شرح صحيح مسلم - المقدمة - ترجمة الإمام مسلم بن الحجاج
لقد حفظ الله تعالى السنة برجال جمعوا أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وقاموا بتنقيتها وصيانتها من الكذب والوضع، ومنهم الإمام مسلم رحمه الله صاحب الصحيح الذي تلقته الأمة بالقبول، كما تلقت صحيح البخاري، وقد نهج الإمام مسلم في تصنيف صحيحه نهجاً مميزاً حيث قسم فيه الحديث إلى ثلاثة أقسام، ثم قسم رجاله إلى ثلاث طبقات، وبعد أن أتم جمع صحيحه عرضه على شيخه الحافظ الإمام أبي زرعة الرازي رحمهم الله جميعاً.(1/1)
سبب اختيار صحيح مسلم في هذا الدرس
الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد.
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد: فمرحباً بكم وأهلاً في بداية دروس منهجية في شرح صحيح مسلم.
الحقيقة كانت رغبتي تناول الصحيح للإمام البخاري، ولكني استشرت في ذلك شيخي وأستاذي الشيخ محمد بن عبد المقصود فقال: مسلم أخف، فوافقته على رغبته وإن كانت رغبتي في الكتاب الآخر؛ لأني أدرس صحيح مسلم منذ أربع سنوات في الهرم، فكنت أود أن أبدأ بكتاب آخر؛ حتى أحصّل الفائدة لنفسي، كما ورد عن بعض شيوخ العصر أنهم كانوا يقرءون الكتب على التلاميذ لا لأجل التلاميذ ولكن لأجل نفعهم ومصلحتهم، فكنت أود أن أقرأ البخاري، ولكن طلب مني شيخي ولا يسعني مخالفته فوافقته على صحيح مسلم، وربما بلغ الخبر أخانا الشيخ فوزي السعيد خطأ، فسمع البخاري مكان مسلم فقال: صحيح البخاري.
على أية حال في كليهما الخير الكثير.
هذا أمر.
والأمر الثاني: كنت أتصور أن المقبلين على طلب العلم الشرعي أكثر من ذلك، وبناء عليه فقد أعددت العدة للعدد الكبير، فهان الأمر عليّ الآن على اعتبار أن الإمام مسلم حينما صنّف صحيحه كانت له شروط، فقضيت في هذه الشروط وقتاً طويلاً حتى أبيّن المسألة، وإذا كنا سنبدأ في كتاب الصحيح من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام فينبغي أولاً أن ندرس سيرة الإمام مسلم بن الحجاج صاحب الصحيح، ثم بعد ذلك ندرس كتابه الصحيح حتى يعظم عندنا وفي قلوبنا المصنِّف والمصنَّف كذلك، فإذا استقر الأمر على الاستمرار في هذا الصحيح علمنا سلفاً قيمته وفضله، فيحسن بنا أن نبدأ هذا الدرس بذكر ترجمة الإمام مسلم، ثم نثني بعد ذلك بذكر ترجمة شارحه وهو الإمام النووي عليه رحمة الله؛ لأن الأمر يلزمنا أن ندافع عن الإمام النووي؛ لأن كثيراً من الألسنة التي انطلقت في علماء السلف انطلقت أيضاً في الإمام النووي، وفي الدرس القادم إن شاء الله تعالى سنعلم ما وجِّه إليه من طعون.
ونُعان بإذن الله تعالى على الرد عليها.
ثم بعد ذلك نشرح منهجنا أو نبيّن المنهج الذي نسير عليه في شرح هذا الكتاب العظيم وهو صحيح مسلم.(1/2)
ترجمة الإمام مسلم رحمه الله(1/3)
نسبه
نقول مستعينين بالله عز وجل: الإمام مسلم بن الحجاج صاحب الصحيح هو: أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم بن ورد النيسابوري البلد والموطن والنشأة، القشيري.
وقشير: هي قبيلة معروفة من قبائل العرب، يُنسب إليها الإمام ولاءً، هو إمام أهل الحديث في عصره، وأحد الحفّاظ المتقنين الأفذاذ.(1/4)
مولده
أما مولده فقد اختلف فيه بين سنة (204هـ أو 206هـ) والصحيح هو القول الثاني؛ لأن الإمام قد مات سنة (261هـ) عن (55) عاماً، فهذا يرجّح القول الثاني وهو أن مولده كان سنة (206هـ).(1/5)
طلبه للعلم وشيوخه
أول سماعه للعلم كان سنة (218هـ) أي: كان بعد مولده بـ (12) عاماً، معنى ذلك: أنه بدأ طلب العلم مبكراً، وهدي سلفنا في بداية طلبهم للعلم أنهم كانوا يقبلون على القرآن الكريم أولاً فيحفظونه ويتقنونه إتقاناً جيداً كما قال عبد الله بن مسعود: الحفظ الإتقان.
فلما فرغ من هذه المهمة التي هي بمثابة الخطوة والعتبة الأولى في طلب العلم دُفع به بعد ذلك إلى مجالس المحدثين، وكان ذلك في مقتبل عمره سنة (218هـ)، فسمع من يحيى بن يحيى التميمي وهو أكبر شيخ له، روى عنه نسخته عن مالك بن أنس الأصبحي إمام أهل المدينة.
وكثير من الناس يُخطئ في هذا الأمر فيظن أن يحيى بن يحيى راوي الموطأ عن الإمام مالك هو الذي يروي عنه الإمام مسلم في الصحيح، ولكن الأمر ليس كذلك، فإن يحيى بن يحيى الذي يروي عن مالك الموطأ إنما هو يحيى بن يحيى الليثي، وأما يحيى بن يحيى الذي يروي عنه مسلم عن مالك في صحيحه فإنما هو يحيى بن يحيى التميمي وليس الليثي فليعلم هذا جيداً؛ لأن كثيراً من المحققين يخطئ في ذلك.
فـ يحيى بن يحيى التميمي هو أكبر شيخ للإمام مسلم، وهذا يدلنا أيضاً على أن مسلماً بدأ السماع في سن مبكرة، وحج في سنة (220) هـ وهو أمرد أي: لا لحية له، فسمع بمكة من الإمام القعنبي وهو إمام جليل، وهو كذلك من أجل شيوخ الإمام مسلم.
اسمه عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي، فهو أكبر شيخ له كذلك، وسمع بالكوفة من أحمد بن يونس وجماعة، وسمع ببغداد أحمد بن حنبل وعبد الله بن مسلمة وآخرين، وسمع بالري محمد بن مهران وأبا غسان، وسمع بالحجاز سعيد بن منصور وهو إمام عظيم جليل من أئمة الهدى، له مصنف في العلم اسمه سنن سعيد بن منصور، وسمع كذلك أبا مصعب وآخرين، وسمع بمصر عمرو بن سواد المصري وحرملة بن يحيى صاحب الإمام الشافعي رضي الله تبارك وتعالى عنه، وهذا يدل على أن الإمام مسلماً كان واسع الرحلة في أول عمره، والرحلة إنما هي سنة من سنن علمائنا وهديهم، كانوا إذا بدءوا بطلب العلم أخذوا علم أهل بلادهم أولاً، فإذا أتوا عليه وفرغوا منه بدءوا بالتفكير في أن يرحلوا إلى أقرب البلاد ثم أقربها فأقربها، وهذا الذي فعله الإمام مسلم، وكانت له رحلة واسعة إلى بلاد الغرب والشرق حتى حصّل علوماً كثيرة، وجاء بمسموعات وفيرة.
وممن سمع منهم الإمام مسلم غير من ذكرنا أيضاً: أحمد بن سعيد الدارمي ولا نستطيع أن نذكر كل الشيوخ الذين روى عنهم الإمام مسلم، إنما نذكر الأئمة العظام خاصة الذين أكثر عنهم مسلم في كتابه الصحيح؛ لأننا لو أردنا أن نتقصى شيوخ الإمام مسلم لما استطعنا، وعلى أية حال من الممكن أن نعد له ثلاثة آلاف شيخ، وكذلك البخاري كان له أكثر من هذا العدد.
فالإمام مسلم روى أيضاً عن أحمد بن سعيد الدارمي وابن منيع والحسن بن علي الخلال الإمام، وإسحاق بن منصور الكوسج.
وهو تلميذ الإمام أحمد بن حنبل، وكذلك روى عن شيبان بن فروخ وزهير بن حرب وسويد بن سعيد، وزهير بن حرب هذا هو أبو خيثمة النسائي أول شيخ للإمام مسلم في صحيحه، وكذلك روى عن عبد بن حميد صاحب كتاب المنتخب -واسمه عبد الحميد بن حميد - وعبد الله بن أبي شيبة وعثمان ابني أبي شيبة، وعبد الله بن أبي شيبة هو المعروف بـ أبي بكر بن أبي شيبة صاحب المصنف، مصنف ابن أبي شيبة الكبير الضخم، وهو إمام جبل كالجبال الرواسي في العلم.
وعمرو الناقد وقتيبة بن سعيد وابن رمح وابن المثنى وهارون الحمال وهناد بن السري صاحب كتاب الزهد، وابن معين إمام الجرح والتعديل صاحب التاريخ، وغيرهم بلغوا (220) رجلاً، أخرج لهم مسلم في صحيحه.
وله شيوخ عدة سوى هؤلاء لم يخرّج عنهم في صحيحه، رغم أنهم أئمة كـ علي بن الجعد صاحب الجعديات، لم يخرّج له الإمام مسلم؛ لأنه كان ين(1/6)
أثر فتنة خلق القرآن وما أدت إليه
محمد بن يحيى الذهلي هو أول من سمع منه مسلم بنيسابور، وكان شيخاً جليلاً، وكان إمام نيسابور في الحديث، فالإمام مسلم تلميذه وخريجه كذلك، ولكنه لم يرو عنه في صحيحه، حتى قيل: إن الإمام مسلم أخذ عن محمد بن يحيى الذهلي مقدار حِمل بعير من الأحاديث والأسانيد، ولكن حدثت شحناء بين الإمام مسلم وبين شيخه محمد بن يحيى الذهلي، واختلف أهل العلم في سبب هذه الشحناء فقيل: إن علي بن داود حينما نزل نيسابور عقد مجلساً حضره مسلم كما حضره يحيى بن محمد بن يحيى الذهلي، فأُثيرت مسألة، فأراد يحيى الذهلي أن يتكلم في هذه المسألة؛ فقال علي بن داود: اسكت أنت، فغضب لهذا الإحراج، ثم انصرف من المجلس، فأتى إلى أبيه وقال: لقد حدث كذا وكذا.
قال: من حضر المسجد؟ قال: مسلم.
قال: أولم يذب عنك؟ قال: لا، فغضب محمد بن يحيى الذهلي، وتنكّر بعد ذلك للإمام مسلم، ثم عامله الإمام مسلم بمثل معاملته أيضاً، ولكن هذا سبب لا أظن أنه يؤثر على مثل الإمام الذهلي، كما أنه لا يؤثر على مثل الإمام مسلم.
ولعل الراجح في سبب الشحناء بين الإمامين هي الفتنة التي أُثيرت في ذلك الزمان وهي فتنة خلق القرآن الكريم.
وأنتم تعلمون أن أول من تعرّض لهذه الفتنة هو الإمام أحمد بن حنبل وصبر فيها، وأيد الله عز وجل الدين بثباته وقيامه على هذا الأمر، وذبّه عن حياض صفات الله عز وجل، فهذه الفتنة كانت هي بمثابة البلاء والاختبار لأهل العلم من المحدثين والفقهاء في صدر الدولة العباسية، حتى أتى بعد ذلك من خلفاء الدولة العباسية من أخمد هذه الفتنة، وعلى أية حال في حياة الإمام البخاري ومسلم كانت هذه الفتنة في أوجها، فتعرّض لها الإمام البخاري في بغداد وفي بخارى وفي نيسابور كذلك، وحينما دخل الإمام البخاري إلى نيسابور كان محمد بن يحيى الذهلي يحث الناس على الخروج لاستقبال الإمام البخاري على مشارف المدينة، حتى خرج الناس وسدوا الطرق احتفاء بالإمام البخاري، ولكن هذا أثّر بعد ذلك على مجلس الإمام محمد بن يحيى الذهلي، وأهل العلم يغار بعضهم من بعض كما تغار التيوس في زرائبها، فدخل في نفسه من الإمام البخاري، حيث أن الناس أقبلوا على البخاري حتى ملأ الناس الشوارع والبيت، وصعدوا السطح الذي كان يسكنه الإمام البخاري، في الوقت الذي انفضوا عن الإمام محمد بن يحيى الذهلي، فوشى به عند السلطان في أمر خلق القرآن، والحق أن كلام الإمام البخاري هو الذي يوافق أهل السنة والجماعة، وانتحل مسلم أيضاً مذهب البخاري في مسألة خلق الأفعال.
إن الإمام محمد بن يحيى الذهلي لم يدفعه إلى ذلك سوء اعتقاده في المسألة، إنما الذي دفعه إلى ذلك حنقه وحسده على الإمام البخاري، فلما حدث هذا وأُخرج البخاري من نيسابور بسبب هذه الفتنة أيضاً، كما أُخرج من بغداد وبخارى وغيرها، أقبل الطلاب بعد ذلك على مجلس الذهلي، ولكن الذهلي لم ينس انصراف مسلم عنه وإقباله على البخاري، فقال في المجلس: من قال باللفظ في القرآن فليعتزل مجلسنا، يقصد بذلك الإمام مسلم، ففهمها مسلم وكان معه كراريس وعباءة، فوضع العباءة على كتفه وأخذ كراريسه تحت إبطه وقام من المجلس وانصرف، وما هي إلا دقائق معدودة حتى أرسل له بكل مسموعاته، أي كل ما سمعه من الذهلي أرسله إليه مع حمّال أو قال جمّال، فكان ما أرسله حِمل بعير.
يقول الإمام الذهبي معلقاً على هذه الحادثة: فما ضر الذهلي عند الله عز وجل ما فعله مسلم، ولكنه ضر مسلماً، ثم إن الإمام مسلماً في المقابل -الذي لا يخطر على بال- أيضاً امتنع من الرواية عن الإمام البخاري.
أي: أن سبب الفتنة التي بينه وبين الذهلي هو الإمام البخاري، ومع هذا يمتنع من الرواية عن الذهلي وعن البخاري في الوقت نفسه.
ولذلك الخطيب البغدادي يقول: وإنما كان ذلك لحدة في خُلقه.
أي في خلق الإمام مسلم، والإمام البخاري كذلك هو من أجل شيوخ مسلم، ولكنه لم يرو عنه لا في الصحيح ولا في غيره.(1/7)
تلاميذه ومن رووا عنه
أما الراوون عنه فهم كثرة، زادوا عن الثلاثين ألفاً، ولكنا لا نعد بعض هذا العدد الكثير إنما نعد منهم بعض الأئمة لنرى كيف أخذ هو عن الأئمة، وكيف أخذ عنه الأئمة.
فممن أخذ عنه صالح جزرة وهو إمام من أئمة الجرح والتعديل، وكذلك الإمام الترمذي روى عن الإمام مسلم كثيراً، كما روى أيضاً عن الإمام البخاري، فكثيراً ما يقول الإمام الترمذي في صحيحه: سألت محمداً عن فلان، وسألت محمداً عن هذا الحديث، فإذا قال ذلك فإنما هو محمد بن إسماعيل البخاري، وأما مسلم فهو شيخه، وتخرّج عليه الإمام الترمذي، ولكنه لم يرو عنه في جامعه في السنن إلا حديثاً واحداً، هو قوله صلى الله عليه وسلم: (أحصوا هلال شعبان لرمضان) الحديث السابع والثمانون بعد المائة السادسة.
وكذلك الذي روى عن الإمام مسلم هو إبراهيم بن محمد بن سفيان العابد الفقيه، وهو الذي روى عنه كتابه الصحيح.
إذاً: هذا الكتاب الذي بين يديك وهو الصحيح عن الإمام مسلم من رواية إبراهيم بن محمد بن سفيان العابد الفقيه.
وكذلك من الراوين عنه ابن أبي حاتم ابن الإمام وهو إمام كذلك، وأحمد بن سلمة الحافظ - أحمد بن سلمة حافظ نيسابور- وكان قرينه -أي: كان معه في طبقة واحدة، يعني: مثله تماماً في الحفظ والضبط والإتقان والمعاصرة- وقد لزم أحمد بن سلمة الحافظ النيسابوري الإمام مسلم في رحلته إلى البصرة وغيرها.
وإمام الأئمة ابن خزيمة صاحب صحيح ابن خزيمة روى عن الإمام مسلم، وهو تلميذه وخرّيجه كذلك، وأبو العباس السراج الإمام، وأبو عوانة الإسفراييني.
وغيرهم كثير.(1/8)
كلام أهل العلم في الإمام مسلم
أما الإمام مسلم فقد حاز مكانة عالية ومنصباً رائعاً عند أهل العلم، فأثنوا عليه بكلمات هي أحلى من العسل، فقال شيخه إسحاق بن منصور الكوسج في حقه: لن نعدم الخير ما أبقاك الله للمسلمين.
هذا كلام خرج من الشيخ لتلميذه، فإذا كان الأمر كذلك فما بالكم بالشيخ القائل لهذه المقولة؟ فإن إسحاق بن منصور الكوسج رباه أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، وهاهو يقول هذا الكلام الطيب العذب في الإمام مسلم، وهذا يدلنا على مكانة مسلم عند الأئمة من شيوخه وأساتذته، فإذا كان هذا الإمام بهذه المنزلة عند شيوخه فلا شك أنه لا بد أن يكون أعظم من ذلك عندنا.
وقال أيضاً إسحاق بن راهويه وهو شيخه كذلك: أي رجل يكون هذا؟ يعني: يستبشر له بمستقبل باهر مذهل، أي: لو عاش هذا الرجل فإنه سيكون له أمر عظيم.
وقال ابن أبي حاتم: كان مسلم ثقة من الحفاظ، كان ابن أبي حاتم وأبوه أبو حاتم يأتون بألفاظ الجرح والتعديل بلطف شديد جداً، فإذا قال أبو حاتم: صدوق فإنما هذا يعني عنده: أنه ثقة؛ وذلك لأن أبا حاتم نفسه قال: مسلم بن الحجاج صدوق، فأنت إذا وقفت على هذه الكلمة فستقول: كيف يكون صدوقاً وهو إمام متقن! فهذه الكلمة عند الإمام أبي حاتم تعني ما فهمت أنت: أنه إمام متقن، ولذلك لا بد من معرفة مصطلحات أهل العلم؛ لأن فيها معرفة كيفية الحكم على الرجال وعلى الرواة وعلى الأحاديث كذلك، فمثلاً الإمام البخاري إذا قال في الراوي: فيه نظر، فهو ضعيف، وإذا قال: ضعيف فلا تحل الرواية عنه؛ لأن خبره منكر.
وقال ابن بشار وهو محمد من شيوخ الإمام مسلم أيضاً: حفّاظ الدنيا أربعة -أي في ذلك الزمان-: أبو زرعة بالري، ومسلم بنيسابور، والبخاري ببخارى، والدارمي بسمرقند، فعد من بين حُفّاظ الدنيا في ذلك الزمان مسلماً بنيسابور، وقدّمه على شيخه محمد بن يحيى الذهلي، وربما كان ذلك لاتساع رحلة الإمام مسلم.
وهذا أيضاً من بركة الرحلة والحفظ، وقدّمه ابن عقدة على البخاري في روايته عن أهل الشام على جهة الخصوص، وقال: إن البخاري إنما كان يهم أحياناً في روايته عن أهل الشام، وليس كلامه هذا صحيحاً، ولكنه على أية حال قدّم الإمام مسلماً في روايته عن أهل الشام على الإمام البخاري، وكذلك فعل المغاربة، فإنهم قدموا صحيح مسلم على صحيح البخاري، وسنعرف وجه هذا الكلام إن شاء الله تعالى بعد قليل.
وأثنى عليه كذلك أبو عبد الله بن الأخرم، وابن الصلاح أثنى عليه خيراً في كتابه على صحيح مسلم الذي سمّاه صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط، قال: كان له في علم الحديث أضراب لا يفضلهم وآخرون يفضلونه، فرفعه الله تبارك وتعالى بكتابه الصحيح هذا إلى مصاف النجوم، وصار إماماً حجة يبدأ به ويعاد في علم الحديث وغيره من العلوم النافعة.
وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.(1/9)
وفاة الإمام مسلم رحمه الله
وأما وفاة الإمام مسلم فتوفي سنة261هـ كما قلنا عن عمر يناهز (خمسة وخمسين) عاماً.
وقيل في سبب وفاته ما جاء عن أحمد بن سلمة رفيقه في رحلته وصاحبه كذلك أنه قال: عُقد لـ مسلم مجلس للمذاكرة، ومجلس المذاكرة يختلف عن مجلس التحديث، فمجلس التحديث هو أن يتهيأ الشيخ للتحديث إما إلقاءً وإما عرضاً، أن يتكلم الشيخ ويلقي ما عنده من أسانيد وأحاديث على الطلاب، وإما أن يكون المجلس عرضاً على الشيخ، أن يتكلم المستملي ويسمع الشيخ ثم يجيز بعد ذلك.
أما مجلس المذاكرة فهو مجلس أشبه بالمسامرة والأخذ والرد، فمجلس المذاكرة عُقد للإمام مسلم وذُكر فيه حديث لم يعرفه الإمام مسلم، وكان هذا أيضاً أمراً منكراً عند أهل المجلس، كما أنه منكر عند مسلم كيف يفوته هذا الحديث؟ فانصرف إلى منزله بمجرد أن سمع هذا الحديث الذي لم يعرفه، وأوقد السراج وقال لمن في الدار: لا يدخل أحد منكم عليّ، وهذا فهم طالب العلم، فإنه لا يستطيع التركيز ولا البحث الحقيقي إلا إذا كان في خلوة، فلا يمكن أبداً لطالب العلم أن يعيش في وسط زوجة وأولاد وهذا يصيح وهذا يطلب وهناك شيء من الضجّة.
كيف يحصِّل العلم؟ فلا بد أن يكون لك في بيتك غرفة خاصة بك تدخل -بعد أن تقضي مصالح أهلك- وتغلق عليك بابك، ثم تختلي بـ البخاري وتختلي بـ مسلم وبكتب أهل العلم، هذا إذا أردت علماً وأردت تحصيلاً.
فدخل مسلم وأوقد السراج وقال لمن بالدار: لا يدخل أحد منكم عليّ، فقيل له: أُهديت إلينا سلة تمر، فقال: قدّموها ولا يدخل أحد منكم عليّ، فقدّموها فصار يأكل تمرة ويبحث: يأكل ويبحث يأكل ويبحث حتى أصبح وقد فني التمر ووجد الحديث.
هذه القصة رواها البيهقي والحاكم ثم زاد الحاكم قال: وبلغني أنه منها مات، أي: من سلة التمر.
على أية حال منها أو من غيرها فقد مات سنة (261) هـ.(1/10)
حول صحيح مسلم ومقدمته(1/11)
دوافع مسلم لتصنيف صحيحه
ما الذي دفع الإمام مسلم إلى أن يصنف هذا الصحيح؟ الدوافع كثيرة جداً للتأليف والتصنيف.
منها: أنك تُعجب بموضوع لن تجد من سبقك فتفرده بالبحث وتصنف فيه كتابك.
ومنها أنك تُعجب بشخص فتُصنّف في أخلاقه وسلوكه ودينه وعقيدته تصنيفاً.
ومنها أن يكون ذلك رداً للجميل، كشخص صنع لك جميلاً ومعروفاً فأردت أن تذكره بالخير، وأن تخلّد ذكره بين الناس فتصنّف في مناقبه كتاباً.
ومنها غير ذلك كثير، ولكن أعلاها وأفضلها هو التصنيف لنصرة دين الله عز وجل.
ومنها التصنيف لطلب عزيز عليك، شخص يعزك أو تعزه ولا تستطيع أن ترد له قولاً أو طلباً أو أمراً؛ فإذا أمرك أو طلب منك لا يسعك المخالفة، كما فعل الإمام أحمد بن سلمة الحافظ مع الإمام مسلم، فإنه هو الذي طلب منه أن يصنف في الصحيح كتاباً، ذكر هذا الإمام مسلم في مقدمة كتابه، ولكنه لم يسم الذي سأله، وسماه الحافظ البغدادي في كتاب تاريخ بغداد.
قال: وهو أحمد بن سلمة حافظ نيسابور، وكذلك الإمام أحمد بن سلمة لمّح تلميحاً بهذا الأمر وأنه كان صاحباً لـ مسلم في أثناء تصنيفه لهذا الكتاب.
وشر الدوافع والأهداف للتأليف والتصنيف الاعتداء على شرع الله عز وجل وسب الله كما فُعل في هذا الزمان، فهناك من ألّف ليسب المولى عز وجل، ومن ألّف ليسب الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن ألّف ليسب أزواجه رضي الله تبارك وتعالى عنهن، فلا شك أن هذا شر وكفر محض، والدافع له ما كان مكنوناً في قلبه وفؤاده من نفاق وزندقة وإلحاد، وللأسف أن الناس يجتمعون حول من يرفع هذا اللواء من هنا ومن هناك، ويؤيدونه بالأموال، ويساندونه بجميع المسانيد حتى يستمر في مسيرته المشئومة، ويساعدونه بالأموال الطائلة، وربما طبعوها مجاناً، ليلقوا بها بين الناس وبين ضعاف النفوس والقلوب: {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36] فدين الله عز وجل مهما ناطحه ناطح فلا شك أن الناطح المصاب، فإن الله تعالى يحفظه بحفظه ويرعاه برعايته سبحانه وتعالى.
هذه بعض الدوافع التي تدفع المؤلف لأن يؤلف، ولكن ينبغي على من أراد أن يؤلف أو يصنف أو يحقق -ولا أبرئ نفسي- أن يكون الدافع له إلى التأليف تقوى الله عز وجل، وأن يكون الدافع له نصرة دين الله عز وجل؛ لأنه إن كان غير ذلك فلا شك أنه سيحرج بين يدي ربه سبحانه وتعالى يوم القيامة، ثم ليكن همه بعد ذلك في أمر التحقيق والتصنيف مطروحاً لنفع المسلمين، ولنفع دين الله عز وجل.(1/12)
جهود الإمام مسلم في تصنيف صحيحه
يقول أحمد بن سلمة: كنت مع مسلم في تأليف صحيحه (15) سنة، انظروا إلى هذا العمر وهذا الزمان الذي ألّف فيه مسلم الصحيح، فهو لم يتعجل كما يتعجل الكثيرون، فإن بعض المطابع تخرج علينا في كل يوم بعشرات بل مئات، ولا أكون مبالغاً إن قلت بآلاف الكتب والمجلات والصحف التي تلقى بين الناس، والناس يقرءون، وربما وجدت هذه الكتب والمصنفات قلوباً خاوية خالية فتمكنت منها، وكثير من القراء يقرءون كتباً لا يعرفون ضررها من مصلحتها ونفعها، فإذا قرأ كتاباً يقول: كيف يرده؟ ولذلك أنت تسمع كثيراً من الطلاب إذا قلت لهم هذا الكتاب فيه خطأ.
الصفحة الفلانية أو السطر الفلاني يقول: كيف يكون كتاباً وفيه خطأ؟ وهذا أمر طبيعي؛ لأن الناشرين -إلا من رحم الله- فقدوا التقوى أو قلت عندهم، فجُّل همهم تحصيل المال والشهرة، فهم يدفعون بالكتاب قبل أن يستوي عوده لأجل تحصيل المال، لا يهمهم نشر العلم الصحيح ولا نفع المسلمين ولا غير ذلك.
يقول: ألّف هذا الكتاب من (12.
000) حديث، أي: أن مجموع ما في صحيح الإمام مسلم من الأحاديث (12.
000) حديث، هذا بالمكرر، ومعنى المكرر: أنه إذا كان للإمام المصنّف كالإمام مسلم عشرة شيوخ في رواية الحديث الواحد يُعد هذا الحديث عشرة أحاديث، وهو في الحقيقة حديث واحد، ولكن هذا التعداد الكثير إنما هو تعداد على حسب شيوخ الإمام في روايته لهذا الحديث، وهو بغير المكرر لم يبلغ الأربعة آلاف، وكذلك الإمام البخاري.
فالإمام مسلم عليه رحمة الله انتقى هذه الأحاديث من بين (300.
000) حديث، وهذا هدي العلماء تحت قاعدة التقميش والتفتيش، والتقميش هو التجميع، ثم التفتيش وهو الانتقاء، فكان الواحد منهم إذا طلب العلم كتب كل شيء يسمعه الغث والسمين، الجيد والرديء، ولكنه إذا انتصب للتدريس انتقى حديثه، وإذا انتصب للتصنيف انتقى حديثه، فالإمام مسلم انتقى (12.
000) حديث من (300.
000) حديث، وكيف لا وقد فعل شيخه أحمد بن حنبل مثل فعله، فقال الإمام أحمد: انتقيت هذا المسند وهو لم يبلغ (30.
000)، وقيل بالمكرر أيضاً: (40.
000) أو (42.
000)، قيل: إنه انتقاها من بين (750.
000) حديث، فهذا هدي العلماء عندما يطلبون العلم، يكتبون كل شيء، فإذا أرادوا أن يصنفوا أو يعلموا غيرهم انتقوا علمهم.
قال الإمام مسلم عليه رحمة الله: عرضت كتابي هذا على أبي زرعة، فكل ما أشار عليّ في هذا الكتاب أن له علة وسبباً تركته، وكل ما قال: إنه صحيح وليس له علة فهو الذي أخرجت.
هذا الكلام نستطيع أن نستفيد منه أنه ينبغي لطالب العلم أن يكون له شيخ يرجع إليه، فما يقره الشيخ له كان هذا هو الذي يعتمد عليه الطالب، وإذا أنكر منه شيخه شيئاً كان ينبغي للطالب أن يُنكره أيضاً، فالإمام مسلم لم يصنّف كتاباً ثم يذهب سريعاً إلى المطابع ثم ينشره، وإنما كان حرصه أن يخرج العلم الصحيح الذي ليس فيه علة ولا سبب قادح للمسلمين، وبناء على ذلك كان أول شيء فكّر فيه أن يعرض صحيحه على العلماء الأفذاذ، فعرضه على أبي زرعة، فالذي أنكره أبو زرعة في الصحيح أخّره مسلم، والذي استبقاه في الصحيح أبقاه مسلم.
قال الإمام مسلم: ولو أن أهل الحديث كتبوا الحديث مئتي سنة فمدارهم على هذا المسند.
وهذا نص من الإمام يبيّن لك فائدة الصحيح، كما قال أيضاً من قبله شيخه الإمام أحمد بن حنبل لولده عبد الله: يا بني! احتفظ بهذا المسند، فإنه سيكون للناس إماماً.
وكذلك قال ابن الأعرابي عن سنن أبي داود وهو كتاب مخصوص في الأحكام فقط، فهو أعظم مصنّف في الإسلام في باب الأحكام.
قال ابن الأعرابي: لو لم يكن في بيتك إلا كتاب الله تعالى الذي فيه كلامه وهذه السنن لكفاك، فهناك كلمات نستشعر منها عظمة المصنَّف.
كما أنه ليس في صحيح مسلم من العوالي إلا ما قل، ومع استمرارنا في هذا الدرس سنبيّن ما هو الحديث العالي وما هو الحديث النازل؟ فعوالي الإمام مسلم قليلة، مما جعل الحفاظ يعمدون إلى أحاديث الكتاب، فيخّرجون عليها المستخرجات، والمستخرج هو: أن يعمد إمام إلى أحاديث كتاب من الكتب فيأتي بها بإسناد من غير طريق المصنِّف.
فإذا كان الإمام مسلم روى حديثاً عن يحيى بن يحيى التميمي عن مالك فأراد أحد الأئمة أن يعمل لهذا الحديث مستخرجاً أو أن يدخله في مستخرجه فإنه يأتي به من طريق مالك من غير طريق مسلم، ولو كان مداره على رواية مسلم عن يحيى لما سُمّي مستخرجاً.
فقلة العوالي في صحيح الإمام مسلم جعلت بعض الأئمة ي(1/13)
مقدمة الإمام مسلم على الصحيح
افتتح الإمام مسلم كتابه بمقدمة نفيسة، ولكن ينبغي أن نعرف أولاً أن الإمام حينما صنّف كتابه اشترط شروطاً، وكذلك البخاري فعل، والسؤال الآن: هل المقدمة التي جعلها الإمام مسلم كالباب للدخول إلى صحيحه اشترط فيها مثل ما اشترط في أصل الصحيح؟
الجواب
لا، إنما كان شرط مسلم في صحيحه، وأما المقدمة فلها حكم آخر.
فالإمام مسلم افتتح كتابه بمقدمة نفيسة ضمّنها فوائد جليلة من تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أورد في ذلك الآيات والأحاديث التي ترهّب وتوعّد من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنار، والخلود فيها، فهذا باب عظيم لمن أراد أن يتعرف على هيبة الرواية عن النبي عليه الصلاة والسلام بما لم يكن عنده به علم، ثم نهى المرء عن الحديث بكل ما سمع: (كفى بالمرء إثماً أن يحدّث بكل ما سمع)، وعقد له باباً وفصلاً مخصوصاً، ثم استدل لذم الرواية عن الضعفاء والاحتياط في تحملها، فهذه ثلاثة أبواب من أهم أبواب المقدمة.
ثم عقد فصلاً لبيان أن الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء في دين الله ما شاء، وذكر فيه أقوال أهل العلم من الصحابة والتابعين وغيرهم، وهو باب جيد فيما استدل به الإمام مسلم من أدلة، فالأصل أن ترجع أنت إلى هذه المقدمة، وكذلك إلى مقدمة الإمام النووي؛ لتدرس هاتين المقدمتين دراسة جيدة واعية متفحصة؛ لأن دراستك لمقدمة أي كتاب هي بمثابة المفتاح الذي يُفتح به مغاليق الكتاب، ولولا أنك تقرأ مقدمة كل كتاب لما استطعت حل كثير من رموز الكتاب، وهذا في أي كتاب فضلاً عن كتب العلم المصنفة المسندة، ولو أننا تناولنا مقدمة الإمام النووي، وكذلك مقدمة الإمام مسلم لقضينا فيها عاماً كاملاً حتى مل الناس، ولكننا نبدأ بأول الصحيح تيمناً حتى لا يمل المستمع والقارئ، فينبغي عليك ألا تركن إلى هذا إذ لا بد أن تدرس المقدمة، فكثيراً ما يقول النووي في أثناء الكتاب وعلى مداره: وهذه المسألة بحثناها وتقدمت في المقدمة وهذه المسألة تحريناها وقد تقدمت في المقدمة، فينبغي لك أن تقرأ المقدمة، ثم تأتي بعد ذلك لنبدأ سوياً في أصل الكتاب.(1/14)
الحديث المعنعن بين البخاري ومسلم
يقول: ثم عقد باباً خاصاً لإثبات صحة الاحتجاج بالحديث المعنعن.
والحديث المعنعن هذا هو بيت القصيد بين الإمام البخاري والإمام مسلم، وهذا الباب أهم الأبواب في المقدمة على الإطلاق؛ لأنه محل خلاف عظيم بين السلف والخلف، فالإمام البخاري يقول كما قال شيخه علي بن المديني أيضاً: لا بد أن يثبت لدينا ولو مرة واحدة أن هذا الراوي التقى بشيخه الذي أخذ عنه العلم، فلا يكفي أن يقول: عن فلان، فالذي يثبت لدى البخاري أن هذا التلميذ التقى بذلك الشيخ، وأن يأتي هذا مسنداً، أي: يثبت بالدليل القطعي أن التلميذ التقى بشيخه، ولكن الإمام مسلماً يوافق البخاري في جزئية ويخالفه في أخرى.
يقول: هذا في حق المدلّس، إذا كان الراوي مدلساً لا بد أن يثبت لقاؤه بشيخه، بل لا بد أن يثبت لقاؤه به في كل حديث يرويه، فلو أن المدلّس قال: عن فلان عن فلان عن فلان، وعدد شيوخه نتوقف في قبول روايته إن كان من أهل الطبقة الثالثة، والمدلسون خمس طبقات، فإن كان من أهل الطبقة الثالثة توقفنا في قبول حديثه حتى يصرّح بالتحديث، كأن يقول: حدثنا فلان، أو أخبرنا فلان، أو أنبأنا فلان؛ لأن هذه الألفاظ والمصطلحات تعني: حصول التحديث والسماع، أما لو قال: عن فلان، فيُحمل على الانقطاع في أغلب أقوال أهل العلم، فهذه الجزئية وافق فيها الإمام مسلم الإمام البخاري، وخالفه في جزئية أخرى.
قال: لو أن الراوي ثقة لم يرم بالتدليس ولم يُتهم به، فما قيمة هذا الشرط وهو ثبوت اللقاء، فالإمام مسلم يقول: تكفي المعاصرة في إثبات اللقاء.
والمعاصرة: أن يعيش الشيخ والتلميذ في عصر واحد، وهذا كاف في إثبات اللقاء ما لم يكن التلميذ الراوي مدلساً، وهذا كلام مقبول ومقبول جداً الإمام البخاري يقول: وإن كان ثقة لم يرم بالتدليس لا بد من ثبوت اللقاء، فالخلاف بين البخاري ومسلم في هذه المسألة متعلق بمسألتين: اللقاء، والمعاصرة.
فالمعاصرة محل اتفاق بين البخاري ومسلم، إنما الإشكال كله في لزوم ثبوت اللقاء، فـ البخاري يشترط ذلك، وأما مسلم فإني أسمع من الناس من يقول: لا يشترط ذلك! والصحيح أنه يشترط ذلك، وكل ما هنالك أنه قال: إن المعاصرة كافية في إثبات اللقاء ما لم يكن الراوي مدلساً، فكثير من طلبة العلم يردد: الإمام البخاري يشترط ثبوت اللقاء ولا يشترطه مسلم! فقولك: ولا يشترطه مسلم هذا خطأ، والصواب: أن مسلماً يشترط، ولكنه يجعل المعاصرة كافية في إثبات اللقاء بشرط ألا يرمى الراوي بالتدليس، والإمام البخاري يقول: رُمي أو لم يرم لا بد من إثبات اللقاء.
فإن قيل: هل البخاري عليه رحمة يشترط ثبوت اللقاء كشرط خاص له في داخل الصحيح، أم أن هذا شرط في أصل الصحة؟
الجواب
جمهور أهل العلم يقولون: إن البخاري اشترط هذا الشرط في أصل صحة الحديث، سواء رواه في صحيحه أو في غير صحيحه، وربما نظر الناظر فوجد وترجّح لديه أن هذا الشرط إنما اشترطه البخاري في داخل صحيحه فقط؛ لأنك تجد الإمام الترمذي في جامعه يقول بعد أن يروي حديثاً: وسألت عنه محمداً فقال: صحيح، فإذا نظرت في هذا الحديث فإنك تجده خالياً من شرط البخاري وهو لزوم ثبوت اللقاء.
ثم إن الإمام البخاري نفسه يروي في خارج الصحيح من كتبه أحاديث كثيرة ليست على شرطه، قد أجمع أهل العلم على صحتها، فهذا أمر يدلك على أن شرط البخاري إنما كان في داخل صحيحه دون ما عداه، وهذه فائدة لطيفة ينبغي أن تحرص عليها.(1/15)
منهج الإمام مسلم في ترتيبه لصحيحه
أما عن منهج الإمام مسلم في كتابه صحيح مسلم، فقد قسّم الكتاب إلى ثلاثة أقسام، والطبقات إلى ثلاث طبقات؛ أي أنه قسّم الحديث نفسه إلى ثلاثة أقسام، وقسّم الرواة إلى ثلاث طبقات، وكل طبقة مرتبطة بقسم، فالطبقة الأولى من الرواة مرتبطة بالقسم الأول من الحديث، والطبقة الثانية بالقسم الثاني، والطبقة الثالثة بالقسم الثالث.
فهو يروي عن الحفاظ الضابطين المتقنين الأئمة الأعلام القسم الأول، لكن كثيراً من الناس فهم خطأ هذا التقسيم، فقال: إن الإمام مسلماً حين صنّف الصحيح على ثلاث طبقات، جعل الثلث الأول من الكتاب حديث الحفاظ، والثلث الثاني من الكتاب حديث أهل الصدق والأمانة، ثم جعل القسم الثالث رواية المختلف فيهم، وهذا كلام غير صحيح، وأما قولنا: إنه صنّف الأبواب على هذه التقاسيم وهذه الطبقات، فهذا يعني: أنه فعل ذلك في الباب الواحد، يقول مثلاً: باب تحريم الكذب، فيأتي بثلاث روايات: الرواية الأولى من رواية أهل الحفظ والضبط والإتقان من الأئمة الحفاظ، فيكون اعتماد الإمام مسلم على هذه الطبقة وعلى هذا القسم في الاحتجاج بهذه الرواية على صحة الباب.
والطبقة الثانية من طبقات الرواة هم من نزلوا عن الطبقة الأولى درجة، ولكنهم لم يخرجوا عن حد الاحتجاج، فهم أهل صدق وهم أهل أمانة وعدل، ولكن كل ما في الأمر أن روايتهم تنزل درجة عن رواية الحفاظ المتقنين أصحاب الطبقة الأولى.
فـ مسلم عليه رحمة الله يأتي بأهل هذه الطبقة وهذا القسم استئناساً وتأصيلاً بجوار القسم الأول والطبقة الأولى.
وأما الطبقة الثالثة فهم قوم اختلف فيهم أهل العلم بين جرح وتعديل، فـ مسلم عليه رحمة الله حين أورد روايتهم إنما أوردها استئناساً أي: لمجرد أن تكون شاهداً للرواية الأولى والثانية، ولم يوردها تأصيلاً واحتجاجاً، وأنه ليس في الباب غيرها، وإنما قد صح الباب من خلال الطبقة الأولى والقسم الأول، والطبقة الثانية والقسم الثاني، فكونه أوردها أو لم يوردها لا يؤثر ذلك في الحكم العام، فبان لنا بهذا أن الإمام مسلماً قسّم كتابه إلى ثلاثة أقسام كما قسّم الرواية إلى ثلاث طبقات.
والإمام مسلم بن الحجاج من أئمة الجرح والتعديل، وما كان للإمام أن يورد حديث من رد هو روايته وخبره، فلا شك أن أهل الطبقة الثالثة إنما هم أقوام اختلف فيهم أهل الجرح والتعديل، وكون مسلم احتج بهم فلا بد أن يكون له قول حسن فيهم، وليس هذا بشرط في أصل الرواية وفي علم الجرح والتعديل، فربما روى إمام الجرح والتعديل عن راو ضعيف، ولا تكون رواية ذلك الإنسان عن ذلك الضعيف توثيقاً له، ولكن إذا كان هذا في داخل الصحيح للإمام مسلم وهو من أئمة هذا الشأن فإنما يكون ذلك تعديلاً له، فهذه فائدة مهمة أيضاً.
وادعى الحاكم عليه رحمة الله أن الإمام مسلماً وافته المنية قبل أن يفي بما وعد، فلم يأت إلا بالطبقة الأولى فقط، وتبعه على ذلك تلميذه الإمام البيهقي، ولكن هذا كلام قد رده أهل العلم، منهم القاضي عياض رحمه الله، وبيّن أن مسلماً وفى بهذا التقسيم في صحيحه وهو القول الراجح والصواب.(1/16)
الدفاع عن الإمام مسلم في إخراجه أحاديث من هم محل نظر عند أهل العلم
أما الرجال الذين أخرج لهم مسلم وهم محل نظر عند أهل العلم، ولا شك أنهم أصحاب الطبقة الثالثة منهم: مطر الوراق وبقية بن الوليد ومحمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي، وعبد الله بن عمر العمري مكبّراً أخو عبيد الله الثقة، والنعمان بن راشد وأحمد بن عبد الرحمن بن وهب ابن أخي عبد الله بن وهب ومحمد بن عبد الله بن عقيل وغيرهم.
عاب العائبون على مسلم روايته عن هؤلاء، وهم بين ضعيف ومبتدع ومخلّط وغير ذلك، ولكن هذا ليس بعيب في حق الإمام مسلم، والدفاع عنهم من وجوه: أولاً: أن يكون الراوي ضعيفاً عند غيره ثقة عنده كما قلنا؛ لأنه من أئمة الجرح والتعديل، فإذا كنت أنت ضعيفاً عند غيري ثقة عندي فما الذي يمنعني ويحجبني أن أحتج بكلامك وروايتك؟ ولا يقال في هذه الحال: الجرح مقدّم على التعديل، حيث لم يثبت لدى مسلم الجرح المفسّر الذي يطرح به رواية ذلك الراوي.
وأما الدفاع الثاني: أن يكون ذلك واقعاً في المتابعات والشواهد لا في الأصول، أي: أن مسلماً وإن وافق أهل الجرح والتعديل في تضعيف هذا الراوي إلا أننا مع البحث نجد أن الإمام احتج بروايته في المتابعات والشواهد لا في الأصول، أي: أنه احتج به في القسم الثالث.
والدفاع الثالث: أن يكون ضعف الضعيف أو اختلاط المختلط حصل له بعد أن أخذ عنه مسلم في زمن استقامته، فلا يقدح ذلك في روايته في الصحيح كـ أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، أي: أن مسلماً حينما رحل إلى مصر أخذ عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب وهو في عنفوان شبابه وقوة ذاكرته، فعندما خرج مسلم من مصر وكبر أحمد بن عبد الرحمن بن وهب اختلط بعد ذلك، وحصل ضعف في عقله، فاختلطت عليه الأسانيد بمتونها، فعيب على مسلم أنه أخذ عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب وقد اختلط، فقال: إنما أخذت عنه قبل الاختلاط، وحينما كنت بمصر لم يكن حدث له الذي حدث وأنا بمصر، فلا بد أن يميّز بين رواية الضعفاء والمختلطين قبل ما حدث لهم من ضعف واختلاط وبعد ما حدث لهم، فإن الرواية عنهم قبل الاختلاط لا شك أنها مستقيمة، وبعد الاختلاط إن تميزت فبها ونعمت، وإن لم تتميز رُدّت.
وأما الدفاع الرابع: أن يكون الحديث عالياً بسند ضعيف عند الإمام مسلم، أي: أن الإمام مسلماً عنده حديث بسندين: أحدهما عالٍ والآخر نازل.
والعالي إلى النبي عليه الصلاة والسلام: أن يكون بينك وبين النبي عليه الصلاة والسلام أقل في الإسناد العالي مما بينك وبينه في الإسناد النازل في الحديث الواحد.
فلو أنني رويت الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام فكان بيني وبينه (25) رجلاً، خير من أن يكون بيني وبينه (30) رجلاً؛ لأنه كلما كان العدد أكثر كان الإسناد أبعد، وهذا الذي نسميه إسناداً نادراً، ولكن حينما أرتفع وأختصر خمسة من الرجال وخمس طبقات من الإسناد، فلا شك أنني أعلو بسندي وأقترب به من المتكلم وهو النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون هذا بالنسبة لي إسناداً عالياً، وكان السلف مولعين بمسألة الإسناد العالي، حتى قيل لأحدهم: ماذا تشتهي؟ قال: بيتاً خالياً وإسناداً عالياً.
ومن أعظم أسباب علو الإسناد الرحلة في طلب الحديث، ألا تنظرون إلى ذلك الرجل الذي أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال له: (يا رسول الله! أتانا رسولك فقال: إن الله تعالى قد فرض علينا خمس صلوات في اليوم والليلة آلله أرسلك بهذا؟ قال: نعم، ثم عدد بقية الشرائع) هذا الرجل لم يتقصد اتهام رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما أراد أن يأتي بإسناد عالٍ، فبدلاً من أن يأخذ عن رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة.
فلو أن محمداً قال قولاً أبلغني به إبراهيم وأنا بإمكاني أن ألقى محمداً، فقد ذهبت إليه ولقيته وقلت له: أأنت حدثت إبراهيم بكيت وكيت وكيت؟ فقال: نعم، فقلت له: حدثني به فحدثني به، فلو أني رويت هذا الكلام عن إبراهيم عن محمد خير أم عندما أرويه عن محمد مباشرة؟
الجواب
عن محمد مباشرة خير، وهذا هو الذي نسميه إسناداً عالياً.
فأحياناً يقع للإمام مسلم حديث واحد بإسنادين أحدهما نازل بإسناد صحيح وكل رواته ثقات، والثاني إسناد عال لكن فيه راو ضعيف، ومسلم لولعه بالإسناد العالي يترك الإسناد الصحيح النازل ويأخذ الإسناد العالي الذي فيه ضعف، وليس هذا من باب أنه يفضّل الإسناد العالي وإن كان ضعيفاً، ولكن من باب أن الأمر في كل الأحوال ثابت في الشرع بهذا الدليل وبغيره، فما دام الأمر معلوماً عند أهل الشأن أنه ثابت والأدلة فيه كثيرة فـ مسلم انتقى فائدة وهي علو ال(1/17)
مميزات صحيح مسلم على صحيح البخاري
لو أردنا أن نعقد موازنة بين صحيح البخاري وصحيح مسلم لذكرنا أولاً المميزات والسمات البارزة التي ترجّح صحيح الإمام مسلم على صحيح البخاري، وبعقد هذه المقارنة بإمكاننا أن نكون قد أحطنا علماً بالكتابين؛ كتاب الصحيح للإمام البخاري وكتاب الصحيح للإمام مسلم.(1/18)
اعتناء مسلم بالتمييز بين (حدثنا وأخبرنا) وتقييد ذلك على مسالكه
فالإمام مسلم امتاز عن الإمام البخاري ببعض المميزات: أولها: أن الإمام مسلماً سلك مسلكاً في صحيحه، وهو أنه سلك طريقة طريفة في الاحتياط والإتقان والورع والمعرفة، وذلك مصرّح بكمال ورعه وتمام معرفته وغزارة علومه، وشدة تحقيقه بحفظه لا يهتدي إليها إلا أفراد في الآثار، كاعتنائه بالتمييز بين (حدثنا وأخبرنا)، وتقييد ذلك على مسالكه، فالإمام مسلم يفرّق بين قوله: (حدثنا وأخبرنا) كما يفرّق بين قوله: (حدثنا وحدثني)، فإذا قال الإمام: حدثنا زهير بن حرب فهذا يعني: أنه حدثه في مجلس التحديث، أي: في اجتماع الناس، في هذا المجلس يقول رجل: (حدثنا فلان) ولا يقول: (حدثني فلان)، بل حتى اللغة لا تشهد له بذلك، فإذا قال الراوي: (حدثنا) أي: حدثنا في جمع، وإذا قال: (حدثني)، أي: حدثني وحدي.
وكذلك يفرّق بين لفظ: (حدثنا وأخبرنا)، فـ (حدثنا) هو من لفظ الشيخ ما لم يُقيد بخلاف (أخبرنا) فـ (أخبرنا) هو أن يكون الأمر عرضاً على الشيخ، وذلك بأن يقرأ أحد الحضور والشيخ يسمع، ثم يقر هذا الحديث أو هذا الاستملاء، فهذا يقول فيه جمهور أهل العلم: (أخبرنا) ولا يقولون فيه: (حدثنا)، وغيرهم يقول: (حدثنا فلان عرضاً عليه)، فهذا تقييد، ولو كان الأمر مهملاً بلا تقييد لحُمل اللفظ (أخبرنا) على العرض على الشيخ.
فكذلك اعتنى مسلم بضبط هذه الألفاظ في متن الحديث أو صفة الراوي أو نسبته أو غير ذلك.(1/19)
أهمية صحيح مسلم من حيث تتابع رواياته وطرقه في الباب الواحد
الصفة الثانية التي انفرد بها مسلم عن البخاري: أنه انفرد بكونه أسهل تناولاً، وهذا في الحقيقة هو الذي رجّح أن ندرس صحيح الإمام مسلم، أنه أسهل في التناول.
فالإمام مسلم إذا أراد أن يحتج لباب أورد أدلته كما قلنا على التقاسيم والطبقات، وكانت روايته متتابعة في الباب الواحد، فالذي يريد أن يبحث عن حديث أو عن باب عند الإمام مسلم يجد هذا الحديث بكل طرقه التي رواها مسلم في مكان واحد، فلو أنك مثلاً أردت أن تبحث عن حديث: (إنما الأعمال بالنيات) لوجدت أن الإمام مسلماً رواه في كتاب الإمارة في موطن واحد، لكنَّ الإمام البخاري قطّع هذا الحديث ورواه في عدة مواطن، بلغت سبع مواطن في الصحيح، ولا شك أن تقطيع الحديث يُذهب ببهائه، ولكن الإمام البخاري إنما قطّعه لفائدة فقهية، أو نكتة حديثية أو غير ذلك، فهو يورده في سبعة أبواب، فإذا رجعت إلى هذا الحديث لوجدت أن إيراده تحت كل باب فيه فائدة تختلف عن الفائدة التي سبقت.
مثال آخر: حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (حق المسلم على المسلم خمس) وفي رواية (ست) لوجدت الإمام البخاري قطّع هذا الحديث أجزاء، كل جزء جعله تحت باب معيّن.
والإمام مسلم يورد هذا الحديث بطرقه في مكان واحد، فلا شك أن تقطيع الحديث فيه صعوبة في الحصول عليه بخلاف إيراده في مكان واحد، فإنك إذا وصلت إليه وصلت إلى بغيتك وانتهى الأمر، ولكنك إذا بحثت عن حديث قطّعه الإمام البخاري في الصحيح فربما بلغت إلى موطن واحد وظننت أنه لم يخرجه إلا في هذا الموطن، وإذا بك تخرج من هذا الباب ولم تأخذ بغيتك، ولم تأخذ ما كنت ترجوه عند الإمام البخاري، ثم بعد ذلك نراك تقول: ولم يخرجه الإمام البخاري إلا في الموطن الفلاني، وكنت أظن أنه يخرجه في باب كذا أو باب كذا، أو يستشهد به على كيت وكيت، ولكنه لم يفعل غير أنه أورده في موطن واحد، والحقيقة أن الأمر ليس كما ظننت، وهذا الكلام أقوله قبل أن تظهر مسألة الفهارس والتحذيرات، فأنت عندما تبحث الآن عن حديث رواه البخاري بإمكانك من خلال تحفة الأشراف للإمام المزي أن تصل إلى كل أماكن الحديث من خلال كتاب المعجم المفهرس لألفاظ الحديث، فمن خلال كتب أطراف الأحاديث وأوائل الأحاديث تصل إلى الأماكن والمواطن التي خرجها صاحب الصحيح أو غيره في صحيحه أو في الكتب الأخرى.
قال الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب الجزء العاشر صفحة (127): حصل لـ مسلم في كتابه حظ عظيم مفرط لم يحصل لأحد مثله، بحيث إن بعض الناس كان يفضله على صحيح البخاري، وذلك لما اختص به من جمع الطرق وجودة السياق والمحافظة على أداء الألفاظ، كما هي من غير تقطيع ولا رواية بمعنى.
بخلاف البخاري فإنه يفرق هذه الدقائق المختلفة في أبواب متفرقة متباعدة وكثير منها يذكرها في غير بابه الذي يسبق إلى الفهم أنه أولى به لدقيقة يفهمها الإمام البخاري نفسه؛ فيصعب على الطالب جمع طرقه وحصول الثقة بجميع ما ذكره البخاري من طرق هذا الحديث، كأن الحديث معلق في مكان وموصول في مكان آخر.
يقول النووي: وقد رأيت جماعة من الحفاظ المتأخرين غلطوا في مثل هذا فنفوا رواية البخاري أحاديث هي موجودة في صحيحه في غير مظانها السابقة إلى الفهم.(1/20)
قلة المعلقات في صحيح مسلم
الميزة الثالثة كذلك عند الإمام مسلم على البخاري: أن المعلقات التي في الإمام مسلم قليلة جداً إذا قورنت بالمعلقات عند الإمام البخاري، فالمعلقات كما قال أبو علي الغساني عند الإمام مسلم بلغت (14) موطناً، وأما الموقوفات فهي كثيرة عند مسلم، ولكنها في أعقاب الأحاديث المرفوعة، أي: بعد أن يذكر حديثاً مرفوعاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام يقول: وقال فلان: كذا، وقال أبو هريرة، وقال عبادة، وقال أنس كذا، قوله: (وقال) هذا تعليق، فالمعلقات عند الإمام مسلم أقل بكثير جداً من المعلقات عند الإمام البخاري.
والأمة على أية حال تلقت هذين الكتابين بالقبول على الإجمال لا التفصيل، بدليل أن هناك بعض الأئمة كـ الدارقطني وغيره انتقد على البخاري ومسلم بعض الروايات، فتبين أن قبول الأمة لهذين الكتابين إنما هو على سبيل الإجمال لا التفصيل، أي أنها تلقت الكتابين هكذا جملة وقدمتهما على رأس الكتب المصنفة، فهما أصح الكتب المصنفة، ولا نقول: أصح الكتب المصنفة بعد كتاب الله، فكتاب الله غير مصنّف.
فالأمة حينما تلقت هذين الكتابين بالقبول اختلف أهل العلم في تقديم البخاري على مسلم، أو مسلم على البخاري على ثلاثة أقوال: منهم من جعل الكتابين سواء: البخاري كـ مسلم ومسلم كـ البخاري.
ومنهم من قدّم البخاري وهو الصحيح.
ومنهم من قدّم مسلماً.(1/21)
مميزات صحيح البخاري على صحيح مسلم(1/22)
استفادة مسلم من البخاري واعترافه بأنه ليس له نظير في الحديث
وينبغي تقديم مسلم على البخاري بما ذكرناه من مميزات ميّزت مسلماً عن البخاري، وأما غير ذلك فيرده الواقع والمشاهد، فإن الإمام البخاري لا شك أن صحيحه مقدم على صحيح تلميذه وخريجه الإمام مسلم وذلك من عدة وجوه: صح أن مسلماً كان ممن يستفيد من البخاري ويعترف بأنه ليس له نظير في الحديث، حتى ثبت عنه أنه قال: دعني أقبّل قدميك يا طبيب الحديث! وانظروا إلى هذا الأدب الجم من مسلم للبخاري، ومسلم حينما قال هذا القول كان إماماً، إذ لم يقل هذا القول وهو تلميذ، أو هو يقرأ كتاباً كفقه السنة ثم صار شيخاً، ولكنه قال ذلك في حال كونه إماماً مبجلاً عظيماً قدّمه في ذلك الوقت إسحاق بن راهويه وابن منصور الكوسج وأبو زرعة قدموه ورفعوه، وفي هذا الوقت ثبت أنه قال للبخاري: دعني أُقبّل قدميك، لم يقل له: يديك ولا رأسك، وإنما قال: قدميك يا طبيب الحديث! ومعلوم أن الطبيب إنما يداوي العلل، فقوله: يا طبيب الحديث! أي: يا من ينقّب عن الأحاديث وعن عللها، فيميّز منها الصحيح من السقيم.
والإمام الدارقطني يقول: لولا البخاري ما راح مسلم ولا جاء.
وحين سُئل بعض أهل العلم عن صحيح الإمام مسلم قال: وما ذاك؟ إنما أخذ مسلم كتاب البخاري فعمل عليه مستخرجه، أي: عمد إلى كتاب البخاري فأتى بأحاديثه من غير طريق البخاري كما قلنا في بيان المستخرج، فهذا لا شك أنه مرجّح لصحيح البخاري على صحيح مسلم، والبخاري أجل من مسلم وأعلم في صناعة الحديث منه، وقد انتخب علمه ولخّص ما ارتضاه وهذّبه في (16) عاماً، ومسلم صنّف صحيحه في (15) عاماً.(1/23)
سداد وقوة شرط البخاري في صحيحه على شرط مسلم
المرجّح الثاني سداد وقوة شرط البخاري في صحيحه على شرط مسلم.
اتفقنا على صحة الشرطين، لكن يبقى هناك شرط أسد وأقوى، وقد تكلمنا في مسألة اللقاء الذي اختلف فيه البخاري ومسلم وشنع فيه مسلم في مقدمة صحيحه حتى قيل: إنه يقصد البخاري، وقيل: إنه يقصد علي بن المديني، وعلى فرض أنه يقصد مذهباً ولا يقصد شخصاً، فإنه لا شك أن الذي يشرط ثبوت اللقاء بين الراوي وشيخه أقوى ممن اكتفي بمجرد المعاصرة، وإن كنا نقول بصحة شرط الإمام مسلم إلا أننا نقول: إن شرط البخاري أصح وأسد وأقوى وأكثر اطمئناناً للنقل.
فما دام هذا الشرط أسد وأقوى فهذا مرجّح يرجّح البخاري على مسلم.
فالرجال المتكلم فيهم عند الإمام البخاري أقل من الرجال المتكلَّم فيهم عند الإمام مسلم، وهذا وحده كاف في ترجيح البخاري في الجملة على مسلم؛ لأن النقد الموجه إلى الرجال عند الإمام البخاري أقل من النقد الموجه إلى الرجال عند الإمام مسلم.(1/24)
البخاري أكثر تمييزاً لرواياته من مسلم
وفائدة أخرى: أن الرجال المطعون فيهم عند الإمام البخاري هم شيوخه هو، وأما المطعون فيهم عند الإمام مسلم فليسوا بشيوخه وإنما هم شيوخ شيوخه ومن علا، ومعلوم أن الرجل إن كان يعلم أن شيخه وجّهت إليه التهم فلا شك أنه يتحفّز ويتأهب للرواية عنه وينتقي حديثه، ومعلوم أنك إذا كنت شيخاً لي وأنا أعلم أن حديثك فيه نظر فهذا يدفعني إلى انتقاء حديثي ولا آخذ منه إلا أجوده وأحسنه، فالرجال الذين انتقدوا على الإمام البخاري هم شيوخه، وقد عني بحديثهم، وميّز بين صحيحه وسقيمه فاختار الجيد وترك الرديء.
أما الإمام مسلم فلا شك أن الرواة الذين انتقدوا عليه إنما هم شيوخ شيوخه ومن علا؛ ولذلك قل تمييزه بين هذه الروايات، وهذا أيضاً مرجّح يرجّح صحيح البخاري على صحيح مسلم.
فـ البخاري يخرّج عن أصحاب الطبقة الثانية، ونحن عرفنا أن عند مسلم طبقات ثلاث.
قلنا: الطبقة الأولى: هم أهل الحفظ والإتقان والضبط الثقات الأئمة.
والطبقة الثانية: أهل الصدق والأمانة والعدل.
فالإمام مسلم يخرّج لأهل الطبقة الأولى والثانية تأصيلاً في الباب، أي: أنه يحتج بروايتهم، وأما الطبقة الثالثة فيأتي بها استئناساً، لا استشهاداً ولا تأصيلاً.
أما الإمام البخاري فإنه يروي عن الطبقة الأولى تأصيلاً، وعن الطبقة الثانية استئناساً.
فالإمام مسلم يروي عن الطبقة الثانية تأصيلاً، في الوقت الذي يروي عنهم الإمام البخاري استئناساً لا استشهاد، وهذا أيضاً مرجّح من المرجحات.(1/25)
تميز البخاري بتبويب صحيحه تبويباً يظهر فقهه
من مميزات البخاري على مسلم أن مسلماً رتب كتابه على الأبواب، فهو مزود، أي: أن مسلماً حينما أراد أن يرتب الكتاب الصحيح رتبه على الأبواب، ولكنه لم يبوب، يعني: لم يذكر: باب كذا وكذا، ولكن الذين أتوا من بعده وشرحوا الصحيح هم الذين بوبوا؛ ولذلك مع كثرة شروح الإمام مسلم وكثرة التبويب وكل شارح يبوب حسب ما يتراءى له من فوائد وأحكام صار منها الجيد ومنها الرديء؛ لأنها ليست من صنع الإمام، أما الإمام البخاري فيختلف، إذ هو الذي ذكر تراجم الأبواب، وهو الذي بوّب لأبوابه وكتبه.
ولذلك فإن البخاري ليس محدثاً فحسب، وإنما تلحظ أن الإمام البخاري فقيه بمجرد التبويب، ولو أنك نظرت في كتاب الإيمان، أو في كتاب الصلاة، أو في كتاب العتق، أو في كتاب الرق، أو في أي كتاب من الكتب لوجدت أن مجرد عناوين الأبواب دالة على فقه الإمام البخاري، فـ البخاري لم يكن محدثاً فحسب، ولكنه كان فقيهاً إلا أنه غلب عليه الحديث، كما كان الإمام أحمد بن حنبل وهو شيخه كذلك، كان محدثاً عظيماً، وكان فقيهاً كذلك، والإمام الشافعي كان محدثاً، ولكنه غلب عليه الفقه، والإمام أبو حنيفة كان محدثاً وغلب عليه الرأي والفقه، والإمام مالك صاحب الموطأ كان محدثاً وهو أول من صنّف في الصحيح على الإطلاق، ولكنه أيضاً غلب عليه الفقه، وهذا يُرد به على الذين يريدون أن يطعنوا في علمائنا حين يقولون عنهم: المحدثون ليسوا فقهاء، والفقهاء ليسوا محدثين، فأئمتنا كانوا محدثين وفقهاء في الوقت نفسه.(1/26)
ذكر بعض الكتب الشارحة لصحيح مسلم
يجدر بنا أن نذكر بعض الكتب التي تناولت صحيح الإمام مسلم بالشرح، ورتبتها على الترتيب الزمني، فأولها: شرح مسلم لـ أبي عبد الله محمد بن إسماعيل الأصبهاني المتوفى سنة (520هـ).
والمفهم في شرح الإمام مسلم للإمام عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي المتوفى سنة (529هـ).
وكتاب الإيجاز والبيان لشرح خطبة كتاب مسلم مع كتاب الإيمان، وهذا شرح لجزء من الصحيح وهو كتاب الإيمان فقط، لـ ابن الحاج قاضي قرطبة أيضاً.
توفي سنة (529هـ).
وكتاب شرح مسلم لـ أبي القاسم إسماعيل بن محمد الأصبهاني المتوفى سنة (535هـ)، ولكنه لم يتم.
وكتاب المعلم بفوائد مسلم ولم يتم، أيضاً للإمام المازري، وفي أثناء دراستنا لهذا الصحيح سنعلم أن الإمام النووي استفاد من الإمام المازري والإمام القاضي عياض استفادة عظيمة جداً، لدرجة أنه قيل: إن الإمام النووي لم يكن له جهد وفضل في شرح الصحيح، إنما جمع كتاب المازري وكتاب القاضي عياض ونقل منهما، وأكمله القاضي عياض بكتاب سماه إكمال المعلم بفوائد مسلم، وهو عمدة النووي أيضاًَ في الترجيح.
وشرح مسلم لـ عماد الدين عبد الرحمن بن عبد العلي المصري المتوفى سنة (624هـ).
وكتاب صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط لـ ابن الصلاح المتوفى سنة (643هـ).
وكتاب المفصح المفهم والموضح الملهم لمعاني صحيح مسلم لـ أبي عبد الله محمد بن يحيى الأنصاري المتوفى سنة (646هـ).
وشرح مسلم لـ سبط بن الجوزي المتوفى سنة (654هـ).
وكتاب المفهم في شرح مسلم للإمام القرطبي -وهو كتاب جليل- المتوفى سنة (656هـ).
وكتاب المنهاج شرح مسلم بن الحجاج، واسمه شرح الإمام النووي المتوفى سنة (676هـ).
وكتاب شرح مسلم للنابلسي المتوفى سنة (734هـ).
وكتاب غنية المحتاج في ختم صحيح مسلم بن الحجاج للإمام السخاوي المتوفى سنة (902هـ).
وكتاب الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج للإمام السيوطي وهو قرين الإمام السخاوي ومات سنة (911هـ).
وكتاب شرح مسلم للقاضي زكريا الأنصاري المتوفى سنة (926هـ).
وشرح مسلم لـ ملا علي القاري المتوفى سنة (1016هـ).
وكتاب شرح مسلم لـ عبد الرءوف المناوي المتوفى سنة (1031هـ).
وكتاب السراج الوهاج في كشف مطالب مسلم بن الحجاج لـ صديق حسن خان المتوفى سنة (1307هـ).
وكتاب فتح المنعم بشرح صحيح مسلم للدكتور موسى شاهين ياسين من المعاصرين.
وهناك جهود أخرى بُذلت في استنباط الدرر والفوائد المتينة في هذا المصنف القيم، والله تعالى يبارك الجهود ويكللها بالتوفيق والسداد.
وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.(1/27)
الأسئلة(1/28)
حكم حديث الخاطب مع خطيبته
السؤال
هل يجوز أن يتحدث الخاطب مع خطيبته قبل العقد؟
الجواب
من حيث الجواز يجوز إذا كان الزواج قائماً، والتحدث مع المرأة الأجنبية إذا أُمنت الفتنة ودعت المصلحة جائز، فكذلك المخطوبة من باب أولى.
ولكني سمعت شيخنا الألباني ينهى عن ذلك ويشدد فيه، حتى قال: لا يجوز ولا حتى الاتصال بالهاتف، فلك أن تأخذ بهذا، والله تعالى أعلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وصل اللهم على النبي محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.(1/29)
شرح صحيح مسلم - المقدمة - ترجمة الإمام النووي [1]
الإمام النووي من العلماء الذين أعلى الله بهم الحق، ونصر بهم الدين، وقد اجتهد في طلب العلم منذ الصغر، حتى صار من أكابر العلماء، وساعده على ذلك نفس تواقة إلى المعالي، زاهدة في متاع الدنيا الفاني، لا تأخذها في الله لومة لائم.(2/1)
مقدمة
الحمد الله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
تكلمنا في الدرس الماضي عن حياة الإمام مسلم وعن جانب صغير من صحيحه، وعند تناولنا هذا الكتاب العظيم ألا وهو شرح صحيح مسلم للإمام النووي عليه رحمة الله كان لزاماً علينا أن نتعرف على جانبين من حياة شيخ الإسلام الإمام النووي.
أما الجانب الأول وهو موضوع درسنا اليوم: الكلام عن سيرته الذاتية، وعن حياته الشخصية من حيث نسبه، وطلبه للعلم، ورحلته، وحياته الاجتماعية، وشيوخه وتلاميذه، ثم جهاده في سبيل الله، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وهذا جانب عظيم في حياة شيخ الإسلام النووي.
وفي الدرس القادم بمشيئة الله تعالى نتعرف على جانب في غاية الأهمية في حياة الإمام وفي حياة غيره من أئمة الإسلام، يخطئ فيه كثير من الناس، ألا وهو عقيدة شيخ الإسلام الإمام النووي، وموقف أهل السنة من عقيدته، بل من زلاته وأخطائه التي وقع فيها في شرحه على الصحيح وفي غيره أيضاً، هل هو من أهل البدع ووافق الحق أحياناً، أم هو من أهل السنة ووافق أهل البدع خطأً؟ كل ذلك سنتعرف عليه في الدرس القادم، ونقعّد القواعد ونؤصل الأصول التي ينبغي مراعاتها عند الحكم على الرجال والأشخاص والكتب بمشيئة الله تعالى.(2/2)
ترجمة الإمام النووي(2/3)
اسمه ونسبه
هو شيخ الإسلام الإمام الحافظ يحيى بن شرف بن مري بن حسن بن حسين بن حزام أبو زكريا محيي الدين النووي الدمشقي الشافعي المذهب، ولكنه كان مجتهداً في المذهب ورأساً فيه، فلم يكن مقلداً لشيخه الإمام الشافعي، بل خالفه في مواطن كثيرة، وهذا شأن المتبع للنبي صلى الله عليه وسلم ولهديه ولسيرته؛ أنه لا يقلد ولا يجوز له أن يقلد ما دام قد بلغ درجة التمييز بين الآراء والتمحيص بينها، ثم يختار لنفسه ولأمته ما يترجّح به الدليل، أما التقليد فإنه لا يجوز إلا في حق العامة فقط، وإذا كان العامي يجوز له هذا فإنه لا يأخذ من تقليده ما يوافق هواه، ولكن عليه أن يسأل أكثر من عالم ثم يأخذ بما تطمئن إليه نفسه إن خلا ذلك عن الهوى وعن المصلحة الشخصية.
وقرية (نوى) هي مسقط رأس الإمام النووي، وهي قرية من أعمال دمشق، وكان جده الأعلى -وهو حزام - نزل بها على عادة العرب أنهم كانوا يرحلون ويحطون رحالهم في أماكن ويستقرون بها، فكذلك فعل جده الأعلى حزام، فأقام بها ورزقه الله تعالى ذرية كثيرة.(2/4)
مولده ونشأته
الإمام النووي ولد في عام (631هـ) أي: في أوائل القرن السابع الهجري، وتولى والده الصالح رعايته وتأديبه، ونشأه تنشئة طيبة، فحضه منذ الصغر على طلب العلم حين لاحظ فيه من مخايل النجابة والذكاء والاستعداد الفطري.
الشيخ ياسين بن يوسف المراكشي وهو من بلاد المغرب مر بنوى مصادفة ذات مرة فقال: رأيت الشيخ وهو ابن عشر سنين -يقصد الإمام النووي - بنوى والصبيان يُكرهونه على اللعب معهم، وهو يهرب منهم ويبكي لإكراههم، ويقرأ القرآن في تلك الحال، أي: يجري أمامهم وهو طفل عمره (10) سنوات، ويبكي حين يكرهونه على اللعب معهم، وهو يقرأ القرآن على تلك الحال.
قال: فوقع في قلبي محبته، وكان قد جعله أبوه في دكان، فجعل لا يشتغل بالبيع والشراء عن القرآن.
قال: فأتيت معلمه فوصّيته به وقلت له: إنه يُرجى أن يكون أعلم أهل زمانه وأزهدهم وينتفع الناس به، فقال لي: أمنجّم أنت؟ قلت: لا، وإنما أنطقني الله بذلك، فذُكر ذلك لوالده فحرص عليه إلى أن ختم القرآن وقد ناهز الحلم.(2/5)
رحلته في طلب العلم
وحينما كانت بيئة الإمام النووي بيئة صلاح ولكنها لا تُشبع نهمه في طلب العلم قدم به والده إلى دمشق سنة (649هـ) وكان عمره (19) سنة، وكانت دمشق موئل العلماء، ومنهل الفضلاء، ومهوى أفئدة طلاب العلم، وكان فيها من المدارس التي يُدرّس فيها مختلف أنواع العلوم ما يزيد على (300) مدرسة، ومنذ أن حط رحله فيها التقى بالشيخ عبد الكافي بن عبد الملك الربعي المتوفى سنة (689هـ) وأطلعه على دخيلة نفسه، وما ينويه من طلب العلم، فأخذه وتوجه به إلى حلقة العالم الجليل الشيخ عبد الرحمن بن إبراهيم بن الفركاح المتوفى سنة (690هـ) فقرأ عليه دروساً، وبقي يلازمه مدة، ثم التمس من شيخه هذا مكاناً يأوي إليه ويسكن فيه، فدله على شيخ المدرسة الرواحية، وهذه المدرسة بناها أحد التجار المعروف بـ ابن رواحة في دمشق أيضاً.
قال: فدله على شيخ المدرسة الرواحية الإمام الفقيه كمال الدين إسحاق بن أحمد بن عثمان المغربي، فتوجه إليه ولازمه وأخذ عنه وسكن المدرسة الرواحية، وقد ذكر النووي رحمه الله أنه بقي نحو سنتين لا يضع جنباً على الأرض.
أي: أنه بقي سنتين لا ينام وإنما يغفو إغفاءة ثم يستيقظ وهو جالس، وهذا فيه همة عالية في طلب العلم، إذا كان هذا الإمام أو غيره ممن كتب الله تعالى لذكرهم البقاء.
فقال: ويتبلغ بشيء من القوت اليسير، وحفظ التنبيه في نحو أربعة أشهر ونصف، وهو متن عظيم في الفقه، ثم حفظ ربع العبادات من المهذب في باقي السنة وهو يشرح ويصحح على شيخه كمال المغربي، وقد أُعجب به شيخه أيما إعجاب؛ لما رأى من دأبه وحرصه وانصرافه إلى طلب العلم، فأحبه محبة شديدة وجعله معيد الدرس في حلقته -أي: أن الشيخ إذا فرغ من درسه جعل الإمام النووي يعيده في المدرسة الرواحية- حتى أقبل على طلب العلم بنهم وشغف وجد واستعداد وهمة لا تعرف الكلل والملل، فكان يقرأ كل يوم (11) درساً وقيل: (12) درساً على العلماء شرحاً وتصحيحاً: درسين في الوسيط للغزالي، وثالثاً في المهذّب للشيرازي، ودرساً في الجمع بين الصحيحين للحميدي، وخامساً في صحيح مسلم، ودرساً في إصلاح المنطق لـ ابن السكيت، ودرساً في اللمع لـ ابن جني، ودرساً في أصول الفقه في اللمع للشيرازي أيضاً، والمنتخب للفخر الرازي، ودرساً في أسماء الرجال، ودرساً في أصول الدين -أي: في العقيدة- وكان يُعلّق جميع ما يتعلق بها من شرح مشكل، وإيضاح عبارة، وضبط لغة.(2/6)
صفاته التي أهلته للطلب ووصاياه لطلاب العلم
هذا الذي نعده إنما يدلنا على أن الإمام قد حرص على أن يأخذ من كل فن بنصيب، ومن كل علم بحظ وافر، وما كان ينام من الليل إلا أقله: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18]، وإذا غلبه النوم استند إلى الكتب لحظة ثم يفيق وينتبه، وضُرب به المثل في إكبابه على طلب العلم ليلاً ونهاراً، وهجره النوم إلا عن غلبة، وضبط أوقاته بلزوم الدرس أو الكتابة أو المطالعة أو التربي على الشيوخ، حتى إنه إذا مشى في الطريق كان يشتغل في تكرار ما يحفظ -أي: أنه في أثناء سيره لم يكن يضيع الوقت، ولكنه كان يراجع محفوظاته- فإذا وصل إلى الدرس التحم ذكره في الشوارع وقراءته ومراجعته لهذه الدروس بدرسه الذي يُسمعه الطلاب، فما كان يضيع من وقته لحظة واحدة، وهذا شأن الحريص على طلب العلم.
وكان قوي المدرك حاضر البديهة تنثال عليه المعاني انثيالاً في وقت الحاجة إليها -كان إذا أراد أن يستشهد بشيء أو يأتي بأدلة لمسألة كانت تنثال انثيالاً وكأنه يقرأ من كتاب- وهذا يدل على قوة القريحة لديه رحمه الله تعالى.
وكان يتعمق في المسائل العلمية ولا يكتفي بدراسة ظواهرها ولا يتقلد قول الغير فيها إلا بعد التحقق من صحة دليله وجودة مخرجه.
وكان رحمه الله تعالى يتمتع بحافظة قوية مستوعبة أتاحت له السيطرة الفكرية على ما يقرأ بحيث يربط أقصاه بأدناه، وأوله بآخره، وأجزاءه بعضها ببعض.
وكان رحمه الله تعالى تتمثل فيه الآداب التي ذكرها في كتابه المجموع في الجزء الأول من المقدمة، ذكر مقدمة في غاية الروعة والمتانة ينبغي أن يتحلى بها طالب العلم، فكان من بين هذه العناصر والنصائح أنه قال: ينبغي للمتعلم أن يقصد بتعليمه وجه الله تعالى، فلا يقصد به رياسة، ولا سمعة، ولا رياء، ولا إشارة بالبنان إليه، ولا عرضاً من أعراض الدنيا من جاه وسلطان ومال وغير ذلك، إنما يقصد به وجه الله تعالى، فمن كان طالباً للعلم فليعلم أن مطلوبه هو أعز وأشرف مطلوب، فليعد أعز العدة له، وأعزها وأفضلها إنما هو تقوى الله عز وجل والإخلاص في طلبه لله دون سواه، فهذا الإمام إنما نبّه وأكد على الإخلاص في طلب العلم في مقدمة تنبيهاته وتوجيهاته من المجموع.
ثم ثنى بعد ذلك بقوله: وأن يتحقق بالمحاسن التي ورد الشرع بها وحث عليها، والخلال الحميدة والسير المرضية التي أرسل إليها من التزهد في الدنيا والتقلل منها، وعدم المبالاة بفواتها، والسخاء، والجود، ومكارم الأخلاق، وطلاقة الوجه والبشاشة، وغير ذلك من مكارم الأخلاق.
ثم ثلث بقوله: وأن يحذر من الحسد والرياء والإعجاب واحتقار الناس وإن كانوا دونه درجات، وهذا ما نفتقده نحن الآن، فالواحد منا إذا طالع كتاباً واحداً لا يمكن التفاهم معه؛ لأنه يظن أنه قد حاز العلم بحذافيره، لمجرد أنه يقرأ الجزء الأول من فقه السنة يظهر عليه الكبر والعجب والتيه والخيلاء في مشيه وكلامه وجلوسه وقعوده ومعاملته مع الخلق، بل ومعاملته مع الله عز وجل، وذلك لأنه طلب على غير شيخ، ثم لم يعد العدة ولم يتهيأ ولم يتأدب بالآداب التي ينبغي أن يتعلمها أولاً قبل أن يتعلم العلم؛ ولذلك الحسن البصري يقول: نحن في حاجة إلى قليل من الأدب أكثر من حاجتنا إلى كثير من العلم.
وقيل للشافعي: كيف شهوتك للأدب؟ قال: والله إني لأسمع بالحرف الواحد منه فأتمنى لو تكون كل جوارحي آذناً حتى تنعم بهذا الحرف.
قيل له: كيف طلبك إياه؟ قال: طلب المرأة المضلة ولدها وليس لها غيره.
وانظر عندما تكون هناك امرأة ليس لها إلا ولد واحد، وهذا الولد ضل وتاه عنها، تبحث عنه بحث المجنونة عليه، فكذلك كان يفعل الإمام الشافعي، فينبغي قبل أن يطلب الطالب العلم أن يطلب الأدب؛ لأنه إن طلب الأدب أولاً انتفع بالعلم، وإن لم يطلب الأدب أولاً لم ينتفع لا بالعلم ولا بالأدب.
ثم يقول: وعليه أن يداوم مراقبة الله تعالى في علانيته وسره، محافظاً على قراءة القرآن والأذكار والدعوات ونوافل الصلوات والصوم وغيرها، معولاً على الله في كل أمره، معتمداً عليه مفوضاً في كل الأحوال أمره إليه.
ثم قال: وعليه أن يستمر مجتهداً في الاشتغال بالعلم قراءة وإقراءً، ومطالعة وتعليقاً، ومباحثة ومذاكرة، ولا يستنكف من التعلم ممن هو دونه في سن أو نسب أو دين أو في علم آخر أو غير ذلك.
وعليه أن يعتني بالتصنيف إذا تأهل له، أما إذا لم يتأهل له فلا شك أنه يحرم عليه أن يتصدى للتصنيف، وينبغي له أن يحرّض طلابه على الاشتغال في كل وقت، ويطالبهم بحفظ ما يلزم حفظه، وينير أذهانهم بطرح الأسئلة المهمة عليهم.
ومن أهم ما يؤمر به ألا يتأذى ممن يقرأ عليه إذا قرأ على غيره؛ لأنك إذا منعت طلابك من أن يسمعوا لغيرك فلا شك أنهم سيتعلمون الجمود؛ لأنه ربما لا تلقي عليهم أنت إلا رأياً واحداً هو الذي تعتنقه وتعتقده، فيخرج الطالب أفقه ضيّق جداً لا يعرف في كل مسألة إلا قولاً واحداً، فلو صدم بالرأي الثاني أو ا(2/7)
الجانب الخلقي للإمام النووي رحمه الله
وأما الجانب الخلقي من شخصيته عليه رحمة الله: فقد كان على جانب عظيم من التقوى والإنابة، فهو كما أشرنا منذ نعومة أظفاره كان يستشعر خشية الله فينفر عن اللهو وينصرف عن اللغو، ويملأ فراغه بقراءة القرآن والأعمال الصالحة التي تقربه إلى الله تعالى، وكان رأساً في الزهد قدوة في الورع، يتقلل من الدنيا ويعرض عن مفاتنها ومتعها، ولا يتناول منها إلا ما يقيم أوده، ويعينه على القيام بما هو آخذ بسبيله.
قال الإمام الذهبي: ولي الإمام النووي دار الحديث، وكان لا يتناول من معلومها شيئاً، يعني: الجعل الذي كانت تنفقه المدرسة على أبنائها وطلابها وعلمائها لم يكن يتناول منه شيئاً، بل يتقنع بالقليل مما يبعث به إليه أبوه، كان أبوه يبعث إليه بالجرايات -أي: الطعام والشراب الذي يأكله- وكانت أمه ترسل إليه كل عام قميصاً أو قميصين يلبسهما، فما كان يلبس من أحد، ولا يأكل من أحد، وما كان يقبل هدية طالب من الطلاب.
وهذه سيرة كثير من أهل العلم السالكين، أنهم ما كانوا يقبلون هدايا تلاميذهم الذين ليس بينهم وبين بعض تبادل هدايا، أي: لو أن طالباً يتبادل مع شيخه الهدايا فلا بأس أن يأخذ منه الشيخ، وأما إذا كانت الهدية مقدمة من التلميذ، وهذا الشيخ لا يعرف التلميذ إلا أنه تلميذه في الحلقة، وليس بينهم من الود ما يسمح له بقبول الهدية فإن الشيخ كان يمتنع عن قبول الهدية التي بهذا الوصف.
قال: وكان لا يأخذ من أحد شيئاً، ولا يقبل إلا ممن تحقق دينه ومعرفته، ولا له به علاقة من إقراء وانتفاع به.
ويقول أيضاً الإمام الذهبي عنه: كان عديم الميرة -أي: الطعام والشراب- والرفاهية والتنعم، مع التقوى والقناعة والورع الثخين، والمراقبة لله تعالى في السر والعلانية، وترك رعونات النفس من ثياب حسنة، وأكل طيب، وتجمل في هيئة، بل طعامه جلف الخبز بأيسر إدام، ولباسه ثوب خام وشيخنانية لطيفة.
هذا ما كان يأخذه لنفسه، ولكنه عند الفتوى وعند شرح الأحاديث يكون له موقف آخر، فإن هذا جانب الورع، والورع لا يُجبر عليه العبد، وإنما يُنصح به مجرد نصيحة، وله بعد ذلك أن يأخذ به أو لا يأخذ كالإحسان تماماً، فإنك لا تستطيع أن تحمل عبداً على الإحسان، ولكنك تستطيع أن تحمله على الإيمان وعلى الإسلام، وإلا فله حكم آخر في الشرع، أما الإحسان فهو المراقبة بينك وبين الله عز وجل، ولا يستطيع أحد أن يحملك عليه إلا الله عز وجل يرزقك إياه، نسأل الله تعالى أن يرزقنا الإحسان والورع! وأما الورع فكان ديدن الإمام النووي عليه رحمة الله تبارك وتعالى، أما عند شرحه للأحاديث فهذا شيء آخر يتعلق بجميع المسلمين، فإنه عند الفتوى والتحقق والإفتاء لا يجوز لي أن أحمل الناس على ما أنا عليه، فكذلك كان الإمام يفعل.
قال: ولكنه في باب الفتيا كان ينهج منهج القصد والاعتدال، فقد علّق على حديث عائشة رضي الله عنها المخرّج عند مسلم: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلوى والعسل)، يقول: فيه جواز أكل لذيذ الأطعمة والطيبات من الرزق، وأن ذلك لا ينافي الزهد والمراقبة لا سيما إذا حصل اتفاقاً.
أي: إذا لم يحرص عليه العبد، ولكنه قُدّم إليه دون طلب.
قال: وكان رحمه الله تعالى يسدي النصح للعظماء والكبار بأسلوب تلمح فيه عزة المؤمن ونزاهة القصد وكمال الشفقة للمنصوح، وله في ذلك مواقف رائعة مدونة في الكتب التي أُلفت في مناقبه تستوجب الإكبار والاعتداد، وتصلح أن تكون مثلاً أعلى للاحتذاء.(2/8)
منهج الإمام النووي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومحاربة البدع
والإمام النووي عليه رحمة الله تبارك وتعالى كان شديد الإنكار والتنكر للبدع وأهلها، ولا يحابي في ذلك أحداً كائناً من كان، رائده في ذلك الإخلاص في طلب الحقيقة، فقد قال في الأذكار: اعلم أن الصواب المختار ما كان عليه السلف رضي الله عنهم: السكوت في حال السير مع الجنازة؛ لأنه في عهد الإمام النووي كانوا يصيحون ويكبّرون ويهللون خلف الجنازة، فالإمام النووي كان حرباً على البدع وأهلها، فلما رأى ذلك أنكره.
قال: فلا يرفع صوتاً بقراءة ولا ذكر ولا غير ذلك، والحكمة فيه ظاهرة، وهي أنه أسكن لخاطره وأجمع لفكره فيما يتعلق بالجنازة، وهو المطلوب في هذا الحال، هذا هو الحق.
ثم يقول: ولا تغترن بكثرة من يخالفه- أي: يخالف هذا-فقد قال أبو علي الفضيل بن عياض رضي الله عنه ما معناه: الزم طرق الهدى ولا يضرك قلة السالكين.
عليك بالذين اتبعوا كتاب الله وسنة رسوله، وإن كان القائم على ذلك قلة من الناس وقلة من الخلق، فإن الحق لا يُعرف بكثرة الأتباع إنما يُعرف بصدق الاتباع.
قال: وإياك وطرق الضلالة، ولا تغتر بكثرة الهالكين، وأما ما يفعله الجهلة من القراءة على الجنازة بدمشق وغيرها من القراءة بالتمطيط وإخراج الكلام عن موضوعه فقد أوضحت قبحه وغلظ تحريمه.
وهو أيضاً موجود في بلادنا هذه، وكثيراً ما نسمع في الجنازات: لا إله إلا الله، وغير ذلك من الصيحات التي تعلو بين الفينة والفينة، فلا شك أن هذا كله من البدع، فحرام بإجماع العلماء.
ثم يقول: وقد أوضحت قبحه وغلظ تحريمه، وقسط من تمكن من إنكاره فلم ينكره في كتاب آداب القراء، والله المستعان.
الإمام النووي له مؤلفات عظيمة جداً ألف في كل فن وفي كل علم، والله عز وجل قد كتب القبول لمؤلفاته ومصنفاته، وهذا القبول الذي كتبه الله تعالى لمصنفات الإمام في الأرض إنما هو بفضل الله أولاً ثم بإخلاص الإمام؛ ولذلك الإمام مالك عليه رحمة الله تبارك وتعالى حينما صنّف كتاب الموطأ قام الناس في المدينة كلهم يصنفون موطآت، وذلك حينما طلب الخليفة من الإمام مالك أن يؤلف كتاباً، ويوطئه توطئة، ويمهّده تمهيداً لأهل الإسلام حتى يوزعه في الأمصار، فقام كل الناس يقولون: نسارع فلعل موطآتنا تكون أحسن من موطأ الإمام مالك، فلما قيل للإمام مالك: إن الموطآت قد كثرت بالمدينة، قرأ قول الله عز وجل: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:17].
قال: إن الله تعالى يذهب بهذه الموطآت ويبقي ما أريد به وجهه.
فهل تسمعون الآن عن موطأ غير موطأ الإمام مالك؟ فهناك موطآت كثيرة ومطبوعة ولكن لم يُكتب لها القبول والشهرة والانتفاع بها عند الناس إلا موطأ الإمام مالك.(2/9)
مواجهة الإمام النووي للسلاطين ومناصحته لهم بالرسائل(2/10)
رسالة النووي للسلطان يطالب الإشفاق على رعيته
قال ابن العطار رحمه الله تعالى: وكان مواجهاً للملوك والجبابرة بالإنكار، لا تأخذه في الله لومة لائم، وكان إذا عجز عن مواجهة كتب الرسائل، ويتوصل إلى إبلاغها، فمما كتبه وأرسلني في السعي فيه وهو يتضمن العدل في الرعية وإزالة المكس عنهم، وكتب معه في ذلك شيخنا شيخ الإسلام أبو محمد عبد الرحمن بن الشيخ أبى عمرو، وشيخ الحنابلة وشيخنا العلامة قدوة الوقت أبو محمد عبد السلام بن على بن سر الزواوي شيخ المالكية، وشيخنا العلامة قدوة الوقت ذو العلوم أبو بكر بن محمد بن أحمد السويسي المالكي، وشيخنا العارف القدوة أبو إسحاق إبراهيم بن الشيخ العارف ولي الله عبد الله بن الأرمني، وشيخنا المفتى أبو حامد محمد بن العلامة أبى الفضائل عبد الكريم بن الجرستاني خطيب دمشق وابن خطيبها، وجماعة آخرون ووضعها في ورقة، وهذه صورتها: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله يحيى النووي: سلام الله ورحمته بركاته، على المولى المحسن، ملك الأمراء، بدر الدين، أدام الله الكريم له الخيرات، وتولاه بالحسنات، وبلغه من خيرات الآخرة والأولى كل آماله، وبارك له في جميع أحواله، وننهي إلى العلوم الشريفة أن أهل الشام في هذه السنة في ضيق عيش، وضعف حال، بسبب قلة الأمطار، وغلاء الأسعار، وقلة الغلات والنبات، وهلاك المواشي وغير ذلك، وأنتم تعلمون أنه تجب الشفقة على الرعية والسلطان ونصيحته في مصلحته ومصلحتهم، فإن الدين النصيحة، وقد كتب خدمة الشرع الناصحون للسلطان المحبون له كتاباً يذكره النظر في أحوال رعيته، والرفق بهم، وليس فيه ضرر، بل نصيحة محضة، وشفقة تامة، وذكرى لأولي الألباب، والمسئول من الأمير أيده الله تقديمه إلى السلطان، أدام الله له الخيرات، ويتكلم عليه من الإشارة بالرفق بالرعية بما يجده مدخراً له عند الله: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:30]، وهذا الكتاب الذي أرسل به العلماء إلى الأمير أمانة ونصيحة للسلطان أعز الله أنصاره والمسلمين كلهم في الدنيا والآخرة، فيجب عليكم إيصاله للسلطان أعز الله أنصاره، وأنتم مسئولون عن هذه الأمانة ولا عذر لكم في التأخير عنها، ولا حجة لكم في التقصير فيها عند الله تعالى، وتسألون عنها: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].
{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37].
وأنتم -بحمد الله- تحبون الخير، وتحرصون عليه، وتسارعون إليه، وهذا من أهم الخيرات وأفضل الطاعات، وقد أهلتم له، وساقه الله إليكم، وهو فضل من الله ونحن خائفون أن يزداد الأمر شدة إن لم يحصل النظر في الرفق بهم.
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] وقال الله تعالى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة:215] والجماعة الكاتبون منتظرون ثمرة هذا، بما إذا فعلتموه وجدتموه عند الله {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فلما وصلت الورقتان إليه أوقف عليها السلطان، فرد جوابهما رداً عنيفاً مؤلماً، فتكدرت خواطر الجماعة الكاتبين وغيرهم.
فكتب رحمه الله جواباً لذلك
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وسلم.
من عبد الله يحيى النووي، يُنهي أن خدمة الشرع كانوا كتبوا ما بلغ السلطان أعز الله أنصاره، فجاء الجواب بالإنكار والتوبيخ والتهديد، وفهمنا منه أن الجهاد ذكر في الجواب على خلاف حكم الشرع، وقد أوجب الله إيضاح الأحكام عند الحاجة إليها، فقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187] فوجب علينا حينئذ بيانه وحرم علينا السكوت، قال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:91].
وذكر في الجواب أن الجهاد ليس مختصاًً بالأجناد، وهذا أمر لم ندع(2/11)
رسالة النووي إلى السلطان في التلطف بالرعية وعدم انتزاع أملاكهم
ومما كتبه أيضاً الإمام النووي إلى السلطان حينما حارب التتار وأزالهم عن البلاد، إذ ذهب السلطان إلى دمشق فقال له وكيل بيت المال في دمشق: إن هذه الأملاك ومعظم الأراضي التي تحت أيدي الناس إنما هي ملك للدولة، وهي وقف عليها، وأما هؤلاء الناس فقد استولوا عليها استيلاء، فأمر السلطان بأن تُحاط هذه الأملاك وتنتزع من هؤلاء الناس، ولا يأخذ أحد منهم ما يدّعيه إلا إذا أثبت ذلك بمكتوب وبأوراق، فحينما فعل ذلك السلطان وأصدر أوامره كتب إليه الإمام النووي مرة ثالثة.
قال: الحمد لله رب العالمين.
قال الله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]، وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187]، وقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2].
وقد أوجب الله على المكلفين نصيحة السلطان أعز الله أنصاره، ونصيحة عامة المسلمين، ففي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟! قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم).
ومن نصيحة السلطان -وفقه الله لطاعته وتولاه بكرامته- أن يُنهى إليه الأحكام إذا جرت على خلاف قواعد الإسلام، أو على غير ما قرره الشرع، فأنت قد أمرت بنزع هذه الأراضي ممن وضعوا أيديهم عليها، وهذا بخلاف حكم الإسلام، فحينما كان ذلك ونحن نعلم محبتك لشرع الله وجب علينا أن ننصحك وأن نبين لك حكم ما فعلت.
قال: قال الله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر:88]، وفي الحديث: (إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم).
أي: بدعاء ضعفائكم لا بذواتهم وأشخاصهم كما هو مقرر في عقيدة أهل السنة.
قال: وقال صلى الله عليه وسلم: (من كشف عن مسلم كربة من كرب الدنيا كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه)، وقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم من ولي من أمر المسلمين شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن شق عليهم فاشقق عليه)، وقال صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن المقسطين على منابر من نور على يمين الرحمن، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا).
وقد أنعم الله علينا وعلى سائر المسلمين بالسلطان أعز الله أنصاره، فقد أقامه لنصرة الدين والذب عن المسلمين.
السلطان بيبرس كان محباً للدين ولشرع الله عز وجل، وكان محباً للسنة وللعلماء، وكان يقربهم إليه.
قال: وأذل به الأعداء من جميع الطوائف، وفتح عليه الفتوحات المشهورة في المدة اليسيرة، وأوقع الرعب منه في قلوب أعداء الدين وسائر الماردين، ومهّد له البلاد والعباد وقمع أهل الزيغ والفساد، وأمده بالإعانة واللطف والسعادة، فلله الحمد على هذه النعم المتظاهرة والخيرات المتكاثرة، ونسأل الله الكريم دوامها له وللمسلمين وزيادتها في خير وعافية آمين.
قال: لقد أوجب الله شكر نعمه، ووعد الزيادة للشاكرين، فقال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7].
ولقد لحق المسلمين بسبب هذه الحيطة التي أنت عملتها على أملاكهم أنواع من الضرر لا يمكن التعبير عنها، وطُلب منهم إثبات ما لم يلزمهم.
أي: أنهم يقدمون الأوراق والمستندات، وهذا أمر لم يلزمهم به الشرع، فهذه الحيطة لا تحل عند أحد من علماء المسلمين، بل من في يده شيء فهو ملكه لا يحل الاعتراض عليه ولا يكلف بإثباته.
قال: وقد اشتهر من سيرة السلطان أنه يحب العمل بالشرع ويوصي نوابه فهو أولى من عمل به، أي أنك إذا كنت أنت توصي بالالتزام بالشرع فأولى بك أن تكون أول العاملين به، والمسئول إطلاق الناس من هذه الحيطة، والإفراج عن جميعهم فأطلقهم أطلقك الله من كل مكروه، فهم ضعفة وفيهم الأيتام والأرامل والمساكين والضعفة والصالحون، وبهم ننصر ونغاث ونُرزق، وهم سكان الشام المبارك جيران الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وسكان ديارهم، فلهم حرمات من جهات متعددة، فأطلقهم أطلقك الله تعالى.
ولو رأى السلطان ما يلحق الناس من الشدائد -يعني: لو أنك نزلت إلى واقع الناس وإلى الشوارع ونظرت إلى حال الناس- لاشتد حزنه عليهم، وأطلقهم في الحال ولم يؤخرهم، ولكن لا تنهى الأمور إليه على وجهها، أي لا تبلغه أحوال الرعية كما ينبغي؛ لأن في الطريق عقبات كثيرة تحول وتحجب بين إيصال الواقع وحقيقة الرعية إلى الراعي والمسئول.
فبالله أغث المسلمين يغثك الله، وارفق بهم يرفق الله بك، وعجّل لهم الإفراج قبل وقوع الأمطار، وتلف غلاتهم فإن أكثرهم ورثوا(2/12)
رسالة النووي إلى السلطان في شأن الفقهاء حين منعهم من التنقل بين المدارس والمساجد
ومما كتبه: رسالة تتعلق بالمكوس والحوادث الباطلة، وكتب كذلك رسالة بالأمراء والخيل، وأبطل الله تعالى ذلك على يد من يشاء من عباده في دولة السعيد بن الظاهر رحمهم الله تعالى.
وكتب رسائله إلى السلطان في شأن الفقهاء، حينما رُسم بأن الفقيه لا يكون منزّلاً في أكثر من مدرسة واحدة، وكانت المدارس في دمشق (300) مدرسة، فكان العالم الواحد يتنقل في عدة مدارس وتُجرى عليه الجرايات من كل مدرسة ينزل فيها، فحسد أحد الفقهاء هذا الوضع فوشى بهم إلى السلطان أنه لا ينبغي على الفقيه أن يبرح مدرسة واحدة، كل واحد يظل في مسجده ولا يخرج، فقال السلطان: لا ينتقل أحد من أهل العلم في مدرسة إلى مدرسة غيرها، ومن كان لديه شيء فلينقلها في مسجده أو مدرسته، إنما كونه ينتقل إلى مسجد آخر فهذا من الأمور المحرمة رسمياً وليس شرعاً، فلما رأى ذلك الإمام النووي كتب كتاباً.
قال: بسم الله الرحمن الرحيم.
خدمة الشرع ينهون أن الله تعالى أمرنا بالتعاون على البر والتقوى، ونصيحة ولاة الأمور وعامة المسلمين، وأخذ على العلماء العهد بتبليغ أحكام الدين ومناصحة المسلمين، وحث على تعظيم حرماته وإعظام شعائر الدين وإكرام العلماء وطلابهم، وقد بلغ الفقهاء بأنه رُسم في حقهم بأن يغيروا عن وظائفهم، ويقطعوا عن بعض مدارسهم، فتنكست بذلك أحوالهم، وتضرروا بهذا التضييق عليهم، وهم محتاجون ولهم عيال وفيهم الصالحون والمشتغلون بالعلوم، وإن كان فيهم أفراد لا يلتحقون بمراتب غيرهم، فهم منتسبون إلى العلم ومشاركون فيه، ولا يخفى مراتب أهل العلم وفضلهم وثناء الله تعالى عليهم، وبيان مزيتهم على غيرهم، وأنهم ورثة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وأن الملائكة عليهم السلام تضع أجنحتها لهم، ويستغفر لهم كل شيء حتى الحيتان.
واللائق بالجناب العالي -أي بالسلطان- إكرام هذه الطائفة من العلماء وطلاب العلم، والإحسان إليهم ومعاضدتهم، ودفع المكروهات عنهم، والنظر في أحوالهم بما فيه الرفق بهم، فقد ثبت في صحيح مسلم: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به).
وروى أبو عيسى الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أنه كان يقول لطلبة العلم: مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن رجالاً يأتونكم يتفقهون في الدين، فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيراً).
والمسئول ألا يُغير على هذه الطائفة شيء، وتستجلب دعوتهم لهذه الدولة القاهرة، وقد ثبت في صحيح البخاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟).
وقد أحاطت العلوم بما أجاب به الوزير نظام الملك حين أنكر عليه السلطان ترك الأموال الكثيرة في جهة طلبة العلم، فقال: أقمت لك بها جنداً لا ترد سهامهم بالأسحار؛ فاستصوب فعله وساعده عليه.
والله الكريم يوفق الجنابة دائماً لمرضاته، والمسارعة إلى طاعته.
والحمد لله رب العالمين.(2/13)
رسالة النووي إلى ابن النجار في سعيه لدى السلطان بما يضر بعامة المسلمين
وله كذلك رسائل كثيرة في كليات تتعلق بالمسلمين وجزئيات، وفي إحياء سنن نيرات، وفي إماتة البدع المظلمات، وله كلام طويل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مواجهاً به أهل المراتب العاليات.
وقد كتب رسالة إلى من كان يسعى في إحداث أمور باطلة على المسلمين، جديرة بأن يتأملها كل داعية إلى الله؛ ليعلم حرص العلماء على العامة، وغضبتهم عندما تنتهك حرمات الله تعالى.
ابن العطار وهو تلميذه يقول: كنت يوماً بين يديه لتصحيح درس عليه في مختصر علوم الحديث الأصغر، فلما فرغت منه قال لي: رأيت الليلة في المنام كأني كنت سابحاً في بحر، وكأني خرجت منه إلى شاطئه، وإذا أنا بشخص قد غرق فيه، وقد تعلق بخشبة على وجهه لحظة ثم غرق، قلت: يا سيدي! أأنت علمت الشخص من هو؟ قال: نعم.
قلت: من هو؟ قال: ابن النجار.
قلت: فما أوّلته؟ -أي: ما تأويل هذه الرؤيا؟ - قال: يظهر قليلاً ثم يخفى خفاء لا ظهور بعده، أي: يظهر ببدعته وبنكده قليلاً فيعكّر صفو البلاد، ثم يكتب الله تعالى له الإزالة والخفاء فلا يظهر بعدها مع نفاق في قلبه.
هذه هي الرؤيا.
يقول: وكان من قصة المذكور ابن النجار أنه سعى في إحداث أمور على المسلمين باطلة، فقام الشيخ قدّس الله روحه مع جماعة من العلماء فأزالوها بإذن الله تعالى، ونصر الله الحق وأهله، فغضب لذلك ابن النجار لكراهيته لمصلحة المسلمين ونصيحة الدين، وبعث إلى النووي يهدده ويقول: أنت الذي تحزّب العلماء عليّ، فكتب إليه النووي قدّس الله روحه كتاباً هذا صورته.
قال: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين.
من يحيى النووي.
اعلم أيها المقصر في التأهب لمعاده! التارك مصلحة نفسه في تهيئة جهاده له وزاده، أني كنت لا أعلم كراهتك لنصرة الدين، ونصيحة السلطان والمسلمين؛ حملاً مني لك على ما هو شأن المؤمنين من إحسان الظن بجميع الموحدين، وربما كنت أسمع في بعض الأحيان من يذكرك بغش المسلمين؛ فأُنكر عليه بلساني وبقلبي؛ لأنها غيبة لا أعلم صحتها، ولم أزل على هذا الحال إلى هذه الأيام، فجرى ما جرى من قول قائل للسلطان وفّقه الله لكريم الخيرات: إن هذه البساتين يحل انتزاعها من أهلها عند بعض العلماء.
إذاً: علمنا أن سبب فعل السلطان أنه لم يفعل ذلك بهواه، وإنما حينما أفتاه علماء السلطة بأن هذه البساتين يحل له ردها في مذهب بعض العلماء من السلف، فحينما رأى ذلك السلطان وأن بعض العلماء السالكين قالوا بجواز ذلك وبحله؛ فعله، وهو في هذه الحال لا يقدم على حرام ولا على مكروه، وإنما أخذ بفتوى بعض من أهل العلم.
قال: إن هذه البساتين يحل انتزاعها من أهلها عند بعض العلماء.
فالإمام النووي رد عليه بقوله: وهذا من الافتراء الصريح والكذب القبيح، فوجب عليّ وعلى جميع من علم هذا من العلماء أن يبيّن بطلان هذه المقالة ودحض هذه الشناعة، وأنها خلاف إجماع المسلمين.
إذاً: المسألة فيها إجماع بالمنع، فلا يجوز للسلطان أن ينتزع أرضاً من أحد رعيته إلا أن يشتريها منه أو يكافئه عليها، حتى يرضى صاحبها.
قال: وأنه لا يقول بها أحد من أئمة الدين.
أي: هذه الفتوى التي قلتها والتي أبلغتها للسلطان لم يقل بها أحد من أئمة الدين.
قال: وأن ينهوا ذلك إلى سلطان المسلمين، وأنا أكلفكم أن تبلغوا هذا إلى السلطان، فإنه يجب على الناس نصيحته؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة).
وإمام المسلمين في هذا العصر هو السلطان وفقه الله تعالى لطاعته وتولاه بكرامته، وقد شاع بين الخواص والعوام أن السلطان كثير الاعتناء بالشرع، ومحافظ على العمل به، وأنه بنى المدرسة لطوائف العلماء، ورتّب القضاة من المذاهب الأربعة، وأمر بالجلوس في دار العدل لإقامة الشرع، وغير ذلك مما هو معروف من اعتناء السلطان أعز الله أنصاره بالشرع، وأنه إذا طلب طالب منه العمل بالشرع أمر بذلك ولم يخالفه، فلما افترى هذا القائل في أمر البساتين ما افتراه ودلّس على السلطان، وأظهر أن انتزاعها من يد مُلّاكها جائز عند بعض العلماء، وغش السلطان في ذلك، وبلغ ذلك علماء البلد؛ وجب عليهم نصيحة السلطان، وتبيين الأمر له على وجهه الصحيح، وأن هذا خلاف إجماع المسلمين، فإنه يجب عليهم نصيحة الدين والسلطان وعامة المسلمين.
فوفقهم الله تعالى للاتفاق على كتب كتاب يتضمن ما ذكرته على جهة النصيحة للدين والسلطان والمسلمين، ولم يذكروا فيه أحداً بعينه بل قالوا: من زعم جواز انتزاعها فقد كذب.
أي أنه لم يقل له: يا ابن النجار! أنت كذاب، وأنت مفتر! إنما قال: من زعم لك أن انتزاعها جائز من يد مُلّاكها فقد كذب.
قال: وكتب علماء المذاهب الأربعة خطوطهم بذلك؛ لِما يجب عليهم من النصيحة المذكورة، واتفقوا على تبليغها ولي الأمر، أدام الله نعمه عليه لتنصحوه وتبينوا حكم الشرع له.
ثم بلّغني جماعات متكاثرات في أوقات مختلفات حصل لي العلم بقولهم: أنك كرهت س(2/14)
الأسئلة(2/15)
الجمع بين الحديثين أولى من القول بنسخ أحدهما بالآخر
السؤال
إذا تعارض حديثان في الظاهر كحديث العدوى مع حديث: (لا يورد ممرض على مصح) هل أحدهما ينسخ الآخر أم يجب الجمع بين الحديثين وكيف ذلك؟
الجواب
الجواب باختصار أن الجمع واجب ما دام ممكناً؛ لأن إعمال الدليلين خير من رد أحدهما، والحقيقة الإمام النووي ترجم له كثير من أهل العلم، منهم السخاوي ترجم ترجمة حافلة له، فسماها حياة الإمام النووي، فكل كتاب صُنّف حول الإمام النووي وطُبع في هذه الأيام نُقلت نقولات عظيمة في ترجمته، والإمام الذهبي كذلك يتكلم في كتاب العبر عن النووي كلاماً لطيفاً.(2/16)
حكم إعمال الحديث الضعيف في باب فضائل الأعمال
السؤال
جاء في كتاب تيسير مصطلح الحديث للشيخ محمود الطحان في باب الحديث: أنه يحذّر من إعمال الأحاديث الضعيفة في باب فضائل الأعمال؟
الجواب
هذه المسألة الحقيقة محل خلاف بين أهل العلم، ففريق منهم يجوز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، والآخرون -وهو الصحيح- لا يجوّزون ذلك، بل ولا يمكن إعمال الحديث الضعيف في شيء من الدين، لا في الأحكام، ولا في العقائد، ولا في فضائل الأعمال، ولا في الترغيب والترهيب وغير ذلك، وهذا ما نعتقده ونعمل به بإذن الله تعالى.
أما قوله هنا: أن الإمام أحمد بن حنبل وعبد الرحمن بن مهدي إنما كانوا يشددون في أحاديث الأحكام وفي الفضائل، فهذا له فقه خاص بمصطلح الحديث الضعيف عند الإمام أحمد وعبد الرحمن بن مهدي، فإنهم كانوا يعدون الحديث الحسن لغيره من باب الضعيف.
وهذا لا شك أمر متعلق بدروس المصطلح.(2/17)
شرح صحيح مسلم - المقدمة - ترجمة الإمام النووي [2]
كان الإمام النووي رحمه الله تعالى على منهج أهل السنة والجماعة، وكان يتحرى الحق ويحرص عليه، وإن جانبه في بعض الأحيان، وكان ديدنه صيانة جناب الدين، ولو لم يصب ذلك في بعض الأمور، وكون النووي عالماً من علماء الأمة فله حق على كل مسلم أن يذب عن عرضه، ويدفع التهم والطعن في عقيدته.(3/1)
عقيدة الإمام النووي
الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
في الدرس الماضي تناولنا الإمام النووي من حيث سيرته الذاتية وحياته العلمية، وأرجأنا في الدرس الماضي الكلام عن عقيدة الإمام النووي إلى هذا الوقت الذي نحياه ونعيشه.(3/2)
اختلاف أقوال العلماء في عقيدة الإمام النووي رحمه الله
فنقول مستعينين بالله عز وجل في عقيدة الإمام النووي: إن العلماء وأهل العلم اختلفوا فيها، فاضطرب المترجمون للإمام النووي قديماً وحديثاً، فمنهم من نسبه للعقيدة السلفية، ومنهم من نسبه إلى عقيدة الخلفية، وهي عقيدة الأشاعرة.
وأريد أن أنبه بادئ ذي بدءٍ أن الدراسات الأكاديمية في هذه البلاد وفي كثير من بلدان المسلمين يعدون عقيدة الأشعريين وعقيدة الماتريدية أتباع المنصور الماتريدي هي عقيدة أهل السنة والجماعة، وهذا الكلام فيه تخبيط وخلط وخطأ عظيم وفاحش، أما عقيدة أهل السنة والجماعة فهي ما كان عليه الصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، والتابعون كذلك والأئمة المتبوعون باعتبار كلام خفيف للإمام أبي حنيفة عليه رحمة الله تبارك وتعالى.
فعقيدة الأشاعرة والماتريدية ليست هي عقيدة أهل السنة والجماعة، وإلا فالأزهر في هذا البلد، والدراسات الأكاديمية والإسلامية واللغوية في الجامعات كجامعة القاهرة وعين شمس يعدون العقيدة الأشعرية والعقيدة الماتريدية هي عقيدة أهل السنة، فأريد أن أنبه على هذه المسألة قبل أن ننطلق في الكلام على عقيدة السلف وعقيدة الخلف.
فالإمام النووي عليه رحمة الله تبارك وتعالى حينما وقع فيما وقع فيه من تأويل وصرف النصوص عن ظاهرها، نسبه كثير من المتقدمين والمتأخرين إلى العقيدة السلفية تارة وإلى العقيدة الخلفية -وهي عقيدة الأشعرية والماتريدية- تارة أخرى، ولكن الإمام الذهبي يقول في كتاب تاريخ الإسلام في ترجمة الإمام النووي: إن مذهبه في الصفات السمعية السكوت، أي: كان يذهب إلى السكوت في الصفات السمعية وإمرارها كما جاءت، وربما تأول قليلاً في شرح مسلم، أي ربما تعرض لتأويل الصفات في شرح مسلم.
والسخاوي عليه رحمة الله نقل في ترجمته، وتعقبه بقوله: كذا قال.
أي: الإمام الذهبي، والتأويل كثير في كلامه، أي: ليس قليلاً وإنما هو كثير.
ونقل السخاوي قبل ذلك عن بعض مترجميه أنه وصفه بأنه أشعري.
هذا وصف صريح وصحيح بأنه أشعري، فقال في صفحة (36): وصرّح اليافعي والتاج السبكي رحمهم الله تعالى أنه أشعري.
وقال السبكي في طبقات الشافعية الكبرى: شيخ الإسلام، أستاذ المتأخرين، وحجة الله على اللاحقين، والداعي إلى سبيل السالفين.
فالذي يقرأ هذه المقولة يتصور أن الإمام النووي إنما كان يسلك مسلك السلف، ولكن هذا القول الذي قاله هو الإمام السبكي، والإمام السبكي أشعري كذلك.
فكل مذهب يعد نفسه أنه هو مذهب السلف، فالأشاعرة يقولون: نحن سلفيون، والماتريدية يقولون: نحن سلفيون.
فكل يدّعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاك فهذا كلام من الإمام السبكي إذا قاله في حق الإمام النووي، فإنما ينسبه إلى الأشعرية.
وقال: وله الزهد والقناعة، ومتابعة السالفين من أهل السنة والجماعة.
هكذا يقول عن الأشعريين أنهم أهل السنة والجماعة، وكما اضطرب الأقدمون أيضاً في نسبة الإمام النووي إلى أي العقائد، فكذلك اضطرب المحققون والمطلعون والباحثون المعاصرون، فمنهم من وصفه بأنه كان سلفياً في اعتقاده، لكنه يؤول أحياناً إذا دعت الضرورة إلى ذلك.
ومنهم من وصفه بأنه له أغلاط في الصفات، سلك مسلك المؤولين وأخطأ في ذلك، فلا يقتدى به في ذلك، بل الواجب التمسك بقول أهل السنة، وهو إثبات الأسماء والصفات الواردة في الكتاب العزيز، والسنة الصحيحة المطهرة، والإيمان بذلك على الوجه اللائق بالله عز وجل من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل؛ عملاً بقوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، وما جاء في الآيات والأحاديث كثير يثبت عقيدة السلف.
ومنهم من قال عنه: لا يصح اعتباره أشعرياً، أي: الادعاء بأنه أشعري كلام يحتاج إلى دليل وبرهان، ولا يصح اعتباره كذلك وإنما يقال: وافق الأشاعرة في أشياء، فليس من وافق أهل البدعة في أشياء يقال: إنه مبتدع، وهذا أصل لا بد من معرفته، فالذي يوافق من أهل السنة والجماعة أهل البدع لا يقال عنه: مبتدع، وإنما يقال: إن الأصل فيه الاستقامة، ولكنه زل في مسألة كذا وكذا، ووافق فيها أهل البدع.
أما إذا كان من أهل البدع أصلاً فوافق أهل الحق فلا يقال بهذه الموافقة: إنه من أهل الحق، ولكن يقال: إنه من أهل الباطل، ولكنه وافق أهل الحق في مسألة كذا وكذا، هذا أصل لا بد من معرفته.
فالذي يوافق أهل الحق وهو من أهل البدع لا تخرجه موافقته لأهل الحق في هذه المسائل عن بدعيته، فكذلك أهل الحق إذا وافقوا أهل البدع لا تخرجهم هذه الموافقة لأهل البدع عن الحق الذي هم تمسكوا به من بداية الأمر، بل الحق مسلكهم وعقيدتهم.
فالإمام ا(3/3)
التأصيلات التي ينبني عليها بيان عقيدة الإمام النووي
والحقيقة أن التأويل وارد في كلامه كثيراً، وخاصة في شرحه لصحيح مسلم، ولكن هناك معالم ينبغي ضبطها وسردها لبيان عقيدة الإمام النووي عليه رحمة الله تبارك وتعالى.(3/4)
الإمام النووي ليس له كتاب مستقل في العقيدة
فهذه القواعد وهذه التأصيلات: أولها: لا نعلم كتاباً مستقلاً للإمام النووي تكلم فيه عن العقيدة حتى يتضح المقال في عقيدته.
ليس هناك كتاب أفرده شيخ الإسلام النووي لإثبات عقيدته وبيانها؛ حكم من خلال هذا الكتاب بأنه أشعري أو سلفي، فليس له إلا مجرد الكلام على الأحاديث التي وردت في صحيح الإمام مسلم في كتاب الإيمان وغيره، فهي التي يؤخذ منها كلام الإمام النووي في العقيدة، وعليها مدار كلام المتقدمين والمتأخرين في عقيدة الإمام عليه رحمة الله.
وهناك كتاب في العقيدة نُسب إلى الإمام النووي، وأما نسبته إليه ففيها نظر كبير، هذا الكتاب اسمه: المقاصد في بيان ما يجب معرفته من الدين من العقيدة والعبادة وأصول التصوف، فهذا الكتاب يُنسب زوراً وبهتاناً إلى الإمام النووي.(3/5)
كلام النووي على الصفات منقول من شراح صحيح مسلم الذين سبقوه
التأصيل الثاني: أن سائر كلام النووي على الصفات منقول من شُرّاح صحيح مسلم الذين سبقوه، وخاصة من كلام عياض، وشيخه أبي عبد الله المازري.
عياض لا شك أنه كان أشعري العقيدة، وكذلك شيخه الإمام أبو عبد الله المازري، فالإمام النووي عليه رحمة الله حينما جمع ما جمع في شرح هذا الصحيح اعتمد جُل اعتماده على النقل من كلام عياض وكلام الإمام أبي عبد الله المازري، وكلاهما أشعري العقيدة، فكان الإمام ينقل كلامهما دون تمحيص ولا تحقيق ولا تدقيق.(3/6)
تأويل الإمام النووي بعض الصفات تنزيهاً لله
وأما التأصيل والقاعدة الثالثة: أوّل النووي بعض الصفات ولا سيما الفعلية منها تنزيهاً لله عن ظاهرها، وخشية تشبيهه بخلقه، ووصفه بالتجسيم، والذين سلكوا هذا المسلك خرجوا من التشبيه والتجسيم فوقعوا في التعطيل، وهذا الذي وقع فيه الإمام النووي أيضاً، ولو أثبتوا ظواهر النصوص على حقيقتها على مذهب السلف لنجوا، أثبتوها بالمعنى المعلوم والكيف المجهول الذي يليق بجلال الله عز وجل كما هو الكلام المنسوب إلى الإمام مالك، وهو في الحقيقة كلام أم سلمة رضي الله عنها أم المؤمنين قالت: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، ثم من بعدها تبنى هذه المقولة ربيعة الرأي، وهو إمام الرأي في المدينة، ثم بعد ذلك أخذها الإمام مالك واشتهرت عنه، حينما سئل عن قول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] قال: الاستواء معلوم.
إذاً: السلف لا يفوضون العلم، ولا يفوضون المعنى، إنما يفوضون الكيف؛ لأنه قال: الاستواء معلوم، فالعرب يعرفون ما معنى الاستواء، (استوى) عند العرب بمعنى: (علا وارتفع) فلا يقال: استوى بمعنى: استولى، والاستيلاء هذا هو كلام المتأخرين من الأشاعرة وغيرهم، والاستيلاء يلزم منه المناهضة والمدافعة والمبارزة حتى يستولي أحد المتبارزين على الآخر، وحتى يهزمه وينتصر عليه، هذا كلام المتأخرين، وأما كلام السالفين من الصحابة وغيرهم: أن الاستواء بمعنى: الارتفاع والعلو، فهذا هو معنى قول أم سلمة: الاستواء معلوم، أي: معلوم عند العرب بمعنى: علا وارتفع، وعند الخلف بمعنى آخر وهو غير مراد لنا.
قالت: والكيف مجهول، أي: كيفية استواء الرب سبحانه وتعالى على العرش هذه مجهولة لنا، وقد ناقشت أحد الأساتذة الكبار في الجامعات فقال: الاستواء مجهول، والكيف مجهول، قلت: لقد أتيت بطامة لم يأت بها حتى الخلف، ثم استطردنا في الكلام فقال: الكيف مجهول، فقلت له: على من؟ قال: على الله، قلت: كيف يخفى على الله عز وجل استواؤه؟ فقال: هكذا الكلام الصحيح للقاضي عبد الجبار وغيرهم.
قلت: لا، فالقاضي عبد الجبار يقول: الاستواء بمعنى: الاستيلاء، وأما أنت فإنما تنفي هذا عن القاضي عبد الجبار وغيره، وإثبات هذا الكلام للقاضي لا شك أنه افتراء عليه.
فكان عاقبتي أن طُردت من الجامعة، ووصى بي الذين يقفون على البوابة أن يراقبوني ويخرجوني، فجزاه الله خيراً، وربنا يهديه.(3/7)
إفصاح الإمام النووي بأن التأويل يستساغ إذا دعت الحاجة إليه
التأصيل الرابع: أفصح النووي في مقدمته في كتاب المجموع -وهو من أعظم وأجل كتب الإمام النووي في الفقه، وهو أصل في مراجع كتب الفقه في المذهب الشافعي- أن التأويل يستساغ إذا دعت الحاجة إليه، وهذا على أي حال درب من دروب الاجتهاد عند الأئمة، وإن كنا لا نوافق عليه، ولكنه على أية حال موجود وله ظل عند أهل العلم، خاصة ممن كانت العقيدة عندهم غير ثابتة ثبوت الجبال الرواسي، فكانوا يلجئون للتأويل أحياناً لرد بدعة على مبتدع، وهذا الذي فعله الإمام النووي.
قال الإمام في المجموع: اختلفوا في آيات الصفات وأخبارها هل يخاض فيها بالتأويل أم لا؟ فقال قائلون: تتأول على ما يليق بالله عز وجل، وهذا أشهر المذهبين للمتكلمين.
وأما اصطلاح المتكلمين فله موال طويل جداً، لكن هذا اللفظ أطلقه المتأخرون على علماء في العقيدة أو المصنفات في العقائد وقالوا: سموهم المتكلمين أي: بمعنى المتكلمين في الأصول لا في الفروع.
وقال آخرون: لا تتأول، بل يمسك عن الكلام في معناها، ويوكل علمها إلى الله تعالى.
قوله: (ويوكل علمها) هذا كلام لا شك أنه خطأ، لكن يوكل كيفيتها إلى لله عز وجل، أما يوكل علمها فهذا هو تفويض العلم وتفويض المعنى الذي قال به الخلف دون السلف.
ثم قال: ويعتقد مع ذلك تنزيه الله تعالى وانتفاء صفات الحادث عنه، فيقال مثلاً: نؤمن بأن الرحمن على العرش استوى، ولا نعلم حقيقة معنى ذلك.
قوله: (ولا نعلم حقيقة معنى ذلك).
هذا كلام خطأ، وإنما الصواب: ولا نعلم كيفية ذلك، أما معنى ذلك وعلم ذلك فإننا نعلمه، فقوله: (الاستواء معلوم) يرد هذا الكلام من أصله.
وهذه طريقة السلف أو جماهيرهم، وهي أسلم، إذ لا يطالب الإنسان بالخوض في ذلك، فإذا اعتقد التنزيه فلا حاجة إلى الخوض في ذلك والمخاطرة فيما لا ضرورة إليه، أو لا حاجة إليه، فإن دعت الحاجة إلى التأويل لرد مبتدع ونحوه تأولوا حينئذ، وعلى هذا يحمل ما جاء عن العلماء في هذا.
والله أعلم.
هذا كلام الإمام النووي، ويفهم منه على سبيل الإجمال دون التفصيل أنه ينسب تفويض المعنى إلى السنة، وهذا كلام غير صحيح، وإنما الذي يُنسب إلى السلف وهو الحق الذي لا مراء فيه تفويض الكلام.(3/8)
قول الإمام النووي في تفويض الصفات
يبقى التأصيل الخامس وهو: أنه يظهر من كلام الإمام النووي السابق أنه يرى تفويض المعنى، وهذا لا شك مذهب الخلف، وهذا ما صرّح به في كثير من المواطن في شرحه على الصحيح.
وخلاصة القول وصفوته أن الإمام النووي انطلق فيما صار إليه في الأسماء والصفات من وجوه مختلفة في فهم النص، أدى إلى القول بالتفويض أو التأويل، وخاصة في الصفات الخبرية كالنزول والفرح والغضب والضحك والإتيان والمجيء ونحو هذا.(3/9)
اشتغال النووي بعلم الحديث ودفاعه عن عقيدة السلف
فاشتغال النووي بعلم الحديث وبُعده عن علم الكلام جعله يوافق أهل السنة والجماعة في مسائل كثيرة جداً من مسائل العقيدة، السر في ذلك بركة اشتغاله بعلم الحديث؛ لأن الذي يشتغل بعلم الحديث لا بد أن يتعرض لأقوال الشُرّاح، ومعظم أهل الحديث إنما كانوا على نهج أهل السنة والجماعة إلا ما ندر.
قال: مثل دفاعه عن عقيدة السلف في مسألة خلق الله لأفعال العباد، وإثبات رؤية الله عز وجل يوم القيامة، ودفاعه عن عقيدة السلف في حقيقة الإيمان وزيادته ونقصانه، والاستثناء فيه، وكلامه على حكم مرتكب الكبيرة وكلامه في النبوات عامة، وكذا في السمعيات، ودفاعه عن مذهب أهل السنة في الإمامة والصحابة والتفضيل بينهم.
الإمام النووي دافع ونافح عن هذه المسائل أيما دفاع وأيما منافحة، فهذه المسائل بين أهل السنة وبين أهل البدع فيها خلاف عظيم وهوّة شاسعة على جهة الخصوص، فكون الإمام النووي يتبنى مذهب أهل السنة والجماعة في هذا وينافح ويدافع عنه ضد المعتزلة، بل وضد الأشاعرة أنفسهم الذين يُنسب إليهم الإمام النووي إنه ليدل دلالة واضحة على أن الإمام النووي لم يكن أشعرياً ولا معتزلياً، وقد تضمنت هذه التقريرات ردوداً على أهل الزيغ والضلال، وصرّح الإمام النووي بأسماء كثير من الطوائف المبتدعة والملل المنحرفة، مثل: الشيعة والرافضة والمعتزلة والخوارج والجهمية والمرجئة والكرّامية وغيرهم.
ونستطيع أن نقرر هنا باطمئنان أن هذا الشرح ساهم في الدعوة إلى عقيدة السلف الصالح في هذه الأمور، وهو شرح الإمام النووي، وذلك من خلال الرد على من تجنبها من أهل الكلام، ومن سلك مسلكهم معتمداً على ما قرره السابقون في مصنفاتهم المعتبرة في العقيدة وغيرها.
ومن الجدير بالذكر هنا أن شيخ الإسلام ابن تيمية حينما قرر ميل أبي حامد الغزالي إلى الفلسفة لكنه أظهرها في قالب التصوف والعبارات الإسلامية قال: وقد حكي عنه من القول بمذاهب الباطنية ما يوجد تصديق ذلك في كتبه، ورد عليه أبو عبد الله المازري في كتاب أفرده، إلى أن قال: ورد عليه الشيخ أبو البيان والشيخ أبو عمرو بن الصلاح وحذّر من كلامه في ذلك هو وأبو زكريا النووي وغيرهما.
فكون النووي يحذر من كلام أبي حامد الغزالي في مسألة الصفات أو مسائل العقيدة على سبيل الإجمال، فلا شك أنه يرتضيه، فالذي يختلق كلاماً يلزمه أن ينافح عنه لا أن يرده وأن يسب أو يذم قائله، وهذا الذي فعله الإمام النووي أنه رد على الغزالي وأبطل قوله، مما يؤيد ويساعد ويشجّع على أن الإمام النووي إنما كان من أهل السنة والجماعة لا من أهل البدعة، وأقصى ما يقال: إنه وافق أهل البدع، أو وافق الأشاعرة والخلف في بعض المسائل عن اجتهاد منه وتأويل، فنسأل الله تعالى أن يغفر له، وأن يتجاوز عن سيئاته.
ولا يفوتنا بهذا الصدد إلى أن نشير إلى أن الإمام النووي خالف الأشاعرة مخالفة صريحة في مسألة أول واجب على المكلف، ونصر فيها مذهب السلف فقال في المجموع الجزء الأول في بداية الكلام صفحة (24) أو (25): وأما أصل واجب الإسلام وما يتعلق بالعقائد فيكفي فيه التصديق بكل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يعني: التصديق على سبيل الإجمال، أي: تصديق العوام للنبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الإجمال دون التفصيل، فهذا الذي قاله الإمام النووي.
قال: أول ما يلزم المسلم أن يصدق بكل ما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا التصديق إنما يعتقده اعتقاداً جازماً سليماً من كل شك، ولا يتعين على من حصل له هذا تعلم أدلة المتكلمين، أي: ليس فرض عين على كل مسلم أن يتعلم أدلة المتكلمين.
والمتكلمون إنما هم المتأخرون.
قال: هذا هو الصحيح الذي أطبق عليه السلف والفقهاء والمحققون من المتكلمين من أصحابنا وغيرهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطالب أحداً بشيء سوى ما ذكرناه، وكذلك الخلفاء الراشدون ومن سواهم من الصحابة فمن بعدهم من الصدر الأول، بل الصواب للعوام وجماهير المتفقهين والفقهاء الكف عن الخوض في دقائق الكلام مخافة من اختلال يتطرق إلى عقائدهم يصعب عليهم إخراجه، بل الصواب لهم الاقتصار على ما ذكرناه من الاكتفاء بالتصديق الجازم، وقد نص على هذه الجملة جماعات من حذاق أصحابنا الشافعية وغيرهم، وقد بالغ إمامنا الشافعي رحمه الله تعالى في تحريم الاشتغال بعلم الكلام أشد مبالغة، وأطنب في تحريمه، وتغليظ العقوبة لمتعاطيه، وتقبيح فعله، وتعظيم الإثم فيه، فقال: لئن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك خير من أن يلقاه بشيء من الكلام.
وألفاظه بهذا المعنى كثيرة.(3/10)
سبب الاشتباه في نسبة الإمام النووي إلى الأشاعرة
ذكرنا أن الإمام النووي كان مضطرباً في مسائل العقيدة، خاصة مسألة الصفات فما سر هذا الاضطراب؟ قال: سبب الاشتباه في نسبة الإمام النووي إلى الأشاعرة أو أهل السنة أنه قد وافق الأشاعرة من خلال النقل عن مصنفاتهم كما ثبت نقله عن الإمام أبي عبد الله المازري وتلميذه عياض، فلما نقل عنهم وسكت عن هذا النقل قال الأشاعرة: هو أشعري من هذه الزاوية، أنه اعتمد كلام عياض والشيخ أبي عبد الله المازري وسكت عنه مما يدل على رضاه به.
فهذه حجة الذين ينسبون الإمام النووي إلى الأشاعرة، وأما أهل السنة والجماعة فإنهم ببركة اشتغال الإمام النووي بالحديث ومنافحته عن عقيدة أهل السنة والجماعة في مسائل كثيرة نسبوه إلى عقيدة السلف، ورحم الله تعالى شيخ الإسلام ابن تيمية أنه قال: وقل طائفة من المتأخرين إلا وقع في كلامهم نوع غلط؛ لكثرة ما وقع من شبه أهل البدع.
ولهذا يوجد في كثير من المصنفات في أصول الفقه وأصول الدين والزهد والتفسير والحديث من يذكر في الأصل العظيم عدة أقوال، والأصل فيها أنها قول واحد، فتجد الواحد منهم وهو إمام كبير فحل يذكر في هذا الأصل العظيم الذي لا ينبغي أن يُذكر فيه إلا كلام واحد عدة أقوال، ومع هذه الأقوال الكثيرة لا يذكر القول الصحيح.
ثم يقول: لعدم علمه به لا لكراهيته لِما عليه الرسول صلى الله عليه وسلم.
فالإمام النووي من الأفاضل الأبرار، بل من العلماء الأحبار، ولكن لم يوفق لمتابعة منهج أهل الآثار في بعض المسائل العقدية الواردة في بعض الأخبار.
عفا الله عنا وعنه بمنه وكرمه، وجعلنا وإياه من أهل الجنة وأبعدنا عن النار إنه عزيز غفار.(3/11)
المسائل التي خالف فيها الإمام النووي أهل السنة والجماعة
منها: التبرك بآثار الصالحين، من المعلوم إجماع أهل السنة والجماعة على جواز بل على استحباب التبرُّك بآثار النبي عليه الصلاة والسلام على جهة الخصوص؛ لأنه مقطوع بصلاحه وتقواه، فالإمام النووي خالف في ذلك وقاس على النبي صلى الله عليه وسلم كل رجل صالح من الأمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهذا كلام خالف فيه جمهور أهل السنة.
وعلى أية حال تبقى هذه المسألة محل خلاف بين العلماء، ولكن الراجح فيها: عدم قياس الصالحين على النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه لا يعلم الغيب إلا الله.
فالراجح في هذه المسألة عدم جواز التبرك بآثار الصالحين، وهذه المسألة لو أخذناها على الإمام النووي فإنما ينبغي أن نأخذها على كثير من الإخوة السلفيين في هذه الأوقات، فكثير من الإخوة يقول لك: أعطني قميصك يا أخي! هذا بركة منك! أو دعني أشرب سؤرك هذا بركة منك! أو أنا وضعت قدمي مكان قدمك اقتفاء لأثرك وتبركاً بك! فهذا الكلام كله هو الكلام الذي أنكره السلف في مسألة التبرُّك، فأنت تقول أيها المسلم: أتمنى أن أحصل على كوفية أو عمامة أو قميص أو حذاء من أحذية الشيخ الفلاني أو الرجل العلاني.
فهذه بركة منه! ومن الممكن أن تعتقد في والدك الصلاح، فتحجز آثاره بعد موته ثم لا تتصرف فيها عشرات الأعوام من باب التبرك بآثار الوالد، وبآثار الشيخ، وبآثار الزعيم وهلم جراً، فكل هذا مما أنكره كثير من السلف.
وإذا كنا نعيب الآن على بعض أهل العلم أنهم تبنوا جواز التبرك بآثار الصالحين فإن كثيراً ممن يعيبون على الشيخ فلان أو الشيخ علان هذا الأمر إنما هم واقعون فيه.
ومما خالف فيه الإمام النووي أيضاً عقيدة أهل السنة: ذكره للتأويل في صفة الغضب والرضا والسخط والكراهية، ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء، وذكر تأويله صفة النور وقوله: إن السلف يؤولون المعنى، وكذلك تأويله للصورة، وذكر تأويله الصورة والإتيان، وتأويله الضحك، وتجويزه قراءة القرآن على القبور، وتأويله الحب والبغض، وتأويله علو الله عز وجل، وتأويله النزول، وتأويله اليد، وشد الرحال إلى قبور الصالحين والمواضع الفاضلة أجازه الإمام النووي، وذكر تأويله دنو الله وقربه.
وكذلك تكلم بكلام يخالف أهل السنة والجماعة في مصير أولاد المشركين في الآخرة.
وتأويله الضحك، وكلامه في الخضر وما يتعلق به من المسائل، وكلامه في حرمة المشايخ من التبجيل والتعظيم الزائد، وذكر تأويله الأصبع، وقوله: إن الصفات من باب المتشابه أو من باب المجاز، وتأويله النفس، وذكر تأويله الفرح وسماع الأموات، وذكر تأويله الساق وغير ذلك من المسائل التي ينبغي أن توضح، وهذا ما يفتح الله عز وجل به علينا في أثناء الشرح إن كنا سنتعرض لشرح الإمام النووي على صحيح مسلم.(3/12)
الأسباب التي أدت إلى وقوع الإمام النووي في مخالفة أهل السنة في بعض مسائل العقائد
أما الأسباب التي أدت إلى وقوع الإمام النووي في هذه الأخطاء فهي كثيرة: منها: أنه سار في شرحه في مسائل الصفات على نهج المازري، وكذلك على نهج القاضي عياض، وهذا الذي قلناه وصرّحنا به في درسنا، والإمام النووي لم يكن محققاً في باب العقائد؛ وذلك لانشغاله بالحديث وانشغاله بالفقه، فلم يكن بلغ مبلغاً متيناً في مسائل العقيدة أو كما يقولون: في أبواب الكلام أو مسائل الكلام.
ذكرت مقولة في كتاب المهمات.
قال: اعلم أن الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله حينما تأهل للنظر والتحصيل.
أي أنه لم يتأهل بعد، ولكنه رأى من المسارعة إلى الخيرات أن جعل ما يحصله ويقف عليه تصنيفاً ينتفع به الناظر فيه، فجعل تصنفيه تحصيلاً، وتحصيله تصنيفاً.
أي: أنه يعيب على الإمام النووي أنه بادر وسارع إلى الكتابة وإلى التصنيف والتأليف قبل أن يتأهل، خاصة في هذا العلم.
وقد كتب الإمام النووي في الفقه وشرح كتب الصحيح كـ البخاري ولم يتمه، وكذلك صحيح مسلم وأتمه، وكان لزاماً عليه أن يتعرض لبعض المسائل العقدية خاصة في كتب الإيمان والتوحيد، وأن يتعرض إلى الاعتصام بالكتاب والسنة، فإنه تعرض لكثير من المسائل التي خالف فيها المبتدعة أهل السنة والجماعة.
فقال: الإمام النووي لم يكن تأهل بعد للكتابة في هذه المسائل؛ فاستعجل وصنّف وكتب في هذا الباب ولمّا يتأهل بعد، فهذا الذي أوقعه فيما أوقعه فيه من شر، ومن مخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة.
هذا كلام نستفيد منه أن المرء ينبغي عليه ألا يتعرض لهذا الأمر إلا بعد أن يتأهل لما يكتب ويصنّف، وكذلك إذا تأهل ينبغي عليه ألا يخرج إلى الناس بما عنده من علم وكتابة إلا بعد أن يجيزه الشيوخ، ورحم الله تعالى الإمام مالكاً حيث قال: ما جلست في مجلسي هذا -أي: مجلس الإفتاء- إلا بعد أن أجازني سبعون عالماً من أهل المدينة، بخلاف ما نحن عليه الآن، فإن هناك آلافاً من الإخوة يقولون لأخ مثلهم: أنت شيخ وأنت عالم وأنت محقق وأنت مدقق، وهذا بخلاف ما كان عليه أهل السنة سابقاً، فإنما كان يجيز العلماء التلاميذ، وأما الآن فإن التلاميذ يجيزون بعضهم البعض.
قال: وأما الرافعي فإنه سلك مسلك الطريقة العالية -أي: المحمودة- فلم يتصدر للتأليف إلا بعد كمال انتهائه، أي: بعد تحصيله للعلم، وكذا ابن الرفعة رحمة الله عليهما.
السبب الثالث هو: أن الإمام النووي عليه رحمة الله ولد في عصر قريب عهد بانتشار مذهب الأشاعرة، ومن المعلوم أن ظهور أي مذهب يجعل له الغلبة على عقول الناس خاصة إذا تبناه الحُكّام.
فإن مذهب المعتزلة مثلاً حينما ظهر أقنع به أصحابه دولة بني العباس، فكان هذا سبباً لظهور مذهب الاعتزال، وأثر ذلك على أصحاب الحق كالإمام أحمد بن حنبل وغيره من علماء السنة، فعانوا ما عانوه، وقاسوا ما قاسوه بسبب نصرة الحكام لهذا المذهب، وفي هذا الزمان مذهب التصوف ومذهب التشيُّع كذلك منتشر لا أقول بسبب التبني، وإنما محمي عند الطلب إلى حد ما، فإنهم يقولون: احرسوا مولد السيدة زينب، احرسوا مولد الحسين، احرسوا مولد السيد البدوي، حتى يأتي هذه الموالد الملايين -فاجتماع هذه الملايين لا شك أن فيه فتناً عظيمة لعوام الناس ورعاء الناس وسقطهم.
فكذلك مذهب الأشاعرة انتشر وفاح وذاع في عصر ولد فيه الإمام النووي وطلب فيه العلم، مما كان له التأثير العظيم على كثير من علماء ذلك الزمان، منهم عياض وأبو عبد الله المازري، ونحن نعلم أن الإمام النووي تأثر بهما أيما تأثر في شروحه وفي كلامه وفي عقيدته، بخلاف تلميذه ابن العطار فقد كان متأخراً عنه في السن، وتأثر بالإمام النووي تأثيراً عظيماً، حتى كان يقال عن ابن العطار: هذا مختصر النووي، أو هذا النووي الصغير.
فالإمام ابن العطار تأثر بشيخه الإمام النووي، ولكنه تهيأ للإمام ابن العطار ما لم يتهيأ لشيخه الإمام النووي؛ وذلك لأن جُل شيوخ الإمام النووي من الأشاعرة فتأثر بهم، وهذا التأثر طبيعي، والإنسان جزء من مجتمعه، يتأثر ويؤثر، أما ابن العطار فقد تهيأ له من الشيوخ والعلماء ما لم يتهيأ لشيخه الإمام النووي، فقد تهيأ للإمام ابن العطار ابن تيمية عليه رحمة الله وكفى به، ولا أقول: إنه أدرك ابن تيمية، ولكني أقول: إنه تأثر به وبتلاميذه، منهم الإمام الذهبي، فقد كان الإمام الذهبي أخاً لـ ابن العطا(3/13)
قواعد ينبغي أن يحرص عليها المرء في حكمه على أمر من الأمور
وحتى نخلص إلى بيان موقفنا من تأويلات الإمام النووي والحافظ ابن حجر وغيرهما لا بد من تقعيد وتأصيل، وهذه القواعد وهذه الأصول كثيرة جداً ومردها إلى خمسة أصول لو علمناها لن نقع إن شاء الله فيما يقع فيه كثير من الناس، وخاصة الإخوة السلفيون الذين يطلقون ألسنتهم بغير علم، ولا خوف من الله عز وجل في كثير ممن تثار حولهم شبهة، وربما لا أصل لها ولا دليل عليها، ولكنها إشاعة قيلت فتلقفها كثير من الإخوة، ثم نشروها، وقديماً قالوا: لا تكون إشاعة عند المصريين إلا ولها ظل.
أي: أن الإشاعة تكون أولاً ولا حقيقة لها، ثم يكون قدر الله عز وجل الكوني أن هذا الأمر لا بد أن يكون؛ وذلك لانتشاره وذيوعه عند الإخوة المصريين، ما دامت الإشاعة قامت فلا بد أن يكون هناك حقيقة لها حتى وإن لم يكن لها حقيقة في الأصل.(3/14)
الخوف من الله عز وجل عند الكلام في الآخرين
فأما القاعدة الأولى التي ينبغي أن يحرص عليها المرء في حكمه على الرجال والأشخاص، وعلى الكتب والمصنفات، وعلى الجماعات، وعلى الأمم وغير ذلك هي: الخوف من الله عز وجل عند الكلام في الآخرين.
حرّم الله عز وجل الغيبة في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال في كتابه: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة عنه: (أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: ذكرك أخاك بما يكره.
قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته) أي: ظلمته وجرت عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم حرّم ذلك في حجة الوداع كما ورد في حديث جابر بن عبد الله الأنصاري، وحديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا -أي: يوم عرفة- في شهركم هذا -أي: شهر ذي الحجة- في بلدكم هذا -أي: في بلد الله الحرام مكة المكرمة- قال: ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد).
بل جاءت الأحاديث ببيان أشد مما سبق، فجعلت الخوض في عرض المؤمن أشد من أن ينكح الرجل أمه كما ورد في حديث البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الربا اثنان وسبعون باباً أدناها مثل إتيان الرجل أمه، وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه) أي: أن تطلق لسانك في عرض أخيك.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره، ومن مات وعليه دين فليس بالدينار والدرهم ولكن بالحسنات والسيئات، ومن خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع، ومن قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال وليس بخارج).
وعن ابن عمر أيضاً رضي الله عنهما مرفوعاً قال: (يا معشر من أسلم بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه! لا تؤذوا المسلمين، ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من تتبع عورة أخيه المسلم تتبّع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته).
فهذه النصوص -في الحقيقة- كلها تدل دلالة واضحة على أنه ينبغي عليك أن تحرص على أن تراقب الله عز وجل في أقوالك وأفعالك، خاصة في التي لها تعلق بغيرك من بني البشر.(3/15)
حسن الظن بالمسلم
والقاعدة الثانية التي ينبغي أن يضعها العبد نصب عينيه عند الكلام في الآخرين: هي حسن الظن بالمسلم، أي: تقديم حسن الظن على سوء الظن، وقديماً قال الإمام محمد بن سيرين: احمل أخاك على أحسن الوجوه، حتى إن لم تجد له مساغاً فقل: لعل له عذراً، فإن لم تجد عذراً قط فقل: لعل له عذراً لا أعلمه.
وهذا لا شك باب عظيم من أبواب تقديم حسن الظن بالمسلمين.
فالأصل في هذه القاعدة -وهي تقديم حسن الظن بالمسلمين- قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12] أي: إن بعض هذا الكثير إثم، فمن أساء الظن بإخوانه فلا شك أنه قدّم هنا سوء الظن في إخوانه.
وهناك حديث ضعيف جداً، بل قيل: إنه موضوع بلفظ: (سوء الظن عصمة) نعم.
وإن كان هذا حديثاً لا يثبت ولا يصح إلا أنه كلام صحيح المعنى مع الأعداء والمنافقين، فسوء الظن بهم عصمة من شرورهم وفتنتهم، أما في المسلمين فالأصل حسن الظن بهم.
وأمر المسلم في الأصل قائم على الستر وحسن الظن؛ ولذلك أمر الله عز وجل المؤمنين بحسن الظن عند سماعهم لقدح في إخوانهم المسلمين، بل وشدد النكير على من تكلم بما سمع من قدح في إخوانه دون تثبت ولا روية.(3/16)
الكلام في الناس بعلم وعدل وإنصاف
القاعدة الثالثة هي: الكلام في أعراض الناس ينبغي أن يكون بعلم وعدل وإنصاف، والأصل في هذه القاعدة قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة:8]، وقال الله تعالى: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف:85] ونحو ذلك من الآيات.
الإمام ابن جرير الطبري عليه رحمة الله يقول في تفسير هذه الآية: يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله محمد! ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام لله شهداء بالعدل في أوليائكم وأعدائكم، ولا تجوروا في أحكامكم وأفعالكم فتتجاوزوا ما حددت لكم في أعدائكم لعداوتهم لكم، ولا تقصّروا فيما حددت لكم من أحكام وحدود في أوليائكم لولايتهم لكم، ولكن انتهوا فيه إلى حدي واعملوا فيه بأمري.
فكأن الله عز وجل يوجه المؤمنين إلى أن يقوموا بالعدل والإنصاف والحكمة سواء مع الكفار أو مع المسلمين، وأما قوله: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]، فإنه يقول: ولا يحملنكم عداوة قوم على ألا تعدلوا في حكمكم عليهم وفي رأيكم فيهم، فتجوروا عليهم من أجل ما بينكم من العداوات، ولكن الزموا العدل والإنصاف.
وشيخ الإسلام ابن تيمية يقول: والكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل، قوله: (بعلم) أي: بتثبت وروية وبيان قبل أن تنطلق الألسنة، لا بجهل وظلم كحال أهل البدع.
ولذلك أهل البدع يقولون: إن أهل السنة والجماعة أرحم لنا من رحمة بعضنا البعض؛ لأن أهل البدع أهل ظلم وجور وطغيان وبغي، حتى على بعضهم البعض إذا انفردوا، وأما أهل الإسلام وأهل السنة والجماعة فإنما بعثهم الله تعالى رحمة للخلق جميعاً، كما بعث الأنبياء رحمة للخلق جميعاً؛ لأن أهل السنة والجماعة إنما هم امتداد للدعوة وللرسالة التي أرسل الله بها الأنبياء والمرسلين من نوح عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء.
قال الذهبي رحمه الله تعالى في ترجمة الفضيل بن عياض: إذا كان مثل كبراء السابقين قد تكلم فيهم الروافض والخوارج، ومثل الفضيل يتكلم فيه! فمن الذي يسلم من ألسنة الناس؟ لكن إذا ثبتت إمامة الرجل وفضله، لم يضره ما قيل فيه، وإنما الكلام في العلماء مفتقر إلى وزن بالعدل والورع.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام نفيس جداً يتضح فيه منهج أهل السنة والجماعة في النقد والحكم على الآخرين، ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخطأ في بعض ذلك فالله تعالى يغفر له خطأه.
فالذي يجتهد وينوي أن يصل إلى حقيقة الأمر، وإلى مرضاة الله عز وجل، ومرضاة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكنه يخطئ الطريق ويصل إلى نتيجة غير مرضية عند الله عز وجل وعند رسوله، فلا شك أن هذا مجتهد مأجور إن كان من علماء الاجتهاد، فمثل هذا غداً يغفر الله له، فليس من طلب الحق فأخطأه كمن تحرى الباطل فأصابه.
وهذا كلام ينبغي أن يُحفظ: (ليس من تحرى الحق فأخطأه كمن تحرى الباطل فأصابه) فإن الثاني من أهل البدع والأول من أهل الحق، وإن خالف الحق فيما اجتهد فيه.
ومن خلال النصوص السابقة نعلم أنه لا يجوز للإنسان أن يتكلم في غيره إن احتاج إلى ذلك من جهة الشرع إلا بعلم وعدل وإنصاف، فالله تعالى يقول: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36] ومن تكلم في غيره بظلم وزور فقد خالف قول الله عز وجل: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8] والمقصود بالعدل في وصف الآخرين: هو العدل في ذكر المساوئ والمحاسن، فإذا ذكرت مساوئه فلا تنس محاسنه وفضائله والموازنة بينهما.
وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) فإن أخطأ المرء وتاب فلا تذكر له خطأه وتنسى توبته؛ لأن التوبة تجب ما كان قبلها، والإسلام يجب ما كان قبله، والهجرة تجبُّ ما كان قبلها، والحج يجب ما كان قبله أليست كل هذه مكفّرات؟ فالتوبة مكفّرة، فلا أحد يسلم من الخطأ، فلا ينبغي أن تُدفن محاسن المرء لخطئه، كما أن الماء إذا بلغ القلتين لم يحمل خبثاً.
ولذلك ينبغي للمسلم إذا وصف غيره ألا يغفل عن المحاسن لوجود بعض المساوئ، كما لا ينبغي أن يدفن المحاسن ويذكر المساوئ لوجود عداوة أو بغضاء بينه وبين من يصفه، فالله عز وجل قد أدّبنا بأحسن أدب وأكمله؛ فقال سبحانه: {وَلا تَبْخَسُوا ال(3/17)
العبرة بكثرة الفضائل
أما القاعدة الرابعة التي ينبغي أن يلتزمها العبد في الحكم على الآخرين فإنها: العبرة بكثرة الفضائل.
وهذا كلام في مجمله: أن كل إنسان له خير وشر، فإن غلب خيره على شره غُفر له شره، وإن غلب شره على خيره دل على فساد نيته وسوء طويته، فلا شك أن من غلب شره كان الأصل فيه الشر، فإنه لا يُغفر له ذلك، وأما إذا غلب خيره على شره فإنه من أهل الصلاح وأهل السنة، يتمنون له ويرجون الله عز وجل أن يغفر له هذا الذي وقع فيه من باطل وشر.
يقول ابن رجب الحنبلي رحمه الله: والمنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه.
وكلمة ابن رجب هي بمثابة المنهج الصحيح في الحكم على الشخص، ومنهج السلف هو اعتبار الغالب على المرء من الصواب والخطأ، والنظر إليه بعين الإنصاف.
والإمام الذهبي يقول: ونحب السنة وأهلها، ونحب العالم على ما فيه من الاتباع والصفات الحميدة، ولا نحب ما ابتدع فيه بتأويل سائغ، وإنما العبرة بكثرة المحاسن.
وقال أبو الحسن الصفار: سمعت أبا سهل الصعلوكي، وسئل عن تفسير أبي بكر القفال؟ فقال: قدّسه من وجه، ودنسه من وجه.
فلو نحن سألناك مثلاً عن تفسير الفخر الرازي قلنا لك: الفخر الرازي معتزلي، فما بالك بتفسيره؟ تقول: لن نقبله، بل إن الرازي يلف في خرقة ويلقى في الجحيم؛ لأنه معتزلي.
انظر إلى هذا الرجل قال: قدّسه من وجه ودنّسه من وجه، أي: أنه ذكر فضله أولاً، وما أصاب فيه أولاً، ثم ذكر بعد ذلك مساوئه، فقال: قدّسه من وجه ودنّسه من وجه، أي: دنسه من جهة نصره للاعتزال.
الذهبي يقول: والكمال عزيز، وإنما يُمدح العالم بكثرة ما له من الفضائل، فلا تُدفن المحاسن لورطة، ولعله رجع عنها، وقد يغفر الله له لاستفراغه الوسع في طلب الحق.
ولا قوة إلا بالله.
فالإمام الذهبي له أسلوب في سير أعلام النبلاء أو في التاريخ الكبير في الكلام عن العلماء المبتدعين بالذات من أهل البدع والزيغ والضلال، كـ ابن عربي مثلاً، فـ ابن عربي لا يحتمل إنسان منا أن يقرأ كلامه، لكن الذهبي في التاريخ الكبير يقول: نحن نبغضه ولا نحبه، ونخالفه ولا نوافقه، ولكن لعله تاب قبل أن يموت.
وأنا أقول هذا القول أيضاً في أبي حامد الغزالي، فإن أول قراءتك كتاب جزء الاعتقاد وإحياء علوم الدين: تقول: هذا الكلام لا يقوله إلا إنسان كافر، ولكن لو نظرت إلى كلام النقاد المحققين لوجدت الأمر فيه عجلة وسرعة، فهناك أعذار كثيرة جداً قد قدّمها العلماء المحققون في أمثال أبي حامد وابن عربي وغيرهم، فهناك أئمة كبار عظام في مذاهبهم قد تكلم عنهم الذهبي بكلام، فتجد، لو ذُكر لك ابن عربي تقول: ذلك الغبي، ذلك الكافر، فنحن نعلم أنه مبتدع، لكن على أية حال هو من أهل الذكاء ومن أهل العلم، وإنما خالف عقيدة أهل السنة، والله عز وجل يتولى الناس برحمته وفضله.
وقال الإمام الذهبي في ترجمة ابن حزم: وصنّف في ذلك -أي: في نفي القياس- كتباً كثيرة وناظر عليه، وبسط لسانه وقلمه، ولم يتأدب مع الأئمة في الخطاب، بل فجج العبارة، وسب وجدع، فكان جزاؤه من جنس فعله، بحيث إنه أعرض عن تصانيفة جماعة من الأئمة، وهجروها ونفروا منها، وأُحرقت كتبه في وقت، واعتنى بها آخرون من العلماء، وفتشوها انتقاداً واستفادة، وأخذاً ومؤاخذة، ورأوا فيها الدر الثمين ممزوجاً في الرصف بالخرز المهين، فتارة يطربون، وتارة يعجبون، ومن تفرده يهزءون.
وفي الجملة فالكمال عزيز، ويحسن النظم والنثر.
وفيه دين وخير؛ لأنا رأينا شيخاً أمسك ابن حزم وقال فيه كلاماً لا يجرؤ أن يقوله في البابا.
قال: وفيه دين وخير، ومقاصد جميلة، ومصنفاته مفيدة، وقد زهد في الرئاسة، ولزم منزله مكباً على العلم، فلا نغلو فيه، ولا نجفو عنه، وقد أثنى عليه قبلنا الكبار.
الإمام ابن حزم إذا قرأت مصنفاته وكانت لك معه معاناة وقراءة وطول بحث في كتبه لأقسمت غير حانث أنه ما صنّف كتبه إلا لأجل إثبات أنه ما من مسألة في دين الله عز وجل إلى وعليها دليل، وهذا شرف يكفيه، أنه يدلك على أنه ما من مسألة في عقيدتك ولا مسلكك ولا أخلاقك ولا زهدك ولا ورعك ولا فقهك إلا وعليها دليل من كلام الله عز وجل، أو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، أو من كلام الصحابة المجمع عليهم.(3/18)
التفريق بين من يبتغي الحق ويخطئه وبين من يبتغي الباطل ويصيبه
وننتقل إلى القاعدة الخامسة التي ينبغي أيضاً أن يلتزمها العبد في الحكم على الآخرين، فهي: معاملة من أخطأ في طلب الحق، كيف نتعامل مع من طلب الحق فأخطأ فيه؟ إن واقعنا العملي يوضح لنا أن الذي يبتغي الحق ويخطئ فيه كالذي يبتغي الشر ويصيبه، وهذا هو منهجنا وحياتنا العملية، لكن السلف كانوا على غير ذلك تماماً، فإن من تحرى الحق وأخطأ فيه ليس كمن تحرى الباطل فأصابه، يقول الله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]، فالله عز وجل قد علّم المؤمنين من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعوه بهذا الدعاء، علّمهم وأدّبهم كيف يدعون ربهم، وكأنه قال: قولوا: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، أي: لا تأخذنا بذنبنا إذا كان هذا الذنب مبعثه الخطأ والنسيان، وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تجاوز لأمتي عمّا حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل).
وثبت عن ابن ماجه وابن حبان وغيرهما من حديث أم الدرداء وغيرها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، وفي رواية أم الدرداء: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان والاستكراه)، وهذا معنى قوله عز وجل: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة:286] إلى آخر الآيات، وفي صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة ومن حديث ابن عباس أن الله عز وجل قال عند كل دعاء من هذا: قد فعلت، أو قال: نعم.
{رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}، قال: قد فعلت، ((رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا))، قال: قد فعلت، ((رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ))، قال: قد فعلت، {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:286]، قال: قد فعلت، وفي رواية عند مسلم قال: نعم.
فهذا يدل على أن الله عز وجل يغفر المعاصي إن صدرت عن خطأ أو عن نسيان وجهل.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخطأ في بعض ذلك، فالله يغفر له ذلك تحقيقاً للدعاء الذي استجابه الله عز وجل لنبيه وللمؤمنين: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286].
ثم يقول: فإن اجتهد الإنسان في طلب الحق من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخطأ في ذلك؛ فهو مغفور له بنص الآية السابقة، كما أنه إذا استفرغ العالم وسعه في طلبه للحق من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخطأ في بعض مسائل الاعتقاد فإنه لا يبدّع ولا يهجر من أجل خطئه، وإن كان يقال: إن قوله قول مبتدع، ومن هنا تعلم أنه لا تلازم بين البدعة وبين فاعلها؛ لأنه قد يفعل المرء فعلاً هو من أفعال أهل البدع، ولكنه لا يدري ولا يعلم أن هذا الفعل أو هذا القول هو من أفعال المبتدعة أو أقوالهم.
فالذي يقول مقولة أهل البدع، أو يفعل فعل أهل البدع لا يبدّع ولا يُهجر إلا بتحقق الشروط وانتفاء الموانع من قيام الحجة عليه، وتبليغ العلم إليه، وانتفاء الجهالة، وانتفاء الإكراه وغير ذلك مما يمكن أن يتصور أنه ما وقع فيما وقع فيه إلا نتيجة الجهل مثلاً أو نتيجة الإكراه وغير ذلك، أو النسيان أو الخطأ أو التأويل، فربما وقع هذا من باب التأويل.
والتأويل عند العلماء له أيضاً شروط وأحكام لعلنا نتعرض لها في أثناء شرحنا للصحيح.
قال: فكما أن القول الكفر لا يلزم منه أن يكون صاحبه كافراً، فكذلك لا يلزم أن يكون قائل البدعة مبتدعاً.
يعني: ربما يتلفظ المرء بقولة هي قولة كفر، لكن هذا لا يلزم منه أن يكون القائل كافراً، إلا إذا تحققت الشروط وانتفت الموانع، ولو أننا كلما أخطأ الإمام في اجتهاده خطأ مغفوراً له فيه، لاستفراغ الوسع في طلبه للحق ومن مصادره الصحيحة قمنا عليه وبدّعناه وهجرناه لما سلم لنا كثير من العلماء.
ولو أن كل إنسان أخطأ رُد كله، لكان أول المردودين أنت.
وقال الشاعر: من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط وأما من أخذ دينه من غير جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخذ دينه من طريقة أهل الكلام، من طريقة المتصوفة، أو من المعتزلة أو الأشاعرة، أو الماتريدية، وغير ذلك من المذاهب والفرق الضالة، فلا شك أنه يأخذ دينه من غير جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن فعل ذلك فهذا مبتدع في مصدره وفي قوله ومعتقده.
يقول الإمام(3/19)
قد يبرع أحدهم في مسألة معينة ولا يبرع في مسألة أخرى
وأما القاعدة السادسة وهي آخر القواعد: فقد يبرع أحدهم في مسألة معينة ولا يبرع في مسألة أخرى، يبرع أحد العلماء في علم دون علم آخر، فيفيد هنا ولا يفيد هناك، فيصيب هنا ويخطئ هناك، وهذا ما قررناه في منهج الإمام النووي، فإنه برع في مسألة الفقه ومسألة الحديث، ولكنه لم يبرع في مسألة الكلام في العقيدة ولا في مسائل الأصول.
فقال: فقد يبرع أحدهم في العلم، والآخر في الجهاد، والآخر في الدعوة وهكذا.
يقول الإمام الذهبي: والكتابة مسلمة لـ ابن البواب كما أن أقرأ الأمة أبي بن كعب، وأقضاهم علي، وأفرضهم -أي: أعلمهم بالفرائض- زيد بن ثابت، وأعلمهم بالتأويل -أي: التفسير- ابن عباس، وأمينهم -أمين هذه الأمة- أبو عبيدة، وعابرهم محمد بن سيرين -أي: الذي يعبر الرؤيا ويفسّرها- وأصدقهم لهجة أبو ذر، وفقيه الأمة مالك، ومحدثهم أحمد بن حنبل، ولغويهم أبو عبيد، وشاعرهم أبو تمام، وعابدهم الفضيل بن عياض، وحافظهم سفيان الثوري، وأخباريهم الواقدي، وزاهدهم معروف الكرخي، ونحويهم سيبويه، وعروضيهم الخليل، وخطيبهم ابن نباتة، ومنشئهم القاضي الفاضل، وفارسهم خالد بن الوليد رحم الله تعالى الجميع ورضي عنهم.
فينبغي في هذا الأصل أن يعنون ويبوّب بباب يجب إعطاء كل ذي حق حقه، فهذه هي القواعد التي ينبغي أن يشار إليها، وأن يرجع إليها في الحكم على الآخرين.(3/20)
القول الفصل في الإمام النووي
إذا علمنا هذا فينبغي أن نرجع إلى خاتمة درسنا في هذه الليلة وهو ما موقفنا من الإمام النووي؟ بعد هذه القواعد وهذه الأصول، وهذه الأعذار التي يجب أن تلتمس من حسن الظن، والخوف من الله عز وجل، ما عقيدتنا؟ وما هو القول الفصل في الإمام النووي عليه رحمة الله تبارك وتعالى.
على أية حال الإمام النووي لا يحتاج منا إلى مدح وثناء، فما من إنسان ترجم له إلا ومدحه وأثنى عليه خيراً، وكتب الله عز وجل له القبول في مصنفاته؛ فانتشرت في حياته في ربوع الأرض شرقاً وغرباً، فهو لا يحتاج منا إلى مدح، ومن نحن حتى نمدحه؟ ولكن في هذا المقام لا بد أن ننبه إلى مسألة عظيمة من المسائل المهمة: وهي أن الله عز وجل قد أيد هذا الدين برجال ذبّوا عنه في مختلف الميادين في الجهاد والدعوة والعلم وإن كانوا قد انحرفوا قليلاً أو كثيراً عن مسلك ومعتقد أهل السنة.
فأضرب لذلك مثالاً بالإمام أبي بكر البيهقي عليه رحمة الله، ذلك المحدّث الفقيه الجليل.
فقيل في حق البيهقي: إن الشافعي عليه رحمة الله له فضل على كل من تشفّع -يعني: الإمام الشافعي فضله وختمه واضح على كل من اتبع مذهبه- إلا الإمام البيهقي؛ لأنه هو الذي نشر ونصر مذهب الإمام الشافعي في الفقه والحديث، وصنّف فيه المصنفات العظيمة جداً، كما صنّف ابن عبد البر في مذهب الإمام مالك، وكما صنّف السرخسي في مذهب الإمام أبي حنيفة، وكما صنّف ابن قدامة وغيره في مذهب الإمام أحمد بن حنبل، فهؤلاء طلاب وتلاميذ لهؤلاء الأئمة العظام إنما هم الذين نشروا مذاهبهم.
هذا الإمام البيهقي أيضاً كان فيه بعض انحراف عن عقيدة أهل السنة، وكذلك ابن عساكر الذي صنّف مصنفات لا يمكن لمن سبقه ولا لمن أتى من بعده أن يصنّف مثلها، وكفاه شرفاً وفخراً وفضلاً أنه صنّف كتاب التاريخ، ولو طُبع هذا الكتاب طبعة كاملة لبلغ مائتي مجلد أو أكثر من ذلك.
وكذلك العز بن عبد السلام، ومعلوم جرأته وشجاعته في الحق، والتزامه السنة ومذهب المحدثين إلا أنه كان أيضاً يخالف إلى مذهب الأشاعرة في كثير من الأحيان، ولنا أسوة بسلفنا الصالح والأئمة، فإنهم رووا عن الكثير من المبتدعة أحاديث؛ لعلمهم أنهم أصحاب عدل وإنصاف وصدق وأمانة، ونجتنب التشهير والتطويل.
قال: فإن هذا ليس من منهج السلف وإنما نكتفي ببيان بدعته وردها إذا تعرضنا لها، أي إذلالنا واحترامنا لأهل العلم الذين انحرفوا عن منهج السلف أحياناً لا يحملنا على أن نقبل كل ما أتوا به، وإنما من نصيحتنا لهؤلاء ومن نصيحتنا لديننا ولعلمنا ولمن يتعلم منا أن نأخذ ما وافقوا فيه الحق وأن نرد ما خالفوا فيه الحق، وهذا كله في حق العالم إذا لم تغلب عليه البدع والأهواء، وعلمنا منه حرصه على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وتحري الحق من الكتاب والسنة، إلا أنه لم يصبه بشبهة ما أو غير ذلك، وهكذا يكون الأمر مع النووي.
إذاً: الإمام النووي كان يتحرى الحق، ولكنه كان يجانبه أحياناً، فلا يأتي أحد فيقول: الإمام النووي أشعري أو الإمام النووي من أهل البدع، والحافظ ابن حجر من أهل البدع، فوالله لقد بلغني أن شخصاً يقول: إن المجلد الأخير من فتح الباري ينبغي أن يحرق أو يلقى في المزابل، وأنا أتصور أنه من حقي الآن أن أقول: إنه فلان من الناس، ولكني أتوقف في هذا وإن كان قد بلغني هذا القول عن ذلك القائل بالخبر المتواتر، ولكني أتورع عن نسبة هذا القول إليه الآن والحذر منه؛ لكوني لم أسمعه شخصياً، فالمقولة التي قيلت في الإمام ابن حجر بسبب موافقته أحياناً للأشعرية عن خطأ أو تأويل مقولة فيها فظاظة وجهالة وسوء خلق وسوء أدب مع علمائنا الأفاضل الكبار العظام.
ويكفي الحافظ ابن حجر كتاب الفتح إن لم يكن له غيره، فإنه والله منَّ الله عليه، وفتح عليه وعلى هذه الأمة، ولن يتناول أحد صحيح البخاري بالشرح والبيان والتفصيل بمثل ما تناوله الحافظ ابن حجر، فعلى الجميع رحمة الله تبارك وتعالى.
ونختم بكلام لـ شيخ الإسلام نفيس غاية النفاسة، ذكر فيه الحكم على العالم المتأول الذي من عادته وديدنه الوقوف عند الحق، ولكن لم يصبه في بعض الأمور.
قال: وليس لأحد أن يتبع زلات العلماء بل ولا رخص الفقهاء، يعني: إذا كان لا ينبغي لك أن تتبع رخص الفقهاء، فمن باب أولى لا ينبغي لك أن تتبع الزلات، وهي السقطات التي خالفت الحق مخالفة صريحة، ويعجبني رسالة صُنّفت بعنوان: (زجر السفهاء عن تتبع رخص الفقهاء)، وسموه سفيهاً، وما أكثر السفهاء في هذا الزمان، تجد من يستفتيك في مسألة فتقول له: مكروه أو حرام، ف(3/21)
شرح صحيح مسلم - كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - نعيم الجنة وصفة أهلها [1]
الفقراء والضعفاء والمساكين من المؤمنين هم أهل الجنة، وكل مؤمن لا يشرك بالله شيئاً، ولأهل الجنة فيها أن ينعموا فلا يبأسوا أبداً، وأن يشبوا فلا يهرموا أبداً، وأول زمرة يدخلون الجنة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم هم المهاجرون الأولون، ومن أمة محمد سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فينبغي للمسلم أن يدعو الله تعالى أن يجعله من أهلها الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.(4/1)
سؤال الله الجنة والاستعاذة من النار
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: فلا زال الكلام موصولاً عن الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ما من مسلم يسأل الله تعالى الجنة ثلاثاً إلا قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة، وقالت النار: اللهم أجره مني)، فإننا نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يدخلنا الجنة، اللهم أدخلنا الجنة، اللهم أدخلنا الجنة، اللهم أدخلنا الجنة، وأن يجيرنا من النار، اللهم أجرنا من النار، اللهم أجرنا من النار، اللهم أجرنا من النار، وهذه شفاعة للعبد المؤمن إذا قدم السبب، ومعلوم أن الاعتماد على السبب شرك بالله عز وجل، وترك الأسباب قدح في التوحيد، ولو أنك اعتمدت أن هذا الطعام هو الذي يشبعك فهذا شرك بالله؛ لأن الطعام ما هو إلا سبب، وكذلك المرأة أنت تزوجتها التماساً للولد ولا يلزم من ذلك وجود الولد، فكم من رجل تزوج لينجب وليكون له الولد ولم يأت الولد، ولكنه التمس السبب وأدى ما عليه، وكذلك المرء إذا عطش شرب ومع هذا هو يشرب ثم يشرب ثم يشرب ولا يشعر بالري؛ لأن الله لم يروه.
فكونك تأتي بالسبب هذا أمر واجب، أما أن تعتمد عليه وتعتقد أن هذا السبب هو الموصل للغرض بغير مراد الله عز وجل ومشيئته فهذا شرك بالله عز وجل، فالاعتماد على الأسباب والتوكل عليها، والظن أن لها تأثيراً فعالاً بطبيعتها كما قال عليه الصلاة والسلام: (ماء زمزم لما شرب له)، وقال: (ماء زمزم طعام طعم، وشفاء سقم)، يعني: من شربه ليطعم ويشبع كان ذلك، ومن شربه ليشفى من علته كان ذلك، فمن تصور أن هذا الماء يقوم بهذا الدور بطبيعته بغير إرادة الله له وأمر الله له فلا شك أن هذا باب من أبواب الشرك، فالاعتماد على الأسباب شرك بالله، وترك الأسباب قدح في التوحيد.
فمثلاً: لا أحد يقول في هذا الوقت: الله قادر على أن يرزقني الولد من غير زواج، أليس كذلك؟ يقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:20]، ومن كمال قدرته سبحانه وتعالى أنه خلق آدم من غير أب ولا أم، وخلق حواء من ضلع آدم، وخلق عيسى من غير أب؛ وهذا يعني أنك تترك الأسباب، والله تعالى قدر ذلك لحكمة عظيمة علمها من علمها وجهلها من جهلها، وهذا لا يعني أن تترك أنت الأسباب، وتقول: الله تعالى قادر على أن يطعمني ويسقيني وأنا لا آكل ولا أطعم، نعم.
الله تعالى قادر على أن يجعلك ممتلئاً دائماً بغير طعام ولا شراب، لكن القادر على ذلك هو الذي أمرك أن تأكل وأن تشرب التماساً للسبب، وأنت بإمكانك أن تأكل ولا تشبع، وتشرب ولا تروى إلا أن يطعمك الله ويسقيك الله عز وجل.
فكذلك من أسباب دخول الجنة: أن من سأل الله الجنة ثلاثاً، واستعاذ من النار ثلاثاً كانتا له شفيعاً، الجنة تقول: (اللهم أدخله الجنة)، والنار تقول: (اللهم أجره مني).
ولذلك روى أنس مرفوعاً، أي: من قوله عليه الصلاة والسلام، وموقوفاً: أي: من قول الصحابي، ومقطوعاً من قول التابعي فمن دونه.
والمرفوع: من الرفعة وعلو الشأن، أي: من قول النبي صلى الله عليه وسلم، أما إذا كان أدون من ذلك وأقل من ذلك فنقول عنه: أثر، والأثر مما جاء عن الصحابة.
وحديث أنس المرفوع هو: (من سأل الله الجنة ثلاث مرات قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة، ومن استجار من النار ثلاثاً قالت النار: اللهم أجره مني)، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه هو نفس المعنى لكن بلفظ آخر، فقد جاء عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (احتجت الجنة والنار) يعني: اختلفتا، وتحاجتا، كل منهما قدمت حجتها، وقدمت ما لديها من أقوال، (فقالت النار: يدخلني الجبارون والمتكبرون)، وهم أهل النار وسكانها أعاذنا الله منها، (وقالت الجنة: يدخلني الفقراء، والضعفاء، والمساكين)، غالب أهل الجنة، كما أن غالب أهل النار الجبارون والمتكبرون، (فقال للنار -أي: الله عز وجل قال للنار- أنت عذابي أعذب بك من شئت، وقال الله تعالى للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من شئت)، فالنار هي عذاب الله تعالى، والجنة هي رحمة الله تعالى ونعمته لبعض عباده، وهذا الحديث في الصحيحين.(4/2)
أهل الجنة وأهل النار
وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كنت على باب الجنة -أي: وقفت على باب الجنة- فإذا عامة من يدخلها الفقراء والمساكين)، الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء من المؤمنين والموحدين بنصف يوم وهو خمسمائة عام، وإنما يحبس الأغنياء للحساب: من أين اكتسبت؟ وفيما أنفقت؟ والحديث كذلك في الصحيحين.
[وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أخبركم بأهل الجنة؟ -التقدير: قالوا: بلى- قال: هم الضعفاء والمساكين)]، ولا يعني ذلك أن الأقوياء الأفذاذ لا يدخلون الجنة، وإنما المقصود: أن الضعفاء يدخلون الجنة أولاً، فهم أول ثلة وزمرة يدخلون الجنة، فالجنة هي دار الأتقياء، وأهل الإيمان والإسلام منهم القوي والضعيف، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير)، وسمى النبي صلى الله عليه وسلم ما عند القوي والضعيف خيراً أي من الإيمان، قال: (وفي كل)، أي: في القوي والضعيف من الإيمان خير، فالجنة لأهل الإيمان كما قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة نفس منفوسة إلا نفس مسلمة)، وفي رواية: (مؤمنة)، وهذا قد ذكرناه في الدرس الماضي.
[وقال عليه الصلاة والسلام: (ألا أدلكم على أهل الجنة)] وكلمة (ألا أدلكم) من أساليب التشويق في اللغة العربية وهي بمعنى: ألا أخبركم، ألا أنبئكم، ألا أحبوكم، فلابد أن هذا الأسلوب إنما يسترعي انتباه الناس، بحيث تكون حواسهم كلها مجتمعة لسماع ما يدلهم عليه المخبر بذلك [قال عليه الصلاة والسلام: (ألا أدلكم على أهل الجنة -والتقدير: بلى يا رسول الله- قال: كل ضعيف متضعف)] والضعيف بمعنى: المتذلل، الخاضع لله عز وجل لا لأحد من العباد، إنما لله عز وجل، فالمرء عنوان إسلامه واستسلامه لله عز وجل أن يضع هامته وهي أعلى شيء فيه في الطين والوحل سجوداً لله عز وجل، وهذا دليل الذل والخضوع والقرب من الله عز وجل، فإذا كان هذا من المسلم لله عز وجل، فهذا عنوان صدق إيمانه، وإخلاصه لله عز وجل.
أما من أبى أن يسجد كما أبى المشركون، لما قرأ النبي عليه الصلاة والسلام سورة النجم فسجد المشركون وسجد المسلمون، إذعاناً لله عز وجل، أما المؤمنون فلهم وجه في سجودهم، والمشركون لهم وجه آخر لا يدخلهم هذا الوجه في الإيمان والإسلام، ولكنهم ذهلوا تماماً لما سمعوا هذه الآيات العظيمة فسجدوا لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم قد سجد، إلا واحداً أبى أن يسجد، وأخذ كفاً من حصى فوضعه عند جبهته فأذله الله عز وجل، فعنوان الذل والخضوع لله عز وجل والتضعف أن يسجد المرء لله عز وجل وأن يجعل هامته -التي هي شرفه، وأعلى شيء فيه- في الطين، والوحل، والتراب لله عز وجل.
[قال: (ألا أدلكم على أهل الجنة، كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره)] إن عامة الناس خير من كثير ممن يشار إليهم بالبنان، فلو أتينا برجل علم من أعلام الناس، وأتينا بهذا الخادم الذي يخدم المسجد الذي لا أعرف اسمه، وأنا أظن أنه أقرب إلى الله عز وجل من ملء الأرض مثلي، وأنا أطلب منه الدعاء في الذهاب والمجيء؛ لعلمي أنه ضعيف متضعف ربما لو أقسم على الله لأبره.
وكان معنا في بلاد الشام رجل لا يترك طاعة إلا وله فيها سبق عظيم لكن لا يؤبه له، وأحياناً يكون الإنسان بينه وبين ربه عمار والناس لا ينتبهون إليه، حتى لا نعقد قلوبنا على أن أعلام الناس هم الذين يعلمون الناس، أو الواسطة بين الخلق وبين العباد، فربما ينفعك من عامة الناس ما لا ينفعك من أعلامهم.
كان هذا الأخ ضعيفاً متضعفاً، وكان في الغالب إذا ذهب إلى أخ أو شيخ أو غير ذلك أغلق الباب في وجهه، وكنت إذا وقعت في ضائقة والله لا أجد باباً مفتوحاً إلا باب هذا الأخ، فإذا ذهبت إليه فلا أغادره إلا وقد انكشفت عني الغمة، فكنت أقول دائماً إذا لقيته: (رب عبد مدفوع بالأبواب، أشعث أغبر، لو أقسم على الله لأبره)، ولا زلت أعتقد هذا في الأخ لفرط تقواه وصلاحه، والله تعالى حسيبه.
فالنبي عليه الصلاة والسلام دائماً يحذرنا من الاستهانة بالمعروف وإن قل، ويحذرنا كذلك من الوقوع في المعصية وإن دقت، فالطاعة مهما قلت فهي من أعظم أسباب الفشل والرجوع إلى القهقرى والاستهانة بسلاح العدو، والاستهانة بما عند العدو، حتى وإن لم يكن على شيء فينبغي احترام كونه عدواً، ومن احترامه إعداد العدة له مهما بلغ في الضعف، فلابد أن أظن أنه في قمة القوة والنشاط والمواجهة حينئذ إذا لقيته نجحت معه في هذا اللقاء.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ سراقة رضي الله عنه: (ألا أخبرك بأهل الجنة وأهل النار؟ قال: قلت: بلى يا رسول الله، قال: أما أهل الجنة فالضعفاء المغلوبون) أي: المظلومون، (وأما أهل النار فكل جعظري، جواظ، مستكبر)، الجعظ(4/3)
النبي أول من يقرع باب الجنة وأمته أول الأمم دخولاً الجنة
[وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة)]، (نحن الآخرون) أي: نحن آخر أمة في الأمم، وإن كنا أسبق الأمم يوم القيامة، قال: (نحن الآخرون الأولون)، الآخرون في الأمم الأولون يوم القيامة، أول الأمم تحاسب، وأول الأمم تدخل الجنة، وكل الأمم تدخل من بعد أمة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، ولا يدخل الجنة قط أحد قبل نبينا عليه الصلاة والسلام، وهو أول من يقرع باب الجنة.
[وقال عليه الصلاة والسلام: (أنا أول من يقرع باب الجنة)، يعني: يدق باب الجنة، (فيقول الخازن -أي: خازن الجنة- من أنت؟ فأقول: أنا محمد، فيقول: بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك)]، أي: أمرت ألا أفتح الباب قط لأحد إلا لك أولاً ثم يأتي الناس من بعدك، والنبي عليه الصلاة والسلام إذا دخل الجنة دخلها أتباعه من أمته صلى الله عليه وسلم.
وعن أنس رضي الله عنه قال: (أنا أول من يأخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها) أي: فأحركها، وهذا الحديث يشهد له أحاديث كثيرة.(4/4)
شرح حديث: (لا تؤذي امرأة زوجها إلا قالت زوجته من الحور العين)
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتلك الله، فإنما هو عندك دخيل، يوشك أن يفارقك إلينا)، هذه بشارة عظيمة جداً لأهل الإيمان والإسلام، ولأهل التوحيد ممن يدخل الجنة بإذن الله، وعامة أهل الإسلام يتزوجون من الحور العين اثنتين، أما الشهداء فيتزوجون اثنتين وسبعين حورية، فالشهيد له منزلة خاصة.
وزوجة المؤمن إذا دخلت الجنة فإنه يتزوجها، فإن كان يبغضها فإن الله تعالى قال: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الأعراف:43]، أما لو دخلت هي الجنة وهو لم يدخل فإن الله تعالى يخلق لها زوجاً.
قال عليه الصلاة والسلام: (لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين) يعني: غضباً لزوجها الذي سيكون في الآخرة.
(لا تؤذيه قاتلك الله، فإنما هو عندك دخيل يوشك أن يفارقك إلينا)، يعني: هو ضيف يوشك أن يرحل بأن يموت فيأتي إلينا فيتنعم بنعيم الجنة وإن كان في القبر، كما جاء في حديث البراء رضي الله عنه في الحديث الطويل: (وإذا كان من أهل الجنة قيل: افرشوا له فرشاً من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، فيأتيه من ريحها وطيبها، ونعيمها)، ويتمتع بالنظر إليها، خلافاً لمن كان من أهل النار.
وكثير من الزوجات ينسين هذا، ويعتبرن إيذاء الزوج أمراً يسيراً، بل هو أمر يحول بينها وبين الجنة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (واطلعت في النار فإذا عامة أهلها النساء، فقامت إليه امرأة جزلة - أي: عاقلة- وقالت: يا رسول الله! ولم؟ قال: لأنهن يكفرن، قالت: أيكفرن بالله؟ قال: إنما يكفرن العشير)، ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا فقال: (يحسن إليكن الرجل الدهر كله فإذا بدا منه شيء -أي: في يوم من الأيام- قلتن: ما رأينا خيراً قط)، فبسبب هذه الكلمة تدخل المرأة النار وتستوجب لنفسها النار، وقد كان بإمكانها أن تسكت، أما إذا كانت ترد على زوجها الكلمة بالكلمة، والصاع بالصاع، والحجة بالحجة، فهذا بلاء عظيم جداً، كأنها تقذف بنفسها في النار، وأنا أعرف كثيرات من طالبات العلم -وللأسف الشديد- كأن طلب العلم صار للنساء بلاء عظيماً وشراً مستطيراً، تظن المرأة أنها بطلبها للعلم صارت مثل الزوج وربما فاقت عليه، فلو كان لا يحفظ القرآن وهي تحفظه تظن في نفسها أنها أفضل منه، فربما أنها تحفظ القرآن والقرآن يلعنها بالليل والنهار إذا أساءت عشرة زوجها، ولا ينفعها حفظها للقرآن حينئذ.
وأذكر أن امرأة في الإسكندرية في أواخر الثمانينيات لما خطبها أخ فاضل من أهل العلم ومن طلبة العلم وقد طلب الحديث على يد الشيخ الألباني رحمه الله، وكان من أئمة الحديث في ذلك الوقت بالشام، فلما رجع إلى الإسكندرية وخطب امرأة قرأت عليه فتح الباري من أوله إلى آخره في فترة العقد وهو ثلاثة عشر مجلداً، وكانت نبيهة جداً، فظنت أنها بلغت من العلم مبلغاً عظيماً، وهذا على أية حال شأن الجاهل، إذا تعلم شيئاً ظن أنه تعلم كل شيء، ولذلك يقول الخليل بن أحمد إمام اللغة صاحب كتاب العين: العلم ثلاثة أشبار، إذا بلغ الطالب الشبر الأول ظن أنه عالم، وإذا بلغ الشبر الثاني علم أنه لم يعلم شيئاً، وإذا بلغ الشبر الثالث علم أنه أجهل الناس.
إذاً: المتكبر هو الذي حصل على قدر يسير من العلم وظن أنه قد حاز العلم كله، وهو لا يزال على العتبة الأولى، بل ربما لم يثبت عليها، فتجد منه الغرور، والعجب، والكبر، والتعدي على أهل العلم من الكبار والمشايخ، تجد مساوئ الأخلاق في ابتداء الطلب، ولذلك يقول الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].
قيل للشعبي: كيف حالك أيها العالم؟ قال: لست بعالم، إنما العالم من يخشى الله، أي: العالم حقيقة هو الذي يخشى الله، والذي يخشى الله لابد أنه يؤدي حقوق الله وحقوق العباد، أما عبد يأخذ الكتاب تحت إبطه، ويظن أنه أعلم الناس، فيضرب هذا، ويشتم ذاك، ويسب هذا، ويملأ الدنيا ضجيجاً وصياحاً، فهذا ليس بآدمي أصلاً، ولا يصح أن يكون إنساناً سوياً أو محترماً فضلاً عن أن يكون طالب علم.
هذه المرأة الاسكندرانية لما بلغت هذا المبلغ على يد زوجها قالت له قبل البناء: الذي يغلب على ظني أنك لا تستحق زوجة مثلي، إنما الذي يستحقني فلان، وذكرت له عالماً كبيراً، فلما اتصل بي تلفونياً قلت له: لو أن هذه الكلمة قيلت لي ما ترددت قط في طلاقها ولو كان لي منها مائة ولد، فطلقها؛ لأن هذه المرأة قد أظهرت وأبدت غروراً، وكبراً وعجباً من أول الأمر.
امرأة أخرى تعلمت أصول الفقه، فإذا قال لها زوجها: اعملي كوب شاي، تقول له: هذا مستحب أم واجب؟! ما هذه الخيبة؟! هل صار طلب العلم بلاءً أم ماذا؟ أنمنع النساء من طلب العلم؟ النبي عليه الصل(4/5)
نعيم أهل الجنة فيها
قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه، وأبي سعيد الخدري سعد بن مالك بن سنان المدني أنهما سمعا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (في قول الله تعالى: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43]، قال: نودوا أن صحوا فلا تسقموا أبداً)، أي: أنتم في صحة وعافية ليس بعدها مرض، (واخلدوا فلا تموتوا أبداًَ، وانعموا فلا تبأسوا أبداً)].
وعن ابن عباس في قول الله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} [الدخان:51] قال: في خلود دائم، ونعيم ليس فيه شخوص -أي: انزعاج- قد أمنوا العذاب، ورضوا بالثواب، واطمأنت بهم الدار، في جوار الرحمن تبارك وتعالى، {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} [الدخان:55] أي: أمنوا من الموت، والأسقام، والأوجاع، والأمراض، والتخم، لا يذوقون فيها طعم الموت، حياتهم كلها نعيم أبدي، سرمدي، دائم لا انقطاع له.
وعن الضحاك رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} [الدخان:51] قال: أمنوا الموت فلا يموتون أبداً، ولا يهرمون أبداً، ولا يكبرون عن هذا السن.
وفي الأثر: أن أهل الجنة يدخلون على سن عيسى بن مريم ثلاث وثلاثين لا يزيدون عليها؛ لأن الجنة والنار ليستا بحساب الأيام والليالي، ولا الصباح المساء؛ لأنه لا شمس ولا قمر ولا شيء من هذا، فلا يقال هناك أيام.
وأهل الجنة لا يعرون أبداً، ولا يجوعون أبداً، ولا يكبرون أبداً، ولا يسقمون أبداً، فهذا هو المقام الأمين في قوله {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} [الدخان:51].
وعن جابر رضي الله عنه قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لما سئل: أينام أهل الجنة؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: النوم أخو الموت، وأهل الجنة لا يموتون)، إذاً: لا نوم في الجنة، والأمور كلها تتبدل، فلا يحتاج أحد أن يستريح قليلاً؛ لأنه لا يحتاج لهذه الراحة ابتداء، ولا يفكر فيها.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله عز وجل لمن يشاء من ملائكته: ائتوهم فحيوهم) الله تعالى يأمر الملائكة أن يأتوا أهل الجنة فيحيوهم ويسلموا عليهم، (فتقول الملائكة -أي: المقربون: نحن الذين ألهمنا التسبيح والذكر كما ألهمنا النفس، فيكف تأمرنا أن نذهب إلى هؤلاء ونسلم عليهم، كأنهم أرادوا أن يقولوا ذلك- قال: فتقول الملائكة: نحن سكان سمائك وجيرتك من خلقك، أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء فنسلم عليهم؟ قال: إنهم كانوا عباداً يعبدونني، ولا يشركون بي شيئاً)، وهذا من إخلاص توحيد الله عز وجل، وإخلاص العبادة لله، ونبذ الشرك، وهذا أعظم سبب لدخول الجنة.
والله تعالى له من الملائكة خدم للمؤمنين في الجنة، قال: (فتأتيهم عند ذلك -أي: الملائكة- فيدخلون عليهم من كل باب: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار).(4/6)
أول زمرة تدخل الجنة من أمة محمد وذكر السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب
وعن عبد الله بن عمرو قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أتعلم أول زمرة تدخل الجنة من أمتي؟ قال: الله ورسوله أعلم، فقال: المهاجرون هم الذي يدخلون الجنة أولاً، يأتون يوم القيامة إلى باب الجنة ويستفتحون فتقول لهم الخزنة: أوقد حوسبتم؟) أي: هل قد حاسبكم الله عز وجل، (فيقولون: بأي شيء نحاسب، وإنما كانت أسيافنا على عواتقنا في سبيل الله حتى متنا على ذلك؟ فيفتح لهم الخازن فيقيلون فيها أربعين عاماً قبل أن يدخلها الناس)، أي: يمكثون في الجنة أربعين عاماً قبل أن يدخلها بقية أهلها.
وأنتم تعلمون أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (يدخل الجنة سبعون ألفاً بغير حساب ولا سابقة عذاب مع كل واحد منهم سبعون ألفاً) فهم سبعون ألفاً في سبعين ألفاً، قال: (وهم الذين لا يتطيرون، ولا يسترقون، وعلى ربهم يتوكلون، قال رجل من أصحابه عليه الصلاة والسلام: ادع الله أن أكون منهم، قال: أنت منهم، فقام آخر فقال: ادع الله أن أكون منهم، قال: سبقك بها عكاشة)، ولا يفهم من الحديث أن السائل الثاني ليس منهم؛ لأن الجواب ليس فيه سرد لهم، وإنما الجواب يفهم منه: عدم فتح الباب لكل من أراد أن يسأل هذا السؤال، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام علم حذيفة أسماء المنافقين، وأنتم تعلمون أنه لا يدخل الجنة منافق، وعمر رضي الله عنه من المبشرين بالجنة، ولذلك قال عمر لـ حذيفة: يا حذيفة! أسماني لك رسول الله في المنافقين؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، ولا أزكي أحداً بعدك، يعني: لا تفتح علي هذا الباب يا أمير المؤمنين؛ لأنك لو فتحته فربما أتى المنافق فسأل عن نفسه فلا يسعني إلا الجواب، فحينئذ تكون الفتنة، فاعتذر إليه حين أجابه عن نفسه، ثم أغلق الباب.
وكذلك النبي عليه الصلاة والسلام، لما سأله عكاشة: ادع الله أن أكون منهم يا رسول الله! قال: أنت منهم، فقام آخر فقال: وأنا أدع الله لي أن أكون منهم، قال: سبقك بها عكاشة، لأنه يمكن أن يقوم من المنافقين من يسأله، لأنه إذا كان جريئاً على الله، فكيف لا يكون جريئاً على النبي عليه الصلاة والسلام؟! فأراد النبي أن يغلق باب الشر وباب الفتنة.
أما بيان العلامات لهؤلاء الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عقاب فهي: أنهم: (لا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون) وهناك رواية عند البخاري وهي شاذة: (الذي لا يرقون ولا يسترقون) وهذا غير صحيح، إنما الرواية الصحيحة: (هم الذين لا يتطيرون)، والعرب كانت تتشاءم بالطير، فكان من قتل له قتيل مثلاً أو أراد أن يسافر أتى بالحمام ورماه في الهواء وقال: إذا ذهب يميناً ثأرت للقتيل، وإذا ذهب شمالاً لا أثأر، أو إذا ذهب الطير يميناً أسافر وإذا ذهب يساراً لا أسافر وغير ذلك، وهذا من التشاؤم، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لو كان الشؤم في شيء لكان في ثلاث: المرأة، والفرس، والدار)، وفي رواية: (المرأة، والمركب، والدار)، و (لو) حرف امتناع لامتناع، يعني: الأصل أنه لا شؤم في الإسلام البتة، ولا حتى في المرأة، ولا في الفرس أو الدابة، ولا في الدار، فلا شؤم في الإسلام، وهذا نص كلامه قال: (لو كان الشؤم في شيء) يعني: لو صح أن هناك شيئاً اسمه شؤم مشروع لكان في هذه الثلاث، لكن ليس هناك شيء اسمه شؤم فلا يصح للمرء أن يتشاءم.
قال النبي عليه الصلاة والسلام لـ عبد الله بن عمرو رضي الله عنه: (أتعلم أول زمرة تدخل الجنة من أمتي؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، فقال: المهاجرون، يأتون يوم القيامة إلى باب الجنة ويستفتحون، فتقول لهم الخزنة: أوقد حوسبتم؟ فيقولون: بأي شيء نحاسب، وإنما كانت أسيافنا على عواتقنا في سبيل الله عز وجل حتى متنا على ذلك).(4/7)
ذكر شيء من أوصاف الجنة وما أعد الله فيها للمؤمنين
وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجنة كيف هي؟) يعني: صفها لنا، (قال: من يدخل الجنة يحيا فيها لا يموت)، يعني: يحيا حياة أبدية دائمة لا موت فيها، كما في الحديث الآخر: (خلق الله الجنة والنار، وجعل لكل قسماً، وقال: يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت).
قال: (من يدخل الجنة يحيا لا يموت، وينعم فيها لا يبأس، لا تبلى ثيابه -يعني: لا تتسخ- ولا يفنى شبابه، قيل: يا رسول الله! كيف بناؤها؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: لبنة من ذهب ولبنة من فضة) يعني: طوبة من ذهب وطوبة من فضة، (ملاطها مسك أذفر)، الملاط الذي هو بمثابة الأسمنت الذي يعمل على تماسك اللبنات: (وحصباؤها اللؤلؤ، والياقوت، وترابها الزعفران).
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (لما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: إلى اليمن- قال: يا أيها الناس إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم، واعلموا أن المرد إلى الجنة أو إلى النار خلود بلا موت)، أي: في الجنة والنار خلود بلا موت، (وإقامة لا ظعن)، أي: لا سير منها.
وقال له عليه الصلاة والسلام: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب -يعني: يهوداً ونصارى- فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم) حتى عدد له بقية شرائع الإسلام، وهذا يدل على أهمية ترتيب الأهم فالأهم، وأولويات الدعوة إلى الله عز وجل.
ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث أبي هريرة وغيره في الصحيحين: (الإسلام بضع وستون)، وفي رواية: (بضع وسبعون شعبة، أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)، فبين النبي عليه الصلاة والسلام أن الإيمان أو الإسلام شعب.
وعن مجاهد بن جبر المكي الإمام الكبير تلميذ ابن عباس رضي الله عنه قال: في قول الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر:34]، قال: حزن الموت، أمنوا أن يموتوا بعد ذلك.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال: النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله بنى جنات عدن بيده)، الجنات متعددة منها: جنة عدن، وقيل: عدن جنات كثيرة، فإما أنها ذكرت بجنات على سبيل التعظيم والتشريف، وإما أنها درجات كثيرة أو جنات متعددة.
فقوله: (إن الله بنى جنات عدن بيده)، هذه خاصية لها كما خلق الله عز وجل آدم بيده، وكتب التوراة لموسى بيده، وهذه ثلاث مخلوقات باشر الله تبارك وتعالى خلقها بيده تشريفاً لها، ثم قال: (وبناها لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، وجعل ملاطها المسك الأذفر -أو الإذفر- وترابها الزعفران، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت).
وفي الجنة نعيم أعظم من هذا كله وهو النظر إلى وجه الله الكريم في كل أسبوع مرة وهو يوم الجمعة، الذي يسمى في الآخرة: يوم المزيد، أي: يزداد فيه المؤمنون بهاءً وحسناً وجمالاً؛ بسبب النظر إلى وجه الله الكريم.
قال: (ثم قال الله لها: تكلمي، فقالت: قد أفلح المؤمنون، ثم عددت صفات المؤمنين، فقالت الملائكة: طوبى لك منزل الملوك) إذاً: الملك الحقيقي هو من حرص على دخول الجنة؛ لأن الجنة منزل الملوك.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (جنتان من ذهب، وجنتان من فضة)، فجنات الفردوس أربع: جنتان بناؤهما من الذهب، وجنتان بناؤهما من الفضة، وكذا بالنسبة للحلي والأواني، والتراب، والحصباء وغير ذلك.
وعن أبي موسى رضي الله عنه في قول الله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] قال: جنتان من ذهب للسابقين، وجنتان من فضة للتابعين، أي: للتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم -أي: أهل هذه الجنات- وبين أن ينظروا إلى ربهم عز وجل إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنات عدن).
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (جنتان من ذهب للمقربين) أو قال: (للسابقين، وجنتان من ورق) الورق بكسر الراء هي الفضة، (لأصحاب اليمين).
وفي الصحيحين من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يحشر الناس يوم(4/8)
الأسئلة(4/9)
معنى كفت الثوب في الصلاة وحكم تشمير الكم فيها
السؤال
ما معنى (أمرت ألا أكف ثوباً في الصلاة)؟ وهل يجوز تشمير الكم في الصلاة؟
الجواب
الحديث في الصحيحين: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كفت الشعر والثوب)، وفي رواية: (عن عقص الشعر في الصلاة)، والكفت: هو الجمع والضم، وأنتم تعلمون سنة النبي عليه الصلاة والسلام في شعره أنه كان يطيله حتى يبلغ منكبيه، فإذا كان ذلك من المسلم فإنه إذا طال على هذا النحو فكلما أراد أن يركع أو أن يسجد جمع شعره وطرحه في الخلف حتى يتسنى له أن يسجد على الأرض وأن يباشر الأرض بجبهته، فنهى النبي عليه الصلاة والسلام عن ذلك، وكما جاء النهي في الثوب جاء في الكم وفي الإزار، كلما هم المرء أن يركع أو يسجد جمع ثوبه بين فخذيه أو كفت بمعنى: جمع وضم إزاره أو بنطلونه وكذلك الكم، فنهى النبي عليه الصلاة والسلام عن ذلك، فهذا معنى كفت الشعر والثوب والنهي عنه، وبالإجماع هذا النهي نهي تنزيه أي: كراهة تنزيهية، ومن خالف ذلك لا حرمة عليه.(4/10)
حكم العمل بالقرعة عند الهم بأي أمر من الأمور
السؤال
هل يجوز للمرء أن يعمل القرعة، أي: يأخذ ورقة ويكتب فيها: أفعل ولا أفعل ثم يقوم بالسحب، فهل هذا من الشؤم؟
الجواب
يعني: واحد في هذا الوقت يريد أن يسافر الإسكندرية وهو متردد ماذا يصنع؟ فيقول: سأكتب ورقتين، ورقة منهما مكتوب عليها أسافر، والورقة الأخرى لا أسافر، ثم يبدأ عملية السحب على المكشوف، فإذا طلعت ورقة لا تسافر لن يسافر، وإذا طلعت سافر فإنه يسافر، هذا من الشؤم، وهذا من طيرة الجاهلية، هو لم يستقسم بالأزلام من غير يمين، لكن أنا أدلك على ما هو خير لك من هذا، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كان هذا الأمر) مثلاً: سفري إلى الإسكندرية، أو زواجي من فلانة، أو الموضوع الفلاني أو العلاني (خيراً لي في ديني، ومعاشي، ومعادي، وعاقبة أمري آجله وعاجله، فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كان هذا الأمر -ويسميه- شراً لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري آجله وعاجله فاصرفه عني واصرفني عنه، ثم اقدر لي الخير حيث كان ورضني به)، وهذا يسمى بدعاء الاستخارة، فالمرء إذا هم بأمر من أموره وهو لا يدري وجه الخير والشر فيه فيصلي ركعتين، أو يدعو بعد النوافل المطلقة أو الراتبة، يدعو بعد نافلة أو بعد سنة العشاء، أو سنة المغرب، أو بعد ركعتين من الليل، أو في أي وقت، ولا بأس أن تتكلف أن تصلي ركعتين إذا كان الأمر يستحق ذلك ولو كان ذلك في وقت الكراهة؛ لأن النهي عن الصلاة في وقت الكراهة محمول على مطلق النوافل، أما صلاة لها سبب -وهذا مذهب الشافعي - فلا بأس في ذلك وهو الذي نرجحه دائماً.
وكان الصحابة رضي الله عنهم يبالغون جداً في الاستخارة، حتى ورد أنهم كانوا يستخيرون الله تعالى في شراك نعالهم، في أقل أمورهم وأحوالهم كانوا يستخيرون الله عز وجل، واعلم أن الاستخارة لا أمارات ولا علامات لها؛ فالحديث لم يبين أن الطريق لقبول الأمر ورده أن ترى ذلك في المنام، أو أن ينشرح لذلك صدرك أو لم ينشرح، أو تجد نوراً في قلبك أم لا، كل هذا الكلام من اختراع الناس، وإنما أنت تقول: (إن كان هذا الأمر خيراً لي في ديني ومعاشي فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه)، فمثلاً: أنا أريد أن أتزوج بنت فلان، فاستخرت الله قبل أن أذهب وبعده، وقبل أن أرى وبعد ذلك، فلا أقول بعد ذلك: أنا لن أذهب إلى هذا الرجل ولن أمشي في الموضوع إلا لما أرى رؤيا، بل أذهب ولو قدر الله لي وقد سبق في علمه أن هذا الزواج خير لي فسييسره، وإذا كان ربنا لم يرد ذلك فسيجعل الأمر غير ميسر ويجعل الباب مقفلاً.(4/11)
معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (لو كان الشؤم في شيء)
السؤال
ما معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (لو كان الشؤم في شيء لكان في ثلاث: المرأة، والدار، والدابة)؟
الجواب
لا شؤم قط في الإسلام ولا حتى في هذه الثلاث، والمعنى: لو كان هناك شؤم فهو في هذه الثلاث، لأن المرء في الغالب يتشاءم بها، فلما كان معظم حال الناس أنهم يتشاءمون بالمرأة والدار والفرس، ذكر ذلك النبي عليه الصلاة والسلام.(4/12)
حكم الغناء
السؤال
ما حكم الغناء؟ علماً أنني تناظرت مع أحد طلبة جامعة الأزهر حول ذلك.
الجواب
كنت أتمنى أنني لم أقرأ السؤال ما دام الحوار مع طالب أزهري يذهب إلى حل الخمر، والميسر، والخنزير، والغناء، مع أن الأدلة من الكتاب والسنة أمام عينيه، فطلبة ومشايخ وأساتذة الأزهر لا يكادون يحرمون شيئاً، ها أنتم تعرفون أكبر طربوش لا يحرم أي شيء، وطوال عمره لم يقل على شيء حرام أنه حرام، بل كل شيء عنده حلال، حتى إن الربا عنده حلال وغير ذلك.
والذي أقل منه وأدنى منه في المرتبة والمنزلة الأصل أنه لا يحرم شيئاً، فهو أستاذ كبير جداً، ورئيس قسم العقيدة، لما ذهبت معه في مدينة ناصر رأيته ومعه السيجارة وهو لابس للشورت، فهو لم يأخذ بحديث النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (الفخذ عورة)، ولم يأخذ بحديث النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه) ولم يسمع حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (كل مسكر ومفتر حرام)، والسجائر تفتر، وهو يقول: أنا لن أهدأ إلا لما أشرب السيجارة، العوام الذين يشربون السجائر يقرون بأن السجائر حرام، والذين يسمعون الأغاني والموسيقى يعلمون أنهما حرام، وكثير من مشايخ الأزهر إلا من رحم الله لا يذهب إلى حرمة شيء من ذلك، أقسم بالله العظيم أن منهم من ينازع في الوسكي والشنبانيا، ويقول: لابد أن يكون مكتوباً عليها (خمراً)، وسكي وشنبانيا هذه ليست خمراً! ويتعنت في ذلك، ومثله كمثل رجل في رابعة النهار ينظر إلى الشمس ويقول: أين الشمس؟ نقول له: هذه هي الشمس، فيقول: ما الدليل على أن هذه شمس؟ هذا قمر، فلا يستطيع أحد أن يعطيه دليلاً أن هذه هي الشمس لأنه إنسان فقد عقله تماماً.
والنبي عليه الصلاة والسلام كما أورد ذلك البخاري معلقاً بصيغة الجزم قال: (يأتي زمان على أمتي يستحلون الحر، والحرير، والخمر، والمعازف)، وكلمة (يستحلون) معناها: أن هذه الأمور ليست حلالاً وإنما هي حرام، و (الحر) هو الزنا، (والحرير) محرم للرجال دون النساء، (والخمر): يسمونها بغير اسمها من أجل أن يهربوا من حرمتها، (والمعازف) هي آلات اللهو والطرب.
كان عبد الله بن عمر رضي الله عنه إذا ذهب إلى واد أو قرية أو بلد أخذ معه مولاه نافعاً، وكان إذا سمع غناء وضع أصبعيه في أذنيه حتى إذا عبر هذا الموطن قال: يا نافع أتسمع شيئاً؟ فإن قال: لا، أخرج أصبعيه؛ لأن الغناء مزمار الشيطان، والموسيقى مزمار الشيطان كذلك، وبعض الأخوات أو الإخوة يقرءون في الكتب التي اعتنت بتربية الأطفال وكتبها أهل الغرب ومنها النافع ومنها الضار، ولكنهم يأخذون منها النافع والضار على السواء، وكثيراً ما ينصح الأطباء الغربيين ومن لا دين لهم ولا خلاق لهم بسماع الموسيقى الهادئة من أجل أن يهدأ الطفل، والطفل سيظل يتعود على هذه الموسيقى إلى أن يصبح كبيراً، ومن شب على شيء شاب عليه، والطفل على ما عودته، إن عودته الطاعة اعتاد الطاعة، وإن عودته المعصية اعتاد المعصية، وفي هذا الوقت عندما تقول لواحد: بالله عليك السجائر التي تشربها حلال أم حرام؟ يقول لك: والله أنا عارف أنها حرام، وادع لي يا شيخ أن الله يخلصني منها، فأنا محتاج إليها، لا أستطيع تركها، لأنها تركت أثراً عظيماً جداً في الدم والمخ والعظم واللحم فلا يقوى على ذلك، وأنا مقدر هذا الرد، لكن على أية حال هذا لا يكون إلا من إنسان ضعيف العزيمة، وإلا فالصحابة رضي الله عنهم قد شربوا الخمر إلى أمخاخهم، ولما نزل تحريم الخمر امتنعوا جميعاً، والفارق الذي بيننا وبينهم فارق إيماني، فهم لما تربوا على العقيدة الصحيحة وأتاهم تعظيم الله عز وجل، وتعظيم أمره ونهيه، فلما أتاهم النهي عن الخمر انتهوا عن الخمر، وكذا النهي عن الزنا انتهوا عن الزنا، والنهي عن وأد البنات أحياء انتهوا، وغير ذلك من الفظائع والعظائم التي كان يفعلها أهل الجاهلية.
فالغناء حرام؛ لقول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [لقمان:6] يقول ابن مسعود: أقسم بالله، أقسم بالله، أقسم بالله أن لهو الحديث هو الغناء، هل نصدق علماء الأزهر كلهم أم ابن مسعود؟ يأتي هناك في المقابل شبهات وهي: (أن أبا بكر رضي الله عنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيته بعد أن رجع من غزوة خيبر، فوجد جاريتين تغنيان، فقال: أمزمار الشيطان في بيت رسول الله؟ وغضب، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا)، وفي رواية عند أبي داود (دخل عمر على النبي عليه الصلاة والسلام وعنده جاريتان تغنيان وليستا بمغنيتين) ولذلك العلماء يقولون: الغناء حلال بشر(4/13)
حكم لبس الذهب المحلق
السؤال
ما حكم الذهب المحلق؟
الجواب
الذهب المحلق حلال، وهذا مذهب عامة أهل العلم من أمة لا إله إلا الله، وذهب خلاف ذلك شيخنا العلامة الألباني عليه رحمة الله، وقال بحرمة الذهب المحلق للنساء، واستشهد بأحاديث لم تخف على عامة الأمة وإنما علموها ورووها ولم يفهموا منها ما فهم الشيخ الألباني رحمه الله.
والأحاديث التي احتج بها الشيخ الألباني حملها علماء الأمة على منع الزكاة، ومنها: (أن امرأة جاءت إلى النبي عليه الصلاة والسلام ومعها ابنتها وفي يدها سواران من ذهب، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أتؤدين زكاة هذا؟ قالت: لا، قال: أتحبين أن تسوري بسوارين من نار يوم القيامة؟ فخلعتهما وألقتهما في حجر النبي عليه الصلاة والسلام)، ولو كان الذهب المحلق حراماً لقال لها: اخلعيهما فإنهما حرام لا يحل لك، ولكنه قال لها أولاً: (أتؤدين زكاة هذا؟) فلو قالت: نعم، لما تكلم بعد ذلك النبي عليه الصلاة والسلام.(4/14)
حكم لبس الثوب الأحمر
السؤال
ما حكم لبس الثوب الذي لونه أحمر؟ وما الدليل؟
الجواب
جاء في سنن أبي داود وعند أحمد في المسند: (نهى النبي عليه الصلاة والسلام الرجل أن يلبس اللبس الأحمر أو الثوب الأحمر)، مع أنه عليه الصلاة والسلام كما قال عبد الله بن عمر: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وقد لبس ثوباً أحمر مخططاً)، فالنهي محمول على الأحمر الخالص الذي لا شية فيه، ولا علامة فيه، ولا خطوط، ولا مربعات، ولا سرهات، ولا سيور، يعني الأحمر المصمت، فمن لبس جلابية حمراء مخططة أو فنيلة حمراء مخططة فلا بأس بذلك ولا حرمة في ذلك.
ولا تدخل النساء في هذا النهي.(4/15)
لمن تكون المرأة المؤمنة إذا دخلت الجنة وقد تزوجت في الدنيا أكثر من زوج
السؤال
إذا تزوجت المرأة اثنين أو أكثر ودخلوا جميعاً الجنة، فهي زوجة من منهم؟
الجواب
زوجة أحب واحد من الثلاثة إليها، وإذا تزوج الرجل أربعاً أو أكثر من ذلك، بشرط ألا يكن أكثر من أربع نساء في وقت واحد، فإنه يتزوج أحب النساء إليه، أو يتزوجهن جميعاً.(4/16)
حكم العمليات الاستشهادية في فلسطين
السؤال
بالنسبة لعملية تفجير النفس التي يقوم بها الإخوة الفلسطينيون، وذلك لقتل المدنيين اليهود اختلف علماء السنة فيها، فمنهم من قال: إنها عملية انتحارية وصاحبها منتحر، ومنهم من قال: إنها عملية استشهادية وصاحبها مجاهد في سبيل الله، فماذا ترجح لديكم؟
الجواب
الذي يترجح لدي أنها عملية استشهادية وليست انتحارية، فالمنتحر لا ينتحر إلا وهو يائس من رحمة الله عز وجل، والذي يستشهد في فلسطين ليس يائساً من رحمة الله، وإنما يفعل ذلك نصرة للدين، ودفعاً للعدو، فلابد أن يراعى هذا الفارق، وقد حدث في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من حادث.
لكن على أية حال أنا أعد محاضرة الآن في هذا الباب وسنلقيها بإذن الله تعالى في مؤتمر القدس في مسجد (العز بالله) الذي سينعقد في يوم 24/ 8 (في مؤتمر عن القدس)، وسيحاضر فيه سيادة اللواء أحمد عبد الوهاب رئيس مجلس إدارة مسجد العزيز، والدكتور جمال عبد الهادي، والدكتور علي السالوس، والدكتور عبد الوهاب النصيري أستاذ كبير جداً وتخصصه: الرد على اليهود، وهو الذي عمل موسوعة عن اليهود في خمسة عشر مجلداً، فهو قنبلة علمية إذا انفجرت يكون عوضنا على الله، وهو حليق ويلبس بدلة لكنه أستاذ خبير، وليس هو شيخاً، وستستفيدون منه إن شاء الله أكثر من الشيوخ بإذن الله تعالى؛ لأن ربنا يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، وهو من أهل الذكر في القضية، وسيحاضر فيها شيخنا وأستاذنا محمد عبد المقصود، والشيخ محمد حسان، والشيخ سيد عربي، والأستاذ كامل الشريف الذي هو رئيس وزراء الأردن الأسبق، سيحاضر معنا إن شاء الله.
وسيكون المؤتمر لمدة ثمانية أيام من الجمعة 24/ 8 إلى الجمعة الأخرى 31/ 8، ما بين المغرب والعشاء.(4/17)
حكم تداخل صلاة قضاء الحاجة مع صلاة النافلة
السؤال
هل يجوز صلاة قضاء الحاجة مع صلاة النوافل؟
الجواب
نعم يجوز؛ لأن أهل العلم على جواز تداخل النيات في النوافل دون الفروض.
ويجوز أن يدعو بتفريج حاجته.(4/18)
نصيحة لمن يفزع من النوم دائماً
السؤال
امرأة شاهدت على الإنترنت بعض الجماعات التي في تايوان والتي تقوم بأكل الأطفال الصغار بعد الطهي، ومنذ ذلك الوقت تفزع في نومها، فماذا تفعل؟
الجواب
لا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون، على أية حال إجابتي على سؤال السائلة: أنه ينبغي عليها أن تعتصم بكتاب الله عز وجل وبسنة النبي عليه الصلاة والسلام، وتكثر من قراءتها للأذكار من الكتاب والسنة قبل نومها.(4/19)
حكم حضور الحائض لدروس العلم في المسجد ومسها للمصحف
السؤال
هل يجوز للمرأة الحائض حضور دروس العلم في المساجد، وهل يجوز لها القراءة من المصحف بمس أو بدون مس؟
الجواب
هذه المسألة اختلف فيها أهل العلم اختلافاً بيناً، وجمهور الفقهاء على حرمة ذلك، ولا دليل صحيح في هذا الباب، فيبقى عندنا الأصل وهو جواز أن تدخل الحائض المسجد وتمكث فيه، وجواز أن تمس المصحف بيدها وتقرأ فيه، إذا كانت تسأل عن الجواز، أما إذا كانت تسأل عن الأفضل، فالأفضل بلا شك ألا يعبد المرء ربه إلا وهو كامل الطهارة.(4/20)
مسألة في الرضاع
السؤال
امرأة لها بنتان، وامرأة أخرى لها ولدان، والمرأة التي لها بنتان أرضعت ولداً من الولدين، فهل يجوز للولد الآخر الذي لم يرضع أن يتزوج من إحدى البنتين؟
الجواب
يجوز؛ لأنه لم يجتمع معه على الثدي، فالولد الآخر الذي لم يرضع يجوز له أن يتزوج أياً من البنتين التي رضعت مع أخيه أو التي لم ترضع.(4/21)
حكم التسبيح بالسبحة
السؤال
ما حكم التسبيح بالسبحة، وقد قرأت في أحد الكتب أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه رأى امرأة تمسك سبحة فأخذها فقطعها، ثم ضربها بقدمه وقال لها: والله لقد ابتدعتم في الدين بدعة ما فعلها أصحاب محمد، فهل هذا صحيح؟
الجواب
هذا ليس صحيحاً أبداً، أن عبد الله بن مسعود يأخذ السبحة من المرأة ويقطعها ويضرب المرأة على ذلك.
أما حكم التسبيح بالمسبحة فالأصل الجواز؛ لأنه لم يرد فيها نهي ابتداء، وقد ورد إباحة ذلك بفعل أبي هريرة، وسلمان الفارسي، وأبي الدرداء رضي الله عنهم، وقد أورد حديثهم الإمام الطبراني في كتاب الدعاء، أنهم كانوا يسبحون على الحصى، وأصل السبحة عبارة عن حصى، حتى قيل لـ أبي هريرة: أتسبح على المسبحة؟ قال: وما يمنعني من ذلك؟ أي: أين النهي الوارد في ذلك؟ وقال النبي عليه الصلاة والسلام لـ أم سلمة: (اعقدن التسبيح على الأنامل فإنهن مستنطقات)، فالأولوية في التسبيح أن يكون على الأصابع اليمنى، ثم على المسبحة، فكلاهما جائز، لكن الأولى أن يكون التسبيح على الأنامل، والشيخ الألباني عليه رحمة الله قد ذهب إلى بدعية التسبيح على المسبحة، ثم رجع عن هذا الحكم وقال بالجواز بعد ذلك لما طبع الدعاء للطبراني واطلع على هذه النصوص رجع عن فتواه.
وإذا كان هذا المباح قد صار علماً على أهل البدع، أو كانت المسبحة علامة على أهل البدع من أهل الانحراف كالصوفية وغيرهم فيستحب تركها، أما إذا كانت واجبة فأنا أعمل بها وإن فعلها اليهود، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (خالفوا اليهود والنصارى) أو (خالفوا أهل الكتاب وخالفوا المشركين أطلقوا لحاكم فإنهم لا يفعلون ذلك)، فمن قال أن شنوده مطلق للحيته، فما دام أن القضية قضية المخالفة فأنا سأحلق من أجل مخالفته، فنقول: إطلاق اللحية هذا هو الواجب علينا، وهو الذي وافقنا ولسنا نحن الذين وافقناه، ثم إن هذا من شعائر ديننا.
فأهل العلم إذا تبين لهم الحق والصواب رجعوا إليهما، أما الذين ليسوا من أهل العلم فإنهم يستمرون في جهلهم.(4/22)
حكم الصلاة بين السواري
السؤال
هل يوجد نهي عن الصلاة بين السواري؟
الجواب
النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن الصلاة بين السواري، والسواري هي الأعمدة، فلا يجوز الصلاة بينها إلا للضرورة، والعلة انقطاع الصف، ولا يجوز قطع الصف إلا لعلة ازدحام، أو للضرورة أو غير ذلك.
والدليل على ذلك حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (دخل النبي عليه الصلاة والسلام وعثمان بن طلحة وأسامة بن زيد الكعبة، فصلى النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه، فلما خرجوا قلت لـ أسامة بن زيد: ماذا فعلتم؟ قال: صلينا، قلت: هل صلى رسول الله؟ قال: نعم، قلت: أين صلى؟ قال: إلى الاسطوانة)، والمقصود بالاسطوانة هي العمود أو السارية، وهي مبنية بالطوب وليس بالخرسان.
والنبي عليه الصلاة والسلام اتخذ الدابة سترة، واتخذ عائشة رضي الله عنها سترة، واتخذ السرير سترة، واتخذ العنزة سترة، والعنزة: هي عصاً كمؤخرة الرحل، وهي عصا تتخذ عند قتب الجمل أو البعير يعلق عليها البضائع والمحمولات وغير ذلك، فالنبي عليه الصلاة والسلام صلى إلى هذه العنزة بعدما غرزها في الأرض، واتخذها سترة له، ولذلك العلماء يقولون: السترة لابد أن تكون على قدر العنزة، أي: قدر شبر، ولا يعتبر الفارق بين السجادتين سترة، أو معه خيزرانة يلقيها أمامه ويعترضها، كل هذا لا يبيح للمار أن يمر من أمامها؛ لأن السترة لابد أن تكون مرتفعة قدر شبر عن الأرض؛ لأن أقل الوارد من النصوص في حق السترة مؤخرة الرحل واسمها العنزة.
وحديث: (صلى النبي عليه الصلاة والسلام إلى عنزة)، ومن التصحيف في الفهم أن رجلاً من بلدة اسمها عنزة، وعنزة وعنيزة في السعودية، فهما قريتان متجاورتان وهما في القصيم، فهذا الرجل الذي من عنزة تفاخر على أصحابه وقال لهم: نحن قوم لنا شرف، قالوا له: وما هو هذا الشرف؟ قال: لقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم إلينا، فقد ظن أن العنزة في الحديث هي البلد التي هو منها، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يصل إلا إلى قبلة المسلمين المعروفة.(4/23)
شرح صحيح مسلم - كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - نعيم الجنة وصفة أهلها [2]
لقد وصف الله الجنة لعباده المؤمنين ليزدادوا شوقاً إليها، وعملاً لها، فهي لبنة من فضة ولبنة من ذهب، وترابها الزعفران، وملاطها المسك الأذفر، وما بين مصراعي كل باب من أبوابها كما بين مكة وهجر، أو مسيرة أربعين عاماً، ولها من الأبواب ثمانية، تفتح في كل يوم خميس وإثنين.
وللجنة رائحة طيبة يجدها المؤمن من مسيرة خمسمائة عام، وفيها عينان نضاختان بالمسك والعنبر إلى غير ذلك من النعيم المقيم للمؤمنين الصادقين.(5/1)
وصف الجنة(5/2)
ذكر بناء الجنة وترابها
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: إن الدعوة إلى الله عز وجل تسير في طريقين: طريق العلم أو التأصيل العلمي، وطريق الوعظ، والوعظ يلزم عامة الناس، وأما العلم فيلزم خاصة الناس، وعلى أية حال التأصيل العلمي هو الذي يربي الشخصية العلمية المسلمة الواعية الفاهمة، وأما الوعظ فسرعان ما يزول أثره من القلوب، بل ربما في مجلس الوعظ نفسه يزول الأثر، فكثير من الناس يسمع درس الوعظ أو الخطبة أو غير ذلك ثم على باب المسجد ينفض ثوبه كأنه يقول: هذه بضاعتكم ردت إليكم، وقد جربنا مراراً أن كثيراً من المستمعين أو الحاضرين يسمع الخطبة أو الدرس أو غير ذلك ثم يخرج فإذا سألته عما سمع كأنه لا يعرف شيئاً، غير أنه تأثر من هذا الدرس حتى إن هذا الدرس أبكاه، لكن لو سألته: كيف بكيت؟ ولمَ بكيت؟ فإنه لا يدري.
وقد سمعنا علماءنا ومشايخنا يقولون: لو أن المرء تعلم في كل يوم من أيام حياته مسألة واحدة من مسائل العلم لكان بعد عدة أعوام عالماً، أو قد تربى على التأصيل العلمي، وهذه بلا شك حقيقة ينبغي التنبه لها.
إننا وإن كنا نتكلم عن الجنة والنار فإننا نتكلم عنهما من باب الوعظ، وإلا كان ينبغي أن نبكي منذ زمن طويل مضى، وإنما نتكلم عن مسائل علمية متعلقة بالجنة والنار، ومسائل اعتقادية متعلقة بالجنة والنار، فلو قلنا الآن: تربة الجنة مما تتكون؟ فهذه مسألة علمية، وليست مسألة وعظية، فهناك فرق بين أن أقول لك: (الجنة لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، وملاطها المسك الأذفر، وترابها الزعفران)، فأنت تلتذ بهذا الكلام وتحصل عندك اللذة، وفرق بين أن تأخذ هذا الكلام وتستقبله على أنه عقيدة، وأن الجنة وما فيها يختلف عن الدنيا وما فيها، فتكون إنساناً واعياً وحافظاً أن بناء الجنة ليس كبناء الدنيا، وأن ملاط الجنة ليس كملاط الدنيا، وأن تربة الجنة ليست كتربة الدنيا، وإنما ترابها الزعفران، فيتكون لديك تصور مبدئي عن بناء الجنة، وعما فيها من نعيم، وأن ما فيها من نعيم وإن وافق في الاسم نعيم الدنيا؛ فالحقيقة مختلفة، فهذه مسألة علمية وليست مسألة وعظية.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أبو ذر رضي الله عنه يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أدخلت الجنة) فالمسألة العلمية: أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل الجنة، ولا يحل لنا أن نسأل كيف دخلها؟ وأين هي حتى يدخلها؟ لأن هذه من مسائل الغيب، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه قد دخل الجنة، وأنه اطلع في النار، ولا يصح أن نقول: دخل النبي صلى الله عليه وسلم النار، وربما أحد الوعاظ يخطأ في نقل ذلك، ويقول: دخل النبي صلى الله عليه وسلم النار فرأى من فيها وما فيها، ودخل الجنة ورأى ما فيها ومن فيها وهكذا.
لكن التقرير العلمي والتأصيل أن يقول: دخل النبي صلى الله عليه وسلم الجنة فرأى ما فيها، ومما رأى كيت وكيت وكيت، ونقل إلينا كيت وكيت وكيت، حتى قال لـ بلال: (يا بلال إني أدخلت الجنة فسمعت خشخشتك، فبم سبقتني إليها؟)، فهذا تأصيل علمي ينبغي أن يكون معلوم لدى طالب العلم، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أدخلت الجنة، فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ -والجنابذ: هي القباب، أي: فإذا فيها قباب عالية من اللؤلؤ- وإذا ترابها المسك)، فهذا في باب ذكر تربة الجنة.
وعن أبي سعيد رضي الله عنه: (أن ابن صياد سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن تربة الجنة)، وابن صياد هذا قيل إنه الدجال، وقيل غيره، وسيأتي معنا بإذن الله تعالى في كتاب الفتن.
قال النبي عليه الصلاة والسلام لـ ابن صياد لما سأله عن تربة الجنة: (درمكة بيضاء) يعني: الدقيق الأبيض (مسك خالص).
وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (علي بأعداء الله) يعني: بهم اليهود، فالنبي عليه الصلاة والسلام يسمي اليهود: أعداء الله، فليسوا أعداء المؤمنين فحسب وإنما هم كذلك أعداء الله.
قال: (علي بأعداء الله؛ فإني سائلهم عن تربة الجنة، وإنها درمكة)، فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه قبل أن يسأل اليهود، وهل اليهود يعرفون الجنة وما فيها؟ نعم يعرفونها؛ لأنه ما من نبي إلا أرسل بالحث على الجنة، وما يقرب إليها من قول أو عمل، والتحذير من النار، والتنفير عنها، وما يقرب إليها من قول أو عمل، ولا بد أن يدل أمته على الجنة، وعلى النار، على ما في هذه من نعيم، وعلى ما في هذه من شر وعذاب أليم.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (علي بأعداء الله؛ فإني سائلهم عن تربة الجنة)، ولابد أن تعلموا أنت(5/3)
عدد أبواب الجنة
إن معرفة عدد أبواب الجنة من مسائل الاعتقاد؛ لأنها متعلقة بالغيب، فلا يأتي أحد يقول: أبواب الجنة ليس لها نهاية، وأبواب النار أيضاً ليس لها نهاية؛ لأن العلم الشرعي يقول: إن أبواب الجنة ثمانية، وأبواب النار سبعة، انتهت القضية هكذا، وهذا يدل على أن رحمة الله واسعة، وقد سبقت غضبه، فقد جعل أبواب الجنة أزيد من أبواب النار بباب، وهذا الباب ليس بالأمر الهين، وإنما هذا الباب (ما بين مصراعيه كما بين مكة وهجر).
أي: أحد قوائم الباب الواحد من أبواب الجنة كما بين مكة وهجر -وهي البحرين- وكما في رواية أخرى: (ما بين مكة وهجر، أو ما بين مكة وبصرى)، وبصرى: قرية بالشام، وكانت محل هرقل في ذلك الزمان.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما من رجل يتوضأ فيسبغ الوضوء -أي: فيتقن الوضوء ويحسنه- ثم يقول عند فراغه من وضوئه: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية).
وكلمة (الثمانية): استيعاب وشمول، بمعنى أنه لا باب للجنة بعد هذه الثمانية، وأبواب الجنة لا تقل عن هذه الثمانية.
ثم قال: [(فيدخل من أيها شاء)، وهناك أحاديث كثيرة جاءت في ذكر بيان أن أبواب الجنة ثمانية.
وقال عليه الصلاة والسلام في حديث ابن مسعود: (للجنة ثمانية أبواب).
وفي حديث عتبة بن عبد السلمي رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من مسلم يتوفى له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث)، والتقدير: ما من مسلم ومسلمة يموت لهما ثلاثة من الولد، (لم يبلغوا الحنث): أي لم يبلغوا الإثم والمحاسبة، والتكليف، يعني: ماتوا قبل أن يبلغوا الحلم، وقبل أن يجري عليهم القلم، (إلا تلقوه من أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء).
فلو أن ولدك مات في هذا السن فهو من أهل الجنة، وهذا من مسائل الإجماع عند أهل العلم: أن أبناء المسلمين إذا ماتوا قبل أن يبلغوا الحلم، وقبل أن يجري عليهم القلم -وهو سن التكليف، والمحاسبة، والجزاء، والثواب، والعقاب- فإنهم يدخلون الجنة، ولا خلاف بين أهل العلم في ذلك؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام سئل عن أبناء المسلمين الذين ماتوا قبل أن يبلغوا الحنث فقال: (هم في الجنة))، وسئل عن أطفال المشركين فقال أولاً: (الله أعلم بما كانوا عاملين)، ثم سئل بعد ذلك صلى الله عليه وسلم عن أطفال المشركين -أي الذين ماتوا صغاراً- فقال: (هم في الجنة)، واختلف أهل العلم في مصير أطفال المشركين، فمنهم من قال: يحبسون ويمتحنون، فإن نجحوا فيه واجتازوه فإنهم يدخلون الجنة، وإلا فلا، وهذا القول بعيد ولا دليل عليه، والفريق الثاني: توقف، والفريق الثالث قال: هم في النار مع آبائهم، وأرجح الأقوال: أنهم في الجنة.
قال عليه الصلاة والسلام: (ما من مسلم يتوفى له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا تلقوه -أي: يوم القيامة- يدخل من أيها شاء).
وقال عليه الصلاة والسلام في حديث عتبة بن عبد السلمي: (للجنة ثمانية أبواب، ولجهنم سبعة أبواب).
وقال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر، أو هجر ومكة).
وقال ابن المبارك: أو كما بين مكة وبصرى، وبصرى: قرية في الشام كما قلنا، وأما هجر فهي البحرين المعروفة الآن.
وعن خالد بن عمير العدوي قال: خطبنا عتبة بن غزوان فقال في خطبته: وإن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين عاماً.
فتصور أنك تمشي على عتبة الباب ما بين فكه الأيمن والأيسر أربعين عاماً، [(وليأتين عليها يوم وما منها باب إلا وهو كظيظ من الزحام) يعني: مساحة ما بين المصراعين مسيرة أربعين عاماً، ومع هذا سيكون مزدحماً جداً للداخلين، وهذه بشارة خير بإذن الله تعالى.(5/4)
ذكر اليوم الذي تفتح فيه أبواب الجنة
أما الأيام التي تفتح فيها أبواب الجنة فقد روي عن النبي عليه الصلاة والسلام بسند حسن أنه قال: (إن للجنة ثمانية أبواب، سبعة منها مغلقة، وباب منها هو باب التوبة مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها، وهو باب التائبين).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (تفتح أبواب الجنة في كل يوم اثنين وخميس) وهو حديث صحيح، وفي رواية بزيادة: (فيغفر فيها لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا)، وليس معنى ذلك أن هذين الأخوين شقيقان؛ لأن الأخوة هي أخوة الإيمان والإسلام، وهي قبل أخوة النسب.
قوله: (تفتح أبواب الجنة في كل يوم اثنين وخميس)، إلا للمشرك فإنه لا ينالها قط، وكذا من كان بينهما خصومة وشحناء فإنهما يحرمان من هذا الخير وهذا الفضل حتى يصطلحا.
وليس يعني ذلك أن الإنسان يحرص على الصلح حتى ولو كان ذلك الصراع أو الشحناء بينه -وهو من أهل السنة- وبين أهل البدع أو أهل الفجور أو غير ذلك، فقد بوب الإمام البخاري في صحيحه في قصة الثلاثة الذين خلفوا قال: باب جواز الهجر خمسين يوماً، وهي المدة التي نزل فيها توبة التائبين الثلاثة الذين تخلفوا رضي الله عنهم، فإذا كان القطع، والمنع، والهجر في الله عز وجل فإنه ممتد حتى يرجع الظالم الباغي المعتدي عن ظلمه وبغيه واعتدائه وإن طال ذلك إلى أعوام وأعوام.(5/5)
ذكر حلق أبواب الجنة
قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أنا أول من يأخذ بحلقة باب الجنة ولا فخر -يعني: أول من يدفعها- حتى تقعقع) يعني: يحدث لها صوت، كما قال: (فآخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها)، والحديث صحيح.(5/6)
ذكر حجبة الجنة وخزانها
عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أنفق زوجين من ماله ابتدرته حجبة الجنة).
قوله: (من أنفق زوجين) أي: فرسين، أو بعيرين، أو خزانتين من ماله، المهم أنه ينفق زوجين من المال، وكذلك الولد، وانظر إلى تصور الجهاد في نظر الأمة الآن، أوفي نظر كثير من الأمة الآن، فالجهاد عندهم خسارة، وتدمير، وتشريد، وتقتيل، وإراقة للدماء، ولا يرون في الجهاد أي فضل البتة، وينظرون إليه على أنه شر مستطير، فيقبلون الهوان والذل، وأن يعيشوا تحت أقدام اليهود والنصارى، ولا يقبلون أن يضحوا بأبنائهم وشبابهم في سبيل الله عز وجل.
إن المجاهد عند الله له ما ليس لأحد، ولا يفوق الشهيد عند الله أحد إلا الأنبياء والمرسلون، وأما أن نعتبر أن الجهاد في سبيل الله خسارة في العدد والأرواح وغير ذلك، فهذا تصور في قمة الباطل، والسفه والغفلة عن شرع الله عز وجل.
قوله: (ابتدرته حجبة الجنة) يعني: تصور أنك تقول لابنك: يا ابني البس لأمتك وانطلق إلى الجهاد في سبيل الله، ويا ليت لا ترجع أيضاً، فهذا شيء عجيب جداً، وقد كان السلف رضي الله عنهم يفعلون ذلك، وكانت المرأة لا أقول الرجل إذا أرسلت ولدها وأتاها آت بعد انتهاء الغزو تقول: أأتيت مبشراً ومهنئاً، أم أتيت بخبر؟ فإذا قال: ما البشرى من الخبر؟ قالت: الخبر أن تخبرنا أنه قادم، والبشرى أن تخبرنا: أنه قتل في سبيل الله، فتصور المرأة تفرق بين الخبر والبشرى، وهي لا تريد الخبر وإنما تريد البشرى! فحينئذ ينبغي للأمة أن تغير مفاهيمها وإلا فستزداد ذلاً، وهواناً، وانكساراً، وتعلو نعال اليهود على هاماتها، فلابد من التضحية، والفداء، وأنه لا سبيل قط إلى عز هذه الأمة بعد ذلها، ولا إلى رفعتها بعد خستها إلا بالجهاد في سبيل الله أبداً.
وقال عليه الصلاة والسلام: (وما من مسلمين يموت بينهما ثلاثة من أولادهما لم يبلغوا الحنث إلا غفر الله لهم)، وفي رواية: (ما من مسلم ينفق من كل مال له زوجين في سبيل الله إلا استقبلته حجبة الجنة كلهم يدعونه إلى ما عنده) أي: كلهم يقول: تعال عندي.
وعن أبي ذر رضي الله عنه مرفوعاً: (ما من مسلم ينفق من ماله زوجين في سبيل الله إلا دعته حجبة الجنة: ألا هلم، ألا هلم) أي: تعال عندي.
وقد جاء من تفسير الزوجين: إن كانوا رجالاً فرجلان، وإن كانت خيلاً ففرسان، وإذا كانت إبلاً فبعيران، حتى عد أصناف المال كلها.
وعند البخاري قال: (من أنفق زوجين من أي شيء من الأشياء)، فليحرص كل واحد منا أنه ينفق نوعين دائماً.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أنفق زوجين من ماله في سبيل الله عز وجل دعته حجبة الجنة، يقولون: أي فل، أي فل) يعني: يا فلان، فكلمة أي فل: ترخيم لكلمة يا فلان، فينادون عليه بالترخيم والتفخيم (أي فل! هلم هذا خير) يعني: تعال عندي فالذي عندي خير.
(قال أبو بكر: يا رسول الله! هذا الذي لا توى عليه) والتوى: هي الحسرة، والندامة، والخسارة.
فـ أبو بكر لما سمع هذا من النبي عليه الصلاة والسلام أن الجنة نفسها تناديه وتقول له: (تعال هذا خير، قال: والله يا رسول الله ليس على هذا ندامة)، أي: ليس على من أنفق زوجين ندامة.
فقال: (أما إني أرجو أن تدعوك حجبة الجنة كلها يا أبا بكر) يعني: إني لأرجو أن كل حجبة الجنة يدعونك فتدخل من جميع الأبواب.
وعن أبي هريرة مرفوعاً: (من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله دعي من أبواب الجنة يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، فقال أبو بكر: ما على هذا الذي يدعى من تلك الأبواب من ضرورة؟).
يعني: يا رسول الله! هل ممكن أحد يدعى من الأبواب كلها؛ لأنه صاحب صلاة، وصيام، وجهاد وغير ذلك، فهل يمكن أن يدعى من جميع الأبواب؟ (فقال النبي عليه الصلاة والسلام: نعم، وإني لأرجو أن تدعى يا أبا بكر منها جميعاً)، وهذا الحديث عند البخاري.(5/7)
رائحة الجنة
والجنة لها رائحة طيبة كأطيب ما تكون الرائحة، ويوجد أثر هذه الرائحة من مسيرة خمسمائة عام، وقيل: من مسيرة مائة عام، وقيل: أقل من ذلك، وقيل: أكثر من ذلك، والروايات كلها صحيحة، فكأن ريح الجنة يشمها من كان من أهلها على حسب عمله، وعلى حسب درجته، فمنهم من يشم رائحة الجنة على مسيرة خمسمائة عام، ومنهم من يشم رائحتها على مسيرة مائة عام، وأربعين عاماً، وغير ذلك والروايات كلها صحيحة، فإذا صحت الروايات وجب العمل بها جميعاً، وهو خير من رد بعضها، أو الحكم عليها بالشذوذ أو النكارة وغير ذلك.
والنبي عليه الصلاة والسلام قد ذكر في رواية عن المتبرجات، وعن السلطان الظالم: (أنهما لا يشمان رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا، -وفي رواية-: من مسيرة خمسمائة عام).
واحد يقول: نحن في هذا الوقت لا نشم رائحة الجنة، وما يدريك أن غيرك قد شمها منذ خمسمائة عام، وأن الله قد حرمك هذه الرائحة.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من قتل معاهداً بغير حق لم يرح رائحة الجنة)، والمعاهد هو الذي عقد عهداً بينه وبين المسلمين، يعني: الذي بينه وبين المسلمين عهد أو هدنة، أو ميثاق أو شيء من هذا، ولو أنزلنا هذا الكلام على الواقع قلنا: الدولة في مجموعها تأذن لغير المسلمين أن يدخلوا في هذه البلاد، فكوني أنا ضابط مثلاً في المطار ومخول من قبل السلطان أن أصك جواز القادم من بلاد الكفر لمدة خمسة عشر يوماً إقامة في البلد عندي، فهذا إذن وعهد، وميثاق، فلا يجوز لي أن أتعرض له بالقتل أو الضرب أو التشريد أو غير ذلك بعد أن أذنت له بالدخول، فلو تعرضت له لكان عقابي هذا الحديث (من قتل معاهداً بغير حق لم يرح رائحة الجنة، وإنه ليوجد ريحها من مسيرة أربعين عاماً).
وهذا من الزجر والوعيد الشديد، ومن المعلوم والمقطوع به شرعاً أن الأموال، والأعراض شيء واحد، فمن استحل الأموال استحل الأعراض، ومن استحل الأعراض استحل الأموال.
وقد وجه إلي وأنا في أمريكا سؤال يقول السائل: أنا أعمل في المحل الفلاني، وأسرق نسبة عظيمة جداً من المال استحلالاً.
فقلت له: لو أن امرأة صاحب المحل أتت المحل هل تستحل أنت عرضها -لأن العلماء لم يفرقوا بين العرض وبين المال- والذي يستحل هذا يستحل ذلك؟ فقال: نعم وما المانع في ذلك، قلت: الذي يستحل المال يجب عليه أن يستحل العرض؛ لأنهما متفقان، ومبرمان في عقد واحد.
فأموال الكفار، ودماء وأعراض الكفار لا تكون حلالاً إلا إذا رفعت راية الجهاد بين معسكر الإيمان والكفر، هذا في النزال العام، وفي النزال الخاص لا يجوز التعرض بالأذى في المال، والنفس للكفار المعاهدين إلا إذا بغوا ونقضوا العهد، فحينئذ إما أن ينذرهم الإمام -أي: السلطان- أن يخرجوا من البلد، أو يعتذروا عما بدر منهم، ويردوا المظالم إلى أهلها من المسلمين، وإما أن يقع النزال الخاص في داخل البلد، وأحكام أهل الذمة كثيرة جداً لكني أردت بالمناسبة أقول: إن للجنة ريحاً وهذه الريح الطيبة، الزكية، يشمها المؤمن، لكن هناك حوائل وموانع من شم هذه الريح، منها: التعرض للمعاهد بالأذى في نفسه، وماله، وعرضه كما في الحديث: (من قتل معاهداً بغير حق)، وهذا قيد واستثناء فمن قتله بحق فإنه لا تنطبق عليه العقوبة، وأما بغير حق فتنطبق عليه العقوبة، وهذا كلام الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام.
وقال عليه الصلاة والسلام: (من ادعى إلى غير أبيه لم يجد رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة مائة عام).
ومعنى: (من ادعى إلى غير أبيه) يعني: نسب نفسه إلى غير أبيه، قال تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:5]، وهذه الآية نزلت ناسخة للتبني الذي كان معروفاً في الجاهلية، والنبي عليه الصلاة والسلام قد تبنى زيد بن حارثة، أما ولده أسامة، فليس داخلاً في التبني، وإنما كان مولى للنبي عليه الصلاة والسلام، وأما زيد فكان ابن محمد عليه الصلاة والسلام بالتبني، حتى كان الناس يقولون: زيد بن محمد، حتى نزل قول الله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب:5]، يعني: انسبوهم لآبائهم ما داموا معروفين، وإن لم يكونوا معروفين: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [الأحزاب:5]، فيكون هذا أخانا في الله، وليس لقيطاً، هو مسلم موحد، فيكون أخانا في الله، وتنتهي القضية هكذا.(5/8)
الحرج المترتب على تبني اللقطاء
وبعض الناس يتمنى الولد؛ لأنه لم يخلف، فيأخذ له طفلاً من اللقطاء، ويربيه وينسبه إليه، فهذا حرام منهي عنه، وفيه حرج كبير جداً من عدة أوجه: الوجه الأول: أن هذا الولد لو كبر وبلغ فسيطلع على امرأتك، وهذا حرام؛ لأن هذه المرأة أجنبية عنه.
الأمر الثاني: أنك لو نسبته إليك لكان مشاركاً في الميراث، فلو أنك مت أو ماتت زوجتك فلابد أن يرثها، وهذا ميراث بغير حق.
والأعجب من ذلك أن رجلاً تبنى ولداً وفتاة، والولد أحب الفتاة على أعظم ما يحب الرجل المرأة، فأراد أن يتزوجها لأنه يعلم أنها ليست أخته، ويعلم القصة كلها من أنهما منسوبان إليه زوراً وبهتاناً، فطلب أن يتزوج هذه البنت، فاعترض المتبني وقال: هي أختك، لمجرد النسب، ولو بالباطل والزور، فتزوجها الولد رغماً عنه بغير ولاية ولا شهود إلا المأذون الذي عقد، ثم ذهب الرجل ورفع قضية في المحكمة، وحكمت المحكمة بالتفريق بين الرجل وامرأته، وهذا ظلم، وهذا من المفاسد العظيمة جداً المبنية على مخالفة شرع عز وجل.
قوله: (فمن ادعى إلى غير أبيه لم يجد رائحة الجنة) يعني: من نسب إلى غير أبيه وهو يعلم أن هذا ليس أباً له، أما إذا كان لا يعلم فلا حرج على من تبناه، والإسلام قد نهى عن التبني.
وكذلك المرأة تنسب نفسها للرجل، فهذا بلاء عظيم جداً، ومن الأخلاقيات الأوربية: أن تسمى فلانة فلان؛ على اسم زوجها.
وكذلك الذي يتبرأ من ولده، فلو أن رجلاً مثلاً يضرب ابنه؛ لأنه غضبان منه ومن حركاته وتصرفاته، ويقول له: أنت لست ابني ولا أعرفك، فهذا الكلام شرعاً غير منضبط، لكن هذا الكلام مما جرت به العادة، وجرى به اللسان، ولا يقصد المتكلم حقيقة الكلام، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أفلح وأبيه إن صدق)، فهو من باب جريان عادة العرب، أو ألسنة العرب بالكلام دون القصد لعقد اليمين.(5/9)
معنى قوله تعالى: (فيهما عينان نضاختان)
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه في قول الله تعالى: {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} [الرحمن:66]، قال: نضاختان بالمسك والعنبر على دور الجنة، كما تضخ السماء المطر على دور أهل الدنيا.
ومعلوم أن كل ما في الدنيا لا يتوافق مع ما في الجنة إلا في الأسماء فقط، والحقيقة مختلفة، والماهية متباينة تماماً، فلا نسبة قط بين ما في الجنة وما في الدنيا أبداً: لا في المنظر، ولا في الجمال، ولا في الحلاوة، ولا في الطعم، فكل ذلك مختلف.
{فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} [الرحمن:66] أي: تضخ المسك والعنبر على بيوت الجنة، وعلى قصور الجنة، مثل السماء لما تضخ علينا المطر في الدنيا.
وعن ابن عباس قال: نضاختان بالخير، والبركة، وبالمسك، والكافور.(5/10)
صفة أرض الجنة
عن مجاهد قال: أرض الجنة من ورق -أي: من فضة- وترابها مسك، وأصول شجرها ذهب وفضة، وأفنانها -وهي الأغصان- لؤلؤ، وزبرجد، وياقوت، والثمر تحت ذلك، فمن أكل قائماً لم يؤذه، ومن أكل جالساً لم يؤذه، ومن أكل مضطجعاً لم يؤذه، {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} [الإنسان:14]، يعني: مهدت وعبدت للآكلين، نزل الغصن إليك وأنت نائم، وأنت مضطجع، وأنت قائم، وأنت قاعد، فينزل عليك الغصن إذا اشتهيت حتى يكون بين يديك، فتأكل منه ما شئت.(5/11)
ذكر نهار الجنة ونورها وسرج أهل الجنة
الجنة ليس فيها نهار وليل وبكرة وعشياً؛ لأنه ليس فيها شمس ولا قمر، ولكن الله عز وجل لما ذكر البكرة والعشي في القرآن، وكذلك ذكرها النبي عليه الصلاة والسلام؛ إنما ذلك من باب تقريب الفكرة إلى الأذهان، أي: قدر ما يكون بين الإبكار والعشي في الدنيا، لكن في الحقيقة ليس في الجنة شمس ولا قمر، وبالتالي لا ظلمة فيها مطلقاً؛ لأن ذلك لازم عن خفاء الشمس.
فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو أن ما يقل ظفر مما في الجنة بدا لتزخرفت له ما بين خوافق السماوات والأرض) يعني: أقل من الظفر لو بدا وظهر في الجنة لظهر النور الخفاق في السماوات والأرض، قال: (ولو أن رجلاً من أهل الجنة اطلع فبدا سواره لطمس ضوءه ضوء الشمس كما تطمس الشمس ضوء النجوم).
وعن محمد بن كعب القرظي قال: (رؤي في الجنة كهيئة البرق فقيل: ما هذا؟ قال: رجل من أهل عليين تحول من غرفة إلى غرفة).
في الحديث: (هي قناديل معلقة بالعرش تضيء لأهل الجنة، لا يطفأ نورها، ولا يقصر عنها أبصارهم من النظر)، وهو حديث ضعيف.
قلنا من قبل: إن أهل الجنة لا ينامون؛ لأن النوم أخو الموت.
ذكر بكر الجنة وعشيها: عن الضحاك قال في قوله تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:62]، (ولهم رزقهم فيها): أي في الجنة {بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:62] يعني: على قدر ما كانوا يأكلون في الصباح وفي المساء.
قال: جعل الله تعالى لأهل الجنة ساعات تدور كما تدور أيام الدنيا في غير شمس، ولا قمر، ولا ليل ولانهار إلا نور الآخرة، وجعل فيها البكرة، والمقيل، والعشي؛ لأن البكرة والمقيل والعشي ألذ ما يكون للناس في الدنيا، فجعل الله تعالى لهم مثلها في الجنة وزيادة، فأراد الله تعالى أن يشهي أولياءه ويلذذهم بالرزق ليأتيهم غدوة وعشية.
وعن ابن عباس قال: ليس في الجنة بكرة ولا عشي، ولكن يؤتون بالنعيم على مقادير ذلك بالليل والنهار في الدنيا.
يعني: لو أن الإنسان ينتظر المساء حتى يأتي وقت الطعام، فإذا قدم له التذ به، وإنسان يقوم بعد صلاة الصبح يريد أن يفطر؛ فإذا قدم له الطعام والحليب وغير ذلك اشتهاه والتذ به، فكذلك أهل الجنة بغير قياس.
وعن قتادة في قوله تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:62]، قال: لهم رزقهم فيها كل ساعة.
والساعة في لغة الشرع: هي المدة من الزمان، أي: ليست ستين دقيقة.
قال: والبكرة والعشي ساعاتان من الساعات ليس ثم ليل -يعني ليس هناك ليل- وإنما هو ضوء ونور.
وعن مجاهد في نفس الآية قال: ليس فيها بكرة ولا عشي، ولكنهم يؤتون به على ما يحبون من البكرة والعشي.(5/12)
ذكر عدد درجات الجنة
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض).
ودرجات الجنة مائة درجة، وبعض أهل العلم قال: لا يعلم درجات الجنة إلا الله، وهذا القول استنباطاً من قوله عليه الصلاة والسلام: (يقال لتالي القرآن وقارئه: اقرأ وارق ورتل؛ فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها)، فقال: درجات الجنة بعدد آيات القرآن الكريم؛ لأن ظاهر الحديث يقول هكذا، وبالتالي ليست درجات الجنة معلومة، لأن آيات القرآن الكريم محل نزاع بين أهل العلم، فمنهم من يعد الآيتين آية واحدة، ومنهم من يعد الآيتين آيتين، وهذا أمر مقارب.
وهل المقصود أنه يقرأ آخر ختمة له، أم أن ذلك في حياته كلها، فإذا فرغ من القرآن بدأ القرآن مرة أخرى، فعدت له درجات، ولا تزال في مزيد وارتفاع؟ هذا محل نزاع بين أهل العلم.
فالذي يقول: درجات الجنة غير معروفة، فقوله هذا من جهة المفهوم لا المنطوق، وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول لقارئ القرآن: (اقرأ، وارتق، ورتل، فإن منزلتك عند آخر آية)، فهو فهم من النص ألا نهاية لدرجات الجنة، وأنه لا يعلمها إلا الله، وهذا هو مفهوم.
وأما قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن في الجنة مائة درجة، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض)، فهذا منطوق، والمنطوق هو ما جاء في الكتاب أو السنة، والمنطوق مقدم على المفهوم، لكنه عليه الصلاة والسلام قال: (أعدها الله للمجاهدين في سبيله)، فدل هذا القيد على أن الأصل في درجات الجنة أنها مائة درجة بغير زيادة ولا نقصان، وأنها للمجاهدين من باب التشريف، وأن لهم في كل درجة من درجات الجنة، فدرجات الجنة لا تزيد على العدد المذكور.
هذا كلام أهل العلم من أهل الأصول فيما يتعلق بالقضية المتنازع فيها، والتي يحكمها المنطوق والمفهوم، فلو تعارض المنطوق مع المفهوم قدم المنطوق واعتمدنا عليه.
وقال عليه الصلاة والسلام: (إن الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين مسيرة مائة عام)، وفي رواية قال: (كما بين السماء والأرض).(5/13)
ذكر أسنان أهل الجنة وميلادهم وقامتهم
أسنان: جمع سن وهو العمر، فالذي يدخل الجنة يكون في سن ثلاث وثلاثين سنة، فمن مات قبل سن ثلاث وثلاثين -كمن كان طفلاً صغيراً- فإنه سيدخل الجنة وعمره ثلاث وثلاثون سنة، وهؤلاء الأطفال حول أبويهم.
وما المانع أن الطفل يأخذ بيد أبويه وعمره ثلاث وثلاثون سنة إذاً، وسيكون أبوه أيضاً في نفس السن، فإذا كان آدم عليه السلام سيكون في هذا السن؛ فكذلك غيره، والسقط يدخل الجنة على سن ثلاث وثلاثين سنة.
والسقط هو ما نفخ فيه الروح.
وهذه المسألة محل نزاع، هل نفخ الروح بعد أربعة أشهر أم بعد أربعين يوماً؟ والذي يترجح لدي من أقوال أهل العلم كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك)، وكما في رواية صحيحة عند مسلم في الصحيح (إن أحدكم يخلق في بطن أمه نطفة، ثم يكون ذلك مثل ذلك علقة، ثم يكون ذلك مثل ذلك مضغة، ثم يرسل إليه ملك) إلى آخر الحديث والذي يترجح لدي أن الروح تنفخ بعد الأربعين يوماً لا بعد مائة وعشرين يوماً.
والسقط لا يصلى عليه، والصلاة عليه مستحبة وليست واجبة، ولا يوجد فيها خلاف.
والله تعالى قد أعطى القدرة لأهل الجنة أن يعرفوا أملاكهم، وقصورهم، وزوجاتهم، فيدخلون عليها مباشرة، ويعرفون أملاكهم بالجنة أكثر من معرفتهم بيوتهم في الدنيا، دون أن يعتدوا على أملاك أحد، أو أن يعتدي عليهم أحد.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يدخل أهل الجنة الجنة جرداً، مرداً، بيضاً، جعاداً، مكحلين، أبناء ثلاث وثلاثين، على خلق آدم طول ستين ذراعاً، في عرض سبعة أذرع).
ومعنى (جرداً) أي: لا شعر في أبدانهم، (مرداً): أي لا شعر في لحاهم، والغلام الأمرد: هو الذي لا شعر في لحيته، والأجرد: الذي لا شعر في بدنه كله، فيدخل أهل الجنة الجنة جرداً، لا شعر في أبدانهم، ولا شعر في لحاهم.
قال: (بيضاً) وهو احتراز من السواد، (جعاداً) أي: أصحاب الشعر المجعد، وفيه إشارة إلى أن معظم أهل الجنة من العرب.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يدخل أهل الجنة الجنة جرداً، مرداً، بيضاً، جعاداً) يعني: شعرهم مجعد، وهذه صفة مدح، خلافاً للعجم الذين شعرهم سايح وهو ليس لائقاً للرجال، وأخيراً لما اكتشفوا أن الجعودة أفضل من النعومة في هذا الوقت ذهبوا إلى الكوافير من أجل تجعيد شعورهم.
قال: (أبناء ثلاث وثلاثين)، يعني: يدخلون الجنة جرداً، مرداً، بيضاً، جعاداً، أبناء ثلاث وثلاثين، وهذا نص قاطع أنه لا يوجد أحد سيدخل الجنة إلا وعمره ثلاث وثلاثون سنة.
(على خلق آدم) أي: على صورة آدم أنه في السماء (ستين ذراعاً، في عرض سبعة أذرع)، والحديث صحيح.
وفي رواية: (يبعث الناس يوم القيامة في صورة آدم جرداً، مرداً، مكحلين، أبناء ثلاث وثلاثين، ثم يؤتى بهم بشجرة بالجنة -يعني: يذهبون إلى شجرة في الجنة- فيكسون منها، لا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم).
وعن المقداد بن معدي كرب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحشر الناس يوم القيامة ما بين السقط إلى الشيخ الفاني) يعني: ابتداء من السقط حتى الشيخ الهرم الفاني: أي: الكبير الذي أفنى عمره وطال، فيحشرون جميعاً وهم: (أبناء ثلاث وثلاثين سنة).
قال: (المؤمنون منهم في خلق آدم عليه السلام، وقلب أيوب، وحسن يوسف عليه السلام، مرد مكحلون، ذوي أفانين)، يعني: شعورهم كاللمة، أو الجمة قد بلغت أكتافهم.(5/14)
صفة رجال أهل الجنة
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: والذي أنزل الكتاب على محمد، إن أهل الجنة ليزدادون جمالاً وحسناً، كما يزدادون في الدنيا قباحة وهرماً.
أي: وكبراً في السن، فهم يزدادون في الجنة جمالاً وحسناً، فالمرء يزداد جمالاً حتى تخبره امرأته من الحور العين في حالة رؤية المولى عز وجل، حينما يقتبسون من نوره سبحانه وتعالى.
وعن داود بن عامر بن سعد -وهو ابن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه- قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لو أن رجلاً من أهل الجنة اطلع فبدا سواره لطمس ضوءه ضوء الشمس كما تطمس الشمس ضوء النجوم).
وعن أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعاً قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (مسورون بالذهب والفضة، مكللون بالدر) أي: عليهم أكاليل من در، والإكليل: هو ما احتف بالشيء من جانبه، قال: (عليهم أكاليل من در وياقوت متواصلة، عليهم تاج كتاج الملوك، شباب جرد، مكحلون)، فهذه صفات رجال أهل الجنة.(5/15)
اشتهاء الولد في الجنة
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل من أهل الجنة ليولد له كما يشتهي، فيكون حمله، وفصاله، وشبابه في ساعة واحدة)، وهذا شيء عجيب.
قوله: (كما يشتهي): أي: كما يحلم، فإذا اشتهى الولد أتاه الولد في لحظة واحدة، وفي برهة من الزمان، فيكون حمله، وفصاله، وكل هذا في لحظة واحدة، لكن القضية أنه لا يشتهي ذلك أبداً، لأن هذا أمر يتنافى مع ملذات ونعيم الجنة.
وابن القيم يقول: كيف يشتهي الرجل في الجنة الولد؟! وإذا اشتهاه أتاه في ساعة واحدة، وبعضهم قال: إن إسناد الحديث صحيح وأخشى أن يكون منكراً.
يقصد أن المتن فيه نكارة؛ لأن هذا شيء غير معلوم عند أهل العلم، فرد عليه أكثر من واحد، ومنهم ابن القيم فقال: الحديث صحيح، لكن الأمر محمول على أنه لو اشتهى مع أنه لن يشتهي.
كما قال عليه الصلاة والسلام: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها؛ من عظم حقه عليها)، لكنه لم يأمر بذلك، ولو كان له أن يأمر لأمر بذلك، لكنه لم يأمر، وليس هذا له عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله منعه أن يأمرنا بذلك.
وقال عليه الصلاة والسلام: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء، أو عند كل صلاة)، فهو صلى الله عليه وسلم لم يأمر بذلك إلا أمر استحباب، لا وجوب، وأنتم تعلمون أن استعمال السواك ليس واجباً وإنما هو سنة ومستحب، وغير ذلك من الروايات.(5/16)
ذكر ما يستقبلون به من الكرامات عند مصيرهم إلى الجنة ودخولها
ورد حديث عن علي بن أبي طالب، وهو حديث موقوف في حكم المرفوع؛ لأنه من أمور الغيب التي لا تعلم إلا من الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام، قال: (يساق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً -أي: أفواجاً ودفعات- حتى إذا أتوا إلى باب من أبوابها وجدوا عنده شجرة يخرج من تحت ساقها عينان تجريان، فعمدوا إلى إحداهما -أي: ذهبوا إلى أحدهما- كأنما أمروا فشربوا منها، فأذهبت ما في بطونهم من قذر، وأذى أو بأس، ثم عمدوا إلى الأخرى) أي: ذهبوا إلى العين الثانية: (فتطهروا منها، فجرت عليهم أبشارهم بنضرة النعيم، فلم يغيروا ولم تغير أبشارهم بعدها أبداً، ولم تشعث أشعارهم، كأنما دهنوا بالدهان).
يعني: تطيبوا بالعطر (ثم انتهوا إلى خزنة الجنة) أي: ذهبوا إلى خزنة الجنة، (فقالوا: سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين، ثم تلقاهم أو تلقتهم الولدان يطيفون بهم كما يطيف ولدان أهل الدنيا بالحميم -أي: بالأقارب الأحماء- يقدم من غيبته يقولون له: أبشر بما أعد الله لك من الكرامة، ثم ينطلق غلام من بين أولئك الولدان إلى بعض أزواجه من الحور العين) يعني: الولد الصغير يذهب سريعاً إلى الحور العين (يقول لهن: قد جاء فلان باسمه الذي كان يدعى به في الدنيا).
ومعلوم أن المرء يدعى يوم القيامة باسم أبيه؛ والعوام يظنون أن الواحد ينادى عليه يوم القيامة باسم أمه، وهذا غلط، وهذه مسألة اعتقادية، فالمرء ينادى باسمه واسم أبيه، حتى وإن نسب إلى غير أبيه، يعني: وإن كان ولد زنا، فإنه يدعى باسمه واسم أبيه الحقيقي صاحب الماء.
فالغلام يذهب إلى زوجته من الحور العين ويقول لها: زوجك أتى، قال: (فيقول: قد جاء فلان باسمه الذي كان يدعى به في الدنيا، فيقولون -أي: الحور العين-: أنت رأيته؟ فيقول: أنا رأيته، وهو ذا يأتي، فيستخف إحداهن الفرح) يعني: الفرح يأخذ الواحدة منهن أخذاً لا تستطيع أن تصبر، تريد أن ترى زوجها وحبيبها، (حتى تقوم على أسكفة الباب) يعني: حتى تقف على عتبة القصر، (فإذا انتهى إلى منزله نظر إلى أساس بنيانه) أي: إذا ذهب إلى بيته في الجنة نظر إلى الأساس الذي بني منه هذا البيت، قال: (فإذا جندل اللؤلؤ، فوقه مرج أخضر، وأصفر، وأحمر من كل لون، ثم رفع رأسه إلى سقفه فإذا مثل البرق، فلولا أن الله تعالى قدره لألم أن يذهب بصره) يعني: لولا أن ربنا كاتب له البقاء لذهب بصره من فرط فرحته، وذهول ما ينظر إليه.
(فإذا نظر إلى أساس بنيانه فإذا جندل اللؤلؤ فوقه مرج أخضر، وأصفر، وأحمر من كل لون، ثم رفع رأسه إلى سقفه فإذا مثل البرق، فلولا أن الله تعالى قدره لألم أن يذهب بصره، ثم طأطأ رأسه فنظر إلى أزواجه، وأكواب موضوعة، ونمارق مصفوفة، وزرابي مبثوثة، فنظر إلى تلك النعمة، ثم اتكأ فقال: الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، ثم ينادي مناد: تحيون فلا تموتون أبداً، وتقيمون فلا تظعنون أبداً، وتصحون فلا تمرضون) هكذا الحديث في ذكر الكرامة التي يقابل بها أهل الجنة.(5/17)
رضوان الله على أهل الجنة
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله تعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا، وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟ فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك، أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً)، فأعظم نعيم الجنة بعد رؤية المولى عز وجل هو الرضوان الذي يحل عليهم.
(إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله تعالى: هل تشتهون شيئاً فأزيدكموه؟ قالوا: يا ربنا وهل بقي شيء إلا وقد نلناه؟ فيقول: نعم؛ رضائي، فلا أسخط عليكم أبداً).
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (يقول الله تعالى لأهل الجنة: سلوني، فيقولون: نسألك الرضا، فيقول: رضاي أحلكم داري، وأنالكم كرامتي، ثم يقول: سلوني، فيقولون بأجمعهم: نسألك الرضا، فيشهد لهم على الرضا، ثم يقول: سلوني، فيسألونه حتى تنتهي عند كل عبد منيته، ثم يعقبها عليهم: ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).
أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(5/18)
شرح صحيح مسلم - كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - في الجنة شجرة يسير الراكب فيها مائة عام
الجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وقد جاءت الآيات والأحاديث بذكر ما في الجنة من النعيم المقيم، والخيرات الحسان، ترغيباً للمؤمنين في طلبها، ودفعاً لهم إلى التشمير لها، والفوز بدخولها والمقام بها، فهي سلعة الله الغالية.(6/1)
الجنة وصفة نعيمها وأهلها
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: (كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها).(6/2)
شرح حديث: (حفت الجنة بالمكاره)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب -وهو المعروف المشهور بـ القعنبي نسبة إلى جده- حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت وحميد - وهو ثابت بن أسلم البناني البصري سيد من سادات التابعين، وحميد هو ابن أبي حميد الطويل مشهور بذلك- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره)].
وفي رواية: (حجبت)، فـ: البخاري روى هذا الحديث بروايتين: الرواية الأولى: (حفت)، وقد وافقه فيها مسلم، ثم انفرد البخاري برواية أخرى وهي: (حجبت)، وكلاهما بمعنى.
قال: [(حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات)].
قال الإمام النووي عليه رحمة الله: وهذا من بديع الكلام وفصيحه التي أوتيها صلى الله عليه وسلم من التمثيل الحسن، أي: أنه يمثل الشيء بالمثال الحسن الذي يقرب المعنى والمفهوم من الأذهان، ومعنى هذا الحديث: لا يوصل إلى الجنة إلا بارتكاب المكاره، ولا يوصل إلى النار إلا بارتكاب الشهوات، فبين أن الجنة لا يصل إليها من يصل إلا بارتكاب المكاره، ولا شك أن هذه المكاره في باب العبادات والطاعات، والجنة والنار محجوبتان بالمكاره والشهوات، فمن هتك الحجاب وصل إلى المحجوب، فمن هتك حجاب المكاره في العبادات والطاعات وصل إلى الجنة، ومن هتك حجاب المحارم وصل إلى النار.
فأما المكاره فيدخل فيها الاجتهاد في العبادات، والمواظبة عليها، والصبر على مشاقها، وكظم الغيظ، والعفو، والحلم، والصدقة، والإحسان إلى المسيء، والصبر عن الشهوات ونحو ذلك، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (وإسباغ الوضوء على المكاره)، فمن المكاره الوضوء بالماء البارد في اليوم البارد، وخاصة لو خرجت من تحت لحافك في صلاة الفجر فهذا شيء النفس تأباه وترفضه؛ لأن النفس بطبيعتها تميل إلى الراحة، وإلى ما يحلو لها، وإلى ما تشتهيه، ففي هذه الليالي الباردة لا شك أن النفس تركن إلى الدفء وإلى الغطاء، فكونك تلجمها وتكرهها على أن تقوم فتتوضأ ثم تقف لله عز وجل فتصلي وتقرأ القرآن وغير ذلك، وتفوت على نفسك ساعات طويلة من النوم والراحة، فلا شك أن هذا أمر فيه تأديب وتربية للنفس، وقد سميت هذه الأمور بالمكاره لأنك تكره نفسك على طاعة الله عز وجل، وتكرهها كذلك على اجتناب محارم الله عز وجل.
فالستار الذي بينك وبين الجنة هو مكاره الطاعات والعبادات، فمن هتك هذا الستر وتغلب على نفسه وصل إلى الجنة، والنار محجوبة عنك بستار المحارم والشهوات المحرمة، فإذا ما هتكت هذا الستر دخلت النار، وإذا ما أقمته، وابتعدت عنه، وانتهيت عنه، فلا شك أنك ستنجو من النار بإذن الله تعالى، فهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات).
أما الشهوات التي حفت بها النار، فالظاهر أنها شهوات محرمة كالخمر، والزنا، والنظر إلى الأجنبية بشهوة، والغيبة، والنميمة، واستعمال الملاهي، والمعازف، والموسيقى، وسائر المحرمات، كل هذا يمثل ستاراً قوياً يؤدي بك إلى النار أو ينجيك من النار، فإذا هتكت هذا الستر التي هي الشهوات المحرمة دخلت النار وإلا فلا.
وأما الشهوات المباحة فلا تدخل في هذا؛ فشهوة النكاح شهوة مباحة وهي نفس الشهوة عند من اشتهى الزنا، لكنه إن أطلق العنان لنفسه بالزنا دخل النار، وإن أطلقت العنان لنفسك بالشهوة المباحة الحلال فلا حرج عليك في ذلك، وإن كان هناك كراهة في الإسراف والغلو في المباحات حتى لا تؤدي بك إلى الحرام، فيكره الإكثار منها مخافة أن تجر إلى المحرم، أو تقسي القلب أو تشغل عن الطاعات، أو تحوج صاحبها إلى الاعتناء بتحصيل الدنيا للترف فيها وغير ذلك.
فلو أن شخصاً كل همه أن يحصل الدنيا، ومع ذلك هو يجتنب المحرمات، وربما يبتعد عن المكروهات كذلك، لكنه مشغسول بتحصيل المباحات، والتحسينات، والكماليات، فلا شك أن هذا كله يؤدي به إلى ضعف الديانة في قلبه، وبالتالي ينصرف همه وتنصرف همته إلى تحصيل الدنيا، وأنتم تعلمون أن النبي عليه الصلاة والسلام ما جاء ليحصل الدنيا، ولم يأمر بها، وإنما لتحصيل الآخرة، والله تعالى يقول: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64]، أي: لهي الحياة الحقيقية لو كانوا يعلمون.(6/3)
شرح حديث: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت)
قال: [وحدثني زهير بن حرب -وهو أبو خيثمة النسائي نزيل بغداد- قال: حدثنا شبابة -وشبابة هو ابن سوار المدائني، أصله من خراسان لكنه نزل مدينة المدائن الفارسية التي هي الآن معروفة بهذا الاسم في إيران- حدثني ورقاء -وهو ابن عمر اليشكري أبو بشر الكوفي نزيل المدائن- عن أبي الزناد -وهو عبد الله بن ذكوان المدني القرشي أبو عبد الرحمن - عن الأعرج -وهو عبد الرحمن بن هرمز المدني - عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل الحديث السابق.
حدثنا سعيد بن عمرو الأشعثي، وزهير بن حرب قال زهير: حدثنا، وقال سعيد: أخبرنا].
ولا يزال أهل العلم يفرقون بين حدثنا وأخبرنا؛ لأن حدثنا لا تستخدم إلا في السماع من لفظ الشيخ، أما أخبرنا فتستخدم في ذلك وتستخدم في الإجازة، فلما كان الفرق بين هذا وذاك عند المحدثين ميز الإمام مسلم بين هذا وذاك.
قال: [أما زهير فقال: حدثنا، وأما سعيد فقال: أخبرنا سفيان عن أبي الزناد -وسفيان عن أبي الزناد هو سفيان بن عيينة - عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)].
قوله: (أعددت لعبادي الصالحين): هذا وصف للعباد بأنهم صالحون، وأنهم لا يدخلون الجنة إلا إذا كانوا على هذه الصفة.
قوله: (ما لا عين رأت): نفى الله عز وجل في هذا الكلام أن تكون عين في الدنيا رأت نعيماً يشابه أو يماثل نعيم الجنة، فمهما وقعت عينك على نعيم الدنيا فالجنة أعظم من ذلك.
قوله: (ولا أذن سمعت): لأن المرء ربما يسمع عن نعيم، أو يسمع بشيء لا يتصوره، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ليس الخبر كالمعاينة) أو: (ليس المخبر كالمعاين)، فبلا شك أن الإنسان يسمع أحياناً أخباراً لا يصدقها؛ لأنها في سمعه أو في بصره أمور مستحيلة، بعيدة المنال، فهو ربما يبادر إلى تكذيب الخبر لأن الخبر أكبر من تصوره، فما بالكم لو دخل الجنة ورأى فيها أدنى النعيم الذي هو أعظم من كل نعيم الدنيا؟ قال: [(أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، مصداق ذلك في كتاب الله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17])]، وفي بعض تفاسير المحدثين من الصحابة والتابعين: جزاءً بما كانوا يصومون؛ لأن الصوم عبادة خفية بين العبد وربه، فقابلهم الله تعالى بجنس عملهم وهو الإخلاص في الصوم وكافأهم بمزيد عطائه في الجنة بما لا يمكن أن يخطر لهم على بال، فقال: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17]، أي: مما تقر به أعينهم حين النظر إليه، {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] أي: جزاء بما كانوا يخلصون لله تعالى في العبادة.
قال: [وحدثني هارون بن سعيد الأيلي، حدثنا ابن وهب -وهو عبد الله بن وهب المصري - حدثني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ذخراً)].
(ذخراً) أي: ذخراً لهم جزاء ما كانوا يعملون في الدنيا من الأعمال الصالحة؛ لأنه قال: (أعددت لعبادي الصالحين)، إذاً: هم كانوا يعملون الصالحات، ولعل في هذا إشارة إلى مراتب الناس عند الله عز وجل يوم القيامة، فالصالحون أعد الله لهم هذا النعيم الذي لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على قلب أحد أبداً، وهذا جزاء صلاحهم، وهل هناك قسم من الناس في الجنة لا يرى هذا النعيم الخاص بهؤلاء الصالحين؟ ربما يكون ذلك، وهؤلاء هم الذين عفا الله عنهم، وهم أصحاب الكبائر والصغائر الذين دخلوا في رحمة الله وفي مشيئة الله عز وجل، فربما ينالهم من الخير والمرتبة في الجنة أقل من مرتبة هؤلاء الصالحين، وبالتالي لا يتنعمون بهذا النعيم العظيم في الجنة، بل يتنعمون بنعيم هو دون ذلك في المرتبة، وأنتم تعلمون أن الجنة مراتب ومنازل، كما أن النار -أعاذنا الله وإياكم منها- دركات سفلى.
إذاً: قوله: (ذخراً) أي: ذخراً لهم على ما قدموا من أعمال صالحة.
قال: [(بل(6/4)
باب إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها
(الباب الأول: إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها).
إن في الجنة شجرة: أي واحدة، يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها: أي لا ينتهي منها.
قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ليث، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه - أبي سعيد المقبري - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة)].
تصور لو أن شجرة في الدنيا يسير الراكب الجواد المسرع المضمر فيها لمدة ربع ساعة، لابد أن هذه الشجرة يعبدها الناس من دون الله عز وجل، وتأتي لها الوفود من شرق الأرض وغربها، للنظر إليها والتبرك بها، وعدوها من المعجزات، وهو يسير في ظلها ربع ساعة فقط، فما بالك أن تسير في ظل شجرة مائة عام وأنت راكب جواد مسرع قوي متين، ثم لا تقطعها بعد ذلك ولا تفرغ من المشي في ظلها.
قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا المغيرة - وهو ابن عبد الرحمن الحزامي - عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله وزاد: (لا يقطعها).
حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي -وهو المعروف ابن راهويه - أخبرنا المخزومي -وهو المغيرة بن سلمة أبو هشام البصري - حدثنا وهيب -وهو وهيب بن خالد بن عجلان الباهلي مولاهم البصري -عن أبي حازم، عن سهل بن سعد - أبو حازم هو سلمة بن دينار - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها)، قال أبو حازم -أي: سلمة -: فحدثت به النعمان بن أبي عياش الزرقي فقال: حدثني أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام ما يقطعها)].
وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه زيادة على ما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو بيان أن هذا السير للراكب الجواد المضمر السريع، والتضمير كما قال أصحاب اللغة، وأصحاب غريب الحديث: هو أن تأتي بفرس وتعلفها علفاً كثيراً حتى تأكل ويظهر لحمها وتسمن حتى تصير عظيمة، منتفخة من فرط سمنها، ثم لا تعلف بعد ذلك إلا قوتاً، ومعنى قوتاً: على قدر حاجتها، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً)، أي: على مقدار طعامهم وشرابهم في كل يوم بغير زيادة، وفيه بيان لما كان عليه النبي من زهد هو وأهل بيته عليه الصلاة والسلام.
فالإنسان يضع أمام الدابة أو الفرس طعاماً عظيماً جداً فيلتهمه ويأكله بشراهة حتى يسمن، ثم بعد ذلك يمنع عنه الطعام ولا يقدم له إلا شيئاً يسيراً، بحيث إنه لا يشبع كما كان يشبع من قبل حتى يترهل لحمه ثم ينزل ذلك كله عرقاً، إذا منعت عنه الطعام نزل ذلك السمن والدهون بعد ذلك عرقاً، خاصة لو أنك جللت هذا الفرس ووضعت عليه الأحمال التي تجعل بدنه يزداد حرارة فيصفو ما في بدنه من دهن ويشتد لحمه ويكون قوياً، وهذه صورة من صور دواب العرب، والعرب يعلمون التضمير ويعرفونه، فهو يقول: إن الراكب لهذا الجواد المضمر السريع يمشي في ظل هذه الشجرة مائة عام وهو مسرع يعدو ولا يتوقف مائة عام ومع هذا لا يقطعها.
ثم يقول العلماء: المراد بظلها كنفها وذراها، والإمام النووي رحمه الله مال مع من مال إلى أن الظل هنا هو الكنف، ولم يفسر الظل على ظاهره، فهو لم يتوقف عند ظاهر النص، وإنما اضطر إلى التأويل، قال: لو قلنا بالظل فيلزمنا أن نقول بالشمس، ومعلوم أن الجنة: {لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا} [الإنسان:13]، فإذا قلنا أن الراكب المسرع يسير في ظل الشجرة فيلزم من ذلك وجود شمس أو كهرباء، ولا يوجد في الجنة لا شمس ولا كهرباء؛ لأنها منيرة بنور وجه الله العظيم، فحينئذ اضطر أهل العلم أن يقولوا: أن ظل الشجرة ليس على ظاهره، وإنما المقصود بالظل الكنف والذرى، أي: أنه يمشي في ذراها وفي كنفها أو تحتها وتحت أغصانها، هذا هو المقصود بالظل وليس الظل على حقيقته، وهذا التأويل سائغ ومقبول، وليس كل تأويل مذموم ومردود، والله عز وجل يقول: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ} [النحل:98]، و (قرأ) فعل ماض، وظاهر النص أن الاستعاذة في آخر القراءة، لكن التأويل السائغ: إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ بالله، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا دخل أحدكم الكنيف فليقل: باسم الله)، وفي رواية: ((6/5)
باب إحلال الرضوان على أهل الجنة
(باب إحلال الرضوان -أي: إنزاله على أهل الجنة- فلا يسخط عليهم أبداً).
قال: [حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن سهم، حدثنا عبد الله بن المبارك -إمام خرسان بل هو إمام الدنيا في زمانه- أخبرنا مالك بن أنس -الإمام الفقيه صاحب المذهب- وحدثني هارون بن سعيد الأيلي واللفظ له -أي: ليس هذا لفظ ابن سهم وإنما هو لفظ الأيلي - حدثنا عبد الله بن وهب، حدثني مالك].
إذاً عبد الله بن وهب، وعبد الله بن مبارك كلاهما يروي هذا الحديث عن مالك بن أنس.
[عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يقول)].
إذاً: الله تعالى يتكلم متى شاء، وكيف شاء، بأي كلام شاء، ولفظ (يقول) فعل مضارع يفيد الاستمرار، فكلام الله تعالى لا ينفد ولا ينتهي.
[(إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك)].
أي: طاعة لك واستجابة بعد استجابة، ونحن بين يديك تأمرنا بما شئت.
[(والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟ فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب، وأي شيء أفضل من ذلك؟)].
أي: مما أعطيتنا مما لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على قلب بشر، أي شيء بعد ذلك تميل إليه نفوسنا وتتمنى إلى النظر إليه أعيننا.
[(فيقول الله عز وجل: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً)].
ولا شك أن هذا من أعظم النعيم في الجنة وهو إحلال الرضوان؛ لأنه رضوان لا سخط بعده أبداً، (أحل عليكم رضواني) أي: رضائي عنكم فلا أسخط، ولا أبغض، ولا أكره أحداً منكم بعده أبداً.(6/6)
باب ترائي أهل الجنة أهل الغرف
قال رحمه الله تعالى: [باب ترائي أهل الجنة أهل الغرف].
يعني: من كانوا في ساحة الجنة ينظرون إلى أصحاب الغرف العليا ويرونهم، ومعلوم أن في الجنة غرفاً يرى داخلها كما يرى خارجها.
وقوله: (باب ترائي) أي: ثبوت الرؤية بين عموم أهل الجنة وبين أصحاب الغرف كما يرى الكوكب في السماء، يعني: كما أنك تنظر هكذا إلى السماء فترى الكوكب الدري المضيء اللامع في وسط السماء، فكذلك وأنت تسير في الجنة لو نظرت فوقك لرأيت أصحاب الغرف تماماً كما لو أنك نظرت الآن إلى السماء فرأيت القمر أو البدر، أو النجم، فكذلك ترى وتتيقن أنك قد رأيته، وهذا شيء عجيب جداً لا يمكن أن يصدقه أحد؛ لأن المرء إذا سار في الشارع الآن ونظر في أول بلكونة ربما لا يتأكد ممن نظر إليه واختلط عليه نظره، أمحمد هذا الذي في البلكونة أم أحمد أم إبراهيم أم سيد أم زيد أم عزيز؟ ولكن هذا الاختلاط وهذا الشك والريب لا يخطر لك قط على بال في الجنة، فإنك إذا نظرت إلى أصحاب الغرف من فوق عرفتهم كما تعرف أن هذا هو القمر، لا تشك في أنه القمر وأن بجوار القمر نجماً، لا تشك في أنه نجم ولا يمكن أن يكون النجم قمراً في يوم من الأيام، هكذا يرى أصحاب الجنة أصحاب الغرف.
قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا يعقوب وهو ابن عبد الرحمن القاري عن أبي حازم، عن سهل بن سعد؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أهل الجنة ليتراءون الغرفة في الجنة كما تراءون الكوكب في السماء) -وهذا تشبيه للرؤية بالرؤية- قال: -أي أبو حازم - فحدثت بذلك النعمان بن أبي عياش فقال: سمعت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: (كما تراءون الكوكب الدري في الأفق الشرقي أو الغربي)].
أي: في الناحية الشرقية أو الغربية، والدري هو مسمى بذلك لشدة بياضه ولمعانه، والدر معروف أنه أرفع وأثمن الجواهر، وكذلك الكوكب الذي يظهر في الأفق الشرقي أو الغربي.
قال: [وحدثناه إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا المخزومي -وهو المغيرة بن سلمة كما اتفقنا- حدثنا وهيب -وهو ابن خالد بن عجلان البصري كما اتفقنا- عن أبي حازم بالإسنادين جميعاً نحو حديث يعقوب] أي: ابن عبد الرحمن القاري.
قال: [حدثني عبد الله بن جعفر بن يحيى بن خالد، حدثنا معن، حدثنا مالك].
ومعن هو معن بن عيسى، أثبت رواة البصرة عن مالك، وأثبت تلاميذه معن بن عيسى الأشجاعي أبو يحيى المدني القزاز.
قال: [وحدثنا هارون بن سعيد الأيلي -واللفظ له- حدثنا عبد الله بن وهب، أخبرني مالك بن أنس، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم -كأن هؤلاء في صحن الجنة ينظرون إلى أصحاب الغرف من فوقهم- كما تتراءون الكوكب الدري الغابر)].
أي: الذاهب الماشي الذي تدلى إلى الغروب، أي: الذي أوشك أن ينزل إلى جهة الغرب، وفي الرواية الأولى: (في الأفق الشرقي أو الغربي)، فإما أن يكون صاعداً من الشرق أو نازلاً إلى الغرب، فأنتم ترونهم على هذه الشاكلة أو على هذا النحو.
قال: [(كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب)].
وأصح الرواية: (في الأفق)، وليس: (من الأفق) وهي رواية البخاري.
قال: [(لتفاضل ما بينهم)].
يعني: يريد أن يثبت أن أهل الجنة جميعاً لا يكونون في منزلة واحدة بل في منازل متعددة، فإذا كان الله تعالى قد أعد للشهداء مائة درجة، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فقد أعد الله تعالى لهم من الدرجات في الجنة مائة درجة؛ لأن الشهداء ليسوا على منزلة واحدة، فهذا صالح وشهيد، وهذا عاصٍ وشهيد، بمعنى: أنه هذا يفعل المعاصي ولكنه مات في القتال رفعاً لراية التوحيد فهو شهيد؛ لكنه لا يستوي مع من كانت حياته قبل الشهادة كلها صلاحاً وطاعة، فهذا في درجة وذاك في درجة أخرى، وقس على ذلك التفاضل بين الناس، وهذا الحديث يثبت أن الناس في الإيمان والإسلام متفاوتون.
قال: [(قالوا: يا رسول الله! تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: بلى والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين)].
معلوم أنه لا أحد يدخل الجنة إلا إذا آمن بالله وصدق المرسلين، فكل من يدخل الجنة لابد أنه قد آمن بالله وصدق المرسلين، لكن الناس في التصديق وفي الإيمان متفاوتون، فبعض من يدخل الجنة ويكون له فيها من حظ تلك الغرف م(6/7)
باب فيمن يود رؤية النبي عليه الصلاة والسلام بأهله وماله
(باب فيمن يود رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بأهله وماله).
يعني: الإنسان يتمنى أن يرى النبي عليه الصلاة والسلام ولو كان ثمن ذلك أن يفقد أهله وماله، وهذه منزلة عظيمة جداً كلنا يدعيها، ومعظمنا كاذب فيها، كلنا يقول هذا بلسانه، لكن عند العمل والمحك كل منا لن يقدم ماله وأهله على رؤية النبي عليه الصلاة والسلام بل على رؤية الله عز وجل يوم القيامة، أكثر ما يزعم الناس زعماً وحقيقة ذلك لا تظهر إلا عند المحك، النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث سفيان بن عبد الله لما سأله: (قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك، قال: قل آمنت بالله ثم استقم)، ومعظم الأمة اليوم يقولون: آمنا بالله، وقلوبنا عامرة بالإيمان بالله، وبالإسلام والتوحيد، لكنهم عند العمل ترى عجباً، أعمالاً تخالف الأقوال، ولكنها توافق حقيقة ما في القلب؛ لأن القلب لو امتلأ بوازع الإيمان لنهاك هذا الوازع عن اقتراف الكبائر بل والصغائر، لكن المرء سرعان ما يبادر كذباً بذكر محبة الله تعالى ومحبة رسوله، وتقديم محاب الله ومحاب رسوله على محابه ولكنه حين المحك تظهر الحقيقة.
والمؤمن لا يقدم على الله ورسوله وشرعه أحداً مهما كان، وأعظم الناس حقاً عليك الوالدان، ومع هذا نهانا الشرع أن نطيعهما فيما حرمه الله عز وجل، وناهيك بعد الوالدين عن كل إنسان بعد ذلك أنت صاحب حق عليه، فالوالدان لهم حق عليك وليس لأحد من الناس بعد ذلك له حق عليك، بل أنت حقك على الناس من زوجة وولد، فالكل مطلوب منه أن يطيعك، وأنت مطلوب أن تطيع الوالدين في غير معصية الله عز وجل، قال عليه الصلاة والسلام (لا طاعة إلا في المعروف)، وفي رواية: (لا طاعة -أي: للوالدين- في معصية الله عز وجل).
قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من أشد أمتي لي حباً ناس يكونون بعدي يود أحدهم لو رآني بأهله وماله)].
قوله: (من أشد أمتي لي حباً) ولم يقل: أشد أمتي، وإنما ذكر (من) التي تفيد التبعيض، يعني: فئة من المسلمين من أمتي يكونون من بعدي أشد حباً لي ويتمنون أنهم لو رأوني وأن يكون ثمن ذلك ومقابله فقدان الأهل والولد، أو فقدان الأهل والمال، والأهل يعني الزوجة والأولاد.(6/8)
باب في سوق الجنة وما ينالون فيها من النعيم والجمال
(باب في سوق الجنة وما ينالون فيها من النعيم والجمال).
السوق: هو مجمع الناس، حتى لا تقيسه أنت بسوق الدنيا سوق الخضار أو غيره، فمعنى كلمة السوق هو الذي يساق الناس إليه، أو يسوقون أنفسهم إلى هذا المكان فيجتمعون فيه.
قال: [حدثنا أبو عثمان -وهو سعيد بن عبد الجبار البصري - حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت -وهو ابن أسلم البناني - عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة لسوقاً)].
يعني: في الجنة سوق كما أن في الدنيا سوقاً، وهذا تشبيه للوجود بالوجود، كما أن الدنيا فيها أسواق موجودة فكذلك الجنة فيها سوق موجود، ولا يلزم من ذلك المماثلة والمشابهة من كل وجه.
قال: [(إن في الجنة لسوقاً يأتونها كل جمعة)].
ومعنى: يأتونها كل جمعة أي: في مقدار كل جمعة يأتونها الناس ويجتمعون فيها، فلا يجتمعون في يوم معين، وكلمة اليوم تطلق على النهار، وكلمة الليل تطلق على الليل، واليوم لا يشبه الليل والنهار وإنما هو مختص بالنهار فحسب، وفي مصنفات أهل العلم ذكروا بعض عناوين للكتب مثل: أذكار اليوم والليلة، وأعمال اليوم والليلة، فاليوم يطلق على النهار، وأنتم تعلمون أن الجنة لا شمس فيها، ولا زمهرير، ولا ليل، ولا نهار، وبالتالي لا يوم فيها، ولا ليل، وحينئذ نقول: يقدر الوقت بأسبوع يجتمع الناس في هذا السوق في الجنة.
قال: [(فتهب ريح الشمال)].
وريح الشمال هي ريح كانت تأتي من جهة الشام على أهل المدينة محملة بالأمطار، وكان أهل المدينة يحبونها، وينتظرونها في فصولها المؤقتة لها كما تنتظر المرأة وليدها، وهي ريح طيبة، وخيرة، تسمى ريح الشمال، أو الريح الشموأل أو الشمأل أو الشمل، هكذا يسميها العرب.
قال: [(فتهب ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم)].
وطينة الجنة، وأرض الجنة، وحصباؤها من زعفران ومسك، فهذه الرياح تأتي من شمال الجنة فتأخذها من أرض الجنة على وجوه هؤلاء الناس.
قال: [(فيزدادون حسناً وجمالاً، فيرجعون إلى أهليهم -أي: نسائهم- وقد ازدادوا حسناً وجمالاً، فيقول لهم أهلوهم: والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً -يعني: أول ما خرجتم من هنا ورجعتم مرة أخرى ازددتم حسناً وجمالاً، فيرد الرجال على النساء- فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً)].
وفي هذا دليل أن هذه الرياح تعم جميع أهل الجنة من كانوا في الخيام والغرف، ومن كانوا في سوق الجنة.(6/9)
باب أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر وصفاتهم وأزواجهم
(باب أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر وصفاتهم وأزواجهم).
وهذا تشبيه للصورة بالصورة، وليس للذات بالذات؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يكون قمراً والقمر لا يمكن أن يكون إنساناً، ولكنه تشبيه لصورة الرجل بصورة القمر، ويمكن أن تنظر في هذا الوقت لرجل دميم الخلقة لكنك تريد أن تمدحه وتقول: إن وجهك كالقمر، مع أنه لا يساوي أدنى نجم، لكنه على أية حال من باب الكذب لإدخال السرور والأنس على قلب الممدوح، والنبي عليه الصلاة والسلام أجاز الكذب على الزوجة، كأن تقول لها: أنت جميلة وهي ذميمة، عملك طيب وصالح، وعملها دون ذلك، وهذا من باب الملاطفة والمؤانسة وحسن العشرة، ويوم القيامة أول زمرة تدخل الجنة تكون صورتهم في الوضاءة، والإشراق، والبهجة، والحسن، والجمال كما لو كانوا على صورة القمر، فهذا تمثيل، وهذا من التمثيل المباح الحلال، تمثيل لصورة هؤلاء في الحسن والجمال والوضاءة والإشراق بصورة القمر، وفائدة التمثيل تقريب المعنى، فأول زمرة تدخل الجنة يوم القيامة تكون صورتهم على صورة القمر ليلة البدر.
قال: [حدثنا عمرو الناقد، ويعقوب بن إبراهيم الدورقي جميعاً عن ابن علية -وهو إسماعيل - واللفظ لـ يعقوب قالا: حدثنا إسماعيل بن علية أخبرنا أيوب -وهو ابن أبي تميمة السختياني - عن محمد -وهو ابن سيرين - قال: إما تفاخروا وإما تذاكروا: الرجال في الجنة أكثر أم النساء؟].
يعني: ذكرنا كلاماً على سبيل المفاخرة أو المذاكرة، وهذا الكلام دار بين الرجال والنساء.
مثلما تكون جالساً مع امرأتك تقول لها: الرجال في الجنة أكثر أم النساء؟ إما أن تكون تطرح هذا السؤال من باب الوصول إلى الحقيقة العلمية أو الحقيقة الإيمانية، وإما أن تكون تبكتها وتعتبها وتقول لها: أريد أن أعرف هل الرجال في الجنة أكثر أم النساء؟ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واطلعت في النار فوجدت أكثر أهلها النساء)، فأنت تسألها ذلك من باب التبكيت والتعتيب، تقول لها: لما اطلع النبي وجد أكثر أهلها النساء؛ لأنهن ينكرن حسن العشرة، وهذا يؤدي بها إلى النار، فأنت أتيت بها وقمت تلف من بعيد؛ لأنك لا تجرؤ أن تدخل مباشرة في الموضوع بل تلف من بعيد وتأتي بحيثيات حتى تذكرها واحدة بواحدة.
[قال: إما تفاخروا وإما تذاكروا الرجال في الجنة أكثر أم النساء؟ فقال أبو هريرة أولم يقل أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: (إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والتي تليها على أضوأ كوكب دري في السماء، لكل امرئ منهم زوجتان اثنتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم، وما في الجنة أعزب)].
قوله: (يرى مخ السوق)، لما ترى إلى العظم ترى المخ الذي في الساق، يعني: ترى هذا الدهن الذي في داخل الساق من بعد العظم.
وقوله: (وما في الجنة أعزب) لا يوجد أحد في الجنة أعزب كلهم متزوجون، ولكل من دخل الجنة من الرجال اثنتان من الحور العين، فضلاً عن أحب نسائه إليه في الدنيا، ولو كان متزوجاً واحدة فهي زوجته إن دخلت الجنة، وإن كنت تبغضها في الدنيا فإن الله يقول: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الأعراف:43]، فستكون ساعتها إنسانة محببة جداً إلى قلبك، والذي فات مات، وإن حاولت أن تتذكره لا يمكنك ذلك؛ لأن الله تعالى يحول بينك وبينه، كما يحول بينك وبين ما قد جرى بينك وبينها من مشاكل في العام الماضي أنت لا تذكرها الآن إنما أنت تذكر ما بينك وبينها الآن وتنسى ما قد مضى، فإذا كان يوم القيامة فإن الله تعالى ينسيك ما كان بينك وبينها من شحناء أو بغضاء.
وعلى أية حال هذه الشحناء والبغضاء سنة من سنن الله الكونية في الكون، حتى لا يتصور إنسان أنه وصل إلى مرحلة لا يمكن معها الصبر، نعم، قد يصل الرجل مع امرأته إلى هذه المرحلة ولا يكون هناك علاج إلا الطلاق، وآخر الدواء الكي، والأصل في الزوجية القيام والديمومة والاستمرار، والطلاق استثناء ولضرورة، ومن زعم أن الطلاق مباح بغير ضرورة وبغير حاجة ولا عذر، فلا شك أنه قد خالف ما اتفقت عليه كلمة الأمة، أي: كلمة علماء المسلمين.
قال: (وما في الجنة أعزب) والأعزب هو من لا زوجة له، والأفصح: وما في الجنة عزب.(6/10)
تعداد الرجال والنساء في الجنة
قال: [حدثنا ابن أبي عمر -وهو محمد بن يحيى - حدثنا سفيان عن أيوب عن ابن سيرين قال: اختصم الرجال والنساء -أي: اختلفا وتجادلا- أيهما في الجنة أكثر؟ فسألوا أبا هريرة فقال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: (إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر والتي تليها على أضوأ كوكب- يعني: على صورة أفضل كوكب دري في السماء- لكل امرئ منهم زوجتان اثنتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم، وما في الجنة أعزب)].
وهذا يفيد أن النساء أكثر من الرجال، وإن كن من الحور العين فإنهن نساء، فإن لكل واحد من أهل الجنة زوجتين من الحور العين، ومع ذلك يتزوج امرأته أو أحب النساء إليه، ولكل شهيد اثنتان وسبعون حورية، ونجمع بين هذا الحديث وبين قوله عليه الصلاة والسلام: (اطلعت في النار فوجدت أكثر أهلها النساء، فقامت امرأة جزلة -يعني: عاقلة- وقالت يا رسول الله بم؟ -أي: بما استحقت النساء دخول النار؟ - قال: لأنهن يكفرن، قالت: أيكفرن بالله؟ قال: لا، يكفرن الإحسان ويكفرن العشير، يحسن إليها الرجل الدهر كله -أي: طوال حياته الزوجية معها- فإذا بدا منه شيء قالت: والله ما رأيت منك خيراً قط)، فهذا كفران العشير، أي: تكفر حسن العشرة معه لأول تافهة تقع من الرجل.
والشاهد هنا أنه قال: (اطلعت في النار فوجدت أكثر أهلها النساء).
والجواب الأول: لا يمنع أن يكون أكثر أهل الجنة النساء وأن يكون أكثر أهل النار النساء؛ لأنه لا تعارض، بل النص يفيد أن أكثر أهل الجنة نساء، وأكثر أهل النار أيضاً نساء، وهذا يدل على كثرة النساء خاصة في آخر الزمان، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا تقوم الساعة حتى يكون لكل خمسين امرأة قيم واحد)، وفي هذا نص صريح على كثرة النساء على الرجال خاصة في آخر الزمان، وكثرة الملاحم والفتن، وظهور القتال، خاصة بعد الملحمة الكبرى المرتقبة والمنتظرة بين المعسكرين معسكر الإيمان ومعسكر الكفر، والتي ينتظرها العالم كله الآن، فحينئذ أنتم تعلمون أن الحرب إنما تأكل الرجال دون النساء، ولعل من الملاحظ أن مقدمة هذه الحرب الختامية للعالم كله بدأت بغزو العراق للكويت، وإتيان الروم والأمريكان إلى بلاد العرب، وكان من ثمرة هذا القتال أن مات جل الجيش العراقي وكثير من الرجال والأطفال الذكور في شوارع بغداد وغيرها من مدن العراق، مما أسفر عن كثرة النساء على الرجال، أنا أقول هذا الكلام لأستشهد به على أن الحروب إنما تأكل الرجال وتسبب كثرة في النساء، فإذا قامت الحرب العالمية الثالثة، أو الحرب الختامية، أو ما سمتها النصوص بالملحمة الكبرى، أو ما يسميه اليهود والنصارى بمعركة هرمجدون، فإن الأمر حينئذ يعم الرقعة كلها وبالتالي تكثر النساء في كل بقعة من بقاع الأرض إلا موطنين هما بمنأى عن هذه الحرب وعن الملحمة الكبرى، وهي الدول الباردة جداً، والدول الحارة جداً.
يقول بعض أهل العلم: إن هذه الدول الباردة جداً التي لا تشارك في هذه الحرب هي الدول الإسكندنافية، والدول الحارة جداً هي جنوب أفريقيا وأقرب بلاد أفريقيا إلى خط الاستواء، وليس هذا مبحثنا وإنما المبحث أن الحرب تأكل الرجال وتبقي النساء وبالتالي تكثر.
ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة حتى يكون لكل خمسين امرأة قيم واحد): هذا لا يعني أبداً أن الواحد له أن يتزوج بخمسين امرأة، وإنما النسبة في تعداد العالم في آخر الزمان أنه من واحد إلى خمسين، الرجل يعادله في العدد خمسون امرأة.
وقوله: (إن أول زمرة تدخل الجنة)، هذا الحديث لا يتكلم عن كل أهل الجنة وإنما يتكلم عن أول زمرة وثاني زمرة، فأول زمرة يدخلون على صورة القمر ليلة البدر، والزمرة الثانية التي تليهم: تدخل على أضوأ كوكب دري في السماء.
قال: (لكل امرئ منهم زوجتان اثنتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم، وما في الجنة أعزب).
قال القاضي في هذا الحديث: (أن النساء أكثر أهل الجنة)، وفي الحديث الآخر: (أنهن أكثر أهل النار): فيخرج من مجموع هذين الحديثين أن النساء أكثر ولد آدم، وكلما دعاك أخ لعقيقة يقول لك: سميت ابنتي فاطمة، زينب، عائشة، مريم، وهذه الحقيقة علامة تدل على قرب الساعة، كل الإخوة يعقون بشاة واحدة إلا ما ندر، قال: وهذا كله بالآدميات، وإلا فقد جاء أن الواحد من أهل الجنة له من الحور العدد الكثير.
قال: [وحدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا عبد الواحد -وهو ابن زياد البصري - عن عمارة بن القعقاع، حدثنا أبو زرعة قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول من يدخل الجنة)، وفي الرواية الثانية: (إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على أشد كوكب دري في الأر(6/11)
الأسئلة(6/12)
حكم صلاة التسابيح
السؤال
ما صحت حديث صلاة التسابيح؟
الجواب
هو في الحقيقة محل نزاع بين أهل العلم، كثير من المحدثين ضعفوا هذا الحديث وبالتالي عدوه من المنكرات الشنيعة جداً، والشيخ الألباني وبعض المعاصرين من المحدثين صحح أو حسن هذا الحديث، فإذا كان الأمر محل نزاع بين المحدثين، فلك أن تأخذ بهذا أو ذاك.(6/13)
حكم المشاركة في مسابقة القرآن الكريم وأخذ الجوائز من البنك الإسلامي
السؤال
بنك التسليف الإسلامي يقوم بعمل مسابقة في القرآن الكريم، فما حكم الاشتراك في هذه المسابقة، وحكم الجوائز التي تعطى للفائزين؟
الجواب
حلال، هذا من الأعمال الصالحة.(6/14)
حكم الحلي إذا كانت على شكل تمثال أو صورة
السؤال
ما حكم الأساور التي على شكل ثعبان، أو التي عليها شكل حيوانات صغيرة، وهل تدخل في حكم التماثيل فهي حرام حينئذ أم لا؟
الجواب
هي حرام، هذه الأساور أو السبائك الذهبية التي على شكل حيوانات بلا شك أنها صور، وأنتم تعلمون أن الصورة محرمة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا قطع الرأس فلا صورة)، فعلى المرأة أن تتخلص من هذا الذهب أو تقطع رأس التمثال الذي في الحلية، ولا أظن أنها تقطع رأسها أبداً، فعليها أن تتخلص من الذهب.(6/15)
حكم من مات وعليه صيام بسبب المرض
السؤال
كان معي أخت ماتت بعد رمضان بأربعة أيام ولم تصم في هذا الشهر؛ لأنها مريضة فهل يجوز أن أصوم عنها؟
الجواب
نعم يجوز أن تصومي، ويجوز أن تفدي، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) فإذا شئتي أن تصومي فهو أفضل لموافقة ظاهر النص، وإذا عجزت عن الصيام فلا بأس أن تطعمي عن كل يوم مسكيناً، وإذا كان هناك من أولياء هذه الميتة من يشاركك الصيام فلا بأس، وإن اشترك الصوم في يوم واحد؛ وهذه المسألة محل نزاع: إذا كان على الميت عشرة أيام وله عشرة أولاد مثلاً فاختار كل واحد منهم أن يصوم يوماً، فهل كل واحد منهم يصوم يوماً بعد أخيه أم يجزئهم أن يصوموا جميعاً يوماً واحداً؟ هذه المسألة محل نزاع، والراجح أنه يجزئهم أن يصوموا ولو كان الصوم وقع في يوم واحد.(6/16)
حكم زواج الرجل بامرأة رضعت مع أخيه
السؤال
هل يجوز أن يتزوج رجل من امرأة رضعت مع أخيه؟
الجواب
نعم؛ لأنها أخت أخيه وليست أختاً له.(6/17)
المقصود باليوم والليلة في توقيت مسح الخف
السؤال
المسح على الخف هل المقصود به أربعاً وعشرين ساعة أم خمس صلوات؟
الجواب
لا، المقصود به خمس صلوات؛ لأن الأربع والعشرين ساعة لم تكن عمراً معلوماً في الزمان الأول، وإنما المسح على الخف يبدأ حسابه يوماً وليلة -كما في الحديث- منذ أول مسحة.(6/18)
حكم من وجد نجاسة في ملابسه بعد الانتهاء من الصلاة
السؤال
من وجد نجاسة وهي أثر غائط في ملابسه، فهل يعيد الصلاة السابقة أم ماذا يفعل؟
الجواب
ينظر هل هذا الأثر جرم أم أثر، والمعلوم أن كلمة أثر هي تمثل مكان النجاسة بعد الغسل، كما أن المرأة الحائض تغسل ثوبها ويبقى فيه أثر الدم، يعني: لون الدم، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اغسليه ولا يضرك أثره)، فإذا كان في ثوب هذا الأخ الفاضل غائط فغسله ولكنه بقي أثره أي: لون هذا الغائط، فلا يضره، وأما إذا كان يقصد أنه انتبه وفوجئ بغائط على ثوبه بعد الصلاة، فمن أهل العلم من قال: يعيد الصلاة من أول نومة نامها ثم قام منها، ومنهم من قال: يعيد الصلاة الحالية أي: التي أداها في الوقت، والذي يترجح لدي أنه لا يعيد إلا الصلاة التي في الوقت، وإن كان جنباً يعيد من أول نومة قام منها، فلو أنه قام من النوم في الظهيرة وصلى المغرب والعصر والعشاء، ثم أدرك الجنابة، فغلبة الظن أنه أجنب في نومه، فيعيد من بعد النوم، وهذا لا يضر؛ لأن من شروط صحة الصلاة طهارة الثوب، وأنت صليت بنجاسة لكن إعادتك لهذه الصلاة يلزمك خلع هذا النجس والصلاة بدونه؛ لأن هذا لا ينقض الوضوء وإنما ينقض الصلاة.(6/19)
حكم سرقة التيار الكهربائي
السؤال
هل يجوز سرقة التيار الكهربائي، حيث إن الفاتورة كبيرة جداً؟
الجواب
إذا كانت السرقة جائزة فإن سرقة التيار الكهربائي جائزة، والمال العام على مدار التاريخ لم يستحله إلا الخوارج، ومن أخص خصائص المال العام العصمة، وعندما تقرأ في السياسة الشرعية تجد أن المال العام أهم ما يميزه عن بقية الأموال العصمة، مع أن أموال الغير معصومة أيضاً، لكن الأموال العامة أعظم عصمة من المال الخاص.
والكهرباء من الأموال العامة، ولو قلت لي: أن سرقة الكهرباء جائزة فستكون كل الأموال العامة التي سرقتها جائزة، وليس هناك عاقل يقول بهذا، لكن على أية حال إذا جوزت لك أن تسرق الكهرباء سأجوز لك أن تسرق المياه، والمجاري، وغير ذلك من الأموال العامة، وهذا بلا شك لا يقول به إلا إنسان قد فقد عقله تماماً.
فسرقة الكهرباء لها مفاسد من شقين: الشق الشرعي: أنك أتيت بكهرباء من داخل العداد من جارك أو من أي مكان، فهذا سرقة ولو تستحل ذلك.
والشق الآخر: لو أتى المفتش فستكون أنت قد سرقت رغم أنك موصل من عداد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا ضرر ولا ضرار)، فلابد أن تنظر بنظرتين، النظرة الأولى: مشروعية العلم، والنظرة الثانية: إلحاق الضرر من جراء هذا العمل.(6/20)
حكم المسابقات التلفزيونية التي تجرى عن طريق التلفون
السؤال
ما حكم الاشتراك في المسابقات التلفزيونية عن طريق التلفون، حيث يسأل سؤالين من الأسئلة العامة في جيم أو غيره ويحتمل أن تكسب مبلغاً مالياً كبيراً، وقد كثرت هذه المسابقات هذه الأيام؟
الجواب
لقد سألني أحد الإخوة هذه الأسئلة لأنه معد هذه البرامج في التلفزيون، وأنا لم أفهم منه الصورة جيداً.(6/21)
حكم القراءة من المصحف في صلاة الفريضة
السؤال
هل القراءة من المصحف في صلاة الفريضة تبطل الصلاة؟
الجواب
لا تبطلها، ولكن على أية حال هي بدعة، أما صلاة المصلي في النافلة وهو حامل للمصحف فهذا جائز للإمام والمنفرد، وقد اتخذت عائشة رضي الله عنها إماماً في صلاة التراويح يقرأ من المصحف، أما المأمومون وهذه الصورة التي نراها في شهر رمضان كل واحد يصلي خلف الإمام ويحمل مصحفاً فهذه صورة غير جائزة، وقد تجرأ ابن حزم رحمه الله على بطلان صلاة من صلى مأموماً حاملاً للمصحف، ولم يجز ذلك أحد من أهل العلم إلا للإمام في النافلة والمنفرد، أما الفريضة فيصلي المصلي ولو بآية واحدة معه، ولا يتصور أن مسلماً ليس معه آية من كتاب الله.(6/22)
الحكم على حديث: (أحيطوا أعمالكم بالكتمان)
السؤال
ما صحة حديث: (أحيطوا أعمالكم بالكتمان)؟
الجواب
الحديث ليس هكذا، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (استعينوا على إنجاح حوائجكم بالكتمان) وهو ضعيف.
أما (استعينوا على قضاء حوائجكم) فهذا نص صحيح، والمعنى واحد.(6/23)
حكم الصلاة على شهيد المعركة
السؤال
ما حكم الحديث الذي يثبت الصلاة على شهيد المعركة، والحديث الآخر الذي لا يثبت الصلاة على شهيد المعركة، وكيف نوفق بينهما ونزيل اللبس من عقولنا وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
صلاة الجنازة على الشهيد مستحبة وليست واجبة، وأنتم تعلمون أن صلاة الجنائز فرض كفاية، وهي حق واجب لكل مسلم، إلا الشهيد، والطفل الصبي الذي لم يبلغ.(6/24)
شرح صحيح مسلم - كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - في سوق الجنة
أهل الجنة في نعيم دائم سرمدي لا ينقطع، نعيم لا يدانيه نعيم ولا يقاربه، ومن ذلك أن في الجنة سوقاً يأتيها أهل الجنة كل جمعة، فيرون الله تعالى، ويزدادون حسناً ونوراً وجمالاً، وأول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، لكل امرئ منهم زوجتان، وللمؤمن خيمة من لؤلؤة مجوفة، طولها ستون ميلاً في السماء، ولأهل الجنة فيها مجامر من الألوة، رشحهم المسك، لا يمرضون، ولا يهرمون، ولا يفنى نعيمهم، فلله ما أعظمه من نعيم!(7/1)
باب في سوق الجنة
الحمد لله رب العالمين، ونصلي ونسلم على محمد وآله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فهذا هو الدرس الثاني من كتاب الجنة ونعيمها من صحيح مسلم.
قال: (باب في سوق الجنة).
الجنة فيها سوق، وهذا السوق يعقد في كل أسبوع مرة، وإذا قلنا: في كل أسبوع فلا بد أن يوم الجمعة هو يوم ضمن سبعة أيام، وليس في الجنة ليل ولا نهار، وليس فيها أيام، وليس فيها شمس ولا قمر، إنما الجنة نعيم دائم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قرب لنا الأمر فقال: [(إن في الجنة لسوقاً)] أي: يعقد في كل أسبوع مرة، أي: فيما يعدل كل أسبوع من أسابيع الدنيا مرة، هذا اليوم يسمى يوم المزيد، ويعقد فيما يعادل في الدنيا يوم الجمعة، وفيها يطلع الله عز وجل على عباده من أهل الجنة ليروا وجهه الكريم، فإذا رأوا وجه الله تعالى ازدادوا حسناً، ونوراً، وبهاء، وجمالاً، فيرجعون إلى أزواجهم، فيلحظ أزواجهم ذلك فيهم، فيقولون: والله ما ازددتم بعدنا إلا حسناً، وجمالاً، وكمالاً، فيقول الأزواج لزوجاتهم: وأنتن والله ما ازددتن بعد أن فارقناكن إلا حسناً وجمالاً؛ لأن أهل الجنة جميعاً يرون الله عز وجل في هذا اليوم الذي يسمى بيوم المزيد، أي: يزاد في نورهم، وبهائهم، وحسنهم.
قال: [قال أنس بن مالك رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة لسوقاً)].
وسمي سوقاً لاجتماع الناس فيه؛ لأنه لا يقال للمكان سوقاً إلا إذا اجتمع فيه الناس، لأن الناس يساقون إليه لقضاء حوائجهم.
قال: (يأتونها كل جمعة، فتهب ريح الشمال)].
بفتح الشين لا بكسرها، وهي الريح التي يسميها العرب: ريح الشمأل، أو الشموأل، أو ريح دبر القبلة، أو ريح شامية تأتي من جهة الشام، وكانت العرب تحب أن تأتي الرياح من قبل الشام؛ لأنها تأتي بالخير، وتأتي بالمطر.
قال: [(فتحثو في وجوههم وثيابهم -أي: تحمل في طياتها الخير حتى تجعله في وجوههم وثيابهم- فيزدادون حسناً وجمالاً -أي: فيزداد أهل الجنة حسناً وجمالاً- فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسناً وجمالاً، فيقول لهم أهلوهم -أي النساء-: والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً، فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً)].
هذه الريح أحياناً يسميها العرب: الريح المثيرة، أي: المحركة؛ لأنها تثير في وجوههم وثيابهم ما تثيره من مسك أرض الجنة، فيزدادون بذلك حسناً وجمالاً.(7/2)
باب أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر وصفاتهم وأزواجهم
قال: (باب أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر وصفاتهم، وأزواجهم).
قال: [عن محمد بن سيرين].
وهو إمام من أئمة التابعين، وسيد من ساداتهم، إمام من أئمة البصرة، يروي عن أبي هريرة رضي الله عنه، لكنه هنا يروي فيقول: (إما تفاخروا وإما تذاكروا).
يعني: الصحابة رضي الله عنهم اجتمعوا فتكلموا في أمر الجنة والنار، وتكلموا في أمر الرجال والنساء أيهما أكثر في الدنيا وفي الآخرة، وفي الجنة وفي النار؟ فقال: إما تفاخروا وإما تذاكروا، يعني: اجتمع الرجال والنساء، وصارت بينهم مناظرة، هذه المناظرة إما على سبيل التذكرة، أو المفاخرة: [الرجال في الجنة أكثر أم النساء؟].
هذا موطن المناظرة: الرجال في الجنة أكثر أم النساء؟ [فقال أبو هريرة: أولم يقل أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: (إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والتي تليها على أضوأ كوكب دري في السماء، لكل امرئ منهم -أي: ممن يدخل الجنة- زوجتان اثنتان)].
أي: من الحور العين، فلو أن كل واحد دخل الجنة له زوجتان اثنتان، فأيهم يكون أكثر الرجال أم النساء؟ مع ملاحظة أنه ليس في الجنة عزوبة، كل من دخلها تزوج فيها، ويزيد الله تعالى ما يشاء لبعض عباده، حتى يبلغ حظ الشهيد من الحور العين اثنتين وسبعين امرأة من الحور العين، فأيهما أكثر في الجنة الرجال أم النساء؟ النساء أكثر؛ لأن النساء على الأقل ضعف عدد الرجال الذين دخلوا الجنة؛ لأن لكل واحد منهم زوجتين، مع أن بعض من يدخل الجنة يزيد الله تعالى له من الحور العين، فلابد أن النساء أكثر أهل الجنة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (دخلت الجنة فإذا عامة أهلها الفقراء والمساكين)، وقال: (واطلعت في النار فإذا عامة أهلها النساء، فقالت امرأة جزلة -عاقلة-: يا رسول الله ولم؟ قال: لأنهن يكفرن.
قالت: يا رسول الله! أيكفرن بالله؟ قال: لا، يكفرن الإحسان، ويكفرن العشير)؛ أي: عشرة الزوج، ثم بين النبي عليه الصلاة والسلام ذلك فقال: (يحسن إليكن الرجل الدهر كله فإذا بدا منه شيء قلتن: والله ما رأينا منك خيراً قط) فهذا هو كفران العشير.
وقال عليه الصلاة والسلام: (ما رأيت أذهب للب الرجل الحازم منكن)، الرجل الحازم العاقل أحياناً يغضب ويثور ويفلت منه الزمام بسبب امرأة، وهو في أصله إنسان حازم، عاقل، لكنه يفقد ذلك حينما تغضبه امرأته.
والشاهد من هذا الحديث: أنه عليه الصلاة والسلام قال: (واطلعت في النار فوجدت أكثر أهلها النساء)، إذاً: أكثر أهل النار النساء، وأكثر أهل الجنة النساء، وهذا يفيدنا نسبة وتناسب أن النساء في بني آدم أكثر من الرجال، ومن أشراط الساعة كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (لا تقوم الساعة حتى يقل الرجال ويكثر النساء، حتى يكون لكل خمسين امرأة قيم واحد)؛ يعني: رجل واحد، ولا يعني هذا حل أن يتزوج رجل بخمسين، إنما نسبة وتناسب بين الرجال والنساء واحد إلى خمسين، فالرجل يقابله خمسون من النساء، ولا يعني هذا صحة نكاح الخمسين إنما هو دليل على أن الأمر قبل قيام الساعة هو كثرة النساء وقلة الرجال؛ بسبب الجهاد، والغزوات، وغيرها التي تكون في آخر الزمان.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر)، أول دفعة تدخل الجنة وجوهها كالقمر ليلة البدر، أي: في ليلة التمام والكمال، فهذه وجوه الناس وصفاتهم الذين يدخلون الجنة لأول وهلة، ثم يعقبهم زمرة أخرى يكونون على هيئة أضوأ كوكب في السماء بعد القمر، وأنور كوكب، وهو ما يسميه الفلكيون بالكوكب الدري، وأنتم تعلمون أن الدر هو أعظم الجواهر، ولذلك سميت الدرر درراً لأنها ثمينة، غالية مضيئة، تشبيهاً بأعظم كوكب في السماء بعد القمر في ليلة البدر والتمام، وهو الكوكب الدري، فهذه هي صورة القوم الذين يدخلون ثانياً بعد الزمرة الأولى.
قال: (لكل امرئ منهم زوجتان اثنتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم) أي: ما داخل السوق والقدم يراه المرء، تصور أنك ترى العظام الداخلية في قدم الحورية من الصفاء والنقاء، ينظر الرجل إلى امرأته فيرى مخ ساقها من وراء اللحم، كما ينظر في خدها فيرى صورته في خدها، وترى صورتها في خده من الصفاء والنقاء، وهذا يدل على أن أهل الجنة على أكمل هيئة وأتم صورة، وأن الناس إذا دخلوا الجنة كانوا على غير هيئتهم في الدنيا، الصغير يكبر، والشيخ الهرم يصغر حتى يكونوا جميعاً في سن واحد: {عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة:37]، ومعنى (أَتْرَابًا): أي في سن واحد.
قال: (وما في الجنة أعزب)، كل من دخلها تزوج، سواء كان متزوجاً في الدنيا أو ليس متزوجاً، لابد لكل من دخل الجنة أن يكون عنده من الأزواج الحور العين اثنتان، ويكون عنده كذلك من نساء الدنيا أحب النساء إليه من زوجاته، فلو أن واحداً(7/3)
باب في صفات الجنة وأهلها وتسبيحهم فيها بكرة وعشياً
قال: (باب في صفات الجنة وأهلها وتسبيحهم فيها بكرة وعشياً).
قال عليه الصلاة والسلام: (أنهم يلهمون التسبيح، والتحميد، والتكبير، كما يلهمون النفس) وسيأتي معنا، لكنهم على أية حال يلهمون ذلك بكرة وعشياً، وقد اتفقنا أنه ليس في الجنة بكرة وعشي، وإنما مقدار البكور والعشي.
قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها، ولا يمتخطون، ولا يتغوطون فيها، آنيتهم وأمشاطهم من الذهب والفضة)].
مع أن آنية الذهب والفضة حرام علينا في الدنيا، ولكن الله تعالى أباحه لنا في الآخرة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إن الذي يأكل في صفائح الذهب والفضة فكأنما يجرجر في بطنه نار جهنم)، وهذا لمن أكل بهما في الدنيا، أما في الآخرة فإن الله تعالى أحل لنا ما كان حراماً علينا، فلباسنا الحرير والديباج، وهذا كان محرماً على الرجال، وأباحه الله تعالى، والله تعالى حرم علينا الخمر وأباحه لنا في الآخرة، ولكن خمر الآخرة ليس كخمر الدنيا من الإسكار وذهاب العقل وغير ذلك، بل هو شراب لذيذ سماه الله تعالى خمراً، ليكافئ عباده الذين امتنعوا عن شرب الخمر في الدنيا بخمر في الآخرة، لكن هيهات هيهات بين خمر الدنيا وخمر الآخرة.
قال: [(ومجامرهم من الألوة، ورشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقهما من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب واحد يسبحون الله بكرة وعشياً)].
في الدرس الماضي لما ذكرنا أن الجنة درجات عديدة، لعل ذلك اختلط على بعض السامعين بأبواب الجنة وقال: بل درجات الجنة ثمان، والصواب أن أبواب الجنة ثمانية، أما درجات الجنة فكثيرة متعددة لا يعلمها إلا الله.
كما أنه لا يصح أن يقال: إن درجات الجنة على عدد آيات القرآن الكريم، كما أن أهل العلم اختلفوا في عدد آيات القرآن الكريم، فأحياناً تجد الآية عند قارئ آية، وتجدها عند قارئ آخر آيتين.
قال: (لا اختلاف بينهم ولا تباغض) أي: لا حسد، ولا تباغض، ولا اختلاف، ولا مناحرة، ولا مناظرة، كل هذا في الدنيا أما في الآخرة فلا.
ثم إنه كذلك قد اختلط على الأخ قول الأنصاري لما بكى عند النبي عليه الصلاة والسلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما يبكيك؟ قال: يا رسول الله! تذكرت الموت، وعلمت أن الموت يفرق بيني وبينك؛ لأنك في الجنة في منزلة هي أعلى من منزلتي، فأنا لا أراك في الجنة، فنزل قول الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69]، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الأنصاري: أبشر)، يعني ستراني لأنك تحبني فأنت معي.
وقوله: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء:69]، وهم أهل الطاعة لله وطاعة الرسول مع: {النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69]، قال النبي صلى الله عليه وسلم له: (أبشر) يعني: أنت معي في الجنة، وحديث: الذي سأل عن الساعة فقال له: (وما أعددت لها؟ قال: يا رسول الله! والله ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صيام، ولكني أحب الله ورسوله، قال: أنت مع من أحببت)، فالله تعالى يجعل لأهل المراتب الدنيا في الجنة نظرة إلى من فوقهم كما يجعل لمن فوقهم نظرة إليهم، وهذا أمر مقرر في عقيدة أهل السنة والجماعة: أن من فوق يرى من تحت وأن من تحت يرى من فوق.
وفي الجنة لا اختلاط كما هو مشاهد في الدنيا، فالله عز وجل ينزع من نفس المؤمن شهوة التطلع إلى عورات الآخرين، كما أن الشهوة تنزع من الخلق في أرض المحشر، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (يحشر الناس حفاة، عراة، غرلاً)، أي: في أرض المحشر، أي: على هيئتهم قبل الختان والخفض، أي: قطع القطعة الزائدة من فرج المرأة وذكر الرجل، فإن كل شيء يرد إلى صاحبه حتى الأظافر، والشعر، كل شيء أخذ منك يرد إليك، حتى هذه القطعة من اللحم الصغيرة التي أخذت من عضوك إذا كنت ذكراً أو أنثى ترد إليك وتحشر عرياناً حافياً على هذا النحو، (فقالت عائشة: يا رسول الله! ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال: يا عائشة! الأمر حينذاك أشد من هذا)، يعني: لا يخطر ببال أحد قط أن ينظر إلى عورة أحد.
وهذا مشاهد، فلو نزل بك غم أو وصلك خبر مفزع أو أصابك هم، انصرفت شهوتك تماماً، والمتزوجون يعلمون ذلك، ولو أنك في قمة شهوتك ثم طرق الباب انصرفت شهوتك، والمتزوج يعلم ذلك، وكلنا يعلم ذلك من نفسه ومن حاله، فإذا كان هذا مجرد طارق أتى ليطرق بشر يخبرك أو بنبأ عظيم بوفاة عزيز، أو بنكبة نزلت، أو ي(7/4)
باب في دوام نعيم أهل الجنة
قال: (باب في دوام نعيم أهل الجنة).
كما هو دوام عذاب أهل النار، وهذا دليل لمعتقد أهل السنة والجماعة: أن الجنة والنار مخلوقتان الآن لا تفنيان ولا تبيدان، (يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت).
[قال أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يدخل الجنة ينعم لا يبأس -أي: لا يرى بؤساً قط إنما يتمرغ ويتقلب في نعيم الله عز وجل- لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه)، وفي رواية: (ولا يفنى سنه)].
فليس في الجنة حساب كحساب الدنيا؛ لأن أهل الجنة على سن واحدة سيظلون كذلك فلن يصغروا ولن يكبروا، سيبقى سنك هذا باستمرار وشكلك وصورتك على نسق واحد بغير زيادة ولا نقصان، لو طال مكثك في الجنة ولابد أن يطول فلا يطرأ عليه أدنى تغير أبداً، وفي هذا الوقت لو أن الواحد منا طال عمره كل يوم وهو بصورة وشكل، وهيئة وشكل، وأخلاق وشكل، وغير ذلك.
أما أهل الجنة فليسوا كذلك، يدخلون الجنة على سن واحدة وأخلاق واحدة ثم لا يتبدلون ولا يتغيرون، يمكثون هكذا باستمرار، قال: (من يدخل الجنة ينعم لا يبأس، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه) أي: لا يكبر يظل في سن واحدة، كما أن ثيابه التي يلبسها لا تبلى ولا تفنى.
قال: [وعن أبي سعيد، وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ينادي مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً)].
أي: أن تعيشوا أصحاء بغير مرض، إذاً: الذي يدخل الجنة لا يمرض قط، بل يدخل صحيحاً، قوياً، فتياً، لا يصيبه الهرم، ولا كبر السن.
[(وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا -أي: حياة أبدية سرمدية، ليس بعدها موت- وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً -أي: تكونون شباباً فلا يصيبكم الهرم- وإن لكم أن تنعموا فلا تبتئسوا أبداً -أي: لا يصيبكم البؤس- فذلك قول الله عز وجل: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43])].
هذه هي الجنة، وهذه هي صفات الجنة.(7/5)
باب في صفة خيام الجنة
قال: (في صفة خيام الجنة).
الجنة فيها خيام؛ لكن الخيام من لؤلؤ، وكل خيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة، طولها في السماء ستون ميلاً، وعرضها ستون ميلاً في الأرض، والميل يساوي كيلو واحد وسبعة من عشرة، أو واحد وأقل من سبعة من عشرة.
ولو قلنا أن هذا هو الميل الذي ذكره الرسول عليه الصلاة والسلام هو ما يقدر بميل الدنيا فنقول: إن طول الخيمة الواحدة ستة وتسعون كيلو أو حوالي مائة كيلو، وعرضها مائة كيلو.
فتصور أن تكون أنت في خيمة طولها في السماء مائة كيلو وعرضها في الأرض مائة كيلو، والله تعالى يجعل لك أهلاً في كل زاوية من زوايا هذه الخيمة، يجعل لك واحدة من الحور العين هنا، والثانية هناك في آخر الخيمة من الناحية الثانية، وواحدة في الشمال، وواحدة في الجنوب، إذا ذهبت إلى هذه فلا تراها الأخرى، وإذا ذهبت إلى الأخرى فلا تراها الأولى، مع أنهم لو رأوا بعضهم بعضاً فلن يكون بينهم ما يكون بين الضرائر في الدنيا، ومع هذا فإن الواحد يتنقل بين أهله لا يراه الآخرون.
تصور خيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة يبلغ طولها ستون ميلاً وعرضها ستون ميلاً، ولا يمكن لأحد قط أن يتخيل ذلك ولا أن يتصوره، فالمرء يحتاج في الجنة إلى مركب ليسير في خيمته في داخلها إلا أن يحمله الله عز وجل على ما شاء مما خلق.
قال: [قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة -يعني: مفرغة من الداخل- طولها ستون ميلاً، للمؤمن فيها أهلون -جمع أهل- يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضاً)].
يعني: هؤلاء لا يرون هؤلاء.
وقال: [(في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة عرضها ستون ميلاً)].
في الرواية الأولى: طولها ستون ميلاً، وهنا: عرضها ستون ميلاً، ولا منافاة بين الحديثين؛ للدلالة أن الطول كالعرض، الطول في السماء، والعرض في الأرض.
قال: [(في كل زاوية منها أهل ما يرون الآخرين، يطوف عليهم المؤمن)].
وهذا حظ المؤمن وزيادة، أما ما في الجنة من أنهار فقد قال أبو هريرة رضي الله عنه: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (سيحان، وجيحان، والفرات، والنيل، كل من أنهار الجنة).
أما الفرات فليس هو الفرات المعروف بأرض العراق، وإنما هو نهر يفصل بين الشام وبين جزيرة العرب، وأما سيحان وجيحان فهما نهران في أرض الأرمن بقرب الشام، وليس هما سيحون وجيون اللذان بأرض خراسان، هذه الأنهار الأربعة: سيحان، وجيحان بأرض الأرمن قرب الشام، والفرات الذي هو بين الشام وجزيرة العرب، والنيل الذي هو بأرض مصر، هي من أنهار الجنة.
واختلف العلماء في معنى أن هذه الأنهار من أنهار الجنة، فقيل: كون هذه الأنهار من أنهار الجنة أي أن ماء الجنة يصب فيها، وهذا أظهر الوجهين، وأن أصل هذه الأنهار ينزل فيه الماء من الجنة، ولذلك قال الإمام النووي: وأنها من أنهار الجنة على ظاهره، يعني ينبغي أن نعتقد أن هذه الأنهار هي من أنهار الجنة، لكن كيف أنها من أنهار الجنة؟ قال: باعتقاد أن مادة هذه الأنهار من الجنة، والجنة مخلوقة موجودة اليوم عند أهل السنة والجماعة، وقد ذكر مسلم في كتاب الإيمان في حديث الإسراء أن الفرات والنيل من الجنة، يعني: أصل خروج النيل والفرات من الجنة، وقد أورد البخاري في صحيحه حديثاً: (إن النيل والفرات أصلهما عند سدرة المنتهى فوق السماء السابعة)، فينبغي أن نؤمن بذلك ونسلم ولا نقول: كيف؟ ولماذا؟ والتأويل الثاني: أن الإيمان عم أهل هذه البلاد، فقد عم أهل الشام ومصر والجزيرة العربية، أي: أن الإيمان عم أهل هذه الأنهار وبلادها أو الأجسام المتغذية بها، فهي صائرة إلى الجنة، أو مآلها إلى الجنة، ولكن هذا تأويل بعيد، فأهل مصر الآن يهود، ونصارى، ومسلمون، وهم يتغذون بماء النيل، وماء النيل من ماء الجنة، أو النيل من أنهار الجنة، وليس المعنى أن من شرب من النيل دخل الجنة، أو من تغذى بدنه من ماء النيل دخل الجنة، بل كثير ممن يتنعم بنعيم الله عز وجل من النيل وغيره إنما هو على الإلحاد، والعلمنة، والزندقة، والفسق، والفجور وغير ذلك فلا يلزم منه أن كل من شرب من نهر النيل دخل الجنة، كما هو معروف عند الناس أن الذي يشرب من النيل يرجع له، فنقول: إذا كان من أهل الإيمان مرحباً به، أو غير ذلك فلا مرحباً به.(7/6)
باب يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير
قال: (باب يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير).
الفؤاد: هو لب القلب، وقيل: هو القلب نفسه، وقيل: هو غشاء القلب، وقيل غير ذلك، ولكن على أية حال المعنى المتبادر إلى الذهن أنه القلب.
والمعلوم أن أهل الجنة هم أهل الخوف من الله عز وجل، وهم أهل الرجاء، وأهل التوكل على الله عز وجل، قلوبهم رقيقة، والقلب يرق وقد يقسو حتى يكون أقسى من الحجارة، مع أنه قطعة لحم، ولما دخل وفد اليمن على النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاكم أهل اليمن أرق الناس أفئدة، وألينهم قلوباً، الإيمان يمان، والحكمة يمانية) إلى آخر الحديث في أوصاف أهل اليمن، والشاهد منه: (هم أرق الناس أفئدة وألينهم قلوباً)، إذاً: القلب يلين ويرق.
والله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، فكلما ازداد العبد علماً ازداد لله خشية، وتوكلاً، ورجاء، ومهابة، وإجلالاً، فكذلك هؤلاء الفئة يدخلون الجنة قلوبهم أرق من قلوب وأفئدة الطير، والمعلوم إذا كان المعنى الخوف من الله فإن الطير معروفة بأنها أشد المخلوقات خوفاً، فإذا ذهب طفل إلى جمهرة عظيمة من الطير طارت كلها؛ خوفاً من هذا الطفل، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير) أي: في رقتها وخفتها وتوكلها على الله عز وجل.
[وقال أبو هريرة رضي الله عنه: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (خلق الله عز وجل آدم على صورته)].
أي: على هيئته التي خلقه الله عز وجل عليها بغير تغيير ولا تطوير، أي: من طور إلى طور ومن مرحلة إلى مرحلة، لما خلق الله تعالى آدم من قبضة قبضها من تراب الأرض جعل طوله في أول الخلق ستين ذراعاً، ومات آدم وطوله ستون ذراعاً، فلم يمر بهذه الأطوار التي يمر بها ذريته.
قال: [(طوله ستون ذراعاً، فلما خلقه قال: اذهب فسلم على أولئك النفر من الملائكة -إذاً: الملائكة أسبق في الخلق من آدم وذريته- وهم جلوس فاستمع ما يجيبونك -أي: اسمع يا آدم الإجابة على كلامك- فإنها تحيتك، وتحية ذريتك من بعدك، قال: فذهب فقال: السلام عليكم)].
فآدم لما سلم قال: السلام عليكم، ولك أن تقول: سلام عليكم كما قال إبراهيم عليه السلام، فكلها تحية أهل الإسلام، أما صباح الخير، ومساء الخير، وغير ذلك من الأوصاف فإنها من تحيات غير المسلمين، وقد أهدر النبي عليه الصلاة والسلام كل ما يمكن أن يتشبه به المسلم بغيره، من الأخلاق، والملبس، والمطعم، والمركب وغير ذلك؛ حتى تكون للمسلم شخصية متميزة عن شخصية غيره من بقية الخلق حتى في السلام.
ومن المسخ في بلاد الكفار، وإن شئت فقل: في بلادنا كذلك، لكنها ظاهرة بادية في بلاد الكفار: أن الإخوة الملتحين في أمريكا وأوربا لا يسلمون على بعضهم البعض بتحية الإسلام، وإنما يسلمون بتحية أهل بلادهم، وهذه التحية لا ثواب فيها، والنبي عليه الصلاة والسلام لما دخل عليه داخل فقال: (السلام عليكم، قال: عشراً -أي: عشر حسنات-، فلما زاد رجل آخر: ورحمة الله، قال: عشرون، فلما زاد آخر: وبركاته قال: ثلاثون، قالوا: يا رسول الله ما هذا؟) فبين أن كل واحد له من الثواب على قدر ما زاد في السلام، فأكمل التحية هي: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وقد صحح الشيخ الألباني عليه رحمة الله: أن الراد لهذه التحية لو أراد أن يزيد فيها حسناً فيقول: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته؛ حتى يكون قد أتى برد هو أحسن مما سمع.
الشاهد هنا: أن الله عز وجل أمر آدم أن يذهب فيسلم على الملائكة، ففهم آدم عليه السلام أو أن الله علمه ذلك أن يقول: السلام عليكم، فهذا يدل على أن هذه تحية أهل الإسلام منذ أن خلق الله آدم.
قال: [(فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه ورحمة الله، قال: فكل من يدخل الجنة على صورة آدم، طوله ستون ذراعاً، فلم يزل الخلق ينقص بعده حتى الآن)].
فالخلق لا يزالون في نقصان إلى قيام الساعة.
ثم بدأ الإمام مسلم بعد كتاب الجنة في سرد الروايات عن النار وما فيها من عذاب أعاذنا الله وإياكم من عذابها، ثم يعقد مقارنة بين الجنة والنار في بعض الأحاديث، يحسن بنا أن نذكر الروايات، أو أن نتلو الروايات التي أوردها الحافظ أبو نعيم الأصفهاني في كتاب ذكر الجنة.
قال رحمه الله تعالى: الحمد لله المشكور على ما أعطى، والمجاب إلى ما دعا، والمرغوب فيما رغب فيه ومنى، أعطانا التوحيد بتعرفه إلينا، وهدانا إلى طاعته بتوفيقه لنا، ورغبنا في كرامته وجنته بعد أن حلاها لنا ورغبنا فيها، فهو السلام، وداره دار السلام -وهي الجنة-، لمن سارع إلى طاعته، وسابق إلى مرضاته، ليحظى بدخول داره التي يأمن فيها من الآفات، ويسلم فيها من العاهات، التي من دخلها أمن من البوار، وسلم من الدمار، وحظي بجوار المنعم الجبار، قال الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَب(7/7)
نعت الجنة
عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: (ألا هل من مشمر للجنة؟ فإنه لا خطر لها -أي: لا عوض لها ولا مثيل لها من المخاطرة- هي ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز، ونهر مطرد -أي: مستمر دائم- وقصر مشيد، وفاكهة كثيرة نضيجة -يعني: ناضجة- وزوجة حسناء جميلة لا تموت، في خلود -أي: خلود دائم بلا موت- وحلل كثيرة، في مقام آبد، في رحبة -أي: في سعة- ونضرة، وحسن، وجمال، ونعمة دار عالية؟).
ولما سمع الصحابة هذا الوصف قالوا: (يا رسول الله! نحن المشمرون لها -أي: نحن مستعدون- قال: قولوا: إن شاء الله)، ثم ذكر الجهاد وحض عليه النبي صلى الله عليه وسلم، كان يشوقهم إلى الجنة، وهو يريد أن يقول لهم: هذا ثمن الجهاد.(7/8)
الجهاد ثمن الجنة
قال عليه الصلاة والسلام: (ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة)، فلا بد أن تدفع لها مهراً وثمناً، وثمنها ومهرها أن تجاهد في سبيل الله عز وجل، ولما شوقهم إلى ذلك قالوا: (نحن المشمرون يا رسول الله فأمرنا، قال: الجهاد)، وما أحوج الأمة الآن إلى الجهاد، ومن تصور أن العز يكمن في غير الجهاد فقد أخطأ، العز مع الأعداء لا يكون إلا بالسيف والسنان، والعز مع أهل البدع لا يكون إلا بالقرآن والبيان وبالحجة، أما أهل الكفر والجحود فلا سلام معهم قط، والله العظيم لا يوجد شيء مع اليهود اسمه سلام، إذا كنا في معادلة بين تكذيب الساسة، وتكذيب الله عز وجل، فنكذب الساسة، لا يوجد شيء اسمه سلام نهائياً، اليهود لا يقرعهم إلا عصا من نار ومن حديد، أما سلام فلا، وإلا فنحن نسمع عن السلام منذ نعومة أظفارنا وما رأينا في يوم قط سلاماً، بل كله دعاوى وأكاذيب باطلة.
والنبي عليه الصلاة والسلام لما شوق أصحابه إلى الجنة قالوا: نحن مستعدون ونحن مشمرون، قال: (عليكم بالجهاد).
والناس الآن ينظرون إلى الجهاد على أنه سفك للدماء، وخراب للديار، وتضييع للأموال، وهدم وتكسير في البنيان، ولا ينظرون إليه أنه سبب في النعيم السرمدي الأبدي في جنة الخلد، وهذا في المآل، وأما في الدنيا فهو العز والسؤدد، واليهود لا تفزعهم هذه المليارات من أعداد المسلمين أبداً، إنما يفزعهم لحية واحدة يلقونها على ساحل البحر المتوسط، تفزعهم وتقض مضجعهم؛ حتى لو كانت هذه اللحية لحية أضعف إنسان من المسلمين، فما بالك إذا كانت هذه اللحية قوية كلحية عمر بن الخطاب أو أبي بكر الصديق أو صلاح الدين الأيوبي؟! هم يعلمون جيداً أن العدو الأوحد إنما يكمن فيما أسموه هم بالأصوليين، أو بالرجعيين، أو بالوهابيين، أو بالإرهابيين، أو غير ذلك، وما هذه الحرب الضروس إلا منبتها أوامر يهودية، ولذلك مهما بلغ عدد المسلمين فإن هذا أمر لا يفزعهم، كما قال ذاك الكلب الهالك مناحيم بيغن لما دخل مدرسة من مدارس المسلمين فأبى المدرس أن يسلم عليه، وقال له المدرس: موعدنا معكم غداً في حرب ينتصر فيها الإسلام، ويهزم فيها الكفر، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود فيقول الحجر والشجر: يا مسلم تعال! خلفي يهودي فاقتله)، قال مناحيم بيغن: لا يكون ذلك إلا في يوم يكون فيكم من يتمسك بدينه ويكون فينا من يفرط في دينه، يعني: مناحم بيغن فاهم الرسالة جيداً، لكن للأسف الشديد المسلمون لا يفهمون شيئاً من ذلك.(7/9)
الحث على طلب الجنة والهروب من النار
قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما رأيت مثل الجنة، نام طالبها، ولا رأيت مثل النار نام هاربها)، قوله: (ما رأيت مثل الجنة نام طالبها) يعني: قصر في طلبها، (وما رأيت مثل النار نام هاربها) يعني: الذي يهرب من النار ينبغي أن يعمل لذلك، والذي يطلب الجنة ينبغي أن يعمل لها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عجباً لمن يطلب الجنة ولا يأتي لها بمهرها، ويهرب من النار بزعمه وهو يقع فيما يؤدي إليها)، وقال في رواية أخرى: (يا قوم! اطلبوا الجنة جهدكم، واهربوا من النار جهدكم، فإن الجنة لا ينام طالبها، وإن النار لا ينام هاربها).
وقال: (إنما يدخل الجنة من يرجوها، وينجو من النار من يخافها).
وقال عليه الصلاة والسلام في حديث أنس بن مالك: (يؤتى بأشد المؤمنين ضراً في الدنيا) أي: أبأس واحد في الدنيا من أهل الإيمان يؤتى به، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل)، وربما يكون العبد طائعاً لله عز وجل ويبتلى، وهذا البلاء أو الابتلاء على مرتبتين: إما أن تكون صاحب معصية فينزل عليك البلاء حتى يمحو الله عز وجل هذه الخطايا والسيئات، والإنسان عبد مذنب، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كل بني آدم خطاء)، وهذا لفظ عموم (وخير الخطائين التوابون) إذاً: افرض أنك عبد أخطأت ولم تدركك التوبة أولم تتب، فينزل عليك البلاء فيكون هذا البلاء كفارة لذنوبك.
ولذلك يقول الرسول عليه الصلاة والسلام كما في رواية الترمذي من حديث أنس: (وإن الله تعالى يصب البلاء على عبده صباً حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة)، فالبلاء له قيمة عظيمة جداً، البلاء من الأدواء، والأسقام، والعلل، والأمراض، والهموم، والغموم، وغير ذلك مما يصيب العبد، فإن ذلك يصيبه لمصلحته، وإن العبد يجزع، ويفزع، ويغضب إذا نزل به بلاء، وربما تسخط القدر وسأل الله تعالى: لماذا يا رب تعمل بي ذلك؟ وهذا كفر واعتراض على الله تعالى في أقداره، وأقدار الله تعالى كلها رحمة وخير وبركة، فينبغي إذا نزل بالعبد الضر أن يؤمن بذلك، وأن يرضى به، كما يقول العلماء: الصبر على البلاء قضية كل مسلم، والرضى بالبلاء لا يكون إلا من العباد، تصور بلاءً ينزل عليك وتصبر عليه هذا هو الواجب عليك، وهذا عمل الكبار من أهل الطاعة من الأئمة والعلماء وغيرهم.
قال: (يؤتى بأشد المؤمنين ضراً -أي: يوم القيامة- فيغمس في الجنة غمسة ثم يقال له: هل رأيت ضراً قط؟ فيقول: لا يا رب، ويؤتى بأنعم أهل الدنيا -أي: من أهل الكفر- ويغمس في النار غمسة واحدة، ثم يقال له: هل رأيت نعيماً قط؟ فيقول: لا يا رب).
إذاً: هذا الحديث عند الإمام مسلم أمر مطمئن جداً للقلب، فمهما نزل بك من ضر فاعلم أن ما عند الله خير لك وأبقى، فتصور لما ينزل بك من الضر ما نزل ثم يؤتى بك يوم القيامة فتغمس في الجنة غمسة، تنسى كل بلاء، تنساه تماماً حتى يكون السائل لك هو الله عز وجل فيقول لك: (عبدي هل رأيت بؤساً قط) أي: في حياتك، فتقول: لا والله.(7/10)
شرح صحيح مسلم - كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - أول زمرة تدخل الجنة في صورة القمر
لقد جاءت الأحاديث الشريفة تصف لنا الجنة وما فيها من النعيم المقيم؛ لتحثنا على الجد والعمل لطلبها، وقد جاء فيها: أن أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها ولا يتمخطون ولا يتغوطون، آنيتهم من الذهب والفضة، ومجامرهم من الألوة، ولكل واحد من أهل الجنة زوجتان يُرى مخ ساقها من وراء اللحم، قلوبهم كقلب رجل واحد، فهم في نعيم دائم لا ينقطع.(8/1)
باب في صفات الجنة وأهلها وتسبيحهم فيها بكرة وعشيا
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، أما بعد:(8/2)
شرح حديث: (أول زمرة تلج الجنة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن رافع، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها: وأنتم تعلمون أن هذا السياق الإسنادي إنما ينظم إلى ما تسمى بصحيفة همام بن منبه عن أبي هريرة.
قال همام: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: كيت وكيت وكيت مائة واثنين وأربعين حديثاً، جمعها الإمام أحمد في مسنده، في المجلد الثاني من مسند أبي هريرة، فذكر أحاديث منها: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول زمرة تلج الجنة)].
وكلمة (تلج) بمعنى: تدخل.
ولكن الولوج فيه معنى زائد على الدخول، كأنه الدخول بقوة، ولذلك: (أتى رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام فاستأذن قال: أألج يا رسول الله؟) يعني أأدخل يا رسول الله؟ (فقال النبي عليه الصلاة والسلام لـ أنس: اذهب فعلمه كيف يستأذن.
فخرج إليه أنس فقال: إذا أردت الاستئذان فقل: أأدخل ولا تقل أألج؟).
فكأن الله عز وجل كافأ عباده المؤمنين الذين يدخلون الجنة أنهم يدخلونها دخولاً قوياً، فالولوج يناسب الجنة ولا يناسب الدنيا، ولذلك أنكر النبي عليه الصلاة والسلام على من أراد أن يلج في بيته، وأثبت أن دخول الجنة هو دخول وزيادة، والزيادة هي الولوج.
قال: [(أول زمرة)] أي: أول عصابة، ومجموعة، وفوج يدخلون الجنة [(صورهم على صورة القمر ليلة البدر)] وهذا لا يلزم المماثلة والمشابهة في الصورة من جميع الوجوه.
فقولك: فلان مثل فلان، لا يلزم أنه مثله في الطول، والعرض، واللون، ولون العينين، وطول اللحية، ولون اللحية، وفي الأخلاق، والهدي، والسمت، لا يلزم أن يكون كذلك، وإنما تقول: محمد كأحمد.
أي: في الأدب.
محمد كإبراهيم.
أي: في حسن الخلق.
محمد كزيد.
أي: في الطول.
محمد كإبراهيم في العرض.
لا يلزم أن تكون المماثلة من كل زاوية وناحية، إنما يقال: فلان كفلان في بعض الشبه، وفي بعض الصفة، ولا يلزم أن تكون المماثلة في كل الصفات، فهكذا النبي عليه الصلاة والسلام شبه أول زمرة تدخل الجنة: (أنها على صورة القمر ليلة البدر)، وتسميته للقمر ليلة البدر يعني: في شدة وضاءته وجماله وحسنه وتمامه، فهذه الزمرة التي تدخل الجنة تكون صورهم كصورة القمر لا أنهم أقمار، فلا يكون الإنسان قمراً كما لا يكون القمر إنساناً، لكنه شبه الداخل أولاً إلى الجنة بأن صورته كصورة القمر، وفي الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام: (كان إذا سر من شيء تهلل وجهه كأنه القمر ليلة البدر).
وفي الحقيقة ليس هو كالقمر في ليلة البدر، وإنما هذا تشبيه في أحد الأوصاف، كان إذا ضحك، وتبسم، وتهلل وجهه يفرح الإنسان الناظر إليه أكثر من فرحه أو كفرحه إذا نظر إلى القمر ليلة البدر.
ثم قال: [(لا يبصقون فيها)].
والبصق هو التفل.
وهذا يدل على ذم هذه الصفة في الدنيا، إذا سرت في الطريق فرأيت رجلاً يبصق على الأرض فلابد أنك تتأذى منه.
ثم قال: [(ولا يمتخطون)].
أي: من النخامة، والنخاعة، وأنتم تعلمون: (أن النبي رأى رجلاً يتنخم في قبالة المسجد، وكان إمام قومه فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لا يصلين لكم -أي: لا يؤمكم بعد ذلك- فلما أتى ليؤم الناس منعوه وقالوا: إن رسول الله منعك أن تصلي بنا إماماً، فذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: أمنعتني يا رسول الله أن أصلي بالقوم؟ قال: نعم؛ لأنك آذيت الله ورسوله بالنخامة في المسجد).
وفي الحديث: (وجد النبي عليه الصلاة والسلام نخامة في جدار المسجد أو في قبالته فحكها عليه الصلاة والسلام).
وفي هذا دليل على تواضعه ومراقبته لحرمة بيوت الله عز وجل.
وقال: (إذا وجد أحدكم النخامة فليدلكها بقدمه).
أي: إذا كانت طرية.
وفي قول له: (إذا وجد أحدكم النخامة في المسجد فليحكها بأظفره).
وهذا إذا كانت يابسة جافة.
قال: [(لا يبصقون فيها، ولا يمتخطون، ولا يتغوطون فيها)].
ومع هذا النعيم الذي يأكلونه ويتلذذون ويتنعمون به في كل وقت وحين لا تنقطع لهم لذة ومع هذا فهم لا يتغوطون، ولا يبولون، ولا يمتخطون، ولا يتفلون.
قال: [(آنيتهم، وأمشاطهم من الذهب والفضة)].
أي: الأواني التي يأكلون فيها، والملاعق التي يأكلون بها من الذهب والفضة، ومن أكل في هذه الأواني في الدنيا لابد وأنه سيحرم منها في الآخرة، والجزاء من جنس العمل، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الذي يأكل في آنية الذهب والفضة كأنما يجرجر في بطنه نار جهنم) أي: من أكل بهما في الدنيا كأنه(8/3)
شرح حديث: (إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون)
قال: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم -واللفظ لـ عثمان - قال عثمان: حدثنا، وقال إسحاق -وهو ابن إبراهيم المعروف بأنه: ابن راهوية - أخبرنا جرير عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون)].
إذاً: في الجنة أكل وشرب.
وبعض الناس يقول: نعيم الجنة نعيم معنوي، وهذا خبل وجنون؛ لأن النعيم المعنوي لا يؤكل ولا يشرب، والنعيم المعنوي هو كما أن لو أن واحداً الآن دخل إلينا وألقى إلينا خبراً جميلاً سررنا به، هذا بلا شك يحدث عندنا لذة سماع الأخبار الطيبة والمبشرات، فلا شك أنه قد حصل اللذة بسماع الأخبار فهذه لذة معنوية وليست محسوسة مادية، ولذلك نعيم الجنة حسي ومعنوي، وهذا مذهب أهل الحق أهل السنة والجماعة أن نعيم الجنة حسي ومعنوي، ورؤية الله عز وجل في الجنة في يوم المزيد الذي تسميه بعض النصوص أنه يوم الجمعة نعيم معنوي، والرؤية حقيقة لله عز وجل، لكن إذا أثبتت النصوص أننا نأكل في الجنة ونشرب فكيف نأكل معنوياً ونشرب معنوياً؟! لابد أن نأكل شيئاً محسوساً، وفي الجنة لو أن واحداً في يده رمانة أو تفاحة فأكل نصفها واشتهى قبل إتمام النصف الثاني نوعاً آخر من الفاكهة لتحول النصف الذي في يده الذي لم يؤكل بعد من التفاح رماناً؛ لأنه اشتهى الرمان، وهذا شيء عجيب، الواحد منا إذا اشتهى شيء في الدنيا أتى منه بكيلو باثنين كيلو، وإذا اشتهى شيئاً آخر لا يقربه حتى يمر على الشيء الأول يوم يومين أسبوع أسبوعين على حسب حالته، لكن في الجنة إذا كان في يدك مانجو مثلاً فأنت أكلت منه حتى شبعت فتمنيت لو أكلت رماناً فما تبقى في يدك من مانجو يتحول إلى رمان في يدك، فنعيم الجنة لا يمكن أن يقاس عليه نعيم الدنيا، كما قال ابن عباس: ليس من تشابه بين نعيم الجنة ونعيم الدنيا إلا في الأسماء.
هذا اسمه رمان وهذا رمان، ولكن شتان ما بين طعم هذا وطعم ذاك، وبين حقيقة هذا وحقيقة ذاك.
قال: [(إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون، ولا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يمتخطون.
قالوا: فما بال الطعام؟)].
يعني: سؤال يحتاج إلى جواب، أنت يا رسول الله الآن تقول: هم يأكلون ويشربون، لكنهم لا يتغوطون ولا يبولون، إذاً: الطعام هذا أين يذهب؟ قال: [(قال: جشاء)].
والجشاء هو الريح الذي يخرج من الفم مع الصوت عند الشبع، فهذا اسمه الجشاء، وهذا في الدنيا عيب، وفي الآخرة ليس عيباً؛ لأن هذه الوسيلة التي يتخلص بها من دخل الجنة من بقية طعامه، أو هذه أحد الوسائل للتخلص من الطعام.
وجاء في حديث آخر: (فتجرع أو تكرع رجلاً بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام وقال: إليك عنا يا فلان فإنما الجشاء من الشبع).
[(قال: جشاء، ورشح كرشح المسك، يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس)]-وفي رواية قال: (كرشح المسك) -.(8/4)
شرح حديث: (يأكل أهل الجنة فيها ويشربون)
قال: [وحدثني الحسن بن علي الحلواني].
الحلواني وليس الحَلواني.
أي: من حلوان، وهي قرية في العراق اسمها حلوان؛ لأن حلوان المشهورة عند المقرئين هي حلوان المعروفة، لكن هناك قرية أعظم منها وأشهر قبل أن يكون في مصر حلوان كانت في العراق، وكانت نهضة لأهل العلم في زمن من الأزمنة، فـ الحسن بن علي الحلواني، وحجاج بن الشاعر كلاهما يرويان عن أبي عاصم النبيل.
[قال الحلواني: حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج] وهو عبد الملك بن عبد العزيز الأموي كان إماماً في العلم، ولكنه مدلس، والمدلس إذا صرح بالسماع أخذنا حديثه وإلا فلا، فهذا ابن جريج يقول: أخبرني أبو الزبير.
وأبو الزبير يقول: أخبرني، وأخبرني من صيغ السماع أو من الصيغ التي تفيد السماع.
إذا قال المدلس: أخبرني، أو أنبأني، أو حدثني، أو سمعنا، أو حدثنا، أو أنبأنا، فكل هذا الألفاظ تدل على أنه قد سمع بنفسه، فإذا قال مدلس شيئاً من هذه الصيغ أمنا بذلك تدليسه، واحتملنا حديثه، وكذلك أبو الزبير المكي محمد بن مسلم بن تدرس هو مدلس، ولكنه قال: أنه سمع جابر بن عبد الله، فنأمن بذلك من تدليس ابن جريج ومن تدليس أبي الزبير.
[عن جابر قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يأكل أهل الجنة فيها، ويشربون، ولا يتغوطون، ولا يمتخطون، ولا يبولون، ولكن طعامهم ذاك جشاء كرشح المسك، يلهمون التسبيح والحمد -أي: والتحميد- كما يلهمون أو تلهمون النفس)].
يقول الإمام النووي: (مذهب أهل السنة وعامة المسلمين أن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون، ويتنعمون بذلك وبغيره من ملاذ وأنواع نعيمها تنعماً دائماً لا آخر له ولا انقطاع أبداً)، وأهل الجنة إذا دخلوا الجنة لا يموتون فيها، فالجنة نعيمها دائم لا ينقطع وبين أيديهم وفي متناولهم في كل وقت وحين، وهم لا يموتون فيها أبداً.
إذاً: نعيمهم دائم دواماً لا نهاية له، ولا انقطاع له.
قال: (وإن تنعمهم بذلك على هيئة تنعم أهل الدنيا) يعني: هم يتنعمون في الجنة كما كانوا يتنعمون في الدنيا.
يعني: هو يريد أن يمعن إمعاناً في إحقاق مذهب أهل الحق من أهل السنة أنهم يأكلون أكلاً حقيقاً ويشربون شرباً حقيقاً كما كانوا يأكلون ويشربون في الدنيا إلا ما بين الدنيا والآخرة من التفاضل في اللذة والنفاسة.
(النبي عليه الصلاة والسلام في ليلة كسوف القمر لما صلى بأصحابه فتأخر صلى الله عليه وسلم حتى كاد أن يصل إلى الصف الأول ثم تقدم عليه الصلاة والسلام ومد يده ثم وضعها على صدره واستمر في القراءة، قالوا: يا رسول الله! ما بالك فعلت شيئاً لم نكن نعهده عليك؟ قال: رأيت الجنة والنار رأي العين، وإن إبليس أتى بشهاب من نار وأراد أن يشوش علي صلاتي فتأخرت، فلما ذهب تجلت لي الجنة فتقدمت حتى كدت أقطف منها عنقوداً -ولما مد يده كاد يقطف منها عنقوداً -: ولو أني فعلت ما شبعتم منه إلى يوم القيامة) يعني: من هذا العنقود فقط فإن البشر يستمرون يأكلون منه إلى يوم القيامة لا يشبعون من جماله وحلاوته.
أنت في هذا الوقت لو وضع أمامك قليل من العنب لابد أن بركة يوسف والي ستحل في هذا الطبق من كيماويات وغير ذلك، فلا شك أنك تأكل شيئاً يسيراً ثم ترفع يدك وتقول: كفاية سم، مع أنه في الأصل عنب وهو في الظاهر لذة، لكنه سم في العنب، وقس على العنب كل أنواع الثمار، والفواكه، والخضروات، حتى القمح إذا كنا إلى يومنا هذا نزرع القمح، والذي ذلنا هو أننا لا نزرع القمح.
قال: (وإن تنعم الجنة بذلك على هيئة تنعم أهل الدنيا إلا ما بينهما من التفاضل في اللذة والنفاسة التي لا يشارك نعيم الدنيا إلا في التسمية وأصل الهيئة).
يعني: هذا تفاح وهذا تفاح، لكن شتان بينهما، وهذا عنب وهذا عنب، لكن شتان بينهما، وشتان ما بين الطعم والمذاق واللذة وإن اتفقا في الهيئة والشكل والاسم، فليس بين نعيم الجنة ونعيم الدنيا من شبه ومماثلة إلا في الاسم والهيئة، أما في الجوهر فيختلف تماماً.
وأهل الجنة لا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يمتخطون، ولا يبصقون، وقد دلت دلائل القرآن والسنة في هذه الأحاديث التي ذكرها مسلم وغيره أن نعيم الجنة دائم لا انقطاع له أبداً، لن يكون أحد في الجنة بخيلاً، لا توجد هذه الأشياء التي هي في الدنيا، ودناءة الأنفس أيضاً لن يكون لها أصل في الجنة، وعلى آية حال ما من شيء يطلبه العبد من ربه إلا وهو بين يديه بإذن الله تعالى.(8/5)
باب في دوام نعيم أهل الجنة
(الباب الثامن: في دوام نعيم أهل الجنة).
يعني: استمرار النعيم وعدم انقطاعه.
(وقول الله تعالى: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43]).
الباء هنا في قوله (بِمَا): باء السببية.
أي: بسبب ما كنتم تعملون دخلتم الجنة؛ ومعلوم أن دخول الجنة بفضل الله عز وجل ورحمته، ولو أراد الله تعالى أن يعذب الطائع لعذبه وهو غير ظالم له، ولو أراد أن ينجي الظالم من النار وأن يدخله الجنة لفعل لذلك بحكمته وعدله سبحانه وتعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23].
فهذا باب عظيم من أبواب القدر، فإذا كان يوم القيامة فإن نعيم الآخرة لا ينقطع، بل هو دائم ديمومة لا انقطاع لها ولا انتهاء لها، وينادى على الناس يوم القيامة أن هذه الجنة التي أورثتموها ودخلتموها إنما هي بسبب أعمالكم.
إذاً: الأعمال سبب وليست هي التي يركن إليها، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كل الجنة يدخلون الجنة إلا من أبى قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى).
وقال عليه الصلاة والسلام: (لا يدخل أحد الجنة بعمله).
أي: لا يدخل أحدكم الجنة ابتداءً بعمله وإنما برحمة الله.
(قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل).
إذاً: دخول الجنة برحمة الله، ودخول النار بعدل الله، لا يظلم الله تعالى الناس شيئاً: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} [يونس:44].(8/6)
شرح حديث: (من يدخل الجنة ينعم لا يبأس)
قال: [حدثني زهير بن حرب قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت بن أسلم البناني البصري، عن أبي رافع، عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يدخل الجنة ينعم لا يبأس)] (ينعم): أي: يتلذذ، وتحصل له اللذة والنعيم.
(لا يبأس) أي: من البؤس، والهم، والغم.
أنتم تعلمون أن الدنيا دار هم وبلاء، هذا الهم والبلاء يصيب المؤمن والكافر، ويصيب العاصي والطائع، ويصيب الجميع، فليس من أحد في الدنيا إلا ويصيبه الهم والغم عظمت ثروته أو قلت، كثر أولاده أو لا ولد له، كثرت زوجاته أو لا زوجة له، صغيراً كان أو كبيراً، أنثى أم ذكراً، عبداً أم حراً، الكل قد أصابه الهم والغم في حياته الدنيا، وإن تظاهر بالسعادة فعنده ما عنده، والبيوت ما أغلقت إلا على براكين من نار، هذا الأبواب التي جعلت على مداخل البيوت والشقق أغلقت على براكين كادت أن تنفجر، وهذا شأن الدنيا، فمهما نزل بعبد الضر والبلاء فلابد له من فرج؛ لأنه لا يملك الفرج إلا الله، لكن ينبغي على هذا العبد الذي نزل به الضر والهم أن يلجأ، وأن يتضرع إلى الله عز وجل، وأن ينتهز الأوقات التي تجاب فيها الدعوات وتصعد إلى رب الأرض والسماوات، والله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا من عليائه سبحانه وتعالى نزولاً يليق بجلاله، فيقول لعباده في الثلث الأخير من الليل: ألا هل من داع فأجيبه؟ الله تعالى هو الذي يجيب الدعوات، فلم تضن على نفسك بأن تقوم لله تعالى في وقت أنت على يقين أنه يقبل منك الدعاء، ثم تذهب لتشكو إلى فلان أو علان، وأولى بك أن تشكو لربك الذي يملك تفريج الهم، وكشف الضر، المهم أن تقوم له في الوقت المحدد من آخر الليل فتصلي ركعتين، أو أربع ركعات، أو ست، أو ثمان أو إحدى عشرة ركعة ثم تجلس بعد ذلك تسبح: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18].
قال الإمام الحسن البصري: كانوا يصلون من منتصف الليل إلى وقت السحر فإذا كان السحر جلسوا ورفعوا أكف الضراعة إلى الله عز وجل يسألونه حاجاتهم، هذا الوقت الذي يجدر بنا جميعاً أن ننتصب لله تعالى فيه بالليل، وأن يطلب الواحد منا ولو دعوة واحدة من ربه في كل ليلة.
ولو تعددت حاجاتك عند الله وكانت كثيرة، فالله تعالى بيده مفاتيح الأرض والسماوات، يملك كل شيء، فهو يملك العباد وما يملكون، وهو الذي يملك قلوب العباد، وكثير من الناس بينه وبين إخوانه منازعات، وهو يتصور أو يعتقد أن هذه المنازعات لا حل لها البتة، ولا يمكن أن تنكشف، وهذا سوء ظن بالله تعالى، فلو أنه دعا الله عز وجل في ليلة أن يفرج كربه لكان لزاماً أن تفرج الكروب، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما بال أحدكم يستعجل الإجابة حتى يدع الدعاء).
يستعجل الإجابة يقول: يا رب! دعوت ولم تستجب لي.
وكم من امرأة كانت تحت رجل فكانت سر تعاسته، فلما طلقها وتزوجت رجلاً آخر كانت قمة السعادة بينهما، والعكس بالعكس، فينبغي أن يسلم المرء أمره كله لله تعالى يفعل فيه ما يشاء، فالله تبارك وتعالى يعلم الخير والشر سبحانه وتعالى، وهو الذي يعلم ذلك.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا هم أحدكم بالأمر).
يعني: إذا دخل في نفس أحدكم شيء يريد أن يصنعه.
والصحابة رضي الله عنهم كانوا يستخيرون الله تعالى في شراك نعالهم، وهذا من التسليم لقدر الله تعالى وقضائه، قال للصحابة: (إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب اللهم إن كان هذا الأمر -ويسميه- خيراً لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري آجله وعاجله، فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كان هذا الأمر -ويسميه- شراً لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري آجله وعاجله فاصرفه عني).
أي: فاصرفه عني يا رب بعلمك.
إذا كنت تعلم في الأزل أن هذا تعس وبؤس اصرفه عني.
(واصرفني عنه، ثم اقدر لي الخير حيث كان).
ومعنى: (اللهم إنه كنت تعلم) أي: أنك تعلم، مثل قول ربنا: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1]، و (قد) هنا تفيد التحقيق، مع أن (قد) قد تأتي للشك.
وعلماء اللغة يسمون هذا: الحرف الزائد أو الكلام الزائد، ومعناه أن الجملة تستقيم بغيره لا أن في كلام الله حرفاً زائداً لا قيمة له حاشا لله.
(فاللهم إن كنت تعلم): أي اللهم إن كان سبق في علمك الأزلي الذي علمته وكتبته في اللوح المحفوظ قبل أن تخلق الخلق بخمسين ألف سنة أن كذا وكذا تكون فيه سعادتي فيسره لي، وهذا ليس على سبيل الشك وإنما على سبيل التحقيق.
قال: (من يدخل الجنة ينعم لا يب(8/7)
شرح حديث أبي سعيد وأبي هريرة في نعيم الجنة: (إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً)
[وقال أبو إسحاق: أن الأغر حدثه عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ينادى مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً)].
أي: فلا يصيبك سقِم أو سقَم.
الذي يدخل الجنة يكون صحيحاً، فتياً، قوياً، لا يمرض أبداً، فليس في الجنة مرض؛ لأن المرض ضعف وهزال في البدن، وهذا يتنافى مع النعيم واللذة في الجنة، فلا مرض في الجنة أبداً بل الصحة والعافية الدائمة السرمدية الأبدية التي لا نهاية لها.
قال: [(وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً)].
أي: حياة لا نهاية لها: (يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت).
قال: [(وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا)].
أي: ستظلوا طول عمركم شباب، لا يصيبكم كبر السن.
قال: [(وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا، فذلك قوله عز وجل: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43])].(8/8)
باب في صفة خيام الجنة وما للمؤمن فيها من الأهلين
(الباب التاسع: في صفة خيام الجنة وما للمؤمن فيها من الأهلين).
الجنة فيها خيام، لكن ليست كخيام العرب، فنعيم الجنة لا يشابه نعيم الدنيا إلا في الاسم، هذه اسمها خيمة وهذه خيمة.
ولا وجه للمقارنة.
والمؤمن له زوجة، وأولاد، وأصدقاء، والله لئن دخلنا الجنة واشتهى أحد منكم أن يلقى أخاه الذي يعرفه في مسجد الرحمة والله ليقابلنه، وهذا كان يصلي معي، ويصوم معي، ويعينني على الطاعة، وأعينه على الطاعة، فيا رب أريد أن أراه، اشتقت إليه، يكون فوراً من غير قيام حتى لو كان هذا في آخر الجنة وأنا في أولها أو العكس، بمجرد أن أشتهي لقاءه أكون أمامه.(8/9)
شرح حديث: (إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة)
قال: [حدثنا سعيد بن منصور، عن أبي قدامة الحارث بن عبيد، عن أبي عمران الجوني، عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس، عن أبيه].
الذي هو أبو موسى الأشعري عبد الله بن قيس.
[عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة)].
خيمة الجنة من لؤلؤة.
أي: درة ياقوتة واحدة.
مجوفة.
يعني: فارغة من الداخل.
وفي رواية: (مجوبة).
ولا أدري هو تصحيف أو نص آخر وإذا كان نصاً فالمعنى واحد.
ومعنى مجوبة: أي: مثقوبة يعني: لها باب، حتى يدخل إليها من أراد أن يدخل من الأهل والأصحاب، فكونها مجوبة أو مجوفة المعنى واحد، ولكنها من لؤلؤة.
قال: [(طولها ستون ميلاً)].
أي: طولها في السماء ستون ميلاً، وهذا لا يمكن أن تجد خيمة في الدنيا بالشكل هذا، والميل حوالي اثنين كيلو إلا ربع تقريباً، فتصور أن لؤلؤة الجنة طولها في السماء حوالي مائة كيلو في السماء، وهذا من فضل الله عز وجل، لو اشتهى أن يطير فيها طار.
قال: [(للمؤمن فيها أهلون)].
أهلون: جمع أهل، والأهل هم الزوجة.
وأهلون يدل على التعدد بغير تنغيص، ولا وضع السم في الطعام، ولا تكييف، لا يوجد هذا الكلام تماماً.
ألم يقل الله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الأعراف:43]، لن يكون هناك غل، لا هذه ستغضب من هذه ولا هذه ستغضب من هذه، سيكون منتهى الود والألفة، والله هو الذي جعل أصل خلقهم على الحب والود والوفاء، لا توجد امرأة ستغير من الأخرى، وإذا دخل على إحدى زوجاته لا تراه زوجاته الأخريات ولا يسمعن منه خبراً من سعة الخيمة.
قال: [(يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضاً)].
يعني: يذهب إلى هذه، وإذا ترك هذه لا تراه الأخرى.
وهذا فيه سلوى للذي يريد أن يتزوج الثانية ولا يستطيع أن يتزوج لأنه خائف، وهذا توحيد الخائفين، قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء:3].(8/10)
شرح حديث: (في الجنة خيمة من لؤلؤة)
قال: [وحدثنا أبو غسان المسمعي حدثنا أبو عبد الصمد حدثنا أبو عمران الجوني، عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة عرضها ستون ميلاً)].
الرواية الأولى: طولها (60) ميلاً.
والرواية الثانية: عرضها (60) ميلاً.
والجمع بين الروايتين: أن طول الخيمة (60) ميلاً في السماء وعرضها على الأرض (60) ميلاً أيضاً.
إذاً: الخيمة مربعة فهي (60×60).
قال: [(في كل زاوية منها أهل، ما يرون الآخرين، يطوف عليهم المؤمن)].
يعني: لا يوجد واحدة ترى الأخرى، ولو رأتها لا توجد مشكلة.
قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا همام، عن أبي عمران الجوني، عن أبي بكر بن أبي موسى بن قيس الأشعري، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الخيمة درة -والدرة بمعنى اللؤلؤة- طولها في السماء ستون ميلاً في كل زاوية منها أهل للمؤمن لا يراهم الآخرون)].(8/11)
باب ما في الدنيا من أنهار الجنة
(الباب العاشر: ما في الدنيا من أنهار الجنة).
باب إثبات أن بعض أنهار الدنيا هي أنهار الجنة، أو أن أصل مائها من الجنة.
قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو أسامة، وعبد الله بن نمير، وعلي بن مسهر، عن عبيد الله بن عمر، (ح) وحدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا محمد بن بشر العبدي، حدثنا عبيد الله بن عمر العمري، عن خبيب -أي: ابن عبد الرحمن - عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيحان، وجيحان، والفرات، والنيل، كل من أنهار الجنة)].
أي: كل نهر من هؤلاء من أنهار الجنة، وسيحان، وجيحان ليسا سيحون وجيحون، والنيل في مصر، والفرات في العراق يفصل بين أرض الشام وأرض الحجاز.
أولاً: نتعرف على هذه الأنهار وطبيعتها، ثم نتطرق بعد ذلك كيف أن هذه الأنهار من أنهار الجنة.
قال النووي: (أعلم أن سيحان وجيحان -وهما النهران الأولان- غير سيحون وجيحون، فأما سيحان وجيحان المذكوران في هذا الحديث اللذان هما من أنهار الجنة هما في بلاد الأرمن).
وبلاد الأرمن قرب الشام، وليست بلاد الأرمن بلاد الشام وإنما هي قريبة من الشام.
قال: (فجيحان هو المعروف الآن بنهر المصيصة، وسيحان نهر إذنة، وهما نهران عظيمان جداً أكبرهما جيحان).
قال: (أما قول الجوهري في صحاحه: جيحان نهر بالشام.
فغلط).
يعني: أخطأ في ذلك؛ لأنه قال أن جيحان نهر بالشام.
قال: (أو أنه أراد المجاز) يعني: أنه ببلاد الأرمن وهي قريبة من بلاد الشام فسماها الشام مجازاً فإذا كان يقصد ذلك وإلا فلا.
قال: (قال الحازمي: سيحان نهر عند المصيصة، قال: وهو غير سيحون).
يعني: سيحون شيء وسيحان شيء آخر.
قال: (وقال صاحب نهاية الغريب: سيحان وجيحان نهران بالعواصم عند المصيصة وطرسوس، واتفقوا كلهم على أن جيحون وراء خراسان عند بلخ، واتفقوا على أنه غير جيحان، وكذلك سيحون غير سيحان.
وأما قول القاضي عياض: هذه الأنهار الأربعة أكبر أنهار بلاد الإسلام، فالنيل بمصر، والفرات بالعراق، وسيحان وجيحان ويقال سيحون وجيحون ببلاد خراسان ففي كلامه إنكار).
الإمام النووي يقول أن القاضي أخطأ في ذلك؛ لأنه جعل سيحان وجيحان هما سيحون وجيحون، وهذا خطأ كما قلنا من قبل، وأنه قال: الفرات بالعراق وليس بالعراق فنقم عليه ذلك، كما أنه قال: أنهما -أي: سيحان وجيحان- في بلاد خرسان.
قال: (وأما سيحان وجيحان فهما ببلاد الأرمن بقرب الشام).
فهذه أخطاء ردها النووي على القاضي عياض.
قال: (وأما كون هذه الأنهار من ماء الجنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وإنها من ماء الجنة).
أي: هذه الأنهار من ماء الجنة).
أي: معنى أن هذه الأنهار من ماء الجنة.
(ففيه تأويلان ذكرهما القاضي عياض.
أحدهما: أن الإيمان عم بلادها).
والإيمان سبب لدخول الجنة، وهذا تأويل بعيد أن الإيمان عم بلادها.
قال: (أو أن الأجسام المضتغذية بمائها صائرة إلى الجنة).
فهذه البلاد يعيش فيها اليهود، ويعيش فيها النصارى ويشربون ويتغذون من مائها فكيف يدخلون الجنة؟ وإنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، واليهود والنصارى لا حظ لهم في الجنة، ولا حظ في الجنة إلا لمن آمن ووحد.
فحينئذ يكون هذا تأويل مردود؛ لأنه بعيد جداً.
قال: (والثاني وهو الأصح: أنها على ظاهرها).
أي: أن هذا الحديث على ظاهره لا يحتاج إلى تأويل.
(ولها مادة من الجنة) أي: لهذه الأنهار مدد من السماء، لا يعلمه إلا الله، خاصة وقد جاء في روايات سبقت وشرحناها تفصيلاً وأثبتنا أن لهذه الأنهار مدد من الجنة، وأنتم تعلمون أن الجنة والنار مخلوقتان الآن، وأن النبي عليه الصلاة والسلام دخل الجنة فرأى فيها كيت وكيت وكيت، وذكرنا هذه المرئيات، واطلع على النار فوجد أكثر أهلها النساء، فالجنة والنار مخلوقتان الآن قائمتان الآن لا يدري أحد مكانهما، وهذا يفوض علمه إلى الله عز وجل، فحينئذ يجب أن نعتقد أن هذه الأنهار إنما أصلها وأصل منبتها من الجنة، وأنها تستمد ماءها من الجنة، فإذا أرادوا أن يضحكوا علينا بعد ذلك ويقولون: إن هذا النيل يستمد ماءه من بحيرة ناصر سنقول: إن النيل وبحيرة ناصر يستمدان الماء من الجنة، وإذا كان هذا الماء الذي بين أيدينا هو ماء أصله من الجنة، فعيب علينا أن نلوثه بالقاذورات والفضلات وآثار التغوط وأكثر من ذلك، وعيب علينا أن نسمح لغير بلاد المسلمين أن يلوث هذه المياه بالكيماويات والسموم وغير ذلك حتى صرنا أفقر بلاد العالم في الماء، مع كثرته ووفرته لكن ماء النيل بين أيدينا ونخشى أن نستعمله ونقول: لابد من تكريره أولاً، وهناك منظر يؤذي قلوب الموحدين: أن ترى على كل مكان من النه(8/12)
باب: يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير
(الباب الحادي عشر: يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير).
إما أن يكون المراد بذلك: الرقة والخفة، وإما أن يكون المراد بذلك: الخوف والفزع.
ويؤيد المعنى الأول قول النبي عليه الصلاة والسلام لما رأى أهل اليمن: (أتاكم أهل اليمن هم أرق الناس أفئدة وألين الناس قلوباً).
ومعلوم أن قلب المؤمن مثل قلب الكافر في نفس اللون، ونفس القوام، لكن المراد معنوي فقد تعظ الناس بالجنة والنار وتذكر لهم الوعيد الشديد فربما انفطر وانصدع قلب المؤمن لأول وهلة، وربما لا ينصدع قلب الكافر حتى آخر لحظة، والقلوب منها القلب القاسي، والقلب اللين، والقلب الرطب بذكر الله، والقلب القاسي ببعده عن الله عز وجل وبعده عن ذكر الله، فالقلوب أنواع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (القلوب أربعة).
قال عليه الصلاة والسلام: [(يدخل الجنة أقوام أفئدتهم)].
والفؤاد هو لب القلب [(مثل أفئدة الطير)].
فإما أن يكون المقصود بذلك الرقة واللين كما قال صلى الله عليه وسلم: (أتاكم أهل اليمن هم أرق الناس أفئدة وألين الناس قلوباً، الفقه يمان، والإيمان يمان والحكمة يمانية).
فالنبي عليه الصلاة والسلام يثني على أهل اليمن، وهم أهل لهذا الثناء، وأحق بهذا الثناء، وقد عرفهم النبي عليه الصلاة والسلام حق المعرفة، ولا تزال هذه الصفات يتمتع بها الشعب اليمني إلى يومنا هذا، تجدهم أقرب الناس إليك، وأحن الناس عليك، وألطف الناس محادثة، وأطوع الناس عند النقاش، وأأدب الناس عند الخلاف، هذه حقيقة صفات الشعب اليمني إلى يومنا هذا، كما أن النبي عليه الصلاة والسلام مدح الأنصار، وبلاد الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار، وهذا المدح تجده فيهم إلى الآن، وأهل مكة تجد فيهم القسوة، والغلظة، والجفاء، والعنجهية، والكبر، والغطرسة، وقلة الأدب، إلا من رحم الله عز وجل! وإما أن يكون المعنى المراد مثل أفئدة الطير في الخوف والهيبة؛ لأن الطير أفزع الخلق، تجد الحمامة في عز النوم وأول ما تسمع صوتاً غريباً ولو من بعيد تصير في أعالي السماء، قد فزعت وخافت.
وكأنه أراد أن يقول: لا يدخل الجنة إلا من حقق كمال الخوف والرجاء لله عز وجل.
وأنتم تعلمون أن الخوف والرجاء جناحا المؤمن في السير إلى ربه، فلا يغلب الخوف على الرجاء ولا يغلب الرجاء على الخوف وإنما هما جناحان يسيران في مسار واحد في الحياة الدنيا.
وأما في حال الصحة فقد قال بعض أهل العلم بجواز تغليب باب الخوف حتى يزيد الخائف من العمل؛ ولذلك: (لما قرأت عائشة رضي الله عنها: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60]، قالت: يا رسول الله! أهذا الزاني الذي يزني، والقاتل الذي يقتل، والسارق الذي يسرق؟ قال: لا يا ابنة الصديق، إنما هؤلاء أقوام أتوا بصلاة وصيام وزكاة يخافون ألا يتقبل منهم).
أي: فيحملهم خوفهم هذا على المزيد من العمل، فالخوف المشروع هو الخوف الذي يجعل الخائف يزداد من الطاعات، أما الخوف الذي يؤدي إلى الإياس والقنوط من رحمة الله فليس هذا هو الخوف المشروع، إنما هذا خوف على غير مذهب أهل الحق وعلى غير مذهب أهل السنة والجماعة.
والرجاء كذلك يكون بعد العمل، فالمؤمن يصلي ويرجو الله تعالى أن يتقبل منه ذلك، ويصوم ويرجو الله تعالى أن يتقبل منه ذلك، ويفعل الطاعات وينتهي عن المعاصي ويرجو الله تعالى أن يثبته على الإيمان بعد العمل بعد بذل الوسع وإفراغ الجهد في مرضات الله تعالى، فهو يرجو ربه أن يتقبل منه ذلك، وأن يعفو عن السيئات والهفوات.
لكن رجاء لا عمل معه لا ينفع، والذي لا يصلي ويزعم أنه متكل على رحمة الله ليس بصادق مع نفسه إذ كيف سيرحمه الله عز وجل وهو الذي أعرض عن شرعه ودينه؟ وقد سمع الوعيد والتهديد في القرآن والسنة ولم يحرك فيه ساكناً، فكيف يعفو عنه الله عز وجل؟ ولو شاء الله أن يعفو عنه لعفا، لكن هناك أحكام شرعية ينبغي أن تتمسك بها حتى تكون أهلاً لرحمة الله عز وجل، فبعض الناس يتصور أن الرجاء أن يدع العمل، ويعتقد أن رجاءه ينفعه.
كلا وألف كلا، لا ينفعه ذلك، وليس هذا باب الكلام عن الخوف والرجاء.
ويمكن أن يحمل قوله: (مثل أفئدة الطير): أي في التوكل على الله عز وجل، خاصة في الرزق والأجل، ولذلك ضمن الله لعباده الأرزاق والآجال، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن روح القدس) أي: جبريل (نفث في روعي) أي: حدثني سراً.
(أن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها).
أي: يا محمد اعلم في نفسك، وأخبر أمتك أن أحداً لن يموت حتى يأخذ رزقه كاملاً بغير نقصان، والمطلوب هو (فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، واعلموا أن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته).
أي: ما عليك إلا أن تطيع الله، ولا أقل من أن تكون كالعصفور، والحمام، وال(8/13)
شرح حديث: (خلق الله تعالى آدم على صورته)
قال: [حدثنا محمد بن رافع، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن همام، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (خلق الله عز وجل تعالى آدم على صورته)].
الضمير في قوله: (صورته) يعود على آدم، وهو أقرب اسم مذكور مفرد للضمير فيعود عليه الضمير.
خلق الله آدم على صورته.
أي: على صورة آدم.
وبعض أهل العلم أنكر هذا التأويل فقال: وليس في هذا بلاغة ولا فصاحة، والنبي صلى الله عليه وسلم هو أبلغ الخلق وأفصح الخلق، فلا يتصور أن يكون التقدير هكذا خلق الله آدم على صورة آدم، وحملوا الضمير على الرحمن الذي قد جاء في حديث آخر: (خلق الله آدم على صورة الرحمن).
وهذا أرجح القولين عندي، لكن لا يلزم من ذلك أن تكون صورة الله تعالى هي نفس صورة الرجل من خلقه، فيكون المعنى: كما أن الله تعالى له ذات وصورة لا يعلم كيفيتها إلا هو سبحانه وتعالى، فكذلك آدم لما خلق كان له صورة.
فيكون التقدير: خلق الله آدم على صورة كما أن الله تعالى على صورة، ولا يلزم من المماثلة بين الاسمين أو الوصفين المماثلة من كل وجه، بل يحكم هذا وذاك قول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11].
أي: ليس كمثله شيء لا في الذات ولا في الصفات، وكما أن نعيم الجنة لا يتفق مع نعيم الدنيا إلا في الاسم فقط، ولا يلزم منه المماثلة والمشابهة كما قلنا من قبل، فكذلك لله تعالى صورة، ولا بد؛ لأنه ذات علية سبحانه وتعالى، وكل ذات لها أوصاف؛ ولذلك وصف نفسه بأوصاف، ووصفه رسوله عليه الصلاة والسلام بأوصاف، وسمى الله تعالى نفسه بأسماء، وسماه رسوله بأسماء، فنتوقف عند حد ثبوت الأسماء والصفات الثابتة في الكتاب والسنة لله عز وجل من غير خوض في الكيفية.
وهذا مذهب أهل الحق لا نفوض في المعنى، ولا نفوض في العلم وإنما نفوض الكيفية، فالله تعالى له صورة؛ لأنه أخبر أن له صورة، ونمسك عن ماهية هذه الصورة وكيفيتها، وآدم له صورة ولا يلزم المماثلة والمشابهة من إثبات الصورة لله وإثبات الصورة لآدم.
نكتفي بهذا القدر، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً(8/14)
شرح صحيح مسلم - كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - شدة حر نار جهنم وبعد قعرها
خلق الله النار للكفار من خلقه، والعاصين من عباده، ووعدها بملئها منهم، وقد جاء الأمر بالتعوذ منها ومن حرها وأهوالها، والتي لا يعرف مقدارها إلا الله سبحانه وتعالى، وقد جعلها الله على دركات لكل دركة من دركاتها ناسها، حتى يصل آخرهم إلى دركها الأسفل.(9/1)
باب في شدة حر نار جهنم وبعد قعرها وما تأخذ من المعذبين
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، أما بعد: فمع الباب الثاني عشر من كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها: (باب في شدة حر نار جهنم) أعاذنا الله وإياكم منها (وبعد قعرها، وما تأخذ من المعذبين).(9/2)
شرح حديث: (يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عمر بن حفص بن غياث، قال: حدثنا أبي عن العلاء بن خالد الكاهلي، عن شقيق وهو شقيق بن سلمة الكوفي، أبو وائل، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بجهنم يومئذ -أي يوم القيامة- لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها)].
قوله: (يؤتى بجهنم): هذا يدل على أن جهنم تغدو وتجيء، وأنها تجيء حتى تلتهم أهلها الذين أعدوا لها، وخلقوا لها، وكذلك الجنة، كما قال الله تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الشعراء:90].
أي: وقربت الجنة، فالجنة تقرب من أهلها حتى يدخلوا فيها، والنار كذلك يقربون منها حتى يدخلوا فيها، وفي الغالب أن كلمة (يقرب) تكون في موضع الإكرام، فالإكرام يقرب للضيف، ولذلك فإن من السنة أن يقرب الطعام إلى الضيف ولا يوضع في مكان ثم يدعى الضيف أن ينتقل إليه، ولذلك فإن إبراهيم عليه الصلاة والسلام قرب لأضيافه عجلاً حنيذاً للأكل منه.
(يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام).
والزمام هو الشيء الذي يتحكم فيه الساحب.
(كل زمام يجره سبعون ألف ملك).
هذا يدل على عظم النار وسعتها وشدتها، سبعون ألف ملك في سبعين ألف ملك، والناتج سيكون عدداً هائلاً، وإنما ذلك لعظمها وشدتها.(9/3)
شرح حديث: (ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزء من سبعين)
قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا المغيرة بن عبد الرحمن الحزامي، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ناركم هذه -أي: نار الدنيا- التي يوقد ابن آدم جزء من سبعين جزءاً من حر جهنم)].
أي: هذه النار التي يوقدها ابن آدم هي جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم.
يعني: أن نار الدنيا تضرب في سبعين، ويصح أن تكون هذه النار هي نار جهنم، وقد سمعت بعض مشايخنا يقول: هذا الجزء من النار الذي يوقده ابن آدم هو مجموع ما أوقده ابن آدم من لدن آدم إلى قيام الساعة.
أي: هذه النار كلها التي بالمصانع الحربية، والحديد، والصلب، والإسمنت وغير ذلك مما يوقده الناس من النار لطعامهم وشرابهم لو اجتمعت منذ أن خلق الله النار حتى يوم القيامة فمجموع هذه النار يمثل في نار جهنم جزءاً من سبعين جزءاً، ولعمري لو كانت هذه النار كعود الكبريت لكفت، ولكن هذه النار أعدها الله عز وجل للكفار الذين يستحقون ذلك وزيادة.
قال: [(قالوا: والله إن كانت لكافية)].
الصحابة لما سمعوا ذلك قالوا: والله لو أن النار التي أعدت للآخرة مثل نار الدنيا لكانت كافية.
[قال: (فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً، كلها مثل حرها)].
أي: كل جزء منها مثل حر نار الدنيا التي يوقدها ابن آدم.
قال: [حدثنا محمد بن رافع، حدثنا عبد الرزاق].
وهو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليمني كان إماماً جليلاً، وهو شيخ اليمن في زمانه، لم يكن أحد يتقدم عليه، واليمن منذ أن دخلت في الإسلام إلى يومنا هذا لا يبرز فيها في كل قرن أو في كل مدة من الزمان إلا واحداً، لا يبرز فيها اثنان في آن واحد إلا نادراً جداً كما برز الصنعاني والشوكاني، إنما في كل قرن من القرون أو مدة من الزمان يبرز فيها واحد فقط، وأول البارزين فيها أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، ثم أبو هريرة وكلاهما من اليمن، وأنتم تعلمون أن إسلام أبي هريرة كان متأخراً، فقد أسلم بعد رجوع النبي عليه الصلاة والسلام من غزوة خيبر، ولازم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنوات وبضعة أشهر على ملء بطنه، فهو القائل رضي الله عنه: أما المهاجرون فقد شغلتهم تجارتهم، وأما الأنصار فقد شغلهم حرثهم وزراعتهم، وأما أنا فلزمت النبي صلى الله عليه وسلم على ملء بطني أو قال: على شبع بطني.
فحصل من العلم ما لم يحصله الأكابر، وما لم يحصله من تقدم عليه كـ أبي بكر وعمر وغيرهما، ولذلك لعلكم تعلمون الإفكة والشبهة التي حرص أعداء الإسلام أن يوجهوها إلى الإسلام بالطعن في أبي هريرة؛ لأنه أعظم الصحابة على الإطلاق رواية إلا ما كان من عبد الله بن عمرو بن العاص.
قال أبو هريرة: وإني لأكثر الناس رواية، وحفظاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب.
أي: عبد الله بن عمرو كان كاتباً، وأبو هريرة كان أمياً لا يكتب، وكان عنده من الذاكرة الشيء العجيب جداً؛ ولذلك دعاه بعض ملوك بني أمية في المدينة أن يحدثه بأحاديث، فحدثه بأربعمائة حديث، وكان الخادم يكتب من خلف الستار، وبعد عامين استدعاه، وقال: أتذكر شيئاً مما حدثتني به آنفاً؟ أي: منذ عامين.
فقال: نعم.
والخادم يراجع ما كان قد كتبه منذ عامين من خلف الستار، فلما قص عليه أبو هريرة ما كان قد أسمعه آنفاً خرج الخادم وقال: والله يا أمير المؤمنين ما قدم ولا أخر، ولا حذف، إنما حدث بها من أولها إلى آخرها بنفس الترتيب.
أبو هريرة أعجوبة الزمان في الحفظ، وابن عباس أقل منه حفظاً، ومع هذا كان ابن عباس يسمع القصيدة مكونة من ألف بيت شعراً فإذا قيل لـ ابن عباس أحفظتها؟ يقول: نعم.
فيقول الشاعر: كلا وألف كلا.
فيقول ابن عباس متحدياً: أتحب أن تسمعها مني من أولها إلى آخرها أم من آخرها إلى أولها؟ وهذا شيء عجيب، والسلف رضي الله عنهم كانت ذاكرتهم قوية.
وأبو هريرة رضي الله عنه لما أتى مسلماً إلى النبي عليه الصلاة والسلام وأعلن إسلامه قال النبي عليه الصلاة والسلام: (هل لك حاجة يا أبا هريرة؟ قال: نعم يا رسول الله! أن تدعو لأمي أن تسلم فإن أبغض الناس إليها أنت، فدعا لها النبي عليه الصلاة والسلام فأسلمت، قال: هل لك حاجة يا أبا هريرة؟ قال: يا رسول الله! ادع الله لي، فدعا له بالخير والبركة والنماء).
وفي مجلس ما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من يبسط رداءه فأدعو له فلا ينسى من العلم شيئاً.
قال(9/4)
شرح حديث: (كنا مع رسول الله إذ سمع وجبة)
[حدثنا يحيى بن أيوب، حدثنا خلف بن خليفة، حدثنا يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة].
هناك في طبقة التابعين اثنان كل واحد منهما يكنى بـ أبي حازم أحدهما يروي عن أبي هريرة والثاني: يروي عن سهل بن سعد الساعدي.
أما الذي يروي عن سهل بن سعد فهو سلمة بن دينار، والذي يروي عن أبي هريرة هو سلمان مولى عزة.
[قال أبو هريرة (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع وجبة)].
وجبة: سقطة، كأن شيئاً سقط من السماء، فأحدث دوياً وزلزالاً.
[(فقال النبي عليه الصلاة والسلام: تدرون ما هذا؟ قال: قلنا: الله ورسوله أعلم)].
هكذا أدب الصحابة رضي الله عنهم حتى وإن كانوا يعلمون، كانوا دائماً يردون العلم إلى الله ورسوله، وهذا في حياة الرسول، وإلا فمن الخطأ في الاعتقاد: ما يتعاطاه الناس فيما بينهم: أنك تسمع الرجل الآن يقول: الله ورسوله أعلم.
والصواب أن يقول: الله أعلم.
أما (الله ورسوله) فهذا في زمان الرسول وفي حياة الرسول عليه الصلاة والسلام.
والنبي عليه الصلاة والسلام يسأل معاذ بن جبل: (يا معاذ أتدري ما حق الله على العبيد؟ قال: الله ورسوله أعلم).
وهو يعلم.
أم كيف أسلم؟ فقضية الإيمان والتوحيد كانت عندهم قضية محسومة معروفة.
ويسألهم في عرفة: (أتدرون في أي يوم أنتم، في أي شهر أنتم، في أي بلد أنتم؟ وهم يقولون: الله ورسوله أعلم).
وهذا من الأدب.
أما الآن لو أن شيخاً سأل سؤالاً، أو رجلاً من أهل العلم سأل سؤالاً وحوله عشرة من الطلاب لسمعت اثنا عشرة إجابة.
ولو أن واحداً سأل سؤالاً، لأجاب كل واحد من الواقفين بإجابة أو إجابتين، ولا يزال الشيخ بعد لم يتكلم.
أهذا أدب؟! أهذه أخلاق؟! كان الواحد منهم إذا سئل وجبر على السؤال لا يتكلم، ويزعم أنه لا يعرف شيئاً ولا يحسن شيئاً، أما الآن فتجد الطالب جاهلاً وراسباً في الإعدادية، ومع هذا لا يفلت منه سؤال وكلها إجابات بالهوى، وبالرأي، وبالذوق، والوزن، أما في التأصيل العلمي فليس عنده شيء، ومع هذا فهو جريء: (أجرأ الناس على الله أجهلهم بالله) ولو أن المرء تعلم العلم وتعلم معه الأدب لهرب دائماً من موطن المسئولية.
وهذا ابن أبي ليلي كان يقول: أدركت مائة وعشرين من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام كلهم كان إذا سئل في مسألة ود أن أخاه كفاه، وإذا سئل في حديث ود أن أخاه كفاه، فكان الداخل يدخل فيسأل الأول، فيحيله إلى الثاني، والثاني إلى الثالث، حتى يسأل المائة وأكثر من ذلك فيرجع بها إلى المسئول الأول، فلا يجد بداً إلا أن يتكلم فيتكلم حينئذ.
وكذلك الذي نقوله في الإفتاء والتدريس نقوله في القضاء، وفي الفصل في الخصومات والمنازعات، هذا سفيان الثوري إمام الحديث، وإمام الفقه في الكوفة حمله الوالي أن يتولى القضاء فاحتال حيلة ليخرج من ذلك.
وفي هذا الوقت لما يقولون: هناك منصب قضاء، نريد من يتولى قاضي المحكمة الجنوبية في الجيزة، فستحصل الرشوات بمئات الآلاف، ودعايات وإعلانات بمئات الآلاف وغير ذلك من المخالفات الشرعية، وكل ذلك ليجلس على مكان يحكم فيه بغير ما أنزل الله، وهذا بلاء آخر، والأصل فيه أنه هو البلاء الأول.
أما سفيان الثوري لما أرغم على قبول القضاء أنزل اللعاب من فمه لكي يقال أنه لا يصلح لذلك، وأنه معتوه.
ففهم الوالي ذلك فقال له: مهما عملت فلابد وأن تكون قاضياً.
فقال: دعني أستخير ربي وأنظر في أمري.
قال: لك ذلك.
سترجع إلينا ثانية يا سفيان؟ قال: نعم.
فخرج سفيان بدون حذاء ثم رجع مرة أخرى إلى مجلس الوالي، فأخذ نعله وانصرف.
فقال أحد العلماء الحاضرين: يا أيها الولي لا يرجع سفيان.
قال: لقد وعدنا أنه سيرجع.
قال: لقد ترك حذاءه ورجع فأخذه.
فهذا هو ما قصده سفيان.
وإننا في هذا الوقت لو عرضنا أفعالنا وأقوالنا على أفعال السلف وأقوالهم، لوجدنا اختلافاً كبيراً، الواحد لما يعرض أقوله وأعماله على أقوال وأعمال السلف يجد نفسه صفراً، ويوقن بالهلاك ويوقن بالنار لولا رحمة العزيز الغفار سبحانه وتعالى.
قال: [(كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع وجبة)].
أي: سقطة.
[(فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تدرون ما هذا؟ قال: قلنا الله ورسوله أعلم.
قال: هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفاً، فهو يهوي في النار إلى الآن حتى انتهى إلى قعرها)].
أي: حجر ألقي في نار جهنم منذ سبعين عاماً فهو يهوي في النار إلى الآن، وهذا يدل على بعد قعر جهنم، ولذلك فإن المنافقين الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر لو سمعوا هذا وعلموا(9/5)
شرح حديث: (إن منهم من تأخذه النار إلى كعبيه)
قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا شيبان بن عبد الرحمن -وهو النحوي - قال: قال قتادة: سمعت أبا نضرة يحدث عن سمرة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن منهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه إلى حجزته، ومنهم من تأخذه إلى عنقه)].
قتادة مدلس، والمدلس إذا قال: قال فلان، أو عن فلان فلا يؤمن منه التدليس، والتدليس من أخطر العلل، التي يمكن أن تصيب الإسناد، وهناك علل تصيب الراوي، وعلل تصيب الإسناد نفسه، وهناك علل إذا اجتمعت في الراوي أو انفردت فيه أصابت الراوي نفسه، وقد يكون الراوي ثقة، لكنه يأتي بعلة تصيب الإسناد مثل التدليس، فالتدليس هذا من العلل التي تصيب الإسناد ولا تصيب الرواة؛ لأن الراوي يكون ثقة ومدلساً.
وتدليس الإسناد: هو أن يقول الراوي: قال فلان أو عن فلان، ولا يقول: حدثنا، ولا أخبرنا، ولا أنبأنا.
لا يأتي بصيغة تفيد السماع، وإنما يأتي بصيغة تحتمل السماع كقال، وعن، وهو يقصد أن فلاناً قال هذا، لكنه لم يلق فلاناً الذي قال هذا الحديث، ولم يسمع منه هذا الحديث وإنما قال: قال فلان؛ حتى يوهم السامع أنه قد سمع وليس كذلك، وهذا تزييف، والراوي يروي عمن لقيه وسمع منه، ولكنه في هذا الإسناد بالذات روى عنه ما لم يسمع عنه بصيغة تحتمل السماع.
إياك أن تقول: (بصيغة تفيد السماع)، فـ (قال، وعن)، توهم ولا تفيد، فتوهم الناس أنك قد سمعت منه وليس الأمر كذلك، هذا نوع من أنواع التدليس.
النوع الثاني: اسمه تدليس التسوية، يأتي الراوي الثقة المشهور بنوع معين من التدليس اسمه تدليس التسوية.
قال: [يحدث عن سمرة أنه سمع نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن منهم من تأخذه النار إلى كعبيه)] يعني: منهم من تصله النار إلى الكعبين.
قال: [(ومنهم من تأخذه إلى حجزته)].
وفي رواية: (إلى حقويه).
والحجز أو الحقو هو مقعد الإزار والسراويل من البدن، وهو العظمة الناتئة في الجنبين، اسمه الحجز، أو الحجاز الذي يحجز ما بين أسفل البدن وأعلاه، فالنار تبلغ العبد إلى هذا المبلغ، أو تبلغ إلى كعبيه، أو ركبتيه.
قال: [(ومنهم من تأخذه إلى عنقه)].
يعني: تبلغه النار إلى العنق، وهذا في موقف الحشر والحساب، وذلك العرق قبل دخول النار، يوم يخرج الناس من الأجداث سراعاً إلى أرض المحشر وتدنو الشمس من الرءوس حتى تكون منهم على قدر ميل.
قال الراوي: إما أن يكون الميل هو ميل الأرض -أي: المسافة- وإما أن يكون الميل هو المرود الذي تكتحل به المرأة.
فهذا يسمى ميلاً في اللغة.
يوم تدنو الشمس من الرءوس فيكون الناس في عرقهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يبلغه العرق إلى كعبيه، ومنهم إلى ركبتيه، ومنهم إلى حقويه، ومنهم إلى عنقه حتى يلجمه العرق إلجاماً كل هؤلاء في موقف واحد، وفي أرض واحدة هي أرض المحشر، فانظروا إلى عظيم صنع الله عز وجل وعظيم قدرة الله تعالى، أنك تقف في العرق إلى كعبيك ومن بجوارك يلجمه العرق إلجاماً، لا يبغي عرقه عليك، ولا يبغي عرقك عليه، كل واحد في عرق على قدر عمله هو، وإذا كان العرق هذا ماء يسيل، فالله عز وجل يركب فيه القدرة ويأمره بأن لا يسيل، فيمتثل، والعرق مخلوق ولا بأس أن يركب الله تعالى فيه تمييزاً ليتلقى الأمر ويعمل به في ذلك الوقت، وفي هذا الوقت ليس هناك مخلوق يخالف الأمر أو يرتكب النهي، ولذلك لما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يأتي الناس إلى ربهم يوم القيامة حفاة عراة غرلاً).
والغرل هو الذي لم يؤخذ من عضوه هذه القطعة الزائدة التي تسمى الختان أو الخفض عند النساء، كل إنسان يرجع إلى ربه كاملاً حتى هذا الجزء الدقيق الذي يختن من البدن يرجع إليه ويأتي إلى ربه كما خلقه أولاً، حينئذ قالت عائشة: (يأتون عراة ينظر بعضهم إلى سوأة بعض! قال: يا عائشة الأمر أشد من ذلك).
يعني: لا يمكن لأحد أن يفكر فيما تخافين منه.
لا يمكن أن يخطر ببال أحد.
إذا كان المرء في هذه الدنيا لو نزلت عليه مصيبة أو أصابه مرض لا يجامع، ولا يأكل، ولا يشرب، وتصبح حياته كلها مقلوبة، فكيف بمن يقابل الملك الجبار الذي ينتقم من الجبابرة والظلمة؟ لو يعلم الظالم ما عند الله من العذاب لتمنى أن يكون تحت الأرض وليس فوقها.(9/6)
شرح حديث: (ومنهم من تأخذه النار إلى ترقوته)
قال: [حدثني عمرو بن زرارة، أخبرنا عبد الوهاب -يعني ابن عطاء - عن سعيد، عن قتادة].
إذا كان الراوي غير منسوب ومسمى فقط هكذا (سعيد) عن قتادة فاعلم أنه سعيد بن أبي عروبة البصري.
إذا كان في الإسناد البصري سعيد عن قتادة فهو سعيد بن أبي عروبة البصري فهو أروى الناس وألزم الناس لـ قتادة.
وإذا ذكر قتادة وعنه سعيد فإنما هو أبو عروبة وقتادة هو ابن دعامة السدوسي البصري، والعرب كانوا يتسمون من وحي البيئة، فمنهم من كان يسمى بأسماء الحيوانات، والطيور، والنباتات والأشجار، فالدعامة هي الأصل التي هي الخرسانة، تقول: هذه دعامة البيت.
قال: [سمعت أبا نضرة يحدث عن سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (منهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه النار إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه النار إلى حجزته، ومنهم من تأخذه النار إلى ترقوته)].
الترقوة هي العظمة بين ثغرة النحر والعاتق.
وهي هذه العظمة التي بجوار الرقبة كما في الرواية الأولى: (ومنهم من تأخذه النار إلى عنقه) والعنق هو الرقبة.
[حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار، قالا: حدثنا روح -وهو روح بن عبادة - حدثنا سعيد بهذا الإسناد].
أي: بنفس السياق الأول، وهو سعيد، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن سمرة.
[وجعل مكان حجزته: حقويه] حَقويه أو حِقويه في الرواية صحيح.(9/7)
باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء
(الباب السادس عشر: باب النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء).
النار يدخلها الجبارون المتكبرون، والجنة يدخلها الضعفاء، والضعف له معان كثيرة سنتعرض لها إن شاء الله.(9/8)
شرح حديث أبي هريرة في احتجاج النار والجنة
قال: [حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (احتجت النار والجنة)].
احتجت: يعني: تخاصمتا، كل واحدة تكلمت بما عندها.
[(احتجت النار والجنة فقالت هذه -أي النار-: يدخلني الجبارون والمتكبرون.
وقالت هذه -أي الجنة- يدخلني الضعفاء والمساكين، فقال الله عز وجل لهذه -أي للنار-: أنت عذابي، أعذب بك من أشاء)].
وربما قال: (أصيب بك من أشاء)] والإصابة تكون في الخير والشر.
[(وقال لهذه -أي للجنة-: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها)].
(ولكل واحدة منكما).
أي: الجنة والنار.
(ملؤها) يعني: لابد أن تمتلئ الجنة والنار، فقد خلق الله تعالى الجنة والنار وجعل لك منهما قسماً وقال: (يا أهل النار خلود بلا موت، ويا أهل الجنة خلود بلا موت).
قال: [وحدثني محمد بن رافع حدثنا شبابة -وهو ابن سوار - حدثني ورقاء -وهو اليشكري، كما أن شبابة يشكري كذلك- عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تحاجت النار والجنة، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين)] يعني: يدخلني الجبارون والمتكبرون.
[(وقالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وعجزهم؟ فقال الله للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي.
وقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكم ملؤها)].
يعني: لابد أن تمتلئان.
[(فأما النار فلا تمتلئ فيضع قدمه عليها فتقول: قط قط)] أي: قد امتلأت كفى، حسبي.
[(فهنالك تمتلئ، ويزوى بعضها إلى بعض)] يعني: ينظم بعضها إلى بعض حتى تمتلئ تماماً على من فيها وبمن فيها.(9/9)
كلام النووي في شرح حديث احتجاج الجنة والنار
قال الإمام النووي: قوله صلى الله عليه وسلم: (تحاجت النار والجنة) إلى آخره.
هذا الحديث على ظاهره، وأن الله جعل في النار والجنة تمييزاً تدركان به فتحاجتا، ولا يلزم من هذا أن يكون ذلك التمييز فيهما دائماً).
والجنة والنار الأصل أنهما ليستا عاقلتين، لم يكن لهما إدراك ولا تمييز ولا عقل، ومع هذا تخاصمت الجنة مع النار، وهذا يدل على أن الله تعالى يجعل في موقف هذه الخصومة إدراكاً وتمييزاً للجنة والنار حتى يتكلمان، فتقول الجنة: إنما يدخلني الضعفاء والمساكين، والعجزة، والسقط من الناس.
ويجعل الله للنار إدراكاً حتى تتكلم، وهذا ليس بعزيز على الله.
وأنتم تعلمون أنه قد تكلمت الجمادات والحيوانات والطيور والسباع منذ الأزل، منذ بداية الخلق إلى يومنا هذا كرامة من الله عز وجل لبعض عباده، كما تكلم الطير والهوام والحشرات والدواب، حتى الريح تكلمت لسليمان عليه الصلاة والسلام، وتكلمت الجمادات للنبي عليه الصلاة والسلام حتى تكلم البعير الذي لا يتكلم، واشتكى صاحبه إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
فحينئذ لا بأس أن يركب الله عز وجل إدراكاً وتمييزاً حتى تحصل المحاجة أو المناظرة بين الجنة والنار وليس هذا ببعيد على الله، فالله تعالى على كل شيء قدير.
قال: (وقوله صلى الله عليه وسلم: (وقالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وعجزهم؟).
أما (سقطهم) فهم الضعفاء المتحقرون منهم.
الذين لا يأبه لهم الناس كالعامل والخادم، فقد يكون الخادم عند الله أشرف وأفضل من المدير العام بصلاته وصيامه، وزكاته، وحسن خلقه، وأثقل شيء يوضع في الميزان هو حسن الخلق، فمثلاً: المدير العام متغطرس، متكبر، لا يصلي، ولا يصوم، ولا يزكي، ولا يحج، معه عامل يمسح له المكتب يصلي ويصوم، ويزكي ويحج، ولديه حسن الخلق، فهو أفضل عند الله من المدير العام، ولذلك سأل النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه عن رجل شريف في القوم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما تعدون هذا عندكم؟ قالوا: يا رسول الله إنه لحري إذا نكح أن ينكح، وإذا تكلم أن يسمع، وإذا دخل أن يقام له.
فمر آخر، فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: يا رسول الله إنه لحري إذا نكح ألا ينكح، وإذا تكلم ألا يسمع، وإذا دخل لا يأبه له.
قال: والله لهذا خير من ملئ الأرض من ذاك).
يعني: الذي ترونه ضعيفاً متضعفاً مسكيناً وليست له قيمة في المجتمع، هذا عند الله في الميزان أثقل من ملء الأرض ممن أثنيتم عليه خيراً، فالموازين الشرعية تختلف عن موازين العباد.
قال: (فالسقط: هم الضعفاء والمتحقرون منهم.
والعجز: جمع عاجز.
أي: العاجزون عن طلب الدنيا، والتمكن فيها، والثروة والشوكة).
يعني: ليس هو لواء، ولا عميد، ولا عقيد، ولا غني، فهو إنسان ضعيف فقير، لا قيمة له في المجتمع في نظر الناس، فهذا هو العاجز.
أي عجز عن طلب الدنيا والتمكن فيها، والثروة والشوكة، وفي رواية قال: (وغرتهم).
وهم أصحاب الحاجة، والفاقة، والجوع، وفي راوية: (الغرث) وهو: الجوع.
وغرتهم: هم البله الغافلون، جمع أبله غافل، وهم الذين ليس بهم فتك وحذق في أمور الدنيا، والذي يطلب الدنيا ويكون حاذقاً فتقاً فيها على حساب دينه أعد الله له النار، وهو نحو الحديث الآخر: (أكثر أهل الجنة البله).
ولكنه حديث ضعيف.
قال: (وقال القاضي: معناه أن سواد الناس وعامتهم من أهل الإيمان الذين لا يفطنون، فتدخل عليهم الفتنة أو البدعة وهم ثابتو الإيمان، وصحيحوا العقائد، وهم أكثر المؤمنين، وهم أكثر أهل الجنة).
والمعتزلة هؤلاء أهل كلام وفلسفة، وما أضل المعتزلة إلا ترجمة كتب اليونان من اليونانية إلى العربية في زمن المأمون.
يعني: كانت الترجمة هذه سلاح ذو حدين أعظمها الضلال؛ ولذلك لما ترجمت هذه الكتب إلى العربية تأثر كثير من المسلمين بفكر اليونانيين فبدءوا يحكمون عقولهم في الشرع حتى قدموا العقل على النقل فضلوا، ولابد أن يضل الإنسان الذي تخلق بهذا الخلق، ولذلك لما حار كثير منهم في طلب الحق وهو على فراش موته قال: أبرء إلى الله من كل ما قلت، وأرجع إلى دين العجائز.
وذلك لأنه قدم عقله على الشرع، فكان يختار من العبادة ما يزكي له هذا المبدأ وهذا الأصل؛ لأنه ترك الشرع وراء ظهره، فتمنى وهو على فراش الموت أنه لم يترك الشرع، وهذا هو الفخر الرازي إمام كبير يقول وهو على فراش الموت: أبرء إلى الله من كل قول أو فعل عملته أو فعلته مخالف للسنة وأرجع إلى دين العجائز.
يعني: يا ليتني على عقيدة أمي وجدتي وأبي الذين لم يكن لهم شيء في العلم، ولا يعرفون أي شيء عن هذه الأشياء.
وأنتم تعلمون أن التلفزيون دمر عقائد العجائز، وعقائد الفلاحين، وعقائد الصعايدة، وعقائد طلاب العلم.
قال: (وهم أكثر أهل الجنة، وأكثر المؤمنين.
وأما العارفون، والعلماء العاملون والصالحون المتعبدون فهم قليلون وهم أصحاب الدرجات) فعامة أهل الجنة هم عامة المؤمنين، وأ(9/10)
شرح حديث: (فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الجبار فيها رجله)
قال: [حدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تحاجت الجنة والنار فقالت النار أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وغرتهم)]، أي: أصحاب الحاجة أو البله.
[(قال الله للجنة: إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء.
وقال للنار: إنما أنت عذابي، أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما ملؤها.
فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله تبارك وتعالى رجله، فتقول: قط، قط، فهنالك تمتلئ، ويزوى بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله من خلقه أحداً، وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقاًَ)].
قوله عليه الصلاة والسلام: (فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الجبار فيها رجله) جاء في في رواية: (قدمه) وفيه إثبات القدم والرجل لله سبحانه.
وقوله: (وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقاً).
أي: يخلق خلقاً جديداً لم يسبق بخلق من قبل.
والفوائد التي في هذا النص ما يلي: أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أثبت لربه أن رجلاً، وأن له قدماً، وقد استنكف كثير من أهل العلم أن يؤمنوا بهذا على ظاهره وقالوا: إثبات الرجل والقدم لله تعالى تعني الجارحة، والله تعالى منزه عن الجوارح، والموصوف بها هم الخلق، وإذا أثبتنا الرجل على الحقيقة لله فإنما نقول: إن الله تعالى شبيه بخلقه حاشا لله تعالى.
والأصل الأصيل عند أهل السنة والجماعة في باب الاعتقاد، وفي باب الصفات على جهة الخصوص: أنهم يثبتون لله تعالى ما أثبته لنفسه في كتابه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته على المعنى اللائق بالله تعالى من غير تمثيل، ولا تكييف، ولا تعطيل، ولا تأويل.
هذا هو معتقد أهل السنة والجماعة، وهو المعتقد الحق وكل من اعتقد في صفات الله تعالى غير ذلك فهو من الفرق الهالكة الضالة.
والله تعالى له ذات، ولا يجوز لأحد قط أن يخالف في ذلك.
وقال بعض الثنوية: الله تعالى ليس ذاتاً وإنما هو نور.
وإنما نقول: إن من أسماء الله تعالى النور، وإذا كنا قد اتفقنا أن الله تعالى ذاتاً فليس هناك ذات مطلقاً إلا ولها صفات، فمن من الناس يستطيع أن يصرف ذات الله؟
الجواب
لا أحد، فهذان أمران لا ثالث لهما، أنا لا أستطيع أن أصف شيئاً إلا رأيته أو رأيت له مثيلاً.
فهل رأى أحد ربه؟
الجواب
لا.
الثاني: هل أحد يشبه الله ويماثله ويكافئه؟ الجواب: لا.
إذاً: لا يستطيع أحد أن يصف الله تعالى، وإنما يجب على كل أحد أن يثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه من صفات وأسماء على المعنى اللائق بالله تعالى، فإذا كانت هذه الذات تختلف بالضرورة والوجوب اللازم على ذوات المخلوقين، وإذا كانت ذوات المخلوقين مختلفة، فلي ذات وأنت لك ذات، لكني أبيض وأنت أسمر، أنت أطول وأنا أقصر، أنت متين وأنا نحيف، فهذه اختلافات في ذوات المخلوقين، فكيف بالخالق سبحانه وتعالى، وكيف بصفات الخالق، فلابد أن نقول: إن لله تعالى صفات تختلف عن صفات المخلوقين، فأنا لي رجل، وللمولى سبحانه رجل، لأنه ورسوله عليه الصلاة والسلام أثبتا ذلك.
إذاً: لابد أن أسلم أن للمولى عز وجل رجل وأن لي رجلاً، لكن شتان ما بين رجل الرحمن ورجلي، ما بين رجل الخالق ورجل المخلوق، لأن الصفات فرع عن الذات، فإذا كانت الذات مختلفة فلابد أن تختلف الصفات، فأقول: الله تعالى له رجل تختلف عن أرجل المخلوقين، له رجل تليق بعظمته وجلاله وكبريائه سبحانه وتعالى.
ثم هل ثبت في نص أن لله تعالى رجلين، أو ثلاثة، أو أربعة أو واحدة؟ هل ثبت نص في ذكر رجلين لله تعالى أم واحدة؟ أنا لا أستطيع تصور الكلام هذا، فالخالق لا يقاس بالمخلوق، وهذا ممتنع في الأذهان أن تنزل صورة الرحمن على صورتك، فإثبات الرجل لله تعالى كما أثبتها لنفسه، هذا هو منتهى الكمال لله عز وجل، والمخلوق الذي له رجل واحدة يكون فيه عجز ونقص وعيب، لكن إثبات هذه الرجل الذي أثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله عليه الصلاة والسلام هذا منتهى الكمال لله عز وجل.
والله تعالى له عينان كما جاء ذلك في القرآن الكريم وفي السنة النبوية، فلا يصح في الأذهان أن أتصور أن الله تعالى له عينان كعيني وهما في نفس الموضع من الوجه كما أن عيني في نفس الموضع من الوجه، والذي يصح مني أن أثبت أن لله تعالى عينين وتنتهي قضيتي عند هذا الحد، لا أقول: المقصود بهما الرعاية والإحاطة، والمحافظة على العباد، والقيام على شئونهم، فهذا تأويل النص وخروج به عن ظاهره.
وإن شئت فقل: هذا ما يسميه العلماء بالتعطيل.
أي: تعطيل الذات عن الصفات.
والله عز وجل أثبت لنفسه الوجه، فلا يستطيع أحد أن يثبت أن لله تعالى أنفاً، فهذا إجرام في حق الله تعالى؛ لأنه لم يثبته لنفسه، ولم يثبته له نبيه عليه الصلاة والسلام.
إذاً: في النهاية لابد أن أخرج بنتيجة وهي: أن(9/11)
شرح صحيح مسلم - كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء
يجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن الجنة والنار، من أنهما مخلوقتان وموجودتان الآن، ومحاجتهما في صفات من يدخلهما، وأن الله سبحانه قد أخذ على نفسه عهداً بأن لكل منهما ملأها، وغير ذلك من الأخبار التي وردت في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.(10/1)
باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: فمع الباب الثالث عشر من كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، وهو بعنوان: (النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء).(10/2)
شرح حديث: (احتجت النار والجنة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن أبي عمر -وهو محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني نزيل مكة- قال: حدثنا سفيان -وهو ابن عيينة - عن أبي الزناد عن الأعرج].
وأبو الزناد هو عبد الله بن ذكوان المدني، والأعرج: هو عبد الرحمن بن هرمز المدني كذلك.
[عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (احتجت النار والجنة)].
أي: صار بين النار والجنة خصومة أو نزاع أو محاجة.
[(فقالت هذه-أي النار-: يدخلني الجبارون والمتكبرون)].
فمن أوصاف أهل النار أنهم جبارون: {كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [هود:59]، والمتكبرون: هم الذين يغمطون الناس ويردون الحقوق.
أي: يجحدونها ولا يقرون بها.
[(وقالت هذه -أي الجنة- يدخلني الضعفاء والمساكين.
فقال الله عز وجل لهذه -أي: للنار-: أنت عذابي أعذب بك من أشاء، وربما قال: أصيب بك من أشاء، وقال لهذه -أي: للجنة-: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها)].
لأن الله تعالى أخذ على نفسه عهداً أن يملأ الجنة، وأن يملأ النار، أعاذنا ألله وإياكم من النار! قال: [وحدثنا محمد بن رافع حدثنا شبابة -وهو ابن سوار المدائني - حدثني ورقاء -وهو المدائني كذلك- عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تحاجت النار والجنة، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين.
وقالت الجنة: فمالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وعجزهم؟ فقال الله للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي.
وقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما ملؤها، فأما النار فلا تمتلئ، فيضع قدمه عليها فتقول: قط قط)].
يعني: كفى، وحسبي.
[(فهنالك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض)].
يزوى.
يعني: ينزوي وينضم ويجتمع بعضها على بعض إذا وضع الجبار تبارك وتعالى قدمه فيها.
قال: [حدثنا عبد الله بن عون الهلالي حدثنا أبو سفيان -وهو محمد بن حميد - عن معمر بن راشد البصري عن أيوب بن أبي تميمة السختياني البصري عن ابن سيرين].
وابن سيرين عند الإطلاق هو محمد، وإلا فهناك أنس بن سيرين وهو أخو محمد، والراوي إذا حدث عنه يقول: حدثنا أنس بن سيرين.
[عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (احتجت الجنة والنار).
واقتص الحديث بمعنى حديث أبي الزناد.
حدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبِه -أو منبه- قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم].
وهذا الأحاديث التي يرويها همام عن أبي هريرة تسمى عند المحدثين: بصحيفة همام عن أبي هريرة أوردها الإمام أحمد في المجلد الثاني من مسنده، وهي تقريباً حوالي مائة واثنين وأربعين حديثاً.
يقول فيها همام: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله.
[فذكر أحاديث منها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تحاجت الجنة والنار فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين.
وقالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وغرتهم -وفي رواية وغَرسهم أو غرسهم- وقال الله للجنة: إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء، وقال للنار: إنما أنت عذابي، أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما ملؤها، فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله تبارك وتعالى رجله)].
وفي الرواية الأولى: (حتى يضع الجبار قدمه).
[(فتقول: قط، قط، فهنالك تمتلئ، ويزوى بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله من خلقه أحداً، وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقاًَ)].
إذاً: القضية التي أريد أن أؤكد عليها وهي أنه إذا أدخل أهل النار النار وأهل الجنة الجنة يبقى في الجنة مكان، ويبقى في النار مكان، ولذلك في الحديث: (فإذا دخل أهل النار النار، قالت النار: هل من مزيد).
الله تعالى يسألها: {هَلِ امْتَلأْتِ} [ق:30]، وتقول: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30].
أو ملك عن الله تعالى يسألها، {هَلِ امْتَلأْتِ} [ق:30]، وهي دائماً تقول: {(10/3)
ذكر الخلق الذين ينشئهم الله للجنة
وفي الحديث عدة مسائل: المسألة الأولى: أن هؤلاء الذين أنشأهم الله عز وجل دخلوا الجنة ولم يعملوا خيراً قط، بل ولم يعملوا شراً قط، ليس لهم من الأعمال ما يؤهلهم إلى النار أو إلى الجنة، وهذه مسألة متقررة لدى أهل السنة والجماعة: أن الله تبارك وتعالى إذا عذب من لا يستحق العذاب في نظر الناس فهو يعذبه غير ظالم له؛ لأنه تعالى أعلم به من خلقه، وإذا أدخله الجنة لا يعني ذلك أنه قد استوجب الجنة ببعض العمل، ولكن دخول الجنة متوقف ابتداءً على فضل الله تعالى ورحمته، والعمل ما هو إلا سبب قد أمرنا به أمراً ونهياً، إتياناً وتركاً، لكننا لو عبدنا الله تعالى طيلة حياتنا فإننا لا نستحق بهذه العبادة تلك الجنة، وإنما يتحنن الله عز وجل على عباده الذين أطاعوه في الأمر والنهي بأن يدخلهم الجنة، ورتب على ذلك سبباً وهو طاعتهم لله عز وجل في الدنيا، فالعمل ما هو إلا سبب، لكن لو تخلف السبب فالأمر متعلق بمشيئة الله تعالى، إن شاء عذب وإن شاء غفر، فهؤلاء الخلق أنشأهم الله تعالى لأول مرة، وبغير عمل عملوه أدخلهم الجنة حتى امتلأت.
وأطفال المسلمين الذين ماتوا قبل أن يبلغوا الحلم وأن يجري عليهم القلم يدخلون الجنة بغير نزاع بين أهل العلم، إنما وقع النزاع في أطفال المشركين، والراجح من مذهب أهل السنة والجماعة: أن أطفال المشركين إذا ماتوا قبل البلوغ دخلوا الجنة كذلك لأنهم أطفال، وربما بلغ الواحد منهم الخامسة، والسادسة، والسابعة وزيادة عن ذلك، وربما أتى من الأعمال التي تتناسب مع هذه الأعمار وهي أعمال شر وسوء، لكن الله تعالى يعفو عنها ويجعلها كأن لم تكن ويدخله الجنة إذا مات قبل البلوغ، فليس بغريب أن ينشئ الله تعالى خلقاً جديداً في اللحظة فيملأ بهم الجنة.
قوله: (وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقاً).
أي: يبتدئ لها خلقاً جديداً، ينشئهم ويخلقهم لأول مرة لم يعملوا خيراً قط.
إذاً: دخول الجنة ليس متعلقاً بالثواب والعمل، إنما الثواب والعمل سبب لدخول الجنة، أما تخلف السبب عن المسبب فهذا أمر كلنا يعرفه، الواحد منا أحياناً يأكل ولا يشبع مع أن المقرر في الأذهان أن من أكل شبع، والواحد منا يتزوج لينجب ولا ينجب، فقد حصل السبب ولكن لم تحصل النتيجة، والواحد منا يذاكر لينجح وربما ذاكر وفي نهاية العام لم ينجح، مع أنه قد اتخذ السبب، فلا يلزم دائماً ربط الأسباب بالمسببات، لكن الله تعبدنا باتخاذ الأسباب، فلا يحل لأحدنا أن يمتنع من طعامه وشرابه ويقول: الله تعالى يطعمني ويسقيني، لا يحل له ذلك، كما أنه لا يحل له أن يتكاسل عن الجد والاجتهاد طول العام ويقول: إذا أراد الله تعالى النجاح لي وفقني إليه في آخر العام.
وكذلك لا يحل لأحدنا أن يقول: أنا لا أتزوج النساء؛ لأن الله إذا شاء أن يرزقني الولد بغير زواج ولا نكاح فعل.
نحن نعتقد أن كل ذلك في مقدور الله عز وجل كما أنشأ عيسى بن مريم من أمه بغير أب، وكما أنشأ آدم بغير أب ولا أم، وكما أنشأ حواء من جنب آدم، فكل ذلك في مقدور الله تعالى، لكن هذه نواميس كونية الله عز وجل قدرها لأمور معينة، ومعجزات تجري على أيدي هؤلاء، هذا فيما يتعلق بالنسبة للجنة.(10/4)
معنى قوله: (قالت الجنة فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس)
المسألة الثانية: (قالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وعجزهم).
أما السقط: فهم الضعفاء والمحتقرون منهم، والبسطاء الذين لو نظر إليهم لزهد فيهم.
والعجز: جمع عاجز أي العاجزون عن طلب الدنيا، والتمكن فيها، والثروة والشوكة.
والغرت: معناه: أهل الحاجة والفاقة والجوع؛ لأن الغرت بمعنى الجوع.
وغرتهم: أي البله الغافلون الذين ليس فيهم فتك وحذق في أمور الدنيا وهو نحو الحديث الآخر: (أكثر أهل الجنة البله).
قال: (قال القاضي عياض: معناه: سواد الناس وعامتهم من أهل الإيمان الذين لا يفطنون للسنة فتدخل عليهم الفتنة أو البدعة أو غيرهما وهم ثابتو الإيمان، صحيحو العقائد، وهم أكثر المؤمنون، وهم أكثر أهل الجنة.
وأما العارفون، والعلماء العاملون والصالحون المتعبدون فهم قليلون وهم أصحاب الدرجات).
وفي الحديث: (أهل الجنة كل ضعيف متضعف) وهو الخاضع لله تعالى، المذل نفسه له سبحانه وتعالى وهو ضد المتجبر المستكبر.(10/5)
إثبات صفة القدم لله سبحانه
المسألة الثالثة: (حتى يضع الجبار قدمه فيها).
وهذه من صفات الله عز وجل، مسألة القدم أو الرجل صفة ذاتية لله عز وجل، وإثبات الرجل والقدم لله عز وجل من صفات ذاته، ومنهج أهل السنة والجماعة في صفات المولى عز وجل ليس إقراراً فقط، إنما إيمان جازم يكون باللسان والجنان والجوارح.
وتعريف الإيمان: هو قول وعمل يزيد وينقص، قول باللسان، وعمل بالأركان، وكذا اعتقاد بالجنان، فلا أقول إقرار مع إمرار، أو إقرار وإمرار، وإنما اعتقاد وإمرار.
ومعنى هذا: أنني أعتقد أن الرجل ثابتة لله عز وجل على الوجه اللائق به سبحانه وتعالى، ولا أخوض في كيفية الرجل، كيف هي؟ هل لها أصابع؟ هل لها أظافر؟ أعوذ بالله! فلا نعلم كيفيتها، ولا يعلم كيفيتها إلا الله عز وجل.
إذاً: أثبت النص عندي أن لله رجلاً، فيتوقف إيماني بهذه الرجل عند ثبوتها على المعنى اللائق لله تعالى، فلا أتعرض لها بالرد والإبطال، ولا أقول: ليس لله رجل؛ لأنه لو كان له رجل للزم أن تكون هذه الرجل جارحة، وإذا كانت جارحة فهي تشبه أرجل المخلوقين، هذا ضلال، كما أنه لا يصح لي أن أثبت الرجل لكني أؤولها وأصرفها عن ظاهرها.
أقول: نعم إن لله تعالى رجل لكنها بمعنى القدرة، فأنا أثبت الصفة لكني أولتها، فهناك من يعطل الصفات، وهناك من يصرفها عن ظاهرها، وهناك من ينكرها وينفيها تماماً، وهناك على المقابل من يثبتها ويشبهها ويمثلها بصفات المخلوقين، وكلا الفريقين ضلا في هذا الباب ضلالاً عظيماً، أما موقف أهل السنة والجماعة من صفات الله تعالى صفات أفعاله وذاته فهو: الإيمان بها وإمرارها كما جاءت دون خوض في كيفيتها، فنثبت الرجل لله تعالى على المعنى والكيفية اللائقة به سبحانه وتعالى، هو أعلم بنفسه وذاته وأسمائه وصفاته.
لكن المطلوب مني أن أومن بهذه الصفة، وألا أتوقف عندها للخوض فيها ومعرفة كيفيتها.
وكثير من أهل العلم وهم جمهور المتكلمين من الأشاعرة والفلاسفة لم يهنأ لأصل ذلك فقالوا: المراد بالقدم: المتقدم.
قالوا: ومعناه شائع في اللغة.
ومعناه: حتى يضع الجبار فيها من قدمه إليها.
وهذا التكلف حتى يهربوا من إثبات الصفة، ففسروا القدم بمعنى المتقدم، وهذا بلا شك ضلال بعيد.
والتأويل الثاني: أن المراد قدم بعض المخلوقين فيعود الضمير في قدمه إلى ذلك المخلوق المعلوم حتى يضع الجبار فيها قدمه.
أي: قدم بعض خلقه.
والتأويل الثالث: أنه يحتمل أن في المخلوقات ما يسمى بهذه التسمية.
يعني: يمكن واحد من الخلق اسمه (قدمه) وهذا التأويل تأويل تافه.
فقالوا: (حتى يضع الجبار فيها قدمه).
أي: حتى يضع الجبار عبداً من عباده اسمه (قدمه).
وقالوا: ويجوز أن يراد بالرجل الجماعة من الناس، لأن أهل العربية يقولون لمجموعة من الناس: رجل مثل: العصابة وغير ذلك فإنه يطلق على العصابة أيضاً رجل.
قالوا: المقصود بالرجل هنا العصابة من الناس، ويجوز أن يراد بالرجل الجماعة من الناس، كما يقال: رجل من جراد.
أي: قطعة منه.
قال القاضي: (أظهر التأويلات أنهم قوم استحقوها وخلقوا لها).
قالوا: ولا بد من صرفه عن ظاهره، لقيام الدليل القطعي العقلي على استحالة الجارحة على الله تعالى.
ونحن معكم أنه تستحيل الجارحة على الله عز وجل، بمعنى أن الله تعالى لا توصف أوصافه بالجوارح، فالمخلوق صاحب جوارح، فهذه يدي جارحة، وعيني جارحة، وأذني جارحة، وأعضائي كلها جوارح، فلا يمكن أبداً أن نسمي صفات الله عز وجل بالجوارح، وإلا صرنا إلى التشبيه، وهذا بلا شك كفر وضلال.
فيقولون: لما قام الدليل القطعي العقلي على استحالة الجارحة على الله تعالى كان لابد من صرف الرجل، ومن صرف القدم.
ونرد عليهم: إذا كنتم تذهبون هذا المذهب فهل تؤمنون أن لله تعالى ذاتاً؟ لابد أنهم سيقولون: له ذات.
والمخلوق ذات، وأنتم تقولون أن لله تعالى ذاتاً، فلابد أن تصرفوا ذات الله عز وجل لأنكم صرفتم الأوصاف، لأنه ما من ذات إلا وهي موصوفة بأوصاف، فإذا كنتم صرفتم هذه الأوصاف فيلزمكم أن تصرفوا الذات، وأنتم تعلمون أن صرف الذات يساوي العدم.
فإن قالوا: الله تعالى عدم كفروا.
وإن قالوا: أنه ذات فيلزم من ذلك أن ذاته متصفة بصفة، فلا يلزم على مذهب القاضي عياض -وكان أشعرياً جلداً- تأويل صفات المولى عز وجل وتركها عن ظاهرها؛ لاستحالة الجارحة على الله.
نعم يستحيل على الله تعالى أن يوصف بالجوارح، لكننا نقول: نثبت له الصفات ونؤمن بها كما جاءت، ونمرها ولا نخوض فيها بتأويل ولا بكيفية.(10/6)
شرح حديث: (لا تزال جهنم تقول: هل من مزيد)
قال: [حدثنا عبد بن حميد، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا شيبان عن قتادة، حدثنا أنس بن مالك أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال جهنم تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة تبارك وتعالى قدمه فتقول: قط قط وعزتك، ويزوى بعضها إلى بعض).
وحدثنا محمد بن عبد الله الرازي، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء في قوله عز وجل: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30]، فأخبرنا -أي: عبد الوهاب بن عطاء - عن سعيد -وهو ابن أبي عروبة البصري - عن قتادة عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد، حتى يضع رب العزة قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط، بعزتك وكرمك، ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقاً فيسكنهم فضل الجنة)].(10/7)
شرح حديث: (يبقى من الجنة ما شاء الله)
قال: [حدثنا زهير بن حرب - أبو خيثمة النسائي نزيل بغداد- حدثنا عفان -وهو ابن مسلم الصفار - حدثنا حماد بن سلمة البصري أخبرنا ثابت -وهو ابن أسلم البناني - قال: سمعت أنساً يقول عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يبقى من الجنة ما شاء الله أن يبقى)].
يعني: يفضل في الجنة فضلة ثم ينشئ الله تعالى لها خلقاً مما يشاء، وهذا يدل على عظم الجنة، إذا كان أدنى أهل الجنة منزلة من كان له في الجنة مثل الدنيا وعشرة أمثالها، فكيف بأعظمهم منزلة؟ قرأت أن قرية اكتشفوها لا تعلم شيئاً قط عن الرسل ولا الرسالات، ولا يوجد أحد يفهمهم نهائياً، ويتكلمون بلغتهم التي تعارفوا فيما بينهم عليها لا يعلمون شيئاً مطلقاً، ولما قرأنا هذا البحث قلنا: سبحان الله! هذا يدل على عظم قول الله تعال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، فهؤلاء لم يبعث إليهم رسول بمعنى: أنه لم تصلهم دعوة الرسل وهم يوم القيامة في عافية، إلا ما قد عملوه وغلب على ظنهم أنه شر، فهم يحاسبون على أنهم يعرفون أن هذا شر وقد فعلوه.(10/8)
شرح حديث: (يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح)
قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب وتقاربا في اللفظ قالا: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش].
أبو معاوية هو محمد بن خازم الضرير، والأعمش هو سليمان بن مهران الكوفي.
[عن أبي صالح].
وهو السمان عبد الله بن ذكوان المدني.
[عن أبي سعيد]-وهو الخدري، واسمه سعد بن مالك بن سنان المدني - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح)].
أملح يعني: مليح.
وزيادة في الملاحة، فالأملح أحسن من المليح، مثل فلان حسن والثاني أحسن، فلان فاضل والثاني أفضل منه.
وقد سمعت درساً في عقيقة لأحد الشيوخ وهو يقول: ليس هناك دليل قط على أن الخروف الذي يذبح أو الشاة التي تذبح لابد أن تكون قرناء ومن قال بذلك فقد ابتدع في دين الله ما ليس منه، وفي الحقيقة (النبي عليه الصلاة والسلام عق عن الحسن والحسين كبشين أملحين).
فكلمة أملح توقف عندها العلماء، والكبش المليح هو الكبش النفيس، الجميل، ذو القيمة، فمثلاً: عمر أفضل من زيد في ذكائه، وفي منظره، وفي مخبره، وفي الطول، وفي العرض، وفي لون العينين، وفي لون البشرة، وتاجر الأغنام والمواشي يفضل الخروف الأقرن؛ لأن سنه أنسب من سن الآخر، ولحمه طيب، وغيره لم يكن كذلك.
وصائغ الفضة أو الذهب يعرف أن هذه السبيكة مضروبة، وأنها جيدة، أو غير ذلك، ولكنه عرف ذلك إما بلسان العرب أو أحوالهم ومقاييسهم التي يتوارثها الأجيال جيلاً بعد جيل إلى يومنا هذا وإلى قيام الساعة، فالعرب عرفت الملاحة من حيثيات متعددة، فيعدون الخروف الأقرن أفضل من غير الأقرن، فالعرب تعد الملاحة بالقرن، وهو ليس شرطاً في العقيقة، ولكنه مستحب.
يعني: يستحب أن تكون العقيقة والأضحية بخروف أقرن، ولو كانت بأنثى جاز، ولو من الماعز كانت ذكراً أو أنثى جاز؛ لأنهما من فصيلة واحدة، والعرب يطلقون لفظ الشاة على المعز والضأن.
وأما كون الدليل لم يذكر في أنه أقرن ربما يكون كذلك، لكننا لا نرد أن الملاحة بالقرن؛ لأن العرب قد عدوا الملاحة في القرن، بدليل أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (يجاء بالموت على صورة كبش أملح).
ولو لم يكن لدى السامعين معنى الملاحة لقالوا: يا رسول الله! ما المقصود بالأملح؟ لكنه خاطبهم بذلك لأنهم يعرفون الملاحة من غيرها.
قال: (فيوقف بين الجنة والنار).
أي: يؤتى بالموت على صورة كبش، والموت عرض من الأعراض، والأعراض كلها مخلوقة، ولذلك قال الله تعالى: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك:2]، فالحياة عرض وهي مخلوقة، والموت عرض وهو مخلوق كذلك، بخلاف من قال: إن الموت عدم يقابل الحياة.
وهذا كلام الفلاسفة ولا قيمة له في الشرع، فيجاء بالموت الذي هو عرض في صورة المحسوس الذي هو الكبش الأملح.
[(حتى يوقف بين الجنة والنار، ثم يقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون، ويقال: نعم هذا الموت)].
يشرئبون.
أي: يطيلون أعناقهم ينظرون إليه حتى يعرفونه ويقولون: نعم نعرفه، هذا هو الموت.
قال: [(ويقال: يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون، ويقال: نعم هذا الموت)].
إذاً: أهل الجنة يعرفون الموت، وأهل النار يعرفون الموت.
قال: [(فيأمر به فيذبح)].
يؤمر بهذا الكبش الأملح بأن يذبح بين الجنة والنار، وهو يكون آخر من يذبح، لأنه علامة وأمارة على انتهاء أسطورة الموت، فلا موت بعد موت هذا الكبش.
قال: [(ثم يقال: يا أهل الجنة، خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [مريم:39] وأشار بيده إلى الدنيا)].
أي: كلنا في هذه الدنيا في غفلة عظيمة عن العمل الصالح، وعن تقوى الله عز وجل، وعن البر والصلة وغير ذلك فنحن في غفلة عظيمة، سنندم عليها في يوم يسمى يوم الحسرة.
وفي الحديث: (إذا أدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار قيل: يا أهل الجنة).
ثم ذكر الحديث فذلك قوله عز وجل: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [مريم:39]، ولم يقل ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشار بيده إلى الدنيا.(10/9)
شرح حديث: (يدخل الله أهل الجنة الجنة ثم يقوم مؤذن)
قال: [حدثنا زهير بن حرب، والحسن بن علي الحلواني، وعبد بن حميد قال عبد: أخبرني، وقال الآخران: حدثنا يعقوب -وهو ابن إبراهيم بن سعد المدني - حدثنا أبي عن صالح وهو ابن كيسان، حدثنا نافع أن عبد الله قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يدخل الله أهل الجنة الجنة، ويدخل أهل النار النار، ثم يقوم مؤذن بينهم)].
المؤذن بمعنى المنادي.
[(فيقول: يا أهل الجنة لا موت، ويا أهل النار لا موت).
أي: كل خالد فيما هو فيه.
طبعاً نحن نعتقد أن من دخل النار من عصاة الموحدين خرج منها يوماً ما حتماً ولابد، وهذا الحديث موضعه بعد آخر رجل يخرج من النار من الموحدين ويدخل الجنة.(10/10)
شرح حديث: (إذا صار أهل الجنة إلى الجنة)
قال: [حدثني هارون بن سعيد الأيلي وحرملة بن يحيى قالا: حدثنا ابن وهب -وهو عبد الله - حدثني عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب؛ أن أباه حدثه عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صار أهل الجنة إلى الجنة، وصار أهل النار إلى النار أتي بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار، ثم يذبح، ثم ينادي مناد: يا أهل الجنة! لا موت، ويا أهل النار لا موت، فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزناً إلى حزنهم)].(10/11)
شرح حديث: (ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أحد)
قال: [حدثني سريج بن يونس، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن الحسن بن صالح، عن هارون بن سعد، عن أبي حازم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أحد، وغلظ جلده مسيرة ثلاث)].
أي: ثلاث ليال، أو ثلاثة أيام.
وهذا يدل على عظم النار، كما أننا قلنا عن عظم الجنة: إذا كان حظ أدنى الناس فيها عشرة أمثال الدنيا، فما بالك بنصيب الأنبياء، والصديقين والشهداء والرفقاء؟! وكذلك النار عظيمة جداً، وعميقة جداً، ومحرقة جداً، ضرس الكافر الواحد فيها كجبل أحد، فما بالك بأضراسه بل وأسنانه وقواطعه، وإذا كان غلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام، فما بالكم بجوارح الكافر كلها كم ستكون؟ وما بالكم بجميع الكفار والمنافقين أين يكونون وكيف يكونون في هذه النار العظيمة الذي جعل الله: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة:24]؟(10/12)
شرح حديث: (ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام)
قال: [حدثنا أبو كريب وأحمد بن عمر الوكيعي قالا: حدثنا ابن الفضيل عن أبيه، عن أبي حازم عن أبي هريرة يرفعه].
ومعنى يرفعه أي: يقول فيه قال النبي عليه الصلاة والسلام.
[(ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع)].
قوله: (ما بين منكبي الكافر).
أي: من الكتف إلى صفحة العنق يسمى منكباً، مسيرة ثلاثة أيام للراكب الجواد المسرع.(10/13)
شرح حديث: (ألا أخبركم بأهل الجنة كل ضعيف متضعف)
قوله عليه الصلاة والسلام: [(ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف)].
والمتضعف -بالفتح والكسر- معناه: من يستضعفه الناس ويحتقرونه ويتجبرون عليه لضعف حاله في الدنيا.
يقال: تضعفه واستضعفه.
أما المتضعف فمعناه: المتواضع المتذلل المنكسر لله عز وجل.
قال: (قال القاضي عياض: وقد يكون الضعف هنا رقة القلوب ولينها، وإخباتها للإيمان، والمراد أن أغلب أهل الجنة هؤلاء، كما أن معظم أهل النار هم القسم الآخر).
قوله: [(مدفوع بالأبواب)].
يعني: يأتي إليك من أجل أنه رجل فقير فتقوم بطرده من الباب؛ لأنه لا يتناسب مع حشمة الأغنياء ووجاهتهم، مع أن هؤلاء هم أتباع الأنبياء، وهم ناصرو الأنبياء، وهم أهل الإيمان حقاً، ولا يعني ذلك أن الأغنياء ليسوا من أهل الإيمان، لكن الغالب على الفقراء والضعفاء والمساكين أنهم أهل الإيمان، والغالب أن أهل الغنى يصرفهم غناهم عن الله عز وجل، وصاحب الملايين في هذا الوقت لا يمكن نراه في هذا المسجد، لأنه قد شغلته أمواله عن الحضور والتذلل والانكسار، فإذا شغلته يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام نسي بركة هذه المجالس، ولم يتذوق حلاوتها، فكان بعيداً أو هو يبعد شيئاً فشيئاً عن حلاوة الإيمان، ولا ننفي عنه الإيمان والإسلام، وإنما نقول: إنه فقد حلاوة الإيمان، والمؤمن لا يتذوق حلاوة الإيمان إلا بطلب العلم الشرعي، وسماع كلام الله وكلام الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا الغني قد صرفه غناه عن سماع كلام الله، وإن كان مؤمناً لكن الفارق جوهري بين تذوق المؤمن المطيع لحلاوة الإيمان، وتذوق العاصي لحلاوة الإيمان.
قوله: (كل ضعيف متضعف) أي: متذلل منكسر لله عز وجل، لا يشمخ بأنفه إلى السماء، ويمن على الله عز وجل: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17]، فكل واحد منا محتاج إلى مراجعة ووقفة مع الذات من أول لحظة في حياته حتى يقدم على الله تبارك وتعالى.
قوله: (لو أقسم على الله لأبره).
معناه: لو حلف يميناً طمعاً في كرم الله تعالى بإبراره لأبره.
وقيل: لو دعاه لأجابه.
يقال: أبررت قسمه وبررته.
والأول هو المشهور.
قوله: [(وأما أهل النار: فكل عتل جواظ مستكبر)].
أما العتل: فهو الجافي الشديد الخصومة في الباطل، وهذا يحدث معنا كثيراً جداً، الواحد لما يأتي يعد أوصاف أهل النار يجد كل الأوصاف متوفرة فيه، فهو يعرف الحق ويجادل، ويماحك، ويخاصم، وهو في نفس الوقت يعلم أنه على الباطل، فكيف يكون هذا من أهل الجنة الداخلين أولاً مع الداخلين؟ ومعنى (كل عتل) أي: كل جاف شديد الخصومة في الباطل.
وقيل الجافي: هو الفظ الغليظ.
وأما الجواظ: فهو الجموع المنوع.
وقيل: الجواظ هو كثير اللحم المختال في مشيته.
أي: المستكبر في مشيته.
وقيل: هو القصير البطين.
أي: صاحب كرش.
وقيل: هو الفاخر، أي: الذي يفخر بنفسه على الخلق.
وأما الزنيم: فهو الدعي في النسب، رجل انتسب إلى قوم وهو يعلم أنه ليس منهم، وشبه بزنمة الشاة.
وأما المتكبر والمستكبر: فهو صاحب الكبر، وهو بطر الحق وغمط الناس.
أي: رد الحق وظلم الناس.
[قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ألا أخبركم بأهل الجنة! كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار كل جواظ زنيم متكبر).
وفي رواية: (كل عتل جواظ مستكبر).
وفي رواية في وصف أهل الجنة: (رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره)].
يعني: ربما يكون هناك من شعره أشعث من ينظر إليه لا يعبأ به ولا يحترمه ولا يقدره، وإذا طرق عليه بابه ينهره ويزجره ويطرده من الباب، وهذا الذي تراه على هذه الصفة وتلك الهيئة منزلته عند الله عظيمة بحيث أنه لو دعا الله لأجابه، فلم تدفعه؟ فلو دعا عليك لأجابه الله عز وجل.
أما من قال أن الشعث هم البله، يلزمه أن يقول أن هؤلاء المجانين هم ممن ينطبق عليهم قوله: (أشعث) لكن الأشعث هو كل ضعيف يستضعفه الناس، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام لما مر عليه رجل: (ما تقولون في هذا؟ قالوا: يا رسول الله! إنه لجدير إذا تكلم أن يسمع، وإذا نكح أن ينكح).
يعني: الناس كلها تتمنى أن تزوج هذا، وأن تتكلم معه لشرفه، وبعض الناس لا يزال محتفظاً بصورة قد تصورها أيام الشقاوة مع الرئيس الفلاني، أو الأمير الفلاني، أو اللاعب الفلاني، أو الراقصة الفلانية، فهو لا يزال يذكر ماضيه ويفتخر به، مع أنه أولى به أن يطمسه تماماً، وألا يذكره، لكنه على أية حال يرى أن هذا فخر، ولو كان قد التقط تلك الصورة مع رجل ضعيف متذلل منكسر لا يسمع به الناس، يخلو بربه في الليل فيكسب من نوره سبحانه، لقال: تلك الصورة ليس لها قيمة ويتمنى ألا أحد يراها، مع أنها شرف.(10/14)
شرح حديث: (إلام يجلد أحدكم امرأته)
[حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وأبو كريب قالا: حدثنا ابن نمير عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن أبي زمعة -كنيته أبو زمعة - قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم -: ({إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} [الشمس:12].
انبعث فيها رجل عزيز عارم منيع في رهطه مثل أبي زمعة)].
النبي صلى الله عليه وسلم يذكر أن الذي قتل الناقة كان رجلاً عارماً منيعاً في قومه وهو رجل عزيز في أهله مثل أبي زمعة، النبي صلى الله عليه وسلم يشبه أبا زمعة بهذا الشقي الذي انبعث فقتل الناقة، فالشقي الذي انبعث فقتل ناقة صالح كان عارماً عزيزاً منيعاً ذو مكانة ووجاهة في قومه مثل أبي زمعة، وليس معنى ذلك أنه شبه أبا زمعة بذلك الشقي.
[ثم ذكر النساء فوعظ فيهن ثم قال: (إلام يجلد أحدكم امرأته)].
يعني: لماذا يجلد أحدكم امرأته؟ قال: [(جلد الأمة).
وفي رواية: (جلد العبد، ولعله يضاجعها من آخر يومه).
ثم وعظهم في ضحكهم من الضرطة فقال: (إلام يضحك أحدكم مما يفعل)].
قوله في هذا الحديث: (إلام يجلد أحدكم امرأته؟) يعني: لماذا يضربها كما يضرب أحدكم عبده أو أمته؟ فلعله يحتاجها في الليل للجماع والفراش، فإذا احتاجها وقد ضربها بالنهار فكيف يطلبها في الفراش؟! فالذي يفعل ذلك أشبه بالحيوانات، بل الحيوانات أفضل منه، فالحيوان إذا أراد الوقوع في أنثى وكان بينهما من الخلاف والمشاجرة والرفض وغير ذلك هو يعرف أنه لا يمكن مع هذا الجو المكهرب أن ينال مراده، ولذلك هو لا يطلبها، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يجلدها جلد العبد والأمة ثم يطلبها في الليل).
وهذا شيء بعيد جداً حتى نفسياً، أمر لا يمكن تحصيله، ومن حصله مع هذا الجو لابد أنه قد فقد كل إحساسه.
ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إلام يضحك أحدكم مما يفعل) أي: من الضرطة.
وهي: خروج الهواء من الدبر بصوت، فإذا فعل الواحد شيئاً من ذلك أو فعل في حضرة قوم كان له من التعليقات الباردة السخيفة بالقول أو الفعل، وهذا في الحقيقة من سوء الأدب، والمطلوب أن الواحد إذا سمع شيئاً من ذلك من صاحبه أن يتغافل عنه، ويعتبر أن ذلك شيء لم يكن، ويزعم أنه لم يسمع شيئاً؛ حتى وإن سئل يجيب بأنه لم يسمع شيئاً، وهذا من الخلق الكريم، وصاحب الخلق الكريم لا يتوقف عند هذه التفاهات، وقد يخيل إليه أنه سمع شيئاً حتى يعلق تلك التعليقات السخيفة الباردة، وفي النهاية يتبين أن صاحبه لم يفعل شيئاً.
وفي إيطاليا سنة (87م) علمت أن من صفات هذا الشعب أنهم يفعلون ذلك بغير أدنى حرج في المواصلات العامة، وفي الشوارع والطرقات وفي كل مكان رجالاً ونساءً بدون أن يعلق واحد منهم شيئاً على الآخر، والمصريون كذلك تعلموها منهم، مع أننا لنا أخلاق وآداب تختلف عنهم، ينبغي أن نتأدب بها، ولا ينبغي أن نتكلف هذا الفعل تكلفاً ونتعمده من أجل أن نثبت للناس أننا إيطاليون.(10/15)
شرح حديث: (رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار)
قال: [حدثني زهير بن حرب حدثني جرير عن سهيل -وهو سهيل بن أبي صالح السمان - عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف أبا بني كعب هؤلاء يجر قصبه في النار)].
النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن الله قد أطلعه على النار ورأى أهلها، وقد دخل الجنة ورأى أهلها، وهذا أمر مستقر، فإنه دخل الجنة ورأى فيها كيت وكيت وكيت، وأخبر بما رأى عليه الصلاة والسلام، واطلع على النار ورأى فيها كيت وكيت وكيت، ورأى فيها عمرو بن لحي يجر أمعاءه؛ لأنه أول من أمر أهل مكة بعبادة الأصنام، فهو الذي جلب الأصنام من الشام ووضعها حول الكعبة، وأمر أهل مكة بعبادة هذه الأصنام من دون الله عز وجل، فـ عمرو بن لحي هو زعيم الشرك، وسيد المشركين، رآه النبي عليه الصلاة والسلام في النار يجر أمعاءه ويدور فيها كما يدور الحمار حول الرحى.
[وعن ابن شهاب قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: إن البحيرة هي التي يمنع درها للطواغيت].
البحيرة التي ذكرها الله تعالى في القرآن هي التي يمنع درها -أي: لبنها- للطواغيت.
وهي تلك الأصنام فلا يحلبها أحد من الناس، وإنما هي وقف لهذه الأصنام.
[وأما السائبة: فهي التي تنطلق بغير قيد لتأخذ مرعاها، وهي التي كانوا يسيبونها لآلهتهم فلا يحمل عليها شيء].
يعني: السائبة التي ليس لها ضرع ولا لبن لا يحمل عليها شيء بل هي وقف لهذه الأصنام، وصاحبة اللبن لا يستفيد بلبنها أحد، وإنما لبنها متروك لتلك الأصنام وهذه الأوثان، فهو أول من شرع هذا الشرك وهذا الكفر.
[قال ابن المسيب: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار وكان أول من سيب السيوب).(10/16)
شرح حديث: (صنفان من أهل النار لم أرهما)
قال: [حدثني زهير بن حرب حدثنا جرير عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أهل النار لم أرهما)].
أي: هذان الصنفان من أهل النار لم يكونا في زمانه.
قال: [(قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس)].
ولا يلزم أن هذه السياط كأذناب البقر، المهم أنها كناية عن ظلم العباد.
قوله: (يضربون بها الناس).
أي: بغير حجة ولا برهان ولا ذنب اقترفوه، ولذلك يقول الإمام النووي: (هذا الحديث من معجزات النبوة، فقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، فأما أصحاب السياط فهم غلمان والي الشرطة).
هؤلاء الظلمة الذين يضربون الناس ويعذبون الناس بغير ذنب ارتكبوه، ولا جريرة اقترفوها.
قال: [(ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة)].
والبخت هي الإبل.
قال: [(لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها)].
والحكم النهائي أن هذان الصنفان لا يدخلان الجنة، ولا يشمان رائحتها.
قال: [(وإن ريحها ليوجد من مكان كذا وكذا)، وفي رواية: (من مسيرة خمسمائة عام)].
أما معنى الكاسيات العاريات ففيه أقوال لأهل العلم، أحدها: كاسيات من نعمة الله، عاريات من شكرها.
والثاني: كاسيات من الثياب، عاريات من فعل الخير، والاهتمام لآخرتهن، والاعتناء بالطاعة.
الثالث: يكشفن شيئاً من أبدانهن إظهاراً لجمالهن، فهن كاسيات في الحقيقة عاريات.
والرابع: يلبسن ثياباً رقيقة تصف ما تحتها، فهن كاسيات عاريات في المعنى.
وأما: (مائلات مميلات) فقيل: الميل هو الانحراف، والزيغ، فهن زائغات عن طاعة الله تعالى، وما يلزمهن من حفظ الفروج وغيرها، ومميلات أي يعلمن غيرهن مثل فعلهن.
وقيل: مائلات أي: متبخترات في مشيتهن، مميلات لأكتافهن.
وقيل: مائلات يتمشطن المشطة الميل وهي مشطة البغايا، معروفة لهن.
مميلات: يمشطن غيرهن تلك المشطة.
وقيل: مائلات إلى الرجال، مميلات لهم بما يبدين من زينتهن وغيرها.
وأما قوله: (رءوسهن كأسنمة البخت) فمعناه: يعظمن رءوسهن بالخمر والعمائم، يعني: المرأة تضع عمامة على رأسها، والعمامة هي كل ما يعم الرأس عن الرجل والمرأة كالخمار تماماً، فهن يعممن رءوسهن بالخمر والعمائم مما يلف على الرأس حتى تشبه أسنمة الإبل، وهذا هو المشهور في التمثيل.
ويجوز أن يكون معناه: يطمحن إلى الرجال ولا يغضضن أبصارهن عنهم، ولا ينكسن رءوسهن.
واختار القاضي أن المائلات: تمشط المشطة الميلاء وهي ظفر الغدائر، وشدها إلى فوق، وجمعها في وسط الرأس، فتصير كأسنمة البخت، فتجعل شعرها كبة فوق رأسها.
ومراد التشبيه بأسنمة البخت إنما هو لارتفاع الغدائر أو الظفائر فوق رءوسهن، وجمع عقائصهن وتكسرها بما يظفرنه حتى تميل إلى ناحية من نواحي الرأس كما تميل سنام البعير، يقال: ناقة ميلاء إذا كان سنامها يميل إلى أحد شقيها.
فقد كفر بالله عز وجل واستحق الخلود في النار، فهو لا يشم رائحة الجنة أبداً ويخلد في النار، لأنه استحل ما حرم الله عز وجل بعد قيام الحجة عليه، وإذا فعل ذلك متأولاً، أو بجهل، أو بعلم أنها معصية ووقع فيها مع اعتقاده الجازم أنه عاص ويقر بذلك، فيكون معنى لا يدخلن الجنة: أي: أولاً مع الداخلين، يعني: لا يدخلن في أول الأفواج التي تدخل الجنة، ولكنهم يدخلون بعد تطهيرهم من أرجاسهم وأدناسهم في نار جهنم.(10/17)
شرح حديث: (يوشك إن طالت بك مدة أن ترى قوماً في أيديهم مثل أذناب البقر)
قال: [حدثنا ابن نمير حدثنا زيد -يعني: ابن حباب - حدثنا أفلح بن سعيد حدثنا عبد الله بن رافع مولى أم سلمة قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (يوشك إن طالت بك مدة)].
النبي صلى الله عليه وسلم يقول لـ أبي هريرة يوشك يا أبا هريرة إن طال بك زمانك أو طال بك العمر.
قال: [(أن ترى قوماً في أيديهم مثل أذناب البقر يغدون في غضب الله ويروحون في سخط الله)].
يعني: في الصباح والمساء، لا تفارقهم اللعنة، ولا يفارقهم الغضب والسخط، وهو غضب الله عز وجل وسخطه عليهم؛ لأنهم يظلمون العباد، ويحاربون العباد، ويقتلون العباد، ويضربون العباد بغير حجة ولا برهان، بل قامت الحجة والبراهين على أن هؤلاء مظلومون وهم أصحاب حق وأصحاب دعوة صحيحة، ومع ذلك يضربون ويعذبون، ويسحلون، ويصعقون، ويظلمهم الظالمون بغير حجة ولا برهان، فهؤلاء جزاؤهم عند الله أنهم يغدون في غضب الله، ويروحون في سخط من الله عز وجل.
[حدثنا عبيد الله بن سعيد، وأبو بكر بن نافع، وعبد بن حميد، قالوا: حدثنا أبو عامر العقدي، حدثنا أفلح بن سعيد، حدثنا عبد الله بن رافع - مولى أم سلمة - قال: سمعت أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن طالت بك مدة، أوشكت أن ترى قوماً يغدون في سخط الله، ويروحون في لعنته)].
واللعن والطرد يكونان من رحمة الله تعالى.
قال: [(في أيديهم مثل أذناب البقر)].
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(10/18)
الأسئلة(10/19)
عذاب الشيطان في جهنم بالنار
السؤال
كيف يعذب الشيطان في النار وهو من النار؟
الجواب
ابن آدم يعذب بطين وقد خلق منها، لو أخذنا في هذا الوقت حجراً نستطيع أن نهشم به رأسك وعظمك، فكيف تعذب أنت بهذا الحجر والحجر من طين وأنت قد خلقت من طين؟ إذا كان الذي خلق من طين يعذب بالطين فكذلك الذي خلق من النار يعذب بالنار.(10/20)
حكم الاستعانة بالجن في علاج السحر
السؤال
ما حكم الاستعانة بالجن في علاج السحر والصرع وغير ذلك؟
الجواب
هذا أمر لا يجوز.(10/21)
حكم من أفطر يوم عرفة لعذر شرعي
السؤال
امرأة مسلمة مقيمة بمصر جاءها الحيض في يوم عرفة، فهل يضيع عليها أجر صيام هذا اليوم، وماذا تفعل بعد أن تطهر؟
الجواب
لا يلزمها أن تعيد هذا اليوم، وإذا كانت بدأت الصيام فجاءها الحيض في أثناء النهار، أو لم تبدأ بالمرة ولكنها عقدت النية أنها إن طهرت صامت فلها أجر ذلك اليوم بإذن الله تعالى.(10/22)
حكم قضاء الصلوات المفروضة لمن تركها شهوراً وسنين عديدة
السؤال
رجل كان تاركاً للصلاة ثم التزم، فهل يقضي الصلاة التي فاتته قبل أن يلتزم؟
الجواب
هذا مذهب جماهير العلماء، والمذهب الحق الذي أراه حقاً هو أن تارك الصلاة يلزمه التوبة، والتوبة تجب ما كان قبلها، وإنما يكثر من النوافل والصدقات إذا كان من أصحاب المال وغير ذلك، أما أن يعيد مع كل فرض فرضاً، أو فرضين أو ثلاثة فهذا وإن كان كلام جماهير العلماء لكن ليس عليه أي دليل.(10/23)
المكان الذي يحرم منه من كان دون الميقات
السؤال
كنت مقيماً هذا العام في جدة قبل الحج بعشرين يوماً، وقمت بهذه المدة بأعمال العمرة وذهبت إلى الميقات، لأنني نويت التمتع، ثم في ليلة الثامن من ذي الحجة قمت بالمبيت بالحرم المكي وفي صبيحة يوم الثامن أحرمت من الحرم وذهبت إلى منى، فهل علي شيء من أجل أنني لم أحرم من جدة؟
الجواب
ليس عليك شيء، وإحرامك صحيح؛ لأنه من كانوا من دون المواقيت فإنهم يحرمون من أماكنهم حتى أهل مكة يحرمون من مكة.(10/24)
حكم تشمير البنطلون وهو تحت القميص
السؤال
ما حكم تشمير البنطلون وهو لا يظهر تحت القميص؟
الجواب
لا حرج عليك فيه؛ لأن النهي فيه نهي تنزيه، وإذا كان فالأولى أن تقطع هذه الزيادة.(10/25)
نصيحة في ترك مجاورة النصارى والحذر من سحرهم
السؤال
في البيت الذي أسكن فيه يوجد اثنان من النصارى، ومنذ فترة ظنت زوجتي أنهم قد يعملون لنا أعمالاً، وسبب هذا الظن أن زوجة أحدهم قد طلبت من زوجتي قطعة ملابس أطفال، ولكن زوجتي رفضت، فبم تنصحنا؟
الجواب
أنصحك في الحقيقة إما أن ترحل عن هذا المكان، وإما أن تقطع علاقتك بهم أبداً، فهم أهل سحر وأذى، وفي الحقيقة الكنيسة في هذا الزمان لها من أعمال السحر ما لم يكن لها قبل ذلك، حتى صار القساوسة أهل تخصص في مسألة السحر والحسد وغير ذلك.(10/26)
حكم دفع الرشوة للحصول على وظيفة حكومية
السؤال
دفعت رشوة في حصولي على عمل تابع للحكومة، وعلمت أن ذلك ذنب، فماذا أعمل الآن مع العلم أنني سأستلم العمل في وقت قريب؟
الجواب
خلاص أنت دفعت، الذي يسأل -يا إخواني- على الشيء يسأل قبل العمل لا بعد العمل، أما وقد دفعت لا قيمة للسؤال حينئذ، لكني أنصح من لم يدفع ألا يدفع.(10/27)
كيفية ذبح الكبش بين الجنة والنار
السؤال
من سيذبح الكبش الذي هو الموت بين الجنة والنار؟
الجواب
يقول الله تعالى له مت فيموت.(10/28)
حكم الصلاة في مسجد به قبر، وحكم زيارة النساء للقبور
السؤال
ما صحة القراءة على الميت في القبر، وما هو الوارد في زيارة النساء للقبور، وهل يجوز الصلاة في مسجد به قبر؟
الجواب
الذي يطمئن إليه قلبي أنه لا تجوز الصلاة في مسجد به قبر، فمن صلى في مسجد به قبر يعيد الصلاة إذا كانت في الوقت.
أما الوارد عموماً في زيارة القبور فهو الدعاء، والذكر والموعظة، قال عليه الصلاة والسلام: (كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة)، فهذه فائدة الزيارة.
وزيارة النساء مكروهة أو هي جائزة مع الكراهة، لحديث أم عطية الأنصارية في الصحيحين أنها قالت: (نهانا النبي عليه الصلاة والسلام عن زيارة القبور ولم يعزم علينا)، أي: ولم يؤكد النهي؛ فتبين الجواز.
وأخذنا الكراهة من نهيه الأول الذي لم يؤكده: (نهانا عن زيارة القبور ولم يعزم) أي: ولم يؤكد على هذا النهي، ولو أكده لقلنا بالحرمة، ولكنه لم يؤكد فنقول بالكراهة مع الجواز.
والنبي عليه الصلاة والسلام كان إذا زار القبور قال: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أنتم السابقون ونحن إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لنا ولهم) ويستمر بالدعاء لأهل القبور جميعاً.
وقالت عائشة رضي الله عنها كما في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبيت عندي فانسل من فراشه فأتبعته حتى جاء على البقيع ورفع يديه يدعو لأهل البقيع، فلما أراد أن ينفتل) يعني: لما أنزل يديه وأراد أن يرجع، (أسرعت الرجوع إلى بيتي، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم علي في حجرتي فلما رآني قال: أتظنين أن يحيف الله عليك ورسوله؟ قالت: ثم لهزني لهزة أوجعتني.
وقال: إن ربي أمرني أن أذهب إلى البقيع فأدعو لأهل البقيع).
هذا هو الشاهد: (إن ربي أمرني أن أذهب إلى البقيع فأدعو لهم)، قال تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103]، فدعاء النبي صلى الله عليه وسلم ليس كدعاء الغير، ونحن مأمورون بما أمر به النبي عليه الصلاة والسلام.(10/29)
شرح صحيح مسلم - كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها - باب النهي عن سب الدهر
لقد اختص الله عز وجل هذه الأمة بالعقيدة الإسلامية الصافية، وحرص الشارع الحكيم على وقاية هذه العقيدة من كل ما يشوبها أو يدنس صفاءها ونقاءها، فحذر من أي فعل أو قول يمكن أن يقدح فيها، ومن ذلك نهيه عن بعض الألفاظ وتحذيره منها، وهي ألفاظ كثيراً ما تدور على ألسنة الناس دون أن يلقوا لها بالاً، معتقدين عدم تأثيرها في عقيدتهم، أو قدحها في توحيدهم.(11/1)
باب النهي عن سب الدهر
الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: فمع الجزء الخامس عشر، وهو الذي يبدأ بكتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، والمؤلف هنا لم يتكلم عن كل الآداب الإسلامية، وإنما تكلم عن بعض المسائل والمواضيع الأدبية التي ينبغي أن يتحلى بها المسلم فقال رحمه الله تعالى: (باب: النهي عن سب الدهر) وهو الباب الأول في كتاب الألفاظ من الأدب.(11/2)
شرح حديث: (يسب ابن آدم الدهر وأنا الدهر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن سرح وحرملة بن يحيى -وكلاهما مصريان- قالا: أخبرنا ابن وهب -وهو مصري كذلك، واسمه عبد الله بن وهب القاضي المصري الكبير المعروف- قال: حدثني يونس عن ابن شهاب] يونس إذا كان بين ابن وهب وابن شهاب الزهري فإنما هو يونس بن يزيد الأيلي لا غيره.
[قال ابن شهاب: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن].
وأبوه هو عبد الرحمن بن عوف الزهري الصحابي المعروف، وولده اسمه أبو سلمة، وإن كان الاسم هذا كنية، فهو ممن عرف بأن اسمه كنيته، اسمه أبو سلمة وكنيته كذلك.
[قال: قال أبو هريرة رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله عز وجل: يسب ابن آدم الدهر وأنا الدهر بيدي الليل والنهار)].
وهذا حديث قدسي.
قال: [وحدثناه إسحاق بن إبراهيم -وهو المعروف بـ الحنظلي إسحاق بن راهويه - وابن أبي عمر -وهو محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني نزيل مكة، وتلميذ ابن عيينة - واللفظ لـ ابن أبي عمر قال إسحاق: أخبرنا، وقال ابن أبي عمر: حدثنا سفيان].
إذا حدث ابن أبي عمر عن سفيان فهو سفيان بن عيينة؛ لأننا قلنا: إن ابن أبي عمر عدني نزيل مكة.
يعني: هو من عدن ولكنه نزل مكة واستقر بها، ولازم بها سفيان عشرين عاماً.
قال: [قال: حدثنا سفيان عن الزهري عن ابن المسيَّب].
أو ابن المسيِّب كلاهما صحيح، وابن المسيب هو سعيد بن المسيب المدني، وهو زوج ابنة أبي هريرة رضي الله عنه.
قال: [يحدث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر)].
وسبب الإيذاء: هو أن ابن آدم يسب الزمن والأيام، وكلاهما الدهر، [(قال: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار)].
وبعض المحدثين أنكر أن يكون الدهر مرفوعاً، وقالوا: الصواب أن يكون منصوباً.
أي: وأنا الدهرَ: ولكن الصواب من مذهب جماهير المحدثين وجل اللغويين أنه بالرفع الدهرُ.(11/3)
شرح حديث: (يؤذيني ابن آدم يقول: يا خيبة الدهر)
[وحدثني عبد بن حميد قال: أخبرنا عبد الرزاق].
وهو ابن همام الصنعاني اليمني.
[قال: أخبرنا معمر].
ومعمر هو ابن راشد البصري الصنعاني.
يعني: هو من أهل البصرة، ولكنه نزل صنعاء اليمن فاستقر بها وتزوج منها وبقي فيها.
[عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم يقول: يا خيبة الدهر)].
وسبب الإيذاء هنا هو نوع آخر من أنواع السب [(فلا يقولن أحدكم: يا خيبة الدهر؛ فإني أنا الدهر أقلب ليله ونهاره)].
أقلب: يعني: أُبدِّل بين ليله ونهاره، أو أجعل الخلائق في الليل والنهار يتقلبون، فالوضيع يصير شريفاً والشريف يصير وضيعاً، والغني يصير فقيراً، والفقير يصير غنياً، والمريض يصير صحيحاً، والصحيح يصير مريضاً، وغير ذلك، وهذا نوع من أنواع التقليب الذي يقع في الدهر.
أي: في الزمن.
[(قال الله عز وجل: أقلب ليله ونهاره، فإذا شئت قبضتهما)].
أي: أقمت الساعة.
[وحدثنا قتيبة قال: حدثنا المغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد].
وأبو الزناد هو عبد الله بن ذكوان، وكنيته أبو عبد الرحمن، أما أبو الزناد فهو لقب له.
[عن الأعرج].
وهو عبد الرحمن بن هرمز الأعرج المدني.
[عن أبي هريرة رضي الله عنه].
وهو على الراجح عبد الرحمن بن صخر الدوسي.
[أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقولن أحدكم: يا خيبة الدهر؛ فإن الله هو الدهر).(11/4)
شرح حديث أبي هريرة في النهي عن سب الدهر
وحدثني زهير بن حرب].
وهو أبو خيثمة النسائي.
[قال: حدثنا جرير].
وهو ابن عبد الحميد الضبي الكوفي.
[عن هشام عن ابن سيرين].
الذي يروي عن ابن سيرين هو هشام بن حسان الأزدي، وهشام بن عروة يروي كذلك عن ابن سيرين، لكنه هنا هشام بن حسان عن ابن سيرين، وإن كان هشام بن حسان في مرتبة الصدق والأمانة ولم يرتق إلى مرتبة الثقة أو الحافظ، إلا أنه من أثبت الناس في ابن سيرين.
[قال هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا تسبوا الدهر)].
وهذا حديث نبوي، وليس حديثاً قدسياً.
[قال: (لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر)].
هذا نهي من النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله هو الدهر.
وفي الرواية الأولى: (قال الله عز وجل: لا يقولن أحدكم: يا خيبة الدهر؛ فإن الله هو الدهر).
وعند أحمد من حديث أبي هريرة كذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا تسبوا الدهر؛ فإن الله عز وجل قال: أنا الدهر، الأيام والليالي لي أجددها وأبليها).
أي: ملك لي وهي بيدي.
أجددها وأبليها.
يعني: تجديدها بالليل بعد النهار والنهار بعد الليل، وهذا بيد الله عز وجل ومن صنعه وخلقه، فليس أحد يملك ذلك إلا الله.
ومعنى أبليها.
يعني: أفنيها وأنهيها.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: (وآتي بملوك بعد ملوك) وهذا بقية الحديث.
أي: يذهب ملوك ويأتي من بعدهم ملوك آخرون إلى قيام الساعة.(11/5)
تأويل حديث: (فإن الله عز وجل قال: أنا الدهر)
والقول بأن الدهر من أسماء الله عز وجل يرده الإجماع المنعقد سلفاً وخلفاً أن الدهر ليس من أسماء الله عز وجل وإذا كان الإجماع على هذا النحو، ولم يأت لا في زمن الصحابة ولا من بعدهم أن من أسماء الله تبارك وتعالى الدهر، فلابد من تأويل هذا الحديث.
وأما تأويله في رواية: (إن الله هو الدهر) فقد قال العلماء: وإطلاق الدهر هنا من باب المجاز؛ وسببه أن العرب كان من شأنها أن تسب الدهر عند النوازل والحوادث والمصائب النازلة بها من موت أو هرم أو تلف مال أو غير ذلك، فيقولون: يا خيبة الدهر.
يعني: يسبون الدهر.
وأنتم تعلمون أن الدهر هو الأيام والليالي، وهو الأعصر والأزمان، وهذه الأعصر والأزمان لا تفعل شيئاً في هذه المصائب، وليست سبباً في نزول المصائب، بل المصائب مخلوقة لله عز وجل، والشر مخلوق لله عز وجل، وكذلك الأيام والليالي مخلوقة لله عز وجل، والأيام والليالي ليس لها دخل في نزول المصائب والنوازل والحوادث، ولكن العرب كانت تتشاءم من يوم تقع فيه نازلة أو مصيبة، فيطلقون ألسنتهم بسب الدهر ولعنه، فيقولون: يا خيبة الدهر ونحو هذا من ألفاظ سب الدهر، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر).
أي: فإن الله هو الذي خلق الدهر.
أي: لا تسبوا فاعل النوازل؛ لأن الليل والنهار ليسا بفاعلين للنوازل، وإنما فاعل النوازل وخالقها هو رب الليل والنهار وهو رب الدهر، فإذا سببتم الدهر ولعنتموه فكأنكم تسبون خالق النوازل وخالق الدهر وخالق الحوادث وخالق الليل والنهار، وهذا هو الذي نهى عنه عليه الصلاة والسلام، فإنكم إذا سببتم فاعلها وقع السب على الله تعالى؛ لأنه هو فاعلها ومنزلها، وأما الدهر الذي هو الزمان فلا فعل له، بل هو مخلوق من جملة خلق الله تعالى.
والمعنى: فإن الله هو الذي فعل النوازل وأوجدها وخلقها وأحدثها؛ وهي مما يقع في الكون، والله هو الخالق لجميع الكائنات والنوازل والحوادث.
وهذا الكلام قاله الإمام المنذري ووافقه الشيخ الألباني كذلك في الصحيحة.(11/6)
باب كراهة تسمية العنب كرماً
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: كراهة تسمية العنب كرماً].
الكرْم والكرَم شيء واحد، والعرب كانت تطلق على العنب كرَم أو كرْم، على عادتهم في اتخاذ الخمر من العنب، فإذا شربوها سكروا، وإذا سكروا جادوا بها في مجالسهم، وأنتم تعلمون أن هذه المجالس باقية إلى الآن، حتى إن السكارى الآن يقولون: إن فلاناً هذا كريم جداً.
فإذا جئت تنظر في حال فلان هذا تجده رئيسهم في السكر، فيقولون: فلان أكرم واحد فينا.
يعني: هو الذي يُشرب الجالسين، يشتري خمراً ويوزعه على أصحابه كلهم.
يعني: هو يسقي الجميع، فسمي كريماً؛ لأنه يجود بالخمر على غيره.
فكذلك العرب كانت تفعل في جاهليتها، فلهذا يسمون العنب كرماً؛ لإظهار إكرام فاعله، فمن جاد بالشرب والسكر والخمر على غيره سمي عندهم كريماً.
ورغم أن هذا اللفظ يحمل معنى طيباً محموداً إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم كره أن يُطلق هذا اللفظ المحمود على ما هو مذموم أصلاً في الشرع، فقال: (لا تقولوا للعنب كرماً، بل أولى الناس بهذا الاسم العبد المسلم أو الرجل المسلم أو قلب المؤمن)، فإنه أولى بهذا الاسم من هذا السكير العربيد؛ لأن قلب المؤمن حي بنور الإيمان، لا يقارف هذه المعاصي ولا يشرب الخمر، فهو أولى بكرمه وتعففه عن المعاصي وعن هذه الأوحال ممن اقترفها.
قال: [حدثنا حجاج بن الشاعر حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن أيوب].
معمر بن راشد عن أيوب بن أبي تميمة السختياني وهو كيسان.
قال: [عن ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يسب أحدكم الدهر فإن الله هو الدهر، ولا يقولن أحدكم للعنب: الكرم؛ فإن الكرم الرجل المسلم)].
أي: فإن الكريم هو الرجل المسلم.
حدثنا عمرو الناقد وابن أبي عمر قالا: حدثنا سفيان].
وهو: سفيان بن عيينة.
[عن الزهري عن سعيد].
وهو: سعيد بن المسيب.
[عن أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا تقولوا كرماً فإن الكرم قلب المؤمن).
حدثنا زهير بن حرب حدثنا جرير -وهو جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي - عن هشام عن ابن سيرين - هشام عن ابن سيرين هو هشام بن حسان الأزدي - عن أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا تسموا العنب الكرم فإن الكرم الرجل المسلم).
وحدثنا زهير بن حرب -وهو أبو خيثمة النسائي نزيل بغداد- حدثنا علي بن حفص - المدائني أبو الحسن البغدادي - حدثنا ورقاء -وهو ابن عمر اليشكري نزيل المدائن وهو كوفي أبو بشر - عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقولن أحدكم الكرم، فإنما الكرم قلب المؤمن).
وحدثنا ابن رافع -وهو محمد - قال: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام بأحاديث.
منها هذا الحديث من صحيفة همام عن أبي هريرة، أخرجها الإمام أحمد بن حنبل في الجزء الثاني من المسند وهي حوالي مائة واثنين وأربعين حديثاً.
[قال: (لا يقولن أحدكم للعنب الكرم، إنما الكرم الرجل المسلم).
حدثنا علي بن خشرم أخبرنا عيسى بن يونس -وهو ابن أبي إسحاق السبيعي - عن شعبة عن سماك بن حرب عن علقمة بن وائل -وهو ابن وائل بن حجر الحضرمي الكوفي، قيل: إن علقمة لم يسمع من أبيه، ولكن جاء عند الترمذي: أن علقمة قال: سمعت أبي.
فالذي يقول: إن علقمة لم يسمع من أبيه يرد عليه تصريح علقمة بأنه سمع من أبيه.
[عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا تقولوا الكرم، ولكن قولوا: الحبْلة أو الحبَلة)].
إما بإسكان الباء أو بفتحها.
[(لا تقولوا للعنب: الكرم، ولكن قولوا: الحبَلة، أو الحبْلة يعني: العنب)، يعني: قولوا له: عنباً أو حبلة، فهذا لا بأس به.
قال: [وحدثنيه زهير بن حرب حدثنا عثمان بن عمر -وهو ابن فارس العبدي(11/7)
بيان العلة من النهي عن تسمية العنب كرماً
إذاً: العنب يسمى إما عنباً أو حبلة، ولا نسميه كرماً؛ لأن هذا الاسم فيه كراهة شديدة جداً، قال ابن الجوزي: إنما نهي عن هذا؛ لأن العرب كانوا يسمونها كرماً، لما يدّعون من إحداثها في قلوب شاربيها من الكرم، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تسميتها بما تمدح به لتأكيد ذمها وتحريمها، وليعلم أن ما في قلب المؤمن من نور الإيمان أولى بذلك الاسم الذي هو الكرم.
يقول الحافظ الإمام النووي: كانت العرب تطلق لفظة الكرم على شجر العنب، وعلى العنب، وعلى الخمر المتخذة من العنب؛ سموها كرماً لكونها متخذة منه، ولأنها تحمل على الكرم؛ لأن أصحاب المعاصي كانوا يجلسون مع بعضهم البعض يشربون الخمر، ويحب أحدهم أن يكون أحسن من الموجودين، فيوزع الخمر على الحاضرين؛ لأجل أن يكون صاحب الكرم والجود والسخاء والبذل، ولذلك حتى الذين يدخنون، فإن البخيل لديهم هو الذي لم يعط سيجارة أما ما لو أعطاها لأحد المدمنين فسيكون هو الكريم، فالكرْم تحمل على الكرم والسخاء، فكره الشرع إطلاق هذه اللفظة على العنب وعلى شجر العنب؛ لأن العرب إذا سمعوا بعد الإسلام لفظة الكرم التي تحمل على الكرم والبذل والسخاء ربما تذكروا بها الخمر، فهيجت نفوسهم إليها، فوقعوا فيها أو قاربوا ذلك، واستشرفتها نفوسهم، ولكن سموا العنب عنباً أو حبلة.
والشراب المتخذ منه يسمى خمراً؛ لأن وقع كلمة خمر على أذنك ليس كوقع كلمة كرم أو كريم، فهذه لها معنى وهذه لها معنى آخر، فالخمر وقعها على الأذن مذمومة، والكرم وقعها على الأذن ممدوحة.
أما قوله: إنما يستحق هذا الاسم الرجل المسلم أو قلب المؤمن؛ لأن الكرْم مشتق من الكرَم بفتح الراء، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] ولم يقل: أشربكم للخمر أو أشربكم للكرم، فسمى قلب المؤمن كرماً؛ لما فيه من الإيمان والهدى والنور والتقوى والصفات المستحقة لهذا الاسم.
قال أهل اللغة: يقال: رجل كرم، وامرأة كرم، ورجلان كرم، ورجال كرم، وامرأتان كرم، ونسوة كرم كله بفتح الراء وإسكانها كرَم وكرْم بمعنى كريم وكريمان وكرام وكريمات، فهذا وصف للمصدر كضيف وعدل، والله تعالى أعلم.(11/8)
باب حكم إطلاق لفظة العبد والأمة والمولى والسيد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: حكم إطلاق لفظة العبد والأمة والمولى والسيد] والحكم إما أن يكون جائزاً أو مكروهاً أو مستحباً أو مندوباً، وهذه الألفاظ موجودة في كتب الفقه أو كتب الحديث، مصحوبة بالأدلة والنصوص، لكن الكلام هنا ليس على أصل اللفظة.
وبالنظر إلى العنوان: (باب حكم إطلاق) تجد أن معناه: حكم الإكثار من استعمال هذه المصطلحات.
إذاً: هو يتكلم عن حكم استعمال هذه المصطلحات بصفة مستمرة حتى تكون هي الشائعة، فالعبد له حقوق في الإسلام وعليه واجبات، والسيد والمولى والأمة كذلك، وكل هذه المصطلحات، لابد أنك ستجد أبواباً كاملة تتعلق بأحكام كل من المولى والعبد والأمة والسيد.
وإطلاق لفظة (السيد) مباحة، لكنها تكره في بعض الأحيان، أما لفظة المولى فالأصل فيها الجواز، لكنها مكروهة أحياناً، وكذا لفظة الأمة أو العبد هي ألفاظ جائزة في الشرع ولكن في دائرة ضيقة، والتوسع في إطلاق هذه المصطلحات مكروه.
إذا: الأصل في حكم إطلاق هذه الألفاظ هو الجواز، وقد وردت في نصوص كثيرة من الكتاب والسنة:(11/9)
شرح الأحاديث في النهي عن قول: عبدي وأمتي
قال: [حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر].
وابن حجر هو علي بن حجر السعدي.
قالوا: حدثنا إسماعيل بن جعفر المدني عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة].
والعلاء هو ابن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي.
[أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقولن أحدكم: عبدي وأمتي، كلكم عبيد الله)].
وهذا النهي موجه للسيد.
أي: إذا اشتريت عبداً من السوق أو غنمت عبداً من غزوة فإن هذا لا يعني أنه عبد وأنت حر، فأنت في حقيقة أمرك عبد كهذا العبد ولكن لله عز وجل، فهو عبد بالنسبة للسيد، والحر ليس عبداً بل هو غلام وفتى، أما السيد فهو رب العبد وسيده ومالكه، ولكن في حقيقة الأمر فإن المالك الحقيقي للسيد والعبد هو الله عز وجل، والعبودية لا تكون إلا لله عز وجل، ولذلك يكره أن يقول السيد: (هذا عبدي)؛ لأن لفظ العبودية خاص بالله عز وجل، وإن أجاز الشرع للسيد أن يقول عبدي؛ فإن هذا ليس على سبيل الدوام، وإنما أجاز له أن يقول عبدي أحياناً؛ للتفريق بينه وبين الحر، وللتفريق بينه وبين السيد، لا أن يطلق السيد لسانه بلفظ عبدي عبدي عبدي، ولكن ليقل: غلامي، فتاي -من الفتى- أما عبدي فإنها لا تقال إلا استثناءً، وأما الاعتياد عليها فمكروه؛ لأنها تشعر بأن هذا السيد رب حقيقي، وفيه نوع ألوهية وليس الأمر كذلك، بل العبودية كلها مصروفة لله عز وجل سواء من الحر أو من السيد.
[(لا يقولن أحدكم: عبدي وأمتي كلكم عبيد الله، وكل نسائكم إماء الله، ولكن ليقل غلامي وفتاي وفتاتي)].
إذا كان عبداً فليقل: غلامي، وإذا كانت أمة فليقل: جاريتي وفتاتي.
[وحدثني زهير بن حرب حدثنا جرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقولن أحدكم: عبدي فكلكم عبيد الله، ولكن ليقل: فتاي، ولا يقل العبد: ربي)].
وهنا نهي موجه للسيد أن يقول: عبدي؛ لأن العلة أن الكل عبيد لله عز وجل، والكلمة مشعرة بصرف شيء من العبودية لهذا السيد، وليس الأمر كذلك.
وكذلك وجَّه الأمر للعبد ألا يقول لسيده: (ربي)، وإن كان الرب بمعنى القيم، وهذا السيد قيم بشئون عبده وفتاه وغلامه.
ولا بأس أبداً أن تقول: رب البيت، فأنت إذا كنت متزوجاً وعندك زوجة وأولاد وغير ذلك فأنت رب البيت، فكلمة الرب بالألف واللام غير مضافة مخصوصة بالله عز وجل، فلابد من صرف الذهن إلى أنه الرب تبارك وتعالى، أما إذا نويت أن تطلق هذا اللفظ على غير الله عز وجل، فينبغي لك أن تأتي بأمرين: الأمر الأول: تجريده من التعريف أي: من الألف واللام، فلا تقل (الرب) ولكن (ربَ).
الأمر الثاني: إضافته.
فتقول: رب البيت، ورب السيارة وغير ذلك.
قال: [(ولا يقل العبد: ربي، ولكن ليقل سيدي).
قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا: حدثنا أبو معاوية].
أبو معاوية هو محمد بن خازم الضرير، وأبو كريب هو محمد بن العلاء الهمداني الكوفي.
[وحدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا وكيع].
وهو ابن الجراح العتكي.
[كلاهما عن الأعمش].
وهما وكيع ومحمد بن خازم الضرير أبو معاوية.
[والأعمش].
هو سليمان بن مهران الكوفي.
[بهذا الإسناد، وفي حديثهما: (ولا يقل العبد لسيده: مولاي)].
وفي الحقيقة لم يوافق أحد الأعمش في هذه الرواية، ولذلك قال الإمام النووي: اختلف الرواة عن الأعمش في ذكر هذه اللفظة، فلم يذكرها آخرون، وحذفها أصح.
والصحيح أنه لا بأس أن يقول العبد لسيده: يا مولاي، وكأن الأعمش أخطأ في هذه اللفظة.
[وفي حديث أبي معاوية قال: (فإن مولاكم الله عز وجل).(11/10)
شرح حديث: (لا يقل أحدكم: اسق ربك)
وحدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقل أحدكم: اسق ربك، أطعم ربك، وضئ ربك)].
لأن معنى الرب تشعر بنوع من الربوبية، والربوبية مطلقة لله عز وجل لا يجوز صرفها إلى غيره سبحانه، ولذلك فإن هذا الحديث مشعر بأن لفظ (رب) وإن كان في أصله جائزاً إلا أن تكراره وشيوعه أمر مكروه، ولذلك قال: (لا يقل أحدكم: اسق ربك، أطعم ربك، وضئ ربك)، فهذه الألفاظ فيها غضاضة.
ولو قال له: أطعم سيدك، اسق سيدك، وضئ سيدك، فلا بأس فهي ألفاظ محتملة، ولكن وضع لفظ (الرب) مكان (السيد) تمجه الأذن ولا تألفه.
[قال: (ولا يقل أحدكم: ربي، وليقل: سيدي ومولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي)].
إذاً: هذه الألفاظ كلها في أصلها جائزة، لكن الإكثار منها وشيوعها أمر فيه كراهة.(11/11)
العلة من النهي عن إطلاق لفظة العبد والأمة والسيد
قال العلماء: مقصود الأحاديث -أي: مقصود أحاديث الباب التي ذكرناها- أمران: أحدهما: نهي المملوك أن يقول لسيده (ربي)؛ لأن الربوبية لا تكون إلا لله تعالى؛ لأن الرب هو المالك أو القائم بالشيء، ولا تكون حقيقة هذا إلا لله تعالى، ولذلك سمي رباً، وسمي قيوماً؛ لأنه هو القائم على شئون خلقه.
فإن قيل: فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام في أشراط الساعة: (أن تلد الأمة ربتها أو ربها)، كما قلنا: إن كلمة (ربتها) مضافة إلى الهاء، وكذلك مجردة عن الألف واللام والنهي عن (الرب).
الجواب
من وجهين: أحدهما: أن هذا الحديث لبيان الجواز.
يعني: أن لفظ الرب ليس محرماً، ولكن استعماله وإشاعته فيه كراهة، ويبقى الأصل الجواز، ولذلك جاء في بعض الأحاديث النهي، وجاء في بعضها الإباحة، والأحاديث والآيات التي ورد فيها ذكر الرب جاءت لبيان الجواز، وأن النهي الذي ورد في بعض النصوص للأدب وكراهة التنزيه لا للتحريم.
يعني: تأدباً.
ونضرب لذلك بلفظة (الهن)، فالهن من أسماء الدبر، وهو من الأسماء الستة، فكلمة (هن) ألطف من كلمة (دبر)، وكذلك (السه) اسم من أسماء الدبر، كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (العين وكاء السه، فإذا نام العبد فليتوضأ).
أي: أن العين حارسة على نقض الوضوء، كلما كان الرجل مستيقظاً فهو يعرف تماماً إذا كان متوضئاً أو فاقداً له، لكنه إذا نام فإنه لا يعرف ذلك.
ولو قلت لأحد الطلبة في السنوات الأولى: جاء أخوك، ورأيت أخاك، ومررت بأخيك، فإنه سيفهم هذه العبارات.
أما لو قلت: (جاء هنوك) أو (رأيت هناك)، أو (مررت بهنيك)، فإن الطلبة سيسألون عن معنى ذلك، ولهذا لم يفرضوا على الطلبة في هذه المستويات هذا الاسم السادس من الأسماء الستة، ولم يقرر إلا في الجامعات.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (أن تلد الأمة ربتها أو ربها) فيه جواز إطلاق هذا اللفظ، والأولى غيره، كما يجوز إطلاق لفظ الدبر، لكن أولى منه (الاست) و (السه) و (الهن)؛ لأن هذه ألفاظ لها وقع أطيب من وقع الدبر على المسامع.
الجواب الثاني: أن المراد: النهي عن الإكثار من استعمال هذه اللفظة واتخاذها عادة شائعة ولم ينه عن إطلاقها في نادر الأحوال، واختار القاضي هذا الجواب.
إذاً: النهي عن إطلاق هذه الكلمة وإشاعتها حتى تكون عادة، أما لو استعملت في أحوال نادرة فلا بأس بذلك.
ولا نهي في قول المملوك: (سيدي)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (ليقل: سيدي)؛ لأن لفظة السيد غير مختصة بالله تعالى اختصاص الرب، فإن كلمة الرب ألصق بالله عز وجل من كلمة (سيد)، وقد ورد في النص أن الله هو السيد، كما في حديث: (لا تقولوا للمنافق سيد؛ فإن الله هو السيد) وهو حديث صحيح، لكن هذا النص ليس مشهوراًً كشهرة النهي عن إطلاق لفظ الرب، أو ليس من أسماء الله عز وجل أنه السيد، بل ولا من صفاته، وإنما هو من باب صفات المعاني الواسعة، مثل الستار والمنعم وغير ذلك، فكلها صفات لله عز وجل من جهة المعنى لا من جهة النص، فالمنعم ليس من أسماء الله عز وجل، وليس من صفات الله عز وجل المنصوصة على أنها من صفاته سبحانه، وإنما المنعم صفة معنى لله عز وجل وصفات المعاني بابها واسع؛ لأن المنعم الحقيقي على الخلق هو الله عز وجل ولا خلاف في ذلك.
قال: [ولا نهي في قول المملوك سيدي لقوله صلى الله عليه وسلم: (ليقل: سيدي)؛ لأن لفظة السيد غير مختصة بالله تعالى اختصاص الرب، ولا مستعملة فيه كاستعمالها، فلو قلت: رب، فإن ذهن المستمع ينصرف لله عز وجل، بخلاف لفظة: سيد، فلا ينصرف ذهنه لله عز وجل.
إذاً: استعمال كلمة رب في جنب الله عز وجل أكثر شيوعاً من استعمال كلمة سيد، ولذلك يجوز للعبد أن يقول: سيدي، والدليل على ذلك الرجل المجوسي الذي أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقد أطلق شاربه حتى دخل في فمه وحلق لحيته، وكان مبعوثاً من أحد أمراء كسرى، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى هيئته: (من أمرك بهذا؟) أي: من الذي قال لك أن تطيل شاربك وتحلق لحيتك؟ (قال: أمرني ربي) يقصد سيده: (فقال عليه الصلاة والسلام: وأنا أمرني ربي أن أطلق لحيتي، وأن أحف شاربي).
إذاً: شتان ما بين رب هذا المبعوث ورب محمد عليه الصلاة والسلام! قال: [حتى نقل القاضي عن مالك أنه كره الدعاء بسيدي، ولم يأت تسمية الله تعالى بالسيد في القرآن ولا في حديث متواتر، بل ورد في حديث آحاد: (لا تقولوا للمنافق سيد فإن الله هو السيد).
والنبي صلى الله عليه وسلم أجاز إطلاق لفظ سيد على المخلوقين، فقال: (إن ابني هذا سيد وسيصلح الله تعالى به بين فئتين عظيمتين).
وقال عليه الصلاة والسلام للأنصار: (قوموا إلى سيدكم) يعني: سعد بن معاذ.
وفي الحديث الآخر: (اسمعوا ما يقول سيدكم) يعني: سعد بن عبادة(11/12)
باب كراهة قول الإنسان: (خبثت نفسي)
قال المصنف رحمه الله تعالى: (باب: كراهة قول الإنسان: خبثت نفسي).
أو أن يقول: إن نفسي خبيثة! فهذا اللفظ أنت منهي عنه إما لنفسك أو لغيرك، فلا تقل: هذا فلان خبيث، أو نفسه خبيثة، أو خبثت نفسي، أو خبثت نفس فلان فكل هذه من الألفاظ التي نهى عنها الشارع، ولكن قل: لقست نفسي أو لقست نفس فلان، والأولى ألا تتهم؛ لأن هذا ربما يعد من السباب أو الغيبة أو غير ذلك، ولكن إذا أردت أن تعبر بالخبث فقل: لقست نفسي، ولا تقل خبثت نفسي، وإن كانت الكلمتان تؤديان معنى واحد، فلقست بمعنى خبثت؛ واللقس في اللغة: هو الخبث، ولكن الشارع أراد أن ينزه عباده عن صريح الألفاظ المذمومة، فعندما تقول لفلان: أنت خبيث؛ فإنه يفهمها ويتأذى بها، لكنك لو قلت له: لقست نفسك.
فسيقول لك: وما معنى ذلك؟ وسيبحث عنها في لسان العرب -مثلاً- فيبحث في حرف اللام والقاف والسين، ويبحث في آخر حرف في الكلمة الثلاثية وهو السين، وبعد ذلك بحرف اللام ثم القاف بين اللام والسين.
قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا سفيان بن عيينة وحدثنا أبو كريب محمد بن العلاء -وهو الهمداني الكوفي - حدثنا أبو أسامة -وهو حماد بن أسامة -كلاهما عن هشام عن أبيه -أي: حماد بن أسامة وابن عيينة يرويان عن هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقولن أحدكم: خبثت نفسي، ولكن ليقل: لقست نفسي).
وهذا حديث أبي كريب، أما حديث أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه قال نفس الحديث ولم يذكر (لكن).
وحدثنا أبو كريب حدثنا أبو معاوية -وهو محمد بن خازم الضرير - وحدثني أبو الطاهر وحرملة قالا: أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقل أحدكم: خبثت نفسي، وليقل: لقست نفسي)].
ومعنى لقست: غثت.
من الغثاء.
أي: ضاقت.
فإن قيل: فقد قال صلى الله عليه وسلم في الذي ينام عن صلاة الصبح في وقتها: (فأصبح خبيث النفس كسلان) بخلاف طيب النفس النشيط، فكيف نجمع بين هذا الحديث وبين قوله: (لا يقل أحدكم: خبثت نفسي)؟ ف
الجواب
أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن صفة غيره، وهو شخص مبهم وليس معلوم الحال، فلا يمتنع إطلاق هذا اللفظ عليه ما دام مجهولاً، ومادام قد وقع في أمر مذموم وهو ترك صلاة الفجر.
والله تعالى أعلم.
وهذه الآداب التي ذكرناها إنما تتعلق بحقوق المسلم على المسلم، أو بحق المسلم على نفسه، وقد ورد لفظ الخبث في الروايات الكثيرة عن اليهود والنصارى والمشركين، فاليهود وصفهم بذلك إمامهم وسيدهم في ذلك الوقت عبد الله بن سلام فقال: (يا رسول الله! سلهم عني فإنهم قوم بهت) وفي رواية: (فإنهم قوم خبث)، وليست الحجة في قول عبد الله بن سلام، وإنما الحجة في إقرار النبي عليه الصلاة والسلام لهذا القول لما سمعه ولم ينكر عليه.(11/13)
باب استعمال المسك وأنه أطيب الطيب
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: استعمال المسك وأنه أطيب الطيب].
الطيب أنواع متعددة جداً بلغت مئات الأصناف، والمسك هو أطيب الطيب، ويكره رد الريحان والطيب، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا ترد: الوسادة، والدهن، واللبن) والدهن هو العطر، والوسادة هي المخدة، عندما يعطيك شخص مخدة أو مسند أو شيء تجلس عليه أو تركن عليه يستحب لك قبول هذا العرض، وكذلك اللبن، والفلاحون يعرفون بالفطرة أن اللبن لا يرد، والشرع أيدهم في ذلك من باب الاستحباب لا من باب الوجوب، وكذلك الطيب قبوله مستحب في الشرع ورده ليس بحرام، وإنما هو مكروه كراهة تنزيه، أما رده لعلة فلا يكره.
قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة -وهو حماد بن أسامة - عن شعبة قال: حدثني خليد بن جعفر -وهو ابن طريف الحنفي البصري أبو سليمان - عن أبي نضرة -وهو المنذر بن مالك بن قطعة العبدي - عن أبي سعيد الخدري - سعد بن مالك بن سنان - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كانت امرأة من بني إسرائيل قصيرة تمشي بين امرأتين طويلتين)].
طبعاً هذه مذمة، واحدة طولها مترين من هنا والأخرى طولها مترين من هنا وهذه طولها مائة وأربعين أو مائة وثلاثين سنتيمتر، أي: أن عيبها ظاهر بشدة، ولو أنها مشت بمفردها فالأمر يستساغ، لكن امرأة قصيرة بين امرأتين طويلتين، كأنها تنادي على نفسها بالعيب.
قال: [(فلما علمت ذلك من نفسها، اتخذت رجلين من خشب)].
وما أكثر نساء اليوم اللاتي يتخذن الكعب العالي من أجل أن تبدو طويلة، ولذلك عندما تخلع المرأة هذه الجزمة أو الصندل تحس أنها نزلت من على سلم.
قال: [(فاتخذت رجلين من خشب، وخاتماً من ذهب مغلق مطبق، ثم حشته مسكاً وهو أطيب الطيب)].
يعني: تزينت بالطول وبالرائحة.
قال: [(فمرت بين المرأتين فلم يعرفوها)].
لأنهم يعرفون أنها قصيرة وليست صاحبة عطر.
[(فقالت بيدها هكذا)].
يعني: أنا مثلكن وأحسن منكن.
قال: [حدثني عمرو الناقد حدثنا يزيد بن هارون عن شعبة عن خليد بن جعفر والمستمر].
المستمر -هو ابن الريان الزهراني الإيادي أبو عبد الله البصري -قالا: سمعنا أبا نضرة يحدث عن أبي سعيد الخدري: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر امرأة من بني إسرائيل حشت خاتمها مسكاً والمسك أطيب الطيب)].
يريد هنا أن يبين من هذه القصة: أن المسك هو أطيب الطيب، بل هو أحب الطيب إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
[حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب كلاهما عن المقرئ -وهو أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المقرئ - قال أبو بكر: حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ عن سعيد بن أبي أيوب حدثني عبيد الله بن أبي جعفر عن عبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من عرض عليه ريحان فلا يرده)].
الريحان يطلق على جميع أنواع الطيب؛ لما له من رائحة [(فإنه خفيف المحمل طيب الريح)].
يعني: خفيف الحمل ليس بثقيل.
قال: [ومن حديث مخرمة عن أبيه عن نافع قال: (كان ابن عمر إذا استجمر استجمر بالألوة)].
(كان ابن عمر إذا استجمر) يعني: أشعل الجمار.
وهذا لا يزال الآن يستخدم في بلاد العرب، فكان عبد الله بن عمر إذا أراد أن يطيب المكان أو نفسه أو الضيفان استجمر بالألوة، وهو ما يسمى الآن بالعود.
قال: [(غير مطراة)].
يعني: استجمر بالعود ولم يخلطه بشيء.
فقوله: (غير مطراة) أي: غير مخلوط.
قال: [(وكافور)].
يعني: كان مرة يستخدم الألوة الذي هو العود الصافي غير مخلوط، ومرة يخلطه بكافور.
[ثم قال: (هكذا كان يستجمر رسول الله صلى الله عليه وسلم)].
وفي أحاديث الباب: بيان أن المسك أطيب الطيب وأفضله، وأنه طاهر يجوز استعماله في البدن والثوب، ويجوز بيعه وهذا كله مجمع عليه إلا ما جاء عن الشيعة فهو باطل، ويرد عليهم بإجماع المسلمين والأحاديث الصحيحة في استعمال النبي صلى الله عليه وسلم المسك واستعمال أصحابه كذلك له، وهو مستثنى من القاعدة المعروفة: (أن ما أبين من حي فهو ميت)، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (هو أطيب الطيب)، والشيعة قالوا: المسك خبيث، وحرموه؛ لأن المسك يؤخذ من دم الغزال، والحقيقة أنه(11/14)
الأسئلة(11/15)
حكم ارتداء النساء لبعض أنواع الملابس كـ (الاسترتش) وغيرها
السؤال
هل يجوز ارتداء (الاسترتش) و (المينوجب) في المسجد؛ لأن بعض الأخوات يرتدين هذه الملابس في المسجد وفي صالات الأفراح، وأقرب هذه الأفراح هو الذي حضرته أنت في مسجد الحرمين بشارع خط مصر القديمة؟
الجواب
هذه الملابس لا بأس أن تلبسها المرأة سواء في الداخل أو في الخارج، لكن إذا لبسته في الخارج لا يجوز لها أن تظهر هذه الملابس، بل تلبس عليها العباءة أو فستان طويل أو غير ذلك.(11/16)
حكم ذكاة الجنين إذا خرج حياً بعد ذبح أمه
السؤال
قوله عليه الصلاة والسلام: (ذكاة الجنين ذكاة أمه).
ما حكم الجنين إذا نزل حياً؟
الجواب
لو نزل حياً فإنه يذبح.(11/17)
بيان ما تدرك به الركعة
السؤال
هل يكون إدراك الركعة بإدراك الركوع؟
الجواب
نعم.
يتم إدراك الركعة بإدراك الركوع حتى على مذهب القائلين بوجوب قراءة الفاتحة، فمن أدرك الركوع فقد أدرك الركعة وإن فات محل قراءة الفاتحة.(11/18)
حكم من أصابته نجاسة وهو يصلي
السؤال
طفل تبول على ثياب أمه وهي تصلي، فهل تقطع الصلاة أم تتمها؟
الجواب
تقطعها وتغسل ملابسها.(11/19)
حكم من جامع زوجته في دبرها
السؤال
رجل جامع زوجته في دبرها، فماذا عليه للتكفير عن ذنبه؟
الجواب
أولاً: لابد أن تعلم أن هذا من الكبائر، وإتيان المرأة في الدبر من الكبائر، وأنه فعل قوم لوط، وأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لعن الله من أتى امرأة في دبرها).
فهذا الذنب يستوجب التوبة؛ لأنه كبيرة من الكبائر، فيجب عليك أن تتوب إلى الله عز وجل، وإن كانت امرأتك قد رضت بذلك فالتوبة في حقها لازمة كذلك، وعليكما أن تكثرا من النوافل حتى تقتربا من الله كما ابتعدتما عنه فلا كفارة إلا ذلك، أما الجماع في الحيض فكفارته دينار أو نصف دينار، هذه كفارة من أتى امرأته في الحيض؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من جامع امرأته وهي حائض فليتصدق بدينار).
وفي رواية: (بنصف دينار) والدينار من الذهب، ويقدر بحوالي مائة وستين جنيهاً بالعملة المصرية.(11/20)
حكم الإكثار من لفظ (سيدنا) عند ذكر الصحابة رضوان الله عليهم
السؤال
هل من الأفضل حين نتكلم عن الصحابة أن نقدم قبل ذكر أسمائهم لفظ (السيد)، مثل: سيدنا عمر، أو سيدنا أبو هريرة علماً بأن هذا يكون من باب التأدب معهم وتوقيرهم، فهل هذا جائز أم لا؟
الجواب
هو جائز، لكن الإكثار منه ليس من هدي السلف؛ لأننا لم نسمع أن أحداً من التابعين كان يداوم على ذلك، فالمداومة عليه ليست من السنة، ولا من هدي السلف، وإن كانوا جميعاً في حقيقة أمرهم أسياد لمن أتوا بعدهم، ولكن المداومة على ذلك ليس من نهجهم ولا من نهج التابعين ولا أتباع التابعين ولا الأئمة المتبوعين.(11/21)
حكم العمل في شركات التبغ
السؤال
ما حكم العمل في شركات الدخان؟
الجواب
العمل في شركات الدخان حرام.(11/22)
شرح صحيح مسلم - كتاب الصيام - فضل شهر رمضان
شهر رمضان شهر عظيم، فضله الله تعالى على سائر الشهور؛ فهو شهر القرآن، وشهر الرحمة، وشهر المغفرة، وشهر العتق من النيران، وفيه تفتح أبواب الجنان، وتغلق أبواب النيران، وتصفد الشياطين، ويقبل الناس فيه على طاعة الله عز وجل، وهو شهر الصدقات، والإحسان إلى الفقراء والمساكين وذوي الحاجات، وفيه ليلة هي خير من ألف شهر، وفضائله كثيرة، وهذا فضل من الله تعالى ورحمة بهذه الأمة.(12/1)
معنى الصيام لغة وشرعاً
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده رسوله.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
مع كتاب جديد وهو كتاب الصيام، أما لفظ (كتاب) فقد شرحناه مراراً، وهو الذي يضم عدة مسائل متشابهة، أو يخدم قضية واحدة، كما لو قلنا: كتاب الزكاة، كتاب الصيام، كتاب الحج، فكل كتاب من هذه الكتب إنما يتكلم عن الموضوع العام الذي خط لأجله، فكل مسألة من هذه المسائل التي تندرج تحت هذا الكتاب إنما تخدم قضية واحدة وهي قضية الزكاة، أو قضية الحج، أو قضية النكاح، أو الصلاة أو غيرها.
إذاً: فمعنى كتاب أنه الذي يضم عدة مسائل متشابهة في داخله، كما لو قلت: كتيبة، فالكتيبة هي التي تضم عدة أفراد ومعدات متشابهة، فالذي في كتيبة المشاة غير الذي في كتيبة المدرعات، فالمدرعات إنما تضم عدة معدات وأفراد، وتهتم بجانب من الجوانب يختلف عن غيره، وكما تقول: كتابة، فلو أنك أخذت ورقة فيها كلام لقلت فيها كتابة، فالكتابة هي التي ضمت عدة أحرف، فكونت كلمة أدت معنىً معيناً، فإذا قلنا: كتاب الصيام، فقد بدأنا في كتاب عام يتكلم في فرعيات موضوع واحد وهو موضوع الصيام.
وأما الأبواب فهي تلك الأبواب المختلفة التي عالج كل باب منها فرعاً معيناً من فروع هذا الكتاب.
فالباب: هو ما يدخل منه إلى غيره.
وأما الصيام فمعناه في اللغة: الإمساك، ولذلك لا يشترط أن يكون الإمساك عن الطعام والشراب، بل يمكن أن يكون الإمساك عن الكلام؛ لأنك إذا أمسكت عن أي شيء فأنت صائم، ولذلك قالت مريم عليها السلام: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم:26]، فهي نذرت لله إمساكاً عن الكلام، وتعبدت إلى الله عز وجل بهذا الإمساك، فالصيام في اللغة يطلق على الإمساك: الإمساك عن الكلام، عن الطعام، عن الشراب، عن الشهوة.
أما الإمساك في الشرع: فإنه الإمساك عن الطعام والشراب والشهوة في وقت معين من شخص معين بنية.
ويكون هذا الإمساك من شخص معين وهو المسلم؛ لأن الصيام من غيره لا يصح ولا يقبل، فمهما صام اليهود ومهما صام النصارى، فإن دينهم وشرعهم منسوخ، وإن الله تبارك وتعالى لا يقبل من أحد ديناً إلا دين الإسلام، فمهما صام غير المسلم فإنه لا يقبل منه، ولذلك الصيام واجب في حق المسلم البالغ القادر المقيم.
من شخص معين، في وقت معين معلوم، وهو من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.(12/2)
حكم النية في صيام الفرض والنفل
الركن الأعظم في هذا الصيام: النية؛ لأن النية هي التي تحدد عبادة العازم، سواء كانت هذه العبادة فرضاً أم نفلاً، سواء كانت عادة أو عبادة، ولذلك لو امتنع رجل عن الطعام والشراب لا بنية العبادة وإنما بنية الانتحار هل يقبل منه هذا الصوم؟ هو قد امتنع وأمسك عن الطعام والشراب، ولكنه لم يتقرب بهذا الامتناع وهذا الإمساك وهذا الصيام إلى الله عز وجل، وإنما أراد أن ينتحر وأن يموت من شدة الجوع، وأمسك عن الطعام والشراب حتى هلك، فهل يعد هذا عند الله أو عند الناس صائماً؟ لا؛ لأنه لم ينو بهذا الإمساك وجه الله عز وجل، مثل من أراد أن يعمل إضراباً، فقال: أنا مضرب عن الطعام والشراب إلى أن تعملوا لي كيت وكيت وكيت، فقيل له: لن نفعل، واستمر هو في صومه وفي إضرابه عن الطعام والشراب حتى مات.
لغة يقال له: ممسك؛ لأن الإمساك هو: الامتناع، وقد امتنع بالفعل، يعني: صام، لكن لا نقول أبداً: إن هذا الرجل الذي امتنع عن الطعام والشراب مضرب صائم، لا يمكن أن يصح هذا في الاصطلاح الشرعي وإن كان صحيحاً من جهة اللغة؛ لأن الاصطلاح الشرعي تلزم فيه النية، وهي نية القربة ونية العبادة، وهذا لم يفعل ذلك بنية القربة ولا العبادة، وإنما فعلها لأجل مصلحته الشخصية أو تحقيق غرضه الذاتي.
النية في صوم الفرض لازمة من الليل، بخلاف النية في صوم النفل؛ ولذلك أجمع العلماء على وجوب إرفاق النية في الفرض، ولا فرض غير شهر رمضان، فتكون من أول شهر رمضان.
واختلفوا في وجوب تجدد هذه النية في كل ليلة من ليالي الشهر، فمنهم من قال: إنما يكفي نية واحدة للشهر كله، ومنهم من قال: لا بد من تجديد النية في كل ليلة من طلوع الفجر لليوم الذي بعد هذه الليلة، والذي يترجح لدي أن النية الواحدة في أول الشهر كافية في إتمام هذا الشهر بهذه النية، إلا أن يحدث حدث، فالنية تكفيك في أول الشهر، ما إن تسمع أن رمضان سيدخل غداً تفرح وتسعد وتنعقد نيتك على صيام هذا الشهر من أوله إلى آخره، وهذه النية كافية ولا يلزم تجددها في كل ليلة، ولكن قد يطرأ على هذا الناوي وهذا الصائم ما يعكر عليه هذه النية، كأن يطرأ عليه سفر، والسنة في السفر الإفطار، ومن كان يقدر أن يصوم في سفره فهو مخير بين الإفطار والصوم؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم سافروا وغزوا مع النبي عليه الصلاة والسلام، فمنهم من صام ومنهم من أفطر، لا يعيب أحدهما على الآخر.
أما قوله عليه الصلاة والسلام: (ليس من البر الصوم في السفر) فهذا لغير القادر، لما وجد النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه يصبون الماء على رجل قال: (ما باله؟ قالوا: يا رسول الله! إنه صائم، فقال: ليس من البر الصيام في السفر)؛ لأنه غير قادر على الصيام فكاد أن يهلك، ولكنه أصر على أن يصوم مع عدم قدرته، بل النبي عليه الصلاة والسلام نفسه صام هو وعبد الله بن رواحة في أثناء السفر.
فأقول: إن السفر علة قاطعة للنية، والصيام ليس مفروضاً ولا واجباً إلا على المقيم، فإذا سافر المرء جاز له أن يفطر، فإذا أفطر انقطعت نيته التي عقدها في أول الشهر، فإذا رفعت هذه العلة وهي علة السفر يلزمه أن يجدد النية مرة أخرى، من أجل ذلك نقول: إن النية تلزمك مرة واحدة إذا كانت الظروف مواتية ومستقرة من أول الشهر إلى آخره دون انقطاع، لكن إذا انقطعت هذه النية بأحد الأعذار الشرعية كالسفر وكالمرض، كشخص في أثناء الشهر مرض مرضاً عجز معه عن مواصلة الصوم فأفطر، وفطره قربة لله عز وجل، فنيته قد انقطعت، فإذا شفي من علته وزال عذر المرض وأراد أن يصوم مرة أخرى فإنه يلزمه تجديد النية مرة أخرى.
أما النافلة من الصيام فإن النية لا تلزم الصائم من الليل، وإنما بإمكانه أن يعقد النية ولو في أثناء النهار قبل الزوال، والدليل أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا دخل بيته وقدم إليه الطعام أكل، وإذا اعتذر إليه بأنه لا يوجد طعام قال: إني صائم، وسيأتي هذا معنا بإذن الله تعالى.(12/3)
باب فضل شهر رمضان
قال المصنف رحمه الله: [باب فضل شهر رمضان].
إن لرمضان فضلاً وللصيام فضلاً آخر، فهو هنا يتكلم عن فضل شهر رمضان، وفضائله كثيرة لا تكاد تحصى.
فذكر الإمام مسلم تحت هذا الباب الذي بوبه النووي عليه رحمة الله بعض فضائل شهر رمضان، فهذا الشهر فضائله متعددة وكثيرة، ولكن الإمام مسلماً عليه رحمة الله لم يقع إليه على شرطه إلا بضعة أحاديث في هذا الموضوع.(12/4)
شرح حديث: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار)
قال: [حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر قالوا: حدثنا إسماعيل، وهو ابن جعفر].
الإمام مسلم سمع من الثلاثة جميعاً قالوا: حدثنا إسماعيل، فلما كان إسماعيل في هذه الطبقة كثيرين، خشي الإمام مسلم عليه رحمة الله أن يختلط إسماعيل بن جعفر بغيره، فقال: وهو ابن جعفر؛ تمييزاً له عن غيره.
قال: [عن أبي سهيل عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين)].
قوله: (إذا جاء رمضان) هذا يدل على جواز إطلاق هذا الاسم على الشهر دون أن تقول: شهر رمضان، وبعض أهل العلم كرهوا أن يقال: رمضان هكذا بغير إضافة، قالوا: ولا يصح إلا أن يقال: شهر رمضان.
والصواب الذي أيدته الأدلة: أن إطلاق رمضان على الشهر دون إضافة أمر صحيح، وإنما القول بعدم جواز ذلك غير صحيح؛ لأنه اتكأ على دليل ضعيف، وهذا الدليل الضعيف هو أن رمضان اسم من أسماء الله عز وجل، فإذا قلت: إذا جاء رمضان، يعني: إذا جاء الله عز وجل، فقالوا: مخافة أن يقترن هذا الشهر بالخالق؛ لأن الشهر اسمه رمضان، والله عز وجل من أسمائه رمضان، ولذلك كرهوا أن يقال في الشهر: رمضان، دون أن تقول: شهر رمضان، لكن الدليل الذي قضى بأن من أسماء الله عز وجل رمضان دليل ضعيف جداً، وأسماء الله عز وجل توقيفية لا يجوز فيها الاتكال على دليل غير صحيح؛ لأن الدليل الضعيف لا يعمل به في أرجح أقوال أهل العلم في فضائل الأعمال فضلاً عن الأحكام، فضلاً عن العقيدة، فضلاً عن الباب الذي هو بيت القصيد في الاعتقاد في أسماء الله تعالى وصفاته، فإذا سقطت حجة هذا الفريق القائل بأن من أسماء الله تعالى رمضان، فيبقى لنا أصل الجواز، هذا من جهة الحجة العقلية، وأما من جهة النقل فالنبي عليه الصلاة والسلام هو أعلم الناس بربه، وهو الذي قال: (إذا جاء رمضان)، ولم يقل: إذا جاء شهر رمضان.
قوله: (فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين).
أما فتح أبواب الجنة وإغلاق أبواب النار فهو من رحمة الله عز وجل وفضله لهذه الأمة، فلما كثرت طاعة المسلمين وإقبالهم على الله عز وجل في هذا الشهر بادر الله عز وجل بفتح أبواب الجنة، ولذلك لم يقل النبي عليه الصلاة والسلام: فُتِحَت أبواب الجنة وهو الفتح الطبيعي، وإنما قال: (فُتِّحَتْ) وهي صيغة مبالغة في فتح هذه الأبواب، أي: كل باب يفتح على مصراعيه، ومصراع الباب الواحد من أبواب الجنة كما بين المشرق والمغرب.
فهذه الأبواب تفتح عن آخرها استقبالاً لأهل الله عز وجل، للصائمين والقائمين والذاكرين والتالين وغير ذلك من أقسام الطاعة.
ومن مزيد فضله عز وجل على هذه الأمة أن يغلق أبواب النيران في هذا الشهر العظيم، يعني: توصد تمام الإيصاد، وتغلق تمام الإغلاق.(12/5)
أسباب ارتكاب الناس للمعاصي في رمضان رغم تقييد الشياطين فيه
هناك إشكال يدور في رءوس كثير من الناس من قوله عليه الصلاة والسلام: (وصفدت الشياطين)، يعني: سلسلت وقيدت وربطت، فالشبهة عند الناس: رؤيتهم لسائر أنواع المعاصي والذنوب في رمضان، فيقولون: إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين)، فإذا كانت الشياطين هي المصدر لهذه الذنوب والمعاصي والآثام، وأن الله تعالى صفدها وأغلها وربطها فمع ذلك نرى هذه المعاصي؟ قبل أن نبدأ لابد أن يعتقد المسلم بقلبه أن النبي عليه الصلاة والسلام لما أخبرنا بهذا الخبر كان صادقاً، وهذه الشبهة محلها عندي لا عند النبي عليه الصلاة والسلام، فلا نرد على النبي قوله، ولا نشك في خبر الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام، فإذا صح وحاك في نفسي معنى هذا الكلام، فإنما شفاء العي السؤال.
لكن كثيراً من الجهال في هذا الزمان إذا لم يستقم النص مع عقله القاصر يبادر بتكذيب الله عز وجل، ويبادر بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس هو المنهج العلمي الصحيح عند السلف، وإنما المنهج العلمي الصحيح عند السلف هو التلقي وسؤال العلماء عما لا يعلمونه، أما مبادرتهم بالتكذيب والجحود والإنكار وغير ذلك، فهذا ليس مذهباً صحيحاً لطلب العلم، وإنما إذا أشكل عليك أمر فيجب عليك أن تسأل فيه حتى تعلمه.
أما كون الله عز وجل قد صفد الشياطين وغلها وسلسلها فما بالنا نرى هذه المعاصي؟ فهناك عدة أجوبة: الجواب الأول: أن المردة وهم العتاة من الشياطين هم الذين يسلسلون ويصفدون ويغلون في شهر رمضان، دون غيرهم من سائر الشياطين.
الجواب الثاني: أن المعاصي ليس مصدرها فقط الشياطين، وإنما لها مصادر أخرى وهي: النفس الأمارة بالسوء، والهوى أي: اتباع الهوى، والغفلة وغير ذلك من الأسباب الباعثة والحاضة على ارتكاب الذنوب والآفات والمعاصي.
الجواب الثالث في أسباب وقوع المعاصي: أن الله عز وجل إذا كان قدر وقوع هذه المعاصي في شهر رمضان ومصدرها الشياطين؛ فإنما قوله عليه الصلاة والسلام: (وصفدت الشياطين) إنما أراد أن يبين أن معظم المعاصي التي تقع في غير رمضان لا تقع في رمضان، ولذلك لو نظرنا مثلاً: إلى الزناة أو إلى السارقين أو إلى قطاع الطرق وأصحاب هذه الكبائر تجد الواحد منهم يقول في شهر شعبان: هيا بنا نخرج ونعمل المعاصي والذنوب وغير ذلك، فيقول: نعملها قبل أن يهجم علينا رمضان! فيقول له قائل: وما المضرة في رمضان؟ فيقول: لا، إن رمضان له فضله، يعني: حتى قاطع الطريق يعلم أن رمضان له حرمة، فالذي يشرب سجائر وحشيشاً وخمراً وغيرها من البلايا يكثر منه قبل رمضان؛ من أجل أن يكون عنده رصيد يكفيه طوال رمضان، وإن أحب ارتكاب المعصية يجعلها في ليل رمضان، مع أن الأصل أن العاصي لله عز وجل يستوي أن تقع المعصية في رمضان أو في غيره، في ليل رمضان أو في نهاره.
وإذا أتيت إلى شخص مدمن على السجائر تجده يشعل سيجارة بعد سيجارة بعد سيجارة بعد سيجارة يشرب في النهار عشرين أو ثلاثين سيجارة، فتأتي لتنصحه بعدم التدخين، فيقول لك: لا أستطيع أن أمتنع عنها، إنني أشرب سجائر وأنا ابن عشر سنوات، والآن أنا ابن سبعين أو ثمانين سنة لا أستطيع تركها، وقد جربت وفشلت مراراً، وهذا الشخص في رمضان لا يحتاج إلى وصاية تراه يمتنع مباشرة عن التدخين في نهار رمضان، وبالتالي يقول: لا أستطيع أن أتركها ساعة في غير رمضان، لكن في نهار رمضان يتركها ساعات؛ لأن الوازع الإيماني في قلبه دفعه إلى لزوم الطاعة في الوقت الذي أمر الله عز وجل فيه بطاعته، لكن في الليل يعود إلى شرب هذا الخبيث.
كذلك الذي لا يملك شهوته أمام هذا البهرج النسوي يستطيع أن يكبح جماحه في نهار رمضان، وإن فكر في الزنا ليلاً، أريد أن أقول لك: إن المعاصي عند أصحابها مرفوضة في رمضان.
إذاً: الجواب الثالث في تفسير قوله عليه الصلاة والسلام: (وصفدت الشياطين) أي: قلت المعاصي وحُجِّمت لا أنها انعدمت بالكلية؛ لأن هذا نتيجة تصفيد الشياطين وقلة إغوائهم وغوايتهم لأصحاب المعاصي.(12/6)
شرح حديث: (إذا كان رمضان فتحت أبواب الرحمة وغلقت أبواب جهنم)
قال: [وحدثني حرملة بن يحيى التجيبي المصري أخبرنا ابن وهب أخبرنا يونس عن ابن شهاب].
إذا جاء بين ابن وهب وابن شهاب الزهري يونس فإنما هو يونس بن يزيد الأيلي.
قال: [عن ابن أبي أنس أن أباه حدثه أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان رمضان)].
(كان) بمعنى: صار كائناً وموجوداً، وهو بمعنى الرواية الأولى: (إذا جاء رمضان).
أي: إذا جاء رمضان وصار كائناً.
قال: [(فتحت أبواب الرحمة)]، وفي الرواية الأولى: (فتحت أبواب الجنة) وما الرحمة إلا ثمرة من ثمار الجنة.
قال: [(وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين)] أما كيفية سلسلة الشياطين فلا يعلمها إلا الله عز وجل.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حضر رمضان قال: قد جاءكم شهر مبارك) يعني: كله بركة.
ثم قال: (افترض عليكم صيامه)، أي: فرض الله عز وجل علينا صيام هذا الشهر، إلا من كان صاحب عذر.
ثم قال: (تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر -هي ليلة القدر، وهي أفضل عند الله عز وجل من ألف شهر- من حرم خيرها فقد حرم)، أي: من حرم خير هذه الليلة -وهي ليلة القدر- فهو المحروم حقاً، وهذا الحديث صحيح لغيره.
وعن عرفجة قال: (كنت عند عتبة بن فرقد وهو يحدث عن رمضان، قال: فدخل علينا رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه عتبة هابه واستعظمه فسكت الرجل -أي: فسكت عتبة - قال: فحدث عن رمضان -أي: فحدث هذا الرجل عن رمضان- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول)، إذاً: هذا الرجل الذي لم يذكر اسمه في هذه الرواية صحابي؛ لأنه قال: سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام، والصحابي لا تضر جهالة عينه؛ لأن الصحابة كلهم عدول، ولذلك عدم ذكر اسم الصحابي في الرواية لا يؤثر على الصحة ألبتة.
قال: (فحدث هذا الرجل عن رمضان، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في رمضان -أي: يقول في حق رمضان وفي فضل رمضان- تغلق أبواب النار، وتفتح أبواب الجنة، وتصفد الشياطين).
أنا أريد أن أؤكد على معنى (تصفيد الشياطين)؛ لأنني سمعت سنة (1990م) أحد المشايخ على منبر الجمعة يقول: هذا الحديث وإن كان متفقاً عليه إلا أنه منكر جداً عندي، ونكارته في إثبات الوضاعين لهذه الجملة: (وتصفد الشياطين)؛ فإذا كانت الشياطين تصفد في رمضان فما بالنا نرى المعاصي؟ ثم قال: والواقع يشهد على تكذيب هذا الجزء من الحديث.
أقول: للأسف الشديد إن الذي قال هذا الكلام هو رجل منسوب إلى العلم، ويتكلم بألسنتنا، ويدين بديننا، ويصعد المنابر ويعظ الناس.
فلما فرغ من خطبته قلت: يا عبد الله! أما يجدر بك أن تسأل أهل العلم إذ لم تعرف، فإنما شفاء العي السؤال؟ قال: أنت العليم؟ قلت: هذا لا يضرني، إنما الذي يضرك أن تهجم على النبي عليه الصلاة والسلام بعد مماته، لو أنك في مجلس النبي عليه الصلاة والسلام وقال هذا الكلام أكنت تجرؤ أن ترد عليه؟ قال: لا، لو قال ذلك ما كنت أجرؤ على الرد عليه، قلت: بلى والله قد قاله، وهذا الكلام ثابت في الصحيحين وغيرهما، فإذا به يهجم على الصحيحين وعلى أصحاب الصحيحين، فقلت: يكفي، لا يحاسبك الله عز وجل على ما تقول؛ لأنك مجنون، والقلم مرفوع عنك، ثم تركته.
قال صلى الله عليه وسلم: (تغلق أبواب النار، وتفتح أبواب الجنة، وتصفد فيه الشياطين، قال: وينادي فيه ملك: يا باغي الخير أبشر، -وفي رواية-: أقبل) يعني: يا مريداً لفعل الخير أقبل، فإن هذا هو موسم الطاعة، مع أنك مأمور بالطاعة في كل وقت وحين، ولكن هذا الموسم المتعارف عليه الذي هو منحة الله عز وجل لعباده.
ثم قال: (ويا باغي الشر أقصر)، يعني: ارجع عن شرك؛ مخافة أن تقبض في هذا الشهر الذي هو محل الطاعة وأنت على هذا الشر وهذه المعصية.
قال: (ويا باغي الشر أقصر، حتى ينقضي رمضان)، يعني: تصور أن الله عز وجل يسخر لك ملكاً ينادي عليك من أول يوم في رمضان إلى آخر يوم: يا باغي الخير أقبل وأبشر، ويا باغي الشر أقصر، من أول رمضان إلى أن تسمع أن غداً العيد، وقد يسأل امرؤ نفسه، فيقول: من أنا حتى يسخر الله عز وجل لي هذا الملك ينادي عليّ شهراً كاملاً، وأنا أحياناً أعصي الله وأحياناً أعرض وأجهل وغير ذلك؟ لو عرفت من أنت لكنت طائعاً، إذا كنت طائعاً لله عز وجل فأنت خير من هذا الملك الذي ينادي عليك، ولذلك اختلف أهل العلم عليهم جميعاً رحمة الله عز وجل أيهما أفضل: الملائكة أو البشر؟ ولقد حقق ش(12/7)
الأسئلة(12/8)
الحكم على حديث: (أتدرون من اليهودي من أمتي من سمع الأذان ولم يأت)
السؤال
ما صحة هذا الحديث: (أتدرون من اليهودي من أمتي؟ قالوا: أفي أمتك يهود يا رسول الله؟ قال: اليهودي من أمتي من سمع الأذان ولم يأت)؟
الجواب
لو صح هذا الحديث لكان أقوى حجة لمن يقول: إن الجماعة واجبة، والذين يقولون بوجوب صلاة الجماعة لم يجرءوا على أن يحتجوا بهذا الحديث؛ لأنه موضوع ومختلق ومصنوع غير صحيح، لم يقله النبي عليه الصلاة والسلام، ولم نسمع به.(12/9)
حكم أخذ الأجرة على الإمامة والخطابة
السؤال
أنا شاب في حاجة شديدة إلى المال، وقد عرض علي خادم أحد المساجد أن أتولى إمامة هذا المسجد في الخمس الصلوات مع خطبة الجمعة، مقابل مرتب أو مكافأة شهرية، فهل المرتب حلال أم حرام، مع العلم بأنني في حاجة إلى هذا المال ولا أعمل أي عمل آخر، أفتونا أثابكم الله؟
الجواب
أخذ الأجرة على العلم جائز بشروط، فإذا اختلت هذه الشروط فالحكم يدور بين الحرمة والكراهة.
الشرط الأول: ألا يكون عندك ما يغنيك، وقد تحقق هذا الشرط فيك، أن تكون فقيراً وفي حاجة شديدة إلى المال، وإذا كان عندك ما يغنيك فيحرم أو يكره لك أخذ الأجرة على قال الله وقال رسوله.
الشرط الثاني: أن يكون أخذك لهذه الأجرة بنية التفرغ لتعليم الناس، وإخراجهم من ظلمات الجهالة إلى دين الله، لا شك أنك لا تأخذ هذه الأجرة مقابل العلم أو ثمناً للعلم؛ لأن العلم أعظم من كل ثمن، وإنما تأخذ الأجرة؛ لأنك حبست نفسك على تعليم الناس، ولولا ذلك لسلكت الأرض يميناً ويساراً لتحصيل معاشك.
الشرط الثالث: أن يتعين عليك هذا العلم، بحيث يكون في حقك واجباً لا مهرب منه، إذا لم تقم به أنت لا يقوم به أحد غيرك، وبالتالي يأثم الجميع، أضرب لذلك مثلاً: هب أنك في قرية أو في نجع، وهذا المكان بعيد عن أهل العلم وليس فيه إلا أنت مؤهل لأن تعلم الناس الكتاب والسنة، وأن تعلمهم أمور دينهم، وأن تفتيهم فيما ينزل بهم، فإنك كل يوم يأتيك عشرات: الذي طلق، والذي تزوج، والذي ضربه، والذي خبطه، فهؤلاء الناس يريدون من يفهمهم ويعلمهم ويوعيهم، فإذا قلت: لا، أنا ليس لي علاقة بكم، أنا صحيح رجل عالم، ولكن ليس لي علاقة بكم؛ لأنني مشغول بمعاشي، أنا أخرج الصبح وأرجع نصف الليل، فليس عندي استعداد أن يأتي شخص بعد نصف الليل ويقول: والله إنني طلقت أنا تزوجت أنا قتلت أنا عملت، لكن اذهبوا إلى غيري فليس لي دخل في هذا، نقول: لا، واجب على أهل القرية أن ينفقوا على هذا العالم، وأن يفرغوه تماماً لهذه الأمة العظيمة، ولذلك يقول الله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122]، ففي هذه الحالة لو أن هذا العالم منعته ظروفه المعيشية من أن يتصدر لتعليم الناس ويفتي؛ فله أن يقول لأهل القرية: أنفقوا علي وعلى أولادي قدر الكفاف، وقدر الحاجة وقدر الضرورة.
الشرط الرابع: ألا يشترط أجراً معيناً لهذا العلم.
وبالمناسبة أذكر من حوالي عشر سنوات أو أقل أن شخصاً جاء ليؤم قوماً في أحد المساجد، فلما انتهى الشهر انتظر يريد نوالاً وأجرة من الناس على إمامته فلم يعطه أحد، وفي الأسبوع الثاني جاء إلى المسجد فلم يصعد على المنبر يوم الجمعة، فقالوا له: هذه الخمسين جنيهاً أجرة الشهر الماضي، والخمسين جنيهاً أجرة هذا الشهر سنجمعها لك فيما بعد، فقال: لن أصعد إلا بمائة جنيه، فقالوا له: اصعد ونحن نعطيك، قال: أبداً ادفعوا المائة أولاً، فما عملتم بي قبل ذلك كفيل بأنني أخشى أنني أهضم في كل مرة، والله العظيم لن أصعد المنبر حتى تدفعوا المائة جنيه.
أقول: لو لم يكن هذا حراماً فهو من أعظم الأمور المخلة بالمروءة، كان عليه أن يصعد المنبر ويخطب ولا يشترط مبلغاً معيناً، بدلاً من أن يضيع صلاة الجمعة على الناس.
إذاً: هذا الفعل وإن لم يكن حراماً فهو من أعظم الأمور خسة وإخلالاً بالمروءة.
أدلة أخذ الأجرة على التعليم أو على التفرغ للولايات العامة: الدليل الأول: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه هو أول خليفة للمؤمنين في الإسلام، كان يأخذ على الخلافة -وهي أعظم الأمور العامة في الإسلام- أجراً من بيت المال، وكان يعمل بالتجارة في زمن النبوة وقبل زمن البعثة، فلما تولى الخلافة اقتطعوا له مبلغاً من بيت المال، وذلك عندما لقيه عمر بن الخطاب في الطريق فقال: إلى أين يا خليفة رسول الله؟ قال: إلى السوق لأكتسب، قال: ألا تشغلك الإمارة والخلافة عن هذا؟ قال: وهل أضيع أولادي؟ قال: إنا سنجعل لك ثلاثمائة درهم من بيت المال، قال أبو بكر: لا تكفيني، وانتبه إلى قوله: لا تكفيني، هو لم يقل: لا تغنيني، يعني: هو يريد أن يأكل الكفاف، قال: لا تكفيني، وأنتم تعلمون أن أبا بكر الذي يقول هذا الكلام هو الذي قدم جميع ماله لله عز وجل ولرسوله عليه الصلاة والسلام، لكنه في موقف الضياع لا يضيع أولاده؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول) فإعالة هؤلاء في حق أبي بكر واجبة، فلم يتحرج أبو بكر أو يخزى أن يقول مثلاً: ثلاثمائة لا تكفيني؛ لأنه يعلم أنه سوف يضيع أولاده.
إذاً: ما الفرق بين أبي بكر الصديق رضي الله عنه الذي يأخذ هذا الراتب من بيت المال؛ ليطعم به هو وأهل بيته، وبين هذا الذي يعلم الناس ويلقي لهم دروساً، ويخطب بهم الجمعات، وي(12/10)
حكم التوظيف بشهادة جاءت عن طريق الغش
السؤال
موظف تقدم للوظيفة التي يعمل بها بشهادة الإعدادية العامة، وأثناء عمله حصل على شهادة الثانوية العامة، ولكنه غش في الامتحان، فهل يجوز تقديم هذه الشهادة إلى الجهة التي يعمل بها، مع اعتبار أنه ربما يرتفع مرتبه بسببها؟
الجواب
الذي أراه من أقوال أهل العلم الحرمة، والشيخ ابن عثيمين قال بحرمة الراتب الذي هو نتاج شهادة جاءت من غش في الامتحان، وهذه البلية عمت وطمت، لكن ينبغي أن يفرق في هذا بين طالب مجتهد في طلبه للعلم، وطالب آخر على العكس من ذلك غير مجتهد في ذلك، ولا يخطر على باله، فالطالب الأول يريد فقط أن يفتح عليه أحد ولو بكلمة، مثل الذي يحفظ قصيدة شعرية مطلوبة منه في الامتحان، والقصيدة كلها يستطيع قولها، لكن أول كلمة في أول بيت أغلقت عليه تماماً، هو حافظ حفظاً جيداً، لكن يريد من يفتح عليه بكلمة واحدة، ثم يقرؤها، فهذا لا يسوى بينه وبين الطالب الذي لم يحفظ القصيدة قط، ويريد أن يغش بالغصب، وإذا لم يغش فسوف يعمل كيت وكيت بالمراقبين.
أما الأول فالفتح عليه أمر مشروع، وأما الثاني فلا يعمل معه ذلك إلا من باب الغش.
واعلم أنه لا يمكن لمثل هذا الطالب الذي يغش أن ينجح في حياته أبداً، ولا أن يكون من الأوائل، ولا حتى من غير الأوائل؛ لأن الطالب الذكي الذي بذل كل وسعه يفتح الله عز وجل عليه، بما لا يفتح الله عز وجل به على رجل لا يعلم من العلم شيئاً.(12/11)
شرح صحيح مسلم - كتاب الصيام - الصائم يدعى لطعام فيقول إني صائم
صيام التطوع من فضائل الأعمال، وهو من الأعمال التي جعل الله عز وجل أجرها وثوابها مما يتعلق به، مثله في ذلك مثل صيام الفريضة، إلا أن الصائم تطوعاً يحق له قطع صيامه متى ما أراد، فإن دعي إلى وليمة جاز له الإجابة وقطع الصيام جبراً لخاطر الداعي، كما يجوز له استحداث نية للصيام من النهار، كل هذا من تيسير الشارع للناس في عباداتهم.(13/1)
باب الصائم يدعى لطعام فليقل: إني صائم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا دعي أحدكم إلى طعام وهو صائم فليقل: إني صائم)] هذا كلام عام في صيام الفرض وصيام الواجب وصيام النافلة، ربما دعاك غير مسلم في رمضان لتناول الطعام، فجوابك أن تقول: إني صائم، وربما دعاك مسلم صاحب عذر في ترك الصيام وهو لا يذكر أنه في صيام أو أنه في رمضان، فجوابك أن تقول: إني صائم.
أما في صيام النافلة لو قال لك أحد الناس: تفضل للطعام عندنا، فقل: إني صائم.
يقول الإمام النووي رحمه الله: (قوله: (فليقل: إني صائم) محمول على أنه يقول له اعتذاراً له وإعلاماً بحاله) يعني: يعتذر إليه عن سبب تخلفه عن قبول الدعوة أو الإقبال على الطعام بإظهار حاله، وذلك بأن يقول: أنا صائم، وليس هذا من الرياء، إلا أن ينوي الصائم بصيامه رياءً، وقلَّ أن ينوي صائم بصيامه رياء، فإن سمح له ولم يطالبه بالحضور سقط عنه الحضور، يعني: إذا دعاك إنسان يوم الإثنين أو يوم الخميس على الغداء وأنت تصوم هذين اليومين، فإما أن تقول له: أنا في هذا اليوم صائم، فإن أذن لك في عدم الحضور فقد سقط عنك وجوب الدعوة، وإن لم يسمح لك وجب في حقك الحضور، ولا يجب في حقك الطعام؛ لأنه يكفيك في حضرة الطعام أن تقول: إني صائم.
أما إجابة الدعوة فواجبة، فليس هناك تلازم بين الحضور وأكل الطعام، بل يمكن أن تحضر ولا تطعم، وإنما يكون الواجب في حقك أمرين: الأمر الأول: أن تظهر حالك وتقول: إني صائم.
الأمر الثاني: أن تدعو لصاحب الطعام، كما قال عليه الصلاة والسلام: (فإن أكلت وإلا فصل) والصلاة هنا بمعنى الدعاء، أي: الدعاء لصاحب الطعام.
والأفضل للصائم إذا دعي إلى طعام إن كان يشق على صاحب الطعام صومه أن يفطر، وإلا فلا.
يقول النووي رحمه الله: (إن كان يشق على صاحب الطعام صومه استحب له الفطر، وإلا فلا).
يعني: إذا لم يكن مشقة على صاحب الطعام، ولا أن هذا الأمر يحزنه، لا بأس أن تستمر في صيامك هذا إذا كان صوم تطوع، فإن كان صوماً واجباً يحرم الفطر، كما لو كنت تصوم نذراً أو كفارة أو تقضي قضاءً من رمضان، أما في حال صوم التطوع فيجوز الفطر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن المتنفل في الصيام قال: (المتطوع أمير نفسه) يعني: المتنفل في الصيام لو بدأ ونوى الصيام من أول اليوم فإن له أن يفطر في الضحى، أو في الظهر، أو حتى في العصر، أو قبيل المغرب؛ لأنه أمير نفسه، لكن الأفضل والمستحب -لا الواجب- في حقه أن يكمل صومه ما دام قد شرع فيه، لكن لو أفطر فليس عليه شيء.
وفي هذا الحديث: أنه لا بأس بإظهار نوافل العبادة من الصلاة والصيام وغيرهما إذا دعت إليه حاجة، والمستحب إخفاؤها إذا لم تكن هناك حاجة ولا ضرورة تدعو وتلح إلى إظهارها.
كذلك لا تترك الأعمال العبادية خشية الرياء، فلا يقل قائل: أنا لن أصلي في المسجد وإنما سأصلي في البيت، هل يستقيم هذا؟ لا، لا يستقيم؛ لأن الله تعالى أمره بحضور الجماعة، والنبي عليه الصلاة والسلام أمره بحضور الجماعة، فهذا الباب لا يدخله رياء، وإن دخله رياء عند بعض الأشخاص فتجب المجاهدة في حقهم لدفع هذا الرياء، أما أن يتخلف عما أمره الله عز وجل به احتجاجاً بالرياء، فإن هذا أمر لا يستقيم.
وفي هذا الحديث: الإشارة إلى حسن المعاشرة، وإصلاح ذات البين، وتأليف القلوب، وحسن الاعتذار عند سببه، هذا كلام مأخوذ من اعتذار الرجل عند صاحب الطعام بعدم الأكل بسبب الصيام، وهذا عذر في الغالب مقبول عند الناس، بخلاف ما لو قلت: أنا لا أريد الطعام، أو اعتذرت عن تناول الطعام ولم تبد سبباً، ربما يوسوس الشيطان لصاحب الطعام بأن هذا الضيف يأنف أن يأكل من طعامه، خاصة لو كان هذا الضيف غنياً وصاحب الطعام فقيراً، فربما حاك في نفس هذا الفقير صاحب الطعام أن هذا الغني يتعفف ويتأفف أن يأكل من طعام الفقير، فتحدث المفسدة، وتتغير القلوب، ولذلك من حسن العشرة إبداء السبب وإبداء العذر بين يدي صاحب العذر.(13/2)
باب حفظ اللسان للصائم
قال المصنف رحمه الله: [باب حفظ اللسان للصائم].
ذكر ابن أبي شيبة وكذا عبد الرزاق في مصنفيهما باباً وهو: باب من رأى أن الغيبة تفطر، وباب آخر: باب من سب أو شتم أو رفث أو فسق أو جهل فلا صوم له.
أي: فلا صوم له ألبتة، وليس فلا صوم له كامل الثواب.
وهذه المسألة كانت عند السلف محل حساسية شديدة جداً، يعني: أن الصائم لا يرفث ولا يفسق ولا يجهل ولا يصخب ولا يسخر، وفي إحدى الروايات وهي شاذة وتصحيف: ولا يجهل، أي: لا يتكلم بكلام يجهل فيه ويسب الآخرين، فإن فعل فلا صيام له ألبتة، والراجح أن صيامه صحيح وهو مذهب أكثر العلماء مع قلة الثواب؛ لأن هذه المعاصي تؤثر على حصول ثواب هذا الصيام كاملاً.
كما ذهب كثير من أهل العلم -وخاصة في هذا الزمان- إلى أن الذي يفسق ويرفث في الحج لا حج له، وقد حججت مع شيخ من أكابر علماء المغرب، فكان إذا رأى رجلاً يشرب سيجارة يذهب إليه ويقول له: حجك باطل، وكان إذا سمع رجلاً يسب أو يجهل أو يصخب أو يصيح بكلام فاحش بذيء يذهب إليه ويقول له: حجك باطل، فقلت له: ولم تبطل هذا الحج؟ قال: لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (فإن حج فلا يرفث ولا يفسق ولا يصخب)، والله تعالى يقول: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197]، فحمل النهي في الآية وفي الحديث على الفساد والبطلان.
يعني: لو حصل هذا الفسوق وهذا الرفث والجدال في الحج فإنه يبطل الحج.
هذا مذهب في غاية الشذوذ، والصواب: أن حجه صحيح ما دام قد استكمل الأركان والشروط، ولكن ثوابه محل نزاع، فلا شك أنه لا يستوي الذي التزم الكلام الطيب وابتعد عن الفاحش والبذيء والفسوق والجهالة وغيرها، مع الذي أتى بكل هذه المعاصي والمنكرات، لا يستويان عند الله عز وجل، وهذا هو الذي يستقيم مع مذهب السلف رضي الله تبارك وتعالى عنهم أجمعين.
قال: [حدثني زهير بن حرب حدثنا سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رواية قال: (إذا أصبح أحدكم يوماً صائماً فلا يرفث، ولا يجهل، فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل: إني صائم، إني صائم)].
قوله: (فلا يرفث) الرفث هو أن يتكلم بكلام فاحش بذيء؛ ولذلك نفى النبي عليه الصلاة والسلام عن نفسه الفحش والتفحش؛ لأن هذا خلق ذميم، والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين تحلوا بمكارم الأخلاق، وتخلوا عن مساوئ الأخلاق، والفحش والرفث والفسوق والجهل، كل هذا استعاذ منه النبي عليه الصلاة والسلام، بل استعاذ منه جميع الأنبياء.
وقوله: (ولا يجهل) الجهل قريب من الرفث، وهو خلاف الحكمة، وخلاف الصواب من القول والفعل.
وقوله: (فإن امرؤ شاتمه) (شاتمه) أي: سبه.
وقوله: (أو قاتله) أي: دفعه أو ضربه.
وقوله: (فليقل: إني صائم، إني صائم) يقولها بصوت مسموع أو بصوت خافت، والأفضل أن يجمع بين الاثنين، لأن المرء لو أسمع الشاتم والساب الجاهل ذلك، فكأنه يقول له: ما يمنعني عنك إلا أني صائم، والله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أمراني ألا أدفع مقاتلتك بمقاتلة، وألا أدفع شتمك بشتم، وإنما أمراني أن أصبر وأحتسب، وأقول: إني صائم.
وهذا الفعل والكلام الجميل يشهد له القرآن والسنة، بل يشهد له واقع الناس، تصور لو أن امرأً شتمك فصبرت عليه وسكت ودعوت له، فإنه لو كان ناراً مشتعلة لا بد وأنه سينطفئ؛ لأنك قابلت الإساءة بالإحسان، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، ولو أنك دفعت شر الشرير بالخير والعفو والصفح لانقلب لك صديقاً حميماً، ولو دفعته بمثل ما بدأك به لاشتعلت الخصومة، حتى كادت أن تهلك الأرواح والأبدان.
قال النووي رحمه الله: (واعلم أن نهي الصائم عن الرفث والجهل والمخاصمة والمشاتمة ليس مختصاً به، بل كل أحد مثله في أصل النهي).
يعني: ليس معنى ذلك أنك إذا كنت صائماً فلا يجوز لك أن ترفث ولا تفسق إلا بعد أن تفطر، لا، وهناك ناس في أثناء الصيام يجاهدون أنفسهم في النهار على مضض وأول ما يفطر ينطلق في الخصومة والسباب وغير ذلك، هذا غير صحيح، فهذا الرجل هل استفاد فعلاً من الصيام؟ لا؛ لأن الله تعالى حرم الفحش والفسوق والجدال والخصومة والمقاتلة على صائم وغير صائم، ولكن حرمة هذه المساوئ الأخلاقية في حق المسلم حال الصيام آكد، وإن كانت حرام في كل الأحوال.(13/3)
باب فضل الصيام
قال: [باب فضل الصيام.(13/4)
شرح حديث أبي هريرة: (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام)
حدثني حرملة بن يحيى التجيبي المصري - وهو من دمياط - قال: أخبرنا ابن وهب -وهو من أهل القاهرة - أخبرني يونس - وهو ابن يزيد الأيلي - عن ابن شهاب الزهري قال: أخبرني سعيد بن المسيب أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام هو لي وأنا أجزي به)].
نقول: هل الصلاة والزكاة والحج كل هذه ليست لله؟ بلى، إذاً: فلم خص الله عز وجل عبادة الصيام بنسبتها إليه دون غيرها من سائر العبادات؟ لأن الصيام يحتاج إلى إخلاص أكثر من أي عبادة أخرى، ولذلك الرياء في الصيام لا يفعله إلا المجان والفساق، أما المسلم المتخلق بأخلاق الإسلام، فإنه لا يمكن أن يصدر منه رياء في الصيام.
فالصيام يقل فيه الرياء ويزداد فيه الإخلاص، ولذلك نسبه الله عز وجل إليه نسبة تشريف.
وقيل: نسبة الصيام إلى الله عز وجل نسبة مجاز واستعارة.
فقوله: (هو لي وأنا أجزي به) يعني: لما كان الصيام بهذه المثابة من الإخلاص فإن الله تعالى خزن جزاءه وأخفاه حتى عن الملائكة المقربين، حتى عن الكتبة الذين يكتبون الثواب والعقاب، خزنه وأخفاه عنهم وتولى هو سبحانه بنفسه جزاء الصائمين.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام: [(فوالذي نفس محمد بيده! لخلفة -وفي رواية: لخلوف- فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)] والخلوف: هي الرائحة الكريهة التي تخرج من فم الإنسان بسبب الصيام خاصة بعد العصر، والحقيقة أن هذه الرائحة لا تخرج من الفم، وإنما تخرج من المعدة؛ لخلوها من الطعام، فمهما حاولت أن تزيل هذه الرائحة من فمك لا تزول؛ لأن منبعها المعدة والبطن، وليست هي صادرة عن الفم.
فهذه الرائحة عند الله عز وجل يوم القيامة أطيب من ريح المسك، ولما كان المسك هو أفضل الطيب وهو أحب الطيب إلى النبي عليه الصلاة والسلام ضرب به المثل، وغالب طيب العرب المسك، ومادته هي أحسن المواد، وهي تفوق جميع مواد العطور، فلما كان المسك بهذه المثابة ضرب النبي عليه الصلاة والسلام به المثل الذي يعرفه العرب ويستطيبونه.
إذاً: هذه الرائحة التي تنبعث من فم الصائم وتتأففون منها هي عند الله يوم القيامة أطيب من ريح المسك، جزاءً وفاقاً؛ لما عملوه في الدنيا، لما صبروا وامتنعوا طاعة لله عز وجل عن الطعام والشراب والشهوة أنتج هذا الامتناع وهذا الحبس هذه الرائحة، فلما تأفف منه الناس في الدنيا أقبل أهل المحشر عليه في الآخرة يشمون رائحته الطيبة الزكية التي تخرج منه، جزاء طاعته في الدنيا.(13/5)
شرح حديث: (الصيام جنة)
قال: [حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب - القعنبي - وقتيبة بن سعيد قالا: حدثنا المغيرة - الحزامي - عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصيام جنة)] (جنة) أي: سترة ووقاية ومانع من الرفث والآثام والمعاصي، كما أنه كذلك مانع من النار.
وهذا معلوم حتى عند عامة الناس، لكن أحياناً يكون الفقه نقمة عند إنسان لا دين عنده ولا أخلاق، هو طالب علم وحافظ للعلم، لكن ما عنده دين ولا أخلاق، فتجد مثل هذا يقول: السرقة لا تؤثر على صحة الصيام.
يقول: الذي يسرق صومه صحيح مع إثم السرقة، كالذي يصلي في ثوب مسروق صلاته صحيحة، لكنه آثم بلبسه الثوب المسروق، والذي يصلي في أرض مغصوبة وهو يعلم أنها مغصوبة، والنبي صلى الله عليه وسلم حرم الصلاة في الأرض المغصوبة، وحرم بناء المساجد في الأرض المغصوبة؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، لكن لو صلى إنسان فيها هل صلاته صحيحة أم باطلة؟ صحيحة، لكن مع الإثم.
نقول لهذا: لو أتيت إلى واحد من عامة الناس ممن يسرق وقلت له في رمضان: لماذا لا تسرق في رمضان؟ لقال لك: نحن في الصيام، وهذا طالب العلم أجاز السرقة في نهار رمضان.
كذلك تجد العامي يترك الصلاة في غير رمضان، فإذا دخل رمضان يقول لك: أنا أصوم وأصلي، يعني: لو أنت قلت له: الجمهور على أن تارك الصلاة غير كافر، وأن عبادته الأخرى مقبولة لما قبل منك ذلك، هو عنده إما أن يصلي ويصوم أو لا يصلي ولا يصوم، لابد من الأمرين معاً، هذا فقه العوام وهذا علم العوام، فأحياناً يكون عند العوام علم لم يبلغه طلاب العلم.
إذاً: الصيام يكون بمثابة السترة في الدنيا بينك وبين المعاصي والذنوب، وفي الآخرة بينك وبين دخول النار.
فالصيام عبادة واحدة فرضها الله عز وجل فيها إسعاد البشرية في الدنيا والآخرة، فما بالك بجميع الفرائض وجميع الواجبات وجميع النوافل التي إذا فعلها عبد أحبه الله عز وجل، كما في الحديث القدسي: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ورجله التي يمشي بها، ويده التي يبطش بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه) كل هذا من أجل النوافل، وفي بداية الحديث: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل)، وقد جمع هذا الحديث بين فائدة الفرائض وفائدة النوافل، فأحب الأعمال التي يتقرب بها العبد إلى مولاه أداء ما افترض الله عز وجل عليه، لكنه إذا زاد في النوافل وحافظ عليها وواظب عليها -وخير العمل أدومه وإن قل- فإن هذا يوصلك إلى حب الله عز وجل، والله تبارك وتعالى يجعلك من المقربين.(13/6)
شرح حديث: (للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه)
قال: [وحدثني محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج أخبرني عطاء عن أبي صالح الزيات أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ولا يسخب -وهو بمعنى يصخب-، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده! لخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك، وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه)] فرح لأن الله عز وجل كافأه بعد هذا الحرمان في النهار بإطعام وري بدخول المغرب، ففرح بأنه حصل ما كان ممنوعاً، أو يفرح بأن الله تعالى أتم له صيام هذا اليوم؛ لأن الذي يقوي على الطاعة هو الله عز وجل، ولذلك الإنسان لو عجز عن إتمام الصيام في يوم من الأيام وما أطاقه أو سبب له ضرراً، فإن أفطر بعد الظهر أو بعد العصر يحزن حزناً شديداً لضياع هذا اليوم، مع أنه ما ضاع وهو صاحب عذر، ولذلك لا تجد رجلاً قد أفطر بعذر في رمضان يفرح بدخول المغرب، مثل هذا لا فرحة له، ولذلك المرأة الحائض حينما يجتمع زوجها وأبناؤها على الطعام عند أذان المغرب، تجد الرجل وأبناءه في منتهى الفرح والسرور بدخول المغرب، أما الزوجة فلا تفرح بذلك؛ لأنها لم تحصل على ما حصل عليه الزوج والأولاد من طاعة بالنهار.
كذلك تفرح أيها المسلم إذا تمت طاعتك من غير أي كدر يكدرها، أو عكر يعكر عليها، بخلاف الذي يسب ويشتم ويصخب ويجادل ويفسق وغير ذلك، فهو يشعر في داخل نفسه أنه مجرد إنسان قد امتنع عن الطعام والشراب والجماع، والله عز وجل لا حاجة له في صيام هذا الصائم؛ لأنه لم يفد الفائدة المرجوة من صيامه، لأن غاية هذا الصيام أنه يهذب النفوس، ويرقق القلوب، ويقرب الصائم إلى مولاه، باجتناب جميع الذنوب والمعاصي، لا بالامتناع فقط عن الطعام والشراب والجماع: (فرب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش)، ورب صائم ليس له حظ في الصيام، إلا أنه عذب نفسه بالامتناع عن الطعام والشراب والجماع.(13/7)
بلوغ تقوى الله هو ثمرة الصيام
والغرض الأسمى من الصيام هو بلوغ التقوى، كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183].
إذاً: ثمرة الصيام هي أن تبلغ العبد منتهى وكمال تقوى الله عز وجل، ومعلوم أن السباب والشتام واللعان والفاسق والمقاتل لإخوانه لا يحصل التقوى، فهذا يعني أنه قد عذب نفسه، ولا بد أن يعذب نفسه حتى يسقط عنه فرض الصيام، لكن هل له عند الله تعالى ثواب؟
الجواب
ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش.
فقوله: (وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه)، يعني: له فرحتان: فرحة في الدنيا، وفرحة في الآخرة، أما فرحة الدنيا فهي بإتمام نعمة الله عز وجل عليه، وأنه أتم اليوم والشهر، وختم له بعيد يفطر فيه ويسعد فيه ويهنأ ويلعب ويلهو لهواً مباحاً في ليله ونهاره، جزاء طاعته التي أقام عليها طيلة الشهر، وأما في الآخرة فإن الله تعالى يكافئه المكافأة التي وعد بها، قال: (إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به) فإذا تولى الكريم سبحانه وتعالى الجزاء والهدية والعطية، فاعلم أنها لا منتهى لها.
فتصور لو أن ملكاً من ملوك الدنيا قال لعامله: كافئ فلاناً فإنه قد خدمنا، فإن مكافأة هذا العامل محدودة ولا شك، لكن لو قال العامل لهذا الملك: هل أكافئ فلاناً؟ فقال له الملك: لا، دعه، فأنا سأكافئه، فكيف ستكون الفرحة لدى هذا العامل الذي عمل وخدم هذا الملك قبل أن يقبض الهدية؟ فرحة عظيمة، وقلَّ أن يكون هناك ملك من ملوك الدنيا بخيلاً؛ لأن البخل يتنافى مع الأبهات ومع الملك، وهو في النهاية لا يدفع من جيبه، إنما يدفع من خزينة الدولة، فتصور لو أن ملكاً من ملوك الدنيا كافأ رجلاً من شعبه، فلا بد أن تكون هذه المكافأة عظيمة جداً، وإلا لا يستقيم أبداً أن يقول ملك: أنا أكافئك، ثم يعطيه عشرة جنيهات، فمن حق هذا المهدى إليه أن يردها، ويقول: لا، أنت ملك، ولا تعطيني على قدر عملي، وإنما تعطيني على قدر مكانك ومنزلتك، والعشرة الجنيهات لا تليق بك، فقد يقول له الملك: خذ خزينة البلد كلها.
إذاً: فقوله: (وإذا لقي ربه فرح بصومه) لأن الملك سبحانه وتعالى هو الذي يجازيه ويكافئه، فلا بد أن تكون هذه المكافأة عظيمة جداً؛ لأنها من الكريم سبحانه وتعالى.(13/8)
شرح حديث: (كل عمل ابن آدم له يضاعف، الحسنة عشر أمثالها)
قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية - وهو محمد بن خازم الضرير - ووكيع عن الأعمش.
(ح) وحدثنا زهير بن حرب حدثنا جرير - وهو ابن عبد الحميد الضبي - عن الأعمش.
(ح) وحدثنا أبو سعيد الأشج واللفظ له حدثنا وكيع جميعاً عن الأعمش، عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل عمل ابن آدم له يضاعف، الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)] يعني: أن عمل ابن آدم الذي أخلص فيه لله هو لله، والصيام فوق ذلك وزيادة على ذلك، فلما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بجزاء من توضأ ومن صلى في جماعة، وجزاء من حج، وجزاء من زكى، وجزاء من تصدق، فكل هذه الأعمال ثوابها بيّن مذكور في الأدلة، مع أنها عبادات وفرائض، لكن لما كان الصيام فوق ذلك وأحسن من ذلك، قال الله عز وجل: (إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به)، وذلك أن الصيام قد توافر فيه الإخلاص لله عز وجل.
ثم قال الله تعالى: [(يدع شهوته وطعامه من أجلي)].
أي: مخلصاً لي، أما إن كان لم يتوافر في الصيام الإخلاص فلا شك أن عمله هذا لا ثواب له فيه.
والطعام إذا ذكر بغير شراب يشمل الشراب، كما أن الشراب إذا ذكر بغير طعام يشمل الطعام، كالإسلام والإيمان، وكالمسكين والفقير، إذا ذكر أحدهما شمل معه الآخر، وإذا ذكرا جميعاً كان لكل واحد مدلول، ولذلك تجد في كتب الفقه: باب الأشربة، فتجده يتكلم فيه عن الأطعمة أيضاً، وأحياناً يقول: باب الأطعمة، أو كتاب الأطعمة ويتكلم فيه عن الأشربة؛ لأن إفراد الواحد يشمل معه الثاني، لكن لو قال: كتاب الأطعمة وبعده كتاب الأشربة فإنه يكون قد خص الأطعمة بباب أو بكتاب والأشربة بباب أو كتاب آخر.
فقوله هنا: (يدع شهوته وطعامه من أجلي) الشهوة هي الجماع وما شابهه، والذي يشبه الجماع هو الاستمناء، وهذا بإجماع الأمة، فإذا استمنى الرجل أو استمنت المرأة انطفأت شهوته وانطفأت شهوتها، فالاستمناء شهوة وهو داخل في هذا الحديث.
ومذهب جماهير العلماء سلفاً وخلفاً أن من استمنى في نهار رمضان وجب عليه القضاء، ومنهم من قال: القضاء والكفارة، والكفارة هي إطعام مسكين قدر على الصوم أو لم يقدر.
أما شيخنا الألباني رحمه الله رحمة واسعة فقد خالف الأمة في مثل هذا، فقال: الاستمناء لا يفطر، ولا يفطر إلا الجماع.
وهو رحمه الله مأجور في هذا الاجتهاد أجراً واحداً لا اثنين، ولا يجوز متابعة الشيخ على هذه الفتوى.
قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا محمد بن فضيل عن أبي سنان] وهو ضرار بن مرة، والكنية أفضل من الاسم؛ لأن ضراراً ومرة من الأسامي المكروهة، ضرار من الضرر ومرة من المرارة، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يغير الأسماء القبيحة، لكن هذا من أتباع التابعين.
قال: [عن أبي صالح عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يقول: إن الصوم لي وأنا أجزي به، إن للصائم فرحتين: إذا أفطر فرح، وإذا لقي الله فرح، والذي نفس محمد بيده! لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)].(13/9)
شرح حديث: (إن في الجنة باباً يقال له: الريان)
قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا خالد بن مخلد - وهو القطواني - عن سليمان بن بلال حدثني أبو حازم -وهو سلمة بن دينار - عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة باباً يقال له: الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة)]، لما كان الجزاء من جنس العمل كافأ الله عز وجل الذين عانوا الظمأ والعطش في الدنيا، بأن سمى بابهم الذي يدخلون منه خاصة -ولا يدخل معهم أحد-: باب الريان، وهو من الري الذي هو ضد العطش؛ لأن الصائم إنما يصبر على العطش أكثر من صبره على الجوع؛ ولذلك الذي يقوم متأخراً قبيل الفجر يكون همه أن يشرب الماء، لأن الماء لا يعوض، أما الطعام فيمكن الصبر عليه، ولذلك تجد الكثير ممن يمتنع عن الطعام من باب العلاج، كما فعل شيخنا الألباني رحمه الله، لم يطعم طعاماً قط مدة سبعة وعشرين يوماً، لم يطعم فيها شيئاً، وإنما كان يشرب سوائل وعصائر وغير ذلك، وكان ذلك لعلة في بطنه، حتى أجرى التحاليل والأشعات الطبية، فكانت النتيجة أنه برئ من مرضه تماماً، فلما أخبر بهذه النتيجة أقبل على الطعام والشراب.
وكان شيخنا عليه رحمة الله يأكل كثيراً، حتى كانت بنته أم عبد الله تحمل من أمامه الطعام حملاً فكان يغضب، فمرة دعانا زوج ابنته نظام سكجها، زوج بنت الشيخ أم عبد الله، وهي أحب بناته إليه وأكبرهن، فوضعت لنا الطعام وما أشهاه! ووضعت طعاماً منفرداً على مائدة أخرى لأبيها، فأول ما دخل الشيخ ونظر في الطعام قال: يد الله مع الجماعة، وذكر أحاديث البركة إذا اجتمعوا على الطعام، فـ نظام قال له: مهما حاولت ستأكل لوحدك، قال: والله إذا أنفذتم كلامكم فلآكلن هذا الطعام ثم لا أدخل هذا البيت ثانية، فأكل معنا الشيخ وأكل ثم أكل ثم أكل، وابنته تصرخ بالداخل وتطرق الباب، فدخل إليها زوجها نظام فصاحت في وجهه وقالت: أنت تعلم أن الطعام يضره، والشيخ إذا أكل لا يستطيع أن يمنع نفسه، فقال: والله رفض الشيخ أن يقوم عن المائدة، لكن بعد الفراغ من الطعام سيدخل عليك فقولي له ما شئت.
كذلك الإمام النسائي كان أكولاً، ورد في ترجمة الإمام النسائي صاحب السنن أنه كان يأكل كل يوم ديكاً من ديوك زمانه، لكن كان إذا نودي للجهاد رأيت النسائي في الصف الأول.
وكذلك شيخنا الألباني عليه رحمة الله ما كان يسمع بمكان فيه بدعة إلا ويكون أول الحاضرين للدفاع والذب عن سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فكثرة طعامه لا تعيبه، ولكن ذكرنا هذا من باب الطرفة، ومعرفة بعض أحوال الشيخ عليه رحمة الله.
قال: [(يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل معهم أحد غيرهم)] يعني: هذا الباب خاص بالصائمين فقط، لا يدخله إلا الصائمون، فمن حافظ على صيام الفرائض والنوافل، وكان من عادته ومن دأبه الصيام، فهذا جزاؤه وثوابه، وهذه كرامة يمنحها الله عز وجل عبده الطائع، في الدنيا بالذكر الجميل والثناء الحسن عند الناس، وفي الآخرة بالثواب العظيم والكرامة منه سبحانه.
كذلك من يحافظ على صلاة الجماعة تبجله وتعظمه الناس؛ لأنه قبل النداء يكون في المسجد.
كذلك من يقوم الليل يظهر أثر ذلك عليه، فالتوفيق للطاعة نعمة ومنحة من الله عز وجل، ولذلك كان هناك رجل من المحدثين في الزمن الأول يقول: حدثنا فلان، قال: حدثنا فلان، قال: حدثنا فلان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال، ثم انتظر حتى يكتب الطلاب السند، فدخل رجل من شأنه ودأبه قيام الليل، فقال المحدث: من صام بالنهار ظهر نوره بالليل.
فكتب الطلاب: من صام بالنهار ظهر نوره بالليل.
فظنوا أن هذا حديث؛ لأنه أملاهم الإسناد ووقف عند قال النبي عليه الصلاة والسلام، وسكت حتى يكتبوا الإسناد، فلما دخل هذا الرجل قال هذا القول عنه، فظن الطلاب أن هذا هو حديث النبي عليه الصلاة والسلام، وليس كذلك، فوقعوا في هذه المخالفة.
قال: [(يقال لهم: أين الصائمون؟)] أي: في المحشر، والقائل إما أن يكلف الله تعالى ملائكته بالنداء على الصائمين، وإما أن الله تعالى هو الذي يتولى النداء بنفسه.
قال: [(أين الصائمون؟ فيدخلون من هذا الباب، فإذا دخل آخرهم أغلق فلم يدخل منه أحد)].
لما قال النبي عليه الصلاة والسلام: إن في الجنة باباً يدخل منه المصلون، وإن في الجنة باباً يدخل منه أهل الزكاة، وإن في الجنة باباً يدخل منه الصائمون، وعدد الطاعات، فقال أبو بكر الصديق: (يا رسول الله! هل على رجل من بأس أن يدخل من جميع هذه الأبواب؟) يعني: هل من مانع أن يدخل رجل واحد من جميع هذه الأبواب؟ قال: (لا، ليس هناك بأس، وأنت منهم يا أبا بكر).
فـ أ(13/10)
باب فضل الصيام في سبيل الله لمن يطيقه بلا ضرر ولا تفويت حق
قال: [باب فضل الصيام في سبيل الله لمن يطيقه بلا ضرر ولا تفويت حق] قوله: (سبيل الله) عند الإطلاق هو الجهاد، فالصيام في الجهاد له فضل عظيم جداً، فكون المجاهد يموت صائماً يكون قد جمع خيراً إلى خير وفضلاً إلى فضل، لكن هذا مشروط بإطاقة الصوم، وعدم إلحاق الضرر بالصائم، ولا تفويت حق واجب في الجهاد؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما رأى قوماً قد ظللوا قال: ما بال هؤلاء؟ قالوا: هؤلاء الصائمون، قال: ليس من البر الصوم في السفر وهذا السفر كان سفراً في غزوة من الغزوات، وقال: (ذهب المفطرون بالأجر) فالأصل ألا يفوت عليك الصيام حقاً واجباً للجهاد، أو يلحق بك الضرر، وأن تطيقه بلا كبير مشقة.
قال: [عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً)] يعني: الله تبارك وتعالى يباعد بين العبد وبين النار سبعين عاماً؛ بسبب صيام يوم واحد في سبيل الله عز وجل.
يقول النووي رحمه الله: (فيه فضيلة الصيام في سبيل الله، وهو محمول على من لا يتضرر به، ولا يفوت به حقاً، ولا يختل به قتاله ولا غيره من مهمات غزوه).(13/11)
باب جواز صوم النافلة بنية من النهار قبل الزوال وجواز فطر الصائم نفلاً من غير عذر
قال: [باب جواز صوم النافلة بنية من النهار قبل الزوال، وجواز فطر الصائم نفلاً من غير عذر] يعني: باب جواز عقد نية الصيام في أثناء النهار ما لم يدخل وقت الزوال، ووقت الزوال هو وقت ميل الشمس إلى جهة الغروب، يعني: وقت الظهر، فيجوز لمن أراد أن يصوم نافلة وإن أصبح من نومه ينوي الإفطار ولكنه لم يأكل ولم يشرب حتى دخل وقت الظهيرة، فله أن ينوي إكمال يومه بصيام نافلة، أما صيام الفرض فإنه يلزم فيه عقد النية وتبييتها من الليل، وهذه من الفروق بين صيام الفريضة وصيام النافلة، صيام النافلة يمكن فيه عقد النية حتى الزوال، أما صيام الفريضة فيلزم فيه عقد النية من الليل.
وقوله: (وجواز فطر الصائم نفلاً من غير عذر) يعني: يجوز لمن كان يصوم نافلة أن يفطر بلا عذر، والأولى استحباب إتمام هذا الصيام، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يفعل خلاف الأولى لبيان الجواز، وسنرى أدلة ذلك معنا الآن.(13/12)
شرح الأحاديث الواردة في عقد النبي لصوم النافلة في النهار ثم قطعه بدون عذر
قال: [حدثنا أبو كامل فضيل بن حسين حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا طلحة بن يحيى بن عبيد الله حدثتني عائشة بنت طلحة -هي عمة طلحة - عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم: يا عائشة! هل عندكم شيء؟ قالت: فقلت: يا رسول الله! ما عندنا شيء)] أي: ليس عندنا طعام، وهذا يبين ما كان عليه الصلاة والسلام من زهادة وقلة في مطعمه ومشربه.
قال: [(قال: فإني صائم -يعني: غير نيته في أثناء النهار- قالت: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهديت لنا هدية، أو جاءنا زور)] يعني: جاءنا زوار، ومن شأن الزائر أنه يحمل معه هدية؛ لأنهم يعلمون حال بيوت النبي عليه الصلاة والسلام، فكانوا يهدون له الحيس وهو التمر المخلوط بلبن وأقط، أو يهدون إليه ذراعاً من شاة؛ لأنهم يعلمون أنه يحب الذراع، أو يهدون إليه أي طعام، وأحياناً كانوا يهدون إليه الحلوى؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان يحب الحلوى ويأكلها بالبطيخ، كما جاء عند البخاري (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يأكل الحلوى بالبطيخ ويقول: حر هذا يطفئه برد ذاك) يعني: حر الحلوى يطفئه برد البطيخ.
قال: [(قالت: فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله! أهديت لنا هدية أو جاءنا زور وقد خبأت لك شيئاً، قال: ما هو؟ قلت: حيس، قال: هاتيه، فجئت به فأكل ثم قال: قد كنت أصبحت صائماً، لكني أفطرت الآن) بعد أن قال: (إني صائم) ليس هناك عذر ومع ذلك أكل، ومع أنه قد عقد نية الصيام وقال: (إني صائم)، وكان الأولى أن يتم صومه، ولكنه خالف الأولى لبيان الجواز، وأن الصائم المتطوع أمير نفسه، لكن هل يلزمه إعادة صيام هذا اليوم؟ على خلاف بين أهل العلم، منهم من قال: يلزمه، ومنهم من قال: لا يلزمه، والذي قال: لا يلزمه.
رأيه أرجح من غيره.
قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن طلحة عن عمته عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وعن أبيها قالت: (دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: هل عندكم شيء؟ فقلنا: لا، قال: فإني إذاً صائم، ثم أتانا يوماً آخر، فقلنا: يا رسول الله! أهدي لنا حيس، فقال: أرينيه، فلقد أصبحت صائماً، فأكل)] هذه الحادثة واحدة، ولا يضرك قولها: (يوماً آخر)؛ لأنه أفطر بعد أن كان صام في ذلك اليوم بالذات.(13/13)
كلام النووي في عقد صيام النافلة في النهار وقطعه دون عذر
قال النووي رحمه الله: (وفي هذا الحديث دليل لمذهب الجمهور أن صوم النافلة يجوز بنية في النهار قبل زوال الشمس، ويتأوله الآخرون على أن سؤاله صلى الله عليه وسلم: هل عندكم شيء؟ لكونه ضعف عن الصوم، وكان نواه من الليل، فأراد الفطر للضعف، وهذا تأويل فاسد وتكلف بعيد.
وفي الرواية الثانية التصريح بالدلالة لمذهب الشافعي وموافقيه في أن صوم النافلة يجوز قطعه، والأكل في أثناء النهار ويبطل الصوم؛ لأنه نفل، فهو إلى خيرة الإنسان في الابتداء) يعني: أنت مخير في الابتداء أن تبدأ الصيام أو لا تبدأ، فإذا كنت مخيراً في الابتداء فكذلك هذا الخيار ثابت في الدوام.
قال: (وممن قال بهذا جماعة من الصحابة وأحمد وإسحاق وآخرون، ولكنهم كلهم والشافعي معهم متفقون على استحباب إتمامه) يعني: ليس واجباً؛ لأن أصل الصوم فيه ليس واجباً، فكيف يأتي إتمام اليوم وجوباً مع أنه لم يبدأ بالوجوب.
قال: (وقال ابن عبد البر: أجمعوا على أن لا قضاء على من أفطره بعذر) يعني: الذي أفطر في صيام النافلة بعذر لا قضاء عليه، وهذا محل إجماع.
قال: (أما إذا كان بغير عذر فقد وقع الخلاف، والراجح أنه لا قضاء عليه كذلك).(13/14)
باب أكل الناسي وشربه وجماعه وأن ذلك كله لا يفطر
قال: [باب أكل الناسي وشربه وجماعه وأن ذلك كله لا يفطر.
وحدثني عمرو بن محمد الناقد حدثنا إسماعيل بن إبراهيم -وهو ابن علية - عن هشام القردوسي عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه)] ورد في الحديث الماضي: (يدع طعامه وشرابه وشهوته لأجلي) فالصيام: هو الامتناع عن الطعام والشراب والجماع.
إذا أكل ناسياً صح صومه، وإذا شرب ناسياً صح صومه، وإذا جامع ناسياً صح صومه، وهذا مذهب الجمهور، لكن من جامع ناسياً هذه لا تكون إلا في أوائل رمضان، يحدث فيها ويقع فيها الخطأ كثيراً جداً.
تجد شيخاً محترماً يمشي في أول يوم من رمضان في الشارع وهو يأكل ويشرب، كان لي أخ من الإخوة الأفاضل الطيبين يعني شيخ كبير، وكنت في يوم مضطراً لأن أكلفه بأن يأتي بأولادي من المدرسة، فذهب لإحضارهم، وكان أولادي قد اشتروا بمصروفهم بعض المكسرات وركبوا معه في الباص فناولوه الكيس، فقال لهم: لا لا، كلوه أنتم، فقالوا: والله إنك ستأخذ منه، فأخذه وجعل يأكل منه من الجيزة إلى أن قطع مسافة كبيرة، ثم تذكر أن هذا أول يوم في رمضان وكان قد نسي ذلك تماماً، فيقول: أدركت بعد ذلك نظر الناس إلي شزراً في الباص وعلى الطريق، يقول: وقعت في حرج وخجل شديد جداً، وكنت أريد أن أبحث عن الناس الذين رأوني وأقول لهم: عذري كان كيت وكيت، فهذا يقع، فالذي يجعله يقع في الطعام والشراب يقع أحياناً في الجماع، أو نحن سنفترض هذا الفرض إذا جامع ناسياً ما حكم صومه؟ هذا الذي نأخذه.
يقول النووي رحمه الله: (في هذا الحديث دلالة لمذهب الأكثرين أن الصائم إذا أكل أو شرب أو جامع ناسياً لا يفطر) يعني: مذهب الجمهور أن الصائم إذا أكل أو شرب أو جامع ناسياً لا يفطر، وممن قال بهذا الشافعي وأبو حنيفة وداود وآخرون.
وقال ربيعة ومالك: يفسد صومه وعليه القضاء دون الكفارة -يفسد صومه بالطعام والشراب والجماع- مع أن الحديث قاض بأنه إذا أكل أو شرب ناسياً فلا شيء عليه، وصيامه صحيح، وليتم صومه).
أما قوله: (فليتم صومه) فهو: يدل على أن صيامه صحيح.
وقوله: (فإنما أطعمه الله وسقاه) يعني: هذه منحة من الله عز وجل له.
قال: (وقال عطاء والأوزاعي والليث: يجب القضاء في الجماع دون الأكل، وقال أحمد: يجب في الجماع القضاء ولا كفارة، ولا شيء في الأكل والشرب).
والذي نرجحه: أن من أكل أو شرب أو جامع ناسياً لا شيء عليه، وصيامه صحيح ويتمه، فإنما هي منحة من الله عز وجل له، وهذا يكون في صيام الفرض وصيام النافلة على السواء.
أما من نام وحلم أنه جامع امرأته فهذا لا شيء عليه ألبتة، وما عليه إلا أن يغتسل وصيامه صحيح.
في الباب الرابع والثلاثين بيان صيام النبي عليه الصلاة والسلام في غير رمضان، واستحباب ألا يخلي شهراً من صومه.
استحباب فينبغي ألا يمر عليك شهر إلا وتجعل فيه لنفسك حظاً من الصيام، كأن تصوم ثلاثة أيام في الشهر، الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، وكذلك يوم الإثنين والخميس، بحيث أن لا يخرج عنك الشهر بلا إحداث طاعة الصيام فيه، كما أنك لا تخلو في هذا الشهر من طاعة الصلاة وطاعة الزكاة ووجوه البر، فلا بأس أن تجمع مع هذه الطاعات عبادة الصوم.
فالنبي عليه الصلاة والسلام بين استحباب صيام الإثنين والخميس، والثلاثة الأيام من كل شهر، وكان يصوم أكثر شهر شعبان، وقد ثبت أنه ما أتم صيام شهر قط إلا شهر رمضان صلوات ربي وسلامه عليه.(13/15)
باب استحباب صوم ستة أيام من شوال إتباعاً لرمضان
قال: [باب استحباب صوم ستة أيام من شوال إتباعاً لرمضان.
حدثنا يحيى بن أيوب - الغافقي - وقتيبة بن سعيد وعلي بن حجر جميعاً عن إسماعيل - ابن جعفر - قال ابن أيوب: حدثنا إسماعيل بن جعفر أخبرني سعد بن سعيد بن قيس عن عمر بن ثابت بن الحارث الخزرجي عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر)] فسر أهل العلم الدهر في هذا الحديث بأنه العام أو السنة، وأن السنة اثنا عشر شهراً، وأن الحسنة بعشر أمثالها كما هو مستقر معلوم، وإذا كانت الحسنة بعشر أمثالها، فصيام شهر رمضان بثلاثين حسنة في عشرة بثلاثمائة حسنة وبثلاثمائة يوم، يبقى من العام ستون يوماً، وصيام ستة أيام من شوال بست حسنات في عشرة بستين حسنة، فالذي يصوم رمضان ويتبعه بست من شوال كأنه صام ستاً وثلاثين يوماً في عشرة بثلاثمائة وستين حسنة على ثلاثمائة وستين يوماً، وهو عدد أيام السنة بالشهور العربية.
فقوله: (من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال كأنما صام الدهر).
أي: فكأنما صام العام كله، وقد أدى زكاة الصيام في كل يوم من أيام السنة.(13/16)
كلام النووي في صيام الست من شوال
قال النووي رحمه الله: (في هذا الحديث دلالة صريحة لمذهب الشافعية وموافقيهم في استحباب صوم هذه الست، وقال مالك وأبو حنيفة: يكره ذلك).
من العلماء من قال: صيام هذه الستة حرام.
وابن الجوزي عليه رحمة الله في كتابه العظيم (التحقيق لمسائل الخلاف بين أهل العلم) ذكر ثمانية أقوال لأهل العلم في حكم صيام ست من شوال، فذكر منها: أنه جائز، وذكر منها: أنه مستحب، وذكر منها: أنه واجب، وذكر منها: أنه مباح، وذكر منها: أنه مكروه، وذكر منها: أنه حرام.
ومن ذهب إلى كراهته وحرمته إنما قال ذلك مخافة المواظبة عليها؛ لأجل ألا يظن الناس أن صيام هذه الستة واجب، وهذا وإن كان بعيداً لكن على أية حال له وجه، والاجتهاد فيه سائغ، وإن كان العمل على خلافه عند جماهير العلماء، وهذا الحديث قاض بالرد على جميع من خالف ذلك، وأن صيام هذه الستة أمر مستحب، خاصة بعد أن استقرت السنة واستقرت الأحكام الشرعية.
قال: (قال مالك في الموطأ: ما رأيت أحداً من أهل العلم يصومها) يعني: الست من شوال، لكن بعض السنن تركها كثير جداً من الصحابة مثل: سنة الاعتكاف، لما تأتي تبحث عن أسماء الصحابة الذين حققوا هذه السنة تجدهم قلة في جنب أعداد الصحابة الغفيرة، فهم تركوها إما لانشغالهم، أو لمخالفتهم المواظبة على هذه السنة؛ فيظن الناس أو من لا علم له بأن الاعتكاف واجب، فكذلك صيام هذه الستة.
قال: (قال مالك: ما رأيت أحداً من أهل العلم يصومها، فيكره لئلا يظن وجوبه.
ودليل الشافعي وموافقيه هذا الحديث الصحيح الصريح، وإذا ثبتت -هذه قاعدة من قواعد أهل السنة والجماعة- السنة لا تترك لترك بعض الناس أو أكثرهم أو كلهم لها) يعني: أن السنة قاضية على الناس، والناس لا يقضون على السنة، حتى لو أن الصحابة كلهم تواطئوا على ترك العمل بحديث فلا يوافقون على ذلك، هذا على فرض أن هذا حدث، ولا يحدث؛ لأن الإجماع الذي لا خلاف عليه هو إجماع الصحابة، والصحابة لا يجمعون على باطل قط، والأمة في مجموعها في كل زمان وفي كل عصر معصومة من الإجماع على الباطل أو من الوقوع في الباطل، لكن قد يقع عالم في الباطل، واثنان، وثلاثة، وعشرة، فإذا زلت قدم عالم في باطل أو تكلم بكلام خالف فيه الدليل، تجد عشرات بل مئات العلماء في أمة لا إله إلا الله في شرق الأرض وغربها يردون عليه باطله وخطأه الذي أخطأ فيه، بهذا يظهر الحق للأمة، والأمة في مجموعها معصومة أن تقع في الباطل، وإذا كانت كذلك فالعصمة أقرب إلى الصحابة من غيرهم؛ لقرب عهدهم بنزول الوحي، وفهمهم لكلام الرب تبارك وتعالى، وأنه نزل بلغتهم، وأنهم أعلم الناس بكلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
فقوله: (وإذا ثبتت السنة لا تترك لترك بعض الناس أو أكثرهم أو كلهم لها) يعني: أن الفيصل هنا والرجوع للدليل لا للناس.
كذلك إذا كان الدليل يحتاج إلى إعمال فكر وبذل جهد لاستنباط الفوائد واستخراج النكت منه، فلا شك أن اجتهاد العلماء أولى من اجتهاد غيرهم، يعني: لما يجيء شيخ الإسلام ابن تيمية فيجتهد في حديث وأنا أجتهد في حديث فلا شك وبلا توقف أن اجتهاد شيخ الإسلام ابن تيمية أولى من اجتهاد غيره؛ لأن عقله أرجح وعلمه أتم، وعنده ملكة في الاستنباط أكثر من غيره، وهو صاحب جد واجتهاد وغير ذلك، فإذا ترك بعض الناس العمل بالدليل الصحيح الصريح، وجب على المسلمين ترك كلام من خالف الدليل والعمل بالدليل.
قال: (قال الشافعي: والأفضل أن تصام الستة متوالية عقب يوم الفطر) لكن تفريقها جائز؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من شوال) و (من) هنا تبعيضية تفيد التجزئة.(13/17)
شرح صحيح مسلم - كتاب الصيام - بيان أن لكل بلد رؤيتهم وأن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر
العبرة في دخول الشهر القمري رؤية الهلال لا الحساب الفلكي، لكن يستأنس بالحساب الفلكي، واعتماد الرؤية هو الموافق للنصوص الشرعية، ويترتب على ذلك أن لكل بلد رؤيتهم، فمتى اختلفت المطالع، وتباعدت المسافات بين البلدان، فكل بلد له رؤية خاصة به، لكن إذا تقاربت المسافات بين البلدان واتحدت المطالع فرؤية إحدى البلدان لازمة لجميع البلدان المجاورة لها المتحدة معها في المطلع.(14/1)
الأقوال في رؤية الهلال في بلد دون بلد
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فمع الباب الخامس من كتاب الصيام في صحيح مسلم، وهو باب في غاية الأهمية، والذي سبقه باب هام جداً، وهو هل العبرة في دخول الشهر على الحساب الفلكي المحدث أم أنه على الرؤية العينية؟ ذكرنا هناك أن الاعتماد إنما هو على الرؤية العينية؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) لا على الحساب الفلكي، إنما هذا أمر محدث.
والحساب الفلكي لا بأس أن نستأنس به، بحيث يكون في المرتبة الثانية بعد مرتبة الرؤية بالعين، أما أن يكون الاعتماد عليه وترك الرؤية بالعين فهذا ترك لشيء من سنة النبي عليه الصلاة والسلام.
أما رؤية الهلال في بلد هل تلزم جميع البلاد، أو تلزم بعض البلاد دون بعضها، أو تلزم البلد الذي رؤي فيه الهلال فحسب؟ هذه ثلاثة مذاهب في هذه المسألة.
فبعضهم يقول: إذا رئي الهلال في بلد لزم الأخذ به في جميع بلاد المسلمين.
وبعضهم يقول: بل يلزم فقط القطر الذي رئي فيه دون غيره، وهو ما يعبر عنه بأسلوب آخر: أن كل قطر اشترك في الليل والنهار ولو كان بينهم اختلاف يسير، فإن رؤية الهلال في إحدى بلدان هذا القطر تلزم جميع القطر دون غيره، يعني: نحن الآن في مصر والشام والعراق والأردن والسعودية وغيرها من البلاد المجاورة والمحيطة التي على خط واحد من خط الاستواء، فالنهار عندنا جميعاً واحد، والليل عندنا جميعاً واحد، وإن كانت هناك فروق يسيرة نصف ساعة ربع ساعة فهذا أمر لا يضر، فكلنا نشترك في الليل والنهار، ليلنا واحد ونهارنا واحد.
أما لو نظرت إلى بلاد أوروبا مثلاً أو أقصى المغرب العربي، أو بلاد أمريكا لوجدت أن الليل هنا نهار هناك، والنهار هناك ليل هنا، فهل يلزم من كان في أمريكا رؤية الهلال هنا في مصر؟
الجواب
لا، لا يلزمه.
وهذا أحد المذاهب وهو أقواها في المسألة؛ لأن الهلال ربما يظهر الآن في هذه اللحظة التي نحن فيها، وهذه اللحظة هي هناك بدء النهار في أمريكا، فلو قلنا لهم: ظهر الهلال عندنا لقالوا: لقد صلينا الفجر وشربنا الشاي ولم تنعقد نيتنا، فليلكم هو عندنا نهار، فهل يصح أن نلزمهم برؤية الهلال عندنا؟ لا، لا يصح، ولذلك هذا الرأي الثاني هو أرجح الأقوال في المسألة.
الرأي الثالث: أن كل أهل بلد رأوا الهلال فإنما هذه الرؤية تلزمهم دون غيرهم، الخلاف هنا كيف نحدد هذا البلد؟ هل هي بهذه المسميات والمصطلحات التي وضعها المستعمرون والأجانب؟ يعني: هل رؤية أهل مصر تلزم أهل ليبيا أم لا تلزمهم؟ إذا قلنا بأن رؤية أهل مصر لا تلزم رؤية أهل ليبيا، فكيف نحدد المسافة والحدود بين البلدين، هل هي بأقصى البلاد من جهة الشمال لمصر ومن جهة الجنوب لليبيا؟ لو أن رجلاً ليبياً وآخر مصرياً بينهما جدار، وهو الذي يفصل حدود مصر عن حدود ليبيا، فإذا رأى المصري الهلال هل تلزم هذه الرؤية صاحبه الليبي الذي بينه وبينه ربما (10سم) أو (15سم)، أم لليبي أن يقول له: أنت رؤيتك لا تلزمني؛ لأني ليبي وأنت مصري؟ هذه أمور هي أدعى لتفرق الأمة وتمزق وحدتها، والذي يترجح لدي في القضية: أن رؤيتنا تلزم جميع البلاد التي تشترك معنا في الليل والنهار، ولا تلزم غيرهم من أصحاب الأقطار البعيدة الذين يختلفون معنا في أصل الليل والنهار، لا في بعض الليل والنهار، فإذا زادوا عنا ساعة أو قلوا عنا ساعة فإن رؤيتهم تلزمنا ورؤيتنا تلزمهم كذلك.(14/2)
باب بيان أن لكل بلد رؤيتهم وأنهم إذا رأوا الهلال ببلد لا يثبت حكمه لما بعد عنهم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب بيان أن لكل بلد رؤيتهم، وأنهم إذا رأوا الهلال ببلد لا يثبت حكمه لما بعد عنهم] قوله: (وأنهم إذا رأوا الهلال ببلد لا يثبت حكمه لما بعد عنهم) أي: البلد البعيد عنهم لا يلزم برؤيتهم.
قال: [حدثنا يحيى بن يحيى ويحيى بن أيوب وقتيبة وعلي بن حجر قال يحيى: أخبرنا وقال الآخرون: حدثنا إسماعيل وهو ابن جعفر عن محمد وهو ابن أبي حرملة عن كريب: (أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام، قال: فقدمت الشام فقضيت حاجتها، واستهل علي رمضان -يعني: دخل علي رمضان- وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة -يعني: كريب رأى الهلال بالشام ليلة الجمعة- ثم قدمت المدينة في آخر الشهر -أي: في آخر شهر رمضان- فسألني عبد الله بن عباس رضي الله عنهما -أي: سأله عن أحوال معاوية وأحوال أهل الشام- ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ -أي: متى رأيتم الهلال بالشام- فقلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم، ورآه الناس -يعني: لست أنا فقط الذي رأيته، وإنما رآه معي بقية الناس أو بعض الناس- وصاموا وصام معاوية)] أي: صاموا بصيام الأمير، لما صام معاوية صام الناس واعتمدوا رؤية كريب وغيره من الناس.
قال: [(فقال ابن عباس: لكنا رأيناه ليلة السبت)] يعني: نحن هنا بالمدينة أو بمكة رأيناه ليلة السبت، وأهل الشام رأوه ليلة الجمعة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (صوموا لرؤيته) فضمير الجمع في قوله: (صوموا) هل هو موجه إلى جميع المسلمين في أنحاء الأرض، أم موجه إلى أهل كل قطر، أم موجه إلى أهل كل بلد، أم موجه إلى كل فرد على حدة؟ أما القول الأخير فمردود وباطل؛ لأنه لا يتصور أن النبي عليه الصلاة والسلام يلزم كل رجل في أمته أن يرى الهلال، وأنه إذا لم ير الهلال لا يصوم، هذا أمر باطل، وإن كان بعض أهل العلم قال به، لكن ضمير الجمع هنا في قوله: (صوموا) موجه لأهل هذه الأقوال الثلاثة التي ذكرناها آنفاً.
قال: [(لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه)] هذا كلام ابن عباس، يعني: رؤيتكم لهلال رمضان ليلة الجمعة في الشام أمر لا يجعلنا نعتمده ونحن بالمدينة أو مكة؛ لأن ابن عباس اعتبر أن بلده لها رؤية خاصة، وأن الشام لها رؤية خاصة.
إذاً: مذهب ابن عباس هو أن لكل أهل بلد رؤية تخصهم، مع أن حديث كريب مع ابن عباس ربما لا يخدم الواقع الذي يمر به المسلمون الآن؛ لأن ابن عباس رضي الله عنهما ما أخبر ببدء رمضان في الشام إلا في نهاية شهر رمضان، أما الهلال الآن لو ظهر في أقصى البلاد فسيصل خبره سريعاً بواسطة الهاتف، بالمذياع، بالتلفزيون، بالإنترنت، بأي وسيلة من هذه الوسائل المتقدمة المتطورة تستطيع أن تعرف في لحظة أن الهلال ظهر في بلاد المشرق أو في بلاد المغرب، أو في بلاد آسيا أو إفريقيا أو غيرها من البلدان.
قال: [(فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه -أي: إذا رأيناه قبل تمام الشهر ثلاثين صمنا تسعاً وعشرين فقط، وإذا لم نره أكملنا العدة ثلاثين يوماً- فقلت: أولا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟)] يعني: ألا تكتفي يا ابن عباس برؤية معاوية والناس للهلال، وأن الناس هناك قد صاموا مع معاوية.
قال: [(فقال ابن عباس: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم)].
ابن عباس رد على كريب وقال له: لا، لا نعتمد رؤيتكم ولا صيامكم؛ لأن هذا ليس باباً من أبواب الرواية، وإنما هو باب من أبواب الشهادة، وبين الرواية والشهادة فروق: منها: أن الشهادة ترد إذا لم يكتمل نصاب هذه الشهادة، ومذهب ابن عباس أن دخول الشهر إنما يثبت بشاهدين لا بواحد، ولذلك رد شهادة كريب لا رؤيته.
وقول ابن عباس: (لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم) ابن عباس لم يذكر هذا الأمر الذي أمر به النبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك اختلف فيه أهل العلم، فقالوا: إنما اكتفى ابن عباس بنقل أصل الأمر الذي أمر به النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: (هكذا أمرنا) أي: أمر بفحوى كلام ابن عباس؛ لأن ابن عباس لم ينقل نص الأمر عن النبي عليه الصلاة والسلام.
وقال بعضهم: بل عنى ابن عباس رضي الله عنهما بقوله: (هك(14/3)
حكم الهلال إذا رؤي في بلد يختلفون عن غيرهم في الليل والنهار
يقول الإمام النووي رحمه الله: (حديث كريب وابن عباس ظاهر الدلالة للترجمة، يعني: أن لكل بلد رؤيتهم، وأنهم إذا رأوا الهلال ببلد لا يثبت حكمه لما بعد عنهم) وأنا أؤكد على قوله: (لما بعد عنهم)؛ لأن المذهب الراجح الذي يترجح لدينا: هو أن أهل بلد إذا رأوا الهلال لا يثبت حكمه لمن اختلفوا معهم في الليل والنهار.
قال: (والصحيح عند أصحابنا -أي: عند الشافعية- أن الرؤية لا تعم الناس) يعني: المذهب الراجح عند الشافعية أن الرؤية لا تعم الناس، بل تختص بمن قرب.
إذاً: ما هو حد القرب والبعد؟ هو الاشتراك في الليل والنهار، أن نكون جميعاً على خط متقارب من خط الاستواء، فلو نحن رأينا الهلال مثلاً في مصر فهل يلزم البلدان المجاورة لمصر العمل بهذه الرؤية؟ لقد انطبع في أذهان الناس أنهم يتوجهون في بداية شهر رمضان إلى بلاد الحجاز ويعتمدون رؤيتهم،
و
السؤال
لم الحجاز بالذات؟ الحجاز ما هي إلا بلد من بلدان المسلمين، هي كمصر وليبيا والجزائر وتونس والعراق والأردن وسوريا وغيرها من البلدان، فإذا سمعت خبراً من سورية يقول: قد رأينا الهلال هل تعتمد هذه الرؤية؟ لا تعتمدها؛ لأنك اعتدت على أن ترتبط في عبادتك ببلد معين، وأنا أقول: إن رؤية أهل هذه البلاد التي ذكرتها والتي لم أذكرها ممن قرب من البلدان تلزم جميع البلدان، والأسبقية لمن سبق.
تكلمنا عن الحساب الفلكي وقلنا: إنه يستأنس به ولا يعتمد عليه، وفي السعودية ينظرون في الحساب الفلكي، لكنهم لا يعتمدونه أصلاً، والحكومة السعودية تمنح جائزة لمن رأى الهلال عشرة آلاف ريال في كل شهر، وهذا حدا ببعض الناس أن يسارعوا إلى الإعلان بأنهم قد رأوا الهلال وهم في الحقيقة لم يروه، ولذلك ثبت عدة مرات في الأعوام المتأخرة أن بدء رمضان كان في السعودية على غير حقيقته، وهذا ليس مطعناً عاماً في أهل البلاد، وإنما مطعن فيمن م يتق الله عز وجل.
فالأصل في هذا الأمر أنه يتم بلا جائزة وبلا منحة، وجائزته عند ربه.
لكن الذي أريد أن أنبه عليه لو أن أحداً رأى الهلال في مصر فإنه يلزم جميع البلاد، وإن لم يره أهل الحجاز، ولو ظهر الهلال ورئي رؤيا العين في سوريا وفي بغداد من رجل ثقة أمين عدل فإنه يلزم جميع أهل القطر، فإننا نعنى ونهتم في كل شهر ببدايته ونهايته على كل خبر يأتينا عن ثقة من أي بلد من هذه البلاد، ولكن لا نعتمد الاعتماد الكلي على بلاد الحجاز.(14/4)
توجيه الإمام النووي لحديث ابن عباس مع كريب في رؤية الهلال
قوله: (فقلت: نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية) إلى آخره.
يقول النووي: (والصحيح عند أصحابنا أن الرؤية لا تعم الناس، بل تختص بمن قرب على مسافة لا تقصر فيها الصلاة).
دعك من هذه الجزئية.
ثم قال: (وقيل: إن اتفق المطلع -أي: قربهم من خط الاستواء- لزمهم رؤية واحدة.
وقيل: إن اتفق الإقليم وإلا فلا.
وقال بعض الشافعية: تعم الرؤية في موضع جميع أهل الأرض) يعني: الذي يرى في أي قرية من القرى على وجه الأرض هذه الرؤية تلزم جميع المسلمين على وجه الأرض، وهذا رأي فاسد.
ثم يقول النووي: (نقول: إنما لم يعمل ابن عباس بخبر كريب؛ لأنه شهادة، فلا تثبت بواحد، لكن ظاهر حديثه أنه لم يرده لهذا؛ وإنما رده لأن الرؤية لم يثبت حكمها في حق البعيد) يعني: على افتراض أن ابن عباس قَبِل كلام كريب ولكنه لم يعمل به؛ لأن بلاد الشام بلاد بعيدة جداً عنهم بينهم وبينها شهر، فرؤيتهم لا تلزمهم؛ لأن لهم رؤية تخصهم.
والحقيقة هذه المسألة فيها أبحاث كثيرة جداً وصنفت فيها فوق عشر رسائل رأيتها، ومدارها على هذه الآراء الثلاثة، وأرجح هذه الآراء -وهو الذي يهمنا- أن رؤية أي بلد من بلاد المسلمين المجاورة التي تشترك في الليل والنهار تلزم جميع البلاد، بشرط أن تكون رؤية عين، لقوله صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته) أي: رؤية العين هذه، إما بالعين المجردة وإما بالمكبرات والعدسات والأجهزة الحديثة.
أما الحساب الفلكي في البدء والنهاية للشهر فهذا يستأنس به ولا يعتمد عليه، لكن الفرق بيننا وبين أمريكا أنهم يختلفون عنا عشر ساعات، وأقصى غرب أمريكا يختلف معنا في أربع عشرة ساعة، فهل يقال: إنهم يشتركون معنا في الليل والنهار؟ لا يقال ذلك؛ لأنهم يختلفون معنا في الأصل، أصل الليل عندنا نهار عندهم، والعكس بالعكس، فلا يقال: إنهم متفقون معنا قط، والذي يختلف معنا في خمس ساعات أو أربع ساعات لا بد أن مواقيت الصلاة تختلف بيننا وبينهم كذلك.
وأنا ذهبت إلى بلد في أمريكا في أقصى الجنوب النهار عندهم دوماً أربع ساعات فقط، والليل عشرون ساعة، والعكس في أقصى شمال أمريكا يكون النهار عشرين ساعة، والليل أربع ساعات، فكانوا يسألوننا: كيف نحسب صلاتنا؟ قلنا: قدروا لها قدرها.
فتصور أن أهل أقصى الجنوب كانوا يصلون الصلوات الخمس في خلال أربع ساعات، واتصلوا بالشيخ ابن باز رحمه الله والشيخ الألباني رحمه الله والشيخ ابن عثيمين رحمه الله، فالجميع اتفقوا على أن أهل هذه البلاد يقدرون للصلاة قدرها: ما بين الصبح إلى الظهر أكثر مما بين الظهر إلى العصر، وما بين الظهر إلى العصر هو نفس الذي بين العصر والمغرب، وبين المغرب والعشاء شيء يسير، فقدروا لها قدرها، فكانوا يقدرون بالساعات إلا الصبح والمغرب هذه بالشروق وهذا بالغروب.(14/5)
باب بيان أنه لا اعتبار بكبر الهلال وصغره وأن الله تعالى أمده للرؤية فإن غم فليكمل ثلاثون(14/6)
شرح حديث: (إن الله أمده للرؤية فهو لليلة رأيتموه)
قال: [باب بيان أنه لا اعتبار بكبر الهلال وصغره، وأن الله تعالى أمده للرؤية، فإن غم فليكمل ثلاثون.
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا محمد بن فضيل عن حصين عن عمرو بن مرة عن أبي البختري - وهو سعيد بن فيروز الطائي - قال: (خرجنا للعمرة، فلما نزلنا ببطن نخلة قال: تراءينا الهلال -أي: تكلفنا رؤية الهلال في موضعه وفي مخرجه الذي يخرج منه عادة- فقال بعض القوم: هو ابن ثلاث، وقال بعض القوم: هو ابن ليلتين، قال: فلقينا ابن عباس فقلنا: إنا رأينا الهلال، فقال بعض القوم: هو ابن ثلاث، وقال بعض القوم: هو ابن ليلتين.
فقال: أي ليلة رأيتموه؟ قال: فقلنا: ليلة كذا وكذا، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله أمده للرؤية فهو لليلة رأيتموه)]، ومعناه: أنه أطال مدة هذا الهلال حتى رأيتموه، كما قال الله تعالى: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ} [الأعراف:202] قرئ من وجهين أي: يطيلون لهم، فإن الله سبحانه وتعالى أطال هذا الهلال حتى رآه الناس.
فنكون مع رؤية من رآه حتى وإن زاد الشهر وإن نقص، فلو أنك بنفسك رأيت الهلال هنا فبدأت الصوم، والحجاز بدءوا بعدك بيوم، فذهبت لتعتمر، فرأوا هم الهلال في التاسع والعشرين أو رأوه في الثلاثين، فإما أن تزيد يوماً أو أن تنقص يوماً، فإن كان نقصاً فيلزمك أن تعيد يوماً بعد العيد.
لكن لا بد أن تعرف أن كثيراً من مسائل الفقه محل اختلاف بين أهل العلم، فيها الراجح، وفيها المرجوح، وفيها الباطل المردود، أما الباطل المردود فلم يقل به أحد من العلماء الأجلاء الكبار الذين يعتمد عليهم، أما الراجح والمرجوح فلا بد أن تعلم أن الخلاف له أول وله نهاية، أحد هذه الآراء في قمة هذه المسائل، وأحد هذه الآراء في أدنى المسائل، ولا أستطيع أن أرد هذا الرأي الذي هو أنزل الآراء؛ لأن الدليل يشهد له أحياناً، وبين الأعلى والأسفل آراء أخرى، ولذلك لما يحصل شيء عندك تسأل وتقول: أنا أريد أن أعلم حكم الدين في هذه القضية، فيجيبك العالم ويقول: حكم الدين في هذه القضية كيت وكيت وكيت.
فتقول له: هل هناك أحد قال بغير هذا القول؟ أنت بنفسك تبحث عن قول آخر يوافق ما أنت عليه، فإذا وجدته في أقوال أهل العلم تشبثت به؛ لأنه يوافق ما في نفسك.(14/7)
شرح حديث: (إن الله أمده لرؤيته، فإن أغمي عليكم فأكملوا العدة)
قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا غندر عن شعبة وحدثنا ابن المثنى وابن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر أخبرنا شعبة عن عمرو بن مرة قال: سمعت أبا البختري قال: (أهللنا رمضان ونحن بذات عرق)] ذات عرق هي ميقات أهل العراق، ومن أتى من جهة العراق يريد حجاً أو عمرة فليحرم من هذا الميقات المكاني.
وميقات أهل اليمن يلملم.
وميقات أهل مصر رابغ أو الجحفة.
وميقات أهل المدينة أبيار علي، التي هي ذو الحليفة.
بعد أن ذكر النبي عليه الصلاة والسلام هذه المواقيت المكانية قال: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن) يعني: هذه المواقيت لأهلها إذا مروا بها، ولمن أتى عليها من غير أهلها، فأنا عندما أكون في المدينة وأريد أن أعتمر فهل أرجع إلى رابغ خمسمائة أو ستمائة كيلو، أو أمر على ميقات أهل المدينة وهو ذو الحليفة وأحرم منه؟ أحرم من ذي الحليفة.
قال: [(أهللنا رمضان ونحن بذات عرق، فأرسلنا رجلاً إلى ابن عباس رضي الله عنهما يسأله، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أمده لرؤيته، فإن أغمي عليكم فأكملوا العدة)].
أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يبين مسألة اعتقادية: وهي هل يمكن أن يظهر الهلال ويختفي دون أن يراه أحد من المسلمين؟ لا، غير ممكن؛ لأن هذا يتنافى مع رحمة الله عز وجل بخلقه، ولذلك من رحمته وفضله أن يمد الهلال مداً، بمعنى: أنه يبقيه حتى يراه الناس، فإن خفي على قوم ظهر لآخرين, وإن خفي على واحد ظهر لآخر، وهذا هو مد الله عز وجل للهلال.
فقوله: (إن الله قد أمده حتى ترونه) يعني: أن الله تعالى قد أبقاه في السماء ظاهراً واضحاً، فإن خفي على بلد ظهر لآخر فمثلاً: بين العراق والأردن ألف كيلو، فلو اعتبرت أن العراق بلد والأردن بلد، وأن أهل كل بلد من هذين البلدين لا يلزم برؤية البلد الآخر؛ لبعد المسافة، فعندنا هنا بين القاهرة وبين أسوان ألف كيلو، نفس المسافة التي بين العراق والأردن، فهل يمكن أن يقال: إن لأسوان رؤية خاصة بها، والقاهرة رؤية خاصة بها؟ لا، بل الرؤية كما تلزم أسوان التي تبعد عن القاهرة ألف كيلو تلزم كذلك الأردن التي تبعد عن العراق أيضاً ألف كيلو.
أما قوله: (فإن أغمي عليكم).
لا يمكن أن تصيب الغمة جميع المسلمين في شرق الأرض وغربها؛ لأن الهلال ربما حال بيننا وبين رؤيته غمامة أو غياية في السماء في مصر، هذه الغمامة ليست موجودة في الحجاز، وليست موجودة باليمن، ولا بالسودان، ولا بالعراق، ولا بالأردن؛ لأنه لا يعقل أن الغمامة ستحجب الهلال أو الشمس أو القمر عن العالمين بحيث لا يراهما أحد من الخلق، لا يمكن؛ لأن هذا يتنافى مع فضل الله وحكمته ورحمته، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يطمئننا فقال: (إن الله قد أمده لرؤيته) يعني: سترونه في مطلع كل شهر ولا بد، وهذا أمر حتمي، وهذه المسألة لا بد أن تكون من عقيدتك: أن الهلال يغم على قوم أو قرية أو بلد أو دولة ويظهر لغيرها، المهم أنه سيظهر وسيراه الناس، وإن خفي على البعض.
قوله: (فأكملوا العدة) أي: الواجب الشرعي على المسلمين أن يكملوا العدة ثلاثين، عدة شعبان إذا كان في بدء رمضان، وعدة رمضان إذا كان ظهور العيد.(14/8)
باب بيان معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (شهرا عيد لا ينقصان)
قال: [باب بيان معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (شهرا عيد لا ينقصان)] يعني: شهر رمضان الذي ينتهي بالعيد، وشهر ذي الحجة الذي فيه العيد.
فالمتبادر إلى الذهن أن معنى قوله: (شهرا عيد لا ينقصان) أنهما يكونان ثلاثين يوماً، والإمام مسلم أتى بهذا الحديث في هذا الموطن بالذات حتى يبين المعنى الصحيح لهذا الحديث؛ لأن هذا الحديث لو سمعته في أي مكان غير درس العلم لقلت: قوله: (لا ينقصان) يعني: هما على التمام ثلاثون يوماً باستمرار وباطراد.
إذاً: ما معنى قوله: (شهرا عيد لا ينقصان)؟ أي: لا ينقصان في الثواب والأجر، وهذا أرجح الأقوال في هذا الحديث.
يعني: لو أتى رمضان تسعة وعشرين يوماً فأجره كما لو كان ثلاثين يوماً.
وكما أن في شهر رمضان من الفضائل والمناقب والمنح الربانية ما ليس في غيره من الشهور، فكذلك شهر ذي الحجة فيه يوم عرفة الذي يكفر ذنوب سنة مضت وسنة لاحقة، إن لم يكن فيه إلا هذا اليوم لكفى، ولذلك اختلف أهل العلم في أفضل الأيام بين رمضان وذي الحجة.
أنتم تعلمون الأحاديث التي وردت في بيان فضل العشر الأوائل من ذي الحجة، وهي في الصحيحين وفي غيرهما، كما لا يخفى عليكم فضل العشر الأواخر من رمضان، والأحاديث التي أتت ووردت في فضل هذه الأيام في الصحيحين وغيرهما، فهل العشر الأواخر من رمضان أفضل، أم العشر الأوائل من ذي الحجة؟ اختلف أهل العلم، وأرجح الأقوال في هذا هو قول شيخ الإسلام ابن تيمية: أن أيام ذي الحجة أفضل؛ لأن ذا الحجة يمتاز بأن عرفة في النهار والنحر في النهار، ويوم النحر هو اليوم المتمم للعشر، والنحر في النهار، ولا بأس أن يكون في الليل، لكن العادة أن الحجاج وغير الحجاج ينحرون في النهار دون الليل، فالنحر إنما يتم فيه، والنحر عبادة عظيمة.
أما ليالي رمضان فامتازت على ليالي ذي الحجة؛ لأن فيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وهي حوالي ثلاث وثمانين سنة وأربعة شهور.
قال الإمام النووي: (قوله عليه الصلاة والسلام: (شهرا عيد لا ينقصان: رمضان، وذو الحجة) الأصح أن معناه: لا ينقص أجرهما والثواب المرتب عليهما وإن نقص عددهما)، يعني: وإن نقص عدد رمضان إلى تسعة وعشرين وكذلك شهر ذي الحجة، فإن الثواب يكون كاملاً لمن تعبد إلى الله عز وجل في هذين الشهرين.
ثم قال: (وقيل: معناه: لا ينقصان جميعاً في سنة واحدة غالباً) يعني: إذا جاء رمضان تسعة وعشرين يوماً فلا يمكن أن يأتي معه ذو الحجة في نفس السنة تسعة وعشرين يوماً، لا بد أن يكون ثلاثين يوماً، أما أن ينقصا في سنة واحدة فلا، لا بد أن يكون أحدهما أتم من الآخر، وهذا رأي وإن كان وجيهاً إلا أن الأول أقوى منه.
ثم قال: (وقيل: لا ينقص ثواب ذي الحجة عن ثواب رمضان؛ لأن فيه المناسك، وهو قول ضعيف، قاله الخطابي، والأول هو الصواب المعتمد.
ومعناه: أن قوله عليه الصلاة والسلام: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).
وقوله عليه الصلاة والسلام: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) وغير ذلك.
فكل هذه الفضائل تحصل سواء تم عدد رمضان أم نقص، وكذلك في شهر ذي الحجة، والله تعالى أعلم).(14/9)
باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر وغير ذلك
قال: [باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، وأن له الأكل وغيره حتى يطلع الفجر] يعني: له الحق في أن يطعم ويشرب ويجامع ويأتي ما هو حرام على الصائم قبل طلوع الفجر، أما إذا طلع الفجر فالطعام والشراب والشهوة حرام عليه، وأن الصيام لا يجب إلا بطلوع الفجر.(14/10)
شرح الأحاديث في معنى الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر
قال: [وبيان صفة الفجر الذي تتعلق به الأحكام من الدخول في الصوم، ودخول وقت صلاة الصبح وغير ذلك.
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن إدريس عن حصين عن الشعبي عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: (لما نزلت: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187])] أظن أن هذه الزيادة (من الفجر) ليست في هذا الموضع بالذات من الحديث؛ لأن قوله سبحانه وتعالى: {مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] نزلت وحدها، يعني: هذا الحرف فقط نزل وحده، لما أخطأ عدي بن حاتم وغيره من الصحابة، وأول الخيط الأبيض والخيط الأسود بتأويلات غير سليمة وغير سديدة، أنزل الله تبارك وتعالى قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] أما حين نزلت: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} [البقرة:187]، فكانوا يأخذون هذا النص على ظاهره، فهذا عدي بن حاتم نفسه هو صحابي كبير جاء بخيط أبيض وخيط أسود ووضعه تحت المخدة، وظل يأكل ويشرب حتى طلع الفجر، فلما بلغ ذلك النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن وسادك لعريض) يعني: ستظل تأكل إلى حد الشروق.
فلما كان ذلك من عدي بن حاتم وبعض الصحابة رضي الله عنهم، أنزل الله تبارك وتعالى قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187]، فعلموا أن الخيط الأبيض هو النهار، والخيط الأسود هو الليل، والفرق بين الخيط الأبيض الذي هو النهار، والخيط الأسود الذي هو الليل هو طلوع الفجر.
ثم قال: [(قال له عدي بن حاتم -أي: قال للرسول عليه الصلاة والسلام-: يا رسول الله! إني أجعل تحت وسادتي عقالين: عقالاً أبيض وعقالاً أسود، أعرف الليل من النهار)] العقال: هو الحبل أو الذي يضعه بعض العرب هذه الأيام على الغترة أو الشماغ.
فقوله: (أعرف الليل من النهار) يعني: أعرف أن الفجر دخل، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن وسادك لعريض) يعني: سيبقى ليلك طويلاً جداً ما سينتهي.
قال: [(إنما هو سواد الليل وبياض النهار)] يعني: المقصود ومراد الرب تبارك وتعالى بقوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} [البقرة:187] يعني: حتى يخرج النهار وينشق من الليل وهو الفجر الصادق.
قال: [حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري حدثنا فضيل بن سليمان حدثنا أبو حازم حدثنا سهل بن سعد قال: (لما نزلت هذه الآية: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} [البقرة:187] قال: كان الرجل يأخذ خيطاً أبيض وخيطاً أسود فيأكل حتى يستبينهما)] يعني: لا يزال يأكل حتى يتبين له الخيط الأبيض من الأسود، ولم يكن عندهم كهرباء، ويمكن يأكل إلى حد الشروق.
قال: [(حتى أنزل الله عز وجل: {مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] فبين ذلك)] أي: بين أن المراد بالخيط الأبيض النهار، والخيط الأسود الليل.
قال: [حدثنا محمد بن سهل التميمي وأبو بكر بن إسحاق قالا: حدثنا ابن أبي مريم أخبرنا أبو غسان حدثني أبو حازم عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: (لما نزلت هذه الآية: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} [البقرة:187] قال: فكان الرجل إذا أراد الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأسود والخيط الأبيض، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رئيهما -يعني: الاطلاع عليهما ومعرفة ألوانهما- فأنزل الله بعد ذلك: {مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] فعلموا أنما يعني بذلك الليل والنهار)].
يعني: الربط ليس له أي علاقة في القضية، ولكنهم اجتهدوا فأخطئوا، وهذا يدل على أن الصحابة رضي الله عنهم غير معصومين، إنما المعصومون هم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.(14/11)
شرح حديث: (إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم)
قال: [حدثنا يحيى بن يحيى ومحمد بن رمح قالا: أخبرنا الليث.
(ح) وحدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا تأذين ابن أم مكتوم)]، هذا يدلنا على أن للفجر أذانين، وإذا كان المسجد صغيراً لا بأس أن يقوم بالأذانين واحد، ولا بأس من اتخاذ أكثر من مؤذن في وقت واحد في المسجد الواحد إذا كان الأذان في أحد نواحيه لا يسمع من كان في النواحي الأخرى، فحين يتوجه المؤذن شمالاً بغير مكبر الصوت ويؤذن ولا يسمع من كان في الناحية الأخرى فلا بأس باتخاذ مؤذن آخر، وقد اتخذ عمر بن عبد العزيز وعبد الملك بن مروان وغيرهما من الخلفاء والأمراء مؤذنين فأكثر للمسجد الواحد، لكن لا يقيم في المسجد إلا واحد؛ لأن الجماعة واحدة حينئذ.
أما النداء فشأنه إخبار الناس وإعلامهم بدخول وقت الصلاة، فلا بد أن يتم هذا الإعلان، فإذا أعلنت أنا في الناحية الغربية، وبقي من كان في جميع النواحي لم يسمع؛ فلا بأس من اتخاذ مؤذن.
أما الآن فقد أغنانا عن اتخاذ عدة مؤذنين للمسجد الواحد هذه المكبرات الصوتية، فإن المؤذن الواحد يكفي؛ لأن العلة التي لأجلها شرع الأذان قد بلغت الناس، وهو أنهم جميعاً قد سمعوا النداء في كل واد وفي كل مكان وفي كل ناحية، فقامت عليهم الحجة بالإتيان إلى المسجد.
فقوله: (إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا تأذين ابن أم مكتوم) هذا يدلنا على أن في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤذن له في الفجر مؤذنان: بلال، وابن أم مكتوم.
أما بلال فكان يؤذن قبل طلوع الفجر الصادق، وأما ابن أم مكتوم فكان يؤذن بعد طلوع الفجر الصادق، أي: في أول الوقت.
ونحن نقول: الفجر الصادق؛ لأن هناك فجراً كاذباً وفجراً صادقاً، والعرب كانوا في ذلك الوقت ولا يزال الناس الآن في البوادي والصحاري يميزون ويعرفون أوقاتهم بالنجوم، ويعرفون أوقاتهم بمطلع القمر، ويعرفون الفجر الصادق من الكاذب وغير ذلك، لكن نحن بيننا إفرنج وأفندية، وبالتالي لا نعرف أن نميز الأوقات بالنجوم وغيرها؛ لأننا لم نتعود أن نعرف أيامنا وليالينا وطرقنا عن طريق هذه النجوم وهذه المجرات التي أجراها الله تبارك وتعالى لنا.
هناك فجران: فجر مستطيل في السماء من فوق إلى تحت، ترى خطاً أبيض ينزل من فوق إلى تحت بنفس الخط المستطيل، وهذا الخط سرعان ما يتلاشى ويظهر خط آخر معترضاً من الشمال إلى اليمين، أو من اليمين إلى الشمال.
إذاً: نحن عندنا خطان: الخط الأول: خط رأسي في السماء، من فوق إلى تحت، فسرعان ما يتلاشى هذا الخط.
الخط الثاني: خط عرضي، يأتي بالعرض وليس بالطول.
الخط الأول يغلب عليه الحمرة، والخط الثاني يغلب عليه البياض، وبلال كان يؤذن عند ظهور الخط الأول، وهو الفجر الكاذب، أما الفجر الصادق فهو الخط الثاني الذي يأتي بالعرض، وعند بداية ظهور هذا الخط كان يؤذن ابن أم مكتوم، وهنا يحرم الطعام والشراب والجماع.
وفي أذان بلال يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ليرجع قائمكم وينبه نائمكم) أي: ليستيقظ النائم ويستعد للصلاة، وإذا كان مستيقظاً يصلي أو غير ذلك؛ خشية دخول الفجر، كذلك لو أردت أن تستعد للصيام أو تنوي أو غير ذلك فقدامك مدة وفترة تستطيع فيها أن تقضي حاجتك.
قال: [حدثني حرملة بن يحيى أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم).
حدثنا ابن نمير - محمد - حدثنا أبي - عبد الله بن نمير - حدثنا عبيد الله وهو - ابن عمر العمري - عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنان: بلال، وابن أم مكتوم الأعمى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم، قال: ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا)] يعني: ينزل بلال ويطلع ابن أم مكتوم.
المؤذنون قديماً كانوا يؤذنون من المئذنة، والمئذنة هي غرفة صغيرة تبنى ع(14/12)
شرح حديث: (لا يمنعن أحداً منكم أذان بلال من سحوره فإنه يؤذن بليل)
قال: [حدثنا زهير بن حرب حدثنا إسماعيل بن إبراهيم - وهو المعروف بـ ابن علية - عن سليمان التيمي عن أبي عثمان - وهو النهدي - عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يمنعن أحداً منكم أذان بلال -أو قال: نداء بلال - من سحوره، فإنه يؤذن بليل -أو قال: ينادي بليل-)] يعني: إذا سمعتم أذان بلال فكلوا واشربوا كما تريدون؛ لأن بلالاً يؤذن قبل الوقت، فمن كان يصلي فيعجل في الانتهاء من صلاته وقضاء وتره، ومن كان نائماً فأمامه فرصة أنه يقوم ويتوضأ ويستعد، ومن كان مستيقظاً ويظن أنه بقي وقت طويل على الفجر فليعلم أن الوقت قد ضاق، فليعجل بالسحور.
قال: [(ليرجع قائمكم)] يعني: إذا كان أحدكم قائماً في صلاة الليل فليعجل بانتهاء هذه الصلاة.
قال: [(ويوقظ نائمكم، وقال: ليس أن يقول هكذا وهكذا، وصوب يده ورفعها)] (صوب يده) أي: خفضها.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (ليس أن يقول هكذا وهكذا) يعني: ليس هو الفجر الذي ترونه في السماء من فوق إلى تحت، فإذا رأيتم الخط المستطيل في السماء من فوق إلى تحت فليس هو الفجر.
قال: [(حتى يقول هكذا وفرج بين أصبعيه)] يعني: فرق بينهما.
قال: [حدثنا ابن نمير حدثنا أبو خالد الأحمر عن سليمان التيمي بهذا الإسناد، غير أنه قال: (إن الفجر ليس الذي يقول هكذا، وجمع أصابعه ثم نكسها إلى الأرض، ولكن الذي يقول هكذا، ووضع المسبحة على المسبحة)] المسبحة: هي السبابة، وسميت بالسبابة؛ لأن العرب كانوا يسبون بها، الذي يريد أن يشتم أحداً يؤشر له بسبابته، ويسبح بها أيضاً، فسميت هذه الإصبع التي تلي الإبهام المسبحة والسبابة؛ لأن التسبيح والسب يكونان بها.
قال: [(إن الفجر ليس الذي يقول هكذا، وجمع أصابعه ثم نكسها في الأرض، ولكن الذي يقول هكذا، ووضع المسبحة على المسبحة ومد يده)] يعني: ليس الفجر الصادق هو الذي يستطيل في السماء وإنما هو الذي يأتي بالعرض.
فقوله: (ووضع المسبحة على المسبحة ومد يديه) هنا يبين التكييف الشرعي لمعرفة الفجر الصادق.
قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا معتمر بن سليمان وحدثنا إسحاق بن إبراهيم - وهو المعروف بـ ابن راهويه - أخبرنا جرير - وهو ابن عبد الحميد الضبي - والمعتمر بن سليمان كلاهما عن سليمان التيمي بهذا الإسناد، وانتهى حديث المعتمر عند قوله: (ينبه نائمكم ويرجع قائمكم).
وقال إسحاق: قال جرير في حديثه: (وليس أن يقول هكذا ولكن يقول هكذا -يعني الفجر- هو المعترض وليس بالمستطيل)] يعني: الفجر الصادق هو الفجر المعترض وليس هو الفجر المستطيل.
قال: [حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا عبد الوارث - وهو ابن سعيد البصري - عن عبد الله بن سوادة القشيري حدثني والدي - الذي هو سوادة - أنه سمع سمرة بن جندب يقول: سمعت محمداً صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يغرن أحدكم نداء بلال من السحور، ولا هذا البياض حتى يستطير)].
قوله: (ولا هذا البياض) يعني: ولا هذا الخط المستطيل حتى يستطير ويأتي بالعرض.
والعرب تطلق على الأبيض أحمر والأحمر أبيض؛ ولذلك كانت عائشة رضي الله عنها بيضاء، وأطلق عليها في عدة أحاديث بعضها حسن ومعظمها ضعيف بأنها الحميراء، فالعرب تطلق لفظ الأحمر على البياض.
قال: [وحدثنا زهير بن حرب حدثنا إسماعيل بن علية حدثني عبد الله بن سوادة عن أبيه عن سمرة قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يغرنكم أذان بلال -يعني: لا تهتموا بأذان بلال من جهة الحل والحرمة؛ لأن أذان بلال لا يمنع الطعام ولا الجماع ولا الشراب- ولا هذا البياض، حتى يستطير هكذا)] أي: يعترض في كبد السماء.
قال: [وحدثنا أبو الربيع الزهراني حدثنا حماد - يعني ابن زيد - عن عبد الله بن سوادة عن أبيه عن سمرة قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال -أي: لا يمنعنكم أذان بلال أن تتسحروا- ولا بياض الأفق المستطيل هكذا، حتى يستطير هكذا) وحكاه حماد بيديه، يعني: معترضاً] وهذا الذي(14/13)
كلام الإمام النووي في حديث: (إن بلالاً يؤذن بليل)
قال: [باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، وأن له الأكل وغيره حتى يطلع الفجر] يعني: له الحق في أن يطعم ويشرب ويجامع ويأتي ما هو حرام على الصائم قبل طلوع الفجر، أما إذا طلع الفجر فالطعام والشراب والشهوة حرام عليه، وأن الصيام لا يجب إلا بطلوع الفجر.(14/14)
حكم الأكل والشرب بعد الأذان الأول، وجواز أذان الأعمى
قال الإمام النووي في شرحه لحديث: (إن بلالاً يؤذن بليل): (قوله: (إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا تأذين ابن أم مكتوم) فيه جواز الأذان بالصبح قبل طلوع الفجر.
وفيه جواز الأكل والشرب والجماع وسائر الأشياء حتى يطلع الفجر.
وفيه جواز أذان الأعمى.
لأن المؤذن يشهد على نفسه أن الفجر قد دخل، وبالنسبة للناس والعامة يخبرهم بأن الفجر قد دخل، فالأذان شهادة وخبر في الوقت نفسه.
قال: (قال الشافعية: هو جائز) يعني: أذان الأعمى جائز، كذلك إمارة الأعمى جائزة، يعني الإمارة الصغرى، أما الإمارة الكبرى فلا يجوز أن يكون الخليفة أعمى.
قال: (قال الشافعية: أذان الأعمى جائز، فإن كان معه بصير كـ ابن أم مكتوم مع بلال فلا كراهة فيه) لأن بعض أهل العلم كره أذان الأعمى خاصة في الفجر؛ لأن الأعمى لا يرى؛ ولذلك كره بعض أهل العلم أذان الأعمى خاصة في صلاة الفجر؛ لأن أذان الفجر عندهم متعلق برؤية الخط المستطير المعترض ولا يراه الأعمى، فربما أذن قبله، أو ربما أذن بعده فأوقع الناس في حرج، ولكن لو كان معه بصير، كـ بلال مع ابن أم مكتوم فلا كراهة في ذلك، وإن لم يكن معه بصير كره؛ للخوف من غلطه.(14/15)
استحباب الأذانين في الصبح
قال: (وفي هذا الحديث استحباب أذانين في الصبح) هذا في رمضان وغيره، وهذه المسألة أثيرت هنا في هذا النص وفي هذا الدليل لتعلق الصوم به، وإلا فهناك أدلة أخرى شهدت بأن الفجر كان يؤذن له اثنان من المؤذنين أحدهما قبل الفجر، والآخر بعد طلوع الفجر.
وهناك مشكلة في صلاة الفجر في مساجد الأوقاف، تجدهم يقيمون الصلاة بعد عشر دقائق، أو بعد ربع ساعة من الأذان، وأذانهم للفجر قبل الوقت، يعني: في أثناء الفجر الكاذب، وهناك أبحاث كثيرة نزلت وكتبت وصنفت تبين هذا الكلام من علماء بالشرع ومن علماء بالفلك، والمسألة هذه ليست حديثة، بل هي قديمة جداً، فأنا قرأت رسالة للشيخ أحمد شاكر عليه رحمة الله، وقد مات منذ أربعين سنة وزيادة، وهو من جلة علماء الأزهر، يقول: إن الصلاة في مسجد الحسين وفي غيره التي تؤدى قبل ميعادها الحقيقي بنصف ساعة، ليس خمس دقائق أو عشر دقائق، وهذه الرسالة اسمها (رسالة الأشهر العربية)، إذا أردتم أن ترجعوا لها فارجعوا لها، وله كتاب اسمه: مقالات الشيخ أحمد شاكر وهذه المقالة أيضاً في داخل هذا الكتاب فاقرءوها.
فالإخوة الحريصون على أداء الصلاة في أوقاتها يؤخرون في مساجدهم الصلاة إلى ثلث ساعة أو خمس وعشرين دقيقة أو نصف ساعة، بخلاف المساجد التي ربما نزل المؤذن من أعلى السطح وقد فاتته ركعة أو ركعتين، فهذا فيه حرج شديد جداً؛ لأن الصلاة مبناها على الاحتياط، والاحتياط في أداء الصلاة بالتأخير، وأقل ما يقال في استحباب تأخير صلاة الفجر: إنه من باب الاحتياط؛ لأننا إذا أخرناه عن وقته لم نخرج عن الوقت، فضلاً عن أننا نكون على يقين بدخول الوقت، والذين يقولون بجواز الصلاة قبل وقتنا الذي نصلي فيه بعشر دقائق أو بربع ساعة هل يختلفون معنا في أننا نؤدي الصلاة في وقتها؟ لا، وهل نختلف نحن معهم في أنهم يؤدون الصلاة في غير وقتها أو في وقتها؟ نعم، نختلف معهم، فإذا كانت القضية فيها اتفاق وافتراق فيصير الاتفاق أولى من الافتراق، فيجب عليهم أن يصيروا إلى ما نحن عليه، وأن يؤخروا الصلاة عن الوقت الذي يصلون فيه؛ لأن هذا هو وقت الاحتياط، بل هذا هو وقت اليقين أننا نصلي في وقت الفجر الصادق، يعني: الذي يصلي بعد الأذان بعشر دقائق ربما يصلي في الوقت وربما لا يصلي في الوقت، أما الذي يصلي بعد نصف ساعة من الوقت فلا بد وأنه يصلي في الوقت.
وسمعت شيخنا الألباني وقد سئل: أنا أصلي في مسجد بجواري يقيم الصلاة قبل وقتها؟ والشيخ الألباني من مذهبه عدم صلاة الفجر إلا بعد مرور نصف ساعة من الأذان الذي تسمعه بالإذاعة، ولا بأس أن تصلي السنة ركعتي الفجر بعد خمس وعشرين دقيقة من الأذان.
وهذا السائل سأل وقال: أنا أسكن بجوار مسجد كذا، وهو يصلي بأمر الحكومة ويقدم الصلاة؟ فقال الشيخ: صل معهم وعدها من صلاة الليل، ثم انطلق إلى أهلك وصل بهم الفرض.
الأصل أنه يناط التصحيح بإمام المسجد ويبين المسألة أو يعتزل.
وأنا سألت الشيخ عليه رحمة الله، قلت له: وما قيمة هذه الصلاة، إذا كان قد صلى في الليل إحدى عشرة ركعة وأوتر وانتهت صلاته؟ قال: حتى لا تحدث الفتنة، فيلزمه صلاة الفجر في البيت بعد صلاتها مع الناس مخافة الفتنة فقط، لكن ليس بواجب عليك، لكنك لو تعودت التخلف عن صلاة الفجر فسيسأل الناس: لماذا يتخلف فلان عن صلاة الفجر؟ وستجد المحتسبين والمتبرعين يتهمونك في دينك، صحيح، وهذا شر من الذي لم يذهب إلى المسجد قط.
وأنا لما قرأت قديماً رسالة الشيخ أحمد شاكر ورسالة عبد الملك علي الكليب، في أن الفجر يكون بعد نصف ساعة، كنت أنبه الإخوة وأقول لهم: هذا الفجر فجر باطل، ونحن لا يلزمنا الصلاة معهم، والصلاة معهم باطلة، فأشرت عليهم أننا نصلي الفجر جماعة في المسجد بعد أن يمضي الناس، لكن الناس كانوا يتأخرون في المسجد بعد تأديتهم لصلاة الفجر، فكنا نروح والناس موجودون، فلما تكرر هذا منا قالوا: لماذا أنتم تتأخرون، وتأتون في وقت معين بعد صلاة الجماعة؟ فذكرنا لهم الحكاية كيت وكيت وكيت وكيت، وقلنا لهم: أنتم تركتم وأنتم ستذهبون إلى النار، فحصلت فتنة في المسجد من ضرب وشجار، ونحن في ذلك الوقت نعتبر أنفسنا مجاهدين ومظهرين للشريعة وغير ذلك، وما كان منا إلا أن حرمنا ومنعنا من دخول المسجد نهائياً، لا في الوقت ولا في غير الوقت.
قال: (وفيه اعتماد صوت المؤذن) يعني: لو سمعت صوت المؤذن فاعتمد عليه في الطعام والشراب والنكاح.
وفي هذا الحديث دليل لجواز الأكل بعد النية، يعني: لو تسحرت الساعة الواحدة بالليل وعقدت نيتي على الصيام، ثم سمعت أذان المؤذن الأول فبدا لي أن آكل، فيجوز لي أن آكل حتى بعد عقد النية بالصيام، ما دام الفجر الصادق لم يطلع، بخلاف صيام أهل الكتاب، فصيام أهل الكتاب بعد انعقاد النية يحرم الطعام والشراب، لكن عليك أن تجدد نيتك ولا يضرك هذا.(14/16)
شرح صحيح مسلم - كتاب الصيام - نسخ قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية)
اختلف الصحابة ومن بعدهم في قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية) هل هي منسوخة بقوله: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه)؟ فمنهم من قال بالنسخ، ومنهم من قال بالتخصيص، وأنه لا يصار إلى النسخ مع إمكان الجمع بين الآيتين، ووجه الجمع: أن من شهد رمضان يجب عليه صومه، إلا الذين لا يطيقونه ولا يقوون على صيامه لعجز ومرض وسفر، أو مرضع أو حامل يشق عليها الصوم، فإن زال العذر فعليهم القضاء، أو الإطعام لمن لم يطق الصوم لكبر أو لمرض لا يرجى برؤه.(15/1)
باب نسخ قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) بقوله: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
هذا هو الباب الخامس والعشرون من كتاب الصيام، ولم تكن الدراسة بالترتيب؛ لأننا آثرنا أن نتناول الأبواب التي تخص صيام الفريضة، أما صيام النوافل فسنعود إليه إن شاء الله تعالى بعد رمضان.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب بيان نسخ قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184] بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185].
حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا بكر - يعني ابن مضر - عن عمرو بن الحارث عن بكير - ابن عبد الله الأشج - عن يزيد مولى سلمة عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: (لما نزلت هذه الآية: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184] كان من أراد أن يفطر ويفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها)] والتي بعدها: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185]، في أول الأمر كان من يجد شيئاً ولو يسيراً من المشقة في الصيام فله أن يفطر ويفتدي عن هذا اليوم بإطعام مسكين، فعلى هذا يترجح لدينا أن قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [البقرة:184] يعني: يقدرون على صيامه، ولكنهم يجدون في الصوم مشقة عظيمة أن يفطروا ويفدوا، وهذا التأويل هو تأويل سلمة بن الأكوع وغيره من الصحابة، والمذهب عند أهل العلم أن من روى حديثاً عن النبي عليه الصلاة والسلام وفسره فتفسيره أولى من تفسير غيره، لأن الراوي أدرى وأعلم بمراد النبي عليه الصلاة والسلام من هذا الحديث، أما معنى الآية: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة:184] أي: يطيقون صيام شهر رمضان.
{فِدْيَةٌ} [البقرة:184] فغير مستقيم؛ لأن الذي يفطر هو الذي يفدي لا الذي صام وأطاق الصيام، فإما أن تكون الآية: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة:184] أي: يعجزون تماماً عن صيامه، وإما على الذين يطيقونه بمشقة عظيمة جداً، فالله عز وجل شرع لهم الفطر في مقابل الفدية، هذا في أول الأمر، ولكن حكم هذه المسألة نسخ بقول الله عز وجل: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185].
وستأتي الروايات معنا في البيان أن الصيام في أول الأمر كان لمن أراد، لكن الذي لا يصوم عليه أن يفدي.
قال: [حدثني عمرو بن سواد العامري أخبرنا عبد الله بن وهب أخبرنا عمرو بن الحارث عن بكير بن عبد الله الأشج عن يزيد مولى سلمة بن الأكوع عن مولاه سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أنه قال: (كنا في رمضان)] وقوله: (كنا في رمضان) ليبين أن هذه الآية إنما هي متعلقة بصيام الفرض لا بصيام التطوع.
قال: [(كنا في رمضان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من شاء صام، ومن شاء أفطر فافتدى بطعام مسكين)] يعني: حدث هذا في العهد النبوي، فلو حدث بعد العهد النبوي لقلنا بأن الأمر فيه نزاع أو فيه خلاف، فإذا نسب الأمر الشرعي لزمن النبوة ارتفع الخلاف؛ لأن الحاكم والآمر والناهي فيه هو النبي عليه الصلاة والسلام، إذاً فلا نزاع معه، فحكمه هو الحكم، وقضاؤه هو القضاء المبرم صلى الله عليه وسلم.
فقوله: (على عهد النبي عليه الصلاة والسلام) يعني: في عهد النبوة.
وقوله: (من شاء صام) أي: في رمضان وفي حضرة النبي عليه الصلاة والسلام.
وقوله: (ومن شاء أفطر فافتدى بإطعام مسكين) يعني: كان الصيام في أول الأمر لمن يريد، والذي لا يريد أن يصوم عليه الفدية، والفدية إطعام مسكين واحد في كل يوم.
ثم قال: [(حتى أنزلت هذه الآية: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185])] يعني: كانت المسألة اختيارية إلى أن نزل قول الله عز وجل: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] أي: فمن حضر منكم شهر رمضان ومن أدركه وهو حي مكلف عاقل فليصمه، وهذا أمر، والأمر في الكتاب والسنة يدل على الوجوب.
إذاً: صيام شهر رمضان حين نزول قول الله عز وجل: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [الب(15/2)
ذكر الإمام النووي لأقوال العلماء في قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية)
قال النووي عليه رحمة الله عند هذا الحديث: (قال القاضي عياض: اختلف السلف في الأولى -أي: في الآية الأولى- هل هي محكمة أو مخصوصة أو منسوخة؟) (هل هي محكمة) بمعنى: أنها لا تحتمل إلا مذهباً واحداً، أو هي مخصوصة من عموم قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185]، هذا كلام عام لكل الناس إلا المريض والعاجز، وبالتالي فتصير هذه الآية مخصوصة من عموم، أم أنها منسوخة؟ وإذا كانت منسوخة فهل كلها منسوخة أم بعضها منسوخ والبعض الآخر غير منسوخ؟ ونحن نعلم أن المحكم غير المتشابه وغير المخصوص وغير المنسوخ، فالمنسوخ هو حكم سبق في الإسلام عليه العمل، ثم أتى أمر آخر بعد ذلك وأبطل العمل بالدليل الأول، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (وإني أنهاكم عن زيارة القبور).
فتبين بهذا الحديث أن زيارة القبور إما محرمة أو مكروهة حسب النهي، هل هو للتحريم أو للكراهة؟ ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إلا إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها؛ فإنها تذكر الآخرة) فقوله عليه الصلاة والسلام: (ألا فزوروها فإنها تذكر الآخرة) ناسخ لقوله: (وإني أنهاكم عن زيارة القبور).
كان الحكم أولاً في زيارة القبور النهي المطلق للرجال والنساء على السواء، سواء كان النهي للتحريم أو للكراهة، ثم رخص النبي عليه الصلاة والسلام بعد ذلك في زيارة القبور وبين العلة من ذلك، وأن الزيارة للقبور تذكر الزائر آخرته وتذكره ربه، فهنا الصيام كان أولاً اختيارياً، حتى نزل قول الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] فقوله ((فَلْيَصُمْهُ)) أمر مؤكد بالفاء واللام، يعني: لا خيار له.
لكن هذه الآية ألا يمكن أن تكون مخصوصة؟ كما هو معلوم أنه لا يصار إلى النسخ إلا إذا استحال الجمع بين الدليلين والعمل بهما معاً، فهل أرد دليلاً بدليل، وأبطل عمل دليل بدليل آخر، أم أتأول للدليلين وأعمل بهما معاً؟ يقول العلماء: الإعمال خير من الإهمال، يعني: أن تعمل بالدليلين معاً خير من أن تعمل بواحد وترد الآخر.
إذاً: يمكن أن أقول: إن قول الله عز وجل: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة:184] أي: يجدون مشقة في الصيام.
{فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184] غير منسوخ، أما قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] فأقول: هذا كلام عام، والآية الأولى مخصوصة من هذا العموم، يعني: كما تقول أنت لولدك: حذار أن تأخذ من جيبي مائة جنيه إلا جنيهاً واحداً، فلو أنك توقفت عند تحذيرك الأول قبل الاستثناء: حذار أن تأخذ من جيبي مائة جنيه لشمل الجنيه الواحد أيضاً من باب أولى، لكن قوله: (إلا جنيهاً) هذا استثناء من المائة، فمعنى ذلك: أنه يجوز لك أن تأخذ جنيهاً ولا يجوز لك أن تأخذ أكثر من ذلك، فهذا استثناء وخصوص من عموم النهي، فلك أن تقول في قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] ليصم جميع من حضر رمضان، إلا الذين لا يطيقونه ولا يقوون عليه إلا بمشقة وبذل الطاقة والجهد المضني فلهم أن يفطروا؛ لأن هذا الجهد المضني إما أن يكون عن عجز وشيخوخة وكبر سن ومرض وسفر، فكل هؤلاء رخص لهم الشارع بأدلة أخرى تخصهم بالفطر، وعليهم الفدية.
فالله عز وجل رخص لمن كان على سفر أن يفطر، ومن كان مريضاً، ومن كان عاجزاً عن الصيام لكبر سن، لشيخوخة، لمرض، لحمل، لرضاع، لولادة لغير ذلك من الأعذار المشروعة أن يفطر، وهذا هو قول عبد الله بن عمر وابن عباس وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم، فهؤلاء قالوا: نحن نخالف سلمة بن الأكوع، وسلمة بن الأكوع رغم مكانته العظيمة جداً بين أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام إلا أنه ليس في الفقه كـ عبد الله بن عباس وكـ عبد الله بن عمر فهما أفقه منه، وكذلك خالفه أبو هريرة رضي الله عنه، مع أن أبا هريرة لم يسلم إلا قبل موت النبي عليه الصلاة والسلام بأربع سنوات فقط، أو ثلاث سنوات وسبعة أشهر، إلا أن أبا هريرة حصل له الحظ العظيم جداً من العلم والفقه، وشاع اسمه وانتشر علمه في الآفاق وفي الأقطار؛ لأن أبا هريرة مكث في المدينة حتى احتاج الناس إلى علمه، وتصدر بأمر الولاة والأمراء في دولة بني أمية للإفتاء والتدريس والتحديث وغير ذلك.
فهذا أبو هريرة رضي الله عنه يخالف سلمة بن الأكوع، وكذلك عبد الله بن عمر مع جلالته وإمامته يخالف سلمة بن الأكوع، وناهيك عن مخالفة ابن عباس رضي الله عنه الذي دعا له النبي عليه الصلاة والسلام بالفقه والتأويل، قال: ((15/3)
باب قضاء رمضان في شعبان
قال: [باب قضاء رمضان في شعبان] يعني: من فاته رمضان أو شيء من رمضان متى يقضيه؟ هل يلزمه القضاء على الفور والتو بمجرد أن ينتهي رمضان، أم على التراخي؟ مذهب الجمهور أن قضاء الأيام التي أفطرها المسلم في رمضان تجب على التراخي؛ بدليل أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي عليه الصلاة والسلام كانت تقضي ما فاتها من رمضان في شعبان.
قال: [حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس حدثنا زهير - وهو ابن معاوية بن حديج - حدثني يحيى بن سعيد - وهو الأنصاري - عن أبي سلمة -وهو ابن عبد الرحمن بن عوف قال: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: (كان يكون علي الصوم من رمضان، فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان، الشغل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو برسول الله صلى الله عليه وسلم)] يعني: يمنعني انشغالي وخدمتي، ويعني: تجهيزها نفسها وتعرضها للنبي عليه الصلاة والسلام لعله يريدها أو يرغبها أو يواقعها، فالذي كان يمنعها أن تقضي ما فاتها من رمضان هو انشغالها بخدمة النبي عليه الصلاة والسلام.
وربما أرادها النبي عليه الصلاة والسلام فقالت له: إني صائمة، فأصابه من ذلك ضيق أو شيء من هذا، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تصوم نافلة وزوجها شاهد إلا بإذنه) يعني: أن المرأة لا تصوم صيام التطوع إلا بعد إذن زوجها.
انظر عظمة الإسلام، كيف رتب هذا الحق العظيم جداً على المرأة للرجل، وهو ألا تصوم التطوع -والصوم عبادة وهو حق لله عز وجل- إلا إذا استأذنت زوجها وهو عبد من العباد، يعني: هذا الحق لله عز وجل، والله تعالى ونبيه عليه الصلاة والسلام شرعا ألا تصوم المرأة وألا تتعبد إلى الله بهذه العبادة إلا بعد إذن زوجها.
أي عظمة تبلغ هذا في أي ملة أو في أي دين ألا تصوم المرأة إلا بعد إذنك أنت أيها الزوج؛ لأن حقك ورغبتك في وقاع المرأة وجماعها في النهار أعظم من أن تتقرب هي بهذا الحق وبهذا الصيام إلى الله عز وجل، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، لكنه لا سجود لأحد في الإسلام) أي: لا سجود لأحد إلا لله عز وجل، ولكن لو كان هناك سجود لكان أولى الناس بالسجود أن تسجد المرأة لزوجها، ثم يبين النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لعظم حقه عليها).
فلا بد أن تعلم كل امرأة أن حق زوجها عليها مقدم على حق أبيها وأمها وجميع محارمها، بل ومقدم على حقوق جميع الخلق إلا النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا تعارض حق الزوج مع حق الرسول عليه الصلاة والسلام، قدم حق الرسول عليه الصلاة والسلام.
إذاً: حق الزوج مقدم، فإذا أمر الرجل امرأته بأمر وأمرها أبوها بأمر، فليقدم أمر الزوج، إلا أن تكون المرأة في بيت أبيها قبل العقد أو بعده قبل البناء، فيقدم أمر أبيها على أمر زوجها.
قال: [حدثنا إسحاق بن إبراهيم - وهو المعروف بـ ابن راهويه المروزي أبو محمد - أخبرنا بشر بن عمر الزهراني حدثني سليمان بن بلال حدثنا يحيى بن سعيد بهذا الإسناد غير أنه قال: (وذلك لمكان رسول الله)] يعني بدلاً من قولها: (وذلك الشغل برسول الله) قالت: (وذلك لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم).
قال: [وحدثنيه محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق] وهو ابن همام الصنعاني اليمني إمام اليمن في زمانه، وهو شيخ أحمد بن حنبل وشيخ علي بن المديني، وهو شيخ المشايخ من أئمة الدين وعلماء الجرح والتعديل.
وكان أحمد بن حنبل يعرف قدر عبد الرزاق؛ لأن عبد الرزاق كان علماً، والله عز وجل يبث في هذه الأمة أعلاماً، يبلغون في فنونهم درجة الإمامة دون أن يحصلوا على شهادات، أو يتخرجوا من مدارس تمنحهم هذه الشهادات وهذه الإمامات، فالشيخ الألباني عليه رحمة الله خلف آلاف الطلاب والعلماء، لكن لم يبلغ واحد منهم درجة الإمامة كما بلغ الشيخ الألباني، يعني: أنت الآن عندما تسمع هذا الحديث صححه فلان وفلان وفلان، وتعد عشرين ثلاثين خمسين واحداً وكلهم من تلاميذ الشيخ الألباني وعلماء، فهؤلاء كلهم لا يأتون عند (صححه الألباني)؛ لأن الله تعالى غرس في قلبك إمامة هذا الرجل، فهذا في علمه وفنه وبابه إمام، وهذا لا يمنع أن تكون هذه الإمامة موجودة في غيره، ولكن لم تتهيأ قلوب الخلق لتقبل إمامة فلان وإنما تقبلت إمامة رجل آخر، وكذلك الذي يقال في شيخنا الألباني يقال في الشيخ ابن باز، والشيخ(15/4)
أقوال العلماء في قضاء الصوم الواجب على الفور أو التراخي
ومذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وجماهير السلف والخلف: أن قضاء رمضان في حق من أفطر بعذر كحيض وسفر يجب على التراخي وتستحب المبادرة به، بخلاف داود قال: تجب المبادرة به في أول يوم من بعد العيد، وهذه الأحاديث ترد عليه.
والقول بعدم وجوب المبادرة بصوم القضاء؛ لأن الوقت موسع، كما لو أن شخصاً فاتته جماعة الإمام في صلاة المغرب، وبين المغرب والعشاء ساعة ونصف، فهل يلزمه لزوماً شرعياً أكيداً أن يصلي في أول الوقت؟ لا يلزمه؛ لأنه لا زال الوقت موسعاً، لكن لو افترضنا أن صلاة المغرب هذه يستغرق المصلي فيها عشر دقائق، ولم يبق من الوقت إلا عشر دقائق فهنا ضاق الوقت، وفي هذه الحالة تجب عليه صلاة المغرب على الفور؛ لأن الوقت ضيق، وإنما تجب الصلاة عليه على التراخي في أول الوقت، لكن يستحب المبادرة.
وهذه مسألة أخرى تتعلق بالوقت الموسع والوقت المضيق، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله: لو قام رجل لصلاة الفجر متأخراً، ولم يبق بينه وبين طلوع الشمس إلا مقدار وقت لا يسمح له إلا بأحد أمرين: أن يغتسل فيخرج الوقت، أو يتيمم ويصلي ويدرك الوقت، ماذا يعمل؟ تعرض العلماء لمسائل في غاية الدقة، وتكلم ابن تيمية في هذه المسألة، يقول: في المسألة مذاهب، ولكل مذهب أدلته، ثم يعدد أربعة مذاهب في المسألة، ويذكر دليل كل مذهب، ثم يقول: والراجح عندي كيت بدليل كيت، يعني: أتى بمذهب خامس في المسألة، وذكر أدلة أخرى خفيت على أصحاب المذاهب الأربعة، وهذا شيء عجيب، كان ابن تيمية أمة وحده، لو أن الله تعالى ما خلق من علماء الأمة غير ابن تيمية وابن القيم لكفى، مع أن ابن تيمية في ميزان أحمد بن حنبل لا شيء، وابن تيمية وابن القيم في ميزان الشافعي لا شيء، لكن أنا أقول لك: لو لم يخلق الله تعالى إلا هذين الاثنين وبهذه المكانة والمنزلة من العلم لكفيا الأمة علماً واجتهاداً وإفتاءً وتدريساً إلى يوم القيامة، فما بالك والأمة غنية وثرية بعلمائها وطلاب علمها إلى يوم القيامة في كل زمان ومكان.
فـ ابن تيمية عليه رحمة الله يقول: يتيمم ويصلي حتى لا يخرج الوقت.
ولكن يبقى نزاع: هل يعيد هذه الصلاة بعد طلوع الشمس أم لا يعيدها بعد الاغتسال؟ فشيخ الإسلام ابن تيمية رجح أنه يتيمم ويصلي مع وجود الماء؛ لأن الذي منعه من استعمال الماء هو ضيق الوقت، لكن رجح ابن تيمية أيضاً أن يعيد الصلاة بعد الغسل بعد طلوع الشمس، وصلاته بالتيمم كان لإدراك الوقت، والحصول على الأجر.
لكن لو كان التيمم من أجل صلاة الجماعة فلا تلزم الجماعة حينئذ، بل يلزمه الغسل والصلاة منفرداً.
إذاً: يستحب المبادرة بقضاء صوم رمضان، فمذهب الجمهور أنه ليس واجباً عليه، لكن يستحب المبادرة به للاحتياط.
يقول رحمه الله: (فإن أخره - أي: فإن أخر الصوم - فالصحيح عند المحققين من الفقهاء وأهل الأصول: أنه يجب العزم على فعله) يعني: لو فاتتني صلاة المغرب مع الإمام وإن كان الوقت موسعاً معي، لكن يلزمني واجب آخر هو العزم على الصلاة، فيفرقون بين إتيان الصلاة والعزم عليها، فلو أنك حين أذن للمغرب توضأت وانطلقت إلى المسجد لتصلي مع الإمام فهذا إتيان للصلاة وليس عزماً عليها، لكن لو فاتته الجماعة، ففواتها ليس عذراً في عدم العزم عليها، فمن عزم وعقد قلبه على أن يصلي هذا الفرض الذي فاته فأدركه الموت لا يعد من تاركي الصلاة، فعزمك هذا يغني عنك بين يدي الله عز وجل.
ثم يقول رحمه الله تعالى: (وأجمعوا أنه لو مات قبل خروج شعبان لزمه الفدية في تركه عن كل يوم مد من الطعام، فأما من أفطر في رمضان بعذر، ثم اتصل عجزه فلم يتمكن من الصوم حتى مات، فلا صوم عليه) يعني: لو مرض شخص ومات قبل شعبان، فهذا الرجل إما أن يكون عازماً على الصيام من بعد رمضان الماضي أو غير عازم، فإن كان عازماً فلا إثم عليه؛ لأن وجوب القضاء عليه على التراخي، والشرع أذن له في أن يصوم على التراخي، يصوم في ربيع، أو في صفر، أو في رجب، أو في شعبان، أذن له الشرع في ذلك، فإذا أذن له الشرع أن يقضي ما عليه على التراخي، وعزم على أن يقضي ما فاته في رمضان في شعبان، لكنه مات قبل شعبان، فهل يعد مفرطاً في فرض من فروض الله عز وجل؟ لا، لا يعد مفرطاً.(15/5)
قضاء أيام رمضان لا يشترط فيه التتابع
والذي عليه صيام رمضان هل يجب أن يقضيه على التتابع، أم أن التفريق يجزئه؟ فمثلاً: فاتتني خمسة أيام من رمضان حيث كنت مسافراً فيها، فهل يلزمني أن أصوم هذه الأيام الخمسة على الفور أم هي على التراخي؟ هي على التراخي، فإذا كانت على التراخي فهل يلزمني أن أتابع بين هذه الأيام مثلما كنت أصومها في رمضان خمسة أيام مع بعض، أو يمكن تفرقة هذه الأيام؟ نقول صيام القضاء في الفريضة وصيام التطوع لا يلزم منه التتابع، بل التفريق يجزئ، وقوله عليه الصلاة والسلام: (من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال) هل يلزم صيام الست على التتابع؟ لا يلزم، وهذا مذهب الجمهور، وإن كان بعض أهل العلم يقول بوجوب ذلك على التتابع، والراجح هو مذهب الجمهور.(15/6)
حكم إفراد الجمعة والسبت بصيام
أما مسألة صيام الجمعة وحده فمكروه، وصيام السبت وحده أيضاً مكروه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن إفراد الجمعة بصيام، ونهى عن إفراد السبت بصيام، فقال: (لا تصوموا الجمعة إلا أن تصوموا معه يوماً قبله أو يوماً بعده).
وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تصوموا السبت إلا فيما افترض عليكم)، والحديث صححه شيخنا الألباني، وذهب إلى تحريم صيام السبت مطلقاً إلا في رمضان، وهذا المذهب قد خالف فيه شيخنا علماء الأمة، ولذلك لا نقول به، ومذهب الأمة وإجماعها عصمة، ونحن مع الأمة.(15/7)
باب قضاء الصوم عن الميت
قال: [باب قضاء الصوم عن الميت] يعني: إذا مات ميت هل يصام عنه؟ هذه المسألة محل نزاع بين العلماء، منهم من قال: يصام عنه الواجب ولا يصام عنه الفريضة، يعني: لو مات شخص وعليه صيام نذر، مع أن النذر مكروه في الإسلام، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه).
وقال: (إنما يستخرج بالنذر من البخيل) يقول: يا رب! لو نجحت ابني فسأذبح شاة، فهذا معناه: أنه إذا لم ينجح ابنه لم يذبح.
كان هناك شخص في بلدنا مرة نذر لله أن لو نجح ابنه فسيذبح شاة، فنجح ابنه، وقال لي: أنا نذرت أن أذبح شاة لو نجح ابني فنجح الولد، قلت له: وجب عليك الوفاء بالنذر، قال لي: لكن الولد لم يأتِ بمجموع كبير، قلت له: أنت لم تشترط على الله، فلو أنه قال: لله علي شاة إذا حصل ابني على (90%)، فإذا حصل ابنه على (89.
5%) لا يجب عليه النذر، بل يستحب، فالاشتراط على الله جائز، لأن النبي عليه الصلاة والسلام سألته امرأة في الإهلال، قال: (أهلي واشترطي، قالت: على من؟ قال: اشترطي على ربكِ، قالت: ماذا أقول يا رسول الله؟ قال: قولي: لبيك اللهم بعمرة، فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني) يعني: لو منعني أي مانع فسأتحلل من إحرامي ولا شيء علي، فهذا الاشتراط على الرب تبارك وتعالى، لكن لو جئت إلى مطار جدة وعلي ملابس الإحرام وقد أهللت بالحج، وقلت: لبيك اللهم بحجة، لكن لم أقل: فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، فيجب علي أن أذبح شاة.
أما لو اشترطت على ربي وحبسني حابس، فإن لي أن أقوم وأخلع ملابس الإحرام وألبس الملابس العادية وأرجع في الطائرة التي جئت فيها، وليس علي شاة في هذه الحالة؛ لأنني قلت: يا رب، إن منعني مانع فائذن لي أن أتحلل في المكان الذي منعني فيه المانع وحبسني فيه الحابس، ولا شيء عليَّ، يعني لا دم علي، لكن إذا لم أشترط فيجب علي دم يذبح لفقراء الحرم، لا تذبحه للسيد البدوي، ولا عند الحسين، لا يجزئك، لا بد أن يذبح بمكة ويوزع على فقرائها.(15/8)
شرح حديث: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه)
قال: [وحدثني هارون بن سعيد الأيلي وأحمد بن عيسى قالا: حدثنا ابن وهب أخبرنا عمرو بن الحارث عن عبيد الله بن أبي جعفر عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه)] يعني: الذي يموت وعليه صيام إما صيام رمضان أو صيام نذر واجب فالحق هذا يكلف به الولي، وهذا الولي إما أن يكون وارثاً أو عصبة، فهل يجوز لأجنبي أن يصوم عن الميت؟ يعني: أنت صديقي فمت وعليك خمسة أيام من رمضان، أو خمسة أيام نذر لله عز وجل، ففي هذه الحالة هل ينفع أن أصوم عنك وأبوك وأخوك وعمك وخالك والعصب والورثة كلهم موجودون؟ يجوز بشرط إذن الولي؛ لأن الحق هذا كلف به الولي.
(من مات وعليه صوم صام عنه وليه)، فإن استأذنه أحد الأجانب في قضاء هذا الصوم فأذن جاز وإلا فلا.(15/9)
شرح حديث المرأة التي أتت رسول الله تسأله عن أمها التي ماتت وعليها صوم شهر
قال: [وحدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا عيسى بن يونس حدثنا الأعمش -وهو سليمان بن مهران - عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، فقال: أرأيتِ لو كان عليها دين أكنتِ تقضينه؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق بالقضاء)] وهذا يبين لنا أن الصيام حق لله عز وجل، كما أن هناك حقوقاً مادية بين العباد، فهناك حقوق تترتب في ذمتك للعباد، وهذه لا يغفرها الله عز وجل إلا إذا غفرها العباد، ولذلك من شروط التوبة: أن يتحلل المسلم من ذنبه إذا كان الذنب بينه وبين العباد، بأن يدفع إليهم حقوقهم أو يستسمحهم أو يستعفيهم.
أما الذي هو حق لله عز وجل فإن الله تعالى إذا شاء عفا وإذا شاء عذب، أما حقوق العباد فيلزمك أن تستبرئ منها قبل ألا يكون دينار ولا درهم، وإنما هي الحسنات والسيئات، ولذلك سئل عليه الصلاة والسلام: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا يا رسول الله! من لا درهم له ولا دينار، قال: المفلس هو من أتى بصلاة وصيام وزكاة وحج وجهاد، ولكنه أتى وقد سب هذا وشتم هذا وسفك دم هذا وهتك عرض هذا، فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته أخذ هو من سيئاتهم، فطرحت عليه حتى طرح في النار)، هذا هو المفلس حقاً، المفلس في نظر الناس هو الذي ليس لديه فلوس، والمفلس عند الله عز وجل هو الذي أتى بكثير من الطاعات، لكنه قد تعدى على الناس ولم يتحلل منهم، والغني والثري والهنيء والسعيد من أتى بصلاة وصيام وزكاة، وتحلل من حقوق العباد في الدنيا، قبل أن يدفع ما أتى به من طاعة إليهم، في موقف لا يصلح فيه المال ولا البنون.(15/10)
شرح حديث الرجل الذي سأل النبي عن أمه التي ماتت وعليها صوم شهر
قال: [حدثني أحمد بن عمر الوكيعي حدثنا حسين بن علي عن زائدة -هو ابن قدامة - عن سليمان -وهو سليمان بن مهران الأعمش - عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم] في الحديث الأول جاءت امرأة، وهنا جاء رجل يسأل، يعني: تعدد الحوادث في المسألة الواحدة، وربما يكون الجواب على السؤال الواحد متعدداً حسب حال الشخص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كانت عنده حكمة عظيمة، فكان يأتي الرجل فيتفرس فيه النبي عليه الصلاة والسلام أنه عاق لوالديه، فيسأله الرجل: (يا رسول الله! أي الإسلام خير؟ فيقول: بر الوالدين) يعني: لديه قضية تحتاج إلى علاج.
ثم يأتي آخر ويقول: (يا رسول الله! أي الإسلام خير؟ فيقول: إيمان بالله)، فالسؤال واحد والجواب متعدد بتعدد حاجات السائلين ومصالح السائلين.
فهنا رجل يسأل ويقول: (يا رسول الله! إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ فقال: لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها؟ قال: نعم)] يعني: لو كان على أمك هذه دين لجارتها أتقضيه عنها أو لا؟ قال: نعم، قال: فتقديم حقوق الله أولى من حقوق العباد، وهذا قياس.
قال: [(لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها؟ قال: نعم، قال: فدين الله أحق أن يقضى)].(15/11)
شرح حديث المرأة التي قالت: يا رسول الله! (إن أمي ماتت وعليها صوم نذر)
ومن حديث ابن عباس أيضاً قال: [(جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن أمي ماتت وعليها صوم نذر)] يعني: هذه المرأة نذرت أن تصوم أياماً غير رمضان، ولم تنذر صيام رمضان؛ لأنه فرض، وصوم النذر يقل في الفرضية عن صوم رمضان.
قالت: [(أفأصوم عنها؟ قال: أرأيتِ لو كان على أمكِ دين فقضيتيه أكان يؤدي ذلك عنها؟ قالت: نعم، قال: فصومي عن أمك)] يعني: لو كان على أمكِ دين وقضيتيه عنها هل سيسقط الدين عن أمكِ أو لا يسقط؟ (قالت: نعم، قال: فصومي عن أمكِ).
إذاً: الصيام تجوز فيه النيابة، لكن النيابة الخاصة بالولي لا العامة، وكذلك الحج يجوز فيه النيابة، لكن الصلاة لا تصح فيها النيابة، فمذهب جماهير أهل العلم أن الصلاة ليس فيها نيابة، فلا ينفع أن تصلي عن غيرك لا عن الحي ولا عن الميت، وهناك كثير من الأبناء يقولون: هذا أبونا كبير وليس قادراً أن يصلي، وأيضاً فقد عقله وبدأ يخرف وليس عنده تركيز، ويتبول على نفسه، فنحن نصلي عن والدنا من باب البر، نقول: لا، لا تصلوا عنه؛ فهو إما أنه مكلف فيصلي على أي هيئة وعلى أي حال بإمكانه، وإما أنه غير مكلف، قد فقد عقله فالله عز وجل قد أسقط عنه الصلاة في هذه الحالة، والصلاة ليس فيها نيابة، إنما النيابة في الحج والصوم، وأنتم تعلمون الحديث الذي قال فيه رجل: (لبيك اللهم حجاً عن شبرمة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: من شبرمة؟ قال: جار لي، قال: أحججت عن نفسك؟ قال: لا، يا رسول الله) هذا الشخص لم يحج عن نفسه وذهب يحج عن جاره، انظروا إلى الصداقة الصافية الخالصة لله عز وجل، يقدم صاحبه على نفسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (حج عن نفسك أولاً، ثم حج عن شبرمة بعد ذلك).
وفي الحديث: (إن أبي لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: حج عنه).
يعني: لا يثبت على الجمل أو الحمار؛ لأنه عجز وكبر.
والمصريون لا يفكرون في الحج إلا بعد التقاعد بعشرين سنة، فإذا ذهب إلى الحج فيحتاج إلى أربعة أشخاص يحملونه ويطوفون به، وإذا قلت له: لماذا تأخرت؟ يقول: كنت أبني البيت، وكنت أزوج الأبناء والبنات، نقول لهذا وأمثاله: أنت لست مكلفاً بكل هذا، أنت مكلف بما فرضه الله عز وجل عليك أولاً، فما فضل فلأولادك، لا يصلح أن تقدم أولادك على نفسك، فهذه فريضة وأنت قد ملكت مالاً تؤدي به هذه الفريضة، فتكون قد وجبت في حقك وجوباً فورياً، وأخر زواج ابنك وبنتك سنة أو سنتين، كذلك أخر بناء البيت واسكن في أي بيت؛ لأن الفريضة أحق من هذا، ولذلك معظم الحجاج المصريين في السبعين والثمانين والتسعين سنة، كلهم بعكاكيز، والذي ليس بعكاز يستند على اثنين، بخلاف بقية الشعوب ترى الواحد منهم يذهب إلى المنسك هذا، ومن منى إلى عرفات عشرة كيلو يمشيها على رجليه، قد تركب السيارة من منى إلى عرفات، لكن للزحام الشديد جداً لا تتمكن من ركوب السيارة، فأنت حين تمشي في الصباح من منى إلى عرفات ولا زالت الشمس غير قوية، خير لك، كذلك تمشي من عرفات إلى المزدلفة بعد المغرب والجو أهدأ من الظهر، فأنت تأخذ العشرة كيلو على رجليك وأنت منشغل بهذا الجمع، تفكر: كيف لو أنه محشور بين يدي الله عز وجل، ويوم الحج يذكرك بيوم الحشر، وبخروج الناس جميعاً إلى الله عز وجل ليحاسبهم، ثم يلقي بعضهم في النار ولا يبالي، ويلقي بعضهم في الجنة ولا يبالي سبحانه وتعالى.
ومن حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: [(بينما أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتته امرأة فقالت: إني تصدقت على أمي بجارية، وإنها ماتت، فقال: وجب أجرك، وردها عليك الميراث)].
قولها: (إني تصدقت على أمي بجارية).
يعني: أعطت البنت جارية صدقة لأمها، فلما ماتت أمها دخلت الجارية ضمن الميراث، والبنت ترث أمها، فترث الجارية؛ لأنه يجوز أن يرث الواحد من صدقته، فمثلاً: أنت تعطي أمك ملابس وتعطيها ذهباً وغير ذلك، وكذلك تعطي أباك مالاً وإخوتك يعطونه معك، فيتكون عند الوالدين من الملابس والذهب والهدايا وغيرها، فمات الأب والأم، فكل ما لديهم يصبح ميراثاً، ولا يصلح أن يقول أخي: أنا أعطيت أبي وأمي كيت وكيت وكيت وهذا أعطاها كذا فكل واحد يأخذ الذي أعطاهما، لا، ما أعطيت لأمك أو لأبيك خرج من ملكك ودخل في ملكهما، فلما ماتت الأم كان ما خلفته ميراثاً لجميع الأبناء للذكر مثل حظ الأنثيين، وكذلك ما خلفه الأب.
لكن لو أن شخصاً تصدق بصدقة في سبيل الله عز وجل، ليس على أمه ولا على أبيه، تصدق بصدقة في سبيل الله عز وجل، كأن أوقف فرساً للجهاد في سبيل الله، فهل يجوز له أن يأخذه؟ ما يجوز، كذلك هل يجوز له أن يشتريه؟ أيضاً، لا؛ لأن عمر رضي الله عنه تصدق بفرس في سبيل الله، فرأى هذا الفرس يباع في السوق، فاستأذن عمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يشتريه فقال له النبي: ((15/12)
شرح صحيح مسلم - كتاب الصيام - فضل ليلة القدر والحث على طلبها والاعتكاف في رمضان
ليلة القدر فضلها عظيم، فهي خير من ألف شهر، ومن قامها إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن حرم خيرها فقد حرم، فحري بالمؤمن أن يجتهد في طلبها وإدراكها، وذلك بقيامها وشغل ساعاتها بالطاعات من صلاة وتلاوة قرآن وذكر ودعاء واستغفار وغير ذلك من الطاعات، وقد حرص عليها الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه حق الحرص، فكانوا يعتكفون العشر الأواخر من رمضان من أجل إدراكها، ولنا في رسول الله أسوة حسنة.(16/1)
باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها وبيان محلها وأرجى أوقات طلبها
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
سيكون الكلام في هذا الدرس عن ليلة القدر، والكلام في الأسبوع القادم - بإذن الله تعالى - سيكون عن الاعتكاف ومشروعيته ومكان الاعتكاف، وموطن البحث حينئذ سيكون عن موطن الاعتكاف؛ رداً لمن قال: إنه لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة، باعتبار أنها جزئية في غاية الأهمية، وأثارت جدلاً طويلاً في السنوات الأخيرة، فنجلي الأمر حينئذ بإذن الله تعالى.(16/2)
شرح حديث (إن رجالاً من أصحاب النبي أروا ليلة القدر في المنام)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها وبيان محلها وأرجى أوقات طلبها.
حدثنا يحيى بن يحيى - هو التميمي النيسابوري أبو زكريا - قال: قرأت على مالك - وهو مالك بن أنس الإمام المشهور - عن نافع - الفقيه - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (إن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام، في السبع الأواخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر)] يعني: أنا أرى أن رؤاكم قد تواطأت على أن ليلة القدر إنما تكون في السبع الأواخر من شهر رمضان.
فقوله: (فمن كان متحريها) أي: فمن كان يطلبها ويتحرى وقتها.
وقوله: (فليتحرها في السبع الأواخر) والنبي عليه الصلاة والسلام كان من عادته أنه إذا صلى الغداة يلتفت إلى أصحابه ويقول: من رأى منكم رؤيا البارحة، فيحدثه كل إنسان بما رأى، إن كان خيراً قصه عليه وأوله له النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا سكتوا قال النبي عليه الصلاة والسلام: وإني رأيت فيما يرى النائم في هذه الليلة كيت وكيت وكيت، فكان يقص عليهم ويقصون عليه، ويؤول لهم رؤياهم صلوات ربي وسلامه عليه، حتى قص عليهم قصصاً عجيبة فيما يتعلق بالجنة والنار، والجزاء والثواب والعقاب وغير ذلك مما هو معلوم لديكم.
وبين النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه: أن من رأى في منامه شيئاً يكرهه فلا يقصه على أحد، وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم، وليتفل عن يساره ثلاثاً، وليتحول عن مكانه، وربما قال: فليتوضأ، وليصل ركعتين، فهذا فيه العصمة من الكوابيس ومن الأحلام السيئة التي تقض مضجع صاحبها.(16/3)
من آداب الرؤيا
فمن الآداب الشرعية فيها: الأول: ألا يقصها على أحد.
الثاني: إذا استيقظ أن يتفل عن يساره ثلاثاً ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، والتفل هو بين البصق والنفخ، أي: يكون فيه شيء يسير من الريق.
الثالث: أن يتحول عن مكانه، يعني: يترك المكان الذي كان ينام فيه، وينام على جنبه الأيمن أيضاً؛ لأن هذا من آداب النوم، لكن إذا كان ينام في أول السرير فلينم في وسطه أو في آخره، والعكس بالعكس إذا كان هناك سريران، فيغير موضع الفراش وليتحول عن مكانه.
الرابع: أن يتوضأ ويصلي ركعتين، وإذا قام الرجل من نومه فصلى ركعتين وشهد لله تبارك وتعالى بالتوحيد الخالص، فإنه لا يدعو بدعوة في هذا الوقت إلا استجيبت له، كما قال عليه الصلاة والسلام: (من تعار من الليل -أي: من استيقظ من ليله- فقام فتوضأ وصلى ركعتين لم يحدث فيهما نفسه بشيء، ثم قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له -إلى آخر الدعاء ثم قال-: لم يدع بشيء إلا استجيب له)، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (فإذا فعلت ذلك، فإنها إن شاء الله لا تضرك) يعني: إذا التزمت هذه الآداب الشرعية فإن هذه الرؤيا إن شاء الله لا تضرك، فكم من أناس يرون في منامهم شيئاً يكرهونه فيقض مضجعهم، بل ويتأرقون أشد الأرق، يظنون أن هذا واقع بهم ولا محالة، فينتظرون هذا البلاء وهذا الشر وإن طالت مدة انتظارهم، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا فعلت هذا) أي: إذا حافظت على هذه الآداب، (فإنها إن شاء الله لا تضرك)، يبشرك عليه الصلاة والسلام.
إذاً: كان من عادته صلى الله عليه وسلم أنه يقول لأصحابه بعد صلاة الصبح: (من رأى منكم البارحة شيئاً) فتصوروا أن الصحابة في ذلك الوقت حين توجه هذا السؤال إليهم قالوا: (يا رسول الله! إنا رأينا ليلة القدر، ومحلها في السبع الأواخر من شهر رمضان، فقال عليه الصلاة والسلام: إني أرى رؤياكم قد تواطأت) يعني: هذه المنامات وهذه الرؤى قد اتفقت على أنها في السبع الأواخر من رمضان.
قال: (فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر) يعني: من رمضان.(16/4)
شرح حديث: (أرى رؤياكم في العشر الأواخر، فاطلبوها في الوتر منها)
قال: [وحدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تحروا ليلة القدر في السبع الأواخر).
وحدثني عمرو الناقد وزهير بن حرب قال زهير: حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن سالم -وهو ابن عبد الله بن عمر - عن أبيه - وهو عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما قال: (رأى رجل أن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أرى رؤياكم في العشر الأواخر، فاطلبوها في الوتر منها)].
أما فقوله: (أرى رؤياكم في العشر الأواخر) يعني: لما رأى هذا الرجل ليلة القدر في ليلة السابع والعشرين أراد الرسول عليه الصلاة والسلام أن يؤكد على مجموع الرؤى لا على رؤية هذا الرجل؛ لأن جل الصحابة الذين أخبروا برؤاهم أخبروا أنها في السبع الأواخر، بخلاف رجل واحد فإنه قال: إني رأيتها في ليلة السابع والعشرين، وإلا فمعظم رؤى الصحابة إنما كانت في العشر الأواخر.
وقوله: (فاطلبوها في الوتر منها) أي: في الليالي الوترية، ليلة الحادي والعشرين، والثالث، والخامس، والسابع، والتاسع والعشرين.
فهذه الليالي هي مناط ومحل ليلة القدر.
أما كون النبي عليه الصلاة والسلام يعلم ليلة القدر، أو يعلم اسم الله الأعظم، أو يعلم ساعة الإجابة في يوم الجمعة أو غير ذلك، وأخفى ذلك على هذه الأمة، فإنما هذا الإخفاء كان لمصلحة عظيمة جداً، وهي أن يتحرى الناس العبادة، ويجتهدوا فيها في معظم هذه الأوقات؛ لأنك لو علمت يقيناً أن الساعة التي يجاب فيها الدعاء في يوم الجمعة هي ساعة كذا بالتحديد، لانقطعت في هذه الساعة للعبادة والدعاء والذكر والتسبيح، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام عمّى ذلك على الأمة فقال: (إن في الجمعة لساعة ما يدعو فيها أحد إلا استجيب له).
ولذلك اختلف العلماء في تحديد هذه الساعة، فمنهم من قال: هي في الصباح، ومن قال: هي في المساء، ومن قال: هي قبيل المغرب، ومن قال: في ساعة الجمعة، ومن قال: بين يدي الإمام وهو يخطب، وكل هذا إنما هو لمصلحة الأمة، وهي أن تجتهد في الدعاء والذكر والتسبيح والصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام في هذا اليوم من أوله إلى آخره.
كذلك أخفى النبي عليه الصلاة والسلام علينا اسم الله الأعظم؛ حتى نجتهد في دعاء الله عز وجل بجميع أسمائه الحسنى وصفاته العلى، كما أمرنا تعالى بقوله: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] أي: ادعوه بجميع الأسماء، فلو أننا علمنا اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب لما دعوناه إلا بهذا الاسم فقط، فإخفاء هذا الاسم فيه مصلحة عظيمة جداً.
كذلك لو أننا علمنا يقيناً ليلة القدر في رمضان لما صلينا ولا تعبدنا ولا ذكرنا ولا سبحنا الله تعالى بشيء إلا في هذه الليلة؛ لأنها ليلة هي خير من ألف شهر، فربما محت ذنوب سنين طويلة، فأنا وأنت قد نكتفي بالعبادة في هذه الليلة، فكان من المصلحة أن يخفى علينا محل هذه الليلة من بين الليالي؛ حتى يكون محل الاجتهاد واسعاً مدة عشر ليال على الصحيح.(16/5)
شرح حديث ابن عمر (فالتمسوها في العشر الغوابر)
قال: [وحدثني حرملة بن يحيى أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب أخبرني سالم بن عبد الله بن عمر أن أباه رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لليلة القدر: إن ناساً منكم قد أروا أنها في السبع الأول، وأري ناس منكم أنها في السبع الغوابر، فالتمسوها في العشر الغوابر)] (الغوابر) هي البواقي والأواخر، فالغابر هو الشيء المتأخر، أو الشيء الباقي، وكلمة (الغوابر) في اللغة من كلمات الأضداد، يقال: فلان غبر أي: فلان مضى وانتهى، وفلان غبر أي: مات، وفلان غبر أي: تأخر، وفلان غبر أي: تقدم.
فكلمة (غبر) في اللغة من كلمات الأضداد، تطلق على الشيء وضده، تطلق على الأول وعلى الآخر، وعلى المتقدم وعلى المتأخر، فلما ذكرت هنا في مقابلة الأول فلا بد أنها تدل على الأواخر.
فقوله: (إن ناساً منكم قد أروا أنها في السبع الأول) اختلف العلماء في السبع الأول، هل هي السبع الأول من العشر الأواخر، أو السبع الأول من أول شهر رمضان؟ فهناك ناس رأوا في منامهم، والرؤى والأحلام لا ينبني عليها اعتقاد ولا أحكام، وإنما هي مبشرات.
وقوله: (وأري ناس منكم) أي: ورأى أناس آخرون منكم.
وقوله: (أنها في السبع الغوابر) أي: في السبع البواقي من الشهر.
وقوله: (فالتمسوها في العشر الغوابر) أي: فالتمسوها في العشر الأواخر والغوابر من شهر رمضان.(16/6)
شرح حديث: (التمسوها في العشر الأواخر، فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي)
قال: [وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا محمد بن جعفر] محمد بن المثنى العنزي البصري الملقب بـ الزمن، ومحمد بن جعفر الملقب بـ غندر.
قال: [حدثنا شعبة] وشعبة هو شيخ محمد بن جعفر، بل إن شعبة تزوج بأم محمد بن جعفر، فيكون محمد بن جعفر تربى في حجره ورضع من علمه.
قال: [عن عقبة - وهو ابن حريث - قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فالتمسوها في العشر الأواخر، فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي)]، كأن النبي عليه الصلاة والسلام قال ذلك في ليلة الثالث والعشرين، ولم يبق من الشهر إلا سبع ليال، وكأنه قال: فإن عجز أحدكم أو ضعف عن الاجتهاد في العبادة في اليومين أو في الليلتين الماضيتين، فلا أقل من أن يجتهد في السبع البواقي.(16/7)
شرح حديث: (تحينوا ليلة القدر في العشر الأواخر، أو قال: في التسع الأواخر)
قال: [وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن جبلة قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كان ملتمسها فليلتمسها في العشر الأواخر).
وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا علي بن مسهر عن الشيباني -وهو أبو إسحاق الشيباني - عن جبلة ومحارب كلاهما عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تحينوا ليلة القدر في العشر الأواخر، أو قال: في التسع الأواخر)].
فقوله: (تحينوا).
أي: اطلبوها وتحروها في وقتها، ووقتها في العشر الأواخر، أو في التسع الأواخر، وذكر العشر خرج مخرج الغالب وليس المقصود حقيقة العشر؛ لأن الليالي الفردية لا تنتهي إلا بليلة التاسع والعشرين، حتى وإن كان رمضان ثلاثين يوماً، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما من أيام العمل الصالح فيها أفضل عند الله عز وجل من العشر الأوائل من ذي الحجة) مع أن المقصود التسعة؛ لأن اليوم العاشر عيد، ولكنه كلام خرج مخرج الغالب، يعني: التسعة تقرب إلى العشرة، وكذلك التسع في رمضان تقرب إلى العشر، فليس المقصود حقيقة العشر وإنما المقصود التسع.(16/8)
شرح حديث: (أُريت ليلة القدر ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها فالتمسوها، في العشر الغوابر)
قال: [حدثنا أبو الطاهر وحرملة بن يحيى التجيبي - وكلاهما مصري - قالا: أخبرنا ابن وهب - وهو مصري - عن يونس - وهو ابن يزيد الأيلي - عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أُريت ليلة القدر)] هنا الرؤية تمت للنبي عليه الصلاة والسلام نفسه، والصحابة رأوها واختلفوا فيها، فمنهم من رآها ليلة السابع والعشرين، ومنهم من رآها في السبع الأوائل، ومنهم من رآها في السبع الأواخر، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين هذا كله وقال: (التمسوها في العشر، أو في التسع) ثم تأتي رؤية النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [(أُريت ليلة القدر، ثم أيقظني بعض أهلي فَنُسِّيتُها، فالتمسوها في العشر الغوابر)] أي: البواقي من الشهر.
أحياناً أنت ترى رؤيا جميلة وتفرح معها، وتشعر بأن روحك تحلق في السماء السابعة، ثم تفاجأ بمن يوقظك فتقوم، فربما من فرط همك وغمك تشعر أن هذا الخير قد انقضى عنك، وتنسى ما كنت فيه من خير، فالنبي عليه الصلاة والسلام قد رأى ليلة القدر في منامه ليس حقيقة، فكأنه أراد أن يجمع عليه أمره حتى يحدث بها، فإذا ببعض نسائه قد أيقظته عليه الصلاة والسلام، فقام ناسياً لتحديد وتعيين تلك الليلة.
قال: [وقال حرملة: (فَنَسِيتُها)] يعني: في رواية: (فَنُسِّيتُها) ورواية: (فَنَسِيتُها) وهذا يدل على جواز أن يقول القائل: أُنسيت كذا أو نَسيت كذا، كلاهما جائز، لأن بعض أهل العلم قالوا: لا ينبغي أن يقول المرء: أنا نسيت كذا؛ هذا خطأ لا يوافق اللغة ولا الشرع، وإنما الموافق للغة والشرع أن تقول: أُنسيتها أو نُسِّيتُها، وقد جاء في حديث عند البخاري: (أن النبي عليه الصلاة والسلام سمع رجلاً يقرأ آية من كتاب الله أو يقرأ قرآناً، فقال: رحمه الله قد أذكرني آية كنت قد أنسيتها) يعني: غابت عنه عليه الصلاة والسلام، لكن الراجح من أقوال أهل العلم: أن لفظ أُنسيتها أولى من نَسِيتها، لكن هذا لا يعني أنها رواية شاذة أو منكرة أو لا تصح لغة ولا اصطلاحاً، وإنما نُسِّيت ونَسِيت بمعنى واحد، والقائلون بالأولى أخذوا هذا من قول الله عز وجل: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ} [الكهف:63] يعني: لو أنك رددته إلى أصله لكان نَسِي غير نُسِّي، فقالوا: النسيان من الشيطان، وهذا تأويل فيه تكلف، خاصة وقد ثبت هذا المصطلح.(16/9)
شرح حديث أبي سعيد الخدري في اعتكاف النبي العشر الأواسط من رمضان برواية قتيبة بن سعيد
قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد - وهو الثقفي - حدثنا بكر بن مضر عن ابن الهاد -وهو يزيد بن عبد الله بن الهاد، هكذا المحدثون يقولون: ابن الهاد، واللغويون يثبتون الياء: ابن الهادي، وهم أولى بهذا من المحدثين -عن محمد بن إبراهيم - وهو التيمي - عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه - وهو من صغار الصحابة اسمه سعد بن مالك بن سنان رضي الله عنه - قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور -يعني: يعتكف- في العشر التي في وسط الشهر، فإذا كان من حين تمضي عشرون ليلة، ويستقبل إحدى وعشرين يرجع إلى مسكنه)] يعني: أنه كان يعتكف عشرة أيام فقط، وهي التي في وسط الشهر، وهذا يدل على أن الاعتكاف إنما شرع مؤخراً ولم يشرع أولاً؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام اعتكف العشر الأوائل وخرج من معتكفه، واعتكف العشر الوسطى وخرج من معتكفه، ثم اعتكف العشر الغوابر، واستقر على ذلك حتى وفاته عليه الصلاة والسلام.
قال: [(ورجع من كان يجاور معه)] يعني: ورجع من اعتكافه من كان قد اعتكف معه في العشر الوسطى، وخرج منه بخروج النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [(ثم إنه أقام في شهر، جاور فيه تلك الليلة التي كان يرجع فيها، فخطب الناس، فأمرهم بما شاء الله، ثم قال: إني كنت أجاور هذه العشر -يعني: كنت أعتكف هذه العشر الوسطى- ثم بدا لي أن أجاور هذه العشر الأواخر)] يعني: رأيت أن أعتكف هذه العشر الأواخر.
قال: [(فمن كان اعتكف معي فليبت في معتكفه)] يعني: من اعتكف معي العشر الوسطى وأراد أن يواصل معي الاعتكاف فلا يخرج من معتكفه، لكن ليبت في معتكفه وليثبت وليمكث فيه.
قال: [(وقد رأيت هذه الليلة فأنسيتها -أي: ليلة القدر- فالتمسوها في العشر الأواخر في كل وتر -أي: في كل ليلة وترية- وقد رأيتني أسجد في ماء وطين)] يعني: أنا رأيت ليلة القدر، ورأيت من علاماتها وأماراتها في هذه الليلة أني أسجد لصلاة الفجر في ماء وطين، وهذه العلامة الماء والطين ليست في كل عام إلى يوم القيامة، بل رمضان يأتي أحياناً برمته من أوله إلى آخره في عز الحر حيث لا مطر ولا طين، وربما يأتي رمضان في عز المطر فيأتي من أوله إلى آخره والمطر ينزل في كل وقت من الليل والنهار.
إذاً: فليست هذه العلامة صالحة لكل زمان ومكان، وإنما هذه العلامة صالحة لهذه الليلة من هذا العام من هذا الشهر، في حين رؤية النبي عليه الصلاة والسلام ليلة القدر حينئذ.
قال: [قال أبو سعيد: مطرنا ليلة إحدى وعشرين]، يبين أبو سعيد الخدري راوي الحديث أن هذه الليلة التي رأى فيها النبي عليه الصلاة والسلام ليلة القدر هي ليلة إحدى وعشرين.
قال: [(فوكف المسجد في مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)] (وكف) بمعنى: قطر ماءً حتى ابتلت الأرض، وكان مسجده عليه الصلاة والسلام مسقوفاً بجريد النخل، كان مسجداً متواضعاً؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن زخرفة المساجد، وبين أن زخرفتها من علامات الساعة، قال: (لا تحمروا ولا تصفروا في المساجد) فنهى عن زخرفتها وزركشتها والمباهاة بها، وبين أن ذلك من أشراط الساعة وعلاماتها، وقد وقع الناس فيما حذر منه النبي عليه الصلاة والسلام.
وكل مسجد بني على البساطة واهتم أهله بالدعوة إلى الله عز وجل كانت ثماره طيبة، وشجرته طيبة، أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، أما الذين انشغلوا بزخرفة المساجد وبنائها على أحدث طراز من الخارج والداخل، فقلَّ أن تكون في هذه المساجد دعوة إلى الله عز وجل.
والواقع يشهد بهذا، فكم من مساجد كلفت ملايين مملينة، وكم من مساجد أشقت شعوبها، يعني: حرموا الشعوب وأنفقوا هذه الأموال الوقفية على بناء المساجد وزخرفتها، وربما كلفت ميزانية مسجد واحد فقط ما يكفي لتزويج آلاف الشباب أو حجهم أو عمرتهم، أو قضاء مصالح عامة في الأمة.
فمسجد النبي عليه الصلاة والسلام كان مسقوفاً بجريد النخل، فلا يكاد المطر يسقط على سقف المسجد إلا وينزل مباشرة إلى الأرض، فيختلط بالرمل والتراب فيحدث من ذلك ما يسمى بالطين.
قال: [(فنظرت إليه وقد انصرف من صلاة الصبح -أي: فنظرت إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقد انصرف من صلاة الصبح- ووجهه مبتل طيناً وماءً)] إذاً: تحققت رؤيا النبي عليه الصلاة والسلام حيث قال: (إني رأيت ليلة القدر، ورأيت أني أسجد في ماء وطين) أي: بعد أن انتهت ليلة القدر وأقامها وأحياها بالذكر والصلاة وغير ذلك، وهذه الليلة ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قامها وأحياها حتى الصباح، ويسمى قيام الليل بذلك؛ لأن المرء يقوم جل الليل ومعظمه، وقلّ أن يصدق ذل(16/10)
حكم ملامسة الجبهة للأرض عند السجود
وهذا كلام محمول على أن هذا الطين أو هذا التراب كان شيئاً يسيراً لا يمنع من تمكن الجبهة من الأرض والتماسها بالأرض؛ لأن هذا فرض في السجود؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم، وذكر منها: الجبهة) والإجماع على أن الأنف تابع لها، فالذي يصلي على جبهته وقد غرز طاقيته أو قلنسوته أو عمامته في جبهته حتى بلغت حاجبه هذا على خطر عظيم جداً، فإن كان يفعل ذلك متعمداً بطلت صلاته، وإن كان يفعله جاهلاً فلا شيء عليه حتى يتعلم ويعلم، فيرجع إلى ما أمر به النبي عليه الصلاة والسلام: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: الجبهة، واليدين، والركبتين، والقدمين) هذه سبعة.
وربما قال قائل: ولم الجبهة بالذات مع أن الواحد يمكن أن يصلي ويسجد على الركبتين وهي مغطاة، وكذلك يصلي في الجورب ويصلي في الخف ويصلي في النعل، نقول: إجماع أهل العلم أن الأصل في الجبهة الكشف لا التغطية، ولذلك أوجبوا أن تمس الجبهة الأرض، أو يمس منها شيء يتحقق به لغة مس الجبهة للأرض.
فالإنسان الذي ينزل طاقيته إلى حد حواجبه إذا دخل في الصلاة فليرفع هذا الساتر حتى تمس جبهته الأرض والتراب، والشيعة عليهم من الله ما يستحقون يفعلون غير هذا؛ لأن الشيعة لهم دين يتدينون به غير دين الإسلام، وغير دين أهل السنة والجماعة في كل شيء، إلا شيئاً يسيراً، الشيعة يسجدون على حجارة، وعندهم مصانع لهذه الحجارة، كان في الأول يسجدون على بلطة، فلما انتهى البلط تقريباً؛ لأنهم يأخذن البلط من ماء وطين معين من كربلاء، فلما انتهى البلط الذي في كربلاء أنشئوا مصانع لصنع حجارة معينة، على اعتبار أن هذه الحجارة مربعة وفيها مكان مريح للجبهة، وتجد الإقبال الكبير من الشيعة على شراء هذه الحجارة، مما جعلهم يطالبون المصنع بأن يكثر من إنتاج هذه الحجارة، حتى يحصل كل الشيعة على هذه الحجارة، فهم يعتقدون أن الصلاة غير صحيحة إلا على هذه الحجارة، ودخلت مسجداً ذات مرة سنة (1974م) فوقع في يدي كتاب من كتب الشيعة، وكان ثمرة سيئة من ثمرات عدم تلقي العلم على أيدي المشايخ، وقع في يدي كتاب اسمه: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) وحينها لم يكن عندي علم لا عن الشيعة ولا عن السنة، وفيه: أن الصلاة لا بد أن تكون على الأرض وعلى الحجارة، فاتخذت حجارة للصلاة عليها، وأنا في سنة (1974م) كنت في أول ثانوي، فدخلت المسجد في مدينة المنصورة فأخرجت الحجر من جيبي ووضعته لأسجد عليه، فكان هناك واحد بجانبي فلما رأى الحجر قال: أنت شيعي، قلت له: نعم والحمد لله، فقال لي: لماذا تصلي هنا؟ قلت: أصلي يا أخي في بيت ربنا، ودخل الإمام في الصلاة وكاد أن يركع وما زلنا نتجادل مع بعض فتركني ودخل في الصلاة وأنا دخلت، وكان كلما جئت لأسجد على الحجارة أخرها الأخ بيده، وبعد الصلاة قلت له: أنت جاهل، قال لي: لا، أنت الجاهل، والظاهر أنك شيعي ولا تعرف، فقلت له: خذ هذا الكتاب واقرأ فيه حتى تعلم ما فيه، فقال لي: تعال فأتى الإمام وقال له: هذا الأخ معه حجارة يسجد عليها، فكلمني الإمام بطريقة فيها عجرفة وعنجهية، فتمسكت بما أنا عليه، ورميتهم كلهم بالجهل والإلحاد وترك السنة ومعاداة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن كل هذا الكلام كان موجوداً في الكتاب، وأخذت الكتاب ومشيت، ثم صليت في مسجد في قرية مجاورة لنا، فجئت لأخرج الحجارة من الجيب فلم أجدها، فتحسرت وندمت، فلما جئت لأسجد رفعت طرف السجادة حتى أسجد على البلاط، فقال لي الرجل الذي كان بجانبي: لماذا تعمل هكذا؟ قلت له: السنة السجود على الأرض مباشرة، قال لي: هذا عمل الشيعة، وهم ليسوا من أهل السنة، قلت: وما يدريك أنت؟ قال: كنت في العراق والشيعة يفعلون هذا، أما أهل السنة فلا يفعلون ذلك، فوقعت كلماته في قلبي أبرد من الماء البارد في اليوم الحار، فقلت له: سأراجع نفسي، فقال: راجع نفسك، فذهبت من المنصورة إلى القاهرة ودخلت على شيخنا وإمامنا الكبير الشيخ كشك رحمه الله بعد صلاة الجمعة، فلما وصلت إليه قلت له: يا شيخ! الموضوع كيت وكيت وكيت وكيت، قال لي: هذا ضلال مبين، هذا مذهب الشيعة عليهم لعنة الله، وظل يسبهم، فبقيت سنة كاملة أتردد بين المنصورة والقاهرة؛ من أجل أن أصلي وراء الشيخ كشك يوم الجمعة، فقد كان صاحب فضل علي بعد ذلك الرجل الفلاح الذي لا يعرف شيئاً، ولا حتى يحسن أن يكتب اسمه، حتى تعرفوا أن الواحد قد يتلقى علمه ممن هو دونه.(16/11)
شرح حديث أبي سعيد الخدري في اعتكاف النبي العشر الأواسط من رمضان برواية ابن أبي عمر
قال: [حدثنا ابن أبي عمر قال: حدثنا عبد العزيز الدراوردي عن يزيد -هو ابن الهاد - عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في رمضان العشر التي في وسط الشهر) وساق الحديث بمثله غير أنه قال: (فليثبت في معتكفه)] قال في الرواية الأولى: (فليبت في معتكفه) وفي هذه الرواية قال: من يريد أن يقعد معنا فليثبت في معتكفه في العشر الأواخر.
قال: [غير أنه قال: (فليثبت في معتكفه.
وقال: وجبينه ممتلئاً طيناً وماءً)] الجبين: هو طرف الجبهة، وللإنسان جبينان، الجبين الأيمن والجبين الأيسر، والذي في المقدمة هو الجبهة، ولا تعارض بين قوله في الرواية الأولى: (ووجهه مبتل طيناً وماءً) يعني: فيه شيء يسير لا يؤثر على التصاق الجبهة بالأرض، أما قوله: (وجبينه ممتلئاً طيناً وماءً) والجبينان هما جانبا الجبهة، ولا بأس أن يمتلئ الجبين طيناً وماءً، لكنه لا يمنع من التصاق الجبهة بالأرض؛ لأن هناك فرقاً بين الجبين وبين الجبهة، فإذا امتلأ الجبين طيناً فلا مانع أن تكون الجبهة بلا طين.(16/12)
شرح حديث أبي سعيد الخدري في وقوع ليلة القدر ليلة إحدى وعشرين في زمن النبي
قال: [حدثني محمد بن عبد الأعلى قال: حدثني المعتمر - وهو ابن سليمان التيمي - حدثنا عمارة بن غزية الأنصاري قال: سمعت محمد بن إبراهيم يحدث عن أبي سلمة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر الأوسط في قبة تركية -يعني: قبة صغيرة من صوف أو من خيش- على سدتها حصير -يعني: الباب من حصير وهو الخوص- قال: فأخذ الحصير بيده فنحاها في ناحية القبة)] يعني: أخذ هذه السدة وجعلها في ناحية من هذه القبة أو المكان الذي خصه للمعتكف.
وفي هذا جواز أن يتخذ المعتكف لنفسه قبة ومكاناً خاصاً يعتكف فيه، لا يدخل عليه فيه أحد.
قال: [(ثم أطلع رأسه فكلم الناس)]، بعدما نحى الباب الذي من الحصير أخرج رأسه من الباب فكلم الناس.
قال: [(فدنوا منه -أي: اقتربوا منه- فقال: إني اعتكفت العشر الأول ألتمس هذه الليلة)] أي: أنه ظن أن هذه الليلة في العشر الأول قبل أن يخبر أنها في العشر الأواخر.
قال: [(ثم اعتكفت العشر الأوسط)] أي: أيضاً التماساً لهذه الليلة.
قال: [(ثم أُتيت فقيل لي)] أي: أتاني ملك أو رأى ذلك رؤيا.
قال: [(فقيل لي: إنها في العشر الأواخر)]، والغالب أن الذي أتاه إنما هو جبريل عليه السلام؛ لأنه كان يأتيه بالوحي.
قال: [(فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف، فاعتكف الناس معه)].
وهذا يدل على أن الاعتكاف للاستحباب.
قال: [(قال: وإني أريتها ليلة وتر)].
أي: رأيتها في المنام أو فيما يرى النائم وأنها في ليلة وترية.
قال: [(وأني أسجد صبيحتها في طين وماء)] يعني: في أثناء الصلاة.
وكون ليلة القدر في ليلة وترية هذا عام إلى قيام الساعة، لكن في هذه الليلة بالذات ومن هذا العام الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول ستمطر السماء، وسيبتل المسجد، وسنصلي الصبح في الطين والماء.
قال: [(فأصبح من ليلة إحدى وعشرين)].
قوله: (فأصبح) أي: فصلى صبيحة ليلة واحد وعشرين في طين وماء.
قال: [(وقد قام إلى الصبح -أي: إلى صلاة الصبح- فمطرت السماء، فوكف المسجد)] أي: فنزل المطر من سقف المسجد إلى الأرض.
قال: [(فأبصرت الطين والماء -هذا كلام أبي سعيد - فخرج حين فرغ من صلاة الصبح وجبينه وروثة أنفه فيهما الطين والماء -يعني: طرف أنفه التي هي الأرنبة- وإذا هي ليلة إحدى وعشرين من العشر الأواخر)].
قال: [حدثنا محمد بن المثنى حدثنا أبو عامر - وهو العقدي - حدثنا هشام عن يحيى - وهو ابن أبي كثير - عن أبي سلمة قال: (تذاكرنا ليلة القدر)] يعني: تسامرنا وجعل كل منا يحدث أخاه عن ليلة القدر وعن فضلها وعن محلها وعن وقتها وشرفها وغير ذلك.
قال: [(فأتيت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه وكان لي صديقاً)] أبو سعيد الخدري سعد بن مالك بن سنان الخدري المدني كان صديقاً لـ أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف.
قال: [(فقلت: ألا تخرج بنا إلى النخل؟ -أي: إلى البساتين والمزارع- فخرج وعليه خميصة، فقلت له: سمعت يا أبا سعيد! رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر ليلة القدر؟ فقال: نعم، اعتكفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الوسطى من رمضان، فخرجنا صبيحة عشرين، فخطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أريت ليلة القدر وإني نَسيتها أو أُنسيتها، فالتمسوها في العشر الأواخر من كل وتر، وإني أريت أني أسجد في ماء وطين، فمن كان اعتكف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فليرجع، قال: فرجعنا وما نرى في السماء قزعة -يعني: قطعة من سحاب- وجاءت سحابة فمطرنا حتى سال سقف المسجد، وكان من جريد النخل، وأقيمت الصلاة -أي: صلاة الفجر- فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد في الماء والطين، قال: حتى رأيت أثر الطين في جبهته) وحدثنا عبد بن حميد أخبرنا عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليمني أخبرنا معمر بن راشد البصري اليمني.
(ح) وحدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي - الإمام المصنف - أخبرنا أبو المغيرة حدثنا الأوزاعي] عالم الشام، ليس هناك في زمانه في الشام أفضل منه، وكان مجاهداً، وقد واجه الحجاج بن يوسف الثقفي فوعظه وأغلظ له في الوعظ حتى بكى الحجاج.
قال: [كلاهما عن يحيى بن أبي كثير بهذا الإسناد نحوه، وفي حديث(16/13)
شرح حديث أبي سعيد في التماس ليلة القدر في الليلة الخامسة أو السابعة أو التاسعة والعشرين
قال: [حدثنا محمد بن المثنى وأبو بكر بن خلاد قال: حدثنا عبد الأعلى حدثنا سعيد -هو ابن أبي عروبة - عن أبي نضرة -هو المنذر بن مالك بن قُطَعَة - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الأوسط من رمضان يلتمس ليلة القدر قبل أن تُبان له)] يعني: قبل أن يخبر ويأتيه الوحي بأنها في العشر الأواخر.
قال: [(فلما انقضين -أي: فلما مرت هذه العشر الأوسط- أمر بالبناء فقوض)] يعني: لما انتهت هذه العشر الأوسط أمر بهذه الخيمة فنزعت وأزيلت.
قال: [(ثم أبينت له أنها في العشر الأواخر فأمر بالبناء فأعيد)] أي: لما أخبر بليلة القدر أمر بالخيمة فأعيد تركيبها وبناؤها مرة أخرى.
قال: [(ثم خرج على الناس فقال: يا أيها الناس! إنها كانت أبينت لي ليلة القدر، وإني خرجت لأخبركم بها، فجاء رجلان يحتقان معهما الشيطان فَنُسِّيتُها)] يعني: أنا رأيت في ليلة الحادي والعشرين أن ليلة القدر ليست في العشر الأوسط من الشهر وإنما هي في الأواخر منه، وربما رآها تحديداً في ليلة بعينها، وقام من نومه وأتى أصحابه ليخبرهم بميعاد هذه الليلة من ذلك العام، وليست هذه الليلة متعينة في كل عام.
قوله: (فجاء رجلان يحتقان معهما الشيطان) فتحاقا أو تخاصما أو تلاحيا كلها بمعنى واحد، والمعنى: أن كل واحد منهما يدعي أن له حقاً عند صاحبه، ويطالب صاحبه بالحق الذي عنده، وكان معهما الشيطان، فلما رأى ذلك النبي عليه الصلاة والسلام نسي ما كان سيحدث به أصحابه، وهذا يدل على أن الخصومة والملاحاة سبب للعذاب والشقاء، وسبب لرفع الخيرات وجلب المضرات.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام في رواية أخرى: (وإني خرجت لأخبركم بليلة القدر، غير أني رأيت رجلين منكما قد تخاصما فرفعت) فهل معنى (رفعت) نسيتها أو أُنسيتها، أم أنها رفعت هذه الليلة وتحولت إلى ليلة أخرى؟ على خلاف بين أهل العلم، وهذا يدل على أن الخصومة والملاحاة والخلافات سبب لمحق البركات وجلب المضرات.
قال: [(فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان، التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة)] يعني: التمسوها في التاسعة والعشرين والسابعة والعشرين والخامسة والعشرين، مع أنه كان حقه أن يقول: التمسوها في الخامسة والسابعة والتاسعة؛ للترتيب، ولكنه أتى من الآخر قال: (التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة)، ولذلك لم يتفطن أحد من أهل العلم إلى هذه الأعداد إلا ابن تيمية عليه رحمة الله، فقال كلاماً جميلاً سأذكره.
ومبدأ الحساب للمجتهد المطلق أمر لازم، وإلا كيف سيتعامل مع الأعداد والأرقام الموجودة في الكتاب والسنة؟ لا بد أن يكون فقيهاً بمادة الحساب والرياضة، ولذلك الإمام السيوطي عليه رحمة الله ادعى أنه مجتهد مطلق، وأراد أن يصنع لنفسه مذهباً يخالف فيه مذهب إمامه؛ لأنه كان شافعي المذهب، فخالفه في ثمان عشرة مسألة فقط، فرأى أن العملية ما تستأهل مذهباً منفرداً؛ لأنه كان يفكر بنفس الطريقة التي كان يفكر بها الشافعي والشافعية، فكيف يخالفهم والمنهج الفكري واحد، والأصول واحدة؟ الشاهد: أن الإمام السيوطي ظن أو ترجح لدى نفسه أنه يحق له أن يكون مجتهداً مطلقاً، لأنه بلغ في العلم شأناً عظيماً جداً، وكان كعبه عالياً في العلم، خاصة فيما يتعلق بالعلوم الحديثية، وكان ذا شأن عظيم، لكن الإمام السخاوي كان يعيش معه في عصر واحد، فلم يكن السيوطي يصنف كتاباً إلا ويرد عليه السخاوي والعكس بالعكس، والسيوطي له أكثر من ألف ومائتي مصنف، وقيل: ألفا مصنف، ما ترك باباً من أبواب العلم إلا وصنف فيه مؤلفاً: أدب، لغة، حديث، فقه، تفسير، ما ترك شيئاً إلا وصنف فيه كتباً وصار إماماً فيه، فقال له السخاوي: أنت قلت: إنك مجتهد مطلق كيف ذلك وأنت تجهل الحساب، هذه المادة الوحيدة التي لم يكن يفقه السيوطي فيها شيئاً، والحساب من ألزم العلوم لعلم المواريث وغيره من المسائل الشرعية التي تحتاج إلى الحساب والرياضة، فـ السيوطي ليس عنده استعداد أن يستوعب مسألة واحدة في الحساب، فـ السخاوي قال له: أنت لست مجتهداً مطلقاً، فيرد السيوطي على السخاوي، وذلك عندما ألّف السخاوي كتاباً اسمه: (ألف سيخ في عين من حرم الفتيخ) والفتيخ هو حديد، وكان السيوطي يحرم الفتيخ، فرد عليه بكتاب اسمه: (الفتيخ في عين من أحل الفتيخ) وكل واحد يأتي بأدلته، ودار بينهما من المهاترات والمناظرات الشيء الكثير جداً، وقد ذكر السخاوي طرفاً عظيماً جداً في(16/14)
شرح حديث عبد الله بن أنيس في وقوع ليلة القدر ليلة ثلاث وعشرين في زمن النبي
قال: [عن عبد الله بن أنيس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أريت ليلة القدر ثم أنسيتها، وأراني صبحها أسجد في ماء وطين، قال: فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين)] قبل ذلك قال: ليلة واحد وعشرين، وهذا يدل على أن الليلة متنقلة.
قال: [(فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانصرف وإن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه.
قال: وكان عبد الله بن أنيس يقول: ثلاث وعشرين)] أي: في عام آخر؛ لأنها لا ترى في السنة مرتين وإنما مرة واحدة، لكن اختلاف الروايات يدل على اختلاف السنوات.
قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا ابن نمير ووكيع عن هشام عن أبيه عن عائشة] هشام هو هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها.
[قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (التمسوا -وفي رواية- تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان)].(16/15)
شرح حديث أبي بن كعب في كون ليلة القدر ليلة سبع وعشرين
قال: [وحدثنا محمد بن حاتم وابن أبي عمر كلاهما عن ابن عيينة قال ابن حاتم: حدثنا سفيان بن عيينة عن عبدة وعاصم بن أبي النجود سمعا زر بن حبيش يقول: (سألت أبي بن كعب رضي الله عنه فقلت: إن أخاك ابن مسعود يقول: من يقم الحول يصب ليلة القدر)] يعني: الذي سيصلي العام كله سيدرك ليلة القدر، وهذا مذهب خاص لـ ابن مسعود فقد كان يرى أن ليلة القدر في رمضان وفي غير رمضان، وأن من قام الحول كله لا بد له من إصابة ليلة القدر.
قال: [(فقال: رحمه الله، أراد ألا يتكل الناس)] انظر إلى الأدب من أبي بن كعب مع ابن مسعود، حيث قال: رحم الله أخي ابن مسعود، ثم بين بأدب شديد جداً خطأ ابن مسعود بعد أن دعا له بالرحمة ووجد له مخرجاً وعذراً بقوله: (أراد ألا يتكل الناس) يعني: هو أراد أن تجتهدوا في العبادة في جميع السنة، لم يجعلها في العشر الأواخر، ولا في رمضان، بل في السنة كلها.
قال: [(أما إنه قد علم أنها في رمضان)] يعني: أبي بن كعب أثبت أن ابن مسعود يعلم أنها في رمضان، ولكنه قال لكم خلاف ما يعلم؛ حتى لا تتكلوا، وهذا من فقه الدعوة.
قال: [(وأنها في العشر الأواخر، وأنها ليلة سبع وعشرين)] يعني: مذهب أبي بن كعب أنها على التعيين من كل عام ليلة سبع وعشرين، وكان يقسم على ذلك ولا يستثني، يقول: أقسم بالله العظيم أو أحلف بالله غير حانث ولا مستثن أنها ليلة السابع والعشرين فيما مضى؛ لأنها لو كانت فيما بقي لكانت في أول الشهر يوم اثنين أو ثلاثة.
وهذا يدل على أن العالم لا يلزمه أن يفتي بكل ما يعلم؛ لأنه لا بد وأن ينظر في مصلحة المستفتي، أحياناً يأتيك الرجل فيقول لك: أنا قلت لامرأتي: عليها الطلاق، قد تقول: وقع الطلاق، والطلاق لم يقع، وهذا اللفظ عند بعض أهل العلم يقع به الطلاق، وعند الجمهور طلاق ضمني، يعني: إذا نوى به الطلاق وقع، وإذا لم ينو لم يقع، يقول لك: أنا لم أنو، هذه زوجة وعشرة سنين وعيال وأكل وشرب وملابس فكيف أنوي؟ لم أنو والله، فإن كان من أهل العلم أو طالب علم مؤدب محترم وصاحب دين وعلم ووقع في مثل هذا تقول له: لا شيء عليك ولا حرج، عليك كفارة يمين؛ لأن هذا صاحب دين وتحرٍ، ويعلم أن نساء المؤمنين ليس بالأمر الهين، وخراب البيوت ليس بالأمر الهين، بخلاف من قد جثم الشيطان على صدره بالليل والنهار، فمثل هذا يخوف، وسار جماهير أهل العلم قديماً وحديثاً أنه ليس بلازم أن يفتي الرجل المستفتي بما هو حق في الشرع، بل يمكن أن يتجاوزه لمصلحة المستفتي، استناداً إلى المصلحة الخاصة للمستفتي، وأنه لا يضره بالفتوى؛ لأنه ليس كل العلم ينفع الناس، فمن العلم ما يفتنهم ويضرهم ويضلهم، ولذلك قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟.
ويقول ابن مسعود: ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة.
مع أنه دين وعلم وأدلة، لكن لا تبلغ لهذه الأدلة عقول الخلق، فينبغي أن يخاطبوا على قدر عقولهم؛ حتى لا يكذبوا الله تعالى ورسوله.
إذاً: فالأصل أن يتفرس المفتي في وجه المستفتي، وألا يعطيه من العلم إلا ما ينفعه، أقل منه لا، زيادة عنه لا، أقل منه يجعله يفرط، وأكثر منه يضله ويشقيه.
قال: [(ثم حلف - أي أبي - لا يستثني - أي لا يقول: إن شاء الله - أنها ليلة سبع وعشرين، فقلت: بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر؟ -وهذه كنية أبي - قال: بالعلامة أو بالآية التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تطلع يومئذ لا شعاع لها)]، لم يذكر العلامة وهي الشمس؛ لبيانها وعدم الحاجة إلى ذكرها، فالشمس تطلع في ذلك اليوم لا شعاع لها، نحن في هذا الوقت عندما ننظر إلى الشمس وهي في جهة المشرق عند طلوعها نرى أشعة مثل الحبال والخطوط تخرج من الشمس إلينا، ففي ليلة القدر تمتاز عن بقية الليالي فيما يتعلق بعلامتها وأمارتها في صبيحة تلك الليلة، وهي أن الشمس تخرج في صبيحة ليلة القدر بيضاء نقية لا شعاع لها صافية، من ينظر إليها يسعد جداً بنظره إليها، بخلاف غيرها من الأيام، فإنك لا تطيق النظر إليها كثيراً؛ لأنه يؤذيك شعاعها، لكن في هذا اليوم بالذات تخرج بلا شعاع.
إذاً: هذه إحدى الأمارات والعلامات على أن الليلة الماضية والمنصرمة كانت ليلة القدر.
قال: [وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال: سمعت عبدة بن أبي لبابة يحدث عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب رضي ال(16/16)
شرح صحيح مسلم - كتاب الإمارة - الناس تبع لقريش والخلافة في قريش
بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس تبع لقريش في الجاهلية والإسلام، وأن الخلافة العامة في قريش، وهذا أمر أجمع عليه أهل السنة والجماعة، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيلي أمر المسلمين اثنا عشر خليفة كلهم من قريش يكون على أيديهم عز الإسلام ونصرة راية الحق، وقد اختلف العلماء في الزمان المحدد لهؤلاء الخلفاء على أقوال عدة.(17/1)
باب الناس تبع لقريش، والخلافة في قريش
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستغفره ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
قال رحمه الله: (باب: الناس تبع لقريش، والخلافة في قريش) الناس تبع لقريش في الخير والشر، والإمارة والإمامة، والإمام الأعظم -أي: الخليفة العام- من قريش.(17/2)
شرح حديث أبي هريرة: (الناس تبع لقريش)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب وقتيبة بن سعيد قالا: حدثنا المغيرة -يعنيان: الحزامي] أي: أنه المغيرة بن عبد الرحمن المدني نزيل عسقلان، ولقبه قصي [ح وحدثنا زهير بن حرب - أبو خيثمة النسائي نزيل بغداد- وعمرو الناقد المصري قالا: حدثنا سفيان بن عيينة كلاهما -أي: المغيرة بن عبد الرحمن الحزامي وسفيان بن عيينة - عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي حديث زهير: يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم].
أي: في طريق الأعرج قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي حديث زهير قال أبو هريرة: يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم.
ومعنى يبلغ به: بعد طبقة الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهو يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
كذلك معنى قول الراوي عن الصاحب: يرفعه.
أي: يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
فمعنى يبلغ به ويرفعه: أن هذا القائل لهذا الكلام هو النبي صلى الله عليه وسلم، فإما أن يقول التابعي: قال الصاحب: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم.
أو: قال النبي صلى الله عليه وسلم.
أو: أبلغ إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
أو يبلغ إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
أو يرفعه.
كله في معنى واحد، وهو أن القائل لهذا الكلام هو النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: [وقال عمرو -أي عمرو الناقد - رواية] معنى رواية: رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أي: يبلغ به أو يرفعه، والمعنى واحد.
[قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الناس تبع لقريش في هذا الشأن)] أي: أتباع لقريش في شأن الإمارة أو الخلافة [(مسلمهم لمسلمهم وكافرهم لكافرهم)] أي: أن الناس في إيمانهم وإسلامهم وفي كفرهم تبع لقريش.
ولو نظرت في أيام الجاهلية قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم لعلمت أن الناس في هذه الحالة من الكفر كانوا أتباعاً لقريش، وأن قريشاً كانت تسود العرب وتقودها مع كفرها وضلالها، فهذا يدل على أن قريشاً كانت رأساً في الضلال قبل البعثة، وكذلك هي رأس في الخير بعد الإسلام وبعد فتح مكة.
قال: [(الناس تبع لقريش في هذا الشأن مسلمهم لمسلمهم وكافرهم لكافرهم)] أي: المسلمون تبع لقريش في الإسلام، والكفار تبع لقريش في الكفر.
قال: [وحدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر] وهو معمر بن راشد البصري نزيل اليمن يروي عن همام بن منبه أو ابن منبه كلاهما سواء، [قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر أحاديث منها]، هذه الأحاديث تسمى صحيفة همام عن أبي هريرة وهي حوالي (142) حديثاً يرويها همام عن أبي هريرة، لم يقل فيها همّام باستمرار: حدثنا أبو هريرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول كذا وإنما قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: كيت وكيت وكيت حتى عد (142) حديثاً تسمى الصحيفة، أخرجها الإمام أحمد بن حنبل في الجزء الثاني من مسنده، وهو الجزء الذي يشمل رواية أبي هريرة رضي الله عنه.
قال: [فذكر أحاديث منها: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الناس تبع لقريش في هذا الشأن مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم)].(17/3)
شرح حديث جابر: (الناس تبع لقريش في الخير والشر)
قال: [وحدثني يحيى بن حبيب الحارثي حدثنا روح -وهو روح بن عبادة البصري - حدثنا ابن جريج] وهو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج وهو مدلّس، ونحن نعلم أن المدلّس إذا لم يصرّح بالسماع توقفنا في قبول حديثه، فهو هنا صرّح بالسماع، كما أن شيخه أبو الزبير المكي محمد بن مسلم بن تدرس مدلّس كذلك، ولكنه قد صرّح بالسماع من جابر بن عبد الله الأنصاري فانتفت عنهما شبهة التدليس؛ لأن المدلّس إذا صرّح بالسماع وإذا قال: سمعت فلاناً، أو حدثني فلان، أو أخبرني، أو أنبأني تنتفي عنه فوراً شبهة التدليس؛ لأن المدلّس ليس كاذباً، وإنما هو يوهم المستمع أو القارئ أنه سمع ولم يسمع، فهو يقع في الوهم، وإن كان يربطه بالكذب على القائل، لكنه ليس كذّاباً كذباً صريحاً.
قال [ابن جريج: حدثني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الناس تبع لقريش في الخير والشر).(17/4)
شرح حديث ابن عمر: (لا يزال هذا الأمر في قريش)
قال: [وحدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس] وأحياناً يقول مسلم: حدثنا أحمد بن يونس، وينسبه إلى جده لكثرة ملازمته لجده ويسقط من النسب أباه، حتى إذا أردت أن تبحث عن ترجمة أحمد بن عبد الله بن يونس تكون أنت عالماً بنسب الرجل، ولو كنت لا تعلم أن أحمد بن حنبل اسمه أحمد بن محمد بن حنبل لا بد أنك ستحتار في البحث عن ترجمته، وكثير من الناس يذهب إلى كتب التراجم ليفتّش عن ترجمة راو بعينه، مشهور بنسبته إلى جده مثلاً كـ أحمد بن محمد بن حنبل، فيبحث في باب أحمد بن حنبل، فلا يجد في الرواة من يسمى أحمد بن حنبل، فيظن أن هذا الكتاب لم يشتمل على ترجمة الإمام، فيقول: فبحثت في كتاب التقريب أو التهذيب أو الكمال أو غير ذلك من كتب الرجال فما وجدت ذكراً له.
وفي الحقيقة هو مذكور في كل هذه الكتب، ولكن بهذا الاسم الثلاثي أحمد بن محمد أي: اسم الآباء في باب الميم، ولكنه ذهب ليبحث عن ترجمته في باب الحاء في اسم الأب أحمد بن حنبل، فلم يجد له ذكراً في هذا الموطن، فكذلك الذي يبحث عن ترجمة أحمد بن عبد الله بن يونس يبحث عن هذا الاسم الثلاثي.
وربما يكون الحافظ ابن حجر في كتاب التقريب أو التهذيب علم أن هذا موطن يخطئ فيه كثير من الناس، فيقول في باب الياء بالنسبة للأب أحمد بن يونس تجده قد سبق في أحمد بن عبد الله بن يونس، فإذا قال ذلك فقد أراحك، وإلا فقد حدث هذا معي منذ سنوات فيما يسمى بـ عبد الله بن منيع، فأنا بحثت عنه بهذا الاسم وإذا به اسم طويل جداً، وفي آخره منيع، وما دلني على ذلك إلا شيخنا الفاضل رحمة الله تعالى عليه الشيخ عبد المحسن العباس، وهو أستاذ الحديث في الجامعة الإسلامية، وله كتب في المصطلح كثيرة.
قال: [وحدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس حدثنا عاصم بن محمد بن زيد عن أبيه قال: قال عبد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال هذا الأمر في قريش -أي: الإمارة- ما بقي من الناس اثنان)] وهذا يدل على أن الإمارة والخلافة في قريش إلى يوم القيامة، وربما يدخل في هؤلاء الخلفاء المهدي المنتظر؛ لأنه آخر الخلفاء على الإطلاق، وهو قرشي من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، بل من أولاد فاطمة رضي الله عنها، واسمه يواطئ اسم النبي صلى الله عليه وسلم، واسم أبيه يواطئ اسم أبي النبي صلى الله عليه وسلم.
أي: اسمه محمد بن عبد الله القرشي، فلا يأتك بعد هذا صعيدي أو منوفي فيقول: أنا المهدي المنتظر.
لا بد من معرفة أصله: هل هو قرشي أم لا؟ ولا يمنع أن يكون القرشي منوفياً -وإن كانت هذه عجيبة من العجائب- فلو أنه انتقل من قريش إلى منوف أو إلى الصعيد فلا بأس أن تكون الأسرة هاجرت وهو منها، وهذا تقدير الله عز وجل حتى يعم الأمر، فيظهر فجأة ومرة واحدة، فإن عيسى بن مريم عليه السلام بشّر بنبي يأتي من بعده اسمه أحمد، فلما تسمى محمد عليه السلام بهذا الاسم، خفي على الناس أن محمداً كأحمد، وكان أول من تسمى في الدنيا باسم أحمد هو نبينا صلى الله عليه وسلم، فقال الشانئون: إنما بشّر عيسى عليه السلام برجل اسمه أحمد ولم يقل: محمد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحى به الذنوب، وأنا الحاشر وأنا العاقب) أي: الذي يُحشر الناس على قدميه عليه الصلاة والسلام أو بين يديه صلى الله عليه وسلم، فهذه أسماؤه الخمسة، وله أسماء أخرى قد ذكرناها من قبل ومرت بنا.(17/5)
شرح حديث جابر بن سمرة: (لا ينتهي هذا الأمر حتى يكون على الناس اثنا عشر خليفة)
قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جرير -وهو ابن عبد الحميد الضبي الكوفي عن حصين - حصين بن عبد الرحمن الكوفي - عن جابر بن سمرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول.
(ح) وحدثنا رفاعة بن الهيثم الواسطي -واللفظ له- حدثنا خالد -يعني ابن عبد الله الطحان]، الواسطي، وواسط هي قرية بالعراق من أعمال الحجاج بن يوسف الثقفي عليه من الله ما يستحق.
قال: [عن حصين عن جابر بن سمرة قال: دخلت مع أبي على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: (إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة -أي: لا ينتهي هذا الأمر حتى يكون على الناس اثنا عشر خليفة- ثم تكلم بكلام خفي علي فقلت لأبي: ما قال؟ قال: كلهم من قريش)] هذه الكلمة لم يسمعها جابر، وفي هذا إثبات أن جابراً وأباه صحابيان.
قال جابر بن سمرة: دخلت مع أبي على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول كلاماً وخفي علي بعض كلامه، فسألت عنه قال: (كلهم من قريش).
قال: [حدثنا ابن أبي عمر] وهو محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني اليمني انتقل إلى مكة واستوطنها، وتتلمذ على يد سفيان بن عيينة.
قال: [حدثنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يزال أمر الناس ماضياً وقائماً ومستمراً ما وليهم اثنا عشر رجلاً، ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة خفيت علي فسألت أبي: ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: كلهم من قريش)] أي: هؤلاء الاثنا عشر خليفة كلهم من قريش.
قال: [وحدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا أبو عوانة عن سماك بن جابر بن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث ولم يذكر: (لا يزال أمر الناس ماضياً)].
قال: [وحدثنا هداب بن خالد الأزدي -وقيل: هدبة - حدثنا حماد بن سلمة عن سماك بن حرب قال: سمعت جابر بن سمرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة -أي: أن الإسلام عزيز في ظل اثني عشر خليفة من قريش- ثم قال كلمة لم أفهمها فقلت لأبي: ما قال؟ قال: كلهم من قريش).
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية محمد بن خازم الضرير عن داود -وهو ابن أبي هند - عن الشعبي -وهو عامر بن شراحيل بفتح الشين- عن جابر بن سمرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال هذا الأمر عزيزاً إلى اثني عشر خليفة، ثم تكلم بشيء لم أفهمه فقلت لأبي: ما قال؟ قال: كلهم من قريش).
(ح) حدثنا نصر بن علي الجهضمي حدثنا يزيد بن زريع -إمام البصرة، أثنى عليه الإمام أحمد بن حنبل أعظم ثناء- حدثنا ابن عون.
(ح) وحدثنا أحمد بن عثمان النوفلي -واللفظ له- حدثنا أزهر حدثنا ابن عون عن الشعبي عن جابر بن سمرة قال: (انطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعي أبي فسمعته يقول: لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة، فقال كلمة صمنيها الناس -أي: أصابني بسبب صياحهم واختلاط أصواتهم الصمم، فلم أتمكن من سماع الكلمة التي قالها- فقلت لأبي: ما قال؟ قال: كلهم من قريش).
حدثنا قتيبة بن سعيد وأبو بكر بن أبي شيبة حدثنا حاتم -وهو ابن إسماعيل - عن المهاجر بن مسمار عن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: كتبت إلى جابر بن سمرة مع غلامي نافع: أن أخبرني بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فكتب إلي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جمعة عشية رجم الأسلمي -أي: ماعز الأسلمي الذي رجمه النبي عليه الصلاة والسلام في الزنا- يقول: (لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة)].
وهذه بشرى عظيمة، فمهما حاول المحاولون فالدين قائم وظاهر، وله أئمته الذين يظهرونه في كل زمان ومكان، حتى تقوم الحجة على جميع الخلق، فيأتي الناس جميعاً يوم القيامة ولا حجة لهم بين يدي الله عز وجل، إما مؤمن يدخل الجنة برحمة الله تعالى، وإما كافر يدخل النار بعمله وبسبب كفره.
قال: [(لا يزال ا(17/6)
كلام النووي في أحاديث باب (الناس تبع لقريش)، و (الخلافة في قريش)
قال الإمام النووي عليه رحمة الله: (هذه الأحاديث وأشباهها دليل ظاهر أن الخلافة مختصة بقريش لا يجوز عقدها لأحد من غيرهم، وعلى هذا انعقد الإجماع في زمن الصحابة).
وأنتم تعلمون أن أفضل الإجماع ما أجمعت عليه الصحابة، فالإجماع الذي ليس محل نزاع ولا اختلاف هو إجماع الصحابة رضي الله عنهم، فانعقد إجماع الصحابة أن الخلافة والإمارة العامة في قريش لا في غيرهم، ولا يمنع أن يكون الخليفة العام يولي ولاة على الأمصار من غير قريش؛ لأن المقصود بالإمارة هنا: ليست الإمارة الخاصة أو إمارة الدويلات، أو الدول والأمصار التابعة للولاية العامة، وإنما المقصود في هذه النصوص: الإمارة العامة والخلافة العامة.
أي: الخليفة الكبير الذي يعيّن ولاة على الأمصار، فلا بأس أن يكون الولاة على الأمصار من قريش أو من غير قريش، وإنما الإمام العام يكون من قريش.
قال: (وعلى هذا انعقد الإجماع في زمن الصحابة، فكذلك بعدهم، ومن خالف فيه من أهل البدع أو عرض بخلاف من غيرهم -أي: ومن خالف في هذا الأمر وخالف في هذا الإجماع فإنه من أهل البدع- فهو محجوج بإجماع الصحابة والتابعين فمن بعدهم بالأحاديث الصحيحة.
قال القاضي -أي: القاضي عياض -: اشتراط كونه قرشياً هو مذهب العلماء كافة).
إذاً: شرط في الخليفة العام أن يكون قرشياً، وكثير من الجماعات يزعمون أن أميرهم هو الخليفة العام، ولا يصرّح بهذا إلا في أضيق الحدود وفي المجالس الخاصة، بل من الجماعات من يكفّر الجماعات الأخرى وربما كفّر عامة المسلمين لتركهم بيعة هذا الخليفة أو هذا الأمير أو ذاك الإمام، وهذا الكلام كله باطل.
ومنهم من يحتج بنصوص الإمارة العامة على جماعته، ولصالح الإمارة التي قد بايع فيها، ولا شك أن هذا كله لا يلزم المسلم، ومن مات بغير بيعة على هذا النحو في هذا الزمان فإنه لا شيء عليه.
ويحتجون بحديث: (من مات وليس في رقبته بيعة فقد مات ميتة جاهلية) ولا شك أنك لو بايعت لأبطلت البيعات الحاصلة في الجماعات الأخرى؛ لأنها جماعات منشقة مارقة خارجة عن الجماعة الأم، وعلى ذلك لا يلزمك أن تبايع جماعة من الجماعات، وإنما الذي يلزمك أن تعبد الله تبارك وتعالى بالكتاب والسنة وبفهم سلف الأمة، وخذه من أي جماعة شئت، ومن أي إمام شئت، ومن أي عالم شئت، وافهمه من أي كتاب شئت، المهم أنك لست مطالباً في هذا الزمان إلا بقال الله وقال الرسول على فهم سلف الأمة لهذه النصوص.
فهذه الجماعات التي على الساحة كلها لا يلزمني قط مبايعتها ولا مساندتها إلا فيما يتعلق بقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]، ودون ذلك خرط القتاد.
(قال القاضي عياض: اشتراط كون الإمام قرشياً هو مذهب العلماء كافة، وقد احتج به أبو بكر وعمر رضي الله عنهم على الأنصار يوم السقيفة فلم ينكره أحد] أي: حينما توفي النبي صلى الله عليه وسلم، واجتمع الأنصار يريدون أن يكون الخليفة منهم، دخل عليهم أبو بكر وذكّرهم بهذه الأحاديث وهذه النصوص وأن الإمارة والإمامة دائماً في قريش لا في الأنصار، وهذا دين وحق وشرع، ليس طلباً للإمامة والزعامة، وإنما هو تحقيق للحق الشرعي الذي جاء به محمد عليه الصلاة والسلام، ولم ينكر على أبي بكر ولا عمر أحد من الأنصار أن الخليفة يشترط فيه أن يكون قرشياً.
(قال القاضي عياض: وقد عدها العلماء في مسائل الإجماع).
أوردها ابن حزم في مسائل الإجماع وابن المنذر في مسائل الإجماع، ونقل الإجماع النووي والحافظ ابن حجر وغير واحد بأن الخليفة العام لا بد أن يكون قرشياً.
قال: (ولم ينقل عن أحد من السلف فيها قول ولا فعل يخالف ما ذكرنا).
أي: أن السلف والخلف كلهم متفقون على هذا الشرط.
قال: (وكذلك من جاء بعدهم في جميع الأعصار والأمصار).(17/7)
رأي أهل البدع في كون الخلافة في قريش
قال القاضي عياض: (ولا اعتداد بقول النظام).
والنظام هو سيد المعتزلة في زمانه.
قال: (ولا اعتداد بقول النظام ومن وافقه من الخوارج وأهل البدع).
إذاً: القائلون بجواز كونه من غير قريش هم من أهل البدع، كـ النظام وهو كبير المعتزلة في زمانه، والخوارج قاطبة أجمعوا على جواز كونه من غير قريش، وإجماعهم ليس محل اعتبار ولا كرامة عند أهل السنة؛ لأنهم أصلاً مخالفون لأهل السنة في أصول الاعتقاد، فكف يعتبر خلافهم؟ بل هم خلاف من هم خير منهم شيئاً يسيراً كالشيعة، فكيف يُعتبر خلاف الخوارج والمعتزلة لأمر أجمع عليه الصحابة والتابعون ومن بعدهم من أهل السنة والجماعة إلى يومنا هذا؟ لكن المؤسف جداً أن نرى في هذا الزمان بعض من ينتسب إلى السلفية وأهل السنة والجماعة ويقول: بالإمكان أن يكون الخليفة من غير قريش، وظني أنه متتبّع لهذه الأخبار ولهذه الجماعات، ويأتي في مساجد السنة ويزعم أن الخليفة يمكن أن يكون غير قرشي، فهذا القول مردود منه وممن هو أفضل منه؛ لأنه مخالف لإجماع المسلمين فضلاً عن مخالفته لنصوص سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، ولم يقل بهذا القول الذي قاله هذا الشيخ إلا أهل البدع، ولا سلف له إلا هم.
قال القاضي: (ولا اعتداد بقول النظام ومن وافقه من الخوارج وأهل البدع أنه يجوز كونه من غير قريش، ولا بسخافة ضرار بن عمرو -المبتدع الضال- في قوله: إن غير القرشي من النبط وغيرهم يُقدم على القرشي لهوان خلعه إن عرض منه أمر).
ضرار بن عمرو هذا من أكابر أسياد المبتدعة، يقول: نحن لا نأتي بقرشي ونعينه إماماً، وإنما نأتي بنبطي -أي: من البربر- ونعينه إماماً؛ وذلك لأن الإمام معرّض للخلع، والخلع لا يليق بكرامة القرشي، فنحن نريد أن نبعد القرشي عن هذه الإهانة، فلو قلنا: من الذي افترض هذا الفرض أنه إذا عُيّن خُلع؟
الجواب
أهل البدع هم الذين افترضوا هذا الفرض؛ ولذلك دللوا عليه بما يثبت له الكرامة والعزة، فكأنها كما يقول الناس: كلمة حق أُريد بها باطل! ولا شك أن أهل البدع دائماً إذا ابتدعوا شيئاً جمّلوه وزينوه وزخرفوه بزخرف القول؛ حتى يدخل على السذّج من أبناء المسلمين، فهو لا يرفض إمامة القرشي ويضع مكانه النبطي رفضاً باتاً وبدون إبداء أسباب، وإنما يقول: أنا أرفض إمامة القرشي حفاظاً على كرامة القرشي، حتى لا يُخلع أو يهان أو يسب أو يشتم أو غير ذلك.
قال: (ولا سخافة ضرار بن عمرو في قوله: إن غير القرشي من النبطي وغيرهم يقدم على القرشي لهوان خلعه إن عرض منه ما يؤدي إلى خلعه.
وهذا الذي قاله من باطل القول وزخرفه، مع ما هو عليه من مخالفة إجماع المسلمين، والله أعلم).(17/8)
معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم (الناس تبع لقريش في الخير والشر)
قال: (قوله صلى الله عليه وسلم: (الناس تبع لقريش في الخير والشر) فمعناه: في الإسلام والجاهلية).
المعلوم أن موطن قريش الأصلي هو مكة المكرمة، وأن قريشاً لم تستقر بعد فتح مكة في هذا المكان، بل انتقل منهم من انتقل إلى المدينة، وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم من أرسل في الأمصار هنا وهناك ليعلموا الناس الدين، ومنهم من ولد له في البلد الذي سافر إليه، وهاجر إليه، فمنهم من استقر ومنهم من رجع إلى بلاده، ثم بعد ذلك هاجرت أسر عظيمة وقبائل وبطون إلى كثير من البلدان، ومعظم القرشيين هاجروا من مكة والمدينة إلى غيرها من الأمصار، ومعظمهم هاجر إلى صعيد مصر، فلا يبعد في المستقبل أن يكون الإمام من صعيد مصر.
(الناس تبع لقريش في الخير والشر) معناه: في الإسلام والجاهلية.
النبي عليه الصلاة والسلام قال لـ هرقل الروم: (أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين) أي: تؤجر على إسلامك وتؤجر على إسلام أتباعك؛ لأن الأتباع لو رأوه أسلم لأسلموا؛ ولذلك دائماً يقولون: إذا سقط الرأس سقط من دونه.
لكن ما دام الرأس قائماً فلا يزال الأمر في حزم وقوة وشدة، فكذلك الناس تبع لقريش في الإسلام والجاهلية، في الخير والشر.
قال: (كما هو مصرح به في هذه الروايات؛ لأنهم كانوا في الجاهلية رؤساء العرب، وأصحاب حرم الله، وأهل حج بيت الله).
وأصحاب السقاية والرعاية وخدمة الحجيج وغير ذلك.
فهم كانوا رءوساً في الجاهلية.
(وكانت العرب تنظر إسلامهم).
أي: أن الناس كلها تتطلع: هل أسلمت قريش أم لا؟ هل استجابت قريش لدعوة هذا النبي الذي هو منهم وهو ابن من أبنائها أم لا؟ فإذا قيل: (لم يستجيبوا) فكّر الواحد ألف مرة قبل أن يستجيب لهذه الدعوة.
يقول: إذا كان هذا ابناً من أبنائهم ولم يتّبعوه ولم ينصروه، بل حاربوه، فهذا يدل على أنه ليس على الحق، وهم أعلم به منا؛ ولذلك كانوا يتأخرون دائماً عن الإسلام وعن المبادرة إلى اتباع النبي عليه الصلاة والسلام.
هذا في الجاهلية.
فلما أسلمت قريش في فتح مكة كان فتحاً عظيماً ونصراً مبيناً للإسلام وأهله، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، حينما رأوا قريشاً قد دخلت في دين محمد صلى الله عليه وسلم، فتبعهم الناس، وجاءت وفود العرب من كل جهة، ودخل الناس في دين الله أفواجاً.
وكذلك في الإسلام هم أصحاب الخلافة، والناس تبع لهم، وبيّن صلى الله عليه وسلم أن هذا الحكم مستمر إلى آخر الدنيا ما بقي من الناس اثنان.(17/9)
الأمر بحكم قريش مستمر إلى قيام الساعة
إذاً: الإمارة والخلافة العامة في قريش ما بقي في الناس اثنان، وهذا أمر منذ مبعث النبي عليه الصلاة والسلام إلى قيام الساعة، وأنتم تعلمون أن أبا بكر قرشي، وعمر قرشي، وعثمان قرشي، وعلياً قرشي، والحسن قرشي، ومعاوية بن أبي سفيان قرشي، وكذلك أولاده، وعمر بن عبد العزيز كذلك قرشي، فهؤلاء جميعاً خلفاء راشدون، وهم بلا شك داخلون في هذه الخلافة، بعضهم أحسن خلافة من بعض، وبعضهم كان أقوى من بعض، لكن كلهم كانوا عاملين بالإسلام وهديه، وكلهم يعملون لنصرة الإسلام، وكانوا يتقون الله تعالى فيما ولوا من أمر المسلمين، وبعضهم أفضل من بعض كما قلنا، وكان أفضلهم على الإطلاق أبو بكر الصديق، ومن بعده عمر، ومن بعده عثمان، ووقع النزاع في أواخر عهد عثمان في مقتله، ثم أتت الفتن، وكثرت في زمن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وقام إليه رجل وقال: يا أمير المؤمنين! ألست أمير المؤمنين حقاً؟ قال: بلى.
قال: فلِم وقع هذا النزاع في زمنك ولم يقع في زمن أبي بكر وعمر؟ قال: لأن أبا بكر وعمر كانا أميرين على مثلي، وأنا أمير على أمثالكم.
كما قال السلف: أعمالكم عمّالكم.
يعني: كيفما تكونوا يول عليكم.
وبيّن صلى الله عليه وسلم أن هذا الحكم مستمر إلى آخر الدنيا ما بقي في الناس اثنان، وقد ظهر ما قاله صلى الله عليه وسلم، فمن زمنه عليه الصلاة والسلام إلى الآن الخلافة في قريش.
وهذا التقرير من الإمام النووي.
يقول: الخلافة منذ زمن النبي عليه الصلاة والسلام إلى يومنا هذا -أي: في القرن السادس الهجرية- كلها في قريش، وكانت الخلافة منذ زمنه عليه الصلاة والسلام إلى نهاية القرن السادس تزيد عن اثني عشر خليفة، ولذلك لم يقل النبي عليه الصلاة والسلام: الخلافة اثنا عشر خليفة، وإنما قال: (يتولى فيكم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش) أي: الموصوفون بالعدل والرشاد، ولا يمنع أن يكون هناك من هو دون ذلك.
قال: (وقد ظهر ما قاله صلى الله عليه وسلم، فمن زمنه عليه الصلاة والسلام إلى الآن الخلافة في قريش).(17/10)
التعصبات بين مذاهب أهل السنة والجماعة أمر مذموم
قال القاضي عياض: استدل أصحاب الشافعي بهذا الحديث على فضيلة الشافعي.
وذلك لأنه قرشي.
والحديث نص في الإمارة والشافعي ليس أميراً، كما أن الحديث نص في أفضلية قريش، فهو من هذا الباب فقط يثبت فضيلة الشافعي؛ لأنه قرشي.
وقد وقعت مهاترات وتعصبات بين أصحاب المذاهب، حتى دعاهم هذا التعصب إلى الافتراء والكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، فالأحناف والشافعية عداوتهم معلومة على مر التاريخ إلى يومنا هذا، حتى في الأزهر ينظر الشافعي إلى الحنفي كما لو كان يهودياً، وفي زمن من الأزمان كان لا يتزوج الشافعي من الحنفية، ولا الحنفي من الشافعية، وإذا رُفع الأمر إلى القاضي فإنه ينتحل مذهباً يخالف مذهب القضية المرفوعة إليه، ومعلوم أن الكعبة لها أربعة أركان، فكان الأحناف يجلسون في ركن، والمالكية في ركن، والشافعية في ركن، والحنابلة في ركن، والذي يفاجأ أنه صلى في جماعة الحنابلة وهو شافعي يرجع فيعيد صلاته.
وهذا شر مستطير وتفريق للأمة.
وأدى هذا التعصب إلى أن افترى الأحناف حديثاً كذباً وزوراً على النبي عليه الصلاة والسلام، أنه قال: (فيكون في أمتي رجل هو أبو حنيفة سراج أمتي) أو: (سراج أمتي أبو حنيفة النعمان).
وهما حديثان مكذوبان.
وبعد أن أثبتوا الفضل لإمامهم أرادوا ذم الشافعي ليستمر لهم الكمال، فقالوا: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سيخرج رجل من أمتي محمد بن إدريس أشد عليها من إبليس).
يقصدون الإمام الشافعي، اسمه محمد بن إدريس، ومعلوم أن أبا حنيفة مات سنة (150) هـ، والشافعي ولد في نفس السنة، فقال الأحناف: حينما ولد إمامكم أبى إمامنا الحياة، كأنه هو الذي أمات نفسه.
ويقول الشافعية رداً عليهم: حينما ولد إمامنا أبى إمامكم الحياة؛ لأنه لا يهنأ له الحياة في ظل إمامنا وهو طفل رضيع! فكل هذه تعصبات لا قيمة لها، فـ أبو حنيفة ليس قرشياً، بل هو كوفي، وأحمد بن حنبل ليس قرشياً، بل هو بغدادي، ومالك ليس قرشياً بل هو مدني، أما الشافعي فهو قرشي، فهو من هذه الجهة أفضل من الأئمة الثلاثة، ومن جهة الفقه كذلك هو أفقه من الثلاثة، أما منزلته عند الله فالعلم عنده سبحانه، فالله تعالى أعلم بمن اتقى، فإن الإمام أحمد بن حنبل له من العلم والفضل والثبات في المحن ما ليس للشافعي، فهو إمام أهل السنة بالاتفاق.
وأما تقرير مسائل للاعتقاد فقد اشتهر به الإمام مالك رحمه الله تعالى، فهو الذي عاصر ابتداء ظهور البدع والفتن في العقيدة، وفي صفات المولى عز وجل، فقرر مسائل الاعتقاد على مذهب الصحابة والتابعين، ثم برز على هذه الأصول بعد ذلك من جاء بعده كـ الشافعي، فـ الشافعي تلميذ مالك، بل صحبته أمه من مكة إلى المدينة وعنده من العمر عشر سنوات، فقدم إلى الإمام مالك وقال: يا إمام! أريد أن أقرأ عليك الموطأ، فنظر إليه الإمام واستصغره.
قال: اذهب فالتمس من يقرأ لك.
فقال: يا إمام! أحفظ الموطأ عن ظهر قلب.
قال: أنت؟ قال: نعم.
قال الشافعي: فقرأته عليه في أربعة مجالس.
أي: من حفظه سرده سرداً على الإمام في أربعة مجالس.
فسُر به مالك جداً وقرّبه إليه وكان مستملياً له.
أي: أنه يجلس بجواره ويقرأ، والإمام مالك يشرح الموطأ.
وكذلك الإمام أحمد كان تلميذاً للشافعي.
فالأول أبو حنيفة؛ ولذلك يسمونه الإمام الأعظم.
أي: أكبرهم وأولهم، والمكان الذي كان يسكن فيه في العراق يسمى إلى الآن بالأعظمية؛ نسبة إلى الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان رحمه الله تعالى، ورضي عنهم أجمعين.(17/11)
الجمع بين حديث (الخلافة بعدي ثلاثون سنة)، وحديث (حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة)
أما قوله عليه الصلاة والسلام: (إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش)، وفي رواية: (لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً كلهم من قريش)، وفي رواية: (لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة كلهم من قريش).
فقد قال القاضي عياض: (هنا يتوجّه سؤالان: الأول: أنه قد جاء في الحديث الآخر: (الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكاً عاضاً) كما في الحديث الطويل: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، فإذا أراد الله أن يرفعها رفعها)، وقد رُفعت الخلافة الراشدة التي كانت على منهاج النبوة، وكان مدتها ثلاثون سنة وبضعة أشهر، وهي خلافة الأربعة: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثون سنة) أي: تقريباً بزيادة أو بنقصان.
وهذا من أعلام نبوته عليه الصلاة والسلام.
قال: (فإذا شاء الله أن يرفعها رفعها، ثم يكون ملكاً عاضاً) وهو ملك بني أمية والعباسيين وغيرهم.
قال (فيكون فيكم ما شاء الله أن يكون، ثم إذا أراد الله أن يرفعه رفعه، ثم يكون ملكاً جبرياً) وهو الذي تمر به الأمة اليوم، فالملك الجبري: أن يؤتي بهؤلاء السلاطين والحكام بغير اختيار من شعوبهم ولا اقتراع ولا انتخاب ولا رضا، وإنما جيء بهم فجثموا على صدور شعوبهم، وهم يعلمون أن الذي جاء بهم قادر على أن يذهب بهم مرة أخرى؛ ولذلك يعقدون الولاء لهم، فهم حكام في بلادهم لتنفيذ مصالح الغرب، وكنا من قبل نقول: لتنفيذ مصالح الغرب والشرق، وإن شاء الله غداً لا يكون هناك غرب بإذن الله تعالى، ولا يبقى إلا الإسلام عزيزاً منتصراً ما دام الناس يرجعون إلى دينهم، ويطيعون الله تعالى، ويطيعون النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل: جاء في الحديث: (الخلافة بعدي ثلاثون سنة) أي: الخلافة التي على منهاج النبوة.
ثم تكون ملكاً عاضاً؛ وهذا مخالف لحديث اثني عشر خليفة؛ لأن الخلافة التي مكثت ثلاثين سنة كانت خلافة الراشدين وهم أربعة، فإنه لم يكن فيها إلا الخلفاء الراشدون الأربعة، والأشهر أنها التي بويع فيها الحسن بن علي؟ ف
الجواب
المراد في حديث: (الخلافة ثلاثون سنة) أي: خلافة النبوة.
وقد جاء مفسراً في بعض الروايات: (خلافة النبوة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً عاضاً) ولم يشترط في هذا أن يكونوا اثني عشر خليفة، فلم يشترط أنها خلافة على منهاج النبوة، وإنما بين أن الخلافة التي تكون على منهاج النبوة هي خلافة الخلفاء الراشدين بعد عهد النبوة، ثم خلافة المهدي؛ لأنه قال: (ثم يكون ملكاً جبرياً، فيكون فيكم ما شاء الله أن يكون، فإذا شاء الله أن يرفعه رفعه، ثم تكون الخلافة على منهاج النبوة ثم سكت عليه الصلاة والسلام).
وهذا بشير خير لهذه الأمة: أن الخلافة بعد هذا الملك الجبري الذي تعاني منه الأمة تكون على منهاج النبوة بإذن الله تعالى.
وهذا لا يعني: أننا ننتظر حتى يأتي المهدي المنتظر، بل لا يمنع أن تكون هناك خلافة على منهاج النبوة قبل ظهور المهدي المنتظر، فلا بد أن يبذل كل منا جهده لإعادة الخلافة مرة أخرى ولقيام الدين مرة أخرى في الأرض.
السؤال الثاني: أنه قد ولي أكثر من هذا العدد، أي: أكثر من اثني عشر تولوا الإمارة، فكيف يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هم اثنا عشر أميراً) مع أن الذي تولى إلى يومنا هذا أكثر من ذلك، بل إلى عهد الإمام النووي كانوا أكثر من ذلك؟
الجواب
هذا اعتراض باطل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقل: لا يلي إلا اثنا عشر خليفة.
أي: لم يذكرهم على سبيل الحصر، وإنما قال: (يلي).
وقد ولي هذا العدد، ولا يضر كونه وجد بعدهم غيرهم.
هذا إن كان المراد باللفظ: (كل وال)، ويحتمل أن يكون المراد مستحق الخلافة العادلين إلى يوم القيامة لا يزيد عن اثني عشر خليفة.
هل أبو بكر كان مستحقاً للخلافة؟ الجواب: نعم.
مستحق بالإجماع المعتبر؛ لأن الشيعة والخوارج لا يقرون بهذا، وكذلك عمر كان مستحقاً وعثمان وعلي كانا مستحقين، ثم لا يمنع بعد ذلك أن يكون هناك مئات أو آلاف الخلفاء ليسوا هم المعنيين بهذا الحديث، وقد مضى منهم من عُلم، ولا بد من تمام اثني عشر خليفة قبل قيام الساعة.
وقيل: إن معنى هذا الحديث: أنهم يكونون في عصر واحد.
أي: لا تقوم الساعة حتى يتولى اثنا عشر خليفة أمر المسلمين في زمان واحد وفي عصر واحد، فيكون بعضهم في الشرق وبعضهم في الغرب، وبعضهم في الجنوب وبعضهم في الشمال.
أي: يجتمع اثنا عشر خليفة على إمرة المسلمين، يتبع كل واحد منهم طائفة من المسلمين.
قال ا(17/12)
معنى حديث (عصيبة من المسلمين يفتتحون البيت الأبيض)
قوله عليه الصلاة والسلام: (عصيبة من المسلمين يفتتحون البيت الأبيض بيت كسرى أو آل كسرى).
المعلوم أن كسرى لقب لمن تولى أمر فارس، وقيصر أمر الروم، فهل المراد بهذا الحديث ظاهره: (عصيبة من المسلمين يفتتحون البيت الأبيض بيت كسرى أو آل كسرى)؟ ثبت في البخاري من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن أموالهم في سبيل الله عز وجل) وهذا مؤذن بفتح البلدين.
أما بلاد فارس فقد فُتحت ودخلها الإسلام في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولكنها تحتاج إلى فتح جديد الآن، وتحتاج إلى نشر السنة فيها بعد أن نشروا التشيّع، وانتشرت البدع هناك؛ حتى غلب على أهل هذه البلاد المروق والخروج من دين الإسلام بالكلية، ومن تولى فيهم زعامة دينية هو أقرب إلى الكفر منه إلى الإيمان، خلافاً للشعب فإنه تبع لكل ناعق.
فإذا كان ظاهر هذا الحديث هو المراد فنتوقف عند الظاهر، ونقول: إن عصابة قليلة من المسلمين يفتتحون هذه البلاد في آخر الزمان كما افتتحت في أول الزمان، وربما يكون المقصود بالفتح: هو الفتح الأول الذي حصل في زمن عمر، وربما لا يكون هذا الظاهر مراداً للنبي عليه الصلاة والسلام، وهذا من عندي وهو قابل للثبوت والرد، فقد يكون هذا الحديث معناه: أن عصابة من المسلمين يفتحون الأرض كلها حتى يفتحون البيت الأبيض في أمريكا، ويفتحون بلاد فارس، ويفتحون بلاد الروم، ويفتحون سائر البلدان وهم عصابة قليلة من الأمراء والوجهاء والسلاطين من قريش، وفي هذا بشارة عظيمة بسقوط دولة الروم، وسقوط أعظم قوة تحمل الصليب في العالم اليوم وهي دولة أمريكا، وهذا كلام قابل للرد، وليس اعتقاداً جازماً عندي.
قال: (وإذا أعطى الله أحدكم خيراً فليبدأ بنفسه) وهذا تماماً كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (ابدأ بنفسك ثم بمن تعول) إذا أعطاك الله خيراً فأنعم على نفسك ومن على نفقتك، ووسّع على نفسك وعلى من تعول؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (وأفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى) أي: ما فضل عن حاجتك.
وقوله: (أنا الفرط على الحوض) عليه الصلاة والسلام، والفرط والفارط هو: الذي يتقدم القوم إلى الماء ليهيئ لهم ما يحتاجون إليه.(17/13)
الأسئلة(17/14)
حكم من شك في خروج صوت أو ريح أو مذي حال صلاته
السؤال
أشعر بوسوسة في كل صلاة بأنني أمذيت، وأنا لا أعرف هل هذا مذي أم ماذا؟ وأشك هل خرج ابتداءً أم لا؟
الجواب
على أية حال إذا حدّثتك نفسك بشيء في الصلاة فاستمر في صلاتك ولا تخرج منها حتى تجد ريحاً أو تسمع صوتاً، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا ينفتل أحدكم من صلاته حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) ليس معنى ذلك: أنه لا يخرج من الصلاة حتى يسمع الصوت أو يشم الرائحة الحقيقة، وإنما المراد: لا يخرج أحدكم من صلاته بمجرد الوسوسة، ولا يخرج إلا ليقين؛ وأنت على يقين أنك على وضوء، واليقين هنا لا يزول بالشك، وإنما يزول بيقين مثله.(17/15)
حكم قراءة القرآن متكئاً
السؤال
ما حكم من قرأ القرآن متكئاً دون عذر؟
الجواب
هذا أمر جائز، وإن كان الأولى والأفضل أن تتهيأ كأحسن ما يكون من ملبس ومجلس، كأن تجلس بوقار، وتكون على وضوء.
كل هذا من مستحبات التعامل مع كتاب الله عز وجل.
قراءة وتلاوة وتدبراً وتفسيراً، وجائز أن تقرأ القرآن على أي وجه كان.(17/16)
الحكم على حديث (البس جديداً، وعش حميداً، ومت شهيداً)
السؤال
ما صحة حديث (البس جديداً، وعش حميداً، ومت شهيداً)؟
الجواب
حديث صحيح.(17/17)
حكم الخلافة إذا لم يكن الخليفة من قريش
السؤال
هل كون الخليفة من قريش شرط لصحة الخلافة.
بمعنى: هل تبطل الخلافة إذا لم يكن الخليفة من قريش، وما حكم الخلفاء العثمانيين الأتراك؟
الجواب
الخلافة العثمانية خلافة معتبرة، ويا ليتها دامت، لكن أنتم قد سمعتم أن الخلافة شرط فيها أن تكون قرشية، وهي الخلافة التي أخبر عنها النبي عليه الصلاة والسلام، وهي الخلافة التي فيها إعزاز للدين وقيام للإسلام ونجدة للمسلمين، وهي في اثني عشر خليفة، والخلافة كثيرة جداً، وقد مضى أكثر من مائة خليفة، ففي الدولة العباسية الثانية ضعف أمر الإسلام وكان لا يزال اسم الخليفة موجوداً، وانحدرت قوة المسلمين من قوة القوة في زمن الخلافة الراشدة إلى القوة المجردة في زمن بني أمية، إلى شبه القوة في أول بني العباس، إلى الضعف والخور في الدولة العباسية الثانية، إلى البدع والنفاق في الدول التي أتت بعد الدولة العباسية، وتجد أن عنوان الخليفة يدل على قوة الدولة في زمانه، كالمقتدي بالله، والمعز لدين الله، والمستنصر بالله، والمستنجد بالله مع أن الأصل في كل مسلم أنه مستنجد، فأنت مستنجد بالله؛ لغلبة الكفر عليك، أو لغلبة بلاد الكفر على بلادك، فأنت تشعر من اللقب نفسه بمكانة الدولة في دول العالم كله، فهذا شرط كما قلنا، ولا يحل لأحد أن يخالف الإجماع الذي انعقد.(17/18)
القول العدل في الإمام أبي حنيفة
السؤال
ما هو القول العادل في أبي حنيفة ومذهبه؟
الجواب
يغلب على مسألة المذاهب أمران كما قيل: يهلك في علي اثنان: أحدهما: مغال، والثاني: جاف.
أحدهما مغال جداً في علي حتى جعله إلهاً، فشابه النصارى في قولهم: عيسى هو الله، والثاني: متجاف عنه جداً حتى بلغ به الأمر إلى تكفير علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
هذا الأمر يشبهه أمر أبي حنيفة رحمه الله تعالى، أبو حنيفة رحمه الله كان بعيداً عن منارة العلم في زمانه، ومنارة العلم كانت في مكة والمدينة، ولا شك أن الذي يبعد عن موطن العلم يخفى عليه بعضه أو معظمه، وهذا الذي حدث، وكان أبو حنيفة مجتهداً بلا نزاع رحمه الله تعالى، بدت منه بوادر فيما يتعلق بالله عز وجل وفي بعض مسائل الاعتقاد، ولم يصنف كتاباً قط لا في العقيدة ولا في الفقه، وإنما صنّف تلاميذه، فإن كان قال ما قال -وقد ورد في كتاب الفقه الأكبر ما يُنكر- فلا شك أن هذا يرد عليه، وإن كان هذا من تلاميذه فالتبعة عليهم، لكن الإمام أبا حنيفة كان إمام الرأي، وكان سفيان الثوري إمام الأثر، وهما متعاصران بلديان، فكلاهما كوفي، وكان بينهما ما بينهما من المشاحنات، نقلها ابن حبان رحمه الله في كتاب الضعفاء والمجروحين، حتى قال سفيان في أبي حنيفة قولاً شنيعاً شديداً، واعتمده من أتى بعده، والأصل في هذا أنهما قرينان، وكلام الأقران في بعضهم يطوى ولا يروى، وقد تكلم ابن إسحاق في مالك، وتكلم مالك في ابن إسحاق، وتُكلّم في الشافعي وتُكلّم في البخاري وفي مسلم وفي غير علم من أعلام الأمة، لكن هذا الكلام عند منصة التحقيق لا يثبت ولا تثبت له قيمته، ويبقى عندنا أن الحق يؤخذ من كل من جاء به، والباطل يرد على كل من جاء به، فـ أبو حنيفة إمام من الأئمة بلا منازع، والأصل ألا يكون فيه نزاع رحمه الله تعالى، وندافع عنه ونثبت أن لحوم العلماء مسمومة، ومن تعرّض لهم بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب، وكفى بها عقوبة.
أبو حنيفة رحمه الله كانت له مواقف رائعة جداً في نصرة دين الله عز وجل، وكان إماماً في الفقه مفنناً، وإن كان يغلب عليه الرأي والاجتهاد لخفاء الدليل عليه؛ ولذلك تجد أن حظ أبي حنيفة من الرواية ضعيف بالنسبة إلى رواية الآخرين كـ مالك والشافعي وابن حنبل، فهؤلاء فقهاء ومحدثون، أما هو فكان فقيهاً وحظه من التحديث قليل، حتى جُمع مسنده في كُتيّب صغير، ولا شك أن الواحد منا إذا خفي عليه الدليل واحتاج إلى التأويل تأوّل، وإذا احتاج إلى الاجتهاد اجتهد، مع أننا لسنا أهلاً للاجتهاد، لكن إذا اضطررنا إلى ذلك اجتهدنا، فلِم تجوّز هذا لنفسك وتستبعده على إمام كـ أبي حنيفة، فينبغي أن نترحّم على الجميع ونترضّى عن الجميع، ونسأل الله تعالى أن يثيب منهم من كان مجتهداً مصيباً، وأن يعفو عمن أخطأ، فله أجر واحد كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.(17/19)
حكم العقود التي يجريها البنك الإسلامي في مدن مصرية
السؤال
أخ يسأل عن العقود التي يجريها البنك الإسلامي في هذه المدن الجديدة كمدينة (الشيخ زايد) و (6 أكتوبر) (والعاشر من رمضان) وغيرها من المدن؟
الجواب
هذه عقود ربوية كلها، التعامل معها تعامل ربوي، ولا يجوز الإقدام عليه قط إلا كما يجوز للمضطر أن يأكل لحم الميتة، وإلا فلا.(17/20)
حكم الصلاة على الميت في المقبرة لمن لم يصل عليه من قبل
السؤال
هل يجوز صلاة الجنازة على الميت في المقبرة بعد دفنه لمن لم يستطع في وقت الصلاة عليه، وهل على هذا دليل، أم هذه بدعة؟
الجواب
يجوز الصلاة على الميت -حتى وإذا صُلي عليه- في المقابر لمن لم يصل عليه، ودليل ذلك أن امرأة كانت تقم المسجد بالمدينة، فلما ماتت صلى عليها الصحابة في الليل ودفنوها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم حينما افتقدها بعد ثلاث: (أين فلانة التي كانت تقم المسجد؟ قالوا: يا رسول الله! ماتت، فصلينا عليها ودفناها، فقال: هلا آذنتموني؟ ثم أشير إلى قبرها فوقف فصلى وصلى الناس معه).
ولا حجة لمن يقول: هذه خصوصية للنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله تعالى قال: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] والصلاة على الميت فرض كفاية، وقد تمت بصلاة الأصحاب، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل هذا في كل من مات ولم يصل عليه، إنما فعل هذا مع تلك المرأة رضي الله تعالى عنها، وصلى أصحابه بعده، فهذه الصلاة ليست هي الصلاة المنهي عنها في المقابر، وليست من الصلاة في المساجد التي فيها قبور، بل هذه الصلاة صلاة مخصوصة ليس فيها ركوع ولا سجود، ولا يقصد بها الاستشفاع أو التقرب أو المناجاة أو الاستغاثة بالأموات.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(17/21)
شرح صحيح مسلم - كتاب الإمارة - الاستخلاف وتركه - النهي عن طلب الإمارة
من تمام أمر المسلمين تنصيب خليفة عليهم يسوس أمور دنياهم بدينهم، ولهذا الاستخلاف صور متعددة كلها ثابتة عن سلفنا الصالح، ومن ذلك: ترك الاستخلاف وجعل الأمر شورى، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنه: الاستخلاف كما فعل الصديق رضي الله عنه حيث استخلف عمر الفاروق، وقد أجمع العلماء على انعقاد الخلافة باختيار أهل الحل والعقد، كما فعل عمر رضي الله عنه؛ إذ جعل أمر الخلافة في ستة نفر من كبار الصحابة يختارون واحداً منهم ليكون خليفة على المسلمين.(18/1)
حكم انعقاد الولاية لغير الله ورسوله ولغير الخليفة العام
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فقد بيّنا في الدرس الماضي ما يتعلق بواقع الأمة اليوم، وأن هذه الإمارات الحادثة على الساحة الدعوية إنما هي إمارات خاصة وليست إمارات عامة، أما الإمارة العامة فالمقصود: بها الخلافة العظمى.
وهذه لا يجوز انعقادها بشروطها وأركانها وموجباتها إلا للخليفة العام.
وأن من بايع إمام جماعته أو أمير جماعته على أنه إمام عام وعقد له البيعة بنفس أركان وشروط الإمارة العامة والخلافة العامة، فقد أجرم جرماً عظيماً في حق النصوص الشرعية الواردة في شأن الإمارة؛ لأنه يلزمه أن يقول بتعدد الإمارات بأنواعها وليس الأمر كذلك، كما يلزمه أن يكفر بلسان الحال أو المقال من لم يبايع، كما يلزمه كذلك لحوق الإثم والثواب في الطاعة والمعصية لهذا الأمير، وليس الأمر كذلك فيما يتعلق بما يرضي الله، وإن صحّت هذه الإمارات فهي لا تعدو كونها إمارات أو بيعات على البر والتقوى، ولا يلزمه فيها طاعة، وإذا لزمته طاعة لزمته من باب أن هذا عمل مشروع أوجبه الشرع أو ندب إليه، كما لا يلحق الإثم -أي: إثم مخالفة الأمير- لأن إمارته غير شرعية، فليست هي الإمارة التي يناط بها الثواب والعقاب في الطاعة والمعصية، وإذا كان ثم معصية أو عقاب فإنما الثواب والعقاب بالشرع لا بالبيعة، كما لو أن فلاناً من الناس مسئولاً عن هذا المسجد، قال: تأتي تخطب عندنا الجمعة؟ قلت له: نعم.
آتي.
قال: اتفقنا؟ قلت: اتفقنا، ثم تخلّفت عن خطبة الجمعة بلا عذر فإني آثم بتأثيم الشرع لي، وكان الاتفاق من باب قول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2].
فنحن لا نقول بجواز إنشاء هذه البيعات الدعوية على الساحة أبداً؛ لأنها ليست بمشروعة لا في الكتاب ولا في السنة ابتداءً.
هذا أولاً.
ثانياً: لأن عقد البيعة لآحاد الناس بغير برهان ولا بيّنة ولا دليل شرعي يُضعف الولاء دائماً لله عز وجل، ولذلك هؤلاء الذين بايعوا أو عندهم انتماء لجماعات دعوية دائماً يعتنون بالجماعة فقط -إلا من رحم الله- ودائماً يعتنون بإمامهم وأميرهم؛ ولذلك لو جاء القول الصريح في كتاب الله وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام مخالفاً لهذا الإمام أو لهذا الأمير عملت الجماعة بقول الأمير وضربوا بكلام الله وكلام رسوله عرض الحائط؛ زعماً منهم أن كلام الله وكلام الرسول على رءوسنا، وملء قلوبنا وأعيننا ولكن هذا الكلام لا يناسب الواقع، وإنما هذا حكم شرعي، أما قول الإمام فهو فتوى شرعية وليس حكماً شرعياً، فنحن إذا تركنا كتاب الله إنما نتركه لفتوى شرعية، وهي فتوى الإمام أو المسئول أو الأمير، وإذا عملنا بكتاب الله؛ عملنا به أنه الأصل، وهو أصل الأحكام.
نقول: كل هذا محاورة ومناورة مع كتاب الله عز وجل ولا يصلح ذلك ولا ينتفع بها صاحبها لا في الدنيا ولا في الآخرة، وأبى الله تعالى إلا أن يفضح الظالمون المارقون عن فهم كتاب الله عز وجل وعن سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك فضح الله تعالى كل الجماعات على ملأ من الخلق، بأن صنّفت فيهم التصانيف، وكثير منهم زعم أنه تاب وأثبت أنه تاب منذ (25) عاماً أو يزيد على ذلك.
أبعد هذه الدعوة كلها وبعد هذا الفساد الذي أفسدت في الأرض أنت ومن معك تأتي اليوم بعد ضياع الوقت وتقول: أنا تبت إلى الله؟! على أية حال هذا أصل من أصول الدين، وهو قبول التوبة ما لم يغرغر العبد، والقول الذي قلته اليوم كنت تسمعه نصيحة خالصة منذ أن نشأت بدعتك، ولكنك صممت أذنك، وصككت على قلبك فلم تسمع كلام الحق أبداً.
والحق دائماً أبلج واضح، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل).
فالإمارة لا يجوز انعقادها إلا لله تعالى ورسوله، ثم من ولاَّه الله تعالى، إلى يوم القيامة، وهو الخليفة العام الذي يعين الولاية من باطنه، ويعيّن ولاة الأمصار والبلدان من باطنه، فيجب طاعة هؤلاء؛ لأن طاعة الوالي من طاعة الخليفة وطاعة الخليفة من طاعة النبي عليه الصلاة والسلام وهي من طاعة الله عز وجل، وما دون ذلك فخرط القتاد.(18/2)
باب الاستخلاف وتركه
قال: (باب الاستخلاف وتركه) أي: باب جواز الاستخلاف.
إذا كان هناك خليفة عام ووافته المنية أو مرض مرضاً أوشك فيه على الموت فإنه يجوز له أن يولي كما يجوز له أن يترك الاستخلاف.
أما جواز الاستخلاف فقد استخلف أبو بكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه واختاره للناس من دون الناس، وإذا تركت الخلافة فقد تركها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستخلف من بعده أحداً، وإنما انعقدت البيعة لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فيجوز تركها ويجوز انعقادها.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء حدثنا أبو أسامة - حماد بن أسامة - عن هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير عن ابن عمر - عبد الله بن عمر العدوي - رضي الله عنهما قال: حضرت أبي حين أصيب].
أي: حين طُعن في صلاة الفجر، والذي طعنه هو أبو لؤلؤة وكان مجوسياً ما سجد لله فضلاً عن أنه أسلم، ولذلك لما سأل عمر بعد إصابته: من قتلني؟ قالوا: أبو لؤلؤة، قال: الحمد لله أن لم يطعني أحد سجد لله سجدة.
قال ابن عمر: [حضرت أبي حين أُصيب، فأثنوا عليه -أي: سمعت ثناء الناس عليه- وقالوا: جزاك الله خيراً، فقال: راغب وراهب].
أي: أن المرء بين راغب وراهب، بين خائف وراج، بين متمن بانعقاد الخلافة وبين متوقف فيها، فكلمة راغب وراهب محمولة على كل هذه المعاني.
قال: [قالوا: استخلف -أي: يا عمر -، فقال: أتحمّل أمركم حياً وميتاً؟] أي: ما يدريه لو أنه استخلف أيصيب أم يخطئ، أيؤدي الأمانة أم يخونها؟ فقال: [لوددت أن حظي منها الكفاف لا علي ولا لي].
إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لو أراد أحد أن يصنف في مناقبه مصنفات لكانت حمل بعير! إن عمر رضي الله عنه يتمنى أن يخرج من الدنيا كفافاً ليس له من الخير شيء ولا يوجد عليه من الشر شيء! هذا عمر الإمام العادل! هذا فاروق الأمة الذي فرّق الله به بين الحق والباطل! هذا أول من صدع بالحق حول الكعبة على حين تخوف من الناس، فكان إسلامه نصراً لدين الله عز وجل ولنبيه ولأصحابه الكرام! وها هو الذي يتمنى مع كل هذا أن يخرج من الدنيا لا له ولا عليه! عمر رضي الله عنه الذي كان يبكي إذا تعثّرت ناقة في العراق أو بمصر أو بالشام أو في سائر البلدان، وهو الذي أخذ على عاتقه أنه مسئول عنها أمام الله عز وجل! إنه وال على كل شيء! على الإنسان وعلى الطير والحيوانات والحشرات وكل أصناف المخلوقات.
قال: [لوددت أني خرجت منها على الكفاف لا علي -أي: من الإثم- ولا لي -أي: من الثواب-].
ولا شك أن هذا رجل سيأتي يوم القيامة لا يحاسب؛ لأنه لا له ولا عليه.
قال: [فإن أستخلف -أي: بعد ضغطكم علي- فقد استخلف من هو خير مني أبو بكر، وإن أترك -أي: الاستخلاف- فقد تركه من هو خير مني رسول الله صلى الله عليه وسلم].
إن عمر بهذا الكلام الجميل يعطي درساً عظيماً جداً، وهو أنه لابد أن يكون للإنسان المسلم سلف في أقواله وأعماله، إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، إذا ستخلفني أبو بكر الصديق رضي الله عنه عليكم، فإن استخلفت عليكم أحداً فاعلموا أن لي سلفاً في هذا الاستخلاف، وإن تركتكم بغير استخلاف أو عاجلتني المنية بغير ذلك، فقد عاجلت المنية عليه الصلاة والسلام ولم يستخلف، فأنا في كلا الحالين لي سلف فيما أفعل وفيما أقول؛ ولذلك قال سفيان الثوري رحمه الله: إن استطعت ألا تحك رأسك إلا بأثر فافعل.
قال -أي عبد الله بن عمر -: [فعرفت أنه -أي: عمر - حين ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مستخلف] لأنه ذكر أن أبا بكر استخلف وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ترك الاستخلاف، فإذا تعارض قول أو فعل أبي بكر مع قول أو فعل الرسول صلى الله عليه وسلم فالمقدم هو فعل الرسول عليه الصلاة والسلام، فانظر إلى هذه الفائدة التي استنبطها عبد الله بن عمر، فقد كان فقيهاً محنكاً.
قال: [فعلمت أنه حين ذكر رسول الله -أي: ما كان منه من شأن الاستخلاف- غير مستخلف] لأنه لا يقدم قول أبي بكر وفعله على قول النبي عليه الصلاة والسلام وفعله.
قال: [فعلمت أنه غير مستخلف] إذا كان الأمر بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أبي بكر يقدّم النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن الثابت أن عمر بن الخطاب قد استخلف، ولكن ليست خلافة عين، وإنما خلافة انعقدت بعدة أشخاص وكانوا ستة.
الأول: عثمان بن عفان، الثاني: علي بن أبي طالب، الثالث: أبو عبيدة بن الجراح، الرابع: عبد الرحمن بن عوف، الخامس:(18/3)
كلام النووي في أحاديث الاستخلاف
قال النووي عليه رحمة الله في قوله: (إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني) إلى آخر الحديث.
قال: (حاصله: أن المسلمين أجمعوا على أن الخليفة إذا حضرته مقدمات الموت وقبل ذلك يجوز له الاستخلاف ويجوز له الترك -هذا جائز وذاك جائز- فإن تركه فقد اقتدى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فقد اقتدى بـ أبي بكر.
وأجمعوا على انعقاد الخلافة بالاستخلاف).
هذه المسألة محل إجماع؛ وهذا الاستخلاف يلزم الأمة كلها، ولا يجوز لأحد أن يخرج عن هذا الخليفة المستخلف.
قال: (وأجمعوا على انعقادها بعقد أهل الحل والعقد للإنسان إذا لم يستخلف الخليفة).
أبو بكر الصديق رضي الله عنه استخلف عليهم عمر، فوجبت البيعة لـ عمر في ذمة كل مسلم في ذلك الوقت، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم ترك الاستخلاف، ولكن المهاجرين والأنصار -وهم الذين كانوا يمثلون أهل الحل والعقد كمجلس الشورى، وشتان بين الإيمان والكفر- انعقد بالإجماع على إمامة أبي بكر، فلما صعد المنبر أبو بكر الصديق رضي الله عنه وخطب خطبته العظيمة، وهي أول خطبة بعد نبوة النبي عليه الصلاة والسلام وبعد موته، قام المسجد بالإجماع فبايع أبا بكر الصديق رضي الله عنه؛ لعلمهم أنه لا يحل لهم أن يخالفوا الإجماع.
فإذا كان الإجماع من أهل الحل والعقد المعتبرين المختارين برضى شعوبهم المسلمة وعلى ألفة من الكتاب والسنة؛ فحينئذ لا يجوز لأحد أن يتخلف عن قرار يصدر عنه، لا في شأن الخلافة ولا في شأن الاجتهاد؛ لأن هذا خروج على الأمة وعلى مقدرات الأمة.
قال: (وأجمعوا على جواز جعل الخليفة الأمر شورى بين جماعة كما فعل عمر رضي الله عنه بالستة).
جعل الأمر شورى لأهل الحل والعقد أن يختار من بين هؤلاء الستة خليفة.
فإن قيل: هل يجوز لأهل الحل والعقد حينئذ أن يختاروا واحداً غير الستة؟
الجواب
لا يجوز؛ لأن هذا من مسائل الإجماع؛ ولذلك اختاروا منهم، ولو كان يجوز لهم ذلك لاختاروا من غيرهم.
فإن قيل: ولِم لا يجوز أن يختاروا واحداً غير الذي عيّنهم الخليفة؟
الجواب
لأن هذا خروج عن أمر الخليفة، والخليفة ما زال حياً.
والوجه الثاني: أنهم لو اختاروا واحداً من غير الستة لكان لنا أن نفترض أنه ما عيّن ستة وإنما عيّن واحداً؛ لأن الذي يعيّن واحداً قد يعيّن مائة، كأنه قال لهم: لا تخرجوا عن هؤلاء الناس، فخرجوا فقد خالفوا أمير المؤمنين.
قال: (وأجمعوا كذلك على أنه يجب على المسلمين جميعاً أن ينصّبوا من بينهم خليفة).
ولم يقل على أهل الحل والعقد، وإنما يجب على المسلمين جميعاً أن يساهموا وأن يبادروا بنصب خليفة والبيعة له.(18/4)
بيان أن القول بوجوب نصب الخليفة معتقد أهل السنة والجماعة
ورد علي سؤال يقول: إنك تقول بوجوب نصب الخليفة، وسمعناك في الدرس الماضي يوم السبت الماضي تقول: يجب على كل مسلم أن يساهم وأن يبادر في نصب الخليفة العام، واعلم أن هذا المطلب ليس مطلب أهل السنة والجماعة، وإنما هو مطلب أهل البدعة؟
الجواب
إن الشبهة دخلت على السائل من باب خلط وجوب نصب الخليفة بين معتقد أهل السنة والجماعة وبين حزب التحرير، فحزب التحرير هذا حزب شر على الإسلام والمسلمين، وهو من الشيعة والقدرية؛ لأن هذا الشعب إنما يفخر بثوابت الإسلام وبدعائم الدين، وهذا الحزب ما أُنشئ إلا لإحداث البلبلة والقلقلة في صفوف المسلمين، وحربنا لهذا الحزب -في الشام تارة، وفي أمريكا تارة، وفي مصر تارة- لا يخفى على من كان يعرف جهاده -والحمد لله- ضد هؤلاء، بل ولي مصنّف في حزب التحرير وبيان عوار ما كانوا عليه من ديانة، لكنهم دائماً يطالبون بالخلافة، ولو انعقدت الخلافة من جبريل عليه السلام لقالوا ببطلانها؛ لأنهم يقصدون أن يكون الخليفة من بينهم هم، فلو انعقدت لجميع الأنبياء والملائكة فهي عندهم باطلة، ولهم في الخلافة منهج منحرف عن منهج أهل السنة والجماعة، فليس هذا بطبيعة الحال ما نعنيه ولا نقصده.
ثم من القائل: إن وجوب نصب الخليفة بدعة؟ هل إذا أتانا الخليفة نقول: لا.
الخلافة بدعة؟! أظن أن كل مسلم صادق عالم بأمر دينه يتمنى أن لو يرسل الله تعالى إلينا خليفة، وإنكم لتعلمون أن الأمة في عز وسيادة وريادة طالما كان فيها خليفة، ولعلكم توقنون أن الذل والهوان ما لحق بالأمة إلا بعد موت آخر خليفة عثماني سنة (1929م) على يد الكلب الهالك مصطفى كمال أتاتورك، فالإسلام ما أُهين إلا بعد موت هذا الخليفة، وكان هذا الخليفة يهدد أوروبا، فلا يمكن للأمة أن ترجع إلى ما كانت عليه من عز في عهد الخليفة العثماني إلا أن يشاء الله تعالى شيئاً آخر.
قال: (وأجمعوا على أنه يجب على المسلمين نصب خليفة، ووجوبه بالشرع لا بالعقل).
أي: إذا أردنا أن نحتج على وجوب نصب الخليفة، فإنما يكون ذلك بنصوص الشرع: قال الله، وقال الرسول، وأجمع الصحابة، أما أن نقول: مستند وجوب الخلافة أتى بالعقل، والعقل يوجب علينا نصب خليفة، والأمور لا يمكن أن تتم إلا بخليفة! فهذه كلها حلول عقلية، ونصب الخليفة دائماً يكون بالشرع لا بالعقل.
قال: (وأما ما حكي عن الأصم أنه قال: لا يجب نصب خليفة، وعن غيره أنه يجب بالعقل لا بالشرع، فباطلان، أما الأصم -الذي قال: لا يجب نصب الخليفة- فمحجوج بإجماع من قبله).
والإجماع حجة، وخاصة إجماع الصحابة الذي لا خلاف عليهم.
قال: (وأما الأصم فمحجوج بإجماع من قبله، ولا حجة له في بقاء الصحابة بلا خليفة في مدة التشاور يوم السقيفة).
يعني: الأصم لما قال: بعدم وجوب نصب الخليفة في كل وقت احتج بالمدة الزمنية اليسيرة بين موت النبي صلى الله عليه وسلم وتنصيب أبي بكر، ولا شك أن هذه المدة ليس فيها حجة مطلقة للأصم؛ لأن الصحابة ما تركوا نصب الخليفة إلا من باب التفاهم في تعيين من هو الخليفة؟ ثم هل يمكن أن يؤخذ من بعض اليوم حجة في عدم الوجوب؟ أبداً لا يمكن أن يكون ذلك، بل كانوا في تلك المدة ساعين في النظر في كل من يعقد له.
وأما القائل الآخر -وهو الذي قال: إن الخليفة يجب نصبه بالعقل لا بالشرع- ففاسد كذلك وفساده ظاهر؛ لأن العقل لا يوجب شيئاً، ولا يحسنه ولا يقبحه؛ لأن التحسين والتقبيح والوجوب والإثم وغير ذلك كله معروف بالشرع لا بالعقل.(18/5)
اختلاف العلماء في نص النبي صلى الله عليه وسلم على إمامة أبي بكر
في هذا الحديث دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينص على خليفة، وهذه المسألة محل نزاع، وقد ثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام نص على خلافة أبي بكر.
قال: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر)، لكن هذا في عموم الاقتداء، ومن الممكن أن يصرف النص عن ظاهره، فتكون خلافة أبي بكر على عموم الاقتداء، وأن هؤلاء من أئمة الهدى، بل أعظم أئمة الهدى من بعده، ولكن لا يلزم أن يكون الخليفة من بعده أبو بكر؛ لأنه يجوز نصب المفضول في وجود الفاضل، وغير ذلك من النصوص، ولا داعي لسردها؛ لأننا لسنا بصدد هذا، وهناك أدلة أخرى كثيرة على نص الإمامة لـ أبي بكر، منها: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) فهذه إمارة الصلاة! والمعروف أن إمارة الصلاة جزء من الإمارة العامة، وليست هي الإمارة العامة، ومع ذلك فالنصوص كلها الواردة في إمارة وخلافة أبي بكر ليست صريحة في الخلافة العامة، بل مؤولة؛ ولذلك لم يختلف أهل السنة والجماعة على أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على إمامة أبي بكر.
فهذه النصوص في ثبوت الإمامة، وأنه من أئمة الهدى إشارة إلى خلافته.
إذاً: خلافة أبي بكر الصديق معلومة بالإشارة، وهذا قول جمهور أهل السنة.
ومنهم من قال: لا.
هذه النصوص كلها تُحمل على الخلافة العظمى، فتكون إمامة أبي بكر معلومة في الدين بالنص الظاهر.
وهذه المسألة من مسائل الخلاف عند أهل السنة والجماعة، ولذلك هم لا يبدّعون ولا يفسّقون المخالف؛ لأن هذه من مسائل الخلاف المعتبر عند أهل السنة والجماعة، تماماً كما في التفضيل بين عثمان وعلي رضي الله عنهما، فمنهم من كان يفضّل عثمان على علي، ومنهم من كان يفعل العكس، ويقولون: إمامة عثمان بن عفان جائزة في حضور علي بن أبي طالب وإن كان علي أفضل منه، لكن انعقد الإجماع بعد ذلك على رفع هذا الكلام، وأن عثمان أفضل من علي، وأولى بالإمامة من علي، وأن الخلفاء الراشدين الأربعة على ترتيبهم في الخلافة هم على ترتيبهم في الفضل، فـ أبو بكر أفضل من عمر، وعمر أفضل من عثمان، وعثمان أفضل من علي، وهذا هو الراجح.
وكما قال الأصوليون: الإجماع بعد الخلاف يقطعه.
إذا كانت هناك مسألة محل نزاع، ثم عقد الإجماع بعد ذلك على أحد الرأيين، فلا شك أن الخلاف قبل ذلك ينقطع.
ففي هذا الحديث دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينص على خليفة وهو إجماع أهل السنة وغيرهم.
قال القاضي: وخالف في ذلك بكر ابن أخت عبد الواحد، فزعم أنه نص على أبي بكر.
وقال ابن الراوندي: نص على العباس.
وقال الشيعة والرافضة: نص على علي.
وهذه دعاوى باطلة وتحفيز على الافتراء، ووقاحة في مكابرة الحس؛ وذلك لأن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على اختيار أبي بكر، وعلى تنفيذ عهده إلى عمر، وعلى تنفيذ عهد عمر بالشورى، ولم يخالف في شيء من هذا أحد، ولم يدع علي ولا العباس ولا أبو بكر وصيتهم في وقت من الأوقات، وقد اتفق علي والعباس على جميع هذا من غير ضرورة مانعة من ذكر وصية لو كانت.
فمن زعم أنه كان لأحد منهم وصية -كما تزعم الشيعة- فقد وصف الأمة إلى اجتماعها على الخطأ، واستمرارها عليه، وكيف يحل لأحد من أهل القبلة أن ينسب الصحابة إلى المواطأة والكذب والاتفاق على الباطل في كل هذه الأحوال، ولو كان شيء لنُقل، وإنه من الأمور الموضوعة.(18/6)
باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها
قال: (باب: النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها) أي: الإمارة العامة أو الخاصة.
قال: [حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا جرير بن حازم حدثنا الحسن -وهو ابن أبي الحسن البصري - حدثنا عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عبد الرحمن! لا تسأل الإمارة.
فإنك إن أعطيتها عن مسألة أكلت إليها) وفي رواية: (وكلت إليها -إما بالهمز وإما بالواو: أكلت أو وكلت إليها- وإن أعطيتها عن غير مسألة أعُنت عليها).
يعني: أعانك الله عليها.
شيء يفرض عليك فرضاً بخلاف شيء تطلبه أنت طلباً، فالذي تطلبه أنت لا تُعان عليه، والذي يُفرض عليك فرضاً يعينك الله تعالى عليه.
قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن العلاء قالا: حدثنا أبو أسامة عن بريد بن عبد الله عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري قال: (دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من بني عمي)].
يعني: من الأشعريين، وهناك فرق بين الأشعريين والأشاعرة، وإن كان أصل النسب واحداً؛ لأن أبا الحسن الأشعري هو منسوب إلى قبيلة الأشعريين أيضاً.
قال: [(دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم.
أنا ورجلان من بني عمي فقال أحد الرجلين: يا رسول الله! أمّرنا على بعض ما ولاك الله عز وجل)].
يعني: أمّرنا على أي شيء حتى ولو كان كوماً من تراب.
فإذا كان يفهم من ذلك أن الإمارة إلى هذا الحد، فلماذا ننقم على غيرنا ممن لا دين له ولا علم عنده ولا تقوى ولا صيام ولا صلاة ولا زكاة، وهو حريص على الإمارة؟ قال: [(فقال أحد الرجلين: يا رسول الله! أمّرنا على بعض ما ولاك الله عز وجل، وقال الآخر مثل ذلك، فقال: إنا والله لا نولي على هذا العمل أحداً سأله ولا أحداً حرص عليه)].
لأن سؤال السائل يدل على الرعونة والسفاهة والطيش والتطلّع، وبالتالي فإن هذه الأخلاق القلبية الرذيلة لا تؤهل المرء أبداً لأن يتولى عملاً، ولا يتولاه إلا من كان نقي العلم والعقل والعمل والقلب، هذا يكون أعظم للإمامة والإمارة.
قال العلماء: الحكمة في عدم تولية من سأل الولاية: أنه يوكل إليها، ولا تكون معه إعانة من الله عز وجل.(18/7)
نماذج من ورع السلف ورفضهم للولاية
يذكر أن سفيان الثوري رحمه الله أرسل إليه الوالي ليعطيه القضاء، فامتنع سفيان، فحمله الوالي على المجيء فجاء ودخل مجلس الوالي، فطلبوا منه أن يتولى القضاء، فقام سفيان بأفعال غريبة حتى سال لعابه من فمه؛ ليظن الحاضرون أنه معتوه، وأنه لا يفهم شيئاً، فقال له الأمير: مهما عملت لابد أن تتولى القضاء، فلما حمله على ذلك قال له: دعني أستخير وأستشير وأرد عليك، قال: سترجع إلينا ثانية؟ قال: سأرجع، فخرج من مجلس الأمير وترك نعله، ثم عاد فأخذ نعله وانصرف، فتنبه أحد العلماء الحاضرين لذلك فقال: لن يرجع إليك أيها الأمير! قال: ولم؟ قال: إنه وعدك بأن يرجع، وقد ترك نعله في المجلس فرجع كما وعدك وأخذه، فلن يرجع إلى هنا مرة أخرى.
وأبو حنيفة رحمه الله جلد بسبب رفضه للقضاء سبع مرات.
أما اليوم فانظروا إلى السفهاء والحمقى والمغفلين الذين يدفعون آلافاً، بل ملايين الجنيهات من أجل أن يتولوا منصب القضاء وهم لا يُحسنون أن يقضوا في شعيرة أو في حزمة جرجير، ومع هذا يفتون في الدماء والأموال والأعراض، ويتولون القضاء مع سكرهم وعربدتهم وسلوكهم المنحرف، ومجالسهم كلها مشبوهة، وأعمالهم كلها مبنية على الرشوات، ومع هذا يدفعون الآلاف والملايين لأجل الحصول على كرسي ذي رجلين أو ثلاثة لا أقول أربعة، وإنما كرسي مكسر، يريدون أن يكونوا قضاة، حتى ولو كان العمل حقيراً مرذولاً، وفرق بين كون هذا العمل حقاً لك تسعى للحصول عليه، ولا سبيل إليه إلا بالمال، أو تدفع المال لترد ولا سبيل لرفعه إلا بالمال، أما أن تكون عالماً بأن هذا المكان لست أهلاً له ثم تسعى إليه فهذا جرم عظيم وكبيرة من الكبائر؛ فإنه لا يجوز لأحد قط أن يسعى لولاية إلا إذا رأى عجز الناس عنها، ورأى من نفسه رشداً في ذلك، فإن يوسف عليه السلام: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]، أي: اجعلني وزير المال، فإنه لا أحد في ولايتك ولا في إمامتك يستطيع أن يقوم بهذه المهمة، وأنا على خبرة بذلك، فأنا أهل لذلك المنصب.(18/8)
شرح حديث: (لا نستعمل على عملنا من أراده ومن طلبه)
قال: [حدثنا عبيد الله بن سعيد ومحمد بن حاتم -واللفظ له- قالا: حدثنا يحيى بن سعيد القطان حدثنا قرة بن خالد حدثنا حميد بن هلال حدثني أبو بردة قال: قال أبو موسى: (أقبلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعي رجلان من الأشعريين، أحدهما عن يميني والآخر عن يساري، فكلاهما سأل العمل، والنبي صلى الله عليه وسلم يستاك)].
يعني: سألاه أن يكون عاملين.
أي: واليين؛ لأن الوالي اسمه عامل.
يعني: عامل للسلطان على البلدة الفلانية.
قال: [(والنبي صلى الله عليه وسلم يستاك)].
يعني: يتسوك بالسواك.
قال: [(فقال: ما تقول يا أبا موسى! أو يا عبد الله بن قيس؟! قال: فقلت: والذي بعثك بالحق ما أطلعاني على ما في أنفسهما، وما شعرت أنهما يطلبان العمل)].
كان أبو موسى سيد الأشعريين؛ ولذلك نسب النبي صلى الله عليه وسلم إليه القول من باب أن يكلّم العظيم العظماء، فرد بقوله هذا، واعتذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم لم يخبراه ولم يطلعاه على ما في أنفسهما.
[قال: (وكأني أنظر إلى سواكه تحت شفته وقد قلصت -يعني: قرضه- فقال: لن -أو- لا نستعمل على عملنا من أراده ومن طلبه، ولكن اذهب أنت يا أبا موسى! أو يا عبد الله بن قيس! فبعثه على اليمن)] والياً.
اللذان جاءا معه وطلبا الإمارة حرماها، وأخذها أبو موسى لأنه لم يطلبها.
قال: [(ثم أتبعه معاذ بن جبل، فلما قدم عليه، قال: انزل)].(18/9)
الرد على من قال لا يعمل بخبر الآحاد مع بيان بعض أحكام المرتد
أرسل النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أبا موسى الأشعري ليعلم الناس كلمة التوحيد وهو واحد، ثم أردفه بـ معاذ بن جبل لكي يعلم الناس في مكان آخر، فإن استجابوا علماهم الشرائع.
إذاً: فـ أبو موسى الأشعري آحاد، وكذلك معاذ آحاد، وعلي بن أبي طالب آحاد، وهذا يدل على أن خبر الواحد تقوم به الحجة في العقائد والأحكام، خلافاً للمعتزلة الذين أنكروا ذلك وقالوا: لا يجوز الاحتجاج بخبر الواحد في العقائد، إنما يحتج بالخبر المتواتر قرآناً أو سنة متواترة.
قال: [(فلما قدم معاذ عليه -أي: على أبي موسى - قال: انزل، وألقى له وسادة)].
وسادة يعني: مخدة، وهذا منتهى الإكرام.
يقول: [قال: (وإذا رجل عنده موثق)].
أي: عند أبي موسى شخص مقيد بالسلاسل.
[(قال -أي: معاذ بن جبل لـ أبي موسى -: ما هذا؟ قال: هذا كان يهودياً فأسلم، ثم راجع دينه دين السوء فتهود.
قال: لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله)].
أرأيتم؟ معاذاً لا يريد أن يجلس أبداً حتى يقتل، فليس هناك سلام قط مع اليهود.
قال: [(اجلس.
نعم.
قال: لا أجلس حتى يقتل.
قضاء الله ورسوله)].
كأن قضاء الله ألا يجلس معهم حتى يُقتل هذا اليهودي.
قال: [(قال ذلك ثلاث مرات، فأمر به فقُتل، ثم تذاكرا القيام من الليل)].
يعني: كأنه بعد مقتل هذا اليهودي قال أبو موسى لـ معاذ: ماذا تعمل في قيام الليل؟ فلو كان هذا في زماننا فإن العالم كله ينقلب؛ لأن أبا موسى قتل رجلاً يهودياً.
إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أما من أتانا منهم فنرده إليهم، وأما من ذهب منا إليهم فأبعده الله).
أي: نحن لسنا حريصين على من أسلم ويريد أن يرتد، فالذي يريد أن يرتد يرتد، فإن أهم شيء هو الثبات على العقيدة، هل أنا أحامي وأدافع عن أناس، وأضع يدي على قلب من أراد الكفر وأقول له: لا تكفر؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم علّم هذا الدرس لـ خباب بن الأرت لما قال له: (ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فغضب النبي صلى الله عليه وسلم واحمر وجهه، ثم اعتدل وكان متكئاً مسنداً ظهره إلى الكعبة، وقال: إن من كان قبلكم كان ينشر بالمناشير من رأسه إلى قدميه حتى يلقى على الأرض فلقتين لا يرده ذلك عن دينه).
وفي هذا الزمان تجد العلمانيين والمشركين كثيرين جداً من كُتَّاب وصحفيين يلحدون في الله عز وجل وينكرون وجوده وينكرون شريعته، ويفعلون ذلك آلاف المرات في مقالاتهم، المقال الواحد فيه عشرة مواطن من مواطن الردة، والغريب بعد ذلك كله تجد بعض المشايخ يختلف مع البعض في إثبات الردة لهؤلاء.
قال: [(ثم تذاكرا القيام من الليل، فقال أحدهما -أي: معاذ -: أما أنا فأنام وأقوم، وأرجو في نومتي ما أرجو في قومتي)].
يعني: أنا أرجو الله تعالى في نومتي ما كنت أرجوه في قومتي؛ لأنني بنومتي أتقوى به على الطاعة، وكذلك أرجو في وقت طعامي أرجوه في وقت قيامي؛ لأني آكل لأتقوى به على الصيام، وأنام لأتقوى به على القيام، فإني أرجو الله تعالى بهذا وذاك.
أما قوله: (لا أجلس حتى يُقتل، فأمر به فقتل) ففيه: وجوب قتل المرتد، ولا أصرح من ذلك من قوله عليه الصلاة والسلام: (من بدّل دينه فاقتلوه).
مرة التقيت نصرانياً في شارع الهرم، وجلست معه جلسة، ثم قلت له: ما هو حكمكم على النصراني الذي يسلم؟ قال: القتل.
قلت له: لماذا؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من بدّل دينه فاقتلوه).
أنت تحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا؟ إن الشيعة حين يجدون حديثاً صحيحاً في البخاري ومسلم يقولون: عندكم! معناه: أنه عندنا شيء وعندهم شيء آخر، فهم متأكدون أن هذه مسألة مفاصلة بين الشيعة والسنة، ونحن ننعق بالليل والنهار في التقريب بين الشيعة والسنة! قال النصراني النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من بدّل دينه فاقتلوه).
فالذي يسلم عندنا لا ريب أنه يستحق القتل، والكنيسة قررت ذلك.
فإذا كان اليهود والنصارى يحتجون بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدّل دينه فاقتلوه)، فالمسلمون يحتجون به من باب أولى؛ لأن الخطاب موجه للأمة: من بدّل دينه يا معشر الأمة! ويا معشر الخلفاء! فاقتلوه.
وقد أجمعوا على قتله، لكن اختلفوا في الاستتابة.
يعني: هل يستتاب من بدّل دينه وارتد قبل القتل أم يُقتل؟ منهم من قال: يُقتل بغير استتابة، ومنهم من قال: يُقتل بعد الاستتابة.
واختلفوا في الاستتابة.
فقيل: يوم.
وقيل: ثلاث.
وقيل: شهر.
فإن تاب وإلا قُتل.
وقال القاضي عياض: (وفي هذا الحديث أن لأمراء الأمصار -أي: للولاة الذين عي(18/10)
شرح صحيح مسلم - كتاب الإمارة - غلظ تحريم الغلول
لقد ثبت بالكتاب والسنة غلظ تحريم الغلول، وهو الأخذ من الغنيمة قبل توزيعها، وهو نوع من أنواع السرقة، ولكن لا يقام على من فعله حد السرقة؛ لأن للغال حظّاً في الغنيمة فوجدت الشبهة التي تدرأ الحد، وقد بين النبي عليه الصلاة والسلام أن عقوبة الغال يوم القيامة أن يأتي بما غلَّ على رقبته، وقد أجمع العلماء على أن الغلول كبيرة من الكبائر، كما أجمعوا على جواز أخذ شيء من الغنائم كالطعام والشراب والسلاح بشرط الحاجة إليه واستخدامه في المعركة ثم إرجاعه إلى الغنيمة.(19/1)
باب غلظ تحريم الغلول
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.(19/2)
شرح أحاديث ذكر الغلول وتعظيم أمره
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وحدثني زهير بن حرب] أبو خيثمة النسائي، نزيل بغداد، روى عنه الإمام مسلم أكثر من ألف حديث، فهو من أكابر شيوخ الإمام مسلم [قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم] وهو المعروف بـ ابن علية إسماعيل بن علية بن مقسم الأسدي الضبي أبو بشر البصري [عن أبي حيان] وهو يحيى بن سعيد بن حيان، وهو تيمي كوفي [عن أبي زرعة] وهو ابن عمرو بن جرير البجلي الكوفي، وأبو زرعة مختلف في اسمه جداً على عدة أقوال: فهو مشهور ومعروف بكنيته، ولذلك استغنى الرواة عن ذكر أسماء مختلفة بذكر المتفق عليه وهو الكنية أبو زرعة، اشتهر بالرواية عن أبي هريرة رضي الله عنه، كما أن أبا هريرة اختلف في اسمه واسم أبيه على نحو ثلاثين اسماً، لكنه مشهور بكنية واحدة: أبو هريرة.
[قال أبو هريرة: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فذكر الغلول، فعظّمه وعظّم أمره)].
والغلول: نوع من أنواع السرقة، لكنه ليس بالسرقة التي يقام عليها حد القطع؛ لأن الذي يغل هو الذي يأخذ من مال الغنيمة قبل توزيعها على الجند المقاتلين، وله فيها حظ ونصيب؛ ولذلك لم يأمر الشرع بقطع يد الغال لهذه الشبهة.
شبهة أن له في هذا المال نصيباً كالذي يسرق مالاً مشتركاً بينه وبين شريك له مع أنه سارق، لكن لا تقطع يده، لقيام الشبهة.
والحدود تدرأ بالشبهات، فهذا الذي سرق مالاً له فيه شريك لا يقام عليه الحد؛ لأن له في هذا المال حظاً وملكاً، وهذا الحظ والملك يسمى في الشرع شبهة، تُدرأ بها الحدود فلا تقطع يده.
فالغلول: هو الأخذ من الغنيمة قبل أن يقسمها الإمام.
ولا شك أن ثبوت الحظ فيها لهذا الغال؛ لكونه من المقاتلين يدرأ عنه الحد، لكن له عقوبة أخرى كما أن النصّاب له عقوبة أخرى.
المحتال لأخذ المال له عقوبة، والسارق من الحرز له عقوبة، وإن كان يصدق على كل هؤلاء اسم السرقة، لكن لكل واحد منهم تصنيف: هذا سرقة، وهذا غلول، وهذا نصب واحتيال إلى غير ذلك من التصانيف الشرعية للفعل الواحد.
ولذلك أُسندت إقامة الحدود إلى السلطان لا إلى الأفراد؛ لأن الأفراد ليس عندهم التأهيل العلمي لجعل كل سرقة في مكانها، وإنما يعدون كل أخذ أموال الغير بغير حق سرقة ونصباً واحتيالاً، وربما لا يفرّقون بين العقوبات، فيقطعون يد كل من أخذ مال الغير حتى وإن كان عن طريق النصب، والنصب له عقوبة أخرى ليست هي القطع، والاحتيال كذلك، والغلول كذلك، وإن كان الكل يشترك في معنى واحد وهو أخذ أموال الغير بلا حق ولا بيّنة.
قال: [(قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الغلول فعظّمه وعظّم أمره).
أي: ذكر أنه أمر عظيم شنيع جداً.
ليس معنى (فعظّمه): أنه أمرٌ عظيم شريف.
وإنما معناه: فعظّم أمره جداً، وهوّله جداً، وخوفنا منه جداً.
قال: [(ثم قال: لا ألفين)] أي: لا أجد.
وفي رواية: [(لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء)] يعني: حذار أن أجد أحداً منكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته بعير قد حمله.
قال: (له رغاء) والرغاء: اسم لصوت البعير [(يقول: يا رسول الله! أغثني -أي: اشفع لي الآن- فأقول: لا أملك لك شيئاً.
قد أبلغتك)] أي: أنا من قبل في الحياة الدنيا قد حذّرتك.
قال: [(لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة -الحمحمة: هي صوت الفرس- فيقول: يا رسول الله! أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً.
قد أبلغتك.
لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء -وهو اسم لصوت الشاة- يقول: يا رسول الله! أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً.
قد أبلغتك.
لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح)] النفس لفظ عام، فربما سرق من الأسرى واحداً، أو من الإماء واحدة، وربما يكون المعنى أعم من ذلك.
قال: [(فيقول: يا رسول الله أغثني.
فأقول لا أملك لك شيئاً.
قد أبلغتك.
لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق، ولو شيئاً من جلد يسير، فيقول: يا رسول الله أغثني.
فأقول: لا أملك لك شيئاً.
قد أبلغتك.
لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت -والصامت هو الذهب والفضة.
أي: يسرق شيئاً من أموال الغنائم ذهباً أو فضة- فيقول: يا رسول الله! أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك).
وحدثني أبو بكر بن أبي شيبة -وهو عبد الله بن محمد بن إبراهيم الكوفي المعروف بـ أبي بكر - قال: حدثنا عبد الرحيم بن سليمان] وهو الكناني المعروف بـ أبي علي الأشل وهو مروزي الأصل، نزل الكوفة وله تصانيف مف(19/3)
كلام النووي في شرح أحاديث تعظيم أمر الغلول
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.(19/4)
التصريح بغلظ تحريم الغلول
قال الإمام النووي: (قوله: (ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلول فعظّمه وعظّم أمره).
قال: هذا تصريح بغلظ تحريم الغلول)، ومعنى: غلظ.
أي: ينقله من كونه صغيراً إلى الكبير.
أي أن كلمة الزجر الشديد أو علامة الزجر الشديد أمارة على أن الفعل المنهي عنه كبيرة من الكبائر، كما لو جاء في الفعل عقوبة أو وعيد بالنار أو العذاب أو البراءة أو اللعن، فكون هذا علامة على أن هذا الفعل الذي ترتب عليه هذا الزجر الشديد يدل على أنه كبيرة من الكبائر.
وكذلك من علامة الكبيرة: الحد في الدنيا.
وكذلك من علامات الكبيرة: إرجاء العذاب أو العفو إلى يوم القيامة، إلى مشيئة الله عز وجل إن شاء عذّبه وإن شاء غفر له: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} [المائدة:40].
فهذه وغيرها من العلامات لاعتبار هذا الفعل الذي ترتب عليه هذا العقاب أو إقامة الحد في الدنيا دليل على أن الفعل كبيرة؛ لأنه لا حد على الصغائر، وإنما الصغائر فيها التعزير، والتعزير لا يزيد عن عشر جلدات، فما ضرب النبي صلى الله عليه وسلم حداً قط أكثر من عشر جلدات في صغيرة من الصغائر.
قال: (تصريح بغلظ تحريم الغلول، وأصل الغلول في اللغة: الخيانة -والخيانة تصدق كذلك على النصب والاحتيال والسرقة والغلول وغير ذلك- ثم غلب اختصاصه في الاستعمال بالخيانة في الغنيمة) يعني: أن تقع الخيانة في الغنيمة فهذا اسمه في الشرع غلول، وفي اللغة: غلول وخيانة.
(قال نفطويه: سمي بذلك لأن الأيدي مغلولة عنه.
أي: محبوسة).
أي: حبس الشرع الأيدي أن تمتد إلى هذه الأموال ولو كانت تحت أيديها، ومعنى أن الشرع حبس الأيدي أي: منعها من تناول هذا الشيء على سبيل التملك.(19/5)
تحريم السرقة من المغنم وبيان مصارف الفيء
المعلوم أن الفارس إذا تتبع العدو فقتله غنمه، وأخذ منه فرسه وسلاحه ومتاعه وطعامه وشرابه وغير ذلك، فالمعلوم أنه موكل إلى إيمانه وإلى تقواه وإلى الوازع الإيماني في قلبه؛ لأن هذا مال بين يديه، فالمطلوب منه أن يتناول هذا المال وأن يسلمه للإمام، ولذلك حبس الشرع يد المقاتل أن تمتد لشيء من الغنيمة إلا على سبيل نقلها إلى الإمام، أما على سبيل التملك فهذا غلول وسرقة، وتملك بغير حق شرعي، ولا يصح التملك من الغنيمة إلا بعد إذن الإمام بإعطاء السهم، إذا كان هذا من الغنيمة، وإذا كان من الفيء فلا حظ للمقاتل؛ لأنه لا يقاتل أصلاً، والفيء ما أخذه المسلمون صلحاً أو أماناً أو عهداً أو خراجاً أو نزولاً على بقائهم في بلادهم -أي: بقاء الكافرين في بلادهم- على أن يؤدوا من المال ومن الثمر كيت وكيت على حسب ما يتفق الإمام مع هؤلاء.
أي: أصحاب الأرض.
فحينئذ للإمام أن يأخذ هذا المال وأن يقسّمه على فئات معينة وليس على كل فئة؛ ولذلك قال الله تعالى في غزوة بني النضير: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7].
مرد ذلك إلى أن هذا شيء أخذه النبي عليه الصلاة والسلام من بني النضير دون قتال، -أي: دون قتال يُذكر- ويستحق أن يسمى هذا المال غنيمة، وإنما هو فيء أخذه المسلمون بغير قتال، فكان الفيء موزّعاً على هذه المصارف الخمسة: لله.
أي: للمجاهدين وإعداد الجيوش.
وللرسول: أي لخاصة الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل بيته أي: أزواجه، ولذوي القربى أي بني هاشم وبني عبد المطلب؛ لأن الصدقة محرمة عليهم؛ فعوضهم الله تعالى سهماً من أسهم الفيء.
ولليتامى.
أي: لفقراء اليتامى.
وابن السبيل.
حتى وإن كان غنياً وانقطع به الطريق فيأخذ حتى يتبلّغ إلى مكانه وإلى ماله.
قال: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ} [الحشر:7] أي: مالاً متداولاً بين الأغنياء كما كان هذا الأمر في الجاهلية، كانت القبيلة إذا قاتلت قبيلة أخرى وانتصرت عليها أخذوا أموالها ووضعت بين يدي شيخ القبيلة الغالبة المنتصرة، فيأخذ منها الربع حقاً خالصاً له، ثم يأخذ منها ما اشتهته نفسه بعد الربع؛ ولذلك قال شاعرهم: لك المرباع منها والصفايا.
أي: الربع منها وما يصفو لك منها بعد ذلك على حسب ما تشتهيه نفسك، وأما نحن فلنا الحثالة والباقي، سواء كان قليلاً أو كثيراً على حسب نصيبنا وحظنا، فنهى الإسلام عن هذا وقال: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر:7] وحينما كان الأمر هذا لا يمكن تقريره إلا بتقوى الله قال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحشر:7].
ثم بيّن عاقبة مخالفة التقوى ومخالفة تقسيم الفيء على هذا النحو فقال: {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7] أي: إذا لم يكن ذلك منكم على مقتضى تقوى الله والخوف منه فإن الله تعالى شديد العقاب في الدنيا والآخرة.
هذا بالنسبة للفيء، أما بالنسبة للغنيمة فللفارس سهم وللفرس سهمين.(19/6)
معنى قوله: (لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير)
قال: (قوله: (لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء).
أي: لا أجدن أحدكم على هذه الصفة.
ومعناه: لا تعملوا عملاً أجدكم بسببه على هذه الصفة.
والرغاء بالمد: صوت البعير، وكذلك المذكورات بعده هي أسماء أصوات لها.(19/7)
الرد على شبهة الاستدلال بقوله (لا أملك لك من الله شيئاً) على إنكار شفاعة النبي لأصحاب الكبائر
قوله: (لا أملك لك من الله شيئاً) أي: أنا يا رسول الله! ارتكبت كبيرة وأتيت هذا الوقت لتشفع لي.
فقوله: (لا أملك لك شيئاً) يعتمد الملاحدة على هذه اللفظة في نفي شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة لأصحاب الكبائر، ويقولون: لا شفاعة للنبي عليه الصلاة والسلام.
وبلا شك لأول وهلة أن هذه شبهة، والنبي عليه الصلاة والسلام قد ثبت عنه أنه قال: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) فما باله عليه الصلاة والسلام يتخلى في هذا الحديث عن صاحب الكبيرة ويقول: (اليوم لا أملك لك من الله شيئاً) قد حذّرتك وقد منعتك وخيرتك في الدنيا فلم تطع.
الجواب
يكون ذلك أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر وفي أول وهلة إذا طلب منه الواحد -وليست الأمة- أن يشفع له يقول: الآن وفي هذا التوقيت لا أملك لك أنت شخصياً وقد حذّرتك، فالنبي صلى الله عليه وسلم يعتذر عن الشفاعة أولاً، حتى يأتي موعدها العام بأمر الله تعالى.
أليس النبي عليه الصلاة والسلام قد قال في حديث الشفاعة: (ثم آتي فأسجد تحت العرش، فأُلهم محامد لم أكن أحمد بها من قبل، فيقول لي ربي تبارك وتعالى: يا محمد ارفع رأسك، وقل تسمع، واشفع تشفّع)؟ فحينئذ من الذي يأذن له في الشفاعة؟ الله عز وجل.
أما في أول الأمر وفي أول البعث والحشر يأتيه فلان أو علان لوقوعه في كبيرة أو في معصية فيقول له: اشفع لي يا رسول الله! فيقول: الآن وفي هذا التوقيت بالذات أنا لا أملك الشفاعة، فالشفاعة لها وقت مخصوص ومكان معلوم ليس هذا أوانها، فاعتذاره عليه الصلاة والسلام عن الشفاعة أولاً لأن هذا ليس وقتها، إنما وقتها يأتي بعد، ثم يشفع في جميع الموحدين عليه الصلاة والسلام بعد ذلك لا في واحد دون الآخر.(19/8)
الاستدلال بحديث الباب على وجوب زكاة العروض وبيان خلاف العلماء في ذلك
قال: (واستدل بعض العلماء بهذا الحديث على وجوب زكاة العروض -أي: عروض التجارة- وكذلك زكاة الخيل، ولا دلالة فيه لواحد منهما؛ لأن هذا الحديث في عقوبة الغلول).
وزكاة العروض محلها الزكاة، والربط بين هذا الحديث وبين زكاة العروض بعيد جداً، بل الاستدلال به استدلال باطل في غير محله.
والحديث الذي ورد في زكاة العروض حديث ضعيف باتفاق المحدثين، ولكن الجمهور اعتمدوا عليه في مشروعية زكاة العروض.
والقول بالمشروعية يشمل الاستحباب والوجوب؛ ولذلك يهرب كثير من الناس من توصيف زكاة العروض، فيقول: زكاة العروض مشروعة.
ولا يقول: مستحبة أو غير ذلك.
أما الجمهور فقد ذهبوا إلى وجوب زكاة العروض، واعتمدوا على هذا النص وعلى نص آخر ضعيف، ولكنه صريح في وجوب الزكاة، ويا ليته صح! وذهب الظاهرية إلى عدم مشروعية زكاة العروض، أما جماهير علماء الأمة سلفاً وخلفاً فعلى مشروعية زكاة العروض، واختلفوا فيما إذا كانت واجبة أو مستحبة، فالذي اجتهد في إثبات الحديث قال: بوجوب زكاة العروض.
وجمهور أهل العلم قال بأن الحديث فيه نزاع أو هو ضعيف، ولكنه في باب فضائل الأعمال؛ وهو أكبر عون على مواساة الفقراء في مال الأغنياء وغير ذلك، فقالوا باستحباب زكاة عروض التجارة.(19/9)
إجماع العلماء على تغليظ تحريم الغلول وأنه من الكبائر
قال: (وأجمع المسلمون على تغليظ تحريم الغلول، وأنه من الكبائر).
إذاً: إثبات الغلول وبعد ثبوته يثبت فيه الغلظ أو التغليظ الشديد في التحريم، فهذا التغليظ يجعل الفعل كبيرة من الكبائر بكتاب الله عز وجل وبسنة النبي عليه الصلاة والسلام، وبإجماع أهل العلم، وهذه مصادر التشريع المعتبرة، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161] نفى الله عز وجل وبرأ صفحة الأنبياء أن يقعوا في مثل هذه الكبيرة أبداً {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} [آل عمران:161] أي: ما وقع الغلول ولن يقع من نبي قط، ثم قال الله تعالى: ((وَمَنْ)) من ألفاظ العموم، ((وَمَنْ يَغْلُلْ)) أي: من بقية الناس وبقية الخلق {يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161] يأت به على هذه الصفة.
إذا غل فرساً يأتي به قد حمله على رقبته له حمحمة، وإذا كان بعيراً له رغاء، وإذا كانت شاءً أو ذهباً أو فضة يأتي بما غل وإن كان شيئاً من جلد يسير، أو عوداً من أراك.
يعني: شعيرة يسيرة جداً من ضمن عود الأراك وهو السواك.(19/10)
وجوب رد الغال لما غله وبيان كيفية التصرف فيه
قال: (وأجمعوا على أن عليه رد ما غلّه، فإن تفرق الجيش وتعذر إيصال حق كل واحد إليه ففيه خلاف بين العلماء.
قال الشافعي وطائفة: يجب تسليمه إلى الإمام أو الحاكم كسائر الأموال الضائعة.
وقال ابن مسعود وابن عباس ومعاوية والحسن والزهري والأوزاعي ومالك والثوري والليث وأحمد والجمهور: يدفع خمسه إلى الإمام ويتصدق بالباقي).
فالعلماء كافة قالوا بعقوبة الغال.
قالوا: إما أن يتوب إلى الله عز وجل قبل أن يوزع الإمام الفيء أو الغنيمة على الناس، وإما أن تكون التوبة وإرجاع الأموال بعد تفرّق الناس وأخذ كل ذي حق حقه.
قالوا: فإن تاب قبل توزيع الغنيمة وقبل تفرق الناس قُبل منه ذلك ويجب على الإمام أن يأخذ منه ما قد غل، أما إذا تفرّق الناس وقد أخذوا غنائمهم وأنصبتهم فقال الشافعي: يدفع مال الغلول إلى السلطان والأمير والحاكم، ويتوب إلى الله عز وجل ولا شيء عليه.
وقال جماهير أهل العلم: يأخذ الإمام الخمس من مصلحة العامة ويتصدق هذا الغال بالأربعة الأخماس الباقية معه، وهذا الرأي هو الصحيح.
أما مذهب الشافعي فضعيف، ومذهب الجمهور يستند إلى حديث ضعيف كذلك، وقد ورد في سنن أبي داود، أما عمل الأمة في أزمنتها الأولى فبمذهب الجمهور.(19/11)
اختلاف العلماء في صفة عقوبة الغال
قال: (واختلفوا -كذلك- في صفة عقوبة الغال.
فقال جمهور العلماء وأئمة الأمصار: يعزر).
مع أنه كبيرة؛ لأنه ليس كل كبيرة فيها حد.
فعقوق الوالدين كبيرة عليه عقوبة في الدنيا لكن ليس عليه الحد، وإنما ورد في شأنها الوعيد الشديد، وهذا الوعيد جعلها كبيرة من الكبائر، فكذلك الغلول قد ورد فيه الوعيد الشديد فجعله كبيرة، لكن لم يرتب الشرع عليها حداً.
(فقال الجمهور: يعزّر على حسب ما يراه الإمام، ولا يحرق متاعه).
قياساً على مانع الزكاة، وقد ورد في لفظ أن مانع الزكاة يؤخذ منه نصف ماله ويُحرق متاعه، وهو حديث ضعيف.
وقيل: صحيح.
ولكنه مكروه.
فالقول الأول أنه يعزّر على حسب ما يراه الإمام والسلطان ولا يحرق متاعه.
(وهذا قول مالك والشافعي وأبي حنيفة ومن لا يحصى من الصحابة والتابعين ومن بعدهم عدة، أما مكحول والحسن والأوزاعي فقالوا: يُحرق رحله ومتاعه كله).
فـ الأوزاعي قال: (من غل أُحرق متاعه إلا السلاح والثياب التي يلبسها.
وقال الحسن: إلا الحيوان والمصحف.
واحتجوا بحديث عبد الله بن عمر في تحريق رحله.
قال الجمهور: وهذا حديث ضعيف؛ لأنه مما انفرد به صالح بن محمد عن سالم وهو ضعيف.
قال الطحاوي: ولو صح يُحمل على أنه كان إذا كانت العقوبة بالأموال كأخذ شطر المال من مانع الزكاة وضالة الإبل وسارق التمر، وكل ذلك منسوخ، والله أعلم).(19/12)
حكم أخذ المقاتلين شيئاً من الغنائم تدعو الحاجة إليه قبل توزيعها
إن قيل: هل يحرم على جميع المقاتلين أخذ أي شيء من الغنائم؟
الجواب
لهم أن يأخذوا طعامهم، كما ثبت من قبل في الصحيح أنهم كانوا يأخذون العسل والسمن، وكانوا يأخذون علف الدواب، وما دعت إليه الحاجة للقتال -أي: لمصلحة القتال والنصر- فلو أن مجاهداً سقط من على فرسه أو أخذ العدو سلاحه فوجد سلاحاً لكافر ملقى على الأرض فإنه له أن يأخذه ليقاتل به، فإذا فرغ من القتال رد السلاح إلى الغنيمة، وإن كاد يموت جوعاً أو عطشاً، ووجد في متاع كافر قد قتله وأخذ سلبه طعاماً وشراباً فإنه يجوز له أن يأكل ويشرب.
إذاً: ما دعت إليه الحاجة من مال العدو وطعامه وشرابه وسلاحه وفرسه فله أن يستخدمه ويرد ما فضل عن حاجته بعد الحرب إلى الإمام.(19/13)
حكم الإسهام للغال من الغنيمة
هل يأخذ الغال سهمه من الغنيمة؟ نحن اتفقنا على أنه قد غل، لكن هذا الغال قبل الغلول له سهم أم ليس له؟
الجواب
له سهم.
فغلوله شيء واستحقاقه لسهمه في الغنيمة شيء آخر، أما استحقاقه فيجب دفع الحق إليه، وأما غلوله فله حكم آخر، أن يرد ما غل ويتوب إلى الله عز وجل.
وبعض العلماء قال: جزاء وقوعه في الغلول يُحرم السهم.
وهكذا اختلف العلماء على هذين المذهبين، فمذهب الجمهور: أنه يأخذ سهمه؛ لأن هذا حق ثابت له أثبته الشرع، فيدفع إليه بأمر الشرع، أما الذي فعله فقد رتّب الشرع عليه شيئاً آخر، أوجب عليه التوبة، وأوجب عليه دفع المال، والتخلّص منه على النحو السابق، فهذا شيء واستحقاقه شيء آخر، وهذا الذي يعجبني من هذين الرأيين.(19/14)
باب تحريم هدايا العمال
قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وابن أبي عمر محمد بن يحيى واللفظ- واللفظ لـ أبي بكر بن أبي شيبة - قالوا: حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة عن أبي حميد الساعدي -وأبو حميد مشهور بكنيته واختلف في اسمه على اختلافات شتى كذلك، فهو مشهور بكنيته- قال: (استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأسد)] أي: جعله عنده عاملاً.
استعمله على بيت المال فهو عامل، استعمله على الصلاة فهو عامل مع أنه الإمام والشيخ الكبير، لكن اسمه في الشرع: عامل؛ لأن الإمام استعمله.
أي: طلب منه أن يكون عاملاً في هذا المكان على إمامة الناس، أو عاملاً على الأذان، أو عاملاً على الصدقات، والعاملون عليها لهم أجر، فقد سماهم القرآن (عاملين) مع أنهم في الأصل جباة لأموال الزكوات وغير ذلك، وهم كذلك يعطون منها لأنهم من مصارفها الشرعية، فهم عُمّال عليها.
قوله: (رجلاً من الأسد) بالسين، وفي رواية: (من الأزد) بالزاي، وكلاهما صحيح، فهو أسْدي أو أزْدي، والرجل الذي استعمله النبي عليه الصلاة والسلام اسمه عبد الله بن اللتبية.
[قال عمرو وابن أبي عمر: (على الصدقة)].
أي استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة.
والصدقة عند الإطلاق تعني: الزكاة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60].
قال: [(فلما قدم -أي: ابن اللتبية وجمع الأموال وأتى بالمال والسواد العظيم- قال: هذا لكم.
وهذا لي أهدي إلي.
قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فحمد الله وأثنى عليه)]، أرأيت النبي صلى الله عليه وسلم حينما يريد أن يتكلم أو يخطب؟ يبدأ بحمد الله وتمجيده والثناء عليه، ثم يدخل في الخطبة، ثم يختم بالحمد والصلاة.
قال: [(فحمد الله وأثنى عليه وقال: ما بال عامل أبعثه فيقول: هذا لكم وهذا أهدي لي)] أي: أنني حينما أبعث أحدكم ليأتيني بأموال يأخذ منها شيئاً ويقول: هذا أُهدي إلي! قال: [(أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا؟)] هذا يدل على أن الإنكار أحياناً يكون بالإغلاظ، لكن إذا كنت لا تؤتى بالقوة فسآتي إليك بالسياسة، وآتيك من الطريق والبوابة التي تصلح معك.
فلو أن واحداً أغلظت عليه عاند وانتقل من شر إلى أشر، ومن سيئ إلى أسوأ، وإذا تلطفت معه وترفقت معه ستكون معه نتيجة فينبغي اللطف معه، (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه) فإذا كان هناك من لا يؤتى إلا بالقوة وبالضرب يضرب، وإذا كان هناك شخص لا يصلي فعندما تأتيه بالطيب يقول: هذا الكلام قديم، فإذا حُبس ثلاثة أيام وضرب صلى، فهنا يضرب ويحبس.
قال: [(أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر أيُهدى إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده لا ينال أحد منكم منها شيئاً)] أي من أموال الناس بغير حق [(إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه)].
أورد الإمام مسلم هذا الحديث في هدايا العمال بعد الغلول؛ ليدل على أن هدايا العمال نوع من أنواع الغلول؛ وذلك لاتحادهما في العقوبة، فإنه يوم القيامة يحمله على عنقه بالضبط كنفس عقوبة الغال.
قال: [(إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه، بعير له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر -تيعر: تصيح- ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه)] أي: بياض إبطيه، ولكنه ليس بياضاً في الحقيقة؛ لأن هذا المكان من وجود الشعر فيه لا يكون أبيض، وإنما يكون أبيض مترّباً كوجه الأرض؛ ولذلك يقال: عفرتا إبطيه، بسبب وجود الشعر فيشبهان وجه الأرض، ووجه الأرض اسمه عفر الأرض.
فقولك: تعفّرت: أصابك من عفارها.
أي: من سطح الأرض ووجهها.
ثم قال: [(اللهم هل بلغت مرتين)] عليه الصلاة والسلام.
أي: أنه يؤكد أنه قد بلّغ هؤلاء حتى لا يأتي واحد يوم القيامة فيسأل: لماذا أخذت هذا؟ فيقول: يا رب! هذه هدية.
[حدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد.
قالا: أخبرنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن عروة عن أبي حميد الساعدي قال: (استعمل النبي صلى الله عليه وسلم ابن اللتبية -رجلاً من الأزد- على الصدقة، فجاء بالمال فدفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا مالكم.
وهذه هدية أهديت لي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أفلا قعدت في بيت أبيك وأمك فتنظر أيهدى إليك أم لا؟ ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً) ثم ذكر نحو حديث سفيان بن عيينة] السابق.
[حدثنا(19/15)
بيان أن هدايا العمال حرام وغلول
قال الإمام النووي: (وفي هذا الحديث بيان أن هدايا العمال حرام وغلول؛ لأنه خان في ولايته وأمانته، ولهذا ذكر في الحديث في عقوبته وحمله ما أُهدي إليه يوم القيامة، كما ذكر مثله في الغال، وقد بين صلى الله عليه وسلم في نفس الحديث السبب في تحريم الهدية عليه، وأنها بسبب الولاية، بخلاف الهدية لغير العامل فإنها مستحبة).
حتى إن أهل العلم كانوا لا يأخذون شيئاً من طلابهم على سبيل الورع، لكن لو أن رجلاً عالماً بينه وبين أحد طلابه تعاملات أو جوار أو صداقة، وكانوا قبل ذلك يتعاطون الهدية، فالطالب يعطي العالم والعالم يعطي الطالب، فهذه هدية لا علاقة لها بهذا التحريم، فضلاً عن أنها ليست حراماً، ولكن أهل العلم كانوا يتورعون ويقولون: إنا لا نأكل بديننا وإنما نأكل بأموالنا.
وأحياناً يأتي الطالب بهدية فإذا ردها الشيخ انكسر قلب الطالب وربما امتنع عن الدرس خجلاً أن الشيخ أحرجه أو رده.
ومن الناس من يقول: شيخنا متكبّر.
أتيت له بهدية فلم يأخذها مني، في حين أن وجهة الشيخ وجهة شرعية في رد الهدية.
إن بعد الشيخ عن أموال الناس أمان له في دعوته، خاصة بعده عن أموال الأغنياء؛ لأن أكثر شيء يكسر عين الشيخ أن تمتد يده إلى أموال الآخرين، فإذا كانت يده نزيهة ونظيفة ولا تمتد إلا بالرفض والدفع فحينئذ يكون الشيخ حراً دائماً في فتاواه، أما إذا مد يده فإن اليد التي امتدت مرة لا بد أن تمتد الثانية والثالثة حتى تحرص هذه اليد على أن تمتد، وإذا رجعت خائبة مرة يعز عليه ذلك، لكنه يهون عليه أن تمتد يده الثانية والثالثة والرابعة حتى يكون هذا إلفاً مألوفاً له؛ فيألف أن يتكفف الناس دائماً، ولذلك المعصية إذا وقعت من المرء مرة هان عليه أن تقع الثانية، وطالما كان بعيداً عن المعصية فإنه يهابها ويخاف منها، وترتعد فرائصه عند ذكرها على مسامعه، وأعظم من ذلك جرائم الأموال في ذمة العالم والشيخ، ولذلك ينبغي أن يتربى الطالب منذ نعومة أظفاره في طلب العلم على أن يجعل بينه وبين أموال الخلق جداراً كجدار يأجوج ومأجوج؛ لأن هذا هو الحصن الحصين والسد المنيع الذي يجعلك تنطلق بدعوتك لا تألو لها جهداً، ولا تخاف أن يحرج فيها أحد، أما الذي امتدت يده إلى أموال الآخرين أو جيوبهم، فلا شك أنه إذا استفتاه هؤلاء جاملهم؛ لأنه إن لم يجامل حرموه ومنعوه أموالهم، مع أن أبخل الناس هم الأغنياء وأصحاب الأموال إلا ما رحم الله عز وجل.(19/16)
شرح صحيح مسلم - كتاب الإمارة - وجوب طاعة الأمراء في غير معصية
أجمع العلماء على وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية؛ لورود الأدلة الثابتة من الكتاب والسنة على ذلك، كما استقر الإجماع على عدم جواز الخروج على الحاكم الفاسق الظالم، وانعقد الإجماع كذلك على وجوب خلع الكافر من الولاية إذا تبين كفره وباح به قولاً واحداً، بخلاف المبتدع المتأول.(20/1)
باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
(باب: وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية).
وعموماً سواء كان الأمراء أو غيرهم فيحرم طاعتهم في معصية الله عز وجل، أما مسألة: هل طاعتهم واجبة أو غير واجبة فمتوقف على كنه الآمر، إذا كان أماً أو أباً أو رئيساً للعمل أو أميراً أو سلطاناً أو عالماً أو آحاد الناس، فلا شك أن آحاد الناس إذا أمر أو نهى ولم يكن له سلطان على المأمور فإن طاعته حينئذ غير واجبة، أما إذا كان أميراً أو عالماً أو والداً وكان أمره في طاعة الله عز وجل فطاعته حينئذ تجب على المأمور، فبوّب النووي لهذه الأحاديث بـ (باب وجوب طاعة الأمراء في طاعة الله عز وجل وتحريم طاعتهم إذا أمروا بمعصية الله عز وجل).
فأياً كان الآمر، وأياً كانت صفته أو هيئته أو سلطانه فإن طاعته غير ملزمة للمأمور إذا كان الأمر في معصية الله عز وجل، أما إذا كان في طاعة فإما أن يكون واجباً أو مستحباً على حسب صفة الآمر.(20/2)
شرح حديث ابن عباس في وجوب طاعة الأمير
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثني زهير بن حرب وهارون بن عبد الله -وهو المعروف بـ هارون الحمال - وهو أيضاً أبو موسى البغدادي البزاز - كلاهما قالا: حدثنا حجاج بن محمد -وهو أبو محمد المصيصي الأعور وهو ترمذي الأصل نزل بغداد ثم استقر بالمصيصة ونُسب إليها- قال: قال ابن جريج: (نزل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي السهمي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية)].
أي: بعثه أميراً على سرية فنزلت هذه الآية فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء:59] ولم يقل: وأطيعوا أولي الأمر منكم، وإنما قال: {وَأُوْلِي الأَمْرِ} [النساء:59]، فالآية ليس فيها إفراد أولي الأمر بطاعة، وإنما فيها إفراد الله بالطاعة، وإفراد الرسول صلى الله عليه وسلم بالطاعة، وعطف طاعة أولي الأمر على طاعة الله ورسوله؛ وذلك لأن الله لا يأمر إلا بطاعة، ولا يأمر إلا بحق، ولا ينهى إلا عن خبيث، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وللنبي حق الأمر ابتداءً دون وروده في القرآن، وكم من تشريع استقل به النبي عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك طاعته واجبة مع طاعة الله عز وجل، فالشرع إما ورد في القرآن، وإما ورد في القرآن والسنة، وإما ورد في السنة فحسب، فالنبي صلى الله عليه وسلم واجب الطاعة وإن لم يكن أمره الذي أمر به في الكتاب؛ لأن الله تعالى جعل لرسالته خصوصية، فالأمر أحياناً يأتي في القرآن فحسب، وأحياناً تجد أدلة الأمر في القرآن وفي السنة معاً، كما لو ذكرنا أي مسألة قلنا: ودليل هذه المسألة في الكتاب والسنة والإجماع، أو في الكتاب والسنة، أو دليل هذه المسألة في السنة فحسب، أو دليل هذه المسألة الإجماع فحسب وهكذا.
فالسنة لها حق الاستقلال عن الكتاب، وهذا فيه رد على من يزعم التمسك بالقرآن دون السنة، ويحتج بظواهر بعض الآيات، كقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] ولا شك أن مرد كل ما استقلت بها السنة إلى كتاب الله إلى عمومات الأمر بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم، فالذي يطيع النبي عليه الصلاة والسلام فهو في الحقيقة طائع لله تعالى، وحينما كان هذا الأمر مفقوداً عند أولي الأمر عطف الله تعالى طاعتهم على طاعته وطاعة رسوله، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء:59] ولم يقل: وأطيعوا أولي الأمر، وإنما قال: {وَأُوْلِي الأَمْرِ} [النساء:59] فإذا كان أولي الأمر يأمرون بما أمر به الله فطاعتهم حينئذ واجبة، لا لكونهم ولاة أمر، ولكن لكونهم أمروا بما أمر به الله، وكذلك طاعتهم معطوفة على طاعة الرسول، ولم يكن لهم طاعة مستقلة، ولو كانت لهم طاعة مستقلة بعيداً عن الكتاب والسنة لكان الأولى أن يقول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأطيعوا أولي الأمر.
أي: بأي أمر يأمرون، وعن أي نهي ينهون، ولكنه سبحانه وتعالى بيّن أن طاعة ولاة الأمر في هذه الآية مرهونة بالأمر بطاعة الله وطاعة الرسول عليه الصلاة والسلام.
قال: [قال ابن جريج: (نزل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي السهمي.
بعثه النبي عليه الصلاة والسلام في سرية)].
والمعلوم أن السرية: هي القطعة من الجيش يرسلها الأمير لأداء مهمة عسكرية أو حربية أو قتالية ليس فيها الأمير العام، فإن وجد الخليفة العام والأمير العام في سرية سمي جيشاً لا سرية، فالسرية: هي التي ليس فيها الأمير، والجيش: هو الذي فيه الأمير.
قال ابن جريج: [أخبرنيه يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس].
انظروا إلى هذا الإسناد العجيب! ابن جريج كان حقه أن يقول: أخبرني يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] نزلت في عبد الله بن حذافة السهمي.
بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية، ولكن الإمام مسلم جزّء الإسناد على مرحلتين، توقف عند ابن جريج وقال: نزل قوله تعالى كذا وكذا في عبد الله بن حذافة السهمي.
أخبرني بهذا ي(20/3)
شرح حديث أبي هريرة: (من أطاعني فقد أطاع الله) وذكر طرقه
[حدثنا يحيى بن يحيى أخبرنا المغيرة بن عبد الرحمن الحزامي عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة].
أبو الزناد عبد الله بن ذكوان المدني، يروي عن الأعرج عبد الرحمن بن هرمز المدني، وروايته عن أبي هريرة معروفة ومشهورة.
[عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من أطاعني فقد أطاع الله)] إذاً: طاعة الرسول من طاعة الله عز وجل.
ومن الناس من يقول: أنا لا آخذ من السنة شيئاً، يكفيني كتاب الله عز وجل آخذ منه ما شئت، أأتمر بأوامره وأنتهي عن نواهيه، أما السنة فقد دخلها الزيغ والتحريف؛ ولذلك طُعن في بعض رواة السنة على المعنى الدقيق، ولذلك أنا لا أعتمد مطلقاً على حديث يأتيني في كتاب من كتب السنة، وإنما عندي القرآن آخذ بآياته من أوله إلى آخره.
وإن من يقول ذلك لاشك أنه إما جاهل ومقلّد لغيره، وإما أنه علماني جاحد ملحد يلحد في أسماء الله تعالى وكتابه؛ وذلك لأن الله تعالى قد أمر في كتابه بطاعة الرسول استقلالاً، والذي يأخذ بالقرآن ماذا يصنع بهذه الآيات الكثيرة التي تأمر بطاعة الرسول؟ وما قيمة أخذك بالقرآن دون أن تأخذ ما جاءك من جهة الرسول وأنت مأمور بطاعة الرسول، ففيم تطيعه إذاً؟ إذا كنت تزعم أنك تأخذ بالقرآن فقط فأطع الله في أمره بطاعة الرسول عليه الصلاة والسلام، فكيف تطيع الله دون أن تأخذ بسنة نبيه عليه الصلاة والسلام؟ [عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن يعصني فقد عصى الله)] وربما يكون المعنى: (من يطعني فكأنما أطاع الله، ومن يعصني)؛ لأن الرواية حملت في سياقها صيغة الماضي وصيغة المضارع (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن يعصني فقد عصى الله) ولم يقل: ومن عصاني، وإنما قال: (ومن يعصني) وأنتم تعلمون أن فعل المضارع يفيد الاستمرار.
أي: ومن يعصني إلى يوم القيامة، فقد عصى الله تعالى: [(ومن يطع الأمير فقد أطاعني)] فأي أمير يُبعث عليك فطاعته من طاعة الرسول.
قال: [(ومن يعص الأمير فقد عصاني)] إذا كانت طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم من طاعة الله، ومعصية الرسول صلى الله عليه وسلم هي معصية لله، وطاعة الأمير من طاعة الرسول، ومعصية الأمير من معصية الرسول فإن طاعة الأمير من طاعة الله، ومعصية الأمير من معصية الله.
ولا شك أن المستمع لهذه النصوص يعلم يقيناً أنه لا يمكن استقامة هذا الدين في قلوب الخلق إلا إذا تعاملوا مع الخالق سبحانه وتعالى، فلو أن أميراً أمرني بأمر وركبت هواي وقلت: لن أطيعك في شيء، وعلمت بالوازع الإيماني الموجود في قلبي أن رفضي لأمر الأمير إذا أمرني بطاعة الله تعالى وخدمة الجيش والجند يوجب علي عقاب الله عز وجل لأطعت الأمير؛ وذلك لأن عصياني لأمر الأمير هو عصيان في الحقيقة لله عز وجل ولرسوله؛ فلو أن هذه المعاني لم تكن مكتملة في قلبك لفسدت الدنيا والآخرة، ولذلك المسلم دائماً والعربي خاصة يحتاج إلى وازع إيماني يتعامل به مع الله عز وجل، ثم يفيض هذا الوازع على المعاملة مع الخلق، فلو لم يكن الوازع الديني على أشده في قلب العبد المؤمن فإنه لا يمكن أن يستقيم له أمر ولا نهي؛ لأنه لا يستشعر مراقبة الله عز وجل، فالذي يفقد هذا المعنى لا بد أنه سيضيع أمره، ويتشتت شمله في دنياه وآخرته، فالذي يطيع الأمير كأنما يطيع الرسول، والذي يطيع الرسول كأنما يطيع الله تعالى.
إذاً: الذي يطيع الأمير يطيع الله ورسوله في الحقيقة، والذي يعصي الأمير يعصي الله ورسوله في الحقيقة، فلا بد لكل إنسان أن يتعامل مع الله عز وجل.
قال: [وحدثنيه زهير بن حرب حدثنا ابن عيينة -أي سفيان - عن أبي الزناد بهذا الإسناد ولم يذكر (ومن يعص الأمير فقد عصاني).
وحدثني حرملة بن يحيى التجيبي المصري أخبرني ابن وهب عبد الله القاضي المصري أخبرني يونس بن يزيد الأيلي عن ابن شهاب أخبره قال: حدثنا أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني)].
قوله: (ومن عصى أميري) وقوله: (ومن أطاع أميري) جعل بعض أهل العلم يذهبون إلى أن هذا الحديث خاص بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين بعثهم النبي صلى الله عليه وسلم أمراء على السرايا، ولكن جماهير العلماء قالوا: هذا عام في كل أمير إلى يوم القيامة بدليل أنه قد جاء في معظم الروايات: (ومن يعص الأمير) (ومن يطع الأمير)، ولم يقل: أميري.
قال: [وحدثني محمد بن حاتم حدثنا مكي بن إبراهيم حدثنا ابن جريج عن(20/4)
وجوب طاعة الأمير في غير معصية
قال الإمام النووي: (أجمع العلماء على وجوب طاعة الأمير في غير معصية، وعلى تحريمها في المعصية، نقل الإجماع على هذا القاضي عياض وآخرون).
إذاً: طاعة الأمير والسلطان من مسائل الإجماع، والمعلوم أن معصية الأمير أو السلطان مهلكة للدين والدنيا سواء.(20/5)
تفسير قول الله تعالى: (وأولي الأمر منكم) وبيان المراد من ذلك
قال: (قوله نزل قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] في عبد الله بن حذافة أمير السرية).
قال العلماء: المراد بأولي الأمر: من أوجب الله طاعته من الولاة والأمراء.
هذا قول جماهير السلف والخلف من المفسرين والفقهاء وغيرهم.
وقيل: الأمراء والعلماء).
أي: لو قلنا: {وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] هل المقصود بأولي الأمر: الأمراء والسلاطين والخلفاء؟ أم هم العلماء؟ هذا منشأ الخلاف ومنبع الخلاف.
مذهب جماهير العلماء أن أولي الأمر: هم الأمراء والولاة.
وذهب البعض الآخر إلى أن ضمن أولي الأمر: العلماء.
وهذا الرأي الآخر هو أعجب الآراء وأحبها إلي؛ لأنه في حقيقة الأمر ينبغي أن يأتمر الولاة والسلاطين بأمر العلماء، والله تعالى أثنى في كتابه في غير ما موطن على أهل العلم أعظم من ثنائه على الصلحاء من أولي الأمر، وقد نُقل عن السلف كثيراً أنهم قالوا: الولاة فوق الناس، والعلماء فوق الولاة.
فيكون العلماء هم أعلى وأعظم طبقة يمكن أن يؤتمر بأوامرهم وينتهى عن نواهيهم جميع الناس بما فيهم الحكام والمحكومين، فحينئذ دخول العلماء في أولي الأمر دخول أولوي.
أي: أن طاعتهم أوجب من طاعة الولاة والسلاطين.(20/6)
بيان أن طاعة ولي الأمر طاعة لله ولرسوله
قال: (أما قوله: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع وليي فقد أطاعني) وقال في المعصية مثله؛ لأن الله تعالى أمر بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأمر هو صلى الله عليه وسلم بطاعة الأمير؛ فتلازمت الطاعة)، فكأن الذي يطيع الأمير يطيع الله ورسوله على الحقيقة.(20/7)
شرح حديث أبي هريرة: (عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك)
قال: [وحدثنا سعيد بن منصور وقتيبة بن سعيد كلاهما عن يعقوب -وهو يعقوب بن عبد الرحمن القارئ - عن أبي حازم -وهو سلمة بن دينار - عن أبي صالح السمان ذكوان بن السمان المدني عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك)].
عليك السمع والطاعة في كل الأحوال، إذا كنت تكره هذا الأمر أو تحبه، إذا كنت كسولاً أو نشيطاً، في كل الأحوال طاعة أولي الأمر واجبة عليك، ما داموا موحدين ويأمرون بطاعة الله عز وجل فأمرهم واجب النفاذ، ونهيهم واجب الانتهاء، لا يحل لك الانتكاس عنه أبداً، سواء كنت تحب هذا الأمر أو تكرهه، سواء وجّه إليك في حال النشاط أو في حال الكسل.
قال: (عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك).
هذا فيه بيان أن السلاطين في وقت من الأوقات يؤثرون الدنيا لهم على حسابكم، يؤثرون الدنيا لا الدين، فيأخذونها دونكم، فإذا أخذوها دونكم فاحتسبوها عند الله عز وجل، ولا تنازعوا ولاة الأمر في دنياهم، وإنما الذي يجب عليكم طاعتهم فيما أطاعوا فيه الله ورسوله، ومعصيتهم فيما عصوا فيه الله ورسوله، أما إذا أخذوا حظوظهم كاملة مستوفاة من الدنيا فلا يحل لكم أن تنازعوهم في ذلك، وإنما النزاع دائماً في الدين، أما في الدنيا فهذه هي الأثرة، وكان هذا محل البيعة كما ورد في الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت.
وسيأتي معنا بإذن الله تعالى.(20/8)
وجوب طاعة ولاة الأمر فيما يشق وتكرهه النفوس
قال النووي: (قال العلماء: معناه: تجب طاعة ولاة الأمور فيما يشق وتكرهه النفوس وغيره مما ليس بمعصية).
أي: إذا كان يأمرنا بأمر نكرهه، ولكنه طاعة وليس معصية، فحينئذ طاعتهم واجبة.
(فإن كانت لمعصية فلا سمع لهم ولا طاعة كما صرح به النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الباقية، فتحمل هذه الأحاديث المطلقة لوجوب طاعة ولاة الأمور على موافقة تلك الأحاديث المصرحة بأنه لا سمع ولا طاعة في معصية الله).(20/9)
الأمر بعدم منازعة ولاة الأمر في حظوظهم من الدنيا
(أما الأثرة -ويقال: الأُثرة- وهي: الاستئثار والاختصاص بأمور الدنيا عليكم.
أي: اسمعوا وأطيعوا وإن اختص الأمراء أنفسهم بالدنيا ولم يوصلوكم حقكم مما عندهم.
وهذه الأحاديث في الحث على السمع والطاعة في جميع الأحوال، وسبب اجتماع كلمة المسلمين، فإن الخلاف سبب لفساد أحوالهم في دينهم ودنياهم).
أما إذا كان هذا سبباً في فساد في الدين فلا وألف لا، إذا أمرونا بمعصية أو نهونا عن طاعة فلا وألف لا، أما إذا أخذوا حظهم عشرة أضعاف من الدنيا فهذا أمر لا يحل لنا أن نقاتلهم عليه، ولا أن نخرج عليهم بسبب الدنيا؛ لأنه متاع زائل لا يستحق الوقوف عنده، ولا نفسد ديننا ودنيانا بسبب هذا، وفي النهاية الغلبة لهم؛ لأنهم يملكون القوة ويملكون النجدة.(20/10)
شرح حديث أبي ذر: (إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع وإن كان عبداً مجدع الأطراف)
قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعبد الله بن براد الأشعري وأبو كريب جميعاً قالوا: حدثنا ابن إدريس -وهو عبد الله بن إدريس الأودي أبو محمد الكوفي - عن شعبة عن أبي عمران -وهو عبد الملك بن حبيب الجوني - عن عبد الله بن الصامت الغفاري البصري يروي عن عمه أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: (إن خليلي -أي: حبيبي محمد صلى الله عليه وسلم- أوصاني أن أسمع وأطيع)] أي: أسمع للأمير، وأُطيع الأمير، وليس أن تسمع بأحد أذنيك وتُخرجها من الأخرى.
المقصود بالسمع هنا: سمع الإجابة وسمع الطاعة، أن نسمع ونطيع ما دام الأمر في طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وفي طاعة الله عز وجل.
قال: [(إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع، وإن كان عبداً مجدّع الأطراف)].
(مجدّع) بمعنى: مقطوع.
فلان مجدوع الأنف.
أي: مقطوع الأنف.
فالنبي عليه الصلاة والسلام أوصى بالسمع والطاعة للأمير وإن كان عبداً مجدّع الأطراف.
يعني: مقطوعة يداه ورجلاه وأنفه.
فمع كل هذا فالمطلوب مني سماع الأمر له.
فالمقصود من الأمير: أنه يملك القوة ويملك البطش والبأس وغير ذلك، لكن هذا مجدّع الأطراف، ومع هذا فإنه لو أمرني بأمر وجب عليّ الطاعة، فإذا لم أسمع فالذي سيتولى العقاب هو الله عز وجل، فإذا كنت أنا أعلم أن معصيتي لهذا الأمير تعرضني لسخط الله عز وجل فلابد أن أسمع له وأطيع مع أنه عبد، مع أنه لا يحل مطلقاً اختيار العبد ابتداء للولاية والإمارة، وولاية العبد اختياراً وابتداء بالإمارة والولاية باطلة؛ وذلك لأن الحرية شرط في الأمير والوالي، لكن إذا عيّن الخليفة عبداً والياً أو سلطاناً على بلد أو على سرية، فله ذلك مع مخالفته للأولى، ولا يكون العبد والياً عاماً، -أي: خليفة في الخلافة العامة- إلا إذا وصل العبد إلى الإمارة بانقلاب عسكري، واستخدم حيلة حتى تمكّن من الولاية، وهذا ممكن والتاريخ يشهد بذلك، فكم من العبيد والبربر وغيرهم كانوا ملوكاً وولاة وأمراء، ومع هذا وجب السمع لهم والطاعة؛ لأنهم بعد تملكهم وإمارتهم يملكون القوة التي يهلكون بها الحرث والنسل، فطاعتهم واجبة حينئذ لحقن دماء المسلمين، مع أن أصل توليتهم باطل.
قال: [حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر وحدثنا إسحاق أخبرنا النضر بن شميل جميعاً عن شعبة - النضر وغندر يرويان عن شعبة - عن أبي عمران بهذا الإسناد، وقالا في الحديث: (عبداً حبشياً مجدع الأطراف)].
فإن كان عبداً حبشياً مجدّع الأطراف وصار أميراً فحينئذ يجب السمع له والطاعة، والسمع والطاعة في كل هذه الأحوال مرهون بطاعة الله، أما إذا كانت في معصية الله حتى وإن كان أميراً سيد الأحرار، أو كان أبا بكر الصديق فإنه لا سمع ولا طاعة حينئذ؛ لأن السمع والطاعة مرهونان بطاعة الله تعالى وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام.(20/11)
شرح حديث أم الحصين الأحمسية: (لو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله فاسمعوا وأطيعوا)
قال: [حدثنا محمد بن المثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن يحيى بن حصين -وهو الأحمسي - قال: سمعت جدتي -وهي أم الحصين مشهورة بكنيتها الأحمسية - تحدث: أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع، وهو يقول: (لو استُعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا)].
(لو استُعمل عليكم) أي: لو كان عليكم عامل (يقودكم بكتاب الله) وجب عليكم أن تسمعوا وتطيعوا له مع أنه عبد، ولا يحل لأحدكم أن يقول له: أنت عبد ولا يمكن أن تكون أميراً ولا سلطاناً.
[وحدثناه ابن بشار حدثنا محمد بن جعفر وعبد الرحمن بن مهدي عن شعبة بهذا الإسناد وقال: (عبداً حبشياً) وفي رواية: (عبداً حبشياً مجدعاً).
وفي رواية من طريق عبد الرحمن بن بشر عن - بهز وهو ابن أسد العمي - حدثنا شعبة ولم يذكر: (حبشياً مجدعاً) ولكنه زاد أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى أو بعرفات].
أي أم الحصين الأحمسية سمعت في حجة الوداع -إما بمنى وإما بعرفات- النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لو استعمل عليكم عبد حبشي فاسمعوا له وأطيعوا ما دام يقودكم بكتاب الله عز وجل).
[وحدثني سلمة بن شبيب حدثنا الحسن بن أعين حدثنا معقل -وهو ابن عبيد الله الجزري - عن زيد بن أبي أنيسة عن يحيى بن حصين عن جدته أم الحصين قال: سمعتها تقول: (حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً كثيراً) يعني: تكلم وخطب فينا خطبة طويلة عظيمة من بين ما سمعته أنه قال: (إن أُمِّر عليكم عبد مجدع -حسبتها قالت: أسود- يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا)].
أي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (فاسمعوا له وأطيعوا).(20/12)
شرح حديث ابن عمر: (على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب)
قال: [وحدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث -وهو الليث بن سعد المصري - عن عبيد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (على المرء المسلم السمع والطاعة)] هذا الخطاب خاص بالمسلمين؛ لأن الكافر من باب أولى لا يسمع.
قال: [(على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وفيما كره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)].
أي: لا تجب عليه طاعة هذا الأمير في معصية الله، بل يحرم عليه طاعته حينئذ.
[وحدثناه زهير بن حرب ومحمد بن المثنى قالا: حدثنا يحيى -وهو ابن سعيد القطان - وحدثنا ابن نمير حدثنا أبي كلاهما عن عبيد الله بهذا الإسناد مثله].(20/13)
ذكر أمر عبد الله بن حذافة مع سريته حين أمره النبي صلى الله عليه وسلم عليها وقصة أسر الروم له
[حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار] وكلاهما على فرسي رهان، فإن محمد بن بشار -أي: بندار - وابن المثنى العنزي كلاهما كان على خط من العلم والعبادة والتقوى والسن، والعجيب أنهما ولدا في عام واحد وماتا في عام واحد.
قال: [واللفظ لـ ابن المثنى قالا: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن زبيد -وهو ابن الحارث اليامي أبو عبد الرحمن الكوفي - عن سعد بن عبيدة -وهو السلمي الكوفي - عن أبي عبد الرحمن وهو أبو عبد الرحمن السلمي عبد الله بن حبيب عن علي رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشاً وأمر عليهم رجلاً)] قيل: هذا الرجل هو عبد الله بن حذافة السهمي الذي نزل فيه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] وقيل: غيره.
ورجّح النووي: أنه غيره؛ ويذكر أن عبد الله بن حذافة السهمي في سريته كان رجلاً ظريفاً، والظريف من الرجال هو صاحب النكتة والفكاهة، وهو من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، لكنه كان ظريفاً مازحاً، فحينما أمره النبي صلى الله عليه وسلم على تلك السرية قال لقومه: اجمعوا لي حطباً، فجمعوا حطباً وقال لهم: أججوا فيه ناراً.
فأججوا فيه ناراً، قال: ألقوا بأنفسكم فيها ألست أميركم؟ فنظر بعضهم إلى بعض، وقام بعضهم فتهيأ للوقوع فيها، وأما البعض الآخر فقال: يا عبد الله! إنا قد فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، فنحن لم نسلم إلا فراراً من النار، فتأتي أنت الآن وتأمرنا بالوقوع في النار! وقام أناس آخرون وتهيئوا للنزول فيها، فقال عبد الله بن حذافة: على رسلكم انتظروا وليحذر أحدكم أن يقع في النار، إني أُمازحكم.
وقد وردت روايات: أنه غضب غضباً شديداً فأمرهم بذلك، فلما تهيئوا للنزول في النار سكن عنه الغضب فنهاهم عن النزول في النار، فلما رجعوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام قالوا: لقد كان من أمر عبد الله بن حذافة أن فعل كذا وكذا، قال: [(أما إنهم لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة، إنما الطاعة في المعروف ولا طاعة في معصية الله).
إذاً: فليس كل أمير يُطاع إلا إذا كان في طاعة الله عز وجل، وعبد الله بن حذافة السهمي وردت عنه هذه القصة من ثلاث طرق، وفي كل طريق منها علّة، فالبعض يثبت الرواية والبعض ينكرها، ويترجّح لدي أنها ثابتة واشتهرت في كتب السير وتراجم الأصحاب: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمّره على سرية ناحية الروم، فأُسر عبد الله بن حذافة في ثلاثمائة نفر من أصحابه، فجيء بـ عبد الله بن حذافة السهمي إلى أمير الروم فقال له الأمير: قبّل رأسي وأنا أفُك أسرك.
قال: لا.
فحاول بكل وسيلة أن يقبّل رأسه فأبى، فأمر الرومي بماء يغلي، فجيء به فوضع واحداً من أصحاب السهمي فيها حتى ذاب، وعبد الله بن حذافة السهمي ينظر إليه، ثم جيء بالثاني والثالث وهكذا والسهمي ينظر إلى جنده الذين كانوا معه، وانصرف الأمير الرومي، فحينما رأى السهمي أن أصحابه يُلقون في هذا الماء المغلي حتى يذوبوا في هذا الماء بكى، فاستبشر جند الروم بذلك، وذهبوا إلى الأمير وقالوا: أبشر أيها الأمير! لقد بكى عبد الله بن حذافة كأنه رق، فجيء به إلى هذا الأمير، فقال له الأمير: مالك؟ فقال: وددت أن لي أرواحاً بعدد شعر رأسي، فإذا وضعت في هذا القدر وذبت فيه ذلك الذوبان رد الله تعالى إلي روحي فقُتلت قتلة ثانية وثالثة ورابعة بعدد شعر رأسي، فاغتاظ الرومي جداً.
قال: تقبّل رأسي وأفُك أسرك وأسر مائة من أصحابك.
قال: بل تفك أسري وأسر جميع المسلمين عندك.
قال: لك ذلك.
فقام إليه عبد الله بن حذافة وقبّل رأسه وأخذ أصحابه وانطلق إلى المدينة إلى عمر، وكان الخبر قد طار إلى عمر بن الخطاب، فاستقبله عمر على باب المدينة وقال: حق على كل مسلم أن يقبّل رأس عبد الله بن حذافة وأنا أولكم، فقام عمر وقبّل رأسه.
وهذا عمل بطولي رائع جداً، قام وقبّل رأس كلب من الكلاب، ولا مشكلة حينئذ إذا كان هذا ثمن فكاك (300) رقبة مؤمنة، فإن ذلك من باب المصلحة العامة؛ ولذلك أقره عمر ولم يُعلم لـ عمر مخالف في ذلك، مما دل على مشروعية ذلك ما دام في الصالح العام.(20/14)
شرح حديث: (لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف)
[عن علي: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشاً وأمّر عليهم رجلاً فأوقد ناراً وقال: ادخلوها، فأراد ناس أن يدخلوها، وقال الآخرون: إنا قد فررنا منها.
فذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال للذين أرادوا أن يدخلوها: لو دخلتموها لم تزالوا فيها إلى يوم القيامة)].
إن هذا الحديث يثبت أمراً في غاية الأهمية، يُثبت لنا عذاب القبر، لأنه عليه الصلاة والسلام لم يقل: لو دخلتموها ما خرجتم منها أبداً، وإنما قال: (لو دخلتموها ما خرجتم منها إلى يوم القيامة).
فما بين وقوع هذا الحادث إلى يوم القيامة برزخ، والنبي صلى الله عليه وسلم أثبت عذاب البرزخ، وهذه الفائدة لم يذكرها الإمام النووي.
قال: (لو دخلتموها لم تزالوا) أي: تُعذّبون في النار (إلى يوم القيامة)، وقال للآخرين قولاً حسناً؛ لأنهم عصوا الأمير حينما أمر بمعصية الله عز وجل وقال: (لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف).(20/15)
شرح حديث: (لو دخلوها ما خرجوا منها إنما الطاعة بالمعروف)
قال: [حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير وزهير بن حرب وأبو سعيد الأشج وتقاربوا في اللفظ.
قالوا: حدثنا وكيع -وهو وكيع بن الجراح الرؤاسي - حدثنا الأعمش سليمان بن مهران الكوفي عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية واستعمل عليهم رجلاً من الأنصار، وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا فأغضبوه في شيء، فقال: اجمعوا لي حطباً، فجمعوا له، ثم قال: أوقدوا ناراً فأوقدوا، ثم قال: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا: بلى، قال: فادخلوها، فنظر بعضهم إلى بعض فقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار، فكانوا كذلك وسكن غضبه وطُفئت النار، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو دخلوها ما خرجوا منها إنما الطاعة في المعروف)].(20/16)
شرح حديث عبادة بن الصامت: (بايعنا رسول الله على السمع والطاعة)
قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن إدريس عن يحيى بن سعيد وعبيد الله بن عمر عن عبادة بن الوليد بن عبادة عن أبيه عن جده -أي: عن أبيه الوليد بن عبادة بن الصامت عن جده عبادة بن الصامت رضي الله عنه- قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة)] فهذا محل البيعة، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يبايع على أشياء كثيرة، يبايع على النصرة، على المنع، على القتال، على الإسلام، على ترك المعاصي وغير ذلك من سائر صنوف أمور البيعة قال: [(بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم)].
انظر إلى محل البيعة! السمع والطاعة بأحوالها، (في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله، وأن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم).
وهذه المسألة صعبة جداً، ولا يقدر عليه إلا الرجال حقيقة.
قوله: (في المنشط): أن تكون واقفاً بجانب الأمير تنتظر أن يأمرك بأمر وتنطلق كالسهم لتنفّذ هذا الأمر.
قوله: (والمكره): فلا تبتعد من الأمير وتتخفى خلف كل جدار وحائط وعمود، لا تريد أن يراك، فيأمرك.
والصحابة رضي الله عنهم حينما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة باردة يوم الأحزاب: (من يأتيني بخبر القوم وهو رفيقي في الجنة؟) فأحجم الناس جميعاً ولم يقل أحد: أنا يا رسول الله! إذ كانوا متعبين من البرد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قم يا يا حذيفة)! فقام حذيفة في هذا الوقت وهو كاره، وهو ليس في حقيقة أمره كارهاً لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما لظروف البرد والجو، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يُذهب عنه البرد.
قال حذيفة: (فكنت أمشي أتصبب عرقاً، حتى أتيت على القوم فوجدتهم قد أوقدوا ناراً يدفئون أبدانهم).
فالطاعة واجبة في المنشط والمكره، وفي العسر واليسر.
قوله: (وعلى أثرة علينا) أي لا ننازعه دنياه، حيث يأخذ منها ما يشاء، والناظر لتاريخ الأمة الإسلامية وولاتها وأمرائها يعلم أن أي أمير أو سلطان ما تولى إلا وحصّل من الدنيا الكثير والكثير إلا القليل من الولاة، ولو أردنا أن نذكر بعضهم لقلنا: من هؤلاء جميعاً: النبي صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الأربعة، ثم عمر بن عبد العزيز.
وأما الكثرة الكاثرة من الولاة والأمراء فأول ما يحرصون على جمع الدنيا والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن هذا سيقع منهم لا محالة، فلا تنازعوهم؛ لأن منازعتكم إياهم حينئذ فساد لدينكم ودنياكم، فالمنازعة تؤدي إلى القتال، والقتال فساد للدين والدنيا.
إذاً: إذا أمروا بالطاعة وجب علينا الامتثال، وإذا أمروا بالمعصية وجب علينا الرد وحرمت علينا الطاعة حينئذ.
قال: (وعلى ألا ننازع الأمر أهله) بلا شك ينصرف إلى الذهن أولاً أننا لا ننازع الولاة أمورهم وشئونهم وولايتهم، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فإذا كان المقصود بالأمر: الولاية والسلطان والخلافة، فهذا بلا شك أولى وأولى؛ لأن هذا سياق الحديث، وإذا أخذنا بعموم اللفظ لقلنا: إنه لا يجوز لأحد أن ينازع أو أن يهجم على أمر ليس له فيه شيء، فلو أن طبيباً بنى عمارة، لقلنا بأنه نازع الأمر أهله، ولو أن مهندساً أجرى عملية جراحية فقتل المريض، لقلنا: يحاكم ويعاقب؛ لأنه نازع الأمر أهله، وليس الأمر من شأنه.(20/17)
شرح حديث عبادة بن الصامت في النهي عن منازعة أولي الأمر إلا إذا أتوا كفراً بواحاً
قال: [حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب بن مسلم حدثنا عمي - عبد الله بن وهب - حدثنا عمرو بن الحارث حدثني بكير -كل هؤلاء مصريون- عن بسر بن سعيد عن جنادة بن أبي أمية قال: دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض، فقلنا: حدثنا -أصلحك الله- بحديث ينفع الله به سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله.
قال: إلا أن تروا كفراً بواحاً) وفي رواية: (براحاً) يعني: ظاهراً لا لبس فيه ولا خفاء (عندكم من الله فيه برهان)].
أي: أن الذي يعمله كفر ومحادة لله ورسوله، ودليلنا في ذلك ظاهر من الكتاب والسنة، وهذا هو البرهان قال: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله) أي: في الكتاب (فيه برهان).
أما قوله: (إلا أن تروا كفراً بواحاً) إلى آخره معناه: كفرا ظاهراً.
والمراد بالكفر هنا: المعاصي؛ لأن الكفر أحياناً يطلق على المعصية، كما قال عليه الصلاة والسلام: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك).
إذاً: الحلف كفر لا يخرج من الملة؛ لأنه معصية، فأحياناً يُطلق الكفر ويراد به المعصية، وأحياناً تُطلق المعصية ويراد بها الكفر، وهذا باب طويل.
ومعنى (عندكم من الله فيه برهان).
أي: تعلمونه من دين الله تعالى علماً يقينياً.
ومعنى الحديث: لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم، ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكراً محققاً تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأنكروه عليهم وقولوا بالحق حيثما كنتم، لا تهابوهم ولا تخافوا منهم؛ لأنهم في قبضة الملك سبحانه وتعالى، وأنتم وإياهم عبيد عند الله، وأخطأ من ظن أنهم يملكون لأنفسهم نفعاً أو ضراً فضلاً أن يملكوا لغيرهم شيئاً من ذلك، فالكل في قبضة الله عز وجل، إن أراد الله تعالى أن يُهلك الجميع أهلكهم، وإن أراد أن ينجيهم جميعاً أنجاهم أو أراد أن يُهلك البعض وينجّي البعض الآخر فعل، فالكل عبيد لله تعالى، وقلوب العباد جميعاً بين يدي الله تبارك وتعالى، وبين أصبعين من أصابعه يقلبها كيف يشاء، يجعل من يشاء كافراً ويجعل من يشاء مؤمناً، يجعل من يشاء شقياً ومن يشاء سعيداً، وغير ذلك كل يوم هو في شأن سبحانه وتعالى، وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسقة ظالمين.(20/18)
تحريم طاعة ولي الأمر في معصية الله وبيان حكم الخروج عليه
هناك فرق بين أمرين: الأمر الأول: تحريم طاعتهم في معصية الله.
الأمر الثاني: والخروج عليهم، فما دام هذا الأمر الموجه إلي بمعصية الله ليس أمراً يؤدي إلى الكفر البواح -أي: المخرج من الملة- وما دام الوالي موحداً فلا يجوز الخروج عليه البتة؛ لذا يا إخواني! لا بد أن نفرّق بين أمرين: أن يأمرني الوالي أو السلطان أو الحاكم بأمر فيه معصية لله فحينئذ يحرم عليّ طاعته في هذا الأمر، لكن أمره بمعصية الله لا يسوغ لي الخروج عليه وقتاله ما لم يكفر بذلك كفراً مخرجاً من الملة، وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرت، وأجمع عليه أهل السنة، أنه لا ينعزل السلطان بالفسق أو مجرد الظلم، وأما الوجه المذكور في كتب الفقه لبعض الشافعية أنه ينعزل فهو محكي عن المعتزلة لا عن أهل السنة، ومع ذلك فهو غلط من المعتزلة، ومخالف لإجماع العلماء.
قال النووي: (وسبب عدم انعزاله وتحريم الخروج عليه ما يترتب على ذلك من الفتن وإراقة الدماء، وفساد ذات البين، فتكون المفسدة في عزله أكثر منها في بقائه).
فالوالي إما أن يكون كافراً كفراً مخرجاً من الملة، وإما أن يكون ظالماً أو فاسقاً ليس كافراً، أو يكون مؤمناً موحداً، فإذا أمر بمعصية الله تعالى ففي كل هذه الأحوال يحرم طاعته، وفرق بين عدم طاعته فيما أمر بمعصية الله وبين الخروج عليه، فلا يحل الخروج عليه ولا قتاله لمجرد كونه ظالماً أو فاسقاً؛ لأن الخروج عليه وقتاله يؤدي إلى مفسدة عظيمة جداً وإراقة للدماء، فلو بقي في مكانه مع فسقه وظلمه لكان ذلك أحقن لدماء المسلمين، وأقل خطراً من الخروج عليه بالقتال أو المحاربة.
(قال القاضي عياض: أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر).
وهذا من مسائل الإجماع، لقول الله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141] فلا يولى كافر قط على مسلم، ولذلك إذا أسلمت امرأة كافرة ولم يُسلم من أوليائها أحد، تولّت آحاداً من المسلمين، رجلاً من أصحاب الوجاهة كالعالم أو السلطان أو القاضي أو غير ذلك لا بد أن تتخذ لها ولياً في الزواج من المسلمين، أما أن تزوج نفسها أو تتخذ لها ولياً من الكافرين من أوليائها فلا وألف لا.
قال: (أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر، وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل).
إذاً: يحرم ابتداءً عقد الولاية لكافر، وإذا كان مسلماً فطرأ عليه الكفر في أثناء الولاية وجب على المسلمين عزله عن هذه الولاية.
قال: (وكذلك لو ترك إقامة الصلوات والدعاء إليها).
يعني: لو أمر أمته بأن لا تصلي، أو أغلق في وجهها المساجد، أو جعل المساجد كنائس، أو غير ذلك من الأماكن العامة أو الخاصة فحينئذ وجب عزله.
قال: (وكذلك عند جمهورهم -أي جمهور العلماء- صاحب البدعة).
أي: الوالي صاحب البدعة.
(وقال بعض البصريين: تنعقد لصاحب البدعة الإمامة ابتداءً، وتستدام له -أي: يستمر فيها ما دامت بدعته لا يكفر بها- لأنه متأول).
أي: يظن أنه على الحق.
(قال القاضي عياض: فلو طرأ عليه كفر أو تغيير للشرع -تغيير عام للشرع كله- أو بدعة خرج عن حكم الولاة، وسقطت طاعته، ووجب على المسلمين القيام عليه وخلعه حينئذ).
لكن هذا القيام وإسقاط الولاية يجب أول ما يجب على أهل الحل والعقد، والخطاب يوجه إلى الأمة في صورة أهل الحل والعقد.
قال: (ووجب عليهم نصب إمام عادل إن أمكنهم ذلك، فإن لم يقع ذلك إلا لطائفة وجب عليهم القيام بخلع الكافر، ولا يجب في المبتدع إلا إذا ظنوا القدرة عليه، فإن تحققوا العجز لم يجب القيام).
فإن تحققوا من عجزهم وعدم نجاحهم في خلع هذا الكافر أو المبتدع بدعة مكفرة حينئذ لا يجب القيام.
قال: (وليهاجر المسلم عن أرضه إلى غيرها، ويفر بدينه، ولا تنعقد لفاسق ابتداء، فلو طرأ على الخليفة فسق قال بعضهم: يجب خلعه إلا أن تترتب عليه فتنة وحرب.
وقال جماهير أهل السنة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين: لا ينعزل للفسق والظلم وتعطيل الحقوق، وإنما ينعزل بالكفر، ولا يخلع ولا يجوز الخروج عليه بذلك، بل يجب وعظه وتخويفه؛ للأحاديث الواردة في ذلك.
قال القاضي: وقد ادعى أبو بكر بن مجاهد في هذا الإجماع، وقد رد عليه بعضهم هذا بقيام الحسن وابن الزبير وأهل المدينة على بني أمية، وبقيام جماعة عظيمة من التابعين والصدر الأول على الحجاج بن يوسف الثقفي مع ابن الأشعث وغير ذلك.
وتأول هذا القائل قوله: ألا ننازع الأمر أهله في أئمة العدل).
أي: بايعنا رسول الله ألا ننازع الأمر أهله العدول، أما إذا كفروا أو فسقوا فينازعوهم الأمر.
قال: (وحجة الجمهور أن قيامهم على الحجاج ليس بمجرد الفسق؛ بل لما غيّر من الشرع وظاهر من الكفر.
قال القاضي: وقيل: إن هذا الخلاف كان أولاً، ثم حصل الإجماع على منع الخروج عليهم.
والله أعلم.
وأنتم تعلمون أن الإجماع بعد الخلا(20/19)
معنى المبايعة والبيعة
أما قوله: (بايعنا على السمع) المراد بالمبايعة: المعاهدة، وتكون بوضع اليد في اليد؛ لأن كل واحد من المتبايعين كان يمد يده إلى صاحبه، وكذا هذه البيعة تكون بأخذ الكف.
وقيل: سميت مبايعة لما فيها من المعاوضة؛ لأن الله تعالى قال: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] فكانت هذه بيعة مع الله عز وجل.(20/20)
حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قال: (وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم).
أي: نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر في كل زمان ومكان، الكبار والصغار، لا نداهن فيه أحداً ولا نخافه، ولا نلتفت إلى الأئمة، فلابد من القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد أجمع العلماء على أنه فرض كفاية، فإن خاف من ذلك على نفسه أو ماله أو على غيره سقط الإنكار بيده ولسانه، وبقي الإنكار بقلبه؛ لأن هذا في مقدور كل إنسان.
ووجبت كراهته بقلبه.
وهذا مذهب الجماهير، وحكى القاضي هنا أن بعضهم ذهب إلى الإنكار مطلقاً في هذه الحالة وغيرها، وقد سبق في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كتاب الإيمان، وبسطته بسطاً شافياً هناك.
أسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال والأقوال؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله على نبينا محمد.(20/21)
الأسئلة(20/22)
حكم زجر الخطيب وإنزاله من المنبر لعلة فيه
السؤال
إذا كان الخطيب لديه أخطاء، ولكنها غير عقائدية، هل عليّ زجره أو إنزاله من على المنبر؟
الجواب
لا.
ليس لك ذلك، ولا يجوز لك أن تفعل هذا، وهذا في كل خطيب يصدر منه أي خطأ.(20/23)
حكم قول المرأة لزوجها: (أنت محرم علي)
السؤال
امرأة قالت لزوجها: أنت مُحرّم عليّ، فهل لها كفارة؟
الجواب
قول هذه المرأة لا عبرة له في الشرع، فهو قول صدر من غير مختص، فلو قالت المرأة لزوجها: أنت طالق ثلاثاً لا يقع الطلاق، فكذلك لو حرّمته على نفسها لا يحرم.(20/24)
حكم من وطئ سجادة كانت متنجسة بالبول ثم جفت
السؤال
إذا وطئت سجادة كانت متنجسّة بالبول ثم جفّت، فهل يجب غسل قدمي؟
الجواب
إذا كان يقصد بالجفاف جفاف القدم فيجب غسل القدم وإن جفّت، أما إذا كان يقصد السجادة فوطئها وهي متنجسّة بعد الجفاف فلا يجب غسل القدم.(20/25)
بيان ما يطهر به البلاط إذا أصابه بول
السؤال
هل يلزم من غسل البلاط النجس بالبول الدلك بالمساحة؟
الجواب
لا، وإنما يكفي سكب الماء عليه.(20/26)
حكم التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
هل يجوز التبرك بأي أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم كقطعة خشب من السور المحيط بقبره مثلاً؟
الجواب
لا يجوز مطلقاً، هذا شرك بالله عز وجل، إنما التبرك المشروع بآثار النبي صلى الله عليه وسلم بما هو خاص به من حاجاته، كشيء من ثوبه أو شيء من شعره أو غير ذلك، وقد ثبتت النصوص بذلك.(20/27)
نبذة عن علم الدكتور إسماعيل منصور وتنكبه عن منهج السلف
السؤال
كلما مر الزمان انتشرت الفتن وتعاظم أمرها، وقد حدث شيء عجيب لي بالأمس، إذ وقع في يدي كتابان لم أشترهما، وهما: (تذكير الأصحاب بتحريم النقاب)، وكتاب (شفاء الصدر بنفي عذاب القبر)؟
الجواب
هذان للدكتور إسماعيل منصور، كان هذا الدكتور إسماعيل منصور من ألزم الناس لطلب العلم على منهج السلف، وهو من المنصورة، ويدرس تقريباً مذهب الإمام الشافعي، وكان قمة في الدعوة إلى مذهب السلف سنة (1978م و1979م و1980م و 1981م) أربع سنوات، وما كنا نقنع أبداً بالسماع من أحد مطلقاً إلا منه هو.
ومن عظيم فتنته: أنه كان يحفظ الكتب الستة بالإسناد، وكان إذا خطب خطبة استمر فيها إلى قرابة العصر، يخطب ويذكر أحاديث قد تصل إلى (100) حديث يسوقها بإسناد كل مصنّف، وكنا نراجع الخطبة وراءه فلا نجده يخرم حرفاً واحداً وهذه فتنة عظيمة جداً.
وحينما سافرنا ورجعنا في (1986م) وجدنا الإخوة كلهم انفضوا عن إسماعيل منصور، فقلنا: ما الذي جرى؟ هذا شيخنا.
قالوا: لا.
قلنا: لماذا؟ قالوا: لأنه الآن له آراء سيئة جداً.
وكانت زوجته من قبل منتقبة وتلبس السواد، فهو كما قلت كان شيخ السلفيين، فأتيت إليه مرة من المرات وقلت له: يا شيخنا! أنت اليوم عندك خطبة في المنصورة؟ وكان قد طُرد من الجمعية الشرعية في المنصورة.
فقال لي: نعم.
عندي خطبة في المنصورة.
قلت له: هل من الممكن أن أصطحبك فأنا تلميذك.
قال: لم لم أرك من زمن؟ قلت له: كنت في الأردن.
فظن أنه لا علم لي بأخباره السيئة.
فقال: تفضّل.
فركبت معه السيارة، فوجدت امرأة قد تحللت من كل شيء وهي تتكلم، فسمعت منه عن الإمام الشافعي ما يحملني على النزول، فتحملت أن أسمع البلاء كله حتى وصلت إلى المنصورة، فعندما نزلت هناك قال لي: أين تصلي؟ قلت: أصلي في الجمعية الشرعية.
قال: عند المبتدعة؟ قلت له: الجمعية الشرعية مبتدعة! وأنت إلى أين تذهب؟ قال لي: ألا تصلي معي؟ قلت له: لا والله، لا أجوّز لنفسي أن أصلي خلفك؛ لأنك أنكرت كل شيء ثابت في الدين.
فقال: النقاب حرام.
قلت له: كيف ذلك؟! نحن نعرف أن الخلاف فيه بين الوجوب والاستحباب، ومن أتى بقول غير هذين القولين يكون مبتدعاً، فلما قلت هذا الكلام أعطتني امرأته (الدش المحترم).
قالت لي: لقد أتيت مشحوناً.
فقلت: أنا غير مشحون ولا أعرف أي شيء.
قال لي: أنا سأخبرك إذاً بأشياء، هل أنت تعتقد عذاب القبر؟ قلت له: تعلمت هذا منك والله، فأشرطتك في عذاب القبر من مصروفي الخاص فقد كنت أسمع الشريط هذا بالذات؛ لأنه كان مؤثراً جداً، فقد كان الواحد عندما يسمعه كأنه في القبر.
قال لي: لا.
رجعت عنه وتبيّن لي أنه كذب.
قلت له: لم يتبيّن بعد للأمة أنك كذاب، وأنت تعرف أن الذي قال هذه المقولة هم المعتزلة والجهمية، فكيف تقول بهذا الكلام؟ فإما أن تكون جاهلاً وتعلمت، وأما أن تكون عالماً وجهلت.
تصور! أنه أوقف السيارة في الطريق أربع أو خمس مرات حتى ينزّلني.
قلت له: لا.
اصبر عليّ حتى نصل، إذ لم يكن لدي نقود، ولو نزلت في الطريق سأمشي إلى المنصورة على الأقدام.
وهكذا زعزع الثوابت كلها.
فكل كتبه إنكار كذا، وإنكار كذا، وإنكار كذا، وإنه ليغلب على ظني أن مردّه إلى الإخلاص، فلو كان هذا الرجل مخلصاً في دعوته الأولى لعصمه الله عز وجل، والله أعلم، فلما خلا منه ذلك فُتن في دينه، فما من شيء يُفتح للنقاش مع الدكتور إسماعيل منصور إلا وينظر ما تعتقده حتى يخالفه، وكان من قبل يقول: لا يوجد أحد يناقشني إلا الشيخ ابن باز والشيخ الألباني، مع أنهما في حياتهما لم يناقشاه.
فقال له بعض الإخوة: لماذا هؤلاء بالذات؟ قال: لأنهما العالمان المعترف بهم، أما غيرهما فكلهم دوني في العلم.
تصور أن شخصاً يرفع نفسه فوق الناس جميعاً! فمن نادى على نفسه بذلك فقد نادى على نفسه بالجهل، ولا يزال الرجل متعلماً عالماً حتى يقول: قد علمت، فإذا قال ذلك فهو أجهل الناس كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
فعلى أية حال نحن نحذّر من هذا الرجل، ومن نافلة القول أن أقول: إنه أستاذ سموم في كلية الطب جامعة القاهرة، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(20/28)
شرح صحيح مسلم - كتاب الإمارة - الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به
لقد أناط الشارع الحكيم بالإمام أو الحاكم أو الخليفة حماية المسلمين، ووقاية من تحته ورعايتهم، وسياستهم بالدين، وأوجب عليهم طاعته ما لم يكن أمره في معصية، فإنه لا طاعة إلا في المعروف، وطاعة الإمام الظالم الفاسق وعدم الخروج عليه أمر واجب، حقناً لدماء المسلمين، كما أنه لا يجوز مبايعة إمام ثان في بلد ما في وجود الإمام الأول في نفس البلد، وللعلماء في مبايعة إمامين في وقت واحد وفي قطرين شاسعين أقوال مختلفة.(21/1)
باب الإمام جنة يقاتل به من ورائه ويتقى به
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، أما بعد: فمع الباب التاسع من كتاب الإمارة: (الإمام جنة يقاتل به من ورائه ويتقى به).
الإمام جنة.
أي: وقاية وحماية وستر، ودفع لأذى الكفار والمشركين عن أهل الإيمان والتوحيد.
[حدثنا إبراهيم] وهو إبراهيم بن سفيان الذي روى صحيح مسلم.
وإبراهيم لم يسمع الصحيح كله من مسلم، وإنما سمع جزءاً من الصحيح، وفاته بعض المواطن وبعض الأحاديث، فأخذها عن مسلم إجازة لا سماعاً.
ومعنى الإجازة: أن الراوي صاحب الحديث يكتب بكتابه إلى فلان، ويقول له: خذ هذا فإنه حديثي فاروه عني، ولم يسمعه منه ولكنه قد أجازه فيه.
ولذلك لا يقول المجاز: حدثني فلان، ولا سمعت فلاناً.
وإنما يقول: حدثني فلان إجازة.
لبيان نوع التحمّل.
أو يقول: عن فلان.
فلو قال عن فلان فلا يلزمه أن يقول: إجازة.
وإنما يلزمه أن يقول: إجازة إذا استخدم الألفاظ التي تفيد السماع: كحدثنا وأنبأنا وأخبرنا.
فلو قال: حدثني فلان، أو أنبأني فلان أو أخبرني فلان ولم يسمع منه بل تحمّل عنه إجازة، فيلزمه أن يقول: حدثني فلان إجازة.
أخبرني فلان إجازة.
أنبأني فلان إجازة.
والألفاظ التي تحتمل السماع وعدمه كـ (قال) و (عن) لا يلزم فيها أن يصرّح بالإجازة، ولو قال: عن فلان أو قال فلان فسواء قال: إجازة أو لم يقل فلا بأس عليه، ولا يُنسب إلى التدليس حينئذ، إنما لو قال: حدثني فلان وكانت الرواية إجازة ولم يبيّن فيُنسب إلى التدليس حينئذ، فيقال: فلان مدلّس؛ لأنه صرّح بالسماع ولم يسمع، فأوهم القارئ والممتنع أنه يصاحب مجالسة ويتلقى هذا الحديث مشافهة ولم يكن هذا منه فكان مدلساً، والقبيح هو الإيهام.
فـ إبراهيم بن سفيان راو الصحيح عادة لم يسمع هذا الحديث من الإمام مسلم؛ ولذلك قال فيه: عن مسلم، فلا يلزمه أن يقول: إجازة.
قال مسلم: [حدثني زهير بن حرب - أبو خيثمة النسائي نزيل بغداد، ونساء هي قرية في حوالي العراق قرب المدائن أو قرب إيران الآن- حدثنا شبابة بن سوار].
وشبابة مدائني وكذلك شيخه ورقاء، والمدائن مدينة كبيرة جداً من بلاد فارس، ويهم من يظن أن المدائن هي مدينة النبي عليه الصلاة والسلام، فالنسبة إلى المدينة مدني، أما النسبة إلى المدائن مدائني.
فيقال: ورقاء المدائني وليس المدني.
[عن أبي الزناد عن الأعرج].
أبو الزناد عبد الله بن ذكوان المدني عن الأعرج وهو عبد الرحمن بن هرمز المدني وجُل رواية الأعرج عن أبي هريرة.
[قال: عن أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الإمام جُنة)] فهذا توكيد بـ (إنَّ) المشددة.
يعني: مهمة الإمام والخليفة العام والولاة والسلاطين والأمراء: أنهم جُنة لرعاياهم، يحمونهم ويذبون عنهم ويدافعون عنهم كل أنواع الأذى، ويجلبون لهم كل أنواع الخير.
هذه مهمة الإمام الحق الذي يُظل في ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله، هذه هي مهمته، ولا شك أن جُل الأئمة اليوم لا يفعلون ذلك، وندر أن يكون الإمام عدلاً يتقي الله في رعيته.
قال: (إنما الإمام جُنة) ومعنى جُنة: أي وقاية وستراً.
ونحن في زمان نتمنى فيه أن يرفع الإمام عنا يده وسوطه، ولا علاقة له بعد ذلك في أي فساد يقع علينا.
أي: بلغنا في السوء مبلغاً عظيماً جداً، حتى تمنينا فيه ألا يكون الإمام لنا لا جُنة ولا مهلكة، ولا علاقة له بالرعية؛ لبُعده الشديد جداً عن المهمة التي لأجلها تولى، وعن المهمة التي لأجلها صار إماماً وبايعه من بايعه، وأطاعه من أطاعه.
إنما الإمام جُنة: أي: وقاية وستراً؛ لأنه يمنع العدو من أذى المسلمين، ويمنع الناس بعضهم من بعض، ويحمي بيضة الإسلام، ويتقيه الناس ويخافون سطوته.
قال: [(يُقاتل من ورائه ويتقى به)] أي: إذا كان هذا الإمام جُنة -وقاية وستراً- وقائماً بحق الإمامة وبواجبها؛ فلا بد أن يقاتل معه الرعية إذا طلب الإمام منهم المقاتلة، ولا بد أن يكونوا من خلفه مباشرة؛ لأن الإمام في حقيقة الأمر لا يقاتل بنفسه وإنما يقاتل بأمره ونهيه، ويُنسب النصر والهزيمة له، وإن لم يكن قد باشر هو بنفسه النصر ولم يباشر بنفسه الهزيمة، فيقال: انتصر فلان في حرب كذا، أو في غزوة كذا.
وربما كان قابعاً في غرفة العمليات لم يواجه عدواً مواجهة شخصية بنفسه؛ وذلك لأن بذل الجهد العقلي أعظم بكثير جداً من بذل الجهد البدني، فالجهد البدني يبذله أي إنسان، أما العقلي والتكتيك العسكري، ومع(21/2)
باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول
الباب العاشر: (باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء).
ليس أمراً مستحباً أو مندوباً وإنما هو واجب، (الأول فالأول).
أي: الأول ثم الذي يليه.
فلو كان هناك إمام في زمانك فبايعته ثم مات أو عُزل فلا تقل: أنا قد بايعت إماماً ولا يلزمني بيعة الإمام الثاني الذي أتى بعده بعد العزل أو الموت، فكل إمام أتى بعد إمام وجب عليك عقد البيعة له، وتقديم فرائض الطاعة، وإن كان يجتمع في العمر ألفا إمام كل يوم إمام فبيعة الإمام واجبة مطلقاً.
ويجدر بي أن أقول: إن بيعة الإمام هنا المقصود بها: الخليفة العام.
فهذه هي البيعة الشرعية، أما البيعات التي دون ذلك فإنها ليست بيعات شرعية، ولا علاقة لها بتلك النصوص العامة التي وردت في شأن الخلافة العامة، كهذه النصوص التي نحن بصددها، والتي ستأتي معنا فكلها متعلقة بالخليفة العام، أما تلك الجماعات التي انتشرت في بقاع الأرض هنا وهناك -فكل حزب بما لديهم فرحون- وهذه البيعات التي تُعقد لهم بيعات غير شرعية.
هذا ما أعتقده.
ثم يزعم البعض منهم أنها بيعات خاصة من باب التعاون على البر والتقوى، ومن الممكن أن يحصّل ذلك بغير بيعة، فلو قالوا لي: تصلي الجمعة القادمة وتخطب في هذا المسجد؟ قلت: نعم.
ثم دعاني هواي ومزاجي إلى عدم الحضور، فأوقعت الناس في الحرج والعنت في وقت الخطبة، فلا شك أنني آثم في هذه الحالة لا لمخالفتي لمن اتفق معي، وإنما لمخالفتي الشرع، فأنا آثم بتأثيم الشرع، مثاب بتثويب الشرع.
وبعض الناس يقولون: لا بد أن تكون في عنقك بيعة وإن مت على غير بيعة مت ميتة جاهلية.
فهذا حين وجود الإمام، أما إذا انعدم الإمام فإنما السمع والطاعة في المعروف لولاة الأمر الموحدين من أهل العلم والسلاطين، فحينئذ الكلام عن البيعة هنا كلام عن البيعة للإمام العام، ولا يتوهمن أحد أن هذه البيعة تلزمه لجماعة كذا أو كذا أو للشيخ الفلاني أو للعالم الفلاني، أو للسلطان الفلاني أو غير ذلك، فإن هذه بيعات كلها ليست لازمة ولا تجب في شيء.(21/3)
شرح حديث أبي هريرة في الوفاء بالبيعة للإمام الأول فالأول
قال: [حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر - ابن بشار لقبه بندار، وابن جعفر لقبه غندر، وغندر أي: مشاغب-حدثنا شعبة عن فرات القزاز -وفرات هو ابن أبي عبد الرحمن تميمي كوفي- قال: عن أبي حازم قال: قاعدت أبا هريرة خمس سنين] أبو حازم الذي يروي عن أبي هريرة في طبقة التابعين هو سلمان مولى عزة، وأبو حازم الذي يروي عن سهل بن سعد الساعدي في نفس الطبقة من طبقات التابعين هو سلمة بن دينار، وكثير من الناس يهم بين الاثنين.
الكنية أبو حازم، وأحدهما: يروي عن أبي هريرة وهو سلمان مولى عزة.
والثاني: يروي عن سهل بن سعد وهو سلمة بن دينار.
قال: قاعدت أبا هريرة خمس سنين].
ومعنى قاعدت.
أي: جالسته، تلقى على يديه العلم خمس سنوات.
[فسمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي)].
أعظم أمة على وجه الأرض أرسل الله تعالى إليهم أنبياء هم بنو إسرائيل، ليس هذا لفضلهم ولا لمكانتهم، بل هذا لكفرهم وعنادهم، إذ أقام الله تعالى عليهم الحجة لكثرة بعث الأنبياء والمرسلين؛ حتى لا يظن بنو إسرائيل أن هذا من باب الشرف لهم، وإنما هذا لعلم الله تعالى الأزلي فيهم أنهم أهل جحود وأهل غدر، وما نجا منهم نبي من الأنبياء، فقتلوا البعض وسبّوا البعض، ونشّروا البعض، وغير ذلك مما كان من بني إسرائيل مع أنبيائهم.
قال: (كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي).
وفي هذا: جواز أن يقول الرجل عن الميت: هلك.
وهلك بمعنى: مات.
وإذا كان الهلاك يصح إطلاقه على موت الأنبياء، فمن باب أولى يصح إطلاقه على من دونهم، كلما مات نبي خلفه أرسل الله تعالى إليهم نبياً آخر، ولا يفهمن أحد من هذا النص أن النبوة بالاستخلاف، كالذين تربوا في أمريكا على يدي رشاد رشدي وغيرهم من الملاحدة يفهمون من هذا النص أن النبوة بالاكتساب والاستخلاف، ويعتمدون على ظواهر بعض النصوص ومنها هذا النص: (كلما هلك نبي خلفه آخر) أي أخلفه الله تعالى بآخر، ولم يُخلف هو غيره.
وما سمعنا أن أحداً قط قال بأن النبوة مكتسبة إلا أصحاب العقائد المنحرفة.
قال عليه الصلاة والسلام: [(وإنه لا نبي بعدي)].
إن أحد المنحرفين المصريين كان دكتوراً في كلية الزراعة جامعة الزقازيق، سافر إلى أميركا وغيّر بطاقته الشخصية وسمى نفسه (لا) في البطاقة، ثم بعد مدة من الزمان ادعى النبوة، فلما نوفس في ذلك وقال له المناظر: النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا نبي بعدي) قال: وأنا (لا) فالنبي قد بشّر بأني نبي من بعده، ثم غيّر اسمه بعد فترة من هذه المناقشة وادعى الإلهية.
ومعلوم أنه ما من ساقطة في الأرض إلا ولها لاقطة، فقد تبعه على هذه الدعوة الفاسدة الباطلة أحمد صبحي منصور، وأنتم تقرءون له في الأهرام والأخبار دائماً، ظهر ليساند الإله الجديد، فإنه أول ما ادعى رشاد رشدي النبوة ذهب إليه هناك، وكان بينهم من الاتفاق ما يؤهل إلى أن يكون رشاد رشدي إلهاً، وأن يكون أحمد صبحي منصور نبي ذلك الزمان، فلما حدثت بينهما الخصومة والخلاف فضح كل منهما الآخر، فهلك رشاد رشدي ورجع أحمد صبحي منصور إلى مصر بخفي حنين، لم تثبت له النبوة ولم تثبت له الإلهية، وثبتت له القدم الراسخة في الإلحاد والإجرام، فصار يطعن في ثوابت الإسلام في الليل والنهار على صفحات الجرائد.
قال: [(كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر)] أي: لا نبي بعدي، ولكن يقوم بمهمة النبي في سيادة أمور الناس خلفاء، وهؤلاء الخلفاء كثرة كاثرة، كلما هلك خليفة أو عزل لكفره جاء غيره؛ لأن الإمام إذا كفر وجب عزله وتنصيب غيره.
قال: [(وستكون خلفاء فتكثر.
قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟! قال: فوا ببيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم؛ فإن الله سائلهم عما استرعاهم)] (فوا) من الوفاء.
أي: يجب عليكم أن تفوا ببيعة الأول، ولا تبايعوا من ظهر في وجود الإمام الأول، فإنما البيعة تُعقد لإمام واحد، وهذا الإمام يعين الولاة والأمراء من باطنه، فتجب طاعة الولاة والأمراء والسلاطين في شتى أصقاع بلاد المسلمين؛ نظراً لوجوب طاعتهم للإمام العام، فإذا كان الخليفة مثلاً في تركيا أو في العراق أو في المدينة أو في مصر أو في المغرب، فيجب عليه أن يعيّن ولاة على كل بقاع المسلمين: ولاة للصلاة، ولاة للجهاد، ولاة للسياسة، ولاة للقضاء، وغير ذلك مما يصلح(21/4)
معنى قوله: (فوا ببيعة الأول فالأول)
قال: (فوا ببيعة الأول فالأول) أي: عند تكاثر الخلفاء لا شك أن هذا مخالف لظاهر النصوص؛ لأنه لا بيعة إلا لخليفة واحد، فما بالنا وقد انتشر الخلفاء هنا وهناك، وكل يدّعي أنه خليفة وكل يزعم أنه خليفة، كما نسمع أن سلطان المغرب أمير المؤمنين يطبع كتاب التمهيد شرح الموطأ، ويكتب عليه طُبع على نفقة أمير المؤمنين الملك الحسن بن فلان الفلاني المغربي، ثم نجد مثيلاً له في بلاد الشام يقول: إنه أمير المؤمنين.
فهنا نبايع واحداً فقط، ومن الممكن أن يقول أمير الشام لأمير المغرب: أنت لست أمير المؤمنين، إنما البيعة الشرعية لي، ويقهره ويحمله على أن يكون مطيعاً له، مما جعل بعض أهل العلم يقولون رفعاً للفساد وحقناً للدماء: تجوز البيعة لأكثر من إمام إذا تباعدت ديارهم، وإن لم يكن الأمر مشروعاً في أصله.(21/5)
حكم عقد البيعة لأكثر من إمام في وقت واحد
قال: (فوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم.
فإن الله سائلهم عما استرعاهم).
في هذا الحديث معجزة ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال النووي: (ومعنى هذا الحديث: إذا بويع لخليفة بعد خليفة فبيعة الأول صحيحة يجب الوفاء بها، وبيعة الثاني باطلة يحرم الوفاء بها، ويحرم عليه -الخليفة الثاني -طلبها- في وجود الخليفة الأول- وسواء عقدوا البيعة للثاني عالمين بعقد بيعتهم للأول أو جاهلين بها، وسواء كانا في بلدين أو في بلد واحد أو أحدهما في بلد الإمام، وهو الصواب الذي عليه أصحابنا وجماهير العلماء.
وقيل: تكون البيعة للخليفة الذي بويع في بلد الإمام.
وقيل: يُقرع بينهما، وهذان فاسدان).
كأن يكون قد بايعت لخليفة معيّن، ثم ظهر خليفة آخر في نفس البلد، فكيف يهدم حق الإمام الأول وتلغى البيعة له؟ فمنهم من قال بإجراء القرعة بينهما.
قال: (واتفق العلماء على أنه لا يجوز أن يُعقد لخليفتين في عصر واحد سواء اتسعت دار الإسلام أو لم تتسع.
وقال إمام الحرمين الإمام الجويني في كتاب الإرشاد -وكان أصولياً مقنناً- قال أصحابنا -أي الشافعية- لا يجوز عقدها لشخصين -أي: لا تجوز البيعة لشخصين- قال: وعندي: أنه لا يجوز عقدها لاثنين في صقع واحد -أي: في بلد واحد- وهذا مجمع عليه) أي: هذا محل اتفاق.
قال: (فإن بَعُدَ ما بين الإمامين، وتخللت بينهما شسوع فللاحتمال فيه مجال).
أي أن إمام الحرمين يقول: أنا أوافق من قال: إنه لا تجوز البيعة لخليفة ثان في ظل البيعة للخليفة الأول إذا كانا في بلد واحد، أما إذا اتسعت وشسعت المسافة بينهما فيحتمل أن تصح البيعة لكل منهما.
قال: (وهو خارج عن القواطع.
وحكى المازري هذا القول عن بعض المتأخرين).
(خارج عن القواطع): أي: أن هذا الكلام كلام ينقض المقطوع به ضرورة وشرعاً وحكماً: أنه لا تجوز عقد البيعة لإمام ثانٍ مع وجود الإمام الأول.
قال: (وحكى المازري هذا القول عن بعض المتأخرين من أهل الأصل -أي: من أصحاب الأصول- وأراد به إمام الحرمين) أي: أنه يريد أن يرد عليه ويقول له هذا كلام فاسد من إمام الحرمين، ولا يجوز اتباعه على ذلك.
(وهو قول فاسد مخالف لما عليه السلف والخلف، ولظواهر إطلاق الأحاديث، والله تعالى أعلم).(21/6)
ذكر روايات وطرق حديث أبي هريرة في الوفاء بالبيعة للأول فالأول
قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعبد الله بن براد الأشعري قال: حدثنا عبد الله بن إدريس عن الحسن بن فرات عن أبيه -أي: الفرات بن أبي عبد الرحمن الكوفي كما قلنا في الإسناد الماضي- بهذا الإسناد مثله.
وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو الأحوص سلّام بن سليم الحنفي ووكيع -ثم ينتهي الإسناد ليبدأ إسناد جديد- وحدثني أبو سعيد الأشج حدثنا وكيع وينتهي الإسناد].
الإسناد الثالث: [وحدثنا أبو كريب وابن نمير قالا: حدثنا أبو معاوية، وينتهي الإسناد].
إذاً عندي أبو الأحوص ووكيع وأبو معاوية وهو محمد بن خازم الضرير.
والإسناد الرابع: [حدثنا إسحاق بن إبراهيم -المعروف بـ ابن راهويه - وعلي بن خشرم قالا: أخبرنا عيسى بن يونس كلهم عن الأعمش -وهو سليمان بن مهران الكوفي - وينتهي الإسناد.(21/7)
شرح حديث ابن مسعود: (إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها)
قال: [وحدثنا عثمان بن أبي شيبة أخو أبي بكر بن أبي شيبة واللفظ له]، أي: هذا سياق الحديث القادم، وهو سياق عثمان بن أبي شيبة لا سياق السابقين.
[حدثنا جرير -وهو ابن عبد الحميد الضبي - عن الأعمش].
إذاً: هما اثنان يرويان هذا الإسناد كله، الأول: هو عيسى بن يونس، والثاني: جرير كلاهما يروي عن الأعمش، والأعمش يروي عن زيد بن وهب وهو الجهني أبو سليمان الكوفي، ثقة إمام جليل مخضرم، ومعنى المخضرم: أنه من سادات التابعين، أسلم في زمن النبي عليه الصلاة والسلام ولم يره.
أي: أنه أدرك زمن الجاهلية وزمن النبوة، فأسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه لم ير النبي صلى الله عليه وسلم، فيصنّفه العلماء بين التابعي وبين الصحابي.
والتابعي: هو الذي رأى الصحابي أو لزم الصحابي، ووجد بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام.
أما الصحابي كما قلنا من قبل فهو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن اللقاء يثبت للأعمى وغير الأعمى.
فلو قلنا: الصحابي: هو من رأى لكان لزاماً علينا أن نخرج من لم ير النبي صلى الله عليه وسلم لعمى أو لعلة أو غير ذلك، فالصحابي: هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك.
لأن هناك من لقي النبي صلى الله عليه وسلم وليس مؤمناً به، كالكفار والمشركين الذين التقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وآذوه، ولم يؤمنوا به عليه الصلاة والسلام، أو المنافقين الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر.
فهم في حقيقة الأمر ليسوا من الصحابة؛ لأنهم ليسوا مؤمنين بالنبي عليه الصلاة والسلام؛ حتى لا يقال: إن عبد الله بن أُبي بن سلول كان صحابياً، بل كان منافقاً، والله تبارك وتعالى أعلم نبيه بأسماء المنافقين وأعيانهم، وعلّم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك حذيفة بن اليمان رضي الله عنه.
قال زيد بن وهب: [عن عبد الله].
إذا ورد الصحابي في طبقة الصحابة عبد الله هكذا غير منسوب فالمقصود به: عبد الله بن مسعود، خاصة إذا كان الإسناد كوفياً؛ لأن زيد بن وهب كان كوفياَّ، فإذا قال كوفي من التابعين: حدثني عبد الله فإنما هو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ لأنه هو الذي رحل من المدينة إلى الكوفة، ليعلّم الناس الصلاة والعلم.
[قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها ستكون بعدي أثرة)] أي: إيثار الحُكّام والأمراء والسلاطين لأنفسهم بالمال وأمور الدنيا، مما يجعلهم ينتهكون الحرمات في سبيل منصب أو كرسي أو وجاهة أو مال أو غير ذلك، فإن الحُكّام يؤثرون أنفسهم دائماً بملذات الدنيا ومتاعها، فينتهكون العرض ويسفكون الدم لأجل الحصول على ذلك.
فبدلاً من أن يؤثروا الناس على أنفسهم، آثروا أنفسهم على الناس، وهذا فيما يتعلق بالدنيا، والحمد لله أنهم لم يؤثروا أنفسهم بالدين، وإنما يؤثرون أنفسهم بمتاع الدنيا وملذاتها.
[(إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها)] إذا نظر الواحد منكم أو قرأ عن هذا الإيثار ينكر ذلك أشد الإنكار.
[(قالوا: يا رسول الله! كيف تأمر من أدرك منا ذلك؟)] أي: بماذا تنصحنا وماذا نفعل حينئذ؟ والنبي عليه الصلاة والسلام هو ملاذ الموحدين إلى يوم الدين قال: [(تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم)] ولم يقل: تسألون الحُكّام أو السلاطين أو الأمراء أو العلماء؛ لأن العلماء في الغالب لا يملكون شيئاً، العالم لا يملك إلا استقامة الفتوى وبيان الحلال والحرام، وبيان المشروع من الممنوع، ويملك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يملك أكثر من ذلك، لكن كثيراً من الناس يأتي فيقول: يا شيخ! العمل في البنوك حرام؟ يقول الشيخ: نعم حرام.
يقول: إذاً: قدّم لي عملاً.
وليس هذا له، ربما هو نفسه بغير عمل، فأنت تسأله عن الحرام والحلال فقط، ولا علاقة له بتيسير دنياك، وبتيسير حياتك، إنما له أن يوجهك في الحياة، هذا حلال وهذا حرام، هذا ممنوع وهذا مشروع.
هذا دور العالم.
ويأمر السلطان ومن دون السلطان بالمعروف وينهاهم عن المنكر.
هذا دوره.
وإن لم يؤد للرعية هذا الدور كان كالبهائم، بل تكون أفضل منه عند الله عز وجل؛ لأنها على الأقل تؤدي ما كان واجباً في حقها من الحرث والضرع، أما هو فقد خلقه الله تعالى لمهمة وحدد له السبيل، ولكنه لحرصه على الدنيا وعلى الكرسي والمنصب والمال نكس عن الطريق، وصار يجعل الحق باطلاً والباطل حقاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون! فقال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً ذلك: ستجدون لا محالة من بعدي أثرة وأموراً تنكرونها.
قالوا: كيف نخرج منها يا رسول الله؟! قال: تؤدون الحق الذي عليكم؛ لأن كل إنسان له حق وعليه واجب.
قال: (أ(21/8)
شرح حديث عبد الله بن عمرو في الفتن ووجوب طاعة الأمير ودفع منازعيه
قال: [حدثنا زهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم قال إسحاق: أخبرنا.
وقال زهير: حدثنا].
وكما قلت من قبل: هناك فرق بين (حدثنا) و (أخبرنا)، فأخبرنا المشهور عند العلماء استخدامها في الإجازة.
أي: فيما لم يسمع الراوي من شيخه.
فيقول: أخبرنا، والأفضل أن يقول: أخبرنا فلان إجازة.
لكن (حدثنا) لا تُستخدم إلا في السماع.
[حدثنا جرير عن الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة قال: دخلت المسجد فإذا عبد الله بن عمرو بن العاص جالس في ظل الكعبة، والناس مجتمعون عليه، فأتيتهم فجلست إليه، فقال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا منزلاً -يعني: نزلوا ليختبئوا- فمنا من يُصلح خباءه -يعني: منا من قد انشغل بتثبيت خيمته- ومنا من ينتضل -من النضال أي: النشال، والتدريب على الرمي بالسهم والقوس- ومنا من هو في جشره -أي: في إصلاح فرسه من العلف والتنظيف وغير ذلك- إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة جامعة -أي: اجتمعوا أيها الناس- فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم)] وهذه مهمة الأنبياء والمرسلين، أنهم يعلمون أقوامهم ما ينفعهم من خيري الدنيا والآخرة [(وينذرهم شر ما يعلمه لهم)].
إذاً: مهمة الأنبياء: البشارة في الخير والنذارة من الشر.
فهذه مهمة الأنبياء منذ أن أرسل الله تعالى نوحاً إلى محمد عليه الصلاة والسلام.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: [(إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها).
(جُعل عافيتها) أي: قوتها في أولها.
وهذا معلوم.
[(وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها)] وهذا أيضاً من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، فقد بشّر أن قوة هذه الأمة وعافيتها في صدرها الأول وقد كان وبعد ذلك يكون هناك ضعف وهوان وذل وأمور تنكرونها.
قال: [(وتجيء فتنة فيرقق بعضها بعضهاً)] أي: أن الفتنة الأولى تتبعها ثانية، وحين وجود الفتنة الأولى يقول الناظر إليها: هذه مهلكتي.
وذلك لأنها عظيمة لا يمكن الفرار منها ولا الفكاك عنها، ولا تكون كذلك، بل ينجو منها العبد، وسرعان ما يقع في فتن أخرى فيقول: إذا انكشفت الفتنة الأولى فلا تنكشف هذه فتنكشف، فيقع في الثالثة فتتبعها أختها وتكثر الفتن في آخر الزمان، حتى يظن المسلم أنه في كل فتنة من الهالكين.
قال: [(وتجيء فتنة فيرقق بعضها بعضهاً، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي ثم تنكشف، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه -أي: هي التي لا أخرج منها- فمن أحب أن يزحزح عن النار ويُدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه)].
وهذا كلام جميل، فالنبي صلى الله عليه وسلم يحذّر من الفتن، إذ تكثر ويرقق بعضها بعضاً، ويسلّم بعضها إلى بعض؛ وموقفي أنا كمسلم موحد أن أؤمن بالله واليوم الآخر.
كان عبد الله بن عمر إذا عُرضت عليه الفتنة قال: آمنت بالله ورسوله.
يتأول هذه النصوص.
وكان غير واحد من السلف يفعلون ذلك، وإذا أتت الفتنة كانوا أحلاف بيوتهم.
أي: يغلقون على أنفسهم بيوتهم، وينكسون سيوفهم ويقولون: آمنا بالله ورسوله، ولا شك أن موقف المسلم من الفتنة بين ثلاثة مواقف: الموقف الأول: إذا كان الحق في الفتنة ظاهراً وواضحاً وجب على الناس أن يعينوا صاحب الحق على المبطل، وجب عليهم ذلك ولا يسعهم المخالفة، وذلك إذا كانت الإعانة والنصرة في مقدورهم.
والموقف الثاني: يحرم عليهم إعانة المبطل على المحق.
الموقف الثالث: إذا لم يكن للفتنة جانب رابح، لا يعرف أيهما على الحق وأيهما على الباطل، وأين الحق في هذه الفتنة؟ فإن واجب المسلم حينئذ أن يكف يده عن تلك الفتنة أبداً.
وهذا ما فعله سلف الأمة.
قال: [(فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته)] أي موته (وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس) أي: يبذل إلى الناس (الذي يحب أن يؤتى) أي: من الخير.
قال: [(ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه)]؛ لأن البيعة لا تكون إلا باليد، وتكون باللسان، لكن صورة البيعة غالباً وضع اليد في اليد.
قال: [(فليطعه إن استطاع)] إذا كنت قد بايعت إماماً فأطعه ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.
قال: [(فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر)].
إذا جاء إمام آخر وزعم الإمامة والخلافة ينازع بها الإمام الأول فادفعوه وادرءوا ما استطعتم، فإن لم يكن دفعه ممكناً إلا بقتله قُتل.
يعني: ادفعوه وبيّنوا عواره وفساده م(21/9)
معنى قوله: (فتنة يرقق بعضها بعضاً)
قوله: (ترقق بعضها بعضاً) أي: يصير بعضها رقيقاً خفيفاً لعظم ما بعده.
الفتنة تأتي كالجبل فيستعظمها المرء، لكنها بالنسبة لما بعدها هي رقيقة جداً وسهلة ميسورة.
والتأويل الثاني معناه: يشبه بعضها بعضاً.
وقيل: يدور بعضها في بعض ويذهب ويجيء.
وقيل: يسوق بعضها إلى بعض بتحسينها وتسويلها.
والمعنى الثالث: فيدفق لا يرقق.
أي: تأتي متدفقة، يدفع ويصب صباً.(21/10)
معنى قوله: (وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه)
قال: (وليأت إلى الناس الذي يجب أن يؤتى إليه) هذا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم وبديع حكمه، وهذه قاعدة مهمة فينبغي الاعتناء بها، وهو أن الإنسان يجب عليه ألا يفعل مع الناس إلا ما يُحب أن يفعلوه معه.
قال: (فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر) معناه: ادفعوه إلا إذا كان لا يندفع إلا بقتله فيجوز حينئذ قتله.(21/11)
معنى قوله: (هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل)
قوله: (هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل) إلى آخره.
المقصود بهذا الكلام: أن هذا القائل لما سمع كلام عبد الله بن عمرو بن العاص وذكر الحديث في تحريم منازعة الخليفة الأول، وأن الثاني يُقتل اعتقد أن هذا الوصف في معاوية، فقد اعتقد أن معاوية خليفة ثان في وجود الخليفة الأول؛ لمنازعته علياً رضي الله عنه، وكانت قد سبقت بيعة علي، فرأى هذا القائل أن نفقة معاوية على أجناده وأتباعه في حرب علي ومنازعته ومقاتلته إياه من أكل الأموال بالباطل، وأخذ أموال المسلمين من بيت المال، وإنفاقها على الجند لمحاربة الخليفة الأول -أي: صاحب البيعة المشروعة- يعد باطلاً؛ لأنه قتال بغير حق، فلا يستحق أحد مالاً في مقاتلته.
فقال عبد الله بن عمرو: (أطعه في طاعة الله واعصه في معصية الله) وفيه دليل على وجوب طاعة المتولين للإمامة بالقهر من غير إجماع ولا عهد.
قال: (أطعه) أي: أطع معاوية في طاعة الله، ومن كان على شاكلة معاوية من إمام ثان يظهر في وجود الإمام الأول تجب عليك طاعته إذا تولى بالقهر والغلبة وإعمال السيف، يجب طاعته من باب حقن الدماء.
قال له: إن الناس أطاعوا معاوية؛ لأنه ظهر وغلب في بقعة من بقاع الناس في الشام، وادعى الخلافة وطلب البيعة لنفسه، فبايعه الناس قهراً في وجود البيعة الصحيحة لـ علي بن أبي طالب.
إذاً فلِم أطاعه الناس؟ ولِم لم يقتلوه أو يدفعوا عن علي ما استطاعوا؟ لأنهم لم يقدروا على ذلك، فإن رفع أحد عقيرته بمقتضى هذه النصوص قتله معاوية.
وكأنه أراد أن يقول: إن الإمام إما أن يتولى بالنص والإجماع كـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وإما أن يتولى بالقهر والغلبة كالولاية الجبرية، والنبي قد بينها عليه الصلاة والسلام.
قال: (ستكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم ينزعها الله تعالى إذا شاء أن ينزعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة) وهي الخلافة الراشدة للأئمة الأربعة (فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم ينزعها الله تعالى إذا شاء أن ينزعها، ثم يكون ملكاً عاضاً) كما كان في دولة بني أمية ودولة العباسيين وغيرها من الدول، حتى في زماننا هذا وفي عصرنا الحديث.
قال: (فإذا شاء الله تعالى أن ينزعه نزعه) أي: ينزع الملك العضوض (ثم يكون ملكاً جبرياً) أي: قهرياً.
يتولى الحكام سياسة الناس بالقهر والقوة والغلبة، والسيف والسنان، حينئذ يجب علينا الطاعة لا لأننا قد بايعنا، ولا للخلافة المشروعة -بل هي غير مشروعة- ولكن حقناً لدماء المسلمين وجب عليهم أن يسمعوا ويطيعوا في طاعة الله عز وجل، وألا يسمعوا ولا يطيعوا في معصية الله عز وجل، هذا باب.
وباب الطاعة لهم لحقن الدماء باب آخر، فحينئذ يجب على الناس أن يسمعوا ويطيعوا حقناً للدماء.
قال: (ثم تكون فيكم ما شاء الله أن يكون) أي: هذا الملك الجبري (فإذا شاء الله تعالى أن يرفعه رفعه، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت).
وهذا يدل على أن ختام الخلافة ستكون على منهاج النبوة، هل هي خلافة المهدي المنتظر أو هي قبل المهدي المنتظر؟ الله أعلم.
والراجح: أن الأرض تمهّد بخلافة قبل ظهور المهدي المنتظر ونزول عيسى بن مريم.
وقد ظهرت وبدت البوادر والبشائر في هذا الزمان بهذه الصحوة المباركة التي رجع الناس فيها أفواجاً وجماعات إلى ربهم، حتى من فئات ما كان المرء يتصور قط أن واحداً منهم يرجع إلى الله، أو يتعرّف على الله عز وجل، صارت فئة مجتمعة كلها ترجع إلى الله عز وجل.
وفي هذا من المبشرات ما فيه، والتوبة والأوبة والإنابة إلى الله عز وجل تبشر بأن هذه الصحوة صحوة مباركة عاملة بالكتاب والسنة ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، وبهذا تتهيأ الأرض للخلافة الراشدة بإذن الله تعالى.(21/12)
باب الأمر بالصبر عند ظلم الولاة واستئثارهم
إذا ظلم الوالي أو استأثر في الدنيا، فالذي عليّ -كما قلنا من قبل- أن أؤدي الذي علي وأسأل الله الذي لي.
وإذا ابتلاني الله تعالى بأن الذي لي لم يصلني فالواجب عليّ الصبر.
قال: [حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال: سمعت قتادة يُحدّث عن أنس بن مالك].
هذا هو الإسناد الثاني.
قال: سمعت قتادة؛ لأن قتادة مدلّس، واسمه قتادة بن دعامة السدوسي البصري، ومعنى قتادة في اللغة: فرع الشجرة.
والدعامة: أصل الشجرة.
فهو قتادة وأبوه دعامة، قتادة بن دعامة السدوسي البصري يحدث عن أنس.
وفي رواية أخرى قال: سمعت أنساً.
وقتادة كان مدلّساً.
[عن أسيد بن حضير].
أنس بن مالك صحابي وأسيد بن حضير صحابي.
فهذه قوة إسنادية: أن صحابياً يروي عن صحابي آخر.
قال: [(أن رجلاً من الأنصار خلا برسول الله صلى الله عليه وسلم)] خلا أي: اختلى به في مكان، وليس خلا به بمعنى: أنه عصاه ولم يطعه.
[(فقال: ألا تستعملني كما استعملت فلاناً؟)].
هذا الكلام محرج وليس وجيهاً؛ ولذلك استحيا أن يسأله على الملأ.
فقال: [(يا رسول الله ألا تستعملني كما استعملت فلاناً؟ فقال: إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)] هل هذا الجواب مطابق للسؤال؟ قال: (إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض).
يفهم من هذا الكلام أن من طبيعة العُمّال والأمراء إيثار أنفسهم على الرعية، فلم يرد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون هذا الأنصاري منهم، والأثرة أكثر ما تكون في الولاية من بعده صلى الله عليه وسلم؛ لذلك يقول: لا يمنع إذا استعملتك أن تبقي نفسك للمال وملذات الدنيا على الرعية فتقع في المحذور، فاصبر حتى تلقاني على الحوض، وإذا كنت مأموراً لدى عامل من العُمّال فآثر نفسه دونك، فأد الذي عليك، وانتظر واصبر على أن تلقى ما هو لك حتى تلقاني على الحوض فإنه لن يضيع، فالذي يضيع في الدنيا لا يضيع في الآخرة، وهذا يبيّنه ما كان من أمر أبي ذر رضي الله عنه عندما قال: (يا رسول الله! ألا تستعملني؟ قال: إنك لضعيف) وأنا أحبك يا أبا ذر! وأحب لك ما أحب لنفسي! فانظر إلى منتهى الشفقة منه عليه الصلاة والسلام!(21/13)
باب في طاعة الأمراء وإن منعوا الحقوق
منع الحقوق ظلم، لكنه لا يؤدي إلى الكفر، وما دام الظلم لم يبلغ بولي الأمر الكفر فإن هذا الظلم يوجب له السمع والطاعة.
قال: [حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن سماك بن حرب عن علقمة بن وائل الحضرمي عن أبيه رضي الله عنه قال: سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا نبي الله! أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا.
فما تأمرنا؟ فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم سأله في الثانية أو في الثالثة فجذبه الأشعث بن قيس رضي الله عنه وقال: اسمعوا وأطيعوا)] أي: قال النبي عليه الصلاة والسلام، وربما يكون قال الأشعث؛ لأن الأشعث سمع هذا الكلام منه عليه الصلاة والسلام في موطن آخر غير هذا الموطن، فيصح أن يكون هذا الكلام موقوفاً ومرفوعاً، فإذا قلنا: مرفوعاً يكون التقدير: قال النبي عليه الصلاة والسلام: [(اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حُمِّلوا وعليكم ما حُمّلتم)] أي: جعل الله تعالى لكل واحد منكم حقه، وجعل على كل واحد منكم واجباً، فأدوا الذي عليكم، واصبروا حتى تلقوا رسول ربكم على الحوض.
[وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا شبابة بن سوار المدائني حدثنا شعبة عن سماك بهذا الإسناد مثله، وقال: فجذبه الأشعث بن قيس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ: (اسمعوا وأطيعوا.
فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم)].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد.(21/14)
الأسئلة(21/15)
حكم مبايعة الإمام الظالم
السؤال
إذا كان الإمام ظالماً وغير عادل في حكمه فهل أبايعه أم لا؟
الجواب
البيعة تجب للإمام وإن كان فاسقاً.(21/16)
حكم إطلاق لفظ (خليفة) على حاكم بلد معين والبيعة له
السؤال
هل يجوز أن نطلق على حاكم بلد معيّن أنه خليفة في هذا البلد، وهل يجب علينا أن نبايعه؟
الجواب
بلا شك أن هؤلاء يقومون مقام الولاة والسلاطين، في الأصل أنهم معينون من جهة الخليفة ولا خليفة، فكان كل حاكم حاكماً على بلده فحسب، وليست شروط الخلافة متحققة في أحد من هؤلاء جميعاً، أما بيعة الخلافة فلا تصح لهؤلاء جميعاً؛ لأنهم ليسوا خلفاء، بل هم حُكام.(21/17)
الحكم على حديث (إذا صليتم بالناس فخففوا)
السؤال
يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (إذا صليتم بالناس فخففوا فإن فيهم الضعيف والسقيم وذا الحاجة) هل هذا الحديث صحيح؟
الجواب
نعم.
صحيح.(21/18)
بيان مقدار تخفيف الصلاة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
إذا كان صحيحاً فما بالنا لا نعمل به لا سيما ونحن ندّعي بأننا متمسّكون بالسنة وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
لا، فأنا أرى أن الصلاة أكثر تخفيفاً مما أراده النبي عليه الصلاة والسلام، لأن الذي أمر بالتخفيف هو الذي كان يصلي بالناس، فكان يصلي الفجر من الستين إلى المائة آية، ولا أحد يصلي الآن من الستين إلى مائة آية إلا ما ندر، وكان عليه الصلاة والسلام يصلي الظهر بعد الفاتحة بالثلاثين آية.
أي: بحوالي ربعين.
ونحن نصلي الظهر والعصر بالكوثر والإخلاص، وبالكاد أحدنا يُدرك الكوثر والإخلاص وراء الإمام، وإذا دخل المسجد وصلى خلف إمام لا يعرفه وحسّن به الظن، أو خاف على نفسه ألا يقرأ شيئاً بعد الفاتحة بدأ بالكوثر احتياطاً؛ لكي يدرك أي آية، بل منا من لا يدرك إتمام فاتحة الكتاب، ولو أنك قرأت دعاء الاستفتاح بعد تكبيرة الإحرام يقيناً لا تدرك شيئاً لا أقول: من الفاتحة، وإنما من القرآن بعد الفاتحة، فهذا هو التخفيف الذي تريده أنت، أما التخفيف الذي أراده النبي عليه الصلاة والسلام فإنه قد ورد أن أحدهم كان إذا سمع الأذان انطلق من عمله إلى بيته، فتوضأ وصلى السبحة -أي: السنة- ثم أتى إلى مسجد النبي عليه الصلاة والسلام من عوالي المدينة وأطرافها، فأدرك معه الركعة الأولى.
هذا هو تخفيف النبي عليه الصلاة والسلام.
وكان يجعل العصر على النصف من الظهر، أي: إذا كان يقرأ في الظهر بثلاثين آية يقرأ في العصر بخمس عشرة آية، وكان يصلي المغرب فيطيل فيها، حتى إنه صلى مرة بسورة الأعراف كاملة، والأصل في صلاة المغرب التطويل.
أي: أن المغرب أطول من صلاة الظهر، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي فيها بطوال المفصّل.
أي: بالسور الكبيرة التي تبدأ من (ق) أو (الأحقاف) على خلاف بين العلماء في المفصّل، فكان يقرأ في المغرب بالسورة أحياناً وبالسورتين أحياناً من طوال المفصّل.
هل نحن نعمل هذا؟ فلو أنه أتى من يصلي بنا هنا بالأعراف ما الذي سيحدث؟ سوف ينهره كل من في المسجد حتى السنّية ويقولون: ما هذا؟ ألم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتخفيف؟ مع أن الذي أمر بالتخفيف هو الذي صلى بهذه السورة، وإن صلى بها مرة واحدة فأنا لم أصل بها إلا مرة واحدة، فلِم تنقمون علي؟ فيقولون: النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يصلي بها كل يوم.
أقول: وهل أنا صليت بها كل يوم؟ فهذا لم يحصل إلا مرة واحدة، لكن لا بد أن يتوجه اللوم والإنكار؛ وذلك لأنهم لم يحفظوا من الدين إلا التخفيف، وما علموا مقدار التخفيف.
صليت بالناس في بلد من البلدان صلاة المغرب بآية الكرسي وسورة الضحى، فقام الكل عليّ قومة رجل واحد ليس فيهم رجل رشيد، ولا واحد دافع عنّي فالكل اتهمني، فأتوا رجلاً فيهم هو الموظف الوحيد فيهم، ويرون أن هذا الرجل هو عالمهم مع أنه لا علاقة له بالدين، لكن ما دام موظفاً ومتعلماً ومعه إعدادية قديمة فهو الأمل في البلد كلها، وبعد هذا اضطررت أن أقف في المحكمة متهماً أمامه، وقد عقدت هذه المحكمة في المسجد.
قال: أنا أوافقك على سورة الضحى، أما آية الكرسي فلا.
قلت له: لماذا؟ قال: لأن الصلاة باطلة إلا بثلاث آيات فأكثر، إنما أقل من هذا فلا، فآية الكرسي آية واحدة! فكان عليك أن تجمع معها آيتين أخرى ولو من سورة الضحى! فأي كلام هذا؟ وأي تخريف؟ يقولون لك: النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالتخفيف، وكل واحد فهم التخفيف على مزاجه.
نقول: إذا كان هناك نصوص ظاهرها التعارض فلا بد من حمل بعضها على البعض، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم العملية بيّنت ذلك كله، فنحن رغم أننا سنيون متمسكون إلا أننا أيضاً ملتزمون بكلام النبي عليه الصلاة والسلام.
ثبت في حديث معاذ بن جبل أن معاذاً كان إمام قومه، وكان يصلي العشاء الآخرة مع النبي عليه الصلاة والسلام، ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم وكان إمامهم، فصلى فأطال الصلاة، ففارقه حرام بن ملحان رضي الله عنه، فلما بلغ معاذ أن حراماً فارقه قال: والله إنه لمنافق، لأرفعن أمره إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وقد سبقه بالشكوى حرام وهو أخو أم سُليم أم أنس بن مالك فقال النبي عليه الصلاة والسلام لـ معاذ بن جبل: (أفتّان أنت يا معاذ؟! صل بهم بـ (الشمس وضحاها) و (الليل إذا يغشى)).
قال العلماء: هذا هو القدر المشروع في صلاة العشاء، ولا يمنع الزيادة عن ذلك ولا الإقلال من ذلك، لكن غالب صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة العشاء بهذا القدر، وكان يفعل ذلك ويأمر به عليه الصلاة والسلام.
فأذكركم بما يحدث الآن في أمريكا من حرائق في الغابات أسأل الله تعالى أن يحرق أبدانهم وقلوبهم، فأكثر من (4000) منزل قد التهمتها النيران، وإخلاء كثير من المدن، وما يحدث في روسيا من فيضانات وموت العشرات، وقتل كثير من الصينيين أيضاً في الفيضانات، وتخريب المباني والكباري، هذا بالإضافة إلى الخ(21/19)
شرح صحيح مسلم - كتاب الفرائض - تعريف الميراث
علم الفرائض من أجل العلوم وأنفعها؛ لما فيه من إعطاء كل ذي حق حقه، وقد أوصى النبي عليه الصلاة والسلام بتعلمه، وذهب بعض أهل العلم إلى وجوب تعلمه، ومن مجالاته وأبوابه معرفة أسباب وموانع الإرث وغيرها من المسائل الأخرى.(22/1)
كتاب الفرائض
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد:(22/2)
تعريف الفرائض
كتاب الفرائض هو كتاب في المواريث، والوصايا المتعلقة بالمورث، وكذلك بتركته؛ ولذلك قال العلماء من أهل اللغة: الفرائض: جمع فريضة، وهي من الفرض، والفرض هو: التقدير المحدد شرعاً، يقال: فرض الله كذا، بمعنى: حدَّ الله كذا، أي: جعل هذا الفرض حدًّا محدداً في الشرع لا يحل لمن حدد لأجله أن يتعداه، ومن تعداه فقد ظلم نفسه، وعرَّض نفسه للعقوبة في الدنيا والآخرة.
ويقال للعالم بالفرائض، أو لمن مهر في هذا العلم وفي هذا الفن: فرضي، كما كان يقال ذلك لـ زيد بن ثابت، إذ كان أفرض أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، ومن بعده علي بن أبي طالب، ومن بعدهما عمر بن الخطاب رضي الله عنهم.
وأريد أن أقول لك: إن هناك بعض العلوم كانت علماً على أصحابها، وبعض الأشخاص كانوا علماً على بعض العلوم، وكثير من أصحابه عليه الصلاة والسلام كانوا علماء في كل شيء، وفي كل فرع من فروع العلم، لكنَّ أحدهم كان يبرز في علم معين، فمثلاً: حذيفة بن اليمان كان بارزاً فيما يتعلق بعلم الفتن وأشراط الساعة وغيرها.
وكذلك زيد بن ثابت كان أفرض الأمة في زمن النبي عليه الصلاة والسلام.
وأما الإرث في الميراث فقال المبرد: أصله العاقبة؛ لانتقاله من شخص إلى آخر.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن يحيى، وأبو بكر بن أبي شيبة، وإسحاق بن إبراهيم -يعني ابن راهويه، واللفظ لـ يحيى، قال يحيى: أخبرنا، وقال الآخران: حدثنا ابن عيينة -وهو سفيان بن عيينة - الزهري، عن علي بن حسين، عن عمرو بن عثمان، عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يرث المسلم الكافر، ولا يرث الكافر المسلم)].
وفي رواية: (لا يتوارث أهل ملتين شتى)، يعني: مختلفتين، وبعض أهل العلم يضعف هذه الرواية، وهي عند أبي داود وابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو، ولها شاهد عند الترمذي من حديث جابر.
قال النووي رحمه الله تعالى: (أجمع المسلمون على أن الكافر لا يرث المسلم، وسواء كان كفراً أصلياً أو كفراً طارئاً؛ كمن ارتد من المسلمين، فلو أن ولداً بالغاً ارتد عن الإسلام فإنه لا يرث أباه المسلم.
كما أن الرجل لو أسلم وبقي أولاده على الكفر، كأن بقوا على النصرانية مثلاً، أو على اليهودية، أو أياً كانت ملتهم غير ملة الإسلام؛ فإنهم لا يرثونه إجماعاً).(22/3)
أقوال أهل العلم في توريث المسلم من الكافر
إذاً: المسألة فيما يتعلق بتوريث الكافر من المسلم لا تجوز، وعلى ذلك إجماع أهل العلم، ولم يخالف في ذلك أحد، أما ميراث المسلم من الكافر فقد وقع النزاع بين أهل العلم في جواز ذلك من عدمه: فالجمهور على عدم الجواز؛ أخذاً بظاهر هذا الحديث: (ولا يرث المسلم الكافر)، وقد نازع في ذلك بعض أهل العلم، فقالوا: بل يرث المسلم الكافر، واحتجوا بدليل: (الإسلام يعلو ولا يعلى عليه).
لكن هذا الحديث ورد في بيان فضل الإسلام على غيره من ملل الكفر، وهذا الذي يبدو من ظاهر الرواية، ولذلك تعجب الإمام النووي أيما تعجب ممن ذهب إلى جواز ميراث المسلم من الكافر بحجة علو الإسلام، وأنه يعلو ولا يعلى عليه.
فقال عليه رحمة الله: (ليس في هذا دليل على جواز التوريث بين المسلم والكافر، وغاية ما في هذا الدليل إثبات علو الإسلام على غيره من سائر ملل الكفر، ولم يذكر الميراث من قريب ولا من بعيد؛ ولذلك لا يصلح دليلاً، والذين قالوا بجواز توريث المسلم من الكافر ورد عنهم الرأي الآخر الذي يوافق مذهب الجمهور.
قال النووي عليه رحمة الله: (ورأيهم الذي يوافَق فيه جمهور أهل العلم بمنع التوريث -أي: منع توريث المسلم من الكافر- أكثر صحة وصواباً من رأيهم الأول).
يعني: كأن النقل عن هؤلاء بجواز التوريث -أي: توريث المسلم من الكافر خاصة- في ثبوته نزاع.
وقد ورد عنهم رأي آخر وهو المنع، وأدلته قوية وأسانيده ثابتة، فكأن الأمر فيه شبه إجماع على عدم توريث المسلم من الكافر، لكن الإجماع المقطوع به: هو عدم جواز توريث الكافر من المسلم، لقول النبي الكريم: (لا يرث المسلم الكافر، ولا يرث الكافر المسلم).
قال النووي: (وأما المرتد فلا يرث المسلم بالإجماع)، إذاً: عندنا مسألتان فيهما إجماع: الأولى: عدم توريث الكافر من المسلم.
والثانية: عدم توريث المرتد من المسلم.
وشبه الإجماع انعقد على عدم توريث المسلم من الكافر، وهو صواب لظاهر الرواية.(22/4)
أقوال أهل العلم في توريث المسلم من المرتد
وأما المسلم فلا يرث المرتد عند الشافعي ومالك وربيعة وابن أبي ليلى وغيرهم، بل يكون ماله فيئاً للمسلمين، يعني: لو أن شخصاً ارتد عن الإسلام فلا يرثه أولياؤه، وإنما يؤخذ ماله فيوضع في الخزانة العامة للدولة، أو فيما يعرف عند الفقهاء في بيت مال المسلمين، والفيء لا يطلق إلا على المال الذي اكتسب بغير حرب، أي: بغير جهد.
وقال أبو حنيفة والكوفيون والأوزاعي وإسحاق: يرثه ورثته من المسلمين.
وأما المسلم فهل له أن يرث المرتد أم لا؟ مذهب الجمهور: لا يكون بينهما توارث.
وذهب الكوفيون وأصحاب الرأي إلى توريث المسلم من المرتد؛ وروي ذلك عن علي وابن مسعود وجماعة من السلف، لكن قال الثوري وأبو حنيفة: ما كسبه في ردته فهو للمسلمين.
يعني: أنهم يفرقون بين ماله قبل الردة، وبين ماله بعد الردة، فيقولون: الذي اكتسبه بعد ردته هو مال أو فيء للمسلمين، فيوافقون في ذلك جمهور أهل العلم.
أما ما اكتسبه في حال إسلامه قبل الردة فلورثته من المسلمين أن يرثوه.
وقال الآخرون: الجميع لورثته من المسلمين، وهذا مذهب ثالث.
إذاً: عندنا مذهب الجمهور، ومذهب أهل الرأي من الكوفيين، ومذهب ثالث لبعض أهل العلم القائلين بأن جميع المال الذي اكتسبه قبل الردة وبعدها إنما هو ميراث لورثته.(22/5)
أقوال أهل العلم في توريث الكفار بعضهم من بعض
وأما توريث الكفار بعضهم من بعض؛ كاليهودي من النصراني وعكسه، والمجوسي منهما وهما منه؛ فقال به الشافعي وأبو حنيفة رضي الله عنهما وآخرون، ومنعه مالك؛ لأنهم أصحاب ملتين، اليهود أصحاب ملة، والنصارى أصحاب ملة، والمجوس أصحاب ملة؛ وكل هؤلاء أصحاب ملل شتى مختلفة.
وفي الحديث: (لا يتوارث أهل ملتين شتى)، فالذي قال بمنع التوارث بين الملل اعتمد على ظاهر هذه الرواية، والذين قالوا بجواز ذلك اعتبروا أن كل ملل الكفر ملة واحدة، فليست الملل إلا ملة إيمان، أو ملة كفر.
وبالتالي حملوا: (لا يتوارث أهل ملتين شتى) على ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم)، فقالوا: ليس في الملل إلا ملة كفر، أو ملة إسلام.
وبعض العلماء يرى أنه لا يرث حربي من ذمي، ولا ذمي من حربي، وهما الاثنان كفار، واختلاف الدين الأصل فيه حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم)، وحديث: (لا يتوارث أهل ملتين شتى).(22/6)
موانع الإرث
المرتد عن الإسلام لا يرث أقاربه المسلمين، لكنهم يرثونه، ولا يعتبر هذا من التوارث بين دينين؛ لأنه لا اعتراف بانتقاله إلى الدين الآخر، ولا إقرار له عليه، وهذا مذهب بعض أهل العلم من الأحناف وغيرهم، لكن الراجح أنه لا يكون بينهما توارث أبداً، وهذا مانع من موانع الإرث.
المانع الثاني: اختلاف الدار الذي هو الوطن، هل هي دار كفر أم هي دار إسلام وإيمان؟ وكذلك بالنظر إلى ملة الوارث والمورث، وقد ذكرناه كذلك.
المانع الثالث: الرق، فلا يرث الرقيق؛ لأن ما يملكه ملك لسيده، فلو مات الحر أو مات السيد قوم العبيد، أو وزع العبيد على التركة، ووزع العبيد على الوارثين، وبالتالي لا يرث العبد سيده؛ لأنه في ذاته مال متقوم لسيده، وسبب الميراث لم يقم بين السيد والمورث، فلا وجه لتوريثه من ملكه.
المانع الرابع: القتل، كأن يقوم الوارث بقتل مورثه اعتداء وعدواناً بغير حق، أو استعجالاً لانتقال الميراث إليه، فإنه يعاقب بالحرمان من الميراث فضلاً عن القصاص؛ ولذلك من أعظم أسباب منع انتقال التركة إلى الوارث: القتل، أي: قتل الوارث مورثه، وقد جاء في المادة الخامسة من قانون الميراث -وهو قانون في الغالب على مذهب الأحناف-: من موانع الإرث: قتل المورث عمداً، سواء كان القاتل فاعلاً أصلياً أم شريكاً أم كان شاهد زور أدت شهادته إلى الحكم بالإعدام وتنفيذه، وهذا إذا كان القتل بلا حق ولا عذر، وكان القاتل عاقلاً بالغاً له من العمر خمس عشرة سنة.
وهذا كلام جميل، وأصل هذا الكلام كله من حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يرث القاتل شيئاً)، وحديث: (ليس لقاتل ميراث) , وفي رواية: (لا ميراث لقاتل).(22/7)
شروط القتل الذي به يحصل منع الإرث
لكن ليس كل قتل يمنع به الوارث من الميراث، بل لابد من شروط تتوفر في القتل: الشرط الأول: أن يكون القتل عمداً، يعني: أن تتوجه إرادة القاتل وقصده إلى إزهاق روح المقتول، وعليه القتل الذي يؤثر في الميراث هو القتل العمد، أما الخطأ فلا يؤثر على انتقال الميراث إلى صاحبه.
فمثلاً: شخص صوب سلاحه نحو عصفور أو حمامة واقفة بجوار صاحب ما، فلم تتوجه إرادته قط لقتل هذا الرجل، لكنه في العادة -كما يفعل غيره من الصيادين- إنما أراد قتل هذا العصفور أو الحمامة أو هذا الطير، فخطأ انحرفت يده، أو أسرع هذا الرجل من مكانه جهة السهم أو جهة الرصاصة فمات، فهذا قتل خطأ.
كذلك: رجل أصيب بما يسميه العامة بغصة في أثناء الطعام، فقال لولده: اضرب على ظهري، فضربه على ظهره فمات، فهذا أيضاً قتل خطأ لا يمنع من الميراث.
إذاً: مدار البحث عندنا في القتل العمد.
أيضاً: رجل كبير في السن أو امرأة كبيرة في السن معها ابنتها أو معها ابنها أو ابن ابنها أو غير ذلك من أصحاب الفرائض -وسنذكرهم وأوقات ورثهم- فهذا الشاب أو تلك الفتاة تعجلت قتل أمها، أو تعجل الولد قتل أبيه ليرث، فإما أن يكون إثبات هذا القتل بأنه عمد بإقرار القاتل، أو بشهادة الشهود إذا كان الشهود قد رأوه وهو يقتل ولم يرهم، أو غير ذلك من أدلة الإثبات، فحينئذ يمنع هذا من الميراث، ويجب عليه القصاص، ويستوي في العمد أن يكون القاتل هو الفاعل الأصلي، أي: الذي باشر فعل القتل والضرب حتى الموت وإزهاق الروح، فيستوي في ذلك أن يكون الفاعل أصلياً، أو يكون شريكاً فيه، مثل ما أنك تريد أن يموت أبوك، فتقول لأحد أصحابك: ما رأيك أن نأتي به على شرفة، ثم ننظر الوقت المناسب لقتله، فيجتمع على موت هذا الرجل اثنان أو ثلاثة أو أربعة أو عشرة أو مائة أو بلد أو قرية بأسرها، فهؤلاء جميعاً شركاء في الجريمة، ويجب أن يقادوا به، والولد معهم؛ لأنه يستوي أن يكون فاعلاً أصلياً لذاته، أو أن يكون شريكاً مع غيره، أو حتى أن يكون شاهد زور ترتب على هذه الشهادة حكم القاضي بالإعدام على هذا الرجل، وتم تنفيذ الحكم.
الشرط الثاني: أن يكون القاتل في حال القتل مكلفاً، أي: أن يكون عاقلاً بالغاً، وقد اختلف أهل العلم في العقل وخاصة في البلوغ، فمنهم من اعتبر السن في البلوغ، ومنهم من اعتبر العلامات والأمارات في البلوغ.
فمثلاً قالوا: حد البلوغ عند الولد على خلاف بينهم وكذلك البنت من اثنتي عشرة سنة إلى ست عشرة سنة، على اختلاف بين أهل العلم، هذا إذا نظرنا إلى البلوغ من جهة السن.
أما من جهة الأمارات والعلامات فقالوا: البلوغ عند البنت إنما يكون بإنبات الشعر عندها تحت الإبط وفي العانة، وكذلك الحيض، وأما البلوغ عند الولد فبنزول المني، وبظهور شعر عانته، وبظهور شعر إبطه، واختلفوا في بقية العلامات.
وعلى أية حال الشرطان اللذان تم الاتفاق عليهما، وما قبل هذين الشرطين يعد حدثاً من الأحداث لا يؤاخذ بالجناية، وإنما يؤاخذ بأقل من ذلك.
واختار قانون الأحوال الشخصية فيما يتعلق بالأسباب المانعة من الميراث في القتل: أن يكون القاتل قد بلغ من العمر خمسة عشر عاماً، يعني: قبل هذا السن لا يعد جناية؛ لأنه حدث، وما بعد هذه السن ولو بلحظة يعد جناية؛ لأنه بالغ ومكلف وعاقل، فما الذي يجعله يقدم على هذا الفعل؟ وأما الحيل المؤدية إلى الحرام فهي حرام في الشرع، مثل أن يعمد وارث إلى قتل مورثه لا عن طريقه هو، لكن عن طريق تسليط الحدث على قتل المورث، كأن يقول شخص لابنه: اذهب فاقتل جدك، والولد عمره مثلاً عشر سنوات، فإن قتله فإن أباه يمنع من الإرث.
وأما الابن فإنه محجوب بالأب إذا كان حياً.
أما لو كان الأب ميتاً فإن الولد يحجب لو كان له أعمام.
لكن لو أن الجد حي والأب مات وعنده أولاد، فإن الأولاد تحجب من ميراث الجد من أجل أعمامهم، أي: لوجود أولاد آخرين للجد.
كأن يموت رجل، وترك أبناءً ذكوراً وإناثاً، وترك أبناء ابن ذكوراً وإناثاً، ففي هذه الحالة هؤلاء الأبناء الذين مات أبوهم في حياة جدهم يرثون من الجد تحت باب الوصية الواجبة، والوصية الواجبة تختلف عن مطلق الوصية.
إذاً: أبناء الابن الذين مات والدهم يرثون من الجد تحت ما يسمى بالوصية الواجبة، وبالتالي لا يحجبون بالأعمام، وهل هناك أحد يقضي بهذا في هذه القضية؟ فإن قتل الولد أباه، وهذا الولد عمره أربعون سنة؛ لكنه مجنون، فإنه يرث؛ لأن الجنون علة مانعة من لحوق الإثم والقصاص؛ فكان قتله كأن لم يكن.
ولا بد يا إخواني أن نتعلم الفرائض؛ لأن هذه وصية النبي صلى الله عليه وسلم، بل هي أمره؛ ولذلك ذهب بعض أهل العلم إلى وجوب تعلم الفرائض؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (تعلموا الفرائض وعلموها الناس)، وفي رواية ابن مسعود قال: (تعلموا الفرائض، والطلاق، والحج؛ فإنه دينكم)، والحديث عند الدارمي.
والميراث في اصطلاح الفقهاء: هو استحقاق ما خلفه الميت من مال أو حق لسبب من أسباب الميراث الشرعية.
والحق إما أن يكون ديناً(22/8)
أركان الإرث
الأول: المورث، أي: الميت، وبالتالي فالذي يوزعه الأب على أبنائه قبل وفاته لا يسمى ميراثاً، وإنما يسمى عطية، أو منحة، أو هبة، أو غير ذلك.
أما الميراث فهو ما خلفه الرجل بعد وفاته.
ولذلك يلزم الأب أو يلزم الرجل صاحب المال أن يوزع على أبنائه المال بالسوية، ذكوراً كانوا أم إناثاً، ولا يقل: أنا سأعطي ولدي هذا شقة أربع غرف، وذاك شقة أربع غرف، ولهذه شقة فيها غرفتان؛ لأنها بنت؛ لأنك بذلك تعطي منحة ونحلة وهبة ولا تعطي ميراثاً، إذ الميراث ليس من حكمك ولا من شأنك، إنما هو من شأن الورثة بعد موتك، إنما أنت توزع الآن في حياتك؛ فعليك أن توزع بالسوية بين الأبناء جميعهم، ذكوراً كانوا أم إناثاً، فتعطي الولد عشرة آلاف، وتعطي البنت كذلك عشرة آلاف، وليس خمسة؛ لأن هذا ليس ميراثاً.
وهذا بغض النظر عن الولد إن كان عاصياً أم باراً بوالده؛ لأن الوالد لابد أن يعتقد أن الله تبارك وتعالى عنده من العذاب ما هو أشد وأبقى لهذا العاصي، وقادر على أن ينتقم من هذا العاصي لوالده، فاتركه لله عز وجل: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64].
ولذلك حين فرض الله تبارك وتعالى هذه المواريث وحدها كان يعلم أن من الأبناء عصاة وطائعين، ومع هذا لم يفرق سبحانه وتعالى بين هؤلاء وهؤلاء، فقد كان يعلم أن من الأبناء من يأخذ مالاً ليتعلم به ويتزوج به ويبني به بيتاً، ويعلم أن بقية الأبناء إنما يعملون في الأرض بالليل والنهار، ولا حظ لهم إلا أن يعملوا، ومع هذا جعل القسمة على وتيرة واحدة.
وإن كان الإمام أحمد بن حنبل عليه رحمة الله له مذهب في هذا، فقد قال: إذا أنفق الوالد على ولده مالاً حتى زوجه وبنى له داراً، ولم يكن ذلك لأخيه الصغير أو الأصغر، فإذا مات الأب كان للورثة أن يقيِّموا أو يقدروا للصغير الذي لم تبن له دار ولم يتزوج مقدار ما قد أخذه أخوه، ثم تقسم التركة عليهم، وهذه فتوى إمام، فلك أن تأخذ بها، أما مذهب الجمهور فيختلف عن ذلك.
إذاً: وفاة المورث -الذي هو الميت- فيثبت لدينا أن فلاناً مات وترك ميراثاً أو تركة، سواء مات موتاً حقيقياً، بأن مات أمام أعيننا وغسلناه وصلينا عليه وكفناه ودفناه، أو مات موتاً حكمياً، كرجل فقد في الحرب في ظروف غامضة مثلاً لمدة اختلف فيها أهل العلم، لكن قانون الأحوال الشخصية أخذ بأحد المذاهب، وحدد مدة الفقد بأربع سنوات، وهذا لا يصلح أن ينطبق على رجل ترك امرأته وسافر مثلاً إلى العراق أو السعودية أو أمريكا أو إلى أي بلد، وقعد هناك أربع أو خمس سنين، فتقوم الزوجة وتذهب إلى المحكمة وتطالب باستخراج شهادة بموت زوجها حكماً من أجل أن تتزوج، فهذا لا يصلح نهائياً.
أتعلمون أنه إلى الآن هناك أناس من عام (1973م) أُخرجت لهم شهادات بالفقد أو بالموت حكماً بعد أربع سنوات، ثم رجعوا إلى بيوتهم بعد هذه الفترة الطويلة.
ومن ذلك: أن أناساً في حرب (1967م) أسروا واستطاعوا الهروب والفكاك من السجن في أثناء حرب (1973م)، فقدم أحد الناس حتى وصل إلى قرية بجوار قريتي، ووصل في وقت متأخر من الليل، أو لعله تعمد الدخول إلى بلده في وقت متأخر، فطرق الباب ففتحت له أخته، ثم أرادوا أن يناموا، ولم يخبروا الأب حتى الصباح، وهذه حادثة ذكرت في الصحف والمجلات والجرائد- فلما قام الأب في الصباح ليصلي الفجر؛ وجد رجلاً أجنبياً بين بنتيه فقتله، حادث مؤلم جداً؛ ولذلك هذا الحادث أقض مضاجع جميع أهل القرى المجاورة، فكان كل واحد منهم يفكر لو أن ولده هو الذي رجع الذي قد بلغه أنه قد قتل في 1967م، يقول: يمكن أن يكون مفقوداً، وأحبوا أن يريحوني ويطمنوني في هذه المسألة فقالوا: إنه قتل.
فكل إنسان رجع لنفسه الأمل أن ولده ممكن يرجع له في يوم من الأيام، أو زوجها ممكن يرجع لها في يوم من الأيام، فقال: قبل أن أقتل أتأكد أنه المفقود.
إذاً: فلا بد أن يكون هذا الموت إما حقيقياً أو حكمياً.
الثاني: وجود الوارث؛ لأن السلطان يرث من لا وارث له، والسلطان يعني: بيت مال المسلمين.
والوارث هو: من قام بينه وبين المورث سبب من أسباب الميراث، وستأتي معنا أسباب الميراث.
الثالث: التركة، فلو مات مورث وعنده مائة يرثونه، ولم تكن له تركة، فهل يكون هناك مجال للميراث؟ والتركة هي الميراث أو الموروث، ويقصد به: كل ما تركه المورث من الأموال، كما أنه يشمل الحقوق القابلة لأن تورث، كحق مرهون لتحصيل دين.(22/9)
شروط الإرث
أولاً: تحقق موت المورث حقيقة أو حكماً كما سبق، وهناك موت يسمى الموت التقديري، وهو موت الجنين الذي يسقط من بطن أمه بجناية عليها.
كأن ضرب ابن أمه على بطنها وهي حامل فسقط الجنين ميتاً، فهذا ليس بميت حقيقة قبل نزوله، ولا ميت حكماً، وإنما يسمى موته موتاً تقديرياً، والقانون المصري لم يعترف بهذا النوع، ولم يعتبر هذا النوع من القتل أو الموت؛ ولذلك لم يذكره.
أما الشرع فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا استهل الصبي؛ صلي عليه ووُرِّث)، يعني: إذا نزل الجنين من بطن أمه وصرخ، والحكمة من الصراخ أو الاستهلال حتى يتحقق من حياته؛ لأنه لو نزل ميتاً لا ميراث له، أو لو مات في بطن أمه ونزل فلا ميراث له.
أما لو نزل ثم مات فإنه يرث؛ لظاهر الحديث: (إذا استهل الصبي؛ صلي عليه ووُرِّث)، وميراثه لورثته.
فإن ورث من أمه ثم مات فإن أباه يرثه.
إذاً: ميراث الصبي تماماً كميراث رجل بلغ الستين عاماً.
ثانياً: تحقق حياة الوارث عند موت المورث، حقيقة أو تقديراً، فالجنين في بطن أمه له حياة تقديرية، فإذا مات أبوه وله إخوة -أي: هذا الجنين- فإننا سنقدر أن هذا الحمل حي، فإما أن يتم توزيع التركة على اعتباره ذكراً، ويخصم له حظه ونصيبه، فإن كان أنثى خصم منه النصف الثاني أو مقدار الزيادة ووزعت على بقية الورثة، وهنا تقسم التركة على اعتباره أنثى، فإن كان ذكراً أخذ من أنصباء الورثة ما يوازي نصيب الذكر من كل واحد، ثم يعطى لهذا الجنين حظه كاملاً.
وفي القانون: يجب استحقاق الإرث عند تحقق حياة الوارث وقت موت المورث، أو وقت الحكم باعتباره ميتاً، ويكون الحمل مستحقاً للإرث إذا توفر فيه ما نُص عليه في المادة كذا وكذا.
وتطبيقاً لهذا الشرط فإذا مات الثاني ولم نعلم أيهما مات أولاً؛ فلا استحقاق لأحدهما في تركة الآخر، سواء كانا موتهما في حادث واحد أم لا.
أليس الولد يرث أباه، والأب يرث ولده؟ لكنهما ماتا في حادث سيارة أو طائرة، ونحن لم نعلم أيهما مات قبل الآخر، فإنه لا استحقاق لأحدهما في تركة الآخر، لكن لو اتضح لنا أن أحدهما مات قبل الآخر بدقيقة واحدة؛ ثبت الميراث بينهما، بمعنى: يرث الذي مات مؤخراً الذي مات مقدماً عليه بدقيقة، يعني: لو أننا نظرنا إليه يلفظ أنفاسه ثم تبع الروح البصر، ثم نظرت إلى الثاني ففعل ذلك؛ كان الثاني هذا وارثاً لذلك الذي مات قبله بدقيقة واحدة، وإن كان أقل من ذلك؛ لأنه تحقق لدينا موت أحدهما أولاً، ثم موت الآخر؛ فيرث الآخر من الأول، ولا إشكال في ذلك.
لكن القضية التي نحن بصددها: إذا مات مورث ووارث في حادث أو في وقت لا نعلم أيهما مات أولاً؛ فلا ميراث بينهما، كأن ذهب ولد إلى المكان الفلاني وأخوه ذهب إلى المكان الآخر مثلاً، فأتانا الخبر أن هذا مات يوم الأربعاء في صلاة الظهر، والثاني مات أيضاً في يوم الأربعاء في صلاة الظهر، فإننا سنتحقق متى كان حصول الموت؟ في الساعة كم؟ في الدقيقة كم؟ حتى نعرف أيهما مات أولاً، وبالتالي نورث الأخير من الأول، وإذا لم يثبت فلا توارث بينهما، والتركة ستكون لبقية الورثة.
أما هذان بالذات فلا توارث بينهما ما داما قد ماتا في وقت واحد، أو خفي علينا أيهما أسبق موتاً من صاحبه.
ثالثاً: ألا يوجد في واحد من الورثة مانع من موانع الإرث التي ذكرناها.(22/10)
أسباب الميراث
السبب في اللغة: ما يتوصل به إلى غيره.
وفي الشرع: هو ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته.
وفيما يلي نذكر هذه الأسباب: السبب الأول: النكاح، نقصد به عقد زواج صحيح؛ حتى لا يترتب على عقد الزواج الفاسد أو الباطل آثار، فإن وقع الطلاق بعد الزواج الصحيح فإن كان معقوداً عليها فليس لها إلا طلقة واحدة وتبين بينونة كبرى، فإذا أراد زوجها أن يراجعها فبمهر جديد وبعقد جديد، يعني: يتزوجها زواجاً جديداً بمهر وعقد جديدين، ويبقى لها عنده طلقتان، أو واحدة إذا كان قد طلقها مرة ثم طلقها بعد زواجه مرة أخرى.
أما إذا كان الطلاق بائناً فلا توارث بينهما بعده، أي: إذا كان الطلاق بائناً بينونة كبرى، أو بينونة صغرى، بمعنى: أن المرأة طلقت طلاقاً أولياً أو ثانياً، ثم انتهت عدتها؛ فهذا يسمى طلاقاً بائناً بينونة صغرى، وبالتالي فإنها تحل لزوجها الذي كانت معه بمهر جديد وعقد جديد.
أما المرأة المطلقة طلاقاً بائناً بينونة كبرى، يعني: طلقت ثلاث طلقات، ثم انقضت عدتها من الطلقة الثالثة؛ فإنها تحل لغيره، ولا تحل له إلا إذا تزوجت بغيره، ثم طلقت طلاقاً طبيعياً بغير اتفاق ولا تحليل، وأراد زوجها الأول أن يراجعها، أو يتزوجها زواجاً جديداً بثلاث طلقات؛ فيجوز ذلك، يعني: له عليها طلقات ثلاث جدد.
أما إذا كان الطلاق بائناً فلا توارث بينهما بعده، إلا إذا كان المطلق قد أوقع الطلاق فراراً من ميراث زوجه، بأن أوقعه في مرض موته دون أن يطلبه الآخر، وأنتم تعرفون أن هذا الأمر يحصل كثيراً، فقد يقوم الرجل بتطليق زوجته لأجل حرمانها من الميراث: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء:12].
فلابد أن يكون طلاقاً لا يقصد به إلحاق الضرر؛ ولذلك إذا أوصى شخص مثلاً بكل أمواله فلا تنفذ هذه الوصية؛ لأن الوصية لا تحل له إلا في ضمن الثلث، ولا تجوز بالزيادة على الثلث إلا بإجازة الورثة، فلا تنفذ هذه الوصية إلا في حدود الثلث رغماً عن الورثة، وفيما زاد عن الثلث لا تنفذ إلا بإرادة وموافقة الورثة، وإلا فلا نفاذ لها.
فهذا الرجل يطلق امرأته في مرض موته لأجل الإضرار بها وحرمانها من الميراث، فإن ماتت الزوجة قبله بعد هذا الطلاق لم يرثها، بينما هي بنفسها ترث إذا مات وهي حية، وهو لا يرثها؛ معاملة له بقصده الذي كان قد قصده.
أما إذا مات قبلها فإنها ترثه رغم أنها مطلقة، لكنها مطلقة أولاً بقصد الضرر.
ثانياً: مات وهي لا تزال في العدة، وأنتم تعلمون أن المرأة في العدة لها حق الميراث.
أما إذا مات قبلها فإنها ترثه ما لم تنقض عدتها؛ معاملة له بنقيض قصده، ومن ثم جاءت المادة الحادية عشرة من القانون: وتعتبر المطلقة طلاقاً بائناً في مرض الموت في حكم الزوجة إذا لم ترض بالطلاق، يعني: إذا رضيت سقط حقها في الميراث، وإذا لم ترض وأثبتت أن هذا الطلاق إنما تم لأجل الإضرار بها؛ فإنها زوجة وترث.
السبب الثاني: الولاء بين المالك وبين من أعتقه من عبيده، حيث يرث الأول الثاني، يعني: أن المالك هو الذي يرث العبد.
ومعلوم أن الرق قد ألغي وحرم قانوناً؛ لأنه لا بد أن تعلموا أن هناك قاعدة: ما دام أنه لا يوجد جهاد إذاً فليس هناك رق نهائياً.
وقد ورد في متن الرحبية أسباب ميراث الورى فقال: أسباب ميراث الورى ثلاثة كلٌ يفيد ربه الوراثة وهي نكاح وولاء ونسب ما بعدهن للمواريث سبب أي: ليس هناك سبب رابع.
وبهذا تنتهي أيضاً المقدمة في موانع الإرث، ومعنى الميراث وأسباب الميراث.
وإن شاء الله في الدرس القادم يكون لنا مقدمة أيضاً في أصحاب الفرائض والعصبات.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(22/11)
شرح صحيح مسلم - كتاب الحج - ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح وبيان تحريم الطيب عليه
شرع الله سبحانه وتعالى للمحرم لباساً خاصاً بالإحرام، وحرم عليه أنواعاً من الملابس التي لا تناسب هذه العبادة العظيمة، والتي ينبغي أن يظهر المسلمون فيها على مستوى واحد، لا فرق بين غنيهم وفقيرهم، وشريفهم ووضيعهم إلا بقدر ما عند أحدهم من التقوى والقبول عند الله عز وجل.(23/1)
باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح، وبيان تحريم الطيب عليه
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة.
أما بعد: لقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم ما يجوز للمحرم أن يلبسه وما لا يجوز عندما سئل: (ما يلبس المحرم من الثياب يا رسول الله؟! قال: لا تلبسوا القمص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف).
والبرنس: هو كل ثوب متصل بغطاء الرأس، مثل الجاكت الذي له طربوش يوضع على الرأس، وهذا هو الغالب في ثياب العرب، وثياب المغرب والجزائر وتونس وغيرها مرتبطة بغطاء الرأس إلى هذا اليوم.
قال: (ولا البرانس ولا الخفاف)، يعني: لا يجوز للمحرم أن يلبس خفاً.
(إلا ألا يجد النعلين)، فحينئذ يلبس الخف، ولكن (ليقطعهما أسفل من الكعبين).
ثم تكلم عن الطيب فقال: (ولا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه الزعفران ولا الورس).
وهما نوعان من أنواع الطيب.(23/2)
شرح حديث ابن عمر فيما يلبسه المحرم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وحدثنا يحيى بن يحيى وعمرو الناقد وزهير بن حرب كلهم عن ابن عيينة - سفيان - قال يحيى أخبرنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه رضي الله عنه قال: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم ما يلبس المحرم؟)].
والإسناد الأول من رواية نافع عن ابن عمر، وهنا من رواية سالم عن أبيه ابن عمر.
قال: [(ما يلبس المحرم؟ قال: لا يلبس المحرم القميص، ولا العمامة، ولا البرنس، ولا السراويل، ولا ثوباً مسه ورس ولا زعفران، ولا الخفين، إلا ألا يجد نعلين فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين).
حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن يلبس المحرم ثوبا مصبوغاً بزعفران أو ورس، وقال: من لم يجد نعلين فليلبس الخفين، وليقطعهما أسفل من الكعبين)].(23/3)
شرح حديث ابن عباس فيما يلبسه المحرم
قال: [حدثنا يحيى بن يحيى وأبو الربيع الزهراني وقتيبة بن سعيد جميعاً عن حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن جابر بن زيد عن ابن عباس].
وجابر بن زيد هو أبو الشعثاء الأزدي البصري مشهور بكنيته، ثقة فقيه، معروف بكنيته دون اسمه.
[عن ابن عباس رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب يقول: (السراويل لمن لم يجد الإزار، والخفان لمن لم يجد النعلين)، يعنى: المحرم].
وفي حديث ابن عباس هذا لم يذكر شرط قطع الخفين، وذكره في حديث عبد الله بن عمر ولا تعارض بين الحديثين؛ لأن حديث ابن عباس مطلق، وحديث ابن عمر مقيد ذلك بالقطع، فيحمل المطلق حينئذ على المقيد، والمحرم لا يجوز له أن يلبس شيئاً فوق الكعبين، والخف يكون إلى فوق الكعبين، وهو يغطي موضع الوضوء من القدم، والنعل: إنما هو شيء يطؤه اللابس بقدمه مرتبط بأعلى قدمه -أي: بظهر القدم- بسيرين أو أكثر من ذلك.
والفرق بين الخف والنعل: أن النعل: لا يغطي الكعبين ولا العقب، والخف يغطيهما، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: إذا لم يكن معه نعل ومعه خف فليقطع الخف حتى يكون أسفل من الكعبين، والكعبان هما: العظمتان الناتئتان في أول القدم في أول الساق من جهة الأسفل، فالذي ليس معه نعل ومعه خف حتى يكون مثل النعل أو شبيهاً بالنعل ويلبسه، حتى يظهر مؤخرة قدمه كما يظهر العقب من النعل.
فـ (السراويل لمن لم يجد الإزار، والخفان لمن لم يجد النعلين).
وهذه المسألة يتعرض لها كثير من الناس، فتجد الواحد يسافر ومعه ملابس الإحرام، والإزار والرداء والنعل وكل ذلك، ثم في المطار ينسى فيدخل الملابس إلى مخزن الطائرة، ولا يمكنه في هذه الحالة أن يحصل على ملابسه مرة أخرى فوق الميقات، والذين في الطائرة لن يبيعوا له ملابس الإحرام، ومن مر على الميقات دون إحرام فإما أن يرجع مرة أخرى إلى المقيات، وإما أن يحرم من أي مكان بعد المقيات وعليه دم، ففي هذه الحالة يجوز له أن يلبس السروال بدلاً من الإزار بشرط أن يلبس الإزار إذا تمكن منه ويخلع السروال، والذي لا يقدر على النعل يلزمه على الفور قطع الخف ولبسه.
قال: [حدثنا محمد بن بشار -وهو المعروف بـ بندار - حدثنا محمد بن جعفر -وهو المعروف بـ غندر - وحدثنا أبو غسان الرازي -وهو محمد بن عمرو بن بكر الرازي المعروف بـ زنيج - حدثنا بهز -وهو ابن أسد العمي - قالا جميعاً -يعني: بهز بن أسد العمي ومحمد بن جعفر غندر كلاهما- حدثنا شعبة عن عمرو بن دينار بهذا الإسناد]،: يعني: عمرو بن دينار عن جابر بن زيد عن ابن عباس.
قال: [أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات فذكر هذا الحديث.
وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا سفيان -وهو ابن عيينة -، (ح) وحدثنا يحيى بن يحيى أخبرنا هشيم -وهو ابن بشير السلمي الواسطي - (ح) وحدثنا أبو كريب -وهو محمد بن علاء الهمداني - حدثنا وكيع -وهو ابن الجراح الرؤاسي الكوفي - عن سفيان].
وإذا قال وكيع: عن سفيان، فهو سفيان الثوري، وكلاهما كوفي.
قال: [(ح) وحدثنا علي بن خشرم أخبرنا عيسى بن يونس عن ابن جريج، (ح) وحدثني علي بن حجر حدثنا إسماعيل -وهو ابن علية - عن أيوب، كل هؤلاء] أي: كل من سفيان بن عيينة وهشيم بن بشير وسفيان الثوري وابن جريج وأيوب.
قال: [عن عمرو بن دينار بهذا الإسناد -أي: عن جابر بن زيد عن ابن عباس - ولم يذكر أحد منهم -أي: من هؤلاء الخمسة- يخطب بعرفات غير شعبة وحده].
وشعبة في الإسناد السابق يروي عن عمرو بن دينار عن جابر بن زيد عن ابن عباس أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات، وأما هؤلاء الخمسة فإنهم رووا نفس الحديث عن ابن عباس ولم يذكروا فيه أن ذلك كان بعرفات، فهذا من باب زيادة الثقة، ولا خطأ في هذه المسألة عند المحدثين.(23/4)
شرح حديث جابر بن عبد الله فيما يلبسه المحرم
قال: [وحدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس حدثنا زهير -وهو زهير بن معاوية بن حديج - حدثنا أبو الزبير -وهو محمد بن مسلم بن تدرس المكي - عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يجد نعلين فليلبس خفين، ومن لم يجد إزاراً فليلبس سراويل)].
ولم يبين شرط القطع في الخفين كما في حديث عبد الله بن عمر، فيحمل المطلق على المقيد، ويخرج من الخلاف.(23/5)
شرح حديث يعلى بن أمية فيما يلبسه المحرم
قال: [حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا همام]، وهو ابن يحيى بن دينار العوذي البصري، وهو ثقة في العموم، وابن جريج ثقة في العموم، لكن إذا روى همام عن ابن جريج -وكلاهما أخرج له مسلم - فلا يكون هذا الإسناد على شرط مسلم؛ لأن همام بن يحيى العوذي ضعيف في ابن جريج خاصة، فلو جاء همام عن ابن جريج في إسناد فاعرف أن هذا الاسناد لا يمكن أن يكون في صحيح مسلم، وإن كان مسلم روى لكليهما واحتج بهما، ولكن ليس من رواية أحدهما عن الآخر.
قال: [حدثنا عطاء بن أبي رباح -وهو تابعي- عن صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة -والجعرانة: اسم مكان قبل مكة بستة عشر كيلو متر- عليه جبة وعليها خلوق -يعني: طيب من زعفران اسمه خلوق بفتح الخاء- أو قال: أثر صفرة].
يعني: كان متضمخاً ومتخلطاً بالطيب، ولكثرته كانت له علامات وآثار في ثيابه صفراء.
قال: [فقال: كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي؟ قال: وأنزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي، فستر بثوب].
يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجبه على سؤاله؛ لأن الوحي نزل عليه عليه الصلاة والسلام بمجرد أن سئل هذا السؤال، وكان إذا نزل عليه الوحي عليه الصلاة والسلام ستره أصحابه بثوبه.
قال: [وكان يعلى يقول: وددت أني أرى النبي صلى الله عليه وسلم وقد نزل عليه الوحي، قال: فقال: أيسرك أن تنظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقد أنزل عليه الوحي؟].
وهذا الحديث لم يبين من قال ذلك لـ يعلى بن أمية، ولكن الروايات التي تلت هذه الرواية بينت أن القائل لـ يعلى بن أمية هذا الكلام هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعمر هو الذي ستر النبي عليه الصلاة والسلام بثوبه.
قال: [فرفع عمر طرف الثوب -أي: الذي ستر به النبي عليه الصلاة والسلام- فنظرت إليه له غطيط]، أي: نظر يعلى بن أمية من تحت طرف الثوب إلى النبي عليه الصلاة والسلام وله غطيط، والغطيط: هو النفس الذي يتردد ويتحشرج في صدر المرء.
قال: [وأحسبه قال: كغطيط البكر].
والبكر: هو الفتي من الإبل، فقد كان يصدر من النبي عليه الصلاة والسلام صوتاً حين ينزل عليه الوحي -وهذا من شدة الوحي عليه- يشبه صوت الفتي من الإبل.
قال: [فلما سري عنه -أي: فلما كشف عنه الكرب، ورجع إلى ما كان عليه قبل نزول الوحي- قال: (أين السائل عن العمرة)].
والتقدير: أن السائل قال: هأنذا يا رسول الله! فقال النبي عليه الصلاة والسلام: [(اغسل عنك أثر الصفرة).
يعني: هذا اللون والطيب الذي أثر في ثوبك، أو قال: (أثر الخلوق، واخلع عنك جبتك -وهو نوع لباس يشبه القميص- واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك)].
وكأن هذا الرجل كان يعلم كيف يحج، وكأنه قد حج من قبل مفرداً؛ لأن المتمتع والقارن كلاهما يعتمر أولاً، فالمتمتع يعتمر ثم يخلع ملابس الإحرام حتى يحج، والعمرة دخلت في الحج إلى قيام الساعة، والمفرد لا يلزمه العمرة، ولذلك سمي مفرداً؛ لأنه أفرد الحج بالنسك، فهذا الرجل كأنه حج من قبل مفرداً ويعلم كيف يحج، ولكنه لم يعتمر، فظن أن العمرة في هيئتها ووقتها تختلف عن الحج، ولذلك قال النبي عليه السلام: (اغسل عنك أثر الصفرة، واخلع عنك الجبة، واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك).
ولم يسأله عن كيفية الحج؛ لأنه سبق أن حج، أو أنه يعلم ما قد فرض عليه في الحج، فأحاله النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما هو معلوم لديه، ولكنه بين له ما وقع فيه من محرمات، وهي أنه لبس الجبة وتطيب بعد أن أحرم من الميقات، وكلاهما يحرم على المحرم.
قال: [وحدثنا ابن أبي عمر -وهو محمد بن يحيى العدني نزيل مكة- قال: حدثنا سفيان]، وإذا قال ابن أبي عمر: حدثنا سفيان فإنما هو ابن عيينة، وابن عيينة من علماء مكة، وذاك عدني من عدن ونزل مكة، فطبيعي أنه يروي عن سفيان بن عيينة المكي.
قال: [عن عمرو].
والقاعدة أنه إذا حدث سفيان عن عمرو فـ سفيان هو ابن عيينة، وعمرو هو ابن دينار المكي.
قال: [عن عطاء -وهو ابن أبي رباح - عن صفوان بن يعلى عن أبيه -وهو يعلى بن أمية - قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل وهو بالجعرانة وأنا عند النبي صلى الله عليه وسلم وعليه مقطعات، يعنى: جبة(23/6)
معنى الحج والعمرة
الحج بفتح الحاء هو المصدر لهذا الفعل، وبالفتح والكسر جميعاً هو الاسم منه، إما الحِج، وإما الحَج، فالحج يطلق على الاسم والمصدر، بخلاف الحِج فإنه يطلق على الاسم، وأصله -أي: أصل الحج- القصد، تقول: حججت البيت، أي: قصدت البيت للزيارة والنسك، ويطلق الحج كذلك على العمل، يعني: تأدية المناسك، فإذا رأيت رجلاً يرمي، أو يطوف بالبيت، أو يسعى بين الصفا والمروة، أو يبيت بمزدلفة، أو يقف بعرفة تقول: هذا يحج، وإذا رأيت رجلاً يرمي الجمار فإنك تقول: هذا يحج، يعني: يتنسك نسكاً من مناسك الحج، فكلمة الحج تطلق على الفعل، وعلى الإتيان مرة بعد أخرى.
وأصل العمرة الزيارة، يعني: أصل كلمة عمرة في اللغة هي الزيارة.(23/7)
حكم الحج والعمرة وشروط وجوبهما
واعلم أن الحج فرض عين على كل مكلف، لا يؤديه عنه غيره إلا بشروط، فالحج فرض عين على كل أحد بشروط: أولاً: أن يكون مكلفاً؛ لأن العاجز ليس داخلاً في التكليف؛ لأن غير القادر على الحج ببدنه ليس مكلفاً بالحج، وعندما نقول: إن الحج فرض عين على الشخص، فهذا يعني: أنه يلزمه أن يذهب بنفسه لأداء نسك الحج، وأما المريض، أو الكبير في السن جداً الذي لا يستطيع أن يثبت على الراحلة فقد جاء في الحديث: (إن أبي لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه يا رسول الله؟! قال: حج عنه)؛ لأن كبر السن والعجز والضعف منعه من أن يقصد البيت بنفسه، وكذلك لا يكلف بالحج الصبي والمجنون.
فالمكلف بالحج هو القادر على الإتيان به المستطيع له.
ثانياً: أن يكون حراً غير عبد، فالعبد غير مكلف بالحج.
ثالثاً: أن يكون مسلماً، وهو احتراز من حج الكافر؛ لأن الكافر لا يقبل منه الحج، والكافر مخاطب بفروع الشريعة على أرجح الأقوال وإن لم يقبل منه ذلك، إلا فريضة الحج؛ لأن (النبي عليه الصلاة والسلام نهى أن يجتمع في جزيرة العرب دينان).
وفي رواية: (نهى أن يجتمع في جزيرة العرب أهل ملتين، ولا يكون فيها إلا أهل ملة الإسلام فقط).
الشرط الرابع: أن يملك الاستطاعة، والاستطاعة كما جاء في حديث أبي هريرة: (هي الزاد والراحلة).
وقد اختلف العلماء في وجوب العمرة فقيل: واجبة، وقيل: مستحبة، وللشافعي قولان فيها، أصحهما الوجوب.(23/8)
عدد مرات الحج الواجب
وأجمعوا على أنه لا يجب الحج ولا العمرة في عمر الإنسان إلا مرة واحدة، إلا أن ينذر المرء حجاً أو عمرة فهي واجبة بنذره، يعني: هو الذي أوجب ذلك على نفسه بالنذر، والشارع لم يوجبه عليه ابتداء؛ لأن الشرع إنما أوجبه عليه مرة واحدة، وقد فعل، ولكنه أوجب ذلك على نفسه بعد ذلك عن طريق النذر، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من نذر أن يطيع الله فليطعه).
وهذا فعل أمر يدل على الوجوب لا يسع المرء أن يتخلف عنه.(23/9)
حكم الحج والعمرة لمن دخل مكة لحاجة لا تتكرر
وإذا دخل مكة أو حرمها لحاجة لا تتكرر من تجارة أو زيارة ونحوهما ففي وجوب الإحرام بحج أو عمرة خلاف للعلماء، وهما قولان للشافعي أصحهما: استحبابه، والثاني: وجوبه بشرط ألا يدخل لقتال ولا خائفاً من ظهوره وبروزه، أي: إذا دخل مكة لأي غرض من أغراض الدنيا.
الصواب: أنه لا يلزمه أن ينوي نسكاً، بل يستحب له ألا يدخل مكة إلا محرماً، أما إذا كان داخلاً لقتال فلا يلزمه أن يدخل محرماً.(23/10)
الاختلاف في كون وجوب الحج على الفور أو التراخي
وبعد أن اتفق العلماء على أن الحج فرض عين، وقد ثبت فرضيته بكتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وإجماع أهل العلم، لكن بعد الاتفاق على فرضيته اختلفوا هل هو فرض على الفور أم على التراخي؟ واليوم العالم كله يعتبر الحج فرضاً على التراخي، فكل الناس وكل الجنسيات أول ما يتيسر لهم الحج بل ومن غير أن يتيسر يقصدون الحج مباشرة في موسم الحج والعمرة في رمضان إلا المصريين، يجلس أحدهم ستين سنة أو سبعين سنة ويقول: أزوج العيال أولاً، وإذا زوجهم أخذ هم طلاقهم، ثم يريد أن يبني البيت، وأن يضع الأموال في البنك، وفي النهاية يقول لك: صحتي لا تتحمل الحج.
وفي حديث عبد الله بن عمر: (استمتعوا بهذا البيت قبل أن ينقض، فإنه نقض مرتين، وإذا نقض الثالثة فلا يرتفع).
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (يخرب هذا البيت ذو السويقتين من الحبشة، وكأني أنظر إليه ينقضها حجراً حجراً)، يعني: في المرة الثالثة التي تكون قبل قيام الساعة ينقض البيت الحرام حجراً حجراً، حتى الداخل إلى بيت الله الحرام لا يرى أثراً لمكان الكعبة، فكيف يطوف؟ وحول ماذا يطوف؟ وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من استطاع منكم أن يقصد البيت فليفعل، فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له).
فقد اختلف أهل العلم هل الحج على الفور أو على التراخي؟ فقال الشافعي وأبو يوسف وطائفة: هو على التراخي، إلا أن ينتهي إلى حال يظن فواته لو أخره عنها، فإذا غلب على ظنه هذا لزمه على الفور.
وتزويج الولد ليس فرضاً على الأب، ولكن الفرض عليه الحج، فهو صاحب المال، فلا يعطيه غيره وهو في أمس الحاجة إليه.
والشرع لم يوجب على الولد أن يعطي والديه شيئاً إذا كان محتاجاً إليه.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (أنت ومالك لأبيه) محمول على أنه يدفع الفائض عن حاجته إلى والديه، وأما أن يعطي والديه من أصل ماله الذي يعيش عليه هو وأهل بيته وأولاده فإن الشرع لم يأمره بذلك قط.
وقال: أبو حنيفة ومالك وآخرون: هو على الفور.(23/11)
ما يحرم على المحرم لبسه وهو محرم
ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الأول: (لا تلبسوا القمص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف، إلا أحد لا يجد النعلين فليلبس الخفين، وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه الزعفران ولا الورس)، فقال فيه العلماء: هذا من بديع الكلام وجزله؛ فإنه صلى الله عليه وسلم: (سئل عما يلبسه المحرم فقال: لا يلبس كذا وكذا)، فحصل في الجواب أنه لا يلبس المذكورات، ويلبس ما سوى ذلك، وكان التصريح بما لا يلبس أولى؛ لأنه منحصر، وأما الملبوس الجائز للمحرم فغير منحصر، فضبط الجميع بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يلبس كذا ولا كذا)، يعني: ويلبس ما سواه، وأجمع العلماء على أنه يحرم عليه أن يلبس شيئاً من هذه المذكورات، فيحرم عليه أن يلبس القميص، أو العمامة، أو السروال -الذي هو البنطلون-، أو البرانس، أو الخفاف إلا إن لم يجد نعلين فليقطع الخفين من فوق حتى يشبهان النعل ويلبسهما حينئذ، ولا يلبس من الثياب ما مسه الزعفران أو الورس، يعني: ما مسه الطيب كذلك.
ونبه عليه الصلاة والسلام بالقميص والسراويل على جميع ما في معناهما، وهو ما كان محيطاً أو مخيطاً معمولاً على قدر البدن أو قدر عضو منه، مثل الجوشن -أي: الفنيلة- والتبان -وهو الشرت- والقفاز -وهو الكفوف- فهذه يمنع للمحرم لبسها، وإن لبسها متعمداً عالماً بالحكم وجب عليه دم.
ونبه صلى الله عليه وسلم بالعمائم والبرانس على كل ساتر للرأس، وكل ما يقوم مقامهما في ستر الرأس، مما هو في معنى العمامة والبرنس، وحتى العصابة حرام، فلا يجوز له أن يعصب رأسه بعصابة، ولا أن يلفها عليه، وإن اضطر إليها لشجة أو صداع أو غيرهما شدها ولزمته الفدية.
ونبه صلى الله عليه وسلم بالخفاف على كل ساتر للرجل من مداس، وجورب وغيرها.
والذي ليس معه نعل يقطع الخف ويلبسه، وكذلك يقطع الجزمة.
وإذا تخرق الإزار أو الرداء وأراد المحرم أن يرقعه ويخيطه فله ذلك ولا حرج عليه؛ لأن هذا خيط ليس على قدر العضو، والإزار والرداء مصنوع من خيوط منسوجة بطريقة معينة متداخلة.(23/12)
فتوى شيخ الشافعية في مصر للشافعية بلبس قفازين أثناء الطواف، وسبب فتواه بذلك
يقول الشافعية: إن مس المرأة ينقض الوضوء، ولما يختلط الرجال والنساء في الطواف حول الكعبة أمرهم شيخهم وزعيمهم في مصر أن يلبسوا القفازين والجوارب أثناء الطواف؛ لأن الوضوء شرط لصحة الطواف؛ لأنه لو مس المرأة وإن كان على سبيل الخطأ أو السهو في الزحام لزمه الخروج من الطواف للوضوء، وهو في هذه الحالة سيخرج من الطواف مائة مرة، وممكن ألف مرة، وممكن أن يظل أسبوعاً في مكة يطوف بالليل والنهار ولا ينجو في طوفة من مس امرأة، فأفتاهم شيخهم بأن من أراد الطواف أن يلبس القفازين في يده، ويلبس الجوارب في رجله، وبعد ذلك لا يضره مس النساء له إلا إذا تحركت شهوته، وفي هذه الحالة يكون قد أخذ برأي الأحناف بأن مس المرأة لا ينقض الوضوء إلا إذا تحركت شهوته، وهو كلام صحيح متين، ومذهب الأحناف هو أصح المذاهب في هذه المسألة.
وشرط صحة العمرة والإحرام أن لا يلبس هذا ولا ذاك.(23/13)
حكم الطيب للمحرم
ونبه صلى الله عليه وسلم بالورس والزعفران على ما في معناهما، وهو الطيب، يعني: أي طيب يحرم على المحرم أن يتطيب به، فيحرم على الرجال والنساء جميعاً في الإحرام جميع أنواع الطيب، والمراد ما يقصد به الطيب.
فلو أكل فاكهة لها رائحة فهذا لا يسمى طيباً، ولا ينهى عن هذا، وإنما الذي ينهى عنه المحرم هو الطيب الذي يقصد به التطيب، وأما الفواكه، أو الأطعمة، أو غير ذلك مما له رائحة فلا حرج أبداً على المحرم في أكلها، ولا شيء عليه في ذلك، لأنه لا يقصد بها الطيب أصلاً، وإنما القصد منها الطعام والشراب.(23/14)
الحكمة من تحريم اللباس وغيره على المحرم
قال العلماء: والحكمة في تحريم اللباس المذكور، -يعني: العمامة، والسراويل، وغير ذلك من المذكورات المنهي عنها- أن يبتعد عن الترفه والتنعم، ويتصف بصفة الخاشع الذليل، وليتذكر أنه محرم في كل وقت، فيكون أقرب إلى كثرة أذكاره، وأبلغ في مراقبته وصيانته لعبادته، وامتناعه من ارتكاب المحظورات والمعاصي، وليتذكر به الموت ولباس الأكفان، ويتذكر البعث يوم القيامة، حين يكون الناس حفاة عراة مهطعين إلى الداعي.
فكل الناس؛ الغني والفقير والوزير والرئيس وغير ذلك من جميع طبقات الناس على اختلاف مستوياتهم في ذلك الموقف يلبسون إزاراً ورداء، ولا أحد يتميز عن أحد، فالناس في هذا الموقف سواسية أمام الله عز وجل، كما أنهم سواسية يوم القيامة، لا يفضل أحد على الآخر إلا بتقوى الله عز وجل، والعمل الصالح.
والصلوات في جماعة خلف الإمام صورة مصغرة من هذا، فليس الصف الأول محجوزاً للكبار، ولا الثاني للعمداء، ولا الثالث للعقداء، فهذه لا توجد إلا في ضباط الجيش، ويكتبون على الجدار في كل مسجد كتيبة: تنبيه: ممنوع دخول أي عسكري مجند أو متطوع إلى الصف الأول في صلاة الجمعة؛ لأن هذا صف الضباط الكبار، وحتى ضابط الاحتياط يجلس في أي مكان إذا علم أن الضباط الكبار سيملئون المكان.
وأنا مرة جلست خلف الإمام بعدما ترحلنا من التدريب، فجلست في مكان العميد؛ لأن الضباط يأتون وقت إقامة الصلاة أو في أثناء الخطبة، فغمز لي أحد الضباط أثناء الخطبة أن هذا مكان قائد الكتيبة، فسكت ولم أرد عليه، وبعد الصلاة وجدت حوالي خمسة عشر ضابطاً حولي، فذهبت إلى قائد الكتيبة فقال لي: لماذا جلست في هذا المكان؟ فقلت: وماذا في هذا المكان؟ فقال لي: عندما دخلت المسجد لماذا لم تجلس في أي مكان؟ قلت: جلست في أي مكان، قال لي: هذا مكاني، قلت له: لماذا لا تأتي مبكراً حتى تجلس فيه؟ قال: هل أنت تناقشني أيضاً، قلت له: هذا هو السنة، ثم إني حرمت من الإجازة ولم أعط إلا ثلاثة أيام فقط بعد أسبوع؛ من أجل أنني صليت في مكان العميد.
والإنسان عندما يتجرد من لباسه ويلبس الإزار والرداء يختلط بغيره، فلا يعرف الشريف من الوضيع، وهما عند الله سواء إلا بالتقوى، والمرء بهذا اللباس يتذكر الموقف والمحشر بين يدي الله عز وجل، يوم أن يكون كل واحد مشغولاً بنفسه فقط، إلا النبي عليه السلام يقول: (رب أمتي أمتي).
عليه الصلاة والسلام.
والإزار والرداء يشبهان الكفن، وجمع الناس في مزدلفة أو منى أو عرفات يذكرك بالمحشر، وهذا الزي يذكرك بالكفن، وأنك ستخرج من الدنيا بمثل هذين الثوبين، فموسم الحج من منافعه أنك تعرف قدرك، كما قال تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:28].
ومن أعظم المنافع: أن تتذكر أنك ابن آدم، وأنك خطاء، وأن الله يتوب عليك إن تبت إليه وأنبت وكنت صادقاً مخلصاً في هذه التوبة، وإذا كان الأمر كذلك فعليك أن تتذكر أنك كالميت يمشي في أكفانه.
ولذلك لما وقع رجل فوقصته ناقته فمات وكان محرماً قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اغسلوه، ولا تمسوا ثوبه شيئاً من زعفران؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً)، يعني: يبعث على نفس الهيئة التي مات عليها.
فلابد للمرء أن يتذكر قدره وقيمته، وأنه مهما ارتفع فإن الأمر كما قال النبي عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه البخاري من حديث أنس: (ما ارتفع شيء قط من أمور الدنيا إلا كان حقاً على الله تعالى أن يضعه).
فمهما ارتفعت وعلوت فإنك في قبضة المولى عز وجل يفعل بك ما يريد بقوله: كن، سبحانه وتعالى.
فاعلم أنك بين يدي الله عز وجل أكنت محرماً أم غير محرماً، وإذا كنت تتذكر هذا وأنت محرم، وتغفل عنه في ثيابك بعد الإحرام؛ فاعلم أنك ما خرجت بالمنفعة التي كان ينبغي عليك أن تخرج بها من هذا الإحرام.
والجماع ومقدماته، والكلام الذي يثير ذلك حرام على الرجال والنساء في الإحرام.
والحكمة في تحريم الطيب والنساء أن يبعد عن الترفه وزينة الدنيا وملاذها ويجتمع همه لمقاصد الآخرة.(23/15)
حكم قطع الخفين إذا لم يجد المحرم نعلين وحكم من لبسهما دون قطع
وقال صلى الله عليه وسلم: (إلا أحد لا يجد النعلين فليلبس الخفين، وليقطعهما أسفل من الكعبين)، وذكر مسلم بعد هذا من رواية ابن عباس وجابر: (من لم يجد نعلين فليلبس خفين)، ولم يذكر قطعهما، وقد اختلف العلماء في هذين الحديثين، فقال أحمد: يجوز لبس الخفين بحالهما، ولا يجب قطعهما؛ لحديث ابن عباس وجابر، وكان أصحابه يزعمون نسخ حديث ابن عمر المصرح بقطعهما، وزعموا أن قطعهما إضاعة مال، ونحن قد نهينا عن إضاعة المال.
وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي وجماهير العلماء: لا يجوز لبس الخفين إلا بعد قطعهما أسفل من الكعبين؛ لحديث ابن عمر، قالوا: وحديث ابن عباس وجابر مطلقان، فيجب حملهما على المقطوعين؛ لحديث ابن عمر، والمطلق يحمل على المقيد، والزيادة من الثقة مقبولة، وهذه زيادة من عبد الله بن عمر.
قالوا: وقول الحنابلة-: إنه إضاعة مال ليس بصحيح؛ لأن الإضاعة إنما تكون فيما نهي عنه، وأما ما ورد الشرع به فليس بإضاعة، بل حق يجب الإذعان له.
ثم اختلف العلماء في لابس الخفين لعدم النعلين، هل عليه فدية أم لا؟ يعني: إذا لبس خفين ولم يقطعهما وليس له نعلين هل عليه فدية في هذه الحالة؟ فقال مالك والشافعي ومن وافقهما: لا شيء عليه؛ لأنه لو وجبت فدية لبينها صلى الله عليه وسلم، وقال أبو حنيفة وأصحابه: عليه الفدية، كما إذا احتاج إلى حلق الرأس يحلقه ويفدي، يعني: كأن يكون في رأسه حكة، أو ورم، أو ضرر، أو لا يصبر على شعره فإنه يحلقه وهو محرم وعليه الفدية، وكذلك من لم يجد النعلين فليلبس الخفين، فإن قطعهما فلا شيء عليه، وهو المنصوص، وإن لم يقطعهما فعليه الفدية قياساً على من احتاج إلى حلق رأسه وهو محرم لعلة، والعلة في الأول هي وجود النهي.(23/16)
تحريم الطيب على المحرم والحكمة من ذلك
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه الزعفران ولا الورس) فقد أجمعت الأمة على تحريم لباسهما؛ لكونهما طيباً، وأي ثوب مصبوغ بزعفران أو ورس يحرم لبسه للمحرم، وألحقوا بهما جميع أنواع ما يقصد به الطيب، وسبب تحريم الطيب أنه داعية إلى الجماع، فإذا رأى الرجل امرأته متطيبة وقع عليها، وإذا تطيب الرجل طلبته المرأة، فلما كان الطيب هو الدافع إلى الوقاع والجماع نهى عنه الشارع، فهذا النهي ليس لذاته وإنما لغيره، يعني: النهي عن الطيب إنما قصد مخافة الوقاع والجماع، وهذا الرأي ضعيف؛ لأنه لو كان النهي عن الطيب لغيره وليس لذاته لقال المحرم غير المتزوج: إن الجماع بالنسبة له مستحيل؛ إذ إنه ليس متزوجاً، ويقول المتزوج الذي لم يصحب امرأته: امرأتي ليست معي، لكن النهي عام لكل إنسان سواء كان امرأة أو رجلاً محرماً، ولأنه ينافي تذلل الحاج، فإن الحاج أشعث أغبر، والأصل فيه أنه كما يقول الله تعالى في يوم عرفة عندما يباهي ملائكته بأهل الموقف ويقول: (يا ملائكتي! هؤلاء عبادي أتوني شعثاً غبراً)، يعني: كل واحد شعره منفوش لم يسرحه، مخافة أن يقع منه شعر، وسقوط الشعرة والشعرتين جائز، ولا حرج في ذلك، وأما الثلاث وما فوقها ففيها الفدية؛ ولذلك نهى الشارع المحرم عن ترجيل شعره، فلا يسرحه حتى يؤدي نسكين من رمي جمرة العقبة، أو يذبح الهدي، أو يطوف البيت ويسعى، وحينئذ له بعد ذلك حتى ولو لم يحلق أن يسرح أو يرجل شعره قبل أن يحلقه.
والحاج أشعث أغبر من كثرة الغبار والتراب الذي يقع على رأسه، وسواء في تحريم الطيب للرجل والمرأة، وكذا جميع محرمات الإحرام سوى اللباس كما سبق بيانه.
المرأة تحرم في ملابسها العادية، وليس في إزار ورداء، وقد رأينا امرأة تلبس إزاراً ورداء في منى وهي من مصر، وإذا بينت لها رماك زوجها بالجهل وغير ذلك.(23/17)
ما يحرم على المحرم أثناء الإحرام
محرمات الإحرام سبعة: أولاً: اللباس على النحو الذي فصلنا آنفاً.
ثانياً: الطيب والورس والزعفران في الثوب، ودهن الرأس أو اللحية، وأما وضع الطيب على البدن بعد الاغتسال وقبل لبس ملابس الإحرام فهذا لا يضرك، والمنهي عنه هو التطيب بعد الإحرام وبعد أن يقول المحرم: لبيك اللهم عمرة، أو لبيك اللهم حجاً، أو لبيك اللهم بعمرة وحجة، فهذه الكلمة فاصلة في المباح وغير المباح، ولو تطيب قبلها فلا حرج عليه وإن استمر معه الطيب بعدها، فتحريم الطيب هو تحريم لمس الطيب بعد الدخول في النسك، وأما قبل ذلك فلا حرج عليك.
ثالثا: إزالة الشعر إلا في وقته، ووقته للمعتمر بعد السعي.
وأول ما يفعله المحرم عقد النية على النسك سواء بعمرة أو حج، ثم التلبية حتى يرى بيوت مكة أو الحرم على خلاف بين العلماء، فإذا رأى الحرم أو بيوت مكة قطع التلبية لينشغل بعد ذلك بشيء آخر، ويستحب له دخول الحرم من باب السلام؛ لدخول النبي صلى الله عليه وسلم منه، فإذا دخل الحرم بدأ بالطواف سبعة أشواط، وليجعل البيت عن شماله، ويبدأ من الحجر الأسود، ويطوف من خارج حجر إسماعيل، ويدعو بما شاء إلا بين الركنين الركن اليماني، والحجر الأسود، فيقول بينهما: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201].
فإذا فرغ من الطواف صلى ركعتين خلف مقام إبراهيم إن تيسر له ذلك، وإلا صلاهما في أي مكان من الحرم، وليقرأ في الأولى بفاتحة الكتاب و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1]، وفي الثانية بفاتحة الكتاب و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، فإذا فرغ من الصلاة فليتضلع من شرب ماء زمزم، ثم ينطلق إلى الحجر الأسود وإن استطاع فليقبله، وإلا فليستلمه بيده ويقبل يده، فإن لم يستطع فليشر إليه بيده من بعيد في محاذاته وموازاته ويقول: باسم الله، والله أكبر، ثم يرجع خلفه إلى باب الصفا تالياً قول الله عز وجل: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة:158].
ثم يبدأ بالسعي من الصفا أولاً إلى المروة، وهذا شوط، ومن المروة إلى الصفا شوط ثان، وهكذا فيبدأ بالصفا وينتهي عند المروة، ثم يحلق عند المروة ويتحلل من عمرته، والحلق أفضل من التقصير؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا للمحلقين ثلاثاً، ثم دعا للمقصرين مرة واحدة، إلا القارن أو المتمتع فالأفضل في حقهما التقصير؛ لأنهما سيحجان في الأيام المقبلة القلائل، وسيكون عليهما في يوم النحر الحلق، فإذا حلق في العمرة فربما لا يجدان بعد ذلك شعراً يحلقانه، فالأفضل لمن أتى نسكين متتاليين سواء كان قارناً أو متمتعاً أن يقصر شعره في العمرة؛ ليبقي له شيئاً للحلق يوم النحر.
فإزالة الشعر للمحرم ممنوع إلا في حينه ووقته.
رابعاً: أخذ الظفر أو قطعه وقصه لا يجوز، ومن فعل فعليه دم، إلا من قطع منه شيء يسير كان يؤذيه؛ لأنه هنا أخذه على سبيل العلاج والتطبيب لا على سبيل القص.
خامساً: عقد النكاح والإشارة إليه.
سادساً: الجماع وسائر أنواع الاستمتاع يفسد الحج، حتى الاستمناء لا يجوز.
سابعاً: إتلاف الصيد، سواء كان ذلك بمباشرته، أو بمشورته، أو بدلالته.(23/18)
حكم المحرم إذا تطيب أو لبس ما هو محرم عليه أثناء الإحرام
وإذا تطيب أو لبس ما نهي عنه لزمته الفدية إن كان عامداً بالإجماع، يعني: يذبح شاة، وإن كان ناسياً فلا فدية عليه عند الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق، وأوجبها أبو حنيفة ومالك في هذه المسألة، والنسيان في هذه المسألة يرفع الإثم ولا يرفع الكفارة عندهما.
ولا يحرم المعصفر عند مالك والشافعي، وحرمه الثوري وأبو حنيفة وجعلاه طيباً، وأوجبا فيه الفدية، وهو الصحيح، ويكره للمحرم لبس الثوب المصبوغ بغير طيب ولا يحرم.(23/19)
حكم لبس السراويل للمحرم إذا لم يجد الإزار
وقوله عليه الصلاة والسلام: (السراويل لمن لم يجد الإزار، والخفين لمن لم يجد النعلين) يعني: المحرم.
هذا صريح في الدلالة للشافعي والجمهور في جواز لبس السراويل للمحرم إذا لم يجد إزاراً.
وفي أحد الأيام قام شخص وهو يلبس البنطلون وفوقه رداء ليسأل الشيخ عطية سالم رحمه الله وأحسن إليه، فقال له الشيخ: الذي فوق كتفيك البسه في حقوك حتى تخرج وتشتري رداء آخر، وكان السائل من المصريين الذين لا يفهمون فقال للشيخ: أنا لا أسألك عن هذا، أنا قلت لامرأتي كذا وكذا، فهل تصبح طالقاً أم لا؟ فقال له الشيخ: نعم تصبح طالقاً.
فهذا صريح في الدلالة لمذهب الشافعي والجمهور في جواز لبس السراويل للمحرم إذا لم يجد إزاراً، ومنعه مالك؛ لكونه لم يذكر في حديث ابن عمر السابق، والصواب إباحته بحديث ابن عباس هذا مع حديث جابر بعده، وأما حديث ابن عمر فلا حجة فيه.
قوله عليه الصلاة والسلام: (وهو بالجعرانة)، فيها لغتان مشهورتان: الجعْرانة بتخفيف الراء، والجعرّانة بالتشديد.(23/20)
تحريم الطيب على المحرم وواجب من أصابه منه شيء
قوله عليه الصلاة والسلام للسائل عن العمرة: (اغسل عنك أثر الصفرة)، فيه: تحريم الطيب على المحرم ابتداء ودواماً؛ لأنه إذا حرم دواماً فالابتداء أولى بالتحريم، لكن الابتداء مقصود به بعد الإهلال، وأما قبل الإهلال فإنه يطيب بدنه لا ثوبه.
وفيه: أن العمرة يحرم فيها من الطيب واللباس وغيرهما من المحرمات السبعة السابقة ما يحرم في الحج.
وفي هذا الحديث: أن من أصابه طيب ناسياً أو جاهلاً ثم علم وجبت عليه المبادرة إلى إزالته، والراجح أنه لا فدية عليه.
وفيه: أن من أصابه في إحرامه طيب ناسياً أو جاهلاً لا كفارة عليه، وهذا مذهب الشافعي، وبه قال عطاء والثوري وإسحاق وداود، وقال مالك وأبو حنيفة والمزني وأحمد في أصح الروايتين عنه: عليه الفدية، لكن الصحيح من مذهب مالك: أنه إنما تجب الفدية على المتطيب ناسياً أو جاهلاً إذا طال لبثه عليه، يعني: إذا استمر ذلك عليه مدة من الزمان.(23/21)
ما يلزم المحرم إذا لبس المخيط جاهلاً بحكمه
وقوله عليه الصلاة والسلام: (واخلع عنك جبتك) دليل لـ مالك وأبي حنيفة والشافعي والجمهور: أن المحرم إذا صار عليه مخيط ينزعه ولا يلزمه شقه، يعني: إنما يلزمه خلع السروال أو العمامة أو غير ذلك.(23/22)
معنى قوله: (واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك)
وقوله عليه الصلاة والسلام: (واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك) فمعناه: من اجتناب المحرمات، يعني: بقية المحرمات التي تحرم في الحج فإنها تحرم كذلك في العمرة، ويحتمل أنه أراد مع ذلك الطواف والسعي والحلق بصفاتها وهيئاتها، وإظهار التلبية وغير ذلك مما يشترك فيه الحج والعمرة، ويخص من عمومه ما لا يدخل في العمرة من أفعال الحج، كالوقوف والرمي والمبيت بمنى ومزدلفة وغير ذلك، وهذا الحديث ظاهر في أن هذا السائل كان عالماً بصفة الحج دون العمرة، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام له: (واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك).(23/23)
بعض فوائد حديث يعلى بن أمية في ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح
وفي هذا الحديث من الفوائد دليل للقاعدة المشهورة: أن القاضي والمفتي إذا لم يعلما حكم المسألة أمسكا عن جوابها حتى يعلماه أو يظناه بشرطه، فمادام ليس عندهما علم فإنهما يمسكان عن الجواب حتى يعلماه، والأصل أن يحيلا المسألة إلى عالم أو يظهرا الجهل ويقولا: الله أعلم، وفي هذا الحديث: أن من الأحكام التي ليست في القرآن ما هو بوحي لا يتلى، يعني: أن الوحي وحيان، وحي متلو وهو كتاب الله عز وجل القرآن الكريم، ووحي غير متلو ولا يتعبد بتلاوته ولا يقرأ في الصلاة، وغير ذلك من خصائص القرآن الكريم، وهو وحي السنة، فالسنة وحي كذلك.
وقد استدل بهذا الحديث من يقول من أهل الأصول: إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن له الاجتهاد.
وهذه المسألة محل نزاع بين الأصوليين، وهناك أدلة أنه اجتهد بغير وحي، وأدلة بينت أنه انتظر ولم يجتهد حتى أتاه الوحي.
وأما إدخال يعلى بن أمية رأسه ورؤيته للنبي عليه الصلاة والسلام في تلك الحال وإذن عمر له في ذلك فكله محمول على أنهم علموا من النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يكره الاطلاع عليه في ذلك الوقت وتلك الحال؛ لأن فيه تقوية الإيمان بمشاهدة حالة الوحي الكريم على النبي صلى الله عليه وسلم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(23/24)
الأسئلة(23/25)
حكم شراء السرقة، ووقت صلاة الفجر
السؤال
ما حكم شراء الشيء المسروق للحاجة إليه؟ وما هو الوقت الصحيح لصلاة الفجر بعد الأذان؟
الجواب
لا يحل شراء الشيء المسروق، إذا كان يعلم أنه مسروق، ولا ينجيه من الإثم دفعه مالاً حلالاً فيه، فإذا اشتراه لزمه رد المبيع وأخذ الثمن.
وأما الوقت الصحيح لصلاة الفجر بعد الأذان فهو على أقل تقدير ثلث ساعة، وأما قبل ذلك فلا.(23/26)
حكم تحريك الخاتم أثناء الوضوء
السؤال
ما حكم تحريك الخاتم أثناء الوضوء إذا غلب على الظن أن الماء لم يصل إلى ما تحت الخاتم؟
الجواب
لك أن تفعل ذلك، وكان ابن سيرين يفعله، كما ذكر ذلك البخاري في كتاب الوضوء، ولكن لا يلزمك تحريكه، وإنما هو من المستحبات، وإذا لم تحركه فلا حرج عليك.(23/27)
حكم بيع الذهب الذي على شكل صليب
السؤال
ما حكم بيع الذهب الذي هو عبارة عن صليب والانتفاع بالمال الذي بيع به؟
الجواب
لا يجوز؛ لأنه رمز الكفر، وشعار الشرك، فلا يجوز بيعه لهم؛ لأنهم يتعبدون به، وقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله قاعدة عظيمة جداً في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، فقال: وينهى المسلم أن يبيع أو يؤجر لنصراني بيتاً أو محلاً إذا غلب على ظنه أنه يرفع فيه الصليب.(23/28)
حكم صلاة تحية المسجد لمن جاء قبل الإقامة وقد صلى سنتها في بيته
السؤال
في الحديث: (إذا طلع الفجر فلا صلاة إلا ركعتي الفجر)، فهل إذا صليت ركعتي سنة الفجر في البيت ثم دخلت المسجد للصلاة أصلي ركعتي تحية المسجد أم لا؟
الجواب
نعم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين).
فإذا صليت سنة الفجر في بيتك وأتيت قبل إقامة الصلاة فصل ركعتين، فإذا أتيت وقد أقيمت الصلاة فادخل في الصلاة، وإذا كنت قد بدأت في صلاة ركعتي تحية المسجد وأقيمت الصلاة فاخرج من صلاتك والحق بالإمام؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أقيمة الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة).(23/29)
الاستمرار في النصيحة للعصاة
السؤال
أختي تعمل سكرتيرة عند رجل في أحد المصارف، وهي متنمصة وعاقة لوالديها، ولقد وجهت إليها النصح كثيراً فلم تقبل، فماذا أفعل؟
الجواب
أنت تتكلم عن واحدة لا يحكمها دين ولا شرع، فلا تمل من النصيحة في الليل والنهار، وأرفق بها بالحكمة والموعظة الحسنة.(23/30)
حكم حلق اللحية
السؤال
هل حلق اللحية ذنب كبير؟ الشيخ: نعم، حلق اللحية كبيرة من الكبائر، وهو إما أن يكون كبيرة بذاته كما قال الذهبي، وإما أن يكون صغيرة وبتكرارها يصير كبيرة، وحالق اللحية يجدد حلقها دائماً، يعني: كل يوم قبل أن ينزل إلى شغله يأثم.(23/31)
حكم وضع المال في البنك بنية أن تكون أرباحه في سبيل الله
السؤال
هل يجوز وضع المال في البنك مع نية أن تكون الأرباح في سبيل الله أو للفقراء؟
الجواب
لو أنك فعلت ذلك في بنك فيصل، أو المصرف الإسلامي الدولي فلا حرج عليك أن تهنأ بهذا الربح أو تنتفع بهذه الزيادة، وإذا أردت أن تتخلص منها كذلك مع هذين البنكين فهو أفضل، والله أعلم.(23/32)
حكم حمل الهاتف الجوال في الحج
السؤال
ما حكم الدين فيمن يحمل المحمول في أثناء حجه؟
الجواب
يجوز ذلك، ولو حرمناه فسنحرم أن تتكلم مع أي جار لك أو قريب أو صديق أو ملازم لك في الحج، وسيكون الكلام في الحج ممنوعاً نهائياً، فما هو الفرق بين كلامك مع زميلك الذي بجوارك وبين الكلام بالمحمول؟ والشيخ ابن عثيمين نهى المعتمرين أو المعتكفين في رمضان أن يتصلوا بأهاليهم إلا لحاجة أو ضرورة ماسة، وهذا نهي استحسان، وقال: لا يجوز الخروج من المعتكف لكلام الأهل والخلان والأصحاب إلا لضرورة.
وبعض من كان موجوداً أثار هذه القضية من أجل فتوى الشيخ ابن عثيمين، وحملوا كلامه على أنه لا يجوز للمعتكف أن يتكلم مع أهله في المعتكف، مع أن كلام المعتكف مع امرأته جائز، والنبي صلى الله عليه وسلم تكلم مع نسائه، فقد تكلم مع صفية، ومع عائشة، ومع أم سلمة، وغيرهن، وإنما الذي نهى عنه الشيخ هو الخروج من المعتكف بغير عذر؛ لأن هذا قاطع للاعتكاف.(23/33)
حكم الأتاري
السؤال
ما حكم الدين في الأتاري؟
الجواب
الأتاري بلاء عظيم جداً، صرف الشباب، وأفسد الطلاب وغيرهم، فتجد الواحد يلبس ملابسه ويزعم أنه ذاهب إلى المدرسة، ولكنه لا يذهب إلى المدرسة، وإنما يذهب إلى أي ناد ويلعب إلى انتهاء وقت الدراسة، ثم يرجع إلى البيت، وكثير جداً من الطلاب والشباب والأولاد فسدوا بهذه الألعاب التي ظهرت هنا وهناك.(23/34)
كيفية دعوة النساء
السؤال
لا يجوز دعوة النساء إلا بشروط، فكيف أدعو فتاة الجامعة والتي ليست بمفردها وإنما هي مع شاب أو عدد من الشباب؟
الجواب
ولها ظهرك، وادفع لها ما عندك من حكمة وموعظة حسنة، وأمرها بالمعروف، وانهها عن المنكر، لا أن تجلس تنظر إلى عينيها وتقول لها كلاماً كثيراً جداً، ثم لا تنام الليل، قلقاً وتعبان، وتريد في اليوم الثاني أن تقابلها بأي شكل من أجل أن تدعوها أيضاً، ويكون ختاماً ليس مسكاً.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(23/35)
شرح صحيح مسلم - كتاب الحج - مواقيت الحج والعمرة
لقد وقت الله عز وجل للعبادات مواقيت لا يصح تأديتها في غيرها، ومن هذه العبادات الحج والعمرة، فقد رتب الله عز وجل لها وقتاً زمانياً، كما حدد لها رسوله صلى الله عليه وسلم مواقيت مكانية يحرم منها من هو من أهلها ومن أتى عليها من غير أهلها.(24/1)
باب مواقيت الحج والعمرة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، أما بعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب مواقيت الحج والعمرة].
المواقيت: جمع ميقات، والميقات إما زماني وإما مكاني، فالميقات الزماني للعمرة جميع أيام السنة ولياليها.
فمن أراد أن يعتمر إلى بيت الله الحرام فله ذلك في كل وقت من ليل أو نهار على مدار السنة، وليس هناك شيء يسمى عمرة المولد النبوي، أو عمرة رجب، وكل هذا إنما هو تنسيق سياسي، وإلا فالعمرة جائزة ومستحبة في جميع أيام السنة ولياليها.
وأما الميقات الزماني للحج فهو شوال وذو القعدة باتفاق أهل العلم.(24/2)
خلاف العلماء في كون شهر ذي الحجة ميقاتاً زمانياً للحج
وقع الخلاف في ذي الحجة، وهل ذو الحجة كله ميقات زماني للحج أم ليس ميقاتاً للحج؟ اختلف فيه العلماء إلى مذهبين: المذهب الأول وهو مذهب جماهير أهل العلم: أن العشر الأوائل من ذي الحجة هن ميقات للحج، وتطلق العشر تغليباً، وإلا فالأصل فيها التسع، لأن اليوم العاشر من ذي الحجة يوم النحر، ونحن نعلم قوله عليه الصلاة والسلام: (الحج عرفة).
فمن لم يقف بعرفة فلا حج له، والوقوف بعرفة يبدأ من بعد طلوع الشمس يوم التاسع إلى غروب الشمس، يعني: من وقف يوم التروية بمعنى بات فيها، وهذا المبيت سنة وليس واجباً، ثم إذا طلعت الشمس من اليوم التاسع يذهب ماشياً أو راكباً إلى عرفات، ويصلي في عرفة الظهر والعصر جمع تقديم مع القصر، ويحضر الخطبة مع الإمام، ثم إذا غربت شمس التاسع أفاض الحاج من عرفة إلى المزدلفة، ولا يصلي المغرب بعرفة وإن أذن للمغرب وهو فيها، بل يصلي المغرب والعشاء في مزدلفة جمع تأخير مع قصر العشاء.
ومن لم يتمكن من الوقوف بعرفة في نهار التاسع فيجزئه أن يقف بها جزءاً ولو يسيراً من ليلة العاشر، ولذلك أطلقوا عليها تغليباً العشر الأوائل من ذي الحجة.
أما من فاته الوقوف بعرفة في اليوم التاسع وفي ليلة العاشر، وذهب إلى عرفة في يوم النحر ووقف بها ونزل بعد غروب الشمس لم يصح حجه؛ لأن اليوم العاشر ليس ميقاتاً زمانياً للحج، وهذا مذهب الجمهور.
والمذهب الثاني: أن ذا الحجة كله ميقات زماني للحج؛ لأن الله تعالى يقول: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197].
وأشهر جمع شهر، ولا يصدق هذا الجمع إلا على شهر صحيح أو قارب الصحيح، وأما التسعة أو العشرة فلا يصدق عليها شهر، والشهران لا يجمعان؛ لأن أقل الجمع في اللغة العربية ثلاثة، وفي بقية لغات العالم اثنان.(24/3)
الرد على من يقول بجواز الحج في أي وقت من أشهر الحج الثلاثة
شوال وذو القعدة ميقاتان زمانيان للحج بلا خلاف بين أهل العلم.
وقد قال صلاح منتصر: أنه بإمكانك أن تحج في شوال أو في ذي القعدة؛ لأن الله عز وجل قال: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197].
فيمكنك أن تحج في أي شهر من الشهور الثلاثة وفي أي وقت منها، سواء في أول الشهر، أو في وسطه، أو في آخره وكذلك في كل شهر، وقال هذا الملاحدة ونشروه على صفحات الجرائد، وقالوا: لماذا يجتمع الناس في وقت واحد، وتحدث الحرائق والزحام والموت؟ والله يقول: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ} [البقرة:197].
ولم يقل: يوم أو يومان أو ثلاثة أو خمسة، وإنما أشهر معلومات.
و
الجواب
إن قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197]، أي: عقد نية الحج في هذه الأشهر كلها جائز، وهذه الأشهر ميقات زماني للحج لمن أراد التمتع.
والميقات المكاني لأهل المدينة ولمن مر بها، هو ذو الحليفة الذي يسمى الآن أبيار علي.(24/4)
الفرق بين حج التمتع والقران
الذي يريد أن يحج قارناً عليه أن يسوق الهدي معه من الميقات، والنبي عليه الصلاة والسلام حج قارناً، والتمتع أفضل؛ لما جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي)، يعني: لو علمت أن التمتع أفضل من القران ما كنت أخذت الهدي من ذي الحليفة، والمتمتع يأخذ هديه من مكة، سواء من منى أو من مزدلفة أو من عرفة أو من أي مكان، ولا يلزم أن يسوقه من الميقات.
وهذا الفرق الأول بين القارن والمتمتع.
والفارق الثاني بينهما أن القارن إذا وصل إلى بيت الله الحرام فإنه يطوف ويسعى بين الصفا والمروة ويقصر شعره، ويبقى في ملابس إحرامه، ولا يحل له خلعها والتحلل منها حتى يخرج بها إلى منى في يوم التروية التي هي اليوم الثامن من ذي الحجة، فلو جاء في شهر شوال وقد ساق معه الهدي فإنه سيبقى في ملابس إحرامه شوال وذا القعدة وعشرة أيام من ذي الحجة، ولا شك أن في هذا مشقة عظيمة جداً على الإنسان، وفيه تعريض لعورته للانكشاف وعدم الستر، وغير ذلك، ولذلك القارن يأتي متأخراً، والمتمتع لا يسوق الهدي من الميقات، وإنما يأخذه من مكة، أو يوكل فيه.
وأشهر الحج التي هي شوال وذو القعدة والعشرة الأوائل من ذي الحجة، وهي المقصودة بقوله سبحانه وتعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ} [البقرة:197]، يعني: هذه الأشهر هي ميقات زمني لمن أراد التمتع والقران.(24/5)
حكم من أحرم بالحج بعد أيام التشريق من ذي الحجة
وقد وقع الخلاف فيمن دخل مكة بعد يوم النحر وأيام التشريق، فعند الجمهور أن عليه أن يؤدي عمرة، وليس عليه قران ولا تمتع؛ لأن موسم الحج قد انصرم.
وقال: داود الظاهري وغيره: لم تنته أشهر الحج؛ لأن شهر ذي الحجة كله من الأشهر المعلومات في الحج.
فإذا دخل قارناً فإنه يظل قارناً من ذي الحجة حتى يأتي ذو الحجة الثاني من العام القادم، وهذا فيه أعظم مشقة.
وإن دخل متمتعاً فعليه أن يعتمر بنية التمتع وينتظر الحج من العام المقبل، ويصح حجه متمتعاً، وعند الجمهور لا يصح إلا مفرداً، أما تمتعاً فلا.(24/6)
الفرق بين حج التمتع والإفراد
الفرق بين المتمتع وبين المفرد: أن المفرد لا يلزم بالطواف والسعي قبل أداء الحج، لأن الطواف والسعي خاصان بالعمرة، وهو ما أحرم بعمرة وإنما أحرم بحج فقط، وليس على المفرد هدي، والمتمتع بخلافه.
فالميقات الزماني للعمرة خلال أيام السنة ولياليها، والميقات الزماني للحج شوال، وذو القعدة، والتسع الأوائل من ذي الحجة، وأطلق على هذه التسع شهر تغليباً.(24/7)
رد آخر على من يقول بجواز الحج في أي وقت من أشهر الحج الثلاثة
الرد الثاني على من يقول: بأداء الحج في أي وقت من أيام الأشهر المعلومات: أن أعرف الناس بمراد الله عز وجل هو النبي عليه الصلاة والسلام، ولو سبق هذا الفهم إليه لعمل به عليه الصلاة والسلام، أو أمر أصحابه ولو في عام واحد أن يجعلوا الحج في شوال أو في ذي القعدة أو في أي يوم من التسع، وليس بلازم أن يبدأ في يوم التروية الذي هو اليوم الثامن وينتهي في اليوم الثالث عشر من أيام التشريق، ولكنه بين بسنته العملية عليه الصلاة والسلام بأن الحج على هذا النحو في هذه الأيام، وأمر أصحابه جميعاً أن يفعلوا ذلك، وعلى وهذا سار الخلفاء الراشدون الذين اتباعهم سنة وهدىً، وقال النبي عليه السلام: (خذوا عني مناسككم، خذوا عني مناسككم، خذوا عني مناسككم، لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا).
فإذا كان يمكن أداء الحج في غير هذه الأيام المعلومات لخالف في ذلك ولو جيل من أجيال المسلمين على طول التاريخ وعرضه، وليس من المعقول إن كان هذا حقاً أن يخفيه الله تبارك وتعالى عن جميع علماء الأمة ويعلمه صلاح منتصر ومن على شاكلته.(24/8)
المواقيت المكانية للحج والعمرة
وأما المواقيت المكانية فهي التي يحرم منها من أراد الحج أو العمرة أو من أراد النسك عموماً، فعلى من أراد النسك أن يلبس ملابس الإحرام وينوي النسك، ويقول: لبيك اللهم عمرة، أو لبيك اللهم حجة، أو لبيك اللهم عمرة وحجة، حسب النسك الذي يريد أداءه، لا يتعدى الميقات المكاني دون إحرام، فإن تعداه فقد اختلف أهل العلم فيما يكفره.
والمواقيت المكانية متعددة، فميقات أهل الشام ومصر والمغرب ومن مر بها من أهلها ومن غير أهلها رابغ، والمذكور في الأحاديث أنها الجحفة، وقد صارت الجحفة الآن قرية خربة مهجورة، وقبلها بيسير جداً قرية عامرة تسمى رابغ اتخذها الناس ميقاتاً مكانياً، وهي تبعد عن مكة حوالي مائتي كيلو متر، يعني: ست مراحل، وأبعد المواقيت المكانية عن الحرم هو ميقات أهل المدينة، وهو أبيار علي أو ذو الحليفة، وهو يبعد عن المسجد النبوي شيئاً يسيراً، فالمسافة بينه وبين المسجد النبوي حوالي ربع ساعة بالسيارة، ومن الميقات إلى مكة حوالي أربع ساعات وزيادة لراكب السيارة المسرع.
أما من الجحفة إلى مكة فحوالي ساعتين، فميقات أهل الشام بينه وبين مكة نصف المسافة التي بين ميقات أهل المدينة وبين مكة، فأبعد المواقيت عن الحرم هو ميقات أهل المدينة ومن مر بها، ويتلوه في البعد ميقات أهل الشام.
وأما ميقات اليمن فهو يلملم، وفي رواية: ألملم، ولكن المشهور يلملم، وميقات أهل نجد والرياض ومن مر بها قرن المنازل، ويسمى الآن بالسيل.
وميقات أهل العراق ذات عرق، وهي تبعد كثيراً عن الحرم.
وكل هذه المواقيت في أرض الحجاز، فلو رسمت الكعبة أو مكة لوجدت أن هذه المواقيت تحيط بمكة من الخارج، ومنها ما يبعد كثيراً ومنها ما يقترب كثيراً، وكلها خارج حدود مكة، ولكنها في أرض الحجاز.(24/9)
بيان من حدد المواقيت المكانية للحج والعمرة
النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي حدد هذه المواقيت المكانية، إلا ميقات أهل العراق الذي هو ذات عرق، فقد جاء في رواية جابر بن عبد الله، لكن أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس راوي هذا الحديث عن جابر قال: سمعت جابراً يقول: أراه قال: يرفعه.
يعني: شك أبو الزبير هل رفع جابر هذا الحديث أم لا؟ فإذا كان مرفوعاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام فالذي حدد الميقات هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن لم يكن مرفوعاً كان من دون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي حدد ميقات أهل العراق، والراجح أن الشك لا يصح معه الرفع وإنما الوقف؛ لأن الوقف أيقن وأحوط، ولذلك قال العلماء: حديث جابر ليس مرفوعاً لشك أبي الزبير هل رفعه جابر أو لا؟ والراجح من أقوال أهل العلم: أن الذي حدد ميقات أهل العراق هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه وتبعه عليه الصحابة فكان كالإجماع، والإجماع حجة في العبادات، واتخاذ الميقات المكاني عبادة من العبادات.
والمسألة فيها أقوال أخرى وأدلة كثيرة ومتناثرة هنا وهناك.(24/10)
شرح حديث ابن عباس في المواقيت
وقد جاء في ثلاثة أحاديث: حديث ابن عباس وهو أتمها وأكملها، وحديث ابن عمر وفيه بعض النقص، وحديث جابر على الشك الذي ذكرته آنفاً.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن يحيى وخلف بن هشام وأبو الربيع وقتيبة جميعاً عن حماد - يعني ابن زيد - عن عمرو بن دينار عن طاوس - وهو ابن كيسان اليماني - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة)]، يعني: جعل ميقات أهل المدينة ذا الحليفة.
قال: [(ولأهل الشام الجحفة)].
والإمام الدارقطني يقول: إن حديث جابر ضعيف.
وهذه مجازفة من الدارقطني في كتاب العلل، قال: لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يحدد ميقاتاً لأهل العراق؛ لأن أهل العراق لم يدخلوا في الإسلام في زمان النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما دخلوا في زمان عمر بن الخطاب.
ونقول: وأيضاً أهل الشام لم يدخلوا في الإسلام في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، والذي حدد ميقات أهل الشام النبي عليه الصلاة والسلام، فلا يصلح هذا الاعتراض قط.
فلا يصلح هذا النقد لرد الحديث، وإنما يكفي في إنزال الحديث من الرفع إلى الوقف؛ لشك أبي الزبير.
قال: [(وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة -وتسمى اليوم رابغ- ولأهل نجد قرن المنازل -وتسمى اليوم السيل- ولأهل اليمن يلملم.
قال: فهن لهن -أي: لهذه القرى- ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)].
فميقات أهل الشام لمن مر به براً أو بحراً أو جواً أو بمحاذاته، فالطائرة القادمة من مصر إلى جدة تمر بمحاذاة رابغ، وكذلك الذي يأتي من المغرب أو من سوريا أو لبنان أو غيرها إنما يمر مروراً محاذياً للميقات، ولو تعمد أن يمر من فوق رابغ لكان له ذلك، وهو أفضل بلا شك.
فالإحرام يكون من الميقات أو من مكان يحاذي ويوازي الميقات.
قوله: (فهن لهن ولمن أتى عليهن)، أي: ولمن أتى من هذه المواقيت من غير أهل هذه البلاد، والذي يمر بميقات ليس هو ميقاته فله أن يتخذه ميقاتاً له، بل لا يجوز له أن يتجاوزه وهو ينوي أداء النسك إلا بالإحرام منه، فهو كميقاته.
قال: [(هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة)]، فلو مر على الميقات وهو لا يريد أن يحج أو يعتمر ولا ينوي النسك يأثم بتجاوزه الميقات بغير إحرام على مذهب جماهير العلماء، وبعض أهل العلم قال: لا يجوز دخول مكة إلا محرماً، والراجح عدم الإثم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة بغير إحرام، وهذا يدل على جواز دخول مكة بغير إحرام.
فمن عقد النية على أداء النسك لا يجوز له أن يتجاوز الميقات دون إحرام، فإن تجاوزه دون إحرام فقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن عليه دماً، ومنهم من أوجب عليه أن يرجع إلى ميقاته فيحرم منه، ثم يدخل بعد ذلك مكة.
وهذا بلا خلاف بينهم.
واختلفوا في زيارة المدينة أولاً، والذي أخلص إليه: أن من أحرم من ميقات أهل المدينة أن ذلك جائز مع الكراهة، ويصح حجه وعمرته مع مخالفته للأولى، والأولى أنه لا يمر من ميقاته إلا بإحرام؛ لقوله: (هن لهن)، أي: هذه المواقيت لأهلها، فينبغي أداء النسك أولاً قبل الزيارة.
قال: [(هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة، فمن كان دونهن فمن أهله، وكذا فكذلك، حتى أهل مكة يهلون منها).
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن آدم حدثنا وهيب حدثنا عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم.
وقال: هن لهم -أي: لأهل هذه البلاد- ولكل آت أتى عليهن من غيرهن -أي: ولمن مر بهذه البلاد وهذه المواقيت- ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ -يعني: من حيث أراد النسك يحرم من مكانه- حتى أهل مكة من مكة)].(24/11)
شرح حديث ابن عمر في المواقيت
قال: [وحدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، وأهل الشام من الجحفة، وأهل نجد من قرن.
قال عبد الله - يعني عبد الله بن عمر -: وبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ويهل أهل اليمن من يلملم)].
قوله: (وبلغني) يدل على أنه لم يسمعه بنفسه من النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما سمعه من غير النبي صلى الله عليه وسلم، والغالب أن هذا من مراسيل الصحابة، ومراسيل الصحابة في الغالب مقبولة؛ لأن الصحابي غالباً لا يأخذ إلا عن صاحبه، وقل أن تجد صحابياً يأخذ عن تابعي، ومعظم روايات الصحابة عن الصحابة.
وقد جاء في حديث ابن عباس أن النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي حدد ميقات أهل اليمن وقال: (ولأهل اليمن يلملم).
وحديث ابن عباس مرفوع بلا شك، وهو متفق عليه في الصحيحين.
وأما قول عبد الله بن عمر: (وبلغني) فهذا من الأمانة العلمية، فهو لم يسمع ذلك وإنما بلغه بلاغاً، كأنه بلغه حديث ابن عباس فقال به.
قال: [أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مهل أهل المدينة ذو الحليفة -يعني: المكان الذي يهلون منه، يعني: يحرمون منه- ومهل أهل الشام مهيعة -وهو اسم للجحفة- وهي الجحفة، ومهل أهل نجد قرن.
قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: وزعموا -والزعم يطلق على القول الصادق والقول الكاذب- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أسمع ذلك منه قال: ومهل أهل اليمن يلملم)].
ولا حرج على عبد الله بن عمر في أنه لم يسمع ذلك، لأنه قد سمعه جابر وعبد الله بن عباس، وهما حجتان، وعبد الله بن عمر لم ينف ذلك، وإنما قال: بلغني أنه قال كذا.
فـ ابن عباس حفظ، وعبد الله بن عمر إما أنه لم يسمع ميقات أهل اليمن خاصة، أو أنه سمع ونسي، والمعلوم أن من حفظ حجة على من لم يحفظ.
قال: [حدثنا يحيى بن يحيى ويحيى بن أيوب وقتيبة وعلي بن حجر قال يحيى: أخبرنا، وقال الآخرون: حدثنا إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن دينار أنه سمع ابن عمر رضي الله عنهما قال: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل المدينة أن يهلوا من ذي الحليفة، وأهل الشام من الجحفة، وأهل نجد من قرن.
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: وأخبرت أنه قال: ويهل أهل اليمن من يلملم).
وحدثني زهير بن حرب وابن أبي عمر قال ابن أبي عمر: حدثنا سفيان - يعني: ابن عيينة -عن الزهري عن سالم عن أبيه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، ويهل أهل الشام من الجحفة، ويهل أهل نجد من قرن.
قال ابن عمر رضي الله عنهما: وذكر لي ولم أسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ويهل أهل اليمن من يلملم)].(24/12)
شرح حديث جابر بن عبد الله في المواقيت
وأما الحديث الأخير في الباب بعد حديث ابن عباس وحديث ابن عمر فهو حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما.
قال: [حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا روح بن عبادة حدثنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير: (أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يسأل عن المهل؟ -أي: عن أماكن الإهلال، أي: الإحرام- فقال سمعت: ثم انتهى فقال: أراه يعني النبي صلى الله عليه وسلم)]، يعني: أن أبا الزبير شك، هل رفع جابر إلى النبي صلى الله عليه وسلم أم لا.
قال: [وحدثني محمد بن حاتم وعبد بن حميد كلاهما عن محمد بن بكر - وهو البرساني - قال عبد: أخبرنا محمد أخبرنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يسأل عن المهل؟ فقال: سمعت أحسبه رفع إلى النبي عليه السلام -يعني: أظنه رفع الحديث- فقال: مهل أهل المدينة من ذي الحليفة، والطريق الآخر الجحفة)] يعني: مهل أهل المدينة من جهة الشرق ذو الحليفة، ومقابله الجحفة لأهل الشام.
[(ومهل أهل العراق من ذات عرق، ومهل أهل نجد من قرن، ومهل أهل اليمن من يلملم)].
وذو الحليفة هي أبعد المواقيت من مكة، وبينها وبين مكة نحو عشر مراحل أو تسع، وهي قريبة من المدينة على نحو ستة أميال.
والجحفة ميقات لأهل الشام ولأهل مصر، قيل: سميت بذلك لأن السيل أجحفها في وقت، يعني: أخذها في طريقه، وهي الآن خربة، والعامرة بجوارها وقبلها بشيء يسير هي رابغ، ويقال للجحفة مهيعة، وهي على نحو ثلاث مراحل من مكة على طريق المدينة.
وأما يلملم فهو جبل من جبال تهامة على مرحلة من مكة.
وأما قرن المنازل فهو بإسكان الراء بلا خلاف بين أهل العلم من أهل الحديث واللغة والتاريخ والأسماء، وغلط الجوهري في صحاحه غلطاً فاحشاً فقال: بفتح الراء، وهو خطأ، وهو أقرب المواقيت إلى مكة.
وأما ذات عرق بكسر العين ميقات أهل العراق، واختلف العلماء هل وقته لهم النبي صلى الله عليه وسلم أم وقته عمر بن الخطاب باجتهاده؟ وأما تضعيف بعضهم لهذه الرواية على اعتبار أن العراق لم تفتح فقد رددنا عليه، وذكرنا أنه عليه الصلاة والسلام وقت لأهل الشام الجحفة في جميع الأحاديث الصحيحة بلا خلاف، ومعلوم أن الشام لم تفتح في زمانه عليه الصلاة والسلام، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة عنه عليه الصلاة والسلام أنه أخبر بفتح الشام واليمن والعراق، فلا مانع أن يحدد لهذه البلاد المواقيت، وقد حدد المواقيت لأهل اليمن ولأهل الشام بلا خلاف، فما المانع أن يحدده لأهل العراق؟ وهو صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه زويت له مشارق الأرض ومغاربها، وقال: (سيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها).
وهذه من الكرامات التي وقعت للنبي عليه الصلاة والسلام، فقد زويت له الأرض كلها كأنها في قطعة قماش فرآها كلها، ورأى مشارق الأرض ومغاربها، وأطلعه الله عز وجل وبشره بكل بقعة من الأرض تفتح له، فقال: (وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها)، (وأنهم سيفتحون مصر وهي أرض يذكر فيها القيراط)، (وأن عيسى عليه السلام ينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق).
وهذه الأحاديث صحيحة، وهناك غيرها في الصحيح مما يطول ذكره.(24/13)
كلام النووي في أحاديث مواقيت الحج والعمرة(24/14)
حكم الإحرام من الميقات
قال النووي رحمه الله: (وأجمع العلماء على أن هذه المواقيت مشروعة).
والمشروع عبارة عن المستحب أو الواجب، ومن فقه الإمام النووي ودقته أنه قال: إجماع العلماء منعقد على مشروعية هذه المواقيت، ولما وقع الخلاف بينهم في الاستحباب والوجوب لم يذكره، وإنما ذكر أن الإجماع انعقد على مشروعية هذه المواقيت، فقال: (وأجمع العلماء على أن هذه المواقيت مشروعة.
ثم قال مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد والجمهور: هي واجبة، لو تركها وأحرم بعد مجاوزتها أثم ولزمه دم وصح حجه).
يصح عند الجمهور وفيه فداء، فمثلاً الذي يمر برابغ وهو يريد أداء النسك، ثم فوجئ بأن الطائرة قد نزلت في مطار جدة وهو لم يحرم فقد اختلف فيه العلماء، فإما أن يرجع إلى الميقات ويحرم منه، وإما أنه يحرم من المكان الذي نزل فيه وعليه دم، يعني: يذبح شاة، وقد لزمه الإثم.
والإثم يلحق المتعمد، ولا يرفع عنه الإثم إلا التوبة، ومع هذا يلزمه دم، فيذبح شاة لفقراء الحرم وحينئذ يصح حجه أو عمرته.
قال: (وقال عطاء والنخعي: لا شيء عليه) ولكن هذا الكلام محمول على من ترك الميقات ناسياً أو مخطئاً حتى أكمل حجه.
قال: (وقال سعيد بن جبير: لا يصح حجه)؛ لأنه ترك الميقات متعمداً.
والأخذ بقول الجمهور فيه النجاة والعصمة.
فـ عطاء والنخعي قالا: لا شيء عليه، يعني: يحرم من أي مكان، وهذا القول مردود لو كان عامداً، وأما إذا كان ساهياً فلا شيء عليه؛ لأن المخطئ والناسي لا شيء عليهما في الشرع، وعلى هذا لو أن شخصاً نام في الطائرة أو في الباخرة ولم يستيقظ إلا في جدة ولم يحرم من الميقات فإنه لا حرج عليه حينئذ؛ لأنه لا يستوي الناسي أو النائم مع المتعمد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ورفع القلم عن النائم حتى يستيقظ)، وأما سعيد بن جبير فقوله شديد جداً، هو أقوى الأقوال.
قال: (وفائدة المواقيت: أن من أراد حجاً أو عمرة حرم عليه مجاوزتها بغير إحرام ولزمه الدم كما ذكرنا.
قال الشافعية: فإن عاد إلى الميقات قبل التلبس بنسك سقط عنه الدم، وفي المراد بهذا النسك خلاف منتشر).(24/15)
حكم الإحرام لمن دخل مكة غير ناوٍ للحج أو العمرة
قال: (وأما من لا يريد حجاً ولا عمرة فلا يلزمه الإحرام لدخول مكة على الصحيح من مذهبنا، سواء دخل لحاجة تتكرر كحطاب وحشاش وصياد ونحوهم، أو لا تتكرر كتجارة وزيارة ونحوهما.
وللشافعي قول ضعيف: أنه يجب الإحرام بحج أو عمرة إن دخل مكة أو غيرها من الحرم لما يتكرر بشرط سبق بيانه.
والراجح.
أما من دخل مكة وهو لا ينوي نسكاً أنه لا يلزمه الإحرام).(24/16)
حكم من تجاوز الميقات غير مريد للحج أو العمرة ثم نواهما أو أحدهما بعد مجاوزة الميقات
قال: (وأما من مر بالميقات غير مريد دخول الحرم بل لحاجة دونه)، أي: أنه لن يصل إلى الحرم، وإنما إلى قبله.
قال: (ثم بدا له أن يحرم فيحرم من موضعه الذي بدا له فيه).
وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام هنا: (ومن كان دون ذلك -أي: دون هذه المواقيت- فمن حيث أنشأ) أي: من حيث نوى، ولا يلزمه أن يرجع إلى الميقات الذي مر عليه؛ لأنه لم ينو نسكاً في وقت المرور عليه، ولا بد أن يحرم فوراً منذ أن عقد نيته على الإحرام، ولو سار بغير إحرام مع عقد النية فيأخذ حكم من مر من الميقات دون إحرام.
قال: (فإن جاوزه بلا إحرام ثم أحرم أثم ولزمه الدم، وإن أحرم من الموضع الذي بدا له أجزأه ولا دم عليه)، يعني: لا يلزمه أن يرجع إلى الميقات ولا دم عليه.
قال: (ولا يكلف الرجوع إلى الميقات.
وقال: الإمام أحمد وإسحاق: يلزمه الرجوع إلى الميقات).
والأخذ بالأيسر أيسر للناس.(24/17)
ميقات أهل مكة للحج والعمرة
وميقات أهل مكة لا بد أن نميز فيه بين نسكين، فالذي يريد أن يؤدي عمرة يلزمه أن يخرج إلى الحل خارج مكة، ومكة كلها حرم، يعني: كلها لها حرمة، ولذلك سميت حرماً، وقد اعتاد الناس أن يخرجوا للعمرة من التنعيم كما هو مذكور في حديث عائشة، وعرفة حل، وقل من يحرم منها إلا الإخوة طلاب العلم الذين يعرفون أن عرفة حل، وعرفة ليست كلها حل، وإنما: نصفها فقط.
والذي يريد الحج من أهل مكة يحرم من بيته، ويلبس ملابس الإحرام وينطلق إلى النسك والحج، فيسن لأهل مكة في يوم التروية أن يلبسوا ملابس الإحرام من بيوتهم والخروج منها مباشرة إلى منى دون المرور بالحرم، وبعض أهل العلم استحب لأهل مكة إذا أرادوا الإحرام أن يذهبوا إلى الحرم ويحرموا منه، والراجح الأول.
يقول هنا في قوله: [(فمن كان دونهن فمن أهله، وكذا فكذلك، حتى أهل مكة يهلون منها) يقول: ومعناه وهكذا، فهكذا من جاوز مسكنه الميقات حتى أهل مكة يهلون منها.
وأجمع العلماء على هذا كله، فمن كان في مكة من أهلها أو وارداً إليها وأراد الإحرام بالحج فميقاته نفس مكة، ولا يجوز له ترك مكة والإحرام بالحج من خارجها -يعني: ليس له أن يذهب إلى ميقاته- سواء الحرم والحل، هذا هو الصحيح عند أصحابنا.
وقال بعض أصحابنا: يجوز له أن يحرم به من الحرم كما يجوز من مكة؛ لأن حكم الحرم حكم مكة، والصحيح الأول لهذا الحديث.
قال أصحابنا: ويجوز أن يحرم من جميع نواحي مكة بحيث لا يخرج عن نفس المدينة وسورها، وفي الأفضل قولان أصحهما: من باب داره -يعني: يحرم من باب داره- والثاني: من المسجد الحرام تحت الميزاب -ولا دليل عليه- وهذا كله في إحرام المكي بالحج، والحديث إنما هو في إحرامه بالحج.
وأما ميقات المكي للعمرة فأدنى الحل)، أي: من كان مقيماً بمكة أو من أهلها ميقاته المكاني للعمرة أدنى الحل، يعني: في أول الحل، وليس لازماً أن يكون من التنعيم.
قال: (لحديث عائشة الآتي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها في العمرة أن تخرج إلى التنعيم وتحرم بالعمرة منه).
والتنعيم في طرف الحل.
والله تعالى أعلم).(24/18)
ميقات أهل العراق ومن مر عليها
قال: (قوله حديث جابر: (ومهل أهل العراق من ذات عرق)، هذا صريح في كونه ميقات أهل العراق، لكن ليس رفع الحديث ثابتاً كما سبق، وقد سبق الإجماع على أن ذات عرق ميقات أهل العراق ومن في معناهم -فميقات أهل العراق ثابت بالنص الموقوف والإجماع- قال الشافعي: ولو أهلوا من العقيق كان أفضل -والعقيق مكان قبل ذات عرق بقليل جداً، كما أن رابغ قبل الجحفة - والعقيق أبعد من ذات عرق بقليل، فاستحبه الشافعي لأثر فيه، ولأنه قيل: إن ذات عرق كانت أولاً في موضعه، ثم حولت وقربت إلى مكة.
والله أعلم).(24/19)
الميقات الزماني للحج والعمرة
قال: (واعلم أن للحج ميقات مكان، وهو ما سبق في هذه الأحاديث، وميقات زمان -يعني: الحج له ميقات زماني وميقات مكاني، وكذلك العمرة- وهو شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة، ولا يجوز الإحرام بالحج في غير هذا الزمان.
هذا مذهب الشافعي.
ولو أحرم بالحج في غير هذا الزمان لم ينعقد حجاً وانعقد عمرة.
وأما العمرة فيجوز الإحرام بها وفعلها في جميع أيام السنة، ولا يكره في شيء منها، لكن شرطها ألا يكون في الحج، ولا مقيماً على شيء من أفعاله -يعني: لا يدخل هذه مع ذاك في نسك واحد).
والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم.(24/20)
الأسئلة(24/21)
حكم إفراد يوم السبت بالصيام
السؤال
جاء في الحديث (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، وإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنب أو عود شجر فليمضغه)، فإذا صادف يوم السبت يوم عرفة وعاشوراء فهل نصومه؟ وإذا صمت يوم الجمعة فهل علي أن أصوم يوم السبت إذا لم أكن قد صمت الخميس؟
الجواب
نعم.
وحديث: (لا تصوموا السبت إلا فيما افترض عليكم) حديث صحيح، وهو عام في النهي عن صيام السبت مطلقاً، وقال: جماهير العلماء قديماً وحديثاً بجواز صيام السبت إذا صمت يوماً قبله أو يوماً بعده، والنهي الوارد في الحديث وإن كان عاماً إلا أنه مخصوص بالإفراد، لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تصوموا الجمعة إلا أن تصوموا يوماً قبله - الذي هو الخميس - أو يوماً بعده).
فمن صام الجمعة مفردة ولم يصم معها يوماً قبلها أو بعدها فهو مكروه، وكذلك من صام السبت مفرداً.
وأما من جمع إلى الجمعة يوماً قبلها أو بعدها فلا شيء عليه في ذلك، وكذلك السبت.
والله تعالى أعلم.
ولكن لو كان يوم عرفة يوم سبت فإن كان بإمكانك أن تجمع إليه الجمعة فلا شك أن هذا حسن وخروج من الخلاف، وإن لم يكن الجمع فلا بأس بالصيام، وإذا وافق يوم من هذه الأيام المنهي عنها يوماً مخصوصاً بالفضل فلا بأس بصيامه، وفي ذلك أثر وإن كان ضعيفاً، وذكره الشيخ سيد سابق في كتاب فقه السنة، ولكن عمل العلماء على جواز هذا في الأيام الفاضلة، ولتخصيص يوم عرفة بمغفرة الذنوب السابقة لعام واللاحقة لعام، والله أعلم.
وجاء في حديث أم سلمة: (كان النبي عليه الصلاة والسلام يصوم يوم السبت والأحد أكثر مما يصوم من الأيام، ويقول: إنهما عيد المشركين فأنا أحب أن أخالفهم).
وهذا حديث حسن أيضاً.(24/22)
حكم إدخال مني الرجل إلى رحم زوجته بواسطة الحقن
السؤال
ما حكم الإسلام في أخذ السائل المنوي من الرجل ووضعه في رحم المرأة بواسطة الحقن؟
الجواب
لا بأس بذلك بشرط أمانة الطبيب.
وهناك مراكز كثيرة جداً تقوم بهذه العمليات، وتخون في وضع النطفة من باب إثبات النجاح وسمعة المراكز وغيرها، فإذا كان الطبيب صاحب دين ومأمون على أخذ النطفة من الزوج ووضعها في رحم الزوجة فلا بأس بذلك.
فجواز هذا وعدمه متوقف على أمانة الطبيب.(24/23)
الحكم على حديث: (بارك الله في التجارة والنجارة)
السؤال
هل هناك حديث يقول: (بارك الله في التجارة والنجارة)؟
الجواب
لا.(24/24)
حكم الصناديق التعاونية التي تستثمر أموالها في البنوك
السؤال
ما حكم صندوق التكافل الموجود في المصالح الحكومية والذي يعطي مكافأة نهاية الخدمة، مع العلم بأن أموال هذا الصندوق تستثمر في البنوك؟
الجواب
اسأل الشيخ صفوت نور الدين فهو أدرى الناس تقريباً بهذه الصناديق.(24/25)
فضل لزوم المرأة بيتها
السؤال
ما جزاء التزام المرأة الجلوس في بيتها؟
الجواب
جزاها الله خيراً، فهذا عمل صالح.(24/26)
حكم خروج المرأة صلة لرحمها
السؤال
ما حكم خروج المرأة لصلة رحمها بمفردها أو مع زوجها؟
الجواب
إذا خرجت بإذن الزوج لصلة رحمها الذي لا يستدعي سفراً فلا شيء عليها، ولا يحل لها أن تخرج بغير إذن الزوج، وإن خرجت مع زوجها فهو أفضل.(24/27)
حكم جلوس المرأة مع عمها
السؤال
ما حكم دراسة الفتاة البالغة عند عمها شقيق أبيها دروساً خصوصية؟
الجواب
إذا كان المدرس هو عمها فهو بمنزلة الوالد، وهو محرم، فلا يلزم من ذلك وجود محرم.(24/28)
حكم الائتمام بالإمام الذي يصلي العشاء إذا كان المأموم لم يصل المغرب
السؤال
دخلت المسجد والإمام يصلي العشاء وقد أنهى الركعة الأولى وبقيت ثلاث ركعات، وأنا لم أصل المغرب، فدخلت خلف الإمام بنية أن أصلي المغرب، فصليت مع الإمام الثلاث ركعات الباقية بنية المغرب، فهل صلاتي جائزة أم أعيد صلاة المغرب؟
الجواب
لا تعد، وصلاتك مخالفة للأولى، فقد كان الأولى أن تصلي مع الإمام صلاته التي يصليها ثم تأتي بما فاتك من غير إعادة لما أدركت مع الإمام.
فلو جئت والإمام يصلي العشاء فصل معه العشاء، ثم صل المغرب بعد ذلك، وأما إعادة العشاء فمحل خلاف بين أهل العلم، والراجح أنه لا يلزم إعادتها؛ لأنه لا فرض في يوم مرتين.(24/29)
معنى دبر الصلاة وذكر بعض الأدعية التي تكون بعد الصلاة
السؤال
هل الدعاء دبر الصلوات بعد انتهاء الصلاة أم قبلها؟
الجواب
بعد الفراغ من الصلاة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا فرغ من صلاته: (اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، تباركت وتعاليت).
وكان يقول بعد صلاتي الفجر والمغرب: (اللهم إني أسألك علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، ورزقاً حلالاً طيباً متقبلاً).
وغيرها من الأدعية، فكلها كان يقولها عليه الصلاة والسلام بعد الفراغ من الصلاة.(24/30)
من ضوابط التكفير والاختلاف السائغ
السؤال
سمعنا كثيراً أن المقياس في التكفير هو الاستحلال، كما في تفسير السعدي وكتاب فتنة التكفير للألباني، ولم نسمع عن التفريق بين التشريع العام والتشريع الخاص؟
الجواب
من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله كان مسلماً، ولو قال بقول رشاد خليفة وأحمد صبحي منصور فلا.
فـ رشاد خليفة ادعى النبوة في أمريكا وكان سكرتير أحمد صبحي منصور، وأحمد صبحي منصور قلب الفرائض والأركان ولم يؤمن بحديث واحد من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما آمن بالقرآن فقط بزعمه.
وقال: قرأت القرآن من أوله إلى آخره فلم أجد فيه إلا خطأين اثنين.
وقد اختلف الصحابة في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه عز وجل، وهذه المسألة من مسائل الاعتقاد، وفيها خلاف، ولكنهم لم يختلفوا في أصول الاعتقاد وإنما في فروعه، وأما أصول الاعتقاد فلم يحصل فيها خلاف بين السلف، وهذا أمر معلوم مستقر.
وقد وقع النزاع الآن في هذه المسألة، والخلاف إن كان مبنياً على الدليل فهو اختلاف أفهام في النص فيكون راجحاً ومرجوحاً، وإن كان غير مبني على دليل فخطأ وصواب، أو صح وغلط.
فخلاف أهل العلم في هذه القضية لا يضرك.
وأنت إذا نظرت في أدلة جواز كشف الوجه وأدلة عدم كشفه وترجح لديك وجوب الستر ثم أمرت النساء بكشف وجوههن فإنك تأثم؛ لأنك اعتقدت اعتقاداً جازماً أن الأدلة تنهض لوجوب الستر، ولو اعتقدت ديناً لله عز وجل أن الستر جائز؛ لأن الأدلة لا تنهض على الوجوب فإنك لا تأثم بالكشف.
فالراجح في حقك هو دين تتعبد به الله عز وجل.
وأنت إذا كنت جاهلاً كما تقول عن نفسك فالفرض في حقك أن تقلد من تثق في دينه، وليس عيباً، وإنما العيب أن يأتي الجاهل ويقول: إن العلماء فرقوا بين التشريع العام والتشريع الخاص، هذا ليس أسلوباً أدبياً.(24/31)
شرح صحيح مسلم - كتاب الحج - التلبية وصفتها ووقتها
يشرع للحاج والمعتمر إذا بلغ الميقات أن يغتسل ويتطيب ثم يلبس لباس الإحرام، وإن وافق صلاة فريضة صلاها، فإذا ركب دابته واستوت به لبى بحجه أو عمرته، والرجل يرفع بها صوته دون المرأة، ولا تنقطع التلبية حتى يشرع في أعمال الحج والعمرة، ولا يمنع منها حائض ولا نفساء ولا جنب ولا من دونهم من أصحاب الحدث.(25/1)
مقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
ثم أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة.
أما بعد: فالذي يريد أداء النسك يجب عليه أن يعقد نية خالصة لله عز وجل؛ لأن الإخلاص سر قبول العمل، كما أن استقامة العمل هي سر قبوله كذلك، فإذا كان العمل صالحاً على نهج النبوة فإنه لا يقبل حتى يكون خالصاً لله عز وجل، وإذا كان خالصاً لله وليس على نهج النبوة فإنه لا يقبل حتى يكون خالصاً وسائراً على منهاج النبوة.
فالذي يريد أن يؤدي نسكاً لله عز وجل أو أي عبادة لله لابد أن ينوي نية صالحة صادقة خالصة؛ لأن العبادة مصروفة لله عز وجل لا لأحد سواه، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يسأل ربه الإخلاص في أقواله وأفعاله، وفي الحج كان يقول: (اللهم إني أسألك حجة لا رياء فيها ولا سمعة).
وقال عليه الصلاة والسلام: (من راءى راءى الله به -أي: فضحه على رءوس الأشهاد يوم القيامة- ومن سمع سمع الله به)، وهذا في جميع الأعمال التي هي مصروفة لله عز وجل، فإذا صرفها العبد لغير الله حوسب عليها وفضح على رءوس الأشهاد.
ثم إذا جمع نية صالحة يستحب له أن يخرج من بيته لأداء النسك يوم الخميس، وبذلك جاءت الرواية الصحيحة عند البخاري وغيره: (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا سافر خرج يوم الخميس)، والحج سفر؛ بل هو من أعظم السفر.
وقرر ذلك الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله قال: يستحب السفر للحج يوم الخميس، إذا كان في إمكانه، وإلا ففي أي يوم يجوز أن يخرج للحج.
ثم لابد أن يعرف الحاج ما يحل له وما يحرم، وما يبطل نسكه وما يفسده، وما لو قصر في واجب وجب عليه الدم، لابد أن يعرف كل ذلك.
وفي الدروس الماضية علمنا أن الحاج إذا أخلص النية لله ثم بدأ في السفر وبلغ الميقات المكاني وأحرم بالحج أو بالعمرة يحرم عليه الطيب بعد ذلك، سواء كان في ثوبه أو في بدنه كما يحرم عليه الجماع، وأن الجماع يفسد ويبطل هذا النسك، ويحرم عليه لبس المخيط على قدر العضو سواء كان قميصاً أو بنطالاً أو سروالاً، إلا ألا يجد إزاراً فيلبس السروال حتى يتمكن من لبس الإزار، ولا يلبس البرنس ولا العمامة.
والمرأة إنما تحرم في ثيابها التي تلبسها، غير أنه يحرم عليها أن تنتقب في حال إحرامها؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تنتقب المرأة المحرمة)، وهذا نهي أفاد التحريم.
وقول عائشة رضي الله عنها: كنا نكشف وجوهنا حتى إذا مر بنا الركبان من الرجال أسدلنا على وجوهنا، فالذي يباح للمرأة في إحرامها الإسدال لا النقاب، والإسدال: هو أن تطرح المرأة على رأسها شيئاً من قماش، ولا تعصبه عصباً، ولا تربطه كما تربط النقاب، وتكشف وجهها، فإذا أقبل إليها الرجال أو كانت في جمع فيهم رجال فيسن لها أن تطرح هذا القماش على وجهها دون أن تشده أو أن تربطه.
وتكلمنا عن الميقات، والميقات نوعان: زمني، وهو للعمرة في جميع أيام السنة، وللحج في أشهر الحج، وهي: شوال، وذو القعدة، والعشر الأوائل من ذي الحجة، كما اتفقنا على ذلك وهذا مذهب الجماهير، وبعضهم قال: بل ذو الحجة شهر للحج كله من أوله إلى آخره، وبينا تفصيل ذلك في الدرس الماضي.
أما المواقيت المكانية: فهي: يلملم لأهل اليمن، وذو الحليفة لأهل المدينة، والجحفة لأهل الشام والمغرب، وذات عرق لأهل العراق، وقرن المنازل لأهل نجد، هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن أراد الحج والعمرة، وبينا أنه لا يحل لأحد يريد النسك أن يعبر هذه المواقيت دون أن يحرم، فإذا جاوزها بغير إحرام اختلف أهل العلم في كفارة ذلك: هل يلزمه أن يرجع إلى الميقات ويحرم منه، أم يكفيه أن يتوب إلى الله عز وجل ويفدي بدمٍ يعني: يذبح شاة لفقراء الحرم، ويستمر في إحرامه وأداء نسكه؟(25/2)
باب التلبية وصفتها ووقتها
والترتيب البديع الذي سار عليه الإمام مسلم، هو أنه تكلم أولاً فيما يحل وما يحرم للمحرم قبل أن يخرج من بيته، ثم إذا خرج ذهب إلى الميقات، فتكلم عن الميقات بعد أن تكلم عن المحرمات والمنهيات، ثم إذا ذهب المتنسك إلى الميقات وقف عنده حتى يحرم ويلبي؛ لأن الإحرام والتلبية قرينان، ولذلك أعقب الكلام عن المواقيت بكلام عما يلزم الحاج منذ أن يحرم من الميقات، ولذلك قال: باب التلبية وصفتها ووقتها.
والتلبية تبدأ من الميقات، فلازلنا مع الإمام مسلم وكذا الإمام النووي من الدرس الماضي في الميقات، وما الذي يلزمني -كرجل أراد نسكاً أو امرأة- في الميقات، فقال: التلبية بعد الإحرام: فالتلبية ليست قبل الإحرام وإنما هي بعد الإحرام، والإحرام لا يكون إلا من الميقات، فإذا أحرمت وأنت في الميقات المكاني، فإنما تعقب الإحرام التلبية، ولذلك لم يتكلم هنا عن الإحرام على افتراض أنه أمر بدهي معروف، وأن التلبية لا تكون إلا من بعده.(25/3)
شرح حديث ابن عمر في صفة تلبية النبي
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن يحيى التميمي قال: قرأت على مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)]، النبي عليه الصلاة والسلام لم يثبت عنه أنه لبى بغير هذه الكلمات، فمن أراد أن يتمسك بهذا فلا شك أنه تمسك بالأصل، وهو قوله المرفوع إليه عليه الصلاة والسلام وفعله كذلك؛ لأنه أمر بذلك.
قال نافع: [وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يزيد فيها -أي: يزيد في التلبية- وهي قوله: (لبيك لبيك وسعديك، والخير بيديك، لبيك والرغباء إليك والعمل)]، وهذا مسنون وجائز، فإن فعلته فهو جائز مشروع، ولا حرج عليك ألا تفعله، وتتمسك بتلبية النبي عليه الصلاة والسلام، ولا بأس أن تجمع هذه التلبية إلى تلبيته عليه الصلاة والسلام.
قال: [حدثنا محمد بن عباد -وهو ابن الزبرقان المكي نزيل بغداد- قال: حدثنا حاتم -وهو ابن إسماعيل المدني أبو إسماعيل وأصله من الكوفة- عن موسى بن عقبة -وهو الإمام الكبير الفقيه بالمغازي صاحب السير، وهو أسدي مولى آل الزبير- عن سالم بن عبد الله بن عمر -وهو سالم المدني، ابن الصحابي الجليل عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما- ونافع مولى عبد الله بن عمر وحمزة بن عبد الله] أي: حمزة بن عبد الله بن عمر.
إذاً: سالم وأخوه حمزة والمولى نافع جميعاً يروون عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
قال: [(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوت به راحلته قائمة عند مسجد ذي الحليفة)]، يعني: قامت ونهضت من بروكها، وذلك عند مسجد ذي الحليفة، ميقات أهل المدينة، فهذا يدلنا على أن النبي عليه الصلاة والسلام ما كان يحرم ولا يلبي إلا بعد أن تقوم به راحلته وتستوي تماماً، حينئذٍ يقول: (لبيك اللهم حجة، لبيك اللهم عمرة، ثم يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)؛ وهذا يعمل به كثير من الناس، وبه قال أهل العلم، لكن الراجح ما فعله النبي عليه الصلاة والسلام أنه ما كان يحرم بالنسك إلا بعد أن يدخل المسجد فيصلي فيه ثم ينطلق فيركب الراحلة من أمام المسجد ثم يحرم ويلبي بعد ذلك.
كثير من الناس يدخلون مسجد ذي الحليفة أو في أي مسجد من مساجد المواقيت فيغتسلون ثم يصلون ركعتين، أو يصلون الفرض إذا وافق فرضاً، ثم بعد التسليم مباشرة يهلون ويحرمون فيقولون: لبيك اللهم عمرة، أو لبيك اللهم حجة، وهذا وإن كان جائزاً لكنه خلاف الأولى، والأولى هو فعله عليه الصلاة والسلام، حيث كان يصلي ثم يخرج من المسجد ويركب الراحلة ثم يأمرها بالقيام فتقوم، حتى إذا استوت قال: لبيك اللهم عمرة أو حجة، أو يجمع بينهما؛ لأنه عليه الصلاة والسلام اعتمر أربع مرات، وحج مرة واحدة، وكان حجه قراناً يعني: قرن بين العمرة والحج، وساق الهدي من ميقات ذي الحليفة وأدخله معه منى.
قال: [(إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوت به راحلته قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل -يعني: بعد أن تستوي تماماً يحرم- فقال: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك).
قال: [قالوا -أي: حمزة ونافع وسالم - وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: هذه تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم].
يعني: هذه الكلمات الماضية أو السالفة هي التي لبى بها النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [قال نافع: وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يزيد مع هذه الكلمات: لبيك وسعديك، والخير بيديك، لبيك والرغباء إليك والعمل.
وحدثنا محمد بن المثنى وهو العنزي أبو موسى البصري المعروف بـ الزمن، قال: حدثنا يحيى بن سعيد وهو الأنصاري عن عبيد الله وهو العمري أخبرني نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: تلقفت]-يعني: أخذت الشيء بسرعة-.
التلقف بخلاف الأخذ، التلقف فيه شيء من الخطف والسرعة.
قال: [تلقفت التلبية من في رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني: أخذتها أخذاً سريعاً- فذكر بمثل حديثهم.
وحدثني حرملة بن يحيى التجيبي المصري قال: أخبرنا ابن وهب وهو عبد الله أخبرني يونس وهو(25/4)
حكم الزيادة في التلبية التي أثبتها ابن عمر عن أبيه
وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يهل بإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم بهؤلاء الكلمات، ويقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك وسعديك، والخير في يديك، لبيك والرغباء إليك والعمل.
إذاً: هذه الزيادة التي زيدت في التلبية، إنما هي من عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعمر هذا من الخلفاء الراشدين، بل هو أعظم رجل في الدولة بعد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فهو الرجل الثالث في الأمة، والنبي عليه الصلاة والسلام أمرنا بالاقتداء بالخلفاء الراشدين، فـ عمر لم يكن قد ابتدع في دين الله عز وجل، فإن العبادات توقيفية، وهذا وقف على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعمر ممن أمرنا بالاستنان بسنته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض بن سارية يقول: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين).
أهل العلم يقولون: الاستنان بسنة الخلفاء الراشدين جميعاً لازمة كلزوم الكتاب والسنة، بمعنى: لو أجمع الخلفاء الأربعة على أمر لصار أمراً لازماً واجباً في حق الأمة كأي نص في كتاب الله أو في سنة النبي عليه الصلاة والسلام، هذا في حال اجتماع الخلفاء الراشدين على أمر، أما إذا انفرد أحدهم بأمر يتعلق بدين الله عز وجل فإن لم يعلم له مخالف ولم ينكر عليه أحد من الصحابة سواء كان من الخلفاء أو من غيرهم لكان كالإجماع، ولم نجد من الصحابة من خالف عمر بن الخطاب أو أنكر عليه في هذه الزيادة، بل وجدنا من يوافقه على ذلك وهو ولده عبد الله، وعبد الله من صغار الصحابة رضي الله عنه، لكنه من أشد الصحابة التزاماً واتباعاً للسنة، ولولا علمه بجواز هذه الزيادة وأنها مستحبة؛ لأنها صادرة من خليفة من الخلفاء الراشدين المهديين المرضيين عند ربهم المبشرين بالجنة، ولا مخالف له من كبار الصحابة فكان كالإجماع.
فلما علم عبد الله بن عمر أن هذا دين الله عز وجل التزمه وزاد فيه، ولو وقع في قلب عبد الله بن عمر أدنى شك أن هذه الزيادة لا تجوز، وأنها ليست من قول النبي عليه الصلاة والسلام ما قالها، حتى ولو كان القائل بها أباه.
وعمر بن الخطاب كان يهل بإهلال الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم يزيد هذه الزيادة ويقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك وسعديك، والخير في يديك لبيك والرغباء إليك والعمل.(25/5)
شرح حديث ابن عباس في تلبية المشركين في الجاهلية
قال: [وحدثني عباس بن عبد العظيم العنبري حدثنا النضر بن محمد اليمامي وهو أبو محمد مولى بني أمية حدثنا عكرمة بن عمار حدثنا أبو زميل وهو سماك بن الوليد الحنفي اليمامي ثم الكوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان المشركون يحجون ويعتمرون]، لكن على نظام الوثنية، فكانوا يقولون في طوافهم: لبيك لا شريك لك، ولكنهم كانوا بعد ذلك يشركون في تلبيتهم فيقولون: لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك، يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت.
فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يسمع تلبيتهم، فكان إذا سمع قولهم: لبيك لا شريك لك، كان يستوقفهم ويقول: (ويلكم قد قد)، يعني: حسبكم هذا، ولا تزيدوا عليه، كان يأمرهم بأن يقفوا عند التوحيد، وينهاهم عما دون التوحيد وهو الشرك؛ لأنهم يقولون: لبيك لا شريك لك، وهذا كلام جميل وعظيم ويتفقون معنا فيه، أما زيادتهم الشركية فيقولون: إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك، يعني: لبيك يا رب ومن اتخذناهم شركاء ومن اتخذناهم آلهة، لأن هذه الآلهة شركاء لك وأنت تملكهم وما يملكون، لكنه في عمومه شرك؛ لأن التلبية من أعظم أعمال الحج، فلابد من صرفها لله عز وجل فحسب، وإذا صرفت لغيره من المخلوقات فهو من أعظم الشرك.
ولذلك (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمعهم يقولون: لبيك لا شريك لك، يقول: ويلكم قد قد)، يعني: حسبكم ويكفيكم هذا ولا تزيدوا عليه من قولكم الشركي: إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك.(25/6)
مفهوم تثنية (لبيك) في التلبية
قال القاضي: قال المازري: التلبية مثناة للتكثير والمبالغة، يعني: لبيك اللهم لبيك، وثنى لبيك للتكثير والمبالغة في الاستجابة والطاعة والانقياد والذل والخضوع لله عز وجل، فلبيك الثانية ليست تأكيداً للأولى؛ لأنه أتى منقاداً ومذعناً خاضعاً ذليلاً لله عز وجل فلا يحتاج إلى تأكيد، وإنما التكرار هنا والتثنية لأجل التكثير والمبالغة.
ومعناه: إجابة بعد إجابة، وأول من لبى أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، لما أمره الله عز وجل بقوله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27]، قال: لبيك اللهم لبيك، فهو أول من لبى لما بنى قواعد البيت الحرام هو وابنه إسماعيل؛ حيث أمر بعد هذا البناء بأن ينادي في الناس ويعلمهم في هذه الأرض الصحراء الجرداء، ومع هذا فإن الله تبارك وتعالى بلغ صوته ونداءه وأذانه للعالمين جميعاً في ذلك الزمن.
قال: إجابة بعد إجابة، وهذا يوافق ما ذكرناه عن إبراهيم لما أمر بالأذان أطاع وقال: لبيك، ولذلك يستحب لمن نودي عليه أن يقول: لبيك فلان، وليس في هذا نوع تحرج، فإذا نادى عليك منادٍ لا بأس أن تقول: لبيك فلان، وهو أحسن من قولك: نعم، وأحسن من قولك: أجبتك، وإن كان كل هذا جائز.(25/7)
خطأ النووي في تأويله لليد في قوله تعالى: (بل يداه مبسوطتان)
قال: معنى لبيك: إجابة بعد إجابة ولزوم لطاعتك، فتثنى للتوكيد لا تثنية حقيقية، بمنزلة قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64].
قال الإمام النووي: أي: نعمتاه، وأنتم تعلمون في أثناء دروسنا لكتاب أصول الاعتقاد للإمام اللالكائي أن اليد الثابتة لله عز وجل لا يجوز صرفها عن ظاهرها، وهو معتقد أهل السنة والجماعة، لا يجوز صرف صفات الله عز وجل عن حقيقتها المرادة لله عز وجل اللائقة بعظمته وجلاله، فإذا قال سبحانه: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64]، إذاً: اليد هنا محمولة على حقيقتها ولا يجوز صرفها إلى غيرها من المعاني.
فاليد تأتي في لغة العرب أحياناً بمعنى: النعمة، تقول: فلان له يد على فلان، يعني: له فضل ومنة ونعمة وغير ذلك، لكن السياق هو الذي يحكم القضية، هذا فيما يتعلق بالخلق.
أما إذا كان الأمر متعلقاً بالخالق تبارك وتعالى فإن الصفات الواردة في الكتاب والسنة لابد من حملها على حقيقتها على المعنى اللائق بالله عز وجل.
ولذلك أخطأ النووي رحمه الله في تأويل هذه الآية، قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64]، أي: نعمتاه، مع أن الله تبارك وتعالى نعمه كثيرة لا يمكن أن نحصرها، قال الله تعالى عنها: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]، ولم يقل نعمَ الله؛ لأنها اسم جنس لجميع النعم.
فأراد الله عز وجل بهذه الآية بيان كثرة نعمه على الخلق، وأن المحصي لها والعاد لها إذا أراد أن يعدها فإنه لا يقدر على ذلك، ولا يمكن لأحد من الخلق أن يحصيها مهما بلغ عقله وذكاؤه.
قال: ((بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ))، على تأويل اليد بالنعمة هنا، ونعم الله تعالى لا تحصى.
وقال يونس بن حبيب البصري: لبيك اسم مفرد لا مثنى، قال: وألفه إنما انقلبت ياء لاتصالها بالضمير كلدي، وعلى مذهب سيبويه: أنه مثنى بدليل قلبها ياء مع المظهر، وأكثر الناس على ما قاله سيبويه.(25/8)
معنى التلبية
واختلف أهل العلم في معنى (لبيك) فقيل معناها: اتجاهي وقصدي إليك، يعني: أنا يا رب أقصدك بهذا النسك، أي: أتيت إليك قاصداً موجهاً ومولياً وجهي إليك.
(لبيك اللهم لبيك) أي: قصدتك يا رب بهذا النسك، مأخوذ من قولهم: داري تَلُبُّ دارك أي: تواجهها.
وقيل معناها: محبتي لك، مأخوذ من قولهم: امرأة لبة إذا كانت محبة لولدها عاطفة عليه.
وقيل معنى (لبيك اللهم) أي: إخلاصي إليك يا رب، مأخوذ من قولهم: حب لباب إذا كان خالصاً محضاً، ومن ذلك لب الطعام ولبابه، أي: قلبه وإخلاصه، ومحل الإخلاص هو القلب.
وقيل معناها: أنا مقيم على طاعتك وإجابتك، مأخوذ من قولهم: لب الرجل بالمكان وألب إذا أقام فيه.
فهذا الرجل الذي أراد النسك قائم من أول الإحرام حتى يتحلل على طاعة الله عز وجل، ولذلك ينهى المحرم عن التلبس بالمعاصي؛ لأنه القائل: لبيك اللهم لبيك، يعني: أنا مقيم على طاعتك، فالذي يقيم على الطاعة كيف تأتي منه المعصية وكيف يتلبس بالمعصية؟ وهو الذي وعد ربه بأنه قائم على طاعته، يعني: لا يأتي إلا طاعة ولا يفعل إلا معروفاً، فكيف تأتي منه المعصية في حال تلبيته وإحرامه؟ وهذا يبين قوله عليه الصلاة والسلام: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من حجه كيوم ولدته أمه)، والرفث والفسوق، إنما هما خروج عن حد التلبية، وخروج عن معنى التلبية.
والله تعالى يقول: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197]، الرفث: هو كل ما يتعلق بالكلام بين المرأة والرجل، فيما يتعلق بالجماع أو الفراش أو التلويح والتلميح بالخطبة وغير ذلك.
((وَلا فُسُوقَ))، يشمل المعاصي كبيرها وصغيرها.
((وَلا جِدَالَ))، أي: لا جدال في الباطل وبالباطل، أما الجدال بالتي هي أحسن وبالحكمة والموعظة الحسنة وبيان الحق إلى الخلق فكل هذا مباح في الحج، والذي نهينا عنه إنما هو الجدال بالباطل، أن يكون الإنسان مخاصماً لحوحاً مجادلاً بعلم وبغير علم، فهذا بلا شك ليس أمراً ممدوحاً ولا محموداً عموماً، وهو أكثر ذماً في الحج وفي حال التلبس بالإحرام، ولذلك فإن جهلاء مكة يستغلون هذا النص فيؤجرون بيوتهم ومنازلهم ومساكنهم للحجاج والمعتمرين وهم وفد الله عز وجل، فيقول المؤجر: إن هذه الغرفة لمدة عشرة أيام بخمسين ألف ريال أو بثلاثين ألف ريال، يعني الليلة بثلاثة آلاف ريال، مع أن أهل العلم لهم كلام في غاية الجودة والنفاسة، لكن من ذا الذي يستطيع أن يجهر به فضلاً أن يطالب به، فأهل العلم لهم كلام أن بيوت مكة لا تؤجر للحجيج، والحجيج إنما يدخلون هذه البيوت ويسكنونها بغير أجر، لكن من ذا الذي يصنع هذا الآن؟! فالقصور تبنى حول الحرم وتظل طيلة العام فارغة لا أحد يدخلها، وإنما يكتفون بتأجيرها لشهرين في العام؛ شهر رمضان وشهر ذي الحجة، وهذه البيوت إنما تحصل ثمنها على مدار عامين أو ثلاثة فقط، والباقي بعد ذلك ربح فاحش وعظيم، تصور أن الواحد يشقى في أداء النسك عدة مرات، يشقى في الحصول على تأشيرة، ثم يشقى في دفع ثمن التأشيرة مع أنها مجاناً، لكنها أحياناً تصل إلى بضعة آلاف وهي تصرف مجاناً، ويطبع في جواز السفر هذه التأشيرة منحت مجاناً، وهو كذب، إنما الذي أخذ منك الجواز حتى رجع إليك، ما وقع هذا الجواز في يد أحد إلا وأخذ مالاً، ابتداءً من صاحب المكتب وانتهاءً بالقنصل، هذه لم تمنح مجاناً، وإنما منحت بالرشاوي في الأغلب الأعم، إلا أن يكون هناك إنسان له وجاهة أو عنده مصلحة أو غير ذلك، فإنها تمنح له على مضض وبشق الأنفس مجاناً.
ثم تشقى مرة ثانية في السفر، وتشقى بالشيكات المزعومة، وهي كضرائب الحدود والمكوس، ثم تشقى بعد ذلك هناك بأنك تفاجأ أن كل ما مضى شيء وأنك توفر لك مسكناً أقل من المتواضع شيء آخر، وإن كان هذا كل ما يملك من الدنيا، على اعتبار أنه وصل بيت الله الحرام، ويتفاجأ بأن الليل لو دخل عليه هو يريد النوم والاستراحة فلا يستطيعه من الضجيج والزحام القاتل الذي في الحرم بحيث لا يجد الشخص له مكاناً ليقف فيه، الواحد لا يجد له ثلاثين سنتيمتر في ثلاثين سنتيمتر يقف فيه، ولابد من النوم، وإذا كنت لا تستطيع أن تقف في الحرم فكيف ستنام؟! لابد من مكان تنام فيه، وإلا ستنام في الشارع، الواحد عندما يذهب إلى الحج يصرف دم قلبه، فيصرف ثلاثين أو أربعين ألف جنيه لكي يحج، وهذا من العسر الشديد والعراقيل التي وضعت أمام من أراد أن يؤدي منسك الحج لله عز وجل، فكلها رحلة فيها شقاء وعذاب وضنك وصعوبات متعاقبة ومتلاحقة، ولذلك هذا يشعرنا بعظمة قوله عليه الصلاة والسلام: (رجع من حجه كيوم ولدته أمه) لأن هذه هي الهدية الكبرى، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (فهلموا نستأنف العمل)، إذا كان قيمة الحج في أنك ترجع كيوم ولدتك أمك، فالإنسان بعد أداء هذا النسك يراجع نفسه، ويقف مع نفسه موقفاً جاداً في أقواله وأفعاله وحركاته ونياته وكل شيء يمكن أن يصدر منه مع نفسه مع ربه مع الآخرين، فيب(25/9)
حكم التلبية
أما حكم التلبية فقد أجمع المسلمون على أنها مشروعة، والمشروع في الأصول يشمل الواجب والمندوب، أو المستحب، فالإجماع على أن التلبية مشروعة، لكن وقع الخلاف: هل هي مستحبة أو واجبة؟ فقال الشافعي وآخرون: هي سنة ليست بشرط لصحة الحج ولا واجبة، يعني: لا هي شرط في صحة الحج، ولا هي واجبة يلزم من تركها الدم.
فهي عند الشافعي سنة ليست بشرط لصحة الحج ولا بواجبة وهو الراجح؛ لأنها لو كانت واجبة وشرطاً في صحة الحج لبطل الحج بتركها، ولو كانت واجبة فقط وليست شرطاً في صحة الحج فإن المتخلف عنها والتارك لها يلزمه الدم مع الإثم إن ترك ذلك متعمداً.
قال: (فلو تركها صح حجه ولا دم عليه، لكن فاتته فضيلة عظيمة جداً)، فتصور أنك ستظل مثلاً من ذي الحليفة إلى أن تدخل مكة أربع أو خمس أو ست ساعات وأنت في حال إذعان وخضوع وخشية وذل واستكانة لله عز وجل بقولك بين يديه: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، وتستحضر معاني هذه الكلمات التي كلها توحيد وذل وخضوع لله عز وجل أربع خمس ست سبع ثمان عشر ساعات وأنت على هذه العبادة، أو تبدأ من رابغ إلى أن تدخل مكة، أو من قرن المنازل إلى مكة، أو من يلملم إلى مكة، وأنت متلبس بهذه الطاعة، وهذا الذل والانقياد لله عز وجل، مظهراً التوحيد والإخلاص والذل والخضوع لله، يعني: عبادات قلبية وعبادات جوارح تجمع بين جميع أنواع العبادات في هذه التلبية.
ولا يغرنك الحكم بأنها سنة أن تتركها؛ لأنك لو تركتها لتركت شيئاً عظيماً وفضلاً لو فاتك فقد فاتك الخير كله.
ثم اختلفوا في إيجابها: قال الشافعي وآخرون: هي سنة، وقال بعض الشافعية: هي واجبة تجبر بالدم، يعني: لو تركها يذبح شاة لفقراء الحرم، ويصح الحج بدونها؛ لأنها ليست واجبة، وقال بعض الشافعية وهو الرأي الثالث عند الشافعية: هي شرط لصحة الإحرام، ولا يصح الإحرام ولا الحج إلا بها.
إذاً: التلبية فيها عدة آراء: سنة من تركها فقد فوت فضيلة عظيمة، واجب يجبر بالدم ويصح حجه، شرط في صحة الإحرام والحج.
يعني: لو ذبحت مائة دم يظل حجك باطلاً؛ لأنك فوت ركناً، وهذا شرط في صحة الحج، لا يصح الحج إلا به.
أنا أريد أن أسأل سؤالاً: خلاف أهل العلم في هذه المسألة لا يجعلني آخذ بالعزيمة من باب الاحتياط، تجد الأخ في الطائرة مثلاً وخاصة أن هذه البلاد حارة، والحر يورث الخمول، كما أن جو مكة نفسه يورث الخمول، وهذا الكلام ذكره الإمام النووي.
وكنت أتعجب منذ أوائل الثمانينات وكانت أول سفرة لي إلى بلاد الحجاز كنت أتعجب جداً، وصار أمراً ملحوظاً؛ كلما دخلت مكة أخذني الخمول والوخم وأقبلت على النوم وتركت العبادة، وما قدرت على مراجعة جزء أو جزأين كل يوم، وأنعس والمصحف يقع من يدي ولا أستطيع الإمساك به، حتى قرأت للإمام النووي أن هذه الحالة انتابته مرات حين دخوله مكة، فسأل الأطباء هناك فقالوا: جو مكة يورث هذه المظاهر إلا من أقام بها مدة.
فلما أقمت بها مدة في سنة تسعين كنت في غاية النشاط، كنت أسكن بجوار الحرم بيني وبين الحرم قدر محطتين لا يزيد على ذلك، وكنت أركب مواصلة في كل مرة لأداء الصلوات الخمس، والإخوة الذين كنت أسكن معهم من أهل مكة يتعجبون جداً يقولون: يا شيخ ألا تستطيع أن تمشي هذه المسافة القصيرة؟ أقول لهم: والله العظيم أنني لا أستطيع أن أرفع قدمي، فلما أقمت بها سنة تسعين كان بيني وبين الحرم لا يقل عن خمسة كيلو، ولا أذكر أنني فوت فرضاً واحداً على مدار الثلاثة أشهر إلا في الحرم، وكنت أمشي على قدمي ولا أركب؛ لأن إلف جو مكة بعد ذلك أورث الشخص نشاطاً عظيماً جداً أيام الشباب.
قال: (والصحيح من مذهبنا ما قدمناه عن الشافعي: أن التلبية سنة.
وقال مالك: ليست بواجبة، ولكن لو تركها لزمه دم وصح حجه)، إذا كانت ليست بواجبة تكون سنة، والذي يترك السنة لا يلزم بالفداء، ولكن مالكاً لم يقو على القول بالوجوب موافقة للشافعي في ذلك، وقول الشافعي وافق قول مالكاً على اعتبار أن مالكاً أسبق، لكن الإمام مالكاً قال بالدم من باب الاحتياط.
قال الشافعي ومالك: ينعقد الحج بالنية بالقلب من غير لفظ كما ينعقد الصوم بالنية، يعني: قاس الحج على الصوم؛ لأنك في الصوم لا تقول: نويت أصوم غداً، أو نويت أصوم الشهر كله، بل إنك تعقد النية في قلبك، وكذلك لا تقل: نويت أصلي العشاء أربع ركعات في مسجد الرحمة (305) شارع الهرم خلف الإمام الفلاني في الساعة الفلانية وإنما يكفيك أن تنوي خلف الإمام؛ لأن نيتك وأنت قادم إلى المسجد بعد أن سمعت الأذان وتوضأت وتهيأت في بيتك وخرجت منه إلى المسجد كل هذا أليس كافياً في إثبات النية؟ والراجح جواز -بل استحباب- التلفظ بالنية في أداء نسك الحج أو العمرة، لأن النبي(25/10)
وقت التلبية للحاج
والتلبية تبدأ من صبيحة التروية الذي هو اليوم الثامن من ذي الحجة، وتظل اليوم الثامن والتاسع والعاشر إلى أن ترمي جمرة العقبة الكبرى، يعني: ثلاثة أيام بلياليها أنت مطالب بالتلبية، وقل أن تجد من يلبي حتى في أفواج طلاب العلم، تدخل عليهم وهم منشغلون بالعلم والمحاضرات والدروس والنقاش وغير ذلك، ولا تجد ملبياً مع أنهم مطالبون في هذا التوقيت بالتلبية وليس بدروس العلم، كما أن المرء لا يطالب بدروس العلم في رمضان، وإنما يطالب بقراءة القرآن، تجد الناس في رمضان منشغلين بدروس العلم، إذا كان الصائم من الصبح إلى الظهر في العمل، ومن الظهر إلى العصر نائم، ومن العصر إلى المغرب في الدرس العلمي، فأين القرآن؟! تجد شهر رمضان مر عليك ولم تختم حتى عشرة أجزاء، فقد جوز بعض أهل العلم قراءة القرآن والزيادة في رمضان أكثر منه في غيره، وجوزوا قراءته في أقل من ثلاثة أيام في رمضان خاصة، نحن لا نوافق على هذا القول وإن كان يدل على اهتمام أهل العلم، الإمام مالك كان إذا دخل رمضان طوى صحف العلم وأقبل على القرآن، لم يتكلم في مسألة علمية إلا ما يتعلق بعبادة القوم من صلاة أو صيام أو اعتكاف أو غير ذلك، أما أنه يؤدي حلقته التي كان يؤديها فلم يكن هذا من فعل السلف.(25/11)
من آداب التلبية
ورفع الصوت بالتلبية خاص بالرجال، أما المرأة فإنها تلبي بقدر ما يسمع من بجوارها أو تسمع نفسها، أما أن تلبي بصوت مرتفع فإن هذا فيه فتنة عظيمة جداً للرجال، ولذلك لا ترفع المرأة صوتها بالتلبية.
هؤلاء الذين تجمعهم على الدرس اجمعهم على كتاب الله عز وجل، فلو جمعتهم على الدرس فإنه أمر لا بأس به وهو جائز، لكن مخالف للأولى.
ويستحب الإكثار من التلبية لاسيما عند تغير الأحوال كإقبال الليل، أو إقبال النهار، يعني: عند وقت السحر ووقت الغروب.
وعند الصعود والهبوط: تصعد جبلاً أو تنزل من جبل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر ربه إذا صعد شرفاً، يعني: إذا صعد إلى مكان مرتفع قال: الله أكبر، وإذا نزل قال: سبحان ربي الأعلى، فالعلماء استحبوا ذكر الله تعالى بالتلبية عند الصعود إلى الشرف أي: المكان المرتفع والنزول منه، واجتماع الرفاق.
فقول النووي هنا: (يستحب الإكثار من التلبية عند اجتماع الرفاق) يدل على جواز التلبية جمعاً، والقيام والقعود، والركوب والنزول، وأدبار الصلوات وفي المساجد كلها؛ فإن مذهب جماهير الفقهاء: استحباب التلبية أدبار الصلوات، وإن كان بعض أهل العلم قال: ذلك من البدع، لكنه في الحقيقة ليس من البدع، بل هو من المسائل المختلف فيها خلافاً سائغاً.
والأصح أن المحرم لا يلبي في الطواف حول البيت ولا في السعي بين الصفا والمروة؛ لأن التلبية منذ الإحرام بالنسك من الميقات المكاني، وللعلماء خلاف في ذلك، حتى أن يرى بيوت مكة قال به قوم، أو أن يرى الحرم قال به قوم، أو أن يدخل الحرم ويرى الكعبة قال به قوم.
وأبعد الأقوال: أن يرى بيوت مكة، وأدنى الأقوال: أن يدخل البيت الحرام، فإذا دخله انقطعت التلبية، لانشغاله بعبادة أخرى؛ وهي عبادة الذكر والدعاء والطواف حول البيت، ولزومه ذكراً معيناً بين الركنيين اليمانيين، الركن اليماني والركن الذي فيه الحجر الأسود، فهو يقول بين هذين الركنين: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]، فالذي يلبي يقطع التلبية إذا رأى بيت الله الحرام أو إذا دخل فيه؛ لانشغاله بعبادة أخرى، فعند دخوله للمسجد يقدم رجله اليمنى ويقول: باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، اللهم اغفر لي ذنبي وافتح لي أبواب رحمتك، فهذه عبادة تقطع التلبية التي كان عليها، ثم هو سينظر إلى الكعبة وينطلق للبحث عن الركن الذي فيه الحجر الأسود؛ ليبدأ منه الطواف على النحو الذي ذكرناه في الدرس الماضي.
قال: ويستحب أن يكرر التلبية كل مرة ثلاث مرات فأكثر، يعني: هو أحياناً يفتر عن التلبية ويكسل وأحياناً ينشط فيلبي، فإذا لبى لبى ثلاثاً، يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، يقول ذلك ثلاث مرات أو خمس مرات أو سبع مرات أو تسع مرات، ويستحب أن يكون وتراً.
وإذا لبى صلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسأل الله تعالى ما شاء لنفسه ولمن أحبه وللمسلمين، وأفضل سؤال الله عز وجل في هذه الحالة: الرضوان، والجنة، والاستعاذة من النار، يسأله الرضوان أن يرضى الله تعالى عنه، ويسأله الجنة التي هي رحمة الله تعالى لعباده، ويسأله العياذ من النار، أن يجيره من النار، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام بين في حديث أن عبادته كلها إنما هي دندنة حول هذا، لقول الرجل لما نصح أن يقول كذا وكذا فقال: (أنا لا أحسن يا رسول الله! دندنتك ولا دندنة معاذ، ولكني أسأل الله الجنة وأستعيذه به من النار، قال النبي عليه الصلاة والسلام: حولها ندندن)، يعني: هذا الذي نريد تحفيظه إياك وأنت لا تستطيع أن تحفظه ولا تستطيع أن تقوله من بعدنا، وأنك لا تحسن إلا أن تسأل الله الجنة وتستعيذ به من النار، فهذه الدندنة التي لا تستطيع أن تقولها كلها الغرض منها في النهاية هذا الذي وصلت له، الذي هو سؤال الجنة والاستعاذة من النار.
فالشاهد أن من سأل الله تعالى الرضوان والجنة والاستعاذة به من النار فهذا أفضل الذكر وأفضل السؤال الذي يوجه لله عز وجل، وإذا رأى شيئاً يعجبه يقول: اللهم إن العيش عيش الآخرة، حتى لا تلهينك الدنيا عن التلبية وذكر الله عز وجل.
ويصح للمحرم أن يبيع ويشتري وهذا لا يضره ولا يؤثر على إحرامه وإن كان هذا خلاف الأولى؛ لأن المحرم ينشغل بالتلبية والذكر والدعاء وغير ذلك، لا ينشغل بالبيع والشراء واللغط ودخول الأسواق التي هي شر البقاع على وجه الأرض.
ولذلك الإمام النووي يقول: وإذا رأيت شيئاً يعجبك فقل: اللهم إن العيش عيش الآخرة، ولا تزال التلبية مستحبة للحاج حتى يشرع في رمي جمرة العقبة يوم النحر، أو يطوف طواف الإفاضة إن قدمه عليها، أو الحلق عند من يقول: الحلق نسك، وهو الصحيح.
وتستحب للعمرة حتى يشرع في الطواف.
يعني: التلبية تستحب لك حتى تبدأ في الطواف على النحو الذي ذكرناه آنفاً.
وتستحب التلبية للمحرم مطلقاً، سو(25/12)
الأسئلة(25/13)
حكم التلبية جماعياً
السؤال
ما حكم التلبية جماعياً؟
الجواب
هذه المسألة محل نزاع بين أهل العلم، والنزاع الذي بينهم لا يصح أن يقال للمخالف مبتدع وإن كان الأولى أن يلبي كل واحد لوحده، لكن لو حصل أنهم لبوا جماعة أو ذكروا جماعة لا يقال هذا بدعة.(25/14)
حكم العمل في شركات السياحة الدينية كالحج والعمرة
السؤال
ما حكم العمل في شركات السياحة الدينية كالحج والعمرة؟
الجواب
لا بأس بها.(25/15)
حكم جباية الضرائب
السؤال
ما حكم الضرائب وجبايتها في حالة عدم كفاية الزكاة والصدقات لاحتياجات الرعية؟
الجواب
وما يدريك أن الزكاة ليست كافية؟ السؤال هذا لا يوجهه إلا الخليفة أو الوالي عنه ليس أنت، لأجل أنك تعمل موظفاً في الضرائب تريد أن تجد لنفسك أي مسوغ، فعملك حرام ومالك حرام، إنما ادعاؤك أن الزكاة ليست كافية، لو أن كل غني أدى زكاة ماله لصار الفقير غنياً، وهذا وعد الله عز وجل لعباده، والزكاة أعظم نظام تكافلي اجتماعي، بحيث لا يبيت الفقير جائعاً قط.
إذا كان في هذا الزمن لا يكاد يكون هناك فقير، عندما يكون عندك زكاة مال وتريد أن تعطيها بالفعل للمستحق تجد بشق الأنفس شخصاً مستحقاً، الآن تجد الفقير يتقاضى مائتين إلى ستمائة جنيه في الشهر أو أكثر من ذلك ولا يزال يتسول ويشكو الله عز وجل إلى خلقه.
فالموظفون الذين هم محدودو الدخل هم أهل الزكاة بالدرجة الأولى، ليس الذين يتسولون في المساجد ويتسكعون في الشوارع والطرقات.
والحكومة عندما تأخذ الضرائب توزعها للفقراء، فالأصل في الزكاة أنها تؤخذ من الغني فتوضع في يد الفقير، وإذا وضعت في يد غير الفقير فإنها لا تجزئه على المذهب الراجح عند أهل العلم، أما الحديث الذي أخرجه الشيخان: (تُصدق الليلة على غني)، فهو في عموم الصدقات، إنما أموال الزكاة فلها مصارفها الثمانية: ومنها الفقير والمسكين، فإذا وضعت الزكاة في يد الفقير والمسكين فقد بلغت من الغني إلى مستحقها، أما إذا وضعت في غير هذه المصارف الثمانية فلا تجزئ صاحبها على المذهب الراجح عند أهل العلم.
وفي هذه الحالة لو وافقناك جدلاً وهذه الموافقة باطلة، لكني أضرب لك جدلاً أن الضرائب تؤدي مؤدى الزكاة، وأنها تقوم بالمهمة التي تقوم بها الزكاة، وأن الحكومة إنما تأخذها لتنفقها في مصارف الزكاة، فأقول: بين الضرائب والزكاة فروق لا يمكن اجتماعهما، الزكاة حق في مال الغني لصالح الفقير، والضرائب حق الدولة! لا يوجد شيء في الشرع اسمه حق الدولة، بعض الناس يقولون: هذه الأرض للدولة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من أصلح أرضاً ميتة فهي له)، فمن أصلح هذه الأرض فإن الحكومة تأخذ منه الضرائب، المتر بألف جنيه، وهذا ظلم ونهب ومكوس، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول عن تلك المرأة الزانية: (أنها تابت توبة لو تابها صاحب مكس لتاب الله عز وجل عليه)، وصاحب المكس هو الذي يأخذ أموال الناس بالباطل.
والزكاة حق في أموال الغني بالحق، والمكوس والضرائب بالباطل، والأصل في الزكاة الرضا والخضوع لله عز وجل والتعبد، فأنت تدفع هذا المال تعبداً لله تعالى، والضرائب لا تدفعها تعبداً، بحيث أنك تصارح الحكومة وتقول لها: أنتم لم تأتوا إلي من أجل أن تأخذوا الضرائب التي هي الزكاة.
بينما الزكاة أنت تحمل مالك على يدك وعلى قلبك وتذهب به وتعطيه الفقير من غير سلطان عليك؛ لأن السلطان سلطان القلب، والإيمان هو الذي حركك؛ لأنك تعلم أنك لن تدخل الجنة إلا بهذا، لكن الضرائب فهي نار في نار، فما علاقتها بالجنة؟ فلا يمكن اعتبار الضرائب زكاة نهائياً.(25/16)
علاج ضعف الهمة
السؤال
أريد علاجاً لضعف الهمة، وما هي الخطوات التي أخطوها كي أكون طالب علم مع ضيق الحال والوقت، فإمكانياتي المادية لا تساعدني على شراء ما أحتاجه من كتب، وظروف عملي تؤثر علي؟
الجواب
ابق في عملك، فأنت مثل الذي يقول لامرأته: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، ويظل يقول الطلاق حتى ينسى ماذا كان يقول، فيأتي ويقول: يا شيخ أهي مطلقة أم لا؟! أو هل تحل لي مرة أخرى؟ كيف تحل لك؟! فهذا جاء ووضعك بين المطرقة والسندان، يقول لك: انتبه، لا يوجد لدي مال، لا أستطيع أن أنتقل وأبحث عن المشايخ، لا أستطيع أن أشتري كتاباً، أو أنني آتي من العمل وأنا متعب جداً، فإن توفر لي حضور مجلس علم فأنا سأنام وسامحني، لأنني أبذل جهداً في العمل رهيباً فلا أستطيع أن أكون في درسك مستيقظاً فبعد كل هذا ماذا أعمل لك؟ ابق في عملك، وفي وقت الاستراحة اسمع شريطاً، أو طالع كتاباً، أو اطلع على أي مسألة علمية، وهذا الذي أنت مكلف به، فعند أن تكون عندك مؤهلات الطلب إذاً حينها نستطيع أن ننصحك.(25/17)
حكم الأخذ من اللحية
السؤال
قال لي بعض الإخوة: إن عدم الأخذ من اللحية بدعة، فلما سألت عن الدليل قال لي: إن ابن عمر كان معروفاً بأنه أكثر الصحابة تشبهاً بالنبي عليه الصلاة والسلام، وبالتالي فإن لحيته كانت لا تزيد عن القبضة، فلما قلت له: إن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أطلقوا اللحى)، ولم يقل: حتى القبضة، قال لي: هكذا قال الشيخ الألباني أفيدونا؟ كما هل يجوز الأخذ من عرض اللحية؟
الجواب
حقيقة أن هذه المسألة محل نزاع بين الجواز وعدم الجواز، الأخذ من اللحية وقع فيه الخلاف قديماً، هل يجوز الأخذ من اللحية أم لا؟ والراجح: جواز الأخذ منها إذا فحشت، يعني: إذا طالت طولاً بالغاً، أو انتفشت انتفاشاً عظيماً، واستدل القائلون بالجواز على فعل عبد الله بن عمر وأنه راوي الحديث: (أطلقوا اللحى وحفوا الشارب ولا تشبهوا بالمجوس)، وكان عبد الله بن عمر يأخذ من لحيته من طولها وعرضها إذا فضل عن القبضة إذا حج أو اعتمر، فكان لا يفعل هذا إلا في النسك، إذا فحشت لحيته وطالت فيقبض على عارضيه وعلى ذقنه فيأخذ ما فضل عن القبضة، فتبقى لحيته طويلة، ويبقى مذهب القائلين بجواز الأخذ منها هو بقاء صورة اللحية كاملة في وجه العبد، وإذا قلنا بالجواز، فهل يصلح إجراء هذا الكلام أو الأخذ من اللحية بما فضل عن القبضة على من صبغ وجهه بقلم جاف وقال: أنا ملتحٍ.
الذين قالوا بجواز الأخذ من اللحية لم يقصدوا هذه الصورة، إنما يقصدون الأخذ منها إذا فحشت من طولها وعرضها، والجماهير على عدم الأخذ منها، اعتماداً على إطلاق النصوص الواردة: (أطلقوا)، (أعفوا)، (أرخوا)، وكلها ألفاظ تدل على الترك بغير مساس.
والعجب العجاب أن يقول شيخنا الألباني رحمه الله تعالى رحمة واسعة بوجوب الأخذ من اللحية، إنما نقول بالجواز بالشرط المتقدم، أما الوجوب فلم يقل به أحد من أهل العلم فيما علمت وفيما اطلع عليه أهل العلم في هذا الزمان فيما نعلم إلا الشيخ الألباني، ولذلك لا نترك مذاهب العلماء كافة قديماً وحديثاً لقول رجل.
وبعض العلماء شرط توفر ما كان من عبد الله بن عمر، من أنه لا يجوز الأخذ منها إلا في الحج والعمرة، لكن يعكر على هذا الرأي ثبوت أخذ أبي هريرة من لحيته في غير الحج والعمرة، وكذا أخذ أبي الدرداء وسلمان الفارسي وغيرهم من الصحابة، فكان عبد الله بن عمر يفعل ذلك على سبيل التعبد.(25/18)
تقييم كتاب شرح السنة للإمام البربهاري
السؤال
ما رأيكم في كتاب شرح السنة للإمام البربهاري؟
الجواب
كتاب عظيم جداً، فهو كتاب رائع في أصول الاعتقاد، لا أعلم على كتاب شرح السنة للبربهاري مأخذاً، وليس فيه شيء يخالف العقيدة؛ لأن الإمام البربهاري من أئمة أهل السنة.(25/19)
تقييم كتاب الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام
السؤال
ما رأيكم في كتاب الإيمان لـ أبي عبيد القاسم بن سلام؟
الجواب
كتاب رائع جداً، وهو في سبعة مجلدات، كتاب ممتاز جداً مطبوع في الجامعة الإسلامية.(25/20)
تقييم كتاب الروضة الندية لشرح الدرر البهية
السؤال
ما رأيكم في كتاب الروضة الندية لشرح الدرر البهية؟ وهل هو مناسب لأن يبدأ به طالب العلم؟
الجواب
كتاب ممتاز، وهو غير مناسب لأن يبدأ به طالب العلم.(25/21)
معرفة الأحكام الشرعية من صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما
السؤال
هل يستطيع الإنسان أن يكتفي بصحيح مسلم والبخاري وغيرهما من كتب السنة وما عليهما من شروح فيما يتعلق بالتفقه في الدين ومعرفة الحكم الشرعي وغير ذلك؟
الجواب
هذا السؤال صعب جداً، لكن يحكمك الوقت والجهد.
فبلا شك أن دراسة صحيح البخاري وصحيح مسلم ليس هو كل دين الله عز وجل، وأن المسائل التي لم يتناولها الصحيحان أكثر من التي تناولها الصحيحان، فلا أدعي أن الاكتفاء بالصحيحين هو فقه في دين الله عز وجل على التمام والكمال، فلو جمعت إلى هذين الكتابين كتاباً في الفقه على يد شيخ، وكتاباً في اللغة على يد شيخ، وكتاباً في الأصول على يد شيخ، وكتاباً جامعاً شاملاً في الاعتقاد على يد شيخ ستكون بذلك قد جمعت الخير كله.(25/22)
دلالة قوله: (وما يعذبان في كبير)
السؤال
حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي عليه الصلاة والسلام مر بقبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله أو لا يستبرئ من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بين الناس بالنميمة)، هل يستدل به على أن النميمة ليست من الكبائر؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (وما يعذبان في كبير)؟
الجواب
الأخ السائل عند أن نقل الحديث نقله بشكل صحيح، وعند أن سأل سأل خطأ، فقوله: (إنهما ليعذبان)، بلام التوكيد، يؤكد أنهما يعذبان، وقوله: (وما يعذبان في كبير)، أي: وما أوردهما هذا العذاب عظيم تكليف وقع عليهما، وإنما هو أمر يسير إتيان وترك، الإتيان متمثل في أن هذا الرجل الذي كان يبول لا يتطهر من بوله، والتطهر من البول أمر يسير، يعني: الأمر الذي هو سبب عذابهما ليس أمراً يشق عليهما، بل هو أمر يسير جداً، وبسبب تفريطهما في هذا اليسير عذبا: (أما أحدهما: فكان لا يستنزه من بوله، وأما الآخر: فكان يمشي بين الناس بالنميمة)، والمطلوب هنا الترك، وترك المعاصي في مقدور كل إنسان، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم)، إذاً: الطاعة على قدر الاستطاعة فلو قال لك رجل: قف في صلاتك، لابد أن تقف، فإذا عجزت عن الوقوف لمرض أو علة صل جالساً أو على جنب أو إيماءً، مع أن القيام في الصلاة من واجبات وفرائض الصلاة، فلا تصح صلاتك الفرض وأنت قادر على القيام إذا صليت جالساً، فالذي يصلي الفرض جالساً مع قدرته على القيام لابد له من إعادة الصلاة؛ لأنها باطلة، بخلاف النافلة إذا صلى جالساً مع قدرته على القيام فلا حرج عليه، ولكنه على قدر النصف من صلاة القائم؛ لأنه جلس بغير علة ولا عذر.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه)، لم يقل: فاجتنبوا منه ما استطعتم، وهذا يدل على أن جانب الترك والنهي في مقدور كل مكلف، نهاك عن الزنا والخمر واللعب بالنردشير وكل هذا في مقدورك، ونهاك عن النميمة، وهي في مقدورك وهو أمر بسيط جداً، أنا ما لي وشأن الناس، يعني: إنك عندما تغلب في الإصلاح بين الناس ليس لك علاقة فيما بينهم، إذا لم يكن عندك طيب الكلام والصلح بين الناس ولو بالكذب المباح فلا أقل من أنك تدع الناس وشأنهم، فترك النميمة أمر في إمكانك وأمر في مقدورك، فلما ولجته مخالفاً لنهيه عليه الصلاة والسلام، مرتكباً لهذه الحرمة استحققت عذاب الله عز وجل، والذين صنفوا في الكبائر أوردوا الغيبة والنميمة في الكبائر، وهو محل إجماع عند أهل العلم: أن الغيبة والنميمة من كبائر الذنوب.(25/23)
الحكم على حديث: (نسألك بمعاقد العز من عرشك ومفاتح الرحمة من كتابك)
السؤال
هل يصح هذا الدعاء: نسألك بمعاقد العز من عرشك ومفاتح الرحمة من كتابك أن تغفر لنا ذنوبنا؟
الجواب
هذا الدعاء غير صحيح.(25/24)
الحكم على حديث: (الكلام في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب)
السؤال
هل هذا الحديث صحيح: (الكلام في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب)؟
الجواب
هذا حديث ضعيف، والكلام المباح خارج المسجد مباح في داخل المسجد، والكلام المباح لا يأكل الحسنات، إنما الكلام القبيح المنهي عنه هو الذي يأكل الحسنات، سواء قلته في المسجد أو في خارج المسجد.(25/25)
حكم من قرأ سورة يس اعتقاداً منه أنها تضر من ظلمه
السؤال
أحد الناس أخذ مالي، وأنا أريد أن أقرأ عليه سورة يس؛ لأني سمعت أنها تضر الظالم، فما حكم ذلك؟
الجواب
غير صحيح، بل هي من البدع، ولا يصح في فضل يس حديث واحد.(25/26)
الفرق بين أسماء الله المتعدية وغير المتعدية
السؤال
ذكر فضيلة الشيخ ابن عثيمين في شرحه لكتاب لمعة الاعتقاد لـ ابن قدامة أربع قواعد هامة في أسماء الله وصفاته، وذكر في القاعدة الثانية في الفرع الرابع: كل اسم من أسماء الله يدل على ذات الله، وعلى الصفة التي يتضمنها، وعلى الأثر المترتب عليه إن كان متعدياً، أرجو من فضيلتكم بيان الفرق بين الأسماء المتعدية وغير المتعدية؟
الجواب
في الحقيقة لم يتكلم عن اسم متعد، إنما تكلم عن صفة، يقول: كل اسم من أسماء الله يدل على ذات الله، وعلى الصفة التي تضمنها، وعلى الأصل المترتب عليه إن كان متعدياً.
فالله تبارك وتعالى تسمى بالرحيم، فلا يجوز لأحد أن يتسمى بأسماء الله عز وجل، يعني: يحرم على العبد أن يكون اسمه: الرحيم، الكريم، الغفور وغير ذلك من أسماء الله المعرفة بالأف واللام، إلا أن تكون مضافة للعبودية، كعبد الرحيم، وعبد الغفور، وعبد التواب، وعبد القهار وغير ذلك من أسماء الله عز وجل.
والذي يترجح لدي أن الصفات مشتقة من الأسماء وليس العكس؛ لأن باب الصفات أوسع وأشمل وأعم من باب الأسماء، فلو قلنا: إن الصفات تشتق من الأسماء لقلنا: جميع الأسماء تدل على الصفات، ولو قلنا: إن الأسماء هي التي تشتق من الصفات للزمنا أن نشتق من كل صفة اسماً، فتصبح الأسماء في نهاية الأمر إلى مئات الأسماء؛ لأن باب الصفات أوسع، فلو اشتققنا من كل صفة اسماً لكانت الأسماء أكثر مما هو معلوم في كتاب الله وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام.
فكل اسم يدل على صفة وليس العكس، وهذا معنى الاشتقاق، فالرحيم اسم يدل على الرحمة، والتواب اسم يدل على قبول التوبة من العبد، والحميد اسم يدل على صفة الحمد وغير ذلك من الأسماء، وكل اسم له صفة، وأحياناً الصفة تكون متعدية، وأحياناً تكون لازمة لا تعدي لها.
كالرحيم يشتق منه الرحمة، وهذه الرحمة متعلقة من جهة الصفة بالله عز وجل، ومن جهة الأثر بالخلق، يعني: الأثر المترتب على هذه الصفة المشتقة من هذا الاسم متعلق بالخلق، وهذا معنى التعدي.
كما أقول لك: الزكاة نفعها متعد، وليس لازماً فحسب، بل لها نفع لازم ونفع متعد، النفع اللازم هو الذي ينفع المزكي، فعندما تأخذ أموال زكاتك وتتصدق بها وتزكي بها، فأنت منتفع بهذا، والمنفعة ظهرت في قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]، فالذي يؤدي الزكاة إنما يطهر بها نفسه وماله، وهذا نفعه اللازم له.
أما نفعه المتعدي والأثر المترتب على إخراج الزكاة فهو كفاية الفقير، أو غنى الفقير، فهذا نفع قد تعدى إلى الغير، لذلك فالنفع المتعدي هو الذي يشمل الآخرين.
فصفة الرحمة لله عز وجل هي صفة ذات لله لازمة له ومتعدية إلى الخلق من جهة الأثر، فأثرها متعدٍ في رحمة الخلق، ولذلك في الحديث: (إن لله تبارك وتعالى مائة رحمة، أنزل بين الخلائق رحمة واحدة فبها يتراحم جميع الخلائق، حتى إنك لتجد الدابة العجماء ترفع حافرها عن وليدها مخافة أن تصيبه)، وهذا من جراء تلك الرحمة أو من أثر تلك الرحمة.
(واختزن الله عز وجل تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده في عرصات القيامة).
إذاً: الرحمة هذه متعدية، وقس على هذا المثال بقية الأسماء والصفات.
أما الحمد، فلا يُحمد أحد غير الله عز وجل، فالحمد لازم غير متعد.(25/27)
حكم أكل المحرم من صيد غيره
السؤال
قول الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المائدة:96]، إن كان محرماً ورأى جماعة يصطادون فدعوه للطعام، فهل يأكل أم لا؟
الجواب
لا يأكل؛ لأنه يحرم عليه مادام محرماً صيد البر بنفسه أو بالإشارة أو بالدلالة أو بالمساعدة أو بالفعل نهائياً، فلا يجوز له أن يأكل من صيد البر، ولذلك ميز الله تبارك وتعالى بين صيد البحر وصيد البر، فقال في صيد البحر: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة:96]، وهم الجماعة الذين يمشون تدعوهم ليأكلوا، إنما صيد البر فلا.(25/28)
تطبيق مناسك الحج والعمرة
السؤال
لو درسنا مناسك الحج والعمرة عملياً لكان أقرب للفهم وجزاك الله عنا خيراً؟
الجواب
نذهب إلى مكة، وأنا سأشرح لك مناسك الحج، لأن مناسك الحج لا يمكن أن تفهم إلا هناك، كما لو أن شخصاً لا يستطيع أن يصلي ولا يسمع عن الصلاة، فتعلمه نظرياً، فلا يستطيع أن يصلي إلا إذا صليت أمامه، وعلمته ذلك عملياً، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم حدد فترة تعليم الطفل للصلاة بثلاث سنوات، قال: (علموهم الصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر)؛ لأن الطفل مرة يصلي وعشر مرات لا يصلي، ومرة يحضر معك الصلاة من أولها وبعد ذلك يتركك في الصف ويخرج يلعب ثم يحضر معك التسليم على اعتبار أنك توبخه وتؤنبه إذا لم يصل مع الإمام وأتم الصلاة وغير ذلك.
إلى أن تمر ثلاث سنوات يكون الطفل قد تعلم الصلاة بأركانها وأحكامها وواجباتها، ما يزيد فيها وما لا يزيد وغير ذلك، وبعد ذلك يعاقب من سن العاشرة؛ لأن هذه مسائل عملية لا تدرك إلا بالعمل.
وهناك حدود بين عرفة وبين المزدلفة، فقد عملوا لوحة مكتوب عليها من هذه الناحية أول عرفة، تصور لو أنك وقفت تحت هذه اللوحة فأنت واقف في مزدلفة، ولو خطوت خطوة واحدة وراء اللوحة تكون أنت واقفاً في عرفة، ومن وقف في غير عرفة فإن وقوفه لا يصح، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (عرفة كلها موقف)، ولذلك أتى في مرة من المرات رجل يسأل الشيخ ابن عثيمين ونحن في الحج يقول له: يا شيخ! أنا لم أستطع أن أقف على جبل الرحمة، ولم يقولوا لي إلا بعدما رحل الناس، فماذا أعمل الآن وما صحة حجي؟ فالشيخ ضحك وقال له: يا بني! ومن ألزمك بصعود جبل الرحمة؟ بل إن صعوده كاد أن يكون من البدع، وبعض المصريين يظنون أن الحج والوقوف بعرفة لابد أن يكون على أعلى قمة في الجبل، ويتشاجرون، ويتصورون أن الحج لا يصح إلا بالوقوف في هذا الموضع.
فالوقوف على جبل الرحمة ليس واجباً ولا سنة، بل كاد أن يكون بدعة، وحرصكم عليه يؤكد بدعيته.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.(25/29)
شرح صحيح مسلم - كتاب الحج - الإهلال من حيث تنبعث الراحلة
كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الحج أو العمرة أن يتطيب لإحرامه، فيطيب مفرق رأسه وبدنه بأجود ما يجد من الطيب، ثم يركب دابته ويستوي على ظهرها، فإذا شرعت بالسير أهل صلى الله عليه وسلم، وكان هذا فعله في إهلاله بالعمرة من ذي الحليفة، وكذلك عندما أهل بالحج من مكة يوم التروية.(26/1)
مجمل الكلام في المواقيت الزمانية والمكانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: فبعد أن تعرضنا في كتاب الحج في الباب الأول لبيان ما يحرم على الحاج وما يباح له في ثيابه، انتقلنا بعد ذلك إلى المواقيت وقلنا: إن المواقيت منها المكاني ومنها الزماني، فهناك ميقات زماني للحج وهو أشهر الحج، وبينا أن أشهر الحج: هي شوال وذو القعدة، ووقع الخلاف في ذي الحجة هل هو الشهر كله أم بعضه؟ ورجحنا أن مذهب جماهير العلماء أن بعض شهر ذي الحجة هو من أشهر الحج وليس كل شهر ذي الحجة، وينتهي هذا البعض من الشهر بانتهاء ليل يوم النحر؛ لما رجحناه هناك من اتفاق العلماء على أن من لم يدرك الوقوف بعرفة في نهار التاسع من ذي الحجة إنما يجزئه أن يقف ولو بعض الليل من ليلة النحر، ثم ينزل إلى مزدلفة فإن أدرك المبيت بها ولو في جزء يسير من الليل كذلك صح مبيته في مزدلفة، فإن لم يدرك الوقوف في مزدلفة في هذه الليلة صح حجه وعليه دم؛ لأن المبيت في مزدلفة في مذهب جماهير الفقهاء واجب، وهو الراجح من الأدلة، وهو فعل النبي عليه الصلاة والسلام.
أما ما يقال: إن شهر ذي الحجة كله من الأشهر الحرم فليس هذا بقول متين ولا تقوم عليه الأدلة؛ ولأنه يترتب عليه جواز التمتع والقران في العشرين يوماً الباقية منه ولا قائل بذلك، وإن قال بذلك بعض أهل العلم فيرد عليهم؛ لأن التمتع والقران إنما يسميان بذلك لكونهما قد وقعا في عام واحد، فإن الذي يقرن بين حجه وعمرته بعد أداء نسك الحج يلزمه إذا أتى قارناً أن يسوق الهدي معه ويتمتع ويبقى في ملابس إحرامه حتى يدخل الحج القادم؛ أي: من العام المقبل، وإذا أتى متمتعاً يلزمه أن يعتمر في شهر ذي الحجة -أي: في العشرين يوماً الأخيرة منه- ثم يظل متمتعاً ولا يخرج من مكة حتى يدرك الحج من العام المقبل.
وشهر ذي الحجة هو تمام السنة، والمحرم ابتداء سنة جديدة، وإنما سمي تمتعاً لأن الحاج يتمتع بالعمرة إلى الحج من نفس العام، وسمي قراناً لأن القارن يقرن بين العمرة والحج من نفس العام، فإذا اعتبرنا أن شهر ذي الحجة كله هو من أشهر الحج وليست العشرة الأيام الأوائل منه فهذا يعني حصول المشقة للناس، كما أنه من جهة المعنى فاسد؛ لأن التمتع والقران يقعان في عام واحد لا في عامين متتاليين.
أما الميقات المكاني: فإن ميقات أهل الشام ومن مر بهم هو الجحفة، وهي المعروفة اليوم برابغ، ورابغ قبل الجحفة بشيء يسير، وانعقد الإجماع على جواز الإحرام منه؛ لأن الجحفة صار الآن خرباً لا ينزله أحد، وميقات أهل المدينة هو ذو الحليفة، وهي المعروفة بأبيار علي، وميقات اليمن هو يلملم، وميقات العراق هو ذات عرق، وميقات أهل نجد ومن مر بهم هو وادي السيل.
قال النبي عليه الصلاة والسلام في هذه المواقيت: (هن لهن -أي: هذه المواقيت لأهلها المحددة لهم- ولمن مر بهن من غير أهلهن)، يعني: الجحفة ميقاتك باعتبارك من أهل الشام أو من أهل مصر، أما إذا كنت بالمدينة أو مررت بالمدينة فإن ميقاتك هو ميقات أهل المدينة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام بعد أن حدد المواقيت: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن أراد الحج أو العمرة).
وقلنا في هذه المواقيت: إنه لا يجوز لأحد قط إذا كان يريد نسكاً عمرة أو حجاً أن يتجاوز هذه المواقيت ولا أن يعبرها بغير إحرام، فإذا كنت قاصداً أداء النسك وما أخرجك من بيتك إلا هذا القصد فيحرم عليك أن تعبر الميقات وأن تتجاوزه بغير إحرام، فإن تجاوزته بغير إحرام لزمك الرجوع إلى الميقات للإحرام من جديد، وعليك الإثم؛ أي: إثم عمد التجاوز بغير إحرام، تستغفر الله تعالى وتتوب إليه منه.
أو أنك تحرم من مكانك بعد تجاوز الميقات وعليك دم، ويسن لمن أحرم من الميقات أن يشترط، فبعد أن يقول: لبيك اللهم عمرة، أو حجاً، أو عمرة وحجاً فيقول: فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني؛ لأنه لو منعك مانع بعد الإحرام وبعد تجاوز الميقات من مرض أو وعكة أو علة أو حتى إجراء في الأوراق الرسمية؛ ربما ذهبت إلى المطار أو إلى الميناء فقالوا: جوازك مزيف مثلاً، أو قالوا: التأشيرة غير صحيحة وغير سليمة، أو أوراقك ليس لها عندنا رقم على الكمبيوتر، أو غير ذلك، فإنهم لا يتورعون أن يرجعوك في أقرب طائرة أو باخرة إلى بلدك مرة أخرى وأنت بملابس الإحرام.
فإنما في هذه الحالة لابد أنك ستتحلل من إحرامك؛ فإن كنت قد اشترطت من الميقات وقت الإحرام وقلت: فإن حبسني حابس -أي: منعني مانع- فمحلي حيث حبستني.
أي: فجوز لي يا رب أن أتحلل في نفس المكان الذي منعني فيه العذر وحبسني فيه الحابس؛ فإن قدمت في وقت الإحرام هذا الشرط ومنعك مانع أو حبسك حابس جاز لك أن تتحلل ولا شيء عليك، وإن لم تشترط ومنعك مانع أو حبسك حابس فلابد أن تتحلل، ولكن يبقى عليك دم، هذا(26/2)
باب أمر أهل المدينة بالإحرام من عند مسجد ذي الحليفة
قال الإمام النووي: (باب: أمر أهل المدينة بالإحرام من عند مسجد ذي الحليفة)، أي: الأمر لأهل المدينة النبوية ولمن مر عليها من غير أهلها أن يحرموا من مسجد ذي الحليفة.
فميقات أهل المدينة هو ذو الحليفة، ومن أراد أن يحرم من ميقات أهل المدينة فليحرم من عند الميقات المحدد له لا قبل ذلك ولا بعده، أي: لا قبل الميقات ولا بعده؛ لأنه لو أحرم قبل الميقات يلزمه أن يحرم ثانية من الميقات، ولو أحرم بعد الميقات لزمه أن يرجع إلى الميقات أو أن يذبح دماً.
فميقات أهل المدينة هو ذو الحليفة، لأهل المدينة ولمن جاء عليها وأراد أن يخرج منها متوجهاً إلى مكة لأداء النسك، بخلاف الذي يريد أن يدخل مكة لا للنسك وإنما لتجارة أو زيارة أو غير ذلك فإن هذا لا يلزمه الإحرام؛ لأنه ما نوى أصلاً أداء النسك وإنما نوى دخول مكة، وقد ثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل مكة بغير إحرام ولا نسك، ودخل مكة بإحرام ونسك، فأما دخوله مكة للنسك فقد أحرم له، ولما أراد القتال وفتح مكة ما أحرم له؛ لأنه ما نوى النسك في هذه السنة أو في هذا العام.
ولا يجوز لأهل المدينة ولمن مر بهم وأراد النسك أن يحرم من المسجد النبوي، مع أنها أميال قلائل بين المسجد وبين الميقات.
ولذلك أحرم رجل من المسجد النبوي وصلى ركعتين ولبى من المسجد، فسمعه مالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحي الإمام الفقيه، فقال له: إني أخشى عليك الفتنة، قال: أي فتنة يا إمام؟ إنما هي فراسخ بيننا وبين الميقات، وأردت أن أحرم من المسجد لشرفه، قال: أما سمعت قول الله عز وجل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].
والنبي عليه الصلاة والسلام جعل ميقات أهل المدينة ذا الحليفة، وهو أعلم بأن المسجد له شرف وله منزلة وله مكانة ومع هذا لم يحدده ميقاتاً لأهل المدينة ولمن مر بهم، فمن أحرم من المسجد النبوي ولم يحرم من الميقات الشرعي النبوي الذي حدده النبي عليه الصلاة والسلام يخشى عليه أن تصيبه فتنة، فهنا لابد من التزام المواقيت لكل بلد ولمن مر عليها.(26/3)
شرح حديث ابن عمر في تلبية النبي من عند مسجد ذي الحليفة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك، عن موسى بن عقبة عن سالم بن عبد الله -وهو ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما- أنه سمع أباه -أي: عبد الله بن عمر - رضي الله عنه يقول: (بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد يعني: ذا الحليفة)].
عبد الله بن عمر أكثر الصحابة التزاماً بسنة النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي يقول: بيداؤكم هذه أنتم تكذبون على رسول الله عليه الصلاة والسلام فيها، وتزعمون أنه أحرم منها ولم يحرم منها، إنما أحرم من أمام باب مسجد ذي الحليفة، والبيداء: هي الصحراء وهي الأرض القحل وهي المكان المتسع العظيم كان قبل المسجد مباشرة.
فأهل المدينة في زمن التابعين كانوا يذهبون إلى هذه البيداء ويحرمون منها وينطلقون بدوابهم، ويزعمون أن النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام كانوا يحرمون من هذه البيداء التي هي بجوار المسجد مباشرة، فـ عبد الله بن عمر أطلق القول بأنهم قد كذبوا على النبي عليه الصلاة والسلام، وأنه ما أحرم من هذه البيداء ولا من هذه الأرض القاحلة، وإنما أحرم من باب المسجد وبينهما مسافة يسيرة جداً.
هذه البيداء الآن دخلت في توسعة هذا المسجد، ولكن على أية حال لابد من التزام المكان؛ لأنك لا تدري كما قلنا من قبل في الدرس الماضي: إن بين عرفة وبين مزدلفة علامة وهي لوحة قد وضعها المتخصصون ليبينوا أن من عبر هذه اللافتة يكون قد دخل في أرض عرفة وصح وقوفه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (وعرفة كلها موقف).
وأما من بات خلف أو قبل هذه اللافتة فلم يصح له وقوف بعرفة بل لا يصح له حج؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (الحج عرفة) يعني: أعظم ركن من أركان الحج هو الوقوف بعرفة، فإن أتيت به جبر ما دونه بالدم، وإن لم تأت بهذا الركن على جهة الخصوص لا يجبر بدم قط.
وها نحن منذ قرابة سبع سنوات لما بدأنا في هذا الكتاب المبارك قلنا: إن الكذب عند أهل السنة والجماعة له مدلول بخلاف المعتزلة.
الكذب: هو إخراج الكلام على غير حقيقته، سواء كان في ذلك متعمداً أو مخطئاً أو ساهياً أو ناسياً، وهذا مصطلح أهل السنة والجماعة، أما عند المعتزلة فإنهم قالوا: الكذب لا يكون إلا إذا تعمده صاحبه، ولكن هذا التعريف عند أهل السنة والجماعة شرط لازم للإثم لا لبيان الكذب، يعني: لا يأثم الكاذب عند الله عز وجل إلا إذا تعمد الكذب، ولكن الكاذب ساهياً أو ناسياً أو مخطئاً لا إثم عليه، كمن حلف أنه فعل الشيء الفلاني ثم أيقن بعد أن أقسم أنه لم يفعله، فلا إثم عليه، بخلاف الذي يذكر أنه لم يفعل وأقسم أنه فعل متعمداً وهو يعلم أن الأمر على غير الحقيقة، فهذا بلا شك هو اليمين الغموس الذي ينغمس به صاحبه في نار جهنم عياذاً بالله.
فقال عبد الله بن عمر: هذه البيداء التي تحرمون منها يا أهل المدينة أنتم ومن مر بكم، وتزعمون أن النبي عليه الصلاة والسلام أحرم منها ليس الأمر كما تقولون، وإنما هذا كذب ولا يلزم منه أنهم تعمدوا ذلك، بل يمكن أن يكون ذلك صدر منهم على سبيل الخطأ أو السهو أو النسيان، قال: (ما أهل -أي: ما أحرم- رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد) يعني: من عند باب مسجد ذي الحليفة، ثم صلى ركعتين وقيل: إنها صلاة الصبح، ثم انطلق من المسجد وركب دابته القصواء، وكانت تناخ أمام باب المسجد، فلما قامت وانبعثت به ناقته قال: (لبيك اللهم عمرة وحجاً).
وفي الدرس الماضي قلنا: يسن للمعتمر ألا يدخل في الإحرام، وبعض الناس يتصور أن الإحرام: هو لبس الإزار والرداء، لكن الإحرام: هو عقد النية بالدخول في النسك من الميقات، فلو لبست ثياب النسك الإزار والرداء من بيتك أو في المطار أو في الطائرة كل ذلك قبل أن تأتي إلى الميقات فإنك لا تسمى محرماً، وبالتالي يحل لك كل ما يحرم على المحرم قبل أن تبلغ الميقات، فلو أنك ذهبت من بيتك ودخلت في مطار القاهرة، ثم أردت أن تتطيب فلك ذلك، ولو أردت أن تخلع ملابسك وتلبس الملابس العادية فلك ذلك، ولو أردت أن تجامع امرأتك فلك ذلك؛ لأنك في حقيقة الأمر لست محرماً، وإنما أنت لبست الملابس التي ستحرم وتهل فيها ولا يكون ذلك إلا ببلوغك إلى الميقات، أما قبل ذلك فيجوز لك ما لا يجوز لك بعد إحرامك.
وفي الطائرة ينبهون ويقولون: بقي ربع ساعة على وصولنا إلى الميقات، فتجهز قبل فوات الربع الساعة بدقيقتين تبدأ تقول: لبيك اللهم حجاً وعمرة، أو عمرة، أو حجاً، فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني.
والطائرة تسير بسرعة 1000 كيلو في الساعة، فأول ما ينبه عليك تنتبه جداً وتظل تنظر في الساعة حتى لا تسرح ويضيع عليك الأمر، فافرض أنك سرحت أو سهيت أو نسيت ثم فوجئت بأن الطائرة نازلة إلى مط(26/4)
حكم الاغتسال والصلاة عند الإحرام
والركعتان ليستا من أعمال الحج والعمرة، والإتيان بهما ليس بلازم، كما أن الاغتسال ليس بلازم، فلم يأت دليل على أن للحج أو للعمرة ركعتين أو غسلاً.
ولكن جماهير الفقهاء استحبوا ذلك من باب التطيب للقاء الله عز وجل ولا بأس بهذا المعنى، لكن الذي أنبه عليه أن ذلك لو فاتك فلا إثم عليك.
والعلماء اختلفوا: هل يجوز الإحرام بالنسك بدون صلاة؟ والاتفاق على أن الإحرام بالنسك بغير صلاة جائز وهذا إجماع، لكنهم قالوا: باستحباب أن يكون الإهلال بالنسك بعد الصلاة، إلا أن توافق صلاة فرض فإن ذلك يجزي ويكفي.
إذا دخلت مسجد الميقات ووجدت الناس يصلون الفرض فصل معهم ولا تصل شيئاً بعد ذلك؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يخص الإحرام بركعتين، إنما الركعتان اللتان صلاهما هما صلاة الصبح، ثم انطلق من المسجد وركب الدابة وأهل، فيجوز عقد الإحرام بعد صلاة الفرض أو بعد صلاة سنة راتبة أو غير راتبة كتحية المسجد في مسجد الميقات أو سنة الوضوء، ولكن بعض أهل العلم قال: ولا بأس أن يجعل للإحرام ركعتين وهما مسببتان، واعتبر أن نية الدخول في النسك سبب لأداء هاتين الركعتين ولو كان ذلك في وقت الكراهة.
ووقت الكراهة: هو من بعد صلاة العصر حتى صلاة المغرب لمن لم يدرك العصر، ومن بعد صلاة الصبح حتى طلوع الشمس وارتفاعها قدر رمح أو رمحين لمن لم يدرك الصبح، ووقت عمودية الشمس في كبد السماء، يعني: قبيل الظهر بدقائق، هذا الوقت لا تجوز الصلاة فيه؛ لأنه وقت تسعر فيه جهنم، ولذلك نهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (لا صلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس)؛ لأنهما وقتان كان المشركون يسجدون للشمس فيهما، وقال عليه الصلاة والسلام: (فإن الشمس تشرق وتغرب بين قرني شيطان) ولذلك نهى عن ذلك، حتى لا تتشبه بمن يعبد الشيطان، فإنه يسجد للشيطان في هذين الوقتين؛ وقت الغروب ووقت الشروق.
ولكن الراجح من أقوال أهل العلم أنك إذا صليت في المسجد ركعتين بنية تحية المسجد أو سنة الوضوء فإنه لا بأس بذلك حتى ولو كان في وقت الكراهة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما نهى عن الصلاة في هذه الأوقات نهى عن الصلاة المطلقة، بخلاف الصلاة ذات السبب، بمعنى: لو أن رجلاً صلى العصر وجلس في المسجد لا يصح له أن يقوم فيأتي بركعتين وأربع وست وثمان وعشر؛ لأن هذه الصلاة لا سبب لها.
أما إذا دخلت المسجد وقد صليت العصر في مسجد آخر فقبل أن تجلس تصلي ركعتين مع أن هاتين الركعتين وقعتا في وقت الكراهة؛ لكن لا كراهة فيهما هنا؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)، فسبب الركعتين دخول المسجد.(26/5)
باب الإهلال من حيث تنبعث الراحلة
قال: [باب الإهلال من حيث تنبعث الراحلة]، معنى الإهلال: هو الإحرام، وهو الدخول في النسك فتهل به وتقول: لبيك اللهم كذا وكذا بحسب ما نويت.
وقوله: باب: الإهلال من حيث تنبعث الراحلة، يعني: تقوم بك الدابة، أو نحوها مثل الباخرة أو الطائرة من حين أول التنبيه أو بمحاذاة الميقات فإنك تهل.
قال: [حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري -والمقبري لقب؛ لأنه كان يسكن بجوار مقابر البقيع، فكان إذا أتى المسجد أو ذهب إلى بيته مر بهذه المقابر فلقب بـ المقبري - عن عبيد بن جريج أنه قال لـ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (يا أبا عبد الرحمن! رأيتك تصنع أربعاً لم أر أحداً من أصحابك يصنعها)]، يعني: أنت قد اجتمعت فيك أربع خصال أو أشياء ما رأيت أحداً يصنعها أو لم تجتمع هذه الأربع عند أحد على الصورة التي اجتمعت عندك، ولا يمنع أن يكون غير عبد الله بن عمر قد فعل واحدة منها أو اثنتين أو ثلاث.(26/6)
مشروعية مس الركنين اليمانيين دون الشاميين
قال: [(قال: ما هن يا ابن جريج؟ -أي: ما هذه الأربع؟ - قال: رأيتك لا تمس من الأركان إلا اليمانيين)]، وهما الركن اليماني والذي يليه وهو الركن الذي فيه الحجر الأسود، فعند الطواف فإنك تطوف من الشمال إلى اليمين، وتجعل الكعبة على شمالك؛ فالركن الذي هو المربع، والركن الذي فيه الحجر الأسود يسميان بالركنين اليمانيين؛ لأنهما من جهة اليمن، كما أن الركنين الآخرين الموازيين هما الركنان الشاميان؛ لأنهما من جهة الشام.
وإن كان الركن الذي فيه الحجر الأسود أقرب إلى جهة العراق لكن أطلق عليه اليماني من باب التسهيل أو التغليب أو الخيرية، وأنتم تعلمون أن أهل اليمن أخير من أهل العراق بشهادة النبي عليه الصلاة والسلام لما أتاه وفد اليمن قال: (أتاكم أهل اليمن أرق الناس أفئدة وألينهم قلوباً، الفقه يمان، والإيمان يمان، والحكمة يمانية)، فهذه شهادة ليس لها في العراق مثيل، بل أرض العراق تذكر إذا ذكرت الفتن بخلاف أهل اليمن.
ولذلك نحن نقول: العمران من باب التسهيل لـ أبي بكر، وعمر مع أن أبا بكر أفضل من عمر؛ فـ أبو بكر أفضل الأمة وأفضل الأمة من بعده عمر، وأفضل الأمة من بعد عمر عثمان، وأفضل الأمة من بعد عثمان علي رضي الله عن الجميع، وترتيبهم في الخلافة على قدر ترتيبهم في الأفضلية، وهذا معتقد أهل السنة والجماعة بخلاف الشيعة عليهم من الله ما يستحقون.
والركن اليماني الذي هو قبل ركن الحجر الأسود كان يستلمه عبد الله بن عمر ويمسحه، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (مسح الركن اليماني يحط الخطايا حطاً)، وقال عن الحجر الأسود: (إنما هو حجر من أحجار الجنة كان أبيض كالثلج سودته خطايا بني آدم)، فيكفيك أنك تمس حجراً من أحجار الجنة أو تقبله، والسنة التقبيل فإن لم تستطع فلا تزاحم؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عمر بن الخطاب عن الزحام، وقال: (يا عمر لا تؤذ الضعفاء) عمر قوي لو أراد عمر -وكان آخر الصحن- أن يقبل الحجر الأسود لاستطاع أن يزيح الناس من أمامه حتى يصل إلى الحجر، وكأن النبي عليه الصلاة والسلام رآه يفعل ذلك وهو قوي والناس ضعفاء مكدودون متعبون من أداء هذا النسك، فقال: يا عمر! لا تفعل، قبله إن استطعت وإلا فاستلمه بيدك أو بشيء، يعني: أدخل يدك إلى الحجر فإذا لمست الحجر فقبل يدك، فإن لم تستطع بيدك فبالعصا، فإذا لم تستطع فإنما يكفيك أن تشير إليه مكبراً يعني: إذا كنت في مقابل الحجر وكنت بعيداً عنه لا تستطيع استلامه ولا تقبيله فأشر إليه بيمينك وقل: الله أكبر ولا شيء عليك، وإذا أشرت فلا تقبل، إما أن تقبل بفمك وإما أن تقبل شيئاً معك كاليد أو العصا إذا مسست بهما الحجر، أما أن تقبل يدك وأنت تشير بها دون مساس للحجر فهذا من بدع الحج أو من بدع الطواف.
والخلاف على استلام جميع الأركان كان في القرن الأول ثم أزيل الخلاف تماماً بعد ذلك، ولابد أن تعلم قاعدة وهي أن الإجماع يرفع الخلاف، يعني: إذا وقع خلاف على مسألة بعينها في القرن الأول ثم اتفق العلماء على شيء واحد وأجمعوا عليه رفع هذا الخلاف واعتبر كأنه لم يكن؛ لأن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما كان إذا دخل مكة طاف بالبيت واستلم الأربعة الأركان، وكذلك كان يفعل عروة بن الزبير وغير واحد؛ لأنهم يعتقدون أن الأربعة الأركان من البيت ولا فرق عندهم بين الركنين الشاميين والركنين اليمانيين، ولكن هذا الفعل يرده فعله عليه الصلاة والسلام وأنه ما استلم إلا الركنين اليمانيين، أما الشاميان فلم يستلمهما عليه الصلاة والسلام، وهو يعلم أنهما من البيت، ولكن أصل ذلك عند معاوية وغيره حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (يا أم عبد الله لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية لنقضت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم).(26/7)
قصة بناء الكعبة
ولعلكم قرأتم في كتب أخبار مكة كما في التاريخ للطبري، والبداية والنهاية لـ ابن كثير، وتاريخ مكة للفاكهي وغير كتاب ممن عني بأخبار البلد الحرام.
أن سيدنا آدم عليه الصلاة والسلام هو الذي بنى أصل القواعد للبيتين: للبيت الحرام، ثم انتقل بعد ذلك إلى القدس فبنى أصل المسجد الأقصى، وقد جاء في الصحيحين من حديث أبي ذر أن النبي عليه الصلاة والسلام سئل: (أي المساجد وضع في الأرض أولاً يا رسول الله!؟ قال: البيت الحرام، قيل: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قيل: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة) أي: أربعون سنة بين تأسيس البيتين.
وفي القصة الطويلة التي أخرجها البخاري ومسلم في قصة دخول إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهاجر أم إسماعيل عليه الصلاة والسلام إلى البلد الحرام قبل أن تكون بلداً حراماً، وقبل أن يكون بها أحد من الناس وإنما كانت أرضاً صحراوية، وكان موضع البيت إنما هو دوحة عظيمة جداً قد أتت عليها الرمال ثم أتت عليها السيول فاجتاحتها فبقي البيت على أصل قواعد آدم، ولكن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما ترك زوجه وولده إسماعيل في المكان المعروف، والقصة طويلة في معرفة السعي بين الصفا والمروة، وكان أول من فعل ذلك هي هاجر أم إسماعيل، ثم جبريل عليه الصلاة والسلام نفض بجناحه موضع زمزم، فلما جاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام للمرة الثالثة وجد ابنه إسماعيل جالساً في مكان يبري نبلاً له، فقال: يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر، قال: يا أبتي افعل ما أمرك ربك، قال: إن الله أمرني أن أبني البيت ها هنا.
فبنى البيت من الركن اليماني إلى الركن الذي فيه الحجر الأسود بغير زيادة ولا نقصان، والطول من جهة الركنين الشاميين، وحجر إسماعيل الموجود الآن كان في داخل الكعبة التي بناها إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ لأن إبراهيم رفع القواعد لقوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} [البقرة:127].
فرفع البيت ولكنه لم يسقفه حتى قبل مبعث النبي عليه الصلاة والسلام ببضع سنوات أتت بعد ذلك السيول فاجتاحت البيت وأخذت الحجارة حتى لم يبق إلا القواعد التي في أصل المسجد، فبنى أهل الجاهلية المسجد قبل بعثة النبي محمد عليه الصلاة والسلام بخمس سنين، ثم اختلفوا فيمن يضع الحجر، فقالوا: نرضى بأول داخل، فكان الداخل هو محمد عليه الصلاة والسلام، فخلع ثوبه ووضع الحجر فيه وحملته كل القبائل، كل من طرف حتى وضعوه في المكان الذي حدده النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم قد رضوا بحكمه، فلما بنوا البيت أخرجوا منه المكان الذي كان فيه إسماعيل يبري نبله وهو المعروف الآن بحجر إسماعيل.
والحجر من البيت ولذلك لا يحل لأحد عند طوافه بالبيت أن يطوف في حجر إسماعيل؛ لأنه لا يكون قد أتم الطوفة حينئذ، فلابد أن يطوف من خارج الحجر لا من داخله؛ لأن من طاف من داخل الحجر كأنه طاف من داخل الكعبة ولم يطف حول الكعبة حقيقة.
ولذلك على أية حال فإن الكعبة بالفعل قد هدمت وبنيت على أصل القواعد الأولى ثم جاء بعد ذلك عبد الله بن الزبير وهدمها مرة أخرى وبناها على قواعدها الأولى وأدخل الحجر في الكعبة، وقال: هذا هو البناء الذي أدركنا عليه النبي عليه الصلاة والسلام.
ولكن النبي عليه الصلاة والسلام إنما منعه من نقض الكعبة وبنائها على القواعد التي يعرفها أنه خاف الفتنة؛ لأنه قال: (لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم).
والذي كان قد بناها على قواعدها الأولى هو عبد الله بن الزبير قال: إن الذي منع النبي عليه الصلاة والسلام أن يبنيها لا يمنعني؛ لأن الناس قد عرفوا الإسلام والإيمان واستقر ذلك في قلوبهم ولم يكونوا بعد حديث عهد بجاهلية، والعلة الأخرى التي منعت النبي صلى الله عليه وسلم هي موجودة معي وهي النفقة.
فنقض الكعبة حجراً حجراً حتى بناها على قواعد إبراهيم، وجعل لها بابان؛ باباً في المشرق وباباً في المغرب يدخلها الداخل من جهة المشرق ويخرج من جهة المغرب، ولكن عبد الملك بن مروان لما تولى الإمارة قال: لأنقضن الكعبة وأبنيها على ما كانت في عهد نبينا عليه الصلاة والسلام وفعل وأغلق منها باباً ولم يبق إلا هذا الباب الذي هو موجود الآن، ثم بعد ذلك عوتب عبد الملك بن مروان قال: إنك قد فعلت فعلاً ود النبي عليه الصلاة والسلام أن لم يكن، ثم حدثوه بحديث عائشة: (لولا أن قومك حديثو عهد) فطأطأ رأسه وبكى وقال: والله لو أعلم هذا الحديث ما نقضتها، فصار الرجل ينقض الكعبة ويبنيها في حضرة كثير جداً من أهل العلم ولا أحد يذكر أو ربما لا أحد يعرف هذا الدليل.
ولم يبلغ عبد الملك هذا الدليل إلا بعد أن نقض الكعبة وبناها، وهذا أمر عظيم جداً، وهذا يدل عل(26/8)
حكم لبس النعال السبتية
قال: [(ورأيتك تلبس النعال السبتية)]، والسبتية: هي النعال التي لا شعر فيها، والنعال التي نلبسها نحن لا شعر لها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (أيما إهاب دبغ فقد طهر).
والإهاب هو الجلد قبل الدباغ فإذا دبغ صار جلداً طاهراً، والدباغ نوعان: إما دباغ من الداخل والخارج، وإما من الداخل من موضع اللحم، فإذا كان الدباغ من الداخل والخارج؛ فإن الدباغ يطهر اللحم والخارج يزيل الشعر، فإذا دبغ الجلد على هذا النحو سمي: دباغاً سبتية، وهذا نوع من الدباغ كان في الطائف، ويصنعون منه النعال، وهذا كان ملبس أهل الرفاهية، ولذلك لا يتناسب لبس النعال بالمقابر، ولذلك جاء في الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام لما رأى رجلاً يلبس هاتين النعلين بين القبور قال: (يا صاحب السبتيتين ألق عنك سبتيتيك).
قال العلماء: يكره لبس النعال في داخل المقابر، لأنه لا يتناسب مع هذا المقام؛ فإن المرء يدخل هذه الأماكن ذليلاً خاشعاً مطمئناً مخبتاً، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يلبس النعال التي لا تدبغ من الخارج، وكان هذا ملبس رسمي عند العرب، وليس ملبس أهل الرفاهية.
والنبي عليه الصلاة والسلام هو أكثر الخلق تواضعاً وإخباتاً لله عز وجل، وهذا خلقه عليه الصلاة والسلام في كل باب من أبواب الأخلاق والآداب والسلوك.(26/9)
الصبغ بالصفرة والإهلال يوم التروية
قال: [(ورأيتك تصبغ بالصفرة)]، أي: تصبغ شعرك باللون الأصفر.
قال: [(ورأيتك إذا كنت بمكة)]، يعني معناه: أنه قد أحرم من ذي الحليفة، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحرم من غير ذي الحليفة، فقد اعتمر أربع مرات وحج مرة واحدة قارناً بين الحج والعمرة، وفي كل كان النبي عليه الصلاة والسلام يحرم من ذي الحليفة.
وصفة القران أن يذهب الحاج من الميقات حتى يؤدي العمرة في مكة ثم يبقى في إحرامه إلى يوم التروية، ثم يحرم بالحج في يوم التروية، والعلماء اختلفوا في الإهلال بالحج للقارن أو للمفرد فقال بعضهم: يكون من أول شهر ذي الحجة، ولكن سنة النبي عليه الصلاة والسلام العملية خير شاهد على عكس ذلك، وهو أنه دخل عليه الصلاة والسلام مكة قارناً، فأدى نسك العمرة ثم بقي في إحرامه حتى يوم التروية، ثم ركب ناقته في يوم التروية، وكان ذلك في اليوم الثامن من ذي الحجة وهو المعروف بيوم التروية، وسمي تروية؛ لأن الناس يتروون فيه أي: يأخذون ريهم وشرابهم إلى عرفة وإلى مزدلفة ومنى من مكة ليكفيهم في مناسك الحج.
قال: [(ورأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس إذا رأوا الهلال -أي: أحرم الناس بالحج إذا رأوا هلال ذي الحجة- ولم تهلل أنت حتى يكون يوم التروية)]، الذي هو اليوم الثامن من ذي الحجة، فهذه الأربعة الأمور لم تجتمع إلا لـ عبد الله بن عمر، ومعلوم أنها قد تكون اجتمعت في غيره، ولكن عبيد بن جريج هو الذي يتكلم عن نفسه قال: أراك قد اجتمعت فيك أشياء لم تجتمع لغيرك، أو لم تكن في غيرك، أو تصنع أربعة أشياء لم يكن أحد غيرك يفعلها، لا يعني ذلك أن يكون غير عبد الله بن عمر لم تجتمع فيه هذه الأربع وزيادة، لكن عبيد بن جريج لا علم له بذلك.
وجواب عبد الله بن عمر على أسئلة عبيد بن جريج أنه قال: [(أما استلام الركنين اليمانيين فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمس إلا اليمانيين، وأما النعال السبتية فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعال التي ليس فيها شعر، ويتوضأ فيها، فأنا أحب أن ألبسها)]، أي: يلبس النعال التي ليس فيها شعر بعدما يتوضأ، ورجله لا تزال رطبة بالماء، ولا يزال الماء عالقاً برجله، هذا معنى يلبس النعال التي ليس فيها شعر ويتوضأ فيها؛ لأن الوضوء لا يمكن عندما تكون رجلاه في النعل، وإنما عندما تكون رجلاه خارج النعل، فلابد من حمل هذا الحديث على التأويل السائغ له، وهو أنه كان يتوضأ ثم يضع قدمه في النعل ثم بعد ذلك يمسح عليه.
قال: [(وأما الصفرة -أي: الصبغ بالصفرة- فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها فأنا أحب أن أصبغ بها)]، وهو الحناء أو الكتم وهو الذي يصبغ به شعر الرأس واللحية.
قال: [(وأما الإهلال -أي: الإهلال في يوم التروية وليس من أول شهر ذي الحجة- فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل حتى تنبعث به راحلته)]، يعني: يوم التروية أول ما يركب الدابة وتقوم به يبدأ يهل.(26/10)
استشعار الآخرة وقرب الأجل عند أداء مناسك الحج
والنسك ثلاثة أنواع: تمتع، وإفراد، وقران، والإفراد أن تنوي أداء نسك الحج فقط، والذي يريد أن يحج دون أن يعتمر فإنه يحرم من الميقات من رابغ ثم يدخل مكة يطوف حول الكعبة ويسعى بين الصفاء والمروة، فهذه المسائل العملية لا يمكن أن تفهم ولا تركب في العقل إلا بالتطبيق، فهو يفرد الحج دون العمرة، وهذا الطواف يسمى طواف القدوم، وليس له علاقة بالعمرة، فلا يسقط عنه طواف الإفاضة في اليوم العاشر.
وملابس الإحرام تذكر الواحد بأصله أو بمبدئه ومنتهاه، فهي تذكره بيوم ميلاده حين ولد في خرقة، وتذكره بوفاته حين يكفن في خرقة.
وأما هذا الحشر في عرفة أو في منى أو المزدلفة أو في بيت الله الحرام أو يوم النحر إنما يذكرك بالحشر يوم القيامة، ومن لم يعتبر بهذه المعاني كلها في حجه فإنه يرجع إلى ما كان عليه قبل الحج وزيادة، فالسارق يرجع سارقاً، ونصاباً، ومحتالاً، والكذاب يرجع مثل حالته، لكن إذا ذهب من هنا ليجدد العهد والميثاق مع الله عز وجل، خاصة وأن الله وحده هو الذي يغفر له ما تقدم من ذنبه، وأنه يرجع من ذنبه كيوم ولدته أمه، وهذه فرصة ربنا أعطاها لك وأنت لا تدري، ربما لا تتيسر لك مرة أخرى.
فإن رجعت على هذا النحو مستبشراً برحمة الله ومغفرته وقبول توبتك والعفو عن ذنبك، فيلزمك أن تحاسب نفسك على أقوالك وأفعالك وأخلاقك، وتبقى سمحاً كريماً، وتتمثل أخلاق النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنك لا تدري أتحج مرة ثانية أم لا؟ يغفر لك ذنبك أم يؤاخذك الله عز وجل؟ فهناك معاني لابد أن تفكر فيها، هذه المعاني تلزم المرء في كل حياته بالشرع، وأنت في كل فترة تقوم بتشييع الجنازة، ربما يغسلونك في المقبرة، ويصلون عليك، ويدفنونك بجوار الميت، ويقبرونكما في وقت واحد، ولا يغلقون القبر إلا عليكما سوياً.
ومع هذا أنت تقول: أنا ما زلت شاباً، وتنسى أن الذي تدفنه طفل لم يبلغ مرحلة من الشباب أو الفتوة، فلو كنت فعلاً تمشي في الجنازة فعليك أن توقن بأنك لا ترجع إلى بيتك وإلى أهلك، نحن ممكن نخرج من المسجد وتصدمنا سيارة، فنحن طلاب علم في مسجد الرحمة وبعد خمس دقائق من خروجنا يقال فينا: الله يرحمنا، فلابد أن الإنسان فعلاً يستشعر عظمة الله عز وجل في كل لحظة من لحظات حياته.
وكان أحد السلف رضي الله عنهم يقول: لو أن الله عز وجل أخبرني بأن ساعتي غداً ما زدت في عملي شيئاً، لأنه اجتهد في أصل عبادته لله عز وجل على أحسن وجه وأكمله، إنما لو أن الواحد منا قيل له: إن ساعتك غداً، فإنه يبيت الليل يفكر في كل شيء، يراجع حساباته في كل جانب، ليس عندنا الاستعداد الذي كان عند أسلافنا، وليست لنا قلوب كالقلوب التي كانت في صدور أسلافنا، والله تبارك وتعالى يرحم ضعفنا.(26/11)
ما يشرع للحاج عمله من أول يوم التروية إلى نهاية المناسك
فمن حج مفرداً فإنه لن يعتمر وإنما يحج فقط، أنت بإمكانك أن تأتي من جدة إلى منى مباشرة دون أن تدخل مكة، فتصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم تبيت بها، لكن البقاء في منى والمبيت بمنى في هذه الليلة سنة وليس واجباً ولا فرضاً، ثم تذهب مباشرة إلى عرفة نهاراً وهذا شيء جيد وهو سنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أشرقت عليه الشمس في منى انطلق إلى عرفة، فوصل قبيل الظهر وصلى الظهر والعصر جمع تقديم، وترك صلاة المغرب والعشاء حتى صلاهما في مزدلفة حين أفاض جمع تأخير، وما هبط من عرفات إلى مزدلفة إلا بعد أن غربت عليه الشمس في عرفات، فتوضأ وضوءاً خفيفاً، فقال أسامة بن زيد: الصلاة يا رسول الله! يعني: المغرب أذن لم لا تصلي؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام مشيراً إلى المزدلفة: (الصلاة أمامك) يعني: سنصلي المغرب والعشاء جمع تأخير في مزدلفة، وليس صلاة المغرب والعشاء تؤدى في عرفة، فمن لم يدرك الوقوف في نهار عرفة يمكنه أن ينزل في الليل يوم التاسع من ذي الحجة، ولو أدركت ساعة في ليل عرفة قبيل الفجر صح وقوفك، ثم تنزل من عرفة إلى مزدلفة، ثم تنطلق إلى منى، وبهذا يكون قد تم حجك ولا شيء عليك ولا كفارة بتركك البقاء في منى في نهاية التروية أو في ليل اليوم التاسع؛ لأن هذا كله مسنون وليس واجباً.
فإذا رميت جمرة العقبة الكبرى في يوم النحر وحلقت فلك أن تتحلل من إحرامك وتأتي كل ما كان محرماً عليك إلا إتيان النساء، فإذا طفت طواف الإفاضة أي: تركت منى من عند جمرة العقبة الكبرى ونزلت إلى بيت الله الحرام فطفت بالبيت وسعيت فأنت تكون قد أديت النسك الثالث، والأنساك في يوم النحر خمسة إذا أديت منها اثنين تحللت من إحرامك وصح لك كل شيء إلا النساء، وإذا أتيت بثلاث صح لك كل شيء حتى النساء، وقلنا سابقاً: هي رمي جمرة العقبة الكبرى، والحلق، وذبح الهدي، والسعي بين الصفا والمروة، والطواف، إذا فعلت اثنين من الخمسة جاز لك أن تتحلل من إحرامك وتلبس الملابس العادية، وإذا فعلت ثلاثاً جاز لك كل شيء حتى النساء، هذا لمن حج مفرداً؛ لأن المفرد ليس عليه هدي كما أنه ليس عليه طواف قدوم ولا سعي بين الصفا والمروة، إنما عليه الطواف والسعي بعد رمي جمرة العقبة الكبرى أو في يوم النحر، والنبي عليه الصلاة والسلام ما سئل في هذه الخمسة الأنساك في يوم النحر عن شيء قدم أو أخر إلا قال: افعل ولا حرج، لكن التفسير الطبيعي في أداء هذه المناسك أن الحاج ينزل من مزدلفة إلى منى فيفاجأ بعد ظهر يوم النحر أن جمرة العقبة الكبرى من أمامه سيرميها بسبع حصيات ثم يحلق؛ لأن ذلك من السنة، ثم منى بجوارك إذا كنت من أصحاب الهدي كالمتمتع والقارن فتذبح، أو ربما تؤجل الذبح إلى اليوم الثاني أو الثالث أو حتى الرابع إلى وقت صلاة العصر وهو الوقت الذي يسن فيه الذكر والتسبيح والتهليل والتلبية وغير ذلك.
فإذا كان الأمر كذلك فلتذهب إلى مكة لتطوف حول البيت وتسعى بين الصفا والمروة، لكن إذا قدمت واحدة على الأخرى فلا شيء عليك في هذا اليوم وقبل غروب الشمس، ومن أخر الطواف والسعي معنى ذلك أنه قد رمى جمرة العقبة وحلق وذبح إن كان من أهل الذبح، وبالتالي يحل له كل شيء، فله أن يخلع ملابسه ويلبس الملابس العادية، لكن إن دخل عليه ليل يوم النحر دون أن يطوف ويسعى بين الصفا والمروة يلزمه أن يلبس ملابس الإحرام للطواف والسعي، هذه بسبب أنها لفتت بعض الأنظار سأعيدها مرة أخرى.
أنا أقول لك: هذه الخمسة الأنساك مسنونة لك منذ الزوال، يعني: من وقت الظهيرة حتى غروب الشمس، فرمي جمرة العقبة لابد أن يتم في يوم النحر وقبل غروب الشمس، والذبح ليس بلازم فإن أمامك أربعة أيام يوم النحر وثلاثة أيام التشريق إلى عصر اليوم الثالث، فلك أن تذبح في هذه الأربعة أيام، والحلق يتم كذلك في يوم النحر وهو الأفضل، ويصح لو تركته حتى الذبح مع مخالفتك للأفضل، أما الطواف فإنه لابد أن يؤدى قبل خلعك لملابس الإحرام؛ لأنه لا متنسك يطوف إلا بملابس الإحرام، ولك أن تطوف بغير ملابس الإحرام أي: بملابسك العادية إذا لم تكن متلبساً بالنسك إذا ما كنت ناوياً عمرة ولا حج لك أن تطوف بالبيت بملابسك العادية، فالطواف عبادة وهي شيء آخر.
لكن إذا فاتك الطواف والسعي في يوم النحر وتحللت من ملابسك وأردت أن تطوف وتسعى فيلزمك بعد غروب شمس يوم النحر أن تلبس ملابس الإحرام مرة أخرى لتطوف وتسعى، وهذا للمفرد.
وجاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام في اليوم الذي بعد يوم النحر وهو أول أيام التشريق، فقال: (يا رسول الله! ذبحت قبل أن أحلق، قال: لا حرج، وقال آخر: حلقت قبل أن أذبح، قال: لا حرج)، فوجه النبي صلى الله عليه وسلم سؤاله لأحد أصحابه: (أطفت بالبيت وسعيت؟ قال: بعد يا رسول -يعني: ما طفت- قال: البس إحرامك وطف واسع).
هذا الحديث خفي على كثير جداً من أهل العلم نبه عليه الشيخ الألباني عليه رحمة الله في كتابه الممتع مناسك الحج والعمرة.(26/12)
أفضل المناسك الثلاثة وصفتها
فنسك الحج الثلاثة هي: إفراد وتمتع وقران، والتمتع والقران لكل واحد منهما حكم، وأفضل هذه الأنساك الثلاثة التمتع مع أن النبي عليه الصلاة والسلام حج قارناً، لكن الخلاف وقع بين العلماء أيهما أفضل القران أو التمتع، فبعضهم قال: القران؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حج قارناً، والجمهور قال: التمتع وحجته في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي).
وأنتم تعلمون أن القارن يسوق الهدي من الميقات حتى يدخل به مكة، والمتمتع يأخذ هديه من مكة إلى منى، المهم أنه لا يسوق الهدي من الميقات، فالنبي عليه الصلاة والسلام لما دخل مكة واعتمر ومعه الهدي من الميقات من ذو الحليفة قال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي) أي: ما حججت قارناً وإنما حججت متمتعاً.
والصواب: أن التمتع أفضل من القران والإفراد، والثلاثة الأنساك كلها خير وبركة، لكن أخيرها وأبركها التمتع بشهادة النبي عليه الصلاة والسلام، فالذي يتمتع بين العمرة والحج يجمع بينهما، فأنت تنوي من الميقات التمتع وهو الجمع بين العمرة والحج، العمرة تؤدى أولاً، فإذا قلت: لبيك اللهم عمرة وحجاً تمتعاً دخلت مكة فطفت وسعيت وحلقت ثم تتحلل من ملابسك.
ولو أن المتمتع ذهب في شهر شوال فالأفضل له أن يحلق، لكنه إذا ذهب في يوم الثالث أو الرابع أو الخامس من ذي الحجة فالأفضل في حقه أن يقصر؛ لأنه بقي له خمسة أيام وسيأتيه يوم النحر، وهو مطالب بالحلق، فلو أنه حلق بالموس يوم الخامس من ذي الحجة سيحلق ماذا في يوم عشرة ذي الحجة؟ لن يزيل شيئاً.
لكنه لو أتى من أول الأشهر أو في وقت يسمح بسواد رأسه يعني: بنمو شعره ونبته مرة أخرى يكون الحلق أفضل، وهذا الجمع بين كلامي الآن والكلام السابق، فالذي يذهب من هنا متمتعاً ليس عليه أن يلتقط الهدي من الميقات، بل هو سيدخل مكة بغير هدي، وله أن يوكل شركة الراجحي هناك، فإنها تحمل عنك عبء الهدي والذبح والسلخ والطبخ وغير ذلك فهي تفعل كل هذا، وتدفع حوالي ستمائة وخمسين أو ستمائة ريال تقريباً.
ولك أن تذهب وتشهد ذبيحتك بنفسك، وإن كان الأمر فيه مشقة كبيرة لكن ما عندهم مانع؛ لأن الشركة بنفسها تقول لك: تفضل الذبيحة حقك رقم كذا، وتذهب المذبح الأهلي في منى فترى الذبيحة حقك موجودة وفي رقبتها البيانات حقها، واسمك مكتوب على الذبيحة.
فإذا أردت أن تشهد ذبحها وتأخذ هذه الذبيحة كلها بعد الذبح ما هناك مانع، ولك ذلك، ثم تدخل مكة فتطوف بالبيت وتسعى بين الصفا والمروة وتحلق رأسك إذا كنت متقدماً في أشهر الحج، وإذا كنت متأخراً يعني: في شهر ذي الحجة نفسه فالأولى أن تقصر فقط، فإذا فعلت ذلك فقد تحللت من عمرتك، وتلبس ملابسك العادية حتى يوم التروية من أول ما تركب الدابة من بيتك أو من المسجد الحرام أو من أي موضع في مكة تبدأ تنطق بالإهلال من موضعك في البيت أو في الشارع أو في المسجد الحرام نفسه، وتنطلق إلى منى فتؤدي بها المناسك، ثم تؤدي المناسك بعرفة، ثم المزدلفة ثم منى، وإذا نزلت إلى مكة فلك أن تطوف بالبيت وتسعى.
والسعي ليس بلازم وإنما يكفيك الطواف ويجزئ عنك سعيك الأول الذي سعيته وهو سعي القدوم، وهذا في القارن ليس في المتمتع، وإذا لم يفعل الأول لزمه السعي في يوم النحر بعد طواف القدوم، أما المتمتع فإنه يطوف ويسعى قولاً واحداً؛ لأن هذا حج على انفراد، وهذه عمرة على انفراد قد أداها المتمتع، والمتمتع والقارن عليهما هدي بخلاف المفرد فإنه لا هدي عليه، والقارن لا يتحلل من إحرامه بعد أداء العمرة، وإنما يبقى في ملابس الإحرام حتى تنبعث به راحلته يوم التروية إلى منى.(26/13)
شرح حديث ابن عمر في إهلال النبي عند انبعاث راحلته
قال: [حدثنا هارون بن سعيد الأيلي، حدثنا ابن وهب - عبد الله بن وهب المصري القاضي- قال: حدثني أبو صخر -وهو حميد بن زياد الخراط مدني سكن مصر- عن ابن قسيط -وهو يزيد بن عبد الله بن قسيط - عن عبيد بن جريج قال: حججت مع عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما بين حج وعمرة ثنتي عشرة سنة أو ثنتي عشرة مرة -يعني: هو حج واعتمر عدة حجات وعدة عمرات مع عبد الله بن عمر قرابة ثنتي عشرة مرة- فقلت: يا أبا عبد الرحمن! لقد رأيت منك أربعة خصال وساق الحديث، كما ساقه أولاً.
وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا علي بن مسهر، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وضع رجله في الغرز -بمعنى: إذا وضع رجله في غرز الدابة، يعني: كان لا يهل إلا إذا انبعثت به راحلته- قال: وانبعثت به راحلته قائمة أهل من ذي الحليفة)].
إذاً: عندنا إهلالان كان النبي عليه الصلاة والسلام لا يهل فيهما إلا إذا انبعثت به راحلته: إهلال من ذي الحليفة في مبدأ العمرة، وإهلال من مكة في يوم التروية، ليس من أول شهر ذي الحجة وإنما من أول يوم التروية.
قال: [وحدثني هارون بن عبد الله حدثنا حجاج بن محمد قال: قال ابن جريج: أخبرني صالح بن كيسان، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أنه كان يخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل حين استوت به ناقته قائمة)]، وفي الرواية التي تليها قال: [(رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب راحلته بذي الحليفة)]، يعني: ركب الدابة أولاً ثم أهل حين استوت به قائمة، يعني: ما كان يهل بها وهي باقية في مكانها وهو راكب فوقها إلا إذا قامت وانبعثت، وبعض أهل العلم في هذا الزمان يقول: حين تركب الباص أيضاً لا تهل إلا إذا انطلق الباص؛ لأنه هو حين انبعاثه.
وهذا من تشبيه الباص بالبعير الذي تركبه وغير ذلك، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يهل حين بروك البعير وإنما أهل حين انبعث، أي: حين قامت به ناقته واستوت وانبعثت.(26/14)
باب الصلاة في مسجد ذي الحليفة
قال: [باب الصلاة في مسجد ذي الحليفة.
حدثني حرملة بن يحيى، وأحمد بن عيسى قال أحمد: حدثنا وقال حرملة: أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس، عن ابن شهاب أن عبيد الله بن عبد الله بن عمر أخبره، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (بات رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة مبدأه وصلى في مسجدها)]، النبي عليه الصلاة والسلام لما أراد النسك خرج من المدينة بعد صلاة العصر، ووصل ذا الحليفة قرابة المغرب أو العشاء فصلى بها المغرب والعشاء ثم بات بذي الحليفة، ولا يلزمنا المبيت بذي الحليفة كما بات النبي عليه الصلاة والسلام، ومن فعله تأسياً واقتداء فهو حسن لكنه لا يلزمه؛ لأن هذا المبيت ليس من أعمال الحج ولا من أعمال العمرة نهائياً، فمن فعله تأسياً واقتداء فهو حسن ومن تركه فلا حرج عليه.
فقوله: (بات النبي عليه الصلاة والسلام بذي الحليفة مبدأه) أي: في مبدأ الانطلاق لأداء النسك (وصلى في مسجدها) المقصود: أنه بات بذي الحليفة حتى أصبح، ولما أصبح صلى الفجر، ولذلك أهل العلم استفادوا من هذا الحديث أن إهلاله بالنسك كان بعد صلاة الصبح لا بعد ركعتين مخصوصتين بالنسك أو بنية الإحرام، وإنما أحرم بعد صلاة الصبح صلى الله عليه وسلم.(26/15)
باب الطيب للمحرم عند الإحرام
قال: [عن عائشة رضي الله عنها قالت: (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت)]، نحن كنا قد اتفقنا في الدروس الماضية أن الطيب يحرم على المحرم؛ وقلنا: إن من فعل ذلك متعمداً لزمه الدم؛ لأنه خالف واجباً، ومن فعل ذلك ساهياً أو مخطئاً أو جاهلاً وهو لا يعلم بالحرمة فلا شيء عليه، وإن قدم شاة فهو حسن، لكن إن لم يقدم فلا إثم عليه.
وعائشة رضي الله عنها تقول: (طيبت) يعني: حصل منها العطر والطيب، (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت)، يعني: لما أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يحرم طيبته قبل أن يحرم، والذي أراد الدخول في النسك قبل إحرامه جاز له أن يتطيب في بدنه دون ثوبه.
فـ عائشة رضي الله عنها طيبته -قبل أن يحرم- في بدنه، وستأتي معنا الأدلة التي تبين هذا، ثم قالت: (ولحله) أي: طيبته لحله قبل أن يطوف بالبيت طواف الإفاضة في يوم النحر، بعد رمي جمرة العقبة، وبعد الحلق وربما بعد الذبح وفي يوم النحر حل له كل شيء إلا النساء، ومما حل له الطيب، فهي تقول: (وطيبته لحله قبل أن يطوف بالبيت)، يعني: طيبته بعد أن تحلل من ملابسه بمنى بعد رمي جمرة العقبة وبعد الحلق، لأن السنة التي وردت في حجه كما في حديث جابر في الصحيحين أن النبي عليه الصلاة والسلام في حجه فعل هذا، فإنه رمى جمرة العقبة وناول رأسه الحلاق فحلق الأيمن ثم حلق الأيسر، وأخذ أبو طلحة الأنصاري شعره فأخذ الشق الأيمن له ولأهل بيته، وأخذ الشق الأيسر ففرقه في أصحابه كل واحد له شعرة أو شعرتان بركة من النبي عليه الصلاة والسلام.
والتبرك بالنبي عليه الصلاة والسلام يجوز بذاته وآثاره، بخلاف بقية الخلق فلا يجوز التبرك بأحد قط من الخلق، إنما يجوز الاستشفاع والاستسقاء بدعاء الصالحين وغير ذلك، وهذا ليس موضوعنا الآن، فالنبي عليه الصلاة والسلام رمى جمرة العقبة وحلق وذبح الهدي وكان معه الهدي في منى؛ لأنه كان يسوقه معه، وعلى أية حال على فرض أنه لم يذبح مع أنه ذبح لكنه رمى جمرة العقبة وحلق فحل له كل شيء إلا النساء.
فهو لما سينزل من منى يطوف بالبيت ويسعى سعي القدوم، فالنبي عليه الصلاة والسلام تحلل في منى قبل أن يطوف بالبيت، فـ عائشة تقول: (وطيبته لحله قبل أن يطوف بالبيت)؛ لأنه تحلل بعد أداء نسكين أو ثلاثة.
فقولها رضي الله عنها: (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي لحرمه حين أحرم)]، أو لحرمه حين أحرم وكلاهما صحيح، ولكن جمهور المحدثين يقولون: بضم الحاء وبعض اللغويين ينكرون على المحدثين ضم الحاء ويقولون: الصواب هو الكسر.
وعروة والقاسم يخبران عن عائشة أنها قالت: [(طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي بذريرة في حجة الوداع للحل والإحرام)]، الذريرة: اسم قارورة أو كأس كان يوضع فيه الطيب يأتي من الهند، واسم ذريرة كأنها كلمة هندية معربة، والمعنى طيبته في حال حله وفي حال إحرامه، أي: قبل أن يحرم.
قال: [وقال عروة: (سألت عائشة رضي الله عنها بأي شيء طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند حرمه؟ قالت: بأطيب الطيب)]، وهو المسك.
[وقالت عائشة: (كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأطيب ما أقدر عليه قبل أن يحرم ثم يحرم)]، وهذا لفظ صريح أن الطيب كان قبل الإحرام، ويذكر أنه في البدن لا في الثوب.
قال: [وعن عائشة قالت: (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم ولحله قبل أن يفيض -يعني: قبل أن يطوف طواف الإفاضة- بأطيب ما وجدت).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم)]، والوبيص الذي هو البريق واللمعان في مفرق الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد كان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه يسرح شعره من منتصف رأسه ويطرح الأيمن على الأيمن والأيسر على الأيسر، طبعاً لو عملها واحد الآن بنية الاقتداء لكان مأجوراً على ذلك، لكن نريد منك أن تلبس العباءة مثل ما كان يلبسها النبي عليه الصلاة والسلام، فقد كان يرى مفرق رأسه؛ لأنه كان محرماً، والمحرم لا يلبس طاقية ولا قلنسوة ولا شيئاً من هذا، فحيث أنه يفرق شعره ويكثفه يلبس أيضاً عمامة مثلما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، كيف أنت تقتدي به في شيء ولا تقتدي به في الأشياء الأخرى؟ لكي تأتي البنات وتجلس بجانبه وتقول: هذا شعره ناعم، شعره أسود.
شعرك هذا يمكن أن تشتعل فيه نار تأكلك وتأكل شعرك، ووقتها ستغطي رأسك مكرهاً، لا بنية الاقتداء وإنما بنية أنك تخفي الحرق، فالأحسن لك أن تستقيم من الآن، وتصحح نيتك، وتصلح عملك على منهاج النبي عليه الصلاة والسلام.(26/16)
الأسئلة(26/17)
حكم لبس الحزام الذي فيه وصلة قماش مخيطة للمحرم
السؤال
هل يمكن لبس حزام لوضع المال به وبه وصلة مخيطة أم لا؟
الجواب
لا بأس بلبس الحزام للحفاظ على الأوراق والأموال وغير ذلك، وإن كان في الحزام وصلة مخيطة فهذا لا يضر، وأصله الجواز، وكثير من السلف أفتى بذلك ولم يمنع من ذلك أحد للحاجة؛ ولأن هذا لم يخط على قدر العضو، وأنتم تعلمون أن الذي نهى عنه الشرع إنما هو لبس الثياب المخيطة على قدر العضو، وإلا فهذا الإحرام الذي تلبسه فيه شيء من الخيط بل هو نسج من خيط، وربما أدير على حافة هذا الثوب بالمكينة، وهذا يعني أن فيه خياطة.
ولكن المنهي عنه أن تلبس ثوباً مخيطاً على قدر العضو كالكم والصدر والظهر والرجل وغير ذلك، فالمنهي عنه أن تلبس ثوباً مخيطاً على قدر العضو، أما غير ذلك فليس فيه نهي، ومنه هذا الذي نذكره، والذي فيه الحرج هو هذا الإزار الذي ألحق به ما يشبه الملابس الداخلية لربط هذا الجزء على العورة المغلظة فهذا لا يجوز لبسه؛ لأن هذا خيط على قدر العضو، الملابس في هذا الزمان صارت ليس فيها حشمة.
فالمنهي هو ما قد حيك على قدر العضو ليس بمهم أن يكون مخيطاً، فهذا لا يجوز لبسه.(26/18)
حكم إهداء ثواب القرآن إلى الميت
السؤال
هل يصل ثواب القرآن الكريم إلى الأموات، وإذا كان يصل فبأي سورة مع الدليل؟
الجواب
ثواب القرآن يصل إلى الأموات أو لا يصل، المسألة فيها اختلاف بين أهل العلم، وأنا قد أجبت عن هذا السؤال مراراً وتكراراً في هذا المسجد.(26/19)
حكم من حج على نفقة شركة أو من أحد الناس
السؤال
هل من يحج حجة الإسلام تجوز حجته إذا كانت على حساب شركة، أو عامل في خدمة الحجاج، أو أهدى إليه أحد الناس، أفتونا بذلك؟
الجواب
يجوز بلا خلاف بين أهل العلم.(26/20)
عدد الهدي في الحج
السؤال
كم عدد الهدي المقصود بفريضة الحج؟
الجواب
الهدي شاة واحدة فقط لكل حاج قارناً كان أو متمتع، وبعير لسبعة، أو بقرة لسبعة من الناس، يعني: سبعة يشتركون في بقرة أو في جمل أو لكل واحد شاة.(26/21)
حكم من حج متمتعاً، وبيان ما هو التمتع
السؤال
إذا كان التمتع أفضل من القران، فهل من يريد حجة الإسلام يجزئه التمتع فقط، وما هو التمتع؟
الجواب
نعم يجزئه، والتمتع: هو أنك تضم العمرة إلى الحج وتؤدي العمرة في أشهر الحج: شوال، ذو القعدة، العشر الأوائل من ذي الحجة، ثم لا تخرج من مكة بعد أداء العمرة، وتنوي عند أداء العمرة أداء الحج بعدها، وهذه النية تنعقد من الميقات، ثم تتحلل من إحرامك بالعمرة، وتحرم في يوم التروية، وتذهب لتؤدي الحج تماماً بتمام على النحو الذي ذكرناه، وهذا بلا شك يجزئك عن حجة الإسلام، بل هو حجة الإسلام.(26/22)
عدد عمرات النبي عليه الصلاة والسلام
السؤال
ذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع مرات غير العمرة التي كانت مع حجه، أليست عمرته التي مع حجته هي ضمن الأربع؟
الجواب
هي ضمن الأربع، اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم أربع مرات إحداهن مع حجته.(26/23)
حكم الأضحية للحاج
السؤال
هل من السنة الأضحية بعد الحج كل عام؟ وهل يلزم ذلك؛ لأن بعض الناس يفعل ذلك بحرص شديد؟
الجواب
لا، بل أنه من واجبات الحج، وهذا للمتمتع والقارن لا للمفرد كما وضحنا من قبل.
ومن يحرصون على ذلك هم على حق؛ لأن هذا واجب عليهم لابد من أدائه، لكن من لم يكن معه هدي أو ما عنده مال يشتري به هدياً فإنه يصوم، قال تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة:196].
لكن أقول: الذي ليس عنده مال بتقوى الله، وربنا يعلم أنك تحمل معك ثلاثة أو أربعة آلاف ريال لكي تشتري هدايا لفلان وفلان وفلتان إلى آخره، أتترك الواجب في حقك وتشتري الهدايا؟ وتزعم أنه ليس لديك مال، فتصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعت إلى بلدك، وتجده في سوق المدينة وفي غيرها من الأسواق يحمل الكراتين والشنط، فهذا لا ينبغي.(26/24)
حكم الاختباء في مكة للحج خوفاً من السلطات السعودية
السؤال
هل يجوز للمعتمر أن يمكث في منزل مختبئاً حتى لا يمسك، وأن ينزل إلى منى في موسم الحج؟
الجواب
نعم ممكن، أنت ذاهب في رمضان من أجل أن تعتمر، وأنت تعرف أن العمرة من هنا أمرها ميسور فتدفع ألفاً أو ألفين وتسافر، لكن عندما تذهب تحج تدفع عشرة أو عشرين ألفاً، ثم تفاجأ بأن المطلوب منك هناك للسكن عشرة آلاف أخرى فالحج صار فيه مشقة عظيمة جداً وأنت لم تحج حجة الإسلام، لكن بإمكانك أن تختبئ في مكان معين من رمضان ولا تخرج حتى دخول وقت الحج.
بالرغم من أن الحكومة هناك لا تجوز هذا وتحرج كل الحرج على من بقي، فهل أنا أبيت في مكان كان في هذا المكان صاحب حق وأنا أخذته منه؟ لا أنا أبيت بأموالي وآكل بأموالي وأشرب بأموالي وأركب مواصلات بأموالي، إذاً: لا خسارة على أحد قط، وبالتالي فمن ذا الذي يجوز في الشرع أن يمنعني من الحج؟ الدول العربية -قبل دخول الكفار فيها- ملك لكل مسلم له أن يصول ويجول فيها حيث شاء، وأن يمكث في أي بلد من غير أن يأخذ الجنسية، مصر ملك لكل مسلم، والسعودية ملك لكل مسلم، لا يجوز لأي حكومة أن تزعم أنها تنظم، وفي الحقيقة أنها تعسر وتشق على من أراد البقاء هنا، أو على من أراد البقاء هناك، أنا حر في أن أؤدي المناسك في أي وقت شئت وفي أي عام شئت، لا يجوز لأحد أن يمنعني هذا هو الأصل، ويمكن الخروج عن هذا الأصل لو كانت هناك مضرة، وأي مضرة حينئذ؟ فأنا لا آكل أكل أحد، ولا أنام في مكان أحد ولا شيء من ذلك، كل هذا بأموالي وهو خير يساق إلى البلد هناك.
وبالتالي لما قامت الحكومة بمنع ذلك وهي لعبة سياسية لعدم دخول الشعوب والأمم الدخول المتسع في موسم الحج، اضطر العلماء أن يفتوا بما صدر من قرارات سياسية هناك، وبعضهم كان يجاهر بعكس ذلك.
والدروس في الحرم من أنفع الدروس على مدار العام، فمثلاً: الشيخ ابن عثيمين في شهر رمضان كان يقعد تقريباً عشرين يوماً أو الشهر كاملاً يعطي دروساً يجيب فيها عما لا يقل عن ألف سؤال، فيخرج بكم هائل جداً من الأسئلة والأجوبة التي تنفع الأمة في حياتها ومعادها، فإذا منع الشيخ مثلاً لكونه قد صرح بعدم مشروعية هذه القرارات السياسية فإنه سيمنع، فالأمر يريد منك التوكل على الله عز وجل، وتعرف أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك.(26/25)
حكم السعي قبل عرفة للمفرد
السؤال
هل يجوز السعي قبل عرفة للمفرد؟
الجواب
المفرد لا طواف ولا سعي عليه أولاً، وإنما يلزمه الطواف والسعي في يوم النحر وما بعده.(26/26)
حكم من اعتمر في أشهر الحج
السؤال
ذهب لعمل عمرة في شهور الحج، فهل عليه هدي؟
الجواب
أنت لو ذهبت في أشهر الحج سواء كنت متمتعاً أو قارناً فإن عليك هدياً، فإذا اعتمرت وعقدت العزم على جمع الحج إلى العمرة فعليك هدي، وإذا كنت متمتعاً ستعمل عمرة وتتحلل.(26/27)
حكم من صلى إماماً بدون عمامة
السؤال
هل للبس العمامة أو الطاقية دليل؟ وإن لم يلبس العمامة هل عليه إثم؟
الجواب
لا ليس عليك إثم، وإن خلعت الطاقية أو العمامة أو غير ذلك فلا إثم عليك، لكن يبقى أن النبي عليه الصلاة والسلام لبسها ولبسها أصحابه الكرام صلوات الله عليه ورضي الله عن أصحابه، وهي من سنن العادة وإن أخذت شكل العبادة، فإن أنت لبستها اقتداء وتأسياً بالنبي عليه الصلاة والسلام فهو حسن، وإن تركت ذلك فلا إثم عليك.
وكل الأحاديث الواردة في فضل العمامة أحاديث موضوعة، منها ما ورد في أكثر من عشرين طريقاً: (ركعتان بعمامة خير من سبعين ركعة بغير عمامة)، ولما كانت الجمعية الشرعية مهتمة بمسألة العمامة، والعمامة شيء أساسي في حياتها احتجوا بهذه الأحاديث المصنوعة الموضوعة المكذوبة التي لم يقلها النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يأت في أي منبر من منابر الجمعية الشرعية إلا والإمام متقدم أولاً على المنبر ويأخذ العمامة ويضعها على رأسه، فالطاقية وحدها لا تكفي بل لابد من العمامة بزعمهم.
رجل صلى بالناس إماماً وهو حاسر الرأس، وكان أحد المأمومين من الجمعية الشرعية فخرج من الصلاة بعدما كبر وأتى بالعمامة ووضعها على رأس الإمام، فهذا غلو.
فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يتوضأ ويمسح على العمامة، وهديه عليه الصلاة والسلام في العمامة أمر قد استفاض فيه شيخ الإسلام ابن القيم في كتاب: زاد المعاد، فليراجع الباب من أراد.(26/28)
حكم من جامع زوجته في نهار رمضان
السؤال
ما حكم رجل جامع زوجته في نهار رمضان؟
الجواب
إذا كان هذا الرجل من أهل التكليف يعني: كان بالغاً عاقلاً ذاكراً لما يفعل وأتى امرأته بغير عذر متعمداً وهو يعلم أنه في نهار رمضان، بخلاف من جامع امرأته ظناً منه أنه لا يزال في الليل ففوجئ أنه في النهار هذا يعتبر خطأ، أو من جامع امرأته ناسياً في نهار رمضان ثم تذكر بعد أن جامع ونزع فهذا لا شيء عليه، وإن قال أحمد بن حنبل: عليه الكفارة، لكن الراجح هو مذهب الجماهير، وهو أن من فعل ذلك مخطئاً أو ناسياً فلا شيء عليه، أما من جامع امرأته متعمداً فكفارته صيام شهرين متتابعين، فإن لم يقدر أو لم يكن من أهل الصيام فليطعم ستين مسكيناً.(26/29)
التكبير في العيدين
السؤال
متى يبدأ التكبير في العيدين؟
الجواب
التكبير في عيد الأضحى يبدأ من فجر يوم عرفة وينتهي في عصر اليوم الثالث من أيام التشريق، ويبدأ في عيد الفطر من غروب الشمس وينتهي بصلاة العيد.(26/30)
حكم استعمال النساء حبوب منع الحيض أثناء الحج
السؤال
هل يجوز أن تستعمل النساء حبوباً لمنع الحيض أثناء الحج، وإذا حاضت هناك فهل تطوف طواف الإفاضة؟
الجواب
يجوز استخدامها الحبوب لرفع الدورة مدة بقائها في أداء النسك، فقد أفتى المعاصرون بجواز ذلك، فإذا كان الحيض يضر بنسك المرأة فلا بأس أن تتعاطى هذه الحبوب لتأمن عدم وجود الدورة مدة النسك.
أما قولها: وإذا حاضت هناك فهل تطوف طواف الإفاضة؟ فنقول: إن المرأة الحائض والنفساء تفعل كل شيء إلا الطواف بالبيت.(26/31)
حكم من طاف وسعى بغير ملابس الإحرام
السؤال
حججت منذ خمس سنوات متمتعاً، وبعد رمي جمرة العقبة الكبرى حلقت وتحللت ولبست الملابس العادية، وصمت ثلاثة أيام في الحج ورميت الجمرات في أيام التشريق، ثم قبل السفر طفت وسعيت بملابسي العادية وفي نيتي الجمع بين طواف الإفاضة والوداع، فهل علي شيء لطوافي بملابسي العادية؟
الجواب
لا شيء عليك، والواضح أنك أو أنكم تجهلون هذا الحكم فمن فعل ذلك أي: من خالف ذلك جاهلاً أو ناسياً فلا شيء عليه ولا إعادة، وليس عليه شيء من دم أو غيره.(26/32)
حكم من طاف وهو على غير وضوء
السؤال
هل الوضوء شرط للطواف؟
الجواب
نعم، الوضوء شرط للطواف وليس شرطاً في السعي، إنما يستحب في السعي، إنما هو شرط في الطواف، من فقد وضوءه فعليه أن يخرج ويتوضأ ويبني على ما مضى إلا الطوفة التي فقدت الوضوء، فمن طاف مرتين -مثلاً- وفي أثناء الطواف الثالث انتقض وضوءه فعليه أن يخرج فيتوضأ ويأتي بالشوط الثالث كما في الأول.(26/33)
حكم من أشار وكبر إذا لم يستطع استلام الركن اليماني
السؤال
هل عند عدم استطاعة استلام الركن اليماني أشير إليه بيدي وأكبر من بعيد؟
الجواب
لا، إذا لم تستطع أن تستلمه بيمينك فلا تشر إليه ولا تكبر، إنما هذا في الحجر الأسود.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه.(26/34)
شرح صحيح مسلم - كتاب الحج - تحريم الصيد على المحرم
لقد حرم الإسلام صيد البر على المسلم ما دام محرماً، كما حرم عليه الإعانة على قتل الصيد بأي شكل من الأشكال، ولا يحل له أكل صيد البر إلا إذا صاده غير المحرم لا يقصد به إهداء المحرم منه أو إطعامه، ومع ذلك فهناك ما يجوز للمحرم قتله في الحرم، وهو ما يعرف بالفواسق؛ كالعقرب والغراب والحدأة وما في معناها.(27/1)
محظورات الإحرام وكفاراتها
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
ثم أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
نعرج سريعاً على ما ذكرناه إجمالاً في الدروس الماضية فيما يتعلق بالأشياء التي تحرم على المحرم، وإذا وقع فيها فما كفارتها؟(27/2)
الجماع ودواعيه
المحظور الأول: الجماع ودواعيه.
يحرم على المحرم الجماع والتقبيل والمفاخذة والأحضان، وغير ذلك مما يؤدي في الغالب إلى الوقوع في المحرم الصريح وهو الجماع، وهذا مع امرأته؛ لأن غير المرأة محرمة في الإحرام وفي غيره، فنحن نقول: ما يحرم على المحرم إتيانه أولاً هو جماع امرأته، فالإحرام والتلبس بالنسك سبب لتحريم ما كان حلالاً له من قبل مع امرأته، وهو الجماع والتقبيل، وخطابه إياها وخطابها إياه فيما يتعلق بالفراش.
وقيل في تفسير الرفث: أنه كل كلام يدور بين الرجل والمرأة فيما يتعلق بالفراش أو الجماع.
إذاً: أول شيء يحرم على المحرم -سواء كان رجلاً أو امرأة- إتيانه هو الجماع ودواعيه، فلابد أن تطرد الوسائل والأسباب التي تؤدي إلى الجماع في الغالب، فإذا رميت جمرة العقبة الكبرى في يوم النحر وحلقت فهذان منسكان، ويحل لك أن تتحلل من إحرامك، ويحل لك ما كان حراماً عليك إلا الجماع، فإذا طفت البيت وسعيت فقد حلت لك امرأتك.
إذاً: جماع المرأة لا يحل إلا بعد الطواف والسعي، فلو أنك حلقت ورميت وذبحت أي: أديت ثلاثة مناسك، فإنه يحل بهؤلاء الثلاثة أن تتحلل من ملابسك ويحل لك كل شيء إلا الجماع؛ لأنه لابد في حل الجماع من الإتيان بمنسك الطواف حول الكعبة والسعي بين الصفا والمروة.
فالمرأة لا تحل لك إلا بعد الطواف، وإذا طفت وسعيت حلت لك امرأتك وحل لك أن تنكح، أي: أن تزوج أو أن تتزوج أو أن تعقد أو غير ذلك مما يتعلق بأمور النساء.(27/3)
اكتساب السيئات واقتراف المعاصي
المحظور الثاني: اكتساب السيئات، واقتراف المعاصي والذنوب.
وهو داخل في الفسوق المذكور في كتاب الله عز وجل، والمذكور في سنة النبي عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ} [البقرة:197]، والفسوق يشمل الكبائر والصغائر من الذنوب.(27/4)
المخاصمة مع الرفقاء وبقية الحجيج
المحظور الثالث: المخاصمة مع الرفقاء وبقية الحجيج.
والمخاصمة قد نهى عنها القرآن الكريم والسنة النبوية، وهي بمعنى الجدال بالباطل، أما الجدال بالحق فإنه لا حرج على صاحبه، والأصل في تحريم هذه الأشياء كلها التي ذكرنا قول الله عز وجل: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ} [البقرة:197].
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه).(27/5)
لبس الخفين والمخيط على قدر العضو
المحظور الرابع: لبس المخيط على قدر العضو، يعني: قميص أو بنطلون أو تبان -الملابس الداخلية أو الفانيلة- وغير ذلك، كل هذا يحرم على المحرم إتيانه، إلا إذا لم يجد إزاراً فليلبس السراويل حتى يتمكن من لبس الإزار.
وكذلك يحرم لبس الثوب المصبوغ بما له رائحة طيبة كالزعفران والورس، كما يحرم عليه أن يلبس الخف أو الحذاء إلا ألا يجد نعلاً فيقطع الخف حتى يستوي مع النعل.
قال ابن عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يلبس المحرم القميص ولا العمامة ولا البرنس).
والبرنس: هو (الزعبوط).
عبارة عن طاقية لكنها مخيطة مع الثوب أو القميص.
قال: (ولا السراويل، ولا ثوباً مسه ورس ولا زعفران، ولا الخفين إلا ألا يجد نعلين فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين).
والحديث عند البخاري ومسلم.
وقد أجمع العلماء على أن هذا مختص بالرجل، يعني: كل هذه المنهيات فيما يتعلق بالملابس خاصة بالرجال دون النساء، أما المرأة فإنها لا تلبس النقاب ولا القفازين.
فالمرأة المنتقبة في حال إحرامها لا تلبس النقاب، وإنما تطرح البيشة على رأسها دون أن تشدها شداً، فإذا مر عليهن الرجال وخشيت أن يقع نظر الرجال عليها وضعت هذه البيشة على وجهها، فإذا مر الركبان من الرجال وأرادت أن تكشف وجهها فلها ذلك.
والحديث عند البخاري وأحمد: (لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين)، وفي هذا دليل على أن إحرام المرأة في وجهها وكفيها، أما إحرام الرجل ففي سائر بدنه فيما يتعلق بالقميص أو بالسروال أو بالخف.
ويجوز للرجل أن يستر نفسه بمظلة شمسية ونحوها، ويجب ستره إذا خيفت الفتنة من النظر.
قالت عائشة: (كان الركبان يمرون بنا -أي: من الرجال- ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها) (سدلت جلبابها) أي: أنزلته على وجهها.
قالت: (فإذا جاوزوا بنا كشفنا)، والحديث عند أبي داود وابن ماجة بسند صحيح.(27/6)
إجراء عقد النكاح إما لنفسه أو لغيره
المحظور الخامس: إجراء عقد النكاح إما لنفسه أو لغيره، سواء كان ذلك بالولاية أو الوكالة، يعني: إما أن يتولى ذلك بنفسه لنفسه أو لغيره، وإما أن يوكل في نكاح نفسه أو إنكاح غيره، ولو أجرى محرم عقد نكاح فهذا العقد لا عبرة به في نظر جمهور أهل العلم وهو الصحيح؛ لأن هذا العقد لم يصادف محلاً، وقد وقع في وقت محرم، ولا تترتب عليه آثاره الشرعية؛ لما رواه الإمام مسلم من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يَنْكِح المحرم ولا يُنْكح ولا يخطب) (لا ينكح المحرم) أي: لنفسه (ولا ينكح لغيره ولا يخطب)، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
والعمل على هذا عند كثير من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وبه يقول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق، ولا يرون أن يتزوج المحرم، وإن نكح فنكاحه باطل.
أما ما ورد عن ميمونة رضي الله عنها أنها تزوجها النبي عليه الصلاة والسلام وهو محرم فهو معارض بما رواه مسلم من أنه تزوجها وهو حلال.
فقد جاء فيما يتعلق بزواج النبي صلى الله عليه وسلم من ميمونة بنت الحارث أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها في رواية: (وهو محرم) وفي رواية: (وهو حلال)، والراجح: أنه تزوجها وهو حلال -يعني: بعد أن أحل- ولكنه تزوجها في الحرم، ويقال لمن كان في الحرم: (محرم) أي: قائم في الحرم، ولابد من هذا التأويل حتى يستقيم الدليلان معنا، والعمل بالدليلين أولى من رد أحدهما.
فقول الراوي: (تزوجها وهو محرم) أي: تزوجها وهو قائم بالحرم، يعني: تم عقد النكاح على ميمونة في الحرم، وإذا علمتم حدود الحرم تزول الغرابة حينئذ، فالحرم يحده حدود بعيدة جداً، ليس هو مبنى المسجد نفسه، بل حدود الحرم من الجعرانة ومن التنعيم ومن جهة عرفة أماكن بعيدة جداً، ومن أراد أن يحرم من أهل مكة فلابد أن يخرج إلى الحل، والحل في أطراف مكة ومشارفها، وهذا رأي قوي ويساند من يقول: إن مكة كلها حرم.
لكن من جهة الأحكام فإنه لا يجوز الاعتكاف في أي مكان من مكة، وإنما الاعتكاف في المساجد؛ لأن الآية خصصت هذا الحرم، وهو قول الله عز وجل: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] ولم يقل: في الحرم، فلا يبعد أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها في العوالي أو في أسفل مكة أو غيرها مما هو داخل في حدود الحرم، وليس في أصل المسجد نفسه.
إذاً: الأدلة التي وردت متعارضة في الظاهر فيما يتعلق بزواج النبي صلى الله عليه وسلم من ميمونة بنت الحارث أنه تزوجها وهو حرام، وتزوجها وهو حلال، والصواب: أنه تزوجها وهو حلال أي: بعد أن تحلل من إحرامه، والرواية التي تقول: أنه تزوجها وهو حرام أي: وهو في الحرم.(27/7)
تقليم الأظفار وإزالة الشعر
المحظور السادس والسابع على التوالي: تقليم الأظفار وإزالة الشعر سواء كان ذلك بالحلق أو القصر أو بأية طريقة، وسواء كان شعر الرأس أم غيره؛ لقول الله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] أي: هدي المتمتع والقارن.
وأجمع العلماء على حرمة قلم الظفر للمحرم بلا عذر، فإن انكسر فله إزالته من غير فداء عليه؛ ولذلك يستحب لك قبل أن تدخل وتتلبس بالنسك أن تحلق شعر رأسك وشعر العانة، وتنتف شعر الإبط، وتقلم أظفارك، وتغتسل، وتتطيب، حتى لا يقع شيء من ذلك منك عمداً أو خطأً أو نسياناً أو تضطر إليه، لكن هب أنك دخلت في النسك دون أن تفعل كل هذا وهي مستحبات في حق المحرم، فإذا انكسر ظفرك بعد إحرامك يحرم عليك تقليم الأظفار وقص الشعر، سواء كان ذلك شعر الرأس أو شعر البدن كالإبط والعانة وغيرها، فيحرم عليك أن تأخذ شيئاً من هذا بالقص أو بالحلق أو بأي طريقة أخرى.
لكن هب أن ظفرك انكسر فهل يجوز لك إزالة هذا الظفر الذي انكسر؟ نعم يجوز، ولا يجوز لك بعد ذلك أخذ بقية الظفر الذي لم ينكسر، ولكن تأخذ القطعة التي انكسرت فقط ولا تأخذ أكثر منها، وفي هذه الحالة لا فداء عليك، كما قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196].
ويجوز إزالة الشعر إذا تأذى ببقائه، وفيه الفدية إلا في إزالة شعر العين إذا تأذى به المسلم فإنه لا فدية فيه.
هب أن شعرة من رموشك نزلت في عينك وأنت تتضرر بها بلا شك، فإزالة هذه الشعرة عن موطن الأذى أولى من إزالتها بالكلية، لكن إذا لم يكن بد إلا إزالتها بالكلية فهذا من التطبيب فيجوز بلا فداء، أما شعر الرأس فإنه لا يجوز لك إزالته إلا إذا دعت علة لذلك.(27/8)
التطيب في الثوب أو البدن
المحظور الثامن: التطيب في الثوب أو البدن بعد الإحرام، والتطيب قبل الإحرام يجوز في البدن، أما الثوب فإنه لا يجوز تطييبه، بل قد ورد الشرع بالنهي عن لبس الثوب -أي: الإزار والرداء- المطيب بطيب شديد كالورس والزعفران.
وإذا مات المحرم لا يطيب لا في بدنه ولا في كفنه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام فيمن مات محرماً: (لا تخمروا رأسه) يعني: لا تضعوا على رأسه غطاءً، وكل ما غطي به الوجه يسمى خماراً للمرأة والرجل، فقال: (لا تخمروا رأسه، ولا تمسوه طيباً، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً)، وما بقي من الطيب الذي وضعه في بدنه أو ثوبه قبل الإحرام فإنه لا بأس به.
ويباح شم ما لا ينبت للطيب على جهة الخصوص كالتفاح وغيره من الفواكه، وإن كان لها رائحة لكنها لم تتخذ للطيب، فما اتخذ للأكل ولم يتخذ للطيب كالشمام لا يحرم على المحرم.(27/9)
لبس الثوب مصبوغاً بما له رائحة طيبة
المحظور التاسع: لبس الثوب مصبوغاً بما له رائحة طيبة، كأن يكون ثوب الإحرام -الإزار والرداء- مصبوغاً بالورس والزعفران، فهذا ينهى عنه، أما إذا كان مطيباً بطيب خفيف يعني: لا يبدو منه تلك الرائحة الشديدة التي تبدو من الورس والزعفران فإنه لا بأس به؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تلبسوا ثوباً مسه ورس أو زعفران إلا أن يكون غسيلاً) يعني: إلا بعد أن يكون غسيلاً وذلك في الإحرام، ويكره لبسه لمن كان قدوة لغيره؛ لئلا يكون وسيلة لأن يلبس العوام ما يحرم وهو المطيب بالفعل، وأحياناً لا ينبغي لآحاد الناس أن يفعل شيئاً حتى وإن كان حلالاً؛ لأن عامة الناس ينظرون إليه على أنه القدوة والأسوة، فإذا فعل ما هو جائز ومباح كان من باب أولى أن يقع غيره في المحرم الصريح، لكنه لو تورع عن المباح أو عن بعض المباح لتعلم منه أتباعه الورع.(27/10)
حكم إتيان محظورات الإحرام
لو أن أحداً ما خالف وفعل هذه المحرمات فإنه إما أن يخالف متعمداً عالماً بالحكم، وإما أن يخالف سهواً أو خطأً أو جهلاً.
فالوطء يبطل الحج والعمرة باتفاق أهل العلم من غير خلاف، فلو أن محرماً جامع امرأته بطل حجه وبطلت عمرته، ويلزمه الاستمرار في أداء النسك، وعليه الإعادة والقضاء في العام المقبل.
ومن كان له عذر واحتاج إلى ارتكاب محظور من محظورات الإحرام غير الوطء كحلق الشعر ولبس المخيط اتقاء الحر أو البرد ونحو ذلك لزمه أن يذبح شاة؛ لأن كل هذه واجبات، وكل واجب يتخلف عنه الحاج يلزمه دم بخلاف أركان الحج، فكل واجب فرط فيه يلزمه الذبح، أو يطعم ستة مساكين كل مسكين نصف صاع، والصاع أربعة أمداد، والمد: هو ملء الكفين، أو يصوم ثلاثة أيام على النحو الذي سيأتي معنا، وهو مخير بين هذه الثلاث.(27/11)
باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى، ووجوب الفدية لحلقه وبيان قدرها
قال المصنف رحمه الله تعالى: فـ[عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به زمن الحديبية فقال: قد آذاك هوام رأسك -يعني: القمل الذي في رأسك هل آذاك يا كعب بن عجرة؟ - قال: نعم.
يا رسول الله! فقال النبي عليه الصلاة والسلام: احلق ثم اذبح شاة نسكاً)]، يعني: تعبداً لله عز وجل.
فما دام في ذلك عذر فليس عليه فداء، ولكن وجب الفداء جبراً لهذا الواجب؛ لأنه يحرم حلق الشعر للمحرم، فأبيح للمعذور بشرط أن يقدم فداءً وهو ذبح شاة.
قال: [(أو صم ثلاثة أيام -يعني: إذا لم يكن معك شاة صم ثلاثة أيام- أو أطعم ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين)]، وهذا حديث عند البخاري ومسلم.
والهوام: ما يهيم في رأس المرء من حشرات كالقمل وغيره الذي يضره، ولفظ الحديث: اذبح أو أو أو وهذا يدل على التخيير.
قال: [(اذبح شاة أو صم ثلاثة أيام أو أطعم ثلاثة آصع)]، والآصع: جمع صاع، ثلاثة آصع يطعم بها ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع؛ كفارة لمن اضطر إلى حلق شعره إذا كان عنده العذر في ذلك، وهذا من رحمة الله عز وجل.
قال: [وعن كعب بن عجرة كذلك قال: (أصابني هوام في رأسي وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية حتى تخوفت على بصري -يعني: حتى خشي أن يذهب بصره- فأنزل الله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196])].
(ففدية من صيام) أي: ثلاثة أيام بينته السنة، (أو صدقة) ثلاثة آصع على ستة مساكين، (أو نسك) وهو ذبح شاة.
قال: [(فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين فرقاً من زبيب -الفرق: هو المكيال المعين يحمل ثلاثة آصع- أو انسك شاة، فحلقت رأسي ثم نسكت)].
ولم يتخير كعب بن عجرة الثلاثة آصع أو الصيام مع أن هذا كان في مقدوره؛ لأن الذي يذبح شاة من باب أولى يملك ثلاثة آصع، لكنه لم يفعل هذا ولا ذاك وإنما فعل الأولى، وهذا شيء عجيب، فالشرع يحتاج إلى قلوب نقية وصادقة مع الله عز وجل حين تتعامل معه، فهذا الرجل لما علم أن خير هذه الكفارات الثلاث هو الذبح ذبح، ولم يتعامل مع ربه بالحد الأدنى وإنما تعامل بالحد الأقصى، وقاس الشافعي غير المعذور على المعذور إذا كان هناك عذر، وأوجب أبو حنيفة الدم على غير المعذور إن قدر عليه لا غير، هذا فيما يتعلق بحلق الرأس.
وعن عطاء قال: إذا نتف المحرم ثلاث شعرات فصاعداً فعليه دم.
أي: إذا نتف المحرم من لحيته أو من بدنه أو من إبطه أو من شعره ثلاث شعرات فصاعداً فعليه دم.
يعني: يذبح شاة، وروى الشافعي عنه أنه قال: في الشعرة الواحدة مد، وفي الشعرتين مدان، وفي الثلاث فصاعداً دم.
إذاً: ينبغي لك وأنت تمشي في منى وعرفات ومزدلفة ألا تلعب في لحيتك وفي شعرك، أو تنتف شعر إبطك، فإنك في هذه الحالة ستنزل من عرفة بدم، وتنزل من مزدلفة بدم، وتنزل من منى بدم.
إذاً: في الشعرة الواحدة مد من طعام ملء الكفين، وفي الشعرتين مدان.(27/12)
حكم من تطيب ناسياً أو لبس المخيط
أما إذا لبس المحرم أو تطيب جاهلاً بالتحريم أو ناسياً أنه محرم لم تلزمه الفدية؛ لأن الناسي لا فدية عليه.
قال: فـ[عن يعلى بن أمية قال: (أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل بالجعرانة -والجعرانة حل، وهي قبل مكة بحوالي اثني عشر كيلو- وعليه جبة، وهو مصفر لحيته ورأسه -يعني: رآه يلبس الجبة وهو مخالف، ومصفر لحيته ورأسه وهو كذلك مخالف- فقال: (يا رسول الله! أحرمت بعمرة وأنا كما ترى) -يعني: أنا لم أدرك أنه حرام أو لم أتذكر أنه حرام إلا بعد أن فعلت ووقعت في المحظور- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اغسل عنك الصفرة وانزع عنك الجبة)] حتى لو فعل ناسياً أو جاهلاً فإنه يجب عليه الجزاء؛ لأنه ضمان مال وضمان المال مضمون.(27/13)
باب تحريم الصيد على المحرم
اعلم أن جزاء الصيد الذبح، كما قال الله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95] هذه الكفارات وهذه الفداءات كلها تذبح لفقراء الحرم وفي أي وقت بخلاف الهدي، فالهدي سواء كنت متمتعاً أو قارناً يكون في يوم النحر وفي أيام التشريق الثلاثة، لكن الكفارات في أي وقت، حتى من عجز عن أداء الكفارة فله أن يوكل في ذبحها في أي وقت شاء، ولو كان ذلك في أقصى بلاد العالم، يرسل بعد شهر أو شهرين أو ثلاثة أشهر أو سنة أو سنتين من يذبح له في الحرم.(27/14)
شرح حديث الصعب بن جثامة في إهدائه حماراً وحشياً للنبي وهو محرم
قال: [باب تحريم الصيد للمحرم].
قال: [عن الصعب بن جثامة الليثي رضي الله عنه: (أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً)]، الحمار الوحشي يؤكل لحمه بخلاف الحمار الأهلي فإنه لا يؤكل لحمه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان بالأبواء أو بودان، وهما اسمان لمكانين بين مكة والمدينة، فبعد أن أحرم النبي عليه الصلاة والسلام أتى الصعب بن جثامة رضي الله عنه فأهدى حماراً وحشياً للنبي عليه الصلاة والسلام ليأكله، فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الصعب: (فلما أن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في وجهي -لأن النبي صلى الله عليه وسلم رد هديته- قال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم)، يعني: أنا ما رددت هديتك إلا أن المحرم لا يحل له هذا.
وفي رواية: (أهديت له حمار وحش)، وفي رواية: (أهديت له من لحم حمار وحش)، و (من) تفيد التبعيض، فمعناه: أنه قدم له بعض لحم الحمار ولم يقدمه حياً، وإنما قدم بعضه بعد أن ذبح، والبخاري عليه رحمة الله بوب لحديث هذا الباب، فقال: باب تحريم إهداء الوحش الحي، وقد أخطأ عليه رحمة الله، والروايات كلها عند مسلم وهي متفق على صحتها أن الإهداء إنما وقع على بعض اللحم لا على الحيوان وهو حي.
وفي رواية ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أهدى الصعب بن جثَّامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم حمار وحش وهو محرم فرده عليه فقال: لولا أنا محرمون لقبلناه منك)، وفي رواية منصور عن الحكم قال: (أهدى الصعب بن جثَّامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجل حمار وحش)، فالرواية التي تقول: (أهدى حمار وحش) أطلقت على البعض الكل، وهذا سائغ في اللغة، كما تقول: أنا أكلت الطعام كله، وأنت في حقيقة الأمر تثبت أنك أكلت حتى شبعت، أما الطعام فربما لم تأكل منه ربعه أو خمسه أو أقل من ذلك، فأنت أطلقت الكل وأردت البعض.
وفي رواية شعبة: قال: (أهدى الصعب بن جثَّامة إلى النبي عليه الصلاة والسلام عجز حمار وحش يقطر دماً)، وهذه الرواية صريحة جداً في أن المهدى كان بعض الحمار الوحشي لا كل الحمار الوحشي، وأنتم تعلمون أن البعض لا يأكله إلا بعد الذبح.
وفي رواية شعبة عن حبيب قال: (أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم شق حمار وحش فرده) أي: النصف.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قدم زيد بن أرقم فقال -وعبد الله بن عباس يستذكره- كيف أخبرتني عن لحم صيد أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حرام -أي: وهو محرم- قال: أهدي له عضو من لحم صيد فرده -أي: ليس كل الصيد وإنما بعضه- فقال: إنا لا نأكله إنا حرم) أي: محرمون، وفي هذا استحباب لمن أراد أن يرد شيئاً أو لا يقبل الهدية أن يبين السبب تطييباً لخاطر المهدي، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يكن من عادته رد الهدية، فإذا ردها ردها لعلة شرعية، وبينها تطييباً لخاطر المهدي.(27/15)
شرح حديث أبي قتادة في صيده لحمار الوحش وأكل المحرمين منه
قال: [من حديث أبي قتادة قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بالقاحة -القاحة: هي اسم قرية بين مكة والمدينة- قال: فمنا المحرم ومنا غير المحرم)]، وربما وجه أحدكم سؤالاً وقال: نحن عرفنا من قبل أنه لا يجوز لمن أراد النسك أن يمر على الميقات إلا وهو محرم؟
الجواب
هذا أبو قتادة لم يكن مريداً للنسك؛ ولذلك جاز له أن يعبر الميقات بغير إحرام، وقيل: إن المواقيت لم تكن وقتت بعد.
وهذا بعيد، وقيل: لأن النبي عليه الصلاة والسلام بعث أبا قتادة ورفقته لكشف عدو لهم بجهة الساحل، وهذا التأويل هو أقوى التأويلات.
إذاً أبو قتادة الأنصاري لما عبر الميقات بغير إحرام كان يقصد استكشافاً للعدو وقتالاً له، وأنتم تعلمون من الدروس الماضية أنه يجوز لمن دخل مكة مقاتلاً أو محارباً أو مجاهداً أن يدخلها بغير إحرام.
ومن خرج من بيته ينوي النسك لا يمر على ميقاته إلا محرماً، ويؤدي النسك أولاً ثم ينصرف إلى المدينة، فإذا خالف ذلك فقد خالف الأولى، فإن دخل المدينة بغير إحرام، كان ميقاته حينئذ ميقات أهل المدينة، فعندما يرجع إلى مكة يحرم من ذي الحليفة، لكنه هنا قد خالف الأولى، وفوت على نفسه ثواباً عظيماً جداً، وهو إحرامه من الميقات الأول الذي مر به.
قال أبو قتادة [: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بالقاحة فمنا المحرم ومنا غير المحرم)، إذاً: هذه الرفقة كان فيها محرمون وغير محرمين.
قال: (إذ بصرت بأصحابي يتراءون شيئاً -يعني: ينظرون إليه بأعينهم- فنظرت فإذا حمار وحش -أي: نظرت في الموضع الذي يتراءون فيه فبصرت عيناي حمار وحش- فأسرجت فرسي وأخذت رمحي -يعني: وضعت عليه السرج- ثم ركبت فسقط مني سوطي، فقلت لأصحابي -وكانوا محرمين- ناولوني السوط، فقالوا: والله لا نعينك عليه بشيء)]؛ لأنهم محرمون، فغير المحرم يجوز له أن يناوله السوط، أما أن المحرم فلا يجوز له قتل الصيد ولا ذبحه ولا الإشارة إليه ولا الإعانة على قتله، أما أكل الصيد ففيه نزاع وسيأتي معنا.
قال: [(فقلت لأصحابي وكانوا محرمين: ناولوني السوط، فقالوا: والله لا نعينك عليه بشيء، فنزلت فتناولته ثم ركبت، فأدركت الحمار من خلفه وهو وراء أكمة -يعني: أدركت الحمار وهو وراء تبة- فطعنته برمحي فعقرته -يعني: قتلته- فأتيت به أصحابي فقال بعضهم: كلوه، وقال بعضهم: لا تأكلوه -أي: المحرمون- وكان النبي صلى الله عليه وسلم أمامنا فحركت فرسي فأدركته، فقال: هو حلال فكلوه).
يعني: وجه أمره للمحرمين أن هذا الحمار الذي قتله أبو قتادة ولم يكن محرماً حلال لهم ولا بأس بأكله مع أنهم محرمون، قد يقول قائل: الصعب لما أهدى بعض حمار وحشي للنبي عليه الصلاة والسلام رده عليه وقال له: (إنا لم نقبله لأنا حرم) وهنا النبي صلى الله عليه وسلم يأمر المحرمين أن يأكلوا من هذا الحمار الذي قتله أبو قتادة.
وعن أبي قتادة [: (أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان ببعض طريق مكة تخلف مع أصحاب له محرمين وهو غير محرم، فرأى حماراً وحشياً، فاستوى على فرسه وسأل أصحابه أن يناولوه سوطه فأبوا عليه، فسألهم رمحه فأبوا عليه، فأخذه ثم شد على الحمار فقتله، فأكل منه بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأبى بعضهم، فأدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عن ذلك فقال: إنما هي طعمة أطعمكموها الله)] يعني: هذا طعام ساقه الله إليكم، وهذا يعني: إقراره عليه الصلاة والسلام لما فعلوه.
وفي حديث زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (هل معكم من لحمه شيء؟).
قال: [وعن عبد الله بن أبي قتادة قال: انطلق أبي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، فأحرم أصحابه ولم يحرم أبو قتادة.
قال أبو قتادة: [(فبينما أنا مع أصحابه يضحك بعضهم إلى بعض)]، كلف النبي صلى الله عليه وسلم أبا قتادة أن يأتي بأخبارهم، فلم يكن محرماً لأجل هذا؛ لأن المجاهد في الغالب لا يتفرغ لأداء النسك؛ ولذلك كان فيهم أقوام قد استعدوا للقاء العدو، وأقوام قد استعدوا لأداء النسك، وكان أبو قتادة ممن لم يحرم.
قال: [(فبينما أنا مع أصحابه يضحك بعضهم إلى بعض، إذ نظرت فإذا أنا بحمار وحش فحملت عليه فطعنته فأثبته -يعني: سقط ميتاً- فاستعنتهم فأبوا أن يعينوني -يعني: قال: احملوا معي الحمار اذبحوه أو اسلخوه فلم يفعلوا- فأكلنا من لحمه وخشينا أن نقتطع)].
هذا الفوج الذي ذهب من المدينة إلى مكة كان فوجاً كبيراً جداً، والنبي صلى الله عليه وسلم كان في مقدمة هذا الفوج، وأبو قتادة كان في آخر الفوج، فلما طعن هذا الحمار الوحشي وجا(27/16)
الأحكام الفقهية لأحاديث باب تحريم الصيد على المحرم
هذه الروايات التي سمعناها في مسلم على اختلاف ألفاظها، والبخاري ترجم باب: إذا أهدي للمحرم حماراً وحشياً حياً لم يقبل، ثم رواه بإسناده وقال في روايته: حماراً وحشياً، وحكي هذا التأويل عن مالك وغيره، وهو تأويل باطل.
وهذه الطرق التي ذكرها مسلم صريحة في أنه كان لحماً مذبوحاً لا يلزم أن يكون حياً، وأنه إنما أهدي بعض لحم صيد لا كله، واتفق العلماء على تحريم الاصطياد على المحرم.
قال الشافعي وآخرون: يحرم عليه تملك الصيد بالبيع والهبة، وفي ملكه إياه بالإرث خلاف.
يعني: تصور لو كان أبو قتادة اصطاد هذا الأتان ثم بعد أن اصطاده مات فوراً، فهل يرثه عبد الله بن أبي قتادة؟ هذا محل نزاع بين أهل العلم، أما لحم الصيد فإن صاده المحرم أو صيد له فهو حرام عليه، فالصيد ليس متعلقاً بنية الصائد كذلك، فقال: أما لحم الصيد فإن صاده المحرم أو صيد له فهو حرام، سواء صيد له بإذنه أو بغير إذنه، فإن صاده حلال -أي: غير محرم- لنفسه ولم يقصد أن يهديه للمحرم، ثم أهدى من لحمه للمحرم أو باعه لم يحرم عليه؛ لأنه من الأصل لم يصد ولم يعن ولم يشر ولم يساعد، والذي اصطاده حلال ليس محرماً، وهذا الحلال ما أصابه لأجل المحرم إنما أصابه لأجل نفسه هو، فإذا أصابه بهذه النية وأنه ما قصد بهذا الصيد إطعام المحرمين جاز للمحرم حينئذ.
قال أبو حنيفة: لا يحرم عليه ما صيد له بغير إعانة منهم، كأن أبا حنيفة أراد أن يقول: حتى لو نوى الصائد بصيده المحرم ما دام المحرم لم يصدر منه شيء يدل على الصيد بالإشارة أو الإعانة أو غير ذلك فإنه لا حرج عليه حتى لو كانت نية الصائد إطعام المحرم، لكن بر الأمان في مذهب الجمهور.
وقالت طائفة: لا يحل له لحم الصيد أصلاً سواء صاده أو صاده غيره له أو لم يقصده فيحرم مطلقاً، وهذا مذهب بعيد جداً، والأحاديث التي معنا في الباب ترد عليه، وعند أبي داود والترمذي والنسائي من حديث جابر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم) فالحديث صريح، يعني: صيد البر حلال لكم يا محرمين! بشرطين: الأول: ألا تصطادوه أنتم بأنفسكم، الثاني: ألا يصطاده حلال يقصد بهذا الصيد إطعام المحرم.
وحديث أبي قتادة لما اصطاد هذا الأتان وأطعمهم وأطعم النبي عليه الصلاة والسلام محمول على أنه ما صاده بنية إطعام المحرمين وإنما اصطاده لنفسه، وحديث الصعب: أنه قصد إطعام النبي عليه الصلاة والسلام وإطعام المحرمين فلما بلغ ذلك النبي عليه السلام من نية الصعب رده وقال: لا، نحن حرم.
يحرم علينا أن نصطاد أو نعين أو أن نشير أو أن نساعد، ويحرم علينا كذلك أن نأكل من لحم الصيد الذي صيد لنا خاصة، إذاً: لابد من هذا التأويل حتى تستقيم الروايات.(27/17)
باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم
قال: [باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم].
يعني: في حال حله وفي حال إحرامه، و (يندب) يعني: يستحب ولا يجب.
قال: [قالت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أربع كلهن فاسق، يقتلن في الحل والحرم: الحدأة والغراب والفأرة والكلب العقور، فقلت للقاسم: أفرأيت الحية؟ قال: تقتل بصغر لها)] يعني: بذل وإهانة، ولا حرج عليك إذا قتلتها فيكون معنا خمسة: الحدأة والغراب والفأرة والكلب العقور والحية.
وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خمس فواسق) وفي الرواية الأولى قالت: (أربع كلهن فاسق).
قالت: (خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الحية) ذكرت الحية موقوفة من قول القاسم، ومرفوعة من قوله عليه الصلاة والسلام.
قالت: (خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الحية والغراب الأبقع) إذاً: الحدأة والغراب والفأرة والكلب العقور أربعة، والحية الخامسة.
قالت: (خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحديا) فالحديا السادسة.
وفي رواية: (خمس فواسق يقتلن في الحرم: العقرب والفأرة والحديا والغراب والكلب العقور) فصار لدينا سبع فواسق.
وفي رواية: قالت: (خمس فواسق يقتلن في الحرم: الفأرة والعقرب والغراب والحديا والكلب العقور) وفي رواية: (خمس من الداوب كلها فواسق تقتل في الحرم: الغراب والحدأة والكلب العقور والعقرب والفأرة)، وفي رواية: عن عبد الله بن عمر قال النبي عليه الصلاة والسلام: (خمس لا جناح على من قتلهن في الحَرم والإحرام -وهذه الزيادة يعني: في داخل الحرم وهو محرم- الفأرة والعقرب والغراب والحدأة والكلب العقور)، وفي رواية: قال (في الحُرم والإحرام) يعني: في الأشهر الحرم وفي حال إحرامه، وفي رواية حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خمس من الدواب كلها فاسق، لا حرج على من قتلهن: العقرب والغراب والحدأة والفأرة والكلب العقور).
وفي رواية: (أن رجلاً سأل ابن عمر: ما يقتل المحرم من الدواب؟ فقال: أخبرتني إحدى نسوة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر أن تقتل الفأرة والعقرب والحدأة والكلب العقور والغراب).
وفي رواية: (أنه كان يأمر بقتل الكلب العقور والفأرة والعقرب والحديَّا والغراب والحية -قال:- وفي الصلاة أيضاً)، يعني: تصور أنك ترى حية وأنت تصلي أو غراباً وأنت تصلي أو عقرباً وأنت تصلي أو فأرة وأنت تصلي، هل يجوز لك قتلها وأنت تصلي؟
الجواب
يجوز لك، وتستمر في الصلاة وتبني على ما مضى، وجمهور أهل العلم قالوا: بشرط ألا يلتفت عن القبلة.
وذهب غيرهم إلى أنه يباح للمصلي أن ينطلق خلف هذه الفواسق حيث ذهبت حتى يقتلها.
وقتلها مندوب أو مستحب، سواء كان في حال الصلاة أو في حال الإحرام أو في داخل الحرم.
وعن ابن عمر: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور).
وعن ابن جريج قال: قلت لـ نافع: ماذا سمعت ابن عمر يحل للحرام قتله من الدواب؟ فقال لي نافع: قال عبد الله: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (خمس من الدواب لا جناح على من قتلهن في قتلهن: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور).(27/18)
كلام النووي في أحاديث قتل الفواسق(27/19)
جواز قتل الفواسق وما في معناها
يقول الإمام النووي: (اتفق جماهير العلماء على جواز قتلهن في الحل والحرم والإحرام، واتفقوا على أنه يجوز للمحرم أن يقتل ما في معناهن).
أي: هناك اتفاق على أنه ليست هذه السبعة المذكورة في النص هي التي تقتل فقط، بل يقاس عليها ما في معناها من هوام ودواب تؤدي نفس الفسوق الذي لأجله أبيح قتل هذه الفواسق.
وكلمة فاسق تعني: خارج؛ ولذلك يقال: فلان فاسق، يعني: خارج عن طاعة الله عز وجل، سواء بارتكاب الكبائر أو بارتكاب الصغائر، والفسق فسقان: فسق أكبر وفسق أصغر وهو الفسق العملي، فهذه الدواب سميت فواسق لأنها خرجت عن المألوف لدى الدواب ولدى الهوام بإيذاء الآخرين.
ومن الدواب ما هو أهلي كالقطط ولكنها من دواب البيوت؛ ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الهرة وقال: (إنها من الطوافين عليكم والطوافات)، وأثبت أن سؤرها ليس بنجس، كما في حديث أبي قتادة الأنصاري.
فهل النص الوارد في قتل هذه الفواسق خاص بهذه الفواسق فقط؟ أم يقاس عليها ما في معناها من الخروج والإيذاء والإفساد والفسق؟ قال الشافعي: اتفق العلماء على أنه يجوز للمحرم أن يقتل ما في معناهن، ثم اختلفوا في المعنى.
فقال الشافعي: المعنى في جواز قتلهن: كونهن مما لا يؤكل، وكل ما لا يؤكل ولا هو متولد من مأكول وغيره فقتله جائز للمحرم ولا فدية عليه.
إذاً: العلة في القياس بين المنصوص عليه وغير المنصوص عليه عند الشافعي هي أنه غير مأكول اللحم.
قال: وكل ما لا يؤكل لحمه جاز قتله في الحل والحرم ولا فدية على القاتل.
وقال مالك: المعنى فيهن: كونهن مؤذيات.
إذاً العلة عند الشافعي: كونه ما لا يؤكل لحمه، والعلة عند مالك: الإيذاء، فكل مؤذ يجوز للمحرم قتله وما لا يكون كذلك فلا يجوز للمحرم قتله.
اختلف العلماء في الكلب العقور، فقيل: هو الكلب المعروف، وقيل: كل ما يفترس يسمى كلباً عقوراً من جميع السباع.
قال: (اتفق العلماء على جواز قتل الكلب العقور للمحرم والحلال في الحل والحرم، واختلفوا في المراد به، فقيل: هذا الكلب المعروف خاصة، حكاه القاضي عن الأوزاعي وأبي حنيفة والحكم بن صالح ويلحق به الذئب، وحمل زفر معنى الكلب على الذئب وحده، وقال جمهور العلماء: ليس المراد بالكلب العقور تخصيص هذا الكلب المعروف، بل المراد: هو كل عاد مفترس غالباً، كالسبع والنمر والذئب والفهد ونحوها)، ومعنى العقور: العاقر الجارح، ونحن نسميه الكلب المسعور.
هناك كلب لا يحرس ولا يفعل شيئاًَ، وفي النهار يفرش يديه ورجليه وينام، حتى لو ضربته لا يتحرك من مكانه، فهذا ليس بعقور، بخلاف الكلب الذي يتربص بك، وبخلاف الكلاب التي تمزح فتخيف الصغار؛ لأنه يسعد ويفرح عندما يخاف الصغير، فهذا لا يقصد افتراساً وإنما يقصد الممازحة والملاعبة.
هناك كلب يهجم عليك لكنه يحافظ عليك، ولا يخدشك بخدش، بخلاف المسعور الذي لا يترك شاذة ولا فاذة إلا وينقض عليها.
والغراب الأبقع: هو الذي في ظهره وبطنه بياض.
وحكى السياجي عن النخعي أنه قال: لا يجوز للمحرم قتل الفأرة.
والحديث يرد عليه ذلك.
وحكى غيره عن علي ومجاهد: أنه لا يقتل الغراب ولكن يرمى، وهذا ثابت عن علي بن أبي طالب، وهو ليس كذلك، وأما الحية تقتل بصغر لها أي: بمذلة وإهانة، هذه هي السبع الفواسق التي يجوز للمحرم أن يقتلها في الحل والحرم والإحرام كذلك.(27/20)
حكم قتل من يجب عليه القتل بقصاص أو رجم أو غيره في الحرم
وفي هذه الأحاديث دلالة للشافعي وموافقيه في أنه يجوز أن يقتل في الحرم كل من يجب عليه قتل بقصاص أو رجم.
أي: إذا كانت هذه الفواسق بسبب الفسق جاز قتلها في الحرم، فكذلك الذي اكتسب حد الزنا أو السرقة أو غير ذلك لابد أنه فسق فيقاس على هذا المنصوص من جهة جواز إقامة الحد عليه في المسجد أو في الحرم.
قال: (في هذه الأحاديث دلالة للشافعي وموافقيه في أنه يجوز أن يقتل في الحرم كل من يجب عليه قتل بقصاص أو رجم بالزنا أو قتل في المحاربة وغير ذلك، وأنه يجوز إقامة جميع الحدود فيه، سواء كان موجب القتل والحد جرى في الحرم أو خارجه).
يعني: حتى لو أتى الذنب وهو خارج الحرم، كأن يكون زنى خارج الحرم أو سرق خارج الحرم، والمحترفون لا يسرقون إلا عند الطواف حول الكعبة، فيالها من قلوب مثل الحجارة! بل هي أشد وأقسى من الحجارة، يلبس ملابس الإحرام ويطوف مع الناس لكنه لا يطوف بنية العبادة وإنما بنية السرقة.
يقول الشافعي: يجوز إقامة كل الحدود في المسجد، سواء كان موجب القتل والحد جرى في الحرم أو خارج الحرم، يعني: ارتكب السرقة خارج الحرم ودخل الحرم، ويحتج بقوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران:97] فـ الشافعي يقول: يقام عليه الحد سواء ارتكب ما يوجب الحد في الحرم أو خارج الحرم.
أما أبو حنيفة وطائفة معه فقالوا: ما ارتكبه من ذلك -أي: ما ارتكبه من هذه الموجبات للحد- في الحرم يقام عليه فيه -يعني: إذا أتى ما يوجب الحد في الحرم يقتل في الحرم- وما فعله خارج الحرم ثم لجأ إلى الحرم إن كان إتلاف نفس لم يقم عليه في الحرم، بل يضيق عليه ولا يكلم ولا يجالس ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج منه فيقام عليه الحد خارج الحرم، وما كان دون النفس يقام فيه، ولكنهم لم يفرقوا بين نفس ودونها وحجتهم ظاهر الآية: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران:97] إلى آخر ما ذكره.(27/21)
جزاء قتل الصيد وقطع الشجر في الحرم
لا يحل للمحرم أن يقتل الصيد بنفسه، ولا أن يعين عليه، ولا أن يشير ولا يساعد في شيء من هذا كله، لكن هب أنه قتل فما كفارة ذلك؟ هذا الذي ينبغي أن نتعرف عليه.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة:95] هذا شرط {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة:95]، يعني: تنظر ماذا قتلت فتخرج مثله تماماً، يحكم به اثنان عدلان يقولان: والله هذا مثل هذا، يعني: هذه الكفارة مثلما قتل هذا المحرم.
قال تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95] يعني: يذبح هذا الهدي لفقراء الحرم.
قال تعالى: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} [المائدة:95] يعني إن لم تكن المثلية قائمة ولا متيسرة يطعم مساكين.
قال: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة:95]، يعني: ما يكافئ ذلك صياماً {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة:95] أي: وبال تعمده ووقوعه في المحرم.
قال تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ} [المائدة:95] متعمداً لمثل ما فعل أولاً {فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} [المائدة:95].(27/22)
أقوال العلماء في جزاء قتل الصيد
قال ابن كثير: الذي عليه الجمهور: أن العامد والناسي سواء في وجوب الجزاء.
وقال الزهري: دل الكتاب على العامد وجرت السنة على الناسي.
إذاً: الجزاء هذا يتناول المتعمد والناسي، فالقرآن بين العامد، والسنة بينت الناسي، ومعنى هذا: أن القرآن دل على وجوب الجزاء على المتعمد وعلى تأثيمه؛ لقول الله تعالى: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة:95] بعد أن قال: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة:95]، وأيضاً فإن قتل الصيد إتلاف، والتلف مضمون بمعنى: أنك ضامن لإرجاع المال إلى صاحبه في حالة العمد وحالة النسيان وحالة الخطأ، وحالة العمد تستوجب الإثم بخلاف النسيان.
قال: فإن قتل الصيد إتلاف؛ لأنه مال، والإتلاف مضمون في العمد والنسيان، ولكن المتعمد مأثوم والمخطئ غير ملوم.
وقال في المسوى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة:95] معناه على قول أبي حنيفة: يجب على من قتل الصيد جزاء مثل ما قتل.
أي: مماثل له إما في العين وإما في القيمة، فإن قتلت حماراً وحشياً تخرج حماراً وحشياً، أو قتلت ناقة تخرج ناقة، قتلت دجاجة تخرج دجاجة، فإن لم تجد عين ما قتلت تخرج القيمة.
قال: يحكم بكونه مماثلاً ذوا عدل، إما كائناً من النعم بالغ الكعبة، أي حال كونه هدياً، وإما كفارة طعام مساكين.
مثال ذلك: قتلت حماراً وحشياً فكفارتي إخراج حمار وحشي: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95]، فإن لم أجد حماراً وحشياً فآتي باثنين عدلين.
قال تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ} [المائدة:95]، فآتي بهذين العدلين ليريا الحمار الوحشي ويقدران قيمته، فإن قالا: مائة دينار أخرج مائة دينار وأشتري بها طعاماً للمساكين كما في قوله: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} [المائدة:95]، ومعناه على قول الشافعي: يجب على من قتل الصيد جزاء، إما مثلما قتل في الصورة والشكل، فيكون هذا المماثل من جنس النعم، يحكم بمثليته ذوا عدل منكم يكون جزاءً حال كونه هدياً، وإما ذلك الجزاء كفارة، وإما عدل ذلك صياماً، أي: أقدر الصيام بالقيمة، وأنظر إلى هذه القيمة كم مسكيناً تطعم، وأصوم عن كل واحد يوماً، يعني: لو كانت المائة دينار تطعم مائة شخص أصوم مائة يوم وهكذا، والذي يقدر هذا ذوا عدل.
وعن عبد الملك بن قريب عن محمد بن سيرين: أن رجلاً جاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إني أجريت أنا وصاحب لي فرسين إلى ثغرة ثنية فأصبنا ضبياً ونحن محرمان فما ترى؟ فقال عمر لمن بجانبه: تعال حتى أحكم أنا وأنت، فحكم عليه بعنزة فولى الرجل وهو يقول: هذا أمير المؤمنين لا يستطيع أن يحكم في ضبي حتى دعا رجلاً يحكم معه.
ظن أن عمر جاهل، والجاهل يظن أن الناس كلهم جهال.
فسمع عمر قول الرجل فدعاه وسأله: هل تقرأ سورة المائدة؟ قال الرجل: لا.
قال: وهل تعرف هذا الرجل الذي حكم معي؟ قال له: لا.
قال: لو أخبرتني أنك تقرأ سورة المائدة لأوجعتك ضرباً، لكنه عذره لجهله، ثم قال: إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95]، هذا الذي جعلني أستدعي آخر؛ لأنه ليس مأذوناً لي أن أحكم بمفردي، وهذا عبد الرحمن بن عوف الذي دعوته.
وهذا يدل على عدالة الصحابة جميعاً رضي الله عنهم جميعاً.
وقد قضى السلف في النعامة ببدنة، وفي حمار الوحش وبقر الوحش والأيل والأروى لكل واحد من ذلك ببقرة، والأيل: ذكر الوعول والأروى: أنثى الوعول، وفي الوبر والحمامة والقمري والحجل والدبسي في كل واحد من هذه بشاة، وهي أسماء لهذه الدواب، وفي الضبع بكبش، وفي الغزال بعنز، وفي الأرنب بعناق، والعناق: هو العنز الذي زاد على أربعة أشهر.
قال: وفي الثعلب بجدي وفي الجربوع بجفرة.
روى سعيد بن منصور عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة:95] قال: إذا أصاب المحرم صيداً حكم عليه بجزائه -يعني: بمثيله- وإن لم يكن عنده جزاؤه قوم جزاؤه دراهم ثم قومت الدراهم طعاماً فصام عن كل نصف صاع يوماً، فإذا قتل المحرم شيئاً من الصيد حكم عليه فيه ثم بعد ذلك بين كيفية الإطعام والصيام.
قال مالك: أحسن ما سمعت في الذي يقتل الصيد فيحكم عليه فيه أن يقوم الصيد الذي صاد، فينظر كم ثمنه من الطعام، فيطعم كل مسكين مداً، أو يصوم مكان كل مد يوماً وينظر كم عدة المساكين ما كانوا، يعني: على قدر إطعام المساكين يصوم عدداً من الأيام وإن كانوا أكثر من ستين مسكيناً.(27/23)
حكم اجتماع أكثر من محرم في قتل صيد
إذا اشترك جماعة محرمون في قتل صيد عامدين، مثال ذلك: تجمعوا على غزال في الصحراء جميعاً اجتماع رجل واحد فقتلوه، فمن الممكن أن الذي يباشر القتل شخص واحد فهل الكفارة تلزم الباقين؟ بالاتفاق تلزمهم؛ لأنهم أعانوا وأشاروا حتى تمكن القاتل من قتله.
أقول: فهل يلزم كل واحد كفارة، أم أن الجميع يلزمهم كفارة واحدة؟
الجواب
الجميع تلزمهم كفارة واحدة، قال: (إذا اشترك جماعة في قتل صيد عامدين لذلك جميعاً فليس عليهم إلا جزاء واحد، لقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة:95] فالمثلية هنا واحدة، حتى وإن اشترك فيها جماعة.
وسئل ابن عمر رضي الله عنهما عن جماعة قتلوا ضبعاً وهم محرمون، فقال: اذبحوا كبشاً فقالوا: عن كل إنسان منا؟ فقال: بل كبشاً واحداً عن جميعكم).(27/24)
بيان جزاء من قطع شجرة من أشجار الحرم
قال: (ويحرم على المحرم والحلال أن يصطاد من الحرم أو أن ينفره، أو أن يقطع شجره الذي لم يستنبته الآدميون في العادة، وقطع الرطب من النبات، يعني: قطع الذي نضج وبدا صلاحه من النبات كالعنب أو البلح أو غير ذلك حتى الشوك، إلا نبات الإذخر؛ فإنه مباح التعرض له بالقطع والقلع والإتلاف ونحو ذلك؛ لما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال النبي عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة: (إن هذا البلد حرام لا يعضد شوكه -يعني: لا تقطع أشجاره حتى وإن كانت أشجار شوك- ولا يختلى خلاه -يعني: الرطب الذي في رءوس النخل لا يختلى- ولا ينفر صيده ولا تلتقط لقطته إلا لمعرف) يعني: وأنت في الحرم سواء كنت محرماً أو غير محرم إن وجدت ساعة على الأرض أو نقوداً أو أي شيئاً فلا علاقة لك بها نهائياً؛ لأنها أولاً وآخراً تحرم عليك، ولا تحل لك بحال إلا إذا كنت معرفاً، فتأخذها وترفعها في يديك وتلف بها شرقاً وغرباً، والمحرم لم يأت معرفاً، وإنما جاء ملبياً.
فقال العباس: (إلا الإذخر فإنه لابد له منه فإنه للقيون والبيوت) والقيون: الحداد وكذلك البيوت.
قال القرطبي: خص الفقهاء الشجر المنهي عنه بما ينبته الله تعالى، الذي ليس لابن آدم صنيع له فيه، فأما ما ينبت بمعالجة آدمي فاختلف فيه، والجمهور على جواز قطعه، وقال الشافعي: في الجميع الجزاء.
ورجح ذلك الحافظ ابن قدامة، واختلفوا في جزاء ما قطع من النوع الأول.
فقال مالك: لا جزاء فيه بل يأثم، وقال عطاء: يستغفر الله، وقال أبو حنيفة: يؤخذ بقيمته هدي، وقال الشافعي: في النخلة العظيمة بقرة وفيما دونها شاة، واستثنى العلماء الانتفاع بما انكسر من الأغصان وانقطع من الشجر من غير صنيع الآدمي وبما يسقط من الورق، فكل هذا يجوز الانتفاع به.
قال ابن قدامة: وأجمعوا على إباحة أخذ ما استنبته الناس في الحرم من بقل وزرع ومشموم -أي: الورد الرائحة- وأنه لا بأس برعيه واختلائه، وفي الروضة الندية يقول صديق حسن خان: ولا يجب على الحلال -أي: على من لم يكن محرماً- في صيد حرم مكة ولا شجره شيء إلا مجرد الإثم، وأما من كان محرماً فعليه الجزاء الذي ذكره الله تعالى إذا قتل صيداً -يعني: أجراه وقاسه على قتل الصيد- قال: وليس عليه شيء في شجر مكة؛ لعدم ورود دليل تقوم به الحجة.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.(27/25)
الأسئلة(27/26)
حكم استخدام الأشياء المطلية بماء الذهب للرجال والنساء
السؤال
ما حكم استخدام الأشياء المطلية بماء الذهب للرجال والنساء؟
الجواب
أما النساء فإن الذهب والحرير حلال لهن، لكن من باب الزينة، فليس على المرأة شيء في لبسها الحرير والذهب في مواضع الزينة من بدنها، ولا يجوز لها استخدام الذهب فيما دون ذلك، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الذي يشرب في إناء الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم).
قال النووي: وهذا يشمل الرجال والنساء، ثم قال: والذهب حلال للنساء في الزينة وحرام عليهن في الانتفاع، أو قال: في الاستعمال، فاستعمال أواني الذهب والفضة للنساء يحرم كذلك، أما في الزينة في بدنها وفي ثوبها فهو جائز، أما الرجل فإنه لا يجوز له ذلك ألبتة؛ لأن هذا حرام عليه؛ لما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام: (أنه أخذ ذهباً بيمينه وحريراً بيساره وقال: هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثها).(27/27)
حكم من اعتمر عن نفسه وأراد أن يعتمر عن قريب له
السؤال
شخص أدى عمرة وله قريب مات، فهل يجوز له أن يؤدي عمرة له؟
الجواب
من حيث الجواز يجوز له ذلك على خلاف عند أهل العلم في تعدد العمرة في السفرة الواحدة.(27/28)
بيان من يؤدي الحج عن المتوفى
السؤال
من يؤدي عن المتوفى فريضة الحج هل لابد أن يكون من الأقارب؟
الجواب
الأولى القريب، وأولى الأولى الأبناء؛ لقول المرأة التي أتت إلى النبي عليه الصلاة والسلام: (يا رسول الله! إن أبي لا يثبت على الراحلة.
أفأحج عنه؟ قال: حجي عنه)، وأتت امرأة فقالت: (يا رسول الله! إن أمي ماتت وعليها حج أفأحج عنها؟ قال: أرأيت لو أن على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم.
قال: فدين الله أحق بالقضاء)، وغير ذلك من الروايات التي تثبت أن الأبناء هم الذين يؤدون هذه الفريضة، لكن يصرف هذا إلى جواز أداء منسك الحج من الغير: أن رجلاً قال في الإهلال: لبيك اللهم حجاً أو عمرة عن شبرمة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (من شبرمة؟ قال: صاحب لي، قال: أحججت عن نفسك؟ قال: لا.
قال: حج عن نفسك أولاً ثم حج عن شبرمة).
وفي رواية قال: (جار لي)، فإما جار وإما صاحب ولا تعارض بين الروايتين، فهذا يدل على جواز حج الغير وإن لم يكن قريباً لآحاد الناس.
والله تعالى أعلم.(27/29)
حكم الاستحمام بالصابونة للمحرم
السؤال
هل يجوز الاستحمام بالصابونة في الإحرام؟
الجواب
نعم يجوز.(27/30)
حكم صيام الحاج في بلده إذا أخل بشيء من واجبات الحج
السؤال
هل يجوز الصيام في بلدي بعد الرجوع من الحج إذا وقعت في أي شيء من الواجب؟
الجواب
إذا لم تكن تملك الفداء -أي: الذبح- وقد وجب في حقك الصوم فالأفضل أن يكون الصوم هناك، لكن إذا لم يكن في علمك إلا بعد رجوعك فوجب الصيام في حقك ولا شيء عليك.(27/31)
حكم الاتكاء على باطن اليد اليسرى
السؤال
هل يوجد حديث يحرم الاتكاء على باطن اليد اليسرى؟
الجواب
نعم.
وهو عند أبي داود وغيره، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ضجعة الشيطان أو اتكاء الشيطان.(27/32)
نبذة عن حياة سيد سابق
السؤال
من هو سيد سابق، ونرجو الدعاء له بالرحمة؟
الجواب
الشيخ سيد سابق علم من أعلام الدعوة إلى الله عز وجل، وفقيه من فقهاء الأمة، وحبر من أحبار الملة، وكنت أقول منذ شهر واحد: لم يبق في الأخيار الأوائل إلا فضيلة الشيخ سيد سابق، كان من العلماء العاملين والسادة الأتقياء، كان بقاؤه بعد موت الشيخ ابن باز والشيخ الألباني من الأشياء التي تتكئ عليها الصحوة الإسلامية، والرجل معلوم لدينا بفقه السنة، وجهده في الدعوة إلى الله عز وجل ومشاركته في المؤتمرات الدولية على مدار سبعين عاماً أعظم بكثير جداً جداً من فقه السنة، والذي له اطلاع في كتب الفقه التي يعتمدها الأزهر يعلم قيمة كتاب فقه السنة، وهذا الكتاب هو من أجل ما صنف شيخنا العلامة الشيخ سيد سابق، فنسأل الله تبارك وتعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، وباسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى أن يتقبل شيخنا من الصالحين، وأن يحشره مع الأنبياء والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً.
اللهم اغفر له وارحمه.
اللهم تجاوز عن سيئاته، اللهم اغفر له وارحمه وتجاوز عن سيئاته، اللهم أبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، أكرم نزله، ووسع مدخله، واجعل قبره روضة من رياض الجنة، ولا تجعله حفرة من حفر النار.
اللهم هون عليه يا رب! اللهم هون عليه، اللهم اجعل قبره مد بصره، اللهم اجعله روضة من رياض الجنة، ولا تجعله حفرة من حفر النار.
اللهم اغفر له وارحمه وتجاوز عنه ولا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده.
وصلى الله على نبينا محمد.(27/33)
ما يفعل الحاج أو المعتمر إذا أقيمت الصلاة وهو يطوف
السؤال
إذا أقيمت الصلاة والحاج أو المعتمر لم ينته من إكمال الطواف والسعي هل يصلي مع الناس ثم يكمل طوافه وسعيه من حيث انتهى، أم يأتي بالشوط من الأول؟
الجواب
لا، يبني على ما مضى، وهذه المسألة قد تكلمنا عنها في الدرس الأول أو الثاني تقريباً، فإذا كنت تطوف وسمعت إقامة الصلاة فعليك أن تدخل في الصف وأنت قائم في مكانك، ثم تنصرف إذا سلم الإمام وتكمل الطوفة.(27/34)
حكم طواف الوداع
السؤال
هل طواف الوداع واجب في الحج دون العمرة؟
الجواب
نعم.
هو واجب في الحج دون العمرة.(27/35)
حكم تقديم السعي على الطواف
السؤال
هل يجوز تقديم السعي على الطواف سواء كان في الحج أو في العمرة؟
الجواب
لا.
لابد من تقديم الطواف على السعي.(27/36)
حكم صلاة تحية المسجد لمن جلس ولم يصل
السؤال
هل يجوز لمن دخل المسجد أن يصلي ركعتين تحية مسجد بعد أن جلس؟
الجواب
اختلف العلماء بين الجلوس اليسير والطويل، فإذا جلس جلوساً يسيراً أو اتكأ على ركبتيه أو غير ذلك فلينهض وليصل ركعتين، وهما واجبتان؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)، أما إذا كان جلوساً طويلاً فإنه يسقط عنه ذلك.(27/37)
حكم مصافحة النساء
السؤال
ما حكم مصافحة النساء؟
الجواب
مصافحة النساء الأجانب حرام؛ لما رواه الطبراني من قوله عليه الصلاة والسلام: (لأن يطعن أحدكم بمخيط من حديد في رأسه خير له من أن تمس يده يد امرأة لا تحل له) وفي رواية: (أجنبية).(27/38)
حكم رمي جمرة العقبة ليلة العيد
السؤال
هل يجوز رمي جمرة العقبة في ليلة العيد؟
الجواب
رمي جمرة العقبة لا يكون إلا بعد الزوال، ورخص فيه قبل ذلك للضعفة والأطفال.(27/39)
بيان متى يجوز الطواف بغير ملابس الإحرام
السؤال
هل يوجد طواف يجوز للإنسان فيه أن يطوف بالملابس العادية دون إزار ورداء؟
الجواب
نعم.
كل طواف ليس على سبيل النسك، أي: كل طواف ليس متعلقاً بالحج ولا بالعمرة.
مثال ذلك: كلما دخلت الحرم وأردت أن تطوف يمكنك أن تطوف، ولا يلزمك أن تلبس ملابس الإحرام؛ لأنك لست محرماً من الأصل، وكل من لم يكن محرماً جاز له أن يطوف بملابسه العادية، وهناك حديث يقول: (تحية البيت الطواف) لكن هذا الحديث ضعيف؛ وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: يا بني عبد مناف! يا بني عبد المطلب! يا يا وظل ينادي على أهل مكة: (لا تمنعوا أحداً دخل هذا البيت في أي ساعة من ليل أو نهار أن يصلي ركعتين) ولم يقل: أن يطوف، وقال عليه الصلاة والسلام: (الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أحل فيه الكلام).
وهذا الحديث: (لا تمنعوا أحداً دخل هذا البيت في أي ساعة من ليل أو نهار أن يصلي ركعتين) يدل على جواز الصلاة حتى في أوقات الكراهة؛ لأن هذه الصلاة لها سبب؛ ولأنه قال: (في أي ساعة من ليل أو نهار) ولاشك أن هذا يعم أوقات الكراهة، فهذا جائز، والبيت ليست تحيته الطواف، ولكنه يستحب؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا دخل بيت الله الحرام بدأ بالطواف، لكنه لم يأمر بذلك، وبيَّن في سنته أن للداخل بيت الله الحرام أن يصلي ركعتين، وبالتالي جاز له أن يلبس في الحرم الملابس العادية.(27/40)
تقييم كتاب (معالم التنزيل)
السؤال
ما رأيكم في كتاب تفسير البغوي الذي هو معالم التنزيل؟
الجواب
كتاب رائع جداً وممتاز جداً، واقتناؤه غنيمة.(27/41)
حكم تعدد العمرات في السفرة الواحدة
السؤال
من اعتمر وهو ليس من أهل مكة هل يجوز له أن يذهب للتنعيم ويحرم بعمرة أخرى بعد وقت قليل من الأيام؟ وهل صحيح أن لكل عمرة فترة.
نريد التوضيح؟
الجواب
إن السلف لم يكن من هديهم تعدد العمرات في السفرة الواحدة، أما الوقت بين العمرة وبين الأخرى فهو محل خلاف بين أهل العلم، فمنهم من قال: يعتمر في كل عام مرة، ومنهم من قال: يعتمر في كل شهر مرة، ومنهم من قال: يعتمر إذا اسود رأسه، يعني: إذا حلق في العمرة الأولى ثم نبت شعره حتى كسا رأسه حينئذ يجوز له أن يعتمر.
وليس هناك نص يمنع تعدد العمرات بين فترة وفترة، والأصل فيه الجواز، لكن جمهور أهل العلم كره ذلك؛ لأنه لم يكن السلف يفعلون هذا، والخلاف الذي وقع بينهم في المدة بين العمرة والعمرة ليس خلافاً مرفوعاً، وإنما هو اجتهاد منهم؛ ولذلك يذهب الجماهير إلى جواز تعدد العمرة في السفرة الواحدة مع الكراهة، ويذهب البعض إلى عدم الكراهة.(27/42)
حكم شراء المحرم الصيد البري
السؤال
هل يجوز للمحرم أن يشتري الصيد البري؟
الجواب
لا يجوز له أن يشتريه ولا أن يتملكه.(27/43)
التحذير من أهل البدع والتصوف
السؤال
ما رأيكم في كتاب الفقه الواضح للدكتور محمد بكر إسماعيل؟ وإن لم يكن جيداً فكيف أتصرف فيه؟
الجواب
النصيحة لله عز وجل أن محمد بكر إسماعيل لا يقل في قبحه وشره عن علي جمعة.
أتعرفون علي جمعة أم لا تعرفونه؟ فالذي لا يعرفه فاعلم أنها منة من الله عز وجل، والذي يعرفه يعرف أنه عدو لدود للسنة وأهلها، ولا يقل محمد بكر إسماعيل عنه في رفع راية الحرب على أهل السنة، فكلاهما من أهل البدع وكلاهما متصوف إلى أقصى حد، ومحارب للسنة.
أذكر لك مثالاً: محمد بكر إسماعيل -الذي أعمى الله تعالى بصره وبصيرته- له درس كل يوم ثلاثاء في مسجد في السويس، فمرة نادى وقال: أين فلان؟ قالوا: موجود، قال: يا بني! هل أخذت الماجستير أم لا؟ قال: لم آخذه بعد، فغضب غضباً شديداً وأخذ يصيح بالميكرفون ويقول له: تأخرك هذا هو الذي جعل شخصاً كـ الألباني يظهر، تصور! ولد صغير عمره خمس وعشرون سنة تأخره في الحصول على الماجستير هو الذي جعل شخصاً كـ الألباني يظهر، فعدو السنة لابد أن يترك أثراً -ولو في وقت الغضب- ليدل على فساد قلبه، ناهيك عن معاصيهم الظاهرة، فنحن نشترك معهم في المعاصي الباطنة، وإذا انفردنا بالله عز وجل هتكنا الستر ولسنا معصومين، لكن لا نتبجح بها، لكن هذا يقعد قعدات كثيرة مع اللواءات والعمداء والوزراء يتعاطون الشيشة وتبدأ من عنده، فضلاً عن أن هؤلاء قالوا عنا عدة مرات: أننا خوارج العصر، والصحوة الإسلامية لا تدخل في ذمتهم، فمقاطعتهم نجاة، والله تعالى أعلم.(27/44)
حكم لبس المرأة إزاراً وهي محرمة
السؤال
يقول: هل يجوز للمرأة أن تلبس إزاراً وهي محرمة؟
الجواب
نعم يجوز.(27/45)
حكم الذهب للمرأة
السؤال
قرأت للشيخ الألباني عليه رحمة الله أن الذهب حرام على المرأة كما هو حرام عل الرجل تماماً بتمام؟
الجواب
إن الشيخ الألباني لم يقل: إن الذهب حرام على المرأة كالرجل تماماً بتمام، ولكن قال بحرمة الذهب المحلق فقط، أما غير المحلق فقال الشيخ بجوازه للمرأة، وعلى أية حال هذا قول محدث خالف فيه الشيخ الأمة بأسرها؛ ولذلك البقاء على مذهب العلماء كافة نجاة وعصمة، فالذهب بجميع أنواعه وأشكاله حلال للنساء.
والله تعالى أعلم.
فمذهب الشيخ الألباني يرده: (أن امرأة دخلت بابنتها على النبي عليه الصلاة والسلام فرأى في يدها سوارين من ذهب -يعني: ذهب محلق- فقال: أتؤدين زكاتها؟ قالت: لا، قال: أتحبين أن تسوري بسوارين من نار؟ فألقت المرأة السوارين في حجر النبي عليه الصلاة والسلام)، فالنبي عليه الصلاة والسلام لم ينكر عليها أنها لبست المحلق، وإنما أنكر عليها أنها لم تؤد زكاته، فالمرأة تخلصت منه بأن ألقته صدقة في حجر النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يلزمها النبي عليه الصلاة والسلام بالصدقة، ولكنها كونها بذلت هذا من نفسها لأول وهلة فللنبي عليه الصلاة والسلام أن يأخذه منها صدقة، يصرفها في وجوه الصدقة المشروعة.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(27/46)
شرح صحيح مسلم - كتاب الحج - جواز حلق الرأس للمحرم إن كان به أذى
يحرم على المحرم حلق رأسه أو أخذ شيء منه إلا إذا كان ذلك نسكاً، فإذا قامت بالمحرم علة في رأسه من مرض أو علة أو آفة ألحقت الأذى به فله أن يحلق شعره، وعليه أن يكفر عن هذا الحلق بإحدى ثلاث؛ إما صوم ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، أو ذبح شاة.(28/1)
باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى، ووجوب الفدية عليه وبيان قدرها
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
فمع الباب العاشر من كتاب الحج وهو: باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى أو علة أو مرض، ووجوب الفدية لحلقه وبيان قدرها.
من المعلوم أن من المحرمات على المحرم حلق رأسه، إلا إذا كان ذلك نسكاً، يعني: لا يجوز للمحرم أن يحلق شعره، أو أن يأخذ منه شيئاً متعمداً إلا إذا كان يقصد بأخذ شعره قصه أو حلقه تنكساً وتعبداً لله عز وجل، فإذا قامت علة بالمحرم في رأسه من مرض أو علة أو آفة ألحقت الأذى به، فهل له أن يحلق شعره؟
الجواب
نعم.
له أن يحلق شعره، لكن لابد أن يكفر عن هذا الحلق بفدية.(28/2)
شرح حديث كعب بن عجرة في حلق الرأس للمحرم عند الحاجة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال كعب بن عجرة رضي الله عنه: (أتى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية وأنا أوقد تحت قدر لي أو برمة لي، والقمل يتناثر على وجهي، فقال: أيؤذيك هوام رأسك؟ قال: قلت: نعم.
قال: فاحلق وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك نسيكة)].
فإذاً: حلق الرأس جائز لمن كانت به علة شرعية، وغير جائز لمن لم تكن به علة شرعية.
وإذا قامت العلة وحلق صاحب العلة رأسه في غير وقت الحلق المشروع له في النسك، فإنما عليه الكفارة، وكفارته: أن يصوم ثلاثة أيام، أو يطعم ستة مساكين، بقدر ثلاثة آصع، والصاع: أربعة أمداد، والمد: ملء الكفين من الطعام، فكأنه قال: عن كل يوم صاع إذا ما أراد الصيام؛ لأن هذه الكفارات على سبيل التخيير لا على سبيل الترتيب: صم أو أطعم أو انسك، و (أو) للتخيير عند الأصوليين.
فهنا إذا صام ثلاثة أيام فقد كفر عن حلقه شعره، وإذا اختار الإطعام فليطعم ستة من المساكين، لكل مسكين نصف صاع من طعام، وإذا اختار الذبح فعليه أن يذبح شاة.
قال أيوب وهو راوي الحديث: فلا أدري بأي ذلك بدأ، وهذا المصطلح من الراوي، أو من غيره من أهل العلم من رواة الأحاديث إنما يدل على التخيير.
روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه السلام قال: (أربع كلمات لا يضرك بأيهن بدأت: سبحان، والحمد لله، والله أكبر، ولا إله إلا الله)، وهي الأذكار التي تقرأ دبر الصلوات المكتوبات: سبحان الله ثلاثاً وثلاثين مرة، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين مرة، والله أكبر ثلاثاً وثلاثين مرة، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مرة واحدة، وهي تمام المائة.
لكن لا يضرك بأي واحدة من الأربع بدأت، وهذا يدل على التخيير، فابدأ بأي هذه الكلمات الأربع فإنه لا يضرك.(28/3)
منزلة السنة في الدين
قال: [وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: في أنزلت هذه الآية: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196]].
قوله: ((فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ)) أي: ثلاثة أيام، قوله: ((أَوْ صَدَقَةٍ)) أي: إطعام ستة مساكين، قوله: ((أَوْ نُسُكٍ)) أي: الشاة.
إذاً: القرآن الكريم تكلم عن الكفارة إجمالاً والسنة بينته، فالسنة مبينة للكتاب وشارحة ومفصلة، بخلاف من يقول: إننا لا نأخذ إلا من كتاب الله عز وجل.
فهؤلاء إنما دعاهم مرض قلوبهم وفساد ضمائرهم إلى أن يتعلقوا بشبهة هي أوهى من بيت العنكبوت، لكنهم لا يجرءون أن يقولوا: لا نأخذ بالقرآن ولا بالسنة، فقالوا: نأخذ بالقرآن دون السنة، والنبي عليه الصلاة والسلام حذر من هؤلاء، وبين أنهم لابد خارجون، قال: (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: ما كان في كتاب الله حلالاً أحللناه، وما كان في كتاب الله حراماً حرمناه).
ثم بين النبي عليه الصلاة والسلام عوار هذه الفكرة وفساد هذا الضمير، فقال: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه) قال ذلك ثلاثاً.
ولذلك فمن جهة المنزلة السنة تأتي في الترتيب الثاني بعد كتاب الله عز وجل.
وأما من جهة الحكم الشرعي فإن السنة مع الكتاب سواءً بسواء، بل أتت السنة -فضلاً عن بيانها للمجمل، أو تفصيلها، أو شرحها لكتاب الله عز وجل- بأحكام انفردت بها، وهذا في معظم أبواب الشريعة، فالسنة أتت بأحكام مستقلة لم تكن في كتاب الله عز وجل إلا على سبيل الأمر الإلزامي والعام في اتباع أمره عليه السلام.
قال: (فيَّ نزلت هذه الآية: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196] قال: فأتيته فقال: ادنه -أي: اقترب- فدنوت، فقال: ادنه فدنوت، فقال صلى الله عليه وسلم: أيؤذيك هوامك؟ قال: نعم.
قال: فأمرني بفدية من صيام أو صدقة أو نسك ما تيسر) أي: من هذه الثلاث لك أن تتخير ما يمكن أن يكون يسيراً في حقك.(28/4)
بعض الأحكام المأخوذة من أمر النبي لكعب بن عجرة بأن يحلق رأسه
وعنه قال: [(إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف عليه -أي: وقف عند رأسه، أو قريباً منه- ورأسه يتهافت قملاً -يعني: ينزل منه القمل نزولاً كثيراً- فقال: أيؤذيك هوامك؟ قلت: نعم.
قال: فاحلق رأسك)].
وقوله هنا: (فاحلق) ليس فعل أمر يدل على الوجوب، فإن هذه العلة إذا كان يقوى عليها صاحبها، ويمكن له أن يصبر مدة الإحرام بغير أن يحلق فهذا لا شك أولى، وهذا اتفاق أهل العلم.
أما إذا كان ذلك يؤذيه بحيث يتضرر به ضرراً بالغاً شديداً لا يحتمله، فله أن ينتقل إلى الرخصة، ولما كانت العزيمة ترك الحلق والرخصة هي الحلق دل هذا على أن هذا الأمر ليس للوجوب، وإنما هو للندب والتخيير.
فقال هنا: (فاحلق رأسك.
قال: ففي نزلت هذه الآية: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196] فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: صم ثلاثة أيام، أو تصدق بفرق بين ستة مساكين -والفرق: هو الوعاء الذي يأخذ مقدار ثلاثة آصع- أو انسك ما تيسر) يفهم من ظاهره: أنه بإمكانه أن ينسك أي شيء، حتى لو دجاجة، ولكن النسيكة أقل ما تطلق على الشاة؛ ولذلك لفظ (النسيكة) لم يستخدم إلا فيما اشترط الشرع أن يكون شاة فما فوق، أما أقل من ذلك فلا، فالنسيكة في الحج هي الهدي، وهي البقرة، أو الإبل، أو الشاة، الشاة لواحد، والبقرة لسبعة، وكذلك البعير أو الإبل.
والنسيكة كذلك في العقيقة شاتان للغلام، وشاة للجارية، كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام.
والنسيكة في وليمة العرس كذلك شاة لمن اختار أن يذبح دماً، وإلا فله أن يصنع لحماً، أما في العقيقة فليس له أن يصنع لحماً، حتى وإن اشترى لحماً كثيراً فإنه لا يجزئه؛ لأن العبرة في العقيقة: إهراق الدم بالنية عن فلان؛ ولذلك يسن لمن عق أن يقول حين الذبح: اللهم هذا منك وإليك، عقيقة أو نسيكة عن فلان.
فهنا قال: (أو انسك ما تيسر) أي: ما تيسر لك من الشياه، وإن تيسر له البعير أو البقرة نسكاً لا يمنع، وإن لم يتيسر له إلا الشاة فبها ونعمت، وهي خير من الصيام، وخير من الصدقة على المساكين؛ لأن الشاة ينتفع بها أكثر من ستة، وإن اختار إطعام المساكين وجب عليه أن يطعم ستة مساكين فقط.
ولا شك أن هذا النسك خير من هذا كله؛ لأن النسك نفعه يتعدى لغير الصائم، وكذلك يشمل معه الستة زيادة.(28/5)
أقوال العلماء في الطعام الذي يكون منه نصف الصاع
قال: [وعن كعب بن عجرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به وهو بالحديبية وهو محرم قبل أن يدخل مكة، وهو يوقد تحت قدر، والقمل يتهافت على وجهه، فقال: أيؤذيك هوامك هذه؟ قال: نعم.
قال: فاحلق رأسك، وأطعم فرقاً بين ستة مساكين -والفرق: ثلاثة آصع- أو صم ثلاثة أيام، أو انسك نسيكة)].
قال ابن أبي نجيح وهو أحد الرواة: أو اذبح شاة، وهذا يدل على أن النسيكة المقصود بها: الشاة.
قال: [وعن كعب رضي الله عنه: (أن النبي عليه الصلاة والسلام مر به زمن الحديبية فقال له: آذاك هوام رأسك؟ قال: نعم.
فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: احلق رأسك، ثم اذبح شاة نسكاً، أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين)].
اتفق العلماء على القول بظاهر هذا الحديث إلا ما حكي عن أبي حنيفة والثوري: أن نصف الصاع لكل مسكين إنما ذلك في الحنطة، يعني: يتصدق بثلاثة آصع من حنطة على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع.
وهذا الحديث يرد عليهم، ومذهب الجماهير يختلف عن هذا، فمذهب الجماهير أن نصف الصاع من أي طعام كان هو الكفارة المجزئة لمن حلق.
قال أبو حنيفة والثوري: نصف الصاع لكل مسكين إنما ذلك في الحنطة، فأما التمر والشعير وغيرهما فيجب صاع لكل مسكين.
والحديث يقول: (أو أطعم ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين)، فإذا كان الحديث صريحاً لا يحتمل التأويل، وخالفه قول عالم، فهل يصار إلى الدليل الذي ظاهره لا يحتمل التأويل، أو إلى قول العالم؟
الجواب
يصار إلى الدليل، وهذا العالم الذي خالف الدليل إما أنه لم يبلغه، أو بلغه ولكن فيه علة، أو بلغه لكنه منسوخ، أو بلغه لكنه مؤول، أو غير ذلك من الأعذار التي بسببها خالف أهل العلم ظاهر الروايات.
فلو قلنا بقول أبي حنيفة والثوري رحمهما الله لقلنا: إنه يلزم الحالق ستة آصع، والدليل بيَّن أنها ثلاثة آصع من تمر، وهذا يجزئ.
وعن أحمد بن حنبل في رواية: أنه لكل مسكين مد من حنطة، وهذا بلاشك أيضاً منابذ للرواية؛ لأن الصاع أربعة أمداد، فإذا كان لكل مسكين مد واحد فإنه سيكون صاعاً ونصف صاع فقط، وهذا مخالف للدليل.
فهذا قول الإمام أحمد بن حنبل وهو إحدى الروايات عنه.
وعن الحسن البصري وبعض السلف: أنه يجب إطعام عشرة مساكين، والرواية تقول: ستة فقط.
قال: أو صوم عشرة أيام، والرواية تقول: ثلاثة أيام، وهذا ضعيف منابذ للسنة مردود.
انتهى كلام الإمام النووي عليه رحمة الله.(28/6)
سبب نزوله قوله تعالى: (ففدية من صيام أو صدقة أو نسك)
قال: [وعن عبد الله بن معقل قال: (قعدت إلى كعب بن عجرة رضي الله عنه وهو في المسجد، فسألته عن هذه الآية: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196] فقال كعب رضي الله عنه: نزلت فيَّ، كان بي أذى من رأسي فحملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي، فقال: ما كنت أُرى أن الجهد بلغ منك ما أَرى.
أتجد شاة؟ فقلت: لا.
فنزلت هذه الآية: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196]-فبدأ بالصيام، ثم الصدقة ثم النسك- قال: صوم ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين نصف صاع طعاماً لكل مسكين، قال: فنزلت في خاصة، وهي لكم عامة)].
والأصوليون يقولون: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، يعني: اللفظ في النص القرآني أو النبوي عام وإن كان سبب نزوله في الآية أو سبب وروده في الحديث خاصاً بحادثة بعينها، وعلى ذلك فإنه يصلح للتطبيق في كل حادثة مشابهة، وهذا إلى يوم القيامة، فلا يصح للإنسان أن يقول: إن هذه الفدية التي طولب بها كعب بن عجرة لا يفعلها غيره؛ لأنها حادثة عين، وبمجرد أن طبقها كعب انتهى دورها؛ لأن اللفظ الذي ورد في الآية لفظ عام، والعبرة بعمومه لا بخصوص السبب الذي نزلت من أجله.(28/7)
عناية الراعي برعيته واجتهاده في إصلاح أمورهم
قال: [وعن عبد الله بن معقل قال: حدثني كعب بن عجرة رضي الله عنه: (أنه خرج مع النبي عليه الصلاة والسلام محرماً فقمل رأسه -أي: فانتشر القمل في رأسه ولحيته- فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليه فدعا الحلاق فحلق رأسه)]، فالنبي عليه الصلاة والسلام هو الذي دعا الحلاق بنفسه ليحلق رأس كعب بن عجرة حتى يكون أبلغ في اجتهاد الإمام، وهذا أدب نبوي رفيع جداً، فالأمر وإن كان في ظاهره مخالفاً، إلا أنه لما كان العذر في حق فلان ساعده الإمام بنفسه، وهذا أمر مستحب في دين الله عز وجل.
وأنتم تعلمون قصة الرجل الذي وقع على امرأته في نهار رمضان، فأتى إلى النبي عليه السلام وقال: (يا رسول الله! هلك الأبعد؟ قال: وما ذاك؟ قال: وقعت على امرأتي في نهار رمضان.
قال: أعتق رقبة، قال: لا أجد.
قال: صم ستين يوماً.
قال: وهل أوقعني فيما وقعت فيه إلا الصيام؟ قال: أطعم ستين مسكيناً، قال: والله يا رسول الله! لا أجد قوت أهلي).
وبينما هو كذلك إذ أتى رجل ببرمتين من التمر، فوضعهما بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام، فقال صلى الله عليه وسلم: (خذهما وأطعمهما ستين مسكيناً، قال: وهل تجد بين لابتيها -أي: بين جبليها- من هو أفقر مني ومن أهل بيتي؟ قال: اجعلها في أهل بيتك).
فهو -عليه السلام- ساعده على القيام بواجب الكفارة، مع أنه ليس مطالباً بذلك، ولكنه ساعده من باب الاستحباب والندب، فيندب لكل أمير أو مسئول أو قادر أن يساعد من وقع في الكفارة على أداء كفارته.
فـ كعب بن عجرة وإن نزلت فيه الآية خاصة إلا أنها في الحكم عامة لجميع المسلمين.
هذه رواية الباب، وكلها متفقة في المعنى، ومقصودها: أن من احتاج إلى حلق الرأس لضرر من قمل أو مرض أو نحوهما فله حلقه في الإحرام وعليه الفدية.
قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} [البقرة:196] الآية.
وبين النبي عليه الصلاة والسلام أن الصيام ثلاثة أيام، والصدقة ثلاثة آصع لستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع، والنسك شاة، وهي شاة تجزئ في الأضحية، وهذا شرط في النسك، وكل الأنساك إنما تقاس على الأضحية.
والأضحية يجزئ فيها شاة لا تقل عن ثمانية أشهر، وهذا مذهب جماهير العلماء، ولم يرد فيه دليل أو نص صريح يحدد عمر الشاة إلا من طرق ضعيفة، لكن مذهب الجماهير أحوط وأسلم، ألا تقل الشاة عن ثمانية أشهر، ويا حبذا لو كانت عشرة أشهر أو سنة كاملة.
ويقاس على هذه الأضحية غيرها من بقية الأنساك؛ كنسك من حلق رأسه، أو نسك من فرط في واجب من واجبات الحج، فصار عليه الدم كفارة لما فرط وأهمل، ولما تخلف عنه من واجبات الحج على ألا تنقص هذه الشاة عن ثمانية أشهر، ويفضل أن تكون أكثر من ذلك.(28/8)
باب جواز الحجامة للمحرم
باب جواز الحجامة للمحرم.
قال: [عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم)].
قال: [وعن ابن بحينة رضي الله عنه: (أن النبي عليه الصلاة والسلام احتجم بطريق مكة وهو محرم وسط رأسه)].
قوله: (احتجم بطريق مكة وهو محرم) يعني: بين مكة وبين الميقات، أي: لم يعتمر بعد ولم يحج، وإنما احتجم في حال إحرامه، وأنتم تعلمون أن الحجامة لا بأس بها للمحرم؛ لأنها لا فدية عليها، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام افتدى هنا لأنه حلق شعره.
فالنسيكة هنا كانت من أجل حلق الرأس، فدم الحجامة لا يؤثر على الإحرام لا بكراهة ولا بغيرها، كما أن دم الحجامة لا تأثير له في الوضوء، فإذا احتجم متوضئ فلا يلزمه إعادة الوضوء، إنما يجب عليه أن يمسح موضع الدم أو يغسله، وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إذا احتجم غسل مواضع محاجمه، أخرجه البخاري في كتاب الطهارة.
والدماء عموماً لا تأثير لها في الطهارة؛ ولذلك قال الحسن: لا يزال المسلمون يصلون في جراحاتهم، فالدماء لا تأثير لها قط لا في الصلاة ولا في الوضوء.
إذاً: إذا جرح المتوضئ لا يلزمه الإعادة، ولكنه يلزم بإزالة الدم وغسل موضعه.
وعبد الله بن عمر رضي الله عنه عصر بثرة في بدنه حتى خرج منها الدم، فصلى ولم يتوضأ.
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه تعلمون أنه طعن في صلاته، فاستمر فيها حتى غاب عن الوعي، ونصحه أصحابه بالصلاة عند الإفاضة أي: بإتمامها، وقال: (إنه لا حظ في الإسلام لمن لا حظ له في الصلاة)، وغير ذلك من الدماء التي تخرج من المخارج الطبيعية فيستوي في ذلك أن يخرج الدم من العين، أو من الأذن، أو من الأنف، أو من أي مخرج إلا مخرجين: القبل، والدبر، فإذا خرج الدم من القبل أو الدبر فإنه ينتقض به الوضوء.
واختلف أهل العلم في الدود الصغير الذي هو كرأس الدبوس إذا خرج من القبل هل ينقض؟ مذهب الجماهير أنه ينقض، ومذهب الأحناف أنه لا ينقض إلا إذا لوث الموضع.
والأحوط: أنه ينقض الوضوء، ويُلزم بإعادة الوضوء من باب الاحتياط؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة ما لم يحدث) من حديث أبي هريرة في الصحيحين.
قيل لـ أبي هريرة: يا أبا هريرة! ما الحدث؟ قال: الصوت فساء أو ضراط.
ولذلك بوب البخاري في كتاب الطهارة باب: من لم ير نقض الوضوء إلا بالخارج من السبيلين، أو من أحدهما.
وأنت إذا نظرت إلى نواقض الوضوء تجد غالباً أن هذه النواقض مردها إلى القبل والدبر، حتى النوم مرده إلى الدبر؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (النوم وكاء السه، فإذا نام أحدكم انطلق الوكاء).
والوكاء بمعنى: الغطاء، فشبه الإنسان بالقربة التي لها غطاء محكوم، هذا الغطاء هو اليقظة، فإذا نمت انطلق هذا الوكاء، فقال: (النوم وكاء السه، فإذا نام أحدكم انطلق الوكاء).
يعني: إذا نام أحدكم لا يتحكم في خروج الريح من بدنه، فإذا نام فإن مرده كذلك إلى الخارج من أحد السبيلين.
وعن ابن بحينة: (أن النبي عليه الصلاة والسلام احتجم بطريق مكة وهو محرم وسط رأسه).
فالذي يحتجم في وسط رأسه يحتاج إلى إزالة بعض الشعر، ولا تتم الحجامة إلا بهذا الطريق.(28/9)
الحجامة للمحرم وما في ذلك من الأحكام
قال النووي: (في هذا الحديث دليل على جواز الحجامة للمحرم، وقد أجمع العلماء على جوازها في الرأس وغيره إذا كان له عذر في ذلك، يعني: لا يجري الحجامة في رأسه إلا إذا كان مضطراً إلى ذلك، وإن قطع الشعر حينئذ فعليه الفدية لقطع الشعر، فإن لم يقطع فلا فدية عليه، واحتجوا بنص الآية: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} [البقرة:196]، وفي الغالب الذي يجري الحجامة إنما يجريها لأجل العلة أو المرض، فإذا أجراها لأجل العلة أو المرض، ولكنه أجراها في موضع في بدنه لا يحتاج معه إلى قطع الشعر فلا فدية عليه حينئذ ولا كفارة.
أما إذا أجراها في موضع فيه شعر فاضطر إلى أخذ بعض الشعر أو كله، فإنما عليه الفدية، وهذا الحديث محمول على أن النبي عليه الصلاة والسلام كان له عذر في الحجامة في وسط الرأس؛ لأنه لا ينفك عن قطع شعره.
أما إذا أراد الحجامة لغير حاجة فإن تضمنت قلع شعره فهي حرام؛ لتحريم قطع الشعر، وإن لم تتضمن ذلك بأن كانت في مواضع لا شعر فيها، فهي جائزة عندنا وعند الجمهور ولا فدية فيها.
وعن ابن عمر: أنهم كرهوها للمحرم بغير عذر.
وعن الحسن البصري قال: فيها الفدية في كل الأحوال، أي: بعذر وبغير عذر).
قال: (وفي هذا الحديث بيان قاعدة من مسائل الإحرام وهي: أن الحلق واللباس وقتل الصيد ونحو ذلك من المحرمات يباح للحاجة وعليه الفدية.
كمن احتاج إلى حلق أو لباس لمرض أو حر أو برد، أو قتل صيد للحاجة وغير ذلك والله أعلم).
ولذلك أهل العلم يفتون بجواز أن يلبس المحرم فوق الإزار والرداء شيئاً يستدفئ به إذا كان الجو شديد البرودة ويخشى معه الهلاك.
وأنتم تعلمون أنه لا يحل للمحرم أن يلبس إلا الإزار والرداء، وفي شدة البرد القارس لا شك أن المرء يخشى على نفسه الهلكة، فإذا استدفأ بشيء آخر فله ذلك مع وجوب الفدية.(28/10)
باب جواز مداواة المحرم عينيه
باب جواز مداواة المحرم عينيه، حتى وإن اضطر إلى أخذ بعض شعر جسمه له أن يأخذ من شعره ما يساوي قدر العلاج، لكن عليه الفدية حينئذ.
قال: فـ[عن نبيه بن وهب قال: (خرجنا مع أبان بن عثمان حتى إذا كنا بملل -اسم موضع - اشتكى عمر بن عبيد الله عينيه، فلما كنا بالروحاء - اسم موضع كذلك - اشتد وجعه فأرسل إلى أبان بن عثمان يسأله، فأرسل إليه: أن اضمدهما بالصبر، فإن عثمان رضي الله عنه حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرجل إذا اشتكى عينيه وهو محرم ضمدهما بالصبر)]، يعني: عالجهما بالاكتحال بهذه المادة، لكن إذا احتاج إلى أخذ بعض الشعر، فإن كانت شعرة واحدة فعليه مد، وإذا أخذ شعرتين فعليه مدان من طعام، وإذا أخذ ثلاث شعرات فما فوق فعليه شاة.
وإذا كان الشعر يتساقط لوحده بغير صنيع منك فلا شيء عليك، وقد اتفق العلماء على جواز تضميد العين وغيرها بالصبر ونحوه مما ليس بطيب ولا فدية في ذلك، فإن احتاج إلى ما فيه طيب جاز له فعله وعليه الفدية؛ لأن الطيب يحرم على المحرم، كما أن الحلق يحرم على المحرم، فإذا احتاج إلى الحلق لعذر فله أن يحلق وعليه الفدية، فكذلك إذا احتاج المريض أو المرمد في عينيه إلى العلاج بشيء فيه طيب، فعليه أن يستخدم هذا الطيب، ولكن عليه الفدية.
واتفق العلماء على أن المحرم يكتحل بكحل لا طيب فيه إذا احتاج إليه، ولا فدية عليه، وأما الاكتحال للزينة فمكروه عند الشافعي وآخرين، ومنعه جماعة منهم: أحمد وإسحاق -يعني: حرموه- وفي مذهب مالك قولان كالمذهبين -يعني: مكروه، ومحرم- وفي إيجاب الفدية عندهم بذلك خلاف.(28/11)
باب جواز غسل المحرم بدنه ورأسه
باب جواز غسل المحرم بدنه ورأسه، وإن كان الأولى غير ذلك.
للمحرم أن يغسل بدنه ورأسه، لكن الأولى ألا يغتسل، فهذا الحديث بيَّن الجواز وغيره بيَّن الأفضل.
قال: [(عن عبد الله بن عباس والمسور بن مخرمة أنهما اختلفا بالأبواء -اسم موضع- فقال عبد الله بن عباس: يغسل المحرم رأسه، وقال المسور: لا يغسل المحرم رأسه، فأرسلني ابن عباس إلى أبي أيوب الأنصاري أسأله عن ذلك فوجدته يغتسل بين القرنين -يعني: بين خشبتين قد نفضهما ووضع عليهما ستارة- وهو يستتر بثوب، قال: فسلمت عليه فقال: من هذا؟ فقلت: أنا عبد الله بن حنين -وهو تابعي- أرسلني إليك عبد الله بن عباس أسألك كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه وهو محرم؟ فوضع أبو أيوب رضي الله عنه يده على الثوب فطأطأه حتى بدا لي رأسه، ثم قال لإنسان يصب: اصبب.
فصب على رأسه، ثم حرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، ثم قال: هكذا رأيته صلى الله عليه وسلم يفعل)].
إذاً: غسل البدن والرأس جائز للمحرم؛ بدليل حديث أبي أيوب الأنصاري، وأنه كان يغتسل كما رأى النبي عليه الصلاة والسلام يغتسل وهو محرم، وليس في هذا بيان للعورة، ولهذا لا يمنع أن يغتسل وهو لابس ملابس الإحرام خاصة مع شدة الحر في ذلك الزمان.
فهذا أبو أيوب الأنصاري ستر نفسه عن الناس إلا من مولاه، أو من رجل يصب عليه، فجعل بينه وبينه ستاراً، ومولاه يمد يديه فيصب الماء على رأس أبي أيوب الأنصاري.
فـ أبو أيوب بين كيفية غسل النبي عليه الصلاة والسلام رأسه لـ عبد الله بن حنين وهو مبعوث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فقال: رأيته يفعل هكذا، ثم بين له أنه يأخذ مجامع رأسه من مقدم الرأس، فيرجع بيديه إلى قفاه، ثم يردهما إلى مقدم رأسه.
وهذا يعني: أنه لا يدخل أصابعه في شعره ويخلل شعره تخليلاً تاماً، فالمحرم لا يحتاج إلى مثل هذا، وإنما يحتاج إلى مثل هذا الجنب، حتى يصل الماء إلى منبت الشعر.
قال: فأمر أبو أيوب بيديه على رأسه جميعاً فأقبل بهما وأدبر، فقال المسور لـ ابن عباس: لا أماريك أبداً.(28/12)
فوائد حديث أبي أيوب في غسل المحرم رأسه وبدنه
هذا الحديث فيه فوائد: منها: جواز اغتسال المحرم، وغسله رأسه، وإمرار اليد على شعره بحيث لا ينتف شعراً، وأنتم تعلمون أن هذا غير مأمون وغير مضمون، وليس فيه كفارة؛ لأنه ما قصد إسقاط الشعر.
ومنها: قبول خبر الواحد، والرجوع إلى النص عند الاختلاف لا إلى قول الفقيه؛ ولذلك يقول ابن القيم عليه رحمة الله: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه فإذا كان خلاف الفقهاء للنص خلافاً ظاهراً لا يحتمله النص، لا يكون خلافاً معتبراً ولا يصار إلى رأي هذا الفقيه، إنما يصار إلى النص؛ لأنه ظاهر لا يحتمل التأول.
أما إذا كان نصه -أي: النص في القرآن أو السنة- يحتمل التأويل، وأن الفقهاء أولوا هذا النص على مذهبين أو أكثر بحيث يحتمل النص جميع هذه التأويلات، فلا ينكر على المخالف حينئذ.
ومنها: السلام على المتطهر في وضوء وغسل بخلاف الجالس على الحدث.
وإن كان الجالس على الحدث يجوز إلقاء السلام عليه، والأفضل ترك ذلك، وليس هناك دليل صحيح ينهى عن إلقاء السلام على المحدث، لكن ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه نهى عن الرجلين يختليان فيتحدثان.
ومن هذه الفوائد: جواز الاستعانة في الطهارة، والأولى ترك ذلك.
والنبي عليه الصلاة والسلام قد أعانه عليه غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، في الإتيان بماء للاستنجاء أو ماء للوضوء كما فعل أسامة بن زيد والمغيرة بن شعبة، وبلال، وأنس وغيرهم كثير قد أعانوا النبي عليه الصلاة والسلام على إتمام طهارته، حتى غسل القدم، واعتذر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المغيرة بن شعبة، وأنه إنما أدخلهما طاهرتين، لما هوى المغيرة ليخلع خف النبي عليه الصلاة والسلام قال: (دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين).
وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما منعه من ذلك لا لأن ذلك مكروه، ولكنه أدخلهما طاهرتين، ولو لم يكن على هذه الحال لجوز له وأذن له أن يفض النعل من رجله، ولكن الأولى ترك ذلك لما يمكن أن يلحق بالمتطهر من كبر أو عجب، أو غير ذلك.
فمن آنس من نفسه رشداً، وأن ذلك لا يؤثر على تواضعه وإخباته فإنه لا يمنع من ذلك، والأمر في حقه جائز، والأولى تركه.
والله أعلم.
اتفق العلماء على جواز غسل المحرم رأسه وجسده من الجنابة، بل هو واجب عليه، وأما غسله تبرداً فمذهب الشافعية، ومذهب الجمهور جوازه بلا كراهة، ويجوز عندنا أي: عند الشافعية غسل رأسه بالسدر والخطمي؛ بحيث لا ينتف شعراً، فلا فدية عليه ما لم ينتف شعراً.
وقال أبو حنيفة ومالك: هو حرام موجب للفدية، والصحيح هو مذهب جماهير أهل العلم.(28/13)
باب ما يفعل بالمحرم إذا مات
الباب الرابع عشر: ما يفعل بالمحرم إذا مات.
قال: [عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رجلاً خر من بعيره -أي: من فوق بعيره- فوقص فمات، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تخمروا رأسه، فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبياً)].
الجزاء من جنس العمل، فكما أن هذا الرجل كان محرماً، والمحرم تلزمه التلبية، فكذلك إذا مات في حال إحرامه فإنه يبعث على نفس الحال ملبياً.
قال: (اغسلوه بماء وسدر)، وفي هذا جواز استخدام السدر -ورق النبق- وهو له رائحة لكنه لا يستخدم للطيب.
وهذا يدل على حرمة الطيب على المحرم حتى لو كان ميتاً، يستوي في ذلك المحرم الذي مات، والمحرم الذي لم يمت، فإنه يحرم عليهما جميعاً استعمال الطيب، وإن كان طيباً أو له رائحة طيبة وهو لا يقصد التطيب فإنه لا يكره له.
قال: (اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه)، أي: الإزار والرداء، (ولا تخمروا رأسه)، ويقال: كل غطاء للوجه خمار، سواءً كان ذلك في حق الرجل أو المرأة.
أما قوله: (ولا تخمروا رأسه) أي: لا تضعوا شيئاً على رأسه، ودعوه مكشوفاً، والذي لا يضع شيئاً على رأسه من باب أولى لا يضع على الوجه، وقد جاء في الروايات صريحاً: (ولا تخمروا وجهه ولا رأسه)، يعني: اتركوه مكشوفاً، كما يحرم على المحرم أن يضع شيئاً فوق رأسه كالقلنسوة، أو الطاقية أو الغترة أو شيء من هذا، فإنه يحرم عليه بعد الموت ذلك؛ لأنه يبعث على نفس الحال التي قبض ودفن عليها.
ثم علل ذلك بأنه قال: (فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبياً).
قال: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بينما رجل واقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة)] يعني: في حال إحرامه؛ لأن الإحرام لا تنفك منه إلا بأداء نسكين من أعمال يوم النحر، نزولك من عرفة ومبيتك بمزدلفة، ثم تنطلق بعد شروق الشمس في يوم النحر إلى عرفة، وترمي جمرة العقبة بعد الزوال، أي: بعد ظهر يوم النحر، ثم تحلق أو تذبح الهدي، عندها يحل لك كل شيء إلا النساء، ولا يحل لك النساء إلا بعد الطواف والسعي.
قال: [(بينما رجل واقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة إذ وقع من راحلته، قال أيوب: فأوقصته، أو أقصعته.
وقال عمرو: فوقصته، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبين)].
وفي رواية: (في ثوبيه)، وهذا يدل على أن الثوبين هنا المقصود بهما: الإزار والرداء.
قال: [(ولا تحنطوه)]؛ لأن الحنوط طيب ويستخدم للطيب؛ ولذلك نهاهم أن يحنطوه بالحنوط، والحنوط في الغالب لا يستخدم إلا للميت، وإن استخدمه الحي جاز ذلك، وعلى أية حال: إذا استخدمه الحي أو الميت فإنما يستخدم لأجل الطيب؛ ولذلك نهاهم أن يطيبوه بالحنوط، وأذن لهم أن يضعوا في ماء غسله السدر؛ لأنه لا يستخدم للطيب عادة.
قال: [(ولا تخمروا رأسه فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبياً)].
وفي رواية: (فإن الله يبعثه يوم القيامة يلبي)، وهذا فيه رحمة عجيبة جداً.
فالرواية التي تقول: (فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبياً) أي: على الحالة التي مات عليها.
وأما قوله: (فإن الله يبعثه يوم القيامة يلبي)، هذا يدل على أنه يبعث وهو يلبي، وإن مات وهو غير ملبٍ؛ لأن المرء في حال إحرامه ينشط فيلبي، ويهمد ويكسل وهو في التلبية، فهب أنه مات في لحظة كسله، فهو لم يمت ملبياً، وإنما مات تاركاً، أو متكاسلاً عن التلبية، فهذا من رحمة الله عز وجل أنه يبعثه وهو يلبي.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أقبل رجل حراماً -يعني: محرماً- مع النبي عليه الصلاة والسلام فخر من بعيره فوقص وقصاً فمات، -يعني: انكسر كسراً فمات- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اغسلوه بماء وسدر وألبسوه ثوبيه - الإزار والرداء - ولا تخمروا رأسه، فإنه يأتي يوم القيامة يلبي).
وفي رواية: (ملبياً).
وفي رواية -وهي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس - (اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تخمروا رأسه ولا وجهه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً).
وفي الرواية الثانية: قال ابن عباس: (أن رجلاً كان مع النبي صلى الله عليه وسلم محرماً فوقصته ناقته فمات، فقال عليه الصلاة والسلام: اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تمسوه بطيب، ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبداً).
والتلبيد: هو دهن الشعر بشيء لا يؤثر على صحة العبادة، أو صحة الطهارة، والنبي عليه الصلاة والسلام قد لبد شعره قبل الإحرام، ولكنه استمر معه بعد الإحرام، فإذا مات ملبداً أو ملبياً فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً أو ملبداً.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما يحدث: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم فوقع من ناقته فأقعصته، فأمر النبي صلى ا(28/14)
من فوائد حديث ابن عباس في المحرم إذا مات
قال النووي عليه رحمة الله: (في هذه الروايات دلالة بينة لمذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وموافقيهم في أن المحرم إذا مات لا يجوز أن يلبس المخيط، ولا تخمر رأسه ولا وجهه، ولا يمس طيباً).
يعني: يدفن على نفس هيئته التي مات عليها وهو محرم.
قال: (وقال مالك والأوزاعي وأبو حنيفة وغيرهم: يفعل به ما يفعل بالحي، ولكن هذا الحديث يرد عليهم.
وأما قوله: (اغسلوه بماء وسدر) دليل على استحباب السدر في غسل الميت، وأن المحرم في ذلك كغيره، وهذا مذهب جماهير أهل العلم.
وقوله: (لا تخمروا وجهه ولا رأسه)، أما تخمير الرأس في حق المحرم الحي فمجمع على تحريمه، أما وجهه فقال مالك وأبو حنيفة: هو كرأسه.
وقال الشافعي والجمهور: لا إحرام في وجهه، بل له تغطيته).
وإنما يجب كشف الوجه في حق المرأة؛ لأن إحرام المرأة في وجهها ويديها؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين).
وهذا يدل على وجوب أو استحباب -على الخلاف المشهور- تغطية الوجه والكفين لغير المحرمة، وإجماع أهل العلم أن إحرام المرأة في وجهها وكفيها، أما في سائر بدنها فلها أن تحرم في ملابسها العادية بخلاف الرجل.
قال: (إذا كان ذلك -أي: إحرام المرأة في وجهها- فالرجل على العكس منها، فإنه لا إحرام في وجهه)، وبالتالي له أن يستر وجهه.
فلو نام المحرم فهل له أن يضع منديلاً على وجهه؟ له ذلك، وله أن يلبس نظارة القماش، التي يعطونه إياها في الطائرة لينام فلا يتأثر بالضوء، فإذا لبس هذا الحاج فهل عليه شيء؛ لأن هذا يعتبر تخميراً لبعض الوجه؟
الجواب
لا يعتبر؛ لأنه لم يقصد لذاته، ولم تتخذ بنية تخمير الرأس أو بعضه، وإنما اتخذت لغيرها، وإذا كان الأمر كذلك فإنه يجوز للحاج أن يفعل ذلك؛ لأنه ما قصد تخمير الرأس، إنما قصد المساعدة على تخمير الوجه وهو جائز لهم.
ومع هذا فالأولى ترك ذلك، للخلاف القائم بين العلماء في جواز تخمير الوجه من عدمه؛ لأن المسألة على مذهبين عند أهل العلم: مذهب يقول بالجواز، ومذهب يقول بالحرمة، فلاشك أن القائل بالحرمة يلزم من المخالفة لحوق الإثم بالمحرم إذا خمر وجهه.
وإذا وقع الخلاف بين أهل العلم في قضية ما فالأحوط في الدين ترك ذلك؛ ما لم يقض الدليل بصحة أحد الأقوال، فإنه يصار إليه ولا يصار إلى غيره، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء).
أتيت بهذا الحديث لأبين لك الفرق بين الكثير والقليل، أو بين الكبير والصغير، والحديث في الصحيحين.
ومفهوم الحديث: لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد إلا إذا كان على عاتقه منه شيء، وقد شرح الحافظ ابن حجر هذا الحديث.
قال: الصلاة صحيحة؛ لأنه يصدق عليها ظاهر الحديث.
قال: ولو أخذ هذا الثوب بخيط على عاتقه صحت صلاته؛ لأن الحديث يقول: (لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء).
فقد تحقق شرط الحديث، وهو وجود الشيء على العاتق، ثم استفاض الحافظ ابن حجر في التأدب مع الله عز وجل، وبدأ يتكلم في الرقائق ويخاطب القلوب.
قال: ولكن لا يمكن لأحد أن يقف بهذا الملبس أمام أحد من عظماء الدنيا وغير ذلك، فمن باب أولى ألا يقف مصل أمام الله عز وجل في هذا إلا إذا كان ناسكاً، يعني: إلا إذا كان محرماً؛ لأن المحرم يصلي في الإزار والرداء، ولا يكشف شيئاً من عاتقيه.
المحرم لا يجوز له أن يكشف عاتقه الأيمن إلا في الطواف فقط، فإن أدركتك الصلاة وأنت تطوف فعليك أن تغطي كتفك الأيمن وتلحق بالإمام، فإذا انتهت الصلاة كشفت الكتف الأيمن ثم أتممت طوافك.
فالمصلي وإن كان محرماً لا يجوز له أن يكشف عاتقه، فالحافظ ابن حجر يخاطب القلوب والعقول النيرة فيقول: وهذا الموقف -أي: بين يدي الله عز وجل- أليق بكمال الرياضة، وأنه ينبغي للمرء أن يكون على أحسن هيئة وأجمل منظر، وهذا مخل بهذا الأدب وهذا الشرف -أي: شرف الموقف بين يدي الله عز وجل- أن يأتيه العبد وليس على عاتقه شيء.
من الفوائد: الدلالة لمذهب الشافعي وموافقيه في أن حكم الإحرام باقٍ مع الميت حتى يبعث؛ لأنه بعث على حالته التي مات عليها.
فما بين موته وبعثته هو في حكم المحرم.
ومنها: أن التكفين في الثياب الملبوسة جائز، وهذا أمر مجمع عليه.
وأبو بكر الصديق رضي الله عنه لما خير في لحظة احتضاره بين ثيابه التي يلبسها، وأن يشتروا له ثوباً يكفن فيه قال: الحي أولى بذلك من الميت.
وهذا من أدبه وتورعه رضي الله عنه وأرضاه، فالثياب الملبوسة يجوز التكفين فيها بلا خلاف بين أهل العلم.
ومنها: جواز التكفين في ثوبين، وإن كان الأفضل ثلاثة، لكن يقال هنا: الأفضل ثلاثة لمن لم يكن محرماً، والأفضل في حق المحرم أن يكفن في ثوبيه.
ومنها: أن(28/15)
باب جواز اشتراط المحرم التحلل بعذر المرض ونحوه
باب جواز اشتراط المحرم التحلل بعذر المرض ونحوه.
أي: إذا خشي العذر من مرض أو نحو ذلك، والاشتراط: أن الواحد في لحظة إهلاله في الميقات حين يقول: لبيك اللهم عمرة يردفها بقوله: فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني.
فيكون قد اشترط على ربه هنا، فربما يأتيه عارض من مرض، أو تعسر في الأوراق الرسمية وغيرها، يعني أنت ممكن تسافر من هنا، وتمر على الميقات فتحرم وتهل: لبيك اللهم عمرة، وتنزل مطار جدة فيقال لك: تأشيرتك هذه مضروبة، كيف مضروبة؟ الكمبيوتر يقول: إن التأشيرة هذه مضروبة، والرقم هذا الذي معك قد دخل به محرم آخر البلاد برقم صحيح.
قال: [عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير فقال لها أردت الحج؟ قالت: والله ما أجدني إلا وجعة فقال لها: حجي واشترطي، وقولي اللهم محلي حيث حبستني، وكانت تحت المقداد بن الأسود)].
وقوله: (حجي واشترطي) يعني: قولي: (اللهم محلي حيث حبستني) يعني: إذا منعني المرض أو العذر فأنا سأتحلل من ملابس الإحرام، وألبس الملابس العادية وأرجع بغير أداء النسك ولا فدية علي.
(اللهم محلي) أي: ائذن لي بالتحلل من ملابس الإحرام بغير كفارة ولا فداء.
مثال ذلك: لو أنهم أرجعوك من مطار جدة أو تحت أي ظرف من الظروف وقعت فيه، وقد اشترطت في الميقات فقلت: لبيك اللهم حجاً أو عمرة فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني.
فرأوك في المطار مثلاً وأنكروا عليك أوراقك الرسمية التي أنت داخل بها مكة، فإذا كنت اشترطت في الميقات فلك أن تنزع ملابس الإحرام، وترجع إلى بلدك ولا كفارة عليك ولا ذنب.
أما إذا لم تكن قد اشترطت فإنه يلزمك الكفارة، وكفارة ذلك: ذبح شاة لفقراء الحرم، فقيمة الاشتراط أنه ينأى بك عن الكفارة إذا تحقق الشرط.
قال: [قالت عائشة: (دخل النبي عليه الصلاة والسلام على ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب - وهي بنت عم النبي عليه الصلاة والسلام -فقالت: يا رسول الله! إني أريد الحج وأنا شاكية، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني)].
قال: [وعن ابن عباس رضي الله عنه: (أن ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب رضي الله عنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني امرأة ثقيلة -يعني: أثقلني المرض- وإني أريد الحج.
فما تأمرني؟ قال: أهلي بالحج -يعني قولي: لبيك اللهم حجاً- واشترطي أن محلي حيث تحبسني.
قال: فأدركت)] أي: فأدركت الحج كله بغير أن يمنعها المرض.
قال: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن ضباعة أرادت الحج.
فأمرها النبي عليه الصلاة والسلام أن تشترط، ففعلت ذلك عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم)].(28/16)
فوائد من أحاديث اشتراط المحرم التحلل بعذر
يقول الإمام النووي: (في هذا الحديث دلالة لمن قال: يجوز أن يشترط الحاج والمعتمر في إحرامه أنه إذا مرض تحلل.
وهو قول عمر بن الخطاب، وعلي، وابن مسعود، وآخرين من الصحابة رضي الله عنهم، وجماعة من التابعين، وهو الصحيح من مذهب الشافعي، وحجتهم هذا الحديث الصحيح الصريح)، لأنكم تعلمون جميعاً أن الدليل لا يصح الاحتجاج به إلا إذا كان صحيحاً وصريحاً.
وقولك: صحيح، احتراز من الضعيف؛ لأن الضعيف لا تقوم به الحجة، خاصة في مسائل الأحكام ومسائل الاعتقاد وغيره.
ووقع نزاع بين أهل العلم في جواز الاحتجاج بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال.
والراجح في ذلك عدمه.
ولو أنه أراد الحج ومنعه مانع من بيته فلم يخرج فله ثواب الحج، وهذا لا يعني أن حجة الإسلام تسقط عنه، بل تبقى، ولكن الثواب يجري له.
وقد جاءت في ذلك أحاديث كثيرة جداً إن شئت أن ترجع إليها في باب الإخلاص من كتاب رياض الصالحين، وهو متوفر لدى كل إنسان، فارجع فإنك تجد آثاراً كثيرة تدل على أن من نوى شيئاً وكان عازماً عزماً أكيداً صادقاً فإنه يجري له الثواب.
أذكر من هذا دليلاً واحداً وهو قول النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه لما كان في غزوة: (ما نزلتم منزلاً ولا هبطتم وادياً ولا سرتم في طريق -وفي رواية: أو في مسير- إلا وقد شاركوكم الأجر -أي: إخوانكم بالمدينة- منعهم العذر).
وفي رواية: (منعهم المرض).
قال: (وقال أبو حنيفة ومالك وبعض التابعين: لا يصح الاشتراط؛ لأنه حادثة عين، فهو أمر مخصوص بـ ضباعة فقط، ولا يمكن قياس غير ضباعة على ضباعة، والكلام هذا طبعاً منقوض بالقاعدة الأصولية: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وفي هذا الحديث دليل على أن المرض لا يبيح التحلل إذا لم يكن اشترط في حال الإحرام، لكنه لو منعه المرض بالفعل عن مواصلة المناسك فلابد أن يتحلل ويذبح شاة.(28/17)
باب إحرام النفساء واستحباب اغتسالها للإحرام، وكذا الحائض
الباب الأخير: باب إحرام النفساء، واستحباب اغتسالها للإحرام، وكذا الحائض.
وذلك لأن النفساء والحائض كلتاهما حكمهما واحد.
والنفاس يطلق في اللغة: على الحيض.
وعائشة رضي الله عنها نفست في حجة الوداع، والنبي عليه الصلاة والسلام قال لها: (أنفست؟ قالت: نعم)، وكان ذلك في مدخلها مكة، وطهرت منه في ليلة عرفة، كما سيأتي معنا في الروايات، والنبي عليه الصلاة والسلام انطلق محرماً مع هلال ذي الحجة، أي: أن الأمر لم يستغرق إلا بضعة أيام، فهذا حيض، كما أنه من المعلوم أن عائشة لم تلد، ومع هذا قال لها: (أنفست؟) فالنفاس في اللغة: الحيض.
فالحيض: هي العادة الشهرية التي تنزل على المرأة المؤهلة له، والنفاس: ما تصاب به المرأة بعد ولادتها، كما في حديث أم سلمة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت للنفساء أربعين يوماً).
وهذا يدل على أن أقصى مدة النفاس أربعون يوماً، وهذا في الغالب، وإلا فأنت تجد في كتب المذاهب كما عند الأحناف والشافعية أن أقصى مدة النفاس ستون يوماً، وهذا شاذ، فغالب النساء ينقطع دم النفاس عنهن بعد أربعين يوماً، ولا يلزم استمرار نزول الدم أربعين يوماً، بل قد ينزل عشراً، ثم ينقطع عشراً، ثم يأتي عشراً وهكذا، أو خمساً وخمساً، أو سبعاً وسبعاً، فلا يجب استمرار نزول الدم طوال الأربعين يوماً، ولكن المعنى: أن النبي صلى الله عليه وسلم حدد أن أقصى مدة النفاس تكون أربعين يوماً.
ولذلك العلماء يقولون: أقصى مدة النفاس على حديث أم سلمة أربعون يوماً في غالب عادة النساء، ولا حد لأقله، كما لا حد لأقل الحيض، والراجح أن أقل حد النفاس والحيض دفقة دم تخرج من رحم المرأة؛ لأنه لا معنى لقولهم: لا حد لأقله؛ لأنه إذا كان أقصى النفاس أربعين يوماً فلابد أن يكون له حد أقل، فقولهم: لا حد لأقله أمر غير مفهوم، والمفهوم أن أقل الحيض والنفاس دفقة دم تخرج من رحم المرأة، وهذا مذهب كثير من أهل العلم كذلك.
قال: (باب إحرام النفساء واستحباب اغتسالها للإحرام وكذا الحائض).
يعني: الحائض والنفساء يستحب لهما أن تغتسلا للإحرام مع وجود النفاس ومع وجود الحيض.
والإحرام يكون من الميقات، وأنتم تعلمون أن الغسل في حق الرجال كذلك مستحب وليس واجباً، كما أن الصلاة التي يحرم بعدها المحرم ليست واجبة، وإنما هي مستحبة كذلك.
قال: [قالت عائشة: (نفست أسماء بنت عميس)] وأسماء بنت عميس هي زوجة أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
قالت: [(نفست أسماء بنت عميس بـ محمد بن أبي بكر -يعني: ولدت محمد بن أبي بكر - بالشجرة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر يأمرها أن تغتسل وتهل)] يعني: تقول: لبيك اللهم عمرة أو حجاً.
قال: [وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (في حديث أسماء بنت عميس حين نفست بذي الحليفة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر رضي الله عنه فأمرها أن تغتسل وتهل)].
وذو الحليفة ميقات أهل المدينة، وأنتم تعلمون أن هذا المكان فيه نزاع بين ثلاث مسائل: الشجرة، والمسجد، والبيداء، فمن الناس من كان يهل من البيداء، ومن الناس من كان يهل من المسجد بعد الصلاة مباشرة وقبل أن يقوم من مقامه، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام ما أهل إلا من عند الشجرة حين ركب دابته فقامت وانبعثت، فبعد أن انبعثت أهل بالنسك.
وفي هذا الحديث صحة إحرام النفساء والحائض واستحباب اغتسالهما للإحرام، وهو مجمع على الأمر به، لكن مذهب الشافعية ومالك وأبي حنيفة والجمهور: أنه يستحب.
وقال الحسن وعند أهل الظاهر هو واجب.
يعني: غسل الحائض والنفساء واجب، والحائض والنفساء يصح منهما جميع أفعال الحج إلا الطواف وركعتيه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (واصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت).
فالطواف لا يجوز للحائض ولا النفساء، ولا حتى فاقد الوضوء؛ لأن الطهارة شرط في الطواف؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الطواف بالبيت صلاة غير أن الله أحل فيه الكلام).
والركعتان اللتان خلف مقام إبراهيم تابعتان للطواف، فإذا كان الحائض والنفساء وغير المتوضئ من الرجال والنساء لا يجوز له الطواف على هذا النحو، فهل يجوز له الصلاة ركعتين؟ من باب أولى لا يجوز؛ لأنه لا طواف إلا بطهور، والسعي لا يشترط له الطهارة لكن يستحب.
وفي هذا الحديث: أن ركعتي الإحرام سنة وليستا بشرط لصحة الحج؛ لأن أسماء لم تصلهما، هذا والله تعالى يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال والأقوال.(28/18)
الحج مفروض على التراخي
أذكر قديماً كتاباً اسمه: (إحكام التقرير في أحكام التفسير) وهو في الحقيقة لأخ أردني اسمه مراد شكري.
أخونا مراد شكري من إخواننا المحبين، وهو في الحقيقة من تلاميذ الشيخ الألباني، ومعلوم أن الاجتهاد في النوازل أمر سائغ.
أما إذا اجتهد السلف في مسألة على قولين، ثم انعقد الإجماع بعد هذا الخلاف، فالمعلوم أصولياً أن الإجماع بعد الخلاف يرفعه، يعني: ينزع الخلاف كأن لم يكن.
فإذا اختلف السلف في مسألة على قولين، أحدهما قال: يجوز، والآخر قال: لا يجوز، ثم تبين لأهل العلم عدم الجواز، وانعقد إجماع أهل العلم على عدم الجواز، فانعقاد الإجماع بعد الخلاف يجعل الخلاف كأن لم يكن، أي: يرفعه تماماً، وبعد ظهور الحق ومعرفة أن التأويل ليس مذهب السلف لا يحصل ثوابه، بل يأثم من فعل ذلك، خاصة وأن رءوس التأويل رجعوا عن تأويلهم.
هذا الأخ يقول: حديث ضباعة يدل على تعجيل الحج.
قالت ضباعة: (يا رسول الله! إني أريد الحج ولكني ثقيلة -أو أشتكي- فقال لها: حجي واشترطي)، لم يقل لها: انتظري إلى العام القادم، أو أن الحج على التراخي، وإنما قال لها: (حجي) أي: الآن، فأمره عليه الصلاة والسلام لها بقوله: (حجي) ليس أمراً يدل على الوجوب، إنما هو للإرشاد والتوجيه باتفاق أهل العلم، وإذا كان الحج على الفور لكان أول من حج بعد الفرض هو النبي عليه الصلاة والسلام، ولكنه حج في آخر حياته، وأنتم تعلمون أن حجة الوداع كانت في السنة العاشرة، وقد مات النبي صلى الله عليه وسلم بعد حجه ببضعة أشهر.
فالراجح من كلام أهل العلم: أن الحج مفروض على التراخي.(28/19)
الأسئلة(28/20)
حكم من يصلي النافلة أثناء إقامة الصلاة
السؤال
إذا أقيمت الصلاة وأنا أصلي النافلة هل يكون الخروج من الصلاة بالتسليم أم لا؟
الجواب
قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة)، يعني: التي أقيمت الصلاة لأجلها، فإذا كنت تصلي النافلة أو السنة الراتبة وأقيمت الصلاة فاعلم أن هناك خلافاً بين العلماء، فمنهم من يقول: صل ركعتين وإن كنت أحرمت ودخلت في الصلاة بأربع، ومنهم من يقول يخفف الصلاة قدر الإمكان حتى يدرك الركعة الأولى مع الإمام.
ومنهم من قال: تبطل الصلاة ولا يحتاج معها إلى تسليم.
وحمل النفي هنا على نفي الصحة، فقوله: (فلا صلاة) أي: لا صلاة صحيحة إلا التي أقيم لها، وهي صلاة الإمام.
وأحسن الأقوال في ذلك: قولان لابد من اعتبارهما.
القول الرابع في المسألة: إذا أقيمت الصلاة فلا شروع في صلاة نافلة، (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة) أي: فلا تشرع في صلاة غيرها، وإذا كنت في صلاة فتعجلها وخففها حتى تلحق بالإمام، هذا إذا كان لحوقك بالإمام في الركعة الأولى، وأما إذا كان يغلب على ظنك أنك لا تدرك الإمام في الركعة الأولى مهما عجلت فينبغي أن تخرج من صلاتك بتسليم أحوط، وشيخنا الألباني عليه رحمة الله يقول: يخرج منها مباشرة بغير تسليم؛ لأن الشيخ يحمل النفي على الإطلاق، يقول: (فلا صلاة) أي: فلا صلاة صحيحة، فإذا فسدت صلاته أو بطلت فما قيمة التسليم حينئذ؟ كالذي يخرج منه الريح وهو في الصلاة هل يسلم؛ لأنه بخروج الريح قد خرج من الصلاة، فما قيمة التسليم حينئذ؟(28/21)
معنى الحديث الصريح
السؤال
لا يجوز الاحتجاج بالدليل إلا إذا كان صحيحاً وصريحاً، فما معنى صريحاً؟
الجواب
معنى الصريح: أن الدليل صريح في حل النزاع ليس بعيداً عنه، يعني: صراحة الدليل أنه يحكم القضية نفسها، فلو أنك مثلاً قلت لامرأتك: أنت طالق.
فقلت لي هل يقع الطلاق؟ قلت لك: نعم.
يقع، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: (من صام رمضان، ثم أتبعه ستاً من شوال فكأنه صام الدهر).
فهذا الحديث صحيح، لكنه ليس صريحاً في حل النزاع.(28/22)
حكم وضع الأموال في بنك فيصل
السؤال
هل يجوز وضع الأموال في بنك فيصل؟
الجواب
في الحقيقة إن بنك فيصل وبنك المصرف الإسلامي الدولي بنكان أحسن من غيرهما وإن كان فيهما دخن، فيجوز لك أن تعمل في هذين البنكين مع استغلال الربح هنيئاً مرئياً.(28/23)
معنى الاضطباع وحكمه
السؤال
هل الاضطباع مشروع في طواف القدوم فقط، وما الفرق بين أهل مكة وأهل الحرم؟
الجواب
أهل مكة أو أهل الحرم لا يلبسون ملابس الإحرام أصلاً؛ لأنهم يطوفون طواف عبادة وليس طواف نسك، أما أنت فباعتبارك قادماً فإنه يلزمك الإحرام، وإذا لبست الإحرام يلزمك الاضطباع، والاضطباع هو: كشف الكتف الأيمن حين الطواف فقط.(28/24)
شرح صحيح مسلم - كتاب الحج - بيان وجوه الإحرام الإفراد - القران - التمتع
الحج أحد أركان الإسلام وشعائره العظيمة، وهو ثلاثة أنواع: تمتع وقران وإفراد؛ يهل الحاج بأحدها عند الإحرام، وقد وقع الاختلاف في أي المناسك الثلاثة أفضل منذ عهد الصحابة، كما اختلفوا في حجة النبي صلى الله عليه وسلم هل كانت إفراداً أم قراناً أم تمتعاً؟ وعلى كل حال فالإفراد أكملها، والهدي يجبر النقصان في القران والتمتع.(29/1)
باب ما جاء أن عرفة كلها موقف
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، ثم أما بعد: قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: (باب ما جاء أن عرفة كلها موقف).
النبي عليه الصلاة والسلام لاشك أنه وقف في موطن معين من عرفة، ولم يقف في كل عرفة، كما وقف في موطن معين من مزدلفة، ولم يقف في كل مزدلفة، وكذلك وقف ونزل في منى، وقد ضرب له خباء في منى فمكث فيه ثلاثة أيام، ولا شك أن ذلك كان في مكان معين دون بقية أجزائها، والنبي عليه الصلاة والسلام خشي أن يأتي من يتمسك بهذا المكان الذي نزل فيه في عرفة أو في مزدلفة أو في منى ويقول: لا يجزئ الوقوف إلا في المكان الذي وقف فيه النبي عليه الصلاة والسلام، سواء كان ذلك الوقوف في منى أو مزدلفة أو عرفة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام في عرفة: (وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف).
وقال في المزدلفة: (وقفت هاهنا وجمع كلها موقف)، ويقال لمزدلفة: جمع.
وقال في منى: (ووقفت هاهنا ومنى كلها موقف)؛ ليبين الجواز، وإن كان الأفضل النزول حيث نزل النبي عليه الصلاة والسلام، والوقوف حيث وقف النبي عليه الصلاة والسلام.(29/2)
حكم الطواف في جميع طوابق المسجد الحرام وسطحه وخارج المسجد
ومن المعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام طاف حول الكعبة مباشرة، واليوم من الناس من يطوف في الدور الثاني أو الثالث أو في السطح أو خارج المسجد الحرام من شدة الزحام، والطواف في هذه الأماكن كلها يجزئ الطائفين، ولكن أفضل الطواف بلا شك هو الطواف في المكان الذي طاف فيه النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن من لم يتمكن من ذلك يجزئه طوافه في غير المكان الذي طاف فيه النبي عليه الصلاة والسلام، وطوافه صحيح بلا شك وبلا خلاف بين أهل العلم، وإن كان الأفضل هو الطواف حيث طاف النبي عليه الصلاة والسلام.(29/3)
حكم الوقوف في أي مكان من مزدلفة ومنى وعرفة في أيامهن المحدودة
أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن ينفي خلافاً ربما يقع فيه طوائف من الأمة فيما بعد، فقال في حديث جابر: [(نحرت هاهنا ومنى كلها منحر)]، أي: ذبحت الهدي في هذا المكان من منى، ولو أراد الذابح أن يذبح في كل بقعة منها شاة لربما ذبح آلاف أو ملايين الشياه، والنبي عليه الصلاة والسلام ما ذبح إلا هديه، ولا يتصور أنه ذبح إلا في بقعة معينة من منى، فخشي عليه الصلاة والسلام أن يتمسك بهذا المكان في النحر والذبح أناس من أمته فقال: (نحرت هاهنا)، أي: في هذا المكان بعينه، (ومنى كلها منحر)، أي: منى كلها صالحة بأن يذبح فيها الهدي، وليس بلازم أن يذبح في نفس المكان الذي ذبح فيه النبي عليه الصلاة والسلام، بل قال: (فانحروا في رحالكم، ومنى كلها منحر)، يعني: من شاء أن ينحر في بيته أو في خيمته أو في خبائه الذي نزل فيه في منى فلينحر، ولا يصح لك أن تضرب خباءك ولا أن تنزل في مكان خارج منى، وإنما تضرب خباءك في منى في أيام منى، وفي مزدلفة في ليلة المزدلفة، وفي عرفة في يوم عرفة وليلتها.
فإذا كان الخباء مضروباً خارج هذه البقاع -أي: خارج حدود عرفة أو المزدلفة أو منى- لم يصح مبيتك ولا قيامك في هذا المكان إذا لم تكن قد دخلته في أثناء المدة المأذون فيها من جهة الشرع.
قال: [(ووقفت هاهنا وعرفة كلها موقف)]، أي: في هذا المكان من عرفة، (وعرفة كلها موقف).
وقال: [(ووقفت هاهنا -أي: في جمع في مزدلفة- وجمع كلها موقف)].(29/4)
الرمل في الطواف واستلام الحجر الأسود
قال جابر رضي الله عنه: [(إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أتى الحجر فاستلمه)]، أي: لما دخل مكة محرماً بالحج أتى الحجر فاستلمه، أي: فتناوله بيمينه وقبل يمينه، ثم مشى على يمين الحجر، وكان الحجر على شماله.
قال: [(فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً)] والرمل: هو الإسراع قليلاً، والسعي الحثيث، وهذا الرمل لا يكون إلا في الثلاثة الأشواط الأولى، وأما الأشواط الأربعة الباقية فيمشي فيها على الأقدام بغير تكلف وبغير إسراع، وإنما يمشي المشي المعتاد.
فالسنة أن ترمل في الثلاثة الأشواط الأولى، وتمشي مشياً عادياً في الأربعة الباقية.
وفي هذا الحديث: أن السنة للحاج أن يبدأ أول قدومه بطواف القدوم، ويقدمه على كل شيء، وأن يستلم الحجر الأسود في أول طوافه، وقد اختلف أهل العلم هل يسن أن يستلم الحجر أو أن يقبله أو يشير إليه في كل شوط أو يكفي الشوط الأول؟ فالاستلام والتقبيل مسنون في الشوط الأول، ويسن له أن يشير إليه وأن يتوجه إليه بصدره عند محاذاته، وأن يشير إليه بيمينه، ولا يقبل يمينه بعد ذلك في بقية الأشواط.(29/5)
باب في الوقوف وقوله تعالى: (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس)
الباب الحادي والعشرون: باب في الوقوف وقوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:199].
قال: [قالت عائشة رضي الله عنها: كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة]، أي: لم يكونوا يقفون بعرفة، وهذا في الجاهلية قبل الإسلام.
قال: [قالت: وكانوا يسمون الحمس]، أي: من شدة تحمسهم، وكانوا يعتبرون أنهم أنجب العرب وأفضلهم، وأولى بالبيت الحرام من غيرهم.
والمزدلفة حرم، وعرفة ليست بحرم، وإنما هي حل، فكانوا يقولون: نحن أولى ببيت الله من بقية العرب، لا يسعنا أن نخرج من دائرة الحرم.
ومن أراد من أهل مكة أن يعتمر يلزمه أن يذهب إلى الحل ليحرم من هناك، كما أهلت عائشة من التنعيم؛ لأن التنعيم من الحل وليس من الحرم، ويجوز الإحرام من عرفة، لأن عرفة حل وليست حرماً، وهي من جهة المشرق، ونمرة حل من جهة المغرب، فمن أراد أن يهل بعمرة من أهل مكة وهو بعرفة فله ذلك.
وقريش كانت تعتبر أنها أولى الناس ببيت الله الحرام وبالحرم، وكان أهلها يقولون: إذا خرجت العرب إلى الحل -أي: إلى عرفة- فإننا لا نخرج؛ لأننا أولى بالحرم منهم، ولا يجوز لنا أن نخرج عن دائرة الحرم، فكانوا يقفون في حجهم في الجاهلية في مزدلفة؛ لأن المزدلفة حرم.
وأما العرب فقد أجمعوا على وجوب الوقوف بعرفة قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، وكانت قريش ومن دان دينها يقفون بمزدلفة ويسمون أنفسهم الحمس، فلما جاء الإسلام أمر الله عز وجل نبيه أن يأتي عرفات فيقف بها، ثم يفيض منها في قوله عز وجل: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:199] أي: ثم انزلوا، وربنا سبحانه وتعالى اختار هذا اللفظ {ثُمَّ أَفِيضُوا} [البقرة:199]، ولم يقل: ثم انزلوا، أو ثم اصدروا، وإنما قال: {ثُمَّ أَفِيضُوا} [البقرة:199]، فشبه ذلك بفيضان الماء وسيلانه الجاري الذي لا يمكن الوقوف في وجهه أو صده؛ لأن العرب كانوا مجمعين على الوقوف بعرفة إلا قريشاً، وقريش إلى العرب نسبة قليلة جداً.
فلما جاء النبي عليه الصلاة والسلام بهذا الإسلام أمره ربه أن يفيض من حيث أفاض الناس، أي: من عرفات.
والمقصود بالناس: العرب، فأمر الله عز وجل نبيه أن يخالف قومه وعشيرته وأهله في وقوفهم بمزدلفة، وينطلق مباشرة إلى عرفة، ثم إذا دخل الليل وغربت الشمس من اليوم التاسع أن يفيض مع الناس، يعني: أن ينزل من عرفة إلى المزدلفة، والذي ينطلق من منى في يوم عرفة بعد شروق الشمس إلى عرفات يمر بالمزدلفة أو بمحاذاتها على حسب الطريق الذي يسلكه؛ لأن الطرق ما بين منى إلى عرفة ومن عرفة إلى مزدلفة ومن مزدلفة إلى منى طرق كثيرة، فهناك طرق تمر بأرض المزدلفة، وطرق تحاذيها من الخارج.
والنبي عليه الصلاة والسلام بات بمنى في يوم التروية، ثم صلى الفجر وجلس في مصلاه حتى أشرقت الشمس، ثم انطلق عليه الصلاة والسلام وقريش كلها تنظر إليه وتحسب أنه سينزل في المزدلفة؛ لأنها موقف قومه، وظنوا أن محمداً لن يخالفهم في ذلك، وأن العرب ستحرج إحراجاً شديداً في هذا اليوم، فمر النبي عليه الصلاة والسلام بالمزدلفة ولم يقف فيها ووقف بعرفة، ثم نزل من آخر يومه فصلى المغرب والعشاء جمع تأخير في المزدلفة عند المشعر الحرام، ومزدلفة كلها موقف، وإن كان الأولى النزول عند المشعر الحرام، ويصلي فيها المغرب والعشاء جمع تأخير.
قال: [قالت: وكان سائر العرب يقفون بعرفة، فلما جاء الإسلام أمر الله عز وجل نبيه أن يأتي عرفات فيقف بها ثم يفيض منها، فذلك قوله عز وجل: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:199]].
قال: [وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلا الحمس]، يعني: إلا قريشاً، فقد كانوا يطوفون وعليهم ملابسهم.
قال: [إلا الحمس -والحمس قريش وما ولدت- كانوا يطوفون عراة إلا أن تعطيهم الحمس ثياباً، فيعطي الرجال الرجال والنساء النساء].
وقريش كان لها فضل عظيم جداً في الجاهلية في الحفاظ على كرامة البيت وشرفه، وكانوا يعطون من ملابسهم للعرب الذين يأتون يطوفون بالبيت عراة، فكان الرجل من قريش أو من الحمس يعطي الرجل من العرب، والمرأة من قريش تعطي المرأة من العرب، حتى يطوف الجميع مستورين.
قال: وكانت الحمس لا يخرجون من المزدلفة -أي: يقفون بها- وكان الناس كلهم يبلغون عرفات -أي: العرب-.
قال: [قال هشام: فحدثني أبي عن عائشة رضي الله عنها قالت: الحمس هم الذين أنزل الله عز وجل فيهم: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:199].
قالت: كان الناس يفيضون من عرفات، وكان الحمس يفيضون من المزدلفة، يقولون: لا نفيض إلا من الحرم.
فلما نزلت: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:199]، رجعوا إلى عرفات]، أي: رجع الحمس وقريش وأفاضوا مع الناس من عرفات.(29/6)
مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم لقومه قبل البعثة في وقوفهم بالمزدلفة ووقوفه بعرفة
قال: [وعن جبير بن مطعم قال: أضللت بعيراً لي -أي: ضل بعيري- فذهبت أطلبه يوم عرفة، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً مع الناس بعرفة، فقلت: والله إن هذا لمن الحمس] يعني: النبي صلى الله عليه وسلم من الحمس من قريش فلماذا يقف في عرفة؟ وجبير بن مطعم كان كافراً في ذلك الوقت لم يسلم بعد، ولكنه كان في عرفة في ذلك اليوم، وهو من العرب.
فتعجب أشد التعجب كيف يقف محمد بعرفة مع أنه من الحمس، والحمس لا يقفون بعرفات وإنما يقفون بالمزدلفة.
قال: [فقلت: والله إن هذا لمن الحمس، فما شأنه هاهنا؟ أي: لماذا أتى إلى هنا؟ ولماذا يخالف قومه؟ قال: وكانت قريش تعد من الحمس].
والنبي عليه الصلاة والسلام حج في الإسلام حجة واحدة، وهذا الموقف من جبير بن مطعم كان قبل الإسلام، وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحج قبل الإسلام على ملة إبراهيم.
وكان يخالف قومه في الجاهلية في الوقوف بمزدلفة، حتى أثار ذلك تعجب جبير بن مطعم.(29/7)
معرفة العرب للحج في زمن إبراهيم عليه السلام
وقد كانت العرب تحج قبل الإسلام، وكان الحج عبادة معروفة من زمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فهو ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
والله عز وجل قال أول ما قال في الحج لإبراهيم: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا} [الحج:27].
فالحج عبادة قديمة معروفة في ملة إبراهيم، والنبي عليه الصلاة والسلام كان من أتبع الناس قبل البعثة لملة أبيه إبراهيم، وكان على ملة إبراهيم عليه السلام.(29/8)
باب في نسخ التحلل من الإحرام والأمر بالتمام
الباب الثاني والعشرون: في نسخ التحلل من الإحرام والأمر بالتمام.
قال تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]، يعني: كلاهما معاً بملبس واحد وإحرام واحد.
قال: [قال أبو موسى الأشعري: (قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منيخ بالبطحاء -يعني: قد أناخ بعيره في البطحاء- فقال لي: أحججت؟ فقلت: نعم -يعني: أهللت بالحج؟ فقلت: نعم- قال: بم أهللت؟ قال: قلت: لبيك بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم)].
وأبو موسى الأشعري كان قد جاء من اليمن، والأشعريون يمنيون في الأصل، فـ أبو موسى الأشعري أصله من اليمن.
واليمن من الجزيرة العربية، والاستعمار هو الذي فرق البلاد الإسلامية ووضع الحدود بين بلدانها، فهذه اليمن، وهذه الحجاز، وهذه مصر، وتلك ليبيا وغير ذلك، وكل هذه التسميات أو الحدود التي فرقت بين هذه المسميات ما أنزل الله بها من سلطان، والأصل أن الأرض كلها ملك لكل مسلم إلا ما حذر منه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، والذي حذر منه الله تعالى ورسوله هي بلاد الكفر وبلاد الحرب، وقد أخرج أبو داود أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أنا بريء ممن أقام بين ظهراني المشركين والكافرين).
وأما بلاد المسلمين فهي ملك لكل أحد من المسلمين.
وأرض الحجاز لا يحل أن يبقى فيها ولا أن ينزلها رجل من الكافرين؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يجتمع في أرض الجزيرة العربية دينان قط).
وأرض الجزيرة تشمل بلاد الحجاز كلها.
وفي رواية: (أهل ملتين أبداً)، يعني: لا يجتمع فيها أبداً مسلم مع غيره، بل لابد من وجود المسلم دون غيره، وأما اليهود والنصارى وعبدة الأوثان فلابد من إخراجهم من جزيرة العرب.
والسياسة العالمية الآن تمنعهم من دخول مكة والمدينة فقط، ولما دخل هؤلاء الكفار بلاد الخليج والحجاز قال الشيخ الألباني محذراً: إن هؤلاء لا يخرجون حتى يأخذوا خيبر؛ لأنهم قد طردوا منها، فقد طردهم منها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والنبي عليه الصلاة والسلام كان قد فرض عليهم الجزية واستمر دفعهم للجزية في زمن أبي بكر، ثم أجلاهم عمر رضي الله عنه عن خيبر.
وهم لم ينسوا أن هذه أرضهم، ويعتقدون بأنهم سيرجعون إليها، وهم أصحاب الشعار من النيل إلى الفرات، ولهم شعار جديد الآن وهو تلك الكرة الدائرية التي تقضي بأن العالم ملك لليهود، ويصورون الكرة الأرضية ويضعون عليها نجمة داود، أي: أن نجمة داود لابد أن تسود بلاد العالم، فأحفاد القردة والخنازير يتصورون أنهم أسياد العالم جميعاً، وأن العالم لابد أن يحكم بسياسة غربية، وإن كان هذا الواقع اليوم، ولكن هذا ليس بفعل اليهود بالدرجة الأولى، وإنما هو بفعل أذناب اليهود هنا وهناك.
(قال: قلت: لبيك بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم)، وهذا يدل على أنه يجوز الإهلال بإهلال شخص آخر، وإن لم يعلم أنه أهل بشيء معين، فيجوز لك أن تقول: لبيك اللهم بإهلال كإهلال زيد أو عمر أو حسن أو إبراهيم أو سعد وأنت لا تدري بماذا أهل هؤلاء، أو بماذا أهل من اقتديت به في إهلالك، وهذا هو الإهلال المطلق، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (فقد أحسنت).
فالعبرة ليست في إهلال أبي موسى الأشعري، وإنما في إقرار النبي عليه الصلاة والسلام لإهلاله.
ثم أمره النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (طف بالبيت وبالصفا والمروة وأحل)، أي: طف بالبيت الذي هو طواف القدوم وهو كذلك طواف العمرة.
ولما قال له: (وأحل) دل على أنه كان متمتعاً؛ لأن القارن لا يتحلل بعد أداء العمرة، وإنما يبقى في ملابس إحرامه حتى يخرج يوم التروية إلى منى، ولا يتحلل إلا في يوم النحر.
قال: [(فطفت بالبيت وبالصفا والمروة، ثم أتيت امرأة من بني قيس ففلت رأسي)].
يعني: غسلت رأسه ومشطته وسرحته، وهذه المرأة من بني قيس قريبة له، أو هي من محارمه، وبنو قيس هم أهل أبي موسى، واسم أبي موسى الأشعري عبد الله بن قيس الأشعري.
قال: [(ثم أهللت بالحج)]، يعني: بعد أن تحلل وأتى هذه المرأة ففعلت به ما فعلت.
جدد الإهلال في يوم التروية، الذي هو اليوم الثامن من ذي الحجة.
قال: [(فكنت أفتي به الناس -يعني: كان يفتي الناس بجواز التمتع من العمرة إلى الحج- حتى كان في خلافة عمر رضي الله عنه، فقال له رجل: يا أبا موسى! أو يا عبد الله بن قيس! رويدك بعض فتياك -يعني: انتبه يا أبا موسى الأشعري فإنك تفتي على غير ما يفتي به أمير المؤمنين- فإنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعدك، فقال -أي أبو موسى الأشعري -: يا أيها الناس! من كنا أفت(29/9)
نهي عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما عن حج التمتع وحجتهما في ذلك
قال: [قال: أبو موسى: (قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منيخ بالبطحاء، فقال: بم أهللت؟ قال: قلت: أهللت بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، قال: هل سقت من هدي؟ قلت: لا)]، والحديث الأول ليس فيه: (هل سقت من هدي؟) لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما أهل ساق الهدي معه من الميقات.
فالنبي عليه الصلاة والسلام لما أهل أهل قارناً، ودخل مكة محرماً قارناً بين الحج والعمرة لما ساق معه الهدي، وأما أبو موسى الأشعري وكذلك علي بن أبي طالب فلم يكن عندهما علم أن النبي صلى الله عليه وسلم ساق الهدي أو لم يسقه، وهذا فارق جوهري بين القارن والمتمتع، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الإهلال، فمن الخير والبركة أن يهل بإهلال النبي عليه الصلاة والسلام، لكن لما لم يسق الهدي كان له فسخ الحج عن العمرة، فيحرم بالعمرة أولاً، ثم يهل بالحج يوم التروية؛ لأنه لم يسق الهدي.
قال: [(فطف بالبيت وبالصفا والمروة ثم حل، فطفت بالبيت وبالصفا والمروة، ثم أتيت امرأة من قومي فمشطتني وغسلت رأسي، فكنت أفتي الناس بذلك في إمارة أبي بكر وإمارة عمر، فإني لقائم بالموسم)] أي: أنه كان قائماً في الموسم يفتي الناس، وهذه السنة ما زالت قائمة إلى الآن في منى ومكة وعرفة ومزدلفة، فهناك المشايخ والعلماء وطلاب العلم من الجامعة الإسلامية ومن جامعة ابن سعود وغيرهما يأخذون التراخيص بالإفتاء في موسم الحج بعد اختبارهم في أحكام الحج والعمرة، فإذا كانوا متقنين لهذه الأحكام صدروهم لإفتاء الناس وتعليم الناس مناسك الحج والعمرة؛ لأن الناس هناك يتخبطون تخبطاً عظيماً جداً، فتجد الزحام عليهم شديداً، وهؤلاء يقفون بالليل والنهار للتصدي لإفتاء الناس.
قال: [(فإني لقائم بالموسم إذ جاءني رجل فقال: إنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في شأن النسك، فقلت: أيها الناس! من كنا أفتيناه بشيء فليتئد، فهذا أمير المؤمنين قادم عليكم فبه فائتموا، فلما قدم قلت: يا أمير المؤمنين! ما هذا الذي أحدثته في شأن النسك؟ قال: إن نأخذ بكتاب الله فإن الله عز وجل قال: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]، وإن نأخذ بسنة نبينا صلى الله عليه وسلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحل حتى نحر الهدي)] وكلاهما محق، فـ عمر محق في قوله: إن أحسن الأنساك القران؛ لأنه المذكور في القرآن، وهو الذي فعله النبي عليه الصلاة والسلام، وأبو موسى الأشعري محق في قوله: التمتع جائز؛ لأنه إن لم يكن جائزاً ومجزئاً لصاحبه وفاعله لما أجازه النبي عليه الصلاة والسلام ولما أمره بذلك عندما لم يسق الهدي.
قال: [قال أبو موسى الأشعري: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني إلى اليمن، قال: فوافقته في العام الذي حج فيه)]، يعني: جاء من اليمن في العام الذي جاء فيه النبي عليه الصلاة والسلام من المدينة، فهذا مر بيلملم وذاك مر بذي الحليفة، فالتقيا في البطحاء، أي: بطحاء مكة.
قال: [(فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا موسى! كيف قلت حين أحرمت؟ قال: قلت: لبيك إهلالاً كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هل سقت هدياً؟ فقلت: لا، قال: فانطلق فطف بالبيت وبين الصفا والمروة ثم أحل)] ثم ساق الحديث بمثل ما سبق.
قال: [وعن أبي موسى الأشعري أنه كان يفتي بالمتعة -أي: التمتع بالعمرة إلى الحج، وليست متعة النساء- فقال له رجل: رويدك ببعض فتياك، فإنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعد، حتى لقيه بعد فسأله، فقال عمر: قد علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعله وأصحابه)]، أي: قد قاله وأمر به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتمتع وإنما كان قارناً، فـ عمر بن الخطاب يقول: إن النبي عليه الصلاة والسلام قد فعله، ومعلوم في كلام العرب أنه ينسب الفعل إلى الرجل وإن لم يفعله إن كان أمر به، كما يقال: انتصر النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة بدر، وإن كان الذي باشر النصر هم أصحابه رضي الله عنهم أجمعين.
قال: [(ولكن كرهت أن يظلوا معرسين بهن في الأراك، ثم يروحون في الحج تقطر رءوسهم)].
وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان فقط من الصحابة كان مذهبهما كراهة التمتع، والعلة في ذلك أن الحاج لم يأت من بلده ليتمتع هنا، بل أول ما يدخل مكة يلبس كلباس الميت، فيلبس الإزار والرداء إلى أن يتحلل من منسكه.
ولما ذكر الإمام مسلم كراهة عمر بن الخطاب رضي الله عنه للتمتع واستحبابه وتفضيله للقران عليه أردف ذلك مباشرة بباب جواز التمتع؛ لأن جمهور الصحابة على جواز التمتع.(29/10)
باب جواز التمتع
باب جواز التمتع.
قال: [قال عبد الله بن شقيق: كان عثمان ينهى عن المتعة، وكان علي يأمر بها]، وإذا أجمع الخلفاء الراشدون على أمر فإنه كالنص القطعي؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء).
يقول ابن رجب الحنبلي: إذا أجمع الخلفاء الأربعة على أمر فكان كالنص من كتاب الله أو من سنة النبي عليه الصلاة والسلام، يعني: له نفس الحجية والقوة.
قال: (فقال عثمان لـ علي كلمة -أي: أنه كان يراجع علياً في قضية التمتع والقران- ثم قال علي: لقد علمت أنا قد تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: ولو كان التمتع لا يجزئ لنهانا عنه النبي عليه الصلاة والسلام- فقال: أجل، ولكنا كنا خائفين)].
قال: [وعن سعيد بن المسيب قال: اجتمع علي وعثمان رضي الله عنهما بعسفان، فكان عثمان ينهى عن المتعة أو العمرة، فقال علي: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى عنه؟ فقال عثمان: دعنا منك -يعني: اترك رأيك هذا- فقال: إني لا أستطيع أن أدعك، فلما أن رأى علي ذلك أهل بهما جميعاً]، أي: أهل بالحج والعمرة قراناً، يعني: في وقت واحد وبإحرام وإهلال واحد نزولاً على رأي عثمان، وهو أفضل من علي.
وهذا فيه الأدب الشديد من علي بن أبي طالب، فرغم اعتقاده أن التمتع جائز لكنه وافق عثمان في القضية، ولو قرن علي بن أبي طالب بين الحج والعمرة فهذا لا يخالف ما عنده؛ لأن علياً يقول بالقران كذلك، ويقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم حج قارناً، ولكنه يزيد على عثمان باستحباب التمتع، والقول باستحباب التمتع يلزم منه استحباب القران.(29/11)
أدب الصحابة في الخلاف وحال المسلمين اليوم
إذاً: علي، وعثمان رضي الله عنهما متفقان في استحباب القران، واتباع المتفق عليه خير من المختلف فيه، يعني: أن عثمان وعلياً متفقان على القران، ولكن عثمان ينهى عن التمتع، ويقول: إنا قد تمتعنا لعلة من العلل، وهو كلام غير سديد، ولكن عنده شبهة في هذه القضية، فقد قال: تمتعنا لأنا كنا خائفين، ولكن هذا كان في عمرة القضاء، وكانت عمرة وليست حجاً، ولم يكونوا خائفين، وهذا بيان لأصل عظيم جداً من أصول الأدب في طلب العلم، وهو أن اتباع المتفق عليه خير من المختلف فيه ما دمنا متفقين في قضية ومختلفين في أخرى.(29/12)
قول عثمان بإتمام الصلاة في منى ومخالفة ابن مسعود له في ذلك
واتباع المتفق عليه خير من المخالفة، والصلاة في مسجد الخيف بمنى السنة فيها القصر حتى لأهل مكة، ومنى حرم، يعني: أنها داخلة في أرض الحرم، فإذا أتى رجل من أهل الحرم وحج وصلى مع الإمام أو منفرداً في مسجد الخيف ثلاثة أيام التشريق أو يوم التروية سن له أن يصلي الظهر ركعتين، والعصر ركعتين، والعشاء ركعتين، وعثمان بن عفان لم يفعل ذلك وإنما صلى تماماً، فصلى الرباعية أربعاً.
والنبي صلى الله عليه وسلم وهو من أهل مكة صلى في منى قصراً، وكذلك صلى من بعده أبو بكر، ومن بعده عمر، وهذه سنة عملية تكررت في كل عام، ولا يتصور أن تخفى على عثمان خاصة مع انتشار الحج وكثرة الحجيج، ولكن عثمان لما صار أميراً للمؤمنين حج بالناس وصلى الرباعية أربعاً، وصلى خلفه عبد الله بن مسعود -وهو سادس ستة في الإسلام- يعني: أنه كان من كبار الصحابة وفقهائهم ومحدثيهم، وكان يخالف عثمان في ذلك، فلما كلموه في ذلك وقالوا: يا أبا عبد الرحمن! أليست السنة أن نصلي الظهر والعصر والعشاء اثنتين؟ فقال: بلى، قالوا: ولم صليت خلف عثمان أربعاً؟ قال: لأن الخلاف شر، وإن الصلاة مجزئة، ومعنى ذلك: أننا وعثمان متفقون في الإجزاء، ولو صليت وحدي لحدثت فتنة في الحج.
يعني: لو أن الشيطان أدخل بينهم الخلاف فلربما قتلوا أنفسهم في هذه الطاعة، فـ عثمان لما صلى بالناس أربعاً وافقه المخالفون له عملياً بالصلاة خلفه.
ونحن لما اعتمرنا في عام من الأعوام مع شيخنا الألباني عليه رحمة الله أراد أن يصلي ركعتين في وادي عرنة، ووادي عرنة عند جماهير العلماء ليس من عرفة إلا مالكاً فإنه يقول: وادي عرنة من عرفة، والنبي عليه الصلاة والسلام لما قدم إلى هذا الوادي صلى فيه ركعتين، ثم وقف في عرفة، وهذا الوادي هو مقدم مسجد نمرة الذي فيه المنبر الذي يصعد عليه الخطيب في يوم عرفة ويخطب الناس.
والوادي الذي صلى فيه النبي عليه الصلاة والسلام قبل المنبر مباشرة، يعني: قبل جدار المسجد.
ونمرة طويل جداً كما أنه عريض، والثلث الأول من المسجد الذي فيه المنبر هو في وادي عرنة أو على مشارف عرنة، فالذي يصلي في ثلث المسجد الأول فكأنه صلى في وادي عرنة، والذي يصلي خارج المسجد فكذلك يصلي في وادي عرنة.
فاختلفنا فمنا من قال: نصلي في الوادي نفسه ولا ندخل المسجد، ومنا من قال: بل ندخل المسجد فثلث المسجد في الوادي، والذي يصلي في الثلث الأول فكأنه صلى في الوادي، يعني: أننا متفقون على أن الثلث الأول من الوادي، فلو أننا صلينا معهم فنحن متفقون، وهذا هو الأكمل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل الركعتين في المسجد وإنما صلاهما في الوادي.
فتمسك أناس بأن الثلث الأول من المسجد من وادي عرنة ولابد من الصلاة في المسجد، فافترقنا وقلوبنا متغيرة، وكل واحد مخالف لأخيه وحاقد عليه، وصارت خصومات في الشام استمرت سنوات.
ولما نأتي نعرض موقفنا هذا على موقف عثمان وعلي رضي الله عنهما، أو على موقف أبي موسى الأشعري وعمر بن الخطاب نجدنا أننا لسنا متفقين أبداً، ولا ننفع في شيء أبداً.
وقد أصل بعض أهل العلم أننا نعمل سوياً ونتحد فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه.
وهذا كلام جميل جداً ويشهد له القرآن والسنة وفعل السلف، ولكنه يحتاج إلى ضبط، وضبطه أننا نعمل سوياً فيما اتفقنا عليه؛ لأنه لا خلاف حينئذ، ولكن الذي اختلفنا فيه لا يعذر بعضنا بعضاً فيه مطلقاً، فمن الخلاف ما يمكن أن يعذر فيه صاحبه، ومنه ما لا يمكن أن يعذر صاحبه، فالذي يختلف معي في أصل الدين ويقول: إن أبا بكر وعمر هما الجبت والطاغوت أختلف معه ولا أعذره.
فالجملة الأخيرة جملة مطاطة تحتاج إلى ضبط، والصحيح أن نقول: يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه إذا كان هذا الأمر المختلف فيه قد اختلف فيه سلفنا رضي الله عنهم، يعني: إذا كان الخلاف في المسألة معتبراً.
وأما إذا كانت المسألة في أصول الدين وأصول الاعتقاد فلا يمكن أبداً العذر فيها.
وعثمان وعلي توافقا في أمر شرعي، وفي مكان محرم فاتفقا حتى لا تحدث فتنة بين الأتباع.
واليوم لا أحد يعرف تمتع أو قران، وإنما يذهبون إلى مكة لابسين ملابس الإحرام.(29/13)
جواز حج التمتع
قال: [وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة].
قال: [وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: كانت لنا رخصة، يعني: المتعة في الحج].
قال: [وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: لا تصلح المتعتان إلا لنا خاصة، يعني: متعة الحج ومتعة النساء].
وقد كانت متعة النساء حلالاً لأصحابه عليه الصلاة والسلام ثم حرمت ثم أبيحت ثم حرمت إلى الأبد.
فقد حرمت في عصر النبوة، فكانت خاصة بالصحابة.
وأما متعة الحج فقد اختلف فيها الصحابة، ثم انعقد الإجماع على جواز الإفراد والتمتع والقران، والقاعدة الأصولية تقول: الإجماع بعد الخلاف يرفع الخلاف، يعني: يجعله كأن لم يكن.
فبعض الصحابة أنكر التمتع وكرهه، وجمهورهم على جواز التمتع والقران، ثم من أتى بعدهم من التابعين وأتباعهم والأئمة المتبوعين والفقهاء أجمعوا على جواز الأقسام الثلاثة للحج.(29/14)
اختلاف العلماء في أفضل أقسام الحج الثلاثة
وقع الخلاف في أي هذه المناسك أفضل؟ فالخلاف واقع في الأفضلية.
وحجة النبي صلى الله عليه وسلم كان فيها المفرد وفيها القارن وفيها المتمتع، ولم ينكر على واحد منهم.
فالذي تمتع في زمنه وفي حجته عليه الصلاة والسلام معه ولم ينكر عليه كان بمثابة تمتع النبي صلى الله عليه وسلم نفسه؛ لأنه أقره، وهذه سنة تقريرية، وقد استدل من قال: إن القران أفضل بأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي)، يعني: لو كنت أعرف أن التمتع أفضل لما كنت أتيت بالهدي معي.
وهذه القضية لها تشريعات عظيمة جداً، وهي مرتبطة بالإجماع، وهل هو حجة أم لا؟ وما يدرينا أن هذا الإجماع واقع؟ وكما يقول أحمد بن حنبل: من ادعى الإجماع فقد كذب، وما يدريك أن فلاناً خالف، يعني: ما يدريك وأنت في المشرق أن فلاناً في المغرب قد خالف، فكيف تزعم الإجماع؟ ثم ما المراد بالإجماع، هل هو إجماع الصحابة أم إجماع أهل كل عصر؟ المسألة محل نزاع كبير جداً بين أهل العلم على ثلاثة مذاهب أو أكثر من ذلك، وكل له أدلته، وهذه المسألة بحثها في أصول الفقه.(29/15)
الأدلة على جواز حج التمتع
قال: [قال ابن أبي الشعثاء: أتيت إبراهيم النخعي وإبراهيم التيمي، فقلت: إني أهم أن أجمع العمرة والحج في هذا العام -يعني: أحج وأعتمر هذا العام- فقال إبراهيم النخعي: لكن أباك لم يكن ليهم بذلك أي: إن أباك ما كان ليعمل هكذا- قال قتيبة حدثنا جرير عن بيان عن إبراهيم التيمي عن أبيه أنه مر بـ أبي ذر رضي الله عنه بالربذة فذكر له ذلك فقال: إنما كانت لنا خاصة دونكم].
قال: [وعن غنيم بن قيس قال: سألت سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن المتعة فقال: فعلناها وهذا يومئذ كافر بالعرش، يعني: بيوت مكة]، يعني: لقد تمتعنا في عام من الأعوام، وكان في ذلك الوقت معاوية بن أبي سفيان كافراً لم يسلم، فهو يقول: معاوية ينكر التمتع لأنه لا يعرف أنه جائز، وكنا نحن تمتعنا وهو ما يزال كافراً وكان جالساً في بيوت مكة لم يسلم، فـ معاوية أسلم عام الفتح سنة ثمان، وسعد بن أبي وقاص حج في العام السادس من الهجرة، يعني: قبل إسلام معاوية بسنتين، وحج متمتعاً.
والعرش: بيوت مكة، وسميت بالعرش؛ لأنهم كانوا يعرشونها بجريد الأراك أو بجريد النخل.
قال: [قال مطرف بن عبد الله بن الشخير: قال لي عمران بن حصين: (إني لأحدثك بالحديث اليوم ينفعك الله به بعد اليوم -يعني: سأحدثك حديثاً اليوم وسينفعك الله عز وجل به بعد ذلك- واعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعمر طائفة من أهله في العشر -يعني: أمرهم بأن يؤدوا العمرة في العشر الأوائل من ذي الحجة- قال: فلم تنزل آية تنسخ ذلك ولم ينه عنه حتى مضى لوجهه، ارتأى كل امرئ بعد ما شاء أن يرتئي).
يقول له: إن النبي عليه الصلاة والسلام في زمانه أمر قومه أو طائفة من قومه أن يعتمروا في العشر الأوائل من ذي الحجة -يعني: في الشهر الحرام- ومعنى ذلك: أنهم بعد أداء عمرتهم يتحللون ويهلون في يوم التروية بالحج وينطلقون إلى منى، ثم لم ينهه ربه عن المتعة، ولم ينزل قرآن ينسخ هذا الحكم، فكانت المتعة باقية وجائزة، وكان عليها النبي عليه الصلاة والسلام إلى أن مات، ولما مات جاء كل واحد ينظر إلى شيء، وهو هنا يعرض بسيدنا عمر.
وقد كان الصحابة جبالاً في الأدب، ولا يمكن أن يظهر رجل في الأمة مثل أدنى صحابي في الأدب والوقار والعدالة وغير ذلك، ومع ذلك كان الحق أحب إليه، وعمر بن الخطاب أفضل من ملء الأرض من مثل عمران بن حصين، فهو أفضل الأمة في زمانه.
قال: [عن مطرف قال: قال لي عمران بن حصين: (أحدثك حديثاً عسى الله أن ينفعك به، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين حجة وعمرة، ثم لم ينه عنه حتى مات، ولم ينزل فيه قرآن يحرمه، وقد كان يسلم علي حتى اكتويت فتركت، ثم تركت الكي فعاد).
وهذه منقبتان لـ عمران بن حصين، الأولى: أنه أدرك التمتع مع النبي عليه الصلاة والسلام، والثانية: أن عمران بن حصين كانت الملائكة تسلم عليه خاصة حتى أصيب بداء فبادر بالكي، وآخر الدواء الكي وليس أوله، فلما اكتوى ولم يصبر على الأذى أو على المرض أو على التداوي فترة طويلة أو غير ذلك وبادر المرض بالكي انصرفت عنه الملائكة فلم تسلم عليه بعد ذلك، حتى تاب من ذلك ورجع إلى ترك الكي، فرجعت الملائكة تسلم عليه، وكان عمران يقول لـ مطرف: لا تحدث عني وأنا حي، أو حدث عني بواحدة واكتم عني الثانية، يعني: حدث عني بمسألة جواز التمتع، ولكن لا تحدث عني وأنا حي بتسليم الملائكة علي.
فـ عمران كان يخشى على نفسه الفتنة، وعلى الناس من أن يفتتنوا به، فقال: واكتم عني هذه ما دمت حياً، فإذا مت وأردت أن تحدث عني فافعل.
قال: [قال مطرف: (بعث إلي عمران بن حصين في مرضه الذي توفي فيه، فقال: إني كنت محدثك بأحاديث لعل الله أن ينفعك بها بعدي، فإن عشت فاكتم عني -يعني: إذا أنا شفيت من هذا المرض فاكتم عني- وإن مت فحدث بها إن شئت، إنه قد سلم علي، واعلم أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قد جمع بين حج وعمرة، ثم لم ينزل فيها كتاب الله -أي بنسخ- ولم ينه عنها نبي الله صلى الله عليه وسلم، قال رجل فيها برأيه ما شاء)].
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: (وأحاديث الباب متضافرة على جواز إفراد الحج عن العمرة، وجواز التمتع والقران، ولقد أجمع العلماء على جواز الأنواع الثلاثة).(29/16)
معنى الإفراد والتمتع والقران في الحج
والإفراد هو: أن يحرم بالحج في أشهره ويفرغ منه ثم يعتمر، يعني: له أن يعتمر بعد الحج.
ومن أراد أن يعتمر قبل الحج، فلا بد أن يكون قارناً أو متمتعاً.
فالإفراد: أن تهل من الميقات بالحج مفرداً، ثم إذا أردت أن تعتمر بعد الحج فلك ذلك.
والتمتع: أن تحرم بالعمرة في أشهر الحج وتفرغ من العمرة ثم تحج من عامك.
ففي التمتع يقول الحاج في الميقات: لبيك اللهم عمرة، ثم يدخل مكة فيطوف ويسعى ويقصر شعره ويحل ويبقى في مكة حتى يوم التروية، فإذا كان يوم التروية لبس ملابس الإحرام من جديد ثم يقول وهو خارج من سكنه أو من الحرم أو من أي مكان في مكة متوجهاً إلى منى: لبيك اللهم حجة.
وأما القران فهو أن يحرم بهما جميعاً، يعني: يقول لبيك اللهم عمرة وحجاً، وكذا لو أحرم بالعمرة ثم أحرم بالحج قبل طوافها صح وصار قارناً.(29/17)
أدلة تفضيل الإفراد على بقية أنواع الحج
قال النووي رحمه الله تعالى: (واختلف العلماء في أي هذه الأنواع الثلاثة أفضل؟ فقال الشافعي ومالك وكثيرون: أفضلها الإفراد ثم التمتع ثم القران).
واحتج الشافعي وأصحابه في ترجيح الإفراد بأنه صح ذلك من رواية جابر، وابن عمر، وابن عباس، وعائشة، قال الشافعي: وهؤلاء لهم مزية في حجة الوداع على غيرهم، فـ جابر أحسن الصحابة سياقاً لرواية حديث حجة الوداع، وهو أضبط له من غيره، وابن عمر صح أنه كان آخذاً بخطام ناقة النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع، وأنكر على من رجح قول أنس على قوله، وقال: كان أنس يدخل على النساء وهن مكشفات الرءوس، وإني كنت تحت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم يمسني لعابها، أسمعه يلبي بالحج، وعائشة هذه من أقرب المقربين إلى النبي عليه الصلاة والسلام مع كثرة فقهها وعظم فطنتها، وابن عباس محله من العلم والفقه في الدين والفهم الثابت معروف، مع كثرة بحثه وحفظه أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لم يحفظها غيره وأخذه إياها من كبار الصحابة، ومن دلائل ترجيح الإفراد: أن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم أفردوا الحج وواظبوا على إفراده، فقد أفرد أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم الحج، واختلف فعل علي فمرة أفرد ومرة قرن ومرة تمتع، وهم لم يواظبوا عليه إلا بعد أن علموا أنه أفضل، وأن النبي صلى الله عليه وسلم حج مفرداً، وهم الأئمة الأعلام وقادة الإسلام المقتدى بهم في عصرهم وبعدهم، فكيف يليق بهم المواظبة على خلاف فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وأما الخلاف عن علي رضي الله تعالى عنه وغيره فإنما فعلوه لبيان الجواز.
قالوا: ومما يميز الإفراد عن التمتع والقران: أن الإفراد لا يجب فيه دم بالإجماع؛ وذلك لكماله وتمامه، ويجب الدم في التمتع والقران، وهو دم جبران، يعني: يسد الخلل والنقص الذي حصل، فمثلاً المتمتع لما أتى إلى الميقات لم يهل بحج وعمرة، وإنما أهل بعمرة، ثم أهل من مكة بالحج ولم يرجع مرة أخرى إلى الميقات مع أنه غير مطالب به، فقالوا: يصير هذا خللاً؛ لأن الأصل في الإهلال بالنسك أن يكون من الميقات، فتجاوز الشارع عن المتمتع في إهلاله بالحج من بيوت مكة أو من الحرم مقابل أن يقدم شاة أو أن يذبح هدياً.
ومنها: أن الأمة أجمعت على جواز الإفراد من غير كراهة، وأما التمتع فقد كرهه عمر وعثمان وغيرهما، ومن المعلوم أن ما أجمع عليه الصحابة خير مما كرهه بعضهم، فكان الإفراد أفضل.(29/18)
الجمع بين اختلاف روايات الصحابة في صفة حجته صلى الله عليه وسلم
فإن قيل: كيف وقع الاختلاف بين الصحابة رضي الله عنهم في صفة حجته وهي حجة واحدة، وكل واحد منهم يخبر عما شاهده وهي قضية واحدة؟ قال القاضي عياض: قد أكثر الناس الكلام على هذه الأحاديث، فمن مجيد منصف، ومن مقصر متكلف، ومن مطيل مكثر، ومن مقتصر مختصر.
قال النووي رحمه الله: وأوسعهم في ذلك نفساً الطحاوي، وأبو جعفر الطبري، والقاضي أبو عبد الله بن المرابط، والقصار، وابن عبد البر وغيرهم، قال القاضي: أولى هذه الأقوال: أن النبي عليه الصلاة والسلام أباح للناس فعل هذه الأنواع الثلاثة؛ ليدل على جواز جميعها، فالذي أفرد الحج قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم مفرداً؛ لأنه أمره بالإفراد، والذي حج قارناً قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم قارناً؛ لأنه أمره بالقران، والذي حج متمتعاً قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم متمتعاً؛ لأنه أمره بالتمتع.
قال: وأما إحرامه صلى الله عليه وسلم بنفسه فأخذ بالأفضل، فأحرم مفرداً للحج، وبه تظاهرت الروايات الصحيحة، وأما الروايات بأنه كان متمتعاً فمعناها أمر به، وأما الروايات بأنه كان قارناً فإخبار عن حالته الثانية لا عن ابتداء إحرامه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أدخل الحج في العمرة وأدخل العمرة في الحج فصار قارناً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أهل من الميقات أهل بالحج وساق معه الهدي، والمتمتع يجوز له أن يذبح هدياً، وهو ليس واجباً وإنما يجوز.
وأنت إذا كان معك مال أقل من النصاب أو مال بلغ النصاب ولم يحل عليه الحول جاز لك أن تخرج عنه الزكاة وليست واجبة وإنما تجوز لك، وكذلك من أتى للعمرة فقط جاز له بل ويستحب له أن يسوق الهدي أو أن يذبحه، فالنبي عليه الصلاة والسلام قيل: إنه أحرم من الميقات بالعمرة وساق الهدي فقط، وقيل: إنه أحرم وأفرد الحج، ثم في أثناء الطريق لما بلغ الحديبية أدخل الحج على العمرة، فقيل: يا رسول الله! أهذا لعامنا خاصة؟ يعني: إدخال الحج في العمرة والعمرة في الحج لعامنا هذا خاصة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا بل لأبد الأبد، يعني: هذا لنا وللأمة، فيجوز إدخال العمرة على الحج والحج على العمرة.
قال: وإجزاء أو ذبح الهدي للقارن يدل على أنه ما أحرم بهما من الميقات وإنما أحرم بواحد ثم أدخل عليه الآخر، فأحرم بالعمرة وأدخل عليها الحج، أو أحرم بالحج وأدخل عليه العمرة.
وهذا هو فسخ العمرة إلى الحج أو فسخ الحج إلى العمرة، يعني: إن كنت دخلت مفرداً بالحج فقط ولكنك تمكنت من أداء العمرة فإنك تفسخ مباشرة نية الحج وإهلالك بالحج وتجعلها عمرة بإهلال جديد من مكانك وليس من الميقات، فتؤدي العمرة ثم تتحلل إذا لم تسق الهدي، ثم تذهب إلى منى بإهلال جديد في يوم التروية، وبذلك تكون قد أدخلت العمرة على الحج تمتعاً أو قراناً إذا كان معك الهدي.(29/19)
حكم المحرمة إذا حاضت قبل طواف العمرة
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: (أنها أتت مع النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع معتمرة، يعني: نوت وأهلت بالعمرة من الميقات، فلما بلغت مشارف مكة دخل عليها النبي عليه الصلاة والسلام وهي تبكي فقال: ما يبكيك يا أم عبد الله! قالت: نفست يا رسول الله! يعني: حضت، فقال: لا تبكي، فإنما هو شيء كتبه الله عز وجل على بنات آدم)، يعني: هذا أمر مكتوب عليكن، ولا يؤثر عليك، فافسخي إهلالك ثم أهلي يوم أن نهل، فلما وصلت لم تعتمر، وإنما تحللت وتركت العمرة؛ لأنها حائض، والحائض لا يجوز لها الطواف، والطواف ركن في العمرة والحج.
فخرجت عائشة رضي الله عنها وهي حائض يوم التروية مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فحجت، فلما كان آخر يوم عرفة طهرت، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام أخاها عبد الرحمن بن أبي بكر أن يذهب بها بعد أيام التشريق -أي: بعد الفراغ من الحج- إلى التنعيم فأهلت من هناك؛ لأنها قد فسخت العمرة إلى الحج، فأصبحت مفردة، والمفرد يعتمر بعد أداء الحج، وصار حكمها حكم أهل مكة؛ لبقائها في مكة أكثر من أربعة أيام، وأهل مكة إذا أرادوا العمرة يذهبون إلى الحل، والتنعيم أحد أماكن الحل، فذهبت عائشة وأهلت بالعمرة من هناك ثم أتت ودخلت البيت واعتمرت ثم قصرت شعرها قدر أنملة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لها: (هذه بتلك)، يعني: هذه العمرة التي بعد الحج توازي العمرة التي منعك منها الحيض.(29/20)
مذاهب العلماء في أفضل أنواع الحج
قال النووي رحمه الله تعالى: اختلف العلماء في هذه الأنواع الثلاثة أيها الأفضل، فقال الشافعي ومالك وكثيرون: أفضلها الإفراد، ثم التمتع، ثم القران، وقال أحمد وآخرون: أفضلها التمتع، وقال أبو حنيفة وآخرون: أفضلها القران، وهذان المذهبان قولان آخران للشافعي.
والصحيح تفضيل الإفراد، ثم التمتع، ثم القران.
وأما حجة النبي عليه الصلاة والسلام فاختلفوا فيها هل كان مفرداً أم متمتعاً أم قارناً؟ وهي ثلاثة أقوال للعلماء بحسب مذاهبهم السابقة.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.(29/21)
حكم من لم يجد الهدي
من لم يجد ما يشتري به شاة فالواجب في حقه صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، ومن كان معه ما يشتري به شاة ولكنه لم يجدها فإنه يصوم، وأما قول من قال: إنه يتصدق بثمن الشاة على فقراء الحرم فهذا ليس بصحيح، والصحيح أن من لم يجد الشاة ينتقل إلى الواجب الثاني وهو الصيام، سواء فقد الشاة من جهة أنه لا يملك ما يشتريها به أو يملك ولكنه لم يجد الشاة نفسها.(29/22)
باب وجوب الدم على المتمتع، وأنه إذا عدمه لزمه صوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله
قال: [باب وجوب الدم على المتمتع، وأنه إذا عدمه لزمه صوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله.
عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج)].
والتمتع هنا المقصود به التمتع اللغوي، وهو الارتفاق والانضمام، وهو أنه جمع العمرة إلى الحج وجمع الحج إلى العمرة قراناً، وهذا يسمى تمتعاً من جهة اللغة، فالنبي عليه الصلاة والسلام أحرم بالحج مفرداً من ذي الحليفة، ولما قارب مكة نوى إدخال العمرة على الحج فكان قارناً، فهو أول الأمر كان مفرداً ثم قرن قبل طواف القدوم.
قال: [(تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى، فساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة -يعني: لما قدم مكة أهل بالعمرة- ثم أهل بالحج، وتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج، فكان من الناس من أهدى فساق الهدي -أي: من الميقات- ومنهم من لم يهد -أي: ومنهم من لم يسق معه الهدي من الميقات- فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس: من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه)]، يعني: من ساق معه الهدي من الميقات فإن حجه قران، والقارن لا يحل من حجه حتى يحج حجه الأكبر، وحينئذ يحل، فالمفرد والقارن لا يحلان إلا في يوم النحر، وأما المتمتع فإنه إذا اعتمر فقد تحلل من إحرامه تماماً وحل له كل شيء حتى النساء، ثم يهل بالحج يوم التروية.
قال: [(ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة، وليقصر وليحلل)]، يعني: الذي لم يسق الهدي يعتمر، فيطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ويقصر أو يحلق ويتحلل من عمرته تماماً.
قال: [(ثم ليهل بالحج وليهد)].
والهدي يكون في يوم النحر أو في ثلاثة أيام التشريق سواء كان ذلك بالنسبة للقارن أو للمتمتع.
وسيتحدد هل هو قارن أم لا من الميقات، فإذا كان قد ساق الهدي معه فهو قارن لا محالة، وإذا لم يكن قد ساق الهدي فإما أن يجد هدياً في مكة أو لا يجد، فإذا وجده كان متمتعاً وإلا فلا.
قال: [(فمن لم يجد هدياً -أي: من المتمتعين الذين تحللوا من عمرتهم وفصلوا بينها وبين الحج- فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، وطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت حين قدم مكة، فاستلم الركن أول شيء)]، وهو الركن الذي فيه الحجر الأسود، فالطائف حول البيت لابد أن يبدأ الطواف من عند الحجر الأسود، ويجعل البيت عن شماله، ولابد أن يطوف من خارج حجر إسماعيل، فإن طاف من داخل الحجر -أي: كان هو بين الحجر وبين الكعبة لم يحسب طوافه؛ لأن حجر إسماعيل من الكعبة، فكأنه طاف داخل الكعبة، والأصل في الطواف أنه يكون حول الكعبة.
قال: [(ثم خب ثلاثة أطواف من السبع، ومشى أربعة أطواف، ثم ركع)]، أي: ثم صلى ركعتين، فمن تيسر له الصلاة خلف مقام إبراهيم فهو السنة، ومن لم يتيسر له ذلك فيجزئه أن يصلي ركعتين في أي موطن من الحرم.
قال: [(ثم ركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام -ويقرأ في الأولى بعد فاتحة الكتاب بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1]، وفي الثانية بعد فاتحة الكتاب بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]- ثم سلم فانصرف -أي: فانصرف من صلاته- فأتى الصفا فطاف بالصفا والمروة سبعة أطواف)].
ويحسب السعي من الصفا إلى المروة شوطاً ومن المروة إلى الصفا شوطاً، وبعض الناس يخطئ ويعد السعي من الصفا إلى المروة إلى الصفا شوطاً واحداً، فيسعى بين الصفا والمروة أربعة عشر شوطاً، وهذا بخلاف السنة، ولا يفعله إلا الجهلاء من الناس، وأما أهل العلم وطلاب العلم والكثير من الناس فيعرفون أن السعي من الصفا إلى المروة شوط ومن المروة إلى الصفا شوط، فيبدأ السعي من الصفا وينتهي عند المروة، كما رتبه الله عز وجل في قوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة:158].
وأهل العلم يقولون: يتحلل من إحرامه بالحلق عند المروة، كما أن الحاج يتحلل من إحرامه بالحلق عند جمرة العقبة الكبرى كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام، وإذا حلق في أي مكان من الحرم جاز له ذلك، ولا بد أن يكون داخل حدود الحرم، وحدود الحرم تبدأ من التنعيم غرباً إلى عرفة شرقاً أو شمالاً والجعرانة وغير ذلك من الأماكن التي تحد اسم الحرم، فمن حلق في أي مكان منها كان له ذلك.
ولا ينبغي للمعتمر أو للحاج أن يخرج خارج حدود الحرم فيحلق في الحل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في سنته العملية بين أن المعتمر إنما يتحلل من إحرامه عند(29/23)
شروط هدي التمتع
قال الإمام النووي: (هدي التمتع واجب بشروط -يعني: الهدي الواجب على المتمتع يجب بشروط، اتفق أصحابنا على أربعة منها واختلفوا في ثلاثة، أحد الأربعة أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج)، وأشهر الحج هي شوال وذو القعدة والعشر الأوائل من ذي الحجة، فإذا أتى المعتمر إلى مكة واعتمر في هذه الأشهر جاز له أن يتحلل من إحرامه انتظاراً ليوم التروية وليهل بالحج من مكانه.
قال: (الثاني: أن يحج من عامه)، يعني: من نفس العام الذي أدى في أشهر الحج منه عمرته.
قال: (الثالث: أن يكون آفاقياً لا من حاضري المسجد).
آفاقياً يعني: من الآفاق البعيدة وليس من أهل مكة، وحاضروه أهل الحرم ومن كان منه على مسافة لا تقصر فيها الصلاة.
وأما أهل مكة فالأصل في حجهم الإفراد.
(الرابع: ألا يعود إلى الميقات لإحرام الحج)، يعني: إنما يهل من بيته ومكانه سواء كان مكانه في الحرم أو في أي مكان.
وأما الثلاث المختلف فيها فإحداها نية التمتع، وذلك مثل شخص اعتمر في شهر شوال وليس في نيته أن يتمتع، فلما دخل الحرم أراد أن يجلس إلى الحج، فإذا جاء الحج فإنه يحرم من مكانه الذي تنبعث راحلته منه يوم التروية، ويكون متمتعاً؛ لأن عمرته وقعت في أشهر الحج من نفس العام، فإن قبض عليه ولم يستطع إكمال الحج فعليه دم، فإن اشترط عندما لبى بالحج وقال: فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، فإن قبض عليه فليس عليه شيء؛ لأنه اشترط بقوله: فإن حبسني حابس -أي: منعني مانع- فمحلي -أي: فأذن لي أن أتحلل بغير قيد ولا شرط وبغير كفارة.
ولا يلزم المتمتع أن ينوي في الميقات التمتع، كما أنه لا يلزم القارن؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام إنما أهل بالحج من ذي الحليفة فقط، فلما وصل إلى الجعرانة أدخل معها العمرة، بدليل أنه لما دخل مكة طاف وسعى بين الصفا والمروة وقصر شعره ثم لم يحلل حتى كان يوم النحر، ومعلوم أن الذي يفرد الحج لا يلزمه ذلك، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام أدخل العمرة على الحج، وهي ليست له خاصة ولا لأصحابه خاصة، بل هي لأبد الأبد، يعني: يجوز إدخال العمرة على الحج إلى يوم القيامة.
الثاني: كون الحج والعمرة في سنة واحدة في شهر واحد، والراجح: أنه لا يلزم أن تقع العمرة والحج في شهر واحد؛ لأن أشهر الحج ثلاثة وليس شهراً واحداً.
والثالث: كونهما عن شخص واحد، والأصح أن هذه الثلاثة لا تشترط.
والله تعالى أعلم.(29/24)