة الأحكام؛ ونؤجل درس العقيدة إلى الأسبوع القادم حتى نفرغ من أحكام اللقطة بإذن الله غداً بعد صلاة المغرب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد.(35/9)
شرح صحيح مسلم - كتاب اللقطة - مسائل وأحكام اللقطة
اللقطة مال محترم غير محرز لا يعرف صاحبه، وقد فصل الشارع في أحكامها، وبين ما يلزم ملتقطها من حفظ لها ولأوصافها، ومدة تعريفها، وحكم ما يترتب على ذلك من مؤنة ونماء وضمان، وغير ذلك من الأحكام.(36/1)
تعريف اللقطة لغة واصطلاحاً
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: فمع بعض الأحكام الفقهية المتعلقة باللقطة: أولاً: تعريف اللقطة: هو من اللقط الذي هو الأخذ، كما قال الله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ} [القصص:8]؛ أي: فأخذوه.
فاللقط بمعنى: الأخذ والتناول.
وهذا في اللغة.
وقلنا من قبل: إذا أردنا أن نعرف شيئاً أو مصطلحاً فله تعريف في اللغة وتعريف في الاصطلاح.
أي: اصطلاح أهل التخصص.
فاللقطة عند اللغويين بمعنى: الالتقاط والأخذ.
أما شرعاً: فهي مال محترم غير محرز لا يعرف الواجد مستحقه.
فقولهم: (مال محترم): احتراز من المال الغير محترم.
والمال المحترم هو مال معصوم، والأصل في المال أنه معصوم، ولا يخرج عن هذه العصمة إلا بسبب شرعي، حتى وإن كان مال كافر فإنه معصوم، والأموال كالفروج، وما دام فرج الكافر معصوماً فينبغي أن يكون ماله كذلك معصوماً، ومن استحل المال لزمه أن يستحل الفرج؛ لأنه لا فارق في الشرع بين الأموال والأعراض.
وقولهم: (غير محرز): أي: ملقى على الأرض.
ولو أني أخذت مالاً محرزاً فالتكييف أو الوصف الشرعي أن فعلي هذا يصير سرقة، لأنه يشترط في السرقة: أن يكون مالاً محرزاً، أما في اللقطة فيشترط ألا يكون محرزاً.
وقولهم: (لا يعرف الواجد مستحقه).
يعني: لا يعرف من التقطه، وإلا لو كان الواجد والملتقط يعرف صاحبه فيجب عليه أن يدفعه إليه، لكنه وجد المال ولا يعرف مستحقه.
وهذا قيد يخرج به أحد أمرين: الأول: إما أنه يعرف صاحبه فيجب عليه الدفع إليه.
الثاني: أو أنه مال عام.
أي: من الأموال المباحة لكل أحد، كما قال عليه الصلاة والسلام: (من أحيا أرضاً ميتاً فهي له)، فلو أن رجلاً أحيا قطعة أرض فوجد في باطن الأرض معادن من الذهب والحديد والورق وغير ذلك من كنوز الأرض، فهذا مال مباح لمن وجده بشرط أن يؤدي زكاته، وهي زكاة الركاز، وهو حر في بقية المال، لا يحل لأحد قط لا حكومة ولا غير حكومة أن يأخذوا هذا المال منه؛ لأنه مال مملوك له على سبيل أنه مال عام في أرض عامة، فليس في الإسلام شيء اسمه الأرض هذه ملك الحكومة إلا أن تكون أرضاً عامة لمنافع الناس مثل الطريق فلا يملكه أحد ولا حتى الحكومة تملكه، فهو ملك عام لكل من مر فيه كل إنسان مسلم وكافر، فالشارع ملك للجميع؛ لأنه جعل في انتفاع الناس عامة، فلا يجوز السطو على الشارع والبناء فيه أو غير ذلك من باب أنه غير مملوك، فهذا مال عام له ملاك وهم جنس المنتفعين به أينما كانوا، أما المال العام فينتفع به من أصلحه ومن أخذه ومن التقطه.
الأمر الثاني: ألا يعرف الواجد مستحقه.
يعني: لا يعرف لمن هذا المال، أما إذا كان مالاً لا يملكه أحد كهذه الأموال العامة أو الصحراء المترامية الأطراف فالشرع يجيزها لمن أصلح جزءاً منها أو أحاط على جزء منها وبدأ العمل فيها، ولا يحل لأحد من الأشخاص العامة أو الخاصة أو الشخص المعنوي الذي هو الحكومة أو جهة إدارية، أو غير إدارية، لا يحل لها أبداً أن تعطل هذه المسيرة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قد أجاز وشرع له: أنه إذا استصلح شيئاً من هذه الأرض أن يتملكها.(36/2)
أركان اللقطة
من التعريف دائماً نأخذ الأركان، إذا اتفقنا على تعريف معين -تعريفاً اصطلاحياً- فلابد أن يشتمل هذا التعريف على أركان المعرف، فبعد أن عرفنا اللقطة في الاصطلاح: (وأنها مال محترمة غير محرز لا يعرف الواجد مستحقه) لابد أن أقول: إن أركان اللقطة ثلاثة: الركن الأول: اللقط.
وهو الفعل.
الركن الثاني: الملتقط.
وهو الواجد.
الركن الثالث: الملقوط أو الملتقط -اسم فاعل- أي: الذي تناوله الملتقط أو الواجد.
وهناك فرق بين الركن والشرط، فالركن: ما كان داخلاً في ماهية الشيء وأساسه، ويتكون الشيء منه ومن غيره، أما الشرط فهو الخارج عن ماهية الشيء، ويلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده الوجود.
إذاً: اللقط.
معناه: وضع يد الواجد على الملتقط أو الملقوط.
وفيه معنى الأمانة والولاية، والملتقط أمين على ما التقط، ومطالب تجاه هذا الملقوط بأحكام وآداب، كما أن الملتقط فيه معنى الاكتساب والملك بشروطه.(36/3)
حكم اللقطة
حكم اللقط: فيه خلاف بين العلماء، فمذهب الحنفية والشافعية: استحباب اللقط وليس الوجوب.
والمالكية والحنابلة على كراهة اللقط.
وقد تجري على اللقط الأحكام الشرعية الخمسة، كما أن النكاح تجري عليه الأحكام الشرعية الخمسة، فقد يكون واجباً في حق فلان، وقد يكون محرماً في حق فلان، إذا كان الرجل يملك الباءة وتتوق نفسه إلى نكاح النساء ويخشى على نفسه العنت أو الوقوع في المعصية فحينئذ يجب عليه النكاح، ولو كان الرجل مجبوباً أو عنيناً أو لا ذكر له وإن كان يملك المال فيحرم عليه النكاح؛ لأنه يضر بالمرأة في أعز حق لها عند الرجل، يضر بها وهو غاش ومدلس في هذا النكاح فيحرم عليه ذلك.
إذاً: قد يكون النكاح مكروهاً أو مستحباً أو مباحاً.
وكذلك اللقطة قد تكون واجبة إذا خفت على المال الضائع التلف، فيتعين اللقط لحفظها.
مثلاً: رجل يمشي في صحراء بسيارة، وأنت تسير خلفه بسيارة وهذا الطريق في الغالب لا يمشي فيه أحد، ونادراً ما يمشي فيها كل عدة أيام فوج أو قافلة أو سيارة أو غير ذلك، فإذا وجدت في هذا الطريق طعاماً قابلاً للعطب بعد عدة أيام وغلب على ظنك عطبه -وأنتم تعلمون أن معظم الأحكام الشرعية إنما تجري على غلبة الظن، الأحكام الشرعية معظمها مبني على غلبة الظن- وأنه لا يمكن حفظه، وإذا تركته فسد؛ فحينئذ يتعين عليك أخذه، وتأثم بتركه، وإذا كنت آثماً في تركه وجب عليك الالتقاط، فحينئذ إذا تعين اللقط طريقاً لحفظ المال كان الالتقاط واجباً.
وأحياناً يكون مندوباً وهو عند عدم خوف التلف عليها، أو يغلب على ظني أن الدار والبلد أمان وربما يُهيأ لهذا الطعام من هو آمن عليه مني.
ويكون اللقط محرماً وهو عندما يأخذ الملتقط المال الضائع لا لحفظه ورده إلى صاحبه بل لتملكه، حينما وقعت عيني على المال المرمي على الأرض ورد في ذهني فوراً أن آخذ هذا المال لا لأعرفه ولكن لأتملكه ولو سألني أحد عنه سأنكر وأقول: أنا ما رأيت شيئاً ولا التقطت شيئاً.
فهذا سطو على أموال الناس بغير حق، وأخذ ونهب لأموال الناس بالباطل.
وهذه المسائل يستطيع كل إنسان أن يضبطها بنفسه، فكل إنسان يعلم من نفسه ذلك، فإذا رأيت مالاً فهذا الشيء بيني وبين الله عز وجل، أنا آخذ المال لكي أعرفه، وأيضاً لو أن المال هذا لم يعرف على مدار سنة أو سنتين ولم يظهر صاحبه أضعه في مكان عام آمن للتعريف! فإذا أخذ هذه اللقطة وهو ينوي تملكها ففي هذه الحالة يحرم عليه التقاطها؛ لأنه يعلم من نفسه ضعفاً وأحياناً يكون اللقط مكروهاً وذلك في حق من يشك في أمانة نفسه، كأن تكون نفسه ضعيفة تتنازعه قوى الخير والشر، هو رجل صالح وتقي لكن نفسه تغلبه، وكل ما أمره قرين الخير من الملائكة بالمعروف غلبه قرين السوء من الأبالسة والشياطين بأن يحول هذا المال إلى نفسه، فهو متحير متردد بين الأمرين يأخذه أم يعرفه؟ كلما استقر على أمر غلبه الآخر، فهذا إنسان عنده شك في نفسه وفي قدرته وأمانته؛ فيكره له الالتقاط، فالمال الملتقط يكره أخذه إذا كنت على يقين أنك ستأخذه ولا تعرفه أو أنك تشك في أمانتك.
فكل إنسان يعلم من نفسه ومن حاله حكم اللقطة في حقه هو: هل هي واجبة أم محرمة أم مندوبة أم مكروهة أم مباحة؟! والمباح إذا استوى الفعل والترك، قال الحافظ ابن حجر: ومن ثم كان الأرجح في مذاهب العلماء أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، فمتى رجح أخذها وجب أو استحب، ومتى رجح تركها حرم أو كره، وإلا فهو جائز.
يعني: مباح.(36/4)
حكم الإشهاد على اللقطة
يجب الإشهاد على الالتقاط، بأن يُشهد الملتقط عليه رجلاً عدلاً واحداً فأكثر، وأقل الشهود في اللقطة واحد يشترط أن يكون عدلاً؛ لحديث عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من وجد لقطة فليشهد ذا عدل)، وفي رواية: (فليشهد ذوي عدل).
يعني: لا يكتم ولا يغيب، فإن وجد صاحبها فليردها عليه وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء.
والوجوب هو مذهب الظاهرية، وقول عند الشافعي، وإليه ذهب الشوكاني، والصنعاني، والحنابلة والمالكية، وقال الشافعي في أحد القولين باستحباب الإشهاد احتياطاً.
وسبب وجوب الإشهاد -وهو مذهب جماهير العلماء- أو استحبابه -وهو مذهب بعض أهل العلم- أنه يُمتنع به من الخيانة، فالشرع لما اشترط الشاهد اشترطه لمصلحة الملتقط، ليمتنع به من الخيانة، وأن الملتقط قد يموت فجأة فتصير اللقطة من تركته وليست كذلك، إذ قد يموت في مدة وجوب التعريف، فلا تدخل في مال الميراث، يأتي الشاهد حينئذ ويقول: هذا الميت قد التقط لقطة وهي كذا وعددها كذا في المكان الفلاني! وأنا الشاهد على ذلك فانتبهوا أن تُدخلوا هذه اللقطة في الميراث؛ لأنها ليست مال المورث ولا مال الورثة.
أما كيفية الإشهاد، فله طريقتان: الأولى: أن يشهد أنه وجد لقطة ولا يُعلِّم عفاصها ولا غيره؛ لئلا يتطرق الكذب إليها.
كأن أقول: يا فلان! أنا وجدت مالاً لا أعرف عدده ولا وصفه ولا نوعه ولا شيء من هذا أبداً، وأنا أعرفه في أماكن متعددة يسهل التعرف عليه من خلالها فحينئذ إذا ظهر صاحبه فهو له.
الثانية: أن يشهد على صفاتها كلها حتى إذا مات لم يتصرف فيها الوالي، لكن هذه تحتاج إلى أمانة الشاهد؛ ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام اشترط أن يكون الشاهد عدلاً؛ لأنه لو كذب أو خان يصير فاسقاً، فاشترط النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون الشاهد عدلاً؛ لأن الشاهد ممكن أن يتواطأ مع أحد الخونة الذين يأكلون أموال الناس بالباطل فيقول مثلاً: لقد ضاع مني (1000) جنيه وبلغني أنها عندك وأوصافها كذا وعددها كذا وأوراقها كذا وضاعت مني في المكان الفلاني؛ لأن الملتقط قد أخبر الشاهد بهذه الأوصاف تفصيلاً.
فإذا لم يكن الشاهد عدلاً ضاعت الأمانة، واستطاع الكاذب أن يتوصل بكذبه وتدليسه وغشه إلى أخذ ما ليس له.
وقد أشار بعض الشافعية إلى التوسط بين التعريفين -أي: التعريف المفصل والتعريف المجمل- فقالوا: لا يذكر الصفات كلها، وإنما يعرف اللقطة ببعض الألفاظ دون البعض.
فمثلاً: يقول: وجدت من المال (1000) في المكان الفلاني، فلو أن الشاهد الفاسق ذهب إلى أحد الكذبة قال له: اذهب إلى فلان وقل له: قد ضاع مني (1000) جنيه فإنه لما يأتي الكاذب هذا للملتقط ويقول له: ضاع مني (1000) جنيه في المكان الفلاني.
يقول له الملتقط: كيف شكل عفاصها؟ بماذا كانت ملفوفة؟ فيقول له: في ورق سلفان.
فيقول: لا.
فيقول له: أنا تذكرت والله فقد كانت في خرقة فعلاً.
فيقول له: كم الذي ضاع منك؟ يقول له: (1000) جنيه، فيقول له: آسف الذي وجدته (1000) دولار وليس (1000) جنيه.(36/5)
حكم لقطة الحيوان
لقطة الحيوان لها أحكام: فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة يذهبون إلى القول بعدم التقاط الحيوان؛ للنهي الوارد عن ذلك، ولكن النهي ليس على إطلاقه بدليل أن النبي عليه الصلاة والسلام في حديث زيد بن خالد الجهني في الصحيحين: (لما سئل عن ضالة الغنم قال: هي لك أو لصاحبك أو للشيطان).
وفي رواية: (أو للذئب).
وسئل عليه الصلاة والسلام عن ضالة الإبل فقال: (مالك ولها معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر).
فالأصل أن النهي الوارد عن التقاط الحيوان إما أن يكون متعلقاً بالإبل وفي هذه الحالة لا يكون متعلقاً بما دون الإبل.
والسؤال هنا: هل يقاس على الإبل غيرها، وهل يقاس على الشاة غيرها؟ إذا قلنا: إن الإبل ليست محل التقاط إلا إذا خيف عليها الهلاك من كبار السباع وغيرها، أو هلاك عام بالحرق أو الغرق أو شيء من ذلك في حال الهلاك العام والدمار العام فإنما ذلك يكون بإذن الإمام كما هو مذهب جماهير العلماء.
أما الشاة فإنها تلتقط وكذا من كان في مثل حكمها، فالشاة ضعيفة، وكذا المعز، لا تستطيع أن تدفع عن نفسها حتى من صغار السباع، فالكلب قد يتسلط على شاة ويأكلها، أو ذئب أو سبع أو أسد.
أما صغار السباع لو تسلط على حمار كبير أو تسلط على بقرة أو جاموسة كبيرة أو بعير فإن هؤلاء جميعاً يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، ولذلك البعير يقاس عليه من الحيوانات من كان في مثل قوته ويستطيع الدفع، فهذا لا يلتقط، والشاة يقاس عليها من كان في مثل ضعفها ممن لا يستطيع أن يدفع عن نفسه أذى صغار السباع.
إذاً: الصحيح أنه لا يجوز لقط الإبل، لما ورد مرفوعاً من حديث زيد بن خالد الجهني: (مالك ولها معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها).
أما ضالة الغنم فيجوز التقاطها؛ لما ورد في حديث زيد: (خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب).
وقاس عليها الجمهور ما يشبهها في الضعف واحتمال الضياع.(36/6)
حكم لقطة الحاج
ورد في الحديث: (نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن لقطة الحاج)، وهذا الحديث الذي جاء في الصحيحين يقيده قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة رضي الله عنها مرفوعاً في لقطة مكة قال: (ولا تلتقط ساقطتها إلا لمنشد) يعني: لا يحل لأحد أن يلقط لقطة مكة إلا إذا كان بنية الإنشاد والتعريف.
والحمد لله تعالى.
إذاً: لا يحل التقاط لقطة مكة على سبيل التملك إنما على سبيل الإنشاد.
والحكومة السعودية الآن سهلت عليك أمر هذه اللقطة بتخصيص أماكن في الحرم لوضعها فيها، فمن وجد شيئاً يلتقطه ولا حرج، وعليه أن يذهب به إلى هذه الأماكن، وبذلك تبرأ عهدته من هذه اللقطة.
وقد ذكرنا أن من أركان اللقطة: الركن الأول: هو اللقط.
والركن الثاني: الملتقط.
والثالث: هو الملقوط أو الملقط.
فالملتقط: وهو من له أهلية الاكتساب أو الاحتفاظ والتملك، ويشترط فيه أن يكون حراً مسلماً مكلفاً أميناً.
ومن أهل العلم من أجاز التقاط الذمي إذا كان أميناً؛ لأنه من أهل الاكتساب والتملك تماماً كالمسلم، وكذلك الصغير والمجنون والسفيه إذا التقط واحد منهم مالاً ضائعاً ثبتت يده عليه لكن يتصرف فيه الوصي أو الولي بلا شك.
فإذا كان الملتقط ليس واحداً وإنما هو اثنين أو ثلاثة أو جماعة من الناس، فلها حكم آخر، فلو التقط اثنان مالاً ضائعاً ثم ترك أحدهما حقه منه للآخر لم يسقط حقه، ولو أقام كلاهما البينة على أنه هو الملتقط وحده ولا تاريخ في البينتين تبقى اللقطة لمن هي بيده؛ لأنه صاحب اليد عليها.
ولو أمر إنساناً آخر بالتقاط شيء رآه فالتقطه فاللقطة إن قصد أنها له فإن الملتقط يناوله إياها، وإن قصد أن يلتقطها وتكون في حوزته فهي للذي التقط، وإن رأياها جميعاً فبادر أحدهما فأخذها، أو رآها أحدهما فأعلم بها صاحبه فأخذها فهي للآخذ وليس للرائي؛ لأن استحقاق اللقطة بالالتقاط لا بالرؤية.
وهذا الحكم الشرعي وهو أن اللقطة لمن التقط وليس لمن رأى.
وإذا رأيت اللقطة وسبقتك يد إليها، تكون لصاحب اليد ولا تكون لصاحب العين.
الركن الثالث من أركان اللقطة: الملقوط الذي هو المال المحترم غير المحرز، الذي لا يعلم الواجد مستحقه، وهو إما حيوان ويسمى ضالة، أو غير حيوان ويسمى لقطة.
أما المال المباح فلا يكون لقطة؛ لأنه ليس له مالك.
فإذا تحققت الأركان الثلاثة السابقة نكون قد حققنا معنى اللقطة اصطلاحاً.
وإليك بعض الأمثلة: إذا أخذ ثياب غيره أو متاعه أو حذاءه قصداً أو سهواً، وترك متاعه، ولم يتعمد الآخذ الأخذ فالمتروك لقطة إن كان على سبيل الخطأ، وإن تعمد الأخذ جاز للمأخوذ حذاءه بيع المتروك واستحقاق الثمن، لكن في الغالب أن هذا المأخوذ لا يساوي شيئاً، ولكن هذا حكم شرعي على أية حال، وهو أنه يجوز لك بيع المتروك والملتقط مكان ما ضاع منك عمداً، وإن كان لا يساوي شيئاً، ويجوز بيعه والتصرف فيه.
ومن ترك مختاراً دابة بمهلكة ويغلب على الظن بل تُيقن أنها ستهلك يكون قد حققنا شرط خوف الضياع أو الهلكة فيكون الالتقاط واجباً بعدما ترك صاحب الدابة دابته في مكان الهلكة وقد رأيتها وغلب على ظني هلاكها وخفت عليها الضياع.
قال: ومن ترك مختاراً -أي: غير مكره ولا مجبر- دابة في مهلكة فأخذها إنسان فأطعمها وسقاها وخلصها من الهلاك فهي له؛ لأن صاحبها تركها مختاراً؛ لأنها في حكم المباح؛ لما أخرجه أبو داود بسند حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من وجد دابة قد عجز عنها أهلها أن يعرفوها فتركوها فأخذها فأحياها فهي له) والحديث صحيح، وهذا مذهب الحنابلة.
ومعرفة اللقطة يكون كما قال عليه الصلاة والسلام: (اعرف عفاصها ووكاءها).
والوكاء: هو الخيط الذي يربط به العفاص.
والعفاص: الوعاء الذي تكون فيه اللقطة.
ويلحق بذلك كل ما يلزم لمعرفة اللقطة ويبين أوصافها مثل جنسها ونوعها وقدرها وما تتميز به عن غيرها، وكل هذا لمعرفة صدق أوصافها إذا ادعي ملكيتها.
قال الحافظ: اختلف في هذه المعرفة على قولين للعلماء أظهرهما الوجوب.
والتعريف مرتين تعريف خاص بالناس عموماً، ويتوسط فيه المعرفة ببعض الأوصاف دون البعض، أما التعريف الذي يلزمني أنا كملتقط أن أعرفك تعريفاً دقيقاً مفصلاً مخافة أن أموت أو مخافة أن أنسى أوصافها.
وعند التعريف باللقطة استحب بعض أهل العلم كتابة أوصافها خوف النسيان، وهذا قول أحمد، والنووي أما كيفية التعريف فهي أن يذكر الملتقط للناس عينها ولا يبين أوصافها بل يذكرها بوصف عام، وأجاز الحنابلة ذكر جنسها من ذهب أو فضة، وقالت الشافعية: تفصل ذكراً أو أنثى، أو يذكر بعض الأوصاف ولا يفصل بالاستيعاب، ويستثنى من هذا الوجوب ما يلي: ما يعلم أن مالكه لا يطلبه وإن كان مالاً مثل: قشر الرمان أو النوى ونحو ذلك مما يرميه الناس ولكنه إذا وجده في يد الملتقط فله أن يأخذه.
يعني: صاحب قشر الرمان أو قشر البطيخ الذي رماه هو ربما رماه ليرجع إليه فالتقطه آخر فوجد ا(36/7)
مدة تعريف اللقطة وزمنها
مدة التعريف: مدة تعريف الملتقط للقطة سنة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (عرفها سنة).
وهذا محل إجماع، قال ابن قدامة: لا نعلم فيه خلافاً، ولا بأس أن تزيد على مدة الوجوب سنة، ويستثنى من هذا الأصل إذا كانت اللقطة يسيرة فيعرفها ثلاثة أيام أو زمناً يظن بعده أن فاقدها لا يطلبها، ويستثنى أيضاً ما يخشى فساده إذا كان كثيراً أو يسيراً كالفاكهة والخضروات فإنه يعرفها مدة لا يخشى فيها عليها الفساد، وهذا قول الحنفية والحنابلة.
زمن التعريف: يكون التعريف في الأوقات المناسبة كالنهار حيث محفل الناس ومجمع الناس أو في المكان الذي يسموه في الريف الصاري، وهو مجمع الناس، ويتكرر بالقدر الذي يحصل به مقصد التعريف؛ حتى يغلب على الظن وصول الخبر إلى صاحبه، ويكون ذلك كل يوم أو كل أسبوع أو كل شهر كلما توفر لك ذلك.
قال ابن الهمام: اعلم أن الأمر بتعريفها سنة يقتضي تكرار التعريف عرفاً وعادة، والتعريف واجب على الفور.
يعني: بمجرد أن تلتقط اللقطة لا يجوز تأخيرها عن زمن تطلب فيه اللقطة عادة، فالشخص لما يركب سيارة وينسى فيها حاجته كالحقيبة التي فيها أمواله وفيها أوراق وفيها وفيها، ثم إذا نزل في محطة الوصول أدرك أنه نسي الحقيبة فإنه يبحث عنها في محطة الوصول ومحطة المغادرة في نفس اللحظة والتوقيت فحينئذ يجب على الملتقط أن يعرفها في نفس اللحظة والتوقيت، ويكتب في ورقة عظيمة وضخمة أو قطعة من القماش كبيرة وتكون معلقة وبخط واضح إعلاناً عنها، وإذا سقطت الورقة أو القماش يعلقها مرة أخرى حتى يتمكن صاحب الحاجة من معرفتها إما في مكان المغادرة أو في مكان الوصول، ويعطي خبراً لكل سائق، فطريقة التعريف لكل ضائع أو لكل ضالة أو ملتقط إنما تكون على حسب غلبة الظن في وصول الخبر إلى صاحبها، والذي يتولى التعريف هو الملتقط أو نائبه، وإذا كان الملتقط صبياً فلا يتولى ذلك إلا الوصي أو الولي.(36/8)
ذكر أقوال أهل العلم في ضمان اللقطة ومؤنة التعريف بها
مؤنة التعريف: بعض العلماء يقولون: إن الملتقط إذا التقط شيئاً وغرم فيه لا يجوز له الرجوع على صاحب المال.
وبعض أهل العلم يقولون: بل له الرجوع إلى صاحب المال الضائع أو الخصم من الملتقط.
وهذا الذي يترجح عندي.
أن اقتطاع مؤنة التعريف من المال الملتقط أو من صاحب هذا المال، فاللقطة التي بيد الملتقط مضمونة إن كان قد التقطها بنية حفظها وردها لصاحبها فهي أمانة والأمانات لا تُضمن خاصة إذا قام الملتقط أو الأمين بحفظها أو صيانتها.
ومن التقط شيئاً بنية الحفظ والرعاية والصيانة لكنه هلك لظرف خارج عن الإرادة فلا ضمان حينئذ؛ لأن الملتقط أمين والأمين إذا قام بواجب الأمانة فإنه لا يضمن في جميع الأموال والممتلكات، وإن كان قد التقطها بنية أخذها لنفسه وعدم ردها إلى صاحبها فهي مضمونة، وإذا التقطها بنية الحفظ والرد إلى صاحبها فلا ضمان عليه عند الحنفية والمالكية، ومن أخذها ثم ردها إلى مكانها فالراجح أنه يضمن ذلك؛ لأنها بعد أن كانت لقطة صارت أمانة في يده فلا يجوز له التصرف بهذه الأمانة حتى يظهر صاحبها؛ لأن الشرع لم يأذن له بردها إلى مكانها، وإنما أوجب عليه الحفظ والتعريف، وهو بفعله هذا قد خالف الشرع في ذلك.
وبعض أهل العلم يقولون: لا ضمان عليه.
والذي يترجح لدي وجوب الضمان عليه؛ لأنه فرط في الأمانة.(36/9)
مسألة نماء الضالة
وهنا مسألة ملحقة بهذا: وهي نماء الضالة: فأقول: النماء له حالتان: إما أن يكون متصلاً بالضالة أو منفصلاً، فالنماء المتصل بالضالة كالسمن، لما التقطت النعجة أو الخروف أو المعز أو ما شابه ذلك لابد لحفظها ورعايتها أن أطعمها وأسقيها وهذا يكون لمالكها إذا استردها؛ لأن هذا نماء متصل بها لا يمكن انفصاله، فمن وجد شاة عشاراً ثم بقيت فترة حتى وضعت حملها، فهذا الحمل أصل ثباته كان قبل الالتقاط، ففي هذه الحالة إذا وضعت الشاة حملها عندي صار هذا النماء منفصل مع أن الأصل فيه الاتصال فهو من حق صاحب الشاة، أما إذا حصل العشار للشاة وهي عندي بعد التقاطها فهذا مال منفصل من حق الملتقط.
وهناك مسائل لولي الأمر أو نائبه في أصل ضوال الإبل وما يشبهها في الامتناع من صغار السباع على وجه الحفظ لصاحبها ولا يلزم ولي الأمر تعريفها؛ لأن هذا مال الأصل فيه أنه لا يلتقط وإنما التقطه الوالي أو السلطان لمخافة الهلكة.
ولابد أن يعرف الناس أن المال الذي ليس محلاً للالتقاط إذا ضاع يُسأل عنه في الأماكن العامة.
أي: عند السلطان، وعلى ولي الأمر أن يجعل لها حمى ترعى فيه.
أي: مكاناً للمرعى والرعاية وغير ذلك.
ولو التقطها غير السلطان لم يجز له ذلك، ويكون ضامناً لها، ولا تبرأ ذمته إلا بردها إلى صاحبها، وعلى المدعي ملكيتها إقامة البينة، ولا يكتفى منه بالوصف؛ لأنها كانت ظاهرة بين الناس، فلا بد من تعريفها بوصف يتميز به عن الآخرين.
أما ضالة الغنم وما يشبهها فوصفها كما يلي: أن يعجز عن الوصول إلى الماء والمرعى، وألا يمتنع من صغار السباع -هذا شرط التقاط الغنم وما يشبهها- بحيث لا يدفع عن نفسه الأذى كصغار الإبل وهي الفصيل، وصغار البقر وهي العجول، وصغار الخيل وهي الأفلاء -جمع فلو- والدجاج والأوز، كل هؤلاء لا يستطيعون دفع صغار السباع عنهم، والحكمة من أخذ ضالة الغنم هي خوف الضياع عليها إن لم يلتقطها أحد، وفي ذلك إتلاف لماليتها على مالكها.
ويخير ملتقط الغنم بين ثلاثة أمور: إما أن يأكلها وعليه القيمة، أو يبيعها ويأخذ ثمنها لصاحبها إذا ظهر، أو يحفظها بعينها لصاحبها وينفق عليها دون أن يتملكها وتكون النفقة من قبل الملتقط على جهة التطوع عند الشافعية والحنابلة وكذلك رواية عن مالك وإذا تلفت ضالة الغنم فعلى الملتقط الضمان، وهذا مذهب الجمهور، خاصة إذا قصر وإلا فلا.
وصلى الله على نبينا محمد.(36/10)
شرح صحيح مسلم - كتاب الرؤيا
الرؤيا والحلم مخلوقان لله عز وجل، والرؤيا خلقها الله عز وجل في العقل الباطن للرائي، وهي في غالبها خير، وبقدر ما يكون الرائي لها من أهل الصلاح والصدق في يقظته تكون الرؤيا صادقة، أما الحلم فإنه مما يسر به الشيطان ويفرح به، وقد يأتي فيه ما يكرهه العبد ويتكدر له، فإذا رأى ذلك شرع له التحول عن موضعه الذي نام فيه، والاستعاذة بالله من شره، وكتمانه عن الناس فلا يخبر به أحداً.(37/1)
أحاديث في الرؤيا والحلم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله ومن والاه، وبعد.
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: فمع كتاب جديد وهو كتاب الرؤيا.
والكتاب في اللغة بمعنى: الجمع والضم، ولذلك يقال: كتيبة، وهي التي تجمع عدداً من الجند والمعدات المتماثلة وغير ذلك فيقال: هذه كتيبة مدرعات.
وهذه كتيبة مشاة.
وهذه كتيبة طبية؛ لأنها جمعت المتماثلات فسميت كتيبة لأنها جمعت في أحشائها جنوداً متشابهين، وكذلك يقال للكتابة كتابة لأنها عبارة عن مجموعة من الحروف.
ومعنى الكتاب في الاصطلاح: هو الجزء الذي ضم في أحشائه مجموعة من المسائل المتشابهة.
فمعنى كتاب الرؤيا، أنه تضمن المسائل التي تتكلم عن الرؤيا، وقد يشمل الكتاب مئات الفصول والأبواب، وكل باب أو فصل له تعلق وثيق بمسألة الكتاب ككتاب الإيمان أو الطهارة أو الصلاة وغير ذلك، ولذلك لا يمكن أبداً أن تجد في كتاب الوضوء مثلاً مسألة لها تعلق بالحدود نهائياً؛ لأن هذا كتاب وذاك كتاب آخر.(37/2)
شرح حديث: (الرؤيا من الله والحلم من الشيطان)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم -وهو المعروف بـ ابن راهويه - وابن أبي عمر -وهو محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني المكي أي: نزيل مكة- جميعاً عن ابن عيينة -وهو سفيان بن عيينة أبو محمد المكي - وهذا اللفظ لـ ابن أبي عمر].
هذا الحديث رواه أكثر من واحد، والإمام مسلم رواه من عدة شيوخ منهم: عمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم المروزي وابن أبي عمر إلا أن هذا السياق لواحد دون الثلاثة، وأما ألفاظ الباقين فهي على النحو من هذا السياق، وليست مثله تماماً بتمام.
قال: [حدثنا سفيان وهو ابن عيينة عن الزهري -وهو محمد بن مسلم بن شهاب الزهري الإمام الكبير المعروف- عن أبي سلمة -وهو ابن عبد الرحمن بن عوف صحابي كبير- قال: كنت أرى الرؤيا أُعرى منها].
يقال: رجل عري.
أي: رجل أصابته حُمى.
والمعنى: أنه أُصيب بسخونة أو بحمى غير أنه قادر على المشي [قال: غير أني لا أُزمل] أي: لا أُغطى في الفراش، من قوله عليه الصلاة والسلام: (زملوني زملوني)، وقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1].
قال: [حتى لقيت أبا قتادة الأنصاري فذكرت ذلك له فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان، فإذا حلم أحدكم حلماً يكرهه فلينفث عن يساره ثلاثاً، وليتعوذ بالله من شرها فإنها لن تضره)].
أي: لا تضره لو التزم هذه التعليمات، لكن لا بد أن تحفظ معي ما الذي يجب على من رأى حلماً يكرهه؛ ولم يأت ذلك في حديث واحد، وإنما في أحاديث شتى.
قال: [(الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان)] مع أن الرؤيا والحلم كلاهما مخلوقان لله عز وجل؛ لأن الخير والشر من الله عز وجل، والحلم هو الشر، وإذا كانت الرؤيا من الله عز وجل؛ فهي دليل الخير، فالرؤيا خلقها الله عز وجل في تصوّر الرائي أو في عقل الرائي الباطن أو في منامه وكذلك الحلم.
فالحلم مخلوق لله عز وجل، والله تعالى أراده إرادة كونية، لكن الشيطان يحضره ويُسر به ويفرح، والشيطان ليس خالقاً، والخالق الواحد هو الله عز وجل، فلا خالق غيره، فهو الذي خلق الخير وأمر به وأحبه ورضيه، ورتّب عليه الثواب، وخلق الشر ولم يرضه.
ومعنى خلقه: أنه أذن في وجوده كالزنا، والسرقة، وشرب الخمر وغير ذلك، فلا يكون شيء في الكون إلا بأمر الله عز وجل وإذنه، لأنه ليس لأحد أن يتحرك حركة أو يسكن سكنة إلا بإذن الله عز وجل، فإن الذي يأتي المعصية يلزمه فيها عدة جهود لإتمامها، وهي: المشي على الأقدام، والبطش باليد، وغير ذلك.
والقتل، والسرقة، والزنا، وشرب الخمر كل هذا لا يمكن أن يتم إلا بإذن الله عز وجل، ومعنى أن الله أذن فيه مع أنه لم يحبه، بل كرهه وحرّمه، وأرسل الرسل بالنذارة والوعيد الشديد، وأنزل الكتب تحذيراً من الوقوع في هذه المعاصي، وخلق الجنة والنار، وبيّن الطريق، وأقام الحجة على العباد؛ حتى يهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بيّنة.
وكذلك الحلم فإن الله تبارك وتعالى أذن في إيجاده، وكذلك الرؤيا الطيبة أذن الله تبارك وتعالى في إيجادها، ومعنى (أذن).
أي: أنه أمر بخلقها في تصور الرائي أو في النائم، أما الرؤيا فلا يحضرها شيطان؛ لأنها خير، ومواطن الخير يفر منها الشيطان، أما الحلم فإنه شر ولذلك يحضره الشيطان، ويفرح به ويُسر، وإنما يغتاظ أشد الغيظ أن يرى الرجل رؤيا صالحة، فلا طاقة له بها، ولذلك يهرب من ميدانها، ويحضر في موطن يحلم فيه المرء حلماً سيئاً.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (الرؤيا من الله والحلم من الشيطان) حتى لا يتصور أحدكم أن الشيطان يبتدئ الخلق في تصور الرائي أو في ذهنه أو في عقله؛ لأن الشيطان أقل من ذلك، وأنه لا يقدر أن يخلق شيئاً.
قال: [(فإذا حلم أحدكم حلماً يكرهه)] سواء ذكر يكرهه أو لم يذكر، فالمعلوم أن الذي يرى حلماً أنه يكره ذلك، فإذا كان يحبه فليعلم أنه رؤيا صالحة، وليس أحد من الخلق يحب الحلم؛ لأن الحلم إزعاج وكوابيس ونكد وغم وهم، بل صراع وحرب بين الرائي وبين ما يراه طوال نومه، أو في جزء كبير من نومه، فيتصور -مثلاً- أن بعيراً أو أسداً أو ثعباناً يتبعه ويلاحقه، أو غير ذلك، من الذي يحب ذلك في يقظته فضلاً أن يحب ذلك في منامه؟ إن الواحد منا لو رأى حلماً على النحو من هذا أن بعيراً يجري خلفه، ثم يستيقظ فجأة فإنه يقول: الحمد لله أن هذا كان حلماً ولم يكن حقيقة، لأنه كره ذلك من قلبه.
فعلاج من رأى حلماً يكرهه هو ما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: [(فلينفث عن يساره ثلاثاً)] والنفث هو النفخ.
وإن شئت فقل: هو كال(37/3)
شرح حديث أبي قتادة في الرؤيا: (فليبصق على يساره حين يهب من النوم ثلاث مرات)
قال: [وحدثني حرملة بن يحيى] وهو المعروف بـ التجيبي حرملة بن يحيى التجيبي، وتجيب: قرية من أعمال دمياط، وهو مصري.
قال: [أخبرنا ابن وهب -وهو عبد الله بن وهب القاضي المصري - أخبرني يونس] إذا حدث ابن وهب عن يونس فإنما هو يونس بن يزيد الأيلي.
وحرف الحاء الموجود في الإسناد معناه: تحويل الإسناد، فهو اختصار لكلمة تحويل.
قال: [(ح) وحدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد قالا: أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر كلاهما عن الزهري].
قوله: (كلاهما) لا بد من ربط الإسناد الثاني بالإسناد الأول، فالإسناد الأول انتهى عند يونس بن يزيد الأيلي، والإسناد الثاني انتهى عند معمر.
إذاً: يونس بن يزيد ومعمراً يرويان عن الزهري بهذا الإسناد.
أي بالإسناد السابق.
قال: [وليس في حديثهما أُعرى منها.
وزاد في حديث يونس: (فليبصق على يساره حين يهب من نومه ثلاث مرات)].
ومعنى يهب أي: يقوم ويفزع ويترك الفراش؛ لأن المرء قد يأتيه حلم ثم يزول وهو لا يزال في نومه؛ لأنه ليس بلازم أن يزول الحلم بزوال النوم، بل ممكن أن يزول قبل زوال النوم، فمعنى يهب من نومه هو الاستيقاظ في حال استمرار الحلم، فإذا هب من فراشه فليبصق عن يساره ثلاث مرات، وأنتم تعلمون أن لفظ العدد ثلاثة وسبعة محل اعتبار الشرع، فقد ورد فيهما الأحاديث الكثيرة جداً، وكذا بعض آيات القرآن الكريم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخدمهما كثيراً في أدعية الاستشفاء وغيرها.(37/4)
شرح حديث: (فإذا رأى أحدكم شيئاً يكرهه فلينفث عن يساره ثلاث مرات)
قال: [حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب -وهو المعروف بـ القعنبي نسبة إلى جده- قال: حدثنا سليمان -وهو ابن بلال المدني - عن يحيى بن سعيد -وهو الأنصاري - قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن يقول: سمعت أبا قتادة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان، فإذا رأى أحدكم شيئاً يكرهه فلينفث عن يساره ثلاث مرات وليتعوذ بالله من شرها، فإنها لن تضره)].
فقال: إن كنت لأرى الرؤيا أثقل علي من جبل فما هو إلا أن سمعت بهذا الحديث فما أباليها].
أي: أنه كان يحلم أحلاماً فظيعة ومفزعة ومقلقة فكانت على قلبه أثقل من الجبل، ولم يكن لديه علاج لهذه الكوابيس أو الأحلام حتى سمع بهذا الحديث؛ لأنه أصيب بالداء فحصل الدواء، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (تداووا عباد الله! فما أنزل الله تعالى داء إلا وأنزل له دواء).
ولذلك شرع النبي عليه الصلاة والسلام أذكار النوم، فإنها بإذن الله تحفظ النائم من هذه الأحلام، والذي اعتاد أن يتلو هذه الأذكار ويستحضر الخشوع والخضوع والإنابة والتوبة إلى الله عز وجل مع تلاوة شيء من كتاب الله عز وجل حتى يكون من الأوابين أو من التوابين أو من المخبتين -كما جاء في بعض الروايات- فإنه بإذن الله تعالى يكون عليه من الله تعالى حافظ حتى يستيقظ، وهذا الحافظ من الملائكة يحرس المرء حتى يستيقظ.
أما الذي يذهب إلى فراشه على غير وضوء ولا ينام على جنبه الأيمن، ولا يضع يده تحت خده، ولا يتلو شيئاً من كتاب الله عز وجل، ولا يقرأ الأذكار، بل ربما ينام على السباب والشتائم والفحش والغضب وغير ذلك، فأنى لهذا أن يهنأ بنومه؟! فكما أنه عاش في نهاره تعيساً شقياً فإنه كذلك يشقى في نومه.
فيكون في شقاء دائم سواء في حال يقظته أم في حال نومه، ولكن انظر إلى عبد من عباد الله عز وجل، يحيا نهاره بطاعة الله عز وجل، وما من باب يقرب إلى الله عز وجل إلا ويلجه هذا العبد، ثم يلتزم شرع الله تعالى في نومه كما التزمه في يقظته، فيرى من الله تعالى خيراً في نومه، يرى وكأنه في صحبة أهل العلم، أو يحضر مجالس العلم، أو يرى أنه مع النبي عليه الصلاة والسلام، أو مع أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، أو مع العشرة المبشرين بالجنة، أو يرى مشهداً يُنصر فيه دين الله عز وجل، أو يرى أنه يسبح في أنهار الجنة.
وقد رأيت رؤيا في سنة (1984م) لا زلت أُسر بها سروراً عظيماً جداً إلى يومي هذا، وكنت في تلك الآونة قد فرغت من قراءة ترجمة الإمام أحمد بن حنبل للإمام ابن الجوزي في مجلد عظيم جداً اسمه سيرة الإمام أحمد بن حنبل، حوالي (700) ورقة، فلما فرغت من قراءة ترجمة الإمام أحمد بن حنبل إذا بأحد أصدقائي في الرؤيا يوقظني ويقول: الحق! الإمام أحمد بن حنبل في الدور الثاني وهو يحاضر، فقمت مسرعاً لأرى الإمام أحمد فلم أر أحداً إنما رأيت رجلاً وضيئاً وبديناً وحوله بعض الناس.
فقلت: ليس هذا هو الإمام أحمد، فقد قرأت ترجمته، الإمام أحمد نحيف البدن، فيه سمرة، غائر العينين، عظم وجهه باد من فرط نحافته، وليس بطويل.
فقال يمازحني: كم تدفع وأريك الإمام أحمد؟ قلت: أدفع كل ما معي، وأنا في ذلك الوقت لم يكن معي شيء، فقال: الإمام أحمد في الدور الذي فوق، قلت: إذاً من هذا؟ قال: هذا ابن حزم، قلت: والله هذه فعلاً الصفات التي جاءت في ترجمة ابن حزم، فصعدت إلى الدور الثاني بصعوبة شديدة جداً، والبيت الذي كنت أسكن فيه كان كبيراً جداً، فكلما نهضت تزحلقت على السلم من كثرة الأحذية، أي: أنها كانت كالجبال في مدخل هذه الشقة وفي مدخل هذا الدور، فعانيت حتى دخلت ورأيت الإمام أحمد وجلست بجواره، والكل يقول: اجلس في مكانك لا تتخطى.
قلت: إنما التخطي في صلاة الجمعة واسألوا الإمام، فجلست بجوار الإمام، فتذكرت بعض إخواني الذي كان يسكن معي أنه يريد أن يرى الإمام أحمد بن حنبل والإمام ابن حزم، فنزلت لإيقاظه فقال لي: أنا تعبان ومشغول.
فقلت له: أنت حر.
وتركته.
وحينما صعدت السلّم وإذا بالناس قد انصرفوا، فقصصت هذه الرؤيا على الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله، فقال باللفظ الواحد: هذه بشرى خير، وأنت على الطريق، وإن كنت ستجد صعوبة في أوله، وهذه الصعوبة هي التي أدركتها على السلّم حينما تعثّرت مراراً ثم رأيت الإمام، ولكن الشاهد أن الشيخ الألباني اعتبر أن هذه بشرى خير، وظل يبكي منها ساعات طوال، وقال: يا ليتنا نرى الإمام.
قلت: يا شيخ أنت رأيت من هو خير من الإمام، وهو النبي(37/5)
شرح حديث: (وليتحول عن جنبه الذي كان عليه)
قال: [وحدثناه قتيبة -وهو ابن سعيد الثقفي - ومحمد بن رمح عن الليث بن سعد محمد بن رمح والليث كلاهما مصريان، ثم يتحول الإسناد قال: [(ح) وحدثنا محمد بن المثنى -وهو المعروف بـ العنزي أبو موسى الزمن - قال: حدثنا عبد الوهاب] يعني: ابن عبد المجيد الثقفي.
ثم يتحول الإسناد ليبدأ إسناداً ثالثاً: [(ح) وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن نمير].
وجميع هذه الأسانيد الثلاثة كلهم يروون عن يحيى بن سعيد الأنصاري بهذا الإسناد.
وفي حديث الثقفي وهو عبد الوهاب بن عبد المجيد قال أبو سلمة: فإن كنت لأرى الرؤيا، وليس في حديث الليث وابن نمير قول أبي سلمة إلى آخر الحديث.
وزاد ابن رمح في رواية لهذا الحديث: (وليتحول عن جنبه الذي كان عليه)].
وهذا العلاج الثالث.
فقد أخذنا العلاجين الأولين وهما: أن يتفل عن يساره ثلاثاً، وأن يتعوذ من شرها ثلاثاً، فقد ورد في رواية عدم ذكر العدد، وفي الرواية الأخرى ذكر فيها العدد، فلابد من جمع الروايات والنصوص في القضية الواحدة، فربما تأخذ بنص منسوخ فتأخذ منه حكماً قد نسخ وبطل العمل به منذ زمن النبي عليه الصلاة والسلام.
لا بد في كل قضية من جمع أدلتها والنظر في أقوال أهل العلم من سلف الأمة فيها حتى تخرج بنتيجة واحدة، أو بعدة نتائج، وهذه النتائج بمجموعها قد قالها السلف، كأن تكون النصوص حمّالة، فيكون خلاف أهل العلم حينئذ معتبراً لا إنكار فيه.(37/6)
جواز اختلاف الفقهاء على آراء يحتملها الدليل
إذا اختلف السلف في قضية على رأيين أو ثلاثة أو أربعة وكانت هذه الآراء يحتملها الدليل فلا إنكار فيها، إنما الإنكار يكون في المنكر المجمع على أنه منكر.
أما قضية اختلف فيها السلف على مذهبين كقضية الحجاب والنقاب، أو الكشف والتغطية فقد اختلفوا فيها، فلا إنكار في هذا، والأمر كله مداره على تقوى الله عز وجل، وإذا كنت من أهل العلم وطلابه فعليك أن تدرس المسألة دراسة مستوعبة، فالذي يغلب على ظنك وعقلك وقلبك فإنما هو دين الله تعالى في حقك، وغيرك يدرس القضية وينتهي إلى رأي يخالف ما أنت عليه، أيضاً بتقوى الله بعيداً عن الهوى؛ لأن صاحب الهوى آثم، فإذا ذهب أحد طلاب العلم إلى جواز الكشف، بناء على الأدلة التي استعرضها، وذهب الآخر إلى وجوب التغطية، فليس لأحدهما أن يُنكر على الآخر.
وكذا وضع اليد على الصدر بعد الرفع من الركوع.
وهذا أمر ثابت بالدليل الصحيح الصريح الذي لا يحتاج إلى تأويل، وليس بلازم، فقد ورد في حديث وائل بن حجر أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقوم في صلاته من الركوع حتى يستقر كل عضو في مكانه.
فمنهم من قال: يستقر كل عضو في مكانه على أصل خلقته قياماً، فالذي يمشي في الشارع لا يضع يده على صدره، وإنما يمشي ويديه إلى جانبيه.
ومما يساعد على ذلك: أن هذه المسألة من المسائل العملية التي ترد عشرات المرات في اليوم الواحد، فالواحد يصلي 17 ركعة فرضاً، ومثلها مرتين أو ثلاثاً أو يقل أو يزيد من النوافل، والنوافل والفرائض في الهيئة سواء، ومع ذلك لم يرد إلينا فيها دليل صحيح صريح، وهذه من المسائل التي لو كانت مستقرة عند السلف كان النقل فيها تواتر أو استفاض، وهذا رأي فريق من الناس.
وكذا الإسبال ليس فيه سنة ثابتة، لكن من فعله فلا حرج عليه، غير أن شيخنا الألباني رحمه الله قال: من فعلها فهو مبتدع.
وهذا الحكم فيه مبالغة لا نقره عليها رحمه الله.
وعلماء الحجاز قالوا: وضع اليد على الصدر بعد الرفع من الركوع سنة ثابتة عن النبي عليه الصلاة والسلام، والدليل حديث وائل بن حجر.
فبالنظر إلى كل هيئة من هيئات الصلاة نجد أن المصلي على حال معين، فهو في حال قيامه قبل الركوع يضع اليد اليمنى على اليسرى على الصدر، وفي حال الركوع قابض على الركبتين، وفي حال السجود واضع كفيه على فخذيه مشيراً بسبابة أصابع اليد اليمنى باتجاه القبلة.
إذاً: كل ركن من أركان الصلاة له كيفية معينة وهيئة معينة، فإذا كنا نريد أن نلحق القيام بعد الركوع بالقيام قبل الركوع، لأنهما قيام واحد، فنستدل بحديث: (حتى يستقر كل عضو في مكانه) أي: داخل الصلاة.
لأن الحديث فيه: (إذا قام من ركوعه) أو (إذا اعتدل من ركوعه)، فإنه يرجع على هيئته قبل الركوع، وكانت هيئته قبل الركوع أنه يضع اليمين على الشمال.
إذاً: هذا الكلام وجيه، وحكمنا على الرأي الأول الذي يقول: ليس فيه سنة ثابتة بأنه كلام وجيه أيضاً، وهو عبارة عن استنباط واجتهاد، وليس فيه دليل صحيح صريح يحسم القضية، وحينما يعرض كلا الاجتهادين على النص فإنه يحتمل، فإذا كان الدليل يحتمل جميع هذه التأويلات فلا إنكار على من تبنى تأويلاً من هذه التأويلات، ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل عليه رحمة الله: إذا شاء وضع اليمين على اليسار بعد الرفع من الركوع، وإذا شاء أسدل.
أي أن القضية عنده ليس فيها نص صريح، إنما هو اجتهاد والاجتهاد يحتمل النص.
إذاً: هذه المسألة ليس فيها سنة ثابتة بحيث أنني لو تركتها أكون قد تركت هيئة كان عليه السلف، أو أمر بها النبي عليه الصلاة والسلام، ولو أني فعلتها لست آثماً.
والشاهد الذي أريد أن أقوله: أن نربي أنفسنا دائماً على حسن التعامل مع مسائل الخلاف، فالغضب الشديد لا وجه له في الإسلام، ولا وجه له في الشرع، فأنت حينما تقرأ في أدلة الحجاب والنقاب ستجد من يذهب إلى وجوب النقاب وفي المقابل ستجد من ترجح لديه أن الكشف جائز، فلا إنكار عليه، لكنك حين تدخل على القضية وأنت عاقد العزم -قبل أن تقرأ وقبل أن تسمع شيئاً- أن النقاب واجب، وأن تاركة النقاب آثمة، فربما تقول: هي سافرة، وداعرة وغيرها من هذه الألفاظ التي نسمعها ممن لا عقل له، وممن لا يحتمل الخلاف لضيق أفقه بكلام أهل العلم.
وقل أن تجد في دين الله عز وجل مسألة مجمع عليها؛ ولذلك فإن كتب الإجماع قليلة جداً، وحجم كل منها صغير؛ وانظر إلى الإجماع لـ ابن المنذر لا يتعدى المائة ورقة، والإجماع لـ ابن حزم لا يتعدى المائة ورقة وهكذا؛ بل إن أهل العلم ينكرون على ابن حزم أنه عد مسائل من الإجماع وفيها الخلاف، وكذلك ابن المنذر فقد ادعى الإجماع في مسائل فيها خلاف، وتجد كتب الفقه ضخمة جداً، لوجود الخلاف.
إذاً: أنت في هذا الوقت تريد تحملني في كل قضية من القضايا على رأيك أو على مذهب إمامك، وهذا الكلام لا علاقة له بالعلم قط، إنما كل إمام من الأئمة بذل أقصى جهده وبذل وسعه ثم استقر لديه أن دين الله عز وجل(37/7)
شرح حديث: (الرؤيا الصالحة من الله والرؤيا السوء من الشيطان)
قال: [(الرؤيا الصالحة من الله والرؤيا السوء من الشيطان، فمن رأى رؤيا فكره منها شيئاً فلينفث عن يساره)].
وفي هذه الرواية لم يقل ثلاثاً بخلاف الرواية الأخرى.
قال: [(وليتعوذ بالله من الشيطان)].
وفي رواية: (فليتعوذ بالله من شرها).
إذاً: عندنا أربع روايات: (فلينفث عن يساره ثلاثاً)، (وليتحول عن جنبه)، (وليتعوذ بالله من شرها)، (وليتعوذ بالله من الشيطان).
فالمسلم يتعوذ بالله من شرها، ومن الشيطان، لأنها حلم أو رؤيا سوء، والرؤيا السوء من الشيطان، فينبغي التعوذ منه.
قال: [(وليتعوذ بالله من الشيطان فإنها لا تضره)] أي: إنه إن فعل ذلك فإنها ليست واقعة به، ولا تصيبه بحزن ولا هم ولا غم إذا فعل ذلك.
الشرط الخامس: وهو قوله عليه الصلاة والسلام: [(فإن رأى رؤيا حسنة فليبشّر ولا يخبر إلا من يحب)]، وفي رواية: (فلينشر) وهذه الرواية فيها تصحيف، وكذلك رواية أخرى: (فليستر)، لكن الصواب في الروايات: (فإن رأى رؤيا حسنة فليبشّر) أي: فليبشر بها الناس، لكن ليس كل الناس وإنما ممن يغلب على ظنك أو توقن أنه يحبك ويحب الخير لك ولا يحسدك، ولا يحصل في قلبه ضغينة ولا كراهية؛ لأن بعض الناس إذا رآك على خير كره ذلك وحسدك.
إذاً: الرؤيا الحسنة من الله عز وجل، وإذا رأى أحدكم رؤيا حسنة فليبشّر، ولا يبشّر إلا من يحب، فهذان الشرطان في الرؤيا الحسنة.(37/8)
شرح حديث: (الرؤيا الصالحة من الله فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث بها إلا من يحب)
[حدثنا أبو بكر بن خلاد الباهلي وأحمد بن عبد الله بن الحكم قالا: حدثنا محمد بن جعفر] وهو المعروف بـ غندر ربيب شعبة أي: أنه حينما مات جعفر تزوج شعبة بن الحجاج العتكي البصري أم محمد، فـ محمد بن جعفر كان من أئمة الحديث بالبصرة، ويكفي أنه ربيب شعبة، فقد رضع العلم وهو في حجره، ولذلك كان من المكثرين عن شعبة، وكانت فيه شدة على المحدثين؛ لأنه رضع كراهية التدليس والإرسال من شيخه شعبة الذي كان يقول: لئن أزني أحب إلي من أن أُدلِّس.
وفي رواية قال: لئن أشرب من بول حمار أحب إلي من أن أدلّس.
وليس معنى هذا الكلام أن شعبة يدعو إلى الزنا أو إلى شرب أبوال الحمير، ولكن هذا الكلام خرج مخرج الوعيد الشديد والكراهية المتناهية للتدليس.
[وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج] وهو المعروف بـ ابن جريج الأموي كان مدلساً كبيراً، قلّ أن يخلو مجلس من مجالسه إلا وفيه تدليس، فقدم محمد بن جعفر إلى مكة فجلس في مجلس ابن جريج.
والمدلّس لا يقول: حدثنا ولا أخبرنا، وإنما يقول: عن فلان، وقال فلان، كما تقول: قال الشيخ الفلاني: كذا وكذا وكذا فأقول لك: هل سمعت منه؟ تقول: لا.
ولكن أخبرني به فلان، لكن قولك: قال فلان ليس كذباً صريحاً، وإنما هو تمويه بأنك سمعت، فالمدلس يستخدم مصطلحات توهم السماع ولا يزعم فيها السماع، فإذا قال المدلس قال فلان وعن فلان استوقفناه، فإن لم يصرح بالسماع احتملنا حديثه؛ لأنه ليس كذّاباً، وإنما هو مدلّس فقط، ولذلك حديث المدلّس ضعيف، أما حديث الكذاب فهو موضوع ومكذوب ومفترى، ولا يمكن أن يرقى إلى القبول من أي طريق ولو من مائة طريق، إنما لو أتى الإسناد من مدلس من وجه آخر احتملناه، ولو صرّح المدلّس بالسماع في أحد الوجوه ولم يصرّح بالوجه الآخر احتملناه.
فكان ابن جريج يقول: قال فلان، وعن فلان، فيقول له محمد بن جعفر: أسمعت منه؟ فيقول: لا.
إنما هو من فلان، حتى قال مرة: عن فلان، فقال ابن جعفر بيده: أي: أنه أشار بيده.
فقال ابن جريج لـ محمد بن جعفر: يا غندر! وغندر في لغة أهل مكة هو المشاغب، فغلب هذا اللقب على محمد بن جعفر.
[قال محمد بن جعفر: حدثنا شعبة عن عبد ربه بن سعيد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال: إن كنت لأرى الرؤيا تمرضني حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الرؤيا الصالحة من الله، فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث بها إلا من يحب، وإن رأى ما يكره فليتفل عن يساره ثلاثاً)].
إذاً: عندنا ثلاث روايات، وهي: يتفل، ويبصق، وينفث [(وليتعوذ بالله من شر الشيطان وشرها)] أي: وليتعوذ بالله مرة من شر الشيطان ومرة من شر هذه الرؤيا حتى لا تتحقق فيه [(ولا يحدث بها أحداً فإنها لن تضره)].
الشاهد عندنا: أن كثيراً من أصاحب النبي صلى الله عليه وسلم رأوا أحلاماً أو رؤيا سوء، فأخبروا بها النبي عليه الصلاة والسلام فعوذّهم وأولها لهم، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام رأى رؤيا أزعجته كما في الحديث الطويل حديث الرؤيا بعد صلاة الغداة، حينما قال: (من رأى منكم البارحة رؤيا؟) ثم قال: (فإنه قد أتاني ملكان فقالا لي: انطلق يا محمد، فانطلقت معهما حتى أتينا على تنور، فقلت: ما هذا؟ فقالا: انطلق انطلق، فانطلقت حتى رأيت رجلاً يسبح في نهر من الدماء، ورجل آخر على الشط يلقمه حجراً كلما أراد أن يقترب من الشط) إلى آخره.
في التحذير من الربا والزنا.
فهذه رؤيا مزعجة لكن فيها مصلحة عامة، وتحذير للأمة من الوقوع في مثل هذه المعاصي، أما من كان يرى من أصحابه رؤيا سوء فيخبره بها عليه الصلاة والسلام، فهذا قد أخبر عالماً بها، وأما النهي فهو أن لا يخبر بها أحداً إذا كان لا يعبر الرؤيا، ولا بأس عليه أن يخبر بها من يفسّرها.(37/9)
شرح حديث جابر: (إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها)
[قال: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث، (ح) وحدثنا ابن رمح -وهو محمد - قال: أخبرنا الليث عن أبي الزبير عن جابر] أبو الزبير هو محمد بن مسلم بن تدرس أبو الزبير المكي يروي عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما.
قال: [عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثاً، وليستعذ بالله من الشيطان ثلاثاً، وليتحول عن جنبه الذي كان عليه)].
إذاً: الاستعاذة من شرها ثلاثاً، ومن الشيطان ثلاثاً، وليتفل عن يساره ثلاثاً، وليتحول عن جنبه الذي كان عليه، ثم لا يخبر بها أحداً، وأما قبل أن تنام فإنما عليك بأذكار النوم وقراءة القرآن.(37/10)
شرح حديث: (إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب)
[قال: حدثنا محمد بن أبي عمر المكي حدثنا عبد الوهاب -أي: ابن عبد المجيد الثقفي عن أيوب وهو أيوب بن أبي تميمة السختياني البصري وأبو تميمة اسمه كيسان السختياني البصري لكن غلبت عليه الكنية- عن محمد بن سيرين البصري عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب) يعني: تتحقق كفلق الصبح.
أما قوله: إذا اقترب الزمان فهو محل خلاف.
فمنهم من قال: معنى اقتراب الزمان.
أي: اقتراب الساعة.
ومنهم من قال: هو أن يعتدل ليله ونهاره.
فمثلاً: في أيام الشتاء الليل أطول من النهار، وفي أيام الصيف يكون النهار أطول من الليل، وهناك أيام يعتدل فيها النهار والليل.
بمعنى: أن يكون الليل ثنتي عشرة ساعة، والنهار أيضاً ثنتي ساعة.
وفي الحقيقة الكلام هذا بعيد، وربما يكون هناك تأويل آخر.
ومعنى آخر وهو: إذا كاد الفجر أن ينفلق، وانصرم الليل وكاد النهار أن يقبل.
والرؤى في هذا التوقيت أي قُبيل الفجر أو بعد صلاة الفجر إنما فيها المبشرات كما ذكره أهل العلم في كتبهم.
فهذا هو التأويل الثالث، والذي يترجّح مما سبق هو: إذا اقتربت الساعة.
قال: (وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً) أي: أن أحسنكم رؤيا أحسنكم حديثاً، ولذلك فإن اهتماماتك في اليقظة تظهر عليك في الرؤيا.
أي: حينما ننظر في الإمام البخاري فقد كان العلم يجري في دمه حتى ما يترك عرقاً ولا مفصلاً إلا ويجري فيه، ولذلك كان يقول: كنت أستيقظ من النوم في الليلة عشرين مرة، فكان حين ينام يغفو غفوات، ومن قبله كان يفعل ذلك عمر رضي الله عنه، حتى أشفق الصحابة على عمر فقال: إذا نمت بالليل ضيّعت حظي.
أي: مع الله عز وجل، وإذا نمت بالنهار ضيّعت الرعية، فكان يغفو غفوات تارة في النهار بالقيلولة، وتارة في شيء يسير جداً في الليل.
فالإمام البخاري يقول: كنت أستيقظ في الليلة الواحدة أكثر من عشرين مرة، فيوقد السراج ويسجل الخاطرة.
والخاطرة بمعنى فائدة أو نكتة حديثية أو فقهية أو شيء من هذا، وهذا يدل على أنه لم يكن يهنأ بالنوم.
فاهتماماتك تظهر عليك بالليل، فالذي يهتم بشرب الخمر -عياذاً بالله- يرى في نومه أنه يشرب الخمر، والذي يهتم بقراءة القرآن وطلب العلم وغير ذلك يرى أنه جالس في مجالس العلم، لأن هذا اهتمامه، ولأن حياته قامت على هذا، والذي يهتم أيضاً بجمع الدنيا يرى أنه يلهث يميناً ويساراً خلف صفقة أو غير ذلك، والذي يهتم بمنظره وجماله فوق ما أمر الشرع يرى ذلك، ولذلك نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن الإرفاء كما في حديث أبي الدرداء وسلمان الفارسي: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإرفاء).
وهو: أن يرجّل الرجل شعره دائماً.
طبعاً نحن لا ننهى عن التجمّل، فالله جميل يحب الجمال، وطيب يحب الطيب، لكن لا تكن حياتك كلها أمام المرآة؛ لئلا تصاب بالوساوس.
وبعض المصلين يصاب بالوسواس في داخل الصلاة، فيتحرك حركة مستمرة، ولذلك الأئمة يقولون: الحركة الكثيرة تبطل الصلاة، واختلفوا في الكثرة، ومرجعها إلى العُرف، والأصل في المصلي أن يقف بإخبات وذل وخضوع لله! وبعض المصلين في السعودية يكثرون من الحركة في الصلاة ويقولون: هذه حركة قليلة؛ لأن الشعب كله هكذا، فهذا مما عمت به البلوى.
أما في غير السعودية فإننا نتجرأ على الحكم بإبطال صلاته وأمره بالإعادة، لكن هناك لا نتجرأ؛ لأن العلماء هناك للأسف الشديد يتأسفون لهذا، ولذلك فإن أهل العلم وطلاب العلم لا يفعلون ذلك هناك إلا الجاهل من طلاب العلم بحكم المسألة، إنما أهل العلم ينهون عن ذلك هناك ويتأسفون جداً لما يحدث.
ومما يحدث أيضاً ويزيد الطين بلة: هو الالتفات.
كنت مرة أصلي الجمعة في الحرم والازدحام شديد جداً، وضغطوني حتى انحرفت لكني بقيت أصلي مؤدياً للركوع والسجود، ثم انفلت من الصف، فالذي على شمالي دفعني دفعاً حتى انحرفت يميناً لكني على أي حال ما زلت محاظفاً على التوجه للقبلة، ثم إنني اندفعت رغماً عني فقال لي أحد المصلين: كبّر مرة أخرى يا شيخ، وكنا في الركعة الثانية فاستمريت في صلاتي حتى سلمت مع الإمام، فقال لي ذلك الشخص: أنت الآن يلزمك أن تصلي الظهر مرة أخرى.
قلت: يا شيخ أنا اندفعت رغماً عني ولو أن واحداً أخذني بعنقي ولف بي هذا المسجد وأنا كاره لذلك حريص ألا يكون مني ذلك فإن صلاتي صحيحة ولا يلزمني شيء.
قال: لا.
بل اذهب إلى أهل العلم.
قلت: أنت الآن تصدّق أهل العلم؟ قال: طبعاً أهل العلم كيف ننكر عليهم؟ قلت له: تعال! وذهبت إلى الشيخ علي الهندي رحمه الله، فقال لي الشيخ: لا شيء عليك وصلاتك صحيحة.
قال: كيف يا شيخ أنت تفتي هذا بذلك؟ قلت: هل تريد أن نذهب إلى شيخ آخر؟ قال: نعم.
قلت: أريد أن(37/11)
معنى قوله: (ورؤيا المسلم جزء من خمسة وأربعين جزءاً من النبوة) وذكر أنواع الرؤيا
قال: [(ورؤيا المسلم جزء من خمسة وأربعين جزءاً من النبوة)].
وفي رواية: (رؤيا المؤمن جزء من خمسة وأربعين جزءاً من النبوة).
وليس معنى هذا أنك حينما ترى خمساً وأربعين رؤيا أنك نبي! وإنما هي مبشرات، فالنبوة انقطعت بنبينا عليه الصلاة والسلام، وإنما يبقى لنا المبشرات في الرؤيا الصالحة.
قال: [(والرؤيا ثلاثة)] أي: ثلاثة أنواع [(فالرؤيا الصالحة بشرى من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان)] يعني: الحلم السيئ أو الرؤية السيئة من الشيطان تصيبك بالحزن والهم والغم، [(ورؤيا مما يحدث المرء نفسه)] أي: أنها ليست من المبشرات ولا هي رؤيا سوء من الشيطان، إنما يرى المرء في منامه أنه يلوم نفسه، أو يحدث نفسه بحديث، أو يأمر نفسه بأمر، أو ينهاها عن نهي، أو يوبّخ نفسه أو غير ذلك.
قال: [(فإن رأى أحدكم ما يكره)] وهو من الشيطان [(فليقم فليصل)] أي: فليصل ركعتين.
وهذا الشرط السادس.
ولا بد من الوضوء فهو عبادة مستقلة عن الصلاة، ومع استقلال الوضوء عن الصلاة إلا أنه شرط في صحة الصلاة، ولا تعلق له بالصلاة، ولذلك فإن الشرع رتّب على الوضوء ثواباً معيناً ورتب على الصلاة ثواباً آخر، فهذا يدل على أن الوضوء عبادة مستقلة.
ولا تلزمك الصلاة إلا إذا حضر الوقت، لكنك إن صليت العشاء وتوضأت بعدها فلا تلزمك صلاة، ولو كان الوضوء مع الصلاة عبادة واحدة فلا يصح منك الوضوء إلا إذا صليت، لكن هذا لا يلزمك ولست مكلفاً به.
قال: [(فإن رأى أحدكم ما يكره فليقم فليصل، ولا يحدث بها الناس)] أي: بالرؤيا، أو الصلاة، ففي اللغة العربية أن الضمير يعود على أقرب مذكور، وأقرب مذكور في النص هو الصلاة، والمعنى: ولا يحدث بهذه الصلاة الناس.
أي: أنه يصلي صلاة سرية، فيقوم يصلي ركعتين لله عز وجل بإخلاص وتوجه لله، وهذا الكلام مقبول، وهذا النص يحتمله.
والقول الثاني: الرؤيا أي: ولا يحدث بهذه الرؤيا السوء الناس، حتى لا تضره.
وحمل الإطلاق هنا على ما جاء مقيداً في الروايات السابقة، وهذا الكلام وجيه.
والرأي الأول وهو: ولا يحدث بالصلاة الناس.
هذا الرأي لم أقرأه لأحد وإنما هذا أخرجته من عند نفسي، فإن شئت أن تأخذه لنفسك فلك ذلك وإلا فأنا أقول النص يحتمله وإن لم أطّلع عليه لأحد من الناس، والذي يترجّح لدي هو مذهب العلماء، وهو أن الضمير يعود على الرؤيا.(37/12)
معنى قوله: (وأحب القيد وأكره الغل)
قال: [(وأحب القيد وأكره الغُل، والقيد ثبات في الدين)].
إما أن يكون هذا الكلام مرفوعاً وإما أن يكون موقوفاً.
أي: أن هذه الرواية مدرجة، وقد يكون هذا من كلام النبي عليه الصلاة والسلام.
والمسألة محل نزاع، والراجح أنه كلامه عليه الصلاة والسلام.
والقيد دائماً يكون في القدم، والغُل يكون إما في اليد وإما في العُنق، وفي الغالب يكون بربط اليد في العنق، قال تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء:29] يعني: مربوطة.
فالنبي عليه الصلاة والسلام يحب القيد، يحب أن يرى رؤيا أنه مُقيد من قدمه؛ لأن القيد ثبات في الدين.
أي أنك إذا كنت في مجلس علم وأردت لتقوم تجد نفسك مربوطاً، تريد أن تنصرف من مجلس العلم لكن الله تعالى أراد بك أن تثبت في طريق الطلب، ورأيت في نومك أنك مقيد من قدمك في مكان مجلس العلم، أو مجلس الذكر، أو مجلس يؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، بخلاف الغُل، فإنه يدل على البخل والشح وغير ذلك، ولذلك اليهود عليهم لعنة الله سبوا الله تبارك وتعالى فقالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة:64].
[قال: فلا أدري هو في الحديث أم قاله ابن سيرين].(37/13)
شرح حديث: (رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة)
[وحدثني محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن أيوب بهذا الإسناد، وقال في الحديث: قال أبو هريرة: فيعجبني القيد وأكره الغل، والقيد ثبات في الدين.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة)].
ورد أنها جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، وورد أنها جزء من خمسة وأربعين، وورد أنها جزء من سبعين من رواية عبد الله بن عمر، وغير ذلك.
قال القاضي عياض: (أشار الطبري إلى أن هذا الاختلاف راجع إلى اختلاف حال الرائي، فالمؤمن الصالح تكون رؤياه جزءاً من ستة وأربعين جزءاً، والفاسق جزءاً من سبعين جزءاً على اختلاف درجة إيمان الرائي).(37/14)
باب لا يخبر بتلعب الشيطان به في المنام
(باب: لا يخبر بتلعّب الشيطان به في المنام).
أي: إذا رأى أحدنا شيئاً يكرهه فإنما هو من الشيطان، فلا يخبر أحداً به؛ لأن هذا من إخبار الغير بتلعّب الشيطان.
[حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث وحدثنا ابن رمح أخبرنا ليث عن أبي الزبير عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأعرابي جاءه فقال: (إني حلمت أن رأسي قُطع فأنا أتّبعه)] أي أنني رأيت في الرؤيا أن رأسي قُطع وأنا أجري خلفه أتبعه.
[(فزجره النبي صلى الله عليه وسلم وقال: لا تخبر بتلعب الشيطان بك في المنام)] أي: أن هذا من الشيطان فلا تخبرن به أحداً.
وفي رواية أبي سفيان عن جابر قال: [(جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله رأيت في المنام كأن رأسي ضُرب فتدحرج، فاشتددت على أثره)] أي: وأنا أعدو خلفه أطلبه.
[فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأعرابي: (لا تحدث الناس بتلعّب الشيطان بك في منامك)].
لكن لا بأس أن يحدث العالم كما حدث النبي صلى الله عليه وسلم.
[وقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بعد يخطب فقال: (لا يحدثن أحدكم بتلعّب الشيطان به في منامه).
وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو سعيد الأشج قالا: حدثنا وكيع -أي ابن الجراح العتكي الكوفي - عن الأعمش وهو سليمان بن مهران الكوفي عن أبي سفيان طلحة بن نافع عن جابر قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله رأيت في المنام كأن رأسي قُطع.
قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إذا لعب الشيطان بأحدكم في منامه فلا يحدث به الناس).
وفي رواية أبي بكر: (إذا لُعب بأحدكم ولم يذكر الشيطان)]، قوله: (إذا لُعب) مبني للمجهول، وفاعله مسمى في الحديث الآخر وهو الشيطان.
يعني: إذا لعب الشيطان بأحدكم فلا يحدث به الناس.
يقول الإمام النووي: (قال المازري: يُحتمل أن النبي عليه الصلاة والسلام علم أن منامه هذا من أضغاث الأحلام -وهي التخاريف- بوحي أو بدلالة من المنام دلّته على ذلك، أو على أنه من المكروه الذي هو من تحزين الشيطان.
وأما العابرون الذين يعبرون ويفسّرون الرؤى والأحلام فيتكلمون في كتبهم على قطع الرأس ويجعلونه دلالة على مفارقة الرائي ما هو فيه من النعم).
ففي تفسير الأحلام مثلاً لـ ابن سيرين يفسر قطع الرأس بمعنى أنه يزول عنك النعيم الذي أنت فيه.(37/15)
شرح صحيح مسلم - كتاب الشعر - حكم الشعر والأناشيد والنرد
الكلام إما منظوم أو منثور، وكل منظوم في العادة أفضل مما يوازيه من المنثور، والشعر كما كانت له مكانته عند العرب في جاهليتهم كانت له مكانته في الإسلام، إلا أن الإسلام هذب أغراضه واستعمله سلاحاً للدفاع عن الدين، والذب عن الملة.(38/1)
كتاب الشعر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وبعد: فقد اختلف الناس في الشعر، فمنهم الذام له مطلقاً، ومنهم المادح له المكثر منه مطلقاً.
والصواب: الاعتدال بين الأمرين، فما كان منه حسن ويدعو إلى مكارم الأخلاق ويبين مسائل التوحيد والعقيدة فلا شك أنه ممدوح وإن كثر، وما كان يدعو إلى الرذيلة والهجاء لأهل الإيمان وغير ذلك فلا شك أن هذا مذموم كل الذم.(38/2)
شرح حديث الشريد بن سويد في طلب النبي صلى الله عليه وسلم منه إنشاده شعر أمية بن أبي الصلت
قال المصنف رحمه الله: [حدثنا عمرو الناقد وابن أبي عمر -وهو محمد بن يحيى العدني نزيل مكة- كلاهما عن ابن عيينة -أي: أن كلاً من عمرو وابن أبي عمر يروي عن ابن عيينة، وهو سفيان بن عيينة أبو محمد المكي المدني - قال: قال ابن أبي عمر: حدثنا سفيان -يعني: سفيان بن عيينة - عن إبراهيم بن ميسرة] وهو من الطائف، نزل مكة واستقر بها، فتلقى عنه سفيان بن عيينة.
قال: [عن عمرو بن الشريد].
وهو أبو الوليد الثقفي الطائفي، من ثقيف، من الطائف، وقبيلة ثقيف كلها كانت تسكن الطائف، فكل من كان ثقفياً فهو طائفي إلا ما ندر.
قال: عن عمرو بن الشريد عن أبيه -وهو الشريد بن سويد رضي الله عنه شهد بيعة الرضوان- قال: (ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً)].
أي: ركبت خلفه على الدابة.
وهذا يدل على جواز أن يركب على الدابة اثنان أو أكثر أياً كانت هذه الدابة: حماراً بغلاً فرساً دراجة أو غير ذلك؛ لأن بعض الناس يتحرج أن يركب خلف أخيه على الدابة ويقول: المماسة إما تفيد الكراهة أو التحريم، وهذا كلام في غاية النكارة والبعد، فقد قام الدليل على جواز ذلك وفعله من هو خير مني ومنك، وهو النبي عليه الصلاة والسلام، فقد أردف خلفه قثم بن العباس، وعبد الله بن العباس، والفضل بن العباس، ومعاذ بن جبل، وأبا ذر، والشريد بن سويد، وأسامة بن زيد، ووالده زيداً، وبلال بن رباح، وأنس بن مالك وغيرهم كثير جداً، ولا فرق بين الدراجة وبين الحمار الذي سماه النبي عليه الصلاة والسلام (يعفور)، والذي يفرق إنما يفرق بغير دليل، والذي يحرم أو يكره إنما يحرم أو يكره كذلك بغير دليل، والأصل في ذلك الجواز.
ولذلك لفت نظر ابن منده كثرة إرداف النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه خاصة من الصغار، فصنف رسالة أسماها: (الأرداف)، ويمكن أن تقرأ: (الإرداف)، فسواء هذا أو ذاك، فقد جمع ابن منده في هذه الرسالة العظيمة جداً التي بلغت حوالي أربعين نصاً وزيادة جل من أردفهم النبي عليه الصلاة والسلام خلفه على الدابة، وأحاديثهم التي دارت في حال الإرداف، وهذا يدل ضرورة على أهمية هذا الأمر والاعتناء به، وحرص السلف على فعل ذلك، بل هو باب من أبواب الرحمة بالنسبة للصغار، وباب واسع جداً من أبواب الملاطفة للكبير، وتصور أن عظيماً يأخذ وراءه من هو أقل منه عظمة، وأن كبيراً يأخذ خلفه من هو أقل منه كِبَراً في القدر أو في السن، فهذا معاذ بن جبل أردفه النبي عليه الصلاة والسلام خلفه على الدابة وقال: (يا معاذ بن جبل! أتدري ما حق الله على العبيد؟ قلت: الله ورسوله أعلم).
وذكر الحديث بطوله.
فتصور أي شرف لـ معاذ بن جبل أن يقول: أردفني النبي صلى الله عليه وسلم خلفه على الدابة.
ففيه باب من أبواب الملاطفة ومن أبواب الموادعة، وهو عظيم جداً في تأليف القلوب.
وهذه الرسالة، أعني: (الإرداف)، قد حققتها منذ اثني عشر عاماً ولم تر النور إلى الآن، ولعل من استلمها مني يمن علينا قريباً بطبعها.
قال: ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت؟)].
أي: هل تحفظ شيئاً يا شريد من شعر أمية بن أبي الصلت؟ [قلت: نعم.
قال: (هيه)].
أي: هات، أو اقرأ، أو اقرض.
وقرض الشعر أولى من قراءته، لكن لا يقال: اقرض إلا لمن قرض الشعر نفسه، أما من حفظه فيقال: حافظ أو قارئ أو غير ذلك.
و (هيه) بكسر الهاء وإسكان الياء وكسر الهاء الثانية، ومعناها: هات ما عندك.
[(قال: فأنشدته بيتاً.
فقال: هيه -أي: زد- ثم أنشدته بيتاً.
فقال: هيه.
حتى أنشدته مائة بيت).
قال: وحدثنيه زهير بن حرب - أبو خيثمة النسائي نزيل بغداد- وأحمد بن عبدة جميعاً عن ابن عيينة -يعني: كلاهما يروي عن سفيان - عن إبراهيم بن ميسرة، عن عمرو بن الشريد أو يعقوب بن عاصم].
أي: أن إبراهيم بن ميسرة إما أن يكون روى عن عمرو بن الشريد أو عن يعقوب بن عاصم ولا يضر، والذي يترجح أنه روى عن عمرو بن الشريد؛ لأن معظم الروايات إنما ذكرت عمرو ولم تذكر يعقوب بن عاصم.
[قال: عن الشريد قال: (أردفني رسول(38/3)
شرح حديث أبي هريرة: (أشعر كلمة تكلمت بها العرب كلمة لبيد)
قال: [حدثني أبو جعفر -وهو محمد بن الصباح - وعلي بن حجر السعدي جميعاً عن شريك، قال ابن حجر: أخبرنا شريك، عن عبد الملك بن عمير، عن أبي سلمة عن أبي هريرة].
وأبو سلمة: هو ابن عبد الرحمن بن عوف، أبوه صحابي كبير رضي الله عنه وعن أبيه.
[قال أبو سلمة أي: ابن عبد الرحمن بن عوف الزهري عن أبي هريرة رضي الله عنه].
وأبو هريرة نجم وعلم من أعلام الصحابة مع قلة صحبته للنبي عليه الصلاة والسلام، فإنه لم يصحبه إلا أربع سنوات؛ لأن أبا هريرة أسلم في العام السابع من الهجرة، وأتى من بلاد دوس باليمن واستقر بالمدينة، بل دخل أبو هريرة المدينة والنبي عليه الصلاة والسلام راجع من غزوة خيبر، فلزمه أربع سنوات أو أقل من ذلك، لكنه لزمه على ملئ بطنه أو على شبعه، ولذلك قال أبو هريرة رضي الله عنه: إنما شغل إخواننا من الأنصار زراعتهم وشغل إخواننا المهاجرون تجارتهم ولم يشغلني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاغل، وإنما لزمته على ملئ بطني.
فضلاً أن النبي عليه الصلاة والسلام قد دعا له.
وقد أسلم أبو هريرة قبل أمه، وكانت أمه تحاربه في دينه وإسلامه، فلما جاء أبو هريرة إلى النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة وجده بخيبر، فانطلق من المدينة إلى خيبر، ووجدتهم قافلون إلى المدينة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (مرحباً بـ أبي هريرة، فرحب بـ أبي هريرة رضي الله عنه.
وقال: يا أبا هريرة! ألك عندنا حاجة؟ قال: يا رسول الله! ادع الله لأمي.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: اللهم حبب أبا هريرة إلى المؤمنين وحبب المؤمنين إلى أبي هريرة واهد أمه).
فانطلق أبو هريرة إلى أمه فرحاً يبكي بهذا الدعاء، وكانت حينئذ قد أسلمت في وقت حضور الدعوة.
ولما طرق الباب أبو هريرة قالت: من؟ قال: ولدك.
قالت: انتظر حتى أتم وضوئي.
فأسلمت ببركة دعوة النبي عليه الصلاة والسلام، وأتى بها أبو هريرة إلى النبي عليه الصلاة والسلام حتى تشهد صحبته، وحتى يحصل لها شرف الصحبة.
ولما رجع أبو هريرة إلى النبي عليه الصلاة والسلام رجع باكياً؛ من فرح ما وجد في أمه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (من يبسط رداءه فأدعو له فلا ينسى شيئاً بعده قط، فقال أبو هريرة: فكنت أول من بسط، فبسطت ردائي فدعا لي النبي عليه الصلاة والسلام: ألا أنسى شيئاً من العلم قط.
قال: اضمم إليك ثوبك يا أبا هريرة! فضممته.
قال: فما نسيت شيئاً من العلم قط) فهذه مؤهلات أو بعض مؤهلات أبي هريرة رضي الله عنه وهو غصة في حلوق الملاحدة والزنادقة، وإنما يسعون سعياً حثيثاً للطعن في أبي هريرة، وفي حقيقة الأمر هم يقصدون الطعن في دين الله عز وجل، وإنما اتخذوا أبا هريرة بالذات قنطرة للطعن في دين الله عز وجل؛ لأنهم يعلمون أن الثقة إذا زالت عن أبي هريرة زالت الثقة بمروياته كذلك، وأبو هريرة من المكثرين، بل هو أكثر من روى السنة على الإطلاق، فهدْمُ أبي هريرة هو هدم لركن ركين، وأصول عظيمة من أصول ديننا، وهيهات هيهات! فإن هذا هو دين الله عز وجل، وهو الذي يدافع عنه كما وعد: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38].
وأشهر الأقوال كما رجح ابن أبي حاتم ومن قبله أبوه: أن أبا هريرة اختلف في اسمه على نحو من ثلاثين اسماً، والراجح أنه: عبد الرحمن بن صخر الدوسي، وإنما نسي الناس اسمه لغلبة الكنية عليه، وهي أبو هريرة.
وسبب تكنيته بذلك أنه كان ينام في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام مع أهل الصفة من المهاجرين؛ لأنه كان فقيراً، وكانت هرة تداعبه وتلاعبه، وكذلك كان يداعبها ويلاعبها، فلما رأى ذلك النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أنت أبو هريرة).
وهريرة: تصغير هرة.
والهرة: هي القطة.
والنبي عليه الصلاة والسلام كان يفعل ذلك ببعض أصحابه.
ومن ذلك: أنه دخل المسجد فوجد علي بن أبي طالب رضي الله عنه نائماً على التراب في المسجد، فكان يكنيه بـ أبي تراب، مع أن كنية علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أبو الحسن، ولكن لما غلبت عليه صفة وهيئة وحال معين أطلقها النبي عليه الصلاة والسلام عليه من باب المداعبة والملاطفة معه رضي الله عنه.
قال: [عن(38/4)
شرح حديث: (أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد)
قال: [وحدثني محمد بن حاتم بن ميمون، حدثنا ابن مهدي، عن سفيان -وهو ابن عيينة - عن عبد الملك بن عمير، حدثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل.
وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم)].
يعني: هذا في وجه آخر، إذ إنه تكلم في حديث عن أمية، ثم تكلم في حديث آخر عن لبيد، ثم جمع بينهما في حديث واحد.(38/5)
شرح حديث: (أصدق بيت قاله الشاعر: (ألا كل شيء)
قال: [وحدثني ابن أبي عمر، حدثنا سفيان -وهو ابن عيينة - عن زائدة -وهو ابن قدامة - عن عبد الملك بن عمير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أصدق بيت قاله الشاعر: ألا كل شيء ما خلا الله باطل.
وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم)].(38/6)
شرح حديث: (لأن يمتلئ جوف الرجل قيحاً يريه خير من أن يمتلئ شعراً)
قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا حفص -وهو ابن غياث - وأبو معاوية -وهو محمد بن خازم الضرير الكوفي - وحدثنا أبو كريب -وهو محمد بن العلاء الهمداني الكوفي - حدثنا أبو معاوية، كلاهما عن الأعمش].
(وكلاهما) تعود على حفص وأبي معاوية؛ لأنه في الإسناد الأول جمع بين حفص وأبي معاوية.
وفي الإسناد الثاني ذكر أبا معاوية، إذاً: أبو معاوية مكرر في الإسنادين بزيادة حفص، وعليه فـ حفص وأبو معاوية كلاهما عن الأعمش، والأعمش هو سليمان بن مهران الكوفي.
قال: [وحدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا وكيع -وهو ابن جراح العتكي كوفي- حدثنا الأعمش، عن أبي صالح].
إذاً: الثلاثة: حفص بن غياث، وأبو معاوية الضرير، ووكيع يروون عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، وأبو صالح: هو الملقب بـ السمان، وهو أبو صالح السمان ذكوان المدني، واسمه ذكوان وهو مدني، ولقب بـ السمان؛ لأنه كان يجلب السمن والزيت من المدينة ويبيعها في الكوفة، فلقب بـ السمان لصناعة السمن أو تجارة السمن.
قال: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأن يمتلئ جوف الرجل قيحاً يريه، خير من أن يمتلئ شعراً).
قالا أبو بكر بن أبي شيبة: إلا أن حفصاً لم يقل: يريه].
وفي الإسناد الثاني، وهو إسناد سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً يريه، خير من أن يمتلئ شعراً).(38/7)
شرح حديث: (خذوا الشيطان، لأن يمتلئ جوف رجل قيحاً)
قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد الثقفي، حدثنا ليث، عن ابن الهاد].
وابن الهاد هو: عبد الله بن يزيد بن الهاد، هكذا لغة المحدثين، فلا يقولون: ابن الهادي، وإنما يقولون: ابن الهاد، والأفصح قول اللغويين وهو: ابن الهادي، فاللغويون يثبتون الياء دون المحدثين فإنهم لا يثبتونها.
قال: [عن يحنس.
وهو ابن عبد الله المدني أبو موسى مولى آل الزبير، وهذا الاسم سيئ؛ لأنه مشعر بالنصرانية، وكان من المفترض أن النبي صلى الله عليه وسلم يغيره، أليس كذلك؟! يحنس من الطبقة السابعة.
أي: أن بينه وبين النبي عليه الصلاة والسلام لا يقل عن ستين أو سبعين سنة، فكيف يغير النبي عليه الصلاة والسلام اسمه؟! قال: [عن يحنس مولى مصعب بن الزبير، عن أبي سعيد الخدري قال: بينا نحن نسير].
و (بينما) هي مكتوبة (بينا) بغير الميم، لكنها تنطق (بينما) وتكتب (بينا)، والفصيح في الكتابة (بينا)، وإذا قرئت تقرأ (بينما).
يعني: في الوقت الذي نحن فيه جلوس حصل كذا وكذا، كقول عمر: (بينا نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ اطلع علينا رجل شديد بياض الثياب) إلى آخر الحديث.
والمعنى: في حال جلوسنا مع النبي عليه الصلاة والسلام إذ اطلع علينا رجل، فهذا لبيان الحال.
قال: (بينا نحن نسير)، أي: بينما نحن نسير، يعني: في الوقت الذي نسير فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه مثل أن تقرأ: ثنا فلان، اختصار لكلمة: (حدثنا)، و (أنبا) فلان، اختصار لكلمة: (أنبأنا)، وهذا في لغة التحمل، أما في الأسماء فالأنبا منطقة سكانية.
قال: [بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرْج].
والعرْج اسم قرية، وهي من عمل الفرع على نحو ثمانية وسبعين ميلاً من المدينة، والفرْع هذا بجوار القصيم.
قال: [بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج، إذ عرض شاعر ينشد -يعني: خرج علينا رجل وهو ينشد- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خذوا الشيطان -سماه شيطاناً- أو أمسكوا الشيطان)]، ومعنى خذوا: أي: احجزوه وأمسكوه، ثم قال: [(لأن يمتلئ جوف رجل قيحاً، خير له من أن يمتلئ شعراً)].
لفظ الحديث يقول: (من أن يمتلئ): إذاً: فالمذموم الإكثار، والقضية لو كانت متعلقة بالإكثار فالمرء لو أن جوفه ومعدته امتلأت قيحاً خير له من أن تمتلئ شعراً فحسب.
ولذلك عندما تنظر لشخص يحب الشعر كثيراً -حتى وإن كان شعراً جيداً- فهو في ليله ونهاره يقرض الشعر ويصنع الشعر ويؤلف الشعر ويأتي إلى العروض ويصنع القوافي وغير ذلك، وهكذا حياته بالليل والنهار، وربما مضت من عمره السنين وهو على حاله هذه، وما فكر يوماً أن يأخذ كتاب الله تبارك الله تعالى بيديه ويقرأ فيه، فهذا الرجل مع اعترافنا بأنه يقصد شعراً جيداً حسناً إلا أنه مذموم، لأنه ألهاه عن ذكر الله، وألهاه عن كلام الله عز وجل، فأتت الكراهة هنا -وأنا أقول: الكراهة فقط- لأن هذا الشعر وإن كان حسناً إلا أنه ألهاه عن كتاب الله وعن سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وإن كان شعراً قبيحاً فهو حرام؛ لأنه أولاً قبيح في ذاته، ولأنه ثانياً -شغله- عن ذكر الله.
وأنا قد قلت في أول المحاضرة: إن العلماء اختلفوا في الشعر: فمنهم من مدحه مطلقاً، ومنهم من ذمه مطلقاً، لكن الصواب ما سيأتي.(38/8)
كلام الإمام النووي في الأحاديث الواردة في الشعر(38/9)
استحسان النبي صلى الله عليه وسلم لشعر أمية بن أبي الصلت
يقول النووي عليه رحمة الله: ومقصود الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم استحسن شعر أمية واستزاد من إنشاده؛ لما فيه من الإقرار بالوحدانية والبعث.
التي كانت مفقودة في زمن أمية، وعقيدة الإيمان بالبعث التي فقدها الدهريون قبل مبعث النبي عليه الصلاة والسلام.(38/10)
جواز إنشاد الشعر الذي لا فحش فيه
قال: [وفي هذا الحديث أيضاً: جواز إنشاد الشعر الذي لا فحش فيه، وكذلك سماعه، سواء شعر الجاهلية أو شعر الإسلام.
يعني: الشعر الذي يدعو إلى مكارم الأخلاق والفضائل والتوحيد وأركان الإيمان سواء كان شعراً جاهلياً قاله جاهليون كفار، أو قاله مسلمون، وعلى أية حال: (الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها التمسها).
حتى إن وجدتها عند كافر فهنيئاً لك.
وليس معنى: بأنه كافر أنه لا يتكلم قط بكلام حق، أو أنه لكفره يرد عليه كلما قال، وإنما يرد القول الباطل على من قال به وإن كان مسلماً موحداً، والقول الحق يقبل من قائله ولو كان كافراً.
وهذا الكلام أرجو ألا يكون شعارات نرددها، إذ إنه عند الاحتكاك العملي تظهر الترجمة العملية للإيمان بهذه القواعد التي نقر بها في أثناء الدرس، فلو قال لك رجل نصراني وأن تسرق: يا فلان! أليست السرقة حرام؟ قل له: نعم.
واشكره على ذلك، ولو قال لك ذلك أيضاً يهودي فاشكره على ذلك؛ لأنه أسدى إليك معروفاً، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من لم يشكر الناس لم يشكر الله)، فشكر الناس من شكر الله عز وجل، أي: جزء من شكر الله عز وجل، ولذلك قال: (من لم يشكر الناس)، ولم يقل: من لم يشكر المسلمين ولا المؤمنين، وإنما الناس، ولفظ (الناس) عام يشمل المسلم والكافر، فمن أدى إليك نصيحة أو معروفاً أو قال حقاً يقبل منه ويحترم ويشكر عليه وإن كان كافراً، وأن من قال قولاً باطلاً يخالف دين الله عز وجل يرد عليه وإن كان إماماً من أئمة المسلمين.
وهذا الكلام لا غبار عليه، وأرجو أن يظهر هذا الكلام في ترجمة عملية عند الاحتكاك، ولذلك العلماء كلهم ذموا التعصب كله، إلا التعصب للنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن التعصب للنبي عليه الصلاة والسلام خير وبركة؛ لأنه معصوم، أما أن يتعصب المرء لمن هو دونه حتى وإن كان من أصحابه رضي الله عنهم أجمعين فلا يصح هذا؛ لأن ما دون النبي عليه الصلاة والسلام يؤخذ من قوله ويرد.
لكن من الذي يأخذ من قولهم ومن الذي يرد عليهم؟ أهل العلم؛ حتى لا تظن في نفسك أنه يحق لك أن تعترض على أبي بكر وعمر وعثمان، فإياك أن تظن ذلك، فالذي يأخذ من قول العلماء هم أهل العلم وطلاب العلم النابغين، والذي يرد على العلماء هم أهل العلم وطلاب العلم النابغين، لكيلا يأتي بعد ذلك من لا يقرأ ولا يكتب ولا يحسن أن يصلي ويصوم ويقول: من أبو بكر هذا؟ هو رجل وأنا رجل، من أبو حنيفة؟ من الشافعي؟ لا، بل إنك تستحق أن تعلق برجليك إلى السقف وتضرب على رأسك إلى أن يخرج هذا النتن من عقلك، حتى لا تسول لك نفسك أن كل شخص من حقه أنه يعترض على كل أحد، فهناك أصول علمية، بل إنك بنفسك تقول ذلك.
قال: (وفي هذا الحديث منقبة ل لبيد، وإظهار فضله رضي الله عنه).(38/11)
حكم هجاء النبي صلى الله عليه وسلم
ثم يتكلم هنا ويقول: (قد أجمع المسلمون على أن الكلمة الواحدة من هجاء النبي صلى الله عليه وسلم موجبة للكفر).
وانتبه لهذا الكلام، إذ إن الذي ينقل هذا الإجماع هو النووي رحمه الله تعالى، قال: (قد أجمع المسلمون على أن الكلمة الواحدة من هجاء النبي صلى الله عليه وسلم موجبة للكفر).
يعني: من سب النبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر.
وقد نقل هذا الإجماع ابن المنذر وابن تيمية في الصارم المسلول، وابن حزم في كتابه: الإجماع، ونقله غير واحد؛ أن سب النبي عليه الصلاة والسلام كفر، وسب الدين كفر، وسب الله عز وجل كفر، والإجماع منعقد على هذه الثلاث: أن من سب الله تعالى كفر بلا نزاع ولا استتابة، ومن سب دين الله عز وجل كفر، ومن سب نبي الإسلام أو نبياً من الأنبياء كفر، لكن وقع النزاع في سب الدين، وهذا النزاع ذكره ابن تيمية عليه رحمة الله فقال: من سب الدين -مع استكمال الشروط وانتفاء الموانع- أي: لو أن شخصاً عاقلاً حراً غير مكره سب الدين فإنه يسأل: ماذا تقصد بالسب؟ هل تقصد طريقة أو خلق المسبوب؟ أو أنك تقصد دين الله؟ ولذلك أنا دائماً أقول: من سب دين الله، لا من سب الدين؛ لأن دين الله هو دينه الموجود بين دفتي القرآن الكريم وسنة النبي عليه الصلاة والسلام، فمن سب دين الله الذي هو دين الله المنزل من السماء من عند الله عز وجل على رسوله الكريم بواسطة جبريل، فإنه يكفر بلا خلاف، بل بإجماع أهل العلم.
وأما إن ضربك فلان فأردت أن ترد له الصاع بصاع أو بأكثر فسببت له الدين، فقلنا لك: سب الدين كفر ألا تدري ذلك؟ تقول: نعم أنا أدري أن سب دين الله كفر، ولكني ما قصدت دين الله، وإنما قصدت بسبي دين فلان أي: خلق فلان، فإنه في هذه الحالة لا يكفر بل يعزر، ليسب بأي أنواع السب إلا أن يذكر الدين، وإن قصد به الأخلاق أو المسلك أو غير ذلك، لكنه هنا على أية حال لا يكفر ولا يحد فيها حد الردة.
قال: (وقد أجمع المسلمون على أن الكلمة الواحدة من هجاء النبي صلى الله عليه وسلم موجبة للكفر.
قالوا: بل الصواب: أن المراد أن يكون الشعر غالباً عليه -وهذا في حالة الذم- مستولياً عليه بحيث يشغله عن القرآن وغيره من العلوم الشرعية وذكر الله تعالى، وهذا مذموم من أي شعر كان، حتى وإن كان شعراً إسلامياً).(38/12)
الانشغال بالأناشيد الإسلامية
وبهذه المناسبة نعرج شيئاً يسيراً على هذه الأناشيد الإسلامية، أولاً: أنا كنت صديقاً حميماً لـ أبي مازن، وكنا نسكن بجوار بعضنا البعض في الأردن سنوات طويلة، وكذلك أبو دجانة، فهم أصدقاء أحماء لي منذ سنوات طويلة، وأنا لا أعني هذان ولا غيرهما، وإنما أتكلم في القضية عموماً، ولكني أسترشد بحال أبي مازن وأبي دجانة، فإنهما كانا يبيتان الليالي الطويلة والأيام الطويلة لا شغل لهما إلا الشعر، فيسألون في كل وادٍ عن شعر جميل يصلح للإنشاد، شعر يصلح للصغار، للنساء، للطلاب المتوسطين وغير ذلك، ويعلمون الصبيان كيف ينشدون هذه القصيدة وغير ذلك.
يعني: كان ليلهم ونهارهم شغل بهذه الأناشيد، وفي الحقيقة كنت أمازح القوم، وكلما لقيتهم أقول لهم: قد ثبت في الصحيحين قوله عليه الصلاة والسلام: (لأن يمتلئ) إلى آخر الحديث، وأنا أكتفي بهذا النص، وأقول: إلى آخر الحديث، فكانا يردان علي: قد ثبت في الصحيحين: (ألا كل شيء ما خلا الله باطل)، فهما كانا يحتجان بأحاديث المدح، وأنا كنت أحتج بأحاديث الذم، وكلانا يمازح الآخر بأحاديث الذم، لكن في الحقيقة انشغال إلى أقصى حد! نعم هذان الأخوان من أهل القرآن، ويحفظان القرآن عن ظهر قلب حفظاً جيداً، ولهم حظ فيه يومياً بعد صلاة الفجر.
أي: كان لهم ورد يقرءونه قبل أن يخرجوا من المسجد، لكن شغلهم بالشعر كان زائداً جداً.(38/13)
حكم حفظ اليسير من الشعر
قال: (فأما إذا كان القرآن والحديث وغيرهما من العلوم الشرعية هو الغالب عليه فلا يضر حفظ اليسير من الشعر مع هذا؛ لأن جوفه ليس ممتلئاً شعراً).
أي: أن القضية الآن هي أن جوفك ممتلئ شعراً، لكن ما هو حد هذا الامتلاء؟ حده: إما أن يغلب القرآن والسنة والعلوم الشرعية الشعر، وإما أن يغلب الشعر عليهم، فإذا غلب الشعر على القرآن والسنة والعلوم الشرعية فإنه يعد ملء الجوف، وإذا غلب الآخر لا يعد ممتلئاً بالشعر، وإن كان فيه شعراً يسير فهذا لا يضر، لكن بشرط أن يكون هذا الشعر شعراً يدعو إلى مكارم الأخلاق.(38/14)
حكم الشعر
قال: (واستدل بعض العلماء بهذا الحديث على كراهة الشعر مطلقاً قليله وكثيره، وإن كان لا فحش فيه، وتعلقوا بقوله: (خذوا الشيطان).
وقال العلماء كافة -يعني: إجماع- هو مباح ما لم يكن فيه فحش ونحوه.
قالوا: وهو كلام -أي: الشعر- حسنه حسن وقبيحه قبيح).
وهذه تصح أن تكون قاعدة من قواعد أهل السنة والجماعة، إذ إن كل كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح وإن صدر من كافر، أو من أعظم الموحدين.
قال: (فقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم الشعر واستنشده وأمر به حسان بن ثابت لما قال له: (قم يا حسان فاهجهم)، أي: رد عليهم هذا الهجاء، وقلة الأدب والتطاول على دين الله ورسوله.
قال: (وأنشده أصحابه بحضرته في الأسفار وغيرها، وأنشده الخلفاء والأئمة الصحابة وفضلاء السلف ولم ينكره أحد منهم على إطلاقه، وإنما أنكروا المذموم منه وهو الفحش ونحوه.
وأما تسمية هذا الرجل الذي سمعه النبي صلى الله عليه وسلم ينشد شيطاناً فلعله كان كافراً، أو كان الشعر هو الغالب عليه، أو كان شعره هذا من المذموم)، فلابد أن يحمل قوله: (خذوا الشيطان) على هذه التأويلات.
قال: (وبالجملة فتسميته شيطاناً إنما هو قضية عين لا يجوز أن تتعدى إلى غيرها)، ومعنى: قضية عين: أي: أن حكمها يتعلق بها ولا يتعداها إلى الغير، وهذا استثناء من قاعدة: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهي قاعدة أصولية، فإذا كان اللفظ عاماً فهو يصلح لهذا القضية التي ورد من أجلها، وغيرها إذا كانت القضية تشترك مع القضية الأولى في العلة، أما هذه القضية فهي قضية عين، يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا القول متعلق بفلان فقط، ولا يجوز أن تتعداه إلى غيرها، يعني: لا يصح أن نقول لكل من ينشد الشعر: خذوا الشيطان، لكن ستقول لي: إن النبي قال ذلك، نعم النبي قال ذلك، لكن قوله مؤول على ما إذا كان الشعر قبيحاً مذموماً، أو كان يغلب عليه الشعر، أو أن الرجل كان كافراً، حتى لو كان مسلماً فإنها تحمل على أنه كان مسلماً ينشد شعراً مذموماً، ولذلك سماه النبي صلى الله عليه وسلم شيطاناً، وسماه هو دون غيره، ولذلك سمع النبي عليه الصلاة والسلام الكلام المذموم وغير المذموم، سمع الممدوح واستحسنه، كما سمع شعر لبيد وسمع شعر أمية، وأمر حساناً أن يهجو القوم، وأنتم تعلمون أن الهجاء مذموم، لكنه أمره بالهجاء رداً على الهجاء، من باب قول الله عز وجل: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148]، فهذا رد للظلم ودفع له، والله تعالى أعلم.(38/15)
باب تحريم اللعب بالنردشير
باب: (تحريم اللعب بالنردشير).
قول النووي: (باب: تحريم اللعب بالنردشير).
أي: أن اللعب بالنردشير حرام، ولم يقل بالكراهة رحمه الله.
والنردشير الذي يظهر: أنها الطاولة، وسُلم الثعبان، والضمنة، والشطرنج، لكن الشطرنج أخف.
وكلمة (الناردشير) كلمة فارسية معربة.
يعني: أن أصل هذه اللعبة أتت من عند أجداد الخميني من فارس.
قال: [حدثني زهير بن حرب، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه -وهو بريدة بن حصيب رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لعب بالنردشير، فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه)].
قوله: (فكأنما) الكاف للتشبيه، أي: أن الذي يلعب بالنردشير فكأنما أدخل يده دخولاً ممكناً في لحم خنزير وفي شحمه ودمه.
والخنزير محرم باتفاق لم يخالف في ذلك أحد، كما أن التعامل بشحمه أو لحمه أو دمه أمر لا يحل لمسلم أن يفعله، فكذلك اللعب بالنردشير وأخذ النرد بيدك، فإذا أخذت نرداً بيدك فكأنما تأخذ شحم خنزير ودم خنزير، وهذا لما كان حراماً باتفاق فينبغي أن يكون أخذ الزهر واللعب بالنردشير وما في معناه حرام كذلك باتفاق، كالضمنة وسلم الثعبان، وهذه المسائل كلها حرام سواء كان اللعب برهان أم بغير رهان.(38/16)
كلام النووي في باب اللعب بالنردشير
قال النووي: (هذا الحديث حجة للشافعي والجمهور في تحريم اللعب بالنرد).
وهذا كلام جمهور أهل العلم، فـ النووي ينقل أن هذا مذهب الشافعية باتفاق، وهو كذلك مذهب جماهير العلماء.
قال: (وقال أبو إسحاق المروزي من أصحابنا -أي: من الشافعية-: يكره ولا يحرم)، فهذا واحد في مقابل أمة يقول: إنه مكروه، والباقون على تحريمه.
قال: (أما الشطرنج فمذهبنا -أي: الشافعية- أنه مكروه ليس بحرام، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه كان ممن يذهب إلى تحريم الشطرنج، وإذا مر بأقوام يلعبونه قال: ما هذه الأصنام التي أنتم لها عاكفون)، يعني: عاكفون عليها كما كان أهل الجاهلية يعكفون على أصنام لهم يعبدونها من دون الله.
قال: (وهو مروي -أي: القول بالكراهة- عن جماعة من التابعين، وقال مالك وأحمد: حرام).
وتصور عندما تكون المسألة فيها خلاف بين أهل العلم: حرام ومكروه، ما موقفك أنت كمسلم؟ إذا اختلف العلماء في مسألة بين حرام ومكروه، فالاحتياط لدينك هو: (فمن اتقى الشبهات).
أليست المسألة عندما يكون فيها خلاف تجدها محل شبهة؟ بلى، فأنت كرجل موحد وتحب الرسول ماذا تعمل؟ (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه)، أي: طلب البراءة الأصلية لدينه وعرضه، ونزّه نفسه عن دنايا الأمور وسفسافها.
فالآن عندما يختلف العلماء في قضية ما على حلال أو مكروه أو حرام، فلو عملت هذا الشيء فمن الممكن أن أقع في الحرام، يعني: ممكن أن تكون هذه المسألة حرام عند الله، حتى وإن كنت أعتقد أنها مكروهة؛ لأنها ممكن أن تكون حراماً، فما الذي يضمن لي وممكن أن تكون مكروهة ويمكن أن تكون حلالاً، فالأسلم والأحوط للدين خاصة في زمن انتشرت فيه المعاصي بجميع ألوانها وأشكالها: أن يمتنع المرء عن أدنى ما فيه شبهة.
قال: (قال مالك: هو شر من النرد -فـ مالك وأحمد اتفقوا على أن هذا حرام-) أي: أن مالكاً لم يقل بالحرمة فحسب، بل إن حرمته شر من الحرام، مثل أن يقول لك: الدخان حرام، والحشيش حرام، والخمر حرام، لكن الحرمة مختلفة؛ لأن حرمة ما ثبتت حرمته بالقياس بخلاف ما تثبت حرمته بالنص، يعني: الآن النظر إلى المحرمات حرام، النظر إلى الأجنبيات حرام، والزنا بالأجنبيات حرام، فهل حرمة النظر كحرمة الزنا؟ لا، وإن كان الجميع يصدق عليه لفظ الحرام، وكذلك السجائر حرام، والخمر حرام، لكن لا يمكن أن تكون حرمة السجائر كحرمة الخمر، ولا يعني ذلك أنني أخفف من شأن السجائر، فأنا أقول أيضاً: إنها حرام، لكن حرمتها لم تثبت بالنص، وإنما ثبتت بفحوى النص، فلا يوجد نص بعينه يقول: إن الدخان حرام، لكن هناك نصوصاً كثيرة جداً يؤخذ منها ويستنبط منها حرمة الدخان، بخلاف الخمر فإن حرمتها ثابتة بالنص، فالحرام الثابت بالنص يختلف عن الحرام الذي ثبت بفحوى النص أو بإلحاقه بالنص قياساً.
والأخ الذي يسأل ويقول: ألعبه أم لا ألعبه؟ لو قلنا له: العبه وليس فيه شيء.
يعني: أكثر ما يقال فيه: إنه مكروه كراهة تنزيه، فيقول: يكفي فالشيخ قال لي يجوز، ويقول لامرأته: تعالي حتى أعلمك! ويظل طوال الليل والنهار يلعب مع امرأته، ويؤذن للظهر فيقول: حتى أكمل هذا الدور! ويكمل هذا الدور قبل العصر بنصف ساعة، فيخطف هذا الدور خطفاً ويجلس من أجل دور جديد؛ لأن امرأته عندما تعلمت صارت بارعة، وهو واقف أمامها، فيا ليته لم يعلمها، وكل مرة هي التي تكسب، فيريد أن يخطط ويتكتك جيداً حتى لو أخذ الدور أربع ساعات؛ لكيلا يغلبه أحد.
قال مالك: هو شر من النرد، وألهى عن الخير، وقاسوه على النرد وأصحابنا يمنعون القياس، ويقولون: هو دونه، ومعنى: (صبغ يده في لحم الخنزير ودمه) أي: في حال أكله منهما، وهو تشبيه لتحريمه بتحريم أكلهما)، يعني: التشبيه لتحريم النرد بتحريم أكل الخنزير.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.(38/17)
الأسئلة(38/18)
حكم محادثة الخاطب لمخطوبته بواسطة التلفون
السؤال
هل يجوز أن يكلم الخاطب خطيبته بواسطة التلفون وهو غير عاقد عليها؟
الجواب
سألت هذا السؤال لشيخنا الألباني عليه رحمة الله فقال: ولا يرسل إليها رسالة.
أنا أنقل إليك فتوى الشيخ، واللبيب بالإشارة يفهم.(38/19)
حكم التسبيح بأنامل اليد اليسرى
السؤال
قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسبح بأنامل اليد اليمنى، فهل يجوز لنا أن نسبح باليدين؟
الجواب
على أية حال إذا كان هذا ثابتاً لديك، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسبح بأنامل يده اليمنى، وهو أيضاً ثابت عندي، ولم يثبت أنه سبح بأنامل يده اليسرى قط، وإنما قال ناصحاً لأمته ولأزواجه: (اعقدن التسبيح على أناملكن، أو على الأنامل فإنهن يأتين مستنطقات).
والنبي عليه الصلاة والسلام كما ثبت في حديث عائشة وغيره: (كان يحب التيامن في كل شيء، أو التيمن في كل شيء إلا ما كان مستقذراً)، فهذا الحديث إنما خصص الحديث الأول، وهو حديث أم سلمة أنه قال لها: (اعقدن التسبيح على الأنامل).
واليد اليمنى واليسرى لها أنامل، لكن حديث عائشة يخصص هذا الحديث بعقد التسبيح على أنامل اليد اليمنى، وفي رواية أصرح من هذا: (اعقدن التسبيح بالميامن)، يعني: على أنامل اليد اليمنى، (فإنهن تأتي مستنطقات)، يعني: تنطق اليد يوم القيامة وتقول: يا رب! كان يسبح بي.
أما عقد التسبيح باليد اليسرى فلم يكن من هديه عليه الصلاة والسلام، وخير الهدي هدي محمد عليه الصلاة والسلام، لكن لو فعلتها لا تأثم، لكنك فرطت في باب من أبواب الاتباع الذي أنت مأمور به.
ثم كيفية عقد التسبيح على الأنامل اختلف فيها أهل العلم، وذكر هذا الخلاف الشيخ ابن تيمية عليه رحمة الله فقال: الأنامل هي عقدة الأصابع، إذ إن كل أصبع فيه ثلاث عقد، فهل الحديث يحث على عقد التسبيح على كل الأنامل التي هي عقدة الإصبع أم أنها طرف الإصبع؟ شيخ الإسلام ابن تيمية لما ذكر هذا الكلام رجح أن التسبيح يكون على أنملة واحدة من أنامل الإصبع.
يعني: تسبح على طرف الأصابع: سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله، ثم تأتي بدورة أخرى وهكذا، وقال: اليد فيها خمس أنامل يصدق عليها لفظ الأنامل في الحديث الذي هو جمع: أنملة، فكانت هذه خمس في اليد الواحدة، والخمس إنما هي جمع للواحد، يصدق عليها ما ورد في الحديث الآن.
لكن على أية حال أقول: إن الخلاف في هذه القضية خلاف بسيط، فسواء عقدت على كل أنملة أو على جميع الأنامل، يعني: سواء استخدمت أصبعاً واحداً في تسبيحة واحدة، أو في ثلاث تسبيحات فإن هذا أمر لا تأثم فيه.(38/20)
حكم إعطاء الصدقة لفقراء الأشراف
السؤال
هنا جماعة تسمى: الأشراف، يرفعون نسبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل يجوز لهم أخذ الصدقة مع أنهم فقراء؟
الجواب
لا يمكن، حتى لو أكلت من تحت رجلك، لكن بشرط أن النسب هذا يثبت فعلاً، فلا تضيع نفسك على نسب وهمي، والآن لو ذهبت إلى دار المحفوظات لكي تخرج نسبك ستعلم أنت ابن من؟ ومن أين أتيت؟ وذاهب إلى أين؟ وستجد الموظف هناك قد اكتسب لونه وصفته من نفس الدفاتر التي يبحث فيها! فيقول لك: أنت تريد أن تكون شريفاً أم ماذا؟! أولاً: تدفع ثلاثمائة جنيه، وهذا بسند رسمي وإذا كنت تريد أن تكون شريفاً؟ فيقول لك: إذاً: هات ألف جنيه، فإن أردت أن يجعلك نبياً فممكن أن تدفع ثلاثة آلاف جنيه ويحضر لك شهادة بأنك نبي! فأنا أريد أن أقول لك: إن معظم الشهادات التي تصدر من دار المحفوظات تصدر برشاوى، وهي مزورة، فأنت لا تجمع على نفسك بلوتين: بلوة أنك تكون شريفاً كذباً، وبلوة أنه في الوقت نفسه أنك ستكون مضطراً أمام هذه الشهادة المزورة ألا تأخذ الصدقات، وبالتالي ستضيع نفسك في الحالتين.
أما إذا ثبت فعلاً النسب والشرف فإن الصدقة لا تحل لك، والنبي عليه الصلاة والسلام لما أكل الحسن أو الحسين تمرة أو تفاحة ألقيت على الأرض من شجرة خارج البستان فأخرجها النبي عليه الصلاة والسلام من فمه، وقال: (كخ كخ! إنه لا يحل لنا آل البيت)، وخشي النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون هذه من ثمر الصدقة، أو من فاكهة الصدقة، خشي وهو غير متأكد هل هي من الصدقة أم لا؟ وفي الصحيحين: (نحن آل البيت لا تحل لنا الصدقة)، يعني: صدقات الناس: (وإنما هي أوساخ الناس).(38/21)
شرح صحيح مسلم - كتاب التوبة - الحض على التوبة والفرح بها
من طبيعة البشر الخطأ والوقوع في الذنب والمعصية، ومن رحمة الله عز وجل أن فتح لهم باب التوبة والرجوع إليه، وقد وردت كثير من النصوص القرآنية والنبوية في الحض على التوبة والرجوع إلى الله، وبيان أن الله عز وجل يفرح بتوبة عبده من أحدنا فقد راحلته في الصحراء وعليها متاعه ثم عاد ووجدها.(39/1)
تعريف التوبة وشروطها
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فأصل التوبة في اللغة: الرجوع، يقال: فلان تاب بالتاء المثناة من فوق، أو بالمثلثة -أي: رجع وعاد.
وفي اصطلاح الفقهاء أو العلماء: الرجوع والانخلاع والانفلات تماما ًمن الذنب.
وقد سبق في كتاب الإيمان أن تكلم الإمام النووي عن التوبة فقال: إذا كانت التوبة بين العبد وبين الله عز وجل فلها ثلاثة أركان، وزاد ركناً رابعاً، وذلك إذا كانت بين العبد والعباد وهو: رد المظالم إلى أصحابها.(39/2)
الشرط الأول: الإقلاع عن الذنب
ومعنى كلمة (ركن): أي: أنه داخل في ماهية وأساس الشيء، بل لا يقوم هذا الشيء إلا به، بخلاف الشرط، فإنه خارج عن ماهية الشيء وليس داخلاً فيه.
فمثلاً: الوضوء شرط في صحة الصلاة، وهو غير داخل في ماهية الصلاة، فمن توضأ لا يلزمه لزوماً أكيداً أن يصلي، فيمكن أن يتوضأ المرء ولا يصلي، لكن لا يمكن أن يصلي إلا بوضوء، فالوضوء عبادة مستقلة، والصلاة عبادة أخرى، والله تعالى قد جعل الوضوء شرطاً في صحة الصلاة.
مثال آخر: الركوع، وهو داخل في ماهية وأساس الشيء، فهو ركن من أركان الصلاة، فلو كان المرء متوضئاً ودخل في الصلاة، ثم ترك ركناً متعمداً أو ناسياً، لزمه أن يجبر هذا الركن بالإتيان بركعة أخرى، ولا يجبر بالسجود للسهو، وكذلك إن ترك السجود.
وهذا هو الفرق بين الشرط والركن، فالركن داخل في ماهية الشيء، والشرط خارج عن ماهية الشيء، فإذا قلنا: إن من أركان التوبة: الإقلاع عن الذنب، فإن الذي يدعي أنه قد أقلع عن الذنب، لكن لا يزال مصراً وقائماً على نفس الذنب فإنه ليس بتائب توبة حقيقية، فربما يتوب بعض الوقت، لكنه يرجع إلى المعصية مرة أخرى؛ لأنه لم يتب توبة نصوحاً، والتوبة النصوح: هي التوبة الصادقة الخالصة التي انعقد قلب المرء على الانسلاخ من الذنب انسلاخاً يؤدي إلى قلب هذا الذنب حسنات عند الله عز وجل؛ لعزمه وصدقه الأكيد.
فلو أن رجلاً ابتلي بكبيرة السرقة، أو كبيرة الزنا، أو شرب الخمر، وهو يقول: يا رب! تبت إليك من هذا الذنب، لكن سرعان ما يعود إلى نفس الذنب مرة أخرى، فهذا إما أنه لم يكن صادقاً ومخلصاً في توبته، وإما أن شهوته غلبته فعاد إلى نفس الذنب.
ففي الحالة الأولى: أنه لم يكن صادقاً ولا مخلصاً، فلا يكون هذا العبد تائباً على الحقيقة، وفي الحالة الثانية: أنه بالفعل قد أقبل على ربه، وامتلأت أحشاؤه وصدره حباً لله ولكتابه ولسنة نبيه، فهو صادق وعازم على ألا يرجع إلى الذنب، لكن شهوته تغلبه فيقع في الذنب مرة أخرى، فهذه الحالة بلا شك أنها خير وأفضل بكثير جداً، بل لا مقارنة بينها وبين الحالة الأولى، فإن الله تعالى يتوب على هذا العبد، وإن عاد إلى الذنب ثم تاب، حتى لو تكرر ذلك منه مرات ومرات، وهذا فضل الله عز وجل يؤتيه من يشاء.
الإقلاع عن الذنب يستلزم استجماع الحواس، أي: أنه لا يجزئك أن تقول بلسانك دون تدبر ولا تفكر ولا تعقل ولا عقد القلب على الإقلاع عن الذنب: يا رب! تبت إليك، أو يا رب! أستغفرك وأتوب إليك، فإن هذا لا يخدم العبد، وإنما الذي يخدمه أن تجتمع حواسه على الإقلاع عن الذنب، ويعقد قلبه على ذلك.
والذنب إذا تكلمنا عنه فإنما نتكلم عن أنفسنا، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (كل بني آدم خطاء - أي: مذنب- وخير الخطائين التوابون)، فالذنب لا بد من الوقوع فيه؛ لأن ما دون النبي عليه الصلاة والسلام غير معصوم من الوقوع في الكبائر، والصغائر من باب أولى.
وقد تضافرت وتظاهرت على ذلك الأحاديث المبينة بأن العباد لا بد أن يذنبوا، ولو لم يذنبوا لأخذهم الله واستبدلهم بغيرهم، وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يذنبون فيتوبون)، فالله تعالى يحب التوبة والأوبة والرجوع والإنابة إليه، ولذلك الأنبياء صلوات ربي وسلامه عليهم كانوا أكثر الناس استغفاراً وتوبة وإنابة وخضوعاً وذلاً، مع أنهم لم يأتوا من الأعمال ما يستوجب ذلك كله، لكنهم كانوا يعدون اللمم في حق أنفسهم أعظم من الكبائر، فكانوا يقدمون بين يدي دعائهم من التضرع والخشوع والذل ما لا يقدمه من هو دونهم في المنزلة والفضل -وإن ارتكب الكبائر- وهذا بلا شك من باب الاقتداء والأسوة بالأنبياء والمرسلين.(39/3)
الشرط الثاني: الندم على فعل المعصية
الشرط الثاني: الندم على فعل المعصية، أي: أن يتفطر ويتصدع قلبه ندماً وحسرة على ما بدر منه، إذ لا يكفي في التوبة أن يقلع عن المعصية فقط، بل يندم على المعصية.
وكثير من الإخوة بعد هدايته ومعرفته للطريق الصحيح يتملح ويتفكه بذكر معاصيه السابقة، فيقول: أنا كنت أفعل كذا وكذا ويضحك، إن هذا لا بد أن يعلم أنه بعد هدايته ومعرفته للطريق الحق، أنه قد سلك طريق التوبة من هذا الذنب، أو من هذه الذنوب كلها، فإذا ذكرها يلزمه أن يتصدع قلبه على ما كان منه، لا أن يذكرها على سبيل التفكه والتملح، بل هذا ذنب جديد يرتكبه العبد، فبعد أن عصى فرح بمعصيته، وهذا بلاء كبير جداً.(39/4)
الشرط الثالث: العزم على ألا يعود للذنب
الشرط الثالث: العزم على ألا يعود للذنب مرة أخرى، أي: أن يعزم ويعقد قلبه على ألا يرتكب مثل هذا الذنب مرة أخرى، فإن كان سارقاً عزم على ألا يسرق في المستقبل مهما بلغ به ضيق العيش؛ فإنه إن عاد للسرقة مرة أخرى فإن توبته غير صادقة.(39/5)
الشرط الرابع: رد المظالم إلى أهلها
الشرط الرابع: رد المظالم إلى أهلها إن كانت المعصية متعلقة بحق آدمي.
ثم إن من الذنوب التي بين العباد ما يمكن رده ومنها ما لا يمكن رده: فالذي يمكن رده مثل: سرقة المال، أو أي متاع أو منقولات أو غير ذلك، فهذا بلا شك أن دليل صدق التوبة: إرجاع الحق إلى صاحبه، وإلا فلا يكون صادقاً في توبته، وهذا مشروط بالإمكان، فلو أن شخصاً فقيراً لا مال له البتة، لكنه ابتلي ببلية شرب الخمر، فهو يسرق كثيراً ليشبع شهوته، وبعد أن تاب من السكر لا حاجة له إلى سرقة المال؛ لأنه كان يسرق لأجل الشرب، فلما تاب من الشرب تاب معها من السرقة، فإذا كان يسرق في اليوم -مثلاً- مائة جنيه لمدة سنوات عديدة، ثم حسبها فأصبح عليه عدة آلاف، فالغالب أنه لا يمكنه أن يؤدي هذا المال إلى صاحبه، لكن بإمكانه أن يستسمح من صاحبه، وينبغي أن يكون صاحب المال كريماً، فلا يرد هذا الطالب، أما إذا كان قادراً على رد المال فلا يجزئه طلب العفو، وإنما يلزمه لزوماً أكيداً أن يدفع الحق إلى صاحبه، إلا أن يعفو صاحبه بغير طلب منه.
لكن لو أن إنساناً في أيام شقوته وتعاسته كان يزني، ثم تاب من هذه البلية، فكيف يرد المظالم إلى أهلها؟ هل يذهب -مثلاً- إلى من زنى بامرأته أو أخته أو أمه ويقول له: هذه أمي، أو هذه ابنتي، أو هذه أختي ازن بها!! أم هل يدفع تعويضاً، أو دية لذلك؟! إن هذا باب من أبواب المظالم التي بين العباد التي لا يمكن ردها قط، وإنما يتوقف ذلك على إقامة الحد على هذا العبد، أو أن يتوب إلى الله عز وجل بغير إقامة الحد عليه، فيتوب الله عز وجل عليه أو يعذبه؛ لأن الله سبحانه وتعالى له أن يفعل ما يشاء، وهذه الكبائر إذا تاب منها العبد تاب الله عليه، وإذا أقيم عليه الحد كان في ذلك كفارة له، وإذا مات مصراً على الذنب فهو في مشيئة الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، إلا إذا استحل الذنب مع قيام الحجة عليه، فإنه يكفر بذلك.(39/6)
الامتناع عن مقارفة الذنب لسبب من الأسباب
قد يقلع الشخص عن الذنب لا ندماً، لكن لعلة تمنعه من مقارفة هذا الذنب، كإنسان كان يسرق، ثم أصيب بحادث فكسرت ذراعه أو رجله، فترك السرقة بسبب ما حصل له، لا أنه أقلع عن السرقة ندماً وحسرة وتوبة، وإنما منعه العذر من الذنب أو الوقوع فيه.
كذلك: إنسان كان يزني، لكنه لما كبر سنه ورق عظمه صار عاجزاً عن وصال النساء وعن جماعهن، فترك الزنا لذلك.
أيضاً: إنسان كان يتعاطى التدخين، وهو كبيرة من الكبائر، وبعضهم عده صغيرة، وعلى أي حال فإنه في الغالب أن من يدخن يقع في كبيرة؛ لأن أهل العلم قد أجمعوا على أن الصغيرة مع الإصرار تعد كبيرة، والإصرار: هو الإقامة على الذنب.
كذلك لو أن إنساناً سافر إلى محبوبته ومعشوقته في مكان آخر، فهو قد هم بالذنب وفكر فيه، واتخذ له الخطوات العملية للوقوع فيه، لكن حصل أن انقلبت السيارة، فتأخر عن موعد اللقاء بمعشوقته، فانصرفت وانصرف هو راجعاً إلى بيته، فهذا كمن زنى، لكن الفرق بينه وبين الزنا الحقيقي: أنه لا يقام عليه الحد في هذه الحالة، لكنهما في الإثم سواء، مع أنه في أثناء الطريق إلى معشوقته لو فكر في عذاب الله عز وجل، فخاف ووجل وخشع، ثم رجع إلى بيته تائباً نادماً، عازماً على ألا يقرب هذه المرأة ولا غيرها، فإن ذلك لا يستوي مع من ارتكب جريمة الزنا حقيقة، وإنما قد يتوب الله عليه.(39/7)
حكم التوبة عند أهل السنة
اتفق أهل العلم على أن التوبة من جميع المعاصي واجبة، وهذا الوجوب أظن أنه يتفق مع العقل فضلاً عن النقل.
ولذلك يقول أهل العلم: إن الإقلاع عن الذنب، أو عن جميع الذنوب واجب بالشرع، يعني: أنه قد جاءت الآيات والأحاديث، وإجماع الأمة، وقياس أهل العلم -وهذه هي المصادر الشرعية الأربعة- على وجوب التوبة من جميع الذنوب والمعاصي.
ولذلك العلماء إذا أرادوا أن يعبروا عن أمر أو يلحقوا أمراً بأدلته وقالوا: أدلته الشرعية أو النقلية، أو السمعية، فاعلم أن الدليل هو: قال الله وقال الرسول.
بخلاف ما لو قالوا: إن دليل هذه المسألة دليل عقلي، فيكون هذا الدليل محله الاجتهاد وليس محله النص، وإنما هو بذل وسع المجتهد أو الفقيه في إيجاد حل لمسألة ما، وهذه العملية تسمى: الاجتهاد، وإلحاق هذا الفرع بأصله لاتحادهما في العلة يسمى: القياس، وهي: عملية عقلية يبذلها المجتهد أو الفقيه للوصول بالفرع إلى إيجاد حل مشابه أو مساوي أو مماثل لأصله في الشرع.
ثم إن كل واجب لا يؤتى به فصاحبه آثم إلا من عذر، وأقول: واجب، لا مستحب ولا مندوب ولا مباح، فهذه كلها دون الوجوب، فإذا قلت لولدك مثلاً: يا بني! اذهب إلى فلان، أو لا تذهب.
فقد جعلته في دائرة المباح، إن شاء ذهب وإن شاء لم يذهب، بخلاف ما إذا قلت له: افعل كذا وكذا، وإن لم تفعل فسأعاقبك، فهذا الأمر يفيد الوجوب.
وكذلك الانخلاع من الذنوب أمر واجب بالشرع، فقد أمرنا الله تعالى في كتابه بالتوبة، وأمرنا الرسول عليه الصلاة والسلام في سنته بالتوبة دون استثناء، بل أمراً أكيداً، وعزماً شديداً على الإقلاع عن الذنب، وهذه النواهي التي نهتنا عن الذنوب، فأفاد الأمر الوجوب، وأفاد النهي حرمة الوقوع في الذنب، فالذي يترك هذا الواجب لا بد أنه آثم، وإثمه يختلف باختلاف الذنب، فإن كان الذنب كبيراً كان إثمه كبيراً، وله حكمه في الشرع، وإن كان الذنب صغيراً كان إثمه صغيراً، فمعرفة قدر الإثم تتوقف على معرفة قدر الذنب.
كما أن التوبة واجبة على الفور، فلا يجوز تأخيرها قط، سواء كانت المعصية صغيرة أو كبيرة، فإذا أذنب العبد لزمه أن يحدث له توبة، ولا يقول: سوف أتوب غداً، أو الأسبوع الذي سوف يأتي، أو سوف أبدأ أصلي من يوم السبت، أو من أول الشهر، أو من أول السنة الجديدة، أو السنة الميلادية، أو السنة الهجرية، فما الذي يضمن لك ذلك؟! يمكن أن يأتيك الموت الآن، فلو أنك أذنبت ذنباً فأحدثت له توبة فورية، ثم مت بعد التوبة، فهذا من حسن الخاتمة، ولو أن الله تعالى قبضك قبل التوبة من المعصية، فهذا من سوء الخاتمة.
والتوبة من مهمات الإسلام وقواعده المتأكدة، وقواعد الإسلام هي: الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، والتوحيد، والإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والبعث، والحساب، والجزاء، والجنة، والنار، وعذاب القبر، فهذه كلها تسمى مهمات الإسلام، يعني: أنها أهم شيء في الدين، فينبغي أن يفتش المرء في نفسه عن هذه المهمات، فيقول: ما موقفي من الصلاة؟ ما موقفي من الصيام؟ ما موقفي من الحج؟ ما موقفي من التوبة؟ ما موقفي من الزكاة؟ إن كثير من الناس معه المال الكثير، لكن لا يخطر على باله قط أن يخرج الزكاة، إما لكونه كان فقيراً لم يتعود منذ صغره على إخراج الزكاة، فلما اغتنى بعد ذلك بقيت معه فكرته، وإما لعدم التفكير في إخراج الزكاة، من غير أن يقصد الامتناع.
فهذا لا بد أن يراجع نفسه، ويحسب ماله إن كان ذهباً أو فضة، فإن بلغ النصاب، وحال عليه الحول، أو حالت عليه أحوال، فيحسب هذه الأحوال ويخرج الزكاة عنها، إلا أن تأكل الأحوال المال، فقد اجتهد أهل العلم في ذلك اجتهادات مختلفة: فمنهم من قال: يخرج عن عام واحد، وهو العام الذي هو بصدده.
ومنهم من قال: بل يخرج عن ثلاثة أو خمسة أو ما تطيب به نفسه وخاطره، أو ما يحقق له المصلحة من بقاء بعض المال وإخراج بعضه، إظهاراً للتوبة والندم، وغير ذلك من الاجتهادات، وأظن أن هذا أمر يرجع إلى علاقة كل إنسان بربه.(39/8)
حكم التوبة عند المعتزلة
وجوب التوبة عند المعتزلة فبالعقل؛ لأن العقل أصل عند المعتزلة، وهذا أمر قد تكلمنا فيه كثيراً، ولا داعي لذكر بعضه، ولذا فأقول: إن أدلة التوبة عند المعتزلة عقليه، أما أدلة التوبة عند أهل السنة فهي سمعية أو نقليه، أي: قال الله، قال رسوله.
فلو قلت لشخص ما: يا أخي! إن الزنا حرام.
فرد عليه قائلاً: إنه ليس بحرام، حتى يقول: ما دام أنه برضا المرأة فالرجل في مقام زوجها! ثم تقول له: قال الله كذا، وقال الرسول كذا، وقال ابن تيمية كذا، وقال أحمد بن حنبل كذا، وقال ابن القيم كذا، وتأتي له بأدلة من الكتاب أو السنة أو إجماع أهل العلم أو القياس على حرمة الزنا، ومع ذلك فهو باق على معصيته، ثم إذا أصيب بالزهري أو السيلان، هذان المرضان اللذان يفتكان بالعبد، ولا يصاب بهما إلا من قبل الزنا، وسبحان ربي! فالمرء يجامع امرأته فلا يصاب بهذا، ويجامع غيرها فيصاب، إنه أمر خطير جداً ينبغي التوقف عنده، ومع أن العملية أو الوصال أو الإتيان واحدة، لكن هنا يبارك له فيه، وهناك لا يبارك له فيه، أمر عجيب جداً! وقدرة إلهية عجيبة! ثم إذا ذهب إلى الدكتور، وقال له الدكتور: خطر الزنا من الناحية الطبية على الأعضاء، أو على البدن، أو على النفس كذا وكذا، وأخذ يعدِّد له النتائج الوخيمة للزنا، حتى يقنع ببشاعة وحرمة الزنا، وحتى يقول: إن هذا الكلام معقول جداً، وبالتالي أنا سوف أمتنع عن الزنا، فهو قد امتنع عنه عقلاً لا نقلاً، لكن قبل ذلك قلنا له: قال الله، قال رسوله، فلم يقبل، فهذا يكون قد امتنع عن الذنب على مذهب المعتزلة، وبالتالي فتوبته فيها نظر.
أيضاً: لو أن شخصاً مولعاً بالتدخين، ثم قلت له: قال الله، قال رسوله، ولم يمتنع عن التدخين، حتى جاء إليه شخص آخر بأسلوب علمي، فذكر له أن التدخين سبب في أمراض خطيرة جداً، كالقلب والرئتين وغيرهما، فامتنع عن التدخين، فإن كان امتنع عن التدخين لأدلة الكتاب والسنة فتوبته مقبولة، وإن لم يرجع عن ذنبه إلا لهذا دون النظر إلى تحريم الله عز وجل، وتحريم الرسول، فلا شك أنها ليست توبة، وهو على خطر عظيم، ولا يجب على الله قبولها؛ لأن الله تعالى لا يجب عليه شيء، وإذا أوجب الله تبارك وتعالى على نفسه شيئاً فإنما هذا فضل من الله عز وجل أوجبه على نفسه، كما في حديث معاذ بن جبل: (أتدري ما حق العباد على الله؟ -أي: حق العباد على الله إذا أتوا بالتوحيد-قلت: الله ورسوله أعلم.
قال: أن يغفر لهم).
يعني: إذا كانوا موحدين فالجزاء: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ -وأعظم الإحسان هو توحيد الله تبارك وتعالى - إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، والإحسان هو التوبة والمعفرة.
فإذا كان الأمر كذلك فإنه ليس لأحد أن يوجب على الله شيئاً، وإنما يوجب الله تبارك وتعالى على نفسه ما يشاء، كما أن الله تبارك وتعالى حرم علينا أن نقسم بغير ذاته وأسمائه وصفاته، حرم علينا القسم بغير هذا، وأقسم هو بالمخلوقات سبحانه وتعالى، فأقسم بالشمس، والضحى، والقمر، والليل، والعصر، وهذه كلها مخلوقات، فله أن يفعل ما يشاء، فله أن يقسم بالعظيم من مخلوقاته، مع أنه لا يحل لنا قط أن نقسم بالشمس، ولا بالقمر، ولا بالنجم، ولا بالأنبياء، ولا بالمرسلين، ولا بالملائكة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (من أقسم بغير الله فليقل: لا إله إلا الله)، أي: كفارة من أقسم بغير الله عز وجل أن يقول: لا إله إلا الله.(39/9)
مسائل متفرقة في باب التوبة(39/10)
حكم من تاب من الذنب ثم ذكره
إذا تاب العبد من الذنب ثم ذكره بعد ذلك، فهل يجب عليه أن يجدد الندم والتوبة أم لا؟ قال بعض أهل العلم: يجب.
وقال البعض: لا يجب؛ لأن الذنب إنما يكفي منه إحداث توبة واحدة، ثم إن العبد إذا أذنب ذنباً فلا يكاد يفارقه حتى يلقى ربه، وبالتالي ربما يؤدي هذا بالعبد إلى اليأس من رحمة الله عز وجل، فهو دائماً في حسرة وندم وغم وهم، فيعطله ذلك عن القيام بمهام الإسلام الأخرى، أي: أنه يصبح عنده من الهم والندم ما يعجزه عن الإتيان بالواجبات والمهمات العظام، لذا كان يكفيه أن يتوب من الذنب مرة واحدة.(39/11)
صحة التوبة من ذنب مع الإصرار على ذنب آخر
وتصح التوبة من ذنب وإن كان مصراً على ذنب آخر؛ لأن كل ذنب له توبة تخصه كما قال العلماء، فلو أن إنساناً يسرق ويزني، ثم تاب من السرقة، لكنه لم يتب من الزنا، فإن استمراره على الزنا لا يؤثر على توبته من السرقة، وتوبته من الذنب الأول مقبولة، ويبقى عليه أن يتوب من الذنب الثاني.
وإذا تاب توبة صحيحة بشروطها، ثم عاود ذلك الذنب، كتب عليه ذلك الذنب الثاني، ولم تبطل توبته الأولى، وهذا مذهب أهل السنة في المسألتين، وخالفت في ذلك المعتزلة فقالوا: الأصل أن يتوب توبة عامة من جميع الذنوب، وإلا فلا تقبل توبة جزئية، وهذا -حتى من جهة العقل- الذي يتشدق به المعتزلة كلام غير مقبول.
ولذلك إذا أتى شخص يقول: أنا أسرق وأزني، وقد تبت من الزنا، ولا زلت قائماً على السرقة، فهل تقبل توبتي أم لا؟ فإن قلنا له: لا بد أن تتوب من الاثنين، وإلا فتوبتك غير مقبولة، سيقول: إذن ما دام أن توبتي لم تقبل، فسأعمل الذنب الثاني والثالث والعاشر والمائة.
فيقع في جميع الكبائر والصغائر، فكان من جهة العقل أن ينخلع من ذنبه المتبقي، أما أن نوصد الباب أمامه تماماً فلا شك أن ذلك يؤيسه ويقنطه من رحمة الله، وإذا بلغ إلى هذا الحد فإن ذلك يوقعه في جميع الكبائر باستهتار، وربما باستحلال فيقع في دائرة الكفر.(39/12)
قبول توبة الكافر من كفره
إن توبة الكافر من كفره مقطوع بقبولها، وهذا بإجماع أهل العلم، فلا يفرق بين توبة الكافر من الكفر، وتوبة المسلم العاصي من معصيته.
والأصل في هذا: ما جاء في صحيح مسلم، أن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: (لم يكن أحد أبغض إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى شرح الله تعالى صدري للإسلام، فأتيته فقلت: يا رسول الله! مد إلي يدك لأبايعك! أي: على الإسلام، فلما مد يده قبضت يدي، فقال: ما لك يا عمرو؟ -أي: لم قبضت يدك؟ - فقلت: يا رسول الله! أبايعك على أن يغفر لي).
ومعلوم أن بغض الرسول من أعظم الكفر، فهو أراد أن يطمئن على نفسه إذا أسلم هل يغفر له في ما قد مضى أم لا؟ (فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يا عمرو! أما علمت أن التوبة تجب ما كان قبلها -أي: تغفر ما كان قبلها- أما علمت أن الحج يجب ما كان قبله، أما علمت أن الهجرة تجب ما كان قبلها).
فهذه ثلاثة أعمال تغفر جميع الذنوب: الكبائر والصغائر، وإن كان الحج فيه خلاف: هل يكفر الذنوب الكبائر والصغائر، أم الصغائر فقط؟ الراجح من أقوال أهل العلم استظهاراً للأدلة: أن الحج يكفر حتى الكبائر.
ثم إن توبة الكافر من كفره تكون بالانخلاع من الكفر، والدخول في الإسلام، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (الإسلام يجب ما كان قبله)، أي: يمحو ما كان قبله، والذي قبل الإسلام إنما هو الكفر، فلو أن كافراً قال الآن: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، غفر الله تبارك وتعالى له جميع كفره وأعماله التي كان قد عملها حال كفره، أما أعماله الصالحة التي كان يعملها في جاهليته وفسقه فإنه يثاب عليها بإسلامه، وليس معنى ذلك أن جميع أعمال الكفار أعمال كفرية، بل منها ما هو صالح، ومنها ما صلاحه متعد إلى الغير، ومن المعلوم أن الكذب كان مذموماً في الجاهلية، وحديث أبي سفيان مشهور في ذلك.
وكذلك أهل الجاهلية كانوا أهل كرم ونجدة، وهذه كلها خصال حميدة، فإذا أتى بها الكفار ثم أسلموا، كافأهم الله تبارك وتعالى عليها قبل الإسلام وبعد الإسلام، وإذا ماتوا على كفرهم، فإن الله تعالى يكافئهم عليها في دنياهم؛ لأن الله تعالى يعلم أن هذا العبد سيموت على الكفر، أو يعلم أن هذا العبد سيموت على الإيمان، فإذا سبق في علم الله أن هذا العبد يموت على الكفر، لكنه كان يعمل صالحاً في حياته، فإنه يكافئه الله تعالى عليه.
ولهذا عندما يذهب المسلم إلى بلاد أوروبا أو أمريكا، فيرى هناك البلاد الجميلة، ويرى النعيم الذي هم فيه، فيحدث نفسه فيقول: في الجنة أكثر من هذا النعيم، وربما قال: هؤلاء الكفار أكرمهم الله بهذا النعيم، وذلك مكافأة منه سبحانه على أعمالهم الحسنة، فإذا ماتوا يكون الحساب وافياً كاملاً، فالله زاد لهم في الدنيا، وفتح عليهم في الدنيا، حتى إذا قدموا على الله عز وجل كانت لهم النار خالدين مخلدين فيها أبداً، ولذلك كثير من الناس من يذهب إلى هناك فيفتن بسبب ذلك.(39/13)
عدم القطع بتوبة المسلم العاصي
هل توبة المسلم العاصي مقطوع بها أو مظنونة؟ خلاف بين أهل السنة، والظن أنه يمكن أن يرجع إلى المعصية مرة أخرى، ورجوعه ومعاودته للذنب بل والوقوع في ذنوب أخرى جعل توبته غير مقطوع بها.
وأقول أيضاً: إن الكافر إذا أسلم صار حكمه حكم المسلم من جهة المعصية لا من جهة الكفر.(39/14)
باب الحض على التوبة والفرح بها
الحض بمعنى الحث، يعني: أدلة يظهر منها حث الله تعالى ورسوله الكريم العباد على التوبة.(39/15)
شرح حديث فرحة الله بتوبة العبد من رواية أبي هريرة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثني سويد بن سعيد، حدثنا حفص بن ميسرة، وهو العقيلي أبو عمر الصنعاني نزيل عسقلان، حدثني زيد بن أسلم المدني، عن أبي صالح السمان ذكوان المدني، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهو عبد الرحمن بن صخر الدوسي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قال الله عز وجل -إذن الحديث قدسي، وليس بلازم إذا سمعت: قال الله عز وجل أن ذلك قرآن، وإنما يمكن أن يكون حديثاً قدسياً- أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حيث يذكرني)].
وفي رواية عند أبي داود (أنا عند ظن عبدي بي، فليظن عبدي بي ما شاء، إن ظن بي ظناً حسناً سيجدني عند ظنه، وإن ظن بي ظن سوء سيجدني عند ظنه).
يعني: لو أن إنساناً تاب إلى الله عز وجل توبة صالحة خالصة، لكنه قال: لا يغفر لي.
فهذا إساءة ظن بالله عز وجل، فالمرء يتوب وتحمله توبته على الإكثار من العمل الصالح، حتى يعضد توبته السابقة، ثم يحمله وجله وخوفه على الإكثار من العبادة والنوافل والقرب إلى الله عز وجل، ثم يحسن الظن بربه أنه لن يخيب رجاءه فيه؛ لأنه لو أساء الظن بربه لأساء المعتقد، ومن قدم على ربه سيئ العقيدة فيه فلا شك أنه يجازى على ذلك.
والمعية في الحديث: معية سمع وعلم وإحاطة لا معية ذات؛ لأن ذات الله العلية فوق السماوات على العرش، فهو تبارك وتعالى مع عباده بسمعه وعلمه، وهذا لا يتنافى مع علوه فوق سماواته.
وهنا انتهى الحديث القدسي، ثم يبدأ الحديث النبوي بالقسم، والقسم لإفادة صدق المقسم، والنبي عليه الصلاة والسلام صادق بغير قسم، فلو أخبر بخبر لكان صادقاً فيه بغير قسم، وإنما أقسم للتأكيد على أهمية الأمر.
قال عليه الصلاة والسلام: (والله! لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة).
والفلاة: الصحراء التي لا زرع فيها ولا ماء، وتصور لو أن شخصاً أخذ دابته ومشى بها في صحراء مقفرة قاحلة، وعليها طعامه وشرابه، ثم أجهده السير فنزل بجوار شجرة وأخلد إلى الراحة، فلما استيقظ لم يجد راحلته، فصار يضرب في شرق الصحراء وغربها ليجد راحلته وضالته، فلم يفلح في ذلك، حتى يئس من رجوعها، فرجع وقال: أنام عند الشجرة حتى الموت -لا سيبل له إلا هذا- لأنه لو أراد أن يرجع إلى مكانه الأول لمات في الطريق، فلأن يموت في الظل خير له من أن يموت في الحر، فرجع فنام، فلما استيقظ وجد دابته وعليها الزاد والمتاع، عند ذلك سيفرح فرحاً شديداً، -ولله المثل الأعلى- فالله أفرح بتوبة العبد إن عاد ورجع إليه من هذا براحلته، فهو لو ارتكب جميع الذنوب والمعاصي فإنه لا يضر الله شيئاً، ولو أتى بجميع الطاعات فلن ينفع الله شيئاً؛ لأن الله تعالى هو النافع والضار، والله تعالى ينفع ابتداءً ولا يضر إلا من اختار المضرة لنفسه أو للغير، فحينئذ يوقع الله به الضرر، كما في قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:54] فالله تعالى لا يوصف بالمكر ابتداءً، وإنما يوصف بالمكر جزاءً لمكر سابق، وهذا من عظيم قدرته تبارك وتعالى، وأنه عليم بما تخفي الصدور، وأن مكر الماكرين، وكيد الكائدين لا يخفى عليه عز وجل، فإذا مكر الماكرون فالله تبارك وتعالى يمكر بهم أشد من مكرهم؛ لأنه خير الماكرين سبحانه وتعالى، ولا يجوز أن يوصف الله تعالى بالمكر ابتداءً؛ لأنها صفة نقص، كما في قوله تعالى: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} [السجدة:22]، فلا يجوز لأحد أن يقول: إن الله هو المنتقم، لكن الانتقام صفة لله عز وجل في مقابل إجرام المجرمين، فإذا قال العبد: ربنا سوف ينتقم من فلان.
فأنت تذمه ولا تمدحه؛ لأن هذا أسلوب ذم، والله تبارك وتعالى لا يذم، بل يمدح بكل كمال وجلال، وإذا وصف بصفة فيها ذم فاعلم أنها في جهة الكمال، وذلك إذا كانت متعلقة بالذات الإلهية؛ لأنه لا يوصف بهذا إلا في مقابلة فعل استوجب ذلك: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} [السجدة:22]، ولم يقل: إنا من المؤمنين منتقمون، أو من الموحدين، أو من المسلمين، أو من الطائعين، وإنما قال: من المجرمين.
والله لا يظلم العبد الموحد، فإذا ظلمه أحد ولم يستطع أن يأخذ حقه، فسأل الله أن يأخذ بحقه من ظالمه، فقال: يا رب! خذ حقي من فلان.
فأخذ الله له حقه من فلان، عند ذلك سيقول: سبحان الله! إن الله قادر على كل شيء.
فما معنى أنه عرف الآن أن الكمال لله؟! مع أن هذا انتقام للإجرام الذي سبق منه، والله تعالى لا يوصف بالانتقام ابتداءً إلا في مقابلة إجرام وظلم.
قوله عليه الصلاة والسلام: (والله! لله أفرح بتوبة)، يقال: فلان فرح، يعني: فلان منتشي، وفلان سعيد، وفلان حصل عنده مناسبة سعيدة ففرح لها وطرب، وفلان لم تسعه الدنيا، وتعبيرات كثيرة جداً تدل على أن هذا العبد في حالة حسنة، وإذا كان هـ(39/16)
أقوال أهل العلم في المراد بقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ومن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله لله أفرح بتوبة العبد من أحدكم يجد ضالته بالفلا)] اختلف أهل السنة في ذلك، وهذا الخلاف بين أهل السنة إنما هو في فروع الاعتقاد، وهو خلاف معتبر، إذ أن أهل السنة قد أجمعوا على أصول السنة وأصول الدين، ولم يختلفوا فيها، فلو أن واحداً قال بجميع ما قال به أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بأصول الاعتقاد، لكنه قال: إن الله لا يرى بالأبصار في الآخرة، فهذا يكون معتزلياً؛ لأن رؤية المولى عز وجل في الآخرة أصل من أصول الإيمان، دون أهل الكفر والجحود والكفران، فإنهم لا يرونه عقوبة لهم على ذلك.
والذراع من الرسغ إلى المرفق، وقالوا: الباع من الرسغ إلى المنكب، أي: الكتف، قال: بعض أهل السنة: هذا التقدير في طريق التوبة يدل على أن الله تعالى يقبل على عبده أكثر من إقبال العبد عليه، مع استغنائه عن حاجاتهم، فهذا فضل وكرم من الله عز وجل, وقال بعضهم: لا، بل هذا نص نجريه على ظاهره.
أيضاً: من المسائل التي وقع فيها خلاف بين أهل السنة، وهو خلاف معتبر: رؤية النبي عليه الصلاة والسلام لربه في ليلة الإسراء والمعراج، فقد اختلف فيها الصحابة رضي الله عنهم، فقال بعضهم: إن النبي عليه الصلاة والسلام رأى ربه، وقال بعضهم: لم ير ربه، إذن هل سنخرج أحد الفريقين من دائرة السنة وندخله في البدعة؟ لا؛ لأن المسألة من فروع الاعتقاد، وما دام وقع الخلاف فيها بين السلف فلا يزال الخلاف قائماً إلى قيام الساعة بغير نكير على جميع الأطراف، فإذا جاء أحدهم وأخذ بمذهب عائشة، وهو قول أهل السنة، من أن النبي عليه الصلاة والسلام لم ير ربه، فهل الذي يذهب مذهب ابن مسعود وابن عباس وغيرهم يقول: لا, بل قد رأى ربه؟ ثم يشنع على الآخر ويقول له: أنت ضال، أنت مبتدع، إن هذا الكلام لا يجوز؛ هل ينفع هذا الكلام؟ لا، لماذا؟ لأن وجود الخلاف بين الصحابة مع عدم تضليل بعضهم لبعض يدل على أن الخلاف في هذه القضية سائغ ومعتبر، بينما الخلاف في الأصول يكون غير معتبر، فقد يخرج المرء من دائرة السنة إلى دائرة البدعة.
إذاً: بعضهم التزم ظاهر النص، والبعض الآخر قال: المقصود من الحديث: سرعة إقبال الله عز وجل على العبد أكثر من إقبال العبد عليه، وقال بعضهم: تقرب العبد إلى الله كناية عن التوبة، لكن هذه الكناية إطلاق اللفظ وإرادة لازمة، مثل قول: الخنساء تصف أخاها: طويل النجاد رفيع العماد كثير الرماد إذا ما شتى قولها: (طويل النجاد) أي: أنه إنسان طويل، والطول ممدوح عند العرب، حتى يقولون: الطول هيبة وإن كان خيبة، حتى لو كان صاحبه غير صالح.
وقولها: (رفيع العماد)، العماد هو ما يعتمد عليه، مثل: القائم في الأرض، كالخشب أو الحديد، أو العكاز، فهي لم ترد أن تصفه أنه يمشي متكئاً على عمود، وإنما أرادت أن تكني عن شرفه وحكمته ومكانته العظيمة عند قومه.
وقولها: (كثير الرماد) كناية عن الكرم؛ لأن كثير الرماد فيه دلالة على إشعال الحطب وشوي اللحم للضيوف، لكن قلة الفئران في البيت إشارة إلى الفقر، يذكر أن امرأة ذهبت للولي وقالت له: إني أشكو قلة الفئران في بيتي.
كناية منها عن فقرها؛ لأن الفئران ماذا تعمل في بيت ليس فيه إلا البلاط؟ ماذا تعمل الفئران في بيت ليس فيه إلا الرياح؟ لا بد أن ترحل الفئران.
والأولى عندي أن تجرى هذه النصوص على ظاهرها، فنؤمن بها ولا نأخذ في كيفيتها، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة.(39/17)
شرح حديث فرحة الله بتوبة العبد من طرق أخرى
قال: [حدثنا عبد الله بن قعنب القعنبي، حدثنا المغيرة بن عبد الرحمن الحزامي، عن أبي الزناد، وهو عبد الله بن ذكوان، عن الأعرج عبد الرحمن بن هرمز المدني، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لله أشد فرحاً بتوبة أحدكم من أحدكم بضالته إذا وجدها).
وحدثنا عثمان بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم -وهو المعروف ابن راهويه -واللفظ لـ عثمان - أي: هذا السياق من طريق أو من لفظ عثمان بن أبي شيبة لا من طريق ابن راهويه - حدثنا جرير، وهو ابن عبد الحميد الضبي، عن الأعمش سليمان بن مهران الكوفي، عن عمارة بن عمير التيمي الكوفي، عن الحارث بن سويد التيمي الكوفي أبو عائشة، قال: دخلت على عبد الله أعوده].
إذا ذكر في طبقة الصحابة عبد الله فالمراد به: عبد الله بن مسعود، وهناك قرينة أخرى: أن يكون الإسناد كوفياً؛ لأن عبد الله بن مسعود رحل إلى الكوفة وتولى فيها القضاء، وتخرج على يديه جيل التابعين بأكمله، ولذلك إذا كان الإسناد كوفياً، ثم قال التابعي: وحدثني عبد الله، فعلم أنه عبد الله بن مسعود من غير خلاف.
قال: [دخلت على عبد الله أعوده وهو مريض، فحدثنا بحديثين: حديثاً عن نفسه وحديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم]، يعني: أنه حدثهم بحديث مرفوع وحديث موقوف، فذكر هنا المرفوع ولم يذكر الموقوف، وذكر البخاري في صحيحه الحديثين جميعاً، وليس الأمر كما قال أحدهم: حدثني فلان بحديثين، أما هو فقد نسي أحدهما وأنا نسيت الآخر، يعني: أنه لا يوجد شيء.
قال: [حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده المؤمن من رجل في أرض دوية -أي: الأرض القفر والفلاة الخالية- مهلكة)].
في حقيقة الأمر الأرض لا تهلك، لكن لما كانت محلاً للهلاك نسب الهلاك إليها استعارة؛ لأن الهلاك يقع فيها، ولذلك يسمونها: استعارة محلية، فيطلقون المحل ويريدون الحال، بخلاف الاستعارة الحالية، إذ هي إطلاق الحال وإرادة المحل.
قال رحمه الله: [(معه راحلته عليها طعامه وشرابه، فنام فاستيقظ وقد ذهبت، فطلبها حتى أدركه العطش، ثم قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه، فأنام حتى أموت -ليس له إلا هذا- فوضع رأسه على ساعده ليموت)].
أي: لم يكن واضعاً رأسه على ساعده خصيصاً لأجل الموت، وإنما فعل ذلك لأجل النوم فيدركه الموت وهو نائم، كذلك لا يلزم للموت أن يضع الرجل رأسه على ذراعه أو على ساعده، فهذه ليست هيئة الميت وإنما هيئة النائم.
قال المصنف رحمه الله: [(فاستيقظ وعنده راحلته وعليها زاده وطعامه وشرابه، فالله أشد فرحاً من توبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده)، وفي الرواية الثانية: (من رجل بداوية من الأرض)].
داوية أو دوية بالألف أو بغيرها، وكلاهما واحد.
وفي الرواية الأخرى: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده المؤمن).(39/18)
خوف المؤمن من ذنوبه داعٍ له إلى التوبة منها
وقد ذكر البخاري في صحيحه والترمذي وغيرهما أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، أما الفاجر فإنه لا يرى ذنوبه إلا كذبابة وقعت على أنفه فقال بها هكذا).
فهذا يدل على أن المؤمن دائماً قلبه حي، فإذا وقع في الذنب الصغير تجده يتصور أن هذا الذنب جبل يخاف أن يسقط عليه فيدكه دكاً، أما الفاجر فيرى ذنبه كأنه لم يكن، أو كأنه لا شيء، وشبهه بذبابة وقعت على أنفه فقال بيده هكذا، يعني: أشار إليها بكفه فطارت، ولذلك المؤمن إذا وقع في الذنب أحدث له فوراً توبة وندماً، وتفطر قلبه وتصدع وعاش في هم وغم وكدر، أما الفاجر فيقول: إن رحمة الله وسعت كل شيء، ويذهب يحتج بكل آيات وأحاديث الرجاء، بينما العبد المؤمن الصالح الطائع يضع نصب عينيه آيات وأحاديث الخوف، وآيات وأحاديث الرجاء، فإذا نظر إلى آيات وأحاديث الخوف حمله ذلك على مزيد الطاعة، وإذا نظر إلى أحاديث الرجاء حمله ذلك على الإكثار من النوافل لرجاء المغفرة، ولذلك هناك فرق كبير جداً بين الرجاء وبين التوكل، فالرجاء لا يكون إلا بعد العمل، فيعمل أولاً ثم يرجو الله تعالى، لكن أن يكون قائماً على المعصية ويقول: إني لأرجو رحمة الله تعالى! فهذا حمق وليس ديناً، ولذلك عندما تلت عائشة رضي الله عنه قول الله تعالى: ({وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60]، قالت: يا رسول الله! أهذا الزاني يزني، والسارق يسرق، ويخافون ألا يتقبل منهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا يا ابنة الصديق! إنما هؤلاء أقوام أتوا بصلاة وصيام وزكاة وجهاد، وفي رواية: وحج، ويخافون ألا يتقبل منهم).
يعني: أنهم قد حققوا العمل أولاً، ثم دفعهم الخوف ألا يقبل ذلك منهم، وهذا هو الخوف المعتدل الذي يحملك على زيادة الطاعة، أما إذا حملك الطمع في رحمة الله عز وجل على الوقوع في معصيته فليس هذا من باب الرجاء الممدوح.(39/19)
شرح رواية النعمان بن بشير لحديث: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده) وحل ألفاظها
قال: [وفي رواية النعمان بن بشير قال: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده من رجل حمل زاده ومزاده على بعير)].
والمزادة: اسم جنس للمزادة، وهي القربة العظيمة، سميت بذلك لأنه يزاد فيها من جلد آخر، وكانت العرب تحمل فيها المتاع، كالطعام والشراب وغير ذلك.
قال: [(ثم سار حتى كان بفلاة من الأرض، فأدركته القائلة - أي: وقت القيلولة- فنزل فقال تحت شجرة)، يعني: أنه نام تحت شجرة وقت القيلولة، والقيلولة اسم النوم وقت الظهيرة.
قال: (فغلبته عينه وانسل بعيره)، أي: نام فذهب بعيره في خفية.
[(فاستيقظ فسعى شرفاً فلم ير شيئاً، ثم سعى شرفاً فلم ير شيئاً)]، الشرف: المكان العالي، وقد يكون المراد به: الرجل العظيم في قومه، ذو المكانة السامية المرموقة، والمراد به هنا الأول، أي: أن الرجل انطلق إلى مكان عال لينظر بعيره، فلم يجد شيئاً، ثم نزل وانطلق إلى مكان آخر عال، فلم يجد شيئاً، حتى أيس من إيجاد هذا البعير أو الراحلة.
قال: [(ثم سعى شرفاً ثالثاً فلم ير شيئاً، فأقبل حتى أتى مكانه الذي قال فيه، فبينما هو قاعد جاءه بعيره يمشي، حتى وضع خطامه في يده)، يعني: أن البعير جاء من نفسه حتى وضع الخطام في يد صاحبه، والرجل كان قاعداً، بينما في الحادثة الأولى: (فاستيقظ فوجد البعير بين يديه أو ضالته)، فهل الكلام هذا فيه خلاف أم لا؟ لا يمكن أن نقول: إن فيه خلافاً، وإنما الخلاف هذا بتعدد الحوادث؛ لأن هذه الحادثة لم تقع فعلاً، يعني: أن الراوي الذي روى لنا هذا لا يروي لنا حادثة وقعت بالفعل، فينقلها ويصورها لنا كما هي، وإنما هذا تمثيل وتقريب ضربه النبي عليه الصلاة والسلام لبيان المعنى على الحالين، ففي هذا الوقت كان الشخص نائماً، ثم بعد ذلك يستيقظ فينظر فيرى ضالته أمام عينيه، بخلاف رجل آخر مستيقظ وينتظر، ومن شدة همه وحزنه ينظر في الصحراء شرقاً وغرباً، وبعد ذلك ينظر فإذا سواد آتٍ من بعيد، فيقول: يا ترى هل هذه ضالتي أم أنا لم أستطيع أن أرى جيداً؟ ويظل في هذه الشكوك، لكن على كل حال هناك بصيص أمل يمكن أن تكون ضالته، حتى تقترب منه فيعرف أنها ضالته، فلا شك أن فرحته هذه أتت تدريجية، بينما الآخر أتت فرحته فجأة، فهذا تمثيل لفرحة العبد بضالته على الحالين: حال الشك حتى أتاه اليقين، وحال اليقين الذي يراه فجأة.
قال: [(فالله أشد فرحاً بتوبة عبده من هذا حين وجد بعيره على حاله).
قال سماك: فزعم الشعبي -وهو عامر بن شراحيل - أن النعمان رفع هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأما أنا فلم أسمعه].
يعني: أن هذا الحديث من رواية سماك بن حرب عن الشعبي عن النعمان بن بشير من قوله، ولذلك لا تجد في الحديث أن النعمان قال: حدثني النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما قال: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده)، ثم بعد ذلك في نهاية الحديث تأتي المسألة التي هي محل خلاف، إذ إن سماكاً يقول: أنا الذي رويت الحديث عن الشعبي عن النعمان، لكن أنا أشك أن النعمان رفع هذا الحديث، يعني: أنه ليس من قول النبي وإنما هو من قول النعمان، والشعبي إنما يزعم أنه سمع النعمان يرفع هذا الحديث، وهذا من دقة المحدثين ودقة الرواة، وهذا ما كان يكفي سماك كما يكفينا، أي: ما دام أن الشعبي قد رفع الحديث فنأخذه، والعهدة عليه، لكن دقة المحدثين جعلت سماكاً يروي الحديث كما سمعه موقوفاً على النعمان.(39/20)
قاعدة: ليس كل من تلبس بالكفر أو البدعة صار كافراً أو مبتدعاً
وفي حديث البراء بن عازب قال النبي عليه الصلاة والسلام: [(كيف تقولون بفرح رجل انفلتت منه راحلته -أي: انطلقت وانسلت- تجر زمامها بأرض قفر ليس فيها طعام ولا شراب -يعني: أن حبلها مجرور وراءها- وعليها له طعامه وشرابه، فطلبها حتى شق عليه -يعني: أجهده البحث- ثم مرت بجذع شجرة فتعلق زمامها -يعني: أن هذه الناقة أو البعير أو الحمار في أثناء سيره في الصحراء مر بشجرة فتعلق الحبل بأصلها- فوجدها متعلقة به -النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ما رأيكم في فرحة رجل كهذا؟ - قالوا: شديداً يا رسول الله! فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أما والله! لله أشد فرحاً بتوبة عبده من الرجل براحلته)].
وفي حديث أنس قال النبي عليه الصلاة والسلام: [(لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم! أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح)].
لكن: لو أن واحداً قال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك.
فإنه يكفر؛ لأنه نسب نفسه إلى الربوبية والإلهية، ونسب الرب والإله إلى الخلق، لكن إن صدر من العبد بغير قصد، أو سبق لسان على سبيل السهو والخطأ فلا شيء عليه، وهذا ما يعبر عنه الفقهاء: بأنه ليس بلازم لمن نطق بالكفر أن يتلبس بالكفر أو يلبسه الكفر.
ومن نطق بالبدعة ليس بلازم أن تلبسه البدعة أو أن يتلبس بالبدعة.
وهذا كلام خطير جداً، فلو أن رجلاً مشهود له بالصلاح والعلم قال بقول المعتزلة في مسألة اعتقادية، أو قال بقول المرجئة، أو الشيعة، فهل يلزم من قوله بقول هؤلاء أن يكون شيعياً، أو قدرياً، أو مرجئاً؟ لا يلزم، وإنما يرد عليه ما قد أخطأ فيه وجانبه الصواب فيه، ويبقى على أصله واستقامته، ولا نخرجه من دائرة السنة لقول وافق فيه المبتدعة، فقد وافق الحافظ ابن حجر الأشعرية في تأويل بعض الصفات، لكن لا ينسب ابن حجر إلى البدعة أو إلى الأشعرية، فقد شن هجوماً شديداً جداً في المجلد الأول والثاني والثالث عشر في فتح الباري على الأشعرية، وأثبت أنهم ليسوا من أهل السنة والجماعة، فرجل كهذا يوافقهم في بعض المسائل إنما نقول: خالف فيها أهل السنة والجماعة مخالفة غير متعمدة، إما أن يكون سبق لسان إذا كان كلاماً، أو سبق قلم إذا كان كتابة، أو يكون عن جهل وعدم دراسة.
وكذلك ليس كل من تلبس بالكفر كافراً، أو وقع في البدعة مبتدعاً، إلا إذا خالف في أصل من أصول أهل السنة والجماعة، وأقيمت عليه الأدلة والحجج والبراهين على أن هذا مذهب الاعتزال، أو مذهب القدرية، أو مذهب الأشاعرة، أو مذهب الشيعة، واختار أن يسلك هذا الطريق، ثم لو كان من أهل اللسان أو القلم صنف في الرد على ما كان عليه أولاً.
ولذلك يقول ميمون بن مهران: إن أبلى البلاء أن تعرف ما كنت تنكر، وتنكر ما كنت تعرف.
أي: أن من أعظم البلاء أن تنكر في المستقبل ما تعرفه قبل ذلك، أو تعرف في المستقبل ما كنت تنكره الآن، فهذا بلاء عظيم جداً، أن يتحول المرء من طريق السنة إلى طريق البدعة، ولا يقف عند هذا الحد، بل يرد على أهل السنة وينسبهم إلى البدعة، والانتقال من السنة إلى البدعة كلام مجمل، فإذا قلت: بدعة.
فمعناه: أن كل ما عليه بدعة، وليس هناك شيء اسمه دليل، يعني: أن ترك السنة والانتقال إلى البدعة معناه: الانتقال إلى غير دليل؛ لأن البدعة لا دليل عليها، والدليل إنما يؤيد السنة.
والنبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك من باب أنه لم يقع، لكنه تمثيل، فيقول العبد من شدة الفرح: (اللهم أنت عبدي وأنا ربك)، وهذا على سبيل الخطأ، ولذلك قال: (أخطأ من شدة الفرح).
ولذا فإن الإنسان قد يبلغ درجة الإغلاق من الغضب أو من الفرح، وليس بلازم أن يكون غضباً فقط، ونحن قد قلنا قبل ذلك: إن الغضب والرضا والسخط والفرح والسرور وغير ذلك كلها انفعالات نفسيه، فإن كانت منضبطة فهذا حد الاعتدال، وإن زادت فربما لا يترتب عليها أثر، فلو أن إنساناً غضب غضباً شديداً بلغ معه درجة إغلاق العقل، بحيث إنه لا يدري ما يقول ولا ما يفعل، فقد يرمي بابنه من أعلى البيت إلى الشارع وهو لا يدري ما يفعل، وكذلك لو قال لامرأته: أنت طالق، فلا يقع طلاقه، ولو قال لله: أنت عبد وأنا ربك، فلا يكفر.
أيضاً: لو أن إنساناً فرح فرحاً زائداً جداً، إلى حد أنه يضحك بهستيرية من شدة الفرح، فلا يترتب عليه عند الخطأ وعدم القصد والتعمد أثره.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(39/21)
شرح صحيح مسلم - كتاب التوبة - سقوط الذنوب بالاستغفار
فطر الله تعالى الخلق على الخطأ والوقوع في الآثام، وجعل الاستغفار منهم موجباً لسقوط الذنوب، والعبد إذا أذنب فإن ذنبه مهما بلغ ما هو إلا شيء، والله عز وجل وسعت رحمته كل شيء، وباب التوبة لا يغلق حتى تقوم على العبد إحدى القيامتين، ولا يمل الله عز وجل من كثرة توبة عبده، بل هو أشد فرحاً بها من رجل فقد راحلته بأرض فلاة، فلما يئس منها إذا به يجدها قائمة فوق رأسه.(40/1)
باب سقوط الذنوب بالاستغفار توبة
الاستغفار مهم جداً في مغفرة الذنب، والاستغفار في حد ذاته توبة من الله عز وجل.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ليث -وهو الليث بن سعد المصري - عن محمد بن قيس -وهو المعروف بـ القاص، وهو من أهل المدينة، وكان قاصاً في زمن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى- عن أبي صرمة المازني الأنصاري -وهو صحابي مختلف في اسم أبيه- عن أبي أيوب].
وهو أبو أيوب الأنصاري خالد بن زيد بن كليب، من كبار الصحابة، حضر بدراً، ومات غازياً الروم سنة خمسين هجرية، وله منقبة عظيمة جداً وهي: أن النبي عليه الصلاة والسلام لما هاجر من مكة إلى المدينة نزل في بيته.
قال: [أنه قال حين حضرته الوفاة: كنت كتمت عنكم شيئاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لولا أنكم تذنبون لخلق الله خلقاً يذنبون فيغفر لهم)].(40/2)
بيان أهمية الاستغفار
والتقدير: فيستغفرون الله فيغفر لهم، ولولا أن الله تعالى يغفر الذنب لما سمى نفسه (غفوراً)، ولما سمى نفسه (تواباً)، وغير ذلك من الأسماء التي تفيد في معناها ولفظها أن الله تعالى يقبل العذر ويغفر الذنب، فلو لم يكن غفوراً فكيف يغفر؟! ولو لم يذنب العبد فما الذي يغفره الله عز وجل؟ وإذا كان العبد لا يذنب فلم يستغفر إذن؟ إنما استغفر الأنبياء لوقوعهم في الهفوات، وأنها في حقهم -كما يقول بعض أهل العلم- كالكبائر في حق سائر الناس؛ لأنهم يستشعرون عظمة من عصوه أكثر من غيرهم، ولذلك: (كان نبينا عليه الصلاة والسلام يستغفر الله تعالى في اليوم الواحد أكثر من سبعين مرة)، وفي رواية (كان يستغفره مائة مرة).
ولا تعارض بين الروايتين، فالذي يستغفر في اليوم أكثر من سبعين يمكن أن يصل استغفاره إلى مائة مرة.
وهنا بيان أهمية الاستغفار، وبيان أهمية تسمية الله عز وجل نفسه بالغفار، أو الغفور، أو التواب، أو الرحيم، وغير ذلك من الأسماء.
وهذا حديث عظيم جداً في باب الرجاء، فالعبد مهما أذنب فإن ذنبه لا يعدو كونه شيئاً، والله تعالى وسعت رحمته كل شيء، لكن لا أعطي بطاقة أو رخصة في الوقوع في الذنب، صغيراً كان أو كبيراً، ولكني أقول: إن العبد في لحظة غفلة وتسلط الشيطان إذا وقع في ذنب فيجب عليه أن يبادر ويسارع للاستغفار والتوبة.
ومن قبل قلنا: إن التوبة ليست كلاماً ولا ضحكاً ولا استهزاءً، وإنما التائب من ينفطر قلبه، ويغتم غماً يكاد الناظر إليه يقول: هذا يئس من رحمة الله، ولا معاودة لذنب، حتى وإن عاد فإنه يعزم على ألا يعود، فإن عاد بقدر الله عز وجل -وأرجو ألا يكون هذا احتجاجاً بالقدر على المعصية؛ لأن هذا من مسالك وعقائد الفرق الضالة- ووقع في الذنب مرة أخرى في لحظة غفلته وتقصيره، فإنه يلزمه أن يتوب من هذا الذنب الثاني، وهكذا إن وقع في الذنب مرة أخرى، فلا يمل من الاستغفار والتوبة والإنابة إلى الله عز وجل وإن كثرت ذنوبه.
قال: [حدثنا هارون بن سعيد الأيلي، حدثنا ابن وهب -وهو عبد الله بن وهب المصري - حدثني عياض، وهو ابن عبد الله الفهري، حدثني إبراهيم بن عبيد بن رفاعة، عن محمد بن كعب القرظي، عن أبي صرمة، عن أبي أيوب الأنصاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو أنكم لم تكن لكم ذنوب يغفرها الله لكم، لجاء الله بقوم لهم ذنوب يغفرها لهم)].
أي: لو لم تذنبوا لأهلككم الله عز وجل، وأتى بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم.
قال: [حدثني محمد بن رافع، حدثنا عبد الرزاق -وهو ابن همام الصنعاني اليمني - أخبرنا معمر -وهو ابن راشد البصري اليمني - عن جعفر الجزري -وهو ابن برقان أبو عبد الله الرقي - عن يزيد بن الأصم -وهو أبو عوف البكائي، كوفي، نزل الرقة فنسب لها- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم)].
فالذي أبهم في رواية أبي أيوب الأنصاري صرح به في هذه الرواية؛ فهو لم يذكر استغفاراً في رواية أبي أيوب، وهنا في رواية أبي هريرة ذكره صراحة؛ حتى لا يحملن أحداً عدم وجود الاستغفار في رواية أبي أيوب اعتقاد أن الله تعالى يغفر لهم بغير أن يستغفروا أو بغير أن يتوبوا، فالله عز وجل جعل مثل هذا في مشيئته، فلا يعلم أحد أيغفر له أم لا يغفر له؟ أما من استغفر الله من الذنب -وهو دليل التوبة وقائدها ورائدها إلى الله عز وجل- غفر له، وهذا وعد الله تبارك وتعالى، ووعده لا يتخلف، بخلاف وعيده الذي توعد به العصاة من الموحدين، إذ هو داخل في مشيئته، إن شاء عذب وإن شاء غفر.(40/3)
كتمان العلم مخافة اتكال الناس على سعة رحمة الله من هدي السلف رحمهم الله
وفعل أبي أيوب الأنصاري هذا وهو على فراش الموت فعل غير واحد من الصحابة، كـ أبي هريرة، ومعاوية بن أبي سفيان، ومعاذ بن جبل، وأبي ذر وغيرهم، فقد كان عندهم من العلم ما كتموه طيلة حياتهم، حتى إذا أشرف أحدهم على الموت حدث به تأثماً، وليس كتمان العلم جائزاً مطلقاً، كما أن إفشاء العلم ليس جائزاً مطلقاً.
فهدي العلماء أن العلم لا يبث إلا في أهله وفيمن يستحق، فلا يعلم كل أحد، وإنما يعلم من يصون هذا العلم، علماً وعملاً واعتقاداً، أما المستهزئون فإنهم لا يتعلمون، بل لا ينفعهم العلم، وهؤلاء سقط الناس ورعاعهم الذين لا يقدرون العلم والعلماء، وعليه فما قيمة أن يعلموا العلم؟ قال مالك يوصي بعض طلاب العلم لما ودعه مسافراً: أوصيك أن تأخذ العلم من أهله وأن تضعه في أهله.
أي: خذ العلم من العلماء، وضعه في أقوام هم له أهل، وإنها وصية غالية جداً، لا يعلم معناها إلا مالك ومن كان على شاكلة مالك، رحم الله جميع علمائنا.
كذلك: حديث أبي هريرة الطويل في صحيح مسلم، والذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي هريرة: (اذهب خلف هذا الحائط، فمن وجدته يشهد أن لا إله إلا الله فبشره بالجنة، فكان أول من وجده: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال له: قال لي النبي عليه الصلاة والسلام: يا أبا هريرة! اذهب خلف هذا الحائط فمن وجدته يشهد أن لا إله إلا الله فبشره بالجنة.
فقال أبو هريرة: فضربني عمر ضربة خررت منها على استي، وقال: لا تفعل، فذهب أبو هريرة إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال له: قد فعلت ما قلت يا رسول الله! وقد حصل من أمر عمر كذا وكذا، وكان عمر في إثره، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يا عمر! ما حملك على ذلك؟ قال: يا رسول الله! مخافة أن يتكلوا، دع الناس يعملون، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: دعهم يعملون).
أيضاً: قوله عليه الصلاة والسلام لـ أبي ذر: (يا أبا ذر! اذهب فقل للناس: من كان يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله موقناً بها قلبه فبشره بالجنة).
فقال أبو ذر عند موته: حدثني النبي صلى الله عليه وسلم بحديث كتمته عنكم، وما أحدثكم إلا تأثماً، أي: مخافة الوقوع في إثم كتمان العلم.
إذاً: العلم يكتم أحياناً لمصلحة مخافة أن يتكل الناس على أحاديث الرجاء أو آيات الرجاء، كما أن العلم لا بد من بثه في وقت معين إذا تعين ذلك، وربما هؤلاء سمعوا أحاديث من النبي عليه الصلاة والسلام لم يسمعها غيرهم، فتعين عليهم البلاغ، لكنهم كتموا هذا العلم وقتاً من الزمان؛ مخافة اتكال الناس على سعة رحمة الله، فيدعون العمل، ثم إنهم حدثوا به في وقت غلب على ظنهم أنهم بعد هذا الوقت يموتون ويموت معهم العلم الذي كتموه؛ لأنه ليس مع غيرهم، فحدثوا به مخافة الوقوع في الإثم.
قال النووي: إنما كتموه أولاً مخافة اتكالهم على سعة رحمة الله تعالى، وانهماكهم في المعاصي، وإنما حدث به عند وفاته لئلا يكون كاتماً للعلم، وربما لم يكن أحد يحفظه غيره، فتعين عليه أداؤه، وأصبح فرض عين عليه أن يؤديه وأن يحدث به، وهو نحو قوله في الحديث الآخر: وأخبر بها معاذ تأثماً عند موته.
أي: خشية الإثم بكتمان العلم.(40/4)
باب فضل دوام الذكر والفكر في أمور الآخرة والمراقبة وجواز ترك ذلك في بعض الأوقات والاشتغال بالدنيا
الإنسان مطلوب منه أن يكثر من التفكر، والتدبر، واستحضار مراقبة الله عز وجل، وغير ذلك من الأعمال التي من شأنها أن تصون سيره إلى الله عز وجل، وتثبته على الطريق حتى لا ينحرف عنه، لكن هذا ليس في كل وقت؛ لأن هذا لو كان في كل وقت فلربما أدى إلى يأس وقنوط العبد من رحمة الله تعالى.
الأمر الآخر: أن ذلك سيشغله عن طلب معاشه، ورعاية من يعولهم، وربما كان العبد صاحب رقة قلب فينفطر قلبه وفؤاده من خشية الله عز وجل، فيؤدي به إلى القنوط واليأس من رحمة الله.(40/5)
شرح حديث: (يا حنظلة ساعة وساعة)
قال: [حدثنا يحيى بن يحيى التميمي وقطن بن نسير، أخبرنا جعفر بن سليمان -وهو الضبعي البصري - عن سعيد بن إياس الجريري، عن أبي عثمان النهدي -وهو عبد الرحمن بن مل - عن حنظلة الأسيدي قال: -وكان من كتاب الوحي للرسول صلى الله عليه وسلم- (لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله! ما تقول؟ -يعني: ما هذا الكلام الذي تقوله يا حنظلة؟ - قال: قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، يذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين -يعني: حتى كأننا ننظر إليها رأي العين- فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات -أي: باشرنا وجامعنا وقبلنا ولعبنا مع الأزواج والأولاد، وانشغلنا بطلب معاشنا وغير ذلك من متاع الدنيا- فنسينا كثيراً -أي: مما كنا نذكره ونتفكر فيه ونتدبره ونستحضر عظمته في مجلس النبي عليه الصلاة والسلام- قال أبو بكر: فو الله! إنا لنلقى مثل هذا -أي: أنني أشكو مما تشكو منه، وأجد ما تجده أنت من نفسك- فانطلقت أنا وأبو بكر - هذا كلام حنظلة - حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: نافق حنظلة يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ -أي: ما هذا الكلام الذي تقوله، وما دليل النفاق الذي تزعمه وتدعيه؟ - قلت: يا رسول الله! نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، فنسينا كثيراً، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده! أن لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة! ساعة وساعة) ثلاث مرات].
إن عامة الناس يفهمون أن الساعة التي هي لله هي: الصلاة والصيام وغير ذلك من الأعمال، والساعة التي هي للقلب هي: الساعة التي يعصي فيها، ويرفث فيها، ويفسق فيها، وينحرف عن الصراط المستقيم، إن هذا ليس هو المقصود من هذا الحديث، وإنما المقصود من هذا الحديث: روحوا القلوب؛ لأن القلوب تمل، فلو أن عبداً يقرأ القرآن في كل لحظة، فإنه لا بد أن يمل، لكن لو أنه انتقل من القرآن إلى السنة، أو من السنة إلى الصلاة، أو من الصلاة إلى الصيام، أو من الصيام إلى الزكاة، أو من الزكاة إلى الحج، أو من الحج إلى قضاء مصالح المسلمين، فينتقل من طاعة إلى طاعة، فإنه لا يمل، لكن أن يقوم على طاعة واحدة دائماً وأبداً فإنه سوف يمل منها؛ لأن القلوب بشرية فطرت على الملل، ولذلك ينبغي على المسلم أن ينوع في طاعة الله عز وجل، فينتقل من طاعة إلى طاعة، ومن حسنة إلى ما هو أحسن منها، ومن عمل دون إلى عمل أعلى في مرضات الله عز وجل، فالنفس تنفر من القيام والدوام على العمل الواحد، حتى وإن كان هذا العمل هو قراءة القرآن الكريم، أو هو النظر في سنة النبي الأمين عليه الصلاة والسلام.
فلا بد أن تروح على قلبك ساعة، وهذا الترويح إنما يشمل معافسة الزوجة، ومداعبة الأولاد، والانشغال بالدنيا، وطلب المعاش وغير ذلك، حتى وإن شعر أنه قد نسي ما كان آنفاً تذكر الآخرة، وتدبر في أحوالها وشئونها.
أما عمل الدنيا وطلب المعاش فإنه لا يمنع المرء أن يكون ذاكراً لله، ليس فقط بلسانه، وإنما بقلبه وبعمله وفكره وعقيدته، فالمرء إذا انطلق إلى زرعه أو حائطه، أو صناعته، أو تجارته، فإنما يراعي فيها حق الله، ويراعي فيها الحلال والحرام، وهذا الإنسان لم يخرج عن ذكر الله، وإن لم يذكره بلسانه، لكن لو رأى في تجارته شيئاً حرمه الله، أو كرهه الله، استبعده عن تجارته، وهذا نوع من ذكر الله عز وجل.
وكذلك إذا داعب أولاده، فخرج أحدهم عن حد الاعتدال والاستقامة بكلمة أو فعل، ذكره أن هذا مخالف للشرع، وأدبه بالرجوع عن هذا إلى طاعة الله عز وجل، ولذا فليس ذكر الله تعالى أن يجلس الإنسان في مكان ويلزمه فيسبح، أو يحمد، أو يستغفر، أو يكبر، أو يهلل، بل العمل بالشرع أولى من القول بالشرع، يعني: أن تعمل على مقتضى الذكر خير من أن تذكر بلسانك؛ لأنك قد ترجمت هذا الذكر القولي إلى عمل، والعمل هو المراد من القول، والنبي عليه الصلاة والسلام إنما قال لنا أقوالاً المراد منها العمل بها، ولا يلزم كل مسلم أن يكون عالماً، لكن يلزم المسلم أن يعمل بما بلغه من العلم، حتى القراء يقولون: العمل بالقرآن فرض عين، بخلاف العلم بالقرآن فهو فرض كفاية، يذكرون هذا في كتب الأحكام والتجويد، يقولون: العلم بالتجويد فرض كفاية، والعمل بالتجويد فرض عين.
ولذلك أنت الآن ربما تقرأ القرآن صحيحاً عن طريق التلقي، أو تتلقى القرآن على يد شيخ، فتقرأ القرآن بالأحكام، لكن لو قيل لك: لم كانت الغنة هنا؟ ولم كان الإظهار هنا؟ ولم كان الإقلاب هـ(40/6)
شرح بعض مفردات حديث حنظلة
قال: [حدثني إسحاق بن منصور -وهو المعروف بـ الكوسج البغدادي، تلميذ أحمد بن حنبل - أخبرنا عبد الصمد بن عبد الوارث، عن أبيه، حدث عن سعيد الجريري، عن أبي عثمان النهدي، عن حنظلة قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعظنا فذكر النار - أي: ذكرنا بالنار - قال: ثم جئت إلى البيت فضاحكت الصبيان ولاعبت المرأة، قال: فخرجت فلقيت أبا بكر فذكرت ذلك له، فقال: وأنا قد فعلت مثل ما تذكر، فلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! نافق حنظلة، فقال: مه -كلمة استنكار تقولها العرب، وكأن النبي يقول له: أنت لم تقع في النفاق- فحدثته بالحديث، فقال أبو بكر: وأنا قد فعلت مثل ما فعل، فقال: يا حنظلة! ساعة وساعة، ولو كانت قلوبكم كما تكون عند الذكر لصافحتكم الملائكة، حتى تسلم عليكم في الطرق)].
يعني: لو أن قلوبكم إذا ذكرت تذكرت كما لو تذكرت في مجلس الذكر، فلا يضركم أن تنشغلوا عن الذكر في غير مجالس الذكر، ولا يضركم أن تنشغلوا عن الذكر بمعافسة الزوجة والأولاد، وطلب المعاش وغير ذلك، لكن إذا لم تتأثر قلوبكم بالذكر والموعظة في مجلس الذكر، فتكون مصيباً إن اتهمت نفسك، أما لو كان قلبك يرق من الموعظة ويتأثر بكلام الله وبكلام الرسول عليه الصلاة والسلام، وذكر الجنة والنار، وغيرها من الأخبار، فإن هذا يدل على سلامة القلب، وعلى إيمان القلب.
أما أن تخرج بهذا الجو النفسي من مجلس الذكر، وتطالب قلبك بأن يصحبك في كل وقت بهذه الحالة، فإن هذا ليس في مقدور أحد، ولذلك لم يقدر عليه أفضل الأمة بعد النبي عليه الصلاة والسلام، وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، والنبي عليه الصلاة والسلام قد بشر بأنه لو كان كذلك في مجلس الذكر دون غيره من بقية المجالس لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي الطرقات.
قال: [حدثنا زهير بن حرب، حدثنا الفضل بن دكين، حدثنا سفيان -وهو الثوري - عن سعيد الجريري عن أبي عثمان النهدي، عن حنظلة التميمي الأسيدي الكاتب -أي كاتب الوحي- قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فذكرنا الجنة والنار فذكر حديثهما].
قال الإمام النووي في قول حنظلة: (عافسنا)، معناه: حاولنا ذلك ومارسناه واشتغلنا به، أي: عالجنا معايشنا وحظوظنا -أي: طلبناها- والضيعات: جمع ضيعة، وهي معاش الرجل من مال، أو حرفة، أو صناعة.
وروى الخطابي هذا الحرف (عانسنا) ومعناه: لاعبنا -وعانسنا من العنوسة وهي اللعب- ورواه ابن قتيبة بالشين المعجمة، قال: ومعناه: عانقنا، والأول هو المعروف وهو أعم.
وأما قوله: (نافق حنظلة) فمعناه: أنه خاف أنه منافق، حيث كان يحصل له الخوف في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ويظهر عليه ذلك مع المراقبة والفكر والإقبال على الآخرة، فإذا خرج اشتغل بالزوجة والأولاد ومعاش الدنيا، وأصل النفاق: إظهار ما يكتم خلافه من الشر، فخاف أن يكون ذلك نفاقاً، فأعلمهم النبي عليه الصلاة والسلام أنه ليس بنفاق، وأنهم لا يكلفون الدوام على ذلك، أي: أنهم غير مكلفين بأن يعيشوا دائماً -حتى في طلب معاشهم- كما لو كانوا يعيشون في مجلس الوعظ والذكر، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يبكي أحياناً ويضحك أحياناً، فهل يضحك إنسان يرى النار رأي العين؟ لا يمكن قط، لكن رحمة الله عز وجل تدرك جميع الخلق من المؤمنين الموحدين، فينسون ما يكدر عليهم معاشهم وحياتهم، حتى يتسنى لهم طلب الحياة والمعاش، وإلا لو كان منظر النار لا يغيب قط عن عين أحد لما انتفع بنفسه، ولما انتفع بقلبه، ولذا كان من رحمة الله عز وجل بالإنسان أنه ينسى أحياناً المواعظ حتى ينشغل بما تعين عليه في وقته.
لكن لو أن إنساناً في مصنع أو على مكينة أو على كمبيوتر أو أي شيء من الأعمال، وصورت له النار، أو سمع موعظة بليغة جداً أثرت في قلبه، فربما عطلته عن العمل لفرط شفافيته ورقته، وآخر: يأتي فيشكي أنه لا يستطيع أن يأتي زوجته، أو يداعب أولاده، ولا أن يعمل في العمل وحياته كلها مكدرة مقلوبة رأساً على عقب؛ لأنه يخاف الله ولم يتصور أنه لا يغفر ذنبه، فهذا إنسان في طريق اليأس من رحمة الله عز وجل.
وأما قوله: (فقلت: يا رسول الله! نافق حنظلة.
فقال: مه) قال القاضي: معناه الاستفهام، أي: ما تقول؟ والهاء هنا هاء السكت، قال: ويحتمل أنها للكف والزجر والتعظيم لذلك، يعني: كأنه أراد أن يقول له: اسكت فلم تنافق.(40/7)
باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه
قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا المغيرة يعني الحزامي -وهو ابن عبد الرحمن المدني - عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لما خلق الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي)].
أي: لما خلق الله الخلق كتب في كتابه هو؛ لأنه قال: كتب في كتابه، فأضاف ضمير الغائب إلى الكتاب، فدل على أن الكتاب هو كتاب مخصوص بالله عز وجل.
وهذا الكتاب مكتوب فيه (إن رحمتي تغلب غضبي).
قال: [وحدثني زهير بن حرب، حدثنا سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: سبقت رحمتي غضبي)].
هذان الأمران: السبق والغلبة، موصوف بهما رحمة الله عز وجل.
قال: [حدثنا علي بن خشرم، أخبرنا أبو ضمرة -وهو أنس بن عياض المدني - عن الحارث بن عبد الرحمن، عن عطاء بن ميناء، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما قضى الله الخلق)].
أي: فرض، وقد ورد (قضى) في القرآن والسنة ثلاث عشرة مرة، لكل واحدة منها معنى يخصه، ويحدد هذا المعنى من خلال السياق.
قال: [(لما قضى الله الخلق - أي: لما خلق الله الخلق، وفرغ من خلق الخلق - كتب في كتابه على نفسه، فهو موضوع عنده -أي: فهو عنده فوق العرش-: إن رحمتي تغلب غضبي)].
قال: [حدثنا حرملة بن يحيى التجيبي، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب -قد قلنا مراراً: يونس إذا كان بين ابن وهب والزهري فهو يونس بن يزيد الأيلي - أن سعيد بن المسيب أخبره، أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين، وأنزل في الأرض جزءاً واحداً، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه)].(40/8)
نقل كلام الإمام النووي في معنى صفة الغضب والرضا وبيان الخطأ فيه
قال العلماء في الحديث الأول: (إن رحمتي تغلب غضبي)، وفي رواية: (رحمتي سبقت غضبي): غضب الله تعالى ورضاه يرجعان إلى معنى الإرادة، فإرادته الإثابة للمطيع، ومنفعة العبد تسمى رضا، ورحمته وإرادته عقاب العاصي وخذلانه تسمى غضباً، وإرادته سبحانه وتعالى صفة له قديمه يريد بها جميع المرادات.
قالوا المراد بالسبق والغلبة هنا: كثرة الرحمة وشمولها، كما يقال: غلب على فلان الكرم والشجاعة إذا كثر منه.
هكذا قال الإمام النووي نقلاً عن العلماء، وهذا النقل إنما هو نقل عن علماء الأشاعرة، لذا فليس هذا الكلام هو معتقد أهل السنة والجماعة، فالمعلوم أن الله تبارك وتعالى يغضب غضباً حقيقياً يليق بجلاله وكماله، والمعلوم أن الله تعالى يرحم عباده رحمة لا يعلم كنهها إلا الله عز وجل، أما نحن فقد أيقنا أن الله تعالى يغضب ويرضى ويسخط، ولا يستلزم إيماننا بهذا مشابهة غضب الله بغضب خلقه، ولا رحمة الله تعالى برحمة خلقه، ولا فرح الله تعالى بفرح خلقه، ولا رضا الله تعالى برضا خلقه، وقد قلنا: إن اختلاف صفات الله عز وجل عن صفات المخلوقين ما هو إلا فرع لأصل وهو اختلاف الذات، فلما اختلفت ذات الله تعالى عن ذوات المخلوقين لا بد أن تختلف الصفات، فليست ذاته كذوات المخلوقين، وبالتالي فإن صفاته ليست كصفات المخلوقين.
ثم إن صفات الله سبحانه وتعالى لا توهم التشبيه ولا التمثيل لصفات المخلوقين، وهذا هو معتقد أهل السنة والجماعة من جهة النقل عنهم، أما من جهة العقل فما المانع أن نسلم لله عز وجل بما أثبته لنفسه؟ فنكتفي فقط بأن الله تعالى يغضب، ولا يستلزم الغضب في حق الله تعالى انفعالات نفسيه، وإنما ذلك في العبد، فتجعل المرء يتهور، أو يأتي بسفه أو بشيء من هذا، لكن الغضب في حق الله ليس كذلك، وكذلك الفرح: (لله تبارك تعالى أفرح بتوبة عبده من أحدكم من لقاء دابته التي ضلت طريقها)، فهل فرح الله عز وجل هو نفس فرح العبد؟ لا، وكذلك رحمة الله تبارك وتعالى لعباده ليست كرحمة العباد بعضهم لبعض، فإذا اختلفت الذات فلا بد وأن تختلف الصفات.
وأما قوله: (والمراد بالسبق والغلبة هنا: كثرة الرحمة وشمولها، كما يقال: غلب على فلان الكرم والشجاعة إذا كثر منه).
فأولاً: هذا القياس غير صحيح؛ للاختلاف بين الخالق والمخلوق، وإذا سلمنا بأن هذا قياس صحيح فلا بأس أن نقول: إن هذا المعنى ينضم إلى المعنى الأصلي، فيكون الأصل عندنا أن الله تعالى يغضب كما يشاء، ويفرح كما يشاء، ويغفر كما يشاء، ويسخط كما يشاء، فنؤمن بهذا ولا نخوض فيه، ولا بأس أن نضم إلى هذا المعنى الأصلي -الذي هو أصل القضية عندنا فيما يتعلق بالصفات- معنىً آخر وهو: أن المراد بالسبق والغلبة هنا: كثرة الرحمة وشمولها، أي: أن رحمة الله تعالى أعظم وأكثر وأشمل من غضبه، فلا بأس بهذا المعنى خاصة وأن الأدلة أثبتت أن رحمة الله تبارك وتعالى أوسع من غضبه، وأن الله تعالى إذا وعد بالرحمة فإنه لا يخلف وعده، وإذا توعد بالعذاب فإن ذلك داخل في مشيئته، فقد تقع أو لا تقع، أي: قد ينفذها الله عز وجل، أو يعفو ويصفح.
إذاً: رحمة الله تعالى أوسع وأشمل وأعم من غضبه، لكن كيف يغضب؟ وكيف يسخط؟ وكيف يرضى؟ الكيفية لا يعلمها إلا الله عز وجل، ولذلك يحذر من تأويل النص عن ظاهره، بل يجب الإيمان به كما جاء، وإمراره كما جاء، وهذا معتقد أهل السنة والجماعة قاطبة، ولم يخالف في ذلك أحد منهم.(40/9)
شمول رحمة الله للخلق في الدنيا والآخرة
قال: [حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر، قالوا: حدثنا إسماعيل (يعنون ابن جعفر) عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرفي، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خلق الله مائة رحمة، فوضع واحدة بين خلقه، وخبأ عنده مائة إلا واحدة)].
أي: أن الله خلق الرحمة مائة جزء، وجزء واحد من هذه الأجزاء أنزله لتتراحم به الخلائق جميعاً، من إنسان، وحيوان، وطير، وجماد، وجن، وغيرها من الخلائق، فتصور أن مظاهر الرحمة في بني آدم وفي الجن وفي الحيوانات والطيور وغيرها كلها من آثار رحمة واحدة لله عز وجل، فما بالك بالتسعة والتسعين جزءاً الذي خبأه الله عز وجل ليرحم به عباده المؤمنين في عرصات يوم القيامة.
فهو يوم وإن كان عصيباً من وجه، إلا أن رحمة الله سبحانه وتعالى تدرك الموحدين بما يفوق حد العقول، لكني لا أعطي بهذا أيضاً بطاقة أو رخصة للوقوع في الذنب والمعصية والآثام اتكالاً على رحمة الله عز وجل، فربما لا تدركك؛ لأنه ليس وعداً على الله عز وجل أن يغفر لكل عاص، وإنما كل عاص إن لم يتب فهو داخل يوم القيامة في مشيئة الله عز وجل، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، فلا تتكل على هذا، واعمل بما هو أحوط لك، وهو لزوم الطاعة.
قال: [حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا أبي، حدثنا عبد الملك، عن عطاء، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لله مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام)].
حتى تعلم بشمول رحمة الله عز وجل للخلق، وهذا جزء واحد من مائة جزء، وأن الذين يتراحمون فيما بينهم بهذا الجزء ليسوا فقط بني آدم، وإنما الإنس والجن والبهائم والهوام.
قال رحمه الله: [(فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخر الله تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة)].
قال رحمه الله تعالى: [حدثني الحكم بن موسى، حدثنا معاذ بن معاذ -وهو العمري - حدثنا سليمان التيمي -وهو سليمان بن طرخان التيمي - حدثنا أبو عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله مائة رحمة، فمنها رحمة بها يتراحم الخلق بينهم، وتسعة وتسعون ليوم القيامة).
وحدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا المعتمر، عن أبيه -وهو سليمان بن طرخان التيمي المتقدم في الإسناد الأول- بهذا الإسناد].
وقوله: (طباق ما بين السماء والأرض) أي: مسيرة خمسمائة عام، وتصور أن هذا حجم الرحمة طولاً، أما عرضاً فإنها تملأ الأرض فلا تبقي منها شيئاً، وهذه رحمة واحدة من رحمات الله، فكيف ببقية رحماته سبحانه وتعالى؟! قال رحمه الله: [قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض، فجعل مائة رحمة، وأنزل واحدة فبها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة)، يعني: أكملها ببقية أجزاء الرحمة التسعة والتسعين.(40/10)
رحمة الله بعباده أعظم من رحمة الأم بولدها
قال: [حدثني الحسن بن علي الحلواني، ومحمد بن سهل التميمي (واللفظ لـ حسن) حدثنا ابن أبي مريم، حدثنا أبو غسان، حدثني زيد بن أسلم المدني، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب أنه قال: (قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي، فإذا امرأة من السبي تبتغي أو تسعى إذ وجدت صبياً في السبي)].
أي: عندما جيء بسبايا الحرب إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وجد النبي عليه الصلاة والسلام امرأة من السبي تبحث في بقية المأسورين.
قال: [(فأخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ -يعني: هل تتصورون أن هذه المرأة يمكن أن تطرح وأن تلقي وتقذف بولدها في النار؟ - قلنا: لا والله! وهي تقدر على ألا تطرحه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لله أرحم بعباده من هذه بولدها)].
أي: أن مغفرة الله عز وجل ورحمته أوسع من غضبه، ولذلك لا ينزل عقابه ابتداءً، وإنما يستعمل رحمته سبحانه وتعالى ويهديها عباده أولاً، ولا يعذب إلا من تعين في حقه العذاب.(40/11)
شرح حديث: (لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة)
قال: [حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر جميعاً، عن إسماعيل بن جعفر، قال ابن أيوب: حدثنا إسماعيل، أخبرني العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد)].
أي: لو يعلم المؤمن الذي وجبت له الجنة ما عند الله من العقوبة ومن العذاب وما أعد لأهل النار فيها، ما طمع في جنة الله عز وجل، بل لتمنى أن ينجو من النار ومن العذاب، حتى وإن لم يدخل الجنة.
قال: [(ولو يعلم الكافر ما عند الله عز وجل من الرحمة ما قنط من جنته أحد)].
وهذا في حق الكافر، وهو على عكس ما هو في حق المؤمن.
وقد ذُكر عن الحافظ ابن حجر رحمه الله في ترجمته عندما كان قاضي القضاة في مصر: أنه مر في سوق التجار، فخرج إليه رجل يهودي كان يعمل في بيع السمن والزيت، ومعلوم أن مثل هذه الأعمال تتسخ ملابس وأبدان أصحابها، فخرج إليه ذلك اليهودي وقال له: يا قاضي القضاة! أنتم تزعمون أن نبيكم قال: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)، ألا ترى ما أنا فيه، وما أنت فيه؟! وكأنه أراد أن يقول له: هذه الحال الذي أنا وأنت فيه إنما يخالف خبر نبيكم صلى الله عليه وسلم، فقال الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله: إن ما أعده الله لي إذا دخلت الجنة بالنسبة لي الآن في سجن، وما أعده الله عز وجل لك في الآخرة من عذاب فأنت بالنسبة له الآن في جنة، رغم منظرك ومخبرك، لكن أنت الآن في رحمة عظيمة جداً بالنسبة لما أعد لك في الآخرة؛ لأنك في الآخرة ستخلد في نار جهنم، فأنت الآن تعيش في ظل رحمة الله، تأكل، وتشرب، وتضحك، وتعمل كل شيء، أما في الآخرة فليس لك شيء من ذلك، فأسلم هذا اليهودي.(40/12)
شرح حديث الرجل الذي أسرف على نفسه وأوصى بنيه أن يحرقوه إذا مات
قال: [حدثني محمد بن مرزوق بن بنت مهدي بن ميمون، حدثنا روح -وهو روح بن عبادة - حدثنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله: إذا مات فحرقوه -يعني: إذا مت فحرقوه، فهو يتكلم بضمير الغائب- ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، فو الله! لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات الرجل فعلوا ما أمرهم، فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، ثم قال: لم فعلت هذا؟ -أي: لم أمرت بنيك أن يحرقوك ثم يذروا نصفك في البر ونصفك في البحر؟ - قال: من خشيتك يا رب! وأنت أعلم، فغفر الله له)].
أي: وأنت أعلم بأني أخشاك، فغفر الله عز وجل له ذنبه.
قال: [وحدثنا محمد بن رافع وعبد بن حميد (قال عبد: أخبرنا، وقال ابن رافع -واللفظ له-: حدثنا) عبد الرزاق، أخبرنا معمر، قال: قال لي الزهري: ألا أحدثك بحديثين عجيبين؟ قال الزهري: أخبرني حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أسرف رجل على نفسه -يعني: أفرط في المعاصي- فلما حضره الموت أوصى بنيه فقال: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم اذروني في الريح في البحر، فو الله! لئن قدر علي ربي ليعذبني عذاباً ما عذبه به أحداً، قال: ففعلوا ذلك به، فقال الله تعالى للأرض: أدي ما أخذت، فإذا هو قائم -أي: بين يدي الله عز وجل- فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: خشيتك يا رب، أو قال: مخافتك، فغفر له بذلك)].(40/13)
أقوال أهل العلم في تأويل حديث الرجل الذي أمر بنيه إذا مات أن يحرقوه
قوله: (فوالله! لئن قدر علي ربي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين).
هذا شك في قدرة الله عز وجل، وهو كفر بالإجماع، لكن العلماء قد اختلفوا في تأويل هذا الحديث: فقالت طائفة: لا يصح حمل هذا على أنه أراد نفي قدرة الله؛ لأن الشاك في قدرة الله تعالى كافر، والكافر مخلد في النار، فلا بد من صرف هذا إلى غير قدرة الله، وقد قال في آخر الحديث: أنه إنما فعل ذلك خوفاً من خشية الله تعالى، والكافر لا يخشى الله، كما أنه لا يغفر لكافر، والحديث يقول: (فغفر الله له بذلك)، أي: بسبب الخشية، والمؤمن لا بد أن يطير إلى الله بجناحي الخوف والرجاء، فإذا غلب الخوف على الرجاء أدى به إلى اليأس من رحمة الله، وإذا غلب الرجاء على الخوف أدى به إلى التسويف في العمل، اتكالاً على رحمة الله عز وجل، لكن لا بأس أن يزيد الخوف على الرجاء شيئاً يسيراً حتى يحمله في حال صحته على العمل، لكن ينبغي أن يغلِّب رجاء الله على رحمة الله عز وجل خاصة وهو في فراش موته، حتى يلقى الله تبارك وتعالى وهو طامع في جنته.
لذا فالحديث له تأويلان: الأول: أن معنى (قدر) قضى، أي: لئن قضى علي ربي ليعذبني، وقدر بالتخفيف والتشديد، وهما بمعنى واحد.
الثاني: أن (قدر) بمعنى: ضيق، أي: لئن ضيق الله عز وجل علي، كما في قوله تعالى: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر:15 - 16]، أي: ضيق عليه رزقه.
والمراد هنا في الحديث: لئن ضيق الله تعالى رحمته علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، وشاهدها في سورة الفجر: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر:16] وكذلك قول الله تعالى: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:87]، أي: فظن أننا لا نضيق عليه، وهذا بإجماع المفسرين.
وقالت طائفة: اللفظ على ظاهره، والمقصود به القدرة، والرجل قال هذا الكلام وهو غير ضابط له، يعني: أنه في حالة ذهول وغفلة وخطأ جعلته يقول مثل هذا الكلام، وهو لا يقصد حقيقة المعنى، ولا معتقد صحة ذلك، وإنما كلام قاله في لحظة غفلة ودهشة، وتسلط الخوف والجزع عليه، بحيث ذهب توقعه وتدبر ما يقوله، فصار في معنى الغافل والناسي، بل هو أشد من الغافل والناسي، وهذه الحالة لا يؤاخذ فيها العبد كما هو معلوم من أقوال أهل العلم، وهو نحو قول القائل الذي غلب عليه الفرح حين وجد راحلته: (اللهم أنت عبدي وأنا ربك)، فهذا الكلام كفر إن قصده صاحبه، لكن لما غلب عليه الفرح أذهله وأدهشه وغيب شيئاً من عقله، فقال كلاماً لم يقصد حقيقته، وإنما قصد خلاف ذلك، ومثله أيضاً: حديث الرجل الذي لم يعمل صالحاً قط، وهو في غير مسلم: (فلعلي أضل على الله)، أي: أغيب عنه، وهذا يدل على أن قوله: (لئن قدر الله) على ظاهره.
وقالت طائفة: هذا من مجاز كلام العرب وبديع استعمالهم، ويسمونه: (مزج الشك باليقين) وهو باب من أبواب الفصاحة، فيمزجون الشك باليقين أحياناً، ولا يريدون حقيقة الشك، وإنما يريدون حقيقة اليقين، كقوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24] ومعلوم أن قائل هذا: هم الأنبياء والمرسلون، فهل الأنبياء الذين قالوا هذا القول -الذي يدل بظاهره على الشك- قصدوا به الشك؟ وهل شكوا في أنهم على الهداية التامة وأنهم طائعون لرب العالمين؟
الجواب
لا، وإنما هذا أسلوب بديع من أساليب العرب، ومن أساليب البلاغة والفصاحة في الكلام، فصورته صورة شك والمراد به اليقين, كما لو قال رجل محق في خصومة طلب إلى القضاء: اذهبوا بها إلى القاضي يقضي لي إن كنت مصيباً، أو يقضي علي إن كنت مخطئاً.
مع أنه في حقيقة أمره موقن أنه لم يخطئ، لكن قوله: (إن كنت مخطئأً حكم علي، وإن كنت مصيباً حكم لي) كلام يوحي أنه في شك مما هو عليه، أمصيب هو أم مخطئ؟ مع أن اليقين عنده أنه مصيب.(40/14)
حكم من جهل صفة من صفات الله تعالى
وقالت طائفة: إن هذا الرجل جهل صفة من صفات الله تعالى، وقد اختلف العلماء في حكم جاهل الصفة، وهذه مسألة اعتقادية بحتة، لكنها من فرعيات المعتقد لا من أصوله، فقال القاضي وابن جرير الطبري: الذي يجهل صفة من صفات الله عز وجل يكفر، والجمهور على أنه لا يكفر.
وأبو الحسن الأشعري صاحب المذهب قديماً كان يذهب مذهب ابن جرير الطبري، لكنه تحول عن هذا إلى مذهب بقية أهل السنة والجماعة، وقال: لا يكفر جاهل الصفة ولا يخرج عن اسم الإيمان، بخلاف جحدها، وهذا مذهب كافة أهل السنة والجماعة، وإليه -كما ذكرنا- رجع أبو الحسن الأشعري واستقر قوله؛ لأنه لم يعتقد ذلك اعتقاداً يقطع بصوابه ويراه ديناً وشرعاً، وإنما يكفر من اعتقد أن مقالته حق، قال هؤلاء: ولو سُئل الناس عن الصفات لوجد العالم بها قلة، أي: يريد أن يقول: إن أكبر شاهد على هذا الكلام واقع الناس، فلو أنك سألت الناس الآن عن صفات الله عز وجل لوجدت العالم بهذه الصفات قلة قليلة من الناس، وهذا يعني أن غالب الناس يجهلون كثيراً من صفات الله عز وجل، وبالتالي فلو قلتم: يكفرون، إذاً نحن نسألكم عن الصفات، وواقع كثير من الناس أنهم لا يعلمون صفات الله عز وجل، فهل الجهل بصفة من الصفات، أو باسم من الأسماء يكفر بذلك صاحبه؟ الجاحد لها يكفر؛ لأن جحود الاسم أو جحود الصفة كفر بالله عز وجل، أما الجاهل بها فإنه لا يكفر، وإن كان يجب عليه أن يتعلم صفات المولى عز وجل.
وقالت طائفة: كان هذا الرجل في زمن فترة، وذلك حين كان ينفع مجرد التوحيد الذي يسميه العلماء: (التوحيد المجمل)، مع أنه لا يعرف شيئاً من الجزئيات والفرعيات التي هي من مقتضيات التوحيد، فربما قصر في كثير منها، لكنه على أي حال يأبى إلا أن يكون موحداً لله، بل ويحرص على ذلك، لكن حرصه لا يكفي حقيقة الواقع الذي يعيشه، وأنه في حقيقة الإيمان وحقيقة التوحيد ليس بشيء؛ لأنه يجهل معنى التوحيد ومقتضيات التوحيد، بل يفرط في كثير من شعب الإيمان.
وزمن الفترة هو ما بين نبيين، بعد اندثار معالم وشريعة نبي، وقبل بعثة نبي آخر، وأهلها هم أهل فترة، فمن كان منهم على الحنيفية السمحة فهو من أهل الجنة، ومن كان منهم على غير ذلك فقد وقع الخلاف بين العلماء بناءً على خلافهم في أصله: هل هناك تكليف قبل ورود الشرع، أم التكليف بورود الشرع؟ هذه مسألة محل نزاع بين الأصوليين، والراجح فيها: أنه لا تكليف إلا بشرع، لقول الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15].
وقالت طائفة: يجوز أنه كان في زمن قوم شرعهم جواز العفو عن الكافر، وهذا كلام غير سديد ولا يصح؛ للمقطوع به في جميع الشرائع، وعند جميع العقلاء أن الكافر من كل فرقة وشريعة مخلد في النار، وأن النار لما خلقها الله عز وجل أعدها للكافرين، وليس للكافرين في زمن محمد عليه الصلاة والسلام، وإنما للكافرين منذ أن خلق الله الخلق إلى قيام الساعة، ثم لماذا أرسل الله تعالى إليهم الرسل؟ أي: هذا الرسول الذي في شريعته العفو عن الكافر ما هي مهمته؟ وما جزاء من خالف هذا الرسول وعصاه ولم يطعه؟ وما جزاء من كفر بهذا الرسول الذي في شريعته العفو عن الكافر؟ لا يتصور هذا المذهب قط، وذلك من مجوزات العقول عند أهل السنة، وإنما منعناه في شرعنا بالشرع، وهو قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48]، وغير ذلك من الأدلة.
وقيل: إن هذا الرجل قصد بذلك تحقير نفسه وعقوبتها، لعصيانها وإسرافها، رجاء أن يرحمه الله تعالى.(40/15)
كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في التكفير والتفسيق والتبديع
لشيخ الإسلام ابن تيمية كلام نافع جداً في هذا الحديث تكلم فيه عن التكفير والتفسيق والتبديع، فأراد أن يفرق بين الوعد والوعيد من جهة، والفارق الجوهري بين أن يقع العبد في الكفر وهو لا يقصد الكفر، والفرق بين الحكم العام والحكم الخاص، وضرب لذلك مثلاً بقضية خلق القرآن، ومعلوم قول أحمد بن حنبل: من قال: القرآن مخلوق فقد كفر، ومع هذا وجد في زمانه من الأعيان ومن المعتزلة من قال بذلك، ولم يكفر القائل بذلك؛ لأن الكفر لا يكون إلا بتحقق شروط وانتفاء موانع، ففرق جوهري بين القائل وبين القول، فالقول قول كفر بلا شك، أما القائل فكونه يكفر أو لا يكفر مسألة تحتاج إلى تدبر وتفكر وتمحص واختبار لهذا القائل، وإقامة الحجة عليه: هل هو جاهل أو غافل أو ناسي أو سكران؟ وغير ذلك من الموانع التي منعت من إلحاق حكم الكفر بالقائل، وهذا لا يؤثر على كون هذا القول كفراً بواحاً، ولذلك ربما يصدر قولاً أو ترى عملاً هو في أصله مخالف للشرع مخالفة تؤدي إلى الكفر، أو تؤدي إلى البدعة، أو تؤدي إلى التفسيق، لكن لا يكون فاعل هذا الفعل كافراً، ولا مبتدعاً، ولا فاسقاً؛ لأنه يتصور أن عمله هو دين الله الذي نزل من السماء، فتصور أن البدعة سنة، ويحرص عليها أكثر من حرصه على السنة الصحيحة؛ لاعتقاده أن هذه هي سنة، وأن هذا هو دين الله تعالى، فلا يكفر ولا يبدع ولا يفسق؛ لجهله، ولغفلته، ولنسيانه، وللإكراه الذي وقع عليه.
هذا هو ما دندن حوله شيخ الإسلام ابن تيمية، يقول رحمه الله: مع أني في عمري إلى ساعتي هذه لم أدع أحداً قط في أصول الدين إلى مذهب حنبلي أو غير حنبلي، ولا انتصرت لذلك ولا أذكره في كلامي، بل لا أذكر إلا ما اتفق عليه سلف الأمة، وقد قلت لهم غير مرة: أنا أمهل من يخالفني ثلاث سنين، إن جاء بحرف واحد عن أحد من أئمة القرون الثلاثة يخالف ما قلته، فأنا أقر بذلك، وما أذكره إنما هو عن أئمة القرون الثلاثة بألفاظهم، وبألفاظ من نقل إجماعهم من عامة الطوائف، مع أني دائماً من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير، أو تفسيق، أو معصية، إلا إذا قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها يكون كافراً تارة، أو فاسقاً أخرى، أو عاصياً ثالثة.(40/16)
الخطأ في المسائل الخبرية مغفور
كما قرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها في المسائل الخبرية القولية، أي: مسائل الغيب، من الجنة، والنار، والصراط، والحشر، والنشر، وعذاب القبر، وغير ذلك، والمسائل العملية المتعلقة بالتكاليف، والحلال والحرام من باب أولى، وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل، ولم يقل أحد منهم على أحد بكفر، ولا بفسق، ولا بمعصية، كما أنكر شريح قراءة من قرأ: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} [الصافات:12] بضم التاء في (عجبت)، كما كان يقرؤها ابن مسعود رضي الله عنه، وأنكرها عليه شريح وقال: إن الله لا يعجب، فبلغ ذلك إبراهيم النخعي -مع أن العجب ثابت لله عز وجل في كثير من النصوص- فقال: إنما شريح شاب يعجبه علمه، وعبد الله كان أعلم منه، وكما أنكرت عائشة وبعض الصحابة رؤية محمد عليه الصلاة والسلام لربه، وقالت: من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، ومع هذا لا نقول لـ ابن عباس وللمخالفين معه: أنت مفترٍ على الله، وكما تنازعت مع بعض الصحابة في كلام الميت وكلام الحي، وفي تعذيب الميت، وغير ذلك من المسائل الفرعية العقدية، وكذلك ما جرى بين علي ومعاوية، مع أن أهل السنة متفقون على أن الطائفتين جميعاً مؤمنتان، وأن الاقتتال لا يمنع العدالة الثابتة لهم؛ لأن المقاتل وإن كان باغياً فهو متأول، والتأويل يمنع الفسوق، مع أن الحق كان مع علي، لكن لا يدعو ذلك إلى نسبة معاوية إلى الفسق؛ لأن الظن به أنه ما أقدم على قتال علي إلا مجتهداً أو متأولاً، ولا يلزم ذلك إصابته للحق.(40/17)
وجوب التفريق بين الإطلاق والتعيين بالكفر
قال ابن تيمية: وكنت أبين لهم أن ما نقل لهم عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا، فهو أيضاً حق، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين -وهو هذا الذي اختلف فيه السلف- أي: أن إطلاق القول بالكفر والتعيين بالكفر أمر يجب التفريق بينهما، فالقول مثل: (لئن قدر الله تعالى علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين)، فهذا القول في حد ذاته كفر باتفاق؛ لأنه شك في قدرة الله، بل الإمام أحمد بن حنبل لما سئل عن القدر قال: إن الله على كل شيء قدير، ففرق بين أن هذا القول كفر، وبين تكفير قائله.
ثم قال: وهذه أول مسألة من مسائل الأصول الكبار التي تنازعت فيها الأمة، أعني: مسألة الوعيد، فإن صفة الوعيد في القرآن مطلقة، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]، وهي بمنزلة من قال من السلف: من قال كذا فهو كذا، فإن هذه مطلقة عامة.
ثم إن الشخص المعين يلغى حكم الوعيد فيه بتوبة، أو حسنات ماحية، أو مصائب مكفرة، أو شفاعة مقبولة.
فهو يقول لك: إن القول قول كفر، لكن قائل هذا القول ربما يكون له حسنات ماحية، أو بلاء وأمراض ومصائب نزلت عليه، فكلها من مكفرات الذنوب، أو شفاعة مقبولة يوم القيامة، أو غير ذلك، والتكفير هو من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيباً لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بالإسلام -وهذا عذر- فلا يعلم أحكام الإسلام، فلا يكفر لجهله، أو لأنه نشأ في بادية بعيدة عن العلم والعلماء، كما هو معروف الآن، تذهب أي قرية أو أي بادية من البوادي فترى هناك بدعاً كثيرة جداً، فتقول: يا إخواني! هذه بدعة وهذه سنة، فيقولون: هذا الكلام أول مرة نسمعه، بل يقولون: هذا دين جديد، ليس لنا به سابق عهد! وهو ليس بدين جديد، وإنما هو نفس الدين الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام، لكنهم بجهلهم وبعدهم عن مواطن العلم والنور والهدى تصوروا أنه دين جديد.
قال ابن تيمية: ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة، وقد يكون الرجل الذي يسمع تلك النصوص أو سمعها لم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئاً في هذا التأويل.
قال: وكنت دائماً أذكر الحديث الذي في الصحيحين، حديث الرجل الذي قال لبنيه: (إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني)، وذكر الحديث، فهذا رجل شك في قدرة الله وإعادته إذا ذري في البر والبحر، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكنه كان جاهلاً لا يعلم ذلك، وكان مؤمناً يخاف الله أن يعاقبه، فغفر الله له بذلك الإيمان؛ لأن الخشية هي من شعب الإيمان، والرجل كان في أصله مؤمناً، فالله تعالى غفر له بأصل الإيمان، وتجاوز عنه بصفة القدرة له سبحانه.
قال: والمتأول من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم أولى بالمغفرة من مثل هذا.
هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في المجلد الثالث، وقال كذلك في المجلد الثاني عشر كلاماً طيباً، فهو يذكر كلاماً كالمقدمات في اسم المؤمن والكافر، ومن يصدق عليهم هذا الاسم.(40/18)
بيان سبب التنازع في مصطلح الإيمان والكفر ومن ينسب إليهما
ثم يقول: وسبب هذا التنازع -أي: في مصطلح الإيمان والكفر ومن ينسب إليهما- تعارض الأدلة في الظاهر، فإنهم يرون أدلة توجب إلحاق أحكام الكفر بهم، ثم إنهم يرون من الأعيان الذين قالوا تلك المقالات من قام به من الإيمان ما يمتنع أن يكون كافراً، فتعارض عندهم الدليلان.
إذاً: هو يريد أن يقول: إن كل أعمال هذا الرجل إيمان، وهو أحرص على الإيمان والإسلام والتوحيد منك، لكنه يقول كفراً، فتعارض عندهم ما عليه الرجل عامة، وما يقوله خاصة في قضية بعينها تستوجب الكفر، فلما تعارض عندهم عمله وقيامه على التوحيد بما بدر منه مما يناقض هذا التوحيد قالوا: من قال كذا فهو كافر.
لفظ عام وشامل، والمستمع لهذه المقولة يعتقد أن هذا اللفظ شامل لكل من قال بذلك القول.
ومن الخطأ أن يحلف الرجل فيقول: ورب القرآن الكريم.
وهذا كفر، لأنه بقسمه هذا كأنه يقول: إن القرآن مخلوق، وهو في نهاية الأمر قول المعتزلة، مع أن القائل لا يكفر؛ لجهله.
قال: ولم يتدبروا أن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين، وأن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات -أي: من قال: القرآن مخلوق- لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه.
ومنهم: يحيى بن معين إمام الجرح والتعديل، مع أن الإمام أحمد بن حنبل يعلم يقيناً أن ابن معين لا يعتقد هذا القول، إذ كانت هذه فتنة وقع فيها من وقع، وصبر فيها من صبر، وكان أحمد بن حنبل يمنعه عن مجلسه بعد أن تلقى عنه علم الجرح والتعديل، فرفض أحمد بن حنبل أن يلقى يحيى بن معين في المجلس، أو أن يدخله عليه كضيف أحمد بن حنبل.(40/19)
شرح صحيح مسلم - كتاب التوبة - قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت
من رحمة الله تعالى بعباده المؤمنين أن جعل باب التوبة مفتوحاً لهم، فمهما أذنب العبد، ومهما ارتكب من الذنوب والمعاصي، ثم رجع إلى ربه فإنه يقبله، كما جعل سبحانه وتعالى فعل الطاعات مكفرات للذنوب والسيئات، فإتيان الفرائض مكفرات، وإتيان النوافل مكفرات، والتسبيحة مكفرة، والتهليلة مكفرة، فلله الحمد الذي يقبل القليل ويعفو عن الجليل.(41/1)
باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد: قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: [باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة].
هذا التبويب من الإمام النووي في غاية التوفيق والسداد؛ لأن هذا التبويب يوحي بأن المرء لا بد أن يقع في الذنب، بل هذا نص حديث النبي عليه الصلاة والسلام الذي قال: (والذي نفس محمد بيده! لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وأتى بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم)، فالذنب لا بد أن يقع، إن لم يكن من الكبائر فمن الصغائر حتماً، لكن لست بهذا أعطي بطاقة أو رخصة لكل إنسان أن يذنب، فالمرء قد جبل على أن يقع في الخطأ والتقصير، وإذا وقع في الذنب فمنه ما هو كبير ومنه ما هو صغير، فالكبير قد علمنا حكم مرتكب الكبيرة مراراً وتكراراً، وأما الصغائر فتكفرها الطاعات، من صلاة، وصيام، وزكاة، وحج، وذكر، وتهليل، وتكبير، وتحميد، وتسبيح، وغيرها من الأعمال التي تكفر السيئات وتمحوها.
كما يعني هذا التبويب أن المرء إذا أحدث ذنباً لا بد أن يحدث له توبة، وهذا معنى قول الله عز وجل: (اعمل ما شئت فقد غفرت لك)، فمهما عمل العبد من ذنب، وما دام أنه يحدث له توبة، فإن الله تعالى يقبل هذه التوبة.
وأقول هذا بمناسبة ذيوع حديث موضوع مشهور بين العامة: (أن الله عز وجل يقول للعبد الذي تاب من ذنبه ثم رجع إليه: فإني لا أتوب على عبدي، وعبدي كالمستهزئ بي)؛ أي: أنه يتوب ثم يرجع في توبته، ويرتكب الذنب الذي تاب منه أو غيره.(41/2)
شرح حديث: (أذنب عبد ذنباً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثني عبد الأعلى بن حماد النرسي، حدثنا حماد بن سلمة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة -وهو قاص من قصاص المدينة- عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل -أي: أن الحديث قدسي، إذ هو من كلام الله عز وجل- قال: (أذنب عبد ذنباً فقال: اللهم اغفر لي ذنبي)، أي: ألجأ وأتضرع وأستعيذ بك يا رب! (فقال الله تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب)].
هنا يقرر قاعدة عظيمة عند أهل السنة والجماعة، وهي أن عبادة المسلم لا بد أن تدور بين الخوف والرجاء، إذ إن الله تعالى يأخذ بالذنب ويغفر الذنب، فلما علم العبد أنه يدور بين الخوف والرجاء، وقد وقع في الذنب، دفعه خوفه من الله عز وجل إلى أن يطلب المغفرة منه سبحانه.
قال: (ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب! اغفر لي ذنبي.
فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنباً، فعلم أنه له رباً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب - أي: الثالثة - فقال: أي رب! اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً، فعلم أن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك).
والتقدير: اعمل يا عبدي! ما شئت من الذنوب ما دمت تحدث بعدها توبة، وهذا لا يعني أنها رخصة من الله عز وجل للعباد بأن يذنبوا، أو أن يقعوا في المعاصي.(41/3)
الرد على من يقول ما دام باب التوبة مفتوحاً فما المانع أن يذنب العبد ثم يتوب
وربما يقول بعض الناس: ما دام باب التوبة مفتوحاً فما المانع أن يذنب العبد ثم يتوب؟! وهذا الأمر مردود من عدة أوجه: الأول: أنك لا تضمن أن تقبض روحك وأنت على المعصية، وعند ذلك لا تدرك التوبة.
الثاني: أنك لا تدري لعل الشيطان يتسلط عليك فينسيك التوبة، لذا ينبغي على المرء أن يحرص كل الحرص أن يكون بجوار ربه، وملازماً لطاعته.
الثالث: لعل الله تعالى لا يوفقك إلى التوبة.
الرابع: لعلك تتوب توبة ضعيفة، فلا يقبلها الله عز وجل، وأقول: توبة ضعيفة؛ لأن العبد الذي يفكر سلفاً في المعصية اتكالاً على أنه سيتوب، فإنه في حقيقة أمره لم يتب؛ لأن التوبة من الذنب تجعل قلب المرء كأنه يختلع وينتفض من صدره انتفاضاً، ويتحشرج في حلقه، أما الذي يطلق لنفسه العنان في المعاصي والذنوب بدعوى أنه سيتوب بعدها لا بد أن يسأل نفسه: هل تضمن حياتك بعد ارتكاب الذنب؟ فإن كان الجواب بـ (لا) فليقم على توبته قبل وقوعه في الذنب.
وقوله: (فعلم أن له رباً يأخذ بالذنب، ويغفر الذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك).
أي: ما دمت تتوب بعد كل ذنب، فإن باب التوبة مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها، وهذه التوبة عامة لكل الخلق، أما التوبة الخاصة فلكل عبد على حدة، وذلك حين يغرغر.
قال عبد الأعلى: (لا أدري أقال في الثالثة أو الرابعة: اعمل ما شئت)؟ قال: [حدثني عبد بن حميد، حدثني أبو الوليد -وهو هشام بن عبد الملك الطيالسي - حدثنا همام -وهو ابن يحيى بن دينار - حدثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة قال: كان في المدينة قاص يقال له عبد الرحمن بن أبي عمرة قال: فسمعته يقول: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن عبداً أذنب ذنباً) بمعنى حديث حماد بن سلمة، وذكر ثلاث مرات، أذنب ذنباً، وفي الثالثة (قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء)]، أي: فليعمل ما شاء ما دام أنه يحدث توبة، أما أن الله تعالى يعفو عن العبد وهو مصر على الذنب، ولم يتب ويستغفر، ولم يكن عنده من الطاعات ما يؤهله لمحو السيئات، فهو على خطر عظيم جداً.(41/4)
شرح حديث: (إن الله يبسط يده بالليل) وإثبات صفة اليد لله تعالى
قال: [حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر -المعروف بـ غندر - حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة قال: سمعت أبا عبيدة يحدث عن أبي موسى رضي الله عنهم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها)] أي: حين ينتهي هذا العالم، وتفنى هذه الدنيا، وهذا في التوبة العامة.
قال الإمام النووي: بسط اليد استعارة في قبول التوبة، قال المازري: المراد به قبول التوبة، وإنما ورد لفظ بسط اليد؛ لأن العرب إذا رضي أحدهم الشيء بسط يده لقبوله، وإذا كرهه قبضها عنه، فخوطبوا بأمر حسي يفهمونه، وهو مجاز، فإن اليد الجارحة مستحيلة في حق الله تعالى.
هذا كلام الأشاعرة، وقلنا مراراً: إننا نثبت صفات الله عز وجل على الوجه اللائق به سبحانه، ومنها: اليد، فلا ندري كيفية هذه اليد؛ لأننا لا ندري كيفية الذات، وبالتالي فلا ندري كيفية الصفات، أما صفات الفعل لله عز وجل فمنها صفة البسط، أعني: بسط اليد، والبسط في حقنا هو مد اليد، وحتى مد اليد أو البسط على اختلاف بين شعوب العرب نفسها.
ولو حملنا بسط اليد على قبول التوبة -كما قال المازري - لقلنا: إن الله تعالى لا يبسط يده حقيقة، ونحن نؤمن أن ما وصف الله به نفسه، وما وصفه به رسوله حقيقة على المعنى اللائق به سبحانه.
وقد سألت طفلاً بدوياً في سنة 85 عن حال أبيه فقال: مبسوط، فلما زرته وجدته مريضاً طريح الفراش، فأخبرته بما قال لي ولده، فقال: كلمة (مبسوط) عندنا تعني: أنه نائم في فراشه، بخلاف ما هي عليه عندنا، إذ هي بمعنى فرحان، وعليه فكلمة (مبسوط) لها مدلولات كثيرة، فلمَ لا تحمل مدلولاً عظيماً يليق بأفعال الله عز وجل؟ وأن الله تعالى يبسط يده لعباده المسيئين بالليل والنهار ليتوبوا، فيقبل الله تعالى توبتهم، وبسط اليد وإن كان حقيقة إلا أن الكيفية تختلف عن بسط يد العباد، أو يد المخلوقات، وهذا هو معتقد أهل السنة والجماعة، فيؤمنون بأن الله تعالى يغضب، ويفرح، ويأتي، ويذهب، ويجيء، ويقبض، ويبسط، وغير ذلك من أفعال ذاته سبحانه وتعالى على المعنى اللائق به تبارك وتعالى، ولذلك كلام الإمام النووي غير سديد.(41/5)
باب غيرة الله تعالى وتحريم الفواحش(41/6)
شرح حديث: (ليس أحد أحب إليه المدح من الله)
قال: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم (قال إسحاق: أخبرنا، وقال عثمان: حدثنا) جرير -وهو ابن عبد الحميد الضبي - عن الأعمش - سليمان بن مهران الكوفي - عن أبي وائل - شقيق بن سلمة الكوفي - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس أحد أحب إليه المدح من الله، من أجل ذلك مدح نفسه)، في هذا إثبات صفة المحبة لله عز وجل، وحبه ليس كحبنا، إذ إن حبنا يستلزم قلباً ووجداً وشفافية، ويستلزم بكاء على المحبوب.
وإذا قلنا في معنى بسط اليد لله: أنه قبول التوبة، فلا بد أن نؤول الحب كذلك؛ لأنه لا يليق بالله عز وجل أن يحب كحبنا، فلا بد أن نثبت أن الله تعالى يحب، فيحب عباده المؤمنين والموحدين.(41/7)
محبة الله تعالى للمدح
كما أن الله تعالى يحب المدح، ولذلك مدح الله تعالى نفسه، لكن لو أن شخصاً منا مدح نفسه فإنه يكون عيباً عليه، إذ هو يزكي نفسه، والله تعالى يقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32]، وحينئذ فلا يجوز له ذلك، فهو أمر مذموم شرعاً وعرفاً، وكذلك لو زكى أحدنا غيره، بمعنى: مدحه وأطراه وأثنى عليه ثناءً يخشى معه الفتنة فغير مشروع، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام في حديث عبد الله بن عمر: (إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب)، وكان ابن عمر يفعل ذلك على الحقيقة، فإذا مدحه إنسان تناول حفنة من تراب فحصبه في وجهه.
أما الله عز وجل فإنه يحب المدح، أي: يحب المدح والتزكية والثناء لعباده بشروطه، وقد مدح الله عز وجل عباداً صالحين على العموم، ومدح بعض عباده على الخصوص، كالأنبياء والمرسلين؛ لأنه لا يخشى عليهم الفتنة، لكن لو قلت لشخص ما: أنت ما شاء الله عليك، أنت ممتاز، أنت رجل فاضل، وهو أصلاً لا يستحق ذلك، فيصدق هذا الكلام، ويصدق هذا المدح، فيتعامل مع نفسه ومع الناس بعد ذلك على أنه رجل طيب، ورجل فاضل، وهو في الحقيقة لا يستاهل أن يكون نصف رجل، فأنت قد أثنيت عليه ظلماً وعدواناً لتحصل منه على منفعة غلب على ظنك أنك لا تحصل على هذه المصلحة أو هذه المنفعة إلا بالثناء والإطراء له، والطامة أنه صدق ذلك، وبالتالي بدأ يتصرف على أنه بالفعل إنسان ممدوح، وإنسان مرغوب فيه وفي أخلاقه وغير ذلك، أما الله عز وجل فإنه على خلاف ذلك؛ لأنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11].
قال: [(وليس أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش)]؛ لأن الله تعالى يغار -والله المثل الأعلى- فالواحد منا يغار على امرأته، فيغلق عليها الباب، ويغلق عليها الشبابيك، ولا يحب أن يراها رجل، ولا يحب أن تنظر هي إلى رجل آخر، فيمنعها من كل شيء يؤثر على هذه الغيرة، أو يعكر عليه هذه الغيرة، ولو أنه رأى بصر امرأته وقع على رجل، أو وقع بصر رجل عليها، لغضب غضباً شديداً، ولفعل الأفاعيل.
لذا أقول: إن الله تبارك وتعالى أشد غيرة من عباده، حتى وإن كانوا أنبياء أو ملائكة، وهي غيرة تليق بذاته وجلاله، ولذلك حرم المعاصي والفواحش، فوضع الحدود والموانع من ارتكاب هذه المعاصي والفواحش؛ لأن الله تعالى يغار أن تنتهك حرمة من حرماته، أو أن يقع عبد في معصية من معاصيه.(41/8)
إثبات صفة الغيرة لله تعالى
قال: [حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير وأبو كريب - محمد بن العلاء الهمداني - قالا: حدثنا أبو معاوية -وهو محمد بن خازم الضرير - وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة (واللفظ له) حدثنا عبد الله بن نمير وأبو معاوية، عن الأعمش، عن شقيق -وهو أبو وائل السابق في الإسناد الأول- عن عبد الله - وهو ابن مسعود - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا أحد أغير من الله، ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله)].
والتقدير كما في الرواية السابقة: من أجل ذلك مدح الله تعالى نفسه.
قال: [حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار، قالا: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة قال: سمعت أبا وائل يقول: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: قلت له: أأنت سمعته من عبد الله؟ -يعني: أن عمرو بن مرة سأل أبا وائل هل سمع هذا الحديث من عبد الله بن مسعود؟ - قال نعم.
ورفعه]، أي: أن ابن مسعود رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وسمي الكلام المرفوع إلى النبي مرفوعاً؛ لرفعة قائله صلى الله عليه وسلم.
قال: [(لا أحد أغير من الله، ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله، ولذلك مدح نفسه)].
قال: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة وزهير بن حرب - أبو خيثمة النسائي، نزيل بغداد- وإسحاق بن إبراهيم -المعروف بـ ابن راهويه - قال إسحاق: أخبرنا وقال الآخران: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن مالك بن الحارث -وهو السلمي الرقي، وقيل: الكوفي- عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس أحد أحب إليه المدح من الله عز وجل، من أجل ذلك مدح نفسه، وليس أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش، وليس أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل).
إن مدح الله تعالى والثناء عليه يكون بالتحميد، والتهليل، والتسبيح، والذكر، والصلاة، والصيام، والحج وغير ذلك، وكل هذه الطاعات إنما هي من باب مدح الله عز وجل، وقد اختلف أهل العلم في معنى المدح: فقال بعضهم: هي: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقال بعضهم: قول العبد: الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين.
وقال بعضهم: المقصود بالمدح في الحديث: الصلاة؛ لما اشتملت عليه من دعاء، واستغفار، وقراءة للقرآن وغير ذلك.
والذي يترجح لدى الإمام النووي، وأظن أنه الراجح: أن كل طاعة يؤديها العبد لله عز وجل بذل وخضوع فهي من باب مدح الله عز وجل على نعمائه على عباده.(41/9)
المقابلة بين المدح والغيرة في الحديث
ثم تأمل المقابلة بين المدح والغيرة في الحديث، فالله تعالى أحب المدح، وقلنا: المدح هو الطاعات والثناء على الله عز وجل، وفي المقابل غيرة الله عز وجل التي بسببها حرم الفواحش، مما يشعر بأن المدح هو الطاعات في مقابلة الفواحش، فيكون في مقابلة غيرة، وطاعة في مقابلة فواحش، والله تعالى يحب المدح ولذلك مدح نفسه، وطالب العباد بأن يمدحوه بالطاعات والقربات، والله تعالى أشد غيرة من عباده، فلا أحد أغير من الله عز وجل، ولذلك حرم الفواحش والمعاصي ما ظهر منها وما بطن، كالسرقة، والزنا، وشرب الخمر، وغير ذلك من سائر المعاصي التي يمكن أن ترى، وهناك معاص باطنة لا يراها أحد، ولا يعلم بها إلا الله عز وجل وصاحبها الذي تخلق بها، أو يعلم ذلك غيره بقرائن الحال أو المقال، ومنها: المعاصي القلبية، كالغل، والبغض، والحسد، والضغينة، والشحناء، كل هذه أمراض قلبية باطنية، فالله تعالى يطلع عليها ويعلمها من عبده، ولذلك حرم الله تعالى الفواحش والمعاصي ما ظهر منها للعيان وما لم يظهر، كما لو كان في أمراض القلوب.(41/10)
محبة الله وقبوله لعذر العبد
قوله: (وليس أحد أحب إليه العذر من الله عز وجل)، فإذا اعتذر إليك إنسان أخطأ في حقك، فإنك وإن قبلت العذر لكن هذا العذر لا يشفي غليلك في الغالب؛ لأنك تريد الانتقام -وربما جبلت عليه- ولو باللوم والعتب الشديد والتوبيخ، وهذا أقل العفو، لكن تصور أن الذي أساء إليك لقيك فبادرك بالاعتذار، فقد قطع لسانك كما قطع يدك من باب أولى؛ لأنك إذا كنت لا تتناوله بلسانك فمن باب أولى ألا تتناوله بيدك، وحينئذ العذر مبغض إلى العبد، وربما قد تحبه، لكن هذا لا يشفي الغليل -ولله المثل الأعلى- فالله تعالى يحب العذر، والعذر هو التوبة، ولذلك أخرجه مسلم في كتاب التوبة.
قال: (وليس أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل)، أي: إذا لم يكن العذر محبباً إلى الله عز وجل، وبلوغ الحجة وقيامها على العباد، فما الفائدة من إرسال الأنبياء والمرسلين، وإنزال الكتب الهادية البشيرة مع هؤلاء الأنبياء والمرسلين؟ إن الله عز وجل بإنزاله الكتب وإرساله الرسل قد أقام الحجة على جميع العباد؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، والله تعالى غني عن عذاب عباده، ولذلك لا يعذبهم إلا بعد قيام الحجة عليهم، وأخذ العذر عنهم ولهم، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام (إذا بلغ العبد أربعين عاماً فقد أعذر الله له) إذا بلغ العبد، مع أنه مكلف من سن العاشرة أو الثانية عشر، ومحاسب على أعماله الحسنة والسيئة، لكن الله تعالى كأنه أعطاه فرصة لأن يتوب، وأن يراجع نفسه، وأن يقف مع نفسه وقفة جادة صادقة حتى بلغ سنة أربعين سنة، والحديث في مسلم.
ومن العجب أن سن الأربعين له اهتمام خاص في كتاب الله عز وجل، وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف:15]، وورد أهمية هذا السن في كثير من الأحاديث والآيات، وقد قيل: إن كل نبي بعثه الله عز وجل في هذه السن، أي: في سن الأربعين، ولا أقصد جميع الأنبياء، لكن غالب الأنبياء هكذا، وإلا فأنتم تعلمون أن بعض الأنبياء بعثوا قبل ذلك وهم صغار، مثل: سيدنا عيسى، وسيدنا يحيى، وسيدنا سليمان.
نقل الإمام النووي عن القاضي فيقول: يحتمل أن المراد بالاعتذار، أي: اعتذار العباد إليه من تقصيرهم وتوبتهم من معاصيهم، فيغفر الله لهم، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى:25].
نفس الكلام الذي قلناه في بسط اليد نقوله هنا في غيرة الله عز وجل.
قال: [حدثنا عمرو الناقد، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن علية، عن حجاج بن أبي عثمان قال: قال يحيى -وهو ابن أبي كثير -: وحدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم عليه)]، أي: ما حرم الله عليه.
وعلى كل فالله تعالى أثبت لنفسه غيرة كما أثبت لعبده المؤمن غيرة، لكن شتان بين غيرة الله تعالى وبين غيرة عباده المؤمنين.
قال: [قال يحيى بن أبي كثير: وحدثني أبو سلمة، أن عروة بن الزبير حدثه، أن أسماء بنت أبي بكر حدثته، أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس شيء أغير من الله عز وجل).
وفي رواية لها قالت: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا شيء أغير من الله عز وجل)].
قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمن يغار، والله أشد غيرة)].
وهذا يدل على أن الغيرة من شعب الإيمان، والحديث الذي معنا قد أثبت أن العبد المؤمن يغار، والعبد الذي لا يغار لا يكون مؤمناً كامل الإيمان، بل لا يكون رجلاً قط، إنما الرجل هو القائم على طاعة الله عز وجل، هذا هو الرجل حقيقة.(41/11)
باب قوله تعالى: (إن الحسنات يذهبن السيئات)
قال: (باب قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114].
(طلب رجل من النبي صلى الله عليه وسلم أن يوصيه، فقال: عليك بتقوى الله، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)).
الشاهد: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها).
أي: إذا وقعت في سيئة فليكن بعدها حسنة، من أجل أن تغفر هذه تلك، أو أن هذه الحسنة تمحو السيئة، ومعنى (يذهبن) تمحو، فالحسنات تمحو السيئات.(41/12)
شرح حديث: (أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة)
قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد وأبو كامل فضيل بن حسين الجحدري، كلاهما عن يزيد بن زريع، واللفظ لـ أبي كامل، حدثنا يزيد، حدثنا التيمي -وهو سليمان بن طرخان التيمي - عن أبي عثمان عبد الرحمن بن مل، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، قال: فنزلت: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114]، قال: فقال الرجل: ألي هذه؟ -يعني: هذه خاصة لي فقط- يا رسول الله! قال: لمن عمل بها من أمتي)].
ولا يقول العبد: الحمد لله هذه رحمة من الله عز وجل، ويفعل الآثام والمعاصي! إذ إنه لا يوجد عنده زلف من الليل، وإنما يكتفي بالفروض الخمسة، ولا سنن قبلية ولا سنن بعدية، وربما صلى وهو يفكر، ويريد أن ينتهي الإمام من الصلاة حتى يخرج إلى الشارع، لذا إقامة الصلاة ليس معناه: أنك تؤدي الصلاة ثم تنصرف، بل لا بد أن تبقى قيام الصلاة في قلبك، بحيث يتعلق قلبك بالمساجد.
ولذلك يقول العلماء: أداء الصلاة شيء وإقامتها شيء آخر، فإقامة الصلاة يعني: تعلق القلب بها مثلما كان السلف، فقد كان الشخص منهم يدخل في الصلاة فلا يشعر بمن حوله، حتى لو قطعوا رجله أو رقبته؛ لأنه استغرق تماماً في هذه العبادة، فعاش مع الله تبارك وتعالى، فهل نحن كذلك؟!(41/13)
صغائر الذنوب تكفرها الطاعات ما لم تغش الكبائر
قال: [حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا المعتمر -وهو ابن سليمان بن طرخان التيمي - عن أبيه، حدثنا أبو عثمان، عن ابن مسعود (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر أنه أصاب من امرأة، إما قبلة، أو مساً بيد، أو شيئاً، كأنه يسأل عن كفارتها، قال: فأنزل الله عز وجل هذه الآية) ثم ذكر بمثل حديث يزيد.
وقال: حدثنا يحيى بن يحيى وقتيبة بن سعيد وأبو بكر بن أبي شيبة -واللفظ لـ يحيى - قال يحيى: أخبرنا، وقال الآخران: حدثنا أبو الأحوص -وهو سلام بن سليم - عن سماك بن حرب، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة والأسود، عن عبد الله بن مسعود قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني عالجت امرأة في أقصى المدينة)].
أي: استمتعت بها استمتاعاً دون الفاحشة، كأن يقبلها أو يحضنها أو يغمز لها أو غير ذلك.
وقوله: (في أقصى المدينة) أي: بعيداً عن أنظار وأعين الناس.
قال: (وإني أصبت منها ما دون أن أمسها) والمس بمعنى: الجماع، أي: أنه فعل معها كل شيء إلا الجماع.
قال: فأنا هذا فاقض فيّ ما شئت، يعني: ها أنا قد أتيتك، وأنا بين يديك فاحكم في بما شئت.
لكن نجد كل وسائل الفساد قد سعت لإفساد المرأة، فأدخلوا لها تلفزيوناً (24 بوصة) ملوناً، وأخذت تنظر فيه، فترى الرجل يقبل المرأة، وهي تكاد أن تموت من فرط غيرتها وحيائها، ثم بعد ذلك تألف المسألة، بل لو تعطل التلفزيون تكون مصيبة كبيرة في البيت، ولا بد أن تصلحه في نفس اليوم؛ لأنها تتابع الأفلام والمسلسلات، ومعنى أنها لا تدرك حلقة من المسلسل ذهاب نصف عمرها! وهكذا فشيء مع الوقت تغيرت الأخلاق، وتغيرت القلوب، وكل شيء تغير في الأمة، فلا بد من الرجوع بالأمة إلى عهدها الأول، ولن تصلح الأمة إلا بالرجوع إلى عهدها الأول، العهد الذي يقاس عليه الخير كله.
قال: [(فقال له عمر: لقد سترك الله لو سترت نفسك، قال: فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً -وفي هذا جواز اجتهاد المفضول في وجود الفاضل- فقام الرجل فانطلق، فأتبعه النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً دعاه، وتلا عليه هذه الآية: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114]، فقال رجل من القوم: يا نبي الله! هذا له خاصة؟ قال: بل للناس كافة)] أي: بل لكل من وقع في سيئة من هذه الأمة؛ لأن هذا الذنب الذي ذكره الرجل من الصغائر التي تستوجب التعزير لا الحد، والذي يستوجب الحد إنما هو ارتكاب الفواحش، مع أن الرجل سماه حداً فقال (يا رسول الله! أصبت ذنباً فأقم علي الحد)؛ لأن لفظ الحد يطلق مجازاً، ولا يراد به حقيقة الذنب الذي يستوجب حداً قد حده الله عز وجل، كما أن إجماع الأمة منعقد على أن ما دون الجماع صغيرة، وأنا أقول هذا الكلام وأنا في منتهى المرارة؛ لأني لا أضمن جميع القلوب والأذهان المستمعة، وأرجو ألا تهون عليك هذه المعاصي؛ لأن الله تعالى قد يقبضك -ولا يبالي- وأنت عليها، وتبعث عليها، ثم كيف يكون موقفك يوم القيامة؟ لكنني أقرر أمراً، وهو أن ما دون الجماع، أو ما دون الزنا الحقيقي في الفرج هو من الصغائر، تكفرها الطاعات، وأقول هذا لأربط لك بين قول هذا الرجل: (أصبت ذنباً يا رسول الله! فها أنا ذا يا رسول الله! افعل في ما شئت)، وبين ما قاله وأرشد إليه النبي عليه الصلاة والسلام: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود:114]، ولو كان هذا حداً كبيراً يستوجب إقامة حد معلوم لحده النبي عليه الصلاة والسلام، فلما ترك الحد ودله على المكفرات، وهي الصلاة، دل على أن ما فعله الرجل ليس بكبيرة، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الوضوء إلى الوضوء كفارة لما بينهما، والصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما، ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما، والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما، ما لم تغش الكبائر).
فقوله: (الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينها ما لم تغش الكبائر)، يدل على أن الذي فعله الرجل ليس من الكبائر؛ لأنه ليس بالزنا الذي هو الإيلاج، أي: إدخال الذكر في الفرج، كما يدخل الرشاء في البئر، وكما قال عليه الصلاة والسلام في حديث ماعز: (يا رسول الله! إني زنيت، قال: أتدري ما الزنا؟ قال: نعم يا رسول الله! قال: أدخل هذا منك في ذاك منها كما يدخل الرشاء في البئر- يعني: هل دخل ذكرك في فرجها على هذا النحو؟ قال: نعم يا رسو(41/14)
الفرق بين الحد والتعزير
قال: [حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا أبو النعمان، الحكم بن عبد الله العجلي، حدثنا شعبة، عن سماك بن حرب، قال: سمعت إبراهيم يحدث عن خاله الأسود -وهو الأسود بن يزيد بن قيس النخعي - عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى حديث أبي الأحوص.
وقال في حديثه: (فقال معاذ: يا رسول الله! هذا لهذا خاصة - يعني: الكفارة هذه لهذا الرجل خاصة في هذا الموقف- أو لنا عامة؟ قال: بل لكم عامة).
وحدثنا الحسن بن علي الحلواني، حدثنا عمرو بن عاصم -وهو الكلابي القيسي أبو عثمان البصري - حدثنا همام -وهو ابن يحيى بن دينار - عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أصبت حداً فأقمه علي.
قال: وحضرت الصلاة فصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قضى الصلاة قال: يا رسول الله! إني أصبت حداً فأقم في كتاب الله، قال: هل حضرت الصلاة معنا؟ قال: نعم، قال: قد غفر لك)].
وهذا محمول على الصغائر لا الكبائر، لأن الكبيرة تستوجب الحد، وليس في مقدور النبي عليه الصلاة والسلام ألا يقيم الحد، والحدود والتعزيرات بينهما فوارق: منها: أنه للسلطان أن يتنازل عن الحد في الكبيرة، بخلاف التعزير، فإنه متروك لاجتهاد القاضي، أو الحاكم أو الأمير أو السيد أو الزعيم أو المسئول، والتعزير يكون باللوم وبالتوبيخ وبالسب، وبالمثلة، كأن يحلق شعره، ولا حد في أقل من عشر، كما أنه لا تعزير في أكثر من عشر، فللحاكم أن يعزر بالجلد، فيجلد جلدتين وثلاثاً وسبعاً وعشراً، ولا يزيد على ذلك إلا في حد من حدود الله، ولذلك جعل الله تعزير المرأة أولاً بالوعظ، ثم باللوم والتوبيخ والهجر، ثم الضرب غير المبرح.
قال: [حدثنا نصر بن علي الجهضمي وزهير بن حرب -واللفظ لـ زهير - قالا: حدثنا عمر بن يونس -وهو ابن قاسم اليمامي - حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا شداد، حدثنا أبو أمامة قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ونحن قعود معه، إذ جاء رجل فقال: يا رسول الله! إني أصبت حداً)].
أي: ذنباً عظيماً وليس ما يستوجب حداً، وربما فهم الرجل أن هذا العمل فيه حد، فلما أطلع النبي على ما فعل علم أنه ليس حداً يستوجب إقامة الحد عليه.
[قال: (إني أصبت حداً فأقمه علي، فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أعاد فقال: يا رسول الله! إني أصبت حداً فأقمه علي، فسكت عنه، وأقيمت الصلاة)].
وهذا يذكرني بذاك المدني الذي أتى وقال: (يا رسول الله! هلك الأبعد، قال: وما أهلكه؟ قال: وقعت على امرأتي في نهار رمضان)، مع أن وطء المرأة في نهار رمضان ليس فيه حد، ومع هذا قال: هلك.
وقال: الأبعد، أي: يدعو على نفسه.
فقال عليه الصلاة والسلام: (وما أهلكه؟ أي: ماذا عمل؟ قال: وقعت على امرأتي في نهار رمضان، قال: اذهب فأعتق رقبة، قال: ليس عندي رقبة، قال: اذهب فصم ستين يوماً، قال: وهل أوقعني فيما وقعت فيه إلا الصيام؟ فتبسم النبي عليه الصلاة والسلام وقال: كيف وقعت بها؟ قال: رأيت خلخالها، ثم قال: اذهب فأطعم ستين مسكيناً، قال: ليس عندي ما أطعمه، قال: انتظر، فانتظر حتى أتي بتمر إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ثم قال: اذهب فأطعم ستين مسكيناً، قال: والله يا رسول الله! لا تجد بين لابتيها -أي: بين جبليها، فقد كانت المدينة في وادي أو في سهل بين جبلين عظيمين- أفقر مني ومن أهل بيتي، قال: اذهب فاجعله فيك وفي أهل بيتك).
قال: [(وأقيمت الصلاة، فلما انصرف نبي الله صلى الله عليه وسلم قال أبو أمامة: فاتبع الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف، واتبعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنظر ما يرد على الرجل)].
انظر إلى الحرص على طلب العلم، فقد مشى الرجل والنبي عليه الصلاة والسلام وأبو أمامة وراءهم من أجل أن يعرف رد النبي في هذه القضية.
قال: [(فلحق الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني أصبت حداً فأقمه علي، قال أبو أمامة: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت حين خرجت من بيتك، أليس قد توضأت فأحسنت الوضوء؟ قال: بلى يا رسول الله! قال: ثم شهدت الصلاة معنا؟ فقال: نعم يا رسول الله! قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإن الله قد غفر لك حدك، أو قال: ذنبك)]، وهذا شك من الراوي، والصواب: (فإن الل(41/15)
الأسئلة(41/16)
الاحتجاج بالأحاديث على قواعد النحو
السؤال
هل يجوز الاحتجاج بالأحاديث على قواعد النحو؟
الجواب
هذا هو الأصل؛ وليس جائزاً فقط؛ لأن القواعد النحوية إنما أخذت من كلام العرب، وأبلغ الكلام وأفصحه هو كلام الله تعالى وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم، ولذا فإن أعظم قاعدة لغوية هي ما يستشهد عليها بآية من كتاب الله، أو بحديث من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.(41/17)
الحكم على حديث: (سلمان منا أهل البيت)
السؤال
ما صحة حديث: (سلمان منا أهل البيت)؟
الجواب
هذا الحديث روي أنه قاله النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة الخندق، لكن إسناده غير صحيح، وهو صحيح موقوف من قول علي بن أبي طالب، فالراجح أنه من كلام علي بن أبي طالب لا من كلام النبي عليه الصلاة والسلام.(41/18)
الحكم على حديث: (من وصل صفاً وصله الله)
السؤال
حديث: (من وصل صفاً وصله الله، ومن قطع صفاً قطعه الله)، هل هو حديث صحيح؟
الجواب
نعم هو حديث صحيح.(41/19)
بيان سبب إيراد الإمام النووي لكلام المازري في شرح صحيح مسلم
السؤال
لماذا أورد النووي قول المازري؟ هل لأنه قبل هذا القول أم ماذا؟
الجواب
قد ذكرنا هذا مراراً وتكراراً، وقلنا: إن العقيدة لم تتقرر عند الإمام النووي رحمه الله، ولذلك يورد أحياناً كلام الأشاعرة ويرد عليهم، ويبطل معتقدهم ومذهبهم، وأحياناً يوافقهم على ذلك، وأحياناً يتوقف.(41/20)
كفارة النذر
السؤال
عاهدت الله في حالة مرضي الشديد إن شفاني على ألا أشاهد التلفاز ولا أشاهد الأفلام، ثم من الله علي بالشفاء، فأخلفت وعدي مع الله، فما هي الكفارة لذلك؟
الجواب
في الحقيقة أن التلفاز لا يحتاج إلى النذر حتى يتركه المسلم؛ أعظم من أن ينذر المسلم تركه، وعلى أي حال إذا أرادت الأخت أن تستريح لسؤالها فلتتصدق بشيء ما، وهذا الشيء قد اختلف فيه أهل العلم؛ لأنه قد ورد في رواية مسلم: (من نذر فلم يستطع فليتصدق بشيء)، وفي رواية: (من قال لأخيه: تعال أقامرك.
فليتصدق بشيء)، فهل هذا الشيء هو الكفارة أو أي شيء يجزئ؟ الراجح: أن أي شيء مهما قل يجزئ، خاصة أن الأخت عاهدت الله تعالى، فإذا حملنا هذا العهد على النذر فيجزئها أن تتصدق بأي شيء قل أو كثر، والله تعالى أعلم.(41/21)
شرح قول الصحابة: (تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن)
السؤال
نريد شرح هذا الحديث: (تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن)، وهل معناه: تعلم الإيمان ثم حفظ القرآن، أم ماذا؟
الجواب
أظن أن هذا السؤال بالذات كان محل خطبة طويلة على هذا المنبر، وقد قلنا: إن النبي عليه الصلاة والسلام مكث ثلاثة عشر عاماً يعلم أصحابه الاعتقاد قبل أن ينزل من السماء حكم شرعي واحد، وهذا ليس بحديث، وإنما هو من قول عبد الله بن عمر، وجرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنهم أجمعين، يقول عبد الله بن عمر: كان الواحد منا يتعلم العشر الآيات من القرآن، فيقف عندها، فيتعلم حلالها وحرامها، وحدودها وفرائضها، وما يجب عليه منها، فكان الإيمان أولاً، وكم ممن يحفظ القرآن لا إيمان له، وبعض الناس يتصور أنه إذا حفظ القرآن فقد عبر القنطرة، بل إن أعظم الناس بدعة في تاريخ الإسلام الخوارج، ومع ذلك كانوا أحفظ الناس لكتاب الله، وأعبد الفرق الإسلامية لله عز وجل، وما وقعوا فيما وقعوا فيه إلا لاستشعارهم بأن المعصية الصغيرة ذنب كبير في حق الله عز وجل، ولذلك كفروا مرتكب الكبيرة، وقالوا: من ارتكب كبيرة فهو كافر خارج عن الملة، مخلد في النار، مع أنه ليس كذلك، لكنهم قالوا بذلك استشعاراً لعظم الذنب، وهذا يعني: أن حسن النية للشخص، أو العواطف في الأحكام الشرعية ليس كافياً، إذ إن المسائل الشرعية تقرر بالقواعد العلمية، ولا يكفيها العاطفة أبداً.(41/22)
نصيحة لمن أراد أن يقدم على الزواج
السؤال
كيف أخطب امرأة صالحة ذات دين وجمال ونسب وحسب وأنا رجل فقير؟
الجواب
أسأل الله تعالى أن يوفقك إلى ما فيه الخير والصلاح، ووصيتي ونصيحتي لك أن تتزوج بامرأة كفءٍ لك مادياً، لكن لو أنك تزوجت امرأة أقل منك في مستوى المعيشة لكان أفضل، كأن يستلم أبوها مائتين جنيه، وأنت تستلم ثلاثمائة جنيه، عند ذلك سوف تكون حياتها معك جميلة ومرتاحة، لكن أن تبحث عن قوت يومك، وتريد امرأة صاحبة دين -ليس هناك خلاف- ونسب وحسب وجمال فلا؛ لأن معظم البلاء يأتي من هنا، وهناك حالات كثيرة جداً في المجتمع يشهد لها الواقع، ولذلك لما قال العلماء: الكفاءة في الزواج شرط.
اختلفوا في المراد بالكفاءة، هل يكتفى بكفاءة الدين، وهو محل اتفاق، أم لا بد من كفاءة الدنيا؟ أعني: من المال أو الحسب أو غيرهما؟ منهم من رد كفاءة الدنيا وقال: إن خديجة رضي الله عنها كانت أكفأ مادياً من النبي عليه الصلاة والسلام، بل كانت تنفق عليه، وكان يشتغل عندها عليه الصلاة والسلام قبل البعثة، لكن في هذه الأيام بعض الشباب يفكرون أن العملية مثلما نقرأ في الكتب! أن الكتب شيء والواقع شيء، فواقعنا مر وأليم، وإياكم أن تتصوروا أنه سيحدث مثل الحادثة التي نسمعها دائماً، وهي: أن رجلاً دميماً تزوج امرأة جميلة، فرآها رجل وسألها: كيف أنت جميلة وزوجك دميم؟! فقالت: يا هذا إليك عني، فلعلني عصيت الله فعاقبني به، ولعله أصلح ما بينه وبين الله فكافأه الله بي.(41/23)
بيان معنى الباءة الواردة في الحديث
السؤال
ما معنى الباءة في حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة)؟
الجواب
الباءة هي الإنفاق على الزوجة وأبنائها، والقدرة على إتيان النساء، وليس لأهل العلم تفسير أكثر من ذلك.(41/24)
حكم حف الشارب بالموسى
السؤال
ما هو حكم حف الشارب بالشفرة؟ وهل هو من الأعمال المبتدعة؟
الجواب
هو بلا شك ليس من السنة، فالذي يحلق شاربه بموس ليس من السنة، بل السنة حف الشارب من أعلى الشفة العليا، فلا يتركه ينزل إلى فمه.(41/25)
حكم لبس الذهب المحلق وغير المحلق للنساء
السؤال
ما حكم لبس الذهب للسيدات واستعماله، سواءً كان محلقاً أو غير محلق؟
الجواب
جائز، خلافاً لشيخنا الألباني رحمه الله.(41/26)
حكم قضاء السنن الرواتب
السؤال
فاتتني سنة المغرب البعدية حتى أذن للعشاء، ثم صليتها بعد الأذان، فهل تصح وتجزئ عني؟
الجواب
أهل العلم على قولين في هذه المسألة: فالجمهور يقولون بجواز قضاء الفوائت في كل حال.
وغير الجمهور من المحدثين وغيرهم يقولون: لا تقبل الفوائت إلا إذا فاتت بعذر، أما غير ذلك فلا، وهذا الرأي أرجح من الأول، وعليه فإذا تركها متعمداً فلا يصليها إذا دخل وقت الثانية، والله أعلم.(41/27)
كيفية التحلل من مظالم الآخرين
السؤال
سائل يقول: كان في بداية عمره وبلوغه مع جهله يفعل الكبائر من الزنا والسرقة وغير ذلك، ثم هداه الله لسبيل خير من ذلك، وسمع بأمر القصاص في الآخرة، فذهب إلى أحد أهل المظالم فاستحله وأقر بين يديه بفعل الفاحشة مع ابنته، فعفا وصفح عنه الرجل، وذهب إلى الباقين وذكر لهم أنه وقع في حقهم بسوء دون ذكر المظلمة صراحة، فعفوا عنه، وذلك مخافة قطيعة الرحم، أو حصول بعض الضرر عند ذكر المظلمة لهؤلاء، فهل يحاسب على هذه المظالم يوم القيامة؟ وهل تعد هذه توبة صحيحة؟
الجواب
الحقيقة هذا السائل ما زاد على الأبواب التي ندرسها ونتناولها في كل يوم، وأن الذي بدر منه هو من الكبائر ومن عظائم الذنوب، ويستوجب الحد، لكنه لا حد عليه الآن، وحتى على فرض وجوب الحد الآن فإن الله تعالى قد ستر عليك وأنت تأتي بالكبائر، فدائرة عفو الله عز وجل تشملك كما تشمل كل شيء، كما قال الله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156]، فذنبك مهما عظم شيء، ورحمة الله تعالى وسعت كل شيء، فيجزئك ويكفيك أن تتوب توبة صادقة وخالصة لله عز وجل، ولا يلزمك كذلك التحلل من أصحاب هذه المظالم؛ لأن بعض الناس ربما تعسف في معرفة المظلمة، وفي الحقيقة لو أنك عرضت علي هذا السؤال قبل أن تذكر هذه المظلمة لوالد البنت التي ظلمتها وظلمته وظلمت نفسك أيضاً، فلن أنصحك أبداً بإخباره بذلك، لكن كونك قد فعلت، وكونه قد عفا، فهو أعظم منك وأكرم، وهذا على خلاف عادات الناس جميعاً، فكونه عفا فهذا يدل على أصالته وشرفه وسيادته، وهذا الأخ إنما يسعه أن يتوب إلى الله عز وجل، ولا شيء عليه بعد ذلك، ولا يلزمه أن يذهب إلى بلاد تقيم الحدود؛ لأن بعض الناس يفعل هذا إذا أذنب ذنباً في بلد لا يقام فيه الحد، وأقول: يلزمه أن يتوب إلى الله عز وجل، وأن ينخرط في سلك طلاب العلم، فيطلب العلم، ويكثر من الصلاة، والصيام، والذكر، والاستغفار، وغير ذلك من القربات والطاعات.(41/28)
شرح صحيح مسلم - كتاب التوبة - حديث القاتل مائة نفس
يغفر الله سبحانه الذنوب جميعاً إذا تاب العبد منها توبة نصوحاً، فالذي قتل مائة نفس غفر الله له، وأدخله الجنة؛ لصدق توبته، وتوجهه إلى ربه ومولاه، فمهما عظمت جريرة العبد ومهما جلت معصيته، فإنه لا يحول بينه وبين التوبة شيء، وما ذاك إلا لسعة رحمة الله عز وجل بعباده، وقبوله للمنيبين التائبين منهم.(42/1)
باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله
الحمد الله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، أما بعد: الباب الثامن من كتاب التوبة هو: باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله:(42/2)
شرح حديث القاتل مائة نفس
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن مثنى، ومحمد بن بشار، واللفظ لـ ابن المثنى قالا: حدثنا معاذ بن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي قال: حدثني أبي -وهو: أبو عبد الله الدستوائي - عن قتادة -وهو ابن دعامة السدوسي البصري - عن أبي الصديق بكر بن عمرو الناجي، مشهور بكنيته أبي الصديق الناجي، عن أبي سعيد الخدري -وهو سعد بن مالك بن سنان -: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعاً وتسعين نفسا)].
يعني: أن هذا الأمر متعلق بالأمم السابقة، ولم يكن واقعاً في أمة محمد عليه الصلاة والسلام.(42/3)
أهمية العلم وسؤال العلم
قال: [(فسأل عن أعلم أهل الأرض؟ فدل على راهب)].
أي: دلوه على راهب، وشأن الراهب أنه يبقى في صومعته يعبد فيها ربه، فيصلي، ويصوم، ويتقلل من الطعام والشراب واللباس، وأما العلم فلا صلة له به، والأصل أن يدل على أعلم أهل الأرض، لكنهم تركوا ذلك وأخذوا كما يأخذ عامة الناس بظاهر الحال من الصلاح، والعبادة، والتقوى، وغير ذلك، فهذا الراهب إنما تنفعه رهبنته لوحده، وهذه الرهبنة لا تنفع بقية الأمة، فعبادته مقصورة عليه، فهو وحده ينتفع بها، وأما بقية أفراد الأمة فإنما ينتفعون بعلم العالم لا بعبادة الراهب، ولا بعبادة العابد، ولا بصلاحه.
والعابد أو الصالح، التقي، الراهب، قل أن يكون له علاقة أو صلة بالعلم، فكثير من الناس إما أن يكون قصاصاً، أو واعظاً، أو خطيباً، أو مصلحاً، أو غير ذلك من الأعمال الخيرية الشريفة التي يتقرب بها قائلها إلى الله عز وجل، لكن لا يصلح أن يتصدى لإفتاء الناس في أمور دينهم ودنياهم.
وعلى أية حال ليس هذا مطعناً فيمن تصدى لوعظ الناس، أو التأثير فيهم بالقصص والروايات والأخبار وغير ذلك، وربما لا يتأهل العالم للقيام بهذا الدور في الأمة؛ لأنه أتقن نمطاً معيناً من دين الله عز وجل، وهو طلب العلم بأدلته الشرعية، وإسقاط ذلك على واقع السائل، ثم الإفتاء بالحل أو الحرمة، وبالبطلان أو الصحة، أو غير ذلك، فهو يجيد هذا الفعل، وغيره لا يجيد إلا باب القصص والوعظ، والتأثير في الناس، والخطابة، وربما لا يجيدها العالم، فهذه أرزاق وقدرات وزعت على الخلق كل على حسب مراد الله عز وجل.
فليس مطعناً على العالم أنه غير قادر على الوعظ، وليس مطعناً على الواعظ أنه غير قادر على تعليم الناس؛ لأنه لا رصيد له بالعلم، وإنما رصيده حب القصص، والأخبار، والحكايات، والروايات التي يكون لها تأثير مباشر في قلوب المستمعين، وتحريك الوازع الديني في قلوبهم، وربطهم بالله عز وجل، ويا حبذا لو أن ذلك وفق معرفة الحلال والحرام، ومعرفة الأحكام والحدود وغير ذلك من مسائل العلم في دين الله عز وجل! ولذلك يغتر كثير من الناس فيسألون أي خطيب صعد المنبر، وهذا بلا شك فعل غير سديد، ومنهج غير موفق، وربما يحمل الحياء الشيخ ألا يعتذر عن كل سؤال وجه له، فيفتي الناس بالعاطفة لا بالعلم، وكذا يتوجه المستمعون إلى الواعظ، والقصاص، والإخباري وغير ذلك بأسئلة لو طرحت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر، والذي يحمل الخطيب أن يتصدى للإفتاء هو مخافة السبة، أو التهمة، أو أن يقال: ليس عنده علم أو غير ذلك، وليس هذا بابه ولا مدخله، كما يحمل الناس العالم أو طالب العلم المتخصص أن يخطب فيهم وليس خطيباً، فإذا صعد المنبر نفر الناس من طريقته وأسلوبه؛ لأن طريقة العلم وطرح المسائل بأدلتها لا يقبلها إلا فئة قليلة من الناس؛ وهم طلاب العلم، فكون العالم أو المهتم بتدقيق وتحقيق المسائل العلمية يفعل ذلك على المنبر لا شك أن هذا فيه تنفير لعامة المستمعين، وإذا اتفقنا أن هذه قدرات؛ فينبغي أن نعرف إلى من نوجه سؤالنا.
ولذلك فإن الله تعالى أمرنا أن نسأل أهل العلم فقال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، فالمسألة كلها متعلقة بالعالم.
هذا إذا أردت أن تتعلم دينك، وأما إذا أردت أن ترقق قلبك، وشعرت ببعض القسوة أو الغلظة أو البعد عن الله عز وجل؛ فهذا بلا شك عن طريق الواعظ، والقصاص، والمؤثر في قلوب الناس، فلا يبغي هذا على ذاك.
ولذلك انظر إلى الخطأ الذي نجم عن عدول الناس في دلالة هذا القاتل على العالم، فهو لما سألهم عن أعلم أهل الأرض دلوه على راهب.
قال: [(فأتاه القاتل فقال له: إنه قتل تسعاً وتسعين نفسا -أي: يتكلم عن نفسه بضمير الغائب- فهل له من توبة؟ فقال الراهب: لا توبة له، فقتله القاتل، فأتم به المائة)].
لأنه أغلق باب الأمل أمامه، وإذا كان الباب قد سد وأغلق وأوصد أمامه تماماً، ويستوي أن يقتل واحداً أو مائة؛ فما المانع أن يقتل من أيسه وقنطه من رحمة الله عز وجل.
قال: [(ثم سأل عن أعلم أهل الأرض)].
أي: أنه لم يقنط، فسأل للمرة الثانية عن أعلم أهل الأرض.
قال: [(فدل على رجل عالم)].
والتفريق بين العالم والراهب: أن الراهب هو الرجل الصالح ذو العبادة المستمرة، لكنه ليس عالماً، ولذلك جرّ على نفسه القتل بجهله، ولو قال: لا أعلم لنجا، لكنه تصدى لشيء بعاطفته، واستعظم ذلك، وأخذ الثقة من نفسه، فطرده من رحمة الله عز وجل بقوله، فلما قنط القاتل قتله، فأتم به المائة، بخلاف العالم.
قال: [(فدل على رجل عالم فقال له: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟ فقال العالم: نعم)].
أي: نعم له توبة وإن قتل الناس أجمعين.
قال: [(ومن يحول بينه وبين التوبة)].
يعني: من ذا الذي يحجب عنه باب قبو(42/4)
من مثبتات التوبة معاشرة الصالحين والابتعاد عن الأشرار
قال: [(انطلق إلى أرض كذا وكذا؛ فإن فيها أناساً يعبدون الله، فاعبد الله معهم)].
وهنا يظهر أن المرء على دين خليله، قال تعالى: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]، فهؤلاء قوم يعبدون الله، وهم أتقياء، ومن عبد الله تعالى معهم أعانوه على ذلك، وألزموه كلمة التقوى.
قال: [(ولا ترجع إلى أرضك؛ فإنها أرض سوء)].
أي: أن هؤلاء القوم الذين تربيت معهم قوم أشرار.(42/5)
التوبة تجب ما قبلها
قال: [(فانطلق الرجل حتى إذا نصف الطريق -يعني: انتصف به السير في وسط الطريق- أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب -ومعنى اختصمت: اختلفت- فملائكة الرحمة يقولون: أتانا تائباً، وملائكة العذاب يقولون: لم يعمل خيراً قط، فقد قتل مائة نفس، فأمر الله عز وجل ملائكة الرحمة وملائكة العذاب أن يحتكموا لأقرب قادم، فأنزل الله عز وجل ملكاً من السماء في صورة إنسان، فجعلوه بينهم حكماً، فقال هذا الملك: قيسوا ما بين الأرضين: الأرض التي خرج منها، والأرض التي هو ذاهب إليها، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي هو ذاهب إليها -أي: الأرض التي فيها قوم يعبدون الله عز وجل- فقبضته ملائكة الرحمة).
قال قتادة: فقال الحسن -وهو ابن أبي الحسن يسار البصري -: ذكر لنا أنه لما أتاه الموت نأى بصدره].
وهذه صيغة تمريض تشير إلى ضعف ذلك، كما أنه لم يذكر في الحديث النبوي.
ونأى بمعنى: نهض وتحرك، يعني: لما أتاه الموت تقلب مرة، فكانت هذه المرة بالقرب من الأرض التي هو قد أرادها.
وهذا الكلام الذي قاله الحسن (ذكر لنا) رواه مسلم مسنداً بسند صحيح في الإسناد الذي بعده مباشرة؛ حتى يبين لنا طريق قتادة عن الحسن وأن ذلك قد ثبت من طريق أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد في نفس الحديث.
قال مسلم: [حدثني عبيد الله بن معاذ العنبري، حدثنا أبي، حدثنا شعبة عن قتادة أنه سمع أبا الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن رجلاً قتل تسعاًَ وتسعين نفساً، فجعل يسأل: هل له من توبة؟ فأتى راهباً فسأله، فقال: ليست لك توبة، فقتل الراهب، ثم سأل عالماً فقال له: نعم، ثم أمره أن يخرج من قريته إلى قرية فيها قوم صالحون، ولما كان في بعض الطريق أدركه الموت، فنأى بصدره ثم مات، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فكان أقرب إلى أرض القوم الصالحين بشبر واحد، فأخذته ملائكة الرحمة).
وحدثنا محمد بن بشار حدثنا ابن أبي عدي، حدثنا شعبة عن قتادة بهذا الإسناد نحو حديث معاذ بن معاذ، وزاد فيه: (فأوحى الله إلى هذه أن تباعدي -أوحى: بمعنى أمر- وإلى هذه أن تقربي)].
أي: أن الله عز وجل أمر الأرض التي خرج منها أن تتباعد، وأمر الأرض التي هو ذاهب إليها أن تقترب، فكان ما بين بعد هذه واقتراب ذاك هو شبر، والأعمال بالخواتيم كما قال عليه الصلاة والسلام.
وفي حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه الذي أخرجه مسلم قال: (لم يكن أحد قط أبغض إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهذا كان في حال كفره- فلما شرح الله تعالى صدري للإسلام أتيته وقلت: يا رسول الله! ابسط يدك فلأبايعك، قال: فبسط النبي عليه الصلاة والسلام يده، فقبضت يدي -أي: لم يبايع- فقلت يا رسول الله: أشترط، فقال: تشترط ماذا؟ قال: أشترط أن يغفر لي ما قد سبق).
أي: لأنه لم يكن أحد أبغض إليه من رسول الله، ولا أحد أكره إليه من النظر إلى وجه من رسول الله، ولا دين في الأرض أبغض إليه من دين رسول الله عليه الصلاة والسلام.
(قال: يا عمرو بن العاص أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الحج يهدم ما كان قبله، وأن التوبة تهدم ما كان قبلها) ومعنى (تهدم) أي: تحط وتغفر، والحج يهدم ما كان قبله إذا كان حجاً مبروراً لا إثم فيه، بحيث يرجع منه المرء كيوم ولدته أمه كما قال عليه الصلاة والسلام، وكذلك لو أحسن المرء في الإسلام فإنه يغفر له ما قد سبق، بل تقلب سيئاته حسنات، ولذلك قال الله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38] أي: قل للذين كفروا إن يقبلوا على الله عز وجل، وينتهوا عن كفرهم؛ يغفر لهم ما قد سلف، أي: في حال كفرهم، وهذا دليل على أن الإسلام يهدم ويجب ويغفر ما كان قبله من معاص، وإذا كان الإسلام يغفر الكفر والشرك فكيف لا يغفر بقية الذنوب؟! والراجح أن الحج يغفر الكبائر والصغائر، وكذلك إذا تاب الإنسان من الكبيرة قبلت توبته من الكبائر مهما تعددت أو كثرت، والدليل على ذلك حديث قتل التسعة والتسعين.(42/6)
العمل بشرع من قبلنا والأمثلة على ذلك
وشرع من قبلنا هو شرع لنا ما لم يأت في شرعنا ما يبطل ذلك، فالسجود للبشر كان جائزاً في شريعة يوسف، وأما في شريعتنا فليس بجائز، فلا يحل لمسلم في شريعة محمد عليه الصلاة والسلام أن يسجد لأحد قط؛ احتجاجاً بسجود والدي يوسف وإخوته له؛ لأن هذا شرع من قبلنا ولم يوافق شرعنا، بل شرعنا خالفه مخالفة صريحة، وقد نهى النبي عليه الصلاة والسلام الجالس أن يقوم للقائم، ولما قام إليه الصحابة قال: (كدتم أن تفعلوا فعل فارس والروم، لا تفعلوا) أي: لا تقوموا.
ثم قال: (ومن أحب أن يتمثل الناس له قياماً فليتبوأ مقعده من النار)، والخطر كله يكمن في حب الداخل امتثال الناس بين يديه قياماً، فالقضية كلها متعلقة بنية الداخل على القوم الجالسين.
ولذلك (لما أتى معاذ بن جبل من اليمن انحنى بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام، فأنكر عليه فوراً، فقال: يا رسول الله! إنهم في اليمن يفعلون هذا ببطارقتهم، وأنت أولى بذلك منهم، قال: لا تفعل).
وفي هذا بيان مباشر وفوري أن هذا العمل غير مشكور، وغير مشروع في شرعنا، وأما في شرعهم فقد كان مباحاً وقربة إلى الله عز وجل.
فالقاتل الذي كان في شرع من كان قبلنا غفر له لما تاب إلى الله عز وجل، مع أنه قتل مائة نفس، وفي شريعتنا أن من قتل نفساً ثم تاب تاب الله عز وجل عليه، فهذا الذي هو مقرر في شريعة محمد كان هو نفس الذي قرر في شريعة ذلك الرجل الذي قتل مائة نفس، فشرع من كان قبلنا هو نفس شرعنا ما لم يرد في شرعنا ما ينقضه ويرده، فمسألة شرع من قبلنا هل هو شرع لنا أم لا؟ محل نزع بين العلماء: فمنهم من قال: ليس شرعاً لنا.
ومنهم من قال: بل هو شرع لنا.
والرأي الراجح -وهو الثالث-: أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد نص في شرعنا يبين أن هذا يتفق مع شريعتنا.
ومعلوم أنه ليس هناك إثم قط على الداخل، فالنبي عليه الصلاة والسلام قام إلى جعفر بن أبي طالب، وسفيان الثوري كان يقوم للداخل الغريب أو الغائب، وليس كل من دخل أقوم له، إنما القيام على حسب المقام، والنبي صلى الله عليه وسلم قصد الحفاظ على قلب الداخل أن يكون من أهل النار، وأما لو دخل عليك شخص وأنت واضع رجل على رجل، وهو يريد أن يعانقك وأنت ملقى على ظهرك فإن قلبه سوف يتغير عليك جداً؛ لأنه أتى باشتياق وإقبال عليك لأجل أن يعانق، ويسلم بحرارة وغير ذلك، فمن الأدب أن تحسن استقباله، (والنبي عليه الصلاة والسلام كان إذا وجد الحسن والحسين على باب المسجد نزل من على منبر الجمعة، ويخترق الناس حتى يصل إلى باب المسجد فيعانقهما، ثم يحملهما، ثم يصعد المنبر بهما، ويقول: إنما أموالكم وأولادكم فتنة) فهذا هو الحب الفطري الجبلي الذي ربي في القلب.
فالمهم أن يكون في حساب الداخل على قوم جالسين أن يستوي عنده قيامهم له وعدم قيامهم، لكن يسن ويفضل للجالس أن يقوم للقادم؛ خاصة إذا كان من أهل العلم، أو من كبار السن، أو من ذوي القرابة نسباً أو مصاهرة؛ لأن هذا فيه تأليف للقلوب، وصلة الود بين القادم والجالس، (والنبي عليه الصلاة والسلام لما رجع من خيبر وجد جعفر بن أبي طالب، فقام إليه، وقبله بين عينيه، وقال: لا أدري بأيهما أسر: بقدوم جعفر، أم بفتح خيبر!).
فعلى المسلم أن ينزل الناس منازلهم، وتقدير الناس على قدر منازلهم في الشرع باب من الأدب عظيم جداً ينبغي لطلاب العلم خاصة، والمسلمين عامة أن يعتنوا به عناية فائقة.(42/7)
حكم توبة القاتل وأنواع الديات
ومذهب أهل العلم وإجماعهم على صحة توبة القاتل عمداً، ولم يخالف أحد منهم إلا عبد الله بن عباس، وأما القاتل خطأ فإن كفارته كما قال تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء:92]، فمن صدم شخصاً بالسيارة فإن هذا قتل خطأ، وكذلك من وكز شخصاً فمات، قال تعالى: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص:15] يعني: هو أصلاً لم يكن متعمداً، ولو لم يوكزه فإنه سيموت، لكن الوكزه كانت السبب، وكان قتلاً خطأ، فلم يتعمد موسى قتله صلى الله عليه وسلم، لكن مسكه في صدره أو رقبته فوقع على الأرض فمات، فهذا جزاؤه عتق رقبة مؤمنة، ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا، وأما القتل العمد فإن اليهود عندهم أن القصاص واجب، ولا بد منه.
والنصارى عندهم التسامح واجب لا بد منه، وأما نحن فمخيرون بين القصاص، أو الدية، أو العفو، وهذا من رحمة الله بنا؛ لأننا أحسن منهم، ولهذا فإن الله رفع الأغلال عن هذه الأمة المباركة، ودية القتل العمد تكون بعد تحرير رقبة إذا لم يكن ثم قصاص، ومقدار الدية: مائة ناقة، والناقة قيمتها ثلاثة آلاف جنيه، فتكون الدية بثلاثمائة ألف جنيه.
وهناك فرق بين دية المرأة المؤمنة، ودية الرجل، وفرق بين دية الرقيق والأحرار من الرجال والنساء، وفرق بين دية أهل الكتاب والمؤمنين، وإذا كان أهل الكتاب مسالمين أو محاربين أو ناقضي العهد، وهذا موضوع طويل جداً سوف نتكلم فيه.
ودية القتل الخطأ على التخفيف من دية القتل العمد، والأصل أن دية القتل الخطأ على العاقلة، وهم أهل القاتل وليس على القاتل نفسه، وهذا فارق بين القتل العمد والقتل الخطأ: أن القتل العمد يتحمله القاتل، وأما القتل الخطأ فيتحمله أهل القاتل، وسموا العاقلة؛ لأنهم يأتون بهذه النوق ويربطونها -أي: يعقلونها- في مكان، ويسلمونها لأهل المقتول.
وابن عباس هو الوحيد الذي قال: إن قاتل المؤمن عمداً لا توبة له، والأمة بأسرها والصحابة كذلك يقولون: بأن قاتل المؤمن عمداً له توبة، وقيل: إن ابن عباس قد رجع عن هذا الرأي.
وأما ما ذكر عن بعض السلف من خلاف هذا فمراد قائله الزجر عن سبب التوبة، لا أنه يعتقد بطلان توبته، وهذا الحديث ظاهر فيه، وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:68] إلى أن قال الله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70].
وهذا الاستثناء يقطع هذه المعاصي السابقة، فلو كان أشرك ثم تاب قبلت توبته، ولو قتل ثم تاب قبلت توبته، وغير ذلك من سائر المعاصي، وأما قول الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93] أي: فجزاؤه إن شاء الله تعالى أن يجازيه، أن يخلده في النار، لكن له أن يجازيه، وله ألا يجازيه ويعفو عنه.
ثم إن قوله: {خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93] الخلود في لغة العرب يعني: المكث الطويل، بخلاف الأبدية السرمدية في النار للكفار والمنافقين، فلو أن هذا العبد قتل فأراد الله عز وجل أن يجازيه أدخله جهنم، وأبقاه فيها مدة من الزمان الطويل، فيكون من آخر من يخرج من النار بشفاعة الشافعين، فيكون معنى: جزاؤه جهنم خالداً فيها: أي: ماكثاً فيها مكثاً طويلاً، لا المكث الأبدي السرمدي.
والصواب في معنى هذه الآية: أن جزاءهم جهنم، وقد يجازى به وقد يجازى بغيره، وقد لا يجازى بل يعفى عنه، فإن قتل عمداً مستحلاً له بغير حق ولا تأويل فهو كافر مرتد يخلد في جهنم بالإجماع.
ومن ارتكب كبيرة مستحلاً لها، متعمداً الوقوع والتلبث بها، مع قيام الحجة عليه أن هذا حرام، ولكنه أنكر وجحد وأصر على أنه ليس حراماً، وهو ليس متأولاً، ولا مخطأً، بل متعمداً، ومستحلاً، فهو كافر؛ لأن من حرم ما أحل الله، أو أحل ما حرم الله عامداً غير متأول لا شك أنه يكفر.(42/8)
حكم القاتل المستحل وغير المستحل
قال: (فإن قتل عمداً مستحلاً له بغير حق ولا تأويل؛ فهو كافر مرتد يخلد في جهنم بالإجماع، وإن كان غير مستحل).
أي: من قتل عمداً لكنه ليس مستحلاً للقتل، ومعتقداً تحريم ذلك، فهو فاسق عاص مرتكب للكبيرة، جزاؤه جهنم خالداً فيها، لكن بفضل الله تعالى أنه لا يخلد فيها من مات موحداً، وقد يعفى عنه فلا يدخل النار أصلاً، وقد لا يعفى عنه بل يعذب كسائر العصاة الموحدين، ثم يخرج معهم إلى الجنة، فهذا هو الصواب في معنى هذه الآية، ولا يلزم من كونه يستحق أن يجازى بعقوبة مخصوصة أن ذلك حتم في حقه، وليس في الآية إخبار بأنه يخلد في جهنم، إنما فيها أن جهنم جزاؤه إن أراد الله تعالى أن يجازيه، ولذلك لم تقل الآية: ومن يقتل مؤمناً متعمداً فيخلد في جهنم، أو يدخل جهنم، وإنما قالت: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء:93] يعني: ليس بلازم إذا وقع العبد في الذنب أن يجازى به، فيمكن أن يجازى بجزاء آخر، فالله عز وجل يخفف عن عبده من عقوبة إلى عقوبة أخف برحمته وفضله سبحانه وتعالى حتى يصل إلى درجة العفو، والعفو والعذاب بيده سبحانه وتعالى، ونحن في قبضته ومشيئته يفعل ما يشاء، لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه، فأنا عبده، فإن عذبني فبعدله، وإن غفر فبفضله، فأنا أدور بين درجتين: درجة العدل، ودرجة الفضل والإنعام والتكرم.
قال: (وليس في الآية إخبار بأنه يخلد في جهنم، وإنما فيها أن هذا الجزاء، أي: يستحق أن يجازى بذلك إن قتل، وقيل: إن المراد: من قتل مستحلاً).
ثم ذكر بعد ذلك أقوالاً أخرى للدلالة على ما ذكرناه أنفاً، وزاد أقوالاً فيها ضعف، وأقوى الأقوال في قتل المؤمن عمداً ما قدمناه، والذي يسرنا أن نقول: أن ابن عباس قد رجع عن قوله: بأن قاتل المؤمن عمداً لا توبة له.
ومن لم يجد رقبة مؤمنة بعتقها فإنه يصوم شهرين متتابعين مع وجوب الدية.(42/9)
مفارقة أهل المعاصي والمواضع التي وقعت فيها المعاصي
أما قوله: (انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن فيها أناساً يعبدون الله، فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء).
قال العلماء: في هذا استحباب مفارقة التائب المواضع التي أصاب بها الذنوب؛ لحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام (لما نزل في واد هو وأصحابه قال: من يرقب لنا الفجر؟ قال بلال: أنا يا رسول الله! فنام بلال، فكان أول من استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد طلعت الشمس، فقال: أين بلال؟ قال: أنا يا رسول الله! فقال: ما الذي أخذك؟ قال: الذي أخذكم يا رسول الله! -يعني: النوم- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: انطلقوا من هذا الوادي فإن به شيطاناً، فلما صعد إلى الأرض المستوية أمر بلالاً فأذن، وتوضئوا فصلوا السنة، ثم صلوا الصبح جماعة)، وهذا بعد طلوع الشمس، وقد حدث هذا ثلاث مرات للنبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه.
فقال: (وفي هذا استحباب مفارقة التائب المواضع التي أصاب بها الذنوب، والأخدان المساعدين له على ذلك)، الأخدان: هم الأقران أو الرفقة الذين هم معه، فمن تاب فعليه أن يترك الرفقة القديمة رفقة السوء، ويدخل المسجد، ويكثر من قراءة القرآن، والذكر، والتسبيح، وطلب العلم.
قال: (في هذا استحباب مفارقة المواضع التي أصاب بها الذنوب، والأخدان المساعدين له على ذلك، ومقاطعتهم ما داموا على حالهم -أي: على معاصيهم- وأن يستبدل بهم صحبة أهل الخير والصلاح والعلماء والمتعبدين الورعين الأتقياء، ومن يقتدى بهم، وينتفع بصحبتهم، وتتأكد بذلك توبته).
ومن يعمل بكلام أهل العلم فسوف ينجو من شرور وفتن كثيرة جداً.
ورب واحد يتوب ويأتي المسجد فيرى المجتمع غريباً عليه، وينظر لأخيه في البيت أول ما يلقاه حليق، فيعبس في وجه، ويمكن أن يكون هو أفضل منه، فقد تكون عنده مؤهلات أخرى إيمانيه وصلة بالله أحسن منه.
وآخر يبحث عن جزمته في فناء المسجد فإذا لم يجدها قال: هذه آخر مرة أدخل المسجد، وذلك بسبب أخ بسوء خلقه، وقصور فكره صده عن سبيل الله عز وجل، وهناك مكاسب سبقنا إليها غيرنا من الجماعات العاملة على الساحة من صدق الخلق وغيرها، فلماذا لا يكون في ذهنك: أن كل من تقابله فإنك تدعوه إلى الله؟ أليس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب من أبواب الجنة؟ فلماذا تركته؟ فـ أبو بكر الصديق رضي الله عنه ما كان يفرط في باب قط، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من منكم تصدق اليوم؟ فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله! قال: من منكم عاد اليوم مريضاً؟ فقال: أنا يا رسول الله، قال: من منكم فعل وفعل، وكل سؤال يجيب عنه أبو بكر بقوله: أنا يا رسول الله! قال: لا عليك أن تدخل من أبواب الجنة كلها).
يعني: لا يمنعك أن تدخل من جميع أبواب الجنة؛ لأنك قد أتيت من الأعمال الصالحة ما يؤهلك للدخول من جميع الأبواب.
وقد سمعت مرة واعظاً وقد سأله سائل فقال له: كيف يدخل أبو بكر رضي الله عنه من أبواب الجنة كلها؟ فقال: يدخل من باب ويخرج منه، ثم يدخل الباب الثاني والثالث وهكذا، فقال له السائل: إن الذي يدخل من باب الجنة لا يخرج منها أبداً، فقال الواعظ: أي والله! حتى أنا فاهم هذا الكلام غلط، وهذا يبين لنا الفرق بين الواعظ والعالم.
والجواب على هذه المسألة هو: أن أبا بكر سوف يدخل من الثمانية الأبواب، والله تعالى أعلم بكيفية الدخول، فهذا معتقد أهل السنة والجماعة، كما نعتقد أن مصراعي باب الجنة كما بين مكة وهجر، أو كما بين المشرق والمغرب، وإذا كان تراب الجنة المسك والزعفران فكيف بابها؟! وأما قياس الملائكة ما بين القريتين، وحكم الملك بذلك؛ فهذا محمول على أن الله تعالى أمرهم عند اشتباه أمرهم عليهم واختلافهم فيه أن يحكموا أول من يمر بهم، فمر الملك في صورة رجل فحكم بينهم بذلك، فكان مآل هذا التائب إلى الجنة.(42/10)
فداء المسلم يوم القيامة بالكافر
قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو أسامه حماد بن أسامه عن طلحة بن يحيى -وهو ابن طلحة بن عبيد الله التيمي المدني نزيل الكوفة- عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري عن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان يوم القيامة دفع الله عز وجل إلى كل مسلم يهودياً أو نصرانياً فيقول: هذا فكاكك من النار)].
أي: هذا فداؤك وخلاصك من النار في يوم القيامة، وهذا الكلام لا يعجب الملاحدة، وهو أن ربنا يجعل فكاك المسلم يوم القيامة من النار بيهودي أو نصراني، وليس معنى ذلك أن الكافر يدخل النار بسبب ذنوب المسلم، فربنا يقول: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، ولا يعذب المرء بجريرة غيره، ولا بذنب الآخرين، وإنما يعذب بذنبه وبكفره ولا يعذب بذنوب الآخرين.
قال: [وفي رواية عون بن عتبة، وسعيد بن أبي بردة: أنهما رأيا أبا بردة يحدث عمر بن عبد العزيز عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يموت رجل مسلم إلا أدخل الله مكانه النار يهودياً أو نصرانياً، فاستحلفه عمر بن عبد العزيز بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات: هل أبوك حدثك عن رسول الله بهذا؟ فحلف له، قال: فلم يحدثني سعيد أنه استحلفه، ولم ينكر على عون قوله).
وفي رواية أبي موسى الأشعري عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال فيغفرها الله لهم، ويضعها على اليهود والنصارى)].
والقول الثاني في الحديث الأول: يأخذ الذنوب التي على المسلمين ويضعها على اليهود والنصارى.
قال: [وفي رواية صفوان بن محرز قال: (قال رجل لـ ابن عمر: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول في النجوى -أي: المناجاة التي بين العبد وبين الله يوم القيامة، وهو الكلام السر الذي لا يسمعه إلا العبد- قال: سمعته يقول: يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه عز وجل) -يعني: يقترب المؤمن من ربه عز وجل- حتى يضع المولى عز وجل عليه كنفه، فيقرره بذنوبه يقول له: أنت عملت كذا يوم كذا وكذا، فيقول: نعم يا رب! وعملت كذا يوم كذا وكذا، فيقول: نعم يا رب)].
فهو لا يستطيع أن ينكر، ولو أنكر ختم على فيه، وتكلمت جوارحه، فهذا موقف لا يصح فيه الإنكار، والمسلم يوم القيامة إذا حوسب وجوزي لا ينكر، وإنما الذي ينكر هم الكفار، فيختم على أفواههم وتتكلم جوارحهم.
قال: [(فيقول: هل تعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول: أي رب أعرف، قال: فإني سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم، فيعطى صحيفة حسناته، وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رءوس الخلائق: هؤلاء الذين كذبوا على الله)].(42/11)
الجمع بين حديث فداء المسلم بالكافر يوم القيامة، وقوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى)
أورد الإمام مسلم هذه الأحاديث المتعلقة بمغفرة ذنوب المسلمين الموحدين، وأنهم يأتون بأمثال الجبال من الذنوب، والله تعالى يغفرها لهم، ويضع هذه الذنوب على اليهود والنصارى.
وظاهر هذه النصوص فيه إشكال، وليس كل نصوص الشرع يفهمها كل مكلف، ولو كانت نصوص الشرع يفهمها كل مكلف لما أمرنا الله بسؤال أهل العلم، فكل واحد يقرأ في الكتاب والسنة فيفهم لوحده، لذا فإن الله تعالى يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] أي: بالبينات الواضحات أو بالمشتبهات.
ولو اعتبرنا أن هذا النص من المشتبهات فإن فيه إشكالاً، وهو أن ربنا يقول: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، وفي نفس الوقت يجعل ذنوب المسلمين يوم القيامة على اليهود والنصارى، ويجعل فكاك كل مسلم من النار برجل كافر، والأصل أن الكافر لا يعذب إلا بذنبه، ومعنى هذا الحديث مرتبط بما صح عن أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لكل أحد منزل في الجنة، ومنزل في النار) ولفظ (أحد) عام يشمل المسلم والكافر.
والله لما خلق الخلق جعل لكل مخلوق مكان في النار، ومكان في الجنة، فإذا أسلم العبد وجاء بالعمل الصالح فإنه بفضل الله تعالى يغفر الله له ذنبه، ويعطيه مكان ذلك الكافر الذي كان قد أعده له في الجنة، فالمسلم له مكانان، والكافر له مكانان، فالمسلم أخذ مكانه الذي أعد له سلفاً في الجنة، وأما مكانه الذي أعد له في النار فإنه لا يدخله؛ لأنه قد آمن، ووحد الله عز وجل، وعمل الصالحات، ولو عمل السيئات فإنه سوف يدخل مكانه الذي أعد له في النار أولاً، ويعذب فيه، ثم يخرج إلى المكانين في الجنة.
وأما الكافر فقد أعد له مكان في الجنة، والكافر لا يدخل الجنة أبداً، ومكانه الذي أعد له في الجنة يكون للمسلم، فهذا هو معنى الفكاك والخلاص، فإن لكل أحد منزل في الجنة ومنزل في النار، فمن اختار الإيمان والصلاح فإنه يحصل على المكانين في الجنة، ومن اختار الكفر والجحود والنكران فإنه يحصل على المكانين في النار.
وأما تسمية النبي عليه الصلاة والسلام الوضع بمعنى الفكاك والخلاص؛ فهو من باب المجاز.(42/12)
بيان متى يحمل الحديث الخاص على العام ومتى لا يحمل
وإذا كان هناك حديث عام وحديث خاص فإنا نحمل الخاص على العام، وإذا اختلف المخرج -أي: مخرج الروايتين الخاصة والعامة- فهذا يدل على شمول الحكم العام لأفراد الخاص، وهذه مسألة أصوليه، فمخرج رواية اليهود والنصارى من طريق أبي موسى الأشعري، وحديث: (لكل أحد منزل في الجنة ومنزل في النار) من طريق أبي هريرة، إذاً: فالمخرج مختلف، فيجب العمل بهما جميعاً، وحمل الخاص على العام من باب اعتبار أن الخاص هو أحد أفراد العام، فمثلاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة ثلاثة أيام بلياليهن إلا مع ذي محرم، ومسيرة يومين إلا مع ذي محرم، ومسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم، ومسيرة بريد أو فرسخ إلا مع ذي محرم)، ثم في الرواية الأخرى: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع ذي محرم).
والروايات الأولى كلها مقيدة: ثلاثة أيام، يومين، يوم وليلة، بريد أو فرسخ، والرواية الأخرى بغير قيد، فهي رواية مطلقة، وفي هذه الحالة لا يحمل العام على الخاص، والعام لا يحمل على الخاص إلا بشروط أهمها: اتحاد المخرج، أي: أن الروايات من طريق صحابي واحد، وأما إذا تعددت المخارج فلا يحمل العام على الخاص، وإنما يحمل هذا على تعدد الحوادث، أي: أن رجلاً سأل رسول الله: هل تسافر المرأة من غير محرم مسافة ثلاثة أيام؟ فقال له: لا، وجاء رجل آخر وقال: هل تسافر المرأة مسيرة يومين من غير محرم؟ فقال له: لا، وجاء رجل ثالث فقال: هل تسافر المرأة مسيرة يوم من غير محرم؟ فقال له: لا، وسأل رجل رابع: هل يحل للمرأة أن تسافر من غير ذي محرم؟ فقال: لا.
والنبي عليه الصلاة والسلام أفتى كل واحد على حسب سؤاله، وهذا الذي يعرف عند العلماء بتعدد الحوادث إذا اختلف المخرج، أما إذا اتحد المخرج يحمل فإنه الخاص على العام.
والحديث الخاص بذكر اليهود والنصارى جاء من طريق أبي موسى الأشعري، وأما حديث أبي هريرة في أن الله تعالى جعل لكل أحد منزلين: منزل في الجنة، ومنزل في النار، فهذا حديث عام؛ لأنه يشمل كل أحد من اليهود والنصارى والمسلمين وغيرهم، والمخرج مختلف، فلا بد أن نعمل بالحديثين، فاليهود والنصارى أحد أفراد العموم الوارد في حديث أبي هريرة.
قال: (ومعنى هذا الحديث ما جاء في حديث أبي هريرة لكل أحد منزل في الجنة ومنزل في النار، فالمؤمن إذا دخل الجنة خلفه الكافر في النار؛ لاستحقاقه ذلك بكفره).
فالمؤمن يدخل الجنة ويزاد على ذلك مكاناً آخر، ولو أنه كفر أدخل النار، ويزاد على ذلك مكاناً آخر بسبب كفره.
قال: ومعنى فكاكك من النار: أنك كنت معرضاً لدخول النار لو أنك كفرت، ولكنك آمنت، فهذا اليهودي أو النصراني أو الكافر فكاكك؛ لأن الله تعالى قدر للنار عدداً، فإذا دخلها الكفار بكفرهم وذنوبهم صاروا في معنى الفكاك للمسلمين.
وأما قوله: (يجئ يوم القيامة أناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال فيغفرها الله) فمعناه: أن الله تعالى يغفر تلك الذنوب للمسلمين، ويسقطها عنهم، ويضع على اليهود والنصارى مثلها بكفرهم وذنوبهم، فيدخلهم النار بأعمالهم لا بذنوب المسلمين؛ لأن الله تعالى غفرها، والغفران هو المحو، ولا يترتب من محوها معاقبة الغير عليها، وهذا في عالم البشر لعب أطفال، والله تعالى منزه عن هذا كله.
قال: فمعنى هذا الحديث: أن الله تعالى يغفر تلك الذنوب للمسلمين، ويسقطها عنهم، ويضع على اليهود والنصارى مثلها بكفرهم وذنوبهم فيدخلهم النار بأعمالهم لا بذنوب المسلمين.
وقوله: (يضعها) مجاز، والمراد: يضع عليهم مثلها بذنوبهم كما ذكرناه أنفاً، ولما أسقط سبحانه وتعالى عن المسلمين سيئاتهم وأبقى على الكفار سيئاتهم -لأن الكفر لا يغفر- صاروا في معنى من حمل إثم الفريقين؛ لكونهم حملوا الإثم الباقي، فاستحقوا المكان الآخر في النار، وهو إثمهم بكفرهم.
ويحتمل أن يكون المراد: أنهم يحملون آثاماً بسبب أنهم سنوا الكفر، ودعوا إليه، وعاندوا وجحدوا الإسلام، فتسقط عن المسلمين بعفو الله تعالى، ويوضع على الكفار مثلها لكونهم سنوها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)، والله تعالى أعلم.(42/13)
التثبت في سماع الحديث والاستخلاف في ذلك
وأما استحلاف عمر بن عبد العزيز لـ أبي بردة فإنما ذلك لزيادة الاستيثاق والطمأنينة، ولما حصل لهم من السرور بهذه البشارة العظيمة للمسلمين أجمعين؛ فقد كان عنده فيه شك أو غلط أو نسيان أو اشتباه أو نحو ذلك فلهذا استحلف أبا بردة، فلما حلف تحقق انتفاء هذه الأمور، وعرف صحة الحديث، وقد جاء عن عمر بن عبد العزيز والشافعي رحمهما الله تعالى أنهما قالا: هذا الحديث أرجى حديث للمسلمين، وهو أن يغفر الله تعالى لهم، وهو كما قالا لما فيه من التصريح بفداء كل مسلم، ولله الحمد والمنة.
وآخر فائدة هي: قول الإمام في قول النبي عليه الصلاة والسلام: (يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه حتى يضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه).
قال: الكنف: هو الستر والعفو، والمراد بالدنو هنا: دنو الكرامة والإحسان لا دنو المسافة، والله تعالى منزه عن المسافة وقربها، وهذا كلام الأشاعرة.
والصواب: أننا نؤمن بأن الله تعالى يدنو من عباده دنواً حقيقياً يليق بجلاله وكماله.(42/14)
شرح صحيح مسلم - كتاب التوبة - توبة كعب بن مالك وصاحبيه
في قصة توبة كعب بن مالك وصاحبيه كثير من الدروس والعبر، فهذه القصة تبين لنا أثر المعصية في قلب المؤمن وما يعود عليه منها من شعور بالذل والانكسار، كما تبين عظم صدق الحديث، فصدق الحديث منجاة، والكذب مهلكة، وأن امتثال أمر الله ورسوله فوز وفلاح، ومخالفتهما هلاك وبوار في الدنيا والآخرة.(43/1)
باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرني ابن وهب -وهو عبد الله بن وهب المصري القاضي - قال: أخبرني يونس -وهو ابن يزيد الأيلي - عن ابن شهاب -أي: الزهري محمد بن مسلم - قال: (ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك وهو يريد الروم، ونصارى العرب بالشام)].
قال: [قال ابن شهاب: فأخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك: أن عبيد الله بن كعب كان قائد كعب].
وفي بعض الروايات: أنه عبيد الله بن كعب، والصواب: أنه عبد الله لا عبيد الله، وهي الرواية المتفق عليها عند البخاري ومسلم، فلم يذكر البخاري غير عبد الله، وأما الإمام مسلم فذكر في رواية: أنه عبد الله، وذكر في رواية أخرى: أنه عبيد الله، والصواب: عبد الله.
قوله: إن عبد الله بن كعب كان قائد كعب من بنيه، يعني: كان يقوده حين عمي؛ لأن كعب بن مالك عمي لما كبر.
قال: [سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك].
إذاً: فقصة توبة هؤلاء الصحابة كان في غزوة تبوك.
قال كعب بن مالك [(لم أتخلف عن رسول صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط)].
وهذا يعني: أنه غزا معه كل الغزوات إلا ما استثناه كعب.
قال: [(إلا في غزوة تبوك)].
أي: هذه التي حصلت فيها هذه القصة.
قال: [(غير أني قد تخلفت في غزوة بدر)].
يريد أن يقول: إن تخلفي عن غزوة بدر كنت معذوراً فيه، كما أن الله عز وجل، ورسوله الكريم عليه الصلاة والسلام لم يعتبا أحداً في تخلفه عن غزوة بدر؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما خرج إلى ماء بدر لم يقصد ملاقاة عدو، أي: لم ينو قتالاً؛ ولذلك لم يدع الناس إلى هذه الغزوة.
قال: [(ولم يعاتب أحداً تخلف عنه)].
أي: في غزوة بدر.
قال: [(إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قريش)].
وهي القافلة من الإبل والبقر والغنم وغيرها مما يكون مع القافلة في سفرهم، وفي هذا الكلام فضيلة ظاهرة لأهل بدر، والنبي عليه الصلاة والسلام ينقل عن ربه سبحانه وتعالى فيقول: (لعل الله اطلع على قلوب أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم؛ فقد غفرت لكم).
كما أن فيه إباحة الغنائم لهذه الأمة، فالنبي عليه الصلاة والسلام خرج يريد عير قريش وهي غنيمة، ومن المعلوم أن هذه خاصية من خواص النبي عليه الصلاة والسلام، ومن خواص الأمة من بعده إلى قيام الساعة؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: (وأحلت لي الغنائم -أي: لي ولأمتي- ولم تحل لأحد من بعدي)، وربما يتمسك أحد بقوله عليه الصلاة والسلام: (وأحلت لي الغنائم) بأنها خاصة له دون الأمة، وهذا فهم ظاهري للنص، فالسنة العملية للنبي عليه الصلاة والسلام، والخلفاء الراشدين، ومن بعدهم إلى يومنا هذا تبين أن الغنيمة حلال لهذه الأمة إلى قيام الساعة، فقد كانت حلاً للنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره، وشرع له أن يقسم الغنائم في أصحابه، وفي كتب التاريخ أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا غنم شيئاً جعل للفرس سهمين، وللفارس سهماً، أي: أنه كان يوزع الغنائم على أصحابه، ولو كانت حلالاً له دون أصحابه ودون بقية الأمة؛ لم يفعل شيئاً من ذلك.
قال: [(حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد)].
وهذا في غزوة بدر.
قال: [(ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة)].
وليلة العقبة هذه إما أن تكون الأولى، وإما أن تكون الثانية، وأنتم تعلمون أن الأنصار الذي بايعوا النبي عليه الصلاة والسلام ليلة العقبة الأولى كانوا اثني عشر رجلاً، وفي ليلة العقبة الثانية بايعه من الأنصار سبعون رجلاً وامرأتان، والعقبة: اسم مكان قريب من منى.
قال: [(ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام)].
يعني: حين تبايعنا على الإسلام، والتزمنا به.
قال: [(وما أحب أن لي بها مشهد بدر)].
يعني: أن هذه البيعة التي كانت في العقبة هي أعظم أثراً من غزوة بدر، ولكن غزوة بدر حازت شهرة بين الناس؛ لفضلها ومنزلتها في الإسلام، ولكن أعظم منها -غير أنها ليست مشهورة- البيعة التي تمت ليلة العقبة.
قال: [(وإن كانت بدر أذكر في الناس منها)].
يعني: يذكرها الناس؛ وهي مشهورة بينهم.(43/2)
تردد كعب بن مالك بين شهود غزوة تبوك وعدم شهودها
قال: [(وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك: أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة)].
يعني: قصتي مع النبي عليه الصلاة والسلام: أني لم أكن مستعداً للقتال في يوم من الأيام، ولا في غزوة من الغزوات كاستعدادي في هذه الغزوة، فهو قد جمع الأسباب كلها في هذه الغزوة: فلم يكن فقيراً، ولا محتاجاً، وكان يملك الظهر، وغير ذلك، ولم يكن له عذر في التخلف، ومع هذا تخلف، فيقول: كانت بليتي أني تخلفت بغير عذر.
قال: [(والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة)].
يعني: لم يكن عنده فرسان قط في حياته إلا في هذه الغزوة، أي: كانت الحجة قائمة عليه؛ لأن الفرس الواحد يكفي للغزو، ومع هذا فقد كان عنده فرسان، فالحجة قائمة عليه من أوسع الأبواب.
وفي هذا جواز القسم بغير استحلال؛ لتأكيد الأمر، وإن لم يكن قد طلب ذلك منه.
قال: [(فغزاها الرسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد)].
يعني: أن هذه الغزوة كانت في الصيف.
قال: [(واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً)].
المفازة: هي الأرض القفراء الصحراء البعيدة السفر.
قال: (واستقبل سفراً بعيداً).
لأنه سينطلق إلى تبوك في الشام.
قال: [(واستقبل عدواً كثيراً)].
أي: والعدو كثير العدد، والعدة.
قال: [(فجلا للمسلمين أمرهم؛ ليتأهبوا أهبة غزوهم)].
(جلا) بمعنى: كشف لهم الأمر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد عود أصحابه غير ذلك، فكان إذا أراد أن يغزو مكاناً قريباً من جهة الغرب عرض قبل ذلك بيوم أو يومين أنه سيغزو جهة الشرق، أو يشير إلى عكس المكان الذي ينوي غزوه بعد يوم أو يومين؛ حتى لا يعرف الخبر، ولا ينقل الجواسيس خبرهم إلى المعنيين، وهذا مأمون في جانب السفر الطويل، وهو يحتاج إلى إعداد عدة أكثر من السفر القصير، فالمرء يستطيع أن يصبر على جوعه وعطشه يوماً أو يومين، لكنه لا يستطيع أن يصبر على جوعه وعطشه شهراً أو شهرين؛ ولذلك جلا لهم النبي عليه الصلاة والسلام الأمر، فقال: إنا سنلقى المشركين والنصارى في تبوك، ولم يعرض في هذه المرة؛ وذلك لأمن الخوف، وأمن انتقال وانتشار الأخبار عن طريق الجواسيس وغير ذلك، والعلة: (ليتأهبوا أهبة غزوهم) أي: ليستعدوا ويأخذوا الزاد والعتاد والعدة لهذا السفر الطويل.
قال: [(فأخبرهم بوجههم الذي يريد)].
يعني: أخبرهم صراحة وحقيقة بالمكان الذي يريد أن يذهب إليه.
قال: [(والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، ولا يجمعهم كتاب حافظ)].
فقد نادى في المسلمين: إننا سنغزو تبوك، وسيكون انطلاق السفر من هذا المكان، أي: من المسجد النبوي، في اليوم الفلاني، ومن وجد في نفسه قوة، وعلم أن القتال تعين عليه فليلحق بنا، أو فليأتنا إلى هذا المكان، ولم يكن هناك كتاب في غزوة تبوك يكتب فيه أسماء المجاهدين.
[قال كعب: (فقل رجل يريد أن يتغيب، يظن أن ذلك سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي من الله عز وجل, وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزاة حين طابت الثمار والظلال، فأنا إليها أصعر)].
أي: أميل.
فالنبي عليه الصلاة والسلام خرج من المدينة في وقت طيب الثمار وقطفها، فمالت نفس كعب إلى التخلف عن الغزوة؛ لأجل جمع الثمار.
قال: [(فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض شيئاً، وأقول في نفسي: أنا قادر على ذلك إذا أردت)].
وهذا هو عمل النفس اللوامة، فهو يتخلف لشهوة، لكن نفسه المؤمنة الطيبة تلومه على ذلك، ويقول لنفسه: وإن التمست لنفسك يا كعب! المعاذير فإنك في حقيقة أمرك لو أردت الغزو لفعلت، فهو يقيم الحجة بنفسه على نفسه.
قال: (إذا أردت ذلك).
فقد كان عنده الزاد والراحلة، ولا يمنعه من ذلك شيء.
قال: [(فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد)].
يعني: فهو تحدثه نفسه بالغزو، فيذهب يجهز نفسه ليذهب معهم، ثم يقوم الشيطان بتثبيطه، فيذكره بالثمار فيرجع، وهذا يتكرر منه مراراً حتى جد المسلمون بالذهاب إلى تبوك.
قال: [(فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غادياً والمسلمون معه)].
أي: في وقت الغداة بعد صلاة الفجر.
قال: [(ولم أقض من جهازي شيئاً)].
يعني: غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وأنا لم أجهز نفسي.
قال: [(ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئاً, فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو)].
أي: حتى أوشك المسلمون أن يدخلوا مع عدوهم في القتال.
قال: [(فهممت أن أرتحل فأدركهم، فيا ليتني فعلت)].
فصاحب المعصية لا يزال يشعر بذل المعصية في قلبه، خاصة إذا كان عنده وازع إيماني، وحظ من يقين، وأما الفاجر الجر(43/3)
موقف كعب بن مالك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند عودته إلى المدينة
قال: [(وصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادماً، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين)].
وهذا يدل على استحباب أن يصلي القادم من سفر طويل ركعتين في المسجد القريب من بيته، ويرسل إلى أهله أنه قد قدم ودخل المسجد؛ حتى تمشط الشعثة، وتستحد المغيبة، أي: تنظف نفسها، وتتهيأ للقاء زوجها.
قال: [(ثم جلس للناس)].
أي: بعد أن صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين في المسجد؛ جلس للناس، وهذه سنة سلفية عمل بها سلف هذه الأمة، فالشخص إذا كان من أصحاب الوجاهة والمنزلة، وممن يشار إليه بالبنان في مصالح الناس، أو تعليمهم أو غير ذلك؛ فإنه يستحب له أن يتخذ مكاناً هيناً سهلاً يمكن الوصول إليه بغير مشقة ولا عنت، ويظهر للناس حتى يقضي للناس حاجاتهم.
قال: [(ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون -أي: الذين تخلفوا عن القتال- فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له -ولم يطلب منهم قسماً- وكانوا بضعةً وثمانين رجلاً, فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم)].
لأن أحكام الشريعة مناطها ما كان أمراً ظاهراً، وأما الباطن فإنه الإيمان الذي لا يطلع عليه إلا الله عز وجل؛ ولذلك لما حلفوا قبل منهم النبي عليه الصلاة والسلام، بل وبايعهم، واستغفر لهم، والنبي عليه الصلاة والسلام يعلم أن منهم منافقين، وأن منهم أصحاب أعذار حقاً، ولكنه استغفر للجميع، وقبل منهم للحلف الذي حلفوه، والمعذرة التي قدموها بين يديه عليه الصلاة والسلام، وهذا أمر مسنون أن يقبل الإمام قول الحالف وإن كاذباً، لكن ما عند الله من العقوبة أشد وأبقى مما عند هذا القاضي، أو الأمير، أو السلطان.
قال: [(ووكل سرائرهم إلى الله تعالى)].
أي: لما استغفر لهم قال لهم: إذا كنتم على غير ما حلفتم فإن الله تعالى يتولى أمركم، وهذا تهديد رهيب جداً، فالتخلص من ذلك في الدنيا أحسن.
قال: [(حتى جئت، فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب)].
فهنا كان مغضباً، مع أن الرواية لم تذكر أنه غضب ممن حلفوا له، فأحياناً يغضب الإنسان غضباً شديداً على أقرب الناس إليه، وأحب الناس إلى قلبه؛ وذلك لأن هذا التصرف الخاطئ لا ينتظر منه، وإنما ينتظر من غيره، فكون النقيصة والعيب يأتيان من الآخرين هذا أمر مقبول، وأما منك وأنت أقرب الناس إلي، وأفهم الناس لي ولأخلاقي؛ فحين تقول: كذا وكذا، أو تفعل كذا وكذا، فوالله إن غضبي منك أعظم بكثير من غضبي على الآخرين، مع أن الآخرين قد قالوا شيئاً هو أعظم من قولك، وأنكر، وأقبح، لكن غضبي عليك أعظم؛ لأنك المظنون بك أن تكون في موطن الدفاع لا في موطن التهمة؛ ولذلك فالإنسان يتعامل مع الآخرين معاملة فيها رفق ولين، ويتعامل مع زوجته، وأبنائه، وأقرب المقربين إليه بهذه الطريقة؛ لأنهم أحب إليه من غيرهم، وفعل غيرهم لا يضره ولا يهمه، بخلاف أفعال المقربين فإنها تهمة، فلو أن امرأة أخطأت خطأً ما فربما يمر الإنسان عليها بغير أن ينكر عليها، لكن لو أن امرأته أخطأت لعاقبها ولو بالضرب؛ لأنه يثيره أن يأتي هذا الانحراف من امرأته.
قال: [(تبسم تبسم المغضب, ثم قال: تعال)].
تعال: كلمة فيها رفق ولين.
قال: [(وجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: ما خلفك؟)].
لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم عليه مباشرة، بل سأله عن سبب تخلفه، ولم يقل له: والله أنت منافق، وأنا أعلم أن عندك فرسين، وهذا يعلمك أن تكون مع المخطئ حتى تتيقن أنه قد أخطأ بغير عذر.
قال: [فقال لي: (ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك)].
أي: ما الذي حملك على أن تتخلف عن الغزوة؟ ألم تكن يا كعب! قد ابتعت -أي: اشتريت- ظهرك، هذا إن لم يكن عندك فرس تركب عليه.
قال: [(فقلت: يا رسول الله! إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر)].
هذا الأمر متعلق بالوحي، فغيرك لا يوحى إليه، وأما أنت فيوحى إليك، ولو أن هذا المجلس بين يدي غيرك لكذبت عليه وخرجت منها، وضمنت النجاة.
قال: [(ولقد أعطيت جدلاً)].
يعني: رجل صاحب لسان يحسن أن يتكلم وليس عيياً، بل يفصح عما في نفسه بأحسن عبارة وأقواها، وأكثرها بياناً وفصاحة.
قال: [(ولكني والله لقد علمت -أي: أنا أعلم يقيناً- لئن حدثتك اليوم بحديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي)].
أي: لو كذبت عليك فسينزل الوحي بكشف كذبي عليك، فيغضب الله ورسوله علي.
قال: [(ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه -يعني: تغضب مني الآن- إني لأرجو عقبى الله)].
يعني: لن أقول إلا الصدق، وإن كان الصدق سيغضبك علي، فإنني بصدقي أرجو العاقبة الحسنة من الله عز وجل، وهذا من حسن الاعتذار والتوبة المهذبة.
قال: [(والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك)].
أي: أنا تخلفت عنك بغير عذر، وإني ل(43/4)
موقف بني سلمة من صدق كعب بن مالك في سبب تخلفه عن غزوة تبوك
قال: [(فقمت، وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك أذنبت ذنباً قبل هذا، لقد عجزت في ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)].
أي: أنت دائماً رجل صالح، وموقفك طيب، فلو أنك اعتذرت مثل الذين اعتذروا، وتصبح حياتك كلها بغير ذنب، لكنك أكدت الذنب على نفسك.
قال: [(قالوا: لقد عجزت في ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله بما اعتذر به إليه المتخلفون, فقد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك)].
يعني: لو كنت اعتذرت وحلفت له أنه ما خلفك إلا العذر؛ حتى وإن كنت كاذباً في هذا اليمين، فإن الله عز وجل يغفره لك باستغفار النبي لكم جميعاً، وأنت منهم.
قال: [(فوالله ما زالوا يؤنبوني)].
يعني: يلومونني.
قال: [(حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي)].
فانظر إلى أثر الصحبة، مع أن الصحابة كلهم عدول؛ لكنهم تقع منهم الهفوات، وهذه هفوة، فهذا رجل أتى والتزم الصدق فلامه بعض الصحابة رضي الله عنهم، ولذلك هم أن يرجع فينسحب من كلامه الأول، ويقدم المعذرة التي قدمها المخلفون.
قال: [(ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي من أحد؟)].
يعني: هل سبقني أحد إلى الصدق مع النبي عليه الصلاة والسلام في تخلفه؟ قال: [(قالوا: نعم، لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت, فقيل لهما مثل ما قيل لك.
قال: قلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن ربيعة العامري -أو العمري -، وهلال بن أمية الواقفي، قال: فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً، لي فيهما أسوة)].
فهذان الرجلان يشار إليهما بالبنان في الصلاح والعلم والعمل والتقوى، وغير ذلك لكن كعباً لم يكن على علم بتخلفهما، وما علم أنهما تخلفا إلا بعد رجوع النبي عليه الصلاة والسلام.(43/5)
مقاطعة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لكعب وصاحبيه
قال: [(فمضيت حين ذكروهما لي.
قال: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا -أيها الثلاثة- من بين من تخلف عنه)].
هؤلاء الثلاثة فقط: هلال بن أمية، ومرارة العامري، وكعب بن مالك، وكلهم من الأنصار، نهى النبي عليه الصلاة والسلام المسلمين أن يتحدثوا معهم في شيء.
قال: [(فاجتنبنا الناس)].
وفي هذا وجوب طاعة الأمير في السر والعلن.
قال: [(تغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض)].
أي: تنكروا، فكلما وقع وجه كعب على وجه واحد من الناس أظهر له غضبه واشمئزازه، وينصرف بوجهه عنه، وهذا زيادة في الخصومة والقطيعة والهجر، وفي هذا جواز بل وجوب مقاطعة أهل البدع والمعاصي.
وأصل الهجر في الشرع: ثلاثة أيام، ولا يزيد عليها المسلم إذا زالت علة الهجر، وأما إذا كان الهجر بسبب الدين وليس الدنيا فإنه يبقى لو بقيت العلة ولو لخمسين سنة، فالتوبة نزلت على هؤلاء بعد مرور خمسين ليلة، فهب أن التوبة نزلت بعد عام فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يرجع عن مقاطعة هؤلاء، وكان سيستمر.
إذاً: إذا بقيت علة الهجر والخصومة أكثر من خمسين ليلة، أو أكثر من ثلاثة أيام استمر الهجر والمقاطعة حتى تزول العلة، والأصل: أن الهجر لا يزيد عن ثلاثة أيام؛ لأن هذه الثلاثة الأيام كفيلة بتطييب الخاطر، وهدوء البال، وراحة النفس، وغير ذلك، فالله عز وجل هو الذي خلق النفس، وعلم النبي عليه الصلاة والسلام أن النفس تهدأ بعد ثلاثة أيام، فيبدأ الإنسان يفكر فيها بهدوء ولطف؛ لأن الإنسان لو اضطر إلى خصومة فإنه لا يفكر بهدوء، وقد (نهى النبي عليه الصلاة والسلام أن يقضي القاضي وهو غضبان)؛ لأن مظنة الانحراف عن الحق والعدل قائمة، وكذلك: (نهى القاضي أن يقضي وهو جوعان)، فالأحكام التي تصدر عن القاضي وهو جائع قد يكون فيها انحراف عن الحق.
قال: [(فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا، فما هي بالأرض التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا -أي: خضعا- وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم -أي: أنه كان شاباً، وكان صاحباه شيخين كبيرين- فكنت أخرج فأشهد الصلاة، وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد -يعني: لو جلس في بيته لكان ذلك أفضل له- وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟)].
أي: أنه يريد أن ينتزع الكلام من النبي عليه الصلاة والسلام انتزاعاً، فهو يذهب ويصلي معه، وبعد الصلاة يقوم إلى النبي عليه الصلاة والسلام ويقول له: السلام عليكم يا رسول الله! فلا يسمع شيئاً، فانظر إلى مدى الحيرة التي يقع فيها صاحب المعصية، فهو يتمنى أن يكلمه كلمة واحدة طيبة.
قال: [(فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟ ثم أصلي قريباً منه، وأسارقه النظر)].
يعني: أنا حريص على أن أكون قريباً منه في الصلاة، ثم يختلس بنظره إلى النبي عليه الصلاة والسلام فينظر هل سينظر إليه أم لا؟ وفي هذا جواز أن يجول الإنسان بعينيه في الصلاة، ولا يجوز الالتفات في الصلاة، وقد سألت الشيخ الألباني رحمه الله في عام (1982) فقلت: يا شيخ! هل يجوز للمسلم أن يلتفت في الصلاة، أو ينظر لمن حوله؟ قال: أما هكذا فجائز، وأما هكذا فغير جائز، فجال بعينيه فيمن هم بجوارنا؛ للدلالة على أن اختلاف النظر يمنة ويسرة لا يضر بالصلاة، بخلاف الالتفات في الصلاة، وهذا أمر محل اتفاق.
قال: [(ثم أصلي قريباً منه وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي، وإذا التفت نحوه أعرض عني)].
يعني: أن النبي كان ينظر إليه، وهذا شيء يطمئن على أية حال، فهي بشرى.
قال: [(حتى إذا طال ذلك علي من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي).
الحائط: هو البستان، ومعنى تسورت الحائط: أي: علوت الجدار، ونزلت في بستانه، وكان بيت أبي قتادة بجوار بيت كعب بن مالك، وما بين بيت كعب وبيت أبي قتادة إلا سور الحديقة، فتسلق كعب السور ونزل في بستان أبي قتادة، وهذا جائز لمن علم طيب خاطره بذلك؛ لأن هذا دخول في ملك الغير بغير إذن، وذلك لا يشرع إلا مع العلم السابق بأن صاحب الحق يرضى بذلك، وأما إذا علم عدم رضاه عن ذلك فلا يحل لأحد أن يتسور داره.
قال: [(مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي، وأحب الناس إلي، فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام! فقلت له: يا أبا قتادة! أنشدك بالله)].
يعني: أحلف عليك بالله.
قال: [(هل تعلمن أني أحب الله ورسوله؟)].
يقول كعب: نحن وحدنا هنا، فأنا أسألك س(43/6)
ابتلاء الله لكعب برسالة ملك غسان
قال: [(فبينا أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطي من نبط أهل الشام)].
والأنباط والنبيط: هم فلاحو العجم، فهذا ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة، فمن العجب أن واحداً من أهل الشام أتى ليبيع طعامه في سوق المدينة.
قال: [(يقول: من يدل على كعب بن مالك؟)].
يعني: من يدلني على كعب فأنا لا أعرفه، وقد سار الخبر إلى الروم في الشام بما حصل من الهجر.
قال: [(فطفق الناس يشيرون له إلي حتى جاءني، فدفع إلي كتاباً من ملك غسان، وكنت كاتباً)].
يعني: أنه يعرف القراءة والكتابة.
قال: [(فقرأته فإذا فيه: أما بعد: فإنه قد بلغنا أن صاحبك)].
أي: النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: [(قد جفاك)].
أي: قامت بينك وبينه جفوة.
قال: [(ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك)].
فهذه فتنة أخرى، وهي أعظم من الفتنة الأولى، فهذا كتاب جاء من ملك غسان يقول فيه: لقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، فتعال إلينا فإنك لست في أرض هوان ولا ضياع، يعني: أنت عندنا معزز ومكرم ولن تضيع، ودليل ذلك أنك لو أتيتنا لجعلنا لك حظاً عند الملك، ووعود الملوك دائماً لا تخلف؛ لأن خلف الوعود في حق الملوك منقصة.
قال: [(فقلت حين قرأتها: وهذه أيضاً من البلاء، فتياممت بها التنور فسجرتها بها)].
ولو أرسل لواحد منا، وكانت هذه الرسالة من ملك؛ لارتد عن دينه مباشرة، وهذا يدل على عظم قدر الصحابي، فهو يزن الأمة بأجمعها، فهؤلاء قوم قد اصطفاهم الله لصحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، فأنت لن تكون من أصحابه؛ لأنك أضعف من أن تكون صاحباً للرسول الله عليه الصلاة والسلام، ولو علم الله فيك خيراً يؤهلك لأن تكون صاحباً لخلقك في ذلك الزمان، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:120].
فجاءته الرسالة من ملك غسان فأحرقها، ولو وصلت إلى واحد منا لقام ببروزتها، ونشرها في الصحف والمجلات والجرائد؛ من أجل أن يفاخر بها فهناك فرق كبير بيننا وبين الصحابة.
قال: [(أما بعد: فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة)].
قوله: (ولم يجعلك الله) يدل على أن هذه الرسالة فيها ذكر الله، وفيها لفظ الجلالة، لكن كعباً قال: فتياممت بها التنور فسجرتها، يعني: أحرقتها وفيها لفظ الجلالة، وفي هذا جواز حرق الأوراق الممتهنة أو القابلة للامتهان، حتى ولو كان فيها ذكر الله ورسوله، وأنتم تعلمون أن المصاحف التي دونت في زمن عثمان رضي الله عنه أجمع الصحابة رضي الله عنهم على حرقها، ولم يخالف في ذلك واحد من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا إجماع على مشروعية حرق المصاحف الناقصة، أو المعيبة، أو التي فيها أخطاء مطبعية أو غير ذلك، فإذا كان عندك مصحف من هذا القبيل فحرقه أولى من بقائه، والحرق قربة إلى الله عز وجل، أو تقسمه أجزاءً أجزاءً، أو سوراً سوراً.(43/7)
أمر النبي صلى الله عليه وسلم لكعب وصاحبيه أن يعتزلوا أزواجهم
قال: [(حتى إذا مضت أربعون من الخمسين، واستلبث الوحي)].
يعني: تأخر نزول الوحي أربعين ليلة.
قال: [(إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك)].
فزاد غماً إلى غمه، يعني: بعد القطيعة، وهجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه له، فإنه أيضاً يعتزل امرأته.
قال: [(فقلت أطلقها أم ماذا أفعل؟)].
انظر إلى الطاعة والانقياد، فالنبي صلى الله عليه وسلم يأمره أن يعتزل امرأته، فيقول: في أي صورة هذا الاعتزال: عدم إتيانها، أم الطلاق؟ فهو مستعد حتى وإن أفضى إلى الطلاق، وهذا في منتهى الطاعة والامتثال.
قال: [(قال: لا.
بل اعتزلها فلا تقربنها)].
فرسول رسول الله يقول له هذا.
قال: [(فأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك)].
أي: قال النبي عليه الصلاة والسلام لصاحبيه نفس الذي قال له.
قال: [(فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك)].
كلمة: (الحقي بأهلك) العلماء يسمونها من ألفاظ الطلاق الضمني، فهو لفظ يحتمل وقوع الطلاق، ويحتمل عدم وقوعه، والضابط: النية، فلو أن رجلاً قال لامرأته: (الحقي بأهلك) وأراد بهذا اللفظ وقوع الطلاق وقع، ولو قال لامرأته: (الحقي بأهلك) ولم ينو طلاقاً لا يقع طلاقاً.
إذاً: فالألفاظ الضمنية لابد فيها من نية الحالف، أو نية المطلق، أو نية المتكلم، بخلاف الألفاظ الصريحة، فلو قال لها: أنت طالق فلا يصح أن يقول: أنا لم أكن قاصداً الطلاق؛ لأن هذا تلاعب بألفاظ الشرع، فاللفظ الصريح يقع ولا يحتاج إلى نية، بخلاف الضمني فإنه يحتاج إلى نية.
قال: [(الحقي بأهلك، فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر)].
وهذا تأكيد أيضاً، فهو يقول: اذهبي إلى أهلك حتى يسهل ربنا سبحانه وتعالى الأمر.
قال: [(فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وهلال بن أمية رجل كبير، عمره أكثر من سبعين سنة.
قال: (فقالت له: يا رسول الله! إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟).
أي: أنه رجل كبير لا يستطيع أن يخدم نفسه.
وانظر إلى أدب امرأته حيث قالت: [(فهل تكره أن أخدمه؟ قال: لا.
ولكن لا يقربنك، فقالت: إنه والله ما به حركة إلى شيء)].
أي: هو لا يستطيع أن يقربها حتى وإن نزلت التوبة.
قالت: [(ووالله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا)].
وهذا فيه دليل على أن البكاء علامة من علامات صدق التائب.
قال: [(فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك)].
أي: مثل هلال بن أمية، لكن هناك فارق كبير بين كعب بن مالك وهلال، فـ هلال رجل لا حراك فيه، وسيضيع بالفعل إذا تركته امرأته، وأما كعب بن مالك فكان رجلاً شاباً جلداً.
وكان المجاهدون مع النبي عليه الصلاة والسلام فيهم الشيخ الكبير، والشاب الصغير الذي هو فوق الخامسة عشر من عمره.
قال: [(فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول عليه الصلاة والسلام في امرأتك، فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه؟ قال: فقلت: لا استأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يدريني ماذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب)].
أي: وهذا هو الفارق بيني وبين هلال بن أمية.
قال: [(فلبثت بذلك عشر ليال)].
أي: بلا زوجة، ولا كلام.(43/8)
بشرى توبة الله عز وجل على كعب وصاحبيه وما يشرع فيه من شكر النعمة
قال: [(فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهي عن كلامنا، ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله عز وجل منا: قد ضاقت علي نفسي، وضاقت علي الأرض بما رحبت)].
يعني: رغم اتساع الأرض إلا أنها في نظري ضيقة جداً.
قال: [(سمعت صوت صارخ أوفى على سلع).
سلع: اسم جبل في المدينة، وقد كان هذا الجبل بين المسجد النبوي، وبين بيوت الأنصار الذين كان منهم كعب بن مالك، فكان كعب جالساً على السطح بعد أن صلى الفجر؛ يقرأ الأذكار، وكان بيته بعيداً عن المسجد، وفي هذا جواز التخلف عن صلاة الجماعة لمن كان بيته بعيداً يشق عليه أن يلحق الجماعة، أو أنه لا يسمع الأذان.
قال: [(سمعت صوت صارخ أوفى)].
أي: ظهر على جبل سلع.
قال: [(يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر! قال: فخررت ساجداً، وعرفت أن قد جاء فرج)].
وفي هذا استحباب أن يسجد المرء سجود الشكر إذا نزلت به نعمة، أو كشفت عنه بلية، وسجود الشكر لا يلزم له وضوء، ولا استقبال قبلة، ولا تسليم فيه، ولا تكبير، وهو كسجود التلاوة في صفته.
قال: [(فخررت ساجداً، وعرفت أن قد جاء فرج، قال: فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بتوبة الله علينا)].
أي: لما نزل الوحي بثبوت توبتنا؛ أعلم صلى الله عليه وسلم أصحابه بهذه التوبة.
قال: [(حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا، فذهب قبل صاحبي مبشرون، وركض رجل إلي فرساً)].
يعني: مسرعاً وهو راكب فرسه، وفرحة الصحابة هذه تدل على الحب في الله، والبغض في الله، فلم يكن هذا الأمر فرصة للذي كان غاضباً من كعب أن يصر على خصومته لـ كعب.
قال: [(فذهب الناس يبشروننا، فذهب قبل صاحبي مبشرون، وركض رجل إلي فرساً، وسعى ساعٍ من أسلم قبلي، وأوفى الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس)].
فهذا الرجل من فرط فرحته وسعادته بتوبة الله عز وجل على صاحبه؛ صاح وهو راكب الفرس حتى سبق الصوت الفرس، فسمع كعب البشارة ولم ير المبشر.
وهذا يدل على أن المرء يقاس بحسناته وسيئاته، ولذلك فالأعمال يوم القيامة توزن بميزان حقيقي لا مثيل له، فيوزن المرء بعمله، أو يجسد الله عز وجل الأعمال أجساماً فيزنها، أو يزن الأعمال باعتبارها من المعاني لا من المحسوسات، والله عز وجل على كل شيء قدير.
قال: [(فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني؛ فنزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته)].
أي: مكافأة، {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، فهذا الرجل بشره، فخلع ثوبيه وألبسهما هذا الذي جاء يبشره، وفي هذا استحباب رد الجميل، فمن حسن الخلق أن يهدي المرء من أهداه، ويكافئ من أحسن إليه.
قال: [(فانطلقت أتأمم رسول الله صلى الله عليه وسلم)].
يعني: أقصد النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: [(يتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنئونني بالتوبة، ويقولون: لتهنئك توبة الله عليك)].
يعني: هنيئاً لك يا كعب! توبة الله عز وجل عليك.
قال: [(حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد، وحوله الناس، فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني)].
يهرول من فرط فرحته.
قال: [(والله ما قام رجل من المهاجرين غيره، قال: فكان كعب لا ينساها لـ طلحة)].
أي: لما دخل المسجد قام إليه واحد فقط من بين الناس، وهرول وأسرع إليه وهو يجر إزاره يهنئه، ويبشره بتوبة الله عز وجل عليه، فكان كعب بن مالك يحفظ هذا الجميل لـ طلحة بن عبيد الله، فالنفوس والقلوب أسيرة لمن أحسن إليها.
قال: [(فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور ويقول: أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك)].
أي: يقول له: إن اليوم هذا هو بالنسبة لك يا كعب أحسن يوم في حياتك، وفي حقيقة الأمر أن أحسن يوم هو يوم أن أسلم كعب، ولكن لبداهة ذلك لم يذكره النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [(فقلت: أمن عندك يا رسول الله! أم من عند الله؟)].
يعني: هذه التوبة من أين أتت من عندك أنت يا رسول الله! أم من عند الله؟ قال: [(فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لا، بل من عند الله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه عليه الصلاة والسلام)].
يعني: بدا على وجهه النور.
قال: [(كأن وجهه قطعة قمر صلى الله عليه وسلم، قال: وكنا نعرف ذلك)].
يعني: كنا إذا فرح عرفنا أنه مسرور، وإذا غضب فكأنما فقيء في وجهه حب الرمان.
قال: [(فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله! إن م(43/9)
شرح صحيح مسلم - كتاب الوصية - الوصية بالثلث
من أعظم ما جاء في الشريعة الإسلامية للمسلمين الوصية؛ فقد حث عليها الشارع، ورغب فيها، وحينما شرعها حذر من الغلو فيها، وجعل الضابط فيها عدم الإضرار بالورثة، فلا يوصى لوارث لما فيه من أخذ ما ليس له بحق، كما لا يوصى لغير الورثة بما يزيد على الثلث لعدم الإضرار بهم.(44/1)
كتاب الوصية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
كتاب: الوصية أو الوصايا؛ لأن الوصية مفرد وصايا.
وهي كما يقول الأزهري: مشتقة من وصيت الشيء أوصه إذا وصلته، فأصل الوصية في اللغة هو: الواصل، وكأن الميت يصل ما كان في حياته بما هو كائن بعد مماته، يعني: هو يذكر أموراً متعلقة بأمر الوصية الكائنة في حياته بما هو كائن بعد مماته.
كتاب: الوصية.(44/2)
شرح حديث: (ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو خيثمة -وهو زهير بن حرب النسائي، نزيل بغداد- ومحمد بن المثنى العنزي -واللفظ له- قالا: حدثنا يحيى -وهو ابن سعيد القطان - عن عبيد الله وهو ابن عمر العمري الإمام الكبير المشهور علم من الأعلام، وله أخ اسمه عبد الله بن عمر العمري، وعبد الله ضعيف، وعبيد الله المصغر إمام من الأئمة، أما عبد الله المكبر فهو ضعيف الرواية.
قال عبيد الله: أخبرني نافع -وهو نافع الصغير - مولى عبد الله بن عمر عن ابن عمر -وهو عبد الله - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده)].
قوله: (ما حق امرئ مسلم) فيه حث وتأكيد على استحباب الوصية وعلى سنيتها، وإن كان أهل العلم اختلفوا فيها: أهي واجبة أو مسنونة أو مندوبة مستحبة؟ فذهب بعض أهل العلم إلى وجوبها، وذهب جمهور أهل العلم إلى أن الوصية مندوبة وليست واجبة، وحملوا -أي الجمهور- قول النبي عليه الصلاة والسلام: (ما حق) أنه ليس هو الحق الاصطلاحي، وإنما هو من معناه: حري وجدير لمن كان عنده شيء يوصي به ألا يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده.
الأمر الثاني الذي صرف ظاهر النص سواء في القرآن والسنة وهو ما يوحي خلاف الوجوب إلى الندب؛ قوله عليه الصلاة والسلام: (يريد أن يوصي فيه)، فأرجع إرادة الأمر ومشيئته إلى العبد، قال: (يريد أن يوصي فيه)، وهذا بخلاف من كان عنده شيء لا يريد أن يوصي فيه، فحينئذ يترجح لدينا أن مذهب الجمهور هو الحق، وأن الوصية إنما هي مستحبة وليست بواجبة.
قوله: (ما حق امرئ مسلم) هل الوصية من أهل الكتاب أو الحربي المقاتل لا تصح؟ الجواب بإجماع أهل العلم: أنها صحيحة، فلو أوصى كتابي يهودي أو نصراني بوصية يريد أن يوصي فيها صحت الوصية فليس الإسلام هنا شرطاً، وهذا بإجماع أهل العلم؛ لأن الوصية تصح من كل أحد من الكافر والمسلم، من المرأة والرجل، وأهل العلم لا يشترطون فيها إلا العقل والحرية، وهذا محل اتفاق بينهم، فلابد للموصي أن يكون عاقلاً؛ احترازاً عن الجنون، فلا تصح وصية المجنون؛ لأنه غير مكلف، والحرية احترازاً من وصية العبد فهي غير جائزة، وذلك لأن العبد وما يملك ملك لسيده، فالعبد في حقيقة الأمر لا يملك شيئاً، بل هو يعد شيئاً داخلاً في ملك سيده، وعلى هذا فهو لا يملك أن يوصي في شيء؛ لأنه لا يملك شيئاً.
أما شرط البلوغ فهو محل نزاع بين أهل العلم، هل تصح وصية الصبي الذي لم يبلغ أو لا تصح؟ محل نزاع بين أهل العلم، فمنهم من قال: تصح وصيته، ومنهم من قال: لا تصح وصيته.
أما اشتراط الإسلام هنا فالحقيقة أنه غير مراد، وليس بشرط لازم لنفاذ الوصية أو صحتها، وإنما خرج مخرج الغالب أو القياس الأولوي، فإذا كانت وصية الكافر صحيحة نافذة، فمن باب أولى أن تكون وصية المسلم، وإذا جاز للكافر أو الذمي أن يوصي، فأحرى بالمسلم أن يوصي، فليس ذكر مسلم هنا في هذا الحديث شرطاً لصحة الوصية؛ لأنه خرج مخرج الورثة: (ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده)، وكذلك قال في قوله: (يبيت ليلتين) وفي رواية: (يبيت ثلاث ليال)، فاختلاف العدد هنا دليل على أنه غير مراد كذلك، وإنما المراد التعديل؛ ولذلك عبد الله بن عمر لم يلتزم ظاهر هذا الحديث مع أنه هو الذي رواه.
قال: فما بت ليلتين من بعد أن سمعت هذا الحديث إلا ووصيتي مكتوبة عندي، فهو لم يلتزم ليلتين ولا ثلاث ليال، وهذا يدل على أن ذكر العدد غير مراد، لكنه مدة مفتوحة من الشرع لمن لم يبادر ويعجل في كتابة الوصية سواء كان يومين أو ثلاثة؛ لأن الناس في شغل، وربما أدى بهم الانهماك في الشغل والأعمال وغير ذلك إلى النسيان، فلا أقل من أن يرجع ويتدبر من خلال يومين أو ثلاثة.
أما استحباب كتابة الوصية من أول ما أن يملك المرء شيئاً يريد أن يوصي فيه، فإذا كان قد ملك وتوجهت إرادته إلى الوصية فينبغي له فوراً وعلى التو والحال أن يقوم فيكتب وصيته.
أما عن الإشهاد بالوصية فمحل نزاع بين أهل العلم، فذهب بعض أهل العلم إلى أن الإشهاد ليس بلازم؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يذكر الإشهاد، ولم يشترط شهوداً أو شهادة لهذه الوصية، وذهب جماهير أهل العلم إلى استحباب الإشهاد.
وغالى بعضهم فقال: وصية مكتوبة بغير إشهاد لا نفاذ لها، لكن هذا الكلام فيه تجاوز، والأصل أن المرء لو كتب وصيته وإن لم يشهد عليها، فإن كان معروف الخط فتبين للورثة أن هذا خط مورثهم واعترفوا بذلك، وأقروا بهذه الوصية فحينئذ يجب إثباتها، ولا أقل من أن تقاس بالوجادة التي هي أحد طرق تحمل العلم.
والوجادة هي:(44/3)
شرح طرق حديث: (ما حق امرئ مسلم)
قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبدة بن سليمان وعبد الله بن نمير وحدثنا ابن نمير حدثني أبي كلاهما]، أي: عبدة وابن نمير، ثم بعد ذلك ابن نمير يحدث مسلماً عن أبيه، وأبوه هو عبد الله بن نمير، فكان الإسناد الأول من طريقين: طريق ابن نمير الذي هو عبد الله من طريق عبدة، والإسناد الثاني من طريق عبد الله بن نمير.
إذاً: الطريق الثاني موافق للطريق الأول، لكن الطريق الأول يزيد عبدة بن سليمان، فكلاهما الضمير يعود على عبدة وعبد الله بن نمير.
قال: [كلاهما عن عبيد الله بهذا الإسناد -وعبيد الله هو عبيد الله بن عمر العمري - عن نافع عن ابن عمر، بهذا الإسناد -أي: بنفس الإسناد السابق- غير أنهما -والضمير يعود على عبدة وعبد الله بن نمير - قالا: (وله شيء يوصي فيه)، ولم يقولا: (يريد أن يوصي فيه).
وحدثنا أبو كامل الجحدري حدثنا حماد -يعني: ابن زيد البصري - وحدثنا زهير بن حرب حدثنا إسماعيل -وهو ابن علية - كلاهما عن أيوب].
حماد بن زيد في الإسناد الأول، وإسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي البصري في الإسناد الثاني، وهو المعروف بـ ابن علية كلاهما يرويان عن أيوب، وهو ابن أبي تميمة كيسان السختياني البصري.
قال: [وحدثني أبو الطاهر أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس].
إذاً هنا معنا اثنان: أيوب ويونس، ويونس هو يونس بن يزيد الأيلي شيخ ابن وهب.
قال: [وحدثني هارون بن سعيد الأيلي حدثنا ابن وهب أخبرني أسامة بن زيد الليثي].
إذاً: هنا معنا ثلاثة: أسامة ويونس وأيوب، واعلم أن أسامة بن زيد الليثي ضعيف، لكن هل اعتمد عليه مسلم هنا في الرواية، أم ذكره استئناساً؟ ذكره استئناساً، أي: طريقه لا يضر في صحة الحديث.
قال: [وحدثنا محمد بن رافع حدثنا ابن أبي فديك -وهو محمد بن إسماعيل - أخبرنا هشام -يعني: ابن سعد المدني -كلهم عن نافع.
(كلهم)].
الضمير هنا يعود على أيوب ويونس وأسامة بن زيد الليثي وهشام بن سعد.
قال: [كلهم عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث عبيد الله].
أي: بنفس الرواية التي سبقت: عبيد الله عن نافع عن ابن عمر: (ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وعنده شيء يريد أن يوصي فيه إلا ووصيته مكتوبة عنده).
قال: [وقالوا جميعاً -أي: الأربعة- (له شيء يوصي فيه) إلا في حديث أيوب فإنه قال: (يريد أن يوصي فيه)].
فلفظ (يريد) أتى من طريق يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله عن نافع، ولم ينفرد به، بل تابعه أيوب، لأجل ألا يقول قائل: هذا الحديث فيه أربعة وخمسة وستة لم يذكروا لفظ (يريد) إلا واحد فقط، فما المانع أن يكون هذا من باب الوهم، أي: وهِم في إثبات هذه اللفظة؟ لكن يحيى بن سعيد القطان لم يهم، أولاً: لأنه من الحفاظ الكبار، الأمر الثاني: أنه لم ينفرد بهذه اللفظة، إنما تابعه على ذلك أيوب بن أبي تميمة السختياني، لكن على العموم ذكر في طريقه: (له شيء يريد أن يوصي به إلا ووصيته مكتوبة عنده).
قال: [حدثنا هارون بن معروف حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني عمرو وهو ابن الحارث المصري عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ثلاث ليال إلا ووصيته عنده مكتوبة)].
هذا طريق جديد، والحديث كله من طريق عبد الله بن عمر، فتارة يرويه عنه نافع، وتارة يرويه عنه ولده سالم، وسالم(44/4)
فوائد وأحكام من حديث: (ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه)
هذه الروايات فيها الحث على الوصية، أي: فيها حث وحض لمن كان عنده شيء يريد أن يوصي فيه أن يبادر بكتابة الوصية، وقد أجمع المسلمون على الأمر بها، فالأمر بها واجب في الكتاب والسنة، لكن مذهب الشافعية وكذا مذهب الجماهير: أنها سنة لا واجبة، وقال داود الظاهري وغيره من أهل الظاهر: هي واجبة لهذا الحديث، ولا دلالة لهم فيه، فليس فيه تصريح بإيجابها، يعني: هذا الحديث في الظاهر لا يدل على الوجوب، لكن إن كان على الإنسان دين أو حق أو عنده وديعة ونحوها لزمه الإيصاء بذلك، يعني: إذا كان الإنسان مضطراً إلى ذلك، بل إذا ترك الوصية فإنه يكون على خطر عظيم جداً، فحينئذ تجب عليه الوصية، فإن كان عنده ودائع أو رهائن أو غير ذلك للخلق وترك الوصية فلا شك أنه سيضيّع حقوقاً أخذاً وعطاء، فإذا أتى الدائنون إلى أهله بعد مماته يطالبون بديونهم ربما تنكّر لهم أهل الميت، وقالوا: ليس لديكم مستند، ولا كتب ذلك بوصية؛ ولا أوصانا مشافهة بذلك، فأنى لنا تصديقكم في هذا المدعى؟ وهذا أمر فيه تضييع لحقوق الخلق، وكذا لو كان هذا الرجل مما يؤثر نفسه بالسر ولم يطلع عليه أحداً، وعنده من الرهائن أو الودائع المالية وغير المالية للخلق، فإنه يلزمه عند ذلك أن يكتب الوصية، وإلا لعد الورثة ما تركه المورّث ميراثاً لهم حتى وإن زعم الزاعمون أن لهم عنده رهائن أو ودائع، لكن ليس لديهم ما يستندون إليه، كما لو ترك الإيصاء في إيصال الحقوق إلى أصحابها، فإن هذا أيضاً أمر مضيع لحقوق الخلق.
قال الشافعي رحمه الله: معنى الحديث: ما الحزم والاحتياط للمسلم إلا أن تكون وصيته مكتوبة عنده.
إن الإمام الشافعي إمام من أئمة اللغة، بل قوله في اللغة حجة كما قال غير واحد من أئمة اللغة، أي: هو كـ ثعلب وسيبويه وغيره، بل هو أولى منهم بكثير في فهم كلام العرب وهو العربي الأصيل.
فهنا يقول: معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (ما حق امرئ مسلم) الحزم في الاحتياط أن يكتب المسلم وصيته، وهذا اللفظ لا يدل عند أهل العربية ولا عند الشافعي على الوجوب.
قال: ويستحب تعجيلها.
يستحب تعجيل كتابة الوصية، وأن يكتبها في صحته، يعني: لا ينتظر أن يمرض مرض الموت، فربما يأتيه الموت فجأة، فأنّى له أن يوصي وقت وفاته؟ وسواء كان ذلك في صحته أو في مرضه فالأمر مرهون بما إذا توفر لديك شيء تريد أن توصيه.
وبعضهم قال: هذا الشيء هو المال، وبعضهم قال: بل لفظ شيء عام في الأموال وفي غيرها، وهذا هو الراجح، بل قد أخرج البخاري وغيره أن الرجل فيهم كان يوصي صاحبه بأن يقوم في أبنائه على تربيتهم وحسن تعليمهم، وكان يكتب بذلك وصيته، وهذا أمر معنوي ليس أمراً مالياً ولا مادياً.
وهذا يدل على أن لفظ شيء من ألفاظ العموم التي لا يجوز تخصيصها إلا بمخصص.
فالإنسان إذا أمكن أن يوصي في شيء سواء كان مادياً أو مالياً أو معنوياً أو عينياً أو غير ذلك، فالأصل أن يعجّل كتابة هذه الوصية، ولا ينتظر أن يوصي في مرض موته أو إذا مرض أو غير ذلك؛ لأنه لا يدري متى سيأتيه الموت.(44/5)
مقدار المال الذي يوصى فيه
فرق العلماء بين من كان يريد أن يوصي بماله: هل يشترط في المال أن يكون كثيراً أو قليلاً؟ فبعض أهل العلم قالوا: لا عبرة بالمال القليل ولا الكثير، فإن الوصية في كل المال، سواء كان قليلاً أو كثيراً؛ لأن لفظ القلة والكثرة مسألة نسبية، فمثلاً واحد ترك مائة ألف جنيه، وعنده من الأولاد عشرون، فهذا المال قليل بالنسبة إلى الورثة، وآخر ترك عشرة آلاف جنيه وليس عنده من الأولاد أحد، فهذا مال كثير بالنسبة للمال الأول، فمسألة القلة والكثرة مسألة لا يمكن ضبطها، فلا حد للكثرة والقلة، ولا من جهة القيمة المالية للمال في زمن الوقوع، فهذا أمر يصعب جداً؛ ولذلك قالوا بأن الوصية تلزم في المال القليل والكثير على السواء، وأحالوا في الكثرة والقلة على العرف، بما يتحقق مع مصلحة الورثة.
وقالوا: أما الأمور التافهة فقد جرت عادة الناس على عدم الإيصاء فيها، كيف؟ لو أن واحداً من الناس عنده مائة ألف جنيه، وله ولدان أو ثلاثة وهو يريد أن يوصي، والوصية معلوم أنها لغير الورثة؛ لأنه: (لا وصية لوارث)، فإذا أراد أن يوصي فله ذلك، لكن بعد أن أوصى بثلث المال أو ربع المال، وكان هذا المال وقت كتابة الوصية مائة ألف، دخل له ربح ألف جنيه أخرى، فهل يلزمه أن يُمزّق هذه الوصية ويكتب وصية في حدود مائة ألف وألف؟ لا يلزمه ذلك، بعض أهل العلم قالوا: يكتب مذكرات ملحقة، وبعضهم قال: بل يجدد الوصية إذا استدعى الأمر ذلك، وبعضهم قال: بل هذه الأموال التافهة أو الأشياء التافهة لا يلزمه فيها الإيصاء، وهذا الذي يشهد له واقع وحياة الناس.
قال: (ويستحب تعجيلها، وأن يكتبها في صحائف ويُشهد عليه فيها)، يعني: يأتي باثنين من الشهود الرجال أو برجل وامرأتين، ويكتب فيها ما يحتاج إليه، فإن تجدد له أمر يحتاج إلى الوصية به ألحقه بها.
قالوا: ولا يكلف أن يكتب كل يوم محقرات المعاملات وجزئيات الأمور المتكررة، ولا يلزمه ذلك.
كالإخوة الذين يحرصون على كتابة المذكرات اليومية؛ فيأخذ مذكرة يومية ويكتب: ذهبت المدرسة ثم عدت من المدرسة إلى البيت وأخذت الملف، وصليت في المسجد الفلاني صلاة الظهر، وذهبت العصر إلى الكُتّاب، ثم رجعت وغير ذلك، فهذا برنامج يومي لا يعتبر وصية من أولها إلى آخرها؛ لأنه في المسائل المتعلقة بكل جديد في حياتك، وهذا البرنامج برنامج روتيني وكلنا نمر به.
قال: (ولا يكلف أن يكتب كل يوم محقرات المعاملات وجزئيات الأمور المتكررة).
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (ووصيته مكتوبة عنده)، فمعناه: مكتوبة، وقد أشهد عليه بها، لا أنه يقتصر على الكتابة، بل لا يُعمل بها، وكما قلنا: إنما يُعمل بها إذا أقر بها الواصي، فمثلاً أنا الآن كتبت وصيتي وما أشهدت عليها، أو اعتبرت أن الإشهاد ليس شرطاً في صحة الوصية.
إذاً: يلزم نفاذ الوصية حتى وإن لم يتم الإشهاد عليها.
قال: (ولا تنفع إلا إذا كان أشهد عليها، هذا مذهبنا ومذهب الجمهور).
وقال ابن نصر المروزي وهو الإمام الكبير العلم، له كتاب من أنفع الكتب اسمه تعظيم قدر الصلاة وهو مطبوع حديثاً، وكان أهل العلم ينقلون عنه من هذا الكتاب، وهذا الكتاب أعجوبة من أعاجيب المصنفات، وكل كلام ابن نصر المروزي بصراحة قيمة في الإنصاف والعدل.
قال ابن نصر المروزي: يكفي الكتاب من غير إشهاد، لظاهر الحديث، وابن نصر المروزي شافعي.(44/6)
باب الوصية بالثلث
الباب الأول: الوصية بالثلث.
يعني: باب جواز الوصية بالثلث.(44/7)
شرح حديث سعد: (عادني رسول الله في حجة الوداع)
قال مسلم: [حدثنا يحيى بن يحيى التميمي أخبرنا إبراهيم بن سعد المدني عن ابن شهاب -وهو الزهري - عن عامر بن سعد عن أبيه عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: (عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع)].
يعني: سعد سبق النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة، وإلا فـ سعد بن أبي وقاص من أوائل المسلمين، وقد هاجر إلى المدينة مع النبي عليه الصلاة والسلام، فهو من المهاجرين، ولكنه رجع إلى مكة إما للحج وإما لحاجة أخرى أرسله فيها النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: (عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع) أي: في أثناء حجه، والمعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام ما حج بعد البعثة إلا مرة واحدة وهي حجة الوداع، وقيل: إنه حج قبل البعثة على ملة إبراهيم مرتين.
قال: [(عادني من وجع أشفيت منه على الموت)]، أي: أشرفت منه على الموت، يعني: كدت أن أهلك بسببه، وفي هذا استحباب زيارة الأمير والسلطان والحاكم ومن يشار إليه بالبنان، فزيارة الكبير تدخل على نفس الصغير أعظم السرور، وفيها من اغتباط القلب والولاء وغير ذلك، وأذكر أن جماعة من الجماعات العاملة على الساحة كثرت أعدادهم بسبب اجتماعياتهم، ومنها الزيارة في الله، زيارة المرضى، ومواساة المحتاجين وغير ذلك، فهذا من أعظم الأعمال التي يحرصون عليها، وكان الواحد منهم من قبل وهو كبير لا يظن به أن يتفرغ لزيارة واحد منا ونحن في الإعدادية مثلاً أو في أول الثانوية، فكان الواحد منهم مع منزلته المرموقة ومكانته السامية يأتي فيزور الشباب الملتزم، فيترك أثراً عظيماً جداً في قلب الوالدين وفي قلب الأعمام والجيران والأهل وغير ذلك، فتسمعهم يقولون: الشيخ الفلاني أتى يزور هذا الولد؟ والعالم الفلاني والداعية الفلاني الذي لا يوجد مثله جاء ليزور ولدي؟ فيشكرونهم ويحبونهم، وهذا بلا شك من مكارم الأخلاق، وإذا فعله لله عز وجل فإن الله تعالى يكافئه عليه بأعظم مما بدر منه.
ففيه استحباب عيادة المريض وأنها مستحبة للإمام كاستحبابها لآحاد الناس.
ومعنى (أشفيت على الموت) أي: قاربت وأشرفت عليه، لكن لا يقال: أشفى الله فلاناً إلا في الشر، يعني: هناك فرق بين شفى الله فلاناً، وأشفى الله فلاناً، فأشفى لا تقال إلا في الشر؛ ولذلك هنا يقول: أشفيت منه على الموت، أي: قاربت منه.
جاءت امرأة إلى الإمام الشافعي وهو مريض، فقالت: أشفى الله الإمام، والمعنى: أهلك الله الإمام.
وهي من عامة الناس، فقال الإمام الشافعي: آمين.
اللهم بنيتها لا بلفظها، فهي توجهت نيتها وإرادتها إلى الدعاء له لا الدعاء عليه، فقال: اللهم بنيتها لا بلفظها.
قال: [(فقلت: يا رسول الله! بلغني ما ترى من الوجع -أي: أنت الآن علمت شدة الوجع الذي نزل بي- وأنا ذو مال))] أي: صاحب مال، وأهل اللغة لا يقولون: فلان ذو مال إلا إذا كان له مال في العُرف المعتبر، فقد توجهت كلمات العرف إلى أن المال هو المال الكثير؛ ولذلك جمهور أهل العلم يقولون: لا يلزم صاحب المال القليل الوصية.
قال: (بلغني ما ترى من الوجع) وهذا الكلام على سبيل البيان، كأنه يقول: أنا أبيّن حالي من المرض والوجع الذي نزل بي لأجل مصلحة شرعية مترتبة على هذا، وهو أني ذو مال.
أما أن يقول: لقد نزل بي من الوجع ما تراه، فبلا شك أنه مؤثر جداً في ثواب المريض إذا كان على سبيل الشكاية.
فهذا قوله: (وإنك ترى ما نزل بي من الوجع) ليس على سبيل الشكاية، وإنما على سبيل التقدمة لبيان الحكمة الشرعية، وللسؤال عن المال الذي عنده كيف يتصرف فيه.
قال: [(وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي)] وهذا الحديث روي عن عامر بن سعد وعامر بن سعد وغيره كانوا أبناء لـ سعد، بل قد ورد أن سعداً له ستة أولاد، لكن لم يكن له من الأولاد إلا ابنة في أول أمره حينما نزل به المرض، ولم يقدّر له الموت في هذا المرض، وإنما قُدّرت له الحياة حتى فتح الفتوحات، وضر به أقوام وانتفع به آخرون، ورزقه الله أولاداً آخرين.
قال: [(وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي؟)]، عندي مال كثير، وأريد أن أتصدق، إما أن تكون هذه الصدقة مؤجلة أو منجزة، ومعنى منجزة، أي: أدفع الآن وفي هذا الوقت، وذلك إذا أذنت في أن أتصدق بثلثي مالي، هذه وصية منجزة في حياته، أما الوصية المؤجلة فسيكتبها قبل موته فيقول: تصدقوا بثلثي مالي.
قال: [(فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لا.
قلت: أفأتصدق بشطره -أي بنصف مالي-؟ قال: لا الثلث.
والثلث كثير -وفي رواية-: كبير)]، يعني: أذن له في أن يتصدق بالثلث، واعلم أن الجواب مطابق لمقتضى الحال، فمقتضى الحال أن عنده مالاً وهو غني، ولكن لم يكن له إلا ا(44/8)
شرح حديث سعد: (دخل النبي علي يعودني)
قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد وأبو بكر بن أبي شيبة قالا: حدثنا سفيان بن عيينة، وحدثنا أبو الطاهر وحرملة قالا: أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس، وحدثنا إسحاق بن إبراهيم -والمعروف بـ ابن راهويه - وعبد بن حميد قالا: أخبرنا عبد الرزاق -وهو ابن همام الصنعاني اليمني - أخبرنا معمر -وهو ابن راشد البصري اليمني يعني: هو من أهل البصرة، ولكنه تحوّل إلى صنعاء اليمن، وتتلمذ على يدي عبد الرزاق حتى أقام عنده وتزوج من أهل اليمن، وكان من حفاظ اليمن- وكلهم يروي عن الزهري بهذا الإسناد نحوه.
وحدثنا إسحاق بن منصور -وهو المعروف بـ الكوسج - قال: حدثنا أبو داود الحفري، وهي نسبة إلى مكان بالكوفة واسمه هو عمرو بن سعد.
يقول أبو حاتم وابن حبان والسمعاني وغيرهم: هو الثقة الزاهد الصالح العابد.
وقال ابن المديني: ما أعلم أني رأيت بالكوفة أعبد من أبي داود الحفري.
وقال وكيع وهو من أهل الكوفة: إن كان يُدفع بأحد في زماننا -أي: البلاء والنوازل- فبـ أبي داود يعني: أنه من العُبّاد الصالحين، إذا أرادوا أن يتوسلوا بدعاء الحي فليس أحد بالكوفة يتوسّل بدعائه لرفع البلاء والنوازل غير هذا العلم الجبل، لكن الذين زكّوه كـ علي بن المديني ووكيع وسفيان وغيرهم في الحقيقة هم أجل منه في الرواية، وكان هو قليل الرواية، فالمنشغل بالرواية غالباً ينشغل بغير العبادة؛ ولذلك الإمام الخطيب البغدادي صنّف كتاب شرف أصحاب الحديث، وذكر باباً وهو باب: توافق العلماء على أن مسألة في العلم أفضل من سبعين ركعة.
والمقصود بها: ركعات النوافل، بل كان الواحد منهم أحياناً يترك قيام الليل لأجل المذاكرة والعلم والتحصيل، أو لأجل الاستفادة من عالم ينزل البلد، ويمكث فيها أكثر الليالي، فكانوا يستغلون ذلك في التلقي، وإن كان ذلك على حساب قيام الليل، فقد كان يحيى بن معين إذا زار أحمد بن حنبل ترك - أحمد - قيام الليل وبرك بركبتيه عند قدمي يحيى بن معين، فسأله عن ذلك ولده عبد الله وقال: أراك تترك قيام الليل إذا أتانا هذا الرجل؟ فقال: يا بني إن قيام الليل يدرك، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (من فاته الوتر من الليل فليصل اثنتي عشرة ركعة بالنهار)، أما هذا الرجال ففواته لا يدرك، يعني: إذا تركنا الانتفاع به في هذه الليلة فلعلنا لا ننتفع به.
فأهل العلم كانوا يحرصون على طلب العلم ولو على المسألة البسيطة اليسيرة، ويقدّمونها على سواها.
وهذا مالك بن أنس بن مالك أبي عامر الأصبحي الإمام الفقيه المدني كان يدرّس في المسجد النبوي، فلما أذن المؤذن قام أحد الحاضرين ليصلي.
قال: ماذا تصنع؟ قال: أصلي يا إمام، أما سمعت النداء؟ قال: أما بلغك أن ما أنت فيه خير لك مما قمت إليه؟ الذي أنت فيه من طلب العلم وحضور حلقة الدرس أولى من القيام لصلاة ركعتين أو أربع؛ لأن طلب العلم هو من أعظم وأشرف وأفضل القربات، وقد جعل الله تعالى ذلك في كتابه، وجعل النبي عليه الصلاة والسلام له في سنته ما لم يكن لأي عمل من الأعمال، وهذا يدل على فضل العلم ومنزلته.
يقول الحفري: عن سفيان عن سعد بن إبراهيم المدني عن عامر بن سعد عن سعد قال: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم علي يعودني) فذكر بمعنى حديث الزهري، ولم يذكر قول النبي عليه الصلاة والسلام سعد بن خولة غير أنه قال: (وكان يكره أن يموت بالأرض التي هاجر منها).
قال: [وحدثني زهير بن حرب حدثني الحسن بن موسى -وهو المعروف بـ الأشيب - حدثنا زهير -وهو ابن معاوية - حدثنا سماك بن حرب حدثني مصعب بن سعد عن أبيه -هذا مصعب بن سعد بن أبي وقاص أخو عامر بن سعد بن أبي وقاص الزهري - قال: (مرضت فأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: دعني أقسم مالي حيث شئت -يعني: ائذن لي يا رسول الله أن أوزّع مالي على حسب مشيئتي وإرادتي- قال: فأبى النبي عليه الصلاة والسلام.
قلت: فالنصف؟ فأبى.
قلت: فالثلث؟ قال: فسكت بعد الثلث، قال: فكان بعد الثلث جائزاً)].
أي: فكان بعد ذلك التصدق والوصية بالثلث أمراً(44/9)
رواية ثلاثة من أبناء سعد عن أبيهم سعد حديث الوصية بالثلث
قال: [وحدثنا محمد بن أبي عمر المكي حدثنا الثقفي -وهو عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي - عن أيوب السختياني عن عمرو بن سعيد عن حميد بن عبد الرحمن الحميري عن ثلاثة من ولد سعد].
بعض أهل العلم أخطأ فقال: هذا إسناد منقطع، بل هو غير منقطع، لكن لو قال: إسناد ضعيف لجهالة الراوي فهناك فرق كبير جداً بين قوله: إسناد ضعيف لجهالة الراوي، وإسناد ضعيف للإرسال أو الانقطاع، أما قول حميد: عن ثلاثة من ولد سعد أعظم ما يقال في هذا: أن هذا إسناد فيه رجال مجهولون، ولا يعرف من هم؟ والراجح أن حميداً إنما يروي عن عامر وعن مصعب، كما أن حميداً من كبار التابعين وأدرك عبد الله بن عمر.
ثبت أنه عندما ظهر معبد الجهني بالبصرة قال حميد بن عبد الرحمن الحميري: أتيت أنا وصاحبي إلى مكة حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو وفق لنا أحد من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام نسأله عما كان في البصرة، فوفق لنا عبد الله بن عمر، فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي.
وصاحبه هو يحيى بن يعمر البصري.
قال: فظننت أنه سيكل الكلام إليّ، فقلت: أبا عبد الرحمن! إن قوماً قِبلنا -أي بالبصرة- يتقفرون العلم، وفي رواية: يتصغرون العلم -يعني: يطلبون دقيق المسائل- ويقرءون القرآن، يقولون: لا قدر، وأن الأمر أنف، أي: أن الله لا يعلم شيئاً إلا إذا كان، أما قبل وقوعه فإنه لا يعلمه سبحانه وتعالى.
قال عبد الله بن عمر: إذا لقيت هؤلاء فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني، وهذا كلام ابن عمر تكفير لغلاة القدرية الذين ينكرون القدر وينكرون أعظم مرتبة من مراتبه وهي مرتبة علم الله عز وجل؛ ولذلك قال النووي عليه رحمة الله في شرح هذا الحديث: وهذا منه -أي من عبد الله بن عمر - إيذان بتكفير هؤلاء، أي: إيذان بأن من أنكر مرتبة العلم لله عز وجل وأن الله تعالى علم ما كان وما يكون وما سيكون، وأنه لا يخفى عليه شيء، وأن علمه هو العلم المطلق الذي لم يحد بحد، وأنه صفة لازمة لله عز وجل لا تنفك عنه، وأن الله تعالى اتصف به أولاً وآخراً، وأن العلم صفة من صفاته ينبغي إثباتها لله على جهة الكمال المطلق الذي يليق بالله عز وجل، من أنكر ذلك فقد كفر.
فلما أنكر هؤلاء ذلك ما اغتر عبد الله بن عمر بكثرة قراءتهم للقرآن ولا بتحريهم لدقائق المسائل في الدين، وإنما أطلق الحكم بتكفيرهم مباشرة؛ لأنهم أنكروا معلوماً لله عز وجل واجباً له بالضرورة في عقيدة كل موحّد، فلما كان منهم إنكار ذلك كفّرهم عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه.
فقول حميد: عن ثلاثة من ولد سعد، هذا أمر لا يضر بصحة الحديث، فقد ورد هذا الحديث من طريق عامر، وقد ورد من طريق مصعب وغيرهما، فهو ثابت في كل الأحوال، كما ثبت الحديث السابق حديث عبد الله بن عمر من طريق أسامة بن زيد المكي، ونحن قلنا: إن أسامة ضعيف، لكن جاء على سبيل الاستئناس، لا على سبيل التأصيل والاستشهاد.
مثلاً لو قال الراوي: يقول سفيان عن رجل، من هذا الرجل؟ لا ندري، فهو كذلك ضعيف، ولو قال الراوي: حدثني أهل مكة عن فلان، فالحديث حاله ضعيف؛ لأنه يعم أهل مكة، وهذا لا عبرة به في ميزان العدول، فلابد من التعيين، ولو صرح وقال: حدثني أهل مكة فيهم الحميدي لكفى؛ لأن الحميدي إمام من أئمة المسلمين وعلم من أعلامهم وسيد الحفاظ في زمانه، فلو لم يحدث إلا هو لكفى، لكن لو قال في زمن الحميدي: حدثنا أهل البصرة ولم يعيّن لقلت: هذا الحديث ضعيف.
ولو قال: حدثني الثقة، ففيه نزاع بين أهل العلم، فربما يكون ثقة عنده، وضعيفاً عند غيره، بل ربما يكون معروفاً بالتساهل، وربما يكون شرط على نفسه أن يقول: لو قلت: حدثني الثقة فإنما هو فلان، فلو تحرينا ذلك وجدناه لا يخطئ ذلك لكان الأولى حمل هذا التوثيق على فلان بعينه الذي ذكره، وإن وجدنا مع التحري والاستقصاء أنه يقول: حدثني الثقة وقال -مثلاً-: إذا قلت: حدثني الثقة فإنما هو سفيان بن عيينة فهو يروي عن سفيان وعن غير سفيان من الضعفاء ويقول: حدثني الثقة، فلو كان كذلك لم يلتزم ما شرط فالأصل أن ذلك ينظر فيه.
قال حميد: [عن ثلاثة من ولد سعد كلهم يحدث عن أبيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على سعد يعوده بمكة فبكى قال: ما ي(44/10)
أقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم في الوصية بالثلث
قال: [حدثني إبراهيم بن موسى الرازي أخبرنا عيسى بن يونس، وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا: حدثنا وكيع، وحدثنا أبو كريب حدثنا ابن نمير.
كلهم عن هشام بن عروة عن أبيه عن ابن عباس قال: (لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع) ومعنى: غضوا أي: نقصوا، يعني: ابن عباس يتمنى لو أن الناس لا يتمسكون بظاهر الحديث؛ لأنه قال: (الثلث والثلث كثير) فيا ليت الناس لا يوصون في ثلث، بل ينزلون عن ذلك إلى الربع أو أقل من ذلك.
قال: (لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الثلث.
والثلث كثير).
وفي هذا الحديث استحباب النقص عن الثلث، وبه قال جمهور العلماء مطلقاً، ومذهبنا: أنه إن كان ورثته أغنياء استحب الإيصاء بالثلث، وإلا فيستحب النقص منه، أي: إذا كانوا فقراء فينزل من الربع إلى العشر، أما إذا كانوا أغنياء فله أن يوصي بالثلث.
وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أنه أوصى بالخمس.
وعن علي رضي الله عنه نحوه.
وعن ابن عمر وإسحاق: بالربع، وقال آخرون: بالسدس، وآخرون بدونه، وقال آخرون: بالعشر.
وقال إبراهيم النخعي رحمه الله: كانوا يكرهون الوصية بمثل نصيب أحد الورثة، لكن ينزلون عن نصيب أحدهم.
وروي عن علي وابن عباس وعائشة وغيرهم رضي الله عنهم: أنه يستحب لمن له ورثة وماله قليل ترك الوصية.
فمذهب الجماهير أن ترك الوصية لمن كان فقيراً وعنده أولاد أولى؛ وذلك لأن الوصية ستأكل المال.(44/11)
الأسئلة(44/12)
حكم العمل في الضرائب
السؤال
ما حكم العمل بالضرائب؟
الجواب
هذا السؤال يتردد كثيراً، وهناك بعض الأبحاث والرسائل يرى أصحابها جواز التعامل بالضرائب، لكن على أية حال من الطامات التي ذُكرت في هذه الرسائل والأبحاث أنهم يعدون أن الضرائب هي الزكاة، يقولون: الضرائب لا بأس أبداً أن نعتبرها زكاة من زكاة المال، وهل هذه الزكاة تجب على كل أحد؟ لا تجب إلا على من بلغ النصاب وحال عليه الحول؟ تصور شخصاً الآن فتح دكاناً، فعندما تأتي لحصر بضاعته ليس عنده إلا أشياء تافهة وقليل من المناديل، ويمكن على مدار السنة كلها لا يبيع بألفين أو ثلاثة آلاف، ويأتي صاحب الضرائب فيطلب عشرة آلاف جنيه، فذهب إلى كبير الضرائب وإلى المحاكم والمحامي وغيرهم، وبعد ذلك خفضوا هذه العشرة آلاف إلى ثلاثة آلاف، فكيف يجعلون هذه الضرائب زكاة، كيف؟! ثم إن هذه الزكاة فريضة شرعية لها مقدار ولها حدود ليست في كل وقت، وهي تُدفع قهراً للإمام، ولا إمام في هذا الزمان قط، وإذا أراد أن يعاقبه فله أن يتركه لله عز وجل، وليعلم تارك الزكاة أنه معروض على الله عز وجل، إذا علم هذا وعلم خطورة الأمر وأن الله تعالى سيكلمه ليس بينه وبينه ترجمان، ويطالبه ويسأله عن حق الفقراء وعن فريضة الزكاة، ربما تخلّص من ماله كله، فلو أنه استشعر الموقف ربما تخلّص من ماله كله لله عز وجل حتى لا يُحاسب في هذا الموطن، أما دفع الزكاة فإن الناس يتهربون منها، ولذلك التعامل مع الله عز وجل يحتاج إلى قلب واع، ووازع إيماني على أعلى مستوى، فلو قلنا لشخص: الحكومة لن تأتيك إلى المحل، أنت لوحدك على نهاية كل سنة تأتي متبرعاً ومتفضلاً وتعطينا الضريبة، فهل يعقل أن يذهب أي شخص؟ لا يمكن، بخلاف ما لو قلنا لرجل: إن الله تعالى قد فرض عليك الزكاة، وهي من فرائض الإسلام، فإن فعلتها وإلا فالحكم كيت وكيت وكيت، وقد حارب أبو بكر مانعي الزكاة، وقد اختلف أهل العلم في مانعي الزكاة ما بين مرتد وما بين مسلم عاص، وفي نهاية الأمر هي فريضة عليك.(44/13)
شرح صحيح مسلم - كتاب الوصية - وصول ثواب الصدقة إلى الميت - الوقف
إن الصدقة تكفر الخطيئة وتطفئ غضب الرب، فيشرع لمن أتى ذنباً أو معصية أن يتوب منها وأن يقدم لذلك الصدقات، وأثر الصدقة على الذنب ثابت في السنة النبوية؛ ولا فرق في ذلك بين كون الصدقة عن حي أو ميت، ومن تصدق عن ميت فله أجر في ذلك.(45/1)
باب وصول ثواب الصدقات إلى الميت
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
الباب الثاني من كتاب الوصايا: قال الإمام: (باب وصول ثواب الصدقات إلى الميت).
وكأنه يقول: إن ثواب الصدقة ينتفع به الميت، وإن لم يوص بذلك، يعني: لو تصدق عنه وليه أو أحد الناس فإنما ينتفع في أجر الصدقة، وإن لم يكن قد أوصى بها.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة بن سعيد وعلي بن حجر السعدي قالوا: حدثنا إسماعيل بن جعفر عن العلاء عن أبيه -والعلاء هو ابن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي المدني يروي عن أبي هريرة رضي الله عنه- عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبي مات وترك مالاً ولم يوص فهل يكفر عنه أن أتصدق عنه؟ قال: نعم)].
يعني: هل تنفع أبي الصدقة عنه إما من ماله أو من المال الموروث؟ وذلك لأن المال إذا ورث وانتقل إلى الوارث فهو ليس له، فهل ينتفع الميت إذا تصدق عنه وليه أو غيره من ماله أو من مال الغير هل ينتفع بذلك، ويكفر الله عنه سيئاته بذلك؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: (نعم) وفي هذا دلالة على أن الصدقات تكفر الذنوب؛ ولذلك يسن لمن تاب من ذنب أن يكثر من الصدقات، وأن يكثر من النوافل والطاعات فإن هذا ينفعه، ولو أن عبداً اقترف ذنباً كفارته ليست كفارة مالية فهل ينفعه بعد التكفير عن الذنب أن يتصدق؟
الجواب
نعم.
ينفعه ذلك.
قال: [وحدثنا زهير بن حرب أبو خيثمة النسائي قال: حدثنا يحيى بن سعيد -وهو القطان - عن هشام بن عروة عن أبيه -أي: عروة بن الزبير - عن عائشة رضي الله عنها: (أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي افتلتت نفسها)] ومعنى افتلتت أي: بُغِتَتْ.
ذهبت روحها فجأة ولم توص، مات فجأة بغير سابق إنذار، وهذه من العلل التي يبعثها الله تعالى على عباده إنذاراً لنهاية حياته.
قال: [(وإني أظنها لو تكلمت تصدقت)] لكن لم يكن هناك فرصة قط للكلام؛ لأن الموت أتاها بغتة، فلم يكن هناك وقت يسمح بالوصية، ولا بمجرد الكلام.
قال: [(فلي أجر أن أتصدق عنها؟ قال: نعم)].(45/2)
الأحكام المستنبطة من باب وصول ثواب الصدقة إلى الميت
الأول يسأل عن أبيه الذي مات ولم يتصدق، أله أجر إن تصدقت عنه؟ قال عليه الصلاة والسلام: (نعم)، وهذا سعد بن عبادة رضي الله عنه -وهو موقوف من الطريق الثاني- يحكي عن أمه عمرة رضي الله عنها التي ماتت فجأة وبغتة: هل ينفعني أنا أن أتصدق عنها؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (نعم)، وسعد بن عبادة أمه كانت قد ماتت فجأة ويعلم منها سعد أنها محبة للخير محبة للصدقة، جوادة سريعة في الخير أسرع من الريح؛ ولذلك قال: وإني لأظنها لو تكلمت تصدقت، ولكن الموت فاجأها، فهل ينفعني أنا أن أتصدق عنها؟ قال عليه الصلاة والسلام: (نعم).
فبانضمام الطريقين أحدهما إلى الآخر يتبين لنا أن الصدقة عن الميت تنفع الميت وتنفع المتصدق أيضاً، كما لو أن رجلاً أراد أن يتخلص من مال حرام، فالمعلوم أن المال الحرام يجب الانتهاء عنه وعدم التعامل فيه، والتخلص منه بأي وجه من وجوه التخلّص المشروعة، فإذا كان المال مال ربا، وأبقاه المرء وأنفقه لكان ذلك حراماً عليه، وهو بكونه مالاً حقيراً حراماً، فماذا يصنع به؟ فكونه أراد أن يتخلص منه وتوجهت نيته إلى إنفاقه خوفاً من الله عز وجل فله على هذه النية أجر، ولذلك يخطئ كثير من الناس الذين يفتون العامة إذا سألوهم عن الأموال الحرام ماذا نصنع فيها؟ يقولون: تصدقوا بها وليس لكم فيها أجر.
و
الجواب
أن لهم فيها أجراً، وأجرهم هو إرادتهم طاعة الله عز وجل في التخلص من هذا المال الحرام، لا في عين المال، وإنما في عين التوسل إلى الله عز وجل بالتخلص من الحرام.
فهنا استفدنا من الطريق الأول: أن المتصدق ينفع المتصدق عنه بعد موته، وفي الطريق الثاني: أن المتصدق منتفع بهذه الصدقة.
ومن هذين الطريقين يتبين لنا أن الصدقة تنفع المتصدق والمتصدق عنه، كلاهما على السواء.
فإن قيل: كيف يتخلص من المال الحرام؟
الجواب
العلماء يقولون: ينفقه بعيداً عن الطعام والشراب، وبعيداً عن المساجد، ويحددون المنافع العامة التي تتعلق بشخص بعينه وبمنفعته، وعلى ألا يكون ذلك في بيت من بيوت الله؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، فيبنون بها مثلاً مستشفيات يرصفون بها الطرق يبنون بها الحمامات والمرافق العامة وغير ذلك.
قال: [حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا محمد بن بشر العبدي حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن أمي افتلتت نفسها ولم توص، وأظنها لو تكلمت تصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: نعم).
ويتبع هذا طريق آخر.
وهو قوله: حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء الهمداني حدثنا أبو أسامة حماد بن أسامة وحدثني الحكم بن موسى -وهو ابن أبي زهير البغدادي أبو صالح القنطري - قال: حدثنا شعيب بن إسحاق -وهو شعيب بن إسحاق بن عبد الرحمن الأموي مولاهم، البصري ثم القرشي- وحدثني أمية بن بسطام حدثنا يزيد بن زريع -وكلاهما بصري- قال: حدثنا روح -وهو ابن القاسم البصري - وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا جعفر بن عون كلهم عن هشام بن عروة بهذا الإسناد.
أما طريق أبي أسامة وروح ففي حديثهما: (فهل لي أجر؟)، وفي طريق شعيب وجعفر: (أفلها أجر؟)، وفي كل يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (نعم)، يعني: يدلان على أن الصدقة تنفع الذي يدفعها والذي دُفعت لأجله.
قال النووي: (في هذا الحديث جواز الصدقة عن الميت واستحبابها)، أي: ليست جائزة فقط وإنما أيضاً هي مستحبة، وأن ثوابها يصل وينتفع به، وكذلك المتصدق، وهذا كله أجمع عليه المسلمون، أي: هذه المسألة ليست محل نزاع، بل هي من مسائل الإجماع؛ أن الصدقة ينتفع بها المتصدق والمتصدق عنه.(45/3)
حكم التصدق عن الميت بطعام في أيام محدودة
فإذا قال قائل: هل يجوز التصدق عن الميت بطعام في أيام محدودة ويرى الناس أن هذه الأيام أيام عبادة؟
الجواب
تحديده في أيام قد يدخل في البدع، كتحديد زيارة المقابر مثلاً يوم الخميس أو أول رجب، أو منتصف رجب أو أول شعبان، فإذا وقعت بدعة واستمروا عليها وألفوها، حتى بدا للعامة أن هذا اليوم يشرع فيه عبادة الصلاة أو الصوم أو زيارة القبور أو غير ذلك، فينبغي على السلطان أن يؤدب الناس وأن يرجعهم إلى السنة.
وكذلك الذي يفعل طعاماً في يوم ما، فإذا كان أصل الطعام لله عز وجل فإنه لا يشرع له أن يلتزم يوماً بعينه؛ يعني: له أن يطعم الفقراء، لكن لا يلتزم يوماً بعينه، إنما يجعل الأيام في هذه الصدقة دولاً، مرة يجعلها في رجب، ومرة في شعبان، ومرة في رمضان، ومرة في ربيع وغير ذلك من أيام السنة، ويتحرى ألا يتناسب إطعام الناس في وقت ابتدع فيه الناس بدعة معينة، فلا يتحرى مثلاً بهذا الطعام أول رجب، ولا منتصف رجب، ولا أول شعبان، ولا هذه الأيام التي اخترع الناس لها عبادات ليس عليها دليل، بل قام الدليل على أنها بدعة.(45/4)
الصدقة عن الميت تكون من القريب وغيره
فإن قيل: هل من اللازم أن يكون هناك قرابة بين المتصدق وبين الميت؟
الجواب
لا يلزم.
ينتفع بها المتصدق إن كان من أوليائه أو من غيرهم.(45/5)
معنى قوله تعالى: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى)
وهذه الأحاديث مخصصة لعموم قول الله عز وجل: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39]، هذه الآية قاضية بأن الإنسان لا ينتفع بشيء قط إلا بشيء قد عملته يده، لكن قد ورد إجراء الخير والثواب والفضل لأصحابه بعد وفاته؛ لأنهم كانوا سبباً في ذلك.
ومثل هذه الآية قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] يعني: كل إنسان يحاسب على ما اقترفته يداه لا ما اقترفته يد غيره، ولذلك عائشة رضي الله عنها لما سمعت عمر وابنه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يرويان عن النبي عليه الصلاة والسلام قوله: (إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه) قالت: أخطأ عمر وأخطأ أبو عبد الرحمن، ثم استشهدت لنفسها بظاهر هذه الآية.
قالت: أين هذا من قول الله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]؟ وما ذنب هذا الميت أن يعذب ببكاء أهله عليه؟ فهو لا يملك هذا البكاء، ولا يملك كذلك أن يمنعهم؛ فكيف يعذب به، وهي جريمة ارتكبها غيره ولم يرتكبها هو؟ ثم قالت: إنما ذلك في الكافر، كأنها أرادت أن تصحح رواية عمر وابنه رضي الله عنهما أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إنما يعذب الكافر ببكاء أهله عليه)، وردَّ عليها ابن القيم رحمه الله بنفس المنطق وقال: وكذلك لا يعذب الكافر بجريرة غيره، أو بجريمة ارتكبها غيره، وقال بعد أن حكم بصحة اللفظ الذي أخرج في الصحيحين من حديث عمر وابنه: إنما ذلك لمن أوصى بذلك، فقوله: (إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه) أي: إذا أوصى بذلك، فنحن نعرف أن هناك أناساً كثيرين جداً قبل أن يموت يوصي أهله بالقرآن وهو بدعة، ويوصي بمقرئ وهو بدعة، ويوصي بالبكاء ويقول: استأجروا فلانة النائحة واستأجروا فلاناً النائح وغير ذلك، فإذا أوصى بذلك فإنه يعذب، ولا يعذب حينئذ بجريرة غيره، إنما يعذب بما أوصى به؛ لأنه طلب ذلك، أو أن ذلك معلوماً في سيرته أنه كان يحب البكاء والنواح وغير ذلك على الميت، وكان يفعل ذلك بنفسه، فإذا كان هذا معلوماً من دينه فلا شك أنه يعذب وإن بكى عليه الآخرون.
وهنا قوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39]، فصحيح أن الإنسان لا يؤجر إلا على سعيه هو، لكن أحياناً يجرى له من الخير ما لم تعمله يداه، منها الصدقة، ومنها الحج، ومنها الصيام وغير ذلك من أعمال الطاعة، وهي الأعمال التي وردت فيها نصوص قاضية بذلك، فهذه الأحاديث مخصصة لعموم هذه الآية.(45/6)
حكم صدقة الوارث عن الميت
وأجمع المسلمون كذلك على أنه لا يجب على الوارث التصدق عن ميته صدقة التطوع، بل هي مستحبة.
لو أن رجلاً عنده عشرة آلاف جنيه ومات اليوم وقد وجبت الزكاة في هذا المال اليوم أو أمس أو قبل أسبوع أو أسبوعين، ولكن الرجل أخر إخراج زكاة المال، فهل يجب على الورثة أن يخرجوا زكاة هذا المال قبل توزيع الميراث؟
الجواب
يجب، فإن لم يخرجوا الزكاة كانوا هم المانعين من إخراج الزكاة؛ وذلك لأن هذا أمر واجب، لكن لو أن هذا الرجل كان قد تعود أن يأتيه فلان وفلان وفلان في أيام محدودة، فيتصدق عليهم بمائة أو مائتين أو ثلاثة أو ألف أو ألفين أو ثلاثة آلاف، فهذا من عموم الصدقات لا من الزكاة الواجبة، فإن مات هذا الرجل ومنع الورثة هذه الصدقة فإنهم لا يأثمون بذلك؛ لأن هذه صدقة تطوع لا صدقة واجبة وهي الزكاة، فحينئذ لا يحملون عليها، وإنما يوصون بها، فإن رضوا بذلك فهو أمر مستحب مندوب، وإن أبوا أن يفعلوا ذلك فلا يحملون عليه كما أنهم لا يأثمون بمثل ذلك.(45/7)
حكم أداء الورثة للحقوق المتعينة على الميت
أما الحقوق المالية الثابتة على الميت فإن كان له تركة وجب قضاء الدين حتى وإن أتى الدين على جميع المال، كذلك يخرج من المال ما هو نفقة واجبة للميت كتجهيزه مثلاً، فالتجهيز يقدم، وقد ذكرنا هذا من قبل، فقلنا: الحقوق المتعينة في مال الميت هي: الدين، والدين إما أن يكون لله عز وجل أو يكون للآدمي، فإن كان ديناً لله عز وجل كإخراج الزكاة أو حج الفريضة، فإذا كان قد هيأ نفسه لمثل هذا فأدركه الموت قبل الحج، فهذا دين يجب أن يخرج من ماله، ويحج عنه أحد أوليائه، وإن حج عنه الغير فلا بأس بذلك.
ولهذه المناسبة أردت أن أبين أمراً أنكره بعض الإخوان خاصة الذين يقيمون في مكة، يأتي أناس كثيرون من بلاد الخليج أو من بلاد العرب إلى مكة، ولترفهم وأنفهم من متاعب الحج يجلسون في فنادق خمسة نجوم ويوكلون بعد ذلك من يحج عنهم، وللأسف الشديد نحن رأينا أناساً من مصر يفعلون ذلك، كل همهم أنهم يطوفون أو يعملون عملاً يسيراً، أو يعملون وقتاً دون آخر؛ اتكالاً واعتماداً على أن العروض ستعرض عليهم في أوائل ذي الحجة وأواخر ذي القعدة، وأن هؤلاء العرب يبذلون مالاً كثيراً عظيماً.
فيأتي الواحد منهم ويقول: من يحج عني وله عشرة آلاف ريال، أو خمسة عشر ألف ريال، أو عشرون ألف ريال، فيبادر ضعيف الإيمان إلى قبول هذا المال والحج عن صاحبه، بل قد أتى من يستفتيني في مكة أنه أخرج مالاً من سبعة عشر رجلاً وامرأة في عام واحد ليحج عنهم! فهذه طبقة مترفة مرفهة جداً، تأنف أن تسير مع الناس وأن تعرق مع الناس وأن تقع عين الواحد منها على منظر يؤذي وغير ذلك.
وللأسف الشديد يستغل ذلك بعض الإخوة المصريين، وهذا عمل غير مشروع، فضلاً عن أنه من جهة العرف عمل غير محترم، لكن لو تم ذلك اتفاقاً فلا بأس بذلك، أي لو أنك حججت حج الفريضة، ثم توسم فيك بعض الناس الصلاح والتقوى، فأتوك بغير استشراف منك، وقالوا لك: نريد منك أن تحج هذا العام عن والدنا، وأصروا على ذلك؛ لما يعلمون من صلاحك وتقواك، فلا بأس بالقبول، والأمر ليس تجارة كما هو المشاهد في أرض مكة، إنما هي عبادة محضة؛ فخذ منهم على قدر ما يسمح لأداء الفريضة، فإن انتهى المال فإنه يكفي أن الله تبارك وتعالى يسر لك أداء هذه العبادة، أو مشاركة المسلمين في هذا الموسم العظيم من مواسم الطاعة السنوية.
وأما الحقوق المالية الثابتة على الميت فإن كان له تركة وجب قضاؤها منها، سواء أوصى بها الميت أو لم يوص، ويكون ذلك من رأس المال، وسواء في ذلك إرضاء الله عز وجل كالحج والزكاة وغير ذلك، أو ديون الآدمي.
فإن لم يكن للميت تركة لم يلزم الوارث قضاء دينه، لكن يستحب له ولغيره، وبعض أهل العلم ذهب إلى الوجوب، والذي يترجح أن الوجوب في حق الابن الغني الذي يملك قضاء دين والده بلا تضرر في نفسه، أعتمد في ذلك على قوله عليه الصلاة والسلام: (أنت ومالك لأبيك)، وهذا اللفظ عام، أي: في حياته وبعد مماته، وأن من حدده بالحياة دون الممات فهذا تحديد بغير نص.(45/8)
مبحث في موت الفجأة
أخرج الإمام البخاري حديث المرأة التي افتلتت نفسها في كتاب الجنائز الباب الثالث والتسعين، فقال: باب: موت الفجأة، يعني: البغتة.
ثم قال الحافظ: والفجاءة هي الهجوم على من لم يشعر به، واحد هجم عليك وفاجأك، وموت الفجأة وقوعه بغير سبب من مرض وغيره.
قال ابن رشيد: مقصود الإمام البخاري -والله أعلم- الإشارة إلى أنه ليس بمكروه -أي: أن موت الفجأة ليس بمكروه- وإن كان قد ورد في بعض الروايات ما يشعر بكراهة موت الفجأة، بل قد ورد في الروايات الصحيحة أن موت الفجأة من علامات الساعة وأشراطها.
قال: لأنه صلى الله عليه وسلم لم يظهر منه كراهيته لما أخبره سعد بن عبادة بذلك.
وعند أحمد: من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بجدار مائل فأسرع، وقال: (أكره موت الفوات).
قال ابن بطال: وكان ذلك -والله أعلم- لما في موت الفجأة من خوف إهمال الوصية، يعني: أن الذي يموت فجأة يحرم أن يكتب وصيته، وترك الاستعداد للمعاد بالتوبة وغيرها من أعمال صالحة.
وقد روى ابن أبي الدنيا حديثاً: (المحروم من حرم وصيته)، أي: المحروم حظاً من حرم كتابة الوصية، وقد مضى بنا في أول الباب حديث أن المرء إذا ملك شيئاً ويريد أن يوصيه فلا يبيتن ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده.
وعند ابن أبي شيبة من حديث عائشة وابن مسعود: (موت الفجأة راحة للمؤمن وأسف للفاجر) ومعنى أسف أي: غضب، غضب من الله عز وجل على الكافر، وراحة للمؤمن.
وقال ابن المنير: لعل البخاري أراد بهذه الترجمة أن من مات فجأة أن يستدرك ولده من أعمال البر ما أمكنه مما يقبل النيابة، وقد نقل عن بعض الشافعية كراهة موت الفجأة.
ونقل النووي عن بعض القدماء: أن جماعة من الأنبياء والصالحين ماتوا كذلك، أي: ماتوا فجأة، فلو كان مكروهاً لما أجرى الله تعالى على أنبيائه والصالحين مثل ذلك.
قال النووي: وهو محبوب بالمراقبين، أي: أصحاب المراقبة؛ وذلك لأن الأمر كما قال أحدهم: لو أن الله تعالى جعل موتي غداً، ما استطعت أن أزيد في عبادتي شيئاً؛ لأنه قائم بحق العبادة وحق الطاعة وحق المراقبة والخشية والإنابة والتوبة وغير ذلك في كل أحيانه، فلو علم أن موته غداً أو بعد غد أو بعد عام لما استطاع أن يزيد في عبادته شيئاً، فهذا بالنسبة لموت الفجأة رعب، بخلاف غيره فإنه بالنسبة له حسرة: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100]؛ لأنه يعلم أن عمله ناقص، فلما جاءه الموت بغتة تمنى أن لو يرجع عند أن عاين العذاب ليعمل صالحاً.
وبهذا يتم الجمع بين قول من قال: موت الفجأة مكروه، وموت الفجأة مستحب أو لا شيء فيه، فهو مستحب لأهل الطاعة ولأهل الإيمان، ومكروه لأهل التقصير والعصيان، وبهذا تلتئم الأدلة.(45/9)
باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد مماته
الباب الثالث: ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته.
نحن قلنا: إنه: {لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39]، لكن هذه الآية عامة خصصت بأدلة، وفي هذا إثبات أن السنة تخصص عموم القرآن، وتقيد مطلق القرآن، كما أنها هنا مطلقة.
قال: [حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة بن سعيد وعلي بن حجر السعدي قالوا: حدثنا إسماعيل بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة) أي: إلا من ثلاثة أعمال، ونأخذ هذا الاسم من جنس المصدر، إذا مات قطع عمله إلا من ثلاثة أعمال لا تنقطع، بل يستمر ثواب هذه الأعمال الثلاثة جارياً له بعد موته.(45/10)
معنى قوله: (صدقة جارية)
قال: [(صدقة جارية)]، الصدقة الجارية يسميها الفقهاء بالتسمية الاصطلاحية الوقف، كبناء المساجد، وإنشاء مكتبة عامة، ومكتبة علمية ينتفع بها الناس، أو إنشاء سبيل يشرب منه المارة، أو إنشاء دار للأيتام، أو إنشاء دار للأرامل أو للعجزة كبار السن، وغير ذلك من الأصول الثوابت التي ينتفع بها الناس، وإنشاء طريق وحفر بئر، أو شق الترع، أو إيقاف أرض لمصلحة الناس، بناء السجون كل ذلك داخل في الصدقة الجارية، لكن بناء سجون لتعذيب العلماء مثلاً أو لتهديد طلاب العلم ومحاربتهم في بيوتهم وفي أقواتهم فهذا لا، أما إنشاء السجون لتهديد الظلمة وأخذ الحق منهم وتسليمه إلى أصحابه، ورجم الزاني حينما يزني، فهذا أمر مشروع، فمن تصدق ببناء سجن لأجل هذا فهو مأجور، ونحن نتكلم عن هذا إذا كان هناك خلافة.(45/11)
معنى قوله: (أو علم ينتفع به)
قال: [(أو علم ينتفع به)] ما هو العلم الذي ينتفع به الميت؟ هو علم الشرع الذي لا خلاف عليه، والذي مبناه على الأدلة الشرعية: كتاب، سنة، قياس صحيح، اجتهاد أو إجماع.
هذا هو العلم الذي ينتفع به، لكن لا يمنع أن تكون هناك علوم أخرى غير شرعية ولكنها في خدمة الشرع، كعلم التجارة، وعلم الصناعة، وعلم الزراعة كل ذلك يلزم بناء الأمة الإسلامية وغيرها، وإن الأمة الإسلامية متى تخلفت عن هذا تخلفت عن أصل الحضارة، وتربص أعداؤها بشئون وأصول العلم، فقوله عليه الصلاة والسلام: (علم ينتفع به) يدل على مشروعية العلم الشرعي واستحبابه، بل هو من فروض الكفاية على الأمة.
أما العلوم الأخرى فإنها إذا كانت لا تتعارض مع الشرع، بل تخدم الشرع وتخدم المسلمين، فربما تصل إلى درجة الوجوب، وهي من فروض الكفايات بلا شك عند أهل العلم.
وقوله: (ينتفع به) احترازاً من علم لا ينتفع به كعلم السحر، فهو علم يناقض رأس الشريعة.
وبعض السحرة يعمد إلى تعليم غيره، حتى إذا مات الساحر الكبير لا ينقطع علم السحر، فهل هذا يعد مما يجرى له الأجر بعد موته؟
الجواب
لا، بل يجرى عليه العقوبة بعد موته؛ لأنه كان سبباً في مثل هذا.
ومن المعلوم أن علم الموسيقى، وعلم المنطق والفلسفة علوم غير شرعية، وهي ليست من العلوم النافعة، بل ما دخل البلاء على أهل الإسلام إلا بترجمة كتب اليونان في صدر الدولة العباسية الثانية، وذلك عندما ترجمت كتب الفلسفة والمنطق اليونانية، ودخل علم الفلاسفة من أوسع أبوابه، فدخل الفساد في عقائد المسلمين وفي أحكامهم، وشكوا في ربهم وإلههم بسبب كلام الفلاسفة اليونانيين.(45/12)
معنى قوله: (أو ولد صالح يدعو له)
قال: [(أو ولد صالح يدعو له)] كلمة وجيزة فيها قيود.
القيد الأول: أن الولد ينفع أباه، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إن أطيب كسب أحدكم من يده، وولده من كسبه)، فالرجل ينتفع بولده كما ينتفع الولد بأبيه، وأنتم تعلمون قصة الكنز الذي كان تحت الجدار في سورة الكهف: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82] وهو الجد السابع، فبسبب صلاح الآباء انتفع الأبناء من الدرجة السابعة.
قوله: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82] أي: وكان جدهما السابع صالحاً، فانتفع الحفيدان في المرتبة السابعة بصلاح أبيهما أو صلاح جدهما، فكما ينتفع الوالد بولده، فكذلك ينتفع الولد بأبيه، لكن هنا بيَّن أن مناط النفع هو صلاح الولد، قال: (أو ولد صالح) فقيده بالصلاح، وهذا يدل على أن الولد الفاسد العاق العاصي لا يساوي فلساً في ميزان الشرع، ولا ينتفع به أبواه لا في حياتهم ولا بعد وفاتهم، بل ربما يكون هو مصدر للشقاء والتعاسة دوماً في حياتهما؛ ولذلك من الإيمان المطلق والتسليم التام لله عز وجل عند من لم يرزق الأولاد أن يسلم لله، ويفترض أنه لو رزق ولداً غير صالح، وتاركاً للصلاة والصيام وغير ذلك، هل كان يسعد الأب بهذا الولد إذا أطلعه الله عز وجل على حاله الآن؟ لا يمكن أبداً، بل كثير من الأولاد في هذا الزمان مصدر شقاء وتعاسة للوالدين، ولو علم الوالدان من أمرهما هذا قبل وقوعه لتمنيا أن لم يجتمعا أو أنهما حرما الإنجاب؛ ولذلك أمر الشرع في غير ما آية وحديث، وأكثر السلف الصالح بالاحتياط والحض على تربية الأبناء تربية صالحة.
فقد ثبت أن عمر رضي الله عنه أدَّب أباً عق ولده قبل أن يعقه ذلك الولد، بأنه لم يختر له أماً صالحة، ولم يحسن اسمه، ولم يعلمه القرآن، ولم يعلمه شيئاً من السنة، وكان الوالد قد أتى إلى عمر ليشتكي عقوق ولده، فلما أتاه الولد قال: سله يا أمير المؤمنين أليس للولد على والده حقوقاً؟ قال: بلى.
قال: لم يفعل من ذلك شيئاً، إنما اختار لي أماً -في رواية: زانية-، وفي رواية: اختار لي أماً سيئة الخلق، ومعنى (سيئة الخلق) أي: زانية، وصاحبة سمعة سيئة، فهي متهمة في عرضها.
قال: ولم يعلمني القرآن، وسماني كذا.
وذكر اسماً لا يتناسب مع بني آدم، إنما يتناسب مع الحيوانات، فقال عمر لأبية: عققت ولدك قبل أن يعقك.
قال: (أو ولد صالح يدعو) لو كان الولد صالحاً ولم يدع لوالديه، هل ينتفع به والداه؟
الجواب
ربما ينتفعان، وربما كان النفع قليلاً، فإذا كان الولد صالحاً فصلاحه ينفعه هو، لكن إذا كان صالحاً ودعا فإنه يتعدى صلاحه لوالديه، ولذلك قال: (أو ولد صالح يدعو) ولم يقل: ولد صالح فقط، وفي هذا فضيلة الدعاء للوالدين وصلة الأرحام، وبر الوالدين حيين وميتين.
والصدقة في الحقيقة من عموم الدعاء، والصدقة مأخوذة من أدلة أخرى، فإذا كنت تريد نصاً في الصدقات فيؤخذ من نصوص أخرى ذكرناها الآن: (أفله أجر إن تصدقت عنه؟ قال: نعم)، (أفلي أجر إن تصدقت عنها؟ قال: نعم)، فهذا من باب إثبات أن الصدقة تنفعه، وأن الدعاء كذلك من الولد الصالح ينفع، والولد الفاسد لا يذكر أبويه بدعوة في الغالب، لأنهما ليسا على باله، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الدعاء هو العبادة)، ويقصد به: الدعاء تعبداً أو الدعاء طلباً، يعني: إما أن يدعو الإنسان الله عز وجل تعبداً لا يأخذ به شيئاً، أو أنه يدعو الله تعالى لجلب نفع أو لرفع ضر، فالدعاء إما أن يكون محض عبادة لله، كما كان الأنبياء صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين، أو دعاء يطلب به حاجة أو يرفع به مضرة.
والدعاء هو العبادة كما قال عليه الصلاة والسلام، خلافاً للفظ: (الدعاء مخ للعبادة) فإنه لفظ ضعيف، وأبلغ منه: (الدعاء هو العبادة) أي: جعل الدعاء نفس العبادة وعينها، فالعبادة هي الدعاء، والدعاء هو العبادة، فلا فرق بين هذا ولا هذا؛ لأنهما اثنان لمسمى واحد.
فإذا كان الولد فاسداً فهو أبعد الناس عن العبادة، إذ إن العاصي لا سبيل له إلى العبادة، وبالتالي لا سبيل له إلى الفلاح، فهو تارك للعبادة من أساسها، وإذا كان الدعاء هو العبادة فهو تارك له كذلك، فالولد الصالح إذا مات أبوه تراه يذهب في كل واد، ويطلب من فلان أن يدعو لأبيه، ويطلب من علان أن يشارك في جنازة أبيه، وأن يمكن أهل الصلاح من حضور الجنازة، فتشعر فعلاً بأن قلبه يحترق، ويحاول أن يجمع الإخوة بقدر الإمكان من هنا ومن هناك، ويأتي المساجد ويجمع الموحدين، ويجمع الإخوة الطيبين وطلاب العلم وأصحاب التقوى، ويقول: لعله يخرج من هؤلاء أربعون موحداً يشفعون فيه، بخلاف العاق الذي لم يكن لديه علم بالمساجد نهائياً، أبوه وأمه يموتان في وقت واحد، فيقال: سندفنهم الساعة السابعة، فيقول: متى دفنتم دفنتم! فهذا هو الفاسق أو ا(45/13)
حكم إهداء قراءة القرآن للميت
أما قراءة القرآن للميت قال: مذهب الشافعي والجمهور: أنها لا تلحق الميت، يعني: ثوابها لا يصل إلى الميت، وهذه المسألة محل نزاع بين أهل العلم، ومفاد هذه المسألة باختصار وإيجاز شديد: أن المرء لو قرأ قرآناً يريد بذلك إيصال ثوابه إلى الميت، هل هذا العمل نفسه مشروع أم غير مشروع؟ مثلاً لو توفي والدي وأردت أن أقرأ ربع سورة البقرة، أنوي ثواب هذه القراءة لوالدي، هل هذا العمل مشروع؟ محل نزاع بين أهل العلم.
بعضهم قال: مشروع، وبعضهم قال: غير مشروع؛ لأن هبة الثواب إلى الغير وإن كان قليلاً هي حرمان أجر العمل، أنا قلت: يا رب أنا قرأت البقرة، لا أريد ثواباً، وثوابها وهبته لوالدي، فإن قلت ذلك فإنه لن يبقى لي ثواب؛ لأني نذرت عنه، كما أن في ذلك الافتئات على الله عز وجل، والتجرؤ والتعدي على الله عز وجل؛ فما يدريني أن لي ثواباً في هذا العمل؟ وكأني أقطع على الله عز وجل أنه قد أثابني، وأوجب عليه الثواب في هذا العمل، وأنتم تعلمون أن هذا هو مذهب المعتزلة، فهم يقولون بالعدل، والعدل عندهم هو وجوب إثابة الطائع، فلما كان هذا العمل في ظاهره الطاعة، فإنه يجب على الله تعالى أن يكافئ صاحبه فوراً.
الأمر الثاني: وهو أن كل ما يعمله الولد من عمل صالح فوالداه شريكان معه في الأجر من غير أن ينقص من أجره شيئاً، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن خير مال العبد من كسب يده، وولده من كسبه)، فولدك هو أيضاً لك، فإن كنت قد ربيته على الدين والاستقامة فلا غرو أن يكون لك حظ في كل عمل يعمله ذلك الولد حتى وإن لم يقصد صرف الثواب لك، وكذلك مشاركة الوالد لك في الثواب لا تؤثر على ثوابك أنت، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ومن سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً)، فلو أن شخصاً الآن يعلم ابنه الصلاة والصيام والزكاة والحج وقيام الليل وقراءة القرآن ويأخذه إلى أماكن الفضيلة ويحصنه من الرذيلة، ويوصيه بالليل والنهار أن هذه منهجه في حياته وبعد مماته -فإن كل عمل يعمله الولد يكون في صحيفة حسنات الوالد، مع عدم تأثر صحيفة حسنات العامل الأصلي- أي: الولد، هذا بخلاف رجل سكير عربيد زان فاجر سارق يحمل ولده وامرأته وابنته على البغاء والزنا والسرقة وشرب الخمر وغير ذلك، والأولاد يفرون منه فراراً، وهو جاثم على صدورهم فما إن مات حتى استراحوا منه، والأمر كما قال عليه الصلاة والسلام: (مستريح ومستراح منه قالوا: يا رسول الله ما مستريح وما مستراح؟ قال: أما العبد المؤمن إذا مات استراح من الدنيا وتعبها ونصبها، وإذا مات العبد الفاجر استراحت منه البلاد والعباد والشجر والدواب)، أترون إلى مدى تأذي الناس منه؟ حتى الجمادات والأرض التي يمشي عليها تتأذى منه، فهذا الولد الذي منعه والده من حضور مجالس أهل العلم لا ينتفع به الوالد؛ لأنه لم يكن حريصاً على الصلاح، بل قام على ضده ونقيضه، وحمل أولياءه وأبناءه على غير الصلاح، ولكن الله تعالى وفقهم للصلاح، فلم يكن هذا من كسبه، وإنما هذا كسب اكتسبه الأولاد بتوفيق الله عز وجل لهم.
والذي يترجح لدي أن المرء إذا قرأ القرآن لا يجعل ثوابه لأبيه أو أمه أو لغيرهما، وإنما يعتقد أن عمله الصالح كله -بما فيه قراءة القرآن- ينتفع به الوالدان إذا كان قد رغبا في حياتهما في صلاح الولد حتى وإن لم تنصرف نية الولد إلى هبة الثواب إليهما، فإنهما إن شاء الله تعالى ينتفعان، وينتفع القارئ بذلك الثواب.
والله تعالى أعلم.(45/14)
النيابة في الصلاة
فإن قيل: هل الصلاة فيها نيابة؟
الجواب
الصلاة ليس فيها نيابة؛ لأنها فرض عين، فلا يجدي أن أقول لولدي: اذهب وصل أربع ركعات بالنيابة عني فأنا لا أستطيع أن أصلي! فهذا لا يصح؛ لأن الصلاة ليس فيها نيابة؛ ولذلك النووي يقول: فإن الولد من كسبه، وكذلك العلم الذي خلفه.
وقال ابن المنير: لعل البخاري أراد بهذه الترجمة أن من مات فجأة فليستدرك ولده من أعمال البر ما أمكنه مما يقبل النيابة.
فالصوم يقبل النيابة والدليل: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه)، كذلك الصدقة تقبل النيابة؛ لحديث الباب الذي بين أيدينا، والحج يقبل النيابة؛ لحديث: (يا رسول الله! إن أبي لا يثبت على الراحلة.
أفأحج عنه؟ قال: أرأيت لو كان على والدك دين أكنت قاضيه؟ قال: نعم.
قال: فدين الله أحق أن يقضى) وغير ذلك من الأعمال التي تقبل النيابة، أما الصلاة فلم يرد فيها قط نص، فهي ليس فيها نيابة قط، وفروض العين لا تسقط عن صاحبها قط إلا لعلة، فالصلاة واجبة على كل مسلم ومسلمة، فإذا جن شخص من الناس هل تجب عليه الصلاة حينئذ؟
الجواب
لا.
وليس لي أن أصلي عنه.(45/15)
الأعمال بين التكلف والتكليف
يذكر أن الشيخ الألباني رحمه الله سألته سائلة.
قالت: يا شيخ! أنا دائماً أذكر عن ولدي الصغير الأدعية، فإذا عطس قلت بدلاً عنه: الحمد لله، ثم أرد عن نفسي فأقول: يرحمكِ الله، وإذا أراد النوم قرأت له أذكار النوم، وإذا قام قرأت له أذكار الاستيقاظ وهكذا، فما الحكم؟ فكان رد الشيخ رحمه الله: هذا تنطع منك، وتكلف بما لم يكلفه الشرع، ونحن نعلم أن التكاليف الشرعية كلها مدارها على العقل والتمييز أو البلوغ، وهذه أصول ثابتة، فالعقل احتراز عن الجنون، فالمجنون إذا أفاق من جنونه لا يطالب بالصلوات التي فاتته في أثناء جنونه.(45/16)
باب الوقف
الباب الرابع: باب الوقف.
قال: [حدثنا يحيى بن يحيى التميمي أخبرنا سليم بن أخضر البصري الثقة الضابط عن ابن عون -وهو عبد الله - عن نافع الفقيه مولى ابن عمر عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (أصاب عمر أرضاً بخيبر)] أي: تملك عمر رضي الله عنه أرضاً بخيبر، وهي سهمه الذي قسم له، فخيبر فتحت عنوة، والقول بأن خيبر لم تفتح عنوة قول لا عبرة به؛ لأن النصوص كلها قاضية عليه، فـ عمر حينما فتحت خيبر وقسمت الغنائم كان من قسمه مال.
قيل: هذا المال اسمه سمغ.
وقيل: هي اسم للأرض التي قسمت لـ عمر رضي الله عنه.
قال: [(فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها)] يعني: عمر رضي الله عنه أتى ليستشير أهل الفضل والعلم والخير يقول: يا رسول الله! ماذا أصنع في هذه الأرض؟ [(فقال: يا رسول الله! إني أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه، فما تأمرني به؟)]، هو أنفس من النفائس وهو الجودة، وفي هذا استحباب أن يتصدق الإنسان بأغلى وأنفس ما عنده، كما قال الله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92]، وليس مما تكرهون.
قال: [(إني أصبت أرضاً لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه، فما تأمرني به؟ قال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها)]؛ لأنه استشاره، وأنتم تعلمون أن المستشار مؤتمن كما قال عليه الصلاة والسلام: (المستشار مؤتمن) يعني: أمين على أن يشير بالحق والخير الذي ينفع المستشير.
(قال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها) يعني: الأرض التي أصبتها يا عمر! إن شئت تصدقت بها مادمت استشرتني ولم تشترط، وانتفع بالناتج عنها.
قال: [(فتصدق بها عمر، -وعمر اشترط فيها- فقال: أنه لا يباع أصلها، ولا يبتاع)]، يعني: حتى لو أن أحداً عرضها للبيع يحرم على من علم أنها وقف أن يشتريها، وطبعاً هذا الحكم في كل الوقف، وللأسف الشديد جداً أننا نذهب إلى مكتبات إسلامية عريقة فنجد الكتب مكتوباً عليها: وقف لله تعالى لا يجوز بيعها ولا شراؤها، وتجدها معروضة في المكتبات للبيع، فتقول له: يا أخي! اتق الله، يقول: أنا اشتريتها.
قال: [(أنه يباع أصلها، ولا يبتاع، ولا يورث -يعني: ممنوع على عبد الله بن عمر وغيره أن يأخذوا منه شيئاً- ولا يوهب.
قال: فتصدق عمر في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب)]، والقربى أي: قرابة عمر من الفقراء وهم أولى، وفي هذا فضيلة الحث على صلة الأرحام.
قال تعالى: {وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:180].
قوله: (وفي الرقاب) أي: الإماء والعبيد، حينما يريدون أن يعتقوا فلاناً وهناك فائض من ريع هذه الأرض فإنه لا بأس أن يشترى فيه الرقاب فتعتق.
قال: [(وفي سبيل الله -أي: في الجهاد- وابن السبيل -الذي انقطع به الطريق فهو محتاج وإن كان غنياً- والضيف.
لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف)] يعني: الذي يقوم عليها بزراعتها وبحصادها ويثمرها لا بأس أن يأكل منها بالمعروف، أي: يأخذ منها بغير زيادة، يعني: لا يحق له أن يخزن منها، مثل مال اليتيم بالضبط؛ فإن مال اليتيم تأكل منه سد رمقك فقط، فلو أن عندك يتيماً فإنك تأكل من ماله بالمعروف، إذا احتجت إلى ذلك واضطررت إليه، وهكذا كان السلف رضي الله تعالى عنهم، كانوا يأكلون من أموال اليتامى نصف ما يأكلونه من أموالهم أنفسهم؛ لأن هذا جاء على غير أصل، والأصل ألا يأكل، كالذي يكون في الصحراء بالضبط، فإما أن يشرب الخمر، وإما أن يهلك عطشاً، فلابد من أن يشرب، ولكن يشرب ما يبل به رمقه فقط، كذلك لحم الخنزير عند الاضطرار، يجب أكله، وإلا كان الإنسان منتحراً إذا مات، فيأكل قطعة يسيرة تذهب الجوع، وهكذا مال الوقف للقائم عليه والعامل عليه أن يأكل منه بالمعروف.
قال: [(أو يطعم صديقاً غير متمول فيه أو غير متأثل فيه)] والمعنى واحد، (غير متمول) أي: غير جامع لهذه الأموال حتى يكون له أصل مال.(45/17)
فوائد من حديث عمر في باب الوقف
وهناك أصل من الأصول فيما يتعلق بالوقف، وهو أنَّ الوقف على شرط الواقف، فحينما أقول لك: خذ يا فلان! ألف جنيه ووزعها على الأيتام، وذهبت فوزعتها على أبناء السبيل، هل يجوز؟ لا يجوز.
وقس على هذا.
فإذا أنا أوقفت المال على طلاب العلم فلا يجوز صرفه للأيتام، وإذا كان على الأيتام فلا يجوز لغيرهم وهكذا؛ لأن الوقف على شرط الواقف.
وفيه كذلك: أن الوقف لا يباع ولا يوهب ولا يورث، إنما يتبع فيه شرط الواقف، وفيه: صحة شروط الواقف، وفيه: فضيلة الوقف.
وهي الصدقة الجارية.
فالوقف هذا كان من قبل تجده مصدر غنى وثروة عظيمة من ثروات المسلمين، أما الآن فيكاد الوقف ينعدم من الأمة، وبلا شك أن هذه مسئولية الأغنياء ومسئولية وزارة الأوقاف؛ لأن وزارة الأوقاف الدافع إلى وجودها: رعاية الأوقاف من سائر الأموال: أرض، وعقار، وتنقلات، ومساجد، ودور للأيتام وغير ذلك، فالأصل في كل هذا أن المتسلط عليه هو وزارة الأوقاف.
لكن الآن لو أراد شخص أن يوقف شيئاً يخاف؛ لأن الوزارة ممتلئة بالذين لا يخافون الله والأكّالين للأموال، وقد مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يترك شيئاً، لكن فرضاً لو أنه كان للنبي عليه الصلاة والسلام مال كان أول المؤجرين له هم وزارة الأوقاف، فهذه الوزارة الآن قائمة قياماً عظيماً في الصد عن سبيل الله عز وجل؛ مما جعل الناس يخافون أن يساهموا بشيء، فكم من شخص يريد أن يبني مسجداً، ولكنه يتردد خائفاً بسبب ما يحصل في هذه الوزارة، وهذه الوزارة مسئولة أمام الله.
وأنا لديَّ مكتبة في مسجد العزيز، وأنا في الواقع أريد أن أوقفها، وقد منّ الله عز وجل عليّ بها.
وهي منّة عظيمة جداً، وفيها من الكتب ما ليس عند مئات من طلاب العلم، إذ يبلغ ثمنها حين قُدّرت منذ عشر سنوات (600.
000) جنيه، وقد زدت فيها كثيراً، وقد أوقفتها على مسجد العزيز، لكنني خائف أن تبيعها وزارة الأوقاف، ولو كان الأمر مستتباً والحقوق محفوظة، والوقف على شرط الواقف، وانتقل المسجد للداخلية، وهم يحفظون شرطي لأوقفت في هذه الليلة المكتبة على مسجد العزيز، فإنه لا بأس أن ينتفع بها الناس، لكن إذا دخلت في الأوقاف فإنه لا يمكن الانتفاع بها حتى تبلى.
إن مكتبة المسجد التي توليت أمرها منذ خمسة عشر عاماً مفتوحة بالليل والنهار، واعترضوني عدة مرات بأن الكتب سُرقت، قلت: دعها لتسرق، فإن الذي يسرق الكتاب إما أن يبيعه بعشرة جنيهات لمن يعرف قيمته فينتفع به، وإما أن يأخذه هو لينتفع به، المهم أنك أوقفت للقارئ مع وجود الإثم أو عدم وجوده.
والله العظيم أني وجدت امرأة تبيع أجزاء من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية أمام الجمعية الشرعية في المنصورة سنة (1984) أو (1985) فقلت لها: يا امرأة! لماذا تبيعين هذه الكتب؟ قالت: ابني تركني وغاب عني بضعة أشهر ولم يرسل لي نقوداً، فقلت لها: الكتاب بكم؟ قالت لي: الكتاب بجنيه، فأخذت منها سبعة وعشرين مجلداً، وقالت لي: منه عندي مجلدات من المطبوع، ومجلدات لفتح الباري، ومجلدات لـ مسلم، وعندي مصاحف.
المهم واشتريت منها المكتبة ونقلتها إلى بيتي، وتابعت وصول صاحبها، حتى وصل إلى المنصورة، وطبعاً علم أن المكتبة قد بيعت، ومن كمده كاد يموت، وتعرفت أنه من الأساتذة الشرعيين فتركت له رسالة في المسجد، إذا أتى فليتصل بالهاتف الفلاني، أو يأتي إلى المسجد الفلاني، وأتاني إلى قريتي وقال: أنا أشكرك لأنك حفظت المكتبة، فقلت له: أنا اشتريت المكتبة.
أتريد أن تشتري مني؟! إن المكتبة التي بيعت أحفظها لك في البيت، فأعطني نقودي وخذ مكتبتك.
والله العظيم أستاذ كبير جداً من أساتذة العيون المرموقين المعدودين في مصر، فعندما مات كان الوارث ابنه، فباع الكتب الزكية الكتاب بأربعين قرشاً، وأحد إخواننا مر بهذا البائع وهو يعرفه فوجده يبيع كتباً مكتوباً عليها: مكتبة الأستاذ الدكتور فلان، وكان هذا الأخ أستاذ لغة عربية، وقد درّس هذا الولد اللغة العربية، فأعطى الأستاذ الولد ستين جنيهاً، وحمل الكتب وهي خمسة وستون مجلداً، والله رأيتها بعيني، ودفعه إلى صبي غير مكلّف على اعتبار أن هذا الصبي يعمل طبيباً متخصصاً، فيدفعه إليه ليشتري؛ لأنه لن ينتفع بها، فهي كتب كلها متخصصة في جراحة العيون وغير ذلك.
المهم هذا الأخ الذي اشتريت المكتبة من أمه عندما قدِم وقال ما قال من كلام طيب مريح، قلت له: أنا أعطيك هذه المكتبة على أن تتزوج أختي.
قال: أفعل.
وفرح بذلك، وفرحت به فكان خير زوج لأختي، وهو إلى الآن بحمد الله تعالى طالب علم محافظ على دينه وصلاحه واستقامته.
وأسأل الله تعالى أن يتقبّل منا ومنكم، ويرزقنا وإياكم الصلاح والتقوى، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(45/18)
الأسئلة(45/19)
الفرق بين عقيدة الأشاعرة وعقيدة أهل السنة
السؤال
أرجو منكم بيان الفرق بين عقيدة أهل السنة وعقيدة الأشاعرة، وقد يكون من الأشاعرة بعض المعلمين سواء في الأزهر أو في معهد الدعوة أو غير ذلك؟
الجواب
معظم المعلمين في العقيدة في الدراسات النظامية أشاعرة وماتريدية، وهم يعتقدون أن أهل السنة ما هم إلا خليط الأشاعرة والماتريدية، بل ويصرون على الإثبات بأنهم أهل السنة وليسوا كذلك، بل هم من أهل السنة فقط، أما أهل السنة فلهم أصول، وهذه الأصول استنادها إلى كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام.
فإن كنت تريد أن تأخذ خطوط عريضة لمعتقدات الأشاعرة والماتريدية، فهذا أمر يصعب ذكره، وعلى أية حال أنتم تعلمون أننا نتناول أثناء تدريس كتب العقيدة، سواء كان في هذا المسجد في كتاب أصول الاعتقاد للالكائي أو في كتاب الإبانة في مسجد العزيز يوم الأحد في كل أسبوع للإمام ابن بطة، وطبعاً تلخيص ذلك أمر يصعب جداً.(45/20)
حكم العمل على (الأتوبيس)
السؤال
ما حكم العمل على (الأتوبيس) بعد الانتهاء من العمل الأول لقلة الراتب، حيث إن راتب الشركة ضعيف؟ وما حكم طالب الأجر أكثر مما عمل بعد ذلك؟ وما حكم ركوب الخريجات والخريجين مع بعضهم البعض؟
الجواب
كل هذا يبث فتناً، لكن على أية حال أصل
السؤال
هل يجوز العمل على (الأتوبيس)؟
الجواب
نعم.
يجوز، وإن كان السائق يتعرض لفتن عظيمة جداً في ركوب الخريجات والخريجين وغيرهم، لكن على أية حال أصل العمل مشروع، وليتحر السائق في الراكب الذي معه، ويحاول ألا تركب معه المرأة المتبرجة وغيرها.(45/21)
ما يلزم من كان لديه مسروقات بعد التوبة
السؤال
سمعت من أحد الناس أنه قد أخذ من عمله مبالغ لا يستحقها وهو يعتبرها سرقة، ولكنه لا يعرف كيف يعيدها، وكذلك لا يستطيع إخراجها جملة واحدة، فهل يمكنه أن يخرجها على فترات، كل شهر: مبلغ كذا مثلاً، وذلك في صدقات على الناس؟
الجواب
لا.
يا أخي الكريم! إذا كنت سرقت من مكان معين، فإنما يلزمك لصلاح التوبة أن تدفع هذا المال إلى صاحب المكان الذي سرقت منه، إلا أن يعفو عنك، أو يأذن في إخراج الصدقات على النحو الذي يرتضيه ويتناسب معه، أما أن تسرق مني، ثم تذهب لتتصدق بما سرقته، فإنك لا تفرق كثيراً عن أم كلثوم حينما قالوا لها: الغناء حرام.
قالت: أنا لا أغني إلا في القاعات، فهذا عذر أقبح من ذنب، تسرق لتتصدق؟! هذا أمر عجيب!(45/22)
إخوة يوسف أنبياء كما أثبت ذلك القرآن الكريم
السؤال
كنت تكلمت في قصة سابقة عن الأنبياء، وكيف أن لهم هفوات صلوات الله وسلامه عليهم، فتاب الله عليهم منها، وذكرتم أن إخوة يوسف عليه السلام كانوا أنبياء، فما الدليل على ذلك؛ بالرغم من شروعهم في قتل يوسف، والكذب على أبيهم؟
الجواب
كل هذا قبل أن يكونوا أنبياء، ونحن قلنا: إن العصمة في الأنبياء من الكبائر تكون بعد البعثة، أما قبل البعثة فبعضهم وقع، وإخوة يوسف هم الأسباط، وأسباط يوسف ذُكروا في القرآن عدة مرات على أنهم أنبياء، إذاً: فهم أنبياء.(45/23)
معنى الشرك الخفي
السؤال
ما هو الشرك الخفي؟
الجواب
هو الرياء، وفي الحديث الذي أخرجه أحمد في مسنده: (الرياء هو الشرك الخفي)، وفي رواية: (إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الخفي، قيل: ما هو يا رسول الله؟ قال: الرياء)، وفي رواية: (فإنه محبط للعمل).(45/24)
إقامة الحد أو العقوبة أو الحجة على العاصي
السؤال
كيف نعلم أننا أقمنا الحجة على العاصي؟
الجواب
لا.
يا أخي الكريم! ليست إقامة الحجة لك، إقامة الحجة إما من سلطان ممكن، أو عالم ممكن، فهذان هما اللذان لهما الحجة، أما غيرهما فلا، إلا إذا أتاك وسألك أن تعلمه، يعني: جلس بين يديك مجلس الجاهل وقال لك: علمني أنا جاهل، فتعلمه أن الزنا حرام، وأن السرقة حرام، وأن شرب الخمر حرام، وتنقل له أدلة الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم، فإذا علم وقنع بهذا العلم فقد قامت الحجة عليه بغير السلطان، أما الذي يريد أن يقيم عليه الحجة؛ لأنه بعد إقامة الحجة إن عاند وجحد يترتب على ذلك قتله أو نفيه، أو غير ذلك من الأحكام الشرعية، فهذا لا يكون إلا على يد عالم ممكن أو سلطان ممكن، وإقامة الحجة تستلزم استتابته ثلاثة أيام، يحبس في السجن، ويقال له: الحكم كيت وكيت وكيت، وهذا حرام مجمع على حرمته، والأدلة كيت وكيت، أمامك ثلاثة أيام إما أن تتوب وإما قتلناك وإما السجن.
كما أن ترك الصلاة محل نزاع بين أهل العلم فيمن ترك الصلاة كسلاً، أما من تركها جحوداً فهو كافر بالإجماع، ولا خلاف بين أهل العلم في ذلك، لكن لو أنه لا يصلي ويقول: الله يهديني، وادع لنا، فإننا نأتي به إلى السلطان، والسلطان سيضعه في الزنزانة، ويقول: يا بني! ترك الصلاة كفر، وقد وردت الأدلة وتظاهرت على أنه كفر، فأنت تقول له: إما أن تصلي وإما قتلناك يوم الخميس الساعة العاشرة صباحاً، فتصور أن هذا الإنسان يقعد الإثنين والثلاثاء والأربعاء في الزنزانة لا يصلي، وهو يعلم أنه سيقتل يوم الخميس، فهذا مجنون.
يقال له: لم لا تصلي؟ يقول: مزاج، ففي مثل هذه الظروف اختلف أهل العلم فيما لو استتيب فلم يتب فقُتل، هل يُقتل ردة أم حداً؟ فالصحابة يقولون: يُقتل ردة؛ لأن مذهب معظم الصحابة أن تارك الصلاة عموماً كافر، ولم يفرقوا بين كونه جاهلاً أو غير جاهل.
هما سواء، وهذا طبعاً وارد في حديث أبي وائل الكوفي شقيق بن سلمة.
قال: ما كان الصحابة يعدون شيئاً تركه كفر إلا الصلاة، فلماذا خص هذا الفرض بهذا القيد العظيم جداً، فهذا نص مخيف جداً.(45/25)
إقامة الحد ليس ركناً في التوبة
السؤال
لو أن عبداً ارتكب ذنباً وتاب منه، وهذا الذنب والابتلاء يستوجب الحد، فهل هذا مشروع وركن في التوبة؟
الجواب
ليس إقامة الحد ركناً في التوبة، وإذا كان هو أصل التوبة وبديلها، فإن البدل قام مقامه وهو التوبة، يعني: قلنا العبد ارتكب ما يوجب حداً، لكنه لم يُحد وإنما تاب بينه وبين الله عز وجل، فالتوبة تمحو الحد، يعني: لا يطالب بإقامة الحد عليه، بل يحاسبه الله تعالى يوم القيامة على الذنب وعلى عدم إقامة الحد عليه؛ لأن التوبة تجب ما كان قبلها.(45/26)
حكم خلع النظارة في الصلاة
السؤال
ما حكم خلع النظارة في الصلاة؟
الجواب
لا بأس به.
لا يؤثر على صحة الصلاة، وإن كان هذا يتنافى مع القنوت للصلاة.
قال تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] أي: خاشعين متذللين، وأنتم تعلمون أن كثرة الحركة تؤدي إلى بطلان الصلاة، واختلف أهل العلم في الحركة المبطلة للصلاة: كيف هي وكم هي؟ فقالوا: ثلاث حركات تبطل الصلاة، وقالوا: أكثر من ذلك، وابن قدامة يقول: ومرد ذلك إلى عرف الناس، فإذا تعارف الناس أن من تحرك ثلاث حركات أو أربع حركات تبطل صلاته، فحينئذ يحكم على صلاته بالبطلان.
وهذه مسألة مهمة جداً، وفيها مخرج لكثير من عادات بعض الشعوب، فمثلاً الشعب السعودي أثناء الصلاة ترى السعودي في حركة مستمرة، فيضع العقال ثم يرفعه وهكذا، ثم ينظر إلى الساعة، ثم يقبض على رأسه إلى غير ذلك، فهم تعارفوا على أن هذا لا يبطل صلاته، أو مثلاً واحد كان يصلي مأموماً في آخر المسجد، وبينه وبين العمود حوالي عشرة أمتار، وهو ممن يذهب إلى أن اتخاذ السترة واجب، وعلى المذهب الراجح: أن السترة سنة مؤكدة وليست واجبة؛ لحديث ابن مسعود وحديث ابن عباس، وهما في البخاري.
فهذا الذي صلى مسبوقاً بالإمام يريد أن يتخذ لنفسه سترة، فتراه يتقدم حتى يصل إلى العمود، فدخل رجل من الخارج ونظر إلى هذا الذي يصلي في المسجد ورآه يتقدم ويمشي فأيقن أنه ليس في صلاة، وإنما يلزمه أن يمشي خطوة أو خطوتين.(45/27)
الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والصبر عليها
السؤال
يقول بعض الإخوة: خطباء الجمعة يريدون ترك هذه الدعوة خوفاً من السلطة، هل يكون آثماً؟
الجواب
يا أخي! يكفيك أنك تحمل دليلاً شرعياً: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125]، {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]، فتكلم كلاماً طيباً واخطب، إذا كنت صاحب دعوة فأنت مكلّف بهذا.(45/28)
شرح صحيح مسلم - كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - فيمن أحب لقاء الله وفضل مجالس الذكر
إن مصيبة الموت لا تعدلها مصيبة، وكل بني آدم لا محالة ميتون، لكن العبد المؤمن إذا اقترب أجله وحانت منيته أقبل على ربه وتمنى لقاءه، وفرح بالانتقال إلى جواره، أما العاصي فإنه يكره لقاء ربه، ويتمنى أن لو امتد به العمر حتى لا يواجه ما أسلف، ولا يعاين ما قدم بين يدي موته من العمل.(46/1)
تابع باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فقد جاء في الصحيح أن عبادة بن الصامت رضي الله عنه دخل السوق بدمشق، فرآهم يبيعون الذهب بالذهب مفاضلة يعني: يبيعون جراماً بجرامين، أو ثلاثة جرامات بستة جرامات، وهذا ربا، فلابد أن يكون الذهب بالذهب مثلاً بمثل يداً بيد، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فمن زاد أو استزاد فقد أربى).
يعني: من أعطى زائداً، أو طلب زائداً فقد قارف الربا.
فلما رآهم على ذلك عبادة أنكر عليهم، ومر معاوية بالسوق، فوجد عبادة ينكر على أهل السوق بيعهم وشراءهم على هذا النحو، فقال: إنا لا نحسب إلا هذا، وكأن معاوية يقول: لم نسمع هذا من النبي عليه السلام.
فقال عبادة: أنا أقول لك قال رسول الله، وتقول: ما سمعناه؟! والله لا أساكنك في أرض أنت بها.
ثم أخذ عبادة سوطه وانطلق إلى المدينة، فقال عمر: ما جاء بك؟ قال: لقد حدث كيت وكيت، هذا الذي جاء بي.
فقال: ارجع قبح الله أرضاً لست بها.
فانظر إلى قول عمر: قبح الله أرضاً لست بها.
لم يقل له: أنت متزمت ومتشدد.
وكتب رسالة مع عبادة إلى معاوية: يا معاوية! لا إمرة لك على عبادة.
وعبادة بن الصامت هو راوي حديث: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، حيث قال عبادة: [إن نبي الله صلى الله وعليه وسلم قال: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه).
وحدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر - وهو المعروف: بـ غندر - حدثنا شعبة عن قتادة قال: سمعت أنس بن مالك يحدث عن عبادة بن الصامت عن النبي عليه الصلاة والسلام.
مثله].
قال: [حدثنا محمد بن عبد الله الرزي -وهو من الأرز، فالنسبة رزي أو أرزي، وفي كتاب الأنساب: الرزي نسبة إلى بيع الرز.
وقيل: أرزي لأن الرز أصله: أرز- حدثنا خالد بن الحارث الهجيمي حدثنا سعيد - ابن أبي عروبة البصري - عن قتادة] إذا روى سعيد عن قتادة فإنه سعيد بن أبي عروبة البصري لا أحد غيره.
[حدثنا سعيد عن قتادة عن زرارة عن سعد بن هشام عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه.
فقلت: يا نبي الله! أكراهية الموت؟ فكلنا نكره الموت)].
والمعنى: أن المرء إذا لقي الله لابد أن يموت فكلنا نكره الموت، إذاً: هو يكره لقاء الله، والفوز بالجنة متعلق بالموت؛ فكلنا يكره الموت، [فقال: (ليس كذلك)] ليس هذا معنى الحديث.
[قال: (ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله)] وهذا يكون في ساعة الاحتضار والغرغرة وبلوغ الروح الحلقوم، تأتيك الملائكة فيقولون لك: انظر إلى مكانك في النار فتنظر إليه قبل أن تخرج الروح فيقولون: (هذا مكانك في النار غير أن الله تعالى أبدلك به مكانك في الجنة فانظر إلى مكانك في الجنة) فتنظر إلى مكانك في الجنة، فحينئذ تفرح بلقاء الله عز وجل.
أما العبد الفاجر الكافر فتأتيه الملائكة فيقولون: انظر إلى مكانك في الجنة، فينظر فيفرح بذلك، فيقولون: غير أن الله تعالى أبدلك به مكانك في النار، فينظر إلى مكانه في النار فيكره الموت، وهذه الكراهة هي كراهة لقاء الله عز وجل.
قال: [(ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله وكره الله لقاءه).
حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن بكر - وهو المعروف بـ الجرجاني أبو عثمان البصري - حدثنا سعيد عن قتادة بهذا الإسناد].
والإسناد السابق يعني: قتادة عن زرارة عن سعد بن هشام عن عائشة.
[وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا علي بن مسهر -وهو القرشي، أبو الحسن الكوفي الحافظ الكبير- عن زكريا - وهو ابن أبي زائدة - عن الشعبي -وهو عامر بن شراحيل - عن شريح بن هانئ] وهو أبو المقدام الكوفي ثقة مخضرم.
ومعنى مخضرم: أسلم في حياة النبي عليه الصلا(46/2)
كلام النووي في شرح أحاديث باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه
قال: (ومعناه: أن الكراهة المعتبرة هي التي تكون عند نزع الروح في حالة لا تقبل فيها توبته ولا غيرها، فحينئذ يبشر كل إنسان بما هو سائر إليه وما أعد له، ويكشف له عن ذلك، فأهل السعادة يحبون الموت ولقاء الله؛ لينتقلوا إلى ما أعد الله لهم، ويحب الله لقاءهم، فيجزل الله لهم العطاء والكرامة.
وهو تفسير لمحبة الله.
أي: يجزل لهم العطاء والكرامة).
إذاً: فسر النووي المحبة بالعطاء والكرامة.
قال: (وأهل الشقاوة يكرهون لقاءه؛ لما علموا من سوء ما ينتقلون إليه، ويكره الله لقاءهم).
أي: يبعدهم عن رحمته وكرامته.
فمعناه: أنه فسر كراهة الله عز وجل للكافرين بالحرمان من الثواب، والطرد من الرحمة والكرامة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وهذا تأويل فاسد؛ لأن الله تبارك وتعالى يحب ويكره، والمحبة ثابتة له، والكراهة ثابتة له، لكنها محبة تليق بجلاله وكماله، وكراهة تليق بجلاله وكماله، لكنهم أولوا ذلك لأن الواحد لما يكره يحصل له انفعالات نفسية وتغير في الدورة الدموية وشعور بالهم والحزن، فهم يتصورون أن الكراهة في حق الله تستلزم هذا، فلما كان هذا محال في حقه تبارك وتعالى يلزم تأويل الكراهة على غير الكراهة المعروفة لدينا، وهذا ليس بلازم، وإنما الذي يلزم من ذلك: إثبات الكراهة لله، والفضل لله، لكن على القدر اللائق بالله عز وجل.
وأنتم تعلمون أن صفة الحب والكراهية والبغض ثابتة لله عز وجل، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها).
وحصل تأويل لهذا الحديث من الإمام النووي، ونقل كلام العلماء تأويلاً.
وشيخ الإسلام ابن تيمية يحذر تحذيراً أكيداً فيما يتعلق بالحب والبغض والكراهة وغير ذلك فيقول: إن الكتاب والسنة وإجماع المسلمين أثبت محبة الله لعباده المؤمنين، ومحبتهم له؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165].
وقوله: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54].
وقوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:24].
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:4].
وقوله: {يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195].
وقوله: {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222].
وقوله: {يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة:42].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما).
قال ابن تيمية: (وقد أجمع سلف الأمة وأئمتها على إثبات محبة الله تعالى لعباده المؤمنين ومحبتهم له، وهذا أصل دين الخليل إمام الخلفاء عليه السلام).
يعني: هذا أصل دين إبراهيم وأصل الحنفية السمحاء.
فنثبت لله تعالى المحبة والكراهة والبغض كما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تأويل، ونفوض كيفية ذلك إلى الله عز وجل.(46/3)
باب كراهة الدعاء بتعجيل العقوبة في الدنيا
يعني: أن يقول: يا رب! إذا كان مقدر لي عقوبة في الآخرة فعجلها لي في الدنيا.
قال: [حدثنا أبو الخطاب زياد بن يحيى الحساني حدثنا محمد بن أبي عدي عن حميد -وهو ابن أبي حميد الطويل - عن ثابت بن أسلم البناني عن أنس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً من المسلمين قد خفت فصار مثل الفرخ).
خفت يعني: ضعف وهزل، لم يبق إلا قليل من الجلد على العظم من فرط ما نزل به من ضر ومرض حتى صار كالفرخ.
[فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إياه -وهذا علم من أعلام النبوة- قال: كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا)].
هذا بيت القصيد وموطن الفرج.
[قال النبي عليه الصلاة والسلام: (سبحان الله! سبحان الله! لا تطيقه).
فهذا اعتداء في الدعاء، وقال: (لا تطيقه) يعني: لو كان ربنا تقبل منك دعاءك والله لا تطيقه في الدنيا.
وفي رواية: (لا تستطيعه) ثم أخذ يعلمه كيف يدعو.
[قال: (أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار)].
فدعا الرجل بها فشفاه الله.
أي: فدعا الرجل المريض بهذا الدعاء: (اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار)، فشفاه الله عز وجل.
[حدثنا عاصم بن نضر التيمي حدثنا خالد بن الحارث حدثنا حميد بهذا الإسناد إلى قوله: (وقنا عذاب النار).
ولم يذكر الزيادة.
وحدثني زهير بن حرب حدثنا عفان بن مسلم الصفار حدثنا حماد أخبرنا ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على رجل من أصحابه يعوده وقد صار كالفرخ.
بمعنى حديث حميد غير أنه قال: (لا طاقة لك بعذاب الله).
ولم يذكر.
فدعا الله له فشفاه].
وفي هذا الحديث: النهي عن الدعاء بتعجيل العقوبة، بل يطلب من الله العفو والعافية.
وفيه: فضل الدعاء بهذا الدعاء الثابت: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار).
وفيه: جواز التعجب بقول: (سبحان الله).
وفيه: استحباب عيادة المريض والدعاء له.
وفيه: كراهة تمني البلاء؛ لئلا يتضجر منه ويسخطه، وربما شكا الله عز وجل لخلقه: وأظهر الأقوال في تفسير الحسنة في الدنيا: أنها العبادة والعافية.
وتفسير: (وفي الآخرة حسنة) الجنة والمغفرة، هذا أصح الأقوال فيها، وإلا ففيها أقوال كثيرة جداً منها: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة) أي: الزوجة الصالحة، (وفي الآخرة حسنة) يعني: الجنة والمغفرة.
والمختلف فيه هو الحسنة في الدنيا.
قيل: هي الزوجة الصالحة.
وقيل: هي التقوى.
وقيل: هي العلم.
وقيل: هي العافية.
وقيل: هي الطاعة، ولا يمنع أن تحتمل الآية جميع هذا.(46/4)
باب فضل الدعاء بـ (اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)
قال: [حدثني زهير بن حرب حدثنا إسماعيل -يعني: ابن علية - عن عبد العزيز بن صهيب البصري عن أنس أو قال: (سأل قتادة أنساً: أي دعوة كان يدعو بها النبي صلى الله عليه وسلم أكثر؟)].
يعني: ما هي أكثر دعوة كان يدعو بها النبي عليه الصلاة والسلام، يسأل أنساً؛ لأنه كان خادم النبي عليه الصلاة والسلام وهو أعلم بحال مخدومه.
قال: [(كان أكثر دعوة يدعو بها يقول: اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
قال: وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها فإذا أراد أن يدعو بدعا -أي: بدعاء كثير- دعا بها فيه أدخل هذا الدعاء في دعائه).
وحدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي قال: حدثنا شعبة عن ثابت عن أنس كان النبي صلى الله وعليه وسلم يقول: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار)].(46/5)
باب فضل مجالس الذكر
قال: [حدثنا محمد بن حاتم بن ميمون حدثنا بهز - وهو ابن أسد العمي - حدثنا وهيب - وهو ابن خالد - حدثنا سهيل بن أبي الصالح السمان عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لله تبارك وتعالى ملائكة سيارة)] يعني: سياحاً يسيرون في الأرض ويسيحون فيها.
قال: [(إن لله تبارك وتعالى ملائكة سيارة فضلاً)] ومعنى فضلاً أي: غير مكلفين بمهمة معينة، فلا هم من ملائكة الحساب، ولا كُتَّاب الأعمال، ولا من المكلفين بالجبال ولا المطر ولا غير ذلك، فهم فضلة الملائكة، أخذوا على أنفسهم أن يسيحوا في الأرض فإذا وجدوا مجلس علم اجتمعوا فيه.
قال: [(فضلاً يتبعون مجالس الذكر)].
وفي رواية: (يبتغون) أي: يطلبون مجالس الذكر ويبحثون عنها.
قال: [(فإذا وجدوا مجلساً فيه ذكر قعدوا معهم)].
ليس كذكر الصوفية والدروشة والتمائم والتبختر، بل هو ذكر الله تعالى.
أي: بالعلم النافع والعمل الصالح.
قال: [(فإذا وجدوا مجلساً فيه ذكر قعدوا معهم، وحف بعضهم بعضاً بأجنحتهم حتى يملئوا ما بينهم وبين السماء الدنيا)].
أي: أن هذا الحف رأسي.
أي: يقعدون بعضهم فوق بعض حتى يكون أعلاهم عند أول سماء الدنيا، كل هذا من أجل مجلس علم، حتى تعرفوا منزلة العلم، فهو أشرف مطلوب يمكن أن يطلبه الإنسان، فطلب العلم له مناقب وشمائل لا يمكن أن تجتمع في أي شيء آخر.
قال: [(فإذا وجدوا مجلساً فيه ذكر قعدوا معهم، وحف بعضهم بعضاً بأجنحتهم؛ حتى يملئوا ما بينه وبين السماء الدنيا)].
قرأها بعض الرواة: (وحض) أي: وحض بعض الملائكة بعضاً.
والحض: الحث على الحضور، وفي رواية: (وحط) يعني: حط بعضهم على بعض حتى بلغوا السماء الدنيا، كل هذا لفضل العلم وأهله.
قال: [(فإذا تفرقوا)] أي: فإذا تفرق الناس عن مجلس العلم [(عرجوا وصعدوا إلى السماء -أي: الملائكة- فيسألهم الله عز وجل وهو أعلم بهم)] بعد أن يلتقوا بمجلس العلم وطلابه يلتقون بالله عز وجل.
قال: [(فيسألهم -وهو أعلم بهم- من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عباد لك في الأرض يسبحونك ويكبرونك ويهللونك ويحمدونك ويسألونك.
قال: وماذا يسألونني؟ قالوا: يسألونك جنتك -اللهم إنا نسألك الجنة- قال: وهل رأوا جنتي؟ قالوا: لا.
أي رب! قال: فكيف لو رأوا جنتي؟ قالوا: ويستجيرونك)] يعني: يستعيذون بك، ويطلبون منك الأمان.
قال: (ممَّ يستجيرونني؟ قالوا: من نارك يا رب! قال: وهل رأوا ناري؟ قالوا: لا.
قال: فكيف لو رأوا ناري)] اللهم إنا نعوذ بك من النار.
[(قالوا: ويستغفرونك.
قال: فيقول: قد غفرت لهم)] اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا [(فيقول: قد غفرت لهم.
فأعطيتهم ما سألوا وأجرتهم مما استجاروا.
قال: فيقولون: رب! فيهم فلان عبد خطاء)].
هؤلاء كلهم صالحون فيهم واحد شقي، خطاء [(إنما مر فجلس معهم)] أي: كان يمشي فجلس معهم.
قال: [(فيقول الله: وله غفرت.
هم القوم لا يشقى بهم جليسهم)].
يقول الإمام: (في هذا الحديث فوائد: منها: فضيلة الذكر.
وفضيلة مجالس الذكر، والجلوس مع أهله وإن لم يشاركهم في الذكر، وفضل مجالسة الصالحين وبركتهم).
وقوله: (وبركتهم) هذا مذهب مرجوح إن لم يكن فاسداً.
قال: (قال القاضي عياض: وذكر الله تعالى ضربان -يعني: نوعان- إما ذكر بالقلب، وإما ذكر باللسان، وذكر القلب إما أن يكون سراً أو جهراً أحدهما -وهو أرفع الأذكار وأجلها-: الفكر في عظمة الله تعالى، وجلاله وجبروته وملكوته وآياته في سماواته وأرضه).
ثم يقول: (ويشهد لذلك حديث: (خير الذكر الخفي)).
لكنه حديث ضعيف.
قال: أحسن أنواع الذكر هو: ذكر بالقلب على جهة التدبر والتأمل في ملكوت الله عز وجل، في سماواته وأرضه ونجومه وقمره وشمسه: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] ومن يتدبر في آيات الله عز وجل وفي خلقه وفي كونه يوقن أن لهذا الكون إلهاً مدبراً؛ لأنه لا يمكن أن يأتي هكذا بالصدفة كما يقول الدهريون، فالخالق هو الله عز وجل، وهذا الخلق كله بصنع الله عز وجل وخلقه وتدبيره، فالذي يتدبر في الكون يجد العجائب.
أذكر أنه كان لديَّ سلحفاة، وكنت أكره وجودها في البيت، لكن الأولاد يحبونها، وكنت مشفقاً عليها من الجوع والعطش، فبينما أنا كذلك أخذت أقرأ في كتاب عن حياة السلحفاة فوجدت أن السلاحف تستطيع أن تمتنع عن الطعام والشراب من أربعة أشهر إلى ستة أشهر!(46/6)
شرح صحيح مسلم - كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر
للذكر فضل عظيم عند الله تعالى، فإن الله يضاعف به الحسنات ويمحو به السيئات، والاجتماع على الذكر وتلاوة القرآن له أيضاً فضل عظيم وفوائد جمة، فهو سبب لتنزل الرحمات، وحضور الملائكة لتلك الجلسات، ومباهاة الله عز وجل ملائكته بأولئك القوم الذين انقطعوا لذكره، ومن أوى إليهم آواه الله، فهم القوم لا يشقى بهم جليسهم.(47/1)
فضل التهليل والتسبيح والدعاء
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه وسلم تسليماً كثيراً، وبعد: ففي الدرس الماضي تكلمنا عن الباب العاشر وهو في فضل التهليل والتسبيح والدعاء، وفيه: [عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، وحطت عنه -أو ومحيت عنه- مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك.
ومن قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر)].
وفي رواية: قال: (من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحداً قال مثلما قال أو زاد عليه).
والزيادة إما أن تكون في العدد أو في الوقت.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرار كان كمن أعتق أربع أنفس من ولد إسماعيل) عليه السلام.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم).
هذا آخر حديث في صحيح البخاري، ختم به البخاري صحيحه، وفيه: من تعظيم الله تعالى وتنزيهه وتسبيحه وتوجيه الحمد إليه دون سواه سبحانه وتعالى.
وفيه غير ذلك من الفوائد وقد ذكرناها في الدرس الماضي.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: [(لئن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس)].
وجاء في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: [(أن أعرابياً قال للنبي عليه الصلاة والسلام: علمني كلاماً أقوله.
قال: قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله رب العالمين، لا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.
قال الأعرابي: هؤلاء لربي فما لي؟)].
أي: هذه الكلمات مدح وثناء وتمجيد وتعظيم لله، فهذا حق الله علي، فماذا لنفسي؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: [(قل: اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني)].
وفي حديث سعد بن أبي وقاص أيضاً قال: [(كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيعجز أحدكم أن يكسب في كل يوم ألف حسنة؟ قالوا: يا رسول الله! كيف يكسب أحدنا ألف حسنة؟ قال: يسبح مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة، أو يحط عنه ألف خطيئة)].(47/2)
باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر
الباب الحادي عشر: قال الإمام النووي: (باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر):(47/3)
شرح حديث: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن يحيى التميمي وأبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن العلاء الهمداني -واللفظ لـ يحيى - قال يحيى: أخبرنا وقال الآخران: حدثنا أبو معاوية -وهو محمد بن خازم الضرير - عن الأعمش -وهو سليمان بن مهران الكوفي - عن أبي صالح] وهو ذكوان السمان، فلقب بـ السمان؛ لأنه كان يجلب السمن والزيت من المدينة فيبيعه في الكوفة، فلقب بصنعته وعمله.
[عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)].
هذا حديث عظيم، وهو أصل من أصول الإسلام، مطلعه يدل دلالة عظيمة صريحة أن الجزاء دائماً يكون من جنس العمل إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، فقال النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب الآخرة).
وفي رواية: (من كرب الدنيا والآخرة).
يجعل الله تعالى جزاء تنفيس هذا العبد لكرب إخوانه أن ينفس عنه كربه أو كرب الدنيا والآخرة.
وهذا المقطع من الحديث جليل القدر جداً؛ ولذلك لا يعرف معناه إلا من وقع في الكرب العظيم، أما من كان في حال السلامة والأمان فإنه لا يشعر بقيمة ولذة هذا الكلام، فإذا وقع الواحد منا في كرب عظيم لا مخرج له إلا أن يقيض الله تعالى له رجلاً ينفس هذه الكربة على يديه، فحينئذ يستشعر رحمة الله عز وجل، ورحمة الإسلام، وعظمة الإسلام، فلذلك كان غير واحد من السلف يقول: لئن أمشي في حاجة أخي لقضائها وتنفيسها أحب إلي من ألف ركعة.
أي: من النوافل.
ودائماً تفضيل الأعمال الصالحة على الصلاة يستثنى منه المكتوبات.
وبعضهم يستثني منه الرواتب.
أي السنن الراتبة.
وإنما كلامهم -أي: مذهب الجمهور- في تفضيل الأعمال على الصلوات.
أي: صلاة النافلة المطلقة بخلاف الفريضة وما يلزمها، وما شرع لها من صلاة راتبة قبلها أو بعدها.(47/4)
معنى قوله: (من نفس عن مؤمن كربة)
قوله عليه الصلاة والسلام: (فمن نفس عن مؤمن) هذا قيد يخرج به غير المؤمن، وأنتم تعلمون أن الإيمان إذا أطلق يشمل معه الإسلام، وإذا إطلق الإسلام شمل معه الإيمان، وإذا ذكر الإيمان والإسلام في دليل واحد كان لكل واحد منهما مدلول يدل عليه، كما سأل جبريل عليه السلام النبي عليه الصلاة والسلام: (ما الإسلام؟ قال: الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً).
وفي حديث وفد عبد القيس الذي أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما أنهم قالوا: (يا رسول الله! بيننا وبينك كفار مضر، ولا يمكن أن نصل إليك إلا في الأشهر الحرم فمرنا بأمر نعمل به ونأمر به من وراءنا.
قال: آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع، آمركم بالإيمان، أتدرون ما الإيمان؟ قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: أن تشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وتقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتصوموا رمضان، وتودوا الخمس من المغنم).
فعرف النبي عليه الصلاة والسلام الإيمان في هذا الحديث بما عرف به الإسلام في حديث جبريل، فدل هذا على أن الإيمان والإسلام إذا اجتمعا في دليل واحد كان لكل واحد منهما مدلول يدل عليه، كما قال له: (وما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر والقدر خيره وشره).
مع أن مدلول الإيمان هنا وأصول الإيمان هنا لم تكن هي نفس أصول الإيمان في حديث وفد عبد القيس، بل جعل الإيمان في وفد عبد القيس هو الإسلام؛ لأنه لم يذكر الإسلام.
فهذا يبين لنا معنى كلام الفقهاء: الإسلام والإيمان إذا اجتمعا في دليل افترقا في المدلول، وإذا افترقا في الأدلة شمل كل واحد منهما الآخر، وهذا معنى قولهم: (إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا).
مثل المسكين والفقير، عند إطلاق المسكين يشمل معه الفقير، لكن إذا كان المسكين والفقير في نص واحد فالفقير له مدلول، والمسكين له مدلول آخر.
قال: (من نفس عن مؤمن كربة).
الكربة هي أي هم وحزن وغم يدخل على المرء، سواء كان ذلك في دينه أو في ماله أو في أهله أو في أولاده أو في عمله أو في أي شيء يتعلق بهذا المؤمن، وتقييد الدليل لهذا بالإيمان -أي: بالمؤمن- إنما هو احتراز من تفريج الكرب عن الكافر.
فهذا فيه فضيلة تفريج الكرب عن أهل الإيمان والإسلام على السواء.
قال: (نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة).
والأمر شديد جداً، وربما لا نستشعر شدة الموقف إلا إذا كنا في موقف الحشد والحساب والجزاء.
ولذلك جاء في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يجاء بالعبد يوم القيامة فيقف بين يدي الله عز وجل ليس بينه وبينه ترجمان، فتنشر له صحيفة مد بصره، قد ملئت بالسيئات، فالله عز وجل يقول له: عبدي! أتذكر ذنب كذا؟ أتذكر ذنب كذا؟ أتذكر ذنب كذا؟ والعبد يقول: نعم يا رب! نعم يا رب! حتى إذا ظن العبد الهلكة).
أي: ظن أنه ليس بناج لكثرة ما سمعه مما قد عمله آنفاً في حياته الدنيا فيقول الله عز وجل -وهذا من فضل رحمته- (وأنا قد سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك اليوم).
لكن هذا الدليل وغيره من أدلة الرجاء لا تجعل أحدنا يركن إليها؛ لأن الواحد منا لا يأمن مكر الله عز وجل، وإذا أخذك الله تعالى بفضله فهذا له سبحانه، وإذا أخذك بعدله هلكت، وهو غير ظالم لك، فاحذر أن يعاملك الله تعالى بعدله، كما ينبغي أن تعلم إذا كنت من أصحاب الكبائر فأنت في مشيئة الله إن شاء عذبك وإن شاء عفا عنك، ويكفيك وجلاً وخوفاً ورعباً أنك في مشيئة الله.(47/5)
معنى قوله: (من يسر على معسر يسر الله عليه)
قال: (ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة) الله تعالى يقول: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280].
إذا كان المدين معسراً ليس مماطلاً، فهذا له حكم الإعسار في الشرع وهو الإنظار إلى حين ميسرة.
أي: إلى أن يتيسر أمره، والعفو لمن ملكه أفضل.
ولذلك جاء في الصحيح: (أن رجلاً كان يداين الناس، وكان يرسل غلامه ويوصيه: يا بني! أنظر المعسر أو تجاوز).
يعني: لا تأخذ منه شيئاً، برئت ذمته وساحته.
(فجيء بهذا العبد يوم القيامة فوقف بين يدي الله عز وجل، قال: يا عبدي! ما الذي حملك على ما صنعت؟ قال: يا رب! قلت: أجود بمال الله على عباد الله! قال: أتجود على عبادي وأنا الجواد؟ لقد عفوت عنك).
وهذا الرجل لم يعمل خيراً قط إلا هذا العمل، وهو من أمة سابقة على أمة النبي عليه الصلاة والسلام؛ حتى لا يقول أحد هذا العبد دخل بغير صلاة ولا صيام ولا شيء من هذا، فهذا في شرع من قبلنا؛ ولذلك تجاوز الله عز وجل عنه لهذا العمل.
وكما تعلمون (أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها، لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض).
فهي دخلت النار؛ لأجل أنها عذبت نفساً محترمة، وكان بإمكانها أن ترعاها وأن تصونها إما بإطعامها أو بتركها تأكل من هوام الأرض، ولكنها لم تفعل ذلك.
وتعلمون (أن امرأة بغياً -أي: امرأة زانية- دخلت الجنة لأجل نجدتها لكلب كان يلعق الثرى من شدة العطش، وكانت هذه البغي قد مرت بهذه الحالة من العطش، فلما رأت ما نزل بالكلب من عطش خلعت خفها فنزلت البئر وملأته ماءً وقدمته للكلب، فشكر الله تعالى لها صنيعها).
وهذا يفسر قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله).
ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها).
وقال عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالخواتيم).
أي: بقدر ما يختم لك بها.
وقال عليه الصلاة والسلام: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة).
قال: (ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة).
أما إذا كان مماطلاً فإنما يكفيه قول النبي عليه الصلاة والسلام الذي أخرجه مسلم وأحمد في مسنده أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (مطل الغني ظلم).
قال العلماء: الغني: هو من ملك أداء الدين.
ولا يلزم من ذلك: أن يكون صاحب ملايين، أو صاحب عمارات وعقارات، بل يثبت له حكم الغنى إذا كان يملك مقدار الدين الذي عليه.
وأنتم تعلمون خطورة الدين، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (يغفر للشهيد كل شيء إلا الدين).
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لما جاء برجل بين يديه ليصلي عليه الجنازة قال: أعليه دين؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: هل ترك ما يوفى به دينه؟ قالوا: لا يا رسول الله.
فقال: دونكم صاحبكم صلوا عليه.
فقام رجل من أصحابه وتحمل حمالته.
فقال: يا رسول الله! صل عليه وعلي دينه، فصلى عليه النبي عليه الصلاة والسلام) لما في صلاته على أصحابه وأمته من البركة والخير، لقوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} أي: وادع لهم- {إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103].
(ثم لما جن الليل رأى هذا الذي قد تحمل الحمالة فقال: يا فلان؟ أقضيت عن صاحبك؟ قال: لا يا رسول الله! إنما هما ديناران، والأمر عجل).
يعني: القصة كلها وقعت هذا اليوم.
فقال: (يا فلان! اذهب فاقض عن صاحبك، فذهب الرجل فلقيه النبي عليه الصلاة والسلام في صلاة الغداة) أي: في صلاة الصبح من اليوم الثاني: (فقال: يا فلان!) أو قال: (أين فلان! قال: أنا يا رسول الله! قال: هل قضيت عن صاحبك؟ قال: نعم يا رسول الله.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: الآن بردت عليه جلده).
تصور أن القبر يحمى على رجل عليه ديناران، فما بالكم بمن يرتع في أموال الناس يمنة ويسرة، يأخذها لا يبالي بردها، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله).
لم يقل: أتلف ماله، وإنما قال: أتلفه الله.(47/6)
معنى قوله: (من ستر مسلماً ستره الله)
قال: (ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة).
(ومن ستر مسلماً): لا بد للصحوة أن تقف عند هذا النص، فما أسرع الغيبة والنميمة في الصحوة الإسلامية وما أفشاها وما أكثرها! ولذلك فإن مجتمع الصحوة مجتمع منفتح إلى أعلى مستوى، وإلى أقصى حد بخلاف عامة الناس الذين ربما لا يصلون ولا يصومون ولا يدرون في أي شهر نحن، ولا كيف أيامنا، ولا كيف نسير، ولا لماذا خلقوا، ومع هذا تجدهم في غاية الأدب والاحترام، فهم يكفون ألسنتهم، لا يتكلم أحد في عرض صاحبه، ولا في عرض جاره، ومهما ظهر على جاره من نعيم الدنيا وملذاتها لا يخطر على باله أن يسأل جاره من أين لك هذا؟ ولا يخطر على باله حتى أن يبارك له؛ لأن كل منهم في حاله، لكن مجتمع المناطق الشعبية، ومجتمع الصحوة على جهة الخصوص مجتمع قد امتلأ حقداً وحسداً وضغينة وهتكاً للأعراض وسلباً لعدالة الثقات العدول، وغير ذلك من هذه الأمراض الفتاكة التي تمر بها الصحوة الإسلامية اليوم، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من ستر مسلماً) أي: على خزية وقع فيها أو منقصة.
ولو أن رجلاً اليوم وقع في معصية لانتشر صيت هذه المعصية في ملأ الصحوة كسرعة البرق.
ونحن مأمورون أن نستر عليه، وأنتم تعلمون قصة ماعز الأسلمي الذي زنى، واستدرجه سيده ومولاه، قال: اذهب بنا إلى النبي عليه الصلاة والسلام حتى ينزل فيك قرآن بالتوبة، وهو يريد أن يقام عليه الحد، وأنتم تعلمون أن القصة طويلة، فلما أقيم عليه الحد التفت النبي عليه الصلاة والسلام إلى نعيم بن هزال وهو سيد ماعز وقال: (ويحك يا نعيم) أي: ويل لك.
(لو سترته لكان خيراً لك) وهذا زنا، وهو كبيرة من الكبائر.
قال: (لو سترته بثوبك) يعني: الواحد ممكن يرى رجلاً يزني فيخلع له ثوبه ويستره.
هذا ظاهر الحديث.
وما الذي يمنعك من ذلك والشرع قد أتى بكل خير وحث على الستر؟ ولذلك فإن هذه المجلات والصحف التي تذكر الحوادث لم تعالج ظاهرة الفساد في المجتمع بل كانت سبباً في انتشار الجريمة أكثر، وتجد الرجل يدخل السجن بجريمة واحدة ويخرج منه مجرماً حقيقياً.
وجدت ولداً عمره اثنا عشرة سنة، يحوم حول سيارة، فراقبته من بعيد حتى فتح باب السيارة، فلما وضع يده على المسجلة أخذته برقبته، فقال: والله ما عملت شيئاً.
فقلت له: المسجلة في يدك.
فقال: سيارة أبي نفس السيارة هذه.
فقلت له: اتحاد السيارة يعني اتحاد المسجلة.
ثم قلت له: على أية حال أنا سأتركك؛ لأنك لو دخلت السجن ستخرج مجرماً كبيراً، ليس سارق تسجيلات أو شيء تافه، ستخرج من السجن وستمارس سرقة الفلل والقصور؛ لأنك ستجد العمد كلهم والبهوات الكبيرة والمتخصصين على أعلى مستوى داخل السجن.
ثم أخذته معي المسجد وأعطيته عصيراً وباسطته، وأخذت منه المسجلة وذهبت بها لصاحب السيارة وقلت له: هذه المسجلة لكم؟ قال: ما كنت أظن أن شيخاً يسرق؟ فقلت له: لو أن الشيخ سرق فلماذا يرجعها لك؟ فقصصت عليه الحكاية فقال لي: أعطني الولد.
قلت له: أنا سأضبط المسألة.
ثم إن هذا الولد -الحمد لله تعالى- يتردد الآن على المسجد، ويأتي من أماكن بعيدة، ويركب مواصلات من أجل أن يصلي ويثبت لي أنه على خير وأنه يأتي المسجد.
والبارحة قلت له: ما هي الأخبار.
قال لي: والله ما أفعلها إلا إذا كنت محتاجاً.
لكني أريد أن أقول: الإخوة أحياناً يكون العلم وبالاً عليهم، إذا لم يكن فيه إخلاص وتقوى وتطبيق للعلم في قلب صاحبه يصير وبالاً عليه، فيقف عند حد الشبهات دائماً، ويعمل مثل الثعبان أو الحرباء يتلون ويتشكل على قدر مصلحته.
قال: (ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة).
المسلم لما يعمل شيئاً الأصل فيه الستر حتى لا تتفشى الرذيلة في المجتمع، وتأمره وتنهاه سراً، ولا تذهب تفضحه.
والبعض من الصحابة رضي الله عنهم وقعوا في الكبائر، ومع هذا رضي الله عنهم ورضوا عنه، ولست بذلك أهون من شأن المعصية، والذي وقع في المعصية وجاء خبره في القرآن والسنة تاب الله عز وجل عليه بتوبته، بل ربما بدل سيئاته حسنات بحكم التوبة، ولذلك لما جيء برجل من الصحابة اتهم باللواط مع طفل، جاءوا به إلى عمر، فقال عمر: يؤخذ كل شاهد على حدة.
فيقال لكل منهم: هل رأيت؟ يقول: والله يا أمير المؤمنين لقد رأيت ذكره في دبره.
فلما جيء بالرابع قال: عمر: يا فلان! اتق الله ولا تشهد إلا بما رأته عيناك، أرأيت ذكره في دبره؟ قال: لا يا أمير المؤمنين ولكني رأيتهما ملتحفين واللحاف يرتفع وينخفض، فقال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: الله أكبر، وأقام حد القذف في ظهر الثلاثة الأول، مع أن كل واحد منهم أقسم أنه قد رأى بعينيه، لكن هذه الشهادة على هذا الحد لم تكتمل النصاب، وأنتم تعلمون أن النصاب فيه أربعة شهود.
فلما أتى هذا الشاهد الرابع بما لا يقام به الحد كان يلزم أمير المؤمنين أن يقيم حد القذ(47/7)
معنى قوله: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً)
قال: (ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة).
أي: من سلك طريقاً يطلب فيه العلم لله تعالى، فإن الله يجعل له طريقاً مسلوكاً إلى الجنة، وهذا في العلم الشرعي على جهة الخصوص، كما قال النووي وغيره.
قال: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله).
ولا يلزم أن يكون هذا الاجتماع في بيت الله عز وجل، بل هذا لا مفهوم له من جهة النص، والأصل عدم القيد.
أي: وما اجتمع قوم على كتاب الله يتلونه ويتدارسونه فيما بينهم بل تثبت هذه الفضيلة لكل اجتماع على كتاب الله وعلى سنة رسوله وعلى ذكر الله تعالى.
قال: (يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة).
قال بعض أهل العلم: السكينة هي الرحمة وهذا غلط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وغشيتهم الرحمة).
فلما كانت المغايرة بين السكينة والرحمة باجتماعهما في الدليل دل على أن السكينة غير الرحمة؛ ولذلك يقول أهل العلم: السكينة هي الطمأنينة، وهذا مصداق قول الله تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
وأعظم الذكر: تلاوة القرآن، فهي المحادثة مع الله عز وجل بتلاوة كلامه الذي أنزله من السماء.
قال: (وحفتهم الملائكة).
قال العلماء: حفتهم الملائكة رأساً وأفقاً أم رأساً فقط، أم أفقاً فقط، كما جاء في الحديث: (من سلك طريقاً يطلب فيه علماً أو يلتمس فيه علماً إلا نزلت عليهم الملائكة فوجاً يتلوه فوج حتى يبلغوا السماء الدنيا).
إذاً: الملائكة أفواج الفوج الأول فوق الثاني فوق الثالث حتى يكونوا طبقات، ويكون نتاج هذا الاجتماع ظلة تظل طلبة العلم ومجلس العلم كهذا المجلس، نسأل الله أن نكون منهم.
فتصور أن هذا المجلس تحفه الملائكة وتنزل فيه السكينة وتغشاه الرحمة، ويباهي بنا الله تعالى أهل السماء، ومعظمنا إنما آثر أن يأتي في هذا المجلس بدل أن يجلس في الياهو، ولذلك جاء في الحديث: (إن فيهم فلاناً ليس منهم).
أي: فيهم واحد ليس منهم، غير أنه رأى الناس أعلنوا عن الدرس فقال: أجلس أسمع الدرس من أهل السنة هؤلاء، وهذا الرجل من أشقى الخلق، ومع هذا قال النبي عليه الصلاة والسلام عن ربه: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).
يعني: هذا الرجل الذي ليس منهم، إنما يحظى ببركة هذا المجلس وتصيبه النفحات الربانية في هذا المجلس، وهذا ليس فضلاً للرجل وإنما هو فضل مجلس العلم، وفضل الاجتماع على كتاب الله وعلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال: (ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه).
أي: من كان حسيباً أو نسيباً، فقصر في العمل لم ينفعه ذلك.
يعني: نسبك وحسبك ومالك وجاهك وسلطانك لا يغني عنك من الله شيئاً، إنما الذي يغني عنك هو العمل، فإذا قصرت في العمل فلا تنفعك حظوظ الدنيا بأسرها وإن حزت عليها، لا أبوك ولا أمك ولا جدك ولا عمك ولا خالك ولا الأزهر كله بمشيخته أو غير مشيخته، حتى وإن كنت ابن أمير المؤمنين، وإن كنت ابن نبي، ولذلك فإن نوحاً عليه السلام لم يغن عن ولده شيئاً، ولوطاً لم يغن عن امرأته شيئاً، ونوحاً لم يغن عن امرأته شيئاً، وامرأة فرعون لم تغن عن فرعون شيئاً، فمن بطأ به عمله لا ينفعه النسب ولا الحسب، ولا الجاه ولا السلطان ولا الوزارة، ولا الرئاسة، ولا الحكم ولا الخلافة؛ وفي القبر يأتيك العمل الصالح فيمثل لك على صورة رجل قد امتلأ نوراً فتقول: من أنت يرحمك الله؟ هذا الوجه الذي يبشر بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح.
أما إذا كنت غير ذلك -والعياذ بالله- فيمثل لك هذا العمل في صورة رجل على أقبح صورة تراها.(47/8)
ذكر لطيفة إسنادية في رواية حديث: (من نفس عن مؤمن كربة)
[حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير قال: حدثني -أو حدثنا- أبي وحدثناه نصر بن علي الجهضمي حدثنا أبو أسامة -وهو حماد بن أسامة - قال: حدثنا الأعمش قال: ابن نمير].
يعني: أن الأعمش روى عن تلميذه، وهذا من باب رواية الأكابر عن الأصاغر، وأنتم تعرفون أن هذه المسألة واردة في في مصطلح الحديث.
الأعمش يقول: [حدثنا ابن نمير عن أبي صالح].
وفي حديث أبي أسامة [حدثنا أبو صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخر الحديث].
فابن نمير يطلق على محمد بن عبد الله بن نمير وعلى عبد الله بن نمير ومسلم يروي عن محمد بن عبد الله بن نمير وعن أبيه عبد الله بن نمير [حدثنا نصر بن علي الجهضمي حدثنا أبو أسامة -الذي هو حماد بن أسامة - قالا -أي: عبد الله بن نمير وحماد بن أسامة - حدثنا الأعمش].
إذاً: عبد الله بن نمير عن الأعمش وحماد بن أسامة عن الأعمش، والأعمش يقول: عن أبو صالح.
وممكن أن يشرك في ابن نمير ثلاثة أشخاص: محمد بن نمير، وعبد الله بن نمير، وابن نمير آخر.
الإسناد الأول انتهى عند عبد الله بن نمير، والإسناد الثاني انتهى عند حماد بن أسامة كلاهما يرويان عن الأعمش، فـ الأعمش ليست له رواية عن عبد الله بن نمير، وعبد الله بن نمير تلميذ الأعمش وهو الذي يروي عنه، والإسناد يتوقف عند الأعمش، ومسلم هو الذي يقول: وفي طريق ابن نمير قال عن أبي صالح.
أي: قال الأعمش: عن أبي صالح.
فيكون هذا هو التقدير.
فحديث ابن نمير له طريقان: طريق عبد الله بن نمير وطريق أبي أسامة، أما ابن نمير فقال: حدثنا الأعمش عن أبي صالح وأما أبو أسامة فقال: حدثنا الأعمش: حدثنا أبو صالح.
إذاً: التقدير هكذا: قال مسلم: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، قال: حدثنا أبي حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة.
وفي طريق حماد بن أسامة قال: حدثنا الأعمش قال: حدثنا أبو صالح.
فالحديث هذا روي بإسنادين: الإسناد الأول: قال مسلم: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير قال: حدثنا أبي، ثم مرة أخرى يقول: حدثنا نصر بن علي الجهضمي قال: حدثنا أبو أسامة.
فالأول: انتهى عند عبد الله بن نمير، والثاني: انتهى عند حماد بن أسامة، وكلاهما يرويان عن الأعمش، وقال الأعمش في طريق ابن نمير: عن أبي صالح، ولم يقل حدثنا أبو صالح، وفي طريق أبي أسامة قال: حدثنا أبو صالح.
إذاً: مسلم صنع هذا من أجل أن يبين أن الأعمش في طريق ابن نمير لم يصرح بالسماع من أبي صالح، وفي طريق أبي أسامة قال: حدثنا أبو صالح.
إذاً: مرة لم يصرح بالسماع، ومرة صرح بالسماع، وأنتم تعرفون أن الأعمش يدلس، فيريد الإمام مسلم أن يقول لك: إذا كان الأعمش في طريق ابن نمير لم يصرح بالسماع من أبي صالح عن أبي هريرة فقد صرح في طريق أبي أسامة، فقال: حدثنا أبو صالح.
قال: [حدثنا أبو صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل حديث أبي معاوية، غير أن حديث أبي أسامة ليس فيه ذكر التيسير على المرء].(47/9)
شرح حديث: (لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة)
قال: [حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار -وهو محمد بن بشار الملقب بـ بندار - قال: حدثنا محمد بن جعفر -الملقب بـ غندر - قال: حدثنا شعبة: سمعت أبا إسحاق -وهو السبيعي - يحدث عن الأغر أبي مسلم] الذي هو المديني نزيل الكوفة.
هناك فرق بين نسبة الراوي المديني والمدني، فالمديني نسبة إلى المدائن، مدينة في طهران، أو في بلاد فارس سابقاً اسمها المدائن، والنسبة إلى هذه المدينة مدائني أو مديني، أما المدني فنسبة إلى المدينة فقط.
ومعلوم أن الكوفة جوار المدائن، وقد كان يطمع خميني إيران في الكوفة والبصرة، وكان يقول: هذه بلادنا الأصلية.
[أنه قال: (أشهد على أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده)].
فالذكر هنا بمعنى دراسة العلم، وأهل السنة لهم منهج في موضوع الذكر، فالذكر في القرآن والسنة يعني: الاستغفار والتسبيح والتدبر في آلاء الله عز وجل، أو قراءة القرآن ودراسته، وقراءة السنة ودراستها وغير ذلك من علوم الشرع.
أما الدروشة والتمايل يمنة ويسرة وغير ذلك من هذه الأذكار المبتدعة التي أتى بها الصوفية فليست من دين الله لا من قريب ولا من بعيد.
[وحدثنيه زهير بن حرب - أبو خيثمة النسائي نزيل بغداد- قال: حدثنا عبد الرحمن].
وزهير بن حرب أبو خيثمة النسائي.
يعني: من بلد اسمها نسا.
والنسبة إليها نسائي وهي في أعالي العراق من جهة فارس.
وزهير بن حرب هو أبو خيثمة النسائي نزيل بغداد، وعبد الرحمن إمام بغداد في زمانه هو عبد الرحمن بن مهدي، وزهير بن حرب معروف بالرواية عن ابن مهدي.(47/10)
شرح حديث أبي سعيد في مباهاة الله ملائكته بعباده الذاكرين
قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا مرحوم بن عبد العزيز عن أبي نعامة السعدي عن أبي عثمان]، وأبو عثمان من المخضرمين، أبو عثمان النهدي اسمه عبد الرحمن بن مل.
[عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه -وهو سعد بن مالك بن سنان - قال: (خرج معاوية على حلقة في المسجد)] أي: خرج معاوية بن أبي سفيان على حلقة في المسجد قد اجتمعوا، [(فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله.
قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟)] يعني: أستحلفكم بالله ما جلستم إلا لهذا الغرض أي: لذكر الله تعالى.
[(قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك.
قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم)].
يعني: أنا ما طلبت منكم أن تحلفوا اتهاماً لكم.
[(وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل عنه حديثاً مني)]، هذا فيه إثبات عظم صحبة معاوية رضي الله عنه للنبي عليه الصلاة والسلام، وأنه من جملة الصحابة، بل إن معاوية كان من كتبة الوحي للنبي عليه الصلاة والسلام، وهو بالمنزلة العظمى والمكانة الأسمى والمنزلة العظيمة في الدين وكذلك في الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
والأصل في الخلاف الذي دار بين الصحابة أنه يطوى ولا يروى، وإذا روي يروى بين الخاصة مع الكراهة فلا يروى على العامة كما فعله أخونا طارق السويدان لما تكلم عن التاريخ الإسلامي ذكر الفتنة التي دارت بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، ولم يكن موفقاًَ في ذلك، فضلاً أن طارق السويدان إنما يميل إلى التشيع.
أردت التنبيه بذلك لما أعلمه عنه من إنحراف عن عقيدة السلف، ومن خلط في مسائل التاريخ الإسلامي وغيره من المسائل، بل قد قال أكثر من ذلك صراحة لما قلت له: إن الشيعة يخالفون أهل السنة في أصول المعتقدات فكيف تدعو إلى التقريب بين أهل السنة والشيعة؟ قال: إذا كان الشيعة قد أخطئوا فيما ذكرت فإن عند أهل السنة من الخطأ أعظم مما عند الشيعة.
وهذا الكلام لا يخرج إلا من إنسان قد فقد عقله، ولم يعرف عن أهل السنة ولا عن عقيدتهم شيئاً، وغير ذلك من الكلام الكثير، وقد التقيت به في الكويت في شهر أغسطس الماضي.
وهو على أية حال متشدد جداً لجماعته وجماعته لا يفرقون بين هذه العقائد الفاسدة وبين عقيدة أهل السنة والجماعة في الغالب.
قال: [(وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام، ومن به علينا)] أي: نشكره على هدايته إيانا للإسلام والإيمان.
قال: [(آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك.
قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة)].
انظروا إلى فضيلة طلب العلم وذكر الله عز وجل.
يعني: الواحد منا يحتقر نفسه، ولا بد له أن يحتقر نفسه؛ لأننا في حقيقة الأمر لسنا على شيء، ولكن هو من باب التحدث بنعمة الله عز وجل أن هدانا للإسلام، وأن عصمنا بالإسلام والسنة، وهو السبيل الأوحد والصراط المستقيم، وإن كان فينا عيب وتقصير ونقص وخلط في الأعمال والسلوك، لكن حسبنا أن الله هدانا وبين لنا الطريق، وأضل غيرنا وربما هداهم للإسلام ولكنه لم يمن عليهم بطريقة سليمة صحيحة في الإسلام.
ولذلك يقول ميمون بن مهران وغيره من أهل العلم من التابعين: لا ندري أي النعمتين علينا أعظم، أن هدانا الله للإسلام أم عصمنا في الإسلام بسنة وسبيل.
يعني: الواحد لما يكون مسلماً على نهج النبوة وأهل السنة والجماعة بخلاف أن يكون مسلماً شيعياً أو رافضياً أو قدرياً أو معتزلياً أو أشعرياً أو غير ذلك من هذه الانحرافات الضالة عن عقيدة أهل السنة والجماعة.
أما أن يكون مسلماً منحرفاً أو كافراً كفراً بواحاً، فبعض الشر أهون من بعضه كما يقول ابن تيمية وغيره من أهل العلم.
لكن فضل الله عز وجل عظيم جداً أن هداك للإسلام أو أنبتك في بيئة إسلامية، وأن هداك من وسط هذه البيئة -التي لا تعرف من دين الله إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه- لمعرفة الطريق الحق.
قال: (ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة) فتصور أن الله تعالى يباهي ويفاخر بنا ملائكة السماء، مع أن هؤلاء الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فهم مفطورون على التكبير والتسبيح والتهليل والذكر وغير ذلك، لم يقترفوا معصية قط، وليست المعصية طريقهم، ومع هذا فالله تعالى لا يباهي بنا العصاة، ولا يباهي بنا الكفار، ولا يباهي بنا من انشغل أو غفل عن الذكر، وإنما يباهي بنا من كانت حياته من أولها إلى آخرها ذكر وتسبيح لله عز وجل.
ولذلك ا(47/11)
باب استحباب الاستغفار والإكثار منه
قال: (باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه) الاستغفار أن تقول: أستغفر الله.
أي: أطلب مغفرتك يا رب! لما قد بدر مني من معاص وذنوب وهفوات وغفوات، وغفلات وانشغالات عن ذكرك وطاعتك.(47/12)
شرح حديث: (وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة)
قال: [حدثنا يحيى بن يحيى وقتيبة وأبو الربيع جميعاً عن حماد بن زيد عن ثابت بن أسلم البناني عن أبي بردة الأشعري عن الأغر المزني -وكانت له صحبة- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنه ليغان على قلبي)] أي: يغشى قلبي ويعلو قلبي، ويفتر قلبي، (وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة)].
وفي رواية: (وإني لأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة) وليس بين الروايتين تعارض؛ لأن الذي يستغفره أكثر من سبعين مرة لا يمنع أن تكون هذه الكثرة مائة مرة، فالجمع بين الروايتين: أنه لا يمنع أن تكون الكثرة قد بلغت مائة مرة.
وقيل: إن سبب هذا الغين هو اشتغاله بالنظر في مصالح أمته وأمورهم، ومحاربة العدو ومداراته، وتأليف المؤلفة قلوبهم، ونحو ذلك، فيشتغل بذلك من عظيم مقامه، فيراه ذنباً بالنسبة إلى عظيم منزلته.
مثلما تقول الصوفية وإن كان كلاماً يحتمل: حسنات الأبرار سيئات المقربين.
يعني: الذي أعمله أنا وأنت هذا بالنسبة للمقربين سيئات وليس بحسنات، لأنهم يعبدون الله بمنتهى الشفافية.
ولذلك أنس رضي الله عنه يخاطب تابعي أهل البصرة، يخاطب الحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وقتادة، وعبد العزيز بن صهيب، وغيرهم من أئمة البصرة، يقول: إنكم لتعملون أعمالاً ترونها أدق من الشعرة كنا نعدها على عهد النبي عليه الصلاة والسلام من الكبائر.
أنس رضي الله عنه يقول هذا الكلام للحسن البصري الذي علم الأمة كلها الزهد، وقتادة الذي ضرب في الزهد بأعظم باع، فإذا كان هؤلاء بهذا الوصف، فماذا سيكون حالنا؟! (والنبي عليه الصلاة والسلام كان إذا دخل الخلاء قال: أعوذ بك من الخبث والخبائث، وإذا خرج قال: غفرانك).
ومعنى (غفرانك) أنه انقطع عن الذكر في أثناء وجوده في الخلاء؛ لأن هذا المقام لا يتناسب مع ذكر الله، فانقطع ذكره لله على قدر بقائه في الكنيف أو في الحمام أو في الخلاء، فاستغفر ربه بعد خروجه من الحمام لما فرط وقصر من استغفار وذكر وتلاوة.
ولما نرى حالنا نجد أن الواحد يدخل في الصلاة التي هي أصل الذكر ويخرج منها كما دخل.
فالأوقات التي جعلت للذكر لا نذكر الله فيها إلا قليلاً، أما أوقات السلف رضي الله عنهم فقد كانت كلها لله عز وجل، وأما حياة الأنبياء فأسطورة في ذكر الله عز وجل، لا يمكن لأحد قط أن يصل إلى ما وصلوا إليه.
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يريد أن يسابق أبا بكر في ذكر الله عز وجل وفي الطاعات وأعمال الخير، فعجز أن يساويه في منزلته، فقال: والله يا أبا بكر! لا أسابقك إلى خير قط، فما سابقتك إلا سبقتني.
يعني: عمر عرف قدره، مع أنه كان إذا ذكر ذكر العدل كله، كان علامة على العدل، وعلامة على الفتوحات، وعلامة على انتصار الإسلام، وعلامة على الصبر، وعلامة على الحلم، وعلامة على كل مكارم الأخلاق.
وعمر رضي الله عنه يقول له: ليتني شعرة في صدرك يا أبا بكر! وهذا من أدب عمر رضي الله عنه، فقد تربى بتربية النبي عليه الصلاة والسلام.
وإذا كان يغان على قلبه عليه الصلاة والسلام لانشغاله بمصالح المسلمين، وقتاله في غزوة بدر وغزوة أحد وخيبر والخندق وغيرها من الغزوات، فينشغل في أثناء الجهاد عن ذكر الله بلسانه وقلبه، لكنه دائماً في طاعة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول هذا الكلام فقط من أجل أن يعلم الأمة الأدب، ويربيها أحسن تربية، يقول لهم: أنا في أثناء انشغالي في مصالح الأمة كذلك أنسى أو يذهب عن خاطري أن أذكر الله تعالى بلساني وقلبي، مع أنه ما انشغل قط صلى الله عليه وسلم عن ذكر ربه.
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إن عيني تنامان ولا ينام قلبي).
يعني: حتى في لحظة النوم أو في وقت النوم قلبه يذكر الله عز وجل.
إذاً: لا يمكن أن ينشغل في أثناء يقظة عينيه عن ذكر الله تعالى، فكيف بالجهاد وقتال العدو والدفاع عن دين الله، فلا يقال عنه: انشغل عن طاعة الله أو عن ذكر الله، وإنما أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يعلم الأمة كيف تتربى وكيف تتعامل مع ربها.
وعائشة رضي الله عنها استغربت اجتهاد النبي عليه الصلاة والسلام في طاعة ربه، وقيامه حتى تورمت قدماه، فقالت له: (رفقاً بك يا رسول الله! إن الله تعالى قد غفر لك من ذنبك ما تقدم وما تأخر) مع أنه أول من تنشق عنه الأرض، ولا يدخل أحد الجنة إلا بعد دخوله.
وعددت من مناقبه عليه الصلاة والسلام، وهو يسمع، ثم قال لها: (أفلا أكون عبداً شكورا).
وهذا يدل على أن عبادته لله كانت عبادة شكر وليس عبادة إلزام كحالي أنا وأنت، نحن نعبد(47/13)
الحث على المسارعة في التوبة
[حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا غندر عن شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي بردة قال: سمعت الأغر وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحدث ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس! توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة)].
قال: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه)] وهذه التوبة يسميها العلماء: التوبة العامة؛ لأن التوبة توبة خاصة وتوبة عامة، التوبة الخاصة توبة تخص كل إنسان على حدة، وهذه تنقطع بالغرغرة، (إن الله يقبل التوبة عن عبده ما لم يغرغر).
أما التوبة العامة فبابها مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها، وهذه من علامات الساعة الكبرى، فحنيئذ {لا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158].
ولذلك التوبة العامة بابها يغلق بطلوع الشمس من المغرب، حتى لو تاب الإنسان وآمن في ذلك الوقت فهذا لا ينفع، كما لم ينفع إيمان فرعون قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] لا يا عدو الله، في هذه اللحظة لن تنفعك التوبة؛ لأن هذه لحظة الغرغرة ولحظة الموت، وهذه التوبة الخاصة التي أغلقت دونك.
إذاً: كل إنسان له توبة، وتوبته قبل الغرغرة، إذا أيقن بالهلاك، ورأى مقعده من الجنة ومقعده من النار أغلق باب التوبة، أما باب التوبة العامة فهو لكل الأمة ولجميع الخلائق وإنما يكون مردها ومآلها إلى أحد أشراط الساعة وهو طلوع الشمس من المغرب.
أما قوله: (يا أيها الناس! توبوا إلى الله فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة) قال العلماء: للتوبة ثلاثة شروط: أن يقلع عن المعصية، وأن يندم على فعلها، وأن يعزم عزماً جازماً ألا يعود إليها، أو إلى مثلها أبداً.
هذا بالنسبة لتوبة العبد في حقوق الله عز وجل.(47/14)
شرح صحيح مسلم - كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - باب استحباب خفض الصوت بالذكر - التعوذ من شر الفتن
لقد شرع سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين عبادته ومناجاته والتقرب إليه بالذكر والدعاء، فالدعاء هو العبادة، وما من باب من الأبواب العبودية والحياتية إلا وله ذكر مخصوص، أو دعاء يناسب مقامه، وما ذاك إلا من عناية الشارع بما يصل بين العبد وربه في سائر أحواله، وفق آداب معلومة، وصفات شرعية محفوظة.(48/1)
باب استحباب خفض الصوت بالذكر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فمع الباب الثالث عشر من كتاب الذكر والدعاء: قال الإمام النووي: (باب استحباب خفض الصوت بالذكر).
أي: باب استحباب إذا ذكر أحد ربه أن يخفض صوته بالذكر؛ لأن الله تبارك وتعالى سميع عليم.(48/2)
شرح حديث: (أيها الناس! أربعوا على أنفسكم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن فضيل وأبو معاوية -وهو محمد بن خازم الضرير، بالخاء المعجمة الموحدة- عن عاصم -وهو ابن سليمان الأحول - عن أبي عثمان] وهو عبد الرحمن بن مل النهدي، سكن الكوفة ثم البصرة، وهو مخضرم، ومعنى مخضرم: أنه أسلم في حياة النبي عليه الصلاة والسلام ولم يره، لكن عبد الرحمن بن مل أعظم من ذلك بدرجة، وهو أنه رحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي أثناء رحلته إلى المدينة توفي النبي عليه الصلاة والسلام، وما سمع بوفاته إلا بعد أن دخل المدينة، وهذه حسرة عظيمة جداً.
قال: [عن أبي موسى الأشعري -وهو عبد الله بن قيس - قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فجعل الناس يجهرون بالتكبير)].
أي: يرفعون أصواتهم بالتكبير، وأنتم تعلمون أن السنة للراكب أو السنة للمسافر إذا صعد شرفاً -مكاناً عالياً- أن يقول: الله أكبر، وإذا نزل أن يقول: (سبحان ربي الأعلى).
وهذه سنة ثابتة.
وأدلتها في الصحيحين وغيرهما.
فلو صعدت ثنية أو شرفاً أو مكاناً مرتفعاً أو كبري أو غير ذلك ففي أثناء صعودك سواء كنت راكباً أو ماشياً فقل: الله أكبر، وإذا نزلت فقل: سبحان ربي الأعلى، ولو كنت غير مسافر.
قال: [(فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أيها الناس! أربعوا على أنفسكم -أي: رفقوا بأنفسكم ولا تكلفوها فوق طاقتها- إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً)].
أي: مهما أسررتم وأخفيتم الذكر والتكبير فإن الله تعالى يسمعه ويعلمه.
قال: [(إنكم تدعون سميعاً قريباً وهو معكم)].
وفي ذلك إثبات السمع لله عز وجل، كما أن من أسماء الله عز وجل: القريب، فهو أقرب إلى أحدنا من خطام ناقته، ومن حبل الوريد الذي هو داخل في تكوين الإنسان، فالله تعالى أقرب إلى العبد من كل شيء، والله تعالى أقرب من كل قريب من عباده سبحانه وتعالى.
قال أبو موسى الأشعري: [(وأنا خلف النبي عليه الصلاة والسلام أقول: لا حول ولا قوة إلا بالله)].
أي: لما كان الصحابة رضي الله عنهم مشغولين بالتكبير عند ارتفاعهم أو صعودهم شرفاً أو ثنية أو غير ذلك كان أبو موسى خلف النبي عليه الصلاة والسلام يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: [(يا عبد الله بن قيس! -وهو أبو موسى الأشعري - ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ فقلت: بلى يا رسول الله! قال: قل: لا حول ولا قوة إلا بالله)].
مع أنه كان يقولها، لكن هذا تأكيد لأهمية هذا القول.
أعني: الحوقلة كما يسميها الفقهاء، فيريد النبي عليه الصلاة والسلام أن يبين لـ أبي موسى قيمة ما يقول، وفضل ما يقول، وأن هذه الكلمة كنز من كنوز الجنة، وأنتم تعلمون أن الكنز هو ما يخزنه صاحبه لعظيم قيمته، وهذا إذا كان متاعاً من أمتعة الدنيا، فما بالكم بكنوز الآخرة، بل بكنوز الجنة على جهة الخصوص؟! فلا حول ولا قوة إلا بالله إنما هي كنز من كنوز الجنة، بل ثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يكثر من هذا القول في ليله ونهاره، وكان دائماً ما يُسمع النبي عليه الصلاة والسلام مستغفراً أو تائباً أو محوقلاً.(48/3)
كلام النووي في شرح حديث: (أيها الناس أربعوا على أنفسكم)
يقول الإمام النووي عليه رحمة الله: معنى: (أربعوا).
أي: ارفقوا بأنفسكم واخفضوا أصواتكم، فإن رفع الصوت إنما يفعله الإنسان لبعد من يخاطبه ليسمعه.
يعني: أن الإنسان يضطر إلى رفع صوته حتى يسمعه من يخاطبه.
ثم قال: وأنتم تدعون الله تعالى وليس هو بأصم ولا غائب -وليس ببعيد عنكم- بل هو سميع قريب، وهو معكم بالعلم والإحاطة.
وقول النووي: وهو معكم بالعلم والإحاطة، هذا القول منه رحمه الله تعالى عض عليه بالنواجذ؛ لأنه رحمه الله في الغالب يؤول أو ينقل قول المتأولة من الأشاعرة ثم لا ينكره، بينما في هذا القول وافق منهج أهل السنة وبعض أهل العلم ينسب النووي لمذهب الأشاعرة وليس كذلك، بل الإمام النووي لم يتأهل جيداً لمسائل الاعتقاد، ولذلك أحياناً ينقل كلام السلف ويستحسنه، وأحياناً ينقل كلام الخلف ويسكت، وأحياناً ينكر، وقلما ينكر.
فهنا في المعية نقل كلام أهل العلم من السلف والصحابة وغيرهم بأن معية الله عز وجل لعباده إنما هي معية سمع وعلم وإحاطة وغير ذلك، أما معية الذات فلم يقل بها إلا الخلف؛ لأن السلف إنما يثبتون لله عز وجل الفوقية والعلو، فالله تبارك وتعالى استوى على العرش.
ومعنى استوى: علا وارتفع.
فالله تبارك وتعالى ينزل في ثلث الليل الآخر، أو إذا بقي ثلث الليل الآخر فينادي عباده، ونزوله سبحانه للسماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله وكماله، والسلف يعتقدون أن نزول الرب تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا لا يستلزم خلو العرش منه، كما أنه لا يستلزم الانتقال والحركة؛ لأن النزول في حق الرب تبارك وتعالى يختلف عن النزول في حق المخلوقين، فإذا نزل أحدنا من الدور الثاني إلى الدور الأول فإنما هذا نزول يعرفه البشر، كما أنه يستلزم خلو المكان الأول منه، ويستلزم الانتقال والحركة، وكل هذا في قوانين البشر معقول، أما في القانون السماوي الإلهي وفيما يتعلق بالذات العلية فإنه لم يقل بذلك أحد من السلف رضي الله عنهم أجمعين.(48/4)
ذكر بعض طرق حديث: (أربعوا على أنفسكم)
قال: [حدثنا ابن نمير -وهو محمد بن عبد الله بن نمير - وإسحاق بن إبراهيم -المعروف بـ ابن راهويه - وأبو سعيد الأشج جميعاً عن حفص بن غياث، عن عاصم -وهو الأحول- بهذا الإسناد، نحوه.
أي: عن عاصم، عن أبي عثمان، عن أبي موسى بمثل الحديث السابق.
حدثنا أبو كامل -وهو فضيل بن حسين الجحدري - حدثنا يزيد بن زريع].
وهو إمام أهل البصرة في زمانه، قال الإمام أحمد: هو ثقة ثقة، شرف أهل البصرة، لم تنجب البصرة في زمانه أفضل منه.
[قال: حدثنا التيمي].
التيمي يطلق على سليمان بن طرخان التيمي، ويطلق على ولده المعتمر، لكن عند إطلاق التيمي فيطلق على الأب سليمان، وخاصة إذا كان في طبقة التابعين أو تابعي التابعين.
قال: [حدثنا سليمان التيمي عن أبي عثمان -وهو النهدي - عن أبي موسى الأشعري: (أنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يصعدون في ثنية -أي: في مكان مرتفع في الجبل- فجعل رجل كلما علا ثنية نادى: لا إله إلا الله والله أكبر)]، يقدم كلمة التوحيد ثم يثني بالتكبير، والله تبارك وتعالى واحد أحد، وهو الكبير المتعال سبحانه وتعالى، فهذا الرجل كلما صعد ثنية وحد الله تعالى وناداه باسم من أسمائه سبحانه وتعالى، فقال: الله أكبر، أو والله أكبر.
قال: [(فجعل نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنكم لا تنادون أصم ولا غائباً)].
أي: لا تدعون أصم ولا غائباً، فلا تكلفوا أنفسكم رفع الصوت، وإنما يكفيكم أن تذكروا الله تبارك وتعالى ولو بصوت يسمعه من قرب منكم من صاحبه، فلا داعي أن تشقوا على أنفسكم بالنداء ورفع الصوت.
قال: [فقال: (يا أبا موسى! -أو يا عبد الله بن قيس! - ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة؟ قلت: ما هي يا رسول الله؟ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله).(48/5)
معنى حديث: (فإن الله خلق آدم على صورته)
وحدثناه محمد بن عبد الأعلى، حدثنا المعتمر عن أبيه -وهو سليمان التيمي - حدثنا أبو عثمان، عن أبي موسى قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فذكر نحوه].
وأنتم تعلمون أن قول الراوي: (نحوه) يختلف عن قوله: (مثله).
إذ إن المثلية تستلزم المطابقة، وأما النحوية فتستلزم أن تكون هذه الرواية بمعنى الرواية السابقة، وذلك كقولنا: فلان مثل فلان في الكرم.
فلا يلزم منه أن تكون المثلية في كل شيء.
وكما في الحديث في الصحيحين: (لا تضربوا الوجه ولا تقبحوه، فإن الله خلق آدم على صورته).
وفي رواية خارج الصحيحين: (فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن) فيها إشكال.
يعني: أن ربنا شابه آدم! وقوله: (لا تضرب الوجه ولا تقبح، فإن الله خلق آدم) كلام موجه لـ معاوية بن الحكم السلمي لما لطم جاريته، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تضرب الوجه ولا تقبح، فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن).
وأضعف الأقوال في معنى هذا الحديث: أن الإضافة هنا إضافة تشريف، لكن في الحقيقة فيها شبهة تشبيه كذلك.
أي: تشبيه الله عز وجل بآدم.
وأقوى قول لأهل العلم في هذه المسألة كقول النبي عليه الصلاة والسلام: (هل ترون القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس في رابعة النهار، أو كما ترون القمر في ليلة البدر ليس دونها سحاب).
فهنا تشبيه الرؤية بالرؤية لا المرئي بالمرئي.
يعني: مثلما ترون الآن القمر ليس دونه سحاب أو ضباب أو إشكاليات تمنعكم من رؤية القمر فإنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، وسترون ربكم تماماً كما ترون هذه الشمس.
يعني: ليس فيه أي غبش يمنعكم من رؤية الله عز وجل، ولا يحصل لكم ضيم ولا وهم ولا شك ولا ريب ولا غير ذلك.
إذاً: هذا تشبيه الرؤية بالرؤية.
أما أن تقول: إن الحديث يستلزم أن الله تعالى شبه القمر أو شبه الشمس فلا؛ لأنه سيكون عندئذ تشبيه المرئي بالمرئي، وليس مقصوداً في الروايات، وإنما المقصود أنكم كما ترون القمر صحواً جميلاً مدوراً نيراً لا يمنعكم من رؤيته غيم ولا ضباب ولا شيء من هذا، فكذلك لا يمنعكم من رؤية الله عز وجل شيء.
أما قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله خلق آدم على صورته)، فاختلف أهل العلم في عود الضمير، فقالوا: (الهاء) في (صورته) يعود على المضروب، فإن الله خلق آدم على صورة المضروب.
والكلام هذا لا تساعده الأدلة النقلية ولا كلام العرب؛ لأن المشبه إنما يلحق بالمشبه به غالباً، ولا يلحق المشبه به بالمشبه.
يعني: لما أقول: إن الله خلق آدم على صورته.
وأقول: إن الضمير يعود على المضروب، فهذا الكلام لغة لا يستقيم، مثل أن أقول: إن هذا الرجل يشبه ابنه، أو هذا الولد يشبه أباه، لكن لا يصح أن أقول للأخ الكبير: أنت تشبه أخاك الصغير الذي هو أصغر منك بعشر سنوات، فضلاً أن يكون ذلك في الأب، وآدم أبو البشر، فلما أشبه آدم بأحد لا يصح، لكن ممكن أشبه الناس بآدم؛ لأنه الناس من آدم، وآدم هو أبو البشر.
وقال بعض أهل العلم من المحققين من السلف: إن لله تبارك وتعالى ذات، وهذه الذات موصوفة بصفات، فإذا كانت ذات لها صفات فلا بد أن تكون لها صورة، والله تبارك وتعالى خلق الخلق على صور كما أنه سبحانه وتعالى ذات له صورة، وصورة المولى تبارك وتعالى لا يعلم كيفيتها إلا هو سبحانه، أما صور المخلوقين فمعلومة، فهذا تشبيه الصورة بالصورة.
بمعنى: كما أن لله تعالى ذات فله صورة وكذلك مخلوقاته عبارة عن صور وذوات، فهذا تشبيه لصورة بصورة، لا تشبيه للمصور بالمصور، ولا تشبيه للعبد بالخالق تبارك وتعالى.
إذاً: كما أن لله تعالى ذاتاً موصوفة بصفات ولها صورة، فكذلك آدم أبو البشر له ذات لها صفات ولها صورة، فهنا في هذا الحديث: إثبات الصورة لله عز وجل وإثبات الصورة للمخلوقين، لكن إثبات الصورة لله وللمخلوقين لا يستلزم المشابهة والمماثلة أبداً، بل يستحيل إثبات المماثلة والمشابهة في كل شيء بين الخالق وبين المخلوق.
إذاً: الذين تكلفوا رد حديث: (إن الله خلق آدم على صورة الرحمن) واكتفوا بذكر عود الضمير إلى آدم، إنما تكلفوا ما لا طاقة لهم به؛ لأن الحديث بلفظ: صورة الرحمن، صحيح بغير إشكال.
ثم ما الذي يمنعنا أن نؤمن بأن لله تعالى صورة كما آمنا بكل أسمائه وصفاته، وأن نفوض كيفية الصورة لله عز وجل، أما صورة المخلوقين فنحن نعرفها.(48/6)
لطيفة إسنادية في روايات حديث: (أربعوا على أنفسكم)
قال: [حدثنا خلف بن هشام وأبو الربيع -وهو سليمان بن داود العتكي - قالا: حدثنا حماد بن زيد عن أيوب -وهو أيوب بن أبي تميمة كيسان السختياني البصري - عن أبي عثمان، عن أبي موسى قال: (كنا مع النبي عليه الصلاة والسلام في سفر) فذكر نحو حديث عاصم].
من الذي ذكر؟ أنا لما أقول: روى فلان مثل فلان، أو نحو حديث فلان، إذاً لا بد أنه يكون هناك اختلاف في الإسناد، فمن الذي روى الحديث؟ أبو موسى الأشعري، والذي روى عن أبي موسى في كل الأسانيد التي مرت هو: أبو عثمان النهدي، وأبو عثمان النهدي مرة لقي عاصماً، ومرة لقي أيوب.
إذاً: لما يأتي هنا يذكر الحديث من طريق أيوب ويقول: فذكر نحو حديث عاصم، فالذي ذكر نحو حديث عاصم هو: أيوب.(48/7)
شرح حديث (والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)
قال: [وحدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي - ابن راهويه - أخبرنا الثقفي - وهو عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي - حدثنا خالد الحذاء].
وهو خالد بن مهران الحذاء، وقيل: الحذاء هو لقب له، ولقب بهذا لأنه كان يجالس الحذائين، مع أنه عالم كبير، وقد روى له الشيخان في صحيحيهما، ومع هذا كان عنده من التواضع ما يجعله يجالس الحذائين، وليس فقط كان يذهب مثلاً كل شهر مرة، بل ما لقب بهذا إلا لكونه كان يكثر من مجالسة الحذائين.
وقيل: هو نفسه كان حذاءً، وكان لا يقرأ ولا يكتب، فإذا اجتمع عليه طلاب العلم بعد الصلاة لقنهم العلم وهو يصلح النعل، لكن هذا الكلام ضعيف.
وأرجح الأقوال فيه: إما أنه كان يجالس الحذائين، أو أنه كان مشهوراً بقوله إذا سئل عن مسلك أو مشرب أو خلق أو عقيدة أو غير ذلك، كان ينصح السائل فيقول له: احذ حذو فلان.
سواء في الأخلاق، أو السلوك أو العقيدة أو غير ذلك.
قال: [عن أبي عثمان عن أبي موسى قال: (كنا مع رسول الله عليه الصلاة والسلام في غزاة).
فذكر الحديث -أي: ذكر الحديث السابق- وقال فيه: (والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)].
أي: إذا كان العبد أو الراكب لهذه الدابة يظن أن عنق الراحلة قريباً منه، فالله تبارك وتعالى أقرب إلى أحدنا من عنق راحلته.
[قال: وليس في حديثه ذكر: لا حول ولا قوة إلا بالله.
قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا النضر بن شميل، حدثنا عثمان بن غياث، حدثنا أبو عثمان، عن أبي موسى الأشعري قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أدلك على كلمة من كنوز الجنة -أو قال:- على كنز من كنوز الجنة؟ فقلت: بلى.
فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله)].
أي: هي كنز من كنوز الجنة.
ففي هذا الحديث الندب إلى خفض الصوت بالذكر، إذا لم تدعو حاجة إلى رفعه، فإنه إذا خفضه كان أبلغ في توقيره وتعظيمه.
أي: الذي يخفض صوته بذكر الله عز وجل أبلغ في تعظيم الله عز وجل وتوقيره وإجلاله، إلا إذا دعت الضرورة والحاجة، أو لم يتمكن الإنسان من خفض الصوت، فلا بأس أن يرفع بذلك صوته ولا حرج عليه، فخفض الصوت بالذكر مندوب وليس واجباً، فإذا دعت حاجة إلى الرفع رفع كما جاءت بذلك الروايات.
أما قوله: (والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)، فهو بمعنى ما سبق، ومعناه المجاز، كقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16].
أي: نحن أقرب إلى المحتضر من حبل الوريد الذي هو داخل في رقبته.
والمراد: تحقيق سماع الدعاء.
فالله تبارك وتعالى يعلم السر وأخفى، بل يعلم السر الذي يسره الإنسان لأخيه، ويعلم كذلك ما تحدث به نفس الإنسان قبل أن يتكلم به مع أي أحد، بل قبل أن يجهر به مع نفسه، فالله تبارك وتعالى يعلمه، بل ويعلم ما هو أخفى من ذلك، يعلم الذي سيفكر فيه العبد، والذي سيعمله العبد، ومصير العبد بين يديه سبحانه وتعالى، فإذا كان الله تعالى يعلم كل ذلك، الحاصل منه وغير الحاصل، الماضي منه والمستقبل، الذي يسره الإنسان والذي يجهر به، الذي لم يفكر فيه الإنسان أصلاً، فهذا يحقق أن الله تعالى أقرب إلى أحدنا من حبل الوريد، وهو تحقيق سماع الدعاء.(48/8)
معنى قوله: (لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة)
أما قوله: (لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة).
قال العلماء: سبب ذلك أنها كلمة استسلام وانقياد وإذعان لله عز وجل.
ومعناها: لا حول ولا حيلة ولا طاقة لنا في فعل شيء أو ترك شيء أو إتيان طاعة أو الوقوع في معصية إلا بإذن الله تعالى، وأنتم تعلمون أن الخير والشر من الله تعالى، أما الخير فإنه إرادة الله تعالى الشرعية التي مبناها على المحبة والرضا، وأما الشر فإنه لا يقع في الكون إلا ما أراد الله عز وجل، إرادة شرعية دينية، أو إرادة كونية قدرية، فالشر وإن لم يكن من شرع الله عز وجل ولا واقعاً تحت مرضات الله عز وجل، لكن العبد لا يمكن له أن يأتي بعمل إلا إذا أذن الله تبارك وتعالى فيه من جهة الخلق والإيجاد.
قال العلماء: سبب ذلك: أنها كلمة استسلام وتفويض إلى الله تعالى.
يعني: تفويض الأمر إلى الله عز وجل، كما في قوله تعالى: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي} [غافر:44]، حتى لا تظنوا أن هذا من باب التفويض المذموم الذي هو صرف النص عن ظاهره فيما يتعلق بصفات الله عز وجل.
قال: واعتراف بالإذعان له، وأنه لا صانع غيره، ولا راد لقضائه وأمره، وأن العبد لا يملك شيئاً من الأمر.
ومعنى الكنز: أنه ثواب مدخر في الجنة، وهو ثواب نفيس كما أن الكنز هو أنفس أموالكم.
قال أهل اللغة: الحول: الحركة والحيلة.
أي: لا حركة لنا ولا استطاعة لنا ولا حيلة لنا إلا بمشيئة الله تعالى.
وقيل: معناه: لا حول في دفع شر ولا قوة في تحصيل خير إلا بالله تعالى.
وقيل: لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله للعبد، ولا قوة للعبد على طاعة الله إلا بمعونته سبحانه وتعالى.
وحكي هذا عن ابن مسعود رضي الله عنه وكله متقارب.
يعني: كل هذه المعاني والتفسيرات متقاربة المعنى كما قال أهل اللغة.
ويعبر عن هذه الكلمة بالحوقلة والحولقة.(48/9)
شرح حديث أبي بكر: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً)
قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد الثقفي، حدثنا ليث -وهو الليث بن سعد المصري - ح وحدثنا محمد بن رمح، أخبرنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب -وهو المصري- عن أبي الخير -وهو مرثد بن عبد الله اليزني - عن عبد الله بن عمرو، عن أبي بكر رضي الله عنهما].
وهنا نقطة عظيمة وهي: مدى حرص الصديق على الخير، إذ يطلب من النبي عليه الصلاة والسلام -وهو من هو في المكانة والإمامة والمنزلة- أن يعلمه دعاءً، أو كلاماً يدعو به في صلاته، [فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كبيرا -وفي رواية: كثيراً- ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم)].
إذا العبد يقول هذا الكلام في صلاته، فياحبذا لو كان ذلك في سجوده؛ (لأن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.
قال: فأكثروا فيه الدعا)؛ لأن السجود هو حالة من العبد يبرهن بها عن مزيد ذله وخضوعه لله عز وجل، إذ إنه يأتي بهامته التي هي أعلى شيء وأشرف شيء في بدن الإنسان فيضعها في الوحل والتراب والرغام لله عز وجل من جهة الحب أو على جهة الحب والعبادة والقرب، فإذا كان العبد يحقق هذا لله عز وجل، فياحبذا لو أنه دعا بدعاء بين يدي الله عز وجل في هذا الموطن وافتقر إلى الله تعالى على نحو قوله: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم).
وفيها: إثبات أن الله تبارك وتعالى غفور رحيم، كما أن فيها صحة مناسبة ذكر هذه الأسماء مع الدعاء، فمثلاً لا يقول العبد: اغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك العزيز القوي المنتقم الجبار.
لا يصلح هذا الكلام، وإنما يصلح أن يسم الله تبارك وتعالى بأسماء تتناسب مع أصل الدعاء.
فمثلاً: لا يصح أن يقول أحدهم: اللهم انتقم من فلان الذي ظلمني إنك أنت الغفور الرحيم.
كيف يتناسب هذا مع هذا؟! إذاً: أنت تذكر من أسماء الله تعالى ما يتناسب مع أصل الدعاء، قال: (إنك أنت الغفور الرحيم)(48/10)
لطيفة إسنادية في حديث (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً)
قال: [وحدثنيه أبو الطاهر، أخبرنا عبد الله بن وهب، أخبرني رجل سماه].
إذاً: الإسناد هذا ضعيف؛ لأن عبد الله بن وهب لما سمى الرجل لم نعرفه نحن، وجهالة الراوي سبب في ضعف الإسناد.
فمثلاً: عندما أقول لك: أخبرني فلان من الناس، ستقول: لا يصح ذلك؛ لأن فلاناً قد يكون ضعيفاً، وفي هذه الحالة إما أن نسميه وبعد تسميته وتحديد عينه يعرف بالتوثيق، وإلا فإن الإسناد ضعيف للجهالة.
أي: جهالة الراوي، وهذا ليس انقطاعاً، إذ الجهالة تختلف عن الانقطاع.
قال: [أخبرنا عبد الله بن وهب، أخبرني رجل سماه، وعمرو بن الحارث].
إذاً عمرو بن الحارث متابع لرجل مجهول، وبالتالي لابد أن أنظر في ترجمة عمرو بن الحارث، هل هو ثقة أو ليس بثقة؟ فإن كان ثقة فأنا أعتبر هذا الرجل المجهول كأنه لم يكن؛ لأن عمرو بن الحارث يحل محله، فسواء ذكر اسمه أو لم يذكر اسمه.
فجهالة الراوي في كل طبقات الإسناد تضر بثبوت الإسناد، وتضر بثبوت الحديث ويكون ضعيفاً، إلا في طبقة واحدة وهي طبقة الصحابة، كأن يقول التابعي: حدثني رجل من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، فإن ذلك لا يضر؛ لأن الصحابة كلهم عدول رضي الله عنهم.
قال: [أخبرني رجل سماه، وعمرو بن الحارث].
وكلاهما في طبقة واحدة، فيغني عن المجهول المعلوم، وهو عمرو بن الحارث، وهو ثقة.(48/11)
تواضع الصديق رضي الله عنه في طلب العلم
قال: [عن يزيد بن أبي حبيب المصري، عن أبي الخير أنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: (إن أبا بكر الصديق قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: علمني يا رسول الله دعاءً أدعو به في صلاتي وفي بيتي)].
هذا الدعاء إما أن يحمل على أنه في الصلاة في المسجد -أي: في صلاة الفريضة- وفي بيته في صلاة النافلة، وإما أن يدل هذا الحديث على استحباب هذا الدعاء في الصلاة وفي غيرها، وأشد استحباباً أن يكون في الصلاة وفي البيت.
وانظروا إلى تواضع وأدب أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقد بلغ من السن ما بلغ، ومن المنزلة ما بلغ، ومع هذا يأتي بلغة صبي الكتاب بين يدي شيخه ويقول: (يا رسول الله! علمني).
ولم يستأنف ولم يستنكف عن طلب العلم، مع علو منزلته وعظيم شرفه، ومع ذلك فقد طلب من النبي عليه الصلاة والسلام في حضرة عبد الله بن عمرو بن العاص، وأنتم تعلمون أن عبد الله بن عمرو من صغار الصحابة، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه أكبر الصحابة، ولم يستنكف أبو بكر في هذا الموطن أن يقول أمام طفل من أطفال الصحابة: (يا رسول الله! علمني).
ما قال له: أنا والله كنت أريدك منفرداً حتى لا يعلم هذا الطفل الصغير، لا؛ لأنه لا يتعلم العلم مستح ولا متكبر، وهذا الأثر ذكره الإمام البخاري في كتاب العلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
فالعلم إنما يحول بينك وبينه الكبر والحياء؛ ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها: رحم الله نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين.
والمقصود: حياء المرأة الطبيعي الذي يجعل المرأة تستحي دائماً من كل شيء، وأن تسأل عن أي شيء، لكن نساء الأنصار بالذات علمن النساء المهاجرات أنه لا حياء في طلب العلم.
وهذا يرد به على القول المشهور المعروف: لا حياء في الدين.
فهذا القول خطأ.
والصواب: أن الدين كله حياء وصواب ذلك: أنه لا حياء في الطلب؛ لأن الحياء في الطلب ليس حياءً حقيقياً، وإنما هو عجز وضعف، فالحياء كل الحياء أن تطلب العلم، وتستحي من نفسك وأنت جاهل.
قال: [(إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال لرسول الله عليه الصلاة والسلام: علمني يا رسول الله دعاءً أدعو به في صلاتي وفي بيتي).
ثم ذكر بمثل حديث الليث، غير أنه قال: (ظلماً كثيراً)].
ومعظم الروايات التي روي بها هذا الحديث إنما أفادت لفظ: (كثيراً) بدل (كبيراً).(48/12)
باب التعوذ من شر الفتن وغيرها
الباب الرابع عشر: (باب التعوذ من شر الفتن وغيرها).
أي: من الفتن كلها، لكن التعوذ من شر الفتن أعظم من التعوذ من مجرد الفتنة.
يعني: مثل أن أقول: هناك شيء شر، وهناك شيء أشر منه.(48/13)
شرح حديث (اللهم فإني أعوذ بك من فتنة النار وعذاب النار)
وفي كتاب الصلاة وغيره: (بيان تعوذه عليه الصلاة والسلام من فتنة القبر)، وفتنة القبر هي فتنة منكر ونكير؛ لأن فتنة القبر غير عذاب القبر، ففتنة القبر إنما تكون حين سؤال الملكين للرجل، من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فإذا كان العبد من أهل الإيمان والعمل والتوحيد سدد ووفق وثبت في الإجابة عن هذا السؤال، قال: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد عليه الصلاة والسلام.
وإذا لم يكن العبد من أهل الإيمان والتوحيد ولم يكن عاملاً، بل كان عاصياً مستهتراً، أو كان جاحداً منكراً أو منافقاً أو كافراً قال: (لا أدري، وجدت الناس أو سمعت الناس يقولون: كذا فقلت كذا).
وفي رواية يقول: (ها ها لا أدري).
كالمشدوه الذي ظن أنه لا يقف هذا الموقف قط، فالمنكرين الآن لعذاب القبر وفتنة القبر، والمكذبين الآن لسؤال منكر ونكير لا بد أنهم سيفاجئون بذلك؛ لأنه لم يكن هذا في ظنهم في الدنيا، بل جحدوا ذلك وأنكروه، ولذا فإنهم سيفاجئون في قبورهم حين نزولهم وإغلاق القبر عليهم بمنكر ونكير، والذي قلما يثبت بأس المرء وقلب المرء أمام منظريهما، إلا من ثبته الله تعالى؛ ولذلك الصحابة رضي الله عنهم الذي بلغوا في العلم والفضل والتقوى والورع والمنزلة مبلغاً عظيماً جداً كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول إذا دفن أحدهم: (أدعو لأخيكم فإنه الآن يسأل).
لأنه أحوج ما يكون إلى الدعاء بالتثبيت، وهو في أمس الحاجة لدعاء إخوانه وهو يسمع قرع نعالهم في الخارج.
وهنا: إثبات استحباب الدعاء والقيام على القبر مدة من الزمان تكفي لنحر جزور وسلخه وتوزيع لحمه أو تفريق لحمه، وهذه المدة التي يبقى فيها منكر ونكير مع هذا المقبور حديثاً.
أما عذاب القبر فإنما مثله كما مر النبي عليه الصلاة والسلام بقبرين فقال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بين الناس بالنميمة).
فهناك بعض الأعمال يعاقب الله عليها العبد في الدنيا، وبعضها يعاقب عليها في القبر، وهي الدار الثانية، وبعضها يعاقب عليها في الدار الآخرة سبحانه وتعالى.
وقد شرحنا الكلام هذا وقلنا: فيه خمسة عشر قولاً لأهل العلم، وأرجح الأقوال في قوله: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير).
أي: هذا العمل الذي يعذب المخلوق بسببه لم يكن شديداً ولا قاسياً عليه في الدنيا، إذ كان بإمكانه أن يحترز منه، لكنه لما فرط وأهمل عذب بسبب التفريط في قبره.
قال: (أما فتنة المسيح الدجال، فأنتم تعلمون أنه لن تكون فتنة أعظم منذ أن خلق الله تعالى آدم إلى قيام الساعة من فتنة المسيح الدجال، وقد تكلمنا عن المسيح مراراً وتكراراً بما يغني عن إعادته الآن.
قال: أما غسل الخطايا بالماء والثلج فهذا تشبيه المراد منه: شدة التنقية أو شدة النقاء، فتقول: اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد.
وكأن التقدير: اللهم اغسلني.
أي: اللهم اغسل لي خطاياي واجعلني نقياً نقاءً تاماً منها كما إذا غسل الثوب الأبيض بالماء أو الثلج أو البرد.
وفي تكملة الحديث: (ونق قلبي من الخطايا)، أي: اجعله طاهراً مطهراً كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، أي: من الوسخ.
وأهل القبور لا يفتنون بـ الدجال؛ لأن الدجال يبعث قبل قيام الساعة، وأن من مات لا يبعث إلا مع البعث العام، ولا يكون البعث إلا بعد موت الدجال، بل وموت الخلائق جميعاً حتى الملائكة، وأول من تنشق عنه الأرض هو النبي عليه الصلاة والسلام، على خلاف بينه وبين موسى عليه السلام.
والراجح: أن الأرض أول ما تنشق عن نبينا عليه الصلاة والسلام، فيجد موسى عليه السلام عند العرش فيقول النبي عليه الصلاة والسلام: (فلا أدري أصعق قبلي، أو أفاق من الصعقة قبلي؟).
لكن الراجح من أقوال المحققين: أن الأرض أول ما تنشق عن نبينا عليه الصلاة والسلام.
قال: [(ونق قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس)]، فانظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهو الذي يدعو بهذا الدعاء: [(اللهم اغسلني من ذنوبي بالماء والثلج والبرد، ونق قلبي من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس)]، وقلبه منقى عليه الصلاة والسلام، وقصة شق الصدر التي هي من معجزاته عليه الصلاة والسلام ليست بخافية عنا، فقد انتزع من قلبه حظ الشيطان وملئوه إيماناً، فليس فيه إلا الإيمان بالله تعالى، لكن النبي عليه الصلاة والسلام الذي كان يدعو بهذا الدعاء، ويستمر على هذا الدعاء إنما يتأدب مع ربه بإظهار الذل والخضوع والانكسار بين يديه سبحانه وتعالى.
كما أن من الفوائد في هذا الحديث: أن النبي عليه الصلاة والسلام لما كان هو القدوة والإسوة أراد أن يدعو بهذا الدعاء ليعلم الأمة كيف تدعو الله تعالى، فقال: [(وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب)].
فهنا مجاز أيضاً، وهو أن النبي عليه(48/14)
شرح الإمام النووي لحديث (اللهم فإني أعوذ بك من فتنة النار)
قال: (وأما الكسل: فهو عدم انبعاث النفس إلى الخير وقلة الرغبة مع إمكانه).
أي: هو ممكن أن يفعل الخير، لكن نفسه كسولة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من ذلك.
قال الخطابي: (إنما استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من الفقر الذي هو فقر النفس لا قلة المال.
قال القاضي: وقد تكون استعاذته من فقر المال والمراد الفتنة في عدم احتمال هذا المال وقلة الرضا به؛ ولذا قال: فتنة القبر، ولم يقل: الفقر، وقد جاءت أحاديث كثيرة في الصحيح بفضل الفقر).
قال: (وأما العجز فهو: عدم القدرة على إتيان الفعل.
وقيل: هو ترك ما يجب فعله والتسويف به، وكلاهما يستحب الاستعاذة منه).
وأما استعاذته عليه الصلاة والسلام من الهرم فالمراد به الاستعاذة من الرد إلى أرذل العمر.
أي: لو أن واحداً بلغ من العمر (60) أو (70) سنة، فإنه يستطيع أن يخدم نفسه، لكن في (80) أو (90) أو (100) يعجز حتى عن خدمة نفسه، فيحتاج إلى من يطعمه ويسقيه ويحمله ويقضي له حاجته وغير ذلك، وهذا بلا شك ثقل عظيم جداً، أسأل الله تعالى ألا يردنا وإياكم إلى أرذل العمر، قال: (وسبب ذلك ما فيه من الخرف واختلال العقل والحواس والضبط والفهم وتشويه بعض المناظر والعجز عن كثير من الطاعات والتساهل في بعضها.
قال: (وأما استعاذته من المغرم وهو الدين فقد فسره صلى الله عليه وسلم في الأحاديث السابقة في كتاب الصلاة أن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف.
أي: إذا كان الرجل مديناً فإنه إذا حدث كذب).
فيقول للدائن مثلاً: والله العظيم أنا لي فلوس عند فلان، فإذا أعطاني سأعطيك، وهو في الحقيقة ليس له عند فلان شيئاً، وربما إذا أتاه الدائن وطرق بابه قال لولده أخرج فقل له: أبي ليس موجوداً، فيخرج الابن فيقول له: أبي يقول لك: هو ليس في البيت! فالولد صادق لا يعرف الكذب، فهو ينقل الكلام حرفياً؛ لأنه ملتزم بالأمانة.
قال: (إن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف؛ ولأنه قد يمطل المدين صاحب الدين؛ ولأنه قد يشتغل به قلبه، وربما مات قبل وفائه فبقيت ذمته مرتهنة به) أي: بهذا الدين.
وأما استعاذته عليه الصلاة والسلام من الجبن والبخل فلما فيهما من التقصير عن أداء الواجبات، والقيام بحقوق الله تعالى، وإزالة المنكر، والإغلاظ على العصاة -لا يستطيع أن يفعل ذلك لأنه جبان- ولأنه بشجاعة النفس وقوتها المعتدلة تتم العبادات، ويقوم بنصر المظلوم والجهاد، وبالسلامة من البخل يقوم بحقوق المال وينبعث للإنفاق والجود ولمكارم الإخلاق، ويمتنع من الطمع فيما ليس له.
قال العلماء: (واستعاذته عليه الصلاة والسلام من هذه الأشياء كلها لتكمل صفاته في كل أحواله وشرعه أيضاً تعليماً).
أي: أنه قال ذلك من باب التعليم للأمة كي يدعون الله تعالى.
قال: (وفي هذه الأحاديث دليل لاستحباب الدعاء والاستعاذة من كل الأشياء المذكورة وما في معناها، وهذا هو الصحيح الذي أجمع عليه العلماء وأهل الفتاوى في الأمصار، وذهبت طائفة من الزهاد وأهل المعارف إلى أن ترك الدعاء أفضل؛ استسلاماً للقضاء).
وهذا تنطع لا يكون إلا من الزهاد، إذ إنه أحياناً تأخذهم غفلة الزهد أن يتكلموا بالحق، فيتكلمون بغيره ظناً منهم أنه دين، كما يقول الصوفية مثلاً: حمل المتاع في الأسفار قادح في التوحيد.
يعني: أنا ممكن أن أسافر من هنا إلى مكة من أجل أن أحج، وأوقن بأن الله تعالى سيطعمني ويسقيني في الطريق، وأنا راكب على دابتي فلماذا أمشي راجلاً؟ هل هذا دين؟! هم يقولون هذا.
كما يقولون: حمل الأزواد في الأسفار مخل بالتوكل! إذاً فأين الأخذ بالأسباب؟! قال: (وذهبت طائفة من الزهاد وأهل المعارف إلى أن ترك الدعاء أفضل؛ استسلاماً للقضاء).
مع أن الدعاء عبادة، وهو من قضاء الله تعالى وقدره، فكيف نتركه؟! (وقال آخرون منهم: إن دعا للمسلمين فحسن، وإن دعا لنفسه فالأولى تركه).
لكن النبي صلى الله عليه وسلم في نفس الأحاديث كان يدعو لنفسه.
قال: (وقال آخرون منهم -أي: من الزهاد-: إن وجد في نفسه باعثاً للدعاء استحب وإلا فلا).
أي: عندما ينشط يدعو وإلا فلا.
قال: (ودليل الفقهاء -أي: القائلون باستحباب الدعاء-: هو ظواهر القرآن والسنة في الأمر بالدعاء وفعله، والأخبار عن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين بفعله).(48/15)
باب التعوذ من العجز والكسل وغيره
قال الإمام النووي: الباب الخامس عشر: (باب: التعوذ من العجز والكسل وغيره).(48/16)
شرح حديث التعوذ من فتنة المحيا والممات
[حدثنا يحيى بن أيوب، حدثنا ابن علية -هو إسماعيل بن إبراهيم بن علية، وعلية أمه- قال: وأخبرنا سليمان التيمي، حدثنا أنس بن مالك قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والهرم، والبخل، وأعوذ بك من عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات)].
ونحن قد ذكرنا كل الكلام في شرح الحديث السابق عدا فتنة المحيا والممات، وفتنة المحيا -أي: فتنة الحياة- إما أن تكون في الدين أو في الدنيا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ أن يفتن في حياته فتنة تتعلق بالدين أو تتعلق بالدنيا، فمثلاً: حبك للمال وشغفك وطلبك وانشغالك به فتنة من فتن الدنيا، فإذا حزت المال بين يديك فانشغلت به عن طاعة الله فهو من فتن الدنيا، وهكذا في كل فتنة نقول هذا الكلام.
وأما فتنة الممات فقيل: المقصود بها: فتنة القبر، أو عذاب القبر، أو عذاب ما بعد الممات من فتنة البعث والنشور، والحساب، والجنة والنار، وغير ذلك.
وقيل: -وهو الراجح- أن فتنة الممات هي: رؤية العبد مكانه من الجنة أو النار في لحظة الاحتضار، وهي أعظم فتنة يتعرض لها العبد، وهي آخر فتنة على الإطلاق يتعرض لها العبد قبل وفاته وقبل خروج الروح، فيرى مكانه من النار فيفتن فيه.
ثم يقال له: هذا مكانك لولا أن الله أبدلك مكانه في الجنة.
ويرى مكانه من الجنة فيسعد بذلك ويفرح فيقال له -أي تقول له الملائكة-: (هذا مكانك لولا أنك عملت كذا وكذا فقد أبدلك الله مكانه من النار).
ثم يرى مكانه من النار، فحينئذ يكره لقاء الله تعالى فيكره الله تعالى لقاءه كما مر بنا، فهذه فتنة المحيا وتلك فتنة الممات، عصمنا الله تعالى وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن.(48/17)
لطيفة إسنادية في حديث الاستعاذة من فتنة المحيا والممات
قال: [وحدثنا أبو كامل الحجدري، حدثنا يزيد بن زريع، وحدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا معتمر -وهو ابن سليمان التيمي - كلاهما عن التيمي -أي: سليمان - عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله.
غير أن يزيد ليس في حديثه قوله: (ومن فتنة المحيا والممات).
قال: حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء الهمداني، أخبرنا ابن المبارك -وهو عبد الله بن المبارك المروزي - عن سليمان التيمي، عن أنس بن مالك: (عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه تعوذ من أشياء ذكرها.
والبخل)].
أي: استعاذ بالله أن يكون بخيلاً.
قال: [حدثنا أبو بكر بن نافع العبدي، حدثنا بهز بن أسد العمي، حدثنا هارون] وهو ابن موسى النحوي الأزدي العتكي؛ لأن هناك هارون من الطبقة السابعة، وهذا بصري والآخر كوفي، وكلاهما أعور، فالذي معنا هو: هارون بن موسى الأعور أخرج له البخاري ومسلم.
وهناك هارون بن سعد الأعور أخرج له مسلم فقط.
وكلاهما في طبقة واحدة، وهذا كوفي وذاك بصري.
وهارون بن موسى النحوي الأزدي العتكي مولاهم البصري، ثقة، عالم بالقراءات، لكنه رمي بالقدر.
وهارون بن سعد الأعور رمي بالرفض.
يعني: كلاهما مرمي بشيء.
وهكذا نفرق بينهم بالرواة وبالشيوخ والتلاميذ، وهذا رمي بالرفض، ولذا ليس من الإنصاف أن ترد أقوال المبتدعة، إنما الإنصاف إذا وافق قولهم الحق قبلناه، ومثله إذا وافق قول الكفار الحق قبلناه، وهذا مذهب السلف.
والمبتدع يقبل قوله بشروط: الشرط الأول: ألا تكون بدعته مكفرة.
الشرط الثاني: ألا يكون داعية إلى بدعته.
أي: لا يكون رائداً في البدعة.
الشرط الثالث: ألا تكون روايته خادمة لبدعته قط.
والكلام فيه تفصيل، لكن على أية حال يكفي هذا.
قال: [حدثنا شعيب بن الحبحاب -وهو أبو صالح البصري - عن أنس قال: (كان النبي عليه الصلاة والسلام يدعو بهؤلاء الدعوات: اللهم إني أعوذ بك من البخل والكسل وأرذل العمر)].
أي: أن يرد إلى عمر طويل جداً فيعجز معه عن خدمة نفسه.
قال: [(وعذاب القبر، وفتنة المحيا والممات)].(48/18)
باب في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره
(باب في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره).(48/19)
شرح حديث الاستعاذة من سوء القضاء
قال: [حدثنا عمرو الناقد وزهير بن حرب، قالا: حدثنا سفيان بن عيينة، حدثني سمي -مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن هشام - عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من سوء القضاء، ومن درك الشقاء، ومن شماتة الأعداء، ومن جهد البلاء)].
(جَهد) بفتح وضم الجيم، والأولى: (جَهد البلاء) بالفتح.
[قال عمرو -أي: عمرو الناقد - في حديثه: قال سفيان بن عيينة: أشك أني زدت واحدة منها].
أي: أن سفيان بن عيينة كان يقول: أنا لست متأكداً، يمكن أني زدت واحدة، لكن لا أعرف ما هي، وربما لم أزد، وإنما هو مجرد شك، وهذا الكلام نستفيد منه دقة المحدثين فيما يروونه.
أي: أنه لا يستجيز أحدهم لنفسه أن يتكلم عن النبي عليه الصلاة والسلام بكلمة وهو يشك أنه قال أو لم يقل، إلا أن يبين أنه يشك أو غير ذلك.(48/20)
شرح حديث: (من نزل منزلاً ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات)
قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ليث، حدثنا محمد بن رمح -واللفظ له- أخبرنا ليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن الحارث بن يعقوب].
وهو الأنصاري مولاهم، والد عمرو بن الحارث، شيخ الليث، لكن الذي تخرج على يديه -أي: على يدي عمرو بن الحارث - هو عبد الله بن وهب.
والحارث بن يعقوب والد عمرو هو مصري، لكنه نزل المدينة فقيل عنه: مولى الأنصار، وهو ثقة من عباد أهل مكة.
قال: [أن يعقوب بن عبد الله -وهو يعقوب بن عبد الله بن الأشج، أبو يوسف المدني مولى قريش- حدثه أنه سمع بسر بن سعيد المدني العابد يقول: سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: سمعت خولة بنت حكيم السلمية].
وهي التي وهبت نفسها للنبي عليه الصلاة والسلام، وكانت تحت عثمان بن مظعون رضي الله عنه قبل وفاته.
قال: [سمعت خولة -وقيل: خويلة بالتصغير- تقول: سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من نزل منزلاً -أي: دخل مكاناً آمناً آو غير آمن- ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك)].
هذا الكلام يريد رجالاً يعتقدون أن قوى الدنيا بأسرها لا يمكن أن تفعل شيئاً، إذ إن العقيدة دائماً تحتاج إلى رجل يقرأ ويخزن ما يقرأ في قلبه وليس في لسانه، أو يحفظ في عقله، فيقرأ الأثر من قلبه فيعقد عليه قلبه وعزمه، وإن وقع به مكروه فهو إما لخلل في اعتقاده، وإما ابتلاء من الله تعالى ليكفر عنه ذنباً وقع منه قبل هذا، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يعرف ذلك ويقوله، لكن ما حصل له هو ابتلاء من الله تعالى، ولذا إذا نزل أحدنا منزلاً، أو دخل خربة، أو مكاناً مظلماً، أو أتى إلى أحبابه وأصحابه فقال هذا الدعاء بعقيدة، فإنه لا يمكن أبداً أن يمد أحدهم يده عليه، أو يطول لسانه عليه إلا بقدر، والقدر هذا إذا تم يكون من أجل شيئين: إما مغفرة للذنب ولخلل في علاقته بالله عز وجل، فأراد الله تعالى أن يطهره منه، وهذا منزلة عظيمة كذلك، أو أن الله تعالى ابتلاه حتى يرفع درجاته.
لكن الأصل أنك إذا نزلت منزلاً فقل: (أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق).
أي: من شر كل مخلوق، ثم اعقد قلبك على أنه لا يستطيع أحد أن يمسك بشيء إلا بشيء أريد بك في السماء لرفع الدرجات أو لمغفرة الذنوب.(48/21)
ذكر روايات وطرق أخرى لحديث الاستعاذة بكلمات الله التامات من شر ما خلق
قال: [وحدثنا هارون بن معروف وأبو الطاهر كلاهما عن ابن وهب -واللفظ لـ هارون -حدثنا عبد الله بن وهب قال: وأخبرنا عمرو بن الحارث، أن يزيد بن أبي حبيب والحارث بن يعقوب حدثاه عن يعقوب بن عبد الله بن الأشج، عن بسر بن سعيد، عن سعد بن أبي وقاص، عن خولة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا نزل أحدكم منزلاً فليقل: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، فإنه لا يضره شيء حتى يرتحل منه).
قال يعقوب: وقال القعقاع بن حكيم الكناني المدني، عن ذكوان السمان أبي صالح، عن أبي هريرة أنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة).
أي: لقد نزلت البارحة منزلاً فلدغتني عقرب، فهو يقول له: أنت لم تعرف الذي حصل البارحة؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: [(أما لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضرك)].
يعني: لا يمكن أن تلدغك.
وتصور أن واحداً من الصحابة رضي الله عنه يقول هذا وهو معتقد أن العقارب والخفافيش وحشرات الأرض وهوامها ودوابها لا يمكن أن تقربه إلا بإذن الله، لذا فقد كان معظم الصحابة أهل بادية، والبادية معروفة بالحشرات السامة القاتلة، فالواحد منهم كان يقول كلمة ثم ينام على عقيدة أنه لا يمكن لأي شيء يأتيه.
قال: [وحدثني عيسى بن حماد المصري، أخبرني الليث، عن يزيد، عن جعفر] رجال السند كلهم مصريون، فـ عيسى مصري، والليث مصري، ويزيد مصري، وجعفر وهو ابن ربيعة بن شرحبيل بن حسنة مصري.
قال: [عن يعقوب أنه ذكر له أن أبا صالح السمان مولى غطفان أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رجل: (يا رسول الله! لدغتني عقرب).
بمثل حديث ابن وهب].
قوله: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ من سوء القضاء، ودرك الشقاء، وشماتة الأعداء، وجهد البلاء) أما درك الشقاء فهو إدراك ما يشقى به المرء، والاستعاذة من سوء القضاء يدخل فيها سوء القضاء في الدين والدنيا والبدن والمال والأهل، وقد يكون ذلك في الخاتمة، وأما درك الشقاء فيكون أيضاً في أمور الآخرة والدنيا.
ومعناه: أعوذ بك أن يدركني شقاء.
أما شماتة الأعداء فهي: فرح العدو ببلية تنزل بعدوه.
يقال: شمت -بكسر الميم وفتحها- فهو شامت واشمته غيره.
وأما جهد البلاء فروي عن ابن عمر أنه فسره بقلة المال وكثرة العيال.
وقال غيره: هي الحالة الشاقة.
أما قوله: (أعوذ بكلمات الله التامات) قيل: معناه: الكاملات.
أي: أعوذ بكلمات الله الكاملات التامات التي لا يدخلها نقص ولا عيب.
وقيل: أعوذ بكلمات الله النافعة الشافية المانعة، والمراد بالكلمات هنا: القرآن الكريم.
وفي هذا جواز الاستعاذة أو التعوذ أو الرقية بكلام الله عز وجل.(48/22)
شرح صحيح مسلم - كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - آداب النوم وأذكاره
لقد جاءت الشريعة الإسلامية بآداب وسنن على المسلم الحرص عليها، ومن ذلك ما جاءت به من سنن للنوم وأذكار، فليحرص كل مسلم على نيل ما ورد فيها من فضائل، وبذلك يحقق المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أمور حياته.(49/1)
باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: فما زال الكلام موصولاً عن الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، جعلنا الله تعالى وإياكم من أهلها، ومع الباب السابع عشر: قال الإمام النووي عليه رحمة الله: (باب: ما يقول عند النوم وأخذ المضجع).
أي: ما يقول من أراد أن ينام ويأخذ مضجعه.
والمضجع: هو المكان الذي يريد الإنسان أن ينام فيه.(49/2)
شرح حديث البراء بن عازب فيما يقال عند النوم
قال المصنف رحمه الله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم -واللفظ لـ عثمان - قال إسحاق: أخبرنا، وقال عثمان: حدثنا جرير عن منصور عن سعد بن عبيدة -وهو أبو حمزة السلمي الكوفي - قال: حدثني البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أخذت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة)].
يعني: إذا أردت أن تنام فتوضأ وضوءك للصلاة.
وقوله: (وضوءك للصلاة) يدل على أن المراد الوضوء الاصطلاحي لا الوضوء اللغوي؛ لأن الوضوء اللغوي هو الغسل، فلو أنك غسلت كفيك فقط لصح في اللغة أن يقال: إنك توضأت، ولو أنك غسلت وجهك فقط لصدق في اللغة أن يقال: إنك توضأت.
وأما قوله: (فتوضأ وضوءك للصلاة) يعني: أن تتوضأ الوضوء الاصطلاحي المعروف، الذي تتوضأه لأجل الصلاة، ولا يلزم منه الصلاة، فلا يلزم من إحداث الوضوء إحداث الصلاة؛ لأن الوضوء عبادة مستقلة عن الصلاة، وهو شرط في صحتها.
قال: [(ثم اضطجع على شقك الأيمن)]، يعني: نم على جنبك الأيمن.
وهذا هو الأدب الثاني.
فأول أدب: أن تكون على وضوء.
والأدب الثاني: أن تنام على جنبك الأيمن.
قال: [(ثم قل: اللهم إني أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت.
واجعلهن من آخر كلامك، فإن مت من ليلتك مت وأنت على الفطرة)]، وفي رواية بزيادة: (وإن أصبحت أصبت خيراً).
وفي رواية: (وإن أصبت أصبت خيراً).
يعني: إن أصبت في نومك أو في يقظتك فهذه الإصابة خير من عند الله عز وجل.
[قال -أي البراء بن عازب -: (فرددتهن لأستذكرهن)].
يعني: أراد أن يحفظ هذه الكلمات، فرددهن أمام النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه -أي: النبي عليه الصلاة والسلام- يخاطب البراء بن عازب ويقول له: إذا أخذت يا براء! مضجعك فافعل كيت وكيت وكيت، فأراد البراء ألا ينصرف من حضرة النبي عليه الصلاة والسلام إلا بعد أن يحفظ هذه الكلمات، فقال: (فرددتهن لأستذكرهن.
فقلت: آمنت برسولك الذي أرسلت)].
مع أن النبي عليه الصلاة والسلام حفظه أولاً: (وبنبيك الذي أرسلت).
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا).
أي: أنا ما قلت هذا.
[(قل آمنت بنبيك الذي أرسلت)]، لا برسولك الذي أرسلت.(49/3)
شرح روايات وطرق أخرى لحديث البراء فيما يقال عند النوم
قال: [وحدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا عبد الله -وهو ابن إدريس الأودي أبو محمد الكوفي - قال: سمعت حصيناً -وهو حصين بن عبد الرحمن السلمي أبو الهذيل الكوفي - عن سعد بن عبيدة عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر هذا الحديث، غير أن منصوراً -أي: في الطريق الأول- أتم حديثاً].
يعني: حديثه أطول من هذا الحديث.
[وزاد في حديث حصين -أي: من طريقه-: (وإذا أصبح أصاب خيراً)].
يعني: إذا نام على هذه الكلمات وعلى هذه الهيئة والكيفية فإذا مات من ليلته مات على الفطرة.
أي: على فطرة الإسلام والتوحيد، (وإذا أصبح أصاب خيراً) يعني: وفق لفعل الخير.
قال: [وحدثنا محمد بن مثنى حدثنا أبو داود -وهو أبو داود الطيالسي - حدثنا شعبة -وهو ابن الحجاج العتكي البصري - ح وحدثنا ابن بشار -وهو محمد بن بشار المعروف بـ بندار - حدثنا عبد الرحمن وأبو داود -وعبد الرحمن هو ابن مهدي، وأبو داود الطيالسي - قالا -أي كلاهما-: حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة قال: سمعت سعد بن عبيدة يحدث عن البراء بن عازب: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً إذا أخذ مضجعه من الليل)]، وفي طريق منصور قال: (يا براء! إذا أخذت مضجعك)، ولا يمنع أن يكون هذا القول وجه لغير البراء في حضرة البراء، كما أنه لا يمنع أن يكون البراء هو الذي سأل ماذا يقول وماذا يفعل إذا أراد أن ينام، فبين له ذلك النبي عليه الصلاة والسلام.
فهذا الحديث ورد في نوم الليل؛ لقوله: (إذا أخذ مضجعه من الليل)، يعني: في الليل، وأما في نوم النهار فلا، ولقوله في الرواية الأولى: (فإن مت من ليلتك).
فهذا يدل على أنه نوم الليل وإن لم يصرح في أول الرواية بأنه نوم الليل.
قال: [(أن يقول: اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وألجأت ظهري إليك، وفوضت أمري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبرسولك الذي أرسلت)].
وهنا قال: (وبرسولك الذي أرسلت).
وهذا يدل على تعدد الحوادث؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أنكر على البراء قوله: (وبرسولك الذي أرسلت)؛ لأنه علمه وبنبيك الذي أرسلت، ثم علم النبي عليه الصلاة والسلام غير البراء رواية: (وبرسولك الذي أرسلت).
والمعلوم قطعاً أن كل رسول نبي وليس العكس، فليس كل نبي رسولاً، فالرسالة أعم من النبوة؛ ولذلك أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يوقف البراء على حقيقة لفظه الذي أراد أن يعلمه إياه، فلما أخطأ في ذلك رده وأنكر عليه، والنبي عليه الصلاة والسلام قد شهد له القرآن والسنة أنه رسول نبي.
قال: [(فإن مات مات على الفطرة)].
ولم يذكر ابن بشار في حديثه: (من الليل)].
قال: [وحدثنا يحيى بن يحيى قال: أخبرنا أبو الأحوص -وهو سلام بن سليم الحنفي - عن أبي إسحاق -وهو السبيعي - عن البراء بن عازب قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل: يا فلان! إذا أويت إلى فراشك)].
أي: إذا ذهبت إلى فراشك.
أي: فراش نومك.
[بمثل حديث عمرو بن مرة].
وفسرناه بالنوم لأنه مذكور في الرواية الصريحة، والغالب لا يؤخذ به إلا عند الخلاف، فإذا جاءت الرواية توقفنا عندها.
[غير أنه قال: (وبنبيك الذي أرسلت، فإن مت من ليلتك مت على الفطرة، وإن أصبحت أصبت خيراً)].
أي: وإن أصبحت حياً لم تمت فإن الله تعالى يوفقك إلى فعل الخير.
[وحدثنا ابن المثنى وابن بشار -وهما محمد بن المثنى ومحمد بن بشار - وهما فرسا رهان في السبق والعلم والفضل وغير ذلك من أعمال البر والخير، والرواية كذلك.
[قالا: حدثنا محمد بن جعفر -وهو المعروف بـ غندر البصري - حدثنا شعبة عن أبي إسحاق -وهو السبيعي - أنه سمع البراء بن عازب يقول: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً)، بمثله ولم يذكر: (وإن أصبحت أصبت خيراً)].(49/4)
كلام النووي في حديث البراء فيما يقال عند النوم
يقول الإمام النووي: ((إذا أخذت مضجعك) معناه: إذا أردت النوم في مضجعك، فتوضأ).
قال: (وفي هذا الحديث ثلاث سنن مهمة مستحبة ليست بواجبة: إحداها: الوضوء عند إرادة النوم، فإن كان متوضئاً كفاه ذلك الوضوء)، يعني: أنه لا يلزمه وضوء للنوم؛ لأنه إذا كان قد صلى العشاء مثلاً وهو باق على وضوئه الذي صلى فيه العشاء، فإن ذلك يكفيه؛ لأن الغرض أن ينام على طهارة، لا أن يخص النوم بوضوء، ويسميه وضوء نوم، بل إذا أراد النوم ولم يكن على وضوء توضأ، وإذا كان متوضئاً كفاه.
قال: (لأن المقصود: النوم على طهارة مخافة أن يموت في ليلته، ولا شك أن من مات على طهارة خير وأفضل ممن مات على غير طهارة، وليكون أصدق لرؤياه)، والإنسان إذا نام متوضئاً ورأى رؤيا فإنها تكون صادقة بقدر الإمكان، يعني: رؤيا حقيقية.
قال: (وهي أبعد من تلعب الشيطان به في منامه وترويعه إياه)؛ لوجود الطهارة، وذلك أنه إنما نام على سنة، وسيقوم عليها بإذن الله.
قال: (الثانية: -أي: السنة الثانية- النوم على الشق الأيمن؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يحب التيامن)، وذلك في أمره كله صلى الله عليه وسلم، كما في حديث عائشة: (كان يحب التيامن في تنعله وترجله وفي أمره كله).
وقوله: في تنعله: أي إذا لبس النعل والحذاء بدأ اللبس برجله اليمنى، وإذا أراد أن يخلع بدأ باليسرى، (وإذا رجل شعره -أي: سرح شعره- سرح الشق الأيمن أولاً).
كما كان عليه الصلاة والسلام يحلق شقه الأيمن أولاً قبل الأيسر، وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يحب التيامن.
قال: (ولأنه أسرع إلى الانتباه)، يعني: أن الشخص إذا نام على جنبه الأيمن كان أسرع انتباهاً من الذي ينام على شقه الأيسر، فمن نام على شقه الأيسر كان نومه ثقيلاً جداً، فما بالكم بمن ينام على بطنه؟ وقد (دخل النبي عليه الصلاة والسلام مسجده فوجد رجلاً قد اضطجع أو انبطح على بطنه فضربه بقدمه وقال: من هذا؟ قالوا: هذا فلان يا رسول الله! قال: أما علمت أن هذه ضجعة الشيطان).
أي: هذه نومة الشيطان وليست نومة بني آدم، فمن نام على بطنه ففيه شبه من الشيطان في هديه في نومه.
قال: (الثالثة: ذكر الله تعالى؛ ليكون خاتمة عمله).
يعني: لا ينام المرء إلا على ذكر، حتى يكون آخر عمله الذي عمله مؤخراً ثم مات بعده من ليلته هو ذكر الله تعالى، والأعمال بالخواتيم، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالخواتيم).
وقد قرأت بحثاً علمياً لأحد الأطباء المبرزين ذكر فيه: أن النوم على الشق الأيسر يضر بالقلب.
وقال: من أخطر الأشياء إسراعاً لفساد القلب أو تضرره هو النوم على الشق الأيسر؛ لأن هذا لا يجعل القلب يعمل بصورة طبيعية، وإنما يتأثر بضغطه في الفراش.
ولا بأس من ضم هذا الكلام إلى كلام أهل العلم في شرح هذا الحديث.
النائم ينادي ويناجي ربه بكلمات مباركات، وهي: (إني أسلمت وجهي إليك).
وفي رواية: (أسلمت نفسي إليك).
فالوجه والنفس سواء؛ لأن الوجه يدل على النفس، والنفس تدل على الوجه، فكلاهما بمعنى واحد.
(أي: استسلمت وجعلت نفسي منقادة لك، طائعة لحكمك.
قال العلماء: يقال: سلم وأسلم واستسلم بمعنى واحد).
قال: (ومعنى: (ألجأت ظهري إليك).
أي: توكلت عليك واعتمدتك في أمري كله كما يعتمد الإنسان بظهره إلى من يسنده).
يعني: يا رب! ليس لي سواك، وكل اعتمادي وتوكلي عليك.
قال: (وقوله: (رغبة ورهبة إليك) أي: طمعاً في ثوابك وخوفاً من عذابك)، والعبد لا ينجو بين يدي الله عز وجل إلا بهذين، بأن يعبد ربه بجناحي الخوف والرجاء، الخوف من عقابه وناره وعذابه، والرجاء لرحمته وسعة فضله وجنته وثوابه في الدنيا والآخرة، وغير ذلك مما يرجوه العبد من ربه.
وهذا يُرد به على من قال من الصوفية: إنه لم يعبد ربه إلا بجناح الرجاء، وأنه لا يخاف الله تعالى؛ لأن الله تعالى حبيبه، والحبيب لا يعذب حبيبه، وقال: إن الخوف نقص في العبادة.
والذي قال هذا هي رابعة العدوية، ثم ذكرت لهذا مثلاً وقالت: إن الولد إذا خاف من أبيه فإن تبجيله وتعظيمه لأبيه لا يكون تبجيلاً وتعظيماً صحيحاً.
فقاست الخوف من الله عز وجل على الخوف من المخلوقين، والقياس غير صحيح؛ لوجود الفارق، وهذا الفارق هو تماماً نفس الفارق بين الخالق والمخلوق.
والنبي عليه الصلاة والسلام هو الذي كان يقول هذا الكلام إذا أخذ مضجعه، فقد كان يقول: (رهبة ورغبة إليك).
فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يخاف الله تعالى، كما أنه كان يرجو الله تعالى، وعلى من دون النبي عليه الصلاة والسلام رابعة وخامسة وسادسة وغيرها أن تكون أشد خوفاً من الله عز وجل من النبي عليه الصلاة والسلام، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أما إني أخشاكم لله وأتقاكم له)، وفي رواية: (إني أعرفكم بالله وإني أخشاكم لله وأتقاكم له).
وكلما ازداد المرء علماً بالله عز وجل ازداد منه خوفاً وقرباً(49/5)
شرح حديث: (أن النبي كان إذا أخذ مضجعه قال: اللهم باسمك أحيا)
[حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي وهو معاذ بن معاذ العنبري حدثنا شعبة عن عبد الله بن أبي السفر -وهو الثوري الكوفي - عن أبي بكر بن أبي موسى -وهو الأشعري أخو أبي بردة الأشعري - عن البراء بن عازب: (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا أخذ مضجعه قال: اللهم باسمك أحيا وباسمك أموت)].
هذا هو الذكر الثاني فقد كان هو نفسه عليه الصلاة والسلام إذا أخذ مضجعه يعني: آوى إلى فراشه.
[قال: (اللهم باسمك أحيا وباسمك أموت، وإذا استيقظ قال: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور)]؛ لأن النوم هو الموتة الصغرى؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (باسمك اللهم أموت).
يعني: أنام.
(وباسمك أحيا) إن أردت لي الحياة.
(وإذا قام من نومه قال: الحمد لله الذي أحيانا -يعني: من الممات- بعدما أماتنا).
فشبه النوم في أوله وآخره بأصل الخلق والبعث بعد الموت، ثم أجزل اللفظ فقال: (وإليك النشور).
والنشور هو البعث بعد الموت، فشبه النبي عليه الصلاة والسلام النوم بالموت، وأن المرء إذا نام ثم استيقظ فكأنه مات ثم بُعث يوم القيامة للحساب والنشر والجزاء والعقاب والثواب، قال: (الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور).
وهذا وارد في أذكار الليل؛ ولذلك بوب عليه الإمام النووي بقوله: (ماذا يقول من أراد أن يأخذ مضجعه) يعني: من الليل.(49/6)
شرح حديث: (اللهم أنت خلقت نفسي وأنت توفاها)
قال: [حدثنا عقبة بن مكرم العمي وأبو بكر بن نافع قال: حدثنا غندر حدثنا شعبة عن خالد -وهو خالد بن الحارث بن عبيد الهجيمي أبو عثمان البصري - قال: سمعت عبد الله بن الحارث -وهو أبو الوليد البصري نسيب ابن سيرين - يحدث.
عن عبد الله بن عمر أنه أمر رجلاً إذا أخذ مضجعه قال: (اللهم خلقت نفسي وأنت توفاها)].
وهذه هي العبودية، فهي إثبات أن الله تعالى هو الرب الخالق المحيي المميت، لا خالق غيره، ولا يحيي ولا يميت غيره سبحانه وتعالى، وفيه إثبات أن الله تعالى هو الذي خلق الأنفس، وهو الذي يتوفاها، أي: ينيمها أو يميتها.
قال: [(وأنت توفاها، لك مماتها ومحياها)].
أي: لك ما تعمله في حياتها وما تعمله في مماتها، أي: في نومها، وهذا يشهد له قول إبراهيم عليه السلام الذي جاء في كتاب الله عز وجل في قوله تعالى: {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء:81].
قال: [(إن أحييتها فاحفظها)]، أي: إن كتبت لها الحياة بعد الموت -أي: اليقظة بعد النوم- والاستيقاظ من هذا النوم فاحفظها، وفي رواية: (فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين).
قال: (وإن أمتها فاغفر لها)، أي: وإن أمت نفسي فاغفر لها، [(اللهم إني أسألك العافية)].
والعافية عند الاطلاق تشمل الدين والدنيا، فالعافية في الدين أن يعان المرء على طاعة الله عز وجل، والعافية في الدنيا أن يجتنب المرء الحرام ويحرص على الحلال.
[(فقال له رجل: أسمعت هذا من عمر؟)] يعني: قال أحدهم لـ عبد الله بن عمر: أهذا الكلام الذي أمرت به فلاناً من الناس سمعته أنت من أبيك؟ أي: من عمر -[(فقال: من خير من عمر، من رسول الله صلى الله عليه وسلم)]، يعني: ما سمعت هذا الكلام من عمر، وإنما سمعته من رجل هو أخير وأفضل من عمر، بل ومن ملء الأرض من مثل عمر وأبي بكر؛ لأنه خير الخلق أجمعين عليه الصلاة والسلام.
وهذا يدل على تمام وكمال إيمان عبد الله بن عمر؛ لأنه يحب النبي عليه الصلاة والسلام أكثر من حبه لنفسه ولأبيه وماله وولده والناس أجمعين، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده وماله والناس أجمعين).
وكان بإمكانه أن يقول: لا، بل سمعته من النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما أراد أن يثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام خير وأحب إلى قلبه من أبيه، وفي ذلك إثبات لكمال إيمان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
[قال ابن نافع في روايته عن عبد الله بن الحارث: ولم يذكر: سمعت].(49/7)
شرح حديث أبي هريرة فيما يقال عند النوم
قال: [حدثني زهير بن حرب حدثنا جرير عن سهيل -وهو ابن أبي صالح السمان - قال: (كان أبو صالح يأمرنا إذا أراد أحدنا أن ينام)].
وهنا نكتة ظريفة جداً: وهي أن سهيل بن أبي صالح هو ابن لـ أبي صالح السمان المسمى بـ ذكوان كان يقول: كان أبو صالح إذا أراد أحدنا أن ينام -يعني: إذا أراد أحد أبنائه أن ينام- أمره بكيت وكيت وكيت وهذا يدل على قيام السلف الصالح رضي الله عنهم بحسن تربية أبنائهم، وعدم تركهم حتى في لحظة نومهم، فكان أبو صالح السمان يأمر بنيه إذا أرادوا أن يناموا أن يناموا على السنة، وإذا قاموا أن يقوموا كذلك على السنة وعلى توحيد لله عز وجل.
قال سهيل: كان أبو صالح -أي: كان أبوه- إذا أراد أحدهم أن ينام [يأمره أن يضطجع على شقه الأيمن، ثم يقول: (اللهم رب السماوات ورب الأرض ورب العرش العظيم)].
وكل هذه مخلوقات، فالسماوات مخلوقة، والأرضين السبع مخلوقة، وكذلك عرش الرحمن تبارك وتعالى مخلوق، ولا خالق إلا الله عز وجل، فكأنه أراد أن يثبت في هذا الحديث كمال الربوبية لله عز وجل، وأن الله تعالى هو رب كل شيء ومليكه، وأن كل ما دون الله عز وجل مخلوق وخالقه هو الله.
وقوله: (اللهم رب السماوات السبع والأرضين ورب العرش العظيم)، كأن التقدير: رب السماوات وما فيهن والأرضين وما فيهن ومن فيهن، فإن الله تبارك وتعالى هو الذي خلق الخلق جميعاً.
قال: [(ربنا ورب كل شيء)]، والشيء يطلق على العاقل وغير العاقل، يعني: أن الله تعالى هو الذي خلق الخلق أجمعين.
قال: [(فالق الحب والنوى)]، أي: الخالق للحب والنوى، والمدبر لكل شيء مهما دق وجل، يعني: مهما كان صغيراً دقيقاً، وربما لا يكاد يُرى إلا بأحدث المناظير؛ فإن الله تبارك وتعالى هو الذي خلق كل هذا.
قال: [(ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان)].
فالله تبارك وتعالى هو الذي أرسل الرسل، وأنزل معهم الكتب، فأنزل مع موسى عليه السلام التوراة، وأنزل الإنجيل مع عيسى، وأنزل الفرقان مع محمد عليه الصلاة والسلام.
قال: [(أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته)]، وفي رواية: (من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها)، يعني: أنت قادر عليها ومتحكم فيها، وأنتم تعلمون أن الله تعالى على كل شيء قدير، فعلى العبد أن يستجير بربه أن ينجيه من شر كل ذي شر، والله تبارك وتعالى قادر عليه وآخذ بزمام أمره ومالك لناصيته، فإن هذه الثعابين والحشرات والعقارب والحيات وغيرها أشياء، وهي كذلك ذوات، وبإمكانها أن تؤذي هذا النائم، ولو قال المرء هذا قبل نومه فإن هذه الأشياء لو رتعت حوله بعد ذكره لهذا الدعاء فإنها إن شاء الله تعالى لا تضره.
وقوله: (أعوذ بك) أي: ألجأ إليك يا رب! أن تنجيني من شر كل شيء أو دابة أنت آخذ بناصيته أو بناصيتها.
[(اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء)]، أي: أنت الأول قبل أن تخلق الخلق، وقبل أن تخلق السماوات والأرض، فإن الله تبارك وتعالى أول بلا ابتداء، أي: لا بداية له؛ لأن كل شيء له بداية، مخلوق وحادث، والله تبارك وتعالى لا يلحقه الحدث، وهذا قول: لا يرضاه السلف، وكذلك لا نرضاه نحن، فإن كل ما لا يرضاه السلف لا نرضاه نحن كذلك في ديننا ولا دنيانا، ولكني أردت مزيد بيان أن كل شيء له أول وله بداية فإنما هو مخلوق، إلا الله عز وجل، فإنه الأول بلا ابتداء، وهو الآخر كذلك بلا انتهاء، وهو الظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء.
قال: (وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين وأغننا من الفقر).
وقد ورد في بعض روايات هذا الحديث: أن من قال هذا الحديث قضى الله تعالى عنه دينه، ولم يحوجه إلى أحد.
يعني: أغناه عن الناس.
[وكان يروي ذلك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم]، أي: أن الذي يروي هذا عن أبي هريرة هو أبو صالح السمان، وكأن السند عن سهيل عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (اللهم رب السماوات ورب الأرض ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين وأغننا من الفقر).
وأبو صالح السمان كان يأمر أولاده إذا أرادوا أن يناموا أو يأخذوا مضجعهم أن يقولوا هذه الكلمات ولا يتركهم ينامون حتى يقولوها؛ ليحفظهم الله عز وجل بهذه الكلمات المباركا(49/8)
شرح روايات وطرق أخرى لحديث أبي هريرة فيما يقال عند النوم
قال: [وحدثني عبد الحميد بن بيان الواسطي قال: حدثنا خالد الطحان عن سهيل عن أبيه أبي صالح السمان عن أبي هريرة قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أمراً إذا أخذنا مضجعنا أن نقول:) ثم ذكر الحديث بمثل حديث جرير -السابق- وقال: (من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها)، يعني: لم يقل: (من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته).
والمعنى واحد.
[وحدثنا أبو كريب محمد بن العلاء الهمداني الكوفي حدثنا أبو أسامة - حماد بن أسامة الكوفي -، ح وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا: حدثنا ابن أبي عبيدة -وهو محمد بن أبي عبيدة بن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود الهذلي المسعودي، واسم أبيه عبد الملك - قال: حدثنا أبي -أي: عبد الملك - كلاهما عن الأعمش، يعني: عبد الملك وأبي أسامة كلاهما يروي عن الأعمش، وهو سليمان بن مهران الكوفي، وهذا الإسناد كله كوفي إلا أبي صالح مدني، وأبو هريرة كذلك دوسي مدني، ولكن الحديث انتقل إلى أهل الكوفة عن طريق رحلة أبي صالح من المدينة إلى الكوفة؛ لأن أبا صالح السمان إنما لُقب بالسمان لأنه كان يجلب السمن والزيت من المدينة ويبيعه في الكوفة، وكان إذا نزل الكوفة نزل في بيت الأعمش، فهو من أجل شيوخ الأعمش.
[عن أبي هريرة قال: (أتت فاطمة النبي صلى الله عليه وسلم تسأله خادماً].
وفاطمة ابنة النبي عليه الصلاة والسلام، وكانت متزوجة علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
[(فقال لها: قولي: اللهم رب السماوات السبع)]، إلى آخر الحديث.
وعندما كنت طفلاً في الابتدائية كان أحد الجيران في قريتي أخرساً لا يسمع ولا يتكلم، وكان ينام في بيته المجاور لنا، وفي أحد الأيام خرج عليه ثعبان عظيم جداً وأحاط برقبته، ولم يستطع أحد أن يتعامل معه، وظل هذا الثعبان يشتد عليه ويشتد حتى مات، وقد تذكرت هذه القصة اليوم، فأيقنت -وأنا موقن من غير عمل.
أي: من غير تجارب- ببركة قول الله عز وجل وقول نبيه عليه الصلاة والسلام، فقلت: سبحان الله! لو كان أحداً علم أهل القرى والريف كيف ينامون وكيف يستيقظون لما حدث مثل هذا.
[(إذا أوى أحدكم إلى فراشه فليأخذ داخلة إزاره فلينفض بها فراشه وليسم الله، فإنه لا يعلم ما خلفه بعده على فراشه)]، أي: لا يعلم ماذا ترك في فراشه الذي نام فيه آنفاً.
(فإذا أراد أن يضطجع فليضطجع على شقه الأيمن وليقل: سبحانك اللهم ربي، بك وضعت جنبي وبك أرفعه)، أي: كأنه أراد أن يقول: يا رب! لا حول لي ولا قوة إلا بك، بك وضعت جنبي وبك أرفعه، فلا يمكن أبداً لمن أراد أن يضع جنبه بغير إرادة الله أن يضعه، كما أن من نام وأراد أن يقوم في ساعة معينة، والله لم يرد له القيام في هذه الساعة لا يستطيع أن يقوم.
وقوله: (بك وضعت جنبي)، أي: بحولك وقوتك وطولك وضعت جنبي لا بحولي؛ لأنه لا حول لي ولا قوة لي ولا طول لي إلا حولك وقوتك وطولك.
قال: [(إن أمسكت نفسي فاغفر لها)]، أي: وإن قبضتني وأمتني فاغفر لي أو لها.
(وإن أرسلتها)، أي: وإن أرسلت نفسي.
[(فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين)]، وقيد العبادة هنا بالصالحين؛ ليطلب من الله عز وجل أن يعامله معاملة أهل الصلاح.
[وحدثنا أبو كريب حدثنا عبدة -وهو ابن سليمان - عن عبيد الله بن عمر العمري بهذا الإسناد، وقال: (ثم ليقل: باسمك ربي وضعت جنبي، فإن أحييت نفسي فارحمها)].(49/9)
شرح حديث أنس فيما يقال عند النوم
قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة عن ثابت البناني -أي: ابن أسلم البناني - عن أنس رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه قال: الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي)].
وهذا يقال كذلك بعد الفراغ من الطعام، وبعد الفراغ من الشراب، وعند النوم.
وأعظم كلمة يتقرب بها العبد إلى مولاه كلمة الحمد؛ ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام في الصحيح: (إن الله تعالى ليرضى من عبده -واللام للتوكيد- أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، وأن يشرب الشربة فيحمده عليها).
فشكر الطعام الحمد، وشكر الشراب الحمد؛ ولذلك سن النبي عليه الصلاة والسلام لمن فرغ من طعامه أن يحمده، وأن يقول فقط: (الحمد لله)، يعني: إذا وضع أمامك أشهى المأكولات وأفضل الأطعمة فإن الله تعالى ينتظر منك كلمة واحدة فقط، وهي أن تحمده على هذه النعمة؛ لأن الحمد إقرار بأن النعم من عند الله عز وجل، وهذا هو مراد الله تعالى من خلقه أن يقروا له بأنه الخالق الباري.
[(وكان إذا أوى إلى فراشه قال: الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا)].
لأن الطعام من عند الله عز وجل وكذلك الشراب.
(وكفانا).
أي: كفانا الشر، أو كفانا مئونة الحياة، أو كفانا الأذى، أو كفانا كل شيء، أي: في ديننا ودنيانا.
(وآوانا) أي: رحمنا، أو تكون بمعنى المأوى وهو السكن، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: [(فكم ممن لا كافي لهم ولا مؤوي)]، يعني: كم من الخلق، وهذا والله صحيح، فلو دخلت محطة قطار مثلاً أو شيئاً من هذا القبيل، فإنك تجد الناس كلهم ينامون على الرصيف، وأنت عندك بيت، فإذا ركبت سيارة ففي خمس دقائق تكون في البيت، وتنام على السرير مرتاحاً، أفلا تستشعر نعمة الله عليك؟ وهناك من الشباب من يرى نفسه جميلاً وشعره ناعماً، وربما يكون أصفر وعينيه خضراوين، ويقول: السنة أن أسرح شعري على اليمين والشمال وأعمل فارقاً في نصف رأسي، ونحن سنوافقه على ذلك إذا كانت نيته صالحة، وينوي الاتباع، ولكن إذا كانت نيته الاتباع فليكمل الاتباع بلبس العمامة.
فعلى الشخص أن يستشعر نعمة الله عز وجل عليه، وأنه مكفي وغيره غير مكفي، وأنه له مأوى وغيره لا مأوى له.
وأذكر أني مرة في سنة (1978هـ) جئت إلى القاهرة، وكان لي أقارب، فذهبت إلى أخي الذي كان يسكن في كلية دار العلوم، فوجدته قد كتب ورقة على الباب أنه مسافر وسيأتي بعد ثلاثة أيام، وكتب تاريخ ذلك اليوم، مما يعني: أني سأنتظر ثلاثة أيام، فذهبت إلى عمتي، فوجدت عمتي قد كتبت ورقة على الباب بأنها سافرت، فعدت إلى بعض أصحاب أخي الذين يعرفونه، فلم أجد أحداً، وكنت أريد أن أنام بأي شكل، فجئت إلى ابن عمتي وكان يعمل في شيراتون، وكتب أنه ذهب إلى العمل، وسيأتي الساعة العاشرة صباحاً، وأنا لم أنم إلى تلك اللحظة، فصعدت إلى الدور الأخير في الطالبية في شارع صبري، فوجدت شقة جديدة لازالت تتشطب وبها رمل، وكان معي شنطة فيها كتب، فقلت: أعمل هذه الكتب وسادة وأمهد هذا الرمل على شكل سرير، وأنام على الرمل وأضع كتبي تحت رأسي، ورضيت بهذه الحال، فجاء صاحب العمارة وهي مفتوحة وليس فيها أبواب، وقال لي: يا فلان! قلت له: نعم، قال: أتظن أننا فتحنا العمارة لوكندة أو ماذا؟ قلت له: أصل الحكاية.
قال لي: لا أريد أن أسمع، انزل، فنزلت، وذهبت إلى مسجد عباد الرحمن الذي هو على نفس الشارع، قبل صلاة العشاء، ولم أكن ناوياً صلاة المغرب ولا العشاء؛ لأنني لا أستطيع نهائياً، وقلت: بعد أن آخذ قسطاً من النوم -وأنا على سفر- أقوم وأجمع، فنزلت قبل العشاء بحوالي نصف ساعة، فصليت المغرب وأسندت ظهري على الحائط كي أرتاح ونمت، فجاء الرجل الخادم وقال: هل ستصلي أم لا؟ فقلت له: نعم، فقمت وتوضأت وصليت العشاء مع الناس، وبعد العشاء ذهبت إلى هذا الرجل وقلت له: أغلق علي باب المسجد، قال لي: لماذا؟ قلت له: أريد أنام هنا إلى الفجر، أصلاً أنا.
قال لي: لا لا، لا أصل ولا فصل، فمن يضمن لي، أخشى إن تركتك أن آتي وقد سرقت الميكرفون، وسرقت الأشرطة، وسرقت كذا.
قلت له: يا عم! والله أنا لست من هذا الصنف أبداً، أنا رجل محترم وابن ناس، قال لي: أنا لا أعرف، ولا يمكن أبداً.
فخرجت من المسجد وأنا لا أستطيع أن أضع رجلي على الأرض، فاستأجرت سيارة من موقف السيارات إلى أن وصلت إلى مسجد الحسين كي أنام لا لأصلي، فذهبت إلى هناك ونمت إلى الفجر، ولما بدأ المقرئ يقرأ استيقظت، فالمسجد مفتوح طوال الليل، وكنت أتصور أن الحمامات داخل المسجد، فدخلت الغرفة المباركة على اعتبار أنها حمامات، لأنني أبحث عن الحمام، فإذا بقلبي ينقبض، وخرج لي شخص ذراعه لا يقل عن مائة وخمسين كيلو، فقلت له: أين الحمامات؟ فقال: الحمامات في الخارج، اخرج، فخرجت وأنا خائف منه، ولما كنت خارجاً أمسكني في رقبتي مسكة أفقدتني النور تماماً(49/10)
باب التسبيح أول النهار وعند النوم(49/11)
شرح حديث علي فيما يقوله إذا أخذ مضجعه
قال: [عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (أن فاطمة اشتكت ما تلقى من الرحى في يدها)، يعني: من طحن الحب بالرحى، فقد كانت تجد صعوبة أو أذى في يدها.
[وأتى النبي صلى الله عليه وسلم سبي فانطلقت فلم تجده]، أي: فانطلقت فاطمة فلم تجده، (ولقيت عائشة)، أي: في بيته عليه الصلاة والسلام، (فأخبرتها، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته عائشة بمجيء فاطمة إليها، فجاء النبي عليه الصلاة والسلام إلينا -أي: في بيت علي بن أبي طالب - وقد أخذنا مضاجعنا -يعني: قد تهيئا للنوم- فذهبنا نقوم)]، أي: هممنا أن نقوم لاستقباله عليه الصلاة والسلام، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: [(على مكانكما -يعني: على ما أنتما عليه- فقعد بيننا حتى وجدت برد قدمه)].
وفي رواية البخاري: (حتى وجدت برد قدميه على صدري)، ثم قال: [(ألا أعلمكما خيراً مما سألتما؟ قالت: بلى يا رسول الله! قال: إذا أخذتما مضاجعكما أن تكبرا الله أربعاً وثلاثين)] وفي الرواية الأولى: (قولي: اللهم رب السماوات السبع ورب الأرض)، إلى آخر الحديث، وهنا يعلمهما أدباً آخر وذكراً آخر يختلف عن الذكر السابق [(أن تكبرا الله أربعاً وثلاثين، وتسبحاه ثلاثاً وثلاثين، وتحمداه ثلاثاً وثلاثين، فهو خير لكما من خادم)].
بنفس الترتيب أو يختلف؛ لأنه قد ورد في رواية أخرى باختلاف، فقال: (أن تسبحا ثلاثاً وثلاثين، وتحمدا ثلاثاً وثلاثين، وتكبرا أربعاً وثلاثين).
فإما أن يسبق التكبير أو الحمد، وقد جاء في حديث النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا إله إلا الله، كلمات أربع لا يضرك بأيهن بدأت).
ولكن هذا في الذكر بعد الصلاة وليس في النوم.
وأما ذكر النوم فيختلف عن الذكر بعد الصلاة بأن التكبير فيه أربع وثلاثون، وأما التكبير في أذكار ما بعد الصلاة فهو ثلاث وثلاثون، وتمام المائة هو التهليل لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وفي رواية بغير قوله: يحيي ويميت.
والشاهد من هذا: أن النبي عليه الصلاة والسلام علم ابنته وزوج ابنته -وهو ابن أخيه علي رضي الله عنه- أن التكبير والتحميد والتسبيح عند أخذ المضجع هو خير لهما من خادم، مع أن الظاهر للناس أن الخادم يريح المخدوم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن استعمال الذكر خير من استعمال الخادم.
وفي رواية: [(إذا أخذتما مضجعكما من الليل)]، وهذا يدل على أنه ذكر من أذكار النوم بالليل.
وعن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو حديثه السابق، وفيه: [(قال علي: فما تركته منذ سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم)]، يعني: ما تركت هذا الذكر منذ أن نصحنا وأمرنا به النبي عليه الصلاة والسلام.
[قيل له: (ولا ليلة صفين؟)] يعني: ما تركته حتى في ليلة الحرب التي كانت بينك وبين أهل الشام في موقعة صفين؟ قال: (ولا ليلة صفين).
وهذا يدل على شدة تمسك الصحابة رضي الله عنهم بالذكر والدعاء حتى في أحلك المواقف.
والنبي عليه الصلاة والسلام كان أحياناً يرشد في معمعة الجهاد والقتال وبريق السيوف بسنن لو أننا نصحنا بها الآن في وقت السلم لقيل لنا: إن هذه من توافه الأمور، وليس في الدين توافه ولا قشور ولا لباب، فدين الله تبارك وتعالى كله دين، وهو على مراتب وشعب، وبعضها أعلى من بعض كما في حديثه عليه الصلاة والسلام: (الإيمان بضع وستون -أو بضع وسبعون- شعبة أعلاه لا إله إلا الله، وأدناه إماطة الأذى عن الطريق).
فليحذر الإنسان أن يستهين بقول لله تعالى أو بقول للرسول صلى الله عليه وسلم.
[وعن أبي هريرة: (أن فاطمة أتت النبي صلى الله عليه وسلم تسأله خادماً، وشكت العمل، -يعني: اشتكت من شدة عملها أو قسوة عملها- فقال: ما ألفيته عندنا)، يعني: نحن لا يوجد عندنا شيء، قال: (أولا أدلك على ما هو خير لك من خادم؟ تسبحين ثلاثاً وثلاثين، وتحمدين ثلاثاً وثلاثين، وتكبيرين أربعاً وثلاثين حين تأخذين مضجعك -وفي رواية-: من الليل)].
هذه بعض أذكار الليل.
وعند البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة)، أي: كان يحافظ ويواظب على هذا الذكر بالذات، ويفعله في كل ليلة، (جمع كفيه -يعني: ضم كفيه- ثم نفث فيهما)، والنفث: هواء يخرج بشدة وهو دون التفل وفوق النفس العادي، يعني: ينفخ بشدة في كفيه، (ثم يقرأ: {(49/12)
فضل قراءة آية الكرسي عند النوم
آية الكرسي أعظم آية في كتاب الله عز وجل، حتى بشهادة إبليس، فإنه لما كان أبو هريرة حارساً وقائماً على بيت المال أتاه الشيطان واشتكى الفقر والعيال، وهو كذاب، فقال له: أنا عندي عيال ولا يوجد لدي عمل ولا مال ولا غير ذلك، وكلما أذهب إلى عمل أطرد منه، فأعطني أنا وعيالي، فأعطاه في اليوم الأول فذهب، ثم أتى أبو هريرة إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فبادره النبي بقوله: ماذا فعل صاحبك؟ قال: يا رسول الله! اشتكى فقراً أو عالة وعيالاً.
فقال: سيأتيك غداً، ثم أتاه في اليوم الثاني فاشتكى نفس الشكوى، فأعطاه نفس العطاء، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ماذا فعل صاحبك اليوم؟ قال: أتاني واشتكى عالة وعيالاً، قال: سيأتيك غداً، فبدأ أبو هريرة يشك في هذا الأمر؛ لأنه أتى له في صورة آدمي، وجاء له في صورة إنسان، وليس في صورة شيطان، فلما أتاه في اليوم الثالث رفض أن يعطيه شيئاً، فلما أصر أبو هريرة على عدم العطاء قال له الشيطان -وهو في صورة الإنسان-: أو لا أدلك على آية في كتاب الله هي أعظم آية؟ وإذا قرأتها إذا أخذت مضجعك كان عليك من الله حافظ حتى تصبح واجتنبك الشيطان؟ فالشيطان أدرى بنفسه، قال أبو هريرة: بلى، قال الشيطان: قل: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]، ثم أعطاه، وأتى أبو هريرة إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (ماذا فعل صاحبك اليوم؟ قال: يا رسول الله! أتاني فامتنعت عليه -يعني: لم أعطه شيئاً- فقال: أو لا أدلك على خير آية أو أفضل آية في كتاب الله إذا قلتها حين أخذت مضجعك كان عليك من الله حافظ ولم يضرك الشيطان حتى تصبح؟ قلت: بلى، قال: قل: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]، قال النبي عليه الصلاة والسلام: صدقك وهو كذوب)، يعني: في هذه بالذات هو صادق، والأصل فيه أنه كذاب.
فاتخاذنا لهذه العبادة عند النوم بقراءة وتلاوة آية الكرسي بإقرار النبي عليه الصلاة والسلام، فلا يقولن شخص: كيف نقتدي بالشيطان؟! لأن العبرة هنا بإقرار النبي عليه الصلاة والسلام له.(49/13)
فضل قراءة الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة عند النوم
في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه).
وهاتان الآيتان هما من أول قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ} [البقرة:285]، إلى آخر السورة، فمن قرأهما في ليلة كفتاه.
والعلماء اختلفوا في قوله: (في ليلة)، وهل هو قبل النوم أم هو من أذكار المساء؟ فمن قال: بأن أذكار المساء لا تقال إلا بعد غروب الشمس قال: إن قراءة أواخر سورة البقرة من أذكار المساء لا من أذكار النوم، ومن جوز -وهم الجمهور- أن أذكار المساء تقرأ بعد العصر أو قبيل المغرب جعل هذا الذكر من آداب النوم.
والذي يترجح لي مشروعية الذكر بعد الغروب، ومن أتى بها قبل الغروب فلا حرج عليه.
واختلف أهل العلم في معنى (كفتاه) هل هي كفاية من الشر، أو كفاية من العذاب، أو كفاية من هواجس الشيطان في أثناء نومه.
وقيل: كفتاه من قيام الليل، وقيل: كفتاه من عمل الطاعة؛ لأنها أعظم طاعة، وقيل: كفتاه ثواباً، يعني: من أثيب بقراءة هاتين الآيتين كان في غنى لمزيد ثواب هاتين الآيتين إلى غير ذلك من أقوالهم رحمهم الله تعالى ورضي عنهم.
وإذا تقلب النائم ليلاً.
يعني: إذا كان شخص يتقلب من جنب إلى آخر، أو من مكان إلى مكان، أو من موضع في الفراش إلى موضع آخر فإنه يقول: (لا إله إلا الله الواحد القهار، رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار).
ويقول هذا وهو يتقلب.(49/14)
بيان ما يقول من استيقظ ليلاً
نختم بحديث عظيم جداً يتعلق بالنوم، وهو قول النبي عليه الصلاة والسلام كما أخرجه البخاري من حديث عبادة بن الصامت مرفوعاً: (من تعار من الليل -أي قام- فقال حين يستيقظ فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير).
وفي رواية: (يحيي ويميت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللهم اغفر لي أو دعا استجيب له)، يعني: الذي يقوم من النوم بالليل يقول هذا الدعاء: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له).
وفي هذا إثبات الإلهية لله عز وجل، وأنه واحد في الإلهية والربوبية، كما أنه واحد في أسمائه وأفعاله.
وفي قوله: (ثم قال: اللهم اغفر لي أو دعا استجيب له).
وهذه مكافأة وهدية ربانية لو قال هذه الكلمات التي كلها توحيد وإثبات البعث والحساب والنشور، وإثبات التهليل والتسبيح وغير ذلك لله عز وجل، وكلها تدل على شدة الذل والعبودية لله عز وجل، فلو قال العبد ذلك، ثم قال: (اللهم اغفر لي) غفر الله له، أو دعا استجاب الله تبارك وتعالى لدعائه.
ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: (فإن قام فتوضأ وصلى قبلت صلاته).
ونحن نصلي بالليل والنهار ولا نعلم أهي مقبولة أم لا، وأما في هذه الحالة فإنك على يقين من أن الله تعالى يقبل صلاتك، وأنت لست أفضل من عبد الله بن عمر رضي الله عنهما الذي قال: لو أني علمت أن الله تقبل مني ركعتين كفاني ذلك، قيل له: كيف ذلك يا أبا عبد الرحمن؟! قال: ألم تقرءوا قول الله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27].
يعني: لو أنه علم أن الله عز وجل قبل منه ركعتين فقط لأحس بالاطمئنان قليلاً أنه من أهل التقوى ومن المتقين.
أسأل الله تعالى أن يتقبل مني ومنكم صالح الأعمال والأقوال؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله على نبينا محمد.(49/15)
الأسئلة(49/16)
من رأى في المنام أنه يحج
السؤال
رأيت في المنام أني أحج أكثر من مرة، فما تفسير هذه الرؤيا؟
الجواب
أنا لا أعبر الرؤى، ولا أحسن هذا الباب، غير أني أعلم بعض أحكام الرؤى والأحلام، ولا أستطيع أن أقول في هذه الرؤيا غير أنها من مبشرات الخير؛ لأنه رأى أنه على طاعة، فأسأل الله تعالى أن يمكنه منها في اليقظة.
ولكن قوله: (رأيت في المنام أني أحج أكثر من مرة) أرجو ألا يكون هذا الحج في العام الواحد؛ لأنه لا يكون الحج إلا مرة واحدة في كل عام.(49/17)
حكم حلق بعض الرأس وترك البعض الآخر
السؤال
ما حكم الكابوريا، أحلال أم حرام؟
الجواب
الكابوريا من حيث كونها حيوانات بحرية حلال، وأما من حيث كونها حلاقة وهيئة في الرأس فهي حرام، وهذا هو المعني في السؤال، وفي الشرع اسمها: القزع.
وقد نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن القزع، وهو حلق بعض الرأس وترك البعض الآخر.
وبعض أهل العلم حدد القزع بترك قص مقدم الرأس، مثلما كنا نعمل في الماضي ونحن نرعى الأغنام، فقد كنا نحلق الرأس كله ونترك مقدمة الرأس، ومع انتشار هذه السنة الكفرية في شباب المسلمين يعجبني القول الذي يعمم النهي بحلق بعض الرأس وترك البعض الآخر في أي موطن كان هذا القزع، فسواء حلق فوق أذنه وترك أم رأسه أو حلق أم رأسه وترك الذي فوق أذنه، أو حلق الرأس من الخلف وترك المقدمة، أو حلق المقدمة وترك الخلف كل هذا يسمى بالقزع، وقد ذكر اللغويون أن القزع يصدق على كل هذه الهيئات، والذي وقع في زمنه عليه الصلاة والسلام (أنه رأى غلاماً قد حلق رأسه إلا مقدمه -أي: إلا مقدم الرأس- فنهى عن ذلك عليه الصلاة والسلام).
ولا يصح لشباب المسلمين أن يتشبهوا بغيرهم من أصحاب الملل الأخرى، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من تشبه بقوم فهو منهم).(49/18)
حكم إسبال الثياب
السؤال
ثوب الأخ الذي عن يمينك تكلم فيه أهل العلم، وأقل ما قالوا: إنه مكروه، وقال البعض: حرام لاسيما في الصلاة، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة؟
الجواب
ليس معلوماً هذا الأخ بعينه، وهذا أمر يصلح لنا جميعاً، وهو إسبال الإزار، وأظن أن السؤال يعني هذا، وإسبال الإزار كبيرة من الكبائر، والذين صنفوا في الكبائر عدوا منها الإسبال؛ لما ورد في حقه من النهي والوعيد الشديد، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول كما في صحيح مسلم: (ثلاثة لا ينظر الله تعالى إليهم ولا يكلمهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب).
وقال عليه الصلاة والسلام كما في حديث البراء بن عازب وغيره: (إزرة المؤمن إلى منتصف الساق، فإن أبى ففوق الكعبين).
وقوله: (إزرة المسلم) يعني: إزاره أياً كان هذا الإزار، وهو ما يلبس في أسفل البدن، سواء كان ثوباً أو بنطلوناً أو سروالاً أو غير ذلك، فلابد أن يكون فوق الكعبين، فقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ما أسفل من الكعبين ففي النار)، أي: من القدم، وهذا تهديد ووعيد لصاحب الإسبال.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه دخل على النبي عليه الصلاة والسلام مرة وهو مسبل فأمره أن يرفع ثوبه، فما نزل ثوب عبد الله بن عمر عن منتصف ساقه قط، ولا يحتج أحد بحديث أو فعل أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأنه قال: (إن ثوبي ينزل، غير أني أتعاهده أو أتعهده).
فليس في هذا الحديث ما يدل على أنه كان مسبلاً؛ لأنه كان يحرص دائماً على رفعه، ولذلك لما علم ذلك منه النبي عليه الصلاة والسلام وأنه لم يكن مسبلاً عمداً وإنما هو يتعهده بالرفع حتى يوافق في ذلك السنة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لست منهم يا أبا بكر!)، أي: لست ممن يفعله خيلاء.
ولذلك أهل العلم يقولون: إسبال الإزار على سبيل الخيلاء والفخر وغير ذلك حرام، وإسباله ليس على سبيل الخيلاء والبطر مكروه كراهة شديدة.(49/19)
بيان حال رابعة العدوية
السؤال
هل كانت رابعة العدوية صوفية؟
الجواب
رابعة العدوية مختلف فيها، فبعضهم غالى تماماً فيها وأثبت أنها من أئمة الصوفية، والبعض جافى عنها تماماً وقال: إنها عبارة عن شخصية وهمية، والأمر ليس كذلك، بل هي شخصية حقيقية، وقد ترجم لها الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء، وقد كانت من أبناء القرن الثاني الهجري؛ لأنها عاصرت سفيان الثوري، وهي صوفية، وكان سفيان يكثر زيارتها ويذم عندها الدنيا، فقالت: يا سفيان! دع عنك هذا، فإن من أحب شيئاً أكثر ذكره.
أي: لو كنت لا تحبها لما ذكرتها أبداً.
وهذا كلام جميل، ورابعة كغيرها من نساء الأمة ورجالها، فإذا أصابت فإصابتها على العين، وإذا أخطأت فيرد عليها خطؤها.(49/20)
حكم التقبيل والمعانقة في السلام
السؤال
هل من السنة معانقة الرجل أخاه وتقبيل الكتفين والمصافحة بالضغط على الأصابع فترة من الزمن؟
الجواب
لقد زاد الناس في هيئات وكيفيات السلام والتحية هيئات كثيرة جداً، وهذه الهيئات تختلف من بلد إلى بلد، ومن قطر إلى قطر، وترك التقبيل أولى من التقبيل، فإن فعلته فلا حرج عليك، خاصة وأن النبي عليه الصلاة والسلام قبل جعفر بن أبي طالب، وكان مالك لا يقبل مطلقاً، وكان الشافعي رحمه الله يقبل، وكان أبو حنيفة يقبل.
وقد صنف ابن الأعرابي رسالة لطيفة جداً سماها: (القبل والمعانقة والمصافحة)، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يقبل كذلك محارمه من البنات والبنين، فقد كان يقبل الفضل بن العباس وعبد الله بن عباس، وقد ثبت التقبيل في غير ما حديث، وما ورد أنه قبل الحسن في فمه فإنما فعل ذلك لعلة ذكرها بعد ذلك، وقبل الفضل بن العباس بين عينيه.
يعني: في جبهته وبين عينيه.
فالتقبيل جائز، وتركه أولى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يداوم على ذلك، وقد ورد النهي عن التقبيل، وحمله العلماء على كراهة التنزيه.
والله أعلم.(49/21)
شرح صحيح مسلم - كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل
إن وقوع العبد في المعصية ومقارفته للخطأ من سمات البشر التي جبلهم الله عليها، وكما أن الشارع بين للعبد ما يأتي به من أذكار وأدعية للاستغفار والتوبة عما قارفه من المعاصي، أرشد كذلك إلى أدعية وأذكار للاستعاذة من الوقوع في الذنب والمعصية ابتداءً، وهذا فضل من الله عز وجل تفضل به على الأمة المحمدية.(50/1)
باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد: فمع باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل.(50/2)
شرح حديث عائشة: (اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن يحيى وإسحاق بن راهويه واللفظ لـ يحيى قالا: أخبرنا جرير عن منصور عن هلال عن فروة بن نوفل الأشجعي].
والصحيح أنه ليس صحابياً، وإنما الصحبة ثابتة لأبيه بلا نزاع، أما هو فمن كبار ثقات التابعين.
[قال: (سألت عائشة عما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو به الله)].
لم يسألها عن الدعاء عند الطعام ولا عند الكرب ولا عند نزول المطر، ولا في المساء والصباح، وإنما سألها سؤالاً عاماً كأنه كان يسأل عن معظم دعائه عليه الصلاة والسلام، أو: ما هو الدعاء المعتاد الذي كان يدعو به النبي عليه الصلاة والسلام؟ سأل عائشة رضي الله عنها خاصة ليطلع على أقواله الإيمانية عليه الصلاة والسلام في بيته، فلا شك أنه يسأل الخبيرة بذلك.
[قالت: (كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت ومن شر ما لم أعمل)].
يعني: يستعيذ الله تبارك وتعالى ويستغفره لما يمكن أن يكون بدر منه، ولما يمكن أن يقع منه في المستقبل، وهذا محمول منه عليه الصلاة والسلام على الهفوات والهنات.
أما الكبائر فإن الأنبياء جميعاً معصومون من الوقوع فيها، وما وقع من الكبائر على يد الأنبياء إنما ذلك كان قبل البعثة وقبل النبوة، كما وقع من موسى عليه السلام، وأنه قتل رجلاً من بني إسرائيل، وهذا القتل كان قبل مبعثه عليه الصلاة والسلام.
أما الهفوات والصغائر فإن المحققين من أهل العلم، ومن أهل الأصول والحديث يقولون بجوازها على الأنبياء؛ ولذلك قوله هنا: (اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت) أي: من الصغائر والهفوات والهنات واللمم.
أي: الشيء الصغير جداً الذي يلم بالفرد دون قصد منه.
فالنبي عليه الصلاة والسلام يستعيذ بالله مما يمكن أن يكون وقع منه في أيامه الأولى قبل البعثة أو بعد البعثة مما وقع فيه من هنات وزلات يسيرة جداً، أعقبها استغفاراً وتوبة وإنابة إلى الله عز وجل، أو أنه عليه الصلاة والسلام أراد أن يدعو بهذا الدعاء لعلمه اليقيني بأن الدعاء هو العبادة، فهو أراد أن يتقرب إلى ربه ومولاه وسيده بهذا الدعاء؛ لأن الدعاء عبادة، أو أراد عليه الصلاة والسلام بهذا الدعاء: التواضع، وأن يعلم أمته كيف يدعون الله عز وجل، وغير ذلك من التأويلات الكثيرة التي قالها أهل العلم في شرح هذا الحديث وغيره.(50/3)
شرح روايات وطرق أخرى لحديث عائشة: (اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت)
قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة.
وهو الكوفي، الإمام الكبير صاحب المصنف -وأبو كريب - وهو محمد بن العلاء الهمداني قالا: حدثنا عبد الله بن إدريس عن حصين -وهو ابن عبد الرحمن السلمي أبو الهذيل الكوفي - عن هلال بن يساف عن فروة بن نوفل، قال: (سألت عائشة عن دعاء كان يدعو به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت ومن شر ما لم أعمل)].
أما قول فروة بن نوفل: (سألت عائشة عن دعاء كان يدعو به) يعني: يستمر على الدعاء عليه، ويواظب عليه.
ومن الأخطاء الفادحة جداً: تحريف الكلم عن مواضعه بغير قصد، أما إذا كان بقصد فهذا كفر بواح؛ وهو أني سمعت أحد الخطباء يقول: كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملتَ ومن شر ما لم أعمل).
فالنسبة لفعل الشر هنا لله عز وجل، وهذا بلا شك خطأ فادح جداً وإن لم يكن مقصوداً، لكن على أية حال يقلب المعنى رأساً على عقب، كما لو قال في الصلاة: صراط الذين أنعمتُ عليهم، مع أن الآية: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ} [الفاتحة:7] وهذا بلا شك تحريف للكلم، وهذا الذي يسميه أهل العلم اللحن الجلي الذي تبطل به الصلاة؛ لأنه يغير المعنى تماماً، ولذلك تبطل به صلاة الإمام وصلاة المأمومين كذلك.
[حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار] ومحمد بن المثنى ومحمد بن بشار كلاهما فرسا رهان عالمان جليلان، وفي كل وجوه الترجيح يثبت أنهما سواء، فهما في جهة العدالة سواء بغير ترجيح، وفي جهة الضبط والإتقان سواء بغير ترجيح، وهذا الذي يسميه العلماء كفرسي رهان.
يعني: أن الفرسين ينطلقان سوياً ويصلان سوياً في توقيت واحد، فكذلك محمد بن المثنى العنزي البصري أبو موسى ومحمد بن بشار المعروف بـ بندار، هما كفرسي رهان، يعني: ليس بينهما أي وجه من وجوه الترجيح؛ لأنهما في كل زاوية من زوايا الترجيح سواء.
قال: [حدثنا ابن أبي عدي -وهو محمد بن إبراهيم بن أبي عدي - ح وحدثنا محمد بن عمرو بن جبلة حدثنا محمد يعني: ابن جعفر كلاهما عن شعبة]، محمد بن جعفر المعروف بـ غندر تلميذ شعبة بل وربيبه، لأن شعبة تزوج أمه بعد وفاة أبيه.
وقوله: كلاهما عن شعبة.
أي: ابن أبي عدي ومحمد بن جعفر، فـ ابن أبي عدي ومحمد بن جعفر كلاهما يرويان عن شعبة [عن حصين بهذا الإسناد].
أي: بالإسناد السابق مثله تماماً.
غير أن محمد بن جعفر في حديثه: (ومن شر ما لم أعمل).
[وحدثنا عبد الله بن هاشم] وهو ابن حيان العبدي أبو عبد الرحمن الكوفي، سكن نيسابور.
[حدثنا وكيع -هو ابن الجراح العتكي الكوفي - عن الأوزاعي عبد الرحمن بن عمرو عن عبدة بن أبي لبابة عن هلال بن يساف عن فروة بن نوفل عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: (اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت، وشر ما لم أعمل)].(50/4)
شرح حديث ابن عباس: (اللهم لك أسلمت وبك آمنت)
قال: [وحدثني حجاج بن الشاعر قال: حدثنا عبد الله بن عمرو أبو معمر] وهو التميمي المقعد، هكذا لقبه.
قال: [حدثنا عبد الوارث وهو عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان البصري، أحد الأعلام، حدثنا أبو عبيدة العنبري التميمي قال: حدثنا الحسين -وهو ابن ذكوان المعلم البصري - قال: حدثني ابن بريدة -وهو عبد الله بن بريدة - عن يحيى بن يعمر البصري عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت، أن تضلني أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون)] هذا دعاء رائع جداً وجميل، وفيه ما يلي: أولاً: فيه الإذعان والاستسلام لله عز وجل؛ لأنه في أوله كان يقول: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت) فيقول: لك أسلمت.
أي: انقدت إليك وأذعنت واستسلمت وخضعت ولا أومن إلا بك.
ومن سياق الكلام لم يقل: اللهم إني أسلمت لك.
ولكنه قال: (لك أسلمت).
وهذه شبه جملة، مكونة من الجار والمجرور تفيد الحصر والقصر، فكأنه يقول: لك أسلمت لا لغيرك، وبك آمنت لا بغيرك، فهو يقصر الإيمان على الله عز وجل والإسلام لله عز وجل، كما أنك تقرأ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فلو قلت: نعبد إياك ونستعين إياك لجاز أن يقال: نعبد إياك وغيرك، ونستعين إياك وغيرك، لأن الجملة حينئذ لا تفيد الحصر، فيجوز أن نعبد الله ونعبد غيره، ويجوز أن نستعين بالله ونستعين بغيره؛ لأن الجملة لا تفيد الحصر.
أما قولك: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] أي: العبادة مقصورة على الله عز وجل، لا تصرف إلا لله، وكذلك الاستعانة مقصورة ومحصورة فيه سبحانه وتعالى، فلا يجوز صرفها لغير الله.
قال: (وعليك توكلت).
ولم يقل: (توكلت عليك).
إلى آخر الحديث؛ ليدل على حصر هذه العبادات كلها في جنب الله عز وجل، وأنه لا يجوز صرف شيء منها لغير الله، ولو صرف شيء منها لغير الله لوقع الفاعل في الشرك؛ لأن هذه كلها عبادات.
وهذا الحديث كذلك يبين الفرق بين الإيمان والإسلام؛ لأنه لم يقل: لك أسلمت وآمنت، وإنما قال: (لك أسلمت وبك آمنت)، ليدل على أن الإسلام له مدلول وأن الإيمان له مدلول آخر.
فهذا الحديث قد بين الفارق بين الإيمان وبين الإسلام، وأنتم تعلمون أن كل مؤمن مسلم ولا بد، وليس كل مسلم مؤمناً، كما أن كل محسن مؤمناً ولا بد، ومن باب أولى أن يكون مخلصاً، ولا يلزم أن يكون المؤمن محسناً؛ لأن الإحسان أعلى مرتبة من الإيمان، كما أن الإيمان أعلى مرتبة من الإسلام، فالأعلى يشمل الأدنى وليس العكس.
قال: (وإليك أنبت) أي: رجعت.
(وبك خاصمت) المخاصمة هي: المحاججة؛ ولذلك يقال: فلان دخل مع فلان في خصومة.
أي: ليس في خصام، وإنما في مناظرة، في لجاج، في حجاج، في بيان مسألة الحجة بالحجة، فالمخاصمة هي: المجادلة بالحق، فقوله هنا: (وبك خاصمت) أي: استعنت بك في سرد الأدلة من كلامك، ومن كلامي الذي تلهمني به، وكأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول لربه: لا حول لي ولا قوة مع أعدائي إلا بك.
(وبك خاصمت) أي: لا أستطيع أن أخاصم ولا أن أجادل ولا أن أحاجج إلا بك يا رب.
(اللهم إني أعوذ بعزتك) الاستعاذة هي اللجوء والتضرع، فالنبي عليه الصلاة والسلام يتضرع إلى الله عز وجل بعزته، والعزة من صفات الله عز وجل.
قال بعض أهل العلم: لا يجوز القسم إلا بالله أو باسم من أسمائه أو صفة من صفاته، وما دون ذلك فهو شرك.
ولا يجوز نداء الصفة، كما تقول: يا عزة الله، يا رحمة الله، يا قدرة الله، يا ملك الله، ونداء الصفة شرك بالله عز وجل؛ لأنك تنادي الصفة لا تنادي الموصوف، فدخلت الشبهة على بعض السامعين لذكر عزة الله عز وجل، كما في هذا الحديث.
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول في هذا الحديث: (اللهم إني أعوذ بعزتك) فهو استعاذ بصفته تعالى وهي العزة، فهنا استعاذة بعزة الله، والاستعاذة بعزة الله عز وجل ليست نداءً، لأنها مسبوقة بقوله: اللهم، فالنداء أولاً لله عز وجل، ثم أعقب النداء لله عز وجل بالاستعاذة بعزته، فليس هذا باب شبهة قط فيما يتعلق بنداء الصفة.
قال: (اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني) وهذا يثبت أن الخير والشر بإذن الله عز وجل؛ لأنه قال: اللهم إني أعوذ بعزتك.
وقوله: (لا إله إلا أنت) جملة اعتراضية، ففيها إثبات وحدانية الله عز وجل وإلهيته، وأن الخير والشر بيديه.
أما قوله عليه الصلاة والسلام: (والخير في يديك، والشر ليس إليك).
أي: الشر المحض الذي لا خير فيه.
فإنه ليس من أفعال الله عز وجل، لكن الشر الذي يحمل معه الخير هو من فعل الله عز وجل.
فالشر الذي في ظاهره شر ولكنه يحمل معه الخير هو من فعل الله عز وج(50/5)
شرح حديث أبي هريرة: (سمع سامع بحمد الله وحسن بلائه علينا)
[حدثني أبو الطاهر أخبرنا عبد الله بن وهب أخبرني سليمان بن بلال المدني عن سهيل بن أبي صالح المدني عن أبيه وهو أبو صالح ذكوان السمان عن أبي هريرة رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا كان في سفر وأسحر)] وأسحر أي: بلغ وقت السحر، إما نام وقام وإما سار بالليل حتى وقت السحر.
يعني: كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا كان في سفر فنام من ليله ثم قام في وقت السحر الذي هو لون الفجر أو أنه سار بالليل، والمعلوم المسنون هو السفر بالليل، ولا يمنع أن يكون السفر بالنهار، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام إنما سن وفضل السفر بالليل لا بالنهار، على خلاف عادة الناس، وعلى خلاف ما يحب الناس الآن، فإنهم يحبون أن يسافروا في الصباح، حيث الضوء وكشف الطريق وغير ذلك، وحتى يأمنوا الحوادث بالليل.
ولكن النبي عليه الصلاة والسلام بين أن الأرض تطوى بالليل دون النهار، وربنا الذي يعرف ذلك، ونحن قد آمنا بأن الأرض تطوى بالليل، أليست الأرض والسماوات في قبضة الملك سبحانه وتعالى؟ والله يستطيع أن يكور السماوات والأرض، ولا يمنع القادر على أن يكور السماوات والأرض، بل هو القادر على ما هو أعظم من ذلك، وهو قادر على كل شيء سبحانه وتعالى أن يضم الأرض بعضها إلى بعض فتقصر المسافة.
فالنبي صلى الله عليه وسلم بين أن الأرض تطوى بالليل، وتقصر، والمسافر بالليل لا يجد عناء السفر بالنهار، والسفر بالليل أحب إلى قلبي من السفر بالنهار، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل) والدلوج هو الانطلاق في السير في أول الليل، وإذا أدلج على هذا النحو بلغ هدفه.
وكان من عادته عليه الصلاة والسلام أنه يسافر بالليل، ويقطع طريقه في أول الليل، فإذا تعبت دابته استراح، فربما نام وربما استراح شيئاً يسيراً يصلي فيه ثم ينطلق حتى يسحر.
فهنا قال: (كان إذا كان في سفر وأسحر) أي: بلغ وقت السحر إما ماشياً وإما بعد نومه.
قال: [(سمع سامع بحمد الله وحسن بلائه علينا، ربنا صاحبنا وأفضل علينا عائذاً بالله من النار)] وسمع بمعنى شهد وإما سمع أي: أخبر مخبر عن الله عز وجل أن الله تعالى يسمع حمد من حمده وشكر من شكره على حسن بلائه الذي نزل به.
ثم يقول عليه الصلاة والسلام: (ربنا صاحبنا وأفضل علينا).
ومعنى صاحبنا أي: احفظنا وأحطنا واكلأنا وأفضل علينا بجزيل نعمك، واصرف عنا كل مكروه.
كما أنك تقول: اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في المال والأهل.
(اللهم أنت الصاحب) يعني: أنت الحافظ، وأنت المعين، وأنت الميسر، وأنت المتفضل، وأنت المحيط بنا، الذي تكلؤنا.
قال: [(عائذاً بالله من النار)] أي: أقول هذا في حال استعاذتي واستجارتي بالله تعالى أن أعذب بالنار.(50/6)
شرح حديث: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري)
[حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري حدثنا أبي -وهو معاذ العنبري - حدثنا شعبة عن أبي إسحاق وهو السبيعي عن أبي بردة -وهو ابن أبي موسى الأشعري - عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو بهذا الدعاء]، وهذا دعاء عام ليس مخصوصاً بوقت دون وقت، وإنما هذا من الأدعية العامة.
يقول: [(اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي)].
وأهل اللغة يفرقون بين الخطأ والخطيئة، فيقولون: الخطيئة للذنب العظيم، كما في قول الله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} [نوح:25] ولم يقل: من خطاياهم، أو من خطئهم، وإنما قال: (خَطِيئَاتِهِمْ) فالخطيئة بمعنى الذنب العظيم.
والنبي عليه الصلاة والسلام لم يرتكب ذنباً عظيماً، وإنما عد النبي عليه الصلاة والسلام عدم بعض الكمال والتمام في حقه ذنباً عظيماً، كما تقول الصوفية: إن حسنات الأبرار سيئات المقربين.
يعني: حسنات قوم هي عند قوم سيئات.
ونحن لا نقول بهذا القول، لكن أردت بأن أقرب المعنى.
والنبي عليه الصلاة والسلام قد وقع في هفوة أو في شيء من هذا كقوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس:1]، والعبوس لو صدر من واحد منا لا حرج عليه، وهو باب من أبواب سوء الخلق وانتهت القضية على هذا، ولو قابلتك وقلت لك: سامحني ما كنت أعرفك، والذي لا يعرفك لا يقدرك، أو كلام من هذا، انتهت القضية.
لكن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر هذا في حق نفسه كبيرة من الكبائر، مع أنها ليست كبيرة، ولكنها هفوة وزلة صغيرة استغفر منها النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا الفارق بيننا وبين الأنبياء، أن الواحد منا يقع في الذنب ولا يعقبه بتوبة، وربما يقع في كبيرة أو كبائر ولا يعقبها بتوبة، بخلاف الأنبياء يقعون في اللمم ثم سرعان ما ينتبهون فيعودون إلى الله عز وجل ويستغفرونه ويتوبون مما بلغ منهم، وهذا فارق عظيم جداً ليس بالأمر الهين.
فهكذا النبي عليه الصلاة والسلام اعتبر أن ما بدر منه من هفوات هي خطيئات مع أنها خطايا، وذنوب صغيرة.
وفي الحديث عند البخاري وكذا مسلم: (أن المؤمن يعد ذنبه كالجبل).
يعني: المؤمن يعتبر ذنبه الصغير كالجبل وهو واقف تحته يخشى أن ينهار عليه.
أما الفاجر فإن كبائر الذنوب عنده ليست إلا كذبابة وقعت على أنفه فقال بها هكذا فطارت.
يعني: أشار إليها بيده ثم طارت بعد ذلك؛ لأنه مستهتر ومستهين.
إذا كان هذا في حق المؤمن والفاجر، فما بالكم إذا كان المؤمنون في صعيد والنبي عليه الصلاة والسلام في صعيد آخر يعتبر أن أقل ما يمكن أن يلام فيه أنه خطيئة، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل هذا إلا كما يفعله أقرب المقربين الأتقياء.
تصور لو دخل علينا رجل نعرف عنه الفساد والضلال، وهو زعيم قوم أو أمير قوم، ودخل وهو يضرب به المثل في الضلال، فأنا أرجو الخير له أن يدخل في الإسلام إن كان كافراً أو غير ذلك، وسأترك الدرس وأجلس أتكلم معه، ولو كلمني أحدكم أو كلكم.
وهكذا.
لما دخل أشراف قريش على النبي عليه الصلاة والسلام يناقشونه ويجادلونه فأتاهم ابن أم مكتوم رجل أعمى رضي الله عنه ولكنه مؤمن، وكانت له عند النبي صلى الله عليه وسلم حاجة، وسؤال، فلما دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يكلم أشراف قريش آثر استمرار الكلام معهم وتأخير ابن أم مكتوم، فأنزل الله عز وجل فيه العتاب كما في قوله: {وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:28].
يعني: لا تصرف بصرك ووجهك وقلبك يا محمد عن أصحابك مهما كانوا فقراء، أذلة، ضعفاء، قلة، ولا تغتر بأشراف القوم، فإنهم لا خير فيهم.
فهو مجرد عتاب، ولكن تصور أن هذا العتاب واللوم البسيط اعتبره النبي عليه الصلاة والسلام كالجبل من المعاصي، فيقول: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي).
والجهل ضد الحلم لا العلم، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا خرج من بيته: (اللهم إني أعوذ بك أن أجهل أو يجهل علي).
يعني: أن أنتقم لنفسي، أو أثأر لنفسي، (أو يجهل علي).
يعني: أعوذ بك أن تسلط علي رجلاً غليظاً لا رحمة عنده ولا حلم، فالجهل هنا ضد الحلم وليس هو الذي يقابل العلم.
(اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري).
هو لم يسرف عليه الصلاة والسلام، لكن هذا أدب الدعاء، وما دمت تدعو الإله سبحانه وتعالى فيستحب لك أن تبين له أنك في منتهى الذل بين يديه، وأن تعد الصغائر بين يديه كبائر، لا أن تقول: يا رب! أنا لم أفعل شيئاً، والحمد لله، لا سرقت ولا زنيت ولا قتلت ولا، ولا، ولا وتعد الكبائر التي صنفها الذهبي وتقول الحكاية كلها بعض الصغائر كالشتم، والسب، وهوى الشيطان، هذه أمور بسيطة تتعالج.
لا.
أنا أريدك أن تعد الذنب وإن صغر كبيرة من(50/7)
شرح حديث: (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري)
قال: [حدثنا إبراهيم بن دينار، حدثنا أبو قطن عمرو بن الهيثم القطعي عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون عن قدامة بن موسى عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري)].
وانظر إلى هذا الدعاء فالنبي صلى الله عليه وسلم قدم الدين قبل الدنيا؛ لأن الدين دائماً قبل الدنيا، ولو أنك حزت الدنيا بحذافيرها وفقدت الدين فما حزت شيئاً قط، بل خسرت كل شيء.
ولو أنك فزت بالدين وخسرت كل شيء بعده لفزت بكل شيء؛ ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام كان دائماً يبين لأصحابه هذه القاعدة، فيقول: (انظروا إلى من هو دونكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ لئلا تزدروا نعمة الله عليكم).
والعلماء يقولون في قوله عليه الصلاة والسلام: (انظروا إلى من هو فوقكم ولا تنظروا إلى من هو دونكم).
أي: في الدين والخير والطاعة، لا تتأثر بمن هو دونك، لأنك لو تأثرت بمن هو دونك فستقف عند حد معين من الطاعة.
أما إذا تأسيت وجدت أعظم أسوة هو النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام، ولذلك يقول ابن مسعود: من كان متأسياً فليتأس بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة.
أي: من كان مقتدياً فليقتد بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، والأسوة المعصوم الذي لا يخطئ هو النبي عليه الصلاة والسلام.
ولذلك القراءة في سيرة النبي عليه الصلاة والسلام وفي سيرة أصحابه الكرام تجعل الواحد دائماً يحتقر نفسه! اقرأ مثلاً في سير الصحابة رضي الله عنهم، اقرأ الثلاث المجلدات الأول في سير أعلام النبلاء، لترى كيف كانت عبادة الصحابة رضي الله عنهم؟ وكيف كان عملهم وجهادهم وصبرهم وجلدهم وإنفاقهم في سبيل الله عز وجل؟ والنساء يقرأن في حياة الصحابيات وحياة الصالحات من السلف رضي الله عنهن، فكل واحد أو واحدة منا لا بد وأنه سيحتقر نفسه ويحتقر عمله، بل ربما يصل الواحد فينا إلى درجة اليقين أنه هالك، والواحد منا يقول: لولا رحمة ربنا سندخل الجنة.
ما هي مؤهلاتنا التي ممكن أن ندخل بها الجنة؟ إن للجنة مؤهلات، فمؤهلاتنا كلها غيبة ونميمة وتقصير في طاعة الله عز وجل، وخداع وغش وريبة وربا وتزوير وتمويه، فليس لنا مؤهلات تدخلنا الجنة إلا برحمة الله عز وجل.
لما نقرأ في حياة السلف سنقول: أين نحن؟ وبعض المتبجحين منا والمقصرين والمفرطين جداً في طاعة الله عز وجل يطلبون الفردوس الأعلى، ومرافقة النبي صلى الله عليه وسلم، مع أننا ليس لدينا مؤهلات لدخول الجنة من الأصل، ولا لعبور الصراط، لكنها على أية حال رحمة الله عز وجل التي نرجوها.
كان عليه الصلاة والسلام يقول: [(اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري).
أول طلب يطلبه النبي عليه الصلاة والسلام ويقدمه على غيره من المطالب هو إصلاح الدين.
أي: بإقامته على منهج الله عز وجل.
[(وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي)] يعني: الدين ليس فيه إلا جنة أو نار، إنما الدنيا فيها المعاش، وأنت تعيش على الفول وغيرك يعيش على لحم الضأن، فأنتما سواء، هي عيشة وخلاص.
يعني: هذه المعيشة ليست محل اهتمام ولا تعظيم ولا تفكير؛ إنما الذي يستحق التفكير والاهتمام هو الدين، والحديث: (انظروا إلى من هو دونكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم).
العلة فيه: (لئلا تزدروا نعمة الله عليكم).
فالفقير الذي يصلي ويصوم عند ما يزدري نعمة الله عليه حينما ينظر إلى ما أعطى الله للغني من نعيم فيقول: لماذا ربنا أعطى الرجل هذا، رغم أنه لا يستحق وحرمني وأنا أستحق؟ وهذا الغني الذي نتحدث عنه أفضل من هذا الرجل إذا قال هذا الكلام واعتقده؛ لأنه يعتقد أن الله تعالى غير حكيم في توزيع أرزاقه، والله هو الرزاق ذو القوة المتين، يرزق من يشاء، ويحرم من يشاء، ويعطي من يشاء، وإذا أعطى الله عز وجل عبداً فإنما يعطيه لحكمة، وإذا منع عبداً فإنما يمنعه لحكمة، فربنا سبحانه هو الحكيم.
فالأصل أن الفقير لا يصاحب الغني، إذا كان سيؤثر عليه بأن يزدري نعمة ربنا عليه، وأحسن له أن يصاحب الفقراء من أهل الإيمان، من أجل يستمر شاكراً لنعمة الله عز وجل عليه.
وكثير من الفقراء إذا صاحبوا الأغنياء تمردوا على أسرهم، بل وسعوا جاهدين لئن يكونوا مثلهم وأعلى منهم، وهذه المسألة في عامة الناس مذمومة، فما بالك في أهل العلم وطلاب العلم، فهي أكثر ذماً وقبحاً، بل هي تقدح في عدالة من فعل هذا، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (انظروا إلى من هو دونكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم).
يعني: في الدنيا، (مخافة أن تحتقروا نعمة الله عز وجل التي أسداها لكم).
قال: [(وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي)]، أي: رجوعي إليك.
[(واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة ل(50/8)
شرح حديث: (اللهم إني أسألك الهدى والتقى)
قال: [حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص] وهو عوف بن مالك، أبو الأحوص عوف بن مالك لكن ليس الأشجعي؛ لأن الأشجعي صحابي، بينما هذا هو عوف بن مالك بن نضلة الجشمي الكوفي.
[عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى)].
قوله: (اللهم إني أسألك الهدى).
أي: الهداية.
فالناس يتصورون أن العلم هو الهداية، أو المعرفة هي الهداية وليس هذا بصحيح، وإنما الهدى هو الإذعان والاستسلام والإيمان بالله عز وجل، ولذلك فالعلم لا يغني عنك من الله شيئاً إذا لم تعمل به، بل هو سبب إحراقك في النار إذا لم تعمل به أو لم تطلبه لله عز وجل.
(والتقى) التقوى.
(والعفاف) العفة.
(والغنى) المقصود به غنى النفس، والغنى عما في أيدي الناس.
يعني: رزق الكفاف؛ ولذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول في دعائه: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً).
وفي رواية: (كفافاً).
وقوتاً يعني: قوت يوم بيوم.
وكفافاً.
يعني: ما يكفيهم في يومهم.
ولو كان جمع الدنيا هو المراد لورد إلينا ولو مرة واحدة في نص إلهي أو نبوي طلب الدنيا، لكن النصوص الشرعية كلها تدل على ذم الدنيا، والنصوص التي مدحت الدنيا إنما مدحتها من باب أن صاحبها يستغلها في طاعة الله عز وجل، ويؤدي فيها حق الله تعالى، وحق الفقراء والمساكين، أما غير ذلك فهي مذمومة مسبقاً.(50/9)
شرح حديث زيد بن أرقم: (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل)
وفي رواية زيد بن أرقم قال: [لا أقول لكم إلا كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل)].
العجز: الضعف.
[(والجبن والبخل، والهرم)] الهرم الذي هو كبر السن [(وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها -يعني: ارزق نفسي التقوى- وزكها -أي: طهرها- أنت خير من زكاها)].
ليس معنى ذلك أن هناك من يزكي النفس دون الله عز وجل، لقوله: (أنت خيرٌ) أو أنت خير من زكاها.
لا يعني: أن غيرك يزكيها لكن أنت أحسن من يزكيها، ليس هذا المعنى، إنما المعنى أنت المزكي لها لا غيرك.
[(أنت وليها ومولاها)].
[(اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع)] مع أن النبي عليه الصلاة والسلام كان دائماً يحث على العلم وطلب العلم وفضل العلم، لكن النبي عليه الصلاة والسلام استعاذ من علم لا ينفع بين يدي الله، إما أن يكون هذا هو علم الشرع ولكن المتعلم أو الطالب له لم يتعلمه لله ولم يعمل به، فهذا علم ينقلب عليه وبالاً يوم القيامة؛ ولذلك أول من تسعر بهم جهنم ثلاثة: منهم: العالم الذي تعلم العلم ليقال فقط أنه عالم.
يعني: طلبه للوجاهة أو الرئاسة، أو لحظ من حظوظ الدنيا وغير ذلك، فهذا سينقلب عليه علمه وبالاً.
وكذلك العلوم التي لا تنفع: علم السحر والفلسفة والمنطق والدجل، وعلم النجوم وغير هذا من العلوم المحرمة، كل هذا من العلم الذي لا ينفع.
[(اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع)] أي: نفس عندها نهم وشره، كلما وقعت العين على شيء اشتهته النفس واشتهاه القلب، وهذه آفة في النساء، ولا يمنع أن تكون في كثير من الرجال، امرأتك تمشي معك أو أختك أو أمك، كلما وقعت عينها على أشياء جميلة تريدها.
قال: [(ومن دعوة لا يستجاب لها)].
وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: [كان قال النبي عليه الصلاة والسلام يقول إذا أمسى: (أمسينا وأمسى الملك لله، والحمد لله، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له)].
على أية حال يا إخواني أظن أننا قد دخلنا في أدعية مخصوصة بأوقات معلومة؛ وهي أدعية اليوم والليلة، أو أدعية النهار والليل.(50/10)
شرح صحيح مسلم - كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - أذكار الصباح والمساء
إن العبد المسلم إذا أصبح كل يوم كان على كل سلامى منه صدقة، فإن أتى بأذكار الصباح والمساء وسائر الأذكار فإنه يكون قد أدى صدقة أعضائه، ثم يكون له بهذه الأذكار حصن من الشرور، وحماية من الشيطان وقبيله، وزيادة قرب له من ربه عز وجل الذي يذكر عباده بقدر ذكرهم له.(51/1)
تابع باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل(51/2)
شرح حديث: (أمسينا وأمسى الملك لله)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وسلم تسليماً كثيراً.
ثم أما بعد: إن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة، وبعد: فما زلنا مع كتاب الذكر.
قال المصنف رحمه الله: [عن النبي عليه الصلاة والسلام: (أمسينا وأمسى الملك لله والحمد لله، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم إني أسألك خير هذه الليلة، وأعوذ بك من شر هذه الليلة وشر ما بعدها، اللهم إني أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر، اللهم إني أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر)].
وهذا الدعاء يقال في أول الليل.
وقوله: (اللهم إني أسألك خير هذه الليلة) جاء في رواية من طريق ابن سويد: (وخير ما بعدها، وأعوذ بك من شر هذه الليلة) أي: ما يقدر فيها من نزول الشر.
والنبي عليه الصلاة والسلام أمر بإيكاء الأواني.
أي: بتغطية الأواني التي فيها طعام أو شراب؛ لأن الداء ينزل في ليلة في السنة، فلا تدري لعل الليلة التي تركت فيها آنيتك مكشوفة هي الليلة التي وافقت نزول الشر والداء من السماء، فحينئذ يصيب هذا الشر الإناء أو الطعام فتأكله فيصيبك ما قدر الله عز وجل لك.
فقوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم إني أسألك خير هذه الليلة) أو من خير هذه الليلة، فكأنه عليه الصلاة والسلام سأل ربه أن يصيبه من خير هذه الليلة المقبلة عليه، أو يصيبه خيرها كله، فهو إما أن يسأله من بعض خير هذه الليلة أو يسأله الخير كله.
قوله: (وأعوذ بك من شر هذه الليلة وشر ما بعدها، اللهم إني أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر) بفتح الباء وكسر ما قبلها، وهو: وسوء العمر، وأن أرد إلى أرذل العمر.
والكبر هو العمر المتقدم وهو السن.
وفي رواية: (وسوء الكبر)، الذي هو غمط الناس.
أي: ظلم الناس ورد الحق.
قوله: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر).
هذا دليل على أن القبر إما أن يكون روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، وأن عذاب القبر ثابت في كتاب الله عز وجل وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير -وهو ابن عبد الحميد الضبي الكوفي - عن الحسن بن عبيد الله عن إبراهيم بن سويد عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله بن مسعود قال: (كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا أمسى قال: أمسينا وأمسى الملك لله، والحمد لله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له) قال: أراه قال فيهن].
أي: إبراهيم النخعي ينقل عن عبد الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، رب أسألك خير ما في هذه الليلة، وخير ما بعدها، وأعوذ بك من شر هذه الليلة وشر ما بعدها، رب أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر، رب أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر)، وإذا أصبح قال ذلك أيضاً: (أصبحنا وأصبح الملك لله) إلى آخر الحديث وإذا قاله في المساء قال: (أمسينا وأمسى الملك لله والحمد لله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له) إلى آخر الحديث، فهذا الدعاء يقال في كل صباح ومساء.
وفي رواية قال: (كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا أمسى قال: أمسينا وأمسى الملك لله والحمد لله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، اللهم إني أسألك من خير هذه الليلة وخير ما فيها، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها) ولم يقل: وشر ما بعدها، إنما قال: (وشر ما فيها) أي: من شر.
(اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم وسوء الكبر).
والهرم: الذي هو أرذل العمر.
(وفتنة الدنيا وعذاب القبر).
(فتنة) هنا اسم جنس، يشمل جميع الفتن التي يمكن أن يمر بها الإنسان في حياته، فتنة مال، فتنة نساء، فتنة جاه، فتنة سلطان، فتنة الدين، كلها فتن، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يستعيذ بالله عز وجل أن يقع في فتنة من فتن الدنيا أو الآخرة.
وهذا إما أن يكون لتمام وكمال العبودية لله، فهو عليه الصلاة والسلام معصوم أن يقع في مثل هذا، أو لأنه أراد أن يعلم أمته كيف يدعون الله عز وجل.
وفي رواية بزيادة: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير).(51/3)
شرح حديث أبي هريرة: (لا إله إلا الله وحده)
قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثني الليث -وهو الليث بن سعد - عن سعيد بن أبي سعيد -وهو المعروف بـ المقبري، وهذا لقب له؛ لأنه كان يسكن بجوار البقيع- عن أبيه -وهو أبو سعيد المقبري - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا إله إلا الله وحده، أعز جنده)]، وجند الله هم أولياؤه وأنصاره، وهم المؤمنون الموحدون، فالله عز وجل أعزهم بعزته.
[(ونصر عبده)] وهو محمد عليه الصلاة والسلام، فإما أن يكون هذا للعهد.
أي: هذا العبد المعهود عليه العبودية لله عز وجل وهو النبي عليه الصلاة والسلام، وإما أن يكون هذا لبيان الجنس ليشمل جميع العباد الصالحين.
قال: [(وغلب الأحزاب وحده فلا شيء بعده)].
وفي رواية: (وهزم الأحزاب وحده).
والأحزاب: هم القبائل المتحزبون على حزب الإيمان.
ومعنى (غلب الأحزاب وحده) أي: من غير قتال دار بينهم وبين أهل الإيمان، بل أرسل الله عز وجل عليهم ريحاً اقتلعت خيامهم حتى انهزموا بغير قتال دار بينهم وبين أهل الإيمان.
أما قوله: (فلا شيء بعده) أي: فلا شيء سواه هزم الأحزاب، فهو سبحانه وتعالى وحده لا أحد معه هزم وغلب الأحزاب.
قال: [حدثنا أبو كريب -وهو محمد بن العلاء الهمداني - قال: حدثنا ابن إدريس -وهو عبد الله - قال: سمعت عاصم بن كليب عن أبي بردة عن علي رضي الله عنه قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل: اللهم اهدني وسددني، واذكر بالهدى هدايتك الطريق والسداد سداد السهم)] أي: هدايتك الطريق حتى لا تنسى.
فالنبي عليه الصلاة والسلام يعلم علياً دعاءً يدعو به دائماً في كل أحواله وأحايينه، وأتى له بأمارات من أجل لو نسي أصل الدعاء يذكر أن هداية الطريق هداية، فيقول: (اللهم اهدني وسددني) وأن سداده وحرصه على إصابة الهدف بالسهم سداد.
والتقدير: فإذا نسيت هذا فاذكر بالهداية هدايتك الطريق وبالسداد سداد السهم.(51/4)
باب التسبيح في النهار وعند النوم(51/5)
شرح حديث: (لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات)
قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد وعمرو الناقد وابن أبي عمر -واللفظ له- قالوا: حدثنا سفيان -وهو ابن عيينة - عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، عن كريب -وهو مولى ابن عباس - عن ابن عباس رضي الله عنهما عن جويرية رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح)] بكرة.
أي: في أول النهار؛ وحين صلى الصبح أي: بعد أن صلى الصبح في مسجده ثم دخل على امرأته جويرية رضي الله عنها فوجدها قد صلت وجلست في مصلاها تذكر الله تعالى، قال: [(خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها -أي: في المكان الذي صلت فيه- ثم رجع بعد أن أضحى)] أي: بعد أن دخل وقت الضحى، أو بعد أن صلى الضحى وهي جالسة على حالها التي رآها عليها النبي عليه الصلاة والسلام [فقال: (ما زلت على الحالة التي فارقتك عليها؟)] يعني: أنت باقية لم تتحركي ولم تغادري هذا المكان منذ أن رأيتك بكرة.
[(قالت: نعم يا رسول الله! فقال: لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن)].
يعني: أنا قلت أربع كلمات بعد أن غادرتك وتركتك على هذه الحال ورددتها ثلاث مرات، فهي تزن جميع أذكارك في يومك وليلتك.
ومعنى (لو وزنت هذه الكلمات بما قلت لوزنتهن).
أي: لفاقتهن في الفضل والثواب.
قال: [(سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، وزنة عرشه، ورضا نفسه، ومداد كلماته)].
وسبحان الله وبحمده كلمة حبيبة إلى الرحمن، خفيفة على اللسان، ثقيلة في الميزان، كما جاء بذلك الحديث: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) وهو آخر حديث في صحيح البخاري.
فالنبي عليه الصلاة والسلام بين لـ جويرية بالدرجة الأولى فضل هذه الكلمات؛ لأنها المخاطبة بهذا، والمخبرة بهذا الثواب وفضل هذه الكلمات وإن كان الخطاب والخبر للأمة إلى قيام الساعة.
ولا يعني ذلك أنه عليه الصلاة والسلام سبح عدد الخلق؛ لأن عدد الخلق لا يمكن إحصاؤه، فلما غلب عليه الصلاة والسلام على الإحصاء لم يفكر فيه أصلاً؛ لأن الخلق نعمة من نعم الله عز وجل، والله تعالى يقول: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34].
فإذا كانت نعمة الخلق لا يمكن إحصاؤها فأراد النبي عليه الصلاة والسلام إجمال ذلك وبيان أنه يريد أن يسبح الله وأن يحمده عدد خلقه، وإن كان عدد الخلق بالنسبة إليه أمراً مجهولاً ولا يمكن إحصاؤه، فإنما أجمل الكلام إجمالاً؛ ولذلك سن للذاكر المتعبد أن يثني على الله عز وجل بما هو أهله، فلما عز الإنسان أن يثني على الله عز وجل بما هو أهله؛ لأن أحداً لا يكافئ الله عز وجل في الثناء والحمد والشكر والتمجيد، فسن أن نقول: (أنت كما اثنيت على نفسك) لأن أحداً لا يبلغ الثناء الكامل التام لله عز وجل.
(لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك)، بعض الناس يقرؤها منقطعه؛ فيقول: (لا نحصي ثناءً عليك أنت) ويقف، ثم يقول: (كما أثنيت على نفسك)، فيصير المعنى غير مستقيم، ولكن القراءة الصحيحة التي يثبت بها الفهم الصحيح: (لا نحصي ثناءً عليك)، يعني: إذا أردنا إحصاء الثناء عليك فلا نقوى على ذلك، ولا نقدر عليه، (أنت كما أثنيت على نفسك)؛ لأن الله عز وجل أعلم بما له من ثناء وحمد وتمجيد، فإن العبد يثني على الله عز وجل بعظيم المحامد والثناء، ثم يرى أنه عاجز عن الوفاء بالحمد والشكر لله عز وجل، فيفوض الأمر إلى منتهاه، أو في منتهاه إلى الله عز وجل، يقول: يا رب! أنت تستحق أكثر من هذا الثناء والحمد، وأنت أعظم مما يمكن أن يتصوره المرء من ثناء وحمد، فأنت في النهاية كما أثنيت على نفسك، لكن ليس معنى هذا أنك تكل وتعجز عن الثناء والحمد، ولكن تحمد وتمجد وتعظم الله عز وجل.
فهنا قال عليه الصلاة والسلام: (سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه) يعني: سبحانك وبحمدك حتى ترضى، أي: أسبحك وأحمدك حتى ترضى عني.
وقوله: (وزنة عرشك) لا أحد يعمل زنة العرش إلا الله عز وجل؛ ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام ضرب مثلاً بالكرسي في العرش كحلقة في فلاة، قال: (السماوات السبع والأراضين السبع في الكرسي كحلقة في صحراء، والكرسي في العرش كحلقة في فلاة)، إذاً: زنة العرش فوق طاقة البشر، وفوق عقول البشر، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (سبحانك وبحمدك وزنة عرشك ومداد كلمات) يعني: أسبحك وأنزهك وأحمدك حمداً لا منتهى له.
(ومداد كلماتك)، المداد الذي هو الحبر، لو أن الله عز وجل جعل الأشجار جميعاً أقلاماً، والبحار مداداً وجعل عباده يأخذون هذه(51/6)
أحاديث صحيحة في أذكار الصباح والمساء
هناك أحاديث أخرى كذلك صحت في أذكار الصباح والمساء، منها: ما أخرجه مسلم ولعله سبق من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: (من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحداً قال مثلما قال أو زاد عليه).
وعند أبي داود والنسائي والترمذي بسند صحيح من حديث عبد الله بن خبيب قال: (خرجنا في ليلة مطر وظلمة شديدة نطلب النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي لنا، فلما أدركه ابن خبيب قال النبي صلى الله عليه وسلم له: قل، قال ابن خبيب: فلم أقل شيئاً، ثم قال: قل، قال: فلم أقل شيئاً، قال: قل، قلت: يا رسول الله! ما أقول؟ قال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1])، ليس على مذهب معمر القذافي الذي ألغى من كتاب الله عز وجل لفظ: (قل) قال: لأن الأمر موجه للنبي عليه الصلاة والسلام.
وليس هناك حيوانات تجتهد إلا معمر القذافي وصدام حسين أو غيرهما.
(قال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاث مرات يكفيك من كل شيء).
إما أن يقرأ (قل هو الله أحد) ثلاث مرات متتاليات، ثم (الفلق) ثلاث مرات متتاليات ثم (الناس) كذلك، وإما أن يقرأ (قل هو الله أحد) ثم (قل أعوذ برب الفلق)، ثم (قل أعوذ برب الناس)، وهذا أولى، ثم يعيد هذه السور الثلاث مرة ثانية وثالثة.
إذا فعل العبد ذلك كفاه الله عز وجل شر يومه إلى المساء، وإذا قالها في المساء كفاه شر ليله حتى الصباح والناظر في كتب الأذكار إما في الصحيحين أو في كتب السنن، وإما في الكتب التي صنفت في الأذكار خاصة؛ يعلم أن حياة المسلم كلها ذكر لله عز وجل، فالشرع ما تركك قط بغير ذلك، لا في يقظتك وقومتك، ولا في نومك ولا في صباحك ولا في مسائك، ولا في صلاتك ولا في سائر عبادتك، حتى في أفعالك العادية التي تفعلها من باب العادة فيسن لك في كثير منها الدعاء، فطاعة تسلمك إلى طاعة، لتجد نفسك في النهاية ذاكراً لله تبارك وتعالى في كل أوقاتك وأحايينك.
والنبي عليه الصلاة والسلام كان دائماً مسبحاً وذاكراً لله عز وجل، حتى قال: (إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة) وقال أبو هريرة: (وإنا لنعد عليه -عليه الصلاة والسلام- في المجلس الواحد مائة تسبيحة أو مائة استغفار).
وذكر أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يعلم أصحابه: (إذا أصبح أحدكم فليقل: اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا وبك نحيا وبك نموت).
يعني: لا حول لنا ولا قوة في حياتنا ومماتنا، كلنا لله عز وجل، وكلنا في قبضة الملك تبارك وتعالى، اللهم بك أصبحنا، وبك أمسينا، لا يمكن لنا أن نصبح إلا بك، ولا نمسي إلا بك، ولا غنى لنا عنك طرفة عين، فصباحنا ومساؤنا بك.
وهذا توكل كامل على الله عز وجل في الحياة والموت؛ ولذلك يسن لك إذا نمت أن تنام على خدك الأيمن وعلى جنبك الأيمن وتقول: (باسمك اللهم أموت وأحيا) يعني: أنام على اسم الله عز وجل، ولا يمكن أن أقوم من نومتي إلا بإذن الله عز وجل، وعلى اسم الله عز وجل.
قال: (وإليك النشور).
أي: البعث من هذا النوم الذي هو الموتة الصغرى، فشبه أهل العلم النوم بالموت، واليقظة بالبعث، ولذلك جاء في الحديث الصحيح: (إنكم تموتون كما تنامون وتبعثون كما تستيقظون) فشبه هذا بذاك، عندما الشخص يصحو يقول: (اللهم بك أصبحنا، وبك أمسينا)، وإذا أمسى قال: (اللهم بك أمسينا وبك أصبحنا)، وإذا كان في الصباح قال: (وإليك النشور)، الذي هو البعث والانتشار، وإذا كان في المساء قال في نهاية الدعاء: (وإليك المصير)، أي: نحن عائدون إليك، وصائرون إليك، وراجعون إليك.(51/7)
سيد الاستغفار
وعن شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيد الاستغفار: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتنى وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك وأبوء لك بذنبى، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) هذا أحسن ذكر، لأنه يشمل التوحيد بجميع أقسامه: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الأفعال؛ لأن الله تعالى واحد في ذاته، واحد في أسمائه وصفاته، واحد في أفعاله، والعبد يقر بين يدي الله عز وجل في صباحه ومسائه بهذا الحديث أنه عبد مذنب، وأنه راجع وصائر إليه، ومعترف بذنبه ومقر به، ومعتقد أن أحداً لا يقدر على مغفرة الذنوب إلا الله.
تصور أن عبداً يقر لله تعالى في صباحه ومسائه بهذه التقريرات، ويقدم هذه الإيمانيات والعقائد الصحيحة من واقع هذا الدعاء، ويتبرأ من ذنبه بطلب التوبة والمغفرة من الله عز وجل، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم لأجل هذا كله سيد الاستغفار.
قال: (اللهم أنت ربي) أي: لا رب لي سواك، ولا إله لي غيرك، وأنت رب جميع المخلوقين، لا رب لهم غيرك، أنت الذي ربيتهم وخلقتهم ورزقتهم، وهديتهم وسويتهم، وقدرت عليهم، ولا يفعل أحد من خلقك شيء من هذا، فأنت متفرد في خلقك، وفي ربوبيتك، ومن ادعى أنه رب غيرك أو إله غيرك فإنما كل هؤلاء أرباب وآلهة كذابون أفاكون؛ لأنه لا رب على الحقيقة إلا الله عز وجل؛ لأنه رب جميع الخلائق، وهو رب جميع المخلوقات، لا رب لجميع المخلوقات غير الله عز وجل، فهنا قدم الإيمان بأن الله تعالى هو الرب لا رب سواه، ثم قال: (لا إله إلا أنت)، فأثبت صفة الإلهية لله عز وجل، والإله هو المألوه أو المتأله الذي يستحق الإلهية وحده، والعبادة وحده، لا يصرف شيء منها لغير الله عز وجل، فمن صرف شيئاً من العبادة الواجبة لله عز وجل لغير الله فكأنما اتخذ مع الله تعالى إلهاً غيره فيكون مشركاً بذلك، فكما أثبت النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الدعاء الربوبية لله عز وجل أثبت له كذلك الإلهية، فهو رب وحده وإله وحده، لا رب سواه ولا إله غيره، تصور أن عبداً يستيقظ من نومه بعد صلاة الفجر فيقدم بين يدي يومه هذا الدعاء، وهذا التقرير، قال: (خلقتني وأنا عبدك)، والخلق صفة للربوبية، فكما أقر بالربوبية بجميع صفاتها إجمالاً فصل بعد ذلك عليه الصلاة والسلام، قال: (أنت خلقتني)، والخلق صفة للرب تبارك وتعالى، فبعد أن قال: (اللهم أنت ربي) قال: (أنت خلقتني).
ثم قال: (وأنا عبدك)، فالعبادة تصرف للإله الحق وهو الله سبحانه وتعالى، ولما كانت العبادة من خصائص الإلهية جمع النبي عليه الصلاة والسلام بين صفة الخلق وصفة العبادة، فالخلق من لوازم الربوبية والعبادة من لوازم الإلهية، فاعترف في هذا إجمالاً في الأول ثم فصل بعد ذلك، قال: (اللهم أنت ربي) أي: أنت خلقتني.
(لا إله إلا أنت) وأنا عبدك، يعني: لا أصرف شيئاً من العبادة لغيرك؛ لأنك الإله الحق المستحق لهذه العبادة.
قال: (وأنا على عهدك) يعني: لا أحيد عن العهد الأول والميثاق الإيماني الذي أخذه الله عز وجل على العباد أن يعبدوه وأن يوحدوه ولا يشركوا به شيئاً، وإقرارهم في الميثاق الأعظم في كتاب الله عز وجل؛ لأنهم قد آمنوا به إلهاً ورباً، والله عز وجل أشهدهم على أنفسهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:172] لأنه قد يكون منهم يوم القيامة منكر لهذا الميثاق وهذا العهد، فالنبي عليه الصلاة والسلام يذكر هذا ابتداءً من عنده فيقول: (وأنا على عهدك ووعدك) أي: أنا على العهد والميثاق والوعد الذي أخذه الله عز وجل على عباده، ولكنه عليه الصلاة والسلام قال: (ما استطعت).
والطاعة والأمر يختلفان باختلاف الأشخاص، وباختلاف الأحوال والظروف؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه).
يقول ابن تيمية وغيره من أهل العلم: إن الأمر بالطاعة يختلف بحسب أحوال الناس وظروفهم، فالله عز وجل أمرنا إذا صلينا أن نقوم في صلاتنا، فالقيام من واجبات الصلاة، أو من فرائض الصلاة، وتبطل صلاة الفرض إذا صلى الرجل قاعداً وهو قادر على القيام، لأن القيام واجب وفرض، وهو صلى جالساً بغير عذر.
لكن إذا كان لديه العذر الذي يمنعه من القيام صلى جالساً ولا حرج عليه، وثوابه كثواب من صلى قائماً، بخلاف النافلة فللرجل القادر على أن يصلي النافلة قائماً أن يصليها قاعداً ولكن أجره على النصف من أجر صلاة القائم، وهنا كلام طويل قاله ابن القيم عليه رحمة الله في كتابه (الأذكار)، مرده إلى أن من الألفاظ المترادفة: العهد والوعد، قال: (وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت) يعني: آتي من الطاعات ما استطعت؛ لأن الطاعة أحياناً تكون فوق طاقة الإنسان؛ ولذلك فإن جرير بن عبد الله البجلي قال: (بايعت النبي(51/8)
حديث أبي بكر: (اللهم عالم الغيب والشهادة)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! علمني شيئاً أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت)، تصور أن السائل هو صديق هذه الأمة، فلما علم أهمية الذكر في طرفي النهار سأل عن ذلك، (فقال النبي عليه الصلاة والسلام: قل: اللهم عالم الغيب والشهادة).
يعني: يا عالم الغيب والشهادة.
والغيب هو الأمر الذي يغيب عن نظر المخلوقين، ولا يغيب عن الله عز وجل شيء؛ ولذلك أقر بين يدي الله عز وجل بأنه يؤمن أن الله تعالى يعلم الغيب كما يعلم الشهادة، والشهادة بمعنى المشاهد، فهذا الكأس مثلاً مشاهد، ولو أننا أخفيناه تحت الأرض لا يخفى على الله عز وجل.
إذاً: الغيب والشهادة بالنسبة لله عز وجل شهادة يراها ويعلمها، فأقر بعلم الله عز وجل الذي لا يقاس عليه علم، لو أتينا بأعلم أهل الأرض فيكون علمه في علم الله عز وجل لا شيء، وأعلم أهل الأرض هو نبينا عليه الصلاة والسلام وعلمه في جنب علم الله لا شيء، بل المقارنة لا تصح.
وكذلك السمع، تعرفون زرقاء اليمامة في البصر، لما جاءوا بـ زرقاء اليمامة المرأة التي كانت عيناها زرقاء وجميلة، وكان نظرها حاداً جداً، فكان بين قومها وبين أعدائهم حروب طاحنة، فقالوا: نأتي بـ زرقاء اليمامة تنظر إلى جهة العدو، واليمامة في نجد بجوار الرياض، فكانوا يخشون إغارة عدوهم، ولكن على أي حال تحزبوا واقتطعوا شجرة أو نخلة فجعلوها في وسط الجيش، وهم يمشون في الصحراء، فنزلت زرقاء اليمامة فقالت: أتاكم الجيش ومعه شجرة أو نخلة، قالوا: هذه المرأة مجنونة ولم يصدقوها، حتى فاجأهم وباغتهم الجيش ومعهم النخلة، فأقروا لها بحدة البصر.
وأظن أن تاريخ البشرية لم يذكر امرأة أحد في النظر من زرقاء اليمامة، وماذا يكون نظرها في نظر الله عز وجل، وبصرها في بصر الله عز وجل؟ زرقاء اليمامة لو إبرة ألقيت في بحر لا تراها، لا ترى ما تحت عينها إذا ألقيت إبرة في فلاة أو في بحر لا تراها، والله عز وجل يعلم كل شيء، ما دق وجل، ما عظم وحصر، ما صغر وكبر، لا منتهى لصفاته سبحانه وتعالى؛ ولذلك نحن نقول: الله تعالى واحد في صفاته.
يعني: متوحد ومتفرد في كل صفة أثبتها لنفسه أو أثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم، فالمخلوق يسمع، والله تعالى يسمع، لكن الله متفرد في سمعه، لو جمع أسماع جميع المخلوقين ما ساوت سمع الله تعالى، بل وما قورنت بسمع الله عز وجل، وجميع العلم عند الخلق على اختلاف ألوانهم وأشكالهم لو جمع في عقل واحد لا يساوي قط علم الله عز وجل، والله تعالى يقول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]، هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أعلم الخلق، ومع هذا يقول له: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]، أي: في جنب علم الله عز وجل، والعلم الذي أوتيه الناس إنما هو من فضل الله عز وجل.
إذاً: المقارنة غير صحيحة وجائرة وظالمة، ولذلك فالله سبحانه وتعالى واحد في أسمائه وصفاته وأفعاله.
يعني: إذا فعل الله تعالى فعلاً لا يمكن أن يشبه هذا الفعل أفعال المخلوقين، أو أفعال المكلفين، ولا يمكن أن يخلق الخلق مجتمعون شيئاً يضاهون به خلق الله عز وجل، ولو أجمع الخلق أجمعون منذ أن خلق الله آدم إلى أن يرث الأرض ومن عليها لا يمكن أن يخلقوا ذبابة أو جناح ذبابة بنفس الكفاءة التي خلقها الله عز وجل.
فلا يمكن للخلق أجمعين أن يفعلوا كفعل الله، وأن يخلقوا كخلق الله، وأن يسمعوا كسمع الله، وأن يبصروا كبصر الله، وأن يعلموا كعلم الله، فهو سبحانه وتعالى واحد في كل شيء، واحد في ذاته، فلا يمكن لجميع الذوات أن تشبه ذات الله عز وجل، واحد في أسمائه، هو السميع وأنا سميع، لكن الله تعالى متفرد في سمعه، أما أنا فلست متفرداً به، وهو من فضل الله، ويشبه سمعي سمع جميع المخلوقين، والحيوانات تسمع أحسن منا وأكثر منا، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا شيعت الجنازة فإن كانت صالحة قالت -أي: الجنازة تنطق- قدموني قدموني، وإذا كانت غير ذلك قالت: يا ويلها أين تذهبون بها بصوت يسمعه كل أحد إلا الإنسان ولو سمعه لصعق).
أي: يسمعها كل شيء حتى الحيوانات والدواب والحشرات والطير إلا الثقلين: الإنس والجن.
فقوله: (ولو سمعه لصعق) فلو سمعنا صوت الجنازة وهي تقول: يا ويلها أين تذهبون بها؟ لصعقنا، فلا أحد فينا يفكر أن يصلي بعد ذلك على جنازة أو يشيعها في يوم من الأيام، ولتركنا الموتى يعطبون في بيوتنا مخافة أن نصعق، فمن رحمة الله عز وجل بالآدمي أياً كان كافراً أو مسلماً، عاصياً أو طائعاً: أن يوارى الميت بالتراب حتى لا يتأذى الأحياء.
قال: (قل: اللهم عالم الغيب والشهادة) يعني: الغائب والمشاهد، والغيب بالنسبة لله تعالى مشاهد؛ لأنه لا يغيب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض.(51/9)
استحباب قول: (باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء) في الصباح والمساء
وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما من عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة: باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، ثلاث مرات لم يضره شيء).
وقال: (ما نزل أحدكم منزلاً -أي: يخشى منه- فيقول: باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات لم يضره شيء حتى يخرج) أي: حتى يخرج من هذا الذي يخافه، فلم يضره شيء حتى يصبح أو حتى يمسي.
تصور أن أسداً يقابلك أو ذئباً أو كلباً أو عدواً خفت منه فقل: باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات، وهذا الأمر يحتاج إلى يقين أن هذا العدو لن ينالك بأذى، ولما تقول الكلام هذا وأنت ما عندك عقيدة راسخة يصيبك ما يصيبك، بسبب ضعف إيمانك، لكن أنا أعرف أن الكلام هذا حق وصدق، قاله النبي صلى الله عليه وسلم ويحتاج إلى قلوب مؤمنة قوية في إيمانها، وإن شاء الله تعالى لن يضرك، بل تكون أنت أمامه كالأسد.
لا تقل هذا الدعاء شعرك واقف ونفسيتك تحت الأرض، وحالتك تغم، فربنا معك، سم الله وتوكل على الله، ولا يمكن مع ذكر الله أن يلحقك شيء أو يضرك أو ينالك أذى، إذا كنت تعتقد هذا وقلته ثلاث مرات لا يضرك شيء بإذن الله.(51/10)
حديث أنس: (اللهم إني أصبحت أشهدك وأشهد حملة عرشك)
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال حين يصبح أو يمسي: اللهم إني أصبحت أشهدك وأشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت، وأن محمداً عبدك ورسولك؛ أعتق الله ربعه من النار، ومن قالها مرتين أعتق الله نصفه من النار، ومن قالها ثلاثاً أعتق الله ثلاثة أرباعه من النار، فإن قالها أربعاً أعتقه الله من النار) الراجح أن هذا الحديث حسن بغير قيد بالليل والنهار، أما أنه من أذكار الصباح والمساء ففيه ضعف.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح).
يعني: كان يداوم عليها في كل صباحه ومسائه.
(اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي، وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي).
يعني: الخسف.
كما قال وكيع بن الجراح رحمه الله تعالى.(51/11)
بعض الأحاديث الضعيفة الواردة في أذكار الصباح والمساء
هناك بعض الأحاديث الضعيفة التي وردت في أذكار الصباح والمساء، منها: حديث ثوبان رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من قال حين يمسي: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً كان حقاً على الله أن يرضيه).
هذا الحديث قال الترمذي فيه: حسن صحيح، وصححه جماعة عظيمة من أهل العلم.
والذي يترجح لدي: تحسين هذا الحديث، وإن كان الشيخ الألباني عليه رحمة الله يضعف هذه الرواية.
وحديث: عبد الله بن غنام رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قال حين يصبح: اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، لك الحمد ولك الشكر، فقد أدى شكر يومه.
ومن قال مثل ذلك حين يمسي فقد أدى شكر ليلته) أخرجه أبو داود وسنده ضعيف.
والحديث الذي رواه طلق بن حبيب رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى أبي الدرداء رضي الله عنه فقال: يا أبا الدرداء! قد احترق بيتك، فقال أبو الدرداء: لم يكن الله ليفعل ذلك) ليحرق بيتي، (بكلمات سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، من قالها أول نهاره لم تصبه مصيبة حتى يمسي، ومن قالها آخر النهار لم تصبه مصيبة حتى يصبح: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، عليك توكلت وأنت رب العرش العظيم، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أعلم أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً، اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم).
وهذا الحديث حديث ضعيف، وهناك أدلة أخرى وروايات متعددة في أذكار الصباح والمساء.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(51/12)
الأسئلة(51/13)
حكم النظر إلى المخطوبة
السؤال
ما حكم الشرع في رؤية المخطوبة؟ وكم عدد مرات الرؤية الشرعية؟
الجواب
بمجرد أن رأيتها ووقعت في قلبك ليس لك أن تراها إلا بعد العقد، والرؤية ليست مرهونة بعدد معين، لا واحد ولا اثنين ولا ثلاثة ولا أربعة، وإنما أقل مجالس الرؤية واحد، رآها مثلاً ماشية في الشارع، كانت جارة له وترقبها حتى رآها هذا مأذون له شرعاً، كما فعل جابر، ومحمد بن مسلمة والمغيرة بن شعبة وغيرهم من الصحابة أنهم كانوا يختلسون النظر إلى المرأة، وهذا يجرنا إلى مسألة مهمة جداً، وهي: ماذا يرى الرجل من المرأة؟؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال لـ ابن مسلمة: (هل رأيتها؟ قال: لا.
قال: انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً).
وقال للمغيرة: (انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما فنظرت إليها حتى رأيت منها ما يسرني.
وفي رواية: قال: فاختبأت لها فرأيتها من نخل) يعني: اختبأ في بستان حتى رآها.
والمرأة في بيتها قد تكون لابسة ملابسها العادية وقد تكون كاشفة شعرها، والرقبة وشيئاً من الصدر، وقد تكون كاشفة الذراعين، أو كاشفة شيئاً من الساقين، فيجوز النظر إلى هذا، بل هذا هو المذهب الراجح في القضية، وجمهور الفقهاء يقولون: لا ينظر إلا إلى الوجه والكفين، ولا دليل معهم في ذلك.
وهم يقولون: الوجه يدل على النضرة، واليد تدل على السمنة والنحافة؛ لأن جمال المرأة في وجهها في الغالب؛ لأن المرأة لو كان جسمها جميلاً لكنها دميمة الخلقة فإنها لا تعجب الرجال، فتبين أن جمال المرأة دائماً إنما هو في وجهها.
المذهب الثالث في القضية هو مذهب الظاهرية: قالوا: للرجل أن يجردها -بالدال- لأن بعض أهل العلم صحفها إلى الباء، وهذه مصيبة سوداء، فقال: له أن يجربها، وهذا بلاء عظيم جداً، ولم ينتبه إلى هذا التصحيف، وهذا المذهب قد اعتمد على قصة أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب لما أرسلها علي إلى عمر ليراها، فكشف عمر عن ساقها، قالت: لولا أنك أمير المؤمنين لفقأت عينيك.
وهذه البنت كان عمرها (10 - 11) سنة، وهذه الرواية غير صحيحة لا تثبت من جهة الإسناد، ولا من جهة المعنى، وإن هذه ليست أخلاق عمر رضي الله عنه، حتى لو كان هذا من حقه فالظن به أنه يتورع عن ذلك.
أما من جهة الرواية والسند فإن السند إلى عمر منقطع، فيبقى أمامنا مذهبان: المذهب الأول: مذهب جماهير الفقهاء وهو: للخاطب أن يرى من مخطوبته الوجه والكفين، ولو طلب الخاطب أن يرى المرأة في حالتها الطبيعية في بيتها فله ذلك، وهذا الذي يترجح إلي من جهة الدليل، ولكني لو تعرضت لمثل هذا لرفضت وكرهت ذلك.(51/14)
حكم المكالمات الهاتفية بين المخطوبين
السؤال
هل يجوز في فترة الخطوبة الكلام بين العريس والعروس وهل يكون قليلاً في أول الأمر ويكثر بعد الخطبة أم لا؟
الجواب
الحقيقة أن فتوى الشيخ الألباني عليه رحمة الله، وقال بهذه الفتوى بعض أهل العلم كذلك: أن الخاطب لا يكلم مخطوبته بل ولا يراسلها عن طريق الخطابات والبريد، ولا يكلمها في الهاتف.
هكذا سمعت الشيخ الألباني يشدد جداً في هذه القضية؛ لأن المخطوبة أجنبية.
الأمر الثاني: أنه لا يصار إلى مثل هذا حتى لو قلنا بأنه ليس حراماً بل إنه شبهة لمنع بعض أهل العلم لذلك، ومن الورع ترك الشبهات.(51/15)
معنى قوله عليه الصلاة والسلام (فإن في أعين الأنصار شيئاً)
السؤال
ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن في أعين الأنصار شيئاً)؟
الجواب
قوله عليه الصلاة والسلام (فإن في أعين الأنصار شيئاً) محل نزاع بين أهل العلم.
(شيئاً) أي: ضيقاً، ونقل أن شيئاً هنا هو الاتساع، واتساع عين المرأة دليل جمالها، إما أن تكون عين المرأة واسعة بمعنى جريئة، وهذا ذم، أو تكون عين المرأة واسعة من جهة الخلقة فهذا مدح.(51/16)
الحكم على الأحاديث الواردة في قراءة آية الكرسي دبر كل صلاة
السؤال
نرجو بيان الحديث الواردة في قراءة آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة.
الجواب
الحديث الوارد في قراءة آية الكرسي دبر كل صلاة حسنه ابن تيمية في الفتاوى، والراجح أنه حديث حسن.(51/17)
حكم قول (فلان رحمه الله)
السؤال
نعلم أن من معتقد أهل السنة والجماعة أنا لا نقطع لأحد بجنة ولا بنار، فما حكم من قال: (فلان رحمه الله)؟
الجواب
قولنا: فلان رحمه الله يشعر أنه في الجنة، ونحن لا نزكي على الله أحداً وإنا لنرجو له الجنة، وإنا نحسبه في الجنة كذلك، لكن لا نستطيع أن نقطع لأحد بعد النبي عليه الصلاة والسلام بجنة وكذلك ليس كل الصحابة مقطوعاً لهم الجنة، نحن نرجو الله عز وجل أن يكون جميع الصحابة من أهل الجنة، لكن لا نشهد لأحد بالجنة قطعاً حتى من أصحابه عليه الصلاة والسلام إلا من قطع له القرآن والسنة، فقولنا: فلان رحمه الله من باب الدعاء لا الخبر.
وإلا فما يدريني أن الله تعالى قد رحمه، وبلا شك أن الورع عن هذه الألفاظ أولى، لكن أنا أريد أن أقول: إذا قيلت فالقصد منها الدعاء لا الخبر، والورع ترك ذلك؛ لأنك تقول: فلان شهيد، ومن المعلوم قطعاً أن الشهداء في الجنة إذا لم يأتوا ما يستوجب لهم النار كالغلول وغير ذلك من الأعمال التي تؤثر على الشهادة.
فلو قلنا: فلان شهيد وقطعنا له بالشهادة الحقة فكأننا نقول: فلان في الجنة، ونتألى على الله عز وجل بهذا، فالأولى ترك هذه الألفاظ.(51/18)
الأسباب المساعدة على اجتناب العادة السرية
السؤال
ما هي الأسباب التي تساعد على عدم فعل العادة السرية؟ وكيف يمكن التوبة منها؟
الجواب
يا أخي الكريم! لا بد أن تعلم أن الأمر دائماً يتعلق بطاعة الله عز وجل أو بمعصيته، فكونك أدركت أن هذه معصية فهذا نصف العلاج، ولا بد أن تعلم أن المذهب الراجح في هذه القضية هو مذهب الشافعية أن الاستمناء أو العادة السرية أو اللعب بالقبل عند المرأة والرجل حرام، وهو أرجح المذاهب في هذه القضية، لقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5 - 7]، أي: من فعل غير ذلك فهو معتد، ومعنى {الْعَادُونَ} [المؤمنون:7] أي: المعتدون الآثمون.
فالذي يترجح لدي: حرمة الاستمناء، والاستمناء في الغالب لا يأتي إلا في وقت غفلة، وفي وقت تسلط شهوة، وإنما يكون هذا تأثير الشيطان على العبد في حال معصيته لله عز وجل وبعده عن قراءة القرآن والعلم ومصاحبة الخلان الذين يعينونه على طاعة الله عز وجل وغير ذلك.
فلا بد لهذا العبد الذي يطلب التوبة النصوح أن يهتم بكتاب الله عز وجل، وأن يراجع نفسه دائماً في الحلال والحرام، وأن يخوف نفسه بآيات التخويف، وأن يقدم ذلك على باب الرجاء، بمعنى يغلبه على باب الرجاء ما دام واقعاً في هذه المعصية.
الأمر الثاني: ألا ينفرد قط؛ لأن الذئب إنما يأكل من الغنم القاصية، يتسلط الشيطان على الشارد عن الجماعة؛ ولذلك أحد العلاجات أنك دائماً تكون في صحبة إخوانك، وألا تتركهم إلا في وقت لا بد لك من تركهم، أما ما دامت الصحبة ممكنة فلا تفرط فيها قط، ثم هذه المجلات وهذه الجرائد القومية وإن شئت فقل: الجنسية فحذاري أن تخالطها أو تخالطك فنحن قد انتقلنا نقلة سوداء في عام واحد في تصوير العرايا والمومسات والعاهرات على صفحات الجرائد.
تصور لو أن شاباً في ريعان شبابه وثوران شهوته يغلق على نفسه باب مكتبه أو غرفته ثم هو معه من هذه المجلات، مجلة الكواكب ومجلة حواء وغيرها، فينظر في صورة هذه المرأة، وفي صورة هذه المرأة، وفي صورة هذه المرأة، فلابد أن شهوته تثور وتفور فيقع في المحظور، فالعبد لا يقتني هذا، وإن كان لابد له من قراءة هذه الجرائد لحاجة فليقرأ خارج بيته أو في بيته ثم يستغني عنها فوراً بالحرق أو الرمي أو غير ذلك، أما أن يحتفظ بها في مكانه الذي يأمن أنها في مكان معين يرجع إليها إذا اشتهى إلى هذه الصورة فإن هذا باب عظيم جداً من أبواب الشر.
نكتفي بهذا، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(51/19)
شرح صحيح مسلم - كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - أدعية وأذكار الكرب
لقد ربطت الشريعة المسلم بدينه في كل أمور حياته وسائر حركاته، وجعلت لكل شأن من شئونه ذكراً يتعبد به المسلم لله عز وجل، لتظل حياته كلها مرتبطة بالله عز وجل، ومن ذلك ما جاءت به من أذكار يقولها إذا أصابه كرب أو هم أو حزن، وأذكار يقولها إذا أكل أو شرب أو أخذ مضجعه.(52/1)
باب استحباب الدعاء عند صياح الديك
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، أما بعد: فمع الباب العشرون من كتاب الذكر والدعاء: (باب: استحباب الدعاء عند صياح الديك).
أي: حين يصيح الديكة.(52/2)
شرح حديث: (إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثني قتيبة بن سعيد].
وهو ثقفي، وثقيف في الطائف، ولكنه رحل إلى مصر والبصرة والكوفة وبغداد وغيرها من سائر البلدان.
قال: [حدثنا ليث]-وهو الليث بن سعد الفهمي، الإمام الكبير المصري- عن جعفر بن ربيعة]، وهو جفعر بن ربيعة بن شرحبيل بن حسنة الكندي، أبو شرحبيل المصري، وقد كان إماماً من أئمة المصريين.
والليث وجعفر كلاهما مصري، وتلميذ الليث ثقفي، والأعرج وأبو هريرة مدنيان.
والليث شهرته وسمعته فاقتا كل حد، وهما فوق كل تعريف، وأما جعفر بن ربيعة فهو وإن كان من أجلة علماء الحديث والفقه والعبادة كذلك، ومن المشهورين بالزهد إلا أن أحداً لا يعرف عنه شيئاً، وكثيراً ما يمر القارئ في كتب التراجم بأئمة لا يقلوا في العلم والورع والفضل عن أحمد بن حنبل ولا الشافعي ولا مالك ولا أبي حنيفة، وهم مع هذا مغمورون جداً حتى عند طلاب علم الحديث والمطلعين في كتب التراجم، وهذا بلا شك تفريط شديد جداً في حق أئمة العلم.
وأنا أقترح أن ينشط طلاب العلم لإعداد بحث في أهل العلم من المحدثين الذين هم من أهل مصر أو وفدوا إليها، وليكن على الأقل ممن له رواية في الكتب الستة؛ حتى لا يخرجوا عن الكتب التي ترجمت لأصحاب الكتب الستة، وإلا فالذين نزلوا مصر والذي هم أهلها آلاف العلماء على مر التاريخ، ولو جعلنا البحث متعلقاً بتراجم أو برواة الكتب الستة فقط وإلى نهاية عصر التدوين -أي: نهاية القرن الرابع الهجري- لكان ذلك عملاً جيداً جداً ومفيداً خاصة لأهل مصر، وهذا ليس من باب التعصب لعلماء مصر ولا لمصر، وإنما هو من باب التعرف على علماء بلادنا قبل غيرهم.
وجعفر بن ربيعة يروي عن الأعرج، وهو عبد الرحمن بن هرمز المدني، [عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله؛ فإنها رأت ملكاً، وإذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان؛ فإنها رأت شيطاناً)].
إذاً: العلة أن الديكة إذا صاحت فإنما تصيح لأنها رأت ملكاً، فالدعاء حينئذ مستجاب؛ لأن الملائكة تؤمن على دعاء الداعي، فإذا سمعت الديك يصيح فاسأل الله تعالى من فضله، فإما أن تقول: اللهم إني أسألك من فضلك، وإما أن تسأل الله تعالى بمطلق الدعاء من فضله سبحانه وتعالى، فإن فعلت ذلك أمن الملك الذي رآه الديك على دعائك، وهذا هو معنى قوله: (فاسألوا الله من فضله؛ فإنها رأت ملكاً).
قال: (قال: القاضي عياض: سببه رجاء تأمين الملائكة على الدعاء) والحالة هذه (واستغفارهم وشهادتهم بالتضرع والإخلاص).
أي: شهادة الملائكة عند الله عز وجل في ضراعة هذا العبد وإخلاصه لله عز وجل.
قال: (وفي هذا الحديث استحباب الدعاء عند حضور الصالحين والتبرك بهم).
ونحن دائماً نعلق على قول الإمام النووي في استحباب التبرك بآثار الصالحين: أن هذه المسألة محل خلاف ونزاع قديم بين أهل العلم، والذي أجمع عليه العلماء: استحباب التبرك بالنبي عليه الصلاة والسلام وآثاره حياً وميتاً، وأما التبرك بذات النبي عليه الصلاة والسلام بعد موته فشرك بالله العظيم، وأما التبرك بآثار الصالحين فإن بعض أهل العلم أجاز ذلك قياساً على التبرك بالنبي عليه الصلاة والسلام، وقالوا: إنما أجزنا ذلك لأنه عبد صالح.
وجمهور أهل السنة والجماعة على ترك التبرك بآثار الصالحين؛ لأنه ذريعة إلى الدخول في الشرك، كما أنه افتئات على الله عز وجل في نسبة هذا العبد إلى الصلاح، وصلاح العبد لا يعلمه إلا الله عز وجل، والمقطوع بصلاحهم هم الأنبياء والمرسلون، فمنعوا التبرك حتى بـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والمشهود لهم بالجنة من أصحابه عليه الصلاة والسلام؛ سداً للذريعة.
وهنا شبهة يمكن أن تثار، وهي: إذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام مقطوعاً بصلاحه فكذلك أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغير ذلك ممن شهد لهم القرآن والسنة بدخول الجنة، وعلى هذا فيشرع التوسل بهم.
والجواب عند أهل السنة: أن هذا الباب قد سد بعد النبي عليه الصلاة والسلام؛ حتى لا يكون ذريعة للشرك.
أي: الوقوع في الشرك.
فهذه الجملة عند الحافظ النووي محل نظر عند أهل السنة.(52/3)
باب دعاء الكرب
الباب الحادي والعشرون: (باب دعاء الكرب).
يعني: إذا وقع الإنسان في كرب أو هم أو غم أو غير ذلك مما يؤثر على نفسه وبدنه وقلبه يستحب له أن يدعو بأدعية كثيرة منها: أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقول: (إذا حزب أحدكم أمر أو إذا نزل بأحدكم الهم -وفي رواية: الغم- فليقل: اللهم إني عبدك ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، وذهاب همي وحزني -وفي رواية: وذهاب همي وغمي- إلا أذهب الله همه وأبدله مكان حزنه فرحاً).
وهذا حديث عظيم جداً، وجليل القدر، وفيه حكم عظيمة وفوائد جمة.(52/4)
شرح حديث: (أن النبي كان يقول إذا أصابه كرب: (لا إله إلا الله العظيم الحليم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثني محمد بن المثنى ومحمد بن بشار -الملقب بـ بندار - وعبيد الله بن سعيد].
وهو ابن يحيى اليشكري، أبو قدامة السرخسي.
وبعض الطلاب ينطقها السرْخَسي، والأصل فيها السرَخْسي؛ لأن البلد اسمها سرَخْس، وليس سرْخَس، وإليها ينسب الإمام السرَخْسي، الإمام الكبير، وهو علم من أعلام الفقه الحنفي، وله كتاب عظيم جداً ضخم في المذهب الحنفي في الفقه اسمه (المبسوط).
[قالوا جميعاً: حدثنا معاذ بن هشام].
وهو معاذ بن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، وليس لـ هشام بن عروة ولد يسمى معاذاً، وإنما إذا ذكر معاذ بن هشام فهو معاذ بن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، وأصله فارسي ولكنه نزل بغداد.
[قال: حدثني أبي -وهو هشام بن أبي عبد الله الدستوائي - عن قتادة - وهو ابن دعامة السدوسي البصري -عن أبي العالية] وهو رفيع بن مهران الرياحي، معروف بكنيته أبو العالية الرياحي، وقد كان من أئمة العلم والزهد كذلك [عن ابن عباس رضي الله عنهما أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب -أي: إذا أصابه كرب أو غم أو هم-: (لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم)].
وقد كان ابن عباس يعجب أشد العجب من هذا الدعاء، ويوصي به دائماً، وهو الذي رواه عن النبي عليه الصلاة والسلام.
قال الإمام النووي: (وهو حديث جليل ينبغي الاعتناء به).
أي: ينبغي على كل مسلم أن يحفظه، وأن يدعو به إذا نزل به الكرب أو الهم أو الغم، وما أكثره خاصة في هذا الزمان.
قال: (والإكثار منه عند الكرب والأمور العظيمة).
أي: يسن ويستحب لك أن تكرره دائماً حتى يزول هذا الكرب وينكشف الغم.
قال: (قال الطبري: كان السلف يدعون به -يعني: كان السلف يهتمون اهتماماً عظيماً جداً بهذا الدعاء- ويسمونه دعاء الكرب -أي: الدعاء الذي يزيل الكرب- فإن قيل: هذا ذكر وليس فيه دعاء).
لأن الدعاء عبارة عن طلب، مثل: اللهم اكشف كربي وأزل همي وغمي وغير ذلك، وأما هذا فهو ذكر لله تعالى، فكيف نفهم أنه دعاء؟ قال الإمام النووي: (فجوابه من وجهين: أحدهما: أن هذا الذكر يستفتح به الدعاء).
يعني: اجعل هذا الذكر دائماً في مقدمة دعائك، فإذا أردت أن تدعو الله أن يكشف عنك الهم والحزن فقدم بين يدي طلبك ودعائك هذا الذكر لله تعالى، وكأن هذا الذكر هو مفتاح الدعاء الذي إذا قدمته على الدعاء تقبل الله تعالى دعاءك.
قال: (ثم يدعو بما شاء).
(والثاني: جواب سفيان بن عيينة أنه قال: أما علمت قول الله تعالى في الحديث القدسي: (من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل مما أعطي السائلين)).
يعني: لو أن العبد انشغل بذكر الله تعالى ولم ينشغل بالطلب والدعاء فهذا أولى وأفضل.
ولكن هذا الحديث ضعيف، فيسلم لنا من هذين الوجهين الوجه الأول، وهو أن هذا الحديث إنما حثنا ودلنا على ذكر ولم يدلنا على دعاء، وجوابه عند الإمام النووي وغيره من أهل العلم: أن هذا وإن كان ذكراً إلا أنه كالمفتاح لدعائك الله تعالى برفع الهم وإزالة الغم وتفريج الكربات التي نزلت بك، فعلى الإنسان أن يقدم بين يدي دعائه هذا الذكر.
قال: (وقال الشاعر: إذا أثنى عليك المرء يوماً كفاه من تعرضه الثناء) يعني: إذا ذكر المرء الله تعالى في يوم فإن هذا الثناء والذكر لله تعالى يغنيه عن طلب الدعاء أو عن طلب تفريج الهم والغم.(52/5)
لطيفة حديثية وإسنادية في حديث ابن عباس فيما يقال عند الكرب
قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن هشام -وهو هشام الدستوائي - عن قتادة عن أبي العالية عن ابن عباس].
فالراوي في الإسناد الأول عن هشام هو معاذ.
وفي الإسناد الثاني: وكيع.
وحديث معاذ عن هشام أتم، فهو قد ذكر الرواية تامة كاملة.
وأما طريق وكيع فربما يكون قد ذكر جزءاً واحداً من الحديث أو جزئين أو ثلاثة.
[(ح) وحدثنا عبد بن حميد]، وهو عبد الحميد، ولقبه عبد.
[أخبرنا محمد بن بشر العبدي حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة].
وسعيد معروف بالرواية عن قتادة، وهو من أوثق الناس فيه، وإذا قيل: سعيد عن قتادة فهو ابن أبي عروبة، بفتح العين لا بضمها.
[أن أبا العالية الرياحي حدثهم عن ابن عباس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهن)].
والضمير هنا يعود على هذه الدعوات السابقات، فقد كان يقولهن عند الكرب.
[فذكره بمثل حديث معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة، غير أنه قال: (رب السماوات والأرض)].
يعني: ولم يذكر كلمة رب الأرض، وإنما ذكر الأرض وعطفها على السماء.
يقول العلماء: إن تعداد الأحاديث بلغ أكثر من (1.
200.
000)، مع أن كتب السنة كلها التي دونت الأحاديث لم تذكر هذا العدد الهائل، وإنما كانوا يعدون اختلاف الطرق التي روي بها الحديث، فلو أخذنا مثلاً حديث: (إنما الأعمال بالنيات) نجد أنه رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ورواه عن عمر علقمة بن وقاص الليثي، ورواه عن الليثي محمد بن إبراهيم التيمي، ورواه عن التيمي يحيى بن سعيد الأنصاري، فكل واحد منهم تفرد في طبقة، ثم حصل التواتر في الطبقة الخامسة من الإسناد، فرواه عن يحيى بن سعيد (200) وقيل: (700).
كما قال الحافظ ابن حجر، وقد صح من مائتي طريق، فهي مائتي حديث؛ لأن النظر دائماً باعتبار الطرق وليس باعتبار المتن، ولذلك فأرجح الأقوال في تعداد أحاديث البخاري ومسلم أنها سبعة آلاف، مع أن المتون لا تعدوا كونها ثلاثة آلاف، ولكنها باعتبار اختلاف الطرق تبلغ سبعة آلاف.
وقد قال الإمام أحمد بن حنبل: كنا نمر بالرجل يحفظ (20.
000) حديث لا نلقي له بالاً، مع أن البخاري كله (4000) حديث أو (3000) حديث، وهذا الذي يحفظ (20.
000) حديث قد يكون للحديث الواحد (100) طريق أو (200) طريق أو أكثر من ذلك، فيكون (20.
000) حديثاً عبارة عن (200) إلى (300) حديث، وهذا لا يساوي شيئاً بجوار أحمد بن حنبل الذي كان يحفظ (2.
000.
000) حديث.
وابن عباس هنا يروي عنه أبو العالية، وعنه قتادة، ويروي عن قتادة في الإسناد الأول والثاني هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، وفي الإسناد الثالث سعيد بن أبي عروبة، ورواه عن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي اثنان: ولده معاذ ووكيع.
إذاً: هذا الحديث أخرجه مسلم من طريقين: الأولى: عن هشام عن قتادة عن أبي العالية عن ابن عباس.
والثانية تابع فيها هشاماً سعيد بن أبي عروبة.
[حدثنا محمد بن حاتم حدثنا بهز] وهناك بهز بن حكيم بن معاوية، وهو متقدم عن بهز هذا، فالأول هو بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه عن جده، وجده صحابي، وأما هذا الذي يذكر في طبقة شيوخ شيوخ مسلم فهو بهز بن أسد العمي -[قال: حدثنا محمد بن سلمة أخبرني يوسف بن عبد الله بن الحارث عن أبي العالية عن ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر)].
يعني: ألم به ونزل به أمر.
أي: مصيبة أو غم أو كرب.
[فذكر بمثل حديث معاذ عن أبيه، وزاد معهن: (لا إله إلا الله رب العرش الكريم)] فأحاديث رفع الكرب وردت في صحيحي البخاري ومسلم.
وفي صحيح مسلم ورد الحديث من طريق ابن(52/6)
باب فضل سبحان الله وبحمده
الباب الثاني والعشرون: (باب: فضل سبحان الله وبحمده).(52/7)
شرح حديث: (أي الكلام أفضل)
قال: [حدثنا زهير بن حرب - أبو خيثمة النسائي نزيل بغداد- حدثنا حبان بن هلال -بفتح الحاء، وهو أبو حبيب البصري - حدثنا وهيب -وهو ابن خالد بن عجلان البصري - حدثنا سعيد الجريري -وهو سعيد بن إياس أبو مسعود البصري - عن أبي عبد الله الجِسري -وهو إما بفتح الجيم أو كسرها- واسمه حمير بن بشير، وهو مشهور بكنيته ونسبته دون اسمه، عن ابن الصامت -وهو عبد الله بن الصامت - عن أبي ذر الغفاري].
وعبد الله بن الصامت غفاري من غفار، وهي قرية من قرى الشام، وكذلك أبو ذر، وكان أبو ذر من أئمة الشام في زمانه.
[أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: (أي الكلام أفضل؟ قال: ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده: سبحان الله وبحمده)] أي: أفضل الكلام هو الذي اصطفاه الله تعالى لملائكته أو لعباده، وهو سبحان الله وبحمده، وبلا شك أنه لو تلا القرآن فالقرآن خير وأحب إلى الله تعالى؛ لأنه كلامه سبحانه وتعالى.
إذاً: فقوله عليه الصلاة والسلام لما سئل عن أحب الكلام إلى الله؟ قال: (ما اصطفاه الله لملائكته أو لعباده: سبحان الله وبحمده) محمول على كلام العبد.
يعني: أعظم وأفضل كلام يتكلم به العبد من عند نفسه التسبيح والتهليل لله عز وجل، وأن يقول: سبحان الله وبحمده، ولكن لو قرأ القرآن لكان أفضل.
والرأي الثاني: أن قراءة القرآن مطلوب التعبد بها وتلاوتها في أوقات معينة، أو في أوقات مخصوصة، وأما تنزيه العبد لربه وتسبيحه وتحميده فذلك في كل وقت، كما قال الله عز وجل: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103].
فالصلاة لها وقت، وهو أحب الأوقات إلى الله عز وجل.
وقد أخرج أبو داود أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر).
لأن هذا وقتها.
والعمل المباح ربما يكون واجباً، فالعمل للتكسب والمعاش وغيرهما مباح، وربما يكون واجباً، وهو بلا شك واجب إذا قورن بضياع النفس ومن يعول.
ومع اعتقادنا بأن العمل مشروع ومباح وربما يكون واجباً لكن وجوب العمل لا يدعو إلى ترك الصلاة، فإذا سمع النداء فلا بد أن يعلم أن ما بعد النداء تابع لعبادة أخرى، فلا بد أن نفرق بين العبادات، فوقت عبادة العمل تنتهي بدخول الوقت في الصلاة، وإذا فرغنا من الصلاة دخلنا في عبادة أخرى، وهي العمل، فلكل وقته، ولذلك قال الإمام النووي: (أما قوله: (أحب الكلام إلى الله: سبحان الله وبحمده)، وفي رواية: (أفضل الكلام) هذا محمول على كلام الآدمي، وإلا فالقرآن أفضل، وكذا قراءة القرآن أفضل من التسبيح والتهليل المطلق، فأما المأثور في وقت أو حال ونحو ذلك فالاشتغال به أفضل).
يعني: أن النبي عليه الصلاة والسلام سن لنا في أدبار الصلوات أدعية لندعو بها، فالأفضل في هذا الوقت أن ندعو بهذه الأدعية؛ لأن هذا وقتها الذي شرعت له.
قال: (وكذلك كل ما عين له الشرع وقتاً أو حالاً معيناً).
وكذلك أذكار الصباح، فإذا فرغت من أذكار الصباح فاقرأ القرآن، ولا تقدم القرآن على أذكار الصباح؛ لأن هذا وقتها أيضاً.(52/8)
شرح حديث: (إن أحب الكلام إلى الله: (سبحان الله وبحمده)
قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن أبي بكير الكوفي الكرماني عن شعبة عن الجريري -وهو سعيد بن إياس - عن أبي عبد الله الجَسري أو الجِِسري.
وعن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر قال: (قلت: يا رسول الله! أخبرني بأحب الكلام إلى الله؟ فقال: إن أحب الكلام إلى الله سبحان الله وبحمده)].
ففي الإسناد الأول قال: (سئل النبي عليه الصلاة والسلام)، وهذا السائل هو أبو ذر بدليل أن الرواية الثانية صرحت أنه قال: عن أبي ذر قال: (قلت: يا رسول الله! أخبرني بأحب الكلام إلى الله)، يعني: هو السائل رضي الله عنه (فقال: إن أحب الكلام إلى الله سبحان الله وبحمده).
و (سبحان): لفظ يفيد التنزيه، والله تعالى منزه عن جميع النقائص، ومتصف بجميع صفات الكمال والجلال سبحانه وتعالى.(52/9)
باب فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب
الباب الثالث والعشرون: (باب: فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب).
أي: في غيبة المدعو له، بحيث لا يسمع الدعاء، وظهر الغيب لا يتحقق إذا كان غيره يسمع، بل لابد أن تدعو له سراً ولا يسمع أحد لا المدعو له ولا غيره، على خلاف بين أهل العلم، والراجح أن الدعاء لأخيك في ظهر الغيب.
أي: في غيبته وإن شهد الدعاء آخرون.(52/10)
شرح حديث: (ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب)
قال: [حدثني أحمد بن عمر بن حفص الوكيعي حدثنا محمد بن فضيل -وهو محمد بن فضيل بن غزوان الضبي أبو عبد الرحمن الكوفي - حدثنا أبي -وهو فضيل - عن طلحة بن عبيد الله بن كريز عن أم الدرداء] وهذه هي أم الدرداء الأوصابية، واسمها جهيمة وقيل: هجيمة، إما بتقديم الجيم أو بتقديم الهاء.
[عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك: ولك بمثله)].
يعني: يقيض الله عز وجل ملكاً من ملائكته عند رأس الداعي إذا دعا لأخيه بظهر الغيب -وهذا شرط- لأنه أبلغ في الإخلاص والتجرد، ومن أغلق عليه بابه ثم دعا لإخوانه واستغفر لهم فلا شك أن هذا مبعثه الحب في الله عز وجل والإخلاص لهذا المدعو له، ولما كان الجزاء من جنس العمل، فإن الله يكافئه بأن يقيض له ملكاً من ملائكة السماء يقول: ولك مثله.
ولما علم السلف رحمهم الله تعالى ورضي عنهم قيمة هذا الدعاء انشغلوا به جداً، وكان الواحد منهم إذا أراد لنفسه شيئاً دعا بهذا الشيء لإخوانه؛ حتى يؤمن الملك على ذلك، ثم يجعل له حظاً مثل حظ إخوانه، فكان الواحد -مثلاً- إذا أراد الزواج دعا في ظهر الغيب: اللهم زوج أخي.
حتى يقول الملك: آمين ولك بمثله.
وإذا كان بحاجة إلى شيء ما دعا لإخوانه بهذا الشيء في ظهر الغيب؛ حتى يقيض الله تعالى له ملكاً يقول: آمين ولك بمثله.
وهذا احتيال مشروع، أو هو شدة الإلحاح على الله عز وجل بجميع الطرق، فبعد أن دعا لنفسه مباشرة ولم ير نتيجة فإنه يدعو لإخوانه، ثم إن الملك الذي وعد به النبي عليه الصلاة والسلام يقيض ويقول: آمين ولك بمثله.
أي: استجيب الدعاء لأخيك في ظهر الغيب وسيرد إليك.
وهذا الدعاء إذا دعوت لرجل واحد، أو لجماعة من المسلمين، أو للمسلمين عامة؛ لأن كل فرد من المسلمين هو أخ لك، والحديث يقول: (ما من عبد مسلم يدعو لأخيه).
وسواء كان هذا لفرد أو جماعة، فالأمة كلها إخوة، وكما في الحديث: (وكونوا عباد الله إخوانا).
والأمر هنا لكل مسلم.
[حدثنا إسحاق بن إبراهيم -وهو المعروف بـ ابن راهويه - أخبرنا النضر بن شميل حدثنا موسى بن سروان المعلم حدثنا طلحة بن عبيد الله بن كريز قال: حدثتني أم الدرداء قالت: حدثني سيدي]، وسيدها زوجها أبو الدرداء، والسيد في اللغة هو البعل والزوج، وهو الحر، ولما تقرأ في ترجمة أم الدرداء تجد أنها ما كانت تقول قط لزوجها إلا يا سيدي، وهذا الأمر ليس عجيباً، وخاصة إذا كان من امرأة متربية مؤدبة، ومن بيت محترم، وقد كان عندنا إلى قبل زمن قريب كل زوجة تقول لزوجها: يا سيد فلان، وإذا نادته باسمه كسر رأسها؛ لأن هذه حقوق مستقرة، وتعارف عليها الناس.
وأما هذا الوقت فإن الواحد مضطر لأن يقول لامرأته: سيدة فلانة! وإلا اشتكت به، وقالت: إنه يهينها إذا ناداها باسمها، مع أنها تناديه باسمه، وتقول: إن هذا ترخيم، أي: أن هذا ترخيم له عندما تناديه باسمه، وإذا كان اسمه بطيخ مثلاً فإنها تناديه: يا بطيخ! أمام الناس كلهم.
[قالت -أي: أم الدرداء - حدثني سيدي أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من دعا لأخيه بظهر الغيب قال الملك الموكل به: آمين، ولك بمثله)].
وكلمة (الموكل به) فيها إشكالية، وهي هل هذا الملك الموكل بهذا الشخص يمشي معه دائماً في حله وترحاله وفي خلوته وجلوته وإلا هو ملك مخصوص ينزل للدعاء أو حين الدعاء؟ القول فيه على مذهبين عند أهل العلم، والراجح: أنه الملك الموكل.
أي: المصاحب للعبد دائماً.(52/11)
شرح حديث: (دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة)
[حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا عيسى بن يونس -وهو ابن أبي إسحاق السبيعي - حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان عن أبي الزبير عن صفوان بن عبد الله بن صفوان وكانت تحته أم الدرداء قال: (قدمت الشام، فأتيت أبا الدرداء في منزله فلم أجده ووجدت أم الدرداء، فقالت: أتريد الحج العام؟)] يعني: تريد أن تذهب إلى الحج هذا العام؟ [(فقلت: نعم.
قالت: فادعو الله لنا بخير، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثله)].
وفي قول صفوان: (أتيت أبا الدرداء في منزله فلم أجده ووجدت أم الدرداء فقالت: أتريد الحج العام؟) جواز محادثة النساء للرجال والرجال للنساء بشرطين: إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وأمنت الفتنة.
وهنا لا يوجد فتنة بين صفوان وأم الدرداء سيدة نساء الشام في زهدها وورعها وعبادتها، بل هي التي سألته، وقالت: (أتريد الحج العام؟ قال: نعم.
قالت: فادعو الله لنا بخير).
وفي هذا جواز طلب الدعاء من الأخ المسلم؛ لأن بعض الإخوة المتنطعين يقول: إن قول النبي عليه الصلاة والسلام لـ عمر بن الخطاب الذي أخرجه أبو داود في سننه: (فادع الله لنا يا أخي!) أو (لا تنسنا من دعائك يا أخي!) ضعيف وما دام ضعيفاً لا نعمل به، مع أن المسألة فيها عشرات الأحاديث، وعلى ذلك استقر عمل السلف في دعوة بعضهم لبعض وبطلب بعضهم من بعض الدعاء.
فهذه أم الدرداء الفقيهة امرأة الفقيه تطلب الدعاء من صفوان بن عبد الله وتقول له: (فادع الله لنا بخير، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة).
وهذا يدل على فضل الدعاء في ظهر الغيب، وأنه مستجاب، (وأن الله تعالى يوكل به ملكاً عند رأسه كلما دعا لأخيه بخير) والدعاء موصوف بأنه دعاء بالخير لا بالشر ولا قطيعة الرحم [(قال صفوان: فخرجت إلى السوق فلقيت أبا الدرداء فقال لي مثل ذلك، يرويه عن النبي عليه الصلاة والسلام)].
يعني: نفس الكلام الذي قالته أم الدرداء في البيت قاله أبو الدرداء في السوق لـ صفوان.
وهذا يدل على أن السلف كانت حياتهم كلها واحدة، وكانوا يُعمِلون النصوص في كل موطن، ولا يفرطون في شيء من ذلك.
[وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يزيد بن هارون عن عبد الملك بن أبي سليمان بهذا الإسناد مثله.
وقال: عن صفوان بن عبد الله بن صفوان].(52/12)
باب استحباب حمد الله تعالى بعد الأكل والشرب
الباب الرابع والعشرون: (باب: استحباب حمد الله تعالى بعد الأكل والشرب).
يعني: أنه ليس واجباً، وإنما هو مستحب.
قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وابن نمير قالا: حدثنا أبو أسامة - حماد بن أسامة - ومحمد بن بشر العبدي عن زكريا بن أبي زائدة عن سعيد بن أبي بردة] وهو ابن أبي بردة الأشعري.
يعني: جده أبو موسى الأشعري [عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها)].
يعني: إذا أكلت أكلة عظيمة جداً شهية على مائدة وسفرة رائعة فإن الله تبارك وتعالى يرضى منك أن تقول: الحمد لله.
فقط، وهذا من كرم ربنا الذي لا حد له، فإذا جلست على المائدة حتى امتلأ بطنك تماماً وعجزت عن الأكل حيث أنك لا تجد له مسلكاً، وإن كنت لا تتناول من كل صنف إلا لقمة واحدة لكثرة الأصناف فإن الله تعالى يرضى منك بكلمة تؤدي بها شكر هذه النعمة، وهي قولك: (الحمد لله).
وجاء في صحيح البخاري صيغة هذا الحمد أنه قال: (الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، غير مكفي ولا مودع ولا مستغن عنه ربنا).
وجاءت صفات وصيغ غير هذا للحمد بعد الطعام والشراب.(52/13)
باب بيان أنه يستجاب للداعي ما لم يعجل
الباب الخامس والعشرون: (باب: بيان أنه يستجاب للداعي ما لم يعجل).
يعني: يستعجل ويستبطئ الإجابة.
فمثلاً لو أن شخصاً يدعو على مدار السنة: يا رب! نجحني وهو لا يذاكر، ثم رسب، ثم لم يدعو في السنة التي بعدها وقال: قد دعوت مدة السنة ومع هذا رسبت فنقول له: إنك لم تأت بالسبب الذي يبلغك النجاح، وحتى لو أتى بالسبب ولم يقدر له النجاح فهذا من القدر الذي يجب على هذا العبد أن يؤمن به، وأن يحمد الله تعالى عليه في السراء والضراء، وإذا أصابته الضراء وقد اتخذ لها الأسباب فينبغي عليه أن يحمد الله تعالى.
قال: حدثنا [يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك عن ابن شهاب عن أبي عبيد مولى عبد الرحمن بن عوف -واسمه سعد بن عبيد الزهري - عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، فيقول: قد دعوت فلا -أو- فلم يستجب لي)].
وقد قلنا: إن الدعاء قد يكون عبادة محضة؛ لأن الدعاء هو العبادة.
يعني: أنه باب عظيم جداً من أبواب العبادة، حتى وإن كان الإنسان لا يريد أن يسأل، فيسأل في حال معين أو في وقت معين فيدعو في هذا الوقت إظهاراً للعبودية، وإن لم يكن له حاجة في هذا التوقيت بالذات، فإذا دعا في توقيت ليس له فيه مصلحة معينة مع خلو ذهنه وعدم انشغال قلبه بشيء معين فإن هذا الدعاء يكون محض العبادة، وهي صورة ظاهرة جداً في عبادة النبي عليه الصلاة والسلام، والعباد أحوج الخلق إلى طلب الحاجات من الله عز وجل في كل وقت وحين.
[حدثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث حدثني أبي عن جدي] وهؤلاء ثلاثة مصريون متتابعون، عبد الملك وشعيب والليث، فـ عبد الملك يروي عن أبيه عن جده [قال: حدثني عقيل، وعقيل نزل مصر.
وقدم قدم أحد إخواننا خطة بحث لرسالة الدكتوراة في جامعة الأزهر، كلية أصول الدين، قسم الحديث في الرواة المصريين، والمادة طويلة، فهي تزيد عن (1500) ورقة تلسكاب، فإذا نشط أحدكم للبحث فسأدفع له خطط البحث التي قدمها هذا الباحث في الدكتوراة إلى جامعة الأزهر، والعجيب أن جامعة الأزهر رفضت هذا، ولم تبد أسباباً، مع أن أحداً لم يتعرض لهذا إلا الإمام السيوطي فله كتاب في مجلدين، ذكر فيه الصحابة المصريين والذين نزلوا مصر.
[عن ابن شهاب أنه قال: حدثني أبو عبيد مولى عبد الرحمن بن عوف، وكان من القراء وأهل الفقه -فمع أنه مولى إلا أنه كان فقيهاً قارئاً للقرآن الكريم- قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل فيقول: قد دعوت ربي فلم يستجب لي)].(52/14)
شرح حديث: (لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم)
قال: [وحدثنا أبو الطاهر أخبرنا ابن وهب]، وأبو الطاهر مصري، وكذلك ابن وهب مصري.
[أخبرني معاوية بن صالح -ومعاوية نزل مصر - عن ربيعة بن يزيد الدمشقي]، ويمكن أن يدخل في هذا البحث أهل دمشق باعتبار أن الشام ومصر كانوا دولة واحدة قبل أن يصبحوا دولتين.
[عن أبي إدريس الخولاني -وهو عائذ الله بن عبد الله، عالم الشام بعد أبي الدرداء - عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم)].
فمن موانع إجابة الدعاء: أن يدعو العبد بإثم أو قطيعة رحم، وهذا مشروط بألا يكون العبد الذي هو الداعي مظلوماً، فإن كان مظلوماً ودعا بإثم على المدعو عليه استجيب له.
فلو دعا مثلاً: يا رب! احرم فلان هذا العلم، وارزقنيه بدلاً منه في الدعاء، ولو كان هذا الداعي من أهل العبادة والورع، فهذا الدعاء لا يستجاب، بل يأثم به الداعي.
ولكن لو كان مظلوماً في مظلمة معينة عند فلان أو عند فلانة فقال: اللهم إن كنت تعلم أن حقي عنده أو عندها فافعل بها كيت وكيت وكيت، ويدعو عليها أو يدعو عليه، فهذا بلا شك دعاء مستجاب؛ لأن هذا دعاء المظلوم حتى وإن كان كافراً.
قال: [(لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدعو بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستجعل.
قيل: يا رسول الله! ما الاستعجال؟ قال: تقول: قد دعوت، قد دعوت، فلم أر يستجيب لي).
أي: فلم أر الله تعالى يستجيب لي.
(فيستحسر عند ذلك).
ومعنى يستحسر: ينقطع عن الدعاء، قال الله تعالى: {لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء:19].
أي: لا يملون ولا ينقطعون عن العبادة.
قال: [(فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء)].
والمتعدي في الدعاء يأثم بالتعدي، ولا يوجد دليل يقول: إنه ينقلب عليه، وإنما الدليل قائم على أنه يأثم بذلك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(52/15)
الأسئلة(52/16)
نصيحة لطالب العلم المبتدئ
السؤال
بماذا تنصح طالب علم الحديث المبتدئ؟
الجواب
أنصح إخواني جميعاً لا بطلب الحديث فحسب، ولا القرآن فحسب، ولا العقيدة فحسب: أن يقطفوا من كل بستان زهرة، خاصة بعد التقدم في السن، فإن الشخص قد يطلب الحديث مدة (10) سنين أو (15) أو سنة وعمره (50) سنة ثم أنه يحفظ شيئاً من القرآن الكريم، ولا يعرف شيئاً من العقيدة الصحيحة ولا غير ذلك، ولذلك أنصح إخواني بالدراسة في أي معهد من معاهد إعداد الدعاة المعتبر؛ حتى يتسنى له أن يطلب العلوم كلها.
وهذا الكلام لمن لم يكن له طريق في طلب العلم الشرعي.(52/17)
حكم الاستمناء في نهار رمضان
السؤال
ما حكم من استمنى متعمداً في نهار رمضان؟ وما كفارته؟
الجواب
هذا حرام، والاستمناء عموماً حرام، وهو في نهار رمضان أشد حرمة، فيجب على هذا المستمني أن يصوم يوماً مكان هذا اليوم، ويتوب إلى الله عز وجل من هذه الفعلة الشنعاء.(52/18)
حكم أكل الميتة من البهائم
السؤال
هل يجوز أكل ما مات من البهائم بعد موته؟ وهل له مدة معينة بعد موته، وهل يكون هذا من الميتة؟
الجواب
هذا من الميتة، ولا يجوز لك أن تأكل منه شيئاً، لا كثيراً ولا قليلاً، لا بعد موته مباشرة ولا بزمن، وسواء طال الزمن أم قصر؛ لأن هذا ميتة، إلا إذا كنت تقصد بالموت الذبح.(52/19)
حكم الاستنجاء للوضوء
السؤال
في أثناء الصلاة أخرجت ريحاً أو أحدثت فذهبت وتوضأت مرة ثانية ولم أدخل الحمام، هل علي إثم في ذلك؟
الجواب
لا، ليس عليك إثم، ولا يلزمك استعمال الماء، وفي حديث أبي هريرة: (أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بالوضوء من الحدث.
قيل: يا أبا هريرة! ما الحدث؟ قال: فساء أو ضراط).
فليزمه أن يتوضأ ولا يلزمه غسل دبره بالماء.(52/20)
حكم الصلاة خلف من يعمل في شركة دخان، وحكم الأكل من طعامه
السؤال
هل يجوز الصلاة وراء إمام يعمل في شركة الدخان؟
الجواب
يجوز ذلك؛ لأن عمله لا علاقة له بإمامته في الصلاة، وإن كنا نكره له ذلك، وننصحه بترك العمل في هذا المجال.
مداخلة: ولو دعاهم إلى العقيقة؟ الشيخ: إذا كان له مال آخر غير ماله الذي يتقاضاه من الشركة فمن شاء ذهب ومن لم يشأ لم يذهب.(52/21)
حكم اشتراط ولي المرأة على الزوج عدم انتقاد الزوجة
السؤال
هل يجوز لأبي البنت أن يأخذ علي ورقة بعدم انتقاد ابنته بعد الزواج؟
الجواب
إذا أراد ذلك وتعسر الزواج وكانت البنت من أهل الصلاح فلا بأس أن يعطيه الورقة، ولو خالفها بعد الزواج فهذا الإلزام لا عبرة به في الشرع أبداً، وإذا تزوج فهو حر في بيته، بل هو صاحب الولاية المطلقة على المرأة، وليس عليه إثم.(52/22)
حكم البقاء في المحاضرة في الجامعة أثناء الصلاة
السؤال
أنا طالب في الجامعة ويؤذن المؤذن وأنا في محاضرة، فهل أترك المحاضرة وإن ترتب على ذلك ضرر، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
إذا لحق الضرر بك إذا تركت المحاضرة فإنه لا يجوز لك أن تترك المحاضرة، وصل في جماعة ثانية بعد انتهاء المحاضرة.(52/23)
حكم الصلاة خلف من ينقر الصلاة نقراً
السؤال
ما حكم الصلاة خلف الإمام السريع في صلاته نقراً بحجة أن العمال يريدون هذا، علماً بأننا لا نقرأ الفاتحة في بعض الركعات؟
الجواب
هذه الصلاة باطلة، وقد جاء في حديث المسيء صلاته أنه دخل ونقر الصلاة نقراً ثم أتى فسلم على النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: (وعليك السلام، ارجع فصل فإنك لم تصل).
لأنه كان لا يطمئن في ركوعه ولا سجوده ولا قراءته، فالذي يصلي سريعاً جداً لدرجة أن بعض المأمومين لا يتمكنون من قراءة الفاتحة خلفه فضلاً عن السورة، فهذا بلا شك مسيء صلاته.
يعني: أن صلاته سيئة إلى أقصى حد، ولا أظن أن مسيء الصلاة الوارد في النص قد بلغ هذا المبلغ، وأنتم تعلمون أن الاطمئنان ركن في كل ركن.
يعني: الاطمئنان ركن في القيام، وفي القراءة، وفي السجود، وفي الركوع، فإذا خالف المصلي في ركن متعمداً بطلت صلاته، وهذا قد خالف في ركن الاطمئنان، وهو ما يسمى المصلي السريع.
ونحن في بلادنا رجل كبير جداً عمره فوق (90) سنة، وقد كان جدي يصلي خلفه، وقد مات، وأبي سيموت، وأنا سأموت، والرجل لا يزال يعيش، وهو الذي يصلي بالناس إلى اليوم، وقد انحنى ظهره في زاوية (45)، وقد زارني صاحب مرة فلم يجدني في البيت فقال: ما دام العصر قريباً فسأذهب أصلي في المسجد، فذهب وصلى هناك، ولما رجع وجدني، فقلت له: أين صليت؟ قال لي: في المسجد الكبير.
قلت له: أنت صليت خلف الرجل الفلاني؟ قال: نعم.
ثم قال: لقد قلت لما تقدم هذا الرجل: إن أكملنا الصلاة قبل المغرب فهذا جيد وإذ بالرجل يخيب أملي فيه تماماً وينقر الأربع الركعات في صلاة العصر في أقل من دقيقتين.
قال: لقد أدهشني هذا الرجل بلياقته البدنية الهائلة، والناس كلها مبرمجة عليها، فبعد الصلاة قلت لهم: يا ناس! صلاة الرجل هذا غير صحيحة، فوافقني بعض الشباب، فقلت لهم: نقيم ونصلي صلاة ثانية، ولكن هؤلاء الشباب مبرمجين على هذا الرجل، فعندما أسجد أو أرفع من الركوع يسبقوني؛ لأنهم مبرمجين على هذا الرجل.
يعني: لما يرفع من الركوع يسمع بعضهم قد وصل إلى الأرض، ولما يسجد يلاحظ بطرفه بعضهم قد سجدوا قبله؛ لأنهم تبرمجوا على صلاة هذا الأول، والأصل في الصلاة المتابعة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (وإنما جعل الإمام ليؤتم به).(52/24)
مدى صحة نسبة القول بفناء النار إلى ابن تيمية وابن القيم
السؤال
هل صحيح أن ابن تيمية وابن القيم يقولان بفناء النار؟
الجواب
ما نقل عن ابن تيمية وابن القيم أنهما قالا بفناء النار.
غير صحيح، وقد كتبت رسالة دكتوراة من جامعة أم القرى منذ (3) أو (4) أعوام بينت مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في بقاء النار وعدم فنائها.(52/25)
حكم التعامل مع البنوك الإسلامية
السؤال
ما حكم التعامل مع البنوك الإسلامية إيداعاً ومرابحة؟
الجواب
الدكتور علي السالوس هو من أهل الذكر في هذه القضية، وهو إمام من أئمة الاقتصاد في البلاد، وهو يرى جواز التعامل مع المصرف الإسلامي الدولي، وبنك فيصل الإسلامي، ويقول: بجواز التعامل معهم إذا كان ذلك من باب الحساب الجاري بغير إشكال.
أما إذا كان من باب حساب المرابحة فهو يقول: الأولى ترك ذلك.
وقوله: (الأولى ترك ذلك) يدل على جوازه مع خلاف الأولى، أو مع الكراهة.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(52/26)
شرح صحيح مسلم - كتاب الزهد والرقائق - أكثر أهل الجنة الفقراء - قصة أصحاب الغار
الجنة هي سلعة الله الغالية، والتي لا تتحصل بالمال والجاه وإنما بالعمل الصالح، وما وقر في قلب العبد من التقوى والإيمان، ومصداق ذلك أن أكثر أهل الجنة هم الفقراء، وهم يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم من أيام الآخرة وهو خمسمائة سنة كما في بعض الآثار.(53/1)
باب أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر أهل النار النساء
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، أما بعد:(53/2)
شرح حديث: (قمت على باب الجنة فإذا عامة من دخلها المساكين)
روى أبو عثمان النهدي -وهو عبد الرحمن بن مل، وقيل: ابن ملي وهو مخضرم ثقة من العباد الأثبات- عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: [قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قمت على باب الجنة فإذا عامة من دخلها المساكين -أي: اطلعت فيها- وإذا أصحاب الجد محبوسون، غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار، وقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء).(53/3)
شرح حديث: (اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء)
قال: [حدثنا زهير بن حرب حدثنا إسماعيل بن إبراهيم -المعروف بـ ابن علية - عن أيوب بن أبي تميمة السختياني عن أبي رجاء العطاردي] وهو عمران بن ملحان، وهو مخضرم ومن الثقات الأثبات، وكان معمراً؛ مات عن عمر يناهز المائة وعشرين عاماً.
[قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: قال محمد صلى الله عليه وسلم: (اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء -والفقراء بمعنى: المساكين كما في الرواية الأولى- واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء).
وحدثناه إسحاق بن إبراهيم أخبرنا الثقفي - وهو عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي - أخبرنا أيوب - وهو ابن أبي تميمة السختياني البصري - عن أبي رجاء العطاردي عن ابن عباس بنحو الحديث السابق.
وحدثنا شيبان بن فروخ قال: حدثنا أبو الأشهب - وأبو الأشهب هو جعفر بن حيان السعدي العطاردي البصري - قال: حدثنا أبو رجاء عن ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع في النار) فذكر الحديث كما في طريق أيوب السختياني.(53/4)
شرح حديث: (إن أقل ساكني الجنة النساء)
قال: [وحدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي - وهو معاذ العنبري - قال: حدثنا شعبة عن أبي التياح -وهو الضبعي البصري يزيد بن حميد - قال: كانت لـ مطرف بن عبد الله -وهو ابن عبد الله الشخير - امرأتان فجاء من عند إحداهما، فقالت الأخرى: جئت من عند فلانة؟ -أي: الزوجة الثانية- فقال: جئت من عند عمران بن حصين فحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أقل ساكني الجنة النساء)] يعني: وافق القدر أن يسمع من عمران بن حصين ما يكون سبباً لتأديب امرأته، أن النبي عليه الصلاة والسلام اطلع في النار فوجد أن أكثر أهلها النساء، وأنه أخبر أن أقل ساكني الجنة هم نساء الدنيا، فهو يثبت لها أن حظها في الجنة قليل إن لم تستقم، فما بالها تسأل هذا السؤال؟ وما سألته إلا على سبيل التبكيت والتقريع له، ولذلك ألقمها حجراً بما سمعه آنفاً من عمران بن حصين.
قال لها: (لست من عندها أتيت، ولكني أتيت من عند عمران بن حصين رضي الله عنه، وحدثنا أن أقل ساكني الجنة النساء) فقد كلمها كلاماً جميلاً ما استطاعت أن تقول له: أنت تشتمني أو تسبني؛ لأنه سمع حقاً أن عمران بن حصين ذكر مرفوعاً: (أن أقل ساكني الجنة النساء).
[وحدثنا محمد بن الوليد بن عبد الحميد - وهو المعروف أو الملقب بـ حمدان القرشي البصري - قال: حدثنا محمد بن جعفر -أي: البصري غندر - حدثنا شعبة عن أبي التياح قال: سمعت مطرفاً يحدث: أنه كانت له امرأتان.
بمعنى الحديث السابق].(53/5)
معنى قوله: (قمت على باب الجنة فإذا عامة من دخلها المساكين)
أما قوله عليه الصلاة والسلام: (قمت على باب الجنة فإذا عامة من دخلها المساكين).
فالمسكين هو: الخاشع المتذلل الفقير إلى الله عز وجل، وليس معناه أنه فقد كل متاع الدنيا، ويبين لنا ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين) فالمسكين بمعنى المتذلل الخاضع الخاشع في الدين القائم الصائم، وغير ذلك من أحوال التعبد والاجتهاد فيه.
ولا يمنع أن يكون المسكين على هذا النحو فقيراً كذلك، فلو جمع إلى العبادة والخشوع والذل والخمول وترك الكبر والتكبر فقراً وقلة حاجة لكان هذا أولى له.(53/6)
معنى قوله: (وإذا أصحاب الجد محبوسون)
قوله: (وإذا أصحاب الجد محبوسون).
أصحاب الجد اختلف فيهم أهل العلم: هل هم أصحاب الولايات والسلطات والزعامات والإمارات أو أن الجد المقصود به المال؟ فإن كانوا أصحاب المال فهم محبوسون -أي: موقوفون- بين يدي الله عز وجل يسألهم عن أموالهم من أين اكتسبوها وفيما أنفقوها.
وإذا كانوا أصحاب سلطة وإمارة فهم كذلك محبوسون وموقوفون بين يدي الله عز وجل، وإن الفقراء المساكين ليدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام.
وإن كان يقصد بأهل الجد أصحاب الولايات والإمارات؛ فإنهم يسألون عن رعاياهم ماذا عملوا فيهم؟ هل قاموا لهم بواجب النصح والإرشاد والتعليم، وحملهم على طاعة الله عز وجل، وتأديبهم، وإقامة الحد فيهم على معصية الله عز وجل؟ أم أنهم لم يعنيهم دين الله عز وجل وإنما اعتنوا بجمع الأموال والحفاظ على كراسيهم.
فأصحاب الجد إما أن يكونوا من أصحاب الولايات أو من أصحاب الأموال، وفي كلٍ ورد الخبر بأنهم محبوسون وموقوفون للسؤال عن ما كان منهم، إما عن أموالهم من أين اكتسبوها وفيما أنفقوها، وإما عن ولاياتهم ماذا عملوا فيها، وهل قاموا بواجب نصح الأمة أم لا.(53/7)
خلاف العلماء في الأفضلية بين الغني الشاكر والفقير الصابر
قال: وفي هذا الحديث: تفضيل الفقر على الغنى، وكذلك فضيلة الفقراء على الأغنياء، لكن بلا شك هذه مسألة خلافية قديمة بين أهل العلم، وقد اختلف اختلف العلماء: أيهما أفضل: الفقير الصابر أم الغني الشاكر؟ وقلنا: شكر الغنى هو مراعاة حق أصحاب الحق في هذا المال بإخراج الزكاة وصدقات التطوع وغير ذلك.
ورجح شيخ الإسلام ابن تيمية: أن الغني الشاكر على هذا النحو أفضل من الفقير الصابر؛ لأن الفقير الصابر خيره ونفعه وعبادته لم تتعد إلى غيره وإنما اقتصرت عليه، فهو وحده المستفيد بهذا الصبر، أما الغني الشاكر فخيره متعد إلى الغير.
هب أن رجلاً صائماً قائماً عابداً، ليس له شغل إلا هذا وليس له مال، فهو بخلاف الرجل الغني القائم الصائم الصابر الذي يعرف حق الله تعالى في هذا المال، فهو ينفق منه هكذا وهكذا ويقول به في كل ميدان، يجهز به الجنود والغزاة، ويساعد به الفقراء والأيتام والأرامل والمساكين وغير ذلك.
فلا شك أن نفع هذا خير من نفع الرجل الصابر الفقير.
قال: أما قوله: (إلا أصحاب النار فقد أمر بهم إلى النار).
أي: من استحق من أهل الغنى النار لكفره وعناده وجحوده دخل النار، أو من كان من أهل الغنى ولكنه عاص واستوجب عصيانه دخول النار دخل النار.(53/8)
شرح حديث: (اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك)
قال: [حدثنا عبيد الله بن عبد الكريم] وهو أبو زرعة الرازي الإمام الكبير وهو من أقران الإمام مسلم، وهو من أئمة الجرح والتعديل، بل الإمام مسلم لم يرو له في صحيحه إلا هذا الحديث مع أنه صاحب فضل على مسلم ومسلم كما يقول الإمام الذهبي: كان عنيداً جداً، وكانت به حدة العجم، فلهذا لم يرو عن البخاري حديثاً واحداً مع أن البخاري شيخه.
وفي هذا قصة طويلة لعلكم سمعتموها: أن البخاري لما نزل نيسابور طريداً شريداً بسبب الوشايات التي حدثت عليه بسبب فتنة خلق القرآن، دعاه محمد بن يحيى الذهلي لأن يدخل نيسابور، فلما أشرف على الدخول خرجت إليه نيسابور برجالها ونسائها وأطفالها يملئون الطرقات والشوارع ومداخل البلد يستقبلون الإمام البخاري، فأنزلوه في دار، وإذا بهذه الدار تمتلئ بأهل البلد حتى صعد الناس السطوح فملئوها حتى لم يبق موضع قدم، وطلبوا من البخاري التحديث، فلما حدث ببضعة أحاديث اجتمعت البلد كلها للسماع من الإمام البخاري وفيهم مسلم، والإمام محمد بن يحيى الذهلي قد خلا مجلسه تماماً من الطلاب، فتحرك داعي الحسد في قلب محمد بن يحيى الذهلي وهو يعلم أن البخاري موقفه سليم في مسألة خلق القرآن ولكنه غلبه الشيطان في لحظة ضعف، فوشى بـ البخاري عند حاكم نيسابور وقال: إنه يقول: لفظي بالقرآن مخلوق.
فطرد الإمام البخاري مرة ثانية من نيسابور بسبب هذه الفتنة، وكان الإمام مسلم من أجل تلاميذ محمد بن يحيى الذهلي، فلما انصرف البخاري بعد أن سمع منه مسلم جملة مستكثرة من الأحاديث لمدة دقائق في نيسابور انطلق مسلم ليسمع مرة أخرى من الذهلي، فلما رآه الذهلي شق عليه ذلك فقال: من كان يحضر مجلس البخاري ويقول بقوله لفظي بالقرآن مخلوق فليقم عن مجلسنا.
فعلم مسلم أن هذه الرسالة موجهة إليه وكانت فيه حدة، فقام مغضباً من المجلس وانطلق إلى بيته وأرسل ما كان قد سمعه من كتبه عن محمد بن يحيى الذهلي، وكانت قد بلغت حمل بعير.
فحملها كلها على ظهر البعير ثم أرسل بها إلى محمد بن يحيى الذهلي وقال: لا حاجة لنا في حديثك ولا نحدث كذلك عن البخاري.
ولذلك خطَّأ كثير من أهل العلم الإمام مسلم في تركه الرواية عن الذهلي وعن البخاري في آن واحد.
وقالوا: ولو روى عن الذهلي لروى إلينا علماً كثيراً غزيراً.
وهو كذلك لم يرو عن أبي زرعة الرازي إلا هذا الحديث الذي بين أيدينا، مع أنه وإن كان قريناً له إلا أنه في منزلة شيخه.
قال الإمام مسلم: لما صنفت الصحيح عرضته على أبي زرعة الرازي فما استبعده استبعدته، وما تركه أبقيته.
فالإمام مسلم يعلم قدر أبي زرعة الرازي، وانفراده بالرواية عن أبي زرعة لهذا الحديث يعد دقيقة من دقائق الإسناد عند الإمام مسلم.
قال: [حدثنا ابن بكير -وهو يحيى بن عبد الله بن بكير - حدثني يعقوب بن عبد الرحمن -وهو المدني القاري، نزيل الإسكندرية في مصر- عن موسى بن عقبة المدني - صاحب المغازي - عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر قال: (كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك)].
والفجاءة هي: البغتة.
يعني يأتيك الأمر على غير توقع.
فالإنسان الذي بلغ من العمر ستين أو سبعين أو ثمانين سنة وهو مريض فإنه يزار، فلو سمعنا أنه مات فليس في ذلك شيء من الفجأة؛ لأن الكل يتوقع موته.
أما أن إنساناً شباباً يتحرك بكل حيوية وفتوة وفجأة سمعنا أنه سقط ميتاً، فلا شك أن هذا موت الفجأة وهو من علامات الساعة، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ بالله من هذا، وبين في أحاديث أخر أن هذا من علامات الساعة.(53/9)
شرح حديث: (ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء)
قال: [حدثنا سعيد بن منصور حدثنا سفيان - وهو ابن عيينة؛ لأن سعيد بن منصور لا يروي إلا عنه- ومعتمر بن سليمان - وهو التيمي - عن سليمان التيمي - وهو سليمان بن طرخان التيمي - عن أبي عثمان النهدي عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء)].
أعظم فتنة يمكن أن يمر بها الرجل هي فتنة النساء عموماً، فتنة النساء الأجانب وكذلك الزوجة، بل الفتنة غالباً إنما تأتي من قبل الزوجة أكثر من مجيئها من قبل النساء الأجنبيات، فيفتن المرء مع امرأته في معاملة أمه وأبيه مثلاً، أو في معاملة أهله وجيرانه، أو في معاملة أصدقائه وغير ذلك، ففتنة الزوجة أعظم بكثير من فتنة المرأة الأجنبية في الشوارع.
حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري وسويد بن سعيد ومحمد بن عبد الأعلى جميعاً عن المعتمر قال ابن معاذ: حدثني المعتمر بن سليمان قال: قال أبي: حدثنا أبو عثمان عن أسامة بن زيد بن حارثة وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل - رضي الله عنهم -: أنهما حدثا عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ما تركت بعدي في الناس فتنة أضر على الرجال من النساء)].(53/10)
شرح حديث: (فاتقوا الدنيا واتقوا النساء)
قال: [وحدثنا ابن المثنى وابن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي مسلمة - وهو سعيد بن يزيد الأزدي البصري الملقب بـ القصير - قال: سمعت أبا نضرة - وهو المنذر بن مالك بن قطعة - يحدث عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء).
قال: (قوله: (إن الدنيا حلوة خضرة، فاتقوا الدنيا) معناه: تجنبوا الافتتان بها كما تتجنبوا الافتتان بالنساء، وتدخل في النساء: الزوجات وغيرهن، وأكثرهن فتنة الزوجات -كما قلنا- لدوام فتنتهن وابتلاء أكثر الناس بهن.
وقوله: (الدنيا خضرة حلوة): يحتمل أن المراد به شيئان: أحدهما: حسنها للنفوس، ونضارتها ولذتها.
فالنفس دائماً تميل وتركن إليها؛ لأن فيها المتع واللذات والشهوات وغير ذلك.
قال: (كالفاكهة الخضراء الحلوة؛ فإن النفوس تطلبها طلباً حثيثاً فكذا الدنيا.
والثاني: سرعة فنائها).
والمعلوم أن كل أخضر مصيره إلى الجفاف والذبول واليبس، فكذلك الدنيا لا بد أن تفنى وأن تزول كما يزول الأخضر ويحل محله اليابس.
قال: (ومعنى: مستخلفكم فيها) أي: يجعلكم في الدنيا خلفاً لمن سبقكم، ويجعل لكم خلفاً لمن تسبقونهم، لا أن الله تعالى استخلفنا فيها؛ لأن هذه القضية تحتاج إلى تحرير، وهذه مسألة متعلقة بالاعتقاد.
وبعض أهل العلم يقولون: إن الخلف هنا لله عز وجل، فالله تعالى استخلفنا في الدنيا لنعمرها، ومعنى استخلفنا.
أي: جعلنا نواباً ووكلاء عنه في عمارة الدنيا، وهذا بلا شك كلام خطير.
قال: (ومعنى: (مستخلفكم فيها) أي: جاعلكم خلفاء للقرون الذين قبلكم، فأنا خلف لوالدي ووالدي خلف لوالده، وهكذا كل قرن يخلف قرناً.
أي: جاعلكم قروناً يعقب بعضكم بعضاً ويخلف بعضكم بعضاً.
وقوله: (فينظر كيف تعملون).
أي: أتعملون بطاعته أم بمعصيته؟ فإن أهل الطاعة يجازيهم بأحسن مما كان منهم، وإن أهل المعصية يعاقبهم الله عز وجل أو يعفو عنهم بمشيئته ورحمته.(53/11)
باب قصة أصحاب الغار الثلاثة والتوسل بصالح الأعمال
قال: (باب قصة أصحاب الغار الثلاثة والتوسل إلى الله بصالح الأعمال).
قال: [حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي - وهو من نسل المسيب المخزومي المدني محمد بن عبد الرحمن - قال: حدثني أنس -يعني: ابن عياض المدني أبا ضمرة - عن موسى بن عقبة عن نافع الفقيه عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بينما ثلاثة نفر يتمشون)] والمقصود بالنفر هنا: الواحد.
يعني: ثلاثة أشخاص، وإن كان النفر في اللغة يطلق على العدد من ثلاثة إلى تسعة، وقيل غير ذلك.
[(بينما ثلاثة نفر يتمشون أخذهم المطر -يعني: اضطرهم المطر؛ لأن يدخلوا في مكان يأوون إليه- فأووا إلى غار في جبل -أي: مكان مظلم في داخل جبل له فوهة- فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل)] أي: وقعت صخرة كانت مهيأة للوقوع فوافق وقوعها فوهة الجبل فسدته تماماً حتى أنهم لم يروا شيئاً من السماء ولا شيئاً من الضوء.
[(فانطبقت عليهم -أي: فانطبقت على فم الغار- فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالاً عملتموها صالحة لله فادعوا الله تعالى بها)] يعني: كل واحد منكم يتذكر أو يحاول أن يتذكر عملاً صالحاً قدمه لله عز وجل مخلصاً فيه غير مشرك به ليتوسل إلى الله عز وجل به أن يفرج عنا ما نحن فيه.
وهذا يفيد جواز التوسل بالعمل الصالح، وأنه ليس فيه شيء من الشرك.
وبعضهم قال: لا يفهم من الحديث جواز التوسل بالعمل الصالح؛ لأن كل واحد منهم قال: (يا رب! إن كنت تعلم أني عملت ذلك لك ففرج عنا ما نحن فيه).
فكل واحد منهم لم يتوسل ولم يزك نفسه ولم يقطع بأن ما عمله صالحاً وإنما أرجع الأمر إلى الله عز وجل، فقال: (إن كنت تعلم يا رب أن هذا صالحاً ففرج عنا ما نحن فيه) فقال الذي يزعم أو ينكر التوسل بالعمل الصالح ليس في هذا الحديث حجة؛ لأنهم لم يقطعوا بصالح أعمالهم وإنما ذكروها فقط وأسندوا الأمر في صلاحها أو فسادها إلى الله عز وجل.
وقالوا: لو كان عملاً صالحاً ففرج عنا ما نحن فيه، وزعموا أنهم توسلوا بالدعاء لا بذات العمل الذي ذكروه، وإنما اتخذوه سبباً للتقرب إلى الله عز وجل، وإنما أصل القربة إنما كان ذلك في دعائهم.
وهذا على أية حال بعد وتكلف في رد ما أجمع عليه أهل السنة والجماعة من جواز التوسل بالعمل الصالح، أو الذي يغلب على ظن العامل أنه صالح، وكل إنسان أعلم برذائله، فكل إنسان يعمل عملاً صالحاً في الظاهر لكنه يوقن من نفسه أنه أخلص فيه لله أو أنه عمله رياءً وسمعة، فهؤلاء لما غلب على ظنهم أنهم عملوا هذا العمل لله عز وجل على الشرط الذي اشترطوه على أنفسهم: كل منكم ينظر في عمله، فمن عمل عملاً صالحاً خالصاً لله عز وجل فليذكره ليتوسل إلى الله به.
والشاهد على ذلك: أنهم لما ذكروا هذه الأعمال وتوسلوا إلى الله عز وجل بها فرجت عنهم الصخرة على الحقيقة وفي الواقع، وهذا يدل على جواز التوسل إلى الله بالعمل الصالح.
قال: (انظروا أعمالاً عملتموها صالحة لله فادعوا الله تعالى بها).
أي: بهذه الأعمال.
وهذا الحديث ورد في من كان قبلنا، ولذلك الذي ينكر التوسل بالعمل الصالح يقول: هذا الحديث ليس فيه حجة لما ذكرنا آنفاً، لأن هذا متعلق بمن كان قبلنا أو بشرع من كان قبلنا.
وهذه مسألة خلافية بين الأصوليين: هل شرع من كان قبلنا شرع لنا أم لا؟ والجمهور على أن شرع من كان قبلنا ليس شرعاً لنا، وبعض أهل العلم قالوا: بل هو شرع لنا ما لم يخالف.
وفي حقيقة الأمر: التوسل بصالح الأعمال في هذا الحديث لا علاقة له بشرع من قبلنا؛ لأن العبرة في هذا الحديث بسكوت النبي عليه الصلاة والسلام عنهم وإعجابه بهم، وهذا يدل على جواز الأمر واستحبابه لدى النبي عليه الصلاة والسلام، فنحن ما أخذنا الجواز من مجرد العمل أو الفعل ولكن أخذناه من مجرد الرواية التي رواها النبي عليه الصلاة والسلام عن الأمم السابقة وسكوته على ذلك وعدم الإنكار؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام روى عن الأمم السابقة شيئاً وأنكره، وروى شيئاً وسكت عنه، وروى شيئاً واستحسنه، فهذا مما استحسنه النبي عليه الصلاة والسلام فكان شرعاً لنا لاستحسان النبي عليه الصلاة والسلام لا بمجرد عمل القوم له.
ولا يخفى للمتتبع لروايات هذا الحديث أن هؤلاء الثلاثة لم يذكروا على نسق واحد وترتيب واحد في كل الروايات، وإنما حصل تقديم وتأخير في الروايات، فصاحب الوالدين ذكر أولاً، ويذكر ثانياً وثالثاً في رواية أخرى، وصاحب المرأة يذكر أولاً وثانياً وثالثاً، وصاحب الأجير يذكر أولاً وثانياً وثالثاً، وهذا يدل على أن الرواة إنما تصرفوا في هذا الحديث بالمعنى ليدل على جواز الرواية بالمعنى عند السلف رضي الله عنهم أجمعين.(53/12)
قصة الرجل البار بوالديه
قال: [(قال أحدهم -وهو الأول-: اللهم إنه كان لي أبوان)]، يطلق على الأب والأم أبوان من باب التغليب، كما يطلق العمران على أبي بكر وعمر وكذا الشيخان على أبي بكر وعمر، والقمران للشمس والقمر.
[(شيخان كبيران)] وهذا من باب التغليب كذلك؛ لأن الأم لا يقال لها شيخة وإنما يقال لها: عجوز، كما لا يقال للرجل: عجوز وإنما يقال له: شيخ [(وامرأتي ولي صبية صغار أرعى عليهم)] يعني: أقوم على أمر رعايتهم وإطعامهم وغير ذلك مما يلزمهم.
فهذا الرجل كان متكفلاً بوالديه وبامرأته وأولاده الصغار.
قال: [(فإذا أرحت عليهم)] أي: فإذا روحت إليهم في نهاية اليوم بعد رعيي للغنم.
[(حلبت)] أي: حلبت الغبوق، والغبوق إنما يقال لشراب الليل، بخلاف الصبوح؛ فإنه يقال لشراب الصباح صبوحاً، فاللبن يسمى في المساء غبوقاً ويسمى في الصباح صبوحاً.
[(قال: فإذا أرحت عليهم حلبت فبدأت بوالدي فسقيتهما قبل بني)] يبدأ بوالديه يسقيهما قبل أن يسقي أولاده [(وأنه نأى بي ذات يوم الشجر)] أي: بعد بي مكان الرعي، لأنه لم يجد للمرعى والخضرة ليرعى فيه سائمته إلا في مكان بعيد جداً، فلما بعد به المكان رجع متأخراً وإذا بوالديه قد ناما.
[(فلم آت حتى أمسيت فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب)] على عادته [(فجئت بالحلاب أو المحلاب)] وهو الإناء الذي يحلب فيه.
أما اللبن فهو الحلاب أو المحلوب.
قال: [(فقمت عند رءوسهما فكرهت أن أوقظهما من نومهما)] أي: فقام الرجل عند رأسي والديه انتظاراً لاستيقاظهما، وكره إيقاظهما؛ لأن المرء إذا نام يكره أن يوقظ قبل موعد استيقاظه.
فهذا الرجل لما علم كراهة والديه أن يوقظا في غير موعد قد اعتادا أن يستيقظا فيه كره هو كذلك أن يفزعهما بالاستيقاظ في غير موعد يقظتهما.
قال: [(وأكره أن أسقي الصبية قبلهما)] ويكره في الوقت نفسه أن يسبق أبناءه بالشرب قبل والديه.
[(والصبية يتضاغون عند قدمي)] يتضاغون أي: يبكون ويصيحون عند قدميه، ربما يكون هذا من شدة الجوع، وربما يكون من غير جوع، وأنتم تعلمون أن الصبية إنما يبكون أحياناً بغير سبب، وأحياناً يبكون بسبب، وربما يكون هذا الوالد قد سقاهم ما يكفيهم من جهة سد الرمق ولكن أراد الأولاد أن يشربوا مزيداً عن الحاجة ومزيداً عن سد الرمق.
على أية حال: هذا كلام أهل العلم، وربما يكون مقبولاً أو لا يكون مقبولاً عند البعض.
قال: [(فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر)] يعني: لا يزال الوضع على هذا النحو أكره أن أوقظهم وأكره أن أسقي أولادي قبلهم، والأولاد يبكون ويتضاغون حتى انفلق الفجر.
[(فإن كنت)] وهو يخاطب الله عز وجل.
[(تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه.
ففرج الله منها فرجة فرأوا منها السماء غير أنهم لا يستطيعون الخروج)].
هذه القصة فيها فضيلة بر الوالدين، وفيها كذلك فضيلة من قام بحسن الرعاية لمن يعولهم، لأن هذا الرجل كان دأبه أن يسرح في أول النهار وأن يروح في آخر النهار يحلب الشاة أو البقر أو الغنم ويسقي والديه وأبنائه.(53/13)
حكم النفقة على الأبوين
في الحديث مسألة: هل نفقة الأبوين واجبة على الابن؟ ربما نبادر القول بنعم، وأنه يجب على الابن أن ينفق على والديه ولا غضاضة في هذا التعجيل، لكن القضية إنما محلها إذا كان الولد ليس معه إلا ما يكفي امرأته وأولاده في سد الرمق، فهل يطالب الابن كذلك والحالة هذه برعاية والديه؟ السؤال بمعنىً آخر: إذا لم يكن مع الولد إلا ما يكفي للنفقة على والديه نفقة واجبة أو على قدر الكفاية أو النفقة على امرأته وأولاده، فأيهما تقدم: النفقة على أبويه أم على أولاده وامرأته؟ أنتم تعلمون النصوص التي وردت في قوله عليه الصلاة والسلام: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول) والمعلوم يقيناً أن النفقة على المرأة والأولاد داخلة في مسئولية الرجل في الدرجة الأولى، ووقع الخلاف بين أهل العلم في نفقة الأبوين، فأيهما يقدم الولد إذا لم يكن معه إلا ما يكفي لأحد الطرفين: والديه أم الزوجة والأبناء؟ وهل هذه القضية يحكمها قوله عليه الصلاة والسلام: (أنت ومالك لأبيك).
وقوله عليه الصلاة والسلام: (إن خير أو أطيب ما أكل المرء من كسب يده وولده من كسبه) وغير ذلك من الأحاديث التي رواها أبو داود والترمذي وابن ماجة التي تفيد أن الوالد يملك الولد وما ملك من المال؟ هذه القضية يا إخواني! وقع فيها نزاع عظيم جداً، فقد قرأت منذ أكثر من خمسة عشر عاماً كلاماً لـ ابن القيم الجوزية وعلق في ذهني يقول فيه: لا يلزم الولد على هذا النحو أن ينفق على والديه، بل لوالديه أن يأخذا من مال الزكاة أو الصدقة المطلقة للإنفاق على أنفسهما، والولد إنما يعمل لينفق على زوجته وأولاده.
وهذا الذي أحفظه جيداً منذ سنوات عدة وأردده على بعض المسامع، وقد راجعني أحد الإخوة الأفاضل من طلاب العلم في ذلك، وبمناسبة إعدادي لشرح هذا الحديث قلبت مكتبتي شرقاً وغرباً هذا اليوم حتى أحصل على هذا الكلام الذي قرأته لـ ابن القيم فلم أحصل عليه، وخير لي أن أنسب الوهم إلى نفسي، لكني على أية حال قرأت ذلك وربما يكون لغير ابن القيم، وربما يكون لـ ابن القيم في كتاب ليس بين يدي الآن، لأن كل كتب ابن القيم التي أملكها الآن بحثت فيها بحثاً حثيثاً منذ طلوع الفجر إلى ساعتي هذه ولم أجد شيئاً.
فعلى أية حال: الرجوع عما كنت بثثته في الناس خير من التمادي فيه، وبل وخير من إثباته لإمام من أئمة الهدى مع احتمال طروء الوهم.
وقد نظرت في الأحاديث التي كنت قد قرأت شرحها فيما يتعلق بأحاديث الباب عند أبي داود في باب: الرجل يأكل من مال ولده، عن عمارة بن عمير عن عمته: (أنها سألت عائشة رضي الله عنه في حجر يتيم أفآكل من ماله؟ فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من أطيب ما أكل الرجل من كسبه وولده من كسبه).
وهذا الحديث أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة، وقال الترمذي: هو حديث حسن.
وهو كذلك.
وعن النبي عليه السلام قال: (ولد الرجل من أطيب كسبه، فكلوا من أموالهم).
وقال عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (إن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن لي مالاً وولداً، وإن والدي يجتاح مالي) يجتاح يعني: يستأصله.
(قال: أنت ومالك لوالدك) مع قول الولد: يجتاح.
(إن أولادكم من أطيب كسبكم فكلوا من كسب أولادكم).
لما كنت طالباً في الجامعة وذلك قبل عشرين سنة، وكنت أسافر كل إجازة وإذا بوالدي منتظر لي في المطار من أجل يأخذ مني الفلوس، فكنت أعطي له البعض وأحتفظ بالبعض الباقي فكان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالك لأبيك) فلم يحفظ من أحاديث السنة كلها إلا: (أنت ومالك لأبيك)، لم يحفظ أحاديث في الرحمة، وأحاديث في الرأفة، وأحاديث في الحرية وغيرها، فلما وقفت على كلام ابن القيم قلت له: اقرأ.
فهذه الحادثة ما نسيتها؛ لأنه بسببها راحت كل أموالي، فإما أن أكون قرأت لـ ابن القيم في أحد الكتب أو قرأت في غير كتاب لـ ابن القيم نقلاً عن ابن القيم، وأنا مستعد أن أكون أنا وامرأتي وأولادي ملكاً لوالدي ولو فعلت لكان قليلاً، لكنني أردت أن أستدل لما كان من أمري.
قال الإمام الخطابي: في هذا الحديث: أن نفقة الوالدين واجبة على الولد إذا كان واجداً لها.
يعني: يعمل لينفق على امرأته وأولاده فما فضل وما تبقى من النفقة الواجبة فهو للوالدين بلا خلاف بين أهل العلم.
والنفقة الواجبة هي سد الرمق وستر العورة.
والعلماء يقولون في باب اللباس: يلزمه ثوبين في الصيف وثوبين في الشتاء.
وفي باب الطعام والشراب: ما يقوم به البدن.
قال: واختلفوا في صفة من تجب ل(53/14)
قصة الرجل الذي عف عن الزنا مع القدرة عليه
قال: [وقال الآخر: (اللهم إنه كانت لي ابنة عم أحببتها كأشد ما يحب الرجال النساء)] يعني: أحببتها حباً شديداً لم أره عند رجل أحب امرأة.
[(وطلبت إليها نفسها)] أي: طلب أن يواقعها في الحرام.
[(فأبت حتى آتيها بمائة دينار)] كأنها طلبت ذلك لتعجزه عن الحصول على هذه المائة دينار وإلا فهي امرأة عفيفة حرة تأبى أن تقع في الحرام، لكن لما طلبها وتمكن منها أرادت أن تهرب من الرذيلة بهذا الشرط.
قالت: ائتني بمائة دينار.
فذهب الرجل وتمكن من المائة دينار وزيادة، لأنه أعطاها مائة دينار وعشرين ديناراً من الذهب.
[(قال: فأبت حتى آتيها بمائة دينار، فتعبت حتى جمعت مائة دينار، فجئتها بها، فلما وقعت بين رجليها)] أي: لما كنت منها كما يكون الرجل من المرأة [(قالت: يا عبد الله! اتق الله)] تذكره بالله عز وجل [(ولا تفض الخاتم إلا بحقه)] أي: بنكاح صحيح.
وهذا للدلالة على أن هذه المرأة كانت بكراً.
وقد ورد في بعض الروايات أنها كانت ثيباً أيماً.
أي: مات عنها زوجها.
والمعنى: لا يحل لك إيلاج الفرج إلا بحقه، فالخاتم هنا هو الفرج، والمراد فض بكارة البكر.
قال: [(فقمت عنها)] أي: مخافة الله عز وجل.
ولذلك العلماء يقولون: هذا الرجل أفضل الثلاثة، لأن الذي دفعه إلى ذلك هو خوف الله عز وجل، والله تعالى يقول: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46].
وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41].
فهذا الرجل أفضلهم لخشية الله عز وجل، كما أنه ترك الذهب لهذه المرأة، فنفعه تعدى إلى الغير، وكذلك هذه المرأة كانت ابنة عمه، وفيه صلة الرحم كذلك، وأن هذه المرأة ذهبت إليه -في أحد الروايات- تطلب منه طعاماً في سنة جدب وقحط وحاجة، فهذا الرجل ترك الذهب وترك الزنا مخافة الله عز وجل، وحافظ على عرض ابنة عمه من باب صلة الرحم كذلك، كما أنه ترك كل ذلك في سنة جدب وقحط، ولو كان إنساناً نذلاً كان من الممكن أن يستغل هذا الظرف، والأنذال كثير وأنتم تعلمون ذلك، لكن هذا الرجل مع الجدب والقحط الذي تمر به البلد كلها وما نزل بابنة عمه خاصة كان بإمكانه أن يشرط أن هذا مقابل ذاك، ولكنه إنما انتهى عن كل ذلك وترك كل ذلك لله عز وجل من باب خشية الله لما قالت له فقط: اتق الله.
قال: [(فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها فرجة، ففرج الله تعالى لهم منها فرجة غير أنهم لا يستطيعون أن يخرجوا)].(53/15)
قصة الرجل مع الأجير
قال: [(وقال الآخر - هو الثالث -: اللهم إني كنت استأجرت أجيراً بفرق أرز)] الفرق هو الإناء الذي يسع ثلاثة آصع، والصاع أربعة أمداد، فهذا الرجل استأجر أجيراً بثلاثة آصع من الأرز.
وفي رواية: (من الذرة.
فلما قضى عمله قال: أعطني حقي.
قال: فعرضت عليه فرقه فرغب عنه).
جاء من حديث النعمان بن بشير أن سبب إعراض الرجل عن قبول أجرته وأخذها أن صاحب العمل استأجر أجراء على فرق من الأرز.
وفي رواية: من الذرة.
وأتاه آخر ضحىً وقال: تستأجرني؟ قال: نعم.
قال: بكم؟ قال: إن شئت أعطيتك مثلما سأعطي هؤلاء.
قال: كم أعطيتهم؟ قال: فرقاً من أرز، بأن يعملوا من أول النهار إلى آخره.
قال: كم تعطيني؟ قال: أعطيك مثل ما أعطيهم.
فعمل الرجل بجد فحصل من العمل ما لم يحصله من استأجرهم من أول النهار إلى آخره، فأعطاه الفرق فنظر إلى رجل ممن عمل من أول النهار إلى من عمل ضحىً، قال: (أتعطي هذا مثلما تعطيني وقد عملت من أول النهار؟ قال: يا عبد الله! إنما هو مالي أصنع فيه ما أشاء، فغضب الرجل غضباً شديداً وترك حقه أو فرقه وانصرف).
ولو أنه أعطى الفرق لرجل في الشارع لم يعمل قط، فلا لوم عليه؛ لأن هذا ماله وهو حاكم فيه، ولم يظلمك، وإنما أعطاك ما كان متفقاً عليه بينك وبينه.
وهذا الرجل كذلك -أي: صاحب العمل- إنما غضب لموقف هذا العامل غضباً شديداً فنهره.
فقيل: إن الرجل إنما ترك ماله وانصرف غضباً للمساواة بينه وبين من عمل ضحىً.
وقيل: إنه تركه لأن صاحب العمل نهره.
أي: غضب في وجهه وصاح فيه.
لا يهم أن يكون هذا أو ذاك، فمحصلة الأمرين: أن هذا الرجل ترك ماله وانصرف، وأتاه بعد مدة من الزمان.
قال: [(فعرضت عليه فرقه فرغب عنه، فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقراً ورعاء)] فالرجل المؤجر زرع هذا الفرق من أرز أو ذرة في الأرض، ومن الزرع اشترى بقراً وغنماً ورعاءً.
أي: عبيداً ليرعوا هذه الأغنام وهذه الأبقار.
قال: [(فجاءني)] أي: هذا المستأجر.
[(فقال: اتق الله! ولا تظلمني حقي.
قلت: اذهب إلى تلك البقر ورعائها فخذها.
فقال: اتق الله ولا تستهزئ بي.
فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه فذهب به.
قال: فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، ففرج الله لهم ما بقي فخرجوا جميعاً يمشون)].
استدل الشافعية بهذا الحديث على أنه يستحب للإنسان أن يدعو في حال كربه وفي دعاء الاستسقاء وغيره بصالح عمله ويتوسل إلى الله تعالى به، لأن هؤلاء سألوه فاستجيب لهم، وذكره النبي عليه الصلاة والسلام في معرض الثناء عليهم وجميل فضائلهم.(53/16)
فوائد من حديث قصة أصحاب الغار
قال: (وفي هذا الحديث: فضل بر الوالدين وفضل خدمتهما وإيثارهما عمن سواهما من الأولاد والزوجة وغيرهم.
وفيه: فضل العفاف والانكفاف عن المحرمات لا سيما بعد القدرة عليها والهم بفعلها، ويفعل ذلك خالصاً لله عز وجل.
وفيه: جواز الإجارة، وفضل حسن العهد، وأداء الأمانة، والسماحة في المعاملة.
وفيه: إثبات كرامات الأولياء، وهو مذهب أهل السنة).(53/17)
شرح رواية ابن عمر لحديث أصحاب الغار الثلاثة
ورواية عبد الله بن عمر الأخيرة: [(انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم)].
وهذا يدل على أن ذلك كان في الأمم السابقة [(حتى آواهم المبيت إلى غار)].
أي: اضطروا أن يبيتوا في غار، لأجل المطر [(وقال رجل منهم: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران فكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً)] والمال هنا بمعنى الرقيق، أي: لا أسقي أولادي ولا امرأتي ولا عبيدي شيئاً قبلهما.
[(وقال الآخر: فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين)] أي: ضائقة وجائحة.
[(فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار.
وقال الثالث: فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال فارتعجت)] أي: اضطربت القطيع من الأغنام والبقر من كثرتها.
قال: احتج بهذا الحديث أصحاب أبي حنيفة وغيرهم ممن يجيز بيع الإنسان مال غيره والتصرف فيه بغير إذن مالكه إذا أجاز المالك بعد ذلك، وهذا ما يسمى ببيع الفضولي، وموضع الدلالة قوله: (فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقراً ورعاءً).
وفي رواية البخاري: (فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فقلت: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق).
وأجاب الشافعية على الأحناف وغيرهم ممن لا يجيزون التصرف المذكور: بأن هذا إخبار عن شرع من قبلنا.
فالكلام هذا في شرع من قبلنا ولعله جائز في شرعهم وغير جائز في شرعنا، وفي كونه شرعاً لنا خلاف مشهور عند الأصوليين.
فإن قلنا: ليس بشرع لنا فلا حجة فيه، وإلا فهو محمول على أنه استأجره بأرز في الذمة ولم يسلم إليه، بل عرضه عليه فلم يقبله لرداءته فلم يتعين من غير قبض صحيح فبقي على ملك المستأجر؛ لأن ما في الذمة لا يتعين إلا بقبض صحيح، ثم إن المستأجر تصرف فيه وهو ملكه فصح تصرفه سواء اعتقده لنفسه أم للأجير ثم تبرع بما اجتمع منه من الإبل والبقر والغنم والرقيق على الأجير بتراضيهما.
ومن الفوائد أيضاً: أن هذا الرجل عمل في مقابل الثلاثة الآصع من رز أو قمح أو ذرة أو المال الرسمي، فلم يتعين حقه في الثلاثة الآصع بعينها، لو أنه أخذها عنده يصبح حقه تعين له، ولا يحل أخذه منه حتى لو أرسله، إذ لا بد من استئذانه ورضاه، وإذا لم أعطه له يصير في ذمتي ولو تمر عليه مائة سنة فإنها ثلاثة آصع فقط.
لكن هذا المؤجر طابت نفسه أن يعين من ماله الثلاثة آصع وأن يزرعها بنية النماء لهذا الرجل، فهذا فضل من عنده.
فهو هنا قد تصرف في مال الغير بغير إذنه؛ لأن الرجل عين هذا المال للغير، فكأنه دخل في ملكه وهو في حقيقة الأمر ليس ملكاً له على التعيين، وإنما هو له في ذمة المؤجر ثلاثة آصع، لكن ليست هذه بعينها.
هذه الترجمة معقودة لما يسمى عند الفقهاء ببيع الفضولي، وقد مال البخاري فيها إلى الجواز؛ لأن بعض الشافعية أنكروها.
وأورد في حديث ابن عمر في قصة الثلاثة الذين انحطت عليهم الصخرة في الغار، قول أحدهم: (إني استأجرت أجيراً بفرق من ذرة فأعطيته فأبى، فعمدت إلى الفرق فزرعته حتى اشتريت منه بقراً وراعيها).
قال: فإن فيه تصرف الرجل في مال الأجير بغير إذنه، ولكن لما ثمره له ونماه وأعطاه أخذه ورضيه.
وطريق الاستدلال به ينبني على أن شرع من قبلنا شرع لنا، والجمهور على خلافه، والخلاف فيه مشهور، لكن يتقرر بأن النبي صلى الله عليه وسلم ساقه مساق المدح والثناء على فاعله وأقره على ذلك، ولو كان لا يجوز لبينه النبي عليه الصلاة والسلام، فكونه سكت عنه دل على أن ما كان شرعاً لغيرنا هو شرع لنا إذا وافق النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك واستحبه، فبهذا الطريق يصح الاستدلال به لا بمجرد كونه شرع من قبلنا.
ويقول: وقد أجيب عن حديث الباب بأنه يحتمل أنه استأجره بفرق في الذمة، ولما عرض عليه الفرق فلم يقبضه استمر في ذمة المستأجر؛ لأن الذي في الذمة لا يتعين إلا بالقبض، أما قبل القبض فلا يتعين، إنما يجزئه أن يأخذ قدر ماله في الذمة بغير تعيين، فلما تصرف فيه المالك صح تصرفه سواء اعتقده لنفسه أو لأجيره، ثم إنه تبرع بما اجتمع منه على الأجير.
يعني: تبرع من باب التفضل، فقد تبرع به على الأجير برضاً منه، والله تعالى أعلم.
قال ابن بطال: وفيه دليل على صحة قول ابن القاسم: إذا أودع رجل رجلاً طعاماً فباعه المودع بثمن فرضي المودع فله الخيار، إن شاء أخذ الثمن الذي باعه به، وإن شاء أخذ مثل طعامه.
واستدل به كذلك أبو ثور على أن من غصب قمحاً فزرعه فكلما أخرجت الأرض من القمح فهو لصاحب القمح.
أما قول الثلاثة: (اللهم إن كنت تعلم) فيه إشكال؛ لأن المؤمن يعلم قطعاً أن الله يعلم، فلم قالوا: اللهم إن كنت تعلم مع أنه يعلم؟ أجيب: بأن هؤلاء ترددوا في عملهم، هل له اعتبار عند الله أم لا؟ ربما يكون له اعتبار عنده، لكن وقع حابطاً عند الله عز وجل، فكأنهم يقولون: اللهم إن كان قد سبق في علمك أن هذا ع(53/18)
شرح صحيح مسلم - كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - كتاب صفات المنافقين
لقد فضح الله تعالى المنافقين، وكشف مكايدهم وخططهم ومكرهم في حرب الإسلام والمسلمين، ووصفهم بصفات كثيرة؛ كي يحذر المؤمنون هذه الصفات، ويبتعدوا عنها، ولا يتصفوا بها.(54/1)
صفات المنافقين وأحكامهم(54/2)
سبب نزول سورة (المنافقون)
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، أما بعد: فمع كتاب صفات المنافقين وأحكامهم.
قال النووي: (كتاب صفات المنافقين وأحكامهم).
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا الحسن بن موسى -وهو الأشيب أبو علي البغدادي قاضي الموصل- قال: حدثنا زهير بن معاوية -وهو ابن معاوية بن حديج أبو خيثمة الجعفي الكوفي، وسماعه من أبي إسحاق السبيعي في آخره، وقد اختلط، ففي سماعه من أبي إسحاق نظر- قال: حدثنا أبو إسحاق أنه سمع زيد بن أرقم رضي الله عنه يقول: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر أصاب الناس فيه شدة، فقال عبد الله بن أبي بن سلول زعيم المنافقين لأصحابه: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله).
قال زهير - وهو ابن معاوية - راوي الحديث: وهي قراءة من خفض: (حوله)] أي: كسر اللام في قوله: (حولِه).
[وقال عبد الله بن أبي ابن سلول: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8]].
أي: كأنه يتوعد النبي صلى الله عليه وسلم، ويثبت في هذا القول أنه هو الأعز، ورسول الله هو الأذل، فهو يتوعد بإخراج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة.
قال: {لَئِنْ رَجَعْنَا} [المنافقون:8] أي: من سفرنا هذا، ومن غزوتنا هذه {إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8].
[قال زيد بن أرقم: (فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك)] أي: فأخبرته بمقالة المنافق عبد الله بن أبي ابن سلول، [(فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي فسأله -أي: عن هذه المقالة-: أأنت الذي قلت: لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا؟)] أي: حتى يتفرقوا من حوله [(وأنت الذي قلت: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8]؟ فاجتهد عبد الله بن أبي ابن سلول يمينه ما فعل)] يعني: حلف أيماناً مغلظة أنه ما قال ذلك.
[فقال: (كذب زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم)] أي: فقال ابن أبي: كذب زيد بن أرقم على النبي صلى الله عليه وسلم بهذا، وما أراد إلا الفتنة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أصحابه.
قال زيد بن أرقم: [(فوقع في نفسي مما قالوه شدة)] يعني: لما اتهم بالكذب وقد سكت النبي عليه الصلاة والسلام عن عبد الله بن أبي، وقع في نفس زيد بن أرقم شدة، يعني: حزن وهم وغم شديد؛ لأنه صارت صورته صورة كاذب ونمام يريد أن يوقع الفساد والشر بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أصحابه.
قال: [(فوقع في نفسي مما قالوه شدة، حتى أنزل الله تصديقي)].
أي: في قوله: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} [المنافقون:1] إلى آخر الآيات.
فهنا أثبت الله تبارك وتعالى صدق زيد بن أرقم، كما أثبت نفاق عبد الله بن أبي ابن سلول، وعبد الله لم يكن من عامة المنافقين، وإنما كان على رأس المنافقين، فهو إمام في الشر.
قال زيد بن أرقم: [(ثم دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم، قال: فلووا رءوسهم)] يعني: استنكفوا وأبوا أن يأتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلووا رءوسهم لي المعرض الجاحد المستغني.
وقوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4] أي: هؤلاء المنافقون.
[وقال زيد بن أرقم: كانوا رجالاً أجمل شيء]، يعني: من جهة أبدانهم وجمال منظرهم كانوا في قمة الجمال، ولكن مخبرهم كان في قمة الفساد والضلال والنفاق والكفر.
والكفر كفران، والفسق فسقان، وكذلك النفاق منه ما هو أكبر، ومنه ما هو أصغر، والأكبر منه هو المخرج عن الملة، وهو أن يبطن الإنسان الكفر ويظهر الإسلام؛ كحال المنافقين الذين كانوا على زمانه عليه الصلاة والسلام، وحال الملاحدة والعلمانيين في كل زمان ومكان إلى قيام الساعة، الذين يقولون: نحن علمانيون، ولا مانع قط أن يجتمع الإسلام مع العلمانية، وأن يجتمع الإسلام مع الإلحاد و(54/3)
من صفات المنافقين إظهار الود لأهل الإسلام وإخفاء العداوة
والنبي عليه الصلاة والسلام أثبت معالم وصفات المنافقين في هذا النص، فلنأخذ من ذلك قول عبد الله بن أبي كما حكى الله عنه: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:7] أي: من حوله.
فهذه أول صفة من صفاتهم: أنهم يظهرون الود لأهل الإسلام، ويخفون العداوة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (هم حرب على أهل الإسلام، سلم لأعدائه).
يعني: يسالمون أعداء الإسلام، ويودونهم ويوالونهم، لكنهم على أهل الإسلام وأبناء الإسلام حرب وعداوة قوية، فلا تكاد تمر بهم فتنة إلا وجروها إلى المسلمين.
الأمر الثاني: أنهم أحياناً يصرحون بذلك، كما صرح هذا المنافق بقوله: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8].
فهم يتصورون باجتماعهم أنهم قوة لا يستهان بها، وأنهم لا يغلبون من قلة، وقد بين الله عز وجل هزيمتهم النفسية فقال: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14]؛ لأن القلب الذي اجتمع إلى شكله ومثله إن لم يكن هذا الاجتماع على الحب في الله، والموالاة فيه، والمعاداة لغيره، لا يمكن أبداً أن يتم الائتلاف، وإن وقع للحظات أو لأيام فإنه لا يستمر؛ لأنه ليس لله، وما كان لله دام واتصل، وما كان لغيره لابد أن ينقطع وينفصل.
وهكذا المنافقون؛ فإنهم يتهمون أهل الإيمان بما عندهم من صفات وأخلاق، ويأتون بما عندهم من كذب وسحت في آبارهم فينضحون به على أهل الإسلام، ولذلك قال عبد الله بن أبي: (كذب زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ولم يكن هكذا، فـ زيد بن أرقم رضي الله عنه لم ينقل إلى النبي عليه الصلاة والسلام إلا ما كان حقيقة من عبد الله بن أبي ابن سلول لا يعلمه من قبل، والله عز وجل أخبره بالمنافقين جميعاً.(54/4)
من صفات المنافقين إظهار الاستغناء عن أهل الإيمان والإعراض عنهم
الصفة الثانية: ولما دعاهم ليستغفر لهم لووا رءوسهم، فهم يظهرون الاستغناء عن أهل الإيمان بالإعراض، أو بصرف الخد، أو بالغمز واللمز، أو بالنظر الخفي الذي هو خافية الأعين، وكل هذه الصفات والعلامات إنما هي صفات وعلامات وأمارات للمنافقين.
قال: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4] (خشب) جمع: خشبة، أي: العظيمة من الخشب مسندة إلى الحائط، وكذلك كل من لم يكن مسلماً، {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14].
وربما خطر ببال أحد منكم سؤال وهو: لماذا نقل زيد بن أرقم هذا الكلام إلى النبي عليه الصلاة والسلام؟ أليست هذه من النميمة فعلاً، ونحن نعلم أن النميمة إنما هي نقل الكلام على جهة الإفساد؟
و
الجواب
من وجهين: الوجه الأول: أن زيد بن أرقم إذا كان يعلم أن عبد الله بن أبي ابن سلول من المنافقين فيلزم من ذلك نقل الكلام إلى الأمين والسيد والسلطان والحاكم حتى يحذره، لغلبة الظن، ووقوع المضرة على أهل الإيمان، ولذلك زيد بن أرقم لم يخبر آحاد الناس، وإنما ذهب إلى الإمام المعظم صلى الله عليه وسلم وأخبره بما كان من أمر الجند من كلام يضر باستقامة الحال.
الوجه الثاني: إذا كان لا يعلم سابقاً أنه من المنافقين فيكون قد غلب على ظنه لما سمع منه هذا القول أنه من المنافقين، فخشي ألا يكون النبي عليه الصلاة والسلام عنده علم بنفاق هذا المنافق، فأخبره حتى يحذره الإمام.
وفي هذا مصلحة عامة للإسلام والمسلمين، ولا يمكن قط أن تدانيها أو تقاربها مضرة النميمة بين اثنين، ولذلك لما غلبت المصلحة كان يجب عليه إذا سمع هذا الأمر فيما يتعلق بالإمام أو نحوه من كبار ولاة الأمور، ويخاف الضرر على المسلمين أن يبلغ هذا الكلام؛ ليحترز منه الإمام.
كما أن هذا الكلام فيه منقبة عظيمة جداً لـ زيد بن أرقم، وأن الله تبارك وتعالى أنزل تصديقه من فوق سبع سماوات، وبين براءته من الكذب، وأنه صادق مصدق، وتصديق الله تعالى لـ زيد بن أرقم دليل على محبة الله تبارك وتعالى لأصحاب نبيه، وأن محبة الله تعالى مع المؤمنين معية خاصة بالرعاية والعلم والسمع والبصر والإحاطة والنصرة والتأييد، كل ذلك إنما تم في لحظات في أثناء جهاده عليه الصلاة والسلام، وكان مع المجاهدين هؤلاء المنافقون.(54/5)
سبب تكفين النبي لعبد الله بن أبي بقميصه لما مات
قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وأحمد بن عبدة الضبي واللفظ للأول -أي: لـ أبي بكر بن أبي شيبة - قال ابن عبدة - وهو أحمد -: أخبرنا، وقال الآخران: حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو -إذا حدث سفيان بن عيينة عن عمرو فإنما هو عمرو بن دينار المكي - أنه سمع جابراً يقول: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم قبر عبد الله بن أبي فأخرجه من قبره، فوضعه على ركبتيه، ونفث عليه من ريقه، وألبسه قميصه، ثم قال: الله أعلم)].
إما أن يكون قوله: (الله أعلم) من قول مسلم، أو من قول جابر بن عبد الله الأنصاري.
وهذا الحديث صحيح، وإن رده كثير من المؤمنين من جهة العاطفة، بمعنى أنهم ما كانوا يتمنون أن يفعل النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الكافر المنافق شيئاً من ذلك، وهذا يدل على عظيم رحمة النبي عليه الصلاة والسلام، وإن كان عبد الله بن أبي في الآخرة لا يرحم، ولا يرحم في قبره كذلك، لكن هذا العمل انطوى على حكمة عظيمة جداً في الدعوة إلى الله عز وجل، ولذلك ذهب النبي عليه الصلاة والسلام إلى قبر عبد الله بن أبي بن سلول وقد أعلمه الله أنه من المنافقين، فأخرجه من قبره -أي: بعد أن دفن، في اليوم الذي دفن فيه- ثم وضعه على ركبتيه -أي: في حجر النبي عليه الصلاة والسلام- ونفث عليه من ريقه الشريف، وألبسه قميصه صلى الله عليه وسلم، وأنتم تعلمون استحباب التبرك بآثار النبي عليه الصلاة والسلام، ولا خلاف بين أهل العلم في ذلك.
وكون أحد يلبس لباس النبي عليه الصلاة والسلام، أو يأخذ عصاه، أو شيئاً من آثاره كشعره أو ظفره، أو غير ذلك مما يتعلق به ويختص به عليه الصلاة والسلام؛ هذا شرف عظيم جداً، ولكن القضية: أن النبي عليه الصلاة والسلام إنما فعل ذلك بهذا المنافق؛ وهو يعلم أنه منافق؛ إكراماً لابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول وكان رجلاً صالحاً، ففعل النبي عليه الصلاة والسلام ذلك إكراماً لولده، لا إكراماً له، هذا رأي.
الرأي الثاني: أن الذي طلب منه ذلك هو عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول، فما أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يدخل الحزونة على قلب عبد الله بن عبد الله بن أبي برد طلبه، فأراد أن يكافئه على حسن إسلامه وصحبته.
الثالث: أن النبي عليه الصلاة والسلام إنما ألبس عبد الله بن أبي ابن سلول قميصه؛ لأنه كان قد ألبس العباس عم النبي عليه الصلاة والسلام قميصاً له، وكان العباس في حاجة إليه، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يكافئه في الدنيا حتى لا يبقى له في الآخرة شيء، وهذا وجه عظيم جداً من وجوه التأويل.
قال: [حدثنا أحمد بن يوسف الأزدي حدثنا عبد الرزاق - وهو ابن همام الصنعاني - أخبرنا ابن جريج وعبد الملك بن عبد العزيز الأموي أخبرني عمرو بن دينار قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: (جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي بعدما أدخل حفرته) فذكر بمثل حديث سفيان بن عيينة السابق.
وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة -وهو حماد بن أسامة - قال: حدثنا عبيد الله بن عمر -وهو العمري الإمام الكبير، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة- عن نافع الفقيه - مولى ابن عمر - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (لما توفي عبد الله بن أبي ابن سلول) وكان حقه أن يكسر ابن سلول لأنه معطوف، وإنما ضم ابن سلول لأن أمه اسمها: سلول، ولم يكن جده بهذا الاسم، ولذلك ضم ابن قبل الاسم- جاء ابنه -أي: عبد الله بن عبد الله - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم)] يعني: يجذبه إليه، ويمنعه وينهاه أن يصلي على هذا المنافق، وهذا يدل على اشتهار نفاق هذا بين الأصحاب.
[فقال: (يا رسول الله، أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما خيرني الله فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:80] ثم ق(54/6)
سبب نزول قوله تعالى: (وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم
قال: [حدثنا محمد بن أبي عمر المكي حدثنا سفيان - وهو ابن عيينة - عن منصور بن المعتمر عن مجاهد بن جبر المكي عن أبي معمر -وهو عبد الله بن سخبرة الأزدي الكوفي - عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (اجتمع عند البيت ثلاثة نفر: قرشيان وثقفي، أو ثقفيان وقرشي)].
ومعنى (ثقفي) أي: من ثقيف، وثقيف قبيلة في الطائف بجوار مكة، أما قريش فهي أصل مكة.
قال: [(قليل فقه قلوبهم، كثير شحم بطونهم)].
أي: من علامات المنافقين أنهم لا يكادون يفقهون نصاً؛ لأن عندهم عمى في بصيرتهم، فقد طمس الله على عيونهم، وغشى الران على قلوبهم، ومن علاماتهم أيضاً: كثير شحم بطونهم، وربنا حكى عنهم أنهم خشب مسندة.
وقد نقل الإمام النووي عن القاضي عياض رحمه الله أنه قال: وهذا فيه تنبيه على أن الفطنة قلما تكون مع السمن، وهذا يعني أن الواحد يحرص أن يتخفف في طعامه؛ لأن الإنسان إذا أكل كثيراً نام كثيراً، وبالتالي ضاع منه العلم الكثير، والعلم مرتبط بالفقر والحاجة.
ولذلك كان الإمام الشافعي يقول: لا يطلب العلم من ملك زاده، ولا يطلبه إلا من أحرق البن قلبه.
قال الخطيب البغدادي: (البن): هو طعام كانت تصنعه العرب من كيت وكيت.
والذي فهمته من تفسير (البن) أنه خبز يابس يبل بماء ثم يؤكل، بعض النساخ كتب (اللبن)، وأنتم تعلمون أن اللبن هو شراب الفطرة، وهو شراب مغذٍ جداً، فلا يستقيم أبداً أن يقول: لا يطلب العلم إلا من أحرق اللبن قلبه؛ لأن اللبن لا يحرق القلب.
[(فقال أحد هؤلاء الثلاثة النفر: أترون الله يسمع ما نقول، فقال الآخر: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا، وقال الثالث: إن كان يسمع إذا جهرنا فهو يسمع إذا أخفينا)] يعني: الذي يسمع مع الظاهر يسمع مع الإخفاء، [فأنزل الله عز وجل: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ} [فصلت:22]) إلى آخر الآيات].
أي: أنزل الله عز وجل تكذيب هؤلاء؛ لأن قولهم يدور بين التردد والشك في صفات الله عز وجل، وهذا على خلاف المؤمنون الذين يعتقدون اعتقاداً جازماً لا يسعهم غيره: أن الله تعالى منزه عن كل نقص، ومتصف بكل كمال.
إن من أعبد العبادات أن تعبد الله تعالى بأسمائه وصفاته، فهؤلاء خفيت عليهم ذات الله عز وجل كما خفيت عليهم صفات الله تبارك وتعالى؛ لأنهم لو كانوا يعلمون ذات الإله حقاً؛ لعلموا أن هذه الذات متصفة بصفات الكمال، فهو يسمع ويرى.
فأحد هؤلاء الثلاثة كان عنده تردد وشك في وصف الله تبارك وتعالى بصفات الكمال والجلال، وبعضهم كأنه أيقن أن الله تعالى لا يسمع كلامهم، ولا يرى مكانهم.
قال: [وحدثني أبو بكر بن خلاد الباهلي حدثنا يحيى بن سعيد - وهو القطان - قال: حدثنا سفيان - وهو الثوري - حدثني سليمان - وهو سليمان بن مهران الأعمش، وإذا روى الثوري عن سليمان فاعلم أنه سليمان بن مهران الأعمش، وفي الغالب لا يقال الأعمش، وإنما يقال: سليمان، فهو الأعمش عن عمارة بن عمير عن وهب بن ربيعة الكوفي عن عبد الله بن مسعود].
ووهب بن ربيعة مقبول، ولم يوثقه غير ابن حبان، وتوثيق ابن حبان محل نظر عند أهل العلم، والمقبول إذا توبع كان حديثه حسناً، وإذا لم يتابع فحديثه ضعيف، لكنه هنا متابع، ولذلك يروي مسلم هذا الحديث بإسناد آخر فقال: [وحدثنا يحيى قال: حدثنا سفيان حدثني منصور عن مجاهد عن أبي معمر عن عبد الله بنحوه].
إذاً: فـ وهب بن ربيعة تابعه أبو معمر، وهما يرويان عن عبد الله بن مسعود في الإسناد الأول والإسناد الثاني، فـ أبو معمر في نفس طبقة وهب بن ربيعة، وأبو معمر متابع لـ وهب بن ربيعة، فكلاهما يروي عن ابن مسعود، وهذه متابعة تامة، والمتابعة التامة هي اشتراك راويين في شيخ واحد.(54/7)
سبب نزول قوله تعالى: (فما لكم في المنافقين فئتين)
قال: [حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري حدثنا أبي قال: حدثنا شعبة -وهو ابن الحجاج العتكي البصري - عن عدي بن ثابت -وهو الأنصاري الذي تحول إلى الكوفة واستوطنها- قال: سمعت عبد الله بن يزيد يحدث عن زيد بن ثابت: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد فرجع ناس ممن كانوا معنا].
ورجوع هؤلاء كان يقدر بحوالي ثلث الجيش، وذلك في العام الثالث من الهجرة، ورجع ثلث الجيش لا يبشر بخير، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم استبشر بذلك خيراً، لأن هؤلاء في وسط الصفوف لا يخدمون أهل الإيمان، ولا يخدمون حقيقة النصر، وإنما هم شر على من معهم، ووجود هؤلاء في الصف خذلان وليس نصراً.
فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في شأن هؤلاء فرقتين، أي: اختلف الثلثان الذين بقوا مع النبي عليه الصلاة والسلام في الثلث المنسحب إلى فرقتين وفريقين: فبعضهم يقول: نقتلهم، والبعض الآخر يقول: لا نقتلهم، فنزلت قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} [النساء:88] يعني: فما لكم اختلفتم إلى فئتين في أمر المنافقين؟ فأثبت الله أن من رجع في هذه الغزوة كان منافقاً، وهذا شيء رائع أن يعرف المنافق، فالشيء الذي نغضب من أجله هو أنه لا يوجد وحي ينزل يقول لنا: فلان منافق، وفلان مؤمن، فالوحي انقطع بموت النبي عليه الصلاة والسلام.
فنجد في هذا العصر أن بعض الناس يقول: إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يسحر، ويرد الحديث الذي في البخاري ومسلم.
والبعض الآخر ينكر الحديث الذي في البخاري بدعوى أنه يعارض العقل، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سقط الذباب في شراب أحدكم فليغمسه؛ فإن في أحد جناحيه داء، وفي الأخرى دواء).
ويقول مثلاً: الصحابة بشر يصيبون ويخطئون.
فيرد عليه: بأنه يلزم على قوله أن الصحابة والأمة كلها أجمعت على الباطل في هذا التواتر الذي نقل به العلم والوحي، وأنت الوحيد الذي جئت تكتشف هذا بعقلك! ولو كانت المسألة مسألة فهم وعقل؛ فهل عقلك وفهمك أولى من فهم أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والصحابة أجمعين والتابعين والأئمة المتبوعين؟ وتجد بعضهم يصلي ويصوم، لكنه يؤذي الجيران، فلو مات مات على معصية، ويثبت له إيمانه، وأما إذا ترك كل الطاعات فكيف يثبت له الإسلام؟! بل كيف يثبت له الإيمان؟! وكذلك الذي يقول: إن النبي عليه الصلاة والسلام كان في داره، وكان يغض الطرف عن عمر وهو يزني، فهذا كفر؛ لأنه اتهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
فنحن الآن في زمن ماجت فيه الفتن كموج البحر، فتجد أعمالاً ظاهرها الإيمان لكن القلوب أشد من قلب عبد الله بن أبي ابن سلول، وأنا في الحقيقة: في هذه المسائل كالصاروخ لا أتوقف، فمن أتى عملاً يكفر به فهو كافر، هذا هو دين الله تبارك وتعالى، ولم نأت به من عندنا، ومع هذا؛ نقسم بالله العظيم أننا في غاية التحري في مسائل الإيمان والكفر، ولما أقول على فلان: إنه كافر؛ وهو ليس كذلك حارت الكلمة علي، وأنا لا أتصدق بنفسي أبداً على أحد، ولا أجعل مصيري يوم القيامة هدية لأحد قط، لكن نتكلم بقال الله وقال رسوله، وفهم أئمة الدين، فإذا وقع إنسان في اعتقاد أو قول أو فعل يكفر به كفرناه، وعلى المسلم التوبة إلى الله عز وجل.
قال: [قال الله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} [النساء:88]] يعني: يا أيها المؤمنون! ما لكم اختلفتم فيمن رجع في غزوة أحد إلى المدينة ولم يشارك في الغزو معكم، اختلفتم فيه إلى فرقتين؟ {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} [النساء:88] أي: والله خيب آمالهم، وأبطل سعيهم بما كسبوا، {أَتُرِيدُونَ} [النساء:88] أي: أيها المؤمنون {أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء:88].(54/8)
سبب نزول قوله تعالى: (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا)
[حدثنا الحسن بن علي الحلواني ومحمد بن سهل التميمي قالا: حدثنا ابن أبي مريم -وهو أبو محمد المصري سعيد بن الحكم الثقة الثبت الفقيه الإمام- قال سعيد: أخبرنا محمد بن جعفر أخبرني زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري - سعد بن مالك بن سنان - رضي الله عنه: (أن رجالاً من المنافقين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم)].
يعني: يريدون أن يقولوا: نحن ضحكنا على النبي صلى الله عليه وسلم، فهو قد خرج إلى الغزوة ونحن قعدنا هنا، وفرحوا لأنهم تخلفوا عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.
قال: [(فإذا قدم النبي عليه الصلاة والسلام اعتذروا إليه، وقالوا: يا رسول الله! سامحنا، منعنا من الخروج معك الأولاد والعيال والمال والغيث والبيت، واعتذروا إليه وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:188]).
وحدثنا زهير بن حرب وهارون بن عبد الله واللفظ للأول، قال: حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج قال: أخبرني ابن أبي مليكة أن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أخبره أن مروان بن الحكم قال: اذهب يا رافع -لبوابه- إلى ابن عباس فقل له: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذباً؛ لنعذبن أجمعون].
أي: أخذ مروان بن الحكم هذا الكلام على ظاهره، وأجراه مجرى العموم، فالمرء يحب أن يمدح بما أتى، ويمدح بما لم يفعل، ففهم هذا على العموم فقال لـ رافع: قل لـ ابن عباس: لو أن الواحد فينا يحب أن يمدح بما لم يفعل ويفرح بما أتى فإننا كلنا معذبون.
[فقال ابن عباس: إنما أنزلت هذه الآية في أهل الكتاب، ثم تلا ابن عباس: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187].
ثم تلا قوله تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} [آل عمران:188] الآية.
سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فخرجوا من عنده قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه].
وقد ذكر ذلك عبد الله بن سلام حبر اليهود في المدينة، فقد زنى رجل من اليهود بامرأة، فجاء اليهود بهذا الزاني ملطخاً وجهه بالسواد، وكانت هذه عقوبة الزاني يفعلها أهل الكتاب في المدينة، فإذا زنى أحدهم لطخوا وجهه بالسواد، وطافوا به في المدينة ليفضحوه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بال هذا؟ قالوا: زنى يا محمد، فقال: لمَ لم ترجموه؟ قالوا: لم نؤمر برجمه) وهذا في حضرة عبد الله بن سلام الإسرائيلي، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (هل في كتاب الله الذي بين أيديكم رجمه يا ابن سلام؟ قال: يا رسول الله في كتابهم الرجم، قالوا: ليس في كتابنا الرجم، فأتى أحد ممن جاء بهذا الزاني بالتوراة فتلاها ووضع أصبعه على الرجم، فقال عبد الله بن سلام لرسول الله: مره يا رسول الله فليرفع يده، فلما رفع قرأ عبد الله بن سلام الرجم، فرجمهم النبي عليه الصلاة والسلام).
فقد فرحوا أولاً بما أتوا، وأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا ما استخبرهم فإنهم يخبرونه حتى يخرجوا من عنده، فظنوا أنهم بذلك قد نجوا من بين يديه عليه الصلاة والسلام، وكتموا أمر الوحي الذي بين أيديهم، وأخبروه بغيره، فظنوا أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه صلى الله عليه وسلم.(54/9)
عدد المنافقين في عهده صلى الله عليه وسلم
قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أسود بن عامر -المعروف بـ شاذان - حدثنا شعبة بن الحجاج عن قتادة عن أبي نضرة -وهو المنذر بن مالك بن قطعة - عن قيس -وهو ابن عباد أبو عبد الله البصري مخضرم- قال: (قلت لـ عمار: أرأيتم صنيعكم هذا الذي صنعتم في أمر علي أرأياً رأيتموه، أو شيئاً عهده إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟).
أي: أن قيس بن عباد يقول لـ عمار بن ياسر: ما هي الحكاية التي بينكم وبين علي بن أبي طالب، فهل هذا الأمر هو اجتهاد منكم، أو أن هذا عهد أوصاكم به النبي عليه الصلاة والسلام؟ [فقال: (ما عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً لم يعهده إلى الناس)].
وهذا فيه رد على الشيعة الذين يقولون: بأن علي بن أبي طالب كانت معه صحيفة خصه بها النبي عليه الصلاة والسلام، ومن باب أولى تكذيب للشيعة القائلين بأن القرآن الذي بين أيدي أهل السنة لا يبلغ ثلث القرآن الذي كان بيد فاطمة رضي الله عنها.
قال: [ولكن حذيفة أخبرني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (في أصحابي اثنا عشر منافقا ً)].
وإطلاق قوله عليه الصلاة والسلام: (أصحابي) ثم يذكر المنافقين هذا يدل على أن المنافقين إنما دخلوا في الظاهر في صحبة النبي عليه الصلاة والسلام، فهو ذكرهم من باب العرف أو التغليب.
[قال صلى الله عليه وسلم: (في أصحابي اثنا عشر منافقاً، فيهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط)].
يعني: لا يدخلون الجنة أبداً؛ لأنه لا يمكن أبداً أن يلج الجمل في سم الخياط، وسم الخياط خرم الإبرة، فهل يتصور أن يدخل البعير في خرم الإبرة؟ لا يمكن.
فقال: [(فيهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة)].
ثم فسر الدبيلة فقال: [(سراج من النار يظهر في أكتافهم حتى ينجم من صدورهم)] يعني يظهر ويعلم.
الدبيلة هي: عبارة عن شعلة من النار تظهر في أكتافهم من الخلف حتى تخرج من صدورهم، فربنا سبحانه وتعالى قد كفى المؤمنين شر هؤلاء.
فماتوا بهذه العلامة أمام أعين الأصحاب رضي الله عنهم، فهذا يقين أنهم من المنافقين حتى وإن لم يسموا لعامة الأصحاب، فإذا ماتوا بهذه العلامة تيقن الأصحاب أن هؤلاء من المنافقين.
قال: [(لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة) وأربعة لم أحفظ ما قال شعبة فيهم].
وسم الخياط يقال فيه: سِم أو سُم.
وهذا الحديث هو من مسند حذيفة بن اليمان رضي الله عنه.
قال: [حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار واللفظ للأول، قال: حدثنا محمد بن جعفر -المعروف: بـ غندر - حدثنا شعبة عن قتادة عن أبي نضرة عن قيس بن عباد قال: قلنا لـ عمار: (أرأيت قتالكم أرأياً رأيتموه -أي: أهذا اجتهاد منكم؟ فإن الرأي يخطئ ويصيب- أو عهداً عهده إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ما عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً لم يعهده إلى الناس كافة).
وقال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن في أمتي) قال شعبة وأحسبه قال: حدثني حذيفة، وقال غندر أنه قال: (في أمتي اثنا عشر منافقاً لا يدخلون الجنة، ولا يجدون ريحها)].
يعني: لا يشمون رائحة الجنة، [(حتى يلج الجمل في سم الخياط، ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة) وهي: سراج من النار يظهر في أكتافهم حتى ينجم يظهر ويعلو من صدورهم)].
أي: حتى يفضحهم في الدنيا والآخرة.
قال: [حدثنا زهير بن حرب قال: حدثنا أبو أحمد الكوفي -وهو المشهور بـ أبي أحمد الزبيري، ولا يكنى في هذه الطبقة أبو أحمد من رجال مسلم غيره، وهو أبو أحمد الزبيري الكوفي محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي - قال: حدثنا الوليد بن جميع -وجميع جده، وهو ينسب لجده؛ لكثرة الملازمة، فهو الوليد بن عبد الله بن جميع الزهري المكي الكوفي - قال: حدثنا أبو الطفيل عامر بن واثلة -وهو آخر الصحابة موتاً على الإطلاق، فقد عُمَّر طويلاً- قال أبو الطفيل: كان بين رجل من أهل العقبة وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس].
العقبة اسم مكان قريب من تبوك، و(54/10)
المنافق الذي لم يمتثل أمر النبي عليه الصلاة والسلام
قال: [حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري حدثنا أبي حدثنا قرة بن خالد عن أبي الزبير -وهو محمد بن مسلم بن تدرس - عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يصعد ثنية المراري)].
والثنية: هي الطريق بين الجبلين، وهي عند الحديبية، وسميت ثنية المراري؛ لأنه كان فيها شجر مر الطعم.
قال: [(فإنه يحط عنه ما حط عن بني إسرائيل)].
يعني: من صعد هذه الثنية فإن الله عز وجل يحط عنه الخطايا كما حطها عن بني إسرائيل، ويغفر له ذنوبه.
قال: [(فكان أول من صعدها خيلنا -أي: خيل بني الخزرج- ثم تتام الناس)] يعني: ثم صعد جميع الناس.
[فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (وكلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر)].
وصاحب الجمل الأحمر ضاع منه جمله، فانشغل بالبحث عنه.
[فقيل له: (تعال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك، قال: والله لأن أجد ضالتي أحب ألي من أن يستغفر لي صاحبكم)].
ويا ليت جميع المنافقين في هذا الزمن يكون عندهم شجاعة أدبية فيقولون: نحن منافقون، فيريحونا، لكن في هذا الوقت الواحد منهم يقول كلاماً يكفره به من لا يتوقع كفره، ولا يختلف عليه اثنان، ومع هذا تجد من أهل العلم من يخالف ذلك.
فتجد إنساناً يأتي بأفعال الكفر، ويتقول أقوال الكفر، ويقول كلاماً لا يبقى معه أصل الإيمان عنده، ومع هذا تجد أن بعض أهل العلم يقول: هذا رجل مؤمن، وهذا كله بسبب الجهل بقضايا الإيمان والكفر.
قال: [(وكان رجل ينشد ضالة له)] يعني: يطلبها، قيل: إن هذا الرجل هو الجد بن قيس المنافق.
وفي رواية: [(من يصعد ثنية المُرار، أو المِرَار، أو المِرِار) بمثل حديث معاذ السابق غير أنه قال: (وإذا هو أعرابي جاء ينشد ضالة له)].(54/11)
المنافق الجاسوس لصالح اليهود
قال: [حدثنا محمد بن رافع حدثنا أبو النضر -وهو هاشم بن القاسم البغدادي، الملقب: بـ قيصر - قال: حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت بن أسلم البناني عن أنس بن مالك قال: (كان منا رجل من بني النجار قد قرأ البقرة وآل عمران -وبنو النجار هم أخوال النبي عليه الصلاة والسلام- فانطلق هارباً حتى لحق بأهل الكتاب)، انطلق هذا الرجل وترك النبي صلى الله عليه وسلم، وترك كتابة الوحي، وذهب إلى أهل الكتاب وهم اليهود.
قال: [(فرفعوه وشرفوه، وقالوا: هذا كاتب وحي محمد)]، وهم لا يعترفون بنبوته، وهذا -يا إخواني- مما ينبغي لكم معرفته، وهو أن اليهود لما علموا أن هذا يحفظ البقرة وآل عمران، وأنه من كتاب وحي الله الذي ينزل على محمد؛ عظموه وشرفوه، ورفعوه فوق رءوسهم، وجعلوا له مكانة عظيمة.
وهذا الموقف ينطبق تمام الانطباق مع ما يفعل بالدعاة والعلماء في هذا الزمان وفي غيره من الرفعة والتعظيم والشرف؛ بسبب دعوتهم إلى الله عز وجل، وتربيتهم للأجيال الناشئة، فالدعاة في صحة وأمان وعافية.
[(فانطلق هارباً حتى لحق بأهل الكتاب، فرفعوه قالوا: هذا قد كان يكتب لمحمد فأعجبوا به، فما لبث أن قصم الله عنقه فيهم -يعني: مات- فحفروا له فواروه -يعني: دفنوه- فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها).
وكأن الله تبارك وتعالى قد جعل لها أحاسيس، فتقبل أهل الإيمان، وتلفظ أهل النفاق والكفران.
قال: [(ثم عادوا فحفروا له فواروه، فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، ثم عادوا فحفروا له فواروه، فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، فتركوه منبوذاً)].
وفي الحقيقة: أن أخلاق اليهود تختلف عن أخلاق النصارى والمشركين والمؤمنين، فالمؤمن يتجمل بمكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم، ويتعلمها من القرآن والسنة، وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم الذي ضرب المثل الأعلى في الكمال البشري في كل شيء، فمهما فعلت لا يمكن أن تصل إلى خصلة واحدة مما تخلق به عليه الصلاة والسلام.
وبعض الناس يظن أن اليهود أحسن من المسلمين، ولا يدري هذا المسكين أن له عندهم دوراً إذا انتهى هذا الدور كان حذاءً يلبس في أرجلهم! فالمنافق الذي يتجسس على المؤمنين، وعلى جيوش المسلمين لصالح الكفار وغيرهم؛ لابد أن يعلم أنه في نهاية أمره نعل يلبسه شارون وغيره، ولابد أن دوره سينتهي، وهناك أكثر من جاسوس قد اتخذوه في الدول الإسلامية، ولما انتهى دوره قتلوه أو نبذوه، لأنه تعدى الحدود التي رسمت له.
وفي كتب الجاسوسية العالمية أخبار شنيعة جداً، فهم يمدحون ويرفعون الإنسان فوق السماء وفجأة يقتلونه؛ لأنه تعدى الحد.
والسبب الثاني: أن معه أخبار قد كلف بتحصيلها وقد حصلها، وهم لا يأمنون منه فيقتلونه؛ خوفاً أن تتسرب الأخبار إلى الآخرين.
فيأتي آخر فيقتل القاتل؛ مخافة أن تتسرب نفس الأخبار إلى خارج الدائرة المطلوبة انتشار الخبر وهكذا.
ولا يرتاح قلب المرء إلا إذا كان عاملاً بالكتاب والسنة، فإذا قتل كان شهيداً، فهو يدور بين خيرين: إما عامل بالكتاب والسنة على منهاج النبوة، وإما شهيد، والمؤمن لا رغبة له إلا في هذين.
قال: [حدثني أبو كريب - محمد بن العلاء الهمداني - حدثنا حفص بن غياث عن الأعمش عن أبي سفيان -وهو طلحة بن نافع الواسطي نزيل مكة- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم من سفر فلما كان قرب المدينة هاجت ريح شديدة تكاد أن تدفن الراكب).
أي: من شدتها تكاد تدفن الراكب؛ لأنها أخذت الرمال والأتربة وغير ذلك، فكانت ريحاً شديدة وعاصفة قوية جداً حتى كادت أن تدفن الراكب على فرسه.
(فزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بعثت هذه الريح لموت منافق)].
يعني أن البعض قال: إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ما بعثت هذه الريح إلا شماتة وفرحاً بموت فلان المنافق، وعقوبة له، وعلامة أن موته راحة للبلاد والعباد، وهذا مصداق قوله عليه الصلاة والسلام: (مستريح ومستراح منه، قالوا: يا رسول الله! ما مستريح وما مستراح منه؟ قال: إن العبد المؤمن إذا مات استراح من البلاد والعباد، وإن العبد الكافر أو المنافق إذا مات استراح منه البلاد والعباد والشجر والدواب).
فحينئذ قامت هذه الريح الشديدة لما مات أحد المنافقين، هكذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في طريق السفر إلى المدينة، وهذا المنافق مات بالمدينة؛ ولذلك قال جابر: (فلما قدم المدينة فإذا منافق عظيم من المنافقين قد مات).
وهذا من دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام.(54/12)
وعيد المنافقين يوم القيامة
قال: [حدثنا عباس بن عبد العظيم العنبري قال: حدثنا أبو محمد - النضر بن محمد بن موسى اليماني - حدثنا عكرمة حدثنا إياس -وهو ابن الصحابي الجليل سلمة بن الأكوع - قال: حدثني أبي، قال: (عدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً موعوكاً)].
(عدنا) يعني: زرنا (موعوكاً) يعني: مريضاً.
قال: [(فوضعت يدي عليه فقلت: والله ما رأيتك كاليوم رجلاً أشد حراً)].
يعني: أن حرارتك قوية وعالية جداً، وأنا طوال عمري وحياتي ما رأيت أحداً حرارته مرتفعة كحرارتك.
[فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بأشد حراً منه يوم القيامة؟ أولئك الرجلين الراكبين المقفيين، لرجلين حينئذ من أصحابه)].
فقوله: (أصحابه) يعني: ممن دخلوا في عموم الصحبة عرفاً، لكنهم في حقيقة الأمر ليسوا من أصحابه.
فالنبي عليه الصلاة والسلام ذكر أن الرجلين الراكبين المقفيين -أي: اللذين قفاهما باتجاهنا- أنهما يوم القيامة أشد حراً من هذا.
وهذا فيه بيان أن الله تعالى أطلع نبيه على المنافقين بأعيانهم وأسمائهم.(54/13)
تشبيه المنافق بالشاة العائرة بين غنمين
قال: [حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير قال: حدثنا أبي، وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة - حماد بن أسامة - قال: حدثنا عبيد الله -وهو ابن عمر العمري -، وحدثنا محمد بن المثنى -واللفظ له- أخبرنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي قال: حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين غنمين، تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة)].
أي: الشاة المتحيرة المترددة بين مجموعتين من الغنم، فالمنافق عنده حيرة، فلا يستريح ولا يهنأ له قلب ولا يطمئن، وهذا المثل لتقريب المعنى، وضربه من وحي البيئة العربية، فالمنافق مثله مثل الشاه العائرة، فهو يذهب إلى أهل الإيمان مرة، وإلى أهل النفاق مرة أخرى، ولا هو قادر يستمر مع هؤلاء، ولا قادر يستمر مع هؤلاء؛ لأنه منافق.
وفي رواية ثانية: [(تكر في هذه مرة، وفي هذه مرة)].
والمعنى واحد، قال الإمام النووي: هي المترددة الحائرة لا تدري لأيهما تتبع؟ ومعنى: (تعير) أو (تكر) أي: تتردد وتذهب هنا مرة وهناك مرة أخرى.
فهذه بعض أوصاف المنافقين التي ذكرها الله تعالى في كتابه، وذكرها رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام في صحيح سنته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(54/14)
شرح صحيح مسلم - كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - من كتاب صفة القيامة والجنة والنار
في يوم القيامة يمسك الله تعالى السماوات على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال والشجر على أصبع، والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، فيهزهن تبارك وتعالى ويقول: أنا الملك، وفي ذلك إثبات لصفة الأصابع لله تعالى كما يليق بجلاله، كما أن أرض المحشر في ذلك اليوم العظيم يبسطها الله عز وجل حتى تكون كالقرص، ويجمع عليها الخلق منذ آدم عليه السلام وإلى آخر من قامت عليهم الساعة.(55/1)
صفة القيامة والجنة والنار
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أما بعد: (كتاب: صفة القيامة والجنة والنار).(55/2)
شرح حديث: (إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر بن إسحاق -وهو محمد بن إسحاق الصاغاني - قال: حدثنا يحيى بن بكير -وهو يحيى بن عبد الله بن بكير، ينسب غالباً إلى جده- قال: حدثني المغيرة الحزامي عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، اقرءوا إن شئتم: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:105])].
والأخسرون أعمالاً هم الذين آثروا الكفر على الإيمان، فهذه الآية قد وردت في الكافرين: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ} [الكهف:105] أي: للكافرين {يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:105] أي: لا نقيم لهم وزناً ولا قدراً ولا شرفاً، فمهما عظمت أبدانهم فإنهم لا يزنون عند الله - أي: في ميزان الحق - جناح بعوضة.
وضرب الله عز وجل مثلاً لهذا بأحقر المخلوقات وهي: الذبابة، بل وضرب بأحقر شيء فيها وهو جناحها الذي لا يكاد يرى.
ولذلك ورد في غير مسلم: (وإن الرجل العظيم السمين، الأكول الشروب) يعني: الضخم جداً في هيئته ومنظره، وطوله وعرضه، فهذا رجل إذا كان كافراً فإنه يأتي يوم القيامة وجناح البعوضة أثقل في الميزان منه، قال تعالى: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:105].(55/3)
شرح حديث: (جاء حبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم) وإثبات صفة الأصابع لله تعالى
[حدثنا أحمد بن عبد الله بن رمح حدثنا فضيل بن عياض عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم التيمي عن عبيدة السلماني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (جاء حبر -والحبر: بفتح الحاء على الأفصح، وهو العالم من علماء اليهود- إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! أو يا أبا القاسم!) لأنه ليس له أن يقول: يا نبي الله؛ لأن هذا إقرار منه بنبوة محمد، والقضية كلها متعلقة بالإنكار بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام.
قال: [(إن الله تعالى يمسك السماوات يوم القيامة على أصبع)] وهذا يدل على أنه كان يجد هذا الكلام في كتب أهل ملته.
قال: [(والأرضين على أصبع، والجبال والشجر على أصبع، والماء والثرى على أصبع، وسائر الخلق -أي: مما لم يذكر آنفاً- على أصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجباً مما قال الحبر).
أي: ضحكه عليه الصلاة والسلام ليس إنكاراً وإنما كان تعجباً، ولو كان هذا الكلام باطلاً لغضب النبي عليه الصلاة والسلام على الفور؛ لأن هذا كلام يتعلق بالذات العلية، فليس هناك مجال للضحك، ولا على سبيل السخرية، أو الإنكار؛ لأن المؤمن لا يضحك إذا انتهكت حرمة من حرمات الله عز وجل، حتى ولو على سبيل الإنكار، أو السخرية والاستهزاء فإنه لا يضحك، وإنما يغضب ويتمعر وجهه، والنبي عليه الصلاة والسلام قد تغير وتمعر وجهه، واحمر كأنما فقئ فيه حب الرمان مما هو أقل من ذلك مما كان باطلاً، فضحك النبي عليه الصلاة والسلام من قول الحبر تعجباً وتصديقاً له، هذه الدلالة والقرينة الأولى.
والدلالة والقرينة الثانية قال: [(وتصديقاً له على ما قال، ثم قرأ النبي عليه الصلاة والسلام: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67])].
فالشاهد الثاني: قول الراوي: (وتصديقاً له) أي: وتصديقاً للحبر.
الشاهد الثالث: تلاوة النبي عليه الصلاة والسلام للآية، والتي معناها: ومع ذلك -أيها اليهود- فأنتم ما قدرتم الله حق قدره، وأنتم تعرفون أنه على كل شيء قدير، وأن كل شيء في قبضته وفي يمينه، ومع هذا فأنتم لم تؤمنوا به حق الإيمان.
ثم بين النبي عليه الصلاة والسلام مصداق قول هذا الحبر من كتاب الله عز وجل فقال: [{وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67]].
فذكر من كلام الله عز وجل ما يشهد لكلام ذلك الحبر.
وبعض أهل العلم قال: هذا الضحك كان على سبيل الإنكار، واستشهدوا لذلك بلغة العرب، وأن الشخص إذا أنكر شيئاً ضحك منه استهزاءً أو سخرية أو غير ذلك.
والرد عليهم: إذا كان هذا في حق المخلوقين، فإنه لا يجوز ولا يحل في حق الأنبياء؛ خاصة الضحك إذا انتهكت الذات العلية، فضلاً عن هذه الشواهد السابقة التي ذكرتها، وكلها قاضية بأن الضحك كان للإقرار، ولذلك أخرج الترمذي في سننه عن ابن عباس: (أن حبراً من أحبار اليهود دخل على النبي عليه الصلاة والسلام وقال: يا محمد! إن الله يمسك السماوات.
وفي رواية: يجعل السماوات على هذه، وأشار الحبر إلى الخنصر، ويجعل الأرض على ذه، وأشار إلى البنصر، ويجعل الجبال على ذه وأشار إلى الوسطى، حتى عد هذه المخلوقات وختم يده إلى الإبهام).
والنبي عليه الصلاة والسلام لم ينكر على هذا الرجل أنه أشار إلى أصابعه في معرض كلامه عن أصابع المولى عز وجل، لأن الأمر مستقر عند النبي عليه الصلاة والسلام وعند هذا الحبر، وعند الصحابة الذين حضروا هذا المشهد أن أصبع اليهودي هو أصبعه، وأصبع المولى عز وجل هو أصبعه، وإذا كان هناك اتفاق فهو في مجرد الاسم لا في كيفية هذا المسمى.
فالله تعالى له أصبع، ولليهودي وللنبي عليه الصلاة والسلام ولأصحابه وللخلق أصابع، لكن شتان ما بين أصابع الخلق وأصابع المولى عز وجل.
فهذا اليهودي إنما أشار إلى أصابعه، ولم ينكر عليه النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن الأمر كان معلوماً ومستقراً أن البون شاسع بين صفات الخالق وصفات المخلوقين، واليهود يعلمون ذلك، والنصارى يعلمون ذلك، ولذلك ما أنكر عليهم.
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.
وأجمع أهل العلم بالحديث على أن هذه الرواية رواية صحيحة لا مطعن فيها.
فإذا قلت: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (خلق الله آدم على صورته)، وفي رواية: (على صورة الرحمن)، وكلاهما روايتان صحيحتان، فلا يعني أنك أنت على صورة الرحمن، أو أن الرحمن على صورتك، وإنما يعني هذا الحديث: أن الله تبارك وتعالى له صورة كما خلقك أنت على صورة، فلك صورة وللمولى عز وجل صورة، ولك يد وللمولى عز وجل يد، ولك ساق وللمولى عز وجل ساق، لكن شتان ما بين(55/4)
شرح حديث: (يقبض الله تبارك وتعالى الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه)
قال: [حدثني حرملة بن يحيى - وهو التجيبي المصري - قال: أخبرنا عبد الله بن وهب أخبرني يونس - وهو ابن يزيد الأيلي - عن ابن شهاب - أي: الزهري - حدثني ابن المسيب - يعني: سعيد - أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقبض الله تبارك وتعالى الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟)].
إذاً: فالأرض لا تقبض قبضاً تاماً كاملاً إلا في يوم القيامة، وأما قبضها وطيها جزئياً فإنه يكون قبل يوم القيامة، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يحب السفر أول الليل، وقال: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، فلما سئل عن ذلك قال: إن الله يطوي الأرض بالليل).
وطي الأرض في الحياة الدنيا يختلف عن طيها وقبضها يوم القيامة.
وفي الحديث السابق تهديد ووعيد للحكام والزعماء والأمراء وغير ذلك، وهو أنهم في قبضة المولى عز وجل، فإن أحسنوا فلهم ذلك، وإن أساءوا فعليهم ذلك.
قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة حماد بن أسامة عن عمر بن حمزة -وهو ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما-].
وعمر بن حمزة ضعيف إذا انفرد، فما بالك لو خالف؟! وهذا الكلام يعرفه طلاب علم الحديث: أن الراوي الضعيف تكون روايته عند المخالفة أشد نكارة؛ لأن الحديث الشاذ هو ما رواه الثقة مخالفاً لمجموع الثقات، أو ما رواه الثقة مخالفاً لمن هو أوثق منه، وأما الحديث المنكر: فهو ما رواه الضعيف إذا خالف فيه الثقات، فإذا خالف مجموع الثقات فيكون حديثه أشد نكارة، وهذا ما فعله عمر بن حمزة العدوي.(55/5)
إثبات صفات الله على الوجه اللائق به سبحانه
[قال: حدثني سالم بن عبد الله - وسالم بن عبد الله بن عمر عم عمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر - قال: أخبرني عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يطوي الله عز وجل السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك! أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله).
والأرضين جمع: أرض، وهي الأرضون السبع.
قال: [ثم يقول: (أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟)].
والنكارة في هذه الرواية هي في ذكر الشمال، والإمام مسلم قد روى في صحيحه عدة روايات تذكر أن كلتا يديه سبحانه يمين.
والعلماء يقولون: يحرم التخيل في صفات الله، فإذا كان في حق المخلوقين ممكن؛ فإنه في حق الله غير ممكن قط، وقد يستحيل في حق بعض المخلوقات أن تتخيله، كما خلق الله تبارك وتعالى الملائكة أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع، يزيد في الخلق ما يشاء إلى ستمائة جناح، وجبريل له ستمائة جناح، والنبي صلى الله عليه وسلم رآه على هيئته التي خلقه الله عز وجل عليها مرتين، وفي كل مرة يراه قد سد الأفق، وهذا أحد مخلوقات الله عز وجل يسد الأفق، حتى أن الناظر إليه لا يرى شيئاً من السماء.
فإذا كنت لا تستطيع أن تتصور جبريل بأجنحته الكاملة كما خلقه الله، فمن باب أولى أن تكف عن تصور صفات المولى عز وجل، ولله المثل الأعلى، كما قال الله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، وهذه الآية فيها إثبات ونفي، إثبات للصفات التي أثبتها لنفسه، وأثبتها له رسوله عليه الصلاة والسلام، ونفي لأمرين: نفي لمنهج الجهمية، وهو: التعطيل.
ونفي لمنهج الأشاعرة والمعتزلة وهو: التأويل.
والأمر كما قال ابن تيمية عليه رحمة الله: من عَبد الله عز وجل بالتمثيل فقد عبد صنماً، ومن عبده بالتعطيل فقد عبد عدماً.
فلا تمثيل ولا تعطيل؛ لأن من عبد الله تعالى ممثلاً له فكأنما يعبد صنم، ولذلك فإن الفرق المنحرفة كلها التي أثبتت الصفات لله عز وجل على نحو ما يفهمون من صفات الخلق إنما بلغوا بالله عز وجل في نهاية المطاف إلى أنه رجل حسن! فقالوا: له يد هي كأيدينا لكنها أجمل من أيدينا، وله عين كأعيننا، ولكنها أجمل من أعيننا.
وفي نهاية الأمر يلزمهم أن يقولوا: إن الله تعالى رجل قبيح! فإن بعض الفرق الضالة قالت: إن الله تعالى أنثى، حتى قال ذلك الكلام الكفري البواح بعض المعاصرين, وكتب ذلك في المجلات والصحف اليومية.
فقال هنا: (يطوي الله عز وجل السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون، أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله)، واللفظ الصحيح الذي ورد في روايات أخرى: (ثم يطوي الأرضين بيده الأخرى، وكلتا يديه يمين، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟).
قال: [حدثنا سعيد بن منصور قال: حدثنا يعقوب - وهو ابن عبد الرحمن القاري - حدثنا أبو حازم سلمة بن دينار الأشجعي عن عبيد الله بن مقسم أنه نظر إلى عبد الله بن عمر كيف يحكي رسول الله صلى الله عليه وسلم].
يعني: أن عبيد الله بن مقسم كان ينظر إلى عبد الله بن عمر وهو يحاكي النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: يصف فعل النبي عليه الصلاة والسلام بفمه وبرأسه وبيده وبرجله، إذا كان يتكلم في قضية معينة.
قال: [عن عبيد الله بن مقسم أنه نظر إلى عبد الله بن عمر كيف يحكي -أي: كيف يقلد النبي صلى الله عليه وسلم- قال: يأخذ الله عز وجل السماوات والأرضين بيديه فيقول: أنا الله).
والحكاية هي: أن عبد الله بن عمر رأى النبي عليه الصلاة والسلام يقول بيديه هكذا: (إن الله تعالى يقبض السموات والأراضين بيديه هكذا) فرآه يقبض أصابعه ويبسطها].
وليس في هذا تمثيل للقبض بالقبض، ولا للبسط بالبسط، وقد ورد ذلك في السنة كثيراً، ومنه قول النبي عليه الصلاة والسلام: (أترون القمر ليلة البدر؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: أترون الشمس في رابعة النهار؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: إنكم سترون ربكم كما ترون القمر في ليلة البدر لا تضامون في رؤيته) أي: لا يحصل لكم ضيم ولا ريب ولاشك.
فبعض من أنكر هذا الحديث قال: لا يمكن أن يكون الله تعالى كالقمر، ولا كالشمس، فكيف يمثل النبي عليه الصلاة والسلام الله عز وجل بالشمس والقمر؟! وفي حقيقة الأمر: أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يمثل الذات العلية بالشمس ولا بالقمر، وإنما مثل الرؤية بالرؤية بجامع الوضوح، والمعنى: كما أنكم ترون هذا القمر ولا تشكون في رؤيته فكذلك ترون الله عز وجل يوم القيامة، والكاف هنا: للتشبيه، أي: تشبيه الرؤية بالرؤية لا المرئ(55/6)
شرح حديث ابن عمر: (يأخذ الجبار عز وجل سماواته وأراضيه بيديه)
قال: [حدثنا سعيد بن منصور حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم قال: حدثني أبي - وهو سلمة بن دينار - عن عبيد الله بن مقسم عن عبد الله بن عمر قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وهو يقول: يأخذ الجبار عز وجل سماواته وأراضيه بيديه) ثم ذكر بمثل أو بنحو حديث يعقوب].(55/7)
الكلام عن التفويض وبيان أنه ليس مذهب السلف
والإمام النووي ذكر في هذا الباب كلاماً في غاية الغرابة، لكنه ليس غريباً منه؛ لأن الإمام النووي أكثر ما انشغل في حياته بالرواية والفقه، الرواية من جهة الشرح والثبوت والرد، وكذلك كان فقيهاً بارعاً، ولذلك هو الفقيه المعتمد لدى الشافعية.
لكنه في دراسة علم الاعتقاد لم يتأهل التأهل الذي يسمح له في الدخول فيه، لكنه اضطر اضطراراً أن يتكلم فيما يتعلق بشرح الروايات المتعلقة بأحكام الاعتقاد، فأحياناً يوافق كلام الفلاسفة، وأحياناً يذكر الخلافات القوية فيقول: وهذا من الصفات، وأحياناً يقول: هذا من المشتبهات، فيذكر كلام أهل الباطل ويذكر كلام أهل الحق ويسكت.
وأحياناً يرجح، وأحياناً يذكر كلام أصحاب الفرق ويؤيده، وأحياناً يذكره ويعارضه.
فهذه الأحايين كلها في حق الإمام النووي تجعلنا نقول: إنه فعلاً لم يتضح له مذهب الحق فيما يتعلق بالأسماء والصفات.
وهذا ديدنه ليس في كتاب صحيح مسلم فحسب، بل في غير ما كتاب، ولذلك بعد أن ذكر أحاديث الباب قال: هذا من أحاديث الصفات، ونحن متفقون على أن هذا الحديث من أحاديث الصفات.
ثم قال: وقد سبق فيها المذهبان، المذهب الأول: التأويل، والثاني: الإمساك عنه مع الإيمان به، ومذهب السلف هو الإمساك عن كيفيته.(55/8)
أنواع التأويل
والتأويل ينقسم إلى ثلاثة أنواع: تأويل العلم، وتأويل المعنى، وتأويل الكيف، ومذهب أهل البدع تفويض العلم والمعنى.
فمثلاً: قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، يقول أهل البدع: الله أعلم بالاستواء، فهم لا يخوضون في معنى الاستواء، والله تعالى لا يخاطبنا قط بما لا علم لنا به، وإنما يخاطبنا بكلام له معنى في لغة العرب، ولذلك نقول: الاستواء معلوم، ومعنى الاستواء: العلو والارتفاع، وأما كيف علا وارتفع؟ فهذا هو الذي لا نعلمه، فنفوض الكيفية إلى الله تعالى.
إذاً: علينا أن نعلم أن معاني الصفات معلومة، ولا نخوض في كيفيتها، لأنه إذا كنا لا نقوى ولا نقدر ولا نجسر أن نتكلم في الذات فالكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فلا يحل لنا أن نتكلم في الصفات كذلك.
إذاً: التفويض في العلم والمعنى منهج أهل البدع، والتفويض في الكيف منهج أهل الحق.
قال النووي: وقد سبق فيها المذهبان: التأويل، والإمساك عنه مع الإيمان به، أي: الإمساك عن التأويل في الكيف مع الإيمان به على حقيقته اللائقة بالله عز وجل، وهذا مذهب أهل السنة.
قال: مع اعتقاد أن الظاهر منها -أي: من الصفة- غير مراد.
وهذا أيضاً كلام جميل، وإن كان السلف يسكتون عن هذا، لكن معناه: أننا نعتقد أن اليد إذا أطلقت في حق المولى عز وجل لا يراد بها اليد الجارحة التي هي للخلق، فنثبتها لله عز وجل على المعنى اللائق به سبحانه، ولا نخوض في كيفيتها، ونعتقد أن الظاهر من هذا اللفظ فيما نفهم نحن من أيدي المخلوقين، فليس مراداً في حق الله عز وجل.
قال: فعلى قول المتأولين الذين يتأولون الأصابع هنا على الاقتدار -يعني يقولون: الأصابع معناها: القدرة- فنقول لهم: والقدرة ما معناها؟ فالذين يقولون: إن الأصابع هي القدرة، واليد هي القدرة، فمعنى ذلك هو تعطيل الصفة، وهذا منهج الجهمية في تعطيل الصفات، فعلى قول المتأولين الذين يتأولون الأصابع هنا على الاقتدار، أي: خلقها مع عظمها بلا تعب ولا ملل.
والبعض الآخر يقول: إنها لمبالغة الاحتقار، فيقول أحدهم: بأصبعي أقتل زيداً، وفي الحقيقة: أنه لا يقتل زيداً بأصبعه، وإنما يقتله بيده كلها، فيقال هذا الكلام لاحتقار زيد ابتداءً.
والأمر الثاني: المراد بالذات قوتك، وهذا الكلمة تجوز في حقك، ولا تجوز في حق المولى عز وجل، لأن القانون الذي يحكم صفات الخلق يختلف عن القانون الذي يحكم صفات الله عز وجل.
قال: ويحتمل أن المراد أصابع بعض المخلوقات، مع أن الفاعل حقيقة هو الله سبحانه وتعالى الذي يحمل هذه المخلوقات.
وظاهر الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم صدق الحبر في قوله: إن الله تعالى يقبض السماوات والأرضين والمخلوقات بالأصابع.(55/9)
شرح حديث: (خلق الله التربة يوم السبت)
وفي حديث آخر: [(خلق الله عز وجل التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الإثنين، وخلق المكروهات يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم عليه السلام آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل).
قال إبراهيم -وهو ابن سفيان راوي صحيح مسلم -: وحدثنا البسطامي -وهو الحسين بن عيسى - وسالم بن عمار وإبراهيم بن بنت حفص وغيرهم عن حجاج بهذا الحديث].
يعني: يريد أن يقول: إنني شاركت مسلماً في رواية هذا الحديث، فـ مسلم يرويه عن سريج، وهارون، وأنا أرويه عن مسلم عن سريج وهارون، لكني اختصرت طريق مسلم، وارتقيت درجة فرويته بعلو، فأنا شريك لـ مسلم في هذه الطبقة.
قال أبو هريرة: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي كالصاحب له، فقال: خلق الله عز وجل التربة يوم السبت)].
يعني: خلق الله الأرض يوم السبت، (وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الإثنين، وخلق المكروهات يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق، في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل).
أما قوله: (خلق المكروه يوم الثلاثاء) فالمكروه: هو ما يقوم به المعاش، ويصح به التدمير كالحديد وغيره من جواهر الأرض، وكل شيء يقوم به صلاح شيء فهو تقنه، ومنه: إتقان الشيء، وهو إحكامه.
وهذا الحديث نازع في ثبوته كثير من المحدثين، وقالوا: إن الحديث ضعيف، وآخر المحدثين الذين حكموا على هذا الحديث بالضعف هو شيخنا الألباني رحمه الله مع أنه ثابت في الصحيح، وحجتهم في ذلك: ضعف أيوب بن خالد أحد رواة إسناد هذا الحديث.
وفي الحقيقة: هذا الحديث كنت توقفت سنوات طويلة في ثبوته أو رده، حتى ترجح لدي أن أبا هريرة رضي الله عنه لم يأخذه عن كعب الأحبار، لأن حجة من قال برد هذا الحديث وعدم ثبوته: أن كعب الأحبار أخذه من كتب أهل الكتاب، وأخذه عنه أبو هريرة رضي الله عنه، وهذا الإسناد صريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد أبي هريرة وقال له: (خلق الله التربة يوم السبت).
إلى آخر الحديث.
فهذا الحديث صريح في الرفع إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وأنه من قوله لا من قول كعب الأحبار.
لكن يبقى فيه علة أخرى وهي: ضعف أيوب بن خالد، لكن أيوب متابع، فقد تابعه غير واحد، وإن كانت المتابعات لا ترقى إلى مستوى التحسين بذاتها، إلا أن مجموع المتابعات يجعل النفس تطمئن إلى ثبوت هذا الحديث.
وقد انتهزت الفرصة في مكالمة تلفونية بيني وبين الشيخ أبي إسحاق اليوم بعد صلاة العصر، فقلت له: ما قولكم في حديث: خلق التربة والأرض والجبال وغيرها؟ قال: قد أثبته في المجلد الثاني من تفسير ابن كثير وبينت أن المرفوع منه حديث صحيح.
فلما وافقني الشيخ أبو إسحاق أحببت أن أخبركم باتفاقي معه واتفاقه معي في ثبوت هذا الحديث المرفوع، وأما ما يأتينا من طريق كعب المتعلق بالغيب فلا نأخذه، خاصة إذا انفرد به، والله تعالى أعلم.(55/10)
البعث والنشور وصفة الأرض يوم القيامة
الباب الثاني: في البعث والنشور وصفة الأرض يوم القيامة.
[حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا خالد بن مخلد -وهو القطواني - عن محمد بن جعفر بن أبي كثير حدثني أبو حازم -وهو سلمة بن دينار - عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي، ليس فيها علم لأحد).
قوله: (أرض بيضاء عفراء) هي الأرض التي تميل إلى الحمرة، فليست بيضاء نقية، وليست حمراء كالنار، وإنما هي كقرصة النقي، ليس فيها علم لأحد.
يعني: كأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: الأرض يوم القيامة تبدل عن حالها، وتتغير عن وضعها في الدنيا، فالأرض في الدنيا فيها جبال، وأنهار، والعالي والنازل وفيها غير ذلك، وأما يوم القيامة فمبسوطة تماماً كالرغيف، فلا هي حمراء تماماً، ولا هي بيضاء تماماً، كما أنها ليس بها علامات لأحد، يعني: أنت تعرف بيتك في الدنيا بأنه في محل كذا وكذا، وإذا أردت أن تصف بيتك لأحد من الناس فإنك تصفه بعلاماته وأماراته، لكن يوم القيامة ليس في الأرض علامات ولا أمارات، والإنسان أول ما يبعث يقف على الأرض لا يعرف أين هو، وإنما يساق إلى المحشر والحساب والجزاء.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (ليس فيها علم لأحد) أي: ليس فيها سكنى ولا علامة ولا بناء ولا أثر.
قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا علي بن مسهر عن داود بن أبي هند عن الشعبي -وهو عامر بن شراحيل -عن مسروق بن الأجدع عن عائشة رضي الله عنها قالت: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله عز وجل: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ} [إبراهيم:48] فأين يكون الناس يومئذ؟ قال: في الظلمة دون الجسر)].
أي: سألت عائشة: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات؟ فأجابها النبي عليه الصلاة والسلام: في الظلمة دون الجسر، وهو الصراط.
وهذا يدل على عظم الصراط الذي يمر عليه الناس أجمعين، والعجيب أن أحد أساتذة الأزهر الكبار وهو أستاذ الحديث الذي له منزلة عظيمة في قلوب الشباب كان يشرح عن الصراط والميزان وغير ذلك، فقال: إن الله عز وجل خاطبنا بما نعقل وبما نفهم، فالميزان ليس ميزاناً حقيقياً، وإنما هو مجاز عن المحاسبة، والمقصود منه: أن الله تعالى يحاسب العبد إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
فقد تصور الشيخ أن وزن الأعمال من المعنويات لا من المحسوسات! لكن إذا أمرك الله عز وجل أن تؤمن به كان واجباً عليك أن تقول: سمعنا وأطعنا، وإلا فهل رأيت الله عز وجل؟ فإن قلت: لا، يلزمك أن تقول: أنا لا أتصور الله عز وجل، وبالتالي يكفر المرء ويخرج من الإيمان بالكلية.
فالذي نقوله في ذات الإله عز وجل نقوله في كل أمر غيبي، أننا نؤمن به على مراد الله عز وجل به؛ لأنه أخبرنا به، فالميزان الذي توزن به الأعمال يوم القيامة ميزان حقيقي لا يشبه موازين الخلق، فالله تبارك وتعالى إما أن يزن الأعمال بعامليها، وإما أن يزن الأعمال على اعتبار أنها معنويات؛ لأنه على كل شيء قدير، أو يجعل المعنوية في صورة محسوس فيزنه، وهذا كلام علماء السلف فيما يتعلق بوزن الأعمال.
فنحن في هذا الوقت نزن الهواء، فهو شيء محسوس يوزن، وكان الذين من قبلنا يقولون: الهواء شيء معنوي لا حسي، ونحن وصلنا إلى أن الهواء شيء محسوس، وبالتالي بدأنا نوزنه، فما المانع أن نسلم لله لأول وهله، ونقول: إن الله تعالى على كل شيء قدير؟! والموت في ذاته شيء معنوي، ومع هذا فإن الله تعالى يجسده يوم القيامة، فإذا فرغ من موت الخلق وصعقهم جميعاً أمر الموت، وهذا يدل على أن الموت يخاطب فيعقل، والله تعالى جعل الموت كبشاً يذبح على الصراط، فكيف نقول: إن الله تعالى لا يزن الأعمال؛ لأنها من المعنويات، بل هو على كل شيء قدير.(55/11)
باب نزل أهل الجنة
قال: [باب نزل أهل الجنة].
والنزل: هو المكان المعد للضيف، أو للعسكر أو غيرهما ممن يستحق الضيافة والتكريم.
قال: [حدثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث قال: حدثني أبي عن جدي حدثني خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يكفؤها الجبار بيده)].
ومعنى (يكفؤها): يحركها ويميلها، ولله المثل الأعلى، فإنه يجعل الأرض يوم القيامة كخبزة واحدة فيها الخلق، يكفؤها ويميلها بيده.
قال: (كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر).
والكاف هنا للتشبيه؛ لأن خبز السفر غير خبز الحضر، وهذا الكلام قاله النبي عليه الصلاة والسلام على اعتبار أن ذلك معلوم لدى العرب المخاطبين: أن أحدهم لما يخبز خبزاً في الحضر فإنه يعتنى به، ويرققه ويساويه، بينما خبز السفر يكون ثخيناً؛ من أجل يبقى مدة طويلة من الزمان.
فيحفرون حفرة في الأرض، فتضرم فيها النيران حتى تنطفئ، ثم يوضع العجين على النار، فتسويه حرارة النار، أو يسوى الخبز بالحر الشديد، فهذا الذي يسميه العرب: خبز السفر، بينما يكون خبز الحضر خبزاً أبيض.
قال عليه الصلاة والسلام: [(تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يكفؤها الجبار بيده كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر؛ نزلاً لأهل الجنة، فأتى رجل من اليهود فقال: بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم!)].
واليهود كانوا يسمون الله تعالى بالله والرحمن، ولذلك جاء عن عمر رضي الله عنه لما سألوه عن النبي عليه الصلاة والسلام، وكانوا يطمعون في ردته، وفي إزاحته عن الإسلام، قال: أي يمين فيكم تعظمون؟ قالوا: الرحمن.
قال: والرحمن أقسم بما يعتقد اليهود، وهو كذلك في معتقد عمر بن الخطاب، ثم دخلت القضية التي هي محل النزاع.
ولذلك قال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110] فأثبت الله تعالى أن الله والرحمن من أسمائه الحسنى.
قال: [(فأتى رجل من اليهود فقال: بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم)] أي: لما سمع أن الأرض تكون يوم القيامة كخبزة أحدكم في سفره، فقال: [(بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم ألا أخبرك بنزل أهل الجنة يوم القيامة؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: بلى.
قال: تكون الأرض خبزة واحدة، فنظر إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضحك حتى بدت نواجذه)] يعني: يريد أن يقول لهم: لقد سمعت من الحبر مثل الكلام الموحى إلي، وفي هذا قبول الحق من كل من أتى به حتى وإن كان يهودياً.
قال: [(ألا أخبرك بإدامهم؟)] الإدام يعني: الطبيخ، [(قال: بلى، قال: إدامهم بالام ونون)]، وبالام كلمة فارسية معربة، والنون هو الحوت، [(قالوا: وما هذا؟ فقال: ثور ونون)] إذاً: الثور هو البالام، لكن على عادة اليهود أنهم يعمون المصطلحات والمسائل.
قال: [(يأكل من زائدة كبدهما سبعون ألفاً)].
بعض أهل العلم ترجح لديه أن زيادة كبد الحوت، أو زيادة كبد البالام الذي هو الثور هي القطعة الزائدة الممتدة إلى الكبد، فهذه القطعة الزائدة يأكل منها سبعون ألفاً، ولذلك فإن عبد الله بن سلام سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن طعام أهل الجنة، وقد كان من أحبار اليهود يغترس أرضاً يزرعها وينميها ويصلحها، فلما سمع بمقدمه أتاه وقال: (يا محمد إني سائلك عن ثلاث مسائل فإن أجبت فأنت نبي، فإنه لا يعرفها إلا نبي، أو رجل أو رجلان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سل ما شئت يا ابن سلام، فقال له: ما أول علامات الساعة؟ وكيف ينزع الولد؟ وما طعام أهل الجنة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أول علامات الساعة نار تحشر الناس من المغرب إلى المشرق).
وفي رواية: (من المشرق إلى المغرب، وإذا غلب ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد إليه، وإذا غلب ماء المرأة ماء الرجل نزع الولد إليها -أي: في الشبه- وأما طعام أهل الجنة فزيادة كبد الحوت.
قال: صدقت فآمن)، فآمن عبد الله بن سلام، وكان من بين عشرة من أحبار اليهود وعظمائهم في زمن النبوة.
ولذلك سيأتي معنا أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لو آمن بي عشرة من اليهود لآمن بي اليهود).
والنبي عليه الصلاة والسلام إنما أراد: لو آمن بي هؤلاء العشرة الزعماء القادة الأحبار الذين هم فلان وفلان وفلان في زمن النبي عليه الصلاة والسلام من بني النضير وبني قينقاع وغيرهم من أحبار اليهود؛ لآمن اليهود في زمن النبوة جميعاً، حيث إنه لم يؤمن منهم إلا عبد الله بن سلام فقط لما أجابه النبي عليه الصلاة والسلام عن أسئلته، وقال: (يا رسول ا(55/12)
الأسئلة(55/13)
حكم القرض الذي جر نفعاً
السؤال
هل: (غبن المسترسل ربا) حديث أم لا؟
الجواب
أنا لم أسمعه من قبل، والقاعدة الفقهية تقول: كل قرض جر منفعة فهو ربا.
فقولهم: (جر نفعاً) احتراز من القرض الحسن، وإن كان الثواب أعظم نفعاً، فلو أني قلت لك: خذ هذه الألف الجنيه لمدة عام على أن تردها ألف جنيه ومائتين جنيه، فالمائتين هذه هي من النفع، وهذه المعاملة معاملة ربوية بحتة، وتسمى عند الفقهاء بربا النسيئة، أي: بربا التأخير في مقابل الزيادة، أو الزيادة في مقابل التأخير، يعني: الزيادة في المال في مقابل تأخير الزمن، فهذا يسمى: ربا النسيئة، بخلاف ربا الفضل كأن تبيع -مثلاً- كيلو تمر بكيلو ونصف أو أكثر، ولذلك (أمر النبي عليه الصلاة والسلام بلالاً أن يبيع رطلين من تمر رديء وأن يشتري بثمنهما تمراً جيداً، فذهب بلال فباع الرطلين من التمر الرديء برطل من التمر الجيد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كيف بعت وكيف اشتريت؟ قال: يا رسول الله! بعت الرطلين برطل جيد، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أوه! عين الربا، اذهب فبع تمرنا واشترِ بثمنه تمراً جيداً).
وفي حديث عبادة قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والتمر بالتمر، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والملح بالملح)، فهذه أصناف الربا الستة التي ذكرها عليه الصلاة والسلام.
والشاهد: أنه قال: (يداً بيد)، وهذا أخذ منه العلماء اشتراط اتحاد المجلس والتقابض.
إذاً فالشرط الأول: اتحاد المجلس.
والشرط الثاني: التقابض في المجلس يداً بيد، قال: (مثلاً بمثل)، وهذا شرط المثلية، فلا يصح بيع الجرام من الذهب بخمس جرامات.
قال: (فمن زاد) أي: من عند نفسه، (أو استزاد) يعني: طلب الزيادة، فهذا الكلام موجه للبائع والمشتري على السواء، (فمن زاد - أي: من جهة البيع - أو استزاد - يعني: من جهة الشراء - فقد أربى) أي: فقد وقع في الربا.
فربا النسيئة هو الذي تدل عليه الآيات في آخر سورة البقرة وغيرها، وربا الفضل ورد في السنة، وهما حرامان، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (أيما عبد أكل ديناراً من رباً وهو يعلم؛ فالجنة عليه حرام).
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (من أكل ديناراً من رباً وهو يعلم؛ فكأنما واقع أمه في الإسلام)، وغير ذلك مما ورد في كتاب الله عز وجل من أن الربا حرب بين العبد وبين الله عز وجل.(55/14)
حكم البيع بالتقسيط
السؤال
ما حكم بيع التقسيط؟
الجواب
البيع بالقسط أو بالتقسيط جائز، وهو من صور الملكية، فيجوز مثلاً شراء ثلاجة بألف جنيه عاجلاً، وبألف ومائتين مؤجلة على أن تدفع كل شهر مائة جنيه مثلاً.
والشيخ الألباني حرم ذلك، لكن جماهير العلماء سلفاً وخلفاً على أن هذه الصورة حلال وجائزة، ولا شيء فيها.
وهذه الزيادة يسميها الفقهاء: مساومة في مجلس البيع، فالبيع لا يتم إلا بصورتين: إما حالاً أو آجلاً، وذلك في مجلس العقد، فيجوز بيع الثلاجة بألف ومائتين جنيه تقسيطاً على أن تضاف (6%) عن كل قسط يتأخر، وهذا لا يدخل في قوله عليه الصلاة والسلام: (نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن بيعتين في بيعة).
فيجوز شراء ثلاجة بألف ومائتين مقسطة في سنة، وألف وأربعمائة في سنتين، وألف وخمسمائة في ثلاث سنوات.(55/15)
حكم الزكاة في المال غير الفائض عن الحاجة
السؤال
أنا قادم على الزواج ووجبت علي الزكاة -يعني: بلغ النصاب، وحال عليه الحول- فهل يحسب ما ينفقه في متطلبات الشقة والأثاث، وغير ذلك؟
الجواب
أنا مدرك أنك ممن تقرأ فقه السنة للشيخ سيد سابق رحمه الله حيث قال: لا تجب الزكاة إلا في المال الفائض عن الحاجة.
وفي الحقيقة: هذا كلام في غاية الغرابة للشيخ سيد سابق رحمه الله، ولا أدري من أين أتى به، وأنا قد وقعت في تقليده لما كنا نشرح كتاب الزكاة في مسجد الهادي، لكن تبينت أن هذا القول هو قول الشيخ سيد سابق فقط، وأما أهل العلم فيقولون: إن الزكاة تجب في المال كله، سواءً كان صاحب المال في حالة دين، أو صاحب بيت أو غير ذلك، فالأخ الكريم السائل -الله تعالى يخلف عليه بخير- يؤدي الزكاة عن هذا المبلغ كله إذا حال عليه الحول وبلغ النصاب قبل أن يشتري الحاجات شراءً طبيعياً بغير تهرب ولا مكر، فإذا بلغ المال النصاب وحال عليه الحول يخرج زكاة ماله، ثم يجهز شقته وأثاثه لاستقبال زوجته، ثم بعد ذلك يسأل عن صداق المرأة؛ لأنه دين عليه.(55/16)
حكم زكاة الدين
السؤال
هل يجب على صاحب المال أن يؤدي زكاة ماله حتى وإن كان بيد الآخرين؟
الجواب
زكاة المال المدين ينظر فيه: هل هذا المال مضمون الأداء أو غير مضمون، فإن أموالاً عند بعض الناس تكون في حكم المعدوم، فالذي له مال عند الآخرين مضمون الأداء، ومضمون الرجوع له مرة ثانية، يجب عليه أن يؤدي زكاة ماله في كل عام.
وإذا لم يكن مضمون الأداء فلا زكاة عليه، فإن رجع إليه فقد اختلف أهل العلم فيه: هل يؤدي زكاة السنوات الماضية، أم يكفيه سنة واحدة؟ والذي يترجح لدي أنه يدفع عنه زكاة ماله في العام الذي رجع فيه؛ لأن هذا هو العام الذي قد ضمن فيه صاحب المال ماله، والله تعالى أعلم.(55/17)
شرح صحيح مسلم - كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - يسألونك عن الروح
من طبائع اليهود العناد والسخرية، فقد كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم لا لأجل معرفة الحق واتباعه، وإنما استهزاءً وتعجيزاً له صلى الله عليه وسلم، مع علمهم بصدقه وصدق ما جاء به، ومع ذلك فقد أظهر الله نبيه عليهم، وأنزل عليه وحيه مجيباً لأسئلتهم، أما كفار مكة فكانوا أكثر عناداً وأصرح جهلاً من أولئك، فقد كانوا يسألون الله تعجيل نزول العذاب بهم إنكاراً لهذا الحق وجحوداً له.(56/1)
باب سؤال اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، أما بعد: الباب الرابع من كتاب صفات المنافقين وأحكامهم: قال النووي: (باب سؤال اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح، وقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ} [الإسراء:85] إلى آخر الآية).
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي قال: حدثنا الأعمش -وهو سليمان بن مهران - حدثني إبراهيم بن يزيد النخعي عن علقمة النخعي عن عبد الله بن مسعود قال: (بينما أنا أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث)]، الحرث: هو الزرع.
وفي رواية: (في خرب) وكأنها تصحيف للحرث، لأن لفظ الكلمة واحد في حرث وخرب، وإنما الاختلاف في الضبط والنقط، فتصحف على بعض الرواة، ولو قلنا بجواز الجمع بين الأمرين؛ لكان يمكن أن نقول: إن الخرابة يمكن أن تكون في الحرث، وإن الحرث يمكن أن يكون في مكان خرب، فالجمع بينهما ممكن.
[(بينما أنا أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث وهو متكئ على عسيب)] أي: معتمد على جريد النخل.
(إذ مر بنفر من اليهود) أي: مر النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ابن مسعود على نفر من اليهود.
والنفر: هم الجماعة من الناس، قيل: من الواحد إلى التسعة، وقيل: من الثلاثة إلى التسعة.
وقيل: من الواحد إلى العشرة.
[(فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح)] أي: سؤال تعنت وجحود واستهزاء، [(فقالوا: ما رابكم إليه، لا يستقبلكم بشيء تكرهونه)] يعني: احذروا أن تسألوه عن الروح؛ حتى لا ينزل عليه وحي بشيء تكرهونه، فيكون في هذا شقة ومضايقة لكم، [(فأصر البعض فقالوا: بل سلوه، فقام إليه بعضهم فسأله عن الروح، قال: فأسكت النبي صلى الله عليه وسلم)].
وفي رواية: [(فأثكن النبي صلى الله عليه وسلم)] ومعنى: (فأسكت أو فأثكن) أي: انتظر قليلاً لم يرد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن مسعود [: (فعلمت أنه يوحى إليه)] أي: في هذه المدة الزمنية التي سكت فيها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعطهم جواباً على سؤالهم؛ أيقن ابن مسعود أن الوحي نزل من السماء عليه فيما يتعلق بسؤال اليهود له عن الروح.
قال: [(فقمت مكاني)] أي: لزمت مكاني، [(فلما انجلى الوحي) أي: فلما فارقه الوحي، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ({وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85])].
فكان هذا هو وحي السماء إلى النبي صلى الله عليه وسلم جواباً على سؤال اليهود له.
قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو سعيد الأشج - وهو عبد الله بن سعيد الكندي - قال: حدثنا وكيع، وحدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي -وهو المعروف: بـ ابن راهويه - وعلي بن خشرم قالا: أخبرنا عيسى بن يونس كلاهما -أي: وكيع وعيسى - عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود قال: (كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث بالمدينة) ثم ذكر الحديث بنحو حديث حفص بن غياث المتقدم، غير أن في حديث وكيع: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ(56/2)
باب في قوله تعالى: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم)
قال: [باب في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33]] أي: ما كان الله ليعذب المشركين يا محمد وأنت فيهم، [{وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33]].
والاستغفار: إما أن يكون هو مطلق الذكر، أو أن الاستغفار بمعنى الإيمان، أو بمعنى الصلاة.
قال: [حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري حدثنا أبي قال: حدثنا شعبة عن عبد الحميد الزيادي أنه سمع أنس بن مالك يقول: قال أبو جهل: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32]].
هذا الكلام في غاية القسوة، وقلة العقل، وسفاهة الأحلام؛ لأنه كان ينبغي أن يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه، أو ارزقنا اتباعه أو غير ذلك، ولكنه قال: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32]، فنزلت: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33]، يا محمد، {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الأنفال:33 - 34].
وهذا الباب في غاية الأهمية، والحافظ ابن كثير عليه رحمة الله قال في تفسير قول الله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا} [الأنفال:31] إذاً: فلم لم تقل؟ خاصة وأن القرآن قد تحداهم أن يأتوا بسورة أو بآية، فلم يأت أحدهم بشيء، قالوا: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال:31].
والأساطير: جمع الأسطورة، والأسطورة: هي الأكذوبة، أي: فهذه أكذوبات تلقاها محمد من الأولين، أي: من الكتب والصحف السابقة.
{وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:32 - 33].
قال الحافظ ابن كثير: يخبر الله تعالى عن كفر قريش وعتوهم وتمردهم وعنادهم، ودعواهم الباطل عند سماع آياته سبحانه وتعالى حين تتلى عليهم أنهم يقولون: {قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} [الأنفال:31] وهذا منهم قول بلا فعل، يعني: دعوى وزعم أنهم يمكن أن يأتوا بمثل هذا القرآن، ولم يأتوا بمثل شيء منه.
والقائل لهذا: هو النضر بن الحارث -لعنه الله- كما قد نص على ذلك سعيد بن جبير، والسدي، وابن جريج وغيرهم، فإنه -لعنه الله- كان قد ذهب إلى بلاد فارس وتعلم من أخبار ملوكهم، ولما قدم وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث، وهو يتلو على الناس القرآن، فكان إذا قام النبي صلى الله عليه وسلم من مقامه جلس هذا اللعين مكان النبي عليه الصلاة والسلام يقص على الناس، ويقول: بالله عليكم أينا أحسن قصصاً أنا أم محمد؟ لأنه تعلم من أخبار فارس، ولذلك قتله النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر صبراً.
وأما قوله: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32]، فقال الحافظ ابن كثير: هذا من كثرة جهلهم وعتوهم وعنادهم، وشدة تكذيبهم وهذا مما عيبوا به اعتبارهم عرباً، وكان الأولى لهم أن يقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأهدنا له، ووفقنا لاتباعه، ولكن استفتحوا على أنفسهم، واستعجلوا العذاب وتقديم العقوبة، كما قال تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى} [العنكبوت:53] أي: لولا أجل محتوم معلوم مؤقت لجاءهم العذاب، {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [العنكبوت:53] أي: فجأة وهم لا يشعرون.
وقال تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16] أي: ربنا عجل لنا العذاب قبل يوم الحساب.
وقال الله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ} [المعارج:1] أي: من المشركين {بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج:1] عن هذا العذاب الذي تزعم يا محمد أنه يمكن أن يقع عليهم، فلمَ لا يق(56/3)
باب قوله تعالى: (كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى)
قال: [باب قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7].
حدثنا عبيد الله بن معاذ -أي: العنبري - ومحمد بن عبد الله القيسي قال: حدثني المعتمر -هو: ابن سليمان بن طرخان التيمي - عن أبيه قال: حدثني نعيم بن أبي هند عن أبي حازم -وهو: سلمان مولى عزة - عن أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو جهل: (هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟)].
أبو جهل يخاطب صناديد قريش: هل تتصورون أن محمداً يعفر جبهته أمامكم وبين أظهركم، أي: بالسجود لله عز وجل، وأنتم تنظرون إليه؟ [(قالوا: نعم، يفعل ذلك، فقال أبو جهل: واللات والعزى -يحلف بآلهته التي يعبدها من دون الله عز وجل- لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته)].
أي: لأدوسن على رأسه، أو لأعفرن وجهه بالتراب، يعني: يأتي إليه وهو ساجد ويمرغه في التراب، عليه لعنة الله.
فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فلما رآه ساجداً لله عز وجل في حجر الكعبة ذهب ليطأ على رقبة النبي عليه الصلاة والسلام، وصناديد الكفر والشرك ينظرون إلى أبي جهل ماذا سيصنع به؟ وما هو موقف محمد عليه الصلاة والسلام من هذا؟ قال: فما فجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه، أي: فما لبثوا أن رأوا أبا جهل إلا وهو يرجع القهقرى مسرعاً خائفاً مرتعباً مرعوباً يتقي بيديه، كأن واحداً يضربه، وهو يتقي الضرب بيديه، يدفعه مرة عن رأسه، ومرة عن وجهه، ومرة عن بدنه وغير ذلك، وهم لا يرون أحداً، ولا يرون شيئاً، وإنما الذي رأى ذلك هو أبو جهل.
فقيل له: ما لك يا أبا الحكم، فقال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار، وهولاً وأجنحة.
أي: حال بيني وبينه خندق من نار، وأجنحة الملائكة، وهذا مصداق قول الله تعالى لنبيه: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]، فالنبي عليه الصلاة والسلام معصوم.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه: [(لو دنا مني -أي: لو اقترب مني أبو جهل - لتخطفته الملائكة عضواً عضواً)] أي: لقطعته الملائكة عضواً عضواً، حتى يكون آخر ما ينزع منه الروح.
[فأنزل الله عز وجل: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق:9 - 10]].
وقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى} [العلق:6] ولم يقل: (إن الكافر ليطغى) وإنما قال: (إن الإنسان) إشارة إلى أن الطغيان يقع من الكافر، ويقع من المسلم كذلك.
والمسلم لو زادت عليه النعمة طغى إن لم يحذر، ويعلم أنها استدراج من الله عز وجل، فإذا لم يكن عنده يقين بذلك فلابد أنه سينحرف، والنبي عليه الصلاة والسلام معصوم من ذلك كله، وما دونه ليست له هذه العصمة.
وأصحاب الجرائد في كل حين يخرجون علينا بأخبار يريدون أن يلصقوا التهم بأبناء الصحوة، وهيهات هيهات أن يكون ذلك، فمما يذكرون موضعها الزواج والطلاق، والمعلوم أنه كما أن للمرأة عدة، فكذلك الرجل له عدة، وعدة الرجل في حالتين: الحالة الأولى: لو أنه تزوج أربعاً من النسوة، وأراد أن يتزوج الخامسة ليس له ذلك إلا أن يطلق إحداهن، فإذا طلقها لا يحل له أن يعقد على خامسة إلا أن تنقضي عدة الرابعة التي طلقها، لأن هذه المطلقة الرابعة لا تزال زوجته، فله أن يرجعها في فترة العدة، ولذلك سماه الشرع طلاقاً رجعياً، أي: من حق الرجل أن يراجع امرأته إذا طلقها المرة الأولى، أو الثانية في مدة العدة، وهي ثلاثة قروء بغير إذنها وبغير إذن وليها؛ مما يدل على أن هذه المرأة محبوسة في هذا الرجل، فالمرأة في مدة العدة لا تزال زوجة لهذا الرجل حتى يطلق الثالثة، فإذا طلق الثالثة بانت منه بينونة كبرى، فتعتد هي بنفسها، وليست عليه عدة حينئذ.
الحالة الثانية: الرجل إذا تزوج امرأة فماتت هذه المرأة، فله أن يتزوج أختها أو عمتها أو خالتها فوراً، لكن إذا طلقها طلاقاً رجعياً ليس له أن يتزوج أختها أو عمتها أو خالتها في فترة العدة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن الجمع بين المرأة وعمتها، أو خالتها أو أختها.
وسيد رجاء ما كان يراعي هذا، ولقد نصح مرة واثنين وثلاث، ولكن لما كثر الإنكار عليه ما كان يأذن لأحد قط يعلم أنه داخل إليه لنصيحته، ولإيقافه عند حده.
ومن السنن الكونية لمن يعرض عن شرع الله يسلط الله تبارك وتعالى عليه أسافل الخلق، فـ السيد رجاء لا ينسب إلينا، فليس منا ولسنا منه، وأيام أن كنت موظفاً في شركة الريان أتى سيد رجاء إلى الشركة في أواخر أيامها لما هددت وحوربت، وأخبر أن ضابط الأمن قال له: يا سيد أنت دورك آت،(56/4)
الأسئلة(56/5)
حكم نقل المبيض من امرأة تنجب إلى امرأة لا تنجب
السؤال
هل يجوز نقل مبيض من امرأة تنجب إلى رحم امرأة لا تنجب؟
الجواب
حرام حرام حرام، إنما ينسب الولد إلى الرحم، وإلى الماء والغذاء والدم، ولذلك يقال: هذا أخي في النسب، وأخي في الدم، والنسب والدم لا يطلقان إلا على رجل قد اجتمع فيه اللبن - أي: الماء - والرحم والدم، أي: تغذى وهو جنين على دم أمه، لا على دم امرأة أخرى، وهذا يختلف عن حكم الرضاع.
ومسألة نقل مبيض امرأة تنجب إلى امرأة لا تنجب فيها خلاف بين المعاصرين؛ لأن هذا الفعل لم يكن معلوماً ولم يكن له وجود في السابق.
فأنا أقول: الخلاف في هذه القضية خلاف ضعيف جداً، بل لا يكاد يعتبر، لأن الذي يترجح -إن لم يكن هو الراجح والصحيح-: أن ذلك يمنع ويحرم، وأما مسألة نقل الأعضاء فالخلاف فيها واسع جداً.
وأما الكلام عن نقل الدم فالخلاف فيه ضعيف جداً، لأن الراجح أنه لا حرج في نقل الدم ابتداءً؛ لأنه لا ينفع الرحم، وليس شيئاً متصلاً بالبدن، بل هو منفصل عنه، كما أنه متجدد كل ثلاثة أشهر في بدن الإنسان، بل من مصلحة الإنسان أن يجدد دمه، أو أن يتبرع بشيء منه كل ثلاثة أشهر أو ستة أشهر.
وقد قرأنا تقريرات لأطباء كثيرين في هذا الباب، وهذا يجعل القلب يطمئن بأن نقل الدم لا حرج فيه.
أما نقل الأعضاء فقد اختلف فيه أهل العلم اختلافاً بيناً: فمنهم من يقول: بالجواز مطلقاً، ومنهم من يقول بالمنع مطلقاً، ومنهم من يشترط شروطاً.
والذي يرتاح إليه قلبي: عدم جواز نقل الأعضاء، لأن الإنسان ليس حراً في بدنه، فإذا كان ليس حراً في بدنه في حياته، فمن باب أولى ألا يكون حراً بعد موته؛ لأنه لا تصرف له سليم بعد موته، هذا الذي يترجح عندي، والله تعالى أعلم.(56/6)
حكم من شك هل سجد سجدتين أم سجدة
السؤال
إذا شككت هل سجدت سجدتين أم واحدة، فماذا أفعل؟
الجواب
إذا كان هذا الشك بعد السجود وفي الجلسة التي بين السجدتين، أو كان ذلك في السجود أو بعد السجدة الثانية، فليسجد سجدة أخرى، حتى وإن كانت هذه السجدة في حقيقة الأمر هي الثالثة، فإنه لا يضره ذلك، وإذا فرغ من الصلاة سجد سجدتين للسهو بعد التسليم؛ لأن هذا الشك في الصلاة في الزيادة وليس في النقص.
وأما إذا كان الشك في أثناء التشهد، أو سلم من صلاته وشك هل سجد سجدة أو سجدتين؟ فيأتي بركعة كاملة؛ لأن السجود ركن في الصلاة، وفوات الركن تبطل به الصلاة سواءً تعمد صاحبه أو سها، فإنه يستوي فيه المتعمد والساهي، لكن الساهي لا يأثم، وإنما يجبر صلاته بركعة، والمتعمد يجبر صلاته بركعة مع الإثم؛ لأنه تعمد فوات ركن في الركعة.
وإذا قام إلى الركعة الثانية ثم تذكر أنه نسى السجدة الثانية فإنه يهوي فوراً إلى السجود.(56/7)
حكم من قرأ في الصلاة قوله تعالى: (ولا الضالين) بدون مد
السؤال
هل إذا قرأت: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] بدون مد تكون الصلاة صحيحة أم باطلة؟
الجواب
الصلاة تكون صحيحة، لأن أحكام التجويد في أغلب أقوال أهل العلم مستحبة، وإنما تجب في صحة القراءة فقط، وأما إتقان القراءة فهذا شيء آخر بخلاف الصحة، ولذلك العلماء يقولون: قراءة القرآن قراءة صحيحة فرض عين، وأما تعلم أحكام التجويد فهو فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين.
والمد في قوله تعالى: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] مد لازم كلمي مثقل، والمد اللازم الكلمي المثقل محل نزاع بين أن يمد أربعاً، أو خمساً، أو ستاً، ولا أظن أن واحداً يقول: ولا الضالين يمد كذا أبداً.(56/8)
حكم التوسل بأصحاب الأضرحة
السؤال
خرج على الناس بعض تلاميذ علي جمعة يقولون بالتوسل بأصحاب الأضرحة، بل وللرجل أن يسمي صاحب الضريح الذي يذهب إليه بعينه، وقاسوا ذلك على جواز التوسل بالأعمال الصالحة وهي مخلوقة، فكذلك صاحب الضريح مخلوق فما الفرق بين هذا وذاك، وزعموا أنهم مستعدون لمناظرة من يريد ذلك؟
الجواب
لسنا مستعدين لذلك، وهم ليسوا مستعدين، وللأسف الشديد لقد قلنا مراراً: إن علي جمعة إنسان منحرف عقدياً، وحذرنا الناس تكراراً، ولكن يبدو أن كل إنسان لابد أن يجرب بنفسه، فذهب بعض إخواننا الذين طلبوا العلم معنا منذ خمسة عشر عاماً في هذا المكان، وكانوا يطلبون معنا العلم في مسجد النصر، وفي مساجد الدعوة، ولكنهم أبوا أن يسمعوا الكلام وأن يسمعوا النصيحة، فذهبوا إلى هناك وهم الذين يقولون هذا الكلام.
إن مسألة الأضرحة ليست مسألة بسيطة وسهلة، وأنه قد نعذر بها إذا قارناها ببقية المسائل التي تتعلق بذات الله تعالى وبأسمائه وصفاته، فعند علي جمعة الطامات تلو الطامات فيما يتعلق بذات الإله، وأسمائه وصفاته.
وللأسف أن هنا أناساً مصرين على أن يحضروا مجالس علي جمعة، والله تعالى يعلم أننا لا ننصح أحداً إلا بالخير على الأقل فيما نظن ونعتقد أنه هو الخير، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من أشار على أخيه بشيء وهو يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه).
فما استشارنا أحد -يعلم الله- في أمر نعلم أن الخير في باب من أبوابه إلا وأشرنا إليه، وليس لنا -والحمد لله تعالى- مصلحة من جاه ولا كرسي ولا سلطان ولا مال ولا شيء ممن حضر مجلسنا قط، والحمد لله فإن عز وجل قد أغنانا عن المستمعين وعن طلابنا.
ولا حاجة لنا أن ننحرف بهم في النصيحة والاستشارة جانب الصواب، ولذلك هذا فضل الله تعالى ومنته علي وعلى من يتصدى للدعوة بإخلاص لله عز وجل، ولا نزعم أننا مخلصون.
نسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال والأقوال.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله على نبينا محمد.(56/9)
شرح صحيح مسلم - كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - الدخان وانشقاق القمر
لقد اختلف سلف الأمة في الدخان المذكور في آية الدخان، فمنهم من قال: إنه ما رآه المشركون من كفار مكة عندما أصيبوا بالجوع والقحط، ومنهم من قال: إنه من علامات الساعة الكبرى التي ستكون في آخر الزمان.
وأما انشقاق القمر فهو آية وقعت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق العلماء.(57/1)
باب الدخان
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، أما بعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا جرير -وهو ابن عبد الحميد الضبي - عن منصور -وهو ابن المعتمر بن سليمان - عن أبي الضحى -وهو مسلم بن صبيح - عن مسروق - وهو ابن الأجدع - قال: كنا عند عبد الله جلوساً -أي: كنا جلوساً عند عبد الله بن مسعود - وهو مضطجع بيننا].
وفي هذا جواز أن يضطجع العالم في وسط تلاميذه وطلابه، وقد جاءت غير رواية أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يجلس متكئاً في وسط أصحابه، ومسنداً ظهره إلى الكعبة وغير ذلك، فهذه الصورة جائزة للعالم بين طلابه.
وأما الطالب في مجلس العلم فإن من سوء الأدب أن يمد رجليه أو غير ذلك.
قال: [فأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن!] هذا السائل غير معروف، ولم تأت رواية فيها اسم هذا الراوي بسند صحيح.
قال هذا الرجل لـ عبد الله بن مسعود: [إن قاصاً عند أبواب كندة يقص ويزعم: أن آية الدخان تجيء فتأخذ بأنفاس الكفار، ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزكام].
أي: علامة الدخان قبيل الساعة: أنها تأخذ بأنفاس الكفار حتى تخرج من أدبارهم، وتدخل من أدبارهم وأسماعهم وأفواههم وأنوفهم ومن كل المداخل الطبيعية في بدن الكفار، وتخرج منها.
وأما المؤمنون فإن حظهم وقسطهم من هذه العلامة أنه يصيبهم الزكام فقط، فكأنهم زكموا من رائحة هذا الدخان، أي: لا تصيب المؤمن إلا على هذا القدر وهذا النحو.(57/2)
حرمة القول على الله بغير علم
[فلما سمعه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه غضب لذلك غضباً شديداً، وجلس وهو مغضب وقال: أيها الناس! اتقوا الله].
وهذا الكلام وإن كان موجهاً إلى ذلك القاص إلا أنه يعم جميع الناس إلى قيام الساعة، فتقوى الله في باب العلم، وباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تلزم المرء ألا يتكلم إلا بما علم، فالله تبارك وتعالى حرم القول عليه بغير علم، وقرنه بالشرك؛ للدلالة على خطورة هذا القول.
قال الله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36].
وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33].
والآيات الزاجرة عن القول على الله بغير علم كثيرة جداً، والأحاديث أكثر من الآيات، وكلها تدل على حرمة القول على الله بغير علم، حتى كان الصحابة رضي الله عنهم يتورعون في باب رفع الأحاديث إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فالواحد منهم ينقل القول ولا يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول.
وأتى التابعون من بعدهم فسلكوا نفس المسلك، فكانوا يقولون: قال أبو ذر، قال حذيفة، قال أبو قتادة، قال أبو هريرة ويتورعون أحياناً عن نسبة القول، أو عن وصل هذا القول إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا سئلوا عن ذلك قالوا: إن كذباً على أصحابه ليس ككذب عليه عليه الصلاة والسلام، أي: أنهم في الأمر الذي لم يتأكدوا منه تماماً ويقيناً كانوا يوقفونه على الصحابة، وما كانوا يرفعونه إلى النبي عليه الصلاة والسلام؛ مخافة ألا يكون قد قاله حقيقة.
فإذا كان السلف رضي الله عنهم قد سلكوا هذا المسلك، فحري بنا أن نتوقف في شيء سئلنا عنه ولا علم لنا فيه، وأن نقول: الله أعلم، ولذلك قال ابن مسعود: [يا أيها الناس! اتقوا الله! من علم منكم شيئاً فليقل بما يعلم، ومن لم يعلم فليقل الله أعلم]، أي: فإنه أرفق بأحدكم أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم، [فإن الله عز وجل قال لنبيه: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86]].(57/3)
ما أصاب قريش من قحط وبلاء بسبب عنادهم
ثم قال: [(إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى من الناس إدباراً)].
أي: لما رأى من كفار قريش إدباراً وإعراضاً وجحوداً، بل واستهزاءً بهذه الدعوة، وسباً لصاحبها عليه الصلاة والسلام بقولهم: إنه ساحر، وإنه شاعر، وإنه مجنون، فلما رأى منهم ذلك [قال: (اللهم سبع كسبع يوسف)].
أي: أرسل على قريش سبع سنين جدب وقحط يهلكوا فيها كما هلك أهل مصر في زمن يوسف عليه السلام بهذه السبع السنوات العجاف القحط.
قال: [(فأخذتهم سنة حصت كل شيء)]، فدعاء الأنبياء مستجاب، والسنة بمعنى: الجدب والقحط، وحصت كل شيء أي: استأصلت كل شيء، لم يعد عندهم خير حتى كانوا يأكلون أبعار البهائم، ويأكلون العظام والخشب، ويأكلون جلود الأسماك إذا جفت، وهذا من شدة ما نزل بهم من قحط وجدب، حتى أكلوا التراب الذي تحت أرجلهم.
قال: [(فأخذتهم سنة حصت كل شيء حتى أكلوا الجلود والميتة من الجوع، وينظر أحدهم إلى السماء فيرى كهيئة الدخان)] أي: ينظر أحدهم إلى السماء فمن فرط الجهد والتعب والجوع يرون وكأن السماء قد امتلأت دخاناً، وهي ليست كذلك.
ولذلك جاء في الرواية أنه قال: (فيرى كهيئة الدخان) ولم يقل: رأى الدخان، يعني: يخيل إلى أحدهم أن السحابة التي فوقه هي عبارة عن دخان، وهذا أمر يراه الواحد منا إذا جهد وتعب تعباً شديداً وشق ذلك عليه، فإذا نظر إلى السماء ربما يرى الأمر كما نقول نحن: خمسات وعشرات.
فكان ينظر أحدهم إلى السماء وكأنها مليئة بالدخان، فهذه الحالة إنما أصابت قريشاً بسبب الجهد والجوع الذي نزل بهم، وليس بلازم أن هذا التخيل والتهيء والتصور الذي يراه أحدهم وهو الدخان في السماء أن تكون السماء فيها دخان حقيقة.
قال: [(فأتاه أبو سفيان -وكان كافراً في ذلك الوقت- فقال: يا محمد! إنك جئت تأمر بطاعة الله، وبصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا، فادع الله لهم -أي: فادع الله أن يمطر السماء عليهم- قال الله عز وجل: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الدخان:11 - 12] إلى قوله: {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان:15]، أفيكشف عذاب الآخرة؟)].
أي: أن عبد الله بن مسعود يسألهم سؤال استنكار فيقول لهم: إن الدخان هذا ليس دخان الآخرة، وإنما هو الدخان الذي أصاب قريشاً، بدليل قول الله تعالى: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ} [الدخان:16]: {يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الدخان:11].
وهذا يشمل جميع الناس ولا يشمل واحداً بعينه، فيقول: لا يمكن في يوم القيامة إذا أنزل الله عذاباً أن يكشفه، والآية أثبتت أنه يكشف العذاب قليلاً، فهذا لا يكون يوم القيامة، وإنما هذا يدل على أن الدخان الذي أصاب قريشاً هو المعني في سورة الدخان.
قال: [{يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ} [الدخان:16]، فالبطشة الكبرى يوم بدر، قال: وقد مرت آية الدخان والبطشة واللزام وآية الروم].
واللزام هو ملازمة العذاب للكافرين، وآية الروم هي آية غلبت الروم.(57/4)
أنواع تفسير القرآن
قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية ووكيع، وحدثني أبو سعيد الأشج أخبرنا وكيع، وحدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير كلهم عن الأعمش.
وحدثنا يحيى بن يحيى وأبو كريب قالا: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مسلم بن صبيح -وهو المعروف في الرواية الأولى: أبو الضحى - عن مسروق قال: جاء إلى عبد الله رجل فقال: تركت في المسجد رجلاً يفسر القرآن برأيه].
هذا الرجل يتهم ذلك القاص، وسياق الرواية تقول: إن هذا الرجل لما نقل كلام القاص إلى عبد الله بن مسعود لم يكن يعرفه؛ بدليل أنه استنكر كلامه فذهب إلى عبد الله بن مسعود ليسأل عن صحة هذا الكلام الذي سمعه، ثم هو يغمزه في الرواية الثانية ويقول: سمعت رجلاً في المسجد يقص أو يفسر القرآن برأيه، وتفسير القرآن بالرأي مذموم، بينما التفسير الممدوح هو تفسير القرآن.
والنوع الثاني: تفسير القرآن بسنة النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا الذي يسميه العلماء بالتفسير النبوي.
ثم النوع الثالث: تفسير القرآن بكلام العرب؛ لأن القرآن عربي.
والرابع: تفسير القرآن بالرأي، وهو مذموم.
ولذلك غمزه هذا الرجل فقال: سمعت رجلاً في المسجد -أي: في مسجد بني كندة- يفسر القرآن برأيه.
قال: [قال في قوله تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان:10] أي: يأتي الناس يوم القيامة دخان، فتأخذ بأنفاس الكفار عامة، أما المؤمنون فتصيبهم على هيئة الزكام.
فقال عبد الله بن مسعود: من علم علماً فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإن من فقه الرجل أن يقول لما لا علم له به: الله أعلم.
إنما كان هذا أن قريشاً لما عصت النبي عليه الصلاة والسلام دعا عليهم النبي عليه الصلاة والسلام بسنين كسني يوسف، فأصابهم قحط وجدب حتى جعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد، وحتى أكلوا العظام، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: محمد! استغفر الله لمضر فإنهم قد هلكوا].
ومضر هم أشد الناس عداوة وبراءة من الإسلام.
وفي رواية البخاري: (استسق لمضر).
وبعضهم يقول: إن لفظة (استغفر) خطأ من الراوي، وبعضهم يقول: إنما هي تصحيف؛ لأن (استغفر) و (استسق) مسمع واحد.
والإمام النووي نازع في ذلك وقال: والروايتان صحيحتان، (استسق) أي: اطلب السقيا وهو المطر، (واستغفر) أي: ادع الله لهم بالهداية، ثم استسق لهم بعد ذلك.
فقد جمع بين القولين حتى لا يضطر إلى رد إحدى الروايتين.
[فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لمضر؟! إنك لجريء، قال: فدعا الله لهم فأنزل الله عز وجل: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان:15])].
أي: رغم أني رفعت عنكم البلاء إلا أنكم بعد قليل ستعودون إلى ما كنتم عليه من إيذاء وجحود ونكران.
قال: [(فمطروا -أي: بسبب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لهم- فلما أصابتهم الرفاهية واخضرت الأرض، عادوا إلى ما كانوا عليه، فأنزل الله عز وجل: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ} [الدخان:16] يعني: يوم بدر)].(57/5)
اختلاف العلماء في الدخان المذكور في الآية
قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جرير عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: خمس قد مضين -يعني: خمس علامات وأمارات قد مضت وانتهت-: الدخان، واللزام، والروم، والبطشة، والقمر، أي: انشقاق القمر.
وعن أبي بن كعب في قول الله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ} [السجدة:21] أي: العذاب الأدنى هو مصائب الدنيا، والروم والبطشة أو الدخان، شعبة هو الذي شك في البطشة، أو الدخان].
أنتم تعلمون أن الدخان من علامات الساعة، والراجح من أقوال أهل العلم: أنه من العلامات الكبرى، والله تعالى يقول: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ * أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ * إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ * يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ} [الدخان:10 - 16].
قال ابن كثير: يقول تعالى: بل هؤلاء المشركون في شك يلعبون، أي: قد جاءهم الحق اليقين وهم يشكون فيه ويمترون، ولا يطبقون به.
ثم قال تعالى متوعداً لهم ومتهدداً: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان:10].
ثم ذكر رواية مسلم من طريق عبد الله بن مسعود، ورواية أخرى كذلك من طريق ابن مسعود في الصحيحين بنحو الرواية الأولى في هذا الباب.
قال ابن كثير: وقد وافق ابن مسعود على تفسير هذه الآية بهذا التفسير، وأن الدخان قد مضى، وأن الدخان هو العلامة التي عاقب الله تعالى بها مشركي مكة؛ وافقه على ذلك التفسير، جماعة من السلف كـ مجاهد وأبي العالية الرياحي، والضحاك، وعطية العوفي، وهو اختيار ابن جرير.
إذاً: هل الدخان من العلامات التي كانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، أو أنها ستأتي في آخر الزمان؟ محل نزاع بين أهل العلم، فمذهب ابن مسعود وبعض السلف: أنها التي كانت في سنين القحط والجدب على مشركي مكة.(57/6)
قول منكر لعبد الرحمن الأعرج أن الدخان المذكور في الآية كان يوم فتح مكة
وفي رواية عبد الرحمن الأعرج أنه قال: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان:10] قال: كان ذلك يوم فتح مكة، وهذا القول منكر جداً وغريب جداً، فلا عبرة به.
أما الرأي الثاني: أن آية الدخان لم تمض بعد، وإنما ستأتي إن شاء الله في آخر الزمان، وهي من أمارات الساعة كما تقدم في حديث حذيفة بن أسيد الغفاري قال: (أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرفة ونحن نتذاكر الساعة، فقال: لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج عيسى ابن مريم، والدجال، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس -أو تحشر الناس- تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا).
فذكْر الدخان مع هذه العلامات يدل على أنه سيكون في آخر الزمان؛ لأن هذه العلامات كلها لم تظهر بعد، فكيف تكون علامة الدخان في زمنه عليه الصلاة والسلام وبقية هذه العلامات كلها في آخر الزمان مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (لا تقوم الساعة إلا إذا رأيتم عشر آيات) وعد منها: الدخان؟! فهذا يدل على أن الدخان سيكون في آخر الزمان.
وأنتم تعرفون ابن صياد، وقد قيل: إنه المسيح الدجال، وقيل: هو غير المسيح الدجال، وكلام أهل العلم فيما يتعلق بـ ابن صياد سيأتي معنا إن شاء الله تعالى في نهاية كتاب الفتن من صحيح مسلم.
وقد جاء في غير ما حديث أنه دجال، وكان كثير من الصحابة يعتقدون أن ابن صياد هو المسيح الدجال، وقد جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم له: (إني خبأت لك خبأً، فقال ابن صياد: هو الدخ)، وهذا كلام السحرة والكهان والدجالين كلهم يقولون هذا، ولذلك إذا قرأت الحجاب الذي يعمله السحرة فإنك لا تكاد تقف على حقيقة أمره؛ لأن من شأن السحرة والكهان والعرافين أن يجيبوا على بعض الكلمة فيأتون بها مقطعة، وأحياناً يأتون بها مقطعة الحروف، أو يجيبون بحرف، ويتركون الحرف الثاني، فهم لا يكتبون كلمة كاملة، ولذلك أدرك النبي عليه الصلاة والسلام أن هذا الدجال وهو ابن صياد عرف ما خبأه له، وهذا إنما يكون بوحي الشيطان إليه.
وهذه العلامة التي هدده بها النبي عليه الصلاة والسلام إنما هي سورة الدخان، ولذلك عبر عنها ابن صياد بالدخ، فالنبي صلى الله عليه وسلم فهم ذلك فقال له: (اخسأ عدو الله فلن تعدو قدرك).
يعني: ما قد قدره الله تعالى فيك لابد أنه كائن، والوعيد والتهديد الشديد الذي جاء في سورة الدخان سيصيبك منه لا محالة، حتى وإن كنت عارفاً بما خبأته لك، ولذلك قال: (اخسأ عدو الله فلن تعدو قدرك)، وقد خبأ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان:10].
قال ابن كثير: وهذا فيه إشعار بأن الدخان هو المنتظر لا أنه قد وقع فيهم بالفعل.
وابن صياد كاشف -أي: كاهن- على طريقة الكهان بلسان الجان، وهم يقرطمون العبارة، يعني: يقطعونها تقطيعاً، ولهذا قال: هو الدخ، يعني: الدخان، فعندها عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم مادة ابن صياد أنها مادة شيطانية قال له: (اخسأ فلن تعدو قدرك).
وقد أورد ابن جرير حديثاً طويلاً عن حذيفة لكنه موضوع، وابن كثير يقول: لو صح هذا الحديث لكان فاصلاً، لأن الحديث صريح، والأحاديث الأخرى منها ما هو صحيح لكنه ليس صريحاً في الباب، ولذلك وقع الخلاف.
واختلف أهل العلم في الدخان إلى مذهبين؛ خلافاً لمذهب عبد الرحمن الأعرج حيث قال: الدخان هو ما كان يوم فتح مكة، وهذا مذهب منكر جداً لم يوافقه عليه أحد، وليس كلاماً صحيحاً، لكن الخلاف المعتبر: هل الدخان هو الذي كان في سنوات القحط والجدب على أهل مكة، أم أنه الذي سيكون في آخر الزمان؟ فـ ابن مسعود ومن معه يذهبون إلى أن هذا الدخان هو الذي وقع في سنوات الجدب والقحط على أهل مكة.
وجمهور السلف على أن آية الدخان وعلامتها إنما تكون في آخر الزمان.(57/7)
قول ابن كثير بأن العلامة من علامات القيامة يمكن أن تقع مرتين
وابن كثير توسط في الأمر فقال: لا مانع أن تقع العلامة والأمارة مرتين، كما تقع المعجزة مرتين.
يعني: كقصة شق الصدر فقد وقعت مرتين: مرة والنبي صلى الله عليه وسلم طفل، ومرة بعد البعثة وقبل ذهابه لرحلة الإسراء والمعراج.
وانشقاق القمر حصل مراراً، فالذي كان في شأن المشركين في مكة ربما يكون دخاناً وربما يكون غيره، وهب أنه دخان فلا يلزم منه عدم وقوع الآية في آخر الزمان، ولا بأس أن يشتمل هذا التهديد والوعيد ما نزل بكفار قريش، وهذا ما توسط به الحافظ ابن كثير.
لكن أورد حديثاً موضوعاً ثم قال: إن أول الآيات الدخان، والصحيح أن أول الآيات الدجال، ونزول عيسى بن مريم، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر تقيل معهم حيث قالوا، والدخان.
ولذلك تكرر الدخان في أول الحديث وآخره، وهذا الحديث عند الترمذي أيضاً: أن أول الآيات الدجال وهو الصحيح، وإن كنا نحب الترتيب لكن الحديث موضوع.(57/8)
الأحاديث والآثار التي هي على خلاف قول ابن مسعود في آية الدخان
قال حذيفة: (يا رسول الله! وما الدخان؟ فتلا هذه الآية: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان:10]) أي: يملأ ما بين المشرق والمغرب، ويمكث أربعين يوماً وليلة).
فأما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكمة، وأما الكافر فيخرج من منخريه وأذنيه ودبره.
وهذا الحديث صريح، لكنه غير صحيح، وأنتم تعلمون أن الحجة لابد أن تكون صريحة وصحيحة، ولذلك قال ابن جرير: لو صح هذا الحديث لكان فاصلاً، وإنما لم أشهد له بالصحة.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يهيج الدخان بالناس، فأما المؤمن فيأخذه كالزكمة، وأما الكافر فينفخه حتى يخرج من كل مسمع منه) أي: من الفم والأنف والعين وغير ذلك.
وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن ربكم أنذركم ثلاثاً: الدخان يأخذ المؤمن كالزكمة، ويأخذ الكافر فينتفخ حتى يخرج من كل مسمع منه، والثانية: الدابة، والثالثة: الدجال).
وعن علي رضي الله عنه قال: لم تمض آية الدخان بعد.
وهذا الكلام منافي لقول ابن مسعود: خمس مضين: البطشة، واللزام، والروم والقمر، والدخان.
ومعنى ذلك: أن آية الدخان عند ابن مسعود قد وقعت ومضت، وعلي بن أبي طالب يرفض هذا، وليس وحده فمعه ابن عباس، وغير واحد من السلف، فإنهم يذهبون إلى هذا المذهب، حتى إن العاد لهذا الرأي يجد أنهم جمهور السلف.
قال علي رضي الله عنه: لم تمض آية الدخان بعد، يأخذ المؤمن كهيئة الزكام، وتنفخ الكافر حتى ينفد.
وعن ابن عمر قال: يخرج الدخان فيأخذ المؤمن كهيئة الزكام، ويدخل في مسامع الكافر والمنافق حتى يكون كالرأس الحنيذ، أي: المشوي على الفحم.
ولم تنقل إلينا الروايات أن هذا الدخان أخذ برأس الواحد منهم كهذه الصورة التي صورها ابن عمر، وهذا يدل أن الدخان آية لم تمض بعد.
وعبد الله بن أبي مليكة قال: غدوت إلى ابن عباس رضي الله عنهما ذات يوم فقال: ما نمت الليلة حتى أصبحت، قلت: ولم؟ قال: قالوا: طلع الكوكب ذو الذنب، فخشيت أن يكون الدخان قد طرق.
وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس حبر الأمة، وترجمان القرآن، وهذا القول وافقه عليه جمع من الصحابة والتابعين، وتدل عليه الأحاديث المرفوعة الصحاح والحسان التي أوردناها، والتي فيها دلالة ظاهرة على أن الدخان من الآيات المنتظرة.
وأقصى ما يقال عن كلام ابن مسعود السابق أنه اجتهاد منه، لما قال: الدخان هو الجدب والقحط الذي نزل على كفار قريش، وهذا كلام مرفوع إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وإذا قال الصحابي قولاً لم يخالفه فيه أحد من الصحابة وانتشر هذا القول كان كالإجماع، إن لم يكن إجماعاً على الحقيقة.
وأما إذا خالفه صحابي آخر فليس في قول واحد منهما حجة فضلاً أن يخالفه جمهور الصحابة، فإذا خالف جمهور الصحابة ابن مسعود فيما يتعلق بالدخان، فيقدم قول جمهور الصحابة، والدليل على ذلك: موافقة علماء الأمة الذين أتوا من بعدهم من التابعين وغيرهم إلى يومنا هذا أن الدخان آية مرتقبة.
ولذلك يخطئ بعض العلماء إذا اغبرت السماء، أو أصابها دخان أو غير ذلك قال: هذه آية الدخان المرتقبة، ثم نفاجئ بأن بعض هؤلاء يذيعون في خطبهم ودروسهم ومنازلهم أننا نمر بآية اليوم، أو قد مررنا بها بالأمس أو غير ذلك، وهذا كلام خطأ؛ لأن السنة بينت أن آية الدخان لا تكون إلا بعد آية الدجال، إلا إذا كان هذا الخطيب يعتقد أن الدجال موجود، فهذا شيء آخر؛ لكثرة الدجاجلة.
وفي مرة من المرات دخل الشيخ سيد سابق الله يرحمه ويحسن إليه المسجد فصلى ركعتين قبل صلاة المغرب، فأنكر عليه أحد الأشخاص إنكاراً شديداً جداً؛ كيف تصلي ركعتين في وقت الكراهة؟ فبعد أن صلى ركعتين، قصد المجلس واستمر في الدرس، ولما جاء المغرب صلى، ثم صلى صلاة العشاء بعد أذان العشاء، ثم أدنى هذا الذي أنكر عليه منه وقال له: أين قرأت أن الصلاة في وقت الكراهة لا تجوز؟ قال: قرأت في كتاب كذا وكذا، وذكر من بين الكتب فقه السنة، قال له: أتعرف فقه السنة؟ قال: نعم للشيخ سيد سابق، وهو لا يعرف أن هذا الشيخ هو سيد سابق، فقال له: أنا سيد سابق، فوضح له الخلاف الذي بين أهل العلم، ورجح أن الصلاة في وقت الكراهة تجوز إذا كانت لسبب، وهذا مذهب الشافعية، وحملوا النهي على مطلق التنفل، وأما ما كان من الصلاة لها سبب كتحية المسجد أو غير ذلك فلا بأس بذلك.
فبهذا نعرف سبب نهي ابن مسعود وإنكاره على هذا القاص، فإنه أنكر لما استقر في علمه أن هذا هو الحق، ولذلك(57/9)
باب انشقاق القمر
(باب انشقاق القمر).
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عمرو الناقد وزهير بن حرب قالا: حدثنا سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد - وهو مجاهد بن جبر المكي -عن أبي معمر عن عبد الله قال: (انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشقتين -يعني: فلقتين- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اشهدوا)].
أي: انظروا إلى القمر وقد انشق.
قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب وإسحاق بن إبراهيم جميعاً عن أبي معاوية - محمد بن خازم الضرير - وحدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي، كلاهما عن الأعمش ح وحدثنا منجاب بن حارث التميمي واللفظ له، أخبرنا علي بن مسهر عن الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر عن عبد الله بن مسعود قال: (بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى)].
وفي رواية: [(بمكة)].
ولا تعارض بين الروايتين، وليست الروايتان تدلان على انشقاق القمر مرتين في زمنه عليه الصلاة والسلام، والجمع بينهما: أن منى من مكة، فقول الراوي: (كنا معه بمنى) أي: كنا معه بمكة.
قال: [(إذ انفلق القمر فلقتين - يعني: شقتين - فكانت فلقة وراء الجبل، وفلقة دونه، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشهدوا)].
يعني: انشق القمر فلقتين: فلقة منه سقطت حتى واراها جبل حراء، والثانية كانت فوق الجبل، وهم ينظرون إليها.
قال: [حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري حدثنا أبي حدثنا شعبة عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبي معمر عن عبد الله بن مسعود قال: (انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقتين، فستر الجبل فلقة -وهي التي ذهبت خلف الجبل- وكانت فلقة فوق الجبل -أي: ينظرون إليها- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اللهم اشهد)].
وفي رواية ابن أبي عدي قال: [(اشهدوا اشهدوا)] يعني: انظروا يا معشر قريش! [حدثني زهير بن حرب وعبد بن حميد قال: حدثنا يونس بن محمد حدثنا شيبان -وهو النحوي - قال: حدثنا قتادة عن أنس: (أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية)].
إذاً: السبب هو: أن أهل مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أرنا آية، فهم هنا كبني إسرائيل حينما طلبوا ذلك من موسى وعيسى.
قال: [(فأراهم انشقاق القمر مرتين)].(57/10)
اختلاف العلماء في مرات انشقاق القمر
قال بعض العلماء: انشق القمر في زمنه صلى الله عليه وسلم مرتين، وبعض العلماء حمل المرتين على الفلقتين، والذي يترجح من أقوال أهل العلم أن القمر انشق في زمانه عليه الصلاة والسلام مرتين.
قال: [وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا محمد بن جعفر -وهو المعروف بـ غندر - وأبو داود -وهو الطيالسي -، وحدثنا ابن بشار حدثنا يحيى بن سعيد ومحمد بن جعفر وأبو داود كلهم عن شعبة عن قتادة عن أنس قال: (انشق القمر فرقتين)].
وبعضهم يقول: (مرتين) تصحيف فرقتين أو فلقتين، والصواب: أن الرواية صحيحة.
وفي حديث أبي داود: [(انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)].
وفي حديث ابن عباس قال: (إن القمر انشق على زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم).(57/11)
انشقاق القمر من أمهات معجزات نبينا، والرد على المنكرين
قال القاضي عياض: انشقاق القمر من أمهات معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم.
ومعجزات النبي عليه الصلاة والسلام بلغت أكثر من ألف معجزة، منها المعجزات المادية، ومنها المعجزات المعنوية، وانشقاق القمر من كبريات معجزات نبينا عليه الصلاة والسلام، وقد رواها عدة من الصحابة رضي الله عنهم، مع ظاهر الآية الكريمة: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1].
قال الزجاج: وقد أنكرها بعض المبتدعة المضاهين المخالفين أمر الله، وذلك لأن الله أعمى قلوبهم، ولا إنكار للعقل فيها؛ لأن القمر مخلوق لله تعالى يفعل فيه ما يشاء، كما يثنيه ويكوره يوم القيامة، فالله تعالى يكور الشمس والقمر، ويثنيهما، ويثني جميع الخلائق فيقضي عليها بالموت، والقمر والشمس مخلوقتان، وجميع هذه المخلوقات مسخرة بأمره، يفعل فيها ما يشاء، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
وأما قول بعض الملاحدة: لو وقع هذا لنقل إلينا بالتواتر، فنقول: ألا يكفي في انشقاق القمر أنها آية عامة يراها كل من كان في مكة، وفي خارجها، المؤمن والكافر المسافر والحاضر، وذلك مثل حديث: (إنما الأعمال بالنيات)، فلم يروه إلا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم يروه عن عمر إلا علقمة بن وقاص الليثي، ومع ذلك فهو حديث متواتر.
قال: وأما قول بعض الملاحدة، لو وقع هذا لنقل متواتراً، واشترك أهل الأرض كلهم في معرفته، ولم يختص به أهل مكة.
فأجاب العلماء: بأن هذا الانشقاق حصل في الليل، ومعظم الناس نيام غافلون، والأبواب مغلقة، وهم متغطون بثيابهم، فقل من يتفكر في السماء أو ينظر إليها إلا الشاذ النادر، ومما هو مشاهد معتاد أن كسوف القمر والشهب العظام وغير ذلك مما يحدث في السماء ليلاً لا يتحدث به إلا آحاد من الناس وليس كل الناس.
وما يحدث في الإرصاد والصحافة والإذاعات من معرفة وقوع الشيء قبل أن يقع ليس من باب علم الغيب؛ لأن الغيب غيبان: غيب يعلمه بعض الناس، وغيب لا يعلمه إلا الله، فهذا من الغيب المعلوم الذي يعلمه بعض الناس.
فانشقاق القمر ليس بلازم أن يراه كل الناس، خاصة وأنه وقع بالليل والناس نيام، والذي ليس نائماً قد لا ينظر إلى السماء.
قال الإمام النووي: وكان هذا الانشقاق آية حصلت في الليل لقوم سألوها، واقترحوا رؤيتها، فلم يتنبه لها، قالوا: وقد يكون القمر حينئذ في بعض المجاري والمنازل التي تظهر لبعض الآفاق دون بعض، كما يكون ظاهراً لقوم غائباً عن قوم آخرين.
كما قد يجد الكسوف أهل بلد دون بلد آخر، وأحياناً لا تطلع الشمس عند قوم البتة، وأعجب ما رأيت في أمريكا أن النهار أربع ساعات والليل عشرون ساعة، وهذا في نهاية الجنوب، وأنا الآن لا أذكر اسم الولاية أو البلد، فكانوا يسألونني عن الصيام وعن الصلاة، فاتصلنا بالشيخ عبد العزيز بن باز فقال: قدروا للصلاة والصيام قدرهما، وصلوا وصوموا باجتهاد.
فهذا يعني أن هذه الظواهر الكونية الطبيعية تختلف من بلد لآخر.(57/12)
بعض الأحاديث الواردة في انشقاق القمر
قال: ابن كثير رحمه الله في قول الله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]: يخبر تعالى عن اقتراب الساعة وفراغ الدنيا وانقضائها، كما قال تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1]، وقال: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1].
وقد وردت الأحاديث بذلك: منها: حديث عند أحمد من طريق ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم والشمس على قعيقعان -أي: على جبل قعيقعان- بعد العصر، فقال: ما أعماركم في أعمار من مضى إلا كما بقى من النهار فيما مضى منه).
وهذا كان بعد صلاة العصر، ولو أنا قلنا: إن عُمْر الدنيا يساوي نهاراً، فما بقي من عُمْر الدنيا إلا ما يساوي من صلاة العصر إلى صلاة المغرب، وأما ما سبق من أعمار الأمم قبلكم فهو مثل ما بين الفجر إلى العصر.
وأعظم ما يمكن أن نستفيد من هذا الحديث هو اقتراب الساعة، وانقضاء الدنيا، وأنتم تعلمون أن هذا الحديث وغيره مما سار في فلكه قد استخدمه أقوام في تحديد وقت الساعة.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (بعثت والساعة هكذا وأشار أو وجمع بين السبابة والوسطى).
وقدم أنس بن مالك على الوليد بن عبد الملك فسأله: ماذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر به الساعة؟ قال: سمعته يقول: (أنتم والساعة كهاتين).
ومن أسمائه عليه الصلاة والسلام الحاشر، قال: (أنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمه) يعني: لا نبي بعدي.
وعند أحمد من حديث خالد بن عمير قال: خطب عتبة بن غزوان فقال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد: فإن الدنيا قد آذنت بصرم) يعني: لم يبق منها إلا الشيء اليسير، فقد أعلمت وأخبرت أنها مولية، (وولت حذاء، ولم يبق منها الا صبابة كصبابة الإناء يتصابها صاحبها، وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها، فانتقلوا بخير ما بحضرتكم) يعني: استغلوا هذه الدنيا بالأعمال الصالحة والطاعة، (فإنه قد ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفير جهنم فيهوي فيها سبعين عاماً ما يدرك لها قعراً، والله لتملؤنها، أفعجبتم؟! والله لقد ذكر لنا أن ما بين مصارع الجنة مسيرة أربعين عاماً، وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام).
وقال الإمام ابن كثير في انشقاق القمر: قد وقع في زمانه عليه الصلاة والسلام، كما ورد ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة، وقد ثبت في الصحيح عن ابن مسعود أنه قال: (خمس قد مضين: الروم، والدخان، واللزام، والبطشة، والقمر).
قالوا: أما انشقاق القمر فهذا أمر متفق عليه بين العلماء أنه قد وقع في زمان النبي عليه الصلاة والسلام، وأنه أحد المعجزات الباهرة، وهذا ليس محل خلاف مثل الدخان.
ثم قال: ذكْر الأحاديث الواردة في انشقاق القمر: ومنها: سؤال أهل مكة النبي عليه الصلاة والسلام أن يريهم آية، قال: فانشق القمر بمكة مرتين.
وعند البخاري: (أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، فأراهم القمر شقين حتى رأوا حراء بينهما).
ورواية جبير بن مطعم عند الإمام أحمد قال: (انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فلقتين: فلقة على هذا الجبل، وفلقة على هذا الجبل، فقالوا: سحرنا محمد، ثم قالوا: إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم).
ولذلك جاء في رواية: (فاسألوا المسافرين، فلما قدم المسافرون سألوهم، فقالوا: رأينا الذي رأيتم).
وجاء عن ابن مسعود: (انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة) والمقصود به: النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا لقب له؛ لأن جده من جهة أمه كان ملقباً بـ أبي كبشة أو كنيته أبو كبشة.
(ثم قالوا: انظروا ما يأتيكم به المسافرين، فإن محمداً لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم، فجاء المسافرون فقالوا: نحن رأينا أن القمر انشق نصفين).
وعن عبد الله قال: (انشق القمر بمكة حتى صار فلقتين فقال كفار قريش: هذا سحر سحركم به ابن أبي كبشة، ثم قالوا: فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق، وإن كانوا لم يروا مثل ما رأيتم فهو سحر سحركم به، فسألوا المسافرين الذين قدموا من كل وجهة -من الشمال والجنوب والشرق والغرب- فقالوا: نحن رأيناه كذلك، فسكت أهل مكة).
لأن المماحل والمناظر والمجادل يجادل عن رأيه وهواه إلى آخر نفس يتنفسه، وكنت متوقعاً أن أهل مكة سيقولون(57/13)
شرح صحيح مسلم - كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - مثل المؤمن كالنخلة
المؤمن في هذه الحياة معرض للابتلاء؛ وذلك لتكفير سيئاته، أو لرفعة درجاته، وذلك يتطلب منه الصبر والاحتساب لكي ينال هذه الفضائل.
وأما الكافر فإنه يتقلب في نعيم الدنيا، ويستدرجه الله تعالى بالنعم ليأخذه في النهاية ولا يفلته.
والإنسان في هذه الدنيا له قرين من الجن، وقرين من الملائكة، فذاك يؤزه على الشر، والآخر يحذره منه، وقد أيس الشيطان أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكنه يسعى بينهم بالتحريش.(58/1)
باب مثل المؤمن كالزرع ومثل الكافر كالشجر الأرز
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
الباب الرابع عشر: مثل المؤمن كالزرع، ومثل الكافر كشجر الأرز: الأرز هو شجر الصنوبر أو ما يشبهه.(58/2)
شرح حديث: (مثل المؤمن كمثل الزرع)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الأعلى عن معمر عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة -إذا روى سعيد عن أبي هريرة فهو سعيد بن أبي سعيد - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الريح تميله)].
وفي رواية: [(تفيئه)]، أي: تميله، فهما لفظان معناهما واحد.
والفيء: هو ظل القائم إذا زالت الشمس، فلو جعلت شيئاً عمودياً على الأرض في وقت الظهيرة فإنه لا يكون له ظل إلا إذا زالت الشمس، والفيء هو ظل ما بعد الزوال، وأما ما قبل الزوال فلا يسمى فيئاً.
ومعنى الحديث: أن الريح تجعل للزرع فيئاً وظلاً لأنها تؤثر في صفاته، فتحركه وتميله.
قال: [(ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء)].
والبلاء: سمة في الإيمان دائماًَ؛ ولذلك يضرب النبي عليه الصلاة والسلام المثل الأعلى للأنبياء وهم أفضل الخلق على الإطلاق، ومع هذا فهم أكثر الناس بلاءً؛ لإثبات السنة الكونية في أهل الصلاح، وأهل العلم، وأهل الاستقامة: أن البلاء يصب عليهم صباً، فإما أن تكون عندهم هفوات من الذنوب؛ فتكفرها هذه البلايا، وإما ألا يكون عندهم معصية ولا هفوة؛ فإذا كان الأمر كذلك فإن الله تعالى يبتليهم حتى يرفع درجتهم.(58/3)
فوائد البلاء الذي يحل بالمؤمن
فالبلايا والأمراض وسائر الهموم والغموم التي تنزل بالعبد المؤمن لها فائدتان: الأولى: إن كان العبد صاحب ذنب؛ فالله تعالى يرسل إليه البلاء ليغفر له ذنبه، وأنتم تعلمون أن كل هم أو غم أو نصب أو وصب ينزل بالمرء إلا كفر الله تعالى به من خطاياه.
الثانية: فإن لم يكن له خطيئة، وقل أن يكون عبد كذلك، وربما ينزل البلاء وحجمه أعظم من حجم الذنب، فيغفر الذنب، ويرفع الدرجات.
قال: [(ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز لا تهتز حتى تُستحصد)].
يعني: تختلع من جذورها، فالمنافق تنزل عليه البلايا لكنها لا تكفر ذنبه، ولا درجة له حتى ترفعها.
فالنبي عليه الصلاة والسلام يعقد مقارنة بين المؤمن والكافر، أو المنافق، والمنافق كافر، فبعض النصوص ذكرت أنه منافق، والبعض الآخر ذكرت أنه كافر، فالمقارنة والموازنة الآن بين المؤمن وبين الكافر.(58/4)
عدم نزول البلاء بالعبد ليس دليلاً على محبة الله له
وليس عدم نزول البلاء بالعبد دليل على محبة الله تعالى، يقال: فلان لم يمرض قط فلان لم يشف قط فلان لم يتعب قط، ويقولون: هذا دليل على محبة الله له، فهذا ليس دليلاً، ولا يصلح أن يكون دليلاً، كما أن نزول البلاء باستمرار على العبد ليس دليلاً على غضب الله تبارك وتعالى على العبد، بل ربما يكون علامة من علامات محبة الله له، فهو يكفر عنه ذنبه في الدنيا؛ حتى يأتي إلى ربه يوم القيامة وليس عليه ذنب.
وإن المؤمن ليبتلى، ثم يبتلى، ثم يزاد له في البلاء، ثم يصب عليه البلاء صباً؛ حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة، فليس نزول البلاء علامة بغض الله لهذا العبد، كما أن الصحة والعافية والسعة في الرزق والمال والدنيا ليست علامات على محبة الله لهذا العبد، بل ربما تكون على عكس ذلك، ففي هذا الحديث الموازنة بين العبد المؤمن وبين العبد الكافر.
فالعبد المؤمن ينزل عليه البلاء دائماً، فكلما قام من بلاء وقع في بلاء آخر، وكلما نجا من مصيبة وقع في مصيبة أخرى، وهذا هو حال المؤمن عند الله عز وجل.
وأما المنافق فربما لا يصيبه شيء من ذلك، فيعيش في عافية وصحة ورغد من العيش؛ حتى إذا أخذه الله تعالى لم يفلته، بل يستأصل شأفته مرة واحدة؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز)، لأنها ثابتة في الأرض، لا يؤثر فيها الهواء ولا الرياح ولا شيء من هذا، حتى يأتيها الحاصد فيحصدها مرة واحدة.
قال: (لا تهتز حتى تُستحصد، أو تَستحصد).
فشجرة الأرز لا تتغير حتى تنقلع مرة واحدة، كالزرع الذي انتهى يبسه، وأما الزرع فإن الرياح تميله يمنة ويسرة فوق وتحت.(58/5)
شرح حديث: (مثل المؤمن كمثل الخامة)
قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن نمير ومحمد بن بشر العبدي قالا: حدثنا زكرياء بن أبي زائدة عن سعد بن إبراهيم المدني قال: حدثني ابن كعب بن مالك عن أبيه كعب، وكعب بن مالك هو أحد الثلاثة الذين تخلفوا، وقد سمعتم من قبل توبته، وابنه: إما أن يكون عبد الله، وإما أن يكون عبد الرحمن، وكلاهما قد روى هذا الحديث عن أبيه عن النبي عليه الصلاة والسلام.
[قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع)].
الخامة: هي القصبة اللينة، أو العود اللين، فإذا أتته الرياح تؤثر فيه يمنة ويسرة فوق وتحت.
[(تفيئها الريح، تصرعها مرة وتعدلها أخرى)].
تصرعها، يعني: تخفضها الريح مرة، فمثلاً أعواد القمح تأتي الريح بها هكذا مرة، وتأتي بها هكذا مرة، بخلاف شجرة الأرز التي هي الصنوبر؛ فإنها صلبة جامدة منتصبة غير نائمة، لا تؤثر فيها الرياح.
قال: [(حتى تهيج)]، يعني: حتى تيبس، ويأتي أوان قطافها وجمعها.
[(ومثل الكافر كمثل الأرزة المجذبة على أصلها، لا يفيئها شيء)]، ومعنى (المجذبة)، أي: الثابتة في الأرض المنتصبة، التي لا تتأثر بالرياح، ولا غيرها.
قال: [(حتى يكون انجعافها مرة واحدة)].
(انجعافها) يعني: حصادها وانقلاعها من الأرض مرة واحدة.(58/6)
كثرة نزول البلاء بالمؤمن دون الكافر
قال: [حدثني زهير بن حرب حدثنا بشر بن السري -وهو المعروف بـ أبي عمرو الأفوه البصري، نزيل مكة وسكنها، طعن فيه برأي جهم، ولكنه اعتذر عن هذا الرأي وتاب منه- وعبد الرحمن بن مهدي قالا: حدثنا سفيان -وهو الثوري - عن سعد بن إبراهيم عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع، تفيئها الرياح، تصرعها مرة وتعدلها -أي: أخرى- حتى يأتيه أجله)] أي: حتى تيبس ويأتيها ميعاد حصادها، [(ومثل المنافق مثل الأرزة المجذبة التي لا يصيبها شيء حتى يكون انجعافها مرة واحدة)].
وفي رواية: [(ومثل الكافر كمثل الأرزة)] بدل: (مثل المنافق)، والمعنى واحد؛ لأن المنافق كافر؛ لأنه أظهر الإسلام، أو عمل بمقتضيات الإسلام الظاهرة، ولكنه لم يعمل بمقتضياته الباطنة، بمعنى: أنه أبطن الكفر وأظهر الإسلام، وعمل بجوارحه، فظاهره الإسلام، ولكنه ليس مسلماً في الحقيقة.
قال العلماء: معنى هذا الحديث: أن المؤمن كثير الآلام في بدنه أو أهله أو ماله؛ وذلك مكفر لسيئاته، ورافع لدرجاته، مكفر لسيئاته إن كانت عنده سيئات، ورافع لدرجاته إن لم يكن عنده سيئات.
وأما الكافر فقليل الآلام في نفسه وأهله وماله؛ ولذلك تجد الواحد من الكفار، خاصة في أوربا أو أمريكا تراه مثل العجل، كما قال ربنا عنهم: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4]، فهو يمسك السندوتش بيده اليمين، والعصير بيده الشمال، والكوب العصير فيه حوالي خمسة لتر، حتى إنك تتعجب وتقول: هل يستطيع أن يشرب هذا الكوب كله؟ فقد ألفوا أن يأكلوا هذا السندوتش، وأن يشربوا هذا المشروب.
فهم في الطول، وجمال المنظر، وجمال الشعر والعين وغير ذلك بالمحل المعروف لدى الجميع، ولكن الله تبارك وتعالى حكم عليهم بأنهم قليلو الآلام في أبدانهم وأنفسهم وأموالهم وأهليهم، وإن وقع أو نزل بالكافر أو بالمنافق بلاء فإنه لا يكفر من سيئاته؛ لأن الكفر عائق دون الكفارة والكفر عائق دون تكفير ذنوبه، بل يأتي بها يوم القيامة كاملة، وإذا كان في نعيم ففي مقابل عمله الصالح في الدنيا، فالله تعالى ينعم عليه حتى يأتي يوم القيامة وليس له أجر.(58/7)
الفرق بين البلاء والابتلاء
والفرق بين البلاء والابتلاء خلاف لفظي، وإن كان بعض أهل العلم قد فرق بين البلاء والابتلاء، فالابتلاء ينزل على المؤمن حتى يختبره الله عز وجل، وضربوا لذلك أمثلة ومن ذلك: أن الله تعالى لما أمر إبراهيم عليه السلام أن يذبح ولده؛ لم يرد الله تعالى من ذلك إنفاذه، بل كان للابتلاء والاختبار، ولو أن هذا الأمر أراد الله تعالى إنفاذه كان لا بد أن ينفذ، ولم يدرك الله إسماعيل بهذا الكبش الفداء.
وكذلك موسى عليه السلام لما فقأ عين ملك الموت، عندما قال ربنا لملك الموت: انزل فاقبض روح عبدي فلان، كان هذا أمر للابتلاء والاختبار، ولذلك لم يتمكن ملك الموت من قبض نفس موسى عليه السلام في أول مرة، ولو أن الله تعالى أراد بهذا الأمر أولاً الإنفاذ دون الابتلاء؛ فإنه كان لا بد أن ينفذ.
فالابتلاء يراد به الاختبار، فالمصائب التي تنزل بالعبد المقصد منها النظر هل يصبر العبد أو لا يصبر؟ وهل يشكر أو لا يشكر؟ وهل يحمد الله تعالى على ما نزل به من ضر أو لا يفعل؟ وهل يتضجر؟ وهل يسخط؟ وغير ذلك.
وأما البلاء فإن البلاء ينزل على المؤمن والكافر.(58/8)
باب مثل المؤمن مثل النخلة
الباب الخامس عشر: باب مثل المؤمن مثل النخلة.
اختلف العلماء هل النخل من جنس الشجر، أو ليس من جنسه؟ وهل يطلق على غير نخل البلح أو التمر، أو الرطب، ولو من باب المجاز، أم أن كل ذلك أشجار إلا نخل البلح أو الرطب؛ فإنه يطلق عليه نخل؟ والراجح: أن لفظ النخلة يطلق مجازاً على الأشجار، كما أن نخلة البلح يطلق عليها شجرة أحياناً، وهذا قد ورد في لسان العرب مراراً.(58/9)
شرح حديث: (إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم)
قال: [حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة بن سعيد وعلي بن حجر السعدي -واللفظ لـ يحيى، أي: لـ يحيى بن أيوب - قالوا: حدثنا إسماعيل بن جعفر أخبرني عبد الله بن دينار أنه سمع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم)].
وفي رواية: [(مثل المؤمن فحدثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي)]، أي: اختلفت أقوال الناس: فقيل: هي شجر الزيتون شجر الرمان شجر المانجو شجر الخوخ شجر كذا شجر كذا، أي: اختلفت أقوالهم وتضاربت أي شجرة هي؟ خاصة: وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: (إن من الشجر شجرة)، ولم يقل: نخلة، ولو قال: نخلة؛ لأجاب عنه أصغر أهل المجلس؛ لأن الغالب أن النخلة عند الإطلاق تطلق على نخل البلح؛ ولذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام إنما استخدم التمويه في هذا السؤال؛ حتى يختبر ذكاء وأفهام الحاضرين، فقال: [(إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وأنها مثل المسلم فحدثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: ووقع في نفسي أنها النخلة)].
أي: حدثتني نفسي أنها النخلة، [(فاستحييت)] أي: لصغر سنه، وكان كبار الصحابة موجودين، وكان فيهم أبو بكر وعمر، ولم يجيبا على هذا السؤال، أفيطلع عبد الله بن عمر ابن العشر سنوات يجيب على هذا السؤال؟! فسبب استحيائه أن أكابر الناس سناً وفضلاً وعلماً كانوا موجودين، وهم أعلم بحال البادية وأشجارها، وحال الحيطان والبساتين، ومع هذا لم يجيبوا بشيء، ولا أظن أن أبا بكر وعمر امتنعا عن الجواب لأنهما لم يعلما ذلك، وإنما لعلمهم أن النبي عليه الصلاة والسلام إنما طرح هذا السؤال ليستحث أفهام الحاضرين، أو بعض الحاضرين.
ولذلك ربما يسأل عالم سؤالاً في مجلس من المجالس، وفيه من أهل العلم من فيه، فإذا أراد أحد أهل العلم أن يجيب على السؤال قال السائل: أنت تعلم أني ما قصدتك، وإنما قصدت أن يتعلم من لم يكن متعلماً، يعني: قصدت أن يجيب غبراء أهل المسجد وعامة أهل المجلس، وأما أنت فيقيناً أنك تعلم ذلك، وأن هذا السؤال ليس موجهاً إليك؛ ولذلك لا يسمع منه الإجابة، فربما يكون كبار أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام امتنعوا عن ذلك لهذا السبب.
فـ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إنما فهم أنهما لم يجيبا، أو أن الكبار لم يجيبوا عن هذا السؤال؛ فاستحيا لأنهم لم يجيبوا، كما أنه استحيا أن يتقدم بين يدي كبار الصحابة بالجواب.(58/10)
استحباب إلقاء العالم المسألة على المتعلم ليختبر فهمه، وتوقير الصغير للكبير
قال: [(ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت، ثم قالوا: يا رسول الله! حدثنا ما هي؟ قال: هي النخلة، قال عبد الله: فذكرت ذلك لـ عمر -أي: لأبيه- قال: لئن تكون قلت: هي النخلة أحب إلي من كذا وكذا).
يعني: يا ليتك يا عبد الله! قلت: إنها النخلة، ولم تبال بالأكابر الموجودين.
وفي هذا جواز ضرب الأمثال والأشباه، واستحباب إلقاء العالم المسألة على المتعلم ليختبر أفهامهم، ويرغبهم في الفكر والذكر والاعتناء بطلب العلم.
كما أن فيه توقير الكبار؛ لفعل عبد الله بن عمر، حيث إنه لم يتكلم في حضرة الكبار، خلافاً لما يفعله كثير من الإخوة، فلو أن سائلاً سأل أحد أهل العلم فإنك تجد أن كثيراً ممن يقف ويلتف حول الشيخ المفتي يجيب عن المسألة بجواب يختلف عن جواب صاحبه، والمفتي لم يتكلم ولم يجب بشيء في المسألة، ويسمع من هذا ومن ذاك، ولا يرضى لا بإجابة هذا ولا بإجابة ذاك، وفي هذا من سوء الأدب ما فيه.
وفيه سرور الإنسان بنجابة ولده وذكائه وتوقده وحسن فهمه، فقول عمر رضي الله عنه: (لئن تكون قلت: هي النخلة أحب إلي من كذا وكذا) أراد بذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو لابنه، ويعلم حسن فهمه ونجابته.(58/11)
فضل النخل، ووجه الشبه بين المسلم والنخلة
كما أن هذا الحديث فيه إثبات فضل النخل، وذلك هو وجه الشبه بين النخلة وبين المسلم أو المؤمن، قال النووي: قال العلماء: شبه النخلة بالمسلم لكثرة خيرها، ودوام ظلها، وطيب ثمرها، ووجوده على الدوام، فإنه من حين يطلع ثمرها لا يزال يؤكل منه حتى ييبس، وبعد أن ييبس يتخذ منه منافع كثيرة، ومن خشبها وورقها وأغصانها، فيستعمل جذوعاً وحطباً وعصياً ومخاصر وحصراً وحبالاً وأواني وغير ذلك.
ثم آخر شيء منها: نواها ينتفع به علفاً للأبل، ثم جمال نباتها، وحسن هيئتها، فهي منافع كلها وخير وجمال.
كما أن المؤمن خير كله من كثرة طاعاته، ومكارم أخلاقه، ومواظبته على صلاته وصيامه وقراءته، وذكره والصدقة والصلة وسائر الطاعات، وغير ذلك؛ فهذا هو الوجه الصحيح في تشبيه النخلة بالمسلم.
كما أن المؤمن نفعه دائم، مثل النخلة التي لا يسقط ورقها، أي: لا يقل نفعها، فنفعها دائماً على مدار العام والعمر، وكذلك المؤمن دائم النفع وكثير النفع ونفعه متعدٍ.(58/12)
شرح تشبيه المسلم بالنخلة من طريق أخرى
قال: [حدثني محمد بن عبيد الغبري حدثنا حماد بن زيد حدثنا أيوب -وهو ابن أبي تميمة السختياني البصري - عن أبي الخليل الضبعي وهو صالح بن أبي مريم البصري] وثقه ابن معين والنسائي، ولكن ابن عبد البر جازف على غير عادته، وقال: لا يحتج به، وابن معين معلوم أنه من المتشددين جداً في النقد، والنسائي أشد منه، حتى قيل: إن للنسائي في سننه شرطاً هو أقوى من شرط البخاري في صحيحه؛ ولذلك العلماء مختلفون: هل سنن أبي داود مرتبتها بعد الصحيحين أو النسائي؟ فجماهير المحدثين على أن سنن النسائي في المرتبة والقوة بعد الصحيحين، وقبل سنن أبي داود؛ لأن النسائي له شرط في كتابه أسدُّ وأشدُّ وأقوى من شرط أبي داود، بل من شرط البخاري ومسلم، لكنه يخالف ذلك كثيراً، وعلى أية حال: هو لم يشترط على نفسه الصحة، ولم يسم كتابه بالصحيح.
قال: [عن أبي الخليل الضبعي عن مجاهد -وهو مجاهد بن جبر المكي تلميذ ابن عباس رضي الله عنهما- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً لأصحابه: (أخبروني عن شجرة مثلها مثل المؤمن؛ فجعل القوم يذكرون شجراً من شجر البوادي، قال ابن عمر: وألقي في نفسي أو رُوعي)]، وليس رَوعي؛ والرُّوع بضم الراء هو النفس، وأما الرَّوع فهو الرعب والفزع.
[(قال ابن عمر: وألقي في نفسي أو رُوعي أنها النخلة، فجعلت أريد أن أقولها)] يعني: يهم أن يقول: هذه النخلة، [(فإذا أسنان القوم)] يعني: أكبر الناس سناً [(فأهاب أن أتكلم)] يعني: كلما أراد أن يتكلم ويقول: يا رسول الله! هي النخلة، يرى أسنان القوم فيرجع عن ذلك، ويهاب أن يتكلم في حضرتهم، فلما سكتوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [(هي النخلة)].(58/13)
حكم الأخذ من بستان الغير
قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وابن أبي عمر قالا: حدثنا سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: (صحبت ابن عمر إلى المدينة فما سمعته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حديثاً واحداً)].
يعني: في طول الرحلة هذه لم يسمعه يحدث إلا بحديث واحد.
[قال: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتي بجمار) فذكر الحديث بطوله].
الجمَّار: هو عبارة عن شحم لين يكون في داخل النخل، وهو مما يؤكل، وهذا الجمار يسمى كذلك: كثر بالثاء، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا قطع في ثمر ولا كثر) أي: لا قطع لليد في ذلك.
فإذا نزلت في بستان أحد الناس وأكلت من ثمره حتى ولو زاد المأكول عن ربع دينار؛ فإنه لا تقطع يدك فيه، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا قطع إلا في ربع دينار فصاعداً).
وفي رواية: (لا قطع في أقل من ربع دينار).
فتبين أن حد السرقة الذي يستوجب قيام الحد على السارق أن يكون ربع دينار، يعني: حوالي خمسين جنيهاً مصرياً، والدينار من الذهب، فلا قطع في أقل من خمسين جنيه.
فمن نزل أرضاً فيها بستان وأكل منه ما قيمته ربع دينار فصاعداً لا قطع عليه، لكنه لا يحمل معه شيئاً؛ لأن الشرع نهانا أن نحمل شيئاً من أرض الغير إلا بإذن صاحب الأرض، فإذا لم يكن صاحب الأرض موجوداً، أو لا إذن؛ فيحل لي أن آكل من هذه الأرض، شريطة ألا أحمل معي، لا أنا ولا من معي.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا قطع في ثمر ولا كثر) يعني: لو أن واحداً في هذا الوقت أخذ هذا الكثر أو هذا الجمار من النخل، حتى وإن زاد ثمنه عن ربع دينار عن دينار، فلا قطع فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الجمار مشاعاً للناس.(58/14)
اعتبار القرائن في الشريعة
وفي هذا الحديث اعتبار القرائن، فعندما ترى شخصاً أو أخاً من الإخوة يدخل عمارة فيها امرأة معروفة بالبغاء، وهذا الأخ يبدو منه التفريط في الذكر والتفريط في العبادة وغيرهما من علامات التفريط الكثيرة في جوانب من العلم والعمل، ثم هو يختم ذلك بأنه يدخل هذا البيت المشبوه لأن فيه امرأة بغياً معلومة البغاء، وقد ذاع أمرها، وانتشر صيتها بين الناس أنها امرأة بغي، فهذه قرائن، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لو كنت مقيماً الحد على أحد بغير بينة؛ لأقمته على هذه) وأشار إلى امرأة؛ لأن الشهرة قامت مقام الرؤية العينية.
وفي هذا جواز انتشار الأمر والتحدث عن أهل المعاصي والفسوق؛ ولا يقوم مقام الحد؛ لأن الحد يحتاج إلى رؤية، فالمعصية هنا ثبتت في انتشارها وذيوعها بالقرائن.
فيجوز أن أقول: هذا الأخ إنسان مشبوه، وأحذر منه أصحابه الذين لا يعلمون عنه شيئاً من ذلك، وهو معلن بفسقه، ومقصر في عبادته، ولا يبالي بذلك؛ فيجوز أن نجهر في وجه هذا العاصي أو الفاسق.
فإذا كان الأمر كذلك؛ فقد أحذر من فلان، فقد كان يحضر معنا الجماعة وفجأة قطع الجماعة، وكان يقرأ القرآن ويختمه في كل شهر، أو في أقل من ذلك أو أكثر، وصارت له مدة من الزمان لم يفعل شيئاً من ذلك، وكان مصاحباً لأهل الإيمان والتقى المعروفين بالصلاح وغير ذلك، وترك صحبتهم بغير عذر، ثم صاحب الفسَّاق، وصاحب فلاناً وفلاناً، ثم في آخر الأمر يدخل بيتاً مشبوهاً، وقد بحثنا فلم نجده دخل شقة من الشقق التي في العمارة إلا هذه، فهذه كلها قرائن، وأنا لا أثبت أنه زان، ولكني أثبت أنه قد انحرف.
ولذلك لما جيء للنبي عليه الصلاة والسلام بجمار قال: (إن من الشجر شجرة مثلها مثل المسلم).
إذاً: فلابد للمستمع أن يربط السؤال بالقرينة مباشرة، لماذا الجمار بالذات عندما وضع أمام النبي عليه الصلاة والسلام قال النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه ذلك، والجمار لا يطلع في أي شجرة من الأشجار إلا في شجر النخل؟ إذاً: ففي هذا الحديث إثبات جواز بل استحباب واستحسان الاعتماد على القرائن في إثبات صحة الأمر أو نفيه.
قال: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أخبروني بشجرة كالرجل المسلم لا يتحات ورقها)]، يعني: لا يسقط ورقها.
[(قال ابن عمر: فوقع في نفسي أنها النخلة، ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان؛ فكرهت أن أتكلم أو أقول شيئاً، فقال عمر: لئن تكون قلتها أحب إليَّ من كذا وكذا)].(58/15)
باب تحريش الشيطان
الباب السادس عشر: باب تحريش الشيطان، وبعثه سراياه لفتنة الناس، وأن مع كل إنسان قريناً.
إن مع كل إنسان قريناً بل قرينان: قرين من الشيطان، وقرين من الملائكة، فهما قرينان يتدافعانه، والمرء أحياناً يشعر في نفسه بالقرينين، فمثلاً قد تمشي في الشارع فترى امرأة جميلة، فيدعوك قرين السوء إلى النظر إليها، ويمنعك واعظ الإيمان والتقوى في قلبك، والذي يحركه ويذكره فيك قرين الخير من الملائكة، فهو الذي ينهاك عن ذلك، فأنت أحياناً تشعر بالصراع الداخلي أمام المعصية، فتارة تقبل عليها وأنت نادم متحسر مستح، تتمنى لو أن الله تعالى صرفك عن ذلك، وهذا التحسر والندم وتمني الانصراف عن هذه المعصية إنما هو بدافع من الملك القرين الذي معك.
قال: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم، قال إسحاق: أخبرنا، وقال عثمان: حدثنا جرير -وهو ابن عبد الحميد الضبي - عن الأعمش - سليمان بن مهران الكوفي - عن أبي سفيان طلحة بن نافع الواسطي -من واسط في العراق، ولكنه نزل مكة، وتتلمذ على يد جابر بن عبد الله الأنصاري - عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب)].
يعني: أن الشيطان مل وتعب من أن يوقع الموحدين في جزيرة العرب في الشرك، وأن يسجدوا له، أو يصلوا له، أو غير ذلك.
[(ولكن بالتحريش بينهم)]، يعني: هو لما أيس من الشرك رضي منهم بالتحريش.(58/16)
مداخل الشيطان على العبد
وبعض علمائنا يقول: مداخل الشيطان إلى العبد من ثلاثة محاور: فهو يجتهد عليه بالشرك، فإن وجد هذا الباب مغلقاً في وجهه، وأن العبد عنده من التوحيد ما يحرسه ويحميه في هذا الباب؛ اجتهد عليه في باب البدعة؛ لأن البدعة هي الطريق إلى الشرك، فهو لما فشل أن يوقعه في الشرك مباشرة؛ لف له من طريق خلفي؛ ليوقعه في الشرك أيضاً، وهو باب البدع.
فإذا عجز أن يدخل للعبد من باب البدع، فهو صاحب سنة قائم بها وعليها، وحريص على نفسه أن يقع في شيء من هذا؛ اجتهد عليه في باب المعاصي.
فالمحاور ثلاثة: المحول الأول: الشرك.
الثاني: البدعة.
الثالث: المعصية الكبيرة والصغيرة.
ومعنى هذا الحديث: أنه أيس أن يعبده أهل جزيرة العرب، ولكنه سعى في التحريش بينهم بالخصومات والشحناء والبغضاء والحروب والفتن وغيرها.(58/17)
سلامة جزيرة العرب من انتشار الشرك فيها
وهذا الحديث من أعلام نبوة النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن التحريش هو الموجود في الأمة، ولا يوجد في جزيرة العرب من يعبد الشيطان، والذي يعبد الشيطان موجود هنا بمصر، وأما جزيرة العرب فلا، فهي محمية ومحروسة بتوحيد الله عز وجل، ودعوة التوحيد فيها ظاهرة، فلما أيس الشيطان هناك جنح إلى هنا، فوجدنا أناساً طيبين وطبائعنا سهلة، فضحك علينا في كل واد، فلا يطلب شيئاً إلا ونحن طوع بنانه قبل أن يتكلم، فنحن أناس مسالمون حتى مع الشيطان.(58/18)
فتنة الشياطين للناس
[وقال جابر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن عرش إبليس على البحر، فيبعث سراياه فيفتنون الناس، فأعظمهم عنده أعظمهم فتنة)].
فأحسن واحد عند إبليس هو أعظمهم فتنة للناس، وأعظم فتنة بلا شك هي الشرك.
وفي هذا الحديث أمور: أولاً: أن العرش هو سرير الملك، فيقال: عرش الملك الفلاني، أي: كرسي الملك الذي يجلس عليه، ومقعده الخاص به، ومعناه: أن مركز إبليس هو البحر، فيجلس على سطح الماء، ثم يوزع سراياه وبعوثه وجيوشه في نواحي الأرض.
قال: [وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة)].
يعني: يدني منه ويقرب منه أعظم الأبالسة والشياطين فتنة.
[(يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا؛ فيقول: ما صنعت شيئاً)].
يعني: ما جئت به، وما أنت فخور به لا يساوي شيئاً.
قال: [(ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته، قال: فيدنيه منه ويقول: نعم أنت!)].
يعني: أنت أحسن واحد؛ ولذلك العلماء يقولون: الأصل في النكاح الدوام، وأن الطلاق مكروه إلا لعلة، فأما أن نأخذ الكراهة من حديثه عليه الصلاة والسلام: (إن أبغض الحلال إلى الله الطلاق)، فهذا حديث ضعيف، والحديث السابق يحل محل الحديث الضعيف ويغني عنه.
[قال الأعمش: أراه قال: (فيلتزم) يعني: يحضنه ويقبله ويدنيه ويقربه منه؛ لأنه استطاع بحيله وألاعيبه أن يفرق بين الرجل وبين امرأته.
قال: [حدثني سلمة بن شبيب حدثنا الحسن بن أعين حدثنا معقل -ومعقل بن عبيد الله الجزري أبو عبد الله العبسي - عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يبعث الشيطان سراياه فيفتنون الناس، فأعظمهم عنده منزلة أعظمهم فتنة)].(58/19)
مع كل إنسان قرين من الجن
قال: [وعن سالم بن أبي الجعد عن أبيه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا وقد وكِّل به قرينه من الجن)]، (وكِّل) بمعنى كلف.
[(قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: وإياي! إلا أن الله أعانني عليه فأسلم؛ فلا يأمرني إلا بخير)].
من العلماء من قال: (فأسلم) من الإسلام، أي: أن الله تعالى أعان نبيه على قرينه من الشيطان حتى أسلم، أي: دخل في الإسلام؛ فهو حينئذ لا يأمره إلا بخير، هذا على تقدير فتح الميم في كلمة: (أسلم)، فحينئذ هو لا يأمرني إلا بخير، وهذا هو الراجح من الكلام.
وهناك تقدير ثان: (إلا أن الله أعانني عليه فأسلمُ)، أي: فأسلمُ من شروره، أي: من السلامة، لا من الإسلام، أي: فإنني حينئذ أسلم من شروره.
ومنهم من قال: (أسلم)، بمعنى استسلم، خاصة وأن بعض الروايات -ومنها رواية عند البخاري - أنه قال: (إلا أن الله أعانني عليه فاستسلم)، ومعنى (استسلم): انقاد وأذعن وأسلم إسلاماً حقيقياً، وليس إسلاماً ظاهرياً كإسلام الكثير من الناس.
وفي هذا الحديث إشارة إلى التحذير من فتنة القرين، ووسوسته، وإغوائه، فأعلمنا صلى الله عليه وسلم بأن القرين وهو الشيطان معنا؛ لنحترز منه بقدر الإمكان، والأمة مجمعة على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الشيطان في جسمه وخاطره ولسانه، فلا يصيبه شيء من ذلك.
وفي رواية أخرى قال: [(وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة)]، أي: ما منا من أحد إلا ومعه قرينان: قرين من الجن، وقرين من الملائكة.
قال: [وعن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها حدثت عروة بن الزبير: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من عندها ليلاً، قالت: فغرت عليه)]، أي: أصابتها الغيرة.
[(فجاء فرأى ما أصنع، فقال مالك يا عائشة! أغرت؟ فقلت: وما لي لا يغار مثلي على مثلك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقد جاءك شيطانك؟)].
وهذا الحديث لعله هو المتمم لحديث: (أحشيا رابية)، (فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة عائشة إلى المقابر ظنت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج إلى إحدى نسائه، فخرجت خلفه وتبعته حتى أتى المقابر في ظلمة الليل، فرأى كالشبح، قالت: فدنوت منه حتى أتى المقابر فرفع يديه وظل يدعو لأهل البقيع فأسرع النبي عليه الصلاة والسلام خلف هذا الشبح، حتى دخل في بيت عائشة، فوجدها قد نامت في فراشها، ولكن فراشها يرتفع وينخفض)، وليس هذا شأن إنسان نائم، ولذلك أيقن النبي صلى الله عليه وسلم وأدرك فوراً أن عائشة هي الشبح الذي كان قد رآه في الطريق، (فنهزها في صدرها نهزة وقال: أحشيا رابية، أتظنين أن يحيف الله عليك ورسوله؟)]، يعني: هل أنت متصورة أنني سأظلمك فأتركك وأذهب عند غيرك؟! فلعل هذا الحديث من هذا الباب.
قال: [(قالت: يا رسول الله! أومعي شيطان)]، أي: هل زوجة النبي وبنت الصديق معها شيطان؟! [(قال: نعم، قلت: ومع كل إنسان؟ قال: نعم، قلت: ومعك يا رسول الله؟! قال: نعم، ولكن ربي أعانني عليه حتى أسلم)].
أي: على تقدير الروايتين: حتى أسلمَ أو أسلمُ.(58/20)
باب لن يدخل أحد الجنة بعمله، بل برحمة الله تعالى
الباب السابع عشر: لن يدخل أحد الجنة بعمله، بل برحمة الله تعالى.
إن الذي يدخل النار إنما يدخلها بعمله، والذي يدخل الجنة إنما يدخلها برحمة الله، والعمل سبب في ذلك، الله تبارك وتعالى قبل أن يخلق الخلق علم أن من عباده من يدخل الجنة، ومن عباده من يدخل النار، ولذلك خلق الله تعالى الجنة وخلق النار، فجعل لأهل الجنة قسماً، وجعل لأهل النار قسماً.
وقال: (يا أهل النار! خلود فلا موت، ويا أهل الجنة! خلود فلا موت).
فالله عز وجل علم ذلك أزلاً، وأما العمل الذي يعمله الإنسان فلا يستحق به النعيم في الجنة، ولو قلت: أنا رجل أصلي وأصوم وأزكي وأعمل كل الطاعات، وأترك كل المعاصي، فنقول: إن العمل وحده لا يكفي لدخول الجنة.
ولو عمِّر عبد ستين عاماً، وكتب الله تعالى له عبادة ستين عاماً منذ أن ولد وإلى أن مات، وأنه من أهل الطاعات، ولم يقترف ذنباً قط؛ فالمعادلة التي يعرفها الناس: أنه يتنعم ستين سنة ثم يخرج، حتى وإن خرج لا إلى نعيم ولا عذاب، وهذا الأصل، ولما يعمل شخص لك خدمة، فإنك ستعمل له أنت أيضاً خدمة، فإذا قال لك: أنا خدمتك، فإنك تقول له: وأنا أيضاً قد خدمتك، وانتهت القضية على هذا، لكن تصور لو أن عبداً كافراً نطق بالشهادتين ثم مات بعدها فوراً، ولم يدرك صلاة ولا صياماً ولا زكاة ولا حجاً ولا شيئاً من الطاعات مطلقاً، فإنه يدخل الجنة، ويتنعم فيها نعيماً أبدياً سرمدياً لا نهاية له، لأنه قال: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ثم مات بعدها مباشرة، فهل كلمته هذه تساوي ذلك النعيم السرمدي الأبدي؟
الجواب
لا، لأن هذا العمل أو هذه الكلمة كانت سبباً في نجاته من النار ودخوله الجنة، وأما النعيم الذي يلقاه الإنسان في الجنة فهو فوق عناء الطاعة، وصبره على الامتناع عن المعاصي وغير ذلك، فهو مجرد سبب، وأما التنعم فهذا فضل الله تعالى.(58/21)
لا يلزم من وجود السبب وجود المسبب
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحدٌ الجنة بعمله) أي: لا يستحق الجنة بمجرد العمل، والعمل سبب، والسبب قد يتخلف، ولكن فضل الله تبارك وتعالى هو الذي يعم عباده، والإنسان الذي يضع البذرة في الأرض لا يلزم من ذلك أن تنبت هذه البذرة، وربما تموت، والذي يميتها هو الله عز وجل، وربما تحيا، والذي يحييها هو الله عز وجل، فوضع البذرة في الأرض سبب في الإنبات والثمر، وليس وحده بكاف في وجود الثمر، لماذا؟ لأن الله تعالى إذا أراد أن يرزق عبده الثمر بغير بذر لفعل ذلك، فهو على كل شيء قدير سبحانه وتعالى.
ولو أراد الله تعالى أن يرزقك الولد من غير زواج لفعل؛ لأنه على كل شيء قدير، ولو أراد الله تبارك وتعالى أن يشبعك بغير طعام، وأن يرويك بغير شراب لفعل، فهو مريد لذلك، وقادر عليه سبحانه وتعالى.
ولذلك أحياناً الإنسان قد يأكل ولا يشبع، وقد يشرب الماء ولا يرتوي، وقد يرتوي ثم هو سرعان ما يشعر بأنه قد عطش مرة أخرى.
إذاً: فالسبب قد يتخلف، فشخص يذاكر طوال السنة لأجل أن ينجح، لكن لا يلزم أن ينجح، مع أنه هنا قد حصل سبب النجاح والتفوق، فقد يمرض في ليلة من ليالي الامتحان، فيتخلف عن الامتحان، أو يذهب إلى الامتحان ولم يفتح عليه.
وكذلك الإنجاب يحتاج إلى نكاح، ويحتاج إلى رجل وامرأة، ومع ذلك فالله تبارك وتعالى خلق آدم بلا أب ولا أم، وخلق حواء من غير امرأة، خلقها من ضلع آدم.
وكذلك خلق الله تعالى عيسى من امرأة بغير نكاح ولا رجل، مع أن الأسباب لا بد منها، لكن ذلك ليس بلازم في قدرة الله عز وجل، فلا يدخل أحدنا عمله الجنة، وإنما العمل سبب لدخول الجنة.
وعند الحاكم (أن رجلاً عبد الله خمسمائة سنة، فلما جيء به بين يدي الله قال: ادخلوا عبدي الجنة برحمتي، قال: بل بعملي يا رب!).
فلما حصلت الموازنة بين نعمة الله عليه، وبين عبادته، وضعوا نعمة البصر فقط في كفة، والعبادة كلها في كفة ثانية؛ طاشت هذه العبادة، وغلبتها وثقلت بها نعمة واحدة من نعم الله وهي نعمة البصر، ثم إن الذي قوى ذلك على العبادة هو الله عز وجل، فلا منة على الله، {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17].(58/22)
شرح حديث: (لن ينجي أحداً منكم عمله)
قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث عن بكير -وهو بكير بن عبد الله الأشج - عن بسر بن سعيد المدني العابد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لن ينجي أحداً منكم عمله، قال رجل: ولا إياك يا رسول الله؟! قال: ولا إياي! إلا أن يتغمدني الله منه برحمة، ولكن سددوا)].
يعني: إذا لم تبلغوا الكمال في العبادة فلا أقل من أن تقتربوا منه؛ ولذلك جاء في رواية: [(فسددوا وقاربوا)].
والسداد هو سداد التوفيق، أو قمة التوفيق في العبادة، يعني: احرصوا على أن تبلغوا أعلى درجات الكمال في العبادة والعلم والعمل، فإن لم تبلغوا هذه المرتبة؛ فلا أقل من أن تجتهدوا في الوصول إليها.
قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أحد يدخله عمله الجنة، فقيل: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا! إلا أن يتغمدني ربي برحمته)].
معنى (يتغمدني) أي: يعمني ويشملني برحمة منه وفضل ومغفرة كما في روايات مختلفة، وفي رواية: [(إلا أن يتغمدني الله منه بمغفرة ورحمة)].
[وقال ابن عون بيده هكذا وأشار على رأسه (ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله منه بمغفرة ورحمة)].
أي: يعمني، وأشار إلى رأسه للدلالة على أن المغفرة والرحمة تعم جميع البدن.
وفي رواية: [(ليس أحد ينجيه عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا! إلا أن يتداركني الله منه برحمة)].
ومعظم الروايات هي كهذه الرواية، وفي رواية بالزيادة [(ولكن سددوا وقاربوا، وأبشروا)]، (سددوا) أي: ابلغوا السداد، فإن لم تستطيعوا فلا أقل من أن تقتربوا منه، وإذا بلغتم مرحلة السداد أو الاقتراب من السداد؛ فأبشروا برحمة من الله وفضل.
قال: [وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يدخل أحداً منكم عمله الجنة، ولا يجيره من النار، قال: ولا أنا إلا برحمة من الله).
وفي حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها كانت تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سددوا وقاربوا وأبشروا، فإنه لن يدخل الجنة أحداً عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا! إلا أن يتغمدني الله منه برحمة، واعلموا أن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل) -أي: الذي يديم عليه صاحبه- وفي رواية: (أحب العمل إلى الله ما ديم عليه)] أي: ما داوم عليه صاحبه وإن كان قليلاً.
وماذا ينفعك عملك طول الليل وأنت قائم تصلي، أو تقرأ القرآن، وقبيل الفجر غلبك النوم فنمت؟ وأي الأعمال أحب إلى الله: أن تنام ثم تقوم فتدرك الفجر وهو الفرض، أو أن تصلي النافلة على هذه الشاكلة، وعلى هذا النحو حتى يفوتك الفرض؟ فأحب الأعمال إلى الله العبادة، والاقتصاد في العبادة لا يقال إلا للمجتهد الذي أنهك نفسه.
فالذي يصلي ركعتين فقط يومياً في قيام ليل، والوتر بعد ذلك، ويداوم على ذلك؛ فهذا أحب إلى الله عز وجل من إنسان يصلي إحدى عشرة ركعة في ليلة، ويترك الصلاة لمدة أسبوع أو شهر، فالأول مداوم وإن كان عمله قليلاً، فهو أحب إلى الله تعالى.(58/23)
اتخاذ الأسباب المعينة على الشيء وقدح ترك الأسباب في التوحيد
والإنسان عندما يتخذ الأسباب المعينة لصلاة الفجر، ومع هذا يغلبه شيطانه، أو يغلبه النوم؛ فلا حرج عليه حينئذ، لكن يحصل هذا من المرء مرة، أو مرتين، أو ثلاث مرات، وأما الذي يسترسل فهو مخطئ.
وهذا الحديث يبين أن العمل ما هو إلا سبب لدخول الجنة، لكن في حقيقة الأمر: ليس هذا السبب كفيلاً بدخول الجنة، والله تعالى هو الذي جعله سبباً لدخول الجنة، كما جعل العمل السيئ سبباً لدخول النار.
والعلماء يقولون: إن الاعتماد على الأسباب شرك، وترك الأسباب قدح في التوحيد.
فالذي يقول: أنا أريد ولداً، يقال له: تزوج، فيقول: لا أريد أن أتزوج، فربنا قادر على أن يأتي لي بولد من غير أن أتزوج، يقال له: هذا كلام صحيح، ونحن نؤمن معك على أن الله تعالى قادر على ذلك، بل على ما هو أعز وأصعب من ذلك، فلو أراد الله تبارك وتعالى أن يجمع الدنيا والآخرة فيجعلها في هذا الكأس لفعل، وهذا هو التوحيد، لكن الله تبارك وتعالى بين لنا أنه لا يفعل ذلك، مع أنه الذي قضى في كتابه أنه على كل شيء قدير.
وكلمة: (شيء) تفيد العموم، فالدنيا شيء، والآخرة شيء، والجنة شيء، والنار شيء، فلو أراد الله جمع ذلك كله في أقل من هذا الكأس لفعل.
فإذا قال شخص: أنا عملت العمل الفلاني، ولا بد أن تكون نتيجته كذا، فهذا كلام غير صحيح؛ لأن المرء يتزوج ولا ينجب، مع أن الزواج هو السبب الموصل إلى الإنجاب وإلى الولد، ولا يلزم منه الولد، فقد تصبح المرأة عقيمة أو الرجل عقيماً، أو لا عقم عند الرجل ولا عند المرأة لكن لا ولد، مع أن المرأة لا شيء فيها يمنع من الحمل، والرجل لا بأس فيه، إذاً: السبب قائم، ونتائجه غير لازمة.
وقد تكون المرأة عندها عقم، ومع هذا لما طلقت من هذا وتزوجت بآخر أنجبت، مع أن العلة كانت عندها.
إذاً: فالاعتماد على الأسباب شرك بالله عز وجل، وترك الأسباب قدح في التوحيد.(58/24)
ثبوت الثواب والعقاب بالعقل وعدمه وخلاف أهل السنة مع المعتزلة
والإمام النووي يقول: اعلم أن مذهب أهل السنة أنه لا يثبت بالعقل ثواب ولا عقاب، ولا إيجاب ولا تحريم.
فالثواب والعقاب، والجنة والنار، والواجب والمحرم، والمكروه وغير ذلك، يثبت عند المعتزلة بالعقل، فما حرمه العقل فهو الحرام، وما أحله العقل فهو الحلال، وما أوجبه العقل فهو الواجب، وما أباحه العقل فهو المباح، لأن العقل عند المعتزلة قاض وحاكم على النص، فالعقل أصل والنص فرع.
وأما أهل السنة والجماعة فليسوا كذلك، فالثواب عندهم لا يثبت إلا بنص، فالنص عندهم هو الأصل، ولا بد أن يتمشى العقل مع النص، وإذا حصل خلل وعدم توافق واتزان بين العقل والنص فالعلة في أحد أمرين لا ثالث لهما: إما أن النص غير ثابت، وإما أن العقل لم يدرك مراد الله تعالى بالنص، والعقل قاصر، فإذا أدرك معنى هذا النص؛ فربما عجز عن إدراك المراد من النص الثاني، وغير ذلك.
فالإمام النووي يقول: اعلم أن مذهب أهل السنة أنه لا يثبت بالعقل ثواب ولا عقاب، ولا إيجاب ولا تحريم، ولا غيرهما من أنواع التكليف، ولا تثبت هذه كلها ولا غيرها إلا بالشرع.
والشرع عبارة عن: قال الله قال رسوله، وقد أجمع أهل العلم على أن أدلة الشرع هي: القرآن والسنة والإجماع.
ومذهب أهل السنة والجماعة أيضاًَ أن الله تعالى لا يجب عليه شيء، تعالى الله عن ذلك، خلافاً للمعتزلة فهم يقولون: بل هذا واجب على الله، ويستدلون بحديث معاذ بن جبل الذي يقول فيه: (أتدري ما حق الله على العباد؟ حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً)، وهذا حق.
ثم قال: (أتدري ما حق العباد على الله إذا هم فعلوا ذلك؟ أن يدخلهم الجنة).
فالمعتزلة يقولون: إذا وحد العبد ربه؛ يجب على الله أن يدخله الجنة.
فهم يوجبون على الله عز وجل، وأما أهل السنة فلا يقولون بهذا الوجوب، بل يقولون: لا يحل لعبد أن يوجب على الله تعالى شيئاً، وأما قضية أن الله أوجب على نفسه ذلك فهذه قضية ثانية، ولذلك يقول: (أتدري ما حق العباد على الله إذا هم فعلوا ذلك؟).
والذي أثبت هذا الحق على نفسه هو الله عز وجل، وأما المعتزلة فيقولون: للعبد أن يوجب على الله تعالى ما هو الأصلح.
وهذه المسألة محل نزاع عند المعتزلة، هل يجب على الله الصالح أم الأصلح؟ فقوله عليه الصلاة والسلام: (ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت حسنة، وإن عملها كتبت سيئة)، وأما إذا عمل حسنة فله عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف.
فالمعتزلة يقولون: العشر حسنات في مقابل الحسنة هذا صالح، لكن الأصلح منه: سبعمائة، وإذا كانت الحسنات للحسنة التي عملها العبد تتراوح ما بين عشر وسبعين؛ فيجب على الله تعالى أن يعطيه السبعين؛ لأن السبعين هي الأصلح للعبد.
والذي قرره ربنا في باب الحسنات: أن الحسنة هي الحسنة نفسها، لكن ربنا جعل أدناها عشراً، والله تبارك وتعالى بعدله جعل السيئة بسيئة.
وأيضاً تفضل على عبده أنه إذا هم بها فلم يعملها؛ كتبت له حسنة، مع أنه في باب المباح لا له ولا عليه، ومع هذا تمنن الله تبارك وتعالى وتحبب إليه بأن جعل ذلك له حسنة مع أنه لم يعملها.
فقول المعتزلة بوجوب الأصلح على الله عز وجل؛ يلزم منه أن يعطي في مقابل الحسنة سبعمائة حسنة، ومذهب أهل السنة أن الله تعالى لا يجب عليه شيء تعالى الله عن ذلك، بل العالم ملكه، والدنيا والآخرة في سلطانه، يفعل فيهما ما يشاء، فلو عذب المطيعين والصالحين أجمعين وأدخلهم النار؛ كان عدلاً منه، وإذا أكرمهم ونعَّمهم وأدخلهم الجنة؛ فهو فضل منه، وإن عذبهم فليس بظالم لهم، ولو نعم الكافرين وأدخلهم الجنة كان له ذلك؛ لأنه ملكه، يفعل فيه ما يشاء، ولكنه أخبر -وخبره الصدق- أنه لا يفعل ذلك.
فعندما يأتي شخص ويقول: أليس في ملك ربنا يوم القيامة أن يتوب على الكافرين ويدخلهم الجنة؟
الجواب
نعم بيده ذلك؛ لأن الملك ملكه، فهو بيده كل شيء يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى، لكن الله تبارك وتعالى الذي بيده كل شيء هو الذي أخبر أنه لا يغفر لهؤلاء، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
فما دون الشرك كالكبائر والصغائر والبدع ما لم تبلغ مرحلة الكفر، فكل ذلك في مشيئة الله تعالى، فإن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم، وأما الشرك فإن الله تعالى قضى في كتابه، وأخبر رسوله في سنته أنه لا يغفره ألبتة، مع أنه بإمكانه أن يغفره كبقية الذنوب، لكن الله تعالى استثناه من عموم المغفرة، فالأخبار تحتاج منا إلى تصديق، والآيات تحتاج منا إلى تنفيذ وعمل، فالله تعالى أخبر أنه لا يغفر للمشرك؛ فيجب علينا تصديق ذلك الخبر.
ولو أنعم على الكافرين وأدخلهم الجنة كان له ذلك، ولكنه أخبر -وخبره صدق- أنه لا يفعل هذا، بل يغفر للمؤمنين ويدخلهم الجنة برحمته، ويعذب المنافقين والكفار ويخلدهم في النار؛ عدلاً منه سبحانه.
وأما المعتزلة فيثبتون الأحكام بالعقل لا بالشرع، هذا واجب(58/25)
باب الإكثار من الأعمال والاجتهاد في العبادة
باب: إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة.
قال: [عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى حتى انتفخت قدماه)، وفي رواية: (تورمت قدماه)]، وفي رواية: [(انفطرت أو تفطرت قدماه)].
ومعنى: (تفطرت)، أي: تشققت بسبب طول العبادة، صلى الله عليه وسلم.
[(فقيل له: أتكلف هذا)]، يعني: لم تتكلف هذا؟ [(وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً)].
يعني: ألا أقابل نعم الله تعالى علي بالشكر والحمد! [وعن المغيرة قال: (قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى ورمت قدماه، قالوا: قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر! قال: أفلا أكون عبداً شكوراً).
وعن عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام حتى تفطر رجلاه، قالت عائشة: يا رسول الله! أتصنع هذا وقد غُفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال: يا عائشة، أفلا أكون عبداً شكوراً)].
قال القاضي عياض: الشكر: معرفة إحسان المحسن، والتحدث به، يعني: أنت أحسنت إلي؛ فمن باب شكري لك على هذا الإحسان أن أذكر هذا الإحسان للناس، فالتحدث بإحسان المحسنين من أبواب الشكر، وسميت المجازاة على فعل الجميل شكراً؛ لأنها تتضمن الثناء عليه، وشكر العبد لله تعالى: هو اعترافه بنعمه، وثناؤه عليه، وتمام مواظبته على طاعته.
وأما شكر الله تعالى لأفعال عباده، ولعبادة العباد فذلك بأن يجازيهم عليها إحساناً ومعروفاً وتوفيقاً وسداداً، وأن يضاعف لهم الثواب، وأن يثني عليهم بما أنعم عليهم؛ لأن الله تعالى هو المعطي سبحانه، والشكور من أسماء الله سبحانه وتعالى.(58/26)
باب الاقتصاد في الموعظة
باب الاقتصاد في الموعظة.
قال: [عن شقيق أبي وائل الكوفي قال: (كنا جلوساً عند باب عبد الله ننتظره، فمر بنا يزيد بن معاوية النخعي، فقلنا: أعلمه بمكاننا)]، يعني: أخبره أننا في الخارج ننتظره، [(فدخل عليه فلم يلبث أن خرج علينا عبد الله فقال: إني أخبر بمكانكم)].
أي: أنا عارف أنكم قاعدين تنتظروني، وكانوا يتأدبون مع المشايخ، وينتظرون في الخارج إلى أن يخرج إليهم، من دون أذية أو مناداة أو طرق للأبواب.
قال: [(فما يمنعني أن أخرج إليكم إلا كراهية أن أملكم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتخولنا بالموعظة في الأيام مخافة السآمة علينا)].
يعني: مخافة أن نسأم وأن نمل، وفي رواية عن شقيق أبي وائل قال: [(كان عبد الله يذكرنا كل يوم خميس)].
ومن غفلة الصالحين في هذه الأيام: أن بعض إخواننا من الزهاد والعباد يقولون: أي موعظة في غير يوم الخميس بدعة؛ لأن عبد الله بن مسعود كان لا يذكر قومه إلا يوم الخميس، قلت: هذا مما اتفق للناس، ولا يوجد نص أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يذكر أصحابه إلا يوم الخميس، قالوا: عبد الله بن مسعود كان من ألزم الناس لسنة رسول الله، فقلت: هل هذا الكلام غير مقبول أبداً.
قال: [(كان عبد الله يذكرنا كل يوم خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن! إنا نحب حديثك ونشتهيه -يعني: نريد أن نسمع منك في كل وقت- ولوددنا أنك حدثتنا كل يوم، فقال: ما يمنعني أن أحدثكم إلا كراهية أن أملكم -أي: حتى لا تملوا كلامي- إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتخولنا بالموعظة -يعني: يجعلها كل فترة- في الأيام؛ كراهية السآمة علينا)].(58/27)
شرح صحيح مسلم - كتاب الحدود - حد السرقة ونصابها
لقد جاء الإسلام باحترام المال وملكية الأفراد، فحرم الاعتداء على مال الغير، وشرع الحدود، ومنها حد السرقة، فأمر بقطع يد السارق، ولكنه لم يترك الأمر على إطلاقه دون شرط أو قيد، بل لابد من توافر شروط في السارق والمسروق لإقامة حد القطع، فبين تلك الشروط ووضحها، ثم أناط تنفيذ الحد بالحاكم وولي الأمر لتحقيق الحفاظ على أموال الناس والحياة الهادئة المطمئنة.(59/1)
باب حد السرقة ونصابها
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وبعد: فمع كتاب جديد وهو كتاب الحدود.(59/2)
تعريف الحد
والحدود: جمع حد.
والحد في الأصل: هو الشيء الحاجز بين شيئين، تقول: بنيت السور حداً بين أرضي وأرض فلان.
أي: فاصلاً بين أرضي وأرض فلان.
ويقال: الحد: هو ما ميز الشيء عن غيره.
والمعنى واحد، ومنه حدود الدار، وحدود الأرض، وغير ذلك.
أي: أن الدار يحدها من جهة الشرق كذا، ومن جهة الغرب كذا، ومن جهة الشمال كذا، ومن جهة الجنوب كذا، فهذه حدود الدار، وكذلك الأرض وغير ذلك.
وهو في اللغة بمعنى: المنع.
ونحن دائماً نقول في المصطلحات الشرعية: لها معنىً لغوي ومعنى شرعي، ونقول: شرعي أو اصطلاحي، وفي الغالب بين المعنيين ارتباط وثيق.
فالحد في اللغة بمعنى: المنع، وسميت عقوبات المعاصي حدوداً؛ لأنها في الغالب تمنع العاصي من العود إلى تلك المعصية التي حد لأجلها، كما يطلق الحد على نفس المعصية ونفس الجريمة ونفس الكبيرة أحياناً فنقول: الخمر حد، والسرقة حد، والزنا حد، كما قال الله تعالى بعد أن عدد هذه الكبائر: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [البقرة:230] مع أنها ليست حداً، وهذا من باب إطلاق اللازم على لازمه.
والحد في الشرع: هو عقوبة مقررة لأجل حق الله عز وجل.
فيخرج بذلك التعزير؛ لأن الفارق بين الحد والتعزير كبير.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الحدود باب حد السرقة ونصابها].
فبدأ بذكر السرقة ونصابها.
أي: النصاب اللازم لاعتبار أن هذه الجريمة سرقة من عدمها.(59/3)
الأحاديث الواردة في قطع يد السارق في ربع دينار فأكثر
قال: [حدثنا يحيى بن يحيى وإسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر - محمد بن يحيى العدني - واللفظ لـ يحيى قال ابن أبي عمر: حدثنا، وقال الآخران: أخبرنا سفيان بن عيينة - عن الزهري عن عمرة] وهي بنت عبد الرحمن الأنصارية المدنية تلميذة وخريجة عائشة رضي الله عنها، تروي عن أستاذتها عائشة بنت الصديق رضي الله عنها.
[قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع السارق في ربع دينار فصاعداً)].
أي: تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً.
يعني: لم يثبت عنه عليه الصلاة والسلام بنص صحيح أنه أقام الحد على من سرق أقل من ربع دينار، ولذلك شتان ما بين هذا النص وبين قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا) هذا الأسلوب يستلزم الحصر وهو من أساليب البيان عند اللغويين، قال: (لا يقطع إلا في ربع دينار) (لا) و (إلا) كما لو قلت: لا إله إلا الله، (لا) نفي لجميع الآلهة، (إلا) إثبات لإله واحد.
فقوله: (لا قطع إلا في ربع دينار) يستلزم أنه يحرم القطع في أقل من ربع دينار، فهذا أسلوب حصر لأدنى نصاب السرقة التي تستوجب الحد.
والذي يسرق البيضة الصغيرة يقال له: سارق.
والذي يسرق السواك الذي لا قيمة له يقال له: سارق، لكن لا يقام عليهما الحد؛ لأن هذه السرقة ليست في شيء ذي بال وليس لها كبير قيمة حتى في العرف، فالذي يسرق البيضة والذي يسرق السواك والذي يسرق الورقة الواحدة أو عدة أوراق أو غير ذلك من الأشياء التافهة إنما يعزر ولا يقام عليه الحد.
ولك أن تفهم من هذا الكلام: أن ما لم يبلغ النصاب فيه التعزير دون الحد.
قال: [وحدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد قالا: أخبرنا عبد الرزاق -وهو ابن همام الصنعاني اليمني - قال: أخبرنا معمر -وهو ابن راشد البصري اليمني -.
وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة -أي: عبد الله الكوفي - قال: حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا سليمان بن كثير - وهو أبو داود العبدي البصري - وإبراهيم بن سعد المدني كلهم يروون عن الزهري]-أي: معمر وسليمان بن كثير وإبراهيم بن سعد يروون عن الزهري قال: [بمثله في هذا الإسناد] أي: بمثل الحديث الماضي من قول عائشة: (كان النبي عليه الصلاة والسلام يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً).
تخبر بلسانها عن فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كان عليه الصلاة والسلام يفعل كذا وكذا.
ولكن النص الذي سيأتي معنا هو نص من قوله عليه الصلاة والسلام، لا من قول أحد، ولا من قول زوجه حكاية عنه عليه الصلاة والسلام قولاً أو فعلاً.
قال: [وحدثني أبو الطاهر وحرملة بن يحيى.
وحدثنا الوليد بن شجاع -واللفظ للوليد وحرملة - قالوا: حدثنا ابن وهب - عبد الله بن وهب المصري - أخبرني يونس عن ابن شهاب.
ويونس إذا كان بين ابن وهب وابن شهاب فإنه يونس بن يزيد الأيلي.
قال: [عن عروة وعمرة -أي عن عروة بن الزبير وعمرة بنت عبد الرحمن - عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال] يصير هذا الحديث من قوله عليه الصلاة والسلام، بخلاف الحديث الأول فإنه حكاية عن النبي عليه الصلاة والسلام من لفظ عائشة رضي الله عنها.
[قال: (لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً)] بخلاف اللفظ الأول قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع السارق في ربع دينار فصاعداً) حكاية تحكيها عن النبي عليه الصلاة والسلام من فعله.
أما الحديث الذي معنا فإنه من قوله عليه الصلاة والسلام، كأنه يأمر الأمة فيقول: لا تقطعوا يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً.
أي: لا تقطعوا يد السارق إلا إذا سرق ربع دينار أو ما يوازيه ويساويه من الأشياء المتقيمة والمتمولة.
قال: [وحدثني أبو الطاهر وهارون بن سعيد الأيلي وأحمد بن عيسى -واللفظ لـ هارون وأحمد - قال أبو الطاهر: أخبرنا، وقال الآخران: حدثنا ابن وهب -أخبرني مخرمة عن أبيه-] ومخرمة هو ابن ب(59/4)
شرح حديث: (لم تقطع يد السارق في عهد رسول الله في أقل من ثمن المجن)
قال: [وحدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي عن هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير عن عائشة قالت: (لم تقطع يد السارق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أقل من ثمن المجن)].
أي: لم تقطع يد سارق في زمن النبوة في أقل من ثمن المجن.
والمجن: هو اسم لكل ما يمكن أن يستتر به مستتر، كالخوذة والدرع والحجفة أو الترس الذي يتترس به المرء، وكل هذه من أدوات القتال والحرب، وهي أسماء لبعض عدد الحرب سواء كانت المجن أو الحجفة أو الترس أو الخوذة أو الدرع أو غير ذلك، فلم تقطع يد سارق في زمن النبي عليه الصلاة والسلام في أقل من ثمن المجن الذي يستتر به المرء.
قال: [(حجفة أو ترس، وكلاهما ذو ثمن)] فالحجفة والترس كلاهما ذو ثمن، يعني: متقوم، متمول.
يعني: له قيمة مالية تقدر بربع دينار فصاعداً.
فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يقطع يد السارق الذي سرق ربع دينار أمراً لازماً، وإنما يقطع يد من يسرق ربع دينار أو ما يعادله من أشياء أخرى، لكن لا بد أن تكون هذه الأشياء متقومة أو متمولة وليست مما حرمها الله عز وجل.
قال: [وحدثنا عثمان بن أبي شيبة أخبرنا عبدة بن سليمان وحميد بن عبد الرحمن.
وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الرحيم بن سليمان -وهو الكناني أبو علي الشامي المروزي نزيل الكوفة- وحدثنا أبو كريب - محمد بن العلاء الهمداني - حدثنا أبو أسامة -وهو حماد بن أسامة - كلهم عن هشام -وهو هشام بن عروة الذي يروي عن أبيه عن عائشة بهذا الإسناد- أي بالإسناد السابق.
وفي حديث عبد الرحيم وأبي أسامة قالا: (وهو يومئذ ذو ثمن)] أي: هذا المجن كان في زمن النبي عليه الصلاة والسلام ذو ثمن.
يعني: له قيمة.(59/5)
شرح حديث القطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم
قال: [حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك -وهو مالك بن أبي عمرو الأصبحي الإمام الفقيه المعروف سيد أهل المدينة في زمانه- عن نافع -وهو نافع الفقيه مولى ابن عمر - عن ابن عمر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع سارقاً في مجن قيمته ثلاثة دراهم)] والدينار: اثنا عشر درهماً.
قال: [وحدثنا قتيبة بن سعيد وابن رمح عن الليث بن سعد.
وحدثنا زهير بن حرب وابن المثنى قالا: حدثنا يحيى القطان.
وحدثنا ابن نمير قال: حدثنا أبي - عبد الله بن نمير - وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا علي بن مسهر.
كلهم عن عبيد الله].
يعني: هؤلاء الأربعة يروون عن عبيد الله، وهو ابن عمر العمري الإمام الكبير أحد الفقهاء السبعة في المدينة.
قال: [وحدثني زهير بن حرب حدثنا إسماعيل -يعني: ابن علية وهذا الأول- وحدثنا أبو الربيع وأبو كامل قالا: حدثنا حماد -وهذا الثاني- وحدثني محمد بن رافع قال: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا سفيان عن أيوب السختياني وأيوب بن موسى وإسماعيل بن أمية - أيوب وأيوب وإسماعيل - وحدثني عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي أخبرنا أبو نعيم - وهو الفضل بن دكين الكوفي - قال: حدثنا سفيان - وهو الثوري - عن أيوب بن أبي تميمة السختياني وإسماعيل بن أمية وعبيد الله وموسى بن عقبة.
وحدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج أخبرني إسماعيل بن أمية.
وحدثني أبو الطاهر أخبرنا ابن وهب عن حنظلة بن أبي سفيان الجمحي وعبيد الله بن عمر ومالك بن أنس وأسامة بن زيد الليثي كلهم عن نافع].
كل هؤلاء -حوالي عشرة- يروون عن نافع ابتداءً من أول ما وقفنا عند عبيد الله بن عمر العمري، وانتهاءً بما انتهى به كل إسناد حتى آخر إسناد، فإنهم جميعاً يروون عن نافع مولى ابن عمر.
قال: [عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث يحيى بن يحيى عن مالك] الإسناد المتقدم، غير أن بعضهم قال: (قيمته) وبعضهم قال: (ثمنه ثلاثة دراهم).(59/6)
شرح حديث لعن السارق
قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده)].
(لعن الله السارق) ونحن نعلم أن من علامات الكبائر: اللعن، فإذا أتى نص يلعن فاعلاً فعل شيئاً فهذا يدل على أن هذا الفعل كبيرة، سواء استلزم هذا الفعل إقامة الحد أم لم يستلزم، فقال عليه الصلاة والسلام: (لعن الله السارق).
ماذا يسرق؟ قال: (يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده).
والإسناد الثاني يقول: [حدثنا عمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم وعلي بن خشرم كلهم عن عيسى بن يونس - وهو ابن أبي إسحاق السبيعي - عن الأعمش بهذا الإسناد مثله، غير أنه يقول: (إن سرق حبلاً وإن سرق بيضة)] يعني: لعن الله السارق إن سرق بيضة أو إن سرق حبلاً، والمعلوم أن البيضة والحبل لا يساويان ربع دينار.
وهذه الأموال المذكورة في النصوص مردها إلى أصل الصرف في لغة العرب وهما الذهب والفضة.
يعني: إذا ذكرت النصوص القرآنية أو النبوية مثل هذه الأموال كالدينار والدرهم وغيرها مما هو معروف أنه مال فإنما المقصود والمراد بذلك: الذهب والفضة، فالمقصود بالدينار: الدينار الذهب، والمقصود بالدرهم: الدرهم الفضة.
هكذا أجمع أهل العلم على ذلك؛ لأنهما أصل الصرف في لغة الشرع.
وقد سمعت أحد العلماء المتخصصين في علوم الشرع -صنف رسالة عظيمة جداً في المكاييل والمعايير والموازين والمسافات وغير ذلك، وهي رسالة سديدة في بابها- سمعته يقول: الدينار حوالي (160) جنيهاً، وعلى ذلك يكون القطع في (40) جنيهاً فلو زدنا قليلاً يصير (50) جنيهاً.
إذاً: هل يصح القطع في أقل من خمسين؟
الجواب
لا.
وإنما يجب القطع إذا بلغ السلطان في خمسين وما زاد على ذلك، هذا إذا كان الجنيه المصري له قيمة الآن، لكن على أية حال هذه المسألة مردها إلى معرفة عين المال وقيمة المال في العرف.(59/7)
الجمع بين حديث: (لعن الله السارق) والنهي عن اللعن
الحديث الأخير يقول: [(لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده)].
هذا الحديث فيه مبحثان: الأول: مسألة اللعن، وقد وردت نصوص كثيرة جداً بإثبات اللعن، كما وردت أيضاً نصوص كثيرة جداً بالنهي عن اللعن، فكان لابد من الجمع بين النصين لوجود التعارض بينهما: نص يأمر باللعن أو يلعن ونص آخر ينهى عن اللعن، فما هو التوفيق وما هو السداد في هذا؟ قال أهل العلم في الجمع بين ذلك: لا بأس بلعن معين، فإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله السارق) فهذا يعني: جواز لعن السارق بعينه إذا سرق.
وهذا الرأي إن لم يكن مرجوحاً فهو ضعيف.
والمذهب الحق -وهو ما عليه جمهور أهل السنة- أن لعن المعين لا يصح ولا يجوز، فلا يجوز أن أقول: لعن الله زيداً لأنه سرق، وإنما أقول: لعنة الله على السارق، لعنة الله على الظالم، لعنة الله على الفاسق، وغير ذلك مما هو لعن للوصف لا للفرد، فقولي: لعنة الله على الظالمين لعن للوصف، لكني لو قلت: لعن الله فلاناً لأنه ظالم فهذا لعن للفرد.
ولعن الكافر فيه نزاع بين أهل العلم، والإمام النووي نقل مذهب كثير من العلماء: أنه لا يجوز لعنه إلا إذا مات على الكفر؛ لأن اللعن هو الطرد من رحمة الله عز وجل، وربما إذا لعنت الكافر دخل في الإسلام فكنت أنت في مأزق، لكنك لو قلت: لعن الله الكافرين؛ لكان هذا أولى وأحوط؛ ولذلك قال الإمام النووي في قوله عليه الصلاة والسلام: (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده) قال: هذا دليل جواز لعن غير المعين من العصاة.
إذاً: لعن المعين لا يجوز، فإذا كان في هذا الحديث جواز لعن غير المعين من العصاة، فمفهوم المخالفة منه أيضاً: أنه لا يجوز لعن المعين من العصاة؛ لأن لعن غير المعين من العصاة هو لعن للجنس لا للمعين، كما قال الله عز وجل: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18] فهذا لعن لجنس الظالمين، وليس لظالم معين بذاته، وأما المعين فلا يجوز لعنه.
قال القاضي: وأجاز بعضهم لعن المعين ما لم يحد -أي: ما لم يقم عليه الحد- فإذا حد لم يجز لعنه، فإن الحدود كفارات لأهلها.
قال القاضي: وهذا التأويل باطل للأحاديث الصحيحة في النهي عن اللعن، فيجب حمل النهي على المعين ليجمع بين الأحاديث.
إذاً: يجوز لعن الصفة لا لعن الموصوف.
والأصل: أن القول مقدم على الفعل، فقوله عليه الصلاة والسلام مقدم على فعله لكن هذا عند الخلاف، فإذا وقع خلاف بين قوله وبين فعله عليه الصلاة والسلام فمع وجود الترجيح يقدم القول؛ لأن القول أمر أو نهي للأمة.
أما إذا لم يكن هناك اختلاف فقد جرت عادة المصنفين على تقديم القول أو تقديم الفعل كلاهما سواء، ولا خلاف هنا، لكن لفظ النبوة أضبط؛ لأنه أحصر لمسائل الباب من قول عائشة رضي الله عنها؛ فهي حكت فعله وهو وجه أمره أو نهيه للأمة، فلا خلاف بين النصين.(59/8)
معنى قوله في الحديث: (يسرق البيضة) (أو يسرق الحبل) وتأويل ذلك
المبحث الثاني في هذا الحديث قوله: (يسرق البيضة فتقطع يده، أو يسرق الحبل فتقطع يده).
في الحقيقة أن البيضة لا يبلغ ثمنها ثلاثة دراهم وكذلك الحبل، فكيف يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يسرق البيضة فتقطع يده)؟ هناك تأويلات.
قالوا: المراد بها: بيضة الحديد، وحبل السفينة وكل واحد منهما يساوي أكثر من ربع دينار، وبيضة الحديد هي الدرع الذي يتخذه المجاهد للدفاع عن نفسه، يقال: فلان حمته بيضته.
يعني: درعه الذي يتوقى به الضربات.
ونقول: فلان استأصل بيضة فلان.
أي: ضربه حتى أخذ منه عدة سلاحه، فقوله: (يسرق البيضة) أي: بيضة الحديد، وهي تبلغ أكثر من ثلاثة دراهم.
وكذلك حبل السفينة وهو الحبل العظيم الذي تربط به السفينة في مرساها، لكن المحققين أنكروا هذا التأويل وضعفوه وقالوا: بيضة الحديد وحبل السفينة لهما قيمة ظاهرة، وليس هذا السياق موضع استعمال القيمة الظاهرة، لأنه بداهة كما أقول: لعن الله السارق يسرق البقرة فتقطع يده، فمن المعلوم أن البقرة لها قيمة أكثر من ربع دينار بل أكثر من دنانير كثيرة، فالنص إنما ورد للزجر الشديد عن أن تمتد اليد إلى غير مالها وإن دق أو قل، فلا يستوي أن يكون هذا الزجر مع الشيء الذي له قيمة ظاهرة كحبل السفينة وبيضة الحديد.
هكذا قال المحققون.
وقالوا: بل بلاغة الكلام تأباه؛ لأنه لا يذم في العادة من خاطر بيده في شيء له قدر وإنما يذم من خاطر بها فيما لا قدر له، فهذا موضع تقليل لا تكثير.
وقد يعمل الإنسان عملاً صغيراً في نظر العرف وهو عند الله عظيم، وقد يعرض نفسه لعذاب مهين بسبب عود من أراك، أو شملة غلها من الغنيمة قبل أن توزع، أو عباءة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (كلا والذي نفس محمد بيده، إني لأرى الشملة تشتعل عليه ناراً) مع أنه كان مجاهداً وكان معرضاً نفسه للقتل في ساحة الوغى، لكن نفسه الضعيفة في لحظة غفلة أمرته أن يأخذ عباءة من الغنائم قبل أن توزع فمنعته هذه العباءة رغم رداءتها وقلة نفاستها أن يكون مع أول الداخلين إلى الجنة، وكانت سبباً في تعذيبه وهلاكه؛ ولذلك قال الصحابة: (إنه في الجنة)، وأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك لحسن ظنهم في أخيهم، فقالوا كان خادماً للنبي عليه الصلاة والسلام ومولى له: (إن مولىً لرسول الله استشهد فدخل الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، إنه قد غل شملة وإني لأراها الآن تشتعل عليه ناراً) سبحان الله! رداء حقير، ومع هذا يشتعل عليه ناراً.
وكذلك السارق يعرض نفسه إلى قطع يده في شيء ليس محل استنكار العرف، وهناك من يعرض نفسه للهلاك أو القتل أو الرجم أو غير ذلك بسبب شيء تافه، ولا شك أن الشيء الكبير محل ذم، لكن القليل الذي يعرض صاحبه للحد أكثر ذماً، والله أعلم.
قال الإمام النووي: (الصواب أن المراد: التنبيه على عظم ما خسر -وهي يده- في مقابلة حقير من المال وهو ربع دينار، فإنه يشارك البيضة والحبل في الحقارة).
فالبيضة في وسط البيض شيء حقير، والحبل في وسط الحبال شيء حقير، كذلك الربع دينار في وسط الدنانير شيء حقير.
هذا تأويل.
قال: (أو أراد جنس البيض وجنس الحبل).
فالذي يسرق بيضة إن تيسر له أن يسرق بيضاً سرق، والذي يسرق الحبل إن تيسر له أن يسرق حبالاً سرق، فأطلق النبي صلى الله عليه وسلم الجزء وأراد الكل بإرادة الجنس لا إرادة هذا الشيء المذكور، فقوله: (يسرق البيضة) أي: جنس البيض.
وقوله: (يسرق الحبل) أي: جنس الحبل، فيحد حينما يسرق ببيض متقوم بربع دينار فصاعداً، أو بحبال متقومة بربع دينار فصاعداً.
قال النووي: (أو أنه إذا سرق البيضة فلم يقطع جره ذلك إلى سرقة ما هو أكثر منها فقطع).
وهناك مثل يقول: الذي يسرق البيضة يسرق الجاموسة.
يعني: يجره سرقة القليل إلى سرقة الكثير، فإذا كنت تسرق البيضة ولا تقطع يدك فإنه سيأتي عليك اليوم الذي تسرق ما هو أعظم من البيضة ويقدر بنصاب القطع فتقطع يدك فيه؛ وذلك لأنك ألفت السرقة من أول الأمر.
قال: (فكانت سرقة البيضة هي سبب القطع).
أي: هي السبب لمبدأ السرقة لا لمبدأ أنه سرق بيضة.
قال: (أو أن المراد به: قد يسرق البيضة أو الحبل فيقطعه بعض الولاة سياسة).
لكن هذا كلام فيه شذوذ شرعي.
قال: (وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا عند نزول آية السرقة مجملة من غير بيان نصاب فقاله على ظاهر اللفظ، والله أعلم).
يعني: لما أنزل الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} [المائدة:38] فقطع النبي أول الأمر في أقل السرقة أو في كل ما هو سرقة، ثم أتاه الوحي بعد ذلك أنه لا قطع في أقل من ربع دينار، وهذا أيضاً بعيد.(59/9)
الحكمة من مشروعية قطع يد السارق
قال النووي رحمه الله: قال القاضي عياض: (صان الله تعالى الأموال بإيجاب القطع على السارق).
فأنتم تعلمون أن الأغراض الأساسية للشرع خمسة، وهي: الدين، العرض، المال، النفس، العقل، وهذا الحد -وهو حد السرقة- من باب الحفاظ على المال.
قال: (ولم يجعل ذلك في غير السرقة كالاختلاس والانتهاب والغصب -والغش وغير ذلك- لأن ذلك قليل بالنسبة إلى السرقة).
يعني: هذه الجرائم وإن كانت كلها اعتداء على المال إلا أنه يمكن تداركها ومعرفتها وإقامة البينة عليها بخلاف السرقة، فإنها تتم خفية.
قال: (ولأنه يمكن استرجاع هذا النوع بالاستدعاء إلى ولاة الأمور).
يعني: الغصب والاختلاس والانتهاب وغير ذلك يمكن لولي الأمر أن يقيم البينة على المغتصب أو المنتهب أو المختلس.
قال: (وتسهل إقامة البينة عليه بخلاف السرقة؛ فإنه تندر إقامة البينة عليها؛ فعظم أمرها واشتدت عقوبتها؛ ليكون أبلغ في الزجر عنها).(59/10)
ذكر إجماع الأمة على قطع يد السارق في الجملة واختلافهم في فروعه
قال: (أجمع المسلمون على قطع السارق في الجملة).
أي: أجمع المسلمون على وجوب قطع يد السارق في الجملة.
قال: (لكنهم اختلفوا في فروع هذا الحد).
يعني: أجمعوا واتفقوا على أن يد السارق تقطع، وهذا هو الأصل، لكنهم اختلفوا في شروط السرقة أو في شروط المسروق أو في شروط الحرز؛ وذلك لأنه من أساسيات الحدود أن يقيمها الوالي ولا يقيمها عامة الأفراد، بخلاف التعزير فلعامة الأفراد أن يعزروا، فللسيد أن يعزر عبده، وللزوج أن يعزر امرأته، وللوالد أن يعزر ولده، وكل شخص يعزر من تحته حسب ما يتراءى له ما لم يبلغ أكثر التعزير أقل الحد، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا حد في أقل من عشرة أسواط) يعني: فالإنسان لما يعزر لا يضرب أكثر من عشر جلدات؛ لأن التعزير قد يكون بالكلمة أو بالوعظ أو بالتوبيخ أو بالهجر أو بالتقريع أو غير ذلك، فالفارق الجوهري بين الحد والتعزير: أن الحد يقيمه الحاكم، والتعزير للحاكم ولغيره من الناس؛ لأن الحد الشرعي له ضوابط وأصول وظروف، وأقل شبهة يدرأ بها الحد.
مثال ذلك: شخص يعمل في محل، فأكل صاحب المحل عليه راتبه الشهري ومقداره (500) جنيه، ومن عادة صاحب المحل أن يأخذ المال ويضعه في خزينة، وهذه الخزينة مغلقة بمفتاح، فإنه يكفي أن تسمى هذه الخزينة حرزاً، لكن هذا العامل كسر القفل وفتح الخزينة وأخذ منها (500) جنيه، فهو في هذه الحالة سارق؛ لأنه أخذ مالاً محرزاً بغير إذن.
فنقول: هذا فيه شبهة تمنع إقامة الحد عليه، وهي أنه لم يسرق إلا ماله الذي أكله عليه صاحب المحل، فهذه الشبهة يدرأ بها الحد، ولو أن إقامة الحد موكولة إلى الناس لأقام عليه الحد صاحب المحل.
فلو أن كل إنسان يسمح لنفسه بإقامة الحد على من ظن أنه ارتكب جرماً يستوجب إقامة الحد، فلن يكون هذا المجتمع محترماً؛ ولذلك الحدود لا يقيمها إلا الحاكم.
ولو أن ولداً زنى وبلغ الخبر إلى أبيه وقال له: يا ولدي! أنت زنيت؟ فقال له: لا أجمع على نفسي معصيتين الكذب والزنا، نعم، أنا زنيت.
فهل يجوز للوالد أن يقول: نحن في زمن ترك الحدود وأنا أتقرب إلى الله بإقامة الحد عليك يا بني، ويتمثل قول إبراهيم عليه السلام لما أراد أن يقتل ولده بأمر الله عز وجل؟! هذا لا يمكن أن يكون ديناً أبداً، حتى الوالد لا يقيم على ولده الحد، ولا الزوج يقيم على زوجه الحد، إنما يقيم الحد الحاكم أو من ينوب عنه، فإقامة الحدود لها شروط، وهناك زوايا متعددة في هذه الجريمة، كما أن المسروق فيه شروط ومحل السرقة -وهو الحرز- له شروط.(59/11)
ذكر أقوال العلماء وخلافهم في نصاب حد السرقة
قال: (أجمع العلماء على قطع يد السارق كما سبق، واختلفوا في اشتراط النصاب وقدره، فقال أهل الظاهر: لا يشترط نصاب، بل يقطع في القليل والكثير).
واحتجوا بعموم قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38].
فهي مطلقة بغير قيد.
واستدلوا أيضاً بحديث: (لعن الله السارق، يسرق البيضة ويسرق الحبل) فالبيضة المراد بها: البيضة التي تؤكل، لكن جماهير العلماء قالوا: لا تقطع اليد إلا في نصاب، وحجتهم هذا الحديث الظاهر: (لا قطع إلا في ربع دينار - أي ذهب - فصاعداً) واعتبروا أن عموم الآية مخصص بهذا الحديث.
وهناك مسألة نزاعية أخرى: هل السنة تخصص القرآن؟
الجواب
نعم.
وهذا مذهب أهل السنة، وذهب بعض أهل الانحراف إلى أن السنة لا تخصص القرآن، وهذا كلام فاسد.
قال: قال الشافعي: النصاب ربع دينار ذهباً أو ما قيمته ربع دينار، سواء كانت قيمته ثلاثة دراهم أو أقل أو أكثر، ولا يقطع في أقل منه.
وبهذا قال الأكثرون، وهو قول عائشة وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي والليث وأبي ثور وإسحاق وغيرهم، وروي أيضاً عن داود.
وقال مالك وأحمد وإسحاق في رواية: تقطع في ربع دينار أو ثلاثة دراهم أو ما قيمته أحدهما، ولا قطع فيما دون ذلك.
وقال سليمان بن يسار وابن شبرمة وابن أبي ليلى والحسن في رواية عنه: لا تقطع إلا في خمسة دراهم- واستندوا إلى حديث ضعيف- وهو مروي عن عمر بن الخطاب.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تقطع إلا في عشرة دراهم أو ما قيمته ذلك، واستندوا كذلك إلى حديث ضعيف.
قال النووي: (وحكى القاضي عن بعض الصحابة: أن النصاب أربعة دراهم).
واستندوا كذلك إلى نص غير صحيح.
قال: (وعن عثمان البتي: أنه درهم.
وعن الحسن: أنه درهمان.
وعن النخعي: أنه أربعون درهماً أو أربعة دنانير).
والصحيح ما قاله الشافعي وموافقوه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صرح ببيان النصاب في هذه الأحاديث من لفظه وأنه ربع دينار.
قال النووي: (أما باقي التقديرات فمردودة لا أصل لها، مع مخالفتها لصريح هذه الأحاديث).
أما رواية: (أنه صلى الله عليه وسلم قطع سارقاً في مجن قيمته ثلاثة دراهم) فمحمولة على أن هذا القدر كان ربع دينار فصاعداً، وهي قضية عين لا عموم لها.
فالنبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن قيمته ثلاثة دارهم أو ربع دينار، وهذه حادثة عين تحفظ ولا يقاس عليها أي مجن آخر؛ وذلك لأن المجن ليس هو الضابط في إيقاع الحد على السارق، إذ إن المجن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يساوي ثلاثة دراهم، لكن بعد زمن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يساوي درهمين، وفي زماننا هذا لا يساوي شيئاً.
إذاً: هذه حادثة عين تحفظ ولا يقاس عليها، وقلنا: (تحفظ) لأنها كانت ذات قيمة تستوجب إقامة الحد.
قال النووي: (فلا يجوز ترك صريح لفظه عليه الصلاة والسلام في تحديد النصاب لهذه الرواية المحتملة) أي: هذه الرواية بربع دينار.
(بل يجب حملها على موافقة لفظه).
قال: (ولا بد من هذا التأويل ليوافق صريح تقديره صلى الله عليه وسلم.
وأما ما يحتج به بعض الحنفية وغيرهم من رواية جاءت (قطع في مجن قيمته عشرة دراهم) وفي رواية (خمسة) فهي ضعيفة لا يعمل بها لو انفردت فكيف وهي مخالفة لصريح الأحاديث الصحيحة.
والله تعالى أعلم.(59/12)
شروط إقامة حد القطع في السرقة
قال الإمام النووي في هذا الباب: (قال العلماء: والحرز مشروط، فلا قطع إلا فيما سرق من حرز) فمن الشروط: أن القطع لا يكون إلا إذا كانت السرقة من حرز؛ لأن المسروق من غير الحرز لا قطع فيه، ويعرف الحرز بالعرف؛ وذلك لأن الأحراز مختلفة من سلعة إلى أخرى ومن بضاعة إلى أخرى.
مثال ذلك: شخص يبيع ملابس وأحذية في سيارة، فلما سمع الأذان أدخل الأثواب والأحذية السيارة وأغلقها ودخل المسجد، فهذا يسمى حرزاً في العرف، فلو جعل الأحذية أو الأثواب على ظهر السيارة ووضع عليها عباءة فإن هذا لا يسمى حرزاً في العرف، ومن وضع نقوده في درج له مفتاح وأغلقه فقد حرز، وإذا لم يغلق ذلك الدرج لم يحرز، فلابد من اشتراط الحرز، وهذا مذهب الجماهير.
والمعتبر في معرفته حرزاً أم لا هو العرف، لكن داود الظاهري قال: أي سرقة من حرز أو من غير الحرز فيها قطع.
وهذا مذهب مردود، ويكاد يكون الإجماع في اشتراط الحرز عرفاً، ولا تعتبر مخالفة داود الظاهري مخالفة مؤثرة فيما اتفق عليه أهل العلم.
ومن الشروط أيضاً: ألا يكون للسارق في المسروق شبهة، كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالك لأبيك)، فالأب إذا سرق مال ولده باعتباره المالك فهذا المسروق فيه شبهة.
ومن الشروط أيضاً: أن يطالب المسروق منه بالمال.
أي: أن الذي سرق منه المال لابد أن يطالب به.(59/13)
بيان كيفية القطع في حد السرقة
قال: (وأجمعوا -أي: العلماء- على أنه إذا سرق أولاً قطعت يده اليمنى).
قال الشافعي ومالك وأهل المدينة والزهري وأحمد وأبو ثور وغيرهم: فإذا سرق ثانياً قطعت رجله اليسرى.
مع أن الله يقول: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38]، لكن الجمهور على قطع اليد اليمنى الأول، ثم تقطع الرجل اليسرى.
يعني: تقطع الأيدي والأرجل من خلاف: اليمنى في اليد مع اليسرى في الرجل، ثم اليسرى في اليد مع اليمنى في الرجل.
قال: (فإذا سرق ثالثاً قطعت يده اليسرى، فإن سرق رابعاً قطعت رجله اليمنى، فإن سرق بعد ذلك عزر).
قال: (قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك والجماهير: تقطع اليد من الرسغ وهو المفصل بين الكف والذراع، وتقطع الرجل من المفصل بين الساق والقدم).
وهذا طبعاً المذهب الحق وعليه العمل.
قال: (لكن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: تقطع الرجل من شطر القدم.
وبه قال أحمد وأبو ثور.
وقال بعض السلف: تقطع اليد من المرفق.
وقال بعضهم من المنكب.
والمذهب الراجح هو المذهب الأول: أن قطع اليد من الكف - أي: من الرسغ- وكذلك قطع القدم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله تعالى لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(59/14)
شرح صحيح مسلم - كتاب الحدود - تكملة حد السرقة ونصابها
المال هو عصب الحياة، وبه تقوم الحضارات وترتقي الأمم، وهو أحد الضرورات الخمس التي جاءت الشريعة الإسلامية بحفظها، فقد بينت الشريعة حق الأفراد في أموالهم، وشرعت القوانين دون انتهاكها والانتقاص منها، وحكمت على من سرق مال الغير بحد القطع مهما كان حجم السرقة إذا بلغ النصاب الذي حددته الشريعة.(60/1)
الحكمة من مشروعية القطع في حد السرقة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وصلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
إن الإسلام قد احترم المال من حيث أنه عصب الحياة، واحترم ملكية الأفراد سواء كانت امرأة أم رجلاً، وجعل حقهم فيه حقاً مقدساً لا يحل لأحد أن يعتدي عليه بأي وجه من الوجوه؛ ولهذا حرم الإسلام السرقة والغصب والاختلاس والخيانة والربا والغش والخداع والرشوة، والتطفيف بالكيل والوزن، واعتبر كل مال أخذ بغير سبب مشروع بمثابة أكل للمال بالباطل.
وشدد الإسلام في السرقة، فقضى بقطع يد السارق التي من شأنها أن تباشر السرقة، وفي ذلك حكمة بينة، إذ إن اليد التي امتدت إلى أموال الناس بغير حق هي كالعضو المريض في البدن يجب استئصاله وإلا فسيضر بالبدن كله، وبهذا تحفظ الأموال وتصان، كما قال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:38].
أما الحكمة في تنزيل العقوبة في السرقة وتشديدها دون غيرها من جرائم المال كالغصب والاختلاس والربا والغش والتلاعب بالكيل والوزن وغير ذلك، فكما قال النووي نقلاً عن القاضي عياض وقد ذكرناه في الدرس الماضي: (أن الله تعالى جعل ذلك صيانة للمال بإيجاب القطع على السارق، ولم يجعل ذلك غير السرقة كالاختلاس والانتهاب والغصب؛ لأن ذلك قليل بالنسبة إلى السرقة؛ ولأنه يمكن استرجاع هذا النوع بالاستدعاء إلى ولاة الأمور).
يعني في بقية أنواع أخذ المال بغير الحق كالغصب والنهبة وغير ذلك، بإمكان ولي الأمر أن يسترد هذا المال من الغاصب أو المنتهب لصاحب المال.
ولـ ابن القيم كلام عظيم جداً إذ يقول: وأما قطع يد السارق في ثلاثة دراهم، وترك قطع المختلس والمنتهب والغاصب فمن تمام حكمة الشارع أيضاً.
قال القاضي: (فإن السارق لا يمكن الاحتراز منه، فإنه ينقب الدور ويهتك الحرز).
يعني: أنه يخرم الديار خرماً سواء كانت جُدُراً أم أسقفاً أم غير ذلك، كما أنه يهتك الحرز بهتكه أو كسر القفل أو غير ذلك، ولا يمكن لصاحب المتاع الاحتراز بأكثر من ذلك، فيضع صاحب البيت متاعه في حرز داخل بيت، فيأتي السارق يكسر باب البيت ثم يدخل فيكسر باب الحرز، فماذا يصنع صاحب المال أكثر من ذلك؟ فقد حرز ماله، ومع هذا دخل السارق خلسة وبعد أن انتهك هذه الحرمات كلها في الطريق إلى إيقاع السرقة أو إلى أخذ المال فإنه حينئذ لا يمكن الاحتراز منه، بخلاف بقية الأنواع فيمكن الاحتراز منها؛ ولذلك شدد الشارع جداً فيما يتعلق بسرقة المال على جهة الخصوص.(60/2)
تعريف السرقة وذكر أنواعها وشروطها
السرقة نوعان: نوع يجب فيه إقامة الحد إذا بلغ السلطان، وهو ما زاد على سرقة ربع دينار فصاعداً، وما دون الربع دينار ففيه التعزير.
أما تعريف السرقة فقد قال العلماء هي: أخذ الشيء في خفية.
وفي القاموس: السرقة والاستراق: المجيء متستراً لأخذ المال -أي: لأخذ مال الغير- من حرز.
وهذا تعريف أشمل وأعم من الأول، والتعريف الثالث هو تعريف ابن عرفة قال: السارق عند العرب هو: من جاء مستتراً.
فالشرط الأول: من جاء في خفية.
إذاً: الشرط الأول في تحقق أن هذه الحادثة سرقة يجب فيها إقامة الحد: أن يأتي السارق خفية.
الشرط الثاني والثالث: أن يأخذ مال الغير من حرز.
ومن تعريف المصطلح الشرعي بأنه كيت وكيت وكيت، لابد أن نستنتج من هذا التعريف شروط المعرف، فإذا قلت: السرقة هي أن يأتي السارق خلسة أو خفية أو مستتراً ليأخذ مال الغير من حرز، فأقول: هذا التعريف بيَّن لي شروط السرقة التي تستوجب إقامة الحد، ومنها: أن يأتي السارق خلسة، فلو دخلت بهيمة بيتك؛ وكسرت الباب ثم كسرت القفل وأكلت الأوراق ولم تعلم بها إلا وهي خارجة من البيت، فهل يقام عليها الحد؟
الجواب
لا يقام عليها الحد؛ لأنها ليست سارقة، فمن شروط السرقة: أن يدخل السارق خلسة، إذاً: الشرط الأول منعدم هنا.
مثال آخر: شخص لم يأت بيتاً متستراً، وإنما دخل وهو شاهر سيفه، وقال: أعطني مالك وإلا قتلتك، فهذا إما غاصب وإما صائل باغ ظالم معتد، فهذا تطبق عليه حدود أخرى لا حد السرقة.
إذاً: لابد أن يأتي السارق خلسة ليأخذ مال الغير، فلو فرضنا أنه أتى خلسة، ولكنه يعتقد أن المال الذي سيأخذه هو ماله الشخصي، وأن هذا الرجل الذي أخذ منه المال، إنما سرقه أو اختلسه أو غصبه، وذهب ليسترد هذا المال عنوة، ولكنه ذهب متستراً متخفياً لغلبة الظن أنه لا يحصل على ماله إلا بهذا الطريق، إذاً: هذا الرجل أخذ مال الغير، وفي نظره أنه يأخذ ماله، مع أنه هناك طرق أخرى مشروعة لأخذ ماله واسترداده، لكن ألا تعدون أن هذه شبهة؟ بلى.
وأنتم تعلمون أن الحدود تدرأ بالشبهات، فهو يقول: أنا لست سارقاً، لكن الشرع يعده سارقاً؛ لأنه دخل خفية، وأخذ المال من حرز، وهو مقر بأنه أخذ المال من حرز، لكنه لا يقام عليه الحد، لم؟ لأن هذا المال الذي أخذه ليس مال فلان، وإنما هو ماله؛ ولذلك الإمام الشافعي كان يسمي هذا السارق السارق الظريف؛ لأنه إذ إنه إذا أقيمت عليه الحجة، وثبتت عليه السرقة وقدم للقطع قال: هذا المال مالي، فبعد أن كانت عليه الدفة كلها حولها إلى خصمه المسروق.
قال: هذا المال أخذه مني عنوة، وأنا أردت استرداد مالي الذي أخذه مني عنوة، فالإمام الشافعي يسميه السارق الظريف، ويدرأ عنه الحد بهذه الشبهة.
إذاً: السرقة هي: أخذ مال الغير، وأن يكون هذا الأخذ على جهة التخفي والاستتار، وأن يكون المال محرزاً، فإذا فقد أي شرط من هذه الشروط فلا تعد القضية مطروحة على القضاء سرقة، ولكنها تدخل تحت باب آخر؛ ولهذا لا يعتبر الخائن ولا المنتهب ولا المختلس سارقاً ولا يجب على واحد منهم القطع، وإنما يجب التعزير.
وضربت لك في الدرس الماضي مثلاً بإنسان قد عملت عنده، وقد حرز ماله في المحل، وهذا من جهة العرف حرز؛ لأن العرف هو الذي يحكم ما إذا كان هذا حرزاً أم لا، فالحرز هو: ما يمكن حفظ الشيء فيه عرفاً.
إذاً: العرف هو القاضي على كثير من المصطلحات الشرعية، كالسفر مثلاً، العرف هو القاضي بما إذا كان هذا سفراً أم لا، فإذا قال العرف: هذه المسافة مسافة سفر وإن قلت عن (80) كيلو فللمسافر فيه أن يستخدم الرخصة، وإن بعدت عن (100) كيلو ولكن العرف لا يعدها سفراً فلا يحل لواحد أن يستخدم فيها الرخص، فالعرف يقضي على كثير من المصطلحات الشرعية، وذلك إذا كانت مما يختلف باختلاف الزمان والمكان.(60/3)
حكم جحد العارية
مسألة: جحد العارية مسألة فرعية من فرعيات السرقة: وصورتها: أنك أعرتني شيئاً وأنا جحدته، ولما طالبتني بعاريتك قلت: ما أخذت منك شيئاً.
فهل هذا يعد سرقة؟
الجواب
اختلف الفقهاء في حكم ذلك، فجمهور العلماء قالوا: لا يقطع من جحد العارية؛ لأنه لم يأخذها في خفية ولم يذهب متستراً، إنما صاحب المال هو الذي أعاره واستأمنه على هذا الشيء، والقرآن والسنة أوجبا القطع على السارق، وليس جاحد العارية بسارق.
وذهب الإمام أحمد وإسحاق وزفر والخوارج وأهل الظاهر: إلى أنه يقطع؛ لما جاء في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده)، انظر الكلام الجميل! المتاع يكون عندها فإذا طولبت به قالت: ما أخذت من أحد شيئاً، وهذا جحود.
قال: (فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها، فأتى أهلها أسامة بن زيد رضي الله عنه فكلموه، فكلم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أتشفع في حد من حدود الله عز وجل؟ وقام النبي عليه الصلاة والسلام خطيباً فقال: أيها الناس! إنما هلك من كان قبلكم -أي: من بني إسرائيل- أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه، والذي نفسي بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها).
فبعض العلماء يقولون: هذا الحديث الذي فيه الزيادة: (هذه الزيادة التي فيها: أن امرأة مخزومية كانت تستعير المتاع فتجحده فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بقطعها) حديث شاذ وإن كان في مسلم.
وهو الباب الثاني في كتاب الحدود.
والبعض يقول: هذا الحديث ليس شاذاً، وإنما أخبر الحديث أن هذه المرأة كان من صفاتها وأخلاقها أنها تجحد العارية، فذكروها بأحد صفاتها الذميمة، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها لا لكونها كانت تجحد العارية، وإنما لسبب آخر وهو السرقة؛ ولذلك أورد مسلم هذا الحديث بهذه الزيادة: (أنها كانت تستعير المتاع وتجحده) ضمن الحديث من طريق واحد، فالحديث من عدة طرق ليس فيه هذه الزيادة؛ وذلك ليبين أن الحديث إن ثبت على هذا النحو وبهذه الزيادة فالمقصود به: ذكر إحدى صفات المرأة، لا أنها قطعت لأنها تجحد العارية، وإنما قطعت لسبب آخر قد ورد في بقية طرق الحديث عن المرأة المخزومية، وقد صرح الرواة بأنها امرأة مخزومية سرقت، فالقطع ليدها كان لأجل السرقة لا لأجل أنها كانت تجحد العارية.
والشاهد من هذا الباب كله: أن جاحد العارية قد اختلف فيه العلماء، والذي يترجح لدي أن جاحد العارية وإن كان ظالماً وآثماً يعزر ويحمل على رد العارية إلى صاحبها إلا أنه لا يقطع.(60/4)
حكم النباش الذي ينبش القبور
النباش: هو الذي ينبش القبر ويأخذ الكفن.
فعندما تنظر في كتب الفقهاء عن النبش والنباش تجد النبش في حياة السلف لا يتعدى سرقة، أما الآن فإنهم لم يعودوا بحاجة إلى نبش القبر وأخذ بعض الجثة أو الجثة كلها؛ لأن الجثة لا تخرج إلا هيكلاً خارجياً من المستشفيات العامة أو الخاصة، فقد صارت أعضاء الخلق مسلمين وغير مسلمين تجارة رابحة جداً يدخل فيها الطبيب الفقير من باب ويخرج من باب آخر وقد حقق الملايين من الجنيهات، فإن نفعه هذا في الدنيا فإنه إن شاء الله لن ينفعه بين يدي الله عز وجل.
وفي الحقيقة الطب تجارة من التجارات عند جميع العاملين به إلا من رحم الله عز وجل، ومن بر واتقى وعلم أن هذه أمانة هو مسئول عنها بين يدي الله عز وجل، وقليل ما هم، فعامة الأطباء -خاصة الجراحون منهم والجراحات- قد اتخذوا تجارة الأعضاء بضاعة سائغة؛ رائعة لتحقيق عرض من أعراض الدنيا وهو زائل لا محالة، واستندوا في ذلك إلى فتوى لبعض من ينتسب إلى أهل العلم، وهذه الفتوى لا علاقة لها البتة بهذا الإجرام الذي يتم في المستشفيات، ونحن لا نميل إلى هذه الفتوى قط، فالمرء لا يجوز له التبرع ببعض أعضائه حتى وإن كان ذلك بعد موته.
والأطباء المتخصصون يقولون: إذا مات الميت وبرد جلده فإنه لا ينتفع منه بجزء من أجزاء بدنه، بل لابد أن يؤخذ الجزء المراد من بدن الميت قبل الموت ولو بلحظة، يعني: لا ينتزع إلا العين أو الكلى؛ لأن هذين هما العضوان اللذان يعملان بشكل جيد، فيؤخذ هذان العضوان من الرجل إذا غلب على ظن الطبيب أنه سيموت.
وقد حدثني طبيب في مستشفى القصر العيني بأن مشاجرة عظيمة جداً تمت بين طبيبين كبيرين في غرفة العناية المركزة، إذ دخل شخص العناية المركزة فاحتجزه الطبيب وهو يقول: هذا لي، يعني: لا يحل لأحد من الأطباء أن يأخذ منه شيئاً؛ لأنه هو الذي سيأخذ منه، فقام الطبيب الآخر في غياب الطبيب الأول بأخذ الكليتين، ومات الشخص ولابد أن يموت، وهذا يسمونه الموت الطبي وليس الموت الشرعي.
فهذا المريض حياته (90%) ميئوس منها، فيقولون: إذاً: ننتفع منه بما يمكن الانتفاع به.
ونحن نذكر بدر الدين العيني الإمام الكبير شارح البخاري، وكان صاحب قصر، وكان من علماء الدنيا في زمانه، فسمي القصر باسمه؛ لأن القصر كان ملكاً له، وكان هذا الرجل فوق الأمير وفوق السلطان، إذ كانت الدنيا تدار بأمره، وكانت إليه الرحلة في زمانه، وقد اتخذ هذه الدار لسكن الطلاب الذين يأتونه من آسيا وأفريقيا وغيرها من بلاد العالم ليتعلموا العلم على يديه، وله كتاب عظيم جداً في شرح صحيح البخاري اسمه عمدة القاري، وهو أعظم من الفتح للحافظ ابن حجر في باب، والفتح للحافظ أعظم منه في باب آخر، أما القبول فهذا رزق من الأرزاق، فكتاب عمدة القاري لا يستغني عنه عالم قط، ولا يستغني عنه من له عناية بصحيح البخاري وبعلم الحديث كله، وللأسف الشديد هذا المكان المبارك الذي بدأ بإيواء أهل العلم في العالم كله على ضفاف النيل صار مكاناً لسرقة الأعضاء وبيعها في سوق النخاسة.
وعوداً على بدئ فقد جرى في شأن النباش الخلاف بين أهل العلم، وهو الذي يسرق أكفان الموتى، فذهب الجمهور إلى أن عقوبته قطع يده؛ لأنه سارق حقيقة، والحرز هو القبر؛ ولأنه في الغالب يأتي خلسة وخفية ويسرق مال الغير.
والكفن مال مملوك للغير، وبعضهم نازع وقال -كالأحناف والأوزاعي والثوري: لا عقوبة عليه إلا التعزير؛ لأنه نباش وليس سارقاً، فلا يأخذ حكم السارق؛ ولأنه أخذ مالاً غير مملوك لأحد؛ لأن أولياء الميت لا يزعمون أن هذا الكفن ملكاً لهم، كما أن الميت لا يملك، فهذه الشبهة درأت الحد عن النباش، وينبغي تعزيره وزجره حتى ينزجر أمثاله.(60/5)
ذكر الشروط التي يجب توافرها في السارق لإقامة الحد عليه
جناية السرقة لها ثلاثة أطراف: سارق، ومسروق، وحرز، وهناك شروط يجب توافرها في السارق، وشروط يجب توافرها في المسروق، وشروط يجب توافرها في الحرز، فما هي الشروط أو الصفات التي يجب اعتبارها في السارق؟ أولاً: أن يكون مكلفاً.
السارق يجب أن يكون إنساناً بالغاً عاقلاً مكلفاً، والعاقل احتراز من المجنون؛ لأن المجنون لو سرق فإنه ليس أهلاً للتكليف ولا محلاً له؛ ولا يشترط فيه الإسلام؛ لأن الذمي إذا سرق حُد، والمرتد كذلك.
الشرط الثاني: الاختيار.
وهذا احتراز من الإكراه.
الشرط الثالث: ألا يكون للسارق فيما سرق شبهة، كشبهة الملك مثلاً، كما قلنا في الدرس الماضي: لو أن أباً سرق مال ولده فإنه يدفع الحد عنه بقوله عليه الصلاة والسلام: (أنت ومالك لأبيك) فهذه شبهة، وكذلك لا يقطع الابن بسرقة مال أبيه، ولا يقطع السيد بسرقة مال العبد إذا كان للعبد مال؛ لأن الابن في الغالب يتبسط في مال أبيه وأمه، فكما لا يقطع الأب في مال الابن كذلك لا يقطع الابن في مال أبيه.(60/6)
حكم من سرق مصحفاً
فإن قيل: لو أن واحداً سرق المصحف هل يحد فيه أم لا يحد؟
الجواب
منهم من قال: إذا بلغت قيمته ربع دينار أو ثلاثة دراهم فأكثر يحد.
ومنهم من قال: لا يحد للشبهة.
قالوا: لأن كتاب الله تعالى لكل شخص فيه الحق، وهذا قد أخذ المصحف الذي له فيه بعض الحق، فلو أتى إليك السارق وقال لك: لا، أتحدني على المصحف؟ صحيح أن المصحف يباع بـ (50) جنيهاً ففيها حد السرقة، لكن المصحف هو كلام الله عز وجل، وقد أخذته لأنتفع به، باعتباري أنني مسلم ولي فيه الحق؛ ولذلك لم يختلفوا على حد الذمي إذا سرق مصحفاً تبلغ قيمة أوراقه نصاب السرقة، بخلاف المسلم.
قالوا: المسلم فيه شبهة.(60/7)
حكم من سرق من بيت المال
إذا سرق المسلم من بيت المال مبلغاً بلغ النصاب، فهذا يجري حكم التعزير فقط؛ لأن بيت المال هذا هو بيت مال المسلمين، والسارق مسلم.
إذاً: له حظ ونصيب في هذا المال، وربما منعه الحياء أن يخبر الناس أنه فقير أو غير ذلك، مما حدا به أن يمد يده فيأخذ بنفسه من هذا المال.
قال: وأنا أعتقد أن المال الذي أخذته إنما هو لي؛ لأنني فقير، ولكن منعني الحياء أن أقول: إنني فقير؛ فأخذته بنفسي.(60/8)
حكم من سرق من مال له فيه شركة أو من مدين مماطل
كذلك لو سرق من مال له فيه شركة لا يقام عليه الحد لوجود الشبهة.
قال: (ولا يقطع من سرق من المدين المماطل في السداد) يعني: أنت عليك دين لي، وأنا لا أستطيع أن آخذه مع أنك موسر ولست معسراً، لكنك مماطل، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (مطل الغني ظلم)، والعلماء يعرفون الغني: بأنه من ملك مبلغ الدين.
يعني: ليس شرطاً أن يكون مليونيراً، لا فأنت عليك عشر جنيهات لي، وهي معك؛ فيجب عليك دفعها لي فوراً؛ لأن هذا مالي أنا، فإذا لم تدفعها إلي كنت مماطلاً في نظر الشرع، فلو أني أخذت هذا المال منك سرقة باعتبارك مديناً غنياً ومماطلاً فلا يجب في ذلك إقامة حد السرقة؛ لأن ذلك استرداد للدين وإن كان الأولى ترك ذلك؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك)، فهذا وإن كان خائناً فلا تحملك خيانته على أن تخون أنت كذلك.(60/9)
حكم من سرق مالاً مسروقاً
قال: ومن غصب مالاً وسرقه وأحرزه فسرقه منه سارق.
مثال ذلك: أنا أعلم أنك سرقت مال زيد ولا تملك إلا المال المسروق، فقمت أنا عليه فسرقته، وبعد ذلك تقول لي: تعال! أنت سارق وينبغي أن تحاسب.
أقول لك: لا.
أنا سرقت من سرقتك أنت، فهذا المال ليس مالك؛ لأنه ينبغي أن تكون أنت مالكاً له، وهذا المال الذي سرقته منك هو مال زيد وليس مالك، وأنا قد سرقته منك لأدفعه لزيد، فهذه شبهة بصرف النظر عن تحقيق ما إذا كانت الحادثة سرقة أم لا.
إذاً: الصفات التي يجب اعتبارها في السارق: أن يكون مكلفاً، أن يكون مختاراً، ألا يكون له فيه شبهة.(60/10)
ذكر الشروط التي يجب توافرها في المال المسروق(60/11)
الشرط الأول: أن يكون مما يتمول ويملك
أولاً: أن يكون مما يتمول ويملك.
ومعنى متمول: أي: له قيمة مالية محترمة في الشرع، فهناك مال ليس محترماً في الشرع، كالخمر والخنزير والكلب وثمن البغي والطنبور وآلات المعازف والموسيقى، كلها أموال غير محترمة، فلو أنك سرقت زجاجة خمر من نصراني أو يهودي وكسرتها وأرقت ما فيها، وطالبك الذمي بدفع قيمة هذا الخمر، فهل يجوز للقاضي أن يحكم عليك بذلك؟
الجواب
لا؛ لأن هذا المال مال غير متمول وغير متقوم، كما أنه لا يمثل نسبة مالية في الإسلام، وإن كان يتكلف في الصناعة، لكنها في الشرع ليست بفلس واحد ولا تساوي شيئاً؛ لأنها مال قد حرمه الإسلام.
كما يجب أن يكون هذا المال مما يحل بيعه، فالخنزير لا يحل بيعه، حتى في دين النصارى لم يصح الإذن لهم بأكل الخنزير، وكذلك الكلب لا يجوز بيعه باتفاق، ولكن يجوز اقتناء كلب الصيد أو الحراسة أو الماشية، فالاقتناء شيء وشراء الكلب المأذون فيه شيء آخر، فلا يحل لأحد أن يبيع الكلب المأذون فيه شرعاً، فكلب الحرث والصيد والماشية يجوز اتخاذه واقتناؤه، ولكن لا يجوز شراؤه، فشراء الكلاب شيء، والإذن باتخاذ بعض أنواع الكلاب شيء آخر.
قال أشهب من المالكية: يقطع سارق الكلب المأذون باتخاذه، ولا يقطع في كلب آخر.
وقال أصبغ من المالكية في لحوم الضحايا: إن سرق الأضحية قبل الذبح قطع، وإن سرقها بعد الذبح لا يقطع.
هذا كلام جميل جداً له مخارج، يريد أن يقول لك: أن سارق الأضحية قبل الذبح كالبهيمة أو الشاة أو البقرة أو الناقة تقطع يده؛ لأنه سرق الحيوان، وإذا سرقها بعد الذبح لحماً فإنه لا يقطع لوجود الشبهة، والشبهة هي أن ثلث الأضحية سيوزع على الفقراء، والثلث الثاني هدايا للأغنياء، فهذا السارق قد يعتبر نفسه من الأغنياء الذين لهم حق في الهدايا أو من الفقراء الذين لهم حق في الصدقة؛ فلا يقطع لوجود الشبهة.
وأما سرقة الماء والثلج والكلأ، فأنتم تعلمون أن الناس شركاء في الماء والثلج والكلأ؛ لأن هذه من الأموال العامة، ولكن للأسف الشديد تغير الزمان على البشر، حتى صاروا يبيعون الماء لبعضهم وبأغلى الأسعار، مع أن هذه أيها الإخوة من مسائل المروءات، وكذلك الهواء، فقد كان أصحاب إطارات السيارات وغيرهم عندما تعطيه مالاً مقابل نفخ الإطار يقول لك: أعوذ بالله! من الذي قال لك: أننا نبيع الهواء؟ إنه حق الله.
والآن الحكومة تبيع لك الماء والنور والهواء، فالماء بلترات معينة ولابد أن تدفع وإلا سيقطعون عليك الماء بواسطة العداد، بل حتى بعد قطع العداد لابد من الدفع.
أقول: فهل سرقة الماء والثلج والكلأ والملح والتراب فيها قطع؟ قال صاحب المغني ابن قدامة: وإن سرق ماء فلا قطع فيه؛ لأنه مما لا يتمول عادة.
قال: ولا أعلم في هذا خلافاً.
فالماء ليس له قيمة مالية معتبرة في الشرع؛ لأن الشرع جعل الخلق جميعاً المؤمن والكافر سواء في حقهم بالانتفاع بالماء، ومادام أن المسألة استقرت عرفاً صار هذا من المال العام الذي لا يحل أخذه إلا أن ينم ذلك عن سوء معتقد الآخذ.
إذاً: من الشروط التي يجب اعتبارها في المال المسروق: أن يكون مما يتمول ويملك ويحل بيعه وأخذه، بخلاف الخمر والخنزير، حتى لو كان المالك غير مسلم؛ لأن الله حرم ملكيتهما والانتفاع بهما، والمسلم والذمي على السواء.
وكذلك لا قطع على سرقة أدوات لا يجوز استعمالها عند عامة أهل العلم.(60/12)
الشرط الثاني: أن يبلغ المسروق النصاب الشرعي
الشرط الثاني الذي يجب توفره في المال المسروق: أن يبلغ المسروق النصاب الشرعي.
وهناك خلاف بين العلماء فيما يتعلق بتحديد النصاب، ومذهب جماهير العلماء -وهو المذهب الراجح الذي عليه الأدلة- أن يبلغ المسروق ربع دينار فصاعداً.
يُذكر أن أبا العلاء المعري عليه من الله ما يستحق قد اعترض على الشرع يوماً فقال: يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار دية اليد إذا قطعها إنسان أن يدفع (500) دينار، فـ أبو العلاء المعري يقول: إذا كانت اليد ديتها (500) دينار فكيف تقطع في ربع دينار فقط؟ فهذا تناقض، ويقصد أن هذا التناقض مصدره الشرع، وهذا كفر بالله! تناقض ما لنا إلا السكوت له ونستجير بمولانا من العار ولذلك رد عليه إمام السنة في زمانه الإمام الشافعي فقال: عز الأمانة أغلاها وأرخصها ذل الخيانة فافهم حكمة الباري أي: لما كانت أمينة كانت ثمينة، فلما خانت هانت فافهم حكمة الباري.
فالحكمة في أنها تودى بـ (500) دينار؛ لأنها يد أمينة ينبغي المحافظة عليها، فإذا وقع عليها اعتداء فديناها بأعظم مبلغ (500) دينار، فلما تركت الأمانة وارتكبت الخيانة وهانت على نفسها وعلى صاحبها تقطع في أقل من ذلك وهو ربع دينار.(60/13)
وقت تقدير المال المسروق
مسألة: متى يقدر المسروق بأنه بلغ ربع دينار أم لم يبلغ بعد؟ وهل يكون هذا التقدير وقت السرقة أم وقت القطع؟ منهم من قال: وقت السرقة.
ومنهم من قال: وقت القطع.
والذي يترجح لدي: أن المال المسروق يقدر في وقت السرقة لا وقت القطع، خاصة في هذا الزمان، وهذا طبعاً على افتراض حسن النية وأن هناك حدوداً تقام بإذن الله؛ لأنك ربما تسرق الشيء اليوم وبعد (25) سنة يتذكر القاضي أن هناك قضية سرقة مطروحة عليه فيقضي فيها، فلا يكون في وقت القضاء والحكم والقطع لهذا المسروق قيمة ولا وزن.(60/14)
حكم سرقة الجماعة
مسألة: لو أن جماعة سرقت، ومجموع المسروق قد بلغ النصاب، كعشرة سرقوا ربع دينار فهل يقام على العشرة الحد أم لا؟ هذا محل نزاع بين العلماء، فمنهم من قال: كل واحد يحد قطعاً في هذا المال؛ لأنه بمثابة السارق لوحده لهذا المال؛ لأن الذي يشارك في إيقاع الجريمة كمن باشرها بنفسه.
وهذا مذهب كثير من أهل العلم.
أما مذهب الجمهور فإنه لا قطع إلا على من سرق مبلغاً يساوي النصاب في حقه هو.
يعني: لو أن عشرة سرقوا دينارين ونصف، فإن نصيب كل سارق سيكون ربع دينار.
إذاً: العشرة يحدون؛ لأن نصيب كل سارق في هذا المسروق قد بلغ النصاب على حدة، وهذا لا نزاع فيه، لكن النزاع قائم في الصورة الأولى التي ذكرناها.(60/15)
ذكر الشروط التي يجب توافرها في المسروق منه
الشروط التي يجب توافرها في المسروق منه هو شرط واحد: ينبغي أن يكون حرزاً، والحرز مداره على العرف، والحرز: هو الموضع المعد لحفظ الشيء مثل الدار والدكان والإسطبل والمراح والجرين ونحو ذلك، ولم يرد فيه ضابط من جهة الشرع ولا من جهة اللغة، وإنما يرجع فيه إلى العرف.
فإذا سرق شخص من الدكان فقد سرق من حرز، أو سرق من الدار كذلك سرق من حرز، لكن يشترط أن يكون الدار بابها مغلق، وكذلك من سرق الماشية من الإسطبل، فالإسطبل يعد بالنسبة للدواب والحيوانات حرزاً.
والجرين هو الجُرن، وهو المكان الفسيح الذي يقوم المزارع أو الفلاح بحرثه أو بثمره، والعلماء يسمونه الجرين تصغير الجرن؛ لأن الجرن هو المكان الفسيح جداً، فحينئذ لو أن واحداً سرق من الزرع في سنبله وهو في الأرض فإنه لا يحد، لأن الأرض ليست حرزاً، ولو أنه سرق من الجرين أو من الجرن فإنه يعد حرزاً؛ فمن سرق من الجرين أو من الجرن مالاً أو ثمراً أو زرعاً يبلغ النصاب يقام عليه الحد.
والعلماء مجمعون على أن الإنسان حرز لنفسه، وقد كان العرب في القدم إذا أرادوا أن يخبئوا شيئاً خبئوه في أكمامهم، حتى أهل العلم أنفسهم كانوا يخبئون الدفاتر في الأكمام ويربطونها كما ورد في ترجمة الحافظ ابن حجر والإمام العراقي والزبيدي وغيرهم، كان الواحد منهم يضع الدفتر فيه مائة ألف حديث في كمه، ويربط عليها، ويأخذها من مصر القديمة إلى منطقة الإمام الشافعي، أو من منطقة الإمام الشافعي إلى منطقة المنيل حيث موطن الحافظ ابن حجر رحمه الله، فكان الواحد منهم يضع كتبه في كمه ويربطها ويجري إلى أن يصل إلى حلقة الشيخ، ففي هذه الحالة كان الواحد منهم يضع ماله في كمه، والآن أصبح عندنا جيوباً أمامية وخلفية وجانبية.
ويقال: فلان هذا شاطر.
يعني: سارق، يشطر جيوب الناس بالمشطرة، وهي الموس أو السكينة أو الخنجر، ويخرج منها ما فيه ويذهب، والحد يثبت بالإقرار، أو بشهادة عدلين، ويتوقف على طلب المسروق، وهذا مذهب جماهير العلماء.(60/16)
حسم يد السارق والتنكيل به
وحسم يد السارق إذا قطعت أمر قد جاء به الشارع في أكثر من دليل، فعندما تقطع اليد من الرسغ تربط من هاهنا أولاً، ثم تقدم للقطع فإذا قطعت حسمت بالزيت أو النار، وكان من عادة العرب في أول الإسلام أنهم إذا قطعوا اليد وضعوها في الزيت المغلي حتى تلتحم العروق، فالقطع عذاب والواضع في الزيت عذاب، كل ذلك بسبب ربع دينار، فهذا إنسان فاقد لعقله، حين يعرض نفسه للعذاب من أجل ربع دينار، وإنما يفعل الإسلام ذلك لأجل الحفاظ على الأموال.
وقد جاءت السنة كذلك بمزيد من التنكيل والتقريع للسارق أنه إذا سرق علقت كفه المقطوعة المحدودة في عنقه، وإذا كان مجاهراً بسرقته ومعصيته فلا بأس أن يطاف به وقد علقت كفه في رقبته ويقال: هذا سارق لمال فلان.(60/17)
بيان أن السارق لا يضمن ما سرق
مسألة: إذا اجتمع الضمان والحد، فإذا كان المسروق قائماً رد إلى صاحبه.
يعني: هل السارق يضمن رد المسروق وقيام الحد عليه كذلك؟
الجواب
لا يضمن السارق المسروق إذا كان قد أنفقه، أما إذا كان بين يديه ضمن وحد.
أي: إذا كان المال المسروق لا يزال في حوزة السارق رد إلى المسروق منه، وعوقب السارق بالحد.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(60/18)
شرح صحيح مسلم - كتاب الحدود - قطع السارق الشريف وغيره والنهي عن الشفاعة في الحدود
إنما أهلك من قبلنا أنهم كانوا يقيمون الحدود على الضعيف ولا يقيمونها على القوي، وجاء الإسلام فسوَّى بين الناس، فأقام حد السرقة على الشريف كما أقامه على الوضيع، ونهى عن الشفاعة في الحدود إذا وصلت إلى ولي الأمر.(61/1)
الفرق بين الحد والتعزير
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
الباب الثاني من كتاب الحدود: [باب قطع السارق الشريف وغيره، والنهي عن الشفاعة في الحدود] أي: باب وجوب قطع السارق الشريف كما يجب قطع السارق الوضيع، فكلاهما في الحكم سواء إذا بلغ الحد السلطان.
قال: [والنهي عن الشفاعة في الحدود].
وهذا فارق جوهري بين الحد والتعزير: فهما يشتركان في جواز الشفاعة ما لم يصل الحد إلى السلطان، فإذا وصل الحد إلى السلطان فإنه يحرم على كل أحد أن يشفع لدى السلطان في زوال هذا الحد أو عدم إقامته أو تخفيفه.
هذا فارق بين الحد والتعزير.
فارق ثان: أن الحد مقدر، بخلاف التعزير؛ فإنه يرجع إلى اجتهاد المعزر، فإذا كان الحد ثمانين جلدة فلا يصح أن يكون أقل من ذلك ولا أكثر، إلا إن مات المحدود في أثناء قيام الحد عليه.
مثال ذلك: لو أن الحد مائة جلدة، فمات المحدود في السبعين أو الستين أو العشرة الأولى؛ فيحرم ضربه بعد ذلك، ويحرم جلده؛ لأنه لا عبرة ولا فائدة من ضرب الميت، بل تثبت له حرمة الأموات بعدم المساس أو الضرب أو الكسر، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (كسر عظم الميت ككسره حياً) فالميت له حرمة كما أن الحي له حرمة.
فالحدود مقدرة، فإذا أقمناها فيجب إقامتها بغير زيادة ولا نقصان خلافاً للتعزير، كما أن الحد منصوص عليه وهو نفس المعنى، أما التعزير فيرجع إلى اجتهاد المعزر.
ويحرم على السلطان أو من ينوب عنه أن يتنازل عن إقامة الحد، أو أن يعفو عنه؛ خلافاً للتعزير، فإن التعزير يراعى فيه أصحاب الهيئات وأصحاب المروءات، كما يراعى فيه الوسيلة الأنجع والأحسن والأفضل في حق المعزر، فربما ارتكب ما يستوجب التعزير اثنان: أحدهما معروف بالشر، والآخر من أصحاب الهيئات كالعلماء والمشايخ والوزراء والأمراء والسلاطين، أو رجل له منزلة في قلوب الخلق، أو رجل يشار إليه بالبنان بالجود والكرم أو العلم، أو غير ذلك من ذوي الهيئات، وقد مضت السنة على إقالة ذوي الهيئات عثراتهم؛ خلافاً لمن كان معروفاً بالشر والفساد، فإنه إذا وقع فيما يستوجب التعزير فإن قدر له المعزر أقصى العقوبة التعزيرية فيكون هذا مخالفاً إذا ارتكب نفس الفعل رجل من أصحاب الهيئات، فإنما يكفي معه مجرد اللوم أو التوبيخ أو المعاتبة الرقيقة اللطيفة؛ لأنهما لا يستويان في المكانة والمنزلة، كما أن هذا ارتكب الفعل لأول مرة، وهذا ارتكبه عشرات المرات أو مئات المرات فلا يستويان.
فالشاهد هنا: أن الحدود منصوص عليها ومقدرة، ولا يجوز العفو عنها إذا بلغت السلطان خلافاً للتعزير في كل هذه المسائل، كما أنه لا يجوز الشفاعة في الحدود، وتجوز الشفاعة في التعزير خاصة لأصحاب الهيئات.
والعرب قبل الإسلام كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه بغير توبيخ أو لوم أو عتاب، بخلاف الوضيع الذي لا يؤبه له وليس له قبيلة تحترم ولا مكانة لها بين القبائل، فكانوا إذا سرق فيهم من هذا حاله أنهالوا عليه تقريعاً أو ضرباً بالنعال أو توبيخاً أو غير ذلك.(61/2)
باب قطع السارق الشريف وغيره، والنهي عن الشفاعة في الحدود(61/3)
شرح حديث شفاعة أسامة في المخزومية التي سرقت من طريق قتيبة بن سعيد وابن رمح
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث بن سعد (ح) وحدثنا محمد بن رمح أخبرنا الليث عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة: (أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت)] هي امرأة مخزومية من قريش سرقت فاغتم أهلها لهذه الجناية التي وقعت منها؛ لأنهم يعلمون أن هذه الجناية تستوجب القطع، لكنها شريفة فكيف تقطع هذه المرأة؟! هذا عار على أهلها! قالت: [(فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟)] يعني: من يشفع في العفو عن القطع عند النبي عليه الصلاة والسلام؟ قالت: [(قالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة)] أي: من يقوى على ذلك ويقدر عليه إلا أسامة.
وهذا من باب الدلال؛ وذلك لأن أسامة هو ابن زيد بن حارثة، حب رسول الله عليه الصلاة والسلام وابن حبه، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقولها: (فقالوا: من يجترئ عليه) من جهة الإدلال ومن جهة عظيم الخاطر والمنزلة، وفي هذا منقبة عظيمة لـ أسامة، حيث إنهم لم يختاروا أحداً إلا أسامة ليشفع لهذه المرأة القرشية المخزومية أن يعفو النبي صلى الله عليه وسلم عن إقامة الحد عليها.
قالت: [(فكلمه أسامة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أتشفع في حد من حدود الله؟)] وفي هذا إثبات أن هذا إنكار على أسامة، كما أنه إثبات لعدم جواز الشفاعة في الحدود.
قال: [(ثم قام فاختطب فقال)] أي: قام النبي عليه الصلاة والسلام فخطب الناس، فكان مما قال عليه الصلاة والسلام: [(أيها الناس! إنما أهلك الذين قبلكم -كأنه يقصد بني إسرائيل- أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد)] فبين عليه الصلاة والسلام أن ترك الحدود هلكة.
هذا الكلام يوحي أن عدم العدل والمساواة بين الشريف والوضيع إذا أتيا ما يستوجب الحد في حقيهما سبب للهلاك، مع أن الحد يقام، لكنه يقام على قوم ولا يقام على آخرين، وهذا ما يعرف في هذا الزمان بالمحسوبية، فلان لا يضرب ولا يحبس ولا تصل إليه الأيدي؛ لأن قريبه الوزير الفلاني، أو الوالي الفلاني، أو فلان الفلاني، أو من له المكانة والمنصب، أو هو صاحب جاه أو مال أو رئاسة أو منصب أو غير ذلك، فهذا لا يجوز لأحد أن يقترب منه لمكانته الاجتماعية.
أما الوضيع فإنه أول من يُطبق عليه الحد، وكلمة الوضيع ليست إهانة، إنما هو مصطلح وضع لمن لم يكن له أهل أو منصب أو قبيلة، أو ليس لديه مال أو غير ذلك، أما ميزان التفضيل في لسان الشرع فهو بتقوى الله عز وجل، فكم من إنسان يظن أنه عالي المنزلة مرموق المكانة لكنه لا يزن عند الله جناح بعوضة! وكم من إنسان لا يؤبه له ولا يلتفت إليه، لكنه في أعلى عليين عند رب العالمين سبحانه وتعالى! والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى).
وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
وقال عليه الصلاة والسلام: (رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره) فميزان الشرع هو الميزان العدل، إذ إن المرء يوزن بتقواه، وما دون ذلك لا وزن له عند الله عز وجل.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله) هذا قسم، وكأنه يقول: والله، مع أنه لم يستقسم، وإنما أقسم عليه الصلاة والسلام من غير أن يستقسمه أحد؛ لبيان أهمية الأمر وخطورته والتأكيد عليه.
قال: (وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).
وفي هذا إثبات القدوة والأسوة، إذ إنه عليه الصلاة والسلام يبدأ بنفسه أولاً، وليس هذا الأمر موجهاً للأمة فحسب، بل الأولى به نبينا عليه الصلاة والسلام، وهو في المكانة والمنزلة التي لا تخفى على أحد.
وفي حديث ابن رمح - أي: محمد بن رمح - (إنما هلك الذين من قبلكم).(61/4)
شرح حديث شفاعة أسامة بن زيد في المخزومية التي سرقت من طريق أبي الطاهر وحرملة
قال: [وحدثني أبو الطاهر وحرملة بن يحيى - واللفظ لـ حرملة - قالا: أخبرنا ابن وهب - عبد الله بن وهب المصري - قال: أخبرني يونس بن يزيد الأيلي عن ابن شهاب الزهري قال: أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: (أن قريشاً أهمهم شأن المرأة التي سرقت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: حبيبه- فأتي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه فيها أسامة بن زيد، فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: تغير وتمعر وغضب- فقال: أتشفع في حد من حدود الله؟ -على سبيل الإنكار- فقال له أسامة: استغفر لي يا رسول الله!)]؛ لإدراك أسامة أنه ما كان ينبغي أن يكون ذلك منه، فإنه لما أنكر عليه النبي عليه السلام تنبه لخطئه؛ فطلب الاستغفار من النبي عليه الصلاة والسلام، وفي هذا بيان أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا أسرع الخلق توبة واستغفاراً، وكانوا يطلبون ذلك من النبي عليه الصلاة والسلام؛ لعلمهم أن دعاءه مستجاب، فقال: (استغفر لي يا رسول الله!).
قالت: [(فلما كان العشي -أي: لما كان وقت المساء- قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختطب -أي: فخطب الناس- فأثنى على الله بما هو أهله)].
وهذه سنن لمن أراد أن يبدأ بحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يثني على الله خيراً.
قالت: [(ثم قال: أما بعد)] وفي هذا استحباب إذا فرغ الخطيب من مقدمة كلامه أن يفصل بينها وبين الموضوع بكلمة: أما بعد.
أي: بعد فراغي من هذه المقدمة التي اشتملت على الحمد والثناء والتمجيد والصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام وغير ذلك أدخل في الموضوع.
قالت: [(قال: ثم أما بعد: فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها.
ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها)] بعد أن بين النبي عليه الصلاة والسلام أن الناس في الحدود سواء قطع يدها.
[(قال يونس: قال ابن شهاب: قال عروة: قالت عائشة: فحسنت توبتها بعد)]؛ لأن حدها قطع يدها وليس رجمها؛ لأنها لم تكن زانية وإنما كانت سارقة، فلما قطعت يدها حسنت توبتها جداً بعد إقامة الحد عليها.
قالت: [(وتزوجت، وكانت تأتيني بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)] عائشة رضي الله عنها تقول: حسنت توبتها بعد إقامة الحد عليها وتزوجت وكانت تأتي عائشة في بيتها، فتقص حاجتها إلى عائشة، وعائشة ترفع هذه الحاجة إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
والمعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام بالنسبة لنساء الأمة ليس كغيره من بقية الرجال مما حدى ببعض أهل العلم إلى أن يقولوا: أن النبي محرم لجميع نساء الأمة، وليس على ذلك دليل صريح ولا صحيح، وإنما هو قول لبعض فقهاء الشريعة، قالوا: النبي صلى الله عليه وسلم محرم لنساء الأمة، وهذا كلام هو إلى الرد أقرب، قال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6] لكن هذا شيء، وإثبات أنه محرم لنساء الأمة شيء آخر؛ ولذلك لم يثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل على امرأة ليس عندها محرم.
وحديث أم التيهان: أن النبي عليه الصلاة والسلام ذهب إليها هو وأبو بكر وعمر فقال: (السلام عليكم يا أهل البيت! ثلاث مرات، ثم انصرف عليه الصلاة والسلام، فأسرعت في طلبه أم التيهان قالت: يا رسول الله! والله إني لأسمع سلامك وأرد عليه بصوت منخفض رجاء أن تزيدنا سلاماً، فتفضل يا رسول الله! حتى يأتي أبو التيهان.
قال: أين هو؟ قالت: ذهب ليسقي لنا) يأتينا بالماء.
فلم يدخل النبي عليه الصلاة والسلام حتى أتى أبو التيهان.
ولو كان محرماً لـ أم التيهان عليه الصلاة والسلام لدخل وما كان في ذلك أدنى حرج.
أما دخوله عند أم سليم وغيرها من النساء فهن قريباته رضي الله عنهن وهن محارمه، فله أن يدخل وأن يخرج عليهن ولا حرج في ذلك.
فتقول عائشة: (فحسنت توبتها بعد وتزوجت، وكانت تأتيني بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى النبي عليه الصلاة والسلام).
رب سائل يسأل فيقول: ولم لم ترفع حاجتها إلى الن(61/5)
شرح حديث: (كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده)
قال: [وحدثنا عبد بن حميد أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: (كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده).
يعني: تستعير الشيء الذي يكون فيه الاستعارة بين النساء وتنكره إذا جاءت صاحبة ذلك الشيء تطلبه، وكانت هذه المرأة شريفة من علية القوم، لكن فيها هذه الخصلة: أنها تستعير الشيء وتجحده، وتقول: ما أخذت شيئاً.
لكن اعلم -رحمك الله- أن إقامة الحد عليها كان للسرقة لا لأجل أنها تجحد العارية، وهذا محل نزاع بين أهل العلم، والراجح: أن جاحد العارية لا يقام عليه الحد، فجحد العارية ليس سرقة، ففيه التعزير دون الحد، وذكر عائشة رضي الله عنها لهذه الخصلة إنما هو ذكر لأحد صفاتها المعروفة بها.
إذاً: القطع كان لأجل السرقة وليس لجحد العارية، وذكر جحدها للعارية وصف لها لا أنه سبب القطع.
قالت: [(فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تقطع يدها، فأتى أهلها أسامة بن زيد فكلموه فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم)].(61/6)
شرح حديث جابر في قصة المخزومية التي سرقت
قال: [وحدثني سلمة بن شبيب قال: حدثنا الحسن بن أعين.
وهو الحسن بن محمد بن أعين ينسب غالباً إلى جده، وهو أبو علي القرشي الحراني، وحران قرية بدمشق.
[قال: حدثنا معقل بن عبيد الله الجزري عن أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما: (أن امرأة من بني مخزوم سرقت فأتي بها النبي صلى الله عليه وسلم فعاذت بـ أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم)] لجأت إليها ولاذت بجنابها حتى تشفع لها عند النبي عليه الصلاة والسلام، (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والله لو كانت فاطمة لقطعت يدها، فقطعت)].(61/7)
باب حد الزنا
الباب الثالث: [باب حد الزنا].(61/8)
شرح حديث: (قد جعل الله لهن سبيلاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وحدثنا يحيى بن يحيى التميمي أخبرنا هشيم]-وهو ابن بشير بن القاسم السلمي أبو معاوية الواسطي - عن منصور - وهو ابن زاذان الواسطي أبو المغيرة الثقفي - عن الحسن البصري -سيد من سادات التابعين- عن حطان بن عبدالله الرقاشي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاًَ، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم)].
قال عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني خذوا عني) أي: تحملوا هذا العلم عني وتلقوه مني، فإنه وحي السماء.
وكرر ليؤكد أهمية الكلام، فقال: (قد جعل الله لهن سبيلاً) (لهن) ضمير يعود على النسوة، كأن الأمر قبل ذلك لم يكن لهن سبيلاً، حتى جعل الله على لسان رسوله سبيلاً لمن وقع من النساء في الزنا.
قال: (قد جعل الله لهن سبيلاً) ما هو هذا السبيل؟ قال: (البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام) أو تغريب سنة.
قال: (والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) والمعلوم المشهور الذي عليه العمل ويعرفه القاصي والداني: أن البكر يجلد مائة ولا يعرف أكثر الناس التغريب، كما أن أكثر الناس يعرفون أن الثيب ترجم ولا تجلد؛ ولذلك هذه المسألة كانت محل نزاع كبير جداً بين أهل العلم؛ إذ إن العمل على أن البكر يجلد بغير نفي، والثيب ترجم بغير جلد.
قال: [وحدثنا عمرو الناقد حدثنا هشيم أخبرنا منصور بهذا الإسناد مثله.
حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار جميعاً عن عبد الأعلى - وهو ابن عبد الأعلى - قال ابن المثنى: حدثنا عبد الأعلى حدثنا سعيد عن قتادة].
إذا روى سعيد عن قتادة فإنما هو سعيد بن أبي عروبة البصري وقتادة إذا روى عن الحسن فهو الحسن البصري، فـ سعيد وقتادة والحسن كلهم بصريون، قال: [عن قتادة عن الحسن عن حطان بن عبد الله الرقاشي عن عبادة بن الصامت قال: (كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه كُرِب لذلك وتربد له وجهه)] يعني: أصابه كرب وهم وضيق.
وتربد: تغير وتلون وجهه صلى الله عليه وسلم لشدة هذا الأمر، كيف لا والله تعالى يقول: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5] فالقرآن والوحي ثقيل جداً؛ ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يشتد عرقه في الليلة الشديدة البرد إذا نزل عليه الوحي.
قال: [(قال: فأنزل عليه ذات يوم -أي: وحي- فلقي كذلك -أي: تغير وجهه- فلما سري عنه)] أي: لما كشف عنه وارتفع عنه الوحي وصعد جبريل إلى ربه، [(قال: خذوا عني.
قد جعل الله لهن سبيلاً)] وفي هذا إثبات أن السنة وحي من عند الله عز وجل؛ لأن هذه صورة الوحي التي كان ينزل بها جبريل عليه السلام، فلما فرغ النبي عليه الصلاة والسلام من الحالة التي كان عليها قال: (خذوا عني) فلم يذكر قرآناً وإنما ذكر سنة، وفي هذا دليل على أن القرآن والسنة وحيان من عند الله عز وجل، وبينهما أوجه اتفاق وأوجه افتراق في الخصائص.
قال: [(خذوا عني.
فقد جعل الله لهن سبيلاً، الثيب بالثيب والبكر بالبكر، الثيب جلد مائة ثم رجم بالحجارة، والبكر جلد مائة ثم نفي سنة).
وحدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر - المعروف بـ غندر - حدثنا شعبة وحدثنا محمد بن بشار حدثنا معاذ بن هشام - وهو ابن أبي عبد الله الدستوائي - عن أبيه كلاهما - أي: شعبة وهشام الدستوائي - عن قتادة بهذا الإسناد - أي: عن قتادة عن الحسن عن حطان عن عبادة [غير أن في حديثهما: (البكر يجلد وينفى -ولم يذكر سنة- والثيب يجلد ويرجم).
لا يذكران سنة ولا مائة] لم يذكرا: (جلد مائة)، فهذا لفظ عام يحمل على الألفاظ السابقة.(61/9)
كلام النووي في أحاديث باب حد الزنا(61/10)
بيان أن حد الزنا هو السبيل الناسخ للحبس والأذى
قال الإمام النووي: (أما قوله صلى الله عليه وسلم: (فقد جعل الله لهن سبيلاً) فإشارة إلى قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء:15] فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا هو ذلك السبيل).
وهذه الآية في سورة النساء، قال الله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء:15] والفاحشة هي: الزنا.
{فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء:15] يعني: يشهد على وقوع الفاحشة من هذه المرأة أربعة من المسلمين.
{فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء:15] وهذا كان في أول الأمر، إذ كانت التي تزني تحبس في البيت حتى تموت في حبسها، ولا تخرج من بيتها أبداً، أو ينزل الله تعالى فيها قرآناً يحكم فيها بحكم.
ثم قال تعالى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا} [النساء:16] أي: الفاحشة.
{مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء:16] لم يقل: فأقيموا عليهما الحد؛ لأنه لم ينزل الحد بعد، والإيذاء يكون بالشتم والضرب بالنعال والفضيحة والتعيير وغير ذلك.
قال تعالى: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا} [النساء:16] أي: بعد الأذى {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:16].
قال الإمام ابن كثير: كان الحكم في ابتداء الإسلام أن المرأة إذا زنت فثبت زناها بالبينة العادلة حبست في بيت، فلا تمكن من الخروج منه إلى أن تموت؛ ولهذا قال: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ} [النساء:15] يعني: الزنا.
{مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء:15] فالسبيل الذي جعله الله هو الناسخ لذلك.
وحد الزانية إذا كان ثيَّباً أتينا به من السنة، وإذا كانت بكراً فحدها مذكور في القرآن: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2].
أما القرآن فهو المنسوخ لفظاً ولم ينسخ حكماً، كما في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (كان فيما أنزل الله عز وجل في القرآن: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة).
قوله: (ارجموهما البتة) يعني: حتى يموتا.
فهذه آية نزلت من السماء في كتاب الله عز وجل، فرفع الله تعالى لفظها ولم يرفع حكمها، وسنأتي بالأدلة على ذلك بإذن الله.
الشاهد الثاني على أننا علمنا أن حكم الثيب من السنة: (والثيب بالثيب جلد مائة والرجم).
وإذا كان القرآن ليس فيه الرجم فهذا دليل على أن السنة تستقل بأحكام ليست في القرآن، وهذا رد على من يزعمون أنهم قرآنيون ويطالبوننا أن نأتي لهم بكل حكم من القرآن الكريم، فهؤلاء هم أبعد الناس عن القرآن الكريم، كما أنهم أبعد الناس عن سنة النبي الأمين عليه الصلاة والسلام.(61/11)
إثبات أن السنة تنسخ القرآن
وفي هذا إثبات أن السنة تنسخ القرآن كما أن القرآن ينسخ السنة، وهذا مذهب جماهير العلماء.
فالسبيل في قوله تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء:15].
هو قوله عليه الصلاة والسلام الموحى إليه من السماء: (البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم)، وهذا السبيل نسخ قول الله عز وجل: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} [النساء:15] فالتي تزني يقام عليها الحد بكراً كانت أم ثيباً، أما الإمساك في البيوت فهذا حكم صار منسوخاً، وفي هذا إثبات أن السنة تنسخ القرآن.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان الحكم كذلك حتى أنزل الله سورة النور فنسخها بالجلد أو الرجم.
وهو قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2].
وأخرج الإمام أحمد هذا الحديث الذي أخرجه مسلم عن عبادة بن الصامت: (كان إذا نزل عليه الوحي أثر عليه وكرب لذلك وتربد وجهه)، ثم ذكر الترمذي كذلك هذا الحديث: (خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم).
وكذلك عند أبي داود الطيالسي حديث عبادة الذي ذكرناه هذا: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة).
وذكر الحجارة في الحديث ليس على سبيل القيد؛ لأن إجماع العلماء منعقد على أن الرجم يجوز بأي شيء غير الحجارة، كما في الاستجمار تماماً، والاستجمار قد ورد في النصوص بأنه بالحجارة، لكن إن تم الاستجمار بغير الحجارة جاز.(61/12)
رجم الزاني الثيب
قال: وقد ذهب الإمام أحمد بن حنبل إلى الجمع بين الجلد والرجم في حق الثيب الزاني.
يعني: مذهب الحنابلة الجمع بين الجلد والرجم في حق الثيب الزاني، خلافاً للجمهور يرى أن الثيب الزاني إنما يرجم فقط من غير جلد، أي: أخذوه بأقصى العقوبتين، فأقصى العقوبة الرجم.
قال: قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزاً والغامدية واليهوديين ولم يثبت أنه جلدهم قبل الرجم.
وإنما رجمهم مباشرة، ففعله عليه الصلاة والسلام ناسخ عند الجمهور لقوله: (وجلد مائة).
قال: أما قوله تعالى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء:16] أي: واللذان يفعلان الفاحشة فآذوهما.
قال ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير وغيرهما: أي: أوذوهما.
وقال عبد الله بن كثير: نزلت في الرجل والمرأة إذا زنيا.
وقال السدي: نزلت في الفتيان من قبل أن يتزوجوا.
وقال مجاهد: نزلت في الرجلين إذا فعلا ـ يعني: اللواط.
وقيل غير ذلك في هذا النص.
قال: وقوله: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا} [النساء:16] أي: أقلعا ونزعا عما كانا عليه وصلحت أعمالهما وحسنت.
{فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} [النساء:16] أي: لا تعنفوهما بكلام قبيح بعد ذلك.
لأنه لا يحل لأحد قط أن يعير أحداً وقع في ذنب فتاب منه، وأنتم تعلمون حديث المحاجة بين آدم وموسى، فحاج آدم موسى؛ لأن موسى عيره بذلك بعد أن تاب، والله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:16].
قال الإمام النووي عليه رحمة الله: (اختلف العلماء في هذه الآية: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} [النساء:15] فقيل: هي محكمة، وهذا الحديث مفسر لها.
وقيل: بل منسوخة بالآية التي في سورة النور: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور:2].
وقيل: إن آية النور في البكرين وهذه الآية في الثيبين).(61/13)
وجوب جلد الزاني البكر وذكر الخلاف في نفيه ورجم الثيب وجلده
أجمع العلماء على وجوب جلد الزاني البكر مائة، ليس هناك خلاف على هذا، ولكن الخلاف: هل ينفى أو لا؟ فالإجماع منعقد على أن البكر إذا زنى يجلد مائة جلدة، ووقع الخلاف في حقه في التغريب، وانعقد الإجماع في حق الثيب بالرجم، ووقع الخلاف في جلده مائة.
قال النووي: (ولم يخالف في هذا أحد من أهل القبلة، إلا ما حكى القاضي عياض وغيره عن الخوارج وبعض المعتزلة كـ النظام وأصحابه؛ فإنهم لم يقولوا بالرجم.
وهذا رأي في غاية الشذوذ).
قال: (واختلفوا في جلد الثيب مع الرجم) لأن الرجم لا خلاف عليه، لكنهم اختلفوا في إلحاق الجلد بالرجم.
(فقالت طائفة: يجب الجمع بينهما فيجلد ثم يرجم).
وهذا مذهب الحنابلة كما قلنا.
(وبه قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه والحسن البصري وإسحاق بن راهويه وداود وأهل الظاهر وبعض أصحاب الشافعي.
وقال جماهير العلماء: الواجب الرجم وحده).
الرجم فقط هو الواجب، ولا بأس أن يجلد لكن الجلد ليس بواجب.
إذاً: هم لم يختلفوا في إيقاع الجلد، وإنما اختلفوا في تأكيد وحكم الجلد، فبعض أهل العلم قال: يجب الجمع بين الجلد والرجم، والبعض الآخر قال: بل الرجم هو الواجب والجلد جائز، ولكنه ليس واجباً.
وهذا مذهب الجماهير.
قال: (وحكى القاضي عن طائفة من أهل الحديث: أنه يجب الجمع بينهما إذا كان الزاني شيخاً ثيباً) أي: أن المقصود: أن هذا رجل ثيب متزوج من قبل، وأيضاً شيخ كبير قد انطفأت فيه نار الشهوة، ومع هذا يزني، فيصير هذا أشد بغضاً؛ ولذلك شددوا عليه من العقوبة؛ لأن هذه الجريمة منكرة من كل من أتى بها ثيباً كان أم بكراً، لكنها أشد نكارة إذا أتت من امرأة كبيرة شمطاء عجوز محصنة أو أتى هذا الجرم من رجل كبير شيخ قد انطفأت نار شهوته، فلا يمكن أبداً أن يستوي في القبح فعله مع فعل الشاب الذي تثور شهوته؛ ولذلك قالت طائفة من أهل الحديث: يجب الجمع بين الجلد والرجم إذا كان الزاني شيخاً ثيباً، فإذا كان شاباً ثيباً اقتصر على الرجم.
وهذا مذهب باطل لا أصل له.
هذا كلام الإمام النووي؛ لأن هذا التفريق ليس عليه دليل.
قال: (وحجة الجمهور: أن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر على رجم الثيب في أحاديث كثيرة، فهنا قصة ماعز وقصة المرأة الغامدية.
وكذا قصة اليهوديين حيث احتكم اليهود إلى النبي عليه الصلاة والسلام أن يقيم فيهم شرع الله فحكم برجمهما، ولم يثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بجلدهما، فتبين أن الجلد ليس بحتم، بدليل: أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله ولكنه لم يعمل به.
قال: (وأما قوله في البكر: (نفي سنة) ففيه حجة للشافعي والجماهير أنه يجب نفيه سنة رجلاً كان أو امرأة).
وقال الحسن: لا يجب النفي.
وإنما هو جائز، فكما قلنا في جمع الجلد مع الرجم في حق الثيب نقول كذلك في النفي مع الجلد في حق البكر.
وقال مالك والأوزاعي: لا نفي على النساء؛ لأن هذا ينافي الطبيعة التي خلقت لأجلها النساء، إذ إن المرأة لا تخرج من بيتها، وصلاتها في بيتها أحب إلى الله عز وجل من صلاتها في المسجد، فهذا يتنافى مع تغريب المرأة.
قال: (وقال علي بن أبي طالب: لا نفي على النساء؛ لأنها عورة، وفي نفيها تضييع لها وتعريض لها للفتنة؛ ولهذا نهيت عن السفر إلا مع محرم).
قال: (وحجة الشافعي: (البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة)).
وهذا نص عام يشمل البكر من الرجال والنساء.(61/14)
معنى قوله: (البكر بالبكر والثيب بالثيب)
قال الإمام النووي رحمه الله: أما قوله: (البكر بالبكر والثيب بالثيب) فليس هو على سبيل الاشتراط).
حتى لا يفهم أحد أن الثيب إذا زنى بثيب يرجم الاثنان، وإذا زنى بكر ببكر يجلد الاثنان، فالمقصود: أن عقوبة البكر سواء زنى ببكر أو زنى بثيب الجلد، وعقوبة الثيب إذا زنى بثيب أو زنى ببكر الرجم.
قال: (بل حد البكر الجلد والتغريب سواء زنى ببكر أم بثيب، وحد الثيب الرجم سواء زنى بثيب أم ببكر؛ فهو شبيه بالتقييد الذي يخرج على الغالب).
قال: (واعلم أن المراد بالبكر من الرجال والنساء: من لم يجامع في نكاح صحيح وهو حر بالغ عاقل).
أي: أن البكر: هو من لم يجامع، والثيب: هو من جامع، وشرط الثيب أن يجامع في نكاح صحيح، لا وطء بشبهة ولا نكاح فاسد، بل نكاح صحيح قد اكتملت شروطه وأركانه، هذا الذي يسمى فيه صاحبه ثيباً، فلو أن رجلاً دخل بامرأة وهو مجبوب أو عنين لا يقوى على إتيان النساء وظلت سنوات ولم يفض بكارتها ثم زنت، هل يقام عليها حد الثيب أو البكر؟
الجواب
يقام عليها حد البكر، فالضابط في اعتبار الثيوبة والبكارة ليس هو البناء، وإنما هو الجماع.
كذلك لو زنت البكر قبل البناء، ثم زنت بعد ذلك هل يعتبر زناها الأول رافعاً لوصف البكارة؟
الجواب
لا يعتبر، وإن زنت قبل الإحصان مراراً وتكراراً فهي بكر.
إذاً: الضابط في حق من بني بها: الجماع، والضابط في حق من لم تتزوج الزواج الصحيح.
فهاتان قاعدتان ينبغي حفظهما جيداً، بل ينبغي أن يكون المحدود بالغاً؛ لأن غير البالغ ليس مكلفاً، كما أنه ينبغي أن يكون عاقلاً احترازاً من المجنون، وينبغي أن يكون حراً، والرجل والمرأة في هذا سواء، وسواء في كل هذا المسلم والكافر والرشيد والمحجور عليه لسفه أو غيره.
أستغفر الله تعالى لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد.(61/15)
شرح صحيح مسلم - كتاب الحدود - رجم الثيب في الزنا
لقد شرع الله تعالى لعباده أحكاماً، وحد لهم حدوداً يحفظون بها دماءهم وأموالهم وأعراضهم؛ وذلك لتستقيم حياتهم، ويفوزوا بالسعادة في الدارين، ومن هذه الحدود حد الزنا، وهو الجلد للبكر وتغريب عام، والرجم للزاني المحصن، وقد جعل الله سبحانه هذه الحدود كفارة لمن تعداها وتجاوزها، فمن أقيم عليه الحد فلا يلعن ولا ينتقص؛ لأن الحدود كفارات لأصحابها.(62/1)
باب رجم الثيب في الزنا
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وبعد: فما زال الكلام في الزنا موصولاً -نسأل الله تعالى لنا ولكم العافية- فالباب الرابع باب: [رجم الثيب في الزنا].
والثيب: هو المحصن سواء كان رجلاً أو امرأة.
والمحصن: هو الناكح أو المنكوح -الرجل الناكح والمرأة هي المنكوح- بعقد صحيح.
ونحن قلنا في الدرس الماضي: أن الإحصان يجب أن يكون في عقد أو زواج صحيح لا فاسد ولا وطء بشبهة.(62/2)
شرح حديث عمر بن الخطاب في رجم الزاني المحصن
والآن مع باب رجم الثيب في الزنا.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثني أبو الطاهر وحرملة بن يحيى قالا: حدثنا ابن وهب - عبد الله بن وهب المصري - أخبرني يونس عن ابن شهاب].
وقلنا مراراً: أن يونس إذا أتى بين ابن وهب وابن شهاب فإنما هو يونس بن يزيد الأيلي.
قال: [أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة المسعودي أنه سمع عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يقول: (قال عمر بن الخطاب وهو جالس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد بعث محمداً بالحق صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل عليه آية الرجم قرأناها ووعيناها وعقلناها، فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله؛ فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله عز وجل، وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف)] حديث جميل ورائع جداً، وفيه فوائد عظيمة.
قوله: (قال عمر رضي الله عنه ذات يوم وهو جالس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وهذا يدل على أن الأمر كان شائعاً بين الصحابة بغير استنكار، وإلا لو كان كلام عمر فيه ما ينكر لأنكر عليه السامعون، وهم من هم في العلم والإمامة والسيادة، ولا يخشون في الله لا عمر ولا غير عمر، فلو كان في كلام عمر ما لا يشهد له الكتاب ولا السنة لأنكر عليه جمع من أصحابه، فلما لم ينكر عليه أحد دل ذلك على أن عمر رضي الله عنه إنما خاطب الصحابة رضي الله عنهم بأمر كان مستقراً لديهم، وكانوا يعرفونه سلفاً.
فكان مما قال عمر رضي الله عنه: (إن الله قد بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق) وهذا حق لا مرية فيه.
قوله: (وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل عليه آية الرجم) أي: كان مما أنزل على النبي محمد في القرآن الكريم آية الرجم التي هي: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة) وهذا كلام الله عز وجل قد جاء به جبريل من السماء وحياً إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
قوله: (الشيخ والشيخة) أي: المحصن والمحصنة.
قوله: (إذا زنيا فارجموهما ألبتة) يعني: ارجموهما حتى الموت.
ولكن هذه الآية نسخت تلاوة ولم تنسخ حكماً، فحكمها باق إلى قيام الساعة، أما لفظها في كتاب الله فمنسوخ، والنسخ في القرآن إما نسخ لفظي مع بقاء الحكم كما هو الحال في هذه الآية، وإما نسخ الحكم وبقاء اللفظ كما هو الحال في الكثير من الآيات وهو ما يعرف عند أهل العلم بالناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، وإما أن تنسخ الآية تلاوة وحكماً.
فهذه الثلاثة أنواع من النسخ في كتاب الله عز وجل.
والقرآن ينسخ بعضه بعضاً، كما أن القرآن ينسخ السنة، والسنة تنسخ بعضها بعضاً، كما أن السنة تنسخ القرآن أيضاً.
قوله: فقال عمر: (فكان مما أنزل عليه آية الرجم، قرأناها) أي: في حضرة النبي عليه الصلاة والسلام.
(ووعيناها) وعياً أكيداً.
قال: (وعقلناها، فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده).
بعد بيان أن آية الرجم منسوخة انتقل بعد ذلك إلى السنة العملية للنبي صلى الله عليه وسلم فبين أنه قد رجم، وأن الصحابة رضي الله عنهم قد رجموا من بعده، رجم أبو بكر ورجم عمر ورجم عثمان ورجم علي رضي الله عنهم أجمعين.
وأنتم تعلمون أننا مأمورون باتباع سنة الخلفاء الراشدين، وأنهم راشدون مهديون، وقد أمرنا أن نتمسك بسنتهم، وأن نعض عليها بالنواجذ؛ لأنها دين، ويكاد إجماع الخلفاء الأربعة يكون إجماعاً معتبراً، لولا أن بعض أهل العلم قالوا: إجماع الأربعة ليس إجماعاً، إنما الإجماع المعتبر هو إجماع الصحابة رضي الله عنهم.
قال: (فأخشى إن طال بالناس زمان) يعني: أخشى إن طال بالناس العهد وطالت بهم الأيام.
(أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله) إنما الذي نجده في كتاب الله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] فالجلد في كتاب الله، أما الرجم فليس في كتاب الله.
والخوارج وبعض فرق الضلال قالوا: لا نجد في كتاب الله الرجم.
وقال ذلك من بعدهم ورثة الأسافل والأراذل المسمون بالقرآنيين في هذا الزمان.
قالوا: ما وجدنا في كتاب الله حلالاً حللناه، وما وجدنا في كتاب الله حراماً حرمناه.
والنبي عليه الصلاة والسلام قد أخبرنا عن هؤلاء.
قال: (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته شبعان يأتيه الأمر(62/3)
كلام النووي على حديث عمر بن الخطاب في الرجم
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وبعد: فما زال الكلام في الزنا موصولاً -نسأل الله تعالى لنا ولكم العافية- فالباب الرابع باب: [رجم الثيب في الزنا].
والثيب: هو المحصن سواء كان رجلاً أو امرأة.
والمحصن: هو الناكح أو المنكوح -الرجل الناكح والمرأة هي المنكوح- بعقد صحيح.
ونحن قلنا في الدرس الماضي: أن الإحصان يجب أن يكون في عقد أو زواج صحيح لا فاسد ولا وطء بشبهة.(62/4)
بيان عقوبة الزاني
قال: (أجمع العلماء على أن الرجم لا يكون إلا على من زنى وهو محصن) أجمع العلماء على أن الرجم لا يكون إلا في حق الزاني المحصن، وأما غير المحصن فيكون في حقه الجلد، والخلاف قائم بين أهل العلم فيما يتعلق بعقوبة الزاني سواء كان محصناً أو غير محصن.
فإذا كان محصناً فمنهم من قال: عليه جلد مائة والرجم.
وهذا ظاهر النصوص.
ومنهم من قال: بل عليه الرجم دون الجلد؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام رجم دون أن يجلد، وهو الذي أمر بالجلد وتركه عليه الصلاة والسلام.
أما غير المحصن فإنه يجلد مائة ويغرب عاماً.
ومنهم من قال: يجلد بغير تغريب.
وقد فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً.
قال: (كما أجمع أهل العلم على أنه إذا قامت البينة بزناه وهو محصن يرجم).
يعني: البينة لا خلاف عليها، فإذا قامت البينة رجم بالإجماع.(62/5)
وجوب إقامة البينة لإقامة حد الزنا
قال: (وأجمعوا على أن البينة أربعة شهداء ذكور عدول).
وهذا احتراز من القلة وليس من الكثرة، فلا يمنع أن يشهد خمسة أو ستة أو عشرة، بل هذا أوكد لتيقن وقوع الجريمة، لكنه لو شهد ثلاثة أو اثنان وإن كانوا من أعدل الناس لا يقام الحد إلا على زان شهد عليه أربعة، وهؤلاء الأربعة ذكور؛ احترازاً من النساء.
ولم يخالف في ذلك إلا ابن حزم.
قال: لا بأس أن يشهد رجلان وأربع نسوة، أو يشهد ثلاثة وامرأتان، أو واحد وست من النساء، أو ثمان من النساء.
وهذه مظاهرة، إذا إن القرآن حدد أربعة شهداء والسنة حددت أربعة شهود، والشاهد يشترط فيه أن يكون ذكراً، كما يشترط فيه أن يكون عدلاً؛ احترازاً من شهادة الفاسق أو الكافر من باب أولى.
فشهادة الفاسق لا تصح وليس عليها العمل في هذا الجرم أو في هذه الفاحشة، فإنه يشترط فيها العدالة, والعدالة باختصار هي: ملكة في النفس تحمل صاحبها على ملازمة التقوى والمروءة.
ومنهم من عرف العدالة بعدم اقتراف كبائر الذنوب، وترك الإصرار على الصغائر.
يعني: لا يكون قد ارتكب كبيرة ولا أصر على صغيرة.
هذا تعريف آخر للعدالة، وهناك تعريفات أخرى غير ما ذكرناه، وأرجح التعريفات فيها: أنها ملكة تحمل صاحبها على ملازمة التقوى والمروءة.
وهذا تعريف الحافظ ابن حجر لمعنى العدالة.
قال: (وأجمعوا على أن البينة أربعة شهداء ذكور عدول، هذا إذا شهدوا على نفس الزنا).
يعني قالوا: رأينا بأعيننا الإيلاج؛ فإنه لا يكفي أن رجلاً قبَّل امرأة، ولا يلزم من هذا أنه يكون قد باشرها أو جامعها، ولو فاخذها ولو نام معها في لحاف واحد لا يلزم من ذلك أن يكون قد جامعها، وهذا شيء في غاية القبح وفي غاية الخسة والنذالة، لكن هناك فارق عظيم جداً بين هذا الشيء القبيح وبين ترتب إقامة الحد عليه؛ لأن إقامة الحد لا يقام إلا على من زنى حقيقة، وشهد الشهود أنه قد أولج في المرأة حقيقة، وأنهم رأوا ذلك بأعينهم.
فمثلاً: هب أن ثلاثة شهدوا عند القاضي أو الوالي أو النائب أنهم قد رأوا الإيلاج بأعينهم، فعلى القاضي أن يقيم على الشهود حد القذف؛ لأن النصاب لم يجتمع، وأعراض الناس مصانة أن تدنس، وهذا فيه أعظم زاجر للناس ليكفوا ألسنتهم عن الخوض في أعراض الآخرين حتى ولو كانوا كفاراً؛ لأنه لا يحل لنا أن نتهم الكفار بتهمة لم يرتكبوها، وهذا من عدالة الإسلام؛ فإنه لم يأذن بذلك.(62/6)
وجوب رجم المحصن إذا أقر بالزنا
قال: (هذا إذا شهدوا على نفس الزنا، ولا يقبل دون الأربعة وإن اختلفوا في صفاتهم).
قال: (وأجمعوا على وجوب الرجم على من اعترف بالزنا وهو محصن يصح إقراره بالحد).
إذا أتى إنسان وأقر بين يدي الوالي أو الحاكم وقال: أنا زنيت، وشهد على ذلك واعترف وأقر أقيم عليه الحد، ولكنهم اختلفوا في إقرار السكران، وهل يلزم أن يعترف الزاني أربع مرات عند القاضي أنه قد زنى؟ الحقيقة أن من قالوا بلزوم تكرار الإقرار بين يدي القاضي أقام كل إقرار مقام الشاهد، وقالوا: لا بد من أن يشهد وأن يقر بين يدي القاضي أربع مرات.
وإنما قالوا ذلك قياساً على الشهود، فقالوا: كل إقرار يحل محل الشاهد.
كما أنه قد ورد في بعض الروايات التي تحدثت عن جريمة الزنا التي وقعت من ماعز بن مالك الأسلمي أنه أقر بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام أربع مرات.
قال: (وأجمعوا على وجوب الرجم على من اعترف بالزنا وهو محصن يصح إقراره بالحد، واختلفوا في اشتراط تكرار إقراره أربع مرات، وسنذكره قريباً إن شاء الله تعالى).(62/7)
اختلاف العلماء في جعل الحبل لغير ذات الزوج أو السيد بينة
الحبل إذا ظهر على امرأة لها زوج أو سيد لا يقام عليها الحد بالإجماع، فكيف يقام عليها الحد وهي حاملة من زوجها وهي امرأة ذات رجل، فلا يقام عليها الحد إلا إذا أنكر زوجها فبينهما ما يسمى باللعان؟ قال: (أما الحبل وحده فمذهب عمر رضي الله عنه وجوب الحد به إذا لم يكن لها زوج ولا سيد، وتابعه مالك وأصحابه فقالوا: إذا حبلت ولم يعلم لها زوج ولا سيد، ولا عرفنا إكراهها لزمها الحد) وهذا شيء ثالث: إذا كانت هذه المرأة لا زوج لها ولا سيد، ولا علمنا أن أحداً أكرهها -لأن المرأة إذا أكرهت على الزنا لا يقام عليها الحد- حدت.
قال: (وقال الشافعي وأبو حنيفة وجماهير العلماء: لا حد عليها بمجرد الحبل سواء كان لها زوج أو سيد أم لا، سواء الغريبة وغيرها، وسواء ادعت الإكراه أم سكتت، فلا حد عليها مطلقاً إلا ببينة أو اعتراف) فلم يعتبروا الحبل كافياً في إقامة الحد عليها.
قال: (لأن الحدود تسقط بالشبهات).(62/8)
مسألة: زنا الجني بالمرأة من الإنس
لعلكم تعلمون أن بعض النساء في هذا الزمان يظهر عليها الحبل وليس لها زوج، فإذا سئلت عن ذلك قالت: إنما يجامعني القرين.
أي: يجامعني الشيطان، أو يجامعني جني قد لبسني وعشقني وعشقته، وهذا مزلق خطير جداً تدندن به الفاجرات صويحبات الفاحشة ومن درجت على البغاء، وتستند إلى أنها مصروعة أو ملبوسة وأن من صرعها أو لبسها هو الذي يجامعها، ولو فتح هذا الباب على مصراعيه، لادعت كل امرأة أرادت البغاء أن الجني هو الذي يعاشرها وأن هذا فوق طاقتها.
فكيف سيكون الحال؟! فهذا كلام مرفوض، وكلام غير صحيح، فلو أن امرأة واحدة زنت واحتجت بالجن وأقيم عليها الحد لفكرت كل امرأة ألف مرة أن تسلك هذا المسلك أو أن تعتمد على أن الجني هو الذي يجامعها.
وأنتم قد سمعتم هذا، وأنا سمعته مراراً وتكرراً، فلا شك أن هذا باب عظيم جداً وسبب في من أبواب الفاحشة، ولو صدقناه وآمنا به لكان هذا باباً عظيماً جداً وسبب في انتشار الفاحشة في المجتمع.
وعلى أية حال: عقيدتنا أن الجن يصرع الإنس، وأن الإنس يستعينون بالجن فيزيدهم الجن رهقاً، وأننا نؤمن بالجن كما قد آمنا بالإنس، وأن الاتصال قائم بين الإنس والجن ولكن ليس على أساس شرعي.
وهناك فارق عظيم جداً بين إمكانية وقوع الشيء وبين مشروعية هذا الشيء، فإمكانية الفجور بين الإنس والجن قائمة، ويمكن أن يتصل الإنسي بالجني أو الجني بالإنسي، ويكون بينهما من الزنا والفواحش كما بين الجن والجن وكما بين الإنس والإنس، لكن هذا غير مشروع، ونحن نؤمن بالصرع كما نؤمن أن علاجه في كتاب الله وفي سنة الرسول عليه الصلاة والسلام.
إذاً: هناك فارق بين إمكانية الوصال والفجور بين الإنس والجن وبين مشروعية ذلك، فنقول: إن عالم الإنس له خصائصه وله أصوله وله مادته التي تكون منها، وهي تختلف عن مادة الجن، فالله تعالى خلق الجن من نار، وخلق الإنس من الطين، وخلق الملائكة من النور، فهذه ثلاثة مصادر أصيلة مختلفة بعضها عن بعض في أصل تكوين هؤلاء الخلق، فالجن لا يتصلون بالإنس اتصالاً مشروعاً بما يسمى النكاح لاختلاف الطبيعة.
وأما زعم من يزعم أنه متزوج بجنية أو جني يزعم أنه متزوج بفلانة من الإنس فهذا كلام يمكن وقوعه لكنه غير مشروع، كما أن الزنا بين الرجل والمرأة يمكن وقوعه لكنه أمر غير مشروع، ففارق عظيم بين المشروعية وبين إمكانية الوقوع، فالوقوع ممكن، بل ممكن أن تتم الفاحشة بين إنسان وأنثى الكلاب وأنثى الحمير وأنثى الطير وأنثى الوحوش والسباع، لكنه غير مشروع.
فلو زعم إنسان أنه قد تزوج أنثى الكلاب فهذا لا يصح لاختلاف الطبيعتين، ولو زعم أحد أن ذكر الفهد تزوج بأنثى الحمار فهذا غير صحيح لاختلاف الطبيعة، وهكذا اختلاف الطبيعة بين الإنس والجن.
والأصل في الجن الكذب، فلا يُصدقون لأول وهلة، وقد مررنا بأحوال وأطوار كثيرة جداً، وكان من أطرف هذه الأحوال: أن شيخنا الألباني عليه رحمة الله ذهب إليه أحد أصحابنا -وهذا في سنة (1984م) أو (1985م) - وقال: يا شيخ! أنا أدعوك لعقد نكاحي على امرأة من الجن، فنصحه الشيخ بأن هذا لن يتم ولن يرضى الجن بذلك.
فقال الرجل: بل يرضون، وقد أخذت عليها العهود والمواثيق وغير ذلك.
فقال: إذاً: على بركة الله، شريطة أن تظهر لنا وأن نناقشها وتناقشنا.
فقال: والله أنا أعرض الموضوع عليها وإن شاء الله يكون خيراً، وحدد موعد العقد، وحضرت العروس ولم يرها من الحاضرين أحد قط، فقال هذا الزوج: يا شيخ! والله هي كلما قابلتني أو قابلتها طلبت مني أن أقرأ عليها قرآناً؛ لتسمع وتنعم بالقرآن الكريم.
فقال الشيخ الذكي رحمه الله: ليست العبرة بأن تسمع القرآن إنما العبرة بأن تقرأ هي القرآن، فإذا كانت تتحرج أن تظهر علينا فلا أقل من أن تقرأ هي ونسمع نحن صوتها.
فانصرفت هذه الجنية إلى غير رجعة.
إذاً: بالنسبة للحبل اختلف فيه أهل العلم، فذهب الجماهير إلى أن الحبل وحده لا يقام به الحد سواء كان لها زوج أو سيد، أو ليس لها، وسواء كانت غريبة أو من أهل البلد.
وأما مالك وأصحابه ومن قبلهم عمر بن الخطاب فقالوا: إن الحبل يقوم مقام البينة، أو يقوم مقام الإقرار، وبالتالي يقام عليها الحد، وهذا الذي يترجح لدي: أن المرأة إذا ظهر عليها الحبل ولم يكن لها زوج ولا سيد أقيم عليها الحد.(62/9)
باب من اعترف على نفسه بالزنا
الباب الخامس: (باب من اعترف على نفسه بالزنا) يعني: أقر على نفسه بجريمة الزنا.(62/10)
قصة رجم ماعز في الزنا برواية أبي هريرة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وحدثني عبد الملك بن شعيب بن الليث بن سعد حدثني أبي عن جدي قال: حدثني عقيل - وهو عقيل بن خالد بن عقيل الرحالة - عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وسعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (أتى رجل من المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فناداه فقال: يا رسول الله! إني زنيت -أي: بصوت مرتفع- فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم)] فلما أعرض عنه جاءه من قبل وجهه وقال: (يا رسول الله! إني زنيت) فأشاح بوجهه الناحية الأخرى، فأتاه من قبل وجهه عليه الصلاة والسلام من الناحية الثانية وقال: (يا رسول الله! إني زنيت) فأشاح عنه ناحية اليمين فأتاه من قبل وجهه وقال: (يا رسول الله! إني زنيت) فأشاح عنه جهة الشمال، فأتاه من جهة الشمال فقال: (يا رسول الله! إني زنيت) أي: أربع مرات.
قال: [(فأعرض عنه حتى ثنى ذلك عليه أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبك جنون؟ قال: لا.
قال: فهل أحصنت؟ قال: نعم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهبوا به فارجموه)].
لما أقر على نفسه أربعاً، سأله النبي عليه الصلاة والسلام: (أبك جنون؟) أي: هل أنت مجنون؟ لأن إقرار المجنون لا عبرة به؛ لأنه ليس مكلفاً، فهو فاقد الأهلية.
والجنون: آفة تلحق العقل فتغيبه وتجعل المرء يخرف أو يهرف بما لا يعرف.
فقال: لا.
لست مجنوناً.
قال: (فهل أحصنت) أي: هل تزوجت؟ قال: (قال: نعم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهبوا به فارجموه).
ورجم بالحجارة.
وأعداء الإسلام يقولون: هذا دين الوحشية ودين الدماء، المهم أنهم في كل قضية يلفقونها في الإسلام يقعون في أفحش منها.
يقولون: كيف يجعل الإسلام للرجل أربع نسوة؟ فنقول: المرأة عندكم تتخذ مائة خليل، والرجل يتخذ مائة خليلة، وهذا عندكم لا ينكر؟! إذا كان اليهود ينقمون على نبينا أنه تزوج تسعاً من النسوة فإن داود عليه السلام تزوج العدد الهائل من النساء، وسليمان تزوج العدد الهائل من النساء صلى الله عليهما وسلم، وهذا أمر نحن نقبله ونحبه لأنه بشرع السماء، لكنكم تنكرون علينا شيئاً هو بعض ما عندكم، والفرق بيننا وبينكم أنه عندنا بإذن الشارع وأنه عندكم بغير إذن الشارع، وإنما هو معصية لله عز وجل إذ تتخذون الخليلات والعشيقات.(62/11)
شرح حديث جابر بن عبد الله في رجم ماعز بن مالك
قال: [قال: ابن شهاب: (فأخبرني من سمع جابر بن عبد الله يقول: فكنت فيمن رجمه، فرجمناه بالمصلى، فلما أذلقته الحجارة -أي: لما مسه أذى الحجارة- هرب منا، فأدركناه بالحرة فرجمناه)].
والحرة: مكان عند بقيع الغرقد، وهي المكان الذي يتكون من الحجارة السود، فلما هرب منهم توجه نحو الحرة فأدركوه فأقاموا عليه الحد هناك حتى قتلوه.
وفي رواية: (أن رجلاً قابله عند الحرة فضربه بوظيف كان معه فقتله)، المهم أن هذا الرجل قتل عند الحرة.
قال: [ورواه الليث أيضاً عن عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن ابن شهاب بهذا الإسناد.
مثله].
قال: [وحدثنيه عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي حدثنا أبو اليمان - الحكم بن نافع الحمصي - أخبرنا شعيب - وهو ابن أبي حمزة الحمصي - عن الزهري بهذا الإسناد أيضاً، وفي حديثهما جميعاً قال ابن شهاب: أخبرني من سمع جابر بن عبد الله كما ذكر عقيل].
والمرء ربما يُقبل امرأة فيرى أن ذلك زنا، صحيح أنه زنا، لكنه ليس من الزنا الذي يقام عليه الحد، كما قال عليه الصلاة والسلام: (كتب على ابن آدم حظه من الزنا فهو مدركه لا محالة، فالعين تزنيان وزناهما النظر، واليدان تزنيان وزناهما البطش وغير ذلك.
ثم قال: والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه).
يعني: إقامة الحد كلها مترتبة على الفرج، وإن كانت هذه المعاصي التي تؤدي إلى الزنا تسمى زنا، لكنها ليست من النوع الذي يقام فيه الحد، ولذلك استفرغ النبي عليه الصلاة والسلام وسعه في درء الشبهات عن هذا المحدود وعن هذا المعترف المقر، يقول له: (لعلك لامست أو فاخذت أو قبلت) أي: لعلك فعلت ذلك وأنت متصور أن هذا هو الزنا الذي يقام به الحد، لكنه أقر أنه زنى (قال: نعم.
يا رسول الله! قال: أقيموا عليه الحد) فبعد ذلك ليس هناك أدنى شبهة لدرء الحد عنه.(62/12)
رواية جابر بن سمرة لقصة رجم ماعز بن مالك الأسلمي
قال: [وحدثني أبو كامل فضيل بن حسين الجحدري حدثنا أبو عوانة - الوضاح بن عبد الله اليشكري - عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة قال: (رأيت ماعز بن مالك حين جيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم) -والقصة التي مضت هي قصة ماعز - وهو رجل قصير أعضل)] أعضل أي: صاحب عضلات مفتولة، رجل قوي شديد الخلقة.
قال: [(ليس عليه رداء)] الرداء: هو ما يلبس في أعلى البدن، والذي يلبس في أسفل البدن يسمى الإزار.
قال: [(فشهد على نفسه أربع مرات أنه زنى)] فالذي يقول: لا بد من الإقرار أربع مرات يقف عند هذا الحديث ويستشهد به.
قال: [(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلعلك؟)] أي: اختصر.
والمقصود: لعلك قبلت أو فاخذت أو لامست.
وقد ساقه أبو داود في سننه صريحاً.
قال: [(قال: لا والله! إنه قد زنى الأخر)] الأخر يعني: الأرذل أو السفيه أو الأبعد أو الغشيم، فهذا رجل يدعو على نفسه، وهكذا كان العرب إذا وجهوا سؤالاً عن أنفسهم واحتقروا أنفسهم بوقوعهم في معصية أو ذنب قالوا ذلك، كما جاء عن الرجل الذي أفطر في نهار رمضان بسبب جماع أهله، فقال: (يا رسول الله! هلك الأبعد -يقصد نفسه- قال: وما ذاك؟ قال: وقعت على امرأتي في نهار رمضان.
قال: هل عندك رقبة؟ قال: لا.
قال: فصم شهرين متتابعين.
قال: وهل أوقعني فيما وقعت فيه إلا الصيام، لا أقوى على الصيام.
قال: أطعم ستين مسكيناً.
فقال: لا أجد يا رسول الله! فدخل النبي بيته وأتى بمكتل عظيم ممتلئ تمراً فأعطاه إياه وقال: أطعم منه ستين مسكيناً.
قال: يا رسول الله! وهل تجد بين لابتيها -أي: جبليها.
جبلي المدينة- أفقر مني ومن أهل بيتي.
قال: اذهب فاجعلها في بيتك وفي أهل بيتك).
الشاهد: أنه قال: (هلك الأبعد يا رسول الله!).
وهنا قال: (إنه قد زنى الأخر.
قال: [قال: فرجمه)] أي: بعد أن اعترف أربع مرات.
قال: [(ثم خطب فقال: ألا كلما نفرنا غازين في سبيل الله خلف أحدهم له نبيب كنبيب التيس)] يعني كلما خرجنا للغزو يتخلف منكم واحد مع النساء أو العيال (له نبيب كنبيب التيس) أي: له صوت حين وقوع الجريمة منه كصوت التيس.
وهذا تقريع وتوبيخ من النبي عليه الصلاة والسلام لمن همت به نفسه أن يباشر مثل هذه الفاحشة.
قال: [(يمنح أحدهم الكثبة، أما والله إن يمكني من أحدهم لأنكلنه عنه)] يعني: لو أن الله تعالى مكنني من واحد يفعل هذا لنكلت به تنكيلاً.
أي: لآذيته وضربته وقرعته وأقمت عليه الحد حتى يعتبر هو ومن معه.
قال: [وحدثنا محمد بن المثنى وابن بشار -واللفظ لـ ابن المثنى - قالا: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن سماك بن حرب قال: وفي رواية: سمعت جابراً يقول: (أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل قصير أشعث ذي عضلات عليه إزار وقد زنى، فرده مرتين ثم أمر به فرجم)] انظروا إلى قوله: فرده مرتين، لم يرده في هذه الحالة أربعاً وإنما رده مرتين.
وفي رواية: (فرده مرتين أو ثلاثاً).
وهذا حجة الجمهور بأن الإقرار ولو مرة واحدة يكفي في إقامة الحد، وأنه لا يلزم الإقرار أربع مرات.
قال: [(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلما نفرنا غازين في سبيل الله تخلف أحدكم ينب نبيب التيس يمنح إحداهن الكثبة)] أي: يعطي المرأة لبنه وماءه.
وهذا كناية عن الزنا.
فقوله: (يمنح إحداهن) أي: يزني بالمرأة فيعطيها لبنه ويعطيها ماءه.
قال: [(إن الله لا يمكني من أحد منهم) أي فعل ذلك (إلا جعلته نكالاً) أي: جعلته عبرة وعظة لمن همت به نفسه أن يصنع مثل صنيعه.
قال: [فحدثته سعيد بن جبير فقال: (إنه رده أربع مرات)].
وفي رواية جابر كذلك قال: [(فرده مرتين)].
وفي رواية أبي عامر العقدي: (فرده مرتين أو ثلاثاً).(62/13)
شرح حديث ابن عباس في رجم ماعز بن مالك
أيضاً: في حديث ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ ماعز بن مالك: أحق ما بلغني عنك؟ قال: وما بلغك عني؟ قال: بلغني أنك وقعت بجارية آل فلان.
قال: نعم يا رسول الله.
فشهد أربع شهادات ثم أمر به فرجم).
ولا تعارض بين هذه الرواية وبين الرواية السابقة: أنه هو الذي أتى إلى النبي وقال: (يا رسول الله! إني زنيت.
أربع مرات)؛ وذلك لأن أصل القصة قد ورد مطولاً عند أبي داود في كتاب الحدود من طريق نعيم بن هزال وهو سيد ماعز، لما زنى ماعز رفع الأمر إلى سيده وقال: لقد زنيت.
فاستدرجه سيده إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اذهب بنا إلى النبي لعله ينزل فيك قرآن) يعني: بالتوبة.
فـ ماعز لم يأت إلى النبي عليه الصلاة والسلام ليقام عليه الحد، وإنما أتى بناءً على قول سيده وطمعاً في رحمة الله، وأن ينزل الله فيه قرآناً بالتوبة.
ثم أوقف ماعزاً ودخل على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! لقد زنى ماعز.
ثم دخل ماعز فقال: يا رسول الله! إني زنيت، فأشاح عنه أربع مرات) حتى أقر عنده أربع مرات أو ثلاثاً أو اثنتين، ثم بدأت بعد ذلك أسئلة درء الحدود وإزالة الشبهات.
قال: (لعلك قبلت، لعلك فاخذت) لعلك، لعلك لعلك، وهو يقول: (لا يا رسول الله!) حتى قال: (أبك جنون؟ قال: لا.
قال: أأنت محصن؟ قال: نعم.
قال: انظروا هل سكر صاحبكم؟) أي: هل هو سكران شارب خمر؟ قال: (فاستنكهه رجل من قومه -يعني: دنا من فمه حتى شم رائحته.
قال:- يا رسول الله! والله ما به من سكر) فلما أزيلت هذه الشبهات كلها بقي إقامة الحد، لكن لما جيء بالرجل هذا قال: (يا رسول الله! أنا زنيت، فأشاح بوجهه الناحية الثانية) وكان بإمكان ماعز أن يرجع وحينئذ لا يسأله النبي عليه الصلاة والسلام، ولا يسأله، ولا يدرأ عنه الشبهات.
وأنتم تعلمون أن النبي ما بدأ بدرء الشبهات إلا بعد الإقرار أربعاً، فقال: (أحق ما بلغني عنك؟ قال: وما بلغك عني؟ قال: بلغني أنك وقعت بجارية آل فلان.
قال: نعم.
قال: فشهد أربع شهادات ثم أمر به فرجم).(62/14)
شرح حديث أبي سعيد الخدري في رجم ماعز بن مالك في الزنا
أيضاً: وفي حديث أبي سعيد الخدري: [(أن رجلاً من أسلم - هو ماعز - يقال له: ماعز بن مالك، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أصبت فاحشة فأقمه علي)] يعني: فأقم علي الحد.
قال: [(فرده النبي صلى الله عليه وسلم مراراً.
قال: ثم سأل قومه فقالوا: ما نعلم به بأساً)] هل هذا مجنون؟ قالوا: لا.
ما نعلم به جنوناً ولا بأساً ولا علة ولا آفة.
قال: (إلا أنه أصاب شيئاً) يعني: هذا الرجل كان على الستر والسلامة وكان من الصالحين، وما ارتكب شيئاً يشينه إلا هذا الشيء.
قال: [(يرى أنه لا يخرجه منه إلا أن يقام فيه الحد)] يعني: هذا الرجل لا نعلم عنه إلا خيراً، غير أنه قد ارتكب الفاحشة، وهو يرى أنه لا يخرج من هذا الذنب إلا بإقامة الحد عليه.
قال: [(قال: فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمرنا أن نرجمه)] وليس في هذا الحديث ذكر أنه أقره أربعاً وإنما مرة واحدة.
قال: [(فانطلقنا به إلى بقيع الغرقد)] وهو مكان بين البقيع وبين المسجد النبوي، فالمنطقة التي بين المسجد النبوي وبين بقيع الغرقد كانت منطقة يقام فيها الحدود، وتصلى فيها الأعياد، ويصلى فيها الاستسقاء وغير ذلك، فقد كانت خلاء أهل المدينة، وهي خلاء حقاً؛ لأنها صحراء فقد كان هذا المكان لصلاة العيد والاستسقاء والمحافل التي يجتمع لها الناس كصلاة الجنازة وغيرها؛ ولذلك يطلق عليه بعض أهل المدينة إلى يومنا هذا: (مصلى الجنائز)، مع أن الجنائز هناك يصلى عليها في المساجد الآن، لكن بعض أهل المدينة القدامى الذين أدركوا صلاة الجنازة خارج المسجد -وهو السنة- لا يزالون يطلقون على الساحة التي بين بقيع الغرقد وبين المسجد: مصلى الجنائز.
فقوله: (فانطلقنا به إلى بقيع الغرقد) أي: إلى مصلى الجنائز.
قال: [(فما أوثقناه ولا حفرنا له)] يعني: ما ربطناه بالحبال كي نقيم عليه الحد ولا يهرب، والسنة أن يحفر للرجل كما يحفر للمرأة، المرأة يحفر لها إلى صدرها فتوضع في الحفرة وترجم بالحجارة حتى تموت، وهذا أستر لها حتى لا تنكشف عورتها.
أما الرجل فإنه يحفر له إما حفرة عظيمة أو حفرة يسيرة؛ ولذلك جاء في حق ماعز روايتان: رواية بين أيدينا: (فما أوثقناه ولا حفرنا له).
ورواية: (فحفرنا له وأقمنا عليه الحد) وكلا الروايتين صحيحة، والجمع بينهما: أن قوله: (حفرنا له) أي: حفرة يسيرة وليست حفرة عميقة، بل يمكن الهرب منها؛ ولذلك هرب منهم إلى الحرة فتبعوه حتى قتلوه هناك.
ومعنى: (فما أوثقناه ولا حفرنا له).
أي: ما ربطناه ولا حفرنا له حفرة عظيمة كما حفرنا لغيره ممن أقمنا عليه الحد.
قال: [(فرميناه بالعظم والمدر والخزف)] يعني: ما بكل شيء يمكن به الرمي، وهذا يدل على أن الحجارة غير متعينة.
يعني: لا يلزم أن نرجم بالحجارة، المهم أي شيء يحدث إزهاق الروح مما يمكن إلقاؤه، فإقامة الحد بالسيف ليس من السنة، لكن بالحجارة وما يقوم مقامها كالخشب ونحوه، كما أن الاستجمار ورد النص فيه أنه بالحجارة إلا أن الحجارة غير متعينة، وإنما الاستجمار بالحجارة وما يقوم مقامها.
قال: [(فاشتد واشتددنا خلفه)] يعني: أسرع يعدو هارباً.
قال: [(واشتددنا خلفه)] يعني: أيضاً نحن جرينا وراءه وما تركناه.
قال: [(حتى أتى عرض الحرة)] يعني: جانباً من جوانب الحرة.
قال: [(فانتصب لنا فرميناه بجلاميد الحرة)] والجلاميد: جمع جلمود، وهي الحجارة العظيمة.
قال: [(حتى سكت)] وفي رواية: (حتى سكن) والمعنى المراد: أنه مات.
قال: [(ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً من العشي)] يعني: في الليلة هذه قام النبي خطيباً عليه الصلاة والسلام.
[فقال: (أوكلما انطلقنا غزاة في سبيل الله تخلف رجل في عيالنا)] يعني: يبقى رجل في النسوة والأطفال وغير هؤلاء.
قال: [(له نبيب كنبيب)] أي: طلباً للفاحشة والزنا كطلب التيس.
قال: [(علي أن لا أوتى برجل فعل ذلك إلا نكلت به.
قال: وما استغفر له ولا سبه)].(62/15)
بيان العلة من ترك النبي الصلاة على ماعز وصلاته على الغامدية
لو قيل: لماذا لم يستغفر له وقد تاب بإقامة الحد عليه؟ ف
الجواب
حتى لا يكون استغفار النبي صلى الله عليه وسلم ذريعة لغيره من الأحياء في طلب الاستغفار من النبي صلى الله عليه وسلم إن وقع فيما وقع فيه ماعز.
إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم ترك الاستغفار له؛ مخافة أن يقع في مثل فعله الآخرون طلباً لاستغفار النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: (ولا سبه).
فإن قيل: ولم لم يسبه وقد ارتكب الزنا؟
الجواب
لأنه قد تاب بإقامة الحد عليه.
وأنتم تعلمون أن من تاب من الذنب كمن لا ذنب له، فكيف يسب من لا ذنب له؟ فترك النبي الاستغفار له كما ترك سبابه وشتمه، ولم يصل عليه، وإنما صلى على الغامدية، وذلك من باب الزجر للأحياء عن ذلك.
وصلى على الغامدية للفارق بين ما كان من أمر ماعز وما كان من أمر الغامدية، فهناك أمور دعت النبي عليه الصلاة والسلام إلى ألا يصلي على ماعز.
يقول العلماء: لأن ماعزاً فر لما مسه العذاب، والغامدية لم تفر، وماعز أقر في مجلس واحد أربع مرات، فحكم النبي عليه الصلاة والسلام في نفس المجلس بالرجم، أما الغامدية أتت وقالت: (إني فجرت، فلا تردني كما رددت ماعزاً بالأمس) أي: فلا تفعل معي وتقرني أربع مرات كما فعلت مع ماعز بالأمس.
وقالت له: (وأنا حبلى من الزنا.
قال: ارجعي حتى تضعي حملكِ.
فرجعت.
فلما وضعت حملها أتت به -وكل هذا والصحابة ينظرون- فقال: ارجعي حتى تفطميه، فرجعت حتى فطمته، ثم أتت به إلى النبي عليه الصلاة والسلام وفي يده كسرة خبز) وكل هذا شواهد قوية على أن المرأة قد تابت قبل إقامة الحد عليها، ولو أن المرء أقيم عليه الحد وإن لم يتب من الذنب فالحد كفارة.
إذاً: إذا أقيم الحد على محدود فمجرد الحد كفارة لذنبه، فما بالك لو جمع المحدود إلى الحد توبة قبل إقامة الحد عليه؟ وهذا فارق جوهري بين ما كان من أمر ماعز وما كان من الغامدية؛ ولذلك ترك النبي عليه الصلاة والسلام الصلاة على ماعز.
قيل: لأجل هذه الفروق.
وقيل: ربما لبعض ضعاف النفوس من المنافقين أو حديثي العهد بالإسلام أو غير ذلك، فهو بذلك ترك الصلاة للمصلحة الشرعية على ماعز، ولم تتهيأ هذه الظروف في وقت إقامة الحد على المرأة الغامدية؛ ولذلك ترك الصلاة على ماعز وصلى على الغامدية.
وقيل غير ذلك.
وفي رواية أخرى: [(فقام النبي صلى الله عليه وسلم من في العشي فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد.
فما بال أقوام إذا غزونا يتخلف أحدهم عنا له نبيب كنبيب التيس.
ولم يقل: في عيالنا)].
وفي رواية سفيان قال: [(فاعترف بالزنا ثلاث مرات)] ولم يقل: أربعاً.(62/16)
شرح حديث بريدة بن الحصيب في رجم ماعز بن مالك
قال: [وحدثنا محمد بن العلاء الهمداني حدثنا يحيى بن يعلى -وهو ابن الحارث المحاربي - عن أبيه عن غيلان؛ لأن يحيى بن يعلى ليست له رواية عن غيلان، إنما هو يروي عن أبيه وعن زائدة بن قدامة، وقد روى غير واحد هذا الحديث من طريق يحيى بن يعلى عن أبيه عن غيلان وهو الصواب، وغيلان هو ابن جامع المحاربي.
قال: [عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه -أي: بريدة بن الحصيب - قال: [(جاء ماعز بن مالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! طهرني)].
وهذا يدل على أن إقامة الحد طهارة من الذنب، وهي طهارة تامة كاملة.
قال: [(فقال: ويحك! ارجع فاستغفر الله وتب إليه)] (ويحك): كلمة رحمة، كما قال الحسن البصري.
وأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالاستغفار قبل أن يسمع منه الجريمة.
قال: [(فرجع غير بعيد -رجع مرة ثانية إلى النبي عليه الصلاة والسلام- وقال: يا رسول الله! طهرني.
قال: ويحك! ارجع فاستغفر الله وتب إليه.
قال: فرجع غير بعيد ثم جاء فقال: يا رسول الله! طهرني فقال النبي مثل ذلك، حتى إذا كانت الرابعة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيم أطهرك؟)] (فيم) هنا سببية.
أي: بسبب ماذا أطهرك؟ أو ما هي الجريمة التي أطهرك منها؟ قال: [(فقال: من الزنا.
فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبه جنون؟ فأخبر أنه ليس بمجنون.
فقال: أشرب خمراً؟ فقام رجل فاستنكهه -يعني: شم رائحته- فلم يجد منه ريح خمر.
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أزنيت؟ قال: نعم.
فأمر به فرجم، فكان الناس فيه فرقتين -أي: اختلف الناس وصاروا فريقين- قائل يقول: لقد هلك، لقد أحاطت به خطيئته.
وقائل آخر يقول: ما توبة أفضل من توبة ماعز)] يعني: فريق يقول: لم يخرج من خطيئته حتى بعد قيام الحد عليه.
وطائفة أخرى تقول: ليست هناك توبة أفضل من توبة ماعز [: (أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده في يده ثم قال: اقتلني بالحجارة.
قال: فلبثوا بذلك يومين أو ثلاثة، ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم جلوس فسلم ثم جلس فقال: استغفروا لـ ماعز بن مالك.
قال: فقالوا: غفر الله لـ ماعز بن مالك.
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم)].
وفي رواية قال: (أتسبونه وإني لأراه الآن يسبح في أنهار الجنة؟) كلام جميل جداً.(62/17)
الأحكام المستنبطة من قصة رجم ماعز بن مالك الأسلمي
احتج بهذا الحديث أبو حنيفة وسائر الكوفيين وأحمد وموافقوهما على أن الإقرار بالزنا لا يثبت ويرجم به المقر حتى يقر أربع مرات.
وقال مالك والشافعي وآخرون: يثبت الإقرار به بمرة واحدة.
أخذوا ذلك من حديث عن النبي عليه الصلاة والسلام: (لما أتاه رجل وقال: يا رسول الله! إن ابني هذا كان أجيراً أو عسيفاً -أجيراً- عند فلان فزنا بامرأته، فأخبروني أن على ولدي الرجم فافتديت منه بمائة ناقة أو بمائة شاة، فاحكم بيننا يا رسول الله! قال: أما الشاة فهي رد عليك) ترجع لك ثانية.
(وأما ولدك فعليه جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس! -أي: اذهب يا أنيس - إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها) لم يقل: فإن اعترفت أربعاً أو فإن أقرت أربعاً ارجمها، وإنما قال له: (فإن اعترفت - أي: مرة واحدة - فارجمها) فهذا الحديث يؤخذ منه أن الإقرار مرة واحدة يكفي لإقامة الحد.
وقوله (فإن اعترفت فارجمها) يدل على أن المرأة كانت محصنة.
وحديث الغامدية ليس فيه إقرارها أربع مرات.
واشتراط ابن أبي ليلى وغيره من العلماء إقراره أربع مرات في أربع مجالس متعددة مذهب بعيد.
أما قوله: (أبك جنون) قاله ليتحقق حاله، فإن الغالب أن الإنسان لا يصر على الإقرار بما يقتضي قتله.
والعجيب أن النبي عليه الصلاة والسلام يتمنى لو أنه يرجع عن إقراره، يعني: مرة ومرتين وثلاثة وأربعة؛ يدرأ عنه الشبهات، ثم يكون بعد ذلك القضاء الشرعي.
ومن هنا نعلم أنه لابد من الحفاظ على الدماء بقدر الإمكان، والحفاظ على الأعراض بقدر الإمكان، واحترام آدمية الآدمي إلى أقصى حد.
فالإسلام احترم العوالم الأخر: عالم الحيوانات والطير والسباع حتى الحيتان في البحر، فما من مخلوق إلا وقد احترمه الإسلام وجعل له حقوقاً وعليه واجبات، لا كما يفعله القضاء اليوم.
وشتان بين نظام العدل الوضعي وبين نظام العدل الذي شرعه الله عز وجل وطبقه النبي عليه الصلاة والسلام عملاً، وطبقه الصحابة وخلفاؤه الراشدون، وشتان بين أخلاق الأمة في سالف أمرها وفي حاضر أمرها.
والحسن البصري يقول: أعمالكم عمالكم.
أي: على قدر أعمالكم يسلط عليكم العمال والأمراء والسلاطين والحكام، فنحن منهم وهم منا، فعلى قدر أعمالنا سلط الله تعالى علينا هؤلاء، وتسليط هؤلاء علينا أرحم بنا بكثير جداً من تسليط وزارة الأوقاف علينا.
إي والله! نستطيع أن نتعامل مع ضباط الأمن، ولا نستطيع أن نتعامل مع إمام في مسجد فضلاً عن شخصية مرموقة في وزارة الأوقاف، وما ذلك إلا لأخلاقهم المنافية للالتزام، فترى كل واحد منهم يشرب سيجارة وبجانبه امرأة متبرجة، ويشير إليها بالعشق والهيام، ويشير إلى غيرها باللمز والغمز والهمز، وتجد الواحد منهم قد ظهرت فيه السمنة، ومعلوم أن الإنسان كلما امتلأت بطنه فرغ عقله؛ ولذلك يقول الإمام الشافعي: لا أعلم عيباً على محمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة إلا أنه سمين.
فقد كان السلف يعيبون السمنة, وأنتم تعرفون أن الإمام الشافعي كان تلميذ محمد بن الحسن، وقد تلقى الحديث على يديه، وكان عالماً جهبذاً ينصر مذهب الحنفية قبل أن يتحول عنه، ويأخذ بالدليل، فقد كان يقلد أبا حنيفة من قبل.
أما قوله عليه الصلاة والسلام: (اذهبوا به فارجموه) ففيه جواز استنابة الإمام من يقيم الحد.
قال العلماء: لا يستوفي الحد إلا الإمام أو من فوض ذلك إليه، فلا يقيم الحد إلا المسئول، أما آحاد الناس فليس لهم ذلك.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(62/18)
الأسئلة(62/19)
الحكم على حديث: (مجلس علم خير من عبادة ستين عاماً)
السؤال
ما حكم حديث: (مجلس علم خير من عبادة ستين عاماً)؟
الجواب
هذا حديث موضوع.
لكن العلم باتفاق العلماء أفضل من العبادة، بل العلم في ذاته عبادة، وذلك إذا نوى به الطالب أو المتعلم التقرب إلى الله عز وجل.
وقد كان السلف يقدمون طلب العلم على العبادة؛ ولذلك قام رجل من مجلس مالك بعد أن أذن المؤذن ليصلي ركعتين، فقال مالك: ماذا تصنع؟ قال: قمت لأصلي ركعتين، أما سمعت المؤذن يا إمام؟! قال: والله إن ما كنت فيه خير مما قمت إليه.
يعني: الذي كنت فيه أولاً من طلب العلم وسماعه خير مما قمت إليه وهو صلاة ركعتين.
والمقصود: أن مجلس علم خير من سائر نوافل العبادات لا الفرائض.(62/20)
بيان أن إقامة الحد ليس شرطاً من شروط التوبة
السؤال
إذا تاب رجل من الزنا هل يقام عليه الحد؟ وهل هذا من شروط التوبة؟
الجواب
ليس بلازم، إذا تاب العبد بينه وبين الله عز وجل فإن هذه التوبة تجب ما كان قبلها.(62/21)
وجوب ستر العبد لنفسه والمبادرة بالتوبة من المعصية
السؤال
من فعل الزنا في هذا الزمن الذي لا يطبق فيه شرع السماء، هل عليه أن يتوب ويرجع إلى الله ويستر نفسه؟
الجواب
نعم.
عليه ذلك، يجب عليه أن يبادر بالتوبة، وأن يستر نفسه ولا يحدث به الآخرين.(62/22)
التوبة من اللواط
السؤال
هل لمن فعل اللواط من توبة؟
الجواب
نعم.
كل ذنب له توبة حتى الشرك، فلو أن عبداً أشرك أو ارتد فله توبة، وباب التوبة مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها، وهذا باب التوبة العامة، أما باب التوبة الخاصة المتعلق بكل مكلف فإنه مفتوح حتى تبلغ الروح الحلقوم.(62/23)
حكم الالتفات في الصلاة لضرورة
السؤال
هل يجوز الالتفات في الصلاة لضرورة؟
الجواب
الالتفات في الصلاة إنما هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة ابن آدم، وإنما له أن يلتفت شيئاً يسيراً ليتفل عن يساره ثلاثاً إذا وسوس إليه الشيطان.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(62/24)
شرح صحيح مسلم - كتاب الحدود - تابع رجم الثيب في الزنا
جاء الإسلام بالحفاظ على الحرمات، ومن ذلك حرمة العرض، فحرم الزنا وحد له حدوداً تقام على الزاني بالإقرار منه أو البينة عليه، فإذا كان بكراً فإنه يجلد مائة ويغرب عاماً، وإن كان محصناً يرجم، كما في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله، وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في ماعز والغامدية والأعراب واليهود، فالرجم ثابت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(63/1)
تابع باب من اعترف على نفسه بالزنا
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وصلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وبعد: فما زال الكلام موصولاً عن حديث ماعز الأسلمي، ومعه حديث المرأة الغامدية في باب: من اعترف على نفسه بالزنا، وكنا قد أخذنا شطر الحديث الأول فيما يتعلق بزنا ماعز، واليوم نتمم الحديث فيما يتعلق بالمرأة الغامدية.(63/2)
شرح حديث بريدة بن الحصيب في رجم الغامدية
قال: [(ثم جاءته امرأة من غامد من الأزد -والأزد: هو بطن من غامد- فقالت: يا رسول الله! طهرني.
فقال: ويحكِ! ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه.
فقالت: أراك تريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك)] أي: بالأمس أتاك ماعز فقال: إني زنيت فأعرضت عنه، ثم أتاك فقال: إني زنيت فأعرضت عنه أربع مرات، وكأني يا رسول الله! أشعر أنك تفعل معي اليوم ما فعلت مع ماعز بالأمس، فأرجو ألا يكون هذا منك.
ومعنى كلامها: أنها زنت، وأنها تعلم معنى الزنا، وكأنها تقول: وعلامة ذلك يا رسول الله! أني حبلى من الزنا فطهرني، فقال لها النبي عليه الصلاة والسلام: [(ويحكِ! ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه.
فقالت: تريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك.
قال: وما ذاك؟)] هنا شبهة وهي: أن النبي عليه الصلاة والسلام لما أتت هذه المرأة وقالت: (يا رسول الله! أذنبت ذنباً فطهرني، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ويحكِ، ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه) رب قائل يقول: هذه المرأة أتت إليه مذنبة والنبي عليه الصلاة والسلام هو المسئول الأول في زمنه عن إقامة الحد ومع هذا قال لها: (ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه) وليس في هذا الحديث عند التحقيق شبهة؛ لأن هذه المرأة لما أتت وقالت: يا رسول الله! طهرني، لم تبين نوع ذنبها ولم تقل: إني زنيت، أو إني فجرت أو سرقت أو غصبت أو شيء مما رتب الله عز وجل عليه حداً في كتابه، أو رتب عليه نبيه حداً في سنته، وإنما قالت: (يا رسول الله! إني أذنبت ذنباً فطهرني) والمعلوم أن الطهارة من الذنب تكون في الكبائر والصغائر، فحمل النبي صلى الله عليه وسلم أمرها على أحسن المحامل، وأنها ما وقعت في كبيرة وإنما وقعت في صغيرة؛ فأرادت أن تتطهر من ذنبها حتى وإن كان صغيراً؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (ويحكِ! ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه) قبل أن يعلم شيئاً، فلما قالت له: (يا رسول الله! أراك تردني كما رددت ماعز بن مالك.
فقال: وما ذاك؟) أي: وما هذا الذنب الذي تريدين أن تتطهري منه.
قال: [(قالت: إني حبلى من الزنا)] هنا أول إعلام للنبي صلى الله عليه وسلم بنوع الذنب.
قال: [(فقال: أأنتِ -يعني: أأنتِ التي وقعتِ في الزنا- قالت: نعم.
فقال لها: حتى تضعي ما في بطنك)] أي: لا أقيم عليكِ الحد حتى تضعي ما في بطنكِ.
قال: [(فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت -كفلها أي: قام على حاجتها، واستوصى بها خيراً- فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قد وضعت الغامدية)] هذا الكفيل الذي كفل المرأة هو الذي أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: يا رسول الله! المرأة التي كفلتها وضعت حملها.
قال: [فقال: (إذاً: لا نرجمها وندع ولدها صغيراً ليس له من يرضعه)] المرة الأولى امتنع عن إقامة الحد لوجود الحمل؛ لأنه لو أقام عليها الحد وهي حامل ربما قتل جنينها بغير جريرة ارتكبها، ثم من الشفقة -أي: شفقة الإسلام على الرضيع- أن نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن إقامة الحد على المرضع إلا أن تجد مرضعاً أخرى ترضع هذا الرضيع، لذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: [(إذاً: لا نرجمها وندع ولدها صغيراً ليس له من يرضعه، فقام رجل من الأنصار فقال: إلي رضاعه يا نبي الله! قال: فرجمها)] يعني: أنا يا رسول الله! أتكفل برضاعه، فرجمها النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن نمير (ح) وحدثنا محمد بن عبد الله بن نمير - وتقاربا في لفظ الحديث - قال ابن نمير: حدثنا أبي حدثنا بشير بن المهاجر قال: حدثنا عبد الله بن بريدة عن أبيه بريدة بن الحصيب: (أن ماعز بن مالك الأسلمي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني قد ظلمت نفسي وزنيت، وإني أريد أن تطهرني.
فرده، فلما كان من الغد أتاه فقال: يا رسول الله! إني قد زنيت.
فرده الثانية، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه فقال: أتعلمون بعقله بأساً تنكرون منه شيئاً؟ -أي: هل هو مجنون أو سكران؟ - فقالوا: ما نعلمه إلا وفي العقل -أي: عقله كامل لا بأس به، ليس مجنوناً- من صالحينا فيما نرى)] أي: الذي نظنه أنه من أهل الصلاح والتقوى.
قال: [(فأتاه -أي: ماعز - الثالثة، فأرسل إليهم أيضاً فسأل عنه فأخبروه أنه لا بأس به ولا بعقله، فلما كان الرابعة حفر له حفرة ثم أمر به فرجم.
قال: فجاءت الغامدية فقالت: يا رسول الله! إني قد زنيت فطهرني، وإنه ردها -عليه الصلاة والسلام- فلما كان الغد قالت: يا رسول الله! لم تردني؟ لعلك أن تردني كما رددت ماع(63/3)
شرح حديث عمران بن حصين في رجم الغامدية وصلاة النبي عليها
قال: [حدثني أبو غسان -وهو المسمعي مالك بن عبد الواحد - قال: حدثنا معاذ بن هشام - وأبوه هو هشام بن أبي عبد الله الدستوائي - قال معاذ: حدثني أبي عن يحيى بن أبي كثير اليماني حدثني أبو قلابة - عبد الله بن زيد الجرمي البصري - أن أبا المهلب حدثه عن عمران بن حصين: (أن امرأة من جهينة أتت نبي الله صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنا، فقالت: يا نبي الله! أصبت حداً فأقمه علي)] يعني: قارفت ذنباً عظيماً استوجب الحد، فطهرني منه.
قال: [(فدعا نبي الله صلى الله عليه وسلم وليها فقال: أحسن إليها)] وهذا على غير عادة الناس فإنهم إذا زنت امرأة آذاها قومها وأولياؤها، والنبي عليه الصلاة والسلام أمر بالإحسان إلى هذه المرأة رغم أنها زانية، فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يأمر بالإحسان إلى أصحاب الكبائر فما بالك بإحسانه عليه الصلاة والسلام مع أفاضل الصحابة كـ أبي بكر وعمر.
[(قال: أحسن إليها، فإذا وضعت فائتني بها.
ففعل، فأمر بها نبي الله صلى الله عليه وسلم، فشكت عليها ثيابها)] يعني: فشدت عليها ثيابها خلافاً للرجل، فإن الرجل حين إقامة الحد عليه لا يشد عليه ثوبه، إنما المرأة يشد عليها ثوبها ويحفر لها إلى صدرها وترجم وهي جالسة خلافاً للرجل، فالرجل يقام عليه الحد وهو قائم أو جالس، أما المرأة فإنه يقام عليها الحد وهي جالسة.
قولاً واحداً.
قال: [(ثم أمر بها فرجمت، ثم صلى عليها)].
والله تعالى يقول: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] فرحمة الله عز وجل في صلاة نبيه أمر معلوم يقيناً، لا أمر مظنون كما هو الحال في سائر الناس دون النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [(فقال له عمر: تصلي عليها يا نبي الله وقد زنت؟)] وهذا القول من عمر يرد به على من قال: إن صلاة النبي عليها إنما هي الصلاة اللغوية بمعنى الدعاء، ولو كانت الصلاة في الحديث هي الدعاء دون الصلاة المشروعة وهي صلاة الجنازة لما كان لإنكار عمر على النبي وجه.
وهذا يدل على أنه عليه الصلاة والسلام صلى عليها صلاة الميت.
قال: [(فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لقد تابت توبة لو قسمت -أي: وزعت- بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم)] أي: لكفتهم حتى وإن كانوا أصحاب ذنوب وكبائر.
والمعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال في الأنصار قولاً عظيماً، وأثبت فضل الأنصار عموماً، وأثبت فضل كل أنصاري خصوصاً، وأثبت فضل كبار الأنصار من الأوس والخزرج، فكل واحد من فضل كبار القوم له مناقب شتى وجمة منها ما هو في الصحيحين ومنها ما هو في غيرهما، والنبي عليه الصلاة والسلام يعلم منزلة المهاجرين الأنصار في الإسلام، فقال عليه الصلاة والسلام في هذه المرأة الغامدية: [(لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة -أي: من الأنصار- لكفتهم، وهل وجدت -يا عمر - توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى)] يعني: هل هناك دليل على صدق توبة التائب من أنه يأتي ويجود بنفسه وهو يعلم يقيناً أنه سيرجم وأنه سيموت؟ هذه المرأة أصرت على التطهير وقيام الحد عليها بدليل أنها أتت مرة وقالت: (يا رسول الله! إني أصبت حداً).
فلما أمرها بالتوبة والرجوع إلى الله والاستغفار قالت: (يا رسول الله! لا تردني كما رددت ماعزاً بالأمس، إني زنيت، وإني حبلى من الزنا، قال: لا نقيم عليكِ الحد وأنتِ حبلى حتى تضعي) فرجعت المرأة، وأتت مرة أخرى وكان بإمكانها ألا تأتي، ولكن لصدق توبتها لفت وليدها في خرقة وأتت به إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: (لا نقيم عليكِ الحد حتى تفطميه؛ فرجعت).
والمعلوم أن مدة الفطام طويلة تبلغ سنتين، فذهبت المرأة حتى أرضعت وليدها وفطمته، ثم أتت به وفي يده كسرة خبز؛ دليل على أنه الآن يأكل ويشرب ويعتمد على نفسه، وقد استغنى عن لبن أمه.
فكل هذه أدلة تشهد بصدق توبة المرأة، ولا عليها أنها زنت في لحظة ضعف تسلط الشيطان عليها، أو أن الأجواء هيأت الوقوع في المعصية فوقعت فيها، لكنها سرعان ما فاءت ورجعت إلى ربها، فهل على المذنب من بأس أو حرج إذا كان هذا شأنه وحاله؟
الجواب
ليس عليه من حرج، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (والذي نفس محمد بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وأتى بقوم غيركم يذنبون فيستغفرون الله تعالى، فيغفر الله لهم).
وقوله: (فيذنبون) كلام عام يشمل كبائر الذنوب وصغائرها.
فهذه المرأة أذنبت وماعز أذنب، لكننا لا نحتج بالقدر على المعصية إلا إذا تاب المذنب من ذنبه،(63/4)
كلام النووي في أحاديث رجم الغامدية(63/5)
بيان أن الحبلى لا تحد حتى تضع
ذكر الإمام النووي عليه رحمة الله حديث رجم الغامدية فقال في قوله: (حتى تضعي ما في بطنكِ): (فيه: أنه لا ترجم الحبلى حتى تضع، سواء كان حملها من زنا أو غيره، وهذا أمر مجمع عليه؛ لئلا يقتل جنينها -بقيام الحد عليها- وكذا لو كان حدها الجلد وهي حامل لم تجلد بالإجماع حتى تضع).
يعني: لو كانت امرأة ثيباً أو بكراً ووقعت في الزنا فالإجماع منعقد على أنها إذا حملت من الزنا وتبين حملها في بطنها لا ترجم ولا تجلد حتى تضع حملها؛ حفاظاً على جنينها.(63/6)
رجم المرأة المحصنة إذا زنت
قال: (وفيه: أن المرأة ترجم إذا زنت وهي محصنة كما يرجم الرجل).
لا خلاف بين الرجل والمرأة من جهة الإحصان والرجم.
قال: (وهذا الحديث محمول على أنها كانت محصنة؛ لأن الأحاديث الصحيحة والإجماع متطابقان على أنه لا يرجم غير المحصن).
فهذه المرأة الغامدية التي زنت لم يذكر في الحديث أنها محصنة أو غير محصنة، لكننا استفدنا إحصانها من الرجم، ولو كانت غير محصنة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بجلدها، فلما أمر بالرجم تبين لنا أنها امرأة محصنة.(63/7)
ثبوت أن الحمل قرينة على وقوع الزنا
قال: (وفيه: أن من وجب عليها قصاص وهي حامل لا يقتص منها حتى تضع، وهذا أمر مجمع عليه، ثم لا ترجم الحامل الزانية ولا يقتص منها بعد وضعها حتى تسقي ولدها اللبن، ويستغنى عنها بلبن غيرها.
وفيه: أن الحمل يعرف ويحكم به).
وهذا كلام درسناه في الدرس الماضي، وقلنا: الجريمة تثبت بالإقرار والبينة والحمل، وذكرنا خلاف العلماء هناك وقلنا: الراجح: هو مذهب الجمهور أن الحمل قرينة على وقوع الزنا لامرأة لا زوج لها أو لأمة لا سيد لها.(63/8)
حكم حد المرضع
قال: (قوله: (فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت) أي: قام بمؤنتها ومصالحها، وليس هو من الكفالة التي هي بمعنى الضمان؛ لأن هذا لا يجوز في الحدود التي هي لله تعالى.
قوله: (لما وضعت قيل: قد وضعت الغامدية.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذاً لا نرجمها وندع ولدها صغيراً ليس له من يرضعه، فقام رجل من الأنصار فقال: إلي رضاعه يا نبي الله! قال: فرجمها).
وفي الرواية الأخرى: (أنها لما ولدت جاءت بالصبي في خرقة قالت: هذا قد ولدته.
قال: فاذهبي فأرضعيه حتى تفطميه، فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز، فقالت: يا نبي الله! هذا قد فطمته، وقد أكل الطعام، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها فرجموها) فهاتان الروايتان ظاهرهما الاختلاف).
في الرواية الأولى قال النبي عليه السلام: (اذهبي حتى تضعي الحمل) فلما وضعت أتت النبي عليه الصلاة والسلام فأقام عليها الحد ولم يردها لأجل الرضاع.
وفي الرواية الثانية: أنه ردها لأجل الرضاع، فهنا تعارض في الظاهر.
إذاً: يجب تأويل الرواية الأولى وحملها على وفق الثانية؛ لأنها قضية عين واحدة.
يعني لو قلنا: أن الحالة المعروضة أمامنا هذه متعددة لقلنا: أتت إليه امرأة في أول الأمر فأقام عليها الحد، وأتت إليه امرأة ثانية فأرجأها وأخرها حتى تفطم ولدها، لكن ما العمل إذا كانت القصتان هما قصة واحدة، وأن المرأة في الروايتين هي امرأة واحدة؟ وإذا صح الحديث فلا بد من الجمع بين الروايتين، وإن لم تجمع بين الروايتين الصحيحتين لا بد أن تقول بأن إحداهما شاذة، وهذه نتيجة حتمية، وفي هذه الحالة لا يكون لك بينة، وإما أن تؤلف بينهما، أي: أن تحمل إحداهما على الأخرى أو تؤول إحداهما بحيث تتفق مع تأويل الأخرى، وإلا فإنك سترد إحدى الروايتين، وأهل العلم يقولون: العمل بالدليلين خير من إهمال أحدهما.
وهذا في حالة إمكانية الجمع، أما إذا كان الجمع مستحيلاً فلا بد من ثبوت رد إحدى الروايتين.
قال: (فإن الثانية -أي: الرواية الثانية- صريحة لا يمكن تأويلها)؛ لأن المرأة أتته الأولى والثانية والثالثة، فهي رواية صريحة جداً.
أما الرواية الأولى فليست صريحة، فيتعين تأويل الرواية الأولى: (قام رجل من الأنصار فقال: إلي رضاعه) إنما قاله بعد الفطام) لا في المرة الأولى، ولكن الراوي اختصر الرواية.
(وأراد بالرضاعة: كفالته وتربيته، وسماه رضاعاً مجازاً).
قال: (واعلم أن مذهب الشافعي وأحمد وإسحاق والمشهور من مذهب مالك: أنها لا ترجم حتى تجد من يرضعه).
وهذا مذهب الجمهور، لا يجوز رجم الزانية حتى تجد من يرضع وليدها.
قال: (فإن لم تجد أرضعته حتى تفطمه ثم رجمت.
وقال أبو حنيفة ومالك -في رواية عنه-: إذا وضعت رجمت ولا ينتظر حصول مرضعة).
وهذا كلام يخالف ظاهر الدليلين.
قال: (وأما هذا الأنصاري الذي كفلها فقصد مصلحة، وهو الرفق بها ومساعدتها على تعجيل طهارتها بالحد -بقيام الحد عليها- لما رأى بها من الحرص على تعجيل ذلك).
قال: (قوله عليه الصلاة والسلام: (إما لا فاذهبي حتى تلدي) أي: حيث إن الأمر كذلك فاذهبي حتى تضعي حملك.
ومعناه: إذا أبيتِ أن تستري على نفسكِ وتتوبي وترجعي عن قولك، فاذهبي حتى تلدي فترجمين بعد ذلك.
قوله عليه الصلاة والسلام: (فتنضح الدم على وجه خالد) معناه: ترشش وانصب).
يعني: انصب على ثوبه.(63/9)
حكم أخذ المكوس وبيان عظيم شأنها
قال: (قوله: عليه الصلاة والسلام: (لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له) فيه أن المكس من أقبح المعاصي) هذا حكم جديد، وصاحب المكس عموماً هو آخذ أموال الناس بغير حق، وخصوصاً جامع الضرائب والجمارك، صاحب المكس هو الذي يأخذ أموال الناس ظلماً وعدواناً تحت باب الضرائب أو الجمارك على الحدود وغيرها، حتى تعلموا أن هذا العمل أشد في الحرمة عند الله من الزنا، قال صلى الله عليه وسلم عن هذه المرأة: (لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس)، فصاحب المكس مطالب أمام الله عز وجل بأن يتوب توبة أعظم من توبة الزانية أو أعظم من توبة الزاني؛ وذلك لأنه يأخذ أموال الناس بغير حق، أما لو أخذ أموال الناس بحق فلا يدخل تحت هذا، فالذي يرسل إلى الناس ليجمع زكاة أموالهم يحرم عليه أن يأخذ أحسن أموالهم، ولا يأخذ من أموالهم إلا أواسط الأموال لا الدرنة ولا القرناء ولا العجفاء ولا الكسيرة ولا الكسيحة، كما أنه لا يأخذ أفاضل الأموال، وهذا طبعاً في الماشية والزرع وغير ذلك.
أما في الذهب والفضة فإنه يأخذ من أي الأموال شاء؛ لأنه لا فرق في الذهب بين بعضه البعض ولا في الفضة بين بعضها البعض كذلك.
إذاً: صاحب المكس هو جامع الضرائب، وعمله حرام، ودليلنا في الحرمة هو هذا الحديث وعموم الأحاديث التي وردت في تحريم أخذ أموال الناس بالباطل، لكن هذا الحديث أصرح حديث في حرمة الجمارك وحرمة الضرائب، وبالتالي الأسئلة تكثر، ومرد هذه الأسئلة إلى سؤال واحد: هل يجوز التهرب من الضرائب والجمارك؟ أنا أقول بالجواز قولاً واحداً، فإذا استطعت من غير مضرة تنزل بك، بل كدت أن أصل بالحكم إلى وجوب الهروب من الضرائب والجمارك؛ لأن هذا مالي وأنا لا آذن لأحد قط أن يأخذه مني، عندما آتي بغسالة أو ثلاجة أو كناسة من الخارج فهو مالي قد اشتريت به حلالاً سلعة من بلد معين، أريد إدخالها للانتفاع بها في بلدي، أو بيعها والاتجار فيها، فكيف يؤخذ مني مال فوق ثمن هذه السلعة؟ كما أن هذا ضرب للاقتصاد المصري أو غيره أياً كان هذا الاقتصاد؛ لأني لو أتيت بالسلعة قيمتها (100) جنيه لبعتها بـ (110)، لكن لو أخذ مني جمارك بعتها بـ (200) فهذا تخريب للاقتصاد وليس فيه أدنى منفعة للبلد، فالتجارة لا تروج إلا إذا رفعت الحكومة أيديها عن الناس وعن أبنائها وعن مواطنيها يتاجرون حيث شاءوا، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض).
فلا يحل للحكومة التدخل إلا إذا كنت أتاجر في سلعة حرمها الشرع، أما التسعير فليس لها علاقة بذلك؛ ولذلك لما قالوا للنبي عليه الصلاة والسلام: (يا رسول الله! سعر لنا.
قال: إن الله هو المسعر)، (سعر لنا) يعني: حدد لنا السعر.
قال: (إن الله هو المسعر) وليس هذا من أسماء الله، ولكن التسعير يقع بقدر الله، هذا معنى الحديث: (إن الله هو المسعر) أي: أن التسعير يقع بقدر الله عز وجل؛ ولذلك لا يزال العامة قبل الخاصة يحفظون أن التجارة عرض وطلب.
والذي يعمل في التموين ويجلس في المسجد معنا ويقول: الحمد لله، أنا ليس لي علاقة بالحرام، إنما أنا أجمع ضرائب، نقول له: عملك أنت كذلك فيه شيء من الحرمة وشيء كبير وليس بسيطاً، فأصل عملك في التموين الحل؛ لأن موظف التموين ما هو إلا رقيب على جودة السلعة من رداءتها، لكن قيامك كل شهر على هذه المحلات اكتسبت أنت بها الحرمة، فيصير أصل العمل حلالاً، وأنت جعلته بدل الحل حراماً؛ فأنت الآن لا يضرك أن تكون البضاعة كاسدة أو رابحة.
هذا أمر لا يعنيك، إنما الذي يعنيك أن تأخذ مال هذا الرجل حراماً فتأكله، فهذا أمر مدفوع الثمن، وأنت لا تعيب عليه شيئاً من ذلك، فإذا ذهب هذا الموظف الذي يعمل في وزارة التموين إلى المحلات، ليأخذ المعلوم الشهري فليعلم أن هذا المعلوم إنما هو نار الله الموقدة يأكلها في بطنه، فلا هنيئاً ولا مريئاً، وليعلم أن صاحب هذا المال وإن هش وبش في وجهه هو والله غير راض عن هذا، وأعظم دليل على ذلك أنه لو أمن جانبك ما أعطاك شيئاً.
وأعجب من ذلك: أنك تجد موظف التموين يشرط على أصحاب المحلات والأعمال والتجارات مبلغاً معلوماً في كل شهر، وهذا مبلغ نقدي خلافاً للمبلغ العيني، فمن الناس من يكون معه دكان فيه بضاعة قيمتها عشرة آلاف جنيه، وهو يكسب في الشهر مثلاً خمسمائة جنيه، يأكل منها ويشرب، فإذا به يطالب بأنه يدفع نصف المبلغ لموظف التموين.
تصور أن موظفاً هذا حاله قد شقي عمره السابق كله لأنه وأباه وأمه وجده لا يملكون قوت يومهم، فتاريخهم الأسود طويل لا نهاية له، وموظف التموين في غمضة عين يركب أضخم السيارات، ويسكن في أحسن العمارات، وينتقل في معيشته انتقالة يلحظها القاصي والداني، ولو أنه طلب حلالاً وترك حراماً لكانت سيرته امتداداً لسيرة أبيه وجده.
تصور موظف ينزل في حي -مثلاً- من الأحياء الشعبية يمر على أربعمائة محل كل شهر، يأخذ من كل محل (250) جنيهاً، اضرب أربعمائة محل في عشرة جنيهات، وأظن هذا أقل الف(63/10)