وكوى أبى بن كعب على أكحله حين أصابه السهم يوم أحد، وكوى أبو طلحة فى زمن النبى عليه السلام وقال جرير بن عبد الله: أقسم على بن عمر بن الخطاب لأكتوين، واكتوى خباب بن الأرت سبعًا على بطنه واكتوى من اللقوة ابن عمر ومعاوية وعبد الله بن عمرو روى ذلك كله الطبرى بأسانيد صحاح. قال الطبرى: فبان أن معنى الحديث ماقلناه وأن الصواب فى حد التوكل الثقة بالله تعالى والاعتماد فى الأمور عليه، وتفويض كل ذلك إليه بعد استفراغ الوسع فى السعى فيما بالعبد الحاجة إليه من أمر دينه ودنياه على ما أمر به من السعى فيه لا مالقله الزاعمون أن حدة الاستسلام للسباع وترك الاحتراز من الاعداء ورفض السعى للمكاسب والمعاش، والإعراض عن علاج العلل؛ لأن ذلك جهل وخلاف لحكم الله فى بعاده. وخلاف حكم رسوله فى أمته وفعل الأثمه الراشدين. قال غيره: وأما قوله: (سبقك بها عكاشة) فمعناه - والله أعلم - أن ذلك الرجل لم يكن ممن بلغت درجته فى الفضل إلى منزلة الذين لايسترقون ولايتطيرون ولايكتوون وعلى ربهم يتوكلون، فكره عليه السلام أن يفزعه بأنه ليس من هذه الطبقة فيحزنه بذلك، وكان عليه السلام رحيمًا رفيقًا فجابه بكلام مشترك ألف به به القول وهو قوله: (سبقك بها عكاشة) أى سبقك بهذه الحال الرفيعة من الإيمان حين كان من أهل تلك الصفات المذكورة، فبذلك استحق أن(9/408)
يكون منهم وأنت لم يبلغ بك عملك إلى تلك الدرجات فكيف تكون منهم، وهذا من معاريض الكلام والرفق بالجاهل فى الخطاب، وقد قيل: إنما كان منافعقًا فأراد عليه السلام الستر له والإبقاء عليه ولعله أن يتوب فرده ردًا جميلاً، وهذا خلقه عليه السلام.
- باب: الإثمد والكحل من الرمد فيه عن أم عطية
/ 22 - فيه: أُمِّ سَلَمَة، أَنَّ امْرَأَةً تُوُفِّىَ زَوْجُهَا فَاشْتَكَتْ عَيْنَهَا، فَذَكَرُوهَا لِلنَّبِى عليه السلام وَذَكَرُوا لَهُ الْكُحْلَ، وَأَنَّهُ يُخَافُ عَلَى عَيْنِهَا، فَقَالَ: (قَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ تَمْكُثُ فِى بَيْتِهَا فِى شَرِّ أَحْلاسِهَا فَإِذَا مَرَّ كَلْبٌ رَمَتْ بَعْرَةً. . .) الحديث. روى إسرائيل عن عباد بن منصور، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: (كان النبى عليه السلام يكتحل قبل أن ينام بالأثمد فى كل عين ثلاثًا) . وروى ابن إسحاق عن محمد بن المنكدر، عن جابر قال رسول الله: (عليكم بالأثمد عند النوم؛ فإنه يجلوا البصر وينبت الشعر) .
- باب: الجذام
/ 23 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا عَدْوَى، وَلا طِيَرَةَ، وَلا هَامَةَ، وَلا صَفَرَ، وَفِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأسَدِ) .(9/409)
قال أبو بكر بن الطيب: زعم الجاحظ عن النظام أن قوله عليه السلام: (فر من المجذوم كما تفر من الأسد) معارض قوله عليه السلام (لا عدوى) قال ابن الطيب: وهذا جهل وتعسف من قائله؛ لأن قوله: (لا عدوى) مخصوص ويراد به شىء دون شىء وإن كان الكلام ظاهرة العموم فليس ينكر أن يخص العموم بقول آخر له أو استثناء، فيكون قوله: (لا عدوى) المراد به إلا من الجذام والبرص والجرب، فكأنه قال: (لا عدوى) إلا ماكنت بينته لكم أن فيه عدو وطيره فلا تناقص فى هذا إذا رتب الأحاديث على ماوصفناه. قال الطبرى: اختلف السلف فى صحة هذا الحديث، فأنكر بعضهم أن يكون عليه السلام أمر بالبعد من ذى عاهه جذامًا كانت برصًا أو غيره وقالوا قد أكل رسول الله مع مجذوم وأقعده معه وفعل ذلك أصحابه المهديون حدثنا ابن بشار ثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه: (أن وفد ثقيف أتوا أبا بكر الصديق فأتى بطعام فدعاهم فتنحى رجل، فقال مالك؟ قال: مجذوم. فدعاه وأكل معه) وعن سلمان وابن عمر أنهما كانا يصنعان الطعام للمجذومين ويأكلان معهم، وعن عكرمة أنه تنحى من مجذوم، فقال له ابن عباس: ياماض، لعله خير منى ومنك. وعن عائشة: (أن امرأة سألتها أكاد رسول الله يقول فى المجذومين فروا منهم فراركم من الأسد؟ فقالت عائشة كلا والله ولكنه قال: لا عدوى فمن أعدى الأول) وكان مولى لى أصابه ذلك الداء فكان يأكل فى صحافى ويشرب فى أقداحى وينام على فراشى. قالوا: وقد أبطل رسول الله العدوى.(9/410)
روينا عنه عليه السلام أنه أكل مع مجذوم خلافًا لأهل الجاهلية فيما كانوا يفعلونه من ترك مؤاكلته خوفًا أن يعديهم داؤه، حدثنا به العباس ابن محمد، حديثنا يونس بن محمد، عن مفضل بن فضالة، عن حبيب بن الشهيد، عن محمد بن المنكدر، عن جابر: (أن النبى عليه السلام أخذ بيد مجذوم فأقعده معه، وقال: كل ثقة بالله وتوكلا عليه) . وقال آخرون بتصحيح هذا الخبر، وقالوا: أمر النبى بالفرار من المجذوم واتقاء مؤاكلته ومشاربته، فغير جائز لمن علم أمره بذلك إلا الفرار من المجذوم، وغير جائز إدامته النظر إليهم لنهيه عليه السلام عن ذلك، ذكر من قال لك روى معمر عن الزهرى أن عمر بن الخطاب قال لمعقيب: (اجلس منى قيد رمح. وكان به ذلك الداء وكان بدريًا) وروى أبو الزناد عن خارجة بن زيد قال: (كان عمر إذا أتى بالطعام وعنده معيقيب قال: كل مما يليك، وايم الله لو غيرك به مابك ماجلس منى على أدنى من قيد رمح) وكان أبو قلابة يتقى المجذوم. قال الطبرى: والصواب عندنا ما صح به الخبر عنه (ص) ، أنه قال: (لا عدوى) وأنه لا يصيب نفسًا إلا ما كتب عليها فأما دنو عليل من صحيح فإنه غير موجب للصحيح عله وسقمًا غير أنه لا ينبغى لذى صحة الدنو من الجذام والعاهة التى يكرها الناس لا أن ذلك حرام، ولكن حذار من أن يظن الصحيح إن نزل ذلك الداء يومًا أن ماأصابه لدنوه منه فيوجب له ذلك الدخول فيما نهى عنه عليه السلام وأبطله من أمر الجاهلية فى العدوى.(9/411)
وليس فى أمره عليه السلام بالفرار من المجذوم خلاف معه لأنه يأمر بالأمر على وجه الندب أحيانًا وعلى وجه الإباحة أخرى ثم يترك فعله ليعلم بذلك أن أمره لم يكن على وجه الإلتزام وكان ينهى عن الشىء على وجه التكره والتنزه أحيانًا وعلى وجه التأديب أخرى ثم يفعله ليعلم أن هيه لم يكن على وجه التحريم. قال غيره: وقد قال بعض العلماء: هذا الحديث يدل أنه يفرق بين المجذوم وامرأته إذا حدث به الجذام وهى عنده لموضع الضرر، إلا أن ترضى بالمقام معه. وقال ابن القاسم: يحال بينه وبين وطء رقيقة إذا كان فى ذلك ضرر. قال سحنون: لا يحال بينه وبيه وطء إمائه. ولم يختلفوا فى الزوجة. قال ابن حبيب: وكذلك يمنع المجذوم من المسجد والدخول بين الناس واختلاطة بهم كما روى عن عمر أنه مر بامرأة مجذومة تطوف بالبيت فقال لها: ياأمة الله، اقعدى فى بيتك ولاتؤذي الناس. وقال مطرف وابن الماجشون فى المرضى إذا كانوا يسيرًا: لايخرجون عن قرية ولاحاضرة ولاسوق، وإن كثروا رأينا أن يتخذوا لأنفسهم موضعًا كما صنع مرضى مكة عند التنعيم منزلهم وفيه جماعتهم، ولا أرى أن يمنعوا من الأسواق لتجارتهم والنظر والمسألة إذا لم يكن لهم إمام عادل يرزقهم، ولايمنعوا من الجمعة يمنعون من غيرها. وقال أصبغ: ليس على مرضى الحواضر أن يخرجوا منها إلى نايحة بقضاء يحكم به عليهم، ولكنهم إن كفاهم الإمام مؤنتهم وأجرى عليهم الرزق منعوا من مخالطة الناس. قال ابن حبيب: والحكم بتنحيتهم إذا كثروا أعجب إلى، وهو الذي عليه الناس.(9/412)
- باب: المن شفاء للعين
/ 24 - فيه: سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ، سَمِعْتُ النَّبِى عليه السلام يَقُولُ: (الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ، وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ) . ذكر الطبرى عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: (كثرت الكمأة على عهد رسول الله عليه السلام فامتنع أقوام من أكلها، وقالوا: هى جدى الأرض، فبلغ ذلك النبى عليه السلام فقال: إن الكمأة ليست من جدى الأرض، ألا إن الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين) قال الطبرى: إن قيل مامعنى قوله: (الكمأة من المن) والكمأة معروفة كما أن المن معروف، كل واحد منهما غير نوع صاحبه؟ قيل: الكمأة وإن لم تكن من نوع المن فإنه يجمعهما فى المعنى أنهما مما يحدث الله رزقًا لعباده من غير أصل له ومن غير صنع منهم ولاعلاج، إذ كانت جميع أقوات العباد لا سبيل إليها إلا بأصل عندهم وغرس وليس كذلك فى الكمأة والمن.
- باب: اللدود
/ 25 - فيه: ابْن عَبَّاس، وَعَائِشَةَ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَبَّلَ النَّبِىَّ عليه السلام وَهُوَ مَيِّتٌ، قَالَ: وَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَدَدْنَاهُ فِى مَرَضِهِ، فَجَعَلَ يُشِيرُ إِلَيْنَا أَنْ لا تَلُدُّونِى، فَقُلْنَا: كَرَاهِيَةُ الْمَرِيضِ لِلدَّوَاءِ، فَلَمَّا أَفَاقَ، قَالَ: أَلَمْ أَنْهَكُمْ أَنْ تَلُدُّونِى؟ قُلْنَا: كَرَاهِيَةَ الْمَرِيضِ لِلدَّوَاءِ، فَقَالَ: لا يَبْقَى فِى الْبَيْتِ أَحَدٌ إِلا لُدَّ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلا الْعَبَّاسَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ.(9/413)
وفيه: أم قيس: دخلت بابن لي على النبي - عليه السلام - وقد أعلقت عنه من العذرة، فقال: علام تدغرن أولادكن بهذا العلاق، عليكم بهذا العود الهندي فإنه فيه سبعة أشفية منها ذات الجنب ويسعط من العذرة ويلد من ذات الجنب. [قلت] لسفيان: فإن [معمراً] يقول: أعلقت عليه. قال: لم يحفظ إنما قال أعلقت عنه، حفظته من الزهري، ووصف سفيان الغلام يحنك بالأصبع وأدخل سفيان في حنكه، وإنما يعني رفع حنكه بأصبعه ولم يقل أعلقوا عنه شيئاً. وفيه: عائشة: لما ثقل النبي (صلى الله عليه وسلم) واشتد وجعه استأذن أزواجه في أن يمرّض في بيتي فأذنّ له، فخرج بين رجلين تخط رجلاه في الأرض فقال النبي - عليه السلام - بعد ما دخل بيتها واشتد وجعه: هريقوا عليّ من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن لعلي أعهد إلى الناس. قالت: فأجلسناه في مخضب لحفصة زوج النبي ثم طفقنا نصب عليه من تلك القرب حتى جعل يشير إلينا أن قد فعلتم، وخرج إلى الناس فصلى بهم وخطبهم. قال المؤلف: اللدود من أدوية الخدر وذات الجنب، تقول العرب: لددت المريض لدا [ألقيت الدواء في شق] فيه: وهو التحنيك بالأصبع كما قال أبو سفيان، واسم الشيء الذي يلد به المريض اللدود بفتح اللام. فإن قال قائل: لمَ أمر النبي أن يلد كل من في الببت؟ قال(9/414)
المهلب: وجه ذلك - والله أعلم - أنه لما فعل به من ذلك ما لم يأمرهم به من المداواة بل نهاهم عنه، وألم بذلك ألماً شديداً أمر أن يقتصّ من كل [من] فعل به ذلك، ألا ترى قوله: لا يبقى في البيت أحد إلا لد إلا العباس فإنه لم يشهدكم. فأوجب القصاص على كل من لده من أهل البيت ومن ساعده فى ذلك ورآه لمخالفتهم نهيه عليه السلام، وقد جاء هذا المعنى فى رواية ابن إسحاق عن الزهرى، عن عبد الله بن كعب بن مالك (أنهم لدوا النبى عليه السلام فى مرضه، فلما أفاق قال: لم فعلتم ذلك؟ قالوا خشينا يارسول الله أن تكون بك ذات الجنب. فقال: إن ذلك لداء ماكان الله ليقذفنى به. لا يبقى فى البيت أحد إلا لد إلا عمى) فقد لدت ميمونة وهى صائمة لقسم رسول الله عقوبة لهم لما صنعوا برسول الله وقد أشرت إلى شىء من هذا المعنى فى باب إذا أصاب قوم من رجل هل يعاقبون أو يقتص منهم كلهم فى آخر كتاب الديات، وقد قال بعض العلماء: إن من هذا الحديث فهم عمر ابن الخطاب قتل من تمالأ على قتل الغلام بصنعاء. فإن قال قائل: ماوجه ذكر حديث عائشة الذى فى آخر فى هذه الترجمة وليس فيه ذكر اللدود الذى ترجم به؟ قيل: يحتمل ذلك - والله أعلم - أنه أراك أن مافعل بالمريض مما أن يفعل به أنه لايلزم فاعل ذلك به لوم ولاقصاص حين لم يأمر بصب الماء على كل من حضره، وأنه بخلاف ما أولم له مما نهى أن يفعل به؛ لأن ذلك من باب الجناية عليه، وفيه القصاص. وقوله فى حديث أم قيس: (أعلقت عنه) فالإعلاق أن ترفع(9/415)
العذرة باليد والعذرة قريبة من اللهاة، وقال ابن قتيبة: العذرة: وجع الحلق وأكثر مايعترى الصبيان فيعلق عنهم، والاعلاق والدغر شىء واحد وهو أن ترفع اللهاة، ونى رسول الله عن ذلك وأمر بالقسط البحرى. قال عبدة بن الطيب: غمز الطيب نغانغ المعذور. يقال: دغرت المرأة الصبى: رفعت لهاته بأصبعها إذا أخذته العذزرة. والصواب أعلق عنه كذلك خكاه أهل اللغة ولم يعدوه إلا بعن.
- باب دواء المبطون
/ 28 - فيه: أَبُو سَعِيد، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِى عليه السلام فَقَالَ: إِنَّ أَخِى اسْتَطْلَقَ، بَطْنُهُ فَقَالَ: (اسْقِهِ عَسَلا) فَسَقَاهُ فَقَالَ: إِنِّى سَقَيْتُهُ فَلَمْ يَزِدْهُ إِلا اسْتِطْلاقًا، فَقَالَ: (صَدَقَ اللَّهُ، وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ) . فيه أن ماجعل الله فيه شفاء من الأدوية قد يتأخر تأثيرة فى العلة حتى يتم أمره وتنقضى مدته المكتوبة فى أم الكتاب. وقوله: (صدق الله وكذب بطن أخيك) يدل أن الكلام لايحمل على ظاهرة ولو حمل على ظاهرة لبرىء المريض عند أول شربة العسل، فلما لم يبرأ إلا بعد تكرر شربه له دل أن الألفاظ مفتقرة إلى معرفة معانيها، وليست على ظواهرها.(9/416)
- باب: لاصفر وهو داء يأخذ البطن
/ 29 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا عَدْوَى، وَلا صَفَر، وَلا هَامَةَ) ، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّه، فَمَا بَالُ إِبِلِى تَكُونُ فِى الرَّمْلِ كَأَنَّهَا الظِّبَاءُ، فَيَأْتِى الْبَعِيرُ الأجْرَبُ، فَيَدْخُلُ بَيْنَهَا فَيُجْرِبُهَا، فَقَالَ: (فَمَنْ أَعْدَى الأوَّلَ) . قال الطبرى: ذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى قال: سمعت يونس الجرمى سأل رؤبة العجاج عن الصفر فقال: هى حبة تكون فى البطن تصيب الماشية والناس، وهى أعدى من الجرب عن العرب. ويقال إن قوله: (لا صفر) إبطال ما كان أهل الجاهلية يفعلونه من تأخير المحرم إلى صفر فى التحريم، وقد روى عن مالك مثل هذا القول. قال الطبرى: والصواب عندى ماقال رؤبة، ويدل على صحة قوله قول الأعشى: ولا يعض على سرشوفه الصفر قال ابن وهب: كان أهل الجاهلية يقولون إن الصفار التى فى الجوف تقتل صاحبها، فرد ذلك رسول الله، وقال: لايموت أحد إلا بأجله، وقد فسر جابر بن عبد الله وهو رواى الحديث عن النبى - عليه السلام. قال الطبرى: وقوله: (لا هامة) فإن الهامة طائر كانت العرب تسميه الصدى، وقيل: إنه ذكر البوم. وأشبه عندى بالصواب من قال أنه ذكر البوم، وإنما أراد النبى بقوله: (لا هامة) إبطال ما كان(9/417)
أهل الجاهلية يقولونه فى ذلك، وذلك أنهم كانوا يقولون: إذا قتل الرجل فلم يطلب وليه بدمه ولم يثأر به خرج من هامته طائر يسمى الهامة فلا يزال يزفر عند قبره حتى يثأر به. وقد تقدم معنى قوله: (لا عدوى) فى باب الجذام ونذكر هاهنا طرفًا منه، قال ابن قتيبه: والعدوى جنسان: عدوى الجذام، والطاعون، فأما عدوى الجذام فإن المجذوم تشتد رائحته حتى يسقم من أطال مجلسه معه ومؤاكلته، وربما جذمت امرأته بطول مصاحبتهات له وربما نزع أولاده فى الكبر إليه، وكذلك من كان به سل، والأطباء تأمر أن لا يجالس المسلول ولا المجذوم ولايريدون بذلك معنى العدو وإنما بذلك تغير الرائحة وأنها تسقم من أطال اشتمامها والأطباء أبعد الناس من الإيمان بيمن أو شؤم. وكذلك الجرب الرطب يكون بالبعير الإبل وحاكها وأوى فى مباركها وصل إليها بالماء الذى يسيل منه نحوًا مما به فلهذا المعنى نهى رسول الله أن يورد ذو عاهة على مصح كراهية أن يخالط ذو العاهة الصحيح فيناله من حكة ودائه نحوًا مما به، وقد ذهب قوم إلى أنه أراد بذلك ألا يظن أن الذى نال إبله من ذى العاهة قيأثم، وسيأتى الكلام فى الطاعون فى باب من خرج من أرض لاتلائمه بعد هذا.
- باب: ذات الجنب
/ 30 - فيه: أُمَّ قَيْسٍ، أَنّ النَّبِيّ عليه السلام قَالَ: (عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْعُودِ(9/418)
الْهِنْدِيِّ، فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ، مِنْهَا ذَاتُ الْجَنْبِ) - يُرِيدُ الْكُسْتَ - يَعْنِى الْقُسْطَ، قَالَ: وَهِىَ لُغَةٌ. / 31 - وفيه: أَنَس، أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ وَأَنَسَ بْنَ النَّضْرِ كَوَيَاهُ، وَكَوَاهُ أَبُو طَلْحَةَ بِيَدِهِ. وَقَالَ أَنَس مرة: أَذِنَ النَّبِىّ عليه السلام لأهْلِ بَيْتٍ مِنَ الأنْصَارِ أَنْ يَرْقُوا مِنَ الْحُمَةِ وَالأذُنِ. قَالَ أَنَسٌ: كُوِيتُ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ، وَالنَّبِىّ عليه السلام حَىٌّ، وَشَهِدَنِى أَبُو طَلْحَةَ وَأَنَسُ بْنُ النَّضْرِ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو طَلْحَةَ كَوَانِى. وفيه أن ذات الجنب تداوى بالكست وتداوى بالكى أيضًا، وفى حديث أنس جواز الكى والاسترقاء، وقد تقدم ماللعلماء فى الكى فى باب من اكتوى أو كوى غيره، وفضل من لم يكتو قبل هذا والحمة: سم كل شىء يلدغ، عن صاحب العين، والأذن: وجع الأذن.
- باب: حرق الحصير ليسد به الدم
/ 32 - فيه: سَهْل، لَمَّا كُسِرَتْ عَلَى رَأْسِ النَّبِىّ عليه السلام الْبَيْضَةُ وَأُدْمِى وَجْهُهُ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، وَكَانَ عَلِى يَخْتَلِفُ بِالْمَاءِ فِى الْمِجَنِّ، وَفَاطِمَةُ تَغْسِلُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، فَلَمَّا رَأَتْ فَاطِمَةُ الدَّمَ يَزِيدُ عَلَى الْمَاءِ كَثْرَةً عَمَدَتْ إِلَى حَصِيرٍ، فَأَحْرَقَتْهَا، وَأَلْصَقَتْهَا عَلَى جُرْحِ النَّبِىّ عليه السلام فَرَقَأَ الدَّمُ. قال المهلب: فيه أن قطع الدم بالرماد من المعلوم القديم المعمول به(9/419)
لا سيما إذا كان الحصير من ديس السعدى فهى معلومه بالقبض وطيب الرائحة، فالقبض يسد أفواه الجراح وطيب الرائحة يذهب بزهم الدم وإذا غسل الدم بالماء كما فعل اولا بجرح النبى فليجمد الدم ببرد الماء إذا كان الجرح سهلا غير غائر، وأما إذا كان غائرًا فلا تؤمن فيه آفاة الماء وضررة، وكان أبو الحسن بن القابسى يقول: لوددنا أن نعلم ذلك الحصير ماكان فنجعله دواء لقطع الدم.
المؤلف: وأهل الطب يزعمون أن كل حصير إذا أحرق يقطع رماده الدم، بل الأرمدة كلها تفعل ذلك؛ لأن الرماد من شأنه القبض وقد ترجم أبو عيسى الترمذى لحديث سهل بن سعد بهذا المعنى فقال: باب التداوى بالرماد، ولم يقل باب التداوى برماد الحصير، وقد تقدم تفسير رق الدم فى باب الترسة والمجن فى كتاب الجهاد.
- باب: الحمىّ من فيح جهنم
/ 33 - فيه: ابْن عُمَر، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَأَطْفِئُوهَا بِالْمَاءِ) ، وَكَانَ عَبْدُاللَّهِ يَقُولُ: اكْشِفْ عَنَّا الرِّجْزَ. / 34 - وفيه: أَسْمَاءَ، كَانَتْ إِذَا أُتِيَتْ بِالْمَرْأَةِ قَدْ حُمَّتْ، تَدْعُو لَهَا، أَخَذَتِ الْمَاءَ فَصَبَّتْهُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ جَيْبِهَا، قَالَتْ: وَكَانَ النَّبِىّ عليه السلام يَأْمُرُنَا أَنْ نَبْرُدَهَا بِالْمَاءِ. / 35 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَابْرُدُوهَا بِالْمَاءِ) .(9/420)
وَروى رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، عن النَّبِىّ عليه السلام وَقَالَ: (مِنْ فَوْحِ جَهَنَّمَ) . وقد فسرت أسماء أن إبرام الحمى صب الماء على جسد المحموم وقد تختلف أحوال المحمومين، فمنهم من يصلح أن يبرد بصب الماء عليه، وآخر يصلح بأن يشرب الماء، وزعم بعض العلماء أن بعض الحميات هى التى يجب إبرادها بالماء قال: وهى التى عنى النبى عليه السلام وهى الحميات الحادة التى يكون أصلها من الحر، والحديث يراد به الخصوص، واستدل على ذلك بقوله عليه السلام: (الحمى من فيح جهنم) والفيح عند العرب سطوع الحر. عن صاحب العين. وفى كتاب الأفعال: فاحت النار والحر فيحًا انتشرا واشتد واستدل بقوله عليه السلام: (فأطفئوها بالماء) و (أبردوها بالماء) قال: ودل قوله أنه عليه السلام لم يأمر بإبراد الحميات الباردة التى يكون أصلها البرد وإنما أمر بإبراد الحميات الحارة التى يكون أصلها الحر والله أعلم. والفوح والفيح لغتان.
- باب: من خرج من أرض لا تلائمه
/ 36 - فيه: أَنَس، أَنَّ نَاسًا مِنْ عُكْلٍ وَعُرَيْنَةَ، قَدِمُوا عَلَى النَّبِىّ عليه السلام وَتَكَلَّمُوا بِالإسْلامِ، فَقَالُوا: يَا نَبِى اللَّهِ إِنَّا كُنَّا أَهْلَ ضَرْعٍ، وَلَمْ نَكُنْ أَهْلَ رِيفٍ، وَاسْتَوْخَمُوا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَ لَهُمْ النَّبِىّ عليه السلام بِذَوْدٍ وَبِرَاع، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا فِيهِ. . . . الحديث. / 37 - فيه: سَعْد، أَنّ النَّبِى عليه السلام قَالَ: (إِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ فَلا تَدْخُلُوهَا، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلا تَخْرُجُوا مِنْهَا) .(9/421)
/ 38 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ عُمَر خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الأجْنَادِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِأَرْضِ الشَّأْمِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَالَ عُمَرُ: ادْعُ لِى الْمُهَاجِرِينَ الأوَّلِينَ، فَدَعَاهُمْ، فَاسْتَشَارَهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّأْمِ، فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ خَرَجْتَ لأمْرٍ، وَلا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام، وَلا نَرَى أَنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ، فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّى، ثُمَّ قَالَ: ادْعُوا لِى الأنْصَارَ، فَدَعَوْتُهُمْ، فَاسْتَشَارَهُمْ، فَسَلَكُوا سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ، وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلافِهِمْ، فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّى، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِى مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ، فَدَعَوْتُهُمْ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ مِنْهُمْ عَلَيْهِ رَجُلانِ، فَقَالُوا: نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ، وَلا تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ، فَنَادَى عُمَرُ فِى النَّاسِ: إِنِّى مُصَبِّحٌ عَلَى ظَهْرٍ، فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ: أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ، فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ، نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ هَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ: إِحْدَاهُمَا خَصِبَةٌ وَالأخْرَى جَدْبَةٌ، أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخَصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ، وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ، قَالَ: فَجَاءَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَكَانَ مُتَغَيِّبًا فِى بَعْضِ حَاجَتِهِ، فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِى فِى هَذَا عِلْمًا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام يَقُولُ: إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ، فَلا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ، قَالَ فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ، ثُمَّ انْصَرَفَ. وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ المَسِيحُ وَلا الطَّاعُونُ) . / 39 - وفيه: حَفْصَةُ بِنْتُ سِيرِينَ، قَالَتْ: قَالَ لِى أَنَس: يَحْيَى بِمَ مَاتَ؟(9/422)
قُلْتُ: مِنَ الطَّاعُونِ، قال: قال النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ) . / 40 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (الْمَبْطُونُ شَهِيدٌ، وَالْمَطْعُونُ شَهِيدٌ) . قال الطبرى فى حديث سعد: فيه الدلالة على أن على المرء توقى المكاره قبل وقوعها وتجنب الشياء المخوفه قبل هجومها، وأن عليه الصبر وترك الجزع بعد نزولها، وذلك أنه عليه السلام نهى من لم يكن فى أرض الوباء عن دخولها إذا وقع فيها، ونهى من هو فيها عن الخروج منها بعد وقوعه فيها فرارًا منه، فكذلك الواجب أن يكون حكم كل متق من الأمور سبيله فى ذلك سبيل الطاعون وهذا المعنى نظير قوله عليه السلام: (لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية وإذا لقيتموهم فاصبروا) . فإن قال قائل: فإن كان كما ذكرت فما أنت قائل فيما روى شعبه عن يزيد بن أبى زياد، عن سليمان بن عمرو بن الأحوص أن أبا موسى بعث بنيه إلى الأعراب من الطاعون، وروى شعبه عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن أبى موسى الأشعرى: (أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبى عبيدة فى الطاعون الذى وقع فى الشام إنه عرضت به حاجة لا غنى بى عنك فيها فإذا أتاك كتابى ليلا فلا تصبح حتى ترد إلى وإن أتال نهارًا فلا تمس حتى ترد إلى، فلما قرأ أبو عبيدة الكتاب قال: عرفت حاجة أمير المؤمنين أراد أن يستبقى من ليس بباق. ثم كتب إليه أنى قد عرفت حاجتك فحللنى من عزمتك ياأمير المؤمنين؛ فإنى فى جند المسلمين ولن أرغب(9/423)
بنفسي عنهم. فلما عمر الكتاب بكى، فقيل له: توفى أبو عبيدة؟ قال: لا وكان قد كتب إليه عمر أن الأردن أرض غمقة وأن الجابية أرض نزهة فاظهر بالمسلمين إلى الجابية. فلما قرأ أبو عبيدة الكتاب قال: هذا نسمع فيه لأمير المؤمنين ونطيعه. فأراد ليركب بالناس فوجد وخزة فطعن وتوفى أبو عبيدة وإنكشف الطاعون) . وروى شعبة أنه سأل الأشعث هل فرّ أبوك من الطاعون؟ قال كان إذا اشتد الطاعون فر هو والأسود بن هلال. وروى شعبه عن الحكم أن مسروقًا كان يفر من الطاعون؟ . قيل: قد خالف هؤلاء من القدوة مثلهم، وإذا اختلف فى أمر كان أولى بالحق من كان موافقًا أمر رسول الله. فإن قيل: فاذكر لنا من خالفهم. قيل. روى شعبه عن يزيد بن خمير، عن شر حبيل ابن شفعة قال: (وقع الطاعون، فقال عمرو بن العاص: إنه رجز فتفرقوا عنه. فبلغ شرحبيل بن حسنة فقال: لقد صحبت رسول الله وعمرو أضل من بعير أهله، وإنه دعوة نبيكم ورحمة من ربكم وموت الصالحين قبلكم، فاجتمعوا له ولا تفرقوا عنه، فبلغ ذلك عمرو بن العاص فقال: صدق) . وروى أيوب عن أبى قلابة، عن عمرو بن العاص قال: (تفرقوا عن هذا الرجز فى الشعبا والأدوية ورؤوس الجبال. فقال معاذ بن جبل: بل هو شهادة ورحمة ودعوة بيكم: اللهم أعط معاذًا وأهله(9/424)
نصيبهم من رحمتك. فطعن فى كفه، قال أبو قلابة: قد عرفت الشهادة والرحمة مادعوة نبيكم، فسألت عنها فقيل: دعا عليه السلام أن يجعل فناء أمته بالطعن والطاعون حين دعا أن لايجعل بأس أمته بينهم فمنعها، فدعا بهذا) . وقالت عمرة: سألت عائشة عن الفرار من الطاعون، فقالت: هو كالفرار من الزحف. وسئل الثورى عن الرجل يخرج أيام الوباء بغير تجارة معروفة، قال: لم يكونوا يفعلون ذلك وماأحبه. فإنقال: فهل من أحد إلا وهو ميت بعد استيفائه مدة أجله الذى كتب له؟ قيل: نعم. قال: فإن كان كذلك فما وجه النهى عن دخول أرض بها الطاعون أو الخروج منها؟ قيل: لم ينه عن ذلك أحد حذارًا عليه من أن يصيبه غير ماكتب عليه أو أن يهلك قبل الأجل الذيلايستأخر عنه ولايستقدم، ولكن حذار الفتنة على الحى من أن يظن إنما كتان هلاكه من أجل قدومه عليه وأن من فر عنه فنجا من الموت أن نجاتهكانت من أجل خروجه عنه. فكره رسول الله ذلك، ونهيه عليه السلام عن ذلك نظير نهيه عن الدنو من المجذوم، وقال: (فرّ منه فرارك من الأسد) مع إعلامه أمته أن لا عدوى ولا صفر. وقال غير الطبرى: فإن قال: فإن فى حديث أنس فى الذين استوخموا المدينة فأمرهم النبى أن يخرجوا منها حجة لمن أجاز الفرار من أرض الوباء والطاعون. قيل: ليس ذلك كما توهمته، وذلك أن القوم شكوا إلى النبى أنهم كانوا أهل ضرع ولم تلائمهم(9/425)
المدينة واستوخموها لمفارقهم هواء بلادهم فهم الذين استوخموا المدينة دون سائر الناس، فأمرهم النبى عليه السلام بالخروج منها ففى هذا من الفقه أن من قدم إلى بلده ولم يوافقه هواها أنه مباح له الخروج عنها والتماس هوى أفضل منها، وليس ذلك بفرار من الطاعون وإنما الفرار منه إذا عم الموت فى البلدة الساكنين فيها والطائرين عليها وفى ذلك جاء النهى، والله أعلم. وقوله: (وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرار منه) دليل أنه يجوز الخروج من بلدة الطاعون على غير سبيل الفرار منه إذا اعتقد أن ماأصابه لم يكن ليخطئه، وكذلك حكم الداخل فى بلدة الطاعون إذا أيقن أن دخوله لايجلب إليه قدرًا لم يكن قدره الله عليه، فمباح له الدخول إليه. وقد روى عن عروة بن رويم أنه قال: بلغنا أن عمر كتب إلى عامله بالشام إذا سمعت بالطاعون قد وقع عندكم فاكتب إلى حتى أخرج إليه. وروى القاسم عن عبد الله بن عمر أن عمر قال: اللهم اغفر لى رجوعى من سرغ وروى عن ابن مسعود قال: الطاعون فتنة على المقيم والفار، أما الفار فيقول: فررت فنجوت، وأما المقيم فيقول أقمت فمت، وكذلك فرّ من لم يجىء أجله وأقام فمات من جاء أجله. وقال المدائنى يقال: إنه قلّ مافر أحد من الطاعون فسلم من الموت. وقوله عليه السلام: (الطاعون شهادة لكل مسلم) سيأتى تفسيرة فى الباب المتصل بهذا.(9/426)
- باب: أجر الصابر فى الطاعون
/ 41 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّهَا سَأَلت النَّبِىّ عليه السلام عَنِ الطَّاعُونِ، فَأَخْبَرَهَا أَنَّهُ كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاء، فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ، فَيَمْكُثُ فِى بَلَدِهِ صَابِرًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ إِلا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ. قال المؤلف: هذا الحديث مثل قوله: (الطاعون شهادة) ، (والمطعون شهيد) أنه الصابر عليه المحتسب أجره على الله، العالم أنه لم يصيبه إلا ماكتب الله عليه، ولذلك تمنى معاذ بن جبل أن يموت فيه لعله إن مات فيه فهو شهيد، وأما من جزع من الطاعون وكرهه وفر منه فليس بداخل فى معنى الحديث.
- باب: الرقى بالقرآن والمعوذات
/ 42 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِى عليه السلام كَانَ يَنْفُثُ عَلَى نَفْسِهِ فِى الْمَرَضِ الَّذِى مَاتَ فِيهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ، فَلَمَّا ثَقُلَ، كُنْتُ أَنْفِثُ عَلَيْهِ بِهِنَّ، وَأَمْسَحُ بِيَدِ نَفْسِهِ لِبَرَكَتِهَا، فَسَأَلْتُ الزُّهْرِىَّ: كَيْفَ يَنْفِثُ؟ قَالَ: كَانَ يَنْفِثُ عَلَى يَدَيْهِ، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ. فى الاسترقاء بالمعوذات استاذة بالله تعالى من شر كل من خلق ومن شر النفاثات فى السحر ومن شر الحاسد ومن شر الشيطان ووسوسته، وهذه جوامع من الدعاء تعم أكثر المكروهات ولذلك كان عليه السلام يسترقى بهما، وهذا الحديث أصل ألا يسترقى إلا بكتاب الله وأسمائه وصفاته.(9/427)
وقد روى مالك فى الموطأ أن أبا بكر الصديق دخل على عائشة وهى تشتكى ويهودية ترقيها، فقال أبو بكر: ارقيها بكتاب الله. يعنى بالتوراة والانجيل؛ لأن ذلك كلام الله الذى فيه الشفاء. وقد روى عن مالك جواز رقية اليهودية والنصرانى للمسلم إذا رقى بكتاب الله، وهو قول الشافعى، وفى المستخرجة أن مالكًا كره رقى أهل الكتاب وقال: لا أحبه. وذلك والله أعلم لأنه لايدرى هل يرقون بكتاب الله أو الرقى المكروهات التى تضاهى السحر. وروى ابن وهب عن مالك أنه سئل عن المرأة التى ترقى بالحديدة والملح وعن التى تكتب الكتاب للإنسان ليعلقه عليه من الوجع، وتعقد فى الخيط الذى يربط به الكتاب سبع عقد، والذى يكتب خاتم سليمان فى الكتاب فكرهه كله وقال: لم يكن ذلك من أمر الناس القديم.
- باب: الرقى بفاتحة الكتاب
/ 43 - وفيه: أَبُو سَعِيد، أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِى عليه السلام أَتَوْا عَلَى حَى مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، فَلَمْ يَقْرُوهُمْ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ؛ إِذْ لُدِغَ سَيِّدُ أُولَئِكَ، فَقَالُوا: هَلْ مَعَكُمْ مِنْ دَوَاءٍ، أَوْ رَاقٍ؟ فَقَالُوا: إِنَّكُمْ لَمْ تَقْرُونَا، وَلا نَفْعَلُ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلاً، فَجَعَلُوا لَهُمْ قَطِيعًا مِنَ الشَّاءِ، فَجَعَلَ يَقْرَأُ بِأُمِّ الْقُرْآنِ، وَيَجْمَعُ بُزَاقَهُ، وَيَتْفِلُ فَبَرَأَ، فَأَتَوْا بِالشَّاءِ، فَقَالُوا: لا نَأْخُذُهُ، حَتَّى نَسْأَلَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) فَسَأَلُوهُ فَضَحِكَ، وَقَالَ: (وَمَا أَدْرَاكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ، خُذُوهَا وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ) .(9/428)
فيه: جواز الرقى بفاتحة الكتاب وهو يرد ماروى شعبه عن الزكى قال: سمعت القاسم بن حسان يحدث عبد الرحمن بن حرملة عن ابن مسعود (أن النبى عليه السلام كان يكره الرقى إلا بالمعوذات) . قال الطبرى: وهذا حديث لا يجوز الاحتجاج به فى الدين إذ فى نقلته من لايعرف، ولو كان صحيحًا لكان إما غلطًا أو منسوخًا؛ لقوله عليه السلام فيه: (ما أدراك أنها رقية) فأثبت أنها رقية بقوله عليه السلام فيه: (ما أدراك أنها رقية) ، فأثبت أنها رقية بقوله هذا، وقال: (اضربوا لى معكم بسهم) وإذا جازت الرقية بالمعوذتين وهما سورتان من القرآن كانت الرقية بسائر القرآن مثلها فى الجواز؛ إذ كله قرآن قال المهل: فى (الحمد لله) من معنى الرقى شبيه بمعنى مافى المعوذات منه وهو قوله: (وإياك نستعين) والاستعانة به فى ذلك دعاء فى كشف الضر وسؤال الفرج، وقد بينا هذا المعنى فى كتاب الإجارة فى باب أخذ الأجرة على الرقى وذكرنا معنى قوله عليه السلام: (ما يدريك أنها رقية) والاختلاف فى جواز أخذ الأجرة على الرقى فلذلك تركنا باب الشرط فى الرقية بقطيع من الغنم إذ أغنى عنه ماتقدم فى كتاب الإجارة.
- باب: رقية العين
/ 44 - فيه: عَائِشَةَ رَضِى اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: أَمَرَنِى النبى (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يُسْتَرْقَى مِنَ الْعَيْنِ. / 45 - وفيه: أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) رَأَى فِى بَيْتِهَا جَارِيَةً فِى وَجْهِهَا سَفْعَةٌ، فَقَالَ: اسْتَرْقُوا لَهَا، فَإِنَّ بِهَا النَّظْرَةَ.(9/429)
الرقية من العين والنظرة وغير ذلك باسم الله تعالى وكتابه مرجو بركتها؛ لأمر النبى عليه السلام بذلك، وقد أمر رسول الله عليه السلام باغتسال العائن وصب ذلك بالماء على العين. روى مالك عن ابن شهاب، عن أبى أمامه بن سهل بن حنيف أنه قال: (رأى عامر بن ربيعة سهل بن حنيف يغتسل فقال: مارأيت كاليوم ولاجلد مخبأ، فلبط سهل، فأخبر النبى عليه السلام بمرضه، فقال: هل تتهمون أحدًا قالوا: نتهم عامر بن ربيعة، فدعا عليه السلام عامرًا فتغيظ عليه، وقال: علام يقتل أحدكم أخاه؟ ألا بركب، اغتسل له. فغسل عامر وجهه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخله إزاره فى قدح ثم صب عليه فراح سهل مع الناس ليس به بأس) . فيه من الفقه أنه إذا عرف العائن أنه يقضى عليه بالوضوء لأمر النبى عليه السلام بذلك وأنها نشرة ينتفع بها. وقوله: (ألا بركت) فيه أن من رأى شيئًا فأعجبه فقال: تبارك الله أحسن الخالقين وبرك فيه؛ فإنه لايضره بالعين وهى رقية منه. والسفع: سواد وشحوب فى الوجه، وامرأة سفعاء الخدين، والسفع الأثافى لسوادها من كتاب العين. قال المؤلف: وقوله: (فلبط سهل) من حديث مالك. قال أبو زيد: رجل ملبوط، وقد لبطًا وهو سعال وزكام.(9/430)
- باب: العين حق
/ 46 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (الْعَيْنُ حَقٌّ، وَنَهَى عَنِ الْوَشْمِ) . وروى مالك عن حميد بن قيس: (أن النبى قال لحاضنة ابنى جعفر: ما لى أراها ضارعين؟ فقالت: يا رسول الله، تسرع إليهما العين. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : استرقوا لهما فلو يسبق شىء القدر لسبقته العين) . وقال بعض أهل العلم إذا عرف أحد بالإصابة بالعين فينبغى اجتنابه والتحرز منه، وإذا ثبت عند الإمام فينبغى للإمام منعه من مداخله الناس والتعرض لأذاهم ويأمره بلزوم بيته، فإن كان فقيرًا رزقه مايقوم به، وكف عن الناس عاديته فضره أشد من ضر آكل الثوم الذى منعه النبى مشاهدة صلاة الجماعة، وضره أشد من ضر المجذومة التى منعها عمر بن الخطاب الطواف مع الناس.
30 - باب رقية الحية والعقرب
/ 47 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَ النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) رَخَّصَ فِى الرُّقْيَةَ مِنْ كُلِّ ذِى حُمَةٍ. هذا الحديث يبين ماروى عن على وابن مسعود أنهما قالا: الرقى والتمائم والتوله شرك. أن المراد بذلك رقى الجاهلية ومايضاهى السحر من الرقى المكروهة، روى ابن وهب عن يونس بن يزيد، عن ابن(9/431)
شهاب قال: بلغني عن رجال من أهل العلم أنهم كانوا يقولون إن رسول الله نهى عن الرقي حتى قدم المدينة، وكان الرقي فى ذلك الزمان فيها كثير من كلام الشرك، فلما قدم المدينة لدغ رجل من أصحابه، قالوا: يارسول الله قد كان آل حزم يرقون من الحمة، فلما نهيت عن الرقى تركوها، فقال رسول الله عليه السلام ادعوا إلى عمارة - وكان قد شهد بدرًا - فقال: اعرض على رقبتك. فعرضها عليه فلم ير بها بأسًا، وأذن له فيها.
31 - باب: رقية النبي (صلى الله عليه وسلم)
/ 48 - فيه: عَبْدِ الْعَزِيزِ، دَخَلْتُ مَعَ ثَابِتٌ عَلَى أَنَسِ، فَقَالَ: ثَابِتٌ يَا أَبَا حَمْزَةَ، اشْتَكَيْتُ، قَالَ أَنَسٌ: أَلا أَرْقِيكَ بِرُقْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: (اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ، مُذْهِبَ الْبَاسِ، اشْفِ أَنْتَ الشَّافِى لا شَافِىَ إِلا أَنْتَ، شِفَاءً لا يُغَادِرُ سَقَمًا) . / 49 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِى عليه السلام كَانَ يُعَوِّذُ بَعْضَ أَهْلِهِ يَمْسَحُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، وَيَقُولُ: (اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ، أَذْهِبِ الْبَاسَ، اشْفِهِ وَأَنْتَ الشَّافِى لا شِفَاءَ إِلا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لا يُغَادِرُ سَقَمًا) . / 50 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىّ عليه السلام كَانَ يَقُولُ لِلْمَرِيضِ: (بِسْمِ اللَّه، تُرْبَةُ أَرْضِنَا، بِرِيقَةِ بَعْضِنَا، يُشْفَى سَقِيمُنَا، بِإِذْنِ رَبِّنَا) . وترجم لحديث عائشة الأول باب مسح الراقى الوجع بيده اليمنى. قال الطبرى: فيه البيان عن جواز الرقية بكل ما كان دعاء(9/432)
للعليل بالشفاء. وذلك أن النبي عليه السلام كان إذا عاد مريضًا قال القول الذى تقدم، وذلك كان رقيته التى كان يرقى بها أهل العلل، وإذا كان ذلك دعاء ومسالة للعليل بالشفاء فمثله كل مارقى به ذو عله من رقية إذ كان دعاء لله ومسألة من الراقي ربه للعليل الشفاء فى أنه لابأس به. وذكر عبد الرازق عن معمر قال: الرقية التى بها جبريل النبى (صلى الله عليه وسلم) : (بسم الله أرقيك، ولله يشفيك من كل يؤذيك ومن كل عيد حاسد، وبسم الله أرقيك) . قال الطبرى: ومعنى مسحه الوجع بيده فى الرقية ولله أعلم تفاؤلا لذهاب الوجع لمسحة بالرقى.
32 - باب: النفث فى الرقية
/ 51 - فيه: أَبُو قَتَادَةَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (الرُّؤْيَا مِنَ اللَّهِ، وَالْحُلْمُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ شَيْئًا يَكْرَهُهُ، فَلْيَنْفِثْ حِينَ يَسْتَيْقِظُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وَيَتَعَوَّذْ، مِنْ شَرِّهَا، فَإِنَّهَا لا تَضُرُّهُ) . وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: وَإِنْ كُنْتُ لأرَى الرُّؤْيَا هِىَ أَثْقَلَ عَلَىَّ مِنَ الْجَبَلِ، فَمَا هُوَ إِلا أَنْ سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ فَمَا أُبَالِيهَا. / 52 - وفيه: عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ نَفَثَ فِى كَفَّيْهِ: (بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَبِالْمُعَوِّذَتَيْنِ جَمِيعًا، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ، وَمَا(9/433)
بَلَغَتْ يَدَاهُ مِنْ جَسَدِهِ) ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَلَمَّا اشْتَكَى، كَانَ يَأْمُرُنِى أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ بِهِ. وَكَانَ ابْنَ شِهَابٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِه. ِ / 53 - وفيه: أَبُو سَعِيدٍ، أَنَّ رَهْطًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىّ عليه السلام نَزَلُوا بِحَىٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الْحَىِّ، فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنَ الْغَنَمِ، فَجَعَلَ يَتْفُلُ وَيَقْرَأُ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (، حَتَّى لَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ. . . الحديث. وترجم لحديث عائشة باب المرأة ترقى الرجل. قال الطبرى: فى هذه الآثار البيان عن أن التفل على العليل إذا رقى أو دعى له بالشفاء جائز والرد على من لم يجز ذلك، وبمثل هذه الآثارقال جماعة من الصحابة وغيرهم، وأنكر قوم من أهل العلم النفث والتفل فى الرقى وأجازوا النفخ فيها، روى جرير عن مغيره عن إبراهيم قال: كان الأسود يكره النفث ولا يرى بالنفخ بأسًا. وقال سفيان عن الأعمش عن إبراهيم: إذا دعوت بما فى القرآن فلا تنفث. وكره النفث عكرمة والحكم وحماد، وأحسب أن السود كره النفث لذكر الله تعالى له فى كتابه وأمره بالاستعاذة منه ومن فاعله فقال: (ومن شر النفاثات فى العقد) وليس فى ذمة تعالى نفث أهل الباطل مايوجب أن يكون كل نافث ونافثة بالحق فى معناه؛ لأن النفاثات التى أمر الله نبيه بالاستعاذة من شرهن السحرة. فأما من نفث بالقرآن وبذكر الله على النحو الذى كان رسول الله وأصحابه ينفثون فليس ممن أمر الله بالاستعاذة من شره، وإذ قد صح عن النبى أنه نفث على نفسه بالمعوذات وإطلاقه التفل بفاتحة الكتاب(9/434)
راقيا بها، فبين أن التفل والنفث بكتاب الله شفاء من العلل، ومن استشفى بذلك مصيب، وفى فعله ذلك برسول الله مقتد، وقد روت عائشة عن الرسول أن ريق ابن آدم شفاء قالت: كان إذا اشتكى الإنسان قال النبى عليه السلام هكذا بريقه فى الأرض وقال: (تربة أرضنا بريقه بعضنا يشفى سقيمنا بإذن ربنا) . وقوله: (لكأنما نشط من عقال) قال صاحب الأفعال يقال: أنشطت العقدة: حللتها، ونشطتها عقدتها بأنشوطة وهى حديدة يعقد بها.
33 - باب: من لم يرق
/ 54 - فيه: ابْن عَبَّاس، عن النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فِى: (الَّذِينَ لا يَتَطَيَّرُونَ، وَلا يَسْتَرْقُونَ، وَلا يَكْتَوُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) . وقد تقدم الكلام فيه فى باب من اكتوب من اكتوى وفضل من لم يكتو، فأغنى عن إعادته.
34 - باب: الطيرة
/ 55 - فيه: ابْن عُمَر، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا عَدْوَى، وَلا طِيَرَةَ، وَالشُّؤْمُ فِى ثَلاثٍ: فِى الْمَرْأَةِ وَالدَّارِ وَالدَّابَّةِ) . / 56 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ عليه السَّلام: (لا طِيَرَةَ، وَخَيْرُهَا الْفَأْلُ) ، قَالُوا: وَمَا الْفَأْلُ؟ قَالَ: (الْكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ يَسْمَعُهَا أَحَدُكُمْ) . / 57 - وفيه: أَنَس، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (لا عَدْوَى، وَلا طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِى الْفَأْلُ الصَّالِحُ، وَالْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ) .(9/435)
قال الخطابى: الفرق بين الفأل والطيرة أن الفأل إنما هو من طريق حسن الظن بالله تعالى والطيرة وإنما هى من طريق الاتكال على شىء سواه.
وقال الأصمعى: سألت ابن عون عن الفأل فقال: هو أن تكون مريضًا فتسمع يا سالم، أو تكون باغيا فتسمع يا واجد. قال المؤلف: وكان النبى يسأل عن اسم الخيل والأرض والإنسان فإن كان حسنًا سر بذلك واستبشر به وإن كان سيئًا ساء ذلك، وزعم بعض المعتزلة أن قوله عليه السلام: (لا طيرة) يعارض قوله: (الشئوم فى ثلاث) قال ابن قتيبة وغيره: وهذا تعسف وبعد عن العلم، ولكل شىء منها موضع إذا وضع فيه زال الخلاف وارتفع التعارض. ووجه ذلك أن يكون قوله عليه السلام: (لا طيرة) مخصوصًا بحديث الشؤم، فكأنه قال: لاطيرة إلا فى المرأة والدار والفرس لمن التزم الطيرة، يدل على صحة هذا مارواه زهير بن معاوية، عن عتبة ابن حميد، عن عبيد الله بن أبى بكر أنه سمع أنس بن مالك يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لا طيرة، والطيرة على من تطير، وإن يكن فى شىء ففى الدار والمرأة والفرس) . فبان بهذا الحديث أن الطيرة إنما تلزم من تطير بها، وأنها فى بعض الأشياء دون بعض، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يقولون: الطيرة في(9/436)
الدار والفرس والمرأة، فهناهم النبى عليه السلام عن الطيرة فلم ينتهوا فبقيت فى هذه الثلاثة الشياء التى كانوا يلزمون التطير فيها. ومثله قوله تعالى عن أهل القرية حين قالوا: (إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم. . . قالوا طائركم معكم) أى: حظكم من الخير والشر معكم ليس هو من شؤمنا وكذلك قوله عليه السلام فى الدار: (اتركوها ذميمة) فإنما قال ذلك لقوم علم منهم أن الطيرة والتشاؤم غلب عليهم وثبت فى نفوسهم؛ لأن ازاحة مايثبت فى النفس عسير، وقد قال عليه السلام: (ثلاثة لا يسلم منهن أحد: الطيرة والظن والحسد؛ فإذا تطيرت فلا ترجع، وإذا حسدت فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تحقق) . وليس فى قوله عليه السلام: (دعوها ذميمة) أمر منه بالتطير، وكيف وقد قال: لايطرة؟ وإنما أمرهم بالتحول عنها لما قد جعل الله فى غرائز الناس من استثقال مانالهم فيه الشر وإن كان لاسبب له فى ذلك، وحب من جرى لهم الخير على يديه وإن لم يردهم به، وكان النبى عليه السلام يستحب الاسم الحسن والفأل الصالح، وقد جعل الله فى فطرة الناس محبة الكلمة الطيبة والفأل الصالح والأنس به، كما جعل فيهم الارتياح للبشرى والمنظر الأنيق، وقد يمر الرجل بالماء الصافى فعجبه وهو لايشربه وبالروضه المنثورة فتسره وهي لاتنفعه، وفى بعض الحديث (أن الرسول عليه السلام كان يعجبه الأترج ويعجبه الفغية وهي نور الحناء) .(9/437)
وهذا مثل اعجابه بالاسم الحسن والفأل الحسن وعلى حسب هذا كانت كراهيته الاسم القبيح كبنى النار وبنى حزن وشبهه، وقد كان كثير من أهل الجاهلية لا يرون الطيرة شيئًا ويمدحون من كذب بها قال المرقش: ولقد عذروت وكنت لا أغدو على واق وحائم فإذا الأشائك كالأيا من والأيامن كالأشائم وقال عكرمة: كنت عند ابن عباس فمر طائر يصيح، فقال رجل من القوم: خير خير. فقال ابن عباس: ما عند هذا لا خير ولا شر.
35 - باب الكهانة والسحر
/ 58 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىّ عليه السلام قَضَى فِى امْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ اقْتَتَلَتَا، فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى بِحَجَرٍ، فَأَصَابَ بَطْنَهَا، وَهِىَ حَامِلٌ، فَقَتَلَتْ وَلَدَهَا الَّذِى فِى بَطْنِهَا، فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَضَى أَنَّ دِيَةَ مَا فِى بَطْنِهَا غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ، فَقَالَ وَلِى الْمَرْأَةِ الَّتِى غَرِمَتْ: كَيْفَ أَغْرَمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لا شَرِبَ، وَلا أَكَلَ، وَلا نَطَقَ، وَلا اسْتَهَلَّ، فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ؟ فَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا هَذَا مِنْ إِخْوَانِ الْكُهَّانِ) . / 59 - وفيه: أَبُو مَسْعُود نَهَى الرسول عليه السلام عَنْ حُلْوَانِ الْكَاهِنِ. . . . . الحديث. / 60 - وفيه: عَائِشَةَ، سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام نَاسٌ عَنِ الْكُهَّانِ، فَقَالَ: (لَيْسَ بِشَيْءٍ) ،(9/438)
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَا أَحْيَانًا بِشَىْءٍ، فَيَكُونُ حَقًّا، فَقَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْحَقِّ، يَخْطَفُهَا الْجِنِّىِّ، فَيَقُرُّهَا فِى أُذُنِ وَلِيِّهِ، فَيَخْلِطُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ) . قال المؤلف: فى هذه الآثار ذم الكهان وذم من تشبه بهم فى ألفاظهم؛ لأنه عليه السلام كره قول ولى المرأة لما أشبه سجع الكهان الذين يستعملونه فى الباطل ودفع الحق، ألا ترى أنه أتى بسجعه محتجًا على رسول الله فى دفع شىء قد أوجبه عليه فاستحق بذلك غاية الذم وشديد العقوبة فى الدنيا والآخرة، غير أن النبى عليه السلام جبله الله على الصفح عن الجاهلين وترك الانتقام لنفسه فلم يعاقبه فى اعتراضه عليه كما لم يعاقب الذى قال له: إنك لم تعدل منذ اليوم. ولم يعاقب موالى بريرة فى اشتراطهم مايخالف كتاب الله وأنفذ حكم الله فى كل ذلك. فإن قال قائل: فالسجع كله مكروه؟ قيل له: لا قد أتى به كلام رسول رب العالمين، ومنه قوله عليه السلام: (يقول العبد: ما لى ما لى، وما لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو أعطيت فأمضيت) قاله ابن النحاس. وأما نهيه عن حلوان الكاهن فالأمة مجمعة على تحريمه؛ لأنهم يأخذون أجره مالا يصلح فيه أخذ عوض وهو الكذب الذى يخلطونه مع مايسترقه الجن فيفسدون تلك الكلمة من الصدق بمائة كذبة أو أكثر كما جاء فى بعض الروايات فلم يسغ أن يلتفت اليهم، ولذلك قال(9/439)
عليه السلام: (ليسوا بشىء) وقد جاء فيمن أتى الكهان آثار شديدة روى الطبرى عن عبد الله بن شبويه، حدثنا أبى، حدثنا أيوب بن سليمان، حدثنا أبو بكر بن أبى أويس، عن سليمان بن بلال، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن صفية بنت أبى عبيد، عن عمر بن الخطاب أن النبى عليه السلام قال: (من أتى عرافًا لم تقبل صلاته أربعين ليلة ولم ينظر الله أربعين ليلة) . وحدثنا أبو كريب، حدثنا وكيع، عن حماد بن سلمه، عن حكيم الأثرم، عن أبى تميمة، عن أبى هريرة أن النبى عليه السلام قال: (من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل هلى محمد) وقال ابن دريد: أهل الحديث يقولون: (بطل) وهو تصحيف وإنما هو (يطل) قال صاحب الأفعال: طل الدم وطل إذا هدر، قال الشاعر: وما مات منا ميت فى فراشه ولا طلمنا حيث كان قتيل وقد قيل: أطل الدم بمعنى طل، ولم يعرفه الأصمعى.
36 - باب السحر
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ (الآية [البقرة: 102] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (، وَقَوْلِهِ: (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) [طه: 20] وَقَوْلِهِ: (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى) [طه: 66] وَقَوْلِهِ: (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِى الْعُقَدِ (وَالنَّفَّاثَاتُ: السَّوَاحِرُ، تُسْحَرُونَ: تُعَمَّوْنَ.(9/440)
/ 61 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: سَحَرَ النَّبِيّ عليه السلام رَجُلٌ مِنْ بَنِى زُرَيْقٍ، يُقَالُ لَهُ: لَبِيدُ بْنُ الأعْصَمِ، حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ الشَّىْءَ وَمَا فَعَلَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ - أَوْ ذَاتَ لَيْلَةٍ - وَهُوَ عِنْدِى لَكِنَّهُ دَعَا وَدَعَا، ثُمَّ قَالَ: يَا عَائِشَةُ، أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِى فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ، أَتَانِى رَجُلانِ، فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِى، وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَىَّ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ فَقَالَ: مَطْبُوبٌ، قَالَ: مَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ لَبِيدُ بْنُ الأعْصَمِ، قَالَ: فِى أَى شَىْءٍ قَالَ فِى مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ، وَجُفِّ طَلْعِ نَخْلَةٍ ذَكَرٍ، قَالَ: وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِى بِئْرِ ذَرْوَانَ، فَأَتَاهَا رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام فِى نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَجَاءَ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، كَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ - أَوْ كَأَنَّ رُءُوسَ نَخْلِهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ - قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلا اسْتَخْرَجْتَهُ؟ قَالَ: (قَدْ عَافَانِى اللَّهُ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُثَوِّرَ عَلَى النَّاسِ فِيهِ شَرًّا، فَأَمَرَ بِهَا، فَدُفِنَتْ) . هذه رواية عيسى بن يونس عن هشام بن عروة، وقال الليث وابن عيينة عن هشام: (فى مشط ومشاقة) قال أبو عبد الله يقال المشاطة مايخرج من الشعر إذا مشط، والمشاقة من مشاقة الكتان. قال المهلب: والجف غشاء الطلع، وقال أبو عمرو الشيبانى: الجف: شىء ينقر من جذوع النخل، ونقاعة الحناء: الماء الذى يصب عليها وتقع فيه، وقد تقدم فى آخر كتاب الجهاد حكم الذمى إذا سحر المسلم فى باب هل يعفى عن الذمى إذا سحر، والجواب عن اعتراض الملحدين بحديث عائشة فى جواز السحر على النبي عليه السلام فأغنى عن إعادته. وقال ابن القصار: ذهب مالك وأبو حنيفة والشافعى إلى أن السحر(9/441)
له حقيقة، وقد يمرض من يفعل ويموت ويتغير عن طبعه. وقال بعض الناس: السحر تخييل وشعوذة وليس له حقيقة ولايمرض منه ولايقتل به أحد، واستدلوا على لك بقوله تعالى: (يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) فأخبر أن حبالهم وعصيهم ماسعت فى الحقيقة، فلو كان للسحر حقيقة لتحقق فى ذلك الوقت؛ لأن فرعون كان قد جمع السحرة من البلدان، فلما أخبرنا الله تعالى أن ما فعلوه خيالا علم لا حقيقة له. قال ابن القصار: والحجة على هذه المقالة حديث عائشة وهو نص لا يحتمل التأويل؛ لأنهم سحروا النبى عليه السلام حتى وصل المرض إلى بدنه، لأنه قال لما حل السحر: إن الله شفانى. والشفاء إنما يكون برفع العلة وزوال المرض، وأيضًا قوله تعالى: (ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) فنفى الله السحر عن سليمان وأضافة إلى الشياطين وأخبر أنهم يعلمونه الناس. واختلف العلماء فى المسلم إذا سحر بنفسه، فذهب مالك إلى أن السحر كفر وأن الاسحر يقتل ولاتقبل توبته؛ لأن الله - تعالى سمى السحر كفرًا بقوله تعالى: (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر) وهو قول أحمد بن حنبل، وروى قتل الساحر عن عمر وعثمان وعبد الله بن عمر، وحذيفة، وحفصة، وأبى موسى، وقيس بن سعد، وعن سبعة من التابعين. وقال الشافعى: لا يقتل الساحر إلا أن يقتل بسحره، وروى عنه أيضا أنه يسأل عن سحره، فإن كان كفرًا استتيب منه.(9/442)
واحتج أصحاب مالك بأنه لم تقبل توبته؛ لأن السحر باطن لايظهره صاحبه فلا تعرف توبته كالزنديق، وإنما يستتاب من أظهر الكفر كالمرتد. قال مالك: فإن جاء الساحر أو الزنديق تائبًا قبل أن يشهد عليهما بذلك قبلت توبتها، والحجة لذلك قوله تعالى: (فلم ويك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا) فدل أنه كان ينفعهم إيمانهم قبل نزول العذاب بهم، فكذلك هذان قال مالك فى المرأة تعقد زوجها عن نفسها أو عن غيرها: تنكل ولا تقتل.
37 - باب: هل يستخرج السحر
وَقَالَ قَتَادَةُ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: رَجُلٌ بِهِ طِبٌّ - أَوْ يُؤَخَّذُ عَنِ امْرَأَتِهِ - أَيُحَلُّ عَنْهُ أَوْ يُنَشَّرُ؟ قَالَ: لا بَأْسَ بِهِ، إِنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ الإصْلاحَ، فَأَمَّا مَا يَنْفَعُ فَلَمْ يُنْهَ عَنْهُ. / 62 - فيه: عَائِشَةَ، أَنّ النَّبِىّ عليه السلام سُحِرَ، حَتَّى كَانَ يَرَى أَنَّهُ يَأْتِى النِّسَاءَ، وَلا يَأْتِيهِنَّ - قَالَ سُفْيَانُ: وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ السِّحْرِ إِذَا كَانَ كَذَا - فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، أَعَلِمْتِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِى فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ، أَتَانِى رَجُلانِ، فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِى، وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَىَّ، فَقَالَ الَّذِى عِنْدَ رَأْسِى لِلآخَرِ: مَا بَالُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ، قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ أَعْصَمَ، رَجُلٌ مِنْ بَنِى زُرَيْقٍ، حَلِيفٌ لِيَهُودَ، كَانَ مُنَافِقًا، قَالَ: وَفِيمَ؟ قَالَ: فِى مُشْطٍ وَمُشَاقَةٍ، قَالَ: وَأَيْنَ؟ قَالَ: فِى جُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ، تَحْتَ رَاعُوفَةٍ فِى بِئْرِ ذَرْوَانَ، قَالَتْ: فَأَتَى النَّبِى عليه السلام الْبِئْرَ حَتَّى اسْتَخْرَجَهُ، قَالَ: هَذِهِ(9/443)
الْبِئْرُ الَّتِى أُرِيتُهَا، وَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ، وَكَأَنَّ نَخْلَهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ، قَالَ: فَاسْتُخْرِجَ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: أَفَلا - أَى - تَنَشَّرْتَ، فَقَالَ: (أَمَّا اللَّهُ، فَقَدْ شَفَانِى، وَأَكْرَهُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ شَرًّا) . قال المهلب: وقع فى هذا الحديث فاستخرج السحر، ووقع فى باب السحر (قلت: يا رسول الله، أفلا استخرجت فأمر بها فدفنت) . وهذا اختلاف من الرواة، ومدار الحديث على هشام بن عروة، واصحابه مختلفون فى استخراجه فأثبته سفيان فى روايته من طريقين فى هذا الباب، وأوقف سؤال عائشة النبى عليه السلام عن النشرة ونفى الاستخراج عن عيسى بن يونس وأوقف سؤالها للنبى على الاستخراج ولم يذكر أنه جاوب على الاستخراج بشىء، وحقق أبو أسامة جوابه عليه السلام؛ إذ سألته عائشة عن استخراجه بلا. فكان الاعتبار يعطى أبو سفيان أولى بالقول لتقدمه فى الضبط، وأن الوهم على أبى أسامة فى أنه لم يستخرجه، ويشهد لذلك أنه لم يذكر النشرة فى حديثه فوهم فى أمرها فرد جوابه عليه السلام بلا على الاستخراج فلم يذكر النشرة. وكذلك عيسى بن يونس لم يذكر أنه عليه السلام جاوب على استخراجه بلا ولا ذكر النشرة، والزيادة من سفيان مقبولة؛ لأنه أثبتهم وقوى ثبوت الاستخراج فى حديثه لتكرره فيه مرتين فبعد من الوهم فيما حقق من الاستخراج، وفى ذكره للنشرة فى جوابه عليه السلام مكان الاستخراج. وفيه: وجه آخر يحتمل أن يحكم بالاستخراج لسفيان، ويحكم لأبي(9/444)
أسامة بقوله: لا على أنه استخرج الجف بالمشاقة، ولم يستخرج صورة ما فى الجف من المشط وما ربط به لئلا يراه الناس فيتعلمونه إن أرادوا استعمال السحر فهو عندهم مستخرج من البئر وغير مستخرج من الجف، والله أعلم. واختلف السلف، هل يسأل الساحر عن حل السحر عن المسحور فأجازة سعيد بن المسيب على ماذكره البخارى، وكرهه الحسن البصرى وقال: لايعلم ذلك إلا ساحر ولا يجوز إتيان الساحر. لما روى سفيان، عن أبى إسحاق، عن هبيرة، عن عبد الله بن مسعود قال: (من مشى إلى ساحر أو كاهن فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد - عليه السلام) . قال الطبرى: وليس ذلك عندى سواء؛ وذلك أن مسالة الساحر عقد السحر مسألة منه أن يضر من لا يحل ضرره وذلك حرام، من غير حصر معالجتهم منها على صفة دون صفة فسواء كان المعالج مسلمًا تقيًا أو مشركًا ساحرًا بعد أن يكون الذى يتعالج به غير محرم، وقد أذن النبى 0 عليه السلام - فى التعالج وأمر به أمته فقال: (إن الله لم ينزل داء إلا وأنزل له شفاء، وعلمه من علمه وجهله من جهله) . فسواء كان عليم ذلك وحله عند ساحر أو غير ساحر، وأما معنى نهيه عليه السلام عن إتيان السحرة؛ فإنما ذلك على التصديق لهم فيما يقولون على علم من أتاهم بأنهم سحرة أو كهان، فأما من أتاهم لغير ذلك وهو عالم به وبحاله فليس بمنهى عنه عن إتيانه. واختلفوا فى النشرة أيضًا فذكر عبد الرزاق عن عقيل بن معقل(9/445)
عن همام بن منبه قال: (سئل جابر بن عبد الله عن النشرة فقال: من عمل الشيطان) ، وقال عبد الرزاق: قال الشعبى: لا بأس بالنشرة العربية التى لاتضر إذا وطئت، وهى أن يخرج الإنسان فى موضع عصاه فيأخذ عن يمينه وشماله من كل ثم يدقه ويقرأ فيه ثم يغتسل به. وفى كتب وهب بن منبه أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين ثم يضربه بالماء ويقرأ فيه آية الكرسى وذوات قل، ثم يحسو منه ثلاث حسوات ويغتسل به؛ فإنه يذهب عنه كل ما به إن شاء الله، وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله. وقولها للنبى: (هلا تنشرت) يدل على جواز النشرة كما قال الشعبى، وأنها كانت معروفة عندهم لمداوة السحر وشبهه، ويدل قوله عليه السلام: (أما الله فقد شفانى) وتركه الإنكار على عائشة على جواز استعماله لها لو لم يشفه فلا معنى لقول من أنكر النشرة. وراعوفه البئر وأرعوفتها: حجر يأتى فى أسفلها، ويقال: بل هو على رأس البئر يقوم عليه المستقى.
38 - باب من البيان سحر
/ 63 - فيه: ابْن عُمَر، قَدِمَ رَجُلانِ مِنَ الْمَشْرِقِ، فَخَطَبَا، فَعَجِبَ النَّاسُ لِبَيَانِهِمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا، أَوْ إِنَّ بَعْضَ الْبَيَانِ لَسِحْرٌ) . قال المؤلف: الرجلان اللذان خطبا: عمرو بن الأهتم والزبرقان ابن بدر. روى حماد بن زيد عن محمد بن الزبير قال: (قدم على(9/446)
رسول الله الزبرقان بن بدر وعمر بن الأهتم، فقال رسول الله لعمرو: أخبرنى عن الزبرقان. فقال: هو مطاع فى ناديه، شديد المعارضة، مانع لما وراء ظهره. قال الزبرقان: هو والله يارسول الله يعلم أنى أفضل منه ولكنه حسدنى شرفى فقصرنى. قال عمرو: إنه لزمر المروءة ضيق العطن أحمق الأب، لئيم الخال يارسول الله صدقت فى الأولى وماكذبت فى الأخرى، ولكنى رضيت فقلت أحسن ماعلمت، وسخطت فقلت أسوأ ماعلمت، فقال رسول الله: إن من البيان لسحرًا) ، واختلف العلماء فى تأويله. فقال قوم من أصحاب مالك: إن هذا الحديث خرج على الذم للبيان. وقالوا على هذا يدل مذهب مالك، واستدلوا بإدخاله للحديث فى باب مايكره من الكلام، وقالوا: إن النبى شبه البيان بالسحر، والسحر مذموم محرم قليله وكثيره وذلك لما فى البيان من التفيهق وتصوير الباطل فى صورة الحق. وقد قال رسول الله: (أبغضكم إلىّ الثرثارون المتفيهقون) وقد فسره عامر بنحو هذا المعنى وهو رواه الحديث عن رسول الله، وكذلك فسره صعصعة بن صوحان فقال: أما قوله عليه السلام: (إن من البيان لسحرًا) فالرجل يكون الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق وهو عليه. وقال آخرون: هو كلام خرج على مدح البيان واستدلوا بقوله فى الحديث: (فعجب الناس لبيانها) والإعجاب لايقع إلا بما يحسن(9/447)
ويطيب سماعه، قالوا وتشبيهه بالسحر مدح له؛ لأن معنى السحر الاستمالة، وكل من استمالك فقد سحرك، وكان رسول الله عليه السلام أميز الناس بفضل البلاغة لبلاغته فأعجبه ذلك القول واستحسنه ولذلك شبهه بالسحر، قالوا: وقد تكلم رجل فى حاجة عند عمر ابن عبد العزيز وكان فى قضائها مشقة بكلام رقيق موجز وتأنى لها وتلطف، فقال عمر بن العزيز: هذا السحر الحلال. وكان زيد ابن إياس يقول للشعبى: يا مبطل الحاجات، يعنى أنه يشغل جلساءه بحسن حديثه عن حاجاتهم. وأحسن مايقال فى ذلك أن هذا الحديث ليس بذم للبيان كله ولا بمدح للبيان كله ألا ترى قوله عليه السلام: (إن من البيان لسحرًا) و (من) للتبعيض عند العرب، وقد شك المحدث إن كان قال: إن من البيان أو أن من بعض البيان، وكيف يذم البيان كله، وقد عدد الله به النعمة على عباده فقال: (خلق الإنسان علمه البيان) ولايجوز أن يعدد على عباده إلا مافيه عظيم النعمة عليهم وماينبغى إدامة شكره عليه؟ فإذا ثبت الاحتجاج للشىء الواحد مرة بالفضل ومرة بالنقص وتزيينه مرة وعيبه أخرى؛ ثبت أن ما جاء من البيان مزينًا للحق ومبينًا له فهو ممدوح وهو الذى قال فيه عمر بن عبد العزيز: هذا السحر الحلال. ومعنى ذلك أنه يعمل فى استمالة النفوس مايعمل السحر من استهوائها، فهو سحر على معنى التشبيه لا أنه السحر الذذى هو الباطل الحرام، والله أعلم.(9/448)
39 - باب: الدواء بالعجوة
/ 64 - فيه: سَعْد، قال النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (مَنِ اصْطَبَحَ كُلَّ يَوْمٍ بِسبع تَمَرَاتٍ عَجْوَةً، لَمْ يَضُرُّهُ سُمٌّ وَلا سِحْرٌ، ذَلِكَ الْيَوْمَ إِلَى اللَّيْلِ) . وروى ابن نمير عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة (أنها كانت تأمر من الدواء بسبع تمرات عجوة فى سبع غدوات على الريق) .
40 - باب: لا هامة ولا صفر
/ 65 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قال النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (لا عَدْوَى، وَلا هَامَةَ، وَلا صَفَرَ) ، قَالَ أَعْرَابِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا بَالُ الإبِلِ، تَكُونُ فِى الرَّمْلِ كَأَنَّهَا الظِّبَاءُ، فَيُخَالِطُهَا الْبَعِيرُ الأجْرَبُ، فَيُجْرِبُهَا؟ فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (فَمَنْ أَعْدَى الأوَّلَ؟) . وَعَنْ أَبِى سَلَمَةَ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (لا يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ) . وأنكر أبو هريرة الحديث الأول، قلنا: ألم تحدثنا به أنه لاعدوى؟ فرطن بالحبشية. قال أبو سلمة: فما رأيته نسى حدينا غيره. وترجم له باب لاعدوى وقد تقدم تفسير لوله: (لا هامة ولا صفر) فى باب قوله لاصفر قبل هذا وزعم بعض أهل البدع أن قوله عليه السلام: (لا عدوى) يعارض قوله: (لا يوردن ممرض على مصح) كما يعارض قوله: (فر من(9/449)
المجذوم كفرارك من الأسد) وقد تقدم فى باب الجذام وجه الجمع بين قوله: (فر من المجذوم) ، وبين قوله: (لا عدوى) وتقدم فى باب قوله لاصفر بعض ذلك، ونتكلم هاهنا على قوله: (لا عدوى) إعلام منه أمته ألا يكون لذلك حقيقة وقوله: (لا يوردن ممرض على مصح) نهى منه الممرض أن يورد ماشيته المرضى على ماشية أخيه الصحيحة لئلا يتوهم المصح إن مرضت ماشيته الصحيحة أن مرضها حدث من أجل ورود المرضى عليها فيكون داخلا بتوهمه ذلك فى تصحيح ماقد أبطله النبى عليه السلام من أمر العدوى. والممرض: ذو الماشية المريضة، والمصح: ذو الماشية الصحيحة، وقد تأول يحيى بن يحيى الأندلوسى فى قوله: (لا يحل الممرض على المصح) تأويلاً آخر، قال: لا يحل من أصابه جذام محله الأصحاء فيؤذيهم برائحته وإن كان لا يعدو، والأنفس تكره ذلك. قال: وكذلك الرجل يكون به المرض لا ينبغى له أن يحل مورده الصحاء إلا أن لايجد عنها غناء فيرد. قلت: فالقوم يكونون شركاء فى القرية ويريدون منعهم من ذلك، قال يحيى: إن كانوا يجدون من ذلك الماء غناء بماء غيره يستقون منه من غير ضرر بهم أو يقومون على حفر بئر أو جرى عين فأرى أن يؤمروا بذلك، وإن كانوا لايجدون من ذلك غناء إلا بما يضرهم، قيل لمن تأذى بهم: استنبط لهم بئرًا أو أجر لهم عينا أو أؤمر من يستقى من البعد وإلا فكل ذي(9/450)
حق أولى بحقه، وأعظم الضرر أن يمنع أحد ملكه بغير عوض، وقد تقدم فى باب الجذام فاطلبه هناك. والرطانة: التكلم بالعجمية وقد تراطنا.
41 - باب: ما يذكر فى سم النبى عليه السلام
رواه عروة عن عائشة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) . / 66 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ إلى النَّبِىّ عليه السلام شَاةٌ فِيهَا سَمٌّ، فَقَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (اجْمَعُوا لِى مَنْ كَانَ هَاهُنَا مِنَ الْيَهُودِ) ، فَجُمِعُوا لَهُ، فَقَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنِّى سَائِلُكُمْ عَنْ شَىْءٍ، فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِى عَنْهُ) ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَقَالَ لَهُمْ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ أَبُوكُمْ) ؟ قَالُوا: أَبُونَا فُلانٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (كَذَبْتُمْ، بَلْ أَبُوكُمْ فُلانٌ) ؟ فَقَالُوا: صَدَقْتَ، وَبَرِرْتَ، فَقَالَ: هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِىَّ عَنْ شَىْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَإِنْ كَذَبْنَاكَ عَرَفْتَ كَذِبَنَا كَمَا عَرَفْتَهُ فِى أَبِينَا، قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ أَهْلُ النَّارِ) ؟ فَقَالُوا: نَكُونُ فِيهَا يَسِيرًا، ثُمَّ تَخْلُفُونَنَا فِيهَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (اخْسَئُوا فِيهَا، وَاللَّهِ لا نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَدًا) ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: (فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِى عَنْ شَىْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ) ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَقَالَ: (هَلْ جَعَلْتُمْ فِى هَذِهِ الشَّاةِ سَمًّا) ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، فَقَالَ: (مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ) ؟ فَقَالُوا: أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَذَّابًا نَسْتَرِيحُ مِنْكَ، وَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ.(9/451)
لا أعلم خلافًا فيمن سم طعامًا أو شرابًا لرجل فلم يمت به أنه لاقصاص عليه ولاحد، وفيه العقوبة الشديدة والأدب البالغ قدر ما يراه الإمام فى ذلك، فإن قيل: كيف وجب فيه العقوبة والنبى لم يعاقب من وضع له السم فيها؟ قيل: كان النبى (ص) لاينتقم لنفسه ما لم تنتهك لله حرمة، وكان يصبر على أذى المنافقين واليهود، وقد سحره لبيد بن الأعصم وناله من ضرر السحر مالم ينله من ضرر السم فى الشاة ولم يعاقب الذى سحره؛ لأن الله تعالى كان قد ضمن لنبيه عليه السلام أنه لايناله مكروه وأن لايموت حتى يبلغ دينه ويصدع بتأدية شريعته، وكان معصوما من ضرر الأعداء قال الله تعالى: (والله يعصمك من الناس (وغيره من الناس بخلافه فهذا الفرق بينه وبين غيره (صلى الله عليه وسلم) . واختلفوا فيمن سم طعامًا أو شرابًا لرجل فمات منه، فذكر ابن المنذر عن الكوفيين: إذا سقاه سمًا أو جربه به فقتله فلا قصاص عليه وعلى عاقلته الدية، وقال مالك: إذا استكرهه فسقاه سمًا فقتله فعليه القود. قال الكوفيون: ولو أعطاه إياه فشربه هو لم يكن عليه فيه شىء ولا على عاقلته من قبل أنه هو شربه. وقال الشافعى: إذا جعل السم فى طعام رجل أو شربه فأطعمه أو سقاه غير مكروه له ففيها قولان: أحدهما أن عليه القود، وهذا اشبههما والثانى: أن لاقود عليه وهو آثم لأن الآخر شربه وإن خلطه فوضعه فأكله الرجل فلا عقل ولاقود ولاكفارة، وقيل: يضمن.(9/452)
وفى حديث أبى هريرة الدليل الواضح على صحة نبوة نبينا عليه السلام من وجه منها: إخباره عن الغيب الذى لايعلمه إلا من أعلمه الله بذلك، وذلك معرفته بأبيهم وبالسم الذى وضوعا له فى الشاة ومنها تصديق اليهود له حين أخبرهم بأبيهم، ومنها: قول اليهود له: إن كنت نبيًا لم يضرك، فرأوا أنه لم يقتله السم وتمادوا فى غيهم، ولم يؤمنوا بما رأوا من برهانه عليه السلام فى السم وفى إخباره عن الغيب، وهذا الحديث يشهد بمباهة اليهود وعنادهم للحق، كما قال عبد الله بن سلام: اليهود قوم بهت.
42 - باب شرب السم والدواء به ومايخاف منه والخبيث
/ 67 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ، فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَهُوَ فِى نَارِ جَهَنَّمَ، يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا، فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَسُمُّهُ فِى يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِى نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ، فَحَدِيدَتُهُ فِى يَدِهِ، يَجَأُ بِهَا فِى بَطْنِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا) . / 68 - وفيه: سَعْد، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنِ اصْطَبَحَ بِسَبْعِ تَمَرَاتِ عَجْوَةٍ، لَمْ يَضُرُّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ سَمٌّ وَلا سِحْرٌ) . قال المؤلف: هذا الحديث يشهد لصحة نهى الله تعالى فى كتابه المؤمن عن قتل نفسه فقال تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا ومن يفعل ذلك) الآية، فأما من شرب سمًا للتداوى ولم يقصد به قتل نفسه وشرب منه مقدرًا مثله، أو خلطه بغيره مما يكسر(9/453)
ضره فليس بداخل فى الوعيد؛ لأنه لم يقتل نفسه غير أنه يكره له ذلك لما روى الترمذى قال: حدثنا بن نصر، حدثنا ابن المبارك، عن يونس بن أبى إسحاق، عن مجاهد، عن أبى هريرة قال: (نهى النبى عن الدواء الخبيث) . قال أبو عيسى: يعنى: السم. وقد تعلق بقوله: (خالدًا مخلدًا) فى حديث أبى هريرة من أنفذ الوعيد على القاتل وهو قول روى عن قوم من الصحابة قد ذكرناهم فى أول كتاب الديات وجمهور التابعين وجماعة الفقهاء على خلافه، ولا يجوز عندهم إنفاذ الوعيد على القاتل وأنه فى مشيئة الله تعالى لحديث عباده بن الصامت على ماتقدم فى كتاب الديات. فإن قيل ظاهر حديث أبى هريرة يدل على أن قاتل نفسه مخلدًا فى النار أبدًا، قيل: هذا قول تقلده الخوارج وهو مرغوب عنه، ومن حجة الجماعة أن لفظ التأبيد فى كلام العرب لا يدل على ما توهتموه، وقد يقع البد على المدة من الزمان التى قضى الله تعالى فيها بتخليد القاتل إن أنفذ عليه الوعيد، وذلك أن العرب تجمع الأبد على آباد كما تجمع على دهور فإذا كان الأبد عندها واحد الآباد لايدل الأبد على ماقالوه، ويدل على صحة هذا إجماع المؤمنين كلهم غير الخوارج على أنه يخرج من النار من كان فى قلبه مثقال ذرة من إيمان وأنه لايخلد فى النار بالتوحيد مع الكفار، فسقط قولهم. وقوله: (يجأ بها فى بطنه) قال صاحب الأفعال: وجأت البعير طعنت منخره، ووجأة وجئًا: طعنه مثل وجأه، والأصل فى المستقبل يوجأ.(9/454)
43 - باب ألبان الأتن
/ 69 - فيه: أَبُو ثَعْلَبَة، نَهَى النَّبِى عليه السلام عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِى نَابٍ مِنَ السَّبُعِ. وَزَادَ اللَّيْثُ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: وَسَأَلْتُهُ هَلْ نَتَوَضَّأُ، أَوْ نَشْرَبُ أَلْبَانَ الأتُنِ، أَوْ مَرَارَةَ السَّبُعِ، أَوْ أَبْوَالَ الإبِلِ، قَالَ: قَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَتَدَاوَوْنَ بِهَا، فَلا يَرَوْنَ بِذَلِكَ بَأْسًا، فَأَمَّا أَلْبَانُ الأتُنِ، فَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) نَهَى عَنْ لُحُومِهَا، وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أَلْبَانِهَا أَمْرٌ وَلا نَهْيٌ، وَأَمَّا مَرَارَةُ السَّبُعِ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِى أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلانِىُّ أَنَّ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِىَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِى نَابٍ مِنَ السَّبُعِ. قال المؤلف: أما قول ابن شهاب قد كان المسلمون يتداوون بها فلا يرون بذلك باسًا، فإنه اراد أبوال الإبل فإن النبى عليه السلام أباح للعرنيين شربها والتداوى بها. وقوله فى أبان الأتن أن النبى عليه السلام نهى عن لحومها ولم يبلغنا عن البانها أمر ولا نهى، فما نهى عن لحمه فلبنه منهى عنه؛ لأن اللبن متولد من اللحم، ألا ترى أنه استدل ابن شهاب على النهى عن مرارة السبع بنهيه عليه السلام عن أكل ذى ناب من السباع، فكذلك ألبان الأتن. وقد سئل مالك عن ألبان الأتن فقال: لاخير فيها.
44 - باب: إذا وقع الذباب فى إناء
/ 70 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِى إِنَاءِ أَحَدِكُمْ، فَلْيَغْمِسْهُ كُلَّهُ، ثُمَّ لِيَطْرَحْهُ، فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ شِفَاءً، وَفِي الآخَرِ دَاءً) .(9/455)
قال المؤلف: هذا الحديث يتأول على وجهين أحدهما: حمله على ظاهرة وهو أن يكون فى أحد جناحيه داء وفى الآخر دواء كما قال عليه السلام، فيذهب الداء بغمسه ويحدث مع الغمس دواء الداء الذى فى الجناح الواقع أولا، وقد جاء فى بعض طرق هذا الحديث وأنه يقدم الداء. والوجه الآخر: أن يكون الداء مايحدث فى نفس الآكل من التفرز والتقدر للطعام إذا وقع فيه الذباب، والدواء الذى فى الجناح الآخر رفع التفرز والتكبر بغمسه كله فى الطعام وقله المبالاة بوقعه فيه؛ لأن الذباب لانفس لها سائله وليس فيه يخشى منه إفساد الطعام فلا معنى لتقذره، والله أعلم بما أراد النبي عليه السلام من ذلك.(9/456)
70 - كتاب الأطعمة
وقول الله تعالى: (كلوا من طيبات مارزقناكم (وقوله (أنفقوا من طيبات ما كسبتم (وقوله: (كلوا من الطيبات واعملوا صالحًا (/ 1 - فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ عليه السَّلام: (أَطْعِمُوا الْجَائِعَ. . .) الحديث. / 2 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: (مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ طَعَامٍ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى قُبِضَ) . / 3 - وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَصَابَنِى جَهْدٌ شَدِيدٌ، فَلَقِيتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَاسْتَقْرَأْتُهُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَدَخَلَ دَارَهُ، وَفَتَحَهَا عَلَى فَمَشَيْتُ غَيْرَ بَعِيدٍ، فَخَرَرْتُ لِوَجْهِى مِنَ الْجَهْدِ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَائِمٌ عَلَى رَأْسِى، قَالَ: (يَا أَبَا هُرَيْرَةَ) ، فَقُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وسَعْدَيْكَ، فَأَخَذَ بِيَدِى فَأَقَامَنِى وَعَرَفَ الَّذِى بِى، فَانْطَلَقَ بِى إِلَى رَحْلِهِ، فَأَمَرَ لِى بِعُسٍّ مِنْ لَبَنٍ، فَشَرِبْتُ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: (عُدْ يَا أَبَا هُرَيَرْةَ) ، فَعُدْتُ فَشَرِبْتُ، ثُمَّ قَالَ: (عُدْ) ، فَعُدْتُ فَشَرِبْتُ، حَتَّى اسْتَوَى بَطْنِى، فَصَارَ كَالْقِدْحِ، قَالَ: فَلَقِيتُ عُمَرَ، وَذَكَرْتُ لَهُ الَّذِى كَانَ مِنْ أَمْرِى، وَقُلْتُ لَهُ: فَوَلَّى اللَّهُ ذَلِكَ مَنْ كَانَ أَحَقَّ بِهِ مِنْكَ يَا عُمَرُ، وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَقْرَأْتُكَ الآيَةَ، وَلأنَا أَقْرَأُ لَهَا مِنْكَ، قَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ لأنْ أَكُونَ أَدْخَلْتُكَ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي مِثْلُ حُمْرِ النَّعَمِ.(9/457)
قال المؤلف: وقع فى النسخ كلها قوله تعالى: (كلوا من طيبات ماكسبتم) ، وهو وهم من الكاتب وصواب الآيه ماذكره الله تعالى فى سورة البقرة: (ياأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ماكسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض) واختلف أهل التأويل فى معى الآية على قولين، فقالت طائفة: المراد بالطيبات الحلال. وقالت طائفة: المراد بها جيد الطعام وطيبه، وقال البراء بن عازب: كانوا يتصدقون بأردأ ثمرهم وطعامهم فنزلت الاية. وقوله: (كلوا من الطيبات واعملوا صالحا (تأويلها كتأويل الآية المتقدمة ولم يختلف أهل التأويل فى قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لاتحرموا طيبات ماأحل الله لكم (أنها نزلت فيمن خرم على نفسه لذيذ الطعام واللذات المباحة، قال عكرمة: إنها نزلت فى عثمان بن مظعون وأصحابه حين هموا بترك النساء واللحم والخصاء وأرادوا التخلى من الدنيا والترهب، منهم على بن أبى طالب وعثمان ابن مظعون، وقد تقدم فى كتاب النكاح فى باب مايكره من التبتل والخصاء، وفى حديث أبى موسى الأمر بالمواساة وإطعام الجائع وذلك من فروض الكفاية قال الداودى: إلا أن يحتاج الرجل ولايجد مايقيمه يأخذ ذلك منه كرهًا وأن يختفى به إن لم يقدر عليه إلا بذلك، ومنه إعطاء السائل إن صادف شيئًا موضوعًا كان حقًا على المسئول أن يقبله منه، وإن لم يجد شيئًا حاضرًا وعلم المسئول أن ليس له شىء يقيمه وجب عليه أن يغنيه وإن لم يعلم حاله فليقل له قولا سديدًا، وقد تقدم فى باب فكاك الأسير في الجهاد.(9/458)
وفي حديث أبي هريرة إباحة الشبع عند الجوع لقوله: (فشربت حتى استوى بطنى فصار كالقدح) يعنى كالسهم يعنى فى استوائه؛ لأنه لما روى من اللبن استقام بطنه وصار كأنه سهم لأنه كان بالجوع ملتصقًا منثنيًا. وفيه: ماكان السلف عليه من الصبر من التقلل وشظف العيش والرضا ياليسير من الدنيا، ألا ترى أن أبا هريرة لم يكن له هم إلا سد عمر جوعته فقط فلما سقاه النبى حتى روى أقنعه ذلك ولم يطلب سواه، ودل ذلك على إيثارهم للبلغة من الدنيا وطلبهم للكفاية، ألا ترى قول أبى هريرة: (ما شبع آل محمد من طعام ثلاثًا حتى قبض) وسيأتى معنى هذا الحديث والآحاديث المعارضة له فى باب ماكان النبى عليه السلام وأصحابه يأكلون، إن شاء الله. وفيه: سد الرجل خله أخيه المؤمن إذا علم منه حاجة من غير أن يسأله ذلك. وفيه أنه كان من عادتهم إذا استقر أحدهم صاحبه القرآن أن يحمله إلى بيته ويطعمه ماتيسر عنده، والله أعلم لم لم يحمل عمر أبا هريرة حين استقرأه أبو هريرة ألشغل كان به أو لأنه لم يتيسر له حيئذ مايطعمه. وقد روى عن أبى هريرة أنه قال: والله مااستقرأت عمر الآية، وأنا أقأ بها منه إلا طعمًا فى أن يذهب بى ويطعمنى. وفيه: الحرص على أفعال البر لتأسف عمر على مافاته من حمل أبى هريرة إلى بيته وإطعامة؛ إذ كان محتاجًا إلى الأكل، وأن ذلك كان أحب اليه من حمر النعم.(9/459)
- باب التسمية على الطعام
/ 4 - فيه: عُمَرَ بْنَ أَبِى سَلَمَةَ، يَقُولُ: كُنْتُ غُلامًا فِى حَجْرِ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَكَانَتْ يَدِى تَطِيشُ فِى الصَّحْفَةِ، فَقَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (يَا غُلامُ، سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ) ، فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِى بَعْدُ. وترجم له باب: الأكل ممايليه، قال أنس: قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (وليأكل كل رجل مما يليه) وقال عمر بن أبى سلمه: (كنت آكل يومًا مع النبى عليه السلام من نواحى الصحفة) . التسمية على الطعام سنة مؤكدة؛ لقوله عليه السلام: (يا غلام، سم الله، فإن نسى أن يسمى الله فى أول طعامه فليسم الله فى آخره - أو متى ذكر - وليقل: بسم الله أولا وآخر) ، وروى ذلك فى الحديث. وفيه أن الأكل ممايليه من أدب الطعام إلا أن يكون الطعام ألوانًا مختلفة فلا بأس من أيها شاء؛ لقول النبى عليه السلام لعكراش لما أتو بطبق من تمر أو رطب: (كل من حيث شئت؛ فإنه غير لون واحد) ذكره ابن المنذر فى كتاب الأطعمة وذكره الترمذيفى مصنفه وقال: لايعرف لعكراش عن النبى عليه السلام غير هذا الحديث. وفيه أن السنة الأكل ياليمين، وقد نهى عليه السلام أن يأكل الرجل بشماله أو يشرب بشماله، وقال: (إن الشيطان يفعل ذلك) ، ورواه مالك، وعبيد الله، وابن عيينة، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام ولم يخرجه البخارى؛ لأنه قد رواه معمر وعقيل عن الزهرى، عن سالم، عن ابن عمر ورواية مالك أصح، قال الترمذي.(9/460)
وذكره الطبري من حديث ابن عمر عن أبيه عن النبى عليه السلام فالله أعلم لم لم يخرجه البخارى. قال الطبرى: فى هذا الحديث لايجوز الأكل والشرب باليد اليسرى إلا لمن كانت بيمين عله مانعة من استعمالها ومثله الأخذ والإعطاء بها والرفع والوضع والبطش. فإن قال قائل: (شهدت عليًا شوررا له كبد أضحية فأخذ رغيفًا بيده والكبد بالأخرى فأكل) قلنا: هذا غير دافع حقيقة ما قلناه، وذلك أن هذا الخبر إنما يدل أنه استعمل اليسرى فى وقت شغل اليمنى بالطعام، وإذا كانت كذلك فصاحبها معذور فى إعماله الأخرى فيما هو محظور عليه إعمالها فيه فى غير حال العذر كما لو كانت مقطوعة لكان له استعمال اليسرى فى مطعمه ومشربه، وماكان محظورًا عليه استعمالها فيه، وبنحو ماقلناه جاء الخبر عن عمر حدثنا سوار بن عبد الله، أخربنا يحى بن سعيد، عنعمارة بن مطرف، حدثنى يزيد بن أبى مريم، عن أبيه قال: (رأى عمر رجلا قد صوب يده اليسرى ليأكل بها، فقال: لا إلا أن تكون يدك معتلة) فرأى عمر أن لمن كانت يده معتلة أن يأكل بيسراه مثل ما لو كانت يمناه بائنة. فإن قيل: فهل روى عن أحد من السلف كراهية الأخذ والإعطاء باليسرى؟ قيل: روى ذلك نافع مولى ابن عمر، وعن عطاء قالا لاتأكل بشمالك ولاتصدق بها. قال المؤلف: روى ابن وهب، عن عمر بن محمد بن زيد قال: كان نافع يزيد فيها: (ولا تأخذن بها ولاتعطين - يعني: الشمال) .(9/461)
روى ابن وهب، عن جرير بن حازم، عن هشام بن أبى عبد الله عن يحى بن أبى كثير، عن عبد الله بن أبى قتادة، عن أبيه (أن رسول الله نهى أن يعطى الرجل بشماله شيئًا أو يأخذ شيئًا) .
باب: من تتبع حوالي القصعة مع صاحبه إذا لم يعرف منه كراهية
فيه: أنس: أن خياطاً دعا النبي - عليه السلام - لطعام صنعه، قال أنس: فذهبت مع رسول الله [فرأيته] يتبع الدباء من حوَالَي القصعة فلم أزل أحب الدباء من يومئذ. هذا الحديث يفسر قوله عليه السلام في حديث عمر بن أبي سلمة: كل مما يليك ويدل عل أن المراد بذلك إذا كان يأكل مع غير عياله ومن يتقذر جولان يده في الطعام، فأما إذا أكل مع أهله ومن لا مؤنة عليه منهم من خالص إخوانه فلا بأس أن تجول يده في الطعام استدلالا بهذا الحديث، وإنما جالت يده عليه السلام في الطعام؛ لأنه علم أن أحداً لا يتكره ذلك ولا يتقززه منه؛ بل كل مؤمن ينبغي له أن يتبرك بريقه وما مسَّه بيده، ألا ترى أنهم كانوا يتبادرون إلى نخامته فيتدلكون بها، فكذلك من لم تتقزز مؤاكلته [له] أن تجول يده في الصفحة، والله أعلم.
وقول أنس: فلم أزل أحب الدباء من يومئذ فيه الحرص على التشبه بالصالحين والاقتداء بأهل الخير في مطاعمهم، واقتفاء آثارهم في جميع أحوالهم تبركاً بذلك.(9/462)
باب: التيمن في الأكل وغيره
فيه: عائشة: كان النبي - عليه السلام - يحب التيمن ما استطاع في طهوره وتنعله وترجله وكان قال بواسط قبل هذا: في شأنه كله. معنى قول باب التيمن في الأكل وغيره يعني [باليد] اليمنى في جميع أفعاله، وكذلك في مناولة الأكل والشرب ومناولة سائر الأشياء من على اليمين وهو قول الفقهاء وقد تقدّم في كتاب الأشربة.
5 - باب من أكل حتى شبع
/ 7 - فيه: أَنَس، قَالَ أَبُو طَلْحَةَ لأمِّ سُلَيْمٍ: لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ضَعِيفًا أَعْرِفُ فِيهِ الْجُوعَ، فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَىْءٍ؟ فَأَخْرَجَتْ أَقْرَاصًا مِنْ شَعِيرٍ، ثُمَّ أَخْرَجَتْ خِمَارًا لَهَا، فَلَفَّتِ الْخُبْزَ بِبَعْضِهِ، ثُمَّ دَسَّتْهُ تَحْتَ ثَوْبِى، وَرَدَّتْنِى بِبَعْضِهِ، ثُمَّ أَرْسَلَتْنِى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: فَذَهَبْتُ بِهِ، فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام فِى الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ النَّاسُ، فَقُمْتُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ، لِى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : أَرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: بِطَعَامٍ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام لِمَنْ مَعَهُ: قُومُوا، فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ حَتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ، قَدْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، بِالنَّاسِ وَلَيْسَ عِنْدَنَا مِنَ الطَّعَامِ مَا نُطْعِمُهُمْ، فَقَالَتِ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَانْطَلَقَ أَبُو طَلْحَةَ حَتَّى لَقِى رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَقْبَلَ أَبُو طَلْحَةَ وَرَسُولُ اللَّهِ عليه السلام حَتَّى دَخَلا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : هَلُمِّى يَا أُمَّ سُلَيْمٍ، مَا عِنْدَكِ؟ فَأَتَتْ بِذَلِكَ الْخُبْزِ، فَأَمَرَ بِهِ فَفُتَّ وَعَصَرَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً لَهَا، فَأَدَمَتْهُ، ثُمَّ قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ،(9/463)
فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ أَذِنَ لِعَشَرَةٍ، فَأَكَلَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ، وَشَبِعُوا وَالْقَوْمُ ثَمَانُونَ رَجُلا. / 8 - وفيه: عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، ثَلاثِينَ وَمِائَةً، فَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (هَلْ مَعَ أَحَدٍ مِنْكُمْ طَعَامٌ) ؟ قَلنا: مَعَ رَجُلٍ صَاعٌ مِنْ طَعَامٍ - أَوْ نَحْوُهُ - فَعُجِنَ ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ مُشْعَانٌّ طَوِيلٌ بِغَنَمٍ يَسُوقُهَا، فَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (أَبَيْعٌ أَمْ عَطِيَّةٌ) ؟ - أَوْ قَالَ: هِبَةٌ - قَالَ: لا، بَلْ بَيْعٌ، قَالَ: فَاشْتَرَى مِنْهُ شَاةً، فَصُنِعَتْ فَأَمَرَ النَّبِىّ عليه السلام بِسَوَادِ الْبَطْنِ يُشْوَى، وَايْمُ اللَّهِ مَا فِى الثَّلاثِينَ وَمِائَةٍ، إِلا قَدْ حَزَّ لَهُ حُزَّةً مِنْ سَوَادِ بَطْنِهَا، إِنْ كَانَ شَاهِدًا أَعْطَاهَا إِيَّاهُ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا خَبَأَهَا لَهُ، ثُمَّ جَعَلَ فِيهَا قَصْعَتَيْنِ، فَأَكَلْنَا أَجْمَعُونَ، وَشَبِعْنَا وَفَضَلَ فِى الْقَصْعَتَيْنِ، فَحَمَلْتُهُ عَلَى الْبَعِيرِ - أَوْ كَمَا قَالَ -. / 9 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالت: تُوُفِّي النَّبِي عليه السلام حِينَ شَبِعْنَا مِنَ الأسْوَدَيْنِ الْمَاءِ وَالتَّمْرِ.
قوله: (لقد سمعت صوت رسول الله ضعيفًا أعرف فيه الجوع فيه أن الأنبياء تزوى عنهم الدنيا حتى يدركهم الم الجوع ابتلاءًا واختبارًا) وقد خير رسول الله بين أن يكون نبيًا عبدًا أو نبيًا ملكًا، فأختيار أن يكون نبيًا عبدًا، وعرضت عليه الدنيا فردها واختار ماعند الله لتتأسى به أمته فى ذلك ويمتثلون زهيده فى الدنيا. وفيه سد الرجل خله إذا علم منه حاجة، نزلت به من حيث لا يسأله ذلك، وهذا من مكارم الأخلاق، وعليم النبى من أبى طلحة(9/464)
أنه يسره ميسرة مع أصحابه، ولذلك تلقاه أبو طلحة مسرورًا به وبأصحابه وليس العمل على هذا؛ من أجل أنه لايحتملة كل الناس ولذلك قال مالك: أنه من دعى إلى طعام وليمة أو غيرها فلا ينبغى أن يحمل معه غيره إذ لايدرى هل يسر بذلك صاحب الوليمة أم لا، إلا أن يقال له: ادع من لقيت، فمباح له ذلك حينئذ. وفيه الخروج إلى الطريق للضيف والزائر إكرامًا له وبرًا به، وفى قوله: (لقد سمعت صوت رسول الله ضعيفًا أعرف فيه الجوع) دليل على جواز الشهادة على الصوت. وفيه أنه لا حرج على الصديق أن يأمر فى دار صديقه بما شاء مما يعلم أنه يسره به، ألا ترى أن اشترط عليهم أن يفتوا الخبز، وقال لأم سليم: هات ماعندك. وفيه بركة الثريد. وفيه جواز الأكل حتى يشبع الإنسان وأن الشبع مباح، وكذلك حديث عبد الرحمن بن أبى بكر وحديث عائشة جواز الشبع أيضًا وإن كان ترك الشبع فى بعض الأحايين افضل وقد وردت فى ذلك آثار عن سلمان وأبى جحيفة أن النبى عليه السلام قال: (إن أكثر الناس شبعًا فى الدنيا أطولهم جوعًا فى الآخرة) . قال الطبرى: غير أن الشبع وإن كان مباحًا فإن له حدًا ينتهى إليه ومازاد على ذلك فهو سرف، فالمطلق منه ماأعان الآكل على طاعة ربه ولم يشغله ثقله عن أداء واجب عليه، وذلك دونما أثقل المعدة وثبط آكله عن خدمة ربه والأخذ بحظه من نوافل الخير، فالحق لله على عبده المؤمن أن لايتعدى فى مطعمه ومشربه ماسد الجوع وكسر الظمأ.(9/465)
فإن تعدى فى ذلك إلى مافوقه مما يمنعه القيام بالواجب عليه لله كان قد أسرف فى مطعمه ومشربه، وبنحو هذا ورد الخبر عن النبي عليه السلام روى ابن وهب، عن ماضى بن محمد، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله: (إذا سددت كلب الجوع برغيف وكوز من الماء القراح فعلى الدنيا الدمار) وروى أبو داود عن حريثبن السائب قال: حدثنا الحسن، حدثنا حمران بن أبان، عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله عليه السلام (كل شىء فضل عن ظل بيت وجلف الخبز - يعنى: كسر الخبز - وثوب يستره فضل ليس لابن آدم منه حق) فأخبر عليه السلام أن لابن آدم من الطعام ماسد به كلب جوعه، ومن الماء ما قطع ظمأه، ومن اللباس ماستر عورته، ومن المساكن ماأظله وكنه من حر وقر، وأن لاحق له فيما عدا ذلك فالمتجاوز من ذلك ما حده رسول الله خاطب على نفسه، متحمل ثقل وباله، ولو لم يكتسب المقل من الأكل إلا التخفيف من بدنه من كظ المعدة ونتن التخمة لكان حريًا به تحرى ذلك لها طلب الترويح عنها، فكيف والإكثار منه الداء العضال، وبه كان يتعاير أهل الجاهلية والإسلام، وفى حديث أنس وعبد الرحمن ابن أبى بكر علامات النبوة؛ لأنه أكل من الطعام اليسير العدد الكثير حتى شبعوا ببركة النبي - عليه السلام.(9/466)
باب: (ليس على الأمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج (الآية
والنهد والاجتماع فى الطعام / 10 - فيه: سُوَيْدُ بْنُ النُّعْمَانِ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام إِلَى خَيْبَرَ، فَلَمَّا كُنَّا بِالصَّهْبَاءِ - قَالَ يَحْيَى وَهِى مِنْ خَيْبَرَ عَلَى رَوْحَةٍ - دَعَا رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام بِطَعَامٍ، فَمَا أُتِى إِلا بِسَوِيقٍ فَلُكْنَاهُ، فَأَكَلْنَا مِنْهُ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا فَصَلَّى، بِنَا الْمَغْرِبَ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. قَالَ سُفْيَانُ: سَمِعْتُهُ مِنْهُ عَوْدًا وَبَدْءًا. وترجم له باب السويق. إن قال قائل: مامعنى ذكره حديث سويد بن النعمان فى هذه الترجمة قال المهلب: فالمعنى الجامع بينهما هو فأباح لهم الأكل مجتمعين ومفترقين من بيت ملكوا مفاتحة بائتمان أو قرابة أو صداقة وذلك أكل بغير مساواة. وذكر الكبى فى قوله تعالى: (ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعًا أو أشتاتًا) قال: كانوا إذا اجتمعوا ليأكلوا عزل الأعمى على حدة والأعرج على حدة والمريض على حدة لتقصير أصحاب هذه الآفات عن أكل الاصحاء، وكانوا يتحرجون أن يتفضلوا عليهم فنزلت هذه الآية رخصت لهم فى الأكل جميعًا. وقال عطاء بن يزيد: كان الأعمى يتحرج أن يأكل طعام غيره لجعله يده فى غير موضعها، وكان الأعرج يتحرج ذلك لاتساعه فى موضع الأكل والمريض لرائحته فأباح الله تعالى لهم الأكل مع غيرهم، ومعنى الآية كمعنى حديث سويد بن النعمان سواء، ألا ترى أن النبي (صلى الله عليه وسلم)(9/467)
حين أملقوا فى السفر جعل أيديهم جميعًا فيما بقى من الأزواد سواء، ولايمكن أن يكون أكلهم بالسواد أصلا لاختلاف أحوالهم فى الأكل، وقد سوغهم النبي ذلك من الزيادة والنقصان فصار ذلك سنة فى الجماعات التى تدعى إلى الطعام فى النهد والولائم والإملاق فى السفر وماملكت مفاتحة بأمة أو قرابه أو صداقة، فلك أن تأكل مع القريب أو الصديق ووحدك، وقد تقدم تفسير النهد فى أول كتاب الشركة.
7 - باب: الخبز المرقق والأكل على الخوان والسفرة
/ 11 - فيه: قَتَادَةَ، كُنَّا عِنْدَ أَنَسٍ وَعِنْدَهُ خَبَّازٌ لَهُ، فَقَالَ: مَا أَكَلَ النَّبِىُّ عليه السلام خُبْزًا مُرَقَّقًا وَلا شَاةً مَسْمُوطَةً حَتَّى لَقِىَ اللَّهَ تَعَالَى. / 12 - وَقَالَ أَنَس مرة: مَا عَلِمْتُ النَّبِى عليه السلام أَكَلَ عَلَى سُكْرُجَةٍ قَطُّ، وَلا خُبِزَ لَهُ مُرَقَّقٌ قَطُّ، وَلا أَكَلَ عَلَى خِوَانٍ قَطُّ، قِيلَ لِقَتَادَة: فَعَلامَ كَانُوا يَأْكُلُونَ؟ قَالَ: عَلَى السُّفَرِ. / 13 - وفيه: أَنَس، قَامَ النَّبِى عليه السلام يَبْنِى بِصَفِيَّةَ، فَدَعَوْتُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى وَلِيمَتِهِ، أَمَرَ بِالأنْطَاعِ فَبُسِطَتْ، فَأُلْقِى عَلَيْهَا التَّمْرُ وَالأقِطُ وَالسَّمْنُ. / 14 - وَقَالَ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ: كَانَ أَهْلُ الشَّأْمِ يُعَيِّرُونَ ابْنَ الزُّبَيْرِ، يَقُولُونَ: يَا ابْنَ ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ، فَقَالَتْ لَهُ أَسْمَاءُ: يَا بُنَىَّ، إِنَّهُمْ يُعَيِّرُونَكَ بِالنِّطَاقَيْنِ، هَلْ تَدْرِى مَا كَانَ النِّطَاقَانِ؟ إِنَّمَا كَانَ نِطَاقِى شَقَقْتُهُ نِصْفَيْنِ، فَأَوْكَيْتُ قِرْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِأَحَدِهِمَا، وَجَعَلْتُ فِى سُفْرَتِهِ آخَرَ، قَالَ: فَكَانَ أَهْلُ الشَّأْمِ إِذَا عَيَّرُوهُ بِالنِّطَاقَيْنِ، يَقُولُ: إِيهًا وَالإلَهِ (تِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا) .(9/468)
/ 15 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ أُمَّ حُفَيْدٍ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ حَزْنٍ - خَالَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ - أَهْدَتْ إِلَى النَّبِى عليه السلام سَمْنًا وَأَقِطًا وَأَضُبًّا، فَدَعَا بِهِنَّ، فَأُكِلْنَ عَلَى مَائِدَتِهِ، وَتَرَكَهُنَّ النَّبِى عليه السلام كَالْمُسْتَقْذِرِ لَهُنَّ، وَلَوْ كُنَّ حَرَامًا مَا أُكِلْنَ عَلَى مَائِدَةِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) وَلا أَمَرَ بِأَكْلِهِنَّ. قال المؤلف: أكل المرقق مباح ولم يجتنب النبى عليه السلام أكله إلا زهدًا فى الدنيا وتركًا للتنعيم وإيثارًا عند الله كما ترك كثيرًا مما كان مباحًا له وكذلك الأكل على الخوان مباح أيضًا، وليس نفى أنس أن النبى عليه السلام لم يأكل على خوان ولا أكل شاة مسموطة يرد قول من روى عن النبى عليه السلام أنه أكل على خوان وأنه أكل شواء، وإنما أخبر كل بما علم. وهذا ابن عباس يقول فى الأضب أنهن أكلن على مائدة النبى، فأثبت له مائدة، وقد أنزل الله على قوم عيسى ابن مريم المائدة حين سألوه إياها، وأكل المرقق والشاة المسموطة داخل فى قوله تعالى: (قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق) فجميع الطيبات حلال أكلها إلا أن يتركها تارك زهدًا وتوضعًا وشحًا على طيباته فى الآخرة أن ينتقصها فى الدنيا كما فعل النبى عليه السلام وذلك مباح له. وقول ابن الزبير: (فتلك شكاة ظاهر عنك عارها) فهو قول أبى ذؤيب الهذلى: وعيرها الواشون أني أحبها
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
.(9/469)
وقال ابن قتيبة: لست أدرى أخذ ابن الزبير هذا من أبى ذؤيب أم ابتدأه هو، وهى كلمة مقولة. والشكأة: العيب والذم. وقوله: (ظاهر عنك عارها) لاتعلق بك ولكنه ينبو عنك وهو من قولك: ظهر فلان على السطح أى: علا عليه، وقال ثعلب أى لايلزمك عارها.
8 - باب ما كان النبى (صلى الله عليه وسلم) يأكل شيئًا حتى يسمى له فيعلم ما هو
/ 16 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ - سَيْفُ اللَّهِ - دَخَلَ مَعَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى مَيْمُونَةَ - وَهِىَ خَالَتُهُ وَخَالَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ - فَوَجَدَ عِنْدَهَا ضَبًّا مَحْنُوذًا، قَدِمَتْ بِهِ إليه أُخْتُهَا حُفَيْدَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ مِنْ نَجْدٍ، فَقَدَّمَتِ الضَّبَّ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَكَانَ قَلَّمَا يُقَدِّمُ يَدَهُ لِطَعَامٍ حَتَّى يُحَدَّثَ بِهِ، وَيُسَمَّى لَهُ، فَأَهْوَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَدَهُ إِلَى الضَّبِّ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ النِّسْوَةِ الْحُضُورِ: أَخْبِرْنَ رَسُولَ اللَّهِ) مَا قَدَّمْتُم إِلَيه. . . . وذكر الحديث. قال المؤلف: كانت العرب لاتعاف شيئًا من المآكل لقلتها عندها فلذلك كان النبى يسأل عن الطعام قبل الأكل. وفيه من الفقه أنه يجوز للإنسان تجنب مايعافه، ولم تجر بأكله عادته وإن كان حلالا ولاحرج عليه فى ذلك ولاإثم، وقد تقدمت أقوال العلماء فى أكل الضب فى كتاب الذبائح.(9/470)
9 - باب: طعام الواحد يكفى الاثنين
/ 17 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (طَعَامُ الاثْنَيْنِ كَافِى الثَّلاثَةِ، وَطَعَامُ الثَّلاثَةِ كَافِى الأرْبَعَةِ) . يريد أنه ما شبع اثنان يكفى ثلاثة رجال ومايشبع منه ثلاثة يكفى أربعة والكفاية ليست بالشبع والاستنباط كما أنها ليست بالغنى والإكثار،، ألا ترى قول أبى حازم: ابن آدم إذا كان مايكفيك لايغنيك فليس شىء يغنيك. وقد روى لفظ الترجمة عن النبى عليه السلام من حديث ابن وهب عن ابن لهيعة عن أبى الزبير، عن جابر قال: سمعت النبى عليه السلام يقول: (طعام الواحد يكفى الأثنين، وطعام الأثنين يكفى الأربعة، وطعام الأربعة يكفى الثمانية) . قال المهلب: والمراد بهذه الأحاديث الحض على المكارمة فى الأكل والموساة والإيثار على النفس الذى مدح الله به أصحاب نبيه، فقال: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة (ولا يراد بها معنى التساوى فى الأكل والتشاح؛ لأن قوله عليه السلام: (كافى الثلاثة) دليل على الأثرة التى كانوا يمتدحون بها والتقنع بالكفاية، وقد هم عمر بن الخطاب فى سنة مجاعة أن يجعل مع كل أهل بيت مثلهم وقال: لن يهلك أحد عن نصف قوته. قال ابن المنذر: وحديث أبى هريرة يدل على أنه يستحب الاجتماع على الطعام وألا يأكل المرء وحده؛ فإن البركة فى ذلك على ما جاء(9/471)
في حديث وحشي عن النبي، وسيأتي فى باب من أدخل الضيفان عشرة عشرة - إن شاء الله.
- باب: المؤمن يأكل فى معاء واحد
/ 18 - فيه: ابْنُ عُمَرَ كَانَ لا يَأْكُلُ حَتَّى يأْتَى بِمِسْكِينٍ يَأْكُلُ مَعَهُ، قَالَ نَافِعٌ: فَأَدْخَلْتُ رَجُلاً يَأْكُلُ مَعَهُ، فَأَكَلَ كَثِيرًا، فَقَالَ: يَا نَافِعُ، لا تُدْخِلْ هَذَا عَلَىَّ، سَمِعْتُ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِى مِعًى وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِى سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ) . / 19 - وَقَالَ عَمْرو: كَانَ أَبُو نَهِيكٍ رَجُلا أَكُولا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّ النَّبِىّ عليه السلام قَالَ: (إِنَّ الْكَافِرَ يَأْكُلُ فِى سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ) ، فَقَالَ: فَأَنَا أُومِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. / 20 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلا كَانَ يَأْكُلُ أَكْلاً كَثِيرًا، فَأَسْلَمَ فَكَانَ يَأْكُلُ أَكْلا قَلِيلاً فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَأْكُلُ فِى مِعًى وَاحِدٍ، وَالْكَافِرَ يَأْكُلُ فِى سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ) . قال المؤلف: ذكر ابن إسحاق قال بلغنى عن أبى سعيد المقبرى عن أبى هريرة أن الذى قال فيه النبى هذا الحديث ثمامة بن أثال الحنفى، وذكر غيره أنه جهجاه الغفارى، والله أعلم. فإن قال قائل: مامعنى هذا الحديث وقد نجد مؤمنًا كثير الأكل كأبى نهيك وغيره، ونجد أيضًا كافرًا قليل الأكل؟ فالجواب وبالله التوفيق أن النبى عليه السلام وإنما أراد بقوله: (المؤمن يأكل فى معاء واحد) المؤمن التام الإيمان؛ لأنه من حسن إسلامه وكمل إيمانه(9/472)
تفكر فى خلق الله له وفيما يصير إليه من الموت ومابعده، فيمنعه الخوف والإشفاق من تلك الأهوال من استيفاء شهواته، وقد روى هذا المعنى عن النبى عليه السلام من حديث أبى أمامة قال أبو أمامة: سمعت النبى عليه السلام يقول: (عليكم بقله الأكل تعرفون فى الآخرة، فمن كثر تفكره قل طعمه وكل لسانه ومن قل تفكره كثر طعمه وعظم ذنبه وقسا قلبه، والقلب القاسى بعيد من الله) . فأخبر عليه السلام أن من تفكر فيما ينبغى له التفكر فيه من قرب أجله ومايصير إليه فى معاده قلّ طمعه وكل لسانه وحق ذلك. قوله عليه السلام: (المؤمن يأكل فى معاء واحد) الحض على التقلل من الدنيا والزهد فيها والقناعةبالبلغة، ألا ترى قوله عليه السلام: (إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذخ بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذخ بإشراف نفس كان كالذى يأكل ولا يشبع) . فدل هذا المعنى أن المؤمن الذى وصفه النبى عليه السلام أنه يأكل معاء واحد هو التام الإيمان المقتصد فى مطعمه وملبسه الذى قبل وصية نبيه فأخذ المال بسخاوة نفس فبورك له فيه واستراح من داء الحرص. فإن قال قائل: فإن كان معنى الحديث ماذكرت، فما أنت قائل فيما روى عن عمر بن الخطاب أنه كان يأكل صاع تمر حتى تتبع حشفه، ولا أتم من إيمانه. قيل له: من علم بسيرة عمر وتقلله فى مطعمه وملبسه لم يعترض بهذا ولم يتوهم أن قوت عمر كل يوم كان صاع تمر؛ لأنه كان من التقلل فى مطعمه وملبسه فى ابعد الغايات، وكان أشد الناس اقتداء برسول الله فى سيرته، وإنما كان يأكل عمر(9/473)
الصاع فى بعض الأوقات إذا غالبه الجوع وآلمه فكثيرًا كان يجوع نفسه ولايبلغ من الكل نهمته، وقد كانت العرب فى الجاهلية تمتدح بقلة الأكل وتذم بكثرته، قال الشاعر: يكفيه حزة فلذ ان ألم بها من الشواة ويروى شربه الغمر وقالت أم زرع فى ابن أبى زرع: وتشبعه ذراع الجفرة وقال حاتم الطائى يذم كثرة الأكل: فإنك إن أعطيت بطنك سؤله وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا. وقد شبه الله تعالى أكل الكفار بأكل البهائم فقال تعالى: (والذين كفروا ويتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام (أى: أنهم يأكلون بالشرة والنهم كالأنعام؛ لأنهم جهال، وذلك لأن الأكل على ضربين: أكل نهمة وأكل حكمة، فأكل النهمة للشهوة فقط، وأكل الحكمة للشهوة والمصلحة.
- باب: الأكل متكأ
/ 21 - فيه: أَبُو جُحَيْفَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا آكُلُ مُتَّكِئًا) . إنما فعل ذلك والله أعلم توضعًا لله وتذللا له، وقد بين هذا أبو أيوب فى حديثه عن الزهرى: (أن النبى عليه السلام أتاه ملك لم يأتيه قبل تلك المرة ولابعدها فقال: إن ربك يخيرك بين أن تكون عبدًا نبيًا أو ملكًا نبيًا، قال فنظر إلى جبريل كالمستشير له، فأومأ إليه أن يتواضع، فقال: بل عبدًا نبيًا، فما أكل متكئاً) .(9/474)
وقال مجاهد: (لم يأكل النبي (صلى الله عليه وسلم) متكأ قط إلا مرة، ففزع فجلس فقال: اللهم أنا عبدك ورسولك) . قال المؤلف: من أكل متكئًا فلم يأت حرامًا، وإنما يكره ذلك؛ لأنه خلاف التواضع الذى اختاره الله لأنبيائه وصفوته من خلقه، وقد أجاز ابن سيرين والزهرى الأكل متكئا.
- باب الشواء وقوله تعالى: (فجاء بعجل حنيذ (مشوي
/ 22 - فيه: ابْن عَبَّاس، عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، أُتِىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِضَبٍّ مَشْوِىٍّ، فَأَهْوَى إِلَيْهِ لِيَأْكُله، فَقِيلَ: إِنَّهُ ضَبٌّ. . . الحديث. قَالَ مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ. قال صاحب العين: حنذت اللحم أحنذه إذا شويته بالحجارة المسخنة، واللحم حنيذ حنذ، والشمس تحنذ أيضًا. وفيه: صاحب جواز أكل الشواء؛ لأنه عليه السلام أهوى ليأكل منه، ولو كان مما لا يقتذر أكله غير الضب.
- باب الخزيرة
قَالَ النَّضْرُ: الْخَزِيرَةُ مِنَ النُّخَالَةِ وَالْحَرِيرَةُ مِنَ اللَّبَنِ. / 23 - فيه: عِتْبَان، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى أَنْكَرْتُ بَصَرِى - الحديث - فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، وَحَبَسْنَاهُ عَلَى خَزِيرٍ صَنَعْنَاهُ. . . . الحديث. وذكر الطبري أن الخزيرة شيء يتخذ كهيئة العصيدة غير أنه أرق منها.(9/475)
- باب الأقط
/ 24 - فيه: أَنَس: بَنَى النَّبِى عليه السلام بِصَفِيَّةَ، فَأَلْقَى التَّمْرَ وَالأقِطَ وَالسَّمْنَ. / 25 - وفيه: ابْن عَبَّاس، أَهْدَتْ خَالَتِى إِلَى النَّبِى عليه السلام ضِبَابًا وَأَقِطًا وَلَبَنًا. . . الحديث. الأقط: هو شىء يصنع من اللبن، وذلك أن يؤخذ ماء اللبن فيطبخ فكلما طفا عليه من بياض اللبن شىء جمع فى إناء فذلك الأقط، وهو أطعمة العرب.
- باب: السلق والشعير
/ 26 - فيه: سَهْل، إِنْ كُنَّا لَنَفْرَحُ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، كَانَتْ لَنَا عَجُوزٌ تَأْخُذُ أُصُولَ السِّلْقِ، فَتَجْعَلُهُ فِى قِدْرٍ لَهَا، فَتَجْعَلُ فِيهِ حَبَّاتٍ مِنْ شَعِيرٍ، إِذَا صَلَّيْنَا زُرْنَاهَا، فَقَرَّبَتْهُ إِلَيْنَا، وَكُنَّا نَفْرَحُ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، وَمَا كُنَّا نَتَغَدَّى وَلا نَقِيلُ إِلا بَعْدَ الْجُمُعَةِ، وَاللَّهِ مَا فِيهِ شَحْمٌ وَلا وَدَكٌ. فيه ماكان السلف عليه من الاقتصار فى مطعمهم وتقللهم واقتصارهم على الدون من ذلك، ألا ترى حرصهم على السلق والشعير، وهذا يدل أنهم كانوا لايأكلون ذلك فى كل وقت ولم تكن همتهم اتباع شهواتهم، وإنما كانت همتهم من القوت فيما يبلغهم المحل ويدفعون سورة الجوع بما يمكن، فمن كان حريصًا أن يكون فى الآخرة مع صالح سلفه فليسلك سبيلهم وليجر على طريقتهم وليقتد بهديهم، والله أعلم.(9/476)
- باب: النهس وانتشال اللحم
/ 27 - فيه: ابن سيرين، عن ابْنِ عَبَّاسٍ، تَعَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام كَتِفًا، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. وَقَالَ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: انْتَشَلَ النَّبِى عليه السلام عَرْقًا مِنْ قِدْرٍ فَأَكَلَ ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. لا يصح لابن سيرين سماع من ابن عباس ولا من ابن عمر، وإنما يسند الحديث برواية عكرمة عن ابن عباس. وقال أهل اللغة: نهس الرجل والسبع اللحم نهسًا: قبض عليه ثم نتره، والنهس والنهش عند الأصمعى واحد، وخالفه أبو زيد وغيره، فقالوا: النهس بمقدم الفم كنهس الحية، وانتشال اللحم نتفه وقطعه، يقال: نشلت اللحم من المرق نشلاً: أخرجته منه، وقال بعضهم نشلت اللحم نشلا: إذا أخذت بيدك عضوًا فانتشلت ماعليه، وتعرق اللحم: إذا أكله على عظمه.
- باب: تعرق العضد
/ 28 - فيه: أَبُو قَتَادَةَ، أَنَّهُ كَانَ غَيْرُ مُحْرِمٍ، فِى طَرِيقِ مَكَّةَ، فَرأى حِمَارًا وَحْشِيًّا، فعقره. . . . وذكر الحديث، إلى قوله: فَنَاوَلْتُ النَّبِىّ الْعَضُدَ، فَأَكَلَهَا فَتَعَرَّقَهَا، وَهُوَ مُحْرِمٌ قال صاحب العين: تعرقت العظم وأعرقته وعرقته أعرقه عرقًا؛ أكلت ماعليه، والعراق العظم بال لحم، فإن كان عليه لحم فهو عرق.(9/477)
- باب: قطع اللحم بالسكين
/ 29 - فيه: عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ، أَنَّهُ رَأَى النَّبِى عليه السلام يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ فِى يَدِهِ، فَدُعِى إِلَى الصَّلاةِ، فَأَلْقَاهَا وَالسِّكِّينَ الَّتِى يَحْتَزُّ بِهَا، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. هذا الحديث يرد حديث أبى معشر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: قال رسول الله: (لا تقطعوا اللحم بالسكين؛ فإنه من صنيع الأعاجم، وانهشوه فإنه أهنأ وأمرأ) قال أبو داود: وهو حديث ليس بالقوى.
- باب: ما عاب النبى عليه السلام طعامًا
/ 30 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، مَا عَابَ النَّبِىُّ عليه السلام طَعَامًا قَطُّ، إِنِ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ، وَإِنْ كَرِهَهُ تَرَكَهُ. هذا من حسن الأدب على الله تعالى لأنه إذا عاب المرء ما كرهه من الطعام فقد رد على الله رزقه، وقد يكره بعض الناس من الطعام مالايكرهه غيره، ونعم الله تعالى لا تعاب وإنما يجب الشكر عليها، والحمد لله لأجلها؛ لأنه لا يجب لنا عليه شىء منها، بل هو متفضل فى إعطائه عادل فى منعه.
- باب: النفخ فى الشعير
/ 31 - فيه: أَبُو حَازِم، أَنَّهُ سَأَلَ سَهْلا: هَلْ رَأَيْتُمْ فِى زَمَانِ النَّبِى عليه السلام النَّقِيَّ؟ قَالَ: لا، فَقُلْتُ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَنْخُلُونَ الشَّعِيرَ؟ قَالَ: لا، وَلَكِنْ كُنَّا نَنْفُخُهُ.(9/478)
وفي هذا الحديث أيضًا ماكان عليه السلف من التخشن فى مأكلهم وترك الترقيق لها والتباين فيها، وكانوا فى سعة من تنحيله؛ لأن ذلك مباح لهم فآثروا التخشن وتركوا التنعيم ليقتدى بهم من يأتي بعدهم، فخالفناهم فى ذلك وآثرنا الترقيق فى مأكلنا، ولم نرض بما رضوا به من ذلك رضوان الله عليهم فكيف نرجو اللحاق بهم؟ .
- باب: ما كان النبي عليه السلام وأصحابه يأكلون
/ 32 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَسَمَ النَّبِى عليه السلام يَوْمًا بَيْنَ أَصْحَابِهِ تَمْرًا، فَأَعْطَى كُلَّ إِنْسَانٍ سَبْعَ تَمَرَاتٍ، فَأَعْطَانِى سَبْعَ تَمَرَاتٍ إِحْدَاهُنَّ حَشَفَةٌ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِنَّ تَمْرَةٌ أَعْجَبَ إِلَىَّ مِنْهَا، شَدَّتْ فِى مَضَاغِى. / 33 - وفيه: قَيْسٍ، عَنْ سَعْدٍ، رَأَيْتُنِى مَعَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، سابع سبعة، مَا لَنَا طَعَامٌ إِلا وَرَقُ الْحُبْلَةِ - أَوِ الْحَبَلَةِ - حَتَّى يَضَعَ أَحَدُنَا مَا تَضَعُ الشَّاةُ، ثُمَّ أَصْبَحَتْ بَنُو أَسَدٍ تُعَزِّرُنِى عَلَى الإسْلامِ خَسِرْتُ إِذًا وَضَلَّ سَعْىِ. / 34 - وفيه: أَبُو حَازِم، سَأَلْتُ سَهْلاً، هَلْ أَكَلَ النَّبِىّ عليه السلام النَّقِيَّ؟ فَقَالَ سَهْلٌ: مَا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام النَّقِى مِنْ حِينَ ابْتَعَثَهُ اللَّهُ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ، قَالَ: فَقُلْتُ: هَلْ كَانَتْ لَكُمْ فِى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام مَنَاخِلُ؟ قَالَ: مَا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام مُنْخُلا مِنْ حِينَ ابْتَعَثَهُ اللَّهُ حَين(9/479)
قَبَضَهُ. قَالَ: قُلْتُ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ الشَّعِيرَ غَيْرَ مَنْخُولٍ؟ قَالَ: كُنَّا نَطْحَنُهُ وَنَنْفُخُهُ، فَيَطِيرُ مَا طَارَ، وَمَا بَقِى ثَرَّيْنَاهُ فَأَكَلْنَاهُ. / 35 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ شَاةٌ مَصْلِيَّةٌ فَدَعَوْهُ، فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ، وَقَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام مِنَ الدُّنْيَا، وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ. / 36 - وفيه: أَنَس، مَا أَكَلَ النَّبِى عليه السلام عَلَى خِوَانٍ، وَلا فِى سُكْرُجَةٍ، وَلا خُبِزَ لَهُ مُرَقَّقٌ. / 37 - وفيه: عَائِشَةَ، مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ طَعَامِ الْبُرِّ ثَلاثَ لَيَالٍ تِبَاعًا حَتَّى قُبِضَ. قال الطبرى: إن قال قائل: ماوجه هذه الأخبار ومعانيها وقد علمت صحة الخبر عن النبى أنه كان يرفع مما أفاء الله عليه من النضير وفدك قوته وقوت عياله لسنة ثم يجعل مافضل من ذلك فى الكراع والسلاح عدة فى سبيل الله، وأنه بين اربعة أنفس زهاء الف بعير من نصيبه مما أفاء الله عليه من أموال هوازن، وأنه ساق فى حجة الوداع مائة بعير فنحرها وأطعمها المساكين، وأنه كان يأمر للأعرابى يسلم بقطيع من الغنم. هذا مع ما يكثر تعداده من عطاياه التى لايذكر مثلها عمن تقدم قبله من ملوك الأمم السالفة مع كونه بين ارباب الأموال الجسام كابى بكر الصديق وعمر وعثمان وأمثالهم فى كثرة الأموال وبذلهم مهجهم وأولادهم، وخروج أحدهم من جميع ماله تقربا إلى الله تعالى مع إشراك الأنصار فى أموالهم من قدم عليهم من المهاجرين وبذلهم نفائسها فى ذات الله، فكيف بإنفاقها على رسول الله(9/480)
وبه إليها الحاجة العظمى، وأنكر النكير تضاد الآثار فى ذلك إذ غير جائز اجتماع قشف المعيشة وشظفها والرخاء والسعة فيها فى حال واحدة؟ . قيل: كل هذه الأخبار صحاح ولاشىء منها يدفع غيره ولاينقصه فأما حديث سعد قال: (رأيتنى مع النبى عليه السلام مالنا طعام إلا ورق الحبلة) وغيرها من الأحاديث أنه كان عليه السلام يظل اليوم يتلوى من الجوع مايجد مايملأ بطنه، فإن ذلك كان يكون فى الحين بعد الحين من أجل أن من كان منهم ذا مال كانت تستغرق نوائب الحقوق وماله وموساة الضيفان، ومن قدم عليهم من وفود العرب حتى يقل كثيره أو يذهب جميعه. وكيف لا يكون كذلك وقد روينا عن عمر أن النبى أمر بالصدقة فجاء أبو بكر الصديق بجميع ماله فقال: هذا صدقة لله، فكيف يستنكر لمن هذا فعله أن يملق صاحبه ثم لا يجد السبيل إلى سد جوعته وإرفاقه بمايغنيه؛ وعلى هذه الخليفة كانت خلائق أصحابه، كالذى ذكر عن عثمان أنه كهز جيشًا من ماله حتى لم يفقدوا حبلا ولاقتبًا، وكالذى روى عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله حث على الصدقة فجاء بأربعة آلاف دينار صدقة، فمعلوم أن من كانت هذه أخلاقه وأفعاله أنه لا يخطئه أن تأتى عليه التارة من الزمان والحين من الايام مملقًا لاشىء له، إلا أن يثوب له مال. فبان خطأ قول القائل: كيف يجوز أن يرهن النبى درعه عند اليهود بوسق شعير، وفى أصحابه من أهل الغنى والسعة من لايجهل موضعه؟ أم كيف يجوز أن يوصف أنه كان يطوى الأيام ذوات العدد خميصًا وأصحابه يمتهنون أموالهم لمن هو دونه من أصحابه، فكيف له(9/481)
إذ كان معلومًا وجوده وكرمه عليه السلام وإيثاره ضيفانه القادمين عنده من الأقوات والأموال على نفسه. واحتماله المشقة والمجاع فى ذات الله، ومن كان كذلك هو واصحابه فغير مستنكر لهم حال ضيق يحتاجون معها إلى الاستسلاف وإلى طى الأيام على المجاعة والشدة وأكلهم ورق الحبلة. فأما ما روى عنه: (أنه لم يشبع من البر ثلاثة أيام تباعًا حتى قبض) فإن البر كان بالمدينة قليلاً، وكان الغالب عليهم الشعير والتمر فغير نكير أن يؤثر قوت أهل بلده ويكره أن يخص نفسه لما لاسبيل للمسلمين إليه من الغذاء، وهذا هو الأشبه بأخلاقه عليه السلام. وما روى عنه أنه خرج من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير، فإن ذلك لم يكن منه فى كل أحواله لعوز ولا ضيق وكيف ذلك وقد كان الله أفاء عليه قبل وفاته بلاد العرب كلها ونقل إليه الخراج من بعض بلاد العجم كأيله والبحرين وهجر؛ ولكن كان بعضه لما وصفت من إيثار نوائب حقوق الله، وبعضه كراهية منه الشبع وكثرة الأكل، فإنه كان يكرهه ويؤدب أصحابه به. وروى عن زيد وهب، عن عطية بن عامر الجهنى قال: (أكره سلمان على طعام يأكله فقال: حسبى؛ فإنى سمعت النبى عليه السلام يقول: إن أكثر الناس شبعًا فى الدنيا أطولهم جوعًا(9/482)
في الآخرة) وروى أسد ابن موسى من حديث عون بن أبى جحيفة عن أبيه قال: (أكلت ثريدة بر بلحم سمين، فأتيت النبى عليه السلام وأنا أتجشأ، فقال: اكفف عليك من جشائك أبا جحيفة، فإن أكثر الناس شبعًا فى الدنيا أطولهم جوعًا فى الآخرة) فما أكل أبو جحيفة ملىء جحيفة ملء بطنه فارق الدنيا كان إذا تغذى لايتعشى وإذا نعتشى لايتغدى. وعلى إيثار الجوع وقله الشبع مع وجود السبيل إليه مرة وعدمه أخرى مضى الخيار من الصحباة والتابعين، وروى وهب بن كيسان، عن جابر قال: (لقينى عمر بن الخطاب ومعى لحم اشتريته بدرهم، فقال: ما هذا؟ فقلت: ياأمير المؤمنين، اشتريته للصبيان والنساء. فقال عمر: لا يشتهى أحدكم شيئًا إلا وقع فيه أو لا يطوى أحدكم بطنه لجاره وابن عمه، أين تذهب عنكم هذه الآية: (أذهبتم طيباتكم فى حياتكم الدنيا واستمتعتم بها) ؟ . وقال هشيم عن منصور، عن ابن سيرين: (أن رجلاً قال لابن عمر: اجعل جوارشنا؟ قال: ما هو؟ قال: شىء إذا كظمك الطعام فأصبت منه سهل عليك. قال ابن عمر: ماشبعت منذ أربعة أشهر، وماذاك إلا أكون له واجدًا، ولكنى عهدت قومًا يشبعون مرة ويجوعون مرة) . وقال الزهرى: (إن عبد الله بن مطيع قال لصفية: لو ألطفت هذا الشيخ - يعنى ابن عمر - قالت: إن عبد الله بن مطيع قال لصفية: لو ألطفت هذا الشيخ - يعنى ابن عمر - قالت: قد أعيانى أن لا يأكل إلا ومعه آكل فو كلمته. قال: فكلمته، فقال: الآن تأمرنى بالشبع ولم يبق من عمرى إلا ظمء حمار، فما شبعت منذ ثمانى سنين) . وقال مجاهد: لو أكلت كل ماأشتهى ماسويت حشفة. وقال الفضيل: خصلتان تقسيان القلب: كثرة الأكل والكلام. وقوله: (ثم أصبحت بنو أسد تعزرنى على الإسلام) يعنى: يقومونى عليه ويعلمونيه، من قولهم: (عزر السلطان فلانًا إذا أدبه وقومه) . وأصل العزير التأديب، ولهذا سمى الضرب دون الحد(9/483)
تعزيرًا، وكان هذا القول عن سعد حين شكاه أهل الكوفة إلى عمر وقالوا: إنه لايحسن الصلاة وعمر بن الخطاب من بنى أسد. وفيه من الفقه أنه لابأس أن يذكر الرجل فضائله وسوابقه فى الإسلام عندما ينتقصه أهل الباطل ويضعون من قدره، ولايكون ذكره لفضائله من باب الفخر المنهى عنه. وقال صاحب العين: الحبلة: بضم الحاء ثمر العضاة، والحبلة: بفت الحاء والباء قضبان الكرم. وقال أبو حنيفة: الزرجون حبلة وجمعها حبل. وقال صاحب العين: والحبلة أيضًا ضرب من الشجر. وقوله: (شاة مصلية) يعنى: مشوية، يقال: صليت اللحم أصلية صليا: شويته، فالصلاء: الشواء، وأصليته: ألقيته فى النار.
باب التلبينة
/ 38 - فيه: عَائِشَةَ، سَمِعْتُ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) يَقُول: (التَّلْبِينَةُ مُجِمَّةٌ لِفُؤَادِ الْمَرِيضِ تَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ) . وقد تقدم فى كتاب الطب.
- باب الثريد
/ 39 - فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِي (صلى الله عليه وسلم) : (كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ) .(9/484)
/ 40 - وفيه: أَنَس، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ) . / 41 - وفيه: أَنَس، دَخَلْتُ مَعَ النَّبِى عليه السلام عَلَى غُلامٍ لَهُ خَيَّاطٍ، فَقَدَّمَ إِلَيْهِ قَصْعَةً فِيهَا ثَرِيدٌ، قَالَ: وَأَقْبَلَ عَلَى عَمَلِهِ. . . . الحديث. قال المؤلف: الثريد أزكى الطعام بركة، وهو طعام العرب وقد شهد له النبى بالفضل على سائر الطعام وكفى بذلك تفضيلا له وشرفًا. فإن قال قائل: فقد شهد النبى عليه السلام بالكمال لمريم وآسية، ثم قال: (وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) ولايبين فى ظاهر هذا اللفظ تفضيل مريم وآسية على عائشة ولافضل عائشة عليهما. فالجواب فى ذلك أن التفضيل لا يدرك بالرأى، وإنما يؤخذ بالتوقيف، فإذا عدم التوقيف بالقطع فى ذلك رجع إلى الدلائل، وقد اختلفت الدلائل فى ذلك لاحتمال اللفظ للتأويل. فمما استدل به من فضل مريم على عائشة قوله تعالى لمريم: (إن الله اصطفاك) أى: اختارك وطهرك من الكفر، عن مجاهد والحسن. وقيل: وطهرك من الأدناس: الحيض والنفاس، عن الزجاج وغيره. وقوله: (واصطفاك على نساء العالمين) يدل على تفضيلها على جميع نساء الدنيا؛ لأن العالمين جمع عالم، ألا ترى أن الله جعلها وأبنها آية أن ولدت من غير فحل، وهذا شىء لم يخص به غيرها من نساء الدنيا وجاءها جبريل ولم يأت غيرها من النساء قال تعالى: (فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرًا سويًا. .) إلى (زكياً) .(9/485)
وقال ابن وهب صاحب مالك صاحب مالك بنوتها واختاره أبو إسحاق الزجاج وهو إمام سنة، وهو قول أبى بكر بن اللباد فقيه المغرب، وقول أبى محمد بن أبى زيد، وأبى الحسن بن القابس، وعلى هذا القول يكون أول الحديث على العموم فى مريم وآسية وآخره على الخصوص فى عائشة، ويكون المعنى فضل مريم ولآسية على جميع نساء كل عالم، وفضل عائشة على نساء عالمها خاصة. وأبى هذا طائفة أخرى، وقالوا: بفضل عائشة على جميع النساء ولم يقولوا بنبوة مريم ولا أحد من النساء، وحملوا آخر الحديث على العموم وأوله على الخصوص وقالوا: قوله تعالى: (يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك) و (اصطفاك على نساء العالمين) يعنى عالم زمانها وهو الحسن وابن جريح، ويكون قوله: (فضل عائشة) على نساء الدنيا كلها، ومن حجتهم على ذلك قوله عز وجل: (كنتم خير أمة أخرجن للناس) فعلم بهذا الخطاب أن المسلمين أفضل جميع الأمم، ألا ترى قوله عز وجل: (وكذلك جعلناهم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس) والوسط: العدل عند أهل التأويل فدل هذا كله أن من شهد له النبى بالفضل من أمته وعينه فهو أفضل ممن شهد له بالفضل من الأمم الخالية، ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى: (يا نساء النبى لستن كأحد من النساء) فدل عموم هذا اللفظ على فضل أزواجه على كل من قبلهن وبعدهن، وأجمعت الأمة أن نبينا محمدًا أفضل من جميع الأنبياء، فكذلك نساؤه لهن من الفضل على سائر الدنيا ماللنبى على سائر الأنبياء، وقد صح أن نساءه معه فى الجنة، ومريم مع ابنها، وابنها فى الجنة، ودرجة(9/486)
محمد في الجنة فوق درجة هؤلاء كلهم. والله أعلم بحقيقة الفضل فى ذلك.
- باب: الشاة المسموطة والكتف والجنب
/ 42 - فيه: قَتَادَةَ، كُنَّا نَأْتِى أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، وَخَبَّازُهُ قَائِمٌ، ثُمّ قَالَ: كُلُوا، فَمَا أَعْلَمُ النَّبِى عليه السلام رَأَى رَغِيفًا مُرَقَّقًا حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ، وَلا رَأَى شَاةً سَمِيطًا بِعَيْنِهِ قَطُّ. / 43 - وفيه: جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِىِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا، فَدُعِىَ إِلَى الصَّلاةِ فَقَامَ فَطَرَحَ السِّكِّينَ، فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. إن قال قائل: كيف يتفق قول أنس بن مالك: (ما أعلم أن الرسول رأى سميطًا بعينه قط) مع قول عمرو بن أمية: (أنه رأى النبى عليه السلام يحتز من كتف شاة) مع ما روى الترمذى قال: حدثنا الحسن بن محمد الزعفرانى حدثنا حجاج بن محمد حدثنا ابن جريج أخبرنى محمد بن يوسف أن عطاء بن يسار أخبره أن أم سلمة أخبرته: (أنها قربت إلى رسول الله عليه السلام جنبًا مشويًا، فأكل منه ثم قام إلى الصلاة وما توضأ) قال الترمذى: وهذا حديث صحيح غريب، وفى الباب عن عبد الله بن الحارث والمغيرة وأبى رافع. قال المؤلف: فالجواب أن قول أنس يحتمل تأويلين: أحدهما: أن يكون النبى عليه السلام لم يتفق له قط أن تسمط له شاة بكمالها، لأنه قد احتز من الكتف مرة ومن الجنب أخرى، وذلك لحم مسموط لا محالة. والثانى: أن أنسًا قال: لا أعلم ولم يقطع(9/487)
على أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يأكل لحمًا مشويًا، فأخبربما علم وأخبر عمرو ابن أمية أم سلمه وغيرها أنه رأى النبى يحتز من الكتف والجنب المشوى، وكل واحد أخبر بما علم، وليس قول أنس برافع قول من علم لأن من علم حجه على من لم يعلم؛ لأنه زاد عليه فوجب قبول الزيادة. والمسموطة: المشوية بجلها، قال صاحب العين: سمطت الجمل أسمطة سمطأط: تنقيته من الصوف بعد إدخاله فى الماء الحار. وقال صاحب الأفعال: سمطت الجدى، وغيره: علقه من السموط، وهى معاليق من سيور تعلق من السرج.
- باب ما كان السلف يدخرون فى بيوتهم وأسفارهم من الطعام واللحم وغيره
وَقَالَتْ عَائِشَةُ وَأَسْمَاءُ: صَنَعْنَا لِلنَّبِى (صلى الله عليه وسلم) وَأَبِى بَكْرٍ سُفْرَةً. / 44 - فيه: عَائِشَةَ، سئلت أَنَهَى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) أَنْ تُؤْكَلَ لُحُومُ الأضَاحِى فَوْقَ ثَلاثٍ، قَالَتْ: مَا فَعَلَهُ إِلا فِى عَامٍ جَاعَ النَّاسُ فِيهِ، فَأَرَادَ أَنْ يُطْعِمَ الْغَنِى الْفَقِيرَ، وَإِنْ كُنَّا لَنَرْفَعُ الْكُرَاعَ، فَنَأْكُلُهُ بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ، قِيلَ مَا اضْطَرَّكُمْ إِلَيْهِ؟ فَضَحِكَتْ، قَالَتْ: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ عليه السلام مِنْ خُبْزِ بُرٍّ مَأْدُومٍ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ. / 45 - وفيه: جَابِر، كُنَّا نَتَزَوَّدُ لُحُومَ الْهَدْىِ عَلَى عَهْدِ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) إِلَى الْمَدِينَةِ. هذا الباب رد على الصوفية فى قولهم إنه لايجوز ادخالر طعام الغد، وأن المؤمن الكامل الإيمان لا يستحق اسم الولاية لله حتى(9/488)
يتصدق بما فضل عن شبعه ولا يترك طعامًا لغد ولايصبح عنده شىء من عين ولا عرض ويمسى كذلك ومن خالف ذلك فقد اساء الظن بالله ولم يتوكل عليه حق توكله، وهذه الآثار ثابتة بإدخار الصحابة وتزود النبى وأصحابه فى أسفارهم وهى المقنع والحجة الكافية فى رد قولهم، والله الموفق. وقد تقدم فى كتاب الخمس فى حديث مالك بن أوس بن الحدثان قول عمر لعلى والعباس حين جاءا يطلبان ماأفاء الله على رسوله من بنى النضير إلى قول عمر: (فكان النبى ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال) وقد صح بهذا إدخاره عليه السلام لأهله قوت سنتهم وفيه الأسوة الحسنة، وفى باب نفقة نساء النبى عليه السلام وبعد وفاته. فى كتاب الخمس أيضًا استقصاء الحجة فى هذه المسألة والأحاديث المعارضة.
- باب الحيس
/ 46 - فيه: أَنَس: (أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) بنى بصفية بنت حى بالصهباء حين أقبلنا من خيبر صنع حيسا فِى نطع ثُمَّ أرسلنى فدعوت رجالاً فأكلوا. . الحديث) . والحيس عند العرب خلط الأقط بالسمن والتمر تقول حته حيسًا وحيسة، عن صاحب العين، وقد تقدم فى النكاح.(9/489)
- باب الأكل فى إناء مفضض
/ 47 - فيه: ابْن أَبِى لَيْلَى، أَنَّ حُذَيْفَةَ اسْتَسْقَى فَسَقَاهُ مَجُوسِىٌّ فَلَمَّا وَضَعَ الْقَدَحَ فِى يَدِهِ رَمَاهُ بِهِ، وَقَالَ: لَوْلا أَنِّى نَهَيْتُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلا مَرَّتَيْنِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَمْ أَفْعَلْ هَذَا، وَلَكِنِّى سَمِعْتُ النَّبِى عليه السلام يَقُولُ: (لا تَشْرَبُوا فِى آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلا تَأْكُلُوا فِى صِحَافِهَا، فَإِنَّهَا لَهُمْ فِى الدُّنْيَا وَلَك فِى الآخِرَةِ) . قد تقدم هذا فى كتاب الأشربة روى ابن القاسم عن مالك أنه كره مداهن الفضة، والاستجمار فى آنية الفضة، والمرأة فيها حلقة فضة لنهيه عليه السلام عن استمال آنية الذهب والفضة، وقال: هى لهم فى الدنيا يعنى الكفار ولكم فى الآخرة.
- باب ذكر الطعام
/ 48 - فيه: أَبُو مُوسَى، قال النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِى يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الأتْرُجَّةِ، رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِى لا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلِ التَّمْرَةِ، لا رِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا حُلْوٌ. . .) الحديث. / 49 - وفيه: أَنَس، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ) . / 50 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ، يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ نَوْمَهُ وَطَعَامَهُ. . .) . قال المؤلف: معنى هذه الترجمة - والله أعلم - إباحة أكل الطعام(9/490)
الطيب وكراهة أكل المر، وأن الزهد ليس فى خلاف ذلك ألا ترى أن النبى عليه السلام شبه المؤمن الذى يقرأ القرآن بالأترجة التى طعمها طيب وريحها طيب، وشبه المؤمن الذى لايقرأ بالتمرة طعمها طيب ولاريح لها، ففى هذا الترغيب فى أكل الطعام الطيب وأكل الحلو، ولو كان الزهد فيه أفضل لماشبه النبى - عليه السلام - ذلك مرة بقرأة القرآن ومرة بالإيمان، فكما يفضل المؤمن بقرأة القرآن وبالإيمان فكذلك فضل الطعام الطيب سائر الطعام، ويشهد لهذا أنه فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام، وهذا تنبيه منه على أكل الثريد واستعماله لفضله، وتشبيهه المنافق بالحنظلة والريحانة اللتين طعمهما مر؛ فذلك غاية الذم للطعام المر، إلا أن السلف كرهوا الأكثار من أكل الطيبات وإدمانها خشية أن يصير ذلك لهم عادة، فلا تصبر نفوسهم على فقدها رياضة لهم وتذليلا وتواضعًا. فإن قيل: فما معنى حديث أبى هريرة وليس فيه ذكر أفضل الطعام ولا أدناه؟ قيل: يحتمل أن يريد به أن ابن آدم لابد له فى الدنيا من طعام يقيم به جسده ويقوى به على طاعة ربه، وأن الله تعالى جبل النفوس على الأكل والشرب والنوم وذلك قوام الحياة، والناس فى ذلك بين مقل ومكثر، فالمؤمن يأخذ من ذلك قدر إيثاره للآخر والدنيا.
- باب الأدم
/ 51 - فيه: عَائِشَةُ، أَن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) دَخَلَ بَيْتَها وَعَلَى النَّارِ بُرْمَةٌ تَفُورُ، فَدَعَا بِالْغَدَاءِ، فَأُتِىَ بِخُبْزٍ وَأُدْمٍ مِنْ أُدْمِ الْبَيْتِ، فَقَالَ: (أَلَمْ أَرَ(9/491)
لَحْمًا) ؟ قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَكِنَّهُ لَحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، فَأَهْدَتْهُ لَنَا، فَقَالَ: (هُوَ صَدَقَةٌ عَلَيْهَا، وَهَدِيَّةٌ لَنَا) . قال الطبرى: فى هذا الحديث البيان البين أن النبى - عليه السلام كان يؤثر فى طعامه اللحم على غيره إذا وجد إليه سبيلا، وذلك أنه لما رأى اللحم فى منزله قال: (ألم أر لحمًا؟ فقالوا: إنه تصدق به على بريرة) فدل هذا على إيثاره عليه السلام للحم إذا وجد إليه السبيل، لأنه قال ذلك بعد أن قرب إليه أدم من أدم البيت، فالحق على كل ذى لب أن يؤثر اللحم على طعامه لإيثار النبى له ولما حدثنا سعيد بن عنبسه الرازى حدثنا أبو عبيدة الحداد حدثنا أبو هلال، عن ابن بريدة عن أبيه أن النبى عليه السلام قال: (سيد الإدام فى الدنيا والآخرة اللحم) . فإن قيل: فقد قال عمر بن الخطاب لرجل رآه يكثر الاختلاف إلى القصابين: اتقوا هذه المجازر على أموالكم، فإن لها ضرواة كضراوة الخمر، وعلاه بالدرة. وقال أبو أمامة: إنى لأبغض أهل اليت أن يكونوا لحميين. قيل: وما اللحميون؟ قال: يكون لهم قوت شهر فيأكلونه فى اللحم فى أيام. وقد قال يزيد بن أبى حبيب: القنية طعام الأنبياء. وقال ابن عون: ما رأيت على خوان لحمًا يشتريه إلا أن(9/492)
يهدى له، وكان يأكل السمن والكامخ، فيقول: سأصبر على هذا حتى يأذن الله بالفرج. قال الطبرى: وهذه أخبار صحاح ليس فيها خلاف لشىء مماتقدم، فأما كراهة عمر فإنما كان خوفًا منه عليه الاحجاف بماله لكثرة شرائه اللحم إذ كان اللحم قليلاً عندهم، وأراد أن يأخذ بحظه من ترك شهوات الدنيا وقمع نفسه، يدل على ذلك قوله لابنه: كفى بالمرء سرفًا أن يأكل كل ما اشتهى، وأما أبو أمامة فقد أخبر بالعلة التى لها كره أن يكون أهل البيت لحميين وهو تبذيرهم وتدميرهم. وأما ابن سيرين فإنما ترك شراء اللحم؛ إذ لزمه الدين وفلس من أجله، فلم يكن عنده لها فضاء، والحق عليه مافعل من التقصير فى عيشه وترك التوسع فى مطعمه حتى يؤدى ماعليه لغرمائه، وكان إذا وجده من غير الشراء لم يؤثر عليه غيره. وأما قول يزيد بن أبى حبيب أن القطنية طعام الأنبياء، فمعنى ذلك والله أعلم نحو معنى فعل عمر فى تركه ذلك إشفاقًا ممن يكون بأكله مم يكون فى جملة من أذهب طيباته فى حيانه الدنيا مع أن التأسى بنبينا عليه السلام لايؤثر على اللحم شيئًا ما وجد إليه السبيل. حدثنى محمد بن عمار الرازى حدثنا سهل بن بكار حدثنا أبو عوانة، عن الأسود بن قيس، عن نبيح العنزى، عن جابر بن عبد الله قال: (ذبحت للنبى عليه السلام عناقًا واصحلتها، فلما وضعتها بين يديه، نظر إلى وقال: كأنك قد علمت حبنا اللحم) . وبمثل الذى قلنا كان السلف يعملون، روى الأعمش عن أبى عباد عن أبى عمرو الشيبانى قال: (رأى عبد الله مع رجل دراهم فقال: ما(9/493)
تصنع بها؟ قال: أشترى بها سمنًا. قال: أعطها أمراتك تضعها تحت فراشها، ثم اشتر كل يوم بدرهم لحمًا. وكان للحسن كل يوم لحم بنصف درهم، وقال ابن عون: إذا فاتنى اللحم فما أدرى ما أئتدم) .
30 - باب: الحلواء والعسل
/ 52 - فيه: عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ. / 53 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، كُنْتُ أَلْزَمُ رسُول عليه السلام لِشِبَعِ بَطْنِى حِينَ لا آكُلُ الْخَمِيرَ، وَلا أَلْبَسُ الْحَرِيرَ، وَلا يَخْدُمُنِى فُلانٌ وَلا فُلانَةُ، وَأُلْصِقُ بَطْنِى بِالْحَصْبَاءِ، وَأَسْتَقْرِئُ الرَّجُلَ الآيَةَ - وَهِى مَعِى - كَى يَنْقَلِبَ بِى فَيُطْعِمَنِى، وَخَيْرُ النَّاسِ لِلْمَسَاكِينِ جَعْفَرُ بْنُ أَبِى طَالِبٍ، يَنْقَلِبُ بِنَا، فَيُطْعِمُنَا مَا كَانَ فِى بَيْتِهِ حَتَّى إِنْ كَانَ لَيُخْرِجُ إِلَيْنَا الْعُكَّةَ لَيْسَ فِيهَا شَىْءٌ، فَنَشْتَقُّهَا، فَنَلْعَقُ مَا فِيهَا. الحلواء والعسل من جملة الطيبات المباحة فى قوله تعالى: (ياأيها الذين آمنوا لاتحرموا طيبات ماأحل الله لكم) وقوله تعالى: (قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق) على قول من ذهب إلى أن الطيبات من الرزق فى الآية المستلذ من الطعام، ودل حديث عائشة على صحة هذا التأويل لمحبة رسول الله الحلواء والعسل، وأن ذلك من طعام الصالحين والأبرار اقتداء بحب النبى عليه السلام لهما، ودخل فى معنى هذا الحديث كل ماشاكل الحلواء والعسل من أنواع المآكل اللذيذة الحلوة المطعم، كالتمر والتين والزبيب والعنب، والرمان ذلك من الفواكه.(9/494)
وفي حديث أبي هريرة من الفقه الاقتصاد فى المعيشة والأخذ منها بالبلغة الباعثه على الزهد فى الدنيا. وفيه فضل جعفر بن أبى طالب ووصفه بالكرم والتواضع لتعاهده للمساكين وإطعامه لهم فى بيته وإكرامهم بذلك، وفى قول أبى هريرة: (إن كان ليخرج إلينا العكة ليس فيها شىء فنشتقها ونلعق ما فيها) جواز الصدقة باشىء التافه؛ لأن ذلك لايخلو أن يكون فيه مثاقيل ذر كثيرة.
31 - باب الرجل يتكلف لإخوانه الطعام
/ 54 - فيه: أَبُو مَسْعُود، كَانَ مِنَ الأنْصَارِ رَجُلٌ، يُقَالُ لَهُ: أَبُو شُعَيْبٍ، وَكَانَ لَهُ غُلامٌ لَحَّامٌ، فَقَالَ: اصْنَعْ لِى طَعَامًا أَدْعُو النَّبِىّ عليه السلام خَامِسَ خَمْسَةٍ، فَدَعَا النَّبِىّ عليه السلام خَامِسَ خَمْسَةٍ، فَتَبِعَهُمْ رَجُلٌ، فَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّكَ دَعَوْتَنَا خَامِسَ خَمْسَةٍ، وَهَذَا رَجُلٌ قَدْ تَبِعَنَا، فَإِنْ شِئْتَ أَذِنْتَ لَهُ، وَإِنْ شِئْتَ تَرَكْتَهُ) ، قَالَ: بَلْ أَذِنْتُ لَهُ. قال المؤلف: فيه الترجمة وأنه فى باب ماقيل فى اللحام والجزار وقد تقدم هنالك الكلام فى هذا الحديث وذكرت فيه وجه قوله (صلى الله عليه وسلم) : (هذا رجل قد تبعنا فإن شئت أذنت له) ولم يقل ذلك لأبى طلحة حين حمل جماعة أصحابه مع نفسه إلى طعامه. فتأمله هناك، وقد تقدم أيضًا فى كتاب باب صنع الطعام والتكلف للضيف فى حديث سلمان وأبي الدرداء.(9/495)
32 - باب من أضاف رجلا إلى طعامه وأقبل هو على عمله
/ 55 - فيه: أَنَس، كُنْتُ غُلامًا أَمْشِى مَعَ النَّبِىّ عليه السلام فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى غُلامٍ لَهُ خَيَّاطٍ، فَأَتَاهُ بِقَصْعَةٍ فِيهَا طَعَامٌ، وَعَلَيْهِ دُبَّاءٌ، فَجَعَلَ النَّبِىّ عليه السلام يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ، قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ جَعَلْتُ أَجْمَعُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ: فَأَقْبَلَ الْغُلامُ عَلَى عَمَلِهِ، قَالَ أَنَسٌ: مَا أَزَالُ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ بَعْدَ مَا رَأَيْتُ النَّبِىّ عليه السلام صَنَعَ مَا صَنَعَ. فى هذا الحديث حجة أن للمضيف أن يقدم الطعام إلى ضيفه ولا يأكل منه، ولايكون ذلك من سوء الأدب بضيفه ولا إخلالا بإكرامه، لأن ذلك صنع بحضرة النبى عليه السلام فلم ينه عنه، ولو كان من دنىء الأخلاق لنهى عنه لأنه بعث معلمًا، ولا أعلم فى الأكل مع الضيف وجهًا غير أنه أبسط لنفسه وأذهب لاحتشامه، فمن قدر على ذلك فهو أبلغ فى بر الضيف، ومن ترك ذلك فواسع إن شاء الله. وقد تقدم فى كتاب ذكر حديث أبى بكر الصديق لامرأته أن تطعم أضيافه.(9/496)
33 - باب المرق
/ 56 - فيه: أَنَس، أَنَّ خَيَّاطًا دَعَا النَّبِى عليه السلام لِطَعَامٍ صَنَعَهُ، فَذَهَبْتُ مَعَ النَّبِى عليه السلام فَقَرَّبَ خُبْزَ شَعِيرٍ وَمَرَقًا فِيهِ دُبَّاءٌ وَقَدِيدٌ. . . . الحديث. فيه أن السلف كانوا يأكلون الطعام الممرق، وفى بعض الآحاديث: (المرق أحد اللحمين) روى أبو عيسى الترمذى حدثنا الحسين بن على بن الأسود، حدثنا عمرو بن محمد العنقرى، حدثنا إسرائيل، عن صالح بن رستم أبى عامر الخزاز، عن أبى عمران الجونى، عن عبد الله بن الصامت، عن أبى ذر قال النبى - عليه السلام: (لا يحقرن أحدكم شيئًا لحمًا أو طبخت قدرًا فأكثر مرقته وأغرف لجارك منه) قال أبو عيسى: وهذا حديث صحيح، وقد رواه شعبة عن أبى عمران الجونى. وترجم لحديث أنس باب: القديد. / 57 - وفيه: عَائِشَةَ، مَا فَعَلَهُ إِلا فِى عَامٍ جَاعَ النَّاسُ، أَرَادَ أَنْ يُطْعِمَ الْغَنِىُّ الْفَقِيرَ، وَإِنْ كُنَّا لَنَرْفَعُ الْكُرَاعَ بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ. . . . الحديث. فيه: أن القديد كان من طعام النبى عليه السلام وسلف الأمة، وأما قول عائشة: (ما فعله إلا فى عام جاع الناس) تريد نهيه أن يأكلوا من لحوم نسكهم فوق ثلاث من أجل الدافة التى كان بها الجهد فأطلق لهم عليه السلام بعد زوال الجهد الأكل من الضحايا ما شاءوا، ولذلك قالت: (إن كنا لنرفع الكراع بعد خمس عشرة)(9/497)
34 - باب: من ناول أو قدم إلى أصحابه على المائدة شيئًا
وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: لا بَأْسَ أَنْ يُنَاوِلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلا يُنَاوِلُ مِنْ هَذِهِ الْمَائِدَةِ إِلَى أُخْرَى. / 58 - فيه: أَنَس، إِنَّ خَيَّاطًا دَعَا النَّبِىّ عليه السلام لِطَعَامٍ، فَرَأَيْتُ النَّبِىّ عليه السلام يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوْلِ الصَّحْفَةِ، فَجَعَلْتُ أَجْمَعُ الدُّبَّاءَ بَيْنَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) . إنما جاز أن يناول بعضهم بعضًا من على مائدة واحدة لأن ذلك الطعام إنما قدم لهم بأعيانهم ليأكلوا فقد صار من حقوقهم، وهم فيه شركاء، فمن ناول صاحبه مما بين يديه فكأنه آثره بنصيبه ومايجوز له أكله فمباح له ذلك، وقد قال النبى عليه السلام لابن أم سلمة: (كل ما يليك) فجعل ما يليه من المائدة حلالاً له، وأما من كان على مائدة أخرى فلا حق له فى ذلك الطعام ولا شركة، فلذلك كره العلماء أن يناول رجل من كان على مائدة أخرى.
باب: الرطب بالقثاء
/ 59 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِى طَالِبٍ، رَأَيْتُ النَّبِى عليه السلام يَأْكُلُ الرُّطَبَ بِالْقِثَّاءِ. / 60 - وفيه: أَبُو عُثْمَانَ، قَالَ: تَضَيَّفْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ سَبْعًا، فَكَانَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ وَخَادِمُهُ يَعْتَقِبُونَ اللَّيْلَ أَثْلاثًا، يُصَلِّى هَذَا ثُمَّ يُوقِظُ هَذَا، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَسَمَ النَّبِىّ عليه السلام بَيْنَ أَصْحَابهِ تَمْرًا، فَأَصَابَنِى سَبْعُ تَمَرَاتٍ إِحْدَاهُنَّ حَشَفَةٌ.(9/498)
قال ابن المنذر: ومن لذيذ المطعم جمع الآكل بين الشىء الحار والبارد فى الأكل ليعتلا كان النبى عليه السلام يأطل الرطب بالقثاء، وقد قال: (كلوا البلح بالتمر، فإن الشيطان يغضب ويقول: عاش ابن آدم حتى أكل الجديد والخلق) .
36 - باب الرطب التمر وقوله تعالى: (وهزى إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبًا جنيًا (
/ 61 - فيه: عَائِشَةَ، تُوُفِّى النَّبِىّ عليه السلام وَقَدْ شَبِعْنَا مِنَ الأسْوَدَيْنِ التَّمْرِ وَالْمَاءِ. / 62 - وفيه: حديث جابر حين طاف النبى فى نخله وبرك فيها وأكل من رطبها، وقضى اليهودى كل ما عليه وبقى له مثل ما قضاه. . . وذكر الحديث. الرطب والتمر من طيب ماخلق الله وأباحه لعباده فهو جل طعام أهل الحجاز وعمدة أقواتهم، وقد دعا إبراهيم عليه السلام لتمر مكة بالبركة، ودعا النبى عليه السلام لتمر المدينة بمثل ما دعا به إبراهيم لمكة ومثله معه، فلا تزال البركة فى تمرهم وثمارهم إلى قيام الساعة.(9/499)
37 - باب: أكل الجمار
/ 63 - فيه: ابْن عُمَر، بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ النَّبِى عليه السلام إِذَا أُتِىَ بِجُمَّارِ نَخْلَةٍ، فَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ لَمَا بَرَكَتُهُ كَبَرَكَةِ الْمُسْلِمِ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَعْنِى النَّخْلَةَ. . . .) الحديث.
38 - باب: العجوة
/ 64 - فيه: سَعْد، قال النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ تَصَبَّحَ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعَ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً لَمْ يَضُرُّهُ فِى ذَلِكَ الْيَوْمِ سُمٌّ وَلا سِحْرٌ) . قد تقدم فى كتاب الطب.
39 - باب: القران فى التمر
/ 65 - فيه: جَبَلَةُ بْنُ سُحَيْمٍ، أَصَابَنَا عَامُ سَنَةٍ مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَرَزَقَنَا تَمْرًا، فَكَانَ عَبْدُاللَّهِ يَمُرُّ بِنَا وَنَحْنُ نَأْكُلُ، فَيَقُولُ: لا تُقَارِنُوا، فَإِنَّ النَّبِىَّ عليه السلام نَهَى عَنِ الْقِرَانِ، ثُمَّ يَقُولُ: إِلا أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ أَخَاهُ. قد تقدم فى كتاب الشركة.(9/500)
40 - باب - جمع اللونين أو الطعامين بمرة
/ 66 - فيه: عَبْدَاللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ، رَأَيْتُ النَّبِى عليه السلام يَأْكُلُ الرُّطَبَ بِالْقِثَّاءِ. قال المهلب: لا أعلم من نهى عن خلط الأدم، إلا شيئًا يروى عن عمر، ويمكن أن يكون ذلك من السرف، والله أعلم. لأنه كان يمكن أن يأتدم بأحدهما ويرفع الآخر إلى مرة أخرة، ولم يحرم ذلك عمر لأن النبى عليه السلام قد جمع بين إدامين وأكل الرطب بالقثاء وأكل القديد مع الدباء، وقد روى عن النبى عليه السلام مايبين هذا. روى عبد الله بن عمر القواريرى حدثنا حمزة بن نجيح الرقاشى حدثنا سلمة ابن أبى حبيب عن أهل بيت رسول الله (أن رسول الله نزل قباء ذات يوم وهو صائم، فانتظر رجل يقال له أوس بن خولى، حتى إذا دنا إفطاره أتاه بقدح فيه لبن وعسل فناوله رسول الله عليه السلام فذاقه ثم وضعه فى الأرض ثم قال: ياأوس بن خولى ما شرابك هذا؟ قال: لبن وعسل يارسول الله. قال: إنى لا أحرمه، ولكنى أدعه تواضعًا لله، فإنه من تواضع لله رفعه الله، ومن تكبر قصمه الله، ومن بذر أفقر الله، ومن اقتصد أغناه الله، ومن ذكر الله أحبه الله) .
41 - باب: من أدخل الضيفان عشرة عشرة والجلوس على الطعام عشرة عشرة
/ 67 - فيه: أَنَس، أَنَّ أُمَّهُ أُمَّ سُلَيْمٍ، عَمَدَتْ إِلَى مُدٍّ مِنْ شَعِيرٍ جَشَّتْهُ، وَجَعَلَتْ(9/501)
مِنْهُ خَطِيفَةً، وَعَصَرَتْ عُكَّةً عِنْدَهَا، ثُمَّ بَعَثَتْنِى إِلَى النَّبِى عليه السلام فَأَتَيْتُهُ، وَهُوَ فِى أَصْحَابِهِ، فَدَعَوْتُهُ، قَالَ: (وَمَنْ مَعِى) ، قَالَ: فَجِئْتُ، فَقُلْتُ: إِنَّهُ يَقُولُ، وَمَنْ مَعِى، فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَبُو طَلْحَةَ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا هُوَ شَىْءٌ صَنَعَتْهُ أُمُّ سُلَيْمٍ، فَدَخَلَ فَجِىءَ بِهِ، وَقَالَ: (أَدْخِلْ عَلَىَّ عَشَرَةً) ، فَدَخَلُوا فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ قَالَ: (أَدْخِلْ عَلَىَّ عَشَرَةً) ، فَدَخَلُوا فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ قَالَ: (أَدْخِلْ عَلَى عَشَرَةً) ، حَتَّى عَدَّ أَرْبَعِينَ، ثُمَّ أَكَلَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ قَامَ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ هَلْ نَقَصَ مِنْهَا شَىْءٌ؟ . فيه أن الاجتماع على الطعام من أسباب البركة فيه، وقد روى (أن أصحاب النبى عليه السلام قالوا: يا رسول الله إنا نأكل ولا نشبع. قال: فلعلكم تأكلون وأنتم مفترقون؟ قالوا: نعم. قال: فاجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله تعالى يبارك لكم) رواه أبو داود، قال: حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا الوليد بن مسلم حدثنا وحشى ابن حرب، عن أبيه، عن جده أن أصحاب النبى عليه السلام قالوا. . . وإنما أدخلهم النبى عليه السلام عشرة عشرة - والله أعلم - ولم يجمعهم كلهم على الأكل لأنها كانت قصعة واحدة فيها مد من شعير ولايمكن مثل هذه الجماعو الكثيرة أن يقدروا على التناول من هذا المقدار القليل، فجعلهم عليه السلام عشرة عشرة ليتمكنوا من الأكل، ولاؤذى بعضهم بعضًا فى التزاحم على الطعام، وليس فى الحديث دليل أنه لايجوز أن يجلس على مائدة أكثر من عشرة كما ظن من لم ينعم النظر فى ذلك لأن أصحاب النبى عليه السلام قد أكلوا فى الولائم مجتمعين. وفيه علامة النبوة لأن الطعام كان مدًا(9/502)
من شعير وأكل منه أربعون رجلا ببركة النبوة المعصومة، ثم أكل منه النبى بعد ذلك وبقى الطعام على حاله، وهذا من أعظم البراهين وأكبر المعجزات. وقال ابن السكيت: الخطيفة: الدقيق يذر على اللبن ثم يطبخ فيلعقه الناس.
42 - باب: مايكره من أكل الثوم والبصل
فيه ابن عمر عن النبى عليه السلام / 68 - وفيه: أَنَس، قيل لَهُ: مَا سَمِعْتَ من النَّبِى عليه السلام يَقُولُ فِى الثُّومِ؟ فَقَالَ: (مَنْ أَكَلَ فَلا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا) . / 69 - وفيه: جَابِرَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلا فَلْيَعْتَزِلْنَا، أَوْ لِيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا) . وقد تقدمت هذا فى كتاب الصلاة.
43 - باب: الكباث وهو ورق الأراك
/ 70 - فيه: جَابِر، كُنَّا مَعَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) بِمَرِّ الظَّهْرَانِ نَجْنِى الْكَبَاثَ، فَقَالَ: (عَلَيْكُمْ بِالأسْوَدِ مِنْهُ، فَإِنَّهُ أَيْطَبُ) ، فقيل: أَكُنْتَ تَرْعَى الْغَنَمَ؟ قَالَ: (نَعَمْ، وَهَلْ مِنْ نَبِىٍّ إِلا رَعَاهَا) ؟ . الكباث ثمر الأراك الغض منه خاصة، والبرير ثمر الأراك(9/503)
الرطب منه واليابس، وكان هذا فى أول الإسلام عند عدم الأقوات؛ فإذا قد أغنى الله عباده بالحنطة والحبوب الكثيرة وسعة الرزق فلا حاجة بهم إلى ثمر الأراك. وقوله: (أيطب) بمعنى أطيب وهما لغتان بمعنى واحد، ذكره أهل اللغة كما يقال: جذب وجبذ.
44 - باب: المضمضة بعد الطعام
/ 71 - فيه: سُوَيْدِ بْنِ النُّعْمَانِ، خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى خَيْبَرَ، فَلَمَّا كُنَّا بِالصَّهْبَاءِ دَعَا بِطَعَامٍ، فَمَا أُتِىَ إِلا بِسَوِيقٍ، فَأَكَلْنَا، فَقَامَ إِلَى الصَّلاةِ، فَتَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا. المضمضة بعد الطعام سنة مؤكدة، وكان النبى عليه السلام يواظب على فعل ذلك ويحض أمته على تنظيف أفواههم وتطيبها لأنها طرق القرآن، ولذلك قال أبو هريرة: (لولا أن يشق على أمته لأمرهم بالسواك عند كل صلاة) . فالمضمضة بالماء بعد الطعام من أجل الصلاة ومن أجل مباشرة كلام الناس أيضًا تغنى عن السواك، ولا شىء أنظف من الماء، وبه أمر الله أن يطهر كل شىء. وقد روى عن النبى فى وضوء اليدين قبل الطعام وبعده بركة. رواه أبو داود حدثنا موسى بن اسماعيل حدثنا قيس، عن أبى هاشم، عن زاذان، عن سليمان عن النبى (صلى الله عليه وسلم) . قال ابن المنذر: وليس ذلك بواجب لأن النبى عليه السلام قد أكل لما خرج من البراز قبل أن يغسل يديه. رواه أبو داود(9/504)
من حيدث ابن أبي مليكة عن ابن عباس، وأنكر مالك غسل اليدين قبل الطعام، وقال إنه من فعل الأعاجم، وبه قال الثورى. وقال البهرى: لا نحفظ ذلك عن النبى ولا عن أصحابه.
45 - باب: لعق الأصابع ومصها قبل أن تمسح بالمنديل
/ 72 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ، فَلا يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا، أَوْ يُلْعِقَهَا) . قد جاء معنى هذا الحديث فى حديث آخر، روى ابن وهب عن عياض بن عبد الله القرشى وابن لهيعة، عن أبى الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله: (لا يمسح أحدكم يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه، فإنه لايدرى فى أى الطعام يبارك له فيه) . قال ابن المنذر: فى حديث ابن عباس إباحة مسح اليد بالمنديل، وترجم له أبو داود باب المنديل بعد الطعام.
46 - باب: المنديل
/ 73 - فيه: جَابِر، أَنَّهُ سَئُل عَنِ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ، فَقَالَ: لا، قَدْ كُنَّا زَمَانَ النَّبِى عليه السلام لا نَجِدُ مِثْلَ ذَلِكَ مِنَ الطَّعَامِ إِلا قَلِيلا، فَإِذَا نَحْنُ وَجَدْنَاهُ لَمْ يَكُنْ لَنَا مَنَادِيلُ إِلا أَكُفَّنَا وَسَوَاعِدَنَا وَأَقْدَامَنَا، ثُمَّ نُصَلِّى وَلا نَتَوَضَّأُ. قال ابن وهب: سئل مالك عن الحديث الذى جاء من باب فى يده غمر فلا يلومن إلا نفسه. فقال مالك: لا أعرف هذا الحديث، وقد سمعت أنه كان يقال:(9/505)
منديل عمر بطن قدميه، وما كان هذا إلا شيئًا حديثًا، والحديث الذى لم يعرفه مالك رواه أبو داود قال: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا سهيل بن أبى صالح، عن أبيه، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله: (من نام وفى يده غمر لم يغسله فأصابه شىء فلا يلومن إلا نفسه) . ورواه الأعمش عن أبى صالح عن أبى هريرة. وقيل لمالك: أيغسل يده بالدقيق؟ قال: غيره أعجب إلى منه، ولو فعل لم أر به بأسًا، قد تمندل عمر بباطن قدمه. وروى ابن وهب فى الجلباب وشبه ذلك: أنه لابأس أن يتوضأ به، ويتلك به فى الحمام، وقد يدهن جسده بالزيت والسمن من الشقاق، وروى أنه سئل عن الوضوء بالدقيق والنخالة والفول قال: لا علم به، ولم يتوضأ به؟ إن أعياه شىء فليتوضأ بالتراب.
47 - باب: ما يقول إذا فرغ من طعامه
/ 74 - فيه: أَبُو أُمَامَة، أَنَّ النَّبِى عليه السلام كَانَ إِذَا رَفَعَ مَائِدَتَهُ، قَالَ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، غَيْرَ مَكْفِى وَلا مُوَدَّعٍ وَلا مُسْتَغْنًى عَنْهُ رَبَّنَا) . / 75 - قَالَ أَبُو أُمَامَةَ مَرَّةً: كَانَ النَّبِى عليه السلام إِذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ، قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى كَفَانَا، وَأَرْوَانَا غَيْرَ مَكْفِى وَلا مَكْفُورٍ. وَقَالَ مَرَّةً: (لك الْحَمْدُ رَبِّنَا غَيْرَ مَكْفِىٍّ، وَلا مُوَدَّعٍ وَلا مُسْتَغْنًى عَنْهُ) .(9/506)
أهل العلم يستحبون حمد الله عند تمام الأكل والأخذ بهذا الحديث وشبهه، فقد روى عن النبى عليه السلام فى ذلك أنواع من الحمد والشكر كان يقول إذا فرغ من طعامه، وقد روى عنه عليه السلام أنه قال: (من سمى الله على أول طعامه وحمده إذا فرغ منه لم يسئل عن نعيمه) . وقوله: (غير مكفى) يحتمل أن يكون من قولهم: كفأت اإناء فيكون معناه: غير مردود عليه إنعامه وإفضاله إذا فضل الطعام على الشبع، فكأنه قال: ليست تلك الفضيلة مردودة ولامهجروة، ويحتمل أن يكون معناه أن الله غير مكفى رزق عباده، أى ليس أحد يرزقهم غيره، الا ترى أن فى بعض الأسانيد مستغنى عنه ربنا، فيكون هو قد كفى رزقهم، والله أعلم.
48 - باب: الأكل مع الخادم
/ 76 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا أَتَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ بِطَعَامِهِ، فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ، فَلْيُنَاوِلْهُ أُكْلَةً أَوْ أُكْلَتَيْنِ، أَوْ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ، فَإِنَّهُ وَلِى حَرَّهُ وَعِلاجَهُ) . الأكل مع الخادم من التواضع والتذلل وترك التكبر، وذلك من آداب المؤمنين وأخلاق المرسلين، وقد تقدم فى كتاب العتق.
49 - باب: الطاعم الشاكر مثل الصائم الصابر
والرجل يدعى إلى الطعام فيقول: وهذا معي.(9/507)
وَقَالَ أَنَسٌ: إِذَا دَخَلْتَ عَلَى مُسْلِمٍ لا يُتَّهَمُ، فَكُلْ مِنْ طَعَامِهِ وَاشْرَبْ مِنْ شَرَابِهِ. / 77 - فيه: أَبُو مَسْعُود، قَالَ: أن أَبَا شُعَيْبٍ كَانَ لَهُ غُلامٌ، فَأَتَى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ فِى أَصْحَابِهِ، فَعَرَفَ الْجُوعَ فِى وَجْهِه،، فَقَالَ لغُلامهُ: اصْنَعْ لِنا طَعَامًا يَكْفِى خَمْسَةً لَعَلِّى أَدْعُو فَأَتَاهُم، فَتَبِعَهُمْ رَجُلٌ، فَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (إِنْ شِئْتَ أَذِنْتَ لَهُ. . . .) الحديث. قال المؤلف: لم يذكر البخارى حديثا فى الطاعم الشاكر، وذكر ابن المنذر قال فى حديث سنان بن سنة أن النبى عليه السلام قال: (الطاعم الشاكر له مثل أجر الصائم الصابر) ورواه عبد الرزاق عن معمر، عن رجل من غفار أنه سمع سعيد المقبرى يحدث عن أبى هريرة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) . وهذا من عظيم تفضل الله على عباده، أن جعل للطاعم إذا شكر لله على طعامه وشرباه ثواب الصائم الصابر. ومعنى الحديث - والله أعلم - التنبيه على لزوم الشكر لله تعالى على جميع نعمه، صغيرها وكبيرها، فكما الحق عليه السلام الطاعم الشاكر بالصائم الصابر فى الثواب، دل على أنه تعالى كذلك يفعل فى شكر سائر النعم؛ لأنها كلها من عند الله تعالى لاصنع فى شىء منها للمخلوقين فهو المبتدىء بها والمللهم للشكر عليها والمثيب على ذلك، فينبغى للمؤمن لزوم الشكر لربه فى جميع حركاته وسكونه وعند كل نفس وكل طرفة، وليعلم العبد تحت ماهو من نعم مولاه ولايفتر لسانه عن شكرها، فتستديم النعم والعافية، لقوله تعالى: (لئن شكرتم لأزيدنكم) وروى معمر عن قتادة والحسن، قالا:(9/508)
(عرضت على آدم ذريته فرأى فضل بعضهم على بعض فقال: أى رب، هلا سويت بينهم؛ فقال: إنى أحب أن أشكر) . فإن قال قائل: فهل يسمى الحامد لله على نعمة شاكرًا؟ قيل: نعم؛ روى معمر، عن قتادة، عن ابن عمر أن النبى عليه السلام قال: (الحمد رأس الشكر، وماشكر الله عبد لا يحمده) . وقال الحسن: ما أنعم الله على عبد نعمة فحمد الله عليها؛ إلا كان حمده أعظم منها كائنة ماكانت. وقال النخعى: شكر الطعام أن تسمى إذا أكلت، وتحمد إذا فرغت. وقد تقدم فى البيوع فى باب مايل فى اللحام والجزار
50 - باب: إذا حضر العشاء فلا يعجل عن عشائه
وقد تقدم فى كتاب الصلاة.
51 - باب: قوله تعالى: (فإذا طعمتم فانتشروا
/ 78 - فيه: أَنَس، قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِالْحِجَابِ. . . وذكر الحديث. وجلوس الرجال فى بيته عليه السلام بعد ما طعموا، وبعد قيامه ورجوعه ثلاث مرات إلى آخر الحديث. قال المؤلف: بين الله تعالى فى آخر هذه الآية معنى هذا الحديث وذلك قوله تعالى: (إن ذلكم كان يؤذى النبى فيستحى منكم والله لا يستحيي من الحق) .(9/509)
وأذى النبي حرام على جميع أمته وكذلك أذى المؤمنين بعضهم لبعض حرام. وفيه من الفقه أن من أطال الجلوس فى بيت غيره حتى أضر بصاحب المنزل أنه مباح له أن يقوم عنه أو يخبره أن له حاجة إلى قيامه لكى يقوم وليس ذلك من سوء الأدب، وقد تقدم هذا فى كتاب الإستئذان فى باب من قام من مجلسه ولم يستأذن وتهيأ للقيام ليقوم الناس.(9/510)
71 - كتاب التعبير
باب: أول ما بدئ به الرسول - عليه السلام - من الوحى الرؤيا الصالحة
/ 1 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لا يَرَى رُؤْيَا إِلا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ. . . وذكر الحديث بطوله. قال المهلب: الرؤيا الصالحة الصادقة قد يراها الرجل المسلم والكافر والناس كلهم، إلا أن ذلك يقع لهم فى النادر والوقت دون الأوقات، وخص النبى عليه السلام بعموم صدق رؤياه كلها، ومنع الشيطان أن يتمثل فى صورته لئلا يتسور بالكذب على لسانه عليه السلام فى النوم، والرؤيا جزء من أجزاء الوحى، فإن قيل: فإن الشيطان قد تسور عليه فى اليقظة وألقى فى أمنيته عليه السلام. قيل: ذلك التسور لم يستتم؛ بل تلاقاه الله فى الوقت بالنسخ وأحكم آياته، وكانت فائدة تسوره إبقاء دليل البشرية عليه لئلا يغلو مغلون فيه، فيعبدونه من دون الله كما فعل بعيسى وعزير. فإن قيل: كيف يمنع الشيطان أن يتصور بصورة النبى فى المنام وأطلق له أن يتمثل ويدعى أنا البارى تعالى والصورة لاتجوز على البارى؟ قيل له: إنما منع أن يتصور فى صورة النبى الذى هو صورة فى الحقيقة دلالة للعلم وعلامة على صحة الرؤيا من(9/511)
ضغثها وأطلق له أن يتصور على ماليس بصورة على ماليس بصورة، ولايجوز عليه دلالة للعلم أيضًا وسببًا إليه؛ لأنه قد تقرر فى نفوس البشر أنه لايجوز التجسم على البارى - تعالى فجاز أن يجعل لنا هذا الوهم فى النوم دليل على علم ما لاسبيل إلى معرفته إلا من طريق التمثيل فى البارى - تعالى، مرة، وفى سائر الأرباب والسلاطين مرة. وكذلك قال أبو بكر بن الطيب الباقلانى: إن رؤية البارى فى النوم أوهام وخواطر فى القلب فى أمثال لاتليق به فى الحقيقة وتعالى سبحانه عنها دلالة للرائى على أمر كان أو يكون مسائر المرئيات. وهذا كلام حسن؛ لأنه لما كان خرق العادة دلالاً على صحة العلم فى اليقظة للأنبياء يهد بها الخلق، جعل خرق العادة الجارية على النبى يتصور الشيطان على مثاله بالمنع من ذلك دليلاً على صحة العلم. فإن قيل: كان يجب أن تكون الرؤيا إذا رأى فيها البارى صادقة أبدًا كما كانت الرؤيا التى رأى فيها النبى عليه السلام فالجواب أنه لما كان الله تعالى قد يعبر به فى النوم علس سائر السلاطين لأنه سلطان السلاطين ويعبر له على الاباء والسادة والمالكين، ووجدنا سائر السلاطين يجوز عليهم الصدق والكذب فأبقيت رؤياهم على العادة فيهم. ووجدنا النبيين لا يجوز الكذب على أحد منهم، ولا على شىء من حالهم فابقيت حال النبوة فى النوم على ماهى عليه فى اليقظة من الصدق برؤية النبى، وإذا قام الدليل عند العابر على الرؤيا التى يرى فيها البارى لايراد به غيره لم يجز فى تلك الرؤيا التى قام فيها دليل الحق على الله كذبًا أصلاً، لا في(9/512)
مقال ولا فى فعال، فتشابهت الرؤيا من حيث اتفقت فى معنى الصدق، واختلفت من حيث جاز غير ذلك، وهذا مالاذهاب عنه. وقوله: (فسكن لذلك جاشة) قال صاحب العين: الجأش: النفس.
باب: رؤيا الصالحين
وقوله تعالى: (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق (الآية / 2 - فيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ) . قال المهلب: (الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح) إنما يريد عامة رؤيا الصالحين، وهى التى يرجى صدقها؛ لأنه قد يجوز على الصالحين الأضغاث فى رؤياهم؛ لكن لما كان الأغلب عليهم الخير والصدق وقلة تحكم الشيطان عليهم فى النوم أيضًا، لما جعل الله فيهم من الصلاح، وبقى سائر الناس غير الصالحين تحت تحكم الشيطان عليهم فى النوم؛ مثل تحكمه عليهم فى اليقظة فى ألب أمورهم، وإن كان قد يجوز منهم الصدق فى اليقظة فكذلك يجوز فى رؤياهم صدق أيضًا.
باب الرؤيا من الله
/ 3 - فيه: أَبُو قَتَادَةَ، قَالَ النَّبِي (صلى الله عليه وسلم) : (الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ مِنَ اللَّهِ وَالْحُلْمُ مِنَ الشَّيْطَانِ) .(9/513)
/ 4 - وفيه: أَبُو سَعِيد، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، يَقُولُ: (إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ رُؤْيَا يُحِبُّهَا، فَإِنَّمَا هِى مِنَ اللَّهِ، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ عَلَيْهَا، وَلْيُحَدِّثْ بِهَا، وَإِذَا رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَكْرَهُ فَإِنَّمَا هِى مِنَ الشَّيْطَانِ، فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ شَرِّهَا، وَلا يَذْكُرْهَا لأحَدٍ فَإِنَّهَا لا تَضُرُّهُ) . فإن قال قائل: مامعنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (الرؤيا من الله والحلم من الشيطان) وقد تقرر أنه لا خالق والشر غير الله، وأن كل شىء بقدره وخلقه؟ . قال المهلب: فالجواب أن النبى عليه السلام سمى ريا من خلص من الأضغاث وكان صادقا تأويله موافقًا لما فى اللح الحفوظ، فحسنت إضافته إلى الله، وسمى الريا الكاذبة التى هى من حيز الأضغاث حلمًا وأضافها إلى الشيطان؛ إذ كانت مخلوقة على شاكلة الشيطان وطبعه، وليعلم الناس مكائدة فلا يحزنزن لها ولايتعذبون بها، وإنما سميت ضغثًا لأن فيها اشياء متضادة. قال غيره: والدليل على أنه لايضاف إلى الله تعالى إلا الشىء الطيب الطاهر قوله تعالى: (إن عبادى ليس لك عليهم سلطان) فأضافهم إلى نفسه لأنهم أولياؤه ومعلوم أن غير أوليائه عباد الله أيضًا، وقال تعالى: (فإذا نفخت فيه من روحى) ، (وطهر بيتى للطائفين) وقال تعالى: (والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت) ، فأضافهم إلى ما هم أهله وإن كان الكل خلقه وعبيده (وما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها) قال المهلب: وإن كان المحزن من الأحلام مضافًا إلى الشيطان فى الأغلب وقد يكون المحزن فى النادر من الله تعالى لكن لحكمة(9/514)
بالغه، وهو أن ينذر بوقوع المحزن من الأحلام بالصبر لوقوع ذلك الشىء لئلا يقع على غرة فيقتل، فإذا وقع على مقدمة وتوطين نفس كان أقوى النفوس وأبعد لها من أذى البغثة، وقال (فإنها لا تضره) يعنى بها ماكان من قبل الشيطان جعل الله الاستعاذةمنها مما يدفع به أذاها، ألا ترى قول أبى قتادة: (إن كنت لأرى الرؤيا هى أثقل على من الجبل فلما سمعت بهذا الحديث كنت لاأعدها شيئًا) . وروى قتادة، عن ابن سيرين، عن أبى هريرة، عن النبى عليه السلام فى هذا الحديث: (فمن رأى منكم مايكره فليقم ويصلى) .
باب الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة
/ 5 - فيه: عُبَادَة، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ) . ورواه أنس، وأبو هريرة، وأبو سعيد، عن النبى. ذكر الطبرى فى تهذيب الآثار أحاديث كثيرة مخالفة لحديث هذا الباب فى الأجزاء، منها حديث ابن عباس: (أن الرؤيا جزء من أربعين جزءًا من النبوة) وحديث عبد الله بن عمرو: (أنها جزء من تسعة وأربعين جزءًا من النبوة) وحديث العباس: (جزء من خمسين جزءًا من النبوة) وحديث ابن عمر وابن عباس وأبى هريرة: (جزء من سبعين جزءًا من النبوة) . قال الطبرى: والصواب أن يقال إن عامة هذه الأحاديث أو أكثرها صحاح، ولكل حديث منها مخرج معقول. فأما قوله: (من(9/515)
سبعين جزءًا من النبوة) . فإن ذلك قول عام فى كل رؤيا صالحة صادقة لكل مسلم رآها فى منامه على أى أحواله كان. وهذا قول ابن مسعود وأبى هريرة والنخعى أن الرؤيا جزء من سبعين جزءًا من النبوة. وأما قوله أنها جزء من اربعين أو ستة وأربعين فإنه يريد بذلك ماكان صاحبها بالحال التى ذكر عن الصديق - رضى الله عنه - أنه يكون بها. روى ابن وهب عن عمرو بن الحارث أن بكر بن سوادة حدثه أن زياد بن نعيم حدثه أن أبا بكر الصديق كان يقول: لأن يرى الرجل المسلم يسبغ الوضوء رؤيا صالحة أحب إلى من كذا وكذا. قال الطبرى: فمن كان من أهل إسباغ الوضوء فى السبرات والصبر فى الله على المكروهات وانتظار الصلاة بعد الصلاة فرؤيا الصالحة إن شاء الله جزء من أربعين جزءًا من النبوة، ومن كانت حالة فى ذاته بين ذلك فروياه الصادقة بين الجزء من الأربعين إلى السبعين لاينتقص عن سبعين ولايزاد على الأربعين. قال المؤلف: أصح ما فى هذا الباب أحاديث الستة وأربعين جزءًا ويتلوها فى الصحة حديث السبعين جزءًا، ولم يذكر مسلم فى كتابه غير هذين الحدثين، فأما حديث السبعين جزءًا فرواه عن أبو بكر ابن أبى شيبة، عن أبى أسامة، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبى عليه السلام ورواه ابن نمير ويحى بن سعيد، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، ورواه الليث أيضًا عن نافع، عن ابن عمر وأما سائرها فهى من أحاديث الشيوخ.(9/516)
السبعين جزءًا وحديث الستة واربعين جزءًا، وهذا تعارض ولايجوز النسخ فى الأخبار؟ فالجواب: أنه يجب أن نعلم مامعنى كون الرؤيا جزءًا من أجزاء النبوة فلو كانت جزءًا من الف جزء منها لكان ذلك كثيرًا. فنقول وبالله التوفيق: إن لفظ النبوة مأخوذ من النبأ والإنباء، وهو الإعلام فى اللغة والمعنى أن الرؤيا إنباء صادق من الله، لاكذب فيه كما أن معنى النبوة الإنباء الصادق من الله الذى لايجوز عليه الكذب فتشاهبهت الؤيا النبوة فى صدق الخبر عن الغيب. فإن قيل: فما معى اختلاف الأجزاء فى ذلك فى القلة والكثرة؟ قيل: وجدنا الرؤيا تنقسم قسمين لا ثالث لهما، وهو أن يرى الرجل رؤيا جلية ظاهرة التأويل مثل من رأى أنه يعطى شيئًا فى المنام فيعطى مثله بعينه فى اليقظة، وهذا الضرب من الرؤيا لا إغراق فى تأويلها ولا رمز فى تعبيرها، والقسم الثانى مايراه من المنامات المرموزة البعيدة المرام فى التأويل وهذا الضرب يعسر تأويله إلا الحذاق بالتعبير لبعد ضرب المثل فيه، فيمكن أن يكون هذا القسم من السبعين جزءًا كانت الرؤيا أقرب إلى النبأ الصادق، وآمن من وقوع الغلط فى تأويلها، وإذا كثرت الأجزاء بعدت بمقدار ذلك وخفى تأويلها، والله أعلم بما أراد نبيه (صلى الله عليه وسلم) . وقد عرضت هذا القول على جماعة من أصحابى ممن وثقت بدينة وفهمه فحسنوه وزادنى فيه بعضهم مرة، وقال لى: الدليل على صحته أن النبوة على مثل هذه الصفة تلقاها نبينا عليه السلام(9/517)
جبريل بالوحى فيكلمه بكلام فيعيه بغير مؤمنة ولا مشة، ومرة يلقى إليه جملا وجوامع يشتد عليه فكها وتبيينها، حتى تأخذه الرحضاء ويتحدر منه العرق مثل الجمان فى اليوم الشديد البرد، ثم يعينه الله على تبيين ماألقى إليه من الوحى، فلما كان تلقيه عليه السلام للنبوة المعصومة بهذه الصفة كان تلقى المؤمن من عند الملك الآتى بها من أم الكتاب بهذه الصفة، والله أعلم. وفيه: تأويل ذكره أبو سعيد السفسقى عن بعض أهل العلم قال معنى قوله: (جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة) . فإن الله تعالى - أوحى إلى محمد عليه السلام فى الرؤيا ستة أشهر، ثم بعد ذلك أوحى إليه بإعلام باقى عمره، وكان عمره فى النبوة ثلاثة وعشرين عامًا فيما رواه عكرمة وعمرو بن دينار، عن ابن عباس، فإذا نسبنا ستة أشهر من ثلاثة وعشرين عامًا وجدنا ذلك من ستة وأربعين. وهذا التأويل يفسد من وجهين: أحدهما: أنه قد اختلف فى مدة النبى (صلى الله عليه وسلم) ، فقيل: إنها كانت عشرين عامًا. رواه أبو سلمة عن ابن عباس وعائشة، والوجه الثانى: أنه يبقى حديث السبعين جزءًا بغير معنى.
باب: المبشرات
/ 6 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إِلا الْمُبَشِّرَاتُ) ، قَالُوا: وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ؟ قَالَ: (الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ) . قال المؤلف: وذكر ابن أبى شيبة بإسناده عن أبى الدرداء: (أنه سأل النبى عليه السلام عن قوله تعالى: (لهم البشرى في الحياة الدنيا (.(9/518)
قال: هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له، وفى الآخرة الجنة) . روى مثله عن ابن عباس وعروة ومجاهد. قال المهلب: وحديث أبى هريرة خرج لفظه على العموم، ومعناه الخصوص؛ وذلك أن المبشرات هى الرؤيا الصادقة من الله التى تسر رأئيها وقد تكون صادقة منذرة من الله تعالى لاتسر رأئيهايريها الله المؤمن رفقًا به ورحمة له؛ ليستعد لنزول البلاء قبل وقوعه فقوله: (لم يبق بعدى إلا المبشرات) خرج على الأغلب من حال الرؤيا، وقد قال محمد بن واسع: الرؤيا بشرى للمؤمن، ولا تغره. قال الطبري: فإن قال قائل: فإن كانت كل رؤيا حسنة وحى من الله وبشرى للمؤمنين، فما باله يرى الرؤيا الحسنة أحيانًا، ولايجد لها حقيقة فى اليقظة؟ فالجواب: أن الرؤيا مختلفة الأسباب فمنها من وسوسة وتخزين للمؤمن، ومنها من حديث النفس فى اليقظة فيراه فى نومه، ومنها ماهو وحى من الله، فما كان من حديث النفس ووسوسة الشيطان فإنه الذى يكذب، وماكان من قبل الله فإنه لا يكذب. وبنحو هذا ورد الخبر عن النبى عليه السلام وروى ابن وهب، عن جرير بن حازم، عن أبيه، عن أيوب وهشام، عن ابن سيرين، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله: (الرؤيا ثلاث: رؤيا بشرى من الله، ورؤيا مما يحدث به الرجل نفسه، ورؤيا تخزين من الشيطان) .(9/519)
باب: رؤيا يوسف عليه السلام
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا (الآية [يوسف: 4] ، وَقَوْلِهِ: (يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاىَ مِنْ قَبْلُ (إلى) بِالصَّالِحِينَ) [يوسف: 100] . قال المؤلف: رؤيا يوسف حق ووحى من الله كرؤيا سائر الأنبياء، ألا ترى قول يوسف لأبيه يعقوب: (يا أبت هذا تأويل رؤياى من قبل قد جعلها ربى حقًا) . وقول بعقوب ليوسف: (لا تقصص رؤياك على إخواتك فيكيدوا لك كيدًا) قال له ذلك علم من تأويل الرؤيا فخاف أن يحسدوه، وكان تبين له الحسد منهم له، وهذا أصل أن لاتقص الرؤيا على غير شفيق ولاناصح، ولاتقص على من لا يحسن التأويل.(9/520)
باب: رؤيا إبراهيم عليه السلام
وقوله تعالى: (فلما بلغ معه السعى (الآيات وَقَالَ مُجَاهِدٌ: (أَسْلَمَا (: سَلَّمَا لأُمِرَا اللَّه،) وَتَلَّهُ (وَضَعَ وَجْهَهُ بِالأرْضِ. قال المهلب: هذا دليل أن رؤيا الأنبياء وحى لايجوز فيها الضغث لأ، إبراهيم عليه السلام حكم بصدقها، ولم يشك أنها من عند الله فسهل عليه ذبح ابنه والتقرب به إلى الله، وكذلك فعل إسحاق حين أعلمه أبوه إبراهيم برؤياه، فسلم لحكم الله ورضى وانقاد له وفوض أمره إلى الله فقال: (يا أبت افعل ماتؤمر ستجدنى إن شاء الله من الصابرين) بهذه الآية استدل ابن عباس على أن رؤيا الأنبياء وحى.
باب: التواطؤ على الرؤيا
/ 7 - فيه: ابْن عُمَر، أَنَّ أُنَاسًا أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِى السَّبْعِ الأوَاخِرِ، وَأَنَّ أُنَاسًا أُرُوا أَنَّهَا فِى الْعَشْرِ الأوَاخِرِ، فَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (الْتَمِسُوهَا فِى السَّبْعِ الأوَاخِرِ) . قال المهلب: فيه الحكم على صحة الرؤيا بتوطئها وتكريرها، وهذا أصل فى ذلك يجب لنا أن نحكم به إذا ترادفت الريا وتواطأت بالصحة؛ كما حكم النبي - عليه السلام -.(9/521)
باب: رؤيا أهل السجن وأهل الفساد والشرك لقوله تعالى: (ودخل معه السجن (إلى: (يعصرون (
/ 8 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْ لَبِثْتُ فِى السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسُفُ، ثُمَّ أَتَانِى الدَّاعِى لأجَبْتُهُ) . قال المهلب: إنما ترجم بهذا لجواز أن يكون فى ريا أهل الشرك رؤيا صادقة كما كانت رؤية الفتيين صادقة إلا أنه لايجوز أن تضاف إلى النبوة إضافة رؤيا المؤمن إلى النبوة فى التجزئة لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (الرؤيا الحسنة يراها العبد الصالح أو ترى له جزء له ستة وأربعين جزءًا من النبوة) . فدل هذا أنه ليس كل ما يصح له تأويل من الرؤيا وله حقيقة يكون جزءًا من ستة واربعين جزءًا من النبوة، قال أبو الحسن بن أبى طالب: وفى صدق رؤيا الفتين حجة على من زعم أن الكافر لايرى رؤيا صادقة. فإن قيل: فإذا رأى الكافر رؤيا صادقة فما مزيه المؤمن عليه فى رؤياه، ومعنى خصوصه عليه السلام المؤمن بالرؤيا الصادق فى قوله: (يراها الرجل الصالح أو ترى له) ؟ . فالجواب: أن لمنام المؤمن مزية على منام الكافر فى إنباء والإعلام والفضل والإكرام، وذلك أن المؤمن يجوز أن يبشر على إحسانه وينبأ بقبول أعماله ويحذر من ذنب عمله ويردع من سوء قد أمله، ويجوز أن يبشر بنعيم الدنيا وينبأ ببؤسها، والكافر فإن جاز أن يحذر ويتوعد على كفره فليس عنده ما عند المؤمن من الأعمال الموجبة لثواب الآخرة وكل مابشر به الكافر من حالة وغبط به من أعماله، فذلك(9/522)
غرور من عدوه ولطف من مكائده فنقص لذلك حظه من الرؤيا الصادقة عن حظ المؤمن لأن النبى عليه السلام حين قال: (رؤيا المؤمن ورؤيا الصالح جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة) لم يذكر فى ذلك كافرًا ولامبتدعًا فأخرجنا لذلك مايراه الكافر من هذه التقدير والتجزئة لما فى الأخبار من صريح الشرط لرؤيا المؤمن، وأدخلنا ما يراه الكافر من صالح الرؤيا فى خبره المطلق عليه السلام: (الرؤيا من منامات الكفار فهى من الله) ، ولم نقل كذا وكذا من النبوة لاسيما أن الشعرى وابن الطيب يريان أن جميع مايرى فى المنام من حق أو باطل خلق لله فما كان منه صادقا خلقه بحضور الملك، وما كان باطلاً خلقه بحضور الشيطان، فيضاف بذلك إليه. فإن قال: يجوز أن نسمى مايراه الكافر صالحًا؟ قيل له: نعم وبشارة أيضًا كانت الرؤيا له أو لغيره من المؤمنين لقوله عليه السلام: (الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له) . فاحتمل هذا الكلام أن يراها الكافر لغيره من المؤمنين وهو صالح للمؤمنين، كما أن يراه الكافر ممايدل على هدايته وإيمانه فهو صالح له فى عاقبته، وذلك حجة الله عليه وزجر له فى منامه، وقد خرج البخارى فى بعض طرق حديث عائشة (أول ما بدئ به رسول الله من الوحى الرؤيا الصالحة) أنها الصادقة؛ لأنها صالح مايرى فى المنام من(9/523)
الأضغاث، وأباطيل الأحلام، وكما أنبأ الله الكفار فى اليقظة بالرسل وبالمؤمنين من عباده دون المشركين من أعدائه قامت الحجة على المشركين بذلك إلى يوم الدين فكذلك يجوز إنباؤهم فى المنام بما يكون حجة عليهم أيضًا. قال المهلب: وقوله: (لو لثبت فى السجن ما لبث يوسف ثم أتانى الداعى لأجبته) . هذا من تواضعه عليه السلام لئلا يغلى فى مدحه فقال عليه السلام: (لا تطرونى كما أطرت النصارى المسيح وقولوا عبد الله ورسوله) (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) لكن فى حكم الأدب إذا ذكر الأنبياء والرسل أن يتواضع. وفيه: الترفيع لشأن يوسف لأنه حين دعى للإطلاق من السجن قال: ارجع إلى ربك. ولم يرد الخروج منه إلا بعد أن تقر امرأة العزيز على نفسها أنها راودته عن نفسه فأقرت وصدقته، وقالت: أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين، فخرج حينئذ. قال ابن قتيبة: فوصفه بالأناة والصبر وأنه لم يخرج حين دعى، وقلا: لو كنت مكانه ثم دعيت إلى مادعى إليه من الخروج من السجن لأجبت ولم ألبث، وهذا من حسن تواضعه على السلام؛ لأنه لو كان مكان يوسف فبادر وخرج ولم يكن عليه نقص أو على يوسف عليه السلام لو خرج مع الرسول من السجن نقص ولاأثر، وإنما أراد أن يوسف لم يكن يستثقل محنة الله قيبادر ويتعجل؛ ولكنه كان صابرًا محتسبًا. وفى هذا الحديث زيادة ذكرها البخارى فى كتاب الأنبياء قال النبي(9/524)
- عليه السلام -: (نحن أحق بالشك من إبراهيم؛ إذ قال: رب أرنى كيف تحيى الموتى قال أو لم تؤمن، ورحم الله لوطًا لقد كان ياوى إلى ركن شديد، ولو ثبت فى السجن. . .) الحديث قال ابن قتيبة: وقوله: (نحن أحق بالشك من إبراهيم) . فإنه لما نزل عليه: (وإذا قال إبراهيم رب أرنى كيف تحيى الموتي) الآية. قال قوم سمعوا الآية: شك إبراهيم ولم يشك نبينا، فقال رسول الله: (أنا أحق بالشك من إبراهيم) . تواضعًا وتقديما لإبراهيم على نفسه يريد: إنا لم نشك ونحن دونه، فكيف يشك هو؟ . ومثل هذا من تواضعه عليه السلام قوله: (لا تفضلونى على يونس ابن متى) . فخص يونس وليس كغيره من أولى العزم من الرسل، فإذا كان لايحب أن يفضل على يونس، فغيره من الأنبياء بأن لايحب أن يفضل عليهم. وتأويل قول إبراهيم: (ولكن ليطمئن قلبى) أى بيقين البصر، واليقين جنسان: أحدهما يقين السمع، والآخر يقين البصر، ويقين البصر أعلاهما؛ ولذلك قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (ليس الخبر كالمعاينة) حين ذكر قوم موسى وعكوفيهم على العجل قال: فأعلمه الله أن قومه عبدوا العجل فلم يلق الألواح؛ فلما عاينهم وعاكفين عليه غضب وألقى الألواح فتكسرت، وكذلك المؤمنون بالقيامة والبعث والجنة والنار متيقنون أن ذلك كله حق وهم فى القيامة عند النظر وعيان أعلى يقينًا، فأراد إبراهيم أن يطمئن قلبه بالنظر الذى هو أعلى اليقين. وقال غير ابن قتيبة: لم يشك إبراهيم عليه السلام أن الله يحيى الموتى وإنما قال: أرنى كيف، والجهل بالكيفية لايقدح فى اليقين بالقدرة إذ(9/525)
ليس من المؤمنين أحد يؤمن بالغيوب وبخلق السموات والأرض إلا وقد يجهل الكيفية، وذلك لايقدح فى إيمانه. فضرب الله تعالى مثلا لإبراهيم من نفسه فقال له: (خذ اربعة من الطير) الآية. فكما أحيى هذه الطير عن دعوتك، فكذلك أحيى أهل السموات والأرض عن نفخه الصور (وأعلم أن الله عزيز حكيم) عزيز فى صنائعه إذ صنائعه له عن مباشرة إلا عن قوله: كن، وماسواه من الصانعين فلا يتم له صنع إلا بمباشرة، وفى ذلك ذله ومفارقة للعزة، حكيم: أى فى أفعاله وإن كان بائنًا عنها، والصانع إذا بان من صنعته تختل أفعاله إذا كان بائنًا. قال ابن قتيبة: وقوله: (يرحم الله لوطًا إن كان ليأوى إلى ركن شديد) فإنه أراد قوله لقومه: (لو أن لى بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد) وفى الوقت الذى ضاق فيه صدره واشتد جزعه بنا دهمه من قومه، وهو يأوى إلى الله تعالى اشد اركان، قالووا: فما بعث الله تعالى نبيًا بعد لوط إلا فى ثروة من قومه. قال غير ابن قتيبة: ولايخرج هذا لوطًا من صفات المتوكلين على الله الواثقين بتأيده ونصره، لكن لوطًا - عليه السلام أثار منه الغضب فى ذات الله مايثير من البشر، فكان ظاهر قول لوط كأنه خارج عن التوكل، وإن كان مقصده مقصد المتوكلين فنبه النبى على ظاهر قول لوط تنبيه على ظاهر قول إبراهيم، وإن كان مقصده غير الشك لأنهم كانوا صفوة الله المخصوصين بغاية الكرامة(9/526)
ونهاية القرية، لايقنع منهم إلا بظاهر مطابق للباطن بعيد عن الشبهة؛ إذ العتاب والحجة من الله على قدر مايصنع فيهم. وفى كتاب مسلم عن بعض رواه الحديث قال: إنما شك إبراهيم: هل يجيبه الله عز وجل أم لا؟ .
باب فى رؤية النبى عليه السلام فى المنام
/ 90 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ رَآنِى فِى الْمَنَامِ فَسَيَرَانِى فِى الْيَقَظَةِ، وَلا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِى) . / 10 - وفيه: أَنَس، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ رَآنِى فِى الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِى، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لا يَتَخَيَّلُ بِى. . .) الحديث. هذا إخبار منه (صلى الله عليه وسلم) عن الغيب وأن الله تعالى منع الشيطان أن يتصور على صورته، وقد تقدم فى أول كتاب العبارة وقوله: (فسيرانى فى اليقظة) يعنى تصديق تلك الرؤيا فى اليقظة وصحتها وخروجها على الحق؛ لأنه عليه السلام ستراه يوم القيامة فى اليقظة جميع أمته من رآه فى النوم، ومن لم يره منهم.
باب رؤيا الليل
رواه سمرة. / 11 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَبَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ الْبَارِحَةَ؛ إِذْ أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأرْضِ حَتَّى وُضِعَتْ فِى يَدِي. . .) الحديث.(9/527)
/ 12 - وفيه: ابْن عُمَر، قَالَ النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) : (أُرَانِي اللَّيْلَةَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَرَأَيْتُ رَجُلا آدَمَ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ، لَهُ لِمَّةٌ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنَ اللِّمَمِ، قَدْ رَجَّلَهَا تَقْطُرُ مَاءً. . . .) وذكر الحديث. ورواه ابن عباس أيضًا. وقوله: (عنبة طافية) يقال: طفا الشىء على الماء يطفوا، إذا علا، فعين الدجال طافية على وجهه قد برزت كالعنبة.
باب: رؤيا النهار
قَالَ ابْنُ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: رُؤْيَا النَّهَارِ مِثْلُ رُؤْيَا اللَّيْلِ. / 13 - فيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىّ عليه السلام كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمًا، فَأَطْعَمَتْهُ، وَجَعَلَتْ تَفْلِى رَأْسَهُ، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَ: نَاسٌ مِنْ أُمَّتِى عُرِضُوا عَلَىَّ غُزَاةً فِى سَبِيلِ اللَّهِ. . .) وذكر الحديث. قال المهلب: معنى هذهين البابين أنه لايخص نوم النهار على نوم الليل، ولانوم الليل على نوم النهار بشىء من صحة الرؤيا وكذبها، وأن الرؤيا متى اريت فحكمها واحد، وتأويل المفاتيح فى النوم أسباب الفتح، والمعنى أتيت مادلنى على أنه سيفتح لى ولأمتى خزائن الأرض مايرفع عنهم المسغبة والفقر ومايدين لهم ملوك الأرض؛ لأن خزائن الأرض بأيدى الملوك، وهو فى معنى قوله: (وزويت لى الأرض. . .) الحديث.(9/528)
باب رؤيا النساء
/ 14 - فيه: أُمَّ الْعَلاءِ - امْرَأَةً مِنَ الأنْصَارِ بَايَعَتْ النَّبِىّ عليه السلام - أَخْبَرَت أَنَّهُمُ اقْتَسَمُوا الْمُهَاجِرِينَ قُرْعَةً، قَالَتْ: فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، فَأَنْزَلْنَاهُ فِى أَبْيَاتِنَا، فَوَجِعَ وَجَعَهُ الَّذِى تُوُفِّىَ فِيهِ. . . . وذكر الحديث. قالت: وأحزننى فنمت فرأيت لعثمان بن مظعون عينا تجرى فأخبرت رسول الله فقال: (ذلك عمله يجرى له) . وترجم له باب العين الجارية فى المنام. رؤيا النساء كرؤيا الرجال، لافرق بينهما، والمرأة المؤمنة داخلة فى معنى قوله عليه السلام: (رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة) . والعين فى المنام تختلف وجوهها؛ فإذا تعرت من دلائل الهم وكان مأؤها صافيا دلت على العمل الصالح كما فسر النبى، وقد تدل من العمل على مالاينقطع ثوابه كوقف أرض أو غله يجرى ثوابها دائمًا، وعلم علمه الناس عمل به من علمه، فإن كان ماؤها غير صاف فهو غم وحزن، وقد تدل على العين الباكية وعلى الفتنة لقوله تعالى: (وفجرنا الأرض عيونًا فالتقى الماء على أمر قد قدر) فكانت فتنة وجرت بهلاكهم ألا ترى قوله تعالى: (ماء غدقًا لنفتنهم فيه) وقد تدل على المال العين، ويستدل العابر على هذه الوجوه بأحوال الرائين وبزيادة الرؤيا ونقصانها.(9/529)
باب: اللبن
/ 15 - فيه: ابْن عُمَر، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، أُتِيتُ بِقَدَحِ لَبَنٍ فَشَرِبْتُ مِنْهُ حَتَّى إِنِّى لأرَى الرِّى يَخْرُجُ مِنْ أَظْفَارِى، ثُمَّ أَعْطَيْتُ فَضْلِى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ) ، قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (الْعِلْمَ) . قال المهلب: رؤية اللبن فى النوم تدل على السنة والفطرة والعلم والقرآن؛ لأنه أول شىء ناله المولود من طعام الدنيا، وهو الذى يفتق معاه، وبه تقوم حياته كما تقوم بالعلم حياة القلوب، فهو يشاكل العلم من هذه الناحية. وقد يدل على الحياة؛ لأنها كانت به فى الصغر، وقد يدل على الثواب؛ لأنه من نعيم الجنة إذا رئى نهر من لبن، وقد يدل على المال الحلال، وإنما أوله عليه السلام فى عمر بالعلم والله أعلم؛ لعلمه بصحة فطرته ودينه، والعلم زيادة فى الفطرة على اصل معلوم.
باب: القميص فى المنام
/ 16 - قَالَ أَبُو سَعِيد: قَالَ النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) : (بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُ النَّاسَ يُعْرَضُونَ عَلَىَّ، وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ، مِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثَّدْيَ، وَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ دُونَ ذَلِكَ، وَمَرَّ عَلَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ) ، قَالُوا: مَا أَوَّلْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (الدِّينَ) . وترجم له: باب جر القميص فى المنام. قال المهلب: أصل عبارته عليه السلام للقميص بالعلم فى كتاب الله فى قوله تعالى: (وثيابك فطهر) يريد صلاح العمل(9/530)
وتطهير الأحوال التى كانت أهل الجاهلية تستبيحها، هذا قول ابن عباس، والعرب تقول: فلان نقى الثوب إذا كان صالحًا فى دينه. وفيه دليل على أن الرؤيا لاتخرج كلها على نص مارؤيت عليه، وإنما تخرج على ضرب الأمثال، فضرب المثل على الدين بالقميص، وعلى الإيمان والعلم باللبن من أجل اشتراك ذلك فى المعانى، وذلك أن القميص يستر العورات كما يستر الدين الأعمال التى كان الناس فى حال الكفر يأتونها، وفى حال الجهل يقترفونها. وقد تقدم أن اللبن حياة الأجسام كما بالعلم حياة القلوب، هذا وجه اشتباه المعانى فى هذه الأمثال التى لها ضربت؛ لأن المثل يقتضى المماثلة، فإذا كان مثل لا مماثلة فيه لم يصح التعبير به. فإن قيل: فإذا كان التعبير يقتضى المماثلة فما وجه كون جر القميص فى النوم حسنأط، وجره فى اليقظة منهى عنه وهو من الخيلاء؟ قال المهلب: فالجواب أن القميص فى الدنيا ستر وزينة كما سماه الله، وأنه فى الآخرة لباس لاتقوى. فلما كان فى الدنيا زينة حرم منها ماكان مخرجًا إلى الخيلاء والكبرياء الذى لايجمل بمخلوق مربوب ضعيف الخلقة سفيه الشهوة. فالكبر مع هذه الحال لا يجمل به ولا يصح له لا ضراره إلى مدبر يديره ورازق يرزقه، ودافع يدفع عنه ما لا امتناع له منه، ويحميه من الآفات، فوجب أن تكون تلك الزينة فى الدنيا مقرونة بدليل الذلة وعلامة العبودية، هذا معنى وجوب تقصيرها فى الدنيا. ولما خلصت فى الآخرة من أن يقترن بها كبر أو يخطر منه خارط على قلب بشر، حصلت لباس التقوى كما سماها الله فحسن فيها(9/531)
الكمال والجر لفضولها على الأرض، ودل ذلك الفضل المجرور على بقايا من العلم والدين يخلد ويكون أثرًا باقيًا خلفه، ولم يكن بسبيل إلى أن يكون فيه من معنى الكبر شىء فى ذلك الموطن، وليس هذا مما يحمل على أحوال الرائين، وإنما هو ابدًا محمول على جوهر الشىء المرئى، فجوهرالقميص فى الدنيا بقرينة الجر له كبر وتعاظم، وجوهرة فى الآخرة بالدين والعلم، وليس فى الآخرة فيه تحليل ولاتحريم، وإنما يحمل الشىء على حال الرائى له إذا تنوع جوهر الشىء المرئى به فيه أو عليه فى التفسير. وأكثر ما يكون ذلك فى الدنيا لاختلاف الشىء أحوال أهلها، وقد يكون فى الآخرة شىء من ذلك ليس هذا منه. ولايجوز أن ينقل جوهر شىء من الثياب أو غيرها عما وضعت له فى أصل العلم إلا بدليل ناقل لجوهر ذلك الشىء، كمن رأى أحدًا من الأموات فى نومه وعليه ثياب يجرها من نار أو متقدة بنار فيفسرها أنه كافر يلبس فى الدنيا ثياب الكبر والتبختر يجرها خيلاء فعوقب فى النار بصنعه ذلك فى الدنيا، أو يرى عليه ثيابًا من قطران كما قال الله تعالى فيها فحينئذ تكون الثياب فى الآخرة دليلاً على العذاب بما كان عليه فى الدنيا، ولايكون حيئذ لباس زينة ولا لباس تقوى. هذا مما يحمل فى الآخرة على أحوال صاحب الرؤيا.
باب: فى الخضر فى المنام والروضة الخضراء
/ 17 - فيه: قَيْسُ بْنُ عُبَادٍ، كُنْتُ فِى حَلْقَةٍ فِيهَا سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ وَابْنُ عُمَرَ، فَمَرَّ عَبْدُاللَّهِ بْنُ سَلامٍ، فَقَالُوا: هَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُمْ قَالُوا: كَذَا وَكَذَا، قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ، مَا كَانَ يَنْبَغِى لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا مَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ، إِنَّمَا رَأَيْتُ كَأَنَّمَا عَمُودٌ وُضِعَ فِى رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ، فَنُصِبَ فِيهَا،(9/532)
وَفِي رَأْسِهَا عُرْوَةٌ، وَفِى أَسْفَلِهَا مِنْصَفٌ، وَالْمِنْصَفُ الْوَصِيفُ، فَقِيلَ ارْقَهْ فَرَقِيتُهُ حَتَّى أَخَذْتُ بِالْعُرْوَةِ، فَقَصَصْتُهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (يَمُوتُ عَبْدُاللَّهِ، وَهُوَ آخِذٌ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) . وترجم له باب التعلق بالعروة والحلقة وقال فيه: (وقيل لى: أرقه فقلت: لا أستطيع، فأتانى وصيف فرفع ثيابى، فرقيت. . .) الحديث. قال المهلب: قال أبو الحسن على بن أبى طالب العابر: الروضة التى لايعرف بيتها دالة على الإسلام لنضرتها وحسن بهجتها، وقد تأولها بذلك الرسول عليه السلام و، وقد تدل من الإسلام على كل مكان فاضل يطاع الله فيه كقبر رسول الله، وحلق الذكر، وجوامع الخير، وقبور الصالحين لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ما بين قبرى ومنبرى روضة من رياض الجنة) . وقوله: (ارتعوا فى رياض الجنة أو حفرة من حفر النار) . وقد تئول الروضة على المصحف وعلى كتب العلم لقولهم: الكتب رياض الحكماء، والعمود دال على كل ما يعتمد عليه القرآن والسنن والفقه فى الدين، وعلى الفقيه والحاكم، والوالد والسيد، والزوج والزوجة والمال. وبمكان العمود وصفات المنام يستدل على تأويل الأمر وحقيقة التعبير. وكذلك العروة بالإسلام والتوحيد وهى العروة الوثقى قال تعالى: (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لاانفصام لها) . فأخبر الرسول أن ابن سلام يموت على الإيمان، ولما فى هذه الرؤيا من شواهد ذلك حكم له اصحاب النبى بالجنة لحكم النبى عليه السلام بموته على الإسلام.(9/533)
وفيه القطع لكل من مات على دين الإسلام والتوحيد لله بالجنة وإن نالت بعضهم عقوبات. وقول ابن سلام: ماكان ينبغى لهم أن يقولوا ماليس لهم به علم؛ إنما قاله على سبيل التواضع، وكره أن يشار غليه بالأصابع فيدخله العجب فيحبط عمله.
- باب: كشف المرأة فى المنام
/ 18 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (أُرِيتُكِ فِى الْمَنَامِ مَرَّتَيْنِ، إِذَا رَجُلٌ يَحْمِلُكِ فِى سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ، فَيَقُولُ: هَذِهِ امْرَأَتُكَ، فَأَكْشِفُهَا، فَإِذَا هِى أَنْتِ، فَأَقُولُ: إِنْ يَكُنْ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ) . وترجم له باب: ثياب الحرير فى المنام. رؤية المرأة فى المنام تختلف على وجه فمنها أن تدل على امرأة تكون له فى اليقظة تشبه التى رأى فى المنام كما كانت رؤية النبى عليه السلام هذه، وقد تدل المرأة عيل الدنيا والمنزلة فيها والسعة فى الرزق، وهذا أصل عند المعبرين فى ذلك، وقد تدل المرأة أيضًا على فتنة بما يقترن إليها من دلائل ذلك. وقوله: (إن يكن هذا من عند الله يمضه هذه الرؤيا أريها النبى قبل زمن النبوة فى وقت تجوز عليه رؤيا سائر البشر فلما أوحى الله غليه حصن رؤياه من الأضغاث وحرسه فى النوم كما حرسه فى اليقظة وجعل رؤياه وحياه) . ويحتمل وجهًا آخر: أن تكون هذه الرؤيا منه عليه السلام بعد النبوة وبعد علمه بأن رؤياه وحى فعبر عليه السلام عما علمه بلفظ يوهم الشك ظاهره ومعناه اليقين، وهذا موجود فى لغة العرب أن يكون اللفظ مخالفًا لمعناه كما قال ذو الرمة:(9/534)
أيا ظبية الوعساء بين جلاجل وبين النقا آأنت أم أم سالم ولم يشك ذو الرمة أن الظبية ليست بأم سالم، وكما قال جرير: ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح. فعبر عما هو قاطع عليه وعالم به بلفظ ظاهره الشك والمسالة عما لايقطع عليه فكذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن يكن هذا ابن أبى طالب) وثياب الحرير يدل اتخاذها للنساء فى الرؤيا على النكاح وعلى الأزواج وعلى العز والغنى وعلى الشحم ولبس الذهب، قال واللباس دال على جسم لابسه لأنه محله ومشتمل عليه ودافع عنه، فهو معبر عنه لاسيما أن اللباس فى غالب الناس دال على أقدارهم وأحوالهم ومذاهبهم وأجناسهم، فيعرف كل جنس بلبسه وزيه من العرب والعجم والأغنياء والفقراء، ولاخير فى ثياب الحرير للرجال وهى صالحة فى الجاه والسلطان وسعة المال.
- باب المفاتيح فى اليد
/ 19 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأرْضِ، فَوُضِعَتْ فِى يَدِى) . قَالَ مُحمد: وَبَلَغَنِى أَنَّ جَوَامِعَ الْكَلِمِ أَنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ الأمُورَ الْكَثِيرَةَ الَّتِى كَانَتْ تُكْتَبُ فِى الْكُتُبِ قَبْلَهُ فِى الأمْرِ الْوَاحِدِ وَالأمْرَيْنِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.(9/535)
قال أبو الحسن على بن أبى طالب: المفتاح يدل على السلطان وعلى المال والعلم والحكمة والصلاح، فإن كان مفتاح الجنة نال سلطانًا عظيما فى الدينأو علما كثيرًا من أعمال البر أو وجد كنزًا أو مالا حلالاً ميراثًا، وإن كان مفتاح الكعبة حجب سلطانًا أو أماما، ثم على نحو هذا فى سائر المفاتيح وجواهرها، وقال الكرمانى: قد يكون المفتاح إذا فتح به بابًا دعاء يستجاب له.
- باب عمود الفسطاط تحت وسادته ودخول الجنة فى المنام
/ 20 - فيه: ابْن عُمَر، رَأَيْتُ فِى الْمَنَامِ كَأَنَّ فِى يَدِى سَرَقَةً مِنْ حَرِيرٍ لا أَهْوِى بِهَا إِلَى مَكَانٍ فِى الْجَنَّةِ إِلا طَارَتْ بِى إِلَيْهِ، فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ، فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ عَلَى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (إِنَّ أَخَاكِ رَجُلٌ صَالِحٌ) . قال المهلب: السرقة الكلة وهى كالهودج عند العرب وكون عمودها فى يد عمر دليل على الإسلام وطنبها الدين والعلم بالشريعة الذى به يرزق التمكن من الجنة حيث شاء، وقد يعبر هنا بالحرير عن شرف الدين والعلم؛ لأن الحرير أشرف ملابس الدنيا، فكذلك العلم بالدين اشرف العلوم، ودخول الجنة فى المنام يدل على دخولها فى اليقظة؛ لأن من بعض وجوه الرؤيا وجها يكون فى اليقظة كما يرى نصًا، وقد يكون دخول الجنة أيضًا دخول الإسلام الذى هو سبب الجنة، فمن دخله دخل الجنة كما قال تعالى: (فادخلنى فى عبادى وادخلى جنتي) وطيران الشرقة: قوة يرزقه الله على التمكن من الجنة حيث شاء كما فى الخبر عن جعفر بن أبى طالب أنه أكرمه الله بأن جعل قوة على الطيران فى الجنة، وفى خبر آخر: (إنما نسمه المؤمن طائر يعلق من شجر الجنة) .(9/536)
وسألت المهلب فقلت: كيف ترجم البخارى باب عمود الفساط تحت وسادته ولم يذكر فى الحديث عمود فسطاط ولاوسادة؟ فقال لى: الذى يدل عليه الباب ويقه فى نفسى أنه رأى حديث السرقة أكمل مما ذكره فى كتابه، وفيه أن السرقة مضروبة فى الأرض على عمود كالخباء، وأن ابن عمر اقتلعها من عمودها فوضعها تحت وسادته وقام هو بالسرقة يمسكها، وهى كالهودجة من إستبرق فلا ينوى موضعًا من الجنة إلا طارت إليه، ولم يرض سنده بهذه الزيادة فلم يذكره وأدخله فى كتاب من طريق وثقة والله أعلم. وقد نقل فى كتابه مثل هذا كثيرًا فقال باب: إذا حرق المشرك المسلم هل يحرق، ثم أدخل سمل النبى عليه السلام أعين العرنين ولم يذكر سمل العرنين أعين الرعاء، وإنما ترجم بذلك ليدل أن ذلك من فعلهم مروى، وكما فعل بقول سهل بن أبى حثمة فى الأوسق الموسقة فى باب العرايا فتركه للين سنده أولا ثم أعجلته المنية عن تهذيب كتابه.
- باب القيد فى المنام
/ 21 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ تَكْذِبُ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ، وَرُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، وَمَا كَانَ مِنَ النُّبُوَّةِ فَإِنَّهُ لا يَكْذِبُ) . قَالَ مُحَمَّدٌ: وَأَنَا أَقُولُ هَذِهِ الأمة، وَكَانَ يُقَالُ الرُّؤْيَا ثَلاثٌ: حَدِيثُ النَّفْسِ، وَتَخْوِيفُ الشَّيْطَانِ، وَبُشْرَى مِنَ اللَّهِ، فَمَنْ رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ، فَلا يَقُصَّهُ عَلَى(9/537)
أَحَدٍ، وَلْيَقُمْ فَلْيُصَلِّ، قَالَ: وَكَانَ يُكْرَهُ الْغُلُّ فِى النَّوْمِ، وَكَانَ يُعْجِبُهُمُ الْقَيْدُ، وَيُقَالُ الْقَيْدُ: ثَبَاتٌ فِى الدِّينِ. وَرَوَى قَتَادَةُ وَيُونُسُ وَهِشَامٌ وَأَبُو هِلالٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . وَأَدْرَجَهُ بَعْضُهُمْ كُلَّهُ فِى الْحَدِيثِ، وَحَدِيثُ عَوْفٍ أَبْيَنُ. وَقَالَ يُونُسُ: لا أَحْسِبُهُ إِلا عَنِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) فِى الْقَيْدِ. قَالَ البخارى: لا تَكُونُ الأغْلالُ إِلا فِى الأعْنَاقِ. قال المهلب: روى عن النبى عليه السلام أنه قال: (القيد ثبات فى الدين) ، ومن رواية قتادة ويونس وغيرهم، وتفسير ذلك أنه يمنع من الخطايا ويقيد عنها. قال غيره: وقد ينصرف القيد على وجوه أحدها: فمن رأى ذلك على رجله وهو فى سفر فإنه يقيم بذلك الموضع إلا أن يرى ذلك قدحل عنه، وكذلك من رأى قيدًا فى رجليه فى مسجد أو فى موضع ينسب إلى الخير فإنه دين ولزوم لطاعة ربه وعباده له، فإن رآه مريض أو مسجون أو مكروب فهو طول بقائه فيه، وكذلك إن رآه صاحب دنيا فهو طول بقائه فيها أيضًا. قال المهلب: والغل مكروه لأن الله تعالى أخبر فى كتابه أنه من صفات أهل النار فقال: (إذ الأغلال فى أعناقهم والسلاسل (فقد دل على الكفر، وقد يكون الغل امرأة سوء تشين صاحبها، وأما غل اليدين لغير العنق فهو كفهما عن الشر. وقوله عليه السلام: (إذا اقترب الزمان لم تكد تكذب رؤيا المؤمن) ، فمعناه - والله أعلم - إذا اقتربت الساعة وقبض أكثر العلم(9/538)
ودرست معالم الديانة بالهرج والفتنة، فكان الناس على فترة من الرسل يحتاجون إلى مذكر ومجدد لما درس من الدين كما كانت الأمم قبلنا تذكر بالنبوة، فلما كان نبينا محمد عليه السلام خاتم الرسل ومابعده من الزمان مايشبه الفترة عوضوا مما منع من النبوة بعده بالرؤيا الصادقة التى هى جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة الآتية بالتبشير والإنذار. وقد ذكر أبو سليمان الخطابى فى غريب الحديث عن أبى داود السجستانى أنه كان يقول فى تأويل قوله عليه السلام: (إذا تقارب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب) . قال: تقارب الزمان هو استواء الليل والنهار قال والعبرون يزعمون أن أصدق الأزمان لوقوع التعبير وقت انبثاق الأنوار ووقت ينع الثمار وإدراكها وهما الوقتان اللذان يتقارب الزمان فيهما ويعتدل الليل والنهار. قال المؤلف: والتأويل الأول هو الصواب الذى أراده النبى عليه السلام لأنه قد روى مرفوعًا عنه روى معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبى هريرة، عن النبى عليه السلام أنه قال: (فى آخر الزمان لا تكذب رؤيا المؤمن وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثًا) . قال المؤلف: وأما قول ابن سيرين: وأنا اقول هذه الأمة. فتأويله والله أعلم أنه لما كان عنده معنى قوله عليه السلام: (رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة) . ويراد به رؤيا الرجل الصالح لقوله عليه السلام: (الرؤيا الحسنة يراها الرجل الصالح جزء من ستة واربعين جزءًا من النبوة) . قال: (إذا اقترب الزمان لم تكد تكذب رؤيا المؤمن) خشى ابن سيرين أن يتأول معناه أن عند تقارب الزمان لا(9/539)
تصدق إلا رؤيا الصالح المستكمل الإيمان خاصة، فقال: وأنا اقول هذه الأمة. يعنى تصدق رؤيا هذه الأمة كلها صالحها وفاجرها ليكون صدق رؤياهم زاجرة لهم وحجة عليهم؛ لدروس أعلام الدين وطموس آثاره بموت العلماء وظهور المنكر، والله أعلم.
- باب: نزع الماء من البئر حتى يروى الناس
رواه أبو هريرة عن النبى. / 22 - فيه: ابْن عُمَر، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (بَيْنَا أَنَا عَلَى بِئْرٍ أَنْزِعُ مِنْهَا؛ إِذْ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ الدَّلْوَ، فَنَزَعَ ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ، وَفِى نَزْعِهِ ضَعْفٌ، يَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ، ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ الْخَطَّابِ مِنْ يَدِ أَبِى بَكْرٍ، فَاسْتَحَالَتْ فِى يَدِهِ غَرْبًا، فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاسِ يَفْرِى فَرْيَهُ، حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ بِعَطَنٍ) . وترجم له باب: زع الذنوب والذنوبين من البئر بضعف وقال ابن عمر عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (رأيت الناس اجتمعوا فقام أبو بكر فنزع ذنوبًا) . . الحديث وعن أبى هريرة مثله. قال أبو سلمان: فسر أبو عبيد، وابن قتيبة طائفة من لفظ هذا الحديث ولم يتعرض أحد منهما لمعناه، وقد علمنا أن هذا مثل فى رؤيا النبى عليه السلام وإنما يراد بالمثل تقريب علم الشىء وإيضاحه بذكر نظيره، وفى إغفال بيانه والذهاب عن معناه وعن موضع التشبيه به إبطال فائدة المثل وإثبات الفضيلة لعمر على أبى بكر، إذ قد وصف بالقوة من حيث وصف أبو بكر بالضعف(9/540)
وتلك خطة أباها المسلمون، والمعنى - والله أعلم - أنه إنما أراد بهذا إثبات خلافتهما، والإخبار عن مدة ولايتهما، والإبانة عما جرى عليه أحوال أمته فى أيامهما، فشبه أمر المسلمين بالقليب وهو البئر العادية، وذلك لما يكون فيها من الماء الذى به حياة العباد وصلاح البلاد وشبه الوالى عليهم والقائم بأمورهم بالنازع الذى يستقى الماء ويقربه من الوارد، ونزع أبى بكر ذنوبًا أو ذنوبين على ضعف فيه إنما هو قصر مدة خلافته، والذنوبان مثل ما فى السنتين اللتين وليهما واشهر بعدهما، وانقضت أيامه فى قتال أهل الردة واستصلاح أهل الدعوة ولم يتفرغ لافتتاح الأمصار وجباية الأموال، فذلك ضعف نزعه، وأما عمر فطالت أيامه واتسعت ولايته، وفتح الله على يديه العراق والسواد وأرض مصر وكثيرًا من بلاد الشام، وقد غنم أموالها وقسمتها فى المسلمين فأخصبت رحالهم وحسنت بها أحوالهم فكان جودة نزعه مثلا لما نالوا من الخير فى زمانه والله أعلم. قال المؤلف: فذكر الطبرى مثل ماحكى الخطابى عن ابن عباس أنه قال: فتأول الناس معنى قوله: (حتى ضرب الناس بعطن) أبى بكر وعمر - رضى الله عنهما. قال الخطابى: والعرب تضرب المثل فى المفاخرة والمغالبة بالمساقاة والمساجلة فتقول فلان يساجل فلانًا أى: يقاومه ويغالبه، واصل ذلك أن يستقى ساقيان فيخرج كل واحد منهما فى سجله مايخرج الآخر فأيهما نكل غلب، قال العباس بن الفضل يذكر ذلك: من يساجلنى يساجل ماجدًا
يملأ الدلو إلى عقد الكرب
.(9/541)
وقوله: (بينا أنا على بئر أنزع منها) . قال صاحب العين يقال: نزعت الشىء نزعًا: قلعته، وبئر نزوع إذا نزعت دلاؤها بالأيدى، وجمل نزوع ينزع عليه الماء. والذنوب: الدلو الملأى، ويكون النصيب أو الغرب أعظم من الدلو، عن صاحب العين. وقال أبو عبيد: قوله: (يفرى فريه) كقوله يعمل عمله، ويقول كقوله ونحو هذا، وأنشد الأحمر: قد أطعمتنى وقلا حوليا مسوسًا مدودًا حجريًا قد كنت تفرين به الفريا أى قد كنت تكثرين فيه القول وتعظمينه. ومنه قوله تعالى: (لقد جئت شيئًا فريا) أى مشينًا عظيمًا، وقال الأصمعى: سألت أبا عمرو بن العلاء عن العبقرى فقال: يقال هذا عبقرى قوم يعنون: سيد قوم وكبيرهم وقويهم. قال أبو عبيد: أصله فيما يقال أنه نسب إلى عبقر، وهى أرض يسكنها الجن فصارت مثلاً لك منسوب إلى شىء رفيه، ويقال فى عبقر الجن أرض تعمل فيها البرود؛ ولذلك نسب الوشى إليها؛ ومن هذا قيل للبسط عبقرية لأنها نسبت إلى تلك البلاد. قال ابن دريد: فإذا استحسنوا شيئًا وعجبوا من شدته ومضائه نسبوه إلى عبقر، وقالوا: ظلم عبقرى شديد فاحش وفى التنزيل: (عبقرى حسان) خوبطوا بما عرفوا. وقال ابن الأنبارى: أصل العطن الموضع الذى تبرك فيه الإبل قرب الماء إذا شربت لتعاد إاليها إن أرادت ذلك، يقال عطنت الإبل وأعطنها صاحبها.(9/542)
- باب: الاستراحة فى المنام
/ 23 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُ أَنِّى عَلَى حَوْضٍ أَسْقِى النَّاسَ، فَأَتَانِى أَبُو بَكْرٍ، فَأَخَذَ الدَّلْوَ مِنْ يَدِى؛ لِيُرِيحَنِى، فَنَزَعَ ذَنُوبَيْنِ، وَفِى نَزْعِهِ ضَعْفٌ، وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ، فَأَتَى ابْنُ الْخَطَّابِ، فَأَخَذَ مِنْهُ، فَلَمْ يَزَلْ يَنْزِعُ حَتَّى تَوَلَّى النَّاسُ، وَالْحَوْضُ يَتَفَجَّرُ) . قال المهلب: فيه دليل أن الدنيا للصالحين دار نصب وتعب وأن الراحة منها الموت على الصلاح والدين كما استراح النبى عليه السلام من تعب ذلك السقى بالموت. والحوض خاهنا: معدن العلم وهو القرآن الذى يغرف الناس كلهم منه دون أن ينتقص حتى يروا وهو معدن لايفنى ولاينتقص.
- باب القصر فى المنام
/ 24 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُنِى فِى الْجَنَّةِ، فَإِذَا امْرَأَةٌ تَتَوَضَّأُ إِلَى جَانِبِ قَصْرٍ، قُلْتُ: لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ؟ قَالُوا: لِعُمَرَ، فَذَكَرْتُ غَيْرَتَهُ، فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا) . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَبَكَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، ثُمَّ قَالَ: أَعَلَيْكَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغَارُ. / 25 - ورواه جَابِر، عن النَّبيىّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَالَ فِيهِ: فَقُلْتُ: (لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ؟ فَقَالُوا: لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ. وترجم له باب: الوضوء فى المنام. قال المهلب: هذه الرؤيا بشرى لعمر بن الخطاب بقصر فى الجنة وهذه الرؤيا مما تخرج على حسب مارؤيت بغير رمز ولا غموض تفسير، والجارية كذلك والوضوء إنما يؤخذ منه اسمه من الوضاءة، لأنه ليس فى الجنة وضوء لصلاة ولاعبادة، وفيه دليل على(9/543)
الحكم لكل رجل بما يعلم من خلقه ألاترى أن النبى - عليه السلام - لم يدخل القصر حين ذكر غيره عمر، وقد علم عليه السلام أنه لايغار عليه لأنه أبو المؤمنين، وكل مانال بنوه المؤمنين من خير الدنيا والآخرة فسببه وعلى يديه (صلى الله عليه وسلم) ، لكن أراد أن يأتى ما يعلم أنه يوافق عمر أدبا منه. وقال ابن سيرين: من رأى أنه يدخل الجنة فإنه يدخلها إن شاء الله؛ لأن ذلك بشارة لما قدم من خير أو يقدمه. وقال الكرمانى: وأما بنيانها فهى نعيمها. وأما نساؤها فهى أجور فى أعمال البر على قدر جمالهن. قال على بن أبى طالب: وقد ينصرف دخول الجنة فى المنام على وجوه فيدل لمن يحج على تمام حجه، ووصوله إلى الكعبة المؤدية إلى الجنة، وإن كان كافرًا أو مذنبًا بطالا ورأى ذلك غيره له أسلم من كفره وتاب من بطالته، وإن كان مريضا مات من مرضه؛ لأن الجنة هى أجر المؤمنين إن كان المريض مؤمنًا، وإن كان كافرًا أفاق من علته لأن الدنيا جنة الكافرين، وإن كان عزبًا تزوج لأن الآخرة على السعى إلى الجمعة والجماعة، ودار العلم وحلق الذكر، والجهاد والرباط وكل مكان يؤدى إليها. وقال: ومن رأى أنه يتوضًا فى المنام فإنه وسيلة السلطان أو إلى عمل من الأعمال فمن تم له فى النوم تم له مايؤمله فى اليقظة، وإن تعذر عليه إن عجز الماء أو توضأ بما لايجوز له الصلاة به لم يتم له ما يحاوله، والوضوء للخائف فى اليقظة أمان له لما جاء فى فضل الوضوء، وربما دل الوضوء على الثواب وتكفير(9/544)
الخطايا لما جاء أنها تخرج من آخر قطر الماء، وربما دل الوضوء على الصوم؛ لأن الصائم ممتنع من كثير من لذاته والمتوضىء يدانيه فى ذلك، والوضوء والصوم واللجام ورباط اليد والقيد شركان فى التأويل ويتعاقبون فى التعبير، وقد تقدم حديث أبى هريرة فى كتاب النكاح فى باب الغيرة.
- باب: الطواف بالكعبة فى المنام
/ 26 - فيه: ابْن عُمَر، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُنِى أَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ آدَمُ سَبْطُ الشَّعَرِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ، يَنْطُفُ رَأْسُهُ مَاءً، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: ابْنُ مَرْيَمَ، فَذَهَبْتُ أَلْتَفِتُ، فَإِذَا رَجُلٌ أَحْمَرُ جَسِيمٌ، جَعْدُ الرَّأْسِ، أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى، كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا الدَّجَّالُ، أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا ابْنُ قَطَنٍ) . قال بعض التأويل: الطواف بالبيت ينصرف عى وجوه، فمن رأى أنه يطوب بالبيت فإنه يحج إن شاء الله، وقد يكون تأويل ذلك إن كان يطلب حاجة من الإمام بشارة نيلها منه؛ لأن الكعبة إمام الخلق كلهم، وقد يكون الطواف تطهيرًا من الذنوب لقوله تعالى: (وطهر بيتى للطائفين) ، وقد يكون الطواف لمن يريد أن يسترى أو يتزوج امرأة حسناء دليلا على تمام إرادته، وقال على بن أبى طالب العابر: وقد يكون الطواف لمن كان ذا والدين والدين أن يحسن برهما وزوجة يسعى عليها أو كان يخدم عالمًا أو كان عبدًا ينصح سيدة بشارة بالثواب عن فعله في اليقظة.(9/545)
وقال المهلب: ووصف عليه السلام عيسى بن مرين ووصف الدجال بصفاتها التى خلقهما الله عليها؛ لكونها فى زمن واحد، ولأن الحديث قد جاء عنه عليه السلام أن عيسى يقتل الدجال، فوصف الدجال بصفة لا تشكل عليهم على حسب مارأه، وهى العور، والذي لايجوز على ذوي العقول أن يصفوا بالإلهية والقدرة من كان بتلك الصفة؛ إذ الإله لاتجوز عليه الآفات وهذا مدعيها وقد جازت عليه الآفة، فهى برهان على تكذيبه، وقوله: (ينطف رأسه ماء) فالمنطف: الصب، وليلة نطوف: ماطرة، من كتاب العين.
- باب: الأمن وذهاب الروع فى المنام
/ 27 - فيه: ابْنَ عُمَرَ، قَالَ: إِنَّ رِجَالا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) كَانُوا يَرَوْنَ الرُّؤْيَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام فَيَقُصُّونَهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَيَقُولُ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام مَا شَاءَ اللَّهُ، وَأَنَا غُلامٌ حَدِيثُ السِّنِّ، وَبَيْتِى الْمَسْجِدُ قَبْلَ أَنْ أَنْكِحَ، فَقُلْتُ فِى نَفْسِى لَوْ كَانَ فِيكَ خَيْرٌ؛ لَرَأَيْتَ مِثْلَ مَا يَرَى هَؤُلاءِ، فَلَمَّا اضْطَجَعْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ، قُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ فِى خَيْرًا، فَأَرِنِى رُؤْيَا، فَبَيْنَمَا أَنَا كَذَلِكَ؛ إِذْ جَاءَنِى مَلَكَانِ فِى يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِقْمَعَةٌ مِنْ حَدِيدٍ، يُقْبِلانِ بِى إِلَى جَهَنَّمَ، وَأَنَا بَيْنَهُمَا أَدْعُو اللَّهَ: اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنْ جَهَنَّمَ، ثُمَّ أُرَانِى لَقِيَنِى مَلَكٌ فِى يَدِهِ مِقْمَعَةٌ مِنْ حَدِيدٍ، فَقَالَ: لَنْ تُرَاعَ، نِعْمَ الرَّجُلُ أَنْتَ، لَوْ كُنْتَ تُكْثِرُ الصَّلاةَ، فَانْطَلَقُوا بِى حَتَّى وَقَفُوا بِى عَلَى شَفِيرِ جَهَنَّمَ، فَإِذَا هِى مَطْوِيَّةٌ كَطَى الْبِئْرِ، لَهُ قُرُونٌ كَقَرْنِ الْبِئْرِ، بَيْنَ كُلِّ قَرْنَيْنِ مَلَكٌ بِيَدِهِ مِقْمَعَةٌ مِنْ حَدِيدٍ، وَأَرَى فِيهَا رِجَالا مُعَلَّقِينَ بِالسَّلاسِلِ، رُءُوسُهُمْ أَسْفَلَهُمْ،(9/546)
عَرَفْتُ فِيهَا رِجَالا مِنْ قُرَيْشٍ، فَانْصَرَفُوا بِى عَنْ ذَاتِ الْيَمِينِ، فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ، فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : إِنَّ عَبْدَاللَّهِ رَجُلٌ صَالِحٌ، لَوْ كَانَ يُصَلِّى مِنَ اللَّيْلِ) . فَقَالَ نَافِعٌ: فَلَمْ يَزَلْ بَعْدَ ذَلِكَ يُكْثِرُ الصَّلاةَ. وترجم له باب الأخذ على اليمين فى النوم، وقال فيه: (وقلت: اللهم إن كان لى عندك خير فأنرى منامًا يعبر لى رسول الله، فقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : عبد الله رجل صالح لو كان يكثر الصلاة من الليل) . قال المهلب: هذا الحديث مما فسرت فيه الرؤيا على وجهها، وفيه دليل على توعد الله عباده وجواز تعذيبهم على ترك السنن. وقول الملك: (لم ترع، نعم الرجل أنت لو تكثر الصلاة بالليل) هذه الزيادة تفسر سائر طرق هذا الحديث. وفيه: الحكم بالدليل؛ عبد الله استدل على أن اللذين أتياه ملكان؛ لأنهما أوقفاه على جهنم ووعظاه بها، والشيطان لايعظ ولايذكر بالخير، فاستدل بوعظهما وتذكيرهما أنهما ملكان. وقوله: (لم ترع) هذا خرج على ماراه، وعلى أنه ليس من أهل مارآه لأنه إذا قام الدليل أنهما ملكان فلا يكون كلامهما إلا حقًا. وفيه: دليل على أن مافسر فى النوم فهو تفسير فى اليقظة؛ لأن النبى عليه السلام لم يزد فى تفسيرها على ما فسرها الملك. وفيه: دليل على أن أصل التعبير من قبل الأنبياء؛ ولذلك كانوا يتمنون أن يروا رؤيا فيفسرها النبى لتكون عندهم أصلا، وهو مذهب الأشعرى أن أصل التعبير بالتوقيف من قبل الأنبياء وعلى ألسنتهم، وهو كما قال، لكن المحظوظ على الأنبياء وإن كان أصلا فلا يعم اشخاص الرؤيا، فلا بد للبارع فى هذا العلم أن يستدل بحسن نظره(9/547)
فيرد مالم ينص عليه إلى حكم التمثيل، ويحكم له بحكم الشبيه الصحيح فيجعل أصلا يقاس عليه كما يفعل فى فروع الفقه. وقد تقدم فى باب فضل قيام الليل فى آخر كتاب الصلاة شىء من معنى هذا الحديث.
- باب: إذا طار الشىء فى المنام
/ 28 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُ أَنَّهُ وُضِعَ فِى يَدَىَّ سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَقِطَعْتُهُمَا وَكَرِهْتُهُمَا، فَأُذِنَ لِى فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا، فَأَوَّلْتُهُمَا: كَذَّابَيْنِ يَخْرُجَانِ) . قَالَ عُبَيْدُاللَّهِ: أَحَدُهُمَا الْعَنْسِى الَّذِى قَتَلَهُ فَيْرُوزٌ بِالْيَمَنِ، وَالآخَرُ مُسَيْلِمَةُ. قال المهلب: هذه الرؤيا ليست على وجهها، وإنما هى على ضرب المثل، وإنما أولهما النبى بالكذابين؛ لأن الكذب إنما هو الإخبارعن الشىء بخلاف ما هو به ووضعه فى غير موضوعه، فلما رآهما فى ذراعيه وليسا موضعًا للسوارين؛ لأنهما ليسا من حلية الرجال علم أنه سيقضى على يدى النبى - يعنى على أوامره ونواهيه - من يدعى ما ليس له، كما وضعا حيث ليس لهما، وكونهما من ذهب، والذهب منهى عنه فى الدين دليل على الكذب من وجوه: أحدها: وضع الشىء غير موضوعه. والثانى: كون الذهب مستعملاً فى الرجال وهو منهى عنه والذهب مشتق منه الذهاب، فعلم أنه شيء يذهب عنه ولايبقى، ثم وكد له الأمر فأذن له فى نفخهما فطارًا عباره أنهما لايثبت لهما أمر، وأن كلامه عليه السلام بالوحي الذى جاءه به يزيلهما(9/548)
الذي قاما فيه، والنفخ دليل على الكلام. وقال الكرمانى: من رأى أنه يطير بين السما والأرض أو من مكان إلى مكان فإن كانت من الأضغاث فإنه كثير التمنى والفكر والاغترار بالأمانى، وإن كانت رؤيا صحيحة وكان يطير فى عرض السما فإنه يسافر سفرًا بعيدًا وينال رفعة (بقدر ما استقل من الأرض فى طيرانه، فإن طار إلى السماء مستويا لا يتعرج ناله ضر، فإن وصل إلى السماء بلغ الغاية فى ضره، فإن غاب فيها ولم يرجع مات، وإن رجع إلى الأرض أفاق) . وقال ابن أبى طالب العابر: وإن كان ذلك بجناح فقد يكون جناحه مالا ينهض به أو سلطانًا يسافر تحت كنفه، فإن كان بغير جناح دل على التغرير فيما يدخل فيه. وقوله: (سواران) والأكثر عند أهل اللغة سوار بغير الف، قال أبو عبيدة: سوار المرأة وسوارها. قال أبو على الفارسى: وحكى قطرب إسوار، وذكر أن اساور جمع إسوار على حذف الياء؛ لأن جمع إسوار أساوير.
- باب: إذا رأى بقرًا تنحر
/ 29 - فيه: أَبُو مُوسَى: قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (رَأَيْتُ فِى الْمَنَامِ أَنِّى أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ، فَذَهَبَ وَهَلِى إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ، أَوْ هَجَرٌ، فَإِذَا هِى الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ، وَرَأَيْتُ فِيهَا بَقَرًا، وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَإِذَا هُمُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَإِذَا الْخَيْرُ مَا جَاءَ اللَّهُ مِنَ الْخَيْرِ وَثَوَابِ الصِّدْقِ الَّذِى آتَانَا اللَّهُ بِهِ بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ) .(9/549)
قال المهلب: هذه الرؤيا فيها نوعان من التأويل فيها الرؤيا على حسب مارئيت وهو قوله: (أهاجر إلى أرض بها نخل وكذلك هاجر فخرج على ما رأى، وفيها ضرب المثل؛ لأنه رأى بقرًا تنحر، فكانت البقر أصحابه، فعبر عليه السلام عن حال الحرب بالبقر من أجل مالها من السلاح والقرون شبهت بالرماح، ولما كان من طبع البقر المناطحة والدفاع عن أنفسها بقرونها كما يفعل رجال الحرب، وشبه عليه السلام النحر بالقتل) . وقوله: (والله خير) يعنى ماعند الله من ثواب القتل فى سبيل الله خير للمقتول من الدنيا. وقيل: معى: (والله خير) إن صنع الله خير لهم وهو قتلهم يوم أحد، وقد تدل البقر على أهل البادية لعمارتهم الأرض، وعيشهم من نباتها، وقد يدل الثور الواحد على التأثر؛ لأنه يثير الأرض عن حالها، فكذلك الثأر أيضًا يثير الناحية التى يقوم فيها ويحرك أهلها ويقلب اسفلها أعلاها. قال ابن أبى طالب: والبقر إذا دخلت المدينة فإن كانت سمانًا فهى سنى رخاء، وإن كانت عجافًا كانت شدادًا وإن كانت المدينة مدينة بحر وإبان السفر قدمت سفن على عددها وحالها إلا كانت فتن مترادفة كأنها وجوه البقر كما فى الخبر: (يشبه بعضها بعضًا وفى خير آخر فى الفت) كأنها صياصى البقر (يريد لتشابهها بعضًا) صفرًا كلها فإنها أمراض تدخل على الناس، وإن كانت مختلفة الألوان شنيعة القرون أو كان الناس ينفرون منها، أو كان النار والدخان يخرج من أفواهها فإنه عسكر أو غارة أو عدو يضرب عليهم فينزل بساحتهم، وقد يدل البقر على الوةجة والخادم والأرض والغلة والسنة؛ لمايكون فيها من الولد والغلة والنبات. وقوله: (وهلى) يعنى وهمى، عن صاحب العين.(9/550)
- باب: النفخ فى المنام
/ 30 - فيه: هَمَّام، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ) ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ؛ إِذْ أُوتِيتُ خَزَائِنَ الأرْضِ، فَوُضِعَ فِى يَدَىَّ سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَكَبُرَا عَلَىَّ، وَأَهَمَّانِى، فَأُوحِىَ إِلَىَّ أَنِ انْفُخْهُمَا، فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا، فَأَوَّلْتُهُمَا: الْكَذَّابَيْنِ اللَّذَيْنِ أَنَا بَيْنَهُمَا: صَاحِبَ صَنْعَاءَ، وَصَاحِبَ الْيَمَامَةِ) . النفخ فى المنام إزالة الشىء المنفوخ فيه، وإهاب له بغير تكلف شديد لسهولة النفخ على النافخ، والنفخ دليل على الكلام، وكذلك أهلك الله الكذابين صاحب صنعاء واليمامة بكلامه عليه السلام وأمر بقتليهما، وقد تقدم هذا المعنى فى باب إذا طار الشىء فى المنام. وأما قول همام: هذا ماحدثنا به أبو هريرة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (نحن الآخرون السابقون) وأتى بحديث السوارين، فمعنى ذلك - والله أعلم - أن همامًا روى عن أبى هريرة أحاديث ليست بالكثيرة تعرف بقطعة همام وفى أولها: (نحن الآخرون السابقون) فأراد أن يذكر ذلك فى مواضع من هذا المصنف وقد نبهنا على هذا المعنى فى باب لايبول فى الماء الدائم، فى كتاب الوضوء.(9/551)
- باب: إذا رأى أنه أخرج الشىء من كورة فأسكنه موضعًا آخر
/ 31 - فيه: ابْن عُمَر، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (رَأَيْتُ كَأَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ ثَائِرَةَ الرَّأْسِ، خَرَجَتْ مِنَ الْمَدِينَةِ حَتَّى قَامَتْ بِمَهْيَعَةَ، وَهِى الْجُحْفَةُ، فَأَوَّلْتُ أَنَّ وَبَاءَ الْمَدِينَةِ نُقِلَ إِلَيْهَا) . وترجم له: باب المرأة السوداء، وباب المرأة الثائرة الرأس. قال المهلب: هذه الرؤيا ليست على وجهها، وهى مما ضرب بها المثل فبعض المعبرين يجهل وجه التمثيل فى ذلك فتأول النبى عليه السلام خروجها مشخصة ماجمع اسمها، وقد اختلف فى معنى إسكانها الجحفة، فقيل: لعدوان أهلها وأذاهم للناس. وقيل: لأن الجحفة قليلة البشر. فكأنه رأى أن يعافى منها الكثير مع بلية القليل. وأما ثوران راسها فتأول منه أنها لما كانت الحمى مثيرة للبدن بالاقشعرار وارتفاع الشعر عبر عن حالها فى النوم باتفاح شعر رأسها، فكأنه قيل له: الداء الذى يسوء ويثير الشعر يخرج من المدينة. وقيل: إن معنى الاقشعرار: الاستيحاش، فكذلك هذا الداء تستوحش النفوس منه. وقال على بن أبى طالب العابر: أى شىء دلت عليه السوداء فى أكثر وجوهها فهو مكروه، فربما دلت على الدنيا الحرام والزوجة الحرام، فمن وطئها فى المنام دخل فيما لايليق به، فإما طعامًا حرامًا يأكله أو شرابًا يشربه أو ثوبًا على ذلك النعت يلبسه أو دارًا مغصوبة يسكن فيها.(9/552)
قال صاحب العين: الكور: الرحل والجمع أكوار وكيران.
30 - باب: إذا هز سيفًا فى المنام
/ 32 - فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (رَأَيْتُ فِى رُؤْيَاى أَنِّى هَزَزْتُ سَيْفًا، فَانْقَطَعَ صَدْرُهُ، فَإِذَا هُوَ مَا أُصِيبَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، ثُمَّ هَزَزْتُهُ أُخْرَى، فَعَادَ أَحْسَنَ مَا كَانَ، فَإِذَا هُوَ مَا جَاءَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْفَتْحِ وَاجْتِمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ) . قال المهلب: هذه الرؤيا على ضرب المثل وغير الوجه المرئى والسيف ليس هو أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) لكنهم لما كانوا ممن يصول بهم النبى عليه السلام كما يصول بالسيف ويغنون عنه غنى السيف عبر عنهم بالسيف، وللسيف وجوه، فمن تقلده فى المنام فإنه ينال سلطانًا أو ولاية، أو إمامة أو وديعة يعطاها أو زوجة ينكحها إن كان عزبًا أو تلد زوجته غلامًا إن كانت حاملاً، فإن سله من غمدة وتكسر الغمد وسلم السيف فإن امرأته تموت وينجو ولده، فإن تكسر السيف وسلم الغمد هلك الولد وسلمت الأم، وربما يكون السيف أباه أو عمه أو أهاه يموت، فإن انكسرت النعلة ماتت أمه أو خالته أو نظيرهما والقائم أبدًا فى اآباء والنعلة فى الأمهات، فإن رآه بيده وتهيأ ليلقى به عدوًا أو يضرب به شخصًا، فسيفه لسانه يجرده فى خصومه أو منازعه، فإن لم تكن له نية وكان بذلك فى مسجد أو كان الناس يتوضئون من عنده، أو رأى شيئًا فى لحيته فإنه(9/553)
يقوم مقامًا بحجة ويبدى لسانه بالنصيحة والعلم والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وربما يكون السيف سلطانًا جائرًا.
31 - باب من كذب فى حلمه
/ 33 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ تَحَلَّمَ بِحُلْمٍ لَمْ يَرَهُ كُلِّفَ أَنْ يَعْقِدَ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ، وَلَنْ يَفْعَلَ، وَمَنِ اسْتَمَعَ إِلَى حَدِيثِ قَوْمٍ، وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ - أَوْ يَفِرُّونَ مِنْهُ - صُبَّ فِى أُذُنِهِ الآنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ صَوَّرَ صُورَةً عُذِّبَ وَكُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا وَلَيْسَ بِنَافِخٍ) . عن أبى هريرة قوله: (من كذب فى رؤياه) ، (ومن صور صورة، ومن تحلم واستمع) وروى عن ابن عباس مثله. (1) / 34 - وفيه: ابْن عُمَرَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ مِنْ أَفْرَى الْفِرَى أَنْ يُرِى عَيْنَيْهِ مَا لَمْ تَرَ) . قال محمد بن جرير: إن قال قائل: ماوجه خصوص النبى عليه السلام الكاذب فى رؤياه بما خصه به من تكليف العقد بين طرفى شعرتين يوم القيامة، وهل الكاذب فى رؤياه إلا كالكاذب فى اليقظة، وقد يكون الكذب فى اليقظة أعظم فى الجرم إذا كان شهادة توجب على المشهود عليه بها حدًا أو قتلاً أو مالاً يؤخذ منه، وليس ذلك فى كذبه فى منامه؛ لأن ضرر ذلك عليه فى منامه وحده دون غيره. قيل له: اختلفت حالتهما فى كذبهما، فكان الكاذب على عينيه فى منامه أحق بأعظم النكالين وذلك لتظاهر الأخبار عن النبى عليه السلام أن الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، والنبوة لاتكون إلا وحيًا من الله، فكان معلومًا بذلك أن الكاذب فى نومه كاذب على الله أنه اراه مالم ير، والكاذب على الله أعظم فرية وأولى بعظيم العقوبة من الكاذب على نفسه، بما أتلف به حقًا لغيره أو(9/554)
أوجبه عليه، وبذلك نطق محكم التنزيل فقال تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم لعنة الله على الظالمين) . فابان ذلك صحة ماقلناه أن الكذب فى الرؤيا ليس كالكذب فى اليقظة؛ لأن أحداهما كذب على الله والآخر كذب على المخلوقين. قال المهلب فى قوله: كلف أن يعقد بين شعرتين حجة للأشعرية فى تجويزهم تكليف مالا يطاق، وفى كتاب الله مايزيد ذلك بيانًا وهو قوله تعالى: (يوم يدعون إلى السجود فلا يستطيعون (ولله أن يفعل فى عباده ماشاء لايسأل عما يفعل وهم يسألون. ومنع من ذلك الفقهاء والمعتزلة واحتجوا بقوله تعالى: (لايكلف الله نفسًا إلا وسعها) . وقالوا: قوله تعالى: (يوم يدعون إلى السجود) وتكليفه عليه السلام العقد بين شعرتين وما أشبهه من أحكام الآخرة وليست الآخرة دار تكليف، وإنما هى دار مجازاة فلا حجة لهم فى ذلك؛ لأن الله تعالى قد أخبر فى كتابه بأنه لايكلف نفسًا من العبادات فى الدنيا إلا وسعها، ولو كلفهم ما لايقدرون عليه فى الدنيا لكان فى ذلك كون خبره الصادق على خلاف إخبار الله تعالى، وعلى هذا التأويل لاتضاد الآيات. وقال الطبرى: إن سأل سائل عن معنى قوله: (من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون. .) الحديث. فقال: أرأيت إن استمع إلى حديث قوم لا ضرر على المحدثين فى استماعه إليهم، وللمستع فيه نفع عظيم إما فى دينه أو دنياه، أيجوز استماعه إليه وإن كره ذلك(9/555)
المتحدثون؟ قيل: المستمع لا يعلم هل له فيه نفع إلا بعد استماعه إليه، وبعد دخوله فيما كره له رسول الله عليه السلام فغير جائز له اسماع حديثهم، وإن كان ضرر عليهم فيه؛ لنهى النبى عليه السلام عن الاستماع إلى حديثهم نهيًا عامًا، فلا يجوز لأحد من الناس أن يستمع إلى حديث قوم يكرهون استماعه، فإن فعل ذلك فأمره إلى خالفه إن شاء غفر له وإن شاء عذبه. فإن قيل: أفرأيت من استمع إلى حديثهم وهو لايعلم هل يكرهون ذلك، هل هو داخل فيمن يصب فى أذنيه الآنك يوم القيامة؟ قيل: إن الخبر إنما ورد بالوعيد لمستمع ذلك وأهله له كارهون، فأما من لم يعلم كراهتهم لذلك فالصواب ألا يستمع حديثهم ألا بإذنهم له في ذلك؛ للخبر الذي روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أنه نهى عن الدخول بين المتناجيين) فى كراهية ذلك إلا بإذنهم. والآنك: الرصاص المذاب. وقولهم: أفرى الفرى يعنى: أكذب الكذب، والفرية: الكذبة العظيمة التى يتعجب منها. وجمعهافرى مقصور مثل لحية ولحى، وقد تقدم القول فى التصوير فى كتاب الزينة.
32 - باب: إذا رأى ما يكره فلا يخبر بها ولا يذكرها
/ 35 - فيه: أَبُو سَلَمَةَ، لَقَدْ كُنْتُ أَرَى الرُّؤْيَا فَتُمْرِضُنِى حَتَّى سَمِعْتُ أَبَا قَتَادَةَ، يَقُولُ: وَأَنَا كُنْتُ لأرَى الرُّؤْيَا تُمْرِضُنِى حَتَّى سَمِعْتُ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ مِنَ اللَّهِ، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يُحِبُّ، فَلا يُحَدِّثْ بِهِ(9/556)
إِلا مَنْ يُحِبُّ، وَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ، فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا، وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ، وَلْيَتْفِلْ ثَلاثًا، وَلا يُحَدِّثْ بِهَا أَحَدًا فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ) . / 36 - وفيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ الرُّؤْيَا يُحِبُّهَا، فَإِنَّهَا مِنَ اللَّهِ، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ عَلَيْهَا، وَلْيُحَدِّثْ بِهَا، وَإِذَا رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَكْرَهُ، فَإِنَّمَا هِى مِنَ الشَّيْطَانِ، فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ شَرِّهَا، وَلا يَذْكُرْهَا لأحَدٍ فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ) . قال المؤلف: جاء فى حديث أبى قتادة فى الأبواب المتقدمة أن التفل ثلاثًا إنما يكون عن شماله، فمرة جاء (فليبصق عن يساره) ومرة جاء (فلينفث عن شماله) ، وفى هذا الباب (فليتفل) والمعنى فيه تقارب، وإنما أمر الله عليه السلام - والله أعلم - إذا رأى ما يحب إلا يحدث بها إلا من يحب؛ لأن المحب لايسوءه مايسر به صديقه، بل هو مسرور بما سره وغير حريص أن يتأول الرؤيا الحسنة شر التأويل، ولو أخبر بها من لايحبه لم يأمن أن يتأولها شر التأويل، فربما وافق ذلك وجهًا من الحق فى تأويلها فتخرج كذلك لقوله عليه السلام: (الرؤيا لأول عابر) وأما إذا رأى ما يكره فقد أمره عليه السلام بمداة مايخاف من ضرها وتلافيه بالتعوذ بالله من شرها ومن شر الشيطان، ويتفل ثلاثًا عن يساره، ولايحدث بها فإنها لن تضره. فإن قال قائل: قد تقدم من قولك قد يكون من ضروب الرؤيا منذرة ومنبهة للمرء على الاستعداد للبلاء قبل وقوعه رفقًا من الله لعباده لئلا يقع وعلى غرة فيقتل، وإذا وقع على مقدمة وتوطين كان أقوى للنفس وابعد لها من أذى البغتة، وقد سبق في علم الله(9/557)
إذا كانت الرؤيا الصحيحة من قبل الله محزنة أن تضر من رآها، فما وجه الحكمة فى كتمانها؟ . قال المهلب: فالجواب أنه إذا أخبر بالرؤيا المكروهة لم يأمن أن تفسر له بالمكروه فيستعجل الهم، ويتعذب بها ويترقب وقوع المكروه به، فيسوء حاله، ويغلب عليه اليأس من الخلاص من شرها، ويجعل ذلك نصب عينيه، وقد كان داود النبى عليه السلام من هذا البلاء الذى كان عجلة لنفسه بما أمره به من كتمانها والتعوذ بالله من شرها، وإذا لم تفسر له بالمكروه بقى بين الطمع والرجاء المجبولة عليه النفس أنها لاتجزع إما لأنها من قبل الشيطان أو أن لها تأويلا آخر على المحبوب، فأراد الرؤيا قد يبطؤ خروجها وعلى أن أكثر مايراه الإنسان مما يكرهه فهو من قبل الشيطان، ولو أخبر بذلك كله لم ينفك دهره دائما من الاهتمام بما لايؤذيه أكثره، وهذه حمة بالغة واحتياط على المؤمنين، فيجزى الله نبينا عنا خيرًا وصلى الله عليه وسلم. قال الطبرى: ووجه أمره عليه السلام بالنفث عن الشمال ثلاثًا - والله أعلم - إخساء للشيطان كما يتفل اإنسان عند الشىء القذر يراه أو يذكره، ولاشىء أقذر من الشيطان فأمره عليه السلام بالتفل عند ذكره، وأما خصوصه بذلك الشمال دون اليمين فلأن تأتى الشرور كلها عند العرب من قبل الشمال، ولذلك سمتها الشؤمى ولذلك كانوا يتشاءمون بماجاء من قبلها من طائر وحشى أخذ إلى ناحية اليمين فسمى ذلك بعضهم بارحًا وكانوا يتطيرون منه، وسماه بعضهم سانحًا،(9/558)
وأنه ليس فيه كثير اعتمال من بطش وأخذ وإعطاء، وأكل وشرب وأصل طريق الشيطان إلى ابن آدم لدعائه إلى مايكرهه الله من قبلها.
33 - باب من لم ير الرؤيا لأول عابر إذا لم يصب
/ 37 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (إِنِّى رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ فِى الْمَنَامِ ظُلَّةً تَنْطُفُ السَّمْنَ وَالْعَسَلَ، فَأَرَى النَّاسَ يَتَكَفَّفُونَ مِنْهَا، فَالْمُسْتَكْثِرُ وَالْمُسْتَقِلُّ، وَإِذَا سَبَبٌ وَاصِلٌ مِنَ الأرْضِ إِلَى السَّمَاءِ، فَأَرَاكَ أَخَذْتَ بِهِ، فَعَلَوْتَ، ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَعَلا بِهِ، ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَعَلا بِهِ، ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَانْقَطَعَ ثُمَّ وُصِلَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِى أَنْتَ وَاللَّهِ، لَتَدَعَنِّى فَأَعْبُرَهَا، فَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : اعْبُرْهَا، قَالَ: أَمَّا الظُّلَّةُ فَالإسْلامُ، وَأَمَّا الَّذِى يَنْطُفُ مِنَ الْعَسَلِ وَالسَّمْنِ فَالْقُرْآنُ، حَلاوَتُهُ تَنْطُفُ، فَالْمُسْتَكْثِرُ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْمُسْتَقِلُّ، وَأَمَّا السَّبَبُ الْوَاصِلُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأرْضِ فَالْحَقُّ الَّذِى أَنْتَ عَلَيْهِ، تَأْخُذُ بِهِ فَيُعْلِيكَ اللَّهُ، ثُمَّ يَأْخُذُ بِهِ، رَجُلٌ مِنْ بَعْدِكَ فَيَعْلُو بِهِ ثُمَّ يَأْخُذُ بِهِ، رَجُلٌ آخَرُ فَيَعْلُو بِهِ ثُمَّ يَأْخُذُهُ رَجُلٌ آخَرُ فَيَنْقَطِعُ بِهِ ثُمَّ يُوَصَّلُ لَهُ، فَيَعْلُو بِهِ، فَأَخْبِرْنِى يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِى أَنْتَ أَصَبْتُ أَمْ أَخْطَأْتُ؟ قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : أَصَبْتَ بَعْضًا، وَأَخْطَأْتَ بَعْضًا، قَالَ: فَوَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَتُحَدِّثَنِّى بِالَّذِى أَخْطَأْتُ، قَالَ: لا تُقْسِمْ) . قال المهلب: إنما عبر بالظله عن الإسلام؛ لأن الظله نعمة من نعم الله عن أهل الجنة، وكذلك كانت على بنى إسرائيل، وكذلك كانت تظل النبى عليه السلام أينما مشى قبل نوته، فكذلك الإسلام(9/559)
يقي ويقي الأذى وينعم المؤمن فى الدنيا والآخرة، وأما العسل، فإن الله تعالى جعله شفاء للناس وقال فى القرآن: (شفاء لما فى الصدور) وهو ابدًا حلو على الأسماع كحلاوة العسل على المذاق، وكذلك جاء فى الحديث أن فى السمن شفاء من كل داء. والسبب: هو الحبل والعهد والميثاق، قال تعالى: (أينما ثقفوا إلا بحبل من الله) أى: بعهده وميثاق، والرجل الذى يأخذ الحبل بعد النبى (صلى الله عليه وسلم) : أبو بكر الصديق يقوم بالحق فى أمته بعده، ثم يقوم بالحق بعده عمر، ثم يقوم بالحق بعده عثمان، وهو الذى انقطع به. قال المهلب: موضع الخطأ الذى قال له النبى (صلى الله عليه وسلم) : (وأخطأت بعضًا) فى قوله: (ثم وصل له) إنما الخطأ فى قوله: له، لأن فى الحديث: (ثم وصل) ولم يذكر له فالوصل إنما يكون لغيره، وكان ينبغى لأبى بكر أن يقف حيث وقفت الرؤيا، ويقول: ثم يوصل على نص الرؤيا، ولايذكر الموصول له، ومعنى كتمان النبى موضع الخطأ؛ لئلا يحزن الناس بالعارض لعثمان، فهو الرابع الذى انقطع له ثم وصل، أى وصلت الخلافة لغيره، وفى هذا تفسير للحديث الذى رواه أبو معاوية، عن الأعمش، عن يزيد الرقاشى، عن أنس بن مالك أن النبى عليه السلام قال: (الرؤيا لأول عابر) . وقال أبو عبيد وغيره من العلماء: تأويل قوله: (الرؤيا لأول عابر) إذا أصاب الأول وجه العبارة وإلا فهى لمن أصابها بعده، إذ ليس المدار إلا على إصابة الصواب فيما يرى النائم ليوصل بذلك إلى مراد الله بما ضربه من الأمثال فى المنام، فإذا اجتهد العابر وأصاب الصواب فى معرفة المراد بما ضربه الله فى المنام فلا(9/560)
تفسير إلا تفسيره ولاينبغي أن يسال عنها غيره، إلا أن يكون الأول قد قصر به تاويله فخالف اصول التأويل، فاللعابر الثانى أن يبين ماجهله ويخبر بما عنده كما فعل النبى عليه السلام بالصديق فقال: (أصبت بعضًا وأخطأت بعضًا) ولو كانت الرؤيا لأول عابر سواء أصاب أو أخطأ ماقال له الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (وأخطأت بعضًا) وقال الكرمانى: لا تغير الرؤيا عن وجهها التى رئيت له عبارة عابر ولاغيره، وكيف يستطيع مخلوق أن يغير ماجاءت نسخته من أم الكتاب، غير أن الذى يستحب لمن لم يتدرب فى علم التأويل ولااتسع فى التعبير الا يتعرض لما قد سبق إليه من لايشك فى إمامته ودينه، وله من التجربة فوق تجربته. قال ابن قتية: وليس ينبغى أن يسأل صاحب الرؤيا عن رؤياه إلا عالمًا ناصحا أمينا كما جاء فى الخبر عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (لا تقصص رؤياك إلا على عالم أو ناصح أوذى رأى من أهلك، فإنه سوف يقول خيرًا) وليس معنى ذلك أن الرؤيا التى يقول عليها خيرًا كانت دلالة على المكروه والشر، فقد قيل لمالك: أتعبر الرؤيا على الخير وهى عنده على الشر لوقل من قال: أنها على ماأولت؟ فقال: معاذ الله، والرؤيا من أجزاء النبوة فيتلاعب بالنبوة؟ ولكن الخير الذى يرجى من العالم والناصح هو التأويل بالحق أو يدعو له بالخير ودفع الشر، فيقول خيرًا لك وشرًا لعدوك إذا جهل التأويل. قال المهلب: وفيه أن للعالم أن يسكت عن تعبير بعض الرؤيا إذا خشى منها فتنة على الناس غمًا شاملاً، فأما إن كان الغم(9/561)
يخص واحدًا من الناس، واستفسر العابر عنه فلا بأس أن يخبر بالعبارة ليعد الصبر ويكون على أهبته من نزول الحادثة لئلا تفجأة فتفزعه، وقد فسر أبو بكر الصديق رضى الله عنه للمرأة التى رأت جائز بيتها انكسر، فقال: (يموت زوجك وتلدين غلامًا) لماخصها من الحزن وسالت عن التفسير. وفيه: تخصيص معنى أمره عليه السلام بإبرار القسم؛ لأن أبا بكر قد أقسم على النبى عليه السلام ليخبره بموضع الخطأ، فلم يبر قسمه فعلم أن إبرار القسم إنما يجوز إذا لم يكن فى ذلك ضرر على المسلمين، وكذلك إذا أقسم على ما لا يجوز أن يقسم عليه لم ينبغ أن يبر قسمه، الا ترى أن رجلا لو أقسم على أخيه ليشربن بالخمر، أو لعصين الله، لكان فرضًا عليه أن لا يبر قسمه. وفيه: أنه لا بأس للتلميذ أن يقسم على استاذه أن يدعه يفتى فى المسألة؛ لأن هذا القسم إنما هو بمعنى الرغبة والتدرب. وفيه: جواز فتوى المفضول بحضرة الفاضل إذا كان مشارًا إليه بالعلم والأمانة. والظلة: سبحانه لها ظل. وتنطف: تمطر. والسبب: الحبل. وقوله: (يتكففون) قال صاحب العين: تكفف واستكف: إذا بسط كفه ليأخذ.(9/562)
34 - باب تعبير الرؤيا بعد الصبح
/ 38 - فيه: سَمُرَة، كَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) مِمَّا يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ لأصْحَابِهِ: هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ رُؤْيَا؟ قَالَ: فَيَقُصُّ عَلَيْهِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُصَّ، وَإِنَّهُ قَالَ ذَاتَ غَدَاةٍ: إِنَّهُ أَتَانِى اللَّيْلَةَ آتِيَانِ، وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِى، وَإِنَّهُمَا قَالا لِى: انْطَلِقْ وَإِنِّى انْطَلَقْتُ مَعَهُمَا، وَإِنَّا أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِصَخْرَةٍ، وَإِذَا هُوَ يَهْوِى بِالصَّخْرَةِ لِرَأْسِهِ، فَيَثْلَغُ رَأْسَهُ فَيَتَهَدْهَدُ الْحَجَرُ هَا هُنَا، فَيَتْبَعُ الْحَجَرَ، فَيَأْخُذُهُ فَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِ حَتَّى يَصِحَّ رَأْسُهُ، كَمَا كَانَ ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمَرَّةَ الأولَى، قَالَ: قُلْتُ لَهُمَا: سُبْحَانَ اللَّهِ، مَا هَذَانِ؟ قَالَ: قَالا لِى: انْطَلِقِ، انْطَلِقْ. وذكر الحديث بطوله، إلى قوله: قلت: إِنِّى قَدْ رَأَيْتُ مُنْذُ اللَّيْلَةِ عَجَبًا، فَمَا هَذَا الَّذِى رَأَيْتُ، قَالَ: قَالا لِى: أَمَا إِنَّا سَنُخْبِرُكَ، أَمَّا الرَّجُلُ الأوَّلُ الَّذِى أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُثْلَغُ رَأْسُهُ بِالْحَجَرِ، فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَأْخُذُ الْقُرْآنَ، فَيَرْفُضُهُ وَيَنَامُ عَنِ الصَّلاةِ الْمَكْتُوبَةِ، وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِى أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُشَرْشَرُ شِدْقُهُ إِلَى قَفَاهُ وَمَنْخِرُهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنُهُ إِلَى قَفَاهُ فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ، فَيَكْذِبُ الْكَذْبَةَ تَبْلُغُ الآفَاقَ، وَأَمَّا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ الْعُرَاةُ الَّذِينَ فِى مِثْلِ بِنَاءِ التَّنُّورِ، فَإِنَّهُمُ الزُّنَاةُ وَالزَّوَانِى، وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِى أَتَيْتَ عَلَيْهِ يَسْبَحُ فِى النَّهَرِ، وَيُلْقَمُ الْحَجَرَ، فَإِنَّهُ آكِلُ الرِّبَا، وَأَمَّا الرَّجُلُ الْكَرِيهُ الْمَرْآةِ الَّذِى عِنْدَ النَّارِ يَحُشُّهَا وَيَسْعَى حَوْلَهَا، فَإِنَّهُ مَالِكٌ خَازِنُ جَهَنَّمَ، وَأَمَّا الرَّجُلُ الطَّوِيلُ الَّذِى فِى الرَّوْضَةِ، فَإِنَّهُ إِبْرَاهِيمُ (صلى الله عليه وسلم) ، وَأَمَّا الْوِلْدَانُ الَّذِينَ حَوْلَهُ فَكُلُّ مَوْلُودٍ مَاتَ عَلَى الْفِطْرَةِ، قَالَ: فَقَالَ: بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَوْلادُ الْمُشْرِكِينَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : وَأَوْلادُ الْمُشْرِكِينَ، وَأَمَّا الَّذِينَ كَانُوا شَطْرٌ مِنْهُمْ حَسَنًا وَشَطْرٌ قَبِيح، فَإِنَّهُمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُمْ) . قال المهلب: أما معنى الترجمة في سؤاله عليه السلام عن الرؤيا(9/563)
عند صلاة الصبح أولى من غيره من الأوقات لحفظ صاحبها لها وقرب عهده لها، وأن النسيان قلما يعترض عليه فيها ولجام ذهن العابر وقله ابتدائه بالفكره فى أخبار معاشه ومداخلته للناس فى شعب دنياهم، وليعرف الناس مايعرض لهم فى نومهم ذلك، فيستبشرون بالخير ويحذرون موارد الشر، ويتأهبون لورود الأسباب الماوية عليهم، فربما كانت الرؤيا تحذيرًا عن معصية لاتقع إن جهدت، وربما كانت إنذارًا لما لابد من وقوعه، لا تقع إن جهدت، وربما كانت البشرى الخير سببًا لسماعها إلى الازدياد منه وقويت فيه نبيته وانشرحت له نفسه وتسبب إليه، وفى هذا الحديث حجة لمن قال إن أطفال المشركين فى الجنة كأطفال المسلمين، وقد تقدم فى الجنائز. وقوله: (يثلغ رأسه) يعنى: يشدخه، والمثلغ من الرطب والتمر: ماأسقطه المطر، الدهدهة: فنزول الشىء دهده من أعلاه إلى أسفل، والكلوب، والكلاب لغتان وقد تقدم تفسير الكلول والدهدهة فى الجنائز بزيادة على ما فى هذا الباب. وشرشر: قطع. من كتاب العين. والضوضاء: الصوت والجلبة، وقد ضوضا الناس. وفغرفاه يفغر، إذا فتحه. وقوله: يحشها، قال صاحب العين: حششت النار حشًا: أوقدتها وجمعت الحطب إليها، وكل ما قوى بشىء فقد حش به. ومغن إذا كثر شجرة ودغله. ولايعرف الأصمعى إلا أغن وحده.(9/564)
وقال صاحب العين: روضة غناء: كثيرة العشب والذباب، وقرية غناء: كثيرة الأهل، وواد أغن. وقوله: (كأن ماءه المحض فى البياض) ، قال صاحب العين المحض: اللبن بلا رغوه، وكل شىء خالص فهو محض، وقال: الرباب: السحاب واحدتها ربابة.(9/565)
الجزء العاشر(10/4)
كِتَاب الْفِتَنِ
- قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال 25] وَمَا كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يُحَذِّرُ مِنَ الْفِتَنِ / 1 - فيه: أَسْمَاءُ، قَالَتْ: قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (أَنَا عَلَى حَوْضِى أَنْتَظِرُ مَنْ يَرِدُ عَلَىَّ، فَيُؤْخَذُ بِنَاسٍ مِنْ دُونِى، فَأَقُولُ: أُمَّتِى، فَيُقَالُ: لا تَدْرِى، مَشَوْا عَلَى الْقَهْقَرَى) . وقَالَ ابْنُ أَبِى مُلَيْكَةَ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَرْد عَلَى أَعْقَابِنَا أَوْ نُفْتَنَ. / 2 - وفيه: عَبْدُاللَّهِ، قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، لَيُرْفَعَنَّ إِلىَّ رِجَالٌ مِنْكُمْ حَتَّى إِذَا أَهْوَيْتُ لأنَاوِلَهُمُ اخْتُلِجُوا دُونِى، فَأَقُولُ: أَىْ رَبِّ، أَصْحَابِى، يَقُولُ: لا تَدْرِى مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ) . / 3 - وفيه: سَهْل، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، فَمَنْ وَرَدَهُ شَرِبَ مِنْهُ، وَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهُ أَبَدًا، لَيَرِدُ عَلَىَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِى، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ) . وزاد أَبُو سَعِيد قَالَ: (إِنَّهُمْ مِنِّى) ، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لا تَدْرِي مَا بَدَّلُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ: سُحْقًا، سُحْقًا، لِمَنْ بَدَّلَ بَعْدِي) .(10/5)
قال المؤلف: كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يستعيذ من الفتن ومن شرها ويتخوف من وقوعها؛ لأنها تذهب بالدين وتتلفه، وقال: قول الله: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَآصَّةً) [الأنفال: 25] قال: إن الفتنة إذا عمّت هلك الكل، وذلك عند ظهور المعاصى وانتشار المنكر. وقد سألت زينب النبى (صلى الله عليه وسلم) عن هذا المعنى فقالت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: (نعم إذا كثر الخبث) وفسر العلماء الخبث أولاد الزنا، فإذا ظهرت المعاصى ولم تُغير، وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة والهرب منها، فإن لم يفعلوا فقد تعرضوا للهلاك، إلا أن الهلاك طهارة للمؤمنين ونقمة على الفاسقين، وبهذا قال السلف. وروى ابن وهب عن مالك أنه قال: تهجر الأرض التى يصنع فيها المنكر جهارًا ولا يستقر فيها. واحتج بصنيع أبى الدرداء فى خروجه عن أرض معاوية حين أعلن بالربا وهو من الكبائر، وأجاز بيع سقاية الذهب بأكثر من وزنها فقال له أبو الدرداء: (سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ينهى عن مثل هذا إلا مثلاً بمثل. فقال معاوية: ما أرى بمثل هذا بأسًا. فقال أبو الدرداء: من يعذرنى من معاوية، أنا أخبره عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ويخبرنى عن رأيه لا أساكنك بأرض أنت بها) . وأما أحاديث أهل هذا الباب فى ذكر من يعرفهم النبى من أمته، ويحال بينهم وبينه، لما أحدثوا بعده، فذلك كل حدث فى الدين لا يرضاه الله من خلاف جماعة المسلمين، وجميع أهل البدع كلهم فيهم مبدلون محدثون، وكذلك أهل الظلم والجور، وخلاف الحق وأهله كلهم محدث مبدل ليس فى الإسلام داخل فى معنى هذا الحديث. وقوله: (اختلجوا دوني) . قال صاحب العين: خلجت الشيء،(10/6)
واختلجته: جذبته. وقوله: (فسحقًا سحقًا لمن بدل بعدي) يعنى: بعدًا له والسحيق: البعيد ومنه قوله تعالى: (فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ) [الملك: 11] ، ومعنى ذلك: الدعاء على من بدّل وغيرّ كقوله: أبعده الله. قال أبو جعفر الداودى: وليس هذا مما يحتم به للمختلجين بدخول النّار؛ لأنه يحتمل أن يختلجوا وقتًا فيلحقهم من هول ذلك اليوم وشدته ما شاء الله، ثم يتلقاهم الله بما شاء من رحمته، ولا يدل قوله: (سحقًا سحقًا) أنه لا يشفع لهم بعد؛ لأن الله تعالى قد يلقى لهم ذلك فى قلبه وقتًا ليعاقبهم بما شاء إلى وقت يشاء، ثم يعطف قلبه عليهم فيشفع لهم، وقد جاء فى الحديث: (شفاعتى لأهل الكبائر من أمتى) . وقد قال بعض السلف: فالذين يعرفهم النبى ويحال بينهم وبينه أنهم هم المرتدون، واستدل على ذلك بقوله: (أى رب أصحابى، فيقال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى) ذكره فى باب الحوض فى آخر الرقاق وفى هذه الأحاديث الإيمان بحوض النبى (صلى الله عليه وسلم) على ما ذهب إليه أهل السنة.
- باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (سَتَرَوْنَ بَعْدِى أُمُورًا تُنْكِرُونَهَا
وَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ زَيْدٍ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (اصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِ عَلَى الْحَوْضِ) . / 4 - فيه: ابن مسعود، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِى أَثَرَةً، وَأُمُورًا(10/7)
تُنْكِرُونَهَا) ، قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ، وَسَلُوا اللَّهَ حَقَّكُمْ) . / 5 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا، فَلْيَصْبِرْ، فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْرًا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً) . / 6 - وفيه: عُبَادَة، بَايَعَنَا النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِى مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةً عَلَيْنَا، وَأَنْ لا نُنَازِعَ الأمْرَ أَهْلَهُ، إِلا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ. / 7 - وفيه: أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَعْمَلْتَ فُلانًا، وَلَمْ تَسْتَعْمِلْنِى، قَالَ: (إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِى أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِى) . قال المؤلف: فى هذه الأحاديث حجة فى ترك الخروج على أئمة الجور، ولزوم السمع والطاعة لهم والفقهاء مجمعون على أن الإمام المتغلّب طاعته لازمة، ما أقام الجمعات والجهاد، وأن طاعته خير من الخروج عليه؛ لما فى ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) لأصحابه: (سترون بعدى أثرةً وأمورًا تنكروها) فوصف أنهم سيكون عليهم أمراء يأخذون منهم الحقوق ويستأثرون بها، ويؤثرون بها من لا تجب له الأثرة، ولا يعدلون فيها، وأمرهم بالصبر عليهم والتزام طاعتهم على ما فيهم من الجور، وذكر على بن معبد، عن على بن أبى طالب أنه قال: لابد من إمامة برة أو فاجرة. قيل له: البرة لابد منها،(10/8)
فما بال الفاجرة؟ قال: تقام بها الحدود، وتأمن بها السبل، ويقسم بها الفئ، ويجاهد بها العدو. ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث ابن عباس: (من خرج من السلطان شبرًا مات ميتةً جاهليةً) . وفى حديث عبادة: (بايعنا رسول الله على السمع والطاعة) إلى قوله: (وألا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرًا بواحًا) فدل هذا كله على ترك الخروج على الأئمة، وألا يشق عصا المسلمين، وألا يتسبب إلى سفك الدماء وهتك الحريم، إلا أن يكفر الإمام ويظهر خلاف دعوة الإسلام، فلا طاعة لمخلوق عليه، وقد تقدم فى كتاب الجهاد، وكتاب الأحكام هذا. قال الخطابى: (بواحًا) يريد ظاهرًا باديًا، ومنه قوله: باح بالشىء يبوح به بوحًا وبئوحًا، إذا أذاعه وأظهره ومن رواه (براحًا) فالبراح بالشىء مثل البواح أو قريب منه، وأصل البراح الأرض القفر التى لا أنيس ولا بناء فيها، وقال غيره: البراح: البيان، يقال: برح الخفاء أى ظهر.
3 - باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (هَلاكُ أُمَّتِى عَلَى يَدَي أُغَيْلِمَةٍ سُفَهَاءَ من قريش
/ 8 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ: قَالَ النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) : (هَلَكَةُ أُمَّتِي عَلَى يَدَيْ غِلْمَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ) . فَقَالَ مَرْوَانُ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ غِلْمَةً، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَوْ شِئْتُ أَنْ أَقُولَ بَنِى فُلانٍ، وَبَنِى فُلانٍ لَفَعَلْتُ.(10/9)
قال المؤلف: وفى هذا الحديث أيضًا حجة لجماعة الأمة فى ترك القيام على أئمة الجور ووجوب طاعتهم والسمع والطاعة لهم، ألا ترى أنه (صلى الله عليه وسلم) قد أعلم أبا هريرة بأسمائهم وأسماء آبائهم، ولم يأمره بالخروج عليهم ولا بمحاربتهم، وإن كان قد أخبر أن هلاك أمته على أيديهم، إذ الخروج عليهم أشدّ فى الهلاك وأقوى فى الاستئصال، فاختار (صلى الله عليه وسلم) لأمته أيسر الأمرين وأخف الهلاكين، إذ قد جرى قدر الله وعلمه أن أئمة الجور أكثر من أئمة العدل وأنهم يتغلّبون على الأمة، وهذا الحديث من أقوى ما يرد به على الخوارج. فإن قال قائل: (ما أراد النبى (صلى الله عليه وسلم) بقوله: (هلاك أمتى) أهلاكهم فى الدين أم هلاكهم فى الدنيا بالقتل؟ . قيل: أراد الهلاكين معًا، وقد جاء ذلك بينًا فى حديث على بن معبد عن إسماعيل بن عياش، عن يحيى بن عبيد الله، عن أبيه قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله: (أعوذ بالله من إمارة الصبيان. فقال أصحابه: وما إمارة الصبيان؟ فقال: إن أطعتموهم هلكتم، وإن عصيتموهم أهلكوكم، فهلاكهم فى طاعتهم هلاك الدين، وهلاككم فى عصيانهم هلاك الأنفس) . فإن قيل: فلم ذكر البخارى فى الترجمة أغيلمة سفهاء من قريش، ولم يذكر (سفهاء) فى حديث الباب؟ . قيل: كثيرًا ما يفعل مثل هذا، وذلك أن تأتى فى حديث لا يرضى إسناده لفظة تبين معنى الحديث فيترجم بها ليدل على المراد بالحديث، وعلى أنه قد روى عن العلماء ثم لا يسعه أن يذكر فى حشو الباب إلا أصحّ ما روى فيه لاشتراطه الصحةّ فى كتابه، وقد روى ذلك على بن معبد قال حدثنا أشعث بن(10/10)
سعيد، عن سماك، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله: (إن فساد أمتى، أو هلاك أمتى على رءوس غلمة سفهاء من قريش) . فبان بهذا الحديث أن الغلمة سفهاء، وأن الموجب لهلاك الناس بهم أنهم رؤساء وأمراء متغلبين.
4 - باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ
/ 9 - فيه: زَيْنَب، قَالَتِ: اسْتَيْقَظَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) مِنَ النَّوْمِ مُحْمَرًّا وَجْهُهُ، يَقُولُ: (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ، مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ) ، وَعَقَدَ سُفْيَانُ تِسْعِينَ أَوْ مِائَةً، قِيلَ: أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: (نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ) . / 10 - وفيه: أُسَامَة، أَشْرَفَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: (هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى) ؟ قَالُوا: لا، قَالَ: (فَإِنِّى لأرَى الْفِتَنَ تَقَعُ خِلالَ بُيُوتِكُمْ كَوَقْعِ الْقَطْرِ) . قال المؤلف: هذه الأحاديث كلها مما أنذر النبى (صلى الله عليه وسلم) بها أمته وعرّفهم قرب الساعة لكى يتوبوا قبل أن يهجم عليهم وقت غلق باب التوبة حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل، وقد ثبت أن خروج يأجوج ومأجوج من آخر الأشراط، فإذا فتح من ردمهم فى وقته (صلى الله عليه وسلم) مثل عقد التسعين أو المائة فلا يزال الفتح يستدير ويتسع على مرّ الأوقات، وهذا الحديث فى معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (بعثت أنا والساعة كهاتين. وأشار بأصبعيه السبابة والتى تليها) وقد روى النضر بن شميل، عن محمد بن عمرو، عن أبى سلمة، عن أبي(10/11)
هريرة قال: قال رسول الله: (ويل للعرب من شر قد اقترب، موتوا إن استطعتم) وهذا غاية فى التحذير من الفتن والخوض فيها حين جعل الموت خيرًا من مباشرتها، وكذلك أخبر فى حديث أسامة بوقوع الفتن خلال بيوتهم ليتوقفوا ولا يخوضوا فيها ويتأهبوا لنزولها بالصبر، ويسألوا الله العصمة منها والنجاة من شرها. قال ابن قتيبة: والخبث: الفسوق والفجور، والعرب تدعو الزنا خبثًا وخبيثة، وفى الحديث أن رجلا وجد مع امرأة يخبث بها أى يزني. قال الله تعالى: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ) [النور: 26] والأطم: حصن مبنى بالحجارة.
5 - باب ظُهُورِ الْفِتَنِ
/ 11 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ، وَيَنْقُصُ الْعَمَلُ، وَيُلْقَى الشُّحُّ، وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ) ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّمَ هُوَ؟ قَالَ: (الْقَتْلُ، الْقَتْلُ) . / 12 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ، وَأَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ بَيْنَ يَدَىِ السَّاعَةِ لأيَّامًا، يَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ، وَيُرْفَعُ فِيهَا الْعِلْمُ، وَيَكْثُرُ فِيهَا الْهَرْجُ) . وَالْهَرْجُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ: الْقَتْلُ. / 13 - وَقَالَ عَبْدِ اللَّهِ لأبِى مُوسَى: تَعْلَمُ الأيَّامَ الَّتِى ذَكَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَيَّامَ الْهَرْجِ، قَالَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكْهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ) .(10/12)
قال المؤلف: هذا كله إخبار من النبي بأشراط الساعة، وقد رأينا هذه الأشراط عيانًا وأدركناها، فقد نقص العلم، وظهر الجهل، وألقى بالشح فى القلوب، وعمّت الفتن، وكثر القتل، وليس فى الحديث ما يحتاج إلى تفسير غير قوله: (يتقارب الزمان) ومعنى ذلك، والله أعلم، تقارب أحوال أهله فى قلة الدين حتى لا يكون فيهم من يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر لغلبة الفسق وظهور أهله، وقد جاء فى الحديث: (لا يزال الناس بخير ما تفاضلوا، فإذا تساووا هلكوا) يعنى لا يزالون بخير ما كان فيهم أهل فضل وصلاح وخوف لله يلجأ إليهم عند الشدائد، ويستشفى بآرائهم، ويتبرك بدعائهم، ويؤخذ بتقويمهم وآثارهم. وقال الطحاوى: قد يكون معناه فى ترك طلب العلم خاصةً والرضا بالجهل، وذلك أن الناس لا يتساوون فى العلم؛ لأن درج العلم تتفاوت، قال الله تعالى: (وَفَوْقَ كُلِّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ) [يوسف: 76] وإنما يتساوون إذا كانوا جهالا. قال الخطابى: وأما حديثه الآخر: (أنه يتقارب الزمان حتى تكون السنّة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كالساعة) فإن حماد بن سلمة قال: سألت عنه أبا سلمان فقال: ذلك من استلذاذ العيش. يريد، والله أعلم، خروج المهدى ووقوع الأمنة فى الأرض ببسطه العدل فيها فيستلذ العيش عند ذلك وتستقصر مدته، ولا يزال الناس يستقصرون أيام الرخاء وإن طالت، ويستطيلون أيام المكروه وإن قصرت، وللعرب فى مثل هذا: مر بنا يوم كالعرقوب القطا قصرًا. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن من شرار الناس من تدركهم الساعة(10/13)
أحياء) فإنه وإن كان لفظه العموم فالمراد به الخصوص، ومعناه: أن الساعة تقوم فى الأكثر والأغلب على شرار الناس بدليل قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا تزال طائفة من أمتى على الحق منصورة لا يضرها من ناوأها حتى تقوم الساعة) . فدل هذا الخبر أن الساعة تقوم أيضًا على قوم فضلاء، وأنهم فى صبرهم على دينهم كالقابض على الجمر، وذكر فى مواضع.
6 - باب لا يَأْتِى زَمَانٌ إِلا الَّذِى بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ
/ 14 - فيه: الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِىٍّ، أَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنَ الْحَجَّاجِ، فَقَالَ: اصْبِرُوا، فَإِنَّهُ لا يَأْتِى عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلا الَّذِى بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ، سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ (صلى الله عليه وسلم) . / 15 - وفيه: أُمَّ سَلَمَةَ، اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَيْلَةً فَزِعًا يَقُولُ: (سُبْحَانَ اللَّهِ، مَاذَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْخَزَائِنِ؟ وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الْفِتَنِ؟ مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجُرَاتِ، يُرِيدُ أَزْوَاجَهُ، لِكَىْ يُصَلِّينَ، رُبَّ كَاسِيَةٍ فِى الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِى الآخِرَةِ) . قال المؤلف: حديث أنس من علامات النبوة لإخبار النبى (صلى الله عليه وسلم) بتغير الزمان وفساد الأحوال، وذلك غيب لا يعلم بالرأى، وإنما يعلم بالوحى، ودل حديث أم سلمة على الوجه الذى يكون به الفساد، وهو ما يفتح الله عليهم من الخزائن وأن الفتن مقرونة بها، ويشهد(10/14)
لذلك قول الله تعالى: (كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى) [العلق: 6، 7] فمن فتنة المال ألا ينفق فى طاعة الله، وأن يمنع منه حق الله، ومن فتنته السرف فى إنفاقه ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (رُبّ كاسية فى الدنيا عارية في الآخرة) . قال المهلب: فأخبر أن فيما فتح من الخزائن فتنة الملابس، فحذّر (صلى الله عليه وسلم) أزواجه وغيرهن أن يفتن فى لباس رفيع الثياب التى يفتن النفوس فى الدنيا رقيقها وغليظها، وحذّرهن التعرى يوم القيامة منها ومن العمل الصالح، وحضّهن بهذا القول أن يقدمن ما يفتح عليهن من تلك الخزائن للآخرة وليوم يحشر الناس عراةً، فلا يكسى إلا الأول فالأول فى الطاعة والصدقة، والإنفاق فى سبيل الله، فمن أراد أن تسبق إليه الكسوة فليقدمها لآخرته، ولا يذهب طيباته فى الدنيا وليرفعها إلى يوم الحاجة. وقوله: (من يوقظ صواحب الحجرات) ندب بعض خدمه لذلك، كما قال يوم الخندق: (من يأتينى بخبر القوم) وكذلك قال من يسهل عليه فى الليل أن يدور على حجر نسائه، فيوقظهن للصلاة والاستعاذة مما أراه الله من الفتن النازلة كى يوافقن الوقت المرجو فيه الإجابة، وأخبرنا (صلى الله عليه وسلم) أن حين نزول البلاء ينبغى الفزع إلى الصلاة والدعاء، فيرجى كشفه لقوله تعالى: (فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا) [الأنعام: 42] الآية، وقد تقدم حديث أم سلمة فى كتاب الصلاة فى باب تحريض النبى (صلى الله عليه وسلم) على صلاة اللّيل وذكرنا فيه معنىً زائدًا.(10/15)
7 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاحَ فَلَيْسَ مِنَّا
/ 16 - فيه: ابْن عُمَرَ، وَأَبُو مُوسَى، قَالا: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاحَ فَلَيْسَ مِنَّا) . / 17 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يُشِيرُ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيهِ بِالسِّلاحِ، فَإِنَّهُ لا يَدْرِى، لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِى يَدِهِ، فَيَقَعُ فِى حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ) . / 18 - وفيه: سُفْيَانُ، قُلْتُ لِعَمْرٍو: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، سَمِعْتَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِاللَّهِ، يَقُولُ: مَرَّ رَجُلٌ بِسِهَامٍ فِى الْمَسْجِدِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَمْسِكْ بِنِصَالِهَا) ، قَالَ: نَعَمْ. / 19 - وفيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ فِى مَسْجِدِنَا، أَوْ سُوقِنَا، وَمَعَهُ نَبْلٌ، فَلْيُمْسِكْ عَلَى نِصَالِهَا، أَوْ فَلْيَقْبِضْ بِكَفِّهِ، أَنْ يُصِيبَ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا شَىْءٌ) . قال المؤلف: قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فليس منا) يعنى ليس متبعًا لسُنتنا ولا سالكًا سبيلنا، كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (ليس منا من شق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية) لأن من حق المسلم على المسلم أن ينصره ولا يخذله ولا يسلمه، وأن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضُه بعضًا، فمن خرج عليهم بالسيف بتأويل فاسدٍ رآه، فقد خالف ما سَنّهُ النبى (صلى الله عليه وسلم) من نصرة المؤمنين وتعاون بعضهم لبعض، والفقهاء مجمعون على أن الخوارج من جملة المؤمنين لإجماعهم كلهم على أن الإيمان لا يزيله غير الشرك بالله ورسوله والجحد لذلك، وأن المعاصى غير الكفر لا يكفر مرتكبها، ذكر أسد بن موسى فى كتاب الكف عن(10/16)
أهل القبلة قال: حدثنا هشيم بن بشير قال: حدثنا كوثر بن حكيم قال: حدثنا نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال لابن مسعود: (أتدرى كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: حكم الله فيها أن لا يقتل أسيرها ولا يقسم فيئها، ولا يجهز على جريحها ولا يتبع مدبرها) . وبهذا عمل على بن أبى طالب، ورضيت الأمة بفعله هذا فيهم، وقال الحسن بن على: لولا على بن أبى طالب لم يعلم الناس كيف يقاتلون أهل القبلة، فقاتلهم على بما كان عنده من العلم فيهم من النبى (صلى الله عليه وسلم) فلم يكفرهم ولا سبَاهم ولا أخذ أموالهم، فمواريثهم قائمة، ولهم حكم الإسلام. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يشير أحدكم على أخيه بالسلاح) وأمرهُ للذى مر بالسهام فى المسجد أن يمسك نصالها، هو من باب الأدب وقطع الذرائع ألا يشير أحد بالسلاح خوف ما يئول منها ويخشى من نزع الشيطان. وقوله: (فيقع فى حفرة من النار) معناه: إن أنفذ الله عليه الوعيد، وهذا مذهب أهل السنة، ومن روى فى الحديث (ينزغ فى يده) فقال صاحب العين: نزغ بين القوم نزغًا: حمل بعضهم على بعض بفساد بينهم، ومنه نزغ الشيطان. وقال صاحب الأفعال: نزغ: طعن، ومن روى (ينزع) بالعين فهو قريب من هذا المعنى. قال صاحب العين: نزعت الشىء نزعًا: قلعته، ونزع بالسهم: من رمى به.(10/17)
8 - باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَرْجِعُوا بَعْدِى كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ
/ 20 - فيه: عَبْدُاللَّهِ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ) . / 21 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ، وابْن عَبَّاس، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَرْجِعُوا بَعْدِى كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ) . / 22 - وفى حديث أَبِى بَكْرَةَ: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ حُرِّقَ ابْنُ الْحَضْرَمِىِّ، حِينَ حَرَّقَهُ جَارِيَةُ بْنُ قُدَامَةَ، قَالَ: أَشْرِفُوا عَلَى أَبِى بَكْرَةَ، قَالُوا: هَذَا أَبُو بَكْرَةَ يَرَاكَ. قَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ، فَحَدَّثَتْنِى أُمِّى عَنْ أَبِى بَكْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ دَخَلُوا عَلَىَّ مَا بَهَشْتُ بِقَصَبَةٍ. قال المؤلف: هذا الباب فى معنى الذى قبله، فيه النهى عن قتل المؤمنين بعضهم بعضًا، وتفريق كلمتهم وتشتيت شملهم، وليس معنى قوله: (لا ترجعوا بعدى كفارًا) النهى عن الكفر الذى هو ضد الإيمان بالله ورسوله، وإنما المراد بالحديث النهى عن كفر حق المسلم الذى أمر به النبى (صلى الله عليه وسلم) من التناصر والتعاضد، والكفر فى لسان العرب: التغطية، وكذلك قوله: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر) يعنى: قتاله كفر بحقه وترك موالاته، للإجماع على أن أهل المعاصى لا يكفرون بارتكابها. وقال أبو سليمان الخطابى: قيل: معناه لا يكفر بعضكم بعضًا فتستحلوا أن تقاتلوا ويضرب بعضكم رقاب بعض، وقيل: إنه أراد بالحديث أهل الردة أخبرنى إبراهيم بن فراس قال: سمعت موسى بن هارون يقول: هؤلاء أهل الردة قتلهم أبو بكر. وقد تقدم في كتاب(10/18)
الحج فى باب الخطبة فى أيام منى زيادة فى معنى هذا الحديث من كلام الطبري. قال المهلب: وابن الحضرمى رجل امتنع من الطاعة فأخرج إليه جارية بن قدامة جيشًا فظفر به فى ناحية من العراق، وكان أبو بكرة يسكنها، فأمر جارية بصلبه فصلب، ثم ألقى النار فى الجذع الذى صلب فيه بعد أيام، ثم أمر جارية خيثمة أن يشرفوا على أبى بكرة ليختبر إن كان يحارب فيعلم أنه على غير طاعة أو يستسلم فيعرف أنه على الطاعة، فقال له خيثمة: هذا أبو بكرة يراك وما صنعت فى ابن الحضرمى وما أنكر عليك بكلام ولا بسلاح، فلما سمع أبو بكرة ذلك وهو فى عليّة له قال: لو دخلوا علىّ دارى ما بهشت بقصبة فكيف أن أقاتلهم بسلاح؛ لأنى لا أرى الفتنة فى الإسلام، ولا التحرك فيها مع إحدى الطائفتين. قال الطبرى: (ما بهشت إليهم بقصبة) يعنى ما تناولتهم ولا مددت يدى إليهم بسوء، يقال للرجل إذا أراد معروف الرجل أو أراد مكروهه وتعرّض لخيره أو شره: بهش فلان إلى كذا وكذا، ومنه قول النابغة: سبقت الرجال الباهشين إلى العلا
كسبق الجواد اصطاد قبل الطوارد
وفي كتاب الأفعال: بهشت إلى فلان: خففت إليه، ورجل بهش وباهش.(10/19)
9 - باب تَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ
/ 23 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (سَتَكُونُ فِتَنٌ، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِى، وَالْمَاشِى فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِى، مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، فَمَنْ وَجَدَ مِنْهَا مَلْجًأ أَوْ مَعَاذًا، فَلْيَعُذْ بِهِ) . قال الطبرى: إن قال قائل: ما معنى هذا الحديث، وهل المراد به كل فتنة بين المسلمين أو بعض الفتن دون البعض؟ فإن قلت: المعنى به كل فتنةٍ، فما أنت قائل فى الفتن التى مضت، وقد علمت أنه نهض فيها من خيار المسلمين خلق كثير، وإن قلت المعنى به البعض، فأيتها المعنيّة به، وما الدليل على ذلك؟ قيل: قد اختلف السلف فى ذلك، فقال بعضهم: المراد به جميع الفتن وغير جائز للمسلم النهوض فى شىء منها، قالوا: وعليه أن يستسلم للقتل إن أريدت نفسه ولا يدفع عنها، والفتنة: الاختلاف الذى يكون بين أهل الإسلام ولا إمام لهم مجتمع على الرضا بإمامته لما يستنكر من سيرته فى رعيته، فافترقت رعيته عليه حتى صار افتراقهم إلى القتال بأن رضيت منهم فرقة إمامًا غيره، وأقامت فرقة على الرضا به، قالوا: وإذا كان كل واحد من هذين المعنيين، فهى التى أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) بكسر السيوف فيها ولزوم البيوت وهى التى قال (صلى الله عليه وسلم) : (القاعد فيها خير من القائم) وممن قعد فى الفتنة حذيفة، ومحمد بن سلمة، وأبو ذر، وعمران بن حصين، وأبو موسى الأشعرى، وأسامة بن زيد، وأهبان بن صيفى، وسعد بن أبى وقاص، وابن عمر، وأبو بكرة، ومن التابعين شريح والنخعي،(10/20)
وحجتهم من طريق النظر أن كل فريق من المقتتلين فى الفتنة فإنه يقاتل على تأويل، وإن كان فى الحقيقة خطأ فهو عند نفسه فيه محق وغير جائز لأحدٍ قتله، وسبيله سبيل حاكم من المسلمين يقضى بقضاء مما اختلف فيه العلماء على ما يراه صوابًا، فغير جائز لغيره من الحكام نقضه إذا لم يخالف بقضائه ذلك كتابًا ولا سُنّةً ولا جماعة، فكذلك المقتتلون فى الفتنة كل حزب منهم عند نفسه محق دون غيره بما يدعون من التأويل، وغير جائز لأحد قتالهم، وإن هم قصدوا لقتله فغير جائز دفعهم بضرب أو جرح، لأن ذلك إنما يستحقه من قاتل وهو متعمد الإثم فى قتاله، والواجب على الناس إذا اقتتل حزبان من المسلمين بهذه الصفة ترك معاونة أحدهما على الآخر وعليهم لزوم البيوت، كما أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) أبا ذر ومحمد بن سلمة وعبد الله بن عمر، وما عمل به من تقدّم ذكرهم من الصحابة. وقال آخرون: إذا كانت فتنة بين المسلمين، فالواجب على المسلمين لزوم البيوت وترك معاونة أحد الحزبين، ولكن إن دخل على بعض من قد اعتزل الفريقين منزله، فأتى من يريد نفسه، فعليه دفعه عن نفسه وإن أتى الدفع على نفسه، روى ذلك عن عمران بن حصين وابن عمر وعبيدة السلمانى، واحتجوا بعلة الذين تقدم قولهم غير أنهم اعتلوا فى إباحة الدفع عن أنفسهم بالأخبار الواردة عن النبى أنه قال: (من أريدت نفسه وماله فقتل فهو شهيد) . فالواجب على كل من أريدت نفسه وماله ظلمًا دفع ذلك ما وجد إليه السبيل، متأولا كان المريد أو معتمدًا للظلم،؛ لأن ذلك عندهم ظلم وعلى كل أحد دفع الظلم عن نفسه بما قدر عليه.(10/21)
وقال آخرون: كل فرقتين اقتتلتا فغير خارج أحدهما من أحد وجهين من أن تكون الفرقتان مخطئتين فى قتال لعضهم بعضًا، وذلك كقتال أهل الغصب والمقتتلين على النهب وأشباه ذلك مما لا شبهة فى أن اقتتالهم حرام، وأن على المسلمين الأخذ على أيديهم وعقوبتهم بما يكون نكالا لهم، أو تكون إحداهما مخطئة والأخرى مصيبة، فالواجب على المسلمين الأخذ على أيدى المخطئة ومعونة المصيبة؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قد أمر بالأخذ على يدى الظالم بقوله: (لتأخذن على يدى الظالم حتى تأطروه على الحق أطرًا أو ليسلطن الله عليكم شراركم، فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم) فإذا كان كما قلنا، وكان غير جائز أن تكون فرقتان تقاتل كل واحدة منهما صاحبتها أو يسفك بعضها دماء بعض كلاهما مصيبة؛ لأن ذلك لو جاز جاز أن يكون الشىء الواحد حرامًا وحلالاً فى حالة واحدة، وإذا كان كذلك فالواجب على المسلمين معونة المحقّة من الفئتين، وقتال المخطئة حتى ترجع إلى حكم الله، فلا وجه لكسر السيوف والاختفاء فى البيوت عند هيج الفتنة، روى ذلك عن على بن أبى طالب وعمار بن ياسر وعائشة وطلحة، ورواية عن ابن عمر، روى الزهرى، عن حمزة بن عبد الله بن عمر، عن أبيه أنه قال: ما وجدت فى نفسى من شىء ما وجدت أنى لم أقاتل هذه الفئة الباغية كما أمرنى الله. وروى سفيان عن يحيى بن هانئ أنه قال لعبد الله بن عمرو: (على كان أولى أو معاوية؟ قال: علي. قال: فما أخرجك؟ قال: إنى لم أضرب بسيفٍ ولم أطعن برمح، ولكن رسول الله قال: أطع أباك فأطعته) . وقال إبراهيم بن سعد: قتل أويس القرني(10/22)
مع علي فى الرجالة. وقيل لإبراهيم النخعي: من كان أفضل علقمة أو الأسود؟ فقال: علقمة؛ لأنه شهد صفّين وخضب بسيفه فيها. وقال ابن إسحاق: شهد مع على عبيدة السلمانى وعلقمة وأبو وائل وعمرو بن شرحبيل. وقال ابن إسحاق: خرج مع ابن الأشعث فى الجماجم ثلاثة آلاف من التابعين ليس فى الأرض مثلهم: أبو البخترى، والشعبى، وسعيد بن جبير، وعبد الرحمن بن أبى ليلى، والحسن البصري. وقال آخرون: كل قتال وقع بين المسلمين ولا إمام لجماعتهم يأخذ للمظلوم من الظالم فذلك القتال هو الفتنة التى أمر رسول الله بالاختفاء فى البيوت فيها وكسر السيوف، كان الفريقان مخطئين أو كان أحدهما مخطئًا والآخر مصيبًا، روى ذلك عن الأوزاعى قال: ما كانت منذ بعث الله نبيه إلى اليوم طائفتان من المؤمنين اقتتلتا إلا كان قتالهم خطأ ومعصية، فإن كانتا فى سواد العامة، فإمام الجماعة المصلح بينهم يأخذ من الباغية القصاص فى القتل والجراح كما كان بين تينك الطائفتين اللتين نزل فيهما القرآن إلى رسول الله وإلى الولاة بعده وإن كان قتالهم وليس للناس إمام يجمعهم فهى الفتنة التى النجاة منها الأخذ بعهد النبى (صلى الله عليه وسلم) أن يعتزل تلك الفرق كلها ولو أن يعض بأصل الشجرة حتى يدركه الموت، وإن كانت خارجة فشهدت على أختها بالضلالة فى إيمانها وبالكفر لم تسم فئة باغية، وقد برئت من ولايتها قبل خروجها عليها، فكفى بالخروج براءة وبرجوع فلهم إذا هزموا إلى مقرهم مروقًا.(10/23)
قال الطبري: وأنا قائل بالصواب فى ذلك ومبين معنى الفتنة التى القاعد فيها خير من القائم وأمره (صلى الله عليه وسلم) بكسر السيوف ولزوم البيوت والهرب فى الجبال، والخبر المعارض لهما وهو أمره (صلى الله عليه وسلم) بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين والأخذ على يد السفهاء والظالمين، إذ غير جائز التعارض فى أخباره (صلى الله عليه وسلم) ؛ إذ كل ما قال حق وصدق. فنقول: الفتنة فى كلام العرب الابتلاء والاختبار، فقد يكون ذلك بالشدّة والرخاء والطاعة والمعصية، وكان حقًا على المسلمين إقامة الحق ونصرة أهله، وإنكار المنكر والأخذ على أيدى أهله، كما وصفهم الله تعالى بقوله: (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِى الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ) [الحج: 41] كان معلومًا أن من أعان فى الفتنة فريق الحق على فريق الباطل فهو مصيب أمر الله تعالى ومن أنكر ما قلناه قيل له: أرأيت المفتئتين. الملتمسين ولاية أمر الأمة فى حال لا إمام لهم يقيم عليهم الحق هل خلوا عندك من أحد أمور ثلاثة: إما أن يكون كلاهما محقين أو كلاهما مبطلين أو أحدهما محقًا والآخر مبطلا؟ فإن قال: نعم. قيل له: أو ليس الفريقان إذا كانوا مبطلين حق على المسلمين الأخذ على أيديهما إن قدروا على ذلك، وإن لم تكن لهم طاقة؛ فكراهة أمرهما والقعود عنهما وترك معونة أحدهما على الآخر فقد أوجب معونة الظالم على ظلمه، وذلك خلاف حكم الله. وإن قال: بل الواجب عليهم ترك الفريقين يقتتلون واعتزالهما، أباح للمسلمين ترك إنكار المنكر وهم على ذلك قادرون، وسئل عن رجل(10/24)
غصب امرأة نفسها للفجور بها على أعين الناس وهم على منعه قادرون، هل يجوز لهم تركه؟ فإن أجاز ذلك لم يمكن خصمه الإبانة عن خطأ قوله بأكثر من ذلك، فإن أوجب منعه والأخذ على يده، قيل له: فما الفرق بينه وبين من رآه يريد قتل رجل ظلمًا وعدوانًا، وما الذى أوجب عليهم منع ذلك ظاهرًا وأباح لهم ترك من يريد قتل النفس التى حرمها الله؟ ويقال له: أرأيت إن كان أحد الفريقين محقًا والآخر مبطلاً أيجب على المسلمين معونة المحق على المبطل؟ فإن قال: لا أوجب ترك الساعى فى الأرض بالفساد، وهذا خلاف قوله تعالى: (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) [المائدة: 33] الآية. فإن قال: تجب معونة المحق على المبطل، أوجب قتال الفرقة الباغية. وأما الحالة الثالثة فإنها حالة ممتنع فى العقل وجودها، وذلك حال حرب فريقين من المسلمين يقتلان وهما جميعًا محقان فى ذلك، ولو جاز أن يكون كل واحد منهما مصيب حقيقة حكم الله فى ذلك لجاز أن يكون الشىء الواحد بحكم الله حلالاً وحرامًا فى حالة واحدة وشخص واحد، وهذا ما لا يجوز أن يوصف به تعالى. فإن قيل: فما تنكر أن يكون الفريقان المقتتلان مصيبين فى قتال كل واحد منهما صاحبه حقيقة حكم الله إذا كان قتالهما فى وجهة التأويل لا من وجهة الخلاف للنصّ الذى لا يحتمل التأويل، فقد علمت قول من قال باجتهاد الرأى فيما لا نصّ فيه من أن كل مجتهد مصيب، وأن حكم الله فى الحادثة على كل مجتهد ما أداهُ إليه اجتهاده، وأنه لا خطأ في شيء من ذلك.(10/25)
صحة ذلك بما يكون من الصحابة، رضوان الله عليهم، فيما لا نص فيه الله وللرسول من الاختلاف بينهم، ثم لم يظهر واحد منهم لصاحبه البراء ولا الخروج من ولايته، قال: فكذلك الفريقان المقتتلان إذا كانا كلاهما طالبى الحق عند أنفسهما ورأى كل واحد منهما أنه محق كالمختلفين من أصحاب رسول الله. قيل له: أما قول من قال: كل مجتهد وإن كان غير مصيب فى خطئه حكم الله الذى طلبه فأضله فقد أخطأ، وذلك كالملتمس عين القبلة للصلاة إليها فى يوم دخن فى فلاة من الأرض بالدلائل غير موجب له التماسه إياها، وقد أخطأها أن يكون مصيبًا فى طلب جهتها، فكذلك المقتتلان على التأويل الذى يعذر فيه المخطئ؛ إذا أخطأ أحدهما حكم الله فى قتاله الفريق المصيب حكم الله. وإن عذر بالخطأ الذى وضع عنه الوزر فيه إذا كان سبيله فيما كلف فيه سبيل المحنة والابتلاء، إذا لم يوقفوا على عينه بالنص الذى لا يحتمل التأويل، وأما استشهاد من قال: كل مجتهد مصيب بإختلاف أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) فيما لا نص فيه بعينه، فإن أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) لم ينكروا فيما قالوا فيه من الاجتهاد والاستنباط أن يكون فيهم مصيب ومخطئ، فلا حجة لمحتج باختلافهم، فإذا بطل الوجه الثالث وهو أن يكونا معًا محقين ثبت أن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم) غير معنى به القتال الذى هو معونة المسلمين للمحق والقتال الذى يكون من المسلمين لأهل السّفُه والفسق للأخذ على أيديهم ومنعهم من السعى فى الأرض بالفساد. فإن قيل: فأى حالة هى التى وصف النبى (صلى الله عليه وسلم) من الفتنة أن القاعد فيها خير من القائم؟ قيل: هذه(10/26)
حالة لها ثلاث منازل: أحدها: أن يكون الفريقان المقتتلان مبطلين، وسائر المسلمين مقهورين بينهما لا طاقة لمن أراد الأخذ على أيديهما على النهوض فى ذلك، فإن هو نهض عرض نفسه للهلاك ولم يرج إصلاحًا بينهما فهذه حالة هو فيها معذور بالتخلف، والسلامة له فى الهرب وكسر السيوف، وهذه التى قال (صلى الله عليه وسلم) : (القاعد فيها خير من القائم) يعنى القاعد عن هذه الفتنة خير من القائم فيها للنهوض إليها معين أهلها؛ لأنه خير من القائم بذكر الله والعمل بطاعته. والحالة الثانية: أن يكون أحد الفريقين مخطئًا والآخر مصيبًا، وأمرهما مشكل على كثير من الناس لا يعرفون المحق فيها من المبطل، فمن أشكل عليه أمرهما فواجب عليه اعتزال الفريقين ولزوم المنازل حتى يتضح له الحق ويتبين المحق منهما، وتنكشف عنه الشبهة فيلزمه من معونة أهل الحق ما لزم أهل البصائر. وأما المنزلة الثالثة: فأن يكون مخرج الكلام من رسول الله فى ذلك كان فى خاص من الناس على ما روى عن عمار بن ياسر أنه قال لأبى موسى حين روى عن النبى أنه قال: (إذا وقعت الفتنة فاضربوا سيوفكم بالحجارة. . .) الحديث فقال له عمار: أنشدك الله يا أبا موسى قال هذا رسول الله لك أنت خاصةً؟ قال: نعم. ولو كان الواجب فى كل اختلاف يكون بين الفريقين من المسلمين الهرب منه ولزوم المنازل وكسر السيوف؛ لما أقيم لله تعالى حق ولا أبطل باطل، ولو وجد أهل النفاق والفجور سبيلا إلى استحلال كل ما حرّم الله عليهم من أموال المسلمين ونسائهم، وسفك دمائهم بأن يتحزبوا عليهم ويكف المسلمون أيديهم عنهم بأن يقولوا هذه(10/27)
فتنة قد نهينا عن القتال فيها، وأمرنا بكفّ الأيدى والهرب منها. وذلك مخالفة لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (خذوا على أيدى سفهائكم) ولقوله: (مثل القائم والمنتهك والمدهن فى حدود الله مثل ثلاثة نفر اصطحبوا فى سفينة، فقال أحدهم: نحفر لنأخذ الماء وقال الأخر: دعه فإنما يحفر مكانه. فإن أخذوا على يده نجا ونجوا جميعًا. . .) الحديث. فإن قال قائل: فإنك قد ذكرت أنه لا فتنة تخلو من الأسباب الثلاثة، ثم أوجبت فى جميعها على أهل البصائر بالحق النهوض مع أهله على أهل الباطل لقمعه، وقد علمت أنه لا فتنة كانت ولا تكون منذ بعث الله نبيّه (صلى الله عليه وسلم) أفضل أهلا ولا أقوم بالحق ولا أطلب له من قوم نهضوا فيها بعد مقتل عثمان فإنهم كانوا أهل السابقة والهجرة وخيار الأمة، ولم تكن فتنة يرجى بالنهوض لمعونة أحد فريقيها على الآخر ما كان يرجى فيها لو كان النهوض فى فتن المسلمين جائزًا، وقد علمت من تثبط عن النهوض فيها، ونهى عن المشى إليها وأمر بالجلوس عنها من جلة الصحابة كسعد وأسامة ومحمد بن مسلمة وأبى مسعود الأنصارى وابن عمر وأبى موسى وغيرهم يكثر إحصاؤهم. قيل له: إن سبيل كل ما احتج من أمر الدين إلى الاستخراج بالقياس والاستنباط بالعقول والأفهام سبيل ما كان من الأختلاف بين الذين نهضوا فى الفتنة التى قعد عنها من ذكرت من القاعدين فيها، ولذلك عذر أهل العلم من قعد عنها، ومن نهض فيها من أهل الدين، ولولا ذلك(10/28)
عظمت المصيبة وجسمت البلية، ولكن قعود من قعد عنها لما كان بتأويل ونهوض من نهض فيها بمثله رجا العالمون بالله للمصيب منهم الثواب الجزيل، وعذروا المخطئ فى خطئه؛ إذ كان خطؤه بالتأويل، لا بالخلاف للنصّ المحكم الذى لا يحتاج للتأويل، ولا شك أن الناهضين فى الفتنة التى قعد عنها سعد ومحمد بن مسلمة وأسامة كانوا أفضل وأعلم بالله ممن قعد عنها، وذلك أن الناهضين فيها كان منهم من يقر له جميع أهل ذلك الزمان بالفضل والعلم، ومنهم من لا يدفعه جميعهم عن أنه إن لم يكن أفضل منه وأعلم أنه ليس بدونه. وإذا كان الأمر كذلك لم يكن المحتج إذا أغفل سبيل الصواب، لتأويل تأوله وإن كان خطأ، حجةً على من خالفه فى تأويله. فإن قال: فإن جلوس من جلس ممن ذكرنا لم يكن تأويلا، ولكنه كان نصًا لا يحتمل التأويل لقوله: (القاعد فيها خير من القائم) قيل: إنه لا أحد روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) فى الفتنة التى قعد عنها أنه (صلى الله عليه وسلم) نهاه عن النهوض فيها بعينها نصًا، وإنما قال (صلى الله عليه وسلم) : (القاعد فيها خير من القائم) من غير نص على فتنة بعينها أنها هى تلك الفتنة، من غير تسميته بها باسم وتوقيته لها بوقت. وقد روى أهل العراق عن على وعبد الله: (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أمر عليًا بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين) . وعن أبى سعيد وغيره أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (لتقاتلنّ على تأويله كما قاتلت على تنزيله) وروى أهل الشام عن النبى (صلى الله عليه وسلم) فى معاوية أنه الذى يقاتل على الحق وأنه (صلى الله عليه وسلم) ذكر فتنة فمرّ به عثمان، فقال: (هذا وأصحابه يومئذ على الحق) . وكل راوٍ منهم لرواية يدعى أنها الحق، وأن تأويله أولى، فإذا كان الأمر كذلك علم(10/29)
أن القول فى ذلك من غير وجه النص الذى لا يحتمل التأويل، وأن الاختلاف بينهم كان من جهة الاستنباط والقياس، والذى لا يوجد فى مثله إجماع من الأمة على معنىً واحد، ولذلك قيل فى قتلى الفريقين ما قيل من رجاء الفريق الآخر الإصابة وأمن على فريق الشبهة. وكذلك ما حدثنا خلاد بن أسلم قال: حدثنا النضر بن شميل عن ابن عون عن ابن سيرين: (أن عائشة سمعت صوتًا فقالت: من هذا أخالد ابن الواشمة؟ قال: نعم. قالت: أنشدك الله إن سألت عن شىء أتصدقني؟ قال: نعم. قالت: ما فعل طلحة؟ قال: قتل. قالت: ما فعل الزبير؟ قال: قتل. قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون. قال: قلت: بل نحن إنا لله وإنا إليه راجعون على زيد وأصحاب زيد، والله لا يجمعهم الله وقد قتل بعضهم بعضًا. قالت: أو لا تدري؟ وسعت رحمته كل شىء وهو على كل شىء قدير. قال: فكانت أفضل منى) . وحدثنا مجاهد بن موسى، حدثنا يزيد، حدثنا العوّام بن حوشب، عن عمرو بن مرة، عن أبى وائل قال: (رأى عمرو بن شرحبيل أبا ميسرة وكان من أفضل الناس عند الله، قال: رأيت كأنى دخلت الجنّة، فإذا قباب مضروبة فقلت: لمن هذه؟ فقالوا: لذى الكلاع وحوشب، كانا ممن قتل مع معاوية. قلت: فأين عمار وأصحابه؟ فقال: أمامك. فقلت: قد قتل بعضهم بعضًا؟ قيل: إنهم لقوا الله فوجدوه واسع المغفرة. قلت: فما فعل أهل النهر؟ قال: لقوا برجاء) .(10/30)
- باب إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا
/ 24 - فيه: أَبُو بَكْرَة، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا تَوَاجَهَ الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَكِلاهُمَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ) ، قِيلَ: فَهَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: (إِنَّهُ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ) . قال المؤلف: ولهذا الحديث أيضًا قعد من قعد من الصحابة عن الدخول فى الفتنة ولزموا بيوتهم، وفسر أهل العلم هذا الحديث فقالوا: قوله (صلى الله عليه وسلم) : (القاتل والمقتول فى النار) ليس هو على الحتم لهما بالنار، وإنما معناه أنهما يستحقان النار إلا أن يشاء الله أن يغفر لهما؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) سمّاهما مسلمين وإن قتل أحدهما صاحبه، ومذهب جماعة أهل السنة أن الله تعالى فى وعيده لعصاة المؤمنين بالخيار إن شاء عذبهم، وإن شاء عفا عنهم، وقد تقدّم فى كتاب الإيمان. وقال المؤلف: فى حديث أبى بكرة أنه إذا التقى المسلمان بسيفيهما واختلفت طائفتان على التأويل فى الدين، ولم يتبين البغى من أحدهما أنه يجبُ القعود عنهما وملازمة البيوت، ولهذا تخلف محمد بن مسلمة، وسعد بن أبى وقاص، وأسامة بن زيد، وعبد الله بن عمر، وحذيفة وجماعة عن تلك المشاهد؛ لأنه لم يتبين لهم ما قام فيه المقتتلون، وأخذوا بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (تكون فتن القاعد فيها خير من القائم) فأما إذا ظهر البغى فى إحدى الطائفتين لم يحل لمسلم أن يتخلف عن قتال الباغية لقوله تعالى: (فَقَاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) [الحجرات: 9] ولو أمسك(10/31)
المسلمون عن قتال أهل البغى لبطلت فريضة الله تعالى وهذا يدل أن قوله: (فالقاتل والمقتول فى النار) ليس فى أحد من أصحاب محمد؛ لأنهم قاتلوا على التأويل، وقال بعض العلماء: فإن قال قائل: فبأى الطائفتين كانت أولى بالحق؟ قيل: كلا الطائفتين عندنا محمودة مجتهدة برة تقية، وقد قعد عنها أصحاب النبى ولم يروا فى ذلك بيانًا، وهم كانوا أولى بمعرفة الحق فكيف يحكم لأحد الفريقين على الآخر، ألا ترى أن النبى شهد لعلى وطلحة والزبير بالشهادة، فكيف يكون شهيدًا من يحل دمه، وكيف يحكم لأحد الفريقين على الآخر وكلاهما شهداء؟ روى خالد بن خداش، عن الدراوردى، عن سهيل عن أبيه، عن أبى هريرة قال: (كان النبى (صلى الله عليه وسلم) وأبو بكر وعمر وعثمان وعلى وطلحة والزبير على حراء فتحرك، فقال رسول الله: اسكن حراء، فإنه ليس عليك إلا نبى وصديق وشهيد) وكل أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يجب على المسلمين توقيرهم والإمساك عن ذكر زللهم ونشر محاسنهم، وكل من ذهب منهم إلى تأويل فهو معذور، وإن كان بعضهم أفضل من بعض وأكثر سوابق.
- باب كَيْفَ الأمْرُ إِذَا لَمْ تَكُنْ جَمَاعَةٌ؟
/ 25 - فيه: حُذَيْفَة، كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ؛ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِى، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا فِى جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: (نَعَمْ) ، قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: (نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ) ، قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: (قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِى، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ) .(10/32)
قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: (نَعَمْ، دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا) ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، قَالَ: (هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا) ، قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِى إِنْ أَدْرَكَنِى ذَلِكَ؟ قَالَ: (تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ) ، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلا إِمَامٌ؟ قَالَ: (فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ) . قال المؤلف: هذا الحديث من أعلام النبوة، وذلك أنه (صلى الله عليه وسلم) أخبر حذيفة بأمور مختلفة من الغيب لا يعلمها إلا من أوحى إليه بذلك من أنبيائه الذين هم صفوة خلقه، وفيه حجة لجماعة الفقهاء فى وجوب لزوم جماعة المسلمين وترك القيام على أئمة الجور، ألا ترى أنه (صلى الله عليه وسلم) وصف أئمة زمان الشر فقال: (دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها) فوصفهم بالجور والباطل والخلاف لسنته؛ لأنهم لا يكونون دُعاةً على أبواب جهنم إلا وهم على ضلال، ولم يقل فيهم تعرف منهم وتنكر، كما قال فى الأولين، وأمر مع ذلك بلزوم جماعة المسلمين وإمامهم، ولم يأمر بتفريق كلمتهم وشق عصاهم. قال الطبرى: اختلف أهل العلم فى معنى أمر النبى بلزوم الجماعة ونهيه عن الفرقة، وصفة الجماعة التى أمر بلزومها، فقال بعضهم: هو أمر إيجاب وفرض، والجماعة التى أمرهم بلزومها: السواد الأعظم، وقالوا: كل ما كان عليه السواد الأعظم من أهل الإسلام من أمر دينهم فهو الحق الواجب والفرض الثابت، الذى لا يجوز لأحدٍ من المسلمين خلافه، وسواء خالفهم فى حكم من الأحكام أو خالفهم فى إمامهم القيم بأمرهم وسلطانهم، فهو للحق مخالف.(10/33)
ذكر من قال ذلك: روى عن ابن سيرين قال: لما قتل عثمان، رضى الله عنه، أتيت أبا مسعود الأنصارى، فسألته عن الفتنة، فقال: عليك بالجماعة، فإن الله لم يكن ليجمع أمة محمد على ضلالة، والجماعة حبل الله، وإن الذى تكرهون من الجماعة هو خير من الذى تحبون من الفرقة. واحتجوا بما روى الأوزاعى قال: حدثنى قتادة، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله: (إن بنى إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقةً، وإن أمتى على ثنتين وسبعين فرقة كلها فى النار إلا واحدة، وهى الجماعة) . وروى معتمر بن سليمان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: قال رسول الله: (لا يجمع الله أمتى على ضلالةٍ أبدًا، ويد الله على الجماعة هكذا، فاتبعوا السواد الأعظم، فإنه من شذ شذ فى النار) . وقال آخرون: الجماعة التى أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) بلزومها هى جماعة أئمة العلماء، وذلك أن الله جعلهم حجةً على خلقه، وإليهم تفزع العامة فى دينها، وهى تبع لها، وهم المعنيون بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن الله لن يجمع أمتى على ضلالة) . ذكر من قال ذلك: روى عن المسيب بن رافع قال: كانوا إذا جاءهم شىء ليس فى كتاب الله ولا فى سنة رسول الله سمّوه صوافى الأمر، فجمعوا له العلماء، فما اجتمع عليه رأيهم فهو الحق. وسئل عبد الله بن المبارك عن الجماعة الذين ينبغي(10/34)
أن يقتدي بهم، فقال: أبو بكر وعمر. فلم يزل يجئ حتى انتهى إلى محمد بن ثابت بن الحسين بن واقد، قلت: هؤلاء قد ماتوا فمن الأحياء؟ قال: أبو حمزة السكرى. وقال آخرون: الجماعة التى أمر رسول الله بلزومها: هم جماعة الصحابة الذين قاموا بالدين بعد مضيّه (صلى الله عليه وسلم) ، حتى أقاموا عماده وأرسوا أوتاده وردوه، وقد كاد المنافقون أن ينزعوا أواخيه ويقلبوه من أواسيه إلى نصابه وسلكوا فى الدعاء منهاجه، فأولئك الذين ضمن الله لنبيّه أن لا يجمعهم على ضلالة، قالوا: ولو كان معناه لا تجتمع أمته فى زمن من الأزمان من يوم بعثه الله إلى قيام الساعة على ضلالة؛ بطل معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس) وشبه ذلك من الأخبار المرويّة عنه (صلى الله عليه وسلم) أن من الأزمان أزمانًا تجتمع فيها أمته على ضلالة وكفر. وقال آخرون: الجماعة التى أمر رسول الله بلزومها: جماعة أهل الإسلام ما كانوا مجتمعين على أمر واجب على أهل الملل اتباعها، فإذا كان فيهم مخالف منهم فليسوا بمجتمعين، ووجب تعرف وجه الصّواب فيما اختلفوا فيه. قال الطبرى: والصواب فى ذلك أنه أمر منه (صلى الله عليه وسلم) بلزوم إمام جماعة المسلمين ونهى عن فراقهم فيما هم عليه مجتمعون من تأميرهم إياه فمن خرج من ذلك فقد نكث بيعته ونقض عهده بعد وجوبه، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (من جاء إلى أمتى ليفرق جماعتهم فاضربوا عنقه كائنًا من كان) .(10/35)
قال المؤلف: وحديث أبى بكرة حجة فى ذلك لأنه (صلى الله عليه وسلم) أمره بلزوم جماعة المسلمين وإمامهم، فبان أن الجماعة المأمور باتباعها هى السواد الأعظم مع الإمام الجامع لهم، فإذا لم يكن لهم إمام فافترق أهل الإسلام أحزابًا فواجب اعتزال تلك الفرق كلها على ما أمر به النبى (صلى الله عليه وسلم) أبا ذرّ ولو أن يعض بأصل شجرة حتى يدركه الموت، فذلك خير له من الدخول بين طائفة لا إمام لها خشية ما يئول من عاقبة ذلك من فساد الأحوال باختلاف الأهواء وتشتت الآراء. وقال صاحب العين: الدخن: الحقد، ويوم دخنان: شديد الغم.
- باب مَنْ كَرِهَ أَنْ يُكَثِّرَ سَوَادَ الْفِتَنِ وَالظُّلْمِ
/ 26 - فيه: أَبُو الأسْوَدِ، قُطِعَ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ بَعْثٌ، فَاكْتُتِبْتُ فِيهِ، فَلَقِيتُ عِكْرِمَةَ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَنَهَانِى أَشَدَّ النَّهْىِ، ثُمَّ قَالَ: أَخْبَرَنِى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ أُنَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ، يُكَثِّرُونَ سَوَادَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَيَأْتِى السَّهْمُ، فَيُرْمَى فَيُصِيبُ أَحَدَهُمْ فَيَقْتُلُهُ، أَوْ يَضْرِبُهُ فَيَقْتُلُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِى أَنْفُسِهِمْ) [النساء: 97] . قال المؤلف: ثبت عن النبى أنه قال: من كان مع قوم راضيًا بحالهم فهو منهم صالحين كانوا أو فاسقين، هم شركاء فى الأجر أو الوزر، ومما يشبه معنى هذا الحديث فى مشاركة أهل الظلم فى الوزر قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من آوى محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) .(10/36)
وأما مشاركة مجالس الصالحين فى الأجر فما فى الحديث: (إن لله ملائكة يطوفون فى الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإن وجدوا قومًا يذكرون الله تنادوا هلموا إلى حاجتكم. .) وذكر الحديث بطوله (قال: فيقول الله: اشهدوا أنى قد غفرت لهم. فيقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجته. قال: هم الجلساء لا يشقى جليسهم) . فإن كان مجالس أهل الفسق كارهًا لهم ولعملهم، ولم يستطع مفارقتهم خوفًا على نفسه أو لعذر منعه فترجى له النجاة من إثم ذلك، يدل على ذلك قوله فى آخر الآية التى نزلت فيمن كثر سواد المشركين) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء) [النساء: 98] الآية وقد كره السلف الكلام فى الفتنة، ذكر ابن جريج عن ابن عباس قال: إنما الفتنة باللسان. وقال سفيان عن شريح: ما أخبرت ولا استخبرت تسعة أعوام منذ كانت الفتنة، فقال له مسروق: لو كنت مثلك لسرّنى أن أكون قد مُتّ. قال: شريح: فكيف بأكثر من ذلك مما فى الصدور تلتقى الفئتان إحداهما أحب إلىّ من الأخرى. وقال الحسن: السلامة من الفتنة: سلامة القلوب والأيدى والألسن. وكان إبراهيم يستخبر ولا يخبر.
- باب إِذَا بَقِىَ فِى حُثَالَةٍ مِنَ النَّاسِ
/ 27 - فيه: حُذَيْفَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حَدِيثَيْنِ، رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الآخَرَ، حَدَّثَنَا: (أَنَّ الأمَانَةَ نَزَلَتْ فِى جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ) ، وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا، فقَالَ: (يَنَامُ الرَّجُلُ(10/37)
النَّوْمَةَ، فَتُقْبَضُ الأمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ، فَتُقْبَضُ، فَيَبْقَى فِيهَا أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْمَجْلِ كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ، فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا، وَلَيْسَ فِيهِ شَىْءٌ، وَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ فَلا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّى الأمَانَةَ، فَيُقَالُ: إِنَّ فِى بَنِى فُلانٍ رَجُلا أَمِينًا) ، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَا أَعْقَلَهُ، وَمَا أَظْرَفَهُ، وَمَا أَجْلَدَهُ، وَمَا فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، وَلَقَدْ أَتَى عَلَىَّ زَمَانٌ وَلا أُبَالِى أَيُّكُمْ بَايَعْتُ، لَئِنْ كَانَ مُسْلِمًا رَدَّهُ عَلَىَّ الإسْلامُ، وَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا رَدَّهُ عَلَىَّ سَاعِيهِ، وَأَمَّا الْيَوْمَ فَمَا كُنْتُ أُبَايِعُ إِلا فُلانًا وَفُلانًا. قال المؤلف: هذا الحديث من أعلام النبوة؛ لأن فيه الإخبار عن فساد أديان الناس وقلة أمانتهم فى آخر الزمان، ولا سبيل إلى معرفة ذلك قبل كونه إلا من طريق الوحى، وهذا كقوله: (بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ) وروى ابن وهب، عن يعقوب بن عبد الرحمن، عن عمر مولى المطلب، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبى هريرة قال: (قال رسول الله لعبد الله بن عمرو: كيف بك يا عبد الله إذا بقيت فى حثالة من الناس، قد مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا فصاروا هكذا، وشبك بين أصابعه؟ قال: قلت: يا رسول الله، فما تأمرني؟ قال: عليك بخاصتك، ودع عنك عوامهم) ومن هذا الحديث ترجم البخارى ترجمة هذا الباب، والله أعلم، وأدخل معناه فى حديث حذيفة ولم يذكر الحديث بنص الترجمة؛ لأنه من رواية العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه، عن أبى هريرة، ولم يخرج عن العلاء حديثًا فى كتابه. والحثالة: سفلة الناس، وأصلها فى اللغة ما تساقط من قشور التمر والشعير وغيرها وهى الحفالة والسخافة.(10/38)
وقوله فى حديث حذيفة: (فى جذر قلوب الرجال) قال الأصمعى وأبو عمرو، وغيرهما: الجذر: الأصل. قال الأصمعى: بفتح الجيم، وقال أبو عمرو: بكسر الجيم. وقال صاحب العين: الوكت: شبيه نكتة فى العين، وعين موكوتة، والوكت: سواد اللّون. وقال أبو عبيد: الوكت: أثر الشىء اليسير منه. وقال الأصمعى: يقال للبُسر إذا بدا فيه الإرطاب: بُسر موكت. والمجل: أثر العمل باليد يعالج به الإنسان الشىء حتى تغلظ جلودها، يقال منه: مَجِلت يده ومَجَلت لغتان، وذكر الحربى عن ابن الأعرابى: المجَل: النفط باليد ممتلئ ماءً، وقال أبو زيد: إذا كان بين الجلد واللحم ماء قيل: مجلت يده تمجل، ونفطت تنفط نفطًا ونفيطًا. والمنتبر: المتنفط. قال الطوسى: انتبر الجرح: إذا ورم، ويقال: سمعت نبرات من كلامه أى: ارتفاعات من صوته. قال أبو عبيد: وقوله: (ما أبالى أيكم بايعت) حمله كثير من الناس على بيعة الخلافة، وهذا خطأ فى التأويل، وكيف يكون على بيعة الخلافة وهو يقول: (لئن كان يهوديًا أو نصرانيًا ردّه على ساعيه) فهو يبايع على الخلافة اليهودى والنصرانى؟ ومع هذا إنه لم يكن يجوِّز أن يبايع كل أحد فيجعله خليفة، وهو لا يرضى بأحد بعد عمر، فكيف يتأول هذا عليه مع مذهبه فيه؟ إنما أراد مبايعة البيع والشراء؛ لأنه ذكر الأمانة وأنها قد ذهبت من الناس يقول: فليس أثق اليوم بأحد أئتمنه على البيع والشراء إلا فلانًا وفلانًا لقلة الأمانة فى الناس.(10/39)
وقوله: (ردّه علىّ ساعيه) يعنى: الوالى الذى عليه، يقول: ينصفنى منه، وإن لم يكن له إسلام، وكل من ولى على قوم فهو ساع عليهم، وأكثر ما يقال هذا فى ولاة الصدقة قال الشاعر: سعى عقالا فلم يترك لنا سَبَدًا
- باب التَّعَرُّبِ فِى الْفِتْنَةِ
/ 28 - فيه: سَلَمَةَ ابْنِ الأكْوَعِ، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى الْحَجَّاجِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ الأكْوَعِ، ارْتَدَدْتَ عَلَى عَقِبَيْكَ، تَعَرَّبْتَ؟ قَالَ: لا، وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَذِنَ لِى فِى الْبَدْوِ. وَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ خَرَجَ سَلَمَةُ بْنُ الأكْوَعِ إِلَى الرَّبَذَةِ، وَتَزَوَّجَ هُنَاكَ امْرَأَةً، وَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلادًا، فَلَمْ يَزَلْ بِهَا حَتَّى قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِلَيَالٍ، فَنَزَلَ الْمَدِينَةَ. / 29 - وفيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ، يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ، وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ) . التعرب: معناه أن يرجع أعرابيًا بعد الهجرة، وكانوا يستعيذون بالله أن يعودوا كالأعراب بعد هجرتهم؛ لأن الأعراب لم يتعبدوا بالهجرة التى يحرم بها على المهاجر الرجوع إلى وطنه، كما فرض على أهل مكة البقاء مع النبى (صلى الله عليه وسلم) ونصرته، ولذلك قال الحجاج: (يا ابن الأكوع ارتددت على عقبيك، تعربت؟) أى: رجعت عن الهجرة التى فعلتها لوجه الله تعالى بخروجك من المدينة، فأخبره أن رسول الله أذن له فى سكنى البادية، فلم يكن خروجه من المدينة فرارًا منها ولا رجوعًا فى الهجرة، وهذا لا يحل لأحدٍ فعله،(10/40)
ولذلك دعا النبى (صلى الله عليه وسلم) لأصحابه ألا يموتوا فى غير المدينة التى هاجروا إليها لله تعالى، فقال: (اللهم أمض لأصحابى هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم، لكن البائس سعد بن خولة. يرثى له رسول الله أن مات بمكة) فتوجع رسول الله حين مات بمكة فى الأرض التى هاجر منها. وذكر البخارى أن سعد بن خولة شهد بدرًا، ثم انصرف إلى مكة ومات بها، وأنه من المهاجرين. وقوله: (يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمًا يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن) من أعلام نبوته (صلى الله عليه وسلم) لأنه أخبر عما يكون فى آخر الزمان. وفيه أن اعتزال الناس عند الفتن والهرب عنهم أفضل من مخالطتهم وأسلم للدين، وسأذكر تفسير شعف الجبال فى حديث أبى سعيد فى كتاب الرقاق فى باب العزلة راحة من خلطاء السوء.
- باب التَّعَوُّذِ مِنَ الْفِتَنِ
/ 30 - فيه: أَنَس، سَأَلُوا النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) حَتَّى أَحْفَوْهُ بِالْمَسْأَلَةِ، فَصَعِدَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ذَاتَ يَوْمٍ الْمِنْبَرَ، فَقَالَ: (لا تَسْأَلُونِى عَنْ شَىْءٍ إِلا بَيَّنْتُ لَكُمْ) ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ يَمِينًا وَشِمَالا، فَإِذَا كُلُّ رَجُلٍ لافٌّ رَأْسَهُ فِى ثَوْبِهِ يَبْكِى، فَأَنْشَأَ رَجُلٌ كَانَ إِذَا لاحَى يُدْعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، فَقَالَ: يَا نَبِىَّ اللَّهِ، مَنْ أَبِى؟ فَقَالَ: (أَبُوكَ حُذَافَةُ) ؟ ثُمَّ أَنْشَأَ عُمَرُ، فَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإسْلامِ(10/41)
دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) رَسُولا، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سُوءِ الْفِتَنِ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا رَأَيْتُ فِى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَالْيَوْمِ قَطُّ، إِنَّهُ صُوِّرَتْ لِىَ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ حَتَّى رَأَيْتُهُمَا دُونَ الْحَائِطِ. . .) الحديث. وَقَالَ قَتَادَة يَذْكُرُ هَذَا الْحَدِيثَ عِنْدَ هَذِهِ الآيَةِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) [المائدة 101] . وَقَالَ: كُلُّ رَجُلٍ لافًّا رَأْسَهُ فِى ثَوْبِهِ يَبْكِى، وَقَالَ: عَائِذًا بِاللَّهِ مِنْ سُوءِ الْفِتَنِ، أَوْ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سَوْأَى الْفِتَنِ. وقَالَ مُعْتَمِرٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَس، عَنْ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (عَائِذًا بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ الْفِتَنِ) . قال صاحب الأفعال: أحفى الرجل فى السؤال: ألح، وفى التنزيل) إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا) [محمد: 37] أى يلح عليكم فيما يوجبه فى أموالكم، ولما ألحوا على النبى (صلى الله عليه وسلم) فى المسألة كره مسائلهم وعز على المسلمين ما رأوا من الإلحاح على النبى (صلى الله عليه وسلم) والتعنيت له، وتوقعوا عقوبة الله أن تحل بهم؛ ولذلك بكوا، فمثل الله له الجنة والنار، وأراه كل ما يسأل عنه فى ذلك الوقت، فقال: (لا تسألونى عن شى إلا بينت لكم) وقال للرجل: (أبوك حذافة) وروى أنّ أم ابن حذافة قالت له: (يا بنى ما رأيت ابنًا أعق منك أن تكون أمك قد قارفت بعض ما تقارف نساء الجاهلية فتفضحها على أعين الناس. فقال ابنها: (والله لو ألحقنى بعبدٍ أسودٍ للحقت به) .(10/42)
وفي هذا الحديث فضل عمر بن الخطاب وفهمه، ومكانه من الحماية عن الدين والذّب عن رسول الله إذ قال: (رضينا بالله ربًا وبالإسلام دينًا ومحمد نبيًا) ومنع تعنيته والإلحاح عليه؛ لأن الله تعالى قد أمر بتعزيزه وتوقيره وألا يرفع الصوت فوق صوته، واستعاذ بالله من شر الفتن، وكذلك استعاذ النبى بالله من شر الفتن، واستعاذ من فتنة المحيا والممات، وإن كان قد أعاذه الله تعالى من كل فتنة، وعصمه من شرها ليسن ذلك لأمته، فتستعيذ مما أستعاذ منه نبينا (صلى الله عليه وسلم) وهذا خلاف ما يروى عن بعض من قصر علمه أنه قال: اسألوا الله الفتنة فإنها حصاد المنافقين، وزعم أن ذلك مروى عن رسول الله، وهو حديث لا يثبت، والصحيح خلافه من رواية أنس وغيره عن النبى (صلى الله عليه وسلم) .
- باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) الْفِتْنَةُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ
/ 31 - فيه: ابْن عُمَرَ، أن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، قَامَ إِلَى جَنْبِ الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: (الْفِتْنَةُ هَاهُنَا، الْفِتْنَةُ هَاهُنَا مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ، أَوْ قَالَ: قَرْنُ الشَّمْسِ) . / 32 - وَقَالَ ابْن عُمَرَ مرةً: (أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ مُسْتَقْبِلٌ، الْمَشْرِقَ يَقُولُ: (أَلا إِنَّ الْفِتْنَةَ هَاهُنَا، مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ) . / 33 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِى شَأْمِنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِى يَمَنِنَا) ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَفِى نَجْدِنَا، فَأَظُنُّهُ قَالَ فِى الثَّالِثَةِ: (هُنَاكَ الزَّلازِلُ وَالْفِتَنُ، وَبِهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ) . / 34 - وقيل لابْن عُمَرَ: حَدِّثْنَا عَنِ الْقِتَالِ فِى الْفِتْنَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ:(10/43)
) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) [البقرة: 193] ، فَقَالَ: هَلْ تَدْرِى مَا الْفِتْنَةُ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ؟ إِنَّمَا كَانَ مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وسلم) يُقَاتِلُ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ الدُّخُولُ فِى دِينِهِمْ فِتْنَةً، وَلَيْسَ كَقِتَالِكُمْ عَلَى الْمُلْكِ. قال المؤلف: قال الخطابى: القرن فى الحيوان يضرب به المثل فيما لا يحمد من الأمور، كقوله (صلى الله عليه وسلم) فى الفتنة وطلوعها من ناحية المشرق: (ومنه يطلع قرن الشيطان) وقال فى الشمس أنها تطلع بين قرنى الشيطان، والقرن: الأمة من الناس يُحدثون بعد فناء آخرين، قال الشاعر: إذا ما مضى القرن الذى أنت منهم وخلفت فى قرن فأنت غريب وقال غيره: كان أهل المشرق يومئذ أهل كفر فأخبره (صلى الله عليه وسلم) أن الفتنة تكون من تلك الناحية، وكذلك كانت الفتنة الكبرى التى كانت مفتاح فساد ذات البين وهى مقتل عثمان، رضى الله عنه، وكانت سبب وقعة الجمل وصفين، ثم ظهور الخوارج فى أرض نجد والعراق وما وراءها من المشرق، ومعلوم أن البدع إنما ابتدأت من المشرق، وإن كان الذين اقتتلوا بالجمل وصفين بينهم كثير من أهل الشام والحجاز فإن الفتنة وقعت فى ناحية المشرق، وكان ذلك سببًا إلى افتراق كلمة المسلمين وفساد نيات كثير منهم إلى يوم القيامة، وكان رسول الله يحذر من ذلك ويعلمه قبل وقوعه، وذلك دليل على نبوّته.(10/44)
- باب الْفِتْنَةِ الَّتِى تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ خَلَفِ بْنِ حَوْشَبٍ: كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَتَمَثَّلُوا بِهَذِهِ الأبْيَاتِ عِنْدَ الْفِتَنِ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: الْحَرْبُ أَوَّلُ مَا تَكُونُ فَتِيَّةً حَتَّى إِذَا اشْتَعَلَتْ وَشَبَّ ضِرَامُهَا شَمْطَاءَ يُنْكَرُ لَوْنُهَا وَتَغَيَّرَتْ تَسْعَى بِزِينَتِهَا لِكُلِّ جَهُولِ وَلَّتْ عَجُوزًا غَيْرَ ذَاتِ حَلِيلِ مَكْرُوهَةً لِلشَّمِّ وَالتَّقْبِيلِ / 35 - فيه: حُذَيْفَةَ، قَالَ عُمر: أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) فِى الْفِتْنَةِ؟ قَالَ: فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِى أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلاةُ وَالصَّدَقَةُ وَالأمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْىُ عَنِ الْمُنْكَرِ، قَالَ: لَيْسَ عَنْ هَذَا أَسْأَلُكَ، وَلَكِنِ الَّتِى تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ، قَالَ: لَيْسَ عَلَيْكَ مِنْهَا بَأْسٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا، قَالَ عُمَرُ: أَيُكْسَرُ الْبَابُ أَمْ يُفْتَحُ؟ قَالَ: بَلْ يُكْسَرُ، قَالَ عُمَرُ: إِذًا لا يُغْلَقَ أَبَدًا، قُلْتُ: أَجَلْ، قُلْنَا لِحُذَيْفَةَ: أَكَانَ عُمَرُ يَعْلَمُ الْبَابَ، قَالَ: نَعَمْ، كَمَا يَعْلَمُ أَنَّ دُونَ غَدٍ لَيْلَةً، وَذَلِكَ أَنِّى حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالأغَالِيطِ، فَهِبْنَا أَنْ نَسْأَلَهُ مَنِ الْبَابُ، فَأَمَرْنَا مَسْرُوقًا فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: مَنِ الْبَابُ؟ فقَالَ: الْبَابُ عُمَرُ. / 36 - وفيه: أَبُو مُوسَى، خَرَجَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى حَائِطٍ مِنْ حَوَائِطِ الْمَدِينَةِ لِحَاجَتِهِ وَخَرَجْتُ فِى إِثْرِهِ، فَلَمَّا دَخَلَ الْحَائِطَ، جَلَسْتُ عَلَى بَابِهِ، وَقُلْتُ: لأكُونَنَّ الْيَوْمَ بَوَّابَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَلَمْ يَأْمُرْنِى، فَذَهَبَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَقَضَى حَاجَتَهُ، وَجَلَسَ عَلَى قُفِّ الْبِئْرِ، فَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ وَدَلاهُمَا فِى الْبِئْرِ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهِ لِيَدْخُلَ، فَقُلْتُ: كَمَا أَنْتَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ لَكَ، فَوَقَفَ، فَجِئْتُ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ،(10/45)
أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْكَ؟ قَالَ: (ائْذَنْ لَهُ، وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ) ، فَدَخَلَ، فَجَاءَ عَنْ يَمِينِ النَّبيىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ وَدَلاهُمَا فِى الْبِئْرِ، فَجَاءَ عُمَرُ، فَقُلْتُ: كَمَا أَنْتَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ لَكَ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (ائْذَنْ لَهُ، وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ) ، فَجَاءَ عَنْ يَسَارِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) فَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ فَدَلاهُمَا فِى الْبِئْرِ، فَامْتَلأ الْقُفُّ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَجْلِسٌ، ثُمَّ جَاءَ عُثْمَانُ، فَقُلْتُ: كَمَا أَنْتَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ لَكَ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (ائْذَنْ لَهُ، وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ، مَعَهَا بَلاءٌ يُصِيبُهُ) ، فَدَخَلَ، فَلَمْ يَجِدْ مَعَهُمْ مَجْلِسًا، فَتَحَوَّلَ حَتَّى جَاءَ مُقَابِلَهُمْ عَلَى شَفَةِ الْبِئْرِ، فَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ، ثُمَّ دَلاهُمَا فِى الْبِئْرِ، فَجَعَلْتُ أَتَمَنَّى أَخًا لِى وَأَدْعُو اللَّهَ أَنْ يَأْتِىَ. قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: فَتَأَوَّلْتُ ذَلِكَ قُبُورَهُمُ اجْتَمَعَتْ هَاهُنَا، وَانْفَرَدَ قبر عُثْمَانُ. / 37 - وفيه: أَبُو وَائِل، قِيلَ لأسَامَةَ: أَلا تُكَلِّمُ هَذَا؟ قَالَ: قَدْ كَلَّمْتُهُ مَا لم أَفْتَحَ بَابًا أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَفْتَحُهُ، وَمَا أَنَا بِالَّذِى أَقُولُ لِرَجُلٍ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ أَمِيرًا عَلَى رَجُلَيْنِ: أَنْتَ خَيْرٌ، بَعْدَ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (يُجَاءُ بِرَجُلٍ، فَيُطْرَحُ فِى النَّارِ، فَيَطْحَنُ فِيهَا كَطَحْنِ الْحِمَارِ بِرَحَاهُ، فَيُطِيفُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ، فَيَقُولُونَ: أَىْ فُلانُ أَلَسْتَ كُنْتَ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ: إِنِّى كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلا أَفْعَلُهُ، وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَأَفْعَلُهُ) . / 38 - وفيه: أَبُو بَكْرَةَ، قَالَ: لَقَدْ نَفَعَنِى اللَّهُ بِكَلِمَةٍ أَيَّامَ الْجَمَلِ لَمَّا بَلَغَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّ فَارِسًا مَلَّكُوا ابْنَةَ كِسْرَى، قَالَ: (لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً) . / 39 - وفيه: أَبُو مَرْيَم، لَمَّا سَارَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَعَائِشَةُ إِلَى الْبَصْرَةِ بَعَثَ(10/46)
عَليٌّ إلى عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ وَحَسَنَ بْنَ عَلِىٍّ، فَقَدِمَا عَلَيْنَا الْكُوفَةَ، فَصَعِدَا الْمِنْبَرَ، فَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ فَوْقَ الْمِنْبَرِ فِى أَعْلاهُ، وَقَامَ عَمَّارٌ أَسْفَلَ مِنَ الْحَسَنِ، فَاجْتَمَعْنَا إِلَيْهِ، فَسَمِعْتُ عَمَّارًا، يَقُولُ: إِنَّ عَائِشَةَ، قَدْ سَارَتْ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَوَاللَّهِ إِنَّهَا لَزَوْجَةُ نَبِيِّكُمْ (صلى الله عليه وسلم) فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ابْتَلاكُمْ؛ لِيَعْلَمَ إِيَّاهُ تُطِيعُونَ أَمْ هِىَ. وَقَالَ مرةً: وَلَكِنَّهَا مِمَّا ابْتُلِيتُمْ، يعنى عائشة. / 40 - وفيه: أَبُو وَائِلٍ، دَخَلَ أَبُو مُوسَى وَأَبُو مَسْعُودٍ عَلَى عَمَّارٍ حَيْثُ بَعَثَهُ عَلِىٌّ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ يَسْتَنْفِرُهُمْ، فَقَالا: مَا رَأَيْنَاكَ أَتَيْتَ أَمْرًا أَكْرَهَ عِنْدَنَا مِنْ إِسْرَاعِكَ فِى هَذَا الأمْرِ مُنْذُ أَسْلَمْتَ، فَقَالَ عَمَّارٌ: مَا رَأَيْتُ مِنْكُمَا مُنْذُ أَسْلَمْتُمَا أَمْرًا أَكْرَهَ عِنْدِى مِنْ إِبْطَائِكُمَا عَنْ هَذَا الأمْرِ، وَكَسَاهُمَا حُلَّةً حُلَّةً، ثُمَّ رَاحُوا إِلَى الْمَسْجِدِ. / 41 - وروى أيضًا قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ وَكَانَ مُوسِرًا: يَا غُلامُ، هَاتِ حُلَّتَيْنِ، فَأَعْطَى إِحْدَاهُمَا أَبَا مُوسَى وَالأخْرَى عَمَّارًا، وَقَالَ: رُوحَا فِيهِ إِلَى الْجُمُعَةِ. قال المؤلف: حديث حذيفة وأبى موسى من أعلام النبوة؛ لأن فيهما الإخبار عما يكون من الفتن والغيب، وذلك لا يعلم إلا بوحى من الله. وقال الخطابى: إنما كان يسأل حذيفة عن الشر ليعرف موضعه فيتوقاه، وذلك أن الجاهل بالشر أسرع إليه وأشد وقوعًا فيه وروى عن بعض السلف أنه قيل له: إن فلانًا لا يعرف الشر. قال: ذاك أجدر أن يقع فيه، ولهذا صار عامّة ما يروى من أحاديث الفتن وأكثر ما يذكر من أحوال المنافقين ونعوتهم منسوبة إليه ومأخوذة عنه. وقال غيره: وإنما تنكب حذيفة حين سأله عمر عن الفتنة(10/47)
فجاوبه عن فتنة الرجل فى أهله وماله وولده وجاره ولم يجاوبه عن الفتنة الكبرى التى تموج كموج البحر لئلا يغمه ويشغل باله، ألا ترى قوله لعمر: (ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين فإن بينك وبينها بابًا مغلقًا) ولم يقل له أنت الباب، وهو يعلم أن الباب عمر، فإنما أراد حذيفة ألا يواجهه بما يشق عليه ويهمه، وعرض له بما فهم عنه عمر أنه هو الباب ولم يصرح له بذلك، وهذا من حسن أدب حذيفة، رضى الله عنه. قال المهلب: فإن قال قائل: فمن أين علم عمر أن الباب إذا كسر لم يغلق أبدًا. فالجواب: أنه استدل عمر على ذلك؛ لأن الكسر لا يكون إلا غلبةً، والغلبة لا تكون إلا فى الفتنة، وقد علم عمر وغيره من النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه سأل ربه ألا يجعل بأس أمته بينهم فمنعها، فلم يزل الهرج إلى يوم القيامة، وروى معمر، عن أيوب، عن أبى قلابة، عن أبى الأشعث الصنعانى، عن أبى أسماء الرحبى، عن شداد بن أوس، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (إذا وضع السيف فى أمتى لم يرفع عنهم إلى يوم القيامة) وفيه أن الصحابة كان يأخذ بعضهم العلم عن بعض، ويصدق بعضهم بعضًا، وكلهم عدول رِضىً، وهم خير أمةٍ أخرجت للناس. وفى حديث أبى موسى البُشرى بالجنة لأبى بكر وعمر وعثمان، إلا أنه قال فى عثمان (مع بلاءٍ يصيبه) وكان ذلك البلاء أنه قتل مظلومًا شهيدًا. فإن قيل: فكيف خص عثمان بذكر البلاء؛ وقد أصاب عمر مثله؛ لأنه طعنه أبو لؤلؤة فمات من طعنته شهيدًا كما مات عثمان شهيدًا؟ . فالجواب: أن عمر وإن كان مات من الطعنة شهيدًا،(10/48)
فإنه لم يمتحن بمثل محنة عثمان من تسلط طائفة باغية متغلبة عليه، ومطالبتهم له أن ينخلع من الإمامة، وهجومهم عليه فى داره، وهتكهم ستره، ونسبتهم إليه الجور والظلم وهو برئ عند الله من كل سوء، بعد أن منع الماء مع أشياء كثيرة يطول إحصاؤها، وعمر لم يلق مثل هذا، ولا تسوّر عليه أحد داره، ولا هتك ستره، ولا قتله من شهد شهادة التوحيد فيحاجه بها عند الله يوم القيامة؛ ولذلك حمد الله عمر على ذلك، فكان الذى أصاب عثمان من البلاء غير قتله بلاء شديدًا لم يصب عمر مثله. قال المهلب: وأما قول أبى وائل: (قيل لأسامة: ألا تكلم هذا الرجل) يعنى عثمان بن عفان ليكلمه فى شأن الوليد؛ لأنه ظهر عليه ريح نبيذ وشهر أمره، وكان أخا عثمان لأمه، وكان عثمان يستعمله على الأعمال، فقيل لأسامة: ألا تكلمه فى أمره؛ لأنه كان من خاصة عثمان، وممن يخف عليه، فقال: قد كلمته فيما بينى وبينه، وما دون أن أفتح بابًا أكون أوّل من يفتحه، يريد لا أكون أوّل من يفتح باب الإنكار على الأئمة علانيةً فيكون بابًا من القيام على أئمّة المسلمين فتفترق الكلمة وتتشتت الجماعة، كما كان بعد ذلك من تفرق الكلمة بمواجهة عثمان بالنكير، ثم عرفهم أنه لا يداهن أميرًا أبدًا بل ينصح له فى السر جهده بعدما سمع النبى يقول فى الرجل الذى كان فى النار كالحمار يدور برحاه، من أجل أنه كان يأمر بالمعروف ولا يفعله وينهى عن الشر ويفعله يعرفهم أن هذا الحديث جعله ألا يداهن أحدًا، يتبرأ إليهم مما ظنوا به من سكوته عن عثمان في أخيه.(10/49)
فإن قال قائل: فإن الإنكار على الأمراء فى العلانية من السنة لما روى سفيان عن علقمة بن مرثد، عن طارق بن شهاب: (أن رجلاً سأل النبى (صلى الله عليه وسلم) أى الجهاد أفضل؟ قال: كلمة حق عند سلطان جائر) . قال الطبرى: قد اختلف السلف قبلنا فى تأويل هذا الحديث فقال بعضهم: إنما عنى النبى (صلى الله عليه وسلم) بقوله: (كلمة حق عند سلطان جائر) إذا أمن على نفسه القتل أو أن يلحقه من البلاء ما لا قبل له به، هذا مذهب أسامة بن زيد، وروى ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وحذيفة، وروى عن مطرف بن الشخير أنه قال: والله لو لم يكن لى دين حتى أقوم إلى رجل معه ألف سيف فأنبذ إليه كلمة فيقتلنى إن دينى إذًا لضيق. وقال آخرون: الواجبُ على من رأى(10/50)
منكرًا من ذى سلطان أن ينكره علانيةً وكيف أمكنه، روى ذلك عن عمر بن الخطاب وأبىّ بن كعب، واحتجوا بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطيع فبلسانه، فإن لم يستطيع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) وبقوله: (إذا هابت أمتى أن تقول للظالم: يا ظالم، فقد تودع منهم) . وقال آخرون: من رأى من سلطانه منكرًا فالواجب عليه أن ينكره بقلبه دون لسانه، واحتجوا بحديث أم سلمة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (يستعمل عليكم أمراء بعدى، تعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضى وتابع، قالوا: يا رسول الله، أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلوا) . قال الطبرى: والصّواب: أن الواجب على كل من رأى منكرًا أن ينكره إذا لم يخف على نفسه عقوبة لا قبل له بها؛ لورود الأخبار عن النبى (صلى الله عليه وسلم) بالسمع والطاعة للأئمة، وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا ينبغى للمؤمن أن يذل نفسه. قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء ما لا يطيق) . فإن قال قائل فى حديث أسامة: فكيف صار الذين كان يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر معه فى النار وهو لهم بالمعروف آمر، وعن المنكر ناهٍ؟ قيل: لم يكونوا أهل طاعة، وإنما كانوا أهل معصية. وأما حديث أبى بكرة فإن فى ظاهره توهية لرأى عائشة فى الخروج. قال المهلب: وليس كذلك لأن المعروف من مذهب أبى بكرة أنه كان على رأى عائشة وعلى الخروج معها، ولم يكن خروجها على نيّة القتال، وإنما قيل لها: اخرجى لتصلحى بين الناس فإنك أمهم ولم يعقوك بقتال. فخرجت لذلك، وكان نية بعض أصحابها إن ثبت لهم البغى أن يقاتلوا التى تبغى، وكان منهم أبو بكرة ولم يرجع عن هذا الرأى أصلا وإنما تشاءم بقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) فى تمليك فارس امرأة أنهم يغلبون، لأن الفلاح فى اللغة البقاء؛ لا أن أبا بكرة وهّن رأى عائشة، ولا فى الإسلام أحد يقوله إلا الشيعة، فلم يرد أبو بكرة بكلامه إلا أنهم يغلبون إن قوتلوا، وليس الغلبة بدلالة على أنهم على باطل؛ لأن أهل الحق قد يُغلبون، وتكون لهم العاقبة كما وعد الله المتقين، وذلك عيان فى أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) يوم حنين وأحد، وجعل الله لهم العاقبة، كما جعلها لمن غضب لعثمان وأنف من قتله وطلب دمه، وليس فى الإسلام أحد يقول: إن عائشة دعت إلى أمير معها، ولا عارضت عليًا فى الخلافة، ولا نازعته لأخذ الإمارة، وإنما أنكرت عليه منعه من قتلة عثمان، وتركهم دون أن يأخذ منهم حدود الله ودون أن يقتصّ لعثمان منهم، لا غير ذلك، فهم الذين خشوها وخشوا على أنفسهم فورّشوا ودسوا فى جمع عائشة من(10/51)
يقول لهم: إن عليا يقاتلكم فخذوا حذركم وشكوا سلاحكم وعبئوا حربكم، وقالوا لعلى: إنهم يريدون أن يخلعوك ويقاتلوك على الإمارة، ثم استشهدوا بما يرونه من أخذ أصحاب الجمل بالحزم وتعبئتهم الصفوف وحمل السلاح ثم يقولون له: هل يفعلون ذلك إلا لقتالك حتى حرّكوه، وكانوا أول من رمى فيهم بالسّهام وضربوا بالسيوف والرماح حتى اشتبك القتال ووقع ما راموه، وكان فى ذلك خلاصهم مما خشوه من اجتماع الفريقين على الاستقادة لعثمان منهم، هذا أحسن ما قيل فى ذلك. وأما حديث أبى موسى وأبى مسعود حين دخلا على عمار، فإن عمارًا بعثه على إلى الكوفة ليستنفرهم، فجرى بينهم ما جرى من تقبيح رأى عمار وإسراعه فى الفتنة بالخروج وكشف الوجه وقد علم نهى النبى عن حمل السلاح على المسلمين، ثم توبيخ عمار لأبى موسى وأبى مسعود على قعودهما عن ذلك، وكل فريق منهم مجتهد له وجه فى الصّواب، وكان اجتماعهم عند أبى مسعود بعد أن خطب عمار الناس على المنبر بالنفير، وكان أبو مسعود كثير المال جوادًا وكان ذلك يوم جمعة فكساهما حلتين ليشهدا بها الجمعة؛ لأن عمارًا كان فى ثياب السفر وهيئة الحرب فكره أن يشهد الجمعة فى تلك الثياب، وكره أن يكسوه بحضرة أبى موسى ولا يكسو أبا موسى؛ لأنه كان كريمًا. والقف: ما ارتفع عن الأرض، عن صاحب العين.(10/52)
- باب إِذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا
/ 42 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا أَصَابَ الْعَذَابُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ، ثُمَّ بُعِثُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ) . قال المؤلف: هذا الحديث يبين حديث زينب بنت جحش أنها قالت: (يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث) فيكون إهلاك جميع الناس عند ظهور المنكر والإعلان بالمعاصى، ودلّ قوله: (ثم بعثوا على أعمالهم) أن ذلك الهلاك العام يكون طهرةً للمؤمنين ونقمةً للفاسقين وقد تقدّم هذا فى أول كتاب الفتن.
- باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِىٍّ: (إِنَّ ابْنِى هَذَا لَسَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
/ 43 - فيه: إِسْرَائِيلُ، أنَّهُ جَاءَ إِلَى ابْنِ شُبْرُمَةَ، فَقَالَ: أَدْخِلْنِى عَلَى عِيسَى أَعِظَهُ، فَكَأَنَّ ابْنَ شُبْرُمَةَ خَافَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: لَمَّا سَارَ الْحَسَنُ ابْنُ عَلِىٍّ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِالْكَتَائِبِ، قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لِمُعَاوِيَةَ: أَرَى كَتِيبَةً لا تُوَلِّى حَتَّى تُدْبِرَ أُخْرَاهَا، قَالَ مُعَاوِيَةُ: مَنْ لِذَرَارِىِّ الْمُسْلِمِينَ؟ فَقَالَ: أَنَا، فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَامِرٍ، وَعَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ: نَلْقَاهُ، فَنَقُولُ لَهُ: الصُّلْحَ، قَالَ الْحَسَنُ: وَلَقَدْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ، قَالَ: بَيْنَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَخْطُبُ، جَاءَ الْحَسَنُ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إن ابْنِى هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) . / 44 - وفيه: حَرْمَلَةَ مَوْلَى أُسَامَةَ، قَالَ: أَرْسَلَنِى أُسَامَةُ إِلَى عَلِيٍّ بْن أَبِي(10/53)
طالب، وَقَالَ: إِنَّهُ سَيَسْأَلُكَ الآنَ، فَيَقُولُ: مَا خَلَّفَ صَاحِبَكَ؟ فَقُلْ لَهُ: يَقُولُ لَكَ: لَوْ كُنْتَ فِى شِدْقِ الأسَدِ لأحْبَبْتُ أَنْ أَكُونَ مَعَكَ فِيهِ، وَلَكِنَّ هَذَا أَمْرٌ لَمْ أَرَهُ، فَلَمْ يُعْطِنِى شَيْئًا، فَذَهَبْتُ إِلَى حَسَنٍ وَحُسَيْنٍ وَابْنِ جَعْفَرٍ، فَأَوْقَرُوا لِي رَاحِلَتِي. قال المؤلف: فيه فضل السعى بين المسلمين فى حسم الفتن والإصلاح بينهم وأن ذلك مما تستحق به السيادة والشرف، وقول معاوية: (من لذرارى) يدل على أنه كره الحرب وخشى سوء عاقبة الفتنة؛ ولذلك بعث عبد الله بن عامر وعبد الرحمن بن سمرة إلى الحسن ابن على يسأله الصلح، فأجاب الحسن بن على رغبةً فيه وحقنًا لدماء المسلمين وحرصًا على رفع الفتنة، وقد تقدم فى الصلح. وأما قول إسرائيل لابن شبرمة أدخلنى على عيسى أعظه يعنى: عيسى بن موسى، فخاف عليه ابن شبرمة من ذلك، فدل أن مذهب ابن شبرمة أن من خاف على نفسه لا يلزمه الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. وأما حديث أسامة فإنه أرسل مولاه إلى على بن أبى طالب يعرفه أنه من أحبّ الناس إليه وأنه يحب مشاركته فى السراء والضراء، ويعتذر إليه من تخلفه عن الحرب معه، وأنه لا يرى ذلك لما روى عنه: (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لما بعثه إلى الحرقة أدرك رجلا بالسيف فقال له الرجل: لا إله إلا الله، فقتله فأخبر النبى بذلك، فقال له: يا أسامة قتلته بعدما قال: لا إله إلا الله. فقال: يا رسول الله إنما قالها تعوّذًا.(10/54)
فقال رسول الله: أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟ فما زال يكررها حتى تمنيت أن لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم) فآلى أسامة على نفسه أن لا يقاتل مسلمًا أبدًا، فلذلك قعد عن علىّ، رضى الله عنه، فى الجمل وصفين.
- باب إِذَا قَالَ عِنْدَ قَوْمٍ شَيْئًا، ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ بِخِلافِهِ
/ 45 - فيه: نَافِع، لَمَّا خَلَعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ جَمَعَ ابْنُ عُمَرَ حَشَمَهُ وَوَلَدَهُ، فَقَالَ: إِنِّى سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ، وَإِنَّا قَدْ بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنِّى لا أَعْلَمُ غَدْرًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يُبَايَعَ رَجُلٌ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ يُنْصَبُ لَهُ الْقِتَالُ: وَإِنِّى لا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْكُمْ خَلَعَهُ، وَلا بَايَعَ فِى هَذَا الأمْرِ إِلا كَانَتِ الْفَيْصَلَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ. / 46 - وفيه: أَبُو الْمِنْهَالِ، لَمَّا كَانَ ابْنُ زِيَادٍ وَمَرْوَانُ بِالشَّأْمِ، وَوَثَبَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ، وَوَثَبَ الْقُرَّاءُ بِالْبَصْرَةِ، فَانْطَلَقْتُ مَعَ أَبِى إِلَى أَبِى بَرْزَةَ الأسْلَمِىِّ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَيْهِ فِى دَارِهِ وَهُوَ جَالِسٌ فِى ظِلِّ عُلِّيَّةٍ لَهُ مِنْ قَصَبٍ، فَجَلَسْنَا إِلَيْهِ، فَأَنْشَأَ أَبِى يَسْتَطْعِمُهُ الْحَدِيثَ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَرْزَةَ، أَلا تَرَى مَا وَقَعَ فِيهِ النَّاسُ؟ فَأَوَّلُ شَىْءٍ سَمِعْتُهُ تَكَلَّمَ بِهِ: إِنِّى احْتَسَبْتُ عِنْدَ اللَّهِ أَنِّى أَصْبَحْتُ سَاخِطًا عَلَى أَحْيَاءِ قُرَيْشٍ، إِنَّكُمْ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ، كُنْتُمْ عَلَى الْحَالِ الَّذِى عَلِمْتُمْ مِنَ الذِّلَّةِ وَالْقِلَّةِ وَالضَّلالَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ أَنْقَذَكُمْ بِالإسْلامِ وَبِمُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) حَتَّى بَلَغَ بِكُمْ مَا تَرَوْنَ، وَهَذِهِ الدُّنْيَا الَّتِى أَفْسَدَتْ بَيْنَكُمْ، إِنَّ ذَلكَ الَّذِي بِالشَّأْمِ، وَاللَّهِ إِنْ(10/55)
يُقَاتِلُ إِلا عَلَى الدُّنْيَا، وَإِنْ ذَلكَ الَّذِي بِمَكَّةَ وَاللَّهِ إِنْ يُقَاتِلُ إِلا عَلَى الدُّنْيَا وَإِنَّ هَؤُلاءِ الَّذِينَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، وَاللَّهِ إِنْ يُقَاتِلُونَ إِلا عَلَى الدُّنْيَا. / 47 - وفيه: حُذَيْفَة، قَالَ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ الْيَوْمَ شَرٌّ مِنْهُمْ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) كَانُوا يَوْمَئِذٍ يُسِرُّونَ وَالْيَوْمَ يَجْهَرُونَ. / 48 - وَقَالَ مرةً: إِنَّمَا كَانَ النِّفَاقُ عَلَى عَهْدِ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَإِنَّمَا هُوَ الْكُفْرُ بَعْدَ الإيمَانِ. قال المؤلف: معنى الترجمة إنما هو فى خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية ورجوعهم عن بيعته وما قالوا له، وقالوا بغير حضرته خلاف ما قالوا بحضرته، وذلك أن ابن عمر بايع يزيد ابن معاوية فقال عنده بالطاعة لخلافته، ثم خشى على بنيه وحشمه النكث مع أهل المدينة حين نكثوا بيعة يزيد، فجمعهم ووعظهم وأخبرهم أن النكث أعظم الغدر. وأما قول أبى برزة: (إنى أحتسبُ عند الله أنى أصبحت ساخطًا على أحياء قريش) فوجه موافقته الترجمة أن هذا قول لم يقله عند مروان حين بايعه بل بايع واتبع، ثم سخط ذلك لما بعد عنه، وكأنه أراد منه أن يترك ما نوزع فيه للآخرة ولا يقاتل عليه كما فعل عثمان فلم يقاتل من نازعه، بل ترك ذلك لمن قاتله عليه، وكما فعل الحسن بن على حين ترك القتال لمعاوية حين نازعه أمر الخلافة فسخط أبو برزة من مروان تمسكه بالخلافة والقتال عليها، فقد تبين أن قوله لأبى المنهال وابنه بخلاف ما قال لمروان حين بايع له، وأما يمينه أن الذى بالشام إن يقاتل إلا على الدنيا، فوجهه أنه كان يريد أن يأخذ بسيرة عثمان والحسن رضى الله عنهما، وأمّا يمينه على الذى بمكة، يعنى ابن الزبير، فإنه لما وثب بمكة بعد أن دخل فيما دخل فيه(10/56)
المسلمون جعله نكثًا منه وحرصًا على الدنيا، وهو فى هذه أقوى رأيًا منه فى الأولى، وكذلك القراء بالبصرة؛ لأنه كان رحمه الله لا يرى الفتنة فى الإسلام أصلا، فكان يرى أن يترك صاحب الحق حقه لمن نازعه فيه لأنه مأجور فى ذلك، وممدوح بالإيثار على نفسه، وكان يريد من المقاتل له أن يقتحم النار فى قيامه وتفريقه الجماعة وتشتيته الكلمة، ولا يكون سببًا لسفك الدماء واستباحة الحرم أخذًا بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار) فلم ير القتال البتة. وأما حديث حذيفة وقوله: (إن المنافقين اليوم شر منهم على عهد النبى (صلى الله عليه وسلم)) لأنهم كانوا يسرون قولهم فلا يتعدّى شرهم إلى غيرهم، وأما اليوم فإنهم يجهرون بالنفاق ويعلنون بالخروج على الجماعة ويورثون بينهم ويحزبونهم أحزابًا، فهم اليوم شر منهم حين لا يضرون بما يسرونه. ووجه موافقته للترجمة أن المنافقين بالجهر وإشهار السلاح على الناس هو القول بخلاف ما قالوه حين دخلوا فى بيعة من بايعوه من الأئمة؛ لأنه لا يجوز أن يتخلف عن بيعة من بايعه الجماعة ساعة من الدهر؛ لأنها ساعة جاهليّة، ولا جاهليّة فى الإسلام، وقد قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا) [آل عمران: 103] فالتفرق محرّم فى الإسلام وهو الخروج عن طاعة الأئمة. وأما قول أبى برزة واحتسابه سخطه على أحياء قريش عند الله، فكأنه قال: اللهم إنى لا أرضى ما تصنع قريش من التقاتل على الخلافة، فاعلم ذلك من نيتى، وأنى أسخط فعلهم واستباحتهم للدماء(10/57)
والأموال، فأراد أن يحتسب مما يكرهه من إنكار القتال فى الإسلام عند الله أجرًا وذخرًا، فإنه لم يقدر من التغيير عليهم إلا بالقول والنية التى بها يأجرُ الله عباده.
- باب لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُغْبَطَ أَهْلُ الْقُبُورِ
/ 49 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ، فَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِى مَكَانَهُ) . قال المؤلف: تغبيط أهل القبور وتمنى الموت عند ظهور الفتن إنما هو خوف ذهاب الدين لغلبة الباطل وأهله وظهور المعاصى والمنكر. وروى ابن المبارك عن سعيد بن عبد العزيز، عن ابن عبد ربه أن أبا الدرداء كان إذا جاءه موت الرجل على الحال الصالحة قال: هنيئًا له ليتنى بدله، فقالت له أم الدرداء: لم تقول هذا؟ فقال: إن الرجل ليصبح مؤمنًا ويمسى كافرًا، قالت: وكيف؟ قال: يسلب إيمانه وهو لا يشعر، فلأنا أغبط لهذا بالموت أغبط من هذا فى الصوم والصلاة. وقد روى عن النعمان بن بشير، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (إن بين يدى الساعة فتنًا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمنًا ويمسى كافرًا، ويمسى مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع فيها أقوام دينهم بعرض من الدنيا يسير) . ومن حديث الحسن عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (بين يدى الساعة فتن يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه) . وعن ابن مسعود قال: سيأتى عليكم زمان لو وجد فيه أحدكم(10/58)
الموت يباع لاشتراه، وسيأتى عليكم زمان يغبط فيه الرجل بخفة الحاذ كما يغبط فيه بكثرة المال والولد. وأما من لم يخف فساد دينه وذهاب إيمانه فلا يتمنى الموت ذلك الزمان لمشابهته بأهله وحرصه فيما دخلوا فيه، بل ذلك وقت يسود فيه أهل الباطل، ويعلو فيه سفلة الناس ورذالتهم ويسعد بالدنيا لكع بن لكع.
- باب تَغْيِيرِ الزَّمَانِ حَتَّى تُعْبَدَ الأوْثَانُ
/ 50 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَضْطَرِبَ أَلَيَاتُ نِسَاءِ دَوْسٍ عَلَى ذِى الْخَلَصَةِ) ، وَذُو الْخَلَصَةِ طَاغِيَةُ دَوْسٍ الَّتِى كَانُوا يَعْبُدُونَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ. / 51 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّاتم: (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ رَجُلٌ مِنْ قَحْطَانَ يَسُوقُ النَّاسَ بِعَصَاهُ) . قال المؤلف: ذكر مسلم فى كتابه ما يبين حديث أبى هريرة قال: حدثنا أبو كامل الجحدرى قال: حدثنا خالد بن الحارث، حدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن الأسود بن العلاء، عن أبى سلمة، عن عائشة قالت: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: (لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى فقلت: يا رسول الله إن كنت لأظن حين أنزل الله: (هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى (إلى) الْمُشْرِكُونَ) [التوبة: 33] أن ذلك تام قال: إنه سيكون من ذلك ما شاء(10/59)
الله، ثم يبعث الله ريحًا طيبةً فيتوفى كل من فى قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه فيرجعون إلى دين آبائهم) . قال المؤلف: هذه الأحاديث وما جانسها معناها الخصوص، وليس المراد بها أن الدين ينقطع كله فى جميع أقطار الأرض حتى لا يبقى منه شىء؛ لأنه قد ثبت عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أن الإسلام يبقى إلى قيام الساعة إلا أنه يضعف ويعود غريبًا كما بدأ، وروى حماد بن سلمة، عن قتادة، عن مطرف، عن عمران بن حصين قال: قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (لا تزال طائفة من أمتى يقاتلون على الحق ظاهرين حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال) وكان مطرف يقول: هم أهل الشام، فبين (صلى الله عليه وسلم) فى هذا الخبر خصوصه سائر الأخبار التى خرجت مخرج العموم، وصفة الطائفة التى على الحق مقيمة إلى قيام الساعة أنها بيت المقدس دون سائر البقاع، فبهذا تأتلف الأخبار ولا تتعارض، وقد تقدم فى كتاب العلم فى باب من يرد الله به خيرًا يفقهه فى الدين. فإن قال قائل: فما وجه ذكر حديث القحطانى الذى يسوق الناس بعصاه فى هذا الباب؟ قال المهلب: وجه ذلك أنه إذا قام رجل من قحطان ليس من فخذ النبوة ولا من رهط الشرف الذين جعل الله فيهم الخلافة فذلك من أكبر تغير الزمان وتبديل أحكام الإسلام أن يدعى الخلافة، وأن يطاع فى الدين من ليس أهل ذلك.(10/60)
- باب خُرُوجِ النَّارِ
وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ نَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ) . / 52 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَخْرُجَ نَارٌ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ تُضِىءُ أَعْنَاقَ الإبِلِ بِبُصْرَى) . / 53 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يُوشِكُ الْفُرَاتُ أَنْ يَحْسِرَ عَنْ كَنْزٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَمَنْ حَضَرَهُ فَلا يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا) . وَقَالَ مرة: (جَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ) . / 54 - وفيه: حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ، قَالَ النبى (صلى الله عليه وسلم) : (تَصَدَّقُوا، فَسَيَأْتِى عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَمْشِى الرَّجُلُ بِصَدَقَتِهِ، فَلا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا) . / 55 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ، دَعْوَتُهُمَا وَاحِدَةٌ، وَحَتَّى يُبْعَثَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ قَرِيبٌ مِنْ ثَلاثِينَ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَحَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلازِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ وَهُوَ الْقَتْلُ، وَحَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ الْمَالُ، فَيَفِيضَ حَتَّى يُهِمَّ رَبَّ الْمَالِ مَنْ يَقْبَلُ صَدَقَتَهُ، وَحَتَّى يَعْرِضَهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ الَّذِى يَعْرِضُهُ عَلَيْهِ: لا أَرَبَ لِى بِهِ، وَحَتَّى يَتَطَاوَلَ النَّاسُ فِى الْبُنْيَانِ، وَحَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ، فَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِى مَكَانَهُ، وَحَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ، يَعْنِى آمَنُوا، أَجْمَعُونَ، فَذَلِكَ حِينَ) لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَانِهَا خَيْرًا) [الأنعام: 185] ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ، وَقَدْ نَشَرَ الرَّجُلانِ ثَوْبَهُمَا بَيْنَهُمَا، فَلا يَتَبَايَعَانِهِ، وَلا يَطْوِيَانِهِ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ، وَقَدِ انْصَرَفَ الرَّجُلُ بِلَبَنِ لِقْحَتِهِ فَلا يَطْعَمُهُ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَهُوَ يُلِيطُ حَوْضَهُ فَلا يَسْقِى فِيهِ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ رَفَعَ أُكْلَتَهُ إِلَى فِيهِ فَلا يَطْعَمُهَا) .(10/61)
قال المؤلف: ترجم البخارى فى باب خروج النار ولم يسنده فى هذه المواضع اكتفاء بما تقدم من إسناده فى كتاب الأنبياء، رواه عن ابن سلام، عن الفزارى، عن حميد، عن أنس عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وروى حسين المروزى، عن عبد الوهاب حدثنا عبيد بن عمر، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، عن كعب قال: (تخرج نار من قبل اليمن تحشر الناس تغدو معهم إذا غدوا، وتقيل معهم إذا قالوا، وتروح معهم إذا راحوا، فإذا سمعتم بها فاخرجوا إلى الشام) . وكل ما ذكرناه فى هذا الحديث من الأشراط فهى علامات لقيام الساعة كخروج النار ومعناها واحد، وقد جاء فى حديث أن النار آخر أشراط الساعة، رواه ابن عيينة، عن فرات القزاز، عن أبى الطفيل، عن أبى سريحة حذيفة بن أسيد قال: (أشرف علينا النبى (صلى الله عليه وسلم) من غرفة فقال: ما تذكرون؟ قلنا: نتذاكر الساعة قال: إنها لا تقوم حتى يكون قبلها عشر آيات: الدجال والدخان، والدابة وطلوع الشمس من مغربها، ويأجوج ومأجوج ونزول عيسى بن مريم، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم) . وذكر ابن أبى شيبة، حدثنا محمد بن بشر، عن أبى حيان، عن أبى زرعة، عن عبد الله ابن عمرو، قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (إن أول الآيات(10/62)
خروجًا طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضُحى، وأيهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على إثرها قريبًا منها. وحديث أنس أصح من هذه الأحاديث، وقد روى حماد بن سلمة عن أبى المهزم يزيد ابن سفيان، عن أبى هريرة قال: (خروج الآيات كلها فى ثمانية أشهر) أبو المهزم ضعيف، وقال أبو العالية: الآيات كلها فى ستة أشهر. وقوله: (تضئ أعناق الإبل ببصرى) فالعرب تقول: أضاءت النار وأضاءت النار غيرها.
- باب ذِكْرِ الدَّجَّالِ
/ 56 - فيه: الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: (مَا سَأَلَ أحدٌ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الدَّجَّالِ أَكْثَرَ مَا سَأَلْتُهُ، وَإِنَّهُ قَالَ لِى: (مَا يَضُرُّكَ مِنْهُ) ؟ قُلْتُ: لأنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ مَعَهُ جَبَلَ خُبْزٍ، وَنَهَرَ مَاءٍ، قَالَ: (هُوَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ) . / 57 - وفيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ: (أَعْوَرُ عَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّهَا عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ) . / 58 - وفيه: أَنَس، قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَجِىءُ الدَّجَّالُ حَتَّى يَنْزِلَ فِى نَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ، فتَرْجُفُ الْمَدِينَةُ ثَلاثَ رَجَفَاتٍ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ كُلُّ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ) . / 59 - وفيه: أَبُو بَكْرَة، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ رُعْبُ الْمَسِيحِ، وَلَهَا يَوْمَئِذٍ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ، عَلَى كُلِّ بَابٍ مَلَكَانِ) . / 60 - وفيه: ابْن عُمَرَ، قَامَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فِى النَّاسِ، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ(10/63)
بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ الدَّجَّالَ، فَقَالَ: (إِنِّى لأنْذِرُكُمُوهُ، وَمَا مِنْ نَبِىٍّ إِلا وَقَدْ أَنْذَرَهُ قَوْمَهُ، وَلَكِنِّى سَأَقُولُ لَكُمْ فِيهِ قَوْلا لَمْ يَقُلْهُ نَبِىٌّ لِقَوْمِهِ، إِنَّهُ أَعْوَرُ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ) . / 61 - وزاد ابْن عَبَّاس، وَأَنَس، وأَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (بَيْنَ عَيْنَيْهِ مَكْتُوبٌ كَافِرٌ) . / 62 - وفيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ آدَمُ سَبْطُ الشَّعَرِ يَنْطُفُ، أَوْ يُهَرَاقُ رَأْسُهُ مَاءً، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: ابْنُ مَرْيَمَ، ثُمَّ ذَهَبْتُ أَلْتَفِتُ، فَإِذَا رَجُلٌ جَسِيمٌ أَحْمَرُ، جَعْدُ الرَّأْسِ، أَعْوَرُ الْعَيْنِ كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ، قَالُوا: هَذَا الدَّجَّالُ، أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا ابْنُ قَطَنٍ، رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ) . / 63 - وفيه: عَائِشَةَ، سَمِعْتُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَسْتَعِيذُ فِى صَلاتِهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ. / 64 - وفيه: حُذَيْفَة، وَأَبُو مَسْعُودٍ، أن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (الدَّجَّالِ مَعَهُ مَاءً وَنَارًا، فَنَارُهُ مَاءٌ بَارِدٌ، وَمَاؤُهُ نَارٌ) . إن قال قائل: ما معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ترجف المدينة ثلاث رجفات) وقد قال فى حديث أبى بكرة: (إنه لا يدخل المدينة رعب المسيح) ؟ قال المهلب: فالجواب: أن رجفات المدينة ليست من رعبه ولا من خوفه، وإنما ترجف المدينة لمن يتشوف إلى الدجال من المنافقين فيخرجهم أهل المدينة كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (إنها تنفى خبثها) . والدليل على أن المؤمنين فيها لا يرعبون من الدجال؛ أنه يخرج إليه(10/64)
منهم رجل يناظره وهو الذى يقول له الدجال: أرأيت إن قتلت هذا ثم أحييته أتشكون فى الأمر؟ فيقولون: لا. يعنى فيقول المنافقون الذين معه غير ذلك الرجل الصالح فيقتله ثم يحييه، فيقول ذلك الرجل: والله ما كنت قط أشد بصيرة منى اليوم، فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلط عليه، فهل يدخل رعبه المدينة وأحدهم يناظره ويقارعه ويجهر له بأنه الدجال، ولا يوهن قلبه ما يراه من قدرة الله الذى أقدره على أن يقتل رجلا ثم يحييه ولا يخافه على مهجته وهو وحده لا يمتنع منه بعدد ولا عدة ولا جماعة. فإن قال قائل: فإذا سلط الدجال على قتل رجل وإحيائه فهذا أن الله قد يعطى آيات الأنبياء وقلب الأعيان أهل الكذب على الله وأشد أعدائه فرية عليه. قال الطبرى: فنقول: إنه لا يجوز أن تعطى أعلام الرسل أهل الكذب والإفك فى الحال التى لا سبيل لمن عاين ما أتى به الفريقان إلى الفصل بين المحق منهم والمبطل، فأما إذا كان لمن عاين ذلك السبيل إلى علم الصادق ممن ظهر ذلك على يده من الكاذب، فلا ينكر إعطاه الله ذلك الكذابين لعلة من العلل كالذى أعطى الدجال من ذلك فتنة لمن شاهده، ومحنة لمن عاينه ليعلم الله الذين صدقوا ويعلم الكاذبين. فإن قيل: وما السبب الذى يصيب به من عاين ما يظهر من ذلك على يد الدجال أنه مبطل؟ قيل: أبين الأسباب فى ذلك أنه ذو أجزاء مؤلفة، وتأليفه(10/65)
عليه بكذبه شاهد، وأن تأثير الصنعة فيه لمن ركب أعضاءه خلق ذليل وعبد مهين، مع آفة به لازمة من عور إحدى عينيه، يدعو الناس إلى الإقرار بأنه ربهم الذى خلقهم، فأسوأ حالات من يراه من ذوى العقول أن يعلم أنه لم يكن ليسوى خلق غيره ويعدله ويحسنه، وهو على دفع العاهات عن نفسه غير قادر. فأقل ما يجب أن يقول له من يدعوه إلى الإقرار له بالألوهية: إنك تزعم أنك خالق السموات والأرض وما فيهما وأنت أعور ناقص الصورة، فصور نفسك وعدلها على صورة من أنت فى صورته إن كنت محقًا فى ذلك، فإن زعمت أن الرب لا يحدث فى نفسه شيئًا فإنك راكب من الخطايا أرذلها، فتحول من الجماد إلى أشرف منه وأزل ما هو مكتوب بين عينيك من الكتاب الشاهد على كذبك. قال المهلب: وأما قوله فى حديث المغيرة: (إنهم يقولون أن معه جبل خبر ونهر ماءٍ. قال (صلى الله عليه وسلم) : هو أهون على الله من ذلك) . يريد والله أعلم هو أهون من أن يفتن الناس به فيملكه معايش أرزاقهم وحياة أرماقهم، فتعظم بذلك فتنتهم، بل تبقى عليه ذلة العبودية بتحويجه إلى معالجة المعاش، وقد ملكه ما لا يضر به إلا من قضى الله له بالشقاء فى أم الكتاب، وإنما يوهم الناس أن هذه نار يشير إليها ليخافه من لا بصيرة له فى دين الله فيتبعه مخافتها على نفسه، ولو أنعم النظر لرأى أنها ماء بارد وكذلك لما توهن به وهو ماء لمن لا بصيرة له ولا عنده علم بما قدمه الرسول من العلم لأمته بأن ناره ماء، وماءه نار، ومن أعطى فتنته ثم جعل له على تلك الفتنة علم بطلانها ومحالها لم تكن فتنة شاملة، ولا يفتتن(10/66)
بها إلا الأول لافتضاحها بأول من يلقى فيها فيجدها بخلاف ما أوهم فيها، ولولا انتقاله من بلد إلى بلد لأمنت تلك الفتنة إلا على الأول، لكنه يرد كل يوم بلدة لا يعرف أهلها ما افتضح من أمره فى غيرها فيظل يفتن، ويعصم الله العلماء منه، ومن علم علامة الرسول وثبته الله واستدل بأن من كان ذا عاهةٍ لا يكون إلهًا، فقد بان أنه أهون على الله من أن يمكنه من المعجزات تمكينًا صحيحًا، لأن إقداره على قتل الرجل وإحيائه لم يستمر له فى غيره ولا استضر به المقتول إلا ساعة ألمه، وقد لا يجد لقتله ألمًا لقدرة الله على دفع ألمه عنه، فإن آلمه آجره بذلك فى الآخرة، وإن لم يؤلمه فقد أدام له الحياة بإحيائه، ثم لا يسلط على قتل أحد ولا إحيائه. وذكر على بن معبد عن عبد الله بن عمر، وعن زيد بن أبى أنيسة، عن أشعث بن أبى الشعثاء عن أبيه، عن ابن مسعود قال: إن الدجال يرحل فى الأرض أربعين ليلة، وعن أبى مجلز قال: إذا خرج الدجال فالناس ثلاث فرق: فرقة تقاتله، وفرقة تفر منه، وفرقة تشايعه، فمن تحرز منه فى رأس جبل أربعين ليلة أتاه رزقه، وأكثر من يشايعه أصحاب العيال يقولون: إنا لنعرف ضلالته، ولكن لا نستطيع ترك عيالنا، فمن فعل ذلك كان منه. وذكر الطبرى بإسناده عن أبى أمامة الباهلى، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه حدثهم عن الدجال: (أنه يخرج بين الشام والعراق فيقول أنه نبى، ثم يثنِّى فيقول: أنا ربكم وإنه يأتى بجنة ونار، فناره جنة وجنته نار.(10/67)
فمن ابتلى بناره فليستعن بالله، فإنها تكون عليه بردًا وسلامًا ومن ابتلى به فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف وليتفل فى وجهه، فإنه لا يعدو ذلك، ويقتل رجلاً ثم يحييه وليس يحيى أحدًا بعده، وإن له أربعين يومًا يوم كالسنة ويوم كالشهر ويوم كجمعة ويوم كسائر الأيام، ويعدو الرجل من باب المدينة فلا يبلغ بابها الآخر حتى تغيب الشمس) . وروى الطبرى بإسناده عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد أن النبى (صلى الله عليه وسلم) ذكر عندها الدجال فقال: (إن قبل خروجه ثلاثة أعوام تمسك السماء ثلث قطرها والأرض ثلث نباتها، والعام الثانى تمسك السماء ثلثى قطرها والأرض ثلثى نباتها، والعام الثالث تمسك السماء قطرها والأرض نباتها حتى لا يبقى ذات ضرس ولا ذات ظلف إلا مات، ومن أعظم فتنته أنه يأتى الرجل فيقول له: إن أحييت لك أباك أو أخاك أو عمك تعلم أنى ربك؟ فيقول: نعم. فيمثل له شياطين عنده. ويأتى الأعرابى فيقول: إن أحييت لك إبلك عظامًا ضروعها، طوالاً أسنمتها؛ تعلم أنى ربك؟ فيقول: نعم. فيتمثل له شياطين عنده. فبكى القوم فقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : إن يخرج فيكم فأنا حجيجه، وإلا فالله خليفتى على كل مؤمن. قالت أسماء: ما يكفى المؤمن يومئذ من الطعام يا رسول الله؟ قال: يكفيه ما يكفى أهل السماء التسبيح والتقديس) . وذكر ابن أبى شيبة بإسناده عن عائشة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (يخرج مع الدجال يهود أصبهان فيقتله عيسى ابن مريم بباب لد، ثم يمكث عيسى فى الأرض أربعين سنة أو قريبًا منها إمامًا عدلاً وحكمًا مقسطًا) . قال الخطابى: قال ثعلب: الطافية: العنبة التى قد خرجت عن(10/68)
حد بنية أخواتها فعلت ونتأت وظهرت، يقال: طفا الشىء إذا علا وظهر، ومنه الطافى من السمك.
- باب لا يَدْخُلُ الدَّجَّالُ الْمَدِينَةَ
/ 65 - فيه: أَبُو سَعِيد، حَدَّثَنِى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الدَّجَّالِ، فَقَالَ: (يَأْتِى الدَّجَّالُ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ نِقَابَ الْمَدِينَةِ، فَيَنْزِلُ بَعْضَ السِّبَاخِ الَّتِى تَلِى الْمَدِينَةَ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ، وَهُوَ خَيْرُ النَّاسِ، أَوْ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ، فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ الدَّجَّالُ الَّذِى حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حَدِيثَهُ، فَيَقُولُ الدَّجَّالُ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ قَتَلْتُ هَذَا، ثُمَّ أَحْيَيْتُهُ، هَلْ تَشُكُّونَ فِى الأمْرِ؟ فَيَقُولُونَ: لا، فَيَقْتُلُهُ، ثُمَّ يُحْيِيهِ، فَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا كُنْتُ فِيكَ أَشَدَّ بَصِيرَةً مِنِّى الْيَوْمَ، فَيُرِيدُ الدَّجَّالُ أَنْ يَقْتُلَهُ، فَلا يُسَلَّطُ عَلَيْهِ) . / 66 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ مَلائِكَةٌ، لا يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ، وَلا الدَّجَّالُ) . قال المؤلف: قد تقدم الكلام فى حديث أبى سعيد وأبى هريرة، وفيه فضل المدينة وأنها خصت بهذه الفضيلة والله أعلم لبركة النبى (صلى الله عليه وسلم) ودعائه لها، وقد أراد الصحابة أن يرجعوا إلى المدينة عندما وقع الوباء بالشام ثقةً منهم بقول رسول الله الذى أمنهم دخول الطاعون بلده، وكذلك توقن أن الدجال لا يستطيع دخولها البتة، وفى ذلك من الفقه أن الله تعالى يوكل ملائكته بحفظ بنى آدم من الآفات والفتن والعدو إذا أراد حفظهم وقد وصف الله تعالى(10/69)
ذلك فى قوله: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ) [الرعد: 11] يعنى بأمر الله لهم بحفظه. وروى على بن معبد قال: ثنا بشر بن بكر، عن الأوزاعى، عن إسحاق بن عبد الله، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة ليس من نقب من أنقابها إلا عليه الملائكة صافين يحرسونها، فينزل بالسبخة فترجف المدينة ثلاث رجفات يخرج إليه كل منافق) . والأنقاب: الطرق، واحدها نقب، ومنه قوله تعالى: (فَنَقَّبُوا فِى الْبِلاَدِ) [ق: 36] أى جعلوا فيها طرقًا ومسالك، وقال صاحب العين: النقب والنُّقب والمنقبة: الطريق فى رأس الجبل.
- باب يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ
/ 67 - فيه: زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمًا فَزِعًا يَقُولُ: (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ، مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ) ، وَحَلَّقَ بِإِصْبَعَيْهِ الإبْهَامِ وَالَّتِى تَلِيهَا، قَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: (نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخُبْثُ) . / 68 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يُفْتَحُ الرَّدْمُ، رَدْمُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، مِثْلُ هَذِهِ) ، وَعَقَدَ تِسْعِينَ.(10/70)
قال المؤلف: ذكر يحيى بن سلام، عن سعيد بن أبى عروبة، عن قتادة، عن أبى رافع، عن أبى هريرة: أن رسول الله قال: (إن يأجوج ومأجوج يخرقون السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذى عليهم: ارجعوا فتخرقونه غدًا فيعيده الله كأشد ما كان إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذى عليهم: ارجعوا فستخرقونه غدًا إن شاء الله. فيغدون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيخرقونه، فيخرجون على الناس فينشفون المياه، ويتحصن الناس منهم فى حصونهم فيرمون سهامهم فترجع إليهم والدماء فيها، فيقولون قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء فيبعث الله عليهم نغفًا فى أقفائهم فيقتلهم بها) . وذكر على بن معبد، عن أشعث بن شعبة، عن أرطاة بن المنذر قال: إذا خرج يأجوج ومأجوج أوحى الله إلى عيسى ابن مريم: إنى قد أخرجت خلقًا من خلقى لا يطيقهم أحد غيرى، فمر بمن معك إلى جبل الطور ومعك من الذرارى اثنا عشر ألفًا. قال: ويأجوج ومأجوج ذرء جهنم، وهم على ثلاث أثلاث: ثلث على طور الأرز والسرس، وثلث مربع طوله وعرضه واحد وهم أشد، وثلث يفترش أحدهم أذنه يلتحف بالأخرى وهم ولد يافث ابن نوح. وعن الأوزاعى عن ابن عباس قال: الأرض ستة أجزاء فخمسة أجزاء منها يأجوج ومأجوج، وجزء فيه سائر الخلق. وعن كعب الأحبار قال: معاقل المسلمين من يأجوج ومأجوج الطور.(10/71)
كِتَاب الدَّعَاء
- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر: 60] وقَوْلِ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لِكُلِّ نَبِىٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ
/ 1 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لِكُلِّ نَبِىٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ يَدْعُو بِهَا، وَأُرِيدُ أَنْ أَخْتَبِئَ دَعْوَتِى شَفَاعَةً لأمَّتِى فِى الآخِرَةِ) . / 2 - وفيه: أَنَس، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (كُلُّ نَبِىٍّ سَأَلَ سُؤْلا، أَوْ قَالَ: لِكُلِّ نَبِىٍّ دَعْوَةٌ، قَدْ دَعَا بِهَا، فَاسْتُجِيبَت، فَجَعَلْتُ دَعْوَتِى شَفَاعَةً لأمَّتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . قال المؤلف: أمر الله تعالى عباده بالدعاء وضمن لهم الإجابة فى قوله: (ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر: 60] فإن قيل: فقد علمت تأويل من تأوّل قوله تعالى: (ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر: 60] ادعونى بطاعتكم إياى وعبادتكم لى: أستجب لكم فى الذى التمستم منى بعبادتكم إياى. قال الطبرى: فالجواب: أن من طاعة العبد ربه دعاءه إياه ورغبته فى حاجته إليه دون ما سواه، والمخلص له العبادة المتضرع إليه فى حاجته موقن أن قضاءها بيده متعرض لنجحها منه، ومن عبادته إياه تضرعه إليه فيها، وقد روى وكيع عن سفيان، عن صالح مولى(10/72)
التوءمة، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله: (من لم يدع الله غضب الله عليه) . وروى شعبة، عن منصور، عن ذَرِّ، عن يُسَيْعٍ الحضرمى، عن النعمان بن بشير عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (الدعاء هو العبادة) وقرأ: (ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى) [غافر: 60] فسمى الدعاء عبادة، وروى الأوزاعى، عن الزهرى، عن عروة، عن عائشة، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (إن الله يحب الملحين فى الدعاء) . فإن ظن ظان أن قول أبى الدرداء يكفى من الدعاء مع العمل ما يكفى من الملح. وقيل لسفيان: أدع الله؟ فقال: إن ترك الذنوب هو الدعاء. مخالف لما جاء من فضل الإلحاح فى الدعاء والأمر بالدعاء والضراعة إلى الله، فقد ظن خطئًا. وذلك أن الذى جبلت عليه النفوس أن من طلب حاجةً ممن هو عليه ساخط لأمر تقدّم منه استوجب به سخطه أنه بالحرمان أولى ممن هو عنه راضٍ لطاعته له واجتنابه سخطه، فإذا علم من عبده المطيع له حاجةً إليه كفاه اليسير من الدعاء. فإن قيل: هل من علامة يعلم بها إجابة الله العبد فى دعائه؟ . قيل: قد جاء فى ذلك غير شىء، منها ما روى شهر بن حوشب: (أن أمّ الدرداء قالت له: يا شهر إن شفق المؤمن فى قلبه كسعفة أحرقتها فى النار، ثم قالت: يا شهر ألا تجد القشعريرة؟ قلت: نعم. قالت: فادع الله فإن الدعاء يستجاب عند ذلك) . وروى ابن وهب، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبى حبيب، عن أبى الخير (أنه سمع أبا رهم السماعى يقول: ما يشعر به عند الدعاء والعطاس) .(10/73)
قال المؤلف: فإن قيل: ما معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لكل نبى دعوة مستجابة) . وقد قال الله تعالى للناس كافة: (ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر: 60] فعم كل الدعاء، وهذا وعد من الله لعباده وهو لا يخلف الميعاد، وإنما خصّ كل نبى بدعوة واحدة مستجابة، فأين فضل درجة النبوة؟ قيل: ليس الأمر كما ظننت، ولا يدل قوله تعالى: (ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر: 60] على أن كل دعاء مستجاب لداعيه، وقد قال قتادة: إنما يستجاب من الدعاء ما وافق القدر. وليس قوله: (لكل نبى دعوة مستجابة) . مما يدل أنه لا يستجاب للأنبياء غير دعوة واحدة، وقد ثبت عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه أجيبت دعوته فى المشركين حين دعا عليهم بسبع كسبع يوسف، ودعا على صناديد قريش المعاندين له، فقتلوا يوم بدر، وغير ذلك مما يكثر إحصاؤه مما أجيب من دعائه، بل لم يبلغنا أنه رُد من دعائه (صلى الله عليه وسلم) إلا سؤاله أن لا يجعل الله بأس أمته بينهم خاصةً، لما سبق فى أم الكتاب من كون ذلك، قال تعالى: (وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) [البقرة: 253] . ومعنى قوله: (لكل نبى دعوة مستجابة) . يريد أن لكل نبى عند الله من رفيع الدرجة وكرامة المنزلة أن جعل له أن يدعوه فيما أحبّ من الأمور ويبلغه أمنيته، فيدعو فى ذلك وهو عالم بإجابة الله له على ما ثبت عنه: (أن جبريل قال له: يا محمد، إن أردت أن يحول الله لك جبال تهامة ذهبًا فعل) . وخيَّره بين أن يكون نبيًا عبدًا وبين أن يكون نبيًا ملكًا، فاختار الآخرة على الدنيا، وليست هذه الدرجة لأحد من الناس، وإنما أمروا بالدعاء راجين الإجابة غير قاطعين عليها؛ ليقفوا تحت الرجاء والخوف.(10/74)
وفي هذا الحديث بيان فضيلة نبينا (صلى الله عليه وسلم) على سائر الأنبياء عليهم السلام حين آثر أمته بما خصّه الله به من إجابة الدعوة بالشفاعة لهم، ولم يجعل ذلك فى خاصّة نفسه وأهل بيته فجزاه الله عن أمته أفضل الجزاء، وصلى الله عليه أطيب الصلاة، فهو كما وصفه الله: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [التوبة: 128] .
- باب فضل الاسْتِغْفَارِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا) [نوح: 10، 11] ) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) [آل عمران: 135] الآية. / 3 - فيه: شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ، أن رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّى لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ، خَلَقْتَنِى وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَىَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِى، فَاغْفِرْ لِى، فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ، مَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ، قَبْلَ أَنْ يُمْسِىَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ، وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ) . قال المؤلف: قوله (صلى الله عليه وسلم) : (وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت) يعنى: العهد الذى أخذه الله على عباده فى أصل خلقهم حين أخرجهم من أصلاب آبائهم أمثال الذر، وأشهدهم على أنفسهم:(10/75)
) أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) [الأعراف: 172] فأقروا له فى أصل خلقهم بالربوبية، وأذعنوا له بالوحدانية، والوعد: هو ما وعدهم تعالى أنه من مات لا يشرك منهم بالله شيئًا وأدّى ما افترض الله عليه أن يدخل الجنة، فينبغى لكل مؤمن أن يدعو الله تعالى أن يميته على ذلك العهد، وأن يتوفاه الله على الإيمان؛ لينال ما وعد تعالى من وفى بذلك اقتداءً بالنبى (صلى الله عليه وسلم) فى دعائه بذلك، ومثل ذلك سأل الأنبياء عليهم السلام الله تعالى فى دعائهم، فقال إبراهيم (صلى الله عليه وسلم) : (وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ) [إبراهيم: 35] وقال يوسف: (تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ) [يوسف: 101] وقال نبينا: (وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضنى إليك غير مفتون) . وأعلم أمته بقوله: (أنا على عهدك ووعدك ما استطعت) . إن أحدًا لا يقدر على الإتيان بجميع ما لله، ولا الوفاء بجميع الطاعات والشكر على النعم، إذ نعمه تعالى كثيرة ولا يحاط بها، ألا ترى قوله تعالى: (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) [لقمان: 20] فمن يقدر مع هذا أن يؤدى شكر النعم الظاهرة، فكيف الباطنة؟ لكن قد رفق الله بعباده فلم يكلفهم من ذلك إلا وسعهم وتجاوز عما فوق ذلك، وكان (صلى الله عليه وسلم) يمتثل هذا المعنى فى مبايعته للمؤمنين، فيقول: أبايعكم على السمع والطاعة فيما استطعتم. فإن قيل: أين لفظ الاستغفار فى هذا الدعاء، وقد سماه النبى (صلى الله عليه وسلم) سيد الاستغفار؟ قيل: الاستغفار فى لسان العرب هو طلب المغفرة من الله تعالى وسؤاله غفران الذنوب السالفة والاعتراف بها، وكل(10/76)
دعاء كان فى هذا المعنى فهو استغفار، مع أن فى الحديث لفظ الاستغفار وهو قوله: (فاغفر لى فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) . وقال: (من قالها موقنًا بها) يعنى مخلصًا من قلبه ومصدقًا بثوابها فهو من أهل الجنة، وهذا كمعنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه) . وقوله: (أبوء لك بنعمتك وأبوء بذنبى) قال صاحب الأفعال: باء بالذنب: أقرّ.
3 - باب اسْتِغْفَارِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِى الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ
/ 4 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (وَاللَّهِ إِنِّى لأسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِى الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً) . قال المؤلف: أولى العباد بالاجتهاد فى العبادة الأنبياء، عليهم السلام، لما حباهم الله به من معرفته، فهم دائبون فى شكر ربهم معترفون له بالتقصير لا يدلون عليه بالأعمال، مستكينون خاشعون، روى عن مكحول عن أبى هريرة قال: (ما رأيت أحدًا أكثر استغفارًا من رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) . وقال مكحول: ما رأيت أكثر استغفارًا من أبى هريرة. وكان مكحول كثير الاستغفار. وقال أنس: أمرنا أن نستغفر بالأسحار سبعين مرة. وروى أبو إسحاق عن مجاهد، عن ابن عمر قال: (كنت مع النبى (صلى الله عليه وسلم) فسمعته يقول: أستغفر الله الذى لا إله إلا هو الحى القيوم وأتوب إليه مائة مرة قبل أن يقوم) وروى عن حذيفة أنه شكا إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) ذرب لسانه على أهله، فقال: أين(10/77)
أنت يا حذيفة من الممحاة؟ قال: وما هى؟ قال: (الاستغفار، إنى لأستغفر الله فى اليوم سبعين مرة) وقال (صلى الله عليه وسلم) لعائشة وقت الإفك: (إن كنت ألممت بذنب فاستغفرى الله وتوبى إليه) فإن التوبة من الذنب الندم والاستغفار، وقالت عائشة: (كان النبى (صلى الله عليه وسلم) قبل أن يموت يكثر من قوله سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه، فسألته عن ذلك، فقال: أخبرنى ربى أنى سأرى علامةً فى أمتى، فإذا رأيتها أكثرت من ذلك، فقد رأيتها: (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ () [النصر: 1] . وقال أبو أيوب الأنصارى: ما من مسلم يقول: (أستغفر الله الذى لا إله إلا هو الحى القيوم وأتوب إليه ثلاث مرات، إلا غفرت ذنوبه، وإن كانت أكثر من زبد البحر، وإن كان فر من الزحف) وكان ابن عمر كثيرًا ما يقول: الحمد لله وأستغفر الله، فقيل له فى ذلك، فقال: إنما هى نعمة فأحمد الله عليها أو خطيئة فأستغفر الله منها. وقال عمر بن عبد العزيز: رأيت أبى فى النوم كأنه فى بستان فقلت له: أى عملك وجدت أفضل؟ قال: الاستغفار. وروى أبو عثمان عن سلمان قال: إذا كان العبد يدعو الله فى الرخاء، فنزل به البلاء فدعا، قالت الملائكة: صوت معروف من امرئ ضعيف. فيشفعون له، وإذا كان لا يكثر من الدعاء فى الرخاء، فنزل به البلاء فدعا، فقالت الملائكة: صوت منكر من امرئ ضعيف، فلا يشفعون له.
4 - باب) تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا) [التحريم: 8]
وقَالَ قَتَادَةُ: (تَوْبَةً نَصُوحًا (، الصَّادِقَةُ النَّاصِحَةُ. / 5 - فيه: الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ، حَدَّثَنَا ابْن مَسْعُودٍ حَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَنِ النَّبِيِّ(10/78)
- عليه السلام - وَالآخَرُ عَنْ نَفْسِهِ، قَالَ: (إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ، فَقَالَ: بِهِ، هَكَذَا قَالَ أَبُو شِهَابٍ، بِيَدِهِ فَوْقَ أَنْفِهِ، ثُمَّ قَالَ: لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلا وَبِهِ مَهْلَكَةٌ، وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ، فَنَامَ نَوْمَةً، فَاسْتَيْقَظَ، وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ حَتَّى إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ وَالْعَطَشُ، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ، قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِى، فَرَجَعَ فَنَامَ نَوْمَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ) . / 6 - وفيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (اللَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ سَقَطَ عَلَى بَعِيرِهِ، وَقَدْ أَضَلَّهُ فِى أَرْضِ فَلاةٍ) . قال صاحب العين: التوبة النصوحة: الصادقة. وقيل: إنما سمىّ الله التوبة نصوحًا؛ لأن العبد ينصح فيه نفسه ويقيها النار لقوله تعالى: (قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) [التحريم: 6] ، وأصل قوله تعالى: (تَوْبَةً نَّصُوحًا) [التحريم: 8] توبةً منصوحًا فيها، إلا أن أخبر عنها باسم الفاعل للنصح على ما ذكره سيبويه عن الخليل فى قوله تعالى: (عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ) [الحاقة: 21] أى ذات رضا، وذكر أمثلة لهذا كثيرة عن العرب كقولهم: ليل نائم، وهم ناصب، أى: ينام فيه وينصب، فكذلك) تَوْبَةً نَّصُوحًا) [التحريم: 8] أى: ينصح فيها، والتوبة فرض من الله تعالى على كل من علم من نفسه ذنبًا صغيرًا أو كبيرًا؛ لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا) [التحريم: 8] . وقال: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور: 31] ، وقال تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ) [النساء: 17] .(10/79)
فكل مُذنب فهو عند مواقعة الذنب جاهل وإن كان عالمًا، ومن تاب قبل الموت تاب من قريب، وقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (الندم توبة) . وقال: (إن العبد ليذنب الذنب فيدخل به الجنّة. قيل: كيف ذلك يا رسول الله؟ قال: يكون نصب عينيه تائبًا منه فارا حتى يدخل الجنة) . وقال سفيان بن عيينة: التوبةُ نعمة من الله أنعم بها على هذه الأمة دون غيرهم من الأمم، وكانت توبة بنى إسرائيل القتل. وقال الزهرى: لما قيل لهم: (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ) [البقرة: 54] قاموا صفين وقتل بعضهم بعضًا، حتى قيل لهم: كفوا. فكانت لهم شهادة للمقتول وتوبةً للحى، وإنما رفع الله عنهم القتل لما أعطوا المجهود فى قتل أنفسهم، فما أنعم الله على هذه الأمة نعمةً بعد الإسلام هى أفضل من التوبة. إن الرجل ليفنى عمره أو ما أفنى منه فى المعاصى والآثام، ثم يندم على ذلك ويقلع عنه ويقوم وهو حبيب الله، قال تعالى: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة: 222] ، وقال (صلى الله عليه وسلم) : (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) . وقال ابن المبارك: حقيقة التوبة لها ست علامات: أولها: الندم على ما مضى. والثانية: العزم على أن لا تعود. والثالثة: أن تعمد إلى كل فرض ضيعته فتؤديه. والرابعة: أن تعمد إلى مظالم العباد، فتؤدّى إلى كل ذى حق حقه. والخامسة: أن تعمد إلى البدن الذى ربيتهُ بالسحت والحرام فتذيبه بالهموم والأحزان حتى يلصق الجلد بالعظم، ثم تنشىء بينهما لحمًا طيبًا إن هو نشأ. والسادسة: أن تذيق البدن ألم الطاعة كما أذقته لذة(10/80)
المعصية. وقال ميمون ابن مهران عن ابن عباس: كم تائب يرد يوم القيامة يظن أنه تائب وليس بتائب، لأنه لم يحكم أبواب التوبة. وقال عبد الله بن سُميط: ما دام قلب العبد مصراّ على ذنبٍ واحد، فعمله معلق فى الهواء، فإن تاب من ذلك الذنب وإلا بقىّ عمله أبدًا معلقًا. وروى الأصيلى عن أبى القاسم يعقوب بن محمد بن صالح البصرى إملاءً من حفظه قال: حدثنا بكر بن أحمد بن مقبل قال: حدثنا عمران بن عبد الرحيم الأصبهانى، حدثنا خليفة، عن عبد الوهاب، عن محمد بن زياد، عن على بن زيد بن جدعان، عن سعيد بن المسيّب، عن أبى الدرداء قال: قال رسول الله: يقول الله تعالى: (إذا تاب عبدى إلىّ نَسَّيت جوارحه، ونَسَّيت البقاع، ونَسّيت حافظيه حتى لا يشهدوا عليه) . وأما الحديث الذى حدث ابن مسعود عن نفسه فقوله: (إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبلٍ يخاف أن يقع عليه، والفاجر يرى ذنوبه كذباب مرّ على أنفه) . فينبغى لمن أراد أن يكون من جملة المؤمنين أن يخشى ذنوبه، ويعظم خوفه منها، ولا يأمن عقاب الله عليها فيستصغرها، فإن الله تعالى يعذّب على القليل وله الحجة البالغة فى ذلك. وأمّا فرح الله بتوبة العبد فقال أبو بكر بن فورك: الفرح فى كلام العرب بمعنى السرور، من ذلك قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا) [يونس: 22] أى سروا بها، فهذا المعنى لا يليق بالله تعالى لأنه يقتضى جواز الحاجة عليه ونيل(10/81)
المنفعة، والفرح بمعنى البطر والأشر ومنه قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) [القصص: 76] . والوجه الثالث من الفرح الذى يكون بمعنى الرضا من قوله تعالى: (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [المؤمنون: 53] أى راضون، ولما كان من بُشِّر بالشىء قد رضيه، قيل: إنه قد فرح به على معنى أنه به راض، وعلى هذا تتأول الآثار؛ لأن البطر والسرور لا يليقان بالله عز وجل.
5 - باب الضَّجْعِ عَلَى الشِّقِّ الأيْمَنِ
/ 7 - فيه: عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّى مِنَ اللَّيْلِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الأيْمَنِ حَتَّى يَجِىءَ الْمُؤَذِّنُ فَيُؤْذِنَهُ. هذه هيئة من الهيئات كان يفعلها (صلى الله عليه وسلم) والله أعلم للأرفق به فى الاضطجاع، أو كان يفعلها لفضل الميامن على المياسر، وهذا كله مباح ليس من باب الوجوب.
6 - باب إِذَا بَاتَ طَاهِرًا
/ 8 - فيه: الْبَرَاء،، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ، فَتَوَضَّأْ وَضُوءَكَ لِلصَّلاةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأيْمَنِ، وَقُلِ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وجهِى إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِى إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِى إِلَيْكَ، رَهْبَةً وَرَغْبَةً إِلَيْكَ، لا مَلْجَأَ وَلا مَنْجَا مِنْكَ إِلا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِى أَنْزَلْتَ،(10/82)
وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، فَإِنْ مُتَّ مُتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَقُولُ) . وقد بين ابن عباس معنى المبيت على الطهارة، ذكر عبد الرزاق عن أبى بكر بن عياش قال: أخبرنى أبو يحيى أنه سمع مجاهدًا يقول: قال لى ابن عباس: لا تنامن إلا على وضوء، فإن الروح تبعث على ما قبضت عليه. وهذا معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فإن مُتّ متّ على الفطرة) . وذكر عن الأعمش أنه بال، ثم تيمّم بالجدار، فقيل له فى ذلك، فقال: أخاف أن يدركنى الموت قبل أن أتوضأ. وعن الحكم بن عتيبة أنه سأله رجل: أينام الرجل على غير وضوء؟ قال: يكره ذلك وإنا لنفعله. وروى معمر عن سعيد الجريرى عن أبى السليل عن أبى توبة العجلى قال: من أوى إلى فراشه طاهرًا أو نام ذاكرًا كان فراشه مسجدًا، وكان فى صلاة أو ذكر حتى يستيقظ. وقال طاوس: من بات على طهرٍ وذكرٍ كان فراشه له مسجدًا حتى يصبح، ومثل هذا لا يدرك بالرأى وإنما يؤخذ بالتوقيف.
7 - بَاب مَا يَقُولُ إِذَا نَامَ
/ 9 - فيه: حُذَيْفَةَ، قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ، قَالَ: (بِاسْمِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا) ، وَإِذَا قَامَ قَالَ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) . ينشرها: يخرجها. / 10 - وفيه: الْبَرَاء، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا أَرَدْتَ مَضْجَعَكَ، فَقُلِ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِى إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِى إِلَيْكَ، وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ،(10/83)
وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لا مَلْجَا وَلا مَنْجَا مِنْكَ إِلا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِى أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، فَإِنْ مُتَّ، مُتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ) . ذكر الله مستحب عند النوم ليكون الذكر آخر فعله، وهذا معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (واجعلهن آخر ما تقول) أى لا تتكلم بعدهن بشىء من أحاديث الدنيا، وليكن هذا الذكر خاتمة عملك، ألا ترى قوله: (فإن مت مت على الفطرة) وقد تقدم حديث معمر عن الجريرى فى فضل من بات على ذكر وطهر فى الباب قبل هذا.
8 - باب وَضْعِ الْيَدِ تَحْتَ الْخَدِّ اليمنى
/ 11 - فيه: حُذَيْفَةَ، كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنَ اللَّيْلِ وَضَعَ يَدَهُ تَحْتَ خَدِّهِ، ثُمَّ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا) ، وَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَالَ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا، وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) . يحتمل أن يكون وضع النبى (صلى الله عليه وسلم) يده تحت خدّه عند النوم تذللاً لله عز وجل واستشعارًا لحال الموت، وتمثيله لنفسه لتتأسى أمته بذلك، ولا يأمنوا هجوم الموت عليهم فى حال نومهم، ويكونوا على رقبة من مفاجأته فيتأهبوا له فى يقظتهم وجميع أحوالهم، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) عند نومه: (اللهم بك أموت وأحيا وإليك النشور) .(10/84)
9 - باب الدُّعَاءِ إِذَا انْتَبَهَ بِاللَّيْلِ
/ 12 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: بِتُّ عِنْدَ مَيْمُونَةَ، فَقَامَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَأَتَى حَاجَتَهُ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ قَامَ، فَأَتَى الْقِرْبَةَ، فَأَطْلَقَ شِنَاقَهَا، ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءًا بَيْنَ وُضُوءَيْنِ لَمْ يُكْثِرْ، وَقَدْ أَبْلَغَ، فَصَلَّى فَقُمْتُ، فَتَمَطَّيْتُ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَرَى أَنِّى كُنْتُ أَتَّقِيهِ، فَتَوَضَّأْتُ، فَقَامَ يُصَلِّى، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ بِأُذُنِى، فَأَدَارَنِى عَنْ يَمِينِهِ، فَتَتَامَّتْ صَلاتُهُ ثَلاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ اضْطَجَعَ، فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ، وَكَانَ إِذَا نَامَ نَفَخَ، فَآذَنَهُ بِلالٌ بِالصَّلاةِ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، وَكَانَ يَقُولُ فِى دُعَائِهِ: (اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِى قَلْبِى نُورًا، وَفِى بَصَرِى نُورًا، وَفِى سَمْعِى نُورًا، وَاجْعَلْ لِى نُورًا) . قَالَ كُرَيْبٌ: وَسَبْعٌ فِى التَّابُوتِ، فَلَقِيتُ رَجُلا مِنْ وَلَدِ الْعَبَّاسِ، فَحَدَّثَنِى بِهِنَّ، فَذَكَرَ عَصَبِى، وَلَحْمِى، وَدَمِى، وَشَعَرِى، وَبَشَرِى، وَذَكَرَ خَصْلَتَيْنِ. / 13 - وفيه: ابْن عَبَّاس: كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ: (اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ، وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ وَوَعْدُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ فَاغْفِرْ لِى مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ، أَوْ لا إِلَهَ غَيْرُكَ) . قال المؤلف: كان النبى (صلى الله عليه وسلم) يدعو الله عز وجل فى أوقات ليله ونهاره، وعند نومه ويقظته بنوع من الدعاء يصلح لحاله تلك ولوقته(10/85)
ذلك. فمنها: أوقات كان يدعو فيها إلى ربه تعالى، ويعين له ما يدعو فيه فى أوقات الخلوة، وعند فراغ باله وعلمه بأوقات الغفلة التى ترجى فيها الإجابة، فكان يلح عند ذلك ويجتهد فى دعائه، ألا ترى سؤاله (صلى الله عليه وسلم) ربه حين انتبه من نومه أن يجعل فى قلبه نورًا، وفى بصره نورًا، وفى سمعه وجميع جوارحه؟ ومنها: أوقات كان يدعو فيها بجوامع الدعاء ويقتصر على المعانى دون تعيين وشرح، فينبغى الاقتداء بالنبى (صلى الله عليه وسلم) فى دعائه فى تلك الأوقات، والتأسى به فى كل الأحوال، وقد تقدّم حديث ابن عباس فى باب التهجد والكلام عليه. وقول كريب: وسبع فى التابوت يعنى: أنه أنسى سبع خصال من الحديث على ما يقال لمن لم يحفظ العلم؛ علمه فى التابوت، وعلمه مستودع فى الصحف، وليس كريب القائل: فلقيت رجلاً من ولد العباس فحدثنى بهنّ، وإنما قاله سلمة بن كهيل الراوى عن كريب سأل العباس عنهن حين نسيهن كريب فحفظ سلمة منهن خمسًا ونسى أيضًا خصلتين. قال المؤلف: وقد وجدت الخصلتين من رواية داود بن على بن عبد الله بن عباس عن أبيه وهما: (اللهم اجعل نورًا فى عظامى ونورًا فى قبرى) . وقوله: (فتمطيت كراهية أن يرى أنى كنت أبغيه) التمطى: التمدد، وأبغيه: أرصده، قال الخليل: يقال: بغيت الشىء أبغيه إذا نظرت إليه ورصدته، وإنما فعل ذلك ابن عباس ليُرىّ النبي - عليه السلام - أنه كان نائمًا وأنه لم يرصده؛ إذ كل أحدٍ إذا خلا في(10/86)
بيته يأتى من الأفعال ما يحب أن لا يطلع عليه أحد، وإنما حمل ابن عباس على ذلك الحرص على التعليم، ومعرفة حركات النبى (صلى الله عليه وسلم) فى ليله، وقد تقدّم فى كتاب الصلاة أن أباه العباس كان أوصى لابنه بذلك. وفيه: الحرص على التعليم والرفق بالعلماء، وترك التعرض إلى ما يعلم أنه يشق عليهم. ذكر الطبرى عن معقل بن يسار، عن أبى بكر الصديق، رضى الله عنه، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (الشرك أخفى فيكم من دبيب النمل. فقلت: يا رسول الله فكيف المنجا من ذلك؟ قال: ألا أعلمك شيئًا إذا فعلته برئت من قليله وكثيره وصغيره وكبيره. قلت: بلى يا رسول الله. قال: قل: اللهم إنى أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم، تقولها ثلاث مرات) .
- باب التَّكْبِيرِ وَالتَّسْبِيحِ عِنْدَ الْمَنَامِ
/ 14 - فيه: عَلِىّ: أَنَّ فَاطِمَةَ اشَتكَتْ مَا تَلْقَى فِى يَدِهَا مِنَ الرَّحَى، فَأَتَتِ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) تَسْأَلُهُ خَادِمًا، فَلَمْ تَجِدْهُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ، فَلَمَّا جَاءَ أَخْبَرَتْهُ، قَالَ: فَجَاءَنَا وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا، فَذَهَبْتُ أَقُومُ، فَقَالَ: (مَكَانَكِ) فَجَلَسَ بَيْنَنَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى صَدْرِى، فَقَالَ: (أَلا أَدُلُّكُمَا عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ؟ إِذَا أَوَيْتُمَا إِلَى فِرَاشِكُمَا، أَوْ أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا، فَكَبِّرَا ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، وَسَبِّحَا ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، فَهَذَا خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ) . وَقَالَ ابْنِ سِيرِينَ: التَّسْبِيحُ أَرْبَعٌ وَثَلاثُونَ.(10/87)
وهذا نوع من الذكر عند النوم غير ما جاء فى حديث البراء، وحديث حذيفة والأحاديث الأُخر، وقد يمكن أن يكون النبي - عليه السلام - يجمع ذلك كله عند نومه، وقد يمكن أن يقتصر منها على بعضها إعلامًا منه لأمته أن ذلك معناه الحض والندب، لا الوجوب والفرض، وفى هذا الحديث حجة لمن فضل الفقر على الغنى؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) قال: (ألا أدلكما على ما هو خير لكما من خادم) فعلمهما الذكر، ولو كان الغنى أفضل من الفقر لأعطاهما الخادم وعلمهما الذكر، فلما منعهما الخادم وقصرهما على الذكر خاصةً علم أنه (صلى الله عليه وسلم) إنما اختار لهما الأفضل عند الله، والله الموفق.
- باب التَّعَوُّذِ وَالْقِرَاءَةِ عِنْدَ الْمَنَامِ
/ 15 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ نَفَثَ فِى يَدَيْهِ، وَقَرَأَ بِالْمُعَوِّذَاتِ، وَمَسَحَ بِهِمَا جَسَدَهُ. / 16 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ، فَلْيَنْفُضْ فِرَاشَهُ بِدَاخِلَةِ إِزَارِهِ، فَإِنَّهُ لا يَدْرِى مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ: بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِى، وَبِكَ أَرْفَعُهُ، إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِى فَارْحَمْهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ) . وهذه أنواع أخر أيضًا غير ما مرّ من الأحاديث المتقدمة، وفيها استسلام لله وإقرار له بالإحياء والإماتة، وفى حديث عائشة رد قول من زعم أنه لا تجوز الرقى واستعمال العُوذ إلا عند حلول المرض ونزول ما يتعوذ بالله منه، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) نفث فى يديه وقرأ المعوذات ومسح بهما جسده، واستعاذ بذلك من شر ما يحدث عليه فى ليلته مما يتوقعه وهذا من أكبر الرقى، وفي حديث(10/88)
أبي هريرة أدب عظيم علمه النبى أمته، وذلك أمره بنفض فراشه عند النوم خشية أن يأوى إليه بعض الهوام الضارّة فيؤذيه سمها، والله أعلم.
- باب الدُّعَاءِ نِصْفَ اللَّيْلِ
/ 17 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (يَتَنَزَّلُ رَبُّنَا، عزَّ وجلَّ، كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِى فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِى فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِى فَأَغْفِرَ لَهُ) . هذا وقت شريف مرغب فيه خصّه الله تعالى بالتنزل فيه، وتفضّل على عباده بإجابة من دعا فيه، وإعطاء من سأله، إذ هو وقت خلوة وغفلة واستغراق فى النوم واستلذاذ به، ومفارقة الدعة واللذة صعب على العباد، لا سيما لأهل الرفاهية فى زمن البرد، ولأهل التعب والنصب فى زمن قصر الليل، فمن آثر القيام لمناجاة ربه والتضرع إليه فى غفران ذنوبه، وفكاك رقبته من النار وسأله التوبة فى هذا الوقت الشاق على خلوة نفسه بلذتها ومفارقة دعتها وسكنها، فذلك دليل على خلوص نيته وصحة رغبته فيما عند ربه، فضمنت له الإجابة التى هى مقرونة بالإخلاص وصدق النية فى الدعاء، إذ لا يقبل الله دعاءً من قلب غافل لاهٍ. وقد أشار النبى (صلى الله عليه وسلم) إلى هذا المعنى بقوله: (والصلاة بالليل والناس نيام) . فلذلك نبّه الله عباده على الدعاء فى هذا الوقت الذى تخلو فيه النفس من خواطر الدنيا، وعُلقها ليستشعر العبد الجدّ والإخلاص لربه فتقع الإجابة منه تعالى رفقًا من الله بخلقه(10/89)
ورحمةً لهم فله الحمد دائمًا والشكر كثيرًا على ما ألهم إليه عباده من مصالحهم، ودعاهم إليه من منافعهم لا إله إلا هو الكريم الوهاب. فإن قيل: كيف ترجم باب الدعاء نصف الليل، وذكر فى الحديث أن التنزل فى ثلث الليل الآخر؟ . قيل: إنما أخذ ذلك من قوله تعالى: (قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً) [المزمل: 2، 3] ، فالترجمة تقوم من دليل القرآن، والحديث يدل على أن وقت الإجابة ثلث الليل إلا أن ذكر النصف فى كتاب الله يدل على تأكيد المحافظة على وقت التنزل قبل دخوله ليأتى أول وقت الإجابة، والعبد مرتقب له مستعد للإنابة فيكون ذلك سببًا للإجابة، وينبغى ألا يمرّ وقت من الليل والنهار إلا أحدث العبد فيه دعاءً وعبادةً لله تعالى.
- باب الدُّعَاءِ عِنْدَ الْخَلاءِ
/ 18 - فيه: أَنَس، كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا دَخَلَ الْخَلاءَ، قَالَ: (اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ) . قال المؤلف: الخبث والخبائث هو الشيطان الرجيم، روى هذا عن الحسن ومجاهد، وقد جاء معنى أمره (صلى الله عليه وسلم) بالاستعاذة عند دخول الخلاء فى حديث رواه معمر عن قتادة، عن النضر بن أنس عن أنس بن مالك أن رسول الله قال: (إن هذه الحشوش محتضرة، فإذا دخلها أحدكم فليقل: اللهم إنى أعوذ بك من الخبث والخبائث) . فأخبر فى هذا الحديث أن الحشوش مواطن للشياطين، فلذلك أمر بالاستعاذة عند دخولها، وروى ابن وهب عن(10/90)
حيوة بن شريح، عن أبى عقيل أنه سمع سعيدًا المقبرى يقول: إذا دخل الرجل الكنيف لحاجته، ثم ذكر اسم الله كان سترًا بينه وبين الجن، فإذا لم يذكر الله نظر إليه الجن يسخرون ويستهزئون به. وروى عن النبى أنه قال: (إذا خرج أحدكم من الغائط فليقل: الحمد لله الذى أخرج عنى ما يؤذينى وأمسك علىّ ما ينفعنى) .
- باب مَا يَقُولُ إِذَا أَصْبَحَ
/ 19 - فيه: شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ) ، وذكر الحديث (مَنْ قَالَهَا حين يُمْسِى، فَمَاتَ دخل الْجَنَّةِ، وَإن قَالَهَا حين يُصْبِحَ، فَمَاتَ من يومه دخل الْجَنَّةِ) . / 20 - وفيه: حُذَيْفَةَ، كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ قَالَ: (بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ أَمُوتُ وَأَحْيَا) ، وَإِذَا اسْتَيْقَظَ مِنْ مَنَامِهِ، قَالَ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) . وَعَنْ أَبِى ذَرّ مثله. قال المؤلف: معنى ذكر الله عند الصباح ليكون مفتتح الأعمال وابتداؤها ذكر الله، وكذلك ذكر الله عند النوم ليختم عمله بذكره تعالى، فتكتب الحفظة فى أول صحيفته عملا صالحًا وتختمها بمثله، فيرجى له مغفرة ما بين ذلك من ذنوبه. وروى الطبرى من حديث الحسن عن أبى هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (يقول الله عز وجل: اذكرنى من أول النهار ساعةً، ومن آخره ساعةً أكفيك ما بينهما) . وكان الصالحون من السُّوقة يجعلون أول يومهم وآخره لأمر الآخرة، ووسطه لمعيشة الدنيا، وإنما كانوا يعملون ذلك لترغيبه (صلى الله عليه وسلم) على الدعاء طرفي النهار،(10/91)
وكان عمر بن الخطاب يأمر التجار فيقول: اجعلوا أوّل نهاركم لآخرتكم، وما سوى ذلك لدنياكم، وقد روى عن النبي - عليه السلام - ما يدل على هذا المعنى، قال (صلى الله عليه وسلم) : (يقول الله تعالى: يا ابن آدم لا تعجزن عن أربع ركعات أول النهار أكفيك آخره) .
- باب الدُّعَاءِ فِى الصَّلاةِ
/ 21 - فيه: أَبُو بَكْر، أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : عَلِّمْنِى دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِى صَلاتِى، قَالَ: (قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِى مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِى إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) . / 22 - وفيه: عَائِشَةَ،) وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا) [الإسراء: 110] نْزِلَتْ فِى الدُّعَاءِ. / 23 - وفيه: ابْن مسعود، عَنْ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّهُ ذكر التشهد، إلى قوله: (ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنَ الثَّنَاءِ مَا شَاءَ) . قال الطبرى: فى حديث أبى بكر من الفقه أن للمصلّى أن يدعو الله فى جميع صلواته بما بدا له من حاجات دنياه وآخرته، وذلك أنه (صلى الله عليه وسلم) علم أبا بكر مسألة ربه المغفرة لذنوبه فى صلاته، وذلك من أعظم حاجات العبد إلى ربّه، فكذلك حكم مسألته إياه سائر حاجاته. وقد روى عن أبى الدرداء أنه قال: إنى لأدعو وأنا ساجد لسبعين أخًا من إخوتى أسمّيهم بأسمائهم وأسماء آبائهم. وكان على يقول إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده: اللهم بحولك وقوتك أقوم وأقعد. وكان ابن مسعود يلبى فى سجوده. ومعنى لبيك:(10/92)
أجبتك يا رب إلى ما دعوتني إليه إجابةً بعد إجابة، وأقمت عندك. وقد ذكرت من قال بهذا من الفقهاء فى كتاب الصلاة. قال الطبرى: وفى حديث أبى بكر الدليل الواضح على تكذيب مقالة من زعم أنه لا يستحق اسم الإيمان إلا من كان لا خطيئة له ولا جُرم، لأن أهل الإجرام زعموا غير مؤمنين، وزعموا أن كبائر الذنوب وصغائرها كبائر، وذلك أن أبا بكر كان من الصديقين من أهل الإيمان، وقد أمره (صلى الله عليه وسلم) أن يقول: اللهم إنى ظلمت نفسى ظلمًا كثيرًا فاغفر لي) . وفيه: دليل أن الواجب على العبد أن يكون على حذر من ربّه فى كل أحواله، وإن كان من أهل الاجتهاد فى عبادته فى أقصى غاياته، إذ كان الصديق مع موضعه من الدين لم يسلم مما يحتاج إلى استغفار ربه منه.
- باب الدُّعَاءِ بَعْدَ الصَّلاةِ
/ 24 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، قَالَ: (كَيْفَ ذَاكَ) ؟ قَالُوا: صَلَّوْا كَمَا صَلَّيْنَا، وَجَاهَدُوا كَمَا جَاهَدْنَا، وَأَنْفَقُوا مِنْ فُضُولِ أَمْوَالِهِمْ، وَلَيْسَتْ لَنَا أَمْوَالٌ، قَالَ: (أَفَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَمْرٍ تُدْرِكُونَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَتَسْبِقُونَ مَنْ جَاءَ بَعْدَكُمْ، وَلا يَأْتِى أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا جِئْتُمْ بِهِ إِلا مَنْ جَاءَ بِمِثْلِهِ، تُسَبِّحُونَ فِى دُبُرِ كُلِّ(10/93)
صَلاةٍ عَشْرًا، وَتَحْمَدُونَ عَشْرًا وَتُكَبِّرُونَ عَشْرًا) . / 25 - وفيه: الْمُغِيرَةِ، أنَّهُ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ أَنَّ النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ إِذَا سَلَّمَ: (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلا مُعْطِىَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ) . فى حديث هذا الباب الحضّ على التسبيح والتحميد فى أدبار الصلوات، وأن ذلك يوازي فى الفضل إنفاق المال فى طاعة الله لقوله: (أفلا أخبركما بما تدركون به من كان قبلكم) . وروى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (وضعت الصلوات فى خير الساعات فاجتهدوا فى الدعاء دبر الصلوات) . قال الطبري: حدثنا ابن المثني، وابن بشار، قالا: حدثنا يحيى بن سعيد، عن سليمان التيمي، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: (إذا أقيمت الصلاة فتحت أبواب السماء واستجيب الدعاء) . وروى الطبري عن جعفر بن محمد قال: الدعاء بعد المكتوبة أفضل من الدعاء بعد النافلة كفضل المكتوبة على النافلة. فإن قال قائل: فقد روى عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال: قال عبد الله بن مسعود: إنما هذه القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بغيره. فأى الأمرين عندك أفضل، ذكر الله بالتسبيح والتحميد والتهليل، أم قراءة القرآن؟ فالجواب: أن عمرو بن سلمة سأل الأوزاعي عن ذلك، فقال له: سَلْ سعيدًا، فسأله فقال: بل القرآن. فقال الأوزاعى لسعيد: إنه ليس بشىء يعدل القرآن، ولكن إنما كان هدى من سلف يذكرون الله قبل طلوع الشمس وقبل الغروب. قال الطبرى: والذى قال الأوزاعي أقرب إلى الصّواب لما روى(10/94)
أنس وأبو هريرة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (لأن أقعد مع قوم يذكرون الله بعد الفجر إلى طلوع الشمس أحب إلىّ من الدنيا وما فيها، ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله بعد العصر إلى أن تغيب الشمس أحبُّ إلىّ من الدنيا وما فيها) وقال عبد الله بن عمرو: وذكر الله بالغداة والعشى أفضل من حطم السيوف فى سبيل الله وإعطاء المال سحًا. وقد تقدم فى باب ما يقول إذا أصبح حديث الحسن عن أبى هريرة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (يقول عز وجل: ابن آدم اذكرنى من أوّل النهار ساعةً وآخره ساعةً، أكفيك ما بينهما) . وترجم لحديث المغيرة باب: لا مانع لما أعطى الله فى كتاب القدر، وسيأتى الكلام هناك إن شاء الله تعالى، واحتج بحديث أبى هريرة من فضل الغنى على الفقر، وسيأتى الكلام فيه فى كتاب الرقائق إن شاء الله.
- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) [التوبة: 103] وَمَنْ خَصَّ أَخَاهُ بِالدُّعَاءِ دُونَ نَفْسِهِ
وَقَالَ أَبُو مُوسَى: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِى عَامِرٍ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَبْدِاللَّهِ بْنِ قَيْسٍ ذَنْبَهُ) . / 26 - وفيه: سَلَمَة، خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى خَيْبَرَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَيَا عَامِرُ، لَوْ أَسْمَعْتَنَا مِنْ هُنَيْاتِكَ، فَنَزَلَ يَحْدُو لهِمْ: تَاللَّهِ لَوْلا اللَّهُ مَا(10/95)
اهْتَدَيْنَا، قَالَ النَّبِيّ - عليه السلام -: (مَنْ هَذَا السَّائِقُ) ؟ قَالُوا: عَامِرُ بْنُ الأكْوَعِ، قَالَ: (يَرْحَمُهُ اللَّهُ) . / 27 - وفيه: ابْن أَبِى أَوْفَى، قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا أَتَاهُ رَجُلٌ بِصَدَقَةٍ، قَالَ: (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلانٍ) ، فَأَتَاهُ أَبِى، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِى أَوْفَى) . / 28 - وفيه: جَرِير، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى لا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ، فَصَكَّ فِى صَدْرِى، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ، وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا) . / 29 - وفيه: أَنَس، قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : أَنَسٌ خَادِمُكَ، قَالَ: (اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ) . / 30 - وفيه: عَائِشَةَ، سَمِعَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) رَجُلا يَقْرَأُ فِى الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: (رَحِمَهُ اللَّهُ، لَقَدْ أَذْكَرَنِى كَذَا وَكَذَا آيَةً أَسْقَطْتُهَن) . / 31 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ، قَسَمَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) قَسْمًا، فَقَالَ رَجُلٌ: مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ، فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) فَغَضِبَ، وَقَالَ: (يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى، لَقَدْ أُوذِىَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا، فَصَبَرَ) . قال المؤلف: فى هذه الأحاديث كلها من الفقه دعاء المسلم لأخيه دون نفسه كما ترجم، وقد جاء عن النبي - عليه السلام - أن دعاء المرء لأخيه مجاب. روى الطبرى قال: حدثنا أبو هشام الرفاعى قال: حدثنا ابن فضيل، حدثنا أبى، عن طلحة بن عبد الله بن كريز، عن أم الدرداء عن أبى الدرداء قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (ما من مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال له الملك: ولك مثل ذلك) . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (خمس(10/96)
دعوات مستجابات: دعوة المظلوم حتى ينتصر، ودعوة الحاج حتى يصدر، ودعوة المجاهد حتى يقفل، ودعوة المريض حتى يبرأ، ودعوة الأخ لأخيه) . روى عن بعض السلف: أنه قال: إذا دعا لأخيه فليبدأ بنفسه. قال سعيد بن يسار: ذكرت رجلاً عند ابن عمر فترحمت عليه، فلهز فى صدرى وقال لى: ابدأ بنفسك، وقال إبراهيم: كان يقال: إذا دعوت فابدأ بنفسك، فإنك لا تدرى أى دعاء يستجاب لك.
- باب مَا يُكْرَهُ مِنَ السَّجْعِ فِى الدُّعَاءِ
/ 32 - فيه: ابْن عَبَّاس، أنَّهُ قَالَ لعكرمة: حَدِّثِ النَّاسَ كُلَّ جُمُعَةٍ مَرَّةً، فَإِنْ أَبَيْتَ فَمَرَّتَيْنِ، فَإِنْ أَكْثَرْتَ فَثَلاثَ مِرَارٍ، وَلا تُمِلَّ النَّاسَ هَذَا الْقُرْآنَ، وَلا أُلْفِيَنَّكَ تَأْتِى الْقَوْمَ، وَهُمْ فِى حَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِهِمْ، فَتَقُصُّ عَلَيْهِمْ، فَتَقْطَعُ عَلَيْهِمْ حَدِيثَهُمْ، فَتُمِلُّهُمْ، وَلَكِنْ أَنْصِتْ، فَإِذَا أَمَرُوكَ، فَحَدِّثْهُمْ، وَهُمْ يَشْتَهُونَهُ، وَانْظُرِ السَّجْعَ مِنَ الدُّعَاءِ، فَاجْتَنِبْهُ، فَإِنِّى عَهِدْتُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) وَأَصْحَابَهُ لا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ. قال المؤلف: إنما نهى عن السجع فى الدعاء، والله أعلم؛ لأن طلب السجع فيه تكلف ومشقة، وذلك مانع من الخشوع وإخلاص التضرع لله تعالى وقد جاء فى الحديث: (إن الله لا يقبل من قلب غافلٍ لاهٍ) . وطالب السجع فى دعائه همته في [تزويج](10/97)
الكلام وسجعه، ومن شغل فكره وكد خاطره بتكلفه، فقلبه عن الخشوع غافل لاه لقول الله تعالى: (مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ) [الأحزاب: 4] . فإن قيل: فقد وجد فى دعاء النبى (صلى الله عليه وسلم) نحو ما نهى عنه ابن عباس، وهو قوله: (اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب) . وقال فى تعويذ حسن أو حسين: (أعيذه من الهامة والسامة وكل عين لامة) . وإنما أراد مُلمّة فللمقاربة بين الألفاظ واتباع الكلمة أخواتها فى الوزن قال: (لامة) . قيل: هذا يدل أن نهيه (صلى الله عليه وسلم) عن السجع إنما أراد به من يتكلف السجع فى حين دعائه، فيمنعه من الخشوع كما قدمنا، وأما إذا تكلم به طبعًا من غير مؤنة ولا تكلف، أو حفظه قبل وقت دعائه مسجوعًا فلا يدخل فى النهى عنه؛ لأنه لا فرق حينئذ بين المسجوع وغيره؛ لأنه لا يتكلف صنعته وقت الدعاء فلا يمنعه ذلك من إخلاص الدعاء والخشوع والله أعلم. وفيه من الفقه: أنه يكره الإفراط فى الأعمال الصالحة خوف الملل لها والانقطاع عنها، وكذلك كان النبى (صلى الله عليه وسلم) يفعل، كان يتخول أصحابه بالموعظة فى الأيام كراهة السآمة عليهم، وقال: (اكفلوا من العمل ما تطيقون، فإن الله تعالى لا يمل حتى تملوا) . وفيه: أنه لا ينبغى أن يحدث بشىء من كان فى حديث حتى يفرغ منه. وفيه: أنه لا ينبغى نشر الحكمة والعلم ولا الحديث بهما من لا يحرص على سماعهما وتعلمهما، فمتى حدث به من يشتهيه ويحرص عليه، كان أحرى أن ينتفع به ويحسن موقعه عنده، ومتى حدث به(10/98)
من لا يشتهيه لم يحسن موقعه عنده، وكان فى ذلك إذلال للعلم وحط له، والله تعالى قد رفع قدره حين جعله سببًا إلى معرفة توحيده وصفاته تعالى، والى علم دينه وما تعبَّد به خلقه.
- باب لِيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّهُ لا مُكْرِهَ لَهُ
/ 33 - فيه: أَنَس، أنّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ، فَلْيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ) ، وَلا يَقُولَنَّ: (اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ فَأَعْطِنِى، فَإِنَّهُ لا مُسْتَكْرِهَ لَهُ) . / 34 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، مثله. قال المؤلف: فيه دليل أنه ينبغى للمؤمن أن يجتهد فى الدعاء ويكون على رجاء من الإجابة ولا يقنط من رحمه الله؛ لأنه يدعو كريمًا، فبذلك تواترت الآثار عن النبي (صلى الله عليه وسلم) ، روى شعبة عن العلاء عن أبيه عن أبى هريرة عن النبي - عليه السلام - قال: (إذا دعا أحدكم فلا يقولن: اللهم إن شئت فأعطنى، ولكن ليعظم رغبته، فإن الله تعالى لا يتعاظم عليه شىء أعطاه، قال: قال الله تعالى: أنا عند ظن عبدى بى، وأنا معه إذا دعاني، فإن تقرب منى شبرًا تقربت منه ذراعًا. . .) الحديث. وروى أبو عاصم عن ابن جريج، عن أبى الزبير، عن جابر، عن النبي - عليه السلام - قال: (لا يموتن أحد منكم إلا وهو حسن الظن بالله تعالى) . وقال ابن مسعود: والله الذى لا إله إلا هو ما أعطى عبد مؤمن قط شيئًا خير من حسن الظن بالله. والله الذى لا إله إلا هو لا يحسن عبد الظن إلا أعطاه الله ظنه، وذلك أن الخير فى يديه. وقال سفيان بن عيينة: لا يمنعن أحد من الدعاء ما يعلم من نفسه،(10/99)
فإن الله تعالى قد أجاب دعاء شر الخلق إبليس) قَالَ أَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ) [الأعراف: 14، 15] .
- باب يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَعْجَلْ
/ 35 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يُسْتَجَابُ لأحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، يَقُولُ: دَعَوْتُ، فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِى) . قال بعض العلماء: قوله: (ما لم يعجل) يعنى يسأم الدعاء ويتركه فيكون كالمان بدعائه، وأنه قد أتى من الدعاء ما كان يستحق به الإجابة، فيصير كالمبخل لربّ كريم، لا تعجزه الإجابة، ولا ينقصه العطاء، ولا تضره الذنوب. وروى ابن وهب، عن معاوية، عن ربيعة بن يزيد، عن أبى إدريس الخولانى، عن أبى هريرة، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، وما لم يستعجل. قيل: يا رسول الله وما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوت وقد دعوت، فلم يستجب لى، فيستحسر عند ذلك أو يدع الدعاء) . وقال أبو هريرة: (مرةً يقول: لقد دعوت فما استجاب، أو ما أغنيت شيئًا) . وقالت عائشة فى هذا الحديث: (ما لم يعجل أو يقنط) . وقال بعضهم: إنما يعجل العبد إذا كان غرضه من الدعاء نيل ما سأل، وإذا لم ينل ما يريد ثقل عليه الدعاء، ويجب أن يكون غرض العبد من الدعاء هو الدعاء لله، والسؤال منه، والافتقار إليه أبدًا، ولا يفارق سمة العبودية وعلامة الرق، والانقياد للأمر والنهي(10/100)
والاستسلام لربّه تعالى بالذّلة والخشوع، فإن الله تعالى يحب الإلحاح فى الدعاء. وقال بعض السلف: لأنا أشد خشيةً أن أحرم الدعاء من أن أحرم الإجابة، وذلك أن الله تعالى يقول: (ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر: 60] فقد أمر بالدعاء ووعد بالإجابة وهو لا يخلف الميعاد، وروى عن النبي (صلى الله عليه وسلم) : (ما من داع يدعو إلا كان بين إحدى ثلاث، إما أن يستجاب له، وإمّا أن يدخر له، وإما أن يكفر عنه) . ففى هذا الحديث دليل أن الدعاء مجاب إما معجلاً وإما مؤخرًا. وقد روى عن قتادة أنه قال: إنما يجاب من الدعاء ما وافق القدر؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قد دعا ألا يجعل الله بأس أمته بينهم فمنعها، لما سبق فى علم الله وقدره من كون الاختلاف والبأس بينهم.
- بَاب رَفْعِ الأيْدِى فِى الدُّعَاءِ
وَقَالَ أَبُو مُوسَى: دَعَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: رَفَعَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَدَيْهِ، وَقَالَ: (اللَّهُمَّ إِنِّى أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ) . / 36 - وفيه: أَنَس، أَنّ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ. قال الطبرى: اختلف الناس فى رفع اليدين فى الدعاء فى غير الصلاة، فكان بعضهم يختار إذا دعا الله تعالى فى حاجته أن يشير(10/101)
بأصبعه السباّبة، ويقول ذلك الإخلاص ويكره رفع اليدين. ذكر من قال ذلك: روى شعبة وعبثر وخالد عن حصين، عن عمارة بن روبية: (أنه رأى بشر بن مروان رافعًا يديه على المنبر، فسبَّه وقال: لقد رأيت رسول الله لا يزيد على هذا يعنى أن يشير بالسبّابة) . وروى سعيد عن قتادة قال: رأى ابن عمر قومًا رفعوا أيديهم، فقال: من يتناول هؤلاء فوالله لو كانوا على رأس أطول جبل ما ازدادوا من الله قربًا. وكرهه جبير بن مطعم، ورأى شريح رجلاً رافعًا يديه يدعو، فقال: من تتناول بها، لا أمّ لك. وقال مسروق لقوم رفعوا أيديهم: قد رفعوها قطعها الله. وكره ابن المسيب رفع الأيدى والصّوت فى الدعاء، وكان قتادة يشير بأصبعيه ولا يرفع يديه، ورأى سعيد بن جبير رجلاً يدعو رافعًا يديه فقال: ليس فى ديننا تكفير. واعتلوا بحديث عمارة بن روبية المتقدّم. وكان بعضهم يختار أن يبسط كفيه رافعهما، ثم يختلفون فى صفة رفعهما، حذو صدره بطونهما إلى وجهه، روى ذلك عن ابن عمر، وقال ابن عباس إذا رفع يديه حذو صدره فهو الدعاء. وكان على بن أبى طالب يدعو بباطن كفيه، وعن أنس مثله، واحتجوا بما رواه صالح بن كيسان عن محمد بن كعب القرظى، عن ابن عباس، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (إذا سألتم الله تعالى فاسألوه ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها، وامسحوا بها وجوهكم) . وكان آخرون يختارون رفع أيديهم إلى وجوههم، روى ذلك عن ابن عمر وابن الزبير، واعتلوا بما رواه حماد بن سلمة عن بشر بن حرب قال: سمعت أبا سعيد الخدرى يقول: (وقف رسول الله بعرفة، فجعل يدعو، وجعل ظهر كفيه مما يلى وجهه ورفعهما فوق ثدييه وأسفل من منكبيه) .(10/102)
وكان آخرون يختارون رفع أيديهم حتى يحاذوا بها وجوههم وظهورها مما يلى وجوههم، وروى يحيى بن سعيد عن القاسم قال: رأيت ابن عمرو بن العاص يرفع يديه يدعو حتى يحاذى منكبيه ظاهرهما يليانه. وعن ابن عباس قال: إذا أشار أحدكم بأصبع واحدة فهو الإخلاص، وإذا رفع يديه حذو صدره فهو الدعاء، وإذا رفعهما حتى يجاوز بهما رأسه، وظاهرهما يلى وجهه فهو الابتهال. واحتجوا بحديث أبى موسى وابن عمر وأنس: (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان يرفع يديه فى الدعاء حتى يرى بياض إبطيه) . قال الطبرى: والصواب أن يقال إن كل هذه الآثار المروية عن النبى (صلى الله عليه وسلم) متفقة غير مختلفة المعانى، وللعمل بكل ذلك وجه صحيح، فأمّا الدعاء بالإشارة بالأصبع الواحدة، فكما قال ابن عباس أنه الإخلاص، والدعاء بسط اليدين، والابتهال رفعهما، وقد حدثنى محمد بن خالد بن خراش قال: حدثنى مسلم عن عمر بن نبهان، عن قتادة، عن أنس قال: (رأيت النبى (صلى الله عليه وسلم) يدعو بظهر كفيه وبباطنهما) . وجائز أن يكون ذلك كان من النبى لاختلاف أحوال الدعاء كما قال ابن عباس، وجائز أن يكون إعلامًا منه بسعة الأمر فى ذلك، وأن لهم فعل أى ذلك شاءوا فى حال دعائهم، غير أن أحبّ الأمر فى ذلك إلىّ أن يكون اختلاف هيئة الداعى على قدر اختلاف حاجته، وأما الاستعاذة والاستجارة، فأحب الهيئات إلى فيهما هيئة المبتهل؛ لأنها أشبه بهيئة المستخبر، وقد قال شهر بن حوشب: المسألة ببطن الكفين، والتعوذ مثل التكبير إذا افتتح الصلاة.(10/103)
فإن قال: فقد جعلت للداعى رفع يديه فى كل حال فما أنت قائل فيما روى يزيد بن زريع، حدثنا سعيد بن أبى عروبة، عن قتادة، أن أنس بن مالك حدثه: (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان لا يرفع يديه فى شىء من الدعاء إلا عند الاستسقاء، فأنه كان يرفعهما حتى يرى بياض إبطيه. قيل: قد روى ابن جريج، عن مقسم، عن ابن عباس، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (لا ترفع الأيدى إلا فى سبعة مواطن فى بدء الصلاة، وإذا رأيت البيت، وعلى الصفا والمروة، وعشية عرفة، وبجمع، وعند الجمرتين) . وهذا مخالف لحديث سعيد بن أبى عروبة عن قتادة، وقد ثبت عن النبى (صلى الله عليه وسلم) رفع الأيدى فى الدعاء مطلقًا من وجوه. منها: حديث أبى موسى وابن عمر وأنس من طرق أثبت من حديث سعيد بن أبى عروبة عن قتادة عن أنس، وذلك أن سعيد بن أبى عروبة كان قد تغير عقله وحاله فى آخر عمره، وقد خالفه شعبة قى روايته عن قتادة، عن أنس فقال فيه: (كان رسول الله يرفع يديه حتى يُرى بياض إبطيه) . ولا شك أن شعبة أثبت من سعيد بن أبى عروبة. وحدثنا ابن المثنى قال: حدثنا ابن أبى عدى عن جعفر بن ميمون صاحب الأنماط عن أبى عثمان، عن سلمان قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إن ربكم حيى كريم يستحى من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرًا) . فإن قيل: قد روى عن عطاء وجابر وطاوس ومجاهد أنهم كرهوا رفع الأيدى فى دبر الصلاة قائمًا. قيل: يمكن أن يكون ذلك إذا لم ينزل بالمسلمين نازلة يحتاجوا معها إلى الاستعانة إلى الله تعالى بالتضرع والاستكانة، فالقول كما قال عطاء وطاوس ومجاهد، وإن نزلت بهم نازلة احتاجوا معها إلى الاستعانة إلى الله بالتضرع والاستكانة لكشفها عنهم، فرفع الأيدى عند مالك حسن وجميل.(10/104)
- باب الدُّعَاءِ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةِ
(1) / 37 - فيه: أَنَس، بَيْنَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَامَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَسْقِيَنَا. . . الحديث. الدعاء حسن كيفما تيسر للمؤمنين على جميع أحوالهم، ألا ترى قوله تعالى: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ) [آل عمران: 191] فمدحهم الله تعالى ولم يشترط فى ذلك حالةً دون حالة، ولذلك دعا النبى (صلى الله عليه وسلم) فى خطبته يوم الجمعة وهو غير مستقبل القبلة.
- باب الدُّعَاءِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ
/ 38 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، خَرَجَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى هَذَا الْمُصَلَّى يَسْتَسْقِى، فَدَعَا وَاسْتَسْقَى، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَقَلَبَ رِدَاءَهُ. فإن قال قائل: ليس فى هذا الحديث الدعاء إلا قبل استقبال النبى (صلى الله عليه وسلم) القبلة لقوله: (فدعا ثم استقبل القبلة) فكيف ترجم له باب الدعاء مستقبل القبلة؟ قيل: إنما أشار البخارى إلى الحديث ليدل على المعنى المعروف منه، فقد جاء هذا الحديث فى كتاب الاستسقاء فى باب كيف حوّل النبى (صلى الله عليه وسلم) ظهره إلى الناس، وقال فيه: (واستقبل القبلة يدعو، ثم حول رداءه، ثم صلى ركعتين جهر فيهما) .(10/105)
- باب دَعْوَةِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) لِخَادِمِهِ بِطُولِ الْعُمُرِ وَكَثْرَةِ مَالِهِ
/ 39 - فيه: أَنَس، قَالَتْ أُمِّى للنَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) : خَادِمُكَ، ادْعُ اللَّهَ لَهُ، قَالَ: (اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ) . وترجم له بعد هذا باب الدعاء وكثرة المال مع البركة، وباب الدعاء بكثرة الولد مع البركة. فإن قال قائل: كيف ترجم البخارى فى هذا الحديث باب دعوة النبى (صلى الله عليه وسلم) لخادمه بطول العمر، وإنما فى الحديث (اللهم أكثر ماله وولده) . وليس فيه وطول عمره؟ قيل: يحتمل أن يكون ذلك من دليل الحديث من موضعين: أحدهما: أن دعوته (صلى الله عليه وسلم) له بكثرة الولد يدل على أن ذلك لا يكون إلا فى كثير من السنين، فدعاؤه له بكثرة الولد دعاء له بطول العمر، والثانى: قوله (صلى الله عليه وسلم) : (وبارك له فيما أعطيته) ، فالعمر مما أعطاه الله هذا الوجه للمهلب. فإن قيل: فما معنى دعائه له بطول العمر، وقد علم (صلى الله عليه وسلم) أن الآجال لا يزاد فيها ولا ينقص منها على ما كتب فى بطن أمّه؟ قيل: معنى ذلك والله أعلم أن الله تعالى يكتب أجل عبده إن أطاع الله واتقاه فيكون عمره مدة كذا، فإن لم يطع الله وعصاه كان أجله أقل منها. يدل على صحة ذلك قوله عز وجل فى قصة نوح حين قال لقومه: (اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى) [نوح: 3، 4] ، يريد أجلاً قد قضى به لكم إن أطعتم، فإن عصيتم لم يؤخركم إلى ذلك الأجل، وكل قد سبق فى علم الله مقدار أجله على ما يكون من فعله، قال ابن قتيبة: ومثله ما روي أن(10/106)
الصدقة تدفع القضاء المبرم، وأن الدعاء يدفع البلاء، وقد ثبت أنه لا راد لقضاء الله، ومعنى ذلك أن المرء قد يستحق بالذنوب قضاءً من العقوبة، فإن هو تصدّق دفع عن نفسه ما استحق من ذلك، يدل على ذلك قوله: (إن صدقة السر تطفئ غضب الرب) ألا ترى أن من غضبَ الله عليه قد تعرض لعقابه، فإذا زال ذلك الغضب بالصدقة زال العقاب، وكذلك الدعاء يرتفع إلى الله تعالى فيوافق البلاء نازلاً من السماء فيزيله ويصرفه، وكل ذلك قد جرى به القلم فى علم الله تعالى أنه إن تصدق أو دعا، صرف عنه غضب الله وبلاؤه، وفى هذا الحديث حجة لمن قال. الغنى أفضل من الفقر، وهى مسألة اختلف الناس فيها قديمًا، وسيأتى الكلام فيها فى موضعها فى كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى.
- باب الدُّعَاءِ عِنْدَ الْكَرْبِ
/ 40 - فيه: ابْن عَبَّاس، كَانَ النَّبِيُّ - عليه السلام - يَدْعُو عِنْدَ الْكَرْبِ: (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) . / 41 - وَقَالَ مرةً: (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) . قال المؤلف: وقد روى هذا الحديث عن النبي - عليه السلام - علي بن أبي(10/107)
طالب بزيادة واختلاف فى لفظه ذكر ابن أبى شيبة من حديث أبى إسحاق عن عبد الله بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن على قال: (قال لى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ألا أعلمك كلمات إذا قلتهن غفر الله لك مع أنه مغفور لك: لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله العلى العظيم، سبحان الله رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين) . قال الطبرى: وكان السلف يدعون بهذا الدعاء، قال أبو أيوب: كتب إليه أبو قلابة بدعاء الكرب، وأمره أن يعلمه ابنه. فإن قال قائل: فإن دعاء الكرب إنما هو تهليل وتعظيم لله، فما معنى قول ابن عباس كان النبى (صلى الله عليه وسلم) يدعو بدعاء الكرب وتسمية السلف له بذلك؟ قيل: يحتمل معنيين: أحدهما: أن يقدم هذا التهليل قبل الدعاء، ثم يدعو بعده بما أراد على ما روى حماد بن سلمة، عن يوسف بن عبد الله بن الحارث، عن أبى العالية، عن ابن عباس: (إن رسول الله كان إذا حزبه أمر قال: لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله ربّ السماوات السبع وربّ العرش الكريم، ثم يدعو) . ويبين هذا المعنى ما روى الأعمش عن النخعى قال: كان يقال: إذا بدأ الرجل بالثناء قبل الدعاء استجيب، وإذا بدأ بالدعاء قبل الثناء كان على الرجاء. وقد نبه على ذلك المعنى ابن مسعود فقال: إذا خشيتم من أمير ظلمًا فقولوا: اللهم ربّ السماوات السبع(10/108)
وربّ العرش العظيم كن لى جارًا من فلان وأشياعه من الجن والإنس وأن يفرطوا علىّ وأن يطغوا، عزّ جارك وجل ثناؤك ولا إله غيرك، فإنه لا يصل إليكم منه شىء تكرهونه. والمعنى الثانى: ما روى عن حسين المروزى قال: سألت ابن عيينة ما كان أكثر قول النبى (صلى الله عليه وسلم) بعرفة؟ فقال: لا إله إلا الله، سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر ولله الحمد، ثم قال لى سفيان: إنما هو ذكر وليس فيه دعاء ثم قال لى: أما علمت قول الله حيث يقول: إذا شغل عبدى ثناؤه علىّ عن مسألتى أعطيته أفضل ما أعطى السائلين؟ قلت: نعم، حدثتنى أنت وابن مهدى بذلك عن منصور ابن المعتمر، عن مالك بن الحارث، ثم قال سفيان: أما علمت قول أميّة بن أبى الصلت حين أتى ابن جدعان يطلبه نائلة وفضله؟ قلت: لا. قال: قال أمية: أأطلب حاجتى أم قد كفانى إذا أثنى عليك المرء يومًا غناؤك إن شيمتك الحياء كفاه من تعرضك الثناء قال سفيان: هذا مخلوق حين نسب إلى أن يكتفى بالثناء عليه دون مسألته، فكيف بالخالق؟ . قال المؤلف: وحدثنى أبو بكر الرازى قال: كنت بأصبهان عند الشيخ أبى نعيم أكتب عنه الحديث، وكان هناك شيخ آخر يعرف بأبى بكر بن على، وكان عليه مدار الفتيا، فحسده بعض أهل البلد فبغَّاه عند السلطان، فأمر بسجنه، وكان ذلك فى شهر رمضان، قال أبو(10/109)
بكر: فرأيت النبي - عليه السلام - فى المنام وجبريل عن يمينه يحرك شفتيه لا يفتر من التسبيح، فقال لى النبي - عليه السلام -: قل لأبى بكر بن على: يدعو بدعاء الكرب الذى فى صحيح البخارى حتى يفرج الله عنه، فأصبحت فأتيت إليه وأخبرته بالرؤيا، فدعا به فما بقى إلا قليلاً حتى أخرج من السجن. ففى هذه الرؤيا شهادة النبى (صلى الله عليه وسلم) لكتاب البخارى بالصحة بحضرة جبريل (صلى الله عليه وسلم) والشيطان لا يتصور بصورة النبى فى المنام.
- باب التَّعَوُّذِ مِنْ جَهْدِ الْبَلاءِ
/ 42 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، كَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَتَعَوَّذُ مِنْ جَهْدِ الْبَلاءِ، وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ الْقَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الأعْدَاءِ. قال المؤلف: كل ما أصاب الإنسان من شدّة المشقّة والجهد مما لا طاقة له بحمله ولا يقدر على دفعه عن نفسه فهو من جهد البلاء، وروى عن ابن عمر أنه سُئل عن جهد البلاء، فقال: قله المال وكثرة العيال. ودرك الشقاء ينقسم قسمين فيكون فى أمور الدنيا وفى أمور الآخرة، وكذلك سوء القضاء وهو عام أيضًا فى النفس والمال والأهل والخاتمة والمعاد. وشماتة الأعداء مما ينكأ القلب، ويبلغ من النفس أشد مبلغ، وهذه جوامع ينبغى للمؤمن التعوذ بالله منها كما تعوذ النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وإنما دعا بذلك (صلى الله عليه وسلم) معلمًا لأمته ما يتعوّذ بالله منه، فقد كان أمنه الله من كل سوء، وذكر عن أيوب صلى الله عليه أنه سئل عن أى حال بلائه كان أشدّ عليه؟ قال: شماتة الأعداء. أعاذنا الله من جميع ذلك بمنّه وفضله.(10/110)
- باب الدُّعَاءِ بِالْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ
/ 43 - فيه: خَبَّاب، أَنَّهُ اكْتَوَى سَبْعًا، قَالَ: لَوْلا أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالْمَوْتِ لَدَعَوْتُ بِهِ. / 44 - وفيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدٌكم الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لا بُدَّ مُتَمَنِّيًا لِلْمَوْتِ، فَلْيَقُلِ، اللَّهُمَّ أَحْيِنِى مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِى، وَتَوَفَّنِى إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِى) . معنى هذين الحديثين على الخصوص، وقد بين (صلى الله عليه وسلم) ذلك فى الحديث فقال: (لا يتمنين أحدكم الموت لضرّ نزل به) . فقد يكون له فى ذلك الضرّ خير لدينه ودنياه، إما تمحيص لذنوب سلفت له وطهور من سيئات، كما قال (صلى الله عليه وسلم) للشيخ الذى زاره فى مرضه وقد أصابته الحمىّ فقال (صلى الله عليه وسلم) : (لا بأس طهور إن شاء الله) . وقد يكون له فى المرض منافع، منها: أن يكون المرض سببًا إلى امتناعه من سيئات كان يعملها لو كان صحيحًا، أو بلاء يندفع عنه فى نفسه وماله، فالله أنظر لعبده المؤمن فينبغى له الرضا عن الله تعالى فى مرضه وصحته ولا يتهم قدره، ويعلم أنه أنظر له من نفسه، ولا يسأله الوفاة عند ضيق نفسه بمرضه أو تعذّر أمور دنياه عليه. وقد جاء وجه سؤال الموت فيه مباح، وهو خوف فتنة تكون سببًا لإتلاف الدين، فقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (وإذا أردت بقومٍ فتنةً فاقبضنى إليك غير مفتون) . وجه آخر وهو عند خوف المؤمن أن يضعف عن القيام بما قلده(10/111)
الله كما قال عمر: اللهم كبرت سنى وضعفت قوتى وانتشرت رعيتى فاقبضنى إليك غير مضيع ولا مفرط. فخشى عمر رضى الله عنه أن يطول عمره ويزيد ضعفه، ولا يقدر على القيام بما قلده الله وألزمه القيام به من أمور رعيته، وكان سنه حين دعا بذلك ستين سنةً أو نحوها، وكذلك فعل عمر بن عبد العزيز إذ سأل لنفسه الوفاة وسنّة فى الأربعين حرصًا على السلامة من التغيير، فهذان الوجهان مباح أن يسأل فيهما الموت، وقد تقدّم فى كتاب المرضى فى باب تمنى المريض الموت.
- باب الدُّعَاءِ لِلصِّبْيَانِ بِالْبَرَكَةِ وَمَسْحِ رُءُوسِهِمْ
وَقَالَ أَبُو مُوسَى: وُلِدَ لِى غُلامٌ فَدَعَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) له بِالْبَرَكَةِ. / 45 - وفيه: السَّائِب، ذَهَبَتْ بِى خَالَتِى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنَ أُخْتِى وَجِعٌ، فَمَسَحَ رَأْسِى، وَدَعَا لِى بِالْبَرَكَةِ. . . الحديث. / 46 - وفيه: أَبُو عُقَيْل، أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ بِهِ جَدُّهُ، عَبْدُاللَّهِ بْنُ هِشَامٍ، فَيَشْتَرِى الطَّعَامَ، فَيَلْقَاهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ عُمَرَ، فَيَقُولانِ له: أَشْرِكْنَا، فَإِنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَدْ دَعَا لَكَ بِالْبَرَكَةِ، فَيُشْرِكُهُمْ، فَرُبَّمَا أَصَابَ الرَّاحِلَةَ كَمَا هِىَ فَيَبْعَثُ بِهَا إِلَى الْمَنْزِلِ. / 47 - وفيه: مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَهُوَ الَّذِى مَجَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فِى وَجْهِهِ وَهُوَ غُلامٌ مِنْ بِئْرِهِمْ. / 48 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يُؤْتَى بِالصِّبْيَانِ، فَيَدْعُو لَهُمْ. فيه: الذهاب بالصبيان إلى الصالحين وسؤالهم الدعاء لهم بالبركة، ومسح رءوسهم تفاؤلاً لهم بذلك وتبركًا بدعائهم، وفي حديث(10/112)
محمود بن الربيع مداعبة الأئمة وأهل الفضل للصبيان، وأن ذلك من أخلاق الصالحين، وفى حديث أبى عقيل رغبة السلف الصالح فى الربح الحلال، وحرصهم على بركة التجارة، وأنهم كانوا يتحرّفون فى التجارات ويسعون فى طلب الرزق ليستغنوا بذلك عن الحاجة إلى الناس، ولا يكونوا عالةً ولا كلاً على غيرهم.
- باب الصَّلاةِ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم)
/ 49 - فيه: كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ، خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَلِمْنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ نُصَلِّى عَلَيْكَ؟ قَالَ: (قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) . / 50 - فيه: عَن أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ نحوه. اختلف العلماء فى الصلاة على النبى هل هى فرض أم لا؟ فذهب جمهور العلماء إلى أنها ليست بفرض فى الصلاة، وذكر ابن القصار عن ابن المواز أنها واجبة، قال: والمشهور عن أصحابنا أنها واجبة فى الجملة على الإنسان أن يأتى بالشهادتين مرةً فى دهره مع القدرة عليه، وشذّ الشافعي فزعم أن ذلك فرض فى الصلاة، واحتج بحديث كعب بن عجرة، رواه عن إبراهيم بن محمد عن سعيد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، وفى حديثه: (وذلك فى الصلاة) . قال الطحاوي: وكان من حجة من خالفه عليه أن إبراهيم بن محمد(10/113)
ليس ممن يحتج بحديثه، ولو ثبت حديثه هذا لم يكن فيه دليل أن ذلك فرض؛ لأنا قد وجدنا مثل ذلك عن النبى (صلى الله عليه وسلم) من آى القرآن ومن الأمر منه أن يجعل ذلك فى الصلاة، فلم يكن مراده ذلك الفرض، وهو حديث عقبة بن عامر عن النبى (صلى الله عليه وسلم) (أنه لما نزل: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [الواقعة: 74] ، قال: اجعلوها فى ركوعكم، ولما نزلت: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) [الأعلى: 1] قال: اجعلوها فى سجودكم، وكان من ترك التسبيح فى الركوع والسجود غير مفسد لصلاته، وكذلك روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه علمهم التشهد فى الصلاة، وليس منه الصلاة على النبى (صلى الله عليه وسلم) وقد تقدّم ذلك فى كتاب الصلاة فانتفى أن يكون على المصلى فرض غير ما علمه النبى (صلى الله عليه وسلم) ودل ذلك أن قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56] على الندب، لا على الفرض، ونحو هذا ذكر الطبرى، وقال: الصلاة على النبى (صلى الله عليه وسلم) ندب وفضل فى كل حال، وعلى هذا تأويل هذه الآية.
30 - باب هَلْ يُصَلَّى عَلَى غَيْرِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم)
وقوله تَعَالَى: (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) [التوبة: 103] / 50 - فيه: ابْن أَبِى أَوْفَى، قَالَ: كَانَ إِذَا جَاء رَجُلٌ بِصَدَقَتِهِ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ) ، فَأَتَاهُ أَبِى بِصَدَقَتِهِ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِى أَوْفَى) . / 52 - وفيه: أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِىُّ، أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نُصَلِّي(10/114)
عَلَيْكَ؟ قَالَ: (قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) . قال الضحاك: صلاة الله: رحمته، وصلاة الملائكة: الدعاء، والصلاة على غير النبى (صلى الله عليه وسلم) جائزة بدليل الكتاب والسنة، ألا ترى أنه (صلى الله عليه وسلم) كان يصلى على من أتاه بصدقته، وفى حديث أبى حميد أمر بالصّلاة على أزواجه وذريته وأزواجه من غير نسبة وهذا الباب رد لقول من أنكر الصلاة على غير النبى (صلى الله عليه وسلم) . وروى ابن أبى شيبة قال: حدثنا هشيم حدثنا عثمان بن حكيم، عن عكرمة عن ابن عباس قال: ما أعلم الصلاة تنبغى من أحد على أحد إلا على النبى (صلى الله عليه وسلم) والحجة فى السنة لا فيما خالفها.
31 - باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ آذَيْتُهُ، فَاجْعَلْهُ لَهُ زَكَاةً وَرَحْمَةً
/ 53 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (اللَّهُمَّ، فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ سَبَبْتُهُ، فَاجْعَلْ ذَلِكَ لَهُ قُرْبَةً إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . هذا الحديث يصدقه ما ذكره الله تعالى فى كتابه من صفة رسوله (صلى الله عليه وسلم) فى قوله: (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [التوبة: 128] وهو (صلى الله عليه وسلم) لا يسبّ أحدًا ولا يؤذيه ظلمًا له، وإنما يفعل من ذلك الواجب فى شريعته،(10/115)
وقد يدع الانتقام لنفسه، لما جبله الله عليه من العفو وكريم الخلق صلى الله عليه ومعنى هذا الحديث والله أعلم، التأنيس للمسبوب لئلا يستولى عليه الشيطان، ويقنطه ويوقع بنفسه أن سيلحقه من ضرر سبّه ما يحبط به عمله إذا سبّه (صلى الله عليه وسلم) هو دعاء على المسبوب، ودعاؤه مجاب، فسأل الله أن يجعل سبّه للمؤمنين قربة عنده يوم القيامة وصلاةً ورحمةً، ولا يجعله نقمةً ولا عذابًا.
32 - باب التَّعَوُّذِ مِنَ الْفِتَنِ
/ 54 - فيه:. أَنَس، سُئل النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) حَتَّى أَحْفَوْهُ بِالْمَسْأَلَةَ فَغَضِبَ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَقَالَ: (لا تَسْأَلُونِى الْيَوْمَ عَنْ شَىْءٍ إِلا بَيَّنْتُهُ لَكُمْ) ، فَإِذَا كُلُّ رَجُلٍ لافٌّ رَأْسَهُ فِى ثَوْبِهِ يَبْكِى، وَإِذَا رَجُلٌ كَانَ إِذَا لاحَى الرِّجَالَ، يُدْعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ، فَقَالَ: مَنْ أَبِى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: (حُذَافَةُ) . . . وذكر الحديث إلى قول عُمر: (نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ) . وقد تقدم فى كتاب الفتن.
33 - باب التَّعَوُّذِ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ
55 - فيه: أَنَس، كَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَالْهَرَمِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ)(10/116)
/.
34 - باب التَّعَوُّذِ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ
/ 56 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكَسَلِ وَالْهَرَمِ، وَالْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ النَّارِ، وَعَذَابِ النَّارِ وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْفَقْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ عَنِّى خَطَايَاىَ بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّ قَلْبِى مِنَ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وَبَاعِدْ بَيْنِى وَبَيْنَ خَطَايَاىَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) . وترجم له باب الاستعاذة من فتنة الغنى، وترجم له باب الاستعاذة من فتنة الفقر، وترجم لحديث أنس باب الاستعاذة من الجبن والكسل وفيه: اللهم إنى أعوذ بك من الهم والحزن والبخل، وضلع الدين وغلبة الرجال) . وترجم له باب التعوذ من البخل وفيه سعد عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : إنى أعوذ بك من البخل والجبن، وأعوذ بك من الرد إلى أرذل العمر) ، وترجم له ولحديث عائشة باب الاستعاذة من أرذل العمر، وترجم لحديث أنس باب التعوذ من أرذل العمر، وفيه: (أعوذ بك من الهرم) . قال المؤلف: جميع أبواب الاستعاذة التى ترجم بها تدل آثارها على أنه ينبغى سؤال الله والرغبة إليه فى كل ما ينزل بالمرء من حاجاته، وأن يعيّن كل ما يدعو فيه، ففى ذلك إطالةُ الرغبة إلى الله تعالى والتضرع إليه وذلك طاعة الله تعالى، وكان النبى (صلى الله عليه وسلم) يتعوذ بالله من كل ذلك ويعينه باسمه، وإن كان الله قد عصمه(10/117)
من كل شر، ليلزم نفسه خوف الله تعالى وإعظامه، وليسُنّ ذلك لأمته ويعلمهم كيف الاستعاذة من كل شىء، وقد روى ثابت البنانى عن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (ليسأل أحدكم ربه حاجاته كلها، حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع) . ليستشعر العبد الافتقار إلى ربه فى كل أمر وإن دق ولا يستحيى من سؤاله ذلك، فالتعوذ من فتنة المحيا والممات دعاء جامع لمعان كثيرة لا تُحصى وكذلك التعوذ من المأثم والمغرم، روى عن عائشة: (أن رجلاً قال للنبى (صلى الله عليه وسلم) ما أكثر ما تستعيذ من المأثم والمغرم. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : إن الرجل إذا غرم، حدث فكذب، ووعد فأخلف) . وضلع الدين: هو الذى لا يجد دينه من حيث يؤديه، وهو مأخوذ من قول العرب: حمل مضلع أى: ثقيل، ودابة مضلع: لا تقوى على الحمل، عن صاحب العين، فمن كان هكذا فلا محالة أنه يؤكد ذلك عليه الكذب فى حديثه، والخلف فى وعده. قال الطبرى: فإن قال قائل: فإذا قد صح تعوّذ النبى (صلى الله عليه وسلم) من المغرم، فما أنت قائل فى ما روى جعفر بن محمد عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إن الله مع الدائن حتى يقضى دينه، ما لم يكن فيما كره الله عز وجل) . وكان عبد الله بن جعفر يقول: اذهب فخذ لى بدين، فإنى أكره أن أبيت ليلة إلا والله معى بعد ما سمعت من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . قيل: كلا الخبرين صحيح، وليس فى أحدهما دفع(10/118)
للآخر فأما قوله - عليه السلام -: (إن الله مع الدائن حتى يقضى دينه ما لم يكن فيما يكره الله تعالى) . فهو المستدين الذى ينوى قضاء دينه، وعنده فى الأغلب ما يقضيه فالله تعالى فى عونه على قضائه، وأما المغرم الذى استعاذ منه (صلى الله عليه وسلم) ، فإنه الدين الذى استدين على أحد ثلاثة أوجه: إما فيما يكرهه الله ولا يجد سبيلاً إلى قضائه فحق الله تعالى أن يؤديه، ومستدين فيما لا يكرهه؛ ولكنه لا وجه عنده لقضائه إن طالب به صاحبه، فهو معرض لهلاك أموال الناس ومتلف لها، ومستدين له إلى القضاء سبيل؛ غير أنه نوى ترك القضاء وعزم على جحده، فهو عاص لربه وظالم لنفسه، فكل هؤلاء فى القضاء مخلفون وفى حديثهم كاذبون. فكان معلومًا بذلك أن الحال التى كره (صلى الله عليه وسلم) الدين فيها غير الحال التى ترخص لنفسه فيها، وذلك أنه (صلى الله عليه وسلم) مات ودرعه رهن عند يهودى بعشرين صاعًا من شعير، وأما فتنة الغنى فيخشى منها بطر المال وما يئول من عواقب الإسراف فى إنفاقه، وبذله فيما لا ينبغى، ومنع حقوق الله فيه، ففتنة الغنى متشعبة إلى ما لا يحصى عده، وكذلك فتنة الفقر يخشى منها قلة الصبر على الإقلال والتسخط له وتزيين الشيطان للمرء حال الغنى وما يئول من عاقبة ذلك لضعف البشرية، وكذلك الاستعاذة من العجز والكسل لأنهما يمنعان العبد من أداء حقوق الله وحقوق نفسه وأهله، وتضييع النظر فى أمر معاده وأمر دنياه، وقد أمر المؤمن بالاجتهاد فى العمل والإجمال فى الطلب ولا(10/119)
يكون عالةً ولا عيالاً على غيره ما متّع بصحة جوارحه وعقله، وكذلك الجبن مهانة فى النفس وذلة، ولا ينبغى للمؤمن أن يكون ذليلاً بالإيمان ولزوم طاعة الله التى تؤدى إلى النعيم المقيم، فينبغى للمؤمن أن يكثر التعوّذ من ذلك والهرم هو أرذل العمر الذى ينتهى بصاحبه إلى الخوف وذهاب العقل، فيعود العالم جاهلاً ويصير إلى حال من لا تمييز له، ولا يقدر على أداء ما يلزمه من حقوق الله وحاجة نفسه، ومثل هذا خشى عمر رضى الله عنه حين قال: اللهم كبرت سنى، وضعفت قوتى، وانتشرت رعيتى فاقبضنى إليك غير مفرط ولا مضيّع. وكان سنه حينئذ فيما قال مالك ستين سنةً، وقيل: خمس وخمسين. فخشى، رضى الله عنه، مزيد ضعفه فيضيع مما قلده الله شيئًا، ومن متّعه الله بصحة لم يزده طول العمر إلا خيرًا يستكثر من الحسنات ويستعتب من السيئات، وكذلك الهم والحزن لا ينبغى للمؤمن أن يكون مهمومًا بشىء من أمور الدنيا، فإن الله تعالى قد قدّر الأمور فأحكمها وقدّر الأرزاق، فلا يجلب الهم للعبد فى الدنيا خيرًا، ولا يأتيه بما لم يقدر له، وفى طول الهم قلة رضًا بقدر الله وسخطه على ربّه. وقد كان عمر بن عبد العزيز يقول: اللهم رضنى بالقضاء، وحّبب إلىّ القدر حتى لا أحب تقديم ما أخرت ولا تأخير ما قدّمت. ومن آمن بالقدر فلا ينبغى له أن يهتم على شىء فاته من الدنيا ولا يتهم، ربّه ففيما قضى له الخيرة، وإنما ينبغى للعبد الاهتمام بأمر الآخرة ويفكر فى معاده وعرضه على ربه، وكيف ينجو من سؤاله عن الفتيل والقطمير ولذلك قال (صلى الله عليه وسلم) : (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا) . فهاهنا يحسن الهم والبكاء.(10/120)
وغلبة الرجال أشد من الموت؛ لأن المغلوب يصير كالعبد لمن غلبه وقهره، وكذلك البخل استعاذ منه - عليه السلام - لقوله تعالى: (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر: 9] ، وقال - عليه السلام -: (وأى داء أدوى من البخل) . ومعنى ذلك أن البخيل يمنع حقوق الله، وحقوق الآدميين، ويمنع معروفه ورفده، ويسئ عشرة أهله وأقاربه. قال الطبرى: فإن قال قائل: قد دعا النبى (صلى الله عليه وسلم) بالمفصّلات والجوامع، وكان السلف يستحبون الدعاء إلى الله تعالى بالجوامع كنحو الرغبة فى العفو والعافية، والمعافاة فى الدنيا والآخرة اكتفاءً منهم بعلم الله بموضع حاجتهم ومبلغا. قيل: لكل نوع من ذلك حالة يختار العمل به فيها على الآخر فالجوامع تحتاج فى حال الحاجة إلى الإنجاز والاقتصاد، والمفصلات بالأسماء والصفات فى حالة الحاجة إلى إدامة الرغبة إلى من بيده مفاتيح خزائن السماوات والأرض استفتاحًا بذلك مغاليقها، وقد دعا (صلى الله عليه وسلم) بكل ذلك فى مواضعه.
35 - بَاب الدُّعَاءِ بِرَفْعِ الْوَبَاءِ وَالْوَجَعِ
/ 57 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحبنا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ) . / 58 - وفيه: سعد، عَادَنِى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ شَكْوَى أَشْفَيْتُ مِنْها عَلَى الْمَوْتِ. . . وذكر الحديث.(10/121)
لم يذكر فى حديث سعد فى هذا الباب دعاء النبى (صلى الله عليه وسلم) له برفع الوجع، وذكر فى كتاب المرضى، فى باب دعاء العائد للمريض وقال فيه: (اللهم اشف سعدًا) . وفى دعائه (صلى الله عليه وسلم) برفع الوباء والوجع رد على من زعم أن الولى لا يكره شيئًا مما قضى الله عليه، ولا يسأله كشفه عنه، ومن فعل ذلك لم تصح له ولاية الله، ولا خفاء بسقوط هذا لأنه قال: (اللهم حّبب إلينا المدينة وانقل حماها) . فدعا بنقل الحمى عن المدينة، ومن فيها، وهو (صلى الله عليه وسلم) داخل فى تلك الدعوة، ولا توكل أحد يبلغ توكله، فلا معنى لقولهم، وقد استقصيت هذا فى كتاب الحج.
36 - بَاب الدُّعَاءِ عِنْدَ الاسْتِخَارَةِ
/ 59 - فيه: جَابِر، كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يُعَلِّمُنَا الاسْتِخَارَةَ فِى الأمُورِ كُلِّهَا كما يعلمنا السُّورَةِ مِنَ الْقُرْآنِ، إِذَا هَمَّ بِالأمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأمْرَ خَيْرٌ لِى فِى دِينِى وَمَعَاشِى وَعَاقِبَةِ أَمْرِى، أَوْ قَالَ: فِى عَاجِلِ أَمْرِى وَآجِلِهِ، فَاقْدُرْهُ لِى، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأمْرَ شَرٌّ لِى فِى دِينِى وَمَعَاشِى وَعَاقِبَةِ أَمْرِى، أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِى وَآجِلِهِ، فَاصْرِفْهُ عَنِّى وَاصْرِفْنِى عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِىَ الْخَيْرَ وَرَضِّنِى بِهِ، وَيُسَمِّى حَاجَتَهُ) .(10/122)
فقه هذا الحديث أنه يجب على المؤمن رد الأمور كلها إلى الله، وصرف أزمتها والتبرؤ من الحول والقوة إليه، وينبغى له أن لا يروم شيئًا من دقيق الأمور وجليلها، حتى يستخير الله فيه ويسأله أن يحمله فيه على الخير ويصرف عنه الشر؛ إذعانًا بالافتقار إليه فى كل أمر والتزامًا لذلة العبودية له، وتبركًا باتباع سُنّة نبيّه (صلى الله عليه وسلم) فى الاستخارة، ولذلك كان النبى (صلى الله عليه وسلم) يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن لشدة حاجتهم إلى الاستخارة فى الحالات كلها كشدّة حاجتهم إلى القراءة فى كل الصلوات، وفى هذا الحديث حجة على القدرية الذين يزعمون أن الله تعالى لا يخلق الشر، تعالى الله عما يفترون، وقد أبان النبى (صلى الله عليه وسلم) فى هذا الحديث أن الله تعالى هو المالك للشر والخالق له؛ إذ هو المدعو لصرفه عن العبد، ومحال أن يسأله العبد أن يصرف عنه ما يملكه العبد من نفسه، وما يقدر على اختراعه دون تقدير الله عليه، وسيأتى فى كتاب القدر.
37 - بَاب الْوُضُوءِ عِنْدَ الدُّعَاءِ
/ 60 - فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ: (دَعَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ بِهِ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِى عَامِرٍ) ، وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَوْقَ كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِكَ مِنَ النَّاسِ) . قال المؤلف: فيه استعمال الوضوء عند الدعاء، وعند ذكر الله، وذلك من كمال أحوال الداعى والذاكر، ومما يرجى له به الإجابة لتعظيمه لله تعالى وتنزيهه له حين لم يذكره إلا على طهارة،(10/123)
ولهذا المعنى تيمّم النبي - عليه السلام - بالجدار عند بئر جمل حين سلم عليه الرجل، وكذلك ردّ السلام - عليه السلام - على حال تيمم، ولم يكن له سبيل إلى الوضوء بالماء، وعلى هذا مضى - عليه السلام - ومضى سلف الأمة، كانوا لا يفارقون حال الطهارة ما قدروا لكثرة ذكرهم لله تعالى وكثرة تنفلهم، وقد روى عن ابن عباس أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان يبول ويتيمم، فأقول: (إن الماء قريب، فيقول: لعلىّ لا أبلغه) . وفيه حجة لمن استحب رفع اليدين فى الدعاء.
38 - بَاب الدُّعَاءِ إِذَا عَلا عَقَبَةً
وقد تقدم فى كتاب الجهاد.
39 - باب الدُّعَاءِ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَوْ رَجَعَ منه
وقد تقدم أيضًا فى الجهاد.
40 - بَاب الدُّعَاءِ لِلْمُتَزَوِّجِ
وقد تقدم فى النكاح.
41 - بَاب مَا يَقُولُ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ؟
وقد تقدم فى كتاب الوضوء
42 - بَاب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (رَبَّنَا آتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً
/ 61 - فيه: أَنَس بن مالك، كَانَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) أَكْثَرُ مَا يدعو: (اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِى الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) .(10/124)
اختلف المفسرون فى تأويل هذه الآية، فقال الحسن: الحسنة فى الدنيا العلم والعبادة، وفى الآخرة الجنة. وقال قتادة: فى الدنيا عافية، وفى الآخرة عافية. وقيل: الحسنة فى الدنيا المال، وفى الآخرة الجنة، عن السدى.
43 - بَاب تَكْرِيرِ الدُّعَاءِ
/ 62 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) طُبَّ حَتَّى إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ صَنَعَ الشَّىْءَ، وَمَا صَنَعَهُ، فَدَعَا رَبَّهُ، ودَعَا. . . وذكر الحديث. تكرير الدعاء عند حال الحاجة إلى إدامة الرغبة لله تعالى فى المهمات والشدائد النازلة بالعبد، وفى تكرير العبد الدعاء إظهار لموضع الفقر والحاجة إلى الله والتذلل له والخضوع، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (إن الله يحب الملحّين فى الدعاء) ، وإن (الدعاء هو العبادة) ، و (من لم يدع غضب الله عليه) . وقد تقدم فى أول كتاب الدعاء، من حديث ابن عيينة: (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أوصى رجلاً، فقال: عليك بالدعاء، فإنك لا تدرى متى يستجاب لك) .
44 - بَاب الدُّعَاءِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: قَالَ النَّبِيُّ - عليه السلام -: (اللَّهُمَّ أَعِنِّى عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ) ، وَقَالَ: (اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ) .(10/125)
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: دَعَا النَّبِيُّ - عليه السلام - فِي الصَّلاةِ: (اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلانًا وَفُلانًا) ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَىْءٌ) [آل عمران: 128] . / 63 - فيه: ابْنَ أَبِى أَوْفَى، دَعَا النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى الأحْزَابِ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ الْحِسَابِ، اهْزِمِ الأحْزَابَ، اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ) . / 64 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، كَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا قَالَ: (سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فِى الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ مِنْ صَلاةِ الْعِشَاءِ قَنَتَ: اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِى يُوسُفَ) . / 65 - وفيه: أَنَس، بَعَثَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) سَرِيَّةً يُقَالُ لَهُمُ: الْقُرَّاءُ، فَأُصِيبُوا، فَمَا رَأَيْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) وَجَدَ عَلَى شَىْءٍ مَا وَجَدَ عَلَيْهِمْ، فَقَنَتَ شَهْرًا فِى صَلاةِ الْفَجْرِ، وَيَقُولُ: (إِنَّ عُصَيَّةَ عَصَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) . / 66 - وفيه: عَائِشَةَ، كَانَتْ الْيَهُودُ يُسَلِّمُونَ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُونَ: السَّامُ عَلَيْكَ، فَغضبت عَائِشَةُ، رضى الله عنها، فَقَالَتْ: عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَهْلا يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِى الأمْرِ كُلِّهِ) ، فَقَالَتْ: يَا نَبِىَّ اللَّهِ، أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا يَقُولُونَ؟ قَالَ: (أَوَلَمْ تَسْمَعِى أَنِّى أَرُدُّ ذَلِكِ عَلَيْهِمْ فَأَقُولُ: وَعَلَيْكُمْ) . / 67 - وفيه: عَلِىّ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ الْخَنْدَقِ: (مَلأ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا، كَمَا شَغَلُونَا عَنْ صَلاةِ الْوُسْطَى) . قال المؤلف: قد تقدم هذا فى كتاب الجهاد والاستسقاء، ونذكر هاهنا طرفًا من معناه، إنما كان (صلى الله عليه وسلم) يدعو على المشركين على حسب ذنوبهم وإجرامهم، فكان يبالغ فى الدعاء على من اشتدّ أذاه للمسلمين، ألا ترى(10/126)
أنه لما يئس من قومه قال: (اللهم أشدد وطأتك على مضر واجعلها كسنى يوسف) . وقال مرةً: (اللهم أعنّى عليهم بسبع كسبع يوسف) . ودعا على أبى جهل بالهلاك ودعا على الأحزاب بالهزيمة والزلزلة، فأجاب الله دعاءه فيهم، ودعا على الذين قتلوا القراء شهرًا فى القنوت، ودعا على أهل الأحزاب أن يحرقهم الله فى بيوتهم وقبورهم، فبالغ فى الدعاء عليهم لشدّة إجرامهم، ونهى عائشة عن الرد على اليهود باللعنة وأمرها بالرفق فى المقارضة لهم، والرد عليهم مثل قولهم ولم يبح لها الزيادة والتصريح، فيمكن أن يكون كان ذلك منه (صلى الله عليه وسلم) على وجه التألف لهم والطمع فى إسلامهم والله أعلم. وأما قوله فى حديث ابن عمر حين لعن النبى (صلى الله عليه وسلم) المنافقين فى الصلاة فأنزل الله عز وجل: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَىْءٌ) [آل عمران: 128] فذهب بعض أهل التأويل أن هذه الآية ناسخة للعن النبى (صلى الله عليه وسلم) المنافقين فى الصلاة والدعاء عليهم، وأنه عوض من ذلك القنوت فى الصبح، رواه ابن وهب وغيره. وأكثر العلماء على أن الآية ليست ناسخة ولا منسوخة، وأن الدعاء على المشركين بالهلاك وغيره جائز لدعاء النبى (صلى الله عليه وسلم) عليهم فى هذه الآثار المتواترة الثابتة.
45 - بَاب الدُّعَاءِ لِلْمُشْرِكِينَ
/ 68 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنّ طُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو قَدِمَ عَلَى النَّبِيّ - عليه السلام - فَقَالَ:(10/127)
يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ دَوْسًا قَدْ عَصَتْ وَأَبَتْ، فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهَا، فَظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُ يَدْعُو عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا، وَأْتِ بِهِمْ) . قد تقدّم هذا الباب فى كتاب الجهاد، ونبه البخارى على معناه فى الترجمة فقال: باب الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم، ومر هناك.
46 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ - عليه السلام -: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ
/ 69 - فيه: أَبُو مُوسَى، أن النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ: (رَبِّ اغْفِرْ لِى خَطِيئَتِى وَجَهْلِى وَإِسْرَافِى فِى أَمْرِى كُلِّهِ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّى، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى خَطَايَاىَ وَعَمْدِى وَجَهْلِى وَهَزْلِى، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِى، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى مَا قَدَّمْتُ، وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ، وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ) . قال الطبرى: إن قال قائل: ما وجه دعاء النبى (صلى الله عليه وسلم) الله أن يغفر له خطيئته وجهله وما تقدّم من ذنبه، وقد أعلمه الله تعالى أنه قد غفر له ذلك كله، فما وجه سؤاله ربه مغفرة ذنوبه، وهى مغفورة، وهل يجوز إن كان كذلك أن يسأل العبد ربه أن يجعله من بنى آدم، وهو منهم، وأن يجعل له يدين ورجلين وقد جعلهما له؟ فالجواب: أنه (صلى الله عليه وسلم) كان يسأل ربه فى صلاته حين اقترب أجله، وبعد أن أنزل عليه: (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) [النصر: 1] ناعيًا إليه نفسه فقال له: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) [النصر: 3] . وكان - عليه السلام - يقول:(10/128)
(إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم سبعين مرة) . فكان هذا من فعله فى آخر عمره وبعد فتح مكة، وقد قال الله تعالى له: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) [الفتح: 2] ، باستغفارك منه، فلم يسأل النبى (صلى الله عليه وسلم) أن يغفر له ذنبًا قد غفر له، وإنما غفر له ذنبًا وعده مغفرته له باستغفاره، ولذلك قال: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) [النصر: 3] . قال غير الطبرى: وقد اختلف العلماء فى الذنوب هل تجوز على الأنبياء؟ فذهب أكثر العلماء إلى أنه لا تجوز عليهم الكبائر لعصمتهم، وتجوز عليهم الصغائر. وذهبت المعتزلة إلى أنه لا تجوز عليهم الصغائر كما لا تجوز عليهم الكبائر، وتأولوا قوله تعالى: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) [الفتح: 2] ، فقالوا: إنما غفر له تعالى ما يقع منه من سهو وغفلةٍ، واجتهاد فى فعل خير لا يوافق به حقيقة ما عند ربه، فهذا هو الذى غفر له، وسمّاه: ذنبًا؛ لأن صفته صفة الذنب المنهى عنه، إلا أن ذلك تعمد، وهذا بغير قصد. هذا تأويل بعيد من الصواب، وذلك أنه لو كان السهو والغفلة ذنوبًا للأنبياء يجب عليهم الاستغفار منها؛ لكانوا أسوأ حالاً من سائر الناس غيرهم؛ لأنه قد وردت السنة المجمع عليها أنه لا يؤاخذ العباد بالخطأ والنسيان فلا يحتاجون إلى الاستغفار من ذلك، وما لم يوجب عليهم الاستغفار فلا يسمى عند العرب ذنبًا. فالنبى (صلى الله عليه وسلم) المخبر لنا بذلك عن ربه أولى بأن يدخل مع أمته فى معنى ذلك، ولا يلزمه حكم السهو والخطأ، وإنما يقع استغفاره (صلى الله عليه وسلم) كفارة(10/129)
للصغائر الجائزة عليه، وهى التى سأل الله غفرانها له بقوله: (اغفر لى ما قدمت وما أخرت) . وسأذكر هذه المسالة فى حديث الشفاعة فى باب قوله تعالى: (لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ) [ص: 75] فى كتاب الاعتصام إن شاء الله تعالى؛ لأن الحديث يقتضى ذلك. وفيها قول آخر يحتمل والله أعلم، أن يكون دعاؤه (صلى الله عليه وسلم) ليغفر الله له ذنبه على وجه ملازمة الخضوع لله تعالى، واستصحاب حال العبودية والاعتراف بالتقصير شكرًا لما أولاه ربه تعالى مما لا سبيل له إلى مكافأة بعمل، فكما كان يصلى (صلى الله عليه وسلم) حتى ترم قدماه، فيقال له: قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فيقول: (أفلا أكون عبدًا شكورًا) . فكان اجتهاده فى الدعاء، والاعتراف بالذلل والتقصير، والأعواز والافتقار إلى الله تعالى شكرًا لربه، كما كان اجتهاده في الصلاة حتى ترم قدماه شكرًا لربه، إذ الدعاء لله تعالى من أعظم العبادة له، وليسُنّ ذلك لأمته (صلى الله عليه وسلم) فيستشعروا الخوف والحذر ولا يركنوا إلى الأمن، وإن كثرت أعمالهم وعبادتهم لله تعالى، وقد رأيت المحاسبى أشار إلى هذا المعنى، فقال: خوف الملائكة والأنبياء لله تعالى هو خوف إعظام لأنهم آمنون فى أنفسهم بأمان الله لهم، فخوفهم تعبد لله إجلالاً وإعظامًا.
47 - بَاب الدُّعَاءِ فِى السَّاعَةِ الَّتِى فِى يَوْمِ الْجُمُعَةِ
قد تقدم فى كتاب الصلاة.(10/130)
48 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ - عليه السلام -: (يُسْتَجَابُ لَنَا فِى الْيَهُودِ، وَلا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِينَا
/ 70 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ الْيَهُودَ أَتَوُا النَّبِيَّ - عليه السلام - فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ، قَالَ: (وَعَلَيْكُمْ) ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: السَّامُ عَلَيْكُمْ، وَلَعَنَكُمُ اللَّهُ، وَغَضِبَ عَلَيْكُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَهْلا يَا عَائِشَةُ، عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ، أَوِ الْفُحْشَ) ، قَالَتْ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: (أَوَلَمْ تَسْمَعِى مَا قُلْتُ، رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ، فَيُسْتَجَابُ لِى فِيهِمْ، وَلا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِىَّ) . قال المؤلف: معنى هذا الحديث، والله أعلم، أنه (صلى الله عليه وسلم) إنما يستجاب له فى اليهود؛ لأنهم على غير طريق الحق وضالين عن الهدى، ومعاندين فى التمادى على كفرهم بعدما تبين لهم الحق بالآيات الباهرات، فلذلك يستجاب له فيهم، ولهذا المعنى لم يستجب لهم فى النبى (صلى الله عليه وسلم) لأنهم ظالمون فى دعائهم عليه، قال تعالى: (وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلاَلٍ) [الرعد: 14] ، وهذا أصل فى دعاء الظالم أنه لا يستجاب فيمن دعا عليه، وإنما يرتفع إلى الله تعالى من الدعاء ما وافق الحق وسبيل الصدّق.
49 - بَاب فَضْلِ التَّهْلِيلِ
/ 71 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ فِى يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِىَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ إِلا رَجُلٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْهُ) .(10/131)
قال المؤلف: روى جابر بن عبد الله عن النبي - عليه السلام - أنه قال: (أفضل الذكر التهليل لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله) وقال - عليه السلام -: (أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلى: لا إله إلا الله) . وقد قيل: إنه اسم الله الأعظم، وذكر الطبرى من حديث سعيد بن أبى عروبة، عن عبد الله بن باباه المكى، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: (إن الرجل إذا قال: لا إله إلا الله فهى كلمة الإخلاص التى لا يقبل الله عملاً حتى يقولها، فإذا قال: الحمد لله، فهى كلمة الشكر التى لم يشكر الله أحد حتى يقولها) . وروى عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: (من قال لا إله إلا الله، فليقل على إثرها: الحمد لله رب العالمين) . وقد روى سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أول من يدخل الجنة الحمادون، الذين يحمدون الله فى السراء والضراء) وقال (صلى الله عليه وسلم) : (من قال: أشهدك أن ما أصبح بى من نعمة فمنك وحدك، لا شريك لك، لك الحمد والشكر، فقد أدى شكر ذلك اليوم) وكان (صلى الله عليه وسلم) إذا أتاه أمر يكرهه قال: (الحمد لله على كل حال، وإذا رأى أمرًا يسره قال: الحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات) .
50 - بَاب فَضْلِ التَّسْبِيحِ
/ 72 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فِى يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، حُطَّتْ خَطَايَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ) . / 73 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيّ - عليه السلام -: (كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ،(10/132)
ثَقِيلَتَانِ فِى الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ) . معنى قولهم فى لغة العرب سبحان الله تنزيه الله من الأولاد والصاحبة والشركاء. وقال وهب بن منبه: ما من عبد يقول سبحان الله وبحمده، إلا قال الله تعالى: (صدق عبدى سبحانى وبحمدى، فإن سأل أعطى ما سأل، وإن سكت غفر له ما لا يحصى) . وروى عن النبي - عليه السلام - أنه قال: (صلاة الملائكة التسبيح، فأهل السماء الدنيا سجود إلى يوم القيامة يقولون: سبحان ذى الملك والملكوت، وأهل السماء الثانية قيام إلى يوم القيامة يقولون: سبحان ذي العزة والجبروت، وأهل السماء الثالثة قيام إلى يوم القيامة يقولون: سبحان الحى الذى لا يموت) . وروى الليث، عن ابن عجلان قال: جئت إلى القعقاع بن حكيم فى السحر أسأله فلم يجبنى، فلمّا فرغ قال: هذه الساعة يوكل الله الملائكة بالناس يقولون سبحان الملك القدوس. وروى عن ابن عباس قى قوله تعالى: (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ) [الكهف: 46] سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وهو قول سعيد بن المسيّب ومجاهد. فإن قيل: هل ينوب شىء عن تكرار التسبيح والتحميد؟ قيل: قد روى عن صفية قالت: (مرّ بى النبى (صلى الله عليه وسلم) وأنا أسبح بأربعة آلاف(10/133)
نواة، فقال: لقد قلت كلمة هى أفضل من تسبيحك. قلت: وما قلت؟ قال: قلت: سبحان الله عدد ما خلق) . وعن كريب عن ابن عباس: (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) مرّ على جويرية فى مصلاها باكرًا تسبح وتذكر الله، فمضى لحاجته، فرجع إليها بعد ما ارتفع النهار، فقال لها: ما زلت فى مكانك هذا؟ قالت: نعم. فقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : لقد تكلمت بكلمات لو وزنت بما قلت لرجحت، سبحان الله عدد ما خلق، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته، والحمد لله مثل ذلك) . وقال بعض الناس: هذه الفضائل التى جاءت عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (من قال سبحان الله وبحمده مائة مرة غفر له. . .) وما شاكلها إنما هى لأهل الشرف فى الدين والكمال والطهارة من الجرائم العظام، ولا يظن أن من فعل هذا وأصرّ على ما شاء من شهواته وانتهك دين الله وحرماته أنه يلحق بالسابقين المطهرين، وينال منزلتهم فى ذلك بحكاية أحرف ليس معها تقى ولا إخلاص، ولا عمل، ما أظلمه لنفسه من يتأول دين الله على هواه.
51 - بَاب فَضْلِ ذِكْرِ اللَّهِ
/ 74 - فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَثَلُ الَّذِى يَذْكُرُ رَبَّهُ، وَالَّذِى لا يَذْكُرُ رَبَّهُ، مَثَلُ الْحَىِّ وَالْمَيِّتِ) . / 75 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيّ - عليه السلام -: (إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى مَلائِكَةً يَطُوفُونَ فِى الطُّرُقِ، يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ، تَنَادَوْا هَلُمُّوا إِلَى(10/134)
حَاجَتِكُمْ، قَالَ: فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، قَالَ: فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ، وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ: مَا يَقُولُ عِبَادِى؟ قَالُوا: يَقُولُونَ: يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ، قَالَ: فَيَقُولُ: هَلْ رَأَوْنِي؟ قَالَ: فَيَقُولُونَ: لا، وَاللَّهِ مَا رَأَوْكَ، قَالَ: فَيَقُولُ: وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً، وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا وَتَحْمِيدًا، وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا، قَالَ: يَقُولُ فَمَا يَسْأَلُونِي؟ قَالَ: يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ، قَالَ: يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لا، وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا، قَالَ: يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا، وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا، وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً، قَالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟ قَالَ: يَقُولُونَ: مِنَ النَّارِ: قَالَ: يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لا، وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا، قَالَ: يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا، وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً، قَالَ: فَيَقُولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّى قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ قَالَ: يَقُولُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلائِكَةِ فِيهِمْ: فُلانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ، إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ، قَالَ: هُمُ الْجُلَسَاءُ لا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ) . قال المؤلف: هذا حديث شريف فى فضل ذكر الله، عز وجل، وتسبيحه وتهليله، وقد وردت فى ذلك أخبار كثيرة منها ما روى زيد بن أسلم: سمعت عبد الله بن عمر قال: قلت لأبى ذرّ: يا عمّ، أوصنى. قال: سألت رسول الله كما سألتنى، فقال: (ما من يوم وليلة إلا ولله فيه صدقة يمنّ بها على من يشاء من عباده، وما مَنّ الله على عباده بمثل أن يلهمهم ذكره) . وروى شعبة وسفيان عن أبى إسحاق عن أبى مسلم الأغر أنه شهد على أبى هريرة وأبى سعيد، أنهما شهدا على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال:(10/135)
(ما من قوم يذكرون الله إلا حفّت بهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده) . وقال معاذ: ليس شىء أنجى من عذاب الله من ذكر الله. وقال ابن عباس، يرفع الحديث: (من عجز منكم عن الليل أن يكابده، وبخل بالمال أن ينفقه، وجبن عن العدو أن يجاهده، فليكثر من ذكر الله) . وروى أبو سلمة عن أبى هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (سيروا، سبق المستهترون. قيل: ومن هم يا رسول الله؟ قال: الذين أُهتروا واستهتروا بذكر الله، يضع الذكر عنهم أثقالهم، ويأتون يوم القيامة خفافًا) . وروى أبو هريرة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (ما جلس قوم مجلسًا لم يذكروا الله فيه، ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترة) . وعن جابر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (ارتعوا فى رياض الجنة. قالوا: يا رسول الله، وما رياضُ الجنّة؟ قال: مجالس الذكر، واغدوا وروحوا فى ذكر الله، واذكروهُ فى أنفسكم، من أحبّ أن يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده، فإن الله ينزل العبد من نفسه حيث أنزله من نفسه) . وروى الأعمش عن سالم بن أبى الجعد قال: قيل لأبى الدرداء: إن رجلاً أعتق مائة نسمةً قال: إن ذلك من مال رجل لكثير، وأفضل من ذلك إيمان ملزوم بالليل والنهار، ولا يزال لسان أحدكم رطبًا من ذكر الله.(10/136)
وعن ابن عباس قال: (سأل موسى صلوات الله عليه ربه تعالى فقال: ربّ، أى عبادك أحبّ إليك؟ قال: الذى يذكرنى ولا ينسانى) . ثم قال ابن عباس: ما جلس قوم فى بيت من بيوت الله، يذكرون الله، إلا كانوا أضيافًا لله عز وجل ما داموا فيه حتى يتصدعوا عنه، وأظلتهم الملائكة بأجنحتها ما داموا فيه. ذكر هذه الآثار كلها الطبرى فى آداب النفوس، قال المؤلف: وفقه هذا الباب أنّ معنى أمر الله تعالى العبد بذكره وترغيبه فيه؛ ليكون ذلك سببًا لمغفرته تعالى له ورحمته إياه، لقوله تعالى: (فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ) [البقرة: 152] وذكر الله للعبد رحمه له، قال ثابت البنانى: قال أبو عثمان النهدى: إنى لأعلم الساعة التى يذكرنا الله تعالى فيها. قيل: ومن أين تعلمتها؟ قال: يقول الله: (فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ) [البقرة: 152] . وقال السدى: ليس من عبد يذكر الله إلا ذكره الله، لا يذكره مؤمن إلا ذكره الله برحمته، ولا يذكره كافر إلا ذكره الله بعذاب. وروى معناه عن ابن عباس وقيل: المعنى: اذكروا نعمتى عليكم شكرًا لها، أذكركم برحمتى والزيادة من النعم. وروى عن عمر بن الخطاب: إن الذكر ذكران: أحدهما: ذكر الله عند أوامره ونواهيه، والثانى: ذكر الله باللسان، وكلاهما فيه الأجر، إلا أن ذكر الله تعالى عند أوامره ونواهيه إذا فعل الذاكر ما أمر به، وانتهى عما نُهى عنه؛ أفضل من ذكره باللسان مع مخالفة أمره ونهيه، والفضل كله والشرف والأجر فى اجتماعهما من الإنسان، وهو ألا ينسى ذكر الله عند أمره ونهيه فينتهى، ولا ينساه من ذكره بلسانه، وسأذكر فى كتاب الرقاق فى باب من همّ بحسنة أو سيئة،(10/137)
هل يكتب الحفظة الذكر بالقلب؟ وما للسلف فى ذلك إن شاء الله تعالى. وذكر البخارى فى كتاب الاعتصام فى باب قوله تعالى: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) [آل عمران: 28] حديث أبى هريرة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (إذا ذكرنى عبدى فى نفسه ذكرته فى نفسى، وإذا ذكرنى فى ملأ ذكرته فى ملأ خير منهم. . .) الحديث. قال الطبرى: ومن جسيم ما يُرجى به للعبد الوصول إلى رضا ربه ذكره إياه بقلبه، فإن ذلك من شريف أعماله عنده؛ لحديث أبى هريرة. فإن قيل: فهل من أحوال العبد حال يجب عليه فيها ذكر الله فرضًا بقلبه؟ قيل: نعم هى أحوال أداء فرائضه، من صلاة، وصيام، وزكاة، وحج، وسائر الفرائض، فإن على كل من لزمه عمل شىء من ذلك أن يكون عند دخوله فى كل ما كان من ذلك له تطاول بابتداء بأوّل وانقضاء بآخر أن يتوجّه إلى الله تعالى بعمله، ويذكره فى حال ابتدائه فيه، وما لم يكن له تطاول منه، فعليه توجهه إلى الله بقلبه فى حال عمله وذكره، ما كان مشتغلاً به، وما كان نفلاً وتطوعًا فإنه وإن لم يكن فرضًا عليه فلا ينتفع به عامله إن لم يرد به وجه الله، ولا ذكره عند ابتدائه فيه.
52 - بَاب قَوْلِ الرجل: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ
/ 76 - فيه: أَبُو مُوسَى، أَخَذَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فِى عَقَبَةٍ، أَوْ قَالَ: فِى ثَنِيَّةٍ، قَالَ: فَلَمَّا عَلا عَلَيْهَا رَجُلٌ نَادَى، فَرَفَعَ صَوْتَهُ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، قَالَ: وَالنَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى بَغْلَتِهِ، فَقَالَ: (فَإِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائِبًا، ثُمَّ قَالَ يَا أَبَا مُوسَى، أَوْ يَا عَبْدَاللَّهِ، أَلا أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ مِنْ كَنْزِ الْجَنَّةِ؟ قُلْتُ: يَلَى قَالَ: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ) .(10/138)
قال الطبري: إن قال قائل: أى أنواع الذكر أفضل؛ فإن ذلك أنواع كثيرة، منها التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير؟ قيل: أعلى ذلك وأشرفه الكلمة التى لا يصح لأحدٍ عمل إلا بها، ولا إيمان إلا بالإقرار بها، وذلك التهليل، وهو لا إله إلا الله، على ما تقدّم فى حديث جابر فى باب فضل التهليل، روى أبو هريرة عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (الإيمان بضع وستون خصلة، أكبرها شهادة أن لا إله إلا الله وأصغرها إماطة الأذى عن الطريق) . وقال (صلى الله عليه وسلم) : (أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلى: لا إله إلا الله) . فإن قيل: ما معنى قول النبى (صلى الله عليه وسلم) للذى رفع صوته بلا إله إلا الله، ألا أدلك على كنز الجنة فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا إله إلا الله تغنى عن غيرها، وهى المنجية من النار؟ فالجواب: أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان معلمًا لأمته، وكان لا يراهم على حالة من الخير، إلا أحبّ لهم الزيادة عليها فأحب للذى رفع صوته بكلمة الإخلاص والتوحيد أن يردفها بالتبرؤ من الحول والقوة لله تعالى وإلقاء القدرة إليه، فيكون قد جمع مع التوحيد الإيمان بالقدر. وقد جاء نحو هذا المعنى فى حديث عبد الله بن باباه المكى، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: إن الرجل إذا قال: لا إله إلا الله، فهى كلمة الإخلاص التى لا يقبل الله من أحدٍ عملاً حتى يقولها، فإذا قال: الحمد لله، فهى كلمة الشكر التى لم يشكر الله أحد حتى يقولها، فإذا قال: الله أكبر فهى كلمة تملأ ما بين السماء والأرض، فإذا قال: سبحان الله فهى صلاة الخلائق التي لم يدع الله(10/139)
أحدًا حتى قرره بالصلاة والتسبيح، وإذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. قال: استسلم عبدى. وروى عن سالم بن عبد الله، عن أبى أيوب الأنصارى: (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) ليلة أسرى به مَرّ على إبراهيم خليل الله، فقال له: مُر أمتك فليكثروا من غراس الجنة، فإن تربتها طيبة وأرضها واسعة. قال له النبى (صلى الله عليه وسلم) : وما غراس الجنة؟ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله) . ومن حديث جابر عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (أكثروا من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها تدفع تسعًا وتسعين داءً أدناها الهم) . وقال مكحول: من قالها كشف عنه سبعون بابًا من الضر، أدناها الفقر. ومعنى لا حول ولا قوة إلا بالله: لا حول عن معاصى الله إلا بعصمة الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بالله، قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (كذلك أخبرنى جبريل عن الله تعالى) . وروى عن علىّ بن أبى طالب تفسير آخر قال تفسيرها: إنا لا نملك مع الله شيئًا، ولا نملك من دونه شيئًا، ولا نملك إلا ما ملكنا مما هو أملك به منا. وحكى أهل اللغة أن معنى لا حول: لا حيلة، يقال: ما للرجل حيلة ولا قوة ولا احتيال ولا محتال ولا محالة ولا محال، وقوله: (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ) [الرعد: 13] ، يعنى المكر والقوة والشدّة.
53 - بَاب لِلَّهِ مِائَةُ اسْمٍ غَيْرَ وَاحِدٍ
/ 77 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ رِوَايَةً، قَالَ: (لِلَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا مِائَةٌ إِلا وَاحِدًا، لا يَحْفَظُهَا أَحَدٌ إِلا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَهُوَ وَتْرٌ يُحِبُّ الْوَتْرَ) .(10/140)
قال المهلب: اختلف الناس فى الاستدلال من هذا الحديث، فذهب قوم إلى أن ظاهره يقتضى أن لا اسم لله تعالى غير التسعة والتسعين اسمًا التى نص عليها النبى (صلى الله عليه وسلم) إذ لو كان له غيرها لم يكن لتخصيص هذه العدة معنى، قالوا: والشريعة متناهية والحكمة فيها بالغة، وذهب آخرون إلى أنه يجوز أن تكون له أسماء زائدة على التسعة والتسعين، إذا لا يجوز أن تتناهى أسماء الله تعالى، لأن مدائحه وفواضله غير متناهية كما قال تعالى فى كلماته وحكمه: (وَلَوْ أَنَّمَا فِى الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ) [لقمان: 27] . ومعنى ما أخبرنا به النبى من التسعة وتسعين اسمًا إنما هو معنى الشرع لنا فى الدعاء بها، وغيرها من الأسماء لم يشرع لنا الدعاء بها؛ لأن حديث النبى (صلى الله عليه وسلم) مبنى على قوله تعالى: (وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) [الأعراف: 180] ، فكان ذكر هذا العدد إنما هو لشرع الدعاء به، وهذا القول أميلُ إلى النفوس؛ لإجماع الأمة على أن الله تعالى لا يبلغ كنهه الواصفون ولا ينتهى إلى صفاته المقرظون دليل لازم أن له أسماء غير هذه وصفات، وإلا فقد تناهت صفاته تعالى عن ذلك، وهذا قول أبى الحسن الأشعرى، وابن الطيب وجماعة من أهل العلم. قال ابن الطيب: وليس فى الحديث دليل على أن ليس لله تعالى أكثر من تسعة وتسعين اسمًا، لكن ظاهر الحديث يقتضى من أحصى تلك التسعة وتسعين اسمًا على وجه التعظيم لله دخل الجنة، وإن كان له أسماء أخر. وقال أبو الحسن بن القابسى، رحمه الله: أسماء الله وصفاته لا تعلم إلا بالتوقيف، والتوقيف كتاب الله تعالى وسنة(10/141)
نبيه - عليه السلام - أو اتفاق أمته، وليس للقياس فى ذلك مدخل، وما أجمعت عليه الأمة، فإنما هو عن سمع علموه من بيان الرسول. قال: ولم يذكر فى كتاب الله لأسمائه تعالى عدد مسمّى، وقد جاء حديث أبى هريرة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) (إن لله تسعة وتسعين اسمًا) . وقد أخرج بعض الناس من كتاب الله تعالى تسعةً وتسعين اسمًا، والله أعلم بما خرج من هذا العدد إن كان كل ذلك أسماء، أو بعضها أسماء وبعضها صفات، ولا يسلم له ما نقله من ذلك. وقال الداودى: لم يثبت عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه نص على التسعة والتسعين اسمًا. قال ابن القابسى: وقد روى مالك، عن سمى، عن القعقاع بن حكيم أن كعب الأحبار أخبره: لولا كلمات أقولهن لجعلتنى يهود حمارًا. فقيل له: ما هن؟ فقال: أعوذ بوجه الله العظيم الذى ليس شىء أعظم منه، وبكلمات الله التامات التى لا يجاوزهن بر ولا فاجر، وبأسماء الله الحسنى كلها ما علمت منها وما لم أعلم؛ من شر ما خلق وذرأ وبرأ. فهذا كعب على علمه واتساعه لم يتعاط أن يحصر معرفة الأسماء فى مثل ما حصرها هذا الذى زعم أنه عرفها من القرآن، والدعاء فى هذا بدعاء كعب أولى وأسلم من التكلف، وسمعت أبا إسحاق الشيبانى يدعو بذلك كثيرًا، وسيأتى تفسير الإحصاء، والمراد بهذا الحديث فى كتاب الاعتصام فى باب قول النبى (صلى الله عليه وسلم) باسم الله الأعظم، فمنها ما رواه وكيع، عن مالك بن مغول، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه: (أن رسول الله سمع رجلاً يقول: اللهم إنى أسألك بأنى أشهد أنك لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد. فقال: لقد دعا باسم الله الأعظم الذى إذا دُعى به أجاب، وإذا سئل به أعطى) .(10/142)
ومنها حديث شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد عن النبي - عليه السلام - قال: (اسم الله الأعظم فى هاتين الآيتين: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ () [البقرة: 163] . ومنها ما رواه على بن زيد بن جدعان، عن سعيد بن المسيب قال: سمعت سعد بن مالك يقول: سمعت النبى (صلى الله عليه وسلم) يقول: (اسم الله الذى إذا سئل به أعطى وإذا دعى به أجاب دعوة يونس بن متى، ألم تسمع قوله: (فَنَادَى فِى الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِى الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء: 87، 88] ، فهو شرط الله لمن دعا بها) . قال الطبرى: قد اختلف من قبلنا فى ذلك، فقال بعضهم فى ذلك ما قال قتادة: اسم الله الأعظم: اللهم إنى أعوذ بأسمائك الحسنى كلها ما علمت منها وما لم أعلم، وأعوذ بأسمائك التى إذا دعيت بها أجبت، وإذا سئلت بها أعطيت. وقال آخرون: اسم الله الأعظم: هو الله، ألم تسمع قوله: (هُوَ اللَّهُ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) [الحشر: 22، 23] إلى آخر السورة. وقال آخرون بأقوال مختلفة لروايات رووها عن العلماء قال الطبرى: والصواب فى كل ما روينا فى ذلك عن النبى (صلى الله عليه وسلم) وعن السلف أنه صحيح. فإن قيل: وكيف يكون ذلك صحيحًا مع اختلاف ألفاظ ومعانيه؟ فالجواب: أنه لم يرو عن أحد منهم أنه قال فى شىء من ذلك قد دعا باسمه الأعظم الذى لا اسم له أعظم منه فيكون ذلك من روايتهم اختلافًا، وأسماء الله تعالى كلها عندنا عظيمة جليلة، ليس منها صغير وليس منها اسم أعظم من اسم، ومعنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : لقد دعا باسمه الأعظم؛ لقد دعا باسمه العظيم، كما قال(10/143)
تعالى: (وَهُوَ الَّذِى يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم: 27] بمعنى وهو هين عليه، وكما قال ابن أوس: لعمرك ما أدرى وإنى لأَوْجَل بمعنى إنى لوجِل، ويبين صحة ما قلناه حديث حفص ابن أخى أنس بن مالك، عن أنس، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (لقد دعا باسمه العظيم الذى إذا دعى به أجاب) . فقال: باسمه العظيم، إذ كان معنى ذلك ومعنى الأعظم واحدًا. وقال أبو الحسن بن القابسى: لا يجوز أن يقال فى أسماء الله وصفاته ما يُشبه المخلوقات، ولو كان فى أسماء الله اسمًا أعظم من اسم لكان غيره ومنفصلاً منه، والاسم هو المسمى على قول أهل السنة فلا يجوز أن يكون الاسمان متغايرين، ومن جعل اسمًا أعظم من اسم صار إلى قول من يقول: القرآن مخلوق. قال الطبرى: فإن قيل: فلو كان كما وصفت كل اسم من أسماء الله عظيمًا، لا شىء منها أعظم من شىء، لكان كل من دعا باسم من أسمائه مجابًا دعاؤه كما استجيب دعاء صاحب سليمان (صلى الله عليه وسلم) الذى أتاه بعرش بلقيس من مسيرة شهر قبل أن يرتدّ إلى سليمان طرفه؛ لأنه كان عنده علم من اسم الله الأعظم، وكذلك عيسى، صلوات الله عليه، به كان يحيى الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص وقد يدعو أحدنا الدهر الطويل بأسمائه فلا يستجاب له، فدل أن الأمر بخلاف ذلك. قيل: بل الأمر فى ذلك كما قلناه، ولكن أحوال الداعين تختلف، فمن داعٍ ربه تعالى لا ترد دعوته، ومن داعٍ محله محل من غضب الله عليه وعرضه للبلاء والفتنة فلا يرد كثيرًا من دعائه ليبتليه به ويبتلي به(10/144)
غيره، ومن داعٍ يوافق دعاؤه محتوم قضائه ومبرم قدره، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (ما من مسلم يدعو إلا استجيب له ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، إما أن يعجل له فى الدنيا، وإما أن يدخر له فى الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء بقدر ما دعا) . ويبين ما قلناه أنا وجدنا أنه يدعو بالذى دعا به الذين عجلت لهم الإجابة فلا يجاب له، فدل إن الذى أوجب الإجابة لمن أُجيب، وترك الاستجابة لمن لم يستجب له اختلاف حال الداعين، لا الدعاء باسم من أسماء الله بعينه. وقد وقع فى هذا الحديث من رواية سفيان عن أبى الزناد: (مائة إلا واحدة) . ولا يجوز فى العربية، وقد جاء هذا الحديث فى كتاب الاعتصام: (مائة إلا واحدًا) . من رواية شعيب عن أبى الزناد، وهو الصحيح فى العربية؛ لأن الاسم مذكر، فلا يستثنى منه إلا مذكر مثله.(10/145)
كِتَاب الرِّقَاقِ
- بَاب لا عَيْشَ إِلا عَيْشُ الآخِرَةِ
/ 1 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ) . / 2 - وفيه: أَنَسٍ، وسَهْل، كُنَّا مَعَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) بِالْخَنْدَقِ، وَهُوَ يَحْفِرُ، وَنَحْنُ نَنْقُلُ التُّرَابَ، وَبصر بِنَا فَقَالَ: (اللَّهُمَّ لا عَيْشَ إِلا عَيْشُ الآخِرَهْ، فَاغْفِرْ لِلأنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ) قال المؤلف: قال بعض العلماء: إنما أراد (صلى الله عليه وسلم) بقوله: (الصحة والفراغ نعمتان) ، تنبيه أمته على مقدار عظيم نعمة الله على عباده فى الصحة والكفاية؛ لأن المرء لا يكون فارغًا حتى يكون مكيفًا مؤنة العيش فى الدنيا، فمن أنعم الله عليه بهما فليحذر أن يغبنهما، ومما يستعان به على دفع الغبن أن يعلم العبد أن الله تعالى خلق الخلق من غير ضرورة إليهم، وبدأهم بالنعم الجليلة من غير استحقاق منهم لها، فمنّ عليهم بصحة الأجسام وسلامة العقول، وتضمن أرزاقهم وضاعف لهم الحسنات ولم يضاعف عليهم السيئات وأمرهم أن يعبدوه ويعتبروا بما ابتدأهم به من النعم الظاهرة والباطنة، ويشكروه عليها بأحرفٍ يسيرة، وجعل مدة طاعتهم فى الدنيا منقضية بانقضاء(10/146)
أعمارهم، وجعل جزاءهم على ذلك خلودًا دائمًا فى جنات لا انقضاء لها مع ما ذخر لمن أطاعه مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فمن أنعم النظر فى هذا كان حريًا ألا يذهب عنه وقت من صحته وفراغه إلا وينفقه فى طاعة ربه، ويشكره على عظيم مواهبه والاعتراف بالتقصير عن بلوغ كنه تأدية ذلك، فمن لم يكن هكذا وغفل وسها عن التزام ما ذكرنا، ومرت أيامه عنه فى سهو ولهو وعجز عن القيام بما لزمه لربه تعالى فقد غبن أيامه، وسوف يندم حيث لا ينفعه الندم، وقد روى الترمذى من حديث ابن المبارك، عن يحيى بن عبيد الله بن موهب، عن أبيه، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (ما من أحد يموت إلا ندم، قالوا: وما ندامته يا رسول الله؟ قال: إن كان محسنًا ندم ألا يكون ازداد، وإن كان مسيئًا ندم ألا يكون نزع) . وأما قوله: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة) . فإنه نبه بذلك أمته على تصغير شأن الدنيا وتقليلها، وكدر لذاتها وسرعة فنائها، وما كان هكذا فلا معنى للشغل به عن العيش الدائم الذى لا كدر فى لذاته، بل فيه ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
- بَاب مَثَلِ الدُّنْيَا فِى الآخِرَةِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ (إلى قوله تَعَالَى: (إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [الحديد: 20]
. / 3 - فيه: سَهْل، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَوْضِعُ سَوْطٍ فِى الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) .(10/147)
قال المؤلف: قد بين رسول الله منزلة الدنيا من الآخرة، بأن جعل موضع سوط من الجنة أو غدوة فى سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها، وإنما أراد ثواب الغدوة أو الروحة فى الآخرة؛ لينبه أمته على هوان الدنيا عند الله تعالى وضعتها، ألا ترى أنه لم يرضها دار جزاءٍ لأوليائه ولا نقمة لأعدائه؛ بل هى كما وصفها تعالى) لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ) [الحديد: 20] الآية. وقد روى الترمذى، عن محمد بن بشار، عن يحيى بن سعيد، عن إسماعيل ابن أبى خالد، عن قيس بن أبى حازم قال: سمعت مستورد بن شداد الفهرى يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (ما الدنيا فى الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه فى اليم فلينظر بماذا يرجع) . قال: وحدثنا قتيبة، حدثنا عبد الحميد بن سليمان، عن أبى حازم، عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة) .
3 - بَاب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (كُنْ فِى الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ
/ 4 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، أَخَذَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) بِمَنْكِبِى، وَقَالَ: (كُنْ فِى الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ) . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ، فَلا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ، فَلا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ. قال أبو الزناد: معنى هذا الحديث الحض على قلة المخالطة وقلة الاقتناء والزهد فى الدنيا. قال المؤلف: بيان ذلك أن الغريب قليل الانبساط إلى الناس؛ بل هو مستوحش منهم؛ إذ لا يكاد يمر بمن يعرفه فيأنس به، ويستكثر بخلطته فهو ذليل فى نفسه خائف، وكذلك(10/148)
عابر السبيل لا ينفذ فى سفره إلا بقوته عليه وخفته من الأثقال غير متشبث بما يمنعه من قطع سفره، معه زاد وراحلة يبلغانه إلى بغيته من قصده، وهذا يدل على إيثار الزهد فى الدنيا وأخذ البلغة منها والكفاف، فكما لا يحتاج المسافر إلى أكثر مما يبلغه إلى غاية سفره، فكذلك لا يحتاج المؤمن فى الدنيا إلى أكثر مما يبلغه المحل. وقوله: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء) حض منه على أن يجعل الموت نصب عينيه، فيستعد له بالعمل الصالح، وحض له على تقصير الأمل، وترك الميل إلى غرور الدنيا. وقوله: (خذ من صحتك لمرضك) حض على اغتنام أيام صحته فيمهد فيها لنفسه خوفًا من حلول مرض به يمنعه من العمل. وكذلك قوله: (ومن حياتك لموتك) تنبيه على اغتنام أيام حياته، ولا يمر عمره باطلاً فى سهوٍ وغفلة، لأن من مات فقد انقطع عمله وفاته أمله وحضره على تفريطه ندمه، فما أجمع هذا الحديث لمعانى الخير وأشرفه.
4 - بَاب فِى الأمَلِ وَطُولِهِ
وَقوله تَعَالَى: (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران: 185] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الحجر: 15] . وَقَالَ عَلِىُّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ: ارْتَحَلَتِ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً، وَارْتَحَلَتِ الآخِرَةُ مُقْبِلَةً، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ، وَلا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلا حِسَابَ، وَغَدًا حِسَابٌ وَلا عَمَلٌ.(10/149)
/ 5 - فيه: ابْن مسعود، قَالَ: خَطَّ النَّبِيُّ - عليه السلام - خَطًّا مُرَبَّعًا، وَخَطَّ خَطًّا فِى الْوَسَطِ خَارِجًا مِنْهُ، وَخَطَّ خُطَطًا صِغَارًا إِلَى هَذَا الَّذِى فِى الْوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِى فِى الْوَسَطِ، وَقَالَ: (هَذَا الإنْسَانُ، وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ، أَوْ قَدْ أَحَاطَ بِهِ، وَهَذَا الَّذِى خَارِجٌ أَمَلُهُ، وَهَذِهِ الْخُطَطُ الصِّغَارُ الأعْرَاضُ، فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا، وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا) . / 6 - وفيه: أَنَس، خَطَّ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) خُطُوطًا، فَقَالَ: (هَذَا الأمَلُ، وَهَذَا أَجَلُهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ؛ إِذْ جَاءَهُ الْخَطُّ الأقْرَبُ) . قال المؤلف: مثل النبى (صلى الله عليه وسلم) فى حديث ابن مسعود أمل ابن آدم وأجله وإعراض الدنيا التى لا تفارقه بالخطوط، فجعل أجله الخط المحيط، وجعل أمله وإعراضه خارجة من ذلك الخط، ومعلوم فى العقول أن ذلك الخط المحيط به الذى هو أجله؛ أقرب إليه من الخطوط الخارجة منه، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث أنس: (فبينا هو كذلك إذ جاءه الخط الأقرب) . يريد أجله؟ وفى هذا تنبيه من النبى (صلى الله عليه وسلم) لأمته على تقصير الأمل، واستشعار الأجل خوف بغتة الأجل، ومن غيب عنه أجله فهو حرى بتوقعه وانتظاره خشية هجومه عليه فى حال غرة وغفلة، ونعوذ بالله من ذلك، فَلْيُرِضْ المؤمن نفسه على استشعار ما نُبه عليه، ويجاهد أمله وهواه ويستعين بالله على ذلك، فإن ابن آدم مجبول على الأمل كما قال (صلى الله عليه وسلم) فى الباب بعد هذا: (لا يزال قلب الكبير شابًا فى حب الدنيا وطول الأمل) . وقال الطبرى: فى قوله: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ) [الحجر: 3] ، يعنى ذرِ المشركين يا محمد يأكلوا فى هذه الدنيا ويتمتعوا من شهواتها ولذاتها إلى أجلهم الذى أجلت لهم، ويلههم الأمل عن الأخذ(10/150)
بطاعة الله فيها، وتزودهم لمعادهم منها بما يقربهم من ربهم. فسوف يعلمون غدًا إذا وردوا عليه، وقد هلكوا بكفرهم بالله حين يعاينون عذاب الله أنهم كانوا فى تمتعهم بلذات الدنيا فى خسار وتبابٍ) .
5 - بَاب مَنْ بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً فَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَيْهِ فِى الْعُمُرِ
لِقَوْلِهِ: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) [فاطر: 37] يَعْنِى الشَّيْبَ. / 7 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ حَتَّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً) . / 8 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَزَالُ قَلْبُ الْكَبِيرِ شَابًّا فِى اثْنَتَيْنِ: فِى حُبِّ الدُّنْيَا، وَطُولِ الأمَلِ) . / 9 - وفيه: أَنَس، عن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (يَكْبَرُ ابْنُ آدَمَ وَيَكْبَرُ مَعَهُ اثْنَانِ: حُبُّ الْمَالِ وَطُولُ الْعُمُرِ) . / 10 - وفيه: عِتْبَانَ بْنَ مَالِك، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَنْ يُوَافِىَ عَبْدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، يَبْتَغِى بِهِ وَجْهَ اللَّهِ إِلا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّارَ) .(10/151)
/ 11 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَا لِعَبْدِى الْمُؤْمِنِ عِنْدِى جَزَاءٌ إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، ثُمَّ احْتَسَبَهُ إِلا الْجَنَّةُ) . قال المؤلف: روى عن على بن أبى طالب وابن عباس وأبى هريرة فى قوله تعالى: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) [فاطر: 37] قالوا: يعنى: ستين سنةً، وروى عن ابن عباس أيضًا أربعون سنة، وعن الحسن البصرى ومسروق مثله، وحديث أبى هريرة حجة لقول على ومن وافقه فى تأويل الآية. وقول من قال: أربعون سنة. له وجه صحيح أيضًا، والحجة له قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) [الأحقاف: 15] الآية فذكر تعالى أن من بلغ الأربعين، فقد آن له أن يعلم مقدار نعم الله عليه وعلى والديه ويشكرهما. قال مالك: أدركت أهل العلم ببلدنا وهم يطلبون الدنيا والعلم، ويخالطون الناس حتى يأتى لأحدهم أربعون سنة، فإذا أتت عليهم اعتزلوا الناس واشتغلوا بالعبادة حتى يأتيهم الموت. فبلوغ الأربعين نقل لابن آدم من حالة إلى حالة أرفع منها فى الاستبصار والإعذار إليه. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (أعذر الله إلى أمرئ أخرّ أجله حتى بلغ ستين سنة) . أى أعذر إليه غاية الإعذار، الذى لا إعذار بعده، لأن الستين قريب من معترك العباد، وهو سن الإنابة والخشوع والاستسلام لله تعالى وترقب المنية ولقاء الله تعالى فهذا إعذار بعد إعذار فى عمر ابن آدم، لطفًا من الله لعباده حين نقلهم من حالة الجهل إلى حالة العلم، وأعذر إليهم مرة بعد أخرى، ولم يعاقبهم(10/152)
إلا بعد الحجج اللائحة المبكتة لهم، وإن كانوا قد فطرهم الله تعالى على حبّ الدنيا وطول الأمل، فلم يتركهم مهملين دون إعذار لهم وتنبيه، وأكبر الإعذار إلى بنى آدم بعثه الرسل إليهم، واختلف السلف فى تأويل قوله تعالى: (وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) [فاطر: 37] فروى عن على ابن أبى طالب أنه محمد، عليه أفضل الصلاة والسلام، وهو قول ابن زيد وجماعة، وعن ابن عباس أنه الشيب. وحجة القول الأول أن الله تعالى بعث الرسل مبشرين ومنذرين إلى عباده قطعًا لحجتهم، وقال الله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء: 15] ولقول ابن عباس أن النذير: الشيب. وجه يصح، وذلك أن الشيب يأتى فى سن الاكتهال، وهو علامة لمفارقة سن الصبا الذى هو سن اللهو واللعب، فهو نذير أيضًا، ألا ترى قول إبراهيم (صلى الله عليه وسلم) حين رأى الشيب قال: (يا رب ما هذا؟ فقال له: وقار. قال: ربى زدنى وقارًا) . فبان رفق الله بعباده المؤمنين وعظيم لطفه بهم حين أعذر إليهم ثلاث مرات: الأولى بالنبى (صلى الله عليه وسلم) والمرتان فى الأربعين وفى الستين؛ ليتم حجته عليهم، وهذا أصل لإعذار الحاكم إلى المحكوم عليهم مرةً بعد أخرى. فإن قيل: فما وجه حديث عتبان فى هذا الباب؟ قيل: له وجه صحيح المعنى، وذلك أنه لما كان بلوغ الستين غاية الإعذار إلى ابن آدم خشى البخارى، رحمه الله، أن يظن من لا يتسع فهمه أن من بلغ الستين، وهو غير تائب، أن ينفذ عليه الوعيد، فذكر قول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (لن يوافى عبد يوم القيامة بكلمة الإخلاص والتوحيد يبتغى بها وجه الله؛ إلا حرمه الله على النار) . وسواء أتى بها بعد الستين أو بعد المائة لو عمرها.(10/153)
وقد ثبت بالكتاب والسنة أن التوبة مقبولة ما لم يغرغر ابن آدم، ويعاين قبض روحه، وكذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) : (يقول الله تعالى: ما لعبدى المؤمن عندى جزاء إذا قبضت صفيّه من أهل الدنيا ثم احتسب إلا الجنة) . وهذا عام المعنى فى كل عمر ابن آدم؛ بلغ الستين أو زاد عليها، فهو ينظر إلى معنى حديث عتبان فى قوله: (ما لعبدى المؤمن عندى جزاء إذا قبضت صفيه إلا الجنة) دليل أن من مات له ولد واحد فاحتسبه أن له الجنة، وهو تفسير قول المحدث: (ولم نسأله عن الواحد) حين قال (صلى الله عليه وسلم) : (من مات له ثلاثة من الولد أدخله الله الجنة. قيل: واثنان يا رسول الله؟ قال: واثنان. ولم نسأله عن الواحد) ؛ إذ لا صفى أقرب إلى النفوس من الولد، وقد ذكرته فى الجنائز.
6 - بَاب مَا يُحْذَرُ مِنْ زَهَرَةِ الدُّنْيَا وَالتَّنَافُسِ فِيهَا
/ 12 - فيه: عَمْرَو بْنَ عَوْفٍ، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ، يَأْتِى بِجِزْيَتِهَا، فَقَدِمَ بِالْمَالٍ، فَسَمِعَتِ الأنْصَارُ بِقُدُومِهِ، فَوَافَتْهُ صَلاةَ الصُّبْحِ مَعَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، تَعَرَّضُوا لَهُ، فَتَبَسَّمَ فَقَالَ: (أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ بِقُدُومِ أَبِى عُبَيْدَةَ) ؟ قَالُوا: أَجَلْ، قَالَ: (فَأَبْشِرُوا، وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا، كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُلْهِيَكُمْ كَمَا أَلْهَتْهُمْ) . / 13 - وفيه: عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، خَرَجَ النَّبِيّ - عليه السلام - يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلاتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ. . . الحديث، ثُمَّ قَالَ: (وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي، وَلَكِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا) .(10/154)
/ 14 - وفيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ أَكْثَرَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الأرْضِ) ، قِيلَ: وَمَا بَرَكَاتُ الأرْضِ يَا رسُول اللَّه؟ قَالَ: (زَهْرَةُ الدُّنْيَا. . .) ، الحديث على ما جاء فى كتاب الزكاة، فى باب الصدقة على اليتامى. / 15 - وفيه: عِمْرَان، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (خَيْر القرون قَرْنِى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَهُمْ، قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذُرُونَ وَلا يَفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ) . / 16 - وفيه: خَبَّاب، قَالَ: إِنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) مَضَوْا، وَلَمْ تَنْقُصْهُمُ الدُّنْيَا بِشَىْءٍ، وَإِنَّا أَصَبْنَا مِنَ الدُّنْيَا مَا لا نَجِدُ لَهُ مَوْضِعًا إِلا التُّرَابَ. قال المؤلف: هذه الأحاديث تنبيه فى أن زهرة الدنيا ينبغى أن يخشى سوء عاقبتها وشر فتنتها من فتح الله عليه الدنيا، ويحذر التنافس فيها والطمأنينة إلى زخرفها الفانى؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) خشى ذلك على أمته، وحذرهم منه لعلمه أن الفتنة مقرونة بالغنى، ودَلّ حديث عمران بن حصين أن فتنة الدنيا لمن يأتى بعد القرن الثالث أشدّ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون) إلى قوله (ويظهر فيهم السمن) . فجعل (صلى الله عليه وسلم) ظهور السمن فيهم وشهادتهم بالباطل، وخيانتهم الأمانة، وتنافسهم فى الدنيا وأخذهم لها من غير وجهها كما، قال (صلى الله عليه وسلم) فى حديث أبى سعيد: (ومن أخذه بغير حقه فهو كالذى يأكل ولا يشبع) . وكذلك خشى عمر بن الخطاب فتنة المال، فروى عنه أنه لما أتى بأموال كسرى بات هو وأكابر الصحابة عليه فى المسجد، فلما أصبح وأصابته الشمس التمعت تلك التيجان فبكى، فقال له عبد الرحمن بن عوف: ليس هذا حينُ بكاء، إنما هو حِينُ شكر. فقال عمر: إني(10/155)
أقول: ما فتح الله هذا على قوم قط إلا سفكوا دماءهم وقطعوا أرحامهم وقال: اللهم منعت هذا رسولك إكرامًا منك له، وفتحته علىّ لتبتلينى به، اللهم اعصمنى من فتنته. فهذا كله يدل أن الغنى بلية وفتنة، ولذلك استعاذ النبى (صلى الله عليه وسلم) من شر فتنته، وقد أخبر الله تعالى بهذا المعنى فقال لرسوله: (وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [طه: 131] ، وقال تعالى: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ) [التغابن: 15] ، ولهذا آثر أكثر سلف الأمة التقلل من الدنيا وأخذ البلغة؛ إذ التعرض للفتن غرر. وقوله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث أبى سعيد: (وإن مما ينبت الربيع يقتل حبطًا أو يلم) فهو أبلغ الكلام فى تحذير الدنيا والركون إلى غضارتها، وذلك أن الماشية يروقها نبت الربيع فيكثر أكلها فربما تفتقت سمنًا فهلكت، فضرب النبى (صلى الله عليه وسلم) هذا المثل للمؤمن أن لا يأخذ من الدنيا إلا قدر حاجته، ولا يروقه زهرتها فتهلكه. وقال الأصمعى: والحبط: هو أن تأكل الدابة فتكثر، حتى تنتفخ بذلك بطنها وتمرض عنه. وقوله: (أو يلمُ) يعني يُدنى من الموت، وقد تقدم الكلام فى هذا الحديث فى باب الصدقة على اليتامى فى كتاب الزكاة.
وأمّا قول خباب: (إن أصحاب محمد مضوا ولم تنقصهم الدنيا شيئًا) . فإنه لم يكن فى عهد النبي - عليه السلام - من الفتوحات والأموال ما كان بعده، فكان أكثر الصحابة ليس لهم إلا القوت، ولم ينالوا من طيبات العيش ما يخافون أن ينقصهم ذلك من طيبات الآخرة،(10/156)
ألا ترى قول عمر بن الخطاب حين اشترى لحمًا بدرهم: أين تذهب هذه الآية: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا) [الأحقاف: 20] ، فدل أن التنعم فى الدنيا والاستمتاع بطيباتها تنقص كثيرًا من طيبات الآخرة. وقوله: (إنا أصبنا من الدنيا ما لا نجد له موضعًا إلا التراب) . قال أبو ذر: يعنى البنيان، ويدل على صحّة هذا التأويل أن خبّابًا قال هذا القول وهو يبنى حائطًا له، وقد تقدم فى كتاب المرضى فى باب تمنى المريض الموت، فتأمله هناك فهو بين فى حديث خباب.
7 - بَاب قَوله تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا (الآية [فاطر: 5]
قَالَ مُجَاهِدٌ: (الْغَرُورُ (: الشَّيْطَانُ. / 17 - فيه: عُثْمَان، أَنَّهُ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ تَوَضَّأَ مِثْلَ هَذَا الْوُضُوءِ، ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَلَسَ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، قَالَ: وَقَالَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَغْتَرُّوا) . قال المؤلف: نهى الله عباده عن الاغترار بالحياة الدنيا وزخرفها الفانى، وعن الاغترار بالشيطان، وبيّن لنا تعالى عداوته لنا لئلا نلتفت إلى تسويله وتزيينه لنا الشهوات المردية، وحذرنا تعالى طاعته وأخبر أن أتباعه وحزبه من أصحاب السعير، والسعير: النار. فحق على المؤمن العاقل أن يحذر ما حذّره منه ربه عز وجل ونبيه(10/157)
- عليه السلام - وأن يكون مشفقًا خائفًا وجلاً، وإن واقع ذنبًا أسرع الندم عليه والتوبة منه وعزم ألا يعود إليه، وإذا أتى حسنة استقلها واستصغر عمله ولم يدل بها، ألا ترى قول عثمان: (من أتى المسجد، فركع ركعتين ثم جلس، غفر له ما تقدم من ذنبه) . وهذا لا يكون إلا من قول النبى (صلى الله عليه وسلم) ثم أتبع ذلك بقول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (لا تغتروا) . ففهم عثمان رضى الله عنه من ذلك أن المؤمن ينبغى له ألا يتكل على عمله، ويستشعر الحذر والإشفاق بتجنب الاغترار، وقد قال غير مجاهد فى تفسير الغرور قال: هو أن يغتر بالله، فيعمل المعصية ويتمنى المغفرة.
8 - بَاب ذَهَابِ الصَّالِحِينَ
/ 18 - فيه: مِرْدَاس، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ الأوَّلُ فَالأوَّلُ، وَيَبْقَى حُفَالَةٌ كَحُفَالَةِ الشَّعِيرِ أَوِ التَّمْرِ، لا يُبَالِيهِمُ اللَّهُ بَالَةً) . قال المؤلف: ذهاب الصالحين من أشراط الساعة، إلا إنه إذا بقى الناس فى حفالةٍ كحفالة الشعير أو التمر؛ فذلك إنذار بقيام الساعة وفناء الدنيا، وهذا الحديث معناه الترغيب فى الاقتداء بالصالحين والتحذير من مخالفة طريقهم خشية أن يكون من خالفهم ممن لا يباليه الله ولا يعبأ به. وبَالة: مصدر باليت محذوف منه الياء التى هى لام الفعل، وكان أصله (بالية) فكرهوا ياءً قبلها كسرة، لكثرة استعمال هذه اللفظة فى نفى كل ما لا يحفل به، وتقول العرب أيضًا فى مصدر باليت مبالاةً كما تقول بالة. والحفالة: سفلة الناس وأصلها فى اللغة ما(10/158)
تساقط من قشور التمر والشعير وغيرهما، والحثالة والحشافة مثله، وقد ذكرت هذا فى كتاب الفتن فى باب إذا بقى فى حثالة من الناس.
9 - بَاب مَا يُتَّقَى مِنْ فِتْنَةِ الْمَالِ
وَقَوله تَعَالَى: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) [التغابن: 15] / 19 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، وَالْقَطِيفَةِ، وَالْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِىَ رَضِىَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ) . / 20 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْ كَانَ لابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لابْتَغَى ثَالِثًا وَلا يَمْلأ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ) . / 21 - وَفِى رواية ابْن عَبَّاس: (وَلا يَمْلأ عَيْنَ ابْنِ آدَمَ إِلا التُّرَابُ) . وروى مثله ابن الزبير، وَأنَس، عن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) وَقَالَ أَنَس فِى حديثه: (وَلَنْ يَمْلأ فَاهُ إِلا التُّرَابُ) . / 22 - وفيه: أَنَس، عَنْ أُبَىٍّ، كُنَّا نَرَى هَذَا مِنَ الْقُرْآنِ حَتَّى نَزَلَتْ: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) [التكاثر: 1] . قال المؤلف: معنى الفتنة فى كلام العرب: الاختبار والابتلاء، ومنه قوله تعالى: (وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا) [طه: 40] أى اختبرناك، والفتنة: الإمالة عن القصد، ومنه قوله تعالى: (وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) [الإسراء: 73] أى ليميلونك، والفتنة أيضًا: الإحراق من قوله تعالى: (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) [الذاريات: 13] أى يحرقون، هذا قول ابن الأنبارى. والاختبار(10/159)
والابتلاء بجمع ذلك كله، وقد أخبر الله تعالى عن الأموال والأولاد أنها فتنة، وقال تعالى: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) [التكاثر: 1] ، وخرج لفظ الخطاب على العموم؛ لأن الله تعالى فطر العباد على حب المال والولد، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى ثالثًا) . فأخبر عن حرص العباد على الزيادة فى المال، وأنه لا غاية له يقنع بها ويقتصر عليها، ثم أتبع ذلك بقوله: (ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب) ، يعنى إذا مات وصار فى قبره ملأ جوفه التراب، وأغناه بذلك عن تراب غيره حتى يصير رميمًا. وأشار (صلى الله عليه وسلم) بهذا المثل إلى ذم الحرص على الدنيا والشره على الازدياد منها؛ ولذلك آثر أكثر السلف التقلل من الدنيا والقناعة والكفاف فرارًا من التعرض لما لا يعلم كيف النجاة من شر فتنته، واستعاذ النبى (صلى الله عليه وسلم) من شر فتنة الغنى، وقد علم كل مؤمن أن الله تعالى قد أعاذه من شر كل فتنة، وإنما دعاؤه بذلك (صلى الله عليه وسلم) تواضعًا لله وتعليمًا لأمته، وحضًا لهم على إيثار الزهد فى الدنيا. وقوله: (تعس عبد الدينار. .) إلى آخر الحديث فيه ذم مَنْ فتنه متاع الدنيا الفانى، وتعِس قيل: معناه هلك، وقيل: التعس: أن يخر على وجهه، وقد ذكرت اختلاف أهل اللغة فى تفسير هذه الكلمة فى كتاب الجهاد فى باب الحراسة فى الغزو فى سبيل الله.
- بَاب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (إن هَذَا الْمَالُ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ (الآية [آل عمران: 14] . وقَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ إِنَّا لا نَسْتَطِيعُ إِلا أَنْ نَفْرَحَ بِمَا زَيَّنْتَهُ لَنَا، اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ أَنْ أُنْفِقَهُ فِى حَقِّهِ.(10/160)
/ 23 - فيه: حَكِيم، سَأَلْتُ النَّبِيَّ - عليه السلام - فَأَعْطَانِى ثلاثًا، ثُمَّ قَالَ لِى: (يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِطِيبِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ، لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِى يَأْكُلُ وَلا يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى) . قال المؤلف: هذا الباب فى معنى الذى قبله يدل على أن فتنة المال والغنى مخوفة على من فتحه الله عليه لتزيين الله تعالى له، ولشهوات الدنيا فى نفوس عباده؛ فلا سبيل لهم إلى بعضته إلا بعون الله على ذلك، ولهذا قال عمر: اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينت لنا، ثم دعا الله أن يعينه على إنفاقه فى حقه، فمن أخذ المال من حقه ووضعه فى حقه فقد سلم من فتنته، وحصل على ثوابه، وهذا معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فمن أخذه بطيب نفس بورك فيه) ، وفى قوله أيضًا: (ومن أخذه بطيب نفس) تنبيه لأمته على الرضا بما قسم لهم، وفى قوله: (ومن أخذه بإشراف نفس لم يُبارك له فيه، وكان كالذى يأكل ولا يشبع) ذم الحرص والشره إلى الاستكثار، ألا ترى أنه شبّه فاعل ذلك بالبهائم التى تأكل ولا تشبع وهذا غاية الذم له لأن الله تعالى وصف الكفار بأنهم يأكلون كما تأكل الأنعام، يعنى: أنهم لا يشبعون كما لا تشبع الأنعام؛ لأن الأنعام لا تأكل لإقامة أرماقها، وإنما تأكل للشره والنهم. فينبغى للمؤمن العاقل الفهم عن الله تعالى وعن رسوله أن يتشبه بالسلف الصالح فى أخذ الدنيا ولا يتشبه بالبهائم التى لا تعقل، وقد فسرنا قوله: (خضرة حلوة) فى كتاب الزكاة.(10/161)
- بَاب مَا قَدَّمَ مِنْ مَالِهِ فَهُوَ لَهُ
/ 24 - فيه: عَبْدُاللَّهِ، قَالَ: قَالَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ) ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلا مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ، قَالَ: (فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ) . قال المؤلف: هذا الحديث تنبيه للمؤمن على أن يقدم من ماله لآخرته، ولا يكون خازنًا له وممسكه عن إنفاقه فى طاعة الله، فيخيب من الانتفاع به فى يوم الحاجة إليه، وربما أنفقه وارثه فى طاعة الله فيفوز بثوابه. فإن قيل: هذا الحديث يدل على أن إنفاق المال فى وجوه البر أفضل من تركه لوارثه، وهذا يعارض قوله (صلى الله عليه وسلم) لسعد: (إنك إن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالةً يتكففون الناس) . قيل: لا تعارض بينهما، وإنما خص النبى (صلى الله عليه وسلم) سعدًا على أن يترك مالا لورثته؛ لأن سعدًا أراد أن يتصدق بماله كله فى مرضه، وكان وارثه ابنته والابنة لا طاقة لها على الكسب، فأمره (صلى الله عليه وسلم) بأن يتصدق منه بثلثه ويكون باقيه لابنته ولبيت مال المسلمين، وله أجر فى كل من يصل إليه من ماله شىء بعد موته. وحديث ابن مسعود إنما خاطب به (صلى الله عليه وسلم) أصحابه فى صحتهم ونبّه به من شحّ على ماله، ولم تسمح نفسه بإنفاقه فى وجوه البر أن ينفق منه فى ذلك؛ لئلا يحصل وارثه عليه كاملاً موفرًا، ويخيب هو من أجره، وليس فيه الأمر بصدقة المال كله فيكون معارضًا لحديث سعد، بل حديث عبد الله مجمل يفسره حديث سعد، ويدل على صحةً هذا التأويل ما ذكره أهل السير، عن ابن شهاب أن أبا لبابة قال: (يا رسول، إن من توبتى أن أهجر دار قومى التى أصبت فيها الذنب، وأنخلع من مالى صدقة إلى الله ورسوله. قال: يجزئك الثلث) فلم يأمره بصدقة ماله كله.(10/162)
- بَاب الْمُكْثِرُونَ هُمُ الْمُقِلُّونَ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا (إلى) يَعْمَلُونَ) [هود: 15] . / 25 - فيه: أَبُو ذَرّ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ الْمُكْثِرِينَ هُمُ الْمُقِلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلا مَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ خَيْرًا، فَنَفَحَ فِيهِ يَمِينَهُ وَشِمَالَهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ وَوَرَاءَهُ، وَعَمِلَ فِيهِ خَيْرًا) ، وذكر الحديث بطوله. قال المؤلف: هذا الحديث يدل على أن كثرة المال تئول بصاحبه إلى الإقلال من الحسنات يوم القيامة، إذا لم ينفقه فى طاعة الله، فإن أنفقه فى طاعة الله كان غنيًا من الحسنات يوم القيامة، وقد احتج بهذا الحديث من فضل الغنى على الفقر؛ لأنه استثنى فيه من المكثرين من نفح بالمال عن يمينه وشماله وبين يديه، وقد اختلف العلماء فى هذه المسألة، وسنذكر مذاهبهم فيها فى باب فضل الفقر بعد هذا إن شاء الله. وقوله: (نفح فيه) قال صاحب الأفعال: نفح بالعطاء: أعطى، والله نفاح بالخيرات، قال صاحبُ العين: نفح بالمال، والسيف، ونفحات المعروف: دفعه، ونفحت الدابة: رمحت بحافرها الأرض. وقوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا) [هود: 15] الآيتين، قال أهل التأويل: هذا عام فى لفظ خاص فى الكفار، بدليل قوله: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [هود: 16] ،(10/163)
وإنما ذكرها البخاري في هذا الباب تحذيرًا للمؤمنين من مشابهة أفعال الكافرين فى بيعهم الآخرة الباقية بزينة الدنيا الفانية، فيدخلوا فى معنى قوله تعالى: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا) [الأحقاف: 20] الآية.
- بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ - عليه السلام -: (مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي أُحُدٍ ذَهَبًا
/ 26 - فيه: أَبُو ذَرٍّ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا يَسُرُّنِى أَنَّ عِنْدِى مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، تَمْضِى عَلَىَّ ثَالِثَةٌ، وَعِنْدِى مِنْهُ دِينَارٌ، إِلا شَيْئًا أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ، إِلا أَنْ أَقُولَ بِهِ فِى عِبَادِ اللَّهِ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ. . .) الحديث بطوله، وروى أَبُو هُرَيْرَةَ مثله مختصرًا. قال المؤلف: فى هذا الحديث أن المؤمن لا ينبغى له أن يتمنّى كثرة المال إلا بشريطة أن يسلطه الله على إنفاقه فى طاعته اقتداءً بالنبى (صلى الله عليه وسلم) فى ذلك. وفيه: أن المبادرة إلى الطاعة أفضل من التوانى فيها، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يحب أن يبقى عنده من مقدار جبل أحدٍ ذهبًا، لو كان له، بعد ثلاث إلا دينار يرصده لدين. وفيه: أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان يكون عليه الدين لكثرة مواساته بقوته وقوت عياله، وإيثاره على نفسه أهل الحاجة، والرضا بالتقلل والصبر على خشونة العيش، وهذه سيرة الأنبياء والصالحين، وهذا كله يدل على أن فضل المال فى إنفاقه فى سبيل الله لا فى إمساكه وادّخاره.(10/164)
- بَاب الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ
وَقَوله تَعَالَى: (أَيَحْسِبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ) [المؤمنون: 55] إِلَى) عَامِلُونَ) [المؤمنون: 63] . قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: لَمْ يَعْمَلُوهَا لا بُدَّ مِنْ أَنْ يَعْمَلُوهَا. / 27 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ) . قال المؤلف: قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ليس الغنى عن كثرة العرض) يريد ليس حقيقة الغنى عن كثرة متاع الدنيا، لأن كثيرًا ممن وسع الله عليه فى المال يكون فقير النفس لا يقنع بما أعطى فهو يجتهد دائبًا فى الزيادة، ولا يبالى من أين يأتيه، فكأنه فقير من المال؛ لشدة شرهه وحرصه على الجمع، وإنما حقيقة الغنى غنى النفس، الذى استغنى صاحبه بالقليل وقنع به، ولم يحرص على الزيادة فيه، ولا ألحّ فى الطلب، فكأنه غنى واجد أبدًا، وغنى النفس هو باب الرضا بقضاء الله تعالى والتسليم لأمره علم أن ما عند الله خير للأبرار، وفى قضائه لأوليائه الأخيار، روى الحسن، عن أبى هريرة قال: (قال لى رسول الله: أرض بما قسم الله تكن أشكر الناس) . وقوله تعالى: (أَيَحْسِبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ) [المؤمنون: 55] ، نزلت فى الكفار، فليست بمعارضة لدعائه (صلى الله عليه وسلم) لأنس بكثرة المال والولد، وقال أهل التأويل فى معناها: أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين مجازاة لهم وخيرًا لهم، بل هو استدراج لهم، ولذلك قال تعالى: (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِى غَمْرَةٍ مِّنْ هَذَا) [المؤمنون: 63] ، أى فى غطاء عن(10/165)
المعرفة أن الذى نمدهم به من مال استدراج لهم، وقال بعض أهل التأويل فى قوله تعالى: (أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ) [المؤمنون: 55] هى الخيرات: فالمعنى نسارع فيه ثم أظهر فقال: (فِى الْخَيْرَاتِ) [المؤمنون: 56] ، أى نسارع لهم به فى الخيرات.
- بَاب فَضْلِ الْفَقْرِ
/ 28 - فيه: سَهْل، مَرَّ رَجُلٌ عَلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ: (مَا رَأْيُكَ فِى هَذَا) ؟ فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ هَذَا، وَاللَّهِ حَرِىٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، قَالَ: فَسَكَتَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا رَأْيُكَ فِى هَذَا) ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، هَذَا حَرِىٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لا يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لا يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لا يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأرْضِ مِثْلَ هَذَا) . / 29 - وفيه: خَبَّاب، قَالَ: هَاجَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ - عليه السلام - نُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ، فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ، فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْخُذْ مِنْ أَجْرِهِ شيئًا، مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَتَرَكَ نَمِرَةً، فَإِذَا غَطَّيْنَا رَأْسَهُ بَدَتْ رِجْلاهُ، وَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ بَدَا رَأْسُهُ، فَأَمَرَنَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ نُغَطِّىَ رَأْسَهُ وَنَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ شَيْئًا مِنَ الإذْخِرِ، وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ، فَهُوَ يَهْدِبُهَا) .(10/166)
/ 30 - وفيه: عِمْرَان، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (اطَّلَعْتُ فِى الْجَنَّةِ، فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ، وَاطَّلَعْتُ فِى النَّارِ، فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ) . / 31 - وفيه: أنس: أَنَس، لَمْ يَأْكُلِ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى خِوَانٍ حَتَّى مَاتَ، وَمَا أَكَلَ خُبْزًا مُرَقَّقًا حَتَّى مَاتَ. / 32 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَقَدْ تُوُفِّىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَمَا فِى رَفِّى مِنْ شَىْءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ، إِلا شَطْرُ شَعِيرٍ فِى رَفٍّ لِى، فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَىَّ، فَكِلْتُهُ فَفَنِىَ. قال المؤلف: فى ظاهر هذه الأحاديث فضل الفقر، كما ترجم البخارى، وقد طال تنازع الناس فى هذه المسألة، فذهب قوم إلى تفضيل الفقر، وذهب آخرون إلى تفضيل الغنى، واحتج من فضل الفقر بهذه الآثار بغيرها، فمنها أنه (صلى الله عليه وسلم) كان يقول فى دعائه: (اللهم أحينى مسكينًا، وأمتنى مسكينًا، واحشرنى فى زمرة المساكين) . من حديث ثابت بن محمد العابد العوفى، عن الحارث بن النعمان الليثى، عن أنس بن مالك، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ذكره الترمذى، ومنها قوله (صلى الله عليه وسلم) : (اللهم من آمن بى وصدّق ما جئت به، فأقلل له فى المال والولد) . وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن الفقراء يدخلون الجنة وأصحاب الجد محبوسون) . روى الترمذى، عن محمود بن غيلان، عن قبيصة، عن سفيان، عن محمد بن عمرو، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة سنة، نصف يوم) قال الترمذى: وهذا حديث صحيح. واحتج من فضل الغنى بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن المكثرين هم الأقلون، إلا من قال بالمال هكذا وهكذا) . وبقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا حسد إلا فى اثنتين، أحدهما: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق) الحديث.(10/167)
وبقوله لسعد: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس) . وقال لأبى لبابة حين قال: يا رسول الله، إن توبتى أن أنخلع من مالى صدقةً إلى الله ورسوله: (أمسك عليك بعض مالك فإنه خير لك) . وقال فى معاوية: (إنه لصعلوك لا مال له) ، ولم يكن (صلى الله عليه وسلم) ليذمّ حالة فيها الفضل. وأحسن ما رأيت فى هذه المسألة ما قاله أحمد بن نصر الداودى قال: الفقر والغنى محنتان من الله تعالى وبليتان يبلو بهما أخيار عباده ليبدى صبر الصابرين وشكر الشاكرين وطغيان البطرين، وإنما أشكل ذلك على غير الراسخين، فوضع قوم الكتب فى تفضيل الغنى على الفقر، ووضع آخرون فى تفضيل الفقر، وأغفلوا الوجه الذى يجب الحض عليه والندب إليه، وأرجو لمن صحت نيته وخلصت لله طويته، وكانت لوجهه مقالته أن يجازيه الله على نيته ويعلمه، قال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الكهف: 7] ، وقال تعالى: (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء: 35] ، وقال: (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ) [فصلت: 51] ، وقال: (إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا) [المعارج: 19 - 21] ، وقال تعالى: (فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّى أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّى أَهَانَنِ) [الفجر: 15، 16] ، وقال: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ) [الشورى: 27](10/168)
الآية، وقال: (وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ) [الزخرف: 33] الآية، وقال: (كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى) [العلق: 6، 7] ، وقال: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) [العاديات: 8] ، يعنى لحب المال، وقال (صلى الله عليه وسلم) : (ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخاف عليكم أن تفتح الدنيا عليكم. .) الحديث. وكان (صلى الله عليه وسلم) يستعيذ من فتنة الفقر، وفتنة الغنى، فدل هذا كله أن ما فوق الكفاف محنة، لا يسلم منها إلا من عصمه الله، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (ما قل وكفى خير مما كثر وألهى) . وقال عمر ابن الخطاب لما أُوتى بأموال كسرى: (ما فتح الله هذا على قوم إلا سفكوا دماءهم وقطعوا أرحامهم. وقال: اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينت لنا، اللهم إنك منعت هذا رسولك إكرامًا منك له، وفتحته على لتبتلينى به، اللهم سلطنى على هلكته فى الحق واعصمنى من فتنته) . فهذا كله يدل على فضل الكفاف، لا فضل الفقر كما خيلّ لهم، بل الفقر والغنى بليتان كان النبى (صلى الله عليه وسلم) يستعيذ من فتنتهما، ويدل على هذا قوله تعالى: (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا) [الإسراء: 29] ، وقال: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [الفرقان: 67] ، وقال: (وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا) [النساء: 5] ، وقال فى ولى اليتيم: (وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ(10/169)
بِالْمَعْرُوفِ) [النساء: 6] ، وقال: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ) [النساء: 9] ، وقال (صلى الله عليه وسلم) لأبى لبابة: (أمسك عليك بعض مالك) . وقال لسعد: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس) . وهذا من الغنى الذى لا يطغى، ولو كان كل ما زاد كان أفضل لنهاه النبى (صلى الله عليه وسلم) أن يوصى بشىء، واقتصرت أيدى الناس عن الصدقات وعن الإنفاق فى سبيل الله، وقال لعمرو بن العاص: (هل لك أن أبعثك فى جيش يسلمك الله ويغنمك، وأرغب لك رغبةً من المال؟ فقال: ما للمال كانت هجرتى، إنما كانت لله ولرسوله. فقال: نعم المال الصالح للرجل الصالح) . ولم يكن (صلى الله عليه وسلم) ليحض أحدًا على ما ينقص حظه عند الله، فلا يجوز أن يقال إن إحدى هاتين الخصلتين أفضل من الأخرى؛ لأنهما محنتان، وكأن قائل هذا يقول: إن ذهاب يد الإنسان أفضل عند الله من ذهاب رجله، وإن ذهاب سمعه أفضل من ذهاب بصره؛ فليس هاهنا موضع للفضل، وإنما هى محن يبلو الله بها عباده؛ ليعلم الصابرين والشاكرين من غيرهما، ولم يأت فى الحديث، فيما علمنا، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان يدعو على نفسه بالفقر، ولا يدعو بذلك على أحد يريد به الخير، بل كان يدعو بالكفاف ويستعيذ بالله من شرّ فتنة الفقر وفتنة الغنى، ولم يكن يدعو بالغنى إلا بشريطة يذكرها فى دعائه. فأماّ ما روى عنه أنه كان يقول: (اللهم أحينى مسكينًا وأمتنى مسكينًا، واحشرنى فى زمرة المساكين) . فإن ثبت فى النقل فمعناه(10/170)
ألا يجاوز به الكفاف، أو يريد به الاستكانة إلى الله، ويدل على صحة هذا التأويل أنه ترك أموال بنى النضير وسهمه من فدك وخيبر، فغير جائز أن يظن به أن يدعو إلى الله ألا يكون بيده شىء، وهو يقدر على إزالته من يده بإنفاقه. وما روى عنه أنه قال: (اللهم من آمن بى وصدّق ما جئت به، فأقلل له من المال والولد) . فلا يصح فى النقل ولا فى الاعتبار، ولو كان إنما دعا بذلك فى المال وحده لكان محتملا أن يدعو لهم بالكفاف، وأما دعاؤه بقلة الولد فكيف يدعو أن يقل المسلمون، وما يدفعه العيان مدفوع عنه (صلى الله عليه وسلم) ، وأحاديثه لا تتناقض. كيف يذمّ معاوية، ويأمر أبا لبابة وسعدًا أن يبقيا ما ذكر من المال ويقول: إنه خير، ثم يخالف ذلك، وقد ثبت أنه دعا لأنس بن مالك وقال: (اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته) . قال أنس: فلقد أحصت ابنتى أنى قدّمت من ولد صُلبى مقدم الحجاج البصرة مائةً وبضعةً وعشرين نسمةً بدعوة رسول الله، وعاش بعد ذلك سنين وولد له) . فلم يدع له بكثرة المال إلا وقد أتبع ذلك بقوله: (وبارك له فيما أعطيته) . فإن قيل: فأى الرجلين أفضل: المبتلى بالفقر، أو المبتلى بالغنى إذا صلحت حال كل واحد منهما؟ قيل: السؤال عن هذا لا يستقيم؛ إذ قد يكون لهذا أعمال سوى تلك المحنة يفضل بها صاحبه والآخر كذلك، وقد يكون هذا الذى صلح حاله على الفقر لا يصلح حاله على الغنى، ويصلح حال الآخر على الفقر والغنى. فإن قيل: فإن كان كل واحد منهما يصلح حاله فى الأمرين، وهما فى غير ذلك من الأعمال متساويان قد أدّى الفقير ما يجب عليه فى فقره من الصبر والعفاف والرضا، وأدّى الغنى ما يجب عليه من الإنفاق والبذل(10/171)
والشكر والتواضع، فأى الرجلين أفضل؟ قيل: علم هذا عند الله. وأمّا قوله: (وأصحاب الجد محبوسون) . فإنما يحبس لهذا أهل التفاخر والتكاثر، وإنما من أدّى حق الله فى ماله، ولم يرد به التفاخر وأرصد باقيه لحاجته إليه، فليس أولئك بأولى منه فى السبق إلى شىء، ويدل على هذا قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا حسد إلا فى اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته فى الحق) . فبين أنه لا شىء أرفع من هاتين الحالتين، وهو المبين عن الله تعالى معنى ما أراد، ولو كان من هذه حاله مسبوقًا فى الأخرى لما حضّ النبى (صلى الله عليه وسلم) على أن يتنافس فى عمله، ولحضّ أبا لبابة على الحالة التى يسبق بها إلى الجنة، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث: (الخيل لثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر، فالذى هى عليه وزر فرجل ربطها فخرًا ورياءً ونواءً لأهل الإسلام) . فهذا من المحبوسين للحساب، والأولان فهو كفافهما، غير أن آفات الغنى أكثر، والناجون من أهل الغنى أقل، إذ لا يكاد يسلم من آفاته إلا من عصمه الله؛ فلذلك عظمت منزلة المعصوم فيه؛ لأن الشيطان يسول فيه إما فى الأخذ بغير حقه، أو فى الوضع فى غير حقه، أو فى منعه من حقه، أو فى التجبر والطغيان من أجله، أو فى قلة الشكر عليه أو فى المنافسة فيه إلى ما لا يبلغ صفته. قال المهلب: وليس فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (يدخل فقراء أمتى الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام) تفضيل للفقر؛ لأن تقديم دخول الجنة لا تستحق به الفضيلة، ألا ترى أن النبي - عليه السلام - أفضل البشر ولا يتقدم بالدخول فى الجنّة حتى يشفع فى أمته، وكذلك صالح المؤمنين(10/172)
يشفعون فى قوم دونهم فى الدرجة، وإنما ينظر يوم القيامة بين الناس فيقدم الأقل حسابًا فالأقل، فلذلك قدم الفقراء، لأنهم لا علقة عليهم فى حساب الأموال، فيدخلون الجنة قبل الأغنياء، ثم يحاسب أصحاب الأموال فيدخلون الجنة، وينالون فيها من الدرجات ما قد لا يبلغه الفقراء، وكذلك ليس فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (اطلعت فى الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء) . ما يوجب فضل الفقراء، وإنما معناه أن الفقراء فى الدنيا أكثر من الأغنياء، فأخبر عن ذلك كما نقول أكثر أهل الدنيا الفقراء، لا من جهة التفضيل، وإنما هو إخبار عن الحال، وليس الفقر أدخلهم الجنة، إنما أدخلهم الله الجنة بصلاحهم مع الفقر؛ أرأيت الفقير إذا لم يكن صالحًا فلا فضل له فى الفقر، وأما حديث سهل فلا يخلو أن يكون فضل الرجل الفقير على الغنى من أجل فقره أو من أجل فضله، فإن كان من أجل فضله فلا حجة فيه لمن فضل الفقر، وإن كان من أجل فقره فكان ينبغى أن يشترط فى ملء الأرض مثله لا فقير فيهم. ولا دليل فى الحديث يدل على تفضيله عليه مع جهة فقره؛ لأنا نجد الفقير إذا لم يكن صالحًا؛ فكل غنى صالح خير منه، وفى حديث خباب أن هجرتهم لم تكن لدنيا يصيبونها، ولا نعمة يستعجلونها، وإنما كانت لله؛ ليثبتهم عليها فى الآخرة بالجنة والنجاة من النار، فمن قتل منهم قبل أن يفتح الله عليهم البلاد قالوا: مرّ ولم يأخذ من أجره شيئًا فى الدنيا، وكان أجره فى الآخرة موفرًا له وكان الذى بقى منهم حتى فتح الله عليهم الدنيا، ونالوا من الطيبات؛ خشوا أن يكون عجل لهم أجر طاعتهم وهجرتهم فى الدنيا بما نالوا(10/173)
منها من النعيم؛ إذ كانوا على نعيم الآخرة أحرص. وتركه (صلى الله عليه وسلم) الأكل على الخوان وأكل المرقق، فإنما فعل ذلك كأنه رفع الطيبات للحياة الدائمة فى الآخرة، ولم يرض أن يستعجل فى الدنيا الفانية شيئًا منها أخذًا منه بأفضل الدارين، وكان قد خيره الله بين أن يكون نبيًا عبدًا أو نبيًا ملكًا، فأختار عبدًا، فلزمه أن يفى الله بما اختاره، والمال إنما يرغب فيه مع مقارنة الدين ليستعان به على الآخرة، والنبى (صلى الله عليه وسلم) قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فلم يحتج إلى المال من هذه الوجوه، وكان قد ضمن الله له رزقه بقوله: (نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) [طه: 132] . وقول عائشة: (لقد توفى رسول الله وما فى بيتى شىء يأكله ذو كبد، إلا شطر شعير) هو فى معنى حديث أنس الذى قبله من الأخذ بالاقتصاد وبما يسد الجوعة، وفيه بركة النبى (صلى الله عليه وسلم) . وفيه أن الطعام المكيل يكون فناؤه معلومًا للعلم بكيله وأن الطعام غير المكيل فيه البركة؛ لأنه غير معلوم مقداره.
- بَاب كَيْفَ كَانَ عَيْشُ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَأَصْحَابِهِ وَتَخَلِّيهِمْ مِنَ الدُّنْيَا
/ 33 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ أنَّهُ كَانَ يَقُولُ: (أَاللَّهِ الَّذِى لا إِلَهَ إِلا هُوَ، إِنْ كُنْتُ لأعْتَمِدُ بِكَبِدِى عَلَى الأرْضِ مِنَ الْجُوعِ، وَإِنْ كُنْتُ لأشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِى مِنَ الْجُوعِ، وَلَقَدْ قَعَدْتُ يَوْمًا عَلَى طَرِيقِهِمِ الَّذِى يَخْرُجُونَ مِنْهُ، فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ إِلا لِيُشْبِعَنِى، فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ، ثُمَّ مَرَّ بِى عُمَرُ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ إِلا لِيُشْبِعَنِى، فَمَرَّ فَلَمْ يَفْعَلْ، ثُمَّ مَرَّ بِى أَبُو الْقَاسِمِ (صلى الله عليه وسلم) فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآنِى، وَعَرَفَ مَا فِى نَفْسِى، وَمَا فِي وَجْهِي، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا هِرٍّ،(10/174)
قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الْحَقْ وَمَضَى، فَتَبِعْتُهُ فَدَخَلَ، فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنَ لِى، فَدَخَلَ، فَوَجَدَ لَبَنًا فِى قَدَحٍ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ؟ قَالُوا: أَهْدَاهُ لَكَ فُلانٌ أَوْ فُلانَةُ، قَالَ: أَبَا هِرٍّ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ الْحَقْ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ، فَادْعُهُمْ لِى، قَالَ: وَأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافُ الإسْلامِ، لا يَأْوُونَ إِلَى أَهْلٍ وَلا مَالٍ وَلا عَلَى أَحَدٍ، إِذَا أَتَتْهُ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهَا شَيْئًا، وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ، وَأَصَابَ مِنْهَا، وَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا فَسَاءَنِى ذَلِكَ، فَقُلْتُ: وَمَا هَذَا اللَّبَنُ فِى أَهْلِ الصُّفَّةِ، كُنْتُ أَحَقُّ أَنَا أَنْ أُصِيبَ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَرْبَةً أَتَقَوَّى بِهَا، فَإِذَا جَاءَ، أَمَرَنِى فَكُنْتُ أَنَا أُعْطِيهِمْ، وَمَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَنِى مِنْ هَذَا اللَّبَنِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) بُدٌّ، فَأَتَيْتُهُمْ، فَدَعَوْتُهُمْ، فَأَقْبَلُوا، فَاسْتَأْذَنُوا، فَأَذِنَ لَهُمْ، وَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ مِنَ الْبَيْتِ، قَالَ: يَا أَبَا هِرٍّ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: خُذْ فَأَعْطِهِمْ، قَالَ: فَأَخَذْتُ الْقَدَحَ، فَجَعَلْتُ أُعْطِيهِ الرَّجُلَ، فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَىَّ الْقَدَحَ، فَأُعْطِيهِ الرَّجُلَ، فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ثُمَّ، يَرُدُّ عَلَىَّ الْقَدَحَ، فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَىَّ الْقَدَحَ، حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَدْ رَوِىَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ، فَأَخَذَ الْقَدَحَ، فَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ، فَنَظَرَ إِلَىَّ فَتَبَسَّمَ، فَقَالَ: أَبَا هِرٍّ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: بَقِيتُ أَنَا وَأَنْتَ، قُلْتُ: صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ، اقْعُدْ فَاشْرَبْ، فَقَعَدْتُ فَشَرِبْتُ، فَقَالَ: اشْرَبْ فَشَرِبْتُ، فَمَا زَالَ يَقُولُ: اشْرَبْ حَتَّى قُلْتُ: لا، وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا، قَالَ: فَأَرِنِى، فَأَعْطَيْتُهُ الْقَدَحَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَسَمَّى، وَشَرِبَ الْفَضْلَةَ) . / 34 - وفيه: سَعْد قَالَ: إِنِّى لأوَّلُ الْعَرَبِ رَمَى بِسَهْمٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، وَرَأَيْتُنَا نَغْزُو، وَمَا لَنَا طَعَامٌ إِلا وَرَقُ الْحُبْلَةِ، وَهَذَا السَّمُرُ، وَإِنَّ أَحَدَنَا لَيَضَعُ كَمَا تَضَعُ الشَّاةُ مَا لَهُ خِلْطٌ، ثُمَّ أَصْبَحَتْ بَنُو أَسَدٍ تُعَزِّرُنِى عَلَى الإسْلامِ، خِبْتُ إِذًا وَضَلَّ سَعْيِى. / 35 - وفيه: عَائِشَةَ، مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ طَعَامِ بُرٍّ ثَلاثَ لَيَالٍ تِبَاعًا حَتَّى قُبِضَ.(10/175)
/ 36 - وَقَالَتْ: مَا أَكَلَ آلُ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) أَكْلَتَيْنِ فِى يَوْمٍ إِلا إِحْدَاهُمَا تَمْرٌ. / 37 - وَقَالَتْ: كَانَ فِرَاشُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ أَدَمٍ وَحَشْوُهُ مِنْ لِيفٍ. / 38 - وعن: أَنَس، كنّا نأتيه وَخَبَّازُهُ قَائِمٌ، قَالَ: كُلُوا فَمَا أَعْلَمُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) رَأَى رَغِيفًا مُرَقَّقًا حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ، وَلا رَأَى شَاةً سَمِيطًا بِعَيْنِهِ قَطُّ. / 39 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ يَأْتِى عَلَيْنَا الشَّهْرُ وَمَا نُوقِدُ فِيهِ نَارًا، إِنَّمَا هُوَ التَّمْرُ وَالْمَاءُ إِلا أَنْ نُؤْتَى بِاللُّحَيْمِ. / 40 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (اللَّهُمَّ ارْزُقْ آلَ مُحَمَّدٍ قُوتًا) . قال الطبري: فى اختيار رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وخيار السلف من الصحابة والتابعين شظف العيش، والصبر على مرارة الفقر والفاقة ومقاساة خشونة خشن الملابس والمطاعم على خفض ذلك ودعته، وحلاوة الغنى ونعيمه ما أبان عن فضل الزهد فى الدنيا وأخذ القوت والبلغة خاصة. وكان نبينا (صلى الله عليه وسلم) يطوى الأيام، ويعصب على بطنه الحجر من الجوع؛ إيثارًا منه شظف العيش والصبر عليه، مع علمه بأنه لو سأل ربه أن يسير له جبال تهامة ذهبًا وفضة لفعل، وعلى هذه الطريقة جرى الصالحون، ألا ترى قول أبى هريرة أنه كان يشد الحجر على بطنه من الجوع، وخرج يتعرض من يمر به من الصحابة يسأله عن آى القرآن ليحمله ويطعمه. وفيه أن كتمان الحاجة أحرى بإظهارها وأشبه بأخلاق الصابرين، وإن كان جائزًا له الإخبار بباطن أمره وحاجته لمن يرجوه لكشف فاقته.(10/176)
وهذا الحديث علم عظيم من أعلام النبوة، وذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) عرف ما فى نفس أبى هريرة، ولم يعلم ذلك أبو بكر ولا عمر. وفيه شرب العدد الكثير من اللبن القليل حتى شبعوا ببركة النبوة. وفيه ما كان (صلى الله عليه وسلم) من إيثار البلغة وأخذ القوت فى كرم نفسه وأنه لم يستأثر بشىء من الدنيا دون أمته. وقوله: (اللهم ارزق آل محمد قوتًا) . فيه دليل على فضل الكفاف وأخذ البلغة من الدنيا، والزهد فيما فوق ذلك رغبةً فى توفير نعيم الآخرة، وإيثارًا لما يبقى على ما يفنى لتقتدى بذلك أمته، ويرغبوا فيما رغب فيه نبيهم (صلى الله عليه وسلم) . وروى الطبرى بإسناده عن ابن مسعود قال: حبذا المكروهان الموت والفقر، والله ما هو إلا الغنى والفقر وما أبالى بأيهما ابتليت، إن حق الله فى كل واحد منها واجب، إن كان الغنى ففيه التعطف، وإن كان الفقر ففيه الصبر، قال الطبرى: فمحنة الصابر أشد من محنة الشاكر، وإن كانا شريفى المنزلة، غير أنى أقول كما قال مطرف بن عبد الله: لأن أعافى فأشكر أحب إلىَّ من أن أبتلى فأصبر. ومن فضل قلة الأكل ما روى يحيى بن أبى كثير، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله: (إن أهل البيت ليقل طعمهم فتستنير بيوتهم) . وروى إسحاق بن عبد الله بن أبى طلحة، عن محمد بن على، عن أبيه، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (من سرّه أن يكون حكيمًا فليقل طعمه، فإنه يغشى جوفه نور الحكمة) . وقال مالك ابن دينار: سمعت(10/177)
عبد الله الرازي يقول: كان أهل العلم بالله والقبول عنه يقولون: إن الشبع يقسى القلب، ويفتر البدن. ومن سير السلف فى تخليهم من الدنيا ما روى وكيع، عن الأعمش، عن شقيق بن سلمة عن مسروق، عن عائشة قالت: قال أبو بكر في مرضه الذى مات فيه: انظروا ما زاد فى مالى منذ دخلت فى الخلافة؛ فابعثوا به إلى الخليفة بعدى، فإنى قد كنت أستحله، وقد كنت أصيب من الودك نحوًا مما كنت أصيب من التجارة. قالت عائشة: فلما مات نظرنا فإذا عبد نوبى يحمل صبيانه وناضح كان يسنى عليه، فبعثناهما إلى عمر فأخبرنى جدى أن عمر بكى وقال: رحمة الله على أبى بكر لقد أتعب من بعده. والحُبلة والسمر: نوعان من الشجر أو النبات، عن أبى عبيد. وقد تقدم الكلام فى حديث سعد وما فيه فى كتاب الأطعمة فى باب ما كان النبى (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه يأكلون وتقدّم فيه أيضًا الكلام فى حديث عائشة وأنس وأبى هريرة مع الأحاديث المعارضة لها.
- بَاب الْقَصْدِ وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَى الْعَمَلِ
/ 41 - فيه: عَائِشَةَ، سُئلت أَىُّ الْعَمَلِ كَانَ أَحَبَّ إِلَى رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) ؟ قَالَتِ: الدَّائِمُ، قَالَ: قُلْتُ: فَأَىَّ حِينٍ كَانَ يَقُومُ؟ قَالَتْ: كَانَ يَقُومُ إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ. / 42 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَنْ يُنَجّيَ أَحَدًا(10/178)
مِنْكُمْ عَمَلُهُ) ، قَالُوا: وَلا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (وَلا أَنَا، إِلا أَنْ يَتَغَمَّدَنِى اللَّهُ بِرَحْمَةٍ، سَدِّدُوا، وَقَارِبُوا وَاغْدُوا، وَرُوحُوا، وَشَىْءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ، وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا) . / 43 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (سَدِّدُوا، وَقَارِبُوا، وَاعْلَمُوا أَنْ لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ، وَأَنَّ أَحَبَّ الأعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا، وَإِنْ قَلَّ) . / 44 - وَقَالَ فِى حديث آخر: (اكْلَفُوا مِنَ العمل مَا تُطِيقُونَ) . / 45 - وَقَالَ عَلْقَمَة: سَأَلْتُ عَائِشَةَ، كَيْفَ كَانَ عَمَلُ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) هَلْ كَانَ يَخُصُّ شَيْئًا مِنَ الأيَّامِ؟ قَالَتْ: لا، كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً، وَأَيُّكُمْ يَسْتَطِيعُ مَا كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَسْتَطِيعُ. / 46 - وفيه: أَنَس، صَلَّى لَنَا النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمًا الصَّلاةَ، ثُمَّ رَقِىَ الْمِنْبَرَ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ قِبَلَ قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: (قَدْ أُرِيتُ الآنَ مُنْذُ صَلَّيْتُ لَكُمُ الصَّلاةَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ مُمَثَّلَتَيْنِ فِى قُبُلِ هَذَا الْجِدَارِ، فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ) ، مرتين. قال المؤلف: إنما حضّ النبى (صلى الله عليه وسلم) أمته على القصد والمداومة على العمل، وإن قلّ خشية الانقطاع عن العمل الكثير فكأنه رجوع فى فعل الطاعات، وقد ذمّ الله ذلك، ومدح من أوفى بالنذر، وقد تقدم بيان هذا المعنى فى أبواب صلاة الليل فى آخر كتاب الصلاة. فإن قال قائل: إن قول عائشة: إن النبى لم يكن يخص شيئًا من الأيام بالعمل؛ يعارضه قولها: ما رأيت رسول الله أكثر صيامًا منه فى شعبان. قيل: لا تعارض بين شىء من ذلك، وذلك أنه كان كثير الأسفار فى الجهاد، فلا يجد سبيلا إلى صيام(10/179)
الثلاثة الأيام من كل شهر، فيجمعها فى شعبان، ألا ترى قول عائشة: كان يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم فهذا يبين أنه كان لا يخصّ شيئًا من الزمان؛ بل كان يوقع العبادة على قدر نشاطه، وفراغه لذلك من جهاده وأسفاره، فيقل مرةً ويكثر أخرى، هذا قول المهلب، وقد قيل فى معنى كثرة: صيامه فى شعبان وجوه آخر قد ذكرتها فى باب صوم شعبان فى كتاب الصيام. فإن قيل: فما معنى ذكر حديث أنس فى هذا الباب؟ قيل: معناه أن يوجب ملازمة العمل وإدمانه ما مثل له من الجنة للرغبة، ومن النار للرهبة، فكان فى ذلك فائدتان: إحداهما: تنبيه للناس أن يتمثلوا الجنة والنار بين أعينهم إذا وقفوا بين يدى الله، كما مثلها الله لنبيه، وشغله بالفكرة فيهما عن سائر الأفكار الحادثة عن تذكير الشيطان بما يسهيه حتى لا يدرى كم صلّى، والثانية: أن يكون الخوف من النار الممثلة والرغبة فى الجنة نصب عينى المصلى فيكونا باعثين له على الصبر، والمداومة على العمل المبلغ إلى رحمة الله والنجاة من النار برحمته. فإن قال قائل: فإن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لن يدخل أحدكم عمله الجنة) يعارض قوله تعالى: (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الزخرف: 72] . قيل: ليس كما توهمت، ومعنى الحديث غير معنى الآية، أخبر النبى (صلى الله عليه وسلم) فى الحديث أنه لا يستحق أحد دخول الجنة بعمله، وإنما يدخلها العباد برحمة الله، وأخبر الله تعالى فى الآية أن الجنة تنال المنازل فيها بالأعمال، ومعلوم أن درجات العباد فيها متباينة على قدر تباين أعمالهم، فمعنى الآية فى ارتفاع الدرجات وانخفاضها والنعيم فيها، ومعنى الحديث فى الدخول فى الجنة والخلود فيها، فلا تعارض بين شيء من ذلك.(10/180)
فإن قيل: فقد قال تعالى فى سورة النحل: (سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [النحل: 32] ، فأخبر أن دخول الجنة بالأعمال أيضًا. فالجواب: أن قوله: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [النحل: 32] كلام مجمل يبينه الحديث، وتقديره ادخلوا منازل الجنة وبيوتها بما كنتم تعملون، فالآية مفتقرة إلى بيان الحديث. وللجمع بين الحديث وبين الآيات وجه آخر هو أن يكون الحديث مفسرًا للآيات، ويكون تقديرها: (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الزخرف: 72] ، و) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الطور: 19] ، و) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [النحل: 32] مع رحمة الله لكم وتفضله عليكم؛ لأن فضله تعالى ورحمته لعباده فى اقتسام المنازل فى الجنة، كما هو فى دخول الجنة لا ينفك منه، حين ألهمهم إلى ما نالوا به ذلك، ولا يخلو شىء من مجازاة الله عباده من رحمته وتفضله، ألا ترى أنه تعالى جازى على الحسنة عشرًا، وجازى على السيئة واحدة، وأنه ابتدأ عباده بنعم لا تحصى، لم يتقدم لهم فيها سبب ولا فعل، منها أن خلقهم بشرًا سويا، ومنها نعمة الإسلام ونعمة العافية ونعمة تضمنه تعالى لأرزاق عباده، وأنه كتب على نفسه الرحمة، وأن رحمته سبقت غضبه، إلى ما لا يهتدى إلى معرفته من ظاهر النعم وباطنها. وقوله: (إلا أن يتغمدنى الله) قال أبو عبيد: لا أحسب يتغمدنى إلا مأخوذ من غمد السيف، لأنك إذا غمدته فقد ألبسته إياه وغشيته به. وقول عائشة: (كان عمله ديمةً) يعنى دائمًا، وأصل الديمة: المطر الدائم مع سكون، قال لبيد:(10/181)
باتتْ وأسبلَ واكف من ديمةٍ
يروى الخمائلَ دائمًا تسجامها
فأخبر أن الديمة: الدائم، فشبهت عائشة عمله (صلى الله عليه وسلم) فى دوامه مع الاقتصاد وترك الغلو بديمة المطر.
- بَاب الصَّبْرِ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ
وَقَوْلِهِ: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10] . وَقَالَ عُمَرُ: وَجَدْنَا خَيْرَ عَيْشِنَا بِالصَّبْرِ. / 47 - فيه: أَبُو سَعِيد، أَنَّ أُنَاسًا مِنَ الأنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَلَمْ يَسْأَلْهُ أَحَدٌ إِلا أَعْطَاهُ حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: (لَهُمْ مَا يَكُونْ عِنْدِى مِنْ خَيْرٍ لا أَدَّخِرْهُ عَنْكُمْ، وَإِنَّهُ مَنْ يَسْتَعِفَّ يُعِفُّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَلَنْ تُعْطَوْا عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ) . / 48 - وفيه: الْمُغِيرَة، كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّى حَتَّى تَرِمَ أَوْ تَنْتَفِخَ قَدَمَاهُ، فَيُقَالُ لَهُ، فَيَقُولُ: (أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا) . قال المؤلف: أرفع الصابرين منزلة عند الله من صبر عن محارم الله، وصبر على العمل بطاعة الله، ومن فعل ذلك فهو من خالص عباد الله وصفوته، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لن تعطوا عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر) وسئل الحسن عن قوله (صلى الله عليه وسلم) حين سئل عن الإيمان فقال: (الصبر والسماح) فقيل للحسن: ما الصبر والسماح؟ فقال: السماح بفرائض الله، والصبر عن محارم الله.(10/182)
وقال الحسن: وجدت الخير فى صبر ساعةٍ. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (من يستعفف يعفه الله ومن يتصبر يصبره الله، ومن يستغن يغنه الله) معناه من يعفه الله يستعفف، ومن يصبره الله يتصبر، ومن يغنه الله يستغن، وهذا مثل قوله تعالى: (فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى) [الليل: 5، 6] الآية. يبين صحة هذا قوله تعالى: (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) [التوبة: 118] ، فلولا ما سبق فى علمه أنه قضى لهم بالتوبة ما تابوا، وكذلك لولا ما سبق فى علم الله أنهم ممن يستعفف ويستغنى ويصبر ما قدروا على شىء من ذلك بفعلهم. يبين ذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) : (اعملوا فكل ميسرّ لما خلق له) وهذا حجة فى أن أفعال العباد خلق لله تعالى والصبر فى حديث المغيرة صبر على العمل بطاعة الله، لأنه كان (صلى الله عليه وسلم) يصلى بالليل حتى ترم قدماه، ويقول: (أفلا أكون عبدًا شكورًا) . قال الطبرى: وقد اختلف السلف فى حد الشكر فقال بعضهم: شكر العبد لربه على أياديه عنده رضاؤه بقضائه، وتسليمه لأمره فيما نابه من خير أو شر، ذكره الربيع بن أنس عن بعض أصحابه. وقال آخرون: الشكر لله هو الإقرار بالنعم أنها منه، وأنه المتفضل بها، وقالوا الحمد والشكر بمعنى واحد روى ذلك عن ابن عباس وابن زيد. قال الطبرى: والصّواب فى ذلك أن شكر العبد هو إقراره بأن ذلك من الله دون غيره وإقرار الحقيقة الفعل، ويصدقه العمل، فأما(10/183)
الإقرار الذى يكذبه العمل، فإن صاحبه لا يستحق اسم الشاكر بالإطلاق، ولكنه يقال شكر باللسان والدليل على صحة ذلك قوله تعالى: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا) [سبأ: 13] ، ومعلوم أنه لم يأمرهم، إذ قال لهم ذلك، بالإقرار بنعمه؛ لأنهم كانوا لا يجحدون أن يكون ذلك تفضلا منه عليهم، وإنما أمرهم بالشكر على نعمه بالطاعة له بالعمل، وكذلك قال (صلى الله عليه وسلم) حين تفطرت قدماه فى قيام الليل: (أفلا أكون عبدًا شكورًا) . فإن قال قائل: فأى المنزلتين أعلى درجةً: الصبر أو الشكر؟ قيل: كل رفيع الدرجة شريف المنزلة، وما ذو العافية والرخاء كذى الفاقة والبلاء، وفى قوله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10] ، وخصوصه إياهم من الأجر على صبرهم دون سائر من ضمن له ثوابًا على عمله ما يبين عن فضل الصبر. وقد روى الأعمش، عن أبى الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (يود أهل العافية يوم القيامة أن جلودهم فى الدنيا كانت تقرض بالمقاريض لما يرون من ثواب الله تعالى لأهل البلاء) وذكر ابن أبى الدنيا من حديث أم هانئ قالت: (دخل علىّ رسول الله فقال: أبشرى، فإن الله قد أنزل لأمتى الخير كله، قد أنزل) إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) [هود: 114] ، قلت: بأبى وأمى وما الحسنات؟ قال الصلوات الخمس ودخل علىّ فقال: أبشرى فإنه قد أنزل خير لا شر بعده. قلت: بأبى وأمى ما هو؟ قال: أنزل الله) مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) [الأنعام: 160] ، فقلت: يا رب زد أمتى، فأنزل الله تعالى: (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِى سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِى كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ) [البقرة: 261] ،(10/184)
فقلت: يا رب زد أمتى. فأنزل الله: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10] .
- بَاب حِفْظِ اللِّسَانِ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ) ، وَقول اللَّه: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 18]
. / 49 - فيه: سَهْلِ بْن سَعْدٍ، قَالَ رَسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ يَضْمَنْ لِى مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ، وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ، أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ) . / 50 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ) . ورواه أبو شريح، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) . / 51 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ، مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا يَزِلُّ بِهَا فِى النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغرب) . / 52 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، لا يُلْقِى لَهَا بَالا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، لا يُلْقِى لَهَا بَالا، يَهْوِى بِهَا فِى جَهَنَّمَ) . قال المؤلف: ما أحق من علم أن عليه حفظةً موكلين به، يحصون عليه سقط كلامه وعثرات لسانه، أن يحزنه ويقل كلامه فيما لا يعنيه،(10/185)
وما أحراه بالسعى فى أن لا يرتفع عنه ما يطول عليه ندمه من قول الزور والخوض فى الباطل، وأن يجاهد نفسه فى ذلك ويستعين بالله ويستعيذ من شر لسانه، وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت) يعنى من كان يؤمن بالله واليوم الآخر الإيمان التام فإنه ستبعثه قوة إيمانه على محاسبة نفسه فى الدنيا والصمت عما يعود عليه ندامةً يوم القيامة، وكان الحسن يقول: ابن آدم، نهارك ضيفك فأحسن إليه، فإنك إن أحسنت إليه ارتحل يحمدك، وإن أسأت إليه ارتحل يذمك. وقال عمر بن عبد العزيز لرباح بن عبيد: بلغنى أن الرجل ليظلم بالمظلمة، فما زال المظلوم يشتم ظالمه حتى يستوفى حقه ويفضل للظالم عليه. وروى أسد عن الحسن البصرى قال: لا يبلغ أحد حقيقة الإيمان حتى لا يعيب أحدًا بعيب هو فيه، وحتى يبتدئ بصلاح ذلك العيب من نفسه، فإنه إن فعل ذلك لم يصلح عيبًا إلا وجد فى نفسه عيبًا آخر، فينبغى له أن يصلحه، فإذا كان المرء كذلك شغله فى خاصته واجبًا، وأحب العباد إلى الله من كان كذلك. وقوله: (من ضمن لى ما بين لحييه) يعنى لسانه فلم يتكلم بما يكتبه عليه صاحب الشمال (وما بين رجليه) يعنى فرجه فلم يستعمله فيما لا يحل له (ضمنت له الجنة) . ودل بهذا الحديث أن أعظم البلاء على العبد فى الدنيا اللسان والفرج، فمن وقى شرهما فقد وقى أعظم الشر، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يلقى لها بالاً يزل بها فى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب) . وقال أهل العلم: هى الكلمة عند السلطان بالبغي والسعي على(10/186)
المسلم، فربما كانت سببًا لهلاكه، وإن لم يرد ذلك الباغى، لكنها آلت إلى هلاكه، فكتب عليه إثم ذلك، والكلمة التى يكتب الله له بها رضوانه الكلمة يريد بها وجه الله بين أهل الباطل، أو الكلمة يدفع بها مظلمة عن أخيه المسلم، ويفرج عنه بها كربةً من كرب الدنيا، فإن الله تعالى يفرج عنه كربةً من كرب الآخرة، ويرفعه بها درجات يوم القيامة.
- بَاب الْبُكَاءِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ
/ 53 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِى ظله: رَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ. . .) الحديث. قال المؤلف: قد تقدم الكلام فى هذا الحديث فى كتاب المحاربين فى باب فضل من ترك الفواحش، ونذكر فى هذا الباب ما روى فى البكاء من خشية الله تعالى عن الأنبياء، عليهم السلام، وعن السلف أيضًا، روى أسد بن موسى، عن عمران بن زيد، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (أيها الناس، ابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا، فإن أهل النار يبكون فى النار حتى تسيل دموعهم فى وجوههم كأنها جداول، ثم تنقطع الدموع وتسيل الدماء فتقرح العيون، فلو أن السفن أجرين فيها لجرت) وكان (صلى الله عليه وسلم) إذا قام إلى الصلاة سمع لجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء، وهذه كانت سيرة الأنبياء والصالحين كأن خوف الله أُشرب قلوبهم واستولى عليهم الوجل حتى كأنهم عاينوا الحساب، وعن يزيد(10/187)
الرقاشى قال: يا لهفاه سبقنى العابدون، وقطع بى نوح؛ يبكى على خطيئته، ويزيد لا يبكى على خطيئته، إنما سُمّى نوحًا لطول ما ناح على نفسه فى الدنيا. وذكر ابن المبارك عن مجاهد قال: كان طعام يحيى بن زكريا العشب، وكان يبكى من خشية الله، ما لو كان القار على عينيه لخوفه ولقد كانت الدموع اتخذت فى وجهه مجرى. وقال ابن عباس: قال النبي - عليه السلام -: (كان مما ناجى الله موسى أنه لم يتعبد العابدون بمثل البكاء من خيفتى، أما البكاءون من خيفتى فلهم الرفيق لا يشاركون فيه) . وعن وهيب بن الورد أن زكريا قال ليحيى ابنه شيئًا فقال له: يا أبة، إن جبريل أخبرنى أن بين الجنة والنار مفازة لا يقطعها إلا كل بكاء. وقال الحسن: أوحى الله إلى عيسى ابن مريم: أكحل عينيك بالبكاء إذا رأيت البطالين يضحكون. وعن وهب بن منبه عن النبي - عليه السلام - قال: (لم يزل أخى داود باكيًا على خطيئته مدة حياته كلها) ، وكان يلبس الصوف ويفترش الشعر ويصوم يومًا ويفطر يومًا، ويأكل خبز الشعير بالملح والرماد، ويمزج شرابه بالدموع، ولم يُر ضاحكًا بعد الخطيئة، ولا شاخصًا ببصره إلى السماء حياءً من ربه وهذا بعد المغفرة، وكان إذا ذكر خطيئته خر مغشيا عليه يضطرب كأنه أعجب به، فقال: وهذه خطيئة أخرى. وروى عن محمد بن كعب فى قوله تعالى: (وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى(10/188)
وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 25] ، قال: الزلفى: أول من يشرب من الكأس يوم القيامة داود وابنه. قال بعض الناس: أرى هذه الخاصة لشربه دموعه من خشية الله عز وجل وكان عثمان بن عفان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته، فقيل له: قد تذكر الجنة والنار ولا تبكى وتبكى من هذا؟ قال: رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال لى: (إن القبر أول منزلة من منازل الآخرة، فمن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه) . وقال أبو رجاء: رأيت مجرى الدموع من ابن عباس كالشراك البالى من البكاء.
- بَاب الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ
/ 54 - فيه: حُذَيْفَةَ، وَأَبُو سَعِيد، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (كَانَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يُسِىءُ الظَّنَّ بِعَمَلِهِ، فَقَالَ لأهْلِهِ: إِذَا أَنَا مُتُّ، فَخُذُونِى، فَذَرُّونِى فِى الْبَحْرِ فِى يَوْمٍ صَائِفٍ، فَفَعَلُوا بِهِ، فَجَمَعَهُ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى الَّذِى صَنَعْتَ؟ قَالَ: مَا حَمَلَنِى إِلا مَخَافَتُكَ، فَغَفَرَ لَهُ) . / 55 - وَقَالَ أَبُو سَعِيد فِى حديثه: (إِنَّهُ لَمْ يَبْتَئِرْ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرًا، فَسَّرَهَا قَتَادَةُ، لَمْ يَدَّخِرْ، وَإِنْ يَقْدَمْ عَلَى اللَّهِ يُعَذِّبْهُ، فَانْظُرُوا، فَإِذَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِى حَتَّى إِذَا صِرْتُ فَحْمًا، فَاسْحَقُونِى، أَوْ قَالَ: فَاسْهَكُونِى، ثُمَّ إِذَا كَانَ رِيحٌ عَاصِفٌ، فَأَذْرُونِى فِيهَا، فَأَخَذَ مَوَاثِيقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَرَبِّي، فَفَعَلُوا،(10/189)
فَقَالَ اللَّهُ: كُنْ، فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ، ثُمَّ قَالَ: أَىْ عَبْدِى، مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ؟ قَالَ: مَخَافَتُكَ، أَوْ فَرَقٌ مِنْكَ، فَمَا تَلافَاهُ أَنْ رَحِمَهُ اللَّهُ) . قال المؤلف: ذكر البخارى فى باب ما ذكر عن بنى إسرائيل، قال حذيفة: (وكان نباشًا) . قال المؤلف: فغفر الله له بشدة مخافته، وأقرب الوسائل إلى الله خوفه وألا يأمن المؤمن مكره، قال خالد الربعى: وجدت فاتحة زبور داود: رأس الحكمة خشية الربّ. وكان السلف الصالح قد أشرب الخوف من الله قلوبهم واستقلوا أعمالهم ويخافون ألا يقبل منهم مع مجانبتهم الكبائر، فروى عن عائشة: (أنها سألت النبى (صلى الله عليه وسلم) عن قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) [المؤمنون: 60] ، قال: يا ابنة الصديّق، هم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون، ويخافون ألا يقبل منهم) . وقال مطرف بن عبد الله: كاد خوف النار يحول بينى وبين أن أسأل الله الجنة. وقال بكر، لما نظر إلى أهل عرفات: ظننت أنه قد غفر لهم لولا أنى كنت معهم. فهذه صفة العلماء بالله الخائفين له، يعدون أنفسهم من الظالمين الخاطئين، وهم أنزاه برآه مع المقصرين، وهم أكياس مجتهدون لا يدلون عليه بالأعمال فهم مروّعون خاشعون وجلون(10/190)
وقال عبد الله بن مسعود: وددت أنى انفلقت عن روثة لا أنتسب إلا إليها، فيقال: عبد الله بن روثة، وأن الله قد غفر لى ذنبًا واحدًا. وقال الحسن البصري: يخرج من النار رجل بعد ألف عام، وليتنى كنت ذلك الرجل، لقد شهدت أقوامًا كانوا أزهد فيما أحل لهم منكم فيما حرم عليكم، ولهم كانوا أبصر بقلوبهم منكم بأبصاركم، ولهم كانوا أشفق أن لا تقبل حسناتهم منكم ألا تؤخذوا بسيئاتكم. وقال حكيم من الحكماء: إذا أردت أن تعلم قدرك عند الله فاعلم قدر طاعة الله فى قلبك. وقال ميمون بن مهران: ما فينا خير إلا أنا نظرنا إلى قوم ركبوا الجرائم وعففنا عنها، فظننا أن فينا خيرًا وليس فينا خير. فإن قال قائل: كيف غفر لهذا الذى أوصى أهله بإحراقه وقد جهل قدرة الله على إحيائه، وذلك أنه قال: (إن يقدر على الله يعذبنى) وقال فى رواية أخرى: (فوالله لئن قدر الله علىَّ ليعذبنى) . قال الطبري: قيل: قد اختلف الناس فى تأويل هذا الحديث، فقال بعضهم: أما ما كان من عفو الله عما كان منه فى أيام صحتّه من المعاصى؛ فلندمه عليها وتوبته منها عند موته، ولذلك أمر ولده بإحراقه وذروه فى البر والبحر خشية من عقاب ربه(10/191)
والندم توبة، ومعنى رواية من روى: (فوالله لئن قدر الله عليه) أى ضيق عليه، كقوله: (وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) [الطلاق: 7] ، وقوله: (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) [الفجر: 16] ، لم يرد بذلك وصف بارئه بالعجز عن إعادته حيًا، ويبين ذلك قوله فى الحديث حين أحياه ربه (قال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: مخافتك يا رب) . وبالخوف والتوبة نجا من عذابه عز وجل. وقال آخرون فى معنى قوله (لئن قدر الله علىَّ) : معناه القدرة التى هى خلاف العجز، وكان عنده أنه إذا أحرق وذرى فى البر والبحر أعجز ربه عن إحيائه، قالوا: وإنما غفر له جهله بالقدرة؛ لأنه لم يكن تقدم من الله تعالى فى ذلك الزمان بأنه لا يغفر الشرك به، وليس فى العقل دليل على أن ذلك غير جائز فى حكمة الله؛ بل الدليل فيه على أنه ذو الفضل والإحسان والعفو عن أهل الآثام، وإنما نقول: لا يجوز أن يغفر الشرك بعد قوله تعالى: (إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ) [النساء: 48] ، فأما جواز غفران الله ذلك لولا الخبر فى كتابه فهو كان الأولى بفضله والأشبه بإحسانه لأنه لا يضره كفر كافر، ولا ينفعه إيمان مؤمن. وقال آخرون: بل غفر له وإن كان كفرًا من قوله، من أجل أنه قاله على جهل منه بخطئه؛ فظن أن ذلك صواب. قالوا: وغيرجائز فى عدل الله وحكمته أن يسّوى بين من أخطأ وهو يقصد الصواب، وبين من تعمّد الخطأ والعناد للحق فى العقاب. وقال آخرون: إنما غفر له، وإن كان كفرًا ممن قصد قوله وهو يعقل(10/192)
ما يقول؛ لأنه قاله وهو لا يعقل ما يقول. وغير جائز وصف من نطق بكلمة كفر وهو لا يعلمها كفرًا بالكفر، وهذا قاله وقد غلب على فهمه من الجزع الذى كان لحقه لخوفه من عذاب الله تعالى وهذا نظير الخبر الذى روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) فى الذى يدخل الجنة آخر من يدخلها فيقال له: (إن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها) فيقول للفرح الذى يدخله: (يا رب أنت عبدى وأنا ربك مرتين) قالوا فهذا القول لو قاله على فهم منه بما يقول كان كفرًا، وإنما لم يكن منه كفرًا لأنه قاله وقد استخفه الفرح مريدًا به أن يقول: أنت ربى وأنا عبدك، فلم يكن مأخوذًا بما قال من ذلك. ويشهد لصحة هذا المعنى قوله تعالى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) [الأحزاب: 5] . قال المؤلف: وسأذكر كلام الأشعرى ومذهبه فى هذا الحديث فى كتاب الاعتصام فى باب قوله تعالى: (يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ) [الفتح: 15] ، فهو حديث أكثر الناس فيه القول إن شاء الله. وقوله: (لم يبتئر خيرًا) فإن الأصمعى والكسائى كانا يقولان فيه: لم يقدم خيرًا. وقال غيرهما: معناه أنه لم يقدم لنفسه خيرًا خبأه لها، وقال: إن أصل الابتئار الإخفاء، يقال منه: بأرت الشىء وابتأرته ابتئارًا، ومنه سميت الحفرة: البؤرة، وفيه لغتان ابتأرت وابتيرت، ومصدره ابتئارًا. وقال صاحب العين: البئرة بوزن فعلة: ما ادخرت من شيء.(10/193)
- بَاب الانْتِهَاءِ عَنِ الْمَعَاصِى
/ 56 - فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَثَلِى وَمَثَلُ مَا بَعَثَنِى اللَّهُ به كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمًا، فَقَالَ: رَأَيْتُ الْجَيْشَ بِعَيْنَىَّ، وَأَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ، فَالنَّجَا النَّجَاءَ، فَأَطَاعَتْهُ طَائِفَةٌ، فَأَدْلَجُوا عَلَى مَهْلِهِمْ، فَنَجَوْا، وَكَذَّبَتْهُ طَائِفَةٌ، فَصَبَّحَهُمُ الْجَيْشُ، فَاجْتَاحَهُمْ) . / 57 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا مَثَلِى وَمَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ جَعَلَ الْفَرَاشُ، وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِى تَقَعُ فِى النَّارِ، يَقَعْنَ فِيهَا، وَجَعَلَ يَنْزِعُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ، فَيَقْتَحِمْنَ فِيهَا، فَأَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ، وَهُمْ يَقْتَحِمُونَ فِيهَا) . / 58 - وفيه: عَبْدَ اللَّه بْنَ عَمْرٍو، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ) . قال المؤلف: هذه أمثال ضربها النبى (صلى الله عليه وسلم) لأمته لينبههم بها على استشعار الحذر، خوف التورّط فى محارم الله والوقوع فى معاصيه، ومثل لهم ذلك بما عاينوه وشاهدوه من أمور الدنيا؛ ليقرب ذلك من أفهامهم، ويكون أبلغ فى موعظتهم، فمثل (صلى الله عليه وسلم) اتباع الشهوات المؤدية إلى النار بوقوع الفراش فى النار؛ لأن الفراش من شأنه اتباع ضوء النار حتى يقع فيها، فكذلك متبع شهوته يئول به ذلك إلى العذاب، وشبهّ جهل راكب الشهوات بجهل الفراش؛ لأنها لا تظن أن النار تحرقها حتى تقتحم فيها. والنذير العريان: رجل من خثعم حمل عليه يوم ذى الخلصة فقطع(10/194)
يده ويد امرأته، فرجع إلى قومه، فضرب - عليه السلام - المثل لأمته لأنه تجردّ لإنذارهم، لما يصير إليه من اتبعه من كرامة الله، وبما يصير إليه من عصاه من نقمته وعذابه؛ تجرد من رأى من الحقيقة ما رأى النذير العريان الذى قطعت يده ويد امرأته حتى ضرب به المثل فى تحقيق الخبر. وقوله: (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه) يعنى المهاجر التام الهجرة من هجر المحارم، كما قال (صلى الله عليه وسلم) أن جهاد النفس أكبر من جهاد العدو.
- بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ - عليه السلام -: (لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلا
/ 59 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَنَس، عن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا) . قال المؤلف: روى سنيد، عن هشيم، عن كوثر بن حكيم، عن نافع، عن ابن عمر قال: (خرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى المسجد، فإذا قوم يتحدثون ويضحكون، قال: أكثروا ذكر الموت، أما والذى نفسى بيده لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا) . وخشية الله إنما تكون على مقدار العلم به، كما قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء) [فاطر: 28] ، ولما لم يعلم أحد كعلم النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يخش كخشيته، فمن نور الله قلبه وكشف الغطاء عن بصيرته، وعلم ما حباه الله من النعم، وما يجب عليه من الطاعة والشكر، وأفكر فيما يستقبل من أهوال يوم القيامة،(10/195)
وما يلقى العباد فى تلك المواقف من الشدائد، وما يعاينوه من مساءلة الله عباده عن مثاقيل الذر، وعن الفتيل والقطمير كان حقيقًا بكثرة الحزن وطول البكاء، ولهذا قال أبو ذرّ: لو تعلمون العلم ما ساغ لكم طعام ولا شراب، ولا نمتم على الفرش، ولاجتنبتم النساء، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون وتبكون. وقال عبد الله بن عمرو: ابكوا، فإن لم تجدوا بكاءً فتباكوا، فلو تعلمون العلم لصلى أحدكم حتى ينكسر ظهره، ولبكى حتى ينقطع صوته. وقال الفضيل: بلغنى عن طلحة أنه ضحك يومًا فوثب على نفسه، وقال: فيم تضحك، إنما يضحك من قطع الصراط، ثم قال: آليت على نفسى ألا أكون ضاحكًا حتى أعلم متى تقع الواقعة، فلم ير ضاحكًا حتى صار إلى الله. وقال الحسن: يحق لمن عرف أن الموت مورده والقيامة موعده، وأن الوقوف بين يدى الله مشهده، أن يطول فى الدنيا حزنه. وقال سفيان فى قوله تعالى: (وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الأنبياء: 91] ، قال: الحزن الدائم فى القلب، وقال: إنما الحزن على قدر البصر. وقال بعضهم: الحزن والخشية هى مواريث القلوب التى تُنال بما قبلها من الأعمال، فمن رام أن يقيم فرضه تامًا فيصلى لله بكمال الصلاة، ويصوم بكمال الصيام، ويؤدى كذلك سائر الفرائض، ويقوم بالحق على نفسه وأهله ومن يسأل عنه فى مداخلته ومخالطته، ويقيم ما أمر به فى لسانه وسمعه وبصره، وجميع(10/196)
جوارحه حتى يدخل فى قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) [فصلت: 30] ، وجد نفسه عن ذلك عاجزًا مقصرًا، فإذا رأى ذلك بعين جلية وعلم قرب أجله وعظيم خطبه، وأن الوقوف بين يدى الله من ورائه حزن على نفسه، بتخلفه عن السابقة التى يسمعها لغيره، ووجب عليه الجد فى أمره واستجلاب معونة الله بالاعتصام به، قال تعالى: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الأنبياء: 90] . وقال مطرف بن عبد الله: دع أعمال الشر؛ فإن فى الخير شرًا كثيرًا فلو لم تكن لنا ذنوب إلا أن الله تعالى يؤاخذنا بصحة أعمالنا وإتقانها وإحكامها وإصلاحها وصوابها لكان فى هذا شغل كثير لمن يعقل. وقد تقدم فى كتاب الإيمان فى باب خوف المؤمن أن يحبط عمله ولا يشعر ما يشبه هذا المعنى.
- بَاب حُجِبَتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ
/ 60 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (حُجِبَتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ، وَحُجِبَتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ) . / 61 - وفيه: ابْن مَسْعُود، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (الْجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ، وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ) . / 62 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَصْدَقُ كلمة قَالَها الشَّاعِرُ: أَلا كُلُّ شَىْءٍ مَا خَلا اللَّهَ بَاطِلُ) .(10/197)
قال المؤلف: قوله (صلى الله عليه وسلم) : (حجبت النار بالشهوات والجنة بالمكاره) من جوامع الكلم وبديع البلاغة فى ذم الشهوات والنهى عنها، والحض على طاعة الله، وإن كرهتها النفوس وشق عليها؛ لأنه إذا لم يكن يوم القيامة غير الجنة والنار ولم يكن بد من المصير إلى إحداهما فواجب على المؤمنين السعى فيما يدخل إلى الجنة وينقذ من النار، وإن شق ذلك عليهم؛ لأن الصبر على النار أشق، فخرج هذا الخطاب منه (صلى الله عليه وسلم) بلفظ الخبر وهو من باب النهى والأمر. وقوله: (الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك) فدليل واضح أن الطاعات الموصلة إلى الجنة والمعاصى المقربة من النار قد تكون فى أيسر الأشياء، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقى لها بالا؛ يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقى لها بالا؛ يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه) . فينبغى للمؤمن ألا يزهد فى قليل من الخير يأتيه، ولا يستقل قليلاً من الشر يجتنيه فيحسبه هينًا، وهو عند الله عظيم، فإن المؤمن لا يعلم الحسنة التى يرحمه الله بها، ولا يعلم السيئة التى يسخط الله عليه بها، وقد قال الحسن البصرى: من تقبلت منه حسنة واحدة دخل الجنة. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (أصدق كلمة قالها الشاعر: ألا كل شىء ما خلا الله باطل) فالمراد به الخصوص؛ لأن كل ما قرب من الله فليس بباطل، وإنما أراد أن كل شىء من أمور الدنيا التى لا تئول إلى طاعة الله، ولا تقرب منه فهى باطل.(10/198)
- بَاب لِيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ
/ 63 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِى الْمَالِ وَالْخَلْقِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ) . قال الطبرى: وهذا حديث جامع لمعانى الخير، وذلك أن العبد لا يكون بحال من عبادة ربه مجتهدًا فيها؛ إلا وجد من هو فوقه فى ذلك، فمتى طلب نفسه باللحاق بمن هو فوقه استقصر حاله التى هو عليها، فهو أبدًا فى زيادة تقربه من ربه، ولا يكون على حالةٍ خسيسةٍ من دنياه إلا وجد من أهلها من هو أخسّ منه حالا، فإذا تأمل ذلك وتفكره وتبين نعم الله عليه؛ علم أنها وصلت إليه ولم تصل إلى كثير من خلقه، فضله الله بها من غير أمر أوجب ذلك له على خالقه، ألزم نفسه من الشكر عليها أن وفق لها ما يعظم به اغتباطه فى معاده.
- بَاب مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ أَوْ سَيِّئَةٍ
/ 64 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ، فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ، فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً) . قال المؤلف: هذا حديث شريف بينّ فيه النبى (صلى الله عليه وسلم) مقدار تفضل الله على عباده بأن جعل هموم العبد بالحسنة، وإن لم يعملها حسنة، وجعل همومه بالسيئة إن لم يعملها حسنة، وإن عملها(10/199)
كتبت سيئة واحدة، وإن عمل الحسنة كتبت عشرًا، ولولا هذا التفضل العظيم لم يدخل أحد الجنة؛ لأن السيئات من العباد أكثر من الحسنات، فلطف الله بعباده بأن ضاعف لهم الحسنات، ولم يضاعف عليهم السيئات، وإنما جعل الهموم بالحسنة حسنةً، لأن الهموم بالخير هو فعل القلب بعقد النية على ذلك. فإن قيل: فكان ينبغى على هذا القول أن يكتب لمن همّ بالشرّ ولم يعمله سيئةً؛ لأن الهموم بالشرّ عمل من أعمال القلب للشرّ. قيل: ليس كما توهمت، ومن كفّ عن فعل الشرّ فقد نسخ اعتقاده للسيئة باعتقاد آخر نوى به الخير وعصى هواه المريد للشرّ، فذلك عمل للقلب من أعمال الخير، فجوزى على ذلك بحسنة، وهذا كقوله (صلى الله عليه وسلم) : (على كل مسلم صدقة. قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: يمسك عن الشرّ فإنه صدقة) ذكره فى كتاب الأدب فى باب كل معروف صدقة. وحديث ابن عباس معناه الخصوص لمن همّ بسيئة، فتركها لوجه الله تعالى وأما من تركها مكرهًا على تركها بأن يحال بينه وبينها، فلا تكتب له حسنة ولا يدخل فى معنى الحديث. قال الطبرى: وفى هذا الحديث تصحيح مقالة من يقول: إن الحفظة تكتب ما يهم به العبد من حسنة أو سيئة وتعلم اعتقاده لذلك، وردّ مقالة من زعم أن الحفظة، إنما تكتب ما ظهر من عمل العبد وسمع، واحتجوا بما روى ابن وهب، عن معاوية بن صالح، عن كثير بن الحارث، عن القاسم مولى معاوية، عن عائشة زوج النبى (صلى الله عليه وسلم) قالت: (لأن أذكر الله تعالى فى نفسى أحب إلي من أن أذكره(10/200)
بلساني سبعين مرةً، وذلك لأن ملكًا لا يكتبها، وبشرًا لا يسمعها) والصواب فى ذلك ما صح به الحديث عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (من همّ بحسنةٍ فلم يعملها كتبت له حسنة) والهم بالحسنة إنما هو فعل العبد بقلبه دون سائر الجوارح، كذكر الله بقلبه، فالمعنى الذى به يصل الملكان الموكلان بالعبد إلى علم ما يهم به بقلبه؛ هو المعنى الذى به يصل إلى علم ذكر ربه بقلبه، ويجوز أن يكون جعل الله لهما إلى علم ذلك سبيلاً كما جعل لكثير من أنبيائه السبيل إلى كثير من علم الغيب، وقد أخبر الله عن عيسى ابن مريم أنه قال لبنى إسرائيل: (وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ) [آل عمران: 49] ، وقد أخبر نبينا (صلى الله عليه وسلم) بكثير من علم الغيب، قالوا: فغير مستنكر أن يكون الكاتبان الموكلان بابن آدم، قد جعل لهما سبيلاً إلى علم ما فى قلوب بنى آدم من خير أو شرٍّ، فيكتبانه إذا حدث به نفسه أو عزم عليه. وقد قيل: إن ذلك بريح يظهر لهما من القلب، سئل أبو معشر عن الرجل يذكر الله بقلبه، كيف يكتب الملك؟ قال: يجد الريح. وسأذكر اختلاف السلف فى أى الذكرين أعظم ثوابًا الذكر الذى هو بالقلب أو الذكر الذى هو باللسان عند قوله (صلى الله عليه وسلم) عن الله تعالى: (وإن ذكرنى عبدى فى نفسه ذكرته فى نفسى) فى باب قوله تعالى: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) [آل عمران: 28] فى كتاب الاعتصام.(10/201)
- بَاب مَا يُتَّقَى مِنْ مُحَقرَاتِ الذُّنُوبِ
/ 65 - فيه: أَنَس، إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالا هِىَ أَدَقُّ فِى أَعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعَرِ، إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) مِنَ الْمُوبِقَاتِ. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: يَعْنِى الْمُهْلِكَاتِ. قال المؤلف: إنما كانوا يعدون الصغائر من الموبقات لشدة خشيتهم لله، وإن لم تكن لهم كبائر، ألا ترى أن إبراهيم (صلى الله عليه وسلم) إذا سئل الشفاعة يوم القيامة يذكر ذنبه، وأنه كذب ثلاث كذبات، وهى قوله فى زوجته: هذه أختى. وهى أخته فى الدين، وقوله: إنى سقيم. أى: سأسقم، وقوله: فعله كبيرهم هذا. يعنى الصنم، فرأى ذلك (صلى الله عليه وسلم) من الذنوب، وإن كان لقوله وجه صحيح، فلم يقنع من نفسه إلا بظاهر يطابق الباطن، وهذا غاية الخوف. والمحقرات إذا كثرت صارت كبائر بالإصرار عليها والتمادى فيها، وقد روى ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن يزيد بن أبى حبيب، عن أسلم أبى عمران أنه سمع أبا أيوب يقول: إن الرجل ليعمل الحسنة فيثق بها ويغشى المحقرات، فيلقى الله يوم القيامة وقد أحاطت به خطيئته، وإن الرجل ليعمل السيئة، فما يزال منها مشفقًا حذرًا حتى يلقى الله يوم القيامة آمنًا. وذكر أسد بن موسى عن ابن مسعود قال: إياكم ومحقرات الذنوب، فإنها تجتمع حتى تهلك صاحبها، وإن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد ضرب لنا مثلاً كمثل ركب نزلوا بأرض فلاة، فلم يجدوا فيها حطبًا، فانطلق كل واحدٍ منهم، فجاء بعود حتى اجتمعت أعواد،(10/202)
فأوقدوا نارًا أنضجت ما جعل فيها) ورواه سهل بن سعد عن النبى (صلى الله عليه وسلم) وقال أبو عبد الرحمن الحبلى: مثل الذى يجتنب الكبائر ويقع فى المحقرات، كرجل لقاه سبع فاتقاه حتى نجا منه، ثم لقيه فحل إبل فاتقاه فنجا منه، فلدغته نملة فأوجعته، ثم أخرى، ثم أخرى حتى اجتمعن عليه فصرعنه، وكذلك الذى يجتنب الكبائر ويقع فى المحقرات. وقال أبو بكر الصديق: إن الله يغفر الكبائر فلا تيئسوا، ويعذب على الصغائر فلا تغتروا.
- بَاب الأعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ وَمَا يُخَافُ مِنْهَا
/ 66 - فيه: سَهْل، نَظَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى رَجُلٍ يُقَاتِلُ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُسْلِمِينَ غَنَاءً عَنْهُمْ، فَقَالَ: (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا) ، فَتَبِعَهُ رَجُلٌ، فَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى جُرِحَ، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ، فَقَالَ بِذُبَابَةِ سَيْفِهِ، فَوَضَعَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، فَتَحَامَلَ عَلَيْهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ فِيمَا يَرَى النَّاسُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَيَعْمَلُ فِيمَا يَرَى النَّاسُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا الأعْمَالُ بِالْخَوَاتِيم) . قال المؤلف: فى تغييب الله عن عباده خواتيم أعمالهم حكمة بالغة وتدبير لطيف، وذلك أنه لو علم أحد خاتمة عمله لدخل الإعجاب والكسل من علم أنه يختم له بالإيمان، ومن علم أنه يختم له بالكفر يزداد غيًا وطغيانًا وكفرًا فاستأثر الله تعالى بعلم ذلك ليكون العباد بين خوف ورجاء، فلا يعجب المطيع لله بعمله ولا(10/203)
ييأس العاصي من رحمته، ليقع الكل تحت الذل والخضوع لله والافتقار إليه، وقال حفص بن حميد: قلت لابن المبارك: رأيت رجلاً قتل رجلاً، فوقع فى نفسى أنى أفضل منه. فقال عبد الله: أمنك على نفسك أشد من ذنبه. قال الطبرى: ومعنى قوله: إن أمنه على نفسه أنه من الناجين عند الله من عقابه أشد من ذنب القاتل؛ لأنه لا يدرى إلى ما يئول إليه أمره وعلى من يموت، ولا يعلم أيضًا حال القاتل إلى ما يصير إليه، لعله يتوب فيموت تائبًا فيصير إلى عفو الله، وتصير أنت إلى عذابه لتغير حالك من الإيمان بالله إلى الشرك به، فالمؤمن فى حال إيمانه وإن كان عالمًا بأنه محسن فيه، غير عالم على ما هو ميت عليه، وإلى ما هو صائر إليه، فغير جائز أن يقضى لنفسه، وإن كان محسنًا بالحسنى عند الله، ولغيره وإن كان مسيئًا بالسوء، وعلى هذا مضى خيار السلف.
- بَاب الْعُزْلَةُ رَاحَةٌ مِنْ خُلطاء السُّوءِ
/ 67 - فيه: أَبُو سَعِيد، جَاءَ أَعْرَابِىٌّ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَىُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: (رَجُلٌ جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، وَرَجُلٌ فِى شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَعْبُدُ رَبَّهُ وَيَدَعُ، النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ) . / 68 - وفيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَأْتِى عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، خَيْرُ مَالِ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ الْغَنَمُ، يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ، وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ) . فيه: أن اعتزال الناس عند ظهور الفتن والهرب عنهم أسلم للدين من مخالطتهم، ذكر على بن معبد، عن الحسين بن واقد قال: قال(10/204)
النبي - عليه السلام - (إذا كانت سنة ثمانين ومائة فقد أحللت لأمتي العزبة والعزلة والترهب فى رءوس الجبال) . وذكر على بن معبد عن عبد الله بن المبارك عن مبارك بن فضالة، عن الحسن يرفعه إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (يأتى على الناس زمان لا يسلم لذى دين دينه، إلا من فرّ بدينه من شاهق إلى شاهق وحجر إلى حجر، فإذا كان كذلك لم تنل المعيشة إلا بمعصية الله، فإذا كان كذلك حلت العزلة، قالوا: يا رسول الله، كيف تحل العزلة وأنت تأمرنا بالتزويج؟ قال: إذا كان كذلك كان هلاك الرجل على يدى أبويه، فإن لم يكن له أبوان كان هلاكه على يدى زوجته، فإن لم تكن له زوجة كان هلاكه على يدى ولده، فإن لم يكن له ولد كان هلاكه على يدى القرابات والجيران. قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: يعيرونه بضيق المعيشة ويكلفونه ما لا يطيق، فعند ذلك يورد نفسه الموارد التى يهلك فيها) . وقال صاحب العين: شعف الجبال: رءوسها، وكذلك شعف الأثافى، وشعفة كل شىء: أعلاه، ومواقع القطر: بطون الأودية، والشعب: ما انفرج بين جبلين، عن صاحب العين.
30 - بَاب رَفْعِ الأمَانَةِ
/ 69 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا ضُيِّعَتِ الأمَانَةُ، فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ) ، قَالَ:(10/205)
كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (إِذَا أُسْنِدَ الأمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ، فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ) . / 70 - وفيه: حُذَيْفَة، قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حَدِيثَيْنِ، رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الآخَرَ، حَدَّثَنَا: (أَنَّ الأمَانَةَ نَزَلَتْ فِى جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ) . وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا، قَالَ: (يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ، فَتُقْبَضُ الأمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ، فَتُقْبَضُ فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ، فَنَفِطَ فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَىْءٌ، فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ، فَلا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّى الأمَانَةَ، فَيُقَالُ: إِنَّ فِى بَنِى فُلانٍ رَجُلا أَمِينًا، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَا أَعْقَلَهُ، وَمَا أَظْرَفَهُ، وَمَا أَجْلَدَهُ، وَمَا فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ. . .) الحديث. / 71 - فيه: ابْن عُمَرَ، أن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِنَّمَا النَّاسُ كَالإبِلِ الْمِائَةِ، لا تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً) . قال المؤلف: حديث أبى هريرة وحذيفة من أعلام النبوة؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) ذكر فيها فساد أديان الناس وتغير أماناتهم، وقد ظهر كثير من ذلك. وقوله: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة) هو كلام مجمل أحب الأعرابى السائل النبي - عليه السلام - شرحه له فقال له: (كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: إذا أسند الأمر إلى غير أهله) فأجابه (صلى الله عليه وسلم) بجواب عام دخل فيه تضييع الأمانة، وما كان فى معناها مما لا يجرى على طريق الحق، كاتخاذ العلماء(10/206)
الجهال عند موت أهل العلم، واتخاذ ولاة الجور وحكام الجور عند غلبة الباطل وأهله، وقد ذكر ابن أبى شيبة من حديث المقبرى عن أبى هريرة قال: قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (سيأتى على الناس سنوات خداّعات يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق الرويبضة. قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه فى أمر العامة) وقد رأينا أكثر هذه العلامات وما بقى منها فغير بعيد، روى ابن عيينة عن عبد العزيز بن رفيع قال: سمعت شداد بن معقل قال: سمعت ابن مسعود يقول: أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون الصلاة. وروى يونس بن زيد، عن الزهرى، عن الصنابحى، عن حذيفة قال: لتنقضن عُرى الإسلام عروة عروة، ويكون أول نقضه الخشوع. وقد تقدّم معنى حديث حذيفة وما فيه من غرائب اللغة فى باب إذا بقى فى حثالة من الناس فى كتاب الفتن. وقوله: (الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة) يريد (صلى الله عليه وسلم) أن الناس كثير والمَرْضِّى منهم قليل، كما أن المائة من الإبل لا تكاد تصاب فيها الراحلة الواحدة وهذا الحديث إنما يراد به القرون المذمومة فى آخر الزمان، ولذلك ذكره البخارى فى رفع الأمانة، ولم يرد به (صلى الله عليه وسلم) زمن أصحابه وتابعيهم؛ لأنه قد شهد لهم بالفضل فقال: (خير القرون قرنى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجئ بعدهم قوم يخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون ولا يستشهدون، وينذرون ولا يوفون. .) الحديث، فهؤلاء أراد بقوله: (الناس كإبل مائة) والله الموفق.(10/207)
31 - بَاب الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ
/ 72 - فيه: جُنْدَب، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِى يُرَائِى اللَّهُ بِهِ) . قال المؤلف: قوله: (من سمع) معناه من سمع بعمله الناس وقصد به اتخاذ الجاه والمنزلة عندهم، ولم يرد به وجه الله، فإن الله تعالى يسمع به خلقه، أى يجعله حديثًا عند الناس الذى أراد نيل المنزلة عندهم بعمله، ولا ثواب له فى الآخرة عليه، وكذلك من راءى بعمله الناس راءى الله به، أى أطلعهم على أنه فعل ذلك لهم ولم يفعله لوجهه، فاستحق على ذلك سخط الله وأليم عقابه، وقد جاء فى الحديث عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (يقال للعبد يوم القيامة: فعلت كذا وكذا ليقال فقد قيل، اذهبوا به إلى النار) . قال الطبرى: فإن قال قائل: كيف يسلم من الرياء فى العمل الظاهر، وقد روى عن عمر وعثمان وابن مسعود وجماعة من السلف أنهم كانوا يتهجدون من الليل فى مساجدهم بحيث يعلم ذلك من فعلهم معارفهم، وكانوا يتذاكرون إظهار المحاسن من أعمالهم مع ما تواترت به الآثار أن أفضل العمل ما استّسر به صاحبه، وذلك على نوعين: فأما من كان إمامًا يقتدى به ويُستن بعمله، عالمًا بما لله عليه فى فرائضه ونوافله، قاهرًا لكيد عدوه، فسواء عليه ما ظهر من عمله وما خفى منه؛ لإخلاصه نيته لله وانقطاعه إليه بعمله، بل إظهاره ما يدعو عباد الله إلى الرغبة فى مثل حاله من أعماله السالمة أحسن إن شاء الله تعالى. وإن كان ممن لا يقتدى به، ولا يأمن من عدوه قهره، ومن هواه غلبته حتى يفسد عليه عمله؛ فإخفاؤه(10/208)
النوافل أسلم له، وعلى هذا كان السلف الصالح، روى حماد، عن ثابت، عن أنس، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه: (سمع رجلاً يقرأ ويرفع صوته بالقرآن فقال: أواب. وسمع آخر يقرأ فقال: مرائى. فنظروا فإذا الأوّاب المقداد بن عمرو) وروى الزهرى، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة: (أن عبد الله بن حذافة صَلّى فجهر بالقراءة، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : يا ابن حذافة، لا تسمعنى وأسمع الله) . قال وهيب بن الورد: لقى عالم عالمًا هو فوقه فى العلم، فقال: يرحمك الله ما الذى أخفى من عملى؟ قال: حتى يظن بك أنك لم تعمل حسنةً قط إلا الفرائض. قال: يرحمك الله فما الذى أعلن؟ قال الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. وقال الحسن: لقد أدركت أقوامًا ما كان أحدهم يقدر على أن يُسر عمله فيعلنه، قد علموا أن أحرز العملين من الشيطان عمل السرّ، قال: وإن كان أحدهم ليكون عنده الزور وإنه ليصلى وما يشعر به زوره. وكان عمل الربيع بن خثيم سرًا كان يقرأ فى المصحف، ويدخل عليه الداخل فيغطيه. وقال بشر بن الحارث: لما ودع الخضر داود، عليهما السلام، قال له: ستر الله عليك بطاعته. وروى عن ابن سيرين قال: نبئت أن أبا بكر كان إذا صلى فقرأ خفض صوته، وكان عمر يرفع صوته، فقيل لأبى بكر: لم تصنع هذا؟ قال: أناجى ربى وقد علم حاجتى. قيل: أحسنت. وقيل لعمر: لم تصنع هذا؟ قال: أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان. قال: أحسنت. فلما نزلت: (وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) [الإسراء: 110] ، قيل لأبى بكر: ارفع شيئًا، وقيل لعمر: اخفض شيئًا. فهؤلاء الأئمة المقتدى بهم.(10/209)
32 - بَاب مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِى طَاعَةِ اللَّهِ
/ 73 - فيه: مُعَاذ، قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا رَدِيفُ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) لَيْسَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ إِلا آخِرَةُ الرَّحْلِ، فَقَالَ: (يَا مُعَاذُ) ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، ثلاث مرات، قَالَ: (هَلْ تَدْرِى مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ) ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: (حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) ، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، فَقَالَ: (يَا مُعَاذُ، هَلْ تَدْرِى مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوهُ) ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: (حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لا يُعَذِّبَهُمْ) . قال المؤلف: جهاد المرء نفسه هو الجهاد الأكبر وحرب العدو الأضر قال تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى) [النازعات: 40، 41] . وروى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال لأصحابه، وقد انصرفوا من الجهاد: (أتيتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر. قالوا: وما الجهاد الأكبر يا رسول الله؟ قال: مجاهدة النفس) . وقال سفيان الثورى: ليس عدوك الذى إن قتلته كان لك به أجر، إنما عدوك نفسك التى بين جنبيك، فقاتل هواك أشد مما تقاتل عدوك. وقال أويس القرني لهرم بن حيان: ادع الله أن يصلح قلبك ونيتك فإنك لن تعالج شيئًا هو أشدّ عليك منهما، بينما قلبك مقبل إذ هو مدبر، فاغتنم إقباله قبل إدباره، والسلام عليك. وقال علي بن أبي طالب: أول ما تفقدون من دينكم جهاد(10/210)
أنفسكم. وقد يكون جهاد النفس منعها الشهوات المباحة توفيرًا لها فى الآخرة؛ لئلا تدخل فى معنى قوله: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا) [الأحقاف: 20] الآية، وعلى هذا جرى سلف الأمّة، وقال سالم الخواص: أوحى الله إلى داود: لا تقرب الشهوات، فإنى خلقتها لضعفاء خلقى، فإن أنت قربتها، أهون ما أصنع بك أسلبك حلاوة مناجاتى، يا داود، قل لبنى إسرائيل، لا تقربوا الشهوات، فالقلب المحجوب بالشهوات حجبت صوته عنى. قد تقدم معنى قوله: (هل تدرى ما حق الله على عباده) فى باب من أجاب بلبيك وسعديك فى كتاب الاستئذان، وسنأتى بزيادة فى بيانه فى باب قوله تعالى: (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء) [هود: 7] فى كتاب الاعتصام إن شاء الله تعالى.
33 - بَاب التَّوَاضُعِ
/ 74 - فيه: أَنَس، كَانَتْ نَاقَة النَّبِىّ، لا تُسْبَقُ، فَجَاءَ أَعْرَابِىٌّ عَلَى قَعُودٍ لَهُ فَسَبَقَهَا، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَقَالُوا: سُبِقَتِ الْعَضْبَاءُ، فَقَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ لا يَرْفَعَ شَيْئًا مِنَ الدُّنْيَا إِلا وَضَعَهُ) . / 75 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ عَادَى لِى وَلِيًّا، فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِى بِشَىْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِى يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِى يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِى يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِى يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ(10/211)
الَّتِي يَمْشِى بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِى لأعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِى لأعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَىْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِى عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ) . قال المؤلف: فى حديث أنس بيان مكان الدنيا عند الله من الهوان والضعة، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن حقًا على الله ألا يرفع شيئًا من الدنيا إلا وضعه) فنبّه بذلك أمته (صلى الله عليه وسلم) على ترك المباهاة والفخر بمتاع الدنيا، وأن ما كان عند الله فى منزلة الضعة، فحق على كل ذى عقل الزهد فيه وقلة المنافسة فى طلبه، وترك الترفع والغبطة بنيله، لأن المتاع به قليل والحساب عليه طويل. وفى حديث أبى هريرة من معنى الباب أن التقرب إلى الله بالنوافل حتى تستحق المحبة منه تعالى لا يكون ذلك إلا بغاية التواضع والتذلل له. وفيه أن النوافل إنما يزكو ثوابها عند الله لمن حافظ على فرائضه وأداها. ورأيت لبعض الناس أن معنى قوله تعالى: (فأكون عينيه اللتين يبصر بهما وأذنيه ويديه ورجليه) قال: وجه ذلك أنه لا يحرك جارحة من جوارحه إلا فى الله ولله، فجوارحه كلها تعمل بالحق، فمن كان كذلك لم تُردّ له دعوة. وقد جاء فى فضل التواضع آثار كثيرة، روى الطبرى من حديث شعبة، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (ما تواضع رجل إلا رفعه الله بها درجةً) وعن عكرمة، عن ابن عباس أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (ما من بنى آدم أحد إلا وفى رأسه سلسلتان: إحداهما فى السماء السابعة، والأخرى فى الأرض السابعة، فإذا تواضع رفعه الله بالسلسلة التى فى السماء،(10/212)
وإذا أراد أن يرفع رأسه وضعه الله) وقالت عائشة: إنكم لتغفلون عن أفضل العبادة: التواضع. قال الطبرى: والتواضع من المحن التى امتحن الله بها عباده المؤمنين، لينظر كيف طاعتهم إياه فيها، ولما علم تعالى من مصلحة خلقه فى ذلك فى عاجل دنياهم وآجل أخراهم، فمصلحة الدنيا به لو استعمله الناس لارتفع والله أعلم الشحناء بينهم والعداوة، واستراحوا من تعب المباهاة والمفاخرة والتذوا بما قسم لهم، وكان لهم فيه صلاح ذات البين وارتفاع الحسد والشح. روى النعمان بن بشير عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (للشيطان مَضاَل وفخوخ، منها البطر بأنعم الله، والفخر بعطاء الله، والتكبر على عباد الله) . وتواضعه (صلى الله عليه وسلم) معلوم لا يحصى، ومنه أنه لما دخل مكة جعل الناس يقولون: هو هذا، هو هذا، فجعل يُحنى ظهره على الرحل ويقول: (الله أعلى وأجل) وهذه سيرة السلف المهديين. روى سفيان، عن أيوب الطائى، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: لما قدم عمر الشام عرضت له مخاضة، فنزل عن بعيره ونزع خفيه، فأمسكهما بيده، وخاض الماء ومعه بعيره، فقال له أبو عبيدة: لقد صنعت اليوم صنيعًا عظيمًا عند أهل الأرض. فصكّ فى صدره وقال: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، إنكم كنتم أذّل الناس وأحقر الناس، فأعزكم الله بالإسلام، فمهما تطلبون العز فى غيره يذلكم الله.(10/213)
وروى ابن وهب بإسناده عن أبى هريرة أنه أقبل فى السوق يحمل حزمة حطب وهو يومئذ خليفة لمروان فقال: أوسع الطريق للأمير. فقيل له: تكفى، أصلحك الله. فقال: أوسع الطريق، والحزمة عليه. وعن عبد الله بن سلام أنه خرج من حائط له بحزمة حطب يحملها فقيل له: لقد كان فى ولدك وعبيدك من يكفيك هذا. قال: أردت أن أجرب قلبى هل ينكر هذا. وعن سالم بن عبد الله أنه كان يخرج إلى السوق فيشترى حوائج نفسه. وكان الربيع بن خثيم يكنس الحشّ بنفسه، فقيل له: إنك تكفى هذا. فقال: أحب أن آخذ نصيبى من المهنة. ولو تقصينا تواضعهم، رضى الله عنهم، لطال به الكتاب، وفيما ذكرناه دليل على ما تركناه إن شاء الله.(10/214)
كِتَاب فَضَائِلِ الْقُرْآنِ
- باب كَيْفَ نَزَلَ الْوَحْىُ وَأَوَّلُ مَا نَزَلَ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُهَيْمِنُ الأمِينُ، الْقُرْآنُ أَمِينٌ عَلَى كُلِّ كِتَابٍ قَبْلَهُ. / 1 - فيه: عَائِشَة، وَابْنُ عَبَّاس، لَبِثَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرًا. / 2 - وَقَالَ أَبُو عُثْمَان: أُنْبِئْتُ أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) وَعِنْدَهُ أُمُّ سَلَمَةَ، فَجَعَلَ يَتَحَدَّثُ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) لأمِّ سَلَمَةَ: (مَنْ هَذَا) ؟ أَوْ كَمَا قَالَ، قَالَتْ: هَذَا دِحْيَةُ، فَلَمَّا قَامَ، قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا حَسِبْتُهُ إِلا إِيَّاهُ حَتَّى سَمِعْتُ خُطْبَةَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) يُخْبِرُ خَبَرَ جِبْرِيلَ، أَوْ كَمَا قَالَ. / 3 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا مِنَ الأنْبِيَاءِ نَبِىٌّ إِلا أُعْطِىَ مَا مِثْلهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِى أُوتِيتُ وَحْيًا، أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَىَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . / 4 - وفيه: أَنَس، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَابَعَ عَلَى رَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) قَبْلَ وَفَاتِهِ حَتَّى تَوَفَّاهُ أَكْثَرَ مَا كَانَ الْوَحْىُ، ثُمَّ تُوُفِّىَ (صلى الله عليه وسلم) بَعْدُ. / 5 - وفيه: جُنْدَب، اشْتَكَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ، فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ، مَا أُرَى شَيْطَانَكَ إِلا قَدْ تَرَكَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) [الضحى: 2] .(10/215)
قال المؤلف: معنى هذا الباب إثبات نزول الوحي على النبي - عليه السلام - وأن جبريل - عليه السلام - نزل عليه به، ومصداق هذه الأحاديث في قوله تعالى: (وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ) [الشعراء: 192 - 194] . وقال أهل التفسير: الروح الأمين جبريل. وذكر أبو عبيد عن يزيد بن هارون، عن داود بن أبى هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا فى ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك فى عشرين سنة، وقرأ: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً) [الإسراء: 106] . وقال أبو عبيد: وحدثنا ابن أبى عدى، عن داود بن أبى هند قال: قلت للشعبى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِىَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [البقرة: 185] ، أما نزل عليه القرآن فى سائر السنة إلا فى شهر رمضان؟ قال: بلى، ولكن جبريل كان يعارض محمدًا بما نزل عليه فى سائر السنة فى شهر رمضان. وذكر أبو عبيد بإسناده عن جابر بن عبد الله قال: أول شىء نزل من القرآن: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ) [المدثر: 1، 2] . قال ابن عباس: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق: 1] هى أول شىء نزل على محمد. وهو قول مجاهد وزاد: (ن وَالْقَلَمِ) [القلم: 1] . وأما آخر القرآن نزولاً، فقال عثمان بن عفان: كانت براءة من آخر(10/216)
القرآن نزولاً، وقال البراء: آخر آية نزلت: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلاَلَةِ) [النساء: 176] . وقال ابن عباس: وآخر ما أنزل على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) آية الربا. وقال عطاء وابن شهاب آخر القرآن عهدًا بالعرش آية الربا وآية الدين) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) [البقرة: 281] . واختلف فى مدة بقاء النبى بمكة، فروى أبو سلمة عن ابن عباس وعائشة فى هذا الباب: أنه (صلى الله عليه وسلم) أقام بمكة عشر سنين. وذكر البخارى فى كتاب مبعث النبى (صلى الله عليه وسلم) فى باب الهجرة، من رواية عكرمة، وعمرو بن دينار، عن ابن عباس، أنه (صلى الله عليه وسلم) أقام بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه. ولم يختلف فى مدة بقائه (صلى الله عليه وسلم) بالمدينة أنه كان عشرًا، وسيأتى فى كتاب الاعتصام الكلام فى حديث أبى هريرة إن شاء الله.
- باب نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ وَالْعَرَبِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (قُرْآنًا عَرَبِيًّا (،) بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُبِينٍ) [الشعراء: 195]
/ 6 - فيه: أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: فَأَمَرَ عُثْمَانُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، وَعَبْدَاللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَعَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، أَنْ يَنْسَخُوهَا فِى الْمَصَاحِفِ، وَقَالَ لَهُمْ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِى عَرَبِيَّةٍ مِنْ عَرَبِيَّةِ الْقُرْآنِ، فَاكْتُبُوهَا بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ بِلِسَانِهِمْ فَفَعَلُوا.(10/217)
/ 7 - وفيه: يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، كَانَ يَقُولُ: لَيْتَنِى أَرَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) حِينَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ الْوَحْىُ، فَلَمَّا كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِالْجِعْرَانَةِ عَلَيْهِ، ثَوْبٌ قَدْ أَظَلَّ عَلَيْهِ وَمَعَهُ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ؛ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ تَرَى فِى رَجُلٍ أَحْرَمَ فِى جُبَّةٍ بَعْدَ مَا تَضَمَّخَ بِطِيبٍ؟ فَنَظَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) سَاعَةً، فَجَاءَهُ الْوَحْيُ، فَأَشَارَ عُمَرُ إِلَى يَعْلَى، أَنْ تَعَالَ، فَجَاءَ يَعْلَى، فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ، فَإِذَا هُوَ مُحْمَرُّ الْوَجْهِ، يَغِطُّ كَذَلِكَ سَاعَةً، ثُمَّ سُرِّىَ عَنْهُ، فَقَالَ: (أَيْنَ الَّذِى يَسْأَلُنِى عَنِ الْعُمْرَةِ آنِفًا) ؟ فَالْتُمِسَ الرَّجُلُ، فَجِىءَ بِهِ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (أَمَّا الطِّيبُ الَّذِى بِكَ فَاغْسِلْهُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وَأَمَّا الْجُبَّةُ فَانْزِعْهَا، ثُمَّ اصْنَعْ فِى عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِى حَجِّكَ) . قال المهلب: فى حديث أنس عن عثمان بن عفان معنى الترجمة. فإن قال قائل: فما وجه حديث يعلى بن أمية فى هذا الباب؟ . قيل: معناه أن الوحى كله من قرآن وسنة نزل بلسان العرب قريش وغيرهم من طوائف العرب كلها، وأنه (صلى الله عليه وسلم) لم يخاطب من الوحى كله إلا بلسان العرب، وبه تكلم النبى للسائل له عن الطيب للمحرم، وبين هذا قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ) [إبراهيم: 4] . فهذا حتم من الله تعالى لكل أمة بعث إليها رسولاً ليبين لهم ما أنزل إليهم من ربهم، فإن عزب معناه على بعض من سمعه؛ بينه الرسول له بما يفهمه المبين له، ودل قول عثمان:(10/218)
إذا اختلفتم في عربية من عربية القرآن فاكتبوها بلسان قريش، فإنه نزل بلسانهم على تشريف قريش على سائر الناس وتخصيصهم بالفضيلة الباقية إلى الأبد حين اختار الله إثبات وحيه الذى هدى به من الضلالة بلغتهم تعبيره بلسانهم وحسبك بهذا من شرف باق. قال أبو بكر بن الطيب: ومعنى قول عثمان: فإنه نزل بلسان قريش، يريد معظمه وأكثره، ولم تقم دلالة قاطعة على أن القرآن بأسره منزل بلغة قريش فقط، وأنه لا شىء فيه من لغة غيرهم؛ فإنه قد ثبت أن فى القرآن همزًا كثيرًا وثبت أن قريشًا لا تهمز وثبت فيه كلمات وحروف هى خلاف لغة قريش، وقد قال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) [الزخرف: 3] ، ولم يقل قرشيًا، وهذا يدل أنه منزل بجميع لسان العرب؛ وليس لأحد أن يقول أراد قريشًا من العرب دون غيرها، كما أنه ليس له أن يقول أراد لغة عدنان دون قحطان، أو ربيعة دون مضر؛ لأن اسم العرب يتناول جميع هذه القبائل تناولاً واحدًا. ولو ساغ لمدع أن يدعى أنه أراد قبيلة من قبائل العرب لساغ لآخر أن يقول: إن قوله أنه منزل بلسان قريش أنه أريد به قبيلة من قريش دون غيرها، ومن قال هذا فقد ظهر تخليطه. وقد قال سعيد بن المسيب: نزل القرآن بلغة هذا الحى من لدن هوازن وثقيف إلى ضربه. وقال ابن عباس: نزل القرآن بلغة قريش ولسان خزاعة، وذلك أن الدار كانت واحدة، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (أنا أفصحكم لأنى من قريش، ونشأت فى بنى سعد بن بكر) .(10/219)
فلا يجب لذلك أن يكون القرآن منزلاً بلغة بنى سعد بن بكر؛ بل لا يمتنع أن ينزل بلغة أفصح العرب وبلغة من هو دونهم فى الفصاحة؛ إذا كانت فصاحتهم غير متفاوتة. وقد جاءت الروايات بأن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان يقرأ بلغة قريش وغير لغتها. فروى ابن أبى شيبة عن الفضل بن أبى خلدة قال: سمعت أبا العالية يقول: قرئ القرآن على النبى (صلى الله عليه وسلم) من خمسة رجال فاختلفوا فى اللغة فرضى قراءتهم كلها. وكانت بنو تميم أعرب القوم، فهذا يدل أنه كان يقرأ بلغة تميم وخزاعة وأهل لغات مختلفة، قد أقر جميعها ورضيها.
3 - باب جَمْعِ الْقُرْآنِ
/ 8 - فيه: زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، أَرْسَلَ إِلَىَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عِنْدَهُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِى اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِى، فَقَالَ: إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ، وَإِنِّى أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ بِالْمَوَاطِنِ، فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ، وَإِنِّى أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ، قُلْتُ لِعُمَرَ: كَيْفَ تَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ؟ قَالَ عُمَرُ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِى حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِى لِذَلِكَ، وَرَأَيْتُ فِى ذَلِكَ الَّذِى رَأَى عُمَرُ، قَالَ زَيْدٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لا نَتَّهِمُكَ، وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْىَ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَتَتَبَّعِ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ، فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفُونِى نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا(10/220)
أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ، قُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ؟ قَالَ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا، فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ الْعُسُبِ وَاللِّخَافِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِى خُزَيْمَةَ الأنْصَارِىِّ لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) [التوبة: 128] حَتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةَ، فَكَانَتِ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِى بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَيَاتَهُ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ. / 9 - وفيه: أَنَس أنّ حُذَيْفَة قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ، وَكَانَ يُغَازِى أَهْلَ الشَّأْمِ فِى فَتْحِ إِرْمِينِيَةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلافُهُمْ فِى الْقِرَاءَةِ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمَانَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَدْرِكْ هَذِهِ الأمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِى الْكِتَابِ اخْتِلافَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ أَنْ أَرْسِلِى إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِى الْمَصَاحِفِ، ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ، فَأَرْسَلَتْ بِهَا حَفْصَةُ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَعَبْدَاللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَنَسَخُوهَا فِى الْمَصَاحِفِ، وَقَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلاثَةِ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِى شَىْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ، فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ، فَفَعَلُوا حَتَّى إِذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِى الْمَصَاحِفِ رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إِلَى حَفْصَةَ، وَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِمَّا نَسَخُوا، وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنَ الْقُرْآنِ فِى كُلِّ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ أَنْ يُحْرَقَ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِى خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أنَّهُ سَمِعَ أباه زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، قَالَ: فَقَدْتُ آيَةً مِنَ الأحْزَابِ حِينَ نَسَخْنَا الْمُصْحَفَ،(10/221)
قَدْ كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقْرَأُ بِهَا، فَالْتَمَسْنَاهَا فَوَجَدْنَاهَا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الأنْصَارِىِّ: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) [الأحزاب: 23] ، فَأَلْحَقْنَاهَا فِى سُورَتِهَا فِى الْمُصْحَفِ. قال أبو بكر بن الطيب: فإن قال قائل: ما وجه نفور أبى بكر وزيد بن ثابت مع فضلهما عن جمع القرآن؟ فالجواب: أنهما لم يجدا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد بلغ فى جمعه إلى هذا الحد من الاحتياط من تجليده، وجمعه بين لوحين، فكرها أن يجمعاه جزعًا من أن يحلا أنفسهما محل من يجاوز احتياطه للدين احتياط رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فلما أنبههما عمر، وقال: هو والله خير. وخوفهما من تغير حال القرآن فى المستقبل؛ لقلة حفظته، ومصيره إلى حالة الخفاء والغموض بعد الاستفاضة والظهور، علما صواب ما أشار به وأنه خير، وأن فعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليس على الوجوب، ولا تركه لما تركه على الوجوب إلا أن يكون قد بين فى شريعته أن مثل فعله لما فعله، أو تركه لمثل ما تركه لازم لنا وواجب علينا، فلما علما أنه لم يحظر جمع القرآن ولا منع منه بسنة ولا بنص آية، ولا هو مما يفسده العقل ويحيله، ولا يقتضى فساد شىء من أمر الدين ولا مخالفة رأى صواب ما أشار به عمر، وأسرعا إليه كما فعل عمر وسائر الصحابة فى رجوعهم إلى رأى أبى بكر فى قتاله أهل الردة، ورأوا ذلك صوابًا لم يشكوا فيه. وربما يشمئز الإنسان أحيانًا من فعل المباح المطلق ويسبق إلى قلبه أنه ليس مما له فعله لفرط احتياطه وتحريه، ثم تبين له بعد(10/222)
ذلك أنه مما له فعله، كرجل قيل له: قد سقط عنك فرض الجهاد والصيام والصلاة قائما لزمانتك وعجزك. فأنكر مفارقة العادة عند أول وهلة، فلما رجع إلى نفسه، وعلم أن الصيام يجهده والحركة والقيام يزيده فى مرضه علم جواز تركه. وقد تقدم فى كتاب الأحكام فى باب يستحب للكاتب أن يكون أمينًا عاقلاً زيادة بيان فى تصويب جمع الصديق للقرآن وأنه من أعظم فضائله. قال أبو بكر بن الطيب: فإن قيل: فما وجه جمع عثمان الناس على مصحفه، وقد سبقه أبو بكر إلى ذلك وفرغ منه؟ قيل لهم: إن عثمان لم يقصد بما صنع جمع الناس على تأليف المصحف فقط، ولا كان التشاجر الواقع فى أيامه فى إقرارهم أنه كتاب الله بأسره، وإنما اختلفوا فى القراءات، فاشتد الأمر فى ذلك بينهم وعظم اختلافهم وتشتتهم، وأظهر بعضهم إكفار بعض والبراءة منه، وتلاعن أهل الشام وأهل العراق، وكتب الناس بذلك إلى عثمان من الأمصار وناشدوه الله فى جمع الكلمة ورفع الشتات والفرقة، فجمع عثمان المهاجرين والأنصار وجلة أهل الإسلام وشاورهم فى ذلك فاتفقوا على جمع القرآن وعرضه وأخذه للناس بما صح وثبت من القراءات المشهورة عن النبي - عليه السلام -، وطرح ما سواها واستصوبوا رأيه، وكان رأيًا سديدًا موفقا، فرحمة الله عليه وعليهم. وقد ذكر أبو عبيد بإسناده عن على بن أبى طالب قال: لو وليت لفعلت فى المصاحف الذى فعل عثمان.(10/223)
قال غيره وقوله: (حتى وجدت آخر التوبة مع أبى خزيمة الأنصارى لم أجدها مع أحد غيره) يدل على تصحيح الروايات الأخر أن الصديق أمر زيدًا ألا يثبت آية فى المصحف إلا بشاهدين يشهدان عليها. وقال أبو بكر بن الطيب: وجه طلبه للشاهدين أن إثبات القرآن حكم من أحكام الشريعة، ولا يجب إمضاء حكم فى الشريعة إلا بشاهدين عدلين. ويحتمل أن يكون أمره بطلب الشاهدين فيما لا يحفظه زيد من كلمات القرآن، وقد ورد بذلك خبر. وروى أسامة بن زيد عن القاسم بن محمد قال: قال أبو بكر لزيد بن ثابت: اقعد فمن آتاك من القرآن بما لا تحفظه ولم تقرأه بشاهدين فاقبله. ولسنا ننكر أن يكون أبو بكر أمر زيدًا بطلب الشاهدين على كل ما يؤتى به مما يحفظه ومما لا يحفظه؛ لأجل حاجته إلى إمضاء الحكم من جهة الظاهر. قال المؤلف: وأفضل ما قيل فى ذلك، ما حدثنا به عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد، قال: حدثنا على بن محمد بن لؤلؤ ببغداد، قال: حدثنا أحمد بن الصقر بن ثوبان، قال: حدثنا محمد بن عبيد بن حساب، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبى قلابة، عن رجل من بنى تميم يقال له، أحسب، أنس بن مالك، قال: اختلف المعلمون فى القرآن حتى اقتتلوا،(10/224)
فبلغ ذلك عثمان، فقال: عندى تختلفون وتكذبون به وتلحنون فيه؟ يا أصحاب محمد اجتمعوا، فاكتبوا للناس إمامًا يجمعهم، فكانوا فى المسجد فكثروا، فكانوا إذا تماروا فى الآية يقولون: إنه أقرأ رسول الله هذه الآية فلان بن فلان، وهو على رأس أميال من المدينة، فيبعث إليه فيجئ، فيقولون: كيف أقرأك رسول الله آية كذا وكذا؟ فيكتبون كما قال. رواه إسماعيل بن إسحاق، عن سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبى قلابة، قال: حدثنى من كان يكتب معهم، قال حماد: أظنه أنس بن مالك القشيرى، قال: كانوا يختلفون فى الآية، فيقولون: أقرأها رسول الله فلان بن فلان، فعسى أن يكون على ثلاث أميال من المدينة، فيرسل إليه فيجاء به. وذكر الحديث سواء وقد أشار أبو بكر بن الطيب إلى هذا المعنى غير أنه لم يذكر الرواية بذلك، وقد ذكرته فى كتاب الجهاد فى باب قوله: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) [الأحزاب: 23] . فإن قيل: فى حديث زيد بن ثابت أنه وجد آخر سورة التوبة مع أبى خزيمة الأنصارى، وفى آخر الباب قول ابن شهاب عن خارجة بن زيد أنه سمع أباه زيد بن ثابت قال: فقدت آية من الأحزاب كنت أسمع النبى (صلى الله عليه وسلم) يقرأ بها، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ) [الأحزاب: 23] وهذا اختلاف يوجب التضاد. قال المهلب: ولا تضاد فى هذا، وهذه غير قصة الأحزاب؛(10/225)
لأن الآية التي في التوبة مع أبي خزيمة، وهو معروف من الأنصار وقد عرفه أنس، وقال: نحن ورثناه. والتى فى الأحزاب ليست صفة النبى (صلى الله عليه وسلم) وهذه وجدت مع خزيمة بن ثابت، وهو غير أبى خزيمة، فلا تعارض فى هذا، والقصة غير القصة لا إشكال فيها ولا التباس والسورة غير السورة، والتى فى الأحزاب سمعها زيد وخزيمة من النبى فهما شاهدان على سماعها منه، وإنما أثبتت التى فى التوبة بشهادة أبى خزيمة وحده لقيام الدليل على صحتها فى صفة النبى فهى قرينة تغنى عن طلب شاهد آخر. وفى أمر عثمان بتحريق الصحف والمصاحف حين جمع القرآن جواز تحريق الكتب التى فيها أسماء الله تعالى وأن ذلك إكرام لها، وصيانة من الوطء بالأقدام وطرحها فى ضياع من الأرض. وروى معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه أنه كان يحرق الصحف إذا اجتمعت عنده الرسائل فيها بسم الله الرحمن الرحيم، وحرق عروة بن الزبير كتب فقه كانت عنده يوم الحرة، وكره إبراهيم أن تحرق الصحف إذا كان فيها ذكر الله، وقول من حرقها أولى بالصواب. وقد قال أبو بكر بن الطيب: جائز للإمام تحريق الصحف التى فيها القرآن إذا أداه الاجتهاد إلى ذلك. وقال أبو عبيد: اللخاف: الحجارة الرقاق، والعسب: جمع عَسيب وهى جريدة من النخل، وجمعه عسبان وأعسب من كتاب العين.(10/226)
4 - باب ذكر كَاتِبِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم)
/ 10 - فيه: زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، قَالَ: أَرْسَلَ إِلَىَّ أَبُو بَكْرٍ الصديق، قَالَ: إِنَّكَ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْىَ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَاتَّبِعِ الْقُرْآنَ، فَتَتَبَّعْتُ حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ آيَتَيْنِ مَعَ أَبِى خُزَيْمَةَ الأنْصَارِىِّ لَمْ أَجِدْهُمَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) [التوبة: 128] . / 11 - وفيه: الْبَرَاء، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: (لا يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِى الضَّرَرِ) [النساء: 95] ،) وَالْمُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ (قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (ادْعُ لِى زَيْدًا، وَلْيَجِئْ بِاللَّوْحِ وَالدَّوَاةِ وَالْكَتِفِ، أَوِ الْكَتِفِ وَالدَّوَاةِ، ثُمَّ قَالَ اكْتُبْ: (لا يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ (وَخَلْفَ ظَهْرِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) عَمْرُو بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الأعْمَى، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا تَأْمُرُنِى؟ فَإِنِّى رَجُلٌ ضَرِيرُ الْبَصَرِ؟ فَنَزَلَتْ مَكَانَهَا: (لا يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (،) وَالْمُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ (،) غَيْرُ أُولِى الضَّرَرِ (. قال أبو بكر بن الطيب: فيه أن النبى (صلى الله عليه وسلم) سن جمع القرآن وكتابته وأمر بذلك وأملاه على كتبته، وأن أبا بكر الصديق وعمر الفاروق وزيد بن ثابت وجماعة الأمة أصابوا فى جمعه وتحصينه وإحرازه، وجروا فى كتابته على سنن الرسول وسنته، وأنهم لم يثبتوا منه شيئًا غير معروف، وما لم تقم الحجة به. قال المهلب: وفيه أن السنة للخليفة والإمام أن يتخذ كاتبًا يقيد له ما يحتاج إلى النظر فيه من أمور الرعية، ويعينه على تنفيذ أحكام الشريعة، لأن الخليفة يلزمه من الفكرة والنظر فى أمور من استرعاه الله أمرهم ما يشغله عن الكتاب وشبهه من أنواع المهن، ألا ترى قول عمر بن الخطاب: (لولا الخلافة لأذنت) يريد أن(10/227)
الخلافة حالة شغل بأمور المسلمين عن الأذان وغيره؛ لأن هذا يوجد فيه من يقوم مقام الخليفة وينوب عنه، ولا ينوب عنه أحد فى الإمامة، وقد استدل بقوله تعالى: (لاَّ يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ) [النساء: 95] الآية. ومن قال: إن الغنى أفضل من الفقر. قال: ألا ترى قوله تعالى: (فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى) [النساء: 95] ففضيلة الجهاد وبذل المال فى إعلاء كلمة الله درجة لا يبلغها الفقير أبدًا، وقوله تعالى: (غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ) [النساء: 95] يدل أن أهل الأعذار لا حرج عليهم فيما لا سبيل لهم إلى فعله من الفرائض اللازمة للأصحاء القادرين، وفى هذا حجة للفقهاء فى قولهم: إنه لا يجوز تكليف ما لا يطاق. وهو قول جمهور الفقهاء.
5 - باب أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ
/ 12 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (أَقْرَأَنِى جِبْرِيلُ عَلَى حَرْفٍ فَرَاجَعْتُهُ، فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ وَيَزِيدُنِى حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ) . / 13 - وفيه: عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ، يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِى حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ، فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِى الصَّلاةِ، فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ، فَلَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ، فَقُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِى سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ؟ قَالَ: أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقُلْتُ: كَذَبْتَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَدْ أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ، فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقُلْتُ: إِنِّي(10/228)
سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ بِسُورَةِ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَرْسِلْهُ، اقْرَأْ يَا هِشَامُ) ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِى سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ) ، ثُمَّ قَالَ: (اقْرَأْ يَا عُمَرُ) ، فَقَرَأْتُ الْقِرَاءَةَ الَّتِى أَقْرَأَنِى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) . قال المؤلف: قد أكثر الناس فى تأويل هذا الحديث ولم أجد فيه قولاً يسلم من المعارضة، وأحسن ما رأيت فيه ما نقله أبو عمر عثمان بن سعيد المقرئ فى بعض كتبه، ولم يسم قائله، قال: إنى تدبرت معنى هذا الحديث وأمعنت النظر فيه بعد وقوفى على أقاويل السلف والخلف، فوجدته متعلقًا بخمسة أوجه، هى محيطة بجميع معانيه: فأولها: أن يقال: ما معنى الأحرف التى أرادها النبى (صلى الله عليه وسلم) ؟ وكيف تأويلها؟ والثانى: ما وجه إنزال القرآن على هذه السبعة الأحرف، وما المراد بذلك؟ والثالث: فى أى شىء يكون اختلاف هذه السبعة الأحرف؟ والرابع: على كم معنى تشتمل هذه السبعة الأحرف؟ والخامس: هل هذه السبعة الأحرف كلها متفرقة فى القرآن، موجودة فيه فى ختمة واحدة، حتى إذا قرأ القارئ بأى حرف من حروف أئمة القراء بالأمصار المجتمع على إمامتهم فقد قرأ بها كلها؟ أو ليست كلها متفرقة فيه وموجودة فى ختمة واحدة؟ وأنا مبين ذلك إن شاء الله. فأما معنى الأحرف التى أوردها النبى (صلى الله عليه وسلم) هاهنا فإنه يتوجه إلى وجهين: أحدهما: أن يكون أراد سبعة أوجه من اللغات بدليل قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ) [الحج: 11] ،(10/229)
فالمراد بالحرف هاهنا الوجه الذى تقع عليه العبادة. والمعنى: ومن الناس من يعبد الله على النعمة تصيبه، والخير يناله من تثمير المال، وعافية البدن، وإعطاء السؤل، ويطمئن إلى ذلك ما دامت له هذه الأمور واستقامت، فإن تغيرت حاله، وامتحنه الله بالشدة فى عيشه والضر فى بدنه ترك عبادة ربه وكفر به، فهذا عَبَد الله على وجه واحد، وذلك معنى الحرف والوجه. الثانى: أن يكون النبى (صلى الله عليه وسلم) سمى القراءات أحرفًا على طريق السعة كنحو ما جرت عليه عادة العرب فى تسميتهم الشىء باسم ما هو منه وما قاربه وما جاوره، وتعلق به ضربًا من التعلق وتسميتهم الجملة باسم البعض منها، فسمى النبى القراءة حرفًا، وإن كان كلامًا كثيرًا من أجل أن منها حرفًا قد غير بضمة أو كسر أو قلب إلى غيره، أو أميل أو زيد فيه أو نقص منه على ما جاء فى المختلف فيه من القراءات، فنسب النبى القراءة والكلمة التامة إلى ذلك الحرف المغير، فسمى القراءة به؛ إذ كان ذلك الحرف منها على عادة العرب فى ذلك كما يسمون القصيدة قافية، إذ كانت القافية كقول الخنساء: وقافية مثل حد السنان تبقى ويهلك من قالها تعنى: قصيدة، فسميت قافية على طريق الاتساع، كما يسمون الرسالة والخطبة: كلمة، إذ كانت الكلمة منها. قال تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى) [الأعراف: 137] ،(10/230)
وقيل: إنه تعالى عنى بالكلمة هاهنا قوله فى سورة القصص: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ) [القصص: 5] الآية. وقال مجاهد: قوله تعالى: (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى) [الفتح: 26] ، قال: لا إله إلا الله. فخاطبهم (صلى الله عليه وسلم) بما جرى تعارفهم عليه فى خطابهم. وأما وجه إنزال القرآن على هذه السبعة الأحرف، وما أراد الله بذلك، فإنما ذلك توسعة من الله على عباده ورحمة لهم وتخفيفًا عنهم لما هم عليه من اختلاف اللغات واستصعاب مفارقة كل فريق منهم لطبعه وعادته فى الكلام إلى غيره، فخفف الله عنهم بأن أقرأهم على مألوف طبعهم وعادتهم فى كلامهم، يدل على ذلك ما روى أبو عبيدة من حديث حذيفة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (لقيت جبريل عند أحجار المرى فقلت: يا جبريل، إنى أرسلت إلى أمة أمية: الرجل والمرأة والغلام والجارية والشيخ الفانى الذى لم يقرأ كتابًا قط. قال: إن القرآن أنزل على سبعة أحرف) . روى حماد بن سلمة من حديث أبى بكرة (أن جبريل أتى النبى (صلى الله عليه وسلم) فقال: اقرأ القرآن على حرف. فقال ميكائيل: استزده. فقال: اقرأ على حرفين. فقال ميكائيل: استزده حتى بلغ سبعة أحرف كل كاف شاف) . ويمكن أن تكون هذه السبعة أوجه من اللغات هى أفصح اللغات، فلذلك أنزل القرآن عليها. ذكر ثابت السرقطى فى هذا المعنى: قوله: (سبعة أحرف) يريد والله أعلم على لغات شعوب من العرب سبعة أو(10/231)
جماهيرها كما قال الكلبي: خمسة منها لهوازن وحرفان لسائر الناس. وقال ابن عباس: نزل القرآن على سبعة أحرف صارت فى عجز هوازن منها خمسة. وقال أبو حاتم: عجز هوازن ثقيف، وبنو سعد ابن بكر، وبنو جشم، وبنو مضر، قال أبو حاتم: خص هؤلاء دون ربيعة وسائر العرب لقرب جوارهم من مولد النبي - عليه السلام - ومنزل الوحي، وإنما مضر وربيعة أخوان. قال قتادة عن سعيد بن المسيب: نزل القرآن على لغة هذا الحي من لدن هوازن وثقيف إلى ضربه. وأما فى أى شيء يكون اختلاف هذه السبعة أحرف فإنه يكون فى أوجه كثيرة منها تغير اللفظ نفسه وتحويله إلى لفظ آخر، كقوله تعالى: (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة: 4] بغير ألف، و) مالك (بألف، والسراط بالسين والصاد والزاى ومنها الإثبات والحذف كقوله تعالى: (وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا) [البقرة: 116] ،) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ) [آل عمران: 133] ،) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا) [التوبة: 107] بالواو وبغير واو، ومنها تبديل الأدوات كقوله تعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) [الشعراء: 217] فى الشعراء بالفاء، وتوكل بالواو (فلا يخاف عقابها) بالفاء، ولا يخاف عقابها بالواو، ومنها التوحيد والجمع، كقوله تعالى: (الريح (و) الرياح (، ومنها) فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) [المائدة: 67] ، و) رسالاته (و) آية للسائلين (و) آيات (. ومنها: التذكير والتأنيث كقوله تعالى: (وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ) [البقرة: 48] بالياء والتاء، و (فناداه الملائكة) و) فَنَادَتْهُ) [آل عمران: 39] ، و (استهواه الشياطين) و) اسْتَهْوَتْهُ) [الأنعام: 71] ، ومنها التشديد والتخفيف كقوله تعالى: (بِمَا كَانُوا(10/232)
يَكْذِبُونَ) [البقرة: 10] بتشديد الذال وتخفيفها، ومنها الخطاب والإخبار كقوله تعالى: (وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) [البقرة: 144] و) أَفَلاَ يَعْقِلُونَ) [يس: 68] ،) وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ) [البقرة: 13] ، وشبه ذلك بالتاء على الخطاب، وبالياء على الإخبار، ومنها الإخبار عن النفس، والإخبار عن غير النفس، كقوله تعالى: (نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء) [الزمر: 74] بالنون وبالياء،) وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ) [يونس: 100] بالنون والياء، ومنها التقديم والتأخير كقوله تعالى: (وقتلوا وقاتلوا) ،) وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا) [آل عمران: 195] و) فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) [التوبة: 111] ، وكذلك (زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركائهم) و) قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ) [الأنعام: 137] وشبهه. ومنها: النهى والنفى كقوله تعالى: (ولا تسل عن أصحاب الجحيم) بالجزم على النهى) وَلاَ تُسْأَلُ) [البقرة: 119] بالرفع على النفى، (ولا تشرك فى حكمه أحدًا) بالتاء والجزم على النهى) وَلاَ يُشْرِكُ) [الكهف: 26] بالياء والرفع على النفى. ومنها: الأمر والإخبار كقوله تعالى: (وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) [البقرة: 125] بكسر الخاء على الأمر (واتخَذوا) بالفتح على الإخبار، و (قل سبحان الله) و (قل ربى يعلم) على الأمر، وقال على الخبر، وشبهه. ومنها: تغير الإعراب وحده كقوله تعالى: (وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم) [البقرة: 240] بالنصب وبالرفع و) تِجَارَةً حَاضِرَةً) [البقرة: 282] بالرفع والنصب،) وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ) [المائدة: 6] بالنصب والجر، وما أشبهه. ومنها: تغيير الحركات اللوازم كقوله: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ) [آل عمران: 169] بكسر السين(10/233)
وفتحها) وَمَن يَقْنَطُ) [الحجر: 56] ، و) يَقْنَطُونَ) [الروم: 36] بكسر النون وفتحها، و) يَعْرِشُونَ) [الأعراف: 137] و) يَعْكُفُونَ) [الأعراف: 138] بكسر الراء والكاف وضمها و) الْوَلاَيَةُ) [الكهف: 44] بكسر الواو وفتحها. ومنها: التحريك والتسكين كقوله: (خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) [البقرة: 168] بضم الطاء وإسكانها، و) عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ) [البقرة: 236] بفتح الدال وإسكانها. ومنها: الاتباع وتركه كقوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ) [البقرة: 174] ، و) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) [المائدة: 117] ،) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ) [الأنعام: 10] ، بالضم والكسر؛ فالضم لالتقاء الساكنين اتباعًا لضم ما بعدهن، وبالكسر للساكنين من غير اتباع، ومنها الصرف وتركه كقوله: (وَعَادٍ وَثَمُودَ) [التوبة: 70] ، و) أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ) [هود: 68] بالتنوين وتركه. ومنها: اختلاف اللغات كقوله: (جِبْرِيلَ (بكسر الجيم من غير همز، وبفتحها كذلك، وجَبرئيَل بفتح الجيم والراء مع الهمز من غير مد، وبالهمز والمد. ومنها: التصرف فى اللغات نحو الإظهار والإدغام، والمد والقصر والإمالة، والفتح وبين بين والهمز وتخفيفه بالحذف والبدل وبين بين، والإسكان والروم والإشمام عند الوقف على أواخر الكلم، والسكون على الساكن قبل الهمزة وما أشبهه، وقد ورد التوقيف عن النبى (صلى الله عليه وسلم) بهذا الضرب من(10/234)
الاختلاف وأذن فيه لأمته بالأخبار الثابتة، وفيما روى أبو عبيد قال: حدثنا نعيم بن حماد حدثنا بقية بن الوليد، عن حصين بن مالك قال: سمعت شيخًا يكنى أبا محمد، عن حذيفة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (اقرءوا القرآن بلحن العرب وأصواتها) ولحونها وأصواتها: مذاهبها وطباعها. ووجه هذا الاختلاف فى القرآن أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يعرض القرآن على جبريل فى كل عام عرضة، فلما كان العام الذى توفى فيه عرضه عليه مرتين، فكان جبريل يأخذ عليه فى كل عرضة بوجه من هذه الوجوه والقراءات المختلفة، ولذلك قال (صلى الله عليه وسلم) : (إن القرآن أنزل عليها، وإنها كلها كاف شاف) وأباح لأمته القراءة بما شاءت منها مع الإيمان بجميعها؛ إذ كانت كلها من عند الله منزلة، ومنه (صلى الله عليه وسلم) مأخوذة، ولم يلزم أمته حفظها كلها ولا القراءة بأجمعها؛ بل هى مخيرة فى القراءة بأى حرف شاءت منها كتخييرها إذا حنثت فى يمين أن تكفر إن شاءت بعتق أو بإطعام أو بكسوة، وكالمأمور فى الفدية بالصيام أو الصدقة أو النسك، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) صوب من قرأ ببعضها كما صوب قراءة هشام بن حكيم وقراءة عمر بن الخطاب حين تناكرا القراءة وأقر أنه كذلك قرئ عليه، وكذلك أنزل عليه. وأما على كم وجه يشتمل اختلاف هذه السبعة الأحرف؛ فإنه يشتمل على ثلاثة معان: أحدها: اختلاف اللفظ والمعنى واحد، نحو قوله تعالى: (الصِّرَاطَ) [الفاتحة: 6] بالصاد والسين والزاى و) عليهم (و) إليهم (بضم الهاء مع إسكان الميم، وبكسر الهاء مع ضم الميم وإسكانها وشبه ذلك. والثانى: اختلاف اللفظ، والمعنى جميعًا مع جواز أن يجتمعا فى شىء واحد، لعدم تضاد اجتماعهما فيه، نحو قوله: (ملك يوم الدين) بغير الألف، و) مالك (بالألف لأن المراد(10/235)
بهاتين القراءتين هو الله سبحانه، وذلك أنه مالك يوم الدين وملكه، فقد اجتمع له الوصفان جميعًا فأخبر بذلك فى القراءتين ونحو ذلك: (بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) [البقرة: 10] ، بتخفيف الذال وتشديدها؛ لأن المراد بهاتين القراءتين جميعًا هم المنافقون، وذلك أنهم كانوا يكذبِون فى أخبارهم ويكذبون النبي (صلى الله عليه وسلم) . والثالث: اختلاف اللفظ والمعنى جميعًا مع امتناع جواز اجتماعهما فى شىء واحد كقوله تعالى: (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) [يوسف: 110] بالتشديد؛ لأن المعنى: وتيقن الرسل أن قومهم قد كذبوهم فيما أخبروهم به من أنه إن لم يؤمنوا بهم نزل العذاب بهم، فالظن فى القراءة الأولى يقين والضمير الأول للرسل، والثانى للمرسل إليهم، والظن فى القراءة الثانية شك، والضمير الأول للمرسل إليهم والثانى للرسل، ويشبه ذلك من اختلاف القراءتين اللتين لا يصح أن تجتمعا فى شىء واحد لتضاد المعنى، وكل قراءة منهما بمنزلة آية قائمة بنفسها. وأما هذه السبعة الأحرف؛ فإنه لا يمكن القراءة بها فى ختمة واحدة، فإذا قرأ القارئ برواية من رواية القراء، فإنما قرأ ببعضها لا بكلها؛ لأنا قد أوضحنا قبل أن المراد بالسبعة أحرف سبعة أوجه من اللغات كنحو اختلاف الإعراب والحركات والسكوت، والإظهار والإدغام، والمد والقصر وغير ذلك مما قدمناه. وإذا كان كذلك فمعلوم أنه من قرأ بوجه من هذه الأوجه، فإنه لا يمكنه أن يحرك الحرف ويسكنه فى حالة واحدة أو يقدمه ويؤخره، أو يظهره ويدغمه، أو يمده ويقصره، أو يفتحه ويمليه وشبه ذلك، غير أنا لا ندري أى هذه السبعة أحرف كان آخر العرض، وأن جميع هذه الأحرف قد ظهر واستفاض عن النبي (صلى الله عليه وسلم) وضبطتها الأمة(10/236)
على اختلافها عنه، وأن معنى إضافة كل حرف إلى من أضيف إليه كأُبى وزيد وغيرهم من قبل أنه كان أضبط له وأكثر قراءة وأقرأ به، وكذلك إضافة القراءات إلى أئمة القراء بالأمصار، على معنى أن ذلك الإمام اختار القراءة بذلك الحرف، وآثره على غيره، ولزمه وأخذ عنه فلذلك أضيف إليه، وهذه إضافة اختيار لا إضافة اختراع. قال أبو جعفر الداودى: والسبع المقارئ التى يتعلمها الناس اليوم ليس كل حرف منها هو أحد السبعة التى أنزلت على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، قد يكون فى حرف من هذه شىء من إحدى أولئك السبع، وشىء من الأخرى. وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة: وهذه السبع القراءات التى بأيدى الناس إنما تفرعت من حرف واحد من السبعة التى فى الحديث وهو الحرف الذى جمع عليه عثمان المصحف ذكر ذلك ابن النحاس وغيره.
6 - باب تَأْلِيفِ الْقُرْآنِ
/ 14 - فيه: عَائِشَةَ، جَاءَهَا عِرَاقِىٌّ، فَقَالَ: أَىُّ الْكَفَنِ خَيْرٌ؟ قَالَتْ: وَيْحَكَ، وَمَا يَضُرُّكَ؟ قَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَرِينِى مُصْحَفَكِ، قَالَتْ: لِمَ؟ قَالَ: لَعَلِّى أُوَلِّفُ الْقُرْآنَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُقْرَأُ غَيْرَ مُؤَلَّفٍ، قَالَتْ: وَمَا يَضُرُّكَ أَيَّهُ قَرَأْتَ قَبْلُ؟ إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنَ الْمُفَصَّلِ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الإسْلامِ نَزَلَ الْحَلالُ وَالْحَرَامُ، وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَىْءٍ لا تَشْرَبُوا الْخَمْرَ، لَقَالُوا: لا نَدَعُ الْخَمْرَ أَبَدًا، وَلَوْ نَزَلَ: لا تَزْنُوا، لَقَالُوا: لا نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا، لَقَدْ نَزَلَ بِمَكَّةَ عَلَى مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) وَإِنِّى لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ: (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) [القمر: 46](10/237)
وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ إِلا وَأَنَا عِنْدَهُ، قَالَ: فَأَخْرَجَتْ لَهُ الْمُصْحَفَ، فَأَمْلَتْ عَلَيْهِ آىَ السُّوَرِ. / 15 - وفيه: ابْن مَسْعُود، قَالَ فِى بَنِى إِسْرَائِيلَ وَالْكَهْفِ وَمَرْيَمَ وَطه وَالأنْبِيَاءِ: إِنَّهُنَّ مِنَ الْعِتَاقِ الأوَلِ، وَهُنَّ مِنْ تِلادِى. / 16 - وفيه: الْبَرَاء، قَالَ: تَعَلَّمْتُ: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى) [الأعلى: 1] قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) . / 17 - وفيه: ابْن مَسْعُود، قَالَ: لَقَدْ تَعَلَّمْتُ النَّظَائِرَ الَّتِى كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَقْرَؤُهُنَّ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ فِى كُلِّ رَكْعَةٍ، فَسَأَلنا عَلْقَمَة، فَقَالَ: عِشْرُونَ سُورَةً مِنْ أَوَّلِ الْمُفَصَّلِ عَلَى تَأْلِيفِ ابْنِ مَسْعُودٍ آخِرُهُنَّ الْحَوَامِيمُ (حم الدُّخَانِ) ، و (َعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ) . قال أبو بكر بن الطيب: إن قال قائل: قد اختلف السلف فى ترتيب سور القرآن فمنهم من كتب فى مصحفه السور على تاريخ نزولها وقدم المكى على المدنى، ومنهم من جعل فى أول مصحفه) الْحَمْدُ للهِ) [الفاتحة: 2] ، ومنهم من جعل فى أوله) اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق: 1] ، وهذا أول مصحف علىّ. وأما مصحف ابن مسعود فإن أوله (ملك يوم الدين) ، ثم البقرة ثم النساء على ترتيب يختلف. روى ذلك طلحة بن مصرف أنه قرأه على يحيى بن وثاب، وقرأ يحيى بن وثاب على علقمة، وقرأ علقمة على عبد الله، ومصحف أُبىّ كان أوله: الحمد لله ثم البقرة، ثم النساء ثم آل عمران، ثم الأنعام ثم الأعراف، ثم المائدة ثم كذلك على اختلاف شديد. قال أبو بكر: فالجواب: أنه يحتمل أن يكون ترتيب السور على ما هى عليه اليوم فى المصحف كان على وجه الاجتهاد من الصحابة، وقد قال قوم من أهل العلم:(10/238)
إن تأليف سور القرآن على ما هو عليه فى مصحفنا كان على توقيف من النبى (صلى الله عليه وسلم) لهم على ذلك وأمر به. وأما ما روى من اختلاف مصحف أبىّ وعلىّ وعبد الله إنما كان قبل العرض الأخير، وأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) رتب لهم تأليف السور بعد أن لم يكن فعل ذلك. روى يونس عن ابن وهب قال: سمعت مالكًا يقول: إنما أُلف القرآن على ما كانوا يسمعونه من قراءة رسول الله، ومن قال هذا القول لا يقول: إن تلاوة القرآن فى الصلاة والدرس يجب أن يكون مرتبًا على حسب الترتيب الموقف عليه فى المصحف؛ بل إنما يجب تأليف سوره فى الرسم والكتابة خاصة. ولا نعلم أن أحدًا منهم قال: إن ترتيب ذلك واجب فى الصلاة، وفى قراءة القرآن ودرسه وإنه لا يحل لأحد أن يتلقن الكهف قبل البقرة، ولا الحج بعد الكهف، ألا ترى قول عائشة للذى سألها أن تريه مصحفها ليكتب مصحفًا على تأليفه: لا يضرك أيه قرأت قبل؟ وأن ما روى عن ابن مسعود وابن عمر أنهما كرها أن يقرأ القرآن منكوسًا، وقالا: ذلك منكوس القلب. فإنما عنيا بذلك من يقرأ السورة منكوسة ويبتدئ من آخرها إلى أولها؛ لأن ذلك حرام محظور، ومن الناس من يتعاطى هذا فى القرآن والشعر ليذلل لسانه بذلك، ويقتدر على الحفظ وهذا مما حظره الله ومنعه فى قراءة القرآن؛ لأنه إفسادٌ لسوره، ومخالفة لما قصد بها، ومما يدل أنه لا يجب إثبات القرآن فى المصاحف على تاريخ نزوله؛ لأنهم لو فعلوا ذلك لوجب أن يجعلوا بعض آية سورة فى سورة أخرى وأن ينقصوا ما وقفوا عليه من سياقه ترتيب السور ونظامها؛ لأنه قد صح وثبت أن الآيات كانت تنزل بالمدينة فيؤمروا بإثباتها في السورة(10/239)
المكية، ويقال لهم: ضعوا هذه الآية فى السورة التى يذكر فيها كذا. ألا ترى قول عائشة: وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده، يعنى بالمدينة، وقد قدمنا فى المصحف على ما نزل قبلهما من القرآن بمكة، ولو ألفوه على تاريخ النزول لوجب أن ينتقض ترتيب آيات السور، وقد كان النبى (صلى الله عليه وسلم) يقرأ بالناس فى الصلاة السورة فى الركعة ثم يقرأ فى ركعة أخرى بغير السورة التى تليها، وقول ابن مسعود فى بنى إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء: هى من العتاق الأول وهن من تلادى، يعنى هن مما نزل من القرآن أولاً. قال صاحب العين: العتيق القديم من كل شىء، والتلاد: ما كسب من المال قديمًا فيريد أنهن من أول ما حفظه من القرآن. وقوله: (ثاب الناس إلى الإسلام) : رجعوا إليه. قال صاحب العين: ثاب الشىء يثوب ثؤوبا رجع. ومنه قوله تعالى: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ) [البقرة: 125] ، أى يرجعون إليه.
7 - باب الْقُرَّاءِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم)
/ 18 - فيه: عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَمْرٍو ذكر ابْن مَسْعُود، فَقَالَ: لا أَزَالُ أُحِبُّهُ سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (خُذُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ: مِنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَسَالِمٍ، وَمُعَاذ، وَأُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ) . / 19 - وَقَالَ فيه مسروق: خَطَبَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَخَذْتُ مِنْ فِى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِضْعًا وَسَبْعِينَ سُورَةً، وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ أَصْحَابى أَنِّى مِنْ أَعْلَمِهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَمَا أَنَا بِخَيْرِهِمْ. قَالَ شَقِيقٌ: فَجَلَسْتُ فِى الْحِلَقِ أَسْمَعُ مَا يَقُولُونَ، فَمَا سَمِعْتُ رَادًّا يَقُولُ غَيْرَ ذَلِكَ. / 20 - وَقَالَ فيه عَلْقَمَةَ: كُنَّا بِحِمْصَ، فَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ سُورَةَ يُوسُفَ، فَقَالَ(10/240)
رَجُلٌ: مَا هَكَذَا أُنْزِلَتْ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّه (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (أَحْسَنْتَ) ، وَوَجَدَ مِنْهُ رِيحَ الْخَمْرِ، فَقَالَ: أَتَجْمَعُ أَنْ تُكَذِّبَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَتَشْرَبَ الْخَمْرَ؟ فَضَرَبَهُ الْحَدَّ. / 21 - وفيه: مَسْرُوق، قَالَ: قَالَ عَبْدُاللَّهِ: وَاللَّهِ الَّذِى لا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلا أَنَا أَعْلَمُ، أَيْنَ أُنْزِلَتْ؟ وَلا أُنْزِلَتْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلا أَنَا أَعْلَمُ فِيمَ أُنْزِلَتْ؟ وَلَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنِّى بِكِتَابِ اللَّهِ تُبَلِّغُهُ الإبِلُ لَرَكِبْتُ إِلَيْهِ. / 22 - وفيه: أَنَس، جَمَعَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) ؟ أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ مِنَ الأنْصَارِ: أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو زَيْدٍ. / 23 - وَقَالَ أَنَس مرة: مَاتَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَلَمْ يَجْمَعِ الْقُرْآنَ غَيْرُ أَرْبَعَةٍ: أَبُو الدَّرْدَاءِ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو زَيْدٍ. وَنَحْنُ وَرِثْنَاهُ. / 24 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ عُمَرُ: أُبَىٌّ أَقْرَؤُنَا، وَإِنَّا لَنَدَعُ مِنْ لَحَنِ أُبَىٍّ، وَأُبَىٌّ يَقُولُ: أَخَذْتُهُ مِنْ فِى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَلا أَتْرُكُهُ لِشَىْءٍ. قَالَ تَعَالَى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) [البقرة 106] . قال أبو بكر بن الطيب: لا تدل هذه الآثار على أن القرآن لم يحفظه فى حياة النبى (صلى الله عليه وسلم) غير عبد الله وسالم، ومعاذ وأُبىّ ابن كعب، وأنه لم يجمعه غير أربعة من الأنصار كما قال أنس بن مالك، فقد ثبت بالطرق المتواترة أنه جمع القرآن عثمان وعلىّ، وتميم الدارى وعبادة بن الصامت، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وثبت أنه(10/241)
سأل النبي في كم يقرأ القرآن؟ فقال: في شهر. فقال: إني أطيق أكثر من ذلك. .) الحديث. فجمعه عمرو بن العاص وغيره. روى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أقرأ خمس عشرة سجدة فى القرآن، منها ثلاث فى المفصل، وفى الحج سجدتان. ذكر الأسانيد بذلك أبو بكر بن الطيب فى كتاب الانتصار. فقول أنس: لم يجمع القرآن غير أربعة. قول يتعذر العلم بحقيقة ظاهره، وله وجوه من التأويل: أحدها: أنه لم يجمعه على جميع الوجوه والأحرف، والقراءات التى نزل بها إلا أولئك النفر فقط وهذا غير بعيد؛ لأنه لا يجب على سائرهم ولا على أولئك النفر أيضًا أن يجمعوا القرآن على جميع حروفه ووجوهه السبعة، والثانى: أنه لم يجمع القرآن ويأخذه تلقينًا من فىّ النبى (صلى الله عليه وسلم) غير تلك الجماعة فإن أكثرهم أخذ بعضه عنه وبعضه عن غيره، والثالث: أن يكون لم يجمع القرآن على عهد النبى من انتصب لتلقينه، وأقرأ الناس له غير تلك الطبقة المذكورة. وقد تظاهرت الروايات بأن الأئمة الأربعة جمعوا القرآن على عهد النبى (صلى الله عليه وسلم) لأجل سبقهم إلى الإسلام وإعظام الرسول (صلى الله عليه وسلم) لهم، وقد ثبت عن الصديق بقراءته فى المحراب بطوال السور التى لا يتهيأ حفظها إلا لأهل القدرة على الحفظ والإتقان، فروى ابن عيينة، عن الزهرى، عن أنس أن أبا بكر الصديق قرأ فى الصبح بالبقرة فقال عمر: كادت الشمس أن تطلع فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين، وقد علم أن كثيرًا من الحفاظ وأهل الدربة بالقرآن يتهيبون الصلاة بالناس بمثل(10/242)
هذه السور الطوال وما هو دونها، وهذا يقتضى أن أبا بكر كان حافظًا للقرآن، وقد صح الخبر أنه بنى مسجدًا بفناء داره بمكة قبل الهجرة، وأنه كان يقوم فيه بالقرآن ويكثر بكاؤه ونشيجه عند قراءته فتقف عليه نساء المشركين وولدانهم يسمعون قراءته، لولا علم النبى (صلى الله عليه وسلم) بذلك من أمره لم يقدمه لإمامة المسلمين مع قوله: يؤم القوم أقرؤهم. وكذلك تظاهرت الروايات عن عمر أنه كان يؤم الناس بالسور الطوال، وقد أمهم بسورة يوسف فى الصبح فبلغ إلى قوله: (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) [يوسف: 84] ، فنشج حتى سمع بكاؤه من وراء الصفوف. وقرأ مرة سورة الحج فسجد فيها سجدتين. وروى عبد الملك بن عمير عن زيد بن وهب، عن ابن مسعود قال: كان عمر أعلمنا بالله وأقرأنا لكتاب الله وأفقهنا فى دين الله، ولولا أن هذه كانت حالته، وأنه من أقرأ الناس لكتاب الله لم يكن أبو بكر الصديق بالذى يضم إليه زيد بن ثابت، ويأمرهما بجمع القرآن واعتراض ما عند الناس، ويجعل زيدًا تبعًا له؛ لأنه لا يجوز أن ينصب لجمع القرآن واعتراضه من ليس بحافظ. وأما عثمان فقد اشتهر أنه كان ممن جمع القرآن على عهد النبى (صلى الله عليه وسلم) وأنه كان من أهل القيام به، وقد قال حين أرادوا قتله فضربوه بالسيف على يده فمدها وقال: والله إنها لأول يد خطت المفصل، وقالت نائلة زوجته: إن نقتلوه فإنه كان يحيى الليل بجميع القرآن فى ركعة. وكذلك على بن أبى طالب، قد عرفت حاله فى فضله وثاقب فهمه، وسعة علمه ومشاورة الصحابة له، وإقرارهم لفضله وتربية النبي له(10/243)
وأخذه له بفضائل الأخلاق، وترغيبه (صلى الله عليه وسلم) فى تخريجه وتعليمه، وما كان يرشحه له ويثيبه عليه من أمره نحو قوله: أقضاكم علىّ، ومن البعيد أن يقول هذا فيه وليس من قراء الأمة، وقد كان يقرأ القرآن، وقرأ عليه أبو عبد الرحمن السلمى وغيره، وروى همام، عن ابن أبى نجيح، عن عطاء بن السائب أن أبا عبد الرحمن حدثه قال: ما رأيت رجلاً أقرأ للقرآن من علىّ بن أبى طالب، صلى بنا الصبح، فقرأ سورة الأنبياء فأسقط آية، فقرأ ثم رجع إلى الآية التى أسقطها فقرأها، ثم رجع إلى مكانه الذى انتهى إليه لا يتتعتع. فإذا صح ما قلناه مع ما ثبت من تقدمهم وتقدمة الرسول لهم وجب أن يكونوا حفاظًا للقرآن، وأن يكون ذلك أولى من الأخبار التى ذكر فيها أن الحفاظ كانوا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أربعة ليس منهم أحد من هؤلاء الأئمة القادة الذين هم عمدة الدين وفقهاء المسلمين.
8 - باب فَضْلِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ
/ 25 - فيه: أَبُو سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى، كُنْتُ أُصَلِّى، فَدَعَانِى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَلَمْ أُجِبْهُ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى كُنْتُ أُصَلِّى، قَالَ: (أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ () [الأنفال: 24] ، ثُمَّ قَالَ: (أَلا أُعَلِّمُكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِى الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ) ، فَأَخَذَ بِيَدِى، فَلَمَّا أَرَدْنَا أَنْ نَخْرُجَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ قُلْتَ: لأعَلِّمَنَّكَ(10/244)
أَعْظَمَ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، قَالَ: () الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الفاتحة: 2] ، هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ) . / 26 - وفيه: أَبُو سَعِيد الْخُدْرِىِّ، كُنَّا فِى مَسِيرٍ لَنَا، فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ، فَقَالَتْ: إِنَّ سَيِّدَ الْحَىِّ سَلِيمٌ، وَإِنَّ نَفَرَنَا غَيْبٌ، فَهَلْ مِنْكُمْ رَاقٍ؟ فَقَامَ مَعَهَا رَجُلٌ مَا كُنَّا نَأْبُنُهُ بِرُقْيَةٍ، فَرَقَاهُ، فَبَرَأَ فَأَمَرَ لَهُ بِثَلاثِينَ شَاةً، وَسَقَانَا لَبَنًا، فَلَمَّا رَجَعَ، قُلْنَا لَهُ: أَكُنْتَ تُحْسِنُ رُقْيَةً أَوْ كُنْتَ تَرْقِى؟ قَالَ: لا، مَا رَقَيْتُ إِلا بِأُمِّ الْكِتَابِ، قُلْنَا: لا تُحْدِثُوا شَيْئًا حَتَّى نَسْأَلَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فذَكَرْنَاهُ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (وَمَا كَانَ يُدْرِيك أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِى بِسَهْمٍ) . قال المؤلف: إن قال قائل: قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لأعلمنك أعظم سورة من القرآن) يدل على تفاضل القرآن، قيل له: ليس كما توهمت؛ لأنه يحتمل أن يكون معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : أعظم سورة فى القرآن، أى أعظم نفعًا للمتعبدين؛ لأن أم القرآن لا تجزئ الصلاة إلا بها، وليس ذلك لغيرها من السور، ولذلك قيل لها: السبع المثانى؛ لأنها تثنى فى كل صلاة هذا قول على بن أبى طالب، وأبى هريرة وغيرهما، ويشهد لهذا قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) . وفيه: قوله (صلى الله عليه وسلم) : هى السبع المثانى تفسير لقوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِى) [الحجر: 87] ، أن المراد بها فاتحة الكتاب، وقد روى عن السلف أقوال أخر فى تفسير السبع المثانى، فروى عن ابن عباس وابن مسعود أنها السبع الطوال؛ لأن الفرائض والقصص تثنى فيها، ويجوز أن يكون المثانى القرآن كله كما قال تعالى: (كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِىَ) [الزمر: 23] ؛ لأن الأخبار تثني فيه.(10/245)
ومما يدل أن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لأعلمنك أعظم سورة) لا يوجب تفاضل القرآن بعضه على بعض فى ذاته. قوله تعالى: (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) [البقرة: 106] ، ولم يختلف أهل التأويل فى أن الله تعالى لم يرد بقوله: (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا) [البقرة: 106] ، تفضيل بعض الآيات على بعض، وإنما المراد بخير منها لعباده المؤمنين التالين لها، إما بتخفيف وعفو، أو بثواب على عمل، ولو قال قائل: أيما أفضل: آية رحمة، أو آية عذاب، أو آية وعد، أو آية وعيد؟ لم يكن لهذا جواب. ومن اختار التفاضل فى القرآن فقد أوجب فيه النقص، وأسماء الله تعالى وصفاته وكلامه لا نقص فى شىء منها فيكون بعضه أفضل من بعض، وكيف يجوز أن يكون شىء من صفاته منقوصًا غير كامل وهو قادر على أن يتم المنقوص حتى يكون فى غاية الكمال، فلا يلحقه فى شىء من صفاته نقص، تعالى الله عن ذلك، وسأزيد فى بيان هذا فى فضل) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) [الإخلاص: 1] . ويحتمل قوله: لأعلمنك أعظم سورة وجهًا آخر، وهو أن يكون أعظم بمعنى سورة عظيمة كما قيل الله أكبر، بمعنى: كبير، وكما قيل فى اسم الله الأعظم بمعنى: عظيم، وقد تقدم الكلام فى حديث أبى سعيد الخدرى فى كتاب الإجازة فى باب ما يعطى في الرقية بفاتحة الكتاب ومعنى قوله ما يدريك أنها رقية فتأمله هناك.(10/246)
وقوله: ما كنا نأبنه، قال صاحب الأفعال: أبنت الرجل بخير أو شر نسبتهما إليه. أبنه أبنًا.
9 - باب فَضْلِ الْبَقَرَةِ
/ 27 - فيه: أَبُو مَسْعُود، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ قَرَأَ بِالآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِى لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ) . / 28 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: وَكَّلَنِى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِى آتٍ، فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ، فَقُلْتُ: لأرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . . . فَقَصَّ الْحَدِيثَ، فَقَالَ: (إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ، فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِىِّ، فَإنَّهُ لن يَزَالَ عليك مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ) ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (صَدَقَكَ، وَهُوَ كَذُوبٌ ذَاكَ شَيْطَانٌ) . قال المؤلف: إذا كان من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة كفتاه، ومن قرأ آية الكرسى كان عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح، فما ظنك بمن قرأها كلها من كفاية الله له وحرزه وحمايته من الشيطان وغيره، وعظيم ما يدخر له من ثوابها. وقد روى هذا المعنى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) وروى معمر، عن يحيى بن أبى كثير، عن أبى سلمة، عن أبى أمامة قال: قال رسول الله: (تعلموا القرآن؛ فإنه شافع لأصحابه يوم القيامة، تعلموا البقرة وآل عمران، تعلموا الزهراوين، فإنهما تأتيان يوم(10/247)
القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن صاحبهما، وتعلموا البقرة فإن تعلمها بركة وإن فى تركها حسرة ولا تطيقها البطلة) . وقال ابن مسعود: إن الشيطان يخرج من البيت الذى يقرأ سورة البقرة فيه.
- باب فَضْلِ الْكَهْفِ
/ 29 - فيه: الْبَرَاء، كَانَ رَجُلٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الْكَهْفِ، وَإِلَى جَانِبِهِ حِصَانٌ مَرْبُوطٌ بِشَطَنَيْنِ، فَتَغَشَّتْهُ سَحَابَةٌ، فَجَعَلَ يَدْنُو وَيَدْنُو، وَجَعَلَ فَرَسُهُ يَنْفِرُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: (تِلْكَ السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ بِالْقُرْآنِ) . قال المؤلف: روى الثورى، عن أبى هاشم الواسطى، عن أبى مجلز، عن قيس بن عبادة عن أبى سعيد الخدرى قال: من قرأ سورة الكهف كما أنزلت ثم أدرك الدجال لم يسلط عليه، ومن قرأ آخر سورة الكهف أضاء نوره من حيث قرأها ما بينه وبين مكة. وقال قتادة: من قرأ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال. والحصان: الفحل من الخيل، والشطن: الحبل، عن صاحب العين. واختلف أهل التأويل فى تفسير السكينة، فروى عن علىّ بن أبى طالب أنه قال: هى ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان.(10/248)
وروي عنه أنها ريح حجوج ولها رأسان. وقال مجاهد: السكينة لها رأس الهر وجناحان وذنب كذنب الهر. وعن ابن عباس والربيع: هى دابة مثل الهر، لعينها شعاع فإذا التقى الجمعان أخرجت يدها فنظرت إليهم فيهزم إليهم ذلك الجيش من الرعب. وعن ابن عباس والسدى: هى طست من ذهب من الجنة يغسل فيها قلوب الأنبياء. وعن أبى مالك: طست من ذهب ألقى موسى فيه التوراة والألواح والعصا , وعن وهب: السكينة: روح من الله تتكلم إذا اختلفوا فى شىء بين لهم ما يريدون. وعن الضحاك: السكينة: الرحمة. وعن عطاء: السكينة: ما تعرفون من الآيات فتستكينون إليها. وهذ اختيار الطبرى. وتنزل السكينة لسماع القرآن يدل على خلاف قول السدى أنها طست من ذهب، ويشهد لصحة قول من قال: أنها روح أو شيء فيه روح، والله أعلم.
- باب فَضْلِ سُورَةِ الْفَتْحِ
/ 30 - فيه: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أنَّهُ كَانَ يَسِيرُ مَعَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فِى بعض أسفاره ليلاَ، فَسَأَلَهُ عُمَرُ فَلَمْ يُجِبْهُ، ثلاثًا، فَقَالَ عُمَرُ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، نَزَرْتَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ثَلاثَ مَرَّاتٍ كُلَّ ذَلِكَ لا يُجِيبُكَ، قَالَ عُمَرُ: فَحَرَّكْتُ بَعِيرِى حَتَّى كُنْتُ أَمَامَ النَّاسِ، وَخَشِيتُ أَنْ يَنْزِلَ فِىَّ قُرْآنٌ، فَمَا فَجِئْتُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَىَّ اللَّيْلَةَ سُورَةٌ لَهِىَ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ) ، ثُمَّ قَرَأَ) إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) [الفتح: 1] .(10/249)
قال الطبري: فإن قال قائل: ما معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : لهى أحب إلىّ مما طلعت عليه الشمس؟ أكان النبى يحب الدنيا الحب الذى يقارب حبه، ما أخبره الله به أنه أعطاه من الكرامة، وشرفه به من الفضيلة بقوله: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) [الفتح: 1] الآية، وقد علمت أن المخبر إنما أراد المبالغة فى الخبر عن رفعة قدر النبى عنده على غيره أنه يجمع بين رفيعين من الأشياء عنده، وعن المخبرين به فيخبرهم عن فضل مكان أحدهما على الآخر عنده، وقد علمت أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يكن للدنيا عنده من القدر ما يعدك أدنى كرامة أكرمه الله تعالى بها فما وجه قوله: هى أحب إلىّ من الدنيا مع خساسة قدر الدنيا عنده وضعة منزلتها. قيل: لذلك وجهان أحدهما: أن يكون معنى قوله: هى أحب إلىّ مما طلعت عليه الشمس، هى أحب إلىّ من كل شىء؛ لأنه لا شىء إلا الدنيا والآخرة، فأخرج الخبر عن ذكر الشىء بذكر الدنيا؛ إذ كان لا شىء سواها إلا الآخرة. والوجه الثانى: أن يكون خاطب أصحابه بذلك، على ما قد جرى من استعمال الناس بينهم فى مخاطبتهم، من قولهم إذا أراد أحدهم الخبر عن نهاية محبته للشئ: هو أحب إلىّ من الدنيا، وما أعدل به من الدنيا شيئًا، كما قال تعالى: (كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ) [العلق: 15] ، ومعنى ذلك: لنهيننه ولنذلنه؛ لأن الذين خوطبوا هذا الخطاب كان فى إذلالهم من أرادوا إذلاله(10/250)
السفع بالناصية، فخاطبهم بالذى كانوا يتعارفون بينهم، ومثله قوله (صلى الله عليه وسلم) : (أحب إلىّ مما طلعت الشمس) .
- باب فَضْلِ) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) [الإخلاص: 1]
/ 31 - فيه: أَبُو سَعِيد، أَنَّ رَجُلا سَمِعَ رَجُلا يَقْرَأُ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) [الإخلاص: 1] يُرَدِّدُهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إِلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ) . / 32 - وَقَالَ أَبُو سَعِيد فِى حديثه مرة: إن النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) لأصْحَابِهِ: (أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فِى لَيْلَةٍ) ؟ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَقَالُوا: أَيُّنَا يُطِيقُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: (اللَّهُ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ ثُلُثُ الْقُرْآنِ) . اختلف العلماء فى معنى قوله: إنها تعدل ثلث القرآن، فقال أبو الحسن بن القابسى: لعل الرجل الذى بات يردد) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) [الإخلاص: 1] كانت منتهى حفظه، فجاء يقلل عمله، فقال له النبى (صلى الله عليه وسلم) : إنها لتعدل ثلث القرآن ترغيبًا له فى عمل الخير وإن قل، ولله تعالى أن يجازى عبدًا على يسير بأفضل مما يجازى آخر على كثير، وقال غيره: معنى قوله: إنها تعدل ثلث القرآن أن الله جعل القرآن ثلاثة أجزاء: أحدها: القصص والعبر والأمثال، والثانى: الأمر والنهى والثواب والعقاب، والثالث: التوحيد والإخلاص، وتضمنت هذه السورة صفة توحيده تعالى وتنزيهه عن الصاحبة والوالد والولد، فجعل لقارئها من الثواب كثواب من قرأ ثلث القرآن.(10/251)
واحتجوا بحديث أبى الدرداء أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال لأصحابه: أيعجز أحدكم أن يقرأ كل ليلة ثلث القرآن؟ قالوا: نحن أعجز. قال: إن الله جزء القرآن فجعل) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) [الإخلاص: 1] جزءًا من أجزاء القرآن. قال المهلب: وحكاه عن الأصيلى، وهو مذهب الأشعرى وأبى بكر بن الطيب، وابن أبى زيد والداودى، وابن القابسى وجماعة علماء السنة: أن القرآن لا يفضل بعضه على بعض؛ إذ كله كلام الله وصفته، وهو غير مخلوق، ولا يجوز التفاضل إلا فى المخلوقات؛ لأن المفضول ناقص عن درجة الفاضل وصفات الله تعالى لا نقص فيها؛ ولذلك لم يجز فيها التفاضل وقد قال إسحاق بن منصور: سألت إسحاق بن راهويه عن هذا الحديث فقال لى: معناه: أن الله جعل لكلامه فضلاً على سائر الكلام، ثم فضل بعض كلامه على بعض بأن جعل لبعضه ثوابًا أضعاف ما جعل لبعض تحريضًا منه (صلى الله عليه وسلم) على تعليمه وكثرة قراءته، وليس معناه: أنه لو قرأ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (ثلاث مرات، كان كأنه قرأ القرآن كله، ولو قرأها أكثر من مائتى مرة.
- باب الْمُعَوِّذَاتِ
/ 33 - فيه: عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ وَيَنْفُثُ، فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهِ، وَأَمْسَحُ بِيَدِهِ رَجَاءَ بَرَكَتِهَا. / 34 - وَقَالَتْ أَيْضًا: كَانَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ جَمَعَ كَفَّيْهِ، ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا، فَقَرَأَ فِيهِمَا: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (وَالمعوذات، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ، يَبْدَأُ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ،(10/252)
يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلاثَ. وقد تقدم حديث عائشة فى كتاب الطب فى باب الرقى بالمعوذات. ودل فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) فى رقية نفسه عند شكواه وعند نومه متعوذًا بهما على عظيم البركة فى الرقى بهما، والتعوذ بالله من كل ما يخشى فى النوم، وقد روى عبد الرزاق، عن الثورى، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن قيس بن أبى حازم، عن عقبة بن عامر قال: قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : أنزل علىّ آيات لم أسمع بمثلهن: المعوذتين. وقال عقبة فى حديثه مرة أخرى: قال لى النبى (صلى الله عليه وسلم) : (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) [الإخلاص: 1] و) قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) [الفلق: 1] ، و) قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) [الناس: 1] تعوذ بهن، فإنه لم يتعوذ بمثلهن قط. وقد تقدم فى كتاب المرضى فى باب النفث فى الرقية من كره النفث من العلماء فى الرقية ومن أجازه.
- باب نُزُولِ السَّكِينَةِ وَالْمَلائِكَةِ عِنْدَ القِرَاءَةِ
/ 35 - وفيه: مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أن أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، بَيْنَا هُوَ يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَفَرَسُهُ مَرْبُوطَةٌ عِنْدَهُ؛ إِذْ جَالَتِ الْفَرَسُ، فَسَكَتَ فَسَكَتَتْ، ثُمَّ قَرَأَ، فَجَالَتِ الْفَرَسُ، ثُمَّ انْصَرَفَ، وَكَانَ ابْنُهُ يَحْيَى قَرِيبًا مِنْهَا، فَأَشْفَقَ أَنْ تُصِيبَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ حَدَّثَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ) ، قَالَ: فَأَشْفَقْتُ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْ تَطَأَ يَحْيَى، وَكَانَ مِنْهَا قَرِيبًا، فَرَفَعْتُ رَأْسِى، فَانْصَرَفْتُ إِلَيْهِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِى إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا مِثْلُ الظُّلَّةِ فِيهَا أَمْثَالُ الْمَصَابِيحِ، فَخَرَجَتْ حَتَّى لا أَرَاهَا، قَالَ: (وَتَدْرِى مَا ذَاكَ) ؟ قَالَ: لا، قَالَ: (تِلْكَ الْمَلائِكَةُ دَنَتْ لِصَوْتِكَ، وَلَوْ قَرَأْتَ لأصْبَحَتْ يَنْظُرُ النَّاسُ إِلَيْهَا لا تَتَوَارَى مِنْهُمْ) .(10/253)
في هذا الحديث أن أسيد بن حضير رأى مثل الظلة فيها أمثال المصابيح فقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (تلك الملائكة تنزلت للقرآن) ، وقال (صلى الله عليه وسلم) فى حديث البراء فى سورة الكهف: (تلك السكينة نزلت للقرآن) . فمرة أخبر (صلى الله عليه وسلم) عن نزول السكينة، ومرة أخرى عن نزول الملائكة، فدل على أن السكينة كانت فى تلك الظلة وأنها تنزل أبدًا مع الملائكة، والله أعلم، ولذلك ترجم البخارى باب نزول السكينة والملائكة عند القراءة. وفى هذا الحديث أن الملائكة تحب أن تسمع القرآن من بنى آدم لا سيما قراءة المحسنين منهم، وكان أسيد بن حضير حسن الصوت بالقرآن ودل قوله (صلى الله عليه وسلم) لأسيد: لو قرأت لأصبحت تنظر الناس إليها لا تتوارى منهم على حرص الملائكة على سماع كتاب الله من بنى آدم. وقد جاء فى الحديث أن البيت الذى يقرأ فيه القرآن يضئ لأهل السماء كما يضئ النجم لأهل الأرض وتحضره الملائكة، وهذا كله ترغيب فى حفظ القرآن، وقيام الليل به، وتحسين قراءته. وفيه جواز رؤية بنى آدم للملائكة إذا تصورت فى صورة يمكن للآدميين رؤيتها، كما كان جبريل (صلى الله عليه وسلم) يظهر للنبى (صلى الله عليه وسلم) فى صورة رجل فيكلمه، وكثيرًا ما كان يأتيه فى صورة دحية الكلبى وقد تقدم فى باب الكهف تفسير السكينة بما أغنى عن إعادته. وقوله: (لو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم) حجة لمن قال: إن السكينة روح أو شىء فيه روح؛ لأنه لا يصح حب استماع القرآن إلا لمن يعقل.(10/254)
15 - باب مَنْ قَالَ: لَمْ يَتْرُكِ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) إِلا مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ / 36 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّهُ سُئل: هل تَرَكَ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ شَىْءٍ؟ قَالَ: مَا تَرَكَ إِلا مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ. ومُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ مثله.
- باب الْوَصاةِ بِكِتَابِ اللَّهِ
/ 37 - فيه: طَلْحَةُ، أَنَّهُ سَأَل عَبْدَاللَّهِ بْنَ أَبِى أَوْفَى: آوْصَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ؟ فَقَالَ: لا، قُلْتُ: كَيْفَ كُتِبَ عَلَى النَّاسِ الْوَصِيَّةُ؟ أُمِرُوا بِهَا وَلَمْ يُوصِ، قَالَ: (أَوْصَى بِكِتَابِ اللَّهِ) . هذان البابان يردان قول من زعم أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أوصى إلى أحد، وأن على بن أبى طالب الوصى، وكذلك قال على بن أبى طالب حين سئل عن ذلك فقال: ما عندنا إلا كتاب الله وما فى هذه الصحيفة، الصحيفة مقرونة بسيفه، فيها العقل وفكاك الأسير، ولا يقتل مؤمن بكافر، وقد تقدم ذلك فى غير موضع.
- باب فَضْلِ الْقُرْآنِ عَلَى سَائِرِ الْكَلامِ
/ 38 - فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَثَلُ الَّذِى يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالأتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ، وَالَّذِى لا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالتَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلا رِيحَ لَهَا،(10/255)
وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الَّذِي لا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ، طَعْمُهَا مُرٌّ وَلا رِيحَ لَهَا) . / 39 - وفيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا أَجَلُكُمْ فِيما خَلا مِنَ الأمَمِ كمثل مَا بَيْنَ صَلاةِ الْعَصْرِ وَمَغْرِبِ الشَّمْسِ، وَمَثَلُكُمْ وَمَثَلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَعْمَلَ عُمَّالا، فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِى إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتِ الْيَهُودُ، فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِى مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى الْعَصْرِ، عَلَى قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتِ النَّصَارَى، ثُمَّ أَنْتُمْ تَعْمَلُونَ مِنَ الْعَصْرِ إِلَى الْمَغْرِبِ بِقِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، قَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلا، وَأَقَلُّ عَطَاءً، قَالَ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ؟ قَالُوا: لا، قَالَ: فَذَاكَ فَضْلِى أُوتِيهِ مَنْ شِئْتُ) . قال المؤلف: وجه ذكر البخارى لهذين الحديثين فى هذا الباب هو أنه لما كان ما جمع طيب الريح وطيب المطعم أفضل المأكولات، وشبه النبى المؤمن الذى يقرأ القرآن بالأترجة التى جمعت طيب الريح وطيب المطعم؛ دل ذلك أن القرآن أفضل الكلام، ودل هذا الحديث على مثل القرآن وحامله والعامل به والتارك له، وكذلك حديث ابن عمر، لما كان المسلمون أكثر أجرًا من أهل التوراة وأهل الإنجيل دل ذلك على فضل القرآن على التوراة والإنجيل؛ لأن المسلمين إنما استحقوا هذه الفضيلة بالقرآن الذى فضلهم الله به، وجعل فيه للحسنة عشر أمثالها وللسيئة واحدة، وتفضل عليهم بأن أعطاهم على تلاوته لكل حرف عشر حسنات كما قال ابن مسعود، وقد أسنده عن النبى أيضًا، وقد وردت آثار كثيرة فى فضائل القرآن والترغيب فى قراءته. روى سفيان عن عاصم، عن زر عن عبد الله بن عمرو، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتقِ ورتل كما كنت ترتل فى الدنيا؛ فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها) .(10/256)
وقالت عائشة: جعلت درج الجنة على عدد آى القرآن، فمن قرأ ثلث القرآن كان على الثلث من درج الجنة، ومن قرأ نصفه كان على النصف من درج الجنة، ومن قرأ القرآن كله كان فى عاليه لم يكن فوقه أحد إلا نبى أو صديق أو شهيد. وروى أبو قبيل: عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إن القرآن والصيام يشفعان يوم القيامة لصاحبهما، فيقول الصيام: يا رب، إنى منعته الطعام والشراب فشفعنى فيه، ويقول القرآن: يا رب، إنى منعته النوم بالليل فشفعنى فيه فيشفعان فيه) . وروى أبو نعيم، عن بشير بن المهاجر، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال: كنت جالسًا عند النبى (صلى الله عليه وسلم) فسمعته يقول: إن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاب فيقول: هل تعرفنى؟ فيقول: ما أعرفك. فيقول: أنا صاحبك القرآن الذى أظمأتك فى الهواجر وأسهرت ليلك، وإن كل تاجر من وراء تجارته، وإنك من وراء كل تجارة، فيعطى الملك بيمينه والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويكسى والداه حلتين لا تقوم لهما الدنيا، فيقولان: بما كسينا هذا؟ فيقال لهما: بأخذ ولدكما القرآن، ثم يقال: اقرأ واصعد فى درج الجنة وغرفها، فهو فى صعود ما دام يقرأ هذا كان أو ترتيلاً. وقال ابن عباس: من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر.(10/257)
- باب مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ) [العنكبوت: 51]
. / 40 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ لِشَىْءٍ مَا أَذِنَ لِلنَّبِىِّ أَنْ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ) . وَقَالَ صَاحِبٌ لَهُ: يُرِيدُ: يَجْهَرُ بِهِ. / 41 - وَقَالَ مرة: مَا أَذِنَ لنَّبِىّ مَا أَذِنَ اللَّه لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ. قَالَ سُفْيَانُ: تَفْسِيرُهُ يَسْتَغْنِى بِهِ. وذكر فى كتاب الاعتصام حديث أبى هريرة، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) . وزاد غيره: (يجهر به) . وذكره فى باب قوله تعالى: (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ) [الملك: 13] . واختلف الناس فى معنى التغنى بالقرآن؛ ففسره ابن عيينة على أن المراد بالاستغناء، الذى هو ضد الافتقار، ورواه عن سعد ابن أبى وقاص، ذكر الحميدى، عن سفيان، حدثنا ابن جريج، عن ابن أبى مليكة، عن عبد الله بن أبى نهيك قال: لقينى سعد بن أبى وقاص فى السوق فقال: أتجار كبسة، سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) . وهكذا فسره وكيع، ومن تأول هذا التأويل كره قراءة القرآن بالألحان والترجيع. روى ذلك عن أنس بن مالك وسعيد بن المسيب، والحسن، وابن سيرين، وسعيد بن جبير والنخعى، وقال النخعى: كانوا يكرهون القراءة بتطريب، وكانوا إذا قرأوا القرآن قرأوه حدرًا ترتيلاً بحزن، وهو قول مالك: روى ابن القاسم عنه أنه سئل عن الإلحان فى الصلاة فقال: لا يعجبنى، وأعظم القول فيه، وقال: إنما هو غناء يتغنون به ليأخذوا عليه الدراهم.(10/258)
وقد روي عن ابن عيينة وجه آخر، ذكره إسحاق بن راهويه قال: كان ابن عيينة يقول: معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ما أذن الله لشىء ما أذن لنبى أن يتغنى بالقرآن) . يريد يستغنى به عما سواه من الأحاديث. وقالت طائفة: معنى التغنى بالقرآن: تحسين الصوت به والترجيع بقرائته، والتغنى بما شاء من الأصوات واللحون وهو معنى قوله: وقال صاحب له يريد: يجهر به. قال الخطابى: والعرب تقول: سمعت فلانا يغنى بهذا الحديث، أى يجهر به، ويصرح لا يكنى. وقال أبو عاصم: أخذ بيدى ابن جريج ووقفنى على أشعب الطماع وقال: عن ابن أخى، ما بلغ من طمعكم؟ قال: ما زفت امرأة بالمدينة إلا كشحت بيتى رجاء أن تهدى إلىّ. يقول أخبر ابن أخى بذلك مجاهدًا غير مساتر ومنه قول ذى الرمة: أحب المكان القفر من أجل أننى بها أتغنى باسمها غير معجم أى أجهر بالصوت بذكرها، لا أكنى عنها حذار كاشح أو خوف رقيب. قال المؤلف: ذكر عمر بن شيبة قال: ذكرت لأبى عاصم النبيل تأويل ابن عيينة فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : يتغنى بالقرآن: يستغنى به. فقال: لم يصنع ابن عيينة شيئًا، حدثنا ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير قال: كانت لداود نبى الله معزفة يتغنى عليها وتبكى ويبكى. وقال ابن عباس: إنه كان يقرأ الزبور بسبعين لحنًا، يلون فيهن، ويقرأ قراءة يطرب منها المحموم، فإذا أراد أن يبكى نفسه لم تبق دابة فى بر أو بحر إلا أنصتن يسمعن ويبكين.(10/259)
ومن الحجة لهذا القول أيضًا حديث ابن معقل فى وصف قراءة رسول الله وفيه (ثلاث مرات) وهذا غاية الترجيع ذكره البخارى فى كتاب الاعتصام وسئل الشافعى عن تأويل ابن عيينة فقال: نحن أعلم بهذا، لو أراد (صلى الله عليه وسلم) الاستغناء لقال: من لم يستغن بالقرآن. ولكن لما قال (صلى الله عليه وسلم) : يتغن بالقرآن. علمنا أنه أراد به التغنى، وكذلك فسر ابن أبى مليكة التغنى أنه تحسين الصوت به، وهو قول ابن المبارك والنضر بن شميل. وممن أجاز الإلحان فى القراءة: ذكر الطبرى عن عمر بن الخطاب أنه كان يقول لأبى موسى ذكرنا ربنا، فيقرأ أبو موسى ويتلاحن. وقال مرة: من استطاع أن يغني بالقرآن غناء أبي موسى فليفعل. وكان عقبة بن عامر من أحسن الناس صوتًا بالقرآن. فقال له عمر: اعرض علىّ سورة كذا، فقرأ عليه فبكى عمر وقال: ما كنت أظن أنها نزلت. وأجازه ابن عباس وابن مسعود، وروى عن عطاء بن أبى رباح، واحتج بحديث عبيد بن عمير، وكان عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد يتتبع الصوت الحسن فى المساجد فى شهر رمضان. وذكر الطحاوى عن أبى حنيفة وأصحابه أنهم كانوا يسمعون القرآن بالألحان، وقال محمد بن عبد الحكم: رأيت أبى والشافعى ويوسف بن عمير يسمعون القرآن بالألحان. واحتج الطبرى لهذا القول، وقال: الدليل على أن معنى الحديث: تحسين الصوت والغناء المعقول الذى هو تحزين القارئ سامع قراءته، كما الغناء بالشعر هو الغناء المعقول الذى يطرب السامع؛ ما روى سفيان عن الزهرى عن أبى سلمة عن أبى هريرة أن النبي - عليه السلام - قال: (ما أذن الله لشىء ما أذن لنبي(10/260)
حسن الترنم بالقرآن) ، ومعقول عند ذوى الحجا أن الترنم لا يكون إلا بالصوت إذا حسنه المترنم وطرب به. وروى فى هذا الحديث: ما أذن الله لشىء ما أذن لنبى حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به، رواه يزيد بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن أبى سلمة عن أبى هريرة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) . قال الطبرى: وهذا الحديث أبين البيان أن ذلك كما قلنا، ولو كان كما قال ابن عيينة لم يكن كذلك، وحسن الصوت والجهر به معنى. والمعروف فى كلام العرب أن التغنى إنما هو الغناء الذى هو حسن الصوت بالترجيع، وقال الشاعر: تغن بالشعر أما كنت قائله إن الغناء لهذا الشعر مضمار قال: وأما ادعاء الزاعم أن تغنيت بمعنى استغنيت فاش فى كلام العرب وأشعارها، فلا نعلم أحدًا من أهل العلم بكلام العرب قاله، وأما احتجاجه ليصح قوله بقول الأعشى: وكنت امرءًا زمنًا بالعراق عفيف المناح طويل التغن وزعم أنه أراد بقوله: طويل التغن: طويل الاستغناء، أى الغنى، فإنه غلط، وإنما عنى الأعشى بالتغنى فى هذا الموضع الإقامة من قول العرب: غنى فلان بمكان كذا إذا أقام به، ومنه قوله تعالى: (كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا) [الأعراف: 92] ، وأما استشهاده بقوله: كلانا غنى عن أخيه حياته ونحن إذا متنا أشد تغانيا فإنه إغفال منه، وذلك أن التغانى تفاعل من نفسين، إذا استغنى كل واحد منهما عن صاحبه كما يقال: تضارب الرجلان إذا ضرب كل واحد منهما صاحبه، وتشاتما وتقاتلا، ومن قال هذا القول فى فعل اثنين لم يجز أن يقول مثله فى فعل الواحد، وغير جائز(10/261)
أن يقال: تغاني زيد وتضارب عمرو، وكذلك غير جائز أن يقال: تغنى زيد بمعنى استغنى، إلا أن يريد قائله أنه أظهر الاستغناء وهو به غير مستغن كما يقال: تجلد فلان إذا أظهر الجلد من نفسه، وهو غير جليد، وتشجع وهو غير شجاع، وتكرم وهو غير كريم، فإن وجه موجه الغنى بالقرآن إلى هذا المعنى على بعده عن مفهوم كلام العرب كانت المصيبة فى خطابه فى ذلك أعظم؛ لأنه لا يوجب ذلك من تأويله أن يكون الله تعالى لم يأذن لنبيه أن يستغنى بالقرآن، وإنما أذن له أن يظهر للناس من نفسه خلاف ما هو به من الخلال، وهذا لا يخفى فساده. قال: ومما بين فساد تأويل ابن عيينة أيضًا ألا يستغنى عن الناس بالقرآن. من المحال أن يوصف أحد بأنه يؤذن له فيه أو لا يؤذن إلا أن يكون الإذن عند ابن عيينة بمعنى الإذن الذى هو إطلاق وإباحة، فإن كان كذلك فهو غلط من وجهين: أحدهما: من اللغة، والثانى: من إحالة المعنى عن وجهه، فأما اللغة فإن الإذن مصدر قوله أذن فلان لكلام فلان، فهو يأذن له إذا استمع له وأنصت، كما قال تعالى: (وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ) [الانشقاق: 2] ، بمعنى سمعت لربها وحق لها ذلك، كما قال عدى بن يزيد: إن همى فى سماع وأذن يمعنى: فى سماع واستماع. فمعنى قوله: ما أذن الله لشىء إنما هو ما استمع الله إلى شىء من كلام الناس إلى نبى يتغنى بالقرآن. وأما الإحالة فى المعنى فلأن الاستغناء بالقرآن عن الناس غير جائز وصفه بأنه مسموع ومأذون له.(10/262)
قال المؤلف: وقد رفع الإشكال فى هذه المسألة أيضًا ما رواه ابن أبى شيبة قال: حدثنا يزيد بن الحباب قال: حدثنا موسى بن على بن رباح عن أبيه عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (تعلموا القرآن وتغنوا به واكتبوه، فوالذى نفسى بيده لهو أشد تقصيًا من المخاض من العقل) . وذكر أهل التأويل فى قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ) [العنكبوت: 51] أن هذه الآية نزلت فى قوم أتوا النبى بكتاب فيه خبر من أخبار الأمم. فالمراد بالآية الاستغناء بالقرآن عن علم أخبار الأمم على ما ذكره إسحاق بن راهويه عن ابن عيينة، وليس المراد بالآية الاستغناء الذى هو ضد الفقر واتباع البخارى الترجمة بهذه الآية يدل أن هذا كان مذهبه فى الحديث، والله أعلم. وسيأتى شىء من هذا المعنى فى آخر كتاب الاعتصام فى باب ذكر النبى (صلى الله عليه وسلم) وروايته عن ربه عز وجل، وفى باب قول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (الماهر بالقرآن مع الكرام البررة، إن شاء الله، عز وجل) .
- باب اغْتِبَاطِ صَاحِبِ الْقُرْآنِ
/ 42 - فيه: ابْن عُمَرَ، سَمِعْتُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لا حَسَدَ إِلا عَلَى اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْكِتَابَ، وَقَامَ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ، وَرَجُلٌ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَالا، فَهُوَ يَتَصَدَّقُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) . / 43 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لا حَسَدَ إِلا فِى اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ عَلَّمَهُ(10/263)
اللَّهُ الْقُرْآنَ، فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، فَسَمِعَهُ جَارٌ لَهُ، فَقَالَ: لَيْتَنِى أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِىَ فُلانٌ، فَعَمِلْتُ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالا، فَهُوَ يُهْلِكُهُ فِى الْحَقِّ، فَقَالَ رَجُلٌ: لَيْتَنِى أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِىَ فُلانٌ، فَعَمِلْتُ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ) . قال المؤلف: ذكر أبو عبيد بإسناده عن عبد الله بن عمر بن العاص قال: من جمع القرآن فقد حمل أمرًا عظيمًا، وقد استدرجت النبوة بين جنبيه إلا أنه لا يوحى إليه، فلا ينبغى لصاحب القرآن أن يرفث فيمن يرفث ولا يجهل فيمن يجهل، وفى جوفه كلام الله. وقال سفيان بن عيينة: من أعطى القرآن فمد عينيه إلى شىء ما صغر القرآن فقد خالف القرآن، ألم يسمع قوله عز وجل: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِى وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) [الحجر: 87] الآية. قال: يعنى القرآن، وقوله عز وجل: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا) [السجدة: 16] الآية. قال: هو القرآن. قال أبو عبيد: ومن ذلك قول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (ما أنفق عبد من نفقة أفضل من نفقة فى قول) . ومنه قول شريح لرجل سمعه يتكلم فقال له: أمسك عليك نفقتك. وفى حديث ابن عمر وأبى هريرة: أن حامل القرآن ينبغى له القيام به آناء الليل والنهار، ومن فعل ذلك فهو الذى يحسد على فعله فيه، وكذلك من آتاه الله مالاً وتصدق به آناء الليل والنهار، فهو المحسود عليه، ومن لم يتصدق به وشح عليه فلا ينبغى حسده عليه لما يجتنى من سوء عاقبته وحسابه عليه.(10/264)
- باب خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ
/ 44 - فيه: عُثْمَان، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ) . قَالَ أَبُو عَبْدِالرَّحْمَنِ وَذَاكَ الَّذِى أَقْعَدَنِى مَقْعَدِى هَذَا. وَقَالَ مرة: (إِنَّ أَفْضَلَكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ) . / 45 - وفيه: سَهْل بْنِ سَعْد، أن امْرَأَةٌ قَالَ: (أَتَتِ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَتْ: إِنِّى قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) . . . الحديث، فَقَالَ رَجُلٌ: زَوِّجْنِيهَا. . . إلى قوله: (قَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ) . قال المؤلف: حديث عثمان يدل أن قراءة القرآن أفضل أعمال البر كلها؛ لأنه لما كان من تعلم القرآن أو علمه أفضل الناس وخيرهم دل ذلك على ما قلناه؛ لأنه إنما وجبت له الخيرية والفضل من أجل القرآن، وكان له فضل التعليم جاريًا ما دام كل من علمه تاليًا. وحديث سهل إنما ذكره فى هذا الباب؛ لأنه زوجه المرآة لحرمة القرآن. ومما روى فى فضل تعلم القرآن وحمله ما ذكره أبو عبيد من حديث عقبة بن عامر قال: خرج علينا رسول الله ونحن فى الصفة، فقال: (أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو العقيق فيأخذ ناقتين كوماوين زهراوين فى غير إثم ولا قطيعة رحم. قلنا: كلنا يا رسول الله نحب ذلك قال: فلأن بعد يغدو أحدكم كل يوم إلى المسجد فيتعلم آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين ومن ثلاث ومن أعدادهن من الإبل. وذكر عن كعب الأحبار أن فى التوراة أن الفتى إذا تعلم القرآن وهو حديث السن وعمل به وحرص عليه وتابعه؛ خلطه الله بلحمه(10/265)
ودمه وكتبه عنده من السفرة الكرام البررة، وإذا تعلم الرجل القرآن وقد دخل فى السن وحرص عليه، وهو فى ذلك يتابعه وينفلت منه كتب له أجره مرتين. وروى عن الأعمش قال: مر أعرابى بعبد الله بن مسعود وهو يقرئ قومًا القرآن فقال: ما يصنع هؤلاء؟ فقال ابن مسعود: يقتسمون ميراث محمد (صلى الله عليه وسلم) . وقال عبد الله بن عمرو: عليكم بالقرآن، فتعلموه وعلموه أبنائكم، فإنكم عنه تسألون، وبه تجزون، وكفى به واعظًا لمن عقل. وقال ابن مسعود: لا يسأل أحد عن نفسه غير القرآن، فإن كان يحب القرآن فإنه يحب الله ورسوله، وعن أنس عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (إن لله أهلين من الناس. قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: هم أهل القرآن، أهل الله وخاصته) .
- باب الْقِرَاءَةِ عَلى ظَهْرِ قَلبه
/ 46 - فيه: سَهْل بْنِ سَعْدٍ، وذكر حديث الموهوبة، وَقَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) للرجل (مَاذَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ) ؟ قَالَ: مَعِى سُورَةُ كَذَا، وَسُورَةُ كَذَا، وَسُورَةُ كَذَا، عَدَّهَا، قَالَ: (أَتَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ) ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (اذْهَبْ فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ) . قال المؤلف: هذا الحديث يدل على خلاف ما تأوله الشافعى فى إنكاح النبى (صلى الله عليه وسلم) الرجل بما معه من القرآن، أنه إنما زوجه إياها بأجرة تعليمها. وقوله فى هذا الحديث: أتقرؤهن عن ظهر قلبك؟ قال: نعم. فزوجه لذلك. فدل أنه (صلى الله عليه وسلم) إنما زوجها منه لحرمه استظهاره(10/266)
للقرآن. وقد روى عن النبي - عليه السلام - تعظيم حامل القرآن وإجلاله وتقديمه. ذكر أبو عبيد من حديث طلحة بن عبيد الله بن كريز قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إن من تعظيم جلال الله إكرام ثلاثة: الإمام المقسط، وذى الشيبة المسلم، وحامل القرآن) . وكان (صلى الله عليه وسلم) يأمر يوم أحد بدفن الرجلين والثلاثة فى قبر واحد، ويقول: قدموا أكثرهم قرآنًا. وقد روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه أمر بالقراءة فى المصحف نظرًا من حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبى سعيد الخدرى قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (أعطوا أعينكم حظها من العبادة، قالوا: يا رسول الله، وما حظها من العبادة؟ قال: النظر فى المصحف والتفكر فيه، والاعتبار عند عجائبه) . وقال يزيد بن أبى حبيب: من قرأ القرآن فى المصحف خفف عن والديه العذاب وإن كانا كافرين. وعن عبد الله بن حسان قال: اجتمع اثنا عشر من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على أن من أفضل العبادة قراءة القرآن نظرًا، وقال أسد بن وداعة: ليس من العبادة شىء أشد على الشيطان من قراءة القرآن نظرًا. وقال وكيع: قال الثورى: سمعنا أن تلاوة القرآن فى الصلاة أفضل من تلاوته فى غير الصلاة، وتلاوة القرآن أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الصدقة، والصدقة أفضل من الصوم، والقراءة فى المصحف أفضل من القراءة ظاهرًا؛ لأنها رياء. هذه الآثار من رواية ابن وضاح.
- باب اسْتِذْكَارِ الْقُرْآنِ وَتَعَاهُدِهِ
/ 47 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الإبِلِ الْمُعَقَّلَةِ، إِنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَتْ) .(10/267)
/ 48 - وفيه: ابْن مسعود، عن النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) : (اسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ، فَإِنَّهُ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنَ النَّعَمِ من عقلها) . أَبُو مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَالَ: (تَعَاهَدُوا الْقُرْآنَ) . قال المؤلف: إنما شبه (صلى الله عليه وسلم) صاحب القرآن بصاحب الإبل المعلقة إن عاهد عليها أمسكها وأنه يتفصى من صدور الرجال؛ لقوله تعالى: (إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) [المزمل: 5] ، فوصفه تعالى بالثقل، ولولا ما أعان على حفظه ما حفظوه، فقال: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) [القيامة: 17] ، وقال: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) [القمر: 17] ، فبتيسير الله وعونه لهم عليه بقى فى صدورهم، فهذان الحديثان يفسران آيات التنزيل؛ فكأنه قال تعالى: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) [القيامة: 17] ،) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) [القمر: 17] ، إذا تعوهد وقرئ أبدًا وتذكر. وقوله: أشد تفصيًا، أى تفلتًا، قال صاحب العين: فصى اللحم عن العظم إذا انفسخ، والإنسان يتفصى من الشىء إذا تخلص منه، والاسم الفصية.
- باب الْقِرَاءَةِ عَلَى الدَّابَّةِ
/ 49 - فيه: ابْنَ مُغَفَّل، رَأَيْتُ النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَهُوَ يَقْرَأُ عَلَى رَاحِلَتِهِ سُورَةَ الْفَتْحِ. إنما أراد بهذا الباب والله أعلم ليدل أن القراءة على الدابة سنة موجودة، وأصل هذه السنة فى كتاب الله تعالى، وهو قوله:(10/268)
) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) [الزخرف: 13] .
- باب تَعْلِيمِ الصِّبْيَانِ الْقُرْآنَ
/ 50 - فيه: ابْن جُبَيْر، قَالَ: إِنَّ الَّذِى تَدْعُونَهُ الْمُفَصَّلَ هُوَ الْمُحْكَمُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاس: تُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَأَنَا ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ، وَقَدْ قَرَأْتُ الْمُحْكَمَ. قيل لَهُ: وَمَا الْمُحْكَمُ؟ قَالَ: الْمُفَصَّلُ. ذكر ابن أبى زيد قال: روى أن تعليم القرآن الصبيان يطفئ غضب الرب، وإنما سمى المفصل لكثرة السور والفصول فيه، عن ابن عباس. وقيل: إنما سمى بالمحكم أيضًا؛ لأن أكثره لا نسخ فيه. واختلف فى سن ابن عباس حين مات النبي (صلى الله عليه وسلم) فروى أبو بشير، عن سعيد بن جبير فى هذا الباب ما تقدم.
وقال أبو إسحاق عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: قبض النبى (صلى الله عليه وسلم) وأنا ختين. وروي شعبة، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: توفي النبي (صلى الله عليه وسلم) وأنا ابن خمس عشرة سنة. وذكر الزبير والواقدى أن ابن عباس ولد فى الشعب، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين، وكان ابن ثلاث عشرة سنة حين توفي النبي (صلى الله عليه وسلم) .(10/269)
- باب نِسْيَانِ الْقُرْآنِ وَهَلْ يَقُولُ نَسِيتُ آيَةَ كَذَا وَكَذَا؟ وَقَوْلِ اللَّهِ عز وجل: (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى) [الأعلى: 6]
/ 51 - فيه: عَائِشَةَ، سَمِعَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) رَجُلا يَقْرَأُ فِى الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: (يَرْحَمُهُ اللَّهُ، لَقَدْ أَذْكَرَنِى كَذَا وَكَذَا آيَةً مِنْ سُورَةِ كَذَا) . / 52 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا لأحَدِهِمْ، يَقُولُ: نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ، بَلْ هُوَ نُسِّىَ) . قال المؤلف: قد نطق القرآن بإضافة النسيان إلى العبد فى قوله تعالى: (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى) [الأعلى: 6] وشهد ذلك بصدق حديث عائشة أنه (صلى الله عليه وسلم) قال: (يرحمه الله، لقد أذكرنى كذا وكذا آية أسقطتهن من سورة كذا) . فأضاف الإسقاط إلى نفسه، والإسقاط هو النسيان بعينه. وحديث عبد الله خلاف هذا، وهو قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ما لأحدهم يقول: نسيت آية كيت وكيت، بل هو نسى) . فاستحب (صلى الله عليه وسلم) أن يضيف النسيان إلى خالقه الذى هو الله تعالى وقد جاء فى القرآن عن موسى (صلى الله عليه وسلم) أنه أضاف النسيان مرة إلى نفسه ومرة إلى الشيطان فقال: (فَإِنِّى نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) [الكهف: 63] . وقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (إنى لأنسى أو أنسى) ، يعنى إنى لأنسى أنا أو ينسينى ربى، فنسب النسيان مرة إلى نفسه، ومرة إلى الله تعالى هذا على قول من لم يجعل قوله: إنى لأنسى أو أنسى شكا من المحدث فى أى الكلمتين قال. وهو قول عيسى بن دينار، وليس فى شىء من ذلك اختلاف ولا تضاد فى المعنى، لأن لكل إضافة منها معنى صحيحًا فى كلام العرب، فمن أضاف النسيان إلى الله فلأنه خالقه وخالق الأفعال كلها، ومن نسبه إلى نفسه فلأن النسيان(10/270)
فعل منه مضاف إليه من جهة الاكتساب والتصرف، ومن نسبه إلى الشيطان فهو بمعنى الوسوسة فى الصدور وحديث الأنفس بما جعل الله للشيطان من السلطان على هذه الوسوسة، فلكل إضافة منها وجه صحيح، وإنما أراد (صلى الله عليه وسلم) بقوله والله أعلم: (ما لأحدهم يقول نسيت آية كذا وكذا؛ بل هو نسى) أن يجرى على ألسن العباد نسبة الأفعال إلى بارئها وخالقها، وهو الله؛ ففى ذلك إقرار له بالعبودية واستسلام لقدرته، وهو أولى من نسبة الأفعال إلى مكتسبها فإن نسبها إلى مكتسبها فجائز بدليل الكتاب والسنة.
- باب مَنْ لَمْ يَرَ بَأْسًا أَنْ يَقُولَ: سُورَةُ الْبَقَرَةِ
/ 53 - فيه: أَبُو مَسْعُود الأنْصَارِىِّ، قال (صلى الله عليه وسلم) : (الآيَتَانِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَنْ قَرَأَ بِهِمَا كَفَتَاهُ) . / 54 - وفيه: عُمَرَ، أَنَّهُ سَمع هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ، يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِى حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ. . . الحديث. / 55 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنّ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) سَمِعَ قَارِئًا يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ فِى الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: (يَرْحَمُهُ اللَّهُ لَقَدْ أَذْكَرَنِى كَذَا وَكَذَا آيَةً، أَسْقَطْتُهَا مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا) . فى هذه الأحاديث رد قول من يقول أنه لا يجوز أن يقول سورة البقرة، ولا سورة آل عمران، وزعم أن الصواب فى ذلك أن يقال: السورة التى يذكر فيها البقرة ويذكر فيها آل عمران، وهو قول يروى عن بعض السلف. وقالوا: إذا قال سورة البقرة وسورة آل عمران فقد أضاف السورة(10/271)
إلى البقرة، والبقرة لا سورة لها، وقد تقدم فى كتاب الحج فى باب يكبر مع كل حصاة.
- باب التَّرْتِيلِ فِى الْقِرَاءةِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا) [المزمل: 4] ، وَقَوْلِهِ: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ ونزلناه تنزيلا) [الإسراء: 106]
، وَمَا يُكْرَهُ أَنْ يُهَذَّ كَهَذِّ الشِّعْرِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (فَرَقْنَاهُ (فَصَّلْنَاهُ. / 56 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، أن رَجُلاً قَالَ: قَرَأْتُ الْمُفَصَّلَ الْبَارِحَةَ، فَقَالَ: هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ، إِنَّا قَدْ سَمِعْنَا الْقِرَاءَةَ، وَإِنِّى لأحْفَظُ الْقُرَنَاءَ الَّتِى كَانَ يَقْرَأُ بِهِنَّ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ثَمَانِىَ عَشْرَةَ سُورَةً مِنَ الْمُفَصَّلِ وَسُورَتَيْنِ مِنْ آلِ حم. / 57 - وفيه: ابْن عَبَّاس، فِى قَوْلِهِ تَعَالَى: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) [القيامة: 16] ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا نَزَلَ جِبْرِيلُ بِالْوَحْىِ، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ بِهِ لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ، فَيَشْتَدُّ عَلَيْهِ، وَكَانَ يُعْرَفُ مِنْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ (الحديث. قال المؤلف: ذكر أبو عبيد عن مجاهد فى قوله تعالى: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا) [المزمل: 4] ، قال: ترسل ترسلاً. وقال أبو حمزة: قلت لابن عباس: إنى سريع القرآءة، وإنى أقرأ القرآن فى ثلاث، فقال: لأن أقرأ البقرة فى ليلة فأتدبرها(10/272)
وأرتلها خير من أن أقرأ كما تقول. وقال مرة: خير من أجمع القرآن هذرمة، وأكثر العلماء يستحبون الترتيل فى القراءة ليتدبره القارئ ويتفهم معانيه. روى علقمة عن ابن مسعود قال: لا تنثروه نثر الدقل ولا تهذوه هذ الشعر، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة. وذكر أبو عبيد أن رجلاً سأل مجاهداَ عن رجل قرأ البقرة وآل عمران، ورجل قرأ البقرة قيامهما واحد وركوعهما واحد وسجودهما واحد، أيهما أفضل؟ قال: الذى قرأ البقرة. وقرأ: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ) [الإسراء: 106] . الآية. وقال الشعبى: إذا قرأتم القرآن فاقرءوه قراءة تسمعه آذانكم، وتفهمه قلوبكم، فإن الأذنين عدل بين اللسان والقلب، فإذا مررتم بذكر الله فاذكروا الله، وإذا مررتم بذكر النار فاستعيذوا بالله منها، وإذا مررتم بذكر الجنة فاسألوها الله. وفيها قول آخر؛ روى ابن القاسم وابن وهب عن مالك فى الهذ قى القراءة قال: من الناس من إذا هذ أخف عليه وإذا رتل أخطأ، ومن الناس من لا يحسن الهذ، والناس فى هذا على قدر حالاتهم وما يخف عليهم، وكل واسع. وقد روى عن جماعة من السلف أنهم كانوا يختمون القرآن فى ركعة، وهذا لا يتمكن إلا بالهذ، والحجة لهذا القول حديث أبى هريرة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (خفف على داود القرآن، فكان يأمر بدوابه فتسرح فيقرأ القرآن قبل أن تسرح) ، وهذا لا يتم إلا بالهذ وسرعة القراءة، والمراد بالقرآن فى هذا الحديث الزبور.(10/273)
ذكره البخاري في كتاب الأنبياء وداود (صلى الله عليه وسلم) ممن أنزل الله فيه: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام: 90] ، وإنما ذكر النبى (صلى الله عليه وسلم) هذا الفعل من داود (صلى الله عليه وسلم) على وجه الفضيلة له والإعجاب بفعله، ولو ذكره على غير ذلك لنسخه ولأمر بمخالفته، فدل على إباحة فعله والله أعلم، وسأذكر من كان يقرأ القرآن فى ركعة بعد هذا فى باب: فى كم يقرأ القرآن، إن شاء الله.
- باب مَدِّ الْقِرَاءَةِ
/ 58 - فيه: أَنَس أنَّهُ سُئل عن قِرَاءَةُ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: كَانَ يمد مَدًّا، ثُمَّ قَرَأَ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (يَمُدُّ بِبِسْمِ اللَّهِ، وَيَمُدُّ بِالرَّحْمَنِ، وَيَمُدُّ بِالرَّحِيمِ. وذكر أبو عبيد عن الليث عن ابن أبى مليكة، عن يعلى بن مالك عن أم سلمة أنها نعتت قراءة رسول الله قراءة مفسرة حرفًا حرفًا. وقالت أم سلمة أيضًا: كان النبى (صلى الله عليه وسلم) يقطع قراءته، وإنما كان يفعل ذلك والله أعلم لأمر الله له بالترتيل، وأن يقرأه على مكث، وألا يحرك به لسانه ليعجل به، فامتثل أمر ربه تعالى فكان يقرؤه على مهل ليبين لأمته كيف يقرءون، وكيف يمكنهم تدبر القرآن وفهمه. وذكر أبو عبيد عن إبراهيم قال: قرأ علقمة على عبد الله فكأنه عجل؛ فقال عبد الله: فداك أبى وأمى، رتل قراءته، زين القرآن. وكان علقمة حسن الصوت بالقرآن.(10/274)
- باب التَّرْجِيعِ
/ 59 - فيه: عَبْدَاللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ، قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ أَوْ جَمَلِهِ، وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ قِرَاءَةً لَيِّنَةً يَقْرَأُ، وَيُرَجِّعُ. فذكر البخارى هذا الحديث فى آخر كتاب الاعتصام، وزاد فيه: ثم قرأ معاوية قراءة لينة ورجع، ثم قال: لولا أنى أخشى أن يجتمع الناس عليكم لرجعت كما رجع ابن مغفل، يعنى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، فقلت لمعاوية: كيف كان ترجيعه قال: آاثلاث مرات. وفى هذا الحديث من الفقه إجازة قراءة القرآن بالترجيع والإلحان؛ لقوله فى وصف قراءته (صلى الله عليه وسلم) : آاثلاثًا، وهذا غاية الترجيع، وقد تقدم فى باب: من لم يتغن بالقرآن.
30 - باب حُسْنِ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ
/ 60 - فيه: أَبُو مُوسَى، أن النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ لَهُ: (لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ) . وروى ابن شهاب عن أبى سلمة قال: كان عمر إذا رأى أبا موسى قال: ذكرنا ربنا يا أبا موسى. فيقرأ عنده. وقال أبو عثمان النهدى: كان أبو موسى يصلى بنا فلو قلت: إنى لم أسمع صوت صنج قط ولا صوت بربط ولا شيئًا قط أحسن من صوته. قال أبو عبيد: ومحمل الأحاديث التى جاءت فى حسن الصوت إنما هو على طريق الحزن والتخويف والتشويق.(10/275)
يبين ذلك حديث أبى موسى أن أزواج النبى سمعوا قراءته فأخبر بذلك فقال: لو علمت لشوقت تشويقًا وحبرت تحبيرًا، فهذا وجهه، لا الألحان المطربة الملهية. روى سفيان، عن ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: سئل رسول الله، أى الناس أحسن صوتًا بالقرآن؟ قال: الذى إذا سمعته رأيته يخشى الله. وعن ابن أبى مليكة عن عبد الرحمن بن السائب قال: قدم علينا سعد بعد ما كف بصره فأتيته مسلمًا فانتسبنى فانتسبت له، فقال: مرحبًا بابن أخى، بلغنى أنك حسن الصوت بالقرآن، وسمعت النبى (صلى الله عليه وسلم) يقول: إن هذا القرآن نزل بحزن، فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا. وذكر أبو عبيد بإسناده قال: كنا على سطح، ومعنا رجل من أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) ، قال المحدث: ولا أعلمه إلا عيسى الغفارى، فرأى الناس يخرجون فى الطاعون يفرون فقال: يا طاعون، خذنى إليك، فقيل: أتتمنى الموت وقد نهى النبى (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك؟ قال: إنى أبادر خصالاً، سمعت النبى (صلى الله عليه وسلم) يتخوفهن على أمته: بيع الحكم، والاستخفاف بالدم، وقطيعة الرحم، وقوم يتخذون القرآن مزامير يقدمون أحدهم ليس بأفقههم ولا أفضلهم إلا ليغنيهم به غناء، وقال أبو سليمان الخطابى: قوله: آل داود، فإنه أراد داود نفسه لأنا لا نعلم أحدًا من آله أعطى من حسن الصوت ما أعطى داود قال غيره: والآل عند العرب: الشخص. قال أبو سليمان: وسئل أبو عبيدة معمر بن المثنى عن رجل أوصى لآل فلان، ألفلان نفسه المسمى من هذا شىء؟ قال: نعم. قال(10/276)
تعالى: (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) [غافر: 46] ، ففرعون أولهم وأنشد: ولا تبك ميتا بعد ميت أحبه علىّ وعباس وآل أبى بكر يريد أبا بكر نفسه، وقال ابن عون: كان الحسن إذا صلى على النبى قال: اللهم اجعل صلواتك على آل محمد كما جعلتها على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. يريد بآل محمد نفسه؛ لأن الأمر من الله بالصلاة إنما يتوجه إليه بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ) [الأحزاب: 56] الآية. وقد يكون آل الرجل أهل بيته الأدنين، وقال زيد بن أرقم: آل محمد آل عباس وآل عقيل، وآل جعفر وآل على. وقال أبو عبيد فى قوله تعالى: (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ) [البقرة: 49] ، قال: هم أهل دينه قال: ولا يجوز ذلك إلا فى الرئيس الذى الباقون له تبع، وكذلك آل محمد إنما هم أمته وأهل دينه قال: فإذا جاوزت هذا فآل الرجل: أهل بيته خاصة. وقال بعض الناس: قول أبى عبيدة خطأ عند الفقهاء لم يقل به أحد منهم.
31 - باب مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْمَعَ الْقُرْآنَ مِنْ غَيْرِهِ
/ 61 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قال لِى النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) : (اقْرَأْ عَلَىَّ الْقُرْآنَ) ، قُلْتُ: آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: (إِنِّى أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِى) . معنى استماعه القرآن من غيره والله أعلم ليكون عرض القرآن سنة، ويحتمل أن يكون كى يتدبره ويفهمه، وذلك أن المستمع أقوى(10/277)
على التدبر، ونفسه أخلى وأنشط من نفس القارئ؛ لأنه فى شغل بالقراءة وأحكامها. فإن قيل: فقد يجوز أن يكون سماعه (صلى الله عليه وسلم) للقرآن من غيره كما قلت، فما وجه قراءته (صلى الله عليه وسلم) القرآن على أبى، وقد ذكره البخارى فى فضائل الصحابة فى فضائل أبىّ. قيل: يحتمل أن يكون وجه ذلك ليتلقنه أبى من فيه (صلى الله عليه وسلم) ، فلا يتخالجه شك فى اختلاف القراءات بعده، وذلك أنه خاف عليه الفتنة فى هذا الباب؛ لأنه لا يجوز أن يكون أحد أقرأ للقرآن من النبى (صلى الله عليه وسلم) ، ولا أوعى له وأعلم به؛ لأنه نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربى مبين، قاله الخطابى، وقال أبو بكر بن الطيب نحوه، قال: قرأ النبى على أبىّ وهو أعلم بالقرآن منه وأحفظ؛ ليأخذ أبىّ نمط قراءته وسنته ويحتذى حذوه. وقد روى هذا التأويل عن أبىّ وابنه.
32 - باب قَوْلِ الْمُقْرِئِ لِلْقَارِئِ حَسْبُكَ
/ 62 - فيه: عَبْدِ اللَّه، قال لِى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (اقْرَأْ عَلَىَّ) ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: (نَعَمْ) ، فَقَرَأْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ الآيَةِ: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا) [النساء: 41] قَالَ: (حَسْبُكَ الآنَ) ، فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ، فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ. قال المؤلف: فى جواز قطع القراءة على القارئ إذا حدث على المقرئ عذر أو شغل بال؛ لأن القراءة على نشاط المقرئ أولى ليتدبر معانى القرآن ويتفهم عجائبه، ويحتمل أن يكون أمره (صلى الله عليه وسلم) بقطع القراءة تنبيهًا له على الموعظة والاعتبار فى قوله تعالى: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) [النساء: 41] الآية. ألا ترى أنه (صلى الله عليه وسلم) بكى عندها، وبكاؤه(10/278)
إشارة منه إلى معنى الوعظ؛ لأنه مثل لنفسه أهوال يوم القيامة وشدة الحال الداعية له إلى شهادته لأمته بتصديقه، والإيمان به وسؤاله الشفاعة لهم ليريحهم من طول الموقف وأهواله، وهذا أمر يحق له طول البكاء والحزن.
33 - باب فِى كَمْ يُقْرَأُ الْقُرْآنُ وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) [المزمل: 20]
. / 63 - فيه: سُفْيَانُ، قَالَ لِى ابْنُ شُبْرُمَةَ: نَظَرْتُ كَمْ يَكْفِى الرَّجُلَ مِنَ الْقُرْآنِ؟ فَلَمْ أَجِدْ سُورَةً أَقَلَّ مِنْ ثَلاثِ آيَاتٍ، فَقُلْتُ: لا يَنْبَغِى لأحَدٍ أَنْ يَقْرَأَ أَقَلَّ مِنْ ثَلاثِ آيَاتٍ. / 64 - وفيه: ابْن مَسْعُود، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ قَرَأَ بِالآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِى لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ) . / 65 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: أَنْكَحَنِى أَبِى امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ، فَكَانَ يَتَعَاهَدُ كَنَّتَهُ، فَيَسْأَلُهَا عَنْ بَعْلِهَا، فَتَقُولُ: نِعْمَ الرَّجُلُ مِنْ رَجُلٍ لَمْ يَطَأْ لَنَا فِرَاشًا، وَلَمْ يُفَتِّشْ لَنَا كَنَفًا مُنْذُ أَتَيْنَاهُ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ذَكَرَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (الْقَنِى بِهِ) ، فَلَقِيتُهُ بَعْدُ، فَقَالَ: (كَيْفَ تَصُومُ) ؟ قَالَ: كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ: (وَكَيْفَ تَخْتِمُ) ؟ قَالَ: كُلَّ لَيْلَةٍ، قَالَ: (صُمْ من كُلِّ شَهْرٍ ثَلاثَةً، وَاقْرَأِ الْقُرْآنَ فِى كُلِّ شَهْرٍ) ، قَالَ: قُلْتُ: أُطِيقُ أَكْثَرَ، قَالَ: (اقْرَأْ فِى كُلِّ سَبْعِة لَيَالٍ مَرَّةً) ، فَلَيْتَنِى قَبِلْتُ رُخْصَةَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . . . الحديث. قال البخارى: قال بعضهم: فى ثلاث أو فى خمس أو فى سبع وأكثرهم على سبع، وقال (صلى الله عليه وسلم) لعبد الله بن عمرو: اقرأه فى سبع ولا تزد على ذلك.(10/279)
قال المؤلف: ذكر أهل التفسير فى تأويل قوله تعالى: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) [المزمل: 20] ، قالوا: ثلاث آيات فصاعدا. ويقال: أقصر سورة فى القرآن كما قال ابن شبرمة. قوله (صلى الله عليه وسلم) : من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة كفتاه. نص فى أن قارئ الآيتين داخل فى معنى قوله: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) [المزمل: 20] ، وفى حديث عبد الله بن عمرو أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أمره أن يقرأ فى سبع ليال، وكان جماعة من السلف يأخذون بهذا الحديث. روى ذلك عن عثمان بن عفان وابن مسعود وتميم الدارى، وعن إبراهيم النخعى مثله. وذكر أبو عبيد عن زيد بن ثابت أنه سئل عن قراءة القرآن فى سبع فقال: حسن، ولأن أقرأه فى عشرين أو فى النصف أحب إلىّ من أن أقرأه فى سبع، وسلنى لم ذلك؟ أردده واقف عليه، وكان أبى بن كعب يختمه فى ثمان، وكان الأسود يختم القرآن فى ست، وكان علقمة يختمه فى خمس، وروى الطيب بن سليمان، عن عمرة، عن عائشة أن رسول الله كان لا يختم القرآن فى أقل من ثلاث. وعن قتادة عن يزيد بن عبد الله الشخير عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله: (لا يفقه من قرأه فى أقل من ثلاث) . وروى عن معاذ بن جبل: وكانت طائفة تقرأ القرآن كله فى ليلة أو ركعة. روى ذلك عن عثمان بن عفان وتميم الدارى، وعن علقمة وسعيد بن جبير أنهما قرأا القرآن فى ليلة بمكة، وكان ثابت البنانى يختم القرآن فى كل يوم وليلة من شهر رمضان، وكان سليمان يختم القرآن فى ليلة ثلاث مرات، ذكر ذلك كله أبو عبيد وقال: الذى أختار من ذلك ألا يقرأ القرآن فى أقل من ثلاث، لما روى عن النبى وأصحابه من الكراهة لذلك.(10/280)
34 - باب الْبُكَاءِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ
/ 66 - فيه: ابْن مسعود، أن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قال: (اقْرَأْ عَلَىَّ) ، قُلْتُ: أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ فَقَرَأْتُ النِّسَاءَ، حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ: (وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا) [النساء: 41] قَالَ لِى: (كُفَّ، أَوْ أَمْسِكْ) فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَذْرِفَانِ. قال المؤلف: البكاء عند قراءة القرآن حسن، قد فعله النبي (صلى الله عليه وسلم) وكبار الصحابة، وإنما بكى (صلى الله عليه وسلم) عند هذا لأنه مثل لنفسه أهوال يوم القيامة، وشدة الحال الداعية له إلى شهادته لأمته بتصديقه والإيمان به، وسؤاله الشفاعة لهم ليريحهم من طول الموقف وأهواله، وهذا أمر يحق له طول البكاء والحزن. ذكر أبو عبيد عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن أبيه قال: انتهيت إلى رسول الله وهو يصلى ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء. وعن الأعمش عن أبى صالح قال: لما قدم أهل اليمن فى زمن أبى بكر سمعوا القرآن فجعلوا يبكون قال أبو بكر: هكذا كنا ثم قست القلوب. وقال الحسن: قرأ عمر بن الخطاب: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِن دَافِعٍ) [الطور: 7، 8] فربا ربوة عيد منها عشرين يومًا. وقال عبيد بن عمير: صلى بنا عمر صلاة الفجر فقرأ سورة يوسف حتى إذا بلغ: (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) [يوسف: 84] بكى حتى انقطع فركع.(10/281)
وفي حديث آخر لما قرأ: (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّى وَحُزْنِى إِلَى اللهِ) [يوسف: 86] ، بكى حتى سمع نشيجه من وراء الصفوف. وعن ابن المبارك، عن مسعر، عن عبد الأعلى التيمى قال: من أوتى من العلم ما لا يبكيه، فليس بخليق أن يكون أوتى علمًا ينفعه؛ لأن الله تعالى نعت العلماء فقال: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا) [الإسراء: 107] الآيتين. وقرأ عبد الرحمن بن أبى ليلى سورة مريم؛ فلما انتهى إلى قوله: (خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) [مريم: 58] ، فسجد بها، فلما رفع رأسه قال: هذه السجدة فأين البكاء؟ وكره السلف الصعق والغشى عند قراءة القرآن. ذكر أبو عبيد بإسناده عن أبى حازم قال: مر ابن عمر برجل من أهل العراق ساقط والناس حوله، فقال: ما هذا؟ فقالوا: إذا قرئ عليه القرآن أو سمع الله يذكر خر من خشية الله، فقال ابن عمر: والله إنا لنخشى الله وما نسقط. وعن عكرمة قال: سئلت أسماء: هل كان أحد من السلف يغشى عليه من القراءة؟ فقالت: لا، ولكنهم كانوا يبكون. وقال هشام بن حسان: سئلت عائشة عمن يصعق عند قراءة القرآن فقالت: القرآن أكرم من أن تنزف عنه عقول الرجال، ولكنه كما قال الله: (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) [الزمر: 23] .(10/282)
وسُئل ابن سيرين عن ذلك فقال: ميعاد بيننا وبينه أن يجلس على حائط ثم يقرأ عليه القرآن كله، فإن وقع فهو كما قال.
35 - باب مَنْ رَاءَى بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، أَوْ تَأَكَّلَ بِهِ، أَوْ فَخَرَ بِهِ
/ 67 - فيه: عَلِىّ، قَالَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَأْتِى فِى آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ حُدَثَاءُ الأسْنَانِ، سُفَهَاءُ الأحْلامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإسْلامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، لا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . / 68 - وفيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَخْرُجُ فِيكُمْ قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلاتَكُمْ مَعَ صَلاتِهِمْ، وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَعَمَلَكُمْ مَعَ عَمَلِهِمْ، وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يَنْظُرُ فِى النَّصْلِ فَلا يَرَى شَيْئًا وَيَنْظُرُ فِى الْقِدْحِ فَلا يَرَى شَيْئًا، وَيَنْظُرُ فِى الرِّيشِ فَلا يَرَى شَيْئًا، وَيَتَمَارَى فِى الْفُوقِ) . / 69 - وفيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (الْمُؤْمِنُ الَّذِى يَقْرَأُ الْقُرْآنَ. . .) ، الحديث إلى قوله: (وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِى يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالرَّيْحَانَةِ، رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ) . قال المؤلف: قوله: يقرءون القرآن، لا يجاوز حناجرهم. يعنى: لا يرتفع إلى الله، ولا يؤجرون عليه لعدم خلوص النية بقراءته لله تعالى ولذلك شبه قراءة المنافق لما كانت رياء وسمعة بطعم الريحانة المر الذى لا يلتذ به آكله، كما لا يلتذ المنافق والمرائى بأجر قراءته وثوابها.(10/283)
وقال حذيفة: أقرأ الناس بالقرآن منافق يقرؤه، لا يترك منه ألفًا ولا واوًا، لا يجاوز ترقوته، وقال ابن مسعود: أعربوا القرآن، فإنه يأتى عربى فسيأتى قوم يتقفونه ليسوا بخياركم. وروى أبو عبيد من حديث أبى سعيد الخدرى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: تعلموا القرآن واسألوا الله به قبل أن يتعلمه قوم يسألون به الدنيا، فإن القرآن يتعلمه ثلاثة نفر: رجل يباهى به، ورجل يستأكل به الناس، ورجل يقرأ لله. وذكر أيضًا عن زادان قال: من قرأ القرآن ليستأكل به الناس، جاء يوم القيامة ووجهه عظم ليس عليه لحم. وقال ابن مسعود: سيجئ على الناس زمان يسئل فيه بالقرآن، فإذا سألوكم فلا تعطوهم. وقوله: (ينظر فى النصل) فالنصل: حديدة السهم. والقدح: عوده والفرق منه: موضع الوتر. وجمعه أفواق وفوق وقفًا.
36 - باب اقْرَءُوا الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ
/ 70 - وفيه: جُنْدَب، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (اقْرَءُوا الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ قُلُوبُكُمْ، فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا عَنْهُ) . / 71 - وفيه: عَبْدِاللَّه، أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلا يَقْرَأُ آيَةً سَمِعَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقْرَأُ خِلافَهَا، فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، فَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (كِلاكُمَا مُحْسِنٌ، فَاقْرَآ أَكْبَرُ عِلْمِى) ، قَالَ: (فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ اخْتَلَفُوا فَأهلِكهم اللَّه) . قال المؤلف: قوله: اقرءوا ما ائتلفت قلوبكم. فيه الحض(10/284)
على الألفة والتحذير من الفرقة فى الدين، فكأنه قال: اقرءوا القرآن والزموا الائتلاف على ما دل عليه وقاد إليه، فإذا اختلفتم فقوموا عنه، أى فإذا عرض عارض شبهة توجب المنازعة الداعية إلى الفرقة فقوموا عنه: أى فاتركوا تلك الشبهة الداعية إلى الفرقة، وارجعوا إلى المحكم الموجب للألفة، وقوموا للاختلاف وعما أدى إليه، وقاد إليه لا أنه أمر بترك قراءة القرآن باختلاف القراءات التى أباحها لهم لأنه قال لابن مسعود والرجل الذى أنكر عليه مخالفته له فى القراء: كلاكما محسن، فدل أنه لم ينهه عما جعله فيه محسنًا، وإنما نهاه عن الاختلاف المؤدى إلى الهلاك بالفرقة فى الدين.(10/285)
كِتَاب التَّمَنِّى
- بَاب مَنْ يتمنى الشَّهَادَةَ
/ 1 - فيه أبو هريرة: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لَوْلا أَنَّ رِجَالا يَكْرَهُونَ أَنْ يَتَخَلَّفُوا بَعْدِى، وَلا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ مَا تَخَلَّفْتُ، لَوَدِدْتُ أَنِّى أُقْتَلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ) . فيه من الفقه: جواز تمنى الخير وأفعال البر والرغبة فيها، وإن علم أنه لا ينالها حرصًا على الوصول إلى أعلى درجات الطاعة. وفيه: فضل الشهادة على سائر أعمال البر لأنه (صلى الله عليه وسلم) تمناها دون غيرها، وذلك لرفيع درجتها، وكرامة أهلها لأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، وذلك والله أعلم لسماحة أنفسهم ببذل مهجتهم فى مرضاة الله وإعزاز دينه، ومحاربة من حاده وعاداه، فجازاهم بأن عوضهم من فقد حياة الدنيا الفانية الحياة الدائمة فى الدار الباقية، فكانت المجازاة من حسن الطاعة.
- باب تَمَنِّى الْخَيْرِ، وَقَوْلِ النَّبِيِّ - عليه السلام -: (لَوْ كَانَ لِى أُحُدٌ ذَهَبًا
/ 2 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْ كَانَ لِى أُحُدٌ ذَهَبًا(10/286)
، لأحْبَبْتُ أَنْ لا يَأْتِىَ عَلَىَّ ثَلاثٌ وَعِنْدِى مِنْهُ دِينَارٌ، لَيْسَ شَىْءٌ أَرْصُدُهُ فِى دَيْنٍ عَلَىَّ أَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهُ) . فى هذا الحديث من الفقه جواز تمنى الخير وأفعال البر لأنه (صلى الله عليه وسلم) تمنى لو كان له مثل أحد ذهبًا لأحب أن ينفقه فى طاعة الله قبل أن يأتى عليه ثلاث ليال. وقد تمنى الصالحون ما يمكن كونه وما لا يمكن حرصًا منهم على الخير، فتمنى بنو الزبير منازل من الدنيا لتنفذ أموالهم فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. روى أن عبد الله وعروة وصعبًا بنى الزبير بن العوام اجتمعوا عند الكعبة، فقال عبد الله: أحب أن لا أموت حتى أكون خليفة. وقال مصعب: أحب أن ألى العراقين: الكوفة والبصرة، وأتزوج سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة. وقال عروة: لكننى أسأل الله الجنة، فصار عبد الله ومصعب إلى تمنيا، وترون أن عروة صار إلى الجنة إن شاء الله، وما تمنوه مما لا سبيل إلى كونه تصغيرًا لأنفسهم وتحقيرًا لأعمالهم، فتمنوا أنهم لم يخلقوا وأنهم أقل الموجودات. روى عن أبى بكر الصديق أنه قال: وددت أنى خضرة تأكلنى الدواب. وتناول عمر بن الخطاب تبنة من الأرض فقال: ليتنى كنت هذه، ليتنى لم أك شيئًا، ليت أمى لم تلدنى، ليتنى كنت نسيًا منسيًا. وقرأ عمر: (هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا) [الإنسان: 1] ، فقال: يا ليتها تمت. وقال عمران بن حصين: وددت أنى رماد على أكمة تسفينى الرياح فى يوم عاصف.(10/287)
وقال أبو ذر: وددت أن الله خلقنى شجرة تقضم. ومرت عائشة بشجرة فقالت: يا ليتنى كنت ورقة من هذه الشجرة. وقال أبو عبيدة: وددت أنى كبش فيذبحنى أهلى فيأكلون لحمى ويحسون مرقى. وإنما حملهم على ذلك شدة الخوف من مسائلة الله والعرض عليه، وعلى قدر العلم بالله يكون الخشية منه، ولذلك قال الفضيل: من مقت نفسه فى الله أمنه الله من مقته.
3 - باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِى مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْىَ، وَلَحَلَلْتُ مَعَ النَّاسِ حِينَ حَلُّوا
وذكره من حديث جابر أيضًا. قوله: (لو استقبلت من أمرى ما استدبرت) أى لو علمت أن أصحابى يأتون من العمرة فى أشهر الحج ما أحرمت بالحج مفردًا، ولأحرمت بالعمرة فلو أحرمت بالعمرة لم يكرهها أحد منهم، وللانت نفوسهم لفعلى لها واختيارى فى نفسى، فكرهوها حين أمرهم بها؛ لكونهم على خلاف فعل نبيهم؛ مع أنهم كانوا فى الجاهلية يكرهون العمرة فى أشهر الحج فتمنى (صلى الله عليه وسلم) موافقة أصحابه وكره ما ظهر منهم من الإشفاق لمخالفتهم له، ففى هذا من الفقه أن الإمام والعالم ينبغى له أن يسلك سبيل الجمهور وألا يخالف الناس فى سيرته وطريقته.(10/288)
4 - باب قَول النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَيْتَ كَذَا وَكَذَا
/ 3 - فيه: عَائِشَة، قَالَتْ: أَرِقَ النَّبِىُّ - عليه السلام - ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقَالَ: (لَيْتَ رَجُلا صَالِحًا مِنْ أَصْحَابِى يَحْرُسُنِى اللَّيْلَةَ) ؛ فأتى سَعْد: فحرسه. وَقَالَ بِلالٌ: أَلا لَيْتَ شِعْرِى هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً بِوَادٍ وَحَوْلِى إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ فَأَخْبَرْت عَائِشَة النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) . قال المؤلف: فيه أباحة تمنى ما ينتفع به فى الدنيا، ويمكن أن يكون هذا الحديث قبل أن ينزل عليه: (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة: 67] ، فلما علم ذلك لم يحتج إلى حارس بعد، ويمكن أن يفعله (صلى الله عليه وسلم) بعد نزول الآية عليه ليستن به الأمراء، ولا يضيعوا حرس أنفسهم فى أوقات الغرة والغفلة، والله أعلم.
5 - باب تَمَنِّى الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ
/ 4 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَحَاسُدَ إِلا فِى اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، يَقُولُ: لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِىَ هَذَا لَفَعَلْتُ كَمَا يَفْعَلُ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالا يُنْفِقُهُ فِى حَقِّهِ، فَيَقُولُ: لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِىَ لَفَعَلْتُ كَمَا يَفْعَلُ) . هذا من الحسد الحلال، والحاسد فيه مشكور؛ لأنه إنما حسده على العمل بالقرآن والعلم، وحسد صاحب المال على نفقته له فى حقه فلم يقع الحسد على شيء من أمور الدنيا، وإنما وقع على ما يرضى الله ويقرب منه، فلذلك كان تمنيه حسنًا، وكذلك تمنى سائر أبواب(10/289)
الخير إنما يجوز منه ما كان فى معنى هذا الحديث إذا خلصت النية فى ذلك لله، وخلص ذلك من البغى والحسد.
6 - بَاب مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّمَنِّى قول اللَّه تَعَالَى: (وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ) [النساء: 32]
/ 5 - فيه: أَنَس: لَوْلا أَنِّى سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (لا تَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ لَتَمَنَّيْتُ) . / 6 - فيه: خباب مثله. / 7 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ، إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ يَزْدَادُ، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ يَسْتَعْتِبُ) . قال المهلب: بين الله تعالى فى هذه الآية ما لا يجوز تمنيه، وذلك ما كان من عرض الدنيا وأشباهه. قال الطبرى: وقيل: إن هذه الآية نزلت فى نساء تمنين منازل الرجال، وأن يكون لهن ما لهم فنهى الله تعالى عن الأمانى الباطلة؛ إذ كانت الأمانى الباطلة تورث أهلها الحسد والبغى بغير الحق. وقال ابن عباس فى هذه الآية: لا يتمنى الرجل يقول: ليت لى مال فلان وأهله، فنهى الله عن ذلك وأمر عباده أن يسألوه من فضله. وسئل الحسن البصرى فقيل له: الرجل يرى الدار فتعجبه والدابة فتعجبه فيقول: ليت لي مثل هذه الدار، ليت لى مثل هذه الدابة. قال الحسن: لا يصلح هذا. قيل له: فيقول: ليت لى مثل هذه الدار. فقال: ولا هذا. قيل له: إنا كنا لا نرى بأسًا بقوله: ليت لي مثل(10/290)
هذا. فقال الحسن: ألا ترى قوله عز وجل: (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) [العنكبوت: 62] أتدرى ما يقدر له؟ ينظر إن كان خيرًا أن يبسطه له بسطه، وإن كان خيرًا أن يمسكه عنه أمسكه، فينطلق إلى شىء نظر الله فيه أنه خير لك فأمسكه عنك فتسأله إياه، فلعلك لو أعطيت ذلك كان فيه هلكة فى دينك ودنياك، ولكن إذا سألت فقل: اللهم إنى أسألك من فضلك، فإن أعطاك أعطاك خيارًا، وإن أمسك عنك أمسك خيارًا. ومعنى نهيه (صلى الله عليه وسلم) عن تمنى الموت، فإن الله قد قدر الآجال فمتمنى الموت غير راضٍ بقدر الله ولا مسلم لقضائه، وقد بين النبى (صلى الله عليه وسلم) ما للمحسن والمسئ فى أن لا يتمنى الموت، وذلك ازدياد المحسن من الخير ورجوع المسئ عن الشر، وذلك نظر من الله للعبد وإحسان منه إليه خير له من تمنيه الموت، وقد تقدم فى كتاب المرضى حيث يجوز تمنى الموت، وحيث لا يجوز، والأحاديث المعارضة فى ذلك وبيان معانيها فى باب تمنى الموت.
7 - باب قَوْلِ الرَّجُلِ: لَوْلا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا
/ 8 - فيه: الْبَرَاء، قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَنْقُلُ مَعَنَا التُّرَابَ يَوْمَ الأحْزَابِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ وَارَى التُّرَابُ بَيَاضَ بَطْنِهِ، يَقُولُ: (لَوْلا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا، نَحْنُ وَلا تَصَدَّقْنَا وَلا صَلَّيْنَا) . لولا عند العرب يمتنع بها الشىء لوجود غيره يقول: لولا زيد ما صرت إليك: أى كان مصيرى إليك من أجل زيد، وكذلك قوله: (لولا الله ما اهتدينا) . أى كان هدانا من أجل هداية الله لنا(10/291)
فوجود الهدى منع وقوع الضلال، وذلك كله من فعل الله بعباده فلا يفعل العبد الطاعة ولا يجتنب المعصية إلا بقدر الله وقضائه على العبد.
8 - باب كَرَاهَةِ التَمَنِّى لِقَاءِ الْعَدُوِّ
/ 9 - فيه: عَبْدُاللَّهِ بْنُ أَبِى أَوْفَى، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ) . قد تقدم هذا الباب فى كتاب الجهاد، وجملة معناه: النهى عن تمنى المكروهات والتصدى للمحذورات، ولذلك سأل السلف العافية من الفتن والمحن؛ لأن الناس مختلفون فى الصبر على البلاء.
9 - باب مَا يَجُوزُ مِنَ اللَّوْ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً) [هود: 80]
/ 10 - فيه: ابْن عَبَّاس، ذكر الْمُتَلاعِنَيْنِ، فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ: أَهِىَ الَّتِى قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا امْرَأَةً مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ؟) قَالَ: لا، تِلْكَ امْرَأَةٌ أَعْلَنَتْ. / 11 - وفيه: ابْن عَبَّاس، أَعْتَمَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِالْعِشَاءِ، فَخَرَجَ عُمَرُ، فَقَالَ الصَّلاةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَقَدَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، فَخَرَجَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ، يَقُولُ: (لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِى لأمَرْتُهُمْ بِالصَّلاةِ هَذِهِ السَّاعَةَ) .(10/292)
/ 12 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِى لأمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ) . / 13 - وفيه: أَنَس، وَاصَلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) آخِرَ الشَّهْرِ، وَوَاصَلَ أُنَاسٌ مِنَ النَّاسِ، فَبَلَغَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (لَوْ مُدَّ بِىَ الشَّهْرُ لَوَاصَلْتُ وِصَالا يَدَعُ الْمُتَعَمِّقُونَ تَعَمُّقَهُمْ) . وَقَالَ مرة: (لَوْ تَأَخَّرَ لَزِدْتُكُمْ، كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ) . / 14 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْلا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ، فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الْجَدْرَ فِى الْبَيْتِ، وَأَنْ أَلْصِقْ بَابَهُ فِى الأرْضِ) . / 15 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْلا الْهِجْرَةُ؛ لَكُنْتُ امْرًَا مِنَ الأنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا، وَسَلَكَتِ الأنْصَارُ وَادِيًا أَوْ شِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِىَ الأنْصَارِ أَوْ شِعْبَ الأنْصَارِ) . / 16 - وعن عبد الله بن زيد، مثله. (لو) : تدل عند العرب على امتناع الشىء لامتناع غيره كقوله: لو جاءنى زيد لأكرمتك. معناه: أنى امتنعت من كرامتك لامتناع زيد من المجئ. وقوله: (لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً) [هود: 80] جواب لو محذوف كأنه قال: لحلت بينكم وبين ما جئتم له من الفساد، وحذفه أبلغ؛ لأنه يحصر النفى بضروب المنع. فإن قيل: لم قال: (أو آوى إلى ركن شديد) مع أنه يأوى إلى الله؟ فالجواب: أنه إنما أراد العدة من(10/293)
الرجال، وإلا فله ركن وثيق مع معونة الله ونصره، وتضمنت الآية البيان عما يوجبه حال المحق إذا رأى منكرًا لا يمكنه إزالته مع التحسر على قوة أو معين على دفعه لحرصه على طاعة ربه، وجزعه من معصيته، فامتنع من الانتقام من قومه لامتناع من يعينه على ذلك. وقوله: (لو كنت راجعًا بغير بينة) : امتنع من رجم المرأة لامتناع وجود البينة، وكذلك امتنع من معاقبتهم بالوصال لامتناع امتداد الشهر، ومثله: لو سلك الناس واديًا لسلكت وادى الأنصار. قال المهلب: وإنما قال ذلك للأنصار تأنيسًا لهم ليغبطهم بحالهم، وأنها مرضية عنده وعند ربهم، لكنه أعلمهم بأنه امتنع من أن يساويهم فى حالهم لوجود الهجرة التى لا يمكنه تركها، وسائر ما فى الباب من الأحاديث؛ فإنها بلفظ لولا التى تدل على امتناع الشىء لوجود غيره كقوله: (لولا أن أشق على أمتى لأمرتهم بالصلاة هذه الساعة) ، و (لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة) فامتنع من أمرهم بذلك لوجود المشقة بهم عند امتثالهم أمره. وقوله: (لولا أن قومك حديث عهدهم بالكفر فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر فى البيت) . فامتنع (صلى الله عليه وسلم) من هدم البيت وبنيانه على قواعد إبراهيم من أجل الإنكار الحاصل لذلك. قال الطبرى: فإن قال قائل: فقد روى ابن عيينة عن ابن عجلان عن الأعرج عن أبى هريرة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك شىء فلا تقل: لو أنى فعلت كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو مفتاح(10/294)
الشيطان) . فنهى عن لو فى هذا الحديث، وهذا معارض لما جاء من إباحة لو فى كتاب الله، وفى الأحاديث المروية فى ذلك. قيل له: لا تعارض بين شىء من ذلك، ولكل وجه ومعنى غير معنى صاحبه؛ فأما نهيه عن اللو فى حديث ابن عجلان فمعناه: لا تقل أنى لو فعلت كذا لكان كذا على القضاء والحتم، فإنه كائن لا محالة، فأنت غير مضمر فى نفسك شرط مشيئة الله، هذا الذى نهى عنه؛ لأنه قد سبق فى علم الله كل ما يناله المرء. قال تعالى: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى الأَرْضِ وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا) [الحديد: 22] . فأما إذا كان قائله ممن يوقن بأن الشرط إذا وجد لم يكن المشروط إلا بمشيئة الله وإرادته، فذلك هو الصحيح من القول، وقد قال أبو بكر الصديق للنبى (صلى الله عليه وسلم) وهو فى الغار: لو أن أحدهم رفع قدمه أبصرنا. فقال: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما، ولم ينكر ذلك عليه صلى الله عليه؛ إذا كان عالما بمخرج كلامه، وأنه إنما قال ذلك على ما جرت به العادة، واستعمله الناس علة ما الأغلب كونه عند وقوع السبب الذى ذكره، وإن كان قد كان جائزًا أن يرفع جميع المشركين الذين كانوا فوق الغار أقدامهم ثم ينظروا فيحجب الله أبصارهم عن رسوله، وعن صاحبه فلا يراهما منهم أحد، وكان جائز أن يحدث الله عمىً فى أبصارهم، فلا يبصرونهما، مع أسباب غير ذلك كثيرة، وأن أبا بكر لم يقل ذلك إلا على إيمان منه بأنهم لو رفعوا أقدامهم لم يبصروا رسول الله إلا أن يشاء الله ذلك، فهذا مفسرًا لحديث ابن عجلان وناف للتعارض فى ذلك، والله الموفق.(10/295)
كِتَاب الْقَدَرِ
- باب فِى الْقَدَرِ
/ 1 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: (إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ فِى بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا، فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعٍ، بِرِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَشَقِىٌّ أَوْ سَعِيدٌ، فَوَاللَّهِ إِنَّ أَحَدَكُمْ، أَوِ الرَّجُلَ، يَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا غَيْرُ بَاعٍ أَوْ ذِرَاعٍ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَدْخُلُهَا، (وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا غَيْرُ ذِرَاعٍ، أَوْ ذِرَاعَيْنِ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُهَا) . / 2 - وفيه: أَنَس، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (وَكَّلَ اللَّهُ بِالرَّحِمِ مَلَكًا، فَيَقُولُ: أَىْ رَبِّ، نُطْفَةٌ، أَىْ رَبِّ، عَلَقَةٌ، أَىْ رَبِّ، مُضْغَةٌ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِىَ خَلْقَهَا، قَالَ: أَىْ رَبِّ، أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ أَشَقِىٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَمَا الرِّزْقُ؟ فَمَا الأجَلُ؟ فَيُكْتَبُ كَذَلِكَ فِى بَطْنِ أُمِّهِ) . قال المهلب: فى هذا الحديث رد لقول القدرية واعتقادهم أن العبد يخلق أفعاله كلها من الطاعات والمعاصى، وقالوا: إن الله منزه(10/296)
عن أن يخلق المعاصي والزنا والكفر وشبهه، فبان فى هذا الحديث تكذيب قولهم، بما أخبر (صلى الله عليه وسلم) أنه يكتب فى بطن أمه شقى أو سعيد مع تعريف الله العبد أن سبيل الشقاء هو العمل بالمعاصى والكفر، فكيف يجوز أن يعمل بما أعلمه الله أنه يعذبه عليه، ويشقيه به، مع قدرة العبد على اختياره لنفسه، وخلقه لأعماله دون الله، تعالى الله أن يكون معه خالق غيره. ثم قطع القدرية بقوله: فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، فلو كان الأمر إلى اختياره أتراه كان يختار خسارة عمله طول عمره بالخير، ثم يخلق لنفسه عملاً من الشر والكفر، فيدخل به النار؟ وهل السابق له إلا فعل ربه وخلقه له، وخلق عمله للشئ كسبًا له فاكتسبه العبد لشهوة نفسه الأمارة بالسوء مستلذًا بذلك العمل الذى أقدره الله عليه بقدرة خلقها له بحضرة الشيطان المغوى لنفسه الأمارة له مع الشيطان بالسوء فاستحق العقاب على ذلك. فانقطعت حجة العبد بالنذارة، وانقطعت حجة القدرية بسابق كتاب الله على العبد العارف بما آل أمره، باكتسابه للعمل القبيح، لخلق الله له قدرة على عمله بحضرة عدويه: نفسه وشيطانه، ولذلك نسب الشر إلى الشيطان لتزيينه له، ونسب الخير إلى الله لخلقه لعبده، وإقداره للعبد عليه بحضرة الملك المسدد له، الدافع لشيطانه عنه بعزة الله وعصمته. هذا هو أصل الكلام على القدرية ثم يلزم القدرية أن يكون العبد شريكًا لله فى خلقه بأن يكون العبد يخلق أفعاله والله قد أبى من ذلك بقوله تعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ) [الزمر: 62] ، وقوله: (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ) [فاطر: 3] ، فخالفوا النص(10/297)
وأوجبوا للعبد من القدرة على خلق أعماله ما أوجبه الله لنفسه تعالى من الانفراد بالخلق، ولذلك سميت القدرية: مجوس هذه الأمة لقولها بخالقين مثل ما قالته المجوس من اعتبارها لأرباب من الشمس والقمر والنور، والنار والظلمة، كل على اختياره، وقد نص الله سبحانه وتعالى على إبطال قول القدرية لعلمه بضلالتهم ليهدى بذلك أهل سنته فقال: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) [الصافات: 96] . وقوله: يجمع فى بطن أمه: قد فسره ابن مسعود، سئل الأعمش عن قوله: يجمع فى بطن أمه قال: حدثنى خيثمة قال: قال عبد الله: إن النطفة إذا رفعت فى الرحم، فأراد الله أن يخلق منها بشرًا طارت فى بشر المرأة تحت كل ظفر وشعر، ثم تمكث أربعين ليلة ثم تصير دمًا فى الرحم فذلك جمعها.
- بَاب جَفَّ الْقَلَمُ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ قوله تَعَالَى: (وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ) [الجاثية: 23]
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ لِىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لاقٍ) . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون: 61] سَبَقَتْ لَهُمُ السَّعَادَةُ. / 3 - فيه: عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُعْرَفُ أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالَ: (نَعَمْ) ، قَالَ: فَلِمَ يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ؟ قَالَ: (كُلٌّ يَعْمَلُ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَوْ لِمَا يُسِّرَ لَهُ) . قال المهلب: غرض البخارى فى هذا الباب غرضه المتقدم من(10/298)
إدحاض حجة القدرية بهذه النصوص من كلام رسوله، فأخبر أنه قد فرغ من الحكم على كل نفس، وكتب القلم ما يصير إليه العبد من خير أو شر فى أم الكتاب، وجف مداده على المقدور من علم الله. فأضله الله على علم به، ومعرفة بما كان يصير إليه أمره لو أهمله ألا يسمعه قد بين ذلك فى كتابه حيث يقول: (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِى بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) [النجم: 32] . فعرفنا أنه كان بنا عالمًا حين خلق آدم من طينة الأرض المختلفة وأحاط علمًا بما يقع من تلك الطينة لكل شخص من أشخاص ولده إلى يوم القيامة، المتناسلين من صلب إلى صلب فى أعداد لا يحيط بها إلا محيصها، وعلم ما قسمه من تلك الطينة من طيب أو خبيث، وعلم ما يعمل كل واحد من الطاعة والمعصية ليشاهد أعماله بنفسه، وكفى بنفسه شهيدًا عليه، وتشهد له عليه ملائكته وما عاينه من خلقه، فتنقطع حجته، وتحقق عقوبته ولذلك قال لأبى هريرة حين أراد أن يختصى خشية الزنا على نفسه: (قد جف القلم بما أنت لاق) . فاختص على ذلك أبو ذر، فعرفه أنه لا يعدو ما جرى به القلم عليه من خير أو شر، فإنه لابد عامله ومكتسبه، فنهاه عن الاختصاء بهذا القول الذى ظاهره التخيير، ومعنى النهى والتبكيت لمن أراد الهروب عن القدر والتعريف له أن إن فعل، فإنه أيضًا من القدر المقدور عليه فيما جف به القلم عليه.(10/299)
وقد سئل الحسن البصرى عن القدر فقال: إن الله خلق الخلق للابتلاء، لم يطيعوه بإكراه منه، ولم يعصوه بغلبة، ولم يهملهم من المملكة؛ بل كان المالك لما ملكهم فيه، والقادر لما قدره عليهم، فإن تأثم العباد بطاعة الله لم يكن الله صادًا عنها، ولا مبطئا؛ بل يزيدهم هدى إلى هداهم، وتقوى إلى تقواهم، وإن تأثم العباد بمعصية الله كان القادر على صرفهم؛ إن شاء فعل وإن شاء خلى بينهم وبين المعصية فيكسبونها، فمن بعد الإعذار والإنذار لله الحجة البالغة، لا يسئل عما يفعل وهم يسألون، فلو شاء لهداكم أجمعين. وقال المهلب: فى حديث عمران حجة لأهل السنة على المجبرة من أهل القدر وذلك قوله: (اعملوا، فكل ميسر لما خلق له) . ولم يقل: فكل مجبر على ما خلق له، وإنما أراد لما خلق له من عمله للخير أو للشر. وقيل: إنما أراد بقوله: لما خلق له الإنسان من جنة أو نار، فقد أخبر أنه ميسر لأعمالها ومختار لا مجبر؛ لأن الخبر لا يكون باختيار، وإنما هو بإكراه.
3 - باب اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ
/ 4 - فيه: ابْن عَبَّاس، سُئِلَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ أَوْلادِ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: (اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ) . / 5 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، مثله. وقَالَ عن النَّبِىّ - عليه السلام -: (مَا(10/300)
مِنْ مَوْلُودٍ إِلا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ، كَمَا تُنْتِجُونَ الْبَهِيمَةَ. . .) إلى قوله: (أَفَرَأَيْتَ مَنْ يَمُوتُ وَهُوَ صَغِيرٌ؟ قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ) . قال المؤلف: غرضه فى هذا الباب الرد على الجهمية فى قولهم: إن الله لا يعلم أفعال العباد حتى يعملوها. فرد النبى (صلى الله عليه وسلم) ذلك من قولهم، وأخبر فى هذا الحديث أن الله تعالى يعلم ما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون، ومصداق هذا الحديث فى قوله تعالى: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ) [الأنعام: 28] ، وقال فى آية أخرى: (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَّسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ) [الأنفال: 23] ، فإذا ثبت بهاتين الآيتين المصدقتين لحديثه (صلى الله عليه وسلم) أنه يعلم ما لا يكون لو كان كيف كان يكون، فأحرى أن يعلم ما يكون، وما قدره وقضاه فى كونه. وهذا يقوى ما يذهب إليه أهل السنة أن القدر هو علم الله وغيبه الذى استأثر به فلم يطلع عليه ملكًا مقربًا، ولا نبيًا مرسلاً. وروى روح بن عبادة عن حبيب بن الشهيد عن محمد بن سيرين قال: ما ينكر هؤلاء، يعنى القدرية، أن يكون الله علم علمًا فجعله كتابًا. وقد قيل: إن بعض الأنبياء كان يسأل الله عن القضاء والقدر، فمحى من النبوة. وروى ابن عباس عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (إذا ذكر القدر فأمسكوا) . وقال بلال بن أبى بردة لمحمد بن واسع: ما تقول فى القضاء والقدر؟ فقال: أيها الأمير، إن الله لا يسأل عباده يوم القيامة عن قضائه وقدره، وإنما يسألهم عن أعمالهم. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الحسن البصرى: إن الله لا يطالب(10/301)
خلقه بما قضى عليهم، ولكن يطالبهم بما نهاهم عنه، وأمرهم به، فطالب نفسك من حيث يطالبك ربك. وسئل أعرابى عن القدر، فقال: الناظر فى قدر الله كالناظر فى عين الشمس يعرف ضوءها، ولا يقف على حدودها. وقوله: (كما تنتجون الناقة) . قال أبو عبيد: يقال: تنتجت الناقة إذا أعنتها على النتاج.
4 - بَاب) وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا) [الأحزاب: 38]
/ 6 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَسْأَلِ الْمَرْأَةُ طَلاقَ أُخْتِهَا؛ لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَهَا وَلْتَنْكِحْ، فَإِنَّ لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا) . / 7 - وفيه: أُسَامَةَ، أتى إِلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) رَسُولُ إِحْدَى بَنَاتِهِ، أَنَّ ابْنَهَا يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا: (لِلَّهِ مَا أَخَذَ، وَلِلَّهِ مَا أَعْطَى، فكُلٌّ بِأَجَلٍ، فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ) . / 8 - وفيه: أَبُو سَعِيد، بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ عِنْدَ إذ جَاءَه رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ، فَقَالَ: كَيْفَ تَرَى فِى الْعَزْلِ؟ فَقَالَ لَيْس بِنَسَمَةٌ كَتَبَ اللَّهُ أَنْ تَخْرُجَ إِلا هِىَ كَائِنَةٌ) . / 9 - وفيه: حُذَيْفَةَ، خَطَبَنَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) خُطْبَةً مَا تَرَكَ فِيهَا شَيْئًا إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلا ذَكَرَهُ، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ، وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ، إِنْ كُنْتُ لأرَى الشَّىْءَ قَدْ نَسِيتُ فَأَعْرِفُ مَا يَعْرِفُ الرَّجُلُ إِذَا غَابَ عَنْهُ فَرَآهُ فَعَرَفَهُ. / 10 - وفيه: عَلِىّ، كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَمَعَهُ عُودٌ يَنْكُتُ فِى الأرْضِ، فَقَالَ: (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلا قَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ، أَوْ مِنَ الْجَنَّةِ) ، قَالَ رَجُلٌ مِنَ(10/302)
الْقَوْمِ: أَفلا نَتَّكِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (لا اعْمَلُوا، فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَّا خُلِقَ لَهُ) ، ثُمَّ قَرَأَ) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (الآيَة [الليل: 5] . وقال المهلب: غرضه فى هذا الباب أن يبين أن جميع مخلوقات الله من المكونات بأمره بكلمة كن من حيوان أو غيره، أو حركات العباد واختلاف إرادتهم وأعمالهم بمعاص أو طاعات؛ كل مقدر بالأزمان والأوقات، لا مزيد فى شىء منها، ولا نقصان عنها، ولا تأخير لشىء منها عن وقته، ولا تقديم قبل وقته، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا تسأل المرأة طلاق أختها) لتصرف حظها إلى نفسها، ولتنكح، فإنها لا تنال من الرزق إلا ما قدر لها، كانت له زوجة أخرى أو لم تكن. وقوله: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) . فيه دليل على إبطال قول أهل الجبر؛ لأن التيسير غير الجبر، واليسرى العمل بالطاعة، والعسرى العمل بالمعصية. قال الطبرى: فى حديث علىّ أن الله لم يزل عالمًا بمن يطيعه فيدخله الجنة، وبمن يعصيه فيدخله النار، ولم يكن استحقاق من يستحق الجنة منهم بعلمه السابق فيهم، ولا استحقاقه النار لعلمه السابق فيهم، ولا اضطر أحدًا منهم علمه السابق إلى طاعة أو معصية، ولكنه تعالى نفذ علمه فيهم قبل أن يخلقهم، وما هم عاملون وإلى ما هم صائرون، إذ كان لا تخفى عليه خافية قبل أن يخلقهم، ولا بعد ما خلقهم، ولذلك وصف أهل الجنة فقال: (ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ) [الواقعة: 13، 14] ، إلى قوله: (وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ(10/303)
اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الواقعة: 22 - 24] ، وقال تعالى: (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة: 17] . وكذلك قال فى أهل النار: (ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) [فصلت: 28] ، فأخبر أنه أثاب أهل طاعته جنته بطاعته، وجازى أهل معصيته النار بمعصيتهم إياه، ولم يخبرنا أنه أدخل من أدخل منهم النار والجنة لسابق علمه فيهم، ولكنه سبق فى علمه أن هذا من أهل السعادة والجنة وأنه يعمل بطاعته. وفى هذا أنه من أهل الشقاء وأنه يعمل بعمل أهل النار فيدخلها بمعصيته؛ فلذلك أمر تعالى ونهى؛ ليطيعه المطيع منهم فيستوجب بطاعته الجنة ويستحق العقاب منهم بمعصيته العاصى فيدخل بها النار، ولتتم حجة الله على خلقه. فإن قال قائل: فما معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) إن كان الأمر كما وصف من أن الذى سبق لأهل السعادة والشقاء لم يضطر واحدًا من الفريقين إلى الذى كان يعمل ويمهد لنفسه فى الدنيا ولم يجبره على ذلك؟ قيل: هو أن كل فريق من هذين مسهل له العمل الذى اختاره لنفسه، مزين ذلك له كما قال تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ) [الحجرات: 7] الآية. وأما أهل الشقاء، فإنه زين لهم سوء أعمالهم لإيثارهم لها على(10/304)
الهدى كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ) [النمل: 4] ، وكما قال تعالى: (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا) [فاطر: 8] ، وهذا يصحح ما قلناه من أن علم الله النافذ فى خلقه بما هم به عاملون، وكتابه الذى كتبه قبل خلقه إياهم بأعمالهم لم يضطر أحدًا منهم إلى عمله ذلك؛ بل هو أن المضطر إلى الشىء لا شك أنه مكره عليه، لا محب له؛ بل هو له كاره ومنه هارب، والكافر يقاتل دون كفره أهل الإيمان، والفاسق يناصب دون فسقه الأبرار؛ محاماة من هذا عن كفره الذى اختاره على الإيمان، وإيثارًا من هذا لفسقه على الطاعة، وكذلك المؤمن يبذل مهجته دون إيمانه، ويؤثر العناء والنصب دون ملاذه وشهواته حبًا لما هو له مختار من طاعة ربه على معاصيه، وأنى يكون مضطرًا إلى ما يعمله من كانت هذه صفاته؟ فبان أن معنى قوله: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) هو أن كل فريقى السعادة والشقاوة مسهل له العمل الذى اختاره، مزين ذلك له.
5 - باب الْعَمَلُ بِالْخَوَاتِيمِ
/ 11 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، شَهِدْنَا مَعَ النَّبِيّ - عليه السلام - خَيْبَرَ، فَقَالَ لِرَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ يَدَّعِى الإسْلامَ: (هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ) ، فَلَمَّا حَضَرَ الْقِتَالُ، قَاتَلَ الرَّجُلُ مِنْ أَشَدِّ الْقِتَالِ، وَكَثُرَتْ بِهِ الْجِرَاحُ، فَقَالَ النَّبِيُّ(10/305)
- عليه السلام -: (أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ) ، فَكَادَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ يَرْتَابُ، فَبَيْنَمَا هُوَ عَلَى ذَلِكَ، إِذْ وَجَدَ الرَّجُلُ أَلَمَ الْجِرَاحِ، فَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى كِنَانَتِهِ، فَانْتَزَعَ مِنْهَا سَهْمًا، فَانْتَحَرَ بِهَا، فَاشْتَدَّ رِجَالٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالُوا: صدق اللَّهُ حَدِيثَكَ، قَدِ انْتَحَرَ فُلانٌ، وَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (قُمْ يَا بِلالُ، فَأَذِّنْ: لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلا مُؤْمِنٌ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ) . / 12 - وروى: سَهْل، عن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّمَا الأعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ) . قال المهلب: قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إنما الأعمال بالخواتيم) هو حكم الله فى عباده فى الخير والشر، فيغفر الكفر وأعماله بكلمة الحق يقولها العبد قبل الموت قبل المعاينة لملائكة العذاب، وكذلك يحبط عمل المؤمن إذا ختم له بالكفر. ثم كذلك هذا الحكم موجود فى الشرع كله كقوله: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة، ومن أدرك ركعةً من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح) فكذلك فى العصر فجعله مدركًا لفضل الوقت بإدراك الخاتمة، وإن كان لم يدرك منه إلا أقله، وكذلك من أدرك ليلة عرفة الوقوف بها قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج، وتم له ما فاته من مقدماته، كما عهد الذى لم يعمل خيرًا قط أن يحرق ويذرى فكانت خاتمة سوء عمله خشية أدركته لربه، تلافاه الله بها فغفر له سوء عمله طول عمره، هذا فعل من لا تضره الذنوب، ولا تنفعه العبادة، وإنما تنفع وتضر المكتسب لها الدائم عليها إلى أن يموت. وفى قوله: (العمل بالخواتيم) حجة قاطعة على أهل القدر في(10/306)
قولهم: إن الإنسان يملك أمر نفسه، ويختار لها الخير والشر، فمهما اتهموا اختيار الإنسان لأعماله الشهوانية واللذيذة عنده، فلا يتهمونه باختيار القتل لنفسه الذى هو أوجع الآلام، وأن الذى طيب عنده ذلك غير اختياره، والذى يسره له دون جبر عليه، ولا مغالب له هو قدر الله السابق فى عمله، والحتم من حكمه.
6 - باب إِلْقَاءِ النَّذْرِ الْعَبْدَ إِلَى الْقَدَرِ
/ 13 - فيه: ابْن عُمَرَ، نَهَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ النَّذْرِ، وَقَالَ: (إِنَّهُ لا يَرُدُّ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ) . / 14 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَأْتِى ابْنَ آدَمَ النَّذْرُ بِشَىْءٍ لَمْ يَكُنْ قَدْ قَدَّرْتُهُ، وَلَكِنْ يُلْقِيهِ، الْقَدَرُ وَقَدْ قَدَّرْتُهُ لَهُ، وَلَكِنْ أَسْتَخْرِجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ) . قال المهلب: هذا أبين شىء فى القدر وأنه شىء قد فرغ الله منه وأحكمه، لا أنه شىء يختاره العبد، فإذا أراد أن يستخرج به من البخيل شيئًا ينفعه به فى آخرته أو دنياه سبب له شيئًا مخيفًا أو مطمعًا فيحمله ذلك الخوف أو الطمع على أن ينذر لله نذرًا من عتق أو صدقة أو صيام، إن صرف الله عنه ذلك الخوف أو أتاه بذلك المطموع فيه، فلا يكون إلا ما قد قضى الله فى أم الكتاب، لا يحيله النذر الذى نذره عما قدره، وقد استخرج به منه ما لم يسمح به(10/307)
لولا المخوف الذى هرب منه، أو المطموع الذى حرص عليه حتى طابت نفسه بما لم تكن تطيب قبل ذلك. ونهيه (صلى الله عليه وسلم) عن النذر، وهو من أعمال الخير أبلغ زاجر عن توهم العبد أنه يدفع عن نفسه ضرًا أو يجلب إليها نفعًا، أو يختار لها ما يشاء، ومتى اعتقد ذلك فقد جعل نفسه مشاركًا لله فى خلقه ومجوزًا عليه ما لم يقدره، تعالى الله عما يقولون. ودل هذا أن اعتقاد القلب لما لا يجب اعتقاده أعظم فى الإثم من أن يكفر بالصدقة والصلاة والصوم والحج، وسائر أعمال الجوارح التى ينذرها؛ لأن نهيه (صلى الله عليه وسلم) عن هذا النذر، وإن كان خيرًا ظاهرًا يدل على أنه حابط من الفعل حين توهم به الخروج عما قدره الله تعالى فإن سلم من هذا الظن واعترف أن نذره لا يرد عنه شيئًا قد قدره الله عليه وأن الله تسبب له بما أخافه به استخراج صدقة هو شحيح بمثلها، فإنه مأجور بنذره ولم يكن حيئذ نذره منهيًا عنه، ولذلك والله أعلم عرف الله نبيه بهذا الحديث ليعرف أمته بما يجب أن يعتقدوا فى النذر فلا يحبط عملهم به.
7 - باب لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ
/ 15 - فيه: أَبُو مُوسَى، كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى غَزَاةٍ، فَجَعَلْنَا لا نَصْعَدُ شَرَفًا، وَلا نَهْبِطُ وَاديًا، إِلا رَفَعْنَا أَصْوَاتَنَا بِالتَّكْبِيرِ، قَالَ: فَدَنَا مِنَّا النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائِبًا، إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا) ، ثُمَّ قَالَ: (يَا عَبْدَاللَّهِ بْنَ قَيْسٍ، أَلا أُعَلِّمُكَ كَلِمَةً هِىَ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟ لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ) .(10/308)
هذا باب جليل فى الرد على القدرية، وذلك أن معنى لا حول ولا قوة إلا بالله: لا حول للعبد، ولا قوة له إلا بالله أى: بخلق الله له الحول والقوة، التى هى القدرة على فعله للطاعة والمعصية. قال المهلب: فأخبر (صلى الله عليه وسلم) أن البارئ خالق لحول العبد وقدرته على مقدوره، وإذا كان خالقًا للقدرة، فلا شك أنه خالق للشىء المقدور، فيكون المقدور كسبًا للعبد خلقًا لله تعالى بدليل قوله تعالى: (خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ) [الأنعام: 102] ، وقوله تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) [القمر: 49] ، وقال محمد بن كعب القرظى: نزلت هذه الآية يعنى الأخيرة تعبيرًا لأهل القدر. والدليل على أن أفعالهم خلق لله أن أيديهم التى هى عندهم خالقة لأعمال الشر من التعدى والظلم وفروجهم التى هى خالقة للزنا قد توجد عاطلة عن الأعمال، عاجزة عنها، ألا ترى أن من الناس من يريد الزنا وهو يشتهيه بعضو لا آفة فيه، فلا يقدر عليه عند إرادته للزنا، ولو كان العبد خالقًا لأعماله لما عجزت أعضاؤه عند إرادته ومستحكم شهوته؛ فثبت أن القدرة ليست لها، وأنها لمقدر يقدرها إذ شاء، ويعطلها إذا شاء، لا إله إلا هو. وإنما أمرهم (صلى الله عليه وسلم) بالربع على أنفسهم على جهة الرفق بهم، وقد بينا هذا المعنى فى باب: ما يكره من رفع الصوت بالتكبير فى كتاب الجهاد، وعرفهم أن ما يعلنون به من التكبير ويجتهدون فيه من الجهاد هو من فضل الله عليهم إذ لا حول لهم ولا قوة في شيء(10/309)
منه إلا بالله الذى أقدرهم عليه، وحببه إليهم، وإن كان فيه إتلاف نفوسهم؛ رغبة فى جزيل الأجر وعظيم الثواب. وفيه: أن التكبير يسمى دعاء؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا) فجعل قولهم: الله أكبر دعاء لله تعالى من أجل أنهم كانوا يريدون به إسماعه الشهادة له بالحق.
8 - باب الْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ عَاصِمٌ: مَانِعٌ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: (سَدًّا) [الكهف: 94] عَنِ الْحَقِّ، يَتَرَدَّدُونَ فِى الضَّلالَةِ،) دَسَّاهَا) [الشمس: 10] أَغْوَاهَا. / 16 - فيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا اسْتُخْلِفَ خَلِيفَةٌ إِلا لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْخَيْرِ، وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ، وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمه اللَّهُ) . قال المهلب: عرض البخارى فى هذا الباب إثبات الأمور لله، فهو الذى يعصم من نزعات الشيطان، ومن شر كل وسواس خناس من الجنة والناس، وليس من خليفة ولا أمير إلا والناس حوله رجلان: رجل يريد الدنيا والاستكثار منها، فهو يأمره بالشر ويحضه عليه ليجد به السبيل إلى انطلاق اليد على المحظورات ومخالفة الشرع، ويوهمه أنه إن لم يقتل ويغضب ويخف الناس لم يتم له شىء، ولم يرض بسياسة الله لعباده ببسط العدل وبخمد الأيدى، وأن فى ذلك صلاحًا لعباد والبلاد.(10/310)
ولا يخلو سلطان أن يكون فى بطانته رجل يحضه على الخير، ويأمره به لتقوم به الحجة عليه من الله فى القيامة، وهم الأقل، والمعصوم من الأمراء من عصمه لا من عصمته نفسه الأمارة بالسوء بشهادة الله عليها الخالق لها، ومن أصدق من الله حديثًا.
9 - بَاب) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) [الأنبياء: 95] وقوله: (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ) [هود: 36] ،) وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا) [نوح: 27] .
قَالَ ابْن عَبَّاسٍ: (وَحِرْمٌ (بِالْحَبَشِيَّةِ: وَجَبَ. / 17 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ، مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِى، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ، أَوْ يُكَذِّبُهُ) . قال المهلب: معنى قوله تعالى: (وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) [الأنبياء: 95] ، أى وجب عليهم أنهم لا يتوبون، وحرام وحرم معناها واحد، والتقدير: وحرام على قرية أردنا إهلاكها التوبة من كفرهم، وهذا كقوله تعالى: (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ) [هود: 36] ، أى قد نفذ علم الله فى قوم نوح أنه لا يؤمن منهم إلا من قد آمن، ولذلك قال نوح: (رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) [نوح: 26] ،(10/311)
إذ قد أعلمتني أنه لن يؤمن منهم إلا من قد آمن، فأهلكهم لعلمه أنهم لا يرجعون إلى الإيمان، وموافقة الترجمة للحديث هو قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا) فأخبر أن الزنا ودواعيه كل ذلك مقدر على العبد غير خارج من سابق قدره. وقوله: (أدرك ذلك لا محالة) إدراكه له من أجل أن الله كتبه عليه، وإنما سمى النظر والمنطق ومنى النفس وشهوتها زنا لما كانت دواعى إلى الزنا، والسبب قد يسمى باسم المسبب مجازًا واتساعًا لما بينهما من التعلق، غير أن زنا العين وزنا اللسان وتمنى النفس غير مؤاخذ به من اجتنب الزنا بفرجه؛ لأنه كذب زنا جوارحه بترك الزنا بفرجه، فاستخف زنا عينه ولسانه وقلبه؛ لأن ذلك من اللمم الذى يغفر باجتناب الكبائر، وزنا الفرج من أكبر الكبائر، فمن فعله فقد صدق زنا عينه ولسانه وقلبه؛ فيؤاخذ بإثم ذلك كله. وفى قوله: (النفس تمنى وتشتهى) دليل على أن فعل العبد ما نهاه الله عنه، مع تقدم تقديره تعالى وسابق علمه بفعله له باختيار منه أو إيثار، وليس بمجبر عليه ولا مضطر إلى فعله، وعلى هذا علق الثواب والعقاب، فسقط قول جهم بالإجبار بنص قوله (صلى الله عليه وسلم) : (والنفس تمنى وتشتهى) لأن المجبر مكره مضطر، وهو بخلاف المتمنى والمشتهى، واللمم صغار الذنوب وهى مغفورة باجتناب الكبائر، وقد تقدم فى كتاب الأدب.(10/312)
- باب قوله تَعَالَى: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِى أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) [الإسراء: 60]
/ 18 - فيه: ابْن عَبَّاس، قِى هذه الآية هِىَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيَهَا النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) لَيْلَةَ أُسْرِىَ بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالَ: (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ) [الإسراء: 60] ؟ هِىَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ. قال المهلب: معنى ذكر هذا الحديث فى كتاب القدر هو ما ختم الله على الناس المكذبين لرؤياه من المشركين حين جعلها فتنة لهم فى تكذيب النبى الصادق فكانت زيادة فى طغيانهم، وكذلك جعل الشجرة الملعونة فى القرآن فتنة فقالوا: كيف يكون فى النار شجرة؟ النار تحرق الشجر اليابس والأخضر، فجعل ذلك فتنة تزيد فى ضلالهم، فلا يؤمنوا على ما سبق فى علمه. قال غيره: وقوله: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِى أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) [الإسراء: 60] يقتضى خلق الله للكفر به، ودواعى الكفر هى الفتنة، وذلك عدل منه تعالى. وهذا مثل قوله تعالى: (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) [إبراهيم: 27] ، فهذا عام فى فعله كفر الكافرين، وإيمان المؤمنين ودواعى الإيمان والكفر خلافًا لمن زعم أن الله غير خالق أعمال العباد. وقوله: (الشجرة الملعونة يعنى: الملعون آكلها، وهم الكفار، كما قال تعالى: (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ) [الدخان: 43، 44] ، وقال تعالى: (إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الْجَحِيمِ) [الصافات: 64] ، فأخبر أنها تنبت فى النار،(10/313)
وأما قول الكفار: كيف يكون فى النار شجرة، والنار تأكل الشجر، فإن هذه الشجرة التى أخبر الله أنها فى أصل الجحيم هى مخلوقة من جوهر لا تأكله النار كسلاسل النار وأغلالها وعقاربها وحياتها، وليس شىء من ذلك من جنس ما فى الدنيا مما لا يبقى على النار، وإنما خلقت من جنس لا تأكله النار، وكما خلق الله فى البحار من الحيوان ما لا يهلك فى الماء، وخلق فى الخل دودًا يعيش فيه ولا يهلكه، على أن الخل يفت الحجارة ويهرى الأجسام، ولم يكن ذلك إلا لموافقة ذلك الدود لجنس الخل وموافقة حيوان البحر جنس الماء، فكذلك ما خلق فى النار من الشجر والحيوان موافق لجنس النار، والله تعالى قادر أن يجعل النار بردًا وسلامًا، وأن يجعل الماء نارًا؛ لأنه على كل شىء قدير، فما أنكره الكفار من خلق الشجر فى النار عناد بين، وضلال واضح، أعاذنا الله من الضلال برحمته.
- باب محاجة آدَمُ مُوسَى
/ 19 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيّ - عليه السلام -: (احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا، خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الْجَنَّةِ، قَالَ لَهُ آدَمُ: يَا مُوسَى، اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلامِهِ، وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ، أَتَلُومُنِى عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَىَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِى بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، قاله ثَلاثًا) . قال المؤلف: معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (احتج آدم وموسى) : أى التقت أرواحهما فى السماء، فوقع هذا الحجاج بينهما، وقد جاءت الرواية بذلك.(10/314)
روى الطبرى، عن يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب، حدثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله: (إن موسى قال: يا رب، أبونا آدم الذى أخرجنا ونفسه من الجنة. فأراه الله آدم فقال: أنت آدم؟ قال: نعم. قال: أنت الذى نفخ الله فيك من روحه، وعلمك الأسماء كلها، وأمر ملائكته أن يسجدوا لك، فما حملك أن أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ قال: ومن أنت؟ قال: أنا موسى. قال: أنت نبى بنى إسرائيل الذى كلمك الله من وراء حجاب، لم يجعل بينك وبينه رسولاً؟ قال: نعم. قال: فما وجدت فى كتاب الله أن ذلك كائن قبل أن أخلق؟ قال: نعم. .) وذكر الحديث. قال المهلب وغيره: (فحج آدم موسى) أى: غلبه بالحجة. قال الليث بن سعد: وإنما صحت الحجة فى هذه القصة لآدم على موسى؛ من أجل أن الله قد غفر لآدم خطيئته، وتاب عليه، فلم يكن لموسى أن يعير بخطيئة قد غفرها الله له، ولذلك قال له آدم: أنت موسى الذى آتاك الله التوراة، وفيها علم كل شىء فوجدت فيها أن الله قد قدّر علىّ المعصية، وقدر علىّ التوبة منها، وأسقط بذلك اللوم عنى، أتلومنى أنت، والله لا يلومنى. وبمثل هذا احتج ابن عمر على الذى قال له: إن عثمان فرّ يوم أحد، فقال ابن عمر: ما على عثمان ذنب؛ لأن الله تعالى قد عفا عنه بقوله: (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) [آل عمران: 155] ، وأما من عمل الخطايا ولم تأته المغفرة، فإن العلماء مجمعون أنه لا يجوز له أن يحتج بمثل حجة آدم(10/315)
فيقول: أتلومني على أن قتلت أو زنيت أو سرقت، وقد قدر الله علىّ ذلك. والأمة مجمعة على جواز حمد المحسن على إحسانه، ولوم المسئ على إساءته وتعديد ذنوبه عليه. فإن قال قائل: فإن القدرية احتجت بقول موسى: أنت آدم، خيبتنا وأخرجتنا من الجنة فنسب التخييب والإخراج إليه، قالوا: هذا يدل أن العباد يخلقون أفعالهم طاعتها ومعصيتها، ولو كانت خلقًا لله لم يصح أن يأمرهم ولا ينهاهم، قال: وكذلك احتجت الجهمية على صحة الجبر بقول آدم: أتلومني على أمر قدر عليّ. فالجواب: أنه ليس فى قول موسى دليل قاطع على اعتقاد القول بالقدر، وأن العبد خالق لأفعاله دون ربه كما زعمت القدرية؛ لأنه ليس فى قوله: (أنت آدم، خيبتنا وأخرجتنا من الجنة) . أكثر من إضافة التخييب والإخراج إليه، وإضافة ذلك إليه لا يقتضى كونه خالقًا لهما؛ إذ يصح فى اللغة إضافة الفعل إلى من يقع منه على سبيل الخلق، وإلى من يقع منه على سبيل الاكتساب، وإذا احتملت إضافة التخييب والإخراج الوجهين جميعًا لم يقبض بظاهره على أحد الاحتمالين دون الآخر إلا بدليل قاطع، وقد قام الدليل الواضح على استحالة اختراع المخلوق أفعاله دون إقدار الله له على ذلك بقوله تعالى: (خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ) [الأنعام: 102] ، وبقوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) [الصافات: 96] ، وليس يجوز أن يريد تعالى بهذا الحجارة؛ لأن الحجارة أجسام، والأجسام لا يجوز أن يعملها العباد فدل أنه تعالى خالق أعمالهم وقوله تعالى:(10/316)
) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ) [الشورى: 29] ، واجتماعهم فعل لهم، وقد أخبر أنه تعالى خلقهم، وقد ثبت أنه تعالى قادر على جميع أجناس الحركات التى يحدثها العباد بدلالة أنه أقدرهم عليها، وما أقدرهم عليه فهو عليه أقدر، كما أنه ما أعلمهم إياه فهو به أعلم، فثبت أن الله خالق للأفعال، والعبد مكتسب لها، كما تقول: إن الله منفرد بخلق الولد، والوالد منفرد بكون الولد له لا شركة فيه لغيره. فنسبة الأفعال إلى الله تعالى من جهة خلقه لها، ونسبتها إلى العباد من جهة اكتسابهم لها، هذا مذهب أهل السنة والحق، وهو مذهب موسى (صلى الله عليه وسلم) من قوله: (إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِى مَن تَشَاء) [الأعراف: 155] ، فأضاف موسى الهداية والإضلال إلى الله تعالى، ولا تصح هذه الإضافة إلا على سبيل خلقه لها دون من وجدت منه، وأما قول الجهمية: إن الله أجبر العباد على أفعالهم، وهم مكرهون على الطاعة والمعصية. واحتجوا بقول آدم: أتلومنى على أمر قد قدر على قبل أن أخلق. فلا حجة لهم فيه أيضًا؛ لأن الموجود بالاعتبار والمشاهدة خلاف قولهم، وذلك أن العباد لا يأتون الذنوب إلا مشتهين لها، راغبين فيها، والإجبار عند أهل اللغة: هو اضطرار المرء إلى الفعل وإدخاله فيه غير راغب فيه ولا محب له كالمحسوب على وجهه، والمرتعش من الحمى، والفالج. وأهل الجبر معتقدون لوم من وقعت منه معصية الله وتأنيبه عليها أشد التأنيب، ومدح من وقعت منه الطاعة وإثباته عليها،(10/317)
وإذا كان هذا اعتقادهم؛ فاحتجاجهم بتأنيب آدم موسى على لومه له على أمر قد قدره عليه، وكرهه عليه فاسد متناقض على مذهبهم، ومحاجة آدم موسى هى أنه ذاكره ما قد عرفه ووقف عليه فى التوراة من توبة الله على آدم من خطيئته وإسقاطه اللوم عليها؛ فوجب على موسى ترك لومه وعتابه على ما كان منه. وقد ثبت أن جعفر بن محمد الصادق قيل له: قد أجبر الله العباد؟ قال: الله أعدل من ذلك. قيل: هل فوض إليهم؟ قال: الله أغير من ذلك، لو أجبرهم ما عذبهم، ولو فرض إليهم ما كان للأمر والنهى معنى. قلت: فكيف تقول إذًا؟ قال: منزلة بين منزلتين هى أبعد مما بين السماء والأرض؛ ولله فى ذلك سرّ لا تعلمونه. واحتجت أيضًا طائفة من القدرية المجبرة غير الجهمية بهذا الحديث، فقالت: إن كان صحيحًا قول آدم لموسى: أتلومنى على أمر قدره الله على قبل أن أخلق؛ فلا لوم على كافر فى كفره، ولا فاسق فى فسقه، ولا يجوز أن يجور عليهم ويعذبهم على ما اضطرهم إليه. قال الطبرى: فالجواب أنه ليس معنى قوله: أتلومنى على أمر كتبه الله علىّ قبل أن أخلق، كما توهمته، وكيف يجوز أن يكون ذلك معناه، وقد عاقبه الله على خطيئته تلك بإخراجه من الجنة، ولو لم يكن ملومًا لكان وكنا فى الجنة كما أسكنه الله؛ ولكنه جل جلاله أخرجه منها لخطيئته تلك عقوبةً عليها، ولم يعاقبه على ما قضى(10/318)
عليه؛ لأنه لو عاقبه عليه لما كان يسكنه الجنة حين أسكنه إياها، وذلك أن القضاء عليه بذلك قد كان مضى قبل أن يخلقه؛ فإنما استحق العقوبة على فعله، لا على ما قضى عليه؛ وبمثل هذا أقر موسى لآدم بصحة حجته، ولم يقل له كما زعمت القدرية: ليس الأمر كما تزعم؛ لأن الله لو قضى عليك ذلك قبل أن يخلقك لم يعاقبك، ولكن لما كان من دين الله الذى أخذ بالإقرار به عهود أنبيائه ومواثيقهم أنه لا شىء كان فيما مضى ولا فيما يحدث إلا قد مضى به قضاؤه؛ فإنه غير معاقبهم على قضائه، ولكن على طاعتهم ومعاصيهم، وكان ذلك معلومًا عند الأنبياء والرسل، أقر موسى لآدم صلى الله عليهما بأن الذى احتج به عليه له حجة؛ وحقق صحة ذلك نبينا (صلى الله عليه وسلم) بقوله: فحج آدم موسى. قال غير الطبرى: وفى حديث أبى هريرة حجة لما يقوله أهل السنة: أن الجنة التى أهبط منها أبونا آدم (صلى الله عليه وسلم) هى جنة الخلد، ورد قول من زعم أنها لم تكن جنة الخلد، قالوا: وإنما كانت جنة بأرض عدن، واحتجوا على بدعتهم فقالوا: أن الله خلق الجنة لا لغو فيها ولا تأثيم، وقد لغا فيها إبليس حين كذب لآدم، وأثم فى كذبه، وأنه لا يسمع أهلها لغوًا ولا كذبًا، وأنه لا يخرج منها أهلها، وقد أخرج منها آدم وحواء بمعصيتهم، قالوا: وكيف يجوز على آدم مع مكانه من الله وكمال عقله أن يطلب شجرة الخلد، وهو فى دار الخلود والملك الذى لا يبلى؟ وأيضًا فإن جنة الخلد دار القدس: قدست عن الخطايا والمعاصى كلها تطهيرًا لها؛ فيقال لهم:(10/319)
الدليل على إبطال قولكم قول موسى لآدم: أنت الذى أشقيت ذريتك وأخرجتهم من الجنة، فأدخل الألف واللام ليدل على أنها الجنة المعروفة؛ جنة الخلد التى وعد الله المؤمنين بها، التى لا عوض لها فى الدنيا فلم ينكر ذلك آدم عليه من قوله، ولو كانت غير جنة الخلد لرد آدم على موسى، وقال: إنى أخرجتهم من دار فناء وشقاء وزوال وعرى إلى مثلها، فلما سكت آدم على ما قرره موسى؛ صح أن الدار التى أخرجهم الله منها بخلاف الدار التى أخرجوا إليها فى جميع الأحوال، ويقال لهم فيما احتجوا به: إن الله خلق الجنة لا لغو فيها ولا تأثيم، ولا كذب، ولا يخرج منها أهلها هذا كله بما جعله الله فيها بعد دخول أهلها فيها يوم القيامة، وقد أخبر: أن آدم إن عصاه فيما نهاه عنه أخرجه عنها، ولا يمتنع أن تكون دار الخلد فى وقت لمن أراد تخليده فيها، وقد يخرج منها من قضى عليه الفناء. وقد أجمع أهل التأويل على أن الملائكة يدخلون الجنة على أهل الجنة ويخرجون منها، وأنها كانت بيد إبليس مفاتيحها ثم انتزعت منه بعد المعصية، وقد دخلها النبى (صلى الله عليه وسلم) ليلة الإسراء، ثم خرج منها وأخبر بما رأى فيها، وأنها هى جنة الخلد حقًا، وقولهم كيف يجوز على آدم فى كمال عقله أن يطلب شجرة الخلد وهو فى دار الخلد؛ فيرد عليهم،، ويقال لهم: كيف يجوز على آدم فى كمال عقله أن يطلب شجرة الخلد فى دار الفناء؛ هذا لا يجوز على من له أدنى مسكة من عقل، وأما عقولهم: إن الجنة دار القدس وقد طهرها الله من الخطايا؛ فهو جهل منهم، وذلك أن الله سبحانه أمر بنى إسرائيل أن يدخلوا الأرض المقدسة وهى بالشام، وأجمع أهل(10/320)
الشرائع على أن الله قدسها، وقد شاهدوا فيها المعاصى، والكفر، والكذب، ولم يكن تقديسها مما يمنع فيها المعاصى فكذلك دار الخلد، وأهل السنة مجمعون على أن جنة الخلد هى التى أهبط منها آدم، فلا معنى لقول من خالفهم، قاله بعض شيوخنا.
- باب لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى اللَّهُ
/ 20 - فيه: الْمُغِيرَة، كَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ خَلْفَ الصَّلاةِ: (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، اللَّهُمَّ لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلا مُعْطِىَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ) . قال المؤلف: المراد بهذا الحديث إثبات خلق الله تعالى جميع أعمال العباد؛ لأن قوله: (لا مانع لما أعطيت) يقتضى نفى جميع المانعين سواه، وكذلك قوله: (ولا معطى لما منعت) يقتضى نفى جميع المعطين سواه، وأنه لا معطى ولا مانع على الحقيقة بفعل المنع والعطاء سواه، وإذا كان كذلك ثبت أن من أعطى أو منع من المخلوقين فإعطاؤه ومنعه خلق لله وكسب للعبد، والله تعالى هو المعطى وهو المانع لذلك، حقيقة من حيث كان مخترعًا خالقًا للإعطاء والمنع، والعبد مكتسب لهما بقدرة محدثة، فبان أنه إنما نفى مانعًا ومعطيًا مخترعًا للمنع والإعطاء ويخلقهما. قال الطبرى: وقوله: (لا ينفع ذا الجد منك الجدَ) ، بفتح الجيم فى الحرفين جميعًا يقول: لا ينفع ذا الحظ فى الدنيا من المال والولد منك حظه فى الآخرة؛ لأنه إنما ينفع فى الآخرة عند الله العمل(10/321)
الصالح لا المال والبنون، كما قال تعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [الكهف: 46] الآية. وحكى عن أبى عمرو الشيبانى أنه كان يقول: إنما هو الجِد، بكسر الجيم فى الحرفين جميعًا، بمعنى: ولا ينفع ذا الاجتهاد فى العمل منك اجتهاده. قال الطبرى: وهذا خلاف ما يعرفه أهل النقل والرواة لهذا الحديث، ولا نعلم أحدًا قال ذلك غيره مع بُعد تأويله من الصحة.
- باب نَعَوَّذَ بِاللَّهِ مِنْ دَرَكِ الشَّقَاءِ وَسُوءِ الْقَضَاءِ
وَقَالَ تَعَالَى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) [الفلق: 1] . / 21 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ جَهْدِ الْبَلاءِ، وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ الْقَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الأعْدَاءِ) . قال المؤلف: المستفاد من قوله تعالى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) [الفلق: 1] إلى آخر السورة، خلق الله تعالى لشر ما خلق، ولشر غاسق، ولشر النفاثات، ولشر حاسد؛ لأنه لو كان هذا الشر كله خلقًا لمن أضافه إليه من الغاسق والنفاثات والحاسد، مخترعًا لا كسبًا؛ لم يكن لأمر الله تعالى لنبيه ولعباده بالتعوذ به من شر ذلك كله معنى، وإنما يصح التعوذ به عز وجل مما هو قادر عليه دون من أضافه(10/322)
إليه، فتعبدنا تعالى بسؤاله دفع شر خلقه عنا؛ لأنه إذا كان قادرًا على فعل ما أضافه إلى من ذكر فى السورة كان قادرًا على فعل ضده وتعبدنا بسؤاله تعالى فعل ضد ما أمرنا بالاستعاذة منه، فبان أن الخير والشر بهذا النص خلق الله تعالى. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) : (تعوذوا بالله من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء) ، فإنما أمرنا بالتعوذ به تعالى من أن ينزل بنا فعلاً من أفعاله سبق علينا نزوله بنا لما يقتضيه من الشدة والمشقة، وذلك بلاء وشقاء وسوء قضاء وشماتة أعداء، فالشقاء يكون فى دين ودنيا، وإذا كان فى الدنيا كان تضييقًا فى العيش، وتقتيرًا فى الرزق، وذلك فعل الله وإن كان فى الدين فذلك كفر أو معاصٍ، وذلك فعل الله أيضًا، وكذلك سوء القضاء عام فى جميع ما قضاه تعالى من أمر الدين والدنيا، وشماتة الأعداء، وإن كانت مضافة إليهم إضافة الفعل إلى فاعله فى الظاهر، فإنما ذلك على سبيل إضافة الكسب إلى مكتسبه، لا على سبيل الاختراع، إذ لا يصح فى المخلوق اختراع عين، فبان أن جميع ما أمرنا بالتعوذ منه به خلق الله بدليل قوله: (خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ) [الأنعام: 102] .
- باب يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ
/ 22 - فيه: ابْن عُمَرَ، كَثِيرًا مَا كَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَحْلِفُ: (لا، وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ) . / 23 - وفيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبيىُّ (صلى الله عليه وسلم) لابْنِ صَيَّادٍ: (اخْسَأْ، فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ) ، قَالَ عُمَرُ: ائْذَنْ لِي فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، قَالَ: (دَعْهُ إِنْ يَكُنْ هُوَ فَلا تُطِيقُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ، فَلا خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ) .(10/323)
وقوله تعالى: (يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) [الأنفال: 24] ، يقتضى النص منه تعالى على خلقه الكفر والإيمان بأن يحول بين قلب الكافر والإيمان الذى أمره به، فلا يكتسبه إذ لم يقدره عليه؛ بل أقدره على ضده وهو الكفر، ويحول بين المؤمن وبين الكفر الذى نهاه عنه بأن لم يقدر عليه؛ أقدره على الإيمان الذى هو به ملتبس وإذا خلق تعالى لهما القدرة على ما هما مكتسبان له مختاران لاكتسابه، فلا شك أنه خالق لكفرهما وإيمانهما؛ لأن خلقه لكفر أحدهما، وإيمان الآخر من جنس خلق قدرتيهما عليهما، ومحال كونه قادرًا على شىء غير قادر على خلافه أو ضده أو مثله، فبان أنه خالق بهذا النص لجميع كسب العباد، خيرها وشرها، وهذا معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا ومقلب القلوب) لأن معنى ذلك تقليبه قلب عبده عن إيثار الإيمان إلى إيثار الكفر، وعن إيثار الكفر إلى إيثار الإيمان، وكان فعل الله ذلك عدلاً فيمن أضله وخذله؛ لأنه لم يمنعهم حقًا وجب عليه فتزول صفة العدل، وإنما منعهم ما كان له أن يتفضل به عليهم لا ما وجب لهم وأضلهم؛ لأنهم ملك من ملكه خلقهم على إرادته، لا على إرادتهم، فكان ما خلق فيهم من قوة الهداية والتوفيق على وجه الفضل، وقد بين هذا المعنى إياس بن معاوية؛ ذكر الآجرى بإسناده عن حبيب بن الشهيد قال: (جاءوا برجل يتكلم فى القدر إلى إياس بن معاوية فقال له إياس: ما تقول؟ قال: أقول إن الله أمر العباد ونهاهم فإن الله لا يظلمهم شيئًا. فقال له إياس: أخبرنى عن الظلم، تعرفه أو لا تعرفه. قال: بل(10/324)
أعرفه. قال: ما الظلم؟ قال: أن يأخذ الرجل ما ليس له. قال: فمن أخذ ما له ظلم؟ قال: لا. قال إياس: فإن لله تعالى كل شىء. وقال عمران بن حصين لأبى الأسود الدؤلى: لو عذب الله أهل السموات والأرض لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته أوسع لهم، ولو أنفقت مثل أُحد ذهبًا ما تقبل منك حتى تؤمن بالقدر خيره وشره. وروى مثل ذلك عن ابن مسعود، وأبى بن كعب، وسعد بن أبى وقاص، وزيد بن ثابت، وقال زيد: سمعته من رسول الله إلا أنه قال: (ولو رحمهم كانت رحمته لهم خيرًا من أعمالهم) . وموافقة الحديث للترجمة قول النبى (صلى الله عليه وسلم) لعمر: (إن يكن هو فلا تطيقه، وإن لم يكن هو فلا خير لك فى قتله) يعنى إنه إن كان الدجال قد سبق فى علم الله خروجه وإضلاله للناس، فلن يقدرك خالقك على قتل من سبق فى عمله أنه يخرج ويضل الناس؛ إذ لو أقدرك على ذلك لكان فيه انقلاب علمه، والله تعالى منزه عن ذلك.
- باب) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا) [التوبة: 51]
قَالَ مُجَاهِدٌ: (بِفَاتِنِينَ (: بِمُضِلِّينَ إِلا مَنْ كَتَبَ اللَّهُ أَنَّهُ يَصْلَى الْجَحِيمَ،) قَدَّرَ فَهَدَى) [الأعلى: 3] : قَدَّرَ الشَّقَاءَ وَالسَّعَادَةَ، وَهَدَى الأنْعَامَ لِمَرَاتِعِهَا. / 24 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّهَا سَأَلَتْ النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الطَّاعُونِ، فَقَالَ: (كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، مَا مِنْ عَبْدٍ يَكُونُ فِي بَلَدٍة(10/325)
يَكُونُ فِيهِ، وَيَمْكُثُ فِيهِ لا يَخْرُجُ مِنَ الْبَلَدِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، يَعْلَمُ أَنَّهُ لا يُصِيبُهُ إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ، إِلا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ) . معنى هذا الباب أن الله أعلم عباده أن ما يصيبهم فى الدنيا من الشدائد والمحن والضيق والخصب والجدب، أن ذلك كله فعل الله يفعل من ذلك ما يشاء بعباده ويبتليهم بالخير والشر، وذلك كله مكتوب فى اللوح المحفوظ، ولا خلاف فى هذا بين جماعة الأمة من قدرى وسُنى، وإنما اختلفوا فى أفعال العباد الواقعة منهم على ما تقدم وهذه الآية إنما جاءت فيما أصاب العباد من أفعال الله التى اختص باختراعها دون خلقة، ولم يقدرهم على كسبها دون ما أصابوه مكتسبين له مختارين.
- باب) وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) [الأعراف: 43] و) لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِى لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [الزمر: 57]
/ 25 - فيه: الْبَرَاء، رَأَيْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَهُوَ يَقُولُ: (وَاللَّهِ لَوْلا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا، وَلا صُمْنَا وَلا صَلَّيْنَا) . فى هاتين الآيتين وفى الحديث نص أن الله تعالى انفرد بخلق الهدى والضلال، وإنما قدر العباد على اكتساب ما أراد منهم اكتسابهم له من إيمان أو كفر، وأن ذلك ليس بخلق للعباد كما زعمت القدرية. وروى أن على بن أبى طالب لقى رجلاً من القدرية فقال له: خالفتم الله وخالفتم الملائكة، وخالفتم أهل الجنة وخالفتم أهل النار، وخالفتم الأنبياء وخالفتم الشيطان، فأما خلافكم الله فقوله: (إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء) [القصص: 56] ، وأما خلافكم(10/326)
الملائكة فقولهم: (لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا) [البقرة: 32] ، وأما خلافكم الأنبياء، فقول نوح: (وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ) [هود: 34] ، وأما خلافكم أهل الجنة، فقولهم: (الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِى هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ) [الأعراب: 43] ، وأما خلافكم لأهل النار، فقولهم: (رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ) [المؤمنون: 106] ، وأما خلافكم الشيطان، فقول إبليس: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِى) [الحجر: 39] . وذكر الآجرى بإسناده عن على بن أبى طالب أن رجلاً أتاه فقال: أخبرنى عن القدر، فقال: طريق مظلم فلا تسلكه. قال: أخبرنى عن القدر. قال: بحر عميق فلا تلجه، قال: أخبرنى عن القدر، قال: سر الله فلا تكلفه، ثم ولى الرجل غير بعيد، ثم رجع فقال لعلى: فى المشيئة الأولى أقوم وأقعد، وأقبض وأبسط فقال له على: إنى سائلك عن ثلاث خصال ولن يجعل الله لك مخرجًا، قال: أخبرنى أخلقك الله لما شاء أم لما شئت؟ قال: بل لما شاء، قال: أخبرنى أتجئ يوم القيامة كما يشاء أو كما شئت؟ قال: بل كما يشاء. قال: أخبرنى أجعلك الله كما شاء أو كما شئت؟ قال: بل كما شاء. قال: فليس لك من المشيئة شىء. وقال محمد بن كعب القرظى: لقد سمى الله المكذبين بالقدر باسم نسبهم إليه فى القرآن فقال: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) [القمر: 47 - 49] فهم المجرمون.(10/327)
كِتَاب الاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
/ 1 - فيه: طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ لِعُمَرَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ أَنَّ عَلَيْنَا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا) [المائدة: 3] لاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّى لأعْلَمُ أَىَّ يَوْمٍ نَزَلَتْ: هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ: يَوْمَ عَرَفَةَ، فِى يَوْمِ جُمُعَةٍ. / 2 - وفيه: أَنَس، سَمِعَ عُمَرَ الْغَدَ حِينَ بَايَعَ الْمُسْلِمُونَ أَبَا بَكْرٍ، وَاسْتَوَى عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، تَشَهَّدَ قَبْلَ أَبِى بَكْرٍ، فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَاخْتَارَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) الَّذِى عِنْدَهُ عَلَى الَّذِى عِنْدَكُمْ، وَهَذَا الْكِتَابُ الَّذِى هَدَى اللَّهُ بِهِ رَسُولَكُمْ، ن فَخُذُوا بِهِ تَهْتَدُوا، وَإِنَّمَا هَدَى اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ. / 3 - وفيه: ابْن عَبَّاس، ضَمَّنِى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَيْهِ وَقَالَ: (اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ) . / 4 - وفيه: أَبُو بَرْزَةَ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يُغْنِيكُمْ بِالإسْلامِ وَبِمُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) . / 5 - وفيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى عَبْدِالْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يُبَايِعُهُ، وَأُقِرُّ لَكَ: بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ فِيمَا اسْتَطَعْتُ. لا عصمة لأحد إلا فى كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) أو فى إجماع العلماء على معنى فى أحدهما. والسنة تنقسم قسمين: منها واجبة، ومنها غير واجبة، فأما الواجبة فما كان تفسيرًا من النبى (صلى الله عليه وسلم) لفرض الله، وكل ما أمر به النبى أو نهى عنه أو فعله فهو سنة، ما(10/328)
لم يكن خاصًا له، وأما غير الواجب من سنته (صلى الله عليه وسلم) فما كان من فعله تطوعًا ولا يحرج أحد فى تركه كقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول) . وكقوله: (لا تتخذوا الضيعة فترغبوا فى الدنيا) . وأكثر أصحابه كان لهم ضياع، فدل أنه أدب منه نستعين به على دفع الرغبة فى الدنيا، ومثل ذلك مما أمر به تأديبًا لأمته بأكرم الأخلاق من غير أن يوجب ذلك عليهم، ومثل ذلك ما فعله فى خاصة نفسه من أمر الدنيا كاتخاذه لنعله قبالين، ولبسه النعال السبتية، وصبغه إزاره بالورس، وحبه القرع، وإعجابه الطيب، وحبه من الشاة الذراع، ونومه على الشق الأيمن، وسرعته فى المشى، وخروجه فى السفر يوم الخميس، وقدومه فى الضحى وشبه ذلك، فلم يسنه لأمته، ولا دعاهم إليه ومن تشبه به (صلى الله عليه وسلم) حبًا له كان أقرب إلى ربه كفعل ابن عمر فى ذلك.
- باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ
/ 6 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) : (بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُنِى أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأرْضِ، فَوُضِعَتْ فِلا يَدِى) . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقَدْ ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَأَنْتُمْ تَلْغَثُونَهَا، أَوْ تَرْغَثُونَهَا، أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا. / 7 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا مِنَ الأنْبِيَاءِ نَبِىٌّ إِلا أُعْطِىَ مِنَ الآيَاتِ مَا مِثْلُهُ أُومِنَ، أَوْ آمَنَ، عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِى أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَىَّ، فَأَرْجُو أَنِّى أَكْثَرُهُمْ تَابِعًا يَوْمَ(10/329)
الْقِيَامَةِ) . أى: صدق بتلك الآيات لإعجازها لمن شهدها، كقلب العصا حية، وفلق البحر لموسى وكإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى لعيسى، وكان الذى أعطيت أنا وحيًا أوحاه الله إلىّ فكان آية باقية دعى إلى الإتيان بمثله أهل التعاطى له، ومن نزل بلسانهم، فعجزوا عنه ثم بقى آية ماثلة للعقول إلى من يأتى إلى يوم القيامة، يرون إعجاز الناس عنه رأى العين، والآيات التى أوتيها غيره من الأنبياء قبله رئى إعجازها فى زمانهم، ثم لم تصحبهم إلا مدة حياتهم، وانقطعت بوفاتهم، وكان القرآن باقيًا بعد النبى (صلى الله عليه وسلم) يتحدى الناس إلى الإتيان بمثله، ويعجزهم على مرور الأعصار فكان آية باقية لكل من أتى، فلذلك رجا أن يكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة، مع أن الله تعالى قد ضمن هذه الآية ألا يدخلها الباطل إلى أن تقوم الساعة بقوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر: 9] ، وضمن نبينا (صلى الله عليه وسلم) بقاء شريعته وإن ضيع بعضها قوم بقوله: (لا تزال طائفة من أمتى على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتى أمر الله وهم على ذلك) . وقوله: وأنتم تلغثونها أو ترغثونها. شك فى أى الكلمتين قال النبى (صلى الله عليه وسلم) فأما لغث باللام فلم أجده فيما تصفحت من اللغة، وأما رغث بالراء فهو معروف عندهم يقال: رغثت كل أنثى ولدها وأرغثته أرضعته فهى رغوث.(10/330)
3 - باب الاقْتِدَاءِ بِسُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [الفرقان: 74]
وَقَالَ: أَيِمَّةً نَقْتَدِى بِمَنْ قَبْلَنَا، وَيَقْتَدِى بِنَا مَنْ بَعْدَنَا. وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ: ثَلاثٌ أُحِبُّهُنَّ لِنَفْسِى وَلإخْوَانِى: هَذِهِ السُّنَّةُ، أَنْ يَتَعَلَّمُوهَا، وَيَسْأَلُوا عَنْهَا، وَالْقُرْآنُ أَنْ يَتَفَهَّمُوهُ وَيَسْأَلُوا عَنْهُ، وَيَدَعُوا النَّاسَ إِلا مِنْ خَيْرٍ. / 8 - فيه: أَبُو وَائِل، قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى شَيْبَةَ فِى هَذَا الْمَسْجِدِ، قَالَ: جَلَسَ إِلَىَّ عُمَرُ فِى مَجْلِسِكَ هَذَا، فَقَالَ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ لا أَدَعَ فِيهَا صَفْرَاءَ وَلا بَيْضَاءَ إِلا قَسَمْتُهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، قُلْتُ: مَا أَنْتَ بِفَاعِلٍ، قَالَ: لِمَ؟ قُلْتُ: لَمْ يَفْعَلْهُ صَاحِبَاكَ، قَالَ: هُمَا الْمَرْءَانِ يُقْتَدَى بِهِمَا. / 9 - وفيه: حُذَيْفَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَنَّ الأمَانَةَ نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ فِى جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ، فَقَرَءُوا الْقُرْآنَ، وَعَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ) . / 10 - وفيه: عَبْدُاللَّهِ: إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْىِ هَدْىُ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) ، وَشَرَّ الأمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَ) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) [الأنعام: 134] . / 11 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لأقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ) . / 12 - وفيه: جَابِر، قَالَ: جَاءَتْ مَلائِكَةٌ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ نَائِمٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ، وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ،(10/331)
فَقَالُوا: إِنَّ لِصَاحِبِكُمْ هَذَا مَثَلا، فَاضْرِبُوا لَهُ مَثَلا، فَقَالُوا: مَثَلُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا، وَجَعَلَ فِيهَا مَأْدُبَةً، وَبَعَثَ دَاعِيًا، فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِىَ دَخَلَ الدَّارَ، وَأَكَلَ مِنَ الْمَأْدُبَةِ، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِىَ لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنَ الْمَأْدُبَةِ، فَقَالُوا: أَوِّلُوهَا لَهُ: يَفْقَهْهَا، َقَالُوا: فَالدَّارُ الْجَنَّةُ، وَالدَّاعِى مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وسلم) ، فَمَنْ أَطَاعَ مُحَمَّدًا (صلى الله عليه وسلم) فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَى مُحَمَّدًا (صلى الله عليه وسلم) فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وسلم) فَرْقٌ بَيْنَ النَّاسِ. / 13 - وفيه: حُذَيْفَةَ، قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ، اسْتَقِيمُوا، فَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا، فَإِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالا لَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلالا بَعِيدًا. / 14 - وفيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا مَثَلِى وَمَثَلُ مَا بَعَثَنِى اللَّهُ بِهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمًا، فَقَالَ: يَا قَوْمِ إِنِّى رَأَيْتُ الْجَيْشَ بِعَيْنَىَّ، وَإِنِّى أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ، فَالنَّجَاءَ، فَأَطَاعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ قَوْمِهِ فَأَدْلَجُوا فَانْطَلَقُوا عَلَى مَهَلِهِمْ فَنَجَوْا وَكَذَّبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَأَصْبَحُوا مَكَانَهُمْ، فَصَبَّحَهُمُ الْجَيْشُ فَأَهْلَكَهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ أَطَاعَنِى فَاتَّبَعَ مَا جِئْتُ بِهِ، وَمَثَلُ مَنْ عَصَانِى وَكَذَّبَ بِمَا جِئْتُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ) . / 15 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، لَمَّا النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ، قَالَ: وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِى عِقَالا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ. / 16 - وفيه: ابْن عَبَّاس، أن عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ قَالَ لعُمر: وَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا(10/332)
الْجَزْلَ، وَمَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ، فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ بِأَنْ يَقَعَ بِهِ، فَقَالَ الْحُرُّ بن قيس: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف: 199] وَهَذَا مِنَ الْجَاهِلِينَ، فَوَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلاهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ. / 17 - وفيه: أسماء فى حديث الخسوف: قَالَ النَّبِي - عليه السَّلام -: (فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ، فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ، جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ فَأَجَبْنَاهُ فَآمَنَّا، واتبعنا) الحديث. / 18 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) : (فدَعُونِى مَا تَرَكْتُكُمْ، إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَىْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ) . قال المؤلف: أمر الله عباده باتباع نبيه والاقتداء بسنته فقال: (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِىِّ الأُمِّىِّ الَّذِى يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [الأعراف: 158] ، وقال: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِىَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف: 157] ، وتوعد من خالف سبيله ورغب عن سنته فقال: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63] ، وهذه الآيات مصدقة لأحاديث هذا الباب. وأما قول عمر: (لقد هممت ألا أدع فيها صفراء ولا بيضاء) يعنى: ذهبًا ولا فضة، أراد أن يقسم المال الذى يجمع بمكة،(10/333)
وفضل عن نفقتها ومؤنتها ويضعه فى مصالح المسلمين، فلما ذكره شيبة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) وأبا بكر بعده لم يعرضا له؛ لم يسعه خلافهما، ورأى أن الاقتداء بهما واجب، فربما تهدم البيت أو خلق بعض آلاته فصرف ذلك المال فيه، ولو صرف ذلك المال فى منافع المسلمين لكان كأنه قد خرج من وجهه الذى سبل فيه. قال المهلب: وأما الأمانة التى فى حديث حذيفة، فإنها الإيمان وجميع شرائعه، والتنزه عن الخيانة وشبهها. والجذر: أصل الشىء، فدل ذلك أن الإيمان مفروض على القلب ولابد من النية فى كل عمل ما يذهب إليه الجمهور. وقوله: (نزلت فى جذر قلوب الرجال) يعنى: بعض الرجال الذين ختم الله لهم بالإيمان، وأما من لم يقدر له به فليس بداخل فى معنى ذلك، ألا ترى قوله: (ونزل القرآن ثم قرءوا من القرآن وعلموا من السنة) يعنى المؤمنين خاصة المذكورين فى أول الحديث. وقوله: (جاءت الملائكة، فقال بعضهم: العين نائمة والقلب يقظان) يدل أن رؤيا الأنبياء وحى لثبات القلب، ولذلك قال (صلى الله عليه وسلم) : (إن عينى تنامان ولا ينام القلب) وفيه دليل أن الفهم والمعرفة فى القلب. وقول الملك: (أولوها له) . يدل أن الرؤيا على ما عبرت فى النوم. ومعنى قول الحر (فما جاوزها عمر وكان وقافًا عند كتاب الله) . فهو معنى الترجمة، والإعراض عن الجهل إن صح أنه جهل مرغب فيه مندوب إليه، وأما إذا كان الجفاء على السلطان تعمدًا أو استخفافًا بحقه فله تغييره والتشديد فيه.(10/334)
واستعمال عمر لهذه الآية يدل على أنها غير منسوخة، وهو قول مجاهد وقتادة، وروى هشام بن عروة عن أبيه، وعن عبد الله ابن الزبير قالا: نزلت هذه الآية فى أخذ العفو من أخلاق الناس وأعمالهم وما لا يجهدهم. فعلى هذا القول هى محكمة وهذا لفظه لفظ الأمر، وهو تأديب من الله لنبيه، وفيه تأديب لأمته، فهو تعليم للمعاشرة الجميلة والأخذ بالفضل، وقد روى عن ابن عباس فى قوله: (خُذِ الْعَفْوَ) [الأعراف: 199] ، يعنى الفضل من أموال الناس، ثم نسخ ذلك وهو قول الضحاك والسدى. وفيها قول ثالث عن ابن زيد قال: أمر الله نبيه بالعفو عن المشركين وترك الغلظة عليهم، قبل أن يفرض عليه قتالهم ثم نسخت بالقتال. فأما قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فإذا نهيتكم عن شىء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بشىء فائتوا منه ما استطعتم) فقد احتج به من قال: إن الأمر موضوع على الندب دون الإيجاب، قالوا: ألا تراه (صلى الله عليه وسلم) علق الأمر بمشيئتنا واستطاعتنا، وألزمنا الاتنهاء عما نهى عنه، فوجب حمل النهى على الوجوب دون الأمر. قال أبو بكر بن الطيب: والتعلق بهذا غير صحيح ومعنى قوله: (فائتوا منه ما استطعتم) إذا كنتم مستطيعين، وقد يأمر بالفعل الذى يستطيعه على طريق الوجوب كما يأمر به على وجه الندب، ولا يدل على أنه ليس بواجب قال الله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن: 16] ، ولم يرد به ندبنا إلى التقوى دون إيجابه، ومعنى الآية والخبر: أن اتقوه إذا كنتم سالمين(10/335)
غير عجزة قادرين، ولم يرد أنه لا يؤمر إلا من قد وجدت قدرته على الفعل كما تقول القدرية. وقال المهلب: من احتج بهذا الحديث أن النواهى أوجب من الأوامر فهو خطأ؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) لم ينه بهذا الحديث عن المحرمات التى نهى الله عنها فى كتابه بأن حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وإنما أراد فإذا نهيتكم عما هو مباح لكم أن تأتوه، فإنما نهيتكم رفقًا بكم، كنهيه عن الوصال إبقاءً عليهم، وكنهيه عبد الله بن عمرو عن صيام الدهر وقيام الليل كله، وكنهيه عن إضاعة المال؛ لئلا يكون سببًا لهلاكهم، وكنهيه عن كسب الحجام وعسب الفحل تنزهًا واعتلاءً عن الأعمال الوضيعة. وأما الأمر الذى أمرهم أن يأتوا منه ما استطاعوا، فهو الأمر من التواصى بالخير، والصدقات وصلة الرحم، وغير ذلك مما سنه، وليس بفرض ولذلك قال لهم: فائتوا ما استطعتم أى: لم آمركم بذلك أمر إلزام ولا أمر حتم أن تبلغوا غاياته لكن ما استطعتم من ذلك؛ لأن الله تعالى عفا عما لا يستطاع. وعلى هذا المعنى خرج معنى الحديث منه (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأن أصحابه كانوا يكثرون سؤاله عن أعماله من الطاعات يحرصون على فعلها فكان ينهاهم عن التشديد ويأمرهم بالرفق؛ خشية الانقطاع وسأتقصى مذاهب العلماء فى الأمر والنهى فى باب النهى على التحريم إلا ما يعرف إباحته بعد هذا إن شاء الله تعالى.(10/336)
4 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ وَتَكَلُّفِ مَا لا يَعْنِي وَقوله اللَّه: (لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) [المائدة: 101]
/ 19 - فيه: سَعْد، قَالَ النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ، فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ) . / 20 - وفيه: زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) اتَّخَذَ حُجْرَةً فِى الْمَسْجِدِ مِنْ حَصِيرٍ، فَصَلَّى فِيهَا لَيَالِىَ حَتَّى اجْتَمَعَ إِلَيْهِ نَاسٌ، ثُمَّ فَقَدُوا صَوْتَهُ لَيْلَةً، فَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ نَامَ، فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَتَنَحْنَحُ؛ لِيَخْرُجَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: (مَا زَالَ بِكُمِ الَّذِى رَأَيْتُ مِنْ صَنِيعِكُمْ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمْ، وَلَوْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ مَا قُمْتُمْ بِهِ، فَصَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِى بُيُوتِكُمْ فَإِنَّ أَفْضَلَ صَلاةِ الْمَرْءِ فِى بَيْتِهِ إِلا الصَّلاةَ الْمَكْتُوبَةَ) . / 21 - وفيه: أَبُو مُوسَى، سُئِلَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ أَشْيَاءَ كَرِهَهَا، فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ غَضِبَ، وَقَالَ: (سَلُونِى) ، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَبِى؟ قَالَ: (أَبُوكَ حُذَافَةُ) ، ثُمَّ قَامَ آخَرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَبِى؟ فَقَالَ: (أَبُوكَ، سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ) ، فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ مَا بِوَجْهِ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) مِنَ الْغَضَبِ، قَالَ: إِنَّا نَتُوبُ إِلَى اللَّهِ. / 22 - وذكر قصة حذافة من رواية أَنَس وفيه: فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَيْنَ مَدْخَلِى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (النَّارُ) ، فَقَامَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ، فَقَالَ: مَنْ أَبِى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (أَبُوكَ حُذَافَةُ) ، فَبَرَكَ عُمَرُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإسْلامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) رَسُولا، فَسَكَتَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عند ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لَقَدْ عُرِضَتْ عَلَىَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ آنِفًا فِلا عُرْضِ هَذَا الْحَائِطِ. . .) الحديث. وَقَالَ أَنَس، لما قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَبُوكَ فُلانٌ) ، نَزَلَتْ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) [المائدة: 101] الآيَةَ.(10/337)
/ 23 - وفيه: الْمُغِيرَةِ، أنّ النَّبيّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةِ الْمَالِ. . . الحديث. / 24 - وفيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَنْ يَبْرَحَ النَّاسُ يَتَسَأَلون حَتَّى يَقُولُوا: هَذَا اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟) . / 25 - وفيه: ابْن مَسْعُود، أن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) مَرَّ عليه نَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَلُوهُ، عَنِ الرُّوحِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا تَسْأَلُوهُ لا يُسْمِعُكُمْ فيه مَا تَكْرَهُونَ. . . الحديث. قال ابن عون: سألت نافعًا عن قوله تعالى: (لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) [المائدة: 101] ، فقال: لم تزل كثرة السؤال منذ قط تكره. وقال الحسن البصرى: فى هذه الآية سألوا النبى (صلى الله عليه وسلم) عن أمور الجاهلية التى عفا الله عنها، ولا وجه للسؤال عما عفا الله عنه، وقيل: كان الرجل الذى سأل النبى (صلى الله عليه وسلم) عن أبيه يتنازعه رجلان فأخبره النبى (صلى الله عليه وسلم) بأبيه منهما، وأعلم (صلى الله عليه وسلم) أن السؤال عن مثل هذا لا ينبغى، وأنه إذا ظهر فيه الجواب ساء ذلك السائل، وأدّى ذلك إلى فضيحته لا سيما وقت سؤال النبى ونزول الآيات فى ذلك. وقد تقدم فى كتاب الفتن كراهية أم حذافة لسؤاله النبى (صلى الله عليه وسلم) عن أبيه وما قالت له فى ذلك. فلسؤالهم له (صلى الله عليه وسلم) عما لا ينبغى وتعنيته (صلى الله عليه وسلم) للذى قال له: أين مدخلى يا رسول الله؟ قال: النار؛ لأن تعنيته (صلى الله عليه وسلم) يوجب النار، وقد أمر الله المسلمين بتعزيزه وتوقيره وألا يرفع الصوت فوق صوته، وتوعد على ذلك بحبوط العمل بقوله تعالى: (أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ(10/338)
تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2] ، ألا ترى فهم عمر لهذا الأمر وتلافيه له؛ بأن برك على ركبتيه، وقال: رضينا بالله ربا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيا وقال مرة: إنا نتوب إلى الله. فسكت (صلى الله عليه وسلم) وسكن غضبه، ورضى قول عمر حين ذب عن نبيه ونبّه على التوبة مما فيه إغضابه أن يؤدى إلى غضب الله، وقد ذكرنا شيئًا من هذا المعنى فى كتاب الفتن فى باب التعوذ من الفتن الدليل على صواب فعل عمر قول النبى (صلى الله عليه وسلم) بعد ذلك: (أولى والذى نفسى بيده) يعنى: أولى لمن عنَّت نبيه فى المسألة وأغضبه، ومعنى أولى عند العرب التهدد والوعيد. وقال المهلب: يقال للرجل: إذا أفلت من عظيمة: أولى لك. أى: كدت تهلك ثم أَفْلَتَّ، ويروى عن ابن الحنفية أنه كان يقول: إذا مات ميت فى جواره: أولى لى، كدت والله أن أكون السواد المخترم. قال المهلب: وأصل النهى عن كثرة السؤال والتنطع فى المسائل مبين فى كتاب الله تعالى فى بقرة بنى إسرائيل أمرهم الله بذبح بقرة فلو ذبحوا أى بقرة كانت لكانوا مؤتمرين غير عاصين، فلما سألوا ما هى وما لونها؟ قيل لهم: لا فارض ولا بكر. ضيق عليهم وقد كان ذلك مباحٌ، وكذلك ضيق عليهم فى لونها فقيل لهم: صفراء. فمنعوا من سائر الألوان، وقد كان ذلك مباحًا لهم، ثم لما قالوا: إن البقر تشابه علينا، قيل لهم: لا ذلول حرّاثه ولا ساقية للحرث أى معلمة لاستحراج الماء وقد كان ذلك مباحًا لهم، فعز عليهم وجود هذه الصفة المضيق عليهم فيها حتى أمرهم أن يشتروها بأضعاف ثمنها عقوبة بسؤالهم عما لو يكن لهم به حاجة.(10/339)
وقوله تعالى: (لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) [المائدة: 101] يحذر مما نزل بهؤلاء القوم ثم وعد أنه إن سألوا عنها حين نزول القرآن ضيق عليهم، وقد قال بعض أصحابنا: إنه بقيت منه بقية مكروهة وهو أن التنطع فى المسألة والبحث عن حقيقتها يلزم منها أن يأتى بذلك الشرع على الحقيقة التى انكشفت له فى البحث وذلك مثل أن يسأل عن سلع الأسواق الممكن فيها الغصب والنهب هل له شراء ذلك فى سوق المسلمين، وهو يمكن فيه ذلك المكروه أم لا؟ فيفتى بأن له أن يبتاع ذلك، ثم إن تنطع، فقال: إن قام الدليل على السلعة أنها من نهب أو غصب هل لى أن أشتريها؟ فيفتى بأن لا يشتريها فهذا الذى بقى من كراهة السؤال والتنطع حتى الآن فى النسخ الذى كان يمكن حين نزول القرآن والتضيق المشروع. وقد سئل مالك عن قيل وقال وكثرة السؤال؟ فقال: لا أدرى أهو ما أنهاكم عنه من كثرة المسائل، فقد كره رسول الله المسائل وعابها، أو هو مسألة الناس أموالهم. وكان زيد ابن ثابت وأبى بن كعب وجماعة من السلف يكرهون السؤال فى العلم عما لم ينزل، ويقولون: إذا نزلت النازلة وفق المسئول عنها، ويرون الكلام فيما لم ينزل من التكلف. وقال مالك: أدركت أهل هذا البلد وما عند أحدهم علم غير الكتاب والسنة، فإدا نزلت النازلة جمع الأمير لها من حضر من العلماء، فما اتفقوا عليه أنفذه، وأنتم تكثرون المسائل وقد كرها رسول الله. فإن قيل: فإذا ثبت النهى عن كثرة السؤال والبحث فى هذه الأحاديث، فقد جاء فى كتاب الله ما يعارض ذلك، وهو(10/340)
الأمر بسؤال العلماء والبحث عن العلم؛ بقوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [النحل: 43] . فالجواب عنه: أن الذى أمر الله عباده بالسؤال عنه هو ما ثبت وتقرر وجوبه مما يجب عليهم العمل به، والذى جاء فيه النهى هو ما لم يتعبد الله عباده به، ولم يذكره فى كتابه، وقد سئل ابن عباس عن قوله تعالى: (لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ) [المائدة: 101] الآية قال: ما لم يذكر فى القرآن فهو مما عفا الله عنه، ألا ترى أن الله لم يجب اليهود عن سؤالهم عن الروح لما لم يكن مما لهم به الحاجة إلى علمه، وكان من علم الله الذى لم يطلع عليه أحدًا فقال لنبيه (صلى الله عليه وسلم) : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) [الإسراء: 85] ، فنسبهم تعالى فى سؤالهم عما لم ينبغى لهم السؤال عنه إلى قلة العلم، وقال مالك: قيل وقال هو هذه الأخبار والأراجيف فى رأيى، أعطى فلان كذا ومنع كذا بقوله: (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) [التوبة: 65] ، فهؤلاء يخوضون، رواه عنه أشهب فى جامع المستخرجة. وأما قول بعض اليهود حين سألوه عن الروح: لا تسألوه يسمعكم ما تكرهون. فإنما قال ذلك لعلمه أنهم كانوا معنتين والمعنت من عقوبته أن يخاطب بما يكره. وأما قول (صلى الله عليه وسلم) فى حديث أنس: (لن يبرح الناس يسألون:(10/341)
هذا الله خالق كل شىء فمن خلق الله؟) هذا من السؤال الذى لا يحل وقد جاء هذا الحديث بزيادة فيه من حديث أبى هريرة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (لا يزال الشيطان يأتى أحدكم فيقول: من خلق كذا من خلق كذا، حتى يقول: من خلق الله، فإذا وجد ذلك أحدكم فليقل: آمنت بالله) . وفى حديث آخر: فذلك (صريح الإيمان) . رواه أبو داود حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا زهير، حدثنا سهيل، عن أبيه، عن أبى هريرة (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) جاءه ناس من أصحابه فقالوا: يا رسول الله، نجد فى أنفسنا الشىء يعظم أن نتكلم به ما نحب أن لنا الدنيا وأنا تكلمنا به، فقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أو قد وجدتموه، ذلك صريح الإيمان) . وقد ذكر ابن أبى شيبة من حديث الأعمش، عن ذر، عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس قال: (جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: إنى أحدث نفسى بالأمر لأن أكون حممة أحب إلى من أن أتكلم به. فقال له رسول الله: الحمد لله الذى رده إلى الوسواس) . فإن قيل: كيف سمّى هذه الخطرة الفاسدة من خطرات الشيطان على القلب صريح الإيمان؟ قال الخطابى: يريد أن صريح الإيمان هو الذى يعظم ما تجدونه فى صدوركم ويمنعكم من قول ما يلقيه الشيطان فى قلوبكم ولولاه لم يتعاظموه، ولم ينكروه ولم يرد أن الوسوسة نفسها صريح الإيمان، وكيف تكون إيمانًا وهى من قبل الشيطان وكيده، ألا تراه (صلى الله عليه وسلم) حين سئل عن هذا قال: (الحمد لله الذى رد كيده إلى الوسوسة) . وفيه وجه آخر، قال المهلب: قوله: (صريح الإيمان) يعنى: الانقطاع فى إخراج الأمر إلى ما لا نهاية له فلابد عند ذلك من إيجاب(10/342)
خالق لا خالق له، لأن المفكر يجد المخلوقات كلها لها خالق بأثر الصنعة فيها والحدث الجارى عليها والله تعالى بخلاف هذه الصفة لمباينته صفات المخلوقين، فوجب أن يكون خالق الكل، فهذا هو صريح الإيمان، لا البحث الذى هو من كيد الشيطان المؤدى إلى هذا الانقطاع ليحير العقول، فنبه (صلى الله عليه وسلم) على موضع كيده وتحييره. قال غيره: فإن وسوس الشيطان فقال: ما المانع أن يخلق الخالق نفسه. قيل له: هذه وسوسة ينقض بعضها بعضا؛ لأن بقولك يخلق قد أوجبت وجوده تعالى، وبقولك نفسه قد أوجبت عدمه، والجمع بين كونه موجودًا ومعدومًا معًا تناقض فاسد؛ لأن من شرط الفاعل تقدم وجوده على وجود فعله فيستحيل كون نفسه فعلاً له؛ لاستحالة أن يقال إن النفس تخلق النفس التى هى هو وهذا بين فى حل هذه الشُبه وهو صريح الإيمان. وقال غيره: إن سأل سائل عن حديث سعد وزيد بن ثابت، فقال: فى هذين الحديثين دلالة على أن الله تعالى يفعل شيئًا من أجل شىء وسببه، وهذا يؤدى إلى قول القدرية. فالجواب: أنه قد ثبت أن الله على كل شىء قدير، وأنه بكل شىء عليم، وأنه لا يكون من أفعاله التى انفرد بالقدرة عليها ولا تدخل تحت قدرة العباد، ولا تكون من مقدورات العباد التى هى كسب لهم وخلق لله إلا والله مريد لجميع ذلك، فسواء كان أمرًا بذلك عباده أو ناهيًا لهم عنه، فغير جائز أن يقال أنه فعل فعلاً من أفعاله بسبب من الأسباب أو من أجل داع يدعوه إلى فعله؛(10/343)
لأن السبب والداعى فعل من أفعاله، والقول أنه فاعل بسبب يقضى إلى تعجيزه لحاجته إلى ما لا يصح وقوعه من فعله إلا بوقوع غيره تعالى الله عن ذلك، فإذا فسد ذلك وجب حمل قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن أعظم المسلمين جُرمًا من سأل عن شىء لم يحرم فحرم من أجله) . على غير ظاهره وصرفه إلى أن الله تعالى فاعل بسؤال السائل الذى نهاه عنه، ومقدر أن يحرم الشىء المسئول عنه إذا وقع السؤال فيه، كل ذلك قد سبق به القضاء والقدر لا أن السؤال موجه للتحريم وعلة له. وكذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ما زال بكم الذى رأيت من صنيعكم) يعنى: من كثرة مطالبتكم بالخروج إلى الصلاة حتى خشيت أن تكتب عليكم عقابًا لكم على كثرة ملازمتكم لى فى مداومة الصلاة بكم، لا أن ملازمتهم له موجبة لكتاب الله عليهم الصلاة؛ لما ذكرناه من أن الملازمة والكتب فعلان لله تعالى غير جائز وقوع أحدهما شرطًا فى وقوع الآخر، ولو وقعت الملازمة ووقع كتاب الصلاة عليهم لكان ذلك مما قد سبق به القضاء والقدر فى علم الله. وإنما نهاهم، عليه السلام، عن مثل هذا وشبهه تنبيهًا لهم على ترك الغلو فى العبادة وركوب القصد فيها؛ خشية الانقطاع والعجز عن الإتيان بما طلبوه من الشدة فى ذلك، ألا ترى قوله تعالى فيمن فعل مثل ذلك: (قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ) [المائدة: 102] ، ففرضت عليهم، فعجزوا عنها فأصبحوا بها كافرين وكان (صلى الله عليه وسلم) رءوفًا بالمؤمنين(10/344)
رفيقًا بهم، وقد تقدم مثل حديث زيد من رواية عائشة فى أبواب قيام الليل فى كتاب الصلاة، وذكرنا فى توجيهه ما لم يذكر فى هذا الباب فتأمله هناك. فإن قيل: فإذا حمل قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن أعظم المسلمين جرمًا من سأل عن شىء لم يحرم فحرم من أجله) على غير ظاهره ما وجه ذلك وإثم الجرم به؟ . قيل: هو على ما تقرر علمه من نسبة اللوم والمكروه إلى من تعلق بسبب من فعل ما يلام عليه، وإن قل تحذيرًا من موافقته له فعظم جرم فاعل ذلك لكثرة الكارهين لفعله. وعرض الحائط: وسطه، وكذلك عرض البحر وعرض النهر وسطهما، واعترضت عرضه نحوت نحوه عن صاحب العين.
5 - باب الاقْتِدَاءِ بِأَفْعَالِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم)
/ 26 - فيه: ابْن عُمَر، اتَّخَذَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، فَاتَّخَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنِّى اتَّخَذْتُ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فَنَبَذَهُ) ، وَقَالَ: (إِنِّى لَنْ أَلْبَسَهُ أَبَدًا) ، فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ. قال أبو تمام المالكى، وأبو بكر بن الطيب: ما كان من أفعال الرسول بيانًا لمجمل كالصلاة، والصيام، والحج، وما دعا إلى فعله كقوله: (خذوا عنى مناسككم، وصلوا كما رأيتمونى أصلى) . فلا خلاف بين العلماء أنها على الوجوب، واختلفوا فيما كان منها واقعًا موقع القرب لا على وجه البيان والامتثال لتمثيل أمر لزمه، فقال مالك وأكثر أهل العراق: إنها على الوجوب،(10/345)
إلا أن يمنع من ذلك دليل، وهو قول ابن سريج وابن خيران من أصحاب الشافعى، وقال بعض أصحاب الشافعى: إنها على الندب وإن المتأسى به فيها مندوب إليه أن يقوم دليل على وجوبها، وقال كثير من أهل الحجاز والعراق وأصحاب الشافعى: إنها على الوقف إلا أن يقوم دليل على كونها ندبًا أو إباحة أو محظورة. قال أبو بكر بن الطيب: وبهذا نقول. واحتج لذلك بأنه لما كانت القربة الواقعة محتملة لكونها فرضًا ونفلاً لم يجز أن يكون الفعل منه دليلاً على أننا متعبدون مثله، ولا على كونه واجبًا علينا دون كونه نفلاً؛ لأن فعله مقصور عليه دون متعدٍ إلى غيره، وأمره لنا ونهيه متعديان إلى الغير والغرض فيهما امتثالهما فافترقا. وحجة من قال: إنها على الوجوب. أن النبى (صلى الله عليه وسلم) خلع خاتمه، فخلعوا خواتيمهم وأنه خلع نعليه فى الصلاة، فخلعوا نعالهم، وأنه أمرهم عام الحديبية بالتحلل فوقفوا، فشكا ذلك إلى أم سلمة فقالت له: اخرج إليهم واذبح واحلق. ففعل ذلك، فذبحوا وحلقوا اتباعًا لفعله، فعلم أن الفعل أكد عندهم من القول، وقال لأم سلمة حين سألتها المرأة عن القبلة للصائم: (ألا أخبرتيها أنى أقبّل وأنا صائم) . وقال للرجل مثل ذلك، فقال: إنك لست مثلنا. فقال: (إنى لأرجو أن أكون أتقاكم لله) . فدل هذا على أن الأسوة واقعة إلا ما منع منه الدليل، ويدل على ذلك أنه لما نهاهم عن الوصال قالوا: إنك تواصل. قال: (إنى لست مثلكم، إنى أطعم وأسقى) . فلولا أن لهم الاقتداء به لقال لهم: وما فى مواصلتى ما يبيح لكم فعل ذلك،(10/346)
وأفعالي مخصوصة بي، فلم يقل لهم ذلك، ولكن بين لهم المعنى فى اختصاصه بالمواصلة، وهو أن الله يطعمه ويسقيه، وأنهم بخلافه فى ذلك، وكذلك خص الله الموهوبة أنها خالصة له من دون أمته، ولولا ذلك لكانت مباحًا لهم.
6 - باب مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّعَمُّقِ وَالتَّنَازُعِ وَالْغُلُوِّ فِى الدِّينِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِى دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ (الآية [النساء: 171]
/ 27 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تُوَاصِلُوا، قَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ، قَالَ: إِنِّى لَسْتُ مِثْلَكُمْ، إِنِّى أَبِيتُ يُطْعِمُنِى رَبِّى وَيَسْقِينِى. . .) الحديث، ثُمَّ رَأَوُا الْهِلالَ، فَقَالَ: (لَوْ تَأَخَّرَ الْهِلالُ لَزِدْتُكُمْ، كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ) . / 28 - وفيه: عَلِىّ، أنه خطب وَعَلَيْهِ سَيْفٌ وفِيهِ صَحِيفَةٌ مُعَلَّقَةٌ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا عِنْدَنَا مِنْ كِتَابٍ يُقْرَأُ إِلا كِتَابُ اللَّهِ وَمَا فِى هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. . . وذكر الحديث. / 29 - وفيه: عَائِشَة، صَنَعَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) شَيْئًا تَرَخَّصَ فِيهِ، وَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَحَمِدَ اللَّهَ، ثُمَّ قَالَ: (مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنِ الشَّىْءِ، أَصْنَعُهُ، فَوَاللَّهِ إِنِّى أَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ، وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً) . / 30 - وفيه: ابْنِ أَبِى مُلَيْكَةَ، كَادَ الْخَيِّرَانِ أَنْ يَهْلِكَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، لَمَّا قَدِمَ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَفْدُ بَنِى تَمِيمٍ أَشَارَ أَحَدُهُمَا بِالأقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ التَّمِيمِىِّ الْحَنْظَلِىِّ أَخِى بَنِى مُجَاشِعٍ، وَأَشَارَ الآخَرُ(10/347)
بِغَيْرِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ: إِنَّمَا أَرَدْتَ خِلافِى، فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَرَدْتُ خِلافَكَ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا عِنْدَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَنَزَلَتْ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىِّ (الآية [الحجرات: 2] ، فَكَانَ عُمَرُ إِذَا حَدَّثَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) بِحَدِيثٍ حَدَّثَهُ كَأَخِى السِّرَارِ لاَ يُسْمِعْهُ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ. / 31 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ فِى مَرَضِهِ: (مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فليُصَلّ بِالنَّاسِ) ، إلى قوله: (إِنَّكُنَّ لأنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ. . .) الحديث. / 32 - وفيه: حديث مالك بن أوس، أن العباس وعليًا جاءا إلى عمر يطلبان ميراثهما من النَّبِىّ، عليه السَّلام، وتنازعهما فِى ذلك مَعَ عُمر. . . الحديث بطوله. قال المهلب فى قوله: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِى دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ) [النساء: 171] : الغلو مجاوزة الحد. فهذا يدل أن البحث عن أسباب الربوبية من نزغات الشيطان، ومما يؤدى إلى الخروج عن الحق؛ لأن هؤلاء غلوا فى الفكرة حتى آل بهم الأمر أن جعلوا الآلهة ثلاثة، وأما الذين غلوا فى صيام فهو اتباعهم للوصال بعد أن نهاهم النبى (صلى الله عليه وسلم) فعاقبهم بأن زادهم مما تعمقوا به. وقول على: (ما عندنا إلا كتاب الله، وما فى هذه الصحيفة) فإنه أراد به تبكيت من تنطع وجاء بغير ما فى كتاب الله وغير ما فى سنة رسول الله فهو مذموم. وحديث القبلة للصائم الذى تنزه قوم عنها ورخص فيها النبى (صلى الله عليه وسلم) فذمهم بتعمقهم ومخالفته - عليه السلام -.(10/348)
وقصة بني تميم لما آل التنازع بين أبي بكر وعمر إلى المخاشنة فى التفاضل بين الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن، ورمى بعضهم بعضًا بالمناواة والقصد إلى المخالفة والفرقة، كذلك ينبغى أن تذم كل حالة تخرج صاجبها إلى افتراق الكلمة واستشعار العداوة. وقوله: (مروا أبا بكر يصلى بالناس) . ذم عائشة لتعمقها فى المعانى التى خشيتها من مقام أبيها فى مقام رسول الله مما روى عنها أنها قصدته بذلك، وذكرتها فى كتاب الصلاة، وذم حفصة أيضًا؛ لأنها أدخلتها فى المعارضة للنبى (صلى الله عليه وسلم) ، وكذلك كراهية رسول الله مسائل اللعان وعيبه لها وهو نص فى هذا الباب؛ لأنه خشى أن ينزل من القرآن ما يكون تضييقًا، فنزل فيه اللعان وهو وعيد عظيم وسبب إلى عذاب الآخرة لمن أراد الله إنفاذه عليه. وحديث العباس وعلى خشى أن يئول ما ذم من تنازعهما إلى انقطاع الرحم التى بينهما بالمخاصمة فى هذا المال الموقوف لا سيما بعدما نص عليه حديث رسول الله، فلم ينتهيا عن طلب هذا الوقف ليلياه كما كان يليه الخليفة من توزيعه حيث يحب، وانفرادهما بالحكم وقد تقدم الكلام فى معناه فى كتاب فرض الخمس من كتاب الجهاد والحمد لله كثيرًا.(10/349)
7 - باب إِثْمِ مَنْ آوَى مُحْدِثًا رَوَاهُ عَلِىٌّ، عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم)
. / 33 - فيه: أَنَس، حَرَّم النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) الْمَدِينَةَ؟ فقَالَ: لا يُقْطَعُ شَجَرُهَا، وَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. وَقَالَ مُوسَى بْنُ أَنَسٍ، عن أبيه: أَوْ آوَى مُحْدِثًا. فى هذا الحديث فضل عظيم للمدينة، وذلك تغليظ الوعيد بلعنة الله والملائكة والناس أجمعين لمن أحدث فيها حدثًا أو آوى محدثًا، وفى حديث على: (لا يقبل منه صرف ولا عدل) . ذكره فى آخر كتاب الحج، ودل الحديث على أنه من آوى أهل المعاصى والبدع أنه شريك فى الأثم، وليس يدل الحديث على أن من أحدث حدثًا أو آوى محدثًا فى غير المدينة أنه غير متوعد ولا ملوم على ذلك؛ لتقدم العلم بأن من رضى فعل قوم وعملهم أنه منهم، وإن كان بعيدًا عنهم. فهذا الحديث نص فى تحذير فعل شىء من المنكر فى المدينة وهو دليل فى التحذير من إحداث مثل ذلك فى غيرها، وإنما خصت المدينة بالذكر فى هذا الحديث؛ لأن اللعنة على من أحدث فيها حدثًا أشد والوعيد له آكد؛ لانتهاكه ما حذر عنه، وإقدامه على مخالفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيما كان يلزمه من تعظيم شأن المدينة التى شرفها الله بأنها منزل وحيه وموطن نبيه (صلى الله عليه وسلم) ، ومنها انتشر الدين فى أقطار الأرض فكان لها بذلك فضل مزيّة على سائر البلاد، وقد تقدم اختلاف العلماء فيما يجوز قطعه من شجر المدينة، وما يجوز من الصيد فى حرمها فى آخر كتاب الحج.(10/350)
8 - باب مَا يُذْكَرُ مِنْ ذَمِّ الرَّأْىِ وَتَكَلُّفِ الْقِيَاسِ وقوله تَعَالَى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [الإسراء: 36]
/ 34 - فيه: عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ اللَّهَ لا يَنْزِعُ الْعِلْمَ بَعْدَ أَنْ أَعْطَاكُمُوهُ انْتِزَاعًا، وَلَكِنْ يَنْتَزِعُهُ مِنْهُمْ مَعَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ بِعِلْمِهِمْ، فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ، يُسْتَفْتَوْنَ فَيُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ، فَيُضِلُّونَ وَيَضِلُّونَ) . / 35 - وفيه: أَبُو وَائِل، شهدت صفين، فسمعت سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ يقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، لَقَدْ رَأَيْتُنِى يَوْمَ أَبِى جَنْدَلٍ، وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَيْهِ لَرَدَدْتُهُ، وَمَا وَضَعْنَا سُيُوفَنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا إِلَى أَمْرٍ يُفْظِعُنَا إِلا أَسْهَلْنَ بِنَا إِلَى أَمْرٍ نَعْرِفُهُ غَيْرَ هَذَا الأمْرِ، قَالَ: وَقَالَ أَبُو وَائِلٍ: شَهِدْتُ صِفِّينَ، وَبِئْسَتْ صِفُّونَ. قال الطبرى: روى مبارك بن فضالة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر قال: يا أيها الناس اتهموا الرأى على الدين. كقول سهل سواء. قال المهلب: وغيره: إذا كان الرأى والقياس على أصل من كتاب الله وسنة رسول الله أو إجماع الأمة فهو محمود، وهو الاجتهاد والاستنباط الذى أباحه الله للعلماء، وأما الرأى المذموم والقياس المتكلف المنهى عنه، فهو ما لم يكن على هذه الأصول؛ لأن ذلك ظن ونزع من الشيطان، والدليل على صحة هذا قوله تعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [الإسراء: 36] . قال ابن عباس: لا تقل ما ليس لك به علم. وقال قتادة: لا تقل رأيت ولم تر، وسمعت ولم(10/351)
تسمع، وعلمت ولم تعلم. وأصل القفو العضه والبهت، فنهى الله عباده عن قول ما لا علم لهم به، فإنه سائل السمع والبصر والفؤاد عما قال صاحبها فتشهد عليه جوارحه بالحق، ومثل هذا قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن الله يقبض العلم بقبض العلماء فيبقى ناس جهال فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون) . ألا ترى أنه وصفهم بالجهل، فلذلك جعلهم ضالين هو خلاف الذين قال فيهم: (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء: 83] ، وأمر بالرجوع إلى قولهم. قال الطبرى: فإن قيل: فإن قول سهل بن حنيف، وعمر بن الخطاب: اتهموا الرأى. ويرد قول من استعمل الرأى فى الدين، وأنه لا يجوز شىء من الرأى والقياس لأنهم أخطئوا يوم أبى جندل فى مخالفتهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى صلحه المشركين، ورده لأبى جندل لأبيه وهو يستغيث، وكان قد عذب فى الله، وهم يظنون أنهم محسنون فى مخالفة رسول الله. قيل: وجه قولهما: اتهموا الرأى الذى هو خلاف لرأى رسول الله وأمره على الدين، الذى هو نظير آرائنا التى كنا خالفنا بها رسول الله يوم أبى جندل، فإن ذلك خطأ، فأما الاجتهاد والاستنباط من كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة فذلك هو الحق الواجب والفرض اللازم لأهل العلم، وبنحو هذا جاءت الأخبار عن النبي (صلى الله عليه وسلم) ، وعن جماعة الصحابة والتابعين، روى ابن عمر أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لما انصرف من الأحزاب قال: (لا يصلين أحد العصر إلا فى بنى قريظة فأبطأ ناس فتخوفوا فوت الصلاة، فصلوا، وقال آخرون: لا نصلى إلا حيث أمرنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وإن فاتنا العصر، فما عنف(10/352)
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أحد الفريقين) . وهذا الخبر نظير خبر سهيل بن حنيف، ومن حرص يوم أبى جندل على القتال اجتهادًا منهم ورسول الله يرى ترك قتالهم فى أنه لم يؤثمهم كما لم يؤثم أحد الفريقين: لا الذين صلوا قبل وصولهم إلى بنى قريظة؛ لأن معنى ذلك كان عندهم ما لم يخشوا فوت وقتها، وكذلك لم يؤثم أيضًا الذين لم يصلوا حتى فاتهم وقتها إلى أن صاروا إلى بنى قريظة؛ لأن معنى أمره (صلى الله عليه وسلم) بذلك كان عندهم لا يصلوها إلا فى بنى قريظة، وإن فاتكم وقتها، فعذر كل واحد منهم لهذه العلة، وروى سفيان، عن الشيبانى عن الشعبى، عن شريح (أنه كتب إلى عمر بن الخطاب يسأله، فكتب إليه: أن اقض بما فى كتاب الله، فإن لم يكن فى كتاب الله ففى سنة رسول الله، فإن لم يكن فيما قضى الصالحون، فإن لم يكن فإن شئت تقدم وإن شئت تأخر، ولا أرى التأخر إلا خيرًا لك، والسلام) . وروى هشيم، حدثنا سيار، عن الشعبى قال: (لما بعث عمر شريحًا على قضاء الكوفة قال: انظر ما تبين لك فى كتاب الله ولا تسأل عنه أحدًا، وما لم يتبين لك فى كتاب الله فاتبع فيه سنة رسول الله وما لم يتبين لك فى السنة فاجتهد رأيك فقد أنبأت هذه الأخبار عن عمر أن معنى قوله: اتهموا الرأى على الدين. أنه الرأى الذى وصفنا؛ لأنه محال أن يقول: اتهموا واستعملوه، لأن النهى عن الشىء والأمر به فى حالة واحدة ينقض بعضه بعضًا، ولا يجوز أن يظن ذلك بعمر ونظرائه، ويزيد ذلك بيانًا روى مجاهد، عن الشعبي، عن(10/353)
عمرو بن حريث قال: قال عمر بن الخطاب: (إياكم وأصحاب الرأى فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرأى، فضلوا وأضلوا) . فقد بين هذا القول من عمر أنه أمر باتهام الرأى فيما خالف أحكام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وسنته، وذلك أنه قال: (إنهم أعداء السنن أعيتهم أن يحفظوها) . وأخبر أنه لما أعياهم حفظ سنن رسول الله قالوا بآرائهم وخالفوها، جهلا منهم بأحكام رسول الله وسننه وذلك هو الجرأة على الله بما لم يأذن به فى دينه، والتقدم بين يدى رسول الله، فأما اجتهاد الرأى فى استنباط الحق من كتاب الله وسنة رسوله فذلك الذى أوجب الله على العلماء فرضًا، وعمل به المسلمون بمحضر من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فلم يعنفهم ولا نهاهم عنه؛ إذ كان هو الحق عنده والدين، واقتفى أثرهم فيه الخلف من بعدهم، روى ذلك عن ابن مسعود، وابن عباس، وروى أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال ابن مسعود: (ومن عرض له منكم قضاء بما فى كتاب الله، فإن جاء أمرًا ليس فى كتاب الله فليقض بما قضى به نبيه (صلى الله عليه وسلم) ، فإن جاءه أمر ليس فى سنة نبيه فليقض بما قضى به الصالحون، فإن جاءه ما ليس فى ذلك، فليجتهد رأيه، ولا يقل: إنى أرى وإنى أخاف فإن الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك) . وقد تقدم حديث سهل فى أخر كتاب الجهاد ومر فيه من معناه ما لم أذكره هنا خوف التكرار. وقول أبى وائل: (وبئست الصفون) . سمى المكان بالجمع المسلم كما سمى الرجل يزيدين أو عمرين فيجريه فى حال التسمية به مجراه في(10/354)
حال الجمع، وما كان من الواحد عن بناء الجمع فإعرابه كإعراب الجمع كقولك دخلت فلسطين وهذه فلسطون وأتيت قنسرين وهذه قنسرون، وأنشد المبرد: وشاهدنا الحل والياسمون والمستعاب بقضائها ومن هذا قول الله تعالى: (كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِى عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ) [المطففين: 18، 19] ، فيه مذهب آخر كقولك: هذه السلحين، ومررت بالسلحين، ورأيت السلحين.
9 - باب مَا كَانَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، يُسْأَلُ فمَّا لَمْ يُنْزَلْ عَلَيْهِ الْوَحْىُ فَيَقُولُ: (لا أَدْرِى) ، أَوْ لَمْ يُجِبْ حَتَّى يُنْزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْىُ، وَلَمْ يَقُلْ بِرَأْىٍ وَلا بِقِيَاسٍ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى) بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ) [النساء: 105]
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: سُئِلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الرُّوحِ، فَسَكَتَ حَتَّى نَزَلَتِ الآيَةُ. / 36 - فيه: جَابِر، مَرِضْتُ، فَجَاءَنِى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَعُودُنِى وَأَبُو بَكْرٍ وَهُمَا مَاشِيَانِ، فَأَتَانِى وَقَدْ أُغْمِىَ عَلَىَّ، فَتَوَضَّأَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ صَبَّ وَضُوءَهُ عَلَىَّ فَأَفَقْتُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَقْضِى فِى مَالِى؟ قَالَ: فَمَا أَجَابَنِى بِشَىْءٍ حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمواريث. قال المهلب: هذا الباب ليس على العموم فى أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأنه قد علم أمته كيفية القياس والاستنباط فى مسائل لها أصول ومعانى فى كتاب الله ومشروع سنته؛ ليريهم كيف يصنعون فيما عدموا فيه(10/355)
النصوص؛ إذ قد علم أن الله تعالى لابد أن يكمل له الدين. والقياس: هو تشبيه ما لا حكم فيه بما حكم فى المعنى فشبه (صلى الله عليه وسلم) الحمر بالخيل، فقال: ما أنزل على فيها شىء غير هذه الآية الفاذة الجامعة: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة: 7، 8] ، وشبه دين الله بدين العباد فى اللزوم، وقال للتى أخبرته أن أباها لم يحج: (أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته؟ فالله أحق بالقضاء) وهذا هو نفس القياس عند العرب، وعند العلماء بمعانى الكلام. وأما سكوت النبى حتى نزل عليه الوحى، فإنما سكت فى أشياء معضلة ليست لها أصول فى الشريعة فلابد فيها من إطلاع الوحى، ونحن الآن قد فرغت لنا الشرائع واكتمل لنا الدين، وإنما ننظر ونقيس على موضاعاتها فيما أعضل من النوازل. وقد اختلف العلماء: هل يجوز للأنبياء الاجتهاد؟ فقالت طائفة: لا يجوز لهم ذلك ولا يحكمون إلا بوحى منه. وقال آخرون: يجوز أن يحكموا بما يجرى مجرى من منام وشبهه. قال أبو التمام المالكى: ولا أعلم فيه نصًا لمالك، والأشبه عندى جوازه لوجود ذلك من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . والاجتهاد علو درجة وكمال فضيلة والأنبياء أحق الناس به؛ بل لا يجوز أن يمتنعوا منها لما فيها من جزيل الثواب، وقال تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِى الأَبْصَارِ) [الحشر: 2] ، والأنبياء أفضل أولى الأبصار وأعلمهم، وقد ثبت عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه اجتهد فى أمر الحروب وتنفيذ الجيوش، وقدر الإعطاء للمؤلفة قلوبهم وأمر بنصب العريش يوم بدر فى موضع، فقال له الحباب بن المنذر: أبوحى نصبته هنا أم برأيك؟ فقال: بل برأيى. قال: الصواب نصبه بموضع(10/356)
كذا. فسماه النبي (صلى الله عليه وسلم) : ذا الرأيين. فعمل برأيه ولم ينتظر الوحى وحكم بالمفاداة والمن على الأسرى يوم بدر بعد المشورة، وقال تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ) [آل عمران: 159] ، ولا تكون المشورة إلا فيما لا نص فيه. وروى أنه (صلى الله عليه وسلم) أراد أن يضمن لقوم من الأعراب ثلث ثمر المدينة، فقال له سعد بن المعاذ: والله يا رسول الله كنا كفارًا فما طمع أحد أن يأخذ من ثمارنا شيئًا، فلما أعزنا الله بك نعطيهم ثلث ثمارنا فعمل بذلك رسول الله، وقد ذكر الله فى كتابه قصة داود وسليمان حين اجتهدا فى الحكم فى الحرث، ولا يجوز أن يختلفا مع ما فيه من نص موجود.
- باب تَعْلِيمِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) أُمَّتَهُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ لَيْسَ بِرَأْىٍ وَلا تَمْثِيلٍ
/ 37 - فيه: َبُو سَعِيد، جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَهَبَ الرِّجَالُ بِحَدِيثِكَ، فَاجْعَلْ لَنَا مِنْ نَفْسِكَ يَوْمًا، نَأْتِيكَ فِيهِ، تُعَلِّمُنَا مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ، فَقَالَ: اجْتَمِعْنَ فِى يَوْمِ كَذَا وَكَذَا فِى مَكَانِ كَذَا وَكَذَا، فَاجْتَمَعْنَ، فَأَتَاهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَعَلَّمَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: (مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ بَيْنَ يَدَيْهَا مِنْ وَلَدِهَا ثَلاثَةً إِلا كَانَ لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ) ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوِ اثْنَيْنِ؟ فَأَعَادَتْهَا مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: (وَاثْنَيْنِ، وَاثْنَيْنِ، وَاثْنَيْنِ) . قال المهلب: فيه من الفقه أن العالم إذا أمكنه أن يحدث بالنصوص عن الله ورسوله فلا يحدث بنظره ولا قياسه، هذا معنى(10/357)
الترجمة؛ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) حدثهم حديثًا عن الله لا يبلغه قياس ولا نظر، وإنما هو توقيف ووحى، وكذلك ما حدثهم به من سنته فهو عن الله أيضًا؛ لقوله تعالى: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى) [النجم: 3] ، وقال (صلى الله عليه وسلم) : (أوتيت الكتاب ومثله معه) قال أهل العلم: أراد بذلك السنة التى أوتى. وفيه سؤال الطلاب العالم أن يجعل لهم يومًا يسمعون فيه عليه العلم، وإجابة العالم إلى ذلك، وجواز الإعلام بذلك المجلس للاجتماع فيه، وترجم له فى كتاب العلم هل يجعل للنساء يومًا على حده فى العلم.
- باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ يُقَاتِلُونَ) ، وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ
/ 38 - فيه: الْمُغِيرَة، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ) . / 39 - وفيه: مُعَاوِيَة، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَنْ يَزَالَ أَمْرُ هَذِهِ الأمَّةِ مُسْتَقِيمًا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، أَوْ حَتَّى يَأْتِىَ أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى) . قال المؤلف: إن قيل: إن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق) لفظه لفظ الخصوص فى بعض الناس دون بعض، وقال فى حديث معاوية: (لن يزال أمر هذه الأمة مستقيمًا حتى تقوم الساعة) . فعم الأمة وهذا معارض للحديث الأول، مع ما يقوّى ذلك مما رواه محمد بن بشار قال: ثنا ابن أبى عدى، عن حميد، عن أنس قال:(10/358)
(لا تقوم الساعة حتى لا يقال فى الأرض الله الله) وما رواه شعبة عن على بن الأقمر، عن أبى الأحوص، عن عبد الله قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس) وهذه أخبار معارضة لحديث معاوية. قال الطبرى: ولا معارضة بين شىء منها، بل بعضها يدل على صحة بعض، ولكن بعضها خرج على العموم، والمراد به الخصوص، فقوله: (لا تقوم الساعة حتى لا يقال فى الأرض الله) ، و (لا تقوم إلا على شرار الناس) يعنى: فى موضع كذا، فإن به طائفة من أمتى لا يضرهم من خالفهم وهم الذين عنى بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لن يزال أمر هذه الأمة مستقيمًا) يريد: فى موضع دون موضع. فإن قيل: وما الدليل على ذلك؟ قيل: هو أنه لا يجوز، وأن يكون فى الخبر ناسخ ولا منسوخ، وإذا ورد منه القولان من أن أمته طائفة على الحق، وأن الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق بالأسانيد الصحاح، وكان غير جائز أن توصف الطائفة التى على الحق بأنها شرار الناس، وأنها لا توحد الله، على أن الموصوفين بأنهم شرار الناس غير هؤلاء الموصوفين بأنهم على الحق، وقد بين ذلك أبو أمامة فى حديثه حدثنا أحمد بن الفرح الحمصى قال: ثنا ضمرة بن ربيعة، عن يحيى بن أبى عمرو الشيبانى، عن عمرو بن عبد الله الحمصى، عن أبى أمامة الباهلى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق، لعدوّهم قاهرين، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك. قيل: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس) . فثبت أنه ليس أحد هذه الأخبار معارضًا لصاحبه.(10/359)
- باب قوله تَعَالَى: (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا) [الأنعام: 65]
/ 40 - فيه: جَابِر، لَمَّا نَزَلَت عَلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ (، قَالَ: (أَعُوذُ بِوَجْهِكَ)) أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ (، قَالَ: (أَعُوذُ بِوَجْهِكَ) ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) [الأنعام: 65] ، قَالَ: (هَاتَانِ أَهْوَنُ أَوْ أَيْسَرُ) . ذكر المفسرون فى قوله تعالى: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ (، قالوا: يحصبكم بالحجارة، أو يغرقكم بالطوفان الذى غرق به قوم نوح) أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ (، الخسف الذى نال قارون ومن خسف به، وقيل: الريح) أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا (يعنى: يخلط أمركم فيجعلكم مختلفى الأهواء، يقال: لبست عليكم الأمر ألبسته إذا لم أبينه، ومعنى شيعًا أى: فرقًا، لا نكون شيعة واحدة.) وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) [الأنعام: 65] ، يعنى بالحرب والقتل، ويروى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) سأل ربه عز وجل أن لا يستأصل أمته بعذاب، ولا يذيق بعضهم بأس بعض، فأجابه عز وجل فى صرف العذاب ولم يجبه فى أن لا يذيق بعضهم بأس بعض وأن لا تختلف؛ فلذلك قال (صلى الله عليه وسلم) : (هاتان أهون وأيسر) أى: الاختلاف والفتنة أيسر من الاستئصال والانتقام بعذاب الله، وإن كانت الفتنة من عذاب الله لكن هى أخف؛ لأنها كفارة للمؤمنين، أعاذنا الله من عذابه ونقمه.
- باب مَنْ شَبَّهَ أَصْلا مَعْلُومًا بِأَصْلٍ مُبَيَّنٍ فَبَيَّنَ اللَّهُ حُكْمَهُمَا لِيُفْهِمَ السَّائِلَ
/ 41 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِى وَلَدَتْ غُلامًا(10/360)
أَسْوَدَ، وَإِنِّى أَنْكَرْتُهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ) ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَمَا أَلْوَانُهَا) ؟ قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: (هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ) ؟ قَالَ: إِنَّ فِيهَا لَوُرْقًا، قَالَ: (فَأَنَّى تُرَى ذَلِكَ جَاءَهَا) ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عِرْقٌ نَزَعَهَا، قَالَ: (وَلَعَلَّ هَذَا عِرْقٌ نَزَعَهُ) ، وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ فِى الانْتِفَاءِ مِنْهُ. / 42 - وفيه: بْن عَبَّاس، أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّى نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، فَمَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تَحُجَّ، أَفَأَحُجَّ عَنْهَا؟ قَالَ: (نَعَمْ، حُجِّى عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ) ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَقَالَ: (اقْضُوا اللَّهَ الَّذِى لَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ) . قال المؤلف: قوله: من شبه أصلا معلومًا بأصل مبين، فبين ليفهم السائل. هذا هو القياس بعينه والقياس فى لغة العرب: التشبيه والتمثيل، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) شبه له ما أنكر من لون الغلام بما عرف فى نتاج الإبل فقال له: (هل لك من إبل؟) إلى قوله: (لعل عرقًا نزعه) فأبان له (صلى الله عليه وسلم) بما يعرف أن الإبل الحمر تنتج الأورق أن كذلك المرأة البيضاء تلد الأسود، وكذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) للمرأة التى سألته الحج عن أمها فقال لها: (أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم. قال: فدين الله أحق بالوفاء) . فشبه لها (صلى الله عليه وسلم) دين الله بما يعرف من دين العباد، غير أنه قال لها: (فدين الله أحق) . وهذا كله هو عين القياس وبهذين الحديثين احتج المزنى على من أنكر القياس، قال أبو تمام المالكى: اجتمعت الصحابة على القياس، فمن ذلك أنهم أجمعوا على قياس الذهب على ورق فى الزكاة. وقال أبو بكر الصديق: أقيلونى بيعتى. فقال على: والله لا نقيلك، رضيك رسول الله لديننا، فلا نرضاك لدنيانا؟ فقياس الإمامة على الصلاة، وقياس الصديق الزكاة على الصلاة، وقال: والله لا أفرق بين(10/361)
ما جمع الله. وصرح على بالقياس فى شارب الخمر بمحضر الصحابة، وقال: إنه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى، فحده حد القاذف. وكذلك لما قال له الخوارج: لم حكمت؟ قال: قد أمر الله تعالى بالحكمين فى الشقاق الواقع بين الزوجين فما بين المسلمين أعظم. وهذا ابن عباس يقول: ألا اعتبروا، الأصابع بالأسنان اختلفت منافعها واستوت أورشها، وقال: ألا يتقى الله زيد، يجعل ابن الابن ابنًا، ولا يجعل أبا الأب أبًا، وكتب عمر بن الخطاب إلى أبى موسى الأشعرى يعلمه القضاء فقال له: اعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور عند ذلك. واختلف على وزيد فى قياس الجد على الإخوة، فقاسه علىّ بسبيل انشعبت منه شعبة ثم انشعبت من الشعبة شعبتان، وقاس ذلك زيد بشجرة انشعب منها غصن، وانشعب من الغصن غصنان. وقال ابن عمر: وقت النبى (صلى الله عليه وسلم) لأهل نجد قرنًا ولم يوقت لأهل العراق، فقال عمر: قيسوا من نحو العراق كنحو قرن. قال ابن عمر: فقاس الناس من ذات عرق. ولو ذكرنا كل ما قاسه الصحابة لكثر به الكتاب غير أنه موجود فى الكتب لمن ألهمه الله رشده، وقد قيل للنخعى: هذا الذى تفتى به أشيئًا سمعته؟ قال: سمعت بعضه فقست ما لم أسمع على ما سمعت. وربما قال: إنى لأعرف بالشىء الواحد مائة شىء. قال المزنى: فوجدنا بعد النبى (صلى الله عليه وسلم) أئمة الدين فهموا عن الله تعالى ما أنزل إليهم وعن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ما أوجب عليهم، ثم الفقهاء إلى اليوم هلم جرا، استعملوا المقاييس والنظائر فى أمر دينهم، فإذا ورد عليهم ما لم ينص عليه نظروا، فإن وجدوه مشبهًا لما سبق الحكم فيه من النبى (صلى الله عليه وسلم) أجروا حكمه عليه، وإن كان مخالفًا له(10/362)
فرقوا بينه وبينه، فكيف يجوز لأحد إنكار القياس؟ ولا ينكر ذلك إلا من أعمى الله قلبه وحبب إليه مخالفة الجماعة. قال المؤلف: وإنما أنكر القياس: النظام، وطائفة من المعتزلة، واقتدى بهم فى ذلك من ينسب إلى الفقه داود بن على، والجماعة هم الحجة ولا يلتفت إلى من شذ عنها.
- باب اجْتِهَادِ الْقُضَاةِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [المائدة: 44] وَمَدَحَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) صَاحِبَ الْحِكْمَةِ حِينَ يَقْضِى بِهَا وَيُعَلِّمُهَا لا يَتَكَلَّفُ مِنْ قِبَل نفسه، وَمُشَاوَرَةِ الْخُلَفَاءِ وَسُؤَالِهِمْ أَهْلَ الْعِلْمِ. / 43 - فيه: عَبْدِاللَّه، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا حَسَدَ إِلا فِى اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِى الْحَقِّ، وَآخَرُ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِى بِهَا وَيُعَلِّمُهَا) . / 44 - وفيه: الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: (سَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَنْ إِمْلاصِ الْمَرْأَةِ، هِىَ الَّتِى يُضْرَبُ بَطْنُهَا، فَتُلْقِى جَنِينًا، فَقَالَ: أَيُّكُمْ سَمِعَ مِنَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِيهِ شَيْئًا؟ فَقُلْتُ: أَنَا، فَقَالَ: مَا هُوَ؟ قُلْتُ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (فِيهِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ) ، فَقَالَ: لا تَبْرَحْ حَتَّى تَجِيئَنِى بِالْمَخْرَجِ فِيمَا قُلْتَ، فَخَرَجْتُ فَوَجَدْتُ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ، فَجِئْتُ بِهِ فَشَهِدَ مَعِى أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (فِيهِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ) . الاجتهاد فرض واجب على العلماء عند نزول الحادثة، والواجب على الحاكم أو العالم إذا كان من أهل الاجتهاد أن يلتمس حكم الحادثة فى الكتاب أو السنة، ألا ترى أن عمر ابن الخطاب لما احتاج إلى أن يقضى فى إملاص المرأة سأل الصحابة من عنده علم من النبي (صلى الله عليه وسلم) فى ذلك؟ فأخبره المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة(10/363)
بحكم النبي (صلى الله عليه وسلم) فى ذلك، فحكم به ولم يسغ له الحكم فى ذلك باجتهاده إلا بعد طلب النصوص من السنة، فإذا عدم النص رجع إلى الإجماع، فإن لم يجده نظر هل يصح حمل حكم الحادثة على بعض الأحكام المتقررة لعلة تجمع بينهما، فإن وجد ذلك لزمه القياس عليها إذا لم تعارضها علة أخرى. ولا فرق بين أن يجعل العلة مما هو من باب الحادثة أو غيره؛ لأن الأصول كلها يجب القياس عليها إذا صحت العلة، فإن لم يجد العلة استدل بشواهد الأصول وغلبة الأشباه إذا كان ممن يرى ذلك، فإن لم يتوجه له وجه من بعض هذه الطرق وجب أن يقر الأمر فى النازلة على حكم العقل، ويعلم أنه لا حكم لله فيها شرعيًا زائدًا على العقل. هذا قول ابن الطيب. قال غيره: وهذا هو الاستنباط الذى أمر الله عباده بالرجوع إلى العلماء فيه بقوله تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِى الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء: 83] ، والاستنباط هو الاستخراج، ولا يكون إلا فى القياس؛ لأن النص ظاهر جلى وليس يجوز أن يقال: إن عدم النص على الحادثة من كتاب الله أو سنة رسوله. يوجب حكم لله فيها لقوله تعالى: (مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَىْءٍ) [الأنعام: 38] ، إذ لو خلا بعض الحوادث أن تكون لا حكم لله فيها بطل إخباره إيانا بقوله: (مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَىْءٍ) [الأنعام: 38] ، وفى علمنا أن النصوص لم تحط بجميع الحوادث دلالة أن الله تعالى قد أبان لنا حكمها بغير جهة النص، وهو القياس على علة النص، ولو لم(10/364)
يتعبدنا الله إلا بما نص عليه فقط لمنع عباده الاستنباط الذى أباحه لهم، والاعتبار فى كتابه الذى دعاهم إليه، ولو نص على كل ما يحدث إلى قيام الساعة لطال الخطاب، وبعُد إدراك فهمه على المكلفين، بل كانت بنية الخلق تعجز عن حفظه، فالحكمة فيما فعل من وجوب الاجتهاد والاستنباط والحكم للأشياء بأشباهها ونظائرها فى المعنى، وهذا هو القياس الذى نفاه أهل الجهالة القائلون بالظاهر المنكرون للمعانى والعلل ويلزمهم التناقض فى نفيهم القياس؛ لأن أصلهم الذى بنوا عليه مذهبهم أنه لا يجوز إثبات فرض فى دين الله إلا بإجماع من الأمة، والاجتهاد والقياس فرض على العلماء عند عدم النصوص فيلزمهم أن يأتوا بإجماع من الأمة على إنكار القياس، وحينئذ يصح قولهم، ولا سبيل لهم إلى ذلك.
- باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ
/ 45 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَأْخُذَ أُمَّتِى بِأَخْذِ الْقُرُونِ قَبْلَهَا، شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَفَارِسَ وَالرُّومِ، فَقَالَ: وَمَنِ النَّاسُ إِلا أُولَئِكَ) . / 46 - وفيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، شِبْرًا شِبْرًا، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، قَالَ: فَمَنْ؟) .(10/365)
قال المهلب: قوله: (لتتبعن سنن من كان قبلكم) . بفتح السين هو أولى من ضمها؛ لأنه لا يستعمل الشبر والذراع إلا فى السنن وهو الطريق فأخبر (صلى الله عليه وسلم) أن أمته قبل قيام الساعة يتبعون المحدثات من الأمور، والبدع والأهواء المضلة كما اتبعتها الأمم من فارس والروم حتى يتغير الدين عند كثير من الناس، وقد أنذر (صلى الله عليه وسلم) فى كثير من حديثه أن الآخر شر، وأن الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق، وأن الدين إنما يبقى قائمًا عند خاصة من المسلمين لا يخافون العداوات، ويحتسبون أنفسهم على الله فى القول بالحق، والقيام بالمنهج القويم فى دين الله وفى رواية الأصيلى: (بما أخذ القرون) . وللنسفى وابن السكن: (بأخذ القرون) . وقال ثعلب: أخَذَ أَخْذ الجهة: إذا قصد نحوها.
- باب إِثْمِ مَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ أَوْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ (الآيَةَ [النحل: 25]
/ 47 - فيه: عَبْدِاللَّه، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَيْسَ مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ، الأوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ: مِنْ دَمِهَا لأنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ) . قال المهلب: فيه الأخذ بالمآل، والحديث على معنى الوعيد. وهذا الباب والذى قبله فى معنى التحذير من الضلال واجتناب البدع ومحدثات الأمور فى الدين، والنهى عن مخالفة سبيل المؤمنين المتبعين لسنة الله وسنة رسوله التى فيها النجاة.(10/366)
- باب مَا ذَكَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَحَضَّ عَلَى اتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْحَرَمَانِ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ، وَمَا كَانَ بِهَا مِنْ مَشَاهِدِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ، وَمُصَلَّى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَالْمِنْبَرِ وَالْقَبْرِ
/ 48 - فيه: جَابِر، أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَايَعَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) عَلَى الإسْلامِ. . . الحديث. فَقَالَ: أَقِلْنِى بَيْعَتِى. . . الحديث. فَقَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِى خَبَثَهَا، وَيَنْصَعُ طِيبُهَا) . / 49 - وفيه: ابْن عَبَّاس، كُنْتُ أُقْرِئُ عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، فَلَمَّا كَانَ آخِرُ حَجَّةٍ حَجَّهَا عُمَرُ، فَقَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بِمِنًى: لَوْ شَهِدْتَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتَاهُ رَجُلٌ قَالَ: إِنَّ فُلانًا يَقُولُ: لَوْ مَاتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَبَايَعْنَا فُلانًا، فَقَالَ عُمَرُ: لأقُومَنَّ الْعَشِيَّةَ، فَأُحَذِّرَ هَؤُلاءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ، قُلْتُ: لا تَفْعَلْ، فَإِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ النَّاسِ يَغْلِبُونَ عَلَى مَجْلِسِكَ، فَأَخَافُ أَنْ لا يُنْزِلُوهَا عَلَى وَجْهِهَا، فَيُطِيرُ بِهَا كُلُّ مُطِيرٍ، فَأَمْهِلْ حَتَّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ دَارَ الْهِجْرَةِ وَدَارَ السُّنَّةِ، فَتَخْلُصَ بِأَصْحَابِ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ، فَيَحْفَظُوا مَقَالَتَكَ، وَيُنْزِلُوهَا عَلَى وَجْهِهَا. . . الحديث. / 50 - وفيه: مُحَمَّد، كُنَّا عِنْدَ أَبِى هُرَيْرَةَ، وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ مُمَشَّقَانِ مِنْ كَتَّانٍ فَتَمَخَّطَ، فَقَالَ: بَخْ بَخْ أَبُو هُرَيْرَةَ، يَتَمَخَّطُ فِى الْكَتَّانِ، لَقَدْ رَأَيْتُنِى وَإِنِّى لأخِرُّ فِيمَا بَيْنَ مِنْبَرِ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) وَحُجْرَةِ عَائِشَةَ مَغْشِيًّا عَلَيه، فَيَجِىءُ الْجَائِى فَيَضَعْ رِجْلَهُ عَلَى عُنُقِى، وَيُرَى أَنِّى مَجْنُونٌ، وَمَا بِى مِنْ جُنُونٍ مَا بِى إِلا الْجُوعُ. / 51 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قيل له: أَشَهِدْتَ الْعِيدَ مَعَ النَّبِيِّ - عليه السلام -؟ قَالَ:(10/367)
نَعَمْ، وَلَوْلا مَنْزِلَتِى مِنْهُ مِنَ الصِّغَرِ مَا شَهِدْتُهُ، فَأَتَى الْعَلَمَ الَّذِى عِنْدَ دَارِ كَثِيرِ بْنِ الصَّلْتِ، فَصَلَّى، وَخَطَبَ. . . الحديث. / 52 - وفيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَأْتِى قُبَاءً رَاكِبًا وَمَاشِيًا. / 53 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ لِعَبْدِاللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: ادْفِنِّى مَعَ صَوَاحِبِى، وَلا تَدْفِنِّى مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِى الْبَيْتِ، فَإِنِّى أَكْرَهُ أَنْ أُزَكَّى. / 54 - وفيه: أَنَّ عُمَرَ أَرْسَلَ إِلَى عَائِشَةَ: ائْذَنِى لِى أَنْ أُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَىَّ، فَقَالَتْ: إِى وَاللَّهِ، قَالَ: وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَرْسَلَ إِلَيْهَا مِنَ الصَّحَابَةِ، قَالَتْ: لا وَاللَّهِ، لا أُوثِرُهُمْ بِأَحَدٍ أَبَدًا. / 55 - وفيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يُصَلِّى الْعَصْرَ، فَيَأْتِى الْعَوَالِىَ، وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ. وَقَالَ يُونُسَ: وَبُعْدُ الْعَوَالِىَ أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ أَوْ ثَلاثَةٌ. / 56 - وفيه: السَّائِب، كَانَ الصَّاعُ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) مُدًّا وَثُلُثًا بِمُدِّكُمُ الْيَوْمَ، وَقَدْ زِيدَ فِيهِ. / 57 - وفيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِى مِكْيَالِهِمْ، وَبَارِكْ لَهُمْ فِى صَاعِهِمْ وَمُدِّهِمْ) ، يَعْنِى أَهْلَ الْمَدِينَةِ. / 58 - وفيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ زَنَيَا، فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا قَرِيبًا مِنْ حَيْثُ تُوضَعُ الْجَنَائِزُ عِنْدَ الْمَسْجِدِ. / 59 - وفيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) طَلَعَ لَهُ أُحُدٌ، فَقَالَ: (هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ، اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَإِنِّى أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا) . / 60 - وفيه: سَهْلٍ، أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ جِدَارِ الْمَسْجِدِ مِمَّا يَلِى الْقِبْلَةَ وَبَيْنَ الْمِنْبَرِ مَمَرُّ الشَّاةِ.(10/368)
/ 61 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي) . / 62 - وفيه: ابْن عُمَرَ، سَابَقَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بَيْنَ الْخَيْلِ، فَأُرْسِلَتِ الَّتِى ضُمِّرَتْ مِنْهَا، وَأَمَدُهَا إِلَى الْحَفْيَاءِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ، وَالَّتِى لَمْ تُضَمَّرْ أَمَدُهَا ثَنِيَّةُ الْوَدَاعِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِى زُرَيْقٍ. / 63 - وفيه: ابْن عُمَرَ، سَمِعْتُ عُمَرَ عَلَى مِنْبَرِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . / 64 - وفيه: أن السَّائِبُ، سَمِعَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ خَطَبَنَا عَلَى مِنْبَرِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . / 65 - وفيه: عَائِشَةَ، كَانَ يُوضَعُ لِى وَلِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) هَذَا الْمِرْكَنُ، فَنَشْرَعُ فِيهِ جَمِيعًا. / 66 - وفيه: أَنَس، حَالَفَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بَيْنَ الأنْصَارِ وَقُرَيْشٍ فِى دَارِى الَّتِى بِالْمَدِينَةِ، وَقَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ بَنِى سُلَيْمٍ. / 67 - وفيه: أَبُو بُرْدَةَ، قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ، فَلَقِيَنِى عَبْدُاللَّهِ بْنُ سَلامٍ، فَقَالَ لِى: انْطَلِقْ إِلَى الْمَنْزِلِ، فَأَسْقِيَكَ فِى قَدَحٍ شَرِبَ فِيهِ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) وَتُصَلِّى فِى مَسْجِدٍ صَلَّى فِيهِ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، فَسَقَانِى سَوِيقًا، وَأَطْعَمَنِى تَمْرًا، وَصَلَّيْتُ فِى مَسْجِدِهِ. / 68 - وفيه: عُمَرَ، أن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (أَتَانِى اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّى، وَهُوَ بِالْعَقِيقِ، أَنْ صَلِّ فِى هَذَا الْوَادِى الْمُبَارَكِ، وَقُلْ: عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ) . وروى (عُمْرَةٌ فِى حَجَّةٍ) . / 69 - وفيه: ابْن عُمَرَ، أن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) أُرِىَ وَهُوَ فِى مُعَرَّسِهِ بِذِى الْحُلَيْفَةِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ بِبَطْحَاءَ مُبَارَكَةٍ.(10/369)
/ 70 - وفيه: ابْن عُمَرَ، وَقَّتَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) قَرْنًا لأهْلِ نَجْدٍ، وَالْجُحْفَةَ لأهْلِ الشَّأْمِ، وَذَا الْحُلَيْفَةِ لأهْلِ الْمَدِينَةِ، وَبَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (وَلأهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمُ، وَذُكِرَ له الْعِرَاقُ؟ فَقَالَ: (لَمْ يَكُنْ عِرَاقٌ يَوْمَئِذٍ) . قال المهلب: غرضه فى هذا الباب تفضيل المدينة بما خصها الله به من معالم الدين، وأنها دار الوحى ومهبط الملائكة بالهدى والرحمة، وبقعة شرفها الله بسكنى رسوله وجعل فيه قبره ومنبره وبينهما روضة من رياض الجنة، وجعلها كالكير تنفى خبث الفضة وتخلص من بقى فيها من أن يشوبهم ميل عن الحق، ألا ترى قول ابن عوف لعمر بن الخطاب: إنها دار الهجرة والسنة، وإن أهلها أصحاب النبى الذين خصهم الله بفهم العلم وقوة التمييز والمعرفة بإنزال الأمور منازلها. وأما حديث أبى هريرة فإنما ذكر وقوعه بين المنبر وحجرة عائشة الذّين هما من معالم الدين وروضة من رياض الجنة، إعلامًا منه بصبره على الجوع فى طلب العلم، ولزوم النبى (صلى الله عليه وسلم) حتى حفظ من العلم ما كان حجة على الآفاق ببركة صبره على المدينة. فأما قول ابن عباس: شهدت العيد ولولا مكانى من الصغر ما شهدته. فمعناه: أن صغير أهل المدينة وكبيرهم ونسائهم وخدمهم ضبطوا العلم والسنن معاينة منهم فى مواطن العمل من شارعها المبين عن الله تعالى وليس لغيرهم هذه المنزلة. وأما إتيان النبى (صلى الله عليه وسلم) قُباء فمعناه: معاينة النبى ماشيًا وراكبًا فى قصده مسجد قباء، وهو معلم من معالم الفضل ومشهد من مشاهده (صلى الله عليه وسلم) وليس ذلك لغير المدينة.(10/370)
وأما حديث عائشة وأمرها أن تدفن مع صواحبها كراهة أن تزكى بالدفن فى بيتها مع النبى (صلى الله عليه وسلم) وصاحبيه؛ لئلا يظن أحد أنها أفضل الصحابة بعد النبى وصاحبيه، ألا تسمع قول مالك للرشيد حين سأله عن منزلة أبى بكر وعمر من النبى فى حياته، فقال له: منزلتهما منه فى حياته كمنزلتهما منه بعد مماته. فزكاهما بالقرب منه فى البقعة المباركة والتربة التى خلق الله منها خير البرية، وأعاده فيها بعد مماته. فقام لمالك الدليل من دفنهما معه على أنهما أفضل الصحابة لاختصاصهما بذلك. وقد احتج الأبهرى على أن المدينة أفضل من مكة، فإن النبى (صلى الله عليه وسلم) مخلوق من تربة المدينة، وهو أفضل البشر؛ فكانت تربته أفضل الترب. قال المهلب: وأما حديث أنس أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان يصلى العصر فيأتى العوالى والشمس مرتفعة فمعناه: أن بين العوالى ومسجد المدينة للماشى معلم من معالم ما بين الصلاتين يستغنى الماشى فيها يوم الغيم عن معرفة الشمس، وذلك معدوم فى سائر الأرض، فإذا كانت مقادير الزمان معينة بالمدينة لمكان بادٍ للعيان ينقله العلماء إلى أهل الآفاق ليتمثلوه فى أقاصى البلدان، فكيف يساويهم أهل بلدة غيرها، وكذلك دعاؤه لهم بالبركة فى مكيالهم خصهم من بركة دعوته ما اضطر أهل الآفاق إلى القصد إلى المدينة فى ذلك المعيار المدعو له بالبركة، ليمتثلوه ويجعلوه سنة فى معاشهم وما فرض الله عليهم فى عيالهم، وظهرت البركة لأهل كل بلدة فى ذلك المكيال. وأما رجمه اليهوديين عند موضع الجنائز، فإن الموضع قد صار علمًا(10/371)
لإقامة الحدود وللصلاة على الجنائز خارج المسجد، وبه قال مالك فهمًا من الحديث. وأما قوله: (هذا جبل يحبنا ونحبه) فمحبته للجبل توجب له بركة ترغب فى مجاورته لها، وعلى هذا التأويل تكون محبته للجبل ومحبة الجبل له حقيقة لا مجازًا بأن يحدث الله فى الجبل محبة، ويكون ذلك من آيات نبوته، وقيل فيه وجه آخر: أن قوله: (هذا جبل يحبنا ونحبه) . هو على المجاز يريد أهل الجبل كقوله: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِى كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ) [يوسف: 82] ، يريد أهل القرية. وأما مقدار ممر الشاة بين الجدار والمنبر، فذلك معلم للناس وسنة ممتثلة فى موضع المنابر ليدخل إليها من ذلك الموضع فينقض من القبر وينظف. وأما ذكر مدى ما بين الحفياء وثنية الوداع، فمسافة ذلك سنة ممتثلة ميدانًا لخيل الله المضمرة. وأما خطبة عمر، وعثمان على منبر النبى (صلى الله عليه وسلم) فإن ذلك سنة ممتثلة، فإن الخطبة تكون على المنابر لا بجانبها ليوصل الموعظة إلى أسماع الناس إذا أشرف عليهم، وكذلك مركن الماء الذى كانت تشرع فيه عائشة مع النبى (صلى الله عليه وسلم) للغسل، ومقدار ما يكفيها من الماء سنة، ولا يوجد ذلك المركن إلا بالمدينة، وكذلك موضع مخالفته (صلى الله عليه وسلم) بين قريش والأنصار بالمدينة معروف ثبتت ببقائه جواز المحالفة فى الإسلام على أمر الدين والتعاضد فيه على المخالفين، وقد ذكر فى كتاب الأدب ما يجوز من الحلف في الإسلام(10/372)
وما لا يجوز، في باب الإخاء والحلف، فتأمله فيه، وكذلك قدحه (صلى الله عليه وسلم) ومكان صلاته لا يوجد فى غير المدينة، وكذلك وادى العقيق المبارك يوحى الله إلى رسوله وأن الله أنزل فيه بركة إحلال الاعتمار فى أشهر الحج، وكان محرمًا قبل ذلك على الأمم، وأمره بالصلاة فيه لبركته، وليس ذلك مأمورًا به إلا فى هذا الوادى الذى يقصده أهل الآفاق للصلاة فيه والتبرك به. وكذلك توقيت النبى (صلى الله عليه وسلم) المواقيت لأهل الآفاق معالم للحج وللعمرة رفقًا من الله بعباده وتيسيرًا عليهم مشقة الإحرام من كل فج عميق، فهذه بركة من الله فى الحجاز موقوفة للعباد وليست فى غيره من البلاد، وفى جعل الله بطحاء العقيق المباركة مهلا للنبى (صلى الله عليه وسلم) ولأهل المدينة، وهى آخر جزائر المدينة، على رأس عشرة أيام من مكة وغيرها من المواقيت على رأس ثلاثة أيام من مكة فضل كبير ولأهل المدينة؛ لحمله تعالى عليهم من مشقة الإحرام أكثر مما حمل على غيرهم، وذلك لعلمه بتبصرهم على العبادة واحتباسهم لتحملها. وكذلك صبرهم على لأواء المدينة وشدتها حرصًا على البقاء فى منزل الوحى ومثبت الدين؛ ليكون الناس فى موازنهم إلى يوم القيامة كما صاروا فى موازنهم بإدخالهم أولا فى الدين؛ لما وضع فيهم من القوة والشجاعة التى تعاطوا بها مقارعة أهل الدنيا، وضمنوا عن أنفسهم نصرة نبى الهدى فوفى الله بضمانهم على أعدائهم، وتمت كلمة ربك ودينه بهم فكانوا أفضل الناس؛ لقربهم من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وعلمهم بأحوالهم وأحكامه وآدابه وسيره.(10/373)
ووجب لمن كان على مذاهب أهل المدينة حيث كان من أهل الأرض نصيب وافر من بركة المدينة واستحقوا أن يكونوا من أهلها لاتباعهم سنن رسوله الثابتة عندهم من علمائهم والمتبعين لهم بإحسان قال تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [التوبة: 100] ، والمرء مع من أحب. ووجب أيضًا أن يكون لأهل مكة من ذلك نصيب؛ لأن عندهم معالم فريضة الحج كلها، وقد عاينوا من صلاته وأقواله (صلى الله عليه وسلم) فى المرات التى دخلها ما صاروا به عالمين، ولهم من بركة ذلك نصيب وافر وحظ جزيل، وقد اختلف أهل العلم فيما هم فيه أهل المدينة حجة على غيرهم من الأمصار، فكان الأبهرى يقول: أهل المدينة حجة على غيرهم من طريق الاستنباط، ثم رجع فقال: قولهم من طريق النقل أولى من طريق غيرهم، وهم وغيرهم سواء فى الاجتهاد. وهذا قول الشافعى. وذهب أبو بكر بن الطيب إلى أن قولهم أولى من طريق الاجتهاد والنقل جميعًا. وذهب أصحاب أبى حنيفة إلى أنهم ليسوا حجة على غيرهم لا من طريق النقل، ولا من طريق الاجتهاد، واحتج من قال: هم أولى بالاجتهاد من غيرهم بأنهم شاهدوا التنزيل وأقاويل النبى (صلى الله عليه وسلم) وعرفوا معانى خطابه وفحوى كلامه، فلذلك هم أولى من غيرهم بالاستنباط. واحتج أصحاب الشافعى فقالوا: من قال هذا القول فقد قال بالتقليد وقد أخذ علينا النظر فى أقاويل الصحابة والترجيح فى اختلافهم، فإذا قام لنا الدليل على أحد القولين وجب المصير إليه، وإذا صح هذا بطل التقليد، وإنما هم أولى من غيرهم من طريق النقل لصحة عدالتهم ومعاينتهم التنزيل ومشاهدتهم للعمل فأما الاستنباط فالناس فيه كلهم سواء.(10/374)
وقوله بخ بخ: كلمة تقال عند الإعجاب بالتخفيف والتثقيل. والمركن: شبيه تور من خزف يستعمل للماء.
- باب قَوله تَعَالَى: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَىْءٌ) [آل عمران: 128]
/ 71 - فيه: ابْن عُمَرَ، سَمِعَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ فِى صَلاةِ الْفَجْرِ وَرَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، قَالَ: (اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، فِى الأخِيرَةِ) ، ثُمَّ قَالَ: (اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلانًا وَفُلانًا) ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَىْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ () [آل عمران: 128] . قوله: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَىْءٌ) [آل عمران: 128] ، يعنى ليس لك من أمر خلقى شىء، وإنما أمرهم والقضاء فيهم بيدى دون غيرى فيهم، وأقضى الذى أشاء من التوبة على من كفر بى وعصانى أو العذاب: إما فى عاجل الدنيا بالقتل والنقم، وإما فى الآجل بما أعددت لأهل الكفر بى. ففى هذا من الفقه أن الأمور المقدرة لا تغير عما أحكمت عليه؛ لقوله: (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ) [ق: 29] ، وقوله: (يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء (فإنما هو فى النسخ أى: ينسخ مما أمر به ما يشاء،) وَيُثْبِتُ (أى: ويبقى من أمره ما يشاء. وعن ابن عباس، وقتادة، وغيرهما. وقيل: (يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء (مما يكتبه الحفظة على العباد مما لم يكن خيرًا أو شراَ كل يوم اثنين وخميس، ويثبت ما سوى ذلك. وعن ابن عباس أيضًا: (يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ (أى من آتى أجله محى، ومن لم يمض أجله أُثبت، وعن الحسن.) وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) [الرعد: 39] ، يعنى أصل الكتاب وهو اللوح المحفوظ.(10/375)
والدعاء جائز من جميع الأمم، لكن ما ختم الله به من الأقدار على ضربين: منه ما قدر وقضى، وإذا دعى وتضرع إليه صرف البلاء، وضرب آخر: وهو الذى فى هذا الحديث الذى ختم بإمضائه، وقال لنبيه: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَىْءٌ) [آل عمران: 128] فى الدعاء على هؤلاء؛ لأن منهم من قد قضيت له بالتوبة، ومنهم من قد قضيت عليه بالعقاب فلابد منه لكن لانفراد الله بالمشيئة، وتعذر علم ذلك على العقول جاز الدعاء لله تعالى إذ الدعوة من أوصاف العبودية، فعلى العبد التزامها، ومن صفة العبودية الضراعة والمسكنة، ومن صفة الملك الرأفة والرحمة، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يقولن أحدكم: اللهم ارحمنى إن شئت، وليعزم المسألة، فإنه لا مكره له) إذ كان السائل إنما يسأل الله من حيث له أن يفعل لا من حيث له ترك الفعل، وهذا الباب وإن كان متعلقًا بباب القدر فله مدخل فى كتاب الاعتصام لدعاء النبى (صلى الله عليه وسلم) لهم إلى الإيمان الذى الاعتصام به يمنعهم القتل ويحقن الدم.
- باب قَول اللَّه تَعَالَى: (وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَىْءٍ جَدَلا (وَقَوْلِهِ: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ (الآية [العنكبوت: 46]
/ 72 - فيه: عَلِىّ، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ ابِنْة النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ لَهُمْ: (أَلا تُصَلُّونَ) ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ، فَإِذَا شَاءَ(10/376)
أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا، فَانْصَرَفَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ شَيْئًا، وَهُوَ مُدْبِرٌ، يَضْرِبُ فَخِذَهُ، وَيَقُولُ: (وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَىْءٍ جَدَلا) [الكهف: 54] . / 73 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (انْطَلِقُوا إِلَى يَهُودَ) ، فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى جِئْنَا، بَيْتَ الْمِدْرَاسِ، فَنَادَاهُمْ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَا مَعْشَرَ الْيَهُودَ، أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا) ، قالها ثلاثًا، فَقَالُوا: قَدْ بَلَّغْتَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَقَالَ: (ذَلِكَ أُرِيدُ، أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا) ، قَالَهَا ثلاثًا، فَقَالَ: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الأرْضُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَنِّى أُرِيدُ أَنْ أُجْلِيَكُمْ مِنْ هَذِهِ الأرْضِ، فَمَنْ وَجَدَ مِنْكُمْ بِمَالِهِ شَيْئًا فَلْيَبِعْهُ، وَإِلا فَاعْلَمُوا أَنَّمَا الأرْضُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) . قال المهلب: الجدال موضوعه فى اللغة المدافعة، فمنه مكروه، ومنه حسن، فما كان منه تثبيتًا للحقائق وتثبيتًا للسنن والفرائض، فهو الحسن وما كان منه على معنى الاعتذار والمدافعات للحقائق فهو المذموم. وأما قول على فهو من باب المدافعة، فاحتج عليه النبى (صلى الله عليه وسلم) بقوله تعالى: (وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَىْءٍ جَدَلا) [الكهف: 54] . وقال غيره: وجه هذه الآية فى كتاب الاعتصام أن النبى (صلى الله عليه وسلم) عرض على على وفاطمة الصلاة فاحتج عليه على بقوله: إنما أنفسنا بيد الله. فلم يكن له أن يدفع ما دعاه النبى إليه بقوله هذا بل كان الواجب عليه قبول ما دعاه إليه، وهذا هو نفس الاعتصام بسنته (صلى الله عليه وسلم) ؛ فلأجل تركه الاعتصام بقبول ما دعاه إليه من الصلاة قال تعالى: (وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَىْءٍ جَدَلا) [الكهف: 54] ، ولا حجة لأحد فى ترك أمر الله، وأمر رسوله بمثل ما احتج به على. وأما حديث أبى هريرة، فموضع الترجمة منه أن اليهود لما بلغهم النبي (صلى الله عليه وسلم)(10/377)
ما لزمهم العمل به والإيمان بموجبه قالوا له: قد بلغت يا أبا القاسم. رادين لأمره فى عرضه عليهم الإيمان، فبالغ فى تبليغهم، وقال: ذلك أريد. ومن روى (ذلك أريد) بمعنى: أريد بذلك بيانًا بتكرير التبليغ، وهذه مجادلة من النبى (صلى الله عليه وسلم) لأهل الكتاب بالتى هى أحسن. وقد اختلف العلماء فى تأويل هذه الآية، فقالت طائفة: هى محكمة، ويجوز مجادلة أهل الكتاب بالتى هى أحسن على معنى الدعاء لهم إلى الله والتنبيه على حججه وآياته رجاء إجابتهم إلى الإيمان وقوله تعالى: (إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [البقرة: 150] ، معناه: إلا الذين نصبوا للمؤمنين الحرب، فجادلوهم بالسيف حتى يُسلموا أو يعطوا الجزية. هذا قول مجاهد، وسعيد بن جبير. وقال ابن زيد: معناه: ولا تجادلوا أهل الكتاب. يعنى: إذا أسلموا وأخبروكم بما كان فى كتبهم. إلا بالتى هى أحسن: فى المخاطبة، إلا الذين ظلموا: بإقامتهم على الكفر فخاطبوهم بالشر، وقال: وهى محكمة. وقال قتادة: هى منسوخة بآية القتال.
- باب قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا (وَمَا أَمَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ
. / 74 - فيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يُجَاءُ بِنُوحٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، يَا رَبِّ، فَتُسْأَلُ أُمَّتُهُ، هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا جَاءَنَا مِنْ نَذِيرٍ، فَيَقُولُ: مَنْ يشهد لك؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ، فَقَالَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (فَيُجَاءُ بِكُمْ فَتَشْهَدُونَ) ،(10/378)
ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) [البقرة: 143] أى عَدْلا، إلى قوله: (شَهِيدًا) [البقرة: 143] . (معنى هذا الباب) الاعتصام بالجماعة، ألا ترى قوله: (لِّتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ) [البقرة: 143] ، ولا يجوز أن يكونوا شهداء غير مقبولى القول، ولما كان الرسول واجبًا اتباعه وجب اتباع قولهم؛ لأن الله جمع بينه وبينهم فى قبول قولهم وزكاهم وأحسن الثناء عليهم بقوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) [البقرة: 143] يعنى عدلاً. والاعتصام بالجماعة كالاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) ؛ لقيام الدليل على توثيق الله ورسوله صحة الإجماع وتحذيرهما من مفارقته بقوله تعالى: (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى) [النساء: 115] الآية، وقوله: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران: 110] الآية. وهاتان الآيتان قاطعتان على أن الأمة لا تجتمع على ضلال، وقد أخبر الرسول بذلك فهمًا من كتاب الله فقال: (لا تجتمع أمتى على ضلال) ولا يجوز أن يكون أراد جميعها من عصره إلى قيام الساعة؛ لأن ذلك لا يفيد شيئًا؛ إذ الحكم لا يعرف إلا بعد انقراض جميعها، فعلم أنه أراد أهل الحل والعقد من كل عصر.(10/379)
- باب إِذَا اجْتَهَدَ الْعَامِلُ أَوِ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ خِلافَ الرَّسُولِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ فَحُكْمُهُ مَرْدُودٌ، لِقَوله (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ عَمِلَ عَمَلا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ
/ 75 - فيه: أَبُو سَعِيد، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) بَعَثَ أَخَا بَنِي عَدِيٍّ الأنْصَارِيَّ، إِلَى خَيْبَرَ، وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى خَيْبَرَ، فَقَدِمَ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا) ؟ قَالَ: لا، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَنَشْتَرِى الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ مِنَ الْجَمْعِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَفْعَلُوا، وَلَكِنْ مِثْلا بِمِثْلٍ أَوْ بِيعُوا هَذَا، وَاشْتَرُوا بِثَمَنِهِ مِنْ هَذَا، وَكَذَلِكَ الْمِيزَانُ) . قد تقدم هذا الباب فى كتاب الأحكام وفى كتاب الاعتصام ومعناه أن الواجب على من حكم بغير السنة جهلا وغلطًا، ثم تبين له أن سنة الرسول خلاف حكمه فإن الواجب عليه الرجوع إلى حكم السنة وترك ما خالفها امتثالا لأمره تعالى بوجوب طاعته وطاعة رسوله ألا يحكم بخلاف سنته، وهذا هو نفس الاعتصام بالسنة، وقد تقدم فيه، وأن الرسول أمر برد هذا البيع فى البيوع. وقوله: (وكذلك الميزان) معناه: وكذلك ما يوزن أن يباع مثلا بمثل مثل ما يكال.(10/380)
- باب أَجْرِ الْحَاكِمِ إِذَا اجْتَهَدَ فَأَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ
/ 76 - فيه: عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ، ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ، ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ) . قال ابن المنذر: وإنما يكون الأجر للحاكم المخطئ إذا كان عالمًا بالاجتهاد والسنن، وأما من لم يعلم ذلك فلا يدخل فى معنى الحديث، يدل على ذلك ما رواه الأعمش، عن سعيد ابن عبيدة، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (القضاة ثلاثة: قاضيان فى النار، وقاض فى الجنة، فقاض قضى بغير الحق وهو يعلم، فذلك فى النار، وقاض قضى وهو لا يعلم فأهلك حقوق الناس فذلك فى النار، وقاض قضى بالحق، فذلك فى الجنة) . قال ابن المنذر: إنما يؤجر على اجتهاده فى طلب الصواب لا على الخطأ، ومما يؤيد هذا قوله تعالى: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ) [الأنبياء: 78] الآية. قال الحسن: أثنى على سليمان ولم يذم داود. وذكر أبو التمام المالكى أن مذهب مالك أن الحق فى واحد من أقاويل المجتهدين، وليس ذلك فى جميع أقاويل المتخلفين وبه قال أكثر الفقهاء. قال: وحكى ابن القاسم أنه سأل مالكًا عن اختلاف الصحابة، فقال: مخطئ ومصيب وليس الحق فى جميع أقاويلهم. قال أبو بكر ابن الطيب: اختلفت الروايات عن أئمة الفتوى فى هذا الباب كمالك وأبى حنيفة والشافعى: فأما مالك، فالمروى عنه منعه المهدى من حمله الناس على العمل والفتيا بما فى الموطأ، وقال له: دع الناس يجتهدون وظاهر هذا إيجابه على كل مجتهد القول بما يؤديه الاجتهاد إليه، ولو رأى أن الحق فى قوله فقط، أو قطع عليه لكان الواجب عليه(10/381)
المشورة على السلطان بالعمل به، ويبعد أن يعتقد مالك أن كل مجتهد مأمور بالحكم والفتيا باجتهاده، وإن كان مخطئًا فى ذلك، وذكر عن أبى حنيفة والشافعى القولين جميعًا. واحتج من قال: إن الحق فى واحد من أقاويل المجتهدين بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر) . قالوا: وهذا نص على أن فى المجتهدين وفى الحاكمين مخطئًا ومصيبًا، قالوا: والقول بأن كل مجتهد مصيب يؤدى إلى كون الشىء حلالا حرامًا وواجبًا ندبًا ويلزم الحاكم اعتقاد كونه حلالا إذا رأى ذلك بعض أهل الاجتهاد، وحرامًا إذا رأى ذلك غيره، وأن تكون الزوجة محللة محرمة، والمال ملك الإنسان وغير ملك له إذا اختلف فى ذلك أهل الاجتهاد. واحتج كل من قال: كل مجتهد مصيب، فقالوا: اتفق الكل من الفقهاء على أن فرض كل عالم الحكم والفتيا بما أداه الاجتهاد إليه، وما هو الحق عنده وفى غالب ظنه، وأنه حرام عليه أن يفتى ويحكم بقول مخالفه، ولو كان فى الأقاويل المختلف فيها ما هو خطأ وخلاف دين الله لم يجز أن تجمع الأمة على أن فرض القائل به؛ لأن إجماعها على ذلك إجماع على خطأ، وقد نهى الله عنه وشرع خلافه. ولو جاز أن يكون أحدهما مخطئًا لأدى ذلك إلى أن الله تعالى أمر أحدهما بإصابة عين الباطل، وفى هذا القولُ بأن الله أمر بالباطل، وإذا فسد هذا مع كونه مأمورًا بالاجتهاد وجب كونه بفتياه ممتثلا أمر ربه وطائعًا له ومصيبًا عند الله، فثبت أن الحق مع كل واحد منهما بدليل قوله تعالى: (إِنَّ اللهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء) [الأعراف: 28] ، ومع قيام الدليل على أن طاعة البارى إنما كانت طاعة لأمره بها كما أن المعصية كانت معصية لنهيه عنها.(10/382)
وقد أجاب الشافعي عن هذا الحديث فى الرسالة بنحو هذا فقال: لو كان فى الاجتهاد خطأ وصواب فى الحقيقة لم يجز أن يثاب على أحدهما أكثر من الآخر؛ لأن الثواب لا يجوز فيما لا يسوغ ولا فى الخطأ الموضوع إثمه عنا. وقال ابن الطيب: هذا الخبر يدل على أن كل مجتهد مصيب أولى وأقرب؛ لأن المخطئ لحكم الله والحاكم بغيره مع الأمر له به لا يجوز أن يكون مأجورًا على الحكم بالخطأ بل أقصى حالاته أن يكون إثمه موضوعًا عنه فأما أن يكون بمخالفة حكم الله مأجورًا فإنه باطل باتفاق، والنبى (صلى الله عليه وسلم) قد جعله مأجورًا، فدل ذلك على أن هذا ليس بخطأ فى شىء من الأحكام وجب عليه ولزمه الحكم به. ويحتمل أن يكون معناه إذا اجتهد فى البحث والطلب للنص فأصابه وحكم بموجبه فله أجران: أحدهما على البحث والطلب، والآخر على الحكم بموجبه، وأراد بقوله: (إن حكم فأخطأ) أى: أخطأ الخبر، بأن لم يبلغه مع الاجتهاد فى طلبه، ثم حكم باجتهاده المخالف لحكم النص كان مخطئًا للنص ومصيبه لا محالة فى الحكم؛ لأن الحكم بالاجتهاد عند ذلك هو فرضه. ولهذا كان يقول عمر عندما كان يبلغه الخبر: لولا هذا لقضينا فيه برأينا، ولم يقل له أحد من الصحابة: لو قضيت فيه برأيك ولم يبلغك الخبر لكنت بذلك عاصيًا، ولم أردت أن تقضى بالرأى وهذا الخبر كان موجودًا، فدل إمساك الكل عن ذلك أن فرض الحاكم والمجتهد الحكم والفتيا برأيه، وإن خالف موجب الخبر، فإذا بلغه تغيرَ عند ذلك فرضُه ولزمه الحكم بموجبه. ولا نقول: إن كل مجتهد مصيب إلا فى الفروع ومسائل الاجتهاد(10/383)
التي يجوز للعامى فيها التقليد، وأما القول بوجوب الصلوات الخمس والصيام والحج وكل فرض يثبت العمل به بالتواتر والاتفاق فأصل من أصول الدين الذى يحرم خلافه كالتوحيد والنبوة وما يتصل بها.
- باب الْحُجَّةِ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ أَحْكَامَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَتْ ظَاهِرَةً، وَمَا كَانَ يَغِيبُ بَعْضُهُمْ مِنْ مَشَاهِدِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَأُمُورِ الإسْلامِ
/ 77 - فيه: أَبُو مُوسَى أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى عُمَرَ، فَوَجَدَهُ مَشْغُولا، فَقَالَ عُمَرُ: أَلَمْ أَسْمَعْ صَوْتَ عَبْدِاللَّهِ بْنِ قَيْسٍ؟ ائْذَنُوا لَهُ، فَدُعِىَ لَهُ، فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: إِنَّا كُنَّا نُؤْمَرُ بِهَذَا، قَالَ: فَأْتِنِى عَلَى هَذَا بِبَيِّنَةٍ، أَوْ لأفْعَلَنَّ بِكَ، فَانْطَلَقَ إِلَى مَجْلِسٍ مِنَ الأنْصَارِ، فَقَالُوا: لا يَشْهَدُ إِلا أَصَاغِرُنَا، فَقَامَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىُّ، فَقَالَ: قَدْ كُنَّا نُؤْمَرُ بِهَذَا، فَقَالَ عُمَرُ: خَفِىَ عَلَىَّ هَذَا مِنْ أَمْرِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) أَلْهَانِى الصَّفْقُ بِالأسْوَاقِ. / 78 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) وَاللَّهُ الْمَوْعِدُ، إِنِّى كُنْتُ امْرًَا مِسْكِينًا أَلْزَمُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى مِلْءِ بَطْنِى، وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالأسْوَاقِ، وَكَانَتِ الأنْصَارُ يَشْغَلُهُمُ الْقِيَامُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، فَشَهِدْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ذَاتَ يَوْمٍ، وَقَالَ: (مَنْ يَبْسُطْ رِدَاءَهُ حَتَّى أَقْضِىَ مَقَالَتِى، ثُمَّ يَقْبِضْهُ، فَلَنْ يَنْسَى شَيْئًا سَمِعَهُ مِنِّى) ، فَبَسَطْتُ بُرْدَةً، كَانَتْ عَلَىَّ، فَوَالَّذِى بَعَثَهُ بِالْحَقِّ، مَا نَسِيتُ شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْهُ. هذا الباب يرد به على الرافضة وقوم من الخوارج زعموا بأن أحكام(10/384)
النبي وسننه منقولة عنه نقل تواتر، وأنه لا سبيل إلى العمل بما لم ينقل نقل تواتر، وقولهم فى غاية الجهل بالسنن وطرقها، فقد صحت الآثار أن أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) أخذ بعضهم السنن من بعض ورجع بعضهم إلى ما رواه غيره عن النبى (صلى الله عليه وسلم) وانعقد الإجماع على القول بالعمل بأخبار الآحاد، وبطل قول من خرج عن ذلك من أهل البدع، هذا أبو بكر الصديق على مكانه لم يعلم النص فى الجدة حتى أخبره محمد بن مسلمة والمغيرة بالنص فيها، فرجع إليه، وأخذ عمر بن الخطاب بما رواه عبد الرحمن بن عوف فى حديث الوباء، فرجع إليه، وكذلك أخذ أيضًا عمر بما رواه أبو موسى فى دية الأصابع، فرجع إليه وأخذ أيضًا عمر بما رواه المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة فى دية الجنين، ورجع عمر إلى أبى موسى وأبى سعيد فى الاستئذان، وابن عمر يحكى عن رافع بن خديج النهى عن المخابرة فرجع إليه، والصحابة ترجع إلى قول عائشة: (إذا التقى الختانان وجب الغسل) وأيضًا ترجع إليها فى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان يصبح جنبًا من جماع غير احتلام ثم يصوم. وأبو موسى يرجع إلى حديث ابن مسعود فى ابنة وابنة ابن وأخت وهذا الباب أكثر من أن يحصى.
- باب مَنْ رَأَى تَرْكَ النَّكِيرِ مِنَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) حُجَّةً لا مِنْ غَيْرِه
/ 79 - فيه: ابْن الْمُنْكَدِرِ، رَأَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِاللَّهِ، يَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّ ابْنَ الصَّائِدِ الدَّجَّالُ، قُلْتُ: تَحْلِفُ بِاللَّهِ؟ قَالَ: إِنِّى سَمِعْتُ عُمَرَ يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) .(10/385)
قال المؤلف: ترك النكير من النبى (صلى الله عليه وسلم) حجة وسنة يلزم أمته العمل بها لا خلاف بين العلماء فى ذلك؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لا يجوز أن يرى أحدًا من أمته يقول قولا أو يفعل فعلا محظورًا فيقره عليه لأن الله تعالى فرض عليه النهى عن المنكر، فإذا كان كذلك علم أنه لا يرى أحدًا عمل شيئًا فيقره عليه إلا وهو مباح له، وثبت أن إقرار النبى (صلى الله عليه وسلم) عمر على حلفه أن ابن صياد الدجال إثبات أنه الدجال، وكذلك فهم جابر بن عبد الله من يمين عمر. فإن اعترض بما روى من قول عمر للنبي: دعنى أضرب عنقه. فقال: (إن يكن هو فلن تسلط عليه، وإن لم يكن هو فلا خير لك فى قتله) فهذا يدل على شكه (صلى الله عليه وسلم) فيه، وترك القطع عليه أنه الدجال. قيل: عن هذا جوابان: أحدهما أنه يمكن أن يكون هذا الشك منه (صلى الله عليه وسلم) كان متقدمًا ليمين عمر أنه الدجال، ثم أعلمه الله أنه الدجال فلذلك ترك إنكار يمينه عليه لتيقنه بصحة ما حلف عليه. الوجه الآخر: أن الكلام وإن خرج مخرج الشك فقد يجوز أن يراد به التيقن والقطع كقوله: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر: 65] ، وقد علم تعالى أنه لا يقع منه الشرك، وإنما خرج منه هذا (صلى الله عليه وسلم) على المتعارف عند العرب فى تخاطبها. قال الشاعر: أيا ظبية الوعساء بين جلاجل بين النقا آأنت أم أم سالم(10/386)
فأخرج كلامه مخرج الشك مع كونه غير شاك فى أنها ليست بأم سالم، وكذلك خرج كلامه (صلى الله عليه وسلم) مخرج الشك لطفًا منه بعمر فى صرفه عن عزمه على قتله، وقد ذكر عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهرى، عن سالم، عن ابن عمر قال: لقيت ابن صياد يومًا ومعه رجل من اليهود، فإذا عينه قد طفت وهى خارجة مثل عين الجمل، فلما رأيتها قلت: أنشدك الله يا ابن صياد، متى طفت عينك؟ قال: لا أدرى والرحم. فقلت: كذبت، لا تدرى وهى فى رأسك؟ قال: فمسحها ونخر ثلاثًا فزعم اليهودي أني ضربت بيدي على صدره وقلت له: أخسأ فلن تعدو قدرك، فذكرت ذلك لحفصة فقالت: اجتنب هذا الرجل، فإنا نتحدث أن الدجال يخرج عند غضبة يغضبها. فإن قيل: هذا كله يدل على الشك فى أمره. قيل: إن وقع الشك فى أنه الدجال الذى يقتله عيسى ابن مريم (صلى الله عليه وسلم) ، فلم يقع الشك فى أنه أحد الدجالين الذين أنذر بهم النبي (صلى الله عليه وسلم) من قوله: (إن بين يدى الساعة دجالين كذابين أزيد من ثلاثين) فلذلك لم ينكر على عمر يمينه والله أعلم؛ لأن الصحابة قد اختلفوا فى مسائل: فمنهم من أنكر على مخالفة قوله، ومنهم من سكت عن إنكار ما خالف اجتهاده ومذهبه، فلم يكن سكوت من سكت رضا بقول مخالفه، إذ قد يجوز أن يكون الساكت لم يبين له وجه الصواب فى المسألة وأخرها إلى وقت آخر ينظر فيها، وقد يجوز أن يكون سكوته ليبين خلافها فى وقت آخر إذا كان ذلك أصلح فى المسألة. فإن اعترض أن سكوت البكر حجة عليها.(10/387)
قيل: ليس هذا بمفسد لما تقدم؛ لأن من شرط كون سكوتها حجة عليها تقديم الإعلام لها بذلك؛ فسكوتها بعد الإعلام أنه لازم لها رضا منها وإقرار.
- باب الأحْكَامِ الَّتِى تُعْرَفُ بِالدَّلائِلِ وَكَيْفَ مَعْنَى الدِّلالَةِ وَتَفْسِيرُهَا؟
وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَمْرَ الْخَيْلِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ سُئِلَ عَنِ الْحُمُرِ، فَدَلَّهُمْ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) [الزلزلة: 7] ، وَسُئِلَ عَنِ الضَّبِّ، فَقَالَ: (لا آكُلُهُ، وَلا أُحَرِّمُهُ) ، وَأُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) الضَّبُّ، فَاسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ. / 80 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (الْخَيْلُ لِثَلاثَةٍ: لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ. . .) ، الحديث وَسُئِلَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الْحُمُرِ، فَقَالَ: (مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَىَّ فِيهَا إِلا هَذِهِ الآيَةَ الْفَاذَّةَ الْجَامِعَةَ: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ () . / 81 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتِ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الْحَيْضِ، كَيْفَ تَغْتَسِلُ مِنْهُ؟ قَالَ: (تَأْخُذِينَ فِرْصَةً مُمَسَّكَةً، فَتَوَضَّئِينَ بِهَا) ، قَالَتْ: كَيْفَ أَتَوَضَّأُ بِهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (تَوَضَّئِى) ، قَالَتْ: كَيْفَ أَتَوَضَّأُ بِهَا؟ قَالَ: (تَوَضَّئِينَ بِهَا) ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَعَرَفْتُ الَّذِى يُرِيدُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَجَذَبْتُهَا إِلَىَّ فَعَلَّمْتُهَا. / 82 - وفيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ أُمَّ حُفَيْدٍ أَهْدَتْ إِلَى النَّبِىِّ - عليه السلام - سَمْنًا وَأَقِطًا وَأَضُبًّا،(10/388)
فَدَعَا بِهِنَّ النَّبيُِّ - عليه السلام - فَأُكِلْنَ عَلَى مَائِدَتِهِ، فَتَرَكَهُنَّ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) كَالْمُتَقَذِّرِ لَهُ، وَلَوْ كُنَّ حَرَامًا مَا أُكِل عَلَى مَائِدَتِهِ، وَلا أَمَرَ بِأَكْلِه) . / 83 - وفيه: جَابِر، قَالَ النَّبِيُّ - عليه السلام -: (مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلا، فَلْيَعْتَزِلْنَا، أَوْ لِيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا، وَلْيَقْعُدْ فِى بَيْتِهِ) ، وَإِنَّهُ أُتِىَ بِبَدْرٍ، قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: يَعْنِى طَبَقًا، فِيهِ خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ، فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا، فَسَأَلَ عَنْهَا، فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْبُقُولِ، فَقَالَ: (قَرِّبُوهَا) ، فَقَرَّبُوهَا إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ كَانَ مَعَهُ، فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا، قَالَ: (كُلْ، فَإِنِّى أُنَاجِى مَنْ لا تُنَاجِى) . وعَنِ ابْنِ وَهْبٍ: بِقِدْرٍ فِيهِ خَضِرَاتٌ. / 84 - وفيه: جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ، أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ النَّبِيّ - عليه السلام - وَكَلَّمَتْهُ بِشَىْءٍ فَأَمَرَهَا بِأَمْرٍ، فَقَالَتْ: أَرَأَيْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ لَمْ أَجِدْكَ؟ قَالَ: (إِنْ لَمْ تَجِدِينِى فَأْتِى أَبَا بَكْرٍ) . زَادَ الْحُمَيْدِىُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، كَأَنَّهَا تَعْنِى الْمَوْتَ. قال المهلب وغيره: هذا كله بيِّن فى جواز القياس والاستدلال وموضع الاستدلال على أن فى الحمر أجرًا قوله تعالى: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) [الزلزلة: 7] ، فحمل (صلى الله عليه وسلم) الآية على عمومها استدلالا بها. وأما استدلال ابن عباس أن الضب حلال على مائدته (صلى الله عليه وسلم) بحضرته، ولم ينكره ولا منع منه بقوله: (ولا أحرمه) . فيحتمل أن يكون استدلالا لا نصًا لاحتمال قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ولا أحرمه) الندب إلى ترك أكله، فلما أكل بحضرته استدل ابن عباس بذلك على أنه لم يحرمه ولا ندب إلى تركه، ويحتمل أن يكون نصًا؛ لأن قوله: (ولا أحرمه) فلا يتضمن الندب إلى ترك أكله فيكون نصًا في تحليله.(10/389)
وأما حديث الحائض فهو استدلال صحيح؛ لأن السائلة لم تفهم غرض النبي (صلى الله عليه وسلم) حين أعرض عن ذكر موضع الأذى والدم حياء منه (صلى الله عليه وسلم) ولم تدر أن التتبع لأثر الدم بالحرقة سمى توضؤًا ففهمت ذلك عائشة من إعراضه فهو استدلال صحيح. وأما حديث جابر فى الثوم والبصل فهو نص منه (صلى الله عليه وسلم) على جواز أكله بقوله: (كل، فإنى أناجى من لا تناجى) . وأما حديث المرأة فهو استدلال صحيح استدل النبى بظاهر قولها: فإن لم أجدك. أنها أرادت الموت، فأمرها بإتيان أبى بكر. قيل له: قد يمكن أنه اقترن بسؤالها إن لم أجدك؟ حالة من الأحوال، وإن لم يكن نقلها دلته (صلى الله عليه وسلم) على مرادها، فوكلها إلى أبى بكر، وفى هذا دليل على استخلاف أبى بكر، وقد أمر الله عباده بالاستدلال والاستنباط من نصوص الكتاب والسنة وفرض ذلك على العلماء القائمين به.
- باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَىْءٍ
/ 85 - فيه: عَبْدِالرَّحْمَنِ، سَمِعَ مُعَاوِيَةَ، يُحَدِّثُ رَهْطًا مِنْ قُرَيْشٍ بِالْمَدِينَةِ، وَذَكَرَ كَعْبَ الأحْبَارِ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ مِنْ أَصْدَقِ هَؤُلاءِ الْمُحَدِّثِينَ الَّذِينَ يُحَدِّثُونَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِنْ كُنَّا مَعَ ذَلِكَ لَنَبْلُو عَلَيْهِ الْكَذِبَ. / 86 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لأهْلِ الإسْلامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تُصَدِّقُوا(10/390)
أَهْلَ الْكِتَابِ وَلا تُكَذِّبُوهُمْ،) وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ) [العنكبوت: 46] الآيَةَ) . / 87 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَىْءٍ وَكِتَابُكُمِ الَّذِى أُنْزِلَ عَلَى رسوله (صلى الله عليه وسلم) أَحْدَثُ، تَقْرَءُونَهُ مَحْضًا لَمْ يُشَبْ، وَقَدْ حَدَّثَكُمْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بَدَّلُوا كِتَابَ اللَّهِ وَغَيَّرُوهُ، وَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِمُ الْكِتَابَ، وَقَالُوا: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؛ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا، أَلا يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنَ الْعِلْمِ عَنْ مَسْأَلَتِهِمْ؟ لا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُمْ رَجُلا يَسْأَلُكُمْ عَنِ الَّذِى أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ. قال المهلب: قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا تسألوا أهل الكتاب عن شئ) إنما هو فى الشرائع لا تسألوهم عن شرعهم فيما لا نعرفه من شرعنا لنعمل به؛ لأن شرعنا مكتف وما لا نص فيه عندنا ففى النظر والاستدلال ما يقوم الشرع منه. وأما سؤالهم عن الأخبار المصدقة لشرعنا، وما جاء به نبينا (صلى الله عليه وسلم) من الأخبار عن الأمم السالفة فلم ننه عنه. فإن قيل: فقد أمر الله رسوله بسؤال أهل الكتاب فقال تعالى: (فَإِن كُنتَ فِى شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ) [يونس: 94] . قيل: ليس هذا بمفسد لما تقدم من النهى عن سؤالهم؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) لم يكن شاكًا ولا مرتابًا، وقال أهل التأويل: الخطاب للنبى (صلى الله عليه وسلم) والمراد به غيره من الشكاك كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء) [الطلاق: 1] ، وتقديره: إن كنت أيها السامع فى شك مما أنزلنا على نبينا. كقولهم: إن كنت ابنى فبرنى. وهو يعلم أنه ابنه.(10/391)
فإن قيل: فإذا كان المراد بالخطاب غير النبى (صلى الله عليه وسلم) فكيف يجوز سؤال الذين يقرءون الكتاب مع جحدهم النبوة؟ ففيه قولان: أحدهما: سل من آمن من أهل الكتاب كابن سلام، وكعب الأخبار. عن ابن عباس والضحاك، ومجاهد وابن زيد. الثانى: سلهم عن صفة النبى (صلى الله عليه وسلم) المبشر به فى كتبهم، ثم انظر ما يوافق تلك الصفة.
- بَاب النَهْىِ عَلَى التَّحْرِيمِ إِلا مَا تُعْرَفُ إِبَاحَتُهُ وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ نَحْوَ قَوْلِهِ: حِينَ أَحَلُّوا: أَصِيبُوا مِنَ النِّسَاءِ
وَقَالَ جَابِرٌ: وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَيْهِمْ وَلَكِنْ أَحَلَّهُنَّ لَهُمْ، وَقَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ: نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَازَةِ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا. / 88 - فيه: جَابِر، أَهْلَلْنَا أَصْحَابَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فِى الْحَجِّ خَالِصًا لَيْسَ مَعَهُ عُمْرَةٌ، فَقَدِمَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) صُبْحَ رَابِعَةٍ مَضَتْ مِنْ ذِى الْحِجَّةِ، فَلَمَّا قَدِمْنَا أَمَرَنَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ نَحِلَّ، وَقَالَ: (أَحِلُّوا وَأَصِيبُوا مِنَ النِّسَاءِ) ، قَالَ جَابِرٌ: وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ أَحَلَّهُنَّ لَهُمْ، فَبَلَغَهُ أَنَّا نَقُولُ: لَمَّا لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَرَفَةَ إِلا خَمْسٌ أَمَرَنَا أَنْ نَحِلَّ إِلَى نِسَائِنَا، فَنَأْتِى عَرَفَةَ تَقْطُرُ مَذَاكِيرُنَا الْمَذْىَ، قَالَ: وَيَقُولُ جَابِرٌ بِيَدِهِ هَكَذَا وَحَرَّكَهَا، فَقَامَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (قَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّى أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَصْدَقُكُمْ وَأَبَرُّكُمْ، وَلَوْلا هَدْيِى لَحَلَلْتُ كَمَا تَحِلُّونَ، فَحِلُّوا فَلَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِى مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ) ، فَحَلَلْنَا، وَسَمِعْنَا وَأَطَعْنَا. / 89 - وفيه: عَبْدُاللَّهِ الْمُزَنِىُّ، قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (صَلُّوا قَبْلَ صَلاةِ الْمَغْرِبِ) قَالَ فِى الثَّالِثَةِ: (لِمَنْ شَاءَ) ، كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً.(10/392)
/ 90 - وفيه: جُنْدَب، قَالَ النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) : (اقْرَءُوا الْقُرْآنَ، مَا ائْتَلَفَتْ قُلُوبُكُمْ، فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ، فَقُومُوا عَنْهُ) . / 91 - وفيه: ابْن عَبَّاس، لَمَّا حُضِرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ وَفِى الْبَيْتِ رِجَالٌ منهِمْ عُمَرُ ابْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ: (هَلُمَّ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ) ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب: إِنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) غَلَبَهُ الْوَجَعُ، وَعِنْدَكُمُ الْقُرْآنُ، فَحَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ، وَاخْتَصَمُوا فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: مَا قَالَ عُمَرُ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغَطَ وَالاخْتِلافَ عِنْدَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (قُومُوا عَنِّى) . قَالَ عُبَيْدُاللَّهِ: فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ مِنِ اخْتِلافِهِمْ وَلَغَطِهِمْ. اختلف العلماء فى هذا الباب فذكر ابن الباقلانى، عن الشافعى أن النهى عنده على التحريم والإيجاب وقاله كثير من الناس، قال الجمهور من أصحاب مالك وأبى حنيفة والشافعى وجميع أهل الظاهر: النهى عن الشىء يدل على فساد المنهى عنه. قال المؤلف: وهذا يدل على أنه عندهم على التحريم والإيجاب، وكذلك الأمر عند الدهماء من الفقهاء وغيرهم موضوع لإيجاب المأمور وحتمه إلا أن يقوم الدليل على أنه ندب، وحكى أبو تمام عن مالك أن الأمر عنده على الوجوب، وإلى هذا ذهب البخارى فى هذا الباب إلى أن النهى والأمر على الوجوب إلا ما قام الدليل على خلاف ذلك فيه، وذهبت الأشعرية إلى أن النهى لا يقتضى التحريم؛ بل يتوقف فيه إلى أن يرد الدليل. قال ابن الطيب: وقال هذا فريق من الفقهاء. قال: وقال(10/393)
كثير من أصحاب الشافعي: إن الأمر موضوع للندب إلى الفعل فإن اقترن به ما يدل على كراهية تركه من ذم أو عقاب كان واجبًا، وقال به كثير من الفقهاء، واستشهد عليه الشافعى بقوله تعالى: (وَأَشْهِدُوْا إِذَا تَبَايَعْتُمْ) [البقرة: 282] ، وأمثاله مما ورد الأمر به على سبيل الندب. قال ابن الطيب: وقد دل بعض كلامه على أن مذهبه الوقف. وقال أبو الحسن الأشعرى وكثير من الفقهاء والمتكلمين: إنه محتمل للأمرين. قال ابن الطيب: وهذا الذى نقول به. قال غيره: والحجة للجماعة أن النهى على التحريم أنه موجب اللغة ومقتضاها، فإن من فعل ما نهى عنه استحق اسم العصيان؛ لأنه لا ينهى إلا عن قبيح قبل النهى، وعما هو له كاره، وقد فهمت الأمة تحريم الزنا، ونكاح المحرمات، والجمع بين الأختين، وتحريم بيع الغرر، وبيع ما لم يقبض بمجرد نهى الله تعالى ونهى رسوله عن ذلك لا شىء سواه. قال أبو التمام: وأما الحجة لوجوب الأمر فإن الله تعالى أطلق أوامره فى كتابه ولم يقرنها بقرينة، وكذلك فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) فعلم أن إطلاق الأمر يقتضى وجوبه، ولو افتقر إلى قرينة لقرنت به. والعرب لا تعرف القرائن، وإنما هو شىء أحدثه متأخرو المتكلمين فلا يجوز أن يقال: إن لفظ الأمر لا تأثير له فى اللغة وأنه يحتاج إلى قرينة، وقد قال تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63] ، فوجب بهذا الوعيد حمل الأمر على الوجوب. وحجة الذين قالوا بالوقف وطلب الدليل على المراد بالأمر أن الأمر قد يرد على معان، فالواجب أن ينظر فإن وجد ما يدل على غير الواجب حمل عليه، وإلا فظاهره الوجوب؛ لأن قول القائل: افعل(10/394)
لا يفهم منه لاتفعل ولا افعل إن شئت، إلا أن يصله بما يعقل به التخيير، فإذا عدم ذلك وجب تنفيذ الأمر، واحتجوا على وجوب طلب الدليل والقرينة على المراد بالأمر، فقالوا: اتفق الجميع على جنس الاستفهام عن معنى الأمر غذا ورد هل هو على الوجوب أو الندب؟ ولو لم يصلح استعماله فيه لقبح الاستفهام عنه؛ لأنه لا يحسن أن يستفهم هل أريد باللفظ ما لا يصلح إجراؤه عليه إذا لا يصلح إذا قال القائل: رأيت إنسانًا. أن يقال له: هل رأيت إنسانًا أو حمارًا. وحسن أن يقال له: أذكرًا رأيت أم أنثى لصلاح وقوعه عليهما. وقد ثبت قبح الاستفهام مع القرائن الدالة بالمحتمل من اللفظ، وإنما يسوغ الاستفهام مع التباس الحال وعدم القرائن الكاشفة عن المراد. قال المؤلف: وما ذكر البخارى فى هذا الباب من الآثار يبطل هذا القول؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) حين أمرهم بالحل وإصابة النساء بين لهم أن أمره إياهم بإصابة النساء ليس على العزم، ولولا بيانه ذلك لكانت إصابتهم للنساء واجبة عليهم وكذلك بين لهم (صلى الله عليه وسلم) بنهيه النساء عن اتباع الجنائز أنه لم يكن نهى عزم ولا تحريم، ولولا بيانه ذلك لفهم من النهى بمجرده التحريم، وكذلك بين لهم بالقيام عن القراءة عند الاختلاف ليس على الوجوب؛ لأنه أمرهم بالائتلاف على ما دل عليه القرآن وحذرهم الفرقة. فإذا حدثت شبهة توجب المنازعة فيه أمرهم بالقيام عن الاختلاف ولم يأمرهم بترك قراءة القرآن إذا اختلفوا فى تأويله لإجماع الأمة على قراءة القرآن لمن فهمه ولمن لم يفهمه، فدل أن قوله: (قوموا(10/395)
عنه) على وجه الندب لا على وجه التحريم للقراءة عند الاختلاف. وكذلك رآى عمر فى ترك كتاب رسول الله لهم حين غلبه الوجع من أجل تقدم العلم عنده وعند جماعة المؤمنين أن الدين قد أكمله الله، وأن الأمة قد اكتفت بذلك، فلا يجوز أن يتوهم أن هناك شيئًا بقى على النبى تبليغه فلم يبلغه لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) [المائدة: 67] ، وبقوله: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ) [الذاريات: 54] ، وقد أنبأنا الله أنه أكمل به الدين فقال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [المائدة: 3] . وإذا ثبت هذا بأن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (هلموا اكتب لكم كتابًا لن تضلوا بعده) محمول على ما أشار به عمر بأنه قول من قد غلبه الوجع وشغل بنفسه، واكتفى بما أخبر الله تعالى به من إكمال الدين، وبأن بهذا مقدار علم عمر وتبريزه على ابن عباس فكل أمر لله تعالى وللرسول لم يكن واجبًا على العباد قد جاء معه من بيان النبى (صلى الله عليه وسلم) بتصريح أو بدليل ما فهم به أنه على غير اللزوم. وقد فهم الصحابة ذلك من فحوى خطابه (صلى الله عليه وسلم) وكل أمر عرى عن دليل يخرجه عن الوجوب، وجب حمله على الوجوب؛ إذ لو كان مراد الله به غير الوجوب لبينه النبى (صلى الله عليه وسلم) لأمته، فوجب أن يكون ما عرى من بيانه (صلى الله عليه وسلم) أنه على غير الوجوب غير مفتقر إلى طلب دليل أو قرينة أن المراد به الوجوب؛ لقيام لفظ الأمر بنفسه، وكذلك ما عرى من نهيه (صلى الله عليه وسلم) من دليل(10/396)
يخرجه عن التحريم وجب حمله على التحريم كحكم الأمر سواء، على ما ذهب إليه جمهور الفقهاء. ووقع فى بعض الأمهات فى هذا الباب النهى عن التحريم وهو غلط من الناسخ والصواب فيه باب النهى على التحريم يعنى أن النهى محمول على التحريم إلا ما علمت إباحته على حديث أم عطية.
- باب قَوله تَعَالَى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) [الشورى: 38] ) وَشَاوِرْهُمْ فِى الأمْرِ (
وَأَنَّ الْمُشَاوَرَةَ قَبْلَ الْعَزْمِ وَالتَّبَيُّنِ، لِقَوْلِهِ: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) [آل عمران: 159] فَإِذَا عَزَمَ الرَّسُولُ (صلى الله عليه وسلم) لَمْ يَكُنْ لِبَشَرٍ التَّقَدُّمُ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَشَاوَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَصْحَابَهُ يَوْمَ أُحُدٍ فِى الْمُقَامِ وَالْخُرُوجِ، فَرَأَوْا لَهُ الْخُرُوجَ، فَلَمَّا لَبِسَ لأمَتَهُ وَعَزَمَ، قَالُوا: أَقِمْ، فَلَمْ يَمِلْ إِلَيْهِمْ بَعْدَ الْعَزْمِ، وَقَالَ: لا يَنْبَغِى لِنَبِىٍّ يَلْبَسُ لأمَتَهُ، فَيَضَعُهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ، وَشَاوَرَ عَلِيًّا وَأُسَامَةَ فِيمَا رَمَى بِهِ أَهْلُ الإفْكِ عَائِشَةَ، فَسَمِعَ مِنْهُمَا حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ، فَجَلَدَ الرَّامِينَ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى تَنَازُعِهِمْ، وَلَكِنْ حَكَمَ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ. وَكَانَتِ الأئِمَّةُ بَعْدَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) يَسْتَشِيرُونَ الأمَنَاءَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِى الأمُورِ الْمُبَاحَةِ؛ لِيَأْخُذُوا بِأَسْهَلِهَا، فَإِذَا وَضَحَ الْكِتَابُ أَوِ السُّنَّةُ لَمْ يَتَعَدَّوْهُ إِلَى غَيْرِهِ؛ اقْتِدَاءً بِالنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . وَرَأَى أَبُو بَكْرٍ قِتَالَ مَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ، فَقَالَ عُمَرُ: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوا: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، عَصَمُوا مِنِّى دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لأقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ تَابَعَهُ بَعْدُ عُمَرُ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ أَبُو بَكْرٍ إِلَى مَشُورَةٍ؛ إِذْ كَانَ عِنْدَهُ حُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى الَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ، وَأَرَادُوا تَبْدِيلَ الدِّينِ وَأَحْكَامِهِ، وَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ، وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَشُورَةِ(10/397)
عُمَرَ كُهُولا كَانُوا، أَوْ شُبَّانًا، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ. / 92 - فيه: عَائِشَةَ، حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإفْكِ مَا قَالُوا، وَدَعَا النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَلِيًا، وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْىُ يَسْأَلُهُمَا، وَيَسْتَشِيرُهُمَا فِى فِرَاقِ أَهْلِهِ، فَأَمَّا أُسَامَةُ فَأَشَارَ بِالَّذِى يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ أَهْلِهِ، وَأَمَّا عَلِىٌّ فَقَالَ: لَمْ يُضَيِّقِ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ، وَسَلِ الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ. . . الحديث. اختلف أهل التأويل فى المعنى الذى أمر الله نبيه أن يشاور أصحابه، فقالت طائفة: أمر الله أن يشاورهم فى مكائد الحروب وعند لقاء العدو تطييبًا لنفوسهم وتألفًا لهم على دينهم وليروا أنه يسمع منهم ويستعين بهم، وإن كان الله قد أغناه عن رأيهم بوحيه. روى هذا عن قتادة والربيع وابن إسحاق. وقال آخرون: إنما أمر بمشورتهم فيما لم يأته فيه وحى، ليبين لهم صواب الرأى. روى ذلك عن الحسن البصرى والضحاك قالا: ما أمر الله نبيه بالمشاورة لحاجة منه إلى رأيهم، وإنما أراد أن يعلمهم ما فى المشورة من الفضل. قال الحسن: وما شاور قوم إلا هدوا لأرشد أمورهم. وقال آخرون: إنما أمره الله بمشاورة أصحابه مع غناه عنهم بتدبيره تعالى له وسياسته إياه؛ ليستن به من بعده ويقتدوا به فيما ينزل بهم من النوازل. قال سفيان الثورى: وقد سن رسول الله الاستشارة فى غير موضع، استشار أبا بكر وعمر فى أسارى بدر، واستشار أصحابه فى يوم الحديبية.(10/398)
وأما قوله تعالى: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) [آل عمران: 159] قال قتادة: أمر الله نبيه إذا عزم على أمر أن يمضى فيه ويتوكل على الله. قال المهلب: وامتثل هذا النبى (صلى الله عليه وسلم) فقال: (لا ينبغى لنبى لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله) أى: ليس ينبغى له إذا عزم أن ينصرف؛ لأنه نقض التوكل الذى شرط الله مع العزيمة، فلبسه لأمته دال على العزيمة، وفى أخذ النبى (صلى الله عليه وسلم) بما أمره الله من الرأى بعد المشورة حجة لمن قال من الفقهاء أن الأنبياء يجوز لهم الاجتهاد فيما لا وحى عندهم فيه. وقد تقدم بيان ذلك قبل هذا. وفيه من الفقه: أن للمستشير والحاكم أن يعزم من الحكم على غير ما قال به مشاوره إذا كان من أ (صلى الله عليه وسلم) ل الرسوخ فى العلم، وأن يأخذ بما يراه كما فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) فى مسألة عائشة فإنه شاور عليًا وأسامة، فأشار عليه أسامة بإمساكها، وأشار عليه على بفراقها، فلم يأخذ بقول أحدهما وتركها عند أهلها حتى نزل القرآن فأخذ به، وكذلك فعل أبو بكر الصديق فإنه شاور أصحابه فى مقاتلة من منع الزكاة، وأخذ بخلاف ما أشاروا به عليه من ترك قتالهم لما كان عنده متضحًا من قول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (إلا بحقها) وفهمه هذه النكتة مع ما يعضدها من قوله: (من غير دينه فاقتلوه) . وأما قول البخارى: فكان الأمة بعد النبى (صلى الله عليه وسلم) يستشيرون الأمناء من أهل العلم، فبذلك تواصى العلماء والحكماء. قال سفيان الثورى: ليكن أهل مشورتك أهل التقوى والأمانة ومن يخشى الله، فإذا أشار أحد برأى سأله: من أين قاله؟ فإن اختلفوا أخذ بأشبههم قولا بالكتاب والسنة، ولا يحكم بشىء حتى يتبين له حجة يجب الحكم بها.(10/399)
وقول البخاري: فإذا وضح الكتاب والسنة يعنى: إن وجد فيهما نص لم يتعدوه، وإن لم يوجد نص وسعهم الاجتهاد. وقال الشافعى: وإنما يؤمر الحاكم بالمشورة؛ لأن المشير ينبهه لما يغفل عنه ويدله من الأخبار على ما يجهله، فأما أن يقلد مشيرًا فلم يجعل الله هذا لأحد بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . وقال أبو الحسن بن القابسى: قوله: فجلد الرامين لها. لم يأت فيه بإسناد وذكره غير مسندًا وقوله: فسمع منهما. يعنى: فسمع قول على وأسامة على اختلافهما فيه. وقوله: لم يلتفت إلى تنازعهم. يعنى: عليًا وأسامة، وأراد: تنازعهما. وأظن الألف سقطت من الكتّاب.(10/400)
كِتَاب التَّوْحِيدِ والرد على الجهمية وغيرهم
- باب مَا جَاءَ فِى دُعَاءِ النَّبِيِّ - عليه السلام - أُمَّتَهُ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ
/ 1 - فيه: ابْن عَبَّاس، أن النَّبِىّ، عليه السَّلام، بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، فقَالَ لَهُ: (إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ تَعَالَى، فَإِذَا عَرَفُوا ذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِى يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، فَإِذَا صَلَّوْا، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً فِى أَمْوَالِهِمْ، تُؤْخَذُ مِنْ غَنِيِّهِمْ، فَتُرَدُّ عَلَى فَقِيرِهِمْ، فَإِذَا أَقَرُّوا بِذَلِكَ، فَخُذْ مِنْهُمْ، وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ) . / 2 - وفيه: مُعَاذ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَا مُعَاذُ، أَتَدْرِى مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ) ؟ قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: (أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، أَتَدْرِى مَا حَقُّهُمْ عَلَيْهِ؟ قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: أَنْ لا يُعَذِّبَهُمْ) . / 3 - وفيه: أَبُو سَعِيد، أَنَّ رَجُلا سَمِعَ رَجُلا يَقْرَأُ) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد) [الإخلاص: 1] يُرَدِّدُهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ) .(10/401)
/ 4 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - عليه السلام - بَعَثَ رَجُلاً عَلَى سَرِيَّةٍ، وَكَانَ يَقْرَأُ لأصْحَابِهِ فِى صَلاتِهِمْ، فَيَخْتِمُ: بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، فَلَمَّا رَجَعُوا، ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (سَلُوهُ لأىِّ شَىْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ) ؟ فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ: لأنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - عليه السلام -: (أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ) . قال المؤلف: أمر الله تعالى نبيه بدعاء العباد إلى دينه وتوحيده ففعل ما ألزمه من ذلك، فبلغ ما أمره بتبليغه وأنزل عليه: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ) [الذاريات: 54] ، ووجه ذكر حديث قل هو الله أحد فى هذا الباب؛ لأنها سورة تشتمل على توحيد الله وصفاته الواجبة له وعلى نفى ما يستحيل عليه من أنه لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد وتضمنت ترجمة هذا الباب أن الله واحد وأنه ليس بجسم؛ لأن الجسم ليس بشىء واحد بل هو أشياء كثيرة مؤلفة، ففى نفس الترجمة الرد على الجهمية فى قولها أنه تعالى جسم. والدليل على استحالة كونه جسمًا أن الجسم موضوع فى اللغة للمؤلف المجتمع، وذلك محال عليه تعالى؛ لأنه لو كان كذلك لم ينفك من الأعراض المتعاقبة عليه الدالة بتعاقبها عليه على حدثها لفناء بعضها عند مجئ أضدادها، وما لم ينفك من المحدثات فمحدث مثلها، وقد قام الدليل على قدمه تعالى، فبطل كونه جسمًا.(10/402)
- باب قَوله تَعَالَى: (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى) [الإسراء: 110]
/ 5 - فيه: جَرِير، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ لا يَرْحَمُ النَّاسَ) . / 6 - وفيه: أُسَامَة، جَاءَ النَّبِىِّ، النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) رَسُولُ إِحْدَى بَنَاتِهِ يَدْعُوهُ إِلَى ابْنِهَا فِى الْمَوْتِ، فَقَالَ: (ارْجِعْ إِلَيْهَا، فَأَخْبِرْهَا أَنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلُّ شَىْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى، فَمُرْهَا فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ) ، فَأَعَادَتِ الرَّسُولَ أَنَّهَا قَدْ أَقْسَمَتْ لَتَأْتِيَنَّهَا، فَقَامَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَقَامَ مَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَدُفِعَ الصَّبِىُّ إِلَيْهِ، وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ، كَأَنَّهَا فِى شَنٍّ، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ. فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذَا؟ قَالَ: (هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِى قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ) . غرضه فى هذا الباب إثبات الرحمة وهى صفة من صفات ذاته لا من صفات أفعاله، والرحمن وصف به نفسه تعالى وهو متضمن لمعنى الرحمة كتضمن وصفه لنفسه بأنه عالم وقادر وحى وسميع وبصير ومتكلم ومريد للعلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والكلام والإرادة، التى جميعها صفات ذاته لا صفات أفعاله، لقيام الدليل على أنه تعالى لم يزل ولا يزال حيًا عالمًا قادرًا سميعًا بصيرًا متكلمًا مريدًا، ومن صفات ذاته الغضب والسخط، والمراد برحمته تعالى إرادته لنفع من سبق فى علمه أنه ينفعه ويثنيه على أعماله، فسماها رحمة، والمراد بغضبه وسخطه إرادته لإضرار من سبق فى علمه إضراره وعقابه على ذنوبه فسماها غضبًا وسخطًا،(10/403)
ووصف نفسه بأنه راحم ورحيم ورحمن وغاضب وساخط بمعنى أنه مريد لما تقدم ذكره. وإنما لم يعرف بعض العرب الرحمن من أسماء الله تعالى لأن أسماءه كلها واجب استعمالها ودعاؤه بها سواء؛ لكون كل اسم منها راجعًا إلى ذات واحدة، وهو البارى تعالى وإن دل كل واحد منها على صفة من صفاته تعالى يختص الاسم بالدلالة عليها، وأما الرحمة التى جعلها الله فى قلوب عباده يتراحمون بها فهى من صفات أفعاله، ألا تراه (صلى الله عليه وسلم) قد وصفها بأن الله خلقها فى قلوب عباده، وجعله لها فى القلوب خلق منه تعالى لها فيها، وهذه الرحمة رقة على المرحوم، والله تعالى أن يوصف بذلك.
3 - باب قَول تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات: 58]
/ 7 - فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ، يَدَّعُونَ لَهُ الْوَلَدَ، ثُمَّ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ) . قال المؤلف: تضمن هذا الباب صفتين لله تعالى: صفة فعل، وصفة ذات. فصفة الفعل ما تضمنه اسمه الذى أجراه تعالى عليه وهو قوله تعالى: (الرَّزَّاقُ (والصفة الرزق، والرزق فعل من أفعاله لقيام الدليل على استحالة كونه تعالى فيما لم يزل رازقًا، إذ رازق يقتضى مرزوقًا، والبارى تعالى مذ كان ولا مرزوق، فمحال كونه فاعلا للرزق فيما لم يزل،(10/404)
فثبت أن ما لم يكن ثم كان محدث مخلوق، فرزقه إذًا صفة من صفات أفعاله، وأما وصفه بأنه الرزاق فلم يزل البارى واصفًا لنفسه بأنه الرزاق، ومعنى ذلك أنه سيرزق إذا خلق المرزوقين، وأما صفة الذات فالقوة، والقوة والقدرة اسمان مترادفان على معنى واحد، والبارى تعالى لم يزل قادرًا قويًا ذا قدرة وقوة، وإذا كان معنى القوة معنى القدرة، فالقدرة لم تزل موجودة قائمة به موجبة له حكم القادرين. وقوله تعالى: (الْمَتِينُ (: الثابت الصحيح الوجود، ومعنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ما أحد أصبر على أذىً سمعه من الله ترك المعاجلة بالنقمة والعقوبة، لا أن الصبر منه معناه كمعناه منا، كما أن رحمته تعالى لمن يرحمه ليس معناها معنى الرحمة منا؛ لأن الرحمة منا رقة وميل طبع إلى نفع المرحوم، والله عز وجل يتعالى عن وصفه بالرقة وميل الطبع؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) ليس بذى طبع وإنما ذلك من صفات المحدثين. وقوله: (على أذى سمعه) معناه: أذى لرسله وأنبيائه والصالحين من عباده لاستحالة تعلق أذى المخلوقين به تعالى؛ لأن الأذى من صفات النقص التى لا تليق بالله إذ الذى يلحقه العجز والتقصير على الانتصار ويصبر جبرًا هو الذى يلحقه الأذى على الحقيقة، والله تعالى لا يصبر خبرًا وإنما يصبر تفضلا، والكناية فى الأذى راجعة إلى الله والمراد بها أنبياؤه ورسله؛ لأنهم جاءوا بالتوحيد لله تعالى ونفى الصاحبة والولد عنه، فتكذيب الكفار لهم فى إضافة الولد له تعالى أذى لهم ورد(10/405)
لما جاءوا به، فلذلك جاز أن يضاف الأذى فى ذلك إلى الله تعالى إنكارًا لمقالتهم وتعظيمًا لها؛ إذ فى تكذيبهم للرسل فى ذلك إلحاد فى صفاته تعالى، ونحوه قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) [الأحزاب: 57] ، تأويله الذين يؤذون أولياء الله وأولياء رسوله، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه فى الإعراب، والمحذوف مراد، نحو قوله: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف: 82] ، يعنى أهل القرية. وقد تضمن هذا الباب الرد على من أنكر أن لله صفة ذات هى قدرة وقوة لاعتقادهم أنه قادر بنفسه لا بقدرة، والله تعالى قد نص على أن له قدرة بخلاف ما تعتقد القدرية من أنه قوى بنفسه لا بقوة. وفيه: رد على المجسمة القائسين للغائب على الشاهد قالوا: كما لم نجد قويا ولا ذا قوة فيما بيننا إلا جسمًا كذلك الغائب حكمه حكم الشاهد، فيقال لهم: إن كنتم على الشاهد تقولون وعليه تعتمدون فى قياس الغائب عليه، فكذلك لم تجدوا جسمًا إلا ذا أبعاض وأجزاء مؤلفة، فيصح عليه الموت والحياة والعلم والجهل والقدرة والعجز، فاقضوا على أن الغائب حكمه حكم هذا فإن مروا عليه ألحدوا وأبطلوا الحدوث والمحدث، وإن أبوه نقضوا استدلالهم ولا انفكاك لهم من أحد الأمرين. ومن هذه الجهة دخل على المعتزلة الخطأ فى قياسهم صفات الله على صفات المخلوقين، والله تعالى لا يشبه المخلوقين؛ لأنه الخالق ولا خالق له وقد أعلمنا الله تعالى بالحكم فى ذلك فقال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ) [الشورى: 11] ، فكيف يشبه الخالق بالمخلوق، ومن ليس كمثله شىء كمن له مثل من الأشياء المخلوقة؟ وهذا ما لا يخفى فساده وإبطاله.(10/406)
4 - باب قَوله تَعَالَى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا) [الجن: 26]
وَ) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ (و) أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ () وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ () إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ (قَالَ يَحْيَى: الظَّاهِرُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ عِلْمًا، وَالْبَاطِنُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ عِلْمًا. / 8 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لا يَعْلَمُهَا إِلا اللَّهُ: لا يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الأرْحَامُ إِلا اللَّهُ، وَلا يَعْلَمُ مَا فِى غَدٍ إِلا اللَّهُ، وَلا يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِى الْمَطَرُ أَحَدٌ إِلا اللَّهُ، وَلا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِلا اللَّهُ، وَلا يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلا اللَّهُ) . / 9 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا (صلى الله عليه وسلم) رَأَى رَبَّهُ، فَقَدْ كَذَبَ، وَهُوَ يَقُولُ: (لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ) [الأنعام: 103] وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ الْغَيْبَ فَقَدْ كَذَبَ، وَهُوَ يَقُولُ: (لا يَعْلَمُ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ (. غرضه فى هذا الباب إثبات علم الله تعالى صفة لذاته؛ إذ العلم حقيقة فى كون العالم عالمًا، إذ من المحال كون العالم عالمًا ولا علم له، وكذلك سائر أوصافه المقتضية للصفات التى هى حقيقة فى ثبات الأوصاف المجرأة عليه تعالى من كونه حيًا وقادرًا وما شابه ذلك خلافًا لما تقوله القدرية من أنه عالم قادر حى بنفسه لا بقدرة ولا بعلم ولا بحياة، ثم إذا ثبت كون علمه قديمًا وجب تعلقه بكل معلوم على حقيقته، وقد نص البارى تعالى على إثبات(10/407)
علمه بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) [لقمان: 34] ، وبقوله تعالى: (أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ) [النساء: 166] ، وبقوله: (وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ) [فاطر: 11] ، وبقوله: (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) [فصلت: 47] ، فمن دفع علم البارى تعالى الذى هو حقيقة فى كونه عالمًا، وزعم أنه عالم بنفسه لا بعلم فقد رد نصه تعالى على إثبات العلم الذى هو حقيقة فى كونه عالمًا ولا خلاف بين رد نصه على أنه ذو علم وبين نصه على أنه عالم، فالنافى لعلمه كالنافى لكونه عالمًا، واجتمعت الأمة على أن من نفى كونه عالمًا فهو كافر، فينبغى أن يكون من نفى كونه ذا علم كافرًا؛ إذ من نفى أحد الأمرين كمن نفى الآخر، والقول فى العلم بهذا كاف من القول به فى جميع صفاته، وتضمن هذا الباب الرد على هشام بن الحكم ومن قال بقوله من أن علمه تعالى محدث وأنه لا يعلم الشىء قبل وجوده. وقد نبه الله تعالى على خلاف هذا بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) [لقمان: 34] الآية، وجميع الآيات الواردة بذلك، وأخبرنا النبى (صلى الله عليه وسلم) بمثل ذلك فى حديث ابن عمر وعائشة فلا يلتفت إلى من رد نصوص الكتاب والسنة.
5 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (السَّلامُ الْمُؤْمِنُ المهيمن (
/ 10 - فيه: عَبْدُاللَّهِ، قَالَ: كُنَّا نُصَلِّى خَلْفَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَنَقُولُ: السَّلامُ عَلَى اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلامُ، وَلَكِنْ قُولُوا: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ. . .) الحديث.(10/408)
غرضه في هذا الباب إثبات اسمًا من أسماء الله، فالسلام اسم من أسمائه، ومعناه: السالم من النقائص والآفات الدالة على حدث من وجدت به متضمن لمعنى السلامة من ذلك كله، وقوله تعالى: (وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ) [يونس: 25] ، مختلف فى تأويله فقيل: معناه: والله يدعو إلى دار السلامة، يعنى: الجنة؛ لأنه لا آفة فيها ولا كدر فالسلام على هذا والسلامة بمعنى، كاللذاذ واللذاذة، والرضاع والرضاعة وقيل: السلام اسم لله تعالى قال قتادة: الله السلام وداره الجنة. فأما المؤمن فهو على وجهين: أحدهما: أن يكون صفة ذات، وهو أن يكون متضمنًا لكلام الله الذى هو تصديقه لنفسه فى أخباره ولرسله فى صحة دعواهم الرسالة عليه، وتصديقه هو قوله، وقوله صفة من صفات ذاته لم يزل موجودًا به حقيقة فى كونه قائلا متكلمًا مؤمنًا مصدقًا. والوجه الثانى: أن يكون متضمنًا صفة فعل هى أمانة رسله وأوليائه المؤمنين به من عقابه وأليم عذابه من قولك: آمنت فلانًا من كذا، وأمنته منه، كأكرمت وكرمت، وأنزلت ونزلت، ومنه قوله تعالى: (وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) [قريش: 4] . وأما المهيمن: فهو راجع إلى معنى الحفظ والرعاية، وذلك صفة فعل له تعالى، وأما منعه (صلى الله عليه وسلم) من القول السلام على الله. فقد بين (صلى الله عليه وسلم) معنى ذلك بقوله: (إن الله هو السلام) ويستحيل أن يقال السلام على الله؛ لاستحالة القول الله على الله، وعلى قول من جعل السلام بمعنى السلامة يستحيل أيضًا أن يدعو له(10/409)
بالسلامة. وقوله: قولوا: التحيات لله. . . إلى آخر الحديث فهو صرف منه (صلى الله عليه وسلم) لهم بما يستحيل الكلام به إلى ما يحسن، ويجمل لما فى ذلك من الإقرار لله بملك كل شىء، وشرع ما شرعه لعباده مما أوجبه عليهم من الصلوات المفروضة، وندبه إليهم من النوافل والتقرب إليه بالدعاء والكلام الطيب الذى وصف تعالى أنه يصعد إليه بقوله: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) [فاطر: 10] . والتحية فى كلام العرب الملك. قال الشاعر: ولكل ما نال الفتى قد نلته إلا التحية يعنى: الملك. فمعنى قوله: التحيات لله: الملك لله.
6 - بَاب قَوله تَعَالَى: (مَلِكِ النَّاسِ) [الناس: 2]
/ 11 - فيه: ابْنُ عُمَرَ، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام. / 12 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَقْبِضُ اللَّهُ الأرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَطْوِى السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ مُلُوكُ الأرْضِ) ؟ . قوله تعالى: (مَلِكِ النَّاسِ (هو داخل فى معنى ما أمرهم به النبى (صلى الله عليه وسلم) من قولهم: التحيات لله. يريد: الملك لله، وكأنه (صلى الله عليه وسلم) إنما أمرهم بذلك من حيث أمره الله بالاعتراف بذلك بقوله تعالى: (قُلْ (يا محمد: (أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ (ووصفه(10/410)
تعالى لنفسه أنه ملك الناس على وجهين: أحدهما: أن يكون راجعًا إلى صفة ذاته وهو القدرة؛ لأن الملك بمعنى القدرة. والثانى: أن يكون راجعًا إلى صفة فعل وذلك بمعنى: القهر والصرف لهم عما يريدونه إلى ما أراده تعالى، فتكون أفعال العباد ملكًا له تعالى لا قدرة لهم عليها. وفيه إثبات اليمين لله صفة من صفات ذاته ليست بجارحة خلافًا لما تعتقده الجسمية فى ذلك لاستحالة جواز وصفه بالجوارح والأبعاض، واستحالة كونه جسمًا، وقد تقدم القول فى حل شبههم فى ذلك.
7 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ () سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) [الصافات: 180] ) وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ (وَمَنْ حَلَفَ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ
وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (تَقُولُ جَهَنَّمُ: قَطْ، قَطْ، وَعِزَّتِكَ) . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَبْقَى رَجُلٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، آخِرُ أَهْلِ النَّارِ دُخُولا الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِى عَنِ النَّارِ، لا وَعِزَّتِكَ، لا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا) . وَقَالَ أَيُّوبُ: وَعِزَّتِكَ لا غِنَى بِى عَنْ بَرَكَتِكَ. / 13 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ - عليه السلام -: (أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ الَّذِي لا تَمُوتُ، وَالإنْسُ وَالْجِنُّ يَمُوتُونَ) .(10/411)
/ 14 - وفيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يُلْقَى فِى النَّار) وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) [ق: 30] حَتَّى يَضَعَ فِيهَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَدَمَهُ، فَيَنْزَوِى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، فتَقُولُ: قَدْ قَدْ، بِعِزَّتِكَ وَكَرَمِكَ، وَلا تَزَالُ الْجَنَّةُ تَفْضُلُ حَتَّى يُنْشِئَ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا، فَيُسْكِنَهُمْ أفَضْلَ الْجَنَّةِ) . قال المؤلف: فالكلام فى هذا الباب على معنى العزيز الحكيم والعزة والحكمة والقدم. أحدهما: أن تكون صفة ذات بمعنى القدرة والعظمة. والثانى: أن تكون صفة فعل بمعنى القهر لمخلوقاته والغلبة لهم، ولهذا صح إضافته تعالى اسمه إليها فقال: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ) [الصافات: 180] ، والمربوب مخلوق لا محالة. والحكيم متضمن لمعنى الحكمة، وهو على وجهين أيضًا: صفة ذات تكون بمعنى العلم، والعلم من صفات ذاته. والثانى: أن تكون بمعنى الإحكام للفعل والإتقان له، وذلك من صفات الفعل وإحكام الله لمخلوقاته فعل من أفعاله، وليس إحكامه لها شيئًا يزيد على ذواتها؛ بل إحكامه لها جعلها نفسًا وذاتًا ما ذهب إليه أهل السنة إن خلق الشىء وإحكامه هو نفس الشىء، وإلا أدّى القول بأن الإحكام والخلق غير المحكم المخلوق إلى التسلسل إلى ما لا نهاية له، والخروج إلى ما لا نهاية له إلى الوجود مستحيل، فبان الفرق بين الحالف بعزة الله(10/412)
التي هي صفة ذاته، وبين من حلف بعزة الله التي هي صفة فعله أنه حانث فى حلفه بصفة الذات دون صفة الفعل؛ بل هو منهى عن الحلف بصفة الفعل كقول الحالف: وحق السماء وحق زيد؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (من كان حالفًا فليحلف بالله) وقد تضمن كتاب الله العزة التى هى بمعنى القوة، وهو قوله: (فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ) [يس: 14] ، أى قوينا والعزة التى هى الغلبة والقهر وهو قوله: (وَعَزَّنِى فِى الْخِطَابِ) [ص: 23] ، أى غلبنى وقهرنى. وأما القدم فلفظ مشترك يصلح استعماله فى الجارحة وفيما ليس بجارحة فيستحيل وصفه تعالى بالقدم الذى هو الجارحة؛ لأن وصفه بذلك يوجب كونه جسمًا والجسم مؤلف حامل للصفات وأضدادها غير متوهم خلوه منها، وقد بان أن المتضادات لا يصح وجودها معًا، وإذا استحال هذا ثبت وجودها على طريق التعاقب، وعدم بعضها عند مجئ بعض وذلك دليل على حدوثها، وما لا يصح خلوه من الحوادث فواجب كونه محدثًا، فثبت أن المراد بالقدم فى هذا الحديث خلق من خلقه تقدم علمه أنه لا تملأ جهنم إلا به. وقال النضر بن شميل: القدم هاهنا: هم الكفار الذين سبق فى علم الله أنهم من أهل النار وأنه تملأ النار بهم حتى ينزوى بعضها إلى بعض من الملئ لتضايق أهلها فتقول: قط قط، أى امتلأت. ومنه قوله تعالى: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ) [يونس: 2] ، أى سابقة صدق. وقال ابن الأعرابى: القدم: هو التقدم فى الشرف والفضل. وقد قد، وقط قط، بمعنى:(10/413)
حسبي أي: كفاني، ويقال: قدني، وقطني بمعنى ذلك، واختلفت الرواية فى قوله: فيسكنهم أفضل الجنة، وروى فضل الجنة، فمن روى فضل الجنة فهو أحسن يعنى: ما فضل منها وبقى. ومن روى أفضل الجنة فمعناه: فاضل الجنة. وفضل وفاضل الجنة عائدان إلى معنى واحد، وليس بمعنى أفضل من كذا الذى هو بمعنى المفاضلة قال تعالى: (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم: 27] ، على أحد التأويلين. قال الشاعر: لعمرك لا أدرى وإنى لأوجل يريد: لوجل.
8 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ (
/ 15 - فيه: ابْن عَبَّاس، كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَدْعُو مِنَ اللَّيْلِ: (اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ، لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ، وَمَنْ فِيهِنَّ، لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ، قَوْلُكَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِى مَا قَدَّمْتُ، وَمَا أَخَّرْتُ، وَأَسْرَرْتُ، وَأَعْلَنْتُ أَنْتَ إِلَهِى لا إِلَهَ لِى غَيْرُكَ) . وَقَالَ سُفْيَان مرة: أَنْتَ الْحَقُّ، وَقَوْلُكَ الْحَقُّ. قوله تعالى: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ) [الأنعام: 73] ، كقوله:(10/414)
خالق السموات والأرض بالحق أى: أبدعهما وأنشأهما بالحق. وقوله: (رب السموات والأرض) كقوله: خالق السموات والأرض، وأما قوله: (أنت الحق) . فعلى معنيين: يكون اسمًا راجعًا إلى ذاته فقط لقوله (صلى الله عليه وسلم) : أنت الحق. أى: أنت الموجود الثابت حقًا الذى لا يصح عليك تغيير ولا زوال. والمعنى الثانى: يكون الحق راجعًا إلى صفة ذاته؛ لقوله: خلق السموات والأرض بالحق أى قال لها: كونى فكانت. وقوله صفة من صفات ذاته عند أهل الحق والسنة على ما يأتى بيانه بعد هذا إن شاء الله. وأما قوله: (أنت نور السموات والأرض) وقوله: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) [النور: 35] ، فواجب صرفه عن ظاهره لقيام الدليل على أنه لا يجوز أن يوصف بأنه نور، والمعنى: أنت منور السموات والأرض بأن خلقتهما دلالة لعبادك على وجودك وربوبيتك بما فيهما من دلائل الحدث المفتقرة إلى محدث فكأنه نور السموات والأرض بالدلائل عليه منهما وجعل فى قلوب الخلائق نورًا يهتدون به إليه، وقال ابن عباس: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) [النور: 35] ، أى هاديهن، وعنه أيضًا مدبرهما، ومدبر ما فيهما وتقديره: الله نور السموات والأرض. وأما قيم السموات والأرض، فالكلام فيه من وجهين: أحدهما: أن يكون بمعنى العالم بمعلوماته، فتكون صفة ذات.(10/415)
والوجه الثاني: أن يكون بمعنى الحفظ لمخلوقاته، والرزق للحى منها، فتكون صفة فعل.
9 - باب قوله تَعَالَى: (وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) [النساء: 58]
وَقَالَتْ عَائِشَةَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى وَسِعَ سَمْعُهُ الأصْوَاتَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا (الآية [المجادلة: 1] . / 16 - فيه: أَبُو مُوسَى، كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِى سَفَرٍ، فَكُنَّا إِذَا عَلَوْنَا كَبَّرْنَا، فَقَالَ: (ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائِبًا، تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا. . .) الحديث. / 17 - وفيه: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، قَالَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : عَلِّمْنِى دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِى صَلاتِى، قَالَ: (قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِى مِنْ عِنْدِكَ مَغْفِرَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) . / 18 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ جِبْرِيلَ نَادَانِى، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ) . غرضه فى هذا الباب أن يرد على من يقول: إن معنى سميع بصير. معنى عليم لا غير؛ لأن كونه كذلك يوجب مساواته تعالى للأعمى والأصم الذى يعلم أن السماء خضراء ولا يراها، وأن فى العالم أصواتًا ولا يسمعها ولا شك أن من سمع الصوت وعلمه ورأى خضرة السماء وعلمها أدخل فى صفات الكمال ممن انفرد بإحدى هاتين الصفتين، وإذا استحال كونه أحدنا ممن لا آفة به أكمل(10/416)
صفة من خالقه وجب كونه تعالى سميعًا بصيرًا مفيدًا أمرًا زائدًا على ما يفيده كونه عليما. ثم نرجع إلى ما تضمنه كونه سميعًا بصيرًا، فنقول: هما منضمنتان لسمع وبصر بهما كان سميعًا بصيرًا كما تضمن كونه عالمًا علمًا لأجله كان عالمًا وكما أنه لا خلاف بين إثباته عالمًا وبين إثباته ذا علم، فإن من نفى أحد الأمرين كمن نفى الآخر، وهذا مذهب أهل السنة والحق. ومعنى قول عائشة: (الحمد لله الذى وسع سمعه الأصوات) . أدرك سمعه الأصوات، لا أنه اتسع سمعه لها؛ لأن الموصوف بالسعة يصح وصفه بالضيق بدلا منه والوصفان جميعًا من صفات الأجسام، وإذا استحال وصفه بما يؤدى إلى القول بكونه جسمًا، وجب صرف قولها عن ظاهره إلى ما اقتضى صحته الدليل، ومعنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا) . نفى الآفة المانعة من السمع، ونفى الجهل المانع من العلم وفى هذا القول منه (صلى الله عليه وسلم) دليل على أنه لم يزل سميعًا بصيرًا عالمًا، ولا تصح أضداد هذه الصفات عليه. وقوله: قريبًا. إخبار عن كونه عالمًا بجميع المعلومات لا يعزب عنه شىء، ولم يرد بوصفه بالقرب قرب المسافة؛ لأن الله تعالى لا يصح وصفه بالحلول فى الأماكن؛ لأن ذلك من صفات الأجسام والدليل على ذلك قوله تعالى: (مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ) [المجادلة: 7] الآية معناه: إلا هو عالم بهم وبجميع أحوالهم ما يسرُّونه وما يظهرونه، ومعنى حديث أبى بكر فى هذا الباب هو أن(10/417)
دعاءه الله بما علمه النبي - عليه السلام - يقتضى اعتقاد كونه تعالى سميعا لدعائه ومجازيًا له عليه.
- باب قَوله تَعَالَى: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ) [الأنعام: 65]
/ 19 - فيه: جَابِر، قَالَ: كَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ الاسْتِخَارَةَ فِى الأمُورِ كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُهُمُ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، يَقُولُ: (إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأمْرِ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ، وَلا أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ، وَلا أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ. . .) . القادر والقدرة من صفات الذات، وقد تقدم فى باب قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات: 58] ، أن القوة والقدرة بمعنى واحد، وكذلك القادر والقوى بمعنى واحد، وذكر الأشعرى أن القدرة والقوة والاستطاعة معناها واحد، لكن لم يشتق لله تعالى من الاستطاعة اسم، ولا يجوز أن يوصف بأنه مستطيع لعدم التوقيف بذلك، وإن كان قد جاء القرآن بالاستطاعة فقال: (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) [المائدة: 112] ، فإنما هو خبر عنهم ولا يقتضى إثباته صفة له تعالى فدل على ذلك أمران: تأنيبه لهم عقيب هذا، وقراءة من قرأ: (هل تستطيع ربك) بمعنى: هل تسطيع ربك، وقد أخطئوا فى الأمرين جميعًا لاقتراحهم على نبيهم وخالقه ما لم يأذن لهم فيه ربهم تعالى.(10/418)
- بَاب مُقَلِّبِ الْقُلُوبِ وَقَوله تَعَالَى: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ) [الأنعام: 110]
/ 20 - فيه: ابْن عُمَرَ، كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَكْثَرُ مَا يَحْلِفُ: لا، وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ) . قد تقدم الكلام فى هذا الحديث فى كتاب القدر، ومر فيه أن تقليبه لقلوب عباده صرفه لها من إيمان إلى كفر، ومن كفر إلى إيمان وذلك كله مقدور لله تعالى وفعل له، بخلاف قول القدرية.
- باب قول النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ اسْمٍ إِلا وَاحِدًامَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (ذُو الْجَلالِ) [الرحمن: 27] ذو الْعَظَمَةِ) الْبَرُّ (اللَّطِيفُ. / 21 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) .) أَحْصَيْنَاهُ (حَفِظْنَاهُ. الإحصاه فى اللغة على وجهين: أحدهما بمعنى: الإحاطة بعلم عدد الشىء وقدره، ومنه قوله تعالى: (وَأَحْصَى كُلَّ شَىْءٍ عَدَدًا) [الجن: 28] وهذا قول الخليل. والثانى: بمعنى: الإطاقة له، كقوله تعالى: (عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ) [المزمل: 20] ، أى لن تطيقوه. وقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (استقيموا ولن تحصوا) أى: لن تطيقوا العمل بكل ما لله عليكم، والمعنى فى ذلك كله متقارب، وقد يجوز أن يكون المعنى: من أحصاها عددًا(10/419)
وحفظًا وعلمًا بما يمكن علمه من معانيها المستفاد منها علم الصفات التى تفيدها؛ لأن تحت وصفنا له بعالم إثبات علم له تعالى لم يزل موصوفًا به لا كالعلوم، وتحت وصفنا له بقادر إثبات قدرة لم يزل موصوفًا بها لا كقدرة المخلوقين، وكذلك القول فى الحياة وسائر صفاته، وفيه وجه آخر يحتمل أن يكون الإحصاء المراد فى هذا الحديث والله أعلم العمل بالأسماء والتعبد لمن سمى بها. فإن قال قائل: كيف وجه إحصائها عملا؟ قيل له: وجه ذلك أن ما كان من أسماء الله تعالى مما يجب على المؤمن الاقتداء بالله تعالى فيه كالرحيم والكريم والعفو والغفور والشكور والتواب وشبهها، فإن الله تعالى يحب أن يرى على عبده حلاها ويرضى له معناها، والاقتداء به تعالى فيها. فهذا العمل بهذا النوع من الأسماء وما كان منها مما لا يليق بالعبد معانيها كالله والأحد والقدوس والجبار والمتعال والمتكبر والعظيم والعزيز والقوى وشبهها، فإنه يجب على العبد الإقرار بها والتذلل لها والإشفاق منها، وما كان بمعنى الوعيد كشديد العقاب، وعزيز ذى انتقام وسريع الحساب وشبهها، فإنه يجب على العبد الوقوف عند أمره واجتناب نهيه. واستشعار خشية الله تعالى من أجلها خوف وعيده، وشديد عقابه هذا وجه إحصائها عملا فهذا يدخل الجنة إن شاء الله، وأخبرنى بعض أهل العلم عن أبى محمد الأصيلى أنه أشار إلى هذا المعنى غير(10/420)
أنه لم يشرحه فقال: الإحصاء لأسمائه تعالى هو العمل بها لا عدّها وحفظها فقط؛ لأنه قد يعدها المنافق والكافر وذلك غير نافع له. قال المؤلف: والدليل على أن حقيقة الإحصاء والحفظ فى الشريعة إنما هو العمل قوله (صلى الله عليه وسلم) فى وصف الخوارج: (يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية) فبين أن من قرأ القرآن ولم يعمل به لم ترفع قراءته إلى الله، ولا جازت حنجرته، فلم يكتب له أجرها وخاب من ثوابها كما قال تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر: 10] ، يعنى أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب إلى الله تعالى. وكما قال ابن مسعود لرجل: إنك فى زمان كثير فقهاؤه قليل قراؤه تحفظ فيه حدود القرآن وتضيع فيه حروفه، وسيأتى على الناس زمان قليل فقهاؤه كثير قراؤه تحفظ فيه حروف القرآن وتضيع حدوده. فذم من حفظ الحروف وضيع العمل ولم يقف عند الحدود، ومدح من عمل بمعانى القرآن وإن لم يحفظ الحروف، فدل هذا على أن الحفظ والإحصاء المندوب إليه هو العمل. ويوضح هذا أيضًا ما كتب به عمر بن الخطاب إلى عماله: إن أهم أموركم عندى الصلاة فمن حفظها وحافظ عليها دينه. ولم يرد عمر بحفظها إلا المبالغة فى إتقان العمل بها من إتمام ركوعها وسجودها وإكمال حدودها لا حفظ أحكامها وتضييع العمل بها، والله الموفق.(10/421)
- باب السُّؤَالِ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَالاسْتِعَاذَةِ بِهَا
/ 22 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ فِرَاشَهُ فَلْيَنْفُضْهُ بِصَنِفَةِ ثَوْبِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وَلْيَقُلْ: بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِى، وَبِكَ أَرْفَعُهُ، إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِى، فَاغْفِرْ لَهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ) . / 23 - وفيه: حُذَيْفَةَ، كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ، قَالَ: (اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ أَحْيَا وَأَمُوتُ) ، وَإِذَا أَصْبَحَ، قَالَ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) . / 24 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِىَ أَهْلَهُ، فَقَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِى ذَلِكَ لَمْ يَضُرُّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا) . / 25 - وفيه: عَدِىّ، سَأَلْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَقُلْتُ: أُرْسِلُ كِلابِى الْمُعَلَّمَةَ؟ قَالَ: (إِذَا أَرْسَلْتَ كِلابَكَ الْمُعَلَّمَةَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ، فَأَمْسَكْنَ فَكُلْ. . .) الحديث. / 26 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَاهُنَا أَقْوَامًا حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِشِرْكٍ، يَأْتُونَا بِلُحْمَانٍ، لا نَدْرِى أيَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا أَمْ لا؟ قَالَ: (اذْكُرُوا أَنْتُمُ اسْمَ اللَّهِ، وَكُلُوا) . / 27 - وفيه: أَنَس، ضَحَّى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِكَبْشَيْنِ يُسَمِّى وَيُكَبِّرُ. / 28 - وفيه: جُنْدَب، أن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ يَوْمَ النَّحْرِ: (مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّىَ، فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى، وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ) .(10/422)
/ 29 - وفيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، وَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ) . غرضه فى هذا الباب أن يثبت أن الاسم هو المسمى فى الله على ما ذهب إليه أهل السنة، وموضع الاستدلال منه قوله (صلى الله عليه وسلم) : (باسمك ربى وضعت جنبى، وبك أرفعه) وقوله فى حديث حذيفة: (باسمك أحيا وأموت) ومعناه: بإقدارك إياى على وضع جنبى وضعته، وبإقدارك إياى على رفعه أرفعه، وبإحيائك أحيا وبإماتتك أموت، فحذف (صلى الله عليه وسلم) باسمك ربى وضعت جنبى، ثم قال: وبك أرفعه، فذكر الاسم مرة، ولم يذكره أخرى، فدل أن معنى قوله: باسمك. معنى قوله: بك؛ إذ لو كان ذكره للاسم يفيد غير ما يفيد ترك ذكره لتخالف المعنيان، ولوجب أن يكون اسمه غيره وذلك محال؛ لأن ذلك يؤدى إلى أن يكون قوله (صلى الله عليه وسلم) : باسمك وضعت جنبى كقوله: بغيرك وضعت جنبى. وقوله: وباسمك أحيا وأموت: بغيرك أحيا وأموت. وهذا كفر بالله تعالى. ويكون قوله: وبك أرفعه، وقوله: الحمد لله الذى أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور يراد به الله فيكون بعض الدعاء لله وصرف الأمر فيه إليه، ويكون بعض الدعاء وصرف الأمر فيه إلى غير الله، وهذا كفر صريح لا يخفى، ومما يدل على أن اسم الله هو قوله سبحانه: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [الواقعة: 74] أى سبح ربك العظيم ونزهه باسمائه الحسنى، ولو كان اسمه غيره لكان الله أمر نبيه بتنزيه معنى هو غير الله وهذا مستحيل، ومما يدل على ذلك قوله تعالى: (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِى الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ) [الرحمن: 78] فى قراءة من قرأ) ذو ((10/423)
وذو وصف الاسم لا شك فيه فإذا قد وصف الاسم بالجلال والإكرام، وهذا خلاف قول القدرية التى تزعم كون كلامه محدثًا، وأنه تعالى لم يزل غير ذى اسم ولا صفة حتى خلق الخلق وخلق كلامه فسماه خلقه بأسماء محدثة وسمى نفسه بمثلها، وهذا بين الفساد بما قدمناه أنه تعالى لا يجوز أن يأمر نبيه بتنزيه غيره. فإن قال قائل: فإن قلتم: إن اسم الله هو هو فما معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن لله تسعة وتسعين اسمًا) وكيف تكون الذات الواحدة تسعة وتسعون شيئًا؟ قالوا: وهذا كفر ممن قال به، فبان من هذا الحديث أن اسمه غيره. فالجواب: أنه لو كان اسمه غيره لم يأمر نبيه بتنزيه مخلوق غيره على ما قدمناه، ونرجع إلى تأويل الحديث فنقول: إن المراد بقوله: تسعة وتسعين اسمًا التسمية؛ لأنه فى نفسه واحد والاسم يكون بمعنيين يكون بمعنى المسمى، ويكون بمعنى التسمية التى هى كلامه فالذى بمعنى المسمى يقال فيه: هو المسمى، والذى بمعنى التسمية لا يقال فيه: هو المسمى، ولا هو غيره، وإنما لم نقل فيه أيضًا: هو غيره؛ لأن تسميته لنفسه كلام له ولا يقال فى كلامه أنه غيره. ومعنى الترجمة معنى قوله تعالى: (وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) [الأعراف: 180] ، فأمر بدعائه بها ووصفه لها بالحسنى يقتضى نفى تضمن كل اسم منها نقيض ما يوصف أنه حسن، ونقيض الحسن قبيح(10/424)
لا يجوز على الله، ومعنى هذا أن عالمًا من أسمائه يقتضى علمًا ينفى نقيضه من الجهل وقادرًا يقتضى قدرة تنفى نقيضها من العجز، وحيا يقتضى حياة تنفى ضدها من الموت، وكذلك سائر صفاته كلها ففائدة، كل واحدة منها خلاف فائدة الأخرى، فأمر تعالى عباده بالدعاء بأسمائه كلها لما يتضمن كل اسم منها ويخصه من الفائدة ليجتمع للعباد الداعين له بجميعها فوائد عظيمة، ويكون معبودًا بكل معنى.
- باب مَا يُذْكَرُ فِى الذَّاتِ وَالنُّعُوتِ وَأَسَامِى اللَّهِ
وَقَالَ خُبَيْبٌ: وَذَلِكَ فِى ذَاتِ الإلَهِ، فَذَكَرَ الذَّاتَ بِاسْمِهِ. / 30 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، بَعَثَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَشَرَةً، مِنْهُمْ خُبَيْبٌ الأنْصَارِىُّ، فَأَخْبَرَنِى عُبَيْدُاللَّهِ بْنُ عِيَاضٍ، أَنَّ ابْنَةَ الْحَارِثِ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُمْ حِينَ اجْتَمَعُوا، اسْتَعَارَ مِنْهَا مُوسَى يَسْتَحِدُّ بِهَا، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ الْحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ، قَالَ خُبَيْبٌ: مَا أُبَالِى حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا وَذَلِكَ فِى ذَاتِ الإلَهِ وَإِنْ يَشَأْ عَلَى أَىِّ شِقٍّ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ فَقَتَلَهُ ابْنُ الْحَارِثِ، وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) أَصْحَابَهُ خَبَرَهُمْ يَوْمَ أُصِيبُوا.(10/425)
اعلم أن أسماء الله تعالى على ثلاث أضرب: ضرب منها يرجع إلى ذاته ووجوده فقط لا إلى معنى يزيد على ذلك كقولنا: شىء وموجود وذات نفس. والضرب الثانى: يرجع إلى إثبات معان قائمة به تعالى هى صفات له كقولنا: حى وقادر وعالم ومريد، يرجع ذلك كله إلى حياة وقدرة وعلم وإرادة؛ لأجلها كان حيا قادرًا عالمًا مريدًا. والضرب الثالث: يرجع إلى صفات من صفات أفعاله كقولنا: خالق ورزاق ومحيى ومميت، يرجع بذلك إلى خلق ورزق وحياة وموت، وذلك كله فعل له تعالى. فأما إثباته ذاتًا وشيئًا ونفسًا فطريقه السمع، وقد سمع النبى (صلى الله عليه وسلم) قول خبيب (وذلك فى ذات الإله) فلم ينكره، فصار طريق العلم به التوقيف من الرسول (صلى الله عليه وسلم) وذاته هو هى، ومعنى قوله فى ذات الإله: أى فى دين الله وطاعته، فجميع هذه الأضرب الثلاثة أسماء لله فى الحقيقة كان منها ما يتضمن صفة ترجع إلى ذاته أو إلى فعل من أفعاله أم لا، فكل صفة اسم لله تعالى وليس كل اسم صفة. ومذهب أهل السنة أنه محال أن يقال فى صفات ذاته أن كل واحدة منها غير الأخرى، كما استحال القول عندهم بأنها غيره تعالى؛ لأن حد الغيرين ما جاز وجود أحدهما مع عدم الآخر، ولما لم يجز على شىء من صفاته عدم إحداهما مع وجود سائرها استحال وصفها بالتغاير كما استحال وصفه بأنه غيرها؛ لقيام الدليل على استحالة وجوده تعالى مع عدم صفاته، التى هى حياته وعلمه وقدرته وسائر وجود بعضها مع عدم سائرها كالرزق والإحياء والإماتة، وسائر(10/426)
صفات أفعاله التى تتضمنها أسماء له أطلقها تعالى على نفسه كرازق وخالق ومحيى ومميت وبديع، وما شاكل ذلك، فهذه كلها أسماء له تعالى سمى نفسه بها، وتسميته: قوله، وقوله ليس غيره كسائر صفات ذاته، ومتضمن هذه الأسماء متغاير على ما ذكرنا وغير له تعالى لقيام الدليل على وجوده فى أزله مع عدم جميع أفعاله.
- باب قَوله تَعَالَى: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) [آل عمران: 28] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلا أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ (
/ 31 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ، وَمَا أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللَّهِ) . / 32 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِى كِتَابِهِ، وَهُوَ يَكْتُبُ عَلَى نَفْسِهِ، وَهُوَ وَضْعٌ عِنْدَهُ عَلَى الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِى تَغْلِبُ غَضَبِى) . / 33 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (يَقُولُ اللَّهُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِى بِى، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِى، فَإِنْ ذَكَرَنِى فِى نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِى نَفْسِى، وَإِنْ ذَكَرَنِى فِى مَلأٍ ذَكَرْتُهُ فِى مَلإ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِى يَمْشِى أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً) . قوله: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) [آل عمران: 28] ، وقوله: (وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ) [المائدة: 116] ، وما ذكر فى الأحاديث من ذكر النفس، فالمراد به إثبات نفس لله، والنفس لفظة تحتمل معانٍ، والمراد بنفسه تعالى ذاته، فنفسه ليس بأمر يزيد عليه، فوجب أن تكون نفسه(10/427)
هي هو، وهذا إجماع، وللنفس وجوه أخر لا حاجة بنا إلى ذكرها؛ إذ الغرض من الترجمة خلاف ذلك. أما قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ما أحد أغير من الله) . فليس هذا موضع الكلام فيه، وسيأتى. وأما قوله: (وضع عنده) فعند فى ظاهر اللغة تقتضى أنها للموضع، والله يتعالى عن الحلول فى المواضع؛ لأن ذلك من صفات الأجسام إذ الحالّ فى موضع لا يكون بالحلول فيه بأولى منه بالحلول فى غيره إلا لأمر يخصه حلوله فيه، والحلول فيه عرض من الأعراض يفنى بمجىء حلول آخر يحل به فى غير ذلك المكان. والحلول محدث والحوادث لا تليق به تعالى، لدلالتها على حدث من قامت به فوجب صرف (عند) عن ظاهرها إلى ما يليق به تعالى، وهو أنه أراد (صلى الله عليه وسلم) إثبات علمه بإثابة من سبق علمه أنه عامل بطاعته، وعقاب من سبق علمه بأنه عامل بمعصيته. (وعند) وإن كان وضعها فى اللغة للمكان فقد يتوسع فيها فتجعل لغير المكان كقوله (صلى الله عليه وسلم) : (أنا عند ظن عبدى بى) ولا مكان هناك. وأما قوله: (إن رحمتي تغلب(10/428)
غضبي) . فقد تقدم أن رحمته تعالى إرادته لإثابة المطيعين له وغضبه لعقاب العاصين له، وإذا كان ذلك كذلك كان معنى قوله: (إن رحمتى تغلب غضبى) إن إرادتى ثواب الطائعين لى هى إرادتى ألا أعذبهم. وهو معنى قوله تعالى: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185] ، فإرادته بهم اليسر هى إرادته ألا يريد بهم العسر، وما كان ما أراد من ذلك بهم، ولم يكن ما لم يرده فعبر (صلى الله عليه وسلم) عن هذا المعنى بقوله: (إن رحمتى تغب غضبى) وتسبق غضبى، فظاهر قوله يفيد أن رحمته وغضبه معنيان أحدهما غالب للآخر وسابق له، وإذا ثبت أن إرادته واحدة وصفة من صفات ذاته، وأن رحمته وغضبه ليستا بمعنى أكثر من إرادته التى هى متعلقة بكل ما يصح لأكونه مرادًا وجب صرف كلامه عن ظاهره؛ لأن إجراء الكلام على ظاهره يقتضى حدث إرادته لو كانت له إرادات كثيرة متغايرة. وقوله: (فى ملأ خير منهم) هذا نص من النبى (صلى الله عليه وسلم) أن الملائكة أفضل من بنى آدم، وهو مذهب جمهور أهل العلم وعلى هذا شواهد من كتاب الله منها قوله تعالى: (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) [الأعراف: 20] ، ولا شك أن الخلود أفضل من الفناء فكذلك الملائكة أفضل من بنى آدم وإلا فلا يصح معنى الكلام. وأما وصفه تعالى بأنه يتقرب إلى عبده ووصفه بالتقرب إليه ووصفه بإتيانه هرولة، فإن التقرب والإتيان والمشى والهرولة محتملة للحقيقة والمجاز، وحملها على الحقيقة يقتضى قطع المسافات وتواتى الأجسام، وذلك لا يليق بالله تعالى فاستحال حملها على الحقيقة، ووجب حملها على المجاز؛ لشهرة ذلك فى كلام العرب، فوجب أن يكون وصف العبد بالتقرب إليه شبرًا وذراعًا وإتيانه ومشيه معناه: التقرب إليه بطاعته وأداء مفترضاته، ويكون تقربه تعالى من عبده قوله تعالى: (أتيته هرولة) أى: أتاه ثوابى مسرعًا. قال الطبرى: وإنما مثل القليل من الطاعة بالشبر من الدنو منه(10/429)
والضعف من الكرامة والثواب بالذراع، فجعل ذلك دليلا على مبلغ كرامته لمن أكرم عليه مجاوز حده إلى ما بينه عز وجل. فإن قيل: فما معنى قوله: (إذا ذكرنى فى نفسه ذكرته فى نفسى؟) قيل: معنى ذلك: وإذا ذكرنى بقلبه مخفيًا ذلك عن خلقى ذكرته برحمتى وثوابى مخفيًا ذلك عن خلقى حتى لا يطلع عليه أحد منهم، وإذا ذكرنى فى ملأ من عبادى، ذكرته فى ملأ من خلقى أكثر منهم وأطيب. قال الطبرى: فإن قيل: أى الذكرين أعظم ثوابًا الذكر الذى هو بالقلب، أو الذكر الذى هو باللسان؟ قيل: قد اختلف السلف فى ذلك، فروى عن عائشة أنها قالت: لأن أذكر الله فى نفسى أحب إلىَّ أن أذكره بلسانى سبعين مرة. وقال آخرون: ذكر الله باللسان أفضل. روى عن أبى عبيدة بن عبد الله بن مسعود قال: ما دام قلب الرجل يذكر الله تعالى فهو فى صلاة، وإن كان فى السوق، وإن تحرك بذلك اللسان والشفتان فهو أعظم. قال الطبرى: والصواب عندى أن إخفاء النوافل أفضل من ظهورها لمن لم يكن إمامًا يقتدى به، وإن كان فى محفل اجتمع أهله لغير ذكر الله أو فى سوق وذلك أنه أسلم له من الرياء، وقد روينا من حديث سعد بن أبى وقاص عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (خير الرزق ما يكفى، وخير الذكر الخفى) ولمن كان بالخلاء أن يذكر الله بقلبه ولسانه؛ لأن شغل جارحتين بما يرضى الله تعالى أفضل من شغل(10/430)
جارحة واحدة، وكذلك شغل ثلاث جوارح أفضل من شغل جارحتين، وكلما زاد فهو أفضل إن شاء الله تعالى.
- باب قَوله تَعَالَى: (كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ) [القصص: 88]
/ 34 - فيه: جَابِر، لَمَّا نَزَلَتْ على النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ) [الأنعام: 65] ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (أَعُوذُ بِوَجْهِكَ) ، فَقَالَ: (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ (، قَالَ عليه السّلام: (أَعُوذُ بِوَجْهِكَ) ، قَالَ: (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا (، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (هَذَا أَيْسَرُ) . استدلاله من هذه الآية والحديث على أن لله تعالى وجهًا هو صفة ذاته لا يقال: هو هو، ولا هو غيره بخلاف قول المعتزلة، ومحال أن يقال: هو جارحة كالذى نعلمه من الوجوه، كما لا يقال: هو تعالى فاعل وحى وعالم، كالفاعلين والأحياء والعلماء الذين نشاهدهم، وإذا استحال قياسه على المشاهدين فالحكم له بحكمهم مع مشاركتهم له فى التسمية كذلك يستحيل الحكم لوجهه الذى هو صفة ذاته بحكم الوجوه التى نشاهدها، وإنما لم يجز أن يقال: إن وجهه جارحة لاستحالة وصفه بالجوارح لما فيها من أثر الصنعة، ولم يقل فى وجهه أنه هو لاستحالة كونه تعالى وجهًا، وقد أجمعت الأمة على أنه لا يقال: يا وجه، اغفر لى، ولم يجز أن يكون وجهه غيره؛ لاستحالة مفارقته له بزمان أو مكان أو عدم أو وجود، فثبت أن له وجهًا لا كالوجوه؛ لأنه ليس كمثله شىء.(10/431)
- باب قَوله تَعَالَى: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى) [طه: 39]
يعنِى: تُغَذَّى، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا (/ 35 - فيه: ابْن عُمَرَ، ذُكِرَ الدَّجَّالُ عِنْدَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْكُمْ، إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى عَيْنِهِ، وَإِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى) . / 36 - وفيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِىٍّ إِلا أَنْذَرَ قَوْمَهُ الأعْوَرَ الْكَذَّابَ، إِنَّهُ أَعْوَرُ، وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ) . استدلاله من هذه الآية والحديث على أن لله صفة سماها عينًا ليست هو ولا غيره، وليست كالجوارح المعقولة بيننا؛ لقيام الدليل على استحالة وصفه بأنه ذو جوارح وأعضاء. خلافًا لما تقوله المجسمة من أنه جسمٌ لا كالأجسام، واستدلوا على ذلك بهذه الآيات كما استدلوا بالآيات المتضمنة لمعنى الوجه واليدين، ووصفه لنفسه بالإتيان والمجئ والهرولة فى حديث الرسول، وذلك كله باطل وكفر من متأوله؛ لقيام الدليل على تساوى الأجسام فى دلائل الحدث القائمة بها واستحالة كونه من جنس المحدثات، إذْ المحدث إنما كان محدثًا من حيث هو متعلق بمحدث أحدثه، وجعله بالوجود أولى منه بالعدم. فإن قالوا: الدليل على صحة ما نذهب إليه من أنه تعالى جسم قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن الله ليس بأعور، وإشارته إلى عينه بيده، وأن المسيح الدجال أعور عينه اليمنى) ففى إشارته إلى عينه بيمينه تنبيه منه على أن عينه كسائر الأعين.(10/432)
قلنا: تقدم فى دليلنا استحالة كونه جسمًا؛ لاستحالة كونه محدثًا، وإذا صح ذلك وجب صرف قوله (صلى الله عليه وسلم) وإشارته إلى عينه إلى معنى يليق به تعالى وهو نفى النقائص والعور منه، وأنه ليس كمن لا يرى ولا يبصر، بل هو منتف عنه جميع النقائص والآفات التى هى أضداد السمع والبصر وسائر صفات ذاته التى يستحيل وصفه بأضدادها؛ إذ الموصوف بها تارة وأضدادها أخرى محدث مربوب، لدلالة قيام الحوادث به على محدثه.
- باب قَوله تَعَالَى: (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ) [الحشر: 24]
/ 37 - فيه: أَبُو سَعِيد، أَنَّهُمْ أَصَابُوا سَبَايَا فِى غَزْوَةِ بَنِى الْمُصْطَلِقِ، فَأَرَادُوا أَنْ يَسْتَمْتِعُوا بِهِنَّ، وَلا يَحْمِلْنَ، فَسَأَلُوا النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الْعَزْلِ، فَقَالَ: (مَا عَلَيْكُمْ أَنْ لا تَفْعَلُوا، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ كَتَبَ مَنْ هُوَ خَالِقٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) . وَقَالَ أَبُو سَعِيد مرة، عن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَيْسَتْ نَفْسٌ مَخْلُوقَةٌ إِلا اللَّهُ خَالِقُهَا) . الكلام فى معنى قوله تعالى: (الْخَالِقُ (من وجهين: أحدهما أن يكون بمعنى المبدع والمنشىء لأعيان المخلوقات، وهذا معنى لا يشاركه فيه أحد من خلقه، لم يزل الله مسميًا لنفسه خالقًا ورازقًا على معنى أنه سيخلق وسيرزق، لا على معنى أنه خلق الخلق فى أزله لاستحالة قدم الخلق. والثانى: أن يكون الخلق بمعنى التصوير، وهذا أمر يصح مشاركة الخلق فيه له، فالخلق المذكور فى هذا الباب بمعنى الإبداع والاختراع(10/433)
لأعيان السموات والأرض، والخلق بمعنى التصوير فى قوله تعالى: (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) [المائدة: 110] ، أى تصور لا تخترع ومنه قول الشاعر: ولأنت تفرى ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفرى
- باب قَوله تَعَالَى: (لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ) [ص: 75]
/ 38 - فيه: أَنَس، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (يَجْمَعُ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ، فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا، فَيَأْتُونَ آدَمَ، فَيَقُولُونَ: يَا آدَمُ، أَمَا تَرَى النَّاسَ؟ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلائِكَتَهُ، وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَىْءٍ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا، فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكَ وَيَذْكُرُ لَهُمْ خَطِيئَتَهُ الَّتِى أَصَابَهَا، وَلَكِنِ ائْتُوا نُوحًا، فَإِنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الأرْضِ، فَيَأْتُونَ نُوحًا، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِى أَصَابَ، وَلَكِنِ ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ لَهُمْ خَطَايَاهُ الَّتِى أَصَابَهَا، وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى، عَبْدًا آتَاهُ اللَّهُ التَّوْرَاةَ وَكَلَّمَهُ تَكْلِيمًا، فَيَأْتُونَ مُوسَى، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ لَهُمْ خَطِيئَتَهُ الَّتِى أَصَابَ، وَلَكِنِ ائْتُوا عِيسَى عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ وَكَلِمَتَهُ وَرُوحَهُ، فَيَأْتُونَ عِيسَى، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَلَكِنِ ائْتُوا مُحَمَّدًا (صلى الله عليه وسلم) ، عَبْدًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَيَأْتُونِى، فَأَنْطَلِقُ، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّى، فَيُؤْذَنُ لِى عَلَيْهِ، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّى وَقَعْتُ لَهُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ(10/434)
اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِى، ثُمَّ يُقَالُ لِى: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، وَقُلْ يُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَحْمَدُ رَبِّى بِمَحَامِدَ عَلَّمَنِيهَا، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِى حَدًّا، فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَرْجِعُ، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّى وَقَعْتُ، سَاجِدًا، فَيَدَعُنِى مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِى، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، ن وَقُلْ يُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَحْمَدُ رَبِّى، بِمَحَامِدَ عَلَّمَنِيهَا رَبِّى، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِى حَدًّا، فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَرْجِعُ، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّى وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِى مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِى، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، قُلْ يُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَحْمَدُ رَبِّى بِمَحَامِدَ عَلَّمَنِيهَا، ثُمَّ أَشْفَعْ، فَيَحُدُّ لِى حَدًّا، فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَرْجِعُ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، مَا بَقِىَ فِى النَّارِ إِلا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَكَانَ فِى قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ شَعِيرَةً، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَكَانَ فِى قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ بُرَّةً، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَكَانَ فِى قَلْبِهِ مَا يَزِنُ مِنَ الْخَيْرِ ذَرَّةً) . / 39 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَدُ اللَّهِ مَلأى، لا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِى يَدِهِ، وَقَالَ: عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَبِيَدِهِ الأخْرَى الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ) . / 40 - وفيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِيّ، عليه السَّلام: (إِنَّ اللَّه يَقْبِضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الأرْضَين، فَإِنَّهُ لَم يغض مَا فِى يده، وَقَالَ: عرشه عَلى الْماء وَبِيَدِهِ الأخْرَى الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ) . / 41 - وفيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِيّ - عليه السلام -: (إِنَّ اللَّهَ يَقْبِضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الأرْضَين، وَتَكُونُ السَّمَوَاتُ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ) . / 42 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيّ - عليه السلام -: (يَقْبِضُ اللَّهُ الأرْضَ) .(10/435)
/ 43 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ، أَنَّ يَهُودِيًّا جَاءَ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، ُ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالأرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْجِبَالَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْخَلائِقَ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، ثُمَّ قَرَأَ: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الأنعام: 92] . وَقَالَ مرة: فَضَحِكَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) تَعَجُّبًا وَتَصْدِيقًا لَهُ. استدلاله من قوله تعالى: (لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ) [ص: 75] ، وسائر أحاديث الباب على إثبات يدين الله هما صفتان من صفات ذاته ليستا بجارحتين بخلاف قول المجثمة المثبتة أنهما جارحتان وخلاف قول القدرية النفاة لصفات ذاته، ثم إذا لم يجز أن يقال: إنهما جارحتان لم يجز أن يقال: إنهما قدرتان، ولا إنهما نعمتان؛ لأنهما لو كانتا قدرتين لفسد ذلك من وجهين: أحدهما: أن الأمة أجمعت من بين نافٍ لصفات ذاته، وبين مثبت لها أن لها تعالى ليس له قدرتان بل له قدرة واحدة فى قول المثبتة، ولا قدرة له فى قول النافية لصفاته؛ لأنهم يعتقدون كونه قادرًا لنفسه لا بقدرة والوجه الآخر أن الله تعالى قال لإبليس: (مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ) [ص: 75] ، قال إبليس مجيبًا له: أنا خير منه. فأخبر بالعلة التى من أجلها لم يسجد، وأخبره تعالى بالعلة التى لها أوجب عليه السجود، وهو أن خلقه بيديه، فلو كانت اليد القدرة التى خلق آدم بها وبها خلق إبليس لم يكن لاحتجاجه(10/436)
تعالى عليه بأن خلقه بما يوجب عليه السجود معنى؛ إذ إبليس مشارك لآدم فيما خلقه به تعالى من قدرته، ولم يعجز إبليس بأن يقول له: أى رب، وأى فضل له علىّ وأنا خلقتنى بقدرتك كما خلقته؟ ولم يعدل إبليس عن هذا الجواب إلى أن يقول: أنا خير منه؛ لأنه خلقه من نار وخلق آدم من طين، فعدول إبليس عن هذا الاحتجاج مع وضوحه دليل على أن آدم خصه الله تعالى من خلقه بيديه بما لم يخص به إبليس. وكيف يسوغ للقدرية القول بأن اليد هنا القدرة مع نفيهم للقدرة؟ وظاهر الآية مع هذا يقتضى يدين، فينبغى على الظاهر إثبات قدرتين، وذلك خلاف لأمة. ولا يجوز أن يكون المراد باليدين نعمتين لاستحالة خلق المخلوق بمخلوق مثله؛ لأن النعم مخلوقة كلها وإذا استحال كونهما جارحتين، وكونهما نعمتين، وكونهما قدرتين ثبت أنهما يدان صفتان لا كالأيدى والجوارح المعروفة عندنا، اختص آدم بأن خلقه بهما من بين سائر خلقه تكريمًا له وتشريفًا. وفى هذا الحديث دليل على إثبات شفاعة النبى (صلى الله عليه وسلم) لأهل الكبائر من أمته خلافًا لقول من أنكرها من المعتزلة والقدرية والخوارج، وهذا الحديث فى غاية الصحة والقوة تلقاه المسلمون بالقبول إلى أن حدث أهل العناد والرد لسنن الرسول، وفى كتاب الله تعالى ما يدل على صحة الشفاعة قوله تعالى إخبارًا عن الكفار؛ إذ قيل لهم: (مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ) [المدثر: 42 - 47] ، فأخبروا عن أنفسهم بالعلل التى من أجلها سلكوا فى سقر، ثم قال تعالى: (فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر: 48](10/437)
زجرًا لأمثالهم من الكافرين وترغيبًا للمؤمنين فى الإيمان لتحصل لهم به شفاعة الشافعين، وهذا دليل قاطع على ثبوت الشفاعة. فإن عارض الشفاعة معارض بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (من قتل نفسه بحديدة عذب بها فى نار جهنم خالدًا، ومن تحسى سمًا. .) الحديث. قيل له: يمكن الجمع بين هذا الحديث، وحديث الشفاعة بوجوه صحاح: فيجوز أن يكون فيمن قتل نفسه وأنفذ الله عليه الوعيد بأن خلده فى النار مدة أكثر من مدة من خرج بالشفاعة، ثم خرج من النار بعد ذلك مدة بشفاعة النبى (صلى الله عليه وسلم) بما فى قلبه من الإيمان المنافى للكفر؛ لأن الخلود الأبدى الدائم إنما يكون فى الكفار الجاحدين وما جاء فى كتاب الله من ذكر الخلود للمؤمنين كقوله تعالى: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا) [النساء: 93] ، فإنما يراد بالتخليد تطويل المدة عليه فى العذاب ولا يقتضى التأبيد كما يقتضى خلود الكافرين، ويحتمل أن يكون تأويل الحديث من قتل نفسه على وجه الاستحلال والردة فجزاؤه ما ذكر فى الحديث؛ لأن فاعل ذلك كافر لا محالة، ويشهد لهذا ما قاله قبيصة فى البخارى فى تأويل قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فسحقًا سحقًا) . قال: هو من المرتدين. وقد سلمت طائفة من المعتزلة شفاعة الرسول على الأمة لها ولشهادة ظواهر كتاب الله لها، فقالوا: تجوز شفاعته (صلى الله عليه وسلم) للتائب من الكبائر، ولمن أتى صغيرة مع اجتنابه الكبائر أو(10/438)
مؤمن لا ذنب له لتائب، وهذا كله فاسد على أصولهم لاعتقادهم أن الله يستحيل منه تعذيب التائب من كبيرته أو فاعل الصغائر إذا اجتنب الكبائر، أو تأخير ما استحق الذى لا ذنب له من الثواب؛ لأنه لو عذب من ذكرنا وأخر ثواب الآخر ولم يوف التائب والمجتنب للكبائر مع فعله الصغائر ثوابه على أعماله، لكان ذلك خارجًا عن الحكمة وظالمًا، وذلك من صفات المخلوقين. وإذا كان هذا أصلهم، فإثباتهم الشفاعة على هذا الوجه لا معنى له فبطل قولهم ولزمهم الشفاعة على الوجه الذى تقول به أهل السنة والحق، وهذا بين والحمد لله. وذكر الأنبياء (صلى الله عليه وسلم) فى حديث الشفاعة لخطاياهم، فإن الناس اختلفوا هل يجوز وقوع الذنوب منهم؟ فأجمعت الأمة على أنهم معصومون فى الرسالة، وأنه لا تقع منهم الكبائر، واختلفوا فى جواز الصغائر عليهم فأطبقت المعتزلة والخوارج على أنه لا يجوز وقوعها منهم، وزعموا أن الرسل لا يجوز أن تقع منهم ما ينفر الناس عنهم وأنهم معصومون من ذلك. وهذا باطل لقيام الدليل مع التنزيل وحديث الرسول: (أنه ليس كل ذنب كفرًا) . وقولهم: إن البارى تجب عليه عصمة الأنبياء، عليهم السلام، من الذنوب فلا ينفر الناس عنهم بمواقعهم لها هو فاسد بخلاف القرآن له، وذلك أن الله تعالى قد أنزل كتابه وفيه متشابه مع سابق علمه أنه سيكون ذلك سببًا لكفر قوم، فقال تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ) [آل عمران: 7] ، وقال(10/439)
تعالى: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ) [النحل: 101] فكان التبديل الذى هو النسخ سببًا لكفرهم كما كان إنزاله متشابهًا سببًا لكفرهم، وقال أهل السنة: جائز وقوع الصغائر من الأنبياء، واحتجوا بقوله تعالى مخاطبًا لرسوله: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) [الفتح: 2] فأضاف إليه الذنب، وقد ذكر الله فى كتابه ذنوب الأنبياء فقال تعالى: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) [طه: 121] ، وقال نوح لربه: (إِنَّ ابُنِى مِنْ أَهْلِى) [هود: 45] ، فسأله أن ينجيه، وقد كان تقدم إليه تعالى فقال: (وَلاَ تُخَاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ) [هود: 37] ، وقال إبراهيم: (وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِّينِ) [الشعراء: 82] ، وفى كتاب الله تعالى من ذكر خطايا الأنبياء ما لا خفاء به، وقد تقدم الاحتجاج فى هذه المسألة فى كتاب الدعاء فى باب قول النبى: (أللهم اغفر لى ما تقدم وتأخر) ما لم أذكره هاهنا. فإن قال قائل: ما معنى قول آدم: ولكن ائتوا نوحًا؛ فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض. وقد تقدم آدم قبله؟ فالجواب: أن آدم لم يكن رسولا؛ لأن الرسول يقتضى مرسلا إليه فى وقت الإرسال وهو أهبط إلى الأرض وليس فيها أحد. فإن قيل: لما تناسل منه ولده وجب أن يكون رسولا إليهم؟ قيل: إنما أهبط (صلى الله عليه وسلم) إلى الأرض وقد علمه الله أمر دينه وما يلزمه من طاعة ربه فلما حدث ولده بعده حملهم على دينه، وما هو(10/440)
عليه من شريعة ربه، كما أن الواحد منا إذا ولد له ولد يحمله على سنته وطريقته، ولا يستحق بذلك أن يسمى رسولا، وإنما سمى نوح رسولا؛ لأنه بعث إلى قوم كفار ليدعهم إلى الإيمان. وأما حديث الإصبع فإنه لما لم تصح أن تكون جارحة لما قدمنا من إبطال التجسيم فتأويله ما قال أبو الحسن الأشعرى: من أن هذا وشبهه مما أثبته الرسول لله ووصفه به راجع إلى أنه صفة ذات لا يجوز تحديدها ولا تكييفها. وقال أبو بكر بن فورك: يجوز أن يكون الإصبع خلقًا لله يخلقه يحمله ما حملت الإصبع، ويحتمل أن يكون المراد بالإصبع: إذا أراد الإخبار عن جريان قدرته عليه فذكر معظم المخلوقات، وأخبر عن قدرة الله على جميعها معظمًا لشأن الرب تعالى فى قدرته وسلطانه، فضحك رسول الله كالمتعجب منه أنه يستعظم ذلك فى قدرته، وأنه ليسير فى جنب ما يقدر عليه، ولذلك قرأ عليه قوله تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الأنعام: 91] ، أى ليس قدره فى القدرة على ما يخلق على الحد الذى ينتهى إليه الوهم ويحيط به الحد والحصر؛ لأنه تعالى يقدر على إمساك جميع مخلوقاته على غير شىء كما هى اليوم، لقوله تعالى: (رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا) [الرعد: 2] . وقوله: (لا يغيضها) أى: لا ينقصها. وقال أبو زيد: غاض ثمن السلعة أى: نقص، ومنه قوله تعالى: (وَغِيضَ الْمَاء) [هود: 44] .(10/441)
وقوله: سحاء. يقال: سح المطر والدمع وغيرهما سحوحًا وسحا: انصب وسال.
- بَاب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا أحد أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ
/ 44 - فيه: الْمُغِيرَةِ، قَالَ: قَالَ سَعْد: لَوْ رَأَيْتُ رَجُلا مَعَ امْرَأَتِى لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، وَاللَّهِ لأنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّى، وَمِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ اللَّهِ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ الْمُبَشِّرِينَ وَالْمُنْذِرِينَ، وَلا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمِدْحَةُ مِنَ اللَّهِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَعَدَ اللَّهُ الْجَنَّةَ) . وَقَالَ عُبَيْدُاللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِالْمَلِكِ: (لا شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ) . اختلفت ألفاظ هذا الحديث فروى ابن مسعود، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (لا أحد أغير من الله) ذكره فى آخر كتاب النكاح، وفى رواية عبيد الله، ورواية ابن مسعود مبينة أن لفظ الشخص موضوع موضع أحد على أنه من باب المستثنى من غير جنسه وصفته كقوله تعالى: (مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ) [النساء: 157] ، وليس الظن من نوع العلم بوجه، وأجمعت الأمة على أن الله لا يجوز أن يوصف بأنه شخص؛ لأن التوقيف لم يرد به، وقد منعت المجسمة من إطلاق الشخص عليه مع قولهم: إنه جسم. وأحد لفظ موضوع للأشتراك بين الله تعالى وبين خلقه، وقد نص الله على تسمية نفسه(10/442)
فقال: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) [الإخلاص: 1] ، وقد تقدم فى كتاب النكاح فى باب الغيرة، معنى الغيرة من الله أنها معنى: الزجر عن الفواحش والتحريم لها، ومعنى الحديث: أن الأشخاص الموصوفة بالغيرة لا تبلغ غيرتها غيرة الله وإن لم يكن شخصًا. وقوله: (لا أحد أحب إليه المدحة من الله) فالمحبة من الله تعالى للمدحة: إرادته من عباده طاعته وتنزيهه والثناء عليه؛ ليجازيهم على ذلك. وقوله: (لا أحد أحب إليه العذر من الله) فمعناه ما ذكر فى قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ) [الشورى: 25] ، فالعذر فى هذا الحديث: التوبة والإنابة.
- باب قوله: (قُلْ أَىُّ شَىْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ) [الأنعام: 19]
فَسَمَّى اللَّهُ نَفْسَهُ شَيْئًا، وَسَمَّى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، الْقُرْآنَ شَيْئًا، وَهُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ، وَقَالَ: (كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ) [القصص: 88] . / 45 - فيه: سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) لِرَجُلٍ: (أَمَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ شَىْءٌ) ؟ قَالَ: نَعَمْ سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا، لِسُوَرٍ سَمَّاهَا. قال عبد العزيز صاحب كتاب الحيدة: إنما سمى الله نفسه شيئًا إثباتًا للوجود ونفيًا(10/443)
للعدم، وكذلك أجرى على كلامه ما أجراه على نفسه فلم يتسم بالشئ ولم يجعل الشىء من أسمائه، ولكنه دل على نفسه أنه شىء أكبر الأشياء، إثباتًا للوجود ونفيًا للعدم، وتكذيبًا للزنادقة والدهرية ومن أنكر ربوبيته من سائر الأمم فقال لنبيه (صلى الله عليه وسلم) : (قُلْ أَىُّ شَىْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللهِ شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ) [الأنعام: 19] ، فدل على نفسه أنه شىء لا كالأشياء لعلمه السابق أن جهمًا وبشرًا ومن وافقهما سيلحدون فى أسمائه ويشبهون على خلقه ويدخلونه وكلامه فى الأشياء المخلوقة فقال تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ) [الشورى: 11] ، فأخرج نفسه وكلامه وصفاته عن الأشياء المخلوقة بهذا الخبر تكذيبًا لمن ألحد فى كتابه، وشبهه بخلقه. ثم عدد أسماءه فى كتابه فلم يتسم بالشىء، ولم يجعله من أسمائه فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لله تسعة وتسعون اسمًا) ثم ذكر كلامه كما ذكر نفسه ودل عليه بما دل على نفسه ليعلم الخلق أنه صفة من صفات ذاته فقال تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَىْءٍ) [الأنعام: 91] ، فذم الله اليهود حين نفت أن تكون التوراة شيئًا، وقال: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِىَ إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْءٌ) [الأنعام: 93] ، فدل أن الوحى شىء بالمعنى، والذم لمن جحد أن كلامه شىء، فكل صفة من صفاته باسم الشىء، وإنما أظهره باسم الهدى والنور والكتاب، ولم يقل من أنزل الشىء الذى جاء به موسى. قال غيره: وتسمية الله نفسه بشىء، يرد قول من زعم من أهل(10/444)
البدع لا يجوز أن يسمى الله بشىء وهو قول الناشىء ونظراته، وقولهم خلاف ما نص الله عليه فى كتابه وهو القائل: شىء إثبات موجود، ولا شىء نفى. فبان أن المعدوم ليس بشىء خلافًا لقول المعتزلة من أن المعدمات أشياء وأعيان على ما تكون عليه فى الوجود، وهذا قول يقتضى بقائله إلى قدم العالم ونفى الحدث والمحدث؛ لأن المعدومات إذا كانت على ما تكون عليه فى الوجود أعيانًا لم تكن لقدرة الله على خلقها وحدثها تعلق، وهذا كفر ممن قال به.
- باب) وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) [هود: 7] ) وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) [التوبة: 129]
قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: (اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ) [البقرة: 29] : ارْتَفَعَ،) فَسَوَّاهُنَّ (. خَلَقَهُنَّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: (اسْتَوَى (عَلا عَلَى الْعَرْشِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (الْمَجِيدُ (الْكَرِيمُ، وَ) الْوَدُودُ) [البروج: 14] الْحَبِيبُ، يُقَالُ: (حَمِيدٌ مَجِيدٌ) [هود: 73] كَأَنَّهُ فَعِيلٌ مِنْ مَاجِدٍ مَحْمُودٌ مِنْ حَمِدَ. / 46 - فيه: عِمْرَان، قَالَ: إِنِّى عِنْدَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) إِذْ جَاءَهُ قَوْمٌ مِنْ بَنِى تَمِيمٍ، فَقَالَ: (اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِى تَمِيمٍ) ، قَالُوا: بَشَّرْتَنَا، فَأَعْطِنَا، فَدَخَلَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَقَالَ: (اقْبَلُوا الْبُشْرَى، يَا أَهْلَ الْيَمَنِ) ، إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ، قَالُوا: قَبِلْنَا جِئْنَاكَ لِنَتَفَقَّهَ فِى الدِّينِ، وَلِنَسْأَلَكَ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الأمْرِ مَا كَانَ؟ قَالَ: (كَانَ اللَّهُ، وَلَمْ(10/445)
يَكُنْ شَىْءٌ قَبْلَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ، وَكَتَبَ فِى الذِّكْرِ كُلَّ شَىْءٍ) . / 47 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَمِينَ اللَّهِ مَلأى. . .) الحديث (وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ. . .) الحديث. / 48 - وفيه: أَنَس، جَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ يَشْكُو، فَجَعَلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (اتَّقِ اللَّهَ، وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) ، وَكَانَتْ تَفْخَرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) تَقُولُ: زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ، وَزَوَّجَنِى اللَّهُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ. / 49 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ اللَّهَ لَمَّا قَضَى الْخَلْقَ كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ: إِنَّ رَحْمَتِى سَبَقَتْ غَضَبِى) . / 50 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَقَامَ الصَّلاةَ، وَصَامَ رَمَضَانَ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، هَاجَرَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ جَلَسَ فِى أَرْضِهِ الَّتِى وُلِدَ فِيهَا) ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلا نُنَبِّئُ النَّاسَ بِذَلِكَ، قَالَ: (إِنَّ فِى الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِى سَبِيلِهِ، كُلُّ دَرَجَتَيْنِ مَا بَيْنَهُمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ) . / 51 - وفيه: أَبُو ذَرّ، دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ وَالنَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) جَالِسٌ، فَلَمَّا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، قَالَ: (يَا أَبَا ذَرٍّ، هَلْ تَدْرِى أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ) ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: (إِنَّهَا تَذْهَبُ تَسْتَأْذِنُ فِى السُّجُودِ، يُؤْذَنُ لَهَا، وَكَأَنَّهَا قَدْ قِيلَ لَهَا: ارْجِعِى مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا) ، ثُمَّ قَرَأَ: (ذَلِكَ مُسْتَقَرٌّ لَهَا (فِى قِرَاءةِ عَبْدِاللَّهِ.(10/446)
/ 52 - وفيه: زَيْد، أَرْسَلَ إِلَىَّ أَبُو بَكْرٍ، فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ خُزَيْمَةَ، أَوْ أَبِى خُزَيْمَةَ الأنْصَارِىِّ، لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [التوبة: 128] حَتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةٌ، يعنِى) وَهُو رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (. / 53 - وفيه: ابْن عَبَّاس، كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ: (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ الْعَلِيمُ الْحَلِيمُ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ، وَرَبُّ الأرْضِ، رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) . / 54 - وفيه: أَبُو سَعِيد، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (النَّاسُ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ) . / 55 - وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ بُعِثَ، فَإِذَا مُوسَى آخِذٌ بِالْعَرْشِ) . غرضه فى هذا الباب إثبات حديث العرش بدليل قوله تعالى: (وَهُو رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) [التوبة: 129] ، وبدليل قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش) فوصفه تعالى بأنه مربوب كسائر المخلوقات ووصفه (صلى الله عليه وسلم) بأنه ذو أبعاض وأجزاء منها ما سمى قائمة، والمتبعض والمتجزئ لا محالة جسم، والجسم مخلوق، لقيام دلائل الحدث به من التأليف خلافًا لما تقوله الفلاسفة أن العرش هو الصانع الخالق. وأما الاستواء فاختلف الناس فى معناه: فقالت المعتزلة: إنه بمعنى الاستيلاء والقهر والغلبة، واحتجوا بقول الشاعر:(10/447)
قد استوى بشر على العراق
من غير سيف ودم مهراق
بمعنى: قهر وغلب، ثم اختلف من سواهم فى العبارة عن الاستواء. فقال أبو العالية: استوى: ارتفع. وقال مجاهد: استوى: علا. وقال غيرهما: استوى: استقر. فأما قول من جعل الاستواء بمعنى القهر والاستيلاء فقول فاسد؛ لأن الله تعالى لم يزل قاهرًا غالبًا مستوليًا. وقوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى (يقتضى استفتاح هذا الوصف واستحقاقه بعد أن لم يكن، كما أن المذكور فى البيت إنما حصل له هذا الوصف بعد أن لم يكن، وتشبيههم أحد الاستواءين بالآخر غير صحيح، ومؤد إلى أنه تعالى كان مغالبًا فى ملكه، وهذا منتف عن الله؛ لأن الله تعالى هو الغالب لجميع خلقه، وأما من قال تأويله: استقر. فقول فاسد أيضًا؛ لأن الاستقرار من صفات الأجسام، وأما قول من قال: تأويله: ارتفع. فنقول مرغوب عنه لما فى ظاهره من إيهام الانتقال من سفل إلى علو، وذلك لا يليق بالله، وأما قول من قال: علا. فهو صحيح وهو مذهب أهل السنة والحق. فإن قيل: ما ألزمته فى ارتفع مثله يلزم فى علا. قيل: الفرق بينهما أن الله وصف نفسه بالعلو بقوله: (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [يونس: 18] ، فوصف نفسه بالتعالى والتعالى من صفات الذات، ولم يصف نفسه بالارتفاع. وقال غيره: الاستواء ينصرف فى لسان العرب إلى ثلاثة أوجه: فالوجه الأول: قوله تعالى فى ركوب الأنعام: (ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا(10/448)
اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) [الزخرف: 13] ، فهذا الاستواء بمعنى الحلول، وهو منتف عن الله تعالى لأن الحلول يدل على التحديد والتناهى، فبطل أن يكون حلاً على العرش لهذا الوجه. والوجه الثانى: الاستواء بمعنى الملك للشىء والقدرة عليه كما قال بعض الأعراب، وسئل عن الاستواء فقال: خضع له ما فى السموات وما فى الأرض، ودان له كل شىء وذل، كما نقول للملك إذا دانت له البلاد بالطاعة: قد استوت له البلاد. والوجه الثالث: الاستواء بمعنى التمام للشىء والفراغ منه كقوله تعالى: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ) [الأحقاف: 15] ، فالاستواء فى هذا الموضع: التمام، كقوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه: 5] ، أراد التمام للخلق كله، وإنما قصد بذكر العرش؛ لأنه أعظم الأشياء، ولا يدل قوله تعالى: (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء) [هود: 7] أنه حال عليه، وإنما أخبر عن العرش خاصة أنه على الماء ولم يخبر عن نفسه أنه جعله للحلول، لأن هذا كان يكون حاجة منه إليه، وإنما جعله ليعبد به ملائكته فقال تعالى: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) [غافر: 7] الآية. وكذلك تعبد الخلق بحج بيته الحرام ولم يسمه بيته، بمعنى أنه سكنه وإنما سماه بيته بأنه الخالق له والمالك، وكذلك العرش سماه عرشه؛ لأنه مالكه والله تعالى ليس لأوليته حد ولا منتهى، وقد كان فى أزليته وحده ولا عرش معه سبحانه وتعالى، ثم اختلف أهل السنة: هل الاستواء صفة(10/449)
ذات أو صفة فعل؟ فمن قال هو بمعنى علا جعله صفة ذات، وأن الله تعالى لم يزل مستويًا بمعنى أنه لم يزل عاليًا. ومن قال: إنه صفة فعل قال: إن الله تعالى فعل فعلاً سماه استواء على عرشه لا أن ذلك الفعل قائم بذاته تعالى لاستحالة قيام الحوادث به. وأما قول بنى تميم للنبى (صلى الله عليه وسلم) : (بشرتنا فأعطنا) فإنما قالوه جريًا على عاداتهم فى أن البشرى إنما كانت تستعمل فى فوائد الدنيا. قال المهلب: وفى حديث عمران أن السؤال عن مبادئ الأشياء والبحث عنها جائز فى الشريعة وجائز للعالم أن يجيب السائل عنها بما انتهى إليه علمه فيها إذا كان تثبيتًا للإيمان وأما إن خشى من السائل إيهام شك أو تقصير فهم، فلا يجيب فيه ولينهه عن ذلك، ويزجره. وقول عمران: (وددت أن ناقتى ذهبت) ، ولم أقم فيه دليل على جواز إضاعة المال فى طلب العلم بل فى مسألة منه. قال غيره: وأما قوله: (يمين الله ملأى) ففيه إثبات اليمين صفة ذات الله تعالى لا صفة فعل، وليست بجارحة لما تقدم قبل هذا. وقوله: (ملأى) ليس حلول المال فيها؛ لأن ذلك من صفات الأجسام وإنما هو إخبار منه (صلى الله عليه وسلم) عن أن ما يقدر عليه من النعم وإرزاق عباده لا غاية له ولا نفاذ، لقيام الديل على تعلق وجوب قدرته بما لا نهاية له من مقدوراته؛ لأنه لو تعلقت قدرته متناهية لكان ذلك نقصًا لا يليق به.(10/450)
وأما قوله: (فإن حقًا على الله أن يدخله الجنة) ففيه تعلق للمعتزلة والقدرية القائلين بأن واجب عليه الوفاء لعبده الطائع بأجر عمله، وأنه لو أخره عنه فى الآخرة كان ظلمًا له. هذا متقرر عندهم فى العقول، قالوا: وجاءت السنة بتأكيد ما فى العقول من ذلك. وقولهم فاسد، ومذهب أهل السنة أن لله تعالى أن يعذب الطائعين من عباده وينعم على الكافرين، غير أن الله تعالى أخبرنا فى كتابه وعلى لسان رسوله أنه لا يعذب إلا من كفر به، ومن وافاه بكبيرة ممن شاء لله تعذيبه عليها. فمعنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن حقًا على الله أن يدخلها الجنة) . ليس على أن معنى ذلك واجب عليه؛ لأن واجبًا يقتضى موجبًا له عليه والله تعالى ليس فوقه آمر ولا ناه يوجب عليه ما يلزمه المطالبة به، وإنما معناه: إنجاز ما وعد به من فعل ما ذكر فى الحديث؛ لأن وعده تعالى عبده على فعل تقدم إعلامه قبل فعله، ووعده خبر ولا يصح منه تعالى إخلاف عبده ما وعده لقيام الدليل على أن الصدق من صفات ذاته، فعبر (صلى الله عليه وسلم) فى هذا المعنى بقوله: (فإن حقا على الله أن يدخله الجنة) بمعنى: أنه يستحيل عليه إخلاف ما وعد عبده على عمله. وأما استئذان الشمس فى السجود، فالاستئذان قول لها، والله على كل شىء قدير، فيمكن أن يخلق الله فيها حياة توجد القول عندها فتقبل الأمر والنهى؛ لأن الله قادر على إحياء الجماد والموت، وأعلم (صلى الله عليه وسلم) أن طلوعها من مغربها شرط من أشراط الساعة.(10/451)
- بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) [المعارج: 4] وَقَوْلِهِ: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) [فاطر: 10]
وَقَالَ ابْن عَبَّاس: بَلَغَ أَبَا ذَرٍّ مَبْعَثُ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ لأخِيهِ: اعْلَمْ لِى عِلْمَ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِى يَزْعُمُ أَنَّهُ يَأْتِيهِ الْخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: (الْعَمَلُ الصَّالِحُ (يَرْفَعُ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ، يُقَالُ: (ذِى الْمَعَارِجِ (: الْمَلائِكَةُ تَعْرُجُ إِلَى اللَّهِ. / 56 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهَارِ وَيَجْتَمِعُونَ فِى صَلاةِ الْعَصْرِ، وَصَلاةِ الْفَجْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ، كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِى؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ) . / 57 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلا يَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ إِلا الطَّيِّبُ. . .) الحديث. / 58 - وفيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَدْعُو بِهِنَّ عِنْدَ الْكَرْبِ: (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) . / 59 - وفيه: أَبُو سَعِيد، بَعَثَ عَلِىٌّ إِلَى النَّبِيِّ - عليه السلام - من الْيَمَن بِذُهَيْبَةٍ فِى تُرْبَتِهَا، فَقَسَمَهَا بَيْنَ أربعة، فَتَغَيَّظَتْ قُرَيْشٌ وَالأنْصَارُ، وَقَالُوا: يُعْطِيهِ صَنَادِيدَ أَهْلِ نَجْدٍ، وَيَدَعُنَا، قَالَ: إِنَّمَا أَتَأَلَّفُهُمْ، فَأَقْبَلَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ، نَاتِئُ الْجَبِينِ، كَثُّ اللِّحْيَةِ، مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ، مَحْلُوقُ الرَّأْسِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، اتَّقِ اللَّهَ، فَقَالَ: (فَمَنْ يُطِيعُ اللَّهَ إِذَا عَصَيْتُهُ، فَيَأْمَنُنِى عَلَى أَهْلِ الأرْضِ، وَلا تَأْمَنُونِي. . .) الحديث.(10/452)
/ 60 - وفيه: أَبُو ذَرّ، سَأَلْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا) [يس: 38] قَالَ: (مُسْتَقَرُّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ) . غرضه فى هذا الباب رد شبهة الجهمية المجسمة فى تعلقها بظاهر قوله: (ذِى الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) [المعارج: 3، 4] ، وقوله: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) [فاطر: 10] ، وما تضمنته أحاديث الباب من هذا المعنى، وقد تقدم الكلام فى الرد عليهم وهو أن الدلائل الواضحة قد قامت على أن البارى تعالى ليس بجسم ولا محتاجًا إلى مكان يحله ويستقر فيه؛ لأنه تعالى قد كان ولا مكان وهو على ما كان، ثم خلق المكان فمحال كونه غنيا عن المكان قبل خلقه إياه، ثم يحتاج إليه بعد خلقه له هذا مستحيل، فلا حجة لهم فى قوله: (ذِى الْمَعَارِجِ (لأنه إنما أضاف المعارج إليه إضافة فعل، وقد كان لا فعل له موجود، وقد قال ابن عباس فى قوله: (ذِى الْمَعَارِجِ (هو بمعنى: العلو والرفعة، وكذلك لا شبهة لهم فى قوله تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) [فاطر: 10] ، لأن صعود الكلم إلى الله تعالى لا يقتضى كونه فى جهة العلو لأن البارى تعالى لا تحويه جهة؛ إذ كان موجودًا ولا جهة، وإذا صح ذلك وجب صرف هذا عن ظاهره وإجراؤه على المجاز؛ لبطلان إجرائه على الحقيقة، فوجب أن يكون تأويل قوله: (ذِى الْمَعَارِجِ (رفعته واعتلاؤه على خليقته وتنزيهه عن الكون فى جهة؛ لأن فى ذلك ما يوجب كونه جسمًا تعالى الله عن ذلك، وأما وصف الكلام بالصعود إليه فمجاز أيضًا واتساع؛ لأن الكلم عرض والعرض لا يصح أن يفعل؛ لأن من(10/453)
شرط الفاعل كونه حيًا قادرًا عالمًا مريدًا، فوجب صرف الصعود المضاف إلى الكلم إلى الملائكة الصاعدين به.
- بَاب قَول تَعَالَى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) [القيامة: 22، 23]
/ 61 - فيه: جَرِير، كُنَّا عِنْدَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) إِذْ نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَقَالَ: (إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ، لا تُضَامُونَ فِى رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لا تُغْلَبُوا عَلَى صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلاةٍ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَافْعَلُوا) . وَقَالَ جَرِير مرة: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا) . / 62 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّاسَ قَالُوا: هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ النَّبِىّ - عليه السلام -: (هَلْ تُضَارُّونَ فِى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ) . قَالُوا: لا يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ قَالَ: (فَهَلْ تُضَارُّونَ فِى الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ) ؟ قَالُوا: لا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ، يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتْبَعْهُ، فَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ، وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَرَ، وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ، الطَّوَاغِيتَ، وَتَبْقَى هَذِهِ الأمَّةُ فِيهَا شَافِعُوهَا، أَوْ مُنَافِقُوهَا، شَكَّ إِبْرَاهِيمُ، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: هَذَا مَكَانُنَا، حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا جَاءَنَا رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فِى صُورَتِهِ الَّتِى يَعْرِفُونَ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا، فَيَتْبَعُونَهُ وَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَىْ جَهَنَّمَ، فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِى أَوَّلَ مَنْ يُجِيزُهَا، وَلا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ إِلا الرُّسُلُ، وَدَعْوَى الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ، سَلِّمْ، وَفِى جَهَنَّمَ(10/454)
كَلالِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، هَلْ رَأَيْتُمُ السَّعْدَانَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، غَيْرَ أَنَّهُ لا يَعْلَمُ مَا قَدْرُ عِظَمِهَا إِلا اللَّهُ، تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمُ الْمُوبَقُ بَقِىَ بِعَمَلِهِ، أَوِ الْمُوثَقُ بِعَمَلِهِ، وَمِنْهُمُ الْمُخَرْدَلُ، أَوِ الْمُجَازَى، أَوْ نَحْوُهُ، ثُمَّ يَتَجَلَّى حَتَّى إِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ، وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ بِرَحْمَتِهِ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، أَمَرَ الْمَلائِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا مِمَّنْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَرْحَمَهُ مِمَّنْ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَيَعْرِفُونَهُمْ فِى النَّارِ بِأَثَرِ السُّجُودِ، تَأْكُلُ النَّارُ ابْنَ آدَمَ إِلا أَثَرَ السُّجُودِ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ، أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ، فَيَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ قَدِ امْتُحِشُوا، فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءُ الْحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ تَحْتَهُ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِى حَمِيلِ السَّيْلِ، ثُمَّ يَفْرُغُ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ، وَيَبْقَى رَجُلٌ مِنْهُمْ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ عَلَى النَّارِ هُوَ آخِرُ أَهْلِ النَّارِ دُخُولا الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: أَىْ رَبِّ، اصْرِفْ وَجْهِى عَنِ النَّارِ، فَإِنَّهُ قَدْ قَشَبَنِى رِيحُهَا، وَأَحْرَقَنِى ذَكَاؤُهَا، فَيَدْعُو اللَّهَ بِمَا شَاءَ أَنْ يَدْعُوَهُ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُ هَلْ عَسَيْتَ إِنْ أَعْطَيْتُكَ: ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَنِى غَيْرَهُ، فَيَقُولُ: لا وَعِزَّتِكَ، لا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ، وَيُعْطِى رَبَّهُ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ مَا شَاءَ، فَيَصْرِفُ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ، فَإِذَا أَقْبَلَ عَلَى الْجَنَّةِ، وَرَآهَا سَكَتَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَىْ رَبِّ، قَدِّمْنِى إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ اللَّهُ، لَهُ: أَلَسْتَ قَدْ أَعْطَيْتَ عُهُودَكَ وَمَوَاثِيقَكَ أَنْ لا تَسْأَلَنِى غَيْرَ الَّذِى أُعْطِيتَ أَبَدًا، وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ، مَا أَغْدَرَكَ، فَيَقُولُ: أَىْ رَبِّ، وَيَدْعُو اللَّهَ حَتَّى يَقُولَ: هَلْ عَسَيْتَ إِنْ أُعْطِيتَ ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَهُ؟ فَيَقُولُ: لا وَعِزَّتِكَ، لا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ، وَيُعْطِى مَا شَاءَ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ، فَيُقَدِّمُهُ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَإِذَا قَامَ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ،(10/455)
انْفَهَقَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، فَرَأَى مَا فِيهَا مِنَ الْحَبْرَةِ وَالسُّرُورِ، فَيَسْكُتُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَىْ رَبِّ، أَدْخِلْنِى الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ اللَّهُ: أَلَسْتَ قَدْ أَعْطَيْتَ عُهُودَكَ وَمَوَاثِيقَكَ: أَنْ لا تَسْأَلَ غَيْرَ مَا أُعْطِيتَ؟ فَيَقُولُ: وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ، مَا أَغْدَرَكَ، فَيَقُولُ: أَىْ رَبِّ، لا أَكُونَنَّ أَشْقَى خَلْقِكَ، فَلا يَزَالُ يَدْعُو حَتَّى يَضْحَكَ اللَّهُ مِنْهُ، فَإِذَا ضَحِكَ مِنْهُ، قَالَ لَهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَإِذَا دَخَلَهَا، قَالَ اللَّهُ لَهُ: تَمَنَّهْ، فَسَأَلَ رَبَّهُ وَتَمَنَّى حَتَّى إِنَّ اللَّهَ لَيُذَكِّرُهُ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا حَتَّى انْقَطَعَتْ بِهِ الأمَانِىُّ، قَالَ اللَّهُ: ذَلِكَ لَكَ وَمِثْلُهُ) . مَعَهُ قَالَ عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىُّ، مَعَ أَبِى هُرَيْرَةَ لا يَرُدُّ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِهِ شَيْئًا حَتَّى إِذَا حَدَّثَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ: ذَلِكَ لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ مَعَهُ، يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَا حَفِظْتُ إِلا قَوْلَهُ ذَلِكَ: لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىُّ، أَشْهَدُ أَنِّى حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَوْلَهُ: ذَلِكَ، لَكَ وَعَشَرَةُ، أَمْثَالِهِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، فَذَلِكَ الرَّجُلُ آخِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولا الْجَنَّةَ. / 63 - وفيه: ابْن عَبَّاس، كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا تَهَجَّدَ مِنَ اللَّيْلِ، قَالَ: (اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ) ، إلى قوله: (أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقُّ. . .) الحديث. / 64 - وفيه: عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، وَلا حِجَابٌ يَحْجُبُهُ) . / 65 - وفيه: أَبُو سَعِيد، مثل حديث أبى هريرة الطويل، إلى قوله: فِيَذْهَبْ أَصْحَابُ كُلِّ آلِهَةٍ مَعَ آلِهَتِهِمْ، حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ، وَغُبَّرَاتٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، ثُمَّ يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ تُعْرَضُ كَأَنَّهَا(10/456)
سَرَابٌ، فَيُقَالُ لِلْيَهُودِ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ ابْنَ اللَّهِ: فَيُقَالُ: كَذَبْتُمْ، لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ صَاحِبَةٌ وَلا وَلَدٌ، فَمَا تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: نُرِيدُ أَنْ تَسْقِيَنَا، فَيُقَالُ: اشْرَبُوا، فَيَتَسَاقَطُونَ فِى جَهَنَّمَ، ثُمَّ يُقَالُ لِلنَّصَارَى: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: كُنَّا نَعْبُدُ الْمَسِيحَ ابْنَ اللَّهِ، فَيُقَالُ: كَذَبْتُمْ، لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ صَاحِبَةٌ وَلا وَلَدٌ، فَمَا تُرِيدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: نُرِيدُ أَنْ تَسْقِيَنَا، فَيُقَالُ: اشْرَبُوا، فَيَتَسَاقَطُونَ فِى جَهَنَّمَ، حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا يَحْبِسُكُمْ: وَقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ، فَيَقُولُونَ: فَارَقْنَاهُمْ، وَنَحْنُ أَحْوَجُ مِنَّا إِلَيْهِ الْيَوْمَ، وَإِنَّا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِى: لِيَلْحَقْ كُلُّ قَوْمٍ بِمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ، وَإِنَّمَا نَنْتَظِرُ رَبَّنَا، قَالَ: فَيَأْتِيهِمُ الْجَبَّارُ فِى صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِى رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا، فَلا يُكَلِّمُهُ إِلا الأنْبِيَاءُ، فَيَقُولُ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ تَعْرِفُونَهُ؟ فَيَقُولُونَ: السَّاقُ، فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ، فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ، وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَيَذْهَبُ كَيْمَا يَسْجُدَ، فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا، ثُمَّ يُؤْتَى بِالْجَسْرِ، فَيُجْعَلُ بَيْنَ ظَهْرَىْ جَهَنَّمَ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْجَسْرُ؟ قَالَ: مَدْحَضَةٌ مَزِلَّةٌ عَلَيْهِ خَطَاطِيفُ وَكَلالِيبُ، وَحَسَكَةٌ مُفَلْطَحَةٌ لَهَا شَوْكَةٌ عُقَيْفَاءُ تَكُونُ بِنَجْدٍ، يُقَالُ لَهَا: السَّعْدَانُ، الْمُؤْمِنُ عَلَيْهَا كَالطَّرْفِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَنَاجٍ مَخْدُوشٌ وَمَكْدُوسٌ فِى نَارِ جَهَنَّمَ حَتَّى يَمُرَّ آخِرُهُمْ، يُسْحَبُ سَحْبًا، فَمَا أَنْتُمْ بِأَشَدَّ لِى مُنَاشَدَةً فِى الْحَقِّ قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِ يَوْمَئِذٍ لِلْجَبَّارِ، وَإِذَا رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ نَجَوْا فِى إِخْوَانِهِمْ، يَقُولُونَ: رَبَّنَا إِخْوَانُنَا كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا، وَيَصُومُونَ مَعَنَا، وَيَعْمَلُونَ مَعَنَا، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ، وَيُحَرِّمُ اللَّهُ صُوَرَهُمْ عَلَى النَّارِ، فَيَأْتُونَهُمْ وَبَعْضُهُمْ قَدْ(10/457)
غَابَ فِي النَّارِ إِلَى قَدَمِهِ وَإِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا، ثُمَّ يَعُودُونَ، فَيَقُولُ: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا، ثُمَّ يَعُودُونَ، فَيَقُولُ: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَإِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِى فَاقْرَءُوا: (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا) [النساء: 40] فَيَشْفَعُ النَّبِيُّونَ وَالْمَلائِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ، فَيَقُولُ الْجَبَّارُ: بَقِيَتْ شَفَاعَتِى فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ، فَيُخْرِجُ أَقْوَامًا قَدِ امْتُحِشُوا، فَيُلْقَوْنَ فِى نَهَرٍ، بِأَفْوَاهِ الْجَنَّةِ، يُقَالُ لَهُ: مَاءُ الْحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ فِى حَافَتَيْهِ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِى حَمِيلِ السَّيْلِ قَدْ رَأَيْتُمُوهَا إِلَى جَانِبِ الصَّخْرَةِ وَإِلَى جَانِبِ الشَّجَرَةِ، فَمَا كَانَ إِلَى الشَّمْسِ مِنْهَا كَانَ أَخْضَرَ، وَمَا كَانَ مِنْهَا إِلَى الظِّلِّ كَانَ أَبْيَضَ، فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمُ اللُّؤْلُؤُ، فَيُجْعَلُ فِى رِقَابِهِمُ الْخَوَاتِيمُ، فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ أَهْلُ الْجَنَّةِ: هَؤُلاءِ عُتَقَاءُ الرَّحْمَنِ، أَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ، وَلا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ، فَيُقَالُ لَهُمْ: لَكُمْ مَا رَأَيْتُمْ وَمِثْلَهُ مَعَهُ) . / 66 - وفيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يُحشر النَّاس يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُهِمُّوا بِذَلِكَ، فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا فَيُرِيحُنَا مِنْ مَكَانِنَا، فَيَأْتُونَ آدَمَ. . .) فذكر حديث الشفاعة، (فَيَأْتُونِى، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّى فِى دَارِهِ، فَيُؤْذَنُ لِى عَلَيْهِ، فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا. . .) ، الحديث، (فأَشْفَعُ، فَيَحُدُّ لِى حَدًّا، فَأُخْرِجُهُمْ، وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، فلا يَبْقَى فِى النَّارِ إِلا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ، أَىْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ) ، ثُمَّ تَلا:(10/458)
) عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) [الإسراء: 79] ، قَالَ: وَهَذَا الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِي وُعِدَهُ نَبِيُّكُمْ. / 67 - وفيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِيّ - عليه السلام - أَرْسَلَ إِلَى الأنْصَارِ فَجَمَعَهُمْ فِى قُبَّةٍ، وَقَالَ لَهُمُ: (اصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنِّى عَلَى الْحَوْضِ) . / 68 - وفيه: أَبُو مُوسَى قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ كذلك، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلا رِدَاءُ الْكِبْرِ عَلَى وَجْهِهِ فِى جَنَّةِ عَدْنٍ) . / 69 - وفيه: عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنِ اقْتَطَعَ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينٍ كَاذِبَةٍ لَقِىَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ، ثُمَّ قَرَأَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) مِصْدَاقَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ (الآيَةَ [آل عمران: 77] ) . / 70 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيّ - عليه السلام -: (ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ، وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ: رَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ، لَقَدْ أَعْطَى بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى، وَهُوَ كَاذِبٌ، وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ؛ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ، فَيَقُولُ اللَّهُ: الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِى، كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ) . / 71 - وفيه: أَبُو بَكْرَةَ، قَالَ النَّبِيّ - عليه السلام -: (إن الزَّمَانُ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ) ، الحديث (وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ) .(10/459)
قال المؤلف: استدل البخارى بقوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) [القيامة: 22، 23] ، وبأحاديث هذا الباب على أن المؤمنين يرون ربهم فى جنات النعيم وهذا باب اختلف الناس فيه، فذهب أهل السنة وجمهور الأمة إلى جواز رؤية الله تعالى فى الآخرة، ومنعت من ذلك الخوارج والمعتزلة وبعض المرجئة واستدلوا على ذلك بأن الرؤية توجب كون المرئى محدثًا وحالا فى مكان فى شبه أخر نقض بعضها مغن عن نقض سائرها وزعموا أن قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (بمعنى منتظرة. فيقال لهم: هذا جهل بموضع اللغة؛ لأن النظر فى كلام العرب ينقسم أربعة أقسام: يكون بمعنى الانتظار، ويكون بمعنى التفكر والاعتبار، ويكون بمعنى التعطف والرحمة، ويكون بمعنى الرؤية للأبصار؛ فخطأ كونه فى الآية بمعنى الانتظار من وجهين: أحدهما أنه قد عدى إلى مفعوله (بإلى) وهو إذا كان بمعنى الانتظار لا يتعدى بها، وإنما يتعدى بنفسه قال تعالى: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ) [الزخرف: 66] فعداه بنفسه لما كان بمعنى ينتظرون. قال الشاعر: فإنكما إن تنظرانى ساعة من الدهر تنفعنى أرى أم جندب بمعنى: تنتظرانى. والوجه الثانى: أن حمله على معنى الانتظار لا يخلو إما أن يراد به منتظرة ربها أو منتظرة ثوابه، وعلى أى الوجهين حُمل فهو خطأ؛ لأن المنتظر لما ينتظره فى تنغيص وتكدير، والله تعالى قد(10/460)
وصف أهل الجنة بغير ذلك وأن لهم فيها ما يشاءون. فبطل كون النظر فى الآية بمعنى الاعتبار والتفكر؛ لأن الآخرة ليست بدار اعتبار وتفكر؛ إذ ليست بدار محنة وعبادة؛ ولأن ذاته تعالى ليست مما يعتبر بها؛ فبطل قولهم. ويبطل كون النظر فى الآية بمعنى التعطف والرحمة؛ لأن ذاته تعالى ليست مما يتعطف عليها وترحم. فإذا بطلت هذه الأقسام الثلاثة؛ صح القسم الرابع وهو النظر إلى ربها بمعنى الرؤية بالأبصار له تعالى، وهو ما ذهب إليه جمهور المسلمين قبل حدوث القائلين بهذه الضلالة، وشهدت له السنن الثابتة من الطرق المختلفة. وما احتج به من نفى الرؤية من أنها توجب كون المرئى محدثًا فهو فاسد؛ لقيام الدلائل على أن الله تعالى موجود وأن الرؤية منزلتها فى تعلقها بالمرئى منزلة العلم فى تعلقه بالمعلوم، فكما أن العلم المتعلق بالموجود لا يختص بموجود دون موجود، ولا توجب تعلقه به حدثه كذلك للرؤية فى تعلقها بالمرئى لا يوجب حدثه. واحتج نفاة الرؤية بقوله تعالى: (لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) [الأنعام: 103] ، وبقوله تعالى لموسى: (لَن تَرَانِى) [الأعراف: 143] فى جوابه سؤاله الرؤية، وهذا لا تعلق لهم فيه؛ لأن قوله: (لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ (وقوله: (لَن تَرَانِى (لفظ عام، وقوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) [القيامة: 22، 23] ، خاص، والخاص يقضى على العام ويبينه، فمعنى الآية لا تدركه الأبصار فى الدنيا؛ لأنه تعالى قد أشار إلى أن المراد بقوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (الآخرة؛ لقوله:(10/461)
يومئذ، وكذلك يكون معنى قوله لموسى: (لَن تَرَانِى (فى الدنيا، ولأنه قد ثبت أن نفى الشىء لا يقتضى إحالته؛ بل قد يتناول المستحيل وجوده والجائز وجوده، فلا تعلق لهم بالآيتين مع ما يشهد لصحة الرؤية لله تعالى من الأحاديث الثابتة التى تلقاها المسلمون بالقبول من عصر الصحابة والتابعين، رضى الله عنهم أجمعين إلى حدوث المارقين المنكرين للرؤية. وأما وصفه (صلى الله عليه وسلم) لله تعالى بالإتيان بقوله: (فيأتيهم الله) . فليس على معنى الإتيان المعهود فيما بيننا الذى هو انتقال وحركة؛ لاستحالة وصفه بما توصف به الأجسام، فوجب حمله على أنه يفعل فعلا يسميه إتيانًا وصف تعالى به نفسه، ويحتمل أن يكون الإتيان المعهود فيما بيننا خلقه تعالى لغيره من ملائكة فأضافه إلى نفسه كما يقول القائل: قطع الأمير اللص، وهو لم يل ذلك بنفسه إنما أمر به. وأما وصفه تعالى بالصورة فى قوله: فيأتيهم الله فى صورته. ففيه إيهام للمجسمة أنه تعالى ذو صورة، ولا حجة لهم فيه؛ لأن الصورة هاهنا يحتمل أن تكون بمعنى العلامة وضعها الله تعالى دليلا لهم على معرفته والتفرقة بينه وبين مخلوقاته، فسمى الدليل والعلامة صورة مجازًا كما تقول العرب: صورة حديثك كيت وكيت، وصورة أمرك كذا وكذا، والحديث والأمر لا صورة لهما، وإنما يريدون حقيقة حديثك وأمرك كذا وكذا. قال المهلب: وأما قوله: (فإذا رأينا ربنا عرفناه) فإنما ذلك أن الله(10/462)
تعالى يبعث إليهم ملكًا ليفتنهم ويختبرهم فى اعتقاد صفات ربهم الذى ليس كمثله شىء فإذا قال لهم الملك: أنا ربكم، رأوا عليه دليل الخلقة التى تشبه المخلوقات فيقولون: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاءنا عرفناه. أى أنك لست ربنا، فيأتيهم الله فى صورته التى يعرفون أى يظهر إليهم فى ملك لا ينبغى لغيره وعظمة لا تشبه شيئًا من مخلوقاته، فيعرفون أن ذلك الجلال والعظمة لا تكون لغيره، فيقولون: أنت ربنا لا يشبهك شىء. فالصورة يعبر بها عن حقيقة الشئ. وأما قوله: (فيقال: هل بينكم وبينه آية تعرفونها؟ فيقولون: الساق) فهذا يدل والله أعلم أن الله عرف المؤمنين على ألسنة الرسل يوم القيامة أو على ألسنة الملائكة المتلقين لهم بالبشرى أن الله قد جعل علامة تجلبه لكم الساق وعرفهم أنه سيبتلى المكذبين بأن يرسل إليهم من يقول: أنا ربكم. فتنة لهم ويدل على ذلك قوله تعالى: (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِى الآخِرَةِ) [إبراهيم: 27] ، فى سؤال القبر، وفى هذا الموطن، وقال ابن عباس فى قوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ) [القلم: 42] عن شدة الأمر، وروى عن عمر بن الخطاب فى قوله تعالى: (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) [القيامة: 29] أى: أعمال الدنيا بمحاسبة الآخرة. وذلك أمر عظيم، والعرب تقول: قامت الحرب على ساق. إذا كانت شديدة فيظهر الله على الخلائق هذه الشدة التى لا يكون مثلها من مخلوق ليبكت بها الكافرين، وينزع عنهم قدرتهم التى كانوا يدعونها، فيعلمون حينئذ أنه الحق، فيذهبون إلى السجود مع المؤمنين لما يرون من العظمة والشدة فلا(10/463)
يستطيعون؛ فيثبت الله المؤمنين فيسجدون له، وذكر ابن فورك قال: روى أبو موسى الأشعرى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) فى قوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ (قال: عن نور عظيم قال: ومعنى ذلك ما يتجدد للمؤمنين عند رؤية الله تعالى من الفوائد والألطاف، ويظهر لهم من فضل سرائرهم التى لم يطلع عليها غيره تعالى. قال المهلب: هذا يدل على أن كشف الساق للكافرين نقمة وعذاب، وللمؤمنين نور ورحمة ونعمة، والضحك منه تعالى بخلاف ما هو فينا وهو بمعنى إظهاره لعباده لطائف وكرامة لم تكن تظهر لهم قبل ذلك، والضحك المعهود فيما بيننا هو إظهار الضاحك لمن شاهده ما لم يكن يظهر له منه قبل من كشره عن أسنانه. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعة، فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقًا واحدًا) هذا استدل به من أجاز تكليف عباده ما لا يطيقون، واحتجوا على ذلك بأن الله تعالى قد كلف أبا لهب الإيمان به مع إعلامه تعالى له أنه لا يؤمن، وأنه يموت على الكفر الذى له يصلى نارًا ذات لهب. ومنع الفقهاء من ذلك، وقالوا: لا يجوز أن يكلف الله عباده ما لا يطيقون واحتجوا بقوله تعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) [البقرة: 286] ، قالوا: وقدا أخبر فلا يجوز أن يقع بخلاف خبره، وقالوا: ليس فى(10/464)
قوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ) [القلم: 42] حجة لمن خالفنا؛ لأنهم إنما يدعون إلى السجود تبكيتًا لهم؛ إذ أدخلوا أنفسهم بزعمهم فى جملة المؤمنين الساجدين فى الدنيا وعلم الله منهم الرياء فى سجودهم، فدعوا فى الآخرة إلى السجود كما دعى المؤمنون المحقون؛ فتعذر السجود عليهم وعادت ظهورهم طبقًا واحدًا، وأظهر الله عليهم نفاقهم؛ فأخزاهم وأوقع الحجة عليهم، فلا حجة فى هذه الآية لهم، ومثل هذا من التبكيت قوله تعالى للكفار: (ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ) [الحديد: 13] ، وليس فى هذا شىء من تكليف ما لا يطاق، وإنما هو خزى وتوبيخ. ومثله قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من كذب فى حلمه كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين وليس بعاقدهما) فهذه عقوبة وليس من تكليف ما لا يطاق. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون) ففيه حجة لأهل السنة فى إثباتهم الشفاعة، وقد تقدم. وقوله: (فأستأذن على ربى فى داره) فداره جنته، ولا تعلق فيه للمجسمة أنه تعالى فى مكان؛ لأن قوله: (فى داره) يحتمل أن تكون هذه الإضافة لله إضافة إلى نفسه تعالى من أفعاله، ويحتمل أن يكون قوله فى داره. راجعًا إلى النبى تأويله: فأستأذن على ربى وأنا فى داره. فالظرف والمكان هاهنا للنبى (صلى الله عليه وسلم) لا لله تعالى لقيام الدليل على استحالة حلوله فى المواضع.(10/465)
وقوله: (حتى تلقوا الله ورسوله فإنى على الحوض) ففيه إثبات الحوض له (صلى الله عليه وسلم) خلافًا لمنكريه من المعتزلة وغيرهم ممن يدفع أخبار الآحاد، وجمهور الأمة على خلافهم مؤمنون بالحوض على ما ثبت فى السنن الصحاح. وقوله: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان) ففيه إثبات الرؤية لله تعالى وإثبات كلامه لعباده. ورفع الحجاب بينه تعالى وبين خلقه هو تجليه لهم، وليس ذلك بمعنى الظهور والخروج من سواتر وحجب حائلة بينه وبين عباده؛ لأن ذلك من أوصاف الأجسام وهو مستحيل على الله، وإنما رفع الحجاب بمعنى إزالته الآفات من أبصار خلقه المانعة لهم من رؤيته؛ فيرونه لارتفاعها عنهم بخلق ضدها فيهم، وهو الرؤية، وبخلاف هذا وصف الله الكفار فقال: (كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ) [المطففين: 15] ، فالحاجب هنا الآفة المانعة من رؤيته التى لو فعل تعالى ضدها فيهم لرأوه، وهى التى فعل فى المؤمنين. وقوله فى الحديث الآخر: (وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه فى جنة عدن) فلا تعلق فيه للمجسمة فى إثبات الجسم والمكان لما تقدم من استحالة كونه جسمًا أو حالا فى مكان؛ فوجب أن يكون تأويل الرداء مصروفًا إلى أن المراد به الآفة المانعة لهم من رؤيته الموجودة بأبصارهم، وذلك فعل من أفعاله تعالى يفعله فى محل رؤيتهم له بدلا من فعله الرؤية، فلا يرونه ما دام ذلك المانع لهم من رؤيته وسماه رداء مجازًا واتساعًا؛ إذ منزلته في(10/466)
المنع من رؤيته منزلة الرداء وسائر ما يحتجب به والله تعالى لا يليق به الحجب والستار؛ إذ ذاك من صفات الأجسام. وقوله: (على وجهه) المراد به: أن الآفة المانعة لهم من رؤية وجهه تعالى التى هى صفة من صفات ذاته كأنها على وجهه؛ لكونها فى أبصارهم ومانعة لهم من رؤيته، فعبر عن هذا المعنى بهذا اللفظ، والمراد به غير ظاهره؛ إذ يستحيل كون وجهه محجوبًا برداء أو غيره من الحجب؛ إذ ذاك من صفات الأجسام. وقوله: (فى جنة عدن) ليس بمكان له تعالى، وإنما هو راجع إلى القوم كأنه قال: وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم وهم فى جنة عدن إلا المانع المخلوق فى محل رؤيتهم له من رؤيته فلا حجة لهم فيه. وقوله فى حديث أبى سعيد: (ونحن أحوج منا إليه اليوم) . لا يخرج معناه إلا أن يكون بمعنى محتاجين، وهذا موجود فى القرآن قال تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ) [النحل: 125] ، بمعنى عالم، فسقط على هذا التأويل شيئًا من تقدير الكلام، ومعناه: فارقناهم: يريد من لم يعبد الله. ونحن أحوج ما كنا إليه: يعنون الله. وقوله: (فما أنتم بأشد لى مناشدة فى الحق قد تبين لكم من المؤمن يومئذ للجبار، فإذا راوا أنهم قد نجوا فى إخوانهم) يريد أن المؤمنين إذا نجوا من الصراط يناشدون الله فى إخوانهم ويشفعون فيهم فيقول الله عز وجل: (اذهبوا فمن وجدتم فى قلبه مثقال(10/467)
نصف دينار. . إلى مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا من النار) وفى هذا إثبات شفاعة المؤمنين بعضهم لبعض. وقوله: (فى جهنم كلاليب) جمع كلوب، وهو الذى يتناول به الحداد الحديد من النار، والخطاطيف جمع خطاف، والخطاف حديدة معوجة الطرف يجذب بها الأشياء، قال النابغة: خطاطيف حجن فى حبال متينة والحسك: معروف، وهو شىء مضرس ذو شوك ينشب به كل ما مر به. وقوله: (فمنهم الموبق بعمله) يعنى: الهالك بذنوبه. يقال: أوبقت فلانًا ذنوبه أى: أهلكته. وقوله: (ومنهم المخردل) قال صاحب العين: خردلت اللحم: فصلته، وخردلت الطعام: أكلت خياره. وقال غيره: خردلته: صرعته، وهذا الوجه يوافق معنى الحديث، والجردلة بالجيم، الإشراف على السقوط والهلكة. وقوله: (امتحشوا) قال صاحب العين: المحش: إحراق الجلد، وامتحش الجلد احترق، وألسنة المحوش: اليابسة. وقال صاحب الأفعال: محشت النار الشىء محشًا: أحرقته لغة،(10/468)
والمعروف أمحشته، وكان أبو زيد ينكر محشته، وقعد يومًا إلى أبى حنيفة فسمعه يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (يخرج من النار قوم قد محشتهم النار) . فقال أبو زيد: ليس كذلك الحديث، يرحمك الله، إنما هو: (أمحشتهم النار) فقال أبو جنيفة: من أى موضع أنت؟ قال أبو زيد: من البصرة. قال أبو حنيفة: أبالبصرة مثلك؟ قال أبو زيد: إنى لمن أخس أهلها. فقال أبو حنيفة: طوبى لبلد أنت أخس أهلها. والحبة: بزور البقل، وقد ذكرته فى كتاب الإيمان فى باب تفاضل أهل الإيمان فى الأعمال وقال أبو عبيد: وأما الحبة فكل ما ينبت له حب فاسم الحب منه الحبة. وقال الفراء: الحبة بزور البقل. وقال أبو عمرو: الحبة نبت ينبت فى الحشيش صغار. وقال الكسائى: الحبة حب الرياحين وواحد الحبة حبة. وأما الحنطة ونحوها فهو الحب لا غير. وقال الأصمعى: الحميل ما حمله السيل من كل شىء وكل محمول فهو حميل كما يقال للمقتول قتيل. وقوله: (قشبنى ريحها) تقول العرب: قشبت الشئ: قذرته وقشبت الشىء، بكسر الشين، قشبًا قذر صاحب الأفعال. وقال ابن قتيبة: قشبنى ريحها من القشب والقشب: السم كأنه قال: سمنى ريحها، ويقال لكل مسموم قشيب. وقال الخطابى: قشبه الدخان إذا مل خياشيمه وأخذ يكظمه وإن كانت ريحه طيبة، وأصل القشب خلط السم بالطعام يقال: قشبه إذا سمه وقشبتنا الدنيا فصار حبها كالسم الضار، ثم قيل على هذا قشبه الدخان والريح الذكية إذا بلغت منه الكظم.(10/469)
وقوله: انفهقت يعنى: اتسعت وفهق الغدير فهقًا إذا امتلأ ومنه التفيهق فى القول، وهو كثرة الكلام. وغبرات: بقايا وكذلك غبر الشىء بقيته؛ وقوله: الجسر مدحضة مزلة. يقال دحضت رجله دحضًا زلفت، والدحض ما يكون عنه الزلق، ودحضت الشمس عن كبد السماء: زالت، ودحضت حجته: بطلت، والمزلة: موضع الزلل، فزلت القدم: سقطت، وقوله: مكدوس فى نار جهنم. قال صاحب العين: التكدس فى سير الدواب: ركوب بعضها بعضًا، والكدس ما يجمع من طعام وغيره، وأفواه الجنة: أبوابها واحدها فوهة، وفى كتاب العين الفوهة: فم النهر وفم الزقاق.
- بَاب قَوله تَعَالَى: (إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف: 56]
/ 72 - فيه: أُسَامَة، كَانَ ابْنٌ لِبَعْضِ بَنَاتِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) يَقْضِى، إلى قوله: (فَبَكَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ سَعْدُ: أَتَبْكِى؟ فَقَالَ: (إِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ) . / 73 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (اخْتَصَمَتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ إِلَى رَبّهِمَا، فَقَالَتِ الْجَنَّةُ: يَا رَبِّ، مَا لَهَا لا يَدْخُلُهَا إِلا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ، وَقَالَتِ النَّارُ: يَعْنِى أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِى، وَقَالَ لِلنَّارِ: أَنْتِ عَذَابِى، أُصِيبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا، قَالَ: فَأَمَّا الْجَنَّةُ، فَإِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا، وَإِنَّهُ يُنْشِئُ لِلنَّارِ مَنْ يَشَاءُ، فَيُلْقَوْنَ فِيهَا فَ) تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) [ق: 30] ثَلاثًا، حَتَّى يَضَعَ فِيهَا قَدَمَهُ، فَتَمْتَلِئُ، وَيُرَدُّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَتَقُولُ: قَطْ، قَطْ، قَطْ) .(10/470)
/ 74 - وفيه: أَنَس، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لَيُصِيبَنَّ أَقْوَامًا سَفْعٌ مِنَ النَّارِ بِذُنُوبٍ أَصَابُوهَا عُقُوبَةً، ثُمَّ يُدْخِلُهُمُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ، يُقَالُ لَهُمُ: الْجَهَنَّمِيُّونَ) . قال المؤلف: الرحمة تنقسم قسمين: تكون صفة ذات لله، وتكون صفة فعل، فصفة الذات مرجوع بها إلى إرادته تعالى إثابة الطائعين من عباده، وقوله تعالى: (إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف: 56] ، يحتمل الرحمة هاهنا أن تكون صفة ذات ترجع إلى إرادته إثابة المحسنين كما قلنا وإرادته صفة ذاته. ومثله قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إنما يرحم الله من عباده الرحماء) معناه إنما يريد إثابة الرحماء لعباده من خلقه، ويحتمل أن تكون صفة فعل فيكون المعنى أن نعمة الله على عباده ورزقه لهم ونزول المطر وشبهه قريب من المحسنين، فسمى ذلك رحمة لهم لكونه بقدرته وعن إرادته مجازًا واتساعًا؛ لأن من عادة العرب تسمية الشىء باسم سببه وما يتعلق به ضربًا من التعلق، وعلى هذا المعنى سمى الله الجنة رحمةً فقال: (أنت رحمتى) فسماها مع كونها فعلاً من أفعاله رحمةً؛ إذ كانت حادثةً بقدرته وإرادته تنعيم الطائعين من عباده. قال المهلب: وأما اختصام الجنة والنار فيجوز أن يكون حقيقةً، ويجوز أن يكون مجازًا، فكونه حقيقةً يخلق الله فيهما حياةً وفهمًا وكلامًا لقيام الدليل على كونه تعالى قادرًا على ذلك، وكونه مجازًا واتساعًا فهو على ما تقوله العرب من نسبة الأفعال إلى ما لا يجوز وقوعها منه فى تلك الحال كقولهم: امتلأ الحوض وقال قطنى. والحوض لا يقول، وإنما ذلك عبارة عن امتلائه، وأنه لو(10/471)
كان ممن يقول لقال ذلك، وقولهم: قالت الضفدع، وعلى هذين التأويلين يحمل قوله تعالى: (وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) [ق: 30] ، واختصام الجنة والنار هو افتخار بعضهما على بعض بمن يسكنهما، فالنار تتكبر بمن يلقى فيها من المتكبرين وتظن أنها آثر بذلك عند الله من الجنّة وسقط قول النار من هذا الحديث فى جميع النسخ، وهو محفوظ فى الحديث: (وقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين) رواه ابن وهب، عن مالك، عن أبى الزناد، عن الأعرج، عن أبى هريرة من رواية الدارقطنى، وتظن الجنة ضد ذلك لقولها: (ما لى لا يدخلنى إلا ضعفاء الناس وسقطهم) فكأنها أشفقت من إيضاع المنزلة عند الرب تعالى. فحكم تعالى للجنة بأنها رحمته لا يسكنها إلا الرحماء من عباده، وحكم للنار بأنها عذابه يصيب بها من يشاء من المتكبرين، وأنه ليس لإحديهما فضل من طريق من يسكنها الله تعالى من خلقه، إذ هما اللتان للرحمة والعذاب، ولكن قد قضى لهما بالملء من خلقه. وقوله: (وينشىء للنار خلقًا) يريد من قد شاء أن يلقى فيها ممن قد سبق له الشقاء ممن عصاه وكفر به، قاله المهلب. وقال غيره: ينشىء الله لها خلقًا لم يكن فى الدنيا، قال: وفيه حجة لأهل السنة فى قولهم إن لله أن يعذب من لم يكن يكلفه عبادته فى الدنيا ولا يخرجه إليها لقوله: (وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاء) [إبراهيم: 27] بخلاف(10/472)
من يقول إن الله لو عذّب من لم يكلفه لكان ظالمًا، وهذا الحديث حجة عليهم. وقوله: (حتى يضع فيها قدمه) قد تقدم فى باب قوله: (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [إبراهيم: 4] من كتاب التوحيد.
- بَاب قَوله تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا (الآية [فاطر: 41]
/ 75 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْن مسعود، جَاءَ حَبْرٌ إِلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللَّهَ يَضَعُ السَّمَاءَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْجِبَالَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ وَالأنْهَارَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَقُولُ بِيَدِهِ أَنَا الْمَلِكُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَالَ: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الأنعام: 91] . وقد تقدّم تفسير هذا الحديث فى باب قوله تعالى: (لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ) [ص: 75] ، قال المهلب: فإن قيل: ما وجه حديث الحبر فى هذا الباب مع قوله: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا) [فاطر: 41] ، وظاهر الآية وعمومها يقتضى أن السموات والأرض ممسكة بغير آلة يعتمد عليها، وقد ذكر الحبر للنبى (صلى الله عليه وسلم) أن الله يمسك السموات على إصبع والأرض على إصبع، فدل أن حديث الحبر وتفسيره الإمساك بالأصابع هذا لبيان المجمل من الإمساك فى الآية؟ قيل له: ليس كما توهمت، وتفسير النبى ورده على الحبر، وقوله: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الأنعام: 91] هو رد لما توهمه الحبر من(10/473)
الأصابع أى أن الله أجل مما قدرت، وذلك أن اليهود تعتقد التجسيم، فنفى النبى (صلى الله عليه وسلم) ذلك عنه بقوله: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ (. فإن قيل: فإن تصديق النبى للحبر وتعجبه من قوله يدل أنه لم ينكر قوله كل الإنكار، ولو لم يكن لقوله بذكر الأصابع وجه لأعلن بإبطاله. فالجواب: أنه لو كانت السموات وغيرها مفتقرة إلى الأصابع لكانت الأصابع مفتقرة إلى أمثالها تعتمد عليها، وأمثال أمثالها إلى مثلها، ثم كذلك إلى ما لا نهاية له، وهذا فاسد، وقد تقدم قول الأشعرى وابن فورك وأن الإصبع يجوز أن تكون صفة ذات لله تعالى ويجوز أن تكون صفة خلق له من بعض ملائكته كلفهم حمل الخلائق وتعبدّهم بذلك من غير حاجة إليهم فى حملها، بل البارى ممسكهم وممسك ما يحملونه بقدرته تعالى، ويصدق هذا التأويل قوله: (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) [الحاقة: 17] .
- بَاب مَا جَاءَ فِى خلق السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَغَيْرِهَما مِنَ الْمخلوقات
وَهُوَ فِعْلُ الرَّبِّ تَعَالَى وَأَمْرُهُ، فَالرَّبُّ بِصِفَاتِهِ وَفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ وَقَوله، وَهُوَ الْخَالِقُ الْمُكَوِّنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَمَا كَانَ بِفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ، وَتَخْلِيقِهِ وَتَكْوِينِهِ، فَهُوَ مَفْعُولٌ مُكَوَّنٌ مَخْلُوقٌ. / 76 - فيه: ابْن عَبَّاس، بِتُّ فِى بَيْتِ مَيْمُونَةَ لَيْلَةً، وَالنَّبِيُّ - عليه السلام - عِنْدَهَا؛ لأنْظُرَ كَيْفَ صَلاةُ النَّبِىّ - عليه السلام - فَتَحَدَّثَ النَّبِيّ - عليه السلام - مَعَ أَهْلِهِ سَاعَةً، ثُمَّ رَقَدَ، فَلَمَّا كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ أَوْ بَعْضُهُ، قَعَدَ فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَرَأَ: (إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ) [آل عمران: 190] إِلَى قَوْلِهِ: (لأولِى الألْبَابِ (الحديث.(10/474)
غرضه فى هذا الباب أن يعرفك أن السموات والأرض وما بينهما كل ذلك مخلوق دلائل الحدث بها من الآيات المشاهدات، من انتظام الحكمة واتصال المعيشة للخلق فيهما، وقام برهان العقل على ألا خالق غير الله وبطل قول من يقول: إن الطبائع خالقة العالم، وأن الأفلاك السبعة هى الفاعلة، وأن النور والظلمة خالقان، وقول من زعم أن العرش هو الخالق. وفسدت جميع هذه الأقوال لقيام الدليل على حدوث ذلك كله وافتقاره إلى محدث لاستحالة وجود محدث لا محدث له، كاستحالة وجود مضروب لا ضارب له، وكتاب الله شاهد بصحة هذا، وهو قوله تعالى: (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ) [فاطر: 3] ، فنفى خالقًا سواه، وقال تعالى: (أَمْ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُوا كَخَلْقِهِ) [الرعد: 16] ، وقال عقيب ذلك: (فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) [الرعد: 16] ، ثم قال لنبيه: (قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) [الرعد: 16] ، ودلّ على ذلك أيضًا بقوله تعالى: (إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِى الألْبَابِ) [آل عمران: 190] . فاستدل بآيات السموات والأرض على قدرة الله ووحدانيته فوجب أن يكون الخلاق العليم بجميع صفاته من الخلق والأمر والفعل والسمع والبصر والتكوين للمخلوقات كلها خالقًا غير مخلوق الذات والصفات، وأن القرآن صفة له غير مخلوق، ووجب أن يكون الخالق مخالفًا لسائر المخلوقات، ووجه خلافه لها انتفاء قيام الحوادث عنه الدالة على حدث من تقوم به، ولزم أن يكون ما سواه من مخلوقاته التى كانت عن قوله وأمره وفعله وتكوينه مخلوقات له، هذا موجب العقل.(10/475)
- بَاب قَوله: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ) [النحل: 40]
/ 77 - فيه: الْمُغِيرَة، سَمِعْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، يَقُولُ: (لا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِى قَوْمٌ ظَاهِرِينَ عَلَى النَّاسِ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ) . وَقَالَ مرة: (لا تَزَالُ مِنْ أُمَّتِى أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ، مَا يَضُرُّهُمْ مَنْ كَذَّبَهُمْ، وَلا مَنْ خَالَفَهُمْ) . وَقَالَ مُعَاوِيَة: وَهُمْ بِالشَّأْمِ. / 78 - وفيه: ابْن عَبَّاس، وَقَفَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى مُسَيْلِمَةَ فِى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: (لَوْ سَأَلْتَنِى هَذِهِ الْقِطْعَةَ مَا أَعْطَيْتُكَهَا، وَلَنْ تَعْدُوَ أَمْرَ اللَّهِ فِيكَ، وَلَئِنْ أَدْبَرْتَ لَيَعْقِرَنَّكَ اللَّهُ) . / 79 - وفيه: ابْن مَسْعُود، بَيْنَما أَنَا أَمْشِى مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَسِيبٍ مَعَهُ، فَمَرَرْنَا عَلَى نَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ، فسَألُوهُ عَنِ الرُّوحِ، فَأَنَزل عليه: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى) [الإسراء: 85] الآية. غرضه فى هذا الباب الرد على المعتزلة فى قولهم: إن أمر الله الذى هو كلامه مخلوق، فأراد البخارى أن يعرفك أن الأمر هو قوله للشىء إذا أراده كن فيكون بأمره له وأن أمره وقوله فى معنى واحد، وذلك غير مخلوق وأنه سبحانه يقول كن على الحقيقة، وأن الأمر غير الخلق لقوله تعالى: (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ) [الأعراف: 54] ، ففصل بينهما بالواو وهو قول جميع أهل السنة، وزعمت المعتزلة أن وصفه نفسه بالأمر(10/476)
وبالقول فى هذه الآية مجاز واتساع على نحو ما تقول العرب: قال الحائط فمال وامتلأ الحوض، وقال قطنى. وقولهم فاسد؛ لأنه عدول عن ظاهر الآية وحملها على غير حقيقتها، وإنما وجب حمل الآية على ظاهرها وحقيقتها لثبات كونه حيًا، والحى لا يستحيل أن يكون متكلمًا. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (حتى يأتيهم أمر الله) يعنى أمر الله بالساعة. وقوله: (لن تعدو أمر الله فيك) أى ما قدر فيك من الشقاء أو السعادة. وقوله: (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى) [الإسراء: 85] أى من أمره المتقدّم بما سبق فى علمه من القضاء المحتوم الذى أمر به الملك أن يكتبه فى بطن أمه قبل نفخ الروح فيه.
- بَاب فِى الْمَشِيئَةِ وَالإرَادَةِ
وقوله تَعَالَى: (تُؤْتِى الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ) [آل عمران: 26] ،) وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رب العالمين) [الإنسان: 30] ،) وَلا تَقُولَنَّ لِشَىْءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) [الكهف: 23] ) إِنَّكَ لا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ) [القصص: 56] . قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِيهِ: نَزَلَتْ فِى أَبِى طَالِبٍ. معنى هذا الباب: إثبات المشيئة والإرادة لله تعالى وأن مشيئته وإرادته ورحمته وغضبه وسخطه وكراهيته كل ذلك بمعنىً واحد أسماء مترادفة هى راجعة كلها إلى معنى الإرادة، كما يسمى الشىء الواحد بأسماء كثيرة، وإرادته تعالى هى صفة من صفات ذاته خلافًا لمن يقول من المعتزلة أنها مخلوقة من أوصاف أفعاله، وقولهم فاسد لأنهم إذا أثبتوه تعالى مريدًا، وزعموا أن إرادته محدثة لم تخل من أن يحدثها في(10/477)
نفسه أو فى غيره، أو لا فى نفسه ولا فى غيره، وهذا الذى ذهبوا إليه، فيستحيل إحداثه لها فى نفسه؛ لأنه لو أحدثها فى نفسه لم يخل منها ومن ضدها على سبيل التعاقب، ولا يجوز تعاقب الحوادث على الله تعالى لقيام الدليل على قدمه قبلها، ويستحيل أن يحدثها فى غيره؛ لأنه لو أحدثها فى غيره لوجب أن يكون ذلك الغير مريدًا بها دونه، فبطل كونه مريدًا بإرادة أحدثها فى غيره كما يبطل كونه عالمًا بعلم يحدثه فيه، أو قادرًا بقدرة يحدثها فيه؛ لأن قياس ذلك كله واحد، ومن شرط المريد وحقيقته أن تكون الإرادة موجودةً فيه دون من سواه، ويستحيل إحداثه لها إلا فى نفسه ولا فى غيره؛ لأن ذلك يوجب قيامها بنفسها واحتمالها للصفات وأضدادها، ولو صح ذلك لم تكن إرادته له أولى أن تكون لغيره، وإذا فسدت هذه الأقسام الثلاث وجب أن الإرادة قديمةً قائمةً به تعالى لأجل قيامها به وصح كونه مريدًا، ووجب تعلقها بكل ما يصحّ كونه مرادًا له، وهذه المسألة مبنية على صحة القول بكونه تعالى خالقًا لأفعال العباد، وأنهم لا يفعلون إلا ما يشاء، وقد دلّ الله على ذلك بقوله تعالى: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ) [الإنسان: 30] ، وما تلاه من الآيات، وبقوله: (وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (فنصّ الله تعالى على أنه لو شاء أن لا يقتتلوا لما اقتتلوا، فدل أنه تعالى شاء ما شاءوه من اقتتالهم، وأنه لو لم يشأ اقتتالهم لم يشاءوه ولا كان موجودًا، ثم أكد ذلك بقوله: (وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (يدل أنه فعل اقتتالهم الواقع منهم لكونه شائيًا له، وإذا كان شائيًا(10/478)
لاقتتالهم وفاعلا له، ووجب كونه شائيًا لمشيئتهم وفاعلا لها، فثبت بهذه الآية أنه لا كسب للعباد طاعة ومعصية إلا وهو فعل له ومراد له تعالى، وإن لم يرده منهم لم يصح وقوعه، وما أراده منهم فواجب قول القدرية أنه مريد للطاعة من عباده، وغير مريد للمعصية وقد بان فساد هذا من قولهم أن أفعال العباد خلق لله فى هذا الباب وغيره.
30 - باب: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185]
/ 80 - فيه: أَنَس، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا دَعَوْتُمُ اللَّهَ فَاعْزِمُوا فِى الدُّعَاءِ، وَلا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: إِنْ شِئْتَ فَأَعْطِنِى، فَإِنَّ اللَّهَ لا مُسْتَكْرِهَ لَهُ) . / 81 - وفيه: عَلِىّ، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ ابِنْته، فَقَالَ لَهُمْ: (أَلا تُصَلُّونَ) ؟ قَالَ عَلِىٌّ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ، فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا. . . الحديث. / 82 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ خَامَةِ الزَّرْعِ يَفِىءُ وَرَقُهُ مِنْ حَيْثُ أَتَتْهَا الرِّيحُ تُكَفِّئُهَا فَإِذَا سَكَنَتِ اعْتَدَلَتْ، وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ يُكَفَّأُ بِالْبَلاءِ، وَمَثَلُ الْكَافِرِ كَمَثَلِ الأرْزَةِ، صَمَّاءَ مُعْتَدِلَةً حَتَّى يَقْصِمَهَا اللَّهُ إِذَا شَاءَ) . / 83 - وفيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِيّ - عليه السلام -: (إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ فِيمَا سَلَفَ(10/479)
مِنَ الأمَمِ، كَمَا بَيْنَ صَلاةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ. . .) وذكر الحديث إلى قوله: (فَذَلِكَ فَضْلِى أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ) . / 84 - وفيه: عُبَادَة، قَالَ: (بَايَعْتُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فِى رَهْطٍ، فَقَالَ: (أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ لا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلا تَسْرِقُوا، وَلا تَزْنُوا، وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ، وَلا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلا تَعْصُونِى فِى مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَأُخِذَ بِهِ فِى الدُّنْيَا، فَهُوَ لَهُ كَفَّارَةٌ وَطَهُورٌ، وَمَنْ سَتَرَهُ اللَّهُ فَذَلِكَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ) . / 85 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ لَهُ سِتُّونَ امْرَأَةً، فَقَالَ: لأطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى نِسَائِى، فَلْتَحْمِلْنَ كُلُّ امْرَأَةٍ، وَلْتَلِدْنَ فَارِسًا، يُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَطَافَ عَلَى نِسَائِهِ، فَمَا وَلَدَتْ مِنْهُنَّ إِلا امْرَأَةٌ وَلَدَتْ شِقَّ غُلامٍ) ، قَالَ نَبِىُّ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (ولَوْ اسْتَثْنَى لَحَمَلَتْ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ، فَوَلَدَتْ فَارِسًا يُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ) . / 86 - وفيه: أَبُو قَتَادَةَ، حِينَ نَامُوا عَنِ الصَّلاةِ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَكُمْ حِينَ شَاءَ، وَرَدَّهَا حِينَ شَاءَ. . .) الحديث. / 87 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، اسْتَبَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَرَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ. . . وذكر الحديث إلى قول النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تُخَيِّرُونِى عَلَى مُوسَى، فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ بِجَانِبِ(10/480)
الْعَرْشِ، فَلا أَدْرِى أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِى، أَوْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ) . / 88 - وفيه: أَنَس، قَالَ النَّبِيّ - عليه السلام -: (الْمَدِينَةُ يَأْتِيهَا الدَّجَّالُ، فَيَجِدُ الْمَلائِكَةَ يَحْرُسُونَهَا، فَلا يَقْرَبُهَا الدَّجَّالُ، وَلا الطَّاعُونُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ) . / 89 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لِكُلِّ نَبِىٍّ دَعْوَةٌ، فَأُرِيدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَخْتَبِىَ دَعْوَتِى شَفَاعَةً لأمَّتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . / 90 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُنِى عَلَى قَلِيبٍ، فَنَزَعْتُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَنْزِعَ. . .) الحديث. / 91 - وفيه: أَبُو مُوسَى، كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا أَتَاهُ السَّائِلُ، أَوْ صَاحِبُ الْحَاجَةِ، قَالَ: (اشْفَعُوا فَلْتُؤْجَرُوا، ولَيَقْضِى اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نبيه مَا شَاءَ) . / 92 - وفيه: ابْن عَبَّاس، أن أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ حدثه بحديث الخضر. . . إلى قوله: (فَإِنِّى نَسِيتُ الْحُوتَ) [الكهف: 63] الحديث. / 93 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (نَنْزِلُ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِخَيْفِ بَنِى كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ) ، يُرِيدُ الْمُحَصَّبَ. / 94 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ ابْنِ عُمَرَ، حَاصَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَهْلَ الطَّائِفِ، فَلَمْ يَفْتَحْهَا، فَقَالَ: (إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. . .) ، وذكر الحديث. معنى هذا الباب كمعنى الذى قبله فى إثبات الإرادة لله تعالى والمشيئة، وأن العباد لا يريدون شيئًا إلا وقد سبقت إرادة الله له،(10/481)
وأنه خالق لأعمالهم: طاعة كانت أو معصية، وأما تعلقهم بقوله تعالى: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185] فى أنه لا يرد المعصية فليس على العموم؛ وإنما هو خاص فيمن ذكر، ولم يكلفه ما لا يطيق. مثل هذا للمؤمنين المفترض عليهم الصيام، ومن هداه الله إلى دينه فقد يسره وأراد به اليسر، فكان المعنى: يريد الله بكم اليسر الذى هو التخيير بين صومكم فى السفر، وإفطاركم فيه بشرط قضاء ما أفطرتموه من أيام أخر، ولا يريد بكم العسر، الذى هو إلزامكم الصوم فى السفر على كل حال؛ فبان من نفس الآية أن الله رفع هذا العسر عنا ولم يرد وقوعه بنا، إذ لم يلزمنا الصيام فى السفر على كل حال، ورحمةً منه ورأفةً بنا؛ فسقط تعلقهم بالآية، وكذلك تأويل قوله تعالى: (وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ) [الزمر: 7] هو على الخصوص فى المؤمنين الذين أراد منهم الإيمان، فكان ما أراده من ذلك، ولم يرد منهم الكفر فلم يكن، فلا تعلق لهم فى هذه الآية أيضًا. فإن قيل: قد تقدم من قولكم أن الله تعالى خالق لأعمال العباد، فما وجه إضافة فتى موسى نسيان الحوت إلى نفسه مرةً، وإلى الشيطان أخرى. فالجواب: أن فتى موسى نبى وخادم نبى، وقد تقدم من قول موسى أن أفعاله مخلوقة لله تعالى: (إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِى مَن تَشَاء) [الأعراف: 155] ، فثبت أن إضافة النسيان إلى نفسه لأجل قيامه به، لا أنه مخترع له، والعرب تضيف الفعل إلى(10/482)
من وجد منه، وإن لم يكن مخترعًا له، وقد نطق بذلك القرآن فى مواضع كثيرة، وكذلك إضافته النسيان إلى الشيطان، فليس على معنى أن الشيطان فاعل لنسيانه، وإنما تأويله أنه وسوس إلىّ حتى نسيت الحوت؛ لأن فتى موسى إذ لم يمكنه أن يفعل نسيانه القائم به كان الشيطان أبعد من أن يفعل فيه نسيانًا، وكانت إضافته إليه على سبيل المجاز والاتساع. قال المهلب: وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يقولن أحدكم، إن شئت فاعطنى) فمعناه والله أعلم أن سؤاله الله على شرط المشيئة يوهم أن إعطاءه تعالى يمكن على غير مشيئته، وليس بعد المشيئة وجه إلا الإكراه؛ والله لا مكره له كما قال (صلى الله عليه وسلم) ، والعبارة الموهمة فى صفات الله غير جائزة عند أهل السنة؛ لما فى ذلك من الزيغ بأقل توهم يقع فى نفس السامع لنلك العبارة ثم إن حقيقة السؤال من الله تعالى، هو أن يكون السائل محتاجًا إلى ما سأل، محققًا فى سؤاله، ومتى طلب بشرط لم يحقق الطلب؛ فلذلك أمره بالعزم فى طلب الحاجة. وأما قول على: (إن أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا) ففيه: أن إرادة العبد للعمل ولتركه لا يكون إلا عن إرادة الله ومشيئته، بخلاف قول القدرية أن للإنسان إرادةً ومشيئةً دون إرادة الله، وقد تقدم أن ذلك كله من عمل العبد مخلوق لله، مراد له على حسب ما أراد(10/483)
من طاعة أو معصية، ومعنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (المؤمن كخامة الزرع) فى هذا الباب: أن المؤمن يألم فى الدنيا بما يبتليه الله به من المراض التى يمتحنه بها، فييسره للصبر عليها والرضا بحكم ربه واختياره له؛ ليفرح بثواب ذلك فى الآخرة، والكافر كلما صح فى الدنيا وسلم من آفاتها كان موته أشد عذابًا عليه، وأعظم ألمًا فى مفارقة الدنيا، فثبت أن الله تعالى قد أراد بالمؤمن بكل عسر يسرًا، وأراد بكل ما آتاه الكافر من اليسر عسرًا، وقد تقدم فى أول كتاب المرضى. وقوله: (فذلك فضلى أوتيه من أشاء) فذلك بين فى أن الإرادة هى المشيئة على ما تقدم بيانه؛ إذ الفضل عطاء من له أن يتفضل به، وله ألا يتفضل، وليس من كان عليه حق فأداه أو فعل ما عليه فعله يسمى متفضلاً، وإنما هو من باب الأداء والوفاء بحق ما لزمه. وقوله: (فلو قال إن شاء الله لقاتلوا فرسانًا أجمعون) فوجهه أنه لما نسى أن يرد الأمر لله الخالق العليم، ويجعل المشيئة إليه كما شرط فى كتابه، إذ يقول: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) [الإنسان: 30] ،) وَلا تَقُولَنَّ لِشَىْءٍ) [الكهف: 23] . فأشبه قوله: (لأطوفن الليلة) قول من جعل لنفسه الحول والقوة؛ فحرمه الله تعالى مراده وما أمله. وأما قوله للأعرابى: (لا بأس عليك طهور إن شاء الله) فإنما أراد تأنيسه من مرضه بأن الله يكفر ذنوبه، ويقيله، ويؤخر وفاته فوقع الاستثناء على ما رجا له من الإقالة والفرج؛ لأن المرض معلوم أنه كفارة للذنوب، وإن كان الاستثناء قد يكون بمعنى رد المشيئة إلى(10/484)
الله تعالى، وفى جواب الأعرابي ما يدل على ما قلناه، وهو قوله: حمى تفور على شيخ كبير تزيره القبور. أى ليس كما رجوت من الإقالة. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (فنعم إذًا) دليل على أن قوله: (لا بأس عليك) ، أنه على طريق الرجاء لا على طريق الخبر عن الغيب، وكذلك قوله: (إن الله قبض أرواحنا حين شاء، وردها حين شاء) . وحديث عبادة، وحديث أبى هريرة فى قصة موسى (صلى الله عليه وسلم) ، وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا أدرى أكان فيمن صعق، فأفاق قبلى، أو ممن استثنى الله) ، فيها كلها إثبات المشيئة لله تعالى، وفيه فضيلة موسى؛ لأن الأمة أجمعت على أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أفضل البشر، فإن كان لم يصعق موسى حين صعق الناس، ففيه من الفقه أن المفضول قد يكون فيه فضيلة خاصة لا تكون فى الفاضل. واستثناء النبى (صلى الله عليه وسلم) فى دخول الدجال والطاعون المدينة، هو من باب التأدب لا على الشك الذى لا يجوز على الله تعالى ووجه التحريض على سكنى المدينة لأمته؛ ليحترسوا بها من الفتنة فى الدين؛ لأن المدينة أصل دينه فلم يسلط الله على سكانها المعتصمين بها فتنة الدجال، ولا الطاعون لاعتصام سكانها بها من الفتنة الكبرى، وهى الكفر المستأصل عقوبته، فكذلك لا يستأصلهم بالموت بالطاعون الذى كان من عقوبات بنى إسرائيل. وأما قوله فى الصديق (أنه نزع من البئر ما شاء الله أن ينزع) ، فهذا استثناء صحيح، وأن حركات العباد لا تكون إلا عن مشيئة الله(10/485)
وإرادته، وكذلك قوله: ويقضى الله على لسان رسوله ما شاء، أى أن الإنسان لا يتكلم إلا بمشيئة الله المحرك للسانه، والمقلب لقلبه، وكذلك قوله: (إنا قافلون غدا إن شاء الله) . فاستثنى فيما يستقبل من الأفعال، كما أمره الله برد الحول والقوة إليه فى قوله: (وَلا تَقُولَنَّ لِشَىْءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) [الكهف: 23] .
31 - بَاب قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ) [الصافات: 171]
/ 95 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ، كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ: إِنَّ رَحْمَتِى سَبَقَتْ غَضَبِى) . / 96 - وفيه: ابْن مَسْعُود، حَدَّثَنَا النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: (أَنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِى بَطْنِ أُمِّهِ. . .) إلى قوله: (ثُمَّ يُبْعَثُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ، فَيُؤْذَنُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ. . .) الحديث، (فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى لا يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ إِلا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُهَا. . .) الحديث. / 97 - وفيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (يَا جِبْرِيلُ، مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَزُورَنَا، فَنَزَلَتْ: (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ) [مريم: 64] الآيَةِ. / 98 - وفيه: كُنْتُ أَمْشِى مَعَ النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) فَمَرَّ بِنفر مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ(10/486)
بَعْضُهُمْ: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا تَسْأَلُوهُ، فَسَأَلُوهُ فَقَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى الْعَسِيبِ، وَأَنَا خَلْفَهُ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، فَقَالَ: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ (إلى) قَلِيلاً) [الإسراء: 85] . / 99 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِى سَبِيلِهِ لا يُخْرِجُهُ إِلا الْجِهَادُ فِى سَبِيلِهِ وَتَصْدِيقُ كَلِمَاتِهِ، بِأَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ. . .) الحديث. / 100 - وفيه: أَبُو مُوسَى، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً، فَأَىُّ ذَلِكَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ: (مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ) . قال المهلب: الكلمة السابقة: هى كلمة الله بالقضاء المتقدم منه قبل أن يخلق خلقه فى أم الكتاب؛ الذى جرى به القلم للمرسلين إنهم لهم المنصورون فى الدنيا والآخرة، وقد تقدم فى كتاب القدر، ومعنى هذا الباب إثبات الله متكلما وذا كلام، خلافًا لمن يقول من المعتزلة: أنه غير متكلم فيما مضى، وكذلك هو فيما بقى. وهذا كفر قد نص الله على إبطاله بقوله: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا) [الصافات: 171] فى آيات أخر، وقد نص النبى (صلى الله عليه وسلم) على بيان هذا المعنى فى أحاديث هذا الباب، فقال: (كتب عنده فوق عرشه) ، وقال: ثم يبعث الله إليه الملك فيؤذن بأربع كلمات يوحيها الله إلى الملك، فيكتبها فى أم الكتاب، وقال: فيسبق عليه الكتاب بالقضاء المتقدم فى سابق علمه، والكتاب يقتضي كلامًا مكتوبًا، ودل ذلك على(10/487)
أنه لم يزل عالمًا بما سيكون قبل كونه، خلافًا لمن يقول: لا يعلم الأشياء قبل كونها، ووجه مشاكلة حديث ابن عباس للترجمة، هو أن الذى يتنزل به جبريل هو كلام الله ووحيه، وكذلك قوله فى حديث ابن مسعود) قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى) [الإسراء: 85] يريد أن الروح خلق من خلقه تعالى، خلقه بقوله: كن وكن: كلامه الذى هو أمره الذى لم يزل ولا يزال. وقوله: (وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) [الإسراء: 85] فيه دليل على أنه لا تبلغ حقيقة العلم بالمخلوقات فضلا عن العلم بالخالق سبحانه، وأن من العلم ما يلزم التسليم فيه لله تعالى ويجب الإيمان بمشكله، وأن الراسخين فى العلم لا يعلمون تأويل المتشابه كما يزعم المتكلمون، إذ قد أعلمنا الله أن السؤال عن الروح ابتغاء ما لم يؤته من العلم، مع أنه وصف قلوب المتبعين ما تشابه منه بالزيغ وابتغاء الفتنة، ووصف الراسخين فى العلم بالإيمان به، وأن كله من عند ربهم، مستعيذين من الزيغ الذى وسم الله به من اتبع تأويل المتشابه منه، داعين إلى الله لا يزيغ قلوبهم بابتغاء تأويله، بعد إذ هداهم إلى الإيمان به. وأما قوله: (كتب عنده: إن رحمتى سبقت غضبى) فهو والله أعلم كتابه فى أم الكتاب الذى قضى به وخطه القلم، فكان من رحمته تلك أن ابتدأ خلقه بالنعمة بإخراجهم من العدم إلى الوجود،(10/488)
وبسط لهم من رحمته فى قلوب الأبوين على الأبناء، من الصبر على تربيتهم، ومباشرة أقذارهم ما إذا تدبره متدبر أيقن أن ذلك من رحمته تعالى، ومن رحمته السابقة أنه يرزق الكفار وينعمهم، ويدفع عنهم الآلام ثم ربما أدخلهم الإسلام رحمة منه لهم، وقد بلغوا من التمرد عليه والخلع لربوبيته غايات تغضبه، فتغلب رحمته ويدخلهم جنته، ومن لم يتب عليه حتى توفاه فقد رحمه مدة عمره بتراخى عقوبته عنه، وقد كان له ألا يمهله بالعقوبة ساعة كفره به ومعصيته له، لكنه أمهله رحمةً له، ومع هذا فإن رحمة الله السابقة أكثر من أن يحيط بها الوصف.
32 - بَاب قَوله تَعَالَى: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّى (إلى قوله: (مَدَدًا) [الكهف: 109] وقوله: (وَلَوْ أَنَّ مَا فِى الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ) [لقمان: 27]
/ 101 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِى سَبِيلِهِ لا يُخْرِجُهُ مِنْ بَيْتِهِ إِلا الْجِهَادُ فِى سَبِيلِهِ، وَتَصْدِيقُ كَلِمَتِهِ، أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ) . قال مجاهد: (قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا (للقلم يستمد منه للكتاب) لِّكَلِمَاتِ رَبِّى) [الكهف: 109] ، أى لعلم ربى. وقال قتادة: لنفد ماء البحر قبل أن ينفد كلام ربى وحكمه. ومعنى هذا الباب إثبات الكلام لله صفةً لذاته، وأنه لم يزل(10/489)
متكلمًا ولا يزال، كمعنى الباب الذى قبله، وإن كان قد وصف كلامه تعالى بأنه كلمات فإنه شىء واحد لا يتجزأ ولا يقسم، وكذلك يعبر عنه بعبارات مختلفة: تارةً عربيةً، وتارةً سريانيةً، وبجميع الألسنة التى أنزلها الله على أنبيائه، وجعلها عبارةً عن كلامه القديم الذى لا يشبه كلام المخلوقين، ولو كانت كلماته مخلوقة لنفدت كما تنفد البحار والأشجار وجميع المحدثات، فكما لا يحاط بوصفه تعالى، كذلك لا يحاط بكلماته وجميع صفاته.
33 - بَاب قَوله تَعَالَى: (وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ (الآية) قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ) [سبأ: 23] وَلَمْ يَقُلْ مَاذَا خَلَقَ رَبُّكُمْ وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: (مَنْ ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ) [البقرة: 255]
وَقَالَ مَسْرُوقٌ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْىِ، سَمِعَ أَهْلُ السَّمَوَاتِ شَيْئًا، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ، وَسَكَنَ الصَّوْتُ عَرَفُوا أَنَّهُ الْحَقُّ، وَنَادَوْا: (مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ) [سبأ: 23] . وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ، سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (يَحْشُرُ اللَّهُ الْعِبَادَ، فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ: أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ) . / 102 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا قَضَى اللَّهُ الأمْرَ فِى السَّمَاءِ، ضَرَبَتِ الْمَلائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا، لِقَوْلِهِ: كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ) .(10/490)
/ 103 - قال على بن المدينى، وَقَالَ غَيْرُهُ: صَفْوَانٍ يَنْفُذُهُمْ ذَلِكَ، فَإِذَا) فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ) [سبأ: 23] . وَقَالَ عكرمة مرةً عن أبى هريرة يرفعه: أنه قرأ: فُزِّغَ. / 104 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَىْءٍ مَا أَذِنَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ) . / 105 - وفيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَقُولُ اللَّهُ: يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، فَيُنَادَى بِصَوْتٍ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إِلَى النَّارِ) . / 106 - وفيه: عَائِشَةَ، مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، وَلَقَدْ أَمَرَهُ رَبُّهُ أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ فِى الْجَنَّةِ. قال المهلب: استدل البخارى بقوله تعالى: (مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ) [سبأ: 23] . ولم يقل: ماذا خلق ربكم. على أن قوله تعالى قائم بذاته، صفة من صفاته، لم يزل موجودًا ولا يزال، وأنه لا يشبه كلام المخلوقين، وليس بذى حروف، خلافًا للمعتزلة التى نفت كلام الله تعالى، وقالت: إن كلامه كناية عن الفعل والتكوين، قالوا: وهذا سائغ فى كلام العرب، ألا ترى أن الرجل يعبر عن حركته بيده فيقول: قلت بيدى هكذا، وهم يريدون حركت يدى، ويحتجون بأنه كلام لا يعقل منا إلا بأعضاء ولسان،(10/491)
والباري تعالى لا يجوز أن يكون له أعضاء وآلات الكلام؛ إذ ليس بجسم. فرد البخارى عليهم بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا قضى الله الأمر فى السماء، فزعت الملائكة وضربت بأجنحتها فكان لها صوت، كأنه سلسلة على صفوان خضعانًا) لقوله تعالى: (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ) [سبأ: 23] ، أى أذهب الفزع عن قلوبهم، قالوا للذى فوقهم: ماذا قال ربكم؟ فدل ذلك على أنهم سمعوا قولا لم يفهموا معناه من أجل فزعهم، فقالوا: ماذا قال ربكم؟ ولم يقولوا: ماذا خلق ربكم، وأكد ذلك بما حكاه عن الملائكة أيضًا؟) قَالُوا الْحَقَّ) [سبأ: 23] ، والحق إحدى صفتى القول الذى لا يجوز على الله غيره؛ لأنه لا يجوز على كلامه الباطل. ولو كان القول منه خلقًا وفعلا لقالوا حين سألوا ماذا قال، أخلق خلقًا كذا، إنسانًا، أو جبلا، أو شيئًا من المخلوقات، فلما وصفوا قوله بما يوصف به الكلام من الحق، لم يجز أن يكون القول بمعنى الخلق والتكوين، وكذلك قوله لآدم: يا آدم، وهو كلام مسموع، ولو كان بمعنى الخلق والتكوين ما أجاب بلبيك وسعديك، التى هى جواب المسموعات، وكذلك قول عائشة: (ولقد أمره ربه أن يبشرها) هو كلام، وقول مسموع من الله تعالى ولو كان خلقًا لما فهم منه عن ربه له بالبشرى.(10/492)
34 - بَاب كَلامِ الرَّبِّ مَعَ جِبْرِيلَ وَنِدَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَلائِكَةَ وَقَالَ مَعْمَرٌ: (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ) [النمل: 6] أَىْ يُلْقَى عَلَيْكَ، وَتَلَقَّاهُ أَنْتَ: أَىْ تَأْخُذُهُ عَنْهُمْ، وَمِثْلُهُ: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ) [البقرة: 37]
. / 107 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلانًا، فَأَحِبَّهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِى جِبْرِيلُ فِى السَّمَاءِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَيُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِى أَهْلِ الأرْضِ) . / 108 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ، وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِى صَلاةِ الْعَصْرِ وَصَلاةِ الْفَجْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ، كَيْفَ تَرَكْتُمْ. . .) الحديث. / 109 - وفيه: أَبُو ذَرّ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَتَانِى جِبْرِيلُ، فَبَشَّرَنِى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، قُلْتُ: وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى؟ قَالَ: وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى) . هذا باب كالباب الذى قبله فى إثبات كلام الله وإسماعه إياه جبريل والملائكة، فيسمعون عند ذلك الكلام القديم القائم بذاته الذى لا يشبه كلام المخلوقين، إذ ليس بحرف ولا تقطيع نغم وليس من شرطه أن يكون بلسان وشفتين وآلات، وحقيقته أن يكون مسموعًا مفهومًا، ولا يليق بالبارى تعالى أن يستعين فى كلامه بالجوارح والأدوات، فمن قال: لم أشاهد كلامًا إلا بأدوات، لزمه التشبيه؛ إذ حكم على الله بحكم المخلوقين، وخالف قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى: 11] .(10/493)
35 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ) [النساء: 166]
قَالَ مُجَاهِدٌ: (يَتَنَزَّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ) [الطلاق: 12] بَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالأرْضِ السَّابِعَةِ. / 110 - فيه: الْبَرَاء، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَا فُلانُ إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ، فَقُلِ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِى إِلَيْكَ. . . إلى قوله: (آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِى أَنْزَلْتَ. . .) الحديث. / 111 - وفيه: ابْن أَبِى أَوْفَى، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَوْمَ الأحْزَابِ: اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ: سَرِيعَ الْحِسَابِ، اهْزِمِ الأحْزَابَ، وَزَلْزِلْ بِهِمْ) . / 112 - وفيه: ابْن عَبَّاس،) وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) [الإسراء: 110] أُنْزِلَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مُتَوَارٍ بِمَكَّةَ، وَكَانَ إِذَا رَفَعَ صَوْتَهُ، سَمِعَه الْمُشْرِكُونَ، فَسَبُّوا الْقُرْآنَ، وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ (يَسْمَعَ الْمُشْرِكُونَ،) وَلا تُخَافِتْ بِهَا (عَنْ أَصْحَابِكَ، فَلا تُسْمِعُهُمْ،) وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا (أَسْمِعْهُمْ، وَلا تَجْهَرْ حَتَّى يَأْخُذُوا عَنْكَ الْقُرْآنَ. ولا تعلق للقدرية فى قوله تعالى: (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) [النساء: 166] أن القرآن مخلوق؛ لأن كلامه قديم قائم بذاته، ولا يجوز أن تكون صفة ذات القديم إلا قديمة، فالمراد بالإنزال إفهام عباده المكلفين معانى كتابه وفرائضه التى افترضها عليهم، وليس إنزاله كإنزال الأجسام المخلوقة التى يجوز عليها الحركة والانتقال من مكان إلى مكان؛ لأن القرآن ليس بجسم ولا مخلوق، والأفعال التى يعبر بها(10/494)
عن الأجسام كالحركة والانتقال من الأمكنة تستحيل على الله وعلى كلامه وجميع صفاته. قال المهلب: وفى حديث البراء الرد على القدرية الذين يزعمون أن لهم قدرة على الخير والشر استحقوا عليها الثواب والعقاب لأمر النبى (صلى الله عليه وسلم) من آوى إلى فراشه بالتبرؤ عند نومه من الحول والقوة والاستسلام لقدرة الله التى إليه بها النوم، فلم يستطع دفعه، فلو كان يملك لنفسه نفعًا أو ضرًا لدفع عن نفسه النوم الذى هو موت إن أمسك الله نفسه فيه مات أبدًا، وإن أرسلها بعد موته ساعة أو ساعات جدد لها حياة. وكيف يملك الإنسان لنفسه قدرة، وقد أمره نبيه (صلى الله عليه وسلم) أن يتبرأ من جميع وجوهها فى هذا الحديث، ثم عرفك أن هذه الفطرة التى فطر الله الناس عليها يجب أن تكون آخر ما يقوله المرء الذى حضره أول الموت فيموت على الفطرة التى عليها خلقه، وإن أحياه أصاب بتبرئه إليه خيرًا يريد أجرًا فى الآخرة وخيرًا من رزق وكفاية وحفظ فى الدنيا. وفى حديث ابن أبى أوفى جواز الدعاء بالسجع، إذا لم يكن متكلفًا مصنوعًا تفكره، وشغل بال بتهيئته فيضعف بذلك نية الداعى فلذلك كره السجع فى الدعاء، وأما إذا تكلم به طبعًا فهو حسن وقد أشرنا إلى هذا المعنى فى كتاب الدعاء. وفى حديث ابن عباس أن قطع الذرائع التى تنقص البارى تعالى وتنقص كتابه واجب وإن كان المراد بها الخير لمنعه من رفع الصوت بالقرآن لئلا يسمعه من يسبه ومن أنزله.(10/495)
36 - بَاب قوله تَعَالَى) يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ) [الفتح: 15] ) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ) [الطارق: 13] حَقٌّ) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ) [الطارق: 14] بِاللَّعِبِ.
/ 113 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يُؤْذِينِى ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ، وَأَنَا الدَّهْرُ بِيَدِى الأمْرُ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) . / 114 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: الصَّوْمُ لِى وَأَنَا أَجْزِى بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَأَكْلَهُ وَشُرْبَهُ مِنْ أَجْلِى. . .) الحديث. / 115 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (بَيْنَمَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا خَرَّ عَلَيْهِ رِجْلُ جَرَادٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ يَحْثِى فِى ثَوْبِهِ، فَنَادَى رَبُّهُ: يَا أَيُّوبُ. . .) . / 116 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (قَالَ اللَّه تَعَالَى: أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ) . / 117 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: (هَذِهِ خَدِيجَةُ، أَتَتْكَ بِإِنَاءٍ فِيهِ طَعَامٌ، أَوْ شَرَابٌ، فَأَقْرِئْهَا مِنْ رَبِّهَا السَّلامَ، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ، لا صَخَبَ فِيهِ وَلا نَصَبَ) . / 118 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (قَالَ اللَّهُ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِى الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ. . .) الحديث. / 119 - وفيه: ابْن عَبَّاس، كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا تَهَجَّدَ مِنَ اللَّيْلِ، قَالَ: (اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ، وَلَكَ أَنْتَ الْحَقُّ، وَقَوْلُكَ الْحَقُّ. . .) ، الحديث.(10/496)
/ 120 - وفيه: عَائِشَةَ، فِى حديث الإِفْكِ: وَلَشَأْنِى فِى نَفْسِى كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِىَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى. . .) الحديث. / 121 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَقُولُ اللَّهُ: إِذَا أَرَادَ عَبْدِى أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً فَلا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا. . .) الحديث. / 122 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لَمَّا فَرَغَ اللَّه من الخلق قَامَتِ الرَّحِمُ، فَقَالَ: مَهْ، قَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ، فَقَالَ: أَلا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ. . .) الحديث. / 123 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِذَا أَحَبَّ عَبْدِى لِقَائِى أَحْبَبْتُ لِقَاءَهُ، وَإِذَا كَرِهَ لِقَائِى كَرِهْتُ لِقَاءَهُ) . / 124 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِى بِى) . / 125 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَبُو سَعِيد، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (قَالَ رَجُلٌ لأهله، لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، احرقونى، فَقَالَ لهُ: لِمَ فَعَلْتَ؟ قَالَ: مِنْ خَشْيَتِكَ، فَغَفَرَ لَهُ) . / 126 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ عَبْدًا أَصَابَ ذَنْبًا، فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ، فَقَالَ رَبُّهُ، جل ثناءه: عَلِمَ عَبْدِى أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِهِ، غَفَرْتُ لِعَبْدِى. . .) الحديث. قال المهلب: غرضه فى هذا الباب كغرضه فى الأبواب التى قبله،(10/497)
ومعنى قوله تعالى: (يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ) [الفتح: 15] ، هو أن المنافقين تخلفوا عن الخروج مع النبى (صلى الله عليه وسلم) إلى غزوة تبوك، واعتذروا فأعلم الله إفكهم فيه، فأمر الله رسوله أن يقرأ عليهم قوله تعالى: (فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِىَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُوا مَعِىَ عَدُوًّا) [التوبة: 83] فأعلمهم بذلك وقطع أطماعهم من الخروج معه. فلما رأوا الفتوحات قد تهيأت للنبى (صلى الله عليه وسلم) أرادوا الخروج معه رغبة منهم فى المغانم، فأنزل الله على: (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ) [الفتح: 15] ، أى أمره لرسوله بأن لا يخرجوا معه بأن يخرجوا معه. فقطع الله أطماعهم من ذلك مدة أيامه (صلى الله عليه وسلم) ؛ لقوله: (لَّن تَخْرُجُوا مَعِىَ أَبَدًا) [التوبة: 83] ، ثم قال آمرًا لرسوله (صلى الله عليه وسلم) : (قل للمخلفين من الأعراب (يعنى: المريدين تبديل كلام الله: (سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ) [الفتح: 16] ، يعنى توليتم عن إجابته (صلى الله عليه وسلم) حين دعاهم إلى الخروج معه فى سورة براءة) يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) [الفتح: 16] ، والداعى لهم غيره (صلى الله عليه وسلم) ممن يقوم بأمره من خلفائه، فقيل: الداعى لهم بعده أبو بكر دعاهم لقتال أهل الردة، وقيل: الداعى عمر، دعاهم لقتال المشركين. وسائر الأحاديث فيها إثبات كلامه، وقد مر القول على أنه صفة قائمة به لا يصح مفارقتها له، وأنه لم يزل متكلمًا، ولا يزال كذلك.(10/498)
وأما قوله: (يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر) قد تقدم فى باب قوله: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات: 58] ، أن الأذى لا يلحق بالله، وإنما يلحق من تتعاقب عليه الحوادث، ويلحقه العجز والتقصير عن الانتصار، والله تعالى منزه عن ذلك، فوجب أن يرجع الأذى المضاف إليه تعالى إلى أنبيائه ورسله، والمعنى يؤذى ابن آدم أنبيائى ورسلى بسب الدهر؛ لأن ذلك ذريعة إلى سب خالق الدهر، ومصرف أقضيته وحوادثه. وقوله: (وأنا الدهر) أى: أفعل ما يجرى به الدهر من السراء والضراء، ألا ترى قوله تعالى: (بيدى الأمر أقلب الليل والنهار) فالأيام والليالى ظروف للحوادث، فإذا سببتم الدهر وهو لا يفعل شيئًا فقد وقع السب على الله. وقد بينت هذا الحديث بأكثر من هذا فى كتاب الأدب فى باب: لا تسبوا الدهر. قال المهلب: وأما قوله تعالى: (أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) فهو كقوله تعالى: (وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) [النحل: 8] مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا توهمه قلب بشر. هو على الحقيقة ما لا يعلمه بشر ممن له الأذن والقلب والبصر، فتخصيصه قلب بشر بأن لا يعلمه، يدل والله أعلم أنه يجوز أن يخطر على قلوب الملائكة، ألا ترى أنه إذا أفردنا بالمخاطبة بقوله: (وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (فدل على جواز أن يعلمه غيرنا. وقوله فى حديث أبى هريرة: (لما فرغ الله من الخلق قامت الرحم(10/499)
فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة. فقال تعالى: ألا ترضين. . .) الحديث. فلا تعلق فيه لمن يقول: بحدث كلامه تعالى من أجل أن الفاء فى قوله فقال: توجب فى الظاهر كون قوله تعالى عقيب قول الرحم، وذلك مقتضٍ للحدث لقيام الدليل على أن الله لم يزل قائلا متكلمًا قبل أن يخلق خلقه بما لا أول له من الأزمان، وإذا كان ذلك كذلك وجب حمل قوله تعالى على معنى إفهامه تعالى إياها معنى كلامه الذى لم يزل به متكلمًا وقائلاً، وعلى هذا المعنى يحمل نحو هذا اللفظ إذا أتى فى الحديث. وقد يحتمل أن يكون يأمر ملكًا من ملائكته بأن يقول للرحم هذا القول عنه تعالى، وأضاف إليه، إذ كان قول الملك عن أمره تعالى له، ويدل على صحة هذا التأويل رواية من روى فى حديث الشفاعة: (فأستأذن على ربى وأخر له ساجدًا فيقال: يا محمد، ارفع رأسك. .) بترك إسناد القول إلى الله تعالى جاءت هذه الرواية فى الباب بعد هذا. وقوله للرحم: مه، فمعنى مه فى لسان العرب: الزجر والردع. فمحال توجه ذلك إلى الله، فوجب توجهه إلى من عاذت الرحم بالله تعالى من قطعه إياها. وقوله: (أنا عند ظن عبدى بى) لا يتوجه إلا إلى المؤمنين خاصة أى: أنا عند ظن عبدى المؤمن بى، وفى القرآن آيات تشهد أن عباده المؤمنين وإن أسرفوا على أنفسهم أنه عند ظنهم به من المغفرة والرحمة،(10/500)
وإن أبطأت حينًا وتراخت وقتًا لإنفاذ ما حتم به، على من سبق عليه إنفاذ الوعيد تحلة القسم؛ لأنه قد كان له أن يعذب واحد أبدًا كإبليس، فهو عند ظن عبده، وإن عاقبه برهة فإن كان ظنه به ألا يعذبه برهة، ولا تحلة فإنه كذلك يجده كما ظن إن شاء الله فهو أهل التقوى وأهل المغفرة. وأما حديث الذى لم يعمل خيرًا قط، ففيه دليل على أن الإنسان لا يدخل الجنة بعمله ما لم يتغمده الله برحمته كما قال (صلى الله عليه وسلم) . وفيه أن الإنسان يدخل الجنة بحسن نيته فى وصيته لقوله: خشيتك يا رب. وفيه أن من جهل بعض الصفات فليس بكافر خلافًا لبعض المتكلمين؛ لأن الجهل بها هو العلم؛ إذ لا تبلغ كنه صفاته تعالى، فالجاهل بها هو المؤمن حقيقة ولهذا قال بعض السلف: عليكم بدين العذارى، أفترى العذارى يعلمن حقيقة صفات الله تعالى. وللأشعرى فى تأويل هذا الحديث قولان: كان قوله الأول: من جهل القدرة أو صفة من صفات الله تعالى فليس بمؤمن. وقوله فى هذا الحديث: (لئن قدر الله على) لا يرجع إلى القدرة وإنما يرجع إلى معنى التقدير الذى هو بمعنى التضييق كما قال تعالى فى قصة يونس: (فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ) [الأنبياء: 87] ، أى لن نضيق عليه، ثم رجع عن هذا القول وقال: لا يخرج المؤمن من الإيمان بجهله بصفة من صفات الله تعالى قدرة كانت أو سائر صفات ذاته تعالى إذا لم يعتقد فى ذلك اعتقادًا يقطع أنه الصواب(10/501)
والدين المشروع، ألا ترى أن الرجل قال: لئن قدر الله عليه ليعذبنه فأخرج ذلك مخرج الظن دون القطع على أنه تعالى غير قادر على جمعه وإحيائه إخراج خائف من عذاب ربه ذاهل العقل. يدل على ذلك قوله مجيبًا لربه لما قال له: لم فعلت؟ قال: من خشيتك. وأنت أعلم. فأخبر بالعلة التى لها فعل ما فعل، ويدل على صحة هذا القول من روى قوله: لعلى أضل الله. و (لعل) فى كلام العرب موضوعة لتوقع مخوف لا يقطع على كونه، ولا على انتفائه، ومعنى قوله: لعلى أضل على الله وحذف حرف الجر، وذلك مشهور فى اللغة كما قال الشاعر: استغفر الله ذنبًا والمعنى من ذنب. ومن كان خائفًا عند حضور أجله فجدير أن تختلف أحواله لفرط خوفه، وينطق بما لا يعتقد، ومن كان هكذا فغير جائز إخراجه من الإيمان الثابت له؛ إذ لم يعتقد ما قاله دينًا وشرعًا، وإنما يكفر من اعتقده تعالى على خلاف ما هو به، وقطع على أن ذلك هو الحق، ولو كفر من جهل بعض صفات الله لكفر عامة الناس؛ إذ لا يكاد نجد منهم من يعلم أحكام صفات ذاته، ولو اعترضت جميع العامة وكثيرًا من الخاصة وسألتهم: هل لله تعالى قدرة أو علم أو سمع أو بصر أو إرادة، وهل قدرته متعلقة بجميع ما يصح كونه معلومًا لما عرفوا حقيقة ذلك؟ فلو حكم بالكفر على من جهل صفة من صفات الله تعالى لوجب الحكم به على جميع العامة، وأكثر الخاصة وهذا محال.(10/502)
والدليل على صحة قولنا حديث السوداء، وأن الرسول قال لها: (أين الله؟) فقالت: فى السماء. فقال: من أنا؟ فقالت: أنت رسول الله. فقال: أعتقها؛ فإنها مؤمنة) . فحكم لها بالإيمان، ولم يسألها عن صفات الله وأسمائه، ولو كان علم ذلك شرطًا فى الإيمان لسألها عنه كما سألها عن أنه رسول الله، وكذلك سؤال أصحاب رسول الله، عمر بن الخطاب وغيره، رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن القدر، فقالوا: يا رسول الله، أرأيت ما نعمل لأمر مستأنف أم لأمر قد سبق؟ فقال: (بل لأمر قد سبق، قال: ففيم يعمل العاملون؟ قال: اعملوا، فكل ميسر لما خلق له) وأعلمهم أن ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، ومعلوم أنهم كانوا قبل سؤاله مؤمنين، ولا يسع مسلمًا أن يقول غير ذلك فيهم، ولو كان لا يسعهم جهل القدرة وقدم العلم لعلمهم ذلك مع شهادة التوحيد، ولجعله عمودًا سادسًا للإسلام، وهذا بين. وأما حديث أبى هريرة فى الرجل الذى واقع الذنب مرة بعد مرة ثم استغفر ربه فغفر له، ففيه دليل على أن المصر فى مشيئة الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء غفر له مغلبًا لخشيته التى جاء بها وهى اعتقاده، وأن له ربا خالقا يعذبه ويغفر له واستغفاره إياه على ذلك، يدل على ذلك قوله: (مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) [الأنعام: 160] ، ولا حسنة أعظم من توحيد الله والإقرار بوجوده والتضرع إليه فى المغفرة. فإن قيل: فإن استغفاره ربه توبة منه، ولم يكن مصرًا قيل له: ليس الاستغفار أكثر من طلب غفرانه، وقد يطلب الغفران المصر والنائب، ولا دليل فى الحديث على أنه قد كان تاب مما سأل الغفران(10/503)
منه؛ لأن التوبة الرجوع من الذنب والعزم، على ألا يعود إلى مثله والاستغفار لا يفهم منه ذلك، وبالله والتوفيق.
37 - بَاب كَلامِ الرَّبِّ تَعَالَى مَعَ الأنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
/ 127 - فيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، شُفِّعْتُ، فَقُلْتُ: يَا رَبِّ، أَدْخِلِ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ خَرْدَلَةٌ، فَيَدْخُلُونَ، ثُمَّ أَقُولُ: أَدْخِلِ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ أَدْنَى شَىْءٍ. / 128 - وَقَالَ أَنَس مرة عن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَمَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِى بَعْضٍ، فَيَأْتُونَ آدَمَ. . .) إلى قوله: (فَيَأْتُونِى، فَأَقُولُ: أَنَا لَهَا، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّى، فَيُؤْذَنُ لِى، وَيُلْهِمُنِى مَحَامِدَ أَحْمَدُهُ بِهَا، لا تَحْضُرُنِى الآنَ، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، وَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ: يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، أُمَّتِى، أُمَّتِى، فَيَقُولُ: انْطَلِقْ، فَأَخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ. . .) وذكر الحديث إلى قوله: (أَدْنَى مِثْقَالِ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ) ، إلى قوله: (فَمَرَرْنَا بِالْحَسَنِ، وَهُوَ مُتَوَارٍ فِى مَنْزِلِ أَبِى خَلِيفَةَ، فَقُلْنَا: يَا أَبَا سَعِيدٍ، جِئْنَاكَ مِنْ عِنْدِ أَخِيكَ أَنَسِ ابْنِ مَالِكٍ، فَلَمْ نَرَ مِثْلَ مَا حَدَّثَنَا فِى الشَّفَاعَةِ، قَالَ: هِيهْ، فَحَدَّثْنَاهُ بِالْحَدِيثِ فَقَالَ: لَقَدْ حَدَّثَا، وَهُوَ جَمِيعٌ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً أَنَّهُ قَالَ: (ثُمَّ أَعُودُ الرَّابِعَةَ، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا. . .) إلى قوله: (فَيَقُولُ وَعِزَّتِى وَجَلالِى وَكِبْرِيَائِى وَعَظَمَتِى لأخْرِجَنَّ مِنْهَا مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ) .(10/504)
/ 129 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ آخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولا الْجَنَّةَ وَآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنَ النَّارِ، رَجُلٌ يَخْرُجُ حَبْوًا، فَيَقُولُ لَهُ رَبُّهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: رَبِّ، الْجَنَّةُ مَلأى، فَيَقُولُ لَهُ ذَلِكَ ثَلاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يُعِيدُ عَلَيْهِ: الْجَنَّةُ مَلأى، فَيَقُولُ: إِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا عَشْرَ مِرَات) . / 130 - وفيه: عَدِىِّ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ) . / 131 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ، جَاءَ حَبْرٌ مِنَ الْيَهُودِ، إلى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (إِنَّهُ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، جَعَلَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ. . .) الحديث (ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ. . .) الحديث. / 132 - وفيه: ابْن عُمَرَ، سَأَلَه رجُل: كَيْفَ سَمِعْتَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ فِى النَّجْوَى؟ قَالَ: (يَدْنُو أَحَدُكُمْ مِنْ رَبِّهِ حَتَّى يَضَعَ كَنَفَهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولُ: عَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ فَيُقَرِّرُهُ، فَيَقُولُ: نَعَمْ، ثُمَّ يَقُولُ: إِنِّى سَتَرْتُ عَلَيْكَ فِى الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ) . قال المهلب: قد تقدم إثبات كلام الله مع الملائكة المشاهدة له وأثبت فى هذا الباب كلامه تعالى مع النبيين يوم القيامة بخلاف ما حرمهم إياه فى الدنيا بحجابه الأبصار عن رؤيته فيها، فيرفع فى الآخرة ذلك الحجاب عن أبصارهم، ويكلمهم على حال المشاهدة كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (ليس بينه وبينهم ترجمان) وجميع أحاديث الباب فيها كلام الله مع عباده، ففى حديث الشفاعة قوله تعالى لمحمد:(10/505)
(أخرج من النار من فى قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان) إلى قوله: (وعزتى وجلالى وكبريائى لأخرجن منها من قال: لا إله إلا الله) فهذا كلامه للنبى (صلى الله عليه وسلم) بدليل قوله: (فأستأذن على ربى) وفى بعض طرق الحديث (فإذا رأيته أخر له ساجدًا) وكذلك قوله فى حديث آخر من يدخل الجنة. قوله تعالى: (ادخل الجنة. فيقول: رب الجنة ملأى) إلى قوله: (لك مثل الدنيا عشر مرات) فأثبت بذلك كلامه تعالى مع غير الأنبياء مشافهة، ونظرهم إليه، وكذلك حديث النجوى: يدنيه الله فى رحمته وكرامته ويقول: سترتها عليك فى الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم على الانفراد عن الناس. وقد تقصيت الكلام فى النجوى فى باب: ستر المؤمن على نفسه فى كتاب الأدب فى موضعه. وقوله: (هيه) : هى كلمة استزادة للكلام. عن صاحب العين. وقوله: (ثم يهزهن) . قال صاحب العين: الهزهزة: تحريك اليد.
38 - بَاب قَوْل اللَّه تَعَالَى: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) [النساء: 146]
/ 133 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، قَالَ مُوسَى: أَنْتَ آدَمُ، الَّذِى أَخْرَجْتَ ذُرِّيَّتَكَ مِنَ الْجَنَّةِ، قَالَ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِى اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالاتِهِ وَكَلامِهِ. . .) الحديث. / 134 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (يُجْمَعُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا، فَيُرِيحُنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا. . .) . / 135 - وفيه: أَنَس، قَالَ: لَيْلَةَ أُسْرِىَ بِالنَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ، جَاءَهُ ثَلاثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ، وَهُوَ نَائِمٌ فِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَقَالَ أَوَّلُهُمْ:(10/506)
أَيُّهُمْ هُوَ؟ فَقَالَ: أَوْسَطُهُمْ هُوَ خَيْرُهُمْ، فَقَالَ آخِرُهُمْ: خُذُوا خَيْرَهُمْ، فَكَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَلَمْ يَرَهُمْ حَتَّى أَتَوْهُ لَيْلَةً أُخْرَى، فِيمَا يَرَى قَلْبُهُ، وَتَنَامُ عَيْنُهُ وَلا يَنَامُ قَلْبُهُ، وَكَذَلِكَ الأنْبِيَاءُ، عليهم السَّلام، تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلا تَنَامُ قُلُوبُهُمْ، فَلَمْ يُكَلِّمُوهُ حَتَّى احْتَمَلُوهُ، فَوَضَعُوهُ عِنْدَ بِئْرِ زَمْزَمَ فَتَوَلاهُ مِنْهُمْ جِبْرِيلُ، فَشَقَّ جِبْرِيلُ مَا بَيْنَ نَحْرِهِ إِلَى لَبَّتِهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَدْرِهِ وَجَوْفِهِ، فَغَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ بِيَدِهِ حَتَّى أَنْقَى جَوْفَهُ، ثُمَّ أُتِىَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ تَوْرٌ مِنْ ذَهَبٍ مَحْشُوًّا َحِكْمَةً وَإِيمَانًا فَحَشَا بِهِ صَدْرَهُ وَلَغَادِيدَهُ، يَعْنِى عُرُوقَ حَلْقِهِ، ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، فَضَرَبَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِهَا، فَنَادَاهُ أَهْلُ السَّمَاءِ. . .) ، فذكر حديث المعراج: (فذكر فِى السَّمَاءِ الدُّنْيَا آدَمَ، وَإِدْرِيسَ فِى الثَّانِيَةِ، وَهَارُونَ فِى الرَّابِعَةِ، وَآخَرَ فِى لَمْ أَحْفَظِ اسْمَهُ، وَإِبْرَاهِيمَ فِى السَّادِسَةِ، وَمُوسَى فِى السَّابِعَةِ، بِتَفْضِيلِ كَلامِ اللَّهِ، فَقَالَ مُوسَى: رَبِّ لَمْ أَظُنَّ أَنْ يُرْفَعَ عَلَىَّ أَحَدٌ، ثُمَّ عَلا بِهِ فَوْقَ ذَلِكَ بِمَا لا يَعْلَمُهُ إِلا اللَّهُ حَتَّى جَاءَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، وَدَنَا لِلْجَبَّارِ رَبِّ الْعِزَّةِ، فَتَدَلَّى حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ خَمْسِينَ صَلاةً، فَقَالَ لهُ مُوسَى: ارْجِعْ ربك. فراجع ربه حَتَّى خفف عنه إلى خَمْسِ صَلَوَاتٍ، فَقَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : يَا مُوسَى، قَدْ وَاللَّهِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّى مِمَّا اخْتَلَفْتُ إِلَيْهِ، قَالَ: فَاهْبِطْ بِاسْمِ اللَّهِ، قَالَ: وَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ فِى مَسْجِدِ الْحَرَامِ) . قال المؤلف: بوب البخارى لحديث أنس فى كتاب الأنبياء باب:(10/507)
كان النبي (صلى الله عليه وسلم) تنام عينه ولا ينام قلبه. وبوب له فى تفسير القرآن باب: قوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِى أَرَيْنَاكَ) [الإسراء: 60] . استدل البخارى على إثبات كلام الله، وإثباته متكلمًا بقوله تعالى: (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) [النساء: 164] ، وأجمع أهل السنة على أن الله كلم موسى بلا واسطة ولا ترجمان، وأفهمه معانى كلامه، وأسمعه إياها؛ إذ الكلام مما يصح سماعه. فإن قال قائل من المعتزلة أو غيرهم: فإذا سمع موسى كلام الله بلا واسطة ولا ترجمان، فلا يخلو أن يكون من جنس الكلام المسموع المعهود فيما بيننا أو لا يكون من جنسه، فإن كان من جنسه فقد وجب أن يكون محدثًا ككلام المحدثين، وإن لم يكن من جنسه فكيف السبيل إلى إسماعه إياه وفهمه معانيه؟ فالجواب: أنه لو لزم من حيث سمعه منه تعالى وفهم معانيه أن يكون كسائر كلام المحدثين قياسًا عليه للزم أن يكون بكونه فاعلا وقادرًا وعالمًا وحيًا ومريدًا، وسائر صفاته من جنس جميع الموصوفين بهذه الصفات فيما بيننا. فإن قالوا: نعم، خرجوا من التوحيد، وإن أبوه نقضوا دليلهم واعتمادهم على قياس الغائب على حكم الشاهد. ثم يقال لهم: لو وجب أن يكون كلامه من جنس كلام المخلوقين من حيث اشترك كلامه تعالى وكلامهم فى إدراكهما بالأسماع لوجب إذا كان البارى تعالى موجودًا وشيئًا أن يكون من جنس الموجودات وسائر الأشياء المشاهدة لنا، فإن لم يجب هذا لم يجب(10/508)
ما عرضوا به، وقد ثبت أنه تعالى قادر على أن يعلمنا اضطرارًا كل شىء يصح أن يعلمناه استدلالاً ونظرًا، وإذا كان ذلك كذلك وجب أن يكون تعالى قادرًا على أن يعلم موسى معانى كلامه الذى لا يشبه كلام المخلوقين الخارج عن كونه حروفًا منظمة وأصواتًا مقطعة اضرارًا أو ينصب له دليلا إذا نظر فيه أدّاه إلى العلم بمعانى كلامه، فإذا كان قادرًا على الوجهين جميعًا زالت شبهة المعتزلة. قال المهلب: فى إفهام الله تعالى موسى من كلامه ما لا عهد له بمثله بتنوير قلبه له وشرحه له وشرحه لقبوله لا يخلو أن يكون ما أفهم الله سليمان من كلام الطير ومنطقها هو مثل كلام سليمان أو لا يشبه كلامه، فإن كان يشبه كلام سليمان ومن جنسه فلا وجه لاختصاص سليمان وداود بتعليمه دون بنى جنسه، ولا معنى لفخره (صلى الله عليه وسلم) بالخاصة وامتداحه بقوله: (عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ (إلى قوله: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) [النمل: 16] ، أو يكون منطق الطير الذى فهمه سليمان غير منطق سليمان والطير وبنى جنسهن فقد أفهمه الله ما لم يفهمه غيره من كلام الهدهد وكلام النملة التى تبسم ضاحكًا من قولها لفهمه عنها ما لم يفهمه غيره منها. وإنما ذكر حديث أبى هريرة فى حديث الشفاعة مختصرًا لما فى الحديث الطويل من قول إبراهيم (ولكن ائتوا موسى عبدًا آتاه الله التوراة، وكلمه تكليمًا) وكذلك فى حديث أنس فى الإسراء (فوجد موسى فى السماء السابعة بتفضيل كلامه عز وجل) وهذا يدل على أن الله تعالى لم يكلم من الأنبياء غير موسى - عليه السلام -(10/509)
بخلاف ما زعم الأشعريون، ذكروا عن ابن عباس وابن مسعود أن الله كلم محمدًا (صلى الله عليه وسلم) بقوله: (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) [النجم: 10] ، وأنه رأى ربه تعالى، وقد دفعت هذا عائشة وأعظمت فرية من افترى فيه على الله تعالى. وأما قول موسى إذ علا جبريل بمحمد: (يا رب، لم أظن أنك ترفع على أحدًا. موسى أن الله لم يكلم أحدًا من البشر فى الدنيا غيره؛ إذ بذلك استحق أن يرفع إلى السماء السابعة، وفهم من قوله تعالى: (إِنِّى اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِى وَبِكَلاَمِى) [الأعراف: 144] أنه أراد البشر كلهم. ولم يعلم والله أعلم أن الله تعالى فضل محمدًا عليه بما أعطاه الله من الوسيلة والدعوة المقبولة منه شفاعة لأمته ولسائر الأنبياء من شدة موقفهم يوم الحشر حين أحجم الأنبياء عن الوسيلة إلى ربهم لشدة غضبه، وفضله بالإسعاف بالمقام المحمود الذى وعده فى كتابه، فبهذا رفع الله محمدًا على موسى. وأما قوله: (فدنا الجبار رب العزة) فهو دنو محبة ورحمة وفضيلة لا دنو مسافة ونقلة لاستحالة النقلة والحركة على البارى إذ لا يجوز أن تحويه الأمكنة. وقوله: (حتى كان قاب قوسين أو أدنى) فهو جبريل الذى تولى، فكان من الله أو من أمره على مقدار ذلك. عن الحسن) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) [النجم: 10] ، إلى جبريل ما أوحى، وكتب القلم وحتى سمع(10/510)
محمد صريفه فى كتابه، وبلغ جبريل محمدًا، وهو عند سدرة المنتهى، قيل: إليها منتهى أرواح الشهداء) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى) [النجم: 11] . قال ابن عباس: رأى محمد ربه بقلبه. وعن ابن مسعود وعائشة: رأى جبريل وهو قول قتادة. وقال الحسن: ما رأى من مقدور الله وملكوته. وقوله: (أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى) [النجم: 12] ، هو محمد رأى جبريل (صلى الله عليه وسلم) فى صورته التى خلقه الله عليها له ستمائة جناح رفرفًا أخضر سد ما بين الخافقين، ولم يره قط فى صورته التى هو عليها إلا مرتين، وإنما كان يراه فى صورة كان يتشكل عليها من صور الآدميين وأكثرها صورة دحية الكلبى. وفى قوله: (أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (دليل على أن العيان أكبر أسباب العلم فلا يتمارى فيه ولذلك قال (صلى الله عليه وسلم) : (ليس الخبر كالمعاينة) ورأيت لبعض الناس فى لقاء النبى (صلى الله عليه وسلم) للأنبياء فى السموات دون عليين، والأنبياء مقرهم فى ساحة الجنة ورياضها تحت العرش، ومن دونهم من المقربين هناك فما وجه لقائه لآدم فى السماء الدنيا، ولإدريس فى السماء الثانية، وهارون فى الرابعة، وآخر فى الخامسة، وإبراهيم فى السادسة، وموسى فى السابعة؟ قال: فوجهه أنهم تلقوه (صلى الله عليه وسلم) كما يتلقى القادم يسابق الناس إليه على قدر سرورهم بلقائه. وقد روى عن أنس فى رتبة الأنبياء فى السموات خلاف حديث البخارى، روى ابن وهب، عن يعقوب بن عبد الرحمن(10/511)
الزهري، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن هاشم بن عتبة بن أبى وقاص، عن أنس بن مالك فذكر حديث الإسراء (فوجد آدم فى السماء الدنيا، وفى السماء الثانية عيسى ويحيى بن زكريا ابنا الخالة، وفى الثالثة يوسف، وفى السماء الرابعة إدريس، وفى الخامسة هارون، وفى السادسة موسى، وفى السابعة إبراهيم) . وأما قوله: (فاستيقظ وهو فى المسجد الحرام) فإن أهل العلم اختلفوا فى صفة مسرى النبى، فقالت طائفة: أسرى الله بجسده ونفسه، وروى ذلك عن ابن عباس والضحاك وسعيد بن جبير وقتادة، وإبراهيم ومسروق ومجاهد وعكرمة. وقالت طائفة ممن قال: أسرى بجسده أنه صلى بالأنبياء ببيت المقدس ثم عرج به إلى السماء فأوحى الله إليه، وفرض عليه الصلاة، ثم رجع إلى المسجد الحرام من ليلته فصلى به صلاة الصبح، روى ذلك الطبرى فى حديث الإسراء عن أنس: ذكر من حديث أبي سعيد الخدرى أنه صلى (صلى الله عليه وسلم) فى بيت المقدس، ولم يذكر أنه صلى خلفه أحد، وقالت طائفة: أسرى برسول الله بجسمه ونفسه غير أنه لم يدخل بيت المقدس، ولم يصل فيه، ولم ينزل عن البراق حتى رجع إلى مكة. روى ذلك عن حذيفة قال فى قوله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى) [الإسراء: 1] ، قال: لم يصل فيه النبي - عليه السلام -، ولو صلى فيه لكتب عليكم الصلاة فيه كما كتب عليكم الصلاة عند الكعبة. وقال آخرون: أسرى بروحه ولم يسر بجسده، روى ذلك عن عائشة ومعاوية بن أبى سفيان والحسن البصري، وذكر ابن فورك عن(10/512)
الحسن قال: عرج بروح النبي - عليه السلام - وجسده فى الأرض، وهو اختيار محمد بن إسحاق صاحب السير. ومن حجة أهل المقالة الأولى ما روى عن ابن عباس فى قوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ) [الإسراء: 60] ، قال: هى رؤيا عين أريها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليلة أسرى به إلى بيت المقدس، وليست رؤيا منام، رواه ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس قالوا: ولو أسرى بروحه دون جسده، وكان الإسراء فى المنام لما أنكرت قريش ذلك من قوله (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأنهم كانوا لا ينكرون الرؤيا؟ ولا ينكرون أحدًا يرى فى المنام ما على مسيرة سنة، فكيف ما هو على مسيرة شهر أو أقل. ومن حجة الذين قالوا: أسرى بروحه دون جسده قول أنس فى حديث الإسراء، قال حين أسرى به: (جاءه ثلاثة نفر وهو نائم فى المسجد الحرام. .) وذكر الحديث إلى قوله: (حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء عليهم السلام تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم) فذكر النوم فى أول الحديث، وقال فى آخره: (فاستيقظ وهو فى المسجد الحرام) وهذا بين لا إشكال فيه، وإلى هذا ذهب البخارى، ولذلك ترجم له فى كتاب الأنبياء وتفسير القرآن ما ذكرته فى صدر هذا الباب. قال ابن إسحاق: وأخبرنى بعض آل أبي بكر الصديق أن عائشة كانت تقول: ما فقد جسد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولكن أسرى بروحه. قال ابن إسحاق: وحدثنى يعقوب بن عيينة بن المغيرة أن معاوية بن أبي سفيان كان إذا سئل عن مسرى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: كانت رؤيا(10/513)
من الله صادقة. قال ابن إسحاق: فلم ينكر ذلك من قولهما لقول الحسن البصرى: إن هذه الآية نزلت فى ذلك يعنى: قول الله عز وجل: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِى أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ) [الإسراء: 60] ولقول الله عز وجل عن إبراهيم (صلى الله عليه وسلم) إذ قال لابنه: (يَا بُنَىَّ إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ) [الصافات: 102] ، ثم مضى على ذلك فعرف أن الوحى من الله عز وجل يأتى الأنبياء أيقاظًا ونيامًا. قال ابن إسحاق: وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: (تنام عينى، وقلبى يقظان) فالله أعلم أى ذلك كان قد جاءه، وعاين فيه ما عاين من أمر الله تعالى على أى حاليه كان نائمًا أو يقظان كل ذلك حق وصدق. وذكر ابن فورك فى مشكل القرآن قال: كان النبى (صلى الله عليه وسلم) ليلة الإسراء فى بيت أم هانئ بنت أبى طالب. فالله أعلم. واحتج أهل هذه المقالة فقالوا: ما اعتل به من قال: إن الإسراء لو كان فى المنام لما أنكرته قريش؛ لأنهم كانوا لا ينكرون الرؤيا فلا حجة فيه؛ لأن قريشًا كانت تكذب العيان، وترد شهادة الله التى هى أكبر شهادة عليهم بذلك؛ إذ قال عنهم حين انشق القمر: (وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ) [القمر: 2] ، فأخبر عنهم أنهم يكذبون ما يرون عيانا، وكذلك قال عنهم: (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ) [الحجر: 14، 15] ، وقال تعالى عنهم أنهم قالوا: (لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا) [الإسراء: 90] ، إلى قوله: (أَوْ تَرْقَى فِى السَّمَاء) [الإسراء: 93] ، ثم قالوا بعدما تمنوه: (وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا) [الإسراء: 93] ، وقال تعالى: (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا) [الأنعام: 109] ، إلى قوله:(10/514)
) وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ) [الأنعام: 109] الآية، فأخبر تعالى أنه يكيد عقولهم وأبصارهم حتى ينكروا العيان القاطع للارتياب. ومثله قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَن يَشَاء اللهُ) [الأنعام: 111] ، وإنما كان إنكار قريش لقوله: (أسرى بى الليلة إلى بيت المقدس) حرصًا منهم على التشنيع عليه، وإثارة اسم الكذب عليه عند العامة المستهواة بمثل هذا التشنيع فلم يسألوه فى اليقظة كان ذلك الإسراء أو فى النوم وأقبلوا على التقريع له، وتعظيم قوله، وهذا غير معدوم من تشنيعهم، ألا ترى تكذيبهم قبل وقعة بدر لرؤيا عاتكة بنت عبد المطلب، عمة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، إذ قالت: رأيت كأن صخرة وقعت من أبى قبيس فانفلقت فما تركت دارًا بمكة إلا دخلت فيها منها فلقة. فلما رأوا قبح تأويلها عليهم قالوا: يا بنى عبد المطلب، ما أهل بيت فى العرب أكذب منكم، أما كفاكم أن تدعوا النبوة فى رجالكم حتى جعلتم منكم نبية: فشنعوا رؤياها، وأخبروا عنها بالنفى طمعًا فى إثارة العامة عليهم، فكذلك كان قولهم فى مسراه (صلى الله عليه وسلم) . وفسر فى الحديث اللغاديد: عروق الحلق. وأهل اللغة يقولون: اللغاديد هى كالزوائد من لحم يكون فى باطن الأذنين من داخل، واحدها لغدود وبعض العرب تسميها: الألغاد، واحدها: لغد. ذكره ثابت فى خلق الإنسان.(10/515)
39 - بَاب كَلامِ اللَّه تَعَالَى مَعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ
/ 136 - فيه: أَبُو سَعِيد،، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لأهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِى يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لا نَرْضَى يَا رَبِّ، وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: أَلا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ، وَأَىُّ شَىْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِى، فَلا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا) . / 137 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَوْمًا يُحَدِّثُ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ: (أَنَّ رَجُلا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِى الزَّرْعِ، فَقَالَ لَهُ: أَوَلَسْتَ فِيمَا شِئْتَ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنِّى أُحِبُّ أَنْ أَزْرَعَ، فَأَسْرَعَ وَبَذَرَ، فَتَبَادَرَ الطَّرْفَ نَبَاتُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ وَاسْتِحْصَادُهُ وَتَكْوِيرُهُ أَمْثَالَ الْجِبَالِ، فَيَقُولُ اللَّهُ: دُونَكَ يَا ابْنَ آدَم، َ فَإِنَّهُ لا يُشْبِعُكَ شَىْءٌ. . .) الحديث. قال المهلب: قد تقدم إثبات كلام الله مع الأنبياء ومع الملائكة، وفى هذا الباب إثبات كلامه مع أهل الجنة بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك) فإن قال قائل من القدرية: إن فى هذا الحديث ما يدل على وهنه وسقوطه، وهو قوله: (أحل عليكم رضوانى فلا أسخط عليكم بعده أبدًا) لأن فيه ما يوهم أن له أن يسخط على من صار فى الجنة، وقد نطق القرآن بخلاف ذلك قال تعالى: (فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ) [آل عمران: 185] ، وقال: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) [الأنعام: 82] ، وأنهم خالدون في الجنة أبدًا(10/516)
فكيف يحل عليهم رضوانه، وقد أوجبه لأهل الجنة بقوله: (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [البينة: 8] ، فيقال له: لما ثبت أن الله تفضل بخلق العباد، وأخرجهم من العدم إلى الوجود، وأنعم عليهم بخلق الحياة وإدامة الصحة والالتذاذ بنعمه، وكان له تعالى ألا يخرجهم ويبقيهم على العدم، ثم لما خلقهم كان له ألا يخلقهم أحياءً ملتذين، وألا يديم لهم الصحة. فكان تعالى فى مجازاة المحسنين وإنجاز ما وعدهم من إحسانه متفضلا عليهم، ولم يجب تعالى عليه لأحد شىء يلزمه، إذ ليس فوقه تعالى من شرع له شرعًا، ولا ألزمه حكمًا، وللمتفضل أن يتفضل وألا يتفضل، كما له أن يتعبد عباده بلا جزاء ولا شكور، تسخيرًا كسائر المخلوقات، وله أن يجازى مدة بمدة، ومدة العمل فى الدنيا متناهية فيقطع ما تفضل به من المجازاة على ما تفضل به عليهم من العمل والمعونة. وعلموا أن آدم - عليه السلام - كلف فى الجنة اجتناب أكل الشجرة، فجاز عليه التكليف والمعصية، لم يأمنوا ما لله تعالى فى خلقه مثل ذلك من ابتداء التكليف وجواز المعصية، فزاد الله سرورهم بأن أمنهم ما كان له أن يفعله فيهم، ورفعه عنهم بالرضوان عليهم وإسقاط التكليف لهم وعصمهم من جواز المعصية عليهم، فلو عبد الله العبد ألف سنة بعد تقدم أمره إليه بذلك لما وجب له عليه جزاء على عبادة. وكيف يجب له ثواب وأقل نعمة من نعمه تستغرق جميع أعماله التى تقرب بها إليه، فحلول رضوانه عليهم أنعم لنفوسهم من(10/517)
كل ما خولهم فى جناته تعالى، فسقط اعتراضهم، وصح معنى الحديث. وأدخل حديث الزارع فى الجنة لتكلم الله له. وقوله: (دونك يا ابن آدم، فإنه لا يشبعك شىء) فإن ظن من لم ينعم النظر أن قوله: لا يشبعك شىء. معارض لقوله: (إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا) [طه: 118] ، فليس كما ظن؛ لأن نفى الشبع لا يوجب الجوع؛ لأن بينهما واسطة الكفاية والشبع بعده، وأكل أهل الجنة لا عن جوع أصلاً لنفى الله تعالى الجوع منهم، واختلف فى الشبع فيها، والصواب: ألا شبع؛ لأنه لو كان فيها طول الأكل المستلذ منها مدة الشبع، وإنما أراد بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يشبعك شىء) ذم ترك القناعة بما كان فيه، وطلب الزيادة عليه، أى لا تشبع عينك ولا نفسك بشىء، والله الموفق.
40 - بَاب ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِالأمْرِ وَذِكْرِ الْعِبَادِ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالرِّسَالَةِ وَالإبْلاغِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ) [البقرة: 152] ) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ (الآية إلى قوله: (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [المائدة: 27]
غُمَّةٌ: هَمٌّ وَضِيقٌ. قَالَ مُجَاهِدٌ: اقْضُوا إِلَىَّ مَا فِى أَنْفُسِكُمْ، يُقَالُ: افْرُقِ: اقْضِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ) [التوبة: 6] إِنْسَانٌ(10/518)
يَأْتِيهِ، فَيَسْتَمِعُ مَا يَقُولُ، وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ، فَهُوَ آمِنٌ حَتَّى يَأْتِيَهُ، فَيَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ وَحَتَّى يَبْلُغَ مَأْمَنَهُ حَيْثُ جَاءَهُ النَّبَأُ الْعَظِيمُ الْقُرْآنُ،) صَوَابًا (حَقًّا فِى الدُّنْيَا وَعَمَلٌ بِهِ. معنى قوله باب ذكر الله بالأمر: أى ذكر الله لعباده يكون مع أمره لهم بعبادته، والتزام طاعته، ويكون مع رحمته لهم، وإنعامه عليهم إذا أطاعوه، وبعذابه إذا عصوه. قال ابن عباس فى قوله: (فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ) [البقرة: 152] : إذا ذكر الله العبد وهو على طاعته؛ ذكره برحمته، وإذا ذكره وهو على معصيته؛ ذكره بلعنته. وقال سعيد بن جبير: اذكرونى بالطاعة أذكركم بالمغفرة. قال المهلب: ذكر العباد بالدعاء والتضرع فى الغفران، والتفضل عليهم بالرزق والهداية، وقوله: والرسالة والإبلاغ معناه: وذكر الله الأنبياء بالرسالة والإبلاغ بما أرسلهم به إلى عباده بما يأمرهم به من عبادته وينهاهم، وقوله: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ (، فهذا ذكر الله لرسوله نوح بما بلغ من أمره، وتذكيره قومه بآيات الله، وكذلك فرض على كل نبى تبليغ كتابه وشريعته، ولذلك ذكر قوله تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ) [التوبة: 6] الذى أمر بتلاوته عليهم، وإنبائهم به. وقال مجاهد: النبأ العظيم: القرآن، سمى نبأ لأنه منبا به، وهو متلو للنبى (صلى الله عليه وسلم) ولهذا ذكر فى الباب هذه الآية من أجل أمر الله تعالى محمدًا (صلى الله عليه وسلم) إجارة المشرك(10/519)
حتى يسمع الذكر، وقوله صوابًا حقًا، يريد قوله عز وجل: (لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا) [النبأ: 38] ، يريد وقال حقًا فى الدنيا، وعمل به فذلك الذى يؤذن له فى الكلام بين يدى الله تعالى بالشفاعة لمن أذن له، وكان يصلح أن يذكر فى هذا الباب قوله (صلى الله عليه وسلم) عن ربه تعالى: (من ذكرنى فى نفسه ذكرته فى نفسى، ومن ذكرنى فى ملأ ذكرته فى ملأ خير منه) أى من ذكرنى فى نفسه متضرعًا داعيًا؛ ذكرته فى نفسى مجيبًا مشفقًا، فإن ذكرنى فى ملأ من الناس بالدعاء والتضرع ذكرته فى ملأ من الملائكة، الذين هم أفضل من ملأ الناس، بالمغفرة والرحمة والهداية، يفسره قوله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث التنزل: (هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له، هل من تائب فأتوب عليه) هذا ذكر الله للعباد بالنعم والإجابة لدعائهم.
41 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا) [البقرة: 22] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) [الفرقان: 68] وقوله: (وَلَقَدْ أُوحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ (الآية [الزمر: 65]
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [يوسف: 106](10/520)
يسألهم من خلقهم وخلق السموات والأرض، فيقولون: الله، وذلك إيمانهم، وهم يعبدون غيره. وَمَا ذُكِرَ فِى خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَكْسَابِهِمْ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وأسروا قولكم أو اجهروا به (الآية، وقوله: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) [الصافات: 96] ، وقوله: (وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) [الفرقان: 2] . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: (مَا تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ إِلا بِالْحَقِّ) [الحجر: 8] بِالرِّسَالَةِ وَالْعَذَابِ،) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ) [الأحزاب: 8] الْمُبَلِّغِينَ الْمُؤَدِّينَ مِنَ الرُّسُلِ،) وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (عِنْدَنَا) وَالَّذِى جَاءَ بِالصِّدْقِ) [الزمر: 33] الْقُرْآنُ) وَصَدَّقَ بِهِ (الْمُؤْمِنُ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: هَذَا الَّذِى أَعْطَيْتَنِى عَمِلْتُ بِمَا فِيهِ. / 138 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، سَأَلْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) أَىُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: (أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ) ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: (ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خشية أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ) ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: (ثُمَّ أَنْ تُزَانِىَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ) . قال المهلب: غرضه فى هذا الباب إثبات الأفعال كلها لله تعالى كانت من المخلوقين، خيرًا أو شرًا، فهى لله خلق وللعباد كسب، ولا ينسب منها شىء إلى غير الله تعالى فيكون شريكًا له، وندًا مساويًا له فى نسبة الفعل إليه، ونبه الله عباده على ذلك بقوله: (فَلاَ تَجْعَلُوا لِلّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 22] أنه الخالق لكم ولأفعالكم وأرزاقكم، ردًا على من زعم من القدرية أنه يخلق أفعاله، فمن علم(10/521)
أن الله خلق كل شىء فقدره تقديرًا، فلا ينسب شيئًا من الخلق إلى غيره، فلهذا ذكر هذه الآيات فى نفى الأنداد والآلهة المدعوة معه، فمنها ما حذر به المؤمنين، ومنها ما وبخ به الكافرين الضالين، ثم أثنى على المؤمنين فى قوله: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) [الفرقان: 68] ، يريد كما يدعو عبدة الأوثان لترزقهم، وتعافيهم، وهى لا تملك لهم ضرًا ولا نفعًا. وقوله: (أى الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندًا وهو خلقك) معناه: رزقك بدليل قوله: (ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك) كيف تقتله وقد خلق رزقه، فلا يأكل من رزقك شيئًا، فمن خلقك وخلقه، ورزقك ورزقه، أحق بالعبادة من الند الذى اتخذت معه شريكًا، ثم أن تزانى حليلة جارك، وقد خلق لك زوجة فتقطع بالزنا الرحم والنسب، وتقاطع الرحام سبب إلى قطع الرحمة من الله، والتراحم بين الناس، ألا ترى غضب القبائل لبنى عمها من أجل الرحم، وأن الغدر وخسيس الفعل منسوب إلى أولاد الزنا، لانقطاع أرحامهم.
42 - بَاب قَوْله تَعَالَى: (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ (الآية [فصلت: 22]
/ 139 - فيه: عَبْدِاللَّه بْن مسعود، اجْتَمَعَ عِنْدَ الْبَيْتِ ثَقَفِيَّانِ وَقُرَشِىٌّ، أَوْ قُرَشِيَّانِ وَثَقَفِىٌّ، كَثِيرَةٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ، قَلِيلَةٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَتَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ مَا نَقُولُ؟ قَالَ الآخَرُ: يَسْمَعُ إِنْ جَهَرْنَا، وَلا يَسْمَعُ إِنْ أَخْفَيْنَا، وَقَالَ الآخَرُ: إِنْ كَانَ يَسْمَعُ إِذَا جَهَرْنَا(10/522)
فَإِنَّهُ يَسْمَعُ إِذَا أَخْفَيْنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ (الآيَةَ. غرضه فى هذا الباب إثبات السمع لله تعالى والعلم بنيات الكلام له فى هذه الآية ومن سائر الآيات فى الأبواب المتقدمة، وإذا ثبت أنه سميع فواجب كونه سامعًا بسمع، كما أنه لما ثبت كونه عالمًا وجب كونه عالمًا بعلم خلافًا لمن أنكر صفات الله من المعتزلة، وقالوا: معنى وصفه بأنه سامع للمسموعات: بمعنى وصفه بأنه عالم بالمعلومات ولا سمع له، ولا هو سامع حقيقة، وهذه شناعة ورد لظواهر كتاب الله وسنن رسوله، وموجب كون المخلوق أكمل أوصافًا من الخالق؛ لأن السامع هنا يسمع الشىء ويعلمه حقيقة، وكذلك البصير منا يرى الشىء ويعلمه حقيقةً، فلو كان البارى سامعًا لما يسمعه، ويعلمه بمعنى أنه عالم فقط؛ لكنا أكمل وصفًا منه تعالى من حيث أدركنا الشىء من جهة السمع والعلم، وأدركه هو من جهة العلم فقط، ومن أدرك الشىء من وجهين أولى يكون بصفة الكمال من مدركه من وجه واحد، وهذا يوجب عليهم أن يكون خالقهم بصفة الصم الذى يعلم الشىء ولا يسمعه، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا. وفى حديث الثقفى والقرشيين من الفقه: إثبات القياس الصحيح، وإبطال القياس الفاسد، ألا ترى أن الذى قال: (يسمع إن جهرنا،(10/523)
ولا يسمع إن أخفينا) قد أخطأ فى قياسه؛ لأنه شبه الله تعالى بخلقه الذين يسمعون الجهر، ولا يسمعون السر، والذى قال: (إن كان يسمع إن جهرنا، فإنه يسمع إن أخفينا) أصاب فى قياسه حين لم يشبه الله بالمخلوقين، ونزهه عن مماثلتهم. فإن قيل: فإن كان أصاب فى قياسه، فكيف جعله النبى (صلى الله عليه وسلم) من جملة الذين شهد لهم بقلة الفقة. قيل له: لما لم يعتقد حقيقة ما قال:، وشك فيه، ولم يقطع على سمع الله تعالى بقوله: إن كان يسمع، لم يحكم له النبى (صلى الله عليه وسلم) بالفقه، وسوى بينهم فى أنه قليل فقه قلوبهم.
43 - بَاب قَوْله تَعَالَى: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ) [الرحمن: 29] وَ) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) [الأنبياء: 2] وَقَوْلِهِ: (لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) [الطلاق: 1]
وَأَنَّ حَدَثَهُ لا يُشْبِهُ حَدَثَ الْمَخْلُوقِينَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى: 11] . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ، وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لا تَكَلَّمُوا فِى الصَّلاةِ) . / 140 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ كُتُبِهِمْ وَعِنْدَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ أَقْرَبُ الْكُتُبِ عَهْدًا بِاللَّهِ، تَقْرَءُونَهُ مَحْضًا لَمْ يُشَبْ. / 141 - وَقَالَ مرة: كِتَابُكُمِ الَّذِى أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّكُمْ أَحْدَثُ الأخْبَارِ بِاللَّهِ.(10/524)
غرضه في هذا الباب الفرق بين وصف كلام الله بأنه مخلوق، وبين وصفه بأنه محدث، فأحال وصفه بالخلق، وأجاز وصفه بالحدث، اعتمادًا على قوله تعالى: (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) [الأنبياء: 2] ، وهذا القول لبعض المعتزلة ولبعض أهل الظاهر، وهو خطأ فى القول؛ لأن الذكر الموصوف فى الآية بالإحداث، ليس هو نفس كلامه تعالى؛ لقيام الدليل على أن محدثًا، ومخلوقًا، ومنشئًا، ومخترعًا: ألفاظ مترادفة على معنى واحد. فإذا لم يجز وصف كلامه تعالى القائم بذاته بأنه مخلوق، لم يجز وصفه بأنه محدث، وإذا كان ذلك كذلك كان الذكر الموصوف فى الآية بأنه محدث راجعًا إلى أنه الرسول (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأنه قد سماه الله تعالى فى آية أخرى ذكرًا، فقال تعالى: (قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَّسُولاً) [الطلاق: 10، 11] ، فسماه ذكرًا فى هذه الآية، فيكون المعنى ما يأتيهم ذكر من ربهم، بمعنى: ما يأتيهم رسول. ويحتمل أن يكون الذكر فى الآية هو وعظ الرسول، وتحذيره إياهم من معاصى الله، فسمى وعظه ذكرًا، وأضافه إليه، إذ هو فاعل له، ومقدر رسوله على اكتسابه. وقال بعض المتكلمين فى هذه الآية: يحتمل أن يرجع الإحداث إلى الإتيان، لا إلى الذكر القديم؛ لأن نزول القرآن على النبى كان شيئًا بعد شىء، فكان يحدث نزوله حينًا بعد حين، ألا ترى أن العالم يعلم ما لا يعلمه الجاهل، فإذا علمه الجاهل حدث عنده العلم، ولم يكن إحداثه عند المتعلم إحداث عين العلم.(10/525)
44 - بَاب قَوْله تَعَالَى: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ) [القيامة: 16] وَفِعْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) حِينَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ الْوَحْىُ
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا مَعَ عَبْدِى حَيْثُمَا ذَكَرَنِى، وَتَحَرَّكَتْ بِى شَفَتَاهُ) . / 142 - فيه: ابْن عَبَّاس، فِى قَوْلِهِ تَعَالَى: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ (، قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، وَكَانَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ، فَقَالَ لِى ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَنَا أُحَرِّكُهُمَا لَكَ كَمَا كَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يُحَرِّكُهُمَا، فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (قَالَ: جَمْعُهُ فِى صَدْرِكَ، ثُمَّ تَقْرَؤُهُ،) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) [القيامة: 18] قَالَ: فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ، قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ (صلى الله عليه وسلم) اسْتَمَعَ، فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) كَمَا أَقْرَأَهُ. قال المهلب: غرضه فى هذا الباب، أن يعرفك أن وعاء القلب لما يسمعه من القرآن، وأن قراءة الإنسان وتحريك شفتيه ولسانه، عمل له وكسب يؤجر عليه، فكان (صلى الله عليه وسلم) يحرك به لسانه عند قراءة جبريل عليه مبادرةً ألا يفلت منه ما سمع، فنهاه الله عن ذلك، ورفع عنه الكلفة والمشقة التى كانت تناله فى ذلك، مع ضمانه تعالى تسهيل الحفظ على نبيه، وجمعه له فى صدره، وأمره أن يقرأه إذا فرغ جبريل من قراءته، وهو معنى قوله تعالى: (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) [القيامة: 18] . وقيل معنى قوله تعالى: (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (، أي(10/526)
اعمل بما فيه، فأما إضافته فعل القراءة إليه بقوله: (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ (والقارئ لكلامه تعالى على محمد (صلى الله عليه وسلم) وهو جبريل دونه تعالى فهذه إضافة فعل فعله فى غيره، كما تقول: قتل الأمير اللص وصلبه، وهو لم يل ذلك بنفسه، إنما أمر من فعله. ففيه بيان لما يشكل من كل فعل ينسب إلى الله تعالى، مما لا يليق به فعله من الإتيان، والنزول، والمجئ، أن ذلك الفعل إنما هو منتسب إلى الملك المرسل به، كقوله: (وَجَاء رَبُّكَ) [الفجر: 22] ، والمجئ مستحيل عليه لاستحالة الحركة، وإنما معناه: وجاء أمر ربك ورسول ربك، فكما استحالت عليه الحركة والانتقال، كذلك استحالت عليه القراءة المعلومة منا لأنها محاولة حركة أعضاء وآلات، والله يتعالى عن ذلك، وعن شبه الخليقة فى قول أو عمل. وأما قوله: (أنا مع عبدى ما ذكرنى وتحركت بى شفتاه) فمعناه: أنا مع عبدى زمان لى أى: أنا معه بالحفظ والكلاءة، لا على أنه معه بذاته حيث حلَّ العبد وتقلب، ومعنى قوله: (وتحركت بى شفتاه) : تحركت باسمى وذكره لى وبسائر أسمائه تعالى الدالة عليه، لا أن شفتيه ولسانه تتحرك بذاته تعالى، إذ محال حلوله فى الأماكن، ووجوده فى الأفواه، وتعاقب الحركات عليه.
45 - بَاب قَوْله تَعَالَى: (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ (إلى) الْخَبِيرُ) [الملك: 13] ) يَتَخَافَتُونَ (: يَتَسَارُّونَ
/ 143 - فيه: ابْن عَبَّاس، فِى قَوْلِهِ: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ(10/527)
بِهَا (نَزَلَتْ وَالنَّبِيّ - عليه السلام - مُخْتَفٍ بِمَكَّةَ، فَكَانَ إِذَا صَلَّى بِأَصْحَابِهِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ، فَإِذَا سَمِعَهُ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ، وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، فَقَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ (أَىْ بِقِرَاءَتِكَ، فَيَسْمَعَ الْمُشْرِكُونَ، فَيَسُبُّوا الْقُرْآنَ) وَلا تُخَافِتْ بِهَا (عَنْ أَصْحَابِكَ فَلا تُسْمِعُهُمْ) وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا) [الإسراء: 110] . / 144 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيّ - عليه السلام -: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ) . وَزَادَ غَيْرُهُ: (يَجْهَرُ بِهِ) . معنى هذا الباب إثبات العلم لله تعالى صفة بذاتية؛ لاستواء علمه من القول والجهر، وقد بينه تعالى فى آية أخرى، فقال: (سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ) [الرعد: 10] ، وفيه دليل أن اكتساب العباد من القول والفعل خلق لله تعالى ألا ترى قوله: (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [الملك: 13] ، ثم قال عقيب ذلك: (أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك: 14] ، فدل أنه ممتدح بكونه عالمًا بما أسروه من قولهم وجهروا به، وأنه خالق لذلك منهم. فإن قال قائل من القدرية الذين يزعمون أن أفعال العباد ليست خلقًا لله تعالى: قوله: (أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ (غير راجع بالخلق إلى القول، وإنما هو راجع إلى القائلين، فليس فى الآية بدليل لكم على كونه تعالى خالقًا لقول القائلين. قيل له: هذا تأويل فاسد؛ لأن الله تعالى أخرج هذا الكلام مخرج التمدح(10/528)
منه بعلمه ما أسروه من قولهم وجهروا به، وخلقه لذلك مع خلقه خلقه، دليلا على كونه عالمًا به. فلو كان غير خالق له، وممتدحًا بكونه عالمًا بقوله، وخالقًا لهم دون قولهم؛ لم يكن فى الآية دليل على صحة كونه عالمًا بقولهم، كما ليس فى عمل العامل ظرفًا من الظروف دليل على علمه ما أودعه غيره فيه. والله تعالى قد جعل خلقه دليلا على كونه عالمًا بقولهم؛ فيجب رجوع خلقه تعالى إلى قولهم؛ ليصح له التمدح بالأمرين، وليكون أحدهما دليلا على الآخر، وإذا كان ذلك كذلك، ولا أحد من الأمة يفرق بين القول وسائر الأفعال، وقد دلت الآية على كون الأقوال خلقًا له تعالى؛ وجب كون سائر أفعال العباد خلقًا له. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) فقد تقدم فى فضائل القرآن، وتلخيص معناه: الحض على تحسين الصوت به، والغناء الذى أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) أن يقرأ القرآن به، وهو الجهر بالصوت وإخراج تلاوته من حدود مساق الإخبار والمحادثة؛ حتى يتميز التالى له من المتحدث تعظيمًا له فى النفوس وتحبيبًا إليها. فإن قال قائل: فإن كان معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) ما ذكرت من تحسين الصوت به، أفعندك من لم يحسن صوته بالقرآن فليس من النبي (صلى الله عليه وسلم) ؟ . قيل: معناه لم يستن بنا فى تحسين الصوت بالقرآن؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) كان يحسن صوته به، ويرجع فى تلاوته على ما حكاه ابن مغفل، على ما يأتى بعد، فمن لم يفعل مثل ذلك فليس بمتبع لسنته (صلى الله عليه وسلم) ، ولا مقتديًا به فى تلاوته.(10/529)
46 - بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ - عليه السلام -: (رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ، فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ يَقُولُ: لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِىَ هَذَا فَعَلْتُ كَمَا يَفْعَلُ) فَبَيَّنَ أَنَّ قِيَامَهُ بِالْكِتَابِ هُوَ فِعْلُهُ، وَقَالَ: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ) [الروم: 22] وَقَالَ تَعَالَى: (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الحج: 77]
. / 145 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا حَسد إِلا فِى اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ، فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِىَ هَذَا لَفَعَلْتُ كَمَا يَفْعَلُ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالا فَهُوَ يُنْفِقُهُ فِى حَقِّهِ، فَيَقُولُ: لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِىَ عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ) . هذا الباب مستغنى عن الكلام فيه لبيانه ووضوح معناه لمن تأمله من ذوى الألباب.
47 - بَاب قَوْله تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ (الآية [المائدة: 67]
وَقَالَ الزُّهْرِىُّ: مِنَ اللَّهِ الرِّسَالَةُ وَعَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا التَّسْلِيمُ: وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ) [الجن: 28] ، وَقَالَ: (أُبْلِغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّى (. وَقَالَ فِى قصة كَعْب حِينَ تَخَلَّفَ عَنِ النَّبِىِّ - عليه السلام -:(10/530)
) وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) [التوبة: 105] ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِذَا أَعْجَبَكَ حُسْنُ عَمَلِ امْرِئٍ، فَقُلْ) اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ (وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ أَحَدٌ. وَقَالَ مَعْمَرٌ: (ذَلِكَ الْكِتَابُ (هَذَا الْقُرْآنُ،) هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة: 2] بَيَانٌ وَدِلالَةٌ، كَقَوْلِهِ: (ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ (هَذَا حُكْمُ اللَّهِ،) لا رَيْبَ فيه (لا شَكَّ،) تِلْكَ آيَاتُ (يَعْنِى هَذِهِ أَعْلامُ الْقُرْآنِ وَمِثْلُهُ،) حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) [يونس: 22] ، يَعْنِى بِكُمْ. وَقَالَ أَنَسٌ: بَعَثَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) خَالَهُ حَرَامًا إِلَى قَوْمِهِ، وَقَالَ: أَتُؤْمِنُونِى أُبَلِّغُ رِسَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَجَعَلَ يُحَدِّثُهُمْ. / 146 - فيه: الْمُغِيرَةُ، أَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا (صلى الله عليه وسلم) عَنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا أَنَّهُ مَنْ قُتِلَ مِنَّا صَارَ إِلَى الْجَنَّةِ. وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا (صلى الله عليه وسلم) كَتَمَ شَيْئًا مِنَ الْوَحْىِ فَلا تُصَدِّقْهُ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ (الآية [المائدة: 67] . / 147 - وفيه: عَبْدُاللَّهِ، قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَىُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: (أَنْ تَدْعُوَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ. . .) الحديث، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَهَا: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ (الآيَةَ [الفرقان: 68] . قال المهلب: هذا الباب كالذى قبله، وهو فى معناه وتبليغ الرسول فعل من أفعاله. وقول الزهرى: من الله الرسالة، وعلى رسوله البلاغ يبين هذا، وأنه قول أئمة الدين.(10/531)
وقوله: (فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ) [التوبة: 105] ، يعنى: تلاوتهم وجميع أعمالهم، ومعنى قوله: (بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) [المائدة: 67] ، يريد بلغه جهارًا وعلانيةً، فإن لم تفعل فما بلغت كل التبليغ. وقول عائشة: (إذا أعجبك حسن عمل امرئ) : تلاوته من عمله. وقوله: (ولا يستخفنك أحد) أى لا يستخفنك بعمله، فتظن به الخير، لكن حتى تراه عاملا على ما شرع الله، ورسوله على ما سن، والمؤمنون على ما عملوا. وقول معمر فى قوله تعالى: (ذَلِكَ الْكِتَابُ (ففسر ذلك بهذا وذلك مما يخبر به عن الغائب، وهذا إشارة إلى الحاضر، والكتاب حاضر، ومعنى ذلك أنه لما ابتدأ جبريل بتلاوة القرآن لمحمد، عليهما السلام، كفت حضرة التلاوة عن أن يقول هذا الذى يسمع، هو ذلك الكتاب لا ريب فيه، فاستغنى بأحد الضميرين عن الآخر. وقوله تعالى: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) [يونس: 22] فلما جاز أن يخبر عنهم بضميرين مختلفين، ضمير المخاطبة والحضرة، وضمير الخبر عن الغيبة، فلذلك أخبر بضمير الغائب بقوله: (ذَلِكَ (، وهو يريد هذا الحاضر، وهذا مذهب مشهور للعرب، سمته أصحاب المعانى: الالتفاف، وهو انصراف المتكلم عن معنى يكون فيه إلى معنى آخر.(10/532)
وقوله تعالى: (كُنْتُمْ (ثم قال: (بِهِمْ (يدل أنه خاطب الكل، ثم أخبر عن الراكبين للفلك خاصة إذا قد يركبها الأقل من الناس، لكن لجواز أن يركبها كل واحد من المخاطبين خاطبهم بضمير الكل، ولأن لا يركبها إلا الأقل أخبر عن ذلك الأقل بقوله: (بِهِمْ (.
48 - بَاب قَوْله تَعَالَى: (فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إن كنتم صادقين) [آل عمران: 93]
وَقَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (أُعْطِىَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ، فَعَمِلُوا بِهَا، وَأُعْطِىَ أَهْلُ الإنْجِيلِ الإنْجِيلَ، فَعَمِلُوا بِهِ، وَأُعْطِيتُمُ الْقُرْآنَ، فَعَمِلْتُمْ بِهِ) . وَقَالَ أَبُو رَزِينٍ: (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) [البقرة: 121] يَتَّبِعُونَهُ وَيَعْمَلُونَ بِهِ حَقَّ عَمَلِهِ، يُقَالُ) يُتْلَى (يُقْرَأُ، حَسَنُ التِّلاوَةِ: حَسَنُ الْقِرَاءَةِ لِلْقُرْآنِ،) لا يَمَسُّهُ (لا يَجِدُ طَعْمَهُ وَنَفْعَهُ إِلا مَنْ آمَنَ بِالْقُرْآنِ، وَلا يَحْمِلُهُ بِحَقِّهِ إِلا الْمُوقِنُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا) [الجمعة: 5] . وَسَمَّى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) الإيمَانَ وَالإسْلامَ وَالصَّلاةَ عَمَلا. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) لِبِلالٍ: (أَخْبِرْنِى أَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِى الإسْلامِ) ، قَالَ: مَا عَمِلْتُ عَمَلا أَرْجَى عِنْدِى أَنِّى لَمْ أَتَطَهَّرْ إِلا صَلَّيْتُ، وَسُئِلَ أَىُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ الْجِهَادُ، ثُمَّ حَجٌّ مَبْرُورٌ) . / 148 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ فِيمَنْ سَلَفَ مِنَ الأمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلاةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، أُوتِىَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ، فَعَمِلُوا بِهَا حَتَّى انْتَصَفَ النَّهَارُ، ثُمَّ عَجَزُوا فَأُعْطُوا قِيرَاطًا، قِيرَاطًا ثُمَّ أُوتِىَ أَهْلُ الإنْجِيلِ(10/533)
الإنْجِيلَ، فَعَمِلُوا بِهِ حَتَّى صُلِّيَتِ الْعَصْرُ، ثُمَّ عَجَزُوا فَأُعْطُوا قِيرَاطًا، قِيرَاطًا ثُمَّ أُوتِيتُمُ الْقُرْآنَ، فَعَمِلْتُمْ بِهِ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ. . .) ، الحديث فَأُعْطِيتُمْ قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: هَؤُلاءِ أَقَلُّ مِنَّا عَمَلا وَأَكْثَرُ أَجْرًا، قَالَ اللَّهُ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ شَيْئًا؟ قَالُوا: لا، قَالَ: فَهُوَ فَضْلِى أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ) . وَسَمَّى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) الصَّلاةَ عَمَلا، وَقَالَ: (لا صَلاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ) . / 149 - وفيه: ابْن مَسْعُود، أَنَّ رَجُلا سَأَلَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) أَىُّ الأعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (الصَّلاةُ لِوَقْتِهَا، وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ، ثُمَّ الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ) . قال المهلب: معنى هذا الباب كالذى قبله، أن كل ما يكسبه الإنسان مما يؤمر به من صلاة أو حج أو جهاد وسائر الشرائع عمل له يجازى على فعله، ويعاقب على تركه؛ إن أنفذ الله عليه الوعيد. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) حين سُئل أى العمل أفضل، فقال: (الصلاة لوقتها، وبر الوالدين، والجهاد) فقرن حق الوالدين بحق الله عز وجل على عباده بواو العطف، وليس هذا بمخالف للحديث الآخر (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) سُئل أى العمل أفضل، فقال: إيمان بالله، ثم الجهاد، ثم حج مبرور) ولم يذكر بر الوالدين، وإنما يفتى السائل بحسب ما يعلم من حاله، أو ما يتقى عليه من فتنة الشيطان. فلذلك اختلف ترتيب أفضل الأعمال، مع أنه قد يكون العمل فى وقت أوكد وأفضل منه فى وقت آخر، كالجهاد الذى يتأكد مرةً، ويتراخى مرةً، ألا تراه أمر وفد عبد القيس بأمر فصل باشتراطهم ذلك منه، فلم يرتب لهم الأعمال، ولا ذكر لهم الجهاد ولا بر الوالدين، وإنما ذكر لهم أداء الخمس مما يغنمون، وذكر لهم الانتباذ فى المزفت فيما نهاهم عنه، وفى المنهيات ما هو أوكد منه مرارًا.(10/534)
50 - بَاب قَوْله تَعَالَى: (إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (ضجورًا) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا) [المعارج: 19، 20، 21]
/ 150 - فيه: عَمْرُو بْن تَغْلِبَ، قَالَ: أَتَى النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) مَالٌ فَأَعْطَى قَوْمًا، وَمَنَعَ آخَرِينَ، فَبَلَغَهُ أَنَّهُمْ عَتَبُوا، فَقَالَ: (إِنِّى أُعْطِى الرَّجُلَ: وَأَدَعُ الرَّجُلَ، وَالَّذِى أَدَعُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنِ الَّذِى أُعْطِى، أُعْطِى أَقْوَامًا لِمَا فِى قُلُوبِهِمْ مِنَ الْجَزَعِ وَالْهَلَعِ، وَأَكِلُ أَقْوَامًا إِلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ فِى قُلُوبِهِمْ مِنَ الْغِنَى وَالْخَيْرِ مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ) ، فَقَالَ عَمْرٌو: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِى بِكَلِمَةِ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) حُمْرَ النَّعَمِ. قال المهلب: معنى هذا الباب إثبات خلق الله للإنسان بأخلاقه التى خلقه عليها من الهلع، والمنع، والإعطاء، والصبر على الشدة، واحتسابه ذلك على الله عز وجل وفسر هلوعًا بقول من قال: ضجورًا؛ لأن الإنسان إذا مسه الشر ضجر به، ولم يصبر محتسبًا، ويلزم من آمن بالقدر خيره وشره، وعلم أن الذى أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، الصبر على كل شدة تنزل به. ألا ترى أن الله تعالى قد استثنى المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون، لا يضجرون بتكررها عليهم، ولا يملون؛ لأنهم محتسبون لها، ومكتسبون بها التجارة الرابحة فى الدنيا والآخرة، وكذلك لا يمنعون حقوق الله فى أموالهم، فعرفك بما خلق الله عليه أهل الجنة من حسن الأخلاق، وما استثنى به العارفين المحتسبين بالصبر على الصلاة والصدقة. فقد أفهمك أن من اّدعى لنفسه قدرةً وحولا بالإمساك والشح والضجر من الإملاق والفقر، وقلة الصبر لقدر الله الجارى عليه بما سبق فى عمله ليس بقادر ولا عابد لله على حقيقة ما يلزمه، فمن(10/535)
ادّعى أن له قدرة على نفع نفسه، أو دفع الضر عنها، فقد ادّعى أن فيه صفة الإلهية من القدرة. وفى حديث عمرو بن تغلب دليل أن أرزاق العباد ليست من الله تعالى على قدر الاستحقاق بالدرجة والرفعة عنده، ولا عند السلطان فى الدنيا، وإنما هى على وجه المصلحة، والسياسة لنفوس العباد الأمارة بالسوء، ألا ترى أنه (صلى الله عليه وسلم) كان يعطى أقوامًا؛ ليداوى ما بقلوبهم من جزع، وكذلك المنع، هو على وجه الثقة بتميزه بما قسم الله له لمنعه (صلى الله عليه وسلم) أهل البصائر واليقين. قال غيره: وفيه من الفقه أن البشر فاضلهم ومفضولهم، قد جبلوا على حب العطاء، وبغض المنع، والإسراع إلى إنكار ذلك قبل الفكرة فى عاقبته، وهل لفاعل ذلك مخرج؟ وفيه أن المنع قد لا يكون مذمومًا، ويكون أفضل للممنوع لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (وأَكِلُ أقوامًا إلى ما جعل فى قلوبهم من الغنى والخير) . وهذه المنزلة التى شهد لهم بها النبى (صلى الله عليه وسلم) أفضل من العطاء الذى هو عرض الدنيا، ألا ترى أن عمرو بن تغلب اغتبط بذلك بعد جزعه منه، وقال: (ما أحب أن لى ذلك حمر النعم) وفيه استئلاف من يخشى منه، والاعتذار إلى من ظن ظنًا والأمر بخلاف ظنه، وهذا موضع كان يحتمل التأنيب للظان، واللوم له لكنه (صلى الله عليه وسلم) رءوف رحيم كما وصفه الله.
51 - بَاب ذِكْرِ النَّبِيِّ - عليه السلام - وَرِوَايَتِهِ عَنْ رَبِّهِ
/ 151 - فيه: أَنَس، عَنِ النَّبِيِّ - عليه السلام - يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ، قَالَ: (إِذَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ(10/536)
إلي شبراً، تقربت إِليه ذِرَاعًا. . .) الحديث. / 152 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ، قَالَ: (لِكُلِّ عَمَلٍ كَفَّارَةٌ، وَالصَّوْمُ لِى. . .) الحديث. / 153 - وفيه: ابْن عَبَّاس، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِيمَا يَرْوى عَنْ رَبِّهِ، قَالَ: (لا يَنْبَغِى لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى) . / 154 - وفيه: ابْن مُغَفَّل، رَأَيْتُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ الْفَتْحِ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ، قَالَ: فَرَجَّعَ فِيهَا، قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ مُعَاوِيَةُ يَحْكِى قِرَاءَةَ ابْنِ مُغَفَّلٍ، وَقَالَ: لَوْلا أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَيْكُمْ لَرَجَّعْتُ كَمَا رَجَّعَ ابْنُ مُغَفَّلٍ، يَحْكِى النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقُلْتُ لِمُعَاوِيَةَ: كَيْفَ كَانَ تَرْجِيعُهُ؟ قَالَ: آآ آثَلاثَ مَرَّاتٍ. قال المهلب: معنى هذا الباب أن النبى (صلى الله عليه وسلم) روى عن ربه السنة، كما روى عنه القرآن، وهذا مبين فى كتاب الله فى قوله: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى) [النجم: 3، 4] ، ومعنى حديث ابن مغفل فى هذا الباب التنبيه على أن القرآن، بالترجيع، والألحان الملذة للقلوب بحسن الصوت المنشود لا المكفوف عن مداه الخارج عن مساق المحادثة، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أراد أن يبالغ فى تزيين قراءته لسورة الفتح التى كان وعده الله فيها بفتح مكة، فأنجزه له ليستمل قلوب المشركين العتاة على الله، بفهم ما يتلوه من إنجاز وعد الله له فيهم، بإلذاذ أسماعهم بحسن الصوت المرجَّع فيه بنغم، ثلاث فى المدة الفارغة من التفصيل.(10/537)
وقول معاوية: (لولا أن يجتمع الناس إلى، لرجعت كما رجع ابن مغفل، يحكى عن النبى) يدل أن القراءة بالترجيع والألحان تجمع نفوس الناس إلى الإصغاء والتفهم، ويستميلها ذلك حتى لا تكاد تصبر عن استماع المشوب بلذة الحكمة المفهومة منه، وقد تقدم فى كتاب فضائل القرآن، فى باب من لم يتغن بالقرآن، اختلاف أهل العلم فى التغنى.
52 - بَاب مَا يَجُوزُ مِنْ تَفْسِيرِ التَّوْرَاةِ وكُتُبِ اللَّهِ بِالْعَرَبِيَّةِ وَغَيْرِهَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [آل عمران: 93]
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَخْبَرَنِى أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، أَنَّ هِرَقْلَ دَعَا تَرْجُمَانَهُ، ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَرَأَهُ: (بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ، وَ) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ (الآيَةَ) ، [آل عمران: 64] . / 155 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لأهْلِ الإسْلامِ، فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا: (آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ (الآيَةَ) [البقرة: 136] . / 156 - وفيه: ابْن عُمَرَ، أن النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أُتِىَ بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ زَنَيَا مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ: (فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (فَقَالُوا(10/538)
لِرَجُلٍ مِمَّنْ يَرْضَوْنَ: يَا أَعْوَرُ، اقْرَأْ، فَقَرَأَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَوْضِعٍ مِنْهَا فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْها، قَالَ: (ارْفَعْ يَدَكَ) ، فَرَفَعَ يَدَهُ، فَإِذَا فِيهِ آيَةُ الرَّجْمِ تَلُوحُ. . . الحديث. تفسير كتب الله بالعربية جائز وقد كان وهب بن منبه وغيره يترجمون كتب الله، إلا أنه لا يقطع على صحتها؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا تصدقوا أهل الكتاب فيما يفسرونه من التوراة بالعربية) لثبوت كتمانهم لبعض الكتاب وتحريفهم له. واحتج أبو حنيفة بحديث هرقل، وأنه دعا ترجمانه، وترجم له كتاب النبى بلسانه حتى فهمه، فأجاز قراءة القرآن بالفارسية، وقال: إن الصلاة تصح بذلك. وخالفه سائر الفقهاء، وقالوا: لا تصح الصلاة بها. وقال أبو يوسف ومحمد: إن كان يحسن العربية فلا تجزئه الصلاة، وإن كان لا يحسن أجزأه. ومن حجة أبى حنيفة أن المقروء يسمى قرآنًا، وإن كان بلغة أخرى إذا بين المعنى، ولم يغادر شيئًا، وإن أتى بما لا ينبئ عنه اللفظ، نحو الشكر مكان الحمد لم يجز، واستدلوا بأن الله تعالى حكى قول الأنبياء بلسانهم، بلسان عربى فى القرآن، كقول نوح: (يَا بُنَىَّ ارْكَب مَّعَنَا) [هود: 42] ، وأن نوحًا قال هذا بلسانه، قالوا: فكذلك يجوز أن يحكى القرآن بلسانهم، وقال تعالى: (وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ) [الأنعام: 19] ، فأنذر به سائر الناس، والإنذار إنما يكون بما يفهمونه من لسانهم، فيقرأ أهل كل لغة بلسانهم؛ حتى يقع لهم الإنذار به، وإذا فسر لهم بلسانهم فقد بلغهم،(10/539)
وسمى ذلك قرآنًا، وكذلك الإيمان يصح أن يقع بالعربية وبالفارسية، وحجة من لم يجز قراءة القرآن بالفارسية قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) [يوسف: 2] ، فأخبر تعالى أنه أنزله عربيًا فبطل أن يكون القرآن الأعجمى منزلا، ويقال لهم: أخبرونا إذا قرأ فاتحة الكتاب بالفارسية، هل تسمى فاتحة الكتاب أو تفسير فاتحة الكتاب، فإن قالوا: تفسير فاتحة الكتاب. قيل لهم: قد قال (صلى الله عليه وسلم) : (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) ، ولم يقل بتفسير فاتحة الكتاب. ألا ترى أنه لو قرأ تفسيرها بالعربية فى الصلاة لم يجز، فتفسيرها بالفارسية أولى ألا يجوز. وقولهم: إن الله حكى قول الأنبياء، عليهم السلام، الذى بلسانهم بلسان عربى فى القرآن، كقوله نوح: (يَا بُنَىَّ ارْكَب مَّعَنَا) [هود: 42] وأن نوحًا قال هذا بلسانه، فكذلك يجوز أن يحكى القرآن بلسانهم. فالجواب أنا نقول: أنهم ما نطقوا بما حكى عنهم إلا كما فى القرآن، ولو قلنا ما ذكروه لم يلزمنا نحن أن نحكى القرآن بلغة أخرى؛ لأنه يجوز أن يحكى الله تعالى قولهم بلسان العرب، ثم يتعبدنا نحن بتلاوته على ما أنزله فلا يجوز أن نتعداه، وما يحتجون به أنه فى الصحف الأولى، وما يحتجون به من قوله: (وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ) [الأنعام: 19] فأنذر به على لسان كل أمة، فالجواب أن العرب إذا حصل عندها أن ذلك معجز، وهم أهل الفصاحة كانت العجم أتباعًا لهم، كما كانت العامة أتباعًا للسحرة فى زمن موسى، وأتباعًا للطب فى زمن عيسى، فقد يمكن العجم أن يتعلموه بلسان العرب.(10/540)
وأما قولهم: إن الإيمان يصح أن يقال بالفارسية، فالجواب أن الإيمان يقع بالاعتقاد دون اللفظ؛ ولهذا جاز اللفظ بالشهادتين بكل لغة؛ لأن المقصود سقط المعجز، الذى هو النظم والتأليف. فإن قيل: أنتم تجوزونه بالفارسية إذا لم يقدر على العربية؛ فينبغى ألا يفترق الحكم. قيل: إنما أجزناه للضرورة، وليس ما جاز مع الضرورة يجوز مع القدرة، ولو كان كذلك لجاز التيمم مع وجود الماء، ولجاز ترك الصلاة مع القدرة؛ لأنه يسقط مع العذر.
53 - بَاب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ وَزَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ
/ 157 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قال: (مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَىْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِىٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ) . / 158 - وفيه: عَائِشَةَ، حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإفْكِ مَا قَالُوا، قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ يُنْزِلُ فِى شَأْنِى وَحْيًا يُتْلَى، وَلَشَأْنِى فِى نَفْسِى كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِىَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ (الْعَشْرَ الآيَاتِ. / 159 - فيه: الْبَرَاء، سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقْرَأُ فِى الْعِشَاءِ ب) التِّينِ وَالزَّيْتُونِ (فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ صَوْتًا، أَوْ قِرَاءَةً مِنْهُ. / 160 - وفيه: ابْن عَبَّاس، كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) مُتَوَارِيًا بِمَكَّةَ، وَكَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ(10/541)
بالقرآن فَإِذَا سَمِعَه الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ، وَمَنْ جَاءَ بِهِ، فَقَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا (. / 161 - وفيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ لابْن أَبِى صَعْصَعَة: إِنِّى أَرَاكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ، فَإِذَا كُنْتَ فِى غَنَمِكَ أَوْ بَادِيَتِكَ، فَأَذَّنْتَ لِلصَّلاةِ، فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ، فَإِنَّهُ لا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلا إِنْسٌ وَلا شَىْءٌ إِلا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، سَمِعْتُهُ مِنْ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) . / 162 - وفيه: عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَرَأْسُهُ فِى حَجْرِى، وَأَنَا حَائِضٌ. قال المهلب: المهارة بالقرآن: جودة التلاوة له بجودة الحفظ، فلا يتلعثم فى قراءته، ولا يتغير لسانه بتشكك فى حرف أو قصة مختلفة النص، وتكون قراءته سمحة بتيسير الله له كما يسره على الملائكة الكرام البررة، فهو معها فى مثل حالها من الحفظ، وتيسير التلاوة، وفى درجة الأجر إن شاء الله، فيكون بالمهارة عند كريمًا برًا، وكأن البخارى أشار بهذه الترجمة وما ضمنها من الأحاديث فى حسن الصوت، إلى أن الماهر بالقرآن هو الحافظ له مع حسن الصوت به، ألا تراه أدخل بأثر ذكر الماهر قوله (صلى الله عليه وسلم) (زينوا القرآن بأصواتكم) فأحال (صلى الله عليه وسلم) على الأصوات التى تتزين بها التلاوة فى الأسماع، لا الأصوات التى تمجها الأسماع لإنكارها، وجفائها على حاسة السمع، وتألمها بقرع الصوت المنكر وقد قال تعالى: (إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) [لقمان: 19](10/542)
لجهارته والله أعلم وشدة قرعه للسمع، وفى اتباعه أيضًا لهذا المعنى بقوله: (ما أذن الله لشىء ما أذن لنبى حسن الصوت بالقرآن) ما يقوى قولنا ويشهد له، وقد تقدم فى فضائل القرآن، ونزيده هاهنا وضوحًا، فنقول: إن الجهر المراد فى قوله: (يجهر به) هو إخراج الحروف فى التلاوة عن مساق المحادثة بالأخبار، بإلذاذ أسماعهم بحسن الصوت وترجيعه لا الجهر المنهى عنه الجافى على السامع، كما قال عز وجل للنبى (صلى الله عليه وسلم) : (وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) [الإسراء: 110] ، وكما قال تعالى فى النبى: (وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) [الحجرات: 2] ، وقوله: (أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ) [الحجرات: 2] ، دليل أن رفع الصوت على المتكلم بأكثر من صوته من الأذى له، والأذى خطيئة. ويدل على أن المقاومة فى مقدار المتكلمين معافاة من الخطأ، إلا فى النبى (صلى الله عليه وسلم) وحده، فمنع الله من مقاومته فى الآية، توقيرًا له وإعظامًا، وقد روى لفظ الترجمة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) من حديث قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن سعيد بن هشام، عن عائشة قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (الذى يقرأ القرآن وهو به ماهر مع السفرة الكرام البررة، والذى يقرأ القرآن وهو يشتد عليه فله أجران) . وتأويل قوله: (أجران) والله أعلم تفسيره حديث ابن مسعود: (من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات، فيضاعف الأجر لمن يشتد عليه حفظ القرآن فيعطى بكل حرف عشرون حسنة،(10/543)
ولأجر الماهر أضعاف هذا إلى ما لا يعلم مقداره؛ لأنه مساوٍ للسفرة الكرام البررة، وهم الملائكة) وفى هذا تفضيل الملائكة على بنى آدم، وقد تقدم. وكذلك لم يسند البخارى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (زينوا القرآن بأصواتكم) ورواه شعبة ومنصور، عن طلحة بن مصرف، عن عبد الرحمن بن عوسجة، عن البراء بن عازب، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) وقوله: (زينوا القرآن بأصواتكم) تفسير قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) لأن تزيينه بالصوت لا يكون إلا بصوت يطرب سامعيه ويلتذون بسماعه وهو التغنى الذى أشار إليه النبى، وهو الجهر الذى قيل فى الحديث، يجهر به بتحسين الصوت الملين للقلوب من القسوة إلى الخشوع، وهذا التزيين الذى أمر به (صلى الله عليه وسلم) أمته. وإلى هذا أشار أبو عبيد فقال: مجمل الأحاديث التى جاءت فى حسن الصوت بالقرآن، إنما هو من طريق التخزين والتخويف والتشويق، وقال: إنما نهى أيوب شعبة أن يحدث بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (زينوا القرآن بأصواتكم) لئلا يتأول الناس فيه الرخصة من رسول الله فى هذه الألحان المبتدعة. وفسر أبو سليمان الخطابى الحديث بتفسير آخر، قال: معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (زينوا القرآن بأصواتكم) أى زينوا أصواتكم بالقرآن على مذهبهم فى قلب الكلام، وهو كثير فى كلامهم، يقال: عرضت الناقة على الحوض: أى عرضت الحوض على الناقة،(10/544)
وإنما تأولنا الحديث على هذا المعنى؛ لأنه لا يجوز على القرآن وهو كلام الخالق أن يزينه صوت مخلوق. وقال شعبة: نهانى أيوب أن أحدث بهذا الحديث. وهكذا رواه سهيل بن أبى صالح، عن أبيه، عن أبى هريرة، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (زينوا أصواتكم بالقرآن) والمعنى: أشغلوا أصواتكم بالقرآن، والهجوا بقراءته، واتخذوا شعارًا. ولم يرد تطريب الصوت به والتزيين له، إذ ليس ذلك فى وسع كل أحد، لعل من الناس من يريد التزيين له، فيفضى ذلك به إلى التهجين، وهذا معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) إنما هو أن يلهج بتلاوته كما يلهج الناس بالغناء والطرب عليه. وهكذا فسره أبو سعيد بن الأعرابى، سأله عنه إبراهيم ابن فراس فقال: كانت العرب تتغنى بالركبانى، وهو النشيد بالتمطيط والمد، إذا ركبت الإبل، وإذا جلست فى الأفنية، وعلى أكثر أحوالها، فلما نزل القرآن أحب النبى أن يكون القرآن هجيرهم، مكان التغنى بالركبانى. قال المؤلف: والقول الأول هو الذى عليه الفقهاء، وعليه تدل الآثار، وما اعتل به الخطابى من أن كلام الله لا يجوز أن يزينه صوت مخلوق، فقد نقضه بقوله: (وليس التزيين فى وسع كل أحد، لعل من الناس من يريد التزيين فيقع فى التهجين) فقد نفى عنه التزيين وأثبت له التهجين، وهذا خلف من القول.(10/545)
ولو كان المعنى زينوا أصواتكم بالقرآن كما زعم هذا القائل؛ لدخل فى الخطاب من كان قبيح الصوت وحسنه، ولم يكن للحسن الصوت فضل على غيره؛ ولا عرف للحديث معنى، ولما ثبت أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال لأبى موسى الأشعرى، حين سمع قراءته وحسن صوته: (لقد أوتى هذا مزمارًا من مزامير آل داود) . وثبت أن عقبة بن عامر كان حسن الصوت بالقرآن، فقال له عمر ابن الخطاب: اقرأ سورة كذا، فقرأها عليه، فبكى عمر وقال: ما كنت أظن أنها نزلت. فدل ذلك أن التزيين للقرآن إنما هو تحسين الصوت به ليعظم موقعه من القلوب، وتستميل مواعظه النفوس، ولا ينكر أن يكون القرآن يزين صوت من أدمن قراءته، وآثره على حديث الناس، غير أن جلالة موقعه من القلوب، والتذاذ السامعين به لا يكون إلا مع تحسين الصوت به. وقوله فى حديث أبى سعيد: (ارفع صوتك بالنداء) ففيه دليل أن رفع الصوت وتحسينه بذكر الله فى القرآن وغيره من أفعال البر؛ لأن ذلك تعظيم أمر الله، والإعلان بشريعته، وذلك يزيد فى التخشع، وترقيق النفوس. قال المهلب: وأما حديث عائشة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان يقرأ القرآن ورأسه فى حجرها وهى حائض، ففيه معنى ما ترجم به من معنى المهارة بالقرآن؛ لأنه كان قد يسرّ الله عليه قراءته حتى كان يقرأه على كل أحواله لا يحتاج أن يتهيأ له بقعود، ولا بإحضار حفظه؛ لاستحكامه فيه، فلا يخاف عليه توقفًا؛ فلذلك كان يقرؤه راكبًا وماشيًا وقاعدًا وقائمًا ولا يتأهب لقوة حفظه ومهارته - عليه السلام -،(10/546)
ومنه أن المؤمن لا ينجس كما قال (صلى الله عليه وسلم) ، وأن وصف المؤمن بالنجاسة إنما هو إخبار عن حال مباشرة الصلاة، ونقض غسله ووضوئه، ألا ترى سماع عائشة قراءة الرسول وهى حائض، والسماع عمل من أعمال المؤمنين مدخور لهم به الحسنات ورفع الدرجات.
54 - بَاب قَوْله تَعَالَى: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) [المزمل: 20]
/ 163 - فيه: عُمَرَ، سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِى حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِى الصَّلاةِ، فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ، فَلَبَبْتُهُ بِرِدَائِهِ. . . فذكر الحديث إلى قوله: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) . وقد تقدم فى فضائل القرآن. قال المهلب: ومعنى قوله: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) [المزمل: 20] ، ما تيسر على القلب حفظه من آياته، وعلى اللسان من لغاته، وإعراب حركاته، كما فسره النبى فى هذا الحديث. ونذكر فى هذا الموضع ما لم يمض فى فضائل القرآن إن قال قائل: إذا ثبت أن القرآن أنزل على سبعة أحرف فكيف ساغ للقراء تكثير الروايات وقراءتهم بسبعين رواية وبأزيد من مائة؟ قال المهلب: فالجواب: أن عثمان لما أمر بكتابة المصاحف التى بعث بها إلى البلدان أخذ كل إمام من أئمة القراء في(10/547)
كل أفق نسخته، فما انفك له من سوادها وحروف مدادها مما وافق قراءته التى كان يقرأ لم يمكنه مفارقته لقيامه من سواد الحفظة، وأنه كان عنده فيه رواية إلى أحد من الصحابة، مع أنه لم تكن النسخ التى بعث بها عثمان مضبوطة بشكل لا يمكن تعديه، ولا تحقيق هجاء يعين معانيه؛ إذ كانوا يسمحون فى الهجاء بإسقاط الألف من كلمة لعلمهم بها استخفافًا لكثرة تكرر هذا كألف العالمين والمساكين، وكل ألف هى فى المصحف ملحقة بالحمرة. وقال يزيد الرقاشى: كان فى المصحف كانوا: كنوا، وقالوا: قلوا، فزدنا فيها ألفًا، يريد جماعة القراء حين جمعهم الحجاج، وكذلك ما زادوا فى الخط وقد كان فى المصحف: (ماء غير يسن) فردها الحجاج مع جماعة القراء) آسن (وفى الزخرف: (معايشهم) فردها) معيشتهم (. فكل تأول من ذلك الخط ما وافق قراءته كيفما كان من طريق الشكل وحركات الحروف مما يبدل المعنى، وقد يجوز أن يكون ذلك من وهل الأقلام، ويدل على ذلك استجلاب الحجاج مصحف أهل المدينة ورد مصاحف البصرة والكوفة إليه وإبقاء ما لا يغير معنى، وما له وجه جائز من وجوه ذلك المعنى وصار خط مصحف أهل المدينة سُنّة متبعة لا يجوز فيها التغيير؛ لأنها القراءة المنقولة سمعًا، وأن الستة المتروكة قطعًا لذريعة الاختلاف ما وافق منها المنفك من سواد الخط لأهل الأمصار فتواطئوا عليها جوز(10/548)
لهم تأويلهم فيه بما وافق روايتهم عن صحابى لخشية التحزب الذى منه هربوا، ولكثرة من اتبع القراء فى تلك الأمصار من العامة غير المأمونة عند منازعتها، فهذا وجه تجويز العلماء أن يقرأ بخلاف أهل المدينة وبروايات كثيرة. وأما ما ذكر من قراءة ابن مسعود فهذا تبديل كلمة بأخرى كقوله: (صَيْحَةً وَاحِدَةً) [يس: 29] ، قرأها هو: (زقية واحدة) و) بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ) [الصافات: 46] قرأها: (صفراء) فهذا تبديل اللفظ والمعنى، ولذلك أجمعت الأمة على ترك القراءة بها، ولو سمح فى تبديل السواد لما بقى منه إلا الأقل، لكن الله حفظه علينا من تحكم المتأولين وتسلط أيدى الكاتبين على تبديل حرف بحرام إلى حلال، وحلال بحرام، وكلمة عذاب برحمة، ورحمة بعذاب، ونهى بأمر، وأمر بنهى، وإنما هو ذلك مما هو جائز فى كلام العرب من نصب وخفض ورفع مما لا يحيل معنى ولا حرج فيه. وقد روى البغوى: حديث محمد بن زياد، حدثنا ابن شهاب الخياط، حدثنا داود بن أبى هند، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: (جلس ناس من أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) على بابه، فقال بعضهم: إن الله قال فى آية كذا كذا، وقال بعضهم: لم يقل كذا. فخرج رسول الله كأنما فقئ فى وجهه حب الرمان وقال: أبهذا أمرتم؟ إنما ضلت الأمم فى مثل هذا، انظروا ما(10/549)
أمرتم به فاعلموا به، وما نهيتم عنه فانتهوا) فدل هذا أنه لم يك فى السبع الذى نزل بها القرآن ما يحيل الأمر والنهى عن مواضعه، ولا يحيل الصفات عن مواضعها؛ لأنها مأمور باعتقادها ومنهى عن قياسها على المعانى؛ لأنه تعالى برئ من الأشياء والأنداد، وبقيت حركات الإعراب مستعملة لما انفك من سواد الخط فى المجتمع عليه، وعلى هذا استقر أمر القراءات عند العلماء.
55 - بَاب قَوْله تَعَالَى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) [القمر: 32]
وَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ) . مُهَيَّأٌ / 164 - فيه: عِمْرَان، قُلْتُ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، فِيمَا يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ؟ قَالَ: (كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ) . وروى على معناه عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وقد تقدم فى كتاب القدر. وتيسير القرآن للذكر هو تسهيله على اللسان، ومسارعته إلى القراءة حتى أنه ربما سبق اللسان إليه فى القراءة فيجاوز الحرف إلى ما بعده، ويحذف الكلمة حرصًا على ما بعدها. وقوله: (فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) [القمر: 15] ، أى: متفكر ومتدبر لما يقرأ ومستيقظ لما يسمع، يأمرهم أن يعتبروا، ويحذرهم أن ينزل بهم ما نزل بمن هلك من الأمم قبلهم، وأصله: مذتكر، مفتعل من الذكر، أدغمت الذال فى التاء، ثم قلبت دالا، وأدغمت الذال فى الدال؛ لأنها أشبه بالدال من التاء.(10/550)
56 - بَاب قَوْله تَعَالَى) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِى لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) [البروج: 21، 22] ) وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِى رق منشور (
قَالَ قَتَادَةُ: (يَسْطُرُونَ) [القلم: 1] يَخُطُّونَ) فِى أُمِّ الْكِتَابِ (الزخرف: 4 جُمْلَةِ الْكِتَابِ، وَأَصْلِهِ) مَا يَلْفِظُ) [ق: 18] مَا يَتَكَلَّمُ مِنْ شَىْءٍ إِلا كُتِبَ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُكْتَبُ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ،) يُحَرِّفُونَ (: يُزِيلُونَ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يُزِيلُ لَفْظَ كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَكِنَّهُمْ يُحَرِّفُونَهُ يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، دِرَاسَتُهُمْ: تِلاوَتُهُمْ،) وَاعِيَةٌ (حَافِظَةٌ) وَتَعِيَهَا (تَحْفَظُهَا،) وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأنْذِرَكُمْ بِهِ) [الأنعام: 19] يَعْنِى أَهْلَ مَكَّةَ،) وَمَنْ بَلَغَ (هَذَا الْقُرْآنُ، فَهُوَ لَهُ نَذِيرٌ. / 165 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ كِتَابًا عِنْدَهُ: غَلَبَتْ، أَوْ قَالَ: سَبَقَتْ رَحْمَتِى غَضَبِى، وَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ) . وَقَالَ مرة عن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ: إِنَّ رَحْمَتِى سَبَقَتْ غَضَبِى، وَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ) . قال أهل التفسير: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ) [البروج: 21] ، أى كريم على الله تعالى) فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ) [البروج: 22] ، وهو أم الكتاب عند الله. وقرأ نافع: (محفوظ) بالرفع من نعت (قرآن) المعنى: بل هو قرآن مجيد محفوظ فى لوح. وقرأه غيره: (محفوظٍ) بالخفض من نعت اللوح، واختلف أهل التأويل فى قوله: (وَالطُّورِ(10/551)
وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ فِى رَقٍّ مَّنشُورٍ) [الطور: 1 - 3] ، قال الحسن: هو القرآن فى أيدى السفرة. وقال الزجاج: الكتاب هاهنا ما أثبت على بنى آدم من أعمالهم. قال المهلب: وما ذكره النبى (صلى الله عليه وسلم) من سبق رحمة الله لغضبه فهو ظاهر؛ لأن من غَضب الله عليه من خلقه لم يخيبه فى الدنيا من رحمته ورأفته، بأن رزقه ونعمه وخوله مدة عمره أو وقتًا من دهره، ومكنه من آماله وملاذه، وهو لا يستحق بكفره ومعاندته غير أليم العذاب، فكيف رحمته بمن آمن به واعترف بذنوبه، ورجا غفرانه، ودعاه تضرعًا وخفية. وقد قال بعض المتكلمين: إن رحمته تعالى لم تنقطع عن أهل النار المخلدين الكفار، إذ من قدرته أن يخلق لهم عذابًا يكون عذاب النار لأهلها رحمة وتخفيفًا بالإضافة إلى ذلك العذاب.
57 - بَاب قَوْله تَعَالَى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) [الصافات: 96] ) إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) [القمر: 49]
وَيُقَالُ لِلْمُصَوِّرِينَ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ،) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ (الآية [الأعراف: 54] . وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: بَيَّنَ اللَّهُ الْخَلْقَ مِنَ الأمْرِ؛ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ) [الأعراف: 54] وَسَمَّى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) الإيمَانَ عَمَلا. قَالَ أَبُو ذَرّ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ: سُئِلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَىُّ الأعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: إِيمَانٌ بِاللَّهِ، وَجِهَادٌ فِى سَبِيلِهِ، وَقَالَ: (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة: 17] ،(10/552)
وَقَالَ: وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ لِلنَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) مُرْنَا بِجُمَلٍ مِنَ الأمْرِ إِنْ عَمِلْنَا بِهَا دَخَلْنَا الْجَنَّةَ، فَأَمَرَهُمْ بِالإيمَانِ وَالشَّهَادَةِ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ عَمَلاً. / 166 - فيه: أَبُو مُوسَى، أَتَيْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فِى نَفَرٍ مِنَ الأشْعَرِيِّينَ نَسْتَحْمِلُهُ، قَالَ: (وَاللَّهِ لا أَحْمِلُكُمْ. . .) وذكر الحديث إلى قوله: (لَسْتُ أَنَا أَحْمِلُكُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ حَمَلَكُمْ. . .) إلى آخره. / 167 - وفيه: ابْن عَبَّاس، (قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِالْقَيْسِ عَلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالُوا: مُرْنَا بِعُمَلٍ مِنَ الأمْرِ، إِنْ عَمِلْنَا بِها دَخَلْنَا الْجَنَّةَ، وَنَدْعُو إِلَيْهَا مَنْ وَرَاءَنَا، قَالَ: (آمُرُكُمْ بِالإيمَانِ بِاللَّهِ، شَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ. . .) ، الحديث. / 168 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ) . / 169 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ عليه السَّلام: (قَالَ اللَّهُ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِى، فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً، وَلِيَخْلُقُوا حَبَّةً أَوْ شَعِيرَةً) . قال المهلب: غرضه فى هذا الباب إثبات أفعال العباد وأقوالهم خلقًا لله تعالى كسائر الأبواب المتقدمة، واحتج بقوله: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) [الصافات: 96] ، ثم فصل بين الأمر بقوله للشئ: كن، وبين خلقه قطعًا للمعتزلة القائلين بأن الأمر هو الخلق، وأنه إذا قال للشئ: كن. معناه أنه كونه نفيًا منهم للكلام عن الله خلافًا لقوله: (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) [النساء: 164] ، وقد تقدم بيان الرد عليهم فى باب: المشيئة والإرادة ثم زاد في(10/553)
بيان الأمر فقال: (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ) [الأعراف: 54] ، فجعل الأمر غير خلقه لها، وغير تسخيرها الذى هو عن أمره، ثم ذكر قول ابن عيينة أنه فصل بين الخلق والأمر وجعلهما شيئين بإدخال حرف العطف بينهما، والأمر منه تعالى قول، وقوله صفة من صفاته غير مخلوق. ثم بين لك أن قول الإنسان بالإيمان وغيره قد سماه رسول الله عملا حين سئل: أى العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله. والإيمان قول باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح، وكذلك أمره وفد عبد القيس حين سألوه أن يدلهم على ما إن عملوه دخلوا الجنة فأمرهم بالإيمان بالقلب، والشهادة باللسان، وسائر أعمال الجوارح. فثبت أن كلام ابن آدم بالإيمان وغيره عمل من أعماله وفعل له، وأن كلام الله المنزل بكلمة الإيمان غير مخلوق، ثم بين لك أن أعمالنا كلها مخلوقة لله تعالى خلافًا للقدرية الذين يزعمون أنها غير مخلوقة له تعالى بقوله فى حديث أبى موسى لست أنا حملتكم على الإبل بعد أن حلف لهم أن ما عندى ما أحملكم عليه، وإنما الله هو الذى حملكم عليها، ويسرها لكم فأثبت ذلك كله فعلا لله تعالى، وهذا بين لا إشكال فيه. وقوله فى حديث عائشة: يقال للمصورين: أحيوا ما خلقتم) فإنما نسب خلقها إليهم توبيخًا لهم وتقريعًا لهم فى مضاهاتهم الله عز وجل فى خلقه فبكتهم بأن قال لهم: فإذ قد شابهتم بما صورتم مخلوقات الرب، فأحيوا ما خلقتم كما أحيا هو تعالى ما خلق فينقطعون بهذه المطالبة حين لا يستطيعون نفخ الروح في ذلك.(10/554)
ومثل هذا قوله فى حديث أبى هريرة: قال الله تعالى: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقى) يريد يصور صورة تشبه خلقى فسمى فعل الإنسان فى تصوير مثالها خلقًا له توبيخًا له على تشبهه بالله فيما صور فأحكم وأتقن على غير مثال احتذاه ولا من شىء قديم ابتداه، بل أنشأ من معدوم، وابتدع من غير معلوم، وأنتم صورتم من خشب موجود وحجر غير مفقود على شبه معهود مضاهين له، وموهمين الأغمار أنكم خلقتم كخلقه، فاخلقوا أقل مخلوقاته وأحقرها الذرة المتعدية فى أدق من الشعر، وأنفذ منكم بغير آله فى نحت الحجر فتتخذه مسكنًا وتدخر فيه قوتها نظرًا فى معاشها، أو اخلقوا حبة من هذه الأقوات التى خلقها الله لعباده، ثم يخرج منها زرعًا لا يشبهها نباته، ثم يطلع منها بقدرته من جنسها بعد أن أعدم شخصها عددًا من غير نوع نباتها الأخضر قدرة بالغة لمعتبر، وإعجازًا لجميع البشر.
58 - بَاب قِرَاءَةِ الْفَاجِرِ وَالْمُنَافِقِ وَأَصْوَاتُهُمْ وَتِلاوَتُهُمْ لا تُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ
/ 170 - فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِى يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالأتْرُجَّةِ، طَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَرِيحُهَا طَيِّبٌ، وَمَثَلُ الَّذِى لا يَقْرَأُ القُرْآنَ كَالتَّمْرَةِ، طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلا رِيحَ لَهَا، وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الَّذِى يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ، رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الَّذِى لا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ، طَعْمُهَا مُرٌّ وَلا رِيحَ لَهَا) . / 171 - وفيه: عَائِشَةَ، سَأَلَ أُنَاسٌ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الْكُهَّانِ،(10/555)
فَقَالَ: (إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِشَىْءٍ) ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ بِالشَّىْءِ يَكُونُ حَقًّا، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ - عليه السلام -: (تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْحَقِّ، يَخْطَفُهَا الْجِنِّىُّ، فَيُقَرْقِرُهَا فِى أُذُنِ وَلِيِّهِ، كَقَرْقَرَةِ الدَّجَاجَةِ فَيَخْلِطُونَ، فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كَذْبَةٍ) . / 172 - وفيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ، عليه السَّلام: (يَخْرُجُ نَاسٌ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، ثُمَّ لا يَعُودُونَ فِيهِ حَتَّى يَعُودَ السَّهْمُ إِلَى فُوقِهِ، قِيلَ: مَا سِيمَاهُمْ؟ قَالَ: سِيمَاهُمُ التَّحْلِيقُ، أَوْ قَالَ: التَّسْبِيدُ) . معنى هذا الباب أن قراءة الفاجر والمنافق لا ترتفع إلى الله ولا تزكو عنده، وإنما يزكو عنده ويرتفع إليه من الأعمال ما أريد به وجهه، وكان عن نية وقربة إليه تعالى، ألا ترى أنه شبه الفاجر الذى يقرأ القرآن بالريحانة، ريحها طيب وطعمها مر حين لم ينتفع ببركة القرآن، ولم يفز بحلاوة أجره فلم يجاوز الطيب حلوقهم من موضع الصوت، ولا بلغ إلى قلوبهم ذلك الطيب؛ لأن طعم قلوبهم مر وهو النفاق المستسر كما استسر طعم الريحانة فى عودها مع ظهور رائحتها وهؤلاء هم الذين يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية. وأما قوله: (ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم إلى فوقه) فهذا الحديث أخرجهم من الإسلام، وهو بخلاف الحديث الذى قال فيه عليه الصلاة السلام: (ويتمارى فى الفوق) لأن ذلك التمارى أبقاهم فى الإسلام. وهذا الحديث أخرجهم من الإسلام؛ لأن السهم لا يعود إلى فوقه بنفسه أبدًا، فيمكن أن يكون هذا الحديث فى قوم عرفهم النبي - عليه(10/556)
السلام - بالوحي أنهم يمرقون قبل التوبة، وقد خرجوا ببدعتهم وسوء تأويلهم إلى الكفر، ألا ترى أنه (صلى الله عليه وسلم) وسمهم بسيما خصَّهم بها من غيرهم وهو التسبيد أو التحليق، كما وسمهم بالرجل السود الذى إحدى يديه مثل ثدى المرأة، وهم الذين قتل على بالنهروان حين قالوا: إنك ربنا، فاغتاظ عليهم وأمر بحرقهم بالنار فزادهم الشيطان فتنة فقالوا: الآن أيقنا أنك ربنا؛ إذ لا يعذب بالنار إلا الله فثبت بذلك كفرهم، وقد قال بعض العلماء: إن من وسمه النبى (صلى الله عليه وسلم) بتحليق أو غيره أنه لا يستتاب إذا وجدت فيه السيما، ألا ترى أن عليًا، رضى الله عنه، لم ينقل عنه أنه استتاب أحدًا منهم. وقد روى على عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن فى قتلهم أجر لمن قتلهم، وقال: لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) . وأما حديث الكهان فإنما ذكره فى هذا الباب لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ليسوا بشئ) وإن كان فى كلامهم شىء من الحق والصدق فإنهم يفسدون تلك الكلمة من الصدق بمائة كذبة أو أكثر، فلم ينتفعوا بتلك الكلمة من الصدق لغلبة الكذب عليهم، كما لم ينتفع المنافق بقراءته لفساد عقد قلبه. وأما قوله: (فيقرقرها فى أذن وليه كقرقرة الدجاجة) أى يضعها فى الأذن بصوت شبيه بقرقرة الدجاجة. قال الأصمعى: قرقر البعر قرقرة إذا صفا ورجع. وقد روى: كقرقرة الزجاجة، وكلا الروايتين صواب، ويدل على(10/557)
صحة الرواية بالزجاجة رواية من روى: كما تقر القارورة؛ لأن القرقرة قد تكون فى الزجاجة عند وضع الأشياء فيها كما تقرقر الدجاجة أيضًا، وكما تكون القراقر فى البطن، ووقع فى كتاب بدء الخلق: فيقرها فى أذن وليه كما تقر القارورة، والمعنى فيه: أن الشياطين تقرأ الكلمة فى أذن الكاهن كما يقر الشىء فى القارورة، وهذا على الاتساع كقوله تعالى: (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) [سبأ: 33] ، والمعنى: بل مكرهم فى الليل والنهار لأن القارورة لا تقر، وإنما يقر فيها كما لا يكون المكر لليل والنهار وإنما يكون فيهما. قال صاحب الأفعال: قررت الماء فى السقاء: صببته فيه، وأقررته وقررت الخبر فى أذنه أقره قرًا: أودعته فيها. وعن أبى زيد: أقره، بكسر القاف. وقال الأصمعى: يقال: قر ذلك فى أذنه يقر قرًا إذا صار فى أذنه فيكون معناه أنه يقر الكلمة فى أذن الكاهن من غير صوت، وفى حديث القرقرة أنه يضعها بصوت، فدل اختلاف لفظ الحديثين أنه مرة يضعها فى أذن الكاهن بصوت، ومرة بغير صوت. وقوله: (سيماهم التحليق أو التسبيد) شك من المحدث فى أى اللفظين قال (صلى الله عليه وسلم) ، ومعناهما متقارب. قال صاحب العين: سبد رأسه: استأصل شعره. والتسبيد أن ينبت شعره بعد أيام.
59 - بَاب قَوْله تَعَالَى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) [الأنبياء: 47] وَأَنَّ أَعْمَالَ بَنِى آدَمَ وَقَوْلَهُمْ تُوزَنُ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْقُسْطَاسُ: الْعَدْلُ بِالرُّومِيَّةِ، وَيُقَالُ: الْقِسْطُ مَصْدَرُ الْمُقْسِطِ، وَهُوَ الْعَادِلُ، وَأَمَّا الْقَاسِطُ فَهُوَ الْجَائِرُ.(10/558)
/ 173 - قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِى الْمِيزَانِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ) . قال الزجاج: القسط: العدل، المعنى: ونضع الموازين ذوات القسط، وقسط مثل عدل مصدر يوصف به، يقال: ميزان قسط، وميزانان قسط وموازين قسط. وأجمع أهل السنة على الإيمان بالميزان، وأن أعمال العباد توزن يوم القيامة، وأن الميزان له لسان وكفتان وتمثل الأعمال بما يوزن، وخالف ذلك المعتزلة وأنكروا الميزان وقالوا: الميزان عبارة عن العدل. وهو خلاف لنص كتاب الله، وقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . قال المهلب: فأخبر الله تعالى أنه يضع الموازين لتوزن أعمال العباد بها، فيريهم أعمالهم ممثلة فى الميزان لأعين العاملين؛ ليكونوا على أنفسهم شاهدين قطعًا لحججهم وإبلاغًا فى إنصافهم عن أعمالهم الحسنة، وتبكيتًا لمن قال: إن الله لا يعلم كثيرًا مما يعملون، وتقصيًا عليهم لأعمالهم المخالفة لما شرع لهم، وبرهانًا على عدله على جميعهم، وأنه لا يظلم مثقال حبة من خردل حتى يعترف كل بما قد نسيه من عمله، ويميز ما عساه قد احتقره من فعله. ويقال له عند اعترافه: كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا. وقوله: ثقيلتان يدل أن تسبيح الله وتقديسه من أفضل النوافل، وأعظم الذخائر عنده تعالى، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (حبيبتان إلى الرحمن) .(10/559)
وقول البخاري: ويقال: القسط مصدر المقسط فإنما أراد المصدر المحذوف الزوائد، كالقدر مصدر قدرت إذا حذفت زوائده، قال الشاعر: وإن تهلك فذلك كان قدرى بمعنى: تقديرى محذوف زوائده، ورده إلى الأصل، ومثله كثير، وإنما تحذف العرب زوائد المصادر لترد الكلام إلى أصله، ويدل عليه. ومصدر المقسط: الجارى على فعله الإقساط.(10/560)