فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَيْهِ أُغْرُوا بِى تِلْكَ السَّاعَةَ، فَلَمَّا رَأَى مَا يَصْنَعُونَ أَطَافَ حَوْلَ أَعْظَمِهَا بَيْدَرًا ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ جَلَسَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ أَصْحَابَكَ، فَمَا زَالَ يَكِيلُ لَهُمْ حَتَّى أَدَّى اللَّهُ أَمَانَةَ وَالِدِى، وَأَنَا وَاللَّهِ رَاضٍ أَنْ يُؤَدِّىَ، اللَّهُ أَمَانَةَ وَالِدِى وَلا أَرْجِعَ إِلَى أَخَوَاتِى بِتَمْرَةٍ، فَسَلِمَ وَاللَّهِ الْبَيَادِرُ كُلُّهَا، حَتَّى أَنِّى أَنْظُرُ إِلَى الْبَيْدَرِ الَّذِى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَأَنَّه لَمْ يَنْقُصْ تَمْرَةً وَاحِدَةً) . قال المؤلف: لا خلاف بين العلماء أن الوصى يجوز له أن يقضى ديون الميت بغير محضر الورثة على حديث جابر؛ لأنه لم يحضر جميع ورثة أبيه عند اقتضاء الغرماء ديونهم، وإنما اختلفوا فى مقاسمة الوصى للموصى له على الورثة، فروى ابن القاسم عن مالك أنه قال: تجوز مقامسة الوصى على الصغار ولا تجوز على الكبير الغائب. وهو قول أبى حنيفة، قال مالك: لا يقاسم على الكبير الغائب إلا السلطان. قال أبو حنيفة: ومقاسمة الورثة الوصى على الموصى له باطل، فإن ضاع نصيب الموصى له عند الوصى رجع به على الورثة. وأجازها أبو يوسف وقال: القسمة جائزة على الغيب ولا رجوع لهم على الحضور، وإن ضاع ما أخذ الوصى. وقال الطحاوى: القياس أن لا يقسم على الكبار ولا على الموصى له؛ لأنه لا ولاية له عليهم وليس يوصى للموصى له.(8/208)
56 - كِتَاب الأحْكَامِ
- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِى الأمْرِ مِنْكُمْ) [النساء: 59]
/ 1 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (مَنْ أَطَاعَنِى فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِى فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِى فَقَدْ أَطَاعَنِى، وَمَنْ عَصَى أَمِيرِى فَقَدْ عَصَانِي) . / 2 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ قَالَ النبى (صلى الله عليه وسلم) : أَلا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالإمَامُ الَّذِى عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ. . . الحديث. قال المهلب: هذا يدل على وجوب طاعة السلطان وجوبًا مجملا؛ لأن فى ذلك طاعة الله وطاعة رسوله، فمن ائتمر لطاعة أولى الأمر لأمر الله ورسوله بذلك فطاعتهم واجبة فيما رأوه من وجوه الصلاح حتى إذا خرجوا إلى ما يشك أنه معصية لله لم تلزمهم طاعتهم فيه وطلب الخروج عن طاعتهم بغير مواجهة فى الخلاف. وروى عن أبى هريرة فى قوله تعالى: (وأولى الأمر منكم) [النساء: 59] ، قال: هم الأمراء. وقال الحسن: هم الأمراء والعلماء. وكان مجاهد يقول: هم أصحاب محمد. وربما قال: أولو العقل والفقه فى دين الله. وقال عطاء: هم أهل العلم والفقه، وطاعة الرسول اتباع الكتاب والسنة.(8/209)
قال ابن عيينة: سألت زيد بن أسلم، ولم يكن أحد بالمدينة يفسر القرآن بعد محمد بن كعب تفسيره، قلت له: ما تقول فى قول الله: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم) [النساء: 59] ؟ فقال: اقرأ ما قبلها حتى تعرف. فقرأت: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن) [النساء: 58] الآية. قال: هذه فى الولاة. وفى حديث ابن عمر أن فرضًا على الأمراء نصح من ولاهم الله أمرهم، وكذلك كل من ذكر فى الحديث ممن استرعى أمرًا أو اؤتمن عليه فالواجب عليه بذل النصيحة فيه، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (من استرعى رعية فلم يحطها بنصيحة لم يرح رائحة الجنة) وسيأتى هذا الحديث بعد هذا فى باب من استرعى رعية ولم ينصح.
- باب الأمَرَاءُ مِنْ قُرَيْشٍ
/ 3 - فيه: مُعَاوِيَةَ أَنَّه بلغه أَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَيَكُونُ مَلِكٌ مِنْ قَحْطَانَ، فَغَضِبَ، فَقَامَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِى أَنَّ رِجَالا مِنْكُمْ يُحَدِّثُونَ أَحَادِيثَ لَيْسَتْ فِى كِتَابِ اللَّهِ، وَلا تُوثَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَأُولَئِكَ جُهَّالُكُمْ، فَإِيَّاكُمْ وَالأمَانِىَّ الَّتِى تُضِلُّ أَهْلَهَا، فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، يَقُولُ: (إِنَّ هَذَا الأمْرَ فِى قُرَيْشٍ لا يُعَادِيهِمْ أَحَدٌ إِلا كَبَّهُ اللَّهُ فِى النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ، مَا أَقَامُوا الدِّينَ) . / 4 - وفيه: ابْنُ عُمَرَ: قَالَ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَزَالُ هَذَا الأمْرُ فِى قُرَيْشٍ مَا بَقِىَ مِنْهُمُ اثْنَانِ) . قال المؤلف: هذا يرد قول النظام وضرار ومن وافقهما من الخوارج أن الإمام ليس من شرطه أن يكون قرشيا. قالوا: وإنما استحق(8/210)
الإمامة من كان قائمًا بالكتاب والسنة من أفناء الناس من العجم وغيرهم. قال ضرار: وإن اجتمع رجلان قرشى ونبطى ولَّينا النبطى؛ لأنه أقل عشيرة، فإذا عصى الله وأردنا خلعه كانت شوكته علينا أهون. قال أبو بكر بن الطيب: وهذا قول ساقط لم يعرج المسلمون عليه، وقد ثبت عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أن الخلافة فى قريش، وعمل بذلك المسلمون قرنًا بعد قرن فلا معنى لقولهم، وقد صح عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه أوصى بالأنصار، وقال: (من ولى منكم من هذا الأمر شيئًا فليتجاوز عن مسيئهم) ولو كان الأمر إليهم كما أوصى بهم. ومما يشهد لصحة هذه الأحاديث احتجاج أبى بكر وعمر بها على رءوس الأنصار فى السقيفة، وما كان من إذعان الأنصار، وخنوعهم لها عند سماعها وإذكارهم بها حتى قال سعد بن عبادة: منا الوزراء، ومنكم الأمراء. ورجعت الأنصار عما كانوا عليه حين تبين لهم الحق بعد أن نصبوا الحرب، وقال الحباب بن المنذر: أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب. وانقادوا لأبى بكر مذعنين. ولولا علمهم بصحة هذه الأخبار لم يلبثوا أن يقدحوا فيها، ويتعاطوا ردها، ولا كانت قريش بأسرها تقر كذبًا يدعى عليها؛ لأن العادة جرت فيما لم يثبت من الأخبار أن يقع الخلاف والقدح فيها عند التنازع، ولا سيما إذا احتج به فى هذا الأمر العظيم مع إشهار السيوف، واختلاط القول. ومما يدل على كون الإمام قريشا اتفاق الأمة فى الصدر الأول وبعده من الأعصار على اعتبار ذلك فى صفة الإمام قبل حدوث الخلاف فى(8/211)
ذلك، فثبت أن الحق فى اجتماعها وإبطال قول من خالفها، وسيأتى فى كتاب الرجم فى باب الرجم للحبلى من الزنا إذا أحصنت شىء من هذا المعنى. قال المهلب: وأما حديث عبد الله بن عمرو أنه سيكون ملك من قحطان، فيحتمل أن يكون ملكًا غير خليفة على الناس من غير رضا به، وإنما أنكر ذلك معاوية لئلا يظن أحد أن الخلافة تجوز فى غير قريش، ولو كان عند أحد فى ذلك علم من النبى (صلى الله عليه وسلم) لأخبر به معاوية حين خطب بإنكار ذلك عليهم، وقد روى فى الحديث أن ذلك إنما يكون عند ظهور أشراط الساعة وتغيير الدين، روى أبو هريرة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه) فقوله: (لا تقوم الساعة) يدل أن ذلك من أشراط القيامة ومما لا يجوز، ولذلك ترجم البخارى بهذا الحديث فى كتاب الفتن فى باب تغير الزمان حتى تعبد الأوثان، وفهم منه هذا المعنى.
3 - باب أَجْرِ مَنْ قَضَى بِالْحِكْمَةِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [المائدة: 44]
. / 5 - فيه: عَبْدِاللَّهِ: قَالَ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا حَسَدَ إِلا فِى اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِى الْحَقِّ، وَآخَرُ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِى بِهَا وَيُعَلِّمُهَا) . قال المؤلف: روى عن الشعبى أنه سئل عن قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) [المائدة: 44] و) الظلمون) [المائدة: 45] و) الفاسقون) [المائدة: 47] فقال: الكافرون فى أهل الإسلام، والظالمون فى(8/212)
اليهود، والفاسقون فى النصارى. وقال الحسن: نزلت فى أهل الكتاب، تركوا أحكام الله كلها، يعنى فى الرجم والديات. قال الحسن: وهى علينا واجبة. قال عطاء وطاوس: كفر ليس ككفر الشرك وظلم ليس كظلم الشرك، وفسق ليس كفسق الشرك. قال إسماعيل بن إسحاق: وظاهر الآيات تدل أن من فعل مثل ما فعلوا، واخترع حكمًا خالف به حكم الله وجعله دينًا يعمل به لزمه مثل ما لزمهم من لزوم الوعيد حاكمًا كان أو غيره، ألا ترى أن ذلك نسب إلى جملة اليهود حين عملوا به؟ قال المؤلف: ودلت الآيات على أن من قضى بما أنزل الله فقد استحق جزيل الأجر، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أباح حسده ومنافسته، فدل أن ذلك من أشرف الأعمال وأجل ما تقرب به إلى الله، وقد روى ابن المنذر، عن محمد بن إسماعيل، حدثنا الحسن بن على، حدثنا عمران القطان أبو العوام، عن أبى إسحاق الشيبانى، عن ابن أبى أوفى قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (الله مع القاضى ما لم يجر؛ فإذا جار تخلى عنه، ولزمه الشيطان) .
4 - باب السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِلإمَامِ مَا لَمْ تَكُنْ مَعْصِيَةً
/ 6 - فيه: أَنَسِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَإِنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ) . / 7 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَكَرِهَهُ، فَلْيَصْبِرْ فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُفَارِقُ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا، فَيَمُوتُ إِلا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً) .(8/213)
/ 8 - وفيه: ابْنُ عُمَرَ، قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلا سَمْعَ وَلا طَاعَةَ) . / 9 - وفيه: عَلِىٍّ: أَنَّ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بَعَثَ سَرِيَّةً، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلا مِنَ الأنْصَارِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، فَغَضِبَ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ: أَلَيْسَ قَدْ أَمَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ تُطِيعُونِى؟ قَالُوا: بَلَى قَالَ: قَدْ عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ لَمَا جَمَعْتُمْ حَطَبًا، وَأَوْقَدْتُمْ نَارًا، ثُمَّ دَخَلْتُمْ فِيهَا، فَجَمَعُوا حَطَبًا، فَأَوْقَدُوا نَارًا، فَلَمَّا هَمُّوا بِالدُّخُولِ، فَقَامَ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا تَبِعْنَا النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فِرَارًا مِنَ النَّارِ، أَفَنَدْخُلُهَا؟ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ؛ إِذْ خَمَدَتِ النَّارُ وَسَكَنَ غَضَبُهُ، فَذُكِرَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا أَبَدًا إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِى الْمَعْرُوفِ) . قال محمد بن جرير: فى حديث على وحديث ابن عمر البيان الواضح عن نهى الله على لسان رسوله عباده عن طاعة مخلوق فى معصية خالقه، سلطانًا كان الآمر بذلك، أو سوقة، أو والدًا، أو كائنًا من كان. فغير جائز لأحد أن يطيع أحدًا من الناس فى أمر قد صح عنده نهى الله عنه. فإن ظن ظان أن فى قوله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث أنس: (اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشى) وفى قوله فى حديث ابن عباس: (من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر) حجة لمن أقدم على معصية الله بأمر سلطان أو غيره، وقال: قد وردت الأخبار بالسمع والطاعة لولاة الأمر فقد ظن خطئًا، وذلك أن أخبار رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا يجوز أن تتضاد، ونهيه وأمره لا يجوز أن يتناقض أو يتعارض، وإنما الأخبار الواردة بالسمع والطاعة لهم ما لم يكن خلافًا لأمر الله وأمر(8/214)
رسوله، فإذا كان خلافًا لذلك فغير جائز لأحد أن يطيع أحدًا فى معصية الله ومعصية رسوله، وبنحو ذلك قال عامة السلف. حدثنا أبو كريب قال: حدثنا ابن إدريس، قال: حدثنا إسماعيل بن أبى خالد، عن مصعب بن سعد قال: قال على، رضى الله عنه: حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله ويؤدى الأمانة، فإذا فعل ذلك فحق على الناس أن يسمعوا ويطيعوا. وروى مثله عن معاذ بن جبل. قال المهلب: قوله (صلى الله عليه وسلم) : (اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشى) لا يوجب أن يكون المستعمل للعبد إلا إمام قرشى، لما تقدم أنه لا تجوز الإمامة إلا فى قريش، وإنما أجمعت الأمة على أنه لا يجوز أن تكون الإمامة فى العبيد. وقوله: (من رأى شيئًا يكرهه فليصبر) يعنى: من الظلم والجور. فأما من رأى شيئًا من معارضة الله ببدعة أو قلب شريعة، فليخرج من تلك الأرض ويهاجر منها، وإن أمكنه إمام عدل واتفق عليه جمهور الناس فلا بأس بخلع الأول، فإن لم يكن معه إلا قطعة من الناس أو ما يوجب الفرقة فلا يحل له الخروج. قال أبو بكر بن الطيب: أجمعت الأمة أنه يوجب خلع الإمام وسقوط فرض طاعته كفره بعد الإيمان، وتركه إقامة الصلاة والدعاء إليها، واختلفوا إذا كان فاسقًا ظالمًا غاصبًا للأموال؛ يضرب الأبشار ويتناول النفوس المحرمة ويضيع الحدود ويعطل الحقوق فقال كثير من الناس: يجب خلعه لذلك. وقال الجمهور من الأمة وأهل الحديث: لا يخلع بهذه الأمور، ولا يجب الخروج عليه؛ بل يجب وعظه وتخويفه وترك طاعته فيما(8/215)
يدعو إليه من معاصى الله، واحتجوا بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (اسمعوا، وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشى) وأمره بالصلاة وراء كل بر وفاجر، وروى أنه قال: أطعهم وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك ما أقاموا الصلاة) . قال القاضى أبو بكر: ومما يوجب خلع الإمام تطابق الجنون عليه وذهاب تمييزه حتى ييئس من صحته، وكذلك إن صم أو خرس وكبر وهرم، أو عرض له أمر يقطعه من مصالح الأمة؛ لأنه إنما نصب لذلك؛ فإذا عطل ذلك وجب خلعه، وكذلك إن جعل مأسورًا فى أيدى العدو إلى مدة يخاف معها الضرر الداخل على الأمة وييئس من خلاصه وجب الاستبدال به. فإن فك أسره وثاب عقله أو برئ من زمانته ومرضه لم يعد إلى أمره وكان رعية للأول؛ لأنه عقد له عند خلعه وخروجه من الحق فلا حق له فيه، ولا يوجب خلعه حدوث فضل فى غيره كما يقول أصحابنا: إن حدوث الفسق فى الإمام بعد العقد لا يوجب خلعه، ولو حدث عند ابتداء العقد لبطل العقد له ووجب العدول عنه. وأمثال هذا فى الشريعة كثير، منها أن المتيمم لو وجد الماء قبل دخوله فى الصلاة لوجب عليه الوضوء به، ولو طرأ عليه وهو فيها لم يلزمه، وكذلك لو وجبت عليه الرقبة فى الكفارة وهو موسر لم يجزئه غيرها، ولو حدث له اليسار بعد مضيه فى شىء من الصيام لم يبطل حكم صيامه ولا لزمه غيره. قال المهلب: وقوله فى حديث على: (لو دخلوها ما خرجوا منها أبدًا) فالأبد هاهنا يراد به أبد الدنيا؛ لقوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) [النساء: 48] ، ومعلوم أن الذين هموا بدخول النار لم يكفروا بذلك فيجب عليهم التخليد أبد(8/216)
الآخرة، ألا ترى قولهم: (إنما اتبعنا النبى (صلى الله عليه وسلم) فرارًا من النار) فدل هذا أنه أراد (صلى الله عليه وسلم) : لو دخلوها لماتوا فيها ولم يخرجوا منها مدة الدنيا، والله أعلم.
5 - باب مَنْ لَمْ يَسْأَلِ الإمَارَةَ أَعَانَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا
/ 10 - فيه: عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : يَا عَبْدَالرَّحْمَنِ، لا تَسْأَلِ الإمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَأْتِ الَّذِى هُوَ خَيْرٌ) . وترجم له باب من سأل الإمارة وكل إليها. قال المهلب: فيه دليل على أنه من تعاطى أمرًا وسولت له نفسه أنه قائم بذلك الأمر أنه يخذل فيه فى أغلب الأحوال؛ لأنه من سأل الإمارة لم يسألها إلا وهو يرى نفسه أهلا لها، فقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (وكل إليها) بمعنى لم يعن على ما أعطاه، والتعاطى أبدًا مقرون بالخذلان، وإن من دعى إلى عمل أو إمامة فى الدين فقصر نفسه عن تلك المنزلة وهاب أمر الله؛ رزقه الله المعونة، وهذا إنما هو مبنى على أنه من تواضع لله رفعه، وذكر ابن المنذر من حديث أبى عوانة، عن عبد الأعلى التغلبى، عن بلال بن مرداس الفزارى، عن حميد، عن أنس، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (من ابتغى القضاء واستعان عليه بالشفعاء وكل إلى نفسه، ومن أكره عليه أنزل الله إليه ملكًا يسدده) وهذا تفسير قوله: (أعنت عليها) فى حديث ابن سمرة.(8/217)
6 - باب مَا يُكْرَهُ مِنَ الْحِرْصِ عَلَى الإمَارَةِ
/ 11 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ لَهُ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الإمَارَةِ، وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَنِعْمَ الْمُرْضِعَةُ، وَبِئْسَتِ الْفَاطِمَةُ) . / 12 - وفيه: أَبُو مُوسَى: (دَخَلْتُ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) أَنَا وَرَجُلانِ مِنْ قَوْمِى، فَقَالَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ: أَمِّرْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَالَ الآخَرُ مِثْلَهُ، فَقَالَ: إِنَّا لا نُوَلِّى هَذَا مَنْ سَأَلَهُ، وَلا مَنْ حَرَصَ عَلَيْهِ) . قال المهلب: حرص الناس على الإمارة ظاهر العيان، وهو الذى جعل الناس يسفكون عليها دماءهم، ويستبيحون حريمهم، ويفسدون فى الأرض حين يصلون بالإمارة إلى لذاتهم، ثم لابد أن يكون فطامهم إلى السوء وبئس الحال؛ لأنه لا يخلو أن يقتل عليها أو يعزل عنها وتلحقه الذلة أو يموت عليها فيطالب فى الآخرة فيندم. والحرص الذى اتهم النبى (صلى الله عليه وسلم) صاحبه ولم يوله هو أن يطلب من الإمارة ما هو قائم لغيره متواطئًا عليه، فهذا لا يجب أن يعان عليه ويتهم طالبه، وأما إن حرص على القيام بأمر ضائع من أمور المسلمين أو حرص على سد خلة فيهم، وإن كان له أمثال فى الوقت والعصر لم يتحركوا لهذا، فلا بأس أن يحرص على القيام بالأمر الضائع ولا يتهم هذا إن شاء الله. وبين هذا المعنى حديث خالد بن الوليد حين أخذ الراية من غير إمرة ففتح له.(8/218)
7 - باب مَنِ اسْتُرْعِىَ رَعِيَّةً فَلَمْ يَنْصَحْ
/ 13 - فيه: الْحَسَنِ، أَنَّ عُبَيْدَاللَّهِ بْنَ زِيَادٍ عَادَ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ فِى مَرَضِهِ الَّذِى مَاتَ فِيهِ، فَقَالَ لَهُ مَعْقِلٌ: إِنِّى مُحَدِّثُكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (مَا مِنْ عَبْدٍ اسْتَرْعَاهُ اللَّهُ رَعِيَّةً، فَلَمْ يَحُطْهَا بِنَصِيحَةٍ، إِلا لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ) . وقال مرة: (ما من وال يلى رعية من المسلمين، فيموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة) . قال المؤلف: النصيحة فرض على الوالى لرعيته وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (الأمير الذى على الناس راع ومسئول عن رعيته) فمن ضيع من استرعاه الله أمرهم أو خانهم أو ظلمهم؛ فقد توجه إليه الطلب بمظالم العباد يوم القيامة فكيف يقدر على التحلل من ظلم أمة عظيمة؟ وهذا الحديث بيان وعيد شديد على أئمة الجور. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لم يجد رائحة الجنة) و (حرم الله عليه الجنة) فمعناه عند أهل السنة إن لم يرض الله الطالبين عنه فأراد تعالى أن ينفذ عليه الوعيد؛ لأن المذنبين من المؤمنين فى مشيئة الله تعالى. ويجب على الوالى أن لا يحتجب عن المظلومين، فقد جاء فى ذلك وعيد شديد. روى الوليد بن مسلم، عن يزيد بن أبى مريم، عن القاسم بن مخيمرة، عن أبى مريم الفلسطينى، وكان من أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) ، قال: سمعت النبى (صلى الله عليه وسلم) يقول: (من ولى(8/219)
من أمور الناس شيئًا فاحتجب عن خلتهم وحاجتهم وفاقتهم احتجب الله عن خلته وحاجته وفاقته) . ويجب على الوالى أن لا يولى أحدًا من عصابته، وفى الناس من هو أرضى منه، فقد روى عن ابن عباس، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنهم إن فعلوا ذلك فقد خانوا الله ورسوله، وخانوا جميع المؤمنين.
8 - باب مَنْ شَاقَّ شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ
/ 14 - فيه: طَرِيفٍ أَبُو تَمِيمَةَ، قَالَ: شَهِدْتُ صَفْوَانَ، وَجُنْدَبًا، وَأَصْحَابَهُ وَهُوَ يُوصِيهِمْ، فَقَالُوا: هَلْ سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) شَيْئًا؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: (مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يُشَاقِقْ يَشْقُقِ اللَّهُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالُوا: أَوْصِنَا، فَقَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا يُنْتِنُ مِنَ الإنْسَانِ بَطْنُهُ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لا يَأْكُلَ إِلا طَيِّبًا فَلْيَفْعَلْ، وَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لا يُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ بِمِلْءِ كَفِّهِ مِنْ دَمٍ أَهْرَاقَهُ فَلْيَفْعَلْ) . قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من سمع سمع الله به) قال صاحب العين: سمعت بالرجل: إذا أذعت عنه عيبًا والسمعة: ما سمع به من طعام أو غيره ليرى ويسمع (ومصداق هذا الحديث فى كتاب الله قوله تعالى: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة فى الذين آمنوا لهم عذاب أليم فى الدنيا والآخرة) [النور: 13] . وقوله: (ومن يشاقق يشقق الله عليه) فالمشاقاة فى اللغة مشتقة من(8/220)
الشقاق وهو الخلاف، ومنه قوله تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى) [النساء: 115] الآية. والمراد بالحديث النهى عن القول القبيح فى المؤمنين وكشف مساوئهم وعيوبهم وترك مخالفة سبيل المؤمنين، ولزوم جماعتهم، والنهى عن إدخال المشقة عليهم والإضرار بهم. وفى الحديث من المعانى أن المجازاة قد تكون من جنس الذنب، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من سمع سمع الله به، ومن يشاقق يشقق الله عليه) قال صاحب العين: شق الأمر عليك مشقة: أضر بك. وفى وصية أبى تميمة الحض على أكل الحلال والكف عن الدماء.
9 - باب الْقَضَاءِ وَالْفُتْيَا فِى الطَّرِيقِ
وَقَضَى يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ فِى الطَّرِيقِ، وَقَضَى الشَّعْبِىُّ عَلَى بَابِ دَارِهِ. / 15 - فيه: أَنَسُ: بَيْنَمَا أَنَا وَالنَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) خَارِجَانِ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَلَقِيَنَا رَجُلٌ عِنْدَ سُدَّةِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ فَكَأَنَّ الرَّجُلَ اسْتَكَانَ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَبِيرَ صِيَامٍ، وَلا صَلاةٍ، وَلا صَدَقَةٍ، وَلَكِنِّى أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قَالَ: أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ) . قال المهلب: الفتوى فى الطريق على الدابة وما يشاكلها من التواضع لله عز وجل فإن كان الفتوى لضعيف أو جاهل فهو(8/221)
محمود عند الله وعند الناس وإن تكلف ذلك لرجل من أهل الدنيا أو لمن يخشى لسانه فهو مكروه للحاكم أن يترك مكانه وخطته. واختلف أصحاب مالك فى القضاء سائرًا أو ماشيئًا، فقال أشهب: لا بأس بذلك إذا لم يشغله السير أو المشى عن الفهم. وقال سحنون: لا ينبغى أن يقضى وهو يسير أو يمشى، وقال ابن حبيب: ما كان من ذلك يسيرًا كالذى يأمر بسجن من وجب عليه أو يأمر بشىء أو يكف عن شىء فلا بأس بذلك، وأما أن يبتدئ نظرًا ويرجع الخصوم وما أشبه ذلك فلا ينبغى. وهذا قول حسن. وقول أشهب أشبه بدليل الحديث. وفيه دليل على جواز تنكيب العالم بالفتيا عن نفس ما سئل عنه إذا كانت المسألة لا تعرف أو كان مما لا حاجة بالناس إلى معرفتها، وكانت مما يخشى منها الفتنة وسوء التأويل.
- باب مَا ذُكِرَ أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) لَمْ يَكُنْ لَهُ بَوَّابٌ
/ 16 - فيه: أَنَسَ أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) مَرَّ بِامْرَأَةٍ وَهِىَ تَبْكِى عِنْدَ قَبْرٍ، فَقَالَ لَهَا: اتَّقِى اللَّهَ وَاصْبِرِى، فَقَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّى فَإِنَّكَ خِلْوٌ مِنْ مُصِيبَتِى، فَجَاوَزَهَا، وَمَضَى فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ، فَقَالَ: مَا قَالَ لَكِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ؟ قَالَتْ: مَا عَرَفْتُهُ، قَالَ: إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: فَجَاءَتْ إِلَى بَابِهِ، فَلَمْ تَجِدْ عَلَيْهِ بَوَّابًا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا عَرَفْتُكَ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ الصَّبْرَ عِنْدَ أَوَّلِ صَدْمَةٍ) . قال المهلب: لم يكن للنبى بواب راتب، وقد جاء فى حديث القف(8/222)
والمشربة أنه كان له بواب، فدل حديث أنس أنه (صلى الله عليه وسلم) إذا لم يكن على شغل من أهله ولا انفراد لشىء من أمره أنه كان يرفع حجابه بينه وبين الناس ويبرز لطالبيه وذوى الحاجة إليه؛ لأن الله قد كان أمنه أن يغتال أو يهاج أو تطلب غرته فيقتل، قال تعالى: (والله يعصمك من الناس) [المائدة: 67] وقد أراد عمر بن عبد العزيز أن يسلك هذه الطريقة تواضعًا لله فمنع الشرط والبوابين فتكاثر الناس تكاثرًا اضطره إلى الشرط فقال: لابد للسلطان من وزعة. قال الطبرى: دل حديث عمر حين استأذن له الأسود على النبى (صلى الله عليه وسلم) فى المشربة أنه فى وقت خلوته وشغله بنفسه فيما لابد له منه كان يتخذ بوابًا؛ ليعلم من قصده أنه خال فيما لابد له منه، ولولا ذلك لم يكن لعمر حاجة إلى مسألة الأسود للاستئذان له على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ؛ بل كان يكون هو المستأذن لنفسه فبان بحديث عمر أن معنى رواية من روى عنه أنه لم يكن له بواب يريد فى الأوقات التى كان يظهر فيها للناس ويبرز إليهم، وأما فى وقت حاجته وخلوته فلا. وعلى هذا النحو من فعله (صلى الله عليه وسلم) فى اتخاذه البواب، ورفعه الحجاب والبواب عن بابه وبروزه لطالبه كان احتجاب من احتجب من اللأئمة واتخاذ من اتخذ البواب وظهور من ظهر للناس منهم. وروى شعبة، عن أبى عمران الجونى، عن عبد الله بن الصامت أن أبا ذر لما قدم على عثمان قال: (يا أمير المؤمنين، افتح الباب يدخل الناس) فدل هذا الحديث عن عثمان أنه كان يبرز أحيانًا، ويظهر لأهل الحاجة، ويحتجب أحيانًا فى أوقات حاجاته، ونظير ذلك كان يفعل عمر بن عبد العزيز. روى عن جرير، عن مغيرة،(8/223)
عن زيد الطيب قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز فقال لى: ما يقول الناس؟ قلت: يقولون: إنك شديد الحجاب. فقال: لابد لى أن أخلو فيما يرفع إلىّ الناس من المظالم، فأنظر فيها.
- باب الْحَاكِمِ يَحْكُمُ بِالْقَتْلِ عَلَى مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ دُونَ الإمَامِ الَّذِى فَوْقَهُ
/ 17 - فيه: أَنَسِ: إِنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ كَانَ يَكُونُ بَيْنَ يَدَىِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الشُّرَطِ مِنَ الأمِيرِ) . / 18 - وفيه: أَبُو مُوسَى أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) بَعَثَهُ، وَأَتْبَعَهُ بِمُعَاذٍ بن جبل. / 19 - وفيه: أَبُو مُوسَى: أَنَّ رَجُلا أَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ، فَأَتَى مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَهُوَ عِنْدَ أَبِى مُوسَى، فَقَالَ: مَا لِهَذَا؟ قَالَ: أَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ، قَالَ: لا أَجْلِسُ حَتَّى أَقْتُلَهُ. اختلف العلماء فى هذا الباب فقال ابن القاسم فى المجموعة: لا يقيم الحدود فى القتل ولاة المياه، وليجلب إلى الأمصار ولا يقام القتل بمصر كلها إلا بالفسطاط أو يكتب إلى والى الفسطاط بذلك. وقال أشهب: من ولاه الأمير وجعله واليًا على بعض المياه، وجعل ذلك إليه فليقم الحد فى القتل والقطع وغيره، وإن لم يجعله إليه فلا يقيمه. وذكر الطحاوى عن أصحابه الكوفيين قال: لا يقيم الحدود إلا أمراء الأمصار وحكامها، ولا يقيمها عامل السواد ونحوه. وذكر عن مالك قال: لا يقيم الحدود كل الولاة فى الأمصار والسواد. وقال(8/224)
الشافعى: إذا كان الوالى عدلا يضع الصدقة مواضعها فله عقوبة غل صدقته، وإن لم يكن عدلا لم يكن له أن يعزره. والحجة لمن رأى للحاكم والوالى إقامة الحدود دون الإمام الذى فوقه حديث معاذ أنه قتل المرتد دون أن يرفع أمره إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) . وذهب الكوفيون إلى أن القاضى حكمه حكم الوكيل لا تنطلق يده إلا على ما أذن له فيه وأطلق عليه، وحكمه عند من خالفهم حكم الوصى له التصرف فى كل شىء، وتنطلق يده على النظر فى جميع الأشياء ما لم يستثن عليه وجه، فلا يجوز أن ينظر فيه.
- باب هَلْ يَقْضِى الْقَاضِى أَوْ يُفْتِى وَهُوَ غَضْبَانُ؟
/ 20 - فيه: أَبُو بَكْرَةَ، أَنَّه كَتَبَ إِلَى ابْنِهِ، وَكَانَ بِسِجِسْتَانَ، بِأَنْ لا تَقْضِىَ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَأَنْتَ غَضْبَانُ، فَإِنِّى سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (لا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ) . / 21 - وفيه: أَبُو مَسْعُودٍ: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى وَاللَّهِ لأتَأَخَّرُ عَنْ صَلاةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلانٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا فِيهَا، قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَطُّ أَشَدَّ غَضَبًا فِى مَوْعِظَةٍ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُوجِزْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الْكَبِيرَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ) . / 22 - وفيه: ابْنَ عُمَرَ، أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِىَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ عُمَرُ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ قَالَ: (لِيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ فَتَطْهُرَ، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا) .(8/225)
قال المهلب: قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يقضى بين اثنين وهو غضبان) ندب منه خوف التجاوز، ولذلك كره العلماء أن يقضى القاضى وهو غضبان، روى ذلك عن عمر بن الخطاب وشريح وعمر بن عبد العزيز، وهو قول مالك والكوفيين والشافعى. فإن قيل: فقد قضى النبى (صلى الله عليه وسلم) وهو غضبان. قيل: إنما فعل ذلك لأنه لم يخش التجاوز والميل فى حكمه؛ لأنه معصوم بخلاف غيره من البشر، وإنما يستعمل الغضب فى القضاء والفتيا كما استعمله النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه رأى شيئًا من الشريعة والسنة قد غير عن حاله، ومن الأحوال التى تكره للقاضى أن يقضى فيها أن يكون جائعًا، روى عن شريح أنه كان إذا غضب أو جاع قام. وكان الشعبى يأكل عند طلوع الشمس فقيل له. فقال: آخذ حلمى قبل أن أخرج إلى القضاء. ولا يقضى ناعسًا ولا مغمومًا. قال الشعبى: وأى حال جاءت عليه مما يعلم أنها تغير عقله أو فهمه امتنع من القضاء فيها.
- باب مَنْ رَأَى لِلْقَاضِى أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ فِى أَمْرِ النَّاسِ إِذَا لَمْ يَخَفِ الظُّنُونَ وَالتُّهَمَةَ
كَمَا قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) لِهِنْدٍ: (خُذِى مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ) ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ أَمْرًا مَشْهُورًا. / 23 - فيه: عَائِشَةَ: جَاءَتْ هِنْدٌ بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،(8/226)
وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الأرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ أَنْ يَذِلُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ، وَمَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ أَنْ يَعِزُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ، ثُمَّ قَالَتْ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ، فَهَلْ عَلَىَّ مِنْ حَرَجٍ أَنْ أُطْعِمَ مِنِ الَّذِى لَهُ عِيَالَنَا؟ قَالَ لَهَا: لا حَرَجَ عَلَيْكِ أَنْ تُطْعِمِيهِمْ مِنْ مَعْرُوفٍ) . اختلف العلماء فى القاضى هل يقضى بعلمه؟ فقال الشافعى وأبو ثور: جائز له أن يقضى بعلمه فى حقوق الله وحقوق الناس، سواء علم ذلك قبل القضاء أو بعده. وقال الكوفيون: ما شاهده الحاكم من الأفعال الموجبة للحدود قبل القضاء أو بعده، فإنه لا يحكم فيها بعلمه إلا القذف، وما علمه قبل القضاء من حقوق الناس لم يحكم فيه بعلمه فى قول أبى حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: يحكم فيما علمه قبل القضاء بعلمه. وقالت طائفة: لا يقضى بعلمه أصلا فى حقوق الله وحقوق الآدميين، وسواء علم ذلك قبل القضاء أو بعده أو فى مجلسه. هذا قول شريح والشعبى، وهو قول مالك وأحمد وإسحاق وأبى عبيد، وقال الأوزاعى: ما أقر به الخصمان عنده أخذهما به وأنفذه عليهما إلا الحدود. واحتج الشافعى بحديث هند وأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قضى لها ولولدها على أبى سفيان بنفقتهم ولم يسألها على ذلك بينة؛ لعلمه بأنها زوجته وأن نفقتها ونفقة ولدها واجبة فى ماله، فحكم بذلك على أبى سفيان لعلمه بوجوب ذلك، وأيضًا فإنه متيقن لصحة ما يقضى به إذا علمه علم يقين وليس كذلك الشهادة؛ لأنها قد تكون كاذبة أو واهمة.(8/227)
وقد أجمعوا على أنه له أن يعدل ويسقط العدول بعلمه إذا علم أن ماشهدوا به على غير ما شهدوا به، وينفذ علمه فى ذلك ولا يقضى بشهادتهم، مثال ذلك أن يعلم بنتًا لرجل ولدت على فراشه، فإن أقام شاهدين أنها مملوكته فلا يجوز أن يقبل شهادتهما ويبيح له فرجًا حرامًا، وكذلك لو رأى رجلا قتل رجلا، ثم جئ بغير القاتل وشهد شاهدان أنه القاتل فلا يجوز أن يقبل الشهادة، وكذلك لو سمع رجلا طلق امرأته طلاقًا بائنًا، ثم ادعت عليه المرأة الطلاق وأنكر ذلك الزوج، فإن جعل القول قوله فقد أقامه على فرج حرام فيفسق به، ولم يكن له بد من أن لا يقبل قوله فيحكم بعلمه. واحتج أصحاب أبى حنيفة بأن ما علمه الحاكم قبل القضاء فإنما حصل فى حال الابتداء على طريق الشهادة فلم يجز أن نجعله حاكمًا؛ لأنه لو حكم له لكان قد حكم بشهادة نفسه فكان متهمًا، وصار بمنزلة من قضى بدعواه على غيره، وأيضًا فإن علمه لما تعلق به الحكم على وجه الشهادة فإذا قضى به صار كالقاضى بشاهد واحد. قالوا: والدليل على جواز حكمه بما علمه فى حال القضاء وفى مجلسه قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إنما أقضى على نحو ما أسمع) ولم يفرق بين سماعه من الشهود أو المدعى عليه فيجب أن يحكم بما سمعه من المدعى عليه كما يحكم بما سمعه من الشهود. واحتج أصحاب مالك فقالوا: الحاكم غير معصوم، ويجوز أن تلحقه الظنة فى أن يحكم لوليه على عدوه، فحسمت المادة فى ذلك بأن لا يحكم بعلمه؛ لأنه ينفرد به ولا يشركه غيره فيه. وأيضًا فإن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال فى حديث اللعان: (إن جاءت به على نعت كذا فهو(8/228)
للذى رميت به فجاءت به على العنت المكروه) ، فقال (صلى الله عليه وسلم) : (لو كنت راجمًا أحدًا بغير بينة لرجمت هذه) وقد علم أنها زنت فلم يرجمها لعدم البينة، والنبى (صلى الله عليه وسلم) وإن كان لم يقطع أنها تأتى به على أحد النعتين فقد قطع على أنها إن جاءت به على أحدهما، فهو لمن وصف لا محالة، وهذا لا يكون منه إلا بعلم. وروى عن أبى بكر الصديق أنه قال: لو رأيت رجلا على حد لم أحده حتى يشهد بذلك عندى شاهدان. ولا مخالف له فى الصحابة.
- باب الشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ، وَمَا يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ؟ وَمَا يَضِيقُ فِيهِ وَكِتَابِ الْحَاكِمِ إِلَى عَامِلِهِ، وَالْقَاضِى
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: كِتَابُ الْحَاكِمِ جَائِزٌ إِلا فِى الْحُدُودِ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَأ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لأنَّ هَذَا مَالٌ بِزَعْمِهِ، وَإِنَّمَا صَارَ مَالا بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ الْقَتْلُ، فَالْخَطَأُ وَالْعَمْدُ وَاحِدٌ. وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ إِلَى عَامِلِهِ فِى الْجَارُودِ، وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ فِى سِنٍّ كُسِرَتْ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: كِتَابُ الْقَاضِى إِلَى الْقَاضِى جَائِزٌ إِذَا عَرَفَ الْكِتَابَ وَالْخَاتَمَ. وَكَانَ الشَّعْبِىُّ يُجِيزُ الْكِتَابَ الْمَخْتُومَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْقَاضِى، وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُهُ، وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ عَبْدِالْكَرِيمِ الثَّقَفِىُّ: شَهِدْتُ عَبْدَالْمَلِكِ(8/229)
بْنَ يَعْلَى قَاضِىَ الْبَصْرَةِ وَإِيَاسَ بْنَ مُعَاوِيَةَ وَالْحَسَنَ وَثُمَامَةَ بْنَ عَبْدِاللَّهِ بْنِ أَنَسٍ وَبِلالَ بْنَ أَبِى بُرْدَةَ وَعَبْدَاللَّهِ بْنَ بُرَيْدَةَ الأسْلَمِىَّ وَعَامِرَ بْنَ عَبِيدَةَ وَعَبَّادَ بْنَ مَنْصُورٍ يُجِيزُونَ كُتُبَ الْقُضَاةِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنَ الشُّهُودِ، فَإِنْ قَالَ الَّذِى جِىءَ عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ: إِنَّهُ زُورٌ، قِيلَ لَهُ: اذْهَبْ، فَالْتَمِسِ الْمَخْرَجَ مِنْ ذَلِكَ، وَأَوَّلُ مَنْ سَأَلَ عَلَى كِتَابِ الْقَاضِى الْبَيِّنَةَ: ابْنُ أَبِى لَيْلَى وَسَوَّارُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ. وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُاللَّهِ بْنُ مُحْرِزٍ، جِئْتُ بِكِتَابٍ مِنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ قَاضِى الْبَصْرَةِ، وَأَقَمْتُ عِنْدَهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ لِى عِنْدَ فُلانٍ كَذَا وَكَذَا، وَهُوَ بِالْكُوفَةِ، وَجِئْتُ بِهِ الْقَاسِمَ بْنَ عَبْدِالرَّحْمَنِ، فَأَجَازَهُ. وَكَرِهَ الْحَسَنُ وَأَبُو قِلابَةَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى وَصِيَّةٍ حَتَّى يَعْلَمَ مَا فِيهَا؛ لأنَّهُ لا يَدْرِى لَعَلَّ فِيهَا جَوْرًا. وَقَدْ كَتَبَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى أَهْلِ خَيْبَرَ: إِمَّا أَنْ تَدُوا صَاحِبَكُمْ، وَإِمَّا أَنْ تُؤْذِنُوا بِحَرْبٍ. وَقَالَ الزُّهْرِىُّ فِى الشَّهَادَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ: إِنْ عَرَفْتَهَا فَاشْهَدْ، وَإِلا فَلا تَشْهَدْ. / 24 - فيه: أَنَسِ: أَنَّ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) لما أراد أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الرُّومِ، قَالُوا: إِنَّهُمْ لا يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلا مَخْتُومًا، فَاتَّخَذَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِهِ وَنَقْشُهُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. واتفق جمهور العلماء على أن الشهادة على الخط لا تجوز إذا لم يذكر الشهادة ولم يحفظها. قال الشعبى: فلا يشهد أبدًا إلا على شىء يذكر، فإنه من شاء انتقش خاتمًا، ومن شاء كتب كتابًا.(8/230)
وممن رأى أن لا يشهد على الخط وإن عرفه حتى يذكر الشهادة: الكوفيون والشافعى وأحمد وأكثر أهل العلم، وقد فعل مثل هذا فى أيام عثمان صنعوا مثل خاتمه وكتبوا مثل كتابه فى قصة مذكورة فى مقتل عثمان. وأحسن ما يحتج به فى هذا الباب بقوله تعالى: (وما شهدنا إلا بما علمنا) [يوسف: 81] ، وقوله: (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) [الزخرف: 86] ، وأجاز مالك الشهادة على الخط، فروى عنه ابن وهب فى الرجل يقوم يذكر حقا قد مات شهوده ويأتى بشاهدين عدلين يشهدان على كتاب ذكر الحق، قال: تجوز شهادتهما على كتاب الكاتب. يعنى: إذا كان قد كتب شهادته على المطلوب بما كتب عليه فى ذكر الحق؛ لأنه قد يكتب ذكر الحق من لا يشهد على المكتوب عليه. قاله ابن القاسم. وإن كان على خط اثنين جاز وكان بمنزلة الشاهدين إذا كان عدلا مع يمين الطالب وهو قول ابن القاسم. وذكر ابن شعبان، عن ابن وهب قال: لا آخذ بقول مالك فى الشهادة على معرفة الخط ولا تقبل الشهادة فيه. وقال الطحاوى: خالف مالكًا جميع الفقهاء فى الشهادة على الخط وعدوا قوله شذوذا؛ إذ الخط قد يشبه الخط، وليست الشهادة على قول منه ولا معاينة فعل. وقال محمد بن حارث: الشهادة على الخط خطأ؛ لأن الرجل قد يكتب شهادته على من لا يعرفه بعينه طمعًا أن لا يحتاج فى ذلك إليه وأن غيره يغنى عنه، أو لعله يشهد فى قريب من وقت(8/231)
الشهادة فيذكر العين، ولقد قال فى رجل قال: سمعت فلانًا يقول: رأيت فلانًا قتل فلانًا، أو سمعت فلانًا طلق امرأته أو قذفها أنه لا يشهد على شهادته إلا أن يشهده فالخط أبعد من هذا وأضعف. قال محمد بن حارث: وقد قلت لبعض الفضلة: أتجوز شهادة الموتى؟ فقال: ما هذا الذى تقول؟ فقلت: إنكم تجيزون شهادة الرجل بعد موته إذا وجدتم خطه فى وثيقة. فسكت. وقال محمد بن عبد الحكم: لا نقضى فى دهرنا بالشهادة على الخط؛ لأن الناس قد أحدثوا ضروبًا من الفجور، وقد قال مالك: إن الناس تحدث لهم أقضية على نحو ما أحدثوا من الفجور. وقد كان الناس فيما مضى يجيزون الشهادة على خاتم القاضى، ثم رأى مالك أن ذلك لا يجوز. وأما اختلاف الناس فى كتب القضاة، فذهب جمهور العلماء إلى أن كتب القضاة إلى القضاة جائزة فى الحدود، وسائر الحقوق، وذهب الكوفيون إلى أنها تجوز فى كل شىء إلا فى الحدود، وهو أحد قولى الشافعى، وله مثل قول الجمهور، وحجة البخارى على الكوفى من تناقضه فى جواز ذلك فى قتل الخطأ وأنه إنما صار مالا بعد ثبوت القتل فهى حجة حسنة. وذكر أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عماله فى الحدود وأحكامه حجة ولا سلف لأبى حنيفة فى قوله. وذكر البخارى عن جماعة من قضاة التابعين وعلمائهم أنهم كانوا يجيزون كتب القضاة إلى القضاة بغير شهود عليها إذا عرف الكتاب والخاتم، وحجتهم أن النبى (صلى الله عليه وسلم) بعث(8/232)
بكتبه إلى خيبر وإلى الروم، ولم يذكر أن النبى، عليه السلام، أشهد عليها. وأجمع فقهاء المصار وحكامها على فعل سوار وابن أبى ليلى، اتفقوا أنه لا يجوز كتاب قاض إلى قاض حتى يشهد عليه شاهدان لما دخل الناس من الفساد، واستعمال الخطوط ونقش الخواتيم، فاحتيط لتحصين الدماء والأموال بشاهدين. وروى ابن نافع، عن مالك قال: كان من أمر الناس القديم إجازة الخواتم حتى إن القاضى ليكتب للرجل الكتاب فما يزيد على ختمه فيجاز له حتى اتهم الناس، فصار لا يقبل إلا بشاهدين، واختلفوا إذا أشهد القاضى شاهدين على كتابه ولم يقرأ عليهما ولا عرفهما بما فيه فقال مالك: يجوز ذلك ويلزم القاضى المكتوب إليه قبوله بقول الشاهدين: هذا كتابه ودفعه إلينا مختومًا. وقال أبو حنيفة والشافعى وأبو ثور: إذا لم يقرأه عليهما القاضى لم يجز ولا يعمل القاضى للمكتوب إليه بما فيه. وروى عن مالك مثله. وحجتهم أنه لا يجوز أن يشهد الشاهد إلا بما يعلم؛ لقوله تعالى: (وما شهدنا إلا بما علمنا) [يوسف: 81] . وحجة من أجاز ذلك أن الحاكم إن أقر أنه كتابه فقد أقر بما فيه، وليس للشاهدين أن يشهدا على ما ثبت عند الحاكم فيه، وإنما الغرض منهما أن يعلم القاضى المكتوب إليه أن هذا كتاب القاضى إليه، وقد يثبت عند القاضى من أمور الناس ما لا يجب أن(8/233)
يعلمه كل أحد مثل الوصية التى يتخوف الناس فيها ويذكرون ما فرطوا فيه. ولهذا يجوز عند مالك أن يشهدوا على الوصية المختومة وعلى الكتاب المدرج ويقولوا للحاكم: نشهد على إقراره بما فى هذا الكتاب. وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يكتب إلى عماله ولا يقرؤها على رسله وفيها الأحكام والسنن. واختلفوا إن انكسر ختم الكتاب فقال أبو حنيفة وزفر: لا يقبله الحاكم. وقال أبو يوسف: يقبله ويحكم به إذا شهدت به البينة وهو قول الشافعى، واحتج الطحاوى لأبى يوسف فقال: كتب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى الروم كتابًا وأراد أن يبعثه غير مختوم حتى قيل له: إنهم لا يقرءونه إلا مختومًا، فاتخذ الخاتم من أجل ذلك، فدل أن كتاب القاضى حجة، وإن لم يكن مختومًا، وخاتمه أيضًا حجة.
- باب مَتَى يَسْتَوْجِبُ الرَّجُلُ الْقَضَاءَ
وَقَالَ الْحَسَنُ: أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْحُكَّامِ أَنْ لا يَتَّبِعُوا الْهَوَى وَلا يَخْشَوُا النَّاسَ، وَلا يَشْتَرُوا بآيَاتِ الله ثَمَنًا قَلِيلا، ثُمَّ قَرَأَ: (يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الأرْضِ) [ص: 26] الآية، وَقَرَأَ: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا (إلى) بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ) [المائدة: 44] .) بِمَا اسْتُحْفِظُوا (اسْتُوْدِعُوا،) مِنْ كِتَابِ اللَّهِ (، وَقَرَأَ: (وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِى الْحَرْثِ) [الأنبياء: 78] فَحَمِدَ سُلَيْمَانَ، وَلَمْ يَلُمْ دَاوُدَ، وَلَوْلا مَا ذَكَرَ(8/234)
اللَّهُ مِنْ أَمْرِ هَذَيْنِ لَرَأَيْتُ أَنَّ الْقُضَاةَ هَلَكُوا، فَإِنَّهُ أَثْنَى عَلَى هَذَا بِعِلْمِهِ، وَعَذَرَ هَذَا بِاجْتِهَادِهِ وَقَالَ مُزَاحِمُ بْنُ زُفَرَ: قَالَ لَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ: خَمْسٌ إِذَا أَخْطَأَ الْقَاضِى مِنْهُنَّ خَصْلَةً كَانَتْ فِيهِ وَصْمَةٌ: أَنْ يَكُونَ فَهِمًا، حَلِيمًا، عَفِيفًا، صَلِيبًا، عَالِمًا، سَئُولا عَنِ الْعِلْمِ. قال المهلب: أما استحباب الرجل القضاء فإن أهل العلم قالوا فى ذلك: إذا رآه الناس أهلا لذلك ورأى هو نفسه أهلا لها، وليس أن يرى نفسه أهلا لذلك فقط؛ أنه إذا علم الناس منه هذا الرأى لم يفقد من يزين له ذلك ويستحمد إليه. قال مالك: ولا يستقضى من ليس بفقيه. وذكر ابن حبيب، عن مالك أنه قال: إذا اجتمع فى الرجل خصلتان رأيت أن يولى: الورع والعلم. قال ابن حبيب: فإن لم يكن علم فعقل وورع؛ لأنه بالورع يقف، وبالعقل يسأل، وإذا طلب العلم وجده، وإن طلب العقل لم يجده. فإن قيل: فإذا استوجب القضاة هل للسلطان أن يجبره على ولايته؟ قيل: قد روى ابن القاسم، عن مالك أنه لا يجبر على ولاية القضاء إلا أن يوجد منه عوض. قيل له: أيجبر بالحبس والضرب؟ قال: نعم. قال المهلب: والحكم الذى ينبغى أن يلزمه القاضى هو توسعة خلقه للسماع من الخصمين، وأن لا يحرج بطول ما يورده أحدهما، وإن رآه غير نافع له فى خصامه فليصبر له حتى يبلغ المتكلم مراده؛ لأنه قد(8/235)
يمكن أن يكون ذلك الكلام الذى لا ينتفع به سببًا إلى ما ينتفع به، وأيضًا فإنه إذا لم يترك أن يتكلم بما يريد نسب إليه الخصم أنه جار عليه ومنعه الإدلاء بحجته وأثار على نفسه عداوة، وربما كان ذلك شيئًا لفتنة الخصم، ووجد إليه الشيطان السبيل، وأوهمه أن الجور من الدين. وقوله: صليبًا، يريد الصلابة فى إنفاذ الحق حتى لا يخاف فى الله لومة لائم ولا يهاب ذا سلطان أو ذا مال وعشيرة وليكن عنده الضعيف والقوى، والكبير والصغير فى الحق سواء. وقول الحسن: أخذ الله على الحكام أن لا يتبعوا الهوى ولا يخشوا الناس. وما استشهد عليه من كتاب الله فكل ذلك يدل أن الله تعالى فرض على الحكام أن يحكموا بالعدل، وقد قال عز وجل: (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) [النساء: 85] ، وكذلك فرض عليهم أن لا يخشوا الناس. ولهذا قال عمر بن عبد العزيز فى صفة القاضى أن يكون صليبًا. وقوله: أن يكون عفيفًا. أخذه من قوله تعالى: (ولا تشتروا بآياتى ثمنًا قليلا) [البقرة: 41] . واختلف العلماء فى تأويل قوله تعالى: (فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى) [ص: 26] ، فقالت طائفة: الآية عامة فى كل الناس، وكل خصمين تقدما إلى حاكم فعليه أن يحكم بينهما، وسواء كان للحاكم ولد أو والد أو زوجة، وهم وسائر الناس فى ذلك سواء.(8/236)
وذهب الكوفيون والشافعى إلى أنه لا تجوز شهادته له ويحكم لسائر الناس. وزاد أبو حنيفة: لا يحكم لولد والده وإن كانوا من قبل النساء، ولا لعبده وكاتبه وأم ولده؛ لأن هؤلاء: لا تجوز شهادته لهم. واحتلف أصحاب مالك فى ذلك فقال مطرف وسحنون: كل من لا يجوز للحاكم أن يشهد له لا يجوز حكمه له، وهم الآباء فمن فوقهم والأبناء فمن دونهم وزوجته ويتيمه الذى يلى ماله. وقال ابن الماجشون: يجوز حكمه للآباء والأبناء فمن فوقهم ومن دونهم إلا الولد الصغير الذى يلى ماله أو يتيمه أو زوجته، ولا يتهم فى الحكم كما يتهم فى الشهادة؛ لأنه إنما يحكم بشهادة غيره من العدول. وقال أصبغ مثل قول مطرف إذا قال: ثبت له عندى. ولا يدرى أثبت له أم لا ولم يحضر الشهود، فإذا حضروا وكانت الشهادة ظاهرة بحق بيّن؛ فحكمه له جائز ما عدا زوجته وولده الصغير ويتيمه الذى يلى ماله. كقول ابن الماجشون؛ لأن هؤلاء كنفسه، فلا يجوز له أن يحكم لهم، والقول الأول أولى بشهادة عموم القرآن له قال تعالى: (يا داود إنا جعلناك خليفة فى الأرض) [ص: 26] الآية. وخاطب تعالى الحكام فقال: (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) [النساء: 58] فعم جميع الناس، وقد حكم النبى (صلى الله عليه وسلم) لزوجته عائشة على الذين رموها بالإفك وأقام عليهم الحد. وليس رد شهادة الولد لوالده، والوالد لولده بإجماع من الأمة فيكون أصلا لذلك، وقد أجاز شهادة الولد لوالده، والوالد لولده عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز وإياس بن معاوية، وهو قول أبى ثور والمزنى وإسحاق.(8/237)
- باب رِزْقِ الْحُكَّامِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا
وَكَانَ شُرَيْحٌ الْقَاضِى يَأْخُذُ عَلَى الْقَضَاءِ أَجْرًا، وَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَأْكُلُ الْوَصِىُّ بِقَدْرِ عُمَالَتِهِ، وَأَكَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. / 25 - فيه: عَبْدَاللَّهِ بْنَ السَّعْدِىِّ، (أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ فِى خِلافَتِهِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَلَمْ أُحَدَّثْ أَنَّكَ تَلِىَ مِنْ أَعْمَالِ النَّاسِ أَعْمَالا، فَإِذَا أُعْطِيتَ الْعُمَالَةَ كَرِهْتَهَا؟ فَقُلْتُ: بَلَى، فَقَالَ عُمَرُ: فَمَا تُرِيدُ إِلَى ذَلِكَ، قُلْتُ: إِنَّ لِى أَفْرَاسًا وَأَعْبُدًا، وَأَنَا بِخَيْرٍ وَأُرِيدُ أَنْ تَكُونَ عُمَالَتِى صَدَقَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ، قَالَ عُمَرُ: لا تَفْعَلْ، فَإِنِّى كُنْتُ أَرَدْتُ الَّذِى أَرَدْتَ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُعْطِينِى الْعَطَاءَ، فَأَقُولُ: أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّى حَتَّى أَعْطَانِى مَرَّةً مَالا، فَقُلْتُ: أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّى، فَقَالَ لِى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : خُذْهُ، فَتَمَوَّلْهُ وَتَصَدَّقْ بِهِ، فَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ، وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ، وَلا سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَإِلا فَلا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ) . أجمع العلماء أن أرزاق الحكام من الفئ، وما جرى مجراه مما يصرف فى مصالح المسلمين؛ لأن الحكم بينهم من أعظم مصالحهم. وقال الطبرى: فى هذا الحديث الدليل الواضح على أن من شُغل بشىء من أعمال المسلمين أخذ الرزق على عمله ذلك، كالولاة والقضاة وجباة الفئ وعمال الصدقة وشبههم؛ لإعطاء رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عمر العمالة على عمله الذى استعمله عليه، فكذلك سبيل كل مشغول بشىء من أعمالهم له من الرزق على قدر استحقاقه عليه وسبيله سبيل عمر فى ذلك. قال غيره: إلا أن طائفة من السلف كرهت أخذ الرزق على القضاء.(8/238)
روى ذلك عن ابن مسعود والحسن البصرى والقاسم، وذكره ابن المنذر عن عمر بن الخطاب. ورخص فى ذلك طائفة: وذكر ابن المنذر أن زيد بن ثابت كان يأخذ على القضاء أجرًا، وروى ذلك عن ابن سيرين وشريح، وهو قول الليث وإسحاق وأبى عبيد، والذين كرهوه ليس بحرام عندهم. وقال الشافعى: إذا أخذ القاضى جعلا لم يحرم عليه عندى. واحتج أبو عبيد فى جواز ذلك بما فرض الله للعاملين على الصدقة، وجعل لهم منها حقا لقيامهم وسعيهم فيها. قال ابن المنذر: وحديث ابن السعدى حجة فى جواز أرزاق القضاة من وجوهها. قال المهلب: وإنما كره من كرهه؛ لأن أمر القضاء إنما هو محمول فى الأصل على الاحتساب، ولذلك عظمت منازلهم وأجورهم فى الآخرة، ألا ترى أن الله أمر نبيه وسائر الأنبياء أن يقولوا: لا أسألكم عليه أجرًا؛ ليكون ذلك دليلا على البراءة من الاتهام. ولذلك قال مالك: أكره أجر قسام القاضى؛ لأن من مضى كانوا يقسمون ويحتسبون ولا يأخذون أجرًا. فأراد أن يجرى هذا الأمر على طريق الاحتساب على الأصل الذى وضعه الله للأنبياء، عليهم السلام؛ لئلا يدخل فى هذه الصناعة من لا يستحقها أو يتحيل على أموال المسلمين، وأما من حكم بالحق إذا تصرف فى مصالح المسلمين فلا يحرم عليه أخذ الأجر على ذلك. وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه استعمل ابن مسعود على بيت المال، وعمار بن ياسر على الصلاة، وابن حنيف على الجند، ورزقهم كل يوم شاة شطرها لعمار؛ وربعها لابن مسعود، وربعها لابن حنيف.(8/239)
وأما العاملون عليها فهم السعاة المتولون لقبض الصدقات، ولهم من الأجر بقدر أعمالهم على حسب ما يراه الإمام فى ذلك، وقد تقدم فى كتاب الزكاة وفى كتاب الوصايا اختلاف العلماء فيما يجوز للوصى أن يأكل من مال يتيمه. وأما قول النبى (صلى الله عليه وسلم) لعمر فى العطاء: (خذه فتموله وتصدق به) فإنما أراد (صلى الله عليه وسلم) الأفضل والأعلى من الأجر؛ لأن عمر وإن كان مأجورًا بإيثاره بعطائه على نفسه من هو أفقر إليه منه، فإن أخذه للعطاء ومباشرته الصدقة بنفسه أعظم لأجره، وهذا يدل أن الصدقة بعد التمول أعظم أجرًا؛ لأن خلق الشح حينئذ مستول على النفوس. وفيه: أن أخذ ما جاء من المال من غير مسألة أفضل من تركه؛ لأنه يقع فى إضاعة المال، وقد نهى النبى (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك.
- باب مَنْ قَضَى وَلاعَنَ فِى الْمَسْجِدِ
وَلاعَنَ عُمَرُ عِنْدَ مِنْبَرِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَضَى مَرَّوانٌ عَلَى زَيْد بْنِ ثَابِتٍ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، وَقَضَى شُرَيْحٌ وَالشَّعْبِىُّ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ فِى الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، وَكَانَ الْحَسَنُ وَزُرَارَةُ ابْنُ أَوْفَى يَقْضِيَانِ فِى الرَّحَبَةِ خَارِجًا مِنَ الْمَسْجِدِ. / 26 - فيه: سَهْلِ: شَهِدْتُ الْمُتَلاعِنَيْنِ، وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ مرة فَتَلاعَنَا فِى الْمَسْجِدِ وَأَنَا شَاهِدٌ. استحب القضاء فى المسجد طائفة منهم: شريح والحسن البصرى والشعبى وابن أبى ليلى. وقال مالك: القضاء فى المسجد من أمر(8/240)
الناس القديم؛ لأنه يرضى فيه بالدون من المجلس ويصل إليه المرأة والضعيف، وإذا احتجب لم يصل إليه الناس، وبه قال أحمد وإسحاق. وكرهت ذلك طائفة وقالت: القاضى يحضره الحائض والذمى وتكثر الخصومات بين يديه، والمساجد تجنب ذلك. وروى عن عمر ابن عبد العزيز أنه كتب إلى القاسم بن عبد الرحمن ألا تقضى فى المسجد؛ فإنه يأتيك الحائض والمشرك. وقال الشافعى: أحب إلىّ أن يقضى فى غير المسجد لكثرة من يغشاه لغير ما بنيت له المساجد. وحديث سهل بن سعد حجة لمن استحب ذلك. وليس فى اعتلال من اعتل بحضور الكافر والحائض مجلس الحكم حجة؛ لأنه لا تعلم حجة يجب بها منع الكافر من الدخول فى المساجد إلا المسجد الحرام، وقد قدم وفد ثقيف على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأنزلهم فى المسجد، وأخذ ثمامة ابن أثال من بنى حنيفة أسيرًا وربط إلى سارية من سوارى المسجد، فليس فى منع الحائض من دخول المسجد خبر يثبت، وقد نظر داود نبى الله بين الخصمين اللذين وعظ بهما فى المحراب وهو فى المسجد.
- باب مَنْ حَكَمَ فِى الْمَسْجِدِ حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حَدٍّ أَمَرَ أَنْ يُخْرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ فَيُقَامَ
وَقَالَ عُمَرُ: أَخْرِجَاهُ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَيُذْكَرُ عَنْ عَلِىٍّ نَحْوُهُ. / 27 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ فِى الْمَسْجِدِ، فَنَادَاهُ، فَقَالَ:(8/241)
يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعًا، قَالَ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ قَالَ: لا، قَالَ: اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ) . فَقَالَ جَابِرَ: كُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُ بِالْمُصَلَّى اختلف العلماء فى إقامة الحدود فى المسجد فروى عن عمر بن الخطاب أنه أمر بالذى وجب عليه الحد أن يقام عليه خارج المسجد، وكذلك فعل علىّ بن أبى طالب بالسارق الذى قدم إليه فقال: يا قنبر، أخرجه من المسجد فاقطع يده. وكره إقامة الحد فى المسجد مسروق وقال: إن للمسجد حرمة. وهو قول الشعبى وعكرمة، وإليه ذهب الكوفيون والشافعى وأحمد وإسحاق. وفيها قول ثان روى عن الشعبى أنه أقام على رجل من أهل الذمة حدا فى المسجد. وهو قول ابن أبى ليلى. وفيها قول ثالث: وهو الرخصة فى الضرب بالأسواط اليسيرة فى المسجد، فإذا كثرت الحدود فلا يقام فيه وهو قول مالك وأبى ثور. وقول من نزه المسجد عن إقامة الحدود فيه أولى لما شهد له حديث أبى هريرة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أمر برجم الزانى فى المصلى خارج المسجد. قال ابن المنذر: ولا ألزم من أقام الحد فى المسجد مأثمًا؛ لأنى أجد دليلا عليه. وفى الباب حديثان منقطعان لا يقوم بهما حجة فى النهى عن إقامة الحدود فى المساجد.
- بَاب مَوْعِظَةِ الإمَامِ لِلْخُصُومِ
/ 28 - فيه: أُمِّ سَلَمَةَ: أَنَّ النَّبىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَىَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ،(8/242)
فَأَقْضِى عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا، فَلا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ) . قوله: (ألحن) . يعنى: أفطن لها وأجدل. وقال أبو عبيد: اللحن. بفتح الحاء: الفطنة، واللحن بإسكان الحاء: الخطأ. وقد جاء هذا الحديث فى كتاب المظالم بلفظ آخر يشهد لقول أهل اللغة قال: (فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض) . قال المهلب: وفيه أنه ينبغى للحاكم أن يعظ الخصمين ويحذر من مطالبة الباطل؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) وعظ أمته بقوله هذا.
- باب الشَّهَادَةِ تَكُونُ عِنْدَ الْحَاكِمِ فِى وِلايَتِهِ الْقَضَاءَ أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ لِلْخَصْمِ
وَقَالَ شُرَيْحٌ الْقَاضِى، وَسَأَلَهُ إِنْسَانٌ الشَّهَادَةَ، فَقَالَ: ائْتِ الأمِيرَ حَتَّى أَشْهَدَ لَكَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: قَالَ عُمَرُ لِعَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: لَوْ رَأَيْتَ رَجُلا عَلَى حَدٍّ زِنًا أَوْ سَرِقَةٍ وَأَنْتَ أَمِيرٌ، فَقَالَ: شَهَادَتُكَ شَهَادَةُ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ عُمَرُ: لَوْلا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: زَادَ عُمَرُ فِى كِتَابِ اللَّهِ لَكَتَبْتُ آيَةَ الرَّجْمِ بِيَدِى. وَأَقَرَّ مَاعِزٌ عِنْدَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) بِالزِّنَا أَرْبَعًا، فَأَمَرَ بِرَجْمِهِ، وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) أَشْهَدَ مَنْ حَضَرَهُ. وَقَالَ حَمَّادٌ: إِذَا أَقَرَّ مَرَّةً عِنْدَ الْحَاكِمِ رُجِمَ، وَقَالَ: الْحَكَمُ أَرْبَعًا. / 29 - فيه: أَبُو قَتَادَةَ: (قَالَ النبى (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ حُنَيْنٍ: مَنْ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى قَتِيلٍ قَتَلَهُ، فَلَهُ سَلَبُهُ، فَقُمْتُ لألْتَمِسَ بَيِّنَةً عَلَى قَتِيلِى، فَلَمْ أَرَ أَحَدًا يَشْهَدُ لِى فَجَلَسْتُ، ثُمَّ بَدَا لِى، فَذَكَرْتُ أَمْرَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ: سِلاحُ هَذَا الْقَتِيلِ الَّذِى يَذْكُرُ عِنْدِى، قَالَ: فَأَرْضِهِ مِنْهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ:(8/243)
كَلا، لا يُعْطِهِ أُصَيْبِغَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَيَدَعَ أَسَدًا مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، قَالَ: فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَدَّاهُ إِلَىَّ، فَاشْتَرَيْتُ مِنْهُ خِرَافًا، فَكَانَ أَوَّلَ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ) . قَالَ عَبْدُاللَّهِ، عَنِ اللَّيْثِ: فَقَامَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَأَدَّاهُ إِلَى مَنْ لَهُ بَيِّنَةٍ، وَقَالَ أَهْلُ الْحِجَازِ: الْحَاكِمُ لا يَقْضِى بِعِلْمِهِ شَهِدَ بِذَلِكَ فِى وِلايَتِهِ أَوْ قَبْلَهَا، وَلَوْ أَقَرَّ خَصْمٌ عِنْدَهُ لآخَرَ بِحَقٍّ فِى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، فَإِنَّهُ لا يَقْضِى عَلَيْهِ فِى قَوْلِ بَعْضِهِمْ حَتَّى يَدْعُوَ بِشَاهِدَيْنِ فَيُحْضِرَهُمَا إِقْرَارَهُ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِرَاقِ: مَا سَمِعَ أَوْ رَآهُ فِى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ قَضَى بِهِ، وَمَا كَانَ فِى غَيْرِهِ لَمْ يَقْضِ إِلا بِشَاهِدَيْنِ، وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ بَلْ يَقْضِى بِهِ؛ لأنَّهُ مُؤْتَمَنٌ وَإِنَّمَا يُرَادُ مِنَ الشَّهَادَةِ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ، فَعِلْمُهُ أَكْثَرُ مِنَ الشَّهَادَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَقْضِى بِعِلْمِهِ فِى الأمْوَالِ، وَلا يَقْضِى فِى غَيْرِهَا. وَقَالَ الْقَاسِمُ: لا يَنْبَغِى لِلْحَاكِمِ أَنْ يُمْضِىَ قَضَاءً بِعِلْمِهِ دُونَ عِلْمِ غَيْرِهِ مَعَ أَنَّ عِلْمَهُ أَكْثَرُ مِنْ شَهَادَةِ غَيْرِهِ، وَلَكِنَّ فِيهِ تَعَرُّضًا لِتُهَمَةِ نَفْسِهِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِيقَاعًا لَهُمْ فِى الظُّنُونِ، وَقَدْ كَرِهَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) الظَّنَّ فَقَالَ: إِنَّمَا هَذِهِ صَفِيَّةُ. / 30 - فيه: عَلِىِّ بْنِ حُسَيْنٍ (أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) أَتَتْهُ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَىٍّ، فَلَمَّا رَجَعَتِ انْطَلَقَ مَعَهَا، فَمَرَّ بِهِ رَجُلانِ مِنَ الأنْصَارِ، فَدَعَاهُمَا، فَقَالَ: إِنَّمَا هِىَ صَفِيَّةُ، قَالا: سُبْحَانَ اللَّهِ، قَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِى مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ) . قال المهلب: معنى الترجمة أن الشهادة التى تكون عند القاضى فى ولايته القضاء أو قبل ذلك لا يجوز له أن يقضى بها وحده، وله أن(8/244)
يشهد بها عند غيره من الحكام كما قال مالك، ولذلك ذكر قول شريح وهو قول عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف أن شهادته كشهادة رجل من المسلمين، واستشهد على ذلك بقول عمر أنه كانت عنده شهادة فى آية الرجم أنها من القرآن فلم يجز له أن يلحقها بنص المصحف المقطوع على صحته بشهادته وحده، وقد أفصح عمر بالعلة فى ذلك فقال: لولا أن يقال زاد عمر فى كتاب الله لكتبتها وعرفك أن ذلك من باب قطع الذرائع؛ لئلا يجد حكام السوء السبيل إلى أن يدعوا العلم لمن أحبوا له الحكم أنه على حق. وأما ما ذكر من إقرار ماعز عند النبى (صلى الله عليه وسلم) وحكم النبى (صلى الله عليه وسلم) بالرجم دون أن يشهد من حضره، وكذلك إعطاؤه السلب لأبى قتادة بإقرار الرجل الذى كان عنده السلب وحده مع ما انضاف إلى ذلك من علم النبى (صلى الله عليه وسلم) ألا ترى قوله فى الحديث: (فعلم النبى (صلى الله عليه وسلم)) يعنى: علم أن أبا قتادة هو قاتل القتيل فهو حجة فى قضاء القاضى بعلمه، وهو خلاف ما ذكره البخارى فى أول الباب عن شريح وعمر وعبد الرحمن ابن عوف، فأورد البخارى فى هذا الباب اختلاف أهل العلم، وحجة الفريقين من الحديث بإقرار ماعز، وحديث أبى قتادة حجة لأهل العراق فى أن يقضى القاضى بعلمه وشهادته. وحديث صفية، وحديث عمر فى آية الرجم حجة لأهل الحجاز أن القاضى لا يقضى بعلمه خوف التهمة؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان أبعد الخلق من التهمة ولم يقنع بذلك حتى قال: (إنها صفية) فغيره ممن ليس بمعصوم أولى بخوف التهمة، وإنما فعل ذلك ليسن(8/245)
لأمته البعد من مواضع التهم، وقد تقدم فى باب رأى القاضى أن يقضى بعلمه قبل هذا. وقد رد بعض الناس حجة أهل العراق بحديث ماعز وأبى قتادة فقال: ليس فيهما أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قضى بعلمه؛ لأن ماعزًا إنما كان إقراره عند النبى (صلى الله عليه وسلم) بحضرة الصحابة؛ إذ معلوم أنه كان لا يقعد (صلى الله عليه وسلم) وحده، وقصة ماعز مشهورة رواها عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أبو هريرة وابن عباس وجابر وجماعة، فلم يحتج النبى (صلى الله عليه وسلم) أن يشهدهم على إقراره بالزنا لسماعهم ذلك منه، وكذلك حديث أبى قتادة، والصحيح فيه رواية عبد الله بن صالح عن الليث: (فقام النبى (صلى الله عليه وسلم) فأداه إلى من له بينة) ورواية قتيبة عن الليث: (فعلم النبى (صلى الله عليه وسلم)) وهم منه، فيشبه أن تتصحف: (فعلم النبى (صلى الله عليه وسلم)) مع قوله: (فقام) فلم يقض فيه بعلمه، ويدل على ذلك أن منادى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إنما نادى يوم حنين: (من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه) فشرط أخذ السلب لمن أقام البينة، وأول القصة لا يخالف آخرها، وشهادة الرجل الذى كان عنده سلب قتيل أبى قتادة شهادة قاطعة لأبى قتادة، لو لم تكن فى مغنم، وكان من الحقوق التى ليس للنبى أن يعطى منها أحدًا إلا باستحقاق البينة، والمغانم مخالفة لذلك؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) له أن يعطى منها من شاء ويمنع منها من شاء؛ لقوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه) [الحشر: 7] فلا حجة فيه لأهل العراق.
- باب أَمْرِ الْوَالِى إِذَا وَجَّهَ أَمِيرَيْنِ إِلَى مَوْضِعٍ أَنْ يَتَطَاوَعَا وَلا يَتَعَاصَيَا
/ 31 - فيه: أَبُو مُوسَى: أَنَّ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بَعَثَه وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ: يَسِّرَا وَلا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا. . . الحديث.(8/246)
فيه الحض على الاتفاق وترك الاختلاف لما فى ذلك من ثبات المحبة والألفة، والتعاون على الحق، والتناصر على إنفاذه وإمضائه، وسيأتى فى كتاب الأدب فى باب قول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (يسرا ولا تعسرا) فهو أولى به.
- باب إِجَابَةِ الْحَاكِمِ الدَّعْوَةَ وَقَدْ أَجَابَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ عَبْدًا لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ
. / 32 - فيه: أَبِى مُوسَى، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (فُكُّوا الْعَانِىَ، وَأَجِيبُوا الدَّاعِى. وقد تقدم فى كتاب النكاح الاتفاق على وجوب إجابة دعوة الوليمة واختلافهم فى غيرها من الدعوات. وذكر ابن حبيب، عن مطرف وابن الماجشون قال: لا ينبغى للقاضى أن يجيب الدعوة إلا فى الوليمة وحدها لما فى ذلك من الحديث، ثم إن شاء أكل وإن شاء ترك، والترك أحب إلينا من غير تحريم، ولا عيب إن أكل إلا أن ذلك أنزه، وإنا نحب لذى المروءة والهدى أن لا يأتى الوليمة إلا أن يكون لأخ فى الله، أو الخالص من ذوى قرابته فلا بأس بذلك. قال أشهب: وكره مالك لأهل الفضل أن يجيبوا كل من دعاهم.
- باب هَدَايَا الْعُمَّالِ
/ 33 - فيه: أَبُو حُمَيْدٍ: اسْتَعْمَلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) رَجُلا مِنْ بَنِى أَسْدٍ، يُقَالُ لَهُ: ابْنُ اللَّتْبِيَّةِ، عَلَى صَدَقَةٍ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِىَ لِى، فَقَامَ النَّبِىُّ(8/247)
(صلى الله عليه وسلم) عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَقَالَ: مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ، فَيَأْتِى يَقُولُ: هَذَا لَكَ، وَهَذَا لِى، فَهَلا جَلَسَ فِى بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لا. . . وذكر الحديث. قال المؤلف: فيه أن ما أهدى إلى العامل وخدمة السلطان بسبب سلطانهم أنه لبيت مال المسلمين، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (هدايا الأمراء غلول) إلا أن يكون الإمام يبيح له قبول الهدية لنفسه فلذلك تطيب له، كما قال (صلى الله عليه وسلم) لمعاذ، حين بعثه إلى اليمن: قد علمت الذى دار عليك فى مالك، وإنى قد طيبت لك الهدية. فقبلها معاذ وأتى بما أهدى له النبى (صلى الله عليه وسلم) ، فوجده توفى، فاخبر بذلك أبا بكر فأجاز له أبو بكر ما كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أجاز له، وسيأتى فى كتاب ترك الحيل فى باب احتيال العامل ليهدى له.
- باب اسْتِقْضَاءِ الْمَوَالِى وَاسْتِعْمَالِهِمْ
/ 34 - فيه: ابْنَ عُمَرَ: كَانَ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِى حُذَيْفَةَ يَؤُمُّ الْمُهَاجِرِينَ الأوَّلِينَ، وَأَصْحَابَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِى مَسْجِدِ قُبَاءٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَأَبُو سَلَمَةَ وَزَيْدٌ وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ. قال المهلب: أصل هذا الباب فى كتاب الله: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) [الحجرات: 13] والتقى وإن كان بحضرته أتقى منه لا يرفع عنه اسم التقى والكرامة، وقد قدم النبى (صلى الله عليه وسلم) فى العمل والصلاة والسعاية المفضول مع وجود الفاضل توسعة منه على الناس ورفقًا بهم.(8/248)
- باب الْعُرَفَاءِ لِلنَّاسِ
/ 35 - فيه: مَرْوَانَ، وَالْمِسْوَرَ (أَنَّ النبى (صلى الله عليه وسلم) قَالَ حِينَ أَذِنَ لَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فِى عِتْقِ سَبْىِ هَوَازِنَ: إِنِّى لا أَدْرِى مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ، فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ، فَرَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَأَخْبَرُوهُ، أَنَّ النَّاسَ قَدْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا) . اتخاذ الإمام للعرفاء والنظار سنة؛ لأن الإمام لا يمكنه أن يباشر بنفسه جميع الأمور، فلابد من قوم يختارهم لعونه وكفايته بعض ذلك، ولهذا المعنى جعل الله عباده شعوبًا وقبائل ليتعارفوا فأراد تعالى ألا يكون الناس خلطًا واحدًا فيصعب نفاذ أمر السلطان ونهيه؛ لأن الأمر والنهى إذا توجه إلى الجماعة وقع الاتكال من بعضهم على بعض فوقع التضييع، وإذا توجه إلى عريف لم يسعه إلا القيام بمن معه.
- باب مَا يُكْرَهُ مِنْ الثَنَاءِ عَلَى السُّلْطَانِ وَإِذَا خَرَجَ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ
/ 36 - فيه: ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِنَّا نَدْخُلُ عَلَى سَلاَطِينَنَا، فَنَقُولُ لَهُمْ خِلافَ مَا نَتَكَلَّمُ إِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِمْ، قَالَ: كُنَّا نَعُدُّهَا ذَلِكَ نِفَاقًا. / 37 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ النبى (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ شَرَّ النَّاسِ ذُو الْوَجْهَيْنِ، الَّذِى يَأْتِى هَؤُلاءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلاءِ بِوَجْهٍ) . قال المؤلف: لا ينبغى لمؤمن أن يثنى على سلطان أو غيره فى وجهه وهو عنده مستحق للذم، ولا يقول بحضرته بخلاف ما يقوله إذا خرج(8/249)
من عنده؛ لأن ذلك نفاق كما قال ابن عمر، وقال فيه (صلى الله عليه وسلم) : (شر الناس ذو الوجهين) وقال: إنه لا يكون عند الله وجيهًا؛ لأنه يظهر لأهل الباطل الرضا عنهم، ويظهر لأهل الحق مثل ذلك ليرضى كل فريق منهم ويريه أنه منهم وهذه المداهنة المحرمة على المؤمنين. قال المهلب: فإن قال قائل: إن حديث ابن عمر وحديث أبى هريرة يعارضان قوله (صلى الله عليه وسلم) للذى استأذن عليه: (بئس ابن العشيرة) ثم تلقاه بوجه طلق وترحيب. قيل: ليس بينهما تعارض بحمد الله؛ لأنه لم يقل (صلى الله عليه وسلم) خلاف ما قاله عنه؛ بل أبقاه على التجريح عند السامع، ثم تفضل عليه بحسن اللقاء والترحيب لما كان يلزمه (صلى الله عليه وسلم) من الاستئلاف، وكان يلزمه التعريف لخاصته بأهل التخليط والتهمة بالنفاق، وقد قيل: إن تلقيه له بالبشر إنما كان لاتقاء شره، وليكف بذلك أذاه عن المسلمين، فإنما قصد بالوجهين جميعًا إلى نفع المسلمين بأن عرفهم سوء حاله وبأن كفاهم ببشره له أذاه وشره. وذو الوجهين بخلاف هذا؛ لأنه يقول الشىء بالحضرة، ويقول ضده فى غير الحضرة، وهذا تناقض، والذى فعله (صلى الله عليه وسلم) محكم مبين لا تناقض فيه؛ لأنه لم يقل لابن العشيرة عند لقائه إنه فاضل ولا صالح بخلاف ما قال فيه فى غير وجهه. ومن هذا الحديث استجاز الفقهاء التجريح والإعلام بما يظن من(8/250)
سوء حال الرجل إذا خشى منه على المسلمين، وسأتقصى ذلك فى كتاب الأدب من باب المداراة مع الناس.
- باب الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ
/ 38 - فيه: عَائِشَةَ: أَنَّ هِنْدًا قَالَتْ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، فَأَحْتَاجُ أَنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ، قَالَ خُذِى مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ) . اختلف العلماء فى القضاء على الغائب فأجاز ذلك سوار القاضى ومالك والليث والشافعى وأبو ثور وأبو عبيد. قال الشافعى: يقضى بذلك فى كل شىء. وروى ابن القاسم عن مالك: أنه يقضى بذلك فى الدين ولا يقضى به فى أرض ولا عقار، وفى كل شىء كانت له فيه حجج إلا أن تكون غيبة المدعى عليه طويلة. قال أصبغ: مثل الغدوة من الأندلس ومكة ومن إفريقية وشبه ذلك، وأرى أن يحكم عليه إذا كانت غيبة انقطاع. قال مالك: وكذلك إن غاب بعد ما توجه عليه القضاء قضى عليه. قال ابن حبيب: عرضت قول ابن القاسم، عن مالك على ابن الماجشون، فأنكر أن يكون مالك قاله، وقال: أما علماؤنا وحكامنا بالمدينة؛ فالعمل عندهم على الحكم على الغائب فى جميع الأشياء. وقالت طائفة: لا يقضى على الغائب. روى ذلك عن شريح، والنخعى، والقاسم، وعمر ابن عبد العزيز، وابن أبى ليلى. وقال أبو حنيفة: لا يقضى على الغائب ولا من هرب عن الحكم بعد إقامة(8/251)
البينة، ولا على من استتر فى البلد، ولكنه يأتى من عند القاضى من ينادى على بابه ثلاثة أيام فإن لم يحضر أنفذ عليه القضاء. واحتج الكوفيون بالإجماع أنه لو كان حاضرًا لم يسمع بينة المدعى حتى يسأل المدعى إليه، فإذا غاب فأحرى أن لا يسمع. قالوا: ولو جاز الحكم مع غيبته لم يكن الحضور عند الحاكم مستحقا عليه، وقد ثبت أن الحضور مستحق عليه؛ لقوله تعالى: (وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون) [النور: 48] فذمهم على الإعراض عن الحكم وترك الحضور، فلولا أن ذلك واجب عليهم لم يلحقهم الذم. قالوا: وروى عن على حين بعثه النبى (صلى الله عليه وسلم) إلى اليمن قال له: (لا تقض لأحد الخصمين حتى تسمع من الآخر) وقد أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) بالمساواة بين الخصمين فى المجلس، واللحظ واللفظ. والحكم على الغائب يمنع من هذا كله. قال ابن القصار: واحتج الذين أجازوا القضاء على الغائب بحديث هند وأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قضى لها على زوجها بالأخذ من ماله وهو غائب. فإن قيل: حكم من غير أن قامت البينة بالزوجية وثبوت الحق عليه. قيل: ليس يكون الحكم بعد إقامة البينة، وهذا معلوم لم يحتج إلى نقله. وقال الطبرى: لم يسألها النبى (صلى الله عليه وسلم) البينة لعلمه بصحة دعواها. قال ابن المنذر: وإنما حكم عليه وهو غائب لما علم ما يجب لها عليه، فحكم بذلك عليه ولم ينتظر حضوره، ولعله لو حضر أدلى بحجة فلم يؤخر (صلى الله عليه وسلم) الحكم بذلك وأمضاه عليه وهو غائب. وقد تناقض الكوفيون فى ذلك فقالوا: لو ادعى رجل عند حاكم(8/252)
أن له على غائب حقًا وجاء برجل فقال: إنه كفيله واعترف له الرجل أنه كفيله إلا أنه قال: لا شىء له عليه. فقال أبو حنيفة: يحكم على الغائب ويأخذ الحق من الكفيل، وكذلك إذا قامت امرأة الغائب وطلبت النفقة من مال زوجها، فإنه يحكم لها عليه بالنفقة عندهم. قال ابن المنذر: ومن تناقضهم أنهم يقضون للمرأة والوالدين والولد على الذى عنده المال الغائب إذا أقر به، ولا يقضون للأخ والأخت ولا لذى رحم محرم، ووجوب نفقات هؤلاء عندهم كوجوب نفقات الآباء والأبناء والزوجة، ولو ادعى على جماعة غُيّب دعوى مثل أن يقول: قتلوا عبدى. وحضر منهم واحد حكم عليه وعلى الغُيّب، فقد أجازوا الحكم على الغائب.
- باب مَنْ قُضِىَ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ فَلا يَأْخُذْهُ فَإِنَّ قَضَاءَ الْحَاكِمِ لا يُحِلُّ حَرَامًا وَلا يُحَرِّمُ حَلالا
/ 39 - فيه: أُمَّ سَلَمَةَ أَنَّ النبى (صلى الله عليه وسلم) سَمِعَ خُصُومَةً بِبَابِ حُجْرَتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّهُ يَأْتِينِى الْخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ، فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَادِقٌ، فَأَقْضِى لَهُ بِذَلِكَ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ، فَإِنَّمَا هِىَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ لِيَتْرُكْهَا؟ . / 40 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِى وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدِ ابْنِ أَبِى وَقَّاصٍ أَنَّ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ مِنِّى فَاقْبِضْهُ إِلَيْكَ، فَلَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ أَخَذَهُ سَعْدٌ، فَقَالَ: ابْنُ أَخِى، قَدْ كَانَ عَهِدَ إِلَىَّ فِيهِ، فَقَامَ إِلَيْهِ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، فَقَالَ: أَخِى وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِى، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَتَسَاوَقَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ،(8/253)
فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْنُ أَخِى، كَانَ عَهِدَ إِلَىَّ فِيهِ، وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: أَخِى وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِى وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ، ثُمَّ قَالَ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ: احْتَجِبِى مِنْهُ، لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ، فَمَا رَآهَا حَتَّى لَقِىَ اللَّهَ) . أجمع الفقهاء على أن حكم الحاكم لا يخرج الأمر عما هو عليه فى الباطن، وإنما ينفذ حكمه فى الظاهر الذى تعبد به، ولا يحل للمقضى له مال المقضى عليه إذا ادعى عليه ما ليس عنده ووقع الحكم بشاهدى زور، فالعلماء مجمعون أن ذلك فى الفروج والأموال سواء؛ لأنها كلها حقوق لقوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقًا من أموال الناس) [البقرة: 188] وهو قول أبى يوسف. وشذ أبو حنيفة ومحمد فقالا: ما كان من تمليك مال فهو على حكم الباطن كما قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (فمن قضيت له بشىء من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار) وما كان من حل عصمة النكاح أو عقدها غير داخل فى النهى، فلو تعمد شاهدا زور الشهادة على امرأة أنها قد رضيت بنكاح رجل، وقضى الحاكم عليها بذلك لزمها النكاح ولم يكن لها الامتناع. ولو تعمد رجلان الشهادة بالزور على رجل أنه طلق امرأته، فقبل الحاكم شهادتهما لعدالتهما عنده، وفرق بين الرجل والمرأة واعتدت المرأة جاز لأحد الشاهدين أن يتزوجها وهو عالم أنه كان كاذبًا فى شهادته، لأنه لما حلت للأزواج فى الظاهر كان الشاهد وغيره سواء؛ لأن قضاء القاضى قطع عصمتها وأحدث فى ذلك التحليل والتحريم فى الظاهر والباطن جميعًا، ولولا ذلك ما حلت للأزواج.(8/254)
واحتجا بحكم اللعان وقالا: معلوم أن الزوجة إنما وصلت إلى فراق زوجها باللعان الكاذب الذى لو علم الحاكم كذبها فيه لحدها وما فرق بينهما، فلم يدخل هذا فى عموم قوله (صلى الله عليه وسلم) : (وقضيت له بشىء من حق أخيه فلا يأخذه) . واحتج أصحاب مالك والشافعى وغيرهم بحديث أم سلمة وعائشة فقالوا: قوله: (فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هى قطعة من النار) بيان واضح أن حكمه بما ليس للمحكوم له لا يجوز له أخذه، وأنه حرام عليه فى الباطن. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (فمن قضيت له بحق مسلم) يشتمل على كل حق، فمن فرق بين بعض الحقوق فعليه الدليل، ومثل هذا حكمه (صلى الله عليه وسلم) فى ابن وليدة زمعة أنه لزمعة من أجل الفراش الظاهر ولم يلحقه بعتبة، ثم لما رأى شبهًا بعتبة قال لسودة زوجته: (احتجبى منه) ؛ لجواز أن يكون من زنا. فلو كان حكمه يقع ظاهرًا وباطنًا لم يأمر (صلى الله عليه وسلم) زوجته سودة بالاحتجاب منه مع حكمه بأنه أخوها. ومن طريق الاعتبار أنا قد اتفقا على أنه لو ادعى إنسان على حرة أنها أمته وأقام شاهدى زور لم تكن أمته فى الباطن من أجل حكم الحاكم، فكذلك فى الفروج كلها، وكذلك لو ادعى على ابنته أو أخته أنها زوجته وأقام شاهدى زور، وحكم الحاكم بالزوجية، فإن أبا حنيفة يقول: لا تكون زوجته. وفرق بين الحرمة بالنسب وبين زوجة غيره ولا فرق بينهما؛ لأنه لما كان حكم الحاكم لا يبيح المحرمة بالنسب، فكذلك لا يبيح المحرمة بنكاح غيره.(8/255)
- باب الْحُكْمِ فِى الْبِئْرِ وَنَحْوِهَا
/ 41 - فيه: عَبْدُاللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَحْلِفُ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ مَالا، وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، إِلا لَقِىَ اللَّهَ، وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا) [آل عمران: 77] الآيَةَ، فَجَاءَ الأشْعَثُ وَعَبْدُاللَّهِ يُحَدِّثُهُمْ، فَقَالَ: فِىَّ نَزَلَتْ، وَفِى رَجُلٍ خَاصَمْتُهُ فِى بِئْر. . . الحديث. وذكر فى كتاب الأيمان والنذور أن البئر كانت للأشعث فى أرض ابن عمه فادعى له فى البئر. وهذا الحديث حجة فى أن حكم الحاكم فى الظاهر لا يحل الحرام ولا يبيح المحظور، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) حذر أمته عقوبة من اقتطع حق أخيه بيمين فاجرة، أن جزاءه غضب الله عليه، وقد توعد الله على ذلك بضروب من العقوبة فقال: (إن الذين يشترون بعهد الله) [آل عمران: 77] وهذا من أشد وعيد جاء فى القرآن، فدل ذلك على أن من تحيل على أخيه وتوصل إلى شىء من حقه بباطل، فإنه لا يحل له لشدة الإثم فيه.
30 - باب الْقَضَاءُ فِى قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ سَوَاءٌ
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ شُبْرُمَةَ: الْقَضَاءُ فِى قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ سَوَاءٌ. / 42 - فيه: أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ) ، إلى قوله: (فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ. . .) الحديث. القضاء فى قليل المال وكثيره واجب؛ لعموم قوله: (فمن قضيت له بحق مسلم) والحق يقع على كل شىء من القليل والكثير.(8/256)
واختلف العلماء فى كم تجب اليمين فى مقاطع الحقوق؟ وقد تقدم ذلك فى كتاب الشهادات والأيمان فى باب يحلف المدعى عليه حيثما وجبت عليه اليمين.
31 - باب بَيْعِ الإمَامِ عَلَى النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَضِيَاعَهُمْ
وَقَدْ بَاعَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) مُدَبَّرًا مِنْ نُعَيْمِ بْنِ النَّحَّامِ. / 43 - فيه: جَابِرِ: بَلَغَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّ رَجُلا مِنْ أَصْحَابِهِ أَعْتَقَ غُلامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرَهُ، فَبَاعَهُ بِثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ أَرْسَلَ بِثَمَنِهِ إِلَيْهِ. قال المهلب: إنما يبيع الإمام على الناس أموالهم إذا رأى منهم سفهًا فى أحوالهم؛ فأما من ليس بسفيه، فلا يباع عليه شىء من ماله إلا فى حق يكون عليه، وهذا البيع الذى وقع فى المدبر إنما نقضه (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأنه لم يكن له مال غيره، فخشى عليه الموت فى الحجاز دون قوت لقوله تعالى: (وأنفقوا فى سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) [البقرة: 195] ، فلما رآه النبى (صلى الله عليه وسلم) قد أنفق جميع ذات يده فى المدبر وأنه تعرض للهلكة نقض عليه فعله، كما قال تعالى ونهى عنه، ولم ينقض على الذى قال له: (قل: لا خلابة) لأنه لم يفوت على نفسه جميع ماله.(8/257)
32 - باب مَنْ لَمْ يَكْتَرِثْ بِطَعْنِ مَنْ لا يَعْلَمُ فِى الإِمَامِ
/ 44 - فيه: ابْنَ عُمَرَ قَالَ: (بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بَعْثًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَطُعِنَ فِى إِمَارَتِهِ، وَقَالَ: إِنْ تَطْعَنُوا فِى إِمَارَتِهِ، فَقَدْ كُنْتُمْ تَطْعَنُونَ فِى إِمَارَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلِهِ، وَايْمُ اللَّهِ، إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلإمَارَةِ، وَإِنْ كَانَ لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَىَّ، وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَىَّ بَعْدَهُ) . قال المهلب: معنى الترجمة أن الطاعن إذا لم يعلم حال المطعون عليه، وكذب فى طعنه لا ينبغى أن يكترث له كبير اكتراث، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قد خلى هذا الطعن حين أقسم أنه كان خليقًا للإمارة. وفيه: أنه يتأسى بما قيل فى المرء من الكذب إذا قيل مثل ذلك فيمن كان قبله من الفضلاء. وفيه: التبكيت للطاعنين؛ لأنهم لما طعنوا فى إمارة أبيه، ثم ظهر من غنائه وفضله ما ظهر؛ كان ذلك ردًا لقولهم. فإن قيل: قد طعن على أسامة وأبيه بما ليس فيهما، ولم يعزل النبى (صلى الله عليه وسلم) واحدًا منهما، بل بين فضلهما ولم يتهمهما، ولم يعتبر عمر بهذا القول فى سعد، وعزله حين قرفه أهل الكوفة بما هو منه برئ. فالجواب: أن عمر لم يعلم من مغيب أمر سعد ما علمه النبى (صلى الله عليه وسلم) من مغيب أمر زيد وأسامة، وإنما قال عمر لسعد حين ذكر أن صلاته تشبه صلاة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ذلك الظن بك. ولم يقطع على ذلك كما قطع النبى (صلى الله عليه وسلم) فى أمر زيد أنه خليق للإمارة، وقال فى أسامة: إنه(8/258)
من أحب الناس إليه. ولا يجوز أن يحب النبى (صلى الله عليه وسلم) إلا من أحبه الله، ومن لا يسوغ فيه العيب والنقص. ويحتمل أن يكون الطاعنون فى أسامة وأبيه من استصغر سنه على من قدم عليه من مشيخة الصحابة، وذلك جهل ممن ظنه، ويحتمل أن يكون الظن من المنافقين الذين كانوا يطعنون على النبى (صلى الله عليه وسلم) ويقبحون آثاره وآراءه، وقد وصف الله من اتهم الرسول فى قضاياه أنه غير مؤمن بقوله: (فلا وربك لا يؤمنون) [النساء: 65] الآية.
33 - باب الألَدِّ الْخَصِمِ وَهُوَ الدَّائِمُ فِى الْخُصُومَةِ. لُدًّا: عُوجًا
/ 45 - فيه: عَائِشَةَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَبْغَضُ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الألَدُّ الْخَصِمُ) . قد تقدم فى كتاب المظالم والغصب هذا. قال المهلب: لما كان اللدد حاملاً على المطل بالحقوق والتعريج بها عن وجوهها، واللىّ بها عن مستحقيها وظلم أهلها؛ استحق فاعل ذلك بغضة الله وأليم عقابه.
34 - باب إِذَا قَضَى الْحَاكِمُ بِجَوْرٍ أَوْ خِلافِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَهُوَ رَدٌّ
/ 46 - فيه: ابْنِ عُمَرَ: بَعَثَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى بَنِى جَذِيمَةَ، فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا: أَسْلَمْنَا، فَقَالُوا: صَبَأْنَا، صَبَأْنَا، فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ وَيَأْسِرُ،(8/259)
وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ، فَأَمَرَ كُلَّ رَجُلٍ مِنَّا أَنْ يَقْتُلَ أَسِيرَهُ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لا أَقْتُلُ أَسِيرِى، وَلا يَقْتُلُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِى أَسِيرَهُ، فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّى أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدُ مَرَّتَيْنِ) . لم يختلف العلماء أن القاضى إذا قضى بجور أو بخلاف أهل العلم فهو مردود، فإن كان على وجه الاجتهاد والتأويل كما صنع خالد فإن الإثم ساقط عنه، والضمان لازم فى ذلك عند عامة أهل العلم، إلا أنهم اختلفوا فى ضمان ذلك على ما يأتى بيانه. ووجه موافقة الحديث للترجمة هو قوله: (اللهم إنى أبرأ إليك مما صنع خالد) يدل تبرؤه (صلى الله عليه وسلم) من قتل خالد للذين قالوا: صبأنا. أن قتله لهم حكم منه بغير الحق؛ لأن الله يعلم الألسنة كلها ويقبل الإيمان من جميع أهل الملل بألسنتهم، لكن عذره النبى (صلى الله عليه وسلم) بالتأويل؛ إذ كل متأول فلا عقوبة عليه ولا إثم. واختلفوا فى ضمان خطأ الحاكم، فقالت طائفة: إذا أخطأ الحاكم فى حكمه فى قتل أو جراح فدية ذلك فى بيت المال. هذا قول الثورى وأبى حنيفة وأحمد وإسحاق. وقالت طائفة: هو على عاقلة الإمام والحاكم. وهذا قول الأوزاعى وأبى يوسف ومحمد والشافعى، وليس فيها جواب لمالك. واختلف أصحابه فيها فقال ابن القاسم كقول الأوزاعى: الدية على عاقلة الحاكم. وقال فى الشاهدين إذا شهد فى دين أو عتق أو طلاق أو حد من الحدود: أرى أن يضمنا الدين، ويكون عليهما قيمة العبد فى العتق وقصاص العقل فى أموالهم. وهو قول أشهب فى الشاهدين. وقال: الأموال مضمونة بالخطأ كما(8/260)
هى بالعمد، وليست كالدماء. وهو قول أصبغ. وقال ابن الماجشون: ليس على الحاكم شىء من الدية فى ماله ولا على عاقلته ولا فى بيت مال المسلمين، وكذلك قال فى الشاهدين إذا رجعا عن شهادتهما وادعيا الغلط أنه لا غرم عليهما. وهو قول محمد بن مسلمة. وذكر ابن حبيب أن قول ابن الماجشون هو قول المغيرة وابن دينار وابن أبى حازم وغيرهم. وحجة من لم يوجب الدية أنه لم يرو فى الحديث أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أغرمه الدية ولا غرمها عنه، وقوله: (إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر) . ولا يجوز أن يؤجر إلا على ما هو بفعله مطيع، فإذا كان مطيعًا فما صدر عنه من تلف نفس أو مال فلا ضمان عليه، وهذا اختيار إسماعيل بن إسحاق. وحجة الذين أوجبوا الضمان والدية الإجماع على أن الأموال مضمونة بالخطأ كما هو بالعمد، ولا تسقط الدية فى ذلك من أجل أنها لم يذكر فى الحديث وجوبها، كما لم تسقط فى دية الناقتين عن حمزة حين جب أسنمتهما وبقر خواصرهما، وإن كان لم يذكر ذلك فى الحديث. وروى عن عثمان أنه جعل عقل المرأة التى أمر برجمها على عاقلته، وروى أن امرأة ذكرت عند عمر بالزنا فبعث إليها ففزعت فألقت ما فى بطنها فاستشار الصحابة فى ذلك، فقال له عبد الرحمن بن عوف وغيره: إنما أنت مؤدب ولا شىء عليك. فقال لعلى: ما تقول؟ فقال: إن كان اجتهدوا فقد أخطئوا، عليك الدية. قال عمر: عزمت عليك(8/261)
لتقسمنها على قومك. فأوجب على بحضرة الصحابة الدية وألزمها عمر، وضربها على عاقلته، والمرأة وإن كانت أسقطت من الفزع فهو من جهته. وليس فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا اجتهد الإمام فأخطأ) دليل على إسقاط الضمان فى ذلك، وإنما فيه سقوط الإثم عن المجتهد وأنه مأجور إن لم يتعمد الخطأ، ولا يفهم من الحديث زوال الضمان.
35 - باب الإمَامِ يَأْتِى قَوْمًا فَيُصْلِحُ بَيْنَهُمْ
/ 47 - فيه: سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: (كَانَ قِتَالٌ بَيْنَ بَنِى عَمْرٍو، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَتَاهُمْ يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا حَضَرَتْ صَلاةُ الْعَصْرِ، فَأَذَّنَ بِلالٌ وَأَقَامَ وَأَمَرَ أَبَا بَكْرٍ، فَتَقَدَّمَ وَجَاءَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَأَبُو بَكْرٍ فِى الصَّلاةِ، فَشَقَّ النَّاسَ حَتَّى قَامَ خَلْفَ أَبِى بَكْرٍ، فَتَقَدَّمَ فِى الصَّفِّ الَّذِى يَلِيهِ، قَالَ: وَصَفَّحَ الْقَوْمُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا دَخَلَ فِى الصَّلاةِ. وذكر الحديث، إلى قوله: إِذَا رَابَكُمْ أَمْرٌ فَلْيُسَبِّحِ الرِّجَالُ وَلْيُصَفِّق النِّسَاءُ) . وقد تقدم فى الصلح. فإن قال قائل: قد جاء فى هذا الحديث أن النبى (صلى الله عليه وسلم) شق الناس وهم فى الصلاة، وجاء عنه أنه نهى عن التخطى، وأن يفرق بين اثنين يوم الجمعة، فكيف وجه الجمع بين هذه الأحاديث؟ قال المهلب: لا اختلاف بين معانيها، ولكل واحد منها وجه، وذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) ليس كغيره فى أمر الصلاة ولا غيرها؛ لأنه ليس لأحد أن يتقدم علة فيها، وله أن يتقدم لما ينزل عليه من أحكام الصلاة، أو(8/262)
ينزل عليه قرآن بإثبات حكم أو نسخه، وليس لغيره شىء من ذلك وليس حركة من حركاته (صلى الله عليه وسلم) إلا ولنا فيها منفعة وسنة نقتدى بها، والمكروه من التخطى هو ما يختص بالأذى والجفاء على الجلوس، فى التخطى على رقابهم وقلة توقيرهم، وليس كذلك الوقوف فى الصلاة؛ لأنهم ليسوا فى حديث يفاوضون فيه فيقطعه عليهم المار بينهم كما يقطعه من جلس بين اثنين متحادثين فى علم أو مشاورة، ويستدل على ذلك بقول مالك: من رعف فى الصلاة أن له أن يشق الصفوف عرضًا إلى الباب، فإن لم يمكنه خرج كيف تيسر له، وليس لأحد أن يشق الصفوف فى الدخول والناس جلوس قبل الصلاة لما فى ذلك من الجفاء على الناس والأذى لهم، ولهم ذلك بعد تمام الصلاة، لأنهم ممن أباح الله لهم الانتشار بعد الصلاة؛ فلذلك سقط أذى التخطى عن الخارج؛ لأنهم مختارون للجلوس بعد الصلاة ومأمورون بالجلوس قبلها، وقد خرج (صلى الله عليه وسلم) بعد تقضى الصلاة يتخطى رقاب الناس فقال: (تذكرت ذهيبة كانت عندى فخشيت أن تحبسنى) . وفى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فليسبح الرجال وليصفق النساء) حجة للشافعى فى قوله: إن المرأة لا تسبح فى الصلاة؛ لأن صوتها فتنة يخشى منه على الناس، فالتصفيق سنتها بخلاف الرجال على ما جاء فى هذا الحديث، وهو نص لا مدفع فيه.
37 - باب يُسْتَحَبُّ لِلْكَاتِبِ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا عَاقِلا
(1) / 48 - فيه: زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: بَعَثَ إِلَىَّ أَبُو بَكْرٍ لِمَقْتَلِ أَهْلِ الْيَمَامَةِ وَعِنْدَهُ عُمَرُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِى، فَقَالَ: إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ، وَإِنِّى أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ فِى الْمَوَاطِنِ كُلِّهَا،(8/263)
فَيَذْهَبَ قُرْآنٌ كَثِيرٌ، وَإِنِّى أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ، قُلْتُ: كَيْفَ أَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ؟ فَقَالَ عُمَرُ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِى فِى ذَلِكَ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِى لِلَّذِى شَرَحَ لَهُ صَدْرَ عُمَرَ وَرَأَيْتُ فِى ذَلِكَ الَّذِى رَأَى عُمَرُ، قَالَ زَيْدٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَإِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لا نَتَّهِمُكَ، قَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْىَ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَتَتَبَّعِ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ، قَالَ زَيْدٌ: فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفَنِى نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ بِأَثْقَلَ عَلَىَّ مِمَّا كَلَّفَنِى مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ، قُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلانِ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ يَحُثُّ مُرَاجَعَتِى حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِى لِلَّذِى شَرَحَ اللَّهُ لَهُ صَدْرَ أَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَرَأَيْتُ فِى ذَلِكَ الَّذِى رَأَيَا، فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ، أَجْمَعُهُ مِنَ الْعُسُبِ وَالرِّقَاعِ وَاللِّخَافِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ، فَوَجَدْتُ فِى آخِرِ سُورَةِ التَّوْبَةِ: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [التوبة: 128] إِلَى آخِرِهَا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ، أَوْ أَبِى خُزَيْمَةَ، فَأَلْحَقْتُهَا فِى سُورَتِهَا، وَكَانَتِ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِى بَكْرٍ حَيَاتَهُ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَيَاتَهُ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ. قَالَ عُبَيْدِاللَّهِ البخارى: اللِّخَافُ يَعْنِى الْخَزَفَ. قال المهلب: هذا يدل أن العقل أصل الخلال المحمودة كالأمانة والكفاية فى عظيم الأمور؛ لأنه لم يصف زيدًا بأكثر من العقل، وجعله سببًا لائتمانه ورفع التهمة عنه؛ لقوله: إنك شاب عاقل ولا نتهمك. وفيه: دليل على اتخاذ الكاتب للسلاطين والحكام، وأنه ينبغى أن(8/264)
يكون الكاتب عاقلاً فطنًا مقبول الشهادة، وهذا قول كافة الفقهاء. وقال الشافعى: ينبغى لكاتب القاضى أن يكون عاقلا لئلا يخدع ويحرص على أن يكون فقيهًا لئلا يؤتى من جهالة، ويكون بعيدًا من الطمع نزهًا. وفيه: أن من سبقت له معرفة بالأمر فإنه أولى بالولاية، أحق بها ممن لا سابقة له فى ذلك ولا معرفة. وفيه: جواز مراجعة الكتاب للسلطان فى الرأى ومشاركته له فيه. قال أبو بكر بن الطيب: إن قال قائل من الرافضة: كيف جاز لأبى بكر جمع القرآن ولم يجمعه النبى (صلى الله عليه وسلم) . قيل: يجوز أن يفعل الفاعل ما لم يفعله النبى (صلى الله عليه وسلم) إذا كان فى ذلك مصلحة فى وقته واحتياط للدين، وليس فى أدلة الكتاب والسنة ما يدل على فساد جمع القرآن بين لوحين وتحصينه، وجمع هممهم على تأمله، وتسهيل الانتساخ منه والرجوع إليه، والغنى به عن تطلب القرآن من الرقاع والعسب وغير ذلك مما لا يؤمن عليه الضياع، فوجب أن يكون أبو بكر مصيبًا، وأن ذلك من أعظم فضائله وأشرف مناقبه حين سبق إلى ما لم يسبق إليه أحد من الأمة، وبأن اجتهاده فى النصح لله ولرسوله ولكتابه ودينه وجميع المؤمنين، وأنه فى ذلك متبع لله ولرسوله لإخباره تعالى فى كتابه أن القرآن كان(8/265)
مكتوبًا فى الصحف الأولى، وأخبر عن تلاوة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من الصحف بقوله تعالى: (رسول من الله يتلو صحفًا مطهرة فيها كتب قيمة) [البينة: 2، 3] فلم يكن جمع أبى بكر الصديق بين اللوحين مخالفًا لله ولرسوله؛ لأنه لم يجمع ما لم يكن مجموعًا ولا كتب ما لم يكن مكتوبًا، وقد أمرهم النبى (صلى الله عليه وسلم) بكتابته فقال: (لا تكتبوا عنى شيئًا غير القرآن) . فألف المكتوب وصانه، وأحرزه وجمعه بين لوحين، ولم يغير منه شيئًا، ولا قدم منه مؤخرًا ولا أخر مقدمًا، ولا وضع حرفًا ولا آية فى غير موضعها. ودليل آخر، وذلك أن الله ضمن لرسوله ولسائر الخلق جمع القرآن وحفظه فقال: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) [الحجر: 9] ، وقال: (إن علينا جمعه وقرآنه) [القيامة: 16] ، وقال: (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) [فصلت: 42] . فنفى عنه إبطال الزائغين وإلباس الملحدين، ثم أمر الرسول والأمة بحفظه والعمل به، فوجب أن يكون كل أمر عاد لتحصينه وأدى إلى حفظه واجبًا على كافة الأمة فعله، فإذا قام به البعض فقد أحسن وناب عن باقى الأمة. وقد روى عبد خير، عن على أنه قال: يرحم الله أبا بكر هو أول من جمع القرآن بين لوحين. وهذا تعظيم منه لشأنه ومدح له، وعلى أعلم من الرافضة بصواب هذا الفعل، فيجب ترك قولهم لقوله. ومما يدل على صحة هذه الرواية عن علىّ ابتغاؤه لأجره وإطلاقه للناس كتب المصاحف وحضهم عليها وإظهار تحكيم ما ضم الصديق بين لوحين، ولو كان ذلك عنده منكرًا لما أخرج إلى الدعاء(8/266)
إلى من يخالفه مصحفًا تنشره الريح، وإنما كان يخرجه من المصحف والعسب واللخاف على وجه ما كان مكتوبًا فى زمن النبى (صلى الله عليه وسلم) فدل أنه مصوب لفعل الصديق والجماعة، وأن ذلك رأيه ودينه، وسياتى فى كتاب فضائل القرآن فى باب جمع القرآن بقيته.
78 - باب كِتَابِ الْحَاكِمِ إِلَى عُمَّالِهِ وَالْقَاضِى إِلَى أُمَنَائِهِ
/ 49 - فيه: حديث حويصة ومحيصة: (وأن النبى (صلى الله عليه وسلم) كتب إلى أهل خيبر: إما أن يدوا صاحبكم وإما أن يؤذنوا بحرب، فكتبوا، ما قتلنا. .) وذكر الحديث. قد تقدم هذا الحديث فى باب الشهادة على الخط.
38 - باب هَلْ يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَبْعَثَ رَجُلا وَحْدَهُ لِلنَّظَرِ فِى الأمُورِ
/ 50 - فيه أَبِى هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ: حديث العَسِيف، إلى قوله: وَأَمَّا أَنْتَ يَا أُنَيْسُ، لِرَجُلٍ، فَاغْدُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَارْجُمْهَا فَغَدَا عَلَيْهَا أُنَيْسٌ فَرَجَمَهَا) . قال المهلب: هذا الحديث نص فى بعثة الحاكم رجلا واحدًا ينفذ حكمه. وفيه حجة لمالك فى قوله: إنه يجوز أن ينفذ الرجل الواحد إلى إعذار من شهد عليه بحق، وأنه يجوز أن يتخذ رجلا ثقة يكشف له عن حال الشهود فى السر، وكذلك يجوز عندهم قبول الواحد فيما(8/267)
طريقه الأخبار ولم يكن طريقه الشهادة، وقد استدل قوم بهذا الحديث فى أن الإمام إذا بعث رجلا ينفذ أحكامه أنه ينفذه من غير إعذار إلى المحكوم عليه؛ لأنه لم ينقل فى الأخبار أن أنيسًا أعذر إلى المرأة المدعى عليها الزنا، وهذا ليس بشىء؛ لأن الإعذار إنما يصح فيما كان فى الحكم بالبينات، ولابد فى ذلك من الإعذار إلى المحكوم عليه، وما كان الحكم فيه من جهة الإقرار فللرسول أن ينفذه بإقرار المقر، ولا إعذار فيه، وإنما اختلف العلماء هل يحتاج وكيل الحاكم إلى أن يحضر من يسمع ذلك من المقر أم لا؟ على حسب اختلافهم فى الحاكم هل يحتاج إلى مثل ذلك أم لا؟ وأصل الإعذار فى كتاب الله قوله تعالى: (تمتعوا فى دراكم ثلاثة أيام) [هود: 65] وفى قوله: (إن موعدهم الصبح) [هود: 81] . وفى هذا الحديث حجة لمن قال: إن القاضى يجوز أن يحكم على الرجل بإقراره دون بينة تشهد عنده بذلك الإقرار، وهو قول ابن أبى ليلى وأبى حنيفة وأبى يوسف، وقال مالك: لا يقضى على الرجل بإقراره حتى تشهد عنده بينة بذلك. وهو قول محمد بن الحسن، واحتج الطحاوى بقوله: (واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها) ولم يقل له: فإن اعترفت فأشهد عليها حتى يكون حجة لك بعد موتها. قال: وقد قتل معاذ وأبو موسى مرتدا وهما واليان لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) على اليمن ولم يشهدا عليه. واختلفوا إذا قال القاضى: قد حكمت على هذا الرجل بالرجم فارجم. فقال أبو حنيفة وأبو يوسف: إذا قال ذلك، وسعك أن ترجمه(8/268)
وكذلك سائر الحدود والحقوق. وقال ابن القاسم على مذهب مالك: إن كان القاضى عدلا وسع المأمور أن يفعل ما قال القاضى، وهو قول الشافعى. قال ابن القاسم: إن لم يكن عدلا لم يقبل قوله. وقال محمد بن الحسن: لا يجوز للقاضى أن يقول: أقر عندى فلان بكذا، لشىء يقضى به عليه من قتل أو مال، أو عتاق أو طلاق حتى يشهد معه على ذلك رجلان أو رجل عدل ليس يكون هذا لأحد بعد النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وينبغى أن يكون فى مجلس القاضى أبدًا رجلان عدلان يسمعان من يقر ويشهدان على ذلك، فينفذ الحكم بشهادتهما أو شهادة من حضر.
39 - باب تَرْجَمَةِ الْحُكَّامِ وَهَلْ يَجُوزُ تَرْجُمَانٌ وَاحِدٌ؟
وَقَالَ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) أَمَرَهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ كِتَابَ الْيَهُودِ حَتَّى كَتَبْتُ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) كُتُبَهُ وَأَقْرَأْتُهُ كُتُبَهُمْ إِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ. وَقَالَ عُمَرُ، وَعِنْدَهُ عَلِيٌّ وَعَبْدُالرَّحْمَنِ وَعُثْمَانُ: مَاذَا تَقُولُ هَذِهِ؟ قَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ ابْنُ حَاطِبٍ: فَقُلْتُ: تُخْبِرُكَ بِصَاحِبِهَا الَّذِى صَنَعَ بِهَا، وَقَالَ أَبُو جَمْرَةَ: كُنْتُ أُتَرْجِمُ بَيْنَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبَيْنَ النَّاسِ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لا بُدَّ لِلْحَاكِمِ مِنْ مُتَرْجِمَيْنِ. / 51 - فيه: ابْنَ عَبَّاسٍ، أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ(8/269)
فِى رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ إِنِّى سَائِلٌ هَذَا، فَإِنْ كَذَبَنِى فَكَذِّبُوهُ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَقَالَ لِلتُّرْجُمَانِ، قُلْ لَهُ إِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا، فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَىَّ هَاتَيْنِ. اختلف العلماء فيمن تجوز ترجمته على لسان الأعجمين إذا تحاكموا إلى حكام المسلمين، فروى أشهب عن مالك أنه يجوز ترجمة رجل واحد ثقة قال: واثنان أحب إلىّ فى ذلك من الواحد وتقبل ترجمة امرأة واحدة واثنان أحب إليه ولا تقبل ترجمة عبد ولا مسخوط. وأجاز أبو حنيفة وأبو يوسف ترجمة رجل واحد وامرأة واحدة، ولا تقبل من عبد كقول مالك. وقال محمد بن الحسن: لا تقبل إلا من رجلين أو رجل وامرأتين. وقال الشافعى: لابد من اثنين. وحجة من أجاز ترجمة الواحد فى ذلك ترجمة زيد بن ثابت وحده للنبى (صلى الله عليه وسلم) وترجمة أبى جمرة بين يدى ابن عباس، وأن عبد الله بن سلام ترجم عن التوراة فى آية الرجم للنبى (صلى الله عليه وسلم) فجاز ذلك، وأيضًا فإن ترجمان هرقل ترجم عن قريش فجازت ترجمته، ولم يدخل حديث هرقل حجة على جواز الترجمان المشرك؛ لأن ترجمان هرقل كان على دين قومه، وإنما أدخله ليدل على أن الترجمان كان يجرى عند الأمم مجرى المخبر لا مجرى الشهادة، واحتج الكوفيون بأن الترجمة ليس طريقها الشهادة؛ بدليل أنه لا يحتاج أن تقول أشهد أنه يقول كذا، بل يكفيه أن يقول: هو يقول كذا وكذا وهو تفسير لما يقوله، والتفسير لا يحتاج فيه إلى العدد كالمستفتى إذا لم يفهم الفتيا بلسانه.(8/270)
ومن شرط رجلين فى ذلك جعله كالشهادة لا ينقلها إلا شاهدان وكالإقرار عند الحاكم لا يجوز له أن يحكم به وإن فهمه حتى يشهد به عنده شاهدان، ففيما لا يفهمه ولا يعلمه أولى. وقال ابن المنذر: لو كان الأمر إلى النظر كان الواجب أن لا يقبل فى الترجمة أقل من شاهدين قياسًا على أن ما غاب عن القاضى لا نقبل فيه إلا شاهدين، غير أن الخبر إذا جاء سقط النظر. وفى ترجمة زيد بن ثابت وحده للنبى (صلى الله عليه وسلم) حجة لا يجوز خلافها.
40 - باب مُحَاسَبَةِ الإمَامِ عُمَّالَهُ
/ 52 - فيه: أَبُو حُمَيْدٍ أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) اسْتَعْمَلَ ابْنَ اللَّتْبِيَّةِ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِى سُلَيْمٍ، فَلَمَّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَحَاسَبَهُ، قَالَ: هَذَا الَّذِى لَكُمْ، وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِى. . . الحديث قد تقدم الكلام فى هذا الباب فى كتاب الزكاة، وسيأتى فى كتاب ترك الحيل فى باب: احتيال العامل ليهدى إليه زيادة فى هذا المعنى إن شاء الله تعالى.(8/271)
41 - باب بِطَانَةِ الإمَامِ وَأَهْلِ مَشُورَتِهِ الْبِطَانَةُ الدُّخَلاءُ
/ 53 - فيه: أَبُو سَعِيدٍ، قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِىٍّ وَلا اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَةٍ، إِلا كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، فَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ) . قال المؤلف: ينبغى لمن سمع هذا الحديث أن يتأدب به، ويسأل الله العصمة من بطانة الشر وأهله، ويحرض على بطانة الخير وأهله. قال سفيان الثورى: ليكن أهل مشورتك أهل التقوى وأهل الأمانة ومن يخشى الله. قال سفيان: وبلغنى أن المشورة نصف العقل. وقال الحسن فى قوله تعالى: (وشاورهم فى الأمر) [آل عمران: 159] قال: وقد علم أنه ليس به إليهم حاجة ولكن أراد أن يستن به بعده، وسيأتى فى كتاب الاعتصام عند قوله تعالى: (وشاورهم فى الأمر) [آل عمران: 159] .
42 - باب كَيْفَ يُبَايِعُ الإمَامُ النَّاسَ
/ 54 - فيه: عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِى الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَأَنْ لا نُنَازِعَ الأمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُومَ، أَوْ نَقُولَ، بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا، لا نَخَافُ فِى اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ. / 55 - فيه: أَنَسٍ: (خَرَجَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فِى غَدَاةٍ بَارِدَةٍ، وَالْمُهَاجِرُونَ وَالأنْصَارُ يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ(8/272)
إِنَّ الْخَيْرَ خَيْرُ الآخِرَهْ فَاغْفِرْ لِلأنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ فَأَجَابُوا: نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا) / 56 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ: (كُنَّا إِذَا بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ يَقُولُ لَنَا: فِيمَا اسْتَطَعْتُمْ) . / 57 - وفيه: ابْنُ دِينَارٍ شَهِدْتُ ابْنَ عُمَرَ حَيْثُ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِالْمَلِكِ، قَالَ: كَتَبَ إِنِّى أُقِرُّ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِعَبْدِاللَّهِ عَبْدِالْمَلِكِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ مَا اسْتَطَعْتُ، وَإِنَّ بَنِىَّ قَدْ أَقَرُّوا بِمِثْلِ ذَلِكَ. / 58 - وفيه: جَرِيرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ، قَالَ: بَايَعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَلَقَّنَنِى فِيمَا اسْتَطَعْتُ، وَالنُّصْحِ لِكُّلِ مُسْلِّم. / 59 - وفيه: سَلَمَةَ بن الأكوع: قُلْتُ عَلَى أَىِّ شَيْءٍ بَايَعْتُمُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ؟ قَالَ: عَلَى الْمَوْتِ. / 60 - وفيه: الْمِسْوَرَ أَنَّ الرَّهْطَ الَّذِينَ وَلاهُمْ عُمَرُ اجْتَمَعُوا فَتَشَاوَرُوا، فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُالرَّحْمَنِ: لَسْتُ بِالَّذِى أُنَافِسُكُمْ عَلَى هَذَا الأمْرِ، وَلَكِنَّكُمْ إِنْ شِئْتُمُ اخْتَرْتُ لَكُمْ مِنْكُمْ، فَجَعَلُوا ذَلِكَ إِلَى عَبْدِالرَّحْمَنِ، فَلَمَّا وَلَّوْا عَبْدَالرَّحْمَنِ أَمْرَهُمْ، فَمَالَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِالرَّحْمَنِ حَتَّى مَا أَرَى أَحَدًا مِنَ النَّاسِ يَتْبَعُ أُولَئِكَ الرَّهْطَ وَلا يَطَأُ عَقِبَهُ، وَمَالَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِالرَّحْمَنِ يُشَاوِرُونَهُ تِلْكَ اللَّيَالِى حَتَّى إِذَا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِى أَصْبَحْنَا مِنْهَا، فَبَايَعْنَا عُثْمَانَ. قَالَ الْمِسْوَرُ: طَرَقَنِى عَبْدُالرَّحْمَنِ بَعْدَ هَجْعٍ مِنَ اللَّيْلِ، فَضَرَبَ الْبَابَ حَتَّى(8/273)
اسْتَيْقَظْتُ، فَقَالَ: أَرَاكَ نَائِمًا، فَوَاللَّهِ مَا اكْتَحَلْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ بِكَبِيرِ نَوْمٍ، انْطَلِقْ، فَادْعُ الزُّبَيْرَ وَسَعْدًا، فَدَعَوْتُهُمَا لَهُ فَشَاوَرَهُمَا، ثُمَّ دَعَانِى، فَقَالَ: ادْعُ لِى عَلِيًّا، فَدَعَوْتُهُ، فَنَاجَاهُ حَتَّى ابْهَارَّ اللَّيْلُ، ثُمَّ قَامَ عَلِيٌّ مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ عَلَى طَمَعٍ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُالرَّحْمَنِ يَخْشَى مِنْ عَلِىٍّ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِى عُثْمَانَ، فَدَعَوْتُهُ فَنَاجَاهُ حَتَّى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْمُؤَذِّنُ بِالصُّبْحِ، فَلَمَّا صَلَّى لِلنَّاسِ الصُّبْحَ، وَاجْتَمَعَ أُولَئِكَ الرَّهْطُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، فَأَرْسَلَ إِلَى مَنْ كَانَ حَاضِرًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ، وَأَرْسَلَ إِلَى أُمَرَاءِ الأجْنَادِ، وَكَانُوا وَافَوْا تِلْكَ الْحَجَّةَ مَعَ عُمَرَ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا تَشَهَّدَ عَبْدُالرَّحْمَنِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، يَا عَلِىُّ إِنِّى قَدْ نَظَرْتُ فِى أَمْرِ النَّاسِ، فَلَمْ أَرَهُمْ يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ، فَلا تَجْعَلَنَّ عَلَى نَفْسِكَ سَبِيلا، فَقَالَ: أُبَايِعُكَ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ، فَبَايَعَهُ عَبْدُالرَّحْمَنِ وَبَايَعَهُ النَّاسُ الْمُهَاجِرُونَ وَالأنْصَارُ وَأُمَرَاءُ الأجْنَادِ وَالْمُسْلِمُونَ. قال المهلب: اختلفت ألفاظ بيعة النبى (صلى الله عليه وسلم) فروى: (بايعنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على السمع والطاعة) وروى (على الجهاد) وروى (على الموت) وقد بين ابن عمر وعبد الرحمن بن عوف فى بيعتهما ما يجمع معانى البيعة كلها، وهو قولهم: (على السمع والطاعة وعلى سنة الله وسنة رسوله) . وقوله: (فيما استطعتم) لقوله تعالى: (لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها) [البقرة: 286] . وأما قوله: (فى المنشط والمكره) فهذه بيعة العقبة الثانية، بايعوه على أن يقاتلوا دونه، ويهلكوا أنفسهم وأموالهم. قال ابن(8/274)
إسحاق: وكانت بيعة الحرب حين أذن الله لرسوله فى القتال شروطًا سوى شرطه، حدثنى عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن أبيه، عن جده عبادة بن الصامت قال: (بايعنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بيعة الحرب على السمع والطاعة فى يسرنا وعسرنا، ومنشطنا ومكرهنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف فى الله لومة لائم) وكان عبادة من الاثنى عشر الذين بايعوه فى العقبة الأولى بيعة النساء. قال ابن إسحاق: وكانوا فى العقبة الثانية ثلاثة وسبعين رجلا من الأوس والخزرج وامرأتين. قال المهلب: قوله: (ولا ننازع الأمر أهله) فيه دليل قاطع على أن الأنصار ليس لهم فى الخلافة شىء كما ادعاه الحباب وسعد بن عبادة، ولذلك ما اشترط عليهم النبى (صلى الله عليه وسلم) هذا أيضًا. وأما الرهط الذين ولاهم عمر فمنهم: عثمان وعلى والزبير وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبى وقاص. وقال عمر: إن عجل بى أمر فالشورى فى هؤلاء الستة الذين توفى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو عنهم راض. قال الطبرى: فلم يكن من أهل الإسلام أحد يومئذ له منزلتهم فى الدين والهجرة والسابقة والفضل والعلم وسياسة الأمة. فإن قيل: فقد كان من هؤلاء الستة من هو أفضل من صاحبه، والمعروف من مذهب عمر أن أحق الناس بالإمارة أفضلهم دينًا، وأنه لا حق للمفضول فيها مع الفاضل، فكيف جعلها فى قوم بعضهم أفضل من بعض؟ قيل: إنما أدخل الذين ذكرت فى الشورى للمشاورة والاجتهاد للنظر للأمة؛ إذا كان واثقًا منهم بأنهم لا يألون للمسلمين نصحًا فيما(8/275)
اجتمعوا عليه، وأن المفضول منهم لا ينزل، والتقدم على الفاضل، ولا يتكلم فى منزلة غيره أحق بها منه، وكان مع ذلك عالمًا برضا الأمة بمن رضى به النفر الستة؛ إذ كان الناس لهم تبعًا وكانوا للناس أئمة وقادة، لا أنه كان يرى للمفضول منهم حقا مع الفاضل فى الإمامة. وفيه أيضًا: الدلالة على بطلان ما قاله أهل الإمامة من أنها فى الخيار وأشخاص قد وقف عليها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمته فلا حاجة بهم إلى التشاور فيمن يقلدوه أمرها، وذلك أن عمر جعلها شورى فى النفر الستة ليجتهدوا فى أولاهم بها، فلم ينكر ذلك أحد من النفر الستة، ولا من غيرهم من المهاجرين والأنصار، ولو كان فيهم ما قد كان وقف عليه رسول الله بعينه ونصب لأمته كان حريًا أن يقول منهم قائل: ما وجه التشاور فى أمر قد كفيناه ببيان الله لنا على لسان رسوله؟ وفى تسليم جميعهم له ما فعله ورضاهم به أبين البيان، وأوضح البرهان على أن القوم لم يكن عندهم من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى شخص بعينه عهد، وأن الذى كان عندهم فى ذلك من عهده إليهم كان وقفًا على موصوف بصفات، يحتاج إلى إدراكها بالاجتهاد والاستنباط، فرضوا وسلموا له ما فعل من رده الأمر فى ذلك إلى النفر، وكانوا يومئذ أهل الأمانة على الدين وأهله. وفيه الدلالة الواضحة على أن الجماعة الموثوق بأديانهم ونصحتهم للإسلام وأهله، إذا عقدوا عقد الخلافة لبعض من هو من أهلها على تشاور منهم واجتهاد؛ فليس لغيرهم من المسلمين حل ذلك العقد ممن لم يحضر عقدهم وتشاورهم إذ كانوا العاقدين قد أصابوا الحق فيه، وذلك أن عمر أفرد فى النظر للأمر النفر الستة ولم يجعل لغيرهم فيما فعلوا اعتراضًا، وسلم ذلك من فعله جميعهم، ولم ينكره منهم منكر، ولو كان العقد فى ذلك لا يصح إلا باجتماع الأمة، لكان(8/276)
خليقًا أن يقول له منهم قائل: إن الحق الواجب بالعقد الذى خصصت بالقيام به هؤلاء الستة لم يخصهم به دون سائر الأمة، بل الجميع منهم فى ذلك شركاء، ولكن القوم لما كان الأمر عندهم على ما وصفت سلموا وانقادوا، ولم يعترض منهم فيه معترض، ولا أنكره منهم منكر. وقوله: بعد هجع من الليل. قال صاحب العين: الهجوع: النوم بالليل خاصة. يقال: هجع يهجع. وقوم هجع وهجوع. وقد تقدم تفسير: ابهار فى كتاب الصلاة.
43 - باب مَنْ بَايَعَ مَرَّتَيْنِ
/ 61 - فيه: سَلَمَةَ بن الأكوع: (بَايَعْنَا النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَقَالَ لِى: يَا سَلَمَةُ، أَلا تُبَايِعُ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ بَايَعْتُ فِى الأوَّلِ، قَالَ: وَفِى الثَّانِي) . قال المهلب: أراد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يؤكد بيعته لشجاعته وغنائه فى الإسلام وشهرته بالثبات، فأراد أن يجعل له مزية فى تكرير المبايعة من أجل شجاعته وقد تقدم هذا فى كتاب الجهاد.
44 - باب بَيْعَةِ الأعْرَابِ
/ 62 - فيه: جَابِرِ أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى الإسْلامِ، فَأَصَابَهُ. . الحديث.(8/277)
قال المؤلف: البيعة على الإسلام كانت فرضًا على جميع الناس أعرابًا كانوا أو غيرهم.
45 - باب بَيْعَةِ الصَّغِيرِ
/ 63 - فيه: أَبُو عَقِيلٍ زُهْرَةُ بْنُ مَعْبَدٍ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ هِشَامٍ، وَكَانَ قَدْ أَدْرَكَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَذَهَبَتْ بِهِ أُمُّهُ زَيْنَبُ بِنْتُ حُمَيْدٍ إِلَى النَّبى (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَتْ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ بَايِعْهُ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : هُوَ صَغِيرٌ، فَمَسَحَ رَأْسَهُ، وَدَعَا لَهُ) . قال المهلب: البيعة لا تلزم إلا من تلزمه عقود الإسلام كلها من البالغين. وقال بعض العلماء: إنها تلزم الأصاغر بمبايعة آبائهم عليهم.
46 - باب مَنْ بَايَعَ واسْتَقَالَ الْبَيْعَةَ
/ 64 - فيه: جَابِرِ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَايَعَ النَّبىَّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى الإسْلامِ، فَأَصَابَ الأعْرَابِىَّ وَعْكٌ بِالْمَدِينَةِ، فَأَتَى النَّبى (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقِلْنِى بَيْعَتِى فَأَبَى، رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَهَا ثَلاَثًا، فَخَرَجَ الأعْرَابِىُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ، تَنْفِى خَبَثَهَا، وَتَنْصَعُ طِيبُهَا) . وترجم له باب من نكث بيعته وقوله تعالى: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم) [الفتح: 10] الآية. قال المؤلف: إنما لم يقله النبى (صلى الله عليه وسلم) لأن الهجرة كانت فرضًا، وكان ارتدادهم عنها من أكبر الكبائر، ولذلك دعا(8/278)
لهم النبى (صلى الله عليه وسلم) فقال: (اللهم أمض لأصحابى هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم) . وفى هذا من الفقه أنه من عقد على نفسه أو على غيره عقدًا لله فلا يجوز له حله؛ لأن فى حله خروجًا إلى معصية الله، وقد أمر الله بوفاء العقود، وقد تقدم فى آخر كتاب الحج.
47 - باب مَنْ بَايَعَ رَجُلا لا يُبَايِعُهُ إِلا لِلدُّنْيَا
/ 65 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ يَمْنَعُ مِنْهُ ابْنَ السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لا يُبَايِعُهُ إِلا لِدُنْيَاهُ، فَإِنْ أَعْطَاهُ مَا يُرِيدُ وَفَى لَهُ، وَإِلا لَمْ يَفِ لَهُ وَرَجُلٌ يُبَايِعُ رَجُلا بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَحَلَفَ بِاللَّهِ لَقَدْ أُعْطِىَ بِهَا كَذَا وَكَذَا، فَصَدَّقَهُ فَأَخَذَهَا وَلَمْ يُعْطَ بِهَا) . فى هذا الحديث وعيد شديد فى الخروج على الأئمة ونكث بيعتهم لأمر الله بالوفاء بالعقود؛ إذ فى ترك الخروج عليهم تحصين الفروج والأموال وحقن الدماء، وفى القيام عليهم تفرق الكلمة وتشتيت الألفة. وفيه: فساد الأعمال إذا لم يرد بها وجه الله وأريد بها عرض الدنيا، وهذا فى معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (الأعمال بالنيات) . وفيه: عقوبة من منع ابن السبيل فضل ماء عنده، ويدخل فى معنى الحديث منع غير الماء وكل ما بالناس الحاجة إليه. وفيه: تحريم مال المسلمين إلا بالحق.(8/279)
وفيه: عقوبة الحلف بالله كذبًا، وإنما خص به العصر؛ لأنه الوقت الذى ترتفع فيه ملائكة النهار بأعمال العباد.
48 - باب بَيْعَةِ النِّسَاءِ
/ 66 - وفيه: عُبَادَةَ، قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَنَحْنُ فِى مَجْلِسٍ: تُبَايِعُونِى عَلَى أَنْ لا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلا تَسْرِقُوا، وَلا تَزْنُوا، وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ، وَلا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلا تَعْصُوا فِى مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ، فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَعُوقِبَ فِى الدُّنْيَا، فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَسَتَرَهُ اللَّهُ، فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ، فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ) . / 67 - وفيه: عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يُبَايِعُ النِّسَاءَ بِالْكَلامِ بِهَذِهِ الآيَة: (أن لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا) [الممتحنة: 12] قَالَتْ: وَمَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَدَ امْرَأَةٍ، إِلا امْرَأَةً يَمْلِكُهَا. / 68 - وفيه: أُمِّ عَطِيَّةَ، بَايَعْنَا النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَرَأَ عَلَيْنَا: (أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقنَ) [الممتحنة: 12] ، وَنَهَانَا عَنِ النِّيَاحَةِ، فَقَبَضَتِ امْرَأَةٌ مِنَّا يَدَهَا، فَقَالَتْ: فُلانَةُ أَسْعَدَتْنِى، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَجْزِيَهَا، فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، فَذَهَبَتْ ثُمَّ رَجَعَتْ فَمَا وَفَتِ امْرَأَةٌ إِلا أُمُّ سُلَيْمٍ. . . الحديث. قال المؤلف: كل ما خاطب الله بن الرجال من شرائع الإسلام فقد دخل فيه النساء، ولزمهن من ذلك ما لزم الرجال إلا ما خص به الرجال مما لا قدرة للنساء عليه؛ من القيام بفرض الحرب وشبهه مما قد بين(8/280)
سقوطه عن النساء. وهذه البيعة فى هذه الأحاديث كانت بيعة العقبة الأولى بمكة قبل أن يفرض عليهم الحرب، ذكر ذلك ابن إسحاق وأهل السير قالوا: كانوا اثنى عشر رجلا.
49 - باب الاسْتِخْلافِ
/ 69 - فيه: عَائِشَةُ قَالَتَ وَارَأْسَاهْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (ذَاكِ لَوْ كَانَ وَأَنَا حَىٌّ، فَأَسْتَغْفِرُ لَكِ، وَأَدْعُو لَكِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَا ثُكْلاَهْ، وَاللَّهِ إِنِّى لأظُنُّكَ تُحِبُّ مَوْتِى، وَلَوْ كَانَ ذَاكَ لَظَلَلْتَ آخِرَ يَوْمِكَ مُعَرِّسًا بِبَعْضِ أَزْوَاجِكَ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : بَلْ أَنَا، وَارَأْسَاهْ، لَقَدْ هَمَمْتُ، أَوْ أَرَدْتُ، أَنْ أُرْسِلَ إِلَى أَبِى بَكْرٍ وَابْنِهِ فَأَعْهَدَ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُونَ، أَوْ يَتَمَنَّى الْمُتَمَنُّونَ، ثُمَّ قُلْتُ: يَأْبَى اللَّهُ، وَيَدْفَعُ الْمُؤْمِنُونَ، أَوْ يَدْفَعُ اللَّهُ وَيَأْبَى الْمُؤْمِنُون) . / 70 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ قلت لِعُمَرَ: أَلا تَسْتَخْلِفُ؟ قَالَ: (إِنْ أَسْتَخْلِفْ فَقَدِ اسْتَخْلَفَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّى أَبُو بَكْرٍ، وَإِنْ أَتْرُكْ فَقَدْ تَرَكَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَأَثْنَوْا عَلَيْهِ، فَقَالَ: رَاغِبٌ رَاهِبٌ، وَدِدْتُ أَنِّى نَجَوْتُ مِنْهَا كَفَافًا لا لِى وَلا عَلَىَّ لا أَتَحَمَّلُهَا حَيًّا وَلا مَيِّتًا) . / 71 - وفيه: أَنَسُ، أَنَّهُ سَمِعَ خُطْبَةَ عُمَرَ الآخِرَةَ حِينَ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَذَلِكَ الْغَدَ مِنْ يَوْمٍ تُوُفِّىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَتَشَهَّدَ، وَأَبُو بَكْرٍ صَامِتٌ لا يَتَكَلَّمُ، قَالَ: كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَعِيشَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، حَتَّى يَدْبُرَنَا يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ آخِرَهُمْ، فَإِنْ يَكُ مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وسلم) قَدْ مَاتَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ نُورًا تَهْتَدُونَ بِهِ هَدَى اللَّهُ مُحَمَّدًا (صلى الله عليه وسلم) ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ صَاحِبُ(8/281)
رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ثَانِىَ اثْنَيْنِ، فَإِنَّهُ أَوْلَى الْمُسْلِمِينَ بِأُمُورِكُمْ، فَقُومُوا، فَبَايِعُوهُ، وَكَانَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ قَدْ بَايَعُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ فِى سَقِيفَةِ بَنِى سَاعِدَةَ، وَكَانَتْ بَيْعَةُ الْعَامَّةِ عَلَى الْمِنْبَرِ. قَالَ الزُّهْرِىُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ لأبِى بَكْرٍ يَوْمَئِذٍ: اصْعَدِ الْمِنْبَرَ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى صَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَبَايَعَهُ النَّاسُ عَامَّةً. / 72 - فيه: جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، أَتَتِ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) امْرَأَةٌ فَكَلَّمَتْهُ فِى شَيْءٍ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ جِئْتُ وَلَمْ أَجِدْكَ كَأَنَّهَا تُرِيدُ الْمَوْتَ، قَالَ: إِنْ لَمْ تَجِدِينِى، فَأْتِى أَبَا بَكْرٍ) . / 73 - وفيه: طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، أَنَّ أَبِا بَكْرٍ، قَالَ: لِوَفْدِ بُزَاخَةَ: تَتْبَعُونَ أَذْنَابَ الإبِلِ حَتَّى يُرِىَ اللَّهُ خَلِيفَةَ نَبِيِّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَالْمُهَاجِرِينَ أَمْرًا يَعْذِرُونَكُمْ بِهِ. قال المهلب: فيه دليل قاطع فى خلافة أبى بكر وهو قوله: (لقد هممت أن أرسل إلى أبا بكر وابنه) يعنى: فأعهد إلى أبى بكر (ثم قلت: يأبى الله) أى: يأبى الله غير أبى بكر، ويدفع المؤمنون غير أبى بكر بحضرته. وشك المحدث بأى اللفظين بدأ النبى (صلى الله عليه وسلم) ولم يشك فى صحة المعنى، وهذا مما وعد النبى (صلى الله عليه وسلم) به، فكان كما وعد، وذلك من أعلام نبوته وقد روى مسلم هذا الحديث فى كتابه فقال فيه: (يأبى الله ويدفع المؤمنون إلا أبا بكر) . فإن قال قائل: فإذا ثبت أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يستخلف أحدًا، فما معنى ما رواه إسماعيل بن أبى خالد، عن قيس بن أبى حازم قال: رأيت عمر وبيده عسيب وهو يجلس الناس ويقول: اسمعوا لخليفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . وهذا خلاف لحديث ابن عمر. فالجواب: أنه ليس فى أحد الحديثين خلاف للآخر، ومعنى قول(8/282)
عمر: (إن أترك فقد ترك رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) يعنى ترك التصريح والإعلان بتعيين شخص ما وعقد الأمر له، وأما قول عمر: (اسمعوا لخليفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) فمعناه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) استخلف عليهم أبا بكر بالأدلة التى نصبها لأمته أنه الخليفة من بعده، فكان أبو بكر خليفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ؛ لقيام الدليل على استخلافه، ولما كان قد أعلمه الله أنه لا يكون غيره ولذلك قال: (يأبى الله ويدفع المؤمنون) ومن أبين الدليل فى استخلاف أبى بكر قول المرأة للنبى: إن لم أجدك حيا إلى من الملجأ بالحكم؟ فقال (صلى الله عليه وسلم) : (ائت أبا بكر) ولم يكن لبشر من علم الغيب ما كان للنبى (صلى الله عليه وسلم) فى ذلك، فرأى أن الاستخلاف أضبط لأمر المسلمين، وإن لم يوقف الأمر على رجل بعينه؛ لكن جعله لمعينين لا يخرج عنهم إلى سواهم فكان نوعًا من أنواع الاستخلاف والعقد، وإنما فعل هذا عمر وتوسط حالة بين حالتين خشية الفتنة بعده، كما خشيت بعد النبى (صلى الله عليه وسلم) وقت قول الأنصار ما قالوا، فلذلك جعل عمر الأمر معقودًا موقوفًا على الستة؛ لئلا يترك الاقتداء بالنبى (صلى الله عليه وسلم) فى ترك الأمر إلى الشورى مع ما قام من الدليل على فضل أبى بكر وأخذ من فعل أبى بكر طرفًا آخر وهو العقد لأحد الستة ليجمع لنفسه فضل السنتين. وأما قول عمر حين أثنوا عليه: (راغب وراهب، وودت أنى نجوت منها كفافًا) فيحتمل معنيين: أحدهما: راغب فى ثنائه فى حسن رأيى وتقريبى له، وراهب من إظهار ما بنفسه من كراهية. والثانى قوله: راغب يعنى: أن الناس فى هذا الأمر راغب فيه، يعنى فى الخلافة، وراهب منها، فإن وليت الراغب فيها خشيت ألا يعان عليها(8/283)
للحديث، وإن وليت الراهب منها خشيت أن لا يقوم بها. وفى هذا كله دليل على جواز عقد الخلافة من الإمام لغيره بعده، وأن أمره فى ذلك على عامة المسلمين جائز. قال بعض الشافعية: فإن قال قائل: لم جاز للإمام تولية العهد، وإنما يملك النظر فى المسلمين حياته وتزول عنه بوفاته، وتولية العهد استخلاف بعد وفاته فى وقت زوال أمره وارتفاع نظره، وهو لا يملك فى ذلك الوقت ما يجوز عليه توليه أو تنفذ فيه وصيته. قيل: إنما جاز ذلك لأمور منها إجماع الأمة من الصحابة ومن بعدهم على استخلاف أبى بكر عمر على الأمة بعده، وأمضت الصحابة ذلك منه على أنفسها، وجعل عمر الأمر بعده فى ستة، فألزم ذلك من حكمه، وعمل فيه على رأيه وعقده، ألا ترى رضا علىّ بالدخول فى الشورى مع الخمسة وجوابه للعباس بن عبد المطلب حين عاتبه على ذلك بأن قال: الشورى كان أمرًا عظيمًا من أمور المسلمين، فلم أر أن أخرج نفسى منه. ولو كان باطلاً عنده لوجب عليه أن يخرج نفسه منه ولما جاز له الدخول معهم فيه. ومنها أن المسلمين إنما يقيمون الإمام إذا لم يكن بهم لحاجتهم إليه وضرورتهم إلى إقامته ليكفيهم مئونة النظر فى مصالحهم، فلما لم يكن بد لهم من رأيه وأمره فيما يتعلق بمصالحهم رأى ولا نظر، فكذلك فى إقامة الإمام بعده؛ لأنه من الأمور المتعلقة بكافتهم وصلاح عامتهم، وقطع التنازع والاختلاف بينهم، ولمثل هذا المعنى أرادوا، فكان رأيه فى ذلك ماضيًا عليهم، وجرى مجرى الأب فى توليته على ابنه الصغير بعد وفاته عند عدم الأب.(8/284)
وأما قول عمر فى خطبته: (كنت أرجو أن يعيش النبى (صلى الله عليه وسلم) حتى يدبرنا) يعنى: حتى يكون آخرنا. فإنما قال ذلك اعتذارًا مما كان خطبه قبل ذلك يوم وفاته (صلى الله عليه وسلم) حين قال: إن محمدًا لم يمت وإنه سيرجع ويقطع أيدى رجال وأرجلهم حتى قام أبو بكر فقال: من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حى لم يمت، وتلا: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) [آل عمران: 144] الآية. وقد ذكر ابن إسحاق، عن ابن عباس، عن عمر أنه قال: إنما حملنى على مقالتى حين مات النبى (صلى الله عليه وسلم) قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا) [البقرة: 143] فوالله إن كنت لأظن أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سيبقى فى أمته حتى يشهد عليها بآخر أعمالها. وبان بهذه الرزية الشنيعة والمصيبة الجليلة النازلة بالأمة من موت نبيها من ثبات نفس الصديق، ووفور عقله ومكانته من الإسلام ما لا مطمع فيه لأحد غيره. وقال سعيد بن زيد: بايعوا الصديق يوم مات النبى (صلى الله عليه وسلم) كرهوا بقاء بعض يوم وليسوا فى جماعة. ذكر ابن إسحاق، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير أن الناس بكوا على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حين توفاه وقالوا: لوددنا أنا متنا قبله، إنا نخشى أن نفتن بعده. فقال معن بن عدى العجلانى: والله ما أحب أنى مت قبله حتى أصدقه ميتًا كما صدقته حيا. فقتل يوم اليمامة فى خلافة أبى بكر. وقوله: يدبرنا. قال الخليل: دبرت الشىء دبرًا: أتبعته، وعلى هذا قرأ من قرأ: (والليل إذا دبر) يعنى إذا تبع النهار. ودبرنى(8/285)
فلان: خلفنى. وأما وفد بزاخة فإنهم ارتدوا ثم تابوا. فأوفدوا رسلهم إلى أبى بكر يعتذرون إليه فأحب أبو بكر أن لا يقضى فيهم إلا بعد المشاورة فى أمرهم فقال لهم: ارجعوا واتبعوا أذناب الإبل فى الصحارى حتى يرى المهاجرون وخليفة النبى (صلى الله عليه وسلم) ما يريهم الله فى مشاورتهم أمرًا يعذرونكم فيه، وذكر يعقوب بن محمد الزهرى قال: حدثنى إبراهيم بن سعد، عن سفيان الثورى، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: قدم وفد أهل بزاخة وهم من طئ على أبى بكر يسألونه الصلح فقال لهم أبو بكر: اختاروا إما الحرب المجلية وإما السلم المخزية. فقالوا: قد عرفنا الحرب المجلية فما السلم المخزية؟ قال: تنزع منكم الكراع والحلقة وتودون قتلانا، وقتلاكم فى النار ونغنم ما أصبنا منكم، وتؤدون إلينا ما أصبتم منا، وتتركون أقوامًا تتبعون أذناب الإبل حتى يرى الله خليفة نبيه والمهاجرين أمرًا يعذرونكم به، فخطب أبو بكر الناس فذكر أنه قال وقالوا. فقال عمر: قد رأيت رأيًا وسنشير عليك، أما ما ذكرت من أن تنزع منهم الكراع والحلقة فنعم ما رأيت، وأما ما رأيت من أن يودوا قتلانا وقتلاهم فى النار؛ فإن قتلانا قتلت على أمر الله فليس لها ديات. فتتابع الناس على قول عمر.(8/286)
50 - باب
/ 74 - فيه: جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (يَكُونُ اثْنَا عَشَرَ أَمِيرًا، فَقَالَ كَلِمَةً لَمْ أَسْمَعْهَا، فَقَالَ أَبِى: إِنَّهُ قَالَ: كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ) . قال المهلب: لم ألق أحدًا يقطع فى هذا الحديث بمعنى فقوم يقولون: يكونون اثنى عشر أميرًا بعد الخلافة العلوية مرضيين. وقوم يقولون: يكونون متوالين إمارتهم. وقوم يقولون: يكونون فى زمن واحد كلهم من قريش يدعى الإمارة، فالذى يغلب عليه الظن أنه إنما أراد (صلى الله عليه وسلم) يخبر بأعاجيب تكون بعده من الفتن حتى يفترق الناس فى وقت واحد على اثنى عشر أميرًا، وما زاد على الاثنى عشر فهو زيادة فى العجب، كأنه أنذر بشرط من الشروط وبعضه يقع، ولو أراد غير هذا لقال: يكون اثنا عشر أميرًا يفعلون كذا ويصنعون كذا، فلما أعراهم من الخبر علمنا أنه أراد يكونون فى زمن واحد، والله أعلم.
51 - باب إِخْرَاجِ الْخُصُومِ وَأَهْلِ الرِّيَبِ مِنَ الْبُيُوتِ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ وَقَدْ أَخْرَجَ عُمَرُ أُخْتَ أَبِى بَكْرٍ حِينَ نَاحَتْ.
/ 75 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ يُحْتَطَبُ، ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلاةِ، فَيُؤَذَّنَ لَهَا، ثُمَّ آمُرَ رَجُلا، فَيَؤُمَّ النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ، وَالَّذِى(8/287)
نَفْسِى بِيَدِهِ، لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُكُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَرْقًا سَمِينًا أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ الْعِشَاءَ) . قال أبو عبد الله: مرماة: ما بين ظلف الشاة من اللحم مثل مِنساة ومِيضاة الميم مخفوضة. قال المهلب: إخراج أهل الريب والمعاصى من دورهم بعد المعرفة بهم واجب على الإمام من أجل تأذى من جاورهم، ومن أجل مجاهرتهم بالعصيان، وإذا لم يعرفوا بأعيانهم فلا يلزم البحث عن أمرهم؛ لأنه من التجسس الذى نهى الله عنه، وليس للسلطان أن يرفع ستر اختفائهم حتى يعلنوا إعلانًا يعرفون به لقوله (صلى الله عليه وسلم) عن الله تعالى: (كل عبادى معافون إلا المجاهرين) فحينئذ يجب على السلطان تعييره والنكال به، كما صنع عمر بأخت أبى بكر حين ناحت. وقال غيره: وليس إخراج أهل المعاصى بواجب، فمن ثبت عليه ما يوجب الحد أقيم عليه، وإنما أخرج عمر أخت أبى بكر من أجل أنه نهاها عن النياحة ولم تنته، فأبعدها عن نفسه لا أنه أبعدها عن البيت أبدًا؛ لأنها رجعت بعد ذلك إلى بيتها. وقد روى أبو زيد، عن ابن القاسم فى رجل فاسد يأوى إليه أهل الفسوق والشر ما يصنع به؟ قال: يخرج من منزله، وتحارج عليه الدار. قلت: ألا تباع عليه؟ قال: لا، لعله يتوب، فيرجع إلى منزله. قال ابن القاسم: ويتقدم إليه مرة أو مرتين أو ثلاثًا فإن لم ينته أخرج وأكريت عليه. وقد مر هذا فى آخر كتاب الجهاد فى باب أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) بإخراج اليهود من جزيرة العرب.(8/288)
52 - باب هَلْ لِلإمَامِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُجْرِمِينَ وَأَهْلَ الْمَعْصِيَةِ مِنَ الْكَلامِ مَعَهُ وَالزِّيَارَةِ وَنَحْوِهِ
/ 76 - فيه: كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، لَمَّا تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَذَكَرَ حَدِيثَهُ وَنَهَى النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلامِنَا، فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، وَآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا. قال المهلب: أصل الهجران فى كتاب الله وهو أمر الله عباده بهجران نسائهم فى المضاجع، فإذا كان الهجران من المعاقبة بنص كتاب الله، فلذلك استعمله النبى (صلى الله عليه وسلم) فى عقوبة كعب بن مالك حين تخلف عن الغزو مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وترك ما افترض الله عليه من الجهاد مع نبيه ونصرته وبذل نفسه دونهم. وقد قال سحنون: إذا سجن الرجل فى دين امرأته أو غيره فليس له أن يدخل امرأته فى السجن؛ لأنه إنما أدخل فيه تأديبًا له وتضييقًا عليه، فإذا لم يمنع من إربه فلم يضيق عليه.(8/289)
57 - كِتَاب الإكْرَاهِ
وَقَوْلِ اللَّهِ: (إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ) [النحل: 106] الآية وَقَالَ: (إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) [آل عمران: 28] وَهِىَ تَقِيَّةٌ، وَقَالَ: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِى أَنْفُسِهِمْ) [النساء: 97] إِلَى قَوْلِهِ: (عَفُوًّا غَفُورًا) [النساء: 99] ، وَقَالَ: (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ (إِلَى) الظَّالِمِ أَهْلُهَا) [النساء: 75] . فَعَذَرَ اللَّهُ الْمُسْتَضْعَفِينَ الَّذِينَ لا يَمْتَنِعُونَ مِنْ تَرْكِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَالْمُكْرَهُ لا يَكُونُ إِلا مُسْتَضْعَفًا غَيْرَ مُمْتَنِعٍ مِنْ فِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: التَّقِيَّةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَنْ يُكْرِهُهُ اللُّصُوصُ فَيُطَلِّقُ لَيْسَ بِشَىْءٍ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَالشَّعْبِىُّ، وَالْحَسَنُ: وَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (الأعْمَالُ بِالنِّيَّةِ) . / 1 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ (أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَدْعُو فِى صَلاَتِهِ: اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِى رَبِيعَةَ وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ وَالْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَابْعَثْ عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِى يُوسُفَ) . قال المهلب: ذكر أهل التفسير بأن هذه الآية نزلت فى ناس من أهل مكة آمنوا فكتب إليهم بعض أصحابهم بالمدينة: لستم منا حتى تهاجروا إلينا. وكان فيهم عمار بن ياسر، فخرجوا يريدون(8/290)
المدينة، فأدركتهم قريش فى الطريق ففتنوهم على الكفر فكفروا مكرهين فنزلت: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) [النحل: 106] . أجمع العلماء على أن من أكره على الكفر حتى خشى على نفسه القتل أنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا تبين منه زوجته، ولا يحكم عليه بحكم الكفر، هذا قول مالك والكوفيين والشافعى، غير محمد بن الحسن فإنه قال: إذا أظهر الشرك كان مرتدا فى الظاهر، وهو فيما بينه وبين الله على الإسلام وتبين منه امرأته، ولا يصلى عليه إن مات، ولا يرث أباه إن مات مسلمًا. وهذا قول تغنى حكايته عن الرد عليه لمخالفته للآيات المذكورة فى أول هذا الباب. وقالت طائفة: إنما جازت الرخصة فى القول، وأما فى الفعل فلا رخصة فيه مثل أن يكرهوه على السجود لغير الله، أو الصلاة لغير القبلة، أو قتل مسلم أو ضربه، أو أكل ماله، أو الزنا، أو شرب الخمر، وأكل الخنزير: روى هذا عن الحسن البصرى، وهو قول الأوزاعى وسحنون، قال الأوزاعى: إذا كره الأسير على شرب الخمر لا يفعل وإن قتله. وقال إسماعيل بن إسحاق: حدثنا نصر بن على: حدثنا عبد الأعلى، عن عوف، عن الحسن أنه كان لا يجعل فى النفس التى حرم الله التقية. وقال محمد بن الحسن: إذا قيل للأسير اسجد لذلك الصنم وإلا قتلناك فقال: إن كان الصنم مقابل القبلة فليسجد وتكون نيته لله تعالى وإن كان لغير القبلة فلا يسجد وإن قتلوه. وقالت طائفة: الإكراه فى الفعل والقول سواء إذا أسر الإيمان.(8/291)
روى ذلك عن عمر بن عبد العزيز ومكحول، وهو قول مالك وطائفة من أهل العراق، وروى ابن القاسم عن مالك أنه إن أكره على شرب الخمر أو ترك الصلاة والإفطار فى رمضان فلا إثم عليه إلا أنه لا يجوز عند مالك وعامة العلماء أن يقتل غيره ولا ينتهك حرمته ولا يظلمه ولا يفعل الزنا وإن كره على ذلك. قال إسماعيل بن إسحاق: وقول من جعل التقية فى القول ما يشبه ما نزل فى القرآن من ذلك؛ لأن الذين أكرهوا عليه إنما هو كلام تكلموا به ولم يظلموا فيه أحدًا من الناس، وإنما هو أمر فيما بينهم وبين ربهم، فلما أكرهوا عليه ولم يكونوا له معتقدين جعل كأنه لم يكن؛ لأن الكلام ليس يؤثر بأحد أثرًا فى نفس ولا مال، وأفعال الأبدان ليست كذلك؛ لأنها تؤثر فى الأبدان والأموال ولا يجوز لأحد أن ينجى نفسه من القتل بأن يقتل غيره ظالمًا وإن أكره على ذلك. وقال الأبهرى: لا يجوز لأحد أن يكره على هتك حرمة آدمى؛ لأن حرمته ليست بأوكد من حرمة الآخر. واختلفوا فى طلاق المكره، فذكر ابن وهب عن عمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب وابن عباس أنهم كانوا لا يرون طلاقه شيئًا، وذكره ابن المنذر عن ابن الزبير وابن عمر وابن عباس وعطاء وطاوس والحسن وشريح والقاسم وسالم ومالك والأوزاعى والشافعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور. وأجازت طائفة طلاق المكره، روى ذلك عن الشافعى والنخعى وأبى قلابة والزهرى وقتادة، وهو قول الكوفيين. وفيها قول ثالث قاله الشعبى: إن أكرهه اللصوص فليس بطلاق، وإن أكرهه السلطان فهو طلاق. وفسره ابن عيينة فقال: إن اللص يقدم على قتله،(8/292)
والسلطان لا يقتله. واحتج الكوفيون بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: الطلاق، والعتاق، والنكاح) والهازل لم يقصد إيقاع الطلاق ولزمه، فالمكره كذلك. واحتج عليهم أهل المقالة الأولى فقالوا: إن الفرق بين طلاق الهازل وطلاق المكره أن الهازل قاصد للفظ، مؤثر له فلزمه حكمه، والمكره وإن قصد اللفظ فإنه لم يؤثره ولا اختاره فلم يتعلق به حكمه. ووجدنا الطلاق لا يلزم إلا بلفظ ونية، والمكره لا نية له إنما طلق بلسانه لا بقلبه، فلما رفع الله عنه الكفر الذى تكلم به مكرهًا ولم يعتقده وجب رفع الطلاق لرفع النية فيه. وقول مالك هو إجماع الصحابة ولا مخالف منهم. وأجمع المسلمون على أن المشركين لو أكرهوا رجلا على الكفر بالله بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان وله زوجة حرة مسلمة أنها لا تحرم عليه، ولا يكون مرتدا بذلك، والردة فرقة بائنة فهذا يقضى على اختلافهم فى طلاق المكره. واختلفوا فى حد الإكراه، فروى عن عمر بن الخطاب أنه قال: ليس الرجل أمينًا على نفسه إذا أخفته أو أوثقته أو ضربته. وقال ابن مسعود: ما كلام يدرأ عنى سوطين إلا كنت متكلمًا به. وقال شريح والنخعى: القيد كره، والوعيد كره، والسجن كره. قال ابن سحنون: وهذا كله عند مالك وأصحابه كره والضرب عندهم كره، وليس عندهم فى الضرب والسجن توقيت، إنما هو ما كان يؤلم من الضرب، وما كان من سجن يدخل منه الضيق على المكره قل أو كثر، فالضيق يدخل فى قليل السجن، وإكراه السلطان وغيره إكراه عند مالك.(8/293)
وتناقض أهل العراق فلم يجدوا القيد والسجن إكراهًا على شرب الخمر وأكل الميتة؛ لأنه لا يخاف منه التلف، وجعلوه إكراهًا فى إقراره لفلان عندى ألف درهم. قال ابن سحنون: وفى إجماعهم على أن الألم والوجع الشديد إكراه ما يدل على أن الإكراه يكون من غير تلف نفس.
- باب مَنِ اخْتَارَ الضَّرْبَ وَالْقَتْلَ وَالْهَوَانَ عَلَى الْكُفْرِ
/ 2 - فيه: أَنَسٍ: قَالَ النبى (صلى الله عليه وسلم) : (ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِى الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِى النَّارِ) . / 3 - وفيه: سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ، لَقَدْ رَأَيْتُنِى، وَإِنَّ عُمَرَ مُوثِقِى عَلَى الإسْلامِ، وَلَوِ انْقَضَّ أُحُدٌ مِمَّا فَعَلْتُمْ بِعُثْمَانَ كَانَ مَحْقُوقًا أَنْ يَنْقَضَّ. / 4 - وفيه: خَبَّابِ شَكَوْنَا إِلَى النبى (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِى ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا: أَلا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلا تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ: قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ، فَيُحْفَرُ لَهُ فِى الأرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهَا فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لا يَخَافُ إِلا اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ) .(8/294)
أجمع العلماء أن من أكره على الكفر فاختار القتل أنه أعظم أجرًا عند الله ممن اختار الرخصة. واختلفوا فيمن أكره على غير الكفر من فعل ما لا يحل له فقال أصحاب مالك: الأخذ بالشدة فى ذلك، واختيار القتل والضرب أفضل عند الله من الأخذ بالرخصة. ذكره ابن حبيب وسحنون. وذكر ابن سحنون عن أهل العراق، أنه إذا تهدد بقتل أو بقطع أو ضرب يخاف منه التلف حتى يشرب الخمر أو يأكل الخنزير فذلك له، فإن لم يفعل حتى قتل أن يكون آثمًا، وهو كالمضطر إلى أكل الميتة وشرب الخمر غير باغ ولا عاد، فإن خاف على نفسه الموت فلم يأكل ولم يشرب أثم. وقال مسروق: من اضطر إلى شىء مما حرم الله عليه فلم يأكل ولم يشرب حتى مات دخل النار. قالوا: ولا يشبه هذا الكفر وقتل المسلم؛ لأن فى هذا رخصة وتركه أفضل، ولم يجعل فى الضرورة حلالا. قال سحنون: إذا لم يشرب الخمر ولا يأكل الخنزير حتى قتل كان أعظم لأجره كالكفر؛ لأن الله تعالى أباح له الكفر ضرورة الإكراه، وأباح له الميتة والدم بضرورة الحاجة إليهما، وأجمعا أن له ترك الرخصة فى قول الكفر، فكذلك يلزم مخالفنا أن يقول فى ترك الرخصة فى الميتة ولحم الخنزير، ولا يكون معينًا على نفسه. وقد تناقض الكوفيون فى هذا فقالوا كقولنا فى المكره توعد بقطع عضو أو قتل على أن يأخذ مالا لفلان فيدفعه إلى فلان أنه فى سعة من(8/295)
ذلك؛ لأنه كالمضطر ويضمن الآمر، ولا ضمان على المأمور، فإن أبى أن يأخذ حتى قتله كان عندنا فى سعة. فيقال لهم: هذا مال مسلم قد أحللتموه بالإكراه؛ فلم لا يسعه ترك أكل الميتة حتى يقتل كما وسعه أخذ مال المسلم فى الإكراه حتى يقتل. قال المؤلف: وحديث خباب حجة لأصحاب مالك؛ لوصفه (صلى الله عليه وسلم) عن الأمم السالفة من كان يمشط لحمه بأمشاط الحديد، ويشق بالمناشر بالشدة فى دينه والصبر على المكروه فى ذات الله، ولم يكفروا فى الظاهر ويبطنوا الإيمان، ليدفعوا العذاب عن أنفسهم؛ فمدحهم، وكذلك حديث أنس سوى فيه النبى (صلى الله عليه وسلم) بين كراهية المؤمن الكفر وكراهيته لدخول النار، وإذا كان هذا حقيقة الإيمان، فلا مخالفة أن الضرب والهوان والقتل عند المؤمن أسهل من دخول النار، فينبغى أن يكون ذلك أسهل من الكفر إن اختار الأخذ بالشدة على نفسه. قال المهلب: وقد اعترض هذا قوم بقوله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا) [النساء: 29] ولا حجة لهم فى الآية؛ لقوله تعالى: (ومن يفعل ذلك عدوانًا وظلمًا) [النساء: 3] والعدوان والظلم محرمان، وليس من أهلك نفسه فى طاعة الله بعاد ولا ظالم، ولو كان كما قالوا لما جاز لأحد أن يقتحم المهالك فى الجهاد، وقد افترض على كل مسلم مقارعة رجلين من الكفار ومبارزتهما، وهذا من أبين المهلكات والغرر. ومن فر من اثنين فقد أكبر المعصية وتعرض لغضب الله. وقول خباب للنبى (صلى الله عليه وسلم) : (ألا تدعو الله أن يكفينا) يعنى عدوان الكفار عليهم بمكة قبل هجرتهم وضربهم لهم وإيثاقهم بالحديد.(8/296)
وفيه من الفقه: أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يترك الدعاء فى ذلك على أن الله أمرهم بالدعاء أمرًا عامًا بقوله: (ادعونى أستجب لكم) [غافر: 60] وبقوله: (فلولا إذا جاءهم بأسنا تضرعوا) [الأنعام: 43] إلا لأنه (صلى الله عليه وسلم) علم من الله أنه قد سبق من قدره وعلمه أنه يجرى عليهم ما جرى من البلوى والمحن ليؤجروا عليها على ما جرت عادته فى سائر أتباع الأنبياء من الصبر على الشدة فى ذات الله، ثم يعقبهم بالنصر والتأييد، والظفر وجزيل الأجر، وأما غير الأنبياء فواجب عليهم الدعاء عند كل نازلة تنزل بهم؛ لأنهم لا يعلمون الغيب فيها، والدعاء من أفضل العبادة ولا يخلو الداعى من إحدى الثلاث التى وعد النبى (صلى الله عليه وسلم) بها. وفيه: علامات النبوة وذلك خروج ما قال (صلى الله عليه وسلم) من تمام الدين وانتشار الأمر وإنجاز الله ما وعد نبيه (صلى الله عليه وسلم) من ذلك.
3 - باب فِى بَيْعِ الْمُكْرَهِ وَنَحْوِهِ فِى الْحَقِّ وَغَيْرِهِ
/ 5 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: (بَيْنَمَا نَحْنُ فِى الْمَسْجِدِ؛ إِذْ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: انْطَلِقُوا إِلَى يَهُودَ، فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى جِئْنَا بَيْتَ الْمِدْرَاسِ، فَنَادَاهُمْ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا، فَقَالُوا: قَدْ بَلَّغْتَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَقَالَ: ذَلِكَ أُرِيدُ، قَالَهَا ثَلاَثًا، ثُمَّ قَالَ: اعْلَمُوا أَنَّ الأرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنِّى أُرِيدُ أَنْ أُجْلِيَكُمْ، فَمَنْ وَجَدَ مِنْكُمْ بِمَالِهِ شَيْئًا فَلْيَبِعْهُ، وَإِلا فَاعْلَمُوا أَنَّمَا الأرْضُ لِلَّهِ وَلرَسُولِهِ(8/297)
قال المهلب: أما ما باعه المضغوط فى حق وجب عليه؛ فذلك ماض سائغ لا رجوع فيه عند الفقهاء؛ لأنه يلزمه أداء الحق إلى صاحبه من غير المبيع، فلما لم يفعل كان بيعه اختيارًا منه فلزمه. ووجه الاستدلال على هذه المسألة من هذا الحديث هو أن إخراج النبى (صلى الله عليه وسلم) اليهود حق؛ لأنه إنما فعل ذلك بوحى من الله، فأباح لهم بيع أموالهم فكان بيعهم جائزًا؛ لأنه لم يقع الإكراه على البيع من أجل أعيان الشىء المبيع، وإنما وقع من أجل الذى لزمهم فى الخروج، فكذلك كان بيع من وجب عليه حق جائزًا، وأما بيع المكره ظلمًا وقهرًا فقال محمد بن سحنون: أجمع أصحابنا وأهل العراق على أن بيع المكره عل الظلم والجور لا يلزمه. وقال الأبهرى: إنه إجماع. وقال مطرف وابن عبد الحكم وأصبغ: وسواء وصل الثمن إلى المضغوط، ثم دفعه إلى الذى ألجأه إلى بيع ما باعه، أو كان الظالم هو تولى قبض الثمن من المبتاع؛ لأنه إنما يقبضه لغيره لا لنفسه، فإذا ظفر بمتاعه بيد من ابتاعه أو بيد من اشتراه من الذى ابتاعه فهو أحق به، ولا شىء عليه من الثمن، وليتراجع به الباعة بعضهم على بعض حتى يرجع المبتاع الأول على الظالم الذى وصل إليه الثمن، فإن فات المبتاع رجع بقيمته على الذى فات عنده، أو بالثمن الذى بيع به، أى ذلك كان أكثر.(8/298)
4 - باب لا يَجُوزُ نِكَاحُ الْمُكْرَهِ وَقَوله: (وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ (إِلَى) رَحِيمٌ) [النور: 33]
/ 6 - فيه: خَنْسَاءَ بِنْتِ خِذَامٍ الأنْصَارِيَّةِ، أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهِىَ ثَيِّبٌ، فَكَرِهَتْ ذَلِكَ، فَأَتَتِ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَرَدَّ نِكَاحَهَا. / 7 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يُسْتَأْمَرُ النِّسَاءُ فِى أَبْضَاعِهِنَّ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَإِنَّ الْبِكْرَ تُسْتَأْمَرُ فَتَسْتَحْيِى، فَتَسْكُتُ، قَالَ: سُكَاتُهَا إِذْنُهَا) . قال محمد بن سحنون: أجمع أصحابنا على إبطال نكاح المكره والمكرهة، وقالوا: لا يجوز المقام عليه؛ لأنه لم ينعقد. وقال ابن القاسم: لا يلزم المكره ما أكره عليه من نكاح أو طلاق أو عتق أو غيره. قال محمد بن سحنون: أجاز أهل العراق نكاح المكره، وقالوا: لو أكره على أن ينكح امرأة بعشرة ألاف درهم وصداق مثلها ألف درهم أن النكاح جائز وتلزمه الألف ويبطل الفضل. قال محمد: فكلما أبطلوا الزائد على الألف بالإكراه كذلك يلزمهم إبطالهم النكاح بالإكراه، وقولهم خلاف السنة الثابتة فى قصة خنساء، وفى أمره (صلى الله عليه وسلم) باستئمار النساء فى أبضاعهن، فلا معنى لقولهم، وأما من جهة النظر فإنه نكاح على خيار، ولا يجوز النكاح بالخيار، قاله سحنون. وإنما شبهه بنكاح الخيار؛ لأنه إذا أجاز ورضى به فإنما أجاز ما كان له رده، فأشبه ما عقد على الخيار، لو مات أحدهما قبل مضى مدة الخيار لم يتوارثا عند جميع أصحاب مالك.(8/299)
قال سحنون: فإن وطئها المكره على النكاح غير مكره على الوطء والرضا بالنكاح لزمه النكاح على المسمى من الصداق، ودرئ عنه الحد، وإن قال: وطئتها على غير رضا منى بالنكاح فعليه الحد والصداق المسمى؛ لأنه مدع لإبطال الصداق المسمى بهذا، وتحد المرأة إن تقدمت وهى عالمة أنه مكره على النكاح، وأما المكرهة على النكاح وعلى الوطء فلا حد عليها ولها الصداق ويحد الواطئ، فاعلمه.
5 - باب إِذَا أُكْرِهَ حَتَّى وَهَبَ عَبْدًا أَوْ بَاعَهُ لَمْ يَجُزْ
وَبِهِ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: فَإِنْ نَذَرَ الْمُشْتَرِى فِيهِ نَذْرًا فَهُوَ جَائِزٌ بِزَعْمِهِ، وَكَذَلِكَ إِنْ دَبَّرَهُ. / 8 - فيه: جَابِرٍ أَنَّ رَجُلا مِنَ الأنْصَارِ دَبَّرَ مَمْلُوكًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّى؟) فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ النَّحَّامِ بِثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ، قَالَ: فَسَمِعْتُ جَابِرًا، يَقُولُ: عَبْدًا قِبْطِيًّا مَاتَ عَامَ أَوَّلَ. قال المهلب: أجمع العلماء أن الإكراه على البيع والهبة لا يجوز وما ذكر فيه عن أبى حنيفة أنه إن أعتقه أو دبره الموهوب أو المشترى فهو جائز فإنما قاس ذلك على البيع الفاسد، فإنه إذا فات بتدبير أو عتق مضى، وكان على المفوت له القيمة يوم فوته، والفرق بين بيع المكره والبيع الفاسد بين، وذلك أن بائع البيع الفاسد راض بالبيع وطيبة نفسه، لكنه لما أوقعه على خلاف السنة فسد وكانت فيه القيمة، والمشترى إنما اشتراه بوجه من وجوه الحل والتراضى الذى شرطه الله فى البيع، والمكره على الهبة والبيع لم تطب نفسه على ذلك، فلا يجوز إمضاء ما لم تطب نفسه بتفويته.(8/300)
وقال محمد بن سحنون: أجمع أهل العراق معنا أن بيع المكره باطل، وهذا يدل أن البيع عندهم غير ناقل للملك، ثم نقضوا هذا بقولهم: إذا أعتق المشترى أو دبر فليس للبائع رد ذلك. فيقال لهم: هل بيع الإكراه ناقل للملك؟ فإن قالوا: لا بطل عتق المشترى وتدبيره كما بطلت هبته، وإن كان ناقلا للملك فأجيزوا كل شىء صنع المشترى من هبة وغيرها، وإذا قصد المشترى للشراء بعد علمه بالإكراه صار كالغاصب. وقد أجمع العلماء فى عتق الغاصب أن للسيد أن يزيله ويأخذ عبده، وقال أهل العراق: إن له أن يضمن إن شاء الذى ولى الإكراه، وإن شاء المشترى المعتق. فجعلوه فى معنى الغاصب، وقال: إن بيع المشترى شراءً فاسدًا ماض ويوجب القيمة، ففرقوا بينه وبين البيع الفاسد وجعلوه كالغاصب. ووجه استدلال البخارى بحديث جابر فى هذه المسألة أن الذى دبره لما لم يكن له مال غيره كان تدبيره سفهًا من فعله، فرد النبى (صلى الله عليه وسلم) ذلك من فعله، وإن كان ملكه للعبد صحيحًا كان من اشتراه شراءً فاسدًا، ولم يصح له ملكه إذا دبره أو أعتقه أولى أن يرد فعله، من أجل أنه لم يصح له ملكه.
6 - باب مِنَ الإكْرَاهِ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا (الآيَةَ [النساء: 19]
. قَالَ كَانُوا إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقَّ بِامْرَأَتِهِ، إِنْ شَاءَ(8/301)
بَعْضُهُمْ تَزَوَّجَهَا، وَإِنْ شَاءُوا زَوَّجَهَا، وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يُزَوِّجْهَا، فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا مِنْ أَهْلِهَا، فَأَنْزَلَ الله هَذِهِ الآيَةُ فِى ذَلِكَ. وقال الزهرى ومالك: فيمسكها حتى تموت فيرثها. قال المهلب: فائدة هذا الباب والله أعلم؛ ليعرفك أن كل من أمسك امرأته لا أرب له فيها طمعًا أن تموت فلا يحل له ذلك بنص القرآن.
7 - باب إِذَا اسْتُكْرِهَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى الزِّنَا فَلا حَدَّ عَلَيْهَا لقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور: 33]
قَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِى نَافِعٌ أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ أَبِى عُبَيْدٍ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ عَبْدًا مِنْ رَقِيقِ الإمَارَةِ وَقَعَ عَلَى وَلِيدَةٍ مِنَ الْخُمُسِ، فَاسْتَكْرَهَهَا حَتَّى اقْتَضَّهَا، فَجَلَدَهُ عُمَرُ الْحَدَّ، وَنَفَاهُ وَلَمْ يَجْلِدِ الْوَلِيدَةَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ اسْتَكْرَهَهَا. وَقَالَ الزُّهْرِىُّ فِى الأمَةِ الْبِكْرِ يَفْتَرِعُهَا الْحُرُّ: يُقِيمُ ذَلِكَ الْحَكَمُ مِنَ الأمَةِ الْعَذْرَاءِ بِقَدْرِ ثَمَنَها وَقِيمَتِهَا، وَيُجْلَدُ وَلَيْسَ فِى الأمَةِ الثَّيِّبِ فِى قَضَاءِ الأئِمَّةِ غُرْمٌ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ الْحَدُّ. / 9 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ بِسَارَةَ، فَدَخَلَ بِهَا قَرْيَةً فِيهَا مَلِكٌ مِنَ الْمُلُوكِ، أَوْ جَبَّارٌ مِنَ الْجَبَابِرَةِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَنْ أَرْسِلْ إِلَىَّ بِهَا، فَقَامَ إِلَيْهَا، فَقَامَتْ تَوَضَّأُ وَتُصَلِّى، فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ، فَلا تُسَلِّطْ عَلَىَّ الْكَافِرَ، فَغُطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ) . قال المهلب: قوله تعالى: (فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم) [النور: 33] يعنى الفتيات المكرهات، بهذا المعنى حكم عمر(8/302)
فى الوليدة استكرهها العبد فلم يحدها. والعلماء متفقون على أنه لاحد على امرأة مستكرهة. واختلفوا هل لها صداق؟ فقال عطاء والزهرى: لها الصداق. وهو قول مالك والشافعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور، وقال الشعبى: إذا أقيم الحد على الذى زنا بها بطل الصداق وهو قول الكوفيين. واختلف العلماء فيمن أكره من الرجال على النساء فقال مالك: عليه الحد؛ لأنه لم ينتشر إلا بلذة. وهو قول أبى ثور، قال مالك: وسواء أكرهه سلطان أوغيره. وقال أبو حنيفة: إن أكرهه غير سلطان حد، وإن أكرهه سلطان فالقياس أن يحد، ولكنى أستحسن أن لا يحد. وقال أبو يوسف ومحمد والشافعى: لا يحد فى الوجهين جميعًا. ولم يراعوا الانتشار. وقال ابن القصار: احتج أصحاب مالك فى وجوب الحد فقالوا: انتشار قضيبه فى الوطء ينافى الخوف، ألا ترى أن ذلك لا يحصل إلا بوجود الشهوة والطمأنينة وسكون النفس؛ لأن من قدم ليضرب عنقه لا تحصل منه شهوة ولا انتشار حتى ربما ذهب حسه وذهل عقله. واحتج الذين لم يوجبوا الحد فقالوا: متى علم أنه يتخلص من القتل بفعل الزنا جاز أن ينتشر وإن كان مكرهًا، وقالوا لأصحاب مالك: هذا يلزمكم فى طلاق المكره، وأنتم لا توقعونه وفيمن أكره على الفطر. فقال المالكيون: طلاق المكره لا علامة لنا فى اختياره، والإكراه ظاهر، والمكره على الفطر عليه القضاء وليس كالمتعمد، إذ لا أمارة تدل على اختياره للفطر والصورة واحدة.(8/303)
قال المهلب: وقول الزهرى فى البكر يفترعها الحر أن عليه قيمة العذرة ويجلد، وهو قول مالك. واختلف قول مالك فى وطء الأمة الثيب فى الإكراه، فقال فى المدونة: إنه لا شىء عليه فى وطء الثيب غير الحد خاصة. وروى أشهب وابن نافع، عن مالك فى الجارية الزائغة تتعلق برجل تدعى أنه غصبها نفسها، أتصدق عليه بما بلغت من فضيحة نفسها بغير يمين عليها؟ قال: ما سمعت أن عليها فى ذلك يمينًا وتصدق عليه ويكون عليه غرم ما نقصها الوطء. وهذه خلاف رواية ابن القاسم. وأما حديث إبراهيم وسارة فإنما شابه الترجمة من وجه خلو الكافر بسارة وإن كان لم يصل إلى شىء منها، ولما لم يكن عليها ملامة فى الخلوة، فكذلك لا يكون على المستكرهة ملامة، ولا حد فيما هو أكثر من الخلوة، والله الموفق.
8 - باب يَمِينِ الرَّجُلِ لِصَاحِبِهِ إِنَّهُ أَخُوهُ إِذَا خَافَ عَلَيْهِ الْقَتْلَ أَوْ نَحْوَهُ
وَكَذَلِكَ كُلُّ مُكْرَهٍ يَخَافُ فَإِنَّهُ يَذُبُّ عَنْهُ الْمَظَالِمَ وَيُقَاتِلُ دُونَهُ وَلا يَخْذُلُهُ، فَإِنْ قَاتَلَ دُونَ الْمَظْلُومِ فَلا قَوَدَ عَلَيْهِ وَلا قِصَاصَ، وَإِنْ قِيلَ لَهُ لَتَشْرَبَنَّ الْخَمْرَ، أَوْ لَتَأْكُلَنَّ الْمَيْتَةَ، أَوْ لَتَبِيعَنَّ عَبْدَكَ، أَوْ تُقِرُّ بِدَيْنٍ، أَوْ تَهَبُ هِبَةً، أَوَ تَحُلُّ عُقْدَةً، أَوْ لَنَقْتُلَنَّ أَبَاكَ أَوْ أَخَاكَ فِى الإسْلامِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَسِعَهُ ذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَوْ قِيلَ لَهُ: لَتَشْرَبَنَّ الْخَمْرَ، أَوْ لَتَأْكُلَنَّ الْمَيْتَةَ، أَوْ لَنَقْتُلَنَّ ابْنَكَ، أَوْ أَبَاكَ، أَوْ ذَا رَحِمٍ مُحَرَّمٍ لَمْ يَسَعْهُ، لأنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُضْطَرٍّ، ثُمَّ نَاقَضَ، فَقَالَ: إِنْ قِيلَ لَهُ:(8/304)
لَنَقْتُلَنَّ أَبَاكَ، أَوِ ابْنَكَ، أَوْ لَتَبِيعَنَّ هَذَا الْعَبْدَ، أَوْ تُقِرُّ بِدَيْنٍ، أَوْ تَهَبُ هِبَةً، يَلْزَمُهُ فِى الْقِيَاسِ، وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ، وَنَقُولُ: الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ وَكُلُّ عُقْدَةٍ فِى ذَلِكَ بَاطِلٌ، فَرَّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذِى رَحِمٍ مُحَرَّمٍ وَغَيْرِهِ بِغَيْرِ كِتَابٍ وَلا سُنَّةٍ. وَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ إِبْرَاهِيمُ لامْرَأَتِهِ: هَذِهِ أُخْتِى وَذَلِكَ فِى اللَّهِ، وَقَالَ النَّخَعِىُّ: إِذَا كَانَ الْمُسْتَحْلِفُ ظَالِمًا فَنِيَّةُ الْحَالِفِ، وَإِنْ كَانَ مَظْلُومًا فَنِيَّةُ الْمُسْتَحْلِفِ. / 10 - فيه: ابْنَ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ وَلا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِى حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِى حَاجَتِهِ) . / 11 - وفيه: أَنَسٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا، كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ قَالَ: تَحْجُزُهُ، أَوْ تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ) . اختلف العلماء فيمن خشى على رجل القتل فقاتل دونه، فقالت طائفة: إن قتل دونه فلا قود عليه ولا قصاص، والحجة لهم قوله (صلى الله عليه وسلم) : (أنصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا) قالوا: فدل عموم هذا الحديث أنه لا قود عليه إذا قاتل عن أخيه كما لا قود عليه إذا قاتل عن نفسه، وروى نحوه عن عمر بن الخطاب. وذكر ابن الماجشون: أن رجلا هربت منه امرأته إلى أبيها فى زمن عمر بن الخطاب، فذهب فى طلبها مع رجلين فقام أبوها إليهم بيده عمود فأخذه منه أحدهما فضربه فكسر يده، وأخذ الزوج منه امرأته فلم يقده منه عمر، وقضى له بدية اليد. قال ابن حبيب: لم ير فيه قصاصًا؛ لأنه كفه عن عدائه بضربه له، وليس على جهة العمد الذى فيه القصاص، وقياس قول أشهب يدل(8/305)
أنه لا قصاص فى ذلك؛ لأنه قال فى الرجل يختفى عنده مظلوم فيحلفه السلطان الجائر الذى يريد دمه وماله أو عقوبته إن كان عنده قال: يحلف ولا حنث عليه، كما لا حنث عليه إذا حلف عن نفسه. ذكره ابن المواز، عن أشهب. وروى مثله عن أنس بن مالك قال: لأن أحلف تسعين يمينًا أحب إلى من أن أدل على مسلم. قاله ميمون بن مهران. وقالت طائفة: من قاتل دون غيره فقتل فعليه القود. هذا قول الكوفيين، ويشبه مذهب ابن القاسم؛ لأنه قال فى الرجل يختفى عنده الرجل من السلطان الجائر يخافه على نفسه، أنه متى حلف أنه ليس عنده فهو حانث، وإن كان مأجورًا فى إحياء نفسه، فلما كان حانثًا فى حلفه عليه، والحنث أيسر شأنًا من القتل دل أنه ليس له أن يقاتل دونه، وهذا قول أصبغ قال: لا يعذر أحد إلا فى الدراءة عن نفسه، ولا يدرأ عن ولده باليمين وهو حانث. وقاله أكثر أصحاب مالك. قالوا: وليس قوله (صلى الله عليه وسلم) : (انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا) بمبيح له قتل المتعدى على أخيه الظالم له؛ لأن كلا الرجلين المتقاتلين أخ للذى أمره النبى (صلى الله عليه وسلم) بالنصرة، ونصره كل واحد منهما لازم له، وقد فسر النبى (صلى الله عليه وسلم) نصرة الظالم كيف، فقال: تكفه عن الظلم، ولم يأمره بقتل الظالم ولا استباحة دمه، وإنما أراد نصره دون إراقة دمه، هذا المفهوم من الحديث، والله أعلم. وقال لى بعض الناس: معنى قول البخارى: إن قاتل دون المظلوم فلا قود عليه ولا قصاص، هو أن يرى رجل رجلا يريد قتل آخر بغير حق، فإن أمكنه الدفع عنه فقد توجه عليه الفرض فى نصرته ودفع الظلم عنه بكل ما يمكنه، ولا ينوى بقتاله له إلا الدفع عن أخيه خاصة(8/306)
دون أن يقصد إلى قتل الظالم للمنتصر فى تلك المدافعة فهو شهيد، كما لو دافعه عن نفسه سواء، فإن قدر المدافع على دفع الظالم بغير قتال أو بمقاتلة لا يكون فيها تلف نفس وقتله قاصدًا لقتله فعليه القود. وموضع التناقض الذى ألزمه البخارى لأبى حنيفة فى هذا الباب هو أن ظالمًا لو أراد قتل رجل وقال لابن الذى أريد قتله: لتشربن الخمر أو لتأكلن الميتة أو لأقتلن أباك أو ابنك أو ذا رحم لم يسعه شرب الخمر ولا أكل الميتة؛ لأنه ليس بمضطر عند أبى حنيفة، وإنما لم يكن مضطرًا عنده؛ لأن الإكراه إنما يكون فيما يتوجه إلى الإنسان فى خاصة نفسه لا فى غيره؛ لأنها معاصى لله؛ لأنه ليس له أن يدفع بها معاصى غيره، وليصبر على قتل أبيه والله سائل قاتله، ولا إثم على الابن؛ لأنه لم يقدر على دفع القتل عن أبيه أو ابنه إلا بمعصية يركبها، ولا يحل له ذلك. ألا ترى قوله: إن قيل له: لأقتلن أباك أو ابنك أو ذا رحم، أو لتبيعن هذا العبد أو تقرن بدين أو تهب هبة أن البيع والإقرار والهبة(8/307)
تلزمه فى القياس؛ لأنه قد تقدم أنه يصبر على قتل ابنه أو أبيه أو ذى رحمه ولا يشرب الخمر ولا يأكل الميتة، فعلى هذا ينبغى أن يلزمه كل ما عقد على نفسه من عقد، ولا يجوز له القيام فى شىء منها كما لم يجز له شرب الخمر وأكل الميتة فى دفع القتل عن أبيه أو ابنه وذى رحمه. ثم ناقض هذا المعنى بقوله: ولكنا نستحسن ونقول: البيع وكل عقد فى ذلك باطل. فاستحسن بطلان البيع وكل ما عقده على نفسه، وجعل له القيام فيه بعد أن تقدم من قوله: أن البيع والإقرار والهبة تلزمه فى القياس ولا يجوز له القيام فيها، واستحسانه كقول أشهب، وقياسه كقول ابن القاسم المتقدمين. وقول البخارى: فرقوا بين كل ذى رحم محرم وغيره بغير كتاب ولا سنة، يريد أن مذهب أبى حنيفة فى ذوى الأرحام بخلاف مذهبه فى الأجنبيين، فلو قيل لرجل: لنقتلن هذا الرجل الأجنبى أو لتبيعن عبدك أو تقر بدين أو هبة ففعل ذلك لينجيه من القتل لزمه جميع ما عقد على نفسه من ذلك ولم يكن له فيها قيام. ولو قيل له ذلك فى ذوى محارمه لم يلزمه ما عقد على نفسه من ذلك فى استحسانه. وعند البخارى ذوو الأرحام والأجنبيون سواء فى أنه لا يلزمه ما عقد على نفسه فى تخليص الأجنبى؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (المسلم أخو المسلم) والمراد بذلك أخوة الإسلام لا أخوة النسب، ولقول إبراهيم فى سارة: (هذه أختى) وإنما كانت أخته فى الإسلام، فأخوة الإسلام توجب على المسلم حماية أخيه المسلم والدفع عنه، ولا يلزمه ما عقد على نفسه فى ذلك من بيع ولا هبة، وله القيام فيها متى أحب، ووسعه شرب الخمر وأكل الميتة، ولا إثم عليه فى ذلك ولا حد، كما لو قيل له: لتفعلن هذه الأشياء أو لنقتلنك، وسعه فى نفسه إتيانها ولا يلزمه حكمها حرى أن يسعه ذلك فى حماية أبيه وأخيه فى النسب وذوى محارمه ولا يلزمه ما عقد على نفسه من بيع ولا هبة ولا فرق بينهما. اختلف العلماء فى يمين المكره، فذهب الكوفيون إلى أنه يحنث، وذهب مالك إلى أن كل من أكره على يمين بوعيد أو سجن أو(8/308)
ضرب أنه يحلف ولا حنث عليه، وهو قول الشافعى وأبى ثور وأكثر العلماء، وحجة الكوفيين أن المكره كان له أن يورى فى يمينه، ولما لم يور ولا ذهب بنيته إلى خلاف ما أكره عليه؛ فقد قصد إلى اليمين، ولو لم يد أن يحلف لورّى؛ لأن الأعمال بالنيات، فلذلك لزمته اليمين. وحجة من لم يلزمه اليمين أنه إذا أكره على اليمين فنيته مخالفة لقوله؛ لأنه كاره لما حلف عليه ولأن اليمين عندهم على نية الحالف، وأنه حلف على ما لم يرده ولا قصده بنيته، وكل عمل لا نية فيه غير لازم، ولا يصح الإكراه إلا أن يكون الفعل فيه مخالفًا للنية والقصد. وقد روى سليمان بن ميسرة، عن النزال بن سبرة قال: التقى عثمان وحذيفة عند باب الكعبة فقال له عثمان: أنت القائل الكلمة التى بلغتنى؟ فقال: لا والله ما قلتها. فلما خلونا به قلنا له: يا أبا عبد الله، حلفت له وقد قلت ما قلت. قال: إنى أشترى دينى بعضه ببعض مخافة أن يذهب كله. وقال الحسن البصرى: أعطهم ما شاءوا بلسانك إذا خفتهم. وأما قول النخعى: إذا كان المستحلف ظالمًا فنية الحالف، وإن كان مظلومًا فنية المستحلف. فهو قول مالك؛ لأن النية عنده نية المظلوم أبدًا. وهو خلاف قول الكوفيين الذين يجيزون التورية فى الأعمال ويجعلون النية نية الحالف أبدًا. وسيأتى الكلام فى ذلك فى الباب بعد هذا إن شاء الله. فإن قال قائل: كيف يكون المستحلف مظلومًا؟ قال: إذا جحده رجل حقا له ولم تكن له نية فإن الجاحد يحلف له فتكون النية نية المستحلف؛ لأن الجاحد ظلمه.(8/309)
58 - كِتَاب الْحِيَلِ
- باب فِى تَرْكِ الْحِيَلِ وَأَنَّ لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فِى الأيْمَانِ وَغَيْرِهَا
/ 1 - فيه: عُمَرَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: إِنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لامْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ) . هذا الحديث حجة لصحة مذهب مالك فى الأيمان أنها على نية المحلوف له ولا تنفعه التورية عنده، ورد على الكوفيين والشافعية أنها على نية الحالف أبدًا، وتنفعه التورية فى سقوط الحنث خاصة عنه كالرجل يحلف لغريمه وهو معسر: والله ما لك عندى شىء. ينوى فى هذا الوقت من أجل عسرى، وأن الله قد أنظرنى إلى الوجود، وكالحالف بالطلاق يقول: هند طالق وله زوجة تسمى بهند، وقد نوى امرأة أجنبية تسمى بهند، ويريد طلاقها من موضع سكانها أو طلاقها من قيد، وكالحالف(8/310)
على أكل طعام وخص طعامًا بعينه، وكالحالف لغريمه وهو يريد شيئًا ما غير ما له عليه، فإن كان الحالف يخاصمه غرماؤه وزوجته أخذه الغرماء بظاهر لفظه، ولم يلتفتوا فيه إلى نيته فى الحكم وحملوا الكلام على بساطه ومخرجه، هذا قول مالك وأهل المدينة. والذين أجازوا التورية إنما فروا من الحنث بمعاريض الكلام، وجعلوه على نيته فى يمين لا يقتطع بها مال أخيه ولا يبطل حقه، فإن اقتطع بيمينه مال آخر، فلا مخرج له عند أحد من أهل العلم ممن يقول بالتورية وغيرها، ولا يكون ذلك المال حلالا عندهم ولابد من رده إلى صاحبه. قال المهلب: ولو جازت التورية لنوى الإنسان عند خلفه فى الحقوق غير ما طولب به، والحل له ما اقتطعه بهذه اليمين المعرج بها عن طريق الدعوى؛ ولذلك أنزل الله: (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم) [آل عمران: 77] الآية. ولما اتفقوا معنا أنه لا يحل شىء من ذلك المال لآخذه علم أن التورية لا تزيل الحنث، وسقط قولهم.
- باب فِى الصَّلاةِ
/ 2 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ) . معنى هذا الباب الرد على أبى حنيفة فى قوله: أن المحدث فى صلاته يتوضأ ويبنى على ما تقدم من صلاته. وهو قول ابن أبى ليلى.(8/311)
وقال مالك والشافعى: يستأنف الوضوء والصلاة ولا يبنى، وحجتهما قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) وقوله: (لا صلاة إلا بطهور) . قال ابن القصار: ولا يخلو فى حال انصرافه من الصلاة وقد أحدث أن يكون مصليًا أو غير مصل، فبطل أن يكون مصليًا؛ لقوله: (لا صلاة إلا بطهور) وهذا غير متوضئ فلا يجوز له البناء، وكل حدث منع من ابتداء الصلاة منع من البناء عليها، يدل على ذلك أنه لو سبقه المنى فى الصلاة لا يستأنف، كذلك غيره من الأحداث. وقد اتفقنا على أنه ممنوع من المضى فيها من أجل الحدث فوجب أن يمنع من البناء عليها؛ فإن احتجوا بالراعف أنه يبنى. قيل: الرعاف عندنا لا ينافى حكم الطهارة، والحدث ينافيها، ألا ترى أنه فى غير الصلاة لو تعمد الرعاف لم تنتقض طهارته كما لو بدره. والحدث على الوجهين ينفى حكم الطهارة، ألا ترى أنكم لم تفرقوا بين عمد الحدث وسبقه فى نقض الطهارة، وفرقتم بين تعمد المنى والرعاف وغلبته فى الصلاة، وفرقتم بين الأحداث فى الصلاة فقلتم: إذا غلبه المنى اغتسل واستأنف وإذا غلبه الحدث الأصغر بنى على صلاته. وفرقنا نحن بين الحدث وما ليس بحدث، وهذا الحديث أيضًا يرد قول أبى حنيفة أن من قعد فى الجلسة الآخرة مقدار التشهد ثم أحدث فصلاته تامة، وذهب إلى أن التحلل من الصلاة يقع بما يضادها من قول أو فعل ولا يتعين بالسلام، وخالفه سائر العلماء وقالوا: لا تتم الصلاة إلا بالسلام منها، ولا يجوز التحلل منها بما يفسدها إذا اعترض فى خلالها على طريق النسيان، كالحج لا يجوز أن يقع(8/312)
التحلل منه بالجماع؛ لأنه لو طرأ فى خلاله لأفسده، فكذلك الصلاة لو أحدث فى خلالها ناسيًا لأفسدها فلا يتحلل منها بتعمد الحدث.
3 - باب فِى الزَّكَاةِ
/ 3 - فيه: أَنَسٍ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُ فَرِيضَةَ الزَّكَاةِ الَّتِى فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَلا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ. / 4 - وفيه: طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِاللَّهِ (أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ثَائِرَ الرَّأْسِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِى مَاذَا فَرَضَ اللَّهُ، عَلَىَّ مِنَ الصَّلاةِ؟ فَقَالَ: الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ إِلا أَنْ تَطَوَّعَ شَيْئًا، فَقَالَ: أَخْبِرْنِى بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَىَّ مِنَ الصِّيَامِ؟ قَالَ: شَهْرَ رَمَضَانَ إِلا أَنْ تَطَوَّعَ شَيْئًا، قَالَ: أَخْبِرْنِى بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَىَّ مِنَ الزَّكَاةِ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِشَرَائِعَ الإسْلامِ، قَالَ: وَالَّذِى أَكْرَمَكَ لا أَتَطَوَّعُ شَيْئًا، وَلا أَنْقُصُ مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ عَلَىَّ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ، أَوْ دَخَلَ الْجَنَّةَ إِنْ صَدَقَ) . وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: فِى عِشْرِينَ وَمِائَةِ بَعِيرٍ حِقَّتَانِ، فَإِنْ أَهْلَكَهَا مُتَعَمِّدًا، أَوْ وَهَبَهَا، أَوِ احْتَالَ فِيهَا فِرَارًا مِنَ الزَّكَاةِ، فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ. / 5 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَكُونُ كَنْزُ أَحَدِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ، يَفِرُّ مِنْهُ صَاحِبُهُ، فَيَطْلُبُهُ وَيَقُولُ: أَنَا كَنْزُكَ، قَالَ وَاللَّهِ لَنْ يَزَالَ يَطْلُبُهُ حَتَّى يَبْسُطَ يَدَهُ، فَيُلْقِمَهَا فَاهُ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : إِذَا مَا رَبُّ النَّعَمِ لَمْ يُعْطِ حَقَّهَا، تُسَلَّطُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَتَخْبِطُ وَجْهَهُ بِأَخْفَافِهَا) .(8/313)
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: فِى رَجُلٍ لَهُ إِبِلٌ، فَخَافَ أَنْ تَجِبَ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ، فَبَاعَهَا بِإِبِلٍ مِثْلِهَا، أَوْ بِغَنَمٍ، أَوْ بِبَقَرٍ، أَوْ بِدَرَاهِمَ فِرَارًا مِنَ الصَّدَقَةِ بِيَوْمٍ احْتِيَالا، فَلا شَىْءَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ: إِنْ زَكَّى إِبِلَهُ، قَبْلَ أَنْ يَحُولَ الْحَوْلُ بِيَوْمٍ أَوْ بِسِنَّةٍ جَازَتْ عَنْهُ. / 6 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ اسْتَفْتَى النَّبىَّ (صلى الله عليه وسلم) فِى نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ تُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : اقْضِهِ عَنْهَا) . وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِذَا بَلَغَتِ الإبِلُ عِشْرِينَ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ، فَإِنْ وَهَبَهَا قَبْلَ الْحَوْلِ، أَوْ بَاعَهَا فِرَارًا وَاحْتِيَالا لإسْقَاطِ الزَّكَاةِ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إِنْ أَتْلَفَهَا، فَمَاتَ فَلا شَيْءَ فِى مَالِهِ. أجمع العلماء أن للرجل قبل حلول الحول التصرف فى ماله بالبيع والهبة والذبح إذا لم ينو الفرار من الصدقة، واجمعوا أنه إذا حال الحول وأطل الساعى أنه لا يحلل التحيل والنقصان فى أن يفرق بين مجتمع أو يجمع بين مفترق. وقال مالك: إذا فوت من ماله شيئًا ينوى به الفرار من الزكاة قبل الحول بشهر أو نحوه لزمته الزكاة عند الحول أخذًا بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (خشية الصدقة) وقال أبو حنيفة: إن نوى بتفويته الفرار من الزكاة قبل الحول بيوم لا تضره النية؛ لأن الزكاة لا تلزمه إلا بتمام الحول، ولا يتوجه إليه معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (خشية الصدقة) إلا حينئذ. قال المهلب: وإنما قصد البخارى فى هذا الباب أن يعرفك أن كل حيلة يتحيل بها أحد فى إسقاط الزكاة، فإن إثم ذلك عليه؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لما منع من جمع الغنم أو تفريقها خشية الصدقة؛ فهم منه هذا المعنى، وفهم من قوله: (أفلح إن صدق) أنه من رام أن ينقص(8/314)
شيئًا من فرائض الله بحيلة يحتالها أنه لا يفلح ولا يقوم بذلك عذره عند الله عز وجل فلما أجاز الفقهاء من تصرف صاحب المال فى ماله قرب حلول الحول، فلم يريدوا بذلك الهروب من الزكاة، ومن نوى ذلك فالإثم عنه غير ساقط والله حسيبه، وهو كمن فر عن صيام رمضان قبل رؤية الهلال بيوم واستعمل سفرًا لا يحتاج إليه رغبة عن فرض الله عز وجل الذى كتبه على عباده المؤمنين، فالوعيد إليه متوجه، ألا ترى عقوبة من منع الزكاة يوم القيامة بأى وجه منعها كيف تطؤه الإبل ويمثل له ماله شجاعًا أقرع؟ وهذا يدل أن الفرار من الزكاة لا يحل وهو مطالب بذلك فى الآخرة. وحديث ابن عباس فى النذر حجة أيضًا فى ذلك؛ لأنه إذ أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) سعدًا أن يقضى النذر عن أمه حين فاتها القضاء، دل ذلك أن الفرائض المهروب عنها أوكد من النذر وألزم، والله الموفق. قال غيره: وأما إذا بيعت الغنم بغنم، فإن مالكًا وأكثر العلماء يقولون: إن الثانية على حول الأولى؛ لأن الجنس واحد والنصاب واحد والمأخوذ واحد. وقال الشافعى فى أحد قوليه: يستأنف بالثانية حولا. وليس بشىء. وأما إن باع غنمًا ببقر أو بإبل، فأكثر العلماء يقولون: يستأنف بما يأخذ حولا كأنه قد باع دنانير بدراهم؛ لأن النصاب فى البقر والإبل مخالف للغنم، وكذلك المأخوذ. ومن الناس من يقول: إذا ملك الماشية ستة أشهر، ثم باعها بدراهم زكى الدراهم لتمام ستة أشهر من يوم باعها. هذا قول أحمد بن حنبل وأهل الظاهر.(8/315)
وما ألزمه من التناقض فى قوله بإجازة تقديم الزكاة قبل الحول بسنة فليس بتناقض؛ لأنه لا يوجب الزكاة إلا بتمام الحول، ويجعل من قدمها كمن قدم دينًا مؤجلا قبل أن يجب عليه. وإن تم الحول وليس بيده نصاب من تلك الماشية وجب على الإمام أن يؤديها إليه من الصدقة، كما أدى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الجمل الرباعى الخيار إلى من هذه حاله.
4 - باب الْحِيلَةِ فِى النِّكَاحِ
/ 7 - فيه: ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) نَهَى عَنِ الشِّغَارِ، قُلْتُ لِنَافِعٍ: مَا الشِّغَارُ؟ قَالَ: يَنْكِحُ ابْنَةَ الرَّجُلِ وَيُنْكِحُهُ ابْنَتَهُ بِغَيْرِ صَدَاقٍ، وَيَنْكِحُ أُخْتَ الرَّجُلِ وَيُنْكِحُهُ أُخْتَهُ بِغَيْرِ صَدَاقٍ) . وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنِ احْتَالَ حَتَّى تَزَوَّجَ عَلَى الشِّغَارِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، وَقَالَ فِى الْمُتْعَةِ: النِّكَاحُ فَاسِدٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْمُتْعَةُ وَالشِّغَارُ جَائِزٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ. / 8 - فيه: عَلِىًّ أنه قِيلَ لَهُ: إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لا يَرَى بِمُتْعَةِ النِّسَاءِ بَأْسًا، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) نَهَى عَنْهَا يَوْمَ خَيْبَرَ، وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الإنْسِيَّةِ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنِ احْتَالَ حَتَّى تَمَتَّعَ، فَالنِّكَاحُ فَاسِدٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمُ: النِّكَاحُ جَائِزٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ. قال بعض من لقيت: أما نكاح الشغار ففساده فى الصداق عند أبى حنيفة، ولا يكون البضع صداقًا عند أحد من العلماء إلا أن أبا حنيفة يقول: هذا النكاح منعقد، ويصلح بصداق المثل؛ لأنه يجوز عنده انعقاد النكاح دون ذكر الصداق بخلاف البيع، ثم يذكر الصداق فيما(8/316)
بعد، فلما جاز هذا عندهم كان ذكرهم للبضع بالبضع كلا ذكر وكأنه نكاح انعقد بغير صداق، وما كان عند أبى حنيفة من النكاح فاسد من أجل صداقه فلا يفسخ عنده قبل ولا بعد، ويصلح بصداق المثل وبما يفرض، وعند مالك والشافعى يفسخ نكاح الشغار قبل الدخول وبعده، حملا نهى النبى (صلى الله عليه وسلم) على التحريم؛ لعموم النهى، إلا أن مالكًا والشافعى اختلفا إن ذكر فى الشغار دراهم. فقال مالك: إن ذكر مع إحداهما دراهم صح نكاح التى سمى لها دون الثانية. وقال الشافعى: إن سمى لإحداهما صح النكاحان معًا، وكان للتى سمى لها ما سمى، وللأخرى صداق المثل، وقد تقدم هذا فى كتاب النكاح. وأما قوله فى المتعة فإن فقهاء الأمصار لا يجيزون نكاح المتعة على حال، وقول بعض أصحاب أبى حنيفة: المتعة والشغار جائز والشرط باطل غير صحيح؛ لأن المتعة منسوخة بنهى النبى (صلى الله عليه وسلم) عنها، ولا يجوز مخالفة النهى وفساد نكاح المتعة من قبل البضع.
5 - باب مَا يُكْرَهُ مِنَ الاحْتِيَالِ فِى الْبُيُوعِ، وَلا يُمْنَعُ فَضْلُ الْمَاءِ لِيُمْنَعَ بِهِ فَضْلُ الْكَلإ
/ 9 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبىُّ: (لا يُمْنَعُ فَضْلُ الْمَاءِ؛ لِيُمْنَعَ بِهِ فَضْلُ الْكَلإ) . / 10 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) نَهَى عَنِ النَّجْشِ.(8/317)
قال المهلب: قوله: (لا يمنع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ) إنما هو لما أراد أن يصون ما حول بئره من الكلأ من النعم الواردة للشرب وهو لا حاجة به إلى الماء الممنوع، إنما حاجته إلى منع الكلأ، فمنع من الاحتيال فى ذلك؛ لأن الكلأ والنبات الذى فى المسارح غير المتملكة مباح لا يجوز منعه، وفيه معنى آخر وهو أنه قد يخص أحد معانى الحديث ويسكت عن معان أخر؛ لأن ظاهر الحديث يوجب أنه لا ينهى عن فضل الماء إلا إذا أريد به منع الكلأ، وإن لم يرد به منع الكلأ، فلا ينهى عن منع الماء، والحديث معناه: لا يمنع فضل الماء بوجه من الوجوه؛ لأنه إذا لم يمنع بسبب غيره فأحرى ألا يمنع بسبب نفسه، وقد سماه النبى (صلى الله عليه وسلم) فضلا، فإن لم يكن فيه فضل عن حاجة صاحب البئر جاز منعه لمالك البئر، وكذلك النجش، ومعناه أن يعطى الرجل الثمن فى السلعة وليس فى نفسه شراؤها، ليقتدى به غيره ممن يحب شراءها فيزيد فيها أكثر من ثمنها، فنهى النبى (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك؛ لأنه ضرب من التحيل فى تكثير الثمن.
6 - باب مَا يُنْهَى مِنَ الْخِدَاعِ
وَقَالَ أَيُّوبُ: يُخَادِعُونَ اللَّهَ كَأَنَّمَا يُخَادِعُونَ آدَمِيًّا لَوْ أَتَوُا الأمْرَ عِيَانًا كَانَ أَهْوَنَ عَلَىَّ. / 11 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَجُلا ذَكَرَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّهُ يُخْدَعُ فِى الْبُيُوعِ فَقَالَ: (إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ: لا خِلابَةَ) . قد تقدم فى كتاب البيوع. وقوله: (لا خلابة) أى:(8/318)
لا تخلبونى ولا تخدعونى؛ فإن ذلك لا يحل. قال المهلب: مثل أن يدلس بالعيب أو يسمى بغير اسمه، فهذا الذى لا يحل منه قليل ولا كثير، وأما الخديعة التى هى تزيين للسلعة والثناء عليها، والإطناب فى مدحها فهذا متجاوز عنه، ولا تنقض له البيوع.
7 - باب مَا يُنْهَى مِنَ الاحْتِيَالِ لِلْوَلِىِّ فِى الْيَتِيمَةِ الْمَرْغُوبَةِ وَأَنْ لا يُكَمِّلَ لَهَا صَدَاقَهَا
/ 12 - فيه: عَائِشَةَ: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لا تُقْسِطُوا فِى الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) [النساء: 3] الآية، قَالَتْ: هِىَ الْيَتِيمَةُ فِى حَجْرِ وَلِيِّهَا، فَيَرْغَبُ فِى مَالِهَا وَجَمَالِهَا، فَيُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِأَدْنَى مِنْ سُنَّةِ نِسَائِهَا، فَنُهُوا عَنْ نِكَاحِهِنَّ إِلا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ فِى إِكْمَالِ الصَّدَاقِ، ثُمَّ اسْتَفْتَى النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بَعْدُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النِّسَاءِ (فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. فيه: أنه لا يجوز للولى أن يتزوج يتيمة بأقل من صداقها، ولا أن يعطيها من العروض فى صداقها ما لا يفى بقيمة صداق مثلها، وقال ابن عباس: قصر الرجل على أربع من النساء من أجل اليتامى. ومعناه أن سبب نزول القران بإباحة أربع كان من أجل سؤالهم عن اليتامى، وكانوا يستفتونه لما كانو يخافونه من الحيف عليهن، فقيل لهم: إن خفتم الحيف عليهن فاتركوهن، فقد أحللت لكم أن تنكحوا أربعًا. فإن قال قائل ممن لا فهم له بكتاب الله من أهل البدع: كيف يخافون ألا يقسطوا فى اليتامى ويؤمرون بنكاح أربع وهم عن القسط بينهن أعجز؟(8/319)
قال أبو بكر بن الطيب: ومعنى الآية: إن خفتم ألا تعدلوا فى اليتامى الأطفال اللاتى لا أولياء لهن يطالبونكم بحقوق الزوجية وتخافون من أكل أموالهن بالباطل؛ لعجز الأطفال عن منعكم منها فانكحوا سواهن أربعًا من النساء البزل القادرات على تدبير أموالهن، ذوات الأولياء الذين يمنعونكم من تحيف أموالهن ويأخذونكم بالعدل بينهن، فأنتم عند ذلك أبعد من أكل أموالهن بالباطل والاعتداء عليهن.
8 - باب إِذَا غَصَبَ جَارِيَةً فَزَعَمَ أَنَّهَا مَاتَتْ، فَقُضِىَ بِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ الْمَيِّتَةِ، ثُمَّ وَجَدَهَا صَاحِبُهَا، فَهِىَ لَهُ وَيَرُدُّ الْقِيمَةَ، وَلا تَكُونُ الْقِيمَةُ ثَمَنًا
. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الْجَارِيَةُ لِلْغَاصِبِ لأخْذِهِ الْقِيمَةَ، وَفِى هَذَا احْتِيَالٌ لِمَنِ اشْتَهَى جَارِيَةَ رَجُلٍ لا يَبِيعُهَا، فَغَصَبَهَا وَاعْتَلَّ بِأَنَّهَا مَاتَتْ حَتَّى يَأْخُذَ رَبُّهَا قِيمَتَهَا، فَتَطِيبُ لِلْغَاصِبِ جَارِيَةَ غَيْرِهِ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَمْوَالُكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، وَلِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . / 13 - فيه: زَيْنَبَ قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَىَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَأَقْضِىَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا، فَلا يَأْخُذْ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ) .(8/320)
احتج البخارى فى هذا الباب على أبى حنيفة ورَدَّ قوله أن الجارية للغاصب إذا وجدها ربها، واعتل أبو حنيفة بأنه إذا أخذ قيمتها من الغاصب فلا حق له فيها؛ لأنه لا يجتمع الشىء وبدله فى ملك واحد أبدًا. وهذا خطأ من أبى حنيفة، والصحيح ما ذهب إليه البخارى وهو قول مالك والشافعى وأبى ثور قالوا: إذا وجد الجارية صاحبها فهو مخير إن شاء أخذها ورَدَّ القيمة، وإن شاء تمسك بالقيمة وتركها، إلا أن مالكًا فرق بين أن يجدها ربها عند الغاصب أو عند من اشتراها من الغاصب فقال: إن وجدها ربها عند مشتريها من الغاصب لم تتغير أنه مخير بين أخذها أو قيمتها يوم الغصب أو الثمن الذى باعها به الغاصب. قال: وإن وجدها عند الغاصب لم تتغير وهى أحسن مما كانت يوم الغصب ولم يكن جحدها الغاصب ولا حكم عليه بقيمتها فليس له إلا أخذها، ولا يأخذ قيمتها. هذا قوله فى المدونة. وقال ابن الماجشون ومطرف: وهو مخير بين أخذها أو أخذ قيمتها إذا كان الغاصب قد غاب عنها. والحجة لمن خالف أبا حنيفة بيان النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه لا يحل مال مسلم إلا عن طيب نفس منه، وأن حكم الحاكم لا يحل ما حرم الله ورسوله؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (فلا يأخذها، فإنما أقطع له قطعة من النار) . وأما قول أبى حنيفة: إن القيمة ثمن فهو غلط؛ لأن القيمة إنما وجبت؛ لأن الجارية متلفة لا يقدر عليها، فلما ظهرت وجب له أخذها؛ لأن أخذ القيمة ليس ببيع بايعه به، وإنما أخذ القيمة لهلاكها، فإذا زال ذلك وجب الرجوع إلى الأصل الذى كان عليه، وهو تسليم الجارية إلى صاحبها، وقد فرق أهل العلم بين القيمة والثمن، فجعلوا القيمة فى(8/321)
الشىء المستهلك وفى البيع الفاسد، وجعلوا الثمن فى الشىء القائم، والفرق بين البيع الفاسد والغصب أن البائع قد رضى بأخذ الثمن عوضًا من سلعته وأذن للمشترى فى التصرف فيها، وإنما جهل السنة فى البيع، فإصلاح هذا البيع أن يأخذ قيمة السلعة إن فاتت، والغاصب غصب ما لم يأذن له فيه ربه، وما له فيه رغبة؛ فلا يحل تملكه للغاصب بوجه من الوجوه إلا أن يرضى المغصوب منه بأخذ قيمته. وقد تناقض أبو حنيفة فى هذه المسألة فقال: إن كان الغاصب حين ادعى رب الجارية قيمتها كذا وكذا جحد ما قال، وقال قيمتها كذا وكذا وحلف عليه، ثم قدر عليه الجارية كان ربها بالخيار إن شاء سلم الجارية بالقيمة وإن شاء أخذ الجارية ورد القيمة؛ لأنه لم يعط القيمة التى ادعاها ربها، وهذا ترك منه لقوله. ولو كانت القيمة ثمنًا ما كان لرب الجارية الخيار فيما معناه البيع؛ لأن الرجل لو باع ما يساوى خمسين دينارًا بعشرة دنانير كان بيعه لازمًا ولم يجعل له رجوع ولا خيار.
9 - باب فِى النِّكَاحِ
/ 14 - فيه: أَبِى هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ، وَلا الثَّيِّبُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ إِذْنُهَا؟ قَالَ: إِذَا سَكَتَتْ) . وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِذَا لَمْ تُسْتَأْذَنِ الْبِكْرُ وَلَمْ تَتَزَوَّجْ، فَاحْتَالَ رَجُلٌ(8/322)
فَأَقَامَ شَاهِدَىْ زُورٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بِرِضَاهَا فَأَثْبَتَ الْقَاضِى نِكَاحَهَا، وَالزَّوْجُ يَعْلَمُ أَنَّ الشَّهَادَةَ بَاطِلَةٌ، فَلا بَأْسَ أَنْ يَطَأَهَا وَهُوَ تَزْوِيجٌ صَحِيحٌ. / 15 - وفيه: الْقَاسِمِ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ وَلَدِ جَعْفَرٍ تَخَوَّفَتْ أَنْ يُزَوِّجَهَا وَلِيُّهَا، وَهِىَ كَارِهَةٌ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى شَيْخَيْنِ مِنَ الأنْصَارِ عَبْدِالرَّحْمَنِ وَمُجَمِّعٍ ابْنَىْ جَارِيَةَ، قَالا: فَلا تَخْشَيْنَ، فَإِنَّ خَنْسَاءَ بِنْتَ خِذَامٍ أَنْكَحَهَا أَبُوهَا، وَهِىَ كَارِهَةٌ، فَرَدَّ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ذَلِكَ. / 16 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : لا تُنْكَحُ الأيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ، قَالُوا: كَيْفَ إِذْنُهَا؟ قَالَ: أَنْ تَسْكُتَ. قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنْ هَوِىَ رَجُلٌ جَارِيَةً ثَيِّبًا، أَوْ بِكْرًا، فَأَبَتْ، فَاحْتَالَ فَجَاءَ بِشَاهِدَىْ زُورٍ عَلَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا، فَأَدْرَكَتْ، فَرَضِيَتِ، فَقَبِلَ الْقَاضِى شَهَادَةَ الزُّورِ، وَالزَّوْجُ يَعْلَمُ بِبُطْلانِ ذَلِكَ حَلَّ لَهُ الْوَطْءُ. قال المؤلف: لا يحل هذا النكاح للزوج الذى أقام شاهدى زور على رضا المرأة أنه تزوجها عند أحد من العلماء، وليس حكم القاضى بما ظهر له من عدالة الشاهدين فى الظاهر مُحلا ما حرم الله؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (فإنما أقطع له قطعة من النار) ولتحريم أكل أموال الناس بالباطل، ولا فرق بين أكل المال الحرام ووطء الفرج الحرام فى الإثم. قال المهلب: احتيال أبى حنيفة ساقط؛ لأمر النبى (صلى الله عليه وسلم) باستئذان المرأة واستئمارها عند النكاح، ورد (صلى الله عليه وسلم) نكاح من تزوجت كارهة فى حديث خنساء، وقد قال تعال: (ولا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف) [البقرة: 232] فاشتراط الله رضا المرأة فى النكاح يوجب أنه متى عدم هذا الشرط فى النكاح لم يحل، وإنما(8/323)
قاس أبو حنيفة مسائل هذا الباب على القاضى إذا حكم بطلاقها بشاهدى زور وهو لا يعلم؛ أنه يجوز أن يتزوجها من لا يعلم بباطل هذا الطلاق، ولا تحرم عليه بإجماع العلماء، وكذلك يجوز أن يتزوجها من يعلم ولا تحرم عليه، وهذا خطأ فى القياس، وإنما حل تزويجها لمن لا يعلم باطن أمرها؛ لأنه جهل ما دخل فيه. وأما الزوج الذى أقام شاهدى زور فهو عالم بالتحريم متعمد لركوب الإثم فكيف يقاس من جهل شيئًا فأتاه فعزر بجهله على من تعمده فأقدم عليه وهو عالم بباطنه؟ ولا خلاف بين العلماء أنه من أقدم على ما لا يحل له فقد أقدم على الحرام البين الذى قال فيه النبى (صلى الله عليه وسلم) : (الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات) وليس للشبهة فيه موضع، ولا خلاف بين الأمة أن رجلا لو أقام شاهدى زور على ابنته أنها أمته وحكم الحاكم بذلك أنه لا يجوز له وطؤها، فكذلك الذى شهد على نكاحها هما فى التحريم سواء. والمسألة التى فى آخر الباب لا يقول بها أحد وهى خطأ كالمسألتين المتقدمتين.
- باب مَا يُكْرَهُ مِنِ احْتِيَالِ الْمَرْأَةِ مَعَ الزَّوْجِ وَالضَّرَائِرِ وَمَا نَزَلَ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِى ذَلِكَ
/ 17 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النبى (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ، فَاحْتَبَسَ عِنْدَ حَفْصَةَ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ يَحْتَبِسُ، فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لِى: أَهْدَتْ لَهَا امْرَأَةٌ مِنْ قَوْمِهَا عُكَّةَ عَسَلٍ، فَسَقَتْ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنْهُ شَرْبَةً، فَقُلْتُ:(8/324)
أَمَا وَاللَّهِ لَنَحْتَالَنَّ لَهُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِسَوْدَةَ، قُلْتُ: إِذَا دَخَلَ عَلَيْكِ فَإِنَّهُ سَيَدْنُو مِنْكِ، فَقُولِى لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ، فَإِنَّهُ سَيَقُولُ: لا فَقُولِى لَهُ: مَا هَذِهِ الرِّيحُ؟ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَشْتَدُّ عَلَيْهِ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ الرِّيحُ، فَإِنَّهُ سَيَقُولُ لَكِ: سَقَتْنِى حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ، فَقُولِى لَهُ: جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ، وَسَأَقُولُ ذَلِكِ، وَقُولِيهِ أَنْتِ يَا صَفِيَّةُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى سَوْدَةَ، قُلْتُ: تَقُولُ سَوْدَةُ: وَالَّذِى لا إِلَهَ إِلا هُوَ، لَقَدْ كِدْتُ أَنْ أُبَادِرَهُ بِالَّذِى قُلْتِ لِى، وَإِنَّهُ لَعَلَى الْبَابِ فَرَقًا مِنْكِ، فَلَمَّا دَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَكَلْتَ مَغَافِيرَ، قَالَ: لا، قُلْتُ: فَمَا هَذِهِ الرِّيحُ؟ قَالَ: سَقَتْنِى حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ، قُلْتُ: جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَىَّ، قُلْتُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَدَخَلَ عَلَى صَفِيَّةَ، فَقَالَتْ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ، قَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلا أَسْقِيكَ مِنْهُ؟ قَالَ: لا حَاجَةَ لِى بِهِ، قَالَتْ: تَقُولُ سَوْدَةُ: سُبْحَانَ اللَّهِ لَقَدْ حَرَمْنَاهُ، قَالَتْ: قُلْتُ: لَهَا اسْكُتِي) . القسمة التى يقضى بها للنساء على الرجال هى الليل دون النهار، والجماع كله ليلا ونهارًا، ولا يجوز أن يجامع امرأة فى يوم أخرى. وأما دخول الزوج بيت من ليس يومها فمباح للرجل ذلك وجائز له أن يأكل ويشرب فى بيتها فى غير يومها ما لم يكن الغداء المعروف والعشاء المعروف، وليس لسائر النساء أن تمنع الزوج من غير ما ذكرناه. ومعنى الترجمة ظاهر فى الحديث. وقد تقدم تفسير المغافير فى كتاب الأيمان والنذور فى باب إذا حرم طعامًا. وقد تقدم ما فى الحديث من الغريب فى كتاب الطلاق فى باب لم تحرم ما أحل الله لك.(8/325)
- باب مَا يُكْرَهُ مِنَ الاحْتِيَالِ فِى الْفِرَارِ مِنَ الطَّاعُونِ
/ 18 - فيه: عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ، فَلَمَّا جَاءَ بِسَرْغَ بَلَغَهُ أَنَّ الْوَبَاءَ وَقَعَ بِالشَّأْمِ، فَأَخْبَرَهُ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ، فَلا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ، فَرَجَعَ عُمَرُ مِنْ سَرْغَ) . / 19 - وفيه: أُسَامَةَ أَنَّ النَّبىَّ (صلى الله عليه وسلم) ذَكَرَ الْوَجَعَ، فَقَالَ: رِجْزٌ أَوْ عَذَابٌ عُذِّبَ بِهِ بَعْضُ الأمَمِ، ثُمَّ بَقِىَ مِنْهُ بَقِيَّةٌ، فَيَذْهَبُ الْمَرَّةَ، وَيَأْتِى الأخْرَى، فَمَنْ سَمِعَ بِهِ بِأَرْضٍ فَلا يُقْدِمَنَّ عَلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ بِأَرْضٍ وَقَعَ بِهَا فَلا يَخْرُجْ فِرَارًا مِنْهُ) . قال المهلب وغيره: لا يجوز الفرار من الطاعون، ولا يجوز أن يتحيل بالخروج فى تجارة أو شبهها وهو ينوى بذلك الفرار من الطاعون. ويبين هذا المعنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (الأعمال بالنيات) فى النهى عن الفرار من الطاعون كأنه يفر من قدر الله وقضائه وهذا لا سبيل لأحد إليه؛ لأن قدر الله لا يغلب. وسيأتى الكلام فى معنى هذا الحديث فى كتاب المرضى والطب فى باب من خرج من أرض لا تُلائمه فهو موضعه إن شاء الله تعالى.
- باب فِى الْهِبَةِ وَالشُّفْعَةِ
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنْ وَهَبَ هِبَةً أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ أَكْثَرَ حَتَّى مَكَثَ عِنْدَهُ سِنِينَ، وَاحْتَالَ فِى ذَلِكَ، ثُمَّ رَجَعَ الْوَاهِبُ فِيهَا فَلا زَكَاةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَخَالَفَ الرَّسُولَ (صلى الله عليه وسلم) فِى الْهِبَةِ وَأَسْقَطَ الزَّكَاةَ.(8/326)
/ 20 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (الْعَائِدُ فِى هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِى قَيْئِهِ، لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ) . / 21 - وفيه: جَابِر، قَالَ: إِنَّمَا جَعَلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) الشُّفْعَةَ فِى كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتِ الطُّرُقُ فَلا شُفْعَةَ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الشُّفْعَةُ لِلْجِوَارِ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى مَا شَدَّدَهُ فَأَبْطَلَهُ، وَقَالَ: إِنِ اشْتَرَى دَارًا، فَخَافَ أَنْ يَأْخُذَ الْجَارُ بِالشُّفْعَةِ، فَاشْتَرَى سَهْمًا مِنْ مِائَةِ سَهْمٍ، ثُمَّ اشْتَرَى الْبَاقِىَ، وَكَانَ لِلْجَارِ الشُّفْعَةُ فِى السَّهْمِ الأوَّلِ وَلا شُفْعَةَ لَهُ فِى بَاقِى الدَّارِ، وَلَهُ أَنْ يَحْتَالَ فِى ذَلِكَ. / 22 - فيه: عَمْرَو بْنَ الشَّرِيدِ، جَاءَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَنْكِبِى، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ إِلَى سَعْدٍ، فَقَالَ أَبُو رَافِعٍ لِلْمِسْوَرِ: أَلا تَأْمُرُ هَذَا أَنْ يَشْتَرِىَ مِنِّى بَيْتِى الَّذِى فِى دَارِى؟ فَقَالَ: لا أَزِيدُهُ عَلَى أَرْبَعِ مِائَةٍ، إِمَّا مُقَطَّعَةٍ وَإِمَّا مُنَجَّمَةٍ، قَالَ: أُعْطِيتُ خَمْسَ مِائَةٍ نَقْدًا، فَمَنَعْتُهُ وَلَوْلا أَنِّى سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ) . مَا بِعْتُكَهُ، أَوْ قَالَ: مَا أَعْطَيْتُكَهُ. قُلْتُ لِسُفْيَانَ: إِنَّ مَعْمَرًا لَمْ يَقُلْ هَكَذَا، قَالَ: لَكِنَّهُ قَالَ لِى هَكَذَا. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِذَا أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ الشُّفْعَةَ، فَلَهُ أَنْ يَحْتَالَ حَتَّى يُبْطِلَ الشُّفْعَةَ، فَيَهَبَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِى الدَّارَ وَيَحُدُّهَا، وَيَدْفَعُهَا إِلَيْهِ، وَيُعَوِّضُهُ الْمُشْتَرِى أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَلا يَكُونُ لِلشَّفِيعِ فِيهَا شُفْعَةٌ. / 23 - وفيه: عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ، عَنْ أَبِى رَافِعٍ، أَنَّ سَعْدًا سَاوَمَهُ بَيْتًا بِأَرْبَعِ مِائَةِ مِثْقَالٍ، فَقَالَ: لَوْلا أَنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ) . لَمَا أَعْطَيْتُكَ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنِ اشْتَرَى نَصِيبًا مِنْ دَارٍ، فَأَرَادَ أَنْ يُبْطِلَ الشُّفْعَةَ وَهَبَ لابْنِهِ الصَّغِيرِ، وَلا يَكُونُ عَلَيْهِ يَمِينٌ. قال المؤلف: إذا وهب الواهب هبة وقبضها الموهوب وحازها فهو(8/327)
مالك لها عند الجميع والزكاة له لازمة ولا سبيل له إلى الرجوع فيها إلا أن يكون على ابن. وهذه حيلة لا يمكن أن يخالف بها نص الحديث لأن الزكاة تلزم الابن فى كل هذا ما لم يعتصر منه وإن كان صغيرًا عند الحجازيين لأنه ملك، فإن اعتصرها بعد حلول الحلول عليها عند الموهوب له وجبت الزكاة على الموهوب له ثم يستأنف الراجع فيها حولا من يوم رجوعه، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء فلا معنى للاشتغال بما خالفه. قال المهلب: والاحتيال فى هذا خارج عن معنى الشريعة، ومن أراد أن يحتال على الشريعة حتى يسقطها فلا يسمّى محتالا، وإنما هو معاند لحدود الله ومنتهك لها، فإذا كانت الهبة لغير الابن دخل الراجع فيها تحت قوله (صلى الله عليه وسلم) : (العائد فى هبته كالكلب يعود فى قيئه) ولا أعلم لحيلته وجهًا إلا إن كان يريد أن يهبها ويحتال فى حبسها عنده دون تحويز فلا تتم حيلته فى هذا إن وهبها لأجنبى؛ لأن الحيازة عنده شرط فى الهبة، فإن بقيت عنده كانت على ملكه ووجبت عليه فيها الزكاة، فأما مسألة الشفعة فالذى احتال به أبو حنيفة فيها له وجه فى الفقه، وذلك أن الذى أراد شراء الدار خاف شفعة الجار. فسأل أبا حنيفة: هل من حيل فى إسقاط شفعة الجار؟ فقال: لو باع منك صاحب الدار جزءًا من عشرة أجزاء منها على الإشاعة ثم اشتريت منه بعد حين باقى الدار سقطت شفعة الجار. يريد أن الشريك فى المشاع أحق بالشفعة من الجار. وهذا إجماع من العلماء فلما اشترى أولا الجزء اليسير صار به شريكًا لصاحب الدار؛ إذ لم يرض الجار أن يشفع فى ذلك الجزء اللطيف لعلة انتفاعه به، فلما عقد الصفقة فى باقى الدار كان الجار(8/328)
لا شفعة له عليه؛ لأنه لو ملك ذلك الجزء اللطيف غيره لمنع الجار به من الشفعة. فكذلك يمنعه هو إذا اشترى باقى الدار من الشفعة، وهذا ليس فيه شىء من خلاف السنة. وإنما أراد البخارى أن يلزم أبا حنيفة التناقض لأنه يوجب الشفعة للجار ويأخذ فى ذلك لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (الجار أحق بصقبه) . فمن اعتقد مثل هذا وثب ذلك عنده من قضاء رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وتحيل بمثل هذه الحيلة فى إبطال شفعة الجار فقد أبطل السنة التى يعتقدها. قال المهلب: وفى حديث ابن عباس: (إذا وقعت الحدود فلا شفعة) ما يرد قول من أجاز الشفعة للجار؛ لأن الجار قد حدد ماله من مال جاره ولا اشتراك له معه، وهذا ضد قول من قال بالشفعة للجار، وقوله: (الشفعة فيما لم يقسم) ينفى الشفعة فى كل مقسوم. وحديث عمرو بن الشريد حجة فى أن الجار المذكور فى الحديث هو الشريك وعلى ذلك حمله أبو رافع وهو أعلم بمخرج الحديث، وقد تقدم ذلك فى كتاب الشفعة، وقول أبى حنيفة: إذا أراد أن يقطع الشفعة فيهب البائع للمشترى الدار إلى آخر المسألة فهذه حيلة فى إبطال السنة لا يجيزها أحد من أهل العلم، وهى منتقضة على أصل أبى حنيفة؛ لأن الهبة إن انعقدت للثواب فهى بيع من البيوع عند الكوفيين ومالك وغيره ففيها الشفعة، وإن كانت هبة مقبولة بغير شرط ثواب فلا شفعة فيها بإجماع، وما انعقد عقدًا ظاهرًا سالمًا فى باطنه والقصد منه فساد فهذا لايحل عند أحد من العلماء. قال المهلب: وإنما ذكر البخارى فى هذه المسألة حديث أبى رافع ليعرفك أن ما جعله النبى (صلى الله عليه وسلم) حقا للشفيع بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (الجار لأحق بصقبه) فلا يحل إبطاله ولا إدخال حيلة عليه.(8/329)
وأما المسألة التى فى آخر الباب إن اشترى نصيب دار فإذا كان يبطل الشفعة وهب لابنه الصغير ولا يكون عليه يمين، فبيان هذه المسألة أن يكون البائع شريكًا مع غيره فى دار فيقوم رجل آخر فيشترى منها نصيبًا ويهبه لابنه ولا يمين عليه، وإنما قال ذلك لأنه من وهب لابنه هبة فقد فعل ما يباح له فعله. قال: والأحكام على الظاهر لا على التوهم وادعًا الغيب على البيان. وذكر ابن المولد عن مالك إن كانت الهبة للثواب ففيها الشفعة يعنى لأنها بيع من البيوع ويحلف المتصدق عليه إن كان ممن يتهم، وروى ابن نافع عن مالك فى المجموعة قال: ينظر فإن رأى أنه محتاج وهب الأغنياء فاليمين على الموهوب له، وإن كان صغيرًا فعلى نية الذى قبل ذلك له، وإن كان مستغنيًا عن ثوابهم وإنما وهب للقرابة أو صداقة فلا يمين فى ذلك. وذكر ابن عبد الحكم عن مالك أنه اختلف قوله فى الشفعة فى الهبة فأجازها مرة ثم قال: لا شفعة فيها.
- باب
/ 24 - فيه: أَبُو رَافِع، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ) . وقال بعض الناس: إن اشترى دارًا بعشرين ألف درهم فلا بأس أن يحتال حين يشترى الدار بعشرين ألف درهم فلا بأس أن يحتال حين يشترى الدار بعشرين ألف درهم وينقده تسعة آلاف درهم وتسعمائة درهم وتسع وتسعين، وينقده دينارًا بما بقى من العشرين ألف درهم، فإن طلب الشفيع أخذها بالعشرين ألف درهم وإلا فلا سبيل له على الدار، فإناستحقت الدار رجع المشترى على البائع بمادفع إليه، وهو تسعة آلاف درهم وتسعمائة وتسعة وتسعون درهمًا ودينار؛ لأن البيع حين استحق انتقض الصرف فى الدينار،(8/330)
فإن وجد بهذه الدار عيبًا ولم يستحق فإنه يردها عليه بعشرين ألفًا، قال: فأجاز هذا الخداع بين المسلمين فقد قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (بيع المسلم لا داء ولا خبثة ولا غائلة) . / 25 - وفيه: أَبُو رَافِع أنه سَاوَمَ سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ بَيْتًا بِأَرْبَعِ مِائَةِ مِثْقَالٍ، وَقَالَ: لَوْلا أَنِّى سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ) مَا أَعْطَيْتُكَ. يمكن أن يبيع الشقص من صديق له يحب نفعه بعشرة آلاف درهم ودينار ويكتباه فى وثيقة الشراء عشرين ألف درهم، وهو يعلم أن الشريك لابد له أن يقوم على المشترى بالشفعة، فإذا وجد فى وثيقته عشرين ألف درهم أخذ الشقص بذلك فهو قصد إلى الخداع. وقوله: لينقده دينارًا بالعشرة آلاف درهم إنما قال ذلك لأنه يجوز عند الأمة بيع الذهب بالفضة متفاضلا كيف شاء المتبايعان. فلما جاز هذا بإجماع بنى عليه أصله فى الصرف، فأجاز عشرة دراهم ودينارًا بأحد عشر درهمًا جعل العشرة دراهم بعشرة دراهم وجعل الدينار بدل الدرهم. وكذلك جعل فى هذه المسألة الدينار بعشرة آلاف درهم وأوجب على الشفيع أن يؤدى ما انعقدت له به الصفقة دون ما نقد فيها المشترى، كأنه قال من حق المشترى أن يقول لك إنما أخذ منك أيها الشفيع ما أبيعت به الشقص لا ما نقدت فيه؛ لأنه تجاوز لى البائع بعد عقد الصفقة عما شاء ما وجب له على. وأما مالك، رحمة الله عليه، فإنما يراعى فى ذلك النقد وما حصل فى يد البائع منه يأخذ الشفيع. ومن حجته فى ذلك أنه لا خلاف بين العلماء أن الاستحقاق والرد بالعيب لا يرفع فيهما إلا بما نقد المشترى.(8/331)
وهذا يدل على أن المراعاة فى انتقال الصفقات فى الشفعة وانتقاضها بالاستحقاق والعيوب وما نقد البائع فى الوجهين جميعًا، وأن الشفعة فى ذلك كالاستحقاق وهذا هو الصواب. وأما قول البخارى عن أبى حنيفة فإن استحقت الدار رجع المشترى على البائع بما دفع إليه، فهذا من أبى حنيفة يدل على أنه قصد الحيلة فى الشفعة؛ لأن الأمة مجمعة وأبو حنيفة معهم على أن البائع لا يرد فى الاستحقاق والرد بالعيب إلا ما قبض. فكذلك الشفيع لا يشفع إلا ما نقد المشترى وما قبضه منه البائع لا بما عقد. وأما قول أبى حنيفة: لأن البيع حين استحقه انتقض صرف الدينار فلا يفهم؛ لأن الاستحقاق والرد بالعيب يوجب نقض الصفقة كلها فلا معنى لذكره الدينار دون غيره. وقال المهلب: وجه إدخال البخارى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (الجار أحق بصقبه) فى هذه المسألة، وهو لما كان الجار أحق بالبيع وجب أن يكون أحق أن يرفق به فى الثمن حتى لا يغبن فى شىء، ولا يدخله عروض بأكثر من قيمتها ألا ترى أن أبا رافع لم يأخذ من سعد ما أعطاه غيره من الثمن ووهبه؛ لحق الجار الذى أمر الله بمراعاته وحفظه وحض النبى (صلى الله عليه وسلم) على ذلك. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا داء ولا خبثة ولا غائلة) دليل على أنه لا احتيال فى شىء من بيوع المسلمين من صرف دينار بأكثر من قيمته ولا غيره.
- باب احْتِيَالِ الْعَامِلِ لِيُهْدَى لَهُ
/ 26 - فيه: أَبُو حُمَيْدٍ، اسْتَعْمَلَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) رَجُلا عَلَى صَدَقَاتِ بَنِى سُلَيْمٍ، يُدْعَى ابْنَ الْلَّتَبِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ، قَالَ: هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (فَهَلا جَلَسْتَ فِى بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ،(8/332)
إِنْ كُنْتَ صَادِقًا. ثُمَّ خَطَبَنَا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّى أَسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ عَلَى الْعَمَلِ مِمَّا وَلانِى اللَّهُ، فَيَأْتِى فَيَقُولُ: هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِى، أَفَلا جَلَسَ فِى بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ، وَاللَّهِ لا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلا لَقِىَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. . .) الحديث. قال المهلب: حيلة العامل ليهدى إليه إنما تكون بأن يضع من حقوق المسلمين فى سعايته ما يعوضه من أجله الموضوع له، فكأن الحيلة إنما هى أن وضع من حقوق المسلمين ليستجزل لنفسه، فاستدل النبى (صلى الله عليه وسلم) على أن الهدية لم تكن للمعوض فقال: فهلا جلس فى بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا. فغلب الظن وأوجب أخذ الهدية وضمها إلى أموال المسلمين. قال غيره: وهذا الحديث يدل أن ما أهدى إلى العامل فى عمالته والأمير فى إمارته شكرًا لمعروف صنعه أو تحببًا إليه أنه فى ذلك كله كأحد المسلمين لا فضل له عليهم فيه؛ لأنه بولايته عليهم نال ذلك، فإن استأثر به فهو سحت، والسحت كل ما يأخذه العامل والحاكم على إبطال حق أو تحقيق باطل وكذلك ما يأخذه على القضاء بالحق. وقد روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (هدايا الأمراء غلول) والغلول معلوم أنه للموجفين ولم يكن معهم، وعلى هذا التأويل كانت مقاسمة عمر بن الخطاب لعماله على طريق الاجتهاد لأنهم خلطوا ما يجب لهم فى عمالتهم بأرباح تجاراتهم وسهمانهم فى الفئ، فلما لم يقف عمر على مبلغ ذلك حقيقة أداه اجتهاده إلى أن يأخذ منهم نصف ذلك. وقد روى عن بعض السلف أنه قال: ما عدا من تجر فى رعيته. وقد فعله عمر، رضى الله عنه، أيضًا فى المال الذى دفعه أبو موسى الأشعرى بالعراق من مال الله إلى ابنيه عبد الله وعبيد الله، أراد عمر(8/333)
أن يأخذ منهم المال وربحه. فقال عثمان: لو جعلته قراضًا. أى خذ منهم نصف الربح ففعل ورأى أن ذلك صواب. وقد جاء معاذ بن جبل من اليمن إلى أبى بكر الصديق بأعبد له أصابهم فى إمارته على اليمن، فقال له عمر: ادفع الأعبد إلى أبى بكر. فأبى معاذ من ذلك، ثم إن معاذًا رأى فى المنام كأنه واقف على نار يكاد أن يقع فيها وأن عمر أخذ بحجزته فصرفه عنها، فلما أصبح قال لعمر: ما ظنى إلا أنى أعطى الأعبد أبا بكر. فقال له: وكيف ذلك؟ قال: رأيت البارحة فى النوم رؤيا وما أظن ما أشرت به علىّ فى الأعبد إلا تأويل الرؤيا. فدفعها إلى أبو بكر، فرأى أبو بكر أن يردهم عليه فردهم عليه فكانوا عند معاذ، فاطلع معاذ يومًا فرآهم يصلون صلاة حسنة فأعتقهم. واختلف السلف فى تأويل قوله تعالى: (أكالون للسحت) [المائدة: 42] فروى عن مسروق أنه سأل ابن مسعود عن السحت أهو الرشوة فى الحكم؟ فقال عبد الله: ذلك الكفر، وقرأ عبد الله: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) [المائدة: 42] ولكن السحت أن يستعينك رجل على مظلمة إلى إمام فتعينه فيهدى لك. وقال إبراهيم النخعى: كان يقال: السحت الرشوة فى الحكم. وعن عكرمة مثله، وذكر إسماعيل بن إسحاق من حديث عبد الله بن عمر وثوبان (أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لعن الراشى والمرتشى) وفسره الحسن البصرى فقال: ليحق باطلا أو يبطل حقا، فأما أن يدفع عن ماله فلا بأس. وهذا خلاف تأويل ابن مسعود.(8/334)
59 - كِتَاب الْفَرَائِضِ
وقَوْلِ اللَّهِ عز وجل: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ) [النساء: 11] / 1 - فيه: جَابِرَ، مَرِضْتُ، فَعَادَنِى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) وَأَبُو بَكْرٍ، وَهُمَا مَاشِيَانِ، فَأَتَانِى وَقَدْ أُغْمِىَ عَلَىَّ، فَتَوَضَّأَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَصَبَّ عَلَىَّ وَضُوءَهُ، فَأَفَقْتُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ أَصْنَعُ فِى مَالِى؟ كَيْفَ أَقْضِى فِى مَالِى؟ فَلَمْ يُجِبْنِى بِشَيْءٍ حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمَوَارِيثِ) يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ) [النساء: 11] . وهذا إذا لم يكن معهم أحد من أهل الفرائض، فإذا كان معهم من له فرض معلوم بدئ بفريضته فأُعطيها، وجُعل الفاضل من المال للذكر مثل حظ الأنثيين وهذا إجماع، ودخل فى قوله تعالى: (يوصيكم الله فى أولادكم) [النساء: 11] ولد الرجل لصلبه من الذكور والإناث وولد بنيه وبنى الذين ينتسبون بآبائهم إليه من الذكور والإناث غير أنهم ينزلون على قدر القرب منه. فإن كان فى ولد الصلب ذكر لم يكن لأحد من ولد الولد شىء. وإن لم يكن فى ولد الصلب ذكر وكان فى ولد الولد بُدئ بالبنات الذين للصلب فأعطين إلى مبلغ الثلثين، ثم أعطى الثلث الباقى لولد الولد إذا استووا فى القعدد أو كان الذكر أسفل ممن فوقه من بنات البنين: (للذكر مثل حظ الأنثيين) [النساء: 11] .(8/335)
وفرض الله للبنت الواحدة النصف، وفرض لما فوق الاثنين من البنات الثلثين. قال إسماعيل بن إسحاق: ولم يذكر الاثنتين فى كتابه، فكان فى قوله تعالى: (للذكر مثل حظ الأنثيين) [النساء: 11] دليل على أنه إذا كان ذكرًا وأنثى أن للذكر الثلثين وللأنثى الثلث، فإذا وجب لها مع الذكر الثلث كان الثلث لها مع الأنثى أوكد، فاحتيج والله أعلم إلى ذكر ما فوق الاثنتين ولم يحتج إلى ذكر الاثنتين. وقوله تعالى: (ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث) [النساء: 11] فإنما يعنى بقوله: (ولأبويه (أبوى الميت لكل واحد منهما السدس سواء فيه الوالد والوالدة لا يزاد واحد منهما على السدس إن كان له ولد، ذكرًا كان الولد أو أنثى، واحدًا كان أو جماعة. فإن قيل: فيجب أن لا يزاد الوالد مع الابنة الواحدة على السدس شيئًا، وإن قلت هذا فهو خلاف الأمة لتصييرهم بقية مال الميت وهو النصف بعد أخذ الابنة نصيبها للأب. قيل: ليس الأمر كما ظننت وما زيد الأب على السدس من بقية النصف مع البنت الواحدة فإنما زيد بالتعصيب؛ لأنه أقرب عصبة الميت إليه، وكان حكم ما أبقت الفرائض فلأولى عصبة الميت وأقربهم إليه(8/336)
لسنة النبى (صلى الله عليه وسلم) وكان الأب أقرب عصبته إليه وأولاها به إذا لم يترك ابنًا ذكرًا. وقال إسماعيل بن إسحاق: ذكرت فريضة الأبوين فى القرآن إذا كان للميت ولد أو إخوة وإذا لم يكن له ولد، ولم تذكر فريضتهما إذا كان للميت زوج أو زوجة فاحتيج فى هذا الموضع إلى النظر والاعتبار، فكان وجه النظر يدل أنه يبدأ بالزوج والزوجة فيعطى كل واحد منهما فرضه المنصوص له فى القرآن وهو النصف إذا لم يكن للميتة ولد أو ولد ولد والربع للزوجة إذا لم يكن للميت ولد أو ولد ولد فيبدأ بفرض كل واحدٍ منهما على الأبوين؛ لأن الأبوين لم يُسم لهما فى هذا الموضع فرض منصوص، وإنما المنصوص لهما إذا كان مع الميت ولد أو إخوة وإذا ورثاه هما، فلما حدث معهما الزوج أو الزوجة زال الفرض المنصوص لهما، ووجب أن يبدأ بالفرض المنصوص للزوج أو الزوجة ثم ينظر إلى ما بقى؛ لأن النقيصة لما دخلت عليهما من قبل الزوج أو الزوجة وجب أن تكون داخلة عليهما على قدر حصصهما. وقوله تعالى: (فإن كان له إخوة فلأمه السدس) [النساء: 11] ، قال مالك: مضت السنة أن الإخوة اثنان فصاعدًا وعلى هذا جماعة أهل العلم. وقد روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (الاثنان فما فوقهما جماعة) وقد جاء فى لفظ القرآن لفظ الجمع للاثنين قال تعالى: (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما) [التحريم: 4] . وأجمع العلماء أن الرجل إذا توفى وترك ابنتيه أو أختيه لأبيه فلهما(8/337)
الثلثان، فإن ترك من البنات والأخوات أكثر من اثنتين لم يزدن على الثلثين فى ذلك حال الاثنتين فأكثر منهما، فدل أن الاثنين فى معنى الجماعة؛ لأن الجمع إنما سمى جمعًا؛ لأنه جمع شىء إلى شىء فإذا جمع إنسان إلى إنسان فقد جمع. دليل آخر، قوله عز وجل: (وإن كانوا إخوة رجالا ونساءً فللذكر مثل حظ الأنثيين) [النساء: 176] وقد أجمعت الأمة أن الأخ الواحد مع الأخت الواحدة للذكر مثل حظ الأنثيين فقد دخلا فى لفظ الجماعة بنص القرآن. وشذ ابن عباس فقال: الإخوة الذين عنى الله بقوله: (فإن كان له إخوة) [النساء: 176] ثلاثة فصاعدًا وكان ينكر أن يحجب الله تعالى الأم عن الثلث مع الأب بأقل من ثلاثة إخوة، فكان يقول فى أبوين وأخوين للأم الثلث وللأب ما بقى كما قال أهل العلم فى أبوين وأخ واحد. وقول جملة أهل العلم فى أبوين وأخوين للأم السدس وباقى المال للأب، ولا يوجد فى جميع الفرائض على مذهب زيد بن ثابت مسألة يحجب فيها من لا يرث غير هذه. واختلف العلماء لم نقصت الأم عن الثلث بمصير إخوة الميت معها اثنين فصاعدًا؟ فقالت طائفة: نقصت الأم وزيد الأب؛ لأن على الأب مؤنتهم وإنكاحهم دون أمهم، روى ذلك عن قتادة.(8/338)
وقالت طائفة: إنما حجب الإخوة الأم عن الثلث إلى السدس ليكون لهم دون أبيهم؛ رواه طاوس عن ابن عباس. قال الطبرى: وأولى الأقوال بالصواب أن يقال: إن الله تعالى إنما فرض للأم مع الإخوة السدس لما هو أعلم به من مصلحة خلقه، وقد يجوز أن يكون لما ألزم الآباء لأولادهم وقد يجوز لغير ذلك، وليس ذلك مما كُلفنا عمله، وإنما أُلزمنا العمل بما علمنا، وما رواه طاوس عن ابن عباس مخالف للأمة؛ لأنه لا خلاف بين الجميع أنه لا ميراث لأخ الميت مع والده فبان فساده. وقوله تعالى: (من بعد وصية يوصى بها أو دين) [النساء: 11] تأويل الكلام لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد من بعد وصية يوصى بها أو دين يقضى عنه. وأجمع العلماء على أنه لا ميراث لأحد إلا بعد قضاء الدين ولو أحاط الدين بماله كله، وإن أهل الوصايا بعد قضاء الدين شركاء الورثة فيما بقى ما لم يجاوز ذلك الثلث. وقد روى سفيان عن أبى إسحاق، عن الحارث الأعور، عن على بن أبى طالب، رضى الله عنه، قال: (إنكم تقرءون هذه الآية: (من بعد وصية يوصى بها أو دين) [النساء: 11] وإن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قضى بالدين قبل الوصية) . قال إسماعيل: وفهم بالسُنة التى مضت والمعنى أن الدين قبل الوصية؛ لأن الوصية تطوع وأما الدين فرض عليه فعلم أن الفرض أولى من التطوع.(8/339)
وقوله تعالى: (آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعًا) [النساء: 11] يعنى آباؤكم وأبناؤكم الذين أوصاكم الله تعالى بقسمة الميراث بينهم فأعطوهم حقوقهم لأنكم لا تدرون أيهم أقرب لكم فى الدين والدنيا الولد أو الوالد. وقوله تعالى: (وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس وإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء فى الثلث) [النساء: 12] . قال إسماعيل بن إسحاق: لم يختلف العلماء فى قوله تعالى: (وله أخ أو أخت (أنهم الإخوة للأم. وقال تعالى: (يستفتونك قل الله يفتيكم فى الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك (إلى) الأنثيين) [النساء: 176] . فلم يختلف العلماء فى أن هؤلاء الإخوة للأب كانت أمهم واحدة أو كانت أمهاتهم شتى، والدليل من القرآن على إبانة هؤلاء من أولئك قوله تعالى فى هؤلاء: (للذكر مثل حظ الأنثيين) [النساء: 11] إذا كانوا يأخذون بالأب وجعل لهم المال كله فى بعض الحالات، وقال فى الآخرين: فهم شركاء فى الثلث؛ فجعل الذكر والأنثى سواء إذا كانوا يأخذون بالأم خاصة فقصرهم على الثلث. قال مالك: والأمر المجمع عليه عندنا أن الإخوة للأم لا يرثون مع(8/340)
الولد ولا مع ولد الابن ذكرًا كان أو أنثى شيئًا، ولا مع الأب ولا مع الجد أب الأب شيئًا، ويرثون فيما سوى ذلك للواحد منهم السدس على ما تقدم ذكره. قال إسماعيل: وليس فى قوله تعالى: (ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد) [النساء: 12] ، وقوله: (ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد) [النساء: 12] شىء يحتاج إلى كلامه فيه إلا ما روى عن ابن عباس فى عول الفرائض أنه كان لا يقبل فريضة، ولا نعلم أحدًا من الصحابة وافق عليه وكان ينكر أن يكون جُعل فى مال نصف ونصف وثلث، وكان يرى فى مثل هذا إذا وقع أن يُعطى أولا أصحاب الفرائض ومن يزول فى حال من الحالات ويعطى الآخر ما بقى. مثال ذلك: لو توفيت امرأة وتركت زوجها وأمها وأختها لأبيها. كان يبدأ بالزوج والأم فيعطى كل واحد منهما فريضته لأنهما لا يزولان من فرض إلا إلى فرض؛ لأن الزوج إذا زال عن النصف رجع إلى الربع، وإذا زالت الأم عن الثلث رجعت إلى السدس، والأخت تزول من فرض إلى غير فرض فلا تعطى فى بعض الأحوال شيئًا فكان هذا كما وصفنا. وأما الآخرون فأشركوا بين أصحاب الفرائض كلهم وخاضوا بينهم.(8/341)
وهو الذى أجمع عليه أهل العلم؛ لأن كل واحد منهم قد فرض له فريضة، فليس يجب أن يزيله عن فريضته إلا من يحجبه عنها، وليس يجب أن يزال عن فريضته بأنها تسقط فى موضع آخر وليس يجب أن تبدى أم ولا زوج عن أخت بأنها تسقط فريضتها فى موضع آخر؛ لأن لكل واحد حكمه على جهته فلما اجتمعت الأخت والزوج والأم فى هذا الموضع وقد سمى لكل واحد منهم فريضة ولم يشترط تبدية بعضهم على بعض ولا أن بعضهم يحجب بعضًا. كان أولى الأمور أن يتحاصصوا ولو أن رجلا أوصى بنصف ماله لرجل وبنصف ماله لآخر وبثلث ماله لآخر فأجاز الورثة ذلك وجب أن يتحاصروا فى مال الميت فيضرب صاحب النصف بثلاثة أسهم، وصاحب النصف الآخر بثلاثة أسهم، وصاحب الثلث بسهمين، فإن لم يجز الورثة ذلك تحاصوا فى الثلث على هذه السهام. قال المهلب: وفى حديث جابر دليل أنه لا يجوز لأحد أن يقضى بالاجتهاد فى مسألة ما دام يجد سبيلا إلى النصوص، وكيف وجه استعمالها، ولو جاز أن يجتهد فى محضر النبى (صلى الله عليه وسلم) دون أن يشاوره لما قال له: كيف أصنع فى مالى، وكذلك لو جاز للنبى أن يجتهد رأيه فيما لم ينزل عليه فيه قرآن لأمره بما ظهر له، ولكن سكت عنه حتى يلقى الأمر من عند شارعه تعالى فهذا من أقوى شىء فى سؤال العلماء وترك الاجتهاد فى موضع يجب فيه الاقتداء بمن تقدم وبالأعلم فالأعلم.(8/342)
- باب تَعْلِيمِ الْفَرَائِضِ
وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ: تَعَلَّمُوا قَبْلَ الظَّانِّينَ، يَعْنِى الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ بِالظَّنِّ. / 2 - فيه: أَبو هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ) . قال المهلب: فهذا الظن الذى أراد عقبة ليس هو الاجتهاد على الأصول وإنما هو الظن المنهى عنه فى الكتاب والسنة مثل ما سبق إلى المسئول من غير أن يعلم أصل ما سئل عنه فى كتاب الله أو سنة نبيه (صلى الله عليه وسلم) أو أقوال أئمة الدين. وأما إذا قال وهو قد علم الأصل من هذه الثلاثة فليس بظان وإنما هو مجتهد، والاجتهاد سائغ على الأصول.
3 - باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : لا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ
/ 3 - فيه: عَائِشَةَ (أَنَّ فَاطِمَةَ وَالْعَبَّاسَ أَتَيَا إِلى أَبَا بَكْرٍ يَلْتَمِسَانِ مِيرَاثَهُمَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَهُمَا حِينَئِذٍ يَطْلُبَانِ أَرْضَيْهِمَا مِنْ فَدَكَ، وَسَهْمَهُمَا مِنْ خَيْبَرَ، فَقَالَ لَهُمَا أَبُو بَكْرٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (لا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ، إِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ مِنْ هَذَا الْمَالِ) ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لا أَدَعُ أَمْرًا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَصْنَعُهُ، فِيهِ إِلا صَنَعْتُهُ، قَالَ: فَهَجَرَتْهُ فَاطِمَةُ، فَلَمْ تُكَلِّمْهُ حَتَّى مَاتَتْ) . وذكر الحديث بطوله. / 4 - وفيه: أَبو هُرَيْرَة قال النبى، (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَقْسِم وَرَثَتِى دِينَارًا، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِى وَمَئُونَةِ عَامِلِى، فَهُوَ صَدَقَةٌ) .(8/343)
قال المؤلف: قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا نورث ما تركنا صدقة) هو فى معنى قوله: (إن آل محمد لا تحل لهم الصدقة) ووجه ذلك والله أعلم أن لما بعثه الله إلى عباده، ووعده على التبليغ لدينه والصدع بأمره الجنة، وأمره ألا يأخذ منهم على ذلك أجرًا ولا شيئًا من متاع الدنيا بقوله تعالى: (قل ما أسألكم عليه من أجر) [الفرقان: 57] وكذلك سائر الرسل فى كتاب الله كلهم تقول: لا أسألكم عليه مالا ولا أجرًا إن أجرى إلا على الله. وهو الجنة. أراد (صلى الله عليه وسلم) ألا يُنسب إليه من متاع الدنيا شىء يكون عند الناس فى معنى الأجر والثمن. فلم يحل له شىء منها؛ لأن ما وصل إلى المرء وأهله فهو واصل إليه، فلذلك والله أعلم حرم الميراث على أهله لئلا يظن به أنه جمع المال لورثته، كما حرمهم الصدقات الجارية على يديه فى الدنيا لئلا يُنسب إلى ما تبرأ منه فى الدنيا، وفى هذا وجوب قطع الذريعة. وقد روى ابن عيينة، عن أبى الزناد، عن الأعرج، عن أبى هريرة أن الرسول قال: (إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة) . فهذا عام فى جميع الأنبياء وظاهر هذا يعارض قوله تعالى: (وورث سليمان داود) [النمل: 16] قيل: لا معارضة بينهما بحمد الله؛ لأن أهل التأويل قالوا: ورث منه النبوة والعلم والحكمة. وكذلك قالوا فى تأويل قوله تعالى: (وإنى خفت الموالى من(8/344)
ورائى) [مريم: 5] الآية فدعا زكريا الله أن يهب له ولدًا يرث النبوة والعلم؛ لأن ذلك إذا صار إلى ولده لحقه من الفضل أكثر مما يلحقه إذا صار ذلك لغير ولده لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن الرجل ليرفع بدعاء ولده من بعده) فرغب زكريا أن يرث علمه ولده الذى يخرج من صلبه، فيكون تقدير الآية على هذا: وإنى خفت الموالى من ورائى هم بنو العم والعصبة، أن يصير إليهم العلم والحكمة من بعدى، ومصير ذلك إلى ولدى أحب إلىّ، فأضمر ذلك. وقال أبو على الفسوى فى قوله تعالى: (وإنى خفت الموالى من ورائى) [مريم: 5] فإن الخوف لا يكون من الأعيان وإنما يكون مما يئول منها، فإذا قال القائل: خفت الله وخفت الناس فالمعنى فى ذلك خفت عقاب الله ومؤاخذته، وخفت ملامة الناس، فكذلك قوله تعالى: (خفت الموالى (أى خفت بنى عمى فحذف المضاف والمعنى: خفت تضييعهم الدين وكيدهم إياه، فسأل ربه وليا يرث نبوته وعلمه لئلا يضيع الدين. ويقوى ذلك ما روى عن الحسن البصرى أنه قال: (يرثنى (يعنى: يرث نبوتى. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة) ، يدل على أن الذى سأل ربه أن يرث ولده النبوة لا المال، ولا يجوز على النبى (صلى الله عليه وسلم) أن يقول أخاف يرثنى بنو عمى وعصبتى ما فرض الله لهم من مالى، وكان الذى حملهم على ذلك ما شاهدوه من تبديلهم الدين وقتلهم الأنبياء، وقد تقدم سائر معانى هذه الأخبار فى كتاب الخمس.(8/345)
4 - باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) مَنْ تَرَكَ مَالا فَلأهْلِهِ
/ 5 - فيه: أَبو هُرَيْرَة، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً، فَعَلَيْنَا قَضَاؤُهُ، وَمَنْ تَرَكَ مَالا فَلِوَرَثَتِهِ) . أجمعت الأمة أن من ترك مالا فهو لورثته، واختلفوا فى معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من مات وعليه دين فعلىّ قضاؤه) . قال المهلب: هذا إنما هو على الوعد من النبى (صلى الله عليه وسلم) لما كان وعده الله به من الفتوحات من ملك كسرى وقيصر، وليس على الضمان والحمالة بدليل تأخره عن الصلاة على من مات وعليه دين حتى ضمنه من حضره. وقال غيره: هذا الحديث ناسخ لتركه الصلاة على من مات وعليه دين، وقوله: (فعلىَّ قضاؤه) على الضمان اللازم، وقد تقدم هذا المعنى فى كتاب الكفالة.
5 - باب مِيرَاثِ الْوَلَدِ مِنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: إِذَا تَرَكَ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ بِنْتًا فَلَهَا النِّصْفُ، وَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَلَهُنَّ الثُّلُثَانِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُنَّ ذَكَرٌ بُدِئَ بِمَنْ شَرِكَهُمْ، فَيُعْطَى فَرِيضَتَهُ، فَمَا بَقِىَ فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ. / 6 - فيه: ابْنِ عَبَّاس، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِىَ فَهُوَ لأوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ) . أما قول زيد: إذا ترك بنتًا فلها النصف فإجماع من(8/346)
العلماء، إلا من يقول بالرد. وقوله: وإن كانتا اثنتين أو أكثر. فإجماع أيضًا إلا من يقول بالرد. وقوله: إن كان معهن ذكر. يريد إن كان مع البنات ابن المتوفى ذكر أخ لهن، وكان معهم غيرهم ممن له فرض مسمى ولذلك قال شركهم ولم يقل شركهن؛ لأنه أراد الابن والبنات، مثال ذلك: رجل توفى عن بنات وابن وزوج وأب أو جد إن لم يكن أبًا أو جده فإن هؤلاء يعطون فرائضهم؛ لأنه لا يحجب واحد منهم بالبنين، ويكون ما بقى بين البنات والابن للذكر مثل حظ الأنثيين، فهذا تفسير هذا الباب، وهو تأويل قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ألحقوا الفرائض بأهلها) أى أعطوا كل ذى فرض فرضه وما بقى فلمن لا فرض له؛ لأنهم عصبة والبنات مع أخيهن لا فرض لهن معه، وهن معه عصبة من أجله. وأما قوله: (فلأولى رجل ذكر) يريد إذا كان فى الذكور من هو أولى من صاحبه بقرب أو ببطن، وأما إن استووا فى القعدد وأدلوا بالآباء والأمهات معًا كالإخوة وشبههم فلم يقصدوا بهذا الحديث؛ لأنه ليس فى البنين من هو أولى من غيره؛ لأنهم قد استووا فى المنزلة ولا يجوز أن يقال أولى وهم سواء فلم يرد البنين بهذا الحديث وإنما أريد غيرهم على ما يأتى إن شاء الله. وقوله: يبدأ بمن شركهم. إنما يصح هذا إذا لم تضق الفريضة، وأما إذا ضاقت فلا يبدأ بأحدٍ قبل صاحبه؛ لأن العول يعمهم.(8/347)
6 - باب مِيرَاثِ الْبَنَاتِ
/ 7 - فيه: سَعْد، قَالَ: مَرِضْتُ بِمَكَّةَ مَرَضًا، أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ، فَأَتَانِى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَعُودُنِى، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِى مَالا كَثِيرًا، وَلَيْسَ يَرِثُنِى إِلا ابْنَتِى، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَىْ مَالِى؟ قَالَ: لا. . . الحديث. / 8 - وفيه: الأسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، أَتَانَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ بِالْيَمَنِ مُعَلِّمًا، وَأَمِيرًا، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ رَجُلٍ تُوُفِّىَ وَتَرَكَ ابْنَتَهُ وَأُخْتَهُ، فَأَعْطَى الابْنَةَ النِّصْفَ، وَالأخْتَ النِّصْفَ. أجمع العلماء أن ميراث الابنة النصف لقوله تعالى: (وإن كانت واحدة فلها النصف) [النساء: 11] . وأجمعوا أن للأخت النصف لقوله تعالى: (إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك) [النساء: 176] فجعلها كالابنة. فإن قيل: إن الله تعالى نص على الأختين أن لهما الثلثين بقوله تعالى: (فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك) [النساء: 11] ولم ينص على الابنتين، إنما ذكر أكثر من اثنتين. قيل: لما أعطى الله للابنة النصف وللأخت النصف، ونص على الأختين أن لهما الثلثين فاستغنى بذكر الأختين عن ذكر البنتين؛ لأنه لما كانت الواحدة كالبنت كانت البنتان كالأختين بل البنتان أحرى بذلك لقربهما، وأن البنات يقدمن على الأخوات فى مواضع شتى فاستحال أن تكون الأختان أكثر ميراثًا من البنتين. وأما قول سعد: إنه لا يرثنى إلا ابنة لى. كأنه أراد أن يعطى من(8/348)
ماله ما فضل عن ميراث ابنته فأعلمه (صلى الله عليه وسلم) أنه لا يجوز لمعطٍ أن يعطى من ماله بعد موته أكثر من ثلثه كان له من يحيط بماله أم لا. وهذه حجة لزيد بن ثابت فى قوله: إن بيت المال عصبة من لا عصبة له. وهو قول مالك والشافعى، وهو خلاف مذهب أهل الرد. وأمَّا قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إنك إن تذر ورثتك أغنياء) بعد قول سعد: إنه لا يرثنى إلا ابنة لى، فدل فحوى قوله أن سعدًا لا يموت حتى يكون له ورثة جماعة، وأنه لا يموت من علته تلك، فكان كما دل عليه فحوى خطابه (صلى الله عليه وسلم) ولم يمت سعد إلا عن بنين عدة، كلهم وُلِدَ بعد ذلك المرض، وهذا من أعلام نبوته (صلى الله عليه وسلم) .
7 - باب مِيرَاثِ ابْنِ الابْنِ، إِذَا لَمْ يَكُنِ لَهُ ابْنٌ
وَقَالَ زَيْدٌ: وَلَدُ الأبْنَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ دُونَهُمْ وَلَدٌ، ذَكَرُهُمْ كَذَكَرِهِمْ، وَأُنْثَاهُمْ كَأُنْثَاهُمْ، يَرِثُونَ كَمَا يَرِثُونَ، وَيَحْجُبُونَ كَمَا يَحْجُبُونَ، وَلا يَرِثُ وَلَدُ الابْنِ مَعَ الابْنِ. / 9 - فيه: ابْنِ عَبَّاس، قَالَ: (صلى الله عليه وسلم) : (أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِىَ فَهُوَ لأوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ) . قول زيد هذا إجماع، وأما قوله: (ألحقوا الفرائض بأهلها) فإنه يريد إذا توفيت امرأة عن زوج وأب وبنت وابن ابن وبنت ابن فإن الفرائض هاهنا أن يبدأ الزوج بالربع، وللأب السدس، وللبنت النصف وما بقى فلابن الابن مع بنات الابن إن كن معه فى درجة واحدة أو كان أسفل منهن، فإن كن أسفل منه فالباقى له دونهن، وهذا قول مالك والشافعى وأكثر الفقهاء.(8/349)
ومنهم من يقول: الباقى لابن الابن دون بنات الابن وسواء كن معه فى قُعدد واحد أو أرفع منه لا شىء لهن لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (فما بقى فلأولى رجل ذكر) على ظاهر هذا الحديث. وقيل: يرد على من معه ولا يرد على من فوقه. وأماحجة زيد ومن ذهب مذهبه ممن يقول لأولى رجل ذكر مع إخوته فظاهر قول الله تعالى: (يوصيكم الله فى أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) [النساء: 11] وأجمعوا أن بنى البنين عند عدم البنين إذا استووا فى القعدد ذكرهم كذكرهم وأنثاهم كأنثاهم. وكذلك إذا اختلفوا فى القعدد لا يضرهم؛ لأنهم كلهم بنو بنين يقع عليهم اسم أولاد، فالمال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين إلا ما أجمعوا عليه من الأعلى من بنى البنين الذكور يحجب من تحته من ذكر وأنثى.
8 - باب مِيرَاثِ ابْنَةِ الابْنِ مَعَ الابنة
/ 10 - فيه: أَبُو مُوسَى أنه سُئِلَ عَنْ ابنة، وَابْنَةِ ابْنٍ، وَأُخْتٍ، فَقَالَ: لِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَلِلأخْتِ النِّصْفُ، وَأْتِ ابْنَ مَسْعُودٍ فَسَيُتَابِعُنِى، فَسُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأُخْبِرَ بِقَوْلِ أَبِى مُوسَى، فَقَالَ: لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذًا، وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ، أَقْضِى فِيهَا بِمَا قَضَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : لِلابْنَةِ النِّصْفُ، وَلابْنَةِ الاْبَنٍ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ، وَمَا بَقِىَ فَلِلأخْتِ، فَأَتَيْنَا أَبَا مُوسَى، فَأَخْبَرْنَاهُ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: لا تَسْأَلُونِى مَا دَامَ هَذَا الْحَبْرُ فِيكُمْ. لا خلاف بين الفقهاء وأهل الفرائض فى ميراث ابنة الابن مع الابنة، فأبو موسى قد رجع إذ خُصم بالسنة.(8/350)
وفيه: أن العالم قد يقول فيما يسأل عنه وإن لم يحط بالسنن ولو لم يقل العالم حتى يحيط بالسنن ما تكلم أحد فى الفقه. وفيه: أن الحجة عند التنازع إلى سنة النبى (صلى الله عليه وسلم) وأنه ينبغى للعالم الانقياد إليها، وأن صاحبها حبر ألا ترى شهادة أبى موسى لابن مسعود لما خصمه بالسنة أنه حبر. وفيه: ما كانوا عليه من الإنصاف والاعتراف بالحق لأهله وشهادة بعضهم لبعض بالعلم والفضل.
9 - باب مِيرَاثِ الْجَدِّ مَعَ الأبِ وَالإخْوَةِ
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ: الْجَدُّ أَبٌ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (يَا بَنِى آدَمَ) [الأعراف: 26] ،) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ) [يوسف: 38] . وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ أَحَدًا خَالَفَ أَبَا بَكْرٍ فِى زَمَانِهِ، وَأَصْحَابُ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) مُتَوَافِرُونَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَرِثُنِى ابْنُ ابْنِى دُونَ إِخْوَتِى، وَلا أَرِثُ أَنَا ابْنَ ابْنِى دُونَ إِخْوَتِهِ. وَيُذْكَرُ عَنْ عُمَرَ وَعَلِىٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدٍ أَقَاوِيلُ مُخْتَلِفَةٌ. / 11 - فيه: ابْنِ عَبَّاس، قَالَ النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِىَ فَلأوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ) . / 12 - وفيه: ابْنِ عَبَّاس، قَالَ: (أَمَّا الَّذِى قَالَ النبى، (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ هَذِهِ الأمَّةِ خَلِيلا لاتَّخَذْتُهُ، وَلَكِنْ خُلَّةُ الإسْلامِ أَفْضَلُ) ، أَوْ قَالَ: (خَيْرٌ) ، فَإِنَّهُ أَنْزَلَهُ أَبًا، أَوْ قَضَاهُ أَبًا) .(8/351)
أجمع العلماء على أن الجد لا يرث مع الأب، وأن الأب يحجبُ أباه، واختلفوا فى ميراث الجد مع الإخوة للأب والأم أو للأب، فكان أبو بكر الصديق وابن عباس وابن الزبير وعائشة ومُعاذ ابن جبل وأبى بن كعب وأبو الدرداء وأبو هريرة يقولون: الجد أب عند عدم الأب كالأب سواء يحجبون به الإخوة كلهم، ولا يورثون مع الجد أحدًا من الإخوة شيئًا، وقاله عطاء وطاوس والحسن وإليه ذهب أبو حنيفة وأبو ثور وإسحاق. وذهب على بن أبى طالب وزيد بن ثابت وابن مسعود إلى توريث الإخوة مع الجد إلا أنهم اختلفوا فى كيفية ميراثهم معه كان معهم ذو فرض مسمى أم لا. فذهب زيد إلى أنه لا ينقص الجد مع الثلث مع الإخوة للأب والأم أو للأب إلا مع ذوى الفروض، فإنه لا ينقصه معهم من السدس شيئًا، وهذا قول مالك والثورى والأوزاعى وأبى يوسف ومحمد والشافعى. وقد روى عن ابن مسعود مثل قول على، وكان على يشرك بين الجد والإخوة ولا ينقصه من السدس شيئًا مع ذوى الفروض وغيرهم وهو قول ابن أبى ليلى وطائفة. واختلف عن ابن مسعود فروى عنه مثل قول زيد. والحجة لقول الصديق قوله تعالى: (ملة أبيكم إبراهيم) [الحج: 78] فسماه أبًا وهو الجد، وقال تعالى: (واتبعت ملة آبائى إبراهيم وإسحاق) [يوسف: 38] فسماهما آباء وهم جدود له.(8/352)
وقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أنا ابن عبد المطلب) وإنما هو ابن ابنه، وأجمع العلماء أن حكم الجد حكم الأب فى غير موضع، من ذلك إجماعهم أن الجد يحجب الإخوة من الأم كما حجبهم الأب. فالقياس أن يحجب الإخوة للأب والأم إذا كان أبًا كما حجب الإخوة للأم. وأجمعوا أن الجد يضرب مع أصحاب الفرائض بالسدس كما يضرب الأب، وإن عالت الفريضة، وللأب مع ابن الابن السدس، وكذلك للجد معه مثل ما للأب. وقال تعالى: (ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد) [النساء: 11] ومن المحال أن يكون له ولد ولا يكون له والدًا. واحتجوا بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (وما بقى فهو لأولى رجل ذكر) لأن رجلا لو توفى وترك بنتًا أو ابنتين وجَدا وإخوة فألحقنا البنت أو البنتين بفرائضهن وكان ما بقى للجد وهو أولى رجل ذكر بقى. واحتج من ورَّث الأخ مع الجد بهذا الحديث، وأيضًا فقالوا: الأخ أولى؛ لأنه أقرب إلى الميت بدليل أنه ينفرد بالولاء لقربه، وأيضًا فإن الأخ يقول أنا أقوى من الجد؛ لأنى أقوم مقام الولد فى حجب الأم من الثلث إلى السدس، وليس كذلك الجد فوجب ألا يحجبنى كما لا يحجب الولد، والجد إنما يُدلى بالميت وهو أبو أبيه، والأخ يدلى بالميت وهو ابن أبيه، والابن من جهة المواريث أقوى من الأب؛ لأن الابن ينفرد بالمال ويرده إلى السدس، والأب لا يفعل ذلك بالابن، فكان من أدلى بالأقوى أولى ممن أدلى بالأضعف.(8/353)
- باب مِيرَاثِ الزَّوْجِ مَعَ الْوَلَدِ وَغَيْرِهِ
/ 13 - فيه: ابْنِ عَبَّاس، قَالَ: كَانَ الْمَالُ لِلْوَلَدِ، وَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ، فَنَسَخَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ، فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ، وَجَعَلَ لِلأبَوَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ، وَجَعَلَ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنَ وَالرُّبُعَ، وَلِلزَّوْجِ الشَّطْرَ وَالرُّبُعَ. قال المؤلف: هذا إجماع لا خلاف فيه أن للزوج إذا لم يكن للزوجة ولد منه ولا من غيره النصف، فإن كان لها ولد منه أو من غيره فالربع فرضه لا ينقص منه، وكذلك ميراث الزوجة من زوجها إذا لم يكن له ولد منها أو من غيرها الربع، فإن كان له ولد فلها الثمن.
- باب مِيرَاثِ الْمَرْأَةِ وَالزَّوْجِ مَعَ الْوَلَدِ وَغَيْرِهِ
/ 14 - فيه: أَبُو هُرَيْرَة، قَالَ: قَضَى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) فِى جَنِينِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِى لَحْيَانَ سَقَطَ مَيِّتًا بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ، ثُمَّ إِنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِى قَضَى لَهَا بِالْغُرَّةِ، تُوُفِّيَتْ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِأَنَّ مِيرَاثَهَا لِبَنِيهَا وَزَوْجِهَا، وَأَنَّ الْعَقْلَ عَلَى عَصَبَتِهَا. قال المؤلف: ليس فيه أكثر من أن الزوج يرث مع البنين وأن البنين يرثون مع الزوج وهذا لا خلاف فيه، وليس فيه مقدار ميراث الزوج والمرأة مع الولد وذلك معلوم بنص القرآن فى قوله تعالى: (ولكم نصف ما ترك أزواجكم) [النساء: 12] الآية.(8/354)
- باب مِيرَاثُ الأخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ عَصَبَةٌ
/ 15 - فيه: الأسْوَدِ، قَالَ: قَضَى فِينَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بالنِّصْفِ لِلابْنَةِ وَالنِّصْفُ لِلأخْتِ. ثُمَّ قَالَ سُلَيْمَانُ: قَضَى فِينَا، وَلَمْ يَذْكُرْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . / 16 - وفيه: عَبْدُاللَّهِ، قَالَ: لأقْضِيَنَّ فِيهَا بِقَضَاءِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، أَوْ قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (للابْنَةِ النِّصْفُ، وَلابْنَةِ الابْنِ السُّدُسُ، وَمَا بَقِىَ فَلِلأخْتِ) . وفى حديث ابن مسعود بيان ما عليه جماعة العلماء إلا ما شذ فى أن الأخوات عصبة للبنات يرثون ما فضل عن البنات. مثال ذلك: رجل توفى عن ابنة وأخت فللابنة النصف، وللأخت ما بقى، وكذلك إن توفى عن بنتين كان لهما الثلثان وللأخت الثلث الباقى، وكذلك إن توفى عن بنت وبنت ابن وأخت، كان للبنت النصف ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين؛ إذ لا يرث البنات وإن كثرن أكثر من الثلثين، وللأخت أو الأخوات وإن كثرن مابقى بعد البنات. هذا قول جماعة الصحابة غير ابن عباس فإنه كان يقول: إن للابنة النصف وليس للأخت شىء وما بقى فهو للعصبة، وكذلك ليس للأخت شىء مع البنت وبنت الابن، وما فضل عن البنت وبنت الابن لم يكن للأخت وكان للعصبة عند ابن عباس وإن لم يكن عصبة رد الفضل على البنت أو البنات، ولم يوافق ابن عباس أحد على مذهبه فى هذا الباب إلا أهل الظاهر فإنهم احتجوا بقوله تعالى: (إن امرؤ(8/355)
هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك) [النساء: 176] فلم يورث الأخت إلا إذا لم يكن للميت ولد. قالوا: ومعلوم أن الابنة مع الولد فوجب ألا ترث الأخت مع وجودها كما لا ترث مع وجود الابن. وحجة الجماعة السنة الثابتة من حديث ابن مسعود، ولا مدخل للنظر مع وجود الخبر، فكيف وجماعة الصحابة يقولون بحديث ابن مسعود ولا حجة لأحد خالف السنة. وحجة الجماعة من جهة النظر أن شرط عدم الولد فى قوله تعالى: (إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت) [النساء: 176] إنما يجعل شرطًا فى فرضها الذى تقاسم به الورثة ولم يجعل فرضا فى توريثها، فإذا عدم الشرط سقط الفرض ولم يمنع ذلك أن ترث بمعنى آخر كما شرط فى ميراث الأخ لأخته عندعدم الولد لقوله: (وهو يرثها إن لم يكن لها ولد) [النساء: 176] جعل ذلك شرطًا فى ميراث الأخ لما جعله شرطًا فى ميراث الأخت. وقد أجمعت الجماعة أن الأخ يرثها مع البنت وإن كان الشرط معدومًا كما شرط فى ميراث الزوج النصف إذا لم يكن لها ولد ولم يمنع ذلك أن يأخذ النصف مع البنت بالفرض والنصف بالتعصيب إن كان عصبة لامرأته.(8/356)
- باب مِيرَاثِ الإخْوَةِ والأخَوَاتِ
/ 17 - فيه: جَابِر، دَخَلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَىَّ وَأَنَا مَرِيضٌ، فَدَعَا بِوَضُوءٍ، فَتَوَضَّأَ ثُمَّ نَضَحَ عَلَىَّ مِنْ وَضُوئِهِ، فَأَفَقْتُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا لِى أَخَوَاتٌ، فَنَزَلَتْ آيَةُ الْفَرَائِضِ. ليس فى هذا الحديث أكثر من أن الأخوات يرثن. وأجمع العلماء أن الإخوة والأخوات من الأب والأم أو من الأب ذكورًا كانوا أو إناثًا لا يرثون مع ابن ولا مع ابن ابن وإن سفل ولا مع الأب. واختلفوا فى ميراث الأخوات مع الجد على ما ذكرناه فى باب ميراث الجد من اختلافهم فى ميراث الإخوة مع الجد. فمن ورثهن مع الجد جعل الجد أخًا وأعطاه مثل ما أعطى الأختين ومن لم يورثهن معه وجعله أبًا حجبهن به. وهو مذهب الصديق وابن عباس وجماعة، ويرثن فيما عدا الجد والأب والابن للواحدة النصف وللاثنتين فصاعدًا الثلثان إلا فى المشتركة وهى امرأة توفيت وتركت زوجها وأمها وأخوتها لأمها وإخوتها لأبيها وأمها فلزوجها النصف ولأمها السدس ولإخواتها لأمها الثلث فلم يفضل شىء، فشرك بنو الأب والأم مع بنى الأم فى الثلث) للذكر مثل حظ الأنثيين (من أجل أنهم كلهم إخوة المتوفى لأمه، وإنما ورثوا بالأم لقوله تعالى: (وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء فى الثلث) [النساء: 12] فلذلك شركوا فى هذه الفريضة.(8/357)
وقد اختلفت الصحابة فى هذه المسألة فروى عن عمر وعثمان وزيد أنهم قالوا بالتشريك وهو قول مالك والثورى والشافعى وإسحاق. وروى عن على وأبى بن كعب وابن مسعود وأبى موسى الأشعرى أنهم لا يشركون الأخ للأب والأم مع الإخوة للأم؛ لأنه عصبة وقد اغترقت الفرائض المال ولم يبق منه شىء وإلى هذا ذهب ابن أبى ليلى وطائفة من الكوفيين.
- باب قوله تعالى: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلالَةِ) [النساء: 176] إلى آخر السورة
(1) / 18 - فيه: الْبَرَاءِ، آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ خَاتِمَةُ سُورَةِ النِّسَاءِ: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلالَةِ (. اختلف العلماء فى معنى الكلالة، فقالت طائفة: هى من لا ولد له ولا والد، وهذا قول أبى بكر الصديق، وعمر، وعلى، وزيد، وابن مسعود، وابن عباس، وعليه أكثر التابعين وهو قول الفقهاء بالحجاز والعراق. وقالت طائفة: الكلالة من لا ولد له خاصة، روى هذا عن ابن عباس. وقال آخرون: الكلالة ما خلا الوالد رواه شعبة عن الحكم بن عتبة. وقال آخرون: الكلالة الميت بعينه سمى بذلك إذا ورثه غير والده وولده. وقال آخرون: الكلالة الذين يرثون الميت إذا لم يكن فيهم والد ولا ولد. وقال آخرون: الكلالة الحى والميت جميعًا. عن ابن زيد. واختار(8/358)
الطبرى أنها ورثة الميت دون الميت، واحتج بحديث جابر أنه قال: (يا رسول الله، إنما يرثنى كلالة فكيف بالميراث؟) وبحديث سعد أنه قال: (يا رسول الله: ليس لى وارث إلا كلالة أفأوصى بمالى كله؟ فقال: لا) . وأجمع العلماء أن الإخوة المذكورين فى هذه الآية فى الكلالة هم الإخوة للأب والأم أو للأب عند عدم الذين للأب والأم لإعطائهم فيها الأخت النصف وللأختين فصاعدًا الثلثين وللإخوة الرجال والنساء للذكر مثل حظ الأنثيين؛ لأنه لا خلاف أن ميراث الإخوة للأم ليس هكذا وأنهم شركاء فى الثلث الذكر والأنثى فيه سواء. وإجماعهم فى الكلالة التى فى أول السورة أن الإخوة فيها للأم خاصة؛ لأن فريضة كل واحد منهما السدس، ولا خلاف أن ميراث الإخوة للأب والأم ليس كذلك.
- باب ابْنَىْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِلأمِّ وَالآخَرُ زَوْجٌ
قَالَ عَلِىٌّ: لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلأخِ مِنَ الأمِّ السُّدُسُ، وَمَا بَقِىَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ. / 19 - فيه: أَبُو هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ مَاتَ وَتَرَكَ مَالا، فَمَالُهُ لِمَوَالِى الْعَصَبَةِ، وَمَنْ تَرَكَ كَلا أَوْ ضَيَاعًا، فَأَنَا وَلِيُّهُ، فَلأدْعَى لَهُ) الْكَلُّ: الْعِيَالُ. / 20 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا تَرَكَتِ الْفَرَائِضُ، فَلأوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ) . مثال هذه المسألة امرأة لها ابنا عم أحدهما أخوها لأمها والثانى(8/359)
زوجها. اختلف العلماء فيها كقول على بن أبى طالب زيد بن ثابت وهو قول المدنيين والثورى وأحمد وإسحاق. وقال عمر وابن مسعود: جميع المال للذى جمع القرابتين لأنهما قالا فى ابنى عم أحدهما أخ أم أن الأخ للأم أحق بالمال له السدس بالفرض وباقى المال بالتعصيب، وهو قول الحسن البصرى وإليه ذهب أبو ثور وأهل الظاهر، واحتجوا بالإجماع فى أخوين أحدهما لأب وأم والآخر لأب أن المال للأخ للأب والأم؛ لأنه أقرب بأم فكذلك ابنا عم إذا كان أحدهما أخا لأم فالمال له قياسًا على ما أجمعوا عليه من الأخوين. عن ابن المنذر. وحجة أهل المقالة الأولى أن أحدهما ينفرد بكونه أخًا لأم فوجب أن يأخذ نصيبه ثم يساوى بينه وبين من يشاركه فى قرابته ويساويه فى درجته. وإلى هذا ذهب البخارى واستدل عليه بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (فماله لموالى العصبة) وهم بنو العم. وكذلك قال أهل التأويل فى قوله تعالى: (وإنى خفت الموالى من ورائى) [مريم: 5] أنهم بنو العم فسوى بينهم (صلى الله عليه وسلم) فى الميراث ولم يجعل بعضهم أولى من بعض، وكذلك قوله: (ألحقوا الفرائض بأهلها) أى أعطوا الزوج فريضته (وما تركت الفرائض فلأولى رجل ذكر) .(8/360)
ولما لم يكن الزوج أولى من ابن عمه الذى هو أخ الأم أو هو فى قعدده اقتسما ما بقى؛ لأنه ليس بأولى منه فينفرد بالمال. فإن احتجوا بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (فما أبقت الفرائض فهو لأولى رجل ذكر) فهو دليلنا والباقى بعد السدس قد استوى بعصبتهما فيه إذ وجد فى كل واحد منهما الذكورية والتعصيب، وقد أجمعوا فى ثلاثة إخوة للأم أحدهم ابن عم أن للثلاثة الإخوة الثلث، والباقى لابن العم ومعلوم أن ابن العم قد اجتمعت فيه القرابتان. وقوله: (فللأدعى له) إعرابها: فللأدع له؛ لأنها لام الأمر والأغلب من أمرها إذا اتصل بها واو أو فاء الإسكان، ويجوز كسرها وهو الأصل فى لام الأمر أن تكون مكسورة كقوله تعالى: (وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق) [الحج: 29] بكسر اللام وإسكانها وثبات الألف بعد العين فى موضع الجزم والوقف يجوز تشبيهًا لها بالياء والواو أحدهما كما قال: ألم يأتيك والأنباء تنمى وكما قال: لم يهجو ولم يدع وقال فى الألف: إذا العجوز عضبت فطلق ولا ترضاها ولا تملق وكما قال: وتضحك منى شيخة عبشمية كأن لم تر قبلى أسيرًا يمانيًا وكان القياس ترضها، ولم يرو معنى قوله (فلأدع) له أى فادعونى له حتى أقوم بكلِّه وضياعه.(8/361)
- باب ذَوِى الأرْحَامِ
/ 21 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: (وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِىَ مما ترك الوالدن والأقربون وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ) [النساء: 33] قَالَ: كَانَ الْمُهَاجِرُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَرِثُ الأنْصَارِىُّ الْمُهَاجِرِىَّ دُونَ ذَوِى رَحِمِهِ؛ لِلأخُوَّةِ الَّتِى آخَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: (وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِىَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ (، قَالَ نَسَخَتْهَا: (وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ (. قال المؤلف: هكذا وقع فى جميع النسخ فلما نزلت: (ولكل جعلنا موالى (نسختها) والذين عاقدت أيمانكم (والصواب أن المنسوخة) والذين عاقدت أيمانكم (وقد بين ذلك الطبرى فى روايته. قال: حدثنا أبو أسامة، قال: حدثنا إدريس بن زيد، قال: حدثنا طلحة بن مصرف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس فى قوله تعالى: (والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم (قال: كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث الأنصارى المهاجرى دون ذوى رحمه للأخوة التى آخاها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بينهم فلما نزلت هذه الآية) ولكل جعلنا موالى (نسخت. فدلت هذه الرواية أن الآية الناسخة) ولكل جعلنا موالى (والمنسوخة) والذين عاقدت أيمانكم (. وروى عن جمهور السلف أن الآية الناسخة لقوله: (والذين عاقدت أيمانكم (قوله تعالى فى الأنفال: (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض فى كتاب الله) [الأنفال: 75] روى هذا عن ابن عباس وقتادة والحسن البصرى وهو الذى أثبت أبو عبيد فى كتاب الناسخ والمنسوخ.(8/362)
وفيها قول آخر روى الزهرى، عن سعيد بن المسيب قال: أمر الله الذين تبنوا غير أبنائهم فى الجاهلية وورثهم فى الإسلام أن يجعلوا لهم نصيبًا فى الوصية ورد الميراث إلى ذووى الرحم والعصبة. وقالت طائفة: قوله: (والذين عاقدت أيمانكم (محكمة وليست منسوخة، وإنما أمر الله المؤمنين أن يعطى الحلفاء أنصباءهم من النصرة والنصيحة وما أشبه ذلك دون الميراث، ذكره الطبرى عن ابن عباس) والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم (من النصر والنصيحة والرفادة ويوصى لهم وقد ذهب الميراث وهو قول مجاهد والسدى. وقد اختلف السلف ومن بعدهم فى توريث ذوى الأرحام وهم من لا سهم له فى الكتاب والسنة من قرابة الميت، وليس بعصبة كأولاد البنات وأولاد الأخوات، وأولاد الإخوة للأم، وبنات الأخ، والعمة، والخالة، وعمة الأب، والعم أخى الأب لأمه، والجد أبى الأم، والجدة أم أبى الأم، ومن أدلى بهم. فقالت طائفة: إذا لم يكن للميت وارث له فرض مسمى فماله لموالى العتاقة الذين أعتقوه، فإن لم يكن موالى عتاقه فماله لبيت مال المسلمين ولا يرث من لا فرض له من ذوى الأرحام، روى هذا عن أبى بكر الصديق وزيد بن ثابت وابن عمر، ورواية عن على وهو قول أهل المدينة والزهرى وأبى الزناد وربيعة ومالك، وروى عن مكحول والأوزاعى وبه قال الشافعى.(8/363)
وكان عمر بن الخطاب وابن مسعود وابن عباس ومعاذ وأبو الدرداء يورثون ذوى الأرحام ولا يعطون الولاء مع الرحم شيئًا. واختلف فى ذلك عن على، وبتوريث ذوى الأرحام قال ابن أبى ليلى والنخعى وعطاء وجماعة من التابعين، وهو قول الكوفيين وأحمد وإسحاق. واحتجوا بقوله تعالى: (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض) [الأنفال: 75] وقالوا: قد اجتمع فى ذوى الأرحام سببان: القرابة والإسلام فهو أولى ممن له سبب واحد وهو الإسلام، وقاسوا ابنة الابن على الجدة التى وردت فيها السنة؛ لأن كل واحد يدلى بأبى وارثة. وحجة من لم يورث ذوى الأرحام أن الله قد نسخ الموارثة بالحلف والمؤاخاة والهجرة بقوله: (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض) [الأنفال: 75] . وإنما عنى بهذه الآية من ذوى الأرحام من ذكرهم فى كتابه من أهل الفرائض المسماة لا جميع ذوى الأرحام؛ لأن هذه الآية مجملة جامعة، والظاهر لكل ذى رحم قرب أم بعد، وآيات المواريث مفسرة والمفسر قاض على المجمل ومبين له فلا يرث من ذوى الأرحام إلا من ذكر الله فى آيات المواريث. قالوا: وقد جعل النبى (صلى الله عليه وسلم) الولاء نسبًا ثابتًا أقام الولاء مقام العصبة فقال: (الولاء لمن أعتق) ونهى عن بيع الولاء وهبته. وأجمعت الأمة أن الولى المعتق يعقل عن مولاهُ الجنايات التى تحملها العاقلة فأقاموه مقام العصبة، فثبت بذلك أن لحكم(8/364)
المولى حكم ابن العم والرجل من العشيرة فكان أحق بالميراث من ذوى الأرحام الذين ليسوا بعصبة ولا أصحاب فرائض؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (من ترك مالا فلعصبته) . وأجمعوا أن ما فضل من المال عن أصحاب الفرائض فهو للعصبة وأن من لا سهم له فى كتاب الله من ذوى الأرحام لا ميراث له مع العصبة، ثم حكموا للمولى بحكم العصبة فثبت بذلك أن ما فضل أصحابه عن الفرائض يكون له؛ لأنه عصبة. وأجمعت الأمة أن الميت إذا ترك مولاه الذى أعتقه ولم يخلف ذا رحم أن الميراث له فأقاموه مقام العصبة فصار هذا أصلا متفقًا عليه. واختلفوا فى توريث من لا سهم له فى كتاب الله وليس بعصبة من ذوى الأرحام فيكتفى بما أجمع عليه أولى مما اختلف فيه. عن ابن المنذر.
- باب مِيرَاثِ الْمُلاعَنَةِ
/ 22 - فيه: ابْنِ عُمَر: أَنَّ رَجُلا لاعَنَ امْرَأَتَهُ فِى زَمَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا، فَفَرَّقَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بَيْنَهُمَا، وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْمَرْأَةِ. قال ابن المنذر: لما ألحق النبى (صلى الله عليه وسلم) ابن الملاعنة بأمه ونفاه عن أبيه ثبت ألا عصبة له ولا وارث من قبل أبيه. قال غيره: فإذا توفى ابن الملاعنة فلا يرثه إلا أمه وإخوته لأمه خاصة، فإن فضل من المال شىء كان لموالى أمه إن كانت معتقة لقوم، وكذلك لو كانت وحدها أخذت الثلث وما بقى لمواليها ولا يكون لبيت المال شىء، وإن كانت عربية فالفاضل لبيت مال المسلمين، هذا قول زيد بن ثابت، وبه قال سعيد بن المسيب والزهرى ومالك والأوزاعى والشافعى وأبو ثور.(8/365)
وروى عن على وابن مسعود أن ما بقى يكون لعصبة أمه إذا لم يخلف ذا رحم له سهم، فإن خلف ذا رحم له سهم جعل فاضل المال ردا عليه. وحكى أيضًا عن على أنه ورث ذوى الأرحام برحمهم ولا شىء لبيت المال، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه، ومن قال سهمهم بالرد يرد الباقى على أمه. وجعل ابن مسعود عصبته أمه فإن لم تكن الأم فعصبتها هم عصبة ولدها، وإليه ذهب الثورى. وهذا الاختلاف إنما قام من قوله (صلى الله عليه وسلم) : (وألحق الولد بالمرأة) لأنه لما ألحقه بها قطع نسبه من أبيه فصار كمن لا أب له من أولاد العى الذين لم يختلف أن المسلمين عصبتهم إذ لا تكون العصبة من قبل الأم، وإنما تكون من قبل الأب. ومن قال معنى قوله: (ألحق الولد بالمرأة) أى أقامها مقام أبيه فهؤلاء جعلوا عصبة أمه عصبة له وهو قول الثورى وأحمد بن حنبل. واحتجوا بالحديث الذى جاء أن الملاعنة بمنزلة أبيه وأمه، وليس فيه حجة؛ لأنها إنما هى بمنزلة أبيه وأمه فى تأديبه وما أشبه ذلك مما يتولاه أبوه فأما الميراث فلا؛ لأنهم أجمعوا أن ابن الملاعنة لو ترك أمه وأباه كان لأمه السدس ولأبيه ما بقى. فلو كانت بمنزلة أبيه وأمه فى الميراث لورثت سدسين سدسًا بالأبوة وسدسًا بالأمومة. وأبو حنيفة جعل الأم كالأب فرد عليها ما بقى؛ لأنها أقرب الأرحام إليه، وقول أهل المدينة أولى بالصواب؛ لأنه معلوم أن(8/366)
العصبات من قبل الآباء ومن أدلى بمن لا تعصيب له لم يكن له تعصيب.
- باب الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً
/ 23 - فيه: عَائِشَة، (كَانَ عُتْبَةُ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدٍ بْنِ أَبى وَقَاصٍ أَنَّ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ مِنِّى، فَاقْبِضْهُ إِلَيْكَ، فَلَمَّا كَانَ عَامَ الْفَتْحِ أَخَذَهُ سَعْدٌ، فَقَالَ: ابْنُ أَخِى، عَهِدَ إِلَىَّ فِيهِ، فَقَامَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، فَقَالَ: أَخِى وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِى، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَتَسَاوَقَا إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْنُ أَخِى، قَدْ كَانَ عَهِدَ إِلَىَّ فِيهِ، فَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: أَخِى وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِى، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ، ثُمَّ قَالَ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ: احْتَجِبِى مِنْهُ، لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ، فَمَا رَآهَا حَتَّى لَقِىَ اللَّهَ) . / 24 - وفيه: أَبو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (الْوَلَدُ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ) . عند جمهور العلماء أن الحرة تكون فراشًا بإمكان الوطء ويلحق الولد فى مدة تلد فى مثلها وأقل ذلك ستة أشهر. وشذ أبو حنيفة فقال: إذا طلقها عقيب النكاح من غير إمكان وطء فأتت بولد لستة أشهر من وقت العقد لحق به، واحتج أصحابه بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (الولد للفراش) وقالوا: هذا الاسم كناية عن الزوج. وقال جرير: باتت تعانقه وبات فراشها حلق العباءة فى الدماء قتيلا يعنى زوجها هكذا أنشده أبو على الفارسى، فإذا كان الفراش الزوج، فإنه يقتضى إذا تزوج امرأة وجاءت بولد لستة أشهر أن نسب الولد يثبت ولا معتبر بإمكان الوطء وإنما المعتبر وجود الفراش.(8/367)
والحجة للجمهور أن الفراش وإن كان يقع على الزوج فإنه يقع على الزوجة أيضًا؛ لأن كل واحد منهما فراش صاحبه حكى ابن الأعرابى أن الفراش عند العرب يعبر به عن الزوج وعن المرأة، وهى الفراش المعروف، فمن ادعى أن المراد به الرجل دون المرأة فعليه الدليل. والفراش فى هذا الحديث إنما هو كناية عن حالة الافتراش والمرأة مشبهة بالفراش؛ لأنها تفترش، فكأن النبى (صلى الله عليه وسلم) أعلمنا أن الولد لهذه الحال التى فيها الافتراش فمتى لم يمكن حصول هذه الحال لم يلحق الولد، فمعنى قوله: (الولد للفراش) أى لصاحب الفراش. وما ذهب إليه أبو حنيفة خلاف ما أجرى الله به العادة من أن الولد إنما يكون من ماء الرجل وماء المرأة، كما أجرى الله تعالى العادة أن المرأة لا تحمل وتضع فى أقل من ستة أشهر فمتى وضعته لأقل من ستة أشهر لم يلحق به؛ لأنها وضعته لمدة لا يمكن أن يكون فى مثلها، وأما الأمة عند مالك والشافعى فإنها تصير فراشًا لسيدها بوطئه لها أو بإقراره بوطئها وبهذا حكم عمر بن الخطاب وهو قول ابن عمر، فمتى أتت بولد لستة أشهر من يوم وطئها ثبت نسبه منه، وصارت به أم ولد له وله أن ينفيه إذا ادعى الاستبراء ولا تكون فراشًا بنفس الملك دون الوطء عند مالك والشافعى. وقال أبو حنيفة: لا تكون فراشًا بالوطء ولا بالإقرار بالوطء أصلا فلو وطئها مائة سنة وأقر بوطئها فأتت بولد لم يلحقه وكان مملوكًا له وأمة مملوكة، وإنما يلحقه ولدها إذا أقر به وله أن ينفيه بمجرد قوله ولا يحتاج أن تدعى الاستبراء.(8/368)
وذكر الطحاوى عن ابن عباس أنه كان يطأ جارية له فحملت فقال: ليس الولد منى إنى أتيتها إتيانًا لا أريد به الولد، وعن زيد بن ثابت مثله. وقولهم خلاف لحديث ابن وليدة زمعة؛ لأن ابن زمعة قال: هذا أخى ولد على فراش أبى فأقره النبى (صلى الله عليه وسلم) ولم يقل الأمة لا تكون فراشًا ثم قال (صلى الله عليه وسلم) : (الولد للفراش) ، وهذا خطاب خرج على هذا السبب، وقد تقدم أن الفراش كالوطء، قد حصل فى الأمة فوجب أن يلحق به الولد، وأيضًا فإن العاهر لما حصل له الحجر دل على أن غير العاهر بخلافه، وأن النسب له، ألا تراه فى الموضع الذى يكون عاهرًا تستوى فيه الحرة والأمة فوجب أن يستوى حالهما فى الموضع الذى يكون ليس بعاهر. ومن أطرف شىء أنهم يجعلون نفس العقد فى الحرة فراشًا ولم يرد به خبر، ولا يجعلون الوطء فى الإماء فراشًا وفيه ورد الخبر، فيشكون فى الأصل ويقطعون على الفرع.
- باب الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ وَمِيرَاثُ اللَّقِيطِ
وَقَالَ عُمَرُ: اللَّقِيطُ حُرٌّ. / 25 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتِ: (اشْتَرَيْتُ بَرِيرَةَ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : اشْتَرِيهَا، فَإِنَّ الْوَلاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ. قَالَ الْحَكَمُ: وَكَانَ زَوْجُهَا حُرًّا، وَقَوْلُ الْحَكَمِ مُرْسَلٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَأَيْتُهُ عَبْدًا. / 26 - وفيه: ابْن عُمَر، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ) . ذهب مالك والثورى والأوزاعى والشافعى وأحمد وأبو ثور إلى أن اللقيط حر وولاؤه لجماعة المسلمين.(8/369)
وفيها قول آخر روى عن عمر بن الخطاب أن ولاءه للذى التقطه، وعن شريح مثله، وبه قال إسحاق بن راهويه. وفيها قول آخر روى عن على بن أبى طالب أن المنبوذ حر فإن أحب أن يوالى الذى التقطه والاه وإن أحب أن يوالى غيره والاه. وبهذا قال عطاء وابن شهاب، وقال أبو حنيفة: له أن ينتقل بولائه حيث شاء لمن يعقل عنه الذى والاه جناية فإن عقل عنه لم يكن له أن ينتقل بولائه عنه ويرثه. واحتج إسحاق بحديث سفيان أبى جميلة عن عمر أنه قال له فى المنبوذ: اذهب فهو حر ولك ولاؤه. قال ابن المنذر: أبو جميلة مجهول لا يعرف له خبر غير هذا الحديث. وحمل أهل المقالة الأولى قول عمر (لك ولاؤه) أى أنت الذى تتولى تربيته والقيام بأمره وهذه ولاية الإسلام لا ولاية العتق. واحتجوا بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (الولاء لمن أعتق) وهذا ينفى أن يكون الولاء للملتقط؛ لأن أصل الناس الحرية، وليس يخلو اللقيط من أحد أمرين إما أن يكون حرا فلا رق عليه أو يكون ابن أمة قوم فليس لمن التقطه أن يسترقه وبهذا كتب عمر بن عبد العزيز. وقد نزل الله آية المواريث وسمَّى الوارثين، فدل أنه لا وارث غير من ذكر الله فى كتابه، ولو كانت الموالاة مما يتوارث بها وجب إذا ثبتت ألا يجوز نقلها إلى غير من ثبتت له؛ فلما قالوا إنه إذا والى غيره قبل أن يعقل عنه ثم والى غيره وعقل عنه كان للذى عقل عنه؛ علم أن الموالاة لا يجوز أن يتوارث بها. وقال (صلى الله عليه وسلم) : (كل شرط ليس فى كتاب الله فهو باطل)(8/370)
- باب مِيرَاثِ السَّائِبَةِ
/ 27 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ: إِنَّ أَهْلَ الإسْلامِ لا يُسَيِّبُونَ، وَإِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُسَيِّبُونَ. / 28 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَت: قَالَ لِى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ) فى قصة بريرة. قَالت: وَخُيِّرَتْ، فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا، وَقَالَتْ: لَوْ أُعْطِيتُ كَذَا وَكَذَا مَا كُنْتُ مَعَهُ. وَقَالَ الأسْوَدُ: وَكَانَ زَوْجُهَا حُرًّا، قَوْلُ الأسْوَدِ مُنْقَطِعٌ، وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: رَأَيْتُهُ عَبْدًا أَصَحُّ. اختلف العلماء فى ميراث السائبة، فقال الكوفيون والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور: ولاء السائبة لمعتقه واحتجوا بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (الولاء لمن أعتق) فالمعتق داخل فى عموم الحديث وغير خارج منه. وقالت طائفة: ميراث السائبة للمسلمين روى ذلك عن عمر بن الخطاب، وروى عن عمر بن عبد العزيز وربيعة وأبى الزناد وهو قول مالك قال: ميراثه للمسلمين وعقله عليهم. والحجة لهذه المقالة أنه إذ قال: أنت حر سائبة فكأنه قد أعتقه عن المسلمين فكان ولاؤه لهم، وهو بمنزلة الوكيل إذا أعتق عن موكله فالولاء له دون الوكيل، وقد ثبت أن الولاء يثبت للإنسان من غير اختياره. واحتج الكوفيون فقالوا: إذا قال لعبده: أنت سائبة لا ملك لى عليك أو أنت حر سائبة أن هذا كله لا يزيل عنه الولاء؛ لأن الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب، وقد نهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن بيع(8/371)
الولاء وهبته، فالهبة لذلك باطلة وبهذا قال ابن نافع وخالف مالكًا فيه.
- باب إِثْمِ مَنْ تَبَرَّأَ مِنْ مَوَالِيهِ
/ 29 - فيه: عَلِىّ، قَالَ: مَا عِنْدَنَا كِتَابٌ نَقْرَؤُهُ إِلا كِتَابُ اللَّهِ غَيْرَ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، قَالَ: فَأَخْرَجَهَا، فَإِذَا فِيهَا أَشْيَاءُ مِنَ الْجِرَاحَاتِ وَأَسْنَانِ الإبِلِ، الحديث، وَمَنْ وَالَى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ، لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لا يُقْبَلُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفٌ وَلا عَدْلٌ. / 30 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ، نَهَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ بَيْعِ الْوَلاءِ وَعَنْ هِبَتِهِ. فى نهيه عن بيع الولاء وعن هبته دليل أنه لا يجوز للمولى التبرؤ من ولاء مواليه، وأن تبرأ منه وأنكره كمن باعه أو وهبه فى الإثم. فإن قال قائل قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من والى قومًا بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله) يدل أنه لا يجوز أن يولى قومًا بإذن مواليه. وبه قال عطاء بن أبى رباح، قال: إن أذن الرجل لمولاه أن يوالى من شاء جاز ذلك استدلالا بهذا الحديث. ذكره عبد الرزاق، وهذا يوافق ما روى عن ميمونة بنت الحارث أنها وهبت ولاء مواليها للعباس وولاؤهم اليوم له. وقد ذكرنا ذلك فى باب بيع الولاء وهبته وفى باب بيع المدبر.(8/372)
قيل: جماعة الفقهاء لا يجيزون قول عطاء ولا ما روى عن ميمونة وقد احتج مالك فى منع ذلك. قيل له: الرجل يبتاع نفسه من سيده على أنه يوالى من شاء. قال: لا يجوز ذلك؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (الولاء لمن أعتق) ونهى عن بيع الولاء وهبته، فإذا جاز لسيده أن يشترط ذلك له فإن يأذن له أن يوالى من شاء، فتلك الهبة التى نهى النبى (صلى الله عليه وسلم) عنها. رواه ابن وهب. فإن قال قائل: فما تأويل حديث علىّ على هذا القول؟ نقول: قيل: يحتمل أن يكون منسوخًا بنهيه (صلى الله عليه وسلم) عن بيع الولاء وعن هبته، ويحتمل ألا يكون منسوخًا ويكون تأويله كتأويل قوله تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق) [الإسراء: 31] دل ظاهر هذا الخطاب أن النهى عن قتل الأولاد لما اقترن بخشية الإملاق كان قتلهم مباحًا إذا لم يخشى الإملاق، وأجمعت الأمة على أن النهى عن قتلهم عام فى كل حال وإن لم يخش إملاق. وقوله: (وربائبكم اللاتى فى حجوركم من نسائكم) [النساء: 23] ودل ظاهر هذا الخطاب أن شرط التحريم فى الربائب لما اقترن بكونهن فى الحجر دل على زوال تحريمهن إذا لم يكن فى الحجر، وأجمع أئمة الأمصار على أن الربيبة حرام على زوج أمها وإن لم تكن فى حجره فلما لم يكن الحجر شرطًا فى التحريم، ولا ارتفاع خشية الإملاق مبيحة لقتل الأولاد؛ فكذلك لا يكون ترك إذن الموالى فى موالاة غيرهم شرطًا فى(8/373)
وجوب لعنة متولى غير مواليه، بل اللعنة متوجهة إليهم فى تولى غيرهم بإذنهم وبغير إذنهم لعموم نهيه عن بيع الولاء وهبته، والله الموفق. وفيه من الفقه: أنه لا يجوز أن يكتب المولى فلان ابن فلان وهو مولاه حتى يقول فلان مولى فلان، وجائز أن ينتسب إلى نسبه؛ لأته انتمى إليه؛ لأن الولاء لحمة كلحمة النسب ومن تبرأ من ولاء مواليه لم تجز شهادته وعليه التوبه والاستغفار؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قد لعنه، وكل من لعنه فهو فاسق. وفيه: جواز لعنة أهل الفسق من المسلمين، ومعنى اللعنة فى اللغة الإبعاد عن الخير، وسيأتى فى كتاب الحدود معنى نهيه (صلى الله عليه وسلم) عن لعن الذى كان يؤتى به كثيرًا ليجلد فى الخمر، وأن ذلك ليس بمعارض اللعنة لشارب الخمر وكثير من أهل المعاصى إن شاء الله تعالى. وقد تقدم تفسير الصرف والعدل فى آخر كتاب الحج فى باب حرم المدينة.
- باب إِذَا أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ الرجل
وَكَانَ الْحَسَنُ لا يَرَى لَهُ وِلايَةً. وَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ. وَيُذْكَرُ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِىِّ رَفَعَهُ، قَالَ: هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِمَحْيَاهُ وَمَمَاتِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِى صِحَّةِ هَذَا الْخَبَرِ. / 31 - فيه: عَائِشَةَ قَالَ النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) : (الْوَلاءَ لِمَنْ أَعْتَق. . .) الحديث. اختلف العلماء فيمن أسلم على يدى رجل من المسلمين، فقال(8/374)
الشعبى كقول الحسن: لا ميراث للذى أسلم على يديه ولا ولاء له، وميراث المسلم إذا لم يدع وارثًا لجماعة المسلمين. وهو قول ابن أبى ليلى ومالك والثورى والأوزاعى والشافعى وأحمد وحجتهم قوله: (الولاء لمن أعتق) فنفى الميراث عن غير المعتق كما نفى عنه الولاء، وذكر ابن وهب عن عمر بن الخطاب قال: ولاؤه للذى أسلم على يديه. وهو قول ربيعة وإسحاق، وفيها قول آخر روى عن النخعى أنه إذا أسلم على يديه الرجل ووالاه فإنه يرثه ويعقل عنه وله أن يتحول عنه إلى غيره ما لم يعقل عنه، فإذا عقل عنه لم يكن له أن يتحول إلى غيره. وهذا قول أبى حنيفة وأبى يوسف ومحمد واحتجوا بحديث تميم الدارى، رواه مسدد عن عبد الله بن داود، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، عن عبد الله بن وهب، عن تميم الدارى (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال فى رجل أسلم على يدى رجل: هو أحق الناس بمحياه ومماته) . قال ابن المنذر: رفع الحديث أحمد بن حنبل وتكلم فيه غيره ولم يروه غير عبد العزيز بن عمر وهو شيخ ليس من أهل الحفظ، وقد اضطربت روايته له فروى عنه وكيع وأبو نعيم، عن عبد الله بن وهب قال: سمعت تميمًا الدارى يقول ورواه شريك عن حفص بن غياث عنه، عن عبد الله بن وهب، عن قبيصة بن ذؤيب، عن تميم، ولا يدرى أسمع قبيصة من تميم أم لا، فلما اضربت الأخبار خشينا ألا يكون محفوظًا. وكان ظاهر قوله: (الولاء لمن أعتق) أولى بنا ودل على أن الولاء لا يكون لغير المعتق.(8/375)
قال ابن القصار: ولو صح الحديث لكان تأويله أحق به يواليه وينصره ويغسله ويصلى عليه ويدفنه إذا مات، ولم يقل هو أحق بميراثه فلا حجة فيه.
- باب مَا يَرِثُ النِّسَاء مِنَ الْوَلاءِ
/ 32 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْطَى الْوَرِقَ وَوَلِىَ النِّعْمَةَ) . وهذا الحديث يوجب أن يكون الولاء لكل معتق ذكرًا كان أو أنثى؛ لأن (من) تصلح للذكر والأنثى وللواحد والجميع إلا أنه ليس للنساء عند جماعة الفقهاء من الولاء إلا ما أعتقن أو أعتق من أعتقن أو ولد من أعتقن. قال الأبهرى: وهذا قول الفقهاء السبعة وغيرهم من أهل المدينة والكوفة، ليس فيه اختلاف إلا ما يروى عن مسروق أنه قال: يرث النساء من الولاء كما يرثن من المال. وذكر ابن المنذر عن طاوس مثله، واحتج بقوله تعالى: (وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون) [النساء: 7] الآية. وهذا شذوذ ولم يعرج عليه، وإنما يرث النساء ولاء من أعتقن أو أعتق من أعتقن أو ولد من أعتقن؛ لأنه عن مباشرة وليس هو جر الميراث. وإنما لم يرث النساء الولاء لأن الولاء إنما يورث بالتعصيب والمرأة لا تكون عصبة.(8/376)
ولما كانت المرأة لا تستوعب المال بالفرض الذى هو أوكد من التعصيب لم ترث الولاء. وقوله: (الولاء لمن أعطى الورق وولى النعمة) معناه لمن أعطى الثمن وأعتق بعد إعطاء الثمن؛ لأن ولاية النعمة التى يستحق بها الميراث لا تكون إلا بالعتق.
- باب مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَابْنُ أخْتِ القوم مِنْهُمْ
/ 33 - فيه: أَنَس، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) . / 34 - وقال أنس مرةً: عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (ابْنُ أُخْتِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ، أَوْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) . مولى القوم من أنفسهم صحيح فى النسبة إليهم والميراث والعقل. وأما ابن أخت القوم محمول عند أهل المدينة أن يكون ابن أختهم من عصبتهم، وعند أهل العراق الذين يورثون ذوى الأرحام ابن أخت القوم منهم يرثهم ويرثونه وقد تقدم الكلام فى ذلك.
- باب مِيرَاثِ الأسِيرِ
وَكَانَ شُرَيْحٌ يُوَرِّثُ الأسِيرَ فِى أَيْدِى الْعَدُوِّ، وَيَقُولُ: هُوَ أَحْوَجُ إِلَيْهِ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ: أَجِزْ وَصِيَّةَ الأسِيرِ وَعَتَاقَهُ، وَمَا صَنَعَ فِى مَالِهِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْ دِينِهِ، فَإِنَّمَا هُوَ مَالُهُ يَصْنَعُ فِيهِ مَا شَاءَ.(8/377)
/ 35 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ تَرَكَ مَالا فَلِوَرَثَتِهِ، وَمَنْ تَرَكَ كَلا فَإِلَيْنَا) . ذهب أكثر العلماء إلى أن الأسير إذا وجب له ميراث، أنه يوقف له ويستحقه، هذا قول مالك، والكوفيين، والشافعى، والجمهور. وروى عن سعيد بن المسيب، أنه لم يورث الأسير فى أيدى العدو، وقول الجماعة أولى؛ لأن الأسير إذا كان مسلمًا، فهو داخل تحت عموم قوله: (من ترك مالاً فلورثته) ، وهو من جماعة المسلمين الذين تجرى عليهم أحكام الإسلام، وغير جائز إخراجه من جملة أحكامهم إلا بحجة لا توجب له الميراث.
- باب لا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ، وَإِذَا أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يُقْسَمَ الْمِيرَاثُ فَلا مِيرَاثَ لَهُ
/ 36 - فيه: أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (لا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ) . ذهب جماعة أئمة الفتوى بالأمصار إلى حديث أسامة وقالوا: لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم. روى هذا عن عمر وعلى وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس وجمهور التابعين. وفى ذلك خلاف عن بعض السلف، روى عن معاذ بن جبل ومعاوية أن المسلم يرثُ الكافر ولا يرث الكافر المسلم، وذهب إليه سعيد بن المسّيب وإبراهيم النخعى ومسروق.(8/378)
واحتجو لذلك فقالوا: نرث الكفار ولا يرثونا كما ننكح نساءهم ولا ينكحوا نساءنا، ويرد هذا القول قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ولا يرث المسلم الكافر) والسنة حجة على من خالفها. قال ابن القصار: والتوارث متعلق بالولاية ولا ولاية بين المسلم والكافر لقوله تعالى: (لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض) [المائدة: 51] يدل أنهم لا يكونون أولياء للكافر فوجب ألا يرثوهم كما لا يرثهم الكافر، وأيضًا فما بين المسلم والكافر أبعدُ مما بين الذمى والحربى فإذا ثبت أن الذمى لا يرث الحربى مع اتفاقهم فى الملة فلأن لا يرث المسلم الكافر أولى لاختلافهما فى الملة. وما ذكره من تزويج المسلم الكافرة فإن باب الميراث غير مبنى على التزويج ألا ترى أن الذمى يتزوج الحربية وهو لا يرثها، والحر المسلم يتزوج الأمة المسلمة وهو لا يرثها مع اتفاق دينهما. وقولهم ينقلب عليهم؛ لأن الكافر يقول: أنا أرث المسلم؛ لأنه يتزوج إلينا وإن لم نتزوج إليه فكما يرثنا نرثه. وقوله: إذا أسلم قبل أن يقسم الميراث فلا ميراث له وهو قول جمهور الفقهاء. وقالت طائفة: إذا أسلم قبل قسمته فله نصيبه، روى هذا عن عمر وعثمان من طريق لا يصح، وبه قال الحسن وعكرمة، وقول الجماعة أصح؛ أنه إنما يستحق الميراث فى حين الموت لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يرث الكافر المسلم) فإذا انتقل ملك المسلم عن ماله إلى(8/379)
من هو على دينه ثبت ملكه لمن ورثه من المسلمين ولا يجوز إزالة ملكه إلا بحجة. عن ابن المنذر. واختلفوا من معنى هذا الحديث فى ميراث المرتد فقالت طائفة: إذا قتل على ردته فماله لبيت مال المسلمين وهو قول زيد بن ثابت وبه قال ابن أبى ليلى وربيعة ومالك والشافعى وأبو ثور وأحمد، وحجتهم ظاهر القرآن فى قطع ولاية المؤمنين من الكفار وعموم قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لايرث المسلم الكافر) ولم يخص مرتدا من غيره. وقال الكوفيون والأوزاعى وإسحاق: يرثه ورثته المسلمون. وهو قول على وابن مسعود وسعيد بن المسيب والحسن والشعبى والحكم. وقالوا: قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يرث المسلم الكافر) أى الكافر الذى يقر على دينه، فأما المرتد فلا دين له يقر عليه وقالوا قرابة المرتد مسلمون وقد جمعوا القرابة والإسلام فهم أولى. وضعف أحمد بن حنبل حديث على. وقال أصحاب مالك والشافعى: لو صح عن على فإنما جعل ميراث المرتد لقرابته المسلمين لما رأى فيهم من الحاجة، وكانوا ممن يستحق ذلك فى جماعة المسلمين من بيت مالهم، ولم يمكن عموم جماعة المسلمين بميراثه فجعله لورثته على هذا الوجه لا على أنه ورثهم منه على طريق الميراث.(8/380)
- باب مِيرَاثِ الْعَبْدِ النَّصْرَانِىِّ وَالْمُكَاتَبِ النَّصْرَانِىِّ
لم يدخل البخارى تحت هذا الرسم حديثًا، ومذهب العلماء أن العبد النصرانى إذا مات فماله للسيد؛ لأن ملك العبد غير صحيح ولا مستقر فماله لسيده؛ لأنه ماله وملكه لا أنه يستحقه من طريق الميراث، وإنما يستحقه بطريق الميراث ما كان ملكًا لمن يورث عنه. وأما المكاتب النصرانى فإن مات قبل أداء كتابته نظر، فإن كان فى ماله وفاء لباقى كتابته أخذ ذلك مولاه الذى كاتبه، وإن فضلت من ماله فضلة كانت لمن كوتب معه إن كانوا على دينه. فإن لم يكن معه أحد فى الكتابة لم يرث ذلك السيد، وكان لبيت مال المسلمين. قال الطبرى: واتفق فقهاء العراق والحجاز والشام وغيرهم أن من أعتق عبدًا له نصرانيًا فمات العبد وله مال أن ميراثه لبيت المال، وقال ابن سيرين: لو كان عبدًا ما ورثه فكيف هذا.
- باب مَنِ ادَّعَى أَخًا أَوِ ابْنَ أَخٍ
/ 37 - فيه: عَائِشَةَ، اخْتَصَمَ سَعْدُ، وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فِى غُلامٍ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا ابْنُ أَخِى عُتْبَةَ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ، عَهِدَ إِلَىَّ أَنَّهُ ابْنُهُ، انْظُرْ إِلَى شَبَهِهِ، وَقَالَ عَبْدُ ابْنُ زَمْعَةَ: هَذَا أَخِى يَا رَسُولَ اللَّهِ، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِى مِنْ وَلِيدَتِهِ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى شَبَهِهِ، فَرَأَى شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ، فَقَالَ: (هُوَ لَكَ يَا(8/381)
عَبْدُ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ، وَاحْتَجِبِى مِنْهُ يَا سَوْدَةُ بِنْتَ زَمْعَةَ) ، قَالَتْ: فَلَمْ يَرَ سَوْدَةَ قَطُّ. قد تقدم أنه لا يجوز استلحاق غير الأب واختلف العلماء إذا مات رجل وخلف ابنًا واحدًا لا وارث له غيره فأقر بأخ فقال ابن القصار: فعند مالك والكوفيين لا يثبت نسبه. وقال الشافعى: يثبت نسبه. واحتج بأن الوارث قام مقام الميت فصار إقراره كإقرار الميت نفسه فى حال حياته، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) ألحق الولد بزمعة بدعوى عبد وإقراره وحده. واحتج أهل المقالة بأن الميت يعترف على نفسه والوارث يعترف على غيره، وحكم إقرار الإنسان على نفسه آكد من إقراره على غيره، فلم يجز اعتبار أحدهما بالآخر وإقراره بنسب فى حق غيره ليس هو بأكثر من شهادته له، فلو شهد واحد بنسب يثبت على غيره لم تقبل شهادته، فكذلك إقراره على غيره بالنسب أولى ألا يثبت ولا يلزم على هذا إذا كان الورثة جماعة فأقروا به أو أقر اثنان منهم كانوا عدلين؛ لأن النسب يثبت بشهادة اثنين وبالجماعة فى حق الغير الذى هو أبوهم. ويقال للشافعى حكم النبى (صلى الله عليه وسلم) فى قصة ابن زمعة لم يكن من أجل الدعوى وإنما كان من أجل علمه بالفراش كما حد النبى (صلى الله عليه وسلم) العسيف بقول أبيه؛ لأن ذلك دليل على أن ابنه كان مقرًا قبل ادعاء أبيه عليه ولولا ذلك ما حدَّ بمجرد دعوى أبيه عليه.(8/382)
- باب مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرَ أَبِيهِ
/ 38 - فيه: سَعْد، قَالَ: النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ، فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ) . / 39 - وفيه: أَبو هُرَيْرَة، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ أَبِيهِ فَهُوَ كُفْرٌ) . قال الطبرى: فإن قال قائل: ما وجه هذا الحديث وقد كان من خيار الناس من ينسب إلى غير أبيه كالمقداد بن الأسود الذى نسب إليه، وإنما هو المقداد بن عمرو، ومنهم من يدعى إلى غير مولاه الذى أعتقه كسالم مولى أبى حذيفة، وإنما هو مولى امرأة من الأنصار وهؤلاء خيار الأمة؟ قيل: لا يدخل أحد منهم فى معنى هذه الأحاديث، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا لا يستنكرون ذلك أن يتبنى الرجل منهم غير ابنه الذى خرج من صلبه فنسب إليه، ولا أن يتولى من أعتقه غيره فينسب ولاؤه إليه، ولم يزل ذلك أيضًا فى أول الإسلام حتى أنزل الله: (وما جعل أدعياءكم أبناءكم) [الأحزاب: 4] ونزلت) ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله) [الأحزاب: 5] الآية فنسب كل واحد منهم إلى أبيه ومن لم يعرف له أب ولا نسب عرف مولاه الذى أعتقه وألحق بولائه عنه غير أنه غلب على بعضهم النسب الذى كان يدعى به قبل الإسلام، فكان المعروف لأحدهم إذا أراد تعريفه بأشهر نسبه عرفه به من غير انتحال المعروف به، ولا تحول به عن نسبه وأبيه الذى هو أبوه على الحقيقة رغبة عنه فلم تلحقهم بذلك نقيصة، وإنما لعن النبى(8/383)
(صلى الله عليه وسلم) المتبرئ من أبيه والمدعى غير نسبه، فمن فعل ذلك فقد ركب من الإثم عظيمًا وتحمل من الوزر جسيمًا، وكذلك المنتمى إلى غير مواليه. فإن قيل: فتقول للراغب فى الانتماء إلى غير أبيه ومواليه كافر بالله كما روى عن أبى بكر الصديق أنه قال: كفر بالله ادعاء نسب لا يعرف. وروى عن عمر بن الخطاب أنه قال: كان مما يقرأ فى القرآن: (لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم) . قيل: ليس معناه الكفر الذى يستحق عليه التخليد فى النار وإنما هو كفر لحق أبيه ولحق مواليه، كقوله فى النساء: (يكفرن العشير) والكفر فى لغة العرب: التغطية للشىء والستر له، فكأنه تغطية منه على حق الله عز وجل فيمن جعله له والدًا، لا أن من فعل ذلك كافرًا بالله حلال الدم. والله الموفق.
30 - باب إِذَا ادَّعَتِ الْمَرْأَةُ ابْنًا
/ 40 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (كَانَتِ امْرَأَتَانِ وَمَعَهُمَا ابْنَاهُمَا جَاءَ الذِّئْبُ، فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ لِصَاحِبَتِهَا: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، وَقَالَتِ الأخْرَى: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، فَأَخْبَرَتَاهُ، فَقَالَ: ائْتُونِى بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَهُمَا، فَقَالَتِ الصُّغْرَى: لا تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ، هُوَ ابْنُهَا، فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى) . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَاللَّهِ إِنْ سَمِعْتُ بِالسِّكِّينِ قَطُّ إِلا يَوْمَئِذٍ، وَمَا كُنَّا نَقُولُ إِلا: الْمُدْيَةَ.(8/384)
أجمع العلماء أن الأم لا تستحلق أحدًا؛ لأنها لو استلحقت ألحقت بالزوج ما ينكره والله تعالى يقول: (ولا تكسب كل نفس إلا عليها) [الأنعام: 164] وإنما يمكن أن تلحق الولد بالزوج إذا أقامت البينة أنها ولدته وهى زوجته فى عصمته، فإن الولد للفراش. وفائدة هذا الحديث أن المرأة إذا قالت هذا ابنى ولم ينازعها فيه أحد ولم يعرف له أب فإنه يكون ولدها، ترثه ويرثها ويرثه إخوته لأمه؛ لأن هذه المرأة التى قضى لها بالولد فى هذا الحديث إنما حصل لها ابنًا مع تسليم المنازعة لها فيه. وفيه من الفقه: أن من أتى من المتنازعين بما يشبه فالقول قوله؛ لأن سليمان جعل شفقتها عليه شبهة مع دعواها. وفيه: أنه جائز للعالم مخالفة غيره من العلماء وإن كانوا أسن منه وأفضل إذا رأى الحق فى خلاف قولهم. ويشهد لهذا قوله تعالى: (وداود وسليمان إذ يحكمان الحرث) [الأنبياء: 78] الآية فإنه أثنى على سليمان بعلمه، وعذر داود باجتهاده ولم يخله من العلم. وسيأتى الاختلاف فى هل كل مجتهد مصيب أو الحق فى واحد من أقاويل العلماء فى كتاب الاعتصام والله الموفق.
31 - باب الْقَائِفِ
/ 41 - فيه: عَائِشَةَ إِنَّ النبى (صلى الله عليه وسلم) دَخَلَ عَلَىَّ مَسْرُورًا تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ،(8/385)
فَقَالَ: (أَلَمْ تَرَىْ أَنَّ مُجَزِّزًا نَظَرَ آنِفًا إِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الأقْدَامَ بَعْضُهَا لَمِنْ بَعْضٍ) . / 42 - وقال مرةً: (عَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ قَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا، وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الأقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ) . فى هذا الحديث إثبات الحكم بالقافة، وممن قال بذلك أنس بن مالك، وهذا أصح الروايتين عن عمر، وبه قال عطاء، وإليه ذهب مالك والأوزاعى والليث والشافعى وأحمد وأبو ثور. وقال الثورى وأبو حنيفة وأصحابه: الحكم بالقافة باطل وذلك تخرص وحدس لا يجوز ذلك فى الشريعة قالوا وليس فى حديث أسامة حجة فى إثبات الحكم بالقافة؛ لأن أسامة قد كان ثبت نسبه قبل فلم يحتج النبى (صلى الله عليه وسلم) فى ذلك إلى قول أحد ولولا ذلك لما كان دعا أسامة فيما تقدم إلى زيد. وإنما تعجب من إصابة مجزز كما يتعجب من ظن الرجل الذى يصيب بظنه حقيقة الشىء ولا يجب الحكم بذلك، وترك الإنكار عليه لأنه لم يتعاط بقوله إثبات ما لم يكن ثابتًا فيما تقدم. هذا وجه الحديث، قاله الطحاوى. وقال أهل المقالة الأولى: لو كان قول مجزز على جهة الحدس والظن وعلى غير سبيل الحق والقطع بالصحة لأنكر ذلك النبى (صلى الله عليه وسلم) على مجزز، ولقال له وما يدريك، ولم يسر النبى (صلى الله عليه وسلم) بذلك؛ لأنه ليس من صفته أن يسر بأمر باطل عنده لا يسوغ فى شريعته، وكان أسامة أسود وكان زيد أبيض فكان المشركون يطعنون فى نسبه، وكان يشق ذلك على النبى (صلى الله عليه وسلم) فسر بذلك لمكانهما منه.(8/386)
وقد كانت العرب تعرف من صحة القافة فى بنى مدلج وبنى أسد ما قد شهر عنهما ثم وردت السنة بتصحيح ذلك، فصار أصلا، والشىء إنما يصير شرعًا للنبى إما بقوله أو بقطعه أو بأن يقر عليه، فلو كان إثبات النسب من جهته باطلا لم يجز أن يقر عليه مجززًا بل كان ينكره عليه ويقول له: هذا باطل فى شريعتى، فلما لم ينكره وسر به كان سنة. وذهب مالك فى المشهور عنه إلى أن الحكم بالقافة فى أولاد الإماء دون الحرائر، وروى ابن وهب عنه أن الحكم بالقافة فى ولد الزوجة وولد الأمة، وبهذا قال الشافعى. قال ابن القصار: وصورة الولد الذى يدعيه الرجلان من الأمة هو أن يطأ إنسان أمته ثم يبيعها من آخر فيطؤها الثانى قبل الاستبراء من الأول فتأتى بولد لأكثر من ستة أشهر من وطء الثانى؛ فإن الحكم بالقافة هنا واجب، ولو أتت به لأقل من ستة أشهر من وطء الثانى فالولد للأول. ووجه قول مالك أن القافة فى ولد الإماء؛ لأنه يصح ملك جماعة رجال الأمة فى وقت واحد ووطؤهم لها إن كان وطء جميعهم غير مباح، وإذا كان ذلك فقد تساووا فليس أحد أولى بالولد من صاحبه إذا تنازعوه لاستوائهم فى شبهة الفراش بالملك، وأما الحرة فإن الوطء الثانى لا يساوى الأول فى الحرمة والقوة فلم يطأ وطأ صحيحًا من قبل أنه إما أن يطأ زوجة زيد مثل أن يتزوجها وهو لا يعلم(8/387)
أن لها زوجًا فقد فرط؛ لأنه قد كان يمكن أن يتعرف ذلك ولا يقدم على وطء زوجة وهى فراش لغيره أو يتزوجها فى عدتها فهو فى التقصير كذلك، أو يجد امرأة على فراشه فيطأها وهولا يعلم فالولد لاحق بصاحب الفراش الصحيح بقوته. وأما وجه رواية ابن وهب أن القافة تكون فى ولد الزوجات لاجتماع الواطئين فى شبهة النكاح والملك؛ لأن الولد يلحق بالنكاح الصحيح وشبهته وبالملك الصحيح وشبهته؛ لأن كل واحد منهما لو انفرد بالوطء للحقه النسب، فكذلك إذا اشتركا فيه وجب أن يستويا فى الدعوى فوجب أن يحكم بالولد لأقربهما شبهًا به لقوة سببه، لأن شبه الولد ممن هو من أدل أدلة الله فوجبت القافة. وروى أشهب وابن نافع عن مالك أنه لا يؤخذ إلا بقول قائفين وهو قول الشافعى، وقال ابن القاسم: إن القائف الواحد يجزئ. وقال الزبير بن بكار: إنما قيل له مجززًا؛ لأنه كان إذا أخذ أسيرًا حلق لحيته. وأسارير وجهه: هى خطوط بين الحاجبين وقصاص الشعر. وروى عن عائشة أنها قالت: (دخل علىَّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تبرق أكاليل وجهه) جمع إكليل وهى ناحية الجبهة وما يتصل بها من الجبين. وذلك أن الإكليل إنما يوضع هناك، وكل ما أحاط بالشىء وتكلله من جوانبه فهو إكليل. عن الخطابى.(8/388)
60 - كِتَاب الْحُدُودِ
- باب ما يُحذر من الحُدُودِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُنْزَعُ مِنْهُ نُورُ الإيمَانِ فِى الزِّنَا. / 1 - فيه: أَبو هُرَيْرَة: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَزْنِى الزَّانِى حِينَ يَزْنِى وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُها وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) . وترجم له باب السارق حين يسرق. قال الطبرى: اختلف من قبلنا فى هذا الحديث فأنكر بعضهم أن يكون رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال هذا القول. قال عطاء: اختلف الرواة فى أداء لفظ النبى (صلى الله عليه وسلم) بذلك، قال محمد بن زيد ابن واقد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وسئل عن تفسير هذا الحديث فقال: إنما قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يزنين مؤمن ولا يسرقن مؤمن) . وقال آخرون: عنى بذلك: لا يزنى الزانى وهو مستحل للزنا غير مؤمن بتحريم الله ذلك عليه، فأما إن زنا وهو معتقد تحريمه فهو مؤمن، روى ذلك عن عكرمة عن ابن عباس. وحجة هذه المقالة حديث أبى ذر أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنا وإن سرق وإن رغم أنف أبى ذر) .(8/389)
وقال آخرون: ينزع منه الإيمان فيزول عنه اسم المدح الذى يُسمى به أولياء الله المؤمنون، ويستحق اسم الذم الذى يسمى به المنافق فيوسم به ويقال له منافق وفاسق. روى هذا عن الحسن قال: النفاق نفاقان: تكذيب محمد فهذا لا يغفر، ونفاق خطايا وذنوب يرجى لصاحبه. وعن الأوزاعى قال: كانوا لا يكفرون أحدًا بذنب ولا يشهدون على أحد بكفر ويتخوفون نفاق الأعمال على أنفسهم. قال الوليد بن مسلم: ويصدق قول الأوزاعى أنه كان من قول السلف ما حدثنا الأوزاعى، عن هارون بن رئاب: (أن عبد الله بن عمر قال فى مرضه: زوجوا فلانًا ابنتى فلانة، وإنى كنت وعدته بذلك وأنا أكره أن ألقى الله بثلث النفاق) وما حدثناه عن الزهرى، عن عروة: (أنه قال لابن عمر: الرجل يدخل منا على الإمام فيراه يقضى بالجور فيسكت وينظر إلى أحدنا فيثنى عليه بذلك، فقال عبد الله: أما نحن معاشر أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فكنا نعدها نفاقًا فلا أدرى كيف تعدونه) وعن حذيفة: (أنه سئل عن المنافق فقال: الذى يتكلم بالإسلام ولا يعمل به) . وحجة هذا القول أن النفاق إنما هو إظهار المرء بلسانه قولاً يبطن خلافه كنافقاء اليربوع الذى يتخذه كى إن طلبه الصائد من قبل مدخل قصَّع من خلافه، فمن لم يجتنب الكبائر من أهل التوحيد علمنا أن ما أظهره من الإقرار بلسانه خداع للمؤمنين فاستحق اسم النفاق. ويشهد لذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ثلاث من علامات المنافق، إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) .(8/390)
والزنا والسرقة وشرب الخمر أدل على النفاق من هذه الثلاث. وقال آخرون: إذا أتى المؤمن كبيرة نزع منه الإيمان وإذا فارقها عاد إليه الإيمان. وروى عن أبى الدرداء قال عبد الله بن رواحة: (إنما مثل الإيمان مثل قميص بينما أنت قد نزعته إذا لبسته وبينما أنت قد لبسته إذ نزعته) . وعن يزيد بن أبى حبيب عن أسلم بن عمر أنه سمع أبا أيوب يقول: (إنه ليمر على المرء ساعة وما فى جلده موضع إبرة من النفاق) . وعلة هذه المقالة أن الأيمان هو التصديق، غير أن التصديق معنيان أحدهما قول والآخر عمل فإذا ركب المصدق كبيرة فارقه اسم الإيمان كما يقال للاثنين إذا اجتمعا اثنين فإذا انفرد كل واحد منهما لم يقل له إلا واحد وزال عنهما الاسم الذى كان لهما فى حال الاجتماع، فكذلك الإيمان إنما هو اسم التصديق الذى هو الإقرار والعمل الذى هو اجتناب لكبائر. فإذا واقع المقر كبيرة زال عنه اسم الإيمان فى حال مواقعته، فإذا كف عنها عاد له الاسم؛ لأنه فى حال كفه عن الكبيرة مجتنب لها وباللسان مصدق، وذلك معنى الإيمان عندهم. وقال بعض الخوارج والرافضة والإباضية: من فعل شيئًا من ذلك فهو كافر خارج عن الإيمان؛ لأنهم يكفرون المؤمنين بالذنوب ويوجبون عليهم التخليد فى النار بالمعاصى، ومن حجتهم ظاهر حديث أبى هريرة (لا يزنى وهو مؤمن) .(8/391)
قال أبو هريرة: الإيمان فوقه هكذا فإن هو تاب راجعه الإيمان وإن أصر ومضى فارقه. وقال أبو صالح عن أبى هريرة: ينزع منه الإيمان فإن تاب رُد عليه. قالوا: ومن نزع منه الإيمان فهو كافر؛ لأنه منزلة بين الإيمان والكفر، ومن لم يكن مؤمنًا فهو كافر. وجماعة أهل السنة وجمهور الأمة على خلافهم. قال الطبرى: وحجة أهل السنة أن ابن عباس قد بين حديث أبى هريرة وقال: إن العبد إذا زنا نزع منه نور الإيمان لا الإيمان. حدثنا عبد الرحمن بن الأسود، حدثنا محمد بن كثير، عن شريك بن عبد الله، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: سمعت النبى (صلى الله عليه وسلم) يقول: (من زنا نزع الله نور الإيمان من قلبه فإن شاء أن يرده عليه رده) . والصواب عندنا قول من قال: يزول عنه الاسم الذى هو بمعنى المدح إلى الاسم الذى هو بمعنى الذم، فيقال له فاجر فاسق زان سارق. ولا خلاف بين جميع الأمة أن ذلك من أسمائه ما لم تظهر منه التوبة من الكبيرة، ويزول عنه اسم الإيمان بالإطلاق والكمال بركوبه ذلك ونثبته له بالتقييد فنقول هو مؤمن بالله وبرسوله مصدق قولاً، ولا نقول مطلقًا هو مؤمن إذا كان الإيمان عندنا معرفة وعملا(8/392)
وقولاً، فلما لم يأت بها كلها استحق اسم التسمية بالإيمان على غير الإطلاق والاستكمال له. قال المهلب: وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ينزع منه نور الإيمان) يعنى ينزع منه بصيرته فى طاعة الله لغلبة الشهوة عليه، فكأن تلك البصيرة نور طفته الشهوة من قلبه ويشهد لهذا قوله تعالى: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) [المطففين: 14] . وقد تقدم فى كتاب الإيمان فى باب علامات المنافق، والعلم فى باب من خص بالعلم قومًا دون قوم كراهة ألا يفهموا.
- باب الضَّرْبِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ
/ 2 - فيه: عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ: أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) أُتِىَ بِنُعَيْمَانَ، أَوْ بِابْنِ نُعَيْمَانَ، وَهُوَ سَكْرَانُ، فَشَقَّ عَلَيْهِ، وَأَمَرَ مَنْ فِى الْبَيْتِ، أَنْ يَضْرِبُوهُ، فَضَرَبُوهُ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ، وَكُنْتُ فِيمَنْ ضَرَبَهُ. وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ. / 3 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَة، أُتِىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ فَقَالَ: اضْرِبُوهُ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ، وَالضَّارِبُ بِنَعْلِهِ، وَالضَّارِبُ بِثَوْبِهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: أَخْزَاكَ اللَّهُ، قَالَ: لا، تَقُولُوا هَكَذَا لا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ. / 4 - وفيه: عَلِىَّ بْنَ أَبِى طَالِبٍ، قَالَ: مَا كُنْتُ لأقِيمَ حَدًّا عَلَى أَحَدٍ(8/393)
فَيَمُوتَ، فَأَجِدَ فِى نَفْسِى إِلا صَاحِبَ الْخَمْرِ، فَإِنَّهُ لَوْ مَاتَ وَدَيْتُهُ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَمْ يَسُنَّهُ. / 5 - وفيه: السَّائِب، كُنَّا نُؤْتَى بِالشَّارِبِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَإِمْرَةِ أَبِى بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلافَةِ عُمَرَ، فَنَقُومُ إِلَيْهِ بِأَيْدِينَا وَنِعَالِنَا وَأَرْدِيَتِنَا حَتَّى كَانَ آخِرُ إِمْرَةِ عُمَرَ، فَجَلَدَ أَرْبَعِينَ حَتَّى إِذَا عَتَوْا، وَفَسَقُوا جَلَدَ ثَمَانِينَ. وترجم لحديث عقبة بن الحارث: باب من أمر بضرب الحد فى البيت. اختلف العلماء فى حد الخمر كم هو؟ فذهب مالك، والثورى، والكوفيون، وجمهور العلماء، إلى أن حد الخمر ثمانون جلدة. وقال الشافعى وأبو ثور وأهل الظاهر حد الخمر أربعون. واحتجوا فى ذلك بما رواه مسدد قال: حدثنا يحيى، قال: حدثنا سعيد ابن أبى عروبة، عن الداناج، عن حصين بن المنذر الرقاشى أبى ساسان، عن على بن أبى طالب قال: (جلد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى الخمر أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وكملها عمر ثمانين وكل سنة) . وبما رواه عبد العزيز بن المختار، عن الداناج، عن حصين بن المنذر قال: (شهدت عثمان وقد أتى بالوليد بن عقبة وقد صلى بأهل الكوفة فشهد عليه حُمران ورجل آخر أحدهما أنه رآه يشربها والآخر أنه رآه يقيئها، فقال عثمان: لم يقئها حتى شربها، فقال عثمان لعلى: أقم عليه الحد. فأمر عبد الله بن جعفر فجلده وعلى يعد حتى بلغ أربعين، ثم قال أمسك، ثم قال: إن النبى (صلى الله عليه وسلم) جلد أربعين وعمر ثمانين وكل سُنة وهذا أحبُّ إلى) فاحتجوا بهذه الآثار وقالوا: إنَّ الجلد الذى يجب على شارب الخمر أربعون.(8/394)
واحتج عليهم أهل المقالة الأولى فقالوا: حديث الداناج غير صحيح وأنكروا أن يكون على قال من ذلك شيئًا؛ لأنه قد روى عنه ما يخالف ذلك ويدفعه. وبما رواه البخارى أن عليا قال: (ما كنت لأقيم الحدَّ على أحدٍ فيموت فى نفسى إلا صاحب الخمر فإنه لو مات وديته وذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يسنه) . قال الطحاوى: فهذا على يخبرُ أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يكن سن فى شرب الخمر حدا، ثم الرواية عن على فى حد الخمر على خلاف حديث الداناج من اختيار الأربعين على الثمانين روى سفيان، عن عطاء بن أبى مروان، عن أبيه قال: أتى على بالنجاشى قد شرب الخمر فى رمضان فضربه ثمانين، ثم أمر به إلى السجن، ثم أمر به من الغد فضربه عشرين، ثم قال: هذه لانتهاكك حرمة رمضان وجرأتك على الله. وروى عن ابن شهاب، عن حميد ابن عبد الرحمن: أن رجلا من كلب يقال له ابن وبرة بعثه خالد بن الوليد إلى عمر بن الخطاب فوجد عنده عليا وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف، فقالوا له: إن الناس قد انهمكوا فى الخمر. فقال عمر لمن حوله: ما ترون؟ قال على: يا أمير المؤمنين إنه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى، وعلى المفترى ثمانون فتابعه أصحابه. أفلا ترى عليا لما سئل عن ذلك ضرب أمثال الحدود كيف هى، ثم استخرج منها حدًا برأيه فجعله كحد المفترى، ولو كان عنده فى ذلك شىء موقت عن النبى (صلى الله عليه وسلم) لأغناه عن ذلك، ولو كان عند أصحابه فى ذلك أيضًا عن(8/395)
النبى (صلى الله عليه وسلم) شىء لأنكروا عليه أخذ ذلك من جهة الاستنباط وضرب المثال فكيف يجوز أن نقبل على علىّ ما يخالف هذا وقد قال: إن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يسن فى الخمر شيئًا. ودل حديث عقبة بن الحارث وحديث أنس وحديث أبى هريرة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يقصد فى حدّ الشارب إلى عدد من الضرب يكون حدا، وإنما أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) أصحابه أن يضربوه بالجريد والنعال والثياب والأيدى، وإنما ضرب أبو بكر بعده أربعين على التحرى منه لضربه (صلى الله عليه وسلم) إذ لم يوقفهم على حد فى ذلك، فثبت بهذا كله أن التوقيف فى حد الخمر على ثمانين إنما كان فى زمن عمر وانعقاد إجماع الصحابة على ذلك، فلا تجوز مخالفتهم؛ لأن إجماعهم معصوم كما أجمعوا على مصحف عثمان ومنعوا مما عداه، فانعقد الإجماع على ذلك ولزمت الحجة به، وقد قال تعالى: (ويتبع غير سبيل المؤمنين) [النساء: 115] الآية. وقال ابن مسعود: ما رآه المؤمنون حسنًا فهو عند الله حسن؛ لأن إجماعهم معصوم. وفيه حجة لمالك ومن وافقه فى جواز أخذ الحدود قياسًا، خلافًا لأهل العراق وبعض أصحاب الشافعى فى منعهم ذلك، واستدلوا بأن الحدود والكفارات وضعت بحسب المصالح وقد تشترك أشياء مختلفة فى الحدود والكفارات وتختلف أشياء متقاربة، ولا سبيل إلى علم ذلك إلا بالنص. فيقال لهم: أجمع الصحابة على حد شارب الخمر ثم نصوا على(8/396)
المعنى الذى من أجله أجمعوا، وهو قول على وعبد الرحمن: إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فأرى أن يحد حد المفترى. ففى هذا دليل على أخذ الحدود قياسًا، وعلى أصل القياس جواز انعقاد الإجماع عنه. وفى قياسهم حد الخمر على حد الفرية حجة لمالك ومن قال بقطع الذرائع وجعلها أصلا وتحصينًا لحدود الله أن تنتهك؛ لأن عليا لما قال: إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى وعلى المفترى ثمانون. وتابعه الصحابة على ذلك، ولم يخالفه أحد منهم كان ذلك حجة واضحة فى القول بقطع الذرائع؛ لأنه قد يجوز أن يشرب الخمر من لا يبلغ بها إلى الهذى والفرية، ولما كان ذلك غير معلوم لاختلاف الناس فى التقليل من شربها وفى التكثير، وفى غلبة سورتها لبعضهم وتقصيرها عن بعض، وكان الحد لازمًا ولكل شارب؛ ثبت القول بقطع الذرائع فيما يخاف الإقدام فيه على المحرمات وهو أصل من أصول الدين مما أجمع عليه الصحابة. قال المهلب: وفى قول على: ما كنت لأقيم الحد على أحد فيموت فأجد منه فى نفسى. حجة لابن الماجشون ومن وافقه أن الحاكم لا قود عليه إذا أخطأ فى اجتهاده. ويؤيد هذا أن أسامة قتل رجلا قال: لا إله إلا الله ثم أتى النبى (صلى الله عليه وسلم) فأخبره بذلك فلم يزد أن وبخه، ولم يأمره بالدية ولم يأخذها منه لاجتهاده وتأويله فى قتله. وقد تقدم اختلاف العلماء فى هذه المسألة فى كتاب الأحكام(8/397)
فى باب إذا قضى القاضى بجور خالف فيه أهل العلم فهو مردود والحمد لله. وقوله: (أتى النبى (صلى الله عليه وسلم) بالنعيمان وهو سكران فشق عليه وأمر من فى البيت بضربه) فيه حجة أن السكران يقام عليه الحد ولا يؤخر حتى يصحو؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) أمر من فى البيت أن يضربوه، ولم يؤخره إلى أن يصحو. وجمهور العلماء على خلاف هذا لا يرون الحد عليه وهو سكران حتى يصحو وهو قول مالك والثورى والكوفيين، قالوا: لأن الحد إنما وضعه الله للتنكيل وليألم المحدود ويرتدع، فالسكران لا يعقل ذلك؛ فغير جائز أن يقام الحدّ على من لا يحس به ولا يعقل.
3 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ لَعْنِ شَارِبِ الْخَمْرِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِخَارِجٍ عَنْ الْمِلَّةِ
/ 6 - فيه: عُمَر، أَنَّ رَجُلا عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، كَانَ اسْمُهُ عَبْدَاللَّهِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَكَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) قَدْ جَلَدَهُ فِى الشَّرَابِ، فَأُتِىَ بِهِ يَوْمًا، فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَلْعَنُوهُ، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إلا إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) . / 7 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَة، أُتِىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِسَكْرَانَ، فَأَمَرَ بِضَرْبِهِ، فَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِيَدِهِ، وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِنَعْلِهِ، وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِثَوْبِهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ رَجُلٌ: مَا لَهُ أَخْزَاهُ اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ.(8/398)
وروى ابن المنذر هذا الحديث وقال فيه بعد قوله: لا تعينوا عليه الشيطان (ولكن قولوا: اللهم اغفر له) . قال المهلب: فى هذا الحديث بيان قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن) يريد وهو مستكمل الإيمان، وليس بخارج من الملة بشربها ولا بمعصية من المعاصى؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قد شهد للشارب بحب الله ورسوله وبالإسلام، وقال فيه: (لا تعينوا الشيطان على أخيكم) . فسماه أخًا فى الإسلام، وأمرهم أن يدعوا له بالمغفرة والرحمة. قال المؤلف: بيان قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يشرب الخمرحين يشربها وهو مؤمن) قال: فإن قيل: هذا الحديث معارض لما روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أنه لعن شارب الخمر وعاصرها ومعتصرها) ولعن كثيرًا من أهل المعاصى منهم من ادعى إلى غير أبيه وانتمى إلى غير مواليه، ولعن المصور وجماعة يكثر عددهم. قيل: لا تعارض بين شىء من ذلك بحمد الله، ووجه لعنته لأهل المعاصى يريد الملازمين لها غير التائبين منها ليرتدع بذلك من فعلها وسلك سبيلها، والذى نهى (صلى الله عليه وسلم) عن لعنه فى هذا الباب قد كان أخذ منه حد الله الذى جعله تطهيرًا من الذنوب فحصل فى حالة مهيئة للتوبة ورجا له التمادى على ما حصل له من التطهير وبركة أمره (صلى الله عليه وسلم) أصحابه بالدعاء له. فنهى عن لعنه خشية أن يوقع الشيطان فى قلبه أن من لعن بحضرة النبى (صلى الله عليه وسلم) ولم يغير ذلك ولا نهى عنه فإنه مستحق العقوبة فى الآخرة فينفره بذلك ويغويه.(8/399)
قال المهلب: وقوله: (وكان يضحك النبى (صلى الله عليه وسلم)) فيه من الفقه جواز إضحاك العالم والإمام ببادرة يبدرها (وأمر) يعنى به من الحق لا من شىء من الباطل. وقال المؤلف: وحديث عمر ناسخ لما روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب فى الرابعة فاقتلوه) لأنه (صلى الله عليه وسلم) حد الرجل مرارًا فى الخمر ولم يقتله؛ وبهذا قال أئمة الفتوى، لأن قول الذى لعنه (ما أكثر ما يؤتى به) يقتضى حدا من العدد، وما يدخل فى حيز الكثرة إن لم يكن أكثر من أربع فليس بدونها، وقد رفع الإشكال فى ذلك ما ذكره النسائى من حديث ابن المنذر عن جابر أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (إن شرب الرابعة فاقتلوه) . قال جابر: فضرب النبى (صلى الله عليه وسلم) نعيمان أربع مرات ولم يقتله، فرأى المسلمون أن الحد قد وقع وأن القتل قد رفع.
4 - باب لَعْنِ السَّارِقِ إِذَا لَمْ يُسَمَّ
/ 8 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ) . قَالَ الأعْمَشُ: كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ بَيْضُ الْحَدِيدِ، وَالْحَبْلُ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْهَا مَا يُسَاوِى دَرَاهِمَ. وقال ابن قتيبة: احتج الخوارج بهذا الحديث وقالوا: القطع يجب فى قليل الأشياء وكثيرها. قال: ولا حجة لهم فيه، وذلك أن الله لما أنزل على رسوله: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) [المائدة: 38] الآية. قال (صلى الله عليه وسلم) :(8/400)
(لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده) على ظاهر ما نزل الله عليه فى ذلك الوقت، ثم أعلمه الله أن القطع لا يكون إلا فى ربع دينار فما فوقه على ما رواه الزهرى، عن عمرة، عن عائشة قالت: سمعت النبى (صلى الله عليه وسلم) يقول: (لا قطع إلا فى ربع دينار فصاعدًا) ولم يكن يعلم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من حكم الله إلا ما أعلمه الله وما كان الله عرفه ذلك جملة؛ بل كان ينزل عليه شيئًا بعد شىء ويأتيه جبريل بالسنن كما يأتيه بالقرآن، ولذلك قال (صلى الله عليه وسلم) : (أوتيت الكتاب ومثله معه) يعنى من السنن. وأما قول الأعمش: إن البيضة فى هذا الحديث بيضة الحديد التى تغفر الرأس فى الحرب، وأن الحبل من حبال السفن فهذا تأويل لا يجوز عند من يعرف صحيح كلام العرب؛ لأن كل واحد من هذين يبلغ دنانير كثيرة. وهذا ليس موضع تكثير لما يسرقه السارق ولا من عادة العرب والعجم أن يقولوا: قبح الله فلانًا عرض نفسه للضرب فى عقد جوهر وتعرض للعقوبة بالغلول فى جراب مسك، وإنما العادة فى مثل هذا أن يقال: لعنه الله تعرض لقطع اليد فى حبل رث أو كُبة شعر أو رداء خلق، وكل ما كان من هذا الفن كان أبلغ. قال المؤلف: وقوله فى الترجمة باب لعن السارق إذا لم يُسم كذا فى جميع النسخ، والذى يستوحى من معناه إن صح فى الترجمة أنه لا ينبغى تعيير أهل المعاصى ومواجهتهم باللعنة، وإنما ينبغى أن يلعن فى الجملة من فعل أفعالهم ليكون ذلك ردعًا وزجرًا عن(8/401)
انتهاك شىء منها؛ فإذا وقعت من معين لم يلعن بعينه لئلا يقنط وييأس ولنهى النبى (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك فى حديث النعيمان. فإن كان ذهب البخارى إلى غير هذا فهو غير صحيح؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) إنما نهى عن لعنه وقال: (لا تعينوا عليه الشيطان) بعد إقامة الحد عليه، فدل هذا الحديث على الفرق بين من تجب لعنته وبين من لا تجب، وبان به أن من أقيم عليه حدود الله فلا ينبغى لعنه ومن لم يقم عليه حد الله فاللعنة متوجهة إليه سواء سمى وعُين أم لا؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لا يلعن إلا من تجب له اللعنة ما دام على تلك الحالة الموجبة للعنه، فإذا تاب منها وأقلع وطهره الحد فلا لعنة تتوجه إليه. ويبين هذا قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا زنت الأمة فليجلدها ولا يثرب) فدل هذا الحديث أن التثريب واللعن إنما يكون قبل أخذ الحد وقبل التوبة. والله الموفق.
5 - باب الْحُدُودُ كَفَّارَةٌ
/ 9 - فيه: عُبَادَةَ، قَالَ: (كُنَّا عِنْدَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِى مَجْلِسٍ، فَقَالَ: بَايِعُونِى عَلَى أَنْ لا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلا تَسْرِقُوا، وَلا تَزْنُوا، وَقَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ كُلَّهَا، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَعُوقِبَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَتُهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ) . فإن أكثر العلماء ذهب إلى أن الحدود كفارة على حديث عبادة ومنهم من جبن عن هذا لما روى أبو هريرة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (لاأدرى الحدود كفارة أم لا) لأن حديث عبادة أصح من(8/402)
جهة الإسناد، ولو صح حديث أبى هريرة لأمكن أن يقوله (صلى الله عليه وسلم) قبل حديث عبادة ثم يعلمه الله أن الحدود طهرة أو صادة على حديث عبادة ولا تتضاد الأحاديث. قال المهلب: فإن قيل: إن آية المحاربة تعارض حديث عبادة وذلك قوله تعالى: (ذلك لهم خزى فى الدنيا) [المائدة: 33] يعنى الحدود) ولهم فى الآخرة عذاب عظيم) [المائدة: 33] فدلت هذه الآية أن الحدود ليست كفارة. والجواب: أن الوعيد فى المحاربة عند جميع المؤمنين مرتب على قول الله: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) [النساء: 48] فتأويل آية المحاربين) ذلك لهم خزى فى الدنيا ولهم فى الآخرة عذاب عظيم) [المائدة: 33] إن شاء الله تعالى بقوله: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء (وهذه الآية تبطل نفاذ الوعيد على غير أهل الشرك، إلا أن ذكر الشرك فى حديث عبادة مع سائر المعاصى لا يوجب أن من عوقب فى الدنيا وهو مشرك أن ذلك كفارة له؛ لأن الأمة مجمعة على تخليد الكفار فى النار وبذلك نطق الكتاب والسنة. وقد تقدم هذا المعنى فى كتاب الإيمان فى باب علامة الإيمان حبُ الأنصار، فحديث عبادة معناه الخصوص فيمن أقيم عليه الحد من المسلمين خاصة أن ذلك كفارة له.
6 - باب ظَهْرُ الْمُؤْمِنِ حِمًى إِلا فِى حَدٍّ أَوْ حَقٍّ
/ 10 - فيه: ابن عُمَر، قَالَ النبى (صلى الله عليه وسلم) فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ: (أَلا أَىُّ شَهْرٍ تَعْلَمُونَهُ أَعْظَمُ حُرْمَةً؟ قَالُوا: أَلا شَهْرُنَا هَذَا، قَالَ: أَلا(8/403)
أَىُّ بَلَدٍ تَعْلَمُونَهُ أَعْظَمُ حُرْمَةً؟ قَالُوا: أَلا بَلَدُنَا هَذَا، قَالَ: أَلا أَىُّ يَوْمٍ تَعْلَمُونَهُ أَعْظَمُ حُرْمَةً؟ قَالُوا: أَلا يَوْمُنَا هَذَا، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ إِلا بِحَقِّهَا كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِى بَلَدِكُمْ هَذَا، فِى شَهْرِكُمْ هَذَا، أَلا هَلْ بَلَّغْتُ؟ ثَلاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يُجِيبُونَهُ: أَلا نَعَمْ. . . الحديث. قال المهلب قوله: ظهر المؤمن حمىً إلا فى حق يعنى أنه لا يحل للمسلم أن يستبيح ظهر أخيه ولا بشرته لثائرة تكون بينه وبينه أو عداوة إذا لم تكن على حكم ديانة الإسلام مما كانت الجاهلية تستبيحه من الأعراض والدماء، وإنما يجوز استباحة ذلك فى حقوق الله أو حقوق الآدميين أو فى أدب لمن قصر فى الدين، كما كان عمر يؤدب بالدرة وبغيرها كل مظنون به ومقصر. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ألا أى شهر تعلمونه) وقول أصحابه: (ألا شهرنا هذا) فإن العرب تزيد (ألا) فى افتتاح الكلام للتنبيه، كقوله تعالى: (ألا إنهم هم المفسدون) [البقرة: 12] ) وألا حين يستغشون ثيابهم) [هود: 5] ، و) ألا يوم يأتيهم ليس مصروفًا عنهم) [هود: 4] . قال الشاعر: ألا يا زيد والضحاك سيرا فقد جاوزتما خمر الطريق
7 - باب إِقَامَةِ الْحُدُودِ وَالانْتِقَامِ لِحُرُمَاتِ اللَّهِ
/ 11 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَا خُيِّرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَأْثَمْ، فَإِذَا كَانَ الإثْمُ، كَانَ أَبْعَدَهُمَا مِنْهُ، وَاللَّهِ(8/404)
مَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ فِى شَيْءٍ يُؤْتَى إِلَيْهِ قَطُّ حَتَّى تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ اللَّهِ، فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ. وقولها: (ما خُير رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا) يحتمل أن يكون هذا التخيير ليس من الله؛ لأن الله لا يخير رسوله بين أمرين عليه فى أحدهما إثم فمعنى هذا الحديث ما خير رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أصحابه بين أن يختار لهم أمرين من أمور الدنيا على سبيل المشورة والإرشاد إلا اختار لهم أيسر الأمرين ما لم يكن عليهم فى الأيسر إثم؛ لأن العباد غير معصومين من إرتكاب الإثم، ويحتمل أن يكون ما لم يكن إثمًا فى أمور الدين، وذلك أن الغلو فى الدين مذموم والتشديد فيه غير محمود لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إياكم والغلو فى الدين فإنما هلك من قبلكم بالغلو فى الدين) . فإذا أوجب الإنسان على نفسه شيئًا شاقًا عليه من العبادة فادحًا له ثم لم يقدر على التمادى فيه كان ذلك إثمًا، ولذلك نهى النبى (صلى الله عليه وسلم) أصحابه عن الترهب. قال أبو قلابة: (بلغ النبى (صلى الله عليه وسلم) أن قومًا حرموا الطيب واللحم، منهم عثمان بن مظعون وابن مسعود وأرادوا أن يختصوا، فقام النبى (صلى الله عليه وسلم) على المنبر فأوعد فى ذلك وعيدًا شديدًا، ثم قال: إنى لم أبعث بالرهبانية، وإن خير الدين عند الله الحنيفية السمحة، وإن أهل الكتاب إنَّما هلكوا بالتشديد، وشدَّدوا فشدد عليهم، ثم قال: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وحجوا البيت واستقيموا يستقم لكم) .(8/405)
وقد جعل مطرف بن الشخير ويزيد بن مرة الجعفى مجاوزة القصد فى العبادة وغيرها والتقصير عنه سيئةً. فقالا: الحسنة بين السيئتين، والسيئتان إحداهما مجاوزة القصد والثانية التقصير عنه، والحسنة التى بينهما هى القصد والعدل. قال الداودى: وقولها وما انتقم رسول الله لنفسه، يعنى إذا أوذى بغير السب الذى يخرج إلى الكفر، مثل الأذى فى المال والجفاء فى رفع الصوت فوق صوته، ونحو التظاهر الذى تظاهرت عليه عائشة وحفصة، ومثل جبذ الأعرابى له حتى أثرت حاشية البرد فى عنقه أخذا منه بقوله تعالى: (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور) [الشورى: 43] وأما إذا أوذى فذلك كفر، وهو انتهاك حرمة الله فيجب عليه الانتقام لنفسه، وكذلك فعل فى ابن خطل يوم فتح مكة حين تعوَّذ بالكعبة من القتل، فأمر بقتله دون سائر الكفار؛ لأنه كان يكثر من سبه، وقد أمر بقتل قينتين كانتا تغنيان بسبه، وانتقم لنفسه؛ لأنه من سب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقد كفر، ومن كفر فقد آذى الله ورسوله، وكذلك قال: (من لكعب بن الأشراف فقد آذى الله ورسوله) ، فانتقم منه لذلك. قال المهلب: ولا يحل لأحد من الأئمة ترك حرمات الله أن تنتهك وعليهم تغيير ذلك. وقد روى عن مالك فى الرجل يؤذى وتنتهك حرمته ثم يأتيه الظالم(8/406)
المنتهك لحرمته فيسأله الغفران. فقال: لا أرى أن يغفر له. ووجه قول مالك إذا كان معروفًا بانتهاك حرم المسلمين فلا يجب أن يجرى على هذا، ويرد بالإغلاظ عليه والقمع له وعن ظلم أحد.
8 - باب إِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ
/ 12 - فيه: عَائِشَةَ: أَنَّ أُسَامَةَ كَلَّمَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فِى امْرَأَةٍ، فَقَالَ: (إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُقِيمُونَ الْحَدَّ عَلَى الْوَضِيعِ، وَيَتْرُكُونَ الشَّرِيفَ، وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ فَعَلَتْ ذَلِكَ لَقَطَعْتُ يَدَهَا) . قال المهلب: هذا يدل أن حدود الله لا يحل للأئمة ترك إقامتها على القريب والشريف، وأن من ترك ذلك من الأئمة فقد خالف سنُة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ورغب عن اتباع سبيله. وفيه: أن إنفاذ الحكم على الضعيف ومحاشاة الشريف مما أهلك الله به الأمم، ألا ترى أنه (صلى الله عليه وسلم) وصف أن بنى إسرائيل هلكوا بإقامة الحد على الوضيع وتركهم الشريف. وقد وصفهم الله بالكفر لمخالفتهم أمر الله تعالى، فقال تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) [المائدة: 44] ) الظالمون) [المائدة: 54] ) الفاسقون) [المائدة: 47] وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لو أن فاطمة سرقت لقطعت يدها) هو فى معنى قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين) [النساء: 135] .(8/407)
فامتثل (صلى الله عليه وسلم) أمر ربه فى ذلك، وامتثله بعده الأئمة الراشدون فى تقويم أهليهم فيما دون الحد. وذكر عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهرى، عن سالم، عن أبيه قال: كان عمر بن الخطاب إذا نهى الناس عن شىء جمع أهله، فقال: إنى نهيت الناس عن كذا وكذا، والناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، فإن وقعتم وقعوا، وإن هبتم هابوا، وإنى والله لا أوتى برجل منكم وقع فى شىء مما نهيته عنه إلا أضعف عليه العقوبة لمكانه منى، فمن شاء فليتقدم ومن شاء فليتأخر.
9 - باب كَرَاهِة الشَّفَاعَةِ فِى الْحَدِّ إِذَا رُفِعَ إِلَى السُّلْطَانِ
/ 13 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّتْهُمُ الْمَرْأَةُ الْمَخْزُومِيَّةُ الَّتِى سَرَقَتْ، فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: أَتَشْفَعُ فِى حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟ ثُمَّ قَامَ، فَخَطَبَ فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا ضَلَّ مَنْ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ الضَّعِيفُ فِيهِمْ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) سَرَقَتْ، لَقَطَعَ مُحَمَّدٌ يَدَهَا) . ذهب جماعة العلماء إلى أن الحدّ إذا بلغ الإمام أنه يجب عليه إقامته، لأنه قد تعلق بذلك حق لله ولا تجوز الشفاعة فيه لإنكاره ذلك على أسامة وذلك من أبلغ النهى، ثم قام (صلى الله عليه وسلم) خطيبًا فحذر أمته من الشفاعة فى الحدود إذا بلغت إلى الإمام.(8/408)
فإن قيل: فقد قال مالك وأبو يوسف والشافعى: إن القذف إذا بلغ إلى الإمام يجوز للمقذوف العفو عنه إن أراد سترًا. قيل له: إن هذه شبهة يجوز بها درء الحد؛ لأنه إن ذهب الإمام إلى حد القاذف خشى أن يأتى بالبينة على صدق ما قال من القذف، فيسقط الحد عنه، وربما وجب على المقذوف فقويت الشبهة فى ذلك. وقد قال مالك أيضًا: إنه لا يجوز عفوه إذا بلغ الإمام. وهو قول أبى حنيفة والثورى والأوزاعى، وهذا القول أشبه بظاهر الحديث. وأجاز أكثر أهل العلم الشفاعة فى الحدود قبل وصولها إلى الإمام. روى ذلك عن الزبير ابن العوام، وابن عباس، وعمار بن ياسر، ومن التابعين سعيد بن جبير والزهرى، وهو قول الأوزاعى. قالوا: وليس على الإمام التجسس عما لم يبلغه. وكره ذلك طائفة: فقال ابن عمر: من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله فى حكمه. وفرق مالك بين من لم يعرف منه أذى للناس. فقال: لا بأس أن يشفع له ما لم يبلغ الإمام، وأما من عرف بشر وفساد فى الأرض فلا أحب أن يشفع له أحد، ولكن يترك حتى يقام عليه الحد. قال ابن المنذر: واحتج من رأى الشفاعة مباحة قبل الوصول إلى الإمام بحديث المخزومية؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) إنما أنكر شفاعة أسامة فى حد قد وصل إليه وعلمه. وفى هذا الحديث بيان رواية معمر عن ابن شهاب: (أن امرأة مخزومية كانت تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبى (صلى الله عليه وسلم) بقطع يدها) وقد تعلق بهذا قوم فقالوا: من استعار ما يجب القطع(8/409)
فيه ثم جحده فعليه القطع. هذا قول أحمد وإسحاق وقالوا: إن الذى أوجب عليها القطع أنها كانت تستعير المتاع وتجحده. وخالفهم أهل المدينة والكوفة والشافعى وجمهور العلماء وقالوا: لا قطع عليهم. وحجتهم ما رواه الليث عن ابن شهاب فى هذا الحديث: أن قريشًا أهمهم شأن المرأة المخزومية التى سرقت، فدل هذا الحديث أنها لم تقطع على استعارتها للمتاع، وإنما قطعت على السرقة، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) فى آخر الحديث (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها) فارتفع الإشكال بهذا لو لم يذكر الليث فى أول الحديث أنها سرقت. قال ابن المنذر: وقد يجوز أن كانت تستعير المتاع وتجحده ثم سرقت فوجب قطع يدها للسرقة. وقد تابع الليث على روايته يونس بن يزيد وأيوب بن موسى روياه عن الزهرى كرواية الليث، وإذا اختلفت الآثار وجب الرجوع إلى النظر ووجب رد ما اختلف فيه إلى كتاب الله، وإنما أوجب الله القطع على السارق لا على المستعير.
- باب قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) [المائدة: 38] وَفِى كَمْ يُقْطَعُ؟
وَقَطَعَ عَلِىٌّ مِنَ الْكَفِّ. وَقَالَ قَتَادَةُ فِى امْرَأَةٍ سَرَقَتْ فَقُطِعَتْ شِمَالُهَا: لَيْسَ إِلا ذَلِكَ. / 14 - فيه: عَائِشَةَ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (تُقْطَعُ الْيَدُ فِى رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا) .(8/410)
/ 15 - وقالت مرة: إِنَّ يَدَ السَّارِقِ لَمْ تُقْطَعْ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) إِلا فِى ثَمَنِ مِجَنٍّ حَجَفَةٍ أَوْ تُرْسٍ. / 16 - وقالت مرة: لَمْ تُقْطَعُ فِى أَدْنَى مِنْ ثَمَنِ المِجَن حَجَفَةٍ أَوْ تُرْسٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذَا ثَمَنٍ. / 17 - فيه: ابْن عُمَر، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَطَعَ فِى مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلاثَةُ دَرَاهِمَ. / 18 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أن النّبىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ) . هذه الآية محكمة فى وجوب قطع السارق ومجملة فى مقدار ما يجب فيه القطع، فلو تركنا مع ظاهره لوجب القطع فى قليل الأشياء وكثيرها، لكن بين لنا النبى (صلى الله عليه وسلم) مقدار ما يجب فيه القطع بقوله: (يقطع الكف فى ربع دينار فصاعدًا) ففهمنا بهذا الحديث أن الله إنما أراد بقوله: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) [المائدة: 38] بعض السراق دون بعض فلا يجوز قطع يد السارق إلا فى ربع دينار فصاعدًا أو فيما قيمته ربع دينار مما يجوز ملكه إذا سرق من حرز. روى هذا القول عن عمر وعثمان وعلى وعائشة، وهو قول مالك والليث والأوزاعى والشافعى وأبى ثور. وذهب الثورى والكوفيون إلى أنه لا تقطع اليد إلا فى عشرة دراهم، وقالوا: من سرق مثقالا لا يساوى عشرة دراهم لا قطع عليه. وكذلك من سرق عشرة دراهم فضة لا تساوى عشرة دراهم مضروبة لم يقطع، واحتجوا بما رواه أبو إسحاق، عن أيوب بن موسى، عن(8/411)
عطاء، عن ابن عباس قال: كانت قيمة المجن الذى قطع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيه عشرة دراهم. والحجة على الكوفيين أنه يحتمل أن يكون القطع فى عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى مجنين مختلفين أحدهما ثمنه ثلاثة دراهم والثانى ثمنه عشرة دراهم؛ لأنه إذا صح القطع بنقل الثقات فى ثلاثة دراهم دخلت فيه العشرة دراهم، وهذا أولى من حمل الأخبار على التضاد. ومع الأئمة الأربعة الراشدين عائشة، وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدرى، وابن الزبير، رضوان الله عليهم. واختلف مالك والشافعى فى تقويم الأشياء المسروقة، فقال مالك: تقوم بالدراهم على حديث ابن عمر أن المجن كان ثمنه ثلاثة دراهم، ولا ترد الفضة إلى الذهب فى القيمة ولا الذهب إلى الفضة، فمن سرق عنده ربع دينار فعليه القطع، ومن سرق ثلاثة دراهم فعليه القطع، ولو سرق عنده درهمين صرفهما ربع دينار لم يجب عليه قطع، ولو سرق ربع دينار لا تبلغ قيمته ثلاثة دراهم لوجب عليه القطع. وذهب الشافعى إلى أن تقويم الأشياء بالذهب على حديث عائشة فى ربع دينار، ولا يقوم شيئًا بالدراهم فيقطع فى ربع دينار ولا يقطع فى ثلاثة دراهم إلا أن تكون قيمتها ربع دينار قال: لأن الثلاثة دراهم إنما ذكرت فى الحديث؛ لأنها كانت يومئذ ربع دينار ذهبًا. فيقال للشافعى: الذهب والورق أصلان كالدية التى جعلت ألف دينار أو اثنى عشر ألف درهم، وكالزكاة التى جعلت فى مائتى درهم أو عشرين دينارًا لا يرد أحدهما إلى الآخر. فكذلك لا ينبغى أن يقوم(8/412)
الذهب بالدراهم ولا تقوم الدراهم بالذهب؛ لأنها قيم المتلفات وأثمان الأشياء، بل الغالب القيمة بالدراهم، ومحال أن يحكى ابن عمر أن المجن قيمته ثلاثة دراهم إلا وقد قوم بها دون الذهب، وإذا ثبت أن المجن قُوم بالدراهم ولم ينقل بعد ذلك أن الدراهم قومت بالذهب لم يجز تقويمها بالذهب كما لا يقوم الذهب بها، ووجب استعمال الأحاديث فوجب القطع فى ربع دينار وثلاثة دراهم. واختلفوا فى اليد والرجل من أين يُقطعان؟ فروى عن عمر وعثمان وعلى أنهم قالوا: من المفصل. وعليه أكثر الفقهاء، وقد روى عن على رواية أخرى أنها تقطع اليد من الأصابع والرجل من نصف القدم ويترك له عقبًا. وقال أبو ثور: فعل على أرفق وأحب إلىّ. والقول الأول: أولى بقوله تعالى: (فاقطعوا أيديهما) [المائدة: 38] . واختلفوا إذا سرق ثالثة بعد أن قطع فى الأولى والثانية. فقالت طائفة: تقطع يده اليسرى، ثم إن سرق رابعة قطعت رجله اليمنى فيصير مقطوع اليدين والرجلين. روى هذا عن أبى بكر الصديق وعمر وعثمان، ومن التابعين عروة والقاسم وسعيد بن المسيب وربيعة، وهو قول مالك والشافعى. وقال أبو حنيفة والثورى والأوزاعى: إن سرق الثالثة لا يقطع منه شىء ويغرم السرقة، روى مثل هذا عن على بن أبى طالب وهو قول النخعى والشعبى والزهرى.(8/413)
قال عطاء، وقال بعض أصحاب الظاهر: لا يجب أن يقطع من السارق إلا الأيدى دون الأرجل، واحتج عطاء بقول الله تعالى: (السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) [المائدة: 38] ولو شاء أمر بالرجل وما كان ربك نسيا. وحجة الكوفيين ما رواه إسماعيل بن جعفر، عن أبيه أن على بن أبى طالب كان لا يزيد أن يقطع للسارق يدًا أو رجلا فإذا أتى به بعد ذلك قال: إنى لأستحى أن لا يتطهر للصلاة ولكن امسكوا كلبه عن المسلمين بالسجن وأنفقوا عليه من بيت المال. والحجة لمالك أن أهل العراق والحجاز يقولون بجواز قطع الرجل بعد اليد وهم يقرءون) فاقطعوا أيديهما) [المائدة: 38] وهذه المسألة تشبه المسح على الخفين وهم يقرءونه غسل الرجلين أو مسحهما، وتشبه الجزاء فى قتل صيد الخطأ وهم يقرءونه) ومن قتله منكم متعمدًا) [المائدة: 95] ولا يجوز على الجمهور تحريف الكتاب ولا الخطأ فى تأويله، وإنما قالوا ذلك بالسنة الثابتة والأمر المتبع. وقال إسماعيل بن إسحاق: لما قال الله: (فاقطعوا أيديهما) [المائدة: 38] فأجمعوا أن يده تقطع، ثم إن سرق بعد ذلك قطع منه شىء آخر، فدل على أن المذكور فى القرآن إنما هو على أول حكم يقع عليه فى السرقة، وأنه إن سرق بعد ذلك أعيد عليه الحكم كما يحد إذا زنا وهو بكر، فإذا أعاد الزنا أعيد عليه الحد فإذا صح هذا وجب أن يقطع أبدًا حتى لا يبقى له يد ولا رجل كما يجلد أبدًا حتى لا يبقى فيه موضع جلد.(8/414)
وقال غيره: إنما فهم السلف قطع يد السراق وأرجلهم من خلاف من آية المحاربين، والله أعلم وقد تقدم الكلام على حديث أبى هريرة فى باب لعن السارق إذا لم يسم.
- باب تَوْبَةِ السَّارِقِ
/ 19 - فيه: عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، قَطَعَ يَدَ امْرَأَةٍ، وَكَانَتْ تَأْتِى بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَرْفَعُ حَاجَتَهَا إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَتَابَتْ، وَحَسُنَتْ تَوْبَتُهَا. / 20 - وفيه: عبادة فى حديث المبايعة إلى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَأُخِذَ بِهِ فِى الدُّنْيَا، فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَطَهُورٌ، وَمَنْ سَتَرَهُ اللَّهُ فَذَلِكَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ) . وقد تقدم فى كتاب الشهادة اختلاف العلماء فى قبول شهادة التائب فى كل شىء مما حدَّ فيه وفى غيره لقول عائشة: فتابت وحسنت توبتها وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) وهو معنى قوله فى هذا الحديث أن الحدود فى الدنيا كفارة وطهور، وصحة القول أرجح فى النظر من قول من خالفه لما شهد له من ثابت الآثار ومعانى القرآن، والحمد لله.(8/415)
61 - كتاب المحاربين
- باب الْمُحَارِبِينَ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالرِّدَّةِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) [المائدة: 33]
. / 1 - فيه: أَنَس، قَدِمَ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، نَفَرٌ مِنْ عُكْلٍ فَأَسْلَمُوا، فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَأْتُوا إِبِلَ الصَّدَقَةِ، فَيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، فَفَعَلُوا، فَصَحُّوا، فَارْتَدُّوا، وَقَتَلُوا رُعَاتَهَا، وَاسْتَاقُوا الإبِلَ، فَبَعَثَ فِى آثَارِهِمْ، فَأُتِىَ بِهِمْ، فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ، ثُمَّ لَمْ يَحْسِمْهُمْ حَتَّى مَاتُوا. قال المؤلف: ذهب البخارى فى هذا الحديث والله أعلم، إلى أن آية المحاربة نزلت فى أهل الكفر والردة، ولم يبين ذلك فى الحديث، وقد بين عبد الرزاق فى روايته قال: حدثنا معمر، عن قتادة، عن أنس فذكر الحديث. قال قتادة: فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم) إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله) [المائدة: 33] الآية كلها. وذكر مثله عن أبى هريرة وممن قال إن هذه الآية نزلت فى أهل الشرك: الحسن، والضحاك، وعطاء الزهرى. وذهب جمهور العلماء إلى أنها نزلت فيمن خرج من(8/416)
المسلمين يسعى فى الأرض بالفساد ويقطع الطريق، هذا قول مالك والكوفيين والشافعى وأبى ثور إلا أن بعض هؤلاء يقول إن حد المحارب على قدر ذنبه على ما يأتى تفسيره فى هذا الباب. وليس قول من قال: إن الآية وإن كانت نزلت فى المسلمين مناف فى المعنى لقول من قال إنها نزلت فى أهل الردة والمشركين؛ لأن الآية وإن كانت نزلت فى المرتدين بأعيانهم فلفظها عام يدخل فى معناه كل من فعل مثل فعلهم من المحاربة والفساد فى الأرض، ألا ترى أن الله جعل قصر الصلاة فى السفر بشرط الخوف ثم ثبت القصر للمسافرين وإن لم يكن خوف لما يجمعهما فى المعنى. قال إسماعيل بن إسحاق: وظاهر كتاب الله وما مضى عليه عمل المسلمين يدل أن هذه الحدود نزلت فى المسلمين؛ لأن الله تعالى يقول: (إذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب) [محمد: 4] وقال: (وقاتلوا المشركين كافة) [التوبة: 36] . فلم يذكر فيهم إلا القتل والقتال؛ لأنهم إنما يقاتلون على الديانة لا على الأعمال التى يعملونها من سرق أو قطع طريق أو غيره، وإذا ذكرت الحدود التى تجب على الناس من الحرابة والفساد فى الأرض أو السرقة وغيرها لم تسقط عن المسلمين؛ لأنها إنما وجبت من طريق أفعال الأبدان لا من طريق اعتقاد الديانات. ولو كان حد المحارب فى الكافر خاصة لكانت الحرابة قد نفعته فى أمر دنياه لأنا نقتله بالكفر. فإن كان إذا أحدث الحرابة مع الكفر جاز لنا أن نقطع يده ورجله(8/417)
من خلاف أو نفيه من الأرض ولا نقتله فقد خففت عنه العقوبة. واحتج أبو ثور على من زعم أنها نزلت فى أهل الشرك بقوله تعالى: (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) [المائدة: 34] . قال: ولا أعلم خلافًا بين العلماء فى مشركين لو ظهر عليهم وقد قتلوا وأخذوا الأموال فلما صاروا فى أيدى المسلمين وهم على حالهم تلك أسلموا قبل أن يحكم عليهم بشىء أنهم لا يحل قتلهم، فلو كان الأمر على ما قال من خالف قولنا كان قتلهم والحكم عليهم بالآية لازمًا وإن أسلموا، فلما نفى أهل العلم ذلك دل على أن الحكم ليس فيهم. قال إسماعيل: وإنما سقط عنهم القتل وكل ما فعلوه بقوله تعالى: (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) [الأنفال: 38] . فإن مضى عليه قول شيوخ أهل العلم أن المعنى بهذا المسلمون وأنهم إذا حاربوا ثم تابوا من قبل أن يقدر عليهم فإن هذه الحدود تسقط عنهم لأنها لله، وأما حقوق العباد فإنها لا تسقط عنهم ويقتص منهم من النفس والجراح وأخذ ما كان معهم من المال أو قيمة ما استهلكوا. هذا قول مالك والكوفيين والشافعى وأبى ثور. ذكره ابن المنذر. وأما ترتيب أقوال العلماء الذين جعلوا الآية نزلت فى المسلمين فى حد المحارب المسلم، فقال مالك: إذا أشهر المحارب السلاح وأخاف(8/418)
السبيل ولم يقتل ولا أخذ مالا كان الإمام مخيرًا فيه، فإن رأى أن يقتله أو يصلبه أو يقطع يده ورجله من خلاف أو ينفيه فعل. وقال الكوفيون والشافعى: إذا لم يقتل ولا أخذ مالا لم يكن عليه إلا التعزير، وإنما يقتله الإمام إن قتل، ويقطعه إذا سرق، ويصلبه إذا قتل وأخذ المال، وينفيه إذا لم يفعل شيئًا من ذلك، ولا يكون الإمام مخيرًا فيه. قال إسماعيل: فأجروا حكم المحارب كحكم القاتل غير المحارب، ولم توجب المحاربة عندهم شيئًا وقد ركب ما ركب من الفساد فى الأرض وقد قال تعالى: (من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد فى الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا) [المائدة: 32] فجعل الفساد بمنزلة القتل. والمعنى والله أعلم من قتل نفسًا بغير نفس، أو بغير فساد فى الأرض فلم يحتج إلى أن تعاد (غير) وعطف الكلام على ما قبله، فجعل الفساد عدلا للقتل. وإذا كان الشىء بمنزلة الشىء فهو مثله، فكان الفساد فى الأرض بمنزل القتل. هذا قول إسماعيل وعبد العزيز بن أبى سلمة. قال إسماعيل: والذى يعرف من الناس من الكلام فى كل ما أمر به فقيل افعلوا كذا أو كذا، فإن صاحبه مخير. وقال عطاء ومجاهد والضحاك: كل شىء فى القرآن أو. . . أو فهو خيار. واحتج من أسقط التخيير بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، رجل كفر بعد إسلامه أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفسًا بغير نفس) .(8/419)
فجاوبهم أهل المقالة الأولى بأن ظاهر هذا الحديث يدل أن المحارب غير داخل فيه؛ لأن قاتل النفس فى غير المحاربة إنما أمره فى القتل أو الترك إلى ولى المقتول، وأمر المحارب إلى السلطان؛ لأن فساده فى الأرض لا يلتفت فيه إلى عفو المقتول فعلمنا بهذا أن المحارب لا يدخل فى هذا الحديث وإنما يدخل فيه القاتل الذى الأمر فيه إلى ولى المقتول إذا قتل فيه أو قتل نفسًا فكأنه على مجرى القصاص، ولو كان على العموم لوجب أن يقتل كل قاتل قتل مسلمًا عمدًا. وقد رأينا مسلمًا قتل مسلمًا عمدًا لم يجب عليه القتل فى قول جماعة المسلمين، وذلك أنهم أجمعوا فى قتلى الجمل وصِفين أنه لا قصاص بينهم إذ كان القاتل المسلم إنما قتل المسلم المقتول عمدًا على التأويل فى الدين لم يقتله لثائرة بينه وبينه ولا قصد له فى نفسه وإنما قصد فى قتله الديانة عنده فسقط عنه القود لذلك فكذلك أمر المحارب إنما كان على قصد قتل المسلم لقطع الطريق وأخذ الأموال والفساد فى الأرض، فكان الأمر فيه إلى السلطان لا إلى ولى المقتول، فكما خرج قتلى صِفين والجمل من معنى هذا الحديث كذلك خرج المحارب من معناه. ويشهد لما قلناه ما رواه الأعمش عن عبد الله بن مرة قال: قال مسروق: قال عبد الله: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يحل دم رجل مسلم إلا بإحدى ثلاث. فعدَّ النفس بالنفس، والثيب الزانى، والتارك لدينه المفارق الجماعة) . قال إسماعيل: وقوله: (المفارق الجماعة) يدل على الفساد فى الأرض نحو الخوارج والمحاربين، فإذا كان الخوارج يحل قتلهم(8/420)
وليسوا بمرتدين لفسادهم فى الأرض، كذلك يحل قتل المحاربين وإن لم يكونوا قتلوا ولا ارتدوا لفسادهم فى الأرض. واختلف فى صفة نفى المحارب، فعند مالك أنه ينفيه إلى غير بلده ويحبسه فيه حتى يظهر توبته، وقال أبو حنيفة: نفيهم من الأرض هو أن يحبسوا فى بلدهم. وقال الشافعى: نفيهم هو إذا هربوا بعث الإمام خلفهم وطلبهم ليأخذهم ويقيم عليهم الحد. قال ابن القصار: والنفى بعينه أشبه بظاهر القرآن لقوله تعالى: (أو ينفوا من الأرض) [المائدة: 33] وهذا يقتضى أن ينفيهم الإمام كما يقتلهم أو يصلبهم، وما قاله أبو حنيفة من الحبس فى بلدهم فالنفى ضد الحبس وليس يعقل من النفى حبس الإنسان فى بلده، وإنما يعقل منه إخراجه من وطنه وهو أبلغ فى ردعه ثم يحبس فى المكان الذى يخرج إليه حتى يظهر توبته، هذا حقيقة النفى، وهو أشد فى الردع والزجر وقد قرن الله مفارقة الوطن بالقتل فقال: (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم) [النساء: 66] الآية.
- باب لَمْ يَحْسِمِ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) الْمُحَارِبِينَ مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ حَتَّى هَلَكُوا
/ 2 - فيه: أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَطَعَ الْعُرَنِيِّينَ، وَلَمْ يَحْسِمْهُمْ حَتَّى مَاتُوا. إنما لم يحسم النبى (صلى الله عليه وسلم) العرنيين والله أعلم لأن قتلهم كان واجبًا بالردة، فمحال أن يحسم يد من يطلب نفسه وأما(8/421)
من وجب قطع يده فى حد من الحدود فالعلماء مجمعون أنه لابد من حسمها؛ لأنه أقرب إلى البر وأبعد من التلف. قال ابن المنذر: وقد روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه أمر بقطع يد رجل سرق ثم قال: (احسموها) وفى اسناده مقال. واختلف العلماء فى فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) بالعرنيين فقالت طائفة من السلف: كان هذا قبل نزول الآية فى المحاربين، ثم نزلت الحدود بعد ذلك على النبى (صلى الله عليه وسلم) ونهى عن المثلة فنسخ ذلك حديث العرنيين، روى هذا عن ابن سيرين وسعيد بن جبير وأبى الزناد. وقالت طائفة: حديث العرنيين غير منسوخ، وفيهم نزلت آية المحاربين، وإنما فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) بهم ما فعل قصاصًا؛ لأنهم فعلوا بالرعاء مثل ذلك، ذكره أهل السير. وروى محمَّد بن فليح، عن موسى بن عقبة، عن ابن شهاب: أن العرنيين قتلوا يسارًا راعى النبى (صلى الله عليه وسلم) ثم مثلوا به واستاقوا اللقاح. وذكر ابن إسحاق قال: حدثنى بعض أهل العلم عمن حدثه، عن محمد بن طلحة، عن عثمان بن عبد الرحمن قال: (أصاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى غزوة محارب بنى ثعلبة عبدًا يقال له يسار، فجعله فى لقاح له يرعى فى ناحية الحمى فخرجوا إليها، فقدم إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) نفر من قيس بعطية من نخيلة فاستوبئوا وطحلوا، فأمرهم أن يخرجوا إلى اللقاح يشربوا من أبوالها وألبانها،(8/422)
فخرجوا إليها، فلما صحّوا وانطوت بطونهم عدوا على راعى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يسار فذبحوه وغرزوا الشوك فى عينيه. .) وذكر الحديث. وروى أبو عيسى الترمذى: حدثنا الفضل بن سهل الأعرج، حدثنا يحيى بن غيلان، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا سليمان التيمى، عن أنس بن مالك قال: (إنما سمل النبى (صلى الله عليه وسلم) أعين العُرنيين؛ لأنهم سملوا أعين الرعاء) . قال أبو عيسى: وهذا حديث غريب. قال المؤلف: فلما اختلفوا فى تأويل هذا الحديث أردنا أن نعلم أى التأويلين أولى فوجدناه قد صحب حديث العرنيين عمل من الصحابة فدل أنه غير منسوخ. روى عن أبى بكر الصديق أنه حرق عبد الله بن إياس بالنار حيا لارتداده ومقاتلته الإسلام، وحرق على ابن أبى طالب الزنادقة. وقد رأى جماعة من العلماء تحريق مراكب العّدو وفيها أسرى المسلمين، ورجموا الحصون بالمجانيق والنيران وتحريق من فيها من الذرارى. قل المهلب: وهذا كله يدل أن نهيه (صلى الله عليه وسلم) عن المثلة ليس بذى تحريم وإنما هو على الندب والحض، فوجب أن يكون فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) بالعرنيين غير مخالف الآية. وذكر ابن المنذر عن بعض أهل العلم قالوا: فحكم النبى (صلى الله عليه وسلم) فى العرنيين ثابت لم ينسخه شىء، وقد حكم الله فى كتابه بأحكام فحكم النبى (صلى الله عليه وسلم) بها وزاد فى الحكم مالم يذكر فى كتاب الله أوجب الله على الزانى جلد مائة، وأوجب النبى (صلى الله عليه وسلم) عليه ذلك وزاد فى سنته نفى سنة، وأوجب الله اللعان بين المتلاعنين وفرق النبى (صلى الله عليه وسلم) بينهما، وليس ذلك فى كتاب الله، وألحق الولد بالأم ونفاه عن الزوج وأجمع العلماء على قبوله والأخذ به.(8/423)
وحسمت الشىء: قطعته. عن صاحب العين. وفى كتاب الأفعال: حَسم حسمًا: كواه بالنار لينقطع دمه.
3 - باب لَمْ يُسْقَ الْمُرْتَدُّونَ وَالْمُحَارِبُونَ حَتَّى مَاتُوا
/ 3 - فيه: أَنَس، قَدِمَ رَهْطٌ مِنْ عُكْلٍ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) كَانُوا فِى الصُّفَّةِ، فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَبْغِنَا رِسْلا، فَقَالَ: مَا أَجِدُ لَكُمْ، إِلا أَنْ تَلْحَقُوا بِإِبِلِ رَسُولِ اللَّهِ، فَأَتَوْهَا، فَشَرِبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا حَتَّى صَحُّوا وَسَمِنُوا، وَقَتَلُوا الرَّاعِىَ، وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ، فَأَتَى النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) الصَّرِيخُ، فَبَعَثَ الطَّلَبَ فِى آثَارِهِمْ، فَمَا تَرَجَّلَ النَّهَارُ حَتَّى أُتِىَ بِهِمْ فَأَمَرَ بِمَسَامِيرَ، فَأُحْمِيَتْ، فَكَحَلَهُمْ، وَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَمَا حَسَمَهُمْ، ثُمَّ أُلْقُوا فِى الْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ، فَمَا سُقُوا حَتَّى مَاتُوا. قَالَ أَبُو قِلابَةَ: سَرَقُوا وَقَتَلُوا وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ. وروى: وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ. وترجم له باب: سمر النبى (صلى الله عليه وسلم) أعين المحاربين. أجمع العلماء فيمن وجب عليه حد، سواء كان ذلك الحد يبلغ النفس أم لا أنه لا يمنع شرب الماء لئلا يجتمع عليه عذابان. وقد أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) القاتل بإحسان القتلة، وأمر ذابح الحيوان بحد الشفرة والإجهاز عليه. ومعنى ترك سقى العرنيين حتى ماتوا كمعنى ترك حسمهم. قال المهلب: ويحتمل أن يكون ترك سقيهم والله أعلم عقوبة لما جازوا سقى النبى (صلى الله عليه وسلم) لهم اللبن حتى انتعشوا(8/424)
بالارتداد والحرابة والقتل، فأراد أن يعاقبهم على كفر السقى بالإعطاش فكانت العقوبة مطابقة للذنب. وفيه وجه آخر قريب من هذا، روى ابن وهب عن معاوية بن صالح ويحيى بن أيوب، عن يحيى بن سعيد، وعن سعيد بن المسيب وذكر هذا الحديث (فعمدوا إلى الراعى غلام لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقتلوه واستاقوا اللقاح فزعم أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: عطش الله من عطش آل محمد الليلة. فكان ترك سقيهم إجابة لدعوته (صلى الله عليه وسلم)) . وسمل وسمر لغتان بمعنى واحد. فإن قيل: قال أنس فى هذا الحديث (بإبل النبى (صلى الله عليه وسلم)) وقال فى أول كتاب المحاربين (بإبل الصدقة) فما وجه ذلك؟ قيل: وجهه والله أعلم أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كانت له إبل من نصيبه من المغنم، وكان يشرب لبنها، وكانت ترعى مع إبل الصدقة فأخبر مرة فى هذا الحديث عن إبله، وأخبر مرة عن إبل الصدقة فإنها كانت لا تخفى لكثرتها من أجل رعيها معها ومشاركتها فى المسرح والمرتع.
4 - باب فَضْلِ مَنْ تَرَكَ الْفَوَاحِشَ
/ 4 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِى ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِى عِبَادَةِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ فِى خَلاءٍ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالمَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِى اللَّهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ إِلَى نَفْسِهَا، فَقَالَ: إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا صَنَعَتْ يَمِينُهُ) .(8/425)
/ 5 - وفيه: سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِىِّ: قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ تَوَكَّلَ لِى مَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ وَمَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ، تَوَكَّلْتُ لَهُ بِالْجَنَّةِ) . قوله (صلى الله عليه وسلم) : (سبعة يظللهم الله فى ظله) معناه: يسترهم فى ستره ورحمته. تقول العرب: أنا فى ظل فلان: أى فى ستره وكنفه، وتسمى العرب الليل ظلا لبرده وروحه. ويدخل فى معنى قوله (إمام عادل) : من حكم بين اثنين فما فوقهما لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) . وروى عبد الله بن عمر عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (المقسطون يوم القيامة على منابر النور عن يمين الرحمن عز وجل الذين يعدلون فى حكمهم وأهاليهم وما ولُوا) . وقوله: (شاب نشأ فى عبادة الله) فروى عقبة بن عامر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (عجب ربك تعالى لشاب ليس له صبوة) وفى قوله: (شاب نشأ فى عبادة الله) فضل من يسلم من الذنوب وشغل بطاعة ربه طول عمره. وهذا حجة لمن قال: إن الملائكة أفضل من بنى آدم؛ لأن الملائكة يسبحون الليل والنهار لا يفترون. وفيه: فضل البكاء من خشية الله، وفى اشتراطه الخلوة بذلك حصر وندب على أن يجعل المرء وقتًا من خلوته للندم على ذنوبه ويفزع إلى الله بإخلاص من قلبه، وتضرع إليه فى غفرانها فإنه يجيب المضطر إذا دعاه، وألا يجعل خلوته كلها فى لذاته كفعل البهائم التى قد(8/426)
أمنت الحساب والمساءلة عن الفتيل والقطمير على رءوس الخلائق فينبغى لمن لم يأمن ذلك وأيقن به أن يطول فى الخلوة بكاؤه ويتبرم لحياته وتصير الدنيا سجنه لما سلف من ذنوبه. روى أبو هريرة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (لا يلج النار أحد بكى من خشية الله حتى يعود اللبن فى الضرع) . روى أبو عمران عن أبى الجلد قال: قرأت فى مسألة داود (صلى الله عليه وسلم) ربه: (إلهى ما جزاء من بكى من خشيتك حتى تسيل دموعه على وجهه؟ قال: أسلم وجهه من لفح النار وأؤمنه يوم الفزع) . وفيه: فضل الحب فى الله قال مالك: الحب فى الله والبغض فى الله من الفرائض. روى أبو مسعود والبراء بن عازب عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : أن ذلك من أوثق عُرى الإيمان. وروى ثابت عن أنس قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (ما تحاب رجلان فى الله إلا كان أفضلهما أشدهما حبا لصاحبه) وروى أبو رزين قال: (قال لى النبى (صلى الله عليه وسلم) : يا أبا رزين إذا خلوت فحرك لسانك بذكر الله، وحب فى الله وأبغض فى الله، فإن المسلم إذا زار أخاه فى الله تعالى يشيعه سبعون ألف ملك يقولون: اللهم وَصَلَه فيك فصِلْه) . ومن فضل المتحابين فى الله أن كل واحد منهما إذا دعا لأخيه بظهر الغيب أمَّنَ الملك على دعائه، رواه أبو الدرداء عن النبى (صلى الله عليه وسلم) . وأما الذى إذا دعته امرأة ذات منصب إلى نفسها فقال: إنى أخاف الله. فهو رجل عصمه الله ومنّ عليه بفضله حتى خافه بالغيب فترك ما يهوى(8/427)
لقوله تعالى: (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هى المأوى) [النازعات: 40] وقال: (ولمن خاف مقام ربه جنتان) [الرحمن: 46] . فتفضل الله على عباده بالتوفيق والعصمة وأثابهم على ذلك روى أبو معمر عن سلمة بن نبيط عن عبيد بن أبى الجعد، عن كعب الأحبار قال: إن فى الجنة لدار، درة فوق درة، ولؤلؤة فوق لؤلؤة، فيها سبعون ألف قصر، فى كل قصر سبعون ألف دار، فى كل دار سبعون ألف بيت، لا ينزلها إلا نبى أو صديق أو شهيد أو محكم فى نفسه أو إمام عادل، قال سلمة: فسألت عبيدًا عن المحكم فى نفسه قال: هو الرجل يطلب الحرام من النساء أو من المال فيعرض له فإذا ظفر به تركه مخافة الله فذلك المحكم فى نفسه. وقوله: (رجل تصدق بصدقة فأخفاها) يعنى صدقة التطوع؛ لأن صدقة الفرض إعلانها أفضل من إخفائها ليقتدى به فى ذلك ويظهر دعائم الإسلام. وقوله: (حتى لا تعلم شماله ما صنعت يمينه) إخفاء بذلك، ومصداق هذا الحديث فى قوله تعالى: (إن تبدوا الصدقات فنعما هى وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم) [البقرة: 171] . وقوله: (من ضمن لى ما بين لحييه) يريد لسانه (وما بين رجليه) يريد فرجه. وأكثر بلاء الناس من قبل فروجهم وألسنتهم، فمن سلم من ضرر هذين فقد سلم وكان النبى (صلى الله عليه وسلم) له كفيلا بالجنة.(8/428)
5 - باب إِثْمِ الزُّنَاةِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلا يَزْنُونَ) [الفرقان: 68] ،) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا) [الإسراء: 32]
. / 6 - فيه: أَنَسٌ، قَالَ: لأحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا لا يُحَدِّثُكُمُوهُ أَحَدٌ بَعْدِى سَمِعْتُهُ مِنَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (لا تَقُومُ السَّاعَةُ، وَإِمَّا قَالَ: مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ، وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا، وَيَقِلَّ الرِّجَالُ، وَيَكْثُرَ النِّسَاءُ، حَتَّى يَكُونَ لِلْخَمْسِينَ امْرَأَةً الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ) . / 7 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَزْنِى الْعَبْدُ حِينَ يَزْنِى وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَشْرَبُ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَقْتُلُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) . قَالَ عِكْرِمَةُ: قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ: كَيْفَ يُنْزَعُ الإيمَانُ مِنْهُ؟ قَالَ: هَكَذَا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، ثُمَّ أَخْرَجَهَا، فَإِنْ تَابَ عَادَ إِلَيْهِ هَكَذَا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. / 8 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ مثله، غير قول عِكْرِمَةُ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: (وَالتَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ) . / 9 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَىُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ، قُلْتُ: ثُمَّ أَىٌّ؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ، قُلْتُ: ثُمَّ أَىٌّ؟ قَالَ: أَنْ تُزَانِىَ حَلِيلَةَ جَارِكَ) . قال يحيى مثله. أجمعت الأمة أن الزنا من الكبائر وأخبر (صلى الله عليه وسلم) فى حديث أنس أن ظهوره من أشراط الساعة.(8/429)
قال المهلب: فى حديث عبد الله ترتيب الذنوب فى العظم، وقد يجوز أن يكون بين الذنبين المرتبين ذنب غير مذكور، وهو أعظم من المذكور، وذلك أنه لا خلاف بين الأمة أن عمل قوم لوط أعظم من الزنا. وكان (صلى الله عليه وسلم) إنما قصد بالتعظيم من الذنوب إلى ما يخشى مواقعته وبه الحاجة إلى بيانه وقت السؤال كما فعل فى الإيمان بوفد عبد القيس وغيرهم. وإنما عظم الزنا بحليلة الجار، وإن كان الزنا عظيمًا؛ لأن الجار له من الحرمة والحق ما ليس لغيره، فمن لم يراع حق الجوار فذنبه مضاعف؛ لجمعه بين الزنا وبين خيانة الجار الذى وصى الله تعالى بحفظه.(8/430)
62 - كتاب الرجم
- باب رَجْمِ الْمُحْصَنِ
وَقَالَ الْحَسَنُ: مَنْ زَنَى بِأُخْتِهِ حُدَّ حَدَّ الزنَّا. / 1 - فيه: عَلِىٍّ حِينَ رَجَمَ الْمَرْأَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَقَالَ: قَدْ رَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . / 2 - وفيه: الشَّيْبَانِىِّ: سَأَلْتُ عَبْدَاللَّهِ بْنَ أَبِى أَوْفَى: هَلْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: قَبْلَ سُورَةِ النُّورِ أَمْ بَعْدُ؟ قَالَ: لا أَدْرِى. / 3 - وفيه: جَابِرِ أَنَّ رَجُلا مِنْ أَسْلَمْ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَحَدَّثَهُ أَنَّهُ قَدْ زَنَى، فَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَرُجِمَ، وَكَانَ قَدْ أُحْصِنَ. قال ابن المنذر: وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم) [النساء: 95] وقال: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) [النساء: 80] فألزم خلفه طاعة رسوله، وثبتت الأخبار عن الرسول أنه أمر بالرجم ورجم، ألا ترى قول على: رجمنا بسنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ورجم عمر بن الخطاب، فالرجم ثابت بسنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وبفعل الخلفاء الراشدين وباتفاق أئمة أهل العلم، منهم مالك بن أنس فى أهل المدينة، والأوزاعى فى أهل الشام، والثورى وجماعة أهل العراق، والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور. ودفع الخوارج الرجم والمعتزلة واعتلوا بأن الرجم ليس فى كتاب(8/431)
الله تعالى وما يلزمهم من اتباع كتاب الله مثله يلزمهم من اتباع سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لقوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) [الحشر: 7] فلا معنى لقول من خالف السنة وإجماع الصحابة واتفاق أئمة الفتوى ولا يعدون خلافًا. وقد روى حماد بن زيد وحماد بن سلمة وهشيم، عن على بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس قال: سمعت عمر ابن الخطاب يقول: أيها الناس إن الرجم حق فلا يُحَد عنه فإن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد رجم. ورجم أبو بكر، ورجمنا بعدهما، وسيكون قوم من هذه الأمة يكذبون بالرجم والدجال، وبطلوع الشمس من مغربها، وبعذاب القبر، والشفاعة، وبقوم يخرجون من النار بعدما امتحشوا. اختلف العلماء فيمن زنا بأخته أو ذات رحم منه، فقال بقول الحسن: حده حد الزانى. مالك ويعقوب ومحمد والشافعى وأبو ثور. وقالت طائفة: إذا زنا بالمحرمة قتِل، روى عن جابر بن زيد، وهو قول أحمد وإسحاق، واحتجوا بحديث البراء أن النبى (صلى الله عليه وسلم) بعث إلى رجل نكح امرأة أبيه أن يضرب عنقه.
- باب لا يُرْجَمُ الْمَجْنُونَةُ وَالْمَجْنُونُ
وَقَالَ عَلِيٌّ لِعُمَرَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْقَلَمَ رُفِعَ عَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ الصَّبِىِّ حَتَّى يُدْرِكَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ. / 4 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: (أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ فِى الْمَسْجِدِ، فَنَادَاهُ،(8/432)
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، حَتَّى رَدَّدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ مَرَاتٍ، دَعَاهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ قَالَ: لا، قَالَ: فَهَلْ أَحْصَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : اذْهَبُوا بِهِ، فَارْجُمُوهُ) . قَالَ جَابِرَ: فَكُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُ، فَرَجَمْنَاهُ بِالْمُصَلَّى، فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ هَرَبَ، فَأَدْرَكْنَاهُ بِالْحَرَّةِ، فَرَجَمْنَاهُ. قال المهلب: أجمع العلماء أن المجنون إذا أصاب الحد فى حال جنونه أنه لا يجب عليه حد، وإن أفاق من جنونه بعد مواقعة الحد؛ لأن القلم مرفوع عنه وقت فعله والخطاب غير متوجه إليه حينئذ، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) للذى شهد على نفسه أربع شهادات (أبك جنون؟) فدل قوله هذا أنه لو اعترف بالجنون لدرأ الحد عنه، وإلا فلا فائدة لسؤاله هل بك جنون أم لا؟ وأجمعوا أنه إن أصاب رجل حدا وهو صحيح ثم جن بعد ذلك، أنه لا يؤخذ منه الحد حتى يفيق. وأجمعو أن من وجب عليه حد غير الرجم وهو مريض لا يرجى برؤه فإنه ينتظر به حتى يبرأ فيقام عليه الحد، فأما الرجم فلا ينتظر به لأنه إنما يراد به التلف فلا وجه للاستئناء به، والله أعلم. وأما قوله: (فلما أذلقته الحجارة هرب) قال ابن المنذر: ذكر عن أحمد بن حنبل أنه قال: إذا هرب يترك. وقال الكوفيون: إذا هرب وطلبه الشرط واتبعوه فى فوره ذلك أقيم عليه بقية الحد، وإن أخذوه بعد أيام لم يقم عليه بقية الحد، وإن أخذوه بعد أيام لم يقم عليه بقية الحد.(8/433)
فاحتج أحمد بن حنبل بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (هلا تركتموه) من غير رواية البخارى. قال ابن المنذر: يقام عليه الحد بعد يوم، وبعد أيام وسنين؛ لأن ما وجب عليه لا يجوز إسقاطه بمرور الأيام والليالى، ولا حجة مع من أسقط ما أوجبه الله من الحدود، وقد بين جابر بن عبد الله معنى قوله: (فهلا تركتموه) أنه لم يرد بذلك إسقاط الحد عنه. وروى محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر، عن قتادة قال: حدثنى حسين بن محمد، عن على قال: (سألت جابرًا عن قصة ماعز فقال: أنا أعرف الناس بهذا الحديث كنت فيمن رجمه، إنا لما رجمناه فوجد مس الحجارة صرخ بنا: يا قوم ردونى إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إن قومى هم قاتلونى وغرونى من نفسى، أخبرونى أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) غير قاتلى. فلم ننزع عنه حتى قتلناه فلما رجعنا إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أخبرناه، قال: فهلا تركتم الرجل وجئتمونى) . ليتثبت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيه فأما لترك حد فلا. فاختلفوا إذا أقر بالزنا، ثم رجع عن إقراره. فقالت طائفة: يترك ولا يحد. هذا قول عطاء والزهرى والثورى والكوفيين والشافعى وأحمد وإسحاق. واختلف عن مالك فى هذه المسألة فحكى عنه القعنبى أنه إذا اعترف ثم رجع وقال: إنما كان هذا منى على وجه كذا وكذا لشىء يذكره، أن ذلك يقبل منه فلا يقام عليه الحد. وقال أشهب: يقبل رجوعه إن جاء بعذر وإلا لم يقبل.(8/434)
وروى ابن عبد الحكم عن مالك أنه إذا اعترف بغير محنة ثم نزع لم يقبل منه رجوعه. وقال أشهب وأهل الظاهر: وممن روى عنه أنه إذا أقر ثم رجع لا يقبل منه رجوعه، وأقيم عليه الحد؛ وهم: ابن أبى ليلى والحسن البصرى. قال ابن المنذر: واحتج الشافعى بقوله (صلى الله عليه وسلم) فى ماعز: (هلا تركتموه) قال: فكل حد لله فهو هكذا، ولقوله لماعز: (لعلك قبلت أوغمزت) فالنبى (صلى الله عليه وسلم) كان يلقنه ويعرض عليه بعد اعتراف قد سبق منه فلو أنه قال: نعم، قبلت أوغمزت لسقط عنه الرجم، وإلا لم يكن لتعريض النبى (صلى الله عليه وسلم) لذلك معنى فعلم أنه إنما لقنه لفائدة وهى الرجوع، فهذا دليل قاطع. وحجة الآخرين أن الحدود تلزم بالبينة أو بالإقرار، وقد تقرر أنه لو لزم الحد بالبينة لم يقبل قوله فكذلك إذا إقر ثم رجع، وقالوا: ليس قوله (صلى الله عليه وسلم) : (هلا تركتموه) يوجب إسقاط الحد عنه. ويحتمل أن يكون لما ذكره جابر بن عبد الله من النظر فى أمره والتثبت فى المعنى الذى هرب من أجله ولو وجب أن يكون الحد ساقطًا عنه بهربه لوجب أن يكون مقتولا خطأ. وفى ترك النبى (صلى الله عليه وسلم) إيجاب الدية على عواقل القاتلين له بعد هربه دليل على أنهم قاتلون من عليه القتل، إذ لو كان دمه محقونًا بهربه لأوجب على عواقل قاتليه ديته، وليس فى شىء من أخبار ماعز دليل على الرجوع عما أقر به. وأكثر ما فيه أنه سأل عندما نزل به من الألم أن يرد إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولم يقل ما زنيت، وهذا القول أشبه بالصواب.(8/435)
3 - باب لِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ
/ 5 - فيه: عَائِشَةَ قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ) . قال أبو عبيد وجماعة من أهل اللغة: معناه أن الزانى لا حظ له فى الولد ولا يلحق به نسبه. والعرب تقول لمن طلب شيئا ليس له: بفيك الحجر، تريد الخيبة. وقال بعضهم: للعاهر الحجر أى: للزانى الرجم بالحجر إذا كان محصنًا، والعاهر: الزانى. وذكر ابن الأعرابى أن الفراش عند العرب يقال للرجل والمرأة؛ لأن كل واحد منهما فراش لصاحبه، وقد تقدم ما فيه للعلماء فى كتاب الفرائض.
4 - باب الرَّجْمِ بِالْبَلاطِ
/ 6 - فيه: ابْنِ عُمَرَ: (أُتِىَ النبى (صلى الله عليه وسلم) بِيَهُودِىٍّ وَيَهُودِيَّةٍ قَدْ أَحْدَثَا جَمِيعًا، فَقَالَ لَهُمْ: مَا تَجِدُونَ فِى كِتَابِكُمْ؟ قَالُوا: إِنَّ أَحْبَارَنَا أَحْدَثُوا تَحْمِيمَ الْوَجْهِ وَالتَّجْبِيهَ، قَالَ عَبْدُاللَّهِ ابْنُ سَلامٍ: ادْعُهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِالتَّوْرَاةِ، فَأُتِىَ بِهَا، فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، وَجَعَلَ يَقْرَأُ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ سَلامٍ: ارْفَعْ يَدَكَ، فَإِذَا آيَةُ الرَّجْمِ تَحْتَ يَدِهِ، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَرُجِمَا) . قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَرُجِمَا عِنْدَ الْبَلاطِ، فَرَأَيْتُ الْيَهُودِىَّ أَحْنَأَ عَلَيْهَا. قال أبو عبيد: يرويه أهل الحديث (يحنى) وإنما هو يحنأ مهموز(8/436)
ثابت، يقال حنا الرجل على الشىء يحنو حنوا: إذا انكب. فإن كان ذلك من خلقه قيل حناء ومنه قيل للتراس إذا صنع مقببًا محنأ. وأما قوله باب الرجم بالبلاط فلا يقتضى معنى والبلاط وغيره من الأمكنة سواء، وإنما يرجم به؛ لأنه مذكور فى الحديث. وقال الأصمعى: البلاط: الأرض الملساء. وذكر محمد بن إسحاق عن الزهرى، عن أبى هريرة: أن هذا الحديث كان حين قدم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى المدينة. قال مالك: ولم يكونا أهل ذمة وإنما كانوا أهل حرب حكموا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فحكم بينهم. وقال بعض العلماء: معنى قول مالك: ولم يكونا أهل ذمة. لأنهما لو كانا أهل ذمة لم يسألهما النبى (صلى الله عليه وسلم) كيف الحكم عندهم ولا حكم عليهم بقول أساقفتهم؛ لأن الحكم بين أهل الذمة إذا تحاكموا إليه كحكمه بين المسلمين سواء. ويحتمل مسيره (صلى الله عليه وسلم) إلى بيت المدراس وسؤاله اليهود عن حكم الزانيين أحد معنيين: إما أن يكون لما أراد الله تكذيبهم وإظهار ما بدلوا من حكم الله، ولذلك ألقى تعالى فى قلوبهم المحاكمة إليه، وأعلمهم أن فى التوراة حكم الله فى ذلك لقوله تعالى: (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله) [المائدة: 43] . والمعنى الثانى: أن يكون حكم الرجم لم ينزل على النبى (صلى الله عليه وسلم) وقد روى معمر عن ابن شهاب قال: فبلغنا أن هذه الآية(8/437)
نزلت فيهم: (إنا أنزلنا فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا) [المائدة: 44] فكان النبى (صلى الله عليه وسلم) منهم. وفى هذا الحديث من الفقه حجة لمالك فى قوله: إن أهل الكتاب إذا تحاكموا إلينا أنه جائز أن يترجم عنهم مترجم واحد كما ترجم عبد الله بن سلام عن التوراة وحده. وقد تقدم ما للعلماء فى هذه المسألة فى كتاب الأحكام. وفى قوله: (فرأيت اليهودى أحنا عليها) دليل أنه لا يحفر للمرجوم ولا للمرجومة؛ لأنه لو كان حفيرًا ما استطاع أن يحنو عليها، وبهذا استدل مالك. وقال أحمد بن حنبل: أكثر الأحاديث على ألا يحفر، والرجم إنما يجب أن يعم جميع بدنه، فإذا كان فى حفرة غاب بعض بدنه. وقال الكوفيون: لا يحفر لهما، وإن حفر فحسن. وخير الشافعى فى أى ذلك شاء. وقال أصبغ: يستحب أن يحفر لهما وترسل يداه يدرأ بهما عن وجهه. قال الطحاوى: روى عن على أنه حفر لشراحة، وفى قصة الجهينية أنه شد عليها ثيابها ثم أمر برجمها من غير أن يحفر لها. وفى هذا الحديث حجة للثورى أن المحدود لا يقعد، ويضرب قائمًا، والمرأة قاعدة. قال المحتج به: وقوله (فرأيت الرجل يحنأ على المرأة) يدل أن الرجل كان قائمًا والمرأة قاعدة.(8/438)
وقال مالك: الرجل والمرأة فى الحدود كلها سواء، لا يقام واحد منهما ويضربان قاعدين ويجرد الرجل ويترك على المرأة ما يسترها ولا يقيها الضرب. وقال الشافعى والليث وأبو حنيفة: الضرب فى الحدود كلها قائمًا مجردًا غير ممدود إلا حد القذف فإنه يضرب وعليه من ثيابه ما لا يقيه الضرب.
5 - باب الرَّجْمِ بِالْمُصَلَّى
/ 7 - فيه: جَابِرٍ: (أَنَّ رَجُلا مِنْ أَسْلَمَ جَاءَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَاعْتَرَفَ بِالزِّنَا، فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) حَتَّى شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، قَالَ لَهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : أَبِكَ جُنُونٌ؟ قَالَ: لا، قَالَ: آحْصَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرَ بِهِ، فَرُجِمَ بِالْمُصَلَّى، فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ، فَرَّ فَأُدْرِكَ فَرُجِمَ حَتَّى مَاتَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : خَيْرًا، وَصَلَّى عَلَيْهِ) . لا معنى لهذا التبويب أيضًا والرجم بالمصلى كالرجم بسائر المواضع وإنما ترجم بذلك لأنه مذكور فى الحديث. وهذا الرجل المعترف هو ماعز بن مالك الأسلمى. روى يزيد بن هارون، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب: (أن ماعز بن مالك أتى إلى أبى بكر الصديق فأخبره أنه زنى، فقال أبو بكر: هل ذكرت ذلك لأحد غيرى؟ قال: لا. قال أبو بكر: استتر بستر الله وتب إلى الله، فإن الناس يعيرون ولا يغيرون، وإن الله يقبل التوبة عن عباده، فلم تقرره نفسه، حتى أتى إلى عمر بن الخطاب فقال له مثلما قال لأبى بكر، فقال له(8/439)
عمر مثلما قال له أبو بكر، فلم تقرره نفسه حتى أتى النبى (صلى الله عليه وسلم) . . .) وذكر الحديث. وقال عيسى بن دينار: كان ماعز يتيمًا عند هذال قال: فأمره هذال أن يأتى النبى (صلى الله عليه وسلم) فيعترف، فلما أمر برجمه وأحرقته الحجارة هرب فلقيه عبد الله بن أنيس فحذفه برضيف جمل فقتله. وفى هذا الحديث من الفقه رجم الثيب بلا جلد، وعلى هذا فقهاء الأمصار؛ لأن النبى، عليه السلام، أمر برجم ماعز ولم يحده وأمر أنيسًا الأسلمى أن يرجم المرأة إن اعترفت ولم يأمره بجلدها. وخالف ذلك إسحاق بن راهويه وأهل الظاهر فقالوا: عليه الجلد والرجم. وروى مثله عن على بن أبى طالب وأبى بن كعب والحسن البصرى، واحتجوا بحديث ابن جريج، عن أبى الزبير، عن جابر أن رجلا زنا فأمر به النبى (صلى الله عليه وسلم) فجلد ثم أخبر أنه كان أحصن فأمر به فرجم. وقالوا: هكذا حد المحصن الجلد والرجم جميعًا. واحتجوا بحديث عبادة بن الصامت أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) . واحتج عليهم الجماعة فقالوا: يجوز أن يكون النبى (صلى الله عليه وسلم) إنما جلده حين لم يعلم أنه محصن فلما أخبر أنه محصن أمر برجمه، والجلد الذى جلده ليس من حده فى شىء. وأمَّا حديث عبادة بن الصامت فمنسوخ بحديث ماعز وبحديث العسيف؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) رجمهما ولم يحدهما. فثبت أن هذا حكم أحدثه الله نسخ به ما قبله.(8/440)
وقال النسائى: ليس فى شىء من الأحاديث قدر الحجر الذى يرمى به. وقال مالك: لا يرمى بالصخور العظام ويأمر الإمام بذلك ولا يتولاه بنفسه، ولا يرفع عنه حتى يموت، ويخلى بينه وبين أهله يغسلونه ويصلون عليه، ولا يصلى عليه الإمام. وفى حديث جابر أن النبى (صلى الله عليه وسلم) صلى عليه من رواية معمر عن الزهرى، وفيه حجة لمن قال من العلماء أن للإمام أن يصلى عليه إن شاء. وقد روى عمران بن حصين (أن امرأة أتت النبى (صلى الله عليه وسلم) فذكرت أنها زنت، فلما وضعت أمر بها فرجمت وصلى عليها، فقال له عمر: أتصلى عليها وقد زنت؟ فقال: والذى نفسى بيده لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين لوسعتهم) . وقد وجه بعض العلماء قول مالك: لا يصلى عليه الإمام. فقال: إنما قال ذلك ليكون ردعًا لأهل المعاصى، ولئلا يجترئ الناس على مثل فعله إذا رأوا أنه ممن لا يصلى عليه الإمام لعظيم ذنبه.
6 - باب مَنْ أَصَابَ ذَنْبًا دُونَ الْحَدِّ فَأَخْبَرَ الإمَامَ، فَلا عُقُوبَةَ عَلَيْهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ إِذَا جَاءَ مُسْتَفْتِيًا
قَالَ عَطَاءٌ: لَمْ يُعَاقِبْهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: لَمْ يُعَاقِبِ النَّبىّ، عَلَيْهِ السَّلاَم، الَّذِى جَامَعَ فِى رَمَضَانَ، وَلَمْ يُعَاقِبْ عُمَرُ صَاحِبَ الظَّبْىِ. / 8 - وَفِيهِ عَنْ أَبِى عُثْمَانَ، عَنْ أَبِى مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . / 9 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلا وَقَعَ بِامْرَأَتِهِ فِى رَمَضَانَ،(8/441)
فَاسْتَفْتَى رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً؟ قَالَ: لا، قَالَ: هَلْ تَسْتَطِيعُ صِيَامَ شَهْرَيْنِ؟ قَالَ: لا، قَالَ: فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا) . / 10 - وفيه: عَائِشَةَ: (أَتَى رَجُلٌ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فِى الْمَسْجِدِ، قَالَ: احْتَرَقْتُ، قَالَ: مِمَّ ذَاكَ؟ قَالَ: وَقَعْتُ بِامْرَأَتِى فِى رَمَضَانَ، قَالَ لَهُ: تَصَدَّقْ، قَالَ: مَا عِنْدِى شَيْءٌ، فَجَلَسَ، وَأَتَاهُ إِنْسَانٌ يَسُوقُ حِمَارًا، وَمَعَهُ طَعَامٌ، قَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ: مَا أَدْرِى مَا هُوَ؟ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: أَيْنَ الْمُحْتَرِقُ؟ فَقَالَ: هَا أَنَا ذَا، قَالَ: خُذْ هَذَا، فَتَصَدَّقْ بِهِ. . . الحديث. أجمع العلماء أنه من أصاب ذنبًا فيه حد أنه لا ترفعه التوبة ولا يجوز للإمام العفو عنه إذا بلغه. ومن التوبة عندهم أن يطهر ويكفر بالحد إلا الشافعى، ذكر عنه ابن المنذر أنه قال: إذا تاب قبل أن يقام عليه الحد سقط عنه، فأما من أصاب ذنبًا دون الحد ثم جاء تائبًا فتوبته تسقط عنه العقوبة، وليس للسلطان الاعتراض عليه بل يؤكد بصيرته فى التوبة، ويأمره بها لينتشر ذلك، فيتوب المذنب ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لما فهم من المواقع أهله فى رمضان الندم على فعله من صورة فزعه وقوله: احترقت. لم يعاقبه النبى (صلى الله عليه وسلم) ولا أنبهُ بل أعطاه ما يكفر به. وأما حديث أبى عثمان عن ابن مسعود الذى أشار إليه البخارى ولم يذكره فهو أبين شىء فى هذا الباب، وقد ذكره فى باب مواقيت الصلاة فى باب الصلاة كفارة. قال ابن مسعود: إن رجلا أصاب من امرأة قبلة فأتى النبى (صلى الله عليه وسلم) فأخبره فنزل: (أقم الصلاة طرفى النهار وزلفًا) [هود: 114] الآية فقال الرجل: إلى هذا يا رسول الله؟ قال: (لجميع أمتى كلهم) .(8/442)
وروى يحيى عن التيمى بإسناده أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال له: (قم فصل ركعتين) . وروى علقمة والأسود هذا الحديث عن ابن مسعود وبينا فيه ما دل أنه جاء الرجل تائبًا نادمًا. وقال ابن مسعود: جاء رجل إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) فقال: (إنى عالجت امرأة فأصبت منها ما دون أن أمسها وأنا ها ذا فأقم على ما شئت. فقال له عمر: قد ستر الله عليك فلو سترت على نفسك. . .) . وحجة جماعة الفقهاء فى أن التوبة لا تسقط الحد قول النبى (صلى الله عليه وسلم) فى المرأة الجهينية: (لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أن جادت بنفسها) . وقال فى الغامدية: (لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له) . فإقامة الرسول (صلى الله عليه وسلم) الحد على هاتين مع توبتهما دليل قاطع على أن سقوط الحد بالتوبة إنما خص به المحاربون دون غيرهم.
7 - باب إِذَا أَقَرَّ بِالْحَدِّ وَلَمْ يُبَيِّنْ، هَلْ لِلإمَامِ أَنْ يَسْتُرَ عَلَيْهِ؟
/ 11 - فيه: أَنَسِ، قَالَ: (كُنْتُ عِنْدَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَجَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى أَصَبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْهُ عَلَىَّ، قَالَ: وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ، قَالَ وَحَضَرَتِ الصَّلاةُ، فَصَلَّى مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) الصَّلاةَ، قَامَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى أَصَبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْ فِىَّ كِتَابَ اللَّهِ، قَالَ: أَلَيْسَ قَدْ صَلَّيْتَ مَعَنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ ذَنْبَكَ) .(8/443)
قال المهلب وغيره: لما أقر الرجل عند النبى (صلى الله عليه وسلم) بأنه أصاب حدا، ولم يبين الحدَّ، ولم يكشفه النبى (صلى الله عليه وسلم) عنه ولا استفسره (صلى الله عليه وسلم) ؛ فدل على أن الكشف عن الحدود لا يحل فإن الستر أولى. وكأنه (صلى الله عليه وسلم) رأى أن الكشف عن ذلك ضرب من التجسس المنهى عنه فلذلك أضرب عنه وجعلها شبهة درأ بها الحد؛ لأنه كان بالمؤمنين رءوفًا رحيمًا. وجائز أن يكون الرجل ظن أن الذى أصاب حدا وليس بحد فيكون ذلك مما يكفر بالوضوء والصلاة، ولما لم تجز إقامة الحدود بالكناية دون الإفصاح وجب ألا يكشف السلطان عليه؛ لأن الحدود لا تقام بالشبهات بل تدرأ بها، وهذا يوجب على المرء أن يستر على نفسه إذا واقع ذنبًا ولا يخبر به أحدًا لعلَّ الله تعالى أن يستره عليه وقد جاء فى هذا الحديث عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (من ستر مسلمًا ستره الله) فستر المرء على نفسه أولى به من ستره على غيره.
8 - باب هَلْ يَقُولُ الإمَامُ لِلْمُقِرِّ لَعَلَّكَ لَمَسْتَ أَوْ غَمَزْتَ؟
/ 12 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِى اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: (لَمَّا أَتَى مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ لَهُ: لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ، أَوْ غَمَزْتَ، أَوْ نَظَرْتَ؟ قَالَ: لا، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَنِكْتَهَا؟ لا يَكْنِى، قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ بِرَجْمِهِ) . قال المهلب وغيره: فى هذا الحديث دليل على جواز تلقين المقر فى الحدود ما يدرأ بها عنه ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال لماعز: (لعلك غمزت أو قبلت) ليدرأ عنه الحد إذ لفظ الزنا يقع على نظر(8/444)
العين وجميع الجوارح، فلما أتى ماعز بلفظ مشترك لم يحده النبى (صلى الله عليه وسلم) حتى وقف على صحيح ما أتاه بغير إشكال؛ لأن من سننه (صلى الله عليه وسلم) درء الحدود بالشبهات، فلما أفصح وبين أمر برجمه. قال غيره: وهذا يدل أن الحدود لا تقام إلا بالإفصاح دون الكنايات، ألا ترى لو أن الشهود شهدوا على رجل بالزنا، ولم يقولوا رأيناه أولج فيها كان حكمهم حكم من قذف لا حكم من شهد، رفقًا من الله بعباده وسترًا عليهم ليتوبوا. قال المهلب: وقد استعمل التلقين بعد النبى (صلى الله عليه وسلم) أصحابه الراشدون روى مالك عن يحيى ابن سعيد أن عمر أتاه رجل وهو بالشام فذكر أنه وجد مع امرأته رجلا، فبعث عمر أبا واقد إلى امرأته يسألها عما قال زوجها لعمر، وأخبرها أنها لا تؤخذ بقوله، وجعل يلقنها أشباه ذلك لتنزع، فأبت أن تنزع فرجمها عمر. وروى معمر بإسناده أن عمر أتى برجل فقيل: إنه سارق، فقال عمر: إنى لأرى يد رجل ما هى بيد سارق، فقال الرجل: والله ما أنا بسارق فخلى سبيله. وعن الشعبى قال: أُتى على بامرأة يقال لها شراحة وهى حبلى من الزنا، فقال: ويحك لعل رجلا استكرهك، قالت: لا. قال: لعل وقع عليك وأنت نائمة. قالت: لا. قال: فلعل زوجك من عدونا، يعنى أهل الشام، فأنت تكرهين أن تدلى عليه. قالت: لا. فجعل يلقنها هذا وأشباهه وتقول: لا. فرجمها. وعن أبى مسعود أتى بسارق سرق بعيرًا. فقال: هل وجدته؟ قال: نعم. فخلى سبيله. قال المهلب: فهذا وجه التلقين بالتعريض لمن يعرف الحد(8/445)
وما يلزمه فيه، وأما تلقين الجاهل ومن لا يعرف الكلام فهو تصريح. وروى ابن جريج عن عطاء قال: كان بعضهم يؤتى بالسارق فيقول: أسرقت؟ قل: لا، أسرقت؟ قل: لا. وعلمى أنه سمى أبا بكر وعمر. وروى شعبة عن أبى الدرداء أنه أتى بجارية سوداء سرقت، فقال لها: أسرقت يا سلامة؟ قولى: لا قالت: لا فخلى سبيلها، فقلت: أنت تلقنها؟ قال أبو الدرداء: إنها اعترفت وهى لا تدرى ما يُراد بها. وقال الأعمش: كان إبراهيم يأمر بطرح المعترفين، وكان أحمد وإسحاق يريان تلقين السارق إذا أتى به. وكذلك قال أبو ثور: إذا كان السارق امرأة أو لا يدرى ما يصنع به أو ما يقول. قال المهلب: هذا التلقين على اختلاف منازله بسنة لازمة إلا عند اختيار الإمام ذلك، وله ألا يلقن ولا يعرض لقوله: (بينة وإلا حد فى ظهرك) . وأما التلقين الذى لا يحل فتلقين الخصمين فى الحقوق وتداعى الناس، وكذلك لا يجب تلقين المنتهك المعروف بذلك إذا تبين ما أقر به أو شهد عليه ويلزم الإمام إقامة الحد فيه.
9 - باب سُؤَالِ الإمَامِ الْمُقِرَّ بالزنا: هَلْ أَحْصَنْتَ؟
/ 13 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: (أَتَى إِلَى النَّبىّ (صلى الله عليه وسلم) رَجُلٌ مِنَ النَّاسِ، وَهُوَ فِى الْمَسْجِدِ، فَنَادَاهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى زَنَيْتُ، يُرِيدُ نَفْسَهُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَتَنَحَّى لِشِقِّ وَجْهِهِ الَّذِى أَعْرَضَ عَنْهُ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ دَعَاهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ،(8/446)
فَقَالَ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ قَالَ: لا، يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: أَحْصَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ. . الحديث. هذا لازم لكل إمام أن يسأل المقر إن كان محصنًا أو غير محصن، لأن الله قد فرق بين حد المحصن والبكر، فواجب على الإمام أن يقف على ذلك كما يجب عليه إذا أشكل إعلام المقر أن يسأله عن ذلك، ثم بعد ذلك يلزمه تصديق كل واحد منهما؛ لأن الحد لا يقام إلا باليقين ولا يحل فيه التجسس. قال المهلب: ولما كان قوله مقبولا فى اللمس والغمز كان قوله مقبولا فى الإحصان، فالباب واحد فى ذلك. اختلف العلماء فى الاعتراف بالزنا الذى يجب فيه الحد هل يفتقر إلى عدد أم لا. فقالت طائفة: لابد من اعتراف أربع مرات على ما جاء فى الحديث هذا قول ابن أبى ليلى والثورى والكوفيين وأحمد غير أن ابن أبى ليلى وأحمد قالا: يجزئ إلا فى أربع مرات فى مجلس واحد. وقال الكوفيون: لا يجزىء إلا فى أربع مواضع. وقال آخرون: إذا اعترف بالزنا مرة واحدة وثبت على ذلك لزمه الحد، روى هذا عن أبى بكر الصديق وعمر بن الخطاب، وهو قول مالك والشافعى وأبى ثور. وقال أهل المقالة الأولى: لما كان الزنا مخصوصًا من بين سائر الحقوق بأربعة شهداء جاز أن يكون مخصوصًا بإقرار أربع مرات.(8/447)
واحتج عليهم الآخرون فقالوا: قد قال (صلى الله عليه وسلم) : (اغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) ولم يقل له إن اعترفت أربعًا، فلا معنى لاعتبار العدد فى الإقرار، وأيضًا فإنه لا يدل على مخالفة الزنا لسائر الحقوق فى أنه مخصوص بأربعة شهداء على مخالفته فى الإقرار؛ لأن القتل مخالف للأموال فى الشهادات فلا يقبل فى القتل إلا شاهدان، ويقبل فى الأموال شاهد وامرأتان، ثم اتفقا فى باب الإقرار أنه يقبل فيه إقرار مرة. ولو وجب اعتبار الإقرار بالشهادة لوجب ألا يقبل فى الموضع الذى يقبل فيه شاهدان إلا إقرار مرتين. وقد أجمع العلماء أن سائر الإقرارات فى الشرع يكتفى فيها مرة واحدة، وإن أقر بالردة مرة واحدة يلزمه اسم الكفر، والقتل واجب عليه فلزم فى الزنا مثله. فإن قالوا: فلم لم يُقم النبى (صلى الله عليه وسلم) الحد بإقراره أول مرة؟ قيل: فائدة الخبر أنه (صلى الله عليه وسلم) لما رآه مختل الصورة فزعًا أراد التثبيت فى أمره هل به جنة أم لا، مع أنه كره ما سمع منه فأعرض عنه رجاء أن يستر على نفسه، ويتوب إلى الله، ألا ترى أنه لقنه فقال: (لعلك لمست أو غمزت) فلا معنى لاعتباره العدد فى الإقرار. وقوله: جمز أى: أسرع يهرول، وقال بعض السلف لرجل: اتق الله قبل أن يجمز بك. يريد المشى السريع فى جنازته. وقال الكسائى: الناقة تعدو الجمز وهو العدو الذى نثر وقال رؤبة: فإن تريننى اليوم جمزى(8/448)
- باب الاعْتِرَافِ بِالزِّنَا
/ 14 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ وَزَيْدَ بْنَ خَالِدٍ قَالا: (كُنَّا عِنْدَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ، إِلا قَضَيْتَ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، فَقَامَ خَصْمُهُ، وَكَانَ أَفْقَهَ مِنْهُ، فَقَالَ: اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَأْذَنْ لِى، قَالَ: قُلْ، قَالَ: إِنَّ ابْنِى كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَخَادِمٍ، ثُمَّ سَأَلْتُ رِجَالا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَأَخْبَرُونِى أَنَّ عَلَى ابْنِى جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ، وَعَلَى امْرَأَتِهِ الرَّجْمَ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لأقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، الْمِائَةُ شَاةٍ وَالْخَادِمُ رَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا، فَغَدَا عَلَيْهَا، فَاعْتَرَفَتْ، فَرَجَمَهَا) . / 15 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ عُمَرُ: لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَطُولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ حَتَّى يَقُولَ: قَائِلٌ: لا نَجِدُ الرَّجْمَ فِى كِتَابِ اللَّهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ، أَنْزَلَهَا اللَّهُ، أَلا وَإِنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى وَقَدْ أَحْصَنَ، إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ الْحَبَلُ، أَوِ الاعْتِرَافُ. قال المهلب وغيره: فى هذا الحديث ضروب من الفقه: منها الترافع إلى السلطان الأعلى فيما قد غيره ممن هو دونه إذا لم يوافق الحق. ومنها فسخ كل صلح ورد كل حكم وقع على خلاف السنة. قال غيره: وفيه أن ما قبضه الذى قضى له بالباطل لا يصلح له ملكه. وفيه: أن العالم قد يُفتى فى مصر فيه من هو أعلم منه، ألا ترى(8/449)
أنه سأل أهل العلم ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) بين أظهرهم، وكذلك كان الصحابة يفتون فى زمن النبى (صلى الله عليه وسلم) . وفى سؤاله أهل العلم ورجوعه إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) دليل على أنه يجوز للرجل ألا يقتصر على قول واحد من العلماء. وفيه: أنه جائز للخصم أن يقول للإمام العدل: احكم بيننا بالحق، لأنه قال للنبى (صلى الله عليه وسلم) : اقض بيننا بكتاب الله، وقد علم أنه لا يقضى إلا بما أمره الله، ولم ينكر ذلك عليه النبى (صلى الله عليه وسلم) . وقال الملكان لداود (صلى الله عليه وسلم) فاحكم بيننا بالحق، وذلك إذا لم يرد السائل التعريض. وقوله: وكان أفقههما يعنى والله أعلم لاستئذانه النبى (صلى الله عليه وسلم) فى الكلام وترك صاحبه لذلك تأكيدًا. واختلف العلماء فى تأويل ذلك فقال بعضهم: الرجم فى كتاب الله فى قوله تعالى: (ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله) [النور: 8] . والعذاب الذى تدرؤه الزوجة عن نفسها باللعان هو الذى يجب عليها بالبينة أو بالإقرار أو بالنكول عن اللعان. وقد بين (صلى الله عليه وسلم) آية الرجم فى الثيب برجم ماعزٍ وغيره. وقال آخرون: الرجم مما نسخ من القرآن خطه وثبت حكمه. وقال غيره: معنى قوله (لأقضين بينكما بكتاب الله) أى بحكم الله وبفرضه، هذا جائز فى اللغة قال تعالى: (كتاب الله عليكم) [النساء: 24] أى حكمه فيكم وقضاؤه عليكم ومنه قوله تعالى: (أم عندهم(8/450)
الغيب فهم يكتبون) [الطور: 41] أى يقضون. وكذلك قوله: (كتب ربكم على نفسه الرحمة) [الأنعام: 54] وكل ما قضى به النبى (صلى الله عليه وسلم) فهو حكم الله. وفيه: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يجعلهما قاذفين حين أخبراه. وليس فى الحديث أنه سأل ابن الرجل هل زنا؟ وهل صدقا عليه أم لا؟ ولكن من مفهوم الحديث أنه أقر لأنه لا يجوز أن يقام الحد إلا بالإقرار أو بالبينة، ولم يكن عليهما بينة لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (فإن اعترفت فارجمها) . وفيه: النفى والتغريب للبكر الزانى خلاف قول أبى حنيفة فى إسقاطه النفى عن الزانى وستأتى أقوال العلماء فى ذلك فى موضعها إن شاء الله تعالى. وفى الحديث من الفقه: رجم الثيب بلا جلد على ما ذهب إليه أئمة الفتوى بالأمصار. وفيه من الفقه: استماع الحكم من أحد الخصمين وصاحبه غائب وفتياه له دون خصمه ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قد أفتاهما والمرأة غائبة وكانت إحدى الخصمين. وفيه: تأخير الحدود عند ضيق الوقت؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) أمره بالغدو إلى المرأة فإن اعترفت رجمها. وفيه: إرسال الواحد فى تنفيذ الحكم. وفيه: إقامة الحد على من أقر على نفسه مرة واحدة؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يقل لأنيس فإن اعترفت أربع مرات وقد تقدم القول فى هذه المسألة فى الباب الذى قبل هذا.(8/451)
وفيه: دليل على صحة قول مالك وجمهور الفقهاء أن الإمام لا يقوم بحد من قذف بين يديه حتى يطلبه المقذوف؛ لأن له أن يعفو عن قاذفه أو يريد سترًا، ألا ترى أنه قال بين يدى النبى (صلى الله عليه وسلم) : (إن ابنى كان عسيفًا على هذا فزنا بامرأته فقذفها) فلم يقم عليه النبى (صلى الله عليه وسلم) الحد؛ لأنها لما اعترفت بالزنا سقط حكم قذفها، ومثله حديث العجلانى حين رمى امرأته برجل فلاعن بينه وبين امرأته؛ لأنه لم يطلبه بحده ولو طلبه به لحُد إلا أن يقيم البينة على ما قال. والمخالف فى هذه المسألة ابن أبى ليلى فإنه يقول: إن الإمام يحد القاذف وإن لم يطلبه المقذوف. وقوله خلاف السنن فسيأتى ما بقى من معانى هذا الحديث بعد هذا فى مواضعه إن شاء الله تعالى، وكذلك حديث ابن عباس سيأتى الكلام عليه فى الباب بعد هذا إن شاء الله تعالى.
- باب رَجْمِ الْحُبْلَى مِنَ الزِّنَا إِذَا أَحْصَنَتْ
/ 16 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كُنْتُ أُقْرِئُ رِجَالا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْهُمْ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، فَبَيْنَمَا أَنَا فِى مَنْزِلِهِ بِمِنًى، وَهُوَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِى آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا؛ إِذْ رَجَعَ إِلَىَّ عَبْدُالرَّحْمَنِ، فَقَالَ: لَوْ رَأَيْتَ رَجُلا أَتَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْيَوْمَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَلْ لَكَ فِى فُلانٍ، يَقُولُ: لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ، لَقَدْ بَايَعْتُ فُلانًا، فَوَاللَّهِ مَا كَانَتْ بَيْعَةُ أَبِى بَكْرٍ إِلا فَلْتَةً، فَتَمَّتْ، فَغَضِبَ عُمَرُ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّى إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَقَائِمٌ الْعَشِيَّةَ فِى النَّاسِ، فَمُحَذِّرُهُمْ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ(8/452)
أُمُورَهُمْ، قَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ: فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لا تَفْعَلْ، فَإِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ النَّاسِ وَغَوْغَاءَهُمْ، فَإِنَّهُمْ هُمِ الَّذِينَ يَغْلِبُونَ عَلَى قُرْبِكَ حِينَ تَقُومُ فِى النَّاسِ، وَأَنَا أَخْشَى أَنْ تَقُومَ فَتَقُولَ مَقَالَةً يُطَيِّرُهَا عَنْكَ كُلُّ مُطَيِّرٍ، وَأَنْ لا يَعُوهَا، وَأَنْ لا يَضَعُوهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا، فَأَمْهِلْ حَتَّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ، فَإِنَّهَا دَارُ الْهِجْرَةِ وَالسُّنَّةِ، فَتَخْلُصَ بِأَهْلِ الْفِقْهِ وَأَشْرَافِ النَّاسِ، فَتَقُولَ مَا قُلْتَ مُتَمَكِّنًا، فَيَعِى أَهْلُ الْعِلْمِ مَقَالَتَكَ، وَيَضَعُونَهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا، فَقَالَ عُمَرُ: أَمَا وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لأقُومَنَّ بِذَلِكَ أَوَّلَ مَقَامٍ أَقُومُهُ بِالْمَدِينَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فِى عُقْبِ ذِى الْحَجَّةِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، عَجَّلْتُ الرَّوَاحَ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ حَتَّى أَجِدَ سَعِيدَ بْنَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ جَالِسًا إِلَى رُكْنِ الْمِنْبَرِ، فَجَلَسْتُ حَوْلَهُ تَمَسُّ رُكْبَتِى رُكْبَتَهُ، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ خَرَجَ عُمَرُ ابْنُ الْخَطَّابِ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ مُقْبِلا، قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ: لَيَقُولَنَّ الْعَشِيَّةَ مَقَالَةً لَمْ يَقُلْهَا مُنْذُ اسْتُخْلِفَ، فَأَنْكَرَ عَلَىَّ، وَقَالَ: مَا عَسَيْتَ أَنْ يَقُولَ مَا لَمْ يَقُلْ قَبْلَهُ؟ فَجَلَسَ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمَّا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُونَ، قَامَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّى قَائِلٌ لَكُمْ مَقَالَةً قَدْ قُدِّرَ لِى أَنْ أَقُولَهَا، لا أَدْرِى لَعَلَّهَا بَيْنَ يَدَىْ أَجَلِى، فَمَنْ عَقَلَهَا وَوَعَاهَا، فَلْيُحَدِّثْ بِهَا حَيْثُ انْتَهَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، وَمَنْ خَشِىَ أَنْ لا يَعْقِلَهَا فَلا أُحِلُّ لأحَدٍ أَنْ يَكْذِبَ عَلَىَّ إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا (صلى الله عليه وسلم) بِالْحَقِّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةُ الرَّجْمِ فَقَرَأْنَاهَا، وَعَقَلْنَاهَا، وَوَعَيْنَاهَا، رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: وَاللَّهِ، مَا نَجِدُ آيَةَ الرَّجْمِ فِى كِتَابِ اللَّهِ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ،(8/453)
أَنْزَلَهَا اللَّهُ، وَالرَّجْمُ فِى كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أُحْصِنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ الْحَبَلُ، أَوِ الاعْتِرَافُ، ثُمَّ إِنَّا كُنَّا نَقْرَأُ فِيمَا نَقْرَأُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَنْ لا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ، فَإِنَّهُ كُفْرٌ بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ أَوْ إِنَّ كُفْرًا بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ، أَلا ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ لا تُطْرُونِى كَمَا أُطْرِىَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ إِنَّهُ بَلَغَنِى أَنَّ قَائِلا مِنْكُمْ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ، بَايَعْتُ فُلانًا، فَلا يَغْتَرَّنَّ امْرُؤٌ أَنْ يَقُولَ: إِنَّمَا كَانَتْ بَيْعَةُ أَبِى بَكْرٍ فَلْتَةً وَتَمَّتْ، أَلا وَإِنَّهَا قَدْ كَانَتْ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ وَقَى شَرَّهَا، وَلَيْسَ مِنْكُمْ مَنْ تُقْطَعُ الأعْنَاقُ إِلَيْهِ مِثْلُ أَبِى بَكْرٍ، مَنْ بَايَعَ رَجُلا عَنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلا يُبَايَعُ هُوَ وَلا الَّذِى بَايَعَهُ تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلا، وَإِنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ خَبَرِنَا حِينَ تَوَفَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّ الأنْصَارَ خَالَفُونَا، وَاجْتَمَعُوا بِأَسْرِهِمْ فِى سَقِيفَةِ بَنِى سَاعِدَةَ، وَخَالَفَ عَنَّا عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ وَمَنْ مَعَهُمَا، وَاجْتَمَعَ الْمُهَاجِرُونَ إِلَى أَبِى بَكْرٍ، فَقُلْتُ لأبِى بَكْرٍ: يَا أَبَا بَكْرٍ، انْطَلِقْ بِنَا إِلَى إِخْوَانِنَا هَؤُلاءِ مِنَ الأنْصَارِ، فَانْطَلَقْنَا نُرِيدُهُمْ، فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْهُمْ لَقِيَنَا مِنْهُمْ رَجُلانِ صَالِحَانِ، فَذَكَرَا مَا تَمَالأ عَلَيْهِ الْقَوْمُ، فَقَالا: أَيْنَ تُرِيدُونَ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ؟ فَقُلْنَا: نُرِيدُ إِخْوَانَنَا هَؤُلاءِ مِنَ الأنْصَارِ، فَقَالا: لا عَلَيْكُمْ أَنْ لا تَقْرَبُوهُمُ، اقْضُوا أَمْرَكُمْ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَنَأْتِيَنَّهُمْ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَاهُمْ فِى سَقِيفَةِ بَنِى سَاعِدَةَ، فَإِذَا رَجُلٌ مُزَمَّلٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: هَذَا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَقُلْتُ: مَا لَهُ؟ قَالُوا: يُوعَكُ، فَلَمَّا جَلَسْنَا قَلِيلا، تَشَهَّدَ خَطِيبُهُمْ، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَنَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ وَكَتِيبَةُ الإسْلامِ، وَأَنْتُمْ مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ رَهْطٌ، وَقَدْ دَفَّتْ دَافَّةٌ مِنْ قَوْمِكُمْ، فَإِذَا هُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْتَزِلُونَا مِنْ أَصْلِنَا، وَأَنْ يَحْضُنُونَا مِنَ(8/454)
الأمْرِ، فَلَمَّا سَكَتَ أَرَدْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ، وَكُنْتُ قَدْ زَوَّرْتُ مَقَالَةً أَعْجَبَتْنِى أُرِيدُ أَنْ أُقَدِّمَهَا بَيْنَ يَدَىْ أَبِى بَكْرٍ، وَكُنْتُ أُدَارِى مِنْهُ بَعْضَ الْحَدِّ، فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: عَلَى رِسْلِكَ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُغْضِبَهُ، فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، فَكَانَ هُوَ أَحْلَمَ مِنِّى، وَأَوْقَرَ، وَاللَّهِ مَا تَرَكَ مِنْ كَلِمَةٍ أَعْجَبَتْنِى فِى تَزْوِيرِى إِلا قَالَ فِى بَدِيهَتِهِ مِثْلَهَا، أَوْ أَفْضَلَ مِنْهَا، حَتَّى سَكَتَ، فَقَالَ: مَا ذَكَرْتُمْ فِيكُمْ مِنْ خَيْرٍ، فَأَنْتُمْ لَهُ أَهْلٌ، وَلَنْ يُعْرَفَ هَذَا الأمْرُ إِلا لِهَذَا الْحَىِّ مِنْ قُرَيْشٍ، هُمْ أَوْسَطُ الْعَرَبِ نَسَبًا وَدَارًا، وَقَدْ رَضِيتُ لَكُمْ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ، فَبَايِعُوا أَيَّهُمَا شىءتُمْ، فَأَخَذَ بِيَدِى وَبِيَدِ أَبِى عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَهُوَ جَالِسٌ بَيْنَنَا، فَلَمْ أَكْرَهْ مِمَّا قَالَ غَيْرَهَا، كَانَ وَاللَّهِ أَنْ أُقَدَّمَ فَتُضْرَبَ عُنُقِى لا يُقَرِّبُنِى ذَلِكَ مِنْ إِثْمٍ، أَحَبَّ إِلَىَّ مِنْ أَنْ أَتَأَمَّرَ عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ، اللَّهُمَّ إِلا أَنْ تُسَوِّلَ إِلَىَّ نَفْسِى عِنْدَ الْمَوْتِ شَيْئًا لا أَجِدُهُ الآنَ، فَقَالَ قَائِلٌ مِنَ الأنْصَارِ: أَنَا جُذَيْلُهَا الْمُحَكَّكُ، وَعُذَيْقُهَا الْمُرَجَّبُ، مِنَّا أَمِيرٌ، وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، فَكَثُرَ اللَّغَطُ، وَارْتَفَعَتِ الأصْوَاتُ حَتَّى فَرِقْتُ مِنَ الاخْتِلافِ، فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَدَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، فَبَسَطَ يَدَهُ، فَبَايَعْتُهُ وَبَايَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ، ثُمَّ بَايَعَتْهُ الأنْصَارُ، وَنَزَوْنَا عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ، قَتَلْتُمْ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، فَقُلْتُ: قَتَلَ اللَّهُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، قَالَ عُمَرُ: وَإِنَّا وَاللَّهِ مَا وَجَدْنَا فِيمَا حَضَرْنَا مِنْ أَمْرٍ أَقْوَى مِنْ مُبَايَعَةِ أَبِى بَكْرٍ، خَشِينَا إِنْ فَارَقْنَا الْقَوْمَ، وَلَمْ تَكُنْ بَيْعَةٌ أَنْ يُبَايِعُوا رَجُلا مِنْهُمْ بَعْدَنَا، فَإِمَّا بَايَعْنَاهُمْ عَلَى مَا لا نَرْضَى، وَإِمَّا نُخَالِفُهُمْ، فَيَكُونُ فَسَادٌ، فَمَنْ بَايَعَ رَجُلا عَلَى(8/455)
غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلا يُتَابَعُ هُوَ وَلا الَّذِى بَايَعَهُ تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلا. أما قوله: باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت فمعناه: باب هل يجب على الحبلى رجم أم لا؟ وأجمع العلماء أن الحبلى من الزنا لا رجم عليها حتى تضع. واختلفوا إذا وضعت متى يجب عليها الرجم. فقال مالك: إذا وضعت حُدَّت إذا وجد للمولود من يرضعه وإن لم يوجد أخّرت حتى ترضعه وتفطمه خوف هلاكه. وقال الشافعى: لا ترجم حتى تفطمه كما فعل (صلى الله عليه وسلم) فى المرجومة على ما رواه مالك فى الموطأ. وقال الكوفيون: ترجم بعد الوضع على ما رواه عمران بن حصين أن امرأة أتت النبى (صلى الله عليه وسلم) فذكرت أنها زنت فأمر بها أن تقعد حتى تضعه، فلما وضعته أتته فأمر بها فرجمت وصلى عليها. واختلفوا فى المرأة توجد حاملا ولا زوج لها، فقال مالك: إن قالت استكرهت أو تزوجت. أن ذلك لا يقبل منها ويقام عليها الحد؛ إلا أن تقيم بينة على ما ادَّعت من ذلك، أو تجئ بدماء أو استغاثت حتى أتت وهى على ذلك. وقال ابن القاسم: إن كانت غريبة طارئة فلا حد عليها. وقال الكوفيون والشافعى: إذا وجدت حاملا ولا زوج لها فلا حد عليها إلا أن تقر بالزنا أو تقوم عليها بينة، ولم يفرقوا بين طارئة وغيرها واحتجوا بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ادرءوا الحدود بالشبهات) .(8/456)
وحجة مالك: قول عمر بن الخطاب فى هذا الحديث: (الرجم فى كتاب الله حق على من زنا إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف) فسوى بين البينة والإقرار وبين وجود الحبل فى أن ذلك كله موجب للرجم. وقد روى مثل هذا القول عن عثمان وعلى وابن عباس، ولا مخالف لهم من الصحابة. وفى هذا الحديث ضروب من العلم منها: قول ابن عباس: (كنت أقرئُ رجالا من المهاجرين) يعنى أقرئهم القرآن، ففيه أن العلم يأخذه الكبير عن الصغير؛ لأن ابن عباس لم يكن من المهاجرين لصغر سنة. قال المهلب: وقول القائل: (لو مات عمر بايعت فلانًا) يعنى رجلا من الأنصار ففيه أن رفع مثل هذا لخبر إلى السلطان واجب لما يخاف من الفتنة على المسلمين، ألا ترى إنكار عمر تلك المقالة، وقال: (لن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحى من قريش) والمعروف هو الشىء الذى لا يجوز خلافه. وهذا يدل أنه لم يختلف فى ذلك على عهد النبى (صلى الله عليه وسلم) ولو اختلف فيه لعُلم الخلاف فيه، والمعروف ما عرفه أهل العلم وإن جهله كثير من غيرهم كما أن المنكر ما أنكره أهل العلم. والدلائل على أن الخلافة فى قريش كثيرة منها أنه (صلى الله عليه وسلم) أوصى بالأنصار من ولى أمر المسلمين أن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، فأخبر أنهم مستوصى بهم محتاجون أن يتقبل(8/457)
إحسانهم ويتجاوز عن إساءتهم، وفى هذا دليل واضح أنه ليس لهم فى الخلافة حق، وكذلك قال عمر: إنى لقائم العشية فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم. فالغصب لا يكون إلا أخذ ما لا يجب وإخراج الأمر عن قريش هو الغصب. قال المهلب: وفى قول عبد الرحمن لعمر حين أراد أن يقوم فى الموسم دليل على جواز الاعتراض على السلطان فى الرأى إذا خشى من ذلك الفتنة واختلاف الكلمة. وقوله: (إنى أخاف ألا يعوها ولا يضعوها مواضعها) ففيه دليل أنه لا يجب أن يوضع دقيق العلم إلا عند أهل الفهم له والمعرفة بمواضعه. وقوله: (يطيرها عنك كل مطير) دليل أنه لا يجب أن يحدث بكل حديث يسبق منه إلى الجهال الإنكار لمعناه؛ لما يخشى من افتراق الكلمة فى تأويله. وقوله: (أمهل حتى تقدم المدينة) الفضل كله فيه، وفيه دليل على أن أهل المدينة مخصوصون بالعلم والفهم، ألا ترى اتفاق عمر مع عبد الرحمن على ذلك ورجوعه إلى رأيه. وفيه: الحرص على المسارعة إلى استماع العلم، وأن الفضل فى القرب من العالم. وأما قوله لسعيد بن زيد: (ليقولن اليوم مقالة) أراد أن ينبهه ليحضر فهمه لذلك.(8/458)
وأما إنكار سعيد عليه فلعلمه باستقرار الأمور من الفرائض والسنن عندهم وقوله: (فمن عقلها ووعاها فليحدث بها) يعنى على حسب ما وعى وعقل. وفيه: الحض لأهل الضبط والفهم للعلم على تبليغه ونشره. وفى قوله: (ومن خشى ألا يعقلها فلا أحل له أن يكذب علىَّ) . النهى لأهل التقصير والجهل عن الحديث بما لم يعلموه ولا ضبطوه، وإدخاله فى هذا الحديث آية الرجم وأنها نزلت على النبى (صلى الله عليه وسلم) وقرئت وعمل بها. ثم قوله: (لا ترغبوا عن آبائكم) أنه كان أيضًا من القرآن ورفع خطه، فمعنى ذلك أنه لا يجب لأحد أن يتنطع فيما لا نص فيه من القرآن، وفيما لا يعلم من سنته (صلى الله عليه وسلم) . ويتسور برأيه فيقول ما لا يحل له مما سولت له نفسه الأمارة بالسوء، وبما نزغ به الشيطان فى قلبه حتى يسأل أهل العلم بالكتاب والسنة عنه كما تنطع الذى قال: (لو مات عمر لبايعت فلانًا) لما لم يجد الخلافة فى قريش مرسومة فى كتاب الله فعرفه عمر أن الفرائض والسنن والقرآن منه ما ثبت حكمه عند أهل العلم به ورفع خطه فلذلك قدم عمر هاتين القصتين اللتين لا نص لهما فى كتاب الله، وقد كانتا فى كتاب الله ولا يعلم ثبات حكمها إلا أهل العلم كما لايعرف أهل بيت الخلافة ولمن تجب إلا من عرف مثل هذا الذى يجهله كثير من الناس. وقوله: (أخشى إن طال بالناس زمان) فيه دليل على دروس العلم(8/459)
مع مرور الزمن، ووجود الجاهلين السبيل إلى التأويل بغير علم فيضلوا ويضلوا كما قال (صلى الله عليه وسلم) . وقوله: (كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم) أى كفر حق ونعمة. وقوله: (لا تطرونى) عرفهم ما خشى عليهم جهله، والغلو فيه كما صنعت النصارى فى قولهم لعيسى أنه ابن الله عز وجل. وقولهم: (إن بيعة أبى بكر كانت فلتة) وقول عمر: إنها كانت كذلك فلتة. فقال أبو عبيد: معنى الفلتة الفجأة، وإنما كانت كذلك، لأنها لم ينتظر بها العوام، وإنما ابتدرها أكابر أصحاب محمد من المهاجرين وعامة الأنصار إلا تلك الطيرة التى كانت من بعضهم ثم أضعفوا له كافتهم أنه ليس لأبى بكر منازع، ولا شريك فى الفضل، ولم يكن يحتاج فى أمره إلى نظر ولا مشاورة فلهذا كانت فلتة وقى الله بها الإسلام وأهله شرها. وقال الكرابيسى: فى قولهم (كانت فلتة) لأنهم تفلتوا فى ذهابهم إلى الأنصار وبايعوا أبا بكر فى حضرتهم وفيهم من لا يعرف ما يجب عليه، فقال قائل منهم: (منا أمير ومنكم أمير) وقد ثبت عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أن الخلافة فى قريش فإما بايعناهم على ما يجوز لنا، وإما قاتلناهم على ذلك فهى الفلتة. ألا ترى قول عمر: (والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من بيعة أبى بكر، ولأن أقدم فيضرب عنقى أحب إلىَّ من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر) فهذا يدل أن قول عمر: (كانت فلتة) لم يرد مبايعة أبى بكر، وإنما أراد ما وصفه الأنصار عليهم، وما كان من أمر سعد بن عبادة وقومه.(8/460)
وقول عمر: (قتل الله سعدًا) قال أبو عبيد: ولو علموا أن فى أمر أبى بكر شبهة وأن بين الخاصة والعامة فيه اختلافًا ما استجازوا الحكم عليهم بعقد البيعة، ولو استجازوه ما أجازه الآخرون إلا بمعرفة منهم به متقدمة. ويدل على ذلك ما رواه النسائى عن قتيبة، عن حميد بن عبد الرحمن، عن سلمة بن نبيط، عن نعيم، عن أبى هند، عن نبيط بن شريط، عن سالم بن عبيد وذكر موت النبى (صلى الله عليه وسلم) ثم قال: خرج أبو بكر فاجتمع المهاجرون يتشاورون بينهم، ثم قال: انطلقوا إلى إخواننا الأنصار. فقالت: منا أمير ومنكم أمير. فقال عمر: سيفان فى غمدٍ إذًا لا يصطلحان، ثم أخذ بيد أبى بكر فقال: من له هذه الثلاث: إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا، من صاحبه إذ هما فى الغار، مع من هما؟ ثم بايعه الناس أحسن بيعة وأجملها. فدل هذا الحديث أن القوم لم يبايعوه إلا بعد التشاور والتناظر واتفاق الملأ منهم الذين هم أهل الحل والعقد على الرضا بإمامته، والتقديم لحقه. ولقولهم (كانت فلتة) تفسير آخر. قال ثعلب وابن الأعرابى: الفلتة عند العرب: آخر ليلة من الأشهر الحرم يشك فيها فيقول قوم: هى من شعبان، ويقول قوم: هى من رجب؛ وبيان هذا أن العرب كانوا يعظمون الأشهر الحرم ولا يقاتلون فيها، ويرى الرجل قاتل أبيه فلا يمسه، فإذا كان آخر ليلة منها ربما شك قوم فقال قوم: هى من الحل، وقال بعضهم: من الحرم. فيبادر الموتور فى تلك الليلة فينتهز الفرصة فى إدراك ثأره غير معلوم أن ينصرم الشهر الحرام عن يقين،(8/461)
فيكثر تلك اليلة سفك الدماء وشن الغارات، فشبه عمر أيام حياة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وما كان الناس عليه فى عهده من اجتماع الكلمة وشمول الألفة ووقع الأمنة بالشهر الحرام الذى لا قتال فيه، ولا نزاع وكان موته (صلى الله عليه وسلم) شبيهة القصة بالفلتة التى هى خروج من الحرم لما نجم عند ذلك من الخلاف وظهر من الفساد وما كان من أهل الردة، ومنع العرب الزكاة، وتخلف من تخلف من الأنصار جريًا منهم على عادة العرب ألا يسود العرب القبيلة إلا رجل منها؛ فوقى الله شرها بتلك البيعة المباركة التى كانت جماعًا للخير ونظامًا للكلمة) وقد روينا نص هذا المعنى عن سالم بن عبد الله؛ روى سيف، عن مبشر، عن سالم بن عبد الله قال: قال عمر: كانت إمارة أبى بكر فلتة وقى الله شرها، قلت: ما الفلتة؟ قال: كان أهل الجاهلية يتحاجزون فى الحرم فإذا كانت الليلة التى يشك فيها أدغلوا فأغاروا، وكذلك كانوا يوم مات رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أدخل الناس من بين مدع إمارة أو جاحد زكاة، فلولا اعتراض أبى بكر دونها لكانت الفضيحة ذكره الخطابى. فإن قيل: فما معنى قول أبى بكر: (وليتكم ولست بخيركم) ؟ قيل: هذا من فضله ألا يرى لنفسه فضلا على غيره، وهذه صفة الخائفين لله الذين لا يعجبون بعمل ولا يستكثرون له مهج أنفسهم وأموالهم. قال الحسن: والله ما خلق الله بعد النبيين أفضل من أبى بكر. قالوا: ولا مؤمن من آل فرعون؟ قال: ولا مؤمن من آل فرعون.(8/462)
وروى الزهرى عن أنس قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول حين بويع أبو بكر: إن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وثانى اثنين إذ هما فى الغار أبو بكر فبايعوه بيعة عامة. قال المهلب: وقوله: (قد خالف عنا على والزبير) فليس هذا خلاف فى الرأى والمذهب وإنما هو فى الاجتماع والحضور. وفى إشارة عمر على أبى بكر أن يأتى الأنصار دليل على أنه إذا خشى من قوم فتنة وألا يجيبوا إلى الإقبال إلى أمر من فوقهم أن ينهض إليهم من فوقهم، ويبين لجماعتهم الحق قبل أن يحكم بذلك الرأى ويقضى به؛ ألا ترى إلى إجابة أبى بكر إلى ذلك وهو الإمام. وأما قول الرجلين من الأنصار (فلا تقربوهم واقضوا أمركم) فإنه يدل أن الأنصار لم تطبق على دعواها فى الخلافة، وإنما ادعى ذلك الأقل. وقول الأنصار: (نحن كتيبة الله) فإن ذلك لا ينكر من فضلهم كما قال أبو بكر، قال: ولكن لا يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحى من قريش أى لا يخرج هذا الأمر عنهم. وقوله: (أوسط العرب نسبًا) أى أعدل وأفضل، ومنه قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطًا) [البقرة: 143] أى عدلا. وقول أبى بكر: (قد رضيت لكم أحد الرجلين) هو أدب منه، خشى أن يزكى نفسه، فيعد ذلك عليه. وقوله: (أحد هذين الرجلين) يدل أنه لا يكون للمسلمين أكثر من(8/463)
إمام واحد، وقد جاء عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (اقتلوا الآخر منهما) وقد تؤول قوله: (اقتلوا الآخر منهما) بمعنى اخلعوه واجعلوه كمن قتل ومات بألا تقبلوا له قولاً، ولا تقيموا له دعوة حتى يكون فى أعداد من قتل وبطل. وفيه جواز إمامة المفضول إذا كان من أهل الغناء والكفاية، وقد قدَّم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أسامة على جيش فيه أبو بكر وعمر. وقول عمر: (لم أكره من مقالته غيرها) يعنى إشارته بالخلافة إلى عمر لما ذكر أن يقدم لضرب عنقه أحب إليه من التأمر والتقدم للخلافة بحضرته. وقوله: (إلا أن تسول لى نفسى) محافظة لما حلف عليه، ولمعرفته بالله من تقليب القلوب، فأخذ فى هذا بأبلغ العذر. وقول الحباب بن المنذر: (أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب) قال أبو عبيد عن الأصمعى: الجذيل: تصغير جذل، وجذل: وهو عود ينصب للإبل الجربى، تحتك به من الجرب، فأراد أن يستشفى برأيه كما كان تستشفى الإبل بالاحتكاك بذلك العود، والعذيق: تصغير عذق. والعذق، بفتح العين، النخلة نفسها، فأينما مالت النخلة الكريمة بنوا من ناحيتها المائل بناءً مرتفعًا يدعمها لكيلا تسقط، فذلك الترجيب، ولا يرجبُ إلا كرام النخل، والترجيب: التعظيم، يقال: رجبت الرجل رجبًا: أى عظمته، وإنما صغرهما جذيل وعذيق على وجه المدح، وإنما وصفهما بالكرم. قال المهلب: وقول عمر: (ابسط يدك يا أبا بكر) وإجابة أبى(8/464)
بكر له بعد أن قال: (قد رضيت لكم أحد الرجلين) دليل على أنه لم يحل له أن يتخلف عما قدمه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالدليل من الصلاة، وهى عمدة الإسلام، وبقوله للمرأة: (إن لم تجدينى فائتى أبا بكر) . فإن قيل: كيف جاز له أن يجعل الأمر لأحد هذين الرجلين، وقد علم بالدليل الواضح استخلاف النبى (صلى الله عليه وسلم) له؟ قيل: ليس فى قوله ذلك تخلية له من الأمر إذ كان الرضى موقوفًا إليه والاختيار، وليس ذلك بمخرجه أن يرضى نفسه أهلا له، وإنما تأدب إذ لم يقل رضيت لكم نفسى، فلم يجز أحدهما أن يرى نفسه أهلا لها فى زمن فيه أبو بكر. وقد روى أن عمر قال لهم: (أيكم تطيب نفسه أن يؤخر أبا بكر عن مقام أقامه فيه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ؟ فقال الأنصار بجمعهم: لا، وكذلك قال عمر: (إنّا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمرنا أقوى من مبايعة أبى بكر) يعنى فى قطع الخلاف، وبرضى الجماعة به، وإقرارهم بفضله. وقوله: (ونزونا على سعد بن عبادة) أى درسناه ووثبنا عليه فى متابعتهم إلى البيعة، والنزوان: الوثوب. وفيه الدعاء على من تخشى منه الفتنة. وقال الخطابى: معنى قوله: (قتل الله سعدًا) : أى اجعلوه كمن قتل، واحسبوه فى عدد من مات، ولا تعتدوا بمشهده، وذلك أن سعدًا أراد فى ذلك المقام أن ينصب أميرًا على قومه،(8/465)
على مذهب العرب فى الجاهلية ألا يسود القبيلة إلا رجلا منها، وكان حكم الإسلام خلاف ذلك، فرأى عمر إبطاله بأغلظ ما يكون من القول وأشنعه، وكل شىء أبطلت فعله وسلبت قوته فقد قتلته وأمته، وكذلك قتلت الشراب إذا مزجته لتكسر شدته. وقوله: (وليس فيهم من تقطع الأعناق له مثل أبى بكر) يريد أن السابق منكم لا يلحق شأوه فى الفضل، ولا يكون أحد مثله، لأنه أسبق السابقين. وقوله: (تغرة أن يقتلا) : قال أبو عبيد: التغرة: التغرير، يقال: غررت بالقوم تغريرًا وتغرة، وكذلك يقال فى المضاعف خاصة، كقولك: حللت اليمين تحليلا وتحلة، وإنما أراد عمر أن فى بيعتهما تغريرًا بأنفسهما للقتل وتعرضًا له فنهاهما عنه، وأمر ألا يؤمَّر واحد منهم لئلا يطمع فى ذلك، فيفعل هذا الفعل. قال أبو عمرو: الدافة: القوم يسيرون جماعة سيرًا ليس بالشديد، يقال: هم يدفون دفيفًا. وقوله: (تحصنونا من الأمر) يقال: حصنت الرجل من الشىء وأحصنته: أخرجته منه، وقال الأصمعى: التزوير: إصلاح الكلام وتهيئته. وقال أبو زيد: المزور من الكلام والمزوق واحد، وهو المصلح المحسن، وكذلك الخط إذا قوم أيضًا.(8/466)
- باب الْبِكْرينِ يُجْلَدَانِ وَيُنْفَيَانِ: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ (الآية [النور: 2]
قال ابن علية: رأفة إقامة الحدود. / 17 - فيه: زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ: (سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَأْمُرُ فِيمَنْ زَنَى وَلَمْ يُحْصَنْ جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ) . قَالَ عُرْوَةُ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ غَرَّبَ، ثُمَّ لَمْ تَزَلْ تِلْكَ السُّنَّةَ. أجمع العلماء أن قوله تعالى: (الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) [النور: 2] فى زنا الأبكار خاصة لما ثبت فى حد الثيب أنه الرجم، وقول عمر على رءوس الناس: (الرجم فى كتاب الله حق على من زنا إذا أحصن) ، ولم يكن فى الصحابة مخالف فكان إجماعًا، قال ابن المنذر: وهو قول الخلفاء الراشدين، يعنى تغريب البكر الزانى بعد جلده، روى ذلك عن أبى بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان، وعلى، وأُبى بن كعب، وابن عمر، وبه قال آئمة الأمصار وخالف ذلك أبو حنيفة ومحمد، فقالا: لا نفى على زان، وإنما عليه الجلد خاصة. قالوا: وهو ظاهر كتاب الله تعالى وليس فيه نفى، ولا معنى لهذا القول بخلافه للسنة الثابتة، ألا ترى أنه (صلى الله عليه وسلم) أقسم فى حديث العسيف ليقضين بينهما بكتاب الله، فقضى بالجلد والتغريب على العسيف، فكان فعله بيانًا لكتاب الله وهو إجماع الصحابة، وعليه عامة العلماء، فسقط قول من خالفه. واختلفوا فى المسافة التى ينفى إليها الزانى، فروى عن عمر بن(8/467)
الخطاب أنه قال: فدك. ومثله عن ابن عمر. وعن على بن أبى طالب: من الكوفة إلى البصرة. وقال الشعبى: ينفيه من عمله إلى غير عمله. وقال مالك: يغرب عامًا فى بلد يحبس فيه لئلا يرجع إلى البلد الذى نفى منه. وقال عبد الملك: ينفى إلى فدك، وإلى مثل الحار من المدينة. وقال أحمد: ينفى إلى قدر ما تقصر فيه الصلاة. وقال أبو ثور: إلى ميل وأقل من ذلك. قال ابن المنذر: ويجزئ فى ذلك ما يقع عليه اسم النفى قل أو كثر، ولا حجة لمن جعل لذلك حدا. واختلفوا فى المواضع التى تضرب، فقال مالك: الحدود كلها أو التعزير لا تضرب إلا فى الظهر. وقال أبو حنيفة: تضرب الأعضاء كلها إلا الفرج والرأس والوجه. وروى عن عمر وابن عمر أنهما قالا: لا يضرب الرأس. وقال الشافعى: يتقى الفرج والوجه. وروى ذلك عن على، رضى الله عنه.
- باب نَفْىِ أَهْلِ الْمَعَاصِى وَالْمُخَنَّثِينَ
/ 18 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: (لَعَنَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) الْمُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجَالِ، وَالْمُتَرَجِّلاتِ مِنَ النِّسَاءِ، وَقَالَ: أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ، وَأَخْرَجَ فُلانًا، وَأَخْرَجَ عُمَرُ فُلانًا) . وقد تقدم هذا الباب فى كتاب الأشخاص والملازمة، وفى كتاب الأحكام إلا أنه ذكر فيهما حديث أبى هريرة: (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أراد أن يحرق بيوت المتخلفين عن الصلاة معه) ولم يخرج هذا الحديث وسيأتى فى هذا الحديث فى مثل هذا الباب بعينه(8/468)
فى كتاب اللباس، وهناك أولى أن نتكلم فيه إن شاء الله تعالى ونذكر هنا منه طرفًا. قال المؤلف: إنما ذكر هذا الباب بعد نفى الزانى، وإن كان قد كرره فى غير موضع من كتابه ليعرفك أن التغريب على الزانى واجب؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لما نفى من أتى من المعاصى ما لا حد فيه، فنفى من أتى ما فيه من الحدّ أوجب وأوكد فى النظر لو لم يكن فى نفى الزانى سنة ثابتة لتبين خطأ أبى حنيفة فى القياس. وقال المهلب: لعنة النبى (صلى الله عليه وسلم) المخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء، وأمره بإخراجهم يدل على نفى كل من خشيت منه فتنة على الناس فى دين أو دنيا، وهذا الحديث أصل لذلك، والله الموفق.
- باب مَنْ أَمَرَ غَيْرَ الإمَامِ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ غَائِبًا عَنْهُ
/ 19 - فيه: حديث أَبِى هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ فى العَسِيف، (وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَارْجُمْهَا، فَغَدَا أُنَيْسٌ فَرَجَمَهَا) . وترجم له: باب هل يأمر الإمام رجلا فيضرب الحد غائبًا عنه؟ وقد فعله عمر، وهذان البابان معناهما واحد، وترجم له فى كتاب الأحكام باب: هل يجوز للإمام أن يبعث رجلا وحده للنظر فى الأمور. لا معنى للكلام فى هذه الأبواب فقد تكرر، وقد ذكر هذا المعنى فى كتاب الوكالات، وترجم لحديث العسيف باب الوكالات فى الحدود، ومعناها كلها أن الإمام يجوز له أن يبعث رجلا واحدًا يقوم(8/469)
مقامه فى إقامة الحدود، وتنفيذ الأحكام، وأن الواحد يجوز فى ذلك، وليس من باب الشهادات التى لا يجوز فيها إلا رجلان فصاعدًا.
- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ (إلى قوله) فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ) [النساء: 25] ) مُسَافِحَاتٍ (: زَوَانِى،) وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ (: أَخِلاءَ.
/ 20 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) سُئِلَ عَنِ الأمَةِ إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنْ، قَالَ: (إِذَا زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ بِيعُوهَا، وَلَوْ بِضَفِيرٍ) . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: لا أَدْرِى أبَعْدَ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ. اختلف العلماء فى إحصان الأمة غير ذات الزوج ما هو؟ فقالت طائفة: إحصان الأمة تزويجها، فإذا زنت ولا زوج لها فعليها الأدب، ولا حد عليها. هذا قول ابن عباس وطاوس وقتادة، وبه قال أبو عبيد. وقالت طائفة: إحصان الأمة إسلامها، فإذا كانت الأمة مسلمة وزنت وجب عليها خمسون جلدة سواء كانت ذات زوج، أو لم تكن. روى هذا القول عن عمر بن الخطاب فى رواية، وهو قول على، وابن مسعود، وابن عمر، وأنس، والنخعى، وإليه ذهب مالك، والليث، والأوزاعى والكوفيون والشافعى.(8/470)
وقال إسماعيل فى قول من قال: فإذا أحصنّ: أسلمن بعد؛ لأن ذكر الأيمان قد تقدم لهن فى قوله: (من فتياتكم المؤمنات) [النساء: 25] فيبعد أن يقال: من فتياتكم المؤمنات، فإذا آمنّ، ويجوز فى كلام الناس على بعده فى التكرير، وأمر القرآن ينزل على أحسن وجوهه وأبينها. وأما قول من قال: فإذا أحصن: تزوجن، فلا حد على الأمة حتى تزوج، فإنهم ذهبوا فى ذلك إلى ظاهر القرآن، وأحسبهم لم يعلموا هذا الحديث: (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) سُئل عن الأمة إذا زنت، ولم تحصن. فقال: اجلدوها) فالأمر عندنا أن الأمة إذا زنت، وقد أحصنت مجلودة بكتاب الله، وهو قوله: (فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) [النساء: 25] وإذا زنت قبل أن تحصن مجلودة بحديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المذكور فى هذا الباب، وإنما استوى الإحصان فيها وغير الإحصان والله أعلم؛ لأنه جعل عليها إذا زنت نصف ما على الحرائر من العذاب، وكان عذاب الحرائر فى الزنا فى موضع، والجلد فى موضع فلما جعل ما على الأمة نصف ما على الحرة من العذاب؛ علمنا أن العذاب الذى ينتصف هو الجلد؛ لأن الجلد يكون له نصف، والرجم لا يكون له نصف. وزعم أهل المقالة الأولى أنه لم يقل فى هذا الحديث: (ولم تحصن) غير مالك، وليس كما زعموا، وقد رواه يحيى بن سعيد، عن ابن شهاب كما رواه مالك، ورواه كذلك أيضًا طائفة عن ابن عيينة، عن الزهرى، وإذا اتفق مالك ويحيى بن سعيد وابن عيينة فهو حجة على من خالفهم، وسيأتى ما بقى من معانى هذا الباب بعد هذا إن شاء الله تعالى.(8/471)
- باب لا يُثَرَّبُ عَلَى الأمَةِ إِذَا زَنَتْ وَلا تُنْفَى
/ 21 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا زَنَتِ الأمَةُ، فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَجْلِدْهَا، وَلا يُثَرِّبْ، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا، وَلا يُثَرِّبْ، ثُمَّ إِنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ، فَلْيَبِعْهَا، وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعَرٍ) . استدل بهذا الحديث من لم يوجب النفى على النساء، أحرارًا كن أو إماء، ولا على العبيد، روى ذلك عن الحسن وحماد، وهو قول مالك، والأوزاعى، وعبيد الله بن الحسن، وأحمد، وإسحاق، وقال الشافعى وأبو ثور: على النساء النفى وعلى الإماء والعبيد. وهو قول ابن عمر، واحتج الشافعى بعموم قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من زنا ولم يحصن فعليه جلد مائة وتغريب عام) فعم ولم يخص، واحتج أيضًا بقوله تعالى: (فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) [النساء: 25] والتغريب له نصف. واحتج عليه مخالفه بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها. . ثم إن زنت الثالثة فليبيعها) فدل هذا على سقوط النفى عنها؛ لأنه محال أن يأمر ببيع من لا يقدر مبتاعه على قبضه من بائعه إلا بعد مضى ستة أشهر، وأيضًا فإن العبيد والإماء لا وطن لهم فيعاقبوا بإخراجهم عنه، وفى نفيهم قطع للسيد عن الخدمة وضرر، ومما يدل أنه لا نفى على النساء قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا تسافر امرأة يومًا وليلة إلا مع ذى محرم) فإن أخرجتم معها ذا محرم عاقبتم من زنا ومن لم يزن وهذا محال، وإن قلتم إنها تغرب وحدها فقد خالفتم الخبر؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) نهاها أن تسافر وحدها، وفى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فليجلدها) إباحة للسيد أن يقيم الحدود على عبيده.(8/472)
وقد اختلف العلماء فى ذلك، فقال الشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور: للسيد أن يقيم الحدود كلها على عبيده. وقال مالك والليث: يحده السيد فى الزنا وشرب الخمر والقذف إذا شهد عنده الشهود لا بإقرار العبد إلا القطع خاصة فإنه لا يقطعه إلا الإمام. وقال الكوفيون: لا يقيم الحدود كلها إلا الإمام خاصة، فإذا علم السيد أن عبده زنا يوجعه ضربًا ولا يبلغ به الحد. وحجتهم ما روى عن الحسن، وعبد الله بن محيريز، وعمر بن عبد العزيز أنهم قالوا: الجمعة والحدود والزكاة والنفى والحكم إلى السلطان خاصة. وحجة القول الأول قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها) وسائر الحدود قياسًا على الجلد الذى جعله النبى (صلى الله عليه وسلم) إلى السيد، وروى عن ابن عمر، وابن مسعود، وأنس وغيرهم أنهم أقاموا الحدود على عبيدهم، ولا مخالف لهم من الصحابة. وحجة مالك ظاهر حديث أبى هريرة، وإنما استثنى القطع؛ لأن فيه مثلة بالعبد، فيدعى السيد أن عبده سرق ليزيل عنه العتق الذى يلزمه بالمثلة، فمنع منه قطعًا للذريعة، وحد الزنا وغيره لا مثلة فيه، فلا يتهم عليه. وقد قال بعض أصحاب مالك: إن للسيد قطعه إذا قامت على ذلك بينة. وقال ابن المنذر: يقال للكوفيين إذا جاز ضربه تعزيرًا، وذلك غير واجب على الزانى، ومنع مما أطلقته السنة، فذلك خلاف للسنة الثابتة.(8/473)
وقوله: (فليجلدها ولا يثرب) يدل أن كل من وجب عليه حد وأقيم عليه أنه لا ينبغى أن يثرب عليه ولا يعدد، وإنما يصلح التثريب واللوم قبل مواقعة الذنب للردع والزجر عنه. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ثم ليبعها ولو بضفير) معناه عند الفقهاء الندب والحض على مباعدة الزانية لما فى السكوت على ذلك من خوف الرضى به، وذلك ذريعة إلى تكثير أولاد الزنا، وقد قالت أم سلمة: (يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث) . قال بعض أهل العلم: الخبث: أولاد الزنا. وقال أهل الظاهر بوجوب بيع الأمة إذا زنت الرابعة وجلدت، ولم يقل به أحد من السلف، وكفى بهذا جهلا، ولا يشتغل بهذا القول لشذوذه، وقد نهى (صلى الله عليه وسلم) عن إضاعة المال فكيف يأمر ببيع أمة لها قيمة بحبل من شعر لا قيمة له؟ وإنما أراد بذلك النهى عنها، والأمر بمجانبتها، فخرج لفظه (صلى الله عليه وسلم) على المبالغة فى ذلك، وهذا من فصيح كلام العرب.
- باب أَحْكَامِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَإِحْصَانِهِمْ إِذَا زَنَوْا وَرُفِعُوا إِلَى الإمَامِ
/ 22 - فيه: ابْنَ أَبِى أَوْفَى: رَجَمَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَقُلْتُ: أَقَبْلَ النُّورِ أَمْ بَعْدَهُ؟ قَالَ: لا أَدْرِى. وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْمَائِدَةِ، وَالأوَّلُ أَصَحُّ. / 23 - فيه: ابْنِ عُمَرَ: (إِنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ رَجُلا مِنْهُمْ وَامْرَأَةً زَنَيَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : مَا تَجِدُونَ فِى التَّوْرَاةِ(8/474)
فِى شَأْنِ الرَّجْمِ؟ فَقَالُوا: نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ، قَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ سَلامٍ: كَذَبْتُمْ، إِنَّ فِيهَا الرَّجْمَ، فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ، فَنَشَرُوهَا، فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، فَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ لَهُ عَبْدُاللَّهِ بْنُ سَلامٍ: ارْفَعْ يَدَكَ، فَرَفَعَ يَدَهُ، فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، قَالُوا: صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ، فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَرُجِمَا، فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ يَحْنِى عَلَى الْمَرْأَةِ يَقِيهَا الْحِجَارَةَ) . اختلف العلماء فى إحصان أهل الذمة، فقالت طائفة فى الزوجين الكتابيين يزنيان ويرفعان إلينا: عليهما الرجم، وهما محصنان، هذا قول الزهرى والشافعى وقال الطحاوى: وروى عن أبى يوسف أن أهل الكتاب يحصن بعضهم بعضًا، ويحصن المسلم النصرانية، ولا تحصنه النصرانية، واحتج الشافعى بحديث ابن عمر أن النبى (صلى الله عليه وسلم) رجم اليهوديين اللذين زنيا، وقال: إنما رجمتهما لأنهما كانا محصنين. وقال النخعى: لا يكونان محصنين حتى يجامعا بعد الإسلام. وهو قول مالك والكوفيين، قالوا: الإسلام من شرط الإحصان، وقالوا فى حديث ابن عمر: إن رجم النبى (صلى الله عليه وسلم) اليهوديين اللذين زنيا بحكم التوراة حين سأل الأحبار عن ذلك، إنما كان من باب تنفيذ الحكم عليهم بكتابهم التوراة، وكان ذلك أول دخوله (صلى الله عليه وسلم) المدينة، ثم نزل عليه القرآن بعد ذلك الذى نسخ خطه وبقى حكمه، فالرجم لمن زنا، فليس رجمه اليهوديين من باب إحصان الإسلام فى شىء، وإنما هو من باب تنفيذ الحكم عليهم بالتوراة، وكان حكم التوراة بالرجم على المحصن وغير المحصن، وكان على النبى (صلى الله عليه وسلم) اتباعه والعمل به؛ لأن على كل نبى اتباع شريعة النبى الذى قبله حتى(8/475)
يحدث الله له شريعة تنسخها، فرجم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) اليهوديين على ذلك الحكم، ثم نسخ الله تعالى ذلك بقوله: (واللاتى يأتين الفاحشة (إلى) البيوت. . . . أو يجعل الله لهن سبيلا) [النساء: 15] فجعل هذا ناسخًا لما قبله، ولم يفرق فى ذلك بين المحصن ولا غيره، ثم نسخ ذلك بالآية التى بعدها، ثم جعل الله لهن سبيلا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا؛ البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) ففرق حينئذ بين حد المحصن وغير المحصن. هذا قول الطحاوى، ونزل بعد هذا على النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم) [العنكبوت: 51] ، فلم يحكم بعد هذه الآية بين أهل الكتاب إذا تحاكموا إليه إلا بالقرآن، إلا أن العلماء اختلفوا فى أهل الذمة إذا تحاكموا إلينا، فقالت طائفة: الإمام مخير فى ذلك إن شاء حكم بينهم، روى هذا عن ابن عباس، وعطاء، والشعبى، والنخعى، وهو قول مالك، وأحد قولى الشافعى، وجعلوا قوله تعالى: (فاحكم بينهم أو أعرض عنهم) [المائدة: 42] محكمة غير منسوخة. وقال آخرون: واجب على الحاكم أن يحكم بينهم، وزعموا أن قوله تعالى: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) [المائدة: 49] ناسخ للتخيير فى الحكم بينهم. روى هذا عن مجاهد وعكرمة، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وقول الشافعى الثانى. وتأول الأولون قوله: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) [المائدة: 49] إن حكمت.(8/476)
- باب إِذَا رَمَى امْرَأَتَهُ أَوِ امْرَأَةَ غَيْرِهِ بِالزِّنَا عِنْدَ الْحَاكِمِ وَالنَّاسِ، هَلْ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهَا فَيَسْأَلَهَا عَمَّا رُمِيَتْ بِهِ؟
/ 24 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِد: أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَقَالَ الآخَرُ: وَهُوَ أَفْقَهُهُمَا، أَجَلْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَأْذَنْ لِى أَنْ أَتَكَلَّمَ، قَالَ: تَكَلَّمْ، قَالَ: إِنَّ ابْنِى كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا، قَالَ مَالِكٌ: وَالْعَسِيفُ الأجِيرُ، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، فَأَخْبَرُونِى أَنَّ عَلَى ابْنِى الرَّجْمَ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَبِجَارِيَةٍ لِى، ثُمَّ إِنِّى سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ، فَأَخْبَرُونِى أَنَّ مَا عَلَى ابْنِى جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَإِنَّمَا الرَّجْمُ عَلَى امْرَأَتِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : أَمَا وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لأقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ أَمَّا غَنَمُكَ وَجَارِيَتُكَ فَرَدٌّ عَلَيْكَ، وَجَلَدَ ابْنَهُ مِائَةً وَغَرَّبَهُ عَامًا، وَأَمَرَ أُنَيْسًا الأسْلَمِىَّ أَنْ يَأْتِىَ امْرَأَةَ الآخَرِ، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ، فَارْجُمْهَا، فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا) . أجمع العلماء أن من قذف امرأته أو امرأة غيره أو رجلا بالزنا فلم يأت على ذلك بالبينة أن الحد يلزمه إلا أن يقر له المقذوف بالحدّ ويعترف به، فلهذا وجب على الحاكم أن يبعث إلى المرأة يسألها عما رميت به لأنه لا يلزمها الحد عند عدم البينة إلا بإقرارها، ولو لم تعترف المرأة فى هذا الحديث لوجب على والد العسيف الحد لقذفه لها، ولم يلزمه الحد لو لم يعترف ابنه بالزنا؛ لأنه يسقط عنه حد القذف لابنه. واختلف العلماء فيمن أقر بالزنا بامرأة معينة وجحدت المرأة قال مالك: يقام عليه حد الزنا، وإن طلبت حد القذف أقيم عليه أيضًا،(8/477)
وكذلك لو أقرت هى، وأنكر هو، وقال أبو حنيفة والأوزاعى: عليه حد القذف، ولا حد عليه للزنا. وقال أبو يوسف ومحمد والشافعى: من أقر منهما فإنما عليه حد الزنا فقط. والحجة لقول مالك أن حد الزنا واجب عليه بإقراره، وليس إقراره دليلا على صدقه على المقذوف؛ لأنا لو علمنا صدقه بالبينة أو بإقرار المرأة لم يجب عليه الحد، فلما لم يكن إلى البينة ولا إلى إقرار المرأة سبيل وجب لها أن تطلب حقها من القاذف، كما لو أقر رجل أن زوجته أخته لحرمت عليه ولم يثبت نسبها بقوله وحده. والحجة لأبى حنيفة والأوزاعى، أنه لما قذفها ولم يأت بأربعة شهداء لزمه حد القذف لقوله تعالى: (والذين يرمون المحصنات) [النور: 4] الآية، فلما حد لها استحال أن يحد فى الزنا لحكمنا لها بالإحصان، وأيضًا فإنه لا يجوز أن يجتمع حدان أبدًا، فإذا اجتمعا ثبت ألزامهما، وإنما كان عنده حد القذف ألزم من حد الزنا؛ لأن من أقر على نفسه بالزنا ثم رجع فإنه يقبل رجوعه، ومن قذف أحدًا لم ينفعه الرجوع، وكذلك من وجب عليه حد الزنا والقذف وكان عليه القتل؛ فإنه يحد للقذف ويقتل ولا يحد للزنا. والحجة لأبى يوسف ومحمد والشافعى أنا قد أحطنا علمًا أنه لا يجب عليه الحدان جميعًا؛ لأنه إن كان زانيًا فلا حد عليه للقذف، وإن كان قاذفًا لمحصنة فليس بزانٍ، وهو قاذف فحُد للقذف، وإنما وجب عليه حد الزنا؛ لأن من أقر على نفسه وعلى غيره لزمه ما أقر به على نفسه، وهو مدعٍ فيما أقر به على غيره، فلذلك لم يقبل قوله عليها، ويؤخذ بإقراره على نفسه.(8/478)
- باب مَنْ أَدَّبَ أَهْلَهُ أَوْ غَيْرَهُ دُونَ السُّلْطَانِ
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا صَلَّى فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلْيَدْفَعْهُ، فَإِنْ أَبَى، فَلْيُقَاتِلْهُ) ، وَفَعَلَهُ أَبُو سَعِيدٍ. / 25 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: جَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِى، فَقَالَ: حَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَالنَّاسَ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، فَعَاتَبَنِى، وَجَعَلَ يَطْعُنُ بِيَدِهِ فِى خَاصِرَتِى، وَلا يَمْنَعُنِى مِنَ التَّحَرُّكِ إِلا مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . . الحديث. وَقَالَتْ مرة: لَكَزَنِى لَكْزَةً شَدِيدَةً، وَقَالَ: حَبَسْتِ النَّاسَ لقِلادَةٍ، فَبِى الْمَوْتُ لِمَكَانِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَقَدْ أَوْجَعَنِى. فى حديث أبى سعيد: أنه يجوز للرجل أن يؤدب غير أهله بحضرة السلطان إذا كان ذلك فى واجب وعلم أن السلطان يرضى بذلك، ولا ينكره لجوازه فى الشريعة. قال المهلب: وفى حديث عائشة أنه يجوز أن يؤدب ابنته بحضرة زوجها لا سيما فى أمر الدين، وقد تقدم هذا الحديث فى كتاب التيمم وتقدم حديث أبى سعيد فى كتاب الصلاة فى باب يرد المصلى من مَرَّ بين يديه.
- باب مَنْ رَأَى مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلا فَقَتَلَهُ
/ 26 - فيه: سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ قَالَ: (لَوْ رَأَيْتُ رَجُلا مَعَ امْرَأَتِى لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، لأنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي) .(8/479)
قال المهلب: معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (أتعجبون من غيرة سعد؟ والله أغير منى) يدل على وجود القود فيمن قتل رجلا وجده مع امرأته لأن الله تعالى وإن كان أغير من عباده فإنه قد أوجب الشهود فى الحدود فلا يجوز لأحد أن يتعدى حدود الله، ولا يسفك دمًا بدعوى. وقد روى مالك هذا المعنى فى حديث سعد بينًا، روى مالك، عن سهيل بن أبى صالح، عن أبيه، عن أبى هريرة: (أن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله، أرأيت إن وجدت مع امرأتى رجلا أمهله حتى آتى بأربعة شهداء؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : نعم) ففى هذا من الفقه قطع الذرائع والتسيب إلى قتل الناس والادعاء عليهم بمثل هذا وشبهه، وفى حديث سعد من رواية مالك: النهى عن إقامة الحدود بغير سلطان وبغير شهود؛ لأن الله تعالى عظم دم المسلم وعظم الإثم فيه، فلا يحل سفكه إلا بما أباحه الله به، وبذلك أفتى على بن أبى طالب فيمن قتل رجلا وجده مع امرأته فقال: إن لم يأت بأربعة شهداء؛ فليعط برمته. أى يسلِّم برمته للقتل، وعلى هذا جمهور العلماء. وقال الشافعى وأبو ثور: يسعه فيما بينه وبين الله قتل الرجل وامرأته إن كانا ثيبين وعلم أنه قد نال منها ما يوجب الغسل ولا يسقط عنه القود فى الحكم. وقال أحمد بن حنبل: إن جاء ببينة أنه وجده مع امرأته وقتله يهدر دمه إن جاء بشاهدين. وهو قول إسحاق وهذا خلاف قوله فى حديث مالك: (أمهله حتى آتى بأربعة شهداء؟ قال: نعم) وقال ابن حبيب: إذا كان المقتول محصنًا، فالذى ينجى قاتله من القتل أن يقيم أربعة شهداء أنه فعل بامرأته، وأما إن كان المقتول غير محصن فعلى قاتله القود، وإن أتى بأربعة شهداء، هذا وجه الحديث عندى،(8/480)
وذكر ابن مزين عن ابن القاسم أن ذلك فى البكر والثيب سواء يترك قاتله إذا قامت له البينة بالرؤية. وقال أصبغ عن ابن القاسم وأشهب: أستحب الدية فى البكر فى مال القاتل. وهو قول أصبغ. وقال المغيرة: لا قود فيه ولا دية، وقد أهدر عمر بن الخطاب دمًا من هذا الوجه، روى الليث، عن يحيى بن سعيد أن رجلا فقد أخاه فجعل ينشده فى الموسم، فقام رجل فقال: أنا قتلته، فمر به إلى عمر بن الخطاب فقال: مررت بأخى هذا فى بيت امرأة مغيبة يقول: وأشعث غره الإسلام منى أبيت على ترائبها وكسرى خلوت بعرسه ليل التمام على صهباء لاحقة الحزام فأهدر عمر دمه. وروى الليث، عن يحيى بن سعيد: (أن زيد بن أسلم أدرك المرأة الهذلية التى رمت ضيفها الذى أرادها على نفسها فقتلته عجوز كبيرة، فأخبرته أن عمر أهدر دمه) وقال ابن مزين: ما روى عن عمر فى هذا أنه ثبت عنده ذلك من عداوتهم وظلمهم، ولو أخذ بقول الرجل فى ذلك بغير بينة لعمد الرجل إلى الرجل يريد قتله، فيدعوه إلى بيته لطعام أو لحاجة فيقتله ويدعى أنه وجده مع امرأته، فيؤدى ذلك إذا قبل قوله إلى إباحة الدماء وإسقاط القود بغير حق ولا إثبات. وقال ابن المنذر: والأخبار عن عمر مختلفة وعامتها منقطعة، فإن ثبت عن عمر أنه أهدر الدم فيها، فإنما ذلك لبينة ثبتت عنده تسقط القود.(8/481)
وروى عبد الرزاق، عن الثورى، عن المغيرة بن النعمان، عن هانئ بن حزام: (أن رجلا وجد مع امرأته رجلا فقتلهما، فكتب عمر كتابًا فى العلانية: أن يقيدوه، وكتابًا فى السرّ: أن أعطوه الدية) . وروى الأعمش، عن زيد بن وهب، أن عمر أمر بالدية فى ذلك. قال الشافعى: وبحديث على نأخذ، ولا أحفظ عن أحد من أهل العلم قبلنا مخالفًا له. قال ابن المنذر: وقد حرم الله دماء المؤمنين فى كتابه إلا بالحق، فغير جائز إباحة ما ثبت تحريمه إلا ببينة، ونهى النبى (صلى الله عليه وسلم) سعدًا أن يقتل حتى يأتى بأربعة شهداء، وفى نهى النبى له عن ذلك مع مكانه من الثقة والصلاح دليل على منع جميع الناس من قتل من يَدّعون إباحة قتله بغير بينة.
- باب مَا جَاءَ فِى التَّعْرِيضِ
/ 27 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) جَاءَهُ أَعْرَابِىٌّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ امْرَأَتِى وَلَدَتْ غُلامًا أَسْوَدَ، فَقَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَا أَلْوَانُهَا؟ قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَنَّى كَانَ ذَلِكَ، قَالَ: أُرَاهُ عِرْقٌ نَزَعَهُ، قَالَ: فَلَعَلَّ ابْنَكَ هَذَا نَزَعَهُ عِرْقٌ) . اختلف العلماء فى هذا الباب. فقالت طائفة: لا حدّ فى التعريض، وإنما يجب الحدّ بالتصريح البين. روى هذا عن ابن مسعود وقاله القاسم بن محمد والشعبى، وإليه ذهب الثورى(8/482)
والكوفيون والشافعى، إلا أن أبا حنيفة والشافعى يوجبان عليه الأدب والزجر ويُنهى عن ذلك. واحتج الشافعى بحديث هذا الباب، قال: وقد عرض بزوجته تعريضًا لا خفاء به، ولم يوجب النبى (صلى الله عليه وسلم) حدا، وإن كان غلب على السامع أنه أراد القذف إذ قد يحتمل قوله وجهًا غير القذف، من التعجب والمسألة عن أمره. وقالت طائفة: التعريض كالتصريح. روى ذلك عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان وعروة والزهرى وربيعة، وبه قال مالك والأوزاعى. قال مالك: وذلك إذا علم أن قائله أراد به قذفًا فعليه الحد، واحتج فى ذلك بما روى عن أبى الرجال، عن أمه عمرة أن رجلين استبا فى زمن عمر بن الخطاب، فقال أحدهما للآخر: والله ما أبى بزانٍ ولا أمى بزانية. فاستشار فى ذلك عمر بن الخطاب، فقال قائل: مدح أباه وأمَّهُ. وقال آخر: بل كان لأبيه وأمه مدح غير هذا نرى أن يجلد الحد، فجلده عمر ثمانين. وقال أهل هذه المقالة: لا حجة فى حديث أبى هريرة؛ لأن الرجل لم يرد قذف امرأته والنقيصة لها، وإنما جاء مستفتيًا فلذلك لم يحده النبى (صلى الله عليه وسلم) ولذلك لم يحد عويمر، وأرجئ أمره حتى نزل فيه القرآن. واحتج الشافعى فقال: لما لم يجعل التعريض بالخطبة فى العدة بمنزلة التصريح، كذلك لا يجعل التعريض فى القذف بمنزلة التصريح. قال إسماعيل بن إسحاق: وليس كما ظن وإنما أجيز له التعريض(8/483)
بالنكاح دون التصريح؛ لأن النكاح لا يكون إلا من اثنين، فإذا صرَّح بالخطبة وقع عليه الجواب من الآخر بالإيجاب أو الموعد فمنعوا من ذلك، فإذا عرَّض به فهم أن المرأة من حاجته فلم يحتج إلى جواب، والتعريض بالقذف لا يكون إلا من واحد، ولا يكون فيه جواب، فهو قاذف من غير أن يجيبه أحد فقام مقام التصريح.
- باب كَمِ التَّعْزِيرُ وَالأدَبُ؟
/ 28 - فيه: عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ، عَنْ أَبِى بُرْدةَ، قَالَ: (كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: لا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشْرِ جَلَدَاتٍ إِلا فِى حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ) . / 29 - وَعَنْ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ جَابِرٍ عَمَّنْ سَمِعَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لا عُقُوبَةَ فَوْقَ عَشْرِ ضَرَبَاتٍ إِلا فِى حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ) . / 30 - وَعَنْ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ جَابِرٍ: أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا بُرْدَةَ الأنْصَارِىَّ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (لا تَجْلِدُوا فَوْقَ عَشْرَةِ أَسْوَاطٍ إِلا فِى حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ) . / 31 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الْوِصَالِ، فَقَالَ لَهُ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: فَإِنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُوَاصِلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : أَيُّكُمْ مِثْلِى، إِنِّى أَبِيتُ يُطْعِمُنِى رَبِّى وَيَسْقِينِ، فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنِ الْوِصَالِ، وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا، ثُمَّ يَوْمًا، ثُمَّ رَأَوُا الْهِلالَ، فَقَالَ: لَوْ تَأَخَّرَ لَزِدْتُكُمْ كَالْمُنَكِّلِ بِهِمْ حِينَ أَبَوْا) . / 32 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُمْ كَانُوا يُضْرَبُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا اشْتَرَوْا طَعَامًا جِزَافًا أَنْ يَبِيعُوهُ فِى مَكَانِهِمْ حَتَّى يُؤْوُوهُ إِلَى رِحَالِهِمْ.(8/484)
/ 33 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لِنَفْسِهِ فِى شَيْءٍ يُؤْتَى إِلَيْهِ حَتَّى يُنْتَهَكَ حُرْمَة مِنْ حُرُمَاتِ اللَّهِ، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ. اختلف العلماء فى مبلغ التعزير، فقال أحمد وإسحاق بحديث جابر لا يزاد على عشر جلدات إلا فى حد. وروى عن الليث أنه قال: يحتمل ألا يتجاوز بالتعزير عشرة أسواط، ويحتمل ما سوى ذلك. وروى ابن المنذر عن عمر بن الخطاب أنه أمر زيد بن ثابت أن يضرب رجلا عشرة أسواط. وعنه رواية ثانية أنه كتب إلى أبى موسى الأشعرى: (ألا يبلغ بنكال فوق عشرين سوطًا) . وعنه فى رواية أخرى: (ألا يبلغ فى تعزير أكثر من ثلاثين جلدة) . وقال الشافعى فى قوله الآخر: لا يبلغ به عشرين سوطًا؛ لأنها أبلغ الحدود فى العبد فى شرب الخمر؛ لأن حد الخمر فى الحر عنده فى الشرب أربعون. وقال أبو حنيفة ومحمد: لا يبلغ به أربعين سوطًا بل ينقص منها سوطًا؛ لأن الأربعين أقل الحدود فى العبد فى الشرب والقذف، وهو أحد قولى الشافعى. وقال ابن أبى ليلى وأبو يوسف: أكثره خمسة وسبعون سوطًا. وقال مالك: التعزير ربما كان أكثر من الحدود إذا أدى الإمام اجتهاده إلى ذلك. وروى مثله عن أبى يوسف وأبى ثور، واحتج أحمد وإسحاق بحديث جابر، وقال ابن المنذر: فى إسناده مقال. وقال الأصيلى: اضطرب إسناد حديث عبد الله بن جابر،(8/485)
فوجب تركه لاضرابه، ولوجود العمل فى الصحابة والتابعين بخلافه. وقال الطحاوى: لا يجوز: اعتبار التعزير بالحدود لأنهم لا يختلفون أن التعزير موكول إلى اجتهاد الإمام، فيخفف تارة ويشدد تارة، فلا معنى لاعتبار الحد فيه وتجاوز مجاوزته له، والدليل على ذلك ما رواه ابن نمير، عن الزهرى، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أبيه أن حاطبًا توفى، وأعتق من صلى وصام من رقيقه، وكانت له وليدة نوبية من رقيقه قد صلت وصامت، وهى عجمية لا تفقه فلم يرعه إلا حملها، فذهب إلى عمر فأخبره فأرسل إليها أحبلت؟ قالت: نعم من مرغوس بدرهمين. فإذا هى تستهل به، وصادفت عنده على ابن أبى طالب وعثمان وعبد الرحمن فقال: أشيروا علىَّ. فقال على وعبد الرحمن: قد وقع عليها الحد. فقال: أشر علىَّ يا عثمان فقال: قد أشار عليك أخواك. فقال: أشر علىَّ أنت. قال عثمان: إنها تستهل به كأنها لا تعلمه، وليس الحد إلا على من علمه. فقال عمر: صدقت. فأمر فجلدت مائة وغربت. قال ابن شهاب: وقد كانت نكحت غلامًا لمولاها ثم مات عنها إلا أنه كانت تصلى مع المسلمين، فجعل عمر فى هذا الحديث التعزير بمائة؛ لأنه كان عليها علم الأشياء المحرمة، وغربها زيادة فى العقوبة، كما غرب فى الخمر. قال ابن القصار: وقد روى أن معن بن زائدة زور كتابًا على عمر ونقش مثل خاتمه، فجلده مائة، ثم شفع له قوم، فقال: أذكرتنى الطعن وكنت ناسيًا، فجلده مائة أخرى، ثم جلده بعد ذلك مائة(8/486)
أخرى ثلاث مرار بحضرة الصحابة، ولم ينكر ذلك أحد، فثبت أنه إجماع. قال: ولما كان طريق التعزير إلى اجتهاد الإمام على حسب ما يغلب على ظنه أنه يردع، وكان فى الناس من يردعه الكلام، وكان فيهم من لا يردعه مائة سوط، وهى عنده كضرب المروحة؛ لم يكن للتحديد فيه معنى، وكان مفوضًا إلى ما يؤديه اجتهاده أن مثله يردع. قال المهلب: ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) زاد المواصلين فى النكال كذلك يجوز للإمام أن يزيد فيه على حسب اجتهاده، وكذلك ضرب المتابعين للطعام، وانتقامه (صلى الله عليه وسلم) لحرمات الله لم يكن محدودًا فيجب أن يضرب كل واحد منهم على قدر عصيانه للسنة، ومعاندته أكثر مما يضرب الجاهل، ولو كان فى شىء من ذلك حد لنقل ولم يجز خلافه.
- باب مَنْ أَظْهَرَ الْفَاحِشَةَ وَاللَّطْخَ وَالتُّهَمَةَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ
/ 34 - فيه: سَهْلِ، قَالَ: شَهِدْتُ الْمُتَلاعِنَيْنِ، فَقَالَ النبى (صلى الله عليه وسلم) ، إِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ فَهُوَ قَالَ الزُّهْرِىَّ: فَجَاءَتْ بِهِ لِلَّذِى يُكْرَهُ. / 35 - وفيه: ابْنُ عَبَّاسٍ ذَكَرَ الْمُتَلاعِنَيْنِ، فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ: هِىَ الَّتِى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا امْرَأَةً عَنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ؟ قَالَ: لا تِلْكَ امْرَأَةٌ أَعْلَنَتْ. . . الحديث. إلى قوله (صلى الله عليه وسلم) : اللَّهُمَّ بَيِّنْ، فَوَضَعَتْ شَبِيهًا بِالرَّجُلِ الَّذِى ذَكَرَ زَوْجُهَا أَنَّهُ وَجَدَهُ عِنْدَهَا، فَلاعَنَ النَّبِىُّ -(8/487)
(صلى الله عليه وسلم) - بَيْنَهُمَا، فَقَالَ الرَجُلٌ لابْنِ عَبَّاسٍ: هِىَ الَّتِى قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : لَوْ رَجَمْتُ أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ رَجَمْتُ هَذِهِ؟ فَقَالَ: لا، تِلْكَ امْرَأَةٌ كَانَتْ تُظْهِرُ فِى الإسْلامِ السُّوءَ) . قال المهلب: هذا الحديث أصل فى أنه لا يجوز أن يحد أحد بغير بينة. وإن اتهم بالفاحشة، ألا ترى أنه (صلى الله عليه وسلم) قد وسم ما فى بطن المرأة الملاعنة بالمكروه وبغيره، فجاءت به على النعت المكروه بالشبه للمتهم بها، فلم يقم عليها الحد بالدليل الواضح إذكان ذلك خلاف ما شرع الله، فلا يجوز أن تتعدى حدود الله، ولا يستباح دم ولامال إلا بيقين لا شك فيه، وهذه رحمة من الله تعالى بعباده، وإرادة الستر عليهم والرفق بهم ليتوبوا.
- باب رَمْىِ الْمُحْصَنَاتِ: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً (إلى قوله) غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور: 4] ،) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ (الآية [النور: 23] .
/ 36 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّى يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاتِ) . قال الله تعالى: (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات) [النور: 23] وهن العفائف الحرائر المسلمات،) ثم لم يأتوا بأربعة(8/488)
شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} [النور: 4] فناب ذكر رمى النساء عن ذكر رمى الرجال، وأجمع المسلمون أن حكم المحصنين فى القذف كحكم المحصنات قياسًا، واستدلالا، وأن من قذف حرا عفيفًا مؤمنًا عليه الحد ثمانون كمن قذف حرة مؤمنة، وجاءت الأخبار عن النبى (صلى الله عليه وسلم) بالتغليظ فى رمى المحصنات، وأن ذلك من الكبائر. قال المهلب: إنما سماها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) موبقات؛ لأن الله تعالى إذا أراد أن يأخذ عبده بها أوبقه فى نار جهنم.
- باب: قذف العبد
/ 37 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ وَهُوَ بَرِىءٌ مِمَّا قَالَ: جُلِدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ) . فى هذا الحديث النهى عن قذف العبيد والاستطالة عليهم بغير حق؛ لإخبار النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه من فعل ذلك جلد يوم القيامة. وقوله: (إلا أن يكون كما قال) دليل على أنه لا إثم عليه فى رميه عبده بما فيه، وأن ذلك ليس من باب الغيبة المنهى عنها فى الأحرار. قال المهلب: والعلماء مجمعون أن الحر إذا قذف عبدًا فلا حد عليه، وحجتهم قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من قذف مملوكه جلد يوم القيامة) فلو وجب عليه الحد فى الدنيا لذكره، كما ذكره فى الآخرة، فجعل (صلى الله عليه وسلم) العبيد غير مقارنين للأحرار فى الحرمة فى الدنيا، فإذا ارتفع ملك العبد فى الآخرة واستوى الشريف(8/489)
والوضيع، والعبد والحر، ولم يكن لأحد فضل إلا بالتقى، فتكافأ الناس فى الحدود والحرمة، وإنما لم يكافئوا فى الدنيا؛ لئلا تدخل الداخلة على المالكين من مكافأتهم لهم، فلا تصح لهم حرمة ولا فضل فى منزلة، وتبطل محنة التسخير؛ حكمة من الحكيم الخبير لا إله إلا هو. وقال مالك والشافعى: من قذف من يحسبه عبدًا فإذا هو حر فعليه الحد. قال ابن المنذر: واختلفوا فيما يجب على قاذف أم الولد، فروى عن ابن عمر أنه عليه الحد، وبه قال مالك، وهو قياس قول الشافعى، وذلك إذا قذف بعد موت السيد، وهو قياس قول كل من لا يرى بيع أمهات الأولاد، وروى عن الحسن البصرى أنه كان لايرى جلد قاذف أم الولد.(8/490)
63 - كِتَاب الدِّيَاتِ
- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ) [النساء: 93]
/ 1 - فيه: ابْنِ مَسْعُودٍ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَىُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَنْ تَدْعُوَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ، قَالَ: ثُمَّ أَىٌّ؟ قَالَ: ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ؟ قَالَ: ثُمَّ أَىٌّ؟ قَالَ: ثُمَّ أَنْ تُزَانِىَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ تَصْدِيقَهَا: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ (الآيَةَ [الفرقان: 68] . / 2 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لاَ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِى فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا) . وَقَالَ ابْنِ عُمَرَ: إِنَّ مِنْ وَرَطَاتِ الأمُورِ الَّتِى لا مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا سَفْكَ الدَّمِ الْحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ. / 3 - وفيه: ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ فِى الدِّمَاءِ) . / 4 - وفيه: الْمِقْدَادَ بْنَ عَمْرٍو قَالَ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى لَقِيتُ كَافِرًا، فَاقْتَتَلْنَا فَضَرَبَ يَدِى بِالسَّيْفِ فَقَطَعَهَا، ثُمَّ لاذَ مِنِّى بِشَجَرَةٍ، وَقَالَ: أَسْلَمْتُ لِلَّهِ، آقْتُلُهُ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : لا تَقْتُلْهُ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّهُ طَرَحَ إِحْدَى يَدَىَّ، ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا قَطَعَهَا، آقْتُلُهُ؟ قَالَ: لا تَقْتُلْهُ،(8/491)
فَإِنْ قَتَلْتَهُ، فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَأَنْتَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِى قَالَها) . / 5 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، لِلْمِقْدَادِ: (إِذَا كَانَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ يُخْفِى إِيمَانَهُ مَعَ قَوْمٍ كُفَّارٍ، فَأَظْهَرَ إِيمَانَهُ، فَقَتَلْتَهُ، فَكَذَلِكَ كُنْتَ أَنْتَ تُخْفِى إِيمَانَكَ بِمَكَّةَ مِنْ قَبْلُ) . اختلف العلماء فى القاتل هل له توبة لاختلافهم فى تأويل هذه الآية، فروى عن زيد بن ثابت، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر أنه لا توبة له، وأن قوله تعالى: (ومن يقتل مؤمنًا) [النساء: 93] غير منسوخة، وإنما نزلت بعد الآية البينة التى فى سورة الفرقان التى فيها توبة القاتل بستة أشهر، ونزلت آية الفرقان فى أهل الشرك، ونزلت آية النساء فى المؤمنين. وروى سعيد بن مينا، عن ابن عمر أنه سأله رجل فقال: إنى قتلت رجلا فهل لى من توبة؟ قال: تزود من الماء البارد فإنك لا تدخلها أبدًا. ذكره ابن المنذر، وروى عن على ابن أبى طالب وابن عباس، وابن عمر أن القاتل له توبة من طرق لا يحتج بها، وقاله جماعة من التابعين. روى ذلك عن النخعى، ومجاهد، وابن سيرين، وأبى مجلز، وأبى صالح، وجماعة أهل السنة وفقهاء الأمصار على هذا القول راجين له التوبة؛ لأنه تعالى يقبل التوبة عن عباده، وإنما أراد أن يكون المسلم فى كل الأمور خائفًا راجيًا. قال إسماعيل بن إسحاق: حدثنى المقدمى، قال: حدثنا المعتمر بن سليمان، عن سليمان ابن عبيد البارقى، قال: حدثنى إسماعيل بن ثوبان قال: جالست الناس فى المسجد الأكبر قبل الدار(8/492)
فسمعتهم يقولون: لما نزلت: (ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم) [النساء: 93] الآية، قال المهاجرون والأنصار: وجبت لمن فعل هذا النار. حتى نزلت: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) [النساء: 48، 116] . واحتج أهل السنة أن القاتل فى مشيئة الله بحديث عبادة بن الصامت: (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أخذ عليهم فى بيعة العقبة: أن من أصاب ذنبًا فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له) . وأما قوله: (أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك) فهو كقوله تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق) [الإسراء: 31] وقوله تعالى: (قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهًا بغير علم) [الأنعام: 140] قال عكرمة: نزلت فيمن يئد البنات من ربيعة ومضر. وقال قتادة: كان أهل الجاهلية يقتل أحدهم ابنته مخافة السبى والفاقة فحرم الله قتل الأطفال، وأخبر (صلى الله عليه وسلم) أن ذلك ذنب عظيم بعد الكفر وجعل بعده فى العظم الزنا بحليلة الجار لعظم حق الجار ووكيد حرمته، وقد تقدم فى باب إثم الزنا قبل هذا. قال المهلب: أما قوله: (أول ما ينظر فيه من أعمال الناس فى الدماء) يعنى أول ما ينظر فيه من مظالم الناس لعظم القتل عند الله وشدته، وقد جاء فى حديث آخر أن أول ما ينظر فيه الصلاة. وليس بمتعارض، ومعناه: أول ما ينظر فيه فى خاصة نفس كل مؤمن(8/493)
من بعد ما ينتصف الناس بعضهم من بعض، ولا تبقى تباعة إلا لله تعالى بالصلاة. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) للمقداد: (فإنك بمنزلته قبل أن يقولها) فقد فسره حديث ابن عباس الذى فى آخر الباب، ومعناه أنه يجوز أن يكون اللائذ بالشجرة القاطع لليد مؤمنًا يكتم إيمانه مع قوم كفار غلبوه على نفسه، فإن قتلته فأنت شاك فى قتلك إياه أن ينزله الله من العمد والخطأ، كما هو مشكوكًا فى إيمانه لجواز أن يكون يكتم إيمانه، وكذلك فسره المقداد كما ففهمه من النبى (صلى الله عليه وسلم) فقال: كذلك كنت أنت بمكة تكتم إيمانك، وأنت مع قوم كفار فى جملتهم وعددهم مكثرًا ومحزبًا، فكذلك الذى لاذ بالشجرة وأظهر إيمانه لعله كان ممن يكتم إيمانه وهذا كله معناه النهى عن قتل من شهر بالإيمان. فإن قيل: كيف قطع اليد وهو ممن يكتم إيمانه؟ قيل: إنما دفع عن نفسه من يريد قتله، فجاز له ذلك، كما جاز للمؤمن إذا أراد أن يقتله مؤمن أن يدفع عن نفسه من يريد قتله، فإن اضطره الدفع عن نفسه إلى قتل الظالم دون قصد إلى إرادة قتله فهو هدر؛ فلذلك لم يقد (صلى الله عليه وسلم) من يد المقداد كما لم يقد قتيل أسامة؛ لأنه قتله متأولا، ويحتمل قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فإنه بمنزلتك قبل أن تقتلله) وجهًا آخر: أنه مغفور له بشهادة التوحيد كما أنت مغفور لك بشهود بدر. وقوله: (فأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته) يعنى أنك قاصد لقتله(8/494)
عمدًا إثم، كما كان هو قاصدًا لقتلك إثم، فأنت فى مثل حاله فى العصيان، لا أن أحدهما يكفر بقتله المسلم؛ لأن إتيان الكبائر لمن صح له عقد التوحيد لا يخرجه إلى الكفر، وإنما هى ذنوب موبقات، لله أن يغفرها لكل من لا يشرك به شيئًا. قال ابن القصار: معنى قوله: (وأنت بمنزلته قبل أن يقولها) فى إباحة الدم لا أنه كافر بذلك، فإنما قصد ردعه وزجره عن قتله؛ لأن الكافر إذا أسلم فقتله حرام.
- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَمَنْ أَحْيَاهَا) [المائدة: 32]
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ حَرَّمَ قَتْلَهَا إِلا بِحَقٍّ) فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا (. / 6 - وفيه: ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تُقْتَلُ نَفْسٌ إِلا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا) . / 7 - وفيه: ابْنَ عُمَرَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَرْجِعُوا بَعْدِى كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ) . / 8 - ابْنَ عُمَرَ، قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (الْكَبَائِرُ: الإشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، أَوْ قَالَ: وَقَتْلُ النَّفْسِ) . وَقَالَ أَنَسَ عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ: الإشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ. / 9 - وفيه: أُسَامَةَ (بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى الْحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ، قَالَ: وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ رَجُلا مِنْهُمْ،(8/495)
فَلَمَّا غَشِينَاهُ، قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، قَالَ: فَكَفَّ عَنْهُ الأنْصَارِىُّ، فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِى حَتَّى قَتَلْتُهُ، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: فَقَالَ لِى: يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ؟ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَىَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّى لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ) . / 10 - وفيه: عُبَادَةَ: بَايَعْنَا النبى (صلى الله عليه وسلم) ، عَلَى أَنْ لاَ نَقْتُلَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بالحق. . . الحديث. / 11 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاحَ فَلَيْسَ مِنَّا) . / 12 - وفيه: الأحْنَفِ عَنِ أَبَى بَكْرَةَ، قَالَ النبى (صلى الله عليه وسلم) : إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِى النَّارِ) . اختلف العلماء فى قوله تعالى: (فكأنما قتل الناس جميعًا) [المائدة: 32] و) فكأنما أحيا الناس جميعًا) [المائدة: 32] . فقالت طائفة: معناه: التغليظ لتعظيم الوزر فى قتل المؤمن، عن الحسن وقتادة ومجاهد، قال مجاهد: إن قاتل النفس المحرمة يصير إلى النار كما يصير إلى النار لو قتل الناس جميعًا. وقال آخرون: معناه أنه يجب عليه من القود بقتله المؤمن مثلما يجب عليه لو قتل الناس جميعًا؛ لأنه لا يكون عليه غير قتلة واحدة لجميعهم. عن زيد بن أسلم. وقال آخرون: أى أن المؤمنين كلهم خصماء القاتل، وقد وترهم وتر من قصد لقتلهم جميعًا. عن الزجاج، وله: (ومن أحياها) [المائدة: 32] ، أى ومن لم يقتل أحدًا فقد سلم منه الناس جميعًا عن مجاهد.(8/496)
وقالت طائفة: من وجب له القصاص، فعفا عن القاتل؛ أعطاه الله من الأجر مثل ما لو أحيا الناس جميعًا. عن زيد بن أسلم والحسن. واختار الطبرى فى قوله: (فكأنما قتل الناس جميعًا) [المائدة: 32] أنه فى تعظيم العقوبة وشدة الوعيد، واختار فى قوله: (فكأنما أحيا الناس جميعًا) [المائدة: 32] القول الأول أنه من لم يقتل أحدًا فقد أحيا الناس بسلامتهم منه. قال: وهذا نظير قول الكافر: أنا أحيى وأميت: أى: أترك من قدرت على قتله، وأميت أى: أقتل من وجب عليه القتل، وإنما اختار ذلك؛ لأنه لا نفس يقوم قتلها فى عاجل الضرر مقام قتل جميع النفوس، ولا إحياؤها مقام إحياء جميع النفوس فى عاجل النفع، فدل ذلك أن معنى الإحياء سلامة جميع النفوس، وفى هذه الأحاديث كلها تغليظ للقتل والنهى عنه. وقوله فى حديث ابن مسعود: (إلا كان على ابن آدم كفل من دمه) يعنى: إثمًا؛ لأنه أول من سنَّ القتل، فاستن به القاتلون بعده، وهذا نظير قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) . وقوله فى حديث ابن عمر: (لا ترجعوا بعدى كفارًا) لتحريم الدماء، وحقوق الإسلام، وحرمة المؤمنين، وليس يريد الكفر الذى هو ضد الإيمان لما تقدم من إجماع أهل السنة أن المعاصى غير مخرجة من الإيمان.(8/497)
وأما قتل أسامة الرجل؛ فإنه ظنه كافرًا، وجعل ما سمع منه من الشهادة تعوذًا من القتل، وأقل أحوال أسامة فى ذلك أن يكون قد أخطأ فى فعله؛ لأنه إنما قصد إلى قتل كافر عنده، ولم يكن عرف حكم النبى (صلى الله عليه وسلم) فيمن أظهر الشهادة بلسانه أنها تحقن دمه فسقط عنه القود، لأنه معذور بتأويله، وكذلك حكم كل من تأوله فأخطأ فى تأويله معذور فى ذلك. وهو فى حكم من رمى من يجب له دمه، فأصاب من لا يجب له قتله، أنه لا قود عليه، وما لقى أسامة من النبى (صلى الله عليه وسلم) فى قتله هذا الرجل الذى ظنه كافرًا من اللوم والتوبيخ، حتى تمنى أنه لم يسلم قبل ذلك اليوم آلى على نفسه ألا يقاتل مسلمًا أبدًا؛ ولذلك قعد عن على ابن أبى طالب يوم الجمل وصفين، وقد تقدم فى كتاب الإيمان معنى قوله: (القاتل والمقتول فى النار) وإنما خرج على الترهيب والتغليظ فى قتل المؤمن فجعلهما فى النار؛ لأنهما فعلا فى تقاتلهما ما يئول بهما إلى النار إن أنفذ الله سبحانه عليهما الوعيد والله تعالى فى وعيده بالخيار عند أهل السنة وسيأتى أيضًا فى كتاب الفتن بقية الكلام فيه إن شاء الله تعالى.
3 - باب قَوْلِه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِى الْقَتْلَى (الآية [البقرة: 178] وباب سُؤَالِ الْقَاتِلِ حَتَّى يُقِرَّ، وَالإقْرَارِ فِى الْحُدُودِ
/ 13 - فيه: أَنَسِ: أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَقِيلَ لَهَا: مَنْ(8/498)
فَعَلَ بِكِ هَذَا؟ أَفُلانٌ، أَوْ فُلانٌ، حَتَّى سُمِّىَ الْيَهُودِىُّ، فَأُتِىَ بِهِ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى أَقَرَّ بِهِ، فَرُضَّ رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ. قال المؤلف: قال قتادة فى هذه الآية: إن أهل الجاهلية كان فيهم بغى وطاعة للشيطان، فكان الحى إذا كان فيهم عز ومنعة، فقتل لهم عبد، قتله عبد قوم آخرين؛ قالوا: لا نقتل به إلاحرا وإذا كان فيهم امرأة قتلتها امرأة؛ قالوا: لا نقتل بها إلا رجلا، فنهاهم الله عن البغى، وأخبر أن الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى. قال إسماعيل بن إسحاق: وقد قال قوم: يقتل الحر بالعبد، والمسلم بالذمى. هذا قول الثورى، والكوفيين، واحتجوا بقوله تعالى: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) [المائدة: 45] . وقال مالك والليث والشافعى وأبو ثور: لا يقتل حر بعبد. وهذا مذهب أبى بكر وعمر وعلى وزيد بن ثابت، قال إسماعيل بن إسحاق: وغلط الكوفيون فى التأويل؛ لأن معنى قوله: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) [المائدة: 45] إنما هى النفس المكافئة للنفس قى حرمتها وحدودها؛ لأن القتل حد من الحدود، ولو قذف حر عبدًا لما كان عليه حد القذف وكذلك الذمى. والحدود فى الأحرار من الرجال والنساء واحدة، وحرمتهم واحدة، ويبين ذلك قوله تعالى فى نسق هذه الآية: (والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له) [المائدة: 45] فعلمنا أن العبد والكافر خارجان من ذلك؛ لأن الكافر لا يسمى بأنه متصدق ولا مكفَّر عنه، وكذلك العبد لا يجوز أن يتصدق بدمه ولا بجرحه؛ لأن ذلك إلى سيده، قال(8/499)
تعالى: (فمن عفى له من أخيه شىء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان) [البقرة: 178] . وقال أبو ثور: لما اتفق جميعهم أنه لا قصاص بين العبيد والأحرار فيما دون النفس؛ كانت النفس أحرى بذلك، ومن فرق منهم بين ذلك فقد ناقض. قال المهلب: فى قوله باب سؤال القاتل حتى يقر. ينبغى للإمام وللحاكم أن يشدد على أهل الجنايات ويتلطف بهم حتى يقروا ليؤخذوا بإقرارهم، بخلاف إذا جاءوا تائبين مستفتين فإنه حينئذٍ يعرض عنهم ما لم يصرحوا، فكان لهم فى التأويل شبهة، فإذا بينوا ورفعوا الإشكال أقيمت عليهم الحدود، وإقرار اليهودى فى هذا الحديث يدل أنه لم تقم عليه البينة بالقتل، ولو قامت عليه ما احتاج (صلى الله عليه وسلم) أن يقرره حتى يقر، ولو لم يقر ما أقاد منه (صلى الله عليه وسلم) . وفيه: دليل أنه بالشكوى والإشارة تجب المطالبة بالدم وغيره؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) طلب اليهودى بإشارة الجارية. وفيه: دليل على إجازة وصية غير البالغ، وجواز دعواه بالدين وغيره على الناس.(8/500)
4 - باب إِذَا قَتَلَ بِحَجَرٍ أَوْ بِعَصًا
/ 14 - فيه: أَنَسِ، قَالَ: (خَرَجَتْ جَارِيَةٌ عَلَيْهَا أَوْضَاحٌ بِالْمَدِينَةِ، قَالَ: فَرَمَاهَا يَهُودِيٌّ بِحَجَرٍ، قَالَ: فَجِىءَ بِهَا إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَبِهَا رَمَقٌ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : فُلانٌ قَتَلَكِ، فَرَفَعَتْ رَأْسَهَا، فَأَعَادَ عَلَيْهَا، قَالَ: فُلانٌ قَتَلَكِ، فَرَفَعَتْ رَأْسَهَا، فَقَالَ لَهَا فِى الثَّالِثَةِ: فُلانٌ قَتَلَكِ، فَخَفَضَتْ رَأْسَهَا، فَدَعَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَتَلَهُ بَيْنَ الْحَجَرَيْنِ) . وترجم له: باب من أقاد بالحجر. اختلف العلماء فى صفة القود؛ فقال مالك: إنه يقتل بمثل ما قتل به، فإن قتله بعصًا أو بحجر أو بالخنق أو بالتغريق؛ قتل بمثله. وبه قال الشافعى: إن طرحه فى النار عمدًا حتى مات؛ طرح فى النار حتى يموت. وذكره الوقار فى (مختصره) عن مالك، وهو قول محمد بن عبد الحكم، وقال ابن الماجشون: يقتل بالعصا وبالخنق وبالحجر ولا يقتل بالنار. وقال أبو حنيفة وأصحابه: بأى وجه قتل؛ فلا يقتل إلا بالسيف. وهو قول النخعى والشعبى. واحتجوا بحديث جابر: (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (لا قود إلا بحديدة) . وبقول ابن عباس حين بلغه أن عليا حرق قومًا بالنار، فقال: (لو كنت أنا لقتلتهم. فإنى سمعت النبى (صلى الله عليه وسلم) يقول: لا يعذب بالنار إلا رب النار) . وحجة القول الأول: القرآن والسنة، فأما القرآن: فقوله: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) [النحل: 126] وقوله: (فمن اعتدى(8/501)
عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة: 194] فجعل تعالى لولى المقتول أن يقتل بمثل ما قُتل به وليه. وأما السنة: فحديث أنس: (أن يهوديًا رض رأس جارية بين حجرين، فرضَّ الرسول رأسه بين حجرين) . وأما قوله: (لا قود إلا بحديدة) معناه إذا قتل بحديدة بدليل حديث أنس. فإن قيل: إن خبر اليهودى مع الجارية لا حجة لكم فيه؛ لأن المرأة كانت حية، والقود لا يجب فى حى. قيل: إنما قتله النبى (صلى الله عليه وسلم) بعد موتها؛ لأن فى الحديث (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال لها: فلان قتلك؟) فدل أنها ماتت بعد ساعة؛ لأنها سيقت إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) وهى تجود بنفسها، فلم تقدر إلا على الإشارة على النطق، فلما ماتت استقاد لها النبى (صلى الله عليه وسلم) من اليهوى بالحجر فكان ذلك سنة لا يجوز خلافها. واختلف قول مالك إن لم يمت من ضربة واحدة بعصًا أو حجر، فروى عنه ابن وهب أنه يضرب بالعصا حتى يموت، ولا يطول عليه، وروى عنه أشهب وابن نافع أنه يقتل بمثل ما قتل به، إذا كانت الضربة مجهزة، فأما أن يضربه ضربات فلا. قال ابن المنذر: وقول كثير من أهل العلم فى الرجل يخنق الرجل: عليه القود، وخالف ذلك محمد بن الحسن فقال: لو خنق رجل رجلا حتى مات، أو طرحه فى بئر فمات، أو ألقاه من جبل أو(8/502)
سطح فمات لم يكن عليه قصاص، وكان على عاقلته الدية، فإن كان معروفًا بذلك قد خنق غير واحد فعليه القتل. قال ابن المنذر: ولما أقاد (صلى الله عليه وسلم) من اليهودى الذى رض رأس الجارية بالحجر، كان هذا فى معناه، فلا معنى لقوله. قال الطحاوى: واحتج بهذا الحديث من قال فيمن يقول عند موته: إن مت ففلان قتلنى؛ أنه يقبل منه، ويقتل الذى ذكر أنه قتل؛ هذا قول مالك والليث. وخالفهم آخرون فقالوا: لا يجوز أن يقتل أحد بمثل هذا، وإنما قتل النبى (صلى الله عليه وسلم) اليهودى الذى رض رأس الجارية، لأنه اعترف؛ فقتله بإقراره بما ادُّعِىَ عليه لا بالدعوى، وقد بين ذلك ما أجمعوا عليه، ألا ترى أن رجلا لو ادعى على رجل دعوى قتلا أو غيره، فسئل المدعى عليه عن ذلك فأومأ برأسه أى نعم؛ أنه لا يكون بذلك مقرا فإذا كان إيماء المدعى عليه برأسه لا يكون إقرارًا منه كان إيماء المدعى برأسه أحرى أن لا يوجب له حقا. وقد أجمعوا أن رجلا لو ادعى فى حال موته أن له عند رجل درهمًا ثم مات أن ذلك غير مقبول منه، وأنه فى ذلك كهو فى دعواه فى حال الصحة، فالنظر على ذلك أن يكون دعواه الدم فى تلك الحال كدعواه ذلك فى حال الصحة. وقال لهم أهل المقالة الأولى: قول المقتول: دمى عند فلان فى حال تخوفه الموت، وعند إخلاصه وتوبته إلى الله عند معاينة فراقه الدنيا؛ أقوى من قولكم فى إيجاب القسامة بوجود القتيل فقط فى محلة قوم وبه أثر؛ فيحلف أهل ذلك الموضع أنهم لم يقتلوه، ويكون(8/503)
عقله عليهم، وألزموا العاقلة مالا بغير بينة ثبتت عليهم ولا إقرار منهم، وألزموه جناية عمدٍ لم تثبت أيضًا ببينة ولا إقرار. وقول المقتول: هذا قتلنى، أقوى من قول الشافعى أيضًا أن الولى يقسم إذا كان قرب وليه وهو مقتول رجل معه سكين لجواز أن يكون غيره قتله. والأوضاح جمع وضح، والوضح: حلى من فضة. عن صاحب العين.
5 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ (الآية [المائدة: 45]
/ 15 - فيه: عَبْدِاللَّهِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنِّى رَسُولُ اللَّهِ، إِلا بِإِحْدَى ثَلاثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِى، وَالْمَارِقُ مِنَ الدِّينِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ) . قال أبو عبيد: ذهب أهل العراق إلى أن قوله تعالى: (النفس بالنفس) [المائدة: 45] ناسخة لآية) الحر بالحر والعبد بالعبد) [البقرة: 178] التى فى سورة البقرة، وجعلوا بين الأحرار والعبيد القصاص فى النفس خاصة، ولا يرون فيما دون ذلك بينهم قصاصًا. وذهب ابن عباس إلى أن) النفس بالنفس) [المائدة: 45] غير ناسخة لآية البقرة، ولا مخالفة لها، ولكنها جميعًا محكمتان إلا أن ابن عباس رأى قوله تعالى: (أن النفس بالنفس) [المائدة: 45] كالمفسرة للتى فى البقرة، فتأول أن قوله: (النفس بالنفس) [المائدة: 45] إنما هى على أن نفس الأحرار متساوية فيما بينهم دون العبيد، وأنهم يتكافئون فى دمائهم(8/504)
ذكورًا أو إناثًا، وأن أنفس المماليك متساوية فيما بينهم دون الأحرار، يتكافئون فيما بينهم ذكورًا كانوا أو إناثًا، وأنه لا قصاص على الأحرار فى شىء من ذلك من نفس ولا من دونها؛ لقوله تعالى: (الحر بالحر والعبد بالعبد) [المائدة: 45] وهذا قول مالك وأهل الحجاز، وهو أولى من قول أهل العراق لوجهين: أحدهما أن هذا تفسير ابن عباس. الثانى: أنه قول يوافق بعضه بعضًا ولا يختلف، والتنزيل إنما هو على نسق واحد: أن النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسن بالسن. وقول أهل العراق لس بمتفق؛ لأنهم أخذوا بأول الآية وهو قوله تعالى: (النفس بالنفس) [المائدة: 45] وتركوا ما وراء ذلك، وليس لأحد أن يفرق بين ما جمع الله، فيأخذ بعضه دون بعض إلا أن يفرق بين ذلك كتاب أو سنة. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (الثيب الزانى) لا يدخل فيه العبيد، وقد اتفق الكوفيون مع مالك مع أن من شروط الإحصان الموجب للرجم عندهم: الحرية والبلوغ والإسلام؛ فإذا زنا العبد، وإن كان ذا زوجة فحده الجلد عندهم، فكما لم يدخل العبيد فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (الثيب الزانى) فكذلك لم يدخل فى عموم قوله تعالى: (النفس بالنفس) [المائدة: 45] . وأما قوله: (المفارق لدينه التارك للجماعة) فهو عام فى جميع الناس لإجماع الأمة أن بالردة يجب القتل على كل مسلم فارق دينه عبدًا كان أو حرا، فخص هذا بالإجماع. وقال أبو الحسن بن القابسى قوله: (المفارق لدينه) يريد الخارج(8/505)
منه، فيحتمل أن يكون خروجه بترك الجماعة أو ببغى عليها؛ فيقاتل على ذلك، حتى يفئ إلى دينه وإلى الجماعة، وليس بكافر بخروجه، ويمكن أن يكون خروجه كفرًا وارتدادًا، والمروق: الخروج، وسيأتى بيانه عند قوله (صلى الله عليه وسلم) : (يمرقون من الدين) فى آخر هذا الجزء إن شاء الله تعالى.
6 - باب مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ، فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ
/ 16 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ (أَنَّهُ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ قَتَلَتْ خُزَاعَةُ رَجُلا مِنْ بَنِى لَيْثٍ بِقَتِيلٍ لَهُمْ فِى الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إِمَّا يُودَى، وَإِمَّا أَنَّ يُقَادُ، أَهْلِ القَتِيل. . . الحديث. / 17 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَتْ فِى بَنِى إِسْرَائِيلَ قِصَاصٌ، وَلَمْ تَكُنْ فِيهِمُ الدِّيَةُ، فَقَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِى الْقَتْلَى (إِلَى) شَىْءٌ) [البقرة: 178] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَالْعَفْوُ أَنْ يَقْبَلَ الدِّيَةَ فِى الْعَمْدِ، قَالَ: (فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة: 178] : أَنْ يَطْلُبَ بِمَعْرُوفٍ وَيُؤَدِّىَ بِإِحْسَانٍ. اختلف العلماء فى أخذ الدية من قاتل العمد، فقالت طائفة: ولى المقتول بالخيار؛ إن شاء اقتص، وإن شاء أخذ الدية، وإن لم يرض القاتل. روى هذا عن سعيد بن المسيب وعطاء والحسن، ورواه أشهب عن مالك، وبه قال الليث والأوزاعى، والشافعى وأحمد، وإسحاق وأبو ثور.(8/506)
وقال آخرون: ليس لولى المقتول عمدًا إلا القصاص، ولا يأخذ الدية إلا أن يرضى القاتل، رواه ابن القاسم عن مالك، وهو المشهور عنه، وبه قال الثورى والكوفيون. وحجة القول الأول: قوله تعالى: (فمن عفى له من أخيه شىء) [البقرة: 178] أى ترك له دمه، ورضى منه بالدية) فاتباع بالمعروف) [البقرة: 178] ، أى فعلى صاحب الدم اتباع بالمعروف فى المطالبة بالدية، وعلى القاتل أداء بإحسان) ذلك تخفيف من ربكم) [البقرة: 178] ومعناه: أن من كان قبلنا لم يفرض عليهم غير النفس بالنفس كما قال تعالى: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) [المائدة: 45] فتفضل الله على هذه الأمة بالتخفيف والدية إذا رضى بها ولى الدم. واحتجوا أيضًا بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يودى وإما أن يقاد) وهذا نص قاطع فى أنه جعل أخذ الدية أو القود إلى أولياء الدم. وأيضًا من طريق النظر فإنما لزمته الدية بغير رضاه، لأن عليه فرضًا إحياء نفسه، وقد قال تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا) [النساء: 29] . قال الطحاوى: وحجة أهل المقالة الثانية: حديث أنس بن مالك فى قصة الرُّبيِّع حين كسرت ثنية المرأة؛ فأمر النبى (صلى الله عليه وسلم) بكسر ثنيتها، فقال أنس بن النضر: أتكسر ثنية الربيع؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (يا أنس، كتاب الله القصاص) فلما حكم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالقصاص ولم(8/507)
يخيرها بين القصاص وأخذ الدية؛ ثبت بذلك أن الذى يجب بكتاب الله وسنة رسوله فى العمد هو القصاص؛ إذ لو كان يجب للمجنى عليه الخيار بين القصاص والعفو لأعلمها النبى (صلى الله عليه وسلم) بما لها أن تختار من ذلك ألا ترى أن حاكمًا لو تقدم رجل إليه فى شىء يجب له فيه أحد شيئين، فثبت عنده حقه أنه لا يحكم بأحد الشيئين دون الآخر، وإنما يحكم له بأن يختار ما أحب منهما فإن تعدى ذلك فقد قصر عن فهم الحكم، ورسوله (صلى الله عليه وسلم) أحكم الحكماء، فلما حكم بالقصاص وأخبر أنه كتاب الله ثبت ما قلناه، ووجب أن يعطف عليه حديث أبى هريرة، ويجعل قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيهما فهو بالخيار بين أن يعفو، أو يقتص، أو يأخذ الدية على الرضا من الجانى بغرم الدية حتى تتفق معانى الآثار. وأما قولهم: إن عليه فرضًا إحياء نفسه، فإنا رأيناهم قد أجمعوا أن الولى لو قال للقاتل: قد رضيت أن آخذ دارك هذه على ألا أقتلك؛ أن الواجب على القاتل فيما بينه وبين الله تسليم ذلك وحقن دم نفسه، فإن أبى لم يجبره عليها، ولم يؤخذ منه كرهًا، ويدفع إلى الولى، فكذلك الدية لا يجبر عليها، ولا تؤخذ منه كرهًا. قال المهلب: قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فهو بخير النظرين) حضُّ وندبٌ لأولياء القتيل أن ينظروا خير نظر، فإن كان القصاص خيرًا من أخذ الدية اقتصوا ولم يقبلوا الدية، وإن كان أخذ الدية أقرب إلى الألفة وقطع الضغائن بين المسلمين؛ فعلت من غير جبر القاتل على أخذها منه، ولا يقتضى قوله (بخير النظرين) إكراه أحد(8/508)
الفريقين كما لا يقتضى قوله: (فاتباع بمعروف) [البقرة: 178] أخذ الدية من القاتل كرهًا. وفى حديث أبى هريرة حجة للثورى والكوفيين، والشافعى وأحمد وإسحاق فى قولهم أنه يجوز العفو فى قتل الغيلة، وهو أن يغتال الإنسان، فيخدع بالشىء حتى يصير إلى موضع فيخفى فيه، فإذا صار إليه قتله. وقال مالك: الغيلة بمنزلة المحاربة، وليس لولاة الدم العفو فيها، وذلك إلى السلطان يقتل به القاتل. قال ابن المنذر: وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ومن قتل له قتيل فأهله بين خيرتين: إن أحبوا العقل، وإن أحبوا القود) وظاهر الكتاب يدل على أن ذلك للأولياء دون السلطان. قال المهلب: وقوله: (إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليهم رسوله والمؤمنين) ليدخلوا فى دين الله أفواجًا، فكان ذلك ساعة من نهار، فلما دخلوا عادت حرمتها المعظمة على سائر الأرض من تضعيف إثم منتهك الذنوب فيها، وزالت حرمتها الغير مشروعة من الله ولا من رسوله، من ترك من لجأ إليها ودخلها مستأمنًا، فارًا بدم أو بحربه لقول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (من قتل له قتيل فهو بخير النظرين) قاله فى قتيل خزاعة المقتول فى الحرم، فلما جعل الله القصاص فى قتيل الحرم، وعلمنا أنه يجوز الاقتصاص فى الحرم، ولو لم يجز ذلك لبينه النبى (صلى الله عليه وسلم) وبين أن الحرمة الباقية لمكة على ما كانت فى الجاهلية وهو تعظيم الذنب فيها عند الله على سائر الأرض.(8/509)
قوله (صلى الله عليه وسلم) : (أبغض الناس عند الله ملحد فى الحرم) فهذا نص من النبى (صلى الله عليه وسلم) على المعنى الباقى للحرم، ويؤيد هذا قوله تعالى لما ذكر تحريم الأربعة الأشهر: (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) [التوبة: 36] تعظيمًا للظلم فيهن؛ إذ الظلم فى غيرهن محرم أيضًا فدل تخصيصهن بالنهى عن الظلم؛ على أنها مزية على غيرها فى إثم الظلم والقتل وغيره. والساعة التى أحلت له لم يكن القتل فيها محرمًا لإدخاله إياهم فى شرائع الله، فكذلك كل قتيل يكون على شرائع الله لا يعظم فيه، ويقتص فيها من صاحبه، وقد تقدم اختلاف العلماء فى هذه المسألة فى كتاب الحج.
7 - باب مَنْ طَلَبَ دَمَ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ
/ 18 - ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ ثَلاثَةٌ: مُلْحِدٌ فِى الْحَرَمِ، وَمُبْتَغٍ فِى الإسْلامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ لِيُهَرِيقَ دَمَهُ) . قال المهلب: قوله: (أبغض الناس إلى الله: ملحد. . .) لا يجوز أن يكون هؤلاء أبغض إلى الله من أهل الكفر، وإنما معناه أبغض أهل الذنوب ممن هو من جملة المسلمين، وقد عظم الله الإلحاد فى الحرم فى كتابه فقال تعالى: (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم) [الحج: 25] فاشترط أليم العذاب لمن ألحد فى الحرم زائدًا على عذابه لو ألحد فى غير الحرم، وقيل: كل ظالم فيه ملحد.(8/510)
وقال عمر بن الخطاب: احتكار الطعام بمكة إلحاد، وقال أهل اللغة: والمعنى: ومن يرد فيه إلحادًا بظلمٍ، والباء زائدة. وقال الزجاج: مذهبنا أن الباء ليست بزائدة، والمعنى: ومن أراد فيه بأن يلحد بظلم، ومعنى الإلحاد فى اللغة: العدول عن القصد. وأما المبتغى فى الإسلام سنة الجاهلية، فهو طلبهم بالذحول غير القاتل، وقتلهم كل من وجدوا من قومه ومنها: انتهاك المحارم، واتباع الشهوات؛ لأنها كانت مباحةً فى الجاهلية فنسخها الله فى الإسلام وحرمها على المؤمنين، وقال (صلى الله عليه وسلم) : (قُيِّد الفتك لا يفتك مؤمن) . ومنها: النياحة والطيرة والكهانة وغير ذلك، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (من رغب عن سنتى فليس منى) وأما إثم الدم الحرام: فقد عظمه الله فى غير موضع من كتابه، وعلى لسان رسوله حتى قال بعض الصحابة: إن القاتل لا توبة له. وقد ذكرنا مذاهب أهل العلم فى ذلك فى أول كتاب الحدود.
8 - باب الْعَفْوِ فِى الْخَطَإِ بَعْدَ الْمَوْتِ
/ 19 - فيه: عَائِشَةَ: صَرَخَ إِبْلِيسُ يَوْمَ أُحُدٍ فِى النَّاسِ: يَا عِبَادَ اللَّهِ، أُخْرَاكُمْ، فَرَجَعَتْ أُولاهُمْ عَلَى أُخْرَاهُمْ، حَتَّى قَتَلُوا الْيَمَانِ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَبِى، أَبِى، فَقَتَلُوهُ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ، قَالَ: وَقَدْ كَانَ انْهَزَمَ مِنْهُمْ قَوْمٌ حَتَّى لَحِقُوا بِالطَّائِفِ. هذا(8/511)
أصل مجمع عليه أن عفو الولى لا يكون إلا بعد الموت؛ إذ قد يمكن أن يبرأ فلا يموت، وأما عفو القتيل فإنه قبل الموت. وزعم أهل الظاهر أن العفو لا يكون للقتيل، ولا يكون إلا للولى خاصة، وهذا خطأ؛ لأن الولى إنما جعل إليه القيام بما هو للقتيل من القيام عن نفسه من أجل ولايته له ومحله منه، فالقتيل أولى بذلك. قال المهلب: وإنما فهم العفو فى هذا الحديث من قول حذيفة: غفر الله لكم. وقد كان يتوجه الحكم إلى اليمان إلى أخذ الدية من عاقلة القاتلين، وإن لم يعرف من هم، فقد اختلف العلماء فى قتيل الزحام على ما يأتى بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
9 - باب قَوْلِه اللَّهِ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خطأ) [النساء: 92]
- باب إِذَا أَقَرَّ بِالْقَتْلِ مَرَّةً قُتِلَ بِهِ
/ 20 - فيه: أَنَسُ: (أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَقِيلَ لَهَا: مَنْ فَعَلَ بِكِ هَذَا؟ أَفُلانٌ، أَفُلانٌ، حَتَّى سُمِّىَ الْيَهُودِىُّ، فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا، فَجِىءَ بِالْيَهُودِىِّ، فَاعْتَرَفَ، فَأَمَرَ بِهِ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَرُضَّ رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ) . وقَالَ هَمَّامٌ: بِحَجَرَيْنِ. وترجم له: (باب قتل الرجل بالمرأة) . قال ابن المنذر: حكم الله فى المؤمن يقتل الخطأ الدية وأجمع أهل العلم على القول به.(8/512)
وقال الزجاج فى هذه الآية: المعنى: ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ البتة، وإلا خطأ استثناء ليس من الأول، ويسميه أهل العربية: الاستثناء المنقطع والمعنى: إلا أن يخطئ المؤمن النية، فكفارة خطئه تحرير رقبة مؤمنة فى ماله ودية مسلمة تؤديه عاقلته إلى أهله إلى أن يصدقوا، يقول: إلا أن يصدق أهل القتيل خطأ على من لزمته دية قتيلهم، فيعفوا عنه، ويتجاوزوا عن ديته، فتسقط عنه. قال الطبرى: وذكر أن هذه الآية نزلت فى عياش بن أبى ربيعة المخزومى، وكان قتل رجلا مسلمًا، ولم يعلم بإسلامه، وكان ذلك الرجل يعذبه بمكة مع أبى جهل، فخرج ذلك الرجل مهاجرًا إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) فلقيه عياش بالحرة، فقتله وهو يحسبه كافرًا، ثم جاء إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) فأخبره بذلك فأمره بعتق رقبة، ونزلت الآية. عن مجاهد وعكرمة. وقوله تعالى: (فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن) [النساء: 92] بمعنى: وإن كان هذا القتيل الذى قتله المؤمن خطأ من قوم ناصبوكم الحرب على الإسلام فقتله مؤمن؛ فتحرير رقبة مؤمنة ولا دية تؤدى إلى قومه؛ لئلا يتقووا بها عليكم) وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق) [النساء: 92] ، أى عهد وذمة، وليسوا أهل حرب لكم؛) فدية مسلمة إلى أهله) [النساء: 92] ، يعنى على عاقلته،) وتحرير رقبة مؤمنة) [النساء: 92] كفارة لقتله ثم اختلف أهل التأويل فى صفة هذا القتيل الذى هو من قوم بيننا وبينهم ميثاق، هل هو مؤمن أو كافر؟ فقال قوم: هو كافر إلا أنه لزمت قاتله ديته؛ لأن له ولقومه عهدًا؛ فوجب أداء ديته إلى(8/513)
قومه للعهد الذى بينهم وبين المؤمنين، وأنها مال من أموالهم، فلا تحل للمؤمنين أموالهم بغير طيب أنفسهم. عن ابن عباس والشعبى والنخعى والزهرى. قالوا: دية الذمى كدية المسلم. وقال آخرون: بل هو مؤمن. روى ذلك عن النخعى، وجابر بن زيد، والحسن البصرى. قالوا فى قوله تعالى: (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق) [النساء: 92] قالوا: وهو مؤمن. قال الطبرى: وأولى القولين: قول من قال: عنى بذلك المقتول من أهل العهد؛ لأن الله تعالى أبهم ذلك فقال: (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق) [النساء: 92] ولم يقل: وهو مؤمن، كما قال فى القتيل من المؤمنين وأهل الحرب) وهو مؤمن () فمن لم يجد فصيام شهرين) [النساء: 92] ، يعنى فمن لم يجد رقبة مؤمنة فصيام شهرين متتابعين، يعنى عن الرقبة خاصة. عن مجاهد. وقال مسروق: صوم الشهرين عن الرقبة والدية. قال الطبرى: وأولى القولين: الصوم عن الرقبة دون الدية؛ لأن دية الخطأ على عاقلة القاتل، والكفارة على القاتل بإجماع، فلا يقضى صوم صائم عما لزم آخر فى ماله.) توبة من الله) [النساء: 92] ، يعنى رحمة من الله لكم إلى التيسير عليكم بتخفيفه عنكم بتحرير الرقبة المؤمنة إذا أيسرتم بها) وكان الله عليما حكيمًا) [النساء: 92] يقول: ولم يزل الله عليمًا بما يصلح عباده فيما يكلفهم من فرائضه، حكيمًا بما يقضى فيهم ويأمر.(8/514)
وقوله: إذا أقر بالقتل مرة قتل به، فهو حجة على الكوفيين فى قولهم أنه لابد من إقراره مرتين فى القتل، كما لابد فى الزنا من إقراره أربع مرات. وقولهم خلاف لهذا الحديث؛ لأنه لم يذكر فى الحديث أن اليهودى أقر أكثر من مرة واحدة، ولو كان فى إقراره حدا معلومًا لبين ذلك، وبهذا قال مالك والشافعى وقد تقدم فى باب سؤال الإمام المقر بالزنا، هل أحصنت، حكمُ بالزنا وبالقتل، ومذاهب العلماء فى ذلك فأغنى عن إعادته. وفيه من الفقه: أن الرجل يقتل بالمرأة وعلى هذا فقهاء الأمصار، وكذلك تقتل المرأة بالرجل وشذ الحسن البصرى، ورواية عن عطاء فقالا: إن قتل أولياء المرأة الرجل بها أدوا نصف الدية، وإن قتل أولياء الرجل المرأة أخذوا من أوليائها نصف دية الرجل. وروى مثله عن الشعبى عن على، وبه قال عثمان البتى. وحجة الجماعة: أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قتل اليهودى بالمرأة، فدل على ثبات القصاص بين الرجال والنساء.
- باب الْقِصَاصِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِى الْجِرَاحَاتِ
وَقَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: يُقْتَلُ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ، وَيُذْكَرُ عَنْ عُمَرَ تُقَادُ الْمَرْأَةُ مِنَ الرَّجُلِ فِى كُلِّ عَمْدٍ يَبْلُغُ نَفْسَهُ فَمَا دُونَهَا مِنَ الْجِرَاحِ. وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ وَإِبْرَاهِيمُ وَأَبُو الزِّنَادِ، عَنْ أَصْحَابِهِ، وَجَرَحَتْ أُخْتُ الرُّبَيِّعِ إِنْسَانًا، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : الْقِصَاصُ.(8/515)
/ 21 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: (لَدَدْنَا النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فِى مَرَضِهِ، فَقَالَ: لا تُلِدُّونِى، فَقُلْنَا: كَرَاهِيَةُ الْمَرِيضِ لِلدَّوَاءِ، فَلَمَّا أَفَاقَ، قَالَ: لا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلا لُدَّ غَيْرَ الْعَبَّاسِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ) . اتفق أئمة الأمصار على أن الرجل يقتل بالمرأة. والمرأة بالرجل إذا كان القتل عمدًا، حاشا الحسن البصرى وعطاء وما روى عن على. وذهب مالك والثورى والشافعى وأكثر الفقهاء إلى أن القصاص بين الرجال والنساء فى الجراحات كما هو فى النفس. وقال أبو حنيفة: لا قصاص بين الرجال والنساء فيما دون النفس من الجراحات. واحتج أصحابه بأن المساواة عندهم معتبرة فى النفس وغير معتبرة فى الأطراف، ألا ترى أن اليد الصحيحة لا تؤخذ بالشلاء، والنفس الصحيحة تؤخذ بالمريضة وهذه نكتتهم وعليها يبنون الكلام، وكذلك لا يقطعون يد المرأة بيد الرجل ولا يد الحر بالعبد، وإن جرى القصاص بينهما فى النفس. وقال ابن المنذر: ولما أجمعوا أن نفسه بنفسها، وهى أكبر الأشياء، واختلفوا فيما دون ذلك كان ما اختلفوا فيه مردودًا إلى ما أجمعوا عليه؛ لأن الشىء إذا ما أبيح منه الكثير؛ كان القليل أولى. قال المهلب: حديث الربيع يبين أن القصاص بين الرجل والمرأة. قال ابن القصار: وإنما لم تؤخذ الصحيحة بالشلاء؛ لأن الشلاء ميتة والنفس الحية لا تؤخذ بالنفس الميتة، فسقط اعتراضهم.(8/516)
قال المهلب: وأما حديث اللدود فدليل على أنه يؤخذ الناس بالقصاص فى أقل من الجراحات، لأنه (صلى الله عليه وسلم) أمر بأن يقتص له ممن لده فى مرضه وآلمه، وهذا دون جراحه ولا قصد لأذى، وفيه قصاص الرجل من المرأة؛ لأن أكثر أهل البيت كانوا نساء، وفيه دليل على أخذ الجماعة بالواحد.
- باب مَنْ أَخَذَ حَقَّهُ أَوِ اقْتَصَّ دُونَ السُّلْطَانِ
/ 22 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النبى (صلى الله عليه وسلم) ، لَوِ اطَّلَعَ فِى بَيْتِكَ أَحَدٌ، فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ، مَا كَانَ عَلَيْكَ مِنْ جُنَاحٍ) . / 23 - وفيه: أَنَسُ أَنَّ رَجُلا اطَّلَعَ فِى بَيْتِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَسَدَّدَ إِلَيْهِ مِشْقَصًا. اتفق أئمة الفتوى أنه لا يجوز لأحد أن يقتص من أحد حقه دون السلطان، وليس للناس أن يقتص بعضهم من بعض، وإنما ذلك للسلطان، أو من نصبه السلطان لذلك، ولهذا جعل الله السلطان لقبض أيدى الناس، وقد تأول الناس هذا الحديث أنه خرج على التغليظ والوعيد والزجر عن الاطلاع على عورات الناس، وإنما اختلفوا فيمن أقام الحد على عبده أو أمته كما تقدم، ويجوز عند العلماء أن يأخذ حقه دون السلطان فى المال خاصة إذا جحده إياه، ولم يقم له بينة على حقه على ما جاء فى حديث هند مع أبى سفيان، وسيأتى بعد هذا.(8/517)
- باب إِذَا مَاتَ فِى الزِّحَامِ أَوْ قُتِلَ
/ 24 - فيه: عَائِشَةَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ هُزِمَ الْمُشْرِكُونَ، فَصَاحَ إِبْلِيسُ: أَىْ عِبَادَ اللَّهِ، أُخْرَاكُمْ، فَرَجَعَتْ أُولاهُمْ، فَاجْتَلَدَتْ هِىَ وَأُخْرَاهُمْ، فَنَظَرَ حُذَيْفَةُ، فَإِذَا هُوَ بِأَبِيهِ الْيَمَانِ، فَقَالَ: أَىْ عِبَادَ اللَّهِ، أَبِى، أَبِى، قَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا احْتَجَزُوا حَتَّى قَتَلُوهُ، قَالَ حُذَيْفَةُ: غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ. قَالَ عُرْوَةُ: فَمَا زَالَتْ فِى حُذَيْفَةَ مِنْهُ بَقِيَّةُ خَيْرٍ حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ. اختلف العلماء فيمن مات فى الزحام ولا يدرى من قتله، فقالت طائفة: ديته فى بيت المال. روى ذلك عن عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وبه قال إسحاق، وقالت طائفة: دينه على من حضر. هذا قول الحسن البصرى والزهرى، وفيها قول آخر وهو أن يقال لوليه: ادع على من شئت، فإذا حلف على أحد بعينه أو جماعة يمكن أن يكونوا قاتليه فى الجمع حلف، واستحق على عواقلهم الدية فى ثلاث سنين. هذا قول الشافعى. وقال مالك: دمه هدر، ووجه قول من قال أنه فى بيت المال، أنا قد أيقنا أن من مات من فعل قوم مسلمين ولم يتعين من قتله؛ فحسن أن يودى من بيت المال؛ لأن بيت مالهم كالعاقلة، ووجه قول من قال: إن ديته على من حضر، أنا قد أيقنا أن من فعلهم مات فوجب أن لا يتعدى ذلك إلى غيرهم، وحديث هذا الباب أشبه بهذا القول من غيره؛ لأن حذيفة قال: (غفر الله لكم) فدل أنه لم يغفر لهم إلا ما له مطالبتهم به ألا ترى قوله: (فلم يزل فى حذيفة منها بقية خير) يريد أنها ظهرت عليه بركة ذلك العفو عنهم. ووجه قول الشافعى أن الدماء والأموال لا تجب إلا بالطلب، فإذا ادعى أولياء المقتول على قوم وأتوا بما يوجب القسامة حلفوا واستحقوا.(8/518)
ووجه قول مالك أنه لما لم يعلم قاتله بعينه علم يقين إستحال أن يؤخذ أحد فيه بالظن، فيوجب أن يهدر دمه.
- بَاب إِذَا قَتَلَ نَفْسَهُ خطأ فَلا دِيَةَ لَهُ
/ 25 - فيه: سَلَمَةَ بن الأكواع، قَالَ: (خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى خَيْبَرَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: أَسْمِعْنَا يَا عَامِرُ مِنْ هُنَيْهَاتِكَ، فَحَدَا بِهِمْ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : مَنِ السَّائِقُ؟ قَالُوا: عَامِرٌ، فَقَالَ: رَحِمَهُ اللَّهُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلا أَمْتَعْتَنَا بِهِ، فَأُصِيبَ صَبِيحَةَ لَيْلَتِهِ، فَقَالَ الْقَوْمُ: حَبِطَ عَمَلُهُ قَتَلَ نَفْسَهُ، فَلَمَّا رَجَعْتُ، وَهُمْ يَتَحَدَّثُونَ أَنَّ عَامِرًا حَبِطَ عَمَلُهُ، فَجِئْتُ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقُلْتُ: يَا نَبِىَّ اللَّهِ، فَدَاكَ أَبِى وَأُمِّى، زَعَمُوا أَنَّ عَامِرًا حَبِطَ عَمَلُهُ، فَقَالَ: كَذَبَ مَنْ قَالَهَا، إِنَّ لَهُ لأجْرَيْنِ اثْنَيْن، إِنَّهُ لَجَاهِدٌ مُجَاهِدٌ، وَأَىُّ قَتْلٍ يَزِيدُهُ عَلَيْهِ) . لم يذكر فى هذا صفة قتل عامر لنفسه خطأ كما ترجم، وجاء ذلك بينًا فى كتاب الأدب فى باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء، قال: (فأتينا خيبر فحاصرناهم وكان سيف عامر قصيرًا فتناول به يهوديًا ليضربه، فرجع ذبابته فأصاب ركبته فمات منه. .) فذكر الحديث، وقال فى آخره: (قل عربى نشأ بها مثله) فى مكان قوله: (وأى قتل يزيده عليه) . وفى رواية النسفى فى حديث هذا الباب: (وأى قتيل يزيد عليه) وهو الصواب. واختلف العلماء فى من قتل نفسه، فقالت طائفة: لا تعقل العاقلة(8/519)
أحدًا أصاب نفسه بشىء عمدًا أو خطأ. هذا قول ربيعة ومالك والثورى وأبى حنيفة والشافعى. وقال الأوزاعى وأحمد وإسحاق: ديته على عاقلته، فإن عاش فهى له وإن مات فهى لورثته، واحتجوا بما روى (أن رجلاً كان يسوق حمارًا، فضربه بعصًا كانت معه، فأصاب عينه ففقأتها، فقضى عمر بديته على عاقلته، وقال: أصابته يد من أيدى المسلمين) . وحديث سلمة بن الكوع حجة للقول الأول؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يوجب له دية على عاقلته ولا غيرها، ولو وجبت على العاقلة لبين ذلك؛ لأن هذا موضع يحتاج إلى بيان بل يشهد له (صلى الله عليه وسلم) أن له أجرين، وأيضًا فإن الدية إنما وجبت على العاقلة تخفيفًا على الجانى فإذا لم يجب على الجانى لأحدٍ شىء لم يحتج إلى التخفيف عنه. وجعلت الدية أيضًا على العاقلة معونة للجانى فتؤدى إلى غيره، فمحال أن يؤدى عنه إليه، والنظر ممتنع أنه يجب للمرء على نفسه دين، ألا ترى أنه لو قطع يد نفسه عمدًا لم تجب فيها الدية فكذلك إذا قتل نفسه. واحتج مالك فى ذلك بقوله تعالى: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ) [النساء: 92] ولم يقل من قتل نفسه خطأ، وإنما جعل العقل فيما أصاب به إنسانًا إنسانًا، ولم يذكر ما أصاب به نفسه.(8/520)
- بَاب إِذَا عَضَّ رَجُلا فَوَقَعَتْ ثَنَايَاهُ
/ 26 - فيه: عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: أَنَّ رَجُلا عَضَّ يَدَ رَجُلٍ، فَنَزَعَ يَدَهُ مِنْ فَمِهِ، فَوَقَعَتْ ثَنِيَّتَاهُ، فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: يَعَضُّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ كَمَا يَعَضُّ الْفَحْلُ، لا دِيَةَ لَكَ) . / 27 - وفيه: يَعْلَى، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَرَجْتُ فِى غَزْوَةٍ فَعَضَّ رَجُلٌ، فَانْتَزَعَ ثَنِيَّتَهُ، فَأَبْطَلَهَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) . اختلف العلماء فى هذا الباب، فقالت طائفة: من عض يد رجل فانتزع المعضوض يده من فىِّ العاض فقلع سنًا من أسنان العاض فلا ضمان عليه فى السن، روى ذلك عن أبى بكر الصديق وشريح، وهو قول الكوفيين والشافعى، قالوا: ولو جرحه المعضوض فى موضع آخر فعليه ضمانه. وقال ابن أبى ليلى ومالك: هو ضامن لدية السن، وقال عثمان البتى: إن كان انتزعها من ألم ووجع أصابه فلا شىء عليه، وإن انتزعها من غير ألم فعليه الدية. واحتج الكوفيون والشافعى بهذا الحديث، وقالوا: ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (أيدع يده فى فيه فيعضه كما يعض الفحل؟ لا دية له) وهذا لا يجوز خلافه لصحة مجيئه، وأنه لا شىء يخالفه مما روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) . قالوا: ولا يختلفون أن من شهر سلاحًا، وأومأ إلى قتله وهو صحيح العقل، فقتله المشهور عليه دافعًا له عن نفسه؛ أنه لا ضمان عليه، فإذا لم يضمن نفسه بدفعه إياه عن نفسه كذلك لا يضمن سنه بدفعه إياه عن عضه.(8/521)
واحتج أصحاب مالك فقالوا: يحتمل أن يكون سقوط الثنية من شدة العض لا من نزع صاحب اليد؛ لأنه قال: نزع يده فسقطت ثنية العاض، فلهذا لم يجب له شىء، وإن كان من فعل صاحب اليد فقد كان يمكنه أن يخلص يده من غير قلع ثنيته فلهذا وجب عليه ضمانها، ولم يرو مالك هذا الحديث، ولو رواه ما خالفه وهو من رواية أهل العراق.
- بَاب) السِّنَّ بِالسِّنِّ) [المائدة: 45]
/ 28 - فيه أَنَس: أَنَّ ابْنَةَ النَّضْرِ لَطَمَتْ جَارِيَةً، فَكَسَرَتْ ثَنِيَّتَهَا، فَأَتَوُا النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَمَرَ بِالْقِصَاصِ. قال المؤلف: قال الله تعالى: (والسن بالسن) [المائدة: 45] وأجمع العلماء أن هذه الآية فى العمد، فمن أصاب سن أحد عمدًا ففيه القصاص، على حديث أنس. واختلف العلماء فى سائر عظام الجسد إذا كسرت عمدًا، فقال مالك: عظام الجسد كلها فيها القود إذا كسرت عمدًا: الذراعان والعضدان، والساقان، والقدمان، والكعبان، والأصابع إلا ما كان مجوفًا مثل الفخذ وشبهه، كالمأمومة، والمنقلة، والهاشمة، والصلب، ففى ذلك الدية. وقال الكوفيون: لا قصاص فى عظم يكسر إلا السن لقوله تعالى: (السن بالسن) [المائدة: 45] وهو قول الليث والشافعى. واحتج الشافعى فقال: إن دون العظم حائل من الجلد ولحم(8/522)
وعصب، فلو استيقنا أنا نكسر عظمة كما كسر عظمة لا يزيد عليه ولا ينقص فعلناه ولكنا لا نصل إلى العظم حتى ننال منه ما دونه مما ذكرناه أنا لا نعرف قدره مما هو أقل أو أكثر مما نال غيره، وأيضًا فإنا لا نقدر أن يكون كسر ككسر أبدًا فهو ممنوع. وقال الطحاوى: اتفقوا أنه لا قصاص فى عظم الرأس فكذلك سائر العظام. والحجة لمالك حديث أنس: أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال فى سن الربيع: (كتاب الله القصاص) فلما جاز القصاص فى السن إذا كسرت، وهى عظم فكذلك سائر العظام، إلا عظمًا أجمعوا أنه لا قصاص فيه؛ لخوف ذهاب النفس منه، وأنه لا يقدر على الوصول فيه إلى مثل الجناية بالسواء، فلا يجوز أن يفعل ما يؤدى فى الأغلب إلى التلف إذا كان الجارح الأول لم يؤد فعله إلى التلف. وقال ابن المنذر: ومن قال لا قصاص فى عظم فهو مخالف للحديث، والخروج إلى النظر غير جائز مع وجود الخبر. واتفق جمهور الفقهاء على أن دية الأسنان فى الخطأ فى كل سن خمس من الإبل.
- باب دِيَةِ الأصَابِعِ
/ 29 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (هَذِهِ وَهَذِهِ سَوَاءٌ، يَعْنِى الْخِنْصَرَ وَالإبْهَامَ) .(8/523)
ثبت فى كتاب الديات الذى كتبه النبى (صلى الله عليه وسلم) لآل عمرو بن حزم أنه قال: (فى اليد: خمسون من الإبل، فى كل أصبع: عشر من الإبل) . وأجمع العلماء على أن فى اليد نصف الدية، وأصابع اليد والرجل سواء، وعلى هذا أئمة الفتوى، ولا فضل لبعض الأصابع عندهم على بعض. قال ابن المنذر: روينا ذلك عن عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وابن مسعود، وزيد بن ثابت. وجاءت رواية شاذة عن عمر بن الخطاب، وعروة بن الزبير بتفضيل بعض الأصابع على بعض. روى الثورى وحماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب: (أن عمر جعل فى الإبهام خمسة عشر وفى البنصر تسعًا، وفى الخنصر ستًا، وفى السبابة والوسطى عشرًا عشرًا، حتى وجد فى كتاب الديات عند آل عمرو بن حزم: أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: الأصابع كلها سواء، فأخذ به وترك قوله الأول) . ورواه جعفر بن عون، عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب قال: (قضى عمر فى الإبهام بثلاث عشرة، وفى التى تليها بثنتى عشرة، وفى الوسطى بعشرة، وفى التى تليها بتسع، وفى الخنصر بست) . وروى معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: (إذا قطعت الإبهام والتى تليها، ففيها نصف دية اليد، وإذا قطعت إحداهما، ففيها عشر من الإبل) . ولم يلتفت أحد من الفقهاء إلى هذين القولين لما ثبت عن النبى(8/524)
(صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (هذه وهذه سواء، يعنى الخنصر والإبهام) وحديث عمرو بن حزم: (إن فى كل أصبع عشرًا من الإبل) . وذكر ابن المنذر عن الشعبى قال: كنت جالسًا مع شريح؛ إذا أتاه رجل فقال: أخبرنى عن دية الأصابع، فقال: فى كل أصبع عشرًا من الإبل. قال: سبحان الله، أسواء هى؟ يعنى الإبهام والخنصر، قال: ويحك إن السنة منعت قياسكم، اتبع ولا تبتدع، فإنك لن تضل ما أخذت بالسنن، سواء يداك وأذناك تغطيهما العمامة والقلنسوة، وفيها نصف الدية، وفى اليد نصف الدية.
- باب إِذَا أَصَابَ قَوْمٌ مِنْ رَجُلٍ، هَلْ يُعَاقِبُ أَوْ يَقْتَصُّ مِنْهُمْ كُلِّهِمْ؟
وَقَالَ مُطَرِّفٌ، عَنِ الشَّعْبِىِّ فِى رَجُلَيْنِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ سَرَقَ فَقَطَعَهُ عَلِىٌّ، ثُمَّ جَاءَا بِآخَرَ، وَقَالا: أَخْطَأْنَا، فَأَبْطَلَ شَهَادَتَهُمَا، وَأَخذَهُمَا بِدِيَةِ الأوَّلِ، وَقَالَ: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْتُكُمَا. / 30 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، رَضِى اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ غُلامًا قُتِلَ غِيلَةً، فَقَالَ عُمَرُ: لَوِ اشْتَرَكَ فِيهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ. / 31 - وفيه: مُغِيرَةُ بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ: إِنَّ أَرْبَعَةً قَتَلُوا صَبِيًّا، فَقَالَ عُمَرُ مِثْلَهُ. وَأَقَادَ أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَعَلِيٌّ وَسُوَيْدُ بْنُ مُقَرِّنٍ مِنْ لَطْمَةٍ، وَأَقَادَ عُمَرُ مِنْ ضَرْبَةٍ بِالدِّرَّةِ، وَأَقَادَ عَلِيٌّ مِنْ ثَلاثَةِ أَسْوَاطٍ، وَاقْتَصَّ شُرَيْحٌ مِنْ سَوْطٍ وَخُمُوشٍ. / 32 - فيه: عَائِشَةُ: (لَدَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى مَرَضِهِ، وَجَعَلَ يُشِيرُ إِلَيْنَا لا تَلُدُّونِى، قَالَ: فَقُلْنَا: كَرَاهِيَةُ الْمَرِيضِ بِالدَّوَاءِ، فَلَمَّا أَفَاقَ، قَالَ: أَلَمْ أَنْهَكُمْ أَنْ تَلُدُّونِى قَالَ: قُلْنَا: كَرَاهِيَةٌ لِلدَّوَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : لا يَبْقَى مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا لُدَّ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلا الْعَبَّاسَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ) .(8/525)
ذهب جمهور العلماء إلى أن الجماعة إذا قتلوا واحدًا به كلهم على نحو ما فعل عمر بن الخطاب ورى مثله عن على بن أبى طالب والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين: سعيد بن المسيب وعطاء والحسن والنخعى والشعبى وجماعة أئمة الأمصار. وفيها قول آخر: روى عن عبد الله والزبير ومعاذ بن جبل: أن لولى المقتول أن يقتل واحدًا من الجماعة، ويأخذ بقية الدية من الباقين، مثل أن يقتله عشرة أنفس، فله أن يقتل واحدًا منهم ويأخذ من التسعة تسعة أعشار الدية. وبه قال ابن سيرين والزهرى. وقال أهل الظاهر: لا قود على واحد منهم أصلا وعليهم الدية. وهذا خلاف ما أجمعت عليه الصحابة، وحجة الجماعة قوله تعالى: (ومن قتل مظلومًا فقد جعلنا لوليه سلطانًا فلا يسرف) [الإسراء: 33] فلا فرق بين أن يكون القاتل واحدًا أو جماعة، لوقوع اسم القتلة عليهم، ولأن الله تعالى جعل الحجة لولى المقتول عليهم، وعلى مثل هذا يدل حديث عائشة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أمر أن يلد كل من فى البيت لشهودهم للدده الذى نهاهم عنه وما ذاق من الألم واشتراكهم فى ذلك، وهو حجة فى قصاص الواحد من الجماعة، ولو لم تقتل الجماعة بالواحد لأدى ذلك إلى رفع الحياة فى القصاص الذى جعله الله حياة ولم يشأ أحد أن يقتل أحدًا ثم لا يقتل به إلا دعا من يقتله معه لسقط عنه القتل، وأيضًا فإن النفس لا تتبعض(8/526)
فى الإتلاف، بدليل أنه لا يقال: قاتل بعض نفس؛ لأن كل واحد قد حصل من جهته فعل ما يتعلق به خروج الروح عنده، وهذا لا يتبعض لامتناع أن يكون بعض الروح خرج بفعل أحدهم، وبعضها بفعل الباقين، فكان كل واحد منهم قاتل نفس، ومثل هذا لو أن جماعة دفعوا حجرًا، لكان كل واحد منهم دافعًا له؛ لأن الحجر لا يتبعض كما أن النفس لا تتبعض. فإن قيل: إنما قال لكل واحد منهم قاتل نفس كما يقال فى الجماعة: أكلت الرغيف، وليس كل واحد منهم أكل الرغيف كله. قيل: إنما كان هذا؛ لأن الرغيف يتبعض، فصح أن يقال لكل واحد منهم: أكل بعض الرغيف، ولما لم يصح التبعيض فى النفس لم يصح أن يقال قاتل بعض نفس، وقوله تعالى: (النفس بالنفس) [المائدة: 45] الألف واللام للجنس فتقديره: الأنفس بالأنفس، وكذلك قوله: (الحر بالحر) [البقرة: 178] تقديره: الأحرار بالأحرار. فلا فرق بين جماعة قتلوا واحدًا أو جماعة، وأما القود من اللطمة وشبهها، فذكر البخارى عن أبى بكر الصديق وعمر وعلى وابن الزبير أنهم أقادوا من اللطمة وشبهها، وقد روى عن عثمان وخالد بن الوليد مثل ذلك، وهو قول الشعبى وجماعة من أهل الحديث، وقال الليث: إن كانت اللطمة فى العين فلا قصاص فيها للخوف على العين ويعاقبه السلطان، وإن كانت على الخد ففيها القود. وقالت طائفة: لا قصاص فى اللطمة. فروى هذا عن الحسن وقتادة، وهو قول مالك والكوفيين والشافعى.(8/527)
واحتج مالك فى ذلك، وقال: ليس لطمة المريض والضعيف مثل لطمة القوى، وليس العبد الأسود يلطم مثل الرجل له الحال والهيئة، وإنما فى ذلك كله الاجتهاد لجهلنا بمقدار اللطمة. واختلفوا فى القود من ضرب السوط، فقال الليث: يقاد من الضرب بالسوط ويزاد عليه للتعدى. وقال ابن القاسم: يقاد من السوط، ولا يقاد منه عند الكوفيين، والشافعى إلا أن يجرح، قال الشافعى: إن جرح السوط ففيه حكومة. وحديث لد النبى (صلى الله عليه وسلم) لأهل البيت حجة لمن جعل القود فى كل ألم، وإن لم يكن جرح ولا قصد لأذى، بسوط كان الألم أو بيد أو غيره، وقد تقدم فى كتاب الأحكام مذاهب العلماء فى الشاهد إذا تعمد الشهادة بالزور، هل يلزمه الضمان، وقد تقدم تفسير قتل الغيلة، فى باب من قتل قتيلا فهو بخير النظرين.
- باب الْقَسَامَةِ
وَقَالَ الأشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِى مُلَيْكَةَ: لَمْ يُقِدْ بِهَا مُعَاوِيَةُ، وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ إِلَى عَدِىِّ بْنِ أَرْطَاةَ، وَكَانَ أَمَّرَهُ عَلَى الْبَصْرَةِ، فِى قَتِيلٍ وُجِدَ عِنْدَ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ السَّمَّانِينَ، إِنْ وَجَدَ أَصْحَابُهُ بَيِّنَةً، وَإِلا فَلا تَظْلِمِ النَّاسَ، فَإِنَّ هَذَا لا يُقْضَى فِيهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. / 33 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ (زَعَمَ أَنَّ(8/528)
رَجُلا مِنَ الأنْصَارِ يُقَالُ لَهُ: سَهْلُ بْنُ أَبِى حَثْمَةَ، أَخْبَرَهُ أَنَّ نَفَرًا مِنْ قَوْمِهِ انْطَلَقُوا إِلَى خَيْبَرَ فَتَفَرَّقُوا فِيهَا، وَوَجَدُوا أَحَدَهُمْ قَتِيلا، وَقَالُوا لِلَّذِى وُجِدَ فِيهِمْ: قَدْ قَتَلْتُمْ صَاحِبَنَا، قَالُوا: مَا قَتَلْنَا وَلا عَلِمْنَا قَاتِلا، فَانْطَلَقُوا إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، انْطَلَقْنَا إِلَى خَيْبَرَ، فَوَجَدْنَا أَحَدَنَا قَتِيلا، فَقَالَ: الْكُبْرَ، الْكُبْرَ، فَقَالَ لَهُمْ: تَأْتُونَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ، قَالُوا: مَا لَنَا بَيِّنَةٌ، قَالَ: فَيَحْلِفُونَ، قَالُوا: لا نَرْضَى بِأَيْمَانِ الْيَهُودِ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يُبْطِلَ دَمَهُ فَوَدَاهُ مِائَةً مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ) . / 34 - وَقَالَ أَبُو قِلابَةَ (أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِالْعَزِيزِ أَبْرَزَ سَرِيرَهُ يَوْمًا لِلنَّاسِ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُمْ فَدَخَلُوا، مَا تَقُولُونَ فِى الْقَسَامَةِ؟ قَالَ: نَقُولُ: الْقَسَامَةُ الْقَوَدُ بِهَا حَقٌّ، وَقَدْ أَقَادَتْ بِهَا الْخُلَفَاءُ، قَالَ لِى: مَا تَقُولُ يَا أَبَا قِلابَةَ؟ وَنَصَبَنِى لِلنَّاسِ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، عِنْدَكَ رُءُوسُ الأجْنَادِ وَأَشْرَافُ الْعَرَبِ، أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ خَمْسِينَ مِنْهُمْ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ مُحْصَنٍ بِدِمَشْقَ أَنَّهُ قَدْ زَنَى لَمْ يَرَوْهُ أَكُنْتَ تَرْجُمُهُ؟ قَالَ: لا، قُلْتُ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ خَمْسِينَ مِنْهُمْ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِحِمْصَ أَنَّهُ سَرَقَ، أَكُنْتَ تَقْطَعُهُ، وَلَمْ يَرَوْهُ؟ قَالَ: لا، قُلْتُ: فَوَاللَّهِ مَا قَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَحَدًا قَطُّ إِلا فِى إِحْدَى ثَلاثِ خِصَالٍ: رَجُلٌ قَتَلَ بِجَرِيرَةِ نَفْسِهِ فَقُتِلَ، أَوْ رَجُلٌ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ رَجُلٌ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَارْتَدَّ عَنِ الإسْلامِ، فَقَالَ الْقَوْمُ: أَوَلَيْسَ قَدْ حَدَّثَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَطَعَ فِى السَّرَقِ، وَسَمَرَ الأعْيُنَ، ثُمَّ نَبَذَهُمْ فِى الشَّمْسِ، فَقُلْتُ: أَنَا أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثَ أَنَسٍ، حَدَّثَنِى أَنَسٌ أَنَّ نَفَرًا مِنْ عُكْلٍ ثَمَانِيَةً قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَبَايَعُوهُ عَلَى الإسْلامِ، فَاسْتَوْخَمُوا الأرْضَ، فَسَقِمَتْ أَجْسَامُهُمْ،(8/529)
فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: أَفَلا تَخْرُجُونَ مَعَ رَاعِينَا فِى إِبِلِهِ، فَتُصِيبُونَ مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا؟ قَالُوا: بَلَى، فَخَرَجُوا، فَشَرِبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، فَصَحُّوا، فَقَتَلُوا رَاعِىَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَأَطْرَدُوا النَّعَمَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَأَرْسَلَ فِى آثَارِهِمْ، فَأُدْرِكُوا فَجِىءَ بِهِمْ، فَأَمَرَ بِهِمْ، فَقُطِّعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ، وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ، ثُمَّ نَبَذَهُمْ فِى الشَّمْسِ حَتَّى مَاتُوا، قُلْتُ: وَأَىُّ شَىْءٍ أَشَدُّ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاءِ ارْتَدُّوا عَنِ الإسْلامِ، وَقَتَلُوا، وَسَرَقُوا؟ فَقَالَ عَنْبَسَةُ ابْنُ سَعِيدٍ: وَاللَّهِ إِنْ سَمِعْتُ كَالْيَوْمِ قَطُّ، فَقُلْتُ: أَتَرُدُّ عَلَىَّ حَدِيثِى يَا عَنْبَسَةُ؟ قَالَ: لا، وَلَكِنْ جِئْتَ بِالْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ وَاللَّهِ لا يَزَالُ هَذَا الْجُنْدُ بِخَيْرٍ مَا عَاشَ هَذَا الشَّيْخُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، قُلْتُ: وَقَدْ كَانَ فِى هَذَا سُنَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) دَخَلَ عَلَيْهِ نَفَرٌ مِنَ الأنْصَارِ، فَتَحَدَّثُوا عِنْدَهُ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِنْهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَقُتِلَ، فَخَرَجُوا بَعْدَهُ، فَإِذَا هُمْ بِصَاحِبِهِمْ يَتَشَحَّطُ فِى الدَّمِ، فَرَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صَاحِبُنَا كَانَ تَحَدَّثَ مَعَنَا، فَخَرَجَ بَيْنَ أَيْدِينَا، فَإِذَا نَحْنُ بِهِ يَتَشَحَّطُ فِى الدَّمِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: بِمَنْ تَظُنُّونَ، أَوْ مَنْ تَرَوْنَ قَتَلَهُ؟ قَالُوا: نَرَى أَنَّ الْيَهُودَ قَتَلَتْهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْيَهُودِ فَدَعَاهُمْ، فَقَالَ: آنْتُمْ قَتَلْتُمْ هَذَا؟ قَالُوا: لا، قَالَ: أَتَرْضَوْنَ نَفَلَ خَمْسِينَ مِنَ الْيَهُودِ مَا قَتَلُوهُ؟ فَقَالُوا: مَا يُبَالُونَ أَنْ يَقْتُلُونَا أَجْمَعِينَ، ثُمَّ يَنْتَفِلُونَ، قَالَ: أَفَتَسْتَحِقُّونَ الدِّيَةَ بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْكُمْ؟ قَالُوا: مَا كُنَّا لِنَحْلِفَ، فَوَدَاهُ مِنْ عِنْدِهِ، قُلْتُ: وَقَدْ كَانَتْ هُذَيْلٌ خَلَعُوا خَلِيعًا لَهُمْ فِى الْجَاهِلِيَّةِ، فَطَرَقَ أَهْلَ بَيْتٍ مِنَ الْيَمَنِ بِالْبَطْحَاءِ، فَانْتَبَهَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَحَذَفَهُ بِالسَّيْفِ فَقَتَلَهُ، فَجَاءَتْ هُذَيْلٌ، فَأَخَذُوا الْيَمَانِىَّ فَرَفَعُوهُ إِلَى عُمَرَ بِالْمَوْسِمِ، وَقَالُوا قَتَلَ: صَاحِبَنَا،(8/530)
فَقَالَ: إِنَّهُمْ قَدْ خَلَعُوهُ، فَقَالَ: يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْ هُذَيْلٍ مَا خَلَعُوهُ، قَالَ: فَأَقْسَمَ مِنْهُمْ تِسْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ رَجُلا، وَقَدِمَ رَجُلٌ مِنْهُمْ مِنَ الشَّأْمِ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يُقْسِمَ، فَافْتَدَى يَمِينَهُ مِنْهُمْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَأَدْخَلُوا مَكَانَهُ رَجُلا آخَرَ فَدَفَعَهُ إِلَى أَخِى الْمَقْتُولِ، فَقُرِنَتْ يَدُهُ بِيَدِهِ، قَالُوا: فَانْطَلَقَا وَالْخَمْسُونَ الَّذِينَ أَقْسَمُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِنَخْلَةَ أَخَذَتْهُمُ السَّمَاءُ، فَدَخَلُوا فِى غَارٍ فِى الْجَبَلِ، فَانْهَجَمَ الْغَارُ عَلَى الْخَمْسِينَ الَّذِينَ أَقْسَمُوا، فَمَاتُوا جَمِيعًا، وَأَفْلَتَ الْقَرِينَانِ، وَاتَّبَعَهُمَا حَجَرٌ، فَكَسَرَ رِجْلَ أَخِى الْمَقْتُولِ، فَعَاشَ حَوْلا، ثُمَّ مَاتَ، قُلْتُ: وَقَدْ كَانَ عَبْدُالْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، أَقَادَ رَجُلا بِالْقَسَامَةِ، ثُمَّ نَدِمَ بَعْدَ مَا صَنَعَ، فَأَمَرَ بِالْخَمْسِينَ الَّذِينَ أَقْسَمُوا، فَمُحُوا مِنَ الدِّيوَانِ، وَسَيَّرَهُمْ إِلَى الشَّأْمِ) . اختلف العلماء فى الحكم بالقسامة، فقالت طائفة: القسامة ثابتة عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يبدأ فيها المدعون بالأيمان، فإن حلفوا استحقوا، وإن نكلوا حلف المدعى عليهم خمسين يمينًا وبرءوا، هذا قول أهل المدينة: يحيى بن سعيد، وأبى الزناد، وربيعة، والليث، ومالك، والشافعى، وأحمد وأبى ثور. واحتجوا فى ذلك بما رواه البخارى فى كتاب الجزية والموادعة عن بشير بن يسار، عن سهل بن أبى حثمة قال: (انطلق عبد الله بن سهل ومُحيِّصة بن مسعود بن زيد إلى خيبر، وهى يومئذ صلح، فتفرقا، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط فى دمه قتيلا، فدفنه ثم قدم المدينة، فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) فذهب عبد الرحمن(8/531)
يتكلم، فقال: كبر، كبر، وهو أحدث القوم، فسكت، فتكلما فقال: تحلفون وتستحقون قاتلكم، أو صاحبكم؟ قالوا: كيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟ قال: فتبرئكم يهود بخمسين يمينًا؟ قالوا: كيف نأخذ أيمان قوم كفار؟ فعقله النبى (صلى الله عليه وسلم) من عنده) وقال حماد بن زيد: عن يحيى بن سعيد مثله. فثبت فى هذا الحديث تبدئة المدعين للدم باليمين. وذهب طائفة إلى أنه يبدأ بالأيمان المدعى عليهم فيحلفون ويذرون، روى هذا عن عمر ابن الخطاب، وعن الشعبى، والنخعى، وبه قال الثورى والكوفيون، واحتجوا بحديث سعيد ابن عبيد، عن بشير بن يسار أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال للأنصار: (تاتون بالبينة على من قتله، قالوا: ما لنا بينة، قال: فيحلفون لكم، قالوا: ما نرضى بأيمان يهود) فبدأ بالأيمان المدعى عليهم وهم اليهود. واحتجوا أيضًا بما رواه ابن جريح عن ابن أبى مليكة، عن ابن عباس أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (لو يُعطى الناس بدعواهم لادّعى قوم دماء قوم وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه) . وفيها قول ثالت: وهو التوقف عن الحكم بالقسامة، روى هذا عن سالم بن عبد الله، وأبى قلابة، وعمر بن عبد العزيز، والحكم بن عتيبة. واحتج أهل المقالة الأولى، فقالوا: حديث سعيد بن عبيد فى تبدئة اليهود وهم عند أهل الحديث؛ لأن جماعة من أئمة(8/532)
الحديث أسندوا حديث بشير بن يسار عن سهل: (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) بدأ المدعين) . قال الأصيلى: أسنده عن يحيى بن سعيد شعبة، وسفيان بن عيينة، وعبد الوهاب الثقفى، وحماد بن زيد، وعيسى بن حماد، وبشر بن المفضل فهؤلاء ستة، وأرسله مالك، عن يحيى ابن سعيد، عن بشير بن يسار، ولم يذكر سهل بن أبى حثمة. وقال أحمد بن حنبل: الذى أذهب إليه فى القسامة، حديث يحيى بن سعيد، عن بشير ابن يسار، فقد وصله عنه حفاظ، وهو أصح من حديث سعيد بن عبيد. قال الأصيلى: فلا يجوز أن يعترض بخبر واحد على خبر جماعة مع أن سعيد بن عبيد قال فى حديثه: (فوداه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من إبل الصدقة) والصدقة لا تعطى فى الديات، ولا يصالح بها عن غير أهلها. قال ابن القصار والمهلب: وقد يجوز الجمع بين حديث سعيد بن عبيد، ويحيى بن سعيد، فيحتمل أن يقول النبى (صلى الله عليه وسلم) للأنصار أترضون نفل خمسين من اليهود ما قتلوه بعد علمه (صلى الله عليه وسلم) أن الأنصار قد نكلوا عن اليمين؛ لأنهم لم يعينوا أحدًا من اليهود فيقسمون عليه، والقسامة لا تكون إلا على معين، فلما علم نكولهم رد اليمين، وفى حديث يحيى بن سعيد حين نكل محيصة وحويصة وعبد الرحمن، فقالوا لهم: فيبرئكم يهود بعد أن قال لهم تحلفون خمسين يمينًا، وتستحقون دم صاحبكم. وقد روى ابن جريج، عن عطاء، عن أبى هريرة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (البينة على المدعى(8/533)
واليمين على من أنكر إلا فى القسامة) فتبين أن اليمين فى القسامة لا يكون فى جهة المدعى عليه، وقد احتج مالك فى الموطأ لهذه المقالة بما فيه الكفاية، فقال: إنما فرق بين القسامة فى الدم والأيمان فى الحقوق أن الرجل إذا داين الرجل استثبت عليه فى حقه، وأن الرجل إذا قتل الرجل لم يقتله فى جماعة من الناس وإنما يلتمس الخلوة، فلو لم تكن القسامة إلا فيما تثبت فيه البينة، وعمل فيها كما يعمل فى الحقوق هلكت الدماء، واجترأ الناس عليها إذا عرفوا القضاء فيها. ولكن إنما جعلت القسامة إلى ولاة المقتول يبدءون بها ليكف الناس عن الدم وليحذر القاتل أن يؤخذ فى مثل ذلك بقول المقتول، وهذا الأمر المجتمع عليه عندنا، والذى سمعت ممن أرضى، والذى اجتمعت عليه الأئمة فىالقديم والحديث أن يبدأ المدعون. فإن قالوا: إن النبى (صلى الله عليه وسلم) إنما قال: (أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم) على وجه الاستعظام لذلك والإنكسار عليهم والتقرير، لا على وجه الاستفهام لهم. فالجواب: أنه لا يجوز أن يزيد الإنكار عليهم أصلا وذلك أن القوم لم يطلبوا اليمين فينكر ذلك عليهم. وإنما ادعّوا الدم فبدأهم وقال لهم (صلى الله عليه وسلم) (أتحلفون) فعلم أنه شرع لهم اليمين؛ وعلق استحقاق الدم بها، فإنما كان يكون منكرًا عليهم لو بدءوا وقالوا: نحن نحلف. وأما الذين أبطلوا الحكم بالقسامة فإنهم ردوها بآرائهم لخلافها عندهم قوله (صلى الله عليه وسلم) : (البينة على المدعى واليمين على المدعى(8/534)
عليه) وهو خص القسامة بتبدية المدعين الأيمان وسنه لأمته، وقد كانت القسامة فى الجاهلية خمسين يمينًا على الدماء، فأقرها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فصارت سنة بخلاف الأموال التى سن فيها يمينًا واحدة، والأصول لا يرد بعضها ببعض، ولا يقاس بعضها على بعض بل يوضع كل واحد منهما موضعه، كالعرايا والمزابنة والمساقاة والقراض مع الإجارات وعلى المسلمين التسليم فى كل ما سن لهم. قال ابن القصار: فإن قيل: كيف يحلف الأولياء وهم غيب عن موضع القتل؟ قيل: اليمين تكون مرة على وجه اليقين وتارة على وجه الاستدلال، كالشهادة تكون بيقين وتكون بالاستدلال على النسب والوفاة، وأن هذه زوجة فلان، وهذا باستدلال كما يدعى الوارث لابنه دينًا على رجل من حساب أبيه، فيحلف كما يحلف على يقين، وذلك عل ما ثبت عنده بأخبار من يصدقه، وليس أحد من العلماء يجيز لأحد أن يحلف على ما لا يعلم أو يشهد على ما لم يعلم، ولكنه يحلف على ما لم يحضر إذا صح عنده وعلمه بما يقع العلم بمثله. وقيل لابن المسيب: أعجب من القسامة؛ يأتى الرجل يسأل عن القاتل والمقتول لا يعرف القاتل من المقتول ويقسم. قال: قضى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالقسامة فى قتيل خيبر، ولو علم أن الناس يجترئون عليها ما قضى بها. وروى عن معمر عن الزهرى قال: دعانى عمر بن عبد العزيز فقال: إنى أريد أن أدع القسامة، نأتى برجل من أرض(8/535)
كذا، وآخر من أرض كذا فيحلفون، فقلت له: ليس لك ذلك، قضى بها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والخلفاء بعده، إن تركتها أوشك رجل أن يقتل عندنا فيبطل دمه، وإن للناس فى القسامة حياة. وأما قول ابن أبى مليكة: إن معاوية لم يقد بالقسامة فلا حجة فيه مع خلاف السنة له، والخلفاء الراشدين الذين أقادوا بها، وقد صح عن معاوية أنه أقاد بالقسامة، وذكر ذلك أبو الزناد فى احتجاجه على أهل العراق، قال: وقال لى خارجة بن زيد بن ثلبت: نحن والله قتلنا بالقسامة وأصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) متوافرون إنى لأرى يومئذ ألف رجل أو نحو ذلك فما اختلف منهم اثنان فى ذلك. وقال أبو الحسن بن القابسى: والعجب من عمر بن عبد العزيز على مكانته فى العلم، كيف لم يعارض أبا قلابة فى قوله وليس أبو قلابة من فقهاء التابعين قال المؤلف: وقد روى حماد بن سلمة، عن عبد الله بن أبى مليكة أن عمر بن عبد العزيز أقاد بالقسامة فى إمارته على المدينة. قال المهلب: وما اعترض به أبو قلابة من حديث العرنيين، لا اعتراض فيه على القسامة بوجه من الوجوه؛ لجواز قيام البينة والدلائل التى لا دافع لها على تحقيق الجناية على العرنيين، وليس هذا من طريق القسامة فى شىء؛ لأن القسامة إنما تكون فى الدعاوى، والاختفاء بالقتل حيث لا بينة ولا دليل، وأمر العرنيين كان بين ظهرانى الناس وممكن فيه الشهادة؛ لأن العرنيين كشفوا وجوههم لقطع السبيل، والخروج على المسلمين بالقتل واستياق الإبل، فقامت عليهم(8/536)
الشواهد البينة فأمرهم غير أمر من ادعى عليه بالقتل، ولا شاهد يقوم عليه، وما ذكر من الذين انهدم عليهم الغار لا يُعارض به ما تقدم من السنة فى القسامة، وليس رأى أبى قلابة حجة على جماعة التابعين ولا ترد بمثله السنن، وكذلك محو عبد الملك من الديوان لأسماء الذين أقسموا؛ لا حجة فيه على إبطال القسامة؛ وإنما ذكر البخارى هذا كله بلا إسناد، وصدر به كتاب القسامة؛ لأن مذهبه تضعيف القسامة، ويدل على ذلك أنه أتى بحديث القسامة فى غير موضعه، وذكره فى كتاب الجزية والموادعة، واختلفوا فى وجوب القود بالقسامة، فأوجبت طائفة القود بها، روى هذا عن عبد الله بن الزبير وعمر بن عبد العزيز والزهرى وربيعة وأبى الزناد، وبه قال مالك والليث وأحمد وأبو ثور. واحتجوا بحديث يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار أنه قال (صلى الله عليه وسلم) للأنصار: (تحلفون وتستحقون دم صاحبكم) وهذا يوجب القود. وقالت طائفة: لا قود بالقسامة وإنما توجب الدية، روى هذا عن عمر بن الخطاب وابن عباس، وهو قول النخعى والحسن، وإليه ذهب الثورى والكوفيون والشافعى وإسحاق، واحتجوا بما رواه مالك، عن أبى ليلى بن عبد الله عن سهل بن أبى حثمة وهو قوله (صلى الله عليه وسلم) للأنصار: (إما إن تدوا صاحبكم أوتأذنوا بحرب من الله ورسوله) وهذا يدل على الدية لا على القود. وقالوا: ومعنى قوله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار: (تستحقون دم صاحبكم) يعنى به: دية دم قتيلكم؛ لأن اليهود ليس بصاحب لهم، فإذا جاز أن يضمروا فيه؛ جاز أن يضمر فيه دية دم صاحبكم.(8/537)
فكان من حجة أهل المقالة الأولى عليهم، أن قالوا: إن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إما أن تدوا صاحبكم) معارض لقوله: (تستحقون دم صاحبكم) فلما تعارض اللفظان وجب طلب الدليل على أى المعنيين أولى بالصواب، فوجدنا قوله: (إما أن تدوا صاحبكم) انفرد به أبو ليلى فى حديثه. وقد قال أهل الحديث: إن أبا ليلى لم يسمع هذا الحديث من سهل بن أبى حثمة. وقيل: إنه مجهول لم يرو عنه غير مالك، ولم يرو عنه مالك غير هذا الحديث. وقد اتفق جماعة من الحفاظ على يحيى بن سعيد فى هذا الحديث وقالوا فيه: (تستحقون دم قاتلكم) ، يعنى يسلم إليكم القتيل؛ لأنه لم يقل: وتستحقون دية دم صاحبكم، والدليل على ذلك أنهم كانوا ادعوا قتل عمدٍ لا قتل خطأ، والذى يجب على قاتل العمد القود أو الدية إن اختار ذلك ولى القتل. وروى حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار، عن سهل بن أبى حثمة، ورافع بن خديج أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال للأنصار: (يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته) وهذه حجة قاطعة، وهذا الحديث بين أن قوله: (دم صاحبكم) معناه: القاتل؛ لأنه صاحبهم الذى قتل وليهم، وقد يصح أن يقولوا: هذا صاحبنا الذى ادعينا عليه أنه قتل ولينا، ويجوز أن يكون معناه وتستحقون دم قاتل صاحبكم؛ لأنه من ادعى إثبات(8/538)
شىء على صفة وحققه بيمينه فإن الذى يجب له هو الشىء الذى حققه بيمينه على صفته، فلو ادعى إتلاف عبد أو جارية أوثوب، وحلف عليه بعد نكول المدعى عليه حكم له بما ادعاه على صفته، ولم يجب له سواه، والدليل على ذلك قوله تعالى: (ولكم فى القصاص حياة) [البقرة: 179] فأخبر تعالى أن القصاص هو الذى يحيى النفوس؛ لأن القاتل إذا علم أنه يقتل انزجر عن القتل، وكفّ عنه أكثر من انزجاره إذا لزمته الدية، والناس فى وجوب القسامة على معنيين، فقوم اعتبروا اللوث فهم يطلبون ما يغلب على الظن، ويكون شبهة يتطرق بها إلى حراسة الدماء، ولم يطلب أحد فى القسامة الشهادة القاطعة ولا العلم البت، وإنما طلبوا شبهة وسموها لطخة؛ لأنه يلطخ المدعى عليه بها، وبهذا قال مالك والليث والشافعى إلا أنهم اختلفوا فى اللوث، فذهب مالك فى رواية ابن القاسم عنه أن اللوث الشاهد العدل، وروى عنه أشهب أنه غير العدل. وذهب الشافعى إلى أنه الشاهد العدل أو أن يأتى بينة مقترنة وإن لم يكونوا عدولا. قال: وكذلك لو دخل بيتًا مع قوم لم يكن معهم غيرهم، أو أن تكون جماعة فى صحراء فيفترقون عن قتيل، أو يوجد قتيل وإلى جنبه رجل معه سكين مخضوبة بالدّم، وليس ثم أثر تتبع ولا قدم إنسان آخر، ولا يقبل الشافعى قول المقتول: دمى عند فلان، قال: لأن السنة المجتمع عليها أنه لا يعطى أحد بدعواه شيئًا. وعند مالك والليث أن القسامة تجب باللوث أو بقول المقتول: دمى(8/539)
عند فلان. وقد تقدم فى باب من قتل بحجر أو بعصا، وقوم أوجبوا القسامة والدية بوجود القتيل فقط، واستغنوا عن مراعاة قول المقتول وعن الشاهد، وهذا قول الثورى والكوفيين، ولا قسامة عندهم إلا فى القتيل يوجد فى المحلة خاصة، قالوا: فإذا وجد قتيلاً فى محلة قوم وبه أثر؛ حلف أهل الموضع أنهم لم يقتلوه، ويكون عقله عليهم، وإذا لم يكن به أثر لم يكن على العاقلة شىء وهذا لا سلف لهم فيه. وحديث يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار خلاف قول الكوفيين؛ لأن النبى لم يحكم على اليهود بالدية بنفس وجود القتيل فى محلتهم، ولم يطالبهم بها بل أداها من عنده، ولو وجبت الدية على أهل المحلة لأوجبها (صلى الله عليه وسلم) على اليهود، وأما اشتراطهم أن يكون به أثر فليس بشىء؛ لأنه قد يقتل بما لا أثر به. قال ابن المنذر: والعجب من الكوفيين أنهم ألزموا العاقلة مالا بغير بينة ثبتت عليهم ولا إقرار منهم، ثم أعجب من ذلك إلزامهم العاقلة جناية عمد لا تثبت ببينة ولا إقرار؛ لأن الدعوى التى ادعاها المدعى لو ثبتت البينة لم يلزم ذلك العاقلة فكيف يجوز أن يلزموه بغير بينة والخطأ محيط بهذا القول من كل وجه. وذهب مالك والليث والشافعى إلى أن القتيل إذا وجد فى محلة قوم فهو هدر، لا يؤخذ به أقرب الناس دارًا ولا غيره؛ لأن القتيل قد يقتل ثم يلقى على باب قوم ليلطخوا به، فلا يؤخذ أحد بمثل ذلك، وقد قال عمر بن عبد العزيز: هذا مما يؤخر فيه القضاء حتى يقضى الله يوم القيامة.(8/540)
وقال القاسم بن مسعدة: قلت للنسائى: مالك بالقسامة إلا بلوث، فلم أورد حديث القسامة ولا لوث فيه؟ قال النسائى: أنزل مالك العداوة التى كانت بينهم وبين اليهود بمنزلة اللوث، وأنزل اللوث أو قول الميت بمنزلة العداوة. وقال الشافعى: إذا كان من السبب الذى حكم فيه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وجبت القسامة، كانت خيبر دار يهود محضة، وكانت العداوة بينهم وبين الأنصار ظاهرة، وخرج عبد الله بن سهل بعد العصر فوجد قتيلا قبل الليل، فيكاد يغلب على من سمع هذا أنه لم يقتله إلا بعض اليهود. وكذلك قال أحمد: إذا كان بين القوم عداوة كما كان بين أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) وبين اليهود. ووجه قول مالك أن قول المقتول تجب به القسامة، أن الغالب من الإنسان أنه يتخوف عند الموت ويجهد فى التخلص من المظالم، ويرغب فيما عند الله ويحدث توبة ولا يقدم على دعوى القتل ظلمًا فصار أقوى من شهادة الشاهد، وأقوى من قول الشافعى أن الولى يقسم إذا كان بقرب وليه وهو مقتول ومع الرجل سكين؛ لأنه يجوز أن يكون غيره قتله، فضعف هذا اللوث، ووجب أن يستعمل ما هو أقوى منه، وهو قول المقتول: دمى عند فلان. قال ابن أبى زيد: وأصل هذا فى قصة بنى إسرائيل حين أحيا الله الذى ضرب بالبقرة، وقال: قتلنى فلان، فهذا يدل على قبول قول المقتول: دمى عند فلان؛ لأنه كان فى شرع بنى إسرائيل، وسواء كان قبل الموت أو بعده. واختلفوا فى العدد الذين يحلفون ويستحقون الدم، فقال(8/541)
مالك: لا يقسم فى دم العمد إلا اثنان فصاعدًا ترد الأيمان عليهما حتى يحلفا خمسين يمينًا وذلك الأمر عندنا، والحجة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) عرضها على ولاة الدم بلفظ جماعة، فقال: (أتحلفون وتستحقون) وأقل الجماعة اثنان فصاعدًا. وقال الليث: ما سمعت أحدًا ممن أدركت يقول أنه يقتصر على أقل من ثلاثة. وقال الشافعى: إذا ترك وارثًا استحق الدية بأن يقسم وارثه خمسين يمينًا. واحتج له أبو ثور: فقال: قد جعل الله للأولياء أن يقسموا، فإن لم يكن إلا واحدًا كان له ذلك، ولو لم تكن إلا ابنة وهى مولاته حلفت خمسين يمينًا، وأخذت الكل: النصف بالنسب والنصف بالولاء. قال ابن المنذر: وفى قوله: (تستحقون) دليل على ألا يمين لغير مستحق، وعلى ألا يحلف إلا وارث. وفى الحديث من الفقه: أن يسمع حجة الخصم على الغائب، وفيه أن أهل الذمة إذا منعوا حقا حقا رجعوا حربًا. وفيه مقاتلة من منع حقا حتى يؤديه، وفيه أن من صح عنده أمر ولم يحضره أن له أن يحلف عليه؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) عرض على أولياء المقتول اليمين ولم يحضروا بخيبر، وفيه وجوب رد اليمين على المدعى فى الحقوق. واختلف العلماء فى ذلك، فقالت طائفة أنه من ادعى حقا على(8/542)
آخر ولا بينة له؛ فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، فإن حلف برئ، وإن لم يحلف ردت اليمين على المدعى فإن حلف استحق، وإن لم يحلف فلا شىء له، روى هذا عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، وهو قول شريح والشعبى والنخعى، وبه قال مالك والشافعى وأبو ثور. وذهب الكوفيون أن المدعى عليه إن لم يحلف لزمه الحق ولا ترد اليمين على المدعى، وكان أحمد لا يرى رد اليمين، وحجتهم فى ذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) حكم بالبينة على المدعى واليمين على المدعى عليه، فلما لم يجز نقل حجة المدعى وهى البينة عن الموضع الذى جعلها فيه النبى (صلى الله عليه وسلم) إلى جهة المدعى عليه كذلك لم يجز نقل حجة المدعى عليه وهى اليمين إلى المدعى؛ لأن قوله اليمين على المدعى عليه إيجاب عليه أن يحلف، فإذا امتنع مما يجب عليه أخذه الحاكم بالحق، هذا قول ابن أبى ليلى وغيره من أهل العلم، واحتج أهل المقالة الأولى بحديث القسامة، وقالوا: إن النبى (صلى الله عليه وسلم) جعل اليمين فى جهة المدعى بقوله للأنصار: (تحلفون وتستحقون دم صاحبكم) فلما أبوا حولها إلى اليهود ليبرءوا بها، فلما وجدنا فى سنته (صلى الله عليه وسلم) أن المدعى قد تنقل إليه اليمين فى الدماء وحرمتها أعظم؛ جعلناها عليه فى الحقوق لنأخذ بالأوثق. قال ابن القصار: والمدعى عليه إذا نكل عن اليمين ضعفت جهته، وصار متهمًا، وقويت جهة المدعى؛ لأن الظاهر صار معه، فوجب أن تصير اليمين فى جهته لقوة أمره. وقد احتج الشافعى على الكوفيين فقال: رد اليمين فى كتاب الله تعالى فى آية اللعان أيضًا، وذلك أن الله جعل اليمين على الزوج(8/543)
القاذف لزوجته إذا لم يأت بأربعة شهداء وجعل له بيمينه البراءة من حد القذف، وأوجب الحد على الزوجة إن لم تلتعن، فهذه يمين ردت على مدع كانت عليه البينة فى رميه زوجته فكيف ينكر من له فهم وإنصاف رد اليمين على المدعى. وقال ابن القصار: قد ذكر الله فى كتابه رد اليمين على المدعى الصادق؛ فقال لنبيه (صلى الله عليه وسلم) : (ويستنبئونك أحق هو قل إى وربى إنه لحق) [يونس: 53] ، وقال: (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربى لتبعثن) [التغابن: 7] ،) وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربى لتأتينكم) [سبأ: 3] واحتج أيضًا بقوله تعالى: (أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم) [المائدة: 108] وقال أهل التفسير: يعنى تبطل أيمانهم وتؤخذ أيمان هؤلاء. والتشحط الاضطراب فى الدم. وقوله: (أترضون نفل خمسين) قال صاحب العين: يقال: انتفلت من الشىء انتفيت منه فنفل اليهود هو أيمانهم أنهم ما قتلوه وانتفاؤهم عن ذلك. فإن قال قائل: قد اختلفت ألفاظ حديث القسامة، فرواه سعيد بن عبيد، عن بشير بن يسار: (فوداه النبى (صلى الله عليه وسلم) مائة من إبل الصدقة) ورواه سائر الرواة عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن بشار: (فوداه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من عنده) فما وجه هذا الاختلاف، وإبل(8/544)
الصدقة للفقراء والمساكين، ولا تؤدى فى الديات، فما وجه تأديتها عن اليهود؟ فالجواب: أن رواية من روى: (فوداه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من عنده) تفسير رواية من روى: (دفع من إبل الصدقة) وذلك أن الرسول لما عرض الحكم فى القسامة على ولاة الدم بأن يحلفوا ويستحقوا الدم من اليمين ثم نفلهم إلى أن تحلف لهم يهود ويبرءوا من المطالبة بالدم. قالوا: كيف نأخذ أيمان قوم كفار، وتعذر إنفاذ الحكم، خشى (صلى الله عليه وسلم) أن يبقى فى نفوس الأنصار ما تتقى عاقبته من مطالبتهم لليهود بعد حين، فرأى (صلى الله عليه وسلم) من المصلحة أن يقطع ذلك بينهم ووداه من عنده وتسلف ذلك من إبل الصدقة حتى يؤديها مما أفاء الله عليه من خمس المغنم؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يكن يجتمع عنده مما يصير له فى سهمانه من الإبل ما يبلغ مائة لإعطائه لها وتفريقها على أهل الحاجة لقوله: (ما لى مما أفاء الله عليكم إلا الخمس وهو مردود إليكم) فمن روى (من إبل الصدقة) أخبر عن ظاهر الأمر ولم يعلم باطنه، والذى روى (من عنده) علم وجه القصة وباطنها، فلم يذكر إبل الصدقة، وكان فى غرم النبى لها صلحًا عن اليهود وجهان من المصلحة: أحدهما: أنه عوض أولياء المقتول دية قتيلهم، فسكن بذلك بعض ما فى نفوسهم وقطع العداوة بينهم وبين اليهود. والثانى: أنه استألف اليهود بذلك، وكان حريصًا على إيمانهم.(8/545)
- باب مَنِ اطَّلَعَ فِى بَيْتِ قَوْمٍ، فَفَقَئُوا عَيْنَهُ، فَلا دِيَةَ لَهُ
/ 35 - فيه: أَنَسٍ: أَنَّ رَجُلا اطَّلَعَ مِنْ حُجْرٍ فِى بَعْضِ حُجَرِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَامَ إِلَيْهِ بِمِشْقَصٍ، أَوْ بِمَشَاقِصَ، وَجَعَلَ يَخْتِلُهُ لِيَطْعُنَهُ. / 36 - وفيه: سَهْلَ أَنَّ رَجُلا اطَّلَعَ فِى جُحْرٍ فِى بَابِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْتَظِرُنِى؛ لَطَعَنْتُ بِهِ فِى عَيْنَيْكَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : إِنَّمَا جُعِلَ الإذْنُ مِنْ قِبَلِ الْبَصَرِ) . / 37 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ، فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ) . اختلف العلماء فى هذه المسألة، فروى عن عمر بن الخطاب وأبى هريرة أنه لا دية فيه ولا قود، وبه قال الشافعى. وذكر ابن أبى زيد فى النوادر عن مالك مثله. قال الطحاوى: لم أجد لأبى حنيفة وأصحابه نصا فى هذه المسألة غير أن أصلهم أن من فعل شيئًا دفع به عن نفسه مما له فعله أنه لا يضمن ما تلف له، مثال ذلك المعضوض إذا انتزع يده من فى العاض فسقطت ثنيتاه أنه لا شىء عليه؛ لأنه دفع به عن نفسه عضه، فلما كان من حق صاحب البيت ألا يطلع أحد فى بيته قاصدًا لذلك؛ لأن له منعه ودفعه عنه كان ذهاب عينه هدرًا، على هذا يدل مذهبهم. وقال أبو بكر الرازى: ليس هذا بشىء ومذهبهم أنه يضمن؛ لأنه يمكنه أن يمنعه من الاطلاع فى بيته من غير فقء عينه بأن يزجره بالقول أو ينحيه عن الموضع، ولو أمكن المعضوض أن ينتزع يده من غير كسر سن العاض وكسرها ضمن.(8/546)
وروى ابن عبد الحكم، عن مالك أن عليه القود، واحتج الشافعى بأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قام إلى الذى اطلع عليه بالمدرى وقال: (لو أعلم أنك تنتظرنى لفقأت عينك) ومثله (صلى الله عليه وسلم) لا يقول ما لا يجوز له أن يفعله، ومن فعل ما يجوز له لم يجب عليه قود. واحتج المالكيون بقوله تعالى: (والعين بالعين) [المائدة: 45] وقوله: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) [النحل: 126] قالوا: وهذه النصوص تدل على أن قوله: (لو أعلم أنك تنتظرنى لطعنت به فى عينك) إنما خرج منه على وجه التغليظ والزجر لا على أنه حكم وهذا كقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ومن قتل عبده قتلناه، ومن جدعه جدعناه، ومن غل فأحرقوا رحله واحرموه سهمه) ومثل ما هم بإحراق بيوت المتخلفين عن الصلاة ولم يفعل. ومما يدل على أن الحديث خرج على التغليظ إجماعهم لو أن رجلا اطلع على عورة رجل أو سوءته أو على بيته، أو دخل داره بغير إذنه أنه لا يجب عليه فقء عينه، وهجوم الدار أشد عليه وأعظم أيضًا، فلو وجب فقء عينه لاطلاعه لوجب عليه ذلك بعد انصرافه؛ لأن الذنب والجرم الذى استحق ذلك من أجله قد حصل، وقد اتفقوا على أن من فعل فعلا استحق عليه العقوبة من قتل أو غيره أنه لا يسقط عنه، سواء كان فى موضعه أو قد فارقه. وقد روى عن أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) أنهم تواعدوا بما لم ينفذوه فروى الزهرى، عن عمر ابن الخطاب أنه قال لقيس بن مكسوح المرادى: (نبئت أنك تشرب الخمر. قال: والله يا أمير المؤمنين لقد(8/547)
أقللت وأسأت، وأما والله ما مشيت خلف ملك قط إلا حدثت نفسى بقتله. قال: فهل حدثت نفسك بقتلى؟ قال: لو هممت فعلت. قال: أما لو قلت نعم لضربت عنقك، اخرج لعنك الله، والله لا تبيت الليلة معى فيها، فقال له عبد الرحمن بن عوف: لو قال نعم ضربت عنقه؟ قال: لا، ولكن استرهبته بذلك) . وروى جرير بن عبد الحميد، عن عطاء بن السائب، عن أبى عبد الرحمن قال: قال على: لا أوتى برجل وقع بجارية امرأته إلا رجمته، فما كان إلا يسيرًا حتى أتى برجل وقع على جارية امرأته فقال: أخرجوه عنى أخزاه الله.
- باب الْعَاقِلَةِ
/ 38 - فيه: أَبُو جُحَيْفَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ عَلِيًّا رَضِى اللَّهُ عَنْهُ، هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِمَّا لَيْسَ فِى الْقُرْآنِ؟ وَقَالَ مَرَّةً: مَا لَيْسَ عِنْدَ النَّاسِ؟ فَقَالَ: وَالَّذِى فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ مَا عِنْدَنَا إِلا مَا فِى الْقُرْآنِ، إِلا فَهْمًا يُعْطَى رَجُلٌ فِى كِتَابِهِ، وَمَا فِى الصَّحِيفَةِ، قُلْتُ: وَمَا فِى الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: الْعَقْلُ، وَفِكَاكُ الأسِيرِ، وَأَنْ لا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ. أجمع العلماء على القول بالعقل فى الخطأ لثبات ذلك عن النبى (صلى الله عليه وسلم) وقد روى مالك، عن عبد الله بن أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه أن فى الكتاب الذى كتبه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لعمرو بن حزم فى العقول: (أن فى النفس مائة من الإبل، وفى الأنف إذا ادعى جدعًا مائة من الإبل، وفى المأمومة ثلث الدية، وفى الجائفة مثلها،(8/548)
وفى العين خمسون، وفى اليد خمسون، وفى كل أصبع مما هنالك عشر من الإبل، وفى السن خمس، وفى الموضحة خمس) أرسل مالك حديث العقول، وزاد فيه معمر، عن عبد الله بن أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده، إن كان جده لم يدرك النبى (صلى الله عليه وسلم) وإنما الذى أدركه عمرو بن حزم، وفى إجماع العلماء على القول به ما يغنى عن الإسناد فيه. واختلف العلماء فى هذا الحديث فى الإبهام وفى الأسنان على ما تقدم قبل هذا، وأجمعوا على ما فى سائر الحديث من الديات، قال وجعل النبى (صلى الله عليه وسلم) فى النفس مائة من الإبل، وقومها عمر بن الخطاب بالذهب والورق، فجعل على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهم. وقال مالك: أهل الذهب أهل الشام ومصر، وأهل الورق أهل العراق، كان صرفهم ذلك الوقت الدينار باثنى عشر درهمًا، وكانت قيمة الإبل ألف دينار، وإنما تقوم الأشياء بالذهب والورق خاصة على ما صنع عمر، هذا قول مالك والليث والكوفيين وأحد قولى الشافعى. وقال أبو يوسف ومحمد: يؤخذ فى الدية أيضًا البقر والخيل والشاة، وروى عن عمر أيضًا، وبه قال الفقهاء السبعة المدنيون. وقد قال مالك: لا يؤخذ فى الدية بقر ولا غنم ولا خيل إلا أن يتراضوا بذلك فيجوز، ولو جاز أن يقوم بالشاة والبقر والخيل لوجب تقويمها على أهل الخيل بالخيل، وعلى أهل الطعام بالطعام، وهذا لا يقوله أحد.(8/549)
وأجمعوا أن الدية تقطع فى ثلاث سنين للتخفيف على العاقلة ليجمعوها فى هذه المدة، وقد تقدم فى كتاب العلم.
- باب جَنِينِ الْمَرْأَةِ
/ 39 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَّ امْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ رَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى، فَطَرَحَتْ جَنِينَهَا، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِيهَا بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ. / 40 - وفيه: عُرْوَةَ: أَنَّ عُمَرَ نَشَدَ النَّاسَ مَنْ سَمِعَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَضَى فِى السِّقْطِ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: أَنَا، سَمِعْتُهُ قَضَى فِيهِ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ، قَالَ: ائْتِ مَنْ يَشْهَدُ مَعَكَ عَلَى هَذَا، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَنَا أَشْهَدُ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) بِمِثْلِ هَذَا. وَقَالَ الْمُغِيرَةَ مَرَةٍ: إِنِّ عُمَرَ اسْتَشَارَ فِى إِمْلاصِ الْمَرْأَةِ. قال مالك: دية جنين الحرة عشر ديتها، والعشر خمسون دينارًا أو ستمائة درهم؛ لأن دية الحرة المسلمة خمسمائة دينار أو ستة آلاف درهم وعلى هذا جمهور العلماء. وخالف ذلك الثورى وأبو حنيفة، فقال: قيمة الغرة خمسمائة درهم؛ لأن دية المرأة عندهم خمسة آلاف درهم على ما روى عن عمر بن الخطاب أنه جعل الدية على أهل الورق عشرة آلاف درهم، وهو مذهب ابن مسعود. وحجة مالك ومن وافقه أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لما حكم فى الجنين بغرة عبدٍ أو أمة، جعل أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قيمة ذلك خمسًا من الإبل وهى عشر دية أمه، وذلك خمسون دينارًا أو ستمائة درهم، ورواية أهل(8/550)
الحجاز أنهم قوموا الدية اثنى عشر ألف درهم أصح عن عمر، وهو مذهب عثمان وعلى وابن عباس. قال مالك فى الموطأ: ولم أسمع أن أحدًا يخالف فى الجنين أنه لا تكون فيه الغرة حتى يزايل أمه ويسقط من بطنها ميتًا، وإن خرج من بطنها حيا ثم مات، ففيه الدية كاملة. قال غيره: والحجة لهذا القول أن الجنين إذا لم يزايل أمه فى حال حياتها فحكمه حكم أمّهِ ولا حكم له فى نفسه؛ لأنه كعضو منها فلا غرة فيه؛ لأنه تبع لأمه، وكذلك لو ماتت وهو فى جوفها لم يجب فيه شىء لا دية ولا قصاص، فإن زايلها قبل موتها ولم يستهل ففيه غرة عبد أو أمة؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) إنما حكم فى جنين زايل أمه ميتًا وهذا مجمع عليه، وسواء كان الجنين ذكرًا أو أنثى إنما فيه غرة، فإذا زايل أمه واستهل ففيه الدية كاملة؛ لأن حكمه قد انفرد عن حكم أمه وثبتت حياته، فكان له حكم نفسه دون حكم أمه، ألا ترى أنها لو أعتقت أمه لم يكن عتقًا له، ولو أعتقت وهى حامل به كان حرا بعتقها ولا خلاف فى هذا أيضًا. قال أبو عبيد: إملاص المرأة: أن تلقى جنينها ميتًا يقال منه: أملصت المرأة إملاصًا، وإنما سمى بذلك؛ لأنها تزلقه، ولهذا قيل: أزلقت الناقة وغيرها، وكل شىء زلق من يدك فهو ملص يملص ملصًا، وأنشد الأحمر: فرَّ وأعطانى رِشاءً مَلِصا(8/551)
يعنى أنه تزلق من يدى فإذا فعلت أنت ذلك به قلت: أملصته إملاصًا.
- باب جَنِينِ الْمَرْأَةِ، وَأَنَّ الْعَقْلَ عَلَى الْوَالِدِ وَعَصَبَةِ الْوَالِدِ لا عَلَى الْوَلَدِ
/ 41 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَضَى فِى جَنِينِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِى لَحْيَانَ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ ثُمَّ إِنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا بِالْغُرَّةِ، تُوُفِّيَتْ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّ مِيرَاثَهَا لِبَنِيهَا وَزَوْجِهَا، وَأَنَّ الْعَقْلَ عَلَى عَصَبَتِهَا) . / 42 - وَقَالَ: أَبُو هُرَيْرَةَ مرة: اقْتَتَلَتِ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ، فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى بِحَجَرٍ، فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِى بَطْنِهَا، فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَضَى أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ وَلِيدَةٌ، وَقَضَى أَنَّ دِيَةَ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا. قال المؤلف: قوله فى آخر الحديث: (وأن العقل على عصبتها) يريد عقل دية المرأة المقتولة لا عقل دية الجنين، يبين ذلك قوله فى الحديث الآخر: (وقضى أن دية المرأة على عاقلتها) وقوله فى الترجمة: إن العقل على الوالد وعصبة الوالد لا على الولد: يعنى عقل المرأة المقتولة على والد القاتلة وعصبته. وقوله: (لا على الوالد) فإنما يريد بذلك أن ولد المرأة إذا كان من غير عصبتها لا يعقلون عنها، وكذلك الإخوة من الأم لا يعقلون عن أختهم لأمهم شيئًا؛ لأن العقل إنما جعل على العصبة دون(8/552)
ذووى الأرحام، ألا ترى قوله (أن ميراثها لزوجها وبنيها وعقلها على عصبتها) يريد أن من ورثها لم يعقل عنها حين لم يكن من عصبتها. قال ابن المنذر: وهذا قول مالك والكوفيين، والشافعى وأحمد بن حنبل، وأبى ثور وكل من أحفظ عنه. واختلفوا فى عقل الجنين، وهى الغرة على من تجب؟ فقالت طائفة: هى على العاقلة أيضًا، هذا قول النخعى والثورى والكوفيين والشافعى. وقال آخرون: هى فى مال الجانى، روى ذلك عن الحسن والشعبى وبه قال مالك والحسن بن صالح. والحجة لقول مالك قوله فى الحديث (وقضى دية المرأة على عاقلتها) ولم يذكر فى ذلك دية الغرة، هذا ظاهر الحديث، وأيضًا فإن عقل الجنين لا يبلغ ثلث الدية، ولا تحمل العاقلة عند مالك إلا لثلث فصاعدًا، هذا قول الفقهاء السبعة، وهو الأمر القديم عندهم. وحجة القول الأول: ما رواه أبو موسى الزمنى قال: حدثنا عثمان بن عمر، عن يونس، عن الزهرى فى حديث أبى هريرة: (أن الرسول قضى بديتها ودية جنينها على عاقلتها) وبما رواه مجالد بن سعيد، عن الشعبى، عن جابر (أن الرسول جعل غرة الجنين على عاقلة القاتلة) . وقال آخرون: إن المجالد بن سعيد ليس بحجة فيما انفرد به، وأبو موسى الزمنى، وإن كان ثقة، فلم يتابعه أحد على قوله: (ودية جنينها) .(8/553)
واختلفوا لمن تكون الغرة التى تجب فى الجنين فذكر ابن حبيب أن مالكًا اختلف قوله فى ذلك فمرة قال: الغرة لأم الجنين، وهو قول الليث، وقال مرة: هى بين الأبوين، الثلثان للأب والثلث للأم. وهو قول أبى حنيفة والشافعى. وحجة القول الأول: إن الغرة إنما وجبت لأم الجنين؛ لأنه لم يعلم إن كان الجنين حيا فى وقت وقوع الضربة بأمه أم لا. وحجة القول الثانى: أن المرأة المضروبة لما ماتت من الضربة قضى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيها بالدية مع قضائه بالغرة، فلو كانت الغرة للمرأة المقتولة إذًا لما قضى فيها بالغرة، ولكان حكم امرأة ضربتها امرأة فماتت من ضربتها فعليها ديتها، ولا تجب عليها للضربة أرش. وقد أجمعوا أنه لو قطع يدها خطأ فماتت من ذلك لم يكن لليد دية، ودخلت فىدية النفس، فلما حكم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مع دية المرأة بالغرة ثبت بذلك أن الغرة دية الجنين لا لها، فهى موروثة عن الجنين كما يورث ماله لو كان حيا فمات. قال الطحاوى: وفى حكم النبى (صلى الله عليه وسلم) فى الجنين بغرة ولم يحكم فيه بكفارة؛ حجة لمالك وأبى حنيفة على الشافعى فى إيجابه كفارة عتق رقبة على من تجب عليه الغرة ولا حجة له، ولو وجبت فيه كفارة لحكم بها (صلى الله عليه وسلم) ، والكفارة إنما تجب فى إتلاف روح، ولسنا على يقين فى أن الجنين كان حيا وقت ضربه أمه ولو أيقنا ذلك لوجبت فيه الدية كاملة، فلما أمكن أن يكون حيا تجب فيه الدية كاملة، وأمكن أن يكون ميتًا لا يجب فيه شىء؛ قطع النبى (صلى الله عليه وسلم) التنازع(8/554)
والخصام بأن جعل فيه غرة عبدًا أو أمة، ولم يجعل فيه كفارة. قاله ابن القصار. وفى هذا الحديث حجة لمن أوجب دية شبه العمد على العاقلة، وهو قول الثورى والكوفيين والشافعى. قالوا: من قتل إنسانًا بعصىً أو حجر أو شبهه، مما يمكن أن يموت به القتيل، ويمكن ألا يموت فمات من ذلك أن فيه الدية على عاقلة القاتل كما حكم النبى (صلى الله عليه وسلم) فى هذه القضية بدية المرأة على عاقلة القاتلة، قالوا: وهذا شبه العمد، والدية فيه مغلظة ولا قود فيه. وأنكر مالك والليث شبه العمد وقال مالك: هو باطل فكل ما عمد به القتل فهو عمد، وفيه القود. والحجة لهم ما روى أبو عاصم النبيل، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس، عن عمر (أنه نشد الناس: ما قضى به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى الجنين؟ فقام حمل ابن مالك، فقال: كنت بين امرأتين فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها، فقضى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى جنينها بغرة وأن تقتل المرأة) . قالوا: وهذا مذهب عمر بن الخطاب، روى عنه أنه قال: يعمد أحدكم فيضرب أخاه بمثل أكلة اللحم، قال الحجاج: يعنى العصا، ثم يقول: لا قود علىَّ، لا أوتى بأحدٍ فعل ذلك إلا أقدته. قال المؤلف: فسألت بعض شيوخى عن حديث ابن جريج، عن عمرو بن دينار، فقال: الأحاديث التى جاء فيها الدية على العاقلة أصح منه؛ لأن ابن عيينة قد رواه عن عمرو بن دينار(8/555)
ولم يذكر فيه قتل المرأة الضاربة بالمسطح، وكذلك رواه الحميدى، عن هشام بن سليمان المخزومى، عن ابن جريج مثل رواية ابن عيينة ولم يذكر فيه قتل المرأة، وروى شعبة، عن قتادة، عن أبى المليح، عن حمل بن مالك بن النابغة قال: (كانت لى امرأتان فضربت إحداهما الأخرى بحجر فأصابتها فقتلتها وهى حامل، فألقت جنينًا وماتت فقضى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالدية على العاقلة، وقضى فى الجنين بغرة عبد أو أمة) . قال الطحاوى: فلما اضطرب حديث حمل بن مالك كان بمنزلة ما لم يرد فيه شىء، وثبت ما روى أبو هريرة والمغيرة فيها وهو نفى القصاص. ولما ثبت أن النبى (صلى الله عليه وسلم) جعل دية المرأة على العاقلة ثبت أن دية شبه العمد على العاقلة، وقد روى عن على بن أبى طالب أنه قال: شبه العمد بالعصا والحجر الثقيل، وليس فيهما قود. وقد تأول الأصيلى حديث أبى هريرة والمغيرة على مذهب مالك، فقال: يحتمل أن يكون لما وجب قتل المرأة تطوع قومها عاقلتها ببذل الدية لأولياء المقتولة، ثم ماتت القاتلة، فقبل أولياء المقتولة الدية، وقد يكون ذلك قبل موتها، فقضى عليهم النبى (صلى الله عليه وسلم) بأداء ما تطوعوا به إلى أولياء المقتولة.
- باب مَنِ اسْتَعَانَ عَبْدًا أَوْ صَبِيًّا
وَيُذْكَرُ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ بَعَثَتْ إِلَى مُعَلِّمِ الْكُتَّابِ ابْعَثْ إِلَىَّ غِلْمَانًا يَنْفُشُونَ صُوفًا، وَلا تَبْعَثْ إِلَىَّ حُرًّا.(8/556)
/ 43 - فيه: أَنَسٍ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) الْمَدِينَةَ، أَخَذَ أَبُو طَلْحَةَ بِيَدِى، فَانْطَلَقَ بِى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَنَسًا غُلامٌ كَيِّسٌ، فَلْيَخْدُمْكَ، قَالَ: فَخَدَمْتُهُ فِى الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَوَاللَّهِ مَا قَالَ لِى لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ صَنَعْتَ هَذَا هَكَذَا، وَلا لِشَيْءٍ لَمْ أَصْنَعْهُ: لِمَ لَمْ تَصْنَعْ هَذَا هَكَذَا. قال المهلب: فى هذا دليل على جواز استخدام الأحرار وأولاد الجيران فيما لا كبير مشقة فيه وفيما لا يخاف عليهم منه التلف، كما استخدم النبى (صلى الله عليه وسلم) أنسًا وهو صغير فيما أطاقه وقوى عليه. قال غيره: اشتراط أم سلمة ألا يرسل إليها حرا؛ فلأن جمهور العلماء يقولون: من استعان صبيا حرا لم يبلغ أو عبدًا بغير إذن مولاه فهلكا فى ذلك العمل؛ فهو ضامن لقيمة العبد، وهو ضامن لديه الصبى الحر وهى على عاقلته. فإن حمل الصبى على دابة يسقيها أو يمسكها فوطئت الدابة رجلا فقتلته، فقال مالك فى المدونة: الدية على عاقلة الصبى، ولا ترجع على عاقلة الرجل. وهو قول الثورى. فإن استعان حرًا بالغًا متطوعًا أو بإجارة فأصابه شىء؛ فلا ضمان عليه عند جميعهم إن كان ذلك العمل لا غرر فيه، وإنما يضمن من جنى أو تعدى. واختلفوا إذا استعمل عبدًا بالغًا فى شىء فعطب. فقال ابن القاسم: إن استعمل عبدًا فى بئر يحفرها ولم يؤذن له فى الإجارة فهو ضامن إن عطب، وكذلك إن بعثه بكتاب إلى سفر. وروى ابن وهب، عن مالك قال: سواء أذن له سيده فى الإجارة(8/557)
أم لا، لا ضمان عليه فيما أصابه إلا أن يستعمله فى غرر كثير؛ لأنه لم يؤذن له فى الغرر. قال سحنون: وهذه الرواية أحسن من قول ابن القاسم وغيره. فإن قيل: فما وجه قوله: (ما قال لى لشىء لم أصنعه لِمَ لَمْ تصنع هذا هكذا) . وظاهره أنه تكرير يدخل فى القسم الأول. قيل: إنما أراد أنه لم يلمه فى القسم الأول على شىء فعله، وإن كان ناقصًا عن إرادته، ولا لامه فى القسم الآخر على شىء ترك فعله خشية الخطأ فيه، فتركه أنس من أجل ذلك، فلم يلمه النبى (صلى الله عليه وسلم) على تركه إذ كان يتجوزه منه لو فعله، وإن كان ناقصًا عن إرادته، وإلى هذا أشار بقوله هذا (هكذا) لأنه كما تجوز عنه ما فعله ناقصًا عن إرادته كذلك كان يتجوز عنه ما لم يفعله خشية مواقعة الخطأ فيه لو فعله ناقصًا لشرف خُلقه وحلمه (صلى الله عليه وسلم) .
- باب الْمَعْدِنُ جُبَارٌ، وَالْبِئْرُ جُبَارٌ
/ 44 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النبى (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (الْعَجْمَاءُ جَرْحُهَا جُبَارٌ، وَالْبِئْرُ جُبَارٌ، وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ، وَفِى الرِّكَازِ الْخُمُسُ) . قال أبو عبيد: قوله (صلى الله عليه وسلم) : (البئر جبار) هى البئر العادية القديمة التى لا يعلم لها حافر ولا مالك تكون فى البوادى يقع فيها إنسان أو دابة، فلذلك هدر، وإذا حفرها فى ملكه أو حيث يجوز حفرها فيه؛ لأنه صنع من ذلك ما يجوز له فعله، قال مالك: والذى يجوز له من ذلك البئر يحفرها للمطر، والدابة ينزل عنها(8/558)
الرجل لحاجة الرجل فيقفها فى الطريق؛ فليس على أحد فى هذا غرم، وإنما يضمن إذا فعل من ذلك ما لا يجوز له أن يصنعه على طريق المسلمين، فما أصابت من جرحٍ أو غيره، وكان عقله دون ثلث الدية فهو فى ماله، وما بلغ الثلث فصاعدًا فهو على العاقلة، وبهذا كله قال الشافعى وأبو ثور. وخالف ذلك أبو حنيفة وأصحابه فقالوا: من حفر بئرًا فى موضع يجوز له ذلك فيه أو أوقف دابة فليس ببئره من الضمان ما جاز إحداثه له كراكب الدابة يضمن ما عطب بها، وإن كان له أن يركبها أو يسير عليها، وهذا خلاف للحديث، ولا قياس مع النصوص. وقال أبو عبيد: أما قوله: (المعدن جبار) فإنها هذه المعادن التى يستخرج منها الذهب والفضة، فيجئ قوم يحفرونها بشىء مسمى لهم فربما انهارت عليهم المعدن فقتلتهم فنقول: دماؤهم هدر، ولا خلاف فى ذلك بين العلماء. واختلف مالك والليث فى رجل حفر بئرًا فى داره للسارق، أو وضع حبالات أو شيئًا يقتله به فعطب به السارق أو غيره فهو ضامن. وقال الليث: لا ضمان عليه. والحجة لمالك أنه لا يجوز له أن يقصد بفعل ذلك ليهلك به أحدًا لأنه متعد بهذا القصد، وقد يمكنه التحرز بغير ذلك، فإن حفر الحفير فى حائطه للسباع فعطب به إنسان فلا ضمان عليه؛ لأنه فعل ما له فعله، ولا غنى به عنه، ولم يقصد بالحفر تلف إنسان فيكون متعديًا، وقد روى معمر، عن همام بن منبه، عن أبى هريرة: أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (البار جبار) .(8/559)
وقال يحيى بن معين: أصله البئر جبار، ولكنه تصحف. قال ابن المنذر: وأهل اليمن يقولون: البار، فكتبها بعضهم بالياء، فرأى القارئ البير فظنها البار على لغته، فصحفها وإنما هو البئر جبار.
- باب الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: كَانُوا لا يُضَمِّنُونَ مِنَ النَّفْحَةِ، وَيُضَمِّنُونَ مِنْ رَدِّ الْعِنَانِ. وَقَالَ حَمَّادٌ: لا تُضْمَنُ النَّفْحَةُ إِلا أَنْ يَنْخُسَ إِنْسَانٌ الدَّابَّةَ، وَقَالَ شُرَيْحٌ لا تُضْمَنُ مَا عَاقَبَتْ أَنْ يَضْرِبَهَا فَتَضْرِبَ بِرِجْلِهَا. وَقَالَ الْحَكَمُ وَحَمَّادٌ: إِذَا سَاقَ الْمُكَارِى حِمَارًا عَلَيْهِ امْرَأَةٌ، فَتَخِرُّ لا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الشَّعْبِىُّ: إِذَا سَاقَ دَابَّةً فَأَتْبَعَهَا، فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَصَابَتْ، وَإِنْ كَانَ خَلْفَهَا مُتَرَسِّلا لَمْ يَضْمَنْ. / 45 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (الْعَجْمَاءُ عَقْلُهَا جُبَارٌ، وَالْبِئْرُ جُبَارٌ، وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ، وَفِى الرِّكَازِ الْخُمُسُ) . قال أبو عبيد: العجماء: الدابة، وإنما سميت عجماء لأنها لا تتكلم، وكذلك كل ما لا يقدر على الكلام فهو أعجم وأعجمى. والجُبارُ: الهدر الذى لا دية فيه، وإنما جعلت هدرًا إذا كانت منفلتة ليس لها قائد ولا راكب. قال ابن المنذر: وأجمع العلماء أنه ليس على صاحب الدابة المنفلتة ضمان فيما أصابت.(8/560)
وما ذكره البخارى عن حماد وشريح والشعبى أنهم كانوا لا يضمنون النفحة إلا أن ينخس الدابة فعليه أكثر العلماء؛ لأن ما فعلته من أداء ذلك، فإنما هو جناية راكبها أو سائقها؛ لأنه الذى ولّدَ لها ذلك. قال مالك: فإن رمت من غير أن يفعل بها شيئًا ترمح له، فلا ضمان عليه، وهو قول الكوفى والشافعى. وأما قول ابن سيرين: كانوا لا يضمنون النفحة، ويضمنون من رد العنان، فالنفحة: ما أصابت برجلها. وفرق الكوفيون ما أصابت بيدها ورجلها، فقالوا: لا يضمن ما أصابت برجلها أو ذنبها وإن كانت بسببه، ويضمن ما أصابت بيدها ومقدمها. ولم يفرق مالك والشافعى بين ما أصابت بيدها أو برجلها أو بفمها فى وجوب الضمان على الراكب والقائد والسائق إذا كان ذلك من نخسه أو كبحه. واحتج الطحاوى للكوفيين فقال: لا يمكنه التحفظ من الرجل أو الذنب فهو جبار، ويمكنه التحفظ من اليد والفم فعليه ضمانه. قالوا: وقد روى سفيان بن حسين، عن الزهرى، عن سعيد بن المسيب، عن أبى هريرة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (الرجل جبار) . قال الشافعى: وهذا الحديث غلط؛ لأن الحفاظ لم يحفظوا هكذا. قال ابن القصار: فإن صح فمعناه: الرجل جبار بهذا الحديث، وتكون اليد جبارًا قياسًا على الرجل إذا كان بغير سببه ولا صنعه،(8/561)
وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (العجماء جبار) ولم يخص يدًا من رجل، فهو على العموم. قال الشافعى: ومن اعتل أنه لا يرى رجلها فهو إذا كان سائقها لا يرى يدها فينتفى أن يلزمه فى القياس أن يضمن عن الرجل ولا يضمن عن اليد. وقول شريح: لا تضمن ما عاقبت به، فقد قيل له: وما عاقبت؟ قال: إن يضربها فتضربه. واختلفوا من هذا الباب فيما تفسده البهائم إذا انفلتت فى الليل والنهار، فقال مالك والشافعى: ما أفسدته المواشى إذا انفلتت بالنهار فليس على أهلها منه شىء إلا أن يكون صاحبها معها ويقدر على منعها، وما أفسدته بالليل فضمانه على أرباب المواشى. وقال الكوفيون: لا ضمان على أرباب البهائم فيما تفسده لا فى ليل ولا فى النهار إذا كانت منفلتة، إلا أن يكون راكبًا أو قائدًا أو سائقًا. وقال الليث: يضمن بالليل والنهار. واحتج الكوفيون بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (جرح العجماء جبار) ، وقالوا: لم يفرق بين جنايتها بالليل والنهار. وحجة القول الأول: حديث مالك، عن ابن شهاب، عن حرام بن سعيد: (أن ناقة للبراء دخلت حائط رجل فأفسدت زرعًا، فقضى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن على أرباب الثمار حفظها بالنهار، وعلى أرباب المواشى حفظها بالليل وعليهم ضمان ما أفسدت بالليل) وهذا نص فى أن ما أفسدت بالنهار لا ضمان عليهم فيه.(8/562)
قال ابن القصار: لما كان لأرباب الماشية تسريحها بالنهار وكان على أرباب الثمار حفظها بالنهار، فإذا فرطوا فى الحفظ لم يتعلق لهم على أرباب المواشى ضمان، ولما كان على أرباب المواشى حفظ مواشيهم بالليل فإن أصحاب الأموال ليس عليهم حفظ زروعهم بالليل، وفرط أهل المواشى فى ترك الحفظ لزمهم الضمان، وعلى هذا جرت العادة ورتبه النبى (صلى الله عليه وسلم) وهذا القول أولى بالصواب لوجوب الجمع بين حديث العجماء جبار وحديث ناقة البراء، وليس أحدهما أولى بالاستعمال من الآخر. ووجه استعمالهما أن يكون قوله: (العجماء جبار) فى النهار ولا يكون جبارًا فى الليل لحديث ناقة البراء. وأما قول الليث فمخالف لحديث ناقة البراء ولحديث العجماء جبار فلا وجه له.
- باب إِثْمِ مَنْ قَتَلَ ذِمِّيًّا بِغَيْرِ جُرْمٍ
/ 46 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا) . قال المهلب: هذا دليل أن المسلم إذا قتل الذمىّ فلا يقتل به؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) إنما ذكر الوعيد للمسلم وعظم الإثم فيه فى الآخرة، ولم يذكر بينهما قصاصًا فى الدنيا، وسيأتى بعد هذا. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لم يرح رائحة الجنة) معناه على الوعيد، وليس على الحتم والإلزام، وإنما هذا لمن أراد الله إنفاذ الوعيد عليه.(8/563)
قال أبو عبيد: لم يرح رائحة الجنة، ويُرِحْ ويَرَحْ من أرحت، قال أبو حنيفة: أرحت الرائحة وأرحتها ورحتها إذا وجدتها. فإن قال قائل: مامعنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا) وقد روى شعبة، عن الحكم بن عتيبة، سمعت مجاهدًا يحدث عن عبد الله بن عمرو، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (من ادعى إلى غير أبيه لم يجد رائحة الجنة، وإن ريحها يوجد من قدر مسيرة سبعين عامًا) وقد جاء حديث فى الموطأ: (كاسيات عاريات، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها يوجد من مسيرة خمسمائة عام) فما وجه اختلاف المدد فى وجود ريح الجنة؟ قيل: يحتمل والله أعلم أن تكون الأربعون هى أقصى أشد العمر فى قول أكثر أهل العلم، فإذا بلغها ابن آدم زاد عمله ويقينه، واستحكمت بصيرته فى الخشوع لله والتذلل له، والندم على ما سلف له، فكأنه وجد ريح الجنة التى تبعثه على الطاعة وتمكن من قلبه الأفعال الموصلة إلى الجنة، فبهذا وجد ريح الجنة على مسيرة أربعين عامًا. وأما السبعون فإنها آخر المعترك، وهى أعلى منزلة من الأربعين فى الاستبصار، ويعرض للمرء عندها من الخشية والندم لاقتراب أجله ما لم يعرض له قبل ذلك، وتزداد طاعته بتوفيق الله، فيجد ريح الجنة على مسيرة سبعين عامًا. وأما وجه الخمسمائة عام فهى فترة ما بين نبى ونبى، فيكون من(8/564)
جاء فى آخر الفترة واهتدى باتباع النبى (صلى الله عليه وسلم) الذى كان قبل الفترة، ولم يضره طولها فوجد ريح الجنة على مسيرة خمسمائة عام، والله أعلم.
- باب لا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ
/ 47 - فيه: أَبُو جُحَيْفَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ عَلِيًّا: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِمَّا لَيْسَ فِى الْقُرْآنِ؟ قَالَ: الْعَقْلُ، وَفِكَاكُ الأسِيرِ، وَأَنْ لا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ. ذهب جمهور العلماء إلى ظاهر الحديث، وقالوا: لا يقتل مسلم بكافر على وجه القصاص، روى ذلك عن عمر وعثمان وعلى وزيد بن ثابت، وبه قال جماعة من التابعين وهو مذهب مالك والأوزاعى والليث والثورى والشافعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور، إلا أن مالكًا والليث قالا: إن قتله غيلة قتل به، وقتل الغيلة عندهم أن يقتله على ماله كما يصنع قاطع الطريق لا يقتله لثائرة ولا عداوة. وذهب أبو حنيفة وأصحابه وابن أبى ليلى إلى أنه يقتل المسلم بالذمى، ولا يقتل بالمستأمن والمعاهد، وهو قول سعيد بن المسيب والشعبى والنخعى، وحكم المستأمن والمعاهد عندهم حكم أهل الحرب. واحتج الكوفيون بما رواه ربيعة عن ابن البيلمانى: (أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قتل رجلا من المسلمين برجل من أهل الذمة، وقال: أنا أحق من وفى بذمته) . قال ابن المنذر: وهذا حديث منقطع، وقد أجمع أهل الحديث على ترك المتصل من حديث ابن البيلمانى فكيف بالمنقطع؟(8/565)
وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يقتل المؤمن بكافر) حجة قاطعة فى هذا الباب لثباته عنه (صلى الله عليه وسلم) ، فلا معنى لمن خالفه. واحتج الكوفيون بالإجماع على أن المسلم تقطع يده إذا سرق من مال ذمى؛ فنفسه أحرى أن تؤخذ بنفسه، وهذا قياس حسن لولا أنه باطل بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يقتل مسلم بكافر) . فإن قالوا: قد قال (صلى الله عليه وسلم) : (لا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهد فى عهده) يعنى بكافر؛ لأنه معلوم أن الإسلام يحقن الدم، والعهد يحقن الدم. قيل: بهذا الحديث علمنا أن المعاهد يحرم دمه، وهى فائدة الخبر ومحال أن يأمر تعالى بقتل الكافر حيث وجد ثم يقول: إذا قتلوهم قتلوا بهم. والمعنى: لا يقتل مؤمن بكافر على العموم فى كل كافر، ولا يقتل ذو عهد فى عهده قصة أخرى، وهو عطف على (لا يقتل) لأن هذا الذى أضمر لو أظهر فقيل: لا يقتل مؤمن بكافر، ولا يقتل ذو عهد فى عهده، ولو أفرد وحده. فقيل: لا يقتل ذو عهد ولم يكن قبله كلام لكان مستقيمًا، وإنما ضم هذا الكلام إلى القصة التى قبلها والله أعلم ليعلموا حين قيل لهم لا يقتل مؤمن بكافر أنهم نهوا عن قتل ذى العهد فى عهده فاحتمل ذلك فى كل ذى عهد من أهل الذمة المقيمين فى دار الإسلام، وفيمن دخل بأمان وهو فى معنى قوله تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره) [التوبة: 6] الآية، فأعلم الله ذلك عباده. قاله إسماعيل بن إسحاق وابن القصار.(8/566)
وأما قول مالك والليث أن المسلم إذا قتل الكافر قتل غيلة قتل به، فمعنى ذلك أن قتل الغيلة إنما هو من أجل المال، والمحارب والمغتال إنما يقتلان لطلب المال لا لعداوة بينهما، فقتل العداوة والثائرة خاص وقتل المغتال عام فضرره أعظم؛ لأنه من أهل الفساد فى الأرض، وقد أباح الله قتل الذين يسعون فى الأرض بالفساد سواء قتل أو لم يقتل، فإذا قتل فقد تناهى فساده، وسواء قتل مسلمًا أو كافرًا أو حرًا أو عبدًا.
- باب إِذَا لَطَمَ الْمُسْلِمُ يَهُودِيًّا عِنْدَ الْغَضَبِ رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم)
. / 48 - فيه: أَبُو سَعِيدٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَدْ لُطِمَ وَجْهُهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ رَجُلا مِنْ أَصْحَابِكَ مِنَ الأنْصَارِ، قَدْ لَطَمَ وَجْهِى، فَقَالَ: ادْعُوهُ، فَدَعَوْهُ، فَقَالَ: أَلَطَمْتَ وَجْهَهُ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى مَرَرْتُ بِالْيَهُودِى، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: وَالَّذِى اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ، قَالَ: قُلْتُ: أَعَلَى مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) ؟ قَالَ: فَأَخَذَتْنِى غَضْبَةٌ فَلَطَمْتُهُ، قَالَ: لا تُخَيِّرُونِى مِنْ بَيْنِ الأنْبِيَاءِ، فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ، فَلا أَدْرِى أَفَاقَ قَبْلِى، أَمْ جُوزِىَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ) فيه من الفقه: أنه لا قصاص بين مسلم وكافر وهو قول جماعة الفقهاء، والدليل على ذلك من هذا الحديث أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يقاص اليهودى من لطمة المسلم له، ولو كان بينهما قصاص لبينه (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأنه بعث معلمًا وعليه فرض التبليغ.(8/567)
فإن قيل: إن الكوفيين يرون قتل المسلم بالكافر فيجب أن يكون على قولهم بينه وبين المسلم قصاص فى اللطمة. قيل: إن الكوفيين لا يرون القصاص بين المسلمين فى اللطمة ولا الأدب، إلا أن يجرحه ففيه الأرش، والكافر والمسلم أحرى ألا يرون بينهما قصاصًا، فالمسألة إجماع. قال المهلب: وفيه جواز رفع المسلم إلى السلطان بشكوى الكافر به. وفيه: خلق النبى (صلى الله عليه وسلم) وما جبله الله عليه من التواضع وحسن الأدب فى قوله: (لا تخيرونى من بين الأنبياء) فذلك كقول أبى بكر الصديق: وليتكم ولست بخيركم. وقد تقدم، فينبغى لأهل الفضل والاقتداء بالنبى (صلى الله عليه وسلم) وأبى بكر فى ذلك، فإن التواضع من أخلاق الأنبياء والصالحين. وقد روى أبو هريرة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (من أحب أن ينظر إلى تواضع عيسى ابن مريم، فلينظر إلى أبى ذر) ذكره ابن أبى شيبة. وفيه: أن العرش جسم وأنه ليس العلم كما قال سعيد بن جبير لقوله: (آخذ بقائمة من قوائم العرش) والقائمة لا تكون إلا جسمًا، ومما يؤيد هذا قوله تعالى: (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) [الحاقة: 17] ومحال أن يكون المحمول غير جسم؛ لأنه لو كان روحانيًا لم يكن فى حمل الملائكة الثمانية له عجب، ولا فى حمل واحد، فلما عجب الله تعالى بحمل الثمانية له؛ علمنا أنه جسم؛ لأن العجب فى حمل الثمانية للعرش لعظمته وإحاطته.(8/568)
64 - كِتَاب اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّينَ وَالْمُعَانِدِينَ وَقِتَالِهِمْ
- باب إِثْمِ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13] ، وَقَالَ: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر: 65] . / 1 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ: (لَمَّا نَزَلَتْ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) [الأنعام: 82] شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّهُ لَيْسَ بِذَاكَ، أَلا تَسْمَعُونَ إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ () [لقمان: 13] . / 2 - وفيه: أَبُو بَكْرَةَ قَالَ،: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ: الإشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ. . . الحديث. / 3 - وفيه: ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِى الْجَاهِلِيَّةِ؟ قَالَ: مَنْ أَحْسَنَ فِى الإسْلامِ، لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ فِى الإسْلامِ أُخِذَ بِالأوَّلِ وَالآخِرِ) . قال المؤلف: لا إثم أعظم من إثم الإشراك بالله، ولا عقوبة أعظم من عقوبته فى الدنيا والآخرة؛ لأن الخلود الأبدى فى النار لا يكون فى ذنب غير الشرك بالله تعالى ولا يحبط الإيمان غيره؛ لقوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) [النساء: 48] وإنما سمَّى الله الشرك ظلمًا؛ لأن الظلم عند العرب وضع الشىء فى(8/569)
غير موضعه؛ لأنه كان يجب عليه الاعتراف بالعبودية والإقرار بالربوبية لله تعالى حين أخرجه من العدم إلى الوجود، وخلقه من قبل ولم يك شيئًا، ومنَّ عليه بالإسلام والصحة والرزق إلى سائر نعمه التى لا تحصى. وقد ذكر بعض المفسرين فى قوله تعالى: (وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة) [لقمان: 20] أن رجلا من العباد عد نفسه فى اليوم والليلة، فوجد ذلك أربعة عشر ألف نفس، فكم يرى لله على عباده من النعم فى غير النفس مما يعلم ومما لا يعلم، ولا يهتدى إليه، وقد أخبر الله تعالى أن من بدل نعمة الله كفرًا فهو صال فى جهنم، فقال تعالى: (ألم ترى إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرًا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار) [إبراهيم: 28، 29] . قال المهلب: وأما حديث ابن مسعود فمعناه: من أحسن فى الإسلام بالتمادى عليه ومحافظته، والقيام بشروطه؛ لم يؤاخذ بما عمل فى الجاهلية، وأجمعت الأمة أن الإسلام يَجُبُّ ما قبله. وأما قوله: (من أساء فى الإسلام) فمعناه: من أساء فى عقد الإسلام والتوحيد، بالكفر بالله، فهذا يؤخذ بكل كفر سلف له فى الجاهلية والإسلام، فعرضت هذا القول على بعض العلماء فأجازوه، وقالوا: لا معنى لحديث ابن مسعود غير هذا، ولا تكون هذه الإساءة إلا الكفر؛ لأجماع الأمة أن المؤمنين لا يؤاخذون بما عملوا فى الجاهلية.(8/570)
- باب حُكْمِ الْمُرْتَدِّ وَالْمُرْتَدَّةِ وَاسْتِتَابَتْهمَا
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَالزُّهْرِىُّ وَإِبْرَاهِيمُ تُقْتَلُ الْمُرْتَدَّةُ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (كَيْفَ يَهْدِى اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ (الآيات، وَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنِ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (، [آل عمران: 100] وَقَالَ: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا (إِلَى) سَبِيلا) [النساء: 137] . وَقَالَ: (مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ (، [المائدة: 54] . وَقَالَ: (وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا (إِلَى) الْغَافِلُونَ لا جَرَمَ (، [النحل: 106] يَقُولُ حَقًّا،) أَنَّهُمْ فِى الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [النحل: 109] إِلَى) لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [النحل: 110] ،) وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا (إِلَى) خَالِدُون) [البقرة: 217] . / 4 - فيه: عِكْرِمَةَ، قَالَ: أُتِىَ عَلِىٌّ بِزَنَادِقَةٍ فَأَحْرَقَهُمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحْرِقْهُمْ لِنَهْىِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : لا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ، وَلَقَتَلْتُهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ) . / 5 - وفيه: أَبُو مُوسَى أَنَّ النبى (صلى الله عليه وسلم) بعثه إِلَى الْيَمَنِ، ثُمَّ اتَّبَعَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ إِذَا رَجُلٌ مُوثَقٌ، قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: كَانَ يَهُودِيًّا، فَأَسْلَمَ، ثُمَّ تَهَوَّدَ، قَالَ: اجْلِسْ، قَالَ: لا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ، قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ. اختلف العلماء فى استتابة المرتد، فروى عن عمر بن الخطاب(8/571)
وعثمان وعلى وابن مسعود أنه يستتاب؛ فإن تاب وإلا قتل، وهو قول أكثر العلماء. وقالت طائفة: لا يستتاب ويجب قتله حين يرتد فى الحال، روى ذلك عن الحسن البصرى وطاوس وذكره الطحاوى عن أبى يوسف، وبه قال أهل الظاهر، واحتجوا بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (من بدل دينه فاقتلوه) قالوا: ولم يذكر فيه استتابةً، وكذلك حديث معاذ وأبى موسى قتلوا المرتد بغير استتابة. قال الطحاوى: جعل أهل هذه المقالة حكم المرتد حكم الحربيين إذا بلغتهم الدعوة أنه يجب قتالهم دون أن يؤذنوا قال: وإنما تجب الاستتابة لمن خرج عن الإسلام لا عن بصيرة منه، فأما إن خرج منه عن بصيرة فإنه يقتل دون استتابة. قال أبو يوسف: إن بدر بالتوبة، خليت سبيله ووكلت أمره إلى الله تعالى. قال ابن القصار: والدليل على أنه يستتاب الإجماع، وذلك أن عمر بن الخطاب قال فى المرتد: هلا حبستموه ثلاثة أيام، وأطعتموه كل يوم رغيفًا لعله يتوب فيتوب الله عليه، اللهم لم أحضر، ولم آمر، ولم أرض إذ بلغنى. ولم يختلف الصحابة فى استتابة المرتد، فكأنهم فهموا من قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من بدل دينه فاقتلوه) ، أن المراد بذلك إذا لم يتب، والدليل على ذلك قوله تعالى: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) [التوبة: 5] فهو عموم فى كل كافر.(8/572)
وأما حديث معاذ وأبى موسى فلا حجة فيه لمن لم يقل بالاستتابة؛ لأنه روى أنه قد كان استتابه أبو موسى، روى أبو بكر بن أبى شيبة قال: حدثنا عباد بن العوام، عن سعيد، عن قتادة، عن حميد بن هلال: (أن معاذًا أتى أبا موسى وعنده يهودى أسلم، ثم ارتد، وقد استتابه أبو موسى شهرين فقال معاذ: لا أجلس حتى أضرب عنقه) . واختلفوا فى استتابة المرتدة، فروى عن على بن أبى طالب أنها لا تستتاب وتسترق، وبه قال عطاء وقتادة وروى الثورى عن بعض أصحابه، عن عاصم بن بهدلة، عن أبى رزين، عن ابن عباس قال: لا تقتل النساء إذا هن ارتددن عن الإسلام، ولكن يحبسن ويجبرن عليه. ولم يقل بهذا جمهور العلماء، وقالوا: لا فرق بين استتابة المرتد والمرتدة، وروى عن أبى بكر الصديق مثله. وشذ أبو حنيفة وأصحابه فقالوا بما روى عن ابن عباس فى ذلك، وقالوا: إن ابن عباس روى عن الرسول: (من بدل دينه فاقتلوه) ولم ير قتل المرتدة فهو أعلم بمخرج الحديث، واحتجوا بأن الرسول نهى عن قتل النساء، قالوا: والمرتدة لا تقتل، فوجب أن لا تقتل كالحربية. وحجة الجماعة أنها تستتاب قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من بدل دينه فاقتلوه) ولفظ (من) يصلح للذكر والأنثى فهو عموم يدخل فيه الرجال والنساء؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) لم يخص امرأة من رجل. قال ابن المنذر: وإذا كان الكفر من أعظم الذنوب وأجل جُرم(8/573)
اجترمه المسلمون من الرجال والنساء، ولله أحكام فى كتابه، وحدود دون الكفر ألزمها عباده، منها الزنا والسرقة وشرب الخمر وحد القذف والقصاص وكانت الأحكام والحدود التى هى دون الارتداد لازمة للرجال والنساء مع عموم قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من بدل دينه فاقتلوه) فكيف يجوز أن يفرق أحد بين أعظم الذنوب فيطرحه عن النساء ويلزمهن ما دون ذلك؟ هذا غلط بَيِّن. وأما حديث ابن عباس فإنما رواه أبو حنيفة، عن عاصم، وقد قال أحمد بن حنبل: لم يروه الثقات من أصحاب عاصم كشعبة وابن عيينة وحماد بن زيد، وإنما رواه الثورى، عن أبى حنيفة، وقد قال أبو بكر بن عياش: قلت لأبى حنيفة: هذا الذى قاله ابن عباس إنما قاله فيمن أتى بهيمة أنه لا قتل عليه، لا فى المرتدة، فتشكك فيه وتلون لم يقم به، فدل أنه خطأ. ولو صح لكان قول ابن عباس معارضه؛ لأن أبا بكر الصديق مخالف له، وقد قال: تستتاب المرتدة. ثم يرجع إلى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من بدل دينه فاقتلوه) الذى هو الحجة على كل أحد. وأما قياسهم لها على الحربية فالفرق بينهما أن الحربية إنما لم تقتل إذ لم تقاتل؛ لأن الغنيمة تتوفر بترك قتلها؛ لأنها تسبى وتسترق، والمرتدة: لا تسبى ولا تسترق، فليس فى استبقائها غنم. واختلفوا فى الزنديق هل يستتاب؟ فقال مالك والليث وأحمد وإسحاق: يقتل ولا تقبل توبته. قال مالك: والزنادقة: ما كان عليه المنافقون من إظهار الإيمان وستر الكفر.(8/574)
واختلف قول أبى حنيفة وأبى يوسف؛ فمرة قالا: يستتاب، ومرة قالا: لا يستتاب. وقال الشافعى: يستتاب الزنديق كما يستتاب المرتد. وهو قول عبيد الله بن الحسن. وذكر ابن المنذر، عن على بن أبى طالب مثله. وقيل لمالك: لم يقتل الزنديق ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يقتل المنافقين وقد عرفهم؟ فقال: لأن توبته لا تعرف، وأيضًا فإن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لو قتلهم وهم يظهرون الإيمان لكان قتلهم بعلمه، ولو قتلهم بعلمه؛ لكان ذريعة إلى أن يقول الناس قتلهم للضغائن والعداوة، ولامتنع من أراد الإسلام من الدخول فيه إذا رأى النبى (صلى الله عليه وسلم) يقتل من دخل فى الإسلام؛ لأن الناس كانوا حديث عهد بالكفر. هذا معنى قوله، وقد روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (لئلا يقول الناس أنه يقتل أصحابه) . واحتج الشافعى بقوله تعالى فى المنافقين: (واتخذوا أيمانهم جنة) [المجادلة: 16، المنافقون: 2] قال: وهذا يدل على أن إظهار الإيمان جنة من القتل وقد جعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الشهادة بالأيمان تعصم الدم والمال، فدل أن من أهل القبلة من يشهد بها غير مخلص، وأنها تحقن دمه وحسابه على الله. وقد أجمعوا أن أحكام الدين على الظاهر، وإلى الله السرائر، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) لخالد بن الوليد حين قتل الذى استعاذ بالشهادة: (هلا شققت عن قلبه) فدل أنه ليس له إلا ظاهره. قال: وأما قولهم أنه (صلى الله عليه وسلم) لم يقتل المنافقين لئلا يقولوا أنه قتلهم بعلمه وأنه يقتل أصحابه، قيل: وكذلك لم يقتلهم بالشهادة عليهم كما لم يقتلهم بعلمه، فدل أن ظاهر الإيمان جنة من القتل.(8/575)
وفى سنته (صلى الله عليه وسلم) فى المنافقين دلالة على أمور: منها: أنه لا يقتل من أظهر التوبة من كفر بعد إيمان. ومنها: أنه حقن دماءهم، وقد رجعوا إلى غير يهودية ولا نصرانية ولا دين يظهرونه، إنما أظهروا الإسلام وأسروا الكفر، فأقرهم (صلى الله عليه وسلم) على أحكام المسلمين، فناكحوهم ووارثوهم، وأسهم لمن شهد الحرب منهم، وتركوا فى مساجد المسلمين، ولا أبين كفرًا ممن أخبر الله تعالى عن كفره بعد إيمانه.
3 - باب قَتْلِ مَنْ أَبَى قَبُولَ الْفَرَائِضِ وَمَا نُسِبُوا إِلَى الرِّدَّةِ
/ 6 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمَّا تُوُفِّىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ، قَالَ عُمَرُ: يَا أَبَا بَكْرٍ، كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ؟ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَقَدْ عَصَمَ مِنِّى مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلا بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لأقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِى عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا، قَالَ عُمَرُ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلا أَنْ رَأَيْتُ أَنْ قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِى بَكْرٍ لِلْقِتَالِ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ. قال المهلب: من أبى قبول الفرائض فحكمه مختلف، فمن أبى من أداء الزكاة وهو مقر بوجوبها، فإن كان بين ظهرانى المسلمين، ولم ينصب الحرب، ولا امتنع بالسيف؛ فإنه يؤخذ من ماله جبرًا، ويدفع إلى المساكين ولا يقتل. وقال مالك فى الموطأ: الأمر عندنا فيمن منع فريضة من فرائض(8/576)
الله، فلم يستطع المسلمون أخذها منه كان حقا عليهم جهاده حتى يأخذوها منه. ومعناه: إذا أقر بوجوبها، لا خلاف فى ذلك. قال المهلب: وإنما قاتل أبو بكر الصديق الذين منعوا الزكاة؛ لأنهم امتنعوا بالسيف، ونصبوا الحرب للأمة. واجمع العلماء أن من نصب الحرب فى منع فريضة، أو منع حقا يجب عليه لآدمى أنه يجب قتاله، فإن أبى القتل على نفسه فدمه هدر. قال ابن القصار: وأما الصلاة فإن مذهب الجماعة أن من تركها عامدًا جاحدًا لها فحكمه حكم المرتد يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وكذلك جحد سائر الفرائض، وإنما اختلفوا فيمن تركها لغير عذر غير جاحد لها، وقال: لست أفعلها؛ فمذهب مالك: أن يقال له صل ما دام الوقت باقيًا من الوقت الذى ظهر عليه، فإن صلى ترك، وإن امتنع حتى خرج الوقت قتل. قال ابن القصار: واختلف أصحابنا، فقال بعضهم: يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. وقال بعضهم: يقتل؛ لأن هذا حد لله يقام عليه، لا تسقطه التوبة بفعل الصلاة وهو بذلك فاسق، كالزانى والقاتل، وليس بكافر، وبهذا قال الشافعى. قال الثورى وأبو حنيفة والمزنى: لا يقتل بوجه، ويخلى بينه وبين الله تعالى. والمعروف من مذهب الكوفييون أن الإمام يعزره حتى يصلى. وقال أحمد بن حنبل: تارك الصلاة مرتد كافر، وماله فئ لا يورث،(8/577)
ويدفن فى مقابر المشركين، وسواء ترك الصلاة جاحدًا لها أو تكاسلاً. ووافق الجماعة فى سائر الفرائض أنه إذا تركها لا يكفر. واحتج الكوفييون فقالوا: أجمع العلماء أن تارك الصلاة يؤمر بفعلها، والمرتد لا يؤمر بفعل الصلاة، وإنما يؤمر بالإسلام ثم بالصلاة. واحتجوا بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (خمس صلوات كتبهن الله على عباده، فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئًا استخفافًا بحقهن كان له عند الله عهد إن شاء عذبه، وإن شاء أدخله الجنة) فدل أنه ليس بكافر، لأن الكافر لا يدخل الجنة، وحجة القول الأول قوله تعالى: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) [التوبة: 5] فأمر بقتلهم إلا أن يتوبوا، والتوبة هى اعتقاد الإيمان الذى من جملته اعتقاد وجوب الصلاة وسائر العبادات. ألا ترى إلى قول أبى بكر الصديق: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة. فلم ينكر ذلك عليه أحد، ولا قالوا: لا تشبه الصلاة الزكاة. وروى جابر عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (بين الإيمان والكفر ترك الصلاة، فمن تركها فقد كفر) . والرد على أحمد بن حنبل من قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له) وقد ثبت أن الكافر يدخل النار لا محالة، فلا يجوز أن يقال فيه مثل هذا، فعلمنا أنه (صلى الله عليه وسلم) قصد من تركها وهو معتقد لوجوبها لا جاحدًا؛ لأن الجاحد يدخل النار لا محالة، ولا حجة لأحمد فى إباءة إبليس من السجود وصار بذلك كافرًا؛ لأنه عاند الله(8/578)
واستكبر، ورد على الله أمره فجاهر بالمعصية لله، فهو أشد من الجاحد أو مثله؛ لأنه جحدها واستيقنتها نفسه. وقال ابن أبى زيد: الدليل على أن تارك الفرائض غير جاحد لها فاسق وليس بكافر؛ إجماع الأمة أنهم يصلون عليه، ويورث بالإسلام، ويدفن مع المسلمين. وروى عيسى، عن ابن القاسم، عن مالك أنه قال: من قال: لا أحج فلا يجبر على ذلك، وليس كمن قال: لا أتوضأ، ولا أصوم رمضان، فإن هذا يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، كقوله: لا أصلى. قال المهلب: والفرق بين الحج وسائر الفرائض أن الحج لا يتعلق وجوبه بوقت معين، وإنما هو على التراخى والإمهال إلى الاستطاعة، وذلك موكول إلى دين المسلم وأمانته، فلو لزم فيه الفور لقيده الله بوقت كما قيد الصلاة والصيام بأوقات. ومما يدل أن الحج ليس على الفور، وغير لازم فى الفروض الموقتة، ألا ترى أن المصلى لا تلزمه الصلاة عند زوال الشمس، وهو فى سعة عن الفور إلى أن يدرك ركعة من آخر وقتها ولم يكن بتأخيرها عن أول وقتها مضيعًا، كذلك فيما لم يوقت له وقت أولى بالإمهال والتراخى، والله الموفق. وميراث المرتد مذكور فى كتاب الفرائض، وأما حكم ولد المرتد فلا يخلو أن يكون ولده صغيرًا أو كبيرًا، فإن كان كبيرًا فحكمه حكم نفسه لا حكم أبيه، وكذلك إن كان صغيرًا لم يبلغ؛ لأنه قد صح له عقد الإسلام إذا ولد وأبوه مسلم، فلا يكون مرتدا بارتداد أبيه، ولا أعلم فى ذلك خلافًا، فإن ادعى الكفر عند بلوغه استتيب، فإن(8/579)
تاب وإلا قتل، وقد تقدم فى كتاب الزكاة وجه استرقاق الصديق لورثتهم وسبيهم، وحكم عمر برد سبيهم إلى عشائرهم، ومذهب العلماء فى ذلك.
4 - باب إِذَا عَرَّضَ الذِّمِّىُّ وَغَيْرُهُ بِسَبِّ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَلَمْ يُصَرِّحْ نَحْوَ قَوْلِهِ السَّامُ عَلَيْكم
/ 7 - فيه: أَنَسِ: مَرَّ يَهُودِيٌّ بِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: السَّامُ عَلَيْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : وَعَلَيْكَ، ثُمَّ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا يَقُولُ؟ قَالَ: السَّامُ عَلَيْكَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلا نَقْتُلُهُ؟ قَالَ: لا، إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ) . / 8 - وفيه: عَائِشَةَ اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ، فَقُلْتُ: بَلْ عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِى الأمْرِ كُلِّهِ، قُلْتُ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ) . / 9 - وفيه: ابْنَ عُمَرَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ الْيَهُودَ إِذَا سَلَّمُوا عَلَى أَحَدِكُمْ، إِنَّمَا يَقُولُونَ: سَامٌ عَلَيْكَ، فَقُلْ: عَلَيْكَ) . / 10 - وفيه: ابْنِ مَسْعُودٍ كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) يَحْكِى نَبِيًّا مِنَ الأنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ، فَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَيَقُولُ: رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِى، فَإِنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ. اختلف العلماء فيمن سب النبى (صلى الله عليه وسلم) فروى ابن القاسم عن مالك أنه من سبه (صلى الله عليه وسلم) من اليهود والنصارى قتل إلا أن(8/580)
يسلم، فأما المسلم فيقتل بغير استتابة، وهو قول: الليث والشافعى وأحمد وإسحاق، عن ابن المنذر. وروى الوليد بن مسلم، عن الأوزاعى ومالك فيمن سب النبى (صلى الله عليه وسلم) قالا: هى ردة يستتاب منها فإن تاب نكل، وإن لم يتب قتل. وقال الكوفيون: من سب النبى (صلى الله عليه وسلم) أو عابه فإن كان ذميا عزر ولم يقتل. وهو قول الثورى وأبى حنيفة وإن كان مسلمًا صار مرتدًا يقتل ولم يقتلهم النبى (صلى الله عليه وسلم) بذلك؛ لأن ما هم عليه من الشرك أعظم من سبه (صلى الله عليه وسلم) . وحجة من رأى القتل على الذمى بسبه أنه قد نقض العهد الذى حقن دمه؛ إذا لم يعاهد على سبه، فلما تعدى عهده عاد إلى حال كافر لا عهد له فوجب قتله إلا أن يسلم؛ لأن القتل إنما كان وجب عليه من أجل نقضه للعهد الذى هو من حقوق الله، فإذا أسلم ارتفع المعنى الذى من أجله وجب قتله. وقال محمد بن سحنون: وقولهم إن من دينهم سب النبى (صلى الله عليه وسلم) فيقال لهم: وكذلك من دينهم قتلنا وأخذ أموالنا، فلو(8/581)
قتل واحدًا منا لقتلناه لأنا لم نعطهم العهد على ذلك، وكذلك سبه (صلى الله عليه وسلم) إذا أظهر. فإن قيل: فهو إذا أسلم وقد سب النبى (صلى الله عليه وسلم) تركتموه، وإذا أسلم وقد قتل مسلمًا قتلتموه. قيل: لأن هذا من حقوق العباد لا يزول بإسلامه، وذلك من حقوق الله يزول بالتوبة من دينه إلى ديننا، وحجة أخرى وهو أن الرسول قال: (من لكعب بن الأشرف؛ فإنه قد آذى الله ورسوله) فقتله محمد بن مسلمة، والسب من أعظم الأذى، وكذلك قتل (صلى الله عليه وسلم) ابن خطل يوم فتح مكة والقينتين اللتين كانتا تغنيان بسبه، ولم ينفع ابن خطل استعاذته بالكعبة. وقال محمد بن سحنون: وفرقنا بين من سب النبى (صلى الله عليه وسلم) من المسلمين، وبين من سبه من الكفار، فقتلنا المسلم ولم نقبل توبته؛ لأنه لم ينتقل من دينه إلى غيره، إنما فعل شيئًا حده عندنا القتل، ولا عفو فيه لأحد، فكان كالزنديق الذى لا تقبل توبته؛ لأنه لم ينتقل من ظاهر إلى ظاهر، والكتابى كان على الكفر، فلما انتقل إلى الإسلام بعد أن سب النبى (صلى الله عليه وسلم) غفر له ما قد سلف، كما قال تعالى: (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) [الأنفال: 38] . قال غيره: فقياس الكوفيين المسلم إذا سب النبى (صلى الله عليه وسلم) على المرتد خطأ؛ لأن المرتد كان مظهرًا لدينه فتصح استتابته، والمسلم لا يجوز له إظهار سب النبى (صلى الله عليه وسلم) وإنما يكون مستترًا به؛ فكيف تصح له توبة؟(8/582)
وقال ابن القاسم، عن مالك: كذلك من شتم نبيا من الأنبياء، أو تنقصه قتل ولم يستتب، كمن شتم نبينا) لا نفرق بين أحد من رسله) [الأحقاف: 35] وكذلك حكم الذمى إذا شتم أحدًا منهم يقتل إلا أن يسلم، وهذا كله قول مالك وابن القاسم وابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ. قال أهل هذه المقالة: إنما ترك النبى (صلى الله عليه وسلم) قتل اليهودى الذى قال له: السام عليك، كما ترك قتل المنافقين وهو يعلم نفاقهم، ولا حجة للكوفيين فى أحاديث هذا الباب. وأما حديث ابن مسعود فى الذين ضربوا النبى (صلى الله عليه وسلم) وأدموه، فإنهم كانوا كفارًا، والأنبياء عليهم السلام شأنهم الصبر على الأذى قال الله تعالى لنبيه: (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل) [الأحقاف: 35] فلا حجة للكوفيين فيه.
5 - باب قَتْلِ الْخَوَارِجِ وَالْمُلْحِدِينَ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ) [التوبة: 115] . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَرَاهُمْ شِرَارَ خَلْقِ اللَّهِ، وَقَالَ: إِنَّهُمُ انْطَلَقُوا إِلَى آيَاتٍ نَزَلَتْ فِى الْكُفَّارِ، فَجَعَلُوهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. / 11 - فيه: عَلِىٌّ، رَضِى اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حَدِيثًا فَوَاللَّهِ لأنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ أَنْ أَكْذِبَ عَلَيْهِ، وَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ، فَإِنَّ الْحَرْبَ خِدْعَةٌ، وَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ:(8/583)
(سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِى آخِرِ الزَّمَانِ أَحْدَاثُ الأسْنَانِ، سُفَهَاءُ الأحْلامِ، يَقُولُونَ: مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، لا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِى قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . / 12 - وفيه: أَبِو سَلَمَةَ، وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ (أَنَّهُمَا أَتَيَا أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ فَسَأَلاهُ عَنِ الْحَرُورِيَّةِ، أَسَمِعْتَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ؟ فَقَالَ: لا أَدْرِى مَا الْحَرُورِيَّةُ؟ سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: يَخْرُجُ فِى هَذِهِ الأمَّةِ، وَلَمْ يَقُلْ: مِنْهَا، قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلاتَكُمْ، مَعَ صَلاتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ حُلُوقَهُمْ، أَوْ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَيَنْظُرُ الرَّامِى إِلَى سَهْمِهِ، إِلَى نَصْلِهِ، إِلَى رِصَافِهِ، فَيَتَمَارَى فِى الْفُوقَةِ هَلْ عَلِقَ بِهَا مِنَ الدَّمِ شَىْءٌ) . / 13 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَذَكَرَ الْحَرُورِيَّةَ، فَقَالَ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَمْرُقُونَ مِنَ الإسْلامِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ) . قال المهلب وغيره: أجمع العلماء أن الخوارج إذا خرجوا على الإمام العدل وشقوا عصا المسلمين ونصبوا راية الخلاف؛ أن قتالهم واجب وأن دماءهم هدر، وأنه لا يتبع منهزمهم ولا يجهز على جريحهم. قال مالك: إن خيف منهم عودة أجهز على جريحهم وأتبع مدبرهم، وإنما يقاتلون من اجل خروجهم على الجماعة. قال الطبرى: والدليل على ذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) إنما أذن فى قتلهم عند خروجهم لقوله: (يخرج فى آخر الزمان قوم سفهاء الأحلام.(8/584)
ثم قال: فأينما لقيتموهم فاقتلوهم) فبان بذلك أنه لا سبيل للإمام على من كان يعتقد الخروج عليه أو يظهر ذلك بقول، ما لم ينصب حربًا أو يخف سبيلا. وقال: هذا إجماع من سلف الأمة وخلفهم. وقد سئل الحسن البصرى عن رجل كان يرى رأى الخوارج، فقال الحسن: العمل أملك بالناس من الرأى إنما يجازى الله الناس بالأعمال. قال الطبرى: وهذا الذى قاله الحسن عندنا إنما هو فيما كان من رأى لا يخرج صاحبه من ملة الإسلام، فأما الرأى الذى يخرجه من ملة الإسلام، فإن الله قد أخبر أنه يحبط عمل صاحبه. وأما قوله: (يمرقون من الدين) فالمروق عند أهل اللغة الخروج يقال: مرق من الدين مروقًا خرج ببدعة أو ضلالة، ومرق السهم من الغرض إذا أصابه ثم نقره، ومنه قيل للمرق مرق لخروجه. وجمهور العلماء على أنهم فى خروجهم ذلك غير خارجين من جملة المؤمنين لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ويتمارى فى الفوق) لأن التمارى الشك، وإذا وقع الشك فى ذلك لم يقطع عليهم بالخروج الكلى من الإسلام، لأن من ثبت له عقد الإسلام بيقين لم يحكم له بالخروج منه إلا بيقين، وقد روى عن على بن أبى طالب من طرق، أنه سئل عن أهل النهروان: أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا. قيل: فمنافقون؟ قال: المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلا. قيل: فما هم؟ قال: هم قوم ضل سعيهم، وعموا عن الحق، بغوا علينا فقاتلناهم.(8/585)
وروى وكيع، عن مسعر، عن عامر بن شقيق عن أبى وائل، عن على قال: لم نقاتل أهل النهروان على الشرك. وقول ابن عمر: (إنهم عمدوا إلى آيات فى الكفار فجعلوها فى المؤمنين) يدل أنهم ليسوا كفارًا؛ لأن الكافر لا يتأول كتاب الله؛ بل يرده ويكذب به. وقال أشهب: وقعت الفتنة وأصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) متوافرون فلم يروا على من قاتل على تأويل القرآن قصاصًا فى قتل، ولا حدا فى وطء. وبهذا قال مالك وابن القاسم، وخالف ذلك أصبغ وقال: يقتل من قتل إن طلب ذلك وليه كاللص يتوب قبل أن يقدر عليه. وهذا خلاف للصحابة ولقول مالك وجميع أصحابه. قال مالك: وما وجه أحد من ماله بعينه عندهم أخذه. وهو قول الكوفيين والأوزاعى والشافعى، وقد روى عن بعض أهل الكلام وأهل الحديث أن أهل البدع كفار ببدعتهم، وهو قول أحمد بن حنبل، وأئمة الفتوى بالأمصار على خلاف هذا، فإن احتج من قال بكفرهم بقول أبى سعيد الخدرى: (يخرج فى هذه الأمة) ولم يقل: (منها) فدل أنهم ليسوا من جملة المؤمنين. فيقال لهم قد روى فى حديث أبى سعيد أنه (صلى الله عليه وسلم) قال: (يخرج من أمتى قوم) . روى مسدد قال: حدثنا عبد الواحد قال: حدثنا مجالد، حدثنا أبو الوداك جبر بن نوف قال: سمعت أبا سعيد الخدرى يقول: قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (يخرج قوم من المؤمنين عند فرقة، أو اختلاف، من الناس، يقرءون القرآن كأحسن ما يقرؤه(8/586)
الناس، ويرعونه كأحسن ما يرعاه الناس، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية. .) وذكر الحديث. قال ابن القاسم فى العتبية: أما أهل الأهواء الذين على الإسلام العارفون بالله مثل القدرية والإباضية وما أشبهها ممن هو على خلاف ما عليه جماعة المسلمين من البدع والتحريف لتأويل كتاب الله فإنهم يستتابون، أظهروا ذلك أم أسروا، فإن تابوا وإلا قتلوا، وبذلك عمل عمر بن عبد العزيز، ومن قتل منهم فميراثه لورثته؛ لأنهم مسلمون، وهذا إجماع، وإنما قتلوا لرأيهم السوء. وذكر ابن المنذر عن الشافعى أنه قال: لا يستتاب القدرى. وذم الكلام ذمًا شديدًا، وقال: لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك خير له من أن يلقاه بشىء من الأهواء. وقال عبد الرحمن بن مهدى: ما كنت لأعرض أحدًا من أهل الأهواء على السيف إلا الجهمية فإنهم يقولون قولاً منكرًا. وسئل سحنون عن قول مالك فى أهل الأهواء: لا يصلى عليهم، فقال: لا أرى ذلك، ويصلى عليهم، ومن قال: لا يصلى عليهم كفرهم بذنوبهم، وإنما قال مالك: لا يصلى عليهم أدبًا لهم. قيل له: فيستتابون، فإن تابوا وإلا قتلوا كما قال مالك؟ قال: أما من كان بين أظهرنا وفى جماعة أهل السنة فلا يقتل، وإنما الشأن فيه أن يضرب مرة بعد أخرى، ويحبس وينهى الناس عن مجالسته والسلام عليه تأديبًا له، كما فعل عمر بضبيع خلى عنه بعد أدبه، ونهى الناس عنه. فقد مضت السنة فيمن لم يبن من عمر وقضت فيمن بان من أبى(8/587)
بكر الصديق، رضى الله عنهما، قيل له: هؤلاء الذين نصبوا الحرب، وبانوا عن الجماعة وقتلهم الإمام هل يصلى عليهم؟ قال: نعم، وهم من المسلمين، وليس بذنوبهم التى استوجبوا بها القتل ترك الصلاة عليهم، ألا ترى أن المحصن الزانى والمحارب والقاتل عمدًا قد وجب عليهم القتل ولا تترك الصلاة عليهم. قيل له: فما تقول فى الصلاة خلف أهل البدع؟ قال: لا تعاد فى وقت ولا بعده، وبذلك يقول أصحاب مالك: أشهب، والمغيرة وغيرهما، وإنما يعيد الصلاة من صلى خلف نصرانى، وهذا مسلم فكما تجوز صلاته لنفسه كذلك تجوز لغيره إذا صلى خلفه، وأما النصرانى فلا تجوز صلاته لنفسه فكذلك لا تجوز لغيره، ومن يوجب الإعادة أبدًا أنزله بمنزلة النصرانى، وركب قياس قول الإباضية والحرورية الذين يكفرون الناس بالذنوب. وقد تقدم فى كتاب الصلاة فى باب (إمامة المفتون والمبتدع) الاختلاف والصلاة خلفهم. واختلفوا فى رد شهادتهم، فذكر ابن المنذر عن شريك أنه لا تجوز شهادة أهل الأهواء: الرافضة، والخوارج، والقدرية، والمرجئة، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور. وقال مالك: لا تجوز شهادة القدرية. وقال أبو عبيد: البدع والأهواء كلها نوع واحد فى الضلال، كما قال ابن مسعود: كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة فى النار. فلا أرى لأحد منهم شهادة إذا ظهر فيها غلوه وميله عن السنة للآثار(8/588)
المتواترة، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) فى الخوارج: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) . وقال فيهم سعد: أولئك قوم زاغوا فأزاغ الله قلوبهم. وقال حذيفة: الذين يقولون: الإيمان قول بلا عمل؛ لا حظ لهم فى الإسلام. وقال أبو هريرة: القدرية هم نصارى هذه الأمة ومجوسها. وأجازت طائفة شهادة أهل الأهواء إذا لم يستحل الشاهد منهم شهادة الزور، هذا قول ابن أبى ليلى والثورى وأبى حنيفة والشافعى. قال الشافعى: لا أراد شهادة أحد بشىء من التأويل له وجه يحتمله، إلا أن يكون منهم الرجل يباين المحالف له مباينة العداوة فأرده من جهة العدواة. قال: وشهادة من يرى إنفاذ الوعيد خير من شهادة من يستخف بالذنوب. وقال أبو حنيفة: كل من نسب إلى هوى فعرف بالمجانة والفسق فأرده للمجانة التى ظهرت فيه. وأما قوله: (يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم) فمعناه أنهم لما تأولوه على غير تأويله لم يرتفع إلى الله، ولا أثابهم عليه؛ إذ كانت أعمالهم له مخالفة بسفك دماء من حرم الله دمه وإخافتهم سبلهم، ويشهد لهذا قوله تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه (فبان أن الكلام الطيب يرتفع إلى الله إذا صحبه عمل(8/589)
صالح يصدقه، ومتى خالفه العمل لم يعتد بالقول، ولا كان لقائله فيه غير العناء، وهذا يدل أن الإيمان قول وعمل. وأما قول على: (إذا حدثتكم فيما بينى وبينكم فإن الحرب خدعة) فإنما قال ذلك على فى وقت خروجه للخوارج. ومعنى ذلك أن المعاريض جائزة على ما جاء عن عمر أنه قال: فى المعاريض مندوحة عن الكذب. وليس فى هذا جواز إباحة الكذب الذى هو خلاف الحق؛ لأن ذلك منهى عنه فى الكتاب والسنة، وإنما رخص فى الحرب وغيره فى المعاريض فقط؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (إياكم والكذب فإنه يهدى إلى الفجور، والفجور يهدى إلى النار) وقد تقدم فى كتاب الصلح فى باب ليس الكاذب الذى يصلح بين الناس مذاهب العلماء فيما يجوز من الكذب وما لا يجوز، وتقدم منه شىء فى باب الكذب فى الحرب فى كتاب الجهاد، وسيأتى فى باب المعاريض مندوحة عن الكذب فى كتاب الأدب مما يقتضيه التبويب، إن شاء الله تعالى. وأما قول البخارى: باب قتال الخوارج بعد إقامة الحجة عليهم فمعناه أنه لا يجب قتال خارجى ولا غيره إلا بعد الإعذار إليه، ودعوته إلى الحق، وتبيين ما ألبس عليه، فإن أبى من الرجوع إلى الحق وجب قتاله بدليل قوله تعالى: (وما كان الله ليضل قومًا بعد إذا هداهم حتى يبين لهم ما يتقون) [التوبة: 115] فوجب التأسى به تعالى فيمن وجب قتاله أن يبين له وجه الصواب ويدعى إليه. والنصل: حديدة السهم. والرصاف: العقب الذى فوق مدخل السهم. والفوقة والفوق من السهم: موضع الوتر.(8/590)
6 - باب مَنْ تَرَكَ قِتَالَ الْخَوَارِجِ لِلتَّأَلُّفِ، وَأَلاَّ يَنْفِرَ النَّاسُ عَنْهُ
/ 14 - فيه: أَبِى سَعِيدٍ: (بَيْنَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَقْسِمُ، جَاءَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ ذِى الْخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِىُّ، فَقَالَ: اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: وَيْلَكَ، وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ؟ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ دَعْنِى أَضْرِبْ عُنُقَهُ، قَالَ: دَعْهُ، فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاتَهُ مَعَ صَلاتِهِ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يُنْظَرُ فِى قُذَذِهِ فَلا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِى نَصْلِهِ فَلا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِى رِصَافِهِ فَلا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِى نَضِيِّهِ فَلا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ، آيَتُهُمْ رَجُلٌ إِحْدَى يَدَيْهِ، أَوْ قَالَ: ثَدْيَيْهِ مِثْلُ ثَدْىِ الْمَرْأَةِ، أَوْ قَالَ: مِثْلُ الْبَضْعَةِ، تَدَرْدَرُ، يَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ) . قال أبو سعيد: أشهد سمعت من النبى، عليه السلام، وأشهد أن عليًا قتلهم وأنا معه، حتى جىء بالرجل على النعت الذى نعت رسول الله، فنزلت فيهم: (ومنهم من يلمزك فى الصدقات) [التوبة: 58] . / 15 - وفيه: سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ سئل: (هَلْ سَمِعْتَ فِى الْخَوَارِجِ شَيْئًا؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ وَأَهْوَى بِيَدِهِ قِبَلَ الْعِرَاقِ: يَخْرُجُ مِنْهُ قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإسْلامِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ) . لا يجوز ترك قتال من خرج على الأمة وشق عصاها. وأما ذو الخويصرة، فإنما ترك النبى (صلى الله عليه وسلم) قتله؛ لأنه عذره بجهله، وأخبر أنه من قوم يخرجون ويمرقون من الدين، فإذا خرجوا وجب قتالهم.(8/591)
وقد أخبرت عائشة أنه (صلى الله عليه وسلم) كان لا ينتقم لنفسه، إلا أن تنتهك حرمة الله، وكان يعرض عن الجاهلين. وقد وصف الله كرم خلقه (صلى الله عليه وسلم) فقال: (وإنك لعلى خلق عظيم) [القلم: 4] . قال المهلب: والتآلف إنما كان فى أول الإسلام؛ إذ كان بالناس حاجة إلى تألفهم لدفع مضرتهم ولمعونتهم، فأما إذا علىَّ الله الإسلام ورفعه على غيره فلا يجب التألف، إلا أن ينزل بالناس ضرورة يحتاج فيه إلى التألف. وقد تقدم. والمروق: الخروج، وقد تقدم. والرمية: الطريدة المرمية. فعيلة بمعنى مفعولة، يقال: شاة رمى: إذا رميت، ويقال: بئس الرمية الأرنب. فيدخل الهاء. والقذذ: ريش السهم، كل واحدة قذة، وقال ثابت: قذتا الجناحين: جانباه. وقال أبو حاتم: القذتان: الأذنان. وأما النضى: فإن أبا عمرو الشيبانى قال: هو نصل السهم. وقال الأصمعى: هو القدح قبل أن ينحت، فإذا نحت فهو مخشوب. والحديث يدل أن القول قول الأصمعى؛ لأنه ذكر النصل قبل النضى فى الحديث. قوله: (يسبق الفرث والدم) يعنى أنه مر مرا سريعًا فى الرمية وخرج، ولم يعلق به من الفرث والدم شىء، فشبه خروجهم من الدين ولم يتعلق منه شىء بخروج ذلك السهم. وقوله: تدردر: يعنى تضطرب، تذهب وتجئ، ومثله تذبذب وتقلقل وتزلزل. الخطبى. ومنه دردور الماء.(8/592)
7 - باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَقْتَتِلَ فِئَتَانِ دَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ
/ 16 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النبى (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ دَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ) . هذا إخبار عن الغيب وحدوث الفتنة وقتال المسلمين بعضهم لبعض، ويحتمل أن يكون معنى قوله: (دعواهما واحدة) :: دينهما واحد، ويحتمل أن يكون دعواهما واحدة فى الحق عند أنفسهما واجتهادهما، ويقتل بعضهم بعضًا، وقد جاء فى الكتاب والسنة الأمر بقتال الفئة الباغية إذا تبين بغيها، قال تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى. . .) [الحجرات: 9] الآية. قال ابن أبى زيد: قال من لقينا من العلماء: معنى ذلك: إذا بغت قبيلة فقاتلتها حمية وعصبية وفسقًا وفخرًا بالأنساب وغيرها من الثائرة؛ رغبة عن حكم الإسلام فعلى الإمام أن يفرق جماعتهم، فإن لم يقدر فليقاتل من تبين له أنه ظالم لصاحبه، وحلت دماؤهم حتى يقهروا، فإن تحققت الهزيمة عليهم وأيس من عودتهم فلا يقتل منهزمهم، ولا يجهز على جريحهم، وإن لم تستحق الهزيمة ولم يؤمن رجوعهم؛ فلا بأس أن يقتل منهزمهم وجريحهم ولا بأس أن يقتل الرجل فى القتال معهم أخاه وقرابته وجده لأبيه وأمه، فأما الأب فلا.(8/593)
وقال أصبغ: يقتل أباه وأخاه، ولا تصاب أموالهم ولا حرمهم، فإن قدر الإمام على كف الطائفتين بترك القتال فلكل فريق طلب الفريق الآخر بما جرى بينهم فى ذلك من دم ومال، ولا يهدر شىء من ذلك بخلاف ما كان على تأويل القران. وقال بعضه ابن حبيب.
8 - باب مَا جَاءَ فِى الْمُتَأَوِّلِينَ
/ 17 - فيه: عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، يَقُولُ: أَنَّه سَمِع هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِى حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ، فَإِذَا هُوَ يَقْرَؤُهَا عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ، لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَذَلِكَ، فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِى الصَّلاةِ، فَانْتَظَرْتُهُ حَتَّى سَلَّمَ، ثُمَّ لَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ، أَوْ بِرِدَائِى، فَقُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ؟ قَالَ: أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، قُلْتُ لَهُ: كَذَبْتَ، فَوَاللَّهِ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، أَقْرَأَنِى هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِى سَمِعْتُكَ تَقْرَؤُهَا، فَانْطَلَقْتُ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ بِسُورَةِ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا، وَأَنْتَ أَقْرَأْتَنِى سُورَةَ الْفُرْقَانِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : أَرْسِلْهُ يَا عُمَرُ، اقْرَأْ يَا هِشَامُ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِى سَمِعْتُهُ يَقْرَؤُهَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : هَكَذَا أُنْزِلَتْ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : اقْرَأْ يَا عُمَرُ، فَقَرَأْتُ، فَقَالَ: هَكَذَا أُنْزِلَتْ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ. / 18 - وفيه ابْنِ مَسْعُودٍ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) [الأنعام: 82] شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : لَيْسَ كَمَا تَظُنُّونَ إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ: (يَا بُنَىَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13] . / 19 - وفيه: عِتْبَانَ: (غَدَا عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ رَجُلٌ: أَيْنَ مَالِكُ بْنُ الدُّخْشُنِ؟(8/594)
فَقَالَ رَجُلٌ مِنَّا: ذَلِكَ مُنَافِقٌ لا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : أَلا تَقُولُوهُ يَقُولُ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، يَبْتَغِى بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّهُ لا يُوَافَى عَبْدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِهِ إِلا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّارَ) . / 20 - وفيه: أَبُو عَبْدِالرَّحْمَنِ وَحِبَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ، أَنهما تَنَازَع فَقَالَ أَبُو عَبْدِالرَّحْمَنِ لِحِبَّانَ: لَقَدْ عَلِمْتُ مَا الَّذِى جَرَّأَ صَاحِبَكَ عَلَى الدِّمَاءِ، يَعْنِى عَلِيًّا، قَالَ: مَا هُوَ لا أَبَا لَكَ؟ قَالَ: شَيْءٌ سَمِعْتُهُ يَقُولُهُ، قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: بَعَثَنِى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَالزُّبَيْرَ وَأَبَا مَرْثَدٍ وَكُلُّنَا فَارِسٌ، قَالَ: انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ حَاجٍ، قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: هَكَذَا قَالَ أَبُو عَوَانَةَ: حَاجٍ، فَإِنَّ فِيهَا امْرَأَةً مَعَهَا صَحِيفَةٌ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِى بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، فَأْتُونِى بِهَا، فَانْطَلَقْنَا عَلَى أَفْرَاسِنَا حَتَّى أَدْرَكْنَاهَا حَيْثُ قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، تَسِيرُ عَلَى بَعِيرٍ لَهَا، وَقَدْ كَانَ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ بِمَسِيرِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِلَيْهِمْ، فَقُلْنَا: أَيْنَ الْكِتَابُ الَّذِى مَعَكِ؟ قَالَتْ: مَا مَعِى كِتَابٌ، فَأَنَخْنَا بِهَا بَعِيرَهَا، فَابْتَغَيْنَا فِى رَحْلِهَا، فَمَا وَجَدْنَا شَيْئًا، فَقَالَ صَاحِبَاىَ: مَا نَرَى مَعَهَا كِتَابًا، قَالَ: فَقُلْتُ: لَقَدْ عَلِمْنَا مَا كَذَبَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ حَلَفَ عَلِىٌّ، وَالَّذِى يُحْلَفُ بِهِ لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ، أَوْ لأجَرِّدَنَّكِ، فَأَهْوَتْ إِلَى حُجْزَتِهَا، وَهِىَ مُحْتَجِزَةٌ بِكِسَاءٍ، فَأَخْرَجَتِ الصَّحِيفَةَ، فَأَتَوْا بِهَا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، دَعْنِى فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : يَا حَاطِبُ، مَا حَمَلكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لِى أَنْ لا أَكُونَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَكِنِّى أَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ لِى عِنْدَ الْقَوْمِ يَدٌ يُدْفَعُ بِهَا عَنْ أَهْلِى وَمَالِى، وَلَيْسَ مِنْ أَصْحَابِكَ أَحَدٌ إِلا لَهُ هُنَالِكَ مِنْ قَوْمِهِ مَنْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ، قَالَ: صَدَقَ، لا تَقُولُوا، لَهُ: إِلا خَيْرًا، قَالَ: فَعَادَ عُمَرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، دَعْنِى فَلأضْرِبْ عُنُقَهُ، قَالَ: أَوَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ؟ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شىءتُمْ، فَقَدْ أَوْجَبْتُ لَكُمُ الْجَنَّةَ، فَاغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) . قال المهلب وغيره: لا خلاف بين العلماء أن كل متأول معذور بتأوله غير مأثوم فيه إذا كان تأويله ذلك مما يسوغ ويجوز فى لسان(8/595)
العرب، أوكان له وجه فى العلم؛ ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يعنف عمر فى تلبيبه لهشام مع علمه بثقته وعذره فى ذلك لصحة مراد عمر واجتهاده. وأما حديث ابن مسعود فإن الرسول عذر أصحابه فى تأويلهم الظلم فى الآية بغير الشرك لجواز ذلك فى التأويل. وأما حديث ابن الدخشن فإنهم استدلوا على نفاقه بصحبته للمنافقين ونصيحته، لهم فعذرهم النبى (صلى الله عليه وسلم) باستدلالهم، وكذلك حديث حاطب عذره النبى (صلى الله عليه وسلم) فى تأويله، وشهد بصدقه. وقد تقدم فى الجهاد فى باب الجاسوس، فأغنى عن ذكره وسيأتى فى كتاب الاستئذان فى باب من نظر فى كتاب من يحذر على المسلمين ليستبين أمره إن شاء الله تعالى. وقول أبى عبد الرحمن: (لقد علمت ما الذى جرأ صاحبكم على الدماء) يعنى عليا، فإنه أراد قول النبى (صلى الله عليه وسلم) لأهل بدر: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) فكأنه أنس بهذا القول، فاجترأ بذلك على الدماء، ولا يجوز أن يظن بعلى أنه اجترأ على هذا دون أن يعطيه ذلك صحيح التأويل والاجتهاد. وإن كان قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لعل الله اطلع على أهل بدر) دليل ليس بحتم، ولكنه على أغلب الأحوال، وينبغى أن نحسن بالله الظن فى أهل بدر وغيرهم من أهل الطاعات. وقد اعترض بعض أهل البدع بهذا الحديث على قصة مسطح حين(8/596)
جلد فى قذف عائشة وكان بدريا مغفورًا له، قالوا: وكان ينبغى ألا يحد لذلك كما لم يعاقب حاطب؛ لأنه كان بدريا مغفورًا له. فأجاب فى ذلك أبو بكر بن الطيب الباقلانى، وقال: المراد بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) أنه غفر لهم عقاب الآخرة ولم يرد بذلك أنه غفر لهم عقاب الدنيا. وقد أجمعت الأمة أن كل من ركب من أهل بدر ذنبًا بينه وبين الله فيه حد، أو بينه وبين الخلق من القذف أو الجرح أو القتل فإنه عليه فيه الحد والقصاص. وليس يدل عقاب العاصى فى الدنيا وإقامة الحدود عليه على أنه معاقب فى الآخرة لقوله (صلى الله عليه وسلم) فى ماعز والغامدية: (لقد تابوا توبة لو قسمت على أهل الأرض لوسعتهم) لأن موضع الحدود أنها للردع، والزجر، وحقن الدماء، وحفظ الحريم وصيانة الأموال، وليس فى عقاب النار شىء من ذلك. فبطل قول من قال: إنه كان ينبغى أن يسقط الحد عن مسطح لكونه بدريا مغفورًا له؛ لأن الخبر عن غفران ذنوبهم إنما هو عن غفران عقاب الآخرة دون الدنيا، ولو أسقط الله عقاب الدارين لكان جائزًا، فغفر لحاطب عقوبته فى الدنيا؛ إذ رأى ذلك مصلحة لما غفر له عقاب الآخرة، وقد يجعل الله لنبيه إسقاط بعض الحدود إذا رأى ذلك مصلحة. قال الطبرى: وفى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (وما يدريك لعل الله اطلع(8/597)
على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) الدلالة البينة على خطأ ما قالته الخوارج والمعتزلة أنه لا يجوز فى عدل الله وحكمته الصفح لأهل الكبائر والمعتزلة من المسلمين عن كبائرهم؛ لأنه لم يكن مستنكرًا عند النبى (صلى الله عليه وسلم) فى عدل الله أن يصفح عن بعض من سبقت له من الطاعة سابقة، وسلفت له من الأعمال الصالحة سالفة عن جميع أعماله السيئة التى تحدث منه بعدها صغائر وكبائر، فيتفضل بالعفو عنها إكرامًا له لما كان سلف منه قبل ذلك من الطاعة. وخاخ: موضع قريب من مكة. وقوله: أهوت إلى حجزتها وهى محتجزة بكساء) . يعنى: ضربت بيدها إلى معقد نطاقها من جسدها، وهو موضع حجزة السراويل من الرجل، وقد مر بعض ما فيه من الغريب فى كتاب الجهاد. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) فى قصة مالك بن الدخشن: (ألا تقولوه يقول: لا إله إلا الله) ، هكذا جاءت والصواب: (ألا تقولونه يقول: لا إله إلا الله) بإثبات النون، والمعنى ألا تظنونه يقول: لا إله إلا الله، وقد جاء القول بمعنى الظن كثيرًا فى لغة العرب بشرط كونه فى المخاطب، وكونه مستقبلا، أنشد سيبويه لعمر بن أبى ربيعة المخزومى: أما الرحيل فدون بعد غد فمتى نقول الدار تجمعنا يعنى: فمتى نظن الدار تجمعنا، ويحتمل أن يكون قوله: (ألا تقولوه) خطابا(8/598)
للواحد والجماعة، فإن كان خطابًا للجماعة، فلا يجوز حذف النون؛ إذ لا موجب لحذفها، وإن كان خطابًا للواحد، وهو أظهر فى نسق الحديث، فهو على لغة من يشبع الضمة كما قال الشاعر: من حيث ما سلكوا أذنوا فانظور وإنما أراد انظر فأشبع ضمة الظاء فحدثت عنها واو. قوله فى حديث عمر: (فكدت أساوره) تقول العرب: ساورته من قولهم: سار الرجل يسور سورًا إذا ارتفع. ذكره ابن الأنبارى عن ثعلب، وقد يكون أساوره من البطش؛ لأن السورة البطش. عن صاحب العين. تم بحمد الله الجزء الثامن، ويليه بإذن الله الجزء التاسع وأوله: (كتاب الاستئذان)(8/599)
الجزء التاسع(9/4)
65 - كتاب الاستئذان
باب بدء السلام
/ 1 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ، طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فَلَمَّا خَلَقَهُ، قَالَ: اذْهَبْ، فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنَ الْمَلائِكَةِ جُلُوسٌ، فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ، فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ، فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا: السَّلامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَزَادُوهُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ - يعنى الْجَنَّةَ - عَلَى صُورَةِ آدَمَ، فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ بَعْدُ حَتَّى الآنَ) . قال المهلب: هذا الحديث يدل أن الملائكة فى الملأ الأعلى يتكلمون بلسان العرب، ويحيون بتحية الله، وأن التحية بالسلام هى التى أراد الله أن يتحيا بها. وفيه: الأمر بتعليم العلم من أهله والقصد إليهم فيه، وأنه من أخذ العلم ممن أمره الله بالأخذ عنه فقد بلغ العذر فى العبادة وليس عليه ملامة، لأن آدم أمره الله أن يأخذ عن الملائكة ما يحيونه، وجعلها له تحية باقية، وهو تعالى أعلم من الملائكة، ولم يعلمه إلا لتكون سنه. وقوله: (فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن) فهوا فى معنى قولى تعالى: (لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين (ووجه الحكمة فى ذلك أن الله خلق العالم بما فيه دالا(9/5)
على خالق حكيم، وجعل فى حركات ما خلق دليلا على فناء هذا العالم وبطلانه خلافًا للدهرية التى تعبد الدهر وتزعم أنه لا يفنى، فأبقى الله هذا النقص دلاله على بطلان قولهم، لأنه إذا جاز النقص فى البعض جاز الفناء فى الكل. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) : (خلق الله آدم على صورته) فإن العلماء اختلفوا فى رجوع الهاء من (صورته) إلى من ترجع الكناية بها. قال ابن فورك: فذهب طائفة إلى أن الهاء من (صورته) راجعة إلى آدم - عيله السلام - وأفادنا بذلك عليه السلام إبطال قول الدهرية أنه لم يكن قط إنسان إلا من نطفة، ولا نطفة إلا من إنسان فيما مضى ويأتى، وليس لذلك أول ولا آخر، فعرفنا عليه السلام تكذيبهم، وأن أول البشر هو آدم خلق على صورته التى كان عليها من غير أن كان نطفه قبله أو عن تناسل، ولم يكن قط فى صلب ولا رحم، ولا خلق علقه ولا مضغة، ولا طفلاً، ولا مراهقًا، بل خلق ابتداء بشرًا سويًا كما شوهد. وقد قال آخرون: المعنى فى رجوع الهاء إلى آدم تكذيب القدرية، لما زعمت أن من صور آدم وصفاته ما لم يخلقه الله، وذلك أن القدرية تقول: إن صفات آدم على نوعين منها ما خلقها الله، ومنها ما خلقها صورته وصفاته وأعراضه. وقال آخرون: يحتمل أن يكون رجوع الهاء إلى آدم وجهًا آخر على أصول أهل السنة أن الله خلق السعيد سعيدًا والشقى شقيا،(9/6)
فخلق آدم وقد علم يعصيه ويخالف أمره، وسبق العلم بذلك وأنه يعصى ثم يتوب، فيتوب الله عليه تنبيهًا على وجوب جريان قضاء الله على خلقه، وأنه إنما تحدث الأمور وتتغير الأحوال على حسب ما يخلق عليه المرء وييسر له. وذهب طائفة إلى أن الحديث إنما خرج على سبب، وذلك: (أن النبى عليه السلام مر برجل يضرب ابنه أو عبده فى وجهه لطخًا ويقول: قبح الله وجهك، ووجه من أشبه وجهك فقال عليه السلام: إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته) فزجره النبى عن ذلك، لأنه قد سب الأنبياء عليهم السلام والمؤمنين وخص آدم بالذكر، لأنه هو الذى ابتدئت خلقه وجهه على الحد الذى تخلق عليها سائر ولده، فالهاء على هذا الوجه كناية عن المضروب فى وجهه. وذهب طائفة إلى الهاء كناية عن الله تعالى وهذا أضعف الوجوه، لأن حكم الهاء أن ترجع إلى أقرب المذكور، إلا أن تدل دلالة على خلاف ذلك، وعلى هذا التأويل يكون معنى الصورة معنى الصفة كما يقال: عرفنى صورة هذا الأمر أى صفته ولا صورة للأمر على الحقيقة إلا على معنى الصفة، ويكون تقدير التأويل أن الله خلق آدم على صفته أى خلقه حيًا عالمًا سمعيًا بصيرًا متكلمًا مختارًا مريدًا، فعرفنا بذلك إسباغ نعمه عليه وتشريفه بهذه الخصال.(9/7)
ونظرنا فى الإضافات إلى الله فوجدناها على وجوه، منها إضافة الفعل، كما يقال: خلق الله، وأرض الله، وسماء الله، وإضافة الملك فيقال: رزق الله، ووعيد الله، وإضافة اختصاص وتنويه بذكر المضاف إليه، كقولهم: الكعبة بيت الله، وكقوله: (ونفخت فيه من روحي (ووجه آخر من الإضافة نحو قولهم: كلام الله، وعلم الله، وقدرة الله، وهى إضافة اختصاص من طريق القيام به، وليس من وجهة الملك والتشريف بل ذلك على معنى إرادته غير متعرية منها قيامًا بها ووجودًا. ثم نظرنا إلى إضافة الصورة إلى الله فلم يصح أن يكون وجه إضافتها إليه على نحو إضافة الصفة إلى الموصوف بها من حيث تقوم به، لاستحالة أن يقوم بذاته تعالى حادث فبقى من وجوه الإضافة الملك والفعل والتشريف، فأما الملك والفعل فوجهه عام وتبطل فائدة التخصيص فبقى إنها إضافة تشريف، وطريق ذلك أن الله هو الذى ابتدأ تصوير آدم إضافة تشريف، وطريق ذلك أن الله هو الذى ابتدأ تصوير آدم على مثال سبق بل اخترعه، ثم اخترع من بعده على مثاله، فتشرفت صورته بالإضافة إليه لا أنه أريد به إثبات صورة لله تعالى على التحقيق هو بها مصور، لأن الصورة هى التألف والهيئة، وذلك لا يصح إلا على الأجسام المؤلفة، والله تعالى عن ذلك.(9/8)
- باب قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم (الآية
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِى الْحَسَنِ لِلْحَسَنِ: إِنَّ نِسَاءَ الْعَجَمِ يَكْشِفْنَ صُدُورَهُنَّ وَرُءُوسَهُنّ، َ قَالَ: اصْرِفْ بَصَرَكَ [عَنْهُنَّ] . وقَوله اللَّهِ: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) [النور 30] . وَقَالَ قَتَادَة، عَمَّا لا يَحِلُّ لَهُمْ: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) [النور: 31] ،) خَائِنَةَ الأعْيُنِ) [غافر 14] مِنَ النَّظَرِ إِلَى مَا نُهِىَ عَنْهُ. وَقَالَ الزُّهْرِىُّ، فِى النَّظَرِ إِلَى الَّتِى لَمْ تَحِضْ مِنَ النِّسَاءِ: لا يَصْلُحُ النَّظَرُ إِلَى شَىْءٍ مِنْهُنَّ مِمَّنْ يُشْتَهَى النَّظَرُ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً. وَكَرِهَ عَطَاءٌ النَّظَرَ إِلَى الْجَوَارِى الَّتِى يُبَعْنَ بِمَكَّةَ إِلا أَنْ يُرِيدَ أَنْ يَشْتَرِيَ. / 2 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَرْدَفَ النَّبِىّ عليه السلام الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ يَوْمَ النَّحْرِ خَلْفَهُ عَلَى عَجُزِ رَاحِلَتِهِ، وَكَانَ الْفَضْلُ رَجُلا وَضِيئًا، فَوَقَفَ الرسول عليه السلام لِلنَّاسِ يُفْتِيهِمْ، وَأَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ وَضِيئَةٌ تَسْتَفْتِى رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَطَفِقَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، وَأَعْجَبَهُ حُسْنُهَا، فَالْتَفَتَ النَّبِى عليه السلام وَالْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، فَأَخْلَفَ بِيَدِهِ، فَأَخَذَ بِذَقَنِ الْفَضْلِ، فَعَدَلَ وَجْهَهُ عَنِ النَّظَرِ إِلَيْهَا. . . الحديث. / 3 - فيه: أَبُو سَعِيدٍ، أَنَّ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ) ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ، نَتَحَدَّثُ فِيهَا، فَقَالَ: (إِذْ أَبَيْتُمْ إِلا الْمَجْلِسَ، فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ) ، قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ؟(9/9)
قَالَ: (غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الأذَى، وَرَدُّ السَّلامِ، وَالأمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْى عَنِ الْمُنْكَرِ) . قال المؤلف: قال قتادة وإبراهيم ومجاهد فى قوله تعالى: (وحتى تستأنسوا (قالوا: حتى تستأذنوا وتسلموا. وقال سعيد بن جبير: الاستئناس: الاستئذان، وهو فيما أحسب من خطأ الكاتب، وروى أيوب عنه عن ابن عباس: إنما هو حتى تستأذنوا، سقط من الكاتب. قال إسماعيل بن إسحاق: قوله: (من خطأ الكاتب) هو قول سعيد بن جبير أشبه منه بقوله ابن عباس، لأن هذا مما لا يجوز أن يقوله أحد، إذ كان القرآن محفوظًا قد حفظه الله من أن يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وقد روى عن مجاهد أن الاستئناس: التنجح والتنخم إذا أراد أن يدخل. وروى ابن وهب عن مالك قال: الاستئناس: الجلوس قال تعالى: (ولا مستأنسين لحديث (وقال عمر حين ودخل على النبى فى حديثه المشربة: (أستأنس يا رسول الله؟ قال: نعم فجلس عمر) . قال إسماعيل بن إسحاق: وأحسب معنى الاستئناس، والله أعلم، إنما هو أن يستأنس بأن الذى يدخل عليه لا يكره دخوله، يدل على ذلك قوله عمر للنبى: (أستأنس يا رسول الله؟ قال: نعم فجلست) قال إسماعيل: فدل قوله: (أستأنس) على أنه(9/10)
أحب أن يعلم أن النبي لا يكره جلوسه، وهذا مما يضعف ما روى عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. قال المهلب: ومعنى الاستئذان هو خوف أن يفجأ الرجل أهل البيت على عورة فينظر ما لا يحل له، يدل على ذلك قوله عليه السلام: (إنما جعل الاستئذان للبصر) وغض البصر مأمور به، لقوله تعالى: (قل للمؤمنين من أبصارهم () وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن (ألا ترى صرف النبى وجه الفضل عن المرأة ونهيه عليه السلام عن الجلوس على الطرقات إلا أن يغض البصر، وإنما أمر الله بغض الأبصار عما لا يحل لئلا يكون البصر ذريعة إلى الفتنة، فإذا أمنت الفتنة فالنظر مباح، ألا ترى أن النبى حول وجه الفضل حين علم بإدامته النظر إليها أنه أعجبه حسنها فخشى عليه فتنة الشيطان. وفيه: مغالبة طباع البشر لابن آدم وضعفه عما ركب فيه من الميل إلى النساء والإعجاب بهن. وفيه: أن نساء المؤمنين ليس لزوم الحجاب لهم فرضًا فى كل حال كلزومه لأزواج النبى، ولو لزم جميع النساء فرضًا لأمر النبى الخثعمية بالاستتار، ولما صرف وجه الفضل عن وجهها، بل كان يأمره بصرف بصره، ويعلمه أن ذلك فرضه، فصرف وجهه عليه السلام وقت خوف الفتنة وتركه قبل ذلك الوقت. وهذا الحديث يدل أن ستر المؤمنات وجوههن عن غير ذوى محارمهن سنه، لإجماعهم أن المرأة أن تبدى وجهها فى الصلاة، ويراه منها الغرباء، وأن قوله: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم (على الفرض فى غير الوجه، وأن غض البصر عن(9/11)
جميع المحرمات وكل ما يخشى منه الفتنة واجب، وقد قال النبى عليه السلام: (لا تتبع النظرة، فإنما لك الأولى، وليست لك الثانية، وهذا معنى دخول من فى قوله: (من أبصارهم (لأن النظرة الأولى لا تملك فوجب التبعيض لذلك، ولم يقل ذلك فى الفروج، لأنها تملك. وقوله: (فأخلف يده فأخذ بذقن الفضل) قال صاحب الأفعال: يقال: أخلف الرجل بيده إلى سيفه: مدها إليه ليأخذه عند حاجته إليه، وأخلف إلى مؤخر راحلته أو فرسه كذلك.
3 - باب: السلام اسم من أسماء الله تعالى وقوله تعالى: (وإذا حييتم فحيوا بأحسن منها أو ردوها (
/ 4 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ: كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا مَعَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) قُلْنَا: السَّلامُ عَلَى اللَّهِ قَبْلَ عِبَادِهِ، السَّلامُ عَلَى جِبْرِيلَ، السَّلامُ عَلَى مِيكَائِيلَ، السَّلامُ عَلَى فُلانٍ، فَلَمَّا انْصَرَفَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلامُ. . . .) الحديث. قال المؤلف: مصداق هذا الحديث فى قوله الله تعالى: (القدوس السلام المؤمن (والأسماء إنما تؤخذ توقيفًا من الكتاب والسنة، ولا يجوز أن يسمى الله بغير ما سمى به نفسه، ولما كان السلام من أسماء الله لم يجز أن يقال: السلام على الله، وجاز أن يقال: السلام عليكم، لأن معناه الله عليكم.(9/12)
والعلماء مجمعون أن بأبتداء بالسلام سنه مرغب فيها، ورده فريضة لقوله تعالى: (فحيوا بأحسن منها أو ردوها (ومن الدليل أن الابتداء به سنة قوله عليه السلام فى المتهاجرين: (وخيرهم الذى يبدأ بالسلام) وذهب مالك والشافعى إلى أنه سلم رجل على جماعة فرد عليه واحد منهم أجزأ عنهم، ودخل فى معنى قوله: (فحيوا بأحسن منها أو ردوها (لأنه قد رد عليه مثل قوله، وشبهوه بتشميت العاطس، وقالوا: هو من فروض الكفاية كالجهاد، وطلب العلم ودفن الموتى، وصلاة الجماعة، يقوم بها البعض، ولا يحل الاجماع على تضييعها. وروى مالك، عن زيد بن أسلم (أن النبى عليه السلام قال إذا سلم واحد من القوم أجزأ عنهم) . وروى أبو داود، عن على بن أبى طالب مثله، وقال: يجزىء من الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم، ويجزىء عن الجلوس إذا رد أحدهم. وذهب الكوفيون إلى أن رد السلام من الفروض المتعينة على كل إنسان بعينه، ولا ينوب فيها فيها غير. قالوا: والإسلام خلاف رد السلام. لأن الابتداء به تطوع، ورده إنسان بعينه، ولا ينوب فيها غيره. قالوا: والسلام خلاف رد السلام. لأن الابتداء به تطوع، ورده فريضة، ولو رد غير المسلم عليهم لم يسقط ذلك عنهم فرض الرد، فدل أن السلام يلزم كل إنسان بعينه. وأنكر أبو يوسف مرسل مالك، ورد عليهم أهل المقالة الأولى فقالوا: قد يكون من السنن مايسد مسد الفرائض، كغسل الجمعة.(9/13)
يجزىء عن غسل الجنابة - عند جماعة من العلماء - وكغسيل اليدين قبل الوضوء يجزء عن غسيلها مع الذراعين فى الوضوء - فى قول عطاء. وقولهم: لو رد غير المسلم عليم لم يجزىء، فكذلك نقول وإنما يجزى عن غسلها مع الذراعين فى الوضوء - فى قول عطاء. وقولهم: لو رد غير المسلم عليهم لم يجزىء، فكذلك نقول وإنما يجزىء أن يرد واحد ممن سلم عليهم عليهم لقوله تعالى: (فحيوا بأحسن منها أو ردوها (فإنما أمر الله تعالى بالرد المسلم عليهم لا غيرهم، ألا ترى لو أن العدو حل ببلده، فلم يقاتل أهلها المسلمون، وقاتل عنهم قوم من أهل الكتاب ما سقط الفرض عنهم، فكذلك إذا رد المسلم من لم يسلم عليه، لم يجزىء عن الرادين فحكم السلام حكم الرد، لأن الرد سلام عند العرب. وقد قال عليه السلام: (يسلم القليل على الكثير) ولما أجمعوا أن الواحد يسلم على الجماعة، ولا يحتاج إلى تكريره على عدد الجماعة، كذلك يرد الواحد من الجماعة على الواحد، وينوب عن الباقين، وانكارهم لمرسل مالك لا وجه له، لأنهم لامسند عندهم فى قولهم ولا مرسل، فالمصير إلى المرسل أولى من المصير إلى رأى يعاض بمثله.
4 - باب: يسلم القليل على الكثير
/ 5 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ، وَالْمَارُّ عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ) . وترجم له باب تسليم الراكب على الماشى، وقال فيه عن(9/14)
الرسول: (يسلم الراكب على الماشى، والماشى على القاعدة، والقليل على الكثير) . قال المهلب: هذه آداب من النبى عليه السلام وأما وجه تسليم الصغيرعلى الكبير فمن أجل حق الكبير على الصغير بالتواضع له والتوقير، وتسليم المار على القاعدة هو من باب الداخل على القوم فعليه أن يبدأهم بالسلام، وكذلك فعل آدم بالملائكة حين قيل له: اذهب فسلم على أولئك نفر من الملائكة جلوس. وتسليم القليل على الكثير من باب التواضع أيضًا، لأن حق الكثير أعظم من حق القليل، وكذلك فعل أيضًا آدم كان وحده والملأ من الملائكة كثير حين أمر بالسلام عليهم. وسلام الراكب على الماشى لئلا يتكبر بركوبه على الماشى فأمر بالتواضع.
5 - باب: إفشاء السلام
/ 6 - فيه: الْبَرَاءِ، أَمَرَنَا النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) بِسَبْعٍ: (بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَنَصْرِ الضَّعِيفِ، وَعَوْنِ الْمَظْلُومِ، وَإِفْشَاءِ السَّلامِ، وَإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ. . .) الحديث. قال الطبرى: إن قال قائل: هذه الخلا التى أمر النبى عليه السلام بها من حق المسلم، هل هى من الحقوق التى إن لم يؤدها كان بتركها حرجًا ولربه عاصيًا أم لا؟ . قيل: منها ما يكون بتركها حرجًا، ومنها مايكون غير حرج، ومنها مايكون بتركها حرجًا فى حال وغير حرج فى أخرى.(9/15)
فإن قيل: فبين لنا ذلك. قيل: أما الذى يكون بفعلها محمودًا وبتركها حرجًا فى كل حال فنصر الضعيف وعون المظلوم، وذلك أن النبى عليه السلام قال: (أنصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا) وقال: إن المؤمنين جميعًا كالجسد الواحد، وعلى المرء أن يسعى لصلاح كل عضو من أعضاء جسده سعيه لبعضها، فكذلك عليهم فى اخوانهم فى الدين وشركائهم فى المله، وإنصارهم على الأعداء من نصرهم وعونهم مثل ماعليهم من ذلك فى أنفسهم لأنفسهم، إذ كان بعضهم عونًا لبعض وجميعهم يد على العدو. ولذلك خاطبهم تعالى فى كتابه فقال) ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما (إذ كان القاتل منهم غيره بمنزله القاتل نفسه، ولم يقل لهم لايقتل بعضكم بعضًا، إذ كان المؤمن لأخيه المؤمن بمنزله نفسه فى التعاون على البر والتقوى، يؤلم كل واحد منهما مايؤلم الآخر، ألا ترى أن الله تعالى نهى المؤمنين أن يلمز بعضهم بعضًا، وأن يتنابزوا بالألقاب، فقال تعالى: (ولا تلمزوا أنفسكم (فجعل الامز أخاه لامزًا نفسه، إذ كان أخوه بمنزله نفسه، ومعلوم أنه لا أحد صحيح العقل يلمز نفسه، فعلم أن معناه لا يلمز أحدكم المؤمن. ومما هو فرض فى كل حال إبرار القسم، قال الله تعالى: (واحفظوا أيمانكم (.(9/16)
وأما التى هى فرض فى بعض الأحوال دون بعض وفضل فى بعضها فشهود جنازة الأخ المؤمن، فالحال التى هو فيها فرض إذا لم يكن للجنازة قيم غيره، أو يكون ولا يستغنى عن حضوره أياها، فلا يسعه حينئذ ترك حضورها، وذلك أن الذى يلزم من أمر موتى المسلمين للأحياء غسلهم وتكفينهم والصلاة عليهم ودفنهم، وذلك فرض على الكفاية، فمن قام بذلك منهم سقط فرضه عن سائرهم. ومن أيضًا تشميت العاطس إذا حمد الله، فإنه فرض على جميع من سمع عطاسه وحمده لله تشميته، حتى إذا شمته بعضهم سقط فرض ذلك عن سائرهم. وأما الذى هو بفعلها محمود وبتركها غير مذموم فالسلام عليه إذا لقيه، فإن المبتدىء أخاه بالسلام له الفضل كما قال عليه السلام فى المتهاجرين (وخيرهما الذى يبدأ بالسلام) . ومن ذلك عيادته لأخيه إذا مرض، وإجابته إلى طعام إذا دعاه إليه، فإن تارك ذلك فضل لاتارك فرض، لإجماع الجميع على ذلك، وقد تقدم جملة من معنى هذا الحديث فى كتاب الجنائز، وكتاب المظالم فى باب نصر المظلوم، وفى كتاب النكاح فى باب إجابة دعوة الوليمة، وسيأتى بقيته فى كتاب اللباس.
6 - باب: السلام للمعرفة وغير المعرفة
/ 7 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَجُلا سَأَلَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) أَى الإسْلامِ(9/17)
خَيْرٌ؟ قَالَ: (تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ، وَعَلَى مَنْ لَمْ تَعْرِفْ) . / 8 - وفيه: أَبُو أَيُّوبَ، عَنِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِى يَبْدَأُ بِالسَّلامِ) . هذا أيضا من باب الأدب ولتواضع، وفى السلام لغير المعرفة استفتاح للخلطة، وباب الأنس ليكون المؤمنون كلهم إخوة، ولا يستوحش أحد من أحد، وترك السلام لغير المعرفة يشبه صدود المتصارمين المنهى عنه فينبغى للمؤمن أن يجتنب مثل ذلك. وقد روى ابن مسعود عن النبى عليه السلام أنه قال: (من أشراط الساعة السلام للمعرفة) وروى عبد الرزاق عن ابن عمر: (أنه كان يدخل السوق فيما يلقى صغيرًا ولا كبيرًا إلا سلم عليه، ولقد مر بعبد أعمى فجعل يسلم عليه والآخر لايرد عليه، فقيل له: إنه أعمى) وكان السلف من المحافظة على رد السلام كما ذكر معمر قال: (كان الرجلان من أصحاب النبى عليه السلام مجتمعين فتفرق بينهما شجرة، ثم يجتمعان فيسلم أحدهما على الآخر) . ومما يدل على تأكيد السلام على أكل أحد أن الله تعالى - قد أمر الداخل بيتًا غير مسكون بالسلام عند دخوله. وروى عن ابن عباس والنخعى وعطاء وعكرمة وقتادة فى قول الله - تعالى: (فإذا دخلتم بيوتًا فسلموا على(9/18)
أنفسكم} قالو: إذا دخلت بيتًا ليس فيه أحد فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. فإن الملائكة ترد عليك، وهذا يدل أن الداخل بيتًا مسكونًا أولى بالسلام. وروى ابن وهب، عن حفص بن ميسرة، عن زيد بن أسلم أن رسول الله عليه السلام قال: (إذا دخلتم بيوتكم فسلموا على أهلها واذكروا اسم الله، فأن أحدكم إذا سلم حين يدخل بيته وذكر اسم الله على طعامه، يقول الشيطان لأصحابه: لا مبيت لكم هاهنا ولاعشاء وإذا لم يسلم إذا دخل ولم يذكر اسم الله على طعامه، قال الشيطان لأصحابه: أدركتم المبيت والعشا) .
7 - باب: آية الحجاب
/ 9 - فيه: أَنَس، أَنَّهُ كَانَ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ مَقْدَمَ النّبِىّ، عليه السَّلام، الْمَدِينَةَ، فَخَدَمْتُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عَشْرًا حَيَاتَهُ، وَكُنْتُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِشَأْنِ الْحِجَابِ، فكَانَ أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ يَسْأَلُنِى عَنْهُ، وَكَانَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ فِى مُبْتَنَى النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، أَصْبَحَ رسول الله بِهَا عَرُوسًا، فَدَعَا الْقَوْمَ، فَأَصَابُوا مِنَ الطَّعَامِ، ثُمَّ خَرَجُوا، وَبَقِى مِنْهُمْ رَهْطٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَطَالُوا الْمُكْثَ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام فَخَرَجَ، وَخَرَجْتُ مَعَهُ كَىْ يَخْرُجُوا، فَمَشَى رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام وَمَشَيْتُ مَعَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى زَيْنَبَ، فَإِذَا هُمْ جُلُوسٌ لَمْ يَتَفَرَّقُوا، فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام وَرَجَعْتُ مَعَهُ حَتَّى بَلَغَ عَتَبَةَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ، فَظَنَّ(9/19)
أَنهمْ قَدْ خَرَجُوا، فَرَجَعَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ، فَإِذَا هُمْ قَدْ خَرَجُوا، فَأُنْزِلَ االْحِجَابِ، فَضَرَبَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ سِتْرًا. / 10 - وفيه: عَائِشَةَ، كَانَ عُمَرُ يَقُولُ لِلنّبِىّ، عليه السَّلام: احْجُبْ نِسَاءَكَ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَكن نساء النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) يَخْرُجْنَ لَيْلا إِلَى لَيْلٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ، فَخَرَجَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ، وَكَانَتِ امْرَأَةً طَوِيلَةً، فَرَآهَا عُمَرُ، وَهُوَ فِى الْمَجْلِسِ، فَقَالَ: عَرَفْتُكِ يَا سَوْدَةُ، حِرْصًا عَلَى أَنْ يُنْزَلَ الْحِجَابُ، قَالَتْ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْحِجَابِ. قال الطبرى: فى حديث عائشة فرض الحجاب على أزواج النبى عليه السلام لقول عمر للنبى (أحجب نساءك) وقال فى حديث آخر: (يا رسول الله، لو حجبت أمهات المؤمنين فإنه يدخل عليهن البر والفاجر. فنزلت آيه الحجاب) . قال غيره: ويدل على صحة ذلك قول الفقهاء أن إحرام المرأة فى وجهها كفيها، وإجماعاعهم أن لها أن تبرز وجهها للأشهاد عليها، ولايجوز ذلك فى أمهات المؤمنين. وقد اختلف السلف فى تأويل قوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا ماظهر منها (فذهب طائفة إلى أن قوله: (إلا ماظهر منها (: الكحل والخاتم وقيل: الخضاب والسوار والقرط والثياب. وقال أكثر أهل العلم: (إلا ماظهر منها (الوجه والكفان،(9/20)
روي ذلك عن ابن عباس وابن عمر وأنس، وهو قول مكحول وعطاء والحسن. قال إسماعيل بن إسحاق: قد جاء التفسير ماذكر، والظاهر والله أعلم - يدل على أنه الوجه والكفان، لأن المرأة يجب عليها أن تستر فى الصلاة كل موضع منها إلا وجهها وكفيها، وفى ذلك دليل أن الوجه والكفين يجوز للغرباء أن يروه من المرأة، والله أعلم بما أراد من ذلك. وسيأتى بقية الكلام فى حديث أنس فى باب من قام من مجلسه أو بيته ولم يستأذن اصحابه وتهيأ للقيام ليقوم الناس فى هذا الجزء إن شاء الله. وقوله: (وكنت أعلم الناس بشأن الحجاب) : أنه يجوز للعالم أن يصف ماعنده من العلم لسائله عنه على وجه التعريف بما عنده منه لا على سبيل الفخر والإعجاب.
8 - باب: الاستئذان من أجل البصر
/ 11 - فيه: سَهْلِ، اطَّلَعَ رَجُلٌ مِنْ جُحْرٍ فِى حُجَرِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) وَمَعَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ، فَقَالَ: (لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُ؛ لَطَعَنْتُ بِهِ فِى عَيْنِكَ، إِنَّمَا جُعِلَ الاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ) . / 12 - فيه: أَنَس: أَنَّ رَجُلا اطَّلَعَ مِنْ بَعْضِ حُجَرِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَامَ إِلَيْهِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) بِمِشْقَصٍ، أَوْ بِمَشَاقِصَ، فَكَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَخْتِلُ الرَّجُلَ لِيَطْعُنَهُ.(9/21)
قال المؤلف: فى هذا الحديث تبين معنى الاستئذان وأنه إنما جعل خوف النظر إلى عورة المؤمن وما لا يحل منه، وفى الموطأ عن عطاء ابن يسار: (أن رجلاً قال: يا رسول الله، أستأذن على أمى؟ قال نعم. قال: أنى معها فى البيت. قال أستأذن عليها، أتحب أن تراها عريانة؟ قال: لا. قال: فأستأذن عليها) . وروى عن على بن أبى طالب أنه قال: لا يدخل الغلام إذا اتحتم على أمه، ولا على اخته إلا بإذن وأصل هذا الكلام فى قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم (الآية. قال أبو عبيد: فأما ذكور المماليك فعليهم الاستئذان فى الأحوال كلها. وهذا الحديث مما يرد قول أهل الظاهر، ويكشف غلطهم فى إنكارهم العلل والمعانى، وقولهم أن الحكم للأسماء خاصة، لأنه عليه السلام علل الاستئذان أنه إنما جعل من قبل البصر، فدل ذلك على أن النبى عليه السلام أوجب اشياء وحظر أشياء من أجل معان علق التحريم بها، ومن أبى هذا رد نص السنن. وقد نطق القرآن بمثل هذا كثيرًا من ذلك قوله تعالى: (وجعلنا فى الأرض رواسى أن تميد بهم (وقال: (وما أفأ الله على رسوله من أهل القرى (إلى قوله: (كى لا يكون دوله بين الأغنياء منكم (وقال: (لئلا يكون للناس على الله حجة(9/22)
بعد الرسل (وقال تعالى: (ذلك جزيناهم ببغيهم (فى مواضع كثيرة يكثر عددها، فلا يلتفت إلى من خالف ذلك.
9 - باب: زنا الجوارح دون الفرج
/ 13 - فيه: ابْن عَبَّاس، لَمْ أَرَ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِنْ قَوْلِ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِى، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ) . قال المؤلف: وزنا العين: فيما زاد على النظرة الأولى التى لا تملك مما يديم النظر إليه على سبيل الشره والشهوة، وكذلك زنا المنطق: فيما يلتذ به من محادثه من ال يحل له ذلك منه، وزنا النفس: تمنى ذلك وتشتهيه، فذلك كله سمى زنا، لأنه من دواعى زنا الفرج، ودل قوله: (إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، وأدرك ذلك لا محالة) أن ابن آدم لا يخلص من ذلك. قال المهلب: وكل ما كتبه الله على ابن آدم فهم سابق فى علم الله لابد أن يدركه المكتوب عليه، وإن الإنسان لايملك دفع عن نفسه غير أن الله تعالى تفضل على عباده وجعل ذلك لممًا وصغائر لايطالب بها عباده إذا لم يكن للفرج تصديق لها، فإذا صدقها الفرج كان ذلك من الكبائر، رفقا من الله بعباده، ورحمة لهم، لما جبلهم عليه من ضعف الخلقة، ولو آخذ عباده باللمم أو ما(9/23)
دونه من حديث النفس لكان ذلك عدلا منه فى عباده وحكمة، لا يسأل عما يفعل وله الحجة البالغة، لكن قبل منهم اليسير وعفا لهم عن الكثير تفضلاً منه وإحسانًا. وقوله: (لا محالة) يعنى: لا حيلة له فى التخلص من إدراك ما كتب عليه.
باب: التسليم والاستئذان ثلاثًا
/ 14 - فيه: أَنَس، كَانَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا سَلَّمَ سَلَّمَ ثَلاثًا، وَإِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلاثًا. / 15 - وفيه: أبو سعيد الخدرى قال: كنت فى مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور، فقال: أستأذنت على عمر ثلاثا، فلم يؤذن لى فرجعت، قال: مامنعك؟ قلت: استأذنت ثلاثا، فلم يؤذن فرجعت، وقال رسول الله: (إذا استأذن أحدكم ثلاثا، فلم يؤذن له فليرجع) ، فقال: والله لتقيمن عليه بينه، أمنكم أحد سمعه من النبى - عليه السلام؟ قال أُبى بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم، قال أبو سعيد: فكنت أصغر القوم فقمت معه، فأخبرت عمر أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال ذلك. قال المهلب: أما تسليمه صلى الله عليه ثلاثا وكلامه ثلاثا فهو ليبالغ فى الافهام والاسماع، وقد أورد الله ذلك فى القرآن فكرر القصص والاخبار والأوامر ليفهم عباده، وليتدبر السامع فى المرة الثانية والثالثة مالم يتدبر فى الأولى، وليرسخ ذلك فى قلوبهم. والحفظ إنما هو تكرر الدراسة للشىء المرة الواحدة، وقول أنس: أنه كان إذا تكلم(9/24)
بكلمة أعادها ثلاثًا. يريد فى أكثر أمره، وأخرج الحديث مخرج العموم، والمراد به الخصوص. قال غيره: واختلف العلماء فى تأويل قوله: (الاستئذان ثلاثًا) فقالت طائفة: معنى قوله: فإن أذن له وإلا فليرجع ان شاء، فإن شاء زاد على الثلاث لا أنه واجب عليه أن يرجع. قال ابن نافع: لا بأس أن عرفت أحدًا أن تدعوه أن يخرج اليك وتنادى به مابدا لك. وروى ابن وهب عن مالك قال: الاستئذان ثلاثا، لاحب لأحد أن يزيد عليها إلا من علم أنه لم يسمع، فلا بأس أن يزيد. وظاهر حديث أبى موسى يرد هذا القول، لأن أبا موسى حمل الحديث على أنه لايزاد على ثلاث مرات، ودل أنه على ذلك تلقى معناه من النبى عليه السلام ولو كان عند أبى موسى أنه يجوز الزيادة على الثلاث فى الاستئذان لم يكن مخالفًا لمذهب عمر ابن الخطاب، ولم يحتج أبو موسى أن ينزع بقوله عليه الساسلام: (الاستئذان ثلاثًا) حين أنكر عليه عمر ترك الزيادة الزيادة على الثلاث. وقد زعم قوم من أهل البدع أن مذهب عمر رد قبول خبر الواحد العدل، وهذا خطأ فى التأويل وجهل بمذهب عمر وغيره من السلف. وقد جاء فى بعض طرق هذا الحديث أن عمر قال لأبى موسى: (أما انى لم أتهمك، ولكنى أردت ألا يتجرأ الناس على الحديث عن رسول الله) .(9/25)
ففيه من الفقه التثبيت فى خبر لما يجوز عليه من السهو وغيره، وحكم عمر بخبر الواحد أشهر من أن يخفى، وقد قبل خبر الضحاك ابن سفيان وحده فى ميراث المرأة من ديه زوجها، وقبل خبر حمل بن مالك الهذلى الاعرابى فى أن ديه الجنين غره عبد أو أمه، وقبل خبر عبد الرحمن بن عوف فى الجزية وفى الطاعون، ولا يشك ذو لب أن أبا موسى أشهر فى العدالة من الاعرابى الهذلى. وقد قال فى حديث السقيفة: إنى قائل مقالة فمن حفظها ووعاها فليتحدث بها، فكيف يأمر من سمع قوله أن يحدث به، وينهى عن الحديث عن رسول الله ولا يقبل خبر الواحد؟ هذا لايقوله إلا معاندًا وجاهل. وفيه: أن العالم المستبحر قد يخفى عليه من العلم مايعلمه من هو دونه، وإلاحاطة لله وحده.
- باب: إذا دعى الرجل فجاء هل يستأذن
وقَالَ سَعِيدٌ: عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِى رَافِعٍ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (هُوَ إِذْنُهُ) . / 16 - وفيه: مُجَاهِدٌ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ، دَخَلْتُ مَعَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَوَجَدَ لَبَنًا فِى قَدَحٍ، فَقَالَ: (أَبَا هِرٍّ، الْحَقْ أَهْلَ الصُّفَّةِ، فَادْعُهُمْ إِلَىَّ) قَالَ: فَأَتَيْتُهُمْ، فَدَعَوْتُهُمْ، فَأَقْبَلُوا فَاسْتَأْذَنُوا، فَأُذِنَ لَهُمْ فَدَخَلُوا. قال المهلب: إذا دعى وأتى مجيبا للدعوة، ولم تتراخ(9/26)
المدة فهذا دعاؤه إذنه فأتى فى غير حين الدعاء فأنه يستأذن وكذلك إذا دعى إلى موضع لم يعلم أن به أحدًا مأذونًا له فى الدخول أنه لايدخل حتى يستأذن، فإن كان فيه أحد مأذونا له مدعوًا قبله فلا بأس أن يدخل بالدعوة، وان تراخت الدعوة وكان بين ذلك زمن يمكن الداعى أن يخلو فى أمره أو يتعدى لبعض شأنه، أو يتصرف أهل داره فلا يفتئت بالدعوة على الدخول حتى يستأذن كحديث مجاهد عن أبى هريرة، هذا وجه تأويل الحديثين، والله أعلم.
- باب: التسليم على الصبيان
/ 17 - فيه: أَنَس، أَنَّهُ مَرَّ عَلَى صِبْيَانٍ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ: كَانَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) يَفْعَلُهُ. قال المؤلف: سلام النبى (صلى الله عليه وسلم) على الصبيان من خلفه العظيم، وأدبه الشريف وتواضعه عليه السلام، وفيه تدريب لهم على تعليم السنن، ورياضة لهم على آدابه الشريعة ليبلغوا حد التكليف وهم متأدبون بأدب الإسلام، وقد كان عليه السلام يمازح الصبيان ويداعبهم ليقتدى به فى ذلك، فما فعل شيئًا وان صغير إلا ليسن لأمته الاقتداء به، والاقتداء لأثره، وفى ممازحته للصبيان تذليل النفس على التواضع ونفى التكبر عنها.(9/27)
- باب: تسليم الرجال على النساء والنساء على الرجال
/ 18 - فيه: سَهْلٍ، قَالَ: كُنَّا نَفْرَحُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، [قُلْتُ: وَلِمَ؟ قَالَ] : كَانَتْ لَنَا عَجُوزٌ تُرْسِلُ إِلَى بُضَاعَةَ - قَالَ ابْنُ مَسْلَمَةَ: نَخْلٍ بِالْمَدِينَةِ - فَتَأْخُذُ مِنْ أُصُولِ السِّلْقِ، فَتَطْرَحُهُ فِى قِدْرٍ، وَتُكَرْكِرُ حَبَّاتٍ مِنْ شَعِيرٍ، فَإِذَا صَلَّيْنَا الْجُمُعَةَ انْصَرَفْنَا، نُسَلِّمُ عَلَيْهَا، فَتُقَدِّمُهُ لْنَا، فَنَفْرَحُ مِنْ أَجْلِهِ، وَمَا كُنَّا نَقِيلُ، وَلا نَتَغَدَّى إِلا بَعْدَ الْجُمُعَةِ. / 19 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَا عَائِشَةُ، هَذَا جِبْرِيلُ يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلامَ) ، قَالَتْ: قُلْتُ: وَعَلَيْهِ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، تَرَى مَا لا نَرَى، تُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . تَابَعَهُ معمر، وَقَالَ يُونُسُ، وَالنُّعْمَانُ، عَنِ الزُّهْرِىِّ: (وَبَرَكَاتُهُ) . قال المهلب: السلام على النساء جائز إلا على الشابات منهم فإنه يخشى أن يكون فى مكالمتهن بذلك خائنة أعين أو نزعه شيطان، وفى ردهن من الفتنة مما خيف من ذلك أن يكون ذريعة يوقف عنه، إذ ليس ابتداؤه فريضة، وإنما الفريضة منه الرد، وأما المتجالات والعجائز فهو حسن، إذ ليس فيه خوف ذريعة، هذا قول قتادة، واليه ذهب مالك وطائفة من العلماء. وقال الكوفيون: لا يسلم الرجال على النساء إذا لم يكن منهن ذوات محارم. وقالوا: لما سقط عن النساء الأذان والاقامة والجهر بالقراءة فى الصلاة سقط عنهن رد السلام، فلا يسلم عليهن. وقال ابن وهب: بلغنى عن ربيعة أنه قال: ليس على النساء التسليم على الرجال، ولا على الرجال التسليم على النساء، وحجة(9/28)
مالك ومن وافقه حديث سهل أنهم كانوا يسلمون على العجوز يوم الجمعة مع النبى عليه السلام ولم تكن ذات محرم منهم، وأيضًا حديث عائشة أن النبى بلغها سلام جبريل، وفى ذلك أعظم الأسوة والحجة. وقال صاحب الأفعال: الكركرة: تصريف الرياح السحاب إذا جمعته بعد تفرق، وتكركر السحاب إذا تراد فى الهواء.
- باب: إذا قال من ذا فقال أنا
/ 20 - فيه: جَابِرَ، أَتَيْتُ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) فِى دَيْنٍ كَانَ عَلَى أَبِى، فَدَفَعْتُ الْبَابَ، فَقَالَ: (مَنْ ذَا) ؟ فَقُلْتُ: أَنَا، فَقَالَ: (أَنَا، أَنَا) ، كَأَنَّهُ كَرِهَهَا. قال المهلب: إنما كره عليه السلام قول جابر: لأنه ليس فى ذلك بيان إلا عند من يعرف الصوت، وأما عند من يمكن أن يشتبه عليه فهو من التعنيت، فلذلك كرهه، وقد قال بعض الناس: ينبغى أن يكون لفظ الاستئذان بالسلام، وزعم أن النبى إنما كره قول جابر: لأنه لم يستأذن عليه بلفظ السلام. وفيه: جواز ضرب باب الحاكم واخراجه من داره لبعض مايعزى إليه ويبين هذا قصهة كعب بن مالك، وابن أبى حدرد، وليس كما قال بعض الناس أنه لا يعرض للحكم إلا عند جلوسه.(9/29)
- باب: من رد فقال عليك السلام
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَعَلَيْهِ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. وَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (رَدَّ الْمَلائِكَةُ عَلَى آدَمَ: السَّلامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ) . / 21 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلا دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (وَعَلَيْكَ السَّلامُ، ارْجِعْ فَصَلِّ. . .) الحديث. اختلفت الأثار فى هذا الباب فروى أن النبى عليه السلام قال فى رد السلام: عليك السلام، وقال فى رد اللائكة على آدم: السلام عليك، وفى كتاب الله تعالى تقديم السلام على اسم المسلم عليه، وهو قوله تعالى: (سلام على إل ياسين (و) سلام على موسى وهارون (وقال فى قصة إبراهيم: (رحمة الله وبركاتة عليكم أهل البيت (وقد جاء حديث رواه أبو عفان عن أبى تميمة الهجيمى، عن أبى دريد - أو أبى جرى -: (أن رجلا قال للنبى (صلى الله عليه وسلم) : عليك السلام يا رسول الله. فقال له: لاتقل عليك السلام فهى تحية الموتى، قل: السلام عليك) وهذا الحديث لايثبت، وقد صح الوجهان عن النبى عليه السلام إلا أنه جرت عادة العرب بتقديم اسم المدعو عليه فى الشر خاصة كقولهم: عليه لعنة الله وغضب الله، قال تعالى: (وأن عليك لعنتى إلى يوم الدين (وقال فى المتلاعنين) والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين (وفى لعان المرأة: (والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ((9/30)
وروى يحيى بن أبى كثير، عن أبى سلمه، عن أبى هريرة أن رسول الله قال: (السلام من أسماء الله، فأفشوه بينكم) فإذا صح هذا الحدديث، فالاختيار فى التسليم والأدب فيه تقديم اسم الله تعالى على اسم المخلوق. فإن فعل فاعل غير ذلك وقدم اسم المسم عليه على اسم الله تعالى فلم يأت محرمًا، ولا حرج عليه لثبوت ذلك عن النبى - عليه السلام. وأما قوله عليه السلام: (عليك السلام تحية الموتى) فقد ثبت عن النبى أنه قال فى سلامه على القبور: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين وحياهم بتحية الأحياء) ، وقال ابن أبى زيد: يقول السلام عليكم، فيقول الراد: وعليكم السلام، أو يقول: سلام عليكم كما قيل له، وهو معنى قوله تعالى: (أو ردوها (وأكثر ما ينتهى السلام إلى البركة، وهو معنى قوله تعالى: (فحيوا بأحسن منها (ولا تقل فى ردك: سلام عليك.
- باب: إذا قال فلان يقرئك السلام
/ 22 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) قَالَ لَهَا: (إِنَّ جِبْرِيلَ يُقْرِئُكِ السَّلامَ) ، قَالَتْ: وَعَلَيْهِ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ. هذا حجة فى أن من بلغ إليه سلام غائب عنه أن يرد عليه السلام كما يرد على الحاضر، وروى أيوب، عن أبى قلابة: (أن رجلاً أتى سلمات الفارسى فقال له: إن أبا الدرداء يقول: عليك السلام.(9/31)
قال: متى؟ قال: منذ ثلاث، قال: أما أنك لو لم تؤدها كانت أمانة عندك) .
- باب: التسليم فى مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين
/ 23 - فيه: أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، أَنَّ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) رَكِبَ حِمَارًا عَلَيْهِ إِكَافٌ تَحْتَهُ قَطِيفَةٌ فَدَكِيَّةٌ، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ وَرَاءَهُ، وَهُوَ يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، حَتَّى مَرَّ فِى مَجْلِسٍ فِيهِ أَخْلاطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الأوْثَانِ وَالْيَهُودِ، وَفِيهِمْ عَبْدُاللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ بْنُ سَلُولَ، وَفِى الْمَجْلِسِ عَبْدُاللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَلَمَّا غَشِيَتِ الْمَجْلِسَ عَجَاجَةُ الدَّابَّةِ، خَمَّرَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ أُبَى أَنْفَهُ بِرِدَائِهِ، ثُمَّ قَالَ: لا تُغَبِّرُوا عَلَيْنَا، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمُ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ نَزَلَ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ. . . الحديث. قال الطبرى: فى هذا الحديث الابانة أنه لاحرج على المرء فى جلوسه مع قوم فيهم منافق أو كافر، وفى تسليمه عليهم إذا انتهى اليهم بالجلوس، وذلك أن النبى سلم على القوم الذين فيهم عبد الله بن أبى، ولم يمتنع من ذلك لمكان عبد الله مع نفاقه وعدواته للإسلام وأهله، إذ كان فيهم من أهل الإيمان جماعة. وقد روى عن الحسن البصرى أنه قال: إذا مررت بمجلس فيه مسلمون وكفار فسلم عليهم. وذلك خلاف ما يقول بعض الناس أن التسليم غير جائز على من كان عن سبيل الحق منحرفًا، إما لبدعه أو ضلاله من الأهواء الرديئة، أو لملة من ملل الكفار دان بها، وتكليمه(9/32)
غير سائغ وذلك أنه لا ضلالة أشنع ولابدعة أخبث ولا كفر ارجس من النفاق، ولم يكن فى نفاق عبد الله بن أبى يوم هذه القصة شك. وإن قيل: إن رسول الله إنما سلم عليه يومئذ ونزل إليه ليدعوه إلى الله وذلك فرض عليه. قيل: لم يكن نزوله عليه السلام ليدعوه، لأنه قد كان تقدم الدعاء منه لعبد الله بن الله بن أبى ولجماعة المنافقين فى أول الإسلام، فكيف يدعى إلى ما يظهره؟ وإنما نزل عليه السلام هناك استئلافا لهم ورفقا بهم، رجاء فى رجوعهم إلى الحق. قال المهلب: وقد كان عليه السلام يستألف بالمال، فضلا عن التحية والكلمة الطيبة، ومن استئلافة أنه كناه عند سعد بن عبادة، فقال له سعد: اعف عنه واصفح. أيلا تناصبه العداوة، كل هذا رجاء أن يراجع الإسلام، وقد أجاز ما لك تكنية اليهودى والنصرانى. قال الطبرى: وقد روى عن السلف أنهم كانوا يسلمون على أهل الكتاب، روى جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة قال: كنت ردفًا لابن مسعود فصحبنا دهقان من القنطرة إلى زرارة، فانشقت له طريق فأخذ فيه، فقال عبد الله: أين الرجل؟ فقلت: أخذ فى طريقه، فأتبعه بصره، وقال: السلام عليكم. فقلت ياأبا عبد الرحمن: أليس يكره أن يبدءوا بالسلام؟ قال: نعم، ولكن حق الصحبة. وقال إبراهيم: إذا كانت لك إلى يهودى حاجة فابدأه بالسلام. وكان أبو أمامه إذا أنصرف إلى بيته لايمر بمسلم ولا نصرانى(9/33)
ولا صغير ولا كبير إلا سلم عليه، فقيل له فى ذلك، فقال: أمرنا أن نفشى السلام. وقال كريب: كتب ابن عباس إلى يهودى جربا فسلم عليه، فقال له كريب: سلمت عليه فقال: ان الله هو السلام. وكان ابن محيريز يمر على السامرة فيسلم عليهم. وقال قتادة: إذا دخلت بيوت أهل الكتاب فقل: السلام على من أتبه الهدى. وسئل الأوزاعى عن مسلم مربكافر فسلم عليه، فقال إن سلمت فقد سلم الصالحون، وإن تركت فقد ترك الصالحون. فإن قال قائل: فما أنت قائل فيما رواه شعبة وسفيان عن سهيل بن أبى صالح، عن أبيه، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله: (لاتبدءوا النصارى واليهود بالسلام، وإذا لقيتموهم فى الطريق فضطروهم إلى أضيقة) ؟ قيل: كل الخبرين صحيح، وليس فى أحدهما خلاف للآخر وإنما فى حديث أسامة معنى خبر أبى هريرة، وذلك أن خبر أبى هريرة مخرجة العموم، وخبر أسامة مبين أن معناه الخصوص، وذلك أن فيه أن النبى عليه السلام لما رأى عبد الله بن أبى جالسًا وحوله رجال من قومه تذمم أن يجاوزه، فنزل فسلم فجلس، فكان نزوله إليه قضاء ذمام. وهو نظير ما ذكر علقمة عن عبد الله فى تسليمه على الدهقان الذى صحبه فى طريق الكوفة فقال: أنه صحبنا وللصحبة حق، وكما قال النخعى: إذا كانت لك إلى يهودى حاجة أو نصرانى فابدأه(9/34)
بالسلام. فبان بخبر أسامة أن قوله عليه السلام فى خبر أبى هريرة: (لاتبدءوهم بالسلام) إنما هو لا تبدءهم لغير سبب يدعوكم إلى أن تبدءهم: من قضاء ذمام أو حاجة تعرض لكم قبلهم، أو حق صحبة فى جواز أو سفر. قال المهلب: وفيه عيادة المريض على بعد والركوب إليه. وفيه: ركوب الحمر لأشراف الناس والارتداف. وقوله: خمر عبد الله أنفه يعنى غطاه، وكل مغطى عند العرب فهو مخمر، ومنه قوله عليه السلام للرجل فى إناء: (ألا خمرته ولو بعود تعرضه عليه) . والبحرة: القرية، وكل قرية لها نهر ماء جار أو نافع، فإن العرب تسميها بحرًا. وقد قيل فى قوله تعالى: (ظهر الفساد فى البر والبحر (أنه عنى بالبحر الأمصار التى فيها أنهار ماء، والعرب تقول: هذه بحرتنا، أى: بلدتنا، وقال ابن ميادة: كان بقاياه ببحر ملك نقيه سحق من رداء مخبر وقوله: يعصبوه أى: يسودوه، والسيد المطاع يقال له: المعصب، لأنه يعصب الأمر براسه. والتاج عندهم للملك، والعصابة للسيد المطاع. وقوله: شرق بذلك، أى غص به، يقال: غص الرجل بالطعام وشرق بالماء وسجى بالعظم.(9/35)
- باب: من لم يسلم على من اقترف ذنبًا ولم يرد سلامة حتى تتبين) توبته وإلى متى تتبين) توبة العاصى وَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: لا تُسَلِّمُوا عَلَى شَرَبَةِ الْخَمْرِ.
/ 24 - فيه: كَعْبَ، حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ غزوة تَبُوكَ، وَنَهَى النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ كَلامِنَا، وَآتِى النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ، فَأَقُولُ فِى نَفْسِى: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلامِ أَمْ لا؟ حَتَّى كَمَلَتْ خَمْسُونَ لَيْلَةً، وَآذَنَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى الْفَجْرَ. قال المهلب: ترك السلام على أهل المعاصى بمعنى التأديب لهم سنة ماضية بحديث كعب بن مالك وأصحابه: الثلاثة الذين خلفوا، وبذلك قال كثير من أهل العلم فى أهل البدع: لا يسلم عليهم، أدبا لهم. وقد روى عن على بن أبى طالب أنه قال: لاتسلموا على مدمن الخمر ولا على الملتهى بأبويه. ذكره الطبرى. وكذلك كان فى قطع الكلام عن كعب بن مالك وصاحبه حين تخلفوا عن رسول الله، وإظهار الموجدة عليهم أبلغ فى الأدب لهم، والإعراب أدب بالغ، ألا ترى قوله تعالى: (واللاتى تخافون نشوزهن فعظوهن واهجرهن فى المضاجع (. وقوله: وإلى متى تتبين توبة العاصى ليس فى ذلك حد محدودة، ولكن معناه أنه لاتتبين توبته من ساعته ولا ساعته ولايومه حتى يمر عليه ما يدل على ذلك.(9/36)
روى ابن وهب بإسناد أن يزيد بن أبى حبيب قال: لو مررت على قوم يلعبون بالشطرنج ما سلمت عليهم. وكان سعيد بن جبير إذا مر على أصحاب النرد لم يسلم عليهم. ورخص مالك فى السلام على من لم يدمن اللعب بها، وإنما يلعب به المرة بعد المرة.
- باب: كيف رد السلام على أهل الذمة
/ 25 - فيه: عَائِشَةَ، دَخَلَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ، فَفَهِمْتُهَا، فَقُلْتُ: عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، فَقَالَ عليه السَّلام: (مَهْلا يَا عَائِشَةُ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِى الأمْرِ كُلِّهِ) ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (فَقَدْ قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ) . / 26 - وفيه: ابْنِ عُمَر، وَأنس، أَنَّ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمُ - قَالَ ابن عُمر: الْيَهُودُ، وقَالَ أنس: أهل الكتاب - فقالوا: وَعَلَيْكَ) . لابن عمر ولأنس: وعليكم. السام: فسره أبو عبيد قال: هو الموت. قال الخطابى: وتأوله قتادة على خلاف ذلك، وروى عبد الوارث، عن سعيد بن أبى عروبة قال: كان قتادة يفسر السام عليكم: تسأمون دينكم، وهو مصدر من سئمته سآمه وسآمه مثل: رضعة رضاعة ورضاعًا ولذذته لذاذة.(9/37)
ووجدت هذا الذى فسره قتادة روى عن النبى عليه السلام ذكر بقى بن مخلد فى التفسير عن سعيد، عن قتادة، عن أنس (أن النبى عليه السلام بينا هو جالس مع أصحابه، إذ أتى يهودى فسلم عليهم فردوا عليه، فقال عليه السلام: هل تدرون ما قال؟ قالوا: سلم يا رسول الله. قال: سام عليكم، أى تسأمون دينكم) . قال أبو سليمان: ورواية (عليكم) بغير وار أحسن من رواية الواو، لأن معناه بغير واو: رددت ما قلتموه عليكم، وإذا أدخلت الواو صار المعنى على وعليكم، لأن الواو حرف التشريك. واختلف العلماء فى رد السلام على أهل الذمة فقالت طائفة: رد السلام فريضة على المؤمنين والكفار، قالوا: وهذا تأويل قوله السلام فريضة على المؤمنين والكفار، قالوا: وهذا تأويل قوله تعالى: (فحيوا بأحسن منها أو ردوها (قال ابن عباس وقتادة وغيره: هى عامة فى رد السلام على المؤمنين والكفار. قال وقوله تعالى: (أو ردوها (يقول: وعليكم للكفار. قال ابن عباس: ومن سلم عليك من خلق الله فاردد عليه، ولو كان مجوسيا. وروى ابن وهب، عن مالك: لاترد على اليهودى والنصرانى، فإن رددت فقل: عليك. وروى ابن عبد الحكم، عن مالك أنه يجوز تكنية اليهودى والنصرانى وعيادته، وهذا أكثر من رد السلام. وروى يحى عن مالك أنه سئل عمن سلم على يهودى أو نصرانى هل يستقليه ذلك؟ قال: لا.(9/38)
وقال ابن وهب: سلم على اليهودى والنصرانى، وتلا قوله تعالى: (وقولوا للناس حسنا (. وقالت طائفة: لا يرد السلام على أهل الذمة، وقوله تعالى: (فحيوا بأحسن منها أو ردوها (فى أهل الإسلام خاصة. عن عطاء. ورد عليه السلام على اليهود: (وعليكم) حجة لمن رأى الرد على أهل الذمة، فسقط قول عطاء. قال المهلب: وفى الحديث من الفقه جواز انخداع الرجل الشريف لمكايد أو عاص، ومقارضته من حيث لايشعر إذا رجا رجوعه وتوبته. وفيه: الانتصار للسلطاء، ووجوب ذلك على حاشيته وحشمه.؟
- باب: من نظر فى كتاب من يحذر على المسلمين ليستبين أمره
/ 27 - فيه: عَلِىّ، بَعَثَنِى النّبِىّ، عليه السَّلام، وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ وَأَبَا مَرْثَدٍ، وَكُلُّنَا فَارِسٌ، إلى رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا امْرَأَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مَعَهَا صَحِيفَةٌ مِنْ حَاطِبِ ابْنِ أَبِى بَلْتَعَةَ، فَأَدْرَكْنَاهَا تَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ لَهَا، فقُلْنَا لها: أَيْنَ الْكِتَابُ الَّذِى مَعَكِ؟ قَالَتْ: مَا مَعِى كِتَابٌ، فَأَنَخْنَا بِهَا، فَابْتَغَيْنَا فِى رَحْلِهَا، فَمَا وَجَدْنَا شَيْئًا، فقَالَ صَاحِبَاىَ: مَا نَرَى كِتَابًا، فقُلْتُ: لَقَدْ عَلِمْتُ مَا كَذَبَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَالَّذِى يُحْلَفُ بِهِ لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لأجَرِّدَنَّكِ، قَالَ: فَلَمَّا رَأَتِ االْجِدَّ مِنِّى، أَهْوَتْ بِيَدِهَا إِلَى حُجْزَتِهَا - وَهِىَ مُحْتَجِزَةٌ بِكِسَاءٍ - فَأَخْرَجَتِ الْكِتَابَ، قَالَ: فَانْطَلَقْنَا بِهِ إِلَى النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (مَا حَمَلَكَ يَا حَاطِبُ عَلَى مَا صَنَعْتَ) ؟ قَالَ: مَا بِى إِلا أَنْ أَكُونَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَا(9/39)
غَيَّرْتُ، وَلا بَدَّلْتُ، أَرَدْتُ أَنْ تَكُونَ لِى عِنْدَ الْقَوْمِ يَدٌ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهَا عَنْ أَهْلِى وَمَالِى، وَلَيْسَ مِنْ أَصْحَابِكَ هُنَاكَ إِلا وَلَهُ مَنْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ، قَالَ: (صَدَقَ، فَلا تَقُولُوا لَهُ إِلا خَيْرًا) . . . الحديث. . . فَقَالَ: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الْجَنَّةُ) ، قَالَ: فَدَمَعَتْ عَيْنَا عُمَرَ، وَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قال المهلب: فيه: هتك ستر المذنب وكشف المأة العاصية وأن الحديث الذى روى أنه لا يجوز النظر فى كتاب أحد، وأن ذلك حرام وماجاء من التغليظ فيه، فإن ذلك لمن يظن به كتابه إلا الخير، فإن كان متهمًا على المسلمين فلا حرمه لكتابه ولا له. ألا ترى أن المرأة لا يجوز النظر إليها عريانة لغير ذى محرم منها لأنها عورة، وقد أراد على تجريدها لو لم تخرج الكتاب وأقسم أن لم تخرجه ليجردها، فحرمه المرأة أكثر من حرمة الكتاب، وقد سقطت عند خيانتها فكذلك حرمة الكتاب. وفيه: دليل أنه لابأس بالنظر إلى عورة المرأة عند الأمر ينزل فلا يجد من النظر إليها بدا، ويشهد لصحة ذلك ما رواه مالك، عن سهيل ابن أبى صالح، عن أبيه، عن أبى هريرة: (أن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله، أرأيت ان وجدت مع أمرأتى رجلا أمهله حتى أتى بأربعة شهداء فقال رسول الله: نعم) . قال الطبرى: ولو كان الشهداء الأربعة إذا حضروا لم يجز لهم النظر إلى فروجهما، لم يكن حضورهم وغيبتهم إلا سواء، لأن الشهادة على الزنا لاتصح إلا أن يشهد الشهود أنهم رأوا ذلك منهما كالميل فى المكحلة.(9/40)
وقد تقدم بعض معانى هذه الحديث فى باب الجاسوس فى كتاب الجهاد وفى باب المتأولين فى آخر الديات، فأغنى عن إعادته.
- باب: كيف يكتب إلى أهل الكتاب
/ 28 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِى نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ - وَكَانُوا تِجَارًا. . . الحديث، ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقُرِئَ، فَإِذَا فِيهِ: (بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، السَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ) . يكتب إلى أهل الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم، ويقدم الكاتب اسمه فى كتابه كما يفعل إذا كتب إلى مسلم، وفى هذا الحديث حجة لمن أجاز أن يبدأ أهل الكتاب بالسلام عند الحاجة تكون اليهم لأن النبى إنما كتب إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام.
- باب: فيمن يبدأ فى الكتاب
/ 29 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) (أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلا مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ، أَخَذَ نَقَرَ خَشَبَةً، فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ: مِنْ فُلانٍ إِلَى فُلانٍ) . قال المهلب: السنة أن يبدأ صاحب الكتاب بذكر نفسه فكذلك هى فى جميع الأشياء، ألا ترى أنه قد جاء فى الحديث: صاحب الدابة أولى لمقدمها) .(9/41)
وروى معمر، عن أيوب قال: (قرأت كتابًا: من العلاء بن الحضرمى إلى محمد رسول الله) . وقال الشعبى: (كتب أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل: من أبى عبيدة ومعاذ لعبد الله عمر أمير المؤمنين) وقال نافع: كان عمال عمر إذا كتبوا إليه بدءوا بأنفسهم. وقال معمر، عن أيوب، عن نافع: كان ابن عمر أمر غلمانه إذا كتبوا إليه أن يبدءوا بأنفسهم، وإلا لم يرد اليهم جوابًا. وأجاز قوم أن يبدأ باسم غيره قبله، قال معمر: وكان أيوب ربما بدأ باسم الرجل قبله إذا كتب إليه. وروى أشهب: سئل مالك عن الذى يبدأ فى الكتاب بأصغر منه ولعله ليس بأفضل منه، قال: لابأس بذلك، أرأيت لو أوسع له فى المجلس إذا جاء إعظامًا له؟ وقال: إن أهل العراق يقولون: لاتبدأ بأحد قبلك، وإن كان أباك أو أكبر منك. يعيب ذلك من قولهم.
- باب: قول النبى عليه السلام قوموا إلى سيدكم
/ 30 - فيه: أَبُو سَعِيد، أَنَّ أَهْلَ قُرَيْظَةَ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ، فَأَرْسَلَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) إِلَيْهِ فَجَاءَ، فَقَالَ: (قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ - أَوْ قَالَ: خَيْرِكُمْ) - فَقَعَدَ عِنْدَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ النَّبِىِّ: (هَؤُلاءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ) ، قَالَ: فَإِنِّى أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ، وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ، فَقَالَ: (لَقَدْ حَكَمْتَ بِمَا حَكَمَ بِهِ الْمَلِكُ) .(9/42)
قال المهلب: فيه أمر السلطان والحاكم بإكرام السيد من المسلمين، وجواز إكرام أهل الفضل فى مجلس السلطان الأكبر، والقيام فيه لغيره من أصحابه، وإلزام الناس كافة للقيام إلى سيدهم. قال الطبرى: فإن قال قائل: قد عارض حديث أبى سعيد ما روى مسعر، عن أبيالعديس، عن أبى مرزوق، عن أبى غالب، عن أبى أمامه قال: (خرج علينا علينا النبى متوكئًا على عصاه فقمنا له، فقال: لاتقوموا كما يقوم الاعاجم بعضهم لبعض) . قال الطبرى: وحديث أبى أمامة لا يجوز الاحتجاج به فى الدين وذلك أن أبا العديس وأبا مرزوق غير معروفين، مع اضطراب من ناقليه فى سنده، فمن قائل فيه عن أبى العديس، عن أبى أمامة. فإن ظن ظان أن حديث عبد الله بن بريده أن أباه دخل على معاوية فأخبرة أن النبى عليه السلام قال: (من أحب أن يتمثل له الرجال قيامًا وجبت له النار) حجة لمن أنكر القيام للسادة، فقد ظن غير الصواب، وذلك أن هذا الخبر إنما ينبىء عن نهى رسول الله للذى يقام له السرور بما يفعل له من ذلك لا عن نهيه القائم عن القيام، وقد روى حماد بن زيد، عن ابن عون قال: كان المهلب بن أبى صفرة يمر بنا ونحن غلمان فى الكتاب فنقوم يوقوم الناس سماطين. وقال ابن قتيبه: معنى حديث معاوية وبريدة من أراد أن يقوم الرجال على رأسه كما يقام بين يدى الملوك والأمراء، وليس قيام الرجل لأخيه إذا سلم عليه من هذا فى شىء، لقوله: (من سره أن يقوم له الرجال صفوفنًا والصافن: هو الذى أطال القيام(9/43)
فاحتاج لطول قيامه أن يرفع احدى رجليه ليستريح، وكذلك الصافن من الدواب. وروى النسائى: حديثنا زكريا بن يحى، حدثنى اسحاق، عن النضر بن شميل، حديثنا إسرائيل، عن ميسرة بن حبيب، عن المنهال قال: حدثتنى عائشة بنت طلحة، عن عائشة أم المؤمنين قالت: (كان رسول الله إذا رأى فاطمة ابنته قد أقبلت رحب بها، ثم قام إليها فقبلها، ثم أخذ بيدها حتى يجلسها فى مكانه) .
- باب: المصافحة
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَلَّمَنِى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) التَّشَهُّدَ وَكَفِّى بَيْنَ كَفَّيْهِ. وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا بِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَامَ إِلَى طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِى وَهَنَّأَنِى. / 31 - فيه: قَتَادَةَ، قَالَ: قُلْتُ لأنَسٍ بن مالك: أَكَانَتِ الْمُصَافَحَةُ فِى أَصْحَابِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ؟ قَالَ: نَعَمْ. / 32 - وفيه: عَبْدَاللَّهِ بْنَ هِشَامٍ، كُنَّا مَعَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. المصافحة حسنة عند عامة العلماء، وقد استحبها مالك بعد كراهة، وهى مما تنبت الود وتؤد المحبة، ألا ترى قول كعب بن مالك فى حديثه الطويل حين قام إليه طلحة وصافحه: (فوالله لا أنساها لطلحة أبدًا) فأخبر بعظيم موقع قيام طلحة إليه من نفسه ومصافحته له وسروره بذلك، وكان عنده أفضل الصله والمشاركة له، وقد قال أنس: إن المصافحة كانت فى أصحاب رسول الله، وهم الحجة والقدوة الذين يلزم اتباعهم، وقد ورد فى المصافحة أثار حسان.(9/44)
روى ابن أبى شيبه: حديثنا أبو خالد وابن نمير، عن الأجلح، عن أبى إسحاق، عن البراء قال: قال رسول الله: (ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يفترقا) . وروى حماد عن حميد، عن أنس، عن النبى - عليه السلام - أنه قال: (أهل اليمن أول من جاء بالمصافحة) . وروى ابن المبارك من حديث أنس بن مالك قال: (كان رسول الله إذا استقبله الرجل فصافحة لاينزع يده حتى يكون هو الذى نزع ولا يصرف وجهه عن وجهه حتى يكون الرجل هو الذى يصرفه) .
- باب الأخذ باليدين
وَصَافَحَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ بْنَ الْمُبَارَكِ بِيَدَيْهِ. / 33 - فيه: ابْنُ مَسْعُودٍ عَلَّمَنِى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَكَفِّى بَيْنَ كَفَّيْهِ التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنِى السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ. . . وذكر الحديث. الأخذ باليدين هو مبالغةالمصافحة، وذلك مستحب عند العلماء، وإنما اختلفوا فى تقبيل اليد، فأنكره مالك وأنكر ما روى فيه، وأجازه آخرون، واحتجوا بما روى عن ابن عمر فى قصة السريه حيث فروا فرجعوا إلى النبى عليه السلام فقالوا: (نحن الفرارون يا رسول الله؟ فقال: بل أنتم العكارون أنا فئه المؤمنين. قال: فقبلنا يده) . وقبل أبو لبابة وكعب بن مالك وصاحباه يد رسول الله حين تاب الله عليهم ذكره الأبهري.(9/45)
وقد قبل أبو عبيدة يد عمر بن الخطاب حين قدم من سفر، وقبل زيد بن ثابت يد ابن عباس حين حبس ابن عباس بركابه، فقال ابن عباس: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا، وقال زيد: هكذا أمرنا أن نفعل بآل رسول الله. قال الأبهرى: وإنما كرهها مالك إذا كانت على وجه التكبر والتعظيم لمن فعل ذلك به، وأما إذا قبل إنسان يد إنسان أو وجهه أو شيئًا من بدنه مالم يكن عورة على وجه القربه إلى الله لدينه أو لعلمه أو لشرفه، فإن ذلك جائز، وتقبيل يد النبى عليه السلام تقرب إلى الله. وما كان من ذلك تعظيمًا لدينا أو سلطان أو شبه ذلك من وجه التكبر فلا يجوز وهو مكروه. وذكر الترمذى من حديث شعبه، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله ابن سلمه، عن صفوان بن عسال (أن يهوديين أتيا إلى النبى عليه السلام فسألاه عن تسع آيات بينات فقال: لاتشركوا بالله شيئًا، ولاتسرقوا، ولاتزنزا، ولاتقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق، ولا تأكلوا الربا، ولاتقذفوا محصنة، ولاتولوا الفرار يوم الزحف وعليكم خاصة اليهود أن لا تعتدوا فى السبت. فقبلوا يده ورجله، وقالا: نشهد أنك نبى الله) قال الترمذى: وهذا حديث حسن صحيح، وفى الباب عن يزيد بن أسود وابن عمر وكعب بن مالك.(9/46)
- باب: المعانقة وقول الرجل كيف أصبحت
/ 34 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ عَلِىّ بْن أَبِى طَالِب خَرَجَ مِنْ عِنْدِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) فِى وَجَعِهِ الَّذِى تُوُفِّى فِيهِ، فَقَالَ النَّاسُ: يَا أَبَا حَسَنٍ، كَيْفَ أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: أَصْبَحَ بِحَمْدِ اللَّهِ بَارِئًا، فَأَخَذَ بِيَدِهِ الْعَبَّاسُ، فَقَالَ: أَلا تَرَاهُ؟ أَنْتَ وَاللَّهِ بَعْدَ الثَّلاثِ عَبْدُ الْعَصَا، وَاللَّهِ إِنِّى لأرَى رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) سَيُتَوَفَّى فِى وَجَعِهِ، وَإِنِّى لأعْرِفُ فِى وُجُوهِ بَنِى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْمَوْتَ، فَاذْهَبْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَنَسْأَلَهُ، فِيمَنْ يَكُونُ الأمْرُ؟ فَإِنْ كَانَ فِينَا عَلِمْنَا ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ فِى غَيْرِنَا، أَمَرْنَاهُ فَأَوْصَى بِنَا، قَالَ عَلِىٌّ: وَاللَّهِ لَئِنْ سَأَلْنَاهَا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَيَمْنَعُنَا، لا يُعْطِينَاهَا النَّاسُ أَبَدًا، وَإِنِّى لا أَسْأَلُهَا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَبَدًا. قال المهلب: ترجم هذا الباب بباب المعانقة، ولم يذكرها فى الباب، وإنما أن يدخل فيه معانقة النبى للحسن حديث ابن لكع الذى ذكره فى كتاب البيوع فى باب ماذكر فى الأسواق، وقال أبو هريرة: (خرج رسول الله فى طائفة من النهار لا يكلمنى حتى أتى بسوق بنى قينقاع، فجلس بفناء بيت فاطمة من النهار لايكلمنى حتى أتى بسوق بنى يشتد حتى عانقه وقبله. . . .) الحديث، ولم يجد له سندًا غير السند الذى أدخله به فى غير هذا الباب، فمات قبل ذلك، وبقى الباب فارغًا من ذكر المعانقة، وتحته باب آخر قول الرجل كيف أصبحت، وأدخل حديث على، فلما وجد ناسخ الكتاب الترجمتين متواليتين ظنهما واحدة إذ لم يجد بينهما حديثًا، وفى كتاب الجهاد من تتابع الأبواب الفارغة مواضع لم يدرك أن يتمها بالأحاديث.(9/47)
وقد اختلف الناس فى المعانقة فكرهها مالك وأجازها ابن عبيبه، حدثنا عبد الوهاب بن زياد بن يونس إجازة، قال: حدثنا أبى، قال: حدثنا سعيد بن إسحاق، قال: حدثنا على بن يونس الليثى المدنى قال: كنت جالسا عند مالك بن أنس إذ جاء سفيان بن عبيينه يستأذن الباب، فقال مالك: رجل صاحب سنة أدخلوه. فدخل فقال: السلام عليك ياأبا عبد الله ورحمة الله وبركاتة. فقال مالك: وعليك السلام ياأبا محمد ورحمة الله وبركاتة. فصافحة ثم قال: ياأبا محمد، لولا أنها بدعة لعنقناك. قال سفيان: عانق خير منك، النبى عليه السلام قال مالك: جعفر؟ قال: نعم. قال: ذلك حديث خاص ياأبا محمد. قال سفيان: مايعم جعفر يعمنا، ومايخص جعفر يخصنا، إذ كنا صالحين أفتأذن لى أن حدثنى عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس أنه قال: (لما قدم جعفر من أرض الحبشة أعتنقه النبى عليه السلام وقبل بين عينيه، فقال: جعفر أشبه الناس بى خلقًا وخلقًا) . وروى عبد الرازق، عن سليمان بن داود قال: رأيت الثورى ومعمر حين التقيا احتضنا وقبل كل واحد منهما صاحبه. وقد وردت فى المعانقة آثار ذكر الترمذى عن ابن إسحاق، عن عروه، عن عائشة قالت: (قدم زيد بن حارثه المدينة ورسول الله فى بيتى، فأتاه فقرع الباب، فقام إليه رسول الله عريانا يجر ثوبه والله ما رأيته عريانا قبله ولا بعده فاعتنقه وقبله) . وروى سليمان بن داود، عن عبد الحكم بن منصور، عن عبد الملك(9/48)
ابن عمير، عن أبى سلمه بن عبد الرحمن، عن أبى الهيثم بن التيهان: (أن النبى عليه السلام لقيه فاعتنقه وقبله) من حديث قاسم بن أصبغ، عن محمد بن غالب، عن سليمان بن داود. قال المهلب: وفى أخذ العباس بيد على جواز المصافحة. وفيه: جواز قول الرجل يسأل عن حال العليل: كيف أصبح؟ وإذا جاز أن يقال: كيف اصبح جاز أن يقال: كيف أصبحت؟ ولكن لا يكون هذا إلا بعد التحية المأمور بها من السلام. وقول العباس: (ألا تراه؟ والله بعد ثلاث عبد العصا) يعنى بقوله: ألا تراه ميتًا أى فيه علامة الموت، ثم قال له: (أنت بعد ثلاث عبد العصا) . فيه: جواز اليمين على ماقام عليه الدليل. . وفيه: أن الخلافة لم تكن مذكورة بعد النبى عليه السلام لعلى أصلاً، لأنه قد حلف العباس أنه مأمور لا آمر، لما كان يعرف من توجيه النبى عليه السلام بها إلى غيره، وفى سكوت على على ماقال العباس وحلف عليه دليل على علم بما يقال العباس أنه مأمور من غيره وماخشية على من أن يصرح النبى عليه السلام بصرف الخلافة إلى غير عبد المطلب فلا يمكنهم أحد بعده منها ليس كما ظن والله أعلم، لأن النبى عليه السلام قد قال: (مروا أبا بكر يصلى بالناس، فقيل له: لو أمرت عمر) فلم ير ذلك ومنع عمر من التقدم فلم يكن ذلك محرمها على عمر بعد.(9/49)
- باب: من أجاب بلبيك وسعديك
/ 35 - فيه: مُعَاذٍ، قَالَ: أَنَا رَدِيفُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (يَا مُعَاذُ) ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ - ثُمَّ قَالَ مِثْلَهُ ثَلاثًا - (هَلْ تَدْرِى مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ) ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: (حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) ، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، فَقَالَ: (يَا مُعَاذُ) ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: (هَلْ تَدْرِى مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ، أَنْ لا يُعَذِّبَهُمْ) . / 36 - وفيه: أَبُو ذَرّ، قَالَ: كُنْتُ أَمْشِى مَعَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فِى حَرَّةِ الْمَدِينَةِ عِشَاءً، فَقَالَ: (يَا أَبَا ذَرٍّ) ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: (الأكْثَرُونَ هُمُ الأقَلُّونَ. . .) ، الحديث، إلى قوله: (أَتَانِى فَأَخْبَرَنِى أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِى لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ) ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: (وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ) . قَالَ الأعْمَشُ: وَحَدَّثَنِى أَبُو صَالِحٍ، عَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ نَحْوَهُ. قال ابن الأنبارى: معنى قوله: (لبيك) أنا مقيم على طاعتك من قولهم: لب فلان بالمكان وألب به إذا أقام به، ومعنى سعديك من الاسعاد والمتابعة. وقال غيره: معنى (لبيك) أى: اجابة بعد إجابة، ومعنى سعديك: إسعادًا لك بعد إسعاد. قال المهلب: والإجابة بنعم وكل مايفهم منه الإجابة كاف، ولكن إجابة السيد والتشريف بالتلبية والارحاب والإسعاد أفضل. فإن اعترض بقوله عليه السلام: (هل تدرى ما حق العباد على الله) من زعم من المرجئهة أن الله يجب عليه ثواب المطيعين.(9/50)
فجواب أهل السنة لهم القائلين أن الله لايحب عليه شىء لعباده أن هذا اللفظ خرج على التزاوج والتقابل لما تقدم فى أول الكلام من ذكر حق الله على العباد كما قال تعالى: (وجزاء سيئة سيئة مثلها (فسمى الجزاء على السيئة باسم السيئة فكذلك هاهنا سمى ثوابه الطائعين من عباده باسم مااستحقه تعالى عليهم من طاعتهم له، وإنما معنى حق العباد على الله انجاز ماوعد به تعالى من أن يدخلهم الجنة، وسيأتى فى كتاب الاعتصام.
- باب: قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا فى المجالس (الآية
(1) / 37 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، عَنِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُقَامَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ، وَيَجْلِسَ فِيهِ آخَرُ، وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَكْرَهُ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ، ثُمَّ يَجْلِسَ مَكَانَهُ. قال المؤلف: قوله: (تفسحوا) من قولهم: مكان فسيح إذا كان واسعًا، واختلف أهل العلم فى المجلس الذى أمر الله بالتفسح فيه، فقال بعضهم: هو مجلس النبى عليه السلام خاصة. عن مجاهد وقتادة: كانوا يتنافسون فى مجلس النبى عليه السلام إذا رأوه مقبلاً ضيقوا مجلسهم، فأمر الله تعالى أن يوسع بعضهم لبعض. وقال آخرون: عنى بذلك مجلس القتال، عن الحسن البصرى ويزيد بن أبى حبيب، وقال ابن الأدفوى: حمل الآية على العموم(9/51)
أولى فيكون لمجلس النبى عليه السلام ومجلس الحرب، ومجلس الذكر، والمجلس اسم للجنس يراد به مجالس. وقوله: (فأفسحوا يفسح الله لكم) أى: فوسعوا يوسع الله عليكم منازلكم فى الجنة، وقوموا إلى قتال العدو أو صلاة أو عمل خير أو تفرقوا عن رسول الله فقوموا، عن قتادة ومجاهد. وقال ابن زيد: انشزوا عن رسول الله فى بيته، فأنه به حوائج. قال صاحب العين: نشز القوم من مجلسهم: قاموا منه. واختلف فى تأويل نهيه عليه السلام عن أن يقام الرجل عن مجلسه ويجلس فيه آخر، فتأوله قوم على الندب وقالوا: هو من باب الأدب، لأنه قد يحب للعالم أن يليه أهل الفهم والنهى، ويوسع لهم فى الحلقة حتى يجلسوا بين يديه. وتأوله قوم على الوجوب وقالوا: لا ينبغى لمن سبق إلى مجلس مباح للحلوس أن يقام منه. واحتجوا بما رواه معمر، عن سهيل بن أبى صالح، عن أبيه، عن أبى هريرة، عن النبى عليه السلام أنه قال: (إذا قام أحدكم من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به) قالوا: فلما كان أحق به بعد رجوعه كان أولى أن يكون أحق به مادام فيه، قالوا: وقد كان ابن عمر يقوم له الرجل من تلقاء فما يجلس فى مجلسه، قالوا: وابن عمر راوى الحديث عن النبى فهو أعلم بتأويله.(9/52)
وحجة الذين حملوه على الندب أن قالوا: لما كان موضوع جلوسه فى المسجد أو حلقة العالم غير متملك له، ولم يستحقه أحد قبل الجلوس فيه، لم يستحقه أحد بالجلوس فيه، وكان حكم الجلوس كحكم المكان فى أنهما غير متملكين، قالوا: وأما حديث أبى هريرة فقد تأوله العلماء على وجين: على الوجوب، والندب كما تأولوا حديث ابن عمر. فقال محمد بن مسلمه: معنى قوله: (فهو أحق به) يريد إذا جلس فى مجلس العالم فهو أولى به إذا قام لحاجة، فأما إن قاما تاركا له فليس هو أولى به من غيره. والوجه الثانى: روى أشهب، عن مالك أنه سئل عن الذى يقوم من المجلس، فقيل له: إن بعض الناس يقول: إذا رجع فهو أحق به. قال: ماسمعت به، وإنه لحسن إذا كانت أوبته قريبه، وإن بعد ذلك حتى يذهب فيتغدى ونحو ذلك فلا أرى ذلك له، وإن هذا من محاسن الأخلاق.
- باب: من قام من مجلسه أو بيته ولم يستأذن أصحابه أو تهيأ للقيام ليقوم الناس
/ 38 - فيه: أَنَس، لَمَّا تَزَوَّجَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ، دَعَا النَّاسَ طَعِمُوا، ثُمَّ جَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ، قَالَ: فَأَخَذَ كَأَنَّهُ يَتَهَيَّأُ لِلْقِيَامِ، فَلَمْ يَقُومُوا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَامَ، فَلَمَّا قَامَ، قَامَ مَنْ قَامَ مَعَهُ مِنَ النَّاسِ، وَبَقِىَ ثَلاثَةٌ، وَإِنَّ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) جَاءَ لِيَدْخُلَ، فَإِذَا الْقَوْمُ جُلُوسٌ، ثُمَّ إِنَّهُمْ قَامُوا،(9/53)
فَانْطَلَقُوا، فَجِئْتُ، فَأَخْبَرْتُ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) أَنَّهُمْ قَدِ انْطَلَقُوا، فَجَاءَ حَتَّى دَخَلَ، فَذَهَبْتُ أَدْخُلُ، فَأَرْخَى الْحِجَابَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِى إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ (إِلَى قَوْلِهِ: (عَظِيمًا (. قال المؤلف: جاء فى بعض طرق الحديث أن النبى عليه السلام استحيا أن يقول للذين أطالوا الحديث فى بيته: قوموا، ويخرجهم من بيته لأنه كان عليه السلام على خلق عظيم، وكان أشد الناس حياء فيما لم يؤمر فيه ولم ينه، فإذا أمره الله لم يستحى من إنفاذ أمر الله - عز وجل - والصدع به، وكان جلوسهم عنده بعد ماطمعوا للحديث أذى له ولأهله، قال الله تعالى: (إن ذلكم كان يؤذى النبى فيستحى منكم والله لايستحى من الحق (فقد حرم الله - عز وجل - أذى رسوله عليه السلام فأنزل الله من أجل ذلك الآية. وفيه: أنه لا ينبغى لأحد أن يدخل بيت غيره إلا بإذنه، وأن الداخل المأذون له لا ينبغى له أن يطول الجلوس فيه بعد تمام حاجته التى دخل لها لئلا يؤذى الداخل الذى أدخله، ويمنع أهله من التصرف فى مصالحهم. وفيه: أن من أطال الجلوس فى دار غيره حتى كره ذلك من فعله، فإن لصاحب الدار أن يقوم بغير إذنه ويظهر التثاقل عليه فى ذلك حتى يفطن له، وأنه إذا قام فإن للداخل القيام معه، وأنه لا يجوز له الجلوس فيه بعده إلا أن يأذن له فى ذلك صاحب المنزل.(9/54)
30 - باب: الاحتباء باليد وهى القرفصاء
/ 39 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ: رَأَيْتُ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ مُحْتَبِيًا، بِيَدِهِ هَكَذَا. إنما يجوز الاحتباء لمن جلس فى حبوته، فأما إن تحرك وصنع بيديه شيئًا أو صلى فلا يجوز له ذلك، لأن عورته تبدو إلا أن يكون احتباؤه على ثوب يستر عورته فذلك جائز، وقد تقدم تفسير الاحتباء فى أبواب اللباس فى الصلاة.
31 - باب من أتكأ بين يدى أصحابه
وَقَالَ خَبَّابٌ: أَتَيْتُ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً، قُلْتُ: أَلا تَدْعُو اللَّهَ فَقَعَدَ. / 40 - فيه: أَبُو بَكْرَة، قَالَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ) ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: (الإشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ) . وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ، فَقَالَ: (أَلا وَقَوْلُ الزُّورِ) . قال المهلب: فيه جواز العالم بين يدى الناس، وفى مجلس الفتوى، وكذلك السلطان والأمير فى بعض مايحتاج إليه من ذلك لراحة يتعاقب بها فى جلسته أو لألم يجده فى بعض أعضائه أو لما هو أرفق به، ولا يكون ذلك عامة جلوسه، لأنه قال عليه السلام آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد. ولم يكن يأكل متكئًا.
32 - باب: من اسرع فى مشيته لحاجة أو قصد
/ 41 - فيه: عُقْبَةَ بْنَ الْحَارِثِ، قَالَ: صَلَّى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) الْعَصْرَ، فَأَسْرَعَ، ثُمَّ دَخَلَ الْبَيْتَ.(9/55)
قال المؤلف: فيه جواز إسراع السلطان والعالم فى حوائجهم والمبادرة إليها. وقد جاء أن إسراعه عليه السلام فى دخوله البيت إنما كان لأنه ذكر أن عنده صدقه، فأحب أن يفرقها فى وقته ذلك. وفيه: فضل تعجيل افعال البر وترك تأخيرها. وذكر ابن المبارك بإسناده: (أن رسول الله عليه السلام كان يمشى مشية السوقى: لا العاجز ولا الكسلان) وكان ابن عمر يسرع المشى ويقول: هو أبعد من الزهو، وأسرع فى الحاجة.
33 - باب: السرير
/ 42 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّى وَسْطَ السَّرِيرِ، وَأَنَا مُضْطَجِعَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، تَكُونُ لِىَ الْحَاجَةُ، فَأَكْرَهُ أَنْ أَقُومَ، فَأَسْتَقْبِلَهُ، فَأَنْسَلُّ انْسِلالا. فيه: اتخاذ الصالحين الأسرة ونومهم عليها، وجواز الصلاة فيها. وفيه: جواز الاضطجاع للمرأة بحضرة زوجها.
34 - باب: من ألقى له وسادة
/ 43 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ذُكِرَ لَهُ صَوْمِى، فَدَخَلَ، عَلَى فَأَلْقَيْتُ لَهُ وِسَادَةً مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، فَجَلَسَ عَلَى الأرْضِ، فَصَارَتِ الْوِسَادَةُ بَيْنِى وَبَيْنَهُ. . . . الحديث.(9/56)
/ 44 - وفيه: عَلْقَمَة، أنه قدم الشَّامِ، فَأَتَى الْمَسْجِدَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِى جَلِيسًا صالحًا، فَجَلس إِلَى أَبِى الدَّرْدَاءِ، فَقَالَ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ قلت: مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، قَالَ: أَلَيْسَ فِيكُمْ صَاحِبُ السِّرِّ الَّذِى كَانَ لا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ حُذَيْفَةَ؟ أَلَيْسَ فِيكُمْ - أَوْ كَانَ فِيكُمِ - الَّذِى أَجَارَهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنَ الشَّيْطَانِ - يَعْنِى عَمَّارًا - أَوَلَيْسَ فِيكُمْ صَاحِبُ السِّوَاكِ وَالْوِسَادِ - يَعْنِى ابْنَ مَسْعُودٍ -؟ . . . . الحديث. قال المهلب: فيه إكرام السلطان والعالم وإلقاء الوسادة له. وفيه: أن السلطان والعالم يزور أصحابه، ويقصدهم فى منازلهم، ويعلمهم مايحتاجون إليه من دينهم. وفيه: جواز رد الكرامة على أهلها إذا لم يردها الذى خص بها، لأن النبى عليه السلام لم يجلس على الوسادة حين ألقيت له، وجلس على الأرض. وفيه: إيثار التواضع على الترفع، وحمل النفس على التذلل. وفيه: أن خدمة السلطان يجب أن يعرف كل واحد منهم بخطته.
35 - باب: القائلة بعد الجمعة
/ 45 - فيه: سَهْلِ، قَالَ: كُنَّا نَقِيلُ وَنَتَغَدَّى بَعْدَ الْجُمُعَةِ. قد تقدم الكلام فى هذا فى كتاب الجمعة فأغنى عن إعادته وفيه: أن القائلة بعد الجمعة من الأمر بالمعروف، وذلك - والله أعلم - ليستعان بها على قيام الليل لقصر ليل الصيف.(9/57)
36 - باب: القائلة فى المسجد
/ 46 - فيه: سَهْل، قَالَ: مَا كَانَ لِعَلِىٍّ، رضى اللَّه عنه، اسْمٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَبِى تُرَابٍ، وَإِنْ كَانَ لَيَفْرَحُ بِهِ إِذَا دُعِىَ بِهَا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بَيْتَ فَاطِمَةَ، فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا فِى الْبَيْتِ، فَقَالَ: (أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ) ؟ فَقَالَتْ: كَانَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ شَىْءٌ، فَغَاضَبَنِى، فَخَرَجَ فَلَمْ يَقِلْ عِنْدِى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لإنْسَانٍ: (انْظُرْ أَيْنَ هُوَ) ؟ فَجَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُوَ فِى الْمَسْجِدِ رَاقِدٌ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ مُضْطَجِعٌ، قَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ شِقِّهِ، فَأَصَابَهُ تُرَابٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَمْسَحُهُ عَنْهُ، ويَقُولُ: (قُمْ أَبَا تُرَابٍ. . .) ، الحديث. قال المهلب: فيه جواز بالنهار والليل فى المسجد من غير ضرورة إلى ذلك، وقد تقدم من أجاز ذلك ومن كرهه، فى كتاب الصلاة، فى باب نوم الرجل فى المسجد. وفيه: ممازحه الصهر وتكنيته بغير كنته، وبشىء عرض له، كما كنى أبا هريرة بهره، كذلك كنى عليه السلام عليا بالتراب الذى احتبس إليه. وفيه: جواز الممازحة لأهل الفضل، وكان النبى عليه السلام يمزح ولا يقول إلا حقا. وفيه: الرفق بالاصهار وإلطافهم، وترك معاتبتهم على مايكون منهم لأهلهم، لأن النبى عليه السلام لم يعاتب عليا على مغاضبته لأهله، بل قال له: قم. وعرض له بالانصراف إلى أهله.
37 - باب: من زار قوما فقال عندهم
/ 47 - فيه: ثُمَامَةَ، أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ كَانَتْ تَبْسُطُ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) نِطَعًا، فَيَقِيلُ عِنْدَهَا عَلَى ذَلِكَ النِّطَعِ، قَالَ: فَإِذَا نَامَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) أَخَذَتْ مِنْ عَرَقِهِ وَشَعَرِهِ،(9/58)
فَجَمَعَتْهُ فِى قَارُورَةٍ، ثُمَّ جَمَعَتْهُ فِى سُكٍّ، قَالَ: فَلَمَّا حَضَرَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ الْوَفَاةُ أَوْصَى إِلَى أَنْ يُجْعَلَ فِى حَنُوطِهِ مِنْ ذَلِكَ السُّكِّ، قَالَ: فَجُعِلَ فِى حَنُوطِهِ. / 48 - وفيه: أَنَس، كَانَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا ذَهَبَ إِلَى قُبَاءٍ يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ، فَتُطْعِمُهُ، وَكَانَتْ تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فَدَخَلَ يَوْمًا، فَأَطْعَمَتْهُ، فَنَامَ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ يَضْحَكُ. . . فذكر الحديث. فيه: جواز القائلة للأمام والرئيس والعالم عند معارفه وثقات إخوانه، وأن ذلك يسقط المؤنة، ويثبت الود، ويؤكد المحبة. وفيه: طهارة شعر ابن آدم وعرقه.
38 - باب: الجلوس كيفما تيسر
/ 49 - فيه: أَبُو سَعِيد الْخُدْرِىِّ، قَالَ: نَهَى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) عَنْ لِبْسَتَيْنِ، وَعَنْ بَيْعَتَيْنِ، اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ وَالاحْتِبَاءِ فِى ثَوْبٍ وَاحِدٍ، لَيْسَ عَلَى فَرْجِ الإنْسَانِ مِنْهُ شَىْءٌ، وَالْمُلامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ. قال المهلب: هذه الترجمة قائمة من دليل هذا الحديث، وذلك أنه عليه السلام نهى عن حالتين وهما: اشتمال الصماء، والاحتباء، فمفهوم منه إباحة غيرهما مما تسر من الهيئات والملابس إذا ستر ذلك العورة. ورأيت لطاوس أنه كان يكره التربع ويقول: هو جلسة مملكة، وإنما نهى عن هاتين اللبستين فى الصلاة، لأنهما، لا يستران العورة عند(9/59)
الحفض والرفع وإخراج اليدين، فأما الجالس لا يصنع شيئا ولا يتصرف بيديه وتكون عورته مستورة فلا حرج عليه فيهما، لأنه قد ثبت عن النبى - عليه السلام - أنه احتبى بفناء الكعبة، ذكره فى باب الاحتباء باليد وهى القرفصاء - قبل هذا.
39 - باب: من ناجى بين يدى الناس ولم يخبر بسر صاحبه فإذا مات أخبر به
/ 50 - فيه: عَائِشَةُ، قَالَتْ: إِنَّا كُنَّا أَزْوَاجَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) عِنْدَهُ جَمِيعًا لَمْ تُغَادَرْ مِنَّا وَاحِدَةٌ، فَأَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ تَمْشِى، لا، وَاللَّهِ مَا تَخْفَى مِشْيَتُهَا مِنْ مِشْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمَّا رَآهَا رَحَّبَ، قَالَ: مَرْحَبًا بِابْنَتِى، ثُمَّ أَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ - أَوْ عَنْ شِمَالِهِ - ثُمَّ سَارَّهَا، فَبَكَتْ بُكَاءً شَدِيدًا، فَلَمَّا رَأَى حُزْنَهَا سَارَّهَا الثَّانِيَةَ، فَإِذَا هِى تَضْحَكُ، فَقُلْتُ لَهَا أَنَا مِنْ بَيْنِ نِسَائِهِ: خَصَّكِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِالسِّرِّ مِنْ بَيْنِنَا، ثُمَّ أَنْتِ تَبْكِينَ، فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) سَأَلْتُهَا عَمَّا سَارَّكِ، قَالَتْ: مَا كُنْتُ لأفْشِى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) سِرَّهُ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ، قُلْتُ لَهَا: عَزَمْتُ عَلَيْكِ بِمَا لِى عَلَيْكِ مِنَ الْحَقِّ، لَمَّا أَخْبَرْتِنِى، قَالَتْ: أَمَّا الآنَ، فَنَعَمْ، فَأَخْبَرَتْنِى، قَالَتْ: أَمَّا حِينَ سَارَّنِى فِى الأمْرِ الأوَّلِ، فَإِنَّهُ أَخْبَرَنِى أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُهُ بِالْقُرْآنِ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ قَدْ عَارَضَنِى بِهِ الْعَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلا أَرَى الأجَلَ إِلا قَدِ اقْتَرَبَ، فَاتَّقِى اللَّهَ، وَاصْبِرِى، فَإِنِّى نِعْمَ السَّلَفُ أَنَا لَكِ، قَالَتْ: فَبَكَيْتُ بُكَائِى الَّذِى رَأَيْتِ، فَلَمَّا رَأَى جَزَعِى، سَارَّنِى الثَّانِيَةَ، قَالَ يَا فَاطِمَةُ، أَلا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِى سَيِّدَةَ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ سَيِّدَةَ نِسَاءِ هَذِهِ الأمَّةِ) .(9/60)
قال المؤلف: فيه من الفقه أنه يجوز المسار مع الواحد بحضرة الجماعة، وليس من باب نهيه عليه السلام عن مناجاة الأثنين دون الواحد، لأن المعنى الذى يخاف من ترك الواحد لا يخاف من ترك الجماعة، وذلك أن الواحد إذا تساورا دونه وقع بنفسه أنهما يتكلمان فيه بما يسوءه ولا يتفق ذلك فى الجماعة، وهذا من حسن الأدب وكرم المعاشرة. وفيه: أنه لا ينبغى إفشاء السر إذا كانت فيه مضرة على المسر، لأن فاطمة لو أخبرت نساء النبى ذلك الوقت بما أخبرها به النبى من قرب أجله لحزن لذلك حزنًا شديدًا، وكذلك لو أخبرتهن أنها سيدة نساء المؤمنين، لعظم ذلك عليهن، واشتد حزنهن، فلما أمنت ذلك ذلك فاطمة بعد موته أخبرت بذلك.
40 - باب: الاستلقاء
/ 51 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بن زيد، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى الْمَسْجِدِ مُسْتَلْقِيًا، وَاضِعًا إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الأخْرَى. قال المهلب: إنما فعل ذلك فى المسجد ليرى الناس أن هذا وشبهه خفيف فعله فى المسجد، وقد تقدم فى كتاب الصلاة فى باب الاستلقاء فى المسجد.
41 - باب: لا يتناجى اثنان دون الثالث
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ (الآيتين(9/61)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً) [المجادلة 12] . / 52 - فيه: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا كَانُوا ثَلاثَةٌ، فَلا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ) . أى: لا يتسار اثنان ويتركا صاحبهما خشية الإيحاش له فيظن أنهما يتكلمان فيه أو يتجنبان جهته ذلك، وقد جاء هذا المعنى بينًا فى رواية معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله: (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه، فإن ذلك يحزنه) ويشهد لهذا قوله تعالى: (إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا (الآية. وقد جاء التغليظ فى منجاة الأثنين دون صاحبهما فى السفر، وأن ذلك لا يحل لهما من حديث ابن لهيعه، عن ابن هبيرة عن أبى سالم الجيشانى، عن عبد الله بن عمرو بن عمرو العاص أن الرسول قال: (لا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة أن يتناجى اثنان منهما دون صاحبهما) . وتحريمه ذلك - والله أعلم - فى الفلاة من أجل أن الخوف فيها أغلب على المرء، والوحشة إليه أسرع، ولذلك نهى عليه السلام أن يسافر الواحد والأثنان. واختلف أهل التأويل فيمن نزلت: إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا، فقال ابن زيد: نزلت فى المؤمنين، كان الرجل يأتى النبى يسأله الحاجة ليرى الناس أنه قد ناجى رسول الله،(9/62)
وكان رسول الله لا يمنع أحدًا من ذلك، وكانت الأرض يومئذ حربا، وكان الشيطان يأتى القوم فيقول لهم: إنما يتناجون فى جموع قد جمعت لكم، فأنزل الله الآيه. قال قتادة: نزلت فى المنافقين، كان بعضهم يناجى بعضًا، وكان ذلك يغيظ المؤمنين يوحزنهم، فنزلت هذه الآيه. وقوله: إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدى نجواكم صدقة. قال قتادة: سأل الناس رسول الله حتى أحفوه فى المسألة، فقطعهم الله بهذه الآية، وصمت كثير من الناس عن المسالة. وقال ابن زيد: نزلت هذه الآية لئلا يناجى أهل الباطل رسول الله فيشق ذلك على أهل الحق، فلما ثقل ذلك على المؤمنين خففه الله عنهم ونسخه.
42 - باب: حفظ السر
/ 52 - فيه: أَنَس، أَسَرَّ إِلَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) سِرًّا، فَمَا أَخْبَرْتُ بِهِ أَحَدًا بَعْدَهُ، وَلَقَدْ سَأَلَتْنِى أُمُّ سُلَيْمٍ، فَمَا أَخْبَرْتُهَا بِهِ. قال المؤلف: السر أمانة وحفظه واجب، وذلك من أخلاق المؤمنين، وقد روى عن أنس أنه قال: (خدمت النبى عشر سنين، فقال: احفظ سرى تكن مؤمنًا) . وروى ابن أبى شيبة: حدثنا يحى بن آدم، عن ابن أبى ذئب، عن عبد الرحمن بن عطاء، عن عبد الملك، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله: (إذا التفت المحدث فهى أمانة) .(9/63)
قال المهلب: والذى عليه أهل العلم أن السر لا يباح به إذا كان على المسر فيه مضرة، وأكثرهم يقول: إنه إذا مات المسر فليس ويلزم من كتمانة مايلزم فى حياتة إلا أن يكون عليه فيه غضاضة فى دينه.
43 - باب: إذا كانوا أكثر من ثلاثة فلا بأس بالمسارة والمنجاة
/ 54 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ النَّبِى عليه السلام: (إِذَا كُنْتُمْ ثَلاثَةً فَلا يَتَنَاجَى رَجُلانِ دُونَ الآخَرِ، حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ، لأَجْلَ أَنْ يُحْزِنَهُ) . / 55 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ، قَسَمَ النَّبِى عليه السلام، يَوْمًا قِسْمَةً، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ: إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ، فقُلْتُ: أَمَا وَاللَّهِ لآتِيَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ فِى مَلأ فَسَارَرْتُهُ، فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّ وَجْهُهُ. . . . الحديث. قال المؤلف: روى مالك، عن عبد الله بن دينار قال: (كان ابن عمر إذا أراد أن يسار رجلا وكانوا ثلاثة دعا رابعًا ثم قال للاثنين: استأخرا شيئًا،، فأنى سمعت رسول الله يقول: لا يتناجى اثنان دون واحد. وناجى صاحبه) . فإذا كانوا أكثر من ثلاثة بواحد جازت المنجاة، وكلما كثرت الجماعة كان أحسن وأبعد للتهمة والظنة، ألا ترى ابن مسعود سار النبى وهو فى ملأ من الناس وأخبره بقول الذى قال: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله. وروى أشهب عن مالك أنه قال: لا يتناجى ثلاثة دون واحد، لأنه قد نهى أن يترك واحد. قال: ولا أرى ذلك ولو كانوا عشرة أن يتركوا واحد.(9/64)
قال المؤلف: وهذا القول يستنبط من هذا الحديث، لأن المعنى فى ترك الجماعة للواحد كترك الأثنين له، وهو ماجاء فى الحديث: (حتى تختلطوا بالناس من أجل أن يحزنه) وهذا كله من حسن الأدب وكرم الأخلاق، لئلا يتباغض المؤمنون ويتدابروا.
44 - باب: طول النجوى) وَإِذْ هُمْ نَجْوَى) [الإسراء: 47] مَصْدَرٌ مِنْ نَاجَيْتُ فَوَصَفَهُمْ بِهَا وَالْمَعْنَى يَتَنَاجَوْنَ.
(1) / 56 - فيه: أَنَس، أُقِيمَتِ الصَّلاةُ، وَرَجُلٌ يُنَاجِى رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَمَا زَالَ يُنَاجِيهِ حَتَّى نَامَ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى. قال المؤلف: ليس فيه أكثر من جواز طول المناجاة بحضرة الجماعة فى الأمر يهم السلطان ويحتاج إلى تعرفه، وإن كان فى ذلك بعض الضرر على بعض من بالحضرة، وقد جاء ذلك فى بعض طرق الحديث وقد تقدم فى كتاب الصلاة فى باب الإمام وتعرض له الحاجة بعد الإقامة، ومن أجاز الكلام حيئذ ومن كرهه.
45 - باب: لا تترك النار فى البيت عند النوم
/ 57 - فيه: ابْن عُمَر، قَالَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام: (لا تَتْرُكُوا النَّارَ فِى بُيُوتِكُمْ حِينَ تَنَامُونَ) . / 58 - وفيه: أَبُو مُوسَى، احْتَرَقَ بَيْتٌ بِالْمَدِينَةِ عَلَى أَهْلِهِ مِنَ اللَّيْلِ، فَحُدِّثَ(9/65)
بِشَأْنِهِمُ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (إِنَّ هَذِهِ النَّارَ إِنَّمَا هِىَ عَدُوٌّ لَكُمْ، فَإِذَا نِمْتُمْ، فَأَطْفِئُوهَا عَنْكُمْ) . / 59 - وفيه: جَابِر، قَالَ النّبِىّ، عليه السَّلام: (خَمِّرُوا الآنِيَةَ، وَأَجِيفُوا الأبْوَابَ، وَأَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ، فَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ رُبَّمَا جَرَّتِ الْفَتِيلَةَ، فَأَحْرَقَتْ أَهْلَ الْبَيْتِ) . قال الطبرى: فى هذا الحديث الإنابة عن أن من الحق على من أراد المبيت فى بيت ليس فيه غيره، وفيه نار أو مصباح ألا يبيت حتى يطفئه أو يحرزه بما يأمن به احراقه وضره، وكذلك إن كان فى البيت جماعة، فالحق عليهم إذا أرادوا النوم ألا ينام آخرهم حتى يفعل ماذكرت، لأمر النبى بذلك، فإن فرط فى ذلك مفرط فلحقه ضرر فى نفس أو مال كان لوصية النبى لأمته، مخالفًا ولأدبه تاركًا. وقد روى عكرمة عن ابن عباس قال: جاءت فأرة فجرت الفتيلة فألقتها بين يدى النبى (صلى الله عليه وسلم) على الخمرة التى كان قاعدًا عليها، فأحرقت منها مثل موضع الدرهم، وإنما سمى الفأرة: فويسقة، لأذاها وفسادها كما يفسد الفاسق، قال عليه السلام: (خمس فواسق يقتلن فى الحل والحرم. . . .) الحديث، فذكر منهن الفأرة يريد انهن يعملن عمل الفاسق.
46 - باب: إغلاق الأبواب (بالليل
/ 60 - فيه: جَابِر، قَالَ: قَالَ النّبِىّ) : (أَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ بِاللَّيْلِ، إِذَا(9/66)
رَقَدْتُمْ، وَغَلِّقُوا الأبْوَابَ، وَأَوْكُوا الأسْقِيَةَ، وَخَمِّرُوا الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ) . قَالَ هَمَّامٌ: وَلَوْ بِعُودٍ. قال المؤلف: أمره عليه السلام بإلاق الأبواب بالليل خشية انتشار الشياطين وتسليطهم على ترويع المؤمنين وأذاهم، وقد جاء فى حديث آخر أنه عليه السلام قال: (إذا جنح الليل فاحبسوا أولادكم، فإن الله يبث من خلفه بالليل ما لا يبث بالنهار، وإن للشياطين انتشارًا وخطفه) وقد قال عقيل: يتوقى على المرأة أن تتوضًا عند ذلك. فعلم أمته عليه السلام مافيه المصلحة لهم فى نومهم ويقظتهم. وأمر بتخمير الأناء، وقد تقدم فى كتاب الشربة فى باب تغطية الإناء معنى أمره عليه السلام بتغطية من حديث القعقاع بن حكيم وروى مالك فى حديث جابر (فإن الشيطان لا يفتح غلقا، ولا يحل وكاء، ولا يكشف إناء) وان كان كان قد أعطى ماهو أكثر منها من اللوج حيث لا يلج الإنسان، والوكاء: الخيط الذى يربط به فم السقاء. وقوله: خمروا الإناء: أى غطوه، أى غطوه، والتخمير: التغطية، وكذلك قبل للخمر: خمر، لأنها تغطى العقل، وأصل ذلك من الخمر وهو كل ما وراك من شجر أو حجر.
47 - باب: الختان بعد الكبر ونتف الأبط
/ 61 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (الْفِطْرَةُ خَمْسٌ: الْخِتَانُ، وَالاسْتِحْدَادُ، وَنَتْفُ الإبْطِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمُ الأظْفَارِ) .(9/67)
وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ، عليه السَّلام، بَعْدَ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَاخْتَتَنَ بِالْقَدُومِ) . مُخَفَّفَةً. وَقَالَ الْمُغِيرَةُ: عَنْ أَبِى الزِّنَادِ، وَقَالَ: (بِالْقَدُّومِ، وَهُوَ مَوْضِعٌ مُشَدَّدٌ. وروى الحديث الأول بالتخفيف شعيب، عن أبى الزناد. / 62 - وفيه: ابْن عَبَّاس، سُئل مَنْ أَنْتَ حِينَ قُبِضَ النَّبِى عليه السَّلام؟ قَالَ: أَنَا يَوْمَئِذٍ مَخْتُونٌ، وَكَانُوا لا يَخْتِنُونَ الرَّجُلَ حَتَّى يُدْرِكَ. قال ابن القصار: الختان سنة عند مالك والكوفيين، وقال الشافعى: هى فرضة، والدليل لقول مالك والكوفيين قوله عليه السلام: (الفطرة خمس) فذكر الختان فى ذلك، والفطرة السنة، لأنه جعلها من جملة السنن فأضافها إليها، ولما أسلم سلمان لم يأمره النبى - عليه السلام - بالإختان، ولو كان فرضًا لم يترك أمره بذلك. واحتج الشافعى بقوله تعالى: (ثم أوحينا إليك أن أتبع ملة إبراهيم حنيفًا (وكان فى ملته الإختان، لأنه ختن نفسه بالقدوم. قيل له: أصل المله الشريعة والتوحيد، وقد ثبت أن فى ملة إبراهيم فرائض وسننًا فأمر أن يتبع ماكان فرضًا ففرضًا، وما كان سنة فسنة، وهذا هو الاتباع، فيجوز أن يكون اختتان إبراهيم من السنن. وقد روى عن النبى - عليه السلام - أنه قال: (الإختتان سنة للرجال، ومكرمة للنساء) والختان علامة لمن دخل فى الإسلام، فهى من شعائر المسلمين. واختلفوا فى وقت الختان، فقال الليث: الختان للغلام مابين السبع سنين إلى العشر.(9/68)
وقال مالك: عامة ما رأيت الختان ببلدنا إذا أثغر وقال مكحول: ان إبراهيم خليل الرحمن ختن ابنه إسحاق لسبعة أيام وختن ابنه إسماعيل لثلاث عشرة سنة. وروى عن أبى جعفر أن فاطمة كانت تختن ولدها يوم السابع، وكره ذلك الحسن البصرى ومالك بن أنس خلافًا لليهود، وقال مالك: الصواب فى خلافهم، وقال الحسن: هو خطر. قال المهلب: وليس لختتان إبراهيم عليه السلام بعد ثمانين سنة مما يوجب علينا مثل فعله، إذ عامة من يموت من الناس لا يبلغ الثمانين، وإنما اختتن عليه السلام وقت أوحى إليه بذلك، وأمر بالإختتان فاختتن. والنظر يدل أنه ما كان ينبغى الإختتان إلا قرب وقت الحاجة لاستعمال ذلك العضو بالجماع، كما اختتن ابن عباس عند مناهزة الاحتلام. وقال: كانوا لا يختتنون الرجل حتى يدرك، لأن الختان تنظيف لما يجتمع من الوضر تحت الغرلة، ولذلك - والله أعلم - أمر بقطعها، واختتان الناس فى الصغر لتسهيل الألم على الصغير، لضعف عضوه وقلة فهمه. ومن روى (القدوم) مخففة الدال، فإنما أراد الحديدة التى اختتن بها إبراهيم، قال الشاعر: يا بنت عجلان ما أصبرنى على خطوب مثل نحت بالقدوم(9/69)
ومن شدد الدال فهو اسم الموضع الذى اختتن فيه إبراهيم. وقد يجوز أن يجتمع له الأمران، والله أعلم. والفطرة: فطرة الإسلام، وهى سنته وهى الفعلة من قوله تعالى: (فاطر السموات والأرض (يعنى خالقها. والاستحداد: حلق شعر العانة، والارفاع بالحديد وهو استفعال من الحديد، وحكى أبو نصير عن الأصمعى يقال: استحد الرجل إذا ماتحت ازاره، وتقليم الأظافر: قصها.
48 - باب: كل لهو باطل إذا (شغله) عن طاعة الله وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ أُقَامِرْكَ، وَقَوْلُهُ: (مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ (الآية [لقمان: 6]
. / 63 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ، فَقَالَ فِى حَلِفِهِ: بِاللاتِ وَالْعُزَّى، فَلْيَقُلْ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ أُقَامِرْكَ، فَلْيَتَصَدَّقْ) . قال المؤلف: روى عن ابن مسعود، وابن عباس وجماعة من أهل التأويل فى قوله: (ومن الناس من يشترى لهو الحديث) الآية، أنه الغناء، وحلف على ذلك ابن مسعود بالله الذى لا إله إلا هو ثلاث مرات، وقال: الغناء ينبت النفاق فى القلب. وقاله مجاهد وزاد: ان لهو الحديث فى الآية الاستماع إلى الغناء وإلى مثله(9/70)
من الباطل. قال القاسم بن محمد: الغناء باطل، والباطل فى النار. ولذلك ترجم البخارى باب كل لهو باطل. وأما قوله: (إذا شغل عن طاعة الله) فهو مأخوذ من قوله تعالى: (ليضل عن سبيل الله (فدلت الآية على أن الغناء وجميع اللهو إذا شغل عن طاعة الله وعن ذكره فهو محرم، وكذلك قال ابن عباس: (ليضل عن سبيل الله) أى: عن قراءة القرآن وذكر الله ودلت أيضًا على أن اللهو إذا كان يسيرًا لا يشغل عن طاعة الله، ولا يصد للجاريتين يوم العيد الغناء فى بيت عائشة من أجل العيد، كما أباح لعائشة النظر إلى لعب الحبشة بالحراب فى المسجد ويسترها وهى تنظر إليهم حتى شبعت قال لها: حسبك. وقال عليه السلام لعائشة - وحضرت زفاف أمرأة إلى رجل من الأنصار -: (يا عائشة، ما كان معكم لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو) . وقد تقدم فى باب سنة العيدين لأهل الإسلام فى كتاب الصلاة ما يرخص فيه من الغناء وما يكره، فدلت هذه الآثار على ما دلت عليه هذه الآية من أن يسير الغناء واللهو الذى لا يصد عن ذكر الله وطاعته مباح. وما روى عن مالك من كراهة يسير الغناء، فإن ذلك من باب قطع الذرائع، وخشية التطرق إلى كثرة الشغل عن طاعة الله الصاد عن ذكره على مذهبه فى قطع الذرائع، وأجاز سماعه أهل الحجاز.(9/71)
وقيل لمالك: إن أهل المدينة يسمعون الغناء قال: إنما يسمعه عندنا الفساق. وقال الأوزاعى: يترك من قول أهل الحجاز استماع الملاهى، وروى ابن وهب عن مالك أنه سئل عن ضرب الكبر والمزمار وغير ذلك من اللهو الذى يهنأ لك سماعه وتجد لذته وأنت فى طريق أو مجلس، أيؤمر من ابتلى بذلك أن يرجع من الطريق أو يقوم من المجلس؟ فقال: أرى أن يقوم إلا أن يكون جالسًا لحاجة أو يكون على حال لا يستطيع القيام، وكذلك يرجع صاحب الطريق أو يتقدم أو يتأخر. وقد جاء فيمن نزه سمعه عن قليل اللهو وكثيره ما روى أسد بن موسى، عن عبد العزيز بن أبى سلمه، عن محمد بن المنكدر قال: بلغنا أن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين عبادى الذين كانوا ينزهون أنفسهم وأسماعهم عن اللهو ومزامير الشيطان، أحلوهم رياض المسك، وأخبروهم انى قد أحللت عليهم رضوانى. وسأذكر اختلاف العلماء فى القراءة بالألحان فى فضائل القرآن عند قوله عليه السلام (ما أذن الله لشىء ما أذن لنبى يتغنى بالقرآن) وقوله (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) . وأما حديث أبى هريرة المذكور فى هذا الباب، فإنما أدخله البخاري(9/72)
على قوله فى الترجمة: ومن قال: تعالى أقامرك فليتصدق، ولم يختلف العلماء أن القمار محرم، لقوله تعالى: (يا أيها الذين أمنوا إنما الخمر والميسر والانصاب (الآية، واتفق أهل التأويل أن الميسر هاهنا القمار كله. وكره مالك اللعب بالنرد وغيرها من الباطل وتلا: (فماذا بعد الحق إلا الضلال (وقال: من أدمن اللعب بها فلا تقبل له شهادة وكذلك قال الشافعى: إذا شغله اللعب بها عن الصالة حتى يفوته وقتها. وقال أبو ثور: من تلهى ببعض الملاهى حتى تشغله عن الصلاة لم تقبل شهادتة. وأما قوله عليه السلام: (ومن قال: تعال أقامرك، فليتصدق) فهو على معنى الندب عند العلماء، لا على الوجوب، لأن الله لا يؤاخذ العباد بالقول فى غير الشرك حتى يصدقه الفعل أو يكذبه، ولو أن رجلا قال لامرأة: تعالى أزنى بك، أو قال لآخر: تعال اشرب معك الخمر أو أسرق، ثم لم يفعل شيئًا من ذلك، لم يلزمه حد فى الدنيا ولا عقوبة فى الآخرة، إذا كان مجتنبًا للكبائر. لكن ندب من جرى مثل هذا القول على لسانه، ونواه قلبه وقت قوله أن يتصدق، خشية أن تكتب عليه صغيرة أو يكون ذلك من اللمم وكذلك ندب من حلف باللات والعزى أن يشهد شهادة التوحيد والاخلاص، لينسج بذلك ماجرى على لسانه من كلمة الاشراك والتعظيم لها، وإن كان غير معتقد لذلك. والدليل أن ذلك على الندب أن الله لا يؤاخذ العباد من الإيمان إلا(9/73)
بما انطوت الضمائر على اعتقاده وكانت به شريعة لها، وكل محلوف به باطل فلا كفارة فيه، وإنما الكفارات فى الإيمان المشروعة. فإن قيل: فما معنى أمر الرسول الداعى إلى المقامرة بالصدقة من بين سائر أعمال البر؟ قيل له: معنى ذلك - والله أعلم - أن أهل الجاهلية كانوا يجعلون جعلا فى المقامرة ويستحقونه بينهم، فنسخ الله أفعال الجاهلية وحرم القمار وعوضهم بالصدقة عوضًا مما أرادوا استباحة من الميسر المحرم، وكانت الكفارات من جنس الذنب، لأن المقامر لا يخلوا أن يكون غالبا أو مغلوبًا، فإن كان غالبا فالصدقة كفارة لما كان يدخل فى يده من الميسر، وإن كان مغلوبًا فإخراجه الصدقة لوجه الله أولى من اخراجه عن يده شيئًا لا يحل له إخراجه.
49 - باب ما جاء فى البناء
وقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ إِذَا تَطَاوَلَ رِعَاءُ الْبَهْمِ فِى الْبُنْيَانِ) . / 64 - فيه: ابْن عُمَر، رَأَيْتُنِى مَعَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، بَنَيْتُ بِيَدِى. / 65 - وفيه: ابْن عُمَر قَالَ: وَاللَّه مَا وضعت لبنة على لبنة، ولا غرست نخلة مذ قبض النّبِىّ، عليه السَّلام، قَالَ سُفيان: فذكرته لبعض أهله. قَالَ: وَاللَّه لقد بنى. قَالَ سفيان: فلعله قَالَ: قبل أن يبنى. قال المؤلف: التطاول فى البنيان من أشراط الساعة، وذلك أن يبنى(9/74)
مايفضل عما يكنه من الحر والبرد ويستره عن الناس، وقد ذم الله تعالى - من فعل ذلك فقال: (اتبنوا بكل ريع آيه تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون (يعنى: قصورًا، وقد جاء عن النبى - عليه السلام - أنه قال: (ماأنفق ابن آدم فى التراب فلن يخلف له، ولا يؤجر عليه) وأما من بنى مايحتاج إليه ليكنه من الحر والمطر فمباح له ذلك، وكذلك فعل السلف، ألا ترى قول ابن عمر: بنيت بيدى بيتا يكننى من حرة المطر ويظلنى من الشمس. وقد روى ذلك عن النبى عليه السلام ذكر الطبرى عن حسن، عن حمران بن أبان، عن عثمان بن عفان، أن رسول الله قال: (كل شىء سوى خلف هذا الطعام - يعنى: كسر الطعام - وهذا الماء، وبيت يظله، وثوب يستره لابن آدم فيه حق) . فأباح عليه السلام من البناء مايقيه أذى الشمس والمطر، الذين لا طاقة لأحد باحتمال مكروههما، كما أباح من الغذاء مما به قوام بدنه من مطعم أو مشرب، ومن الملبس مايستر عورته، ومازاد على ذلك فلا حق له فيه، يعنى إذا لم يصرفه فى الوجه المقربة له إلى الله فإذا فعل ذلك فله الحق فى أخذه وصرفه فى حقه. وروى ابن وهب وابن نافع، عن مالك قال: كان سلمان يعمل الخوص بيده وهو أمير ولم يكن له بيت، وإنما كان يستظل بالجدر والشجر، وإن رجلا قال له: ألا أبنى لك بيتًا تسكن فيه؟ فقال: مالى به حاجة. فما زال به الرجل قال: أعرف البيت الذى يوافقك. فقال: فصفه لى. قال: أبنى لك بيتًا إذا قمت فيه(9/75)
أصاب سقفه راسك، وان مددت فيه رجليك أصابها الجدار. قال: نعم، كأنك كنت نفسى. وفى قول ابن عمر: (والله ما وضعت لبنه على لبنة مذ قبض النبى - عليه السلام. .) إلى آخره. فيه: أن العالم إذا روى عنه قولان مختلفان أنه ينبغى حملهما من التأويل على ماينفى عنه التناقض، وينزهه عن الكذب، ألا ترى قول سفيان: فلعله قال قبل أن يبتنى، فلم يكذبه قريب ابن عمر فى قوله هذا، فعلمنا سفيان كيف يتأول للسلف أحسن المخارج لانتفاء الباطل عنهم، وأنهم القدورة فى الخير، والأسوة - رضى الله عنهم.(9/76)
66 - كتاب اللباس
- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ) [الأعراف 32]
وَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (كُلُوا وَاشْرَبُوا، وَالْبَسُوا، وَتَصَدَّقُوا فِى غَيْرِ إِسْرَافٍ، وَلا مَخِيلَةٍ) . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلْ مَا شِئْتَ، وَالْبَسْ مَا شِئْتَ، مَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ: سَرَفٌ أَوْ مَخِيلَةٌ. / 1 - وفيه: ابْن عُمَر، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاءَ) . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَحَدَ شِقَّىْ إِزَارِى يَسْتَرْخِى، إِلا أَنْ أَتَعَاهَدَ ذَلِكَ مِنْهُ، فَقَالَ عليه السَّلام: (لَسْتَ مِمَّنْ يَصْنَعُهُ خُيَلاءَ) . / 2 - وفيه: أَبُو بَكْرَة، خَسَفَتِ الشَّمْسُ وَنَحْنُ عِنْدَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَقَامَ يَجُرُّ ثَوْبَهُ مُسْتَعْجِلا حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ. . . الحديث. قال المؤلف: اختلف أهل التأويل فى معنى هذه الآية، فقال بعضهم: والطيبات من الرزق يعنى: المستلذ من الطعام وقيل: الحلال، وقيل: هو عام فى كل مباح، وقيل: هو فى لبس الثياب فى الطواف، وقال الفراء: كانت قبائل العرب لا يأكلون اللحم أياهم حجهم، ويطوفون عرة فنزلت: (قل من حرم زينة الله(9/77)
التى أخرج لعبادة والطيبات من الرزق) وفى قول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (كلوا وأشربوا من غير أسراف ولا مخيلة) وقول ابن عباس بيان شاف للآية. والسرف والخيلاء محرمان، وقد قال تعالى: (إنه لا يحب المسرفين (و) لا يحب كل مختال فخور (وقال عليه السلام: (لا ينظر الله إلى من جر إزاره خيلاء) وهذا وعيد شديد. وقال أهل العلم فى معناه: لا ينظر الله اليهم نظر رحمة إن أنفذ عليهم الوعيد، فاتقى أمرؤ ربه، وتأدب بأدبه وأدب رسوله وأدب الصالحين، وذلل بالتواضع لله قلبه، وأودع سمعه وبصره وجوارحه بالاستكانة بالطاعة، وتحبب إلى خلقه بحسن المعاشرة، وخالقهم بجميل المخالقة، ليخرج من صفة من لا ينظر لله إليه ولايحبه. والخيلاء والمخيلة: التكبر فى لسان العرب، وفى حديث أبى بكر بيان أن سقط ثوبه بغير قصده وفعله ولم يقصد بذلك الخيلاء فإنه لا حرج عليه فى ذلك، لقوله عليه السلام لأبى بكر: (لست ممن يصنعه خيلاء) ألا ترى أن النبى عليه السلام جر ثوبه حين استعجل المسير إلى صلاة الخسوف، وهو مبين لأمته بقوله وفعله. وقد كان ابن عمر يكره أن يجر الرجل ثوبه على كل حال وهذه من شدائد ابن عمر، لأنه لم تخف عليه قصة أبى بكر وهو الراوى لها، والحجة فى السنة لا فى ما خلفها، وفى قول النبي(9/78)
عليه السلام وفى قول ابن عباس أنه مباح للرجل اللباس من الحسن، والجمال فى جميع أموره إذا سلم قلبه من التكبر به على من ليس له مثل ذلك من اللباس، وقد وردت الآثار بذلك، روى المعافى ابن عمران، عن هشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن سواد بن عمرو الانصارى أنه قال: (يا رسول الله، انى رجل حبب إلى الجمال وأعطيت منه ماترى حتى ماأحب أن يفوقنى أحد فى شراك نعلى، أفمن الكبر ذاك؟ قال: لا، ولكن الكبر من بطر الحق وغمص - أو غمنص الناس) . ومن حديث عبد الله بن عمر أن النبى عليه السلام قال للذى ساله عن حبه لجمال ثيابه وشراك نعله: هل ذلك من الكبر؟ فقال عليه السلام (لا، ولكن الله جميل يحب الجمال) . فإن قيل: فقد روى وكيع، عن أشعث السمان، عن أبى سلام الأعرج، عن على بن أبى طالب قال: إن الرجل ليعجبه شراك نعله أن يكون أجود من شراك صاحبه فيدخل فى قوله تعالى: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علو فى الأرض ولا فسادا (الآية. قال الطبرى: فالجواب أن من أحب ذلك ليتعظم به من سواه من الناس ممن ليس له مثله، فاختال به عليهم واستكبر، فهو داخل فى عدة المستكبرين فى الأرض بغير الحق، ولحقته صفة أهله وأن أحب ذلك سرورًا لجودته وحسنه، غير مريد به الاختيال والتكبر، فإنه بعيد المعنى ممن عناه الله تعالى بقوله: (لا يريدون علو فى الأرض ولا فسادا (بل هو ممن قد اخبر الله تعالى أنه يحب ذلك من فعله، على ماورد فى حديث عبد الله بن عمر.(9/79)
وذكر النائى عن محمد بن العلاء قال: حدثنى أبو بكر بن عياش عن أبى إسحاق، عن أبى الأحوص، عن أبيه قال: (كنت جالسًا عند رسول الله رث الثياب، فقال: ألك مال؟ قلت: يا رسول الله من كل المال. قال: إذا أتاك الله مالا فليرى أثره عليك) .
- باب: التشمر فى الثياب
/ 3 - فيه: أَبُو جُحَيْفَةَ، خَرَجَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فِى حُلَّةٍ مُشَمِّرًا، فَصَلَّى. . . الحديث. قال المؤلف: التشمر مباح فى الصلاة وعند المهنة والحاجة إلى ذلك بهذا الحديث، وهو من التواضع ونفى التكبر والخيلاء والحله عند العرب ثوبان ظاهر وباطن. وقال صاحب العين: الحله: إزار ورداء، ولا يقال حلة لثوب واحد. قال أبو عبيد: ومما يدل على ذلك حديث عمر، أنه رأى رجلا عليه حلة قد ائتزر بإحدهما وارتدى بالأخرى.
3 - باب: ما أسفل من الكعبين فهو فى النار
/ 4 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (مَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ، مِنَ الإزَارِ فَفِى النَّارِ) . قال المؤلف: روى عبد الرزاق، عن عبد العزيز بن أبى رواد عن نافعه: أنه سئل عن قوله فى هذا الحديث (ما أسفل من(9/80)
الكعبين ففى النار من الثياب ذلك؟ قال: ما ذنب الثياب، بل هو من القدمين) . قال غيره: ولو كان الزار فى النار ما ضر الذى جر ثوبه شىء. ومعنى هذا الحديث عند أهل السنة: إن أنفذ الله عليه الوعيد كان القدمان فى النار.
4 - باب: من جر ثوبه من الخيلاء
/ 5 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ النّبِىّ عليه السَّلام: (لا يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ بَطَرًا) . / 6 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِى فِى حُلَّةٍ تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ مُرَجِّلٌ جُمَّتَهُ؛ إِذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ الأرض، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) . / 7 - وفيه: ابْن عُمَر، عَن النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) مثله، وقَالَ مرةً: (مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ مَخِيلَةً لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . قَالَ شُعْبَةُ: فَقُلْتُ لِمُحَارِبٍ: أَذَكَرَ إِزَارَهُ؟ قَالَ: مَا خَصَّ إِزَارًا، وَلا قَمِيصًا. قال الطبرى: إنما خص الإزار بالذكر فى حديث أبى هريرة - والله أعلم - لأن أكثر الناس فى عهده عليه السلام كانوا يلبسون الإزار والأردية، فلما لبس الناس المقطعات وصار عامة لباسهم القمص والدراريع كان حكمها حكم الإزار، وأن النهى عما جاوز الكعبين منها داخل فى معنى نهيه عليه السلام عن جر الإزار، إذ هما سواء فى المماثلة، وهذا هو القياس الصحيح. قال المؤلف: هذا طريق القياس لو لم يأت نص فى التسوية بينهما، وقد تقدم حديث ابن عمر فى هذا الباب أن النبي عليه(9/81)
السلام قال: (من جر ثوبه من مخيلة لم ينظر الله إليه يوم القيامة) فعم جميع الثياب. وروى أبو داود، عن ابن عمر: (أنه سئل عن حديث الأزار فقال: ماقال رسول الله فى الإزار فهو فى القميص) وقد جاء هذا أيضًا عن النبى عليه السلام روى أبو داود قال: حدثنا هناد بن السرى قال: حدثنا حسين الجعفى، عن عبد العزيز بن أبى رواد، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه -، عن النبى - عليه السلام قال: (الإسبال فى الإزار والعمامة، من جر منها شيئًا لم ينظر الله إليه يوم القيامة) . وقوله: (يتجلجل) يعنى: يسوخ ويضطرب، قال صاحب العين: جلجلت الشىء إذا حركته، وكل شىء خلطت بعضه ببعض فقد جلجلته.
5 - باب: الإزار المهدب
وَيُذْكَرُ عَنِ الزُّهْرِىِّ، وَأَبِى بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَحَمْزَةَ بْنِ أَبِى أُسَيْدٍ، وَمُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّهُمْ لَبِسُوا ثِيَابًا مُهَدَّبَةً. / 8 - فيه: عَائِشَة، جَاءَتِ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِىِّ وَتَزَوَّجْتُ بَعْدَهُ عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ، فَقَالت: وَاللَّهِ مَا مَعَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلا مِثْلُ هَذِهِ الْهُدْبَةِ، وَأَخَذَتْ هُدْبَةً مِنْ جِلْبَابِهَا. قال المؤلف: ليس فيه أكثر من أن الثياب المهدبة من لباس السلف، وأنه لا بأس به.(9/82)
6 - باب: الأردية
وَقَالَ أَنَسٌ: جَبَذَ أَعْرَابِى رِدَاءَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . / 9 - فيه: عَلِىّ، قَالَ: دَعَا النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بِرِدَائِهِ فارتدِى، ثُمَّ انْطَلَقَ يَمْشِى، وَاتَّبَعْتُهُ أَنَا وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ حَتَّى جَاءَ الْبَيْتَ الَّذِى فِيهِ حَمْزَةُ. . . الحديث. فيه: أن الرداء من لباس النبى - عليه السلام - غير أنه لم يذكر فى الحديث صفة لباسه له إن كان مشتملا به أو متطيلسا أو على هيئة لباسنا اليوم، وقد روى عن طاوس أنه قال: الشملة من الزينة التى أمر الله بأخذها عند كل مسجد.
7 - باب: لبس القميص
وَقَالَ يُوسُفَ: (اذْهَبُوا بِقَمِيصِى هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا) [يوسف: 93] . / 10 - فيه: ابْن عُمَر، أَنَّ رَجُلا سأل النَّبِىّ، عليه السَّلام، مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟ فَقَالَ: (لا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ، وَلا السَّرَاوِيلَ، وَلا الْبُرْنُسَ. . .) الحديث. / 11 - وفيه: جَابِر، أن النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَتَى عَبْدَاللَّهِ بْنَ أُبَىٍّ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ قَبْرَهُ، فَأَمَرَ بِهِ، فَأُخْرِجَ، وَوُضِعَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَنَفَثَ عَلَيْهِ مِنْ رِيقِهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قال المؤلف: فيه أن لباس القميص من الأمر القديم وكل ما ذكر فى حديث ابن عمر من الراويل والبرانس وغيرها.(9/83)
وذكر أبو داود قال: حدثنا زياد بن أيوب، عن أبى تميله، حدثنا عبد المؤمن بن خالد، عن عبد الله بن بريدة، عن أمه، عن أم سلمه قالت: (كانت أحب الثياب إلى رسول القميص) وقد رواه الفضل بن موسى، عن عبد المؤمن بن خالد، هن ابن بريدة عن أم سلمة، ولم يذكر أمه، قال الترمذى: سمعت البخارى يقول: حديث عبد الله بن بريدة، عن أمه أصح.
8 - باب: جيب القميص من عند الصدر وغيره
/ 12 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مَثَلَ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ كَمَثَلِ: (رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ، قَدِ اضْطُرَّتْ أَيْدِيهِمَا إِلَى ثُدِيِّهِمَا، وَتَرَاقِيهِمَا، فَجَعَلَ الْمُتَصَدِّقُ كُلَّمَا تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ، انْبَسَطَتْ عَنْهُ، حَتَّى تَغْشَى أَنَامِلَهُ، وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ، وَجَعَلَ الْبَخِيلُ كُلَّمَا هَمَّ بِصَدَقَةٍ قَلَصَتْ، وَأَخَذَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ بِمَكَانِهَا) . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَأَنَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: بِإِصْبَعِهِ هَكَذَا فِى جَيْبِهِ، فَلَوْ رَأَيْتَهُ يُوَسِّعُهَا، وَلا تَتَوَسَّعُ. تَابَعَهُ ابْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، وَأَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأعْرَجِ فِى الْجُبَّتَيْنِ. وَقَالَ حَنْظَلَةُ: سَمِعْتُ طَاوُسًا سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: جُبَّتَانِ، وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ حَيَّانَ، عَنِ الأعْرَجِ: جُبَّتَانِ. قال المؤلف: فى هذا الحديث دليل أن الجيب فى ثياب السلف كان عند الصدر على ماتصنعه النساء اليوم عندنا فى الأندلس، ووجه الدلالة على ذلك أن النبى شبه البخيل والمتصدق برجلين(9/84)
عليهما جبتان من حديد قد اضطرت أيديهما إلى ثديهما وتراقيهما، فتبسط على جسد المتصدق، وتشد على يدى البخيل إذا هم بالصدقة، وتمسكها فى الموضوع الذى اضطراتها إليه، وهو الثدى والتراقى وذلك فى صدره وفيه، يروم أن يوسع حلقها ولاتتسع، يبين ذلك حديث أبى هريرة: (أنا رأيت رسول الله يقول بإصبعه هكذا فى جبته يوسعها ولا تتسع) فبان أن جيبه عليه السلام كان فى صدره، لأنه لوكان فى منكبه لم تكن يداه مضطرة إلى ثديه وتراقيه، وهذا استدلال حسن، وقال ثابت الترقوتان: العظمان المشرفان فى أعلى الصدر إلى طرف ثغره النحر، وهى الهزمة التى بينهما.
9 - باب: من لبس جبه ضيقة الكمين فى السفر
/ 13 - فيه: الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، قَالَ: انْطَلَقَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، لِحَاجَتِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ فَتَلَقَّيْتُهُ بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ شَامِيَّةٌ، فَمَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ، وَغَسَلَ وَجْهَهُ، فَذَهَبَ يُخْرِجُ يَدَيْهِ مِنْ كُمَّيْهِ، فَكَانَا ضَيِّقَيْنِ، فَأَخْرَجَ يَدَيْهِ مِنْ تَحْتِ الْجُبَّةِ فَغَسَلَهُمَا، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَعَلَى خُفَّيْهِ. وترجم له باب جبه الصوف فى الغزو وقال فيه: (وعليه جبه شامية من صوف) . فى هذا الحديث دليل أن ثياب السلف فى الحضر لم تكن أكمامها(9/85)
بضيق أكمام هذه الجبة التى لبسها عليه السلام فى سفرة، لأنه لم يذكر عنه عليه السلام أنه أخرج يديه من تحت ثيابه لضيق كميه إلا فى هذه المرة، ولو فعله فى الحضر دائما لنقل ذلك. وذلك دليل أن ثياب السفر أكمش وأخصر من ثياب الخصر، فلباس الأكمام الضيقة والواسعة جائز إذا لم يكن مثل سعه أكمام النساء، لأن زى النساء لا يجوز للرجال استعماله على مايأتى فى كتاب الزينة. وقد كره مالك للرجل سعه الثوب وطوله، وأما لباس الصوف فجائز فى الغزو وغيره إذا لم يرد لابسه به الشهرة، وقد سئل مالك عن لباس الصوف الغليظ، فقال: لا خير فيه فى الشهرة ولو كان يلبسه تارة وينزعه أخرى لرجوت، فأما المواظبة حتى يعرف به ويشتهر فلا أحبه، ومن غليظ القطن ماهو فى ثمنه وأبعد من الشهرة منه، وقد قال عليه السلام للرجل (ليرى عليك مالك) . وقال مالك أيضا: لا أكره لباس الصوف لمن لم يجد غيره، وأكرهه لمن يجد غيره، ولأن يخفى عمله أحب إلى، وكذلك كان شأن من مضى، قيل: إنما يريد التواضع يلبسه، قيل: يجد من القطن بثمن الصوف.
- باب: البرانس
/ 14 - فيه: أَنَس، أنّه كَان يَلبَسُ بُرْنُسًا أَصْفَرَ مِنْ خَزٍّ. / 15 - فيه: ابْن عُمَر، أَنَّ النَّبِىّ قَالَ للْمُحْرِمُ: (لا تَلْبَس الْبَرَانِسَ. . . .) الحديث.(9/86)
قال المؤلف: سئل مالك عن لباس البرانس أتكرهها، فإنها لباس النصارى؟ قال: لا بأس بها، وقد كانت تلبس هاهنا. وقال عبد الله بن أبى بكر: ماكان أحد من القراء إلا له برنس يغدو فيه وخميصة يروح فيها، وأما لباس الخز فقد لبسه جماعة من السلف وكرهه آخرون، فممن لبسه: أبو بكر الصديق، وابن عباس، وأبو قتادة، وابن أبى أوفى، وسعد بن أبى وقاص، وجابر وأنس، وابو سعيد الخذرى، وأبو هريرة، وابن الزبير، وعائشة، ومن التابعين: ابن أبى ليلى، والأحنف، وشريح، والشعبى، وعروة، وأبو بكر عبد الرحمن، وعمر بن عبد العزيز أيام إمارته، وروى ابن وهب عن مالك أنه قال: لا يعجبنى لبس الخز ولا أحرمه. قال البهرى: إنما كرهه من أجل السرف، ولم يحرمه من أجل من لبسه من الصحابة، وكرهه ابن عمر وسالم والحسن وابن سيرين وسعيد بن جبير، وكان ابن المسيب لا يلبسه ولاينهى عنه. قال على بن زيد: جلست إلى سعيد بن المسيب وعلى جبه خز، فأخذ بكم جبتى وقال: م: ماأجود جبتك. قلت: ومامعنى قد أفسدوها على، قال: ومن أفسدها؟ قلت: سالم. قال: إذا صلح قلبك فالبس ماشئت، فذكرت قوله للحسن، فقال: إن من صلاح القلب ترك الخز.(9/87)
- باب: فروج الحرير وَهُوَ الْقَبَاءُ وَيُقَالُ: هُوَ الَّذِى لَهُ شَقٌّ مِنْ خَلْفِهِ
. / 16 - فيه: الْمِسْوَر، قَالَ: قَسَمَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) أَقْبِيَةً، وَلَمْ يُعْطِ مَخْرَمَةَ شَيْئًا، فَقَالَ مَخْرَمَةُ: يَا بُنَىِّ، انْطَلِقْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، فَقَالَ: ادْخُلْ فَادْعُهُ لِى، قَالَ: فَدَعَوْتُهُ لَهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ، وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْهَا، فَقَالَ: خَبَأْتُ هَذَا لَكَ، قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: رَضِى مَخْرَمَةُ) . / 17 - وفيه: عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّهُ قَالَ: (أُهْدِى إلى النّبِىّ، عليه السَّلام، فَرُّوجُ حَرِيرٍ فَلَبِسَهُ، ثُمَّ صَلَّى فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَنَزَعَهُ نَزْعًا شَدِيدًا كَالْكَارِهِ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: (لا يَنْبَغِى هَذَا لِلْمُتَّقِينَ) . قال المؤلف: القباء من لباس الأعاجم، ويمكن أن يكون النبى نزعه من أجل ذلك، فقد روى أبو داود قال: حدثنا عثمان بن أبى شبيبة، حدثنا عبد الرحمن بن ثابت، حدثنا حسان بن عطية، عن أبى منيب الجرشى، عن ابن عمر قال: قال رسول الله: (من تشبه بقوم فهو منهم) ويمكن أن يكون نزعه من أجل أنه من حرير وقد نهى عليه السلام عن لباس الحرير لذكور أمته وسيأتى بعد هذا.
- باب: السراويل
/ 18 - فيه: ذكر فيه حديث ابن عباس، وابن عمر أن النبى، عليه السَّلام، قال: (لاَ يَلبسُ المحرم السراويل) . فقد تقدم أن لباس السراويل من الأمر القديم.(9/88)
- باب العمائم
/ 19 - فيه: ابْن عُمَر: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ الْعِمَائَم. . .) الحديث. قال المؤلف: والعامائم تيجان العرب وهى زيهم، وقد روى أن الملائكة الذى نصروا النبى (صلى الله عليه وسلم) يوم بدر كانوا بعمائم صفر. قال مالك: العمة والاحتباء والانتعال من عمر العرب، وليس ذلك فى العجم وكانت العمة فى أول الإسلام، ثم لم تزل حتى كان هؤلاء القوم. قال ابن وهب: وحدثنى مالك أنه لم يدرك أحدًا من أهل الفضل: يحى بن سعيد، وربيعة، وابن هرمز إلا وهم يعتمون، ولقد كنت فى مجلس ربيعة، وفيه أحد وثلاثون رجلاً مامنهم رجل إلا وهو معتم وأنا منهم، ولقد كنت أراهم يعتمون فى العشاء والصبح، وكان ربيع لا يدع العمامة حتى يطلع الثريا، وكان يقول: أنى لأجد العمة تزيد فى العقل. قال: وسئل مالك عن الذى يعتم بالعمامة ولا يجعلها من تحت حلقة، فأنكرها، وقال: ذلك من عمل النبط، وليست من عمة الناس إلا أن تكون قصيرة لا تبلغ، أو يفعل ذلك فى بيته أو فى مرضه فلا بأس به، قيل له: فترخى بين الكتفين؟ قال لم أر أحدًا ممن أردكت يرخى بين كتفيه إلا عامر بن عبد الله بن الزبير، وليس ذلك بحرام، ولكن يرسلها بين يديه وهخو أجمل. وقال عامر بن عبد الله:(9/89)
رؤي جبريل فى صورة _ دحية الكلبى، وقد سدل عمامته بين كتفيه. وروى أبو داود حدثنا الحسن بن على، ثنا أبو أسامة عن مساور الوراق، عن جعفر بن عمرو فى حديث عن أبيه قال: (رأيت النبى - عليه السلام - على المنبر وعليه عمامة سوداء قد ارخى طرفها بين كتفيه) . وروى الترمذى عن هارون بن اسحاق قال: حدثنا يحيى بن محمد المننى، عن عبد العزيز بن محمد، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: (كان النبى - عليه السلام - إذا اعتم سدل عمامته بين كتفيه) . قال نافع: وكان ابن عمر يفعله. قال عبيد الله: ورأيت القاسم، وسالمًا يفعلان ذلك. قال الترمذى: وهذا حديث حسن غريب.
- باب التقنع
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَرَجَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) وَعَلَيْهِ عِصَابَةٌ دَسْمَاءُ. وَقَالَ أَنَسٌ عَصَبَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) عَلَى رَأْسِهِ حَاشِيَةَ بُرْدٍ. / 20 - فيه: عَائِشَةَ، هَاجَرَ نَاسٌ إِلَى الْحَبَشَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا، فَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : عَلَى رِسْلِكَ، فَإِنِّى أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي،(9/90)
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَوَ تَرْجُوهُ بِأَبِى أَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) لِصُحْبَتِهِ، وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ، وَرَقَ السَّمُرِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَبَيْنَا نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسٌ فِى بَيْتِنَا فِى نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، فَقَالَ قَائِلٌ لأبِى بَكْرٍ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مُقْبِلا مُتَقَنِّعًا فِى سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِدًا لَكَ أَبِى وَأُمِّى، وَاللَّهِ إِنْ جَاءَ بِهِ فِى هَذِهِ السَّاعَةِ إِلا لأمْرٍ، فَجَاءَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) فَاسْتَأْذَنَ، فَأَذِنَ لَهُ فَدَخَلَ فَقَالَ حِينَ دَخَلَ لأبِى بَكْرٍ: أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ، قَالَ: إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ بِأَبِى أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنِّى قَدْ أُذِنَ لِى فِى الْخُرُوجِ، قَالَ: فَالصُّحْبَةُ بِأَبِى أَنْتَ وَأُمِّى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَخُذْ بِأَبِى أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِحْدَى رَاحِلَتَى هَاتَيْنِ: قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : بِالثَّمَنِ، قَالَتْ: فَجَهَّزْنَاهُمَا، أَحَثَّ الْجِهَازِ وَضَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً فِى جِرَابٍ، فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِى بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا، فَأَوْكَأَتْ بِهِ الْجِرَابَ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ تُسَمَّى ذَاتَ النِّطَاقِ، ثُمَّ لَحِقَ النَّبِى عليه السلام وَأَبُو بَكْرٍ بِغَارٍ فِى جَبَلٍ، يُقَالُ لَهُ: ثَوْرٌ، فَمَكُثَ فِيهِ ثَلاثَ لَيَالٍ، يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ أَبِى بَكْرٍ - وَهُوَ غُلامٌ شَابٌّ لَقِنٌ ثَقِفٌ - فَيَرْحَلُ مِنْ عِنْدِهِمَا سَحَرًا، فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ، فَلا يَسْمَعُ أَمْرًا يُكَادَانِ بِهِ إِلا وَعَاهُ حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلامُ، وَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِى بَكْرٍ مِنْحَةً مِنْ غَنَمٍ، فَيُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا حِينَ تَذْهَبُ سَاعَةٌ مِنَ الْعِشَاءِ، فَيَبِيتَانِ فِى رِسْلِهِمَا، حَتَّى يَنْعِقَ بِهَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ بِغَلَسٍ، يَفْعَلُ ذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِى الثَّلاثِ) .(9/91)
قال المؤلف: التقنع للرجل عند الحاجة مباح، وقال ابن وهب: سألت مالكا عن التقنع بالثوب. فقال: أما الرجل يجد الحر والبرد أو الأمر الذى له فيه عذر فلا بأس به، ولقد كان أبو النضر يلزم ذلك، لبرد يجده ومابذلك بأس، وذكر ابن أبى زيد عن مالك قال: رأت سكينة بنت الحسين بعض ولدها مقنعًا راسه قالت: اكشف عن رأسك فإن القناع ريبة بالليل، ومذلة بالنهار. وماأعلمه حرامًا ولكن ليس من لباس خيار الناس. وقال البهزى: إذا تقنع لدفع مضرة فذلك مباح، وأما لغير ذلك فإنه يكره، لأنه من فعل أهل الريب ويكره أن يفعل شيئًا يظن به الريبة، وليس ذلك من فعل من مضى. قال المؤلف: وقد مر كثير من معانى هذا الحديث فى غير موضع من هذا الكتاب، منها فى كتاب البيوع، فى باب من أشترى متاعًا أو دابة فوضعه عند البائع فضاع أو مات قبل أن يقبض، وفى كتاب الاجارة فى باب استئجار المشركين عند الضرورة، وذكره فى كتاب الأدب، فى باب هل يزور صاحبه كل يوم أو بكرة وعشية؟ . وذكر البخارى هذا الحديث فى أبواب الهجرة مما لم أشرحه فى هذا الكتاب بزيادة الفاظ لم تأت فى هذا الحديث ونذكر هنا جملة من معانية، فأول ذلك ماذكره الطبرى قال: فيه الدليل الواضح على ما خص الله به صديق نبيه عليه السلام من الفضيلة والكرامة، ورفع المنزلة عنده، وذلك اختياره إياه دون سائر وعشيرته، لموضع سره وخفى أموره التى كان يخفيها عن سائر أصحابه، ولصحبته فى سفره، إذ لم يعلم(9/92)
أحد بكونه عليه السلام فى الغار أيام مكثه فيه غير أبى بكر وحاشيته من ولد له ومولى وأجير. ولاصحبه فى طريقه غير خصص، خصص له لذلك دون قرابة رسول الله، فتبين بذلك منزلته عنده، ودل على اختياره أياه، لأمانته على رسول الله - عليه السلام. قال المؤلف: وفيه المعنى الذى استحق به أبو بكر أن سمى صديقًا، وذلك أنه حبس نفسه على رسول الله، لقوله: (أرجو أن يؤذن لى فى الهجرة) فصدقه ولم يرتب بقوله، وأيقن أن مارجاه لا يخيب ظنه فيه لما كان جربه عليه من الصدق فى جميع أموره، وتكلف النفقة على الراحلتين، فأعد إحداهما لرسول الله وبذل ماله كما بذل نفسه فى الهجرة معه، ولذلك قال عليه السلام: (ليس أحد أمن على فى نفسه وماله من أبى بكر) . وفيه: أن المرء ينبغى له التحفظ بسره ولايطلع عليه إلا من تطيب نفسه عليه، لقوله لأبى بكر: (أخرج من عندك) ليخبره بخروجه مخليا به، فلما قال له الصديق رضى الله عنه: إنما هم أهلك. وعلم أن شفقتهم عليه كشفقة اهله أطلعه حينئذ على سره، وأنه قد أذن له فى الخروج، فبدر أبو بكر وقال لرسول الله: الصحبة؟ قبل أن يساله ذلك رسول الله وهذا من أبلغ المشاركة وأعظم الواء لرسول الله. وفيه اتخاذ الفضاء والصالحين الزاد فى أسفارهم، ورد قول من(9/93)
أنكر ذلك من الصوفية، وزعم أن من صح توكله ينزل عليه طعام من السماء إذا احتاج إليه، ولا أحد أفضل من رسول الله ولا من صاحبه وصديقه وهما كانا أولى بهذه المنزلة، ولو كان كما زعموا مااحتاجا إلى سفرة فيها طعام. قال الطبرى: وفى استخفاء نبى الله وأبى بكر فى الغار عندما أراد المشركون المكر بنبيه وقتله كما وصفه الله تعالى فى كتابه بقوله: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك (الآيه فدخل عليه السلام مع صاحبه فى الغار حتى سكن عند الطلب ويئسوا منه ثم ارتحل متوجهًا إلى المدينة، وكان فعله ذلك حذرًا على نفسه من المشركين، فبان بذك، إذ صح فعله أنه عن أمر ربه إياه أن الحق على كل مسلم الهرب مما لا قوام له به، وترك التعرض لما لا طاقة له به،) ولو شاء الله (أن يعمى جميع المشركين يومئذ حتى لا يقدروا على رؤيته، أو يخسف بهم أجمعين حتى ينفرد رسول الله وأصحابه بالمكث فى بلدهم لكان ذلك هينًا عليه. فلم يفعل ذلك تعالى مع قدرته عليه، ليبلغ الكتاب أجله بل أمر نبيه وصاحبه بالدخول فيه، ليكون ذلك سنة لخلقه إذا رأوا منكرًا يجب تغييره فعجزوا عن القيام بتغييره وكانوا فى فسحة من ترك التعرض لما لا قبل لهم من الخوف على مهجهم ودينهم والزوال عنه، وبان ذلك فساد قول قول من قال: إن على كل من رأى منكرًا تغييره وإن فى ذلك هلاك نفسه وماله، وإن لم يفعل ذلك كان مضيعًا فرضًا لله.(9/94)
ووضح خطأ من حمل وحده على عسكر من المشركين وله إلى ترك ذلك سبيل مع خوفه على نفسه، وبان فساد قول من زعم أنه من استجن بجنة فى حرب أو لجأ إلى حصن من عدو غالب أو أتخذ غلقًا لباب من لص أو أعد زادًا لسفر أنه قد برىء من التوكل، لأن الضر والنفع بيد الله وقد أمر الله نبيه بالدخول فى الغار ولاختفاء فيه من شرار خلقه، وكان من التوكل على ربه فى الغاية العليا. وفيه الدليل الواضح على فساد قول من زعم أن من خاف شيئًا سوى الله فلم يوقن بالقدر، وذلك أن الصديق قال لرسول الله: (لو أن أحدكم رفع قدمه لأبصرنا) . حذرًا أن يكون ذلك من بعضهم فيلحقه ورسول الله من مكروه، ذلك ماحذره وبذلك أخبر الله تعالى - عنه فى كتابه بقوله: (إلا تنصروه فقد نصره الله (فلم يصفه الله ولا رسوله بذلك من قوله بضعف اليقين، بل كان من اليقين لقضاء الله وقدرة فى أعلى المنازل، ولكن قال ذلك إشفاقا على رسول الله، وكان حزنه بذلك مع علمه أن الله بالغ أمره فيه وفى رسوله وفى نصر دينه، فجمع الله له بذلك صدق اليقين، وأجر الجزع على الدين، وثواب الشفقة على الرسول، ليضعف له بذلك الأجر، وكان ذلك منه مثل ماكان من موسى نبى الله إذ أوجس فى نفسه خيفة مما أتت به السحرة، حين خيل إليه أن حبالهم وعصيهم تسعى، فقال الله له: (لا تخف إنك أنت الأعلى) ولا شك أن موسى كان من العلم بالله وصدق اليقين بنفوذ قضائه فيه ما لا يلتبس أمره على ذى عقل يؤمن بالله ورسوله، وكذلك الذى كان من أمر أبى بكر.(9/95)
وقوله عليه السلام لأبى بكر ماظنك بأثنين الله ثالثهما. يعنى: أن الله ثالثهما بالحفظ لهما والكلأ، ولم يرد أنه يعلم مكانهما فقط كما قال تعالى: (ما يكون من نجوى ثلاثه إلا هو رابعهم (الآيه، ويدل أنه أراد أن الله ثالثهما بالحفظ، قوله تعالى: (لا تحزن إن الله معنا (أى: يحفظنا ويكلؤنا ويحفظنا، ولو أراد يعلمنا لم يكن فيه له عليه السلام ولا لصاحبه فضيلة على أحد من الناس، لأن الله تعالى شاهد كل نجوى وعالم بها، وإنما كان فضيلة له ولصاحبه حين كان الله ثالثهما بأن صرف عنهما طلب المشركين وأعمى ابصارهم وسيأتى فى كتاب التمنى معنى قوله: لو أن أحدهم رفع قدمه لبصرنا، فى باب مايجوز من اللو ان شاء الله تعالى. وقد تقدم شرح العصابة الدسماء فى أبواب صلاة الجمعة فى باب من قال فى الخطبة بعد الثناء: أما بعد، فأغنى عن إعادته. وقوله: (إن جاء به هذه الساعة لأمر) إن هاهنا مؤكدة، و (اللام) فى قوله: (لأمر) لام التأكيد، كقوله تعالى: (وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال (فى قراءة من فتح اللام وهو الكسائى وقوله: (وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك (وقوله: (وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين (، هذا قول سيبويه والبصريين، وأما الكوفيون فيجعلون إن هاهنا نافيه بمعنى ما، والمعنى إلا، والتقدير عندهم ماجاء به إلا أمر، وماوجدنا أكثرهم إلا فاسقين،(9/96)
وما يكاد لذين كفروا إلا ليزلقونك. وهذه دعوى يحتاج فيها إلى حجة قاطعة، واخراج الكلام عن موضوعه لا يصح إلا إذا بطل معنى نسفه وموضوعه، وقد صح المعنى فى نسقه وقال صاحب الافعال: يقال علفت الدابه، وأعلفتها، واللغة الأولى أفصح. وقوله: لقن ثقف. فالقن: الفهم يقال: لقن الشىء لقنًا ولقانه عقل وذكا، والثقف مثله، يقال: ثقف الحديث: أسرعت فهمه، وثقفت الشىء: أجدته، ومنه قوله تعالى: (واقتلوهم حيث ثقفتموهم (وأكثر كلام العرب ثقف لفف، وثقف لفف أى: راو شاعر رام، وهذا إتباع، عن الخليل والرسل بكسر الراء: اللبن ونعق ينعق بالغنم إذا صاح بها، عن الخليل وقد تقدم فى فضل المدينة فى آخر كتاب الحج.
- باب: المغفر
/ 21 - فيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ، وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ. المغفر من حديد، وهو من آلات الحرب ودخوله به عليه السلام يوم الفتح كان فى حال القتال، ولم يكن محرما كما قال ابن شهاب. وقال بعض المتعسفين على مالك: إن هذا الحديث لم يتابع عليه مالك عن ابن شهاب، وإنما الصحيح فيه أنه دخل يوم الفتح وعليه عمامة سوداء، ولم يكن عليه مغفر، واجتجوا بما رواه الترمذي عن(9/97)
محمد بن _ بشار قال: حدثنا عن الرحمن بن مهدى، عن حماد بن سلمه، عن أبى الزبير، عن جابر (أن النبى عليه السلام دخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء) . قال الترمذى: وهذا حديث حسن. قال المؤلف: وهذا تعسف على مالك، وقد وجدت فى حديث الزهرى تصنيف النسائى أن الأوزاعى روى هذا الحديث عن الزهرى، كما رواه مالك وذكر فيه المغفر، وقد يمكن أن يكون عليه السلام عليه مغفر وتحتة عمامة سوداء، لتتفق الروايات، وسواء دخل عليه السلام مكة بمغفر أو بعمامة سوداء فحكمهما سواء ولا حرج عليه فى ذلك، لأنه دخلها كذلك فى الساعة التى أحلت له ولم تحل لأحد قبله ولابعده، ثم هى حرام إلى يوم القيامة. وإنما اتخذ عليه السلام مغفرًا وتسلح به فى حال الحرب، وقد أخبر الله تعالى أن الله يعصمه من الناس، ليس ذلك لأمته ويقتدى به الأئمة والصالحون.
- باب: البرود والحبرة والشملة
وَقَالَ خَبَّابٌ: شَكَوْنَا إِلَى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ. / 22 - فيه: أَنَس، قَالَ: كُنْتُ أَمْشِى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِىٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِىٌّ، فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً، حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الْبُرْدِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ(9/98)
قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مُرْ لِى مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِى عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ ضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ. / 23 - وفيه: سَهْل، جَاءَتِ امْرَأَةٌ بِبُرْدَةٍ - قَالَ سَهْلٌ: هَلْ تَدْرِى مَا الْبُرْدَةُ؟ قَالَ: نَعَمْ، هِى الشَّمْلَةُ مَنْسُوجٌ فِى حَاشِيَتِهَا - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى نَسَجْتُ هَذِهِ بِيَدِى أَكْسُوكَهَا فَأَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا، وَإِنَّهَا لإزَارُهُ، فَجَسَّهَا رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اكْسُنِيهَا، قَالَ: (نَعَمْ) ، فَجَلَسَ مَا شَاءَ اللَّهُ فِى الْمَجْلِسِ، ثُمَّ رَجَعَ فَطَوَاهَا، ثُمَّ أَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْقَوْمُ: مَا أَحْسَنْتَ سَأَلْتَهَا إِيَّاهُ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ لا يَرُدُّ سَائِلا، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَاللَّهِ مَا سَأَلْتُهَا إِلا لِتَكُونَ كَفَنِى يَوْمَ أَمُوتُ. قَالَ سَهْلٌ: فَكَانَتْ كَفَنَهُ. / 24 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِى زُمْرَةٌ هِىَ سَبْعُونَ أَلْفًا، تُضِىءُ وُجُوهُهُمْ إِضَاءَةَ الْقَمَرِ) ، فَقَامَ عُكَاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ الأسَدِىُّ، يَرْفَعُ نَمِرَةً عَلَيْهِ، قَالَ: ادْعُ اللَّهَ لِى يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ يَجْعَلَنِى مِنْهُمْ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ. . .) الحديث. / 25 - وفيه: أَنَس، كَانَ أَحَبَّ الثِّيَابِ إِلَى النَّبِىِّ، عليه السَّلام، يَلْبَسَهَا الْحِبَرَةُ. / 26 - وفيه: عَائِشَةَ، أن النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) حِينَ تُوُفِّىَ سُجِّىَ بِبُرْدٍ حِبَرَةٍ. البرود هى: برود اليمن تصنع من قطن وهى الحبرات يشتمل بها وهى كانت أشرف الثياب عندهم، إلا ترى انه عليه السلام سجى بها حين توفى، ولو كان عندهم أفضل من البرود شىء لسجي به.(9/99)
وفيه: جواز لباس الثياب للصالحين رفيع الثياب للصالحين وذلك داخل فى معنى قوله تعالى: (قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده (الآية. وفى حديث أنس ما جبل عليه السلام عليه من شريف الأخلاق وعظيم الصبر على جفاء الجهال والصفح عنهم والدفع بالتى هى احسن، إلا ترى أنه ضحك حين جبذه الاعرابى، ثم امر له بعطاء ولم يؤاخذه. وفيه حديث سهل كرم النبى - عليه السلام - وإثاره على نفسه ولو كان فى حال حاجة أخذًا بقوله تعالى: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة (. وفيه أنه ينبغى التبرك بثياب الصالحين ويتوسل بها إلى الله فى الحياة والممات. وفيه جواز أخذ الهدية للرجل الكبير مما هو دونه إذا علم طيب ما عنده. وفيه جواز من سال الإمام والخليفة ماعليه من ثيابه وسيأتى معنى قوله: (سبقك بها عكاشة) . فى كتاب الطب، فى باب من اكتوى وفضل من لم يكتو إن شاء الله - تعالى والنمرة والبرد سواء.
- باب الأكسية والخمائص
/ 27 - فيه: ابْن عَبَّاس، وَعَائِشَةَ، لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً(9/100)
لَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا. / 28 - وفيه: عَائِشَةَ، أنها أَخْرَجَتْ وَإِزَارًا غَلِيظًا، وَكِسَاءً، وَقَالَتْ: قُبِضَ رُوحُ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فِى هَذَيْنِ. / 29 - وفيه: عَائِشَةَ، صَلَّى النّبِىّ، عليه السَّلام، فِى خَمِيصَةٍ لَهُ لَهَا أَعْلامٌ، فَنَظَرَ إِلَى أَعْلامِهَا نَظْرَةً، فَلَمَّا سَلَّمَ، قَالَ: (اذْهَبُوا بِخَمِيصَتِى هَذِهِ إِلَى أَبِى جَهْمٍ، فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِى عَنْ صَلاتِى آنِفًا، وَأْتُونِى بِأَنْبِجَانِيَّةِ أَبِى جَهْمِ) . الخمائص: أكسية من صوف سود مربعة بها أعلام، كانت من لباس السلف. وقال الأصمعى: الخمائص ثياب من خز أو صوف معلمه وهى سود، وقد تقدم فى كتاب الصلاة.
- باب: اشتمال الصماء
/ 30 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، نَهَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَن اشْتَمِلَ الصَّمَّاءَ. / 31 - وفيه: أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ، نَهَى النّبِىّ، عليه السَّلام، عَنْ لِبْسَتَيْنِ، اشْتِمَالُ الصَّمَّاءِ - وَالصَّمَّاءُ أَنْ يَجْعَلَ ثَوْبَهُ عَلَى أَحَدِ عَاتِقَيْهِ، فَيَبْدُو أَحَدُ شِقَّيْهِ لَيْسَ عَلَيْهِ ثَوْبٌ - وَاللِّبْسَةُ الأخْرَى احْتِبَاؤُهُ بِثَوْبِهِ، وَهُوَ جَالِسٌ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَىْءٌ. وقد تقدم فى كتاب الصلاة.(9/101)
- باب: الثياب الخضر
/ 32 - فيه: عِكْرِمَةَ: أَنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، فَتَزَوَّجَهَا عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ الزَّبِيرِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَعَلَيْهَا خِمَارٌ أَخْضَرُ، فَشَكَتْ إِلَيْهَا، وَأَرَتْهَا خُضْرَةً بِجِلْدِهَا، فَلَمَّا جَاءَ النّبِىّ، عليه السَّلام، قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ مَا تَلْقَى الْمُؤْمِنَاتُ لَجِلْدُهَا أَشَدُّ خُضْرَةً مِنْ ثَوْبِهَا، قَالَ: وَسَمِعَ أَنَّهَا قَدْ أَتَته، فَجَاءَ وَمَعَهُ ابْنَانِ لَهُ مِنْ غَيْرِهَا، قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا لِى إِلَيْهِ مِنْ ذَنْبٍ، إِلا أَنَّ مَا مَعَهُ لَيْسَ بِأَغْنَى عَنِّى مِنْ هَذِهِ، وَأَخَذَتْ هُدْبَةً مِنْ ثَوْبِهَا، فَقَالَ: كَذَبَتْ، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى لأنْفُضُهَا نَفْضَ الأدِيمِ، وَلَكِنَّهَا نَاشِزٌ تُرِيدُ رِفَاعَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (فَإِنْ كَانَ ذَلِكِ لَمْ تَحِلِّى لَهُ - أَوْ لَمْ تَصْلُحِى لَهُ - حَتَّى يَذُوقَ مِنْ عُسَيْلَتِكِ) ، قَالَ: وَأَبْصَرَ مَعَهُ ابْنَيْنِ لَهُ، فَقَالَ: (بَنُوكَ هَؤُلاءِ) ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (هَذَا الَّذِى تَزْعُمِينَ مَا تَزْعُمِينَ، فَوَاللَّهِ لَهُمْ أَشْبَهُ بِهِ مِنَ الْغُرَابِ بِالْغُرَابِ) . قال المؤلف: الثياب الخضر من لباس أهل الجنة قال تعالى: (ويلبسون ثيابا خضرًا من سندس وإستبرق (. كفى بهذا شرفًا للخضرة وترغيبًا فيها. وقال هشام بن عروة قال: رايت على عبد الله بن الزبير مطرقا من خز أخضر كسته أياه عائشة، وروى أبو داود حديثًا عن أبى رمثة(9/102)
قال: (انطلقت مع أبى إلى النبي - عليه السلام - فرأيت عليه بردان أخضران) . فيه أن للرجل ضرب زوجته عند نشوزها عليه، وإن اثر ضربه فى جلدها ولا حرج عليه فى ذلك، إلا ترى أن عائشة قالت للنبى - عليه السلام -: (لجلدها أشد خضرة من ثوبها) ولم ينكر ذلك النبى. وفيه أن للنساء أن يطالبن أزواجهن عند الامام بقله الوطء وأن يعرضن بذلك تعريضًا بينًا كالتصريح ولا عار عليهن فى ذلك. وفيه أن للزوج إذا ادعى عليه ذلك أن يخبر بخلاف ويعرب عن نفسه ألا ترى قوله: (يا رسول الله، إنى لانفضها نفض الأديم) وهذه الكناية من الفصاحة العجيبة، وهى أبلغ فى المعنى من الحقيقة. وفيه الحكم بالدليل، لقوله عليه السلام فى أبنيه: (لهم أشبه به من الغراب بالغراب) فاستدل عليه السلام بشبهها على كذبها، ودعواها وقد تقدم هذا الحديث فى كتاب الطلاق فى باب إذا طلقها ثلاثًا ثم تزوجت بعد العدة زوجًا فلم يمسها.
- باب الثياب البيض
/ 33 - فيه: سَعْدٍ، قَالَ: رَأَيْتُ بِشِمَالِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، وَيَمِينِهِ رَجُلَيْنِ، عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ يَوْمَ أُحُدٍ، مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلا بَعْدُ.(9/103)
/ 34 - وفيه: أَبُو ذَرٍّ، رأيْتُ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ أَبْيَضُ، وَهُوَ نَائِمٌ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ وَقَدِ اسْتَيْقَظَ، فَقَالَ: (مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ، إِلا دَخَلَ الْجَنَّةَ) ، قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قُلْتُ ذَلِكَ ثلاثًا، قَالَ لى: كذلِك، عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِى ذَرٍّ. وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا، قَالَ: وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِى ذَرٍّ. قال المؤلف: الثياب البيض من أفضل الثياب وهو لباس الملائكة الذين نصروا النبى عليه السلام يوم أحد وغيره، والرجلان اللذان كانا يوم أحد عن يمين النبى وعو شماله كانا ملكين، والله أعلم. وكان عليه السلام يلبس البياض ويفضله، ويحض على لباسه الأحياء، ويأمر بتكفين الأموات فيه. روى أبو داود قال: حدثنا أحمد بن يونس قال: ثنا زهير، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله: (ألبسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم) . وأما قوله فى حديث أبى ذر: (من قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك دخل الجنة وإن زنا وإن سرق) . وقول البخارى: فقال هذا عند الموت إذا تاب وندم وقال: لا إله إلا الله، غفر له. هذا تفسير يحتاج إلى تفسير آخر، وذلك أن التوبة والندم إنما تنفع فى الذنوب التى بين العبد وبين ربه، فأما مظالم العباد فلا تسقطها عنه التوبة.(9/104)
ومعنى الحديث أن من مات على التوحيد أنه يدخل الجنة وإن ارتكب الذنوب، ولا يخلد فى النار بذنوبه كما يقوله الخوارج وأهل البدع، وقد تقدم - فى حديث معاذ أن النبى - عليه السلام - قال له: (ما من أحد يشهد أن لا إله ألا الله وأن محمدًا رسول الله صادقا من قلبه إلا حرمه الله على النار) هذا المعنى مبينًا فى كتاب العلم فى باب من خص بالعلم قومًا دون قوم. فإن قال قائل: فى ظاهر قول البخارى هذا أنه لم يوجب المغفرة إلا لمن تاب، فظاهر هذا يوهم إنقاذ الوعيد لمن لم يتب. قيل له: إنما البخارى ماأراده وهب بن منبه بقوله فى مفتاح الجنة فى كتاب الجنائز: أن تحقيق ضمان وعد النبى عليه السلام لمن مات لا يشرك بالله أو لمنم قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك، أنه إنما يتحصل لهم دون مدافعه عن دخول الجنة، ولاعذاب ولاعقاب إذا لقوا الله تائبين أو عاملين بما أمر به، فأولئك يكونون أول الناس دخولا الجنة أو قبلهم تباعات للعباد، فلا بدا أيضًا لهم من دخول الجنة بعد إنقاذ الله مشيئته فيهم من عذاب أو مغفرة.
- باب: لبس الحرير للرجال وافتراشه للرجال وقدر ما يجوز منه
/ 35 - فيه: أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِىَّ، أَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ، وَنَحْنُ مَعَ عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ بِأَذْرَبِيجَانَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) نَهَى عَنِ الْحَرِيرِ إِلا هَكَذَا - وَأَشَارَ بِإِصْبَعَيْهِ اللَّتَيْنِ تَلِيَانِ الإبْهَامَ - قَالَ: فِيمَا عَلِمْنَا أَنَّهُ يَعْنِى الأعْلامَ.(9/105)
/ 36 - وَقَالَ مرة: إن عُمَر كَتَبَ إلى عُتْبَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، قَالَ: (لا يُلْبَسُ الْحَرِيرُ فِى الدُّنْيَا، إِلا لَمْ يُلْبَسْ فِى الآخِرَةِ مِنْهُ) . / 37 - وفيه: حُذَيْفَةُ أنه اسْتَسْقَى، فَأَتَاهُ دِهْقَانٌ بِمَاءٍ فِى إِنَاءٍ مِنْ فِضَّةٍ، فَرَمَاهُ بِهِ، وَقَالَ: إِنِّى لَمْ أَرْمِهِ إِلا أَنِّى نَهَيْتُهُ، فَلَمْ يَنْتَهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالْحَرِيرُ وَالدِّيبَاجُ، هِىَ لَهُمْ فِى الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِى الآخِرَةِ) . / 38 - وفيه: أَنَس، َعَنِ النَّبِى عليه السَّلام، قَالَ: مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِى الدُّنْيَا، لم يَلْبَسَهُ فِى الآخِرَةِ) . قَالَ شُعْبَةُ: فَقُلْتُ: أَعَنِ النَّبِىِّ، عليه السّلام؟ . . . الحديث. / 39 - وفيه: ابْنَ عُمَر، عن عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ فِى الدُّنْيَا مَنْ لا خَلاقَ لَهُ فِى الآخِرَةِ) . قال الطبرى: اختلف أهل العلم فى معنى هذه الأخبار فقال بعضهم بعموم خبر عمر، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (إنما يلبس الحرير فى الدنيا من لا خلاق له فى الآخرة) . وقال: الحرير كله حرام، قليله وكثيره، مصمتًا كان أو غير مصمت، فى الحرب وغيرها على الرجال والنساء، لأن التحريم بذلك قد جاء عاما فليس لأحد أن يخص منه شيئًا، لأنه لم يصح بخصوصه خبر. وقال آخرون: بل هذه الأخبار التى وردت عن النبى - عليه السلام - بالنهى عن لبس الحرير أخبار منسوجة، وقد رخص فيه رسول الله بعد النهى عن لبسه وأذن لأمته فيه. وقال آخرون ممن قال بتحليل لبسه: ليست هذه الأخبار منسوجة، ولكنها بمعنى الكراهة لا بمعنى التحريم.(9/106)
وقال آخرون: بل هذه الأخبار وإن كانت وردت بالنهى عن لبس الحرير فإن المراد بها الخصوص، وإنما أريد بها الرجال دون النساء، وماعنى به الرجال من ذلك فإنما هو ماكان منه حريرًا مصمتًا، فأما مااختلف سداه ولحمته أو كان علمًا فى ثوب فهو مباح. وقال آخرون ممن قال بخصوص هذه الأخبار: إنما عنى بالنهى عن لبس الحرير فى غير لقاء العدو، فأما عند لقاء العدو فلا بأس يلبسه مباهاة وفخرًا. ذكر من قال: إن النهى عن الحرير على العموم: روى عطاء، عن عبد الله مولى أسماء قال: (أرسلت اسماء إلى ابن عمر أنه بلغنى انك تحرم العلم فى الثوب. قال: إن عمر حدثنى أنه سمع النبى عليه السلام يقول: من لبس الحرير فى الدنيا لم يلبسه فى الآخرة. وأخاف أن يكون العلم فى الثوب من لبس الحرير) . قال أبو عمرو الشيبانى: (رأى على بن أبى طالب على رجل جبه طيالسه قد جعل على صدره ديباجًا، فقال: ماهذا النتن تحت لحييك. قال: لا تراه على بعدها) . وعن أبى هريرة أنه رأى رجل لبنه حرير فى قميصه فقال: (لو أزرار ديباج فقال: تتقلد قلائد الشيطان فى عنقك) .(9/107)
وعن الحسن البصرى أنه يكره قليل الحرير وكثيره للرجال والنساء حتى الأعلام فى الثياب. وكره بن سيرين العلم فى الثوب وقال: الدليل على عموم التحريم قوله عليه السلام: (من لبسه فى الدنيا لم يلبسه فى الآخرة) . ومن قال: المراد بالنهى عن لباس الحرير الرجال دون النساء ورخص فى الأعلام. وروى عن حذيفة (أنه رأى صبيانًا عليهم قمص حرير فنزعها عنهم وتركها على الجوارى) . وعن ابن عمر (أنه كان يكره الحرير للرجال، ولا يكرهه للنساء) وعن عطاء مثله. واحتج الذين أجازوه للنساء بما رواه عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن سعيد بن أبى هند، عن أبى موسى الشعرى قال: قال رسول الله: (أحل لأناث أمتى الحرير والذهب، وحرم على ذكروهم) ، وكان ابن عباس لا يرى بأسًا بالأعلام، وقال عطاء: إذا كان العلم إصبعين أو ثلاثة مجموعة فلا بأس به. وكان عمر بن عبد العزيز يلبس الثوب سداه كتان وقيامه حرير، وأجازه ابن أبى ليلى، وقال أبو حنيفة: لا بأس بالخز وإن كان سداه إبريسم، وكذلك لا بأس بالخز، وإن كان مبطنًا بثوب حرير، لأن الظاهر الخظ وليس الظاهر الحرير، ولابأس بحشو القز. وقال الشافعى: إن لبس رجل قباء محشوًا قزًا فلا بأس به،(9/108)
لأن الحشو باطن، وإنما إظهار القز للرجال. وكان النخعى يكره الثوب سداه حرير، وقال طاوس: دعه لمن هو أحرص عليه. وسئل الأوزاعى عن السيجان الواسطية التى سداها قز، فقال: لا خير فيها. قال غير الطبرى: وكان مالك يعجبه ورع ابن عمر، فلذلك كره لباس الخز، قال مالك: إنما كره الخز، لأن سداه حرير. ذكر من قال: إن الأخبار الواردة بتحريم لبس الحرير منسوجة بإذنه للزبير بن العوام فى ذلك، وأن لباسه جائز فى الحرب وغيرها. روى معمر، عن ثابت، عن أنس قال: لقى عمر عبد الرحمن بن عامر بن ربيعة قال: (شهدت عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف وعليه قميص حرير، فقال: ياعبد الرحمن، لا تلبس الحرير والديباج فإنه ذكر لى أن من لبسه فى الدنيا لم يلبسه فى الآخرة) . وروى ابن أبى ذئب، عن سفينة مولى ابن عباس قال: (دخل المسور بن محرمة على ابن عباس يعوده، وعلى ابن عباس ثوب إستبرق وبين يديه كانون عليه تماثيل فقال: ماهذا اللباس عليك؟ قال: ماشعرت به وما أظن النبى نهى عنه إلا للتكبر والتجبر، ولسنا كذلك بحمد الله، قال: وماهذه التماثيل؟ قال: أما(9/109)
تراها قد أحرقناها بالنار، فلما خرج المسور قال ابن عباس: ألقوا هذا الثوب عنى، واكسروا هذه التماثيل، وبيعوا هذا الكانون) . وعن جبير بن حية أنه اشترى جارية عليها قباء من ديباج منسوج بذهب، فكان يلبسه، فكأن اصحابه عابوا عليه ذلك، فقال: أنه يدفئنى، وألبسه فى الحرب. قال الطبرى: والصواب فى حديث عمر عن النبى - عليه السلام أنه على الخصوص، وقوله: (إنما هذه لباس من لا خلاق له يعنى: من الحرير المصمت من الرجال، فى غير حال المرض والحرب، لغير ضرورة دعته إلى لبسه تكبرًا واختيالا فى الدنيا لم يلبسه فى الآخرة، ولباس ذلك كذلك لباس من لا خلاق له. وإنما قلنا عنى به من الحرير المصمت، لقيام الحجة بالنقل الذى يمتنع منه الكذب أنه لا بأس بلبس الخز، والخز لا شك سداه حرير ولحمته وبر، فإذا كانت الحجة ثابتة بتحليله، فسبيل كل مااختلف سداه ولحمته سبيل الخز، أنه لا بأس به فى كل حال للرجال والنساء، وإنما قلنا عنى به كان ثوبًا دون ماكان علمًا فى ثوب، لصحة الخبر عن النبى - عليه السلام - أنه استثنى من الحرير، إذ نهى عن لبسه ماكان منه قدر أصبعين أو ثلاث أو أربع. وقال عنى به من لم تكن به عله تضطرة إلى لبسه، لصحة الخبر عن النبى - عليه السلام - أنه ارخص للزبير بن العوام فى الحرير وعبد الرحمن لحكه كانت بجلودهما فكان معلومًا بذلك، إذ كل عله كانت بالإنسان يرجى بلبس الحرير خفتها أن له لبسه معها، وأن من كانت بالأنسان يرجى بلبس الحرير خفتها أن له لبسه معها، وأن من(9/110)
قصد إلى دفع ماهو أعظم أذى من الحكة وذلك كأسلحة العو، أن له من ذلك ماكان لعبد الرحمن والزبير بسبب الحكة. وقلنا: الخبر خاص للرجال دون النساء، لصحة خبر أبى موسى عن النبى - عليه السلام - أنه قال: (الذهب والحرير حرام على ذكور أمتى، حل لإناثها) . فبان أن جميع الأخبار المروية فى الحرير غير دافع منها خبر غيره، ولاناسخ فيها ولامنسوخ، ولكن يعضد بعضها بعضًا، وقد تقدم فى كتاب الجهاد واختلاف العلماء فى لباس الحرير فى الحرب. قال الطبرى: واختلفوا فى قوله: (إنما يلبسها من خلاق له فى الآخرة) وقال آخرون: ما له فى الآخرة من وجهة. وقال آخرون: ما له فى الآخرة. وقال غير الطبرى: قوله: (إنما يلبسها من لا خلاق له فى الآخرة) يعنى: أنه من لباس المشركين فى الدنيا، فينبغى أن لا يلبسه المؤمنون.
- باب: مس الحرير من غير لبس
/ 40 - فيه: الْبَرَاء، أُهْدِىَ لِلنَّبِىِّ، عليه السَّلام، ثَوْبُ حَرِيرٍ، فَجَعَلْنَا نَلْمُسُهُ، وَنَتَعَجَّبُ مِنْهُ، فَقَالَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام: (أَتَعْجَبُونَ مِنْ هَذَا) ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: (مَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِى الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ هَذَا) . قال المؤلف: ليس النهى الحرير من أجل نجاسة عينه(9/111)
فيحرم لمسه باليد، وإنما نهى عن لبسه من أجل أنه ليس من لباس المتقين، وعينه مع ذلك طاهرة، فلذلك جاز لمسه والانتفاع بثمنه.
- باب: افتراش الحرير قَالَ عَبِيدَةُ: هُوَ كَلُبْسِهِ
. / 41 - فيه: حُذَيْفَةَ، نَهَانَا النَّبِىُّ، عليه السَّلام، أَنْ نَشْرَبَ فِى آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، أَوْ نَأْكُلَ فِيهَا، وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ، وَأَنْ نَجْلِسَ عَلَيْهِ. قال المؤلف: هذا الباب رد من أجاز افتراش الحرير والارتفاق به، وهو قول عبد العزيز بن أبى سلمه، وروى وكيع، عن مسعر، عن راشد مولى بنى تميم قال: رايت فى مجلس ابن عباس مرفقة حرير. والجمهور على خلافه، وحجتهم حديث حذيفة أن النبى - عليه السلام - نهى عن لباس الحرير وعن الجلوس عليه، وهذا نصر فى المسالة، ولو عدمنا هذا النص لاستدللنا على أن الافتراش والجلوس لباس من حديث أنس فى الحصير الذى اسود من طول ما لبس. وقد روى وهب، عن ابن لهيعة، عن أبى النضر ان عبد الله ابن عامر صنع صنيعًا، فدعا الناس وكان فيهم سعد بن أبى وقاص، فلما أتى أمر بمحبس من حرير كان على سريره فنزع، فلما دخل قال(9/112)
له ابن عامر ياأبا إسحاق، إنه كان على السير محبس من حرير فلما سمعنا بك نزعناه. قال سعد: لأن أقعد على جمر الغضا أحب إلى من أن أقعد على محبس من حرير.
- باب: لبس القسي
وَقَالَ عَلِىّ بْن أَبِى طالب: (الْقَسِّيَّةُ) ، ثِيَابٌ أَتَتْنَا مِنَ الشَّامِ - أَوْ مِنْ مِصْرَ - مُضَلَّعَةٌ فِيهَا حَرِيرٌ، وَفِيهَا أَمْثَالُ الأتْرُنْجِ وَالْمِيثَرَةُ، كَانَتِ النِّسَاءُ تَصْنَعُهُ لِبُعُولَتِهِنَّ مِثْلَ الْقَطَائِفِ يُصَفِّرْنَهَا. وَقَالَ جَرِيرٌ، عَنْ يَزِيدَ: الْقَسِّيَّةُ ثِيَابٌ مُضَلَّعَةٌ يُجَاءُ بِهَا مِنْ مِصْرَ، فِيهَا الْحَرِيرُ وَالْمِيثَرَةُ جُلُودُ السِّبَاعِ. / 42 - فيه: الْبَرَاء، نَهَانَا النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَنِ الْمَيَاثِرِ الْحُمْرِ وَالْقَسِّىِّ. قال الطبرى: القسى ثياب تعمل من الحرير بقرية بمصر يقال لها القسى. وقال أبو عبيد: وأصحاب الحديث يقولون: القسى بكسر القاف، وأهل مصر يفتحون القاف تنسب إلى بلاد يقال لها: قس. وسأذكر المثيرة بعد هذا.
- باب: ما يرخص للرجال من الحرير للحكة
/ 43 - فيه: أَنَس، قَالَ: رَخَّصَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، لِلزُّبَيْرِ وَعَبْدِالرَّحْمَنِ فِى لُبْسِ الْحَرِيرِ لِحِكَّةٍ بِهِمَا.(9/113)
قد تقدم كلام الطبري أن هذا الحديث يدل أنه عن لبس الحرير من لم تكن به عله تضطره إلى لبسه، وكان معلومًا بترخيصه، عليه السلام، فى لبس الحرير للحكة، أن كل عله كانت بالإنسان يرجى بلبس الحرير فخفتها أنه يجوز له لباسه معها، وأن من قصد بلبسه إلى ماهو أعظم من أذى من أذى الحكة كنيل العدو واسلحتهم أن ذلك له جائز، وقد تقدم فى كتاب الجهاد.
- باب: الحرير للنساء
/ 44 - فيه: عَلِىّ، قَالَ: كَسَانِى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، حُلَّةً سِيَرَاءَ، فَخَرَجْتُ فِيهَا، فَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِى وَجْهِهِ، فَشَقَّقْتُهَا بَيْنَ نِسَائِى. / 45 - وفيه: عُمَرَ، أنه رَأَى حُلَّةَ سِيَرَاءَ تُبَاعُ فِى السوق، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوِ ابْتَعْتَهَا تَلْبَسُهَا لِلْوَفْدِ إِذَا أَتَوْكَ وَالْجُمُعَةِ، قَالَ: (إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لا خَلاقَ لَهُ) ، وَأَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، بَعَثَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ حُلَّةَ سِيَرَاءَ حَرِيرٍ كَسَاهَا إِيَّاهُ، فَقَالَ عُمَرُ: كَسَوْتَنِيهَا، وَقَدْ سَمِعْتُكَ تَقُولُ، فِيهَا مَا قُلْتَ؟ فَقَالَ: (إِنَّمَا بَعَثْتُ إِلَيْكَ؛ لِتَبِيعَهَا أَوْ تَكْسُوَهَا) . / 46 - وفيه: أَنَس، رَأَى عَلَى أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ النّبِىّ، عليه السَّلام، بُرْدَ حَرِيرٍ سِيَرَاءَ. العلماء متفقون أن الحرير مباح للنساء، إلا ما روى عن الحسن البصرى قال يونس بن عبيد: كان الحسن يكره قليل الحرير وكثيرة للرجال والنساء، حتى الأعلام فى الثياب. وأحاديث هذا الباب خلاف قول الحسن، ولو كان الحرير لا يجوز لباسه للنساء ماجهل ذلك على بن أبى طالب ولا شق الحلة بين نسائه، ولا جاز لأم كلثوم بنت النبى لباس الحرير، وروى معمر عن(9/114)
الزهري، عن أنس قال: (رأيت على زينب بنت رسول الله برد سيراء من حرير) قال الأصمعى: سيراء: ثياب فيها خطوط من حرير، ويقال من قز، وإنما يقال لها: سيراء لتسيير الخطوط فيها. وقال الزهرى: السيراء المضلع بالقزى، وعن الخليل مثله، وهذا مذهب من لم يجز للرجال لباس المصلع بالقزى، وعن الخليل مثله، وهذا مذهب من لم يجز للرجال لباس الثوب إذا خالطه حرير أو كان فيه منه سدى أو لحمة، والآثار تدل أن الحلة من حرير محض. روى حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن أبى عمر قال عمر: (يا رسول الله، إنى مررت بعطارد وهو يعرض حلة حرير للبيع فلو اشتريتها للجمعة والوفد. . .) وذكر الحديث، وقال الزهرى، عن سالم، عن أبيه حلة من إستبرق وهو غليظ الحرير، وعلى هذا تدل الآثار أنها كانت من حرير محض.
- باب: ما كان النبى عليه السلام يتجوز من الباس والبسط
/ 47 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ عُمَرَ: دَخَلْتُ، عَلَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، فإِذَا هو عَلَى حَصِيرٍ قَدْ أَثَّرَ فِى جَنْبِهِ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ مِرْفَقَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، وَإِذَا أُهُبٌ مُعَلَّقَةٌ، وَقَرَظٌ. / 48 - وفيه: هِنْدُ بِنْتُ الْحَارِثِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتِ: اسْتَيْقَظَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، مِنَ اللَّيْلِ، وَهُوَ يَقُولُ: (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الْفِتْنَةِ؟ مَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الْخَزَائِنِ؟ مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجُرَاتِ؟ كَمْ مِنْ كَاسِيَةٍ فِى الدُّنْيَا عَارِيَةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . قَالَ الزُّهْرِىُّ: وَكَانَتْ هِنْدٌ لَهَا أَزْرَارٌ فِى كُمَّيْهَا بَيْنَ أَصَابِعِهَا.(9/115)
قال المؤلف: كان النبى - عليه السلام - ينام على الحصير حتى يؤثر فى جنبه، ويتخذ من الثياب مايشبه تواضعه (صلى الله عليه وسلم) وزهده فى الدنيا توفيرًا لحظة فى الآخرة، وقد خيره الله ان يكون نبيا ملكا أو نبيا عبدًا، فاختار أن يكون نبيًا عبدًا إيثار للآخرة على الدنيا، وتزهيدًا لأمته فيها ليقتدوا به فى أخذ البلغة من الدنيا، إذ هى اسلم من الفتنة التى تخشى على من فتحت عليه زهرة الدنيا، ألا ترى قوله عليه السلام: (ماذا أنزل الليلة من الفتنة؟ ماذا أنزل من الخزائن؟) فقرن عليه السلام الفتنة بنزول الخزائن، فدل ذلك على أن الكفاف والقصد فى أمور الدنيا خير من الإكثار واسلم من الفتنة. فإن قال قائل: حديث أم سلمه لا يوافق معنى الترجمة قيل: بل موافق لها، وذلك أن النبى عليه السلام حذر أهله وجميع المؤمنات من لباس رقيق الثياب الواصفة لأجسامهن، لقوله: (كم من كاسية فى الدنيا عارية يوم القيامة) وفهم منه أن عقوبة لابسة ذلك أن تعرى يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، وقام الدليل من ذلك أنه عليه السلام حض أزواجه على استعمال خشن الثياب السائرة لهن حذرًا أن يعرين فى الآخرة. ألا ترى قول الزهرى: وكانت هند لها أزرار فى كميها بين اصابعها. وإنما فعلت ذلك، لئلا يبدو من سعة كميها شىء من جسدها، فتكون وإن كانت ثيابها غير واصفة لجسدها داخلة فى(9/116)
معنى قوله: (كاسية عارية) فلم يتخذ النبى عليه السلام ولا أهله من الثياب إلا الساتر لهن غير الواصف، وهو كان فعل السلف وهو موافق للترجمة. وقوله: أهب، جمع إهاب عن سيبويه، والقرظ: ورق السلم يدبغ به الأدم، وقد تقدم معنى حديث ابن عباس فى كتاب النكاح فى باب موعظة الرجل ابنته لحال زوجها.
- باب ما يدعى به لمن لبس ثوبًا (جديدًا
/ 49 - فيه: أُمُّ خَالِدٍ، قَالَتْ: أُتِى النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) بِثِيَابٍ فِيهَا خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَ: (مَنْ تَرَوْنَ نَكْسُوهَا هَذِهِ الْخَمِيصَةَ) ؟ فَأُسْكِتَ الْقَوْمُ، قَالَ: (ائْتُونِى بِأُمِّ خَالِدٍ) ، فَأُتِىَ بِى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فَأَلْبَسَنِيهَا بِيَدِهِ، وَقَالَ: (أَبْلِى وَأَخْلِقِى) مَرَّتَيْنِ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى عَلَمِ الْخَمِيصَةِ، وَيُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَىَّ، وَيَقُولُ: (يَا أُمَّ خَالِدٍ، هَذَا سَنَا، وَيَا أُمَّ خَالِدٍ هَذَا سَنَا) . وَالسَّنَا بالْحَبَشِيَّةِ: الْحَسَنُ. قال المؤلف: من روى اخلقى بالقاف فهو تصحيف، والمعروف من كلام العرب أخلفى بالفاء، يقال: خلفت الثوب إذا أخرجت باليه ولفقته، ويقال: أبل وأخلف أى: عش فخرق ثيابك وارقعها، هذا كلام العرب. وقد روى داود، عن عمرو بن عون، عن ابن المبارك، عن(9/117)
الجريرى، عن أبى نضرة قال: (كان أصحاب رسول الله إذا لبس أحدهم ثوبًا جديدا، قيل له: تبلى ويخلف الله) . وقوله: (فأسكت القوم) قال صاحب الأفعال يقال: سكت سكوتًا، وأسكت: صمت، ويقال: بل معنى أسكت: أطرق.
- باب: التزعفر للرجال
/ 50 - فيه: أَنَس، قَالَ: نَهَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ. قال المؤلف: نهيه عليه السلام عن التزعفر للرجال معناه فى الجسد. وقد روى أبو داود، عن موسى بن إسماعيل، عن حماد، عن عطاء الخراسانى، عن يحى بن يعمر، عن عمار بن ياسر قال: (قدمت على أهلى ليلاً وقد تشققت يداى فخلقونى بزعفران، فغدوت على النبى عليه السلام فسلمت عليه ولم يرحب بى، فقال: اذهب فاغسل عنك هذا. فذهب فغسلته، ثم جئت وقد بقى على منه ردع فسلمت فلم يرد على ولم يرحب بى وقال: اذهب فاغسل عنك هذا. فذهبت فغسلته ثم جئت، فسلمت فرد على ورحب بى وقال: إن الملائكة لا تحضر جنازة الكافر بخير، ولا المتضمخ بالزعفران، ولا الجنب) . وقد رواه بن عطاء بن أبى الجوزاء، عن يحى بن يعمر، عن رجل عن عمار، فهو حديث معلول.(9/118)
فإن قيل: فنهيه عليه السلام عن التزعفر للرجال محملة التحريم. قيل: لا، بدليل حديث أنس أن عبد الرحمن بن عوف قدم على النبى عليه السلام وبه أثر صفرة، وروى (وضر صفرة) وزاد حماد بن سلمه، عن ثابت: (وبه ردع من زعفران، فقال له: مهيم؟ فقال: تزوجت. . .) الحديث، ولم يقل له النبى - عليه السلام - أن الملائكة لا تحضر جنازتك بخير، ولا أن هذه الصفرة التى التصقت بجسمك حرام بقاءها عليك، ولا أمره بغسلها، فدل أن نهيه عليه السلام عن التوعفر لمن لم يكن عروسًا إنما هو محمول على الكراهية، لأن توعفر الجسد من الرفاهية التى نهى النبى - عليه السلام - عنها بقوله: (البذاذة من الإيمان) .
30 - باب: الثوب المزعفر
/ 51 - فيه: ابْن عُمَر، نَهَى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يَلْبَسَ الْمُحْرِمُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِوَرْسٍ أَوْ بِزَعْفَرَانٍ. قال المؤلف: اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث، فحمل قوم نهيه عليه السلام عن الثوب المزعفر فى حال الإحرام خاصة. وقالوا: ألا ترى قول ابن عمر أن النبى عليه السلام إنما نهى المحرم عن ذلك، وراوى الحديث أعلم بمخرجه وسببه، وأجازوا لباس الثياب المصبوغة بالزعفران فى غير حال الإحرام للرجال، وروى ذلك عن ابن عمر، وهو قول مالك وأهل المدينة، قال مالك: رأيت عطاء بن يسار يلبس الرداء والازرار المصبوغ بالزعفران ورأيت ابن(9/119)
هرمز، ومحمد بن المنكدر يفعلان، ورأيت فى رأس ابن المنكدر الغالية. وحملت طائفة نهيه عليه السلام عن لباس المزعفر للرجال فى حال الإحرام وفى كل حال وهو قول الكوفيين والشافعى.
31 - باب: الثوب الأحمر
/ 52 - فيه: الْبَرَاء، قَالَ: كَانَ النَّبِى عليه السَّلام، مَرْبُوعًا: وَقَدْ رَأَيْتُهُ فِى حُلَّةٍ حَمْرَاءَ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْهُ. قال الطبرى: إن قال قائل: ما وجه هذا الحديث وقد عارضه حديث آخر وهو ما حدثنا حماد بن محمد عن عمارة السدى، حدثنا على بن قادم، حدثنا عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب، عن عمه، عن أبى هريرة قال: (خرج عثمان حاجا إلى مكه، واتينا محمد بن عبد الله بن جعفر بامرأته فبات عندها، ثم غدا إلى مكة فأتى الناس، وهم بملل قبل أن يروحوا، فرآه عثمان وعليه ملحفة معصفرة مقدمة، فانتهز، وقال: تلبس المعصفر وقد نهى رسول الله عليه السلام عنه؟ فقال على: إن رسول الله لم ينهه ولا إياك إنما نهانى أنا. فسكت عثمان) . قال الطبرى: وقد اختلف السلف فى ذلك، فمنهم من رخص فى لبس ألوان الثياب المصبغه بالحمرة مشبعة كانت أو غير مشبعة، ومنهم من كره المشبعة، ورخص فيما لم يكن مشبعًا، ومنهم من كره لبس(9/120)
جميع الثياب مشبعها وغير مشبعها، ومنهم من رخص فيه للمهنة وكره للبس. ذكر من رخص فى جميع الوان الثياب الصبغة. روى بريدة، عن على أنه نهض بالراية يوم خبير وعليه حلة أرجوان حمراء، وقال أبو ظبيان: رايت على على إزارًا أصفر. وقال الأحنف بن قيس: رأيت على عثمان ملاءة صفراء. وقال عروة بن الزبير: قال عبد الله بن الزبير: كان على الزبير يوم بدر ملاءه صفراء، ونزلت الملائكة يوم بدر معتمين بعمائم صفر. وقال ابن سيرين: كان أبو هريرة يلبس المغيرة. وقال عمران بن مسلم: رأيت على أنس بن مالك إزار معصفرًا. وكان ابن المسيب يصلى وعليه برنس ارجوان. ولبس المعصفر: عروة، والشعبى، وابو وائل، وابراهيم النخعى، والتيمى، وابو قلابة، وجماعة، وقال مالك فى الموطأ، فى الملاحف المعصفرة للرجال فى البيوت والأفنية: ولا أعلم شيئًا من ذلك حرامًا وغير ذلك من الثياب أحب إلى. وقال غير الطبرى: أجاز لباس المعصفر: البراء، وطلحة بن عبيد الله، وهو قول الكوفيين، والشافعى. ذكر من رخص فى ذلك فيما امتهن، وكره مما لبس: وروى عطاء، عن ابن عباس أنه قال: لا بأس بما امتهن من المعصفر ويكره ما لبس منه.(9/121)
ذكر من كره مااشتدت حمرته واباح ماخف منها: روى ذلك عن عطاء، وطاوس، ومجاهد. ذكر من كره لبس جميع الوان الحمرة: روى أيوب، عن إبراهيم الخزاعى قال: حدثنا عجوز لنا قالت: كنت أرى عمر إذا راى على الرجل الثوب المعصفر ضربه وقال: دعوا هذه الترافات للنساء. ورأى ابن محيريز على ابن عليه رداء موردًا فقال: دع ذا عنا. وروى يحى بن أبى كثير، عن محمد بن إبراهيم، عن خالد بن معدان، عن جبير بن نفير، عن عبد الله بن عمرو قال: (رآنى رسول الله عليه السلام وعلى ثياب معصفرة فقال: القها فإنها ثياب الكفار) . قال الطبرى: وحجة الذين أجازوا لباس المعصفرة والمصبغ بالحمرة للرجال حديث البراء أن النبى عليه السلام لبس حلة حمراء، والذين كرهوا ذلك للرجال اعتمدوا على حديث عبد الله بن عمرو، أن النبى - عليه السلام - أغلظ له القول فى الثياب المعصفر. والذين لم يروا بامتهانه بأسا وكرهوا لبسه قالوا: إنما ورد الخبر بالنهى عن لبسه دون امتهانه وافتراشه وقالوا: لا يعدى بالنهى عن ذلك موضعه. والذين رخصوا من ذلك فيما خفت حمرته بحديث قتيلة أنها قدمت على النبى - عليه السلام - قالت: (فرأيته قاعدًا القرفصاء وعليه أسمال - ملاءتين كانتا بزعفران - قد نفضتا) . والصواب عندنا أن لبس المعصفر وشبه من الثياب المصبغة بالحمرة وغيرها من الأصباغ غير حرام، بل ذلك مطلق مباح غير أنى أحب(9/122)
للرجال توقى لبس ماكان مشبعًا صبغة، وأكره لهم لبسه ظاهرًا فوق الثياب لمعنين: أحدهما: ماورى فى ذلك عن النبي (صلى الله عليه وسلم) من الكراهية، والثانى: أنه شهرة وليس من لباس أهل المروءة فى زماننا هذا، وإن كان قد كان لباس كثير من أهل الفضل والذين قبلنا، فالذى ينبغى للرجل أن يتزى فى كل زمان بزى أهله مالم يكن إثمًا لأن مخالفة الناس فى زيهم ضرب من الشهرة، ويكون الجمع بين الحديثين أن لبسه عليه السلام للحمرة ليعلم أمته أن النهى عنه لم يكن على وجه التحريم للبسه، ولكن على وجه الكراهية، إذ كان الله تعالى قد ندب أمته إلى الاستنان به.
32 - باب: الميثرة الحمراء
/ 53 - فيه: الْبَرَاء، أَمَرَنَا النَّبِى عليه السَّلام: بِسَبْعٍ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ: عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ، وَالدِّيبَاجِ، وَالْقَسِّىِّ، وَالإسْتَبْرَقِ، وَالْمَيَاثِرِ الْحُمْرِ. قال الطبرى: المثيرة: وطأ كان النساء يوطئه لأزواجهن من الأرجوان الأحمر على سروج خيلهم أو من الديباج والحرير، وكان ذلك من مراكب العجم. قال الطبرى: على سروج خيلهم أو من الديباج والحرير، وكان ذلك من مراكب العجم. وقال أبو عبيد: المياثر الحمر التى جاء فيها النهى، فإنها كانت من مراكب الأعاجم من ديباج أو حرير. قال المؤلف: فقول أبى عبيد يدل أن المياثر إذا لم تكن من(9/123)
حرير أو ديباج من صوف أحمر فإنه يجوز الركوب عليها، وليس النهى عنها كالنهى إذا كانت من حرير أو ديباج، وهذا يشبه قول مالك. قال ابن وهب: سئل مالك عن مثيره أرجوان أيركب عليها؟ قال ماأعلم حرامًا، ثم قرأ: (قل من حرم زينة الله) الآية. والإستبرق: غليظ الديباج والحرير، وهو بالفارسية استبره، وكان الأصمعى يقول: عربتها العرب. والسندس: مارق منه.
33 - باب: النعال السبتية وغيرها
/ 54 - فيه: أَنس: قيل له: أَكَانَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّى فِى نَعْلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. / 55 - وفيه: عُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ لابْن عُمَر: رَأَيْتُكَ تَصْنَعُ أَرْبَعًا. . . . الحديث، قَالَ: أَمَّا النِّعَالُ السِّبْتِيَّةُ، فَإِنِّى رَأَيْتُ النبِىّ، عليه السَّلام، يَلْبَسُ النِّعَالَ الَّتِى لَيْسَ فِيهَا شَعَرٌ وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَلْبَسَهَا. / 56 - وفيه: ابْن عُمَر، قَالَ: النَّبِىّ، عليه السَّلام: (مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ. . .) الحديث. قال المؤلف: النعال من لباس النبي (صلى الله عليه وسلم) وخيار السلف. قال مالك: والانتعال من عمل العرب وقد روى أبو داود، عن محمد بن الصباح، عن ابن أبى الزناد، عن موسى بن عقبة، عن أبى الزبير، عن جابر قال: (كنا مع النبى فى سفر فقال: أكثروا من النعال، فإن الرجل لا يزال راكبًا ما انتعل) . وقال ابن وهب: النعال السبتية هى التى لا شعر فيها.(9/124)
وقال الخليل والأصمعى: السبت: الجلد المدبوغ بالقرظ. قال أبو عبيد: وإنما ذكرت السبتية، لأن أكثرهم فى الجاهلية كان يلبسها غير مدبوغة إلا أهل السعه منهم. وذهب قوم إلى أنه لا يجوز لبس النعال السبتية فى المقابر خاصة، واحتجوا بما رواه سليمان بن حرب: حدثنا الأسود بن شيبان، حدثنى خالد بن سمير، حدثنى بشير بن نهيك قال: حدثنى بشير بن الخصاصية قال: (بينما أنا أمشى فى المقابر وعلى نعلان فإذا رسول الله فقال: إذا كنت فى مثل هذا الموضع فاخلع نعليك فخلعتهما) فأخذ أحمد بن حنبل بهذا الحديث، وقال: الأسود بن شيبان ثقة، وبشير بن نهيك ثقة. وقال لآخرون: لا بأس بذلك، وحجتهم لباسه عليه السلام للنعال السبتية وفيه السوة الحسنة، ولو كان لباسها فى المقابر لا يجوز لبين ذلك لأمته، وقد يجوز أن يأمره عليه السلام بخلعهما لأذى كان فيهما أو غير ذلك. ويؤيد هذا قوله عليه السلام: (إن العبد إذا وضع فى قبره وتولى عنه اصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم) قاله الطحاوى. قال: وثب عن النبى - عليه السلام - أنه صلى فى نعليه فلما كان دخول المسجد بالنعل غير مكروه، وكانت الصلاة بها غير مكروهه، كان المشى بها بين القبور أحرى ألا يكون مكروها.(9/125)
وأما الصفرة فقد روى عن ابن عمر كان يصبغ بها لحيته، روى عنه أنه كان يصبغ بها ثيابه، وروى ابن إسحاق، عن سعيد المقبرى، عن عبيد بن جريح أنه قال لابن عمر: (رأيتك تصفر لحيتك. فقال: إن رسول الله كان يصفر بالورس، فأنا أحب أن أصفر به كما كان رسول الله يصبغ) . وروى عبد الرازق، عن معمر، عن أيوب، عن نافع أن ابن عمر كا، يأمر بشىء من زعفران ومشق، فيصبغ به ثوبه فيلبسه. قال عبد الرزاق: وربما رأيت معمرًا يلبسه. وروى ابن وهب قال: أخبرنى عمر بن محمد، عن زيد بن أسلم، قال: (كان رسول الله عليه السلام يصبغ ثيابه بالزعفران حتى العمامة) . قال المهلب: والصفرة أبهج الألوان للنفوس، كذلك قال ابن عباس: أحسن الألوان كلها الصفرة، وتلا قوله تعالى: (صفراء فاقع لونها تسر الناظرين (فقرن بها السرور.
34 - باب: يبدأ بالنعل اليمنى
/ 57 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، يُحِبُّ التَّيَمُّنَ فِى طُهُورِهِ وَتَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ. هذا من باب الأدب وتفضيل الميامن على المياسر فى كل شىء وقد تقدم فى الوضوء.(9/126)
35 - باب: ينزع نعله اليسرى
/ 58 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (إِذَا انْتَعَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِالْيَمِينِ، وَإِذَا نَزَعَ فَلْيَبْدَأْ بِالشِّمَالِ؛ لِيَكُنِ الْيُمْنَى أَوَّلَهُمَا تُنْعَلُ وَآخِرَهُمَا تُنْزَعُ) . وهذا معناه أيضًا تفضيل اليمين على الشمال كالحديث الأول.
36 - باب: لا يمشى فى نعل واحد
/ 59 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (لا يَمْشِى أَحَدُكُمْ فِى نَعْلٍ وَاحِدَةٍ لِيُحْفِهِمَا جَمِيعًا أَوْ لِيُنْعِلْهُمَا جَمِيعًا) . قال الأبهرى: كره ذلك - والله أعلم - لأن الماشى فى نعل واحد ينسب إلى اختلال الرأى وضعف الميز. وقال غيره: إنما كره ذلك والله أعلم - لأنه لم يعدل بين جوارحه وهو من باب المثله. وروى عن وكيع عن سفيان عن عبد الله بن دينار قال: (انقطع شسع نعل عبد الله بن عمر فمشى أذرعًا فى نعل واحدة) .
37 - باب: قبالان فى نعل واحد ومن رأى قبالا واحدًا واسعًا
/ 60 - فيه: أَنَسٌ أَنَّ نَعْلَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، كَانَ لَهَا قِبَالانِ. هذا كله مباح قبالان وقبال، وليس فى ذلك شىء لا يجزئ غيره.(9/127)
38 - باب: القبة الحمراء (من أدم
/ 61 - فيه: أَبُو جُحَيْفَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، وَهُوَ فِى قُبَّةٍ حَمْرَاءَ مِنْ أَدَمٍ. / 62 - وفيه: أَنَس، أَرْسَلَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) إِلَى الأنْصَارِ، فَجَمَعَهُمْ فِى قُبَّةٍ حَمْرَاءَ مِنْ أَدَمٍ. فيه: أن الأدم يجوز استعماله فى القباب والبسط وماأشبه ذلك للأئمة الصالحين.
39 - باب: الجلوس على الحصير (ونحوها
/ 63 - فيه: عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، يَحْتَجِرُ حَصِيرًا بِاللَّيْلِ، فَيُصَلِّى، وَيَبْسُطُهُ فِى النَّهَارِ، فَيَجْلِسُ عَلَيْهِ. . . الحديث. فيه: تواضع النبى - عليه السلام - ورضاه باليسير وصلاته على الحصير، وجلوسه عليها لسن ذلك لأمته.
40 - باب: المزرر بالذهب
/ 64 - فيه: الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ: أَنَّ أَبَاهُ قَالَ لَهُ: بَلَغَنِى أَنَّ النَّبِيَّ، عليه السَّلام، قَدِمَتْ عَلَيْهِ أَقْبِيَةٌ، فَهُوَ يَقْسِمُهَا، فَاذْهَبْ بِنَا إِلَيْهِ، فَذَهَبْنَا، فَوَجَدْنَا النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) فِى مَنْزِلِهِ، فَقَالَ لِى: يَا بُنَىِّ، ادْعُ لِى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) فَأَعْظَمْتُ ذَلِكَ، فَقُلْتُ: أَدْعُو لَكَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيِّ،(9/128)
إِنَّهُ لَيْسَ بِجَبَّارٍ، فَدَعَوْتُهُ فَخَرَجَ، وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْ دِيبَاجٍ مُزَرَّرٌ بِالذَّهَبِ، فَقَالَ: (يَا مَخْرَمَةُ، هَذَا خَبَأْنَاهُ لَكَ) ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ. هذا الحديث كان فى أول الإسلام - والله أعلم - قبل تحريم الذهب والحرير. وفيه أن الخليفة والرجل العالم إذا زال من موضع قعوده للناس ونظره بينهم وتعليمه لهم، أنه يجوز دعاؤه وإخراجه لما يعن إليه من حاجات الناس، وأن خروجه لمن دعاه من التواضع والفضل.
41 - باب: خواتيم الذهب
/ 65 - فيه: الْبَرَاء وأَبُو هُريرة، نَهَانَا النَّبِي (صلى الله عليه وسلم) عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ. / 66 - فيه: ابْن عُمَر، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، وَجَعَلَ فَصَّهُ مِمَّا يَلِى كَفَّهُ، فَاتَّخَذَهُ النَّاسُ، فَرَمَى بِهِ، وَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ، أَوْ فِضَّةٍ. التختم بالذهب منسوج لا يحل استعماله، لنهى النبى، عليه السلام، عنه، والذهب محرم على الرجال، حلال للنساء، ومن ترخص فى التختم بالذهب من السلف لم يبلغه النهى والنسخ والله أعلم.
42 - باب: خاتم الفضة
/ 67 - فيه: ابْن عُمَر، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، أَوْ فِضَّةٍ،(9/129)
وَجَعَلَ فَصَّهُ مِمَّا يَلِى كَفَّهُ، وَنَقَشَ فِيهِ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَاتَّخَذَ النَّاسُ مِثْلَهُ، فَلَمَّا رَآهُمْ قَدِ اتَّخَذُوهَا رَمَى بِهِ، وَقَالَ: لا أَلْبَسُهُ أَبَدًا، ثُمَّ اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ، فَاتَّخَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ الْفِضَّةِ) . قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَلَبِسَ الْخَاتَمَ بَعْدَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ، حَتَّى وَقَعَ مِنْ عُثْمَانَ فِى بِئْرِ أَرِيسَ. / 68 - وفيه: أَنَس، أَنَّهُ رَأَى فِى يَدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ يَوْمًا وَاحِدًا، ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ اصْطَنَعُوا الْخَوَاتِيمَ مِنْ وَرِقٍ، فَلَبِسُوهَا، فَطَرَحَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) خَاتَمَهُ، فَطَرَحَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ. رواه يونس، عن الزهرى، وتابعه إبراهيم بن سعد، وزياد، وشعيب، عن الزهرى. قال المؤلف: أما حديث ابن عمر فإن فيه أن النبى - عليه السلام - نبذ خاتم الذهب، واتخذ خاتمًا من فضة ولبسه إلى أن مان، وأما حديث أنس أن النبى عليه السلام نبذ خاتم الورق، فهو عند العلماء وهم من ابن شهاب، لأن الذى نبذ عليه السلام خاتم الذهب رواه عبد العزيز بن صهيب، وثابت البنانى، وقتادة، عن أنس وهو خلاف مارواه ابن شهاب، عن أنس، فوجب القضاء للجماعة على الواحد إذا خالفها مه مايشهد للجماعة من حديث ابن عمر. قال المهلب: وقد يمكن أن يتأول لأبن شهاب ماينفى عنه الوهم - وإن كان الوهم عنه أظهر - وذلك أنه يحتمل أن يكون النبى لما عزم على إطراح خاتم الذهب اصطنع خاتم الفضة، بدليل أنه كان لا يستغنى عن الختم به على الكتب إلى البلدان، وأجوبه العمال، وقواد السرايا، فلما لبس خاتم الفضة أراد الناس ذلك اليوم أن يصطنعوا مثله فطرح عند ذلك خاتم الهب فطرح الناس خواتيم الذهب، والتأليف بين الأحاديث أولى من حملها على التنافى والتضاد، وبالله التوفيق.(9/130)
وقال أبو داود: ولم يختلف الناس على عثمان حتى سقط الخاتم من يده.
43 - باب: فص الخاتم
/ 69 - فيه: أَنَس، سُئل هَلِ اتَّخَذَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) خَاتَمًا؟ قَالَ: أَخَّرَ لَيْلَةً صَلاةَ الْعِشَاءِ إِلَى شَطْرِ اللَّيْلِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَكَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ خَاتَمِهِ. . . الحديث. / 70 - وفيه: أنس: (أن النبى عليه السلام كان خاتمه من فضة وكان فصه منه) . قال المؤلف: قد روى ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن أنس قال: (كان خاتم النبى - عليه السلام - من ورق، وكان فصه حبشيًا وهذا ليس يتضاد فى الرواية: كان له عليه السلام خاتم فصه من فضة، وخاتم آخر فصه حبشى. وذكر ابن أبى زيد أن النبى - عليه السلام - تختم بفص عقيق. وقد روى حماد بن سلمه الحديث الأول، وزاد فيه بعد قوله: (فكأنى أنظر إلى وبيض خاتمه) (ورفع يده اليسرى) قال أحمد بن خالد: هذا جيد فى التختم فى اليسار، وهو كان آخر فعله وأصل التختم فى اليسار، وروى أبو داود قال: حديثنا نصر بن على، قال: حدثنا أبى، حدثنا عبد العزيز بن أبى رواد، عن نافع، عن ابن عمر (أن النبى - عليه السلام - كان يتختم فى يساره) قال أبو داود: وقال ابن إسحاق، وأسامة، عن نافع بإسناده: فى يمينه. وكان ابن عمر والحسن يتختمان فى يسارهما.(9/131)
وقال مالك: أكره التختم فى اليمين، وقال: إنما يأكل ويشرب ويعمل بيمينه، فكيف يريد أن يأخذ باليسار ثم يعمل؟ قيل له: افتجعل الخاتم فى اليمين للحاجة تذكرها؟ قال: لا بأس بذلك. وكان ابن عباس، وعبد الله بن جعفر يتختمان فى اليمين. وقال عبد الله بن جعفر: (كان النبى - عليه السلام - يتختم فى يمينه) ، رواه حماد بن سلمه، عن أبى رافع، عن عبد الله بن جعفر، وقال البخارى: هذا اصح شىء روى فى هذا الباب. ذكره الترمذى.
44 - باب: خاتم الحديد
/ 71 - فيه: سهل: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَتْ: جِئْتُ أَهَبُ نَفْسِى إليك،. . . إلى قوله: (وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ) . قال المؤلف: خاتم الحديد كان يلبس فى أول الإسلام ثم امر النبى - عليه السلام - بطرحه. روى الترمذى عن محمد بن حميد أن زيد بن الحباب، حدثهم عن عبد الله بن مسلم أبى طيبة السلمى المروزى، عن عبد الله ابن بريدة، عن أبيه: (أن رجلا جاء إلى النبى - عليه السلام - وعليه خاتم من حديد فقال: ما لى أجد عليك حلية أهل النار. ثم جاء وعليه خاتم من صفر قال: ما لى أجد منك ريح الأصنام. ثم أتاه وعليه خاتم من ذهب فقال: أرم عنك حلية أهل الجنة. قال: من أى شىء اتخذه؟ قال: من فضة ولاتتمه مثقالاً. قال الترمذى: هذا حديث غريب.(9/132)
45 - باب: نقش الخاتم
/ 72 - فيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى رَهْطٍ مِنَ الأعَاجِمِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لا يَقْبَلُونَ كِتَابًا إِلا عَلَيْهِ خَاتَمٌ، فَاتَّخَذَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ، نَقْشُهُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. / 73 - وفيه: ابْن عُمَر، اتَّخَذَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ، وَكَانَ فِى يَدِهِ، ثُمَّ كَانَ بَعْدُ فِى يَدِ أَبِى بَكْرٍ، ثُمَّ كَانَ بَعْدُ فِى يَدِ عُمَرَ، ثُمَّ كَانَ بَعْدُ فِى يَدِ عُثْمَانَ حَتَّى وَقَعَ بَعْدُ فِى بِئْرِ أَرِيسَ، نَقْشُهُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. قال المؤلف: قد بان فى حديث أنس وابن عمر الخاتم إنما اتخذ ليطبع به على الكتب حفظًا للأسرار أن تنتشر، وسياسة للتدبير أن ينخرم. وفى قوله: (نقشه: محمد رسول الله) فيه أنه يجوز أن يكون فى الخاتم ذكر الله، وقد كره ذلك ابن سيرين وغيره، وهذا الباب حجة عليهم. وقد أجاز ابن المسيب أن يلبسه ويستنجى به، وقيل لمالك: إن كان فى الخاتم ذكر الله ويلبسه فى الشمال أيستنجى به؟ قال: أرجو أن يكون خفيفًا. هذه رواية ابن القاسم، وحكى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون: أنه لا يجوز الاستنجاء بالخاتم فيه ذكر الله، وليخلعه أو يجعله فى يمينه وهو قول نافع وأكثر اصحاب مالك من غير الواضحة، وكان فى نقش خاتم مالك: حسبى الله ونعم الوكيل. وقال مالك: لا خير أن يكون نقش فصه ثمثال. وقد ذكر عبد الرزاق آثارًا تجوز اتخاذ التماثيل فى الخواتيم ليست(9/133)
بصحيحه، منها عن معمر، عن عبد الله بن محمد بن عقيل أنه أخرج خاتمًا فيه تمثال اسد وزعم ان النبى - عليه السلام - كان يتختم به. ومارواه معمر عن الجعفى (أن نقش خاتم ابن مسعود إما شجرة، وإما شىء بين ذبابتين) وابن عقيل: ضعيف، تركه مالك. والجعفى: متروك الحديث. وروى معمر عن قتادة، عن أنس موسى الشعرى، أنه كان نقش خاتمه كركى له رأسان. وهذا إن كان صحيحًا فلا حجة فيه، لترك الناس العمل به، ولنهيه عليه السلام عن الصور، ولاتجوز مخالفة النهى. وترجم لحديث أنس: باب اتخاذ الخاتم ليختم به الشىء أو ليكتب به إلى أهل الكتاب أو غيرهم.
46 - باب: الخاتم فى الخنصر
/ 74 - فيه: أَنَس، صَنَعَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، خَاتَمًا، فَقَالَ: (إِنَّا اتَّخَذْنَا خَاتَمًا وَنَقَشْنَا فِيهِ نَقْشًا، فَلا يَنْقُشَنَّ عَلَيْهِ أَحَدٌ. قَالَ: فَإِنِّى لأرَى بَرِيقَهُ فِى خِنْصَرِهِ. وترجم له باب: قول النبى - عليه السلام -: لا ينقش على نقش خاتمه. قال المؤلف: السنة فى الخاتم أن يلبس فى الخنصر، وقد روى الترمذى عن ابن أبى عمر العدنى، عن سفيان، عن عاصم(9/134)
ابن كليب، عن ابن أبى موسى قال: سمعت عليا يقول: (نهانى رسول الله أن ألبس خاتمًا فى هذه وهذه. واشار إلى السبابة والوسطى) قال الترمذى: هذا حديث صحيح وابن أبى موسى هو أبو برده بن أبى موسى، واسمه عامر عبد الله ابن قيس. ونهيه عليه السلام أن لا ينقش أحد على نقش خاتمه من أجل أن ذلك اسمه وصفته برسالة الله له إلى خلقه، وخاتم الرجل إنما ينقش فيه مايكون تعريفًا له وسمة تميزة من غيره، ولايحل لأحد أن يسم نفسه بسمه النبى - عليه السلام - ولابصفته. قال مالك: من شأن الخلفاء والقضاة نقش أسمائهم فى خواتيمهم. وروى أهل الشام أنه لا يجوز اتخاذ الخاتم لغير ذى سلطان، وروا فى ذلك حديثًا عن أبى ريحانة: (أنه سمع النبى - عليه السلام - ينهى عن الخاتم لغير ذى سلطان) . وحديث أبى ريحانه لا حجة فيه لضعفه. وقوله عليه السلام: (لا ينقش أحد على نقشه) يرد حديث أبى ريحانة ويدل على جواز الخاتم لجميع الناس إذا لم ينقش على نقش خاتمه عليه السلام لأنه لم يبح ذلك لبعض الناس دون بعض، بل عم جميعهم لقوله: فلا ينقش أحد على نقشه، وقد تختم السلف بعد رسول الله وهم الأسوة الحسنة. وروى مالك عن صدقة بن شيبان قال: سالت سعيد بن المسيب عن لبس الخاتم فقال: ألبسه، وأخبر الناس أنى أفتيك بذلك. المسيب عن لبس الخاتم فقال: البسه، وأخبر الناس أنى افتيك بذلك. وإنما قاله على وجه الإنكار لقول أهل الشام.(9/135)
47 - باب: من جعل فص الخاتم فى بطن كفه
/ 75 - فيه: ابْن عُمَر، أَنَّ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) اصْطَنَعَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، وَجَعَلَ فَصَّهُ فِى بَطْنِ كَفِّهِ، إِذَا لَبِسَهُ، ثُم نَبَذَهُ، فَنَبَذَهُ النَّاسُ. قَالَ جُوَيْرِيَةُ: وَلا أَحْسِبُهُ إِلا قَالَ: فِى يَدِهِ الْيُمْنَى. قال المؤلف: ليس فى كون فص الخاتم فى بطن الكف ولا فى ظهرها نهى ولا أمر، وكل ذلك مباح، وقد روى أبو داود عن ابن إسحاق قال: رأيت على الصلت بن عبد الله بن نوفل بن عبد المطلب خاتمًا فى خنصره هكذا وجعل فصه على ظهرها؟ قال: ولا إخال إلا قال: (إنى رأيت رسول الله كان يلبس خاتمه كذلك) وقال الترمذى: قال البخارى: حديث ابن إسحاق عن الصلت بن عبد الله حديث حسن. وقيل لمالك: يجعل الفص إلى الكف؟ قال: لا. وأظن مالكًا إنما قال ذلك، لأنه وجد الناس يتختمون على ظهر الكف كما كان يفعل ابن عباس، ولم يقل مالك: إن الفص فى باطن الكف لا يجوز.
48 - باب: هل يجعل نقش الخاتم ثلاثة أسطر
/ 76 - فيه: أَنَس، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا اسْتُخْلِفَ كَتَبَ لَهُ، وَكَانَ نَقْشُ الْخَاتَمِ ثَلاثَةَ أَسْطُرٍ: مُحَمَّدٌ سَطْرٌ، وَرَسُولُ سَطْرٌ، وَاللَّهِ سَطْرٌ. وفيه: أَنَس، كَانَ خَاتَمُ النَّبِي (صلى الله عليه وسلم) فِى يَدِهِ، وَفِي يَدِ أَبِى بَكْرٍ بَعْدَ،(9/136)
وَفِى يَدِ عُمَرَ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ جَلَسَ عَلَى بِئْرِ أَرِيسَ، قَالَ: فَأَخْرَجَ الْخَاتَمَ، فَجَعَلَ يَعْبَثُ بِهِ، فَسَقَطَ، قَالَ: فَاخْتَلَفْنَا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ مَعَ عُثْمَانَ، فَنَزَحَ الْبِئْرَ فَلَمْ يَجِدْهُ. هذه كله مباح وليس كون الخاتم أسطر أو سطرين افضل من كونه سطرًا واحدًا. وفيه: استعمال آثار الصالحين ولباس ملابسهم على وجهه التبرك بها والتيمن. وفيه: أن من فعل الصالحين العبث بخواتمهم وبما يكون بأيديهم وليس ذلك بعائب لهم. وفيه: أن يسير المال إذا ضاع أنه يجب البحث فى طلبه ولاجتهاد فى تفتيشه كما فعل النبى عليه السلام حين ضاع عقد عائشة وحبس الجيش على طلبه حتى وجد. وفيه: أن من طلب شيئًا ولم ينجح فيه بعد ثلاثة أيام أن له ترك ذلك ولايكون مضيعًا، وأن الثلاث حد يقع بها العذر فى العذر المطلوبات.
49 - باب: الخاتم للنساء
وَكَانَ عَلَى عَائِشَةَ خَوَاتِيمُ ذَهَبٍ. / 77 - فيه: ابْن عَبَّاس، شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَصَلَّى قَبْلَ الْخُطْبَةِ، فَأَتَى النِّسَاءَ، فَجَعَلْنَ يُلْقِينَ الْفَتَخَ وَالْخَوَاتِيمَ فِى ثَوْبِ بِلالٍ. قال المؤلف: الخاتم للنساء من جملة الحلى الذى أبيح(9/137)
لهن، والذهب حلال للنساء، والفتخ: خواتيم النساء التى يلبسنها فى أصابع اليد، واحدتها فتخه، وكذلك إن كانت فى الرجل. عن ابن السكيت. وقال غيره: الفتوخ: خواتيم بلا فصوص كأنها حلق، وكل خلخل لا يجرس فهو فتخ.
50 - باب: القلائد والسخاب للنساء
/ يعني القلادة: من طيب وسك 78 - فيه: ابْن عَبَّاس، خَرَجَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ عِيدٍ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ، فَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تَصَدَّقُ بِخُرْصِهَا وَسِخَابِهَا. قال المؤلف: القلائد: من حلى النساء أيضًا وقال ابن دريد: السخاب: قلائد من قرنفل أو غيره، والجمع سخب. والخرص: الحلقة الصغيرة من الذهب والفضة كحلقة القرط ونحوها يقال: مافى أذنها خرص، وتسمى هذه الحلقة أيضًا الحوف.
51 - باب: استعارة القلائد
/ 79 - فيه: عَائِشَةَ، هَلَكَتْ لها قِلادَةٌ استعارتها من أسْمَاءَ، فَبَعَثَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) فِى طَلَبِهَا رِجَالا. . . الحديث. وفيه: اسعارة الحلى وكل ماهو زينة النساء، وأن ذلك من الأمر القديم المعمول به.(9/138)
52 - باب: القرط للنساء
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَرَهُنَّ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) بِالصَّدَقَةِ فَرَأَيْتُهُنَّ يَهْوِينَ إِلَى آذَانِهِنَّ وَحُلُوقِهِنَّ، فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تُلْقِى قُرْطَهَا. القرط أيضا من حلى النساء.
53 - باب: السخاب للصبيان
/ 80 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، كُنْتُ مَعَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فِى سُوقٍ مِنْ أَسْوَاقِ الْمَدِينَةِ، فَانْصَرَفَ وَانْصَرَفْتُ، فَقَالَ: (أَيْنَ لُكَعُ) ؟ ثَلاثًا، ادْعُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِىٍّ، فَقَامَ الْحَسَنُ يَمْشِى وَفِى عُنُقِهِ السِّخَابُ، فَقَالَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بِيَدِهِ هَكَذَا، فَقَالَ الْحَسَنُ بِيَدِهِ هَكَذَا، فَالْتَزَمَهُ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ إِنِّى أُحِبُّهُ، فَأَحِبَّهُ، وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ) . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَى مِنَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِى بَعْدَ مَا قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، مَا قَالَ. فيه: أنه يجوز أن يجعل فى أعناق الصبيان سخاب القرنفل والسك والطيب، وشبه مما يحل للرجال، وأما الذهب فكرهه مالك للصبيان الصغار، وكره لهم لبس الحرير أيضًا. وقوله عليه السلام لبى هريرة: (أين لكح) قال أبو عبيد: هو عند العرب العبد أو اللئيم، وقد تقدم فى كتاب البيوع فى باب ما يكره فى الأسواق، وفيه أن النبى - عليه السلام - عانق والحسن وقبله، وقوله فى هذا الحديث: (فالتزمه) يعنى: المعتنقة والتقبيل المذكورين هناك. قد تقدم الاستئذان.(9/139)
54 - باب المتشبهين بالنساء والمتشبهات بالرجال
/ 81 - فيه: ابْن عَبَّاس، لَعَنَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، الْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ. قال الطبرى: فيه من الفقه أنه لا يجوز للرجال التشبه بالنساء فى اللباس والزينة التى هى للنساء خاصة، ولا يجوز للنساء التشبه بالرجال فيما كان ذلك للرجال خاصة. فمما يحرم على الرجال لبسه مما هو من لباس النساء: البراقع والقالائد والمخانق والأسورة والاخلاخل، ومما لا يحل له التشبه بهن من الأفعال التى هن بها مخصوصات فانخناث فى الأجسام، والتأنيث فى الكلام. مما يحرم على المرأة لبسه مما هو من لباس الرجال: النعال والرقاق التى هى نعال الحد والمشى بها فى محافل الرجال، والأردية والطيالسة على نحو لبس الرجال لها فى محافل الرجال وشبه ذلك من لباس الرجال، ولايحل لها التشبه بالرجال من الأفعال فى اعطائها نفسها مما أمرت بلبسه من القلائد والقرط والخلاخل والسورة، ونحو ذلك مما ليس للرجل لبسه، وترك تغيير اليدى والأرجل من الخصاب الذى أمرن بتغييرها به.(9/140)
روى القعنبى، عن حسين بن عبد الله قال: (رأيت فاطمة بنت رسول الله وفى عنقها قلادة، وفى يدها مسكة فى كل يد، وقالت: كان رسول الله يكره تعطيل النساء وتشبههن بالرجال) .
55 - باب: الأمر بإخراجهم
/ 82 - فيه: ابْن عَبَّاس، لَعَنَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، الْمُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجَالِ، وَالْمُتَرَجِّلاتِ مِنَ النِّسَاءِ، وَقَالَ: (أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ) . قَالَ: فَأَخْرَجَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) فُلانًا، وَأَخْرَجَ عُمَرُ فُلانًا. / 83 - وفيه: أُمَّ سَلَمَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، كَانَ عِنْدَهَا، وَفِى الْبَيْتِ مُخَنَّثٌ، فَقَالَ لِعَبْدِاللَّهِ - أَخِى أُمِّ سَلَمَةَ: يَا عَبْدَاللَّهِ، إِنْ فَتَحَ اللَّهُ لَكُمْ غَدًا الطَّائِفَ، فَإِنِّى أَدُلُّكَ عَلَى بِنْتِ غَيْلانَ، فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ، وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ، فَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَدْخُلَنَّ هَؤُلاءِ عَلَيْكُنَّ) . قال الطبرى: إن قال قائل: ماوجه لعن النبى - عليه السلام المخنثين من الرجال، والخنث خلق الله لم يكتسبه العبد ولا له فيه صنع، وإنما يذم العبد على مايكسبه مما له السبيل إلى فعله وتركه، ولو جاز ذمه على غير فعله لجاز ذمه على لونه وعرقه وسائر أجزاء جسمه؟ قيل: وجه لعن النبى إياه إنما هو لغير صورته التى لا يقدر على تغييرها، وإنما لعنه لتأنيثه وتشبهه فى ذلك بخلق النساء، وقد(9/141)
خلقه الله بخلاف ذلك، ومحاولته تغيير الهيئة التى خلقه الله عليها من خلق الرجال إلى خلق النساء، وله سبيل إلى اكتساب خلق الرجال واجتلاب منه إلى نفسه. ولفعله من الأفعال مايكره الله ونهى عنه رسول الله من التشبه بالنساء فى اللباس والزينة، وذلك أن رسول الله إذ رأى المخنث لم ينكر الخنث منه، وقد رأى خضاب يديه ورجليه بالحناء، حتى سمعه يصف من أمر النساء ماكره سماعه، وذلك وصفه للرجال نساء من يدخل منزله، وذلك مما كان النبى - عليه السلام - ينهى عنه النساء فكيف الرجال؟ فأمر بنفيه وتقدم إليها بمنعه من دخوله عليها، ولو كان ما عليه المخنث من الهيئة والصورة التى هى له خلقة موجبة اللعن والنفى لكان عليه السلام إذ رآه قد أمر بطرحه من بيت زوجه ونفيه، قال ما سمعه أو لم يقله، وإنما وجب ذمه، إذ أتى من محارم الله ما يستحق عليه الذم. فإن قيل: فإن حكمه حكم الرجال، فكيف جاز أن يدخل على أزواج النبى عليه السلام بعد أن أنزل الحجاب؟ قيل: هو من جملة من استثناه الله من جملة الرجال غير أولى الأربة من الرجال، وقد اول ذلك عكرمة أنه المخنث الذى لا حاجة له فى النساء، وبذلك ورد الخبر عن النبى - عليه السلام. روى معمر، عن الزهرى، عن عروة، عن عائشة قالت: كان مخنث يدخل على أزواج النبى - عليه السلام - يعدونه من غير أولي(9/142)
الإربة، فدخل عليه النبى وهو يصف أمرأة. . . وذكر الحديث (فأمر، عليه السلام، ألا يدخل عليهم) . روى ابن وهب، عن يحى بن أيوب، عن ابن جريح، عن عطاء، عن ابن عباس قال: المؤنثون أولاد الجن. قيل له: وكيف؟ قال: نهى الله ورسوله أن يأتى الرجل امرأته وهى حائض فإذا أتاها سبقه الشيطان إليها فحملت منه فأتت بالمؤنث. قال المؤلف: وفى حديث ابن عباس وأم سلمه إخراج كل من يتأذى به الناس بإظهار المعاصى والمنكر، ونفيهم عن مواضع التأذى بهم، وقد تقدم فى باب إخراج الخصوم وأهل الريب من البيوت فى كتاب الأحكام أنه يخرج كل من تأذى به جيرانه، وتكرى عليه داره، ويمنع من السكنى فيها حتى يتوب.
56 - باب (قص) الشارب
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُحْفِى شَارِبَهُ حَتَّى يُنْظَرَ إِلَى بَيَاضِ الْجِلْدِ وَيَأْخُذُ هَذَيْنِ، يَعْنِى بَيْنَ الشَّارِبِ وَاللِّحْيَةِ. / 84 - وفيه: ابْن عُمَر، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (مِنَ الْفِطْرَةِ قَصُّ الشَّارِبِ) . / 85 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: (الْفِطْرَةُ خَمْسٌ: الْخِتَانُ، وَالاسْتِحْدَادُ، وَنَتْفُ الإبْطِ، وَتَقْلِيمُ الأظْفَارِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ) . وترجم له باب: قص الأظفار، وزاد فيه عن ابن عمر(9/143)
قال النبي (صلى الله عليه وسلم) : (خالفوا المشركين عفوا اللحى، واحفوا الشوارب) . قال الطبرى: اختلف السلف فى صفة إحفاء الشارب، فقال بعضهم الإحفاء: الأخذ من الإطار. وروى مالك، عن زيد بن اسلم، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه قال: رايت عمر ابن الخطاب إذا غضب فتل شاربه. وقال أبو عاصم: سمعت عبد الله بن أبى عثمان يقول: رايت ابن عمر يأخذ من شاربه من أعلاه واسفله. وكان عروة وعمر بن عبد العزيز وابو سلمه وسالم والقاسم لا يحلق أحد منهم شاربه، وهذا قول مالك والليث، وقال مالك: حلق الشارب مثله ويؤدب فاعله. وكان يكره أن يأخذ من أعلاه. وقال آخرون: الإحفاء حلقه كله. روى يحى بن سعيد، عن ابن عجلان قال: رآني عثمان بن عبيد الله بن نافع أخذت من شاربى أكثر مما أخذت منه إلى أن يشبه الحلق، فنظر إلى فقلت: ماتنكر؟ قال: ماأنكر شيئًا، رايت اصحاب رسول الله يأخذون شواربهم شبه الحلق. فقلت: من هم؟ قال: جابر بن عبد الله، وابو سعيد الخدرى، وابو اسيد الساعدى، وابن عمر، وسلمه بن الأكوع، وأنس. وهو قول الكوفيين وقالوا: اإحفاء هو الحلق، والحلق أفضل من التقصير فى الراس والشارب. قال المؤلف: وحجة هذه المقالة فى اللغة ماقال الخليل قال:(9/144)
أحفى شاربه: استأصلة. واستقصاه. وكذلك قال ابن دريد، إلا أنه قال: حفوت شاربى أحفوه حفوًا استأصله أخذت شعره. وحجة المقالة الأولى قوله عليه السلام: (من الفطرة قص الشارب) . ومعلوم أن القص لا يقتضى الحلق والاستئصال. قال صاحب الأفعال: يقال قص الشعر والأظفار قطع منها بالمقص، ولما جاء عنه عليه السلام: (أحفوا الشوارب) وجاء عنه (من الفطرة قص الشارب) واحتمل قوله: (أحفوا الشوارب) أخذه كله واستئصالة علم أن المراد أخذ بعضه، ووجب ترجيح هذه المقالة على من قال باستئصال حلقه. وقال الآخرون: لما جاء الحديث عنه عليه السلام بلفظين، يحتمل أحدهما استئصال حلقة وهو قوله: (أحفوا الشوارب) واللفظ الآخر يحتمل أخذ بعضه وهو قوله: (من الفطرة قص الشارب) ولم يكن أحدهما ناسخًا للآخر ولا دافعًا له، دل أخذ بقص شاربه فهو مصيب، ومن استأصل حلقه فهو مصيب لموافقة ذلك السنة، ولذلك اختلف السلف فى صفة حلقة لاختلاف الآثار، والله أعلم.(9/145)
57 - باب: إعفاء اللحى
) عَفَوْا (: كَثُرُوا وَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ. / 86 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ، وَفِّرُوا اللِّحَى، وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ) . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا حَجَّ أَوِ اعْتَمَرَ قَبَضَ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَمَا فَضَلَ أَخَذَهُ. / 87 - فيه: ابْن عُمَر، قال: قال النَّبِىّ، عليه السَّلام: (انْهَكُوا الشَّوَارِبَ، وَأَعْفُوا اللِّحَى) . وقال الطبرى: إن قال قائل: ماوجه قوله عليه السلام: (أعفوا اللحى) وقد علمت أن الإعفاء الإكثار، وأن من الناس من إن ترك شعر لحيته اتباعًا منه لظاهر هذا الخبر تفاحش طولا وعرضًا، وسمج حتى صار للناس حديثًا ومثلا؟ قيل: قد ثبت الحجة عن النبى عليه السلام على خصوص هذا الخبر وأن من اللحية ماهو محظور إحفاؤه وواجب قصة على اختلاف من السلف فى قدر ذلك وحده، فقال بعضهم: حد ذلك أن يزداد على قدر القبضة طولا، وأن ينتشر عرضًا فيقبح ذلك، فإذا زادت على قدر القبضة كان الأولى، جزّ مازاد على ذلك، من غير تحريم منهم ترك الزيادة على ذلك. وروى عن عمر أنه راى رجال قد ترك لحيته حتى كثرت فأخذ بحديها ثم قال: ائتونى بجلمين ثم امر رجلا فجز ما تحت يده ثم قال: اذهب فأصلح شعرك أو أفسده، يترك أحدكم نفسه حتى كأنه سبع من السباع.(9/146)
وكان أبو هريرة يقبض على لحيته فيأخذ مافضل، وعن ابن عمر مثله. وقال آخرون: يأخذ من طولها وعرضها مالم يفحش أخذه، ولم يحدوا فى ذلك حدًا غير أن معنى ذلك عندى - والله أعلم - مالم يخرج من عرف الناس. وروى عن الحسن أنه كان لا يرى بأسا أن يأخذ من طول لحيته وعرضها ما لم يفحش الأخذ منها، وكان إذا ذبح أضحيته يوم النحر أخذ منها شيئًا. وقال عطاء: لا بأس أن يأخذ من لحيته الشىء القليل من طولها وعرضها إذا كثرت، وعلة قائلى هذه المقالة: كراهية الشهرة فى اللبس وغيره فكذلك الشهرة فى شعر اللحية. وكان آخرون يكرهون الأخذ من اللحية إلا فى حج أو عمرة، وروى ذلك عن ابن عمر وعطاء وقتادة. والصواب أن يقال: إن قوله عليه السلام: (أعفوا اللحى) على عمومه إلا ماخص من ذلك، وقد روى عنه حديث فى إسناده نظر أن ذلك على الخصوص، وأن من اللحى ماالحق فيه ترك إعفائه، وذلك ماتجاوز طوله أو عرضه عن المعروف من خلق الناس وخرج عن الغالب فيهم، روى مروان بن معاوية، عن سعيد بن أبى راشد المكى، عن أبى جعفر محمد بن على قال: (كان رسول الله يأخذ اللحية، فما طلع على الكف جزه) ، وهذا الحديث وإن كان فى إسناده نظر فهو جميل من الأمر وحسن من الفعال.(9/147)
قال غيره: وقوله عليه السلام: (انهكوا الشوارب) أى: جزوا منها مايؤثر فيها، ولايستأصلها. قال صاحب الأفعال: يقال نهكته الحمى - بالكسر - نهكًا أثرت فيه، وكذلك العبادة، والتأثير غير الاستئصال.
58 - باب: ما يذكر فى الشيب
/ 88 - فيه: ابْن سِيرِينَ، سَأَلْتُ أَنَس بْن مالك أَخَضَبَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ؟ قَالَ: لَمْ يَبْلُغِ الشَّيْبَ إِلا قَلِيلا. وقال مرة: لَمْ يَبْلُغْ مَا يَخْضِبُ، لَوْ شِئْتُ أَنْ أَعُدَّ شَمَطَاتِهِ فِى لِحْيَتِهِ. / 89 - فيه: إِسْرَائِيلُ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ، قَالَ: أَرْسَلَنِى أَهْلِى إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ، وَقَبَضَ إِسْرَائِيلُ ثَلاثَ أَصَابِعَ مِنْ قُصَّةٍ فِيهِ شَعَرٌ مِنْ شَعَرِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، وَكَانَ إِذَا أَصَابَ الإنْسَانَ عَيْنٌ، أَوْ شَىْءٌ بَعَثَ إِلَيْهَا مِخْضَبَهُ، فَاطَّلَعْتُ فِى الْجُلْجُلِ، فَرَأَيْتُ شَعَرَاتٍ حُمْرًا. / 90 - وَقَالَ عُثْمَان مرة: دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَأَخْرَجَتْ إِلَيْنَا شَعَرًا مِنْ شَعَرِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) مَخْضُوبًا. اختلف الاثار هلى خضب النبى أم لا؟ فقال أنس: لم يبلغ النبى عليه السلام من الشيب مايخضب وهو قول مالك، وأكثر العلماء أنه عليه السلام لم يخضب.(9/148)
وقال عثمان بن موهب: إن أم سلمه أخرجت إلينا شعرًا من شعر النبى - عليه السلام - مخضوبًا. وروى الطبرى، عن العباس بن أبى طالب، عن المعلى بن أسد حدثنا سلام بن أبى مطيع، عن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: (أخرجت إلى أم سلمه زوج النبي (صلى الله عليه وسلم) شعرًا مخضوبًا بالحناء والكتم، فقالت: هذا شعر رسول الله) فزعمت طائفة من أهل الحديث أن النبى - عليه السلام - خضب، واحتجوا بهذا الحديث، وبما رواه ابن إسحاق، عن سعيد المقبرى، عن عبيد بن جريح أنه قال لابن عمر: (رأيتك تصفر لحيتك. فقال: إن رسول الله عليه السلام كان يصفر بالورس، فأنا أحب أن أصفر به كما كان رسول الله يصنع) . وروى القطان وحماد بن سلمه، عن عبيد الله بن عمر، عن سعيد المقبرى، عن عبيد بن جريح أنه قال لابن عمر: (رأيتك تصفر لحيتك. فقال: رايت رسول الله عليه السلام يصفر لحيته) . وروى الطبرى، عن هلال بن العلاء، عن الحسين بن عياش قال حدثنا جعفر بن برقان، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل، قال: (قدم أنس بن مالك المدينة وعمر بن عبد العزيز وإلى عليها، فأرسلنى عمر إلى أنس وقال: سله هل خضب النبى - عليه السلام -؟ فإنا نجد هاهنا شعرًا من شعره فيه بياض كأنه قد لون. فقال أنس: إن رسول الله كان قد متع بسواد الشعر لو عددت خمس ما أقبل من راسه ولحيته، وماكنت أدرى عل أعد خمس عشرة شيبه فما أدرى ما هذا الذى تجدون إلا من الطيب الذى يطيب به شهره وهو غير لونه) .(9/149)
وأما قوله: (فاطلعت فى الجلجل) فروى النضر بن شميل، عن إسرائيل، عن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: (كان عند أم سلمه أم المؤمنين جلجل من فضة فيه شعرات من شعر رسول الله، وكان إذا أصاب إنسانًا عين أو أشتكى، بعث بإناء فخضخض فيه، ثم شربه وتوضأ منه فبعثى أهلى فأطلعت فيه فإذا شعرات حمر) . وقوله: (فخضخض فيه) يعنى: خضخض الشعر فى الإناء لتبقى بركته فى ذلك الماء فيشربه المعين أو الوصب، فيدفع الله عنه ببركة ذلك الشعر ما به من شكوى.
59 - باب: الخضاب
/ 91 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام: (إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لا يَصْبُغُونَ، فَخَالِفُوهُمْ) . قال الطبرى: إن قال قائل: مامعنى هذا الحديث؟ وقد روى شعبة، عن الركين بن الربيع قال: سمعت القاسم بن محمد يحدث عن عبد الرحمن بن حرملة، عن ابن مسعود (أن رسول الله كان يكره تغيير الشيب) . وروى ابن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن النبى - عليه السلام - قال: (من شاب شيبة فى الإسلام كانت له نورًا يوم القيامة إلا أن ينتفها أو يخضبها) .(9/150)
قيل: قد اختلف السلف قبلنا فى تغيير الشيب، فرأى بعضهم أن أمر النبى - عليه السلام - بصبغه ندب، وأن تغييره أولى من تركه أبيض. ذكر من رأى ذلك: روى عن قيس بن أبى حازم قال: كان أبو بكر الصديق يخرج إلينا وكأن لحيته صرام العرفج من الحناء والكتم. وعن أنس أن أبا بكر وعمر كان يخضبان بالحنان والكتم، وكان الشعبى وابن أبى مليكة يخضبان بالسواد ويقول: هو اسكن للزوجة وأهيب للعدو، وعن أبن مليكة أن عثمان كان يخضب بالسواد، وعن عقبة بن عامر والحسن والحسين أنهم كانوا يخضبون بالسواد، ومن التابعين: على بن عبد الله بن عباس وعروة بن الزبير وابن سيرين وأبو برده. وروى ابن وهب، عن مالك قال: لم أسمع فى صبغ الشعر بالسواد بنهى معلوم، وغيره أحب إلى. وممن كان يخضب بالصفرة على بن أبى طالب، وابن عمر، والمغيرة بن شعبة، وجرير البجلى، وأبو هريرة، وأنس بن مالك، ومن التابعين عطاء، وأبو وائل، والحسن، وطاوس، وسعيد بن المسيب. واعتل مغيرو الشيب من حديث أبى هريرة وغيره، بما رواه مطر الوراق، عن أبى رجاء، عن جابر قال: جيء بأبى قحافة إلى النبي ورأسه ولحيته كأنهما ثغامة بيضاء، فأمر رسول الله أن يغيروه، فحمروه.(9/151)
ورأى آخرون ترك الشعر أبيض من تغييره وأن الصحيح عنه عليه السلام نهيه عن تغييره الشيب، وقالوا: توفى النبى عليه السلام وقد بدا فى عنفقه ورأسه الشيب، ولم يغيره بشىء ولو كان تغييره الاختيار لكان هو قد آثر الأفضل. ذكر من راى ذلك: قال أبو إسحاق الهمدانى: رايت على بن أبى طالب ابيض الرأس واللحية. وقاله الشعبى، وكان أبى بن كعب ابيض اللحية، وعن أنس، ومالك بن أوس وسلمه بن الأكوع أنهم كانوا لا يغيرون الشيب، وعن أبى الطفيل، وأبى برزة السلمى مثله، وكان أبو مجلز وعكرمة وعطاء وسعيد بن جبير وعطاء بن السائب لا يخضبون. واعتلوا بما روى أبو إسحاق عن أبى جحيفة قال: (رايت النبى عليه السلام عنفقه بيضاء) . والصواب عندنا الآثار التى رويت عن النبى عليه السلام بتغيير الشيب وبالنهى عن تغييره كلها صحاح، وليس فيها شىء يبطل معنى غيره، ولكن بعضها عام وبعضها خاص، فقوله عليه السلام: (خالفوا اليهود وغيروا الشيب) المراد منه الخصوص، ومعناه: غيروا الشيب الذى هو نظير شيب أبى قحافة، وأما من كان اشمط فهو الذى أمره النبى عليه السلام ألا يغيره وقال: (من شاب شيبة فى الإسلام كانت له نورًا) . فإن قيل: مالدليل على ذلك؟(9/152)
قيل: لا يجوز أن يكون من النبى عليه السلام قولان متضادان فى شىء واحد فى حالة واحدة إلا وأحدهما ناسخ للآخر، فإذا كان ذلك كذلك فغير جائز أن يكون الناسخ منهما إلا معلومًا عند الأمة. ولما وردت الأخبار بنقل العدول أنه أمر بتغيير الشيب، وأنه نهى عن تغييره، ولم يعلم الناسخ منهما فينتهوا إليه كان القول فى ذلك أن الذين غيروا شيبهم كشيب من أصحاب النبى إنما غيروا فى الحالة التى كان فيها شيبهم كشيب أبى قحافة أو قريبا منه، وأما الذين أجازوا ترك تغييره كن شيبهم مخالفًا لشيبابى قحافة إما بالمشط أو بغلبة السواد عليه، كالذى روى عن النبى أنه لم يغير شيبه لقلته، مع أن تغيير الشيب ندب لا فرط، ولا ارى مغير ذلك وإن كان قليلاً حرجًا بتغييره، إذ كان النهى عن ذلك نهى كراهه لا تحريمًا لإجماع سلف الأمة وخلفها على ذلك، وكذلك الأمر فيما أمر به على وجه الندب، ولو يكن كذلك كان تاركو التغيير قد انكروا على المغيرين، أو أنكر المغيرون على تاركى التغيير، وبنحو معناه قال الثورى.
60 - باب: الجعد
/ 92 - فيه: أَنَس، أَنّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ، وَلا بِالْقَصِيرِ، وَلَيْسَ بِالأبْيَضِ الأمْهَقِ، وَلا بِالآدَمِ، وَلَيْسَ بِالْجَعْدِ(9/153)
الْقَطَطِ، وَلا بِالسَّبْطِ، بَعَثَهُ اللَّهُ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ، وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ، وَتَوَفَّاهُ اللَّهُ عَلَى رَأْسِ سِتِّينَ سَنَةً، وَلَيْسَ فِى رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ عِشْرُونَ شَعَرَةً بَيْضَاءَ. / 93 - وفيه: الْبَرَاء، إِنَّ جُمَّةَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) لَتَضْرِبُ قَرِيبًا مِنْ مَنْكِبَيْهِ. وَقَالَ شُعْبَةُ: شَعَرُهُ يَبْلُغُ شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ. / 94 - وفيه: ابْن عُمَر، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (أُرَانِى اللَّيْلَةَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَرَأَيْتُ رَجُلا آدَمَ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ، لَهُ لِمَّةٌ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنَ اللِّمَمِ، قَدْ رَجَّلَهَا فَهِىَ تَقْطُرُ مَاءً، مُتَّكِئًا عَلَى رَجُلَيْنِ - أوْ عَلَى عَوَاتِقِ رَجُلَيْنِ - يطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَسَأَلْتُ مَنْ هَذَا؟ فَقِيلَ: الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، وَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ جَعْدٍ قَطَطٍ أَعْوَرِ الْعَيْنِ الْيُمْنَى، كَأَنَّهَا عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ، فَسَأَلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقِيلَ: الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ) . / 95 - وفيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَضْرِبُ شَعَرُهُ مَنْكِبَيْهِ. / 96 - فيه: وَقَالَ مرة: كَانَ شَعَرِ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) رَجِلا، لَيْسَ بِالسَّبِطِ وَلا الْجَعْدِ، بَيْنَ أُذُنَيْهِ وَعَاتِقِهِ. وَكَانَ ضَخْمَ الْيَدَيْنِ. / 97 - وَقَالَ مرة: كَانَ ضَخْمَ الرأس وَالْقَدَمَيْنِ، حَسَنَ الْوَجْهِ، لَمْ أَرَ بَعْدَهُ وَلا قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَكَانَ بَسِطَ الْكَفَّيْنِ. / 98 - وَقَالَ مرة: كَانَ شَثْنَ الْقَدَمَيْنِ وَالْكَفَّيْنِ. / 99 - وفيه: جَابِر، كَانَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ضَخْمَ الْقَدَمَيْنِ وَالْكَفَّيْنِ، وَلَمْ أَرَ بَعْدَهُ شَبَهًا لَهُ. / 100 - وفيه: ابْن عَبَّاس، ذَكَرُوا عنده الدَّجَّالَ، فَقَالَ: إِنَّهُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ أَسْمَعْهُ قَالَ ذَاكَ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: (أَمَّا إِبْرَاهِيمُ،(9/154)
فَانْظُرُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ وَأَمَّا مُوسَى، فَرَجُلٌ آدَمُ جَعْدٌ، عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ مَخْطُومٍ بِخُلْبَةٍ كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَيْهِ؛ إِذِ انْحَدَرَ فِى الْوَادِى يُلَبِّى) . قال المؤلف: فى أحاديث هذا الباب أن النبى - عليه السلام - كانت له جمة تبلغ قريبًا من منكبيه، وقيل: تبلغ شحمة أذنيه، وقيل: يضرب شعره منكبيه، وليس ذلك بإخبار عن وقت واحد فتتضاد الآثار، وإنما ذلك إخبار عن أوقات مختلفة، يمكن فيها زيادة الشعر بغفلتيه عليه السلام عن قصه، فكان إذا غفل عنه بلغ منكبيه، وإذا تعاهده وقصه بلغ شحمة أذنيه أو قريبًا من منكبيه، فأخبر كل واحد عما شاهد وعاين. وذكر عليه السلام أن عيس ابن مريم له لمه حسنة قد رجلها وأن موسى كان جعدًا، فدل أنه كانت له لمة وأن الجعودة لاتبين إلا فى طول الشعر، وهذه الآثار كلها تدل أن اتخاذ اللمم وترجليها من سنن النبيين والمرسلين. وقوله فى وصفه النبى: (ليس بالبض الأمهق) يعنى: أن لونه ليس بالشديد البياض الفاحش الخارج عن حد الحسن، وذلك أن المهق من البياض هو الذى لا يخالطه شىء من الحمرة كلون الفضة. والقطط: الشعر الشديد التجعد. والبسط: ضد الجعد. والآدم: السمر. وقوله: (عنبه طافية) يريد بارزة قد برزت وطفت كما يطفو الشىء فوق الماء، وترجيل الشعر: مشطة وتقويمه، يقال: شعر رجل ورجلّ: مسرح، عن صاحب العين.(9/155)
واختلف فى معنى المسيح ابن مريم عليه السلام على خمسة أقوال: فقال ابن عباس: سمى عيسى مسيحًا، لأنه كان لا يمسح بيده ذا عاه إلا برا، وقال إبراهيم النخعى: المسيح: الصديق. وقال ثعلب: سمى مسيحًا، لأنه كان يمسح الأرض أى: يقطعها. وروى عطاء، عن ابن عباس أنه قال: سمى مسيحًا، لأنه كان أمسح الرجل، فلم يكن لرجله أخمص وهو مايتجافى عن الأرض من وسطها فلا يقع عليها. وقال آخرون: سمى مسيحًا، لأنه خرج من بطن أمه مسموحًا بالدهن، ذكر هذا كله ابن الأنبارى، وقال: إنما سمى الدجال مسحًا لأن إحدى عينيه مسوحة، والأصل فيه مفعول فصرف إلى فعيل قال ثعلب: والدجال مأخوذ من قولهم: دجل فى الرض ومعناة: ضرب فيها وطافها، وقال مرة أخرى: نقول: قد دجل إذا لبسّ وموهّ. وقال ابن دريد: اشتقاقه من قولهم: دجلت الشىء إذا سترته، كأن يستر الحق ويغطيه ويلبس بتمويهه، ومنه سميت: دجلة كأنها جين فاضت على الأرض سترت مكانها. وقوله: (شثن الكفين والقدمين) قال الخليل: الثن: الذى فى أنامله غلظ وقد شثن شثنًا. وقال أبو عبيد: هما إلى الغلظ فكانت كف النبى - عليه السلام - ممتلئة لحمًا، ويبين ذلك قول أنس: (وكان ضخم اليدين والقدمين) غير أن كفه مع ضخامتها كانت لينة(9/156)
كما روي أنس أنه قال: (ما مسسنت حريرة ألين من كف النبى - عليه السلام) . فإن قال قائل: قد قال أبو حاتم عن الأصمعى: الشثونة: غلظ الكف وخشونتها وأنشد قول امرى القيس: وتعطوا برخص غير شثن كأنه أساريع ظبى أو مساويك إسحل فعلى تأويل الأصمعى البيت يعارض قول أنس فى صفة النبى أنه كان خشن اليدين مع قوله: (ما مسست حريرة ألين من كفه (صلى الله عليه وسلم)) . فالجواب: أن مافسره الأصمعى أن الشثن خشونة مع غلظ، لم يقله أحد من أهل اللغة غيره، ولا فسر أحد بيت امرىء القيس عليه، فلا يوجه قول أنس إليه لئلا يتنافى قوله ويتضاد، وقد شرح الطوسى هذا البيت بما يوافق قول الخليل وأبى عبيد فقال: قوله: بكف غير شثن أى غير غليظ جاف، وهذا هو الصواب لأن الشاعر إنما وصف كف جارية، والمستحب فيها الرقة واللطافة، ألا ترى أنه شبهها فى الدقة بالدود البيض الدقاق اللينة التى تكون فى الرمل، أو بمساويك رقاق ولم يصفها بالغلظ والامتلاء، وذلك لا يستحب فى النساء وهو مستحب فى الرجال، ولايمنع أحد أن تكون كفا ممتلئة لحمًا شديدة الرطوبة غير خشنة، فلا تعارض بين الحدثين. ولو صح تأويل من جعل الشثن الخشن لأمكن الجمع بين الحدثين،(9/157)
فيكون إخبار أنس لين كف النبى - عليه السلام - أنه كان فى غير الحال التى تكون فيها خشنة، وذلك إذا أمهن فى أهله، قالت عائشة: (كان النبى عليه السلام فى مهنة أهله يرقع الثوب ويخصف النعل) . وفى حديث آخر (ويحلب الشاة) فإذا كان النبى - عليه السلام - يعتمل بيديه حدثت له الخشونة، وإذا ترك ذلك عاد إلى أصل جبلته سريعًا وهى لين الكف، فأخبر أنس عن كلتا الحالتين فلا تعارض فى ذلك لو كان التأويل كما قال الأصمعى، على أن قول الخليل وأبى عبيد والطوسى فى تفسير الشثن مغن عن هذا التخريج. وقوله: (مخطوم بخلبه) قال صاحب العين: هى حبل من ليف. وذكر أنس فى هذا الحديث أن النبى - عليه السلام - مات ابن ستين سته، وهو قول عروة بن الزبير، وروى عن ابن عباس خلاف هذا قال: (أقام رسول الله بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه وبالمدينة عشرًا ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة) .
61 - باب: التلبيد
/ 101 - فيه: عُمَر، قَالَ: مَنْ ضَفَّرَ فَلْيَحْلِقْ، وَلا تَشَبَّهُوا بِالتَّلْبِيدِ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مُلَبِّدًا. / 102 - فيه: والتلبيد: أن يجعل الصمغ فى الغسول ثم يلطخ بها راسه عند الإحرام ليمنعه ذلك من الشعث. قال المؤلف وقد تقدم التلبيد فى كتاب الحج ولم(9/158)
يمض هناك معنى قول عمر لا تشبهوا بالتلبيد ويروى (تشبهوا) أو (تشبهوا) بضم التاء وفتحها والصحيح فتحها والمعنى لا تشبهوا، ومن روى بضم التاء أراد لا تشبهوا علينا. والضفر: أن يضفر شعره ذو الشعر الطويل ليمنعه ذلك من الشعث، ومن فعل هذا لم يجز له أن يقص، لأنه فعل مايشبه التلبيد الذى أوجب رسول الله فيه الحلاق فلذلك رأى عمر الحلاق على من فعل ذلك. ومعنى قوله: لا تشبهوا بالتلبيد. أى تفعلوا الفعالا تشبه التلبيد فى الانتفاع بها، وهى العقص والضفر، ثم تقصرون ولاتحلقون، وتقولون: لم نلبد، فمن فعل ذلك فهو مبلد وعليه الحلاق.
62 - باب الفرق
/ 103 - فيه: ابْن عَبَّاس، كَانَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ، وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَسْدِلُونَ أَشْعَارَهُمْ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْرُقُونَ رُءُوسَهُمْ، فَسَدَلَ النَّبِى عليه السلام نَاصِيَتَهُ ثُمَّ فَرَقَ بَعْدُ. / 104 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِى مَفَارِقِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ مُحْرِمٌ. وقَالَ عَبْدُاللَّهِ: فِى مَفْرِقِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام. قال المؤلف: فرق شعر الرأس سنة، وروى ابن وهب عن(9/159)
أسامة بن زيد عمر عبد العزيز كان إذا انصرف من الجمعة أقام على باب المسجد حرسًا يجزون كل من لم يفرق شعره. قال مالك: رأيت عامر بن عبد الله بن الزبير وربيعة بن أبى عبد الرحمن وهشام بن عروة يفرقون شعورهم، وكانت لهشام جمةّ إلى كتفيه. فإن قال قائل: قول ابن عباس (كان النبى عليه السلام يحب موافقة أهل الكتاب) يعارض قول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم) . فالجواب: أن حديث ابن عباس يحتمل أن يكون فى أول الإسالم فى وقت قوى فيه طمع النبى عليه السلام برجوع أهل الكتاب وإنابهم إلى الإسلام، وأحب موافقتهم على وجه التالف لهم والتأنيس، مع أن أهل الكتاب كانوا أهل شريعة، وكان المشركون لا شريعة لهم، فسدل عليه السلام ناصية، إذ كان ذلك مباحًا لأنه لم يأته نهى عن ذلك، ثم أراد الله تعالى نسخ السدل بالفرق فأمر نبيه بفرق شعره وترك موافقة أهل الكتاب والحديث يدل على صحة هذا، وهو قول ابن عباس (كان رسول الله يحب موافقة أهل الكتاب) (وكان) إخبار عن فعل متقدم، وقوله: ثم فرق بعد إخبار عن فعل متأخر وقع منه عليه السلام بمخالفة أهل الكتاب، وهذا هو النسخ بعينه، لقوله عليه السلام (إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم) فأمر بمخالفتهم عامًا.
63 - باب الذوائب
/ 105 - فيه: ابْن عَبَّاس، بِتُّ لَيْلَةً عِنْدَ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ خَالَتِي، وَكَانَ(9/160)
النبي (صلى الله عليه وسلم) عِنْدَهَا فِى لَيْلَتِهَا، فَقَامَ النَّبِيّ، عليه السَّلام، يُصَلِّى مِنَ اللَّيْلِ، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ بِذُؤَابَتِى، فَجَعَلَنِى عَنْ يَمِينِهِ. قال المؤلف: الذوائب إنما يجوز اتخاذها للغلام إذا كان فى رأسه شعر غيرها، وأما إذا حلق شعره كله وترك ذؤابه فهو القزع الذى نهى عنه عليه السلام، وقد جاء هذا بينًا فى الباب بعد هذا. وروى أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، جدثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر (أن النبى - عليه السلام - نهى عن القزع) وهو أن يحلق رأس الصبى ويترك له ذؤابه.
64 - باب: القزع
/ 106 - فيه: ابْنَ عُمَر، أَنّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، نهَى عَنِ الْقَزَعِ. قُلْتُ: مَا الْقَزَعُ؟ فَأَشَارَ لَنَا عُبَيْدُاللَّهِ قَالَ: إِذَا حَلَقَ الصَّبِى وَتَرَكَ هَاهُنَا شَعَرَةً وَهَاهُنَا وَهَاهُنَا، فَأَشَارَ لَنَا عُبَيْدُاللَّهِ إِلَى نَاصِيَتِهِ، وَجَانِبَىْ رَأْسِهِ، قِيلَ لِعُبَيْدِ اللَّهِ: وَالْجَارِيَةُ وَالْغُلامُ؟ قَالَ: لا أَدْرِى، هَكَذَا قَالَ الصَّبِىُّ. قَالَ عُبَيْدُاللَّهِ: وَعَاوَدْتُهُ، فَقَالَ: أَمَّا الْقُصَّةُ وَالْقَفَا لِلْغُلامِ، فَلا بَأْسَ بِهِمَا، وَلَكِنَّ الْقَزَعَ أَنْ يُتْرَكَ بِنَاصِيَتِهِ شَعَرٌ، وَلَيْسَ فِى رَأْسِهِ غَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ شَقُّ رَأْسِهِ هَذَا أَوْ هَذَا. قال ابن السكيت: القزع أن تتقوب من الراس مواضع فلا يكون فيها شعر؟ قال ثابت: لم يبق من شعره إلا قزع. الواحدة: قزعه، ومثله فى السماء قزعة.(9/161)
وقد ذكر أبو داود فى حديث المعنى الذى من أجله نهى النبى عليه السلام عن القزع، فقال: حدثنا الحلوانى، حدثنا يزيد بن هارون قال: حدثنا الحجاج بن حسان قال: (دخلنا على أنس بن مالك فقال: حدثتنى أختى قالت: دخل علينا النبى عليه السلام وأنت يومئذ غلام ولك قرنان، فمسح راسك وبرك عليك وقال: احلقوا هذين أو قصوهما، فإن هذا زى اليهود) .
65 - باب: تطييب المرأة زوجها بيديها
/ 107 - فيه: عَائِشَةَ: طَيَّبْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) بِيَدِى لِحُرْمِهِ وَطَيَّبْتُهُ بِمِنًى قَبْلَ أَنْ يُفِيضَ. قد تقدم فى الحج.
66 - باب: الطيب فى الرأس واللحية
/ 108 - فيه: عَائِشَةَ، كُنْتُ أُطَيِّبُ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) بِأَطْيَبِ مَا أَجِدَ حَتَّى أرى وَبِيصَ الطِّيبِ فِى رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ. قال المؤلف: هذا يدل أن مواضع الطيب من الرجال مخالفة لمواضعة من النساء، وذلك أن عائشة ذكرت أنها كانت تجد وبيض الطيب فى رأس النبى عليه السلام ولحيته فدل ذلك أنها إنما كانت تجعل الطيب فى شعر راسه ولحيته لا من وجهه كما تفعل النساء فيخططن وجوههن بالطيب يتزين بذلك، وهذا لا يجوز للرجال(9/162)
دليل هذا الحديث، وهو مباح للنساء، لأن جميع أنواع الزينة بالحلى والطيب ونحوه جائز لهم ما لم يغيرن شيئًا من خلقهن.
67 - باب: الامتشاط
/ 109 - فيه: سَهْل، أَنَّ رَجُلا اطَّلَعَ مِنْ جُحْرٍ فِى دَارِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، وَأن النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَحُكُّ رَأْسَهُ بِالْمِدْرَى، فَقَالَ: (لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَنْظُرُ، لَطَعَنْتُ بِهَا فِى عَيْنِكَ، إِنَّمَا جُعِلَ الإذْنُ مِنْ قِبَلِ الأبْصَارِ) . المدرى عند العرب اسم للمشط، قال أمرؤ القيس: تظل المدارى فى مثنى ومرسل يريد فى ماأنثى من شعرها وانعطف، ومااسترسل، يصف امرأة بكثرة الشعر. وذكره أبو حاتم عن الأصعمى، وأبى عبيد، وقال: المدارى: الأمشاط، وفى شرح ابن كسيان المدرى: الود الذى تدخله المرأة فى شعرها لتضم بعضه إلى بعضه.
68 - باب: ترجيل الحائض زوجها
/ 110 - فيه: عَائِشَةَ، كُنْتُ أُرَجِّلُ رَأْسَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) وَأَنَا حَائِضٌ. فيه: أن ترجيل الشعر منزى أهل الإيمان والصلاح، وذلك من النظافة، وقد روى مالك عن يحى بن سعيد أن قتادة الأنصارى قال لرسول الله: (إنى لى جمة فارجلها؟ قال رسول الله: نعم وأكرمها. وكان أبو قتادة ربما دهنها فى يوم مرتين لما قال رسول الله: وأكرمها) .(9/163)
وهذا الحديث قد أسنده الرازى عن يحى بن سعيد، عن محمد بن المنكدر، عن أبى قتادة. . فذكره. وقد روى عن النبى عليه السلام خلاف تأويل أبى قتادة، روى على بن المدينى، عن يحى بن سعيد، عن هشام، عن الحسن عن عبد الله بن مغفل قال: (نهى رسول الله عن الترجيل إلا غبًّا) . وروى ابن المبارك، عن كهمس عن الحسن، عن ابن بريدة عن رجل اصاحاب النبى - عليه السلام - قال: (نهانا رسول الله عن الإرفاء. قلت لأبن بريدة: مالإرفاه؟ قال: الترجيل كل يوم) . روى ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبى أمامه، عن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبى أمامه قال: (ذكر أصحاب رسول الله يومًا عنده الدنيا البذاذة من الإيمان) . والمراد بهذا الحديث - والله أعلم - بعض الأوقات ولم يأمر بلزوم البذاذة فى جميع الأحوال لتتفق الأحاديث، وقد أمر الله تعالى بأخذ الزينة عند كل مسجد، وأمر النبي (صلى الله عليه وسلم) باتخاذ الطيب، وحسن الهيئة واللباس فى الجمع وماشكل ذلك من المحافل.(9/164)
69 - باب: الترجل
/ 111 - فيه: عَائِشَةَ، أَن النَّبِىِّ، عليه السَّلام، كَانَ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ مَا اسْتَطَاعَ فِى تَرَجُّلِهِ وَوُضُوئِهِ. الترجلّ من باب النظافة والزينة المباحة للرجال، وقد تقدم فى الباب قبل هذا أن ذلك فى بعض الأوقات ومعناه الخصوص وروى مالك، عن زيد بن أسلم أن عطاء بن يسار أخبره قال: (كان رسول الله فى المسجد فدخل رجل ثائر الراس واللحية فاشار إليه رسول الله بيده أن أخرج، كأنه يعنى إصلاح شعر رأسه ولحيته ففعل الرجل ثم رجع، فقال رسول الله: اليس هذا خيرًا من أن أحدكم ثائر الراس كأنه شيطان) .
70 - باب: المسك
/ 112 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيّ، عليه السَّلام، (لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ) . قال المؤلف المسك أطيب الطيب، وقد روى ذلك عن النبى عليه السلام من حديث أبى سعيد الخدرى، وقد ذكرته فى كتاب الذبائح، وهذا الحديث يشهد لحديث أبى سعيد، لأنه لو كان فى الطيب فوق المسك لضرب به المثل عند الله كما ضرب بالمسك.(9/165)
71 - باب: من لم يرد الطيب
/ 113 - فيه: أَنَس، أَنَّهُ لا يَرُدُّ الطِّيبَ، وَزَعَمَ أَنَّ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) كَانَ لا يَرُدُّ الطِّيبَ. وترجم له فى كتاب الهبة باب ما لا يرد من الهدية. ذكره أبو داود من حديث عبد الله بن أبى جعفر، عن الأعرج، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله: (من عرض عليه طيب فلا يرده، فإنه طيب الريح خفيف المحمل) . ومن حديث كثير بن عبد الله قال: سمعت أنس بن مالك يقول: قال رسول الله: (حبب إلى من الشياء النساء والطيب وجعل قرة عينى فى الصلاة) أنه كان يرى فيها الجنة وماوعد الله فيها لأوليائه المؤمنين.
72 - باب: الذريرة
/ 114 - فيه: عَائِشَةَ، طَيَّبْتُ النَّبِىّ، عليه السَّلام، بِيَدَىَّ بِذَرِيرَةٍ فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ لِلْحِلِّ وَالإحْرَامِ. يقول المؤلف: الذريرة نوع من أنواع الطيب، وكل ما يطلق عليه اسم طيب فيجوز استعماله، لعموم قول أنس: كان النبى - عليه السلام - لا يرد الطيب. فعم أنواعه كلها.(9/166)
73 - باب: المتفلجات للحسن
/ 115 - فيه: عَبْدُ اللَّهِ: لَعَنَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، الْوَاشِمَاتِ، وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ، وَالْمُتَنَمِّصَاتِ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ، الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ، مَالِى لا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، وَهُوَ فِى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) [الحشر: 7] . وترجم له: باب المتنمصات. الواشمة: هى التى تشم يديها وذلك أن تغرر ظهر كفها أو غيره من جسدها بإبرة حتى تؤثر فيها ثم تحشوه كحلا وتجعله كالنقش فى جسدها تتزين بذلك. والنامصة: هى الناقة، والنمص: والنتف، قال أبو جنيفة ولذلك قيل للمنقاش الذى ينتف به: منماص، ويقال: قد أنمص البقل فهو نميص إذا ارتفع قليلاً حتى يمكن أن ينتف بالأظفار. والمتفلجة: هى المفرقة بين اسنانها المتلاصقة بالنحت لتبعد بعضها من بعض، والفلج: تباعد مابين الشيئين يقال: منه رجل أفلج، وامرأة فلجاء. قال الطبرى: فى هذا الحديث البيان عن رسول الله أنه لا يجوز لامرأة تغيير شىء من خلقها الذى خلقها الله عليه بزيادة فيه أو نقص منه التماس التحسن به لزوج أو غيره، لأن ذلك نقض منها خلقها إلى غير هيئته، وسواء فلجت اسنانها المستوية البنية ووشرتها أو كانت لها أسنان طوال فقطعت طلبًا للحسن، أو أسنان زائدة على المعروف من أسنان بنب آدم فقلعت الزوائد من ذلك بغير عله إلا طلب التحسن والتجمل، فإنها فى كل ذلك مقدمة على مانهى الله(9/167)
تعالى عنه على لسان نبيه إذا كانت عالمة بالنهى عنه، وكذلك غير جائز لامرأة خلقت لها لحية أو شارب أو عنفقه أن تحلق ذلك منها أو تقصه طلبًا للتجمل، لأن كل ذلك تغيير لخلق الله، ومعنى النص الذى لعن رسول الله فاعلته. فإن قال قائل: فإنك لتجيز للرجل أن يأخذ من أطراف لحيته وعوارضه إذا كثرت ومن الشارب وإطاره إذا وفى، فالمرأة أحق أن يجوز لها إماطة ذلك من الرجل، إذ الأغلب من النساء أن ذلك بهن قليل، وإنما ذلك من خلق الرجال، فجعلت أخذ ذلك من النساء تغييرًا لخلق الله، وجعلتها من الرجال غير تغيير، فما الفرق بين ذلك؟ قيل: إنما لم نحظر على المرأة إذا كانت ذات شارب فوفى شاربها أن تأخذ من إطاره وأطرافه أو كانت ذات لحية طويلة أن تأخذ منها، وإنما نهيناها عن نمص ذلك وحلقة للعنة النبى النامصة والمتنمصة، ولاشك أن نمصها لحية أو شاربًا إن كان لها نظير نمصها شعرًا بزجهها أو جبينها، وفى فرق الله على لسان رسوله بين حكمها فيما لها من أخذ شعر راسها وماليس لها منه، وبين حكم الرجل فى ذلك أبين الدليل على افتراق حكمها فى ذلك، وذلك أن النبى - عليه السلام - أذن للرجال فى قص شعر رؤوسهم كلما شاءوا وندبهم إلى حلقة إذا حلوا من إحرامهم، وحظر ذلك على المرأة فى الحالتين كلتيهما، إلا أن تأخذ من أطرافه ففى ذلك أبين البيان أن حكم الرجل والمرأة فى ذلك مفترق، فالواجب أن يكون مفترقًا فيما لهما من إحفاء الشوارب وقص النواصى وحلقها، وإنما أبحنا لها أن تأخذ(9/168)
من أطراف لحيتها وإطار شاربها، كما ابحنا لها أن تأخذ من أطراف شعر رأسها إذا طال، لما روى شعبه، عن أبى بكر بن حفص، عن أبى سلمه قال: (كان أزواج النبى يأخذن من شعورهن حتى يدعنه كهيئة الوفرة) . وروى ابن جريح، عن صفيه بنت شيبة، عن أم عثمان بنت سفيان، عن ابن عباس قال: (نهى النبى عليه السلام أن تحلق المرأة رأسها، وقال: الحلق مثله) . وقال مجاهد: لعن رسول الله الحالقة. فإن قال: فما وجه من أطلق النمص والوشم، وأحله وقد علمت ما روى شعبه، عن أبى إسحاق، عن امرأته (أنها دخلت على عائشة فسالتها، وكانت امرأة شابة يعجبها الجمال، فقالت: المرأة تحف جبينها لزوجها. فقالت: أميطى عنك الأذى ما استطعت) . قال الطبرى: هكذا قال ابن المثنى تحف، وهو غلط، لأن الحف بالشىء هو الإطافة به، وإنما هو تحفى بمعنى تستأصله حلقًا أو نتفًا. وما حدثك تميم بن المنتصر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا إسماعيل بن قيس قال: دخلت وأنا وأبى على أبى بكر، فرأيت يد أسماء موشومة. قيل: أما عائشة فإن فى الرواية عنها اختلافًا وذلك أن عمران بن موسى قال: حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال: حدثتنى أم الحسن، عن معاذة (أنها سالت عائشة عن المرأة تقشر وجهها؟ فقالت:(9/169)
إن كنت تشتهين أن تتزيني فلا يحل، وإن كانت امرأة بوجهها كلف شديد فما - كأنها كرهته ولم تصرح) فهذه الرواية بالنهى عن قشر المرأة وجهها للزينة وذلك نظير إحفائها جبينها للزينة، وإذا اتخلفت الرواية عنها كأن أولى الأمور أن يضاف إليها اشبهها بالحق. وأما اسماء فإنها كانت امرأة أدركت الجاهلية، وكان نساء الجاهلية يفعلن ذلك ويتزين به، ولعل ذلك منها كان فى الجاهلية، ولم يخبر قيس عنها أنها وشمت يدها فى الإسلام، وقد يجوز أن تكون وشمتها فى الجاهلية أو الإسلام قبل أن ينهى عن ذلك رسول الله، فمن أنها وشمتها فى الإسلام بعد نهى النبى عليه السلام فليأت ببرهان على ماادعى من ذلك، ولاسبيل إليه. قال المؤلف: يقال للطبرى: أما ما ذكرته من أن المرأة منهية عن حلق رأسها فى الإحرام وغيره بحديث ابن عباس، وقوله عليه السلام: إن الحلق مثله، فإن حديث ابن عباس ليس معناه التحريم بدليل أن المرأة لو حلقت راسها فى الحج مكان التقصير اللازم لها لم تأت فى ذلك حراما، ودل قوله: إن الحلق مثله، أن معنى النهى عن ذلك إنما هو خيفة أن تمثل المرأة بنفسها وتنقض جمالها فيكره ذلك بعلها، والمثلة ليست بحرام وإنما هى مكروهة، وقد قال مالك: حلق الشارب مثله، وقد ثبت حلقه عن كثير من السلف، واحتجوا بأمره عليه السلام بإحفاء الشوارب، وأما قول مجاهد: لعن رسول الله الحالقة فليس من هذا الباب فى شىء، وإنما لعن الحالقة لشعرها عند المصيبة اتباعًا لسنن الجاهلية، وبهذا جاء الحديث، ذكره(9/170)
البخاري فى كتاب الجنائز من حديث أبى موسى: (أن رسول الله برىء من الحالقة والصالقة والشاقة) وترجم له باب ماينهى عنه من الحلق عند المصيبة، فبان بهذا معنى النهى عن الحلق أنه عند المصيبة كفعل الجاهلية، وأما إن احتاجت امرأة إلى حلق راسها فذلك غير حرام عليها كالرجل سواء.
74 - باب: الوصل فى الشعر
/ 116 - فيه: مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ - وَتَنَاوَلَ قُصَّةً مِنْ شَعَرٍ كَانَتْ بِيَدِ حَرَسِى -: أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذِهِ، وَيَقُولُ: إِنَّمَا هَلَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ حِينَ اتَّخَذَ هَذِهِ نِسَاؤُهُمْ. / 127 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ، وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ. / 118 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ جَارِيَةً مِنَ الأنْصَارِ تَزَوَّجَتْ، وَأَنَّهَا مَرِضَتْ، فَتَمَعَّطَ شَعَرُهَا، فَأَرَادُوا أَنْ يَصِلُوهَا، فَسَأَلُوا النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ) . / 119 - وفيه: أَسْمَاءَ، أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَتْ: إِنِّى أَنْكَحْتُ ابْنَتِى، ثُمَّ أَصَابَهَا شَكْوَى، فَتَمَرَّقَ رَأْسُهَا، وَزَوْجُهَا يَسْتَحِثُّنِى بِهَا، أَفَأَصِلُ رَأْسَهَا؟ فَسَبَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ. / 120 - وفيه: ابْن عُمَر، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) لَعَنَ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ، وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ. قَالَ نَافِعٌ: الْوَشْمُ فِى اللِّثَةِ.(9/171)
قال الطبرى وغيره: فى هذه الأحاديث من الفقه أنه لا يجوز لامرأة أن تصل شعرها بشىء يتجمل به ويظن من يراه أنه شعرها، كما لا يجوز أن تشم خلقها تتزين بذلك، وهو قول مالك وجماعة، وفاعله ذلك لم ترض بما أعطاها الله فغيرت خلقها. قال الطبرى: وقد اختلف العلماء فى معنى نهيه عليه السلام عن الوصل فى الشعر، فقال بعضهم: لا بأس عليها فى وصلها شهرها ماوصلت به من صوف وخرق وشبه ذلك، روى ذلك عن ابن عباس وأم سلمه زوج النبى، وعلة هذه المقالة قول معاية حين أخرج القصة من الشعر وقال: (نهى رسول الله عن مثل هذه) . قالوا: وأما الخرق والصوف فليس ذلك مما دخل فى نهيه عليه السلام. وقال آخرون: كل ذلك داخل فى مهيه لعموم الخبر عنه أنه لعن الواصلة والمستوصلة، قالوا: فبأى شىء وصلت شعرها فهى واصلة، روى ذلك عن أم عطية. وقال آخرون: لا بأس عليها فى وصلها شعرها بما وصلت به من شىء، شعرًا كان الذى وصلت به أو غيره. روى ذلك عن عائشة وسالها ابن اشوع: (لعن رسول الله الواصلة؟ قالت: أيا سبحان الله وماباس بالمرأة الزعراء أن تأخذ شيئًا من صوف فتصل به شعرها تتزين به عند زوجها إنما لعن رسول الله المرأة الشابة تبغى فى شبيبتها حتى إذا أسنت هى وصلتها بالقيادة) . وسئل عطاء عن شعور الناس أينتفع بها قال: لا بأس بذلك. وقال آخرون: لا يجوز الوصل بشىء شعر ولاغيره، ولاباس أن تضع الشعر وغيره على راسها وضعًا مالم تصله، روي ذلك عن(9/172)
إبراهيم، وعلة هذا القول ان الخبر إنما ورد عن النبى عليه السلام بالنهى عن الوصل، فأما مالم يكن وصلا فلا باس به. قال الطبرى: والصواب عندنا فى ذلك أن يقال: غير جائز أن تصل بشعرها شيئًا من الشياء لتتجمل به، وشعرًا كان أو غيره لعموم النهى عن النبى عليه السلام أن تصل بشعرها شيئًا. وأما خبر اشوع عن عائشة فهو باطل، لأن رواته لا يعرفون، وابن اشوع لم يدرك عائشة. قال غيره: وإنما قال معاوية: (يا أهل المدينة أين علماؤكم؟) وإن كانت المدينة دار العلم ومعدن الشريعة وإليها يفزع الناس فى أمر دينهم ألا ترى أن معاوية قد بعث إلى عائشة يسألها عن مسائل نزلت به، فقال: يا أهل المدينة أين علماؤكم الذين يلزمهم تغيير المنكر، والتشدد على استباح مانهى عنه النبى عليه السلام ولايجوز أن يقال: إن المنكر كان بالمدينة ولم يغيره أهلها، لأنه لا يخلو زمان عن ارتكاب المعاصى، وقد كان فى وقت النبى عليه السلام من شرب الخمر وسرق وزنى إلا أنه كان شاذا نادرًا، ولايحل لمسلم أن يقول: إن النبى عليه السلام لم يغير المنكر، فكذلك أمر القصة كان شاذًا بالمدينة ولا يجوز أن يقال: أن أهل المدينة جهلوا نهى النبى - عليه السلام - عن القصة، لأن حديثه فى لعن الواصلة والمستوصلة حديث مدنى، رواه نافع عن ابن عمر، ورواه هشام بن عروه، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء، عن النبى - عليه السلام - وهو معروف عندهم مستفيض.(9/173)
ولعن رسول الله الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة لأنهما تعاونا على تغيير خلق الله، وفيه دليل أن من أعان على معصية، فهو شريك فى الأثم. وقوله: (تمرق شعرها) قال صاحب الأفعال: مرق الشعر والصوف نتفه، وأمرق الشعر جاز أن ينتف، و (القصة) قال الأصمعى: القصة ماأقبل على الجبهة من شعر الرأس.
75 - باب: التصاوير
/ 121 - فيه: أَبُو طَلْحَةَ، قال عليه السَّلام: (لا تَدْخُلُ الْمَلائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلا تَصَاوِيرُ) . وسيأتى الكلام فى هذا الحديث فى باب لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا صورة، إن شاء الله.
76 - باب: عذاب المصورين يوم القيامة
/ 122 - فيه: مَسْرُوقٍ، أَنَّه رَأَى صُفَّتِهِ فيها تَمَاثِيلَ، فَقَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَاللَّهِ، يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ) . / 123 - وفيه: ابْن عُمَر، قَالَ، عليه السَّلام: (إِنَّ الَّذِينَ يَصْنَعُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ) . قال الطبرى: إن قال قائل: ماانت قائل فيمن صور صورة وهو(9/174)
لله موحد ولنبيه عليه السلام مصدق أهو اشد عذابًا أم فرعون وآله؟ فإن قلت: من صور صورة، قيل: قد قال الله خلاف ذلك: (أدخلوا آل فرعون أشد العذاب (. قيل: ليس فى خبر ابن مسعود خلاف للتنزيل بل هو له مصدق، وذلك أن المصور الذى أخبر النبى عليه السلام أنه له أشد العذاب هو الذى وصفه النبى عليه السلام - فى حديث عائشة بقوله: (الذين يضاهون خلق الله) . قال المؤلف: المتكلف من ذلك مضاهاة ماصوره ربه فى خلقه أعظم جرمًا من فرعون وآله، لأن فرعون كان كفره بقوله: (أنا ربكم الأعلى) من غير إدعاء منه أنه يخلق ولا محالة منه أن ينشىء خلقا يكون كخلقه تعالى شبيهًا ونظيرًا، والمصور المضاهى بتصويره ذلك منطو على تمثيله نفسه بخالقه، فلا خلق أعظم كفرًا منه فهو بذلك اشادهم عذابا وأعظم عقابًا، وأما من صور صورة غير مضاه ماخلق ربه، وإن كان بفعله مخطئًا، فغير داخل فى معنى من شاهى ربه بتصويره. فإن قيل: ومالوجه الذى تجعله به مخطئًا إذا لم يكن فى تصويرة لربه مضاهيًا؟ قيل: لاتهامه نفسه عند من عاين تصويره أنه ممن قصد بذلك المضاهاة لربه، إذ كان الفعل الذى هو دليل على المضاهاة منه ظاهرًا، والاعتقاد الذى هو خلاف اعتقاد المضاهى باطن لا يصل إلى علمه راءوه.(9/175)
وقد روى الأعمش عن عمارة بن عمير قال: كنت جالسًا عند رجل من اصحاب ابن مسعود فمثلت فى الأرض مثال عصفور فضرب يدى.
77 - باب: نقض الصور
/ 124 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) لَمْ يَكُنْ يَتْرُكُ فِى بَيْتِهِ شَيْئًا فِيهِ تَصَالِيبُ إِلا نَقَضَهُ. / 125 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّه دَخَل دَارًا بِالْمَدِينَةِ، فَرَأَى أَعْلاهَا مُصَوِّرًا يُصَوِّرُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِى، فَلْيَخْلُقُوا حَبَّةً، وَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً) ، ثُمَّ دَعَا بِتَوْرٍ مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ يَدَيْهِ حَتَّى بَلَغَ إِبْطَهُ. فَقُلْتُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، أَشَىْءٌ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ؟ قَالَ: مُنْتَهَى الْحِلْيَةِ. قال المؤلف: فى حديث عائشة حجة لمن كره الصور فى كل شىء مما يمتهن ويوطأ وغيره، لعموم قول عائشة (أن النبى - عليه - لم يكن يترك فى بيته شيئًا فيه تماثيل إلا نقضه) فدخل فى ذلك جميع وجوه استعمال الصور فى البسط واللباس وغيره، وفى حديث أبى هريرة دليل على أن نهيه عليه السلام عن الصور مجمل، معناه عندهم على العموم أيضًا فى الحيطان والثياب وغيرها. وقوله عليه السلام: (من أظلم ممن ذهب يخلق كخلقى) هو فى معنى حديثه عليه السلام: (أنه لعن المصور) لأنه وصف المصور(9/176)
بأشد الظلم وقد قال تعال: (ألا لعنة الله على الظالمين (فعمت اللعنة كل من وقع عليه اسم ظالم من مصور وغيره. ووضوء أبى هريرة إلى ابطه ليس عليه العمل وأجمعت الأمة أنه لا يتجاوز بالوضوء ماحده الله من المرفقين، وقد تقدم فى كتاب الوضوء. وقوله: (منتهى الحلية) فهو مثل ما روى عنه فى كتاب الوضوء أنه قال: سمعت رسول الله يقول: (إن أمتى يدعون غرا محجلين من أثر الوضوء فمن استطاع أن يطيل غرته فيفعل) . وكنى بالحلية عن الغرر والتحجيل.
78 - باب: ما نهى عنه من التصاوير
/ 126 - فيه: عَائِشَةَ، قَدِمَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ سَفَرٍ، وَقَدْ سَتَرْتُ بِقِرَامٍ لِى عَلَى سَهْوَةٍ لِى فِيهَا تَمَاثِيلُ، فَلَمَّا رَآهُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) هَتَكَهُ، وَقَالَ: (أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ) ، قَالَتْ: فَجَعَلْنَاهُ وِسَادَةً أَوْ وِسَادَتَيْنِ. / 127 - فيه: وَقَالَتْ مرة: قَدِمَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) مِنْ سَفَرٍ، وَعَلَّقْتُ دُرْنُوكًا فِيهِ تَمَاثِيلُ، فَأَمَرَنِى أَنْ أَنْزِعَهُ فَنَزَعْتُهُ، وَكُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِى (صلى الله عليه وسلم) مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ.(9/177)
فى هذا الحديث حجة لمن أجاز من استعمال الصور مايمتهن ويبسط، إلا ترى أن عائشة فهمت من إنكار النبى - عليه السلام - للصور فى الستر أن ذلك لما كان منصوبًا ومعلقًا دون ماكن منها مبسوطًا يمتهن بالجلوس على والارتفاق، فلذلك جعلته وسادة، وسأذكر ماذاهب العلماء فى الباب بعد هذا. وقوله: (إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يضاهون خلق الله) يفسر حديث ابن مسعود المتقدم فى باب عذاب المصورين يوم القيامة، ويدل أن الوعيد الشديد إنما جاء لمن صور صورة مضاهاة لخلف الله، وقد تقدم ذلك.
79 - باب: من كره القعود على الصور
/ 128 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَقَامَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) بِالْبَابِ، فَلَمْ يَدْخُلْ، فَقُلْتُ: أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مِمَّا أَذْنَبْتُ، قَالَ: مَا هَذِهِ النُّمْرُقَةُ؟ قُلْتُ: لِتَجْلِسَ عَلَيْهَا، وَتَوَسَّدَهَا، قَالَ: (إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ، وَإِنَّ الْمَلائِكَةَ لا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ الصُّورَةُ) . نمارق: وسائد مصفوفة بعضها إلى بعض. / 129 - وفيه: أَبُو طَلْحَةَ إِنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِنَّ الْمَلائِكَةَ لا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُّورَةُ) . قَالَ بُسْرٌ: ثُمَّ اشْتَكَى زَيْدٌ فَعُدْنَاه، فَإِذَا عَلَى بَابِهِ سِتْرٌ فِيهِ صُورَةٌ، فَقُلْتُ لِعُبَيْدِاللَّهِ - رَبِيبِ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) -: أَلَمْ يُخْبِرْنَا زَيْدٌ عَنِ الصُّوَرِ يَوْمَ الأوَّلِ؟ قَالَ عُبَيْدُاللَّهِ: أَلَمْ تَسْمَعْهُ حِينَ قَال: إِلا رَقْمًا فِى ثَوْبٍ؟(9/178)
اختلف العلماء فى الصور: فكره ابن شهاب مانصب منها ومابسط كان رقمًا أو لم يكن، على حديث نافع عن القاسم عن عائشة. وقالت طائفة: إنما يكره من التصاوير ماكان فى حيطان البيوت، وأما ماكان رقمًا فى ثوب فهو جائز على حديث زيد بن خالد عن أبى طلحة، وسواء كان الثوب منصوبًا أو مبسوطًا وبه قال القاسم وخالف حديثه عن عائشة. وقد روى ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن عبد الرحمن ابن القاسم، عن أبيه، عن عائشة زوج النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أدخلت أسماء بنت عميس على القاسم بحجلة فيها تصاوير، قال القاسم: فتلك الحجلة عندنا بعد) . وقال آخرون: لا يجوز لباس ثوب فيه صور ولابصبه، وإنما يجوز من ذلك مابوطأ ويمتهن. واحتجوا بحديث سفيان، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: (سترت سهوة لى بستر فيه تصاوير، فلما رآه النبى عليه السلام هتكه، فجعلته وسادة أو وسادتين) ورواه وكيع عن اسامة بن زيد، عن عبد الرحمن بن القاسم، وزاد فيه: (فرأيت النبى عليه السلام متكئًا على إحداهما) . قالوا: فكره رسول الله ماكان سترًا ولم يكره ما يت: اعليه ويوطأ، وبهذا قال سعد بن أبى وقاص وسالم وعروة وابن سيرين وعطاء وعكرمة، قال عكرمة: فيما يوطأ من الصور هو أذل لها، وهذا أوسط المذاهب فى هذا الباب، وهو قول مالك والثوري وابي حنيفة والشافعي.(9/179)
قال الطحاوي: يحتمل قوله: (إلا رقمًا فى ثوب) أنه اراد رقمًا يوطأ ويمتهن كالبسط والوسائد. وقال الداودى: حديث سفيان وأسامة بن زيد، عن عبد الرحمن ابن القاسم، عن أبيه، عن عائشة ناسخ لحديث نافع، عن القاسم، عن عائشة، وإنما نهى النبى عليه السلام أولا عن الصور كلها وإن كانت رقمًا، لأنهم كانوا حديث عهد بعبادة الصور، فنهى عن ذلك جملة، ثم لما تقرر نهيه عن ذلك أباح ماكان رقمًا فى ثوب للضرورة إلى اتخاذ الثياب، وأباح مايمتهن لأنه يؤمن على الجاهل تعظيم مايمتهن، وبقى النهى فيما ترفه ولايمتهن، وفيما لا حاجة بالناس إلى اتخاذه، ومايبقى مخلدًا فى مثل الحجر وشبهه من الصور التى لها أجرام وظل، لأن فى صنيعها التشبه بخلق الله - تعالى. وكره بعضهم ماله روح، وإن لم يكن له ظل على ظاهر حديث عائشة: (إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون يقال لهم: أحيوا ماخلقتم) وكره مجاهد صور الشجر المثمر، ولا أعلم أحد كرهها غيره.
80 - باب: كراهة الصلاة فى التصاوير
/ 130 - فيه: أَنَس، كَانَ قِرَامٌ لِعَائِشَةَ سَتَرَتْ بِهِ جَانِبَ بَيْتِهَا، فَقَالَ لَهَا النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (أَمِيطِى عَنِّى، فَإِنَّهُ لا تَزَالُ تَصَاوِيرُهُ تَعْرِضُ لِى فِى صَلاتِى) . فيه من الفقه: أنه ينبغى التزام الخشوع وتفريغ البال لله(9/180)
- تعالى، وترك التعرض لكل ما يشغل المصلى عن الخشوع، إلا ترى أن رسول الله نبه على هذا المعنى بقوله: (فإنه لا تزال تصاوير تعرض لى فى صلاتى) وهذا مثل ماعرض له على السلام فى الخميصة التى أهداها له أبو جهم فقال: (اذهبوا بها أبى جهم، فإنى نظرت إلى علمها فى الصلاة فكاد يفتنى) . وفيه من الفقه: أن مايعرض للمرء فى صلاته من الفكرة فى أمور الدنيا ومايخطر بباله من ذلك، وماينظر إليه بعينه أنه لا يقطع صلاته، كما لم يقطع صلاة النبى اعتراض التصاوير له فيها، إذ لم يسلم أحد من ذلك.
81 - باب: لا تدخل الملائكة بيتًا فيه صورة
/ 131 - فيه: ابْن عُمَر: وَعَدَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) جِبْرِيلُ، فَرَاثَ عَلَيْهِ حَتَّى اشْتَدَّ عَلَى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَخَرَجَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَقِيَهُ، فَشَكَا إِلَيْهِ مَا وَجَدَ، فَقَالَ لَهُ: (إِنَّا لا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلا صُورَةٌ) . قال ابن وضاح: الملائكة فى هذا الحديث ملائكة الوحى مثل حبريل وإسرافيل، فأما الحفظة فيدخلون كل بيت ولا يفارقان الإنسان على كل حال، وقاله الداوجى أيضًا. قال الطبرى: إن قال قائل: أفحرام دخول البيت الذى فيه التماثيل والصور؟ . قيل: لا، ولكنه مكروه أعنى ماكان من ذلك من ذوات الرواح، وأما ما كان من ذلك علمًا فى ثوب أو رقمًا فيه، وكان مما(9/181)
يوطأ ويجلس عليه فلا باس به وما كان مما ينصب، فإن كان من صورة ما لا روح فيه فلا بأس به كصور الشجار والزرع والنبات، وإن كان من صور ما فيه الروح فلا استحبه لما حدثنا محمد ابن عبد الملك بى أبى الشوارب، حدثنا يزيد، حدثنا داود بن أبى هند، حدثنا عزرة، عن حميد بن عبد الرحمن، عن سعد بن هشام، عن عائشة قالت: كان لنا ستر تمثال طير مستقبل باب البيت فقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (حوليه فإنى كلما دخلت فرأيته ذكرت النديا. قالت: وكان لنا قطيفة لها علم حرير فكنا نلبسها) فلم يقطعه، ولم يأمر عائشة بفساد تمثال الطير الذى كان فى الستر، ولكنه أمر بتنحيته عن موضعه الذى كان معلقًا فيه من أجل كراهيته لرؤيته إياه، لما يذكر من الدنيا وزينتها، وفى قوله عليه السلام: (فإنى كلما رأيته ذكرت الدنيا) دليل بين على أنه كان يدخل البيت الذى ذلك فيه فيراه، ولاينهى عائشة عن تعليقه، وذلك يبين صحة ما قلناه من أن ذلك إذا كان رقمًا فى ثوب وعلمًا فيه فإنه مخالف معنى معنى ما كان مثالا ممثلاً قائمًا بنفسه. وقوله: (فراث عليه) يعنى ابطأ، ومنه قولهم: ربّ عجله تهب ريثًا.
82 - باب: من لعن المصور
/ 132 - فيه: أَبُو جُحَيْفَةَ، إِنَّ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) لَعَنَ الْمُصَوِّرَ. . . الحديث. / 133 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدًا (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فِى الدُّنْيَا كُلِّفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ، وَلَيْسَ بِنَافِخٍ) .(9/182)
قال المهلب: إن قال قائل: كيف أدخل البخارى حديث ابن عباس فى باب من لعن المصور، وليس ذلك فى الحديث؟ قيل: وجه ذلك - والله أعلم - أن اللعن فى لغة العرب الإبعاد من رحمة الله بالعذاب، ومن كلفه الله ينفخ الروح فيما صور وهو لا يقدر على ذلك ابدًا فقد ابعده الله من رحمته، فأين أكثر من هذا اللعن؟ قال الطبرى: وفى قوله عليه السلام: (من صور صورة كلف أن ينفخ فيها الروح) دليل بين أن الوعيد إنما جاء فى تصوير ماله روح من الحيوان، وأما تصوير الشجر والجمادات فليس بداخل فى معنى الحديث. وروى سفيان عن عوف عن سعيد بن أبى الحسن قال: (كنت عن ابن عباس فأتاه رجل فقال: إن معيشتى من هذه التاصوير، فقال ابن عباس: قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : من صور صورة كلف أن ينفخ فيها وليس بنافخ. فاصفر الرجل، فلما راى صفرته قال: إن كنت لابد صانعًا فعليك بهذا الشجر وكل شىء ليس فيه روح) .
83 - باب الارتداف على الدابة
/ 134 - فيه: أَنَّ الرسُول (صلى الله عليه وسلم) أَرْدَفَ أُسَامَةَ عَلَى حِمَارٍ. وقد تقدم في الحج.(9/183)
84 - باب: الثلاثة على الدابة
/ 135 - فيه: ابْن عَبَّاس، لَمَّا قَدِمَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) مَكَّةَ، اسْتَقْبَلَهُ أُغَيْلِمَةُ بَنِى عَبْدِالْمُطَّلِبِ، فَحَمَلَ وَاحِدًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَالآخَرَ خَلْفَهُ. قال الطبرى: فإن قال قائل: هذا حديث صحيح، فما أنت قائل فيما حدثك إسحاق بن زيد الخطابى قال: حدثنا محمد بن سليمان، عن أبيه قال: حدثنا عطاء، عن أبى سعيد الخدرى قال: قال رسول الله: (لا يركب الدابة فوق أثنين) ؟ . قيل: قد اختلف السلف فى ذلك فقال بعضهم بخبر ابن عباس، وقالوا: جائز أن يركب الدابه ثلاثة إذا أطاقت حملهم، روى ذلك عن ابن عمر قال: ماأبالى أن أكون عاشر عشرة على دابه إذا أطاقت حمل ذلك. رواه شعبة عن عاصم، عن الشعبى عنه. وكره آخرون ركوب دابه أكثر من اثنين، واحتجوا بحديث أبى سعيد، روى ذلك عن على بن أبى طالب قال: إذا رأيتم ثلاثة نفر على دابه فأرجموهم حتى ينزل أحدهم. قال الطبرى: وكلا الخبرين صحيحان فأما معنى حملة أثنين على دابه هو راكبها حتى صاروا ثلاثة عليها، فلأنها كانت مطيقة حملهم، غير فادح ركوبهم عليها ولا مضر بها. وقد قال ابن أبى ملكية عن ابن عباس أن مركب النبى عليه السلام الذى حمل الاثنين عليه معه كان ناقة. ولاشك أن ركوب ثلاثة أنفس على ناقة غير فادحها، ولا مضر بها، وإن كان ذلك فرسًا أو بغلا فلا شك أنه غير فادحة حمل رجل وصبيين يسير(9/184)
مسافة من الأرض لا يتعذر على الصبيان قطعها مشيًا، وروى ابن مهيد، عن حماد بن سلمه، عن عاصم، عن زر، عن ابن مسعود قال: كان يوم بدر ثلاثة على بعير. وأما معنى عليه السلام عن ركوب أكثر من اثنين على الدابة فإنما هو نهى عن ركوب مالم يطق من الدواب حمل أكثر من راكبين، وذلك معنى قول على: إذا رايتهم ثلاثة على دابة فأرجموهم حتى ينزل أحدهم. ونظير ما روى عن النبى عليه السلام وعن على بن أبى طالب فى ذلك روى عن عمر بن الخطاب أيضًا. حدثنا مطر بن محمد، حدثنا أبو دادود، حدثنا ابن خالد، حدثنا المسيب ابن دارم قال: رايت عمر بن الخطاب ضرب جمالا وقال: تحمل على بعيرك ما لا يطيق؟
85 - باب: حمل صاحب الدابة غيره بين يديه
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: صَاحِبُ الدَّابَّةِ أَحَقُّ بِصَدْرِ الدَّابَّةِ إِلا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ. / 136 - فيه: أَبُو كُريب ذُكِرَ شَرُّ الثَّلاثَةِ عِنْدَ عِكْرِمَةَ، فَقال: قال ابْنُ عَبَّاسٍ: أَتَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَقَدْ حَمَلَ قُثَمَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالْفَضْلَ خَلْفَهُ - أَوْ قُثَمَ خَلْفَهُ وَالْفَضْلَ بَيْنَ يَدَيْهِ - فَأَيُّهُمْ شَرٌّ أَوْ أَيُّهُمْ خَيْرٌ. قال البخارى: وقال بعضهم: صاحب الدابة أحق بصدر دابته إلا أن ياذن له، قد روى عن النبى عليه السلام ذكره أبو عيسى الترمذى فى مصنفه قال: حدثنا أبو عمار الحسين بن حريث، حدثنا على بن الحسين بن واقد قال: حدثنى أبى قال: حدثنا عبد الله(9/185)
ابن بريدة قال: سمعت أبى بريدة يقول: (بينما رسول الله يمشى إذ جاءه رجل ومعه حمار فقال: يا رسول الله، اركب وتأخر الرجل، فقال رسول الله: لأنت أحق بصدر دابتك إلا أن تجعله لى. قال: جعلته لك. قال: فركب) قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. وحديث ابن عباس يدل على معنى هذا الحديث، لأن النبى عليه السلام كان أحق بصدر دابته، فلما حمل قثم أو الفضل بين يديه كان مقام الإذن فى ذلك، وأظن البخارى لم يرض بلإسناده حديث ابن بريدة فأدخل حديث ابن عباس ليدل على معناه.
86 - باب
/ 137 - فيه: مُعَاذ، قَالَ: بَيْنَا أَنَا رَدِيفُ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) لَيْسَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ إِلا أَخِرَةُ الرَّحْلِ، فَقَالَ: يَا مُعَاذُ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، ثلاثًا. . . . الحديث. فيه: إرداف الإمام والشريف لمن دونه وركوبه معه، وذلك من التواضع أيضًا وترك الكبر، وكان ينبغى أن يدخل البخارى هذا الحديث مع حديث اسامة بن زيد فى كتاب الارتداف على الدابة قبل هذا. وقد تقدم معنى قوله: (هل تدرى ماحق الله على عباده) فى كتاب السلام والاستئذان فى باب من أجاب بلبيك وسعديك.(9/186)
87 - باب: إرداف المرأة خلف الرجل
/ 138 - فيه: أَنَس، أَقْبَلْنَا مَعَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ خَيْبَرَ، وَإِنِّى لَرَدِيفُ أَبِى طَلْحَةَ وَهُوَ يَسِيرُ، وَبَعْضُ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) رَدِيفُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذْ عَثَرَتِ النَّاقَةُ، فَقُلْتُ الْمَرْأَةَ، فَنَزَلْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّهَا أُمُّكُمْ) ، فَشَدَدْتُ الرَّحْلَ، وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ. . . الحديث. فيه: جواز إرداف المرأة خلف الرجل كما ترجم، وفيه أنه لا بأس أن يتدارك الرجل امرأة غيره إذا سقطت أو همت بالسقوط ويعينها على التخلص مما يخشى حدوثه عليها، وإن كانت ممن لا يجوز له رؤيتها، لأن المؤمنين إخوة وقد أمرهم الله بالتعاون. وذكر هاهنا باب الاستلقاء ووضع الرجل على الأخرى، وقد تقدم فى كتاب الاستئذان والسلام، وفى كتاب الصلاة فأغنى عن إعادته.(9/187)
67 - كتاب الأدب
1 - وقول الله تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه حسنا (
/ 1 - فيه: عَبْدِاللَّه، سَأَلْتُ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) أَى الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: (الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا) ، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: (بِرُّ الْوَالِدَيْنِ) ، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: (الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ) ، قَالَ: حَدَّثَنِى بِهِنَّ، وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِى. قال المؤلف: ذكر أهل التفسير أن هذه الآية التى فى سورة لقمان نزلت فى سعد بن أبى وقاص، قالت أمه حين هاجر: لا يظلنى بين حتى ترجع فنزلت: (ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بى ما ليس لك به علم فلا تطعهما (فأمره تعالى أن يحسن إليهما ولا يطعهما فى الشرك. وقيل: نزلت فى عياش بن أبى ربيعة. فأخبر النبى عليه السلام أن بر الوالدين افضل الأعمال بعد الصلاة التى هى أعظم دعائم الإسلام، ورتب ذلك بثم التى تقتضى الترتيب، وتدل على أن الثانى بعد الأول وبينهما مهله، وقد دل التنزيل على ذلك قال تعالى: (وقضى ربك إلا تعبدوا إلا أياه وبالوالدين إحسانًا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما) يعنى مايبولان ويحدثان) فلا تقل لهما اف (قال مجاهد: والمعنى لاتستقذرهما(9/188)
كما لم يكونا يستقذرانك. وقال عطاء: لاتنغض يديك عليهما ولا تنهرهما أى لاتغلظ لهما) وقل لهما قولا كريمًا (أى سهلا لينا عن قتادة وغيره. وقال ابن السيب: قول العبد الذليل للسيد الفظ الغليظ) واخفض لهما جناح الذل من الرحمة (أى كن بمنزله الذليل المقهور إكراما لهما، وجعل تعالى شكر الأبوين بعد شكره فقال: (أن أشكر لى ولوالديك (وقال أبو هريرة: لا تمش أمام أبيك، ولا تقعد قبله، ولا تدعه باسمه. وقيل: تمشى فى الظلمة بين يديه: من لم يدرك أبويه أو أحدهما، فلا باس أن يقول: رب أرحمهما كما ربيانى صغيرًا.
- باب: من أحق الناس بحسن الصحبة
/ 2 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِى؟ قَالَ: (أُمُّكَ) ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ أُمُّكَ) ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ أُمُّكَ) ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ أَبُوكَ) . قال المؤلف: فى هذا الحديث دليل ان محبة الأم والشفقة عليها ينبغى أن تكون ثلاث اميال محبة الب، لأن عليه السلام كرر الأم ثلاث مرات، وذكر الأب فى المرة الرابعة فقط، وإذا تؤمل هذا المعنى شهد له العيان، وذلك أن صعهوبة الحمل وصعوبة الوضع وصعوبة الرضاع والتربية تنفرد بها الأم، وتشقى بها دون الب فهذه ثلاث منازل يخلو منها الأب.(9/189)
وقد جرى لبى السود الدؤلى مع زوجته قصة أثار فيها هذا المعنى، ذكر أبو حاتم عن أبى عبيدة أن أبا الأسود جرى بينه وبين امرأته كلام فأراد أخذ ولده منها، فسار إلى زياد وهو وإلى البصيرة، فقالت المرأة: اصلح الله الأمير، هذا بطنى وعاؤه وحجرى فناؤه وثدى سقاؤه، أكلؤه إذا نام، وأحفظه أذا قام، فلم أزل بذلك سبعة أعوام حتى استوفى فصاله وكملت خصالة وأملت نفعه وروجوت رفعه أراد أن يأخذه منى كرهًا. فقال أبو الأسود: أصلحك الله، هذا ابنى حملته قبل أن تحمله، ووضعته قبل أن تضعه. . وأنا أقوم عليه فى أدبه، وحملته ثقلا، ووضعه شهوة، ووضعته كرهًا. فقال له زياد: اردد على المرأة ولدها فهى أحق به منك، ودعنى من سجعك. وروى عن مالك أن رجلا قال له: إن أبى فى بلد السودان، وقد كتب إلى أن اقدم إليه، وأمى تمنعنى من ذلك، فقال له: أطع أباك ولاتعص أمك. فدل قول مالك هذا أن برهما عنده متساوًا لا فضل لواحد منهما فيه على صاحبه، لأنه قد قدر أمره بالتخلص منهما جميعًا، وإن كان لاسبيل إلى ذلك فى المسالة، ولو كان لأحدهما عنده فضل فى البر على صاحبه لأمره بالمصير إلى أمره. وقد سئل الليث عن هذه المسالة فأمره بطاعة الأم، وزعم أن لها(9/190)
ثلثي البر، وحديث أبى هريرة يدل على ان لها ثلاثة ارباع البر، وهو الحجة على من خالفه، وزعم المحاسبى أن تفضيل الأم على الأب فى البر والطاعة هو إجماع العلماء.
3 - باب: لا يجاهد إلا بإذن الأبوين
/ 3 - فيه: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قال: قال رَجُلٌ لِلنَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : أُجَاهِدُ، قَالَ: (لَكَ أَبَوَانِ) ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ) . قال المؤلف: هذا موافق لحديث ابن مسعود أن بر الأبوين أفضل من الجهاد، لأنه ذلك عليه السلام بثم التى تدل على الرتبة، وهذا إنما يكون فى وقت قوة الإسلام وغلبه أهله للعدو، وإذا كان الجهاد من فروض الكفاية، فأما إذا قوى أهل الشرك وضعف المسلمون، فالجهاد متعين على كل نفس، ولايجوز التخلف عنه وإن منع منه الأبوان. وقال ابن المنذر: فى هذا الحديث أن النهى عن الخروج بغير إذن الأبوين مالم يقع النفير، فإذا وقع وجب الخروج على الجميع، وذلك بين فى حديث أبى قتادة: (أن رسول الله بعث جيش الأمراء، فذكر وصية زيد بن حارثه، وجعفر بن أبى طالب، وابن رواحة أن منادى رسول الله نادى بعد ذلك إن الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس اخرجوا فأمدوا إخوانكم ولا يتخلفن أحد. فخرج الناس مشاة وركابًا فى حر شديد) فدل قوله: (أخرجوا فأمدوا إخوانكم) أن العذر فى التخلف(9/191)
عن الجهاد إنما هو ما لم يقع النفر مع قوله: (وإذا استنفرتم فانفروا) . واختلفوا فى الوالدين المشركين، هل يخرج بإذنهما إذا كان الجهاد من فروض الكفاية؟ وكان الثورى يقول: لا يغزوا إلا بإذنهما قال الشافعى: له أن يغزو بغير إذنهما. قال ابن المنذر: والأجداد آباء، والجدات أمهات، فلا يغزو المرء إلا يإذنهم، ولا أعلم دلاله توجب ذلك لغيرهم من الإخوة وسائر القرابات، وكان طاوس يرى السعى على الأخوات افضل من الجهاد فى سبيل الله.
4 - باب: لا يسب الرجل والده
(1) / 4 - فيه: عبد الله بن عمر: قال: قال النبي - عليه السلام -: إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه. قيل: يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب الرجل أبا الرجل، فيسب أباه (ويسب أمه) . قال المؤلف: هذا الحديث أصل في قطع الذرائع، وأن من آل فعله إلى محرم وإن لم يقصده فهو كمن قصده وتعمده في الإثم، ألا ترى أنه عليه السلام نهى أن يلعن الرجل والديه؟ فكان ظاهر هذا أن يتولى الابن لعنهما بنفسه، فلما أخبر النبي - عليه السلام - أنه إذا(9/192)
سب أبا الرجل وسب الرجل أباه وأمه، كان كمن تولى ذلك بنفسه، وكان [ما آل إليه فعل ابنه] كلعنه في المعنى؛ لأنه كان سببه، ومثله قوله تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم (وهذه من إحدى آيات قطع الذرائع في كتاب الله - تعالى. والثانية: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا (، والثالثة: (ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن (.
باب: إجابة دعاء من بر والديه
/ 5 - فيه: ابْن عُمَر، قَالَ النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) : (بَيْنَمَا ثَلاثَةُ نَفَرٍ يَتَمَاشَوْنَ فأَخَذَهُمُ الْمَطَرُ، فَمَالُوا إِلَى غَارٍ فِى الْجَبَلِ، فَانْحَطَّتْ عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ، فَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْظُرُوا أَعْمَالا عَمِلْتُمُوهَا لِلَّهِ صَالِحَةً، فَادْعُوا اللَّهَ بِهَا، لَعَلَّهُ يَفْرُجُهَا، فَقَالَ بعضهم: صِغَارٌ كُنْتُ أَرْعَى عَلَيْهِمْ، فَإِذَا رُحْتُ عَلَيْهِمْ، فَحَلَبْتُ، بَدَأْتُ بِوَالِدَىَّ. . . .) وذكر الحديث (. . . . فَفَرَجَ اللَّهُ عَنْهُمْ) . قال المؤلف: كل من دعا إلى الله تعالى بنيه صادقة وتوسل إليه بما صنعه لوجهه خاصا ترجى له الإججابة، الا ترى أن اصحاب الغار توسلوا إلى الله تعالى بأعمال عملوها خالصة(9/193)
(لوجهه، ورجوا الفرج بها، فذكر أحدهم بر أبويه، وذكر الثانى أنه قعد من المرأة التى كان يحبها مقعد الرجل من المرأة، وانه ترك الزنا بها لوجه الله، وذكر الثالث أنه تجر فى أجرة الأجير حتى صار منها غنم وراعها، وأنه دفعه إليه حين طلب منه أجره، فتفضل الله عليهم بإجابة دعائهم ونجاهم من الغار، فكما أجيب دعوة هؤلاء النفر، فكذلك ترجى إجابة دعاء كل من أخلص فعله لله وأراد به وجهه) .
5 - باب: عقوق الوالدين من الكبائر
/ 6 - فيه: أَبُو بَكْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ) ؟ قُلْنَا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (الإشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ) - وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ - فَقَالَ: (أَلا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ، أَلا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ) ، فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى قُلْتُ: لا يَسْكُتُ. / 7 - وفيه: أَنَس، قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الْكَبَائِرَ - أَوْ سُئِلَ عَنِ الْكَبَائِرِ - فَقَالَ: (الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ) ، فَقَالَ: (أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قَالَ: قَوْلُ الزُّورِ - أَوْ قَالَ شَهَادَةُ الزُّورِ -) . قال المؤلف: ذكر البخارى فى كتاب اليمان والنذور حديث عبد الله بن عمر وفيه زيادة اليمين الغموس، وفى كتاب الديات والاعتصام حديث ابن مسعود (أن تقتل ولدك خشية ان يأكل معك) وفيه الزنا بحليلة الجار من الكبائر. وروى الزنا من الكبائر عن النبى عليه السلام عمران بن(9/194)
حصين، وعبد الله بن انيس، وأبو هريرة، وفى حديث أبى هريرة: (لا يزنى حين يزنى وهو مؤمن) وفى كتاب الحدود، وفى حديث أبى هريرة قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (اجتنبوا السبع الموبقات) وفيه: (السحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولى يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات والمؤمنات) . وفى باب عقوق الوالدين من الكبائر حديث المغيرة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ومنع وهات ووأد البنات. . .) الحديث، وفى حديث ابن عباس أن النميمة وترك التحرز من البول من الكبائر. وروى السرقة من الكبائر وشرب الخمر من الكبائر عمران بن حصين فى غير كتاب البخارى، وفى كتاب البخارى: (لايسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولايشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولاينتهب نهبه وهو مؤمن) وفى غير البخارى من حديث ابن عباس: (الإضرار فى الوصية من الكبائر، والقنوط من رحمة الله من الكبائر) . وفى حديث أبى أيوب الأنصارى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (منع ابن السبيل من الكبائر) . وروى بريدة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (منع ابن السبيل الماء من الكبائر) وفى حديث ابن عمر: (والإلحاد فى البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتًا من الكبائر) وفى حديث عبد الله بن عمر: (وأكبر الكبائر أن يشتم الرجل والديه، قالوا: وكيف؟ قال: يساب الرجل فيسب أباه) . فهذه آثار رويت عن النبى عليه السلام - بذكر الكبائر، فجميع الكبائر فى هذه الاثار ست وعشرون كبيرة وهى: الشرك، وقتل(9/195)
النفس، وعول الوالدين، وشهادة الزور، واليمين الغموس، وأن تقتل ولدك خشية ان يأكل معك، والزنا، والسحر، واكل الربا وأكل مال اليتيم، والفرار من الزحف، وقذف المحصنات، والسرقة، وشرب الخمر، والإضرار فى الوصية، والقنوط من رحمة الله، ومنع ابن السبيل الماء، والإلحاد فى البيت الحرام، والذى يستسب لوالديه، وفى حديث المغيرة: (حرم عليكم منعًا وهات ووأد البنات) والنميمة، وترك التحرز من البول، والغلول. فهذه ست وعشرون كبيرة وتستنبط كبائر أخر من الأحاديث منها: حديث ابن المسيب عن النبى عليه السلام أنه قال: (إن من أربى من الكبائر) ، ومنها حديث أبى سعيد وأبى هريرة أن النبى عليه السلام قال: (أسوء السرقة الذى يسرق صلاته) . وقد ثبت أن السرقة من الكبائر، وفى التنزيل الجور فى الحكم قال تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) و) الظالمون (و) الفاسقون (وقال تعالى: (وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا (فهذه تسع وعشرون كبيرة. قال الطبرى: واختلف أهل التأويل فى الكبائر التى وعد الله عباده بالنهى عنها من أول سورة النساء إلى رأس الثلاثين آيه منها هذا قول ابن مسعود والنخعي.(9/196)
وقال آخرون: الكبائر سبع روى هذا عن على بن أبى طالب، وهو قول عبيد بن عمير وعبيدة وعطاء، قال عبيد: ليس من هذه كبيرة إلا وفيها آية من كتاب الله تعالى قال تعالى: (ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء (وقال: (الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا (الآية، وقال تعالى: (الذين يأكلون الربا لايقومون إلا كما يقوم الذى يتخبطه الشيطان من المس (و) الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات (الآية، والفرار من الزحف، وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفًا فلا تولوهم الأدبار (والسابعة: التعرب بعد الهجرة) إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ماتبين لهم الهدى (وقتل النفس. وقال آخرون: هى تسع. روى هذا عن عبد الله بن عمر، وزاد فيه السحر والإلحاد فى المسجد الحرام. وقال آخرون: هى اربع، رواه الأعمش عن وبرة بن عبد الرحمن، عن أبى الطفيل، عن ابن مسعود قال: الكبائر اربع: الإشراك بالله، والقنوط من رحمة، والإياس من روح الله، والأمن من مكر الله. ففى حديث أبى الطفيل مما لم يمض فى الآثار: الأمن من مكر الله، وفى حديث عبيد بن عمير: التعرب بعد الهجرة، فتمت إحدى وثلاثين كبيرة. وقال آخرون: كل مانهى الله عنه فهو كبيرة، روي ذلك(9/197)
عن ابن عباس قال: وقد ذكرت الطرفة وهى النظرة، قال ابن الحداد: وهذا قول الخوارج: قالوا: كل ماعصى الله فهو كبيرة يخلد صاحبه فى النار، واحتجوا بقوله: ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم قالوا: فالكلام على العموم فى جميع المعاصى. قال الطبرى: وعن ابن عباس قول آخر، قال: كل ذنب ختمه الله بنار أو لعنه أو غضب فهو كبيرة، وقال طاوس: قيل لابن عباس: الكبائر سبع؟ قال: هى إلى السبعين أقرب. وقال سعيد بن جبير قال رجل لابن عباس: الكبائر سبع؟ قال: هى إلى السبعمائة أقرب منها إلى سبع: غير أنه لاكبيرة مع استغفار، ولاصغيرة مع إصرار. وذهب جماعة أهل التأويل إلى أن الصغائر تغفر باجتناب الكبائر، وهو قول عامة الفقهاء، وخالفهم فى ذلك الشعرية أبو بكر بن الطيب وأصحابه، فقالوا: معاصى الله كلها عندنا كبائر، وإنما يقال لبعضها صغيرة بافضافة _ إلى ماهو أكبر منها، كما يقال: الزنا صغيرة بإضافته إلى الكفر، والقبلة المحرمة صغيرة بإضافتها إلى الزنا، وكلها كبائر، ولا ذنب عندنا يغفر واجبًا باجتناب ذنب آخر، بل كل ذلك كبيرة ومرتكبة فى المشيئة غير الكفر لقوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء (. واحتجوا بقراءة من قرأ (إن تجنبوا كبيرة ما تنهون عنه) على التوحيد يعنون الشرك، وقال الفراء: من قرأ (كبائر) فالمراد بها كبير، وكبير الإثم الشرك، وقد يأتى لفظ الجمع يراد به الواحد قال تعالى: (كذبت قوم نوح المرسلين (ولم يأتيهم إلا نوح وحده،(9/198)
ولا أرسل إليهم روى قبله فى حديث الشفاعة: (ولكن أئتوا نوحًا) فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض. قالوا: فجواز العقاب عندنا على الصغيرة كجواز على الكبيرة وقوله عليه السلام: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لايظن أنها تبلغ حيث بلغت يكتب الله له بها سخطه إلى يوم القيامة) . وحجة أهل التأويل والفقهاء ظاهر قوله تعالى: (إن تجنبوا كبائر ماتنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم (. قال الطبرى: يعنى نكفر عنكم أيها المؤمنون ياجتناب الكبائر صغائر سيئاتكم، لأن الله تعالى قد وعد مجتنبها تكفير ماعداها من سيئاته ولا يخلف الميعاد. واحتجوا رواه موسى بن عقبة، عن عبيد الله بن سليمان الأغر، عن أبيه، عن أبى أيوب الأنصارى قال: قال رسول الله (ما من عبد يعبد الله لايشرط به شيئًا، ويقيم الصلاة، ويوتى الزكاة، ويصوم رمضان، ويجتنب الكبائر إلا دخل الجنة) وقال أنس: إن الله تجوز عما دون الكبائر فما لنا ولها وتلا الآتية. وأما قول الفراء من قرأ (كبائر) فالمراد بها كبير الإثم وهو الشرك، فهذا خلاف ما ثبت فى الآثار، وذلك أن فى حديث أبى بكرة أن النبى - عليه اسلام - قال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر. فذكر الشرك، وعقوق الوالدين، وكان متكئًا فجلس وقال: ألا وقول الزور، فما زال يقولها حتى قلت: لا يسكت) وفى حديث ابن مسعود (قلت:(9/199)
يا رسول الله، أى الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك، وأن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك، وأن تزانى بحليلة جارك) فجعل عليه السلام فى حديث أبى بكرة قول الزور وعقوق الوالدين من أكبر الكبائر، وجعل فى حديث ابن مسعود أن يقتل ولده خشية أن يأكل معه، والزنا بحليلة جاره من أعظم الذنوب، فهذا يرد تأويل الفراء أن كبائر يراد بها كبير وهو الشرك خاصة، ولوعكس قول الفراء فقيل له من قرأ (كبير الإثم) فالمراد به كبائر كان أولى فى التأويل بدليل هذه الاثار الصحاح، وبالمتعارف المشهور فى كلام العرب، وذلك أن يأتى لفظ الواحد يراد به الجمع كقوله تعالى: (يخرجكم طفلاً (وقوله: (لا نفرق بين أحد من رسله (والتفريق لايكون إلا بين اثنين فصاعدا والعرب تقول: فلان كثير الدينار والدرهم، يريدون الدنانير والدراهم. وقولهم: إن الصغائر كلها كبائر فهذه دعوى وقد ميز الله بين الكبائر وبين ماسماه سيئه من غيرها بقوله تعالى: (إن تجنبوا كبائر ماتنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم (وأخبر أن الكبائر إذا جونبت كفر ماسواها، وماسوى الشىء هو غيره ولايكون هو، ولا ضد للطبائر إلا الصغائر، والصغائر معلومه عند الأمة، وهى ما أجمع المسلمون على رفع التحريج فى شهادة من أتاها، ولا يخفى هذا على ذى لب. وأما احتجاجهم بقوله عليه السلام: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لايظن أنها تبلغ حيث بلغت) فليس فيه دليل أن تلك الكلمة ليست من الكبائر، ومعنى الحديث: إن الرجل ليتكلم بالكلمة(9/200)
عند السلطان يغريه بعدو له ويطلب أذاه، فربما قتله السلطان أو أخذ ماله أو عاقبه اشد العقوبة، والمتكلم بها لايعتقد أن السلطان يبلغ به كل ذلك فيسخط الله عليه إلى يوم القيامة، وهذا كقوله تعالى: (وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم (.
6 - باب: صلة الوالد المشرك
/ 8 - فيه: أَسْمَاء، أَتَتْنِى أُمِّى رَاغِبَةً فِى عَهْدِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَسَأَلْتُ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) آصِلُهَا؟ قَالَ: (نَعَمْ) الحديث. قال المؤلف: صلة الوالدين المشركين واجبة بكتاب الله تصديقًا لحديث أسماء وذلك قوله: (ووصينا الإنسان بوالديه حسنا () وإن جاهدداك على أن تشرك بى ماليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما فى الدنيا معروفا (فأمر ببرهما ومصاحبتهما بالمعروف وإن كان مشركين، وقد تقدم هذا فى كتاب الهبة واسماء هذه بنت أبى بكر الصديق زوج الزوبير بن العوام وأمها قتيلة. وترجم لحديث اسماء: باب المرأة أمها ولها زوج وفقه هذه الترجمة أن النبى عليه السلام أباح لأسماء أن تصل أمها ولم يشترط لها فى ذلك مشاورة زوجها، ففيه حجة لمن أجاز من الفقهاء أن تتصرف المرأة فى مالها وتتصدق بغير إذن زوجها، وقد تقدم فى الهبة.(9/201)
7 - باب: صلة الأخ المشرك
/ 9 - فيه: عُمَر بْن الْخطاب أَنّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، أهدى له حُلَّةَ سِيَرَاءَ وقَالَ: (إِنِّى لَمْ أُعْطِكَهَا، لِتَلْبَسَهَا، وَلَكِنْ تَبِيعُهَا أَوْ تَكْسُوهَا) ، فَأَرْسَلَ بِهَا عُمَرُ إِلَى أَخٍ لَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ.
8 - باب: فضل صلة الرحم
/ 10 - فيه: أَبُو أَيُّوبَ، أَنَّ رَجُلا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِى بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِى الْجَنَّةَ؟ فَقَالَ عليه السَّلام: (تَعْبُدُ اللَّهَ لا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِى الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ. . .) الحديث. وقد تقدم هذا الحديث فى أو كتاب الزكاة، والآثار كثيرة فى فضل صلة الرحم. منها ما ذكر بإسناده عن النبى عليه السلام قال: (إن الله ليعمر بالقوم الديار ويكثر لهم فى الأموال، وما نظر إليهم مذ خلقهم بغضًا لهم. قيل: وكيف ذلك يارسول الله؟ قال: بصلتهم أرحامهم) . وقال عليه السلام: (إن أعجل الطاعة ثوابًا صلة الرحم، حتى إن أهل البيت يكونون فجارًا تنمى أموالهم ويكثر عددهم إذا وصلوا أرحامهم) .(9/202)
9 - باب: إثم القاطع
/ 11 - فيه: جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ) . روى هذا الحديث سعيد عبد الرحمن، عن سفيان، عن الزهرى وقال فيه: (لا يدخل الجنة قاطع رحم) . ومعناه عند أهل السنة: لايدخل الجنة إن أنفذ الله عليه الوعيد، لإجماعهم أن الله تعالى فى وعيده لعصاة المسلمين بالخيار إن شاء عذبهم وإن شاء عفا عنهم. قال الطبرى: فإن قال قائل: قد تقدم من قولك أن المتعاهد رحمة بأدنى البر كالسلام ونحوه غير مستحق اسم قاطع، فمن القاطع الذى جاء فيه الوعيد فى هذا الحديث؟ قال: هو الذى يقطعهم بالهجرة لهم والمعاداة، مع منعه إياهم معروفه ومعونته. وروى ابن وهب، عن سعيد بن أبى أيوب، عن عبد الله بن الوليد، عن أبى حجيرة الأكبر أن رجلا أتاه، فقال: انى نذرت ألا أكلم أخى. قال: إن الشيطان ولد له ولد فسماه نذرًا، وإنه من قطع ماأمر الله به أن يوصل حلت عليه اللعنة، وهذا فى كتاب الله فى قوله: (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار) .(9/203)
- باب: من بسط له فى الرزق لصلة الرحم
/ 12 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِى رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِى أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ) . / 13 - وفيه: أَنس، عَن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) مثله. قال الطبرى: فإن قيل كيف ينسأ له فى أجله، وقد قال تعالى: (فإذا جاء أجلهم لايستأخرون ساعة ولايستقدمون (وقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (إن ابن آدم يكتب فى بطن أمه أثره وأجله ورزقه) ؟ . فالجواب: أنه إن فعل ذلك به جزاء له على ما كان له من العمل الذى يرضاه، فإنه غير زائد فى علم الله تعالى شيئًا لم يكن له عالما قبل تكوينه، ولا ناقص منه شيئًا، بل لم يزل عالمًا بما العبد فاعل وبالزيادة التى هو زائد فى عمره بصلة رحمه، والنقص الذى هو بقطعه رحمة من عمره ناقص قبل خلقه لايعزب عنه شىء من ذلك. وقد تقدم الزيادة فى بيان هذا المعنى فى كتاب البيوع فى باب: من أحب البسط فى الرزق. وقال الخطابى: قوله: (ينسأ له فى أثره) معناه يؤخر فى أجله ويسمى الأجل أثرًا لأنه تابع للحياة وسابقها، قال كعب بن زهير: والمرء ما عاش ممدود له أمل لا ينتهى العين حتى ينتهى الأثر(9/204)
- باب: من وصلها وصله الله
/ 14 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ، قَالَتِ: الرَّحِمُ هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى، يَا رَبِّ، قَالَ: فَهُوَ لَكِ، قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِى الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ () [محمد: 22] . / 15 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيّ، عليه السَّلام: (إِنَّ الرَّحِمَ شَجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ وَصَلَكِ وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَكِ قَطَعْتُهُ) . / 16 - وفيه: عَائِشَةَ عَن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) مثله. قال الطبرى: معنى وصل الله تعالى عبده إذا وصل رحمه، فهو تعطفه عليه بفضله، إما فى عاجل دنياه أو آجل آخرته، والعرب تقول إذا تفضل رجل على آخر بمال أو هبة هبة: (وصل فلان فلانًا بكذا وتسمى العطية صلة فتقول: وصلت إلى فلان صلة فلان) ، وكذلك قوله تعالى فى الرحم: (من وصلها. . . .) يعنى وصلته بفضلى ونعمى، وصلة العبد ربه فتعطفه على ذوى أرحامه من قبل أبيه وأمه بنوافل فضله. فإن قال: أفما يكون المرء واصلا رحمه إلا بتعطفه عليهم بفضل ماله؟ . قيل: للبر بالأرحام مراتب ومنازل، وليس من لم يبلغ أعلى تلك المراتب يستحق اسم قاطع، كما من لم يبلغ أعلى منازل(9/205)
الفضل يستحق اسم الذم، فواصل رحمة بماله مستحق اسم واصل، وواصلها بمعونته ونصرته مستحق اسم واصل، وقد بين ذلك قوله عليه السلام فى حديث أنس: (صلوا أرحامكم ولو بالسلام) فأعلم عليه السلام أمته أن المتعاهد لرحمة بالسلام خارج عن معنى القاطع وداخل فى معنى الواصل، فواصلها بما هو أعلى وأكثر أحق أن يكون خارجا من معنى القاطع. وقول غيره: يقال: هذا شجر متشجن إذا التف بعضه ببعض. قال أبو عبيد: وفيه لغتان: شجنة وشجنة بكسر الشين وضمها. قال الطبرى: الشجنة الفعلة من قولهم شجن فلان على فلان إذا حزن عليه فشجن عليه شجنًا، والمعنى أن الرحم حزينة مستعيذة بالله من القطيعة.
- باب: تبل الرحمن ببلالها
/ 17 - فيه: عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، سَمِعْتُ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) جِهَارًا غَيْرَ سِرٍّ، يَقُولُ: (إِنَّ آلَ أَبِى لَيْسُوا بِأَوْلِيَائِى، إِنَّمَا وَلِيِّىَ اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنْ لَهُمْ رَحِمٌ، أَبُلُّهَا بِبَلاهَا) . قال المهلب: إن آل أبى ليسوا بأوليائى، إنما وليى الله وصالح المؤمنين، فأوجب عليه السلام الولاية بالدين ونفاها عن أهل رحمه، إذ يكونوا من أهل دينه، فدل ذلك أن النسب محتاج إلى(9/206)
الولاية التى بها تقع الوراثة بين المتناسبين والقارب، فإن لم يكن لهم دين يجمعهم لم تكن ولاية ولا موارثة، ودل عذا أن الرحمن التى تضمن الله أن يصل من وصلها ويقطع من قعها، إنما ذلك كان فى الله وفيهما شرع، وأما من قطعها فى الله وفيما شرع فقد وصل الله والشريعة واستحق صلة الله بقطعه من قطع الله. قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لاتتخذوا عدوى وعدوكم (وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لاتتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان (وقال: (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شىء حتى يهاجروا (فكيف بمن لم يؤمن؟ . وقوله: (ولكن لهم رحم إبلها ببلالها) يعنى: أصلها بمعروفها والبل هو الترطيب والتنديه بالمعروف، وشبه عليه السلام صلة الرحم بالمعروف بالشىء اليابس يندى فيرطب، وذلك أن العرب تصف الرجل إذا وصفته باللؤم بجمود الكف فتقول: ماتندى كفه بخير وأنه لحجر صلد، يعنى لا يرجى نائله، ولايطمع فى معروفه، كما لايرجى من الحجر الصلد مايشرب، فإذا وصل الرجل رحمه بمعروفه قالوا: بل رحمه بلا وبلالا قال الأعشى: ووصال رحم قد نضحت باللها وإنما ذلك تشبيه من النبى عليه السلام صلة الرجل رحمه بالنار يصب عليها بالماء فتطفأ.(9/207)
قال المهلب: فقوله عليه السلام: (ولكن لهم رحم ابلها ببلالها) هو الذى أمره الله تعالى به فى كتابه فقال: (وصاحبهما فى الدنيا معروفا (فلما عصوه وعاندوه دعا عليهم فقلا: (اللهم أعنى عليهم بسبع كسبع يوسف) فلما مسهم الجوع أرسلوا اليه قالوا: يامحمد، إنك بعثت بصلة الرحم، وإن أهلك قد جاعوا فادع الله لهم، وذلك مما لايقدح فى دين الله، ألا ترى صنعه عليه السلام فيهم إذ غلب عليهم يوم الفتح من الرق الذى كان توجه إليهم فسموا بذلك الطلقاء، ولم ينتهك حريمهم، ولا استباح أموالهم ومن عليهم، وهذا كله من البلال.
- باب: ليس الواصل بالمكافىء
/ 18 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) (لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنِ الْوَاصِلُ الَّذِى إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا) . قال المؤلف: قوله عليه السلام: (ليس الواصل بالمكافىء) يعنى: ليس الواصل رحمه من وصلهم مكافأة لهم على صلة تقدمت منهم إليه فكافأهم عليها بصلة مثلها. وقد روى هذا المعنى عن عمر بن الخطاب، روى عبد الرزاق، عن معمر، عمن سمع عكرمة يحدث عن ابن عباس قال: قال عمر ابن الخطاب: (ليس الواصل أن تصل من وصلك، ذلك القصاص، ولكن الواصل أن تصل من قطعك) .(9/208)
قال المؤلف: هذا حقيقة الواصل الذى وعد الله عباده عليه جزيل الأجر، قال تعالى: (والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم. .) الآيات.
- باب من وصل رحمه فى الشرك ثم اسلم
/ 19 - فيه: حَكِيمَ، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ أُمُورًا كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِى الْجَاهِلِيَّةِ، مِنْ صِلَةٍ وَعَتَاقَةٍ وَصَدَقَةٍ، هَلْ لِى فِيهَا مِنْ أَجْرٍ؟ فَقَالَ عليه السَّلام: (أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ خَيْرٍ) . فى هذا الحديث تفضل الله على من أسلم من أهل الكتاب وأنه بعطى ثواب ماعمله فى الجاهلية من أعمال البر، وهو مثل قوله عليه السلام: (إذا أسلم الكافر فحسن إسلامه كتب الله كل حسنة كان زلفها) فهذا - والله أعلم - بركة الإسلام وفضله. وقد تقدم هذا فى كتاب الزكاة فى باب من تصدق فى الشرك ثم أسلم.
- باب: من ترك صبية غيره حتى تلعب به أو قبلها أو مازحها
/ 20 - فيه: أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدِ، قَالَتْ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مَعَ أَبِى، وَعَلَى قَمِيصٌ أَصْفَرُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (سَنَهْ، سَنَهْ) - قَالَ عَبْدُاللَّهِ وَهِى بِالْحَبَشِيَّةِ: حَسَنَةٌ - قَالَتْ: فَذَهَبْتُ أَلْعَبُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ، فَزَبَرَنِى أَبِى، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (دَعْهَا) ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَبْلِى وَأَخْلِقِى، ثُمَّ أَبْلِى وَأَخْلِقِى، ثُمَّ أَبْلِى وَأَخْلِقِى) ، ثلاث مرات، قَالَ عَبْدُاللَّهِ: فَبَقِيَتْ حَتَّى ذَكَرَ.(9/209)
قال المؤلف: فى هذا الحديث من الفقه أنه يجوز مباشرة الرجل الصبية الصغيرة التى لايشتهى مثلها وممازحتها وإن لم تكن منه بذات محرم؛ لأن لعب أم خالد وهى صبية بمكان خاتم النبوة من جسد النبى عليه السلام ماشرة منها لرسول الله، ومباشرتها له كمباشرته لها وتقبيله إياها، ولو كان ذلك حرامًا لنهاها كما نهى الحسن بن على وهو صغير عن اكل التمرة الساقة التى خشى أن تكون من الصدقة المحرمة على النبى عليه السلام وعلى آله. وقد اختلف أصحاب مالك من هذا الصل فى الصبية الصغيرة تموت هل يغسلها الرجل غير ذى الرحم منها؟ فقال اشهب: لاباس أن يغسلها إذا لم تكن ممن تشتهى لصغرها، وهو قول عيسى بن دينار، وقال ابن القاسم: لايغسلها لحال. وقول عيسى واشهب له هذا الحديث، وذكر ابن مزين قول ابن القاسم وعيسى وذكر ابن حارث قول اشهب.
- باب: رحمة الولد وتقبيله ومعانقته
وَقَالَ ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ: أَخَذَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ. / 21 - فيه: ابْن عُمَر، أن رجلاً سَأَلَهُ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ؟ فَقَالَ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، قَالَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا يَسْأَلُنِى عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ، وَقَدْ قَتَلُوا ابْنَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، وَسَمِعْتُ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (هُمَا رَيْحَانَتَاىَ مِنَ الدُّنْيَا) . / 22 - وفيه: عَائِشَةَ، جَاءَتْنِى امْرَأَةٌ وَمَعَهَا ابْنَتَانِ، تَسْأَلُنِى فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِى غَيْرَ(9/210)
تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ، فَأَعْطَيْتُهَا فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا، ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ، فَدَخَلَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) فَحَدَّثْتُهُ، فَقَالَ: (مَنْ يَلِى مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ شَيْئًا، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ، كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ) . / 23 - وفيه: أَبُو قَتَادَةَ، خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِىُّ، عليه السَّلام، وَأُمَامَةُ بِنْتُ أَبِى الْعَاصِ عَلَى عَاتِقِهِ، فَصَلَّى فَإِذَا رَكَعَ وَضَعَ، وَإِذَا رَفَعَ رَفَعَهَا. / 24 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَبَّلَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) الْحَسَنَ بْنَ عَلِىٍّ، وَعِنْدَهُ الأقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِىُّ جَالِسًا، فَقَالَ الأقْرَعُ: إِنَّ لِى عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ قَالَ: (مَنْ لا يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ) . / 25 - وفيه: عَائِشَةَ، جَاءَ أَعْرَابِى إِلَى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ، فَمَا نُقَبِّلُهُمْ، فَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (أَوَأَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ) . / 26 - وفيه: عُمَر، قَدِمَ عَلَى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) سَبْيٌ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْىِ قَدْ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِى، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِى السَّبْىِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِى النَّارِ) ؟ قُلْنَا: لا وَهِىَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لا تَطْرَحَهُ، فَقَالَ: (لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا) . قال المؤلف: رحمة الولد الصغير ومعانقته وتقبيله والرفق به من الأعمال التى يرضاها الله ويجازى عليها، الا ترى قوله عليه السلام للأقرع بن حابس حين ذكر عند النبى أن له عشرة من الولد ماقبل منهم أحدًا: (من لا يرحم لا يرحم) فدل أن تقبيل(9/211)
الولد الصغير وحمله والتحفى به ممايستحق به رحمة الله، ألا ترى حمل النبى عليه السلام أمامه ابنه أبى العاص على هنقه فى الصلاة، والصلاة أفضل الأعمال عند الله، وقد أمر عليه السلام بلزوم الخشوع فيها ولإقبال عليها، ولم يكن حمله لها مما يضاد الخشوع المأمور به فيها، وكره أن يشق عليها لو تركها ولم يحملها فى الصلاة وفى فعله عليه السلام ذلك أعظم السوة لنا فينبغى الاقتداء به فى رحمته صغار الولد وكبارهم والرفق بهم، ويجوز تقبيل الولد الصغير فى سائر جسده. وروى جرير، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس: (أن النبى عليه السلام أتى بالحسن بن على ففرج بين فخديه وقبل زبيبته) . وأما تقبيل كبار الولد وسائر الأهل فقد رخص فى ذلك العلماء. قال اشهب: سئل مالم عن الذى يقدم من سفره فتلقاه ابنته تقبله أو اخته أو أخل بيته؟ قال: لابأس بذلك. وهذا على وجه الرقة وليس على وجه اللذة، وقد كان عليه السلام يقبل ولده وبخاصة فاطمة، وكان أبو بكر يقبل عائشة، وقد فعل ذلك أكثر أصحاب النبى عليه السلام وذلك على وجه الرحمة. وفى حديث ابن عمر من الفقه أنه يجب على المرء أن يقدم تعليم ما هو أوكد عليه من أمر دينه، وأن يبدأ بالاستغفار والتوبة من أعظم ذنوبه وإن كانت التوبة من جميعها فرضًا عليه فهى من الأعظم أوكد، ألا ترى ابن عمر أنكر على السائل سؤاله عن حكم دم البعوض وتركه(9/212)
الاستغفار والتوبة من دم الحسين، وقرعه به دون سائر ذنوبه لمكانته من النبى - عليه السلام. وقوله فى حديث عائشة: (من بلى من هذه البنات شيئًا كن له سترًا من النار) دليل أن أجر القيام على البنات أعظم من أجر القيام على البنين، إذ لم يذكر عليه السلام مثل فى القيام على البنين، وذلك والله أعلم من أجل أن مؤنة البنات والاهتمام بأمورهن أعظم من أمور البنين لأنهن عذرات لا يباشرون أمورهن ولا يتصرفن تصرف البنين.
- باب: جعل الله الرحمة فى مائة جزء
/ 27 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أنّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ فِى مِائَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا، وَأَنْزَلَ فِى الأرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ) . قال المؤلف: قد جاء هذا الحديث فى كتاب الزهد فى باب الرجاء والخوف بغير هذا اللفظ أن النبى عليه السلام قال: (إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة، وأرسل فى خلقه كلهم رحمة واحدة) . قال المهلب: هذه الرحمة هى رحمته التى خلقها لعباده وجعلها فى نفوسهم، والتى أمسك عند نفسه هى مايتراحمون به يوم القيامة ويتغافرون من التباعات التى كانت بينهم فى الدنيا، وقد يجوز أن(9/213)
تستعمل تلك الرحمة المخلوقة فيهم بها سوى رحمته التى وسعت كل شىء، التى لايجوز أن تكون مخلوقة، وهى صفة من صفات ذاته تعالى لم يزل موصوفًا بها، فهى التى يرحمهم بها زائدًا على الرحمة التى جعلها لهم، وقد يجوز أن تكون الرحمة التى أمسكها عند نفسه هى التى عند ملائكته المستغفرين لمن فى الأرض؛ لأن استغفارهم لهم دليل على أن فى نفوس الملائكة رحمة على أهل الأرض، والله أعلم.
- باب: قتل الولد خشية أن يأكل معه
/ 28 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَىُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: (أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا، وَهُوَ خَلَقَكَ) ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: (أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَكَ) ؟ الحديث. إنما جعل النبى قتل الولد خشية أن يأكل مع أبيه أعظم الذنوب بعد الشرك؛ لأن ذلك يجمع القتل وقطع الرحم ونهاية البخل وإنما ذكر البخارى هذا الحديث بإثر باب رحمة الولد وتقبيله؛ ليعلمنا أن قتل الولد خشية أن يأكل مع أبيه من أعظم الذنوب عند الله بعد الشرك به، فإذا كان كذلك فرحمته وصلته والإحساس إليه من أعظم أعمال البر بعد الإيمان.(9/214)
- باب: وضع الصبى فى الحجر
/ 29 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) وَضَعَ صَبِيًّا فِى حَجْرِهِ يُحَنِّكُهُ، فَبَالَ عَلَيْهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ، فَأَتْبَعَهُ. كان المسلمون إذا ولد لهم ولد يأتون به إلى الرسول فيحنكه بريقه ويدعو له عليه السلام تبركًا بريقه ودعوتخ، وكان يأخذ الصبى ويضعه فى حجره، ولا يتقزز منه خشية مايكون منه من الحدث، ألا ترى أنا بال فى ثوبه فأتبعه بالماء ولم يضجر من ذلك، فينبغى الاقتداء به فى ذلك، وأن يتوخى المؤمنون بأولادهم أهل الفضل والصلاح منهم فيحملونهم إليهم ليدعوا تاسيًا بفعل النبى فى ذلك.
- باب: وضع الصبى على الفخد
/ 30 - فيه: أُسَامَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَأْخُذُنِى، فَيُقْعِدُنِى عَلَى فَخِذِهِ، وَيُقْعِدُ الْحَسَنَ عَلَى فَخِذِهِ الأخْرَى، ثُمَّ يَضُمُّهُمَا، ثُمَّ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ ارْحَمْهُمَا فَإِنِّى أَرْحَمُهُمَا) . وضع الصبى على الفخد هو من باب رحمة الولد، وقد تقدم أنه عليه السلام كان يحمل ابنه أبى العاصى بن الربيع حفيدته على عنقه فى الصلاة وهو أكثر من إجلاسه للحسن ولأسامة على فخديه فى غير الصلاة. وفيه: مساواة الرجل لبنه ولمن تبناه فى الرفق والرحمة والمنزلة.(9/215)
- باب: حسن العهد من الإيمان
/ 31 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، وَلَقَدْ هَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِى بِثَلاثِ سِنِينَ لِمَا كُنْتُ أَسْمَعُهُ يَذْكُرُهَا، وَلَقَدْ أَمَرَهُ رَبُّهُ أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ فِى الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَيَذْبَحُ الشَّاةَ، ثُمَّ يُهْدِى فِى خُلَّتِهَا مِنْهَا. قال المؤلف: حسن العهد فى هذا الحديث هو إهداء النبى عليه السلام اللحم لأجوار خديجة ومعارفها رعيًا منه لذمامها وحفظًا لعهدها كذلك قال أبو عبيد: العهد فى هذا الحديث الحفاظ ورعاية الحرمة والحق، فجعل ذلك البخارى من الإيمان؛ لأنه فعل بر وجميع أفعال البر من الإيمان. وقولها: (ولقد أمره ربه أن يبشرها ببيت فى الجنة من قصب) فالقصب قصب اللؤلؤ، وهو مااستطال منه فى تجويف، وكل مجوف قصب. وقولها: (ببيت) أى بقصر يقال: هذا بيت فلان أى قصره. قاله أبو سليمان الخطابى. وقد روى أن خديجة قالت لرسول الله حين بشرها بذلك: (ما بيت من قصب؟ بيت من لؤلؤ مجبأة) وفسره ابن وهب قال يريد: مجوفة. قال أبو سليمان: وهذا لا يستقيم على ما قاله ابن وهب إلا أن(9/216)
يكون من المقلوب فتكون مجوبة من الجوب وهو القطع قدم الباء على الواو كقوله تعالى: هار والصل هائر، وكقول الشاعر: لاث به الشياء والعبرى وإنما هو لائث وقوله: لاوصب فيه ولا نصب أى لا أذى فيه ولا عناء
- باب: فضل من يعول يتيما
/ 32 - فيه: سَهْل، قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) (أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِى الْجَنَّةِ هَكَذَا، وَقَالَ بِإِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى) . قال المؤلف: حق على كل مؤمن يسمع هذا الحديث أن يرغب فى العمل به ليكون فى الجنة رفيقًا للنبى عليه السلام ولجماعة النبيين والمرسلين - صلوات الله عليهم أجمعين - ولا منزلة عند الله فى الآخرة أفضل من مرافقة الأنبياء. وقد روى أبان القطان وحماد بن سلمة، عن أبى عمران الجونى (أن رجلاً شكا إلى النبى عليه السلام فسوة قلبه فقال: امسح بيدك على راس اليتيم، واطعمه من طعامك يلن قلبك وتقدر على حاجتك) . والسباحة: هى الأصبع التى تلى الابهام، وسميت بذلك لأنها يسبح بها فى الصلاة، وتسمى أيضًا السبابة لأنها يسب بها الشيطان فى التشهد.(9/217)
- باب: الساعى على الأرملة والمسكين
/ 33 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (السَّاعِى عَلَى الأرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ كَالَّذِى يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ) . قال المؤلف: من عجز عن الجهاد فى سبيل الله وعن قيام الليل وصيام النهار، فليعمل بهذا الحديث وليسع على الرامل والمساكين ليحشر يوم القيامة فى جملة المجاهدين فى سبيل الله دون أن يخطو فى ذلك خطوة، أو ينفق درهمًا، أو يلقى عدوًا يرتاع بلقائه، أو ليحشر فى زمرة الصائمين والقائمين وينال درجتهم وهو طاعم نهاره نائم ليلة أيام حياتو، فينبغى لكل مؤمن أن يحرص على هذه التجارة التى لاتبور، ويسعى على ارملة أو مسكين لوجه الله تعالى فيربح فى تجارته درجات المجاهدين والصائمين والقائمين من غير تعب ولانصب، ذلك فضل الله يوتيه من يشاء.
- باب: رحمة الناس والبهائم
/ 34 - فيه: مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، أَتَيْنَا النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ، فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً، فَظَنَّ أَنَّا اشْتَقْنَا إِلى أَهْلَنَا، وَسَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَا فِى أَهْلِنَا، وَكَانَ رَفِيقًا رَحِيمًا، فَقَالَ: (ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ، فَعَلِّمُوهُمْ. . .) إلى آخر الحديث. / 35 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِى بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَوَجَدَ بِئْرًا، فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ، ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ، يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ(9/218)
مِنَ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِى كَانَ بَلَغَ بِى، فَنَزَلَ الْبِئْر، َفَمَلأ خُفَّهُ، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ، فَسَقَى الْكَلْب، َ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ) ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّ لَنَا فِى الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟ فَقَالَ: (نَعَمْ، فِى كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ) . / 36 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَامَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) لِصَلاةٍ، وَقُمْنَا مَعَهُ، فَقَالَ أَعْرَابِى - وَهُوَ فِى الصَّلاةِ -: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِى وَمُحَمَّدًا، وَلا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا، فَلَمَّا سَلَّمَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ لِلأعْرَابِىِّ: (لَقَدْ حَجَّرْتَ وَاسِعًا، يُرِيدُ رَحْمَةَ اللَّهِ) . / 37 - وفيه: النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِى تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) . / 38 - وفيه: أَنَس، قَالَ: قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (مَا مِنْ مُسْلِمٍ غَرَسَ غَرْسًا، فَأَكَلَ مِنْهُ إِنْسَانٌ أَوْ دَابَّةٌ، إِلا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ) . / 39 - وفيه: جَرِير، قَالَ: قَالَ عليه السَّلام: (مَنْ لا يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ) . قال المؤلف: فى هذه الأحاديث الحض على استعمال الرحمة للخلق كلهم كافرهم ومؤمنهم ولجميع البهائم والرفق بها. وأن ذلك مما يغفر الله به الذنوب ويكفر به الخطايا، فينبغى لكل مؤمن عاقل أن يرغب فى الأخذ بحظه من الرحمة، ويستعملها فى أبناء جنسه وفى كل حيوان، فلم يخلقه الله عبثًا، وكل أحد مسئول عما استرعيه وملكه من إنسان أو يهيمة لاتقدر على النطق وتبيين مابها من الضر، وكذلك ينبغى أن يرحم كل بهيمة وإن كانت فى غير ملكه، ألا ترى أن الذى سقى الكلب الذى وجده بالفلاة لم يكن له ملكًا فغفر الله له(9/219)
بتكلفة النزول فيالبئر وإخراجه الماء فى خفه وسقيه إياه، وكذلك كل مافى معنى السقى من الإطعام، الا ترى قوله عليه السلام: (ما من مسلم غرس غرسًا فأكل منه إنسان أو دابة إلا كان له صدقة) . مما يدخل فى معنى سقى البهائم وإطعامها التخفيف عنها فى أحمالها وتكليفها ماتطيق حمله، فذلك من رحمتها والإحسان اليها، ومن ذلك ترك التعدى فى ضربها وأذاها وتسخيرها فى الليل وفى غير أوقات السخرة، وقد نهينا فى العبيد أن نكلفهم الخدمة فى الليل فإن لهم الليل ولواليهم النهار، والواب وجميع البهائم داخلون فى هذا المعنى. وفى قوله عليه السلام: (مامن مسلم غرس غرسًا فأكل منه إنسان أو بهيمة إلا كان له صدقة) دليل على أن ماذهب من مال المسلم بغير علمه أنه يؤجر عليه. وأما إنكار على الأعرابى الذى قال: اللهم ارحمنى ومحمدًا ولاترحم معنا أحدًا، بقوله: (لقد حجرت واسعًا) ولم يعجبه دعاؤه لنفسه وحده، فلأنه بخل برحمة الله على خلقه، وقد أثنى الله على من فعل خلاف ذلك بقوله: (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولاتجعل فر قلوبنا غلا للذين آمنوا) وأخبر تعالى أن الملائكة يستغفرون لمن فى الأرض، فينبغى للمؤمن الاقتداء بالملائكة والصالحين من المؤمنين ليكون من جملة من أثنى الله عليه ورضى فعله، فلم يخص نفسه بالدعاء دون إخوانه المؤمنين حرصًا على شمول الخير لجميعهم.(9/220)
- باب: الوصاة بالجار وقوله عز وجل: (ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا. . (الآية
/ 40 - فيه: عَائِشَةَ، وَابْن عُمَر، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (مَا زَالَ يُوصِينِى جِبْرِيلُ بِالْجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ) . قال المؤلف: فى هذه الآية والحديث الأمر بحفظ الجار والإحسان إليه والوصاة برعى ذمته والقيام بحقوقه، ألا ترى تأكيد الله لذكره بعد الوالدين والأقربين، فقال تعالى: (والجار ذى القربى والجار الجنب) وقال أهل التفسير: (الجار ذى القربى) هو الذى بينك وبينه قرابة فله حق القرابة وحق الجوار. وعن ابن عباس وغيره: (الجار ذى القربى) أى الجار المجاور، وقيل: هو الجار المسلم، والجار الجنب: الغريب عن ابن عباس. وقيل: هو الذى لاقرابة بينك وبينه. والجنابة: البعد. (والصاحب بالجنب) الرفيق فى السفر عن ابن عباس، وعن على وابن مسعود: الزوجة. (وابن السبيل) المسافر الذى يجتاز بك مارًا عن مجاهد وغيره.
- باب: إثم من لايأمن جاره بوائقه
يوبقهن: يهلكهن، موبقا: مهلكا / 41 - فيه: أَبُو شُرَيْح، قَالَ: قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ، قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ الَّذِى لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ) .(9/221)
قال المؤلف: وهذا الحديث شديد فى الحض على ترك أذى الجار، الا ترى أنه عليه السلام أكد ذلك بقسمه ثلاث مرات أنه لاؤمن من لايؤمن جاره بوائقه، ومعناه أنه لايؤمن الإيمان الكامل، ولا يبلغ أعلى درجاته من كان بهذه الصفة، فينبغى لكل مؤمن أن يحذر أذى جاره ويرغب أن يكون فى أعلى درجات الإيمان، وينتهى عما نهاه الله ورسوله عنه، ويرغب فيما رضياه وحضا العباد عليه. وقال أبو حازم المنزى: كان اهل الجاهلية أبر بالجار منكم هذا قائلهم يقول: نارى ونار الجار واحدة وإليه قبلى القدر ماضر جارًا لى أجاوره أن لايكون لبابه ستر أعمى إذا ماجورتى برزت حتى يواري جارتى الخدر.
- باب: لا تحقرن جارة لجارتها
/ 42 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ لا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا، وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ) . فى هذا الحديث الحض على مهاداة الجار وصلته، وإنما اشار النبى عليه السلام بفرسن الشاة إلى القليل من الهدية، لا إلى إعطاء الفرسن لأنه لافائدة فيه، وقد قال عليه السلام لأبى تميمة الهجيمى: (لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تضع من دلوك فى إناء المستقى) . وقد تقدم تفسير الفرسن فى كتاب الهبة.(9/222)
- باب: حق الجوار فى قرب الأبواب
/ 43 - فيه: عَائِشَةَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِى جَارَيْنِ، فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِى؟ قَالَ: (إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا) . قد تقدم فى آخر كتاب الشفعة وفى كتاب الهبة.
30 - باب كل معروف صدقة
/ 44 - فيه: جَابِرِ، عَنِ النَّبِى عليه السلام قَالَ: (كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ) . / 45 - وفيه: أَبُو مُوسَى الأشْعَرِىِّ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ، قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: فَيَعْمَلُ بِيَدَيْهِ، فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ، وَيَتَصَدَّقُ، قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ - أَوْ لَمْ يَفْعَلْ -؟ قَالَ: فَيُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ، قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: فَيَأْمُرُ بِالْخَيْرِ - أَوْ قَالَ: بِالْمَعْرُوفِ - قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: فَيُمْسِكُ عَنِ الشَّرِّ، فَإِنَّهُ لَهُ صَدَقَةٌ) . قال المؤلف: المعروف مندوب إليه، ودل هذا الحديث أن يفعله صدقة عند الله يثبت المؤمن عليه ويجازيه به وإن قل لعموم قوله: (كل معروف صدقة) . وقوله فى حديث أبى موسى: (على كل مسلم صدقة) معناه: أن ذلك فى كرم الأخلاق وآداب الإسلام، وليس لك بفرض عليه للإجماع على أن كل فرض فى الشريعة مقدر محدود.(9/223)
وفي هذا الحديث تنبيه للمؤمن المعسر على أن يعمل بيده وينفق على نفسه ويتصدق من ذلك ولايكون عيالا على غيره، وقال مالك بن دينار: قرأت فى التوراة: (طوبى للذى يعمل بيده ويأكل، طوبى لمحياه، وطوبى لمماته) . وروى عن عمر بن الخطاب أنه قال: يامعشر القراء خذوا طريق من كان قبلكم وارفعوا رءوسكم، ولاتكونوا عيالا على الناس. وفيه: أن المؤمن إذا لم يقدر على باب من أبواب الخير ولا فتح له فعله أن ينتقل إلى باب آخر يقدر عليه، فإن أبواب الخير كثيرة والطريق إلى مرضاه الله تعالى غير معدومة، الا ترى تفضل الله على عبده حين جعل له فى حال عجزه عن الفعل عروضًا من القول وهو الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ثم جعل عوضًا من ذلك لمن لم يقدر الإمساك عن الشر صدقة. قال المهلب: وهذا يشبه الحديث الآخر: (من هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة) . وفيه: حجة لمن جعل الترك عملاً وكسبًا للعبد بخلاف من قال من المتكلمين: إن الترك ليس بعمل، وقد بين النبى ذلك بقوله: (فليمسك عن الشر فإنه له صدقة) .
31 - باب: طيب الكلام
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ) . / 46 - فيه: عَدِىِّ، ذَكَرَ النَّبِى عليه السلام النَّارَ، فَتَعَوَّذَ مِنْهَا، وَأَشَاحَ(9/224)
بِوَجْهِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ النَّارَ، فَتَعَوَّذَ مِنْهَا، وَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ: (اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ) . الكلام الطيب مندوب إليه وهو من جليل أفعال البر؛ لأن النبى عليه السلام جعله كالصدقة بالمال، ووجه تشبيهه على السلام الكلمة الطيبة بالصدقة بالمال هو أن الصدقة بالمال تحيا بها نفس المتصدق عليه ويفرح بها، والكلمة الطيبة يفرح بها المؤمن ويحسن موقعها من قلبه فاشتبها من هذه الجهة، الا ترى أنها تذهب الشحناء وتجلى السخيمة كما قال تعالى: (ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم) والدفع بالتى هى أحسن قد يكون بالقول كما يكون بالفعل. قال صاحب العين: أشاح بوجهه عن الشىء إذا نحاه، ورجل مشيح، وشائح، أى: حازم حذر.
32 - باب: الرفق فى الأمر كله
/ 47 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: دَخَلَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ، قَالَتْ: عَائِشَةُ فَفَهِمْتُهَا، فَقُلْتُ: وَعَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَهْلا يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِى الأمْرِ كُلِّهِ) ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (قَدْ قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ) . / 48 - فيه: أَنَس، أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ فِى الْمَسْجِدِ، فَقَامُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تُزْرِمُوهُ) ، ثُمَّ دَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَصُبَّ عَلَيْهِ.(9/225)
في هذين الحديثين أدب عظيم من أدب افسلام، وحض الرفق بالجاهل والصفح والإغضاء عنه؛ لأن الرسول عليه السلام ترك مقابلة اليهود بمثل قولهم، ونهى عائشة من الإغلاط فى ردها، وقال: مهلا ياعائشة، إن الله يحب الرفق فى جميع الأمور؛ لعموم قوله: (إن الله يحب الرفق فى الأمر كله) وإن كان الانتصار بمثل ماقوبل به المرء جائز لقوله تعالى: (ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ماعليهم من سبيل) فالصبر أعظم أجرًا وأعلى درجة لقوله تعالى: (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور) والصبر أخلاق النبيين والصالحين، فيجب امتثال طريقتهم والتآسى بهم وقرع النفس عن المغالبة رجاء ثواب الله على ذلك وكذلك رفق النبى بالأعرابى الجاهل حين بال فى المسجد المعظم الذى الصلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وأمر أن لايهاج حتى يفرغ من بوله تأنيسًا له ورفقًا به، فدل ذلك على استعمال الرفق بالجاهل - فإنه بخلاف العالم - وترك اللوم له والنثريب عليه. وقال أبو عبيد: قال الأصمعى: الإزرام: القطع، يقال للرجل إذا قطع بوله: قد أزرمت بولك، وأزرمه غيره: قطعه، وزرم البول نفسه. قال الشاعر: أو كماء المثود بعد جمام زرم الدمع لايئوب نزورا والمثمود: الذى قد ثمده الناس أى: ذهبوا به فلم يبق منه إلا قليل، والجمام: الكثير.(9/226)
قال صاحب العين: زرم البول والدمع: انقطع. وزرم السنور والكلب زرمًا إذا بقى جعره فى دبرة فهو أزرم.
33 - باب: تعاون المؤمنين بعضهم بعضا
/ 49 - فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، ثُمَّ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. . . .) الحديث. قال المؤلف: تعاون المؤمنين بعضهم بعضًا فى أمور الدنيا والآخرة مندوب إليه بهذا الحديث، وذلك من مكارم الأخلاق، وقد جاء فى حديث آخر عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (الله فى عون العبد ما دام العبد فى عون أخيه) فينبغى للمؤمنين استعمال آدب نبيهم والاقتداء بما وصف المؤمنين بعضهم لبعض من الشفقة والنصيحة، وتشبيكه بيه اصابعه تاكيدًا لقوله وتمثيلا لهم كيف يكونون فيما خولهم من ذلك. وفيه: أن العالم إذا أراد المبالغة فى البيان أنه يمثل لهم معنى أقواله بحركاته وسيأتى شىء من الكلام فى معنى هذا الحديث فى باب الحب فى الله بعد هذا - إن شاء الله تعالى.
34 - باب: قول الله تعالى: (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها
/ 50 - فيه: أَبُو مُوسَى، أن النَّبِى عليه السلام كَانَ إِذَا أَتَاهُ السَّائِلُ، أَوْ(9/227)
صَاحِبُ الْحَاجَةِ، قَالَ: (اشْفَعُوا، فَلْتُؤْجَرُوا، وَلْيَقْضِ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مَا شَاءَ) . قال المؤلف: فى هذا الحديث الخص على الشفاعة للمؤمنين فى حوائجهم، وأن الشافع مأجور وإن لم يشفع فى حاجته، وقال أهل التأويل فى قوله تعالى: (من يشفع شفاعة حسنة) يعنى فى الدنيا (يكن له نصيب منها) فى الآخرة. وقال مجاهد وغيره: نزلت هذه الآية فى شفاعة الناس بعضهم لبعض. وقد قيل فى الاية أقوال أخر، قيل: الشفاعة الحسنة: الدعاء للمؤمنين، والسيئة: الدعاء عليهم، وكانت اليهود تدعو عليهم. وقيل: هو فى قول اليهود: السام عليكم. وقيل: معناه من يكن شفيعًا لصاحبه فى الجهاد يكن له نصيبه من الأجر. ومن يكن شفيعًا لآخر فى باطل يكن له نصيبه من الوزر. والكفل: الوزر والإثم عن الحسن وقتادة. والقول الأول اشبه بالحديث وأولاها بتأويل الآية.
35 - باب لم يكن النبى عليه السلام فاحشا ولا متفحشا
/ 51 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَأَنَّهُ ذَكَر النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلا مُتَفَحِّشًا. / 52 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ يَهُودَ أَتَوُا النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالَتْ: عَلَيْكُمْ، وَلَعَنَكُمُ اللَّهُ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، فَقَالَ: (مَهْلا يَا عَائِشَةُ، عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ وَالْفُحْشَ) ، قَالَتْ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ(9/228)
مَا قَالُوا؟ قَالَ: (أَوَلَمْ تَسْمَعِى مَا قُلْتُ، رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ، فَيُسْتَجَابُ لِى فِيهِمْ، وَلا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِىَّ) . / 53 - وفيه: أَنَس، قَالَ: لَمْ يَكُنِ النَّبِى عليه السلام سَبَّابًا، وَلا فَحَّاشًا، وَلا لَعَّانًا كَانَ يَقُولُ لأحَدِنَا عِنْدَ الْمَعْتِبَةِ: (مَا لَهُ تَرِبَ جَبِينُهُ) . / 54 - وفيه: عَائِشَةَ: أَنَّ رَجُلا اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: (بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ، وَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ) ، فَلَمَّا جَلَسَ، تَطَلَّقَ النَّبِى عليه السلام فِى وَجْهِهِ، وَانْبَسَطَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا انْطَلَقَ الرَّجُلُ، قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حِينَ رَأَيْتَ الرَّجُلَ، قُلْتَ: لَهُ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ تَطَلَّقْتَ فِى وَجْهِهِ، وَانْبَسَطْتَ إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَتَى عَهِدْتِنِى فَحَّاشًا؟ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ) . قال الطبرى: الفاحش: البذىء اللسان، وأصل الفحش عند العرب فى كل شىء خروج عن مقداره وحده حتى يستقبح، ولذلك يقال للرجل المفرط الطول الخارج عن طول الناس المستحسن: فاحش الطول، يراد به قبيح الطول غير أن أكثر ما استعمل ذلك فى الانسان إذا وصف بشىء فالأغلب أن معناه فاحش منطقه، بذىء لسانه، ولذلك قيل للزنا فاحشة لقبحة وخروجه عما أباحه الله لخلقه. وقد قيل فى قوله تعالى: (والذين إذا فعلوا فاحشة) معناه والذين إذا زنوا.(9/229)
قال المؤلف: والفحش والذاء مذموم كله، وليس من أخلاق المؤمنين. وقد روى مالك عن يحى بن سعيد أن عيسى ابن مريم لقى خنزيرًا فى طريق فقال له: أنفذ بسلام فقيل له: تقول هذا لخنزيرًا فقال عيسى ابن مريم: إنى أخاف أن أعود لسانى المنطق السوء. فيبغى لمن الهمه الله رشه أن يجنبه ويعود لسانه طيب القول ويقتدى فى ذلك بالآنبياء - عليهم السلام - فهم الأسوة الحسنة. وفى حديث عائشة أنه لاغيبة فى الفاسق المعلن وإن ذكر بقبيح أفعاله. وفيه: جواز مصانعه الفاسق وإلانه القول لمنفعة ترجى منه، وهذا ابن العشيرة هو عيينه بن بدر الفزارى وكان سيد قومه، وكان يقال له: الأحمق المطاع، رجا النبى عليه السلام بإقباله عليه أن يسلم قومه، كما رجا حين أقبل على المشرك وترك حديثه مع ابن مكتوم الأعمى، فأنزل الله تعالى: (عبس وتولى أن جاءه الأعمى) وإنما أقبل عليه يحدثه رجاء أن تسلم قبيلته بإسلامه. وسأذكر فى باب المدارة مع الناس فى الجزء الثانى من الأدب زيادة فى هذا.(9/230)
36 - باب: حسن الخلق والسخاء ومايكره من البخل
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ النَّبِى عليه السلام أَجْوَدَ النَّاسِ، وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِى رَمَضَانَ. وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: لَمَّا بَلَغَهُ مَبْعَثُ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) لأخِيهِ: ارْكَبْ إِلَى هَذَا الْوَادِى، فَاسْمَعْ مِنْ قَوْلِهِ، فَرَجَعَ، فَقَالَ: رَأَيْتُهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الأخْلاقِ. / 55 - فيه: أَنَس، كَانَ النَّبِى عليه السلام أَحْسَنَ النَّاسِ، وَأَجْوَدَ النَّاسِ، وَأَشْجَعَ النَّاسِ، وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ. . . الحديث. / 56 - وفيه: جَابِر، مَا سُئِلَ النَّبِى عليه السلام عَنْ شَىْءٍ قَطُّ، فَقَالَ: لا. / 57 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو لَمْ يَكُنْ النَّبِىّ عليه السلام فَاحِشًا، وَلا مُتَفَحِّشًا، وَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: (إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاقًا) . / 58 - وفيه: سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِىِّ، عليه السلام، بِبُرْدَةٍ - وهِىَ شَمْلَةٌ مَنْسُوجَةٌ - فَقَالَ رَجُل: مَا أَحْسَنَ هَذِهِ، فَاكْسُنِيهَا؟ فَقَالَ: (نَعَمْ) ، فَلَمَّا قَامَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) لامَهُ أَصْحَابُهُ، قَالُوا: مَا أَحْسَنْتَ أَخَذَهَا النَّبِى عليه السلام مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، ثُمَّ سَأَلْتَهُ إِيَّاهَا، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ لا يُسْأَلُ شَيْئًا فَيَمْنَعَهُ. . . الحديث. / 59 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قال النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (َتَقَارَبُ الزَّمَانُ، وَيَنْقُصُ الْعَمَلُ، وَيُلْقَى الشُّحُّ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ، وَهو الْقَتْلُ) . / 60 - وفيه: أَنَس، خَدَمْتُ النَّبِى عليه السلام عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِى: أُفٍّ، وَلا لِمَ صَنَعْتَ، وَلا أَلا صَنَعْتَ. قال المؤلف: حسن الخلق من صفات النبيين والمرسلين وخيار(9/231)
المؤمنين، وكذلك السخاء من أشرف الصفات؛ لأن الله تعالى سمى نفسه بالكريم الوهاب. وأما البخل فليس من صفات الأنبياء ولا الجلة الفضلاء، ألا ترى قول الرسول يوم حنين: (لو كان عندى عدد سمر تهامة نعمًا لقسمته بينكم ثم لا تجدونى بخيلاً) . وقال ابن مسعود: لاداء أدوى من البخل، وكان أبو حنيفة لايجيز شهادة البخيل، فقيل له فى ذلك: أنه يتقصى ويحمله التقصى على أن يأخذ فوق حقه. وقال الطبرى: إن قال قائل: وجه قوله (صلى الله عليه وسلم) : (خياركم أحسانكم أخلاقًا) وهل الأخلاق مكتسبة فيتخر العبد منها أحسنها ويترك اقبحها؟ فإن كان ذلك كذلك فما وجه قوله (صلى الله عليه وسلم) : (اللهم كما حسن خلقى فحسن خلقى) ومسألته عليه السلام ما سأل ربه من ذلك بتحسين خلقه،، وأنت عالم أنه لا يحسن خلق العبد غير ربه، فإذا كان الخلق فعلاً له لم يكن له أيضًا محسن غيره، وفى ذلك بطلان حمد العبد عليه إن حسنًا وترك ذمه إن كان سيئًا، فإن قلت ذلك كذلك قيل لك ما وجه قوله عليه السلام: (أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وإن الرجل ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم) وقد علمناه أن العبد إنما يثاب على مااكتسب لا على ماخلق له من أعضاء جسده؟ . قيل: قد اختلف فى ذلك: فقال بعضهم: الخلق حسنة وقبيحه جبله فى العبد كلونه وبعض أجزاء جسمه. ذكر من قال ذلك:(9/232)
روي عن ابن مسعود أنه ذكر عنده رجل فذكروا من خلقه فقال: أرأيتم لو قطعوا راسه أكنتم تستطيعون أن تجعلوا له رأسًا؟ قالوا: لا. قال: فلو قطعتم يده أكنتم تجعلون له يدًا؟ قالوا: لا، قال: فإنكم لن تستطيعوا أن تغيروا خلقه حتى تغيروا خلقه. وقال ابن مسعود: فرغ من اربعة: الخلق والخلق والرزق والأجل. وقال الحسن: من أعطى حسن صورة وخلقًا وزوجة صالحة فقد اعطى خير الدنيا والآخرة. واعتلوا بما رواه الهمدانى: كان ابن مسعود يحدث عن النبى عليه السلام قال: (إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم) قالوا: فهذا الحديث يبين أن الأخلاق من إعطاء الله عباده، ألا ترى تفاوتهم فيه كتفاوتهم بالجبن والشجاعة والبخل والجود، ولو كان الخلق اكتسابًا للعبد لم تختلف أحوال الناس فيه ولكن ذلك غريزة. فإن قيل: فإن كان كذلك فما وجه ثواب الله على حسن الخق إن كان غريزة؟ . قيل له: لم يثبت على خلقه ما خلق، وإنما أثابه على استعماله ما خلق فيه من ذلك فيما أمره باستعماله فيه، نظير الشجاعة التى خلقها فيه وأمره باستعمالها عند لقاء عدوه وأثابه على ذلك، وإن استعملها فى غير لقاء عدوه عاقبه على ذلك، فالثواب والعقاب على الطاعة والمعصية لا هى ما خلق فى العبد. وقال آخرون: أخلاق العبد حسنها وسيئها إنما هى من كسبه واختياره فيحمد على الجميل منها، ويثاب على ماكان منها طاعة،(9/233)
ويعاقب على ماكان منها معصية، ولولا أنها للعبد كسب لبطل الأمر به والنهى عنه، وفى قول النبى عليه السلام لمعاذ: (اتق الله حيثما كنت، وخالق الناس بخلق حسن) البيان عن صحة ما قلناه؛ لأن ذلك لو كان طبعًا فى العبد هيأه الله عليه لاستحال الأمر به والنهى عن خلافه، كاستحالة أمر من لابصر له بأن يكون له بصر، فلذلك كان الحكماء يوصون بالحسن منه. وروى ابن عيينه، عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر قال:: قال لى عمر بن الخطاب: يا قبيصة، أراك شابًا فصيح اللسان فسيح الصدر، وقد يكون فى الرجل عشرة أخلاق تسعة صالحة وخلق سيىء فيفسد التسعة الصالحة الخلق السيىء، فاتق عثرات الشباب. وقال الشعبى: قال صعصعة بن صوحان لابن أخية زيد بن صوحان: خالص المؤمن وخالق الفاجر، فإن الفاجر يرضى منك بالخلق الحسن.
37 - باب: كيف يكون الرجل فى أهله
/ 61 - فيه: عَائِشَةَ سُئلت مَا كَانَ النَّبِى عليه السلام يَصْنَعُ فِى أَهْلِهِ؟ قَالَتْ: كَانَ فِى مِهْنَةِ أَهْلِهِ، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ قَامَ إِلَى الصَّلاةِ. قال المؤلف: أخلاق النبيين والمرسلين عليهم السلام التواضع والتذلل فى افعالهم، والبعد عن الترفه والتنعم، فكانوا يمتهنون أنفسهم فيما يعن لهم ليسنوا بذلك، فيسلك سبيلهم وتقتفى آثارهم.(9/234)
وقول عائشة: (كان فى مهنة أهله) يدل على دوام ذلك من فعله متى عرض له ما يحتاج إلى إصلاحه؛ لئلا يخلد إلى الدعة والرفاهية التى ذمها الله وأخبر أنها من صفات غير المؤمنين فقال تعالى: (فذورنى والمكذبين أولى النعمة ومهلهم قليلا (. روى سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: (أنه سالها: ماكان عمل رسول الله فى بيه؟ قالت: يخصف النعل ويرقع الثوب) . وقال فى حديث آخر: (أما أنا فأتتزر بالكساء وأجلس بالأرض وأحلب شاة أهلى) . وقال ابن مسعود: إن الأنبياء من قبلكم كانوا يلبسون الصوف ويركبون الحمر ويحلبون الغنم. وهذه كانت سيرة سلف هذه الأمة. وسيأتى فى آخر كتاب الرقائق فى باب التواضع كثير من سيرتهم فى ذلك، إن شاء الله تعالى.
38 - باب الْمِقَةِ من الله
/ 62 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِى عليه السلام قَالَ: (إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِى جِبْرِيلُ فِى أَهْلِ السَّمَاءِ؛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِى أَهْلِ الأرْضِ) .(9/235)
قوله: (ثم يوضع له القبول فى الأرض) يريد المحبة فى الناس، وقال بعض أهل التفسير فى قوله تعالى: (وألقيت عليك محبة مني) أى حببتك إلى عبادى، وقال ابن عباس فى قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودًا) قال: يحبهم ويحببهم إلى الناس. روى مالك حديث أبى هريرة، عن سهيل، عن أبيه، عن أبى هريرة وقال فيه مالك: لا أحسبه إلا قال فى البغض مثل ذلك. فدلت زيادة مالك فى هذا الحديث على خلاف ماتقوله القدرية أن الشر من فعل العبد وليس بخلق الله، وبان أن كل شىء من خير وشر ونفع وضر من خلق الله لا خالق غيره، تعالى عما يشركون.
39 - باب الحب فى الله
/ 63 - فيه: أَنَس، قال النَّبِى عليه السَّلام: (لا يَجِدُ أَحَدٌ حَلاوَةَ الإيمَانِ حَتَّى يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ، وَحَتَّى أَنْ يُقْذَفَ فِى النَّارِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ، وَحَتَّى يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا) . قال المؤلف: صفة التحاب فى الله تعالى أن يكون كل واحد منهما لصاحبه فى تواصلهما وتحابهما بمنزلة نفسه فى كل مانابه، كما روى الشعبى عن النعمان بن بشير قال: سمعت النبى عليه السلام يقول: (مثل المؤمنين مثل الجسد إذا اشتكى منه شىء(9/236)
تداعي له سائر الجسد) وكقوله عليه السلام: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا) . وروى شريك بن أبى نمر عن أنس قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (المؤمن مرآة المؤمن) ورواه عبد الله بن أبى رافع عن أبى هريرة، عن النبى عليه السلام وزاد فيه: (إذا رأى فيه عيبًا أصلحه) . قال الطبرى: فالأخ فى الله كالذى وصف به رسول الله المؤمن للمؤمن وأن كل واحد منهما لصاحبه بمنزلة الجسد الواحد؛ لأن ماسر أحدهما سر الآخر وماسء أحدهما ساء الآخر، وأن كل واحد منهما عون لصاحبه فى أمر الدنيا والآخرة كالبنيان يشد بعضه بعضًا وكالمرآة له فى توقيفه إياه على عيوبه ونصيحته له فى المشد والمغيب وتعريفه إياه من خطة ومافيه صلاحه ما يخفى عليه، وهذا النوع من الإخوان فى زماننا كالكبريت الأحمر، وقد قيل هذه قبل هذا الزمان؛ كان يونس بن عبيد تقول: ما أنت بواجد شيئًا أقل من أخ فى الله صادق أو درهم طيب. فإن قال قائل: فأخبرنا عن الحب فى الله والبغض فيه أواجب هو أم فضل؟ قيل: بل واجب، هو قول مالك. فإن قيل: وما الدليل على ذلك؟ قيل: مارواه الأعمش عن أبى صالح، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله: (والذى نفسى بيده لاتدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا ألا أدلكم على أمر إذا فعلتموه(9/237)
تحاببتم، افشوا السلام بينكم) وما أمرهم النبي فعليهم العمل به. ألا ترى أن أقسم عليه السلام جهد النية أن الناس لن يؤمنوا حتى يتحابوا ولن يدخلوا الجنة حتى يؤمنوا. فحق على كل ذى لب أن يخلص المودة والحب لأهل افيمان؛ فقد روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أن الحب فى الله والبغض فى الله من أوثق عرى الإيمان) ، من حديث ابن مسعود والبراء. وروى عن ابن مسعود قال: (أوحى الله إلى نبى من الأنبياء ان قل لفلان الزاهد: أما زهدك فى الدنيا فتعجلت به راحة نفسك وأما انقطاعك إلى فقد تعززت بى، فماذا عملت فيما لى عليك؟ قال: يارب وما لك على؟ قال: هل واليت فى وليًا أو عاديت فى عدوًا) ؟ .
40 - باب قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم (الآية (1
/ 64 - فيه: عَبْدِاللَّهِ ابْنِ زَمْعَةَ، نَهَى النَّبِى عليه السلام أَنْ يَضْحَكَ الرَّجُلُ مِمَّا يَخْرُجُ مِنَ الأنْفُسِ، وَقَالَ: (بِمَ يَضْرِبُ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ ضَرْبَ الْفَحْلِ، أَوِ الْعَبْدِ، ثُمَّ لَعَلَّهُ يُعَانِقُهَا) .(9/238)
/ 65 - فيه: وَقَالَ ابْن عُمَر:، قال النَّبِى عليه السلام بِمِنًى: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِى شَهْرِكُمْ هَذَا، فِى بَلَدِكُمْ هَذَا) . قال المؤلف: قال أهل التفسير فى قوله تعالى: (لا يسخر قوم من قوم) لا يطعن بعضكم على بعض. وقال: لا يستهزى قوم بقوم (عسى أن يكونوا خير منهم) عند الله، ومن هذا المعنى نهيه عليه السلام أن يضحك مما يخرج من الأنفس: الأحداث الناقصة للوضوء؛ لأن الله تعالى سوىّ بين خلقه الأنبياء وغيرهم فى ذلك فقال تعالى فى مريم وعيسى - عليهما السلام -: (كانا يأكلان الطعام) كناية عن الغائط، ومن المحال أن يضحك أحد من غيره أو يعيره بما أتى هو مثله ولاينفك منه. وقد حرم الله تعالى عرض المؤمن كما حرم دمه وماله فلا يحل الهزء والسخرة بأحد، واصل هذا إعجاب المرء بنفسه وازدراء غيره، وكان يقال: من العجب ان ترى لنفسك الفضل على الناس وتمقتهم ولاتمقت نفسك. وقد روى ثابت عن أنس أن النبى عليه السلام قال: (لو لم تكونوا تذنبون لخشيت عليكم ماهو أكبر من ذلك: العجب العجب) وقال مطرف: لأن أبيت نائمًا وأصبح نادمًا أحب إلى من أن أبيت قائمًا واصبح معجبًا. وقال خالد الربعى: فى اإنجيل مكتوب: المستكبر على أخيه بالدين بمنزلة القاتل.(9/239)
41 - باب: ما ينهى عنه من السباب واللعن
/ 66 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قال: قال النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (سِبَابُ الْمُؤمن فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ) . / 67 - وفيه: أَبُو ذَرٍّ، سَمِعَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (لا يَرْمِى رَجُلٌ رَجُلا بِالْفُسُوقِ، وَلا يَرْمِيهِ بِالْكُفْرِ، إِلا ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَلِكَ) . / 68 - وفيه: أَنَس، قَالَ: لَمْ يَكُنْ النَّبِىّ عليه السلام فَاحِشًا، وَلا لَعَّانًا، وَلا سَبَّابًا، كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْمَعْتَبَةِ: (مَا لَهُ تَرِبَ جَبِينُهُ) . / 96 - وفيه: ثَابِتَ بْنَ الضَّحَّاكِ، أَنَّ النَّبِىّ عليه السلام قَالَ: (مَنْ حَلَفَ عَلَى مِلَّةٍ غَيْرِ الإسْلامِ، فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمَنْ لَعَنَ مُؤْمِنًا فَهُوَ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ قَذَفَ مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ) . / 70 - وفيه: سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ، اسْتَبَّ رَجُلانِ عِنْدَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَغَضِبَ أَحَدُهُمَا، فَاشْتَدَّ غَضَبُهُ حَتَّى انْتَفَخَ وَجْهُهُ وَتَغَيَّرَ، فَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (إِنِّى لأعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ الَّذِى يَجِدُ) ، فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ، فَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَالَ: (تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرجيم، فَقَالَ: أَتُرَى بِى بَأْسٌ؟ أَمَجْنُونٌ؟ أَنَا اذْهَبْ. / 71 - فيه: عُبَادَة، خَرَجَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) لِيُخْبِرَ النَّاسَ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلاحَى رَجُلانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ عليه السَّلام: (خَرَجْتُ لأخْبِرَكُمْ بِهَا، فَتَلاحَى فُلانٌ وَفُلانٌ، وَإِنَّهَا رُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا. . . .) الحديث. / 72 - وفيه: أَبُو ذَرّ، قَالَ: كَانَ بَيْنِى وَبَيْنَ رَجُلٍ كَلامٌ، وَكَانَتْ أُمُّهُ أَعْجَمِيَّةً(9/240)
فَنِلْتُ مِنْهَا، فَذَكَرَنِى إِلَى النَّبِى عليه السلام فَقَالَ لِى: (أَسَابَبْتَ فُلانًا) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: (إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ) . . . الحديث. قال المؤلف: سباب المسلم فسوق؛ لأن عرضه حرام كتحريم دمه وماله، والفسوق فى لسان العرب: الخروج من الطاعة، فينبغى ببمؤمن أن لايكون سبابًا ولا لعنًا للمؤمنين ويقتدى فى ذلك بالنبى عليه السلام لأن السب سب الفرقة والبغضة، وقد من الله على المؤمنين بما جمعهم عليه من الفة افسلام فقال: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فالف بين قلوبكم) الآية، وقال: (إنما المؤمنون إخوة) فكما لا ينبغى سب أخيه فى النسب كذلك لاينبغى سب أخيه فى الإسلام ولا ملاحاتة. إلا ترى أن الله تعالى رفع معرفة ليلة القدر عن عباده وحرمهم علمها عقوبة لتلاحى الرجلين بحضرة النبى - عليه السلام. قال عليه السلام لأبى ذر لما سب الرجل الذى أمه أعجمية: (إنك أمرؤ فيك جاهلية) . وهذا غاية فى ذم السب وتقبيحة؛ لأن أمور الجاهلية حرام منسوخة بالإسلام، فوجب على كل مسلم هجرانها واجتنباها، وكذلك الغضب هو من نزعات الشيطان فينبغى للمؤمن مغالبة نفسه عليه والاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم فإن ذلك دواء للغضب، لقوله عليه السلام: (إنى لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الذى يجد) يعنى التعوذ بالله من الشيطان. وأما قوله: (وقتاله كفر) فمعناه التحذير له عن مقاتلة ومشادته والتغليظ فيه، يراد به: كالكفر فلا يقاتله وهذا كما يقال: الفقر(9/241)
الموت، أي كالموت، ونظير هذا قوله عليه السلام: (كفر بالله من انتفى من نسب وإن دق وادعى نسبًا لا يعرف) ولم يرد أن من انتفى من نسبه أو أدعى غير نسبه كان كافرًا خارجًا عن الإسلام، ومثله فى الكلام كثير، وقد تقدم فى باب خوف المؤمن أن يحبط عمله فى كتاب الإيمان وكذلك تقدم معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لعن المؤمن كقتله) فى كتاب الإيمان والنذور. وقوله عليه السلام: (ترب جبينه) معناه أصابه التراب ولم يرد الدعاء على مافسره أبو عمرو السيبانى فى قوله عليه السلام: (تربت يمينك) .
42 - باب ما يجوز من ذكر الناس نحو قولهم الطويل والقصير
وَقَالَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام: (مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ) ؟ ، وَمَا لا يُرَادُ بِهِ شَيْنُ الرَّجُلِ. / 73 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: صَلَّى بِنَا رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ. . . الحديث. . . وَكَانَ فِى الْقَوْمِ رَجُلٌ كَانَ النَّبِى عليه السلام يَدْعُوهُ ذَا الْيَدَيْنِ، فَقَالَ: صَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ. . . الحديث. قال المؤلف: اختلف أهل التأويل فى قوله تعالى: (ولا تنابزوا بالألقاب) فروى الأعمش عن أبى جبيرة بن الضحاك قال: (كان أهل الجاهلية لهم الألقاب، للرجل منهم الاسمان والثلاثة، فدعا(9/242)
النبي عليه السلام رجلا منهم بلقبه فقالوا: يارسول الله، إنه يكره ذلك) ، فنزلت الآية. وروى عن ابن مسعود والحسن وقتادة وعكرمة، أن اليهودى والنصرانى كان يسلم قيلقب به، فيقال: يا يهودى، يا نصارانى، فنهوا عن ذلك، ونزلت الآية. وعو ابن عيينه: لاتقل: كان يهوديًا ولا مشركًا. قال الطبرى: وقد رأى قوم من السلف أن وصف الرجل غيره بما فيه من الصفة غيبة له، قال شعبة: سمعت معاوية بن قرة يقول: لو مر بك أقطع فقلت: ذاك الأقطع، كانت منك غيبة. وعن الحسن: ألا تخافون أن يكون قولنا: حميد الطويل غيبة؟ وكان قتادة يكره أن يقال: كعب الأحبار، وسلمان الفارسي؛ ولكن كعب المسلم وسلمان المسلم، وروى سليمان الشيبانى، عن حسان ابن المخارق (أن امرأة دخلت على عائشة فلما قامت لتخرج أشارت عائشة بيدها إلى النبى عليه السلام أنها قصيرة، فقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : اغتبتها) . وروى موسى بن وردان عن أبىهريرة (أن رجلاً قام عند النبى فرأو فى قيامه عجزًا، فقالوا: يا رسول الله، ما أعجز فلانًا قال رسول الله: أكلتم أخاكم واغتبتموه) . قال الطبرى: وإنما يكون ذلك غيبة من قائله إذا قاله على وجه الذم والعيب للمقول فيه وهو له كاره، وعن مثل هذا ورد النهى، وأما إذا قاله على وجه التعريف والتميز له من سائر الناس كقولهم: يزيد(9/243)
الرشك، وحميد الأرقط، والأحنف بن قيس، والنسبية إلى الأمهات: كإسماعيل ابن علية وابن عائشة، فإن ذلك بعيد من معنى الغيبة ومن مكروه ماورد به الخبر. قال المؤلف: ويشد لصحة هذا قصة ذى اليدين، ويبين أن معنى النهى عن التنابز بالألقاب فى الآية أن يراد به عيب الرجل وتنقصه. قوله عليه السلام: (أصدق ذو اليدين) فعرفه بطول يديه ولم يذكر اسمه، ولو لم يجز ذلك ما ذكره النبى عليه السلام ولهذا استجاز العلماء ذكر العاهات لرواة الحديث، وروى أبو حاتم الرازى، حدثنا عبده قال: سل ابن المبارك عن الرجل يقول: حميد الطويل، وسليمان الأعمش، وحميد الأعرج، ومروان الأصفر. فقال عبد الله: إذا أراد صفته ولم يرد غيبته فلا باس به. وسئل عبد الرحمن بن مهدى عن ذلك. فقال: لا أراه غيبة، ربما سمعت شعبة يقول ليحى بن سعيد: ياأحول، ما تقول؟ يا أحول، ما ترى؟ ذكره ابن الفوطى فى كتاب الألقاب.
43 - باب: الغيبة وقوله تعالى: (ولا يغتب بعضكم بعضا (
/ 74 - فيه: ابْن عَبَّاس، مَرَّ النَّبِىّ عليه السلام عَلَى قَبْرَيْنِ، فَقَالَ: (إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِى كَبِيرٍ، أَمَّا هَذَا فَكَانَ لا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ، وَأَمَّا هَذَا فَكَانَ يَمْشِى بِالنَّمِيمَةِ) . قال المؤلف: الغيبة قد فسرها النبى عليه السلام فى مرسل مالك عن الوليد بن عبد الله بن صياد (أن المطلب بن عبد الله بن حنطب أخبره(9/244)
أن رجلاً سأل النبى عليه السلام ما الغيبة؟ قال: أن تذكر من المرء ما يكره أن تسمع وإن كان حقًا، فإن قلت باطلا فذلك البهتان) . وترجم البخارى باب الغيبة وذكر فيه حديث النميمة إذ هى فى معنى الغيبة لكراهية المرء أن يذكر عنه بظهر الغيب، فأشتبها من هذه الجهة والغيبة المحرمة عند أهل العلم فى اغتياب أهل الستر من المؤمنين ومن لايعلن بالمعاصى، فأما من جاهز بالكبائر فلا غيبة فيه، وروى عبد الرزاق عن معمر، عن زيد بن اسلم قال: إنما الغيبة فيمن لم يعلن بالمعاصى. وسأذكر غيبة أهل المعاصى فى باب مايجوز من اغتياب أهل الفساد، والغيبة من الذنوب العظام التى تحبط الأعمال. روى عن الرسول أنه قال: (الغيبة تاكل الحسنات كما تأكل النار الحطب) . وقد قيل: أنها تفطر الصائم بإحباط أجره، وقد تأول بعض أهل العلم فى قوله عليه السلام: (أفطر الحاجم والمحجوم) أنهما كانا يغتابان على ما تقدم فى باب الصيام، ولذلك قال النخعى: ماأبالى اغتبت رجلا أم شربت ماء بارًا فى رمضان. وعنه عليه السلام أنه قال: (ما صام من ظل يأكل لحوم الناس) . ولعظيم وزر الغيبة وكثرة ماتحبط من الأجر كف جماعة من العلماء عن اغتياب جميع الناس حتى لقد روى عن ابن المبارك أنه قال: لو كنت مغتابًا أحدًا لاغتبت والدي؛ لأنهما أحق الناس بحسناتى. وقال رجل لبعض السلف: إنك قلت فيّ. قال: أنت(9/245)
إذا أكرم على من نفسى؟ وقيل للحسن البصرى: إن فلانًا اغتابك، فبعث إليه طبقًا من الطرفّ، وقال: بلغنى أنك أهديت إلى حسناتك فأردت أن أكافئك بها. والآثار فى التشيد فيها كثيرة، وقد جاء حديث شريف فى أجر من نصر اغتيب عنده. روى عبد الرزاق، عن معمر، عن أبان، عن أنس: قال رسول الله: (من اغتيب عنده أخوه المسلم فنصره نصره الله فى الدنيا والآخرة، وإن لم ينصره أدركه الله به الدنيا والآخرة) .
44 - باب: ما يجوز من اغتياب أهل الفساد والريب
/ 75 - وفيه: عَائِشَةَ، اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (ائْذَنُوا لَهُ، بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ، أَوِ ابْنُ الْعَشِيرَةِ) ، فَلَمَّا دَخَلَ أَلانَ لَهُ الْكَلامَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْتَ الَّذِى قُلْتَ، ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ الْكَلامَ، قَالَ: (أَىْ عَائِشَةُ، إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ، أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ، اتِّقَاءَ فُحْشِهِ) . قال المؤلف: هذا الحديث اصل فى جواز اغتياب أهل الفساد، ألا ترى قوله للرجل: (بئس أخو العشيرة) ؟ وإنما قال ذلك عليه السلام لما قد صح عنده من شره؛ لقوله عليه السلام فى آخر الحديث: (إن شر الناس من تركه الناس اتقاء فحشة) وسيأتى معنى ذلك الكلام فى باب لم يكن النبى عليه السلام فاحشًا ولا متفحشًا. روى ابن وضاح، عن محمد بن المصفى حدثنا بقية بن(9/246)
الوليد، عن الربيع بن يزيد، عن أبان، عن أنس، عن النبى عليه السلام قال: (من خلع جلباب الحياء فلا غيبة فيه) وفسره ابن سعدان قال: معناه من عمل عملا قبيحًا كشفه للناظرين، ولم يرع وقوفهم عليه فلا باس بذكره عنه من حيث لايسمع؛ لأنه كمن أذن فى ذلك لكشفه عن نفسه، فأما من استتر بفعله فلا يحل ذكره لمن رآه؛ لأنه غير آذن فى ذكره وإن كان كافرًا. وقد سئل وهب عن غيبة النصرانى، فقال: لا وقولوا للناس حسنًا وهو من الناس (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا فكرهتموه) فجعل هذا لهم مثلا. وفى الحديث: (اذكروا الفاسق بما فيه كى يحذروه الناس) . قال ابن أبى زيد: يقال: لاغيبة فى أمير جائز ولاصاحب بدعة يدعو إليها، ولافيمن يشاور فى إنكاح أو شهادة ونحو ذلك، وقد قال الرسول عليه السلام لفاطمة بنت قيس حين شاورته فيمن خطبها إلى معاوية: (إن معاوية صعلوك لا مال له) وكذلك رأى الأئمة أن يقبل قوله من أهل الفضل ويجوز له أن يبين له أمر من يخاف أن يتخذ إمامًا فيذكر مافيه من كذب أو غيره مما يوجب ترك الراوية عنه، وكان شعبه يقول: اجلس بنا نغتاب فى الله.
45 - باب: قول النبى (صلى الله عليه وسلم) خير دور الأنصار
/ 76 - فيه: أَبُو أُسَيْد، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (خَيْرُ دُورِ الأنْصَارِ بَنُو النَّجَّارِ) . قال المهلب: ترجم له باب خير دور الأنصار وأدخل فيه: (خير(9/247)
الأنصار بنو النجار) وإنما أراد عليه السلام بقوله: (خير دور الأنصار) أهل الدور كما قال تعالى: (واسأل القرية) (والعير) وهو يريد أهلها، وقد جاء هذا الحديث فى غير هذا الموضع: (خير دور الأنصار بنو النجار) . وقال ابن قتيبة: الدور فى هذا الحديث القبائل، ويدل على ذلك الحديث الآخر: (ما بقى دار إلا بنى فيها مسجد) ما بقيت قبيلة. قال المهلب: وإنما استوجب بنو النجار الخير فى هذا الحديث لمساعتهم إلى الإسلان، وقد بينه النبى (صلى الله عليه وسلم) : (إنما بايعك سراق الحجيج من طيىء وأسلم وغفار) - يريد تهجين هذه القبائل الضعيفة القليلة العدد - المسارعة إليك لقتلها وضعفها لتكثر بك وبأصحابك ولتعز من ذلتها، فقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أرأيت إن كان أسلم وغفار وزينة خيرًا من بنى يتميم) يريد بمسارعتها إلى الإسلام، فاستوجب بذلك ماأثنى الله عليها فى القرآن فى قوله: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار) الآية، فكذلك استوجب بنو النجار بالمساعرة إلى افسلام من الخيرية ما لم يستوجبه بنو عبد الشهل المتبطئون بالإسلام. قال المؤلف: فإن قال قائل: مامعنى دخول هذا الحديث فى أبواب الغيبة؟ قيل: معناه بين فى ذلك، وهو أنه يدل على أنه يجوز للعالم أن يفاضل بين الناس وينبه على فضل الفاضل ونقص من لا يلحق بدرجته فى الفضل، ولايكون ذلك من باب الغيبة كما لم يكن ذكر(9/248)
النبي (صلى الله عليه وسلم) لغير بنى النجار أنهم دون بنى النجار فى الفضل من باب الغيبة ومثل هذا اتفاق المسلمين من أهل السنة أن أبا بكر أفضل من عمر، وليس ذلك غيبة لعمر ولا نقصًا له، ولذلك جاز لابن معين وغيره من ائمة الحديث تجريح الضعفاء وتبين أحوالهم خشية التباس أمرهم على العامة واتخاذهم أئمة وهو غير مستحقين للإمامة.
46 - باب النميمة من الكبائر
/ 77 - فيه: وذكر حديث ابن عباس فى صحابى القبرين اللذين كان يعذبان، وقد تقدم فى باب الكبائر فى أول هذا الجزء فأغنى عن إعادته.
47 - باب: ما يكره من النميمة وقوله تعالى: (هماز مشاء بنميم (وقوله: (ويل لكل همزة لمزة (
(يهمز) ويلمز ويعيب (واحد) / 78 - فيه: حُذَيْفَةَ، سَمِعْتُ النَّبِى عليه السلام يَقُولُ: (لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ) . قال أهل التأويل: الهماز الذى يأكل لحوم الناس، ويقال: هم المشاءون بالنميمة المفرقون بين الأحبة، الباغون للبراء العيب. والقتات: النمام عند أهل اللغة، وقوله عليه السلام: (لا يدخل الجنة قتات) معناه: إن أنفذ الله عليه الوعيد؛ لأن أهل السنة(9/249)
مجمعون أن الله تعالى فى وعيده لعصاة المؤمنين بالخيار، إن شاء عذبهم وإن شاء عفا عنهم. وقد فرق أهل اللغة بين النمام والقتات، فذكر الخطابى أن النمام الذى يكون مع القوم يتحثون فينم حديثهم، والقتات: الذى يتسمع على القوم وهو لايعملون ثم ينم حديثهم، والقساس: الذى يقس الأخبار، أى يسأل عنها ثم ينثرها على أصحابه.
48 - باب قوله تعالى: (واجتنبوا قول الزور (
/ 79 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ، وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ) . قال المؤلف: قول الزور هو الكذب، وهو محرم على المؤمنين، وهذا الحديث فى شاهد الزور تغليظ شديد ووعيد كبير، ودل قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فليس لله حاجة فى أن يدع طعامه وشرابه) على أن الزور يحبط أجر الصائم، وأن من نطق به فى صيامه كالآكل الشارب عند الله تعالى فى الإثم، فينبغى تجنيبه والحذر منه لإحباطه للصيام الذى أخبر النبى عليه السلام عن اله تعالى أنه قال فيه: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فأنه لى وأنا أجزى به) فما ظنك بسيئة غطت على هذا الفضل الجسيم والثواب العظيم؟ .(9/250)
49 - باب ما قيل فى ذى الوجهين
/ 80 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قال النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (تَجِدُ مِنْ شَرِّ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ ذَا الْوَجْهَيْنِ الَّذِى يَأْتِى هَؤُلاءِ بِوَجْهٍ، وَهَؤُلاءِ بِوَجْهٍ) . يريد أنه يأتى إلى كل قوم بما يرضيهم كان خيرًا أو شرًا، وهذه هى الماهنة المحرمة، وإنما سمى ذو الوجهين مداهنًا؛ لأنه يظهر لأهل المنكر أنه عنهم راض فيلقاهم بوجه سمح بالترحيب والبشر، وكذلك يظهر لأهل الحق أنه عنهم راض وفى باطنه أن هذا دابة فى أن يرضى كل فريق منهم ويريهم أنه منهم، وإن كان فى مصاحبته لأهل الحق مؤيدًا لفعلهم، وفى صحبته لأهل الباطل منكرًا لفعلهم، فبخلطته لكلا الفريقين وإظهار الرضا بفعلهم استحق اسم المداهنة للأسباب الظاهرة عليه المشبهة بالدهان الذى يظهر على ظواهر الأشياء ويستر بواطنها، ولو كان مع احخدى الطائفتين لم يكن مداهنًا، وإنما كان يسمى باسم اطائفة المنفرد بصحبتها. وقد جاء فى ذى الوجهين وعيد شديد، روى أبو هريرة عن النبى عليه السلام أنه قال: (ذو الوجهين لايكون عند الله وجيهًا) وروى أنس عن النبى عليه السلام أنه قال: (من كان ذا لسانين فى الدنيا جعل الله له لسانين من نار يوم القيامة) فينبغى للمؤمن العاقل أن يرغب بنفسه عما يوبقه ويخزيه عند الله - تعالى.(9/251)
50 - باب من أخبر صاحبه بما يقال فيه
/ 81 - فيه: ابْن مَسْعُود، قَسَمَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قِسْمَةً، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ: وَاللَّهِ مَا أَرَادَ مُحَمَّدٌ بِهَذَا وَجْهَ اللَّهِ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَأَخْبَرْتُهُ، فَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ، وَقَالَ: (رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى، لَقَدْ أُوذِىَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ) . قال المؤلف: فى هذا الحديث من الفقه أنه يجوز للرجل أن يخبر أهل الفضل والستر من إخوانه بما يقال فيهم مما لايليق بعم ليعرفهم بذلك من يؤذيهم من الناس وينقصهم، ولا حرج عليه فى مقابلته بذلك وتبليغه له. وليس ذلك من باب النميمة؛ لأن ابن مسعود حين أخبر النبى عليه السلام يقول الأنصارى فيه وتجويره له فى القسمة، لم يقل له: أتيت بما لايجوز، ونمت الأنصارى والنميمة حرام، بل رضى ذلك عليه السلام وجاوبه عليه بقوله (يرحم الله موسى، لقد أوذى بأكثر من هذا فصبر) وإنما جاز لابن مسعود نقل ذلك إلى النبى عليه السلام لأن الأنصارى فى تجويره للنبى - عليه السلام - استباح إثمًا عظيمًا وركب جرمًا جسيمًا، فلم يكن لحديثه حرمة، ولم يكن نقله من باب النميمة. وقد قال مالك - رحمه الله - فى الرجل يمر بالرجل يقذف غائبًا: فليشهد عليه إن كان معه غيره. وقال فى قوم سمعوا رجلا يقذف رجلا فرفعوا إلى الإمام: فلا ينبغى أن يحده حتى يجىء الطالبب، ولو كان هذا نميمة لم تجز الشهادة؛ لأن النميمة كبيرة، والكبائر تسقط الشهادات. وفى تمعرّ وجه النبى عليه السلام حين أخبر بقوله الأنصارى من الفقه أن أهل الفضل والخير قد يعزّ عليهم مايقال فيهم من الباطل،(9/252)
ويكبر عليهم، فإن ذلك جبله فى البسر، فطردهم الله عليها، إلا أن أهل الفضل يتلقون ذلك بالصبر الجميل اقتداء بمن تقدمهم من المؤمنين، ألا ترى أن الرسول قد اقتدى فى ذلك بصبر موسى. وقد روى عن الحسن البصرى أنه قيل له: فلان اغتباك، فبعث إليه طبقًا من الطرف وقال: بلغنى أنك أهدبت وفى تمعرّ وجه النبى عليه السلام حين أخبر بقول الأنصارى من الفقه أن أهل الفضل والخير قد يعزّ عليهم مايقال فيهم من الباطل، ويكبر عليهم، فإن ذلك جبلة فى البشر، فطرهم الله عليها، إلا أن أهل الفضل يلتقون ذلك بالصبر الجميل اقتداء بمن تقدمهم من المؤمنين، ألا ترى أن الرسول قد اقتدى فى ذلك بصبر موسى. وقد روى عن الحسن البصرى أنه قيل له: فلان اغتابك، فبعث إليه طبقًا من الطرف وقال: بلغنى انك أهدبت إلى حسناتك فأردت أن أكافئك بها.
51 - باب: ما يكره من التمادح
/ 82 - فيه: أَبُو مُوسَى، سَمِعَ النَّبِى عليه السلام رَجُلا يُثْنِى عَلَى رَجُلٍ وَيُطْرِيهِ فِى الْمِدْحَةِ، فَقَالَ: (أَهْلَكْتُمْ، أَوْ قَطَعْتُمْ ظَهْرَ الرَّجُلِ) . / 83 - وفيه: أَبُو بَكْرَةَ، أَنَّ رَجُلاً ذُكِرَ عِنْدَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) فَأَثْنَى عَلَيْهِ رَجُلٌ خَيْرًا، فَقَالَ رسُول اللَّه: (وَيْحَكَ، قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ، يَقُولُهُ مِرَارًا، إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا لا مَحَالَةَ، فَلْيَقُلْ: أَحْسِبُ كَذَا وَكَذَا، إِنْ كَانَ يُرَى أَنَّهُ كَذَلِكَ، وَحَسِيبُهُ اللَّهُ، وَلا يُزَكِّى عَلَى اللَّهِ أَحَدًا) . قَالَ وُهَيْبٌ، عَنْ خَالِدٍ: وَيْلَكَ. معنى هذا الحديث - والله أعلم - النهى عن أن يفرط فى مدح الرجل بما ليس فيه؛ فيدخله من ذلك الإعجاب، ويظن أنه فى الحقيقة بتلك المنزلة؛ ولذلك قال: قطعتم ظهر الرجل. حين وصفتموه بما ليس فيه. فربما ذلك على العجب والكبر، وعلى تضييع(9/253)
العمل وترك الازدياد من الفضل، واقتصر على حاله من حصل موصوفًا بما وصف به، وكذلك تأول العلماء فى قوله عليه السلام: (احثوا التراب فى وجه المداحين) المراد به: المداحون الناس فى وجوههم بالباطل وبما ليس فيهم. ولذلك قال عمر بن الخطاب: المدح هو الذبح. ولم يرد به من مدح رجلاً بما فيه، فقد مدح رسول الله عليه السلام فى الشعر والخطب والمخاطبة، ولم يحث فى وجه المداحين ولا أمر بذلك كقول أبى طالب: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه تثمال اليتامى عصمة للأرامل وكمدح العباس وحسان له فى كثير من شعره، وكعب بن زهير، وقد مدح رسول الله عليه السلام الأنصار فقال: (إنكم لتقلون عند الطمع وتكثرون عند الفزع) ومثل هذا قوله عليه السلام: (لا تطردونى كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، قالوا: عبد الله؛ فإنما أنا عبد الله ورسوله) أى: لاتصفونى بما ليس لى من الصفات تلتمسون بذلك مدحى، كما وصفت النصارى عيسى لما لم يكن فيه، فنسبوه إلى أنه ابن الله، فكفروا بذلك وضلوا. فأما وصفه بما فضله الله به وشرفه فحق واجب على كل من بعثه الله إليه من خلقه وذلك كوصفه عليه السلام بما وصفها به فقال: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا أول من تنشق الأرض عنه) . وفى هذا من الفقه أن من رفع أمرأط فوق حده وتجاوز به مقداره بما ليس فيه، فمعتدّ آثم؛ لأن ذلك لو جاز فى أحد لكان أولى الخلق(9/254)
بذلك رسول الله، ولكن الواجب أن يقصر كل أحد على ما أعطاه الله من منزلته، ولا يعدى به إلى غيرها من غير قطع عليها، ألا ترى قوله عليه السلام فى حديث أبى بكرة: (إن كان أحدكم مادحًا أخاه لا محالة فليقل: أحسب كذا وحسيبه الله، ولا أزكى على الله أحدًا) .
52 - باب: من أثنى على أخيه بما يعلم
وَقَالَ سَعْدٌ: مَا سَمِعْتُ النَّبِى عليه السلام يَقُولُ لأحَدٍ يَمْشِى عَلَى الأرْضِ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلا لِعَبْدِاللَّهِ بْنِ سَلامٍ. / 84 - فيه: ابْن عُمَر: أَنَّ النَّبِىّ عليه السلام حِينَ ذَكَرَ فِى الإزَارِ مَا ذَكَرَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ إِزَارِى يَسْقُطُ مِنْ أَحَدِ شِقَّيْهِ، قَالَ: (إِنَّكَ لَسْتَ مِنْهُمْ) . قال المؤلف: فيه من الفقه: أنه يجوز الثناء على الناس بما فيهم على وجه الإعلام بصفاتهم لتعرف لهم سابقتهم وتقدمهم فى الفضل فينزلزا منازلهم ويقدموا على من لايساويهم ويقتدى بهم فى الخير، ولو لم يجز وصفهم بالخير والثناء عليهم بأحوالهم لم يعلم أهل الفضل من غيرهم، ألا ترى أن النبى عليه السلام خص اصحابه بخواص من الفضائل بانوا بها عن سائر الناس وعرفوا بها إلى يوم القيامة فشهد للعشرة - رضى الله عنهم - بالجنة، كما شهد لعبد الله ابن سلام. وليس قول سعد: (ما سمعت النى عليه السلام يقول لأحد(9/255)
أنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام) بمعارض لمن سمعه عليه السلام يشهد بذلك لغيره، بل يأخذ كل واحد بما يسمع، وكذلك قال فى أبى بكر الصديق: (كل الناس قال لى: كذبت، وقال لى النبى (صلى الله عليه وسلم) : أرحم أمتى بأمتى أبو بكر، وأقواهم فى الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقضاهم على، وأمين أمتى أبو عبيدة بن الجراح، وأعلم أمتى بالحلال معاذ بن جبل، وأقرؤهم أبى موسى، وأفرضهم زيد) . وقال عليه السلام فى حديث آخر: (ما أظلت الخضراء ولا قلت الغبراء أصدق لهجة من أبى ذر) فأثنى عليهم بالحق وعرف أمته بفضائلهم، وقال لبى بكر الصديق حين قال له: إزارى سقط من أحد شقية: (لست منهم) فدل هذا كله أن المدح بالحق جائز وأن الذى لا يجوز من ذلك إنما هو المدح بالكذب أو القصد بالمدح إلى جهة الإعجاب والفخر وإن كان حقًا، والله الموفق.
53 - باب قوله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان (الآية وقال: (إنما بغيكم على أنفسكم () ثم بغى عليه لينصرنه الله (وترك إثارة الشر على مسلم أو كافر
/ 85 - فيه: عَائِشَةَ، أَنّ النَّبِى عليه السلام سحُره لَبِيدُ بْنُ أَعْصَمَ اليهودية، فِى مُشْطٍ وَمُشَاقَةٍ فِى بِئْرِ ذَرْوَانَ، فَأَمر النَّبِىُّ عليه السلام فَأُخْرِجَ، فَقُلْتُ:(9/256)
يَا رَسُولَ اللَّهِ: هَلا تَنَشَّرْتَ، فَقَالَ: (أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ شَفَانِى، وَأَكْرَهُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا) . قال المؤلف: تأول البخارى من هذه الآيات التى ذكرها ترك إثارة الشر على مسلم أو كافر دل عليه حديث عائشة، ووجه ذلك - والله أعلم - أنه تأول فى قوله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) الندب إلى الإحسان إلى المسىء وترك معاقبة على إساءته، فإن قيل: فكيف يصح هذا التأويل فى آيات البغى التى ذكرها؟ قيل: فكيف يصح هذا التأويل فى آيات البغى التى ذكرها؟ قيل: وجه ذلك - والله أعلم - أنه لما أعلم الله عباده أن البغى ينصرف على الباغى بقوله: (إنما بغيكم على أنفسكم) وضمن تعالى نصره لمن بغى عليه بقوله تعالى: (ثم بغى عليه لينصرنه الله) كان الأولى لمن بغى عليه _ شكر الله على ما ضمن من نصره ومقابلة ذلك بالعفو عمن بغى عليه، وكذلك فعل النبى باليهودى الذى سحره حين عفا عنه، وقد كان له الانتقام بقوله: (وإن عاقبتم فعاقبوه بمثل ما عوقبتم به) لكن آر الصفح عنه أخذًا بقوله تعالى: (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور (وكذلك أخبرت عائشة عنه عليه السلام أنه كان لاينتقم لنفسه، ويعفو عمن ظلمه. وللسلف فى قوله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) أقوال أكثرها يخالف قول البخارى، فقال ابن عباس:(9/257)
العدل شهادة أن لا إله ألا الله، والإحسان أداء الفرائض. وقال غيره: العدل الفرض، واإحسان النافلة، وقال ابن عيينه: العدل هاهنا العلانية. وقال ابن مسعود: أجمع آية فى القراآن لخير أو شر: (إن الله يأمركم بالعدل والإحسان) الآية. ويمكن أن يتخرج تأويل البخارى على هذا القول. وقوله: (وينهى عن الفحشاء والمنكر) يعنى عن كل فعل أو قول قبيح، وقال ابن عباس: هو الزنا. والبغى: قيل: هو الكبر والظلم، وقيل: هو التعدى ومجاوزة الحد. وقال ابن عيينه: (إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا) المراد بها أن البغى تعجل عقوبته لصاحبه فى الدنيا يقال: البغى مصرعه.
54 - باب: ما نهى عنه من التحاسد والتدابر وقوله تعالى: (ومن شر حاسد إذا حسد (
/ 86 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلا تَحَسَّسُوا وَلا تَجَسَّسُوا، وَلا تَحَاسَدُوا، وَلا تَدَابَرُوا، وَلا تَبَاغَضُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا) . في هذا الحديث: الأمر (بالصحبة والألفة) والنهي عن(9/258)
التباغض والتدابر، وما أمرهم النبى عليه السلام فعليهم العمل به ومانهاهم عنه فعليهم الانتهاء عنه، غير موسع عليهم مخالفة إلا أن يخبرهم عليه السلام أن مخرج أمره لهم ونهيه على وجه الندب والإرشاد، وقد تقدم فى باب الحب فى الله قوله (صلى الله عليه وسلم) : (والذى نفسى بيده لاتدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولاتؤمنوا حتى تحابوا) . فذلك أن أمره عليه السلام ونهيه فى هذا الحديث على الوجوب، وقال أبو الدرداء: (ألا أخبركم بخير لكم من الصدقة والصيام: صلاح ذات البين، وإن البغضة هى الحالقة) لأن فى تباغضهم افتراق كلمتهم وتشتت أمرهم، وفى ذلك ظهور عدوهم عليهم ودروس دينهم. وفيه: النهى عن الحسد على النعم، وقد نهى الله عباده المؤمنين عن أن يتمنوا مافضل الله به بعضهم على بعض وأمرهم أن يسألوه من فضله، وقد أجاز النبى الحسد فى الخير، وسيأتى هذا المعنى فى كتاب التمنى، إن شاء الله تعالى. وفيه: النهى عن التجسس وهو البحث عن باطن أمور الناس وأكثر ما يقال ذلك فى السر. وقال ابن الأعرابى وأبو عمرو الشيبانى: الجاسوس: صاحب سر، والناموس: صاحب سر الخير. وقال سليمان الخطابى: وأما التحسس بالحاء فقد اختلف فى تفسيره فقال بعضهم: هو كالتجسس سواء، وقرأ الحسن: ولا تحسسوا.(9/259)
ومنهم من فرق بينهما، وروى الأوزاعى عن يحى بن أبى كثير أنه قال: التجسس: البحث عن عورات المسلمين، والتحسس: الاستماع لحديث القوم. وقال أبو عمر: التحسس بالحاء أن تطلبه لنفسك، وبالجيم أن تكون رسولا لغيرك. وقال صاحب العين: دابرت الرجل: عاديته، ومنه قولهم جعلته دبر أذنى أى خلفها.
55 - باب قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا (الآية
/ 87 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلا تَحَسَّسُوا وَلا تَجَسَّسُوا. . .) الحديث. / 88 - وفيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لا تَبَاغَضُوا، وَلا تَحَاسَدُوا. . .) الحديث. قال أبو سليمان الخطابى: قوله: (إياكم والظن) فإنه أراد النهى عن تحقيق ظن السوء وتصديقه دون مايهجس بالقلب من خواطر الظنون فإنها لاتملك، قال الله تعالى: (إن بعض الظن أثم (فلم يجعل الظن كله إثمًا. قال غيره: فنهى عليه السلام أن تحقق على أخيك ظن السوء إذا كان الخير غالبًا عليه. وروى عن عمر أنه قال: لايحل لمسلم يسمع من أخيه كلمة أن يظن بها سوء وهو يجد لها فى شىء من الخير مصدرًا. وقال(9/260)
علي بن أبي طالب: من علم من أخيه مروءه جميله فلا يسمعن فيه مقالات الرجال، ومن حسنت علانيته فنحن لسريرته أرجى. وروى معمر عن إسماعيل بن أمية قال: ثلاث لايعجزن ابن آدم، الطيرة، وسوء الظن والحسد. قال: فينجيك من سوء الظن أن لا تتكلم به، وينجيك من الحسد أن لا تبغى أخاك سوءًا وينجيك من الطيرة أن لا تعمل بها. فإن قال قائل: لى فى حديث أنس ذكر الظن فكيف ذكره فى هذا الباب؟ . قال المهلب: فالجواب أن التباغض والتحاسد أصلهما سوء الظن، وذلك أن المباغض والمحاسد يتأول أفعال من يبغضه ويحسده على أسوأ التأويل، وقد أوجب الله تعالى أن يكون ظن المؤمن بالمؤمن حسنًا أبدًا إذ يقول: لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرًا فإذا جعل الله سوء الظن بالمؤمنين إفكا مبينًا فقد الزم أن يكون حسن الظن بهم صدقًا بينًا والله الموفق.
56 - باب ما يجوز من الظن
/ 89 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (مَا أَظُنُّ فُلانًا وَفُلانًا يَعْرِفَانِ مِنْ دِينِنَا شَيْئًا) . قَالَ اللَّيْثُ: كَانَا رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. وَقَالَ مرة: (مَا أَظُنُّ فُلانًا وَفُلانًا يَعْرِفَانِ دِينَنَا الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ) .(9/261)
قال المؤلف: سوء الظن جائز عن أهل العلم لمن كان مظهرًا للقبيح وجانبًا لأهل الصلاح وغير مشاهد للصلوات فى الجماعة، وقد قال ابن عمر: كنا إذا فقدنا الرجل فى صلاة العشاء والصبح أسأنا الظن به. وأما قول النبى: (ماأظن فلانًا وفلانًا يعرفان ديننا) فى رجلين من المنافقين، فإن الظن هاهنا بمعنى اليقين؛ لأنه كان يعرف المنافقين حقيقة بإعلام الله له بهم فى سورة براءة. وقال ابن عباس: كنا نسمى سورة براءة: الفاضحة. قال ابن عباس: ما زالت تنزل (ومنهم. .) (ومنهم. .) حتى خشينا. لأن الله تعالى قد حكى فيها اقوال المنافقين وأذاهم للنبى عليه السلام ولمزاهم فى الصدقات وغيرها، إلا أن الله لم يأمره بقتلهم، ونحن لانعلم بالظن مثل ماعلمه النبى - عليه السلام لأجل نزول الوحى عليه، فلم يجب لنا القطع على الظن غير أنه من ظهر منه فعل منكر فقد عرض نفسه لسوء الظن والتهمة فى دينه فلا حرج على من أساء به الظن.
57 - باب: ستر المؤمن على نفسه
/ 90 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (كُلُّ أُمَّتِى مُعَافًى إِلا الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلا، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ: يَا فُلانُ، عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، فَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَليْهُ) .(9/262)
/ 91 - وفيه: ابْنَ عُمَرَ: أَنّ رجلاً سأله كَيْفَ سَمِعْتَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، يَقُولُ فِى النَّجْوَى؟ قَالَ: (يَدْنُو أَحَدُكُمْ مِنْ رَبِّهِ حَتَّى يَضَعَ كَنَفَهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولُ: عَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُقَرِّرُهُ، ثُمَّ يَقُولُ: إِنِّى سَتَرْتُ عَلَيْكَ فِى الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ) . قال المؤلف: وروى عن ابن مسعود أنه قال: ماستر الله على عبد فى الدنيا إلا ستر عليه فى الآخرة. وهذا مأخوذ من حديث النجوى. وقال ابن عباس فى قوله تعالى: (وأسبغ عليكم نعمة ظاهرة وباطنه) قال: أما الظاهرة بالإسلام وماحسن من خلقك وافضل عليك من الرزق، وأما الباطنة فما ستر عليك من الذنوب والعيوى. وفى ستر المؤمن على نفسه منافع. منها: أنه إذا اختفى بالذنب عن العباد لم يستخفوا به ولا استذلوه؛ لأن المعاصى تذل أهلها. ومنها: أنه كان ذنبًا يوجب الحد سقطت عنه المطالبة فى الدنيا. وفى المجاهرة بالمعاصى استخفاف بحق الله وحق رسوله وضرب من العناد لهما فلذلك قال عليه السلام: (كل أمتى معافى إلا المجاهرون) . قال المهلب: , اما قوله فى حديث النجوى: (يدنو أحدكم من ربه) فقال ابن فورك: معناه يقرب من رحمته وكرامته ولطفه لاستحالة حمله على قرب المسافة والنهاية إذ لايجوز ذلك على الله؛ لأنه لا(9/263)
يحويه مكان، ولايحيط به موضع، ولاتقع عليه الحدود، والعرب تقول: فلان قريب من فلان يريدون قرب المنزلة وعلو الدرجة عنده. وأما قوله: (فيضع الجبار عليه كنفه) فإنه يبين ما أشرنا اليه فى معنى الدنو أنه على تأويل قرب المنزلة والدرجة، وذلك أن لفظ الكنف إنما يستعمل فى مثل هذا المعنى، ألا ترى أنه يقال: أنا فى كنف فلان إذا أراد أن يعرف إسباغ فضله عليه وتوقيره عنده. وقال مهلب: عبر عليه السلام بالكنف عن ترك إظهار جرمه للملائكة وغيرهم بإدامة الستر الذى منّ به على العبد فى الدنيا، وجعله سببًا لمغرفته له فى الآخرة، ودليلاً للمذنب على عفوه، وتنبيهًا له على نعمة الخلاص من فضيحة الدنيا وعقوبة الآخرة التى هى اشد من عقوبة الدنيا، لقوله تعالى: (ولعذاب الآخرة أشد وأبقي) فيشكر ربه ويذكر وهذا الحديث كقوله تعالى: (إن رحمتى سبقت غضبى) لأن تأخير غضبه عنه عند مجاهرة ربه بالمعصية، وهو يعلم أنه لاتخفى عنه خافية مما يعلم بصحيح النظر أنه لم يؤخر عقوبته عنه لعجز عن إنفاذها عليه إلا لرحمته التى حكم لها بالسبق لغضبه؛ إذ ليس من صفة رحمته التى وسعت كل شىء أن تسبق فى الدنيا بالستر من الفضيحة ويسبقها الغضب فى ذلك الذنب فى الآخرة، فإذا لم يكن بد من تغليب الرحمة على الغضب فليبشر المذنبون المستترون بسعة رحمة الله، وليحذر المجاهرون بالمعاصى من وعيد الله النافذ على من شاء من عباده. وفى قوله تعالى: (سترتها عليك فى الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم)(9/264)
نص منه تعالى على صحة قول أهل السنة فى ترك إنفاذ الوعيد على العصاة من المؤمنين، والحجة فيه من طريق النظر أنه ليس مذمومًا من وجب له حق على غيره فوهبه له، والمرء قد يقول لعبده: إن صنعت كذا عاقبتك بكذا على معنى أنك إن أتيت هذا الفعل كنت مستحقًا عليه هذه المعاقبة، لإذا جنى العبد تلك الجناية كان السيد مخيرًا فى حق نفسه إن شاء أمضاه وإن شاء تركه، وإذا قال: إن فعلت كذا وكذا فلك على كذا وكذا ففعل ماكلفه لم يجز أن يخلفه بما وعده؛ لأن فى تمام الوعد حقا للعبد، وليس لأحد أن يدع حق غيره كما له أن يدع حق نفسه. والعرب تفتخر بخلف الوعيد، ولو مذمومًا لما جاز أن تفتخر بخلفه وتمتدح به، أنشد أبو عمرو الشيبانى: إنى متى أوعدته ووعدته لمخلف إيعادى ومنجز موعدى قال المهلب: فإن أخذ الله المنفذين للوعيد بحكمهم أنفذه عليهم دون غيرهم لقطعهم على الله الواسع الرحمة بإنفاذه الوعيد لظنهم بالله ظن السوء فعليهم دائرة السوء، وكان لهم عند ظنهم كما وعد فقال: (أنا عند ظن عبدى بى فليظن بى ما شاء) .
58 - باب: الكبر
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: (ثَانِى عِطْفِهِ) [الحج: 9] : مُسْتَكْبِرٌ فِى نَفْسِهِ، عِطْفُهُ: رَقَبَتُهُ / 92 - فيه: حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ(9/265)
الْجَنَّةِ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَاعِفٍ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأبَرَّهُ، أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ؟ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ) . / 93 - فيه: أنس قال: أَنَس، قَالَ: كَانَتِ الأمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ النَّبِىّ عليه السلام فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ. قال المؤلف: روى شعبة عن على بن زيد، عن أنس زيادة فى هذا الحديث قال: (إن كانت الوليدة من ولائد المدينة لتأخذ بيد النبى عليه السلام فما ينزع يدها من يده حتى تكون هى تنزعها) . وروى شعبة عن أبان بن تغلب، عن فضيل الفقيمى عن النخعى، عن عقلمة، عن عبد الله، عن النبى عليه السلام قال: (لا يدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال ذرة من كبر. فقال رجل: إن الرجل ليحب أن يكون ثوبه حسنأط ونعله حسنأط، قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمص الناس) . روى عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبى عليه السلام قال: (إن المستكبرين يحشرون يوم القيامة أشباه الذر على صور الناس، يعلوهم كل شىء من الصغار، يساقون حتى يدخلون سجنًا فى النار يسقون من طينه الخبال: عصارة أهل النار) . قال الطبرى: فإن قيل: قد وصف النبى عليه السلام العتل الجواظ المستكبر أنه من أهل النار فبين تكبره على من هو؟ قيل: هو الذى باطنه منطو على الكبر على الله، فهذا كافر لاشك فى كفره، وذلك هو الكبر الذى عناه النبي (صلى الله عليه وسلم) بقوله(9/266)
في حديث ابن مسعود: (لايدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال حبة من كبر) . فإن قيل: فقد وصفت الكبر بغير ماوصفه به النبى عليه السلام وذلك أنك رويت عنه أنه قال: (الكبر من سفه الحق وغمص الناس وأزدراء الحق ووصفت أنت الكبر بأنه التكبر على الله) . قيل: الكبر الذى وصفناه هو خلاف خشوع القلب لله تعالى ولا ينكر أن يكون من الكبر ما هو استكبار على غير الله، والذى قلنا من معنى الكبر على الله فإنه غير خارج من معنى مارويناه عنه عليه السلام أنه: (غمص الناس وازدراء الحق) وذلك أن معتقد الكبر على ربه لاشك أنه للحق مزدر وللناس أشد استحقارًا. ومما يدل على أن المراد يمعنى الآثار فى ذلك عن النبى عليه السلام ماقلناه ماحدثناه يونس، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث أن دراجًا أبا السمح حدثه عن أبى الهيثم، عن أبى سعيد الخدرى، عن رسول الله قال: (من تواضع لله درجة رفعه الله درجة، ومن تكبر على الله درجة يضعه الله درجة حتى يجعله فى أسفل سافلين) فلدل هذا الحديث أن غمص الحق وحقر الناس استكبارًا على الله. وقد روى حماد بن سلمة عن قتادة، وعلى بن زيد عن سعيد بن المسيب، عن أبى هريرة، عن النبى عليه السلام فيما حكى عن ربه تعالى قال: (الكبرياء ردائى فمن نازعنى ردائى قصمته)(9/267)
فالمستكبر على الله تعالى لاشك أنه منازعه رداءه، ومفارق دينه، وحرام عليه جنته كما قال عليه السلام أنه: (لا يدخلها إلا نفس مسلمة) ومن لم يخشع لله قلبه عليه مستكبر؛ إذ معنى الخشوع التواضع وخلاف الخشوع والتواضع التكبر والتعظم، فالحق لله على كل مكلف إشعار قلبه الخشوع بالذلة والاستكانة له بالعبودية خوف أليم عقابه، وقد روى عن محمد بن على أنه قال: (ما دخل قلب أمرىء شىء من الكبر إلا نقص من عقله قل ذلك أو كثر) . وقد تقدم تفسير العتل والجواظ فى باب قول الله تعالى: (واقسموا بالله جهد أيمانهم) فى كتاب الأيمان والنذور.
59 - باب الهجرة
وَقَوْلِ الرسُولِ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثِ) . / 94 - فيه: عَائِشَةَ أَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، قَالَ فِى بَيْعٍ أَوْ عَطَاءٍ أَعْطَتْهُ عَائِشَةُ: وَاللَّهِ لَتَنْتَهِيَنَّ عَائِشَةُ أَوْ لأحْجُرَنَّ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: أَهُوَ قَالَ هَذَا؟ قَالُوا نَعَمْ، قَالَتْ: هُوَ لِلَّهِ عَلَى نَذْرٌ أَنْ لا أُكَلِّمَ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَبَدًا، فَاسْتَشْفَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلَيْهَا حِينَ طَالَتِ الْهِجْرَةُ، فَقَالَتْ: لا، وَاللَّهِ لا أُشَفِّعُ فِيهِ أَبَدًا، وَلا أَتَحَنَّثُ إِلَى نَذْرِى، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ كَلَّمَ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ الأسْوَدِ بْنِ عَبْدِيَغُوثَ - وَهُمَا مِنْ بَنِى زُهْرَةَ - وَقَالَ لَهُمَا: أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ لَمَّا أَدْخَلْتُمَانِى عَلَى عَائِشَةَ، فَإِنَّهَا لا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَنْذِرَ قَطِيعَتِى، فَأَقْبَلَ بِهِ الْمِسْوَرُ وَعَبْدُالرَّحْمَنِ مُشْتَمِلَيْنِ بِأَرْدِيَتِهِمَا(9/268)
حَتَّى اسْتَأْذَنَا عَلَى عَائِشَةَ، فَقَالا: السَّلامُ عَلَيْكِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، أَنَدْخُلُ؟ قَالَتْ عَائِشَةُ: ادْخُلُوا، قَالُوا: كُلُّنَا؟ قَالَتْ: نَعَم، ادْخُلُوا كُلُّكُمْ، وَلا تَعْلَمُ أَنَّ مَعَهُمَا ابْنَ الزُّبَيْرِ، فَلَمَّا دَخَلُوا دَخَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْحِجَابَ، فَاعْتَنَقَ عَائِشَةَ، وَطَفِقَ يُنَاشِدُهَا وَيَبْكِى، وَطَفِقَ الْمِسْوَرُ وَعَبْدُالرَّحْمَنِ يُنَاشِدَانِهَا إِلا مَا كَلَّمَتْهُ وَقَبِلَتْ مِنْهُ، وَيَقُولانِ إِنَّ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) نَهَى عَمَّا قَدْ عَلِمْتِ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَإِنَّهُ لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثِ لَيَالٍ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَى عَائِشَةَ مِنَ التَّذْكِرَةِ وَالتَّحْرِيجِ، طَفِقَتْ تُذَكِّرُهُمَا نَذْرَهَا، وَتَبْكِى وَتَقُولُ: إِنِّى نَذَرْتُ، وَالنَّذْرُ شَدِيدٌ، فَلَمْ يَزَالا بِهَا حَتَّى كَلَّمَتِ ابْنَ الزُّبَيْرِ، وَأَعْتَقَتْ فِى نَذْرِهَا ذَلِكَ أَرْبَعِينَ رَقَبَةً، وَكَانَتْ تَذْكُرُ نَذْرَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَتَبْكِى حَتَّى تَبُلَّ دُمُوعُهَا خِمَارَهَا. / 95 - وفيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَبَاغَضُوا، وَلا تَحَاسَدُوا، وَلا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، وَلا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثِ لَيَالٍ يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا، وَيُعْرِضُ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِى يَبْدَأُ بِالسَّلامِ) . قال الطبرى: فى حديث أنس وأبى أيوى البيان الواضح أنه غير جائز لمسلم أن يهجر مسلمًا أكثر من ثلاثة أيام، وأنه إن هجره أكثر من ثلاثة أيام أثم، وكان أمره إلى الله إن شاء عذبع وإن شاء شاء عفا عنه؛ لأنه عليه السلام أخبر أنه لا يحل ذلك ومن فعل ماهو محظور عليه فقد اقتحم حمى الله وانتهك حرمته. وفيه دليل هجرته دون ثلاث أيام مباح لهما ولاتبعه عليهما فيها. وقال غيره: تجاوز الله لهما عما يعرض لهما من ذلك فى ثلاثة(9/269)
أيام لما فطر الله العباد عليه من ضعف الحيلة، وضيق الصدر وحرم عليهما مازاد على الثلاث؛ لأنه من الغل الذى لا يحل. وروى عيسى عن ابن القاسم فى الرجل يهجر أخاه إلا أنه يسلم عليه من غير أن يكلمه بغير السلام هل يبرأ من الحناء؟ فقال: سمعت مالكًا يقول: إن كان مؤذيا له برىء من الشحناء، وإن كان غير مؤذ فلا يبرأ من الشحنا. وقاله أحمد بن حنبل. وروى ابن وهب عن مالك قولا آخر: إذا سلم عليه فقد قطع الهجرة، وقوله عليه السلام: (وخيرهما الذى يبدأ بالسلام) حجة لهذا القول. وقيل لابن القاسم: هل ترى شهادته عليه جائزة باجتنابه كلامه وهو غير مؤذ له؟ قال: لا تقبل شهادته عليه. قال الطبرى: فإن قيل: فما أنت قائل فى حديث عائشة حين هجرت عبد الله بن الزبير وحلفت أن لا تكلمه أبدًا فتحمل عليها بالشفعاء حتى كلمته؟ قال: معنى الهجرة هو ترك الرجل كلام أخيه مع تلاقيهما واجتماعهما وإعراض كل واحد منهما عن صاحبه مصارمة له وتركه السلام عليه وذلك أن من حق المسلم على المسلم إذا تلاقيا أن يسلم كل واحد منهما على صاحبه، فإذا تركا ذلك بالمصارمة فقد دخلا فيما حظر الله، واستحقا العقوبة إن لم يعف الله عنهما. فعائشة لم تكن ممن يلقى ابن الزبير فتعرض عن السلام عليه صرما له، وإنما كانت من وراء حجاب، ولا يدخل عليها أحد إلا بإذن،(9/270)
وكان لها منع ابن الزبير دخول منزلها، وليس من الهجرة المنهى عنها، كما لو كانت فى بلدة وهو فى أخرى لا يتلتقيان لم يكن ذلك من الهجرة التى يأثمان بتركهما الاجتماع، وإن مرت أعوام كثيرة، ولم يكونا يجتماعان فيعرض أحدهما عن صاحبه. ويبين صحة ماقلناه قوله فى حديث أبى أيوى: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا) ، فأخبر عليه السلام بسبب حظر الله تعالى هجرة المسلم أخاه إنما ذلك من أجل تضييعهما ماأوجب الله عليهما عن تلاقيهما فإذا لم يلتقيا فيفرط كل واحد منهما فى واجب أخيه عليه، وذلك بعيد من معنى الهجرة. وقد تأول غير الطبرى فى هجرة عائشة لابن الزبير وجهًا آخر فقال: إنما ساغ لعائشة ذلك؛ لأنها أم المؤمنين وواجب توقيرها وبرها لجميع المؤمنين، وتنقصها كالعقوق لها فهجرت ابن الزبير أدبًا له، ألا ترى أنه لما نزع عن قوله، وندم عليه وتشفع اليها رجعت إلى مكالمته وكفرت يمينها، وهذا من باب إباحة هجران من عصى والإعراض عنه حتى يفىء إلى الواجب عليه.
60 - باب ما يجوز من الهجران لمن عصى
وَقَالَ كَعْبٌ حِينَ تَخَلَّفَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : وَنَهَى الرسول (صلى الله عليه وسلم) الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلامِنَا وَذَكَرَ خَمْسِينَ لَيْلَةً. / 96 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِنِّى لأعْرِفُ غَضَبَكِ(9/271)
وَرِضَاكِ) ، قُلْتُ: وَكَيْفَ تَعْرِفُ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (إِنَّكِ إِذَا كُنْتِ رَاضِيَةً، قُلْتِ بَلَى، وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا كُنْتِ سَاخِطَةً، قُلْتِ: لا وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ) ، قَالَتْ: قُلْتُ: أَجَلْ لَسْتُ أُهَاجِرُ إِلا اسْمَكَ. قال المهلب: غرضه فى كتاب هذا الباب أن يبين صفة الهجران الجائز وأن ذلك متنوع على قدر الإجرام، فمن كان جرمه كبيرًا فينبغى هجرانه واجتنابه وترك مكالمته كما جاء فى أمر كعب بن مالك وصاحبيه، وماكان من المغاضبة بين الأهل والإخوان فالهجران الجائز فيهما هجران التحية والتسمية وبسط الوجه كما فعلت عائشة فى مغاضبتها مع رسول الله. قال الطبرى: وفى حديث كعب بن مالك أصل فى هجران أهل المعاصى والفسوق والبدع، ألا ترى أنه عليه السلام نهى عن كلامهم بتخلفهم عنه، ولم يكن ذلك كفرًا ولا ارتدادًا، وإنما كان معصية ركبوها، فأمر بهجرتهم حتى تاب الله عليهم، ثم أذن فى مراجعتهم، فكذلك الحق فيمن أحداث ذنبًا خالف به أمر الله ورسوله فيما لا شبهة فيه ولا تأويل، أو ركب معصية على علم أنها معصية لله أن يهجر غضبًا لله ورسوله، ولا يكلم حتى يتوب وتعلم توبته علمًا ظاهرًا كما قال فى قصة الثلاثة الذين خلفوا. فإن قيل: فيحرج مكلم أهل المعاصى والبدع على كل وجه؟ قيل: إن كلمهم بالتقريع لهم والموعظة والزجر لهم عما يأتونه لم يكن حرجًا فإن كلمهم على غير ذلك خشيت أن يكون إثمًا، إلا من أمر لا يجد من كلامه فيه بدا فيكلمه وهو كاره لطريقته وعليه(9/272)
واجد كالذى كان من أبى قتادة فى كعب بن مالك إذ ناشده الله هل تعلم أنى أحب الله وروسوله؟ كل ذلك لا يجيبه، ثم أجابه أن قال: الله ورسوله أعلم، ولم يزده على ذلك. فإن قيل: إنك تبيح كلام أهل الشرك بالله، ولاتوجب على المسلمين هجرتهم فكيف ألزمتنا هجرة أهل البدع والفسوق، وهم بالله وروسوله مقرون؟ قيل: إن حظرنا ماحظرنا وإطلاقنا ماأطلقناه لم يكن إلا عن أمر من لا يسعنا خلاف أمره، وذلك لنهيه عليه السلام عن كلام النفر المتخلفين عن تبوك وهم بوحدانية الله مقرون ونبوة نبيه مصدقون وأما المشركون فإنما أطلقت لأهل الإيمان كلامهم لإجماع الجميع على إجازتهم البيع والشراء منهم والأخذ والإعطاء، وقد يلزم من هجرة كثير من المسلمين فى بعض الأحوال مالايلزم من هجرة كثير من أهل الكفر. وذلك أنهم أجمعوا على أن رجلا من المسلمين لو لزمه حد من حدود الله فى غير الحرم ثم استعاذ بالحرم أنه لا يبايع ولايكلم ولايجالس حتى يخرج من الحرم فيقام عليه حد الله تعالى ولله أحكام فى خلقه جعلها بينهم مصلحة لهم هو أعلم بأسبابها وعليهم التسليم لأمره فيها؛ لأن الخلق والأمر لله، تبارك الله رب العالمين.(9/273)
61 - باب هل يزور صاحبه كل يوم أو بكرة وعشيا
/ 97 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَى إِلا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْهِمَا يَوْمٌ إِلا يَأْتِينَا فِيهِ النَّبِىّ عليه السلام طَرَفَىِ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، فَبَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ فِى بَيْتِ أَبِى بَكْرٍ فِى نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، قَالَ قَائِلٌ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فِى سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا. . . . الحديث. قال المؤلف: فى هذا الحديث جواز زيارة الصديق الملاطف مرتين كل يوم، وليس - بمعاض لحديث أبى هريرة أن النبى عليه السلام قال: (زد غبًا تزدد حبًا) ذكره أبو عبيد فى كتاب الأمثال، وإنما فى قوله هذا إعلام منه عليه السلام أن إغاب الزيارة أزيد فى المحبة وأثبت للمودة؛ لأن مواترة الزيارة والإكثار منها ربما أدت إلى الضجر، وأبدت أخلاقًا كامنة لا تظهر عند الإغباب فآلت إلى البغضة، وكانت سببًا للقطيعة أو للزهد فى الصديق. وفى حديث عائشة فى هذا الباب جواز الصديق الملاطف لصديقه كل يوم على قدر حاجته إليه والانتفاع به فى مساركته له، فهما حديثان مختلفان لك منهما معنى غير معنى صاحبه وليسا بمتعاضين.
62 - باب: الزيارة ومن زار قوما فطعم عندهم
وَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فِى عَهْدِ النَّبِى عليه السلام فَأَكَلَ عِنْدَهُ. / 98 - فيه: أَنَس، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) زَارَ أَهْلَ بَيْتٍ مِنَ الأنْصَارِ، فَطَعِمَ عِنْدَهُمْ(9/274)
طَعَامًا، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَمَرَ بِمَكَانٍ مِنَ الْبَيْتِ، فَنُضِحَ لَهُ عَلَى بِسَاطٍ، فَصَلَّى عَلَيْهِ، وَدَعَا لَهُمْ. قال المؤلف: من تمام الزيارة إطعام الزائر ماحضر واتحافه بما تيسر وذلك من كريم الأخلاق، وهو ممايثبت المودة ويؤكد المحبة. وفيه: أن الزائر إذا أكرمه المزور أنه ينبغى له أن يدعو له ولأهل بيته ويبارك فى طعامهم وفى رزقهم.
63 - باب من تجمل للوفود
/ 99 - فيه: يَحْيَى بْنُ أَبِى إِسْحَاقَ، قَالَ: قَالَ لِى سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: مَا الإسْتَبْرَقُ؟ قُلْتُ: مَا غَلُظَ مِنَ الدِّيبَاجِ وَخَشُنَ مِنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَاللَّهِ، يَقُولُ: رَأَى عُمَرُ عَلَى رَجُلٍ حُلَّةً مِنْ إِسْتَبْرَقٍ، فَأَتَى بِهَا النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اشْتَرِ هَذِهِ، فَالْبَسْهَا لِوَفْدِ النَّاسِ إِذَا قَدِمُوا عَلَيْكَ، فَقَالَ: (إِنَّمَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ مَنْ لا خَلاقَ لَهُ. . . .) الحديث. قال المؤلف: فيه: جواز تجمل الخليفة والإمام للوفود القادمين عليه بحسن الزى وجميل الهيئة ألا ترى قول عمر للنبى: (اشتر هذه فالبسها لوفد الناس إذا قدموا عليك) وهذا يدل أن عادة النبى كانت جارية بالتجمل لهم، فينبغى الاقتداء بالنبى فى ذلك، ففيه تفخيم الإسلام ومباهته للعدو وغيظ الكفار. وقد تقدم فى كتاب اللباس ماللعلماء فى لباس الحرير.(9/275)
64 - باب: الإخاء والحلف
وَقَالَ أَبُو جُحَيْفَةَ: آخَى النَّبِى عليه السلام بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِى الدَّرْدَاءِ. وَقَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ آخَى النَّبِى عليه السلام بَيْنِى وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ. / 100 - فيه: أَنَس، قَدِمَ عَلَيْنَا عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْف، فَآخَى النَّبِى عليه السلام بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ. / 101 - وفيه: عَاصِمٌ، قُلْتُ لأنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَبَلَغَكَ أَنَّ النَّبِى عليه السلام قَالَ: (لا حِلْفَ فِى الإسْلامِ) ؟ فَقَالَ: قَدْ حَالَفَ النَّبِى عليه السلام بَيْنَ قُرَيْشٍ وَالأنْصَارِ فِى دَارِى. قال المؤلف: آخى النبى بين المهاجرين والأنصار أول قدومه المدينة وحالف بينهم، وكانوا يتوارثون بذلك الإخاء والحلف دون ذوى الرحم، قال سعيد بن الجبير: وقد عاقد أبو بكر رجلا فورثه. قال الحسن: كان هذا قبل آية المواريث، وكان أهل الجاهلية يفعلون ذلك. وقال ابن عباس: فلما نزلت: (ولكل جعلنا موالى مما ترك الوالدان (يعنى: ورثه، ونسخت ثم قال: (والذين عقدت أيمانهم فآتوهم نصيبهم (يعنى: من النصر والرفادة والنصيحة. وقد ذهب الميراث. قال الطبرى: لا يجوز الحلف اليوم فى الإسلام لما حدثنا به أبو كريب وغيره قالا: حدثنا محمد بن بشير، حدثنا زكريا بن أبى زائدة، حدثنا سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن جبير بن مطعم، عن النبى عليه السلام أنه قال: (لا حلف فى الإسلام وما كان من حلف فى الجاهلية فلا يزيده الإسلام إلا شدة) . وقال ابن عباس:(9/276)
نسخ الله حلف الجاهلية وحلف الإسلام بقوله: (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض) ورد المواريث إلى القرابات. فإن قيل: فما معنى قوله عليه السلام: (وما كان من حلف فى الجاهلية فلا يزيده الإسلام إلا شدة) . قيل: الذى أمر به النبى عليه السلام - بالوفاء به من ذلك هو ما لم ينسخه الإسلام ولم يبطله حكم القرآن، وهو التعاون على الحق والنصرة على الأخذ على يد الظالم الباغى.
65 - باب: التبسم والضحك
وقالت فاطمة: أسر إلى النبى - عليه السلام فضحكت. وَقَالَتْ فَاطِمَةُ: أَسَرَّ إِلَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فَضَحِكْتُ. ذكر فى هذا الباب أحاديث كثيرة فيها أن النبى عليه السلام ضحك وفى بعضها أنه تبسم وذكر حديث عائشة قالت: ما رأيت النبى (صلى الله عليه وسلم) مستجمعًا قط ضاحكا حتى أرى منه لهواته إنما كان يبتسم. وفى حديث أبى هريرة فى الذى وقع على أهله فى رمضان: أنه عليه السلام ضحك حتى بدت نواجذه. والنواجذ آخر الأسنان، وهى أسنان الحلم عند العرب. فإن قيل: إن هذا الخلاف لما روته عائشة (أنها لم تره عليه السلام مستجمعًا ضاحكًا قط حتى تبدو لهواته. ولا تبدو النواجذ على ما قال أبو هريرة إلا عند الاستغراق فى الضحك وظهور اللهوات.(9/277)
قيل: ليس هذا بخلاف لأن أبا هريرة شهد مالم تشهد عائشة، وأثبت ماليس فى خبرها، والمثبت أولى وذلك زيادة يجب الأخذ بها، وليس فى قول عائشة قطع منها أنه لم يضحك قط حتى تبدو لهواته فى وقت من الأوقات، وإنما أخبرت بما رأت كما أخبر أبو هريرة بما رأى، وذلك إخبار عن وقتين مختلفين. ووجه تأويل هذه الآار - والله أعلم - أنه كان عليه السلام فى أكثر أحواله يبتسم، وكان أيضًا يضحك فى أحوال أخر ضحكا أعلى من التبسم، واقل من الاستغراق الذى تبدو فيه اللهوات، هذا كان شأنه، وكان فى النادر عند إفراط تعجبه ربما ضحك حتى تبدو نواجذه، ويجرى على عادة البشر فى ذلك لأنه قد قال: (إنما أنا بشر) فيبين لأمته بضحكة الذى بدت فيه نواجذه أنه غير محرم على أمته، وبان بحديث عائشة أن التبسم ولاقتصار فى الضحك هو الذى ينبغى لأمته فعله والاقتداء به فيه للزومه عليه السلام له فى أكثر أحواله. وفيه وجه آخر: من الناس من يسمى الأنياب الضواحك نواجذ واستشهد بقول لبيد: وإذا الأسنة اشرعت لنحورها أبرزن حد نواجذ الأنياب فتكون النواجذ الأنياب على معنى إضافة الشىء إلى نفسه، وذلك جائز إذا اختلف اللفظان كما يجوز عطف الشىء على نفسه إذا اختلف اللفظان، ومن إضافة الشىء إلى نفسه قوله تعالى: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) (وحب الحصيد) ، وقولهم: مسجد الجامع، وقال رؤبة: إذا استعبرت من جفون الأغماد(9/278)
والجفون على الأغماد وإضافة الشىء إلى نفسه مذهب الكوفيين، وقد وجدنا أن النواجذ يعبر عنها بالأنيبا فى حديث الذى وقع على أهله فى رمضان وقع فى هذا الباب: (أن النبى عليه السلام ضحك حتى بدت نواجذه) ووقع فى كتاب الصيام فى هذا الحديث: (أنه ضحك حتى بدت أنيابه) فارتفع اللبس بذلك وزال الاختلاف بين الأحاديث، وهذا الوجه أولى، والله أعلم. وهذا الباب يرد ما روى عن الحسن البصرى أنه كان لا يضحك، وروى جعفر عن أسماء قالت: ما رأيت الحسن فى جماعة ولا فى أهله ولا وحده ضاحك قط إلا مبتسمًا. ولا أحد زهد كزهد النبى (صلى الله عليه وسلم) وقد ثبت عنه أنه ضحك، وكان ابن سيرين يضحك ويحتج على الحسن ويقول: الله هو الذى أضحك وأبكى. وكان الصحابة يضحكون، وروى عبد الرواق، عن معمر، عن قتادة قال: سئل ابن عمر هل كان أصحاب النبى عليه السلام يضحكون؟ قال: نعم، والإيمان فى قلوبهم أعظم من الجبال. وفى رسول الله واصحابه المهتدين السوة الحسنة. وأما المكروه من هذا الباب فهو الإكثار من الضحك كما قال لقمان لأبنه: يابنى إياك وكثرة الضحك فإنه يميت القلب فلإكثار منه وملازمته حتى يغلب على صاحبه، مذموم منهى عنه، وهو من فعل أهل السفه والبطالة.(9/279)
66 - باب: قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين (وما ينهى عنه من الكذب
/ 102 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، عَنِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) أَنَّهُ قَالَ: (إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِى إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِى إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا، وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِى إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِى إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا) . / 103 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ) . / 104 - وفيه: سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِى، قَالا: الَّذِى رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ، فَكَذَّابٌ يَكْذِبُ بِالْكَذْبَةِ، تُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الآفَاقَ، فَيُصْنَعُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) . قال المؤلف: مصداق حديث عبد الله فى كتاب الله: (إن الأبرار لفى نعيم وإن الفجار لفى جحيم) والصدق أرفع خلال المؤمنين إلا ترى قوله: (ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) فجعل الصدق مقارنًا للتقوى، وقيل للقمان الحكيم: مابلغ بك ما نرى؟ قال: صدق الحديث، وأداء الأمانة، وتركى ما لا يعنينى. وروى مالك عن صفوان بن سليم أنه قيل للنبى (صلى الله عليه وسلم) : (أيكون المؤمن كذابًا؟ قال: لا) . وظاهر هذا معارض لحديث عبد الله، والتأويل الجامع بينهما أن معنى حديث صفوان لا يكون المؤمن المستكمل لأعلى درجات(9/280)
الإيمان كذابًا حتى يغلب عليه الكذب لأن كذابًا وزنه فعال، وهو من أبنية المبالغة لمن يكثر منه الكذب ويكرر حتى يعرف به، ومثاله الكذوب أيضًا، ويبين هذا قوله عليه السلام: (إن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صدوقًا) ، يعنى لا يزال يتكرر الصدق منه حتى يستحق اسم المبالغة فى الصدق وكذلك قوله: (إن الرجل يكذب حتى يكتب عند الله كذابًا) يعنى لا يزال يتكرر الكذب منه حتى يغلب عليه، وهذه الصفة ليست صفة عليه المؤمنين بل هى من صفات المنافقين وعلاماتهم كما قال عليه السلام فى حديث أبى هريرة، وقد تقدم معناه فى كتاب الإيمان فى باب علامة المنافق. وأخبر عليه السلام فى حديث سمرة بعقوبة الكاذب الذى كذبه الآفاق أنه يشق شدقه فى النار إلى يوم القيامة، فعوقب فى موضع المعصية وهو فمه الذى كذب به.
67 - باب الهدي الصالح
/ 105 - فيه: حُذَيْفَةَ، قَالَ: إِنَّ أَشْبَهَ النَّاسِ دَلا وَسَمْتًا وَهَدْيًا بِرَسُولِ اللَّهِ عليه السلام لابْنُ أُمِّ عَبْدٍ مِنْ حِينِ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ إِلَى أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ، لا نَدْرِى مَا يَصْنَعُ فِى أَهْلِهِ إِذَا خَلا. / 106 - وفيه: عَبْدُ اللَّه بْن عُمَر، قَالَ: إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْىِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ.(9/281)
قال المؤلف: قال أبو عبيد: الهدى والدل أحدهما قرريب المعنى من الآخر وهما من السكينة والوقار فى الهيئة والمنظر والشمائل وغير ذلك، قال الأخطل يصف الكذاب: حتى تناهين عنه ساميًا جرحًا وماهدى هدى مهزوم ولا نكلا يقول: لم أسرع إسراع المنهزم ولكن على سكون وحسن هدى. وقال عدى بن زيد يصف امرأة بحسن الدل: لم تطلع من خدرها تبتغى خب با ولا ساء دلها فى العناق والسمت يكون فى معنيين: أحدهما: حسن الهيئة والمنظر فى مذهب الدين، وليس من الجمال والزينة، ولكن يكون له هيئة أهل الخير ومنظرهم. والوجه الآخر: السمت: الطريق يقال: الزم هذا السمت. وكلاهما له معنى جيد بكون: أن يلزم طريقه أهل الإسلام فتكون له هيئة أهل افسلام، وذكر أبو عبيد فى حديث عمر بن الخطاب أن أصحاب عبد الله كانوا يدخلون إليه فينظرون إلى مته وهديه ودله فيشتبهون به. قال المؤلف: فى هذا من الفقه أنه ينبغى للناس الاقتداء بأهل الفضل والصلاح فى جميع أحواليهم فى هيئتهم وتواضعهم ورحمتهم للخلق، وإنصافهم من أنفسهم، ورفقهم فى أخذ الحق إذا وجب لهم إن أحبوا الاقتصاص أو عفوهم عن ذلك إن آثروا العفو، وفى مأكلهم ومشربهم واقتصادهم فى أمرورهم تبركًا به.(9/282)
68 - باب: الصبر على الأذى وقول الله تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب (
/ 107 - فيه: أَبُو مُوسَى قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَيْسَ أَحَدٌ - أَوْ لَيْسَ شَىْءٌ - أَصْبَرَ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ لَيَدْعُونَ لَهُ وَلَدًا، وَإِنَّهُ لَيُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ) . / 108 - وفيه: عَبْدُ اللَّهِ: قَسَمَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) قِسْمَةً كَبَعْضِ مَا كَانَ يَقْسِمُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ: وَاللَّهِ إِنَّهَا لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ، قُلْتُ: أَمَّا أَنَا لأقُولَنَّ لِلنَّبِى (صلى الله عليه وسلم) فَأَتَيْتُهُ، وَهُوَ فِى أَصْحَابِهِ، فَسَارَرْتُهُ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِى عليه السلام وَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ، وَغَضِبَ حَتَّى وَدِدْتُ أَنِّى لَمْ أَكُنْ أَخْبَرْتُهُ، ثُمَّ قَالَ: قَدْ أُوذِى مُوسَى بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَصَبَرَ. قال المؤلف: ذكر الله جزاء الأعمال وجعل له نهاية وحدا فقال: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) وجعل جزاء الصدقة فى سبيل الله فوق هذا القول: (مثل الذين ينفقون أموالهم فى سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل فى كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء) وجعل أجر الصابرين بغير حساب ومدح أهله فقال: (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور) والصبر على الأذى من باب جهاد النفس وقمعها من شهواتها ومنعها عن تطاولها، وهو من أخلاق الأنبياء والصالحين، وإن كان قد جبل الله النفوس على تألمها من الأذى ومشقته، الا ترى أن النبى عليه السلام شق عليه تجوير الأنصارى له فى القسمة حتى تغير وجهه وغضب، ثم سكن ذلك منه علمه بما(9/283)
وعد الله ذلك من جزيل الأجر، واقتدى بصبر موسى على أكثر من أذى الأنصارى له رجاء ما عند الله. وللصبر أبواب غير الصبر على الأذى روى عن على بن أبى طالب أن النبى عليه السلام قال: (الصبر ثلاثة: فصبر على الكصيبة، وصبر على الطاعة، وصبر على المعصية، فمن صبر على المصيبة حتى يردها بحسن عزائها كتب الله له ثلثمائة درجة مابين الدرجة إلى الدرجة ما بين السماء والأرض، ومن صبر على الطاعة كتب الله له ستمائة درجة مابين الدرجة إلى الدرجة مابين تخوم الأرض السابعة إلى منتهى العرش، ومن صبر على المعصية كتب الله له تسعمائة درجة مابين الدرجة إلى الدرجة مابين تخوم الأرض السابعة إلى منتهى العرش مرتين) . وقد روى يزيد الرقاشى عن أنس أن النبى عليه السلام قال: (الإيمان نصفان نصف فى الصبر والنصف فى الشكر) . وروى ابن المنكدر عن جابر بن عبد الله (أن النبى عليه السلام سئل عن الإيمان فقال: السماحة والصبر) . وقال الشعبى: قال على بن أبى طالب: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد. قال الطبرى: وصدق على، وذلك أن الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالحوارج، فمن لم يصبر على العمل بشرائع لم يستحق اسم الإيمان بالإطلاق، والصبر على العمل بالشرائع نظير الرأس من جسد الإنسان الذى لاتمام له إلا له، وهذا فى معنى حديث أنس وجابر أن الصبر نصف الإيمان، وعامة المواضع التي ذكر الله(9/284)
فيها الصبر وحث عليه عباده إنما هى مواضع الشدائد ومواطن المكاره الذى يعظم على النفوس ثقلها، ويشتد عندها جزعها وكل ذلك محن وبلاء، الا ترى قوله عليه السلام للأنصار: (لن تعطوا عطاءًا خيرًا وأوسع من الصبر) . والصبر فى لسان العرب: حبس النفس عن المطلوب حتى يدرك، ومنه نهيه عليه السلام عن صبر البهائم. يعنى أنه نهى عن حبسها على التمثيل بها. ورميها كما ترمى الأغراض، ومنه قولهم: صبر الحاكم يمين فلان يعنى حبسه على حلفه. فإن قال قائل: فهذه صفات توجب التغير وحوث الحواث لمن وصف بها فما معنى وصف الله تعالى بالصبر؟ . قيل: معنى وصفه بذلك هو بمعنى الحلم، ومعنى وصفه بالحلم هو تأخير العقوبة عن المستحقين لها، ووصفه تعالى بالصبر لم يرد فى التنزيل، وإنما ورد فى حديث أبى موسى، وتأوله أهل السنة على تأويل الحلم، هذا قول ابن فورك.
69 - باب: من لم يواجه الناس بالعتاب
/ 109 - فيه: عَائِشَة، صَنَعَ النَّبِى عليه السلام شَيْئًا، فَرَخَّصَ فِيهِ، فَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِى عليه السلام فَخَطَبَ فَحَمِدَ اللَّهَ، ثُمَّ قَالَ: (مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنِ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ، فَوَاللَّهِ إِنِّى لأعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ، وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً) . / 110 - وفيه: أَبُو سَعِيد الْخُدْرِىِّ، قَالَ: كَانَ النَّبِى عليه السلام أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِى خِدْرِهَا، فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِى وَجْهِهِ.(9/285)
قال المؤلف: إنما كان عليه السلام لا يواجه الناس بالعتاب يعنى على مايكون فى خاصة نفسه كالصبر على جهل الجاهل وجفاء الأعرابى ألا ترى أن ترك الذى حبذ البردة من عنقه حتى أثرت حبذته فيه؛ لأنه كان لا ينتقم لنفسه، وهذا معنى حديث أبى سعيد، فأما أن تنتهك من الدين حرمة فإنه كان لا يترك العتاب عليها والتقريع فيها ويصدع بالحق فيما يجب على منتهكها ويقتص منه، سواء كان حقًا لله، أو من حقوق العباد. فإن قيل: فإن كان معنى حديث أبى سعيد ماذكرت من أنه عليه السلام كان لا يعاتب فيما يكون فى خاصة نفسه فقد وجه بالعتاب فى حديث عائشة، وخطب بذلك ذكره فى باب من لم يواجه الناس بالعتاب؟ . فالجواب: أن هذا العتاب وإن كان خطب به فلم يعين من أراد به، ولايقرعه من بين الناس، وكل ما جرى هذا المجرى من عتاب يعم الكل ولايقصد به أحد بعينه فهو رفق بمن عنى به وستر له كما أراد عمر بن الخطاب - حين أمر الناس كلهم بالوضوء يوم الجمعة، وهو يخطب - ومن أجل الرجل الذى أحدث بين يديه للستر له والرفق به، وليس ذلك بمنزلة أمره له بالوضوء من بينهم وحده فى الستر له لو فعل ذلك، وإنما فعل ذلك عليه السلام - والله أعلم - لأن كل رخصة فى دين الله فالعباد مخيرون بين الأخذ بها والترك لها، وكان عليه السلام رفيقًا بأمته حريصًا على التخفيف عنهم، فلذلك خفف عنهم العتاب لأنهم فعلوا مايجوز لهم من الأخذ بالشدة، وقد ترك عتابهم مرة أخرى على ترك الرخصة، وأخذهم بالشدة حين(9/286)
صاموا فى السفر وهو مفطر، وإن كان قد جاء فى الحديث (إن دين الله يسر) . قال الشعبى: إن الله يحب أن يعمل برخصة كما يحب أن يعمل بعزائمه. فليس ذلك دليلاً على تحريم الأخذ بالعزائم؛ لأن ذلك لو كان حرامًا لأمر الذين خالفوا رخصته بالرجوع من فعلهم إلى فعله. وفى حديث أبى سعيد الحكم بالدليل؛ لأنهم كانوا يعرفون كراهية النبى الشىء بتغير وجهه، كما كانوا يعرفون قراءءته فيما أسر فيه فى الصلاة باضطراب لحيتة.
70 - باب: من كفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال
/ 111 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْن عُمَر، أَنَّ النَّبِىّ عليه السلام قَالَ: (إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لأخِيهِ: يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا) . / 112 - وفيه: ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الإسْلامِ كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَىْءٍ، عُذِّبَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ، وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ) . قال المؤلف: قوله عليه السلام: (من قال لأخيه ياكافر فقد باء به أحدهما) يعنى: باء بأثم رميه لأخيه بالكفر ورجع وزر ذلك عليه إن كان كاذبًا. وقد روى هذا المعنى من حديث أبى ذر أن النبى قال: (لا يرمى رجل رجلا بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه(9/287)
كذلك) ذكره البخارى فى باب ماينهى عنه من السباب واللعن فى أول كتاب الأدب. قال المهلب: وهذا معنى تبويبه من كفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال، أن المكفر له الذى يرجع عليه إثم التكفير؛ لأن الذى رمى به عند الرامى صحيح الإيمان إذا لم يتأول عليه شيئا يخرجه من الإيمان فكما هو صحيح الإيمان كصحة إيمان الرامى فقد صح أنه أراد برميه له بالكفر كل من هو على دينه فقد كفر نفسه؛ لأنه على دينه ومساو له فى إيمانه، فإن استحق ذلك الكفر المرمى به استحق مثله الرامى وغيره. وقد يجيب الفقهاء من هذا بأن يقولوا: فقد كفر بحق أخيه المسلم، وليس ذلك مما يسمى به الجاحد بحق أخيه المسلم كافرا لأنه لا يستحق من جحد حق أخيه فى بر أو مال. وقد روى اشهب عن مالك أنه سئل عن قوله عليه السلام: (من قال لأخيه ياكافر فقد باء بها أحدهما) قال مالك: أراهم الحرورية. قيل له: أفتراهم بذلك كفارًا؟ قال: لا أدرى ما هذا. والحجة لقول مالك قوله عليه السلام: (سباب المسلم فسوق) والفسوق غير الكفر. وقوله: (فقد باء بها أحدهما) هو على مذهب العرب فى استعمالها الكناية فى كلامها وترك التصريح بالشر، وهذا كقول الرجل لمن أراد أن يكذبه: والله إن أحدنا لكاذب، وهذا كقوله تعالى: (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو فى ضلال مبين) . وقوله: (من حلف بمله غير الإسلام كاذبًا فهو كما قال) قد(9/288)
تقدم معناه فى كتاب الجنائز فى باب قاتل النفس، وفى كتاب الإيمان والنذور فى باب من حلف بمله سوى الإسلام بما فيه فكاية لكنى كرهت أن أخلى هذا الباب من الكلام فيه لأنى كثيرًا ماكنت أسأل المهلب عن هذا الحديث لصعوبته فيجيبنى هنه بألفاظ وطرق مختلفة والمعنى واحد. فقال لى: قوله: (فهو كما قال) يعنى: فهو كاذب لا كافر إلا أنه تعمد بالكذب الذى حلف عليه التزام المللة التى حلف بها قال عليه السلام: (فهو كما قال) من التزام اليهودية والنصرانية وعيدًا منه عليه السلام لمن صح قصده بكذبه إلى التزام تلك المللة فى حين كذبه فى وقت ثان، إذ كان ذلك على سبيل المكر والخديعة للمحلوف له. يبين ذلك قوله عليه السلام: (لا يزنى حين يزنى وهو مؤمن) فلم ينف عنه الإيمان إلا وقت الزنا خاصة، وكذلك هذا الحالف بملة غير الإسلام؛ لقيام الدليل على أنه لم يرد نبذ الإسلام بتعليقه يمينه بشرط المحلوف عليه، ولو أراد الارتداد لم يعلق قوله أنا يهودى لمحلوف عليه من معانى الدنيا. ولذلك قال عليه السلام: (من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله) خشية منه عليه استدامة حاله على ماقال وقتئذ فينفذ عليه الوعيد فيحبط عمله، ويطبع على قلبه لما قال من كلمة الكفر بعد الإيمان، فتكون كلمة وافقت قدرًا فيزين له سوء عمله فيراه حسنًا فيستديم ما قال ويصر عليه. وأما من حلف بملة غير الإسلام وهو فيما حلف عليه صادق فهو تصحيح براءته من تلك الملة مثل أن يقول: أنا يهودي إن طعمت اليوم(9/289)
أو شربت، وهو صادق لم يشرب ولم يأكل، فلما عقد يمينه بشرط هو فى الحقيقة معدوم ماربطه به وهو الأكل والشرب اللذان لم يقعا منه لم يتعين عليه وعيد يخشى إنفاذه عليه، ولم يتوجه إليه إثم الملة التى حلف عليها لعقده نبيته على نفيها كنفى شرطها لكن لا يبرأ من الملامة لمخالفته لقوله عليه السلام: (من كان حالفًا فليحلف بالله) . قال الطبرى: وقوله عليه السلام: (لعن المؤمن كقتله) يريد فى بعض معناه لا فى الإثم والعقوبة، ألا ترى أن من قتل مؤمنا أن عليه القود ومن لعنه لا قود عليه؟ . واللعن فى اللغة الإبعاد من الرحمة، وكذلك القتل إبعاد المقتول من الحياة التى يجب بها نصره المؤمنين وعون بعضهم لبعض وقد قال عليه السلام: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا) وكذلك قوله: (من رمى مؤمنًا بكفر فهو كقتله) لما أجمع المسلمون أنه لا قتل عليه فى رميه له بالكفر، علم أن التشبيه إنما وقع بينهما فى معنى يجمعهما وهو ماقلناه أن اللعن الإبعاد من الرحمة كما أن القتل إبعاد من الحياة وإعدام منها، وقد بعض العلماء: إن معنى قوله: (لعن المؤمن كقتله) يريد فى تحريم ذلك عليه وقد ذكرته فى كتاب الإيمان والنذور.
71 - باب: من لم ير إكفار من قال ذلك متأولا أو جاهلا
وَقَالَ عُمَرُ لِحَاطِبِ: إِنَّهُ مُنَافِقٌ، فَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (وَمَا يُدْرِيكَ، لَعَلَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: قَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ) .(9/290)
/ 113 - فيه: جَابِر، أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ كَانَ يُصَلِّى مَعَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ يَأْتِى قَوْمَهُ، فَيُصَلِّى بِهِمُ الصَّلاةَ، فَقَرَأَ بِهِمُ الْبَقَرَةَ، قَالَ: فَتَجَوَّزَ رَجُلٌ، فَصَلَّى صَلاةً خَفِيفَةً، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاذً فَقَالَ: إِنَّهُ مُنَافِقٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّجُلَ، فَأَتَى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا قَوْمٌ نَعْمَلُ بِأَيْدِينَا، وَنَسْقِى بِنَوَاضِحِنَا، وَإِنَّ مُعَاذًا صَلَّى بِنَا الْبَارِحَةَ، فَقَرَأَ الْبَقَرَةَ، فَتَجَوَّزْتُ، فَزَعَمَ أَنِّى مُنَافِقٌ، فَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (يَا مُعَاذُ، أَفَتَّانٌ أَنْتَ، ثَلاثًا؟ اقْرَأْ: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا) [الشمس: 1] ) وَسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى) [الأعلى: 1] وَنَحْوَهَا) . / 114 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ، فَقَالَ فِى حَلِفِهِ: بِاللاتِ وَالْعُزَّى، فَلْيَقُلْ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبهِ: تَعَالَ، أُقَامِرْكَ، فَلْيَتَصَدَّقْ) . / 115 - وفيه: ابْن عُمَر، أَنَّهُ أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِى رَكْبٍ، وَهُوَ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ، فَنَادَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَلا إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا، فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ، وَإِلا فَلْيَصْمُتْ) . قال المهلب: معنى هذا الباب أن المتأول معذور غير مأثوم، ألا ترى أن عمر بن الخطاب قال لحاطب لما كاتب المشركين بخبر النبى إنه منافق، فعذر النبى عليه السلام عمر لما نسبه إلى النفاق، وهوأسوأ الكفر، ولم يكفر عمر بذلك من أجل ما جناه حاطب، وكذلك عذرا عليه السلام معاذ حين قال للذى خفف الصلاة وقعطها خلفه إنه منافق؛ لأنه كان متأولا فلم يكفر معاذ بذلك. ومثل ذلك قوله عليه السلام حين سمع عمر يحلف بأبيه: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآباكم) فلم ير النبى إكفار عمر حين حلف بأبيه وترك الحلف بربه الذى خلقه ورزقه وهداه، وقصده اليمين بغير الله تشريك لله فى حقه لاسيما على طراوة عباده غير الله، فلما لم يعرفه(9/291)
عليه السلام بأن يمينه بأبيه ليس بكفر من أجل تأويله أن له أن يحلف بأبيه للحق الذى له بالأبوة، عذر عمر فى ذلك لجهالته أن الله لا يريد أن يشرك معه غيره فى الإيمان؛ إذ لا يحلف الحالف إلا بأعظم ماعنده من الحقوق، ولا أعظم من حق الله على عباده هذا وجه حديث عمر فى هذا الباب. قال المؤلف: وكذلك عذر عليه السلام من حلف من أصحابه باللات والعزى لقرب عهدهم يجرى ذلك على ألسنتهم فى الجاهلية، وروى عن سعد بن أبى وقاص (أنه حلف بذلك فأتى النبى عليه السلام فقال: يارسول الله، إن العهد كان قريبًا فحلفت باللات والعزى، فقال النبى عليه السلام قل: لا إله إلا الله) وقد تقدم بيان هذا فى باب لا يحلف باللات والعزى فى كتاب الأيمان والنذور، فتأمله هناك. وليس فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله) إطلاق منه لهم على الحلف بذلك وكفارته بقول: لا إله إلا الله، فإنه علمهم عليه السلام أنه من نسى أو جهل فحلف بذلك أن كفارته أن يشهد بشهادة التوحيد؛ لأنه قد تقدم إليهم عليه السلام بالنهى عن أن يحلف أحد بغير الله، فعذر الناسى والجاهل، ولذلك سوى البخارى فى ترجمته الجاهل مع المتأول فى سقوط الحرج عنه؛ لأن حديث أبى هريرة فى الجاهل والناسى، والله أعلم.(9/292)
72 - باب: ما يجوز من الغضب والشدة فى أمر الله
وقال تعالى: (جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم (/ 116 - فيه: عَائِشَةَ، دَخَلَ عَلَى النَّبِى عليه السلام وَفِى الْبَيْتِ قِرَامٌ فِيهِ صُوَرٌ، فَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ، ثُمَّ تَنَاوَلَ السِّتْرَ فَهَتَكَهُ، وَقَالَتْ: قَالَ رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُصَوِّرُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ) . / 117 - وفيه: أَبُو مَسْعُودٍ، أَتَى رَجُلٌ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: إِنِّى لأتَأَخَّرُ عَنْ صَلاةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلانٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا، قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام قَطُّ أَشَدَّ غَضَبًا فِى مَوْعِظَةٍ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، قَالَ: فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ، فَلْيَتَجَوَّزْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الْمَرِيضَ وَالْكَبِيرَ، وَذَا الْحَاجَةِ) . / 118 - وفيه: ابْن عُمَر، بَيْنَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّى رَأَى فِى قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ نُخَامَةً، فَحَكَّهَا بِيَدِهِ، فَتَغَيَّظَ، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ فِى الصَّلاةِ فَإِنَّ اللَّهَ حِيَالَ وَجْهِهِ فَلا يَتَنَخَّمَنَّ حِيَالَ وَجْهِهِ فِى الصَّلاةِ) . / 119 - وفيه: زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، أَنَّ رَجُلا سَأَلَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ اللُّقَطَةِ، فَقَالَ: (عَرِّفْهَا سَنَةً. . . .) ، إلى قوله: فَضَالَّةُ الإبِلِ؟ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ. / 120 - وفيه: زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: احْتَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام حُجَيْرَةً مُخَصَّفَةً، أَوْ حَصِيرًا، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام يُصَلِّى فِيهَا، فَتَتَبَّعَ إِلَيْهِ رِجَالٌ وَجَاءُوا يُصَلُّونَ بِصَلاتِهِ، ثُمَّ جَاءُوا لَيْلَةً، فَحَضَرُوا وَأَبْطَأَ عَنْهُمْ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ، فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ وَحَصَبُوا الْبَابَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مُغْضَبًا. . . . الحديث. قال المؤلف: الغضب والشدة فى أمر الله وذلك من باب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وأجمعت الأمة على أن ذلك فرض(9/293)
على الأئمة والأمراء أن يقوموا به ويأخذوا على أيدى الظالمين وينصفوا المظلومين ويحفظوا أمور الشريعة حتى لا تغير ولاتبديل، ألا ترى أن النبى عليه السلام غضب وتلون وجهه لما رأى التصاوير فى القرام وهتكه، وقال: (إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون) وكذلك غضب من أجل تطويل الرجل فى صلاته بالناس ونهى عن ذلك، وتغيظ حين رأى النخامة فى القبلة فحكمها بيده ونهى عنها، وكذلك غضب حتى احمر وجهه حين سئل عن ضالة الإبل وقال: (ما لم ولها. . .) الحديث، وغضب عليه السلام على الذين صلوا فى مسجده بصلاته بغير إذنه ولم يخرج إليهم، ففيه من الفقه جواز الغضب للإمام والعالم فى التعليم والموعظة إذا رأى منكرًا يجب تغييره. وقال مالك: الأمر بالمعروف واجب على جماعة المؤمنين من الأئمة والسلاطين وعامة المؤمنين لا يسعهم التخلف عنه، غير أن بعض الناس يحمله عن بعض بمنزلة الجهاد. واحتج فى ذلك بعض العلماء فقال: كل شىء وجب على الانسان فعله من الفرائض والسنن للازمة، وكل شىء وجب عليه تركه من المحارم التى نهى الله عنها ورسوله فإنه واجب عليه فى القياس أن يأمر بذلك من ضيع شيئًا منه، وينهى كل من أتى شيئًا من المحرمات التى وجب عليه تركها. وقال بعض العلماء: الأمر بالمعروف منه فرض ومنه نافلة، فكل شىء وجب عليه العمل به وجب عليه الأمر به كالمحافظة على الوضوء وتمام الركوع والسجود وإخراج الزكاة وماأشبه ذلك، وماكان نافلة لك فإن أمرك به نافلة وأنت غير آثم فى ترك الأمر به إلا عند السؤال عنه لواجب النصيحة التى هى فرض على جميع المؤمنين، وهذا كله عند جمهور العلماء ما لم تخف على نفسك الأذى، فإن خفت(9/294)
وجب عليك تغيير المنكر وإنكاره بقلبك وهو أضعف الإيمان؛ لأن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها. وقوله: (حجيرة مخصفة) يعنى ثوبًا أو حصيرًا قطع به مكانًا فى المسجد واستتر وراءه، والعرب تقول: خصفت النعل خصفًا: أطبقتها فى الخرز بالمخصف، وهو الإشفاء، وخصفت على نفس ثوابا أو حصيرًا قطع به مكانًا فى المسجد واستتر وراءه، والعرب تقول: خصفت النعل خصفًا: أطبقتها فى الخرز بالمخصف، وهو الإشفاء، وخصفت على نفسى ثوابًا: جمعت بين طرفيه بعود أو خيط، وفى التنزيل: (وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة) عن صاحب الفعال.
73 - باب: الحذر من الغضب
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) [الشورى: 37] وَقَوْلِهِ: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) [آل عمران: 134] . / 121 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِى يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ) . / 122 - وفيه: سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ، اسْتَبَّ رَجُلانِ عِنْدَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، وَنَحْنُ عِنْدَهُ جُلُوسٌ، وَأَحَدُهُمَا يَسُبُّ صَاحِبَهُ مُغْضَبًا قَدِ احْمَرَّ وَجْهُهُ، فَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (إِنِّى لأعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) ، فَقَالُوا لِلرَّجُلِ، أَلا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ؟ قَالَ: إِنِّى لَسْتُ بِمَجْنُونٍ.(9/295)
/ 123 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلا قَالَ لِلنَّبِي (صلى الله عليه وسلم) : أَوْصِنِى، قَالَ: (لا تَغْضَبْ) ، فَرَدَّدَ مِرَارًا، قَالَ: (لا تَغْضَبْ) . قال المؤلف: مدح الله تعالى الذين يغفرون عند الغضب وأثنى عليهم، وأخبر أن ماعنده خير وأبقى لهم من متاع الحياة الدنيا وزينتها، وأثنى على الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، وأخبر أنه يحبهم بإحسانهم فى ذلك، وقد روى معاذ بن جبل عن النبى عليه السلام أنه قال: (من كظم غيظًا وهو قادر على أن ينفذه دهاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخبره فى أى الحور شاء) . وقال عليه السلام: (ليس الشديد بالصرعة) والصرعة: الذى يصرع الناس ويكثر منه ذلك، كما يقال للكثير النوم نومه، وللكثير الحفظ حفظه، فأراد عليه السلام أن الذى يقوى على ملك نفسه عند الغضب ويردها عنه هو القوى الشديد والنهاية فى الشدة لغلبته هواه المردى الذى زينه له الشيطان المغوى، فدل هذا أن مجاهدة النفس أشد من مجاهدة العدو؛ لأن النبى عليه السلام جعل للذى يمكل نفسه عند الغضب من القوة والشدة ماليس للذى يغلب الناس ويصرعهم. ومن هذا الحديث قال الحسن البصرى حين سئل أى الجهاد أفضل؟ فقال: جهادك نفسك وهواك. وفى حديث سليمان بن صرد أن الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم تذهب الغضب، وذلك أن الشيطان هو الذى يزين للإنسان الغضب(9/296)
وكل ما لا تحمده عاقبته ليرديه ويغويه ويبعده من رضا الله تعالى فالاستاذة بالله تعالى منه من أقوى السلاح على دفع كيده، وذكر أيضًا أبو داود فى حديث أبى ذر عن النبى عليه السلام أنه قال: (إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب ولا فليضطجع) . وذكر أيضًا من حديث عطية عن النبى عليه السلام أنه قال: (إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ) . وقال أبو الدرداء: أقرب مايكون العبد من غضب الله تعالى إذا غضب، وفى بعض الكتب قال الله تعالى: ابن آدم اذكرنى إذا غضبت أذكرك إذا غضبت. وقال بكر بن عبد الله: أطفئوا نار الغضب بذكر نار جهنم.
74 - باب: الحياء
/ 124 - فيه: عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (الْحَيَاءُ لا يَأْتِى إِلا بِخَيْرٍ) . فَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ: مَكْتُوبٌ فِى الْحِكْمَةِ: إِنَّ مِنَ الْحَيَاءِ وَقَارًا، وَإِنَّ مِنَ الْحَيَاءِ سَكِينَةً، فَقَالَ لَهُ عِمْرَانُ: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَتُحَدِّثُنِى عَنْ صَحِيفَتِكَ. / 125 - وفيه: ابْن عُمَر، مَرَّ النَّبِى عليه السلام عَلَى رَجُلٍ، وَهُوَ يُعَاتِبُ أَخَاهُ فِى الْحَيَاءِ، يَقُولُ: إِنَّكَ لَتَسْتَحْيِى حَتَّى كَأَنَّهُ يَقُولُ: قَدْ أَضَرَّ بِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (دَعْهُ، فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الإيمَانِ) .(9/297)
/ 126 - وفيه: أَبُو سَعِيدٍ، كَانَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِى خِدْرِهَا. وقوله عليه السلام: (الحياء لا يأتى إلا بخير) معناه أن من استحيا من الناس أن يروه يأتى الفجور ويرتكب المحارم، فذلك داعية له إلى أن يكون أشد حياء من ربه وخالقه، ومن استحيا من ربه فإن حياءه زاجر له عن تضييع فرائضه وركوب معاصيه؛ لأن كل ذى فطرة صحيحة يعلم أن الله تعالى النافع له والضار والرزاق والمحى والمميت، فإذا علم ذلك فينبغى له أن يستحى منه عز وجل، وهو قوله عليه السلام: (دعه فإن الحياء من الإيمان) معناه أن الحياء من أسباب الإيمان وأخلاق أهله. وذلك أنه لما كان الحياء يمنع من الفواحش، ويحمل على الصبر والخير كما يمنع الإيمان صاحبه من الفجور، ويقيده عن المعاصى ويحمله على الطاعة صار كالإيمان لمساواته له فى ذلك، وإن كان الحياء غريزة والإيمان فعل المؤمن فاشتبها من هذه الجهة، وقد تقدم فى كتاب الإيمان. وإنما غضب عمران بن حصين؛ لأن بشير كعب حدثه عن صحيفته فيما كان حدثه به عمران عن النبى عليه السلام فهذا أصل أن الحجة إنما هى فى سنة رسول الله لا فيما يروى عن كتب الحكمة؛ لأنه لا يدرى مافى حقيقتها، وقد روى فى هذا الحديث عمران أن بشير بن كعب قال له: إن من الحياء ضعفًا، وعى هذه اللفظة يكون غضب عمران أوكد لمخالفة لقوله عليه السلام:(9/298)
(الحياء لا يأتى إلا بخير) ولقوله للذى كان يقول صاحبه إنك تستحى حتى أضر بك الحياء: (دعه فإن الحياء من الإيمان) فدلت هذه الآثار أن الحياء ليس بضار فى حالة من الأحوال ولا بمذموم.
75 - باب: إذا لم تستحى فاصنع ما شئت
/ 127 - فيه: أَبُو مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلامِ النُّبُوَّةِ الأولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحْىِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ) . قال الخطابى: قوله: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة) يريد أن الحياء لم يزل مستحسنًا فى شرائع الأنبياء الأولين، وأنه لم ينسخ فى جملة مانسخ من شرائعهم. قال المؤلف: قوله: (فاصنع ما شئت) فيه وجهان: أحدهما: أن يكون خرج بلفظ الأمر على معنى الوعيد والتهدد لمن ترك الحياء كما قال تعالى: (اعملوا ما شئتم) ولم يطلقهم تعالى على الكفر وفعل المعاصى، بل توعدهم بهذا اللفظ؛ لأنه تعالى قد بين لهم مايأتون ومايتركون، وكقوله: (من باع الخمر فليشقص الخنازير) فلم يكن فى هذا إباحة تشقيص الخنازير، إذا الخمر محرم شربها محظور بيعها. والوجه الثانى: أن يكون معناه: اصنع ماشئت من أمر لا تستحى منه تفعله، والتأويل الأول أولى وهو الشائع فى لسان العرب، ولم يقل أحد فى تأويل الآية المذكورة غيره.(9/299)
76 - باب ما لا يستحيا منه من الحق للتفقه فى الدين
/ 128 - فيه: أُمِّ سَلَمَةَ، أَنّ أُمُّ سُلَيْمٍ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحِى مِنَ الْحَقِّ، فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ غُسْلٌ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ فَقَالَ: (نَعَمْ، إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ) . / 129 - وفيه: ابْنَ عُمَرَ، أنّ النَّبِى عليه السلام قَالَ: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلِ شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ، لا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَلا يَتَحَاتُّ) ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ هِىَ النَّخْلَةُ، وَأَنَا غُلامٌ شَابٌّ، فَاسْتَحْيَيْتُ، فَقَالَ: (هِىَ النَّخْلَةُ) ، فَقَالَ عُمَر: لَوْ كُنْتَ قُلْتَهَا لَكَانَ أَحَبَّ إِلَىَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا. / 130 - وفيه: أَنَس، جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِى عليه السلام تَعْرِضُ عَلَيْهِ نَفْسَهَا، فَقَالَتْ: هَلْ لَكَ حَاجَةٌ فِىَّ؟ فَقَالَتِ ابْنَتُهُ: مَا أَقَلَّ حَيَاءَهَا، فَقَالَ: هِىَ خَيْرٌ مِنْكِ، عَرَضَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام نَفْسَهَا. قولها: (إن الله لا يستحى من الحق) يدل على أنه لا يجوز الحياء عن السؤال فى أمر الدين، وجميع الحقائق التى تعبد الله عباده بها، وأن الحياء فى ذلك مذموم. وفى حديث ابن عمر أن الحياء مكروه لمن علم علمًا فلم يخبر به بحضرة من هو فوقه إذا سئل عنه، ألا ترى حرص عمر على أن يقول ابنه أنها النخلة، وقد تقدم فى كتاب العلم. وقول النبى عليه السلام: فى المرأة التى عرضت نفسها عليه لابنته (هى خير منك) حجة فى أن لا يستحيا فيما يحتاج إليه. وقوله: (لا يتحات) أى لا يسقط من احتكاك بعضهم ببعض، تقول العرب: حت الورق والطين اليابس من الثوب حتاّ: فركه ونقضه.(9/300)
77 - باب قول النبي (صلى الله عليه وسلم) : (يسروا ولا تعسروا
وكأن يحب التخفيف واليسر على الناس / 131 - فيه: أَنَس، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (يَسِّرُوا وَلا تُعَسِّرُوا، وَسَكِّنُوا، وَلا تُنَفِّرُوا) . / 132 - وفيه: أَبُو مُوسى، لَمَّا بَعَثَهُ النَّبِىّ عليه السلام وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَالَ لَهُمَا: (يَسِّرَا وَلا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا. . . .) الحديث. / 133 - وفيه: عَائِشَةَ، مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بَيْنَ أَمْرَيْنِ قَطُّ إِلا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ، وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام لِنَفْسِهِ فِى شَىْءٍ قَطُّ، إِلا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ بِهَا. / 134 - وفيه: الأزْرَقِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: كُنَّا عَلَى شَاطِئِ نَهَرٍ بِالأهْوَازِ قَدْ نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءُ، فَجَاءَ أَبُو بَرْزَةَ الأسْلَمِى عَلَى فَرَسٍ، فَصَلَّى وَخَلَّى فَرَسَهُ، فَانْطَلَقَتِ الْفَرَسُ، فَخَلَّى صَلاتَهُ، وَتَبِعَهَا حَتَّى أَدْرَكَهَا، فَأَخَذَهَا ثُمَّ جَاءَ فَقَضَى صَلاتَهُ، وَفِينَا رَجُلٌ لَهُ رَأْيٌ، فَأَقْبَلَ يَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ، تَرَكَ صَلاتَهُ مِنْ أَجْلِ فَرَسٍ، فَأَقْبَلَ فَقَالَ: مَا عَنَّفَنِى أَحَدٌ مُنْذُ فَارَقْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَقَالَ: إِنَّ مَنْزِلِى مُتَرَاخٍ، فَلَوْ صَلَّيْتُ وَتَرَكْتُهُ، لَمْ آتِ أَهْلِى إِلَى اللَّيْلِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ قَدْ صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَرَأَى مِنْ تَيْسِيرِهِ. / 135 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ فِى الْمَسْجِدِ، فَثَارَ إِلَيْهِ النَّاسُ؟ ليَقَعُوا بِهِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (دَعُوهُ، وَأَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ - أَوْ سَجْلا مِنْ مَاءٍ - فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ) .(9/301)
قد تقدمت هذه الأحاديث بأمر النبي عليه السلام بتيسر فى كتاب الحدود، وفى كتاب الأحكام. قال الطبرى: ومعنى قوله: (يسروا ولا تعسروا) فيما كان من نوافل الخير دون ماكان فرضا من الله، وفيما خفف الله عمله من فرائضه فى حال العذر كالصلاة قاعدًا فى حال العجز عن القيام، وكالإفطار فى رمضان فى السفر والمرض وشبه ذلك فيما رخص الله فيه لعباده وأمر بالتيسير فى النوافل والإتيان بما لم يكن شاقًا ولافادحًا خشية الملل لها ورفها، وذلك أن أفضل العمل إلى الله أدومه وإن قل، وقال عليه السلام لبعض أصحابه: (لا تكن كفلان كان يقوم الليل فتركه) . قال غير الطبرى: ومن تيسره عليه السلام أنه لم يعنف البائل فى المسجد ورفق به، ومن ذلك أبى برزة لصلاته فرسه، وأنه رأى من تيسير النبى ماحمله على ذلك، وجماعة الفقهاء يرون أن من كان فى صلاة فانلتت دابته أنه يقطع صلاته ويتبعها؛ لأن الصلاة تدرك إعادتها وميسر دابته قاطع له. وقد تقدم فى الصلاة. قال الطبرى: وفى أمره عليه السلام بالتيسير فى ذلك معان أحدهما: الأمان من الملال. والثانية: الأمان من مخالصة العجب قلب صاحبه حتى يرى كأن له فضلاً على من قصر عن مثل فعله فيهلك، ولهذا قال عليه السلام: (هلك المتنطعون) وبلغ النبى أن قومًا أرادوا أن يختصوا وحرموا الطيبات واللحم على أنفسهم فقام النبى عليه السلام وأوعد في(9/302)
ذلك أشد الوعيد، وقال: (لم أبعث بالرهبانية وإن خير الدين عند الله الحنفية السمحة، وإن أهل الكتاب هلكوا بالتشديد شدوا فشدد عليهم) . وفى هذا من الفقه أن أمور الدنيا نظير ذلك فى أن الغلو وتجاوز القصد فيها مذموم، وبذلك نزل القرآن قال تعالى: (والذين أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قوامًا) فحمد الله فى نفقاتهم ترك الإسراف والإقتار وقال: (وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرًا) الآية، فأمر تعالى بترك التبذير فى سبله التى ترجى بها الزلفة لربه، فالواجب على كل ذى لب أن تكون أموره كلها قصدًا فى عبادة ربه كان أو فى أمر دنياه، فى عداوة كان أو محبة، فى أكل أو شرب أو لباس أو عرى، وبكل هذا ورد الخبر عن السلف أنهم كانوا يفعلون. وأما اجتهاده عليه السلام فى عبادة ربه؛ فإن الله كان خصهّ من القوة بما لم يخص به غيره، فكان مافعل من ذلك سهلا عليه على أنه عليه السلام لم يكن يحى ليله كله قيامًا ولا شهرًا كله صيامًا غير رمضان. وقد قيل: إنه كان يصوم شعبان كله فيصله برمضان، فأما سائر شهور السنة فإنه كان يصوم بعضه ويفطر بعضه، ويقوم بعض الليل وينام بعضه، وكان إذا عمل عملا داوم عليه، فأحق من اقتدى به رسول الله الذى اصطفاه الله لرسالته وانتخبه لوحيه.(9/303)
78 - باب: الانبساط إلى الناس
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: خَالِطِ النَّاسَ وَدِينَكَ لا تَكْلِمَنَّهُ وَالدُّعَابَةِ مَعَ الأهْلِ. / 136 - فيه: أَنَس، إِنْ كَانَ النَّبِى عليه السلام لَيُخَالِطُنَا، حَتَّى يَقُولَ لأخٍ لِى صَغِيرٍ: (يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ) . / 137 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كُنْتُ أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ عِنْدَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، وَكَانَ لِى صَوَاحِبُ يَلْعَبْنَ مَعِى - فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام إِذَا دَخَلَ يَتَقَمَّعْنَ مِنْهُ، فَيُسَرِّبُهُنَّ إِلَىَّ فَيَلْعَبْنَ مَعِى. قال المؤلف: كان النبى عليه السلام أحسن الأمة أخلاقًا وابسطهم وجهًا، وقد وصف الله ذلك بقوله: (إنك لعلى خلق عظيم) فكان ينبسط إلى النساء والصبيان ويمازحهم ويداعبهم، وروى عنه أنه قال: (إنى لأمزح ولا أقول إلا حقًا) وكان يسرح إلى عائشة صواحباتها ليلعبن معها، فينبغى للمؤمنين الاقتداء بحسن أخلاقه وطلاقة وجهه (صلى الله عليه وسلم) . وقال أبو عبيد: قوله: (يتقمعن) يعنى دخل البيت وتغيبن، يقال للإنسان قد انقمع وقمع إذا دخل فى الشىء أو دخل فى بعضه بعض. وقال الصمعى: فيه سمى القمع الذى يصب فيه الدهن وغيره؛ لأنه يدخل فى الإناء. والذى يراد من الحديث: الرخصة فى اللعب التى تلعب بها الجوارى وهى البنات فجاءت فيها الرخصة وهى تماثيل، وليس وجه ذلك عندنا إلا من أجل أنها لهو الصبيان ولو كان فى الكبار لكان مكروهًا كما جاء النهى فى التماثيل كلها وفى الملاهي.(9/304)
وقال غيره: (كنت العب) : منسوخ بنهى النبى عليه السلام عن الصور؛ لأن كل من رخص فى الصور فيما كان رقمًا أو فى تصوير الشجر ومالاروح له، كلهم قد أجمعوا أنه لا يجوز تصوير ماله روح. وذكر ابن أبى زيد أنه كره أن يشترى الرجل لأبنته الصور.
79 - باب: المدارة مع الناس
وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ: إِنَّا لَنَكْشِرُ فِى وُجُوهِ أَقْوَامٍ، وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتَلْعَنُهُمْ. / 138 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِى عليه السلام رَجُلٌ، فَقَالَ: (ائْذَنُوا لَهُ، فَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ، أَوْ بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ) فَلَمَّا دَخَلَ، أَلانَ لَهُ الْكَلامَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْتَ مَا قُلْتَ، ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ فِى الْقَوْلِ، فَقَالَ: (أَىْ عَائِشَةُ، إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ تَرَكَهُ - أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ - اتِّقَاءَ فُحْشِهِ) . / 139 - وفيه: الْمِسْوَرِ أُهْدِيَتْ إلى النَّبِى عليه السلام أَقْبِيَةٌ مِنْ دِيبَاجٍ مُزَرَّرَةٌ بِالذَّهَبِ، فَقَسَمَهَا فِى نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَعَزَلَ مِنْهَا وَاحِدًا لِمَخْرَمَةَ، فَلَمَّا جَاءَ، قَالَ: (قَدْ خَبَأْتُ هَذَا لَكَ) ، قَالَ أَيُّوبُ: بِثَوْبِهِ، وَأَنَّهُ يُرِيهِ إِيَّاهُ، وَكَانَ فِى خُلُقِهِ شَىْءٌ. قال المؤلف: المدارة من أخلاق المؤمنين وهى خفض الجناح للناس، ولين الكلمة وترك الإغلاظ لهم فى القول وذلك من اقوى أسباب الألفة وسل السخيمة. وقد روى عن النبى عليه السلام أنه قال: (مدارة الناس صدقة) .(9/305)
وقال بعض العلماء: وقد ظن من لم ينعم النظر أن المدارة هى المداهنة، وذلك غلط، لأن المدارة مندوب اليها والمداهنة محرمة، والفرق بينهما بين، وذلك أن المادهنة اشتق اسمها من الدهان الذى يظهر على ظواهر الشياء ويستر بواطنها، وفسرها العلماء فقالوا: المداهنة هى أن يلقى الفاسق المظر فيؤالفه ويؤاكله، ويشاربه، ويى أفعاله المنكرة ويريه الرضا بها ولاينكرها عليه ولو بقلبه وهو اضعف الإيمان، فهذه المداهنة التى برأ الله عز وجل منها نبيه عليه السلام بقوله: (ودوا لوتدهن فيدهنون) . والمدارة هى الرفق بالجاهل الذى يستتر بالمعاصى ولايجاهر بالكبائر، والمعاطفة فى رد أهل الباطل إلى مراد الله بلين ولطف حتى يرجعوا عما هم عليه. فإن قال قائل: فأين أنت فى قولك هذا من فعل النبى عليه السلام حين دخل عليه المنافق فقال عند دخوله: (بئس ابن العشيرة) ثم حدثه وأثنى عليه شرًا عند خروجه؟ . قيل له: إن رسول الله كان مأمورًا بأن لا يحكم على أحد إلا بما ظهر منه للناس لا بما يعلمه دون غيره، وكان المنافقون لا يظهرون له إلا التصديق والطاعة، فكان الواجب عليه أن لا يعاملهم إلا بمثل ما أظهروا له، إذ لو حكم بعلمه فى شىء من الأشياء لكانت سنة كل حاكم أن يحكم بما أطلع عليه فيكون شاهدًا وحاكمًا، والأمة مجمعة أنه لا يجوز ذلك، وقد قال عليه السلام فى المنافقين: (أولئك الذى نهانى الله عن قتلهم) .(9/306)
والداخل على النبي - عليه السلام - إنما كان يظهر فى ظاهر لفظه الإيمان، فقال فيه النبى قبل وصوله إليه وبعد خروجه ماعلمه منه دون أن يظهر له فى وجهه؛ إذ لو أظهره صار حكمًا، وأفاد كلامه بما علمه منه إعلام عائشة بحاله، ولو أنه كان من أهل الشرك ورجا رسول الله إيمانه واستئلافه هو وقومه وإنابتهم إلى الإسلام لم يكن هذا ماهنة؛ لأنه ليس عليه حكم إلا منة الدعاء أى الإسلام لا من وجهة الإنكار والمقاطعة كما فعل عليه السلام مع المشرك رجاء منه وابن أم مكتوم يساله أن يدنيه ويعلمه، فأقبل على المشرك رجاء أن يدخل فى افسلام وتولى عن ابن أم مكتوم، فعاتبه الله فى ذلك، فبان أنه من رسول الله إنصاف أن يظهر لإنسان مايظهر له مما يظهره للناس أجمعين من أحواله مما لا يعلمون منه غيره كما فعل الرسول بابن العشيرة.
80 - باب: لا يلدغ المؤمن من حجر مرتين
وَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لا حَكِيمَ إِلا ذُو تَجْرِبَةٍ. / 140 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (لا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ) . قال أبو عبيد: تأويل هذا الحديث عننا أنه ينبغى للمؤمن إذا نكب من وجه أن لا يعود لمثله. وترجم له فى كتاب الأمثال باب المحاذرة للرجل من الشىء قد ابتلى بمثله مرة. وفيه: أدب شريف، أدب به النبى أمته ونبههم كيف يحذرون ما يخافون سوء عاقبته، وهذا الكلام مما لم يسبق إليه النبي(9/307)
- عليه السلام - وقاله لأبي عزة الشاعر، وكان أسر يوم بدر فسأل النبى عليه السلام أن يمن عليه وذكر فقرًا، فمن عليه النبى وأخذ عليه عهدًا أن لا يخصص عليه ولايهجوه، ففعل ثم رجع إلى مكة فاستهواه صفوان بن أمية وضمن له القيام بعياله، فخرج مع قريش وحضض على النبى - عليه السالم - فأسر، فسأل النبى أن يمن عليه فقال: (لا يلدغ المؤمن من حجر مرتين لا تمسح عارضيك بمكة وتقول: سخرت من محمد مرتين ثم أمر به فقتل) . وقول معاوية: لا حلم إلا لذى تجربة. يريد أن من جرب الأمور وعرف عواقبها ومايئول إليه أمر من ترك الحلم وركب السفه والسباب من سوء الانتصار منه؛ آثر الحلم وصبر على قليل من الأذى ليدفع به ماهو أكثر منه. وقال الخطابى: معنى قوله: (لا حلم إلا لذى تجربة) أن المرء لا يوصف بالحلم ولا يترقى إلى درجته حتى يركب الأمور ويجربها فيعثر مرة بعد أخرى فيعتبر ويتبين مواضع الخطأ ويجتنبها. وقال ضمرة: الحلم أنفع من العقل؛ لأن الله تسمى به.
81 - باب: حق الضيف
/ 141 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا. . .) ، الحديث. وقد ذكرته فى كتاب الصوم.(9/308)
82 - باب: إكرام الضيف وخدمته إياه بنفسه وقوله تعالى: (ضيف إبراهيم المكرمين (
/ 142 - فيه: أَبُو شُرَيْحٍ الْكَعْبِىِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَالضِّيَافَةُ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ، وَمَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ، وَلا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَثْوِىَ عِنْدَهُ حَتَّى يُحْرِجَهُ) . / 143 - وفيه: عُقْبَة، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ تَبْعَثُنَا، فَنَنْزِلُ بِقَوْم، ٍ لاَ يَقْرُونَنَا، فَمَا تَرَى؟ فَقَالَ لَنَا النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ، فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِى لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا، فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ الَّذِى يَنْبَغِى لَهُ) . سئل مالك عن جائزته يوم وليلة، فقال: تكرمه وتتحفه يومًا وليلة، وثلاثة أيام ضيافة. قسم رسول الله عليه السلام أمره إلى ثلاث اقسام: إذا نزل به الضيف أتحفه فى اليوم الأول، وتكلف له على قدر وجه، فإذا كان اليوم الثانى قدم إليه مابحضرته، فذا جاوز هذه الثلاثة كان مخيرًا بين أن يستمر على وتيرته أو يمسك، وجعله كالصدقة النافلة. وقوله: (لا يثوى عنه) لا يقيم، والثواء: الإقامة بالمكان، يعنى لا يقيم عنده بعد الثلاث حتى يضيق صدره، وأصل الحرج الضيق، وإنما كره له المقام عنده بعد الثلاثة لئلا يضيق صدره بمقامه فتكون الصدقة منه على وجه المنّ والأذى فيبطل أجره قال الله تعالى: (لا تبطلوا صداقتكم بالمن والأذى (.(9/309)
وقوله: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) يعنى من كان إيمانه بالله واليوم الآخر إيمانًا كاملا فينبغى أن تكون هذه حالة وصفته فالضيافة من سنن المرسلين. واختلف العلماء فى وجوب الضيافة، فأوجبها الليث بن سعد فرضًا ليلة واحدة، وأجاز للعبد المأذون له أن يضيف مما بيده، واحتج بحديث عقبة بن عامر. وقال جماعة من أهل العلم: الضيافة من مكارم الأخلاق فى بادية وحاضرة وهو قول الشافعى. وقال مالك: ليس على أهل الحضر ضيافة. وقال سحنون: إنما الضيافة على أهل القرى، وأما الحضر فالفندق ينزل فيه المسافر. واحتج الليث بقوله تعالى: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم) أنها نزلت فيمن منع الضيافة فأبيح للضيف لوم من لم يحسن ضيافته، وذكر قبيح فعله، وروى ذلك عن مجاهد وغيره. فيقال لهم: إن الحقوق لا ينتصف منها بالقول، وإنما ينتصف منها بالأداء والإبراء، فلو كانت الضيافة واجبة لوجب عليهم الخروج إلى القوم مما يلزم من ضيافتهم. وفى قوله عليه السلام: (جائزته يوم وليلة) دليل أن الضيافة ليست بفريضة، والجائزة فى لسان العرب: النحلة والعطية، وذلك تفضل وليس بواجب.(9/310)
وأما حديث عقبة بن عامر فتأويله عند جمهور العلماء أنه كان فى أول الإسلام حين كانت المواساة واجبة، فأما إذا أتى الله بالخير والسعة فالضيافة مندوب إليها.
83 - باب: صنع الطعام والتكلف للضيف
/ 144 - فيه: أَبُو جُحَيْفَةَ، قَالَ: آخَى النَّبِى عليه السلام بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِى الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِى الدُّنْيَا، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَال: َ كُلْ فَإِنِّى صَائِمٌ قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ، ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، فَقَالَ: نَمْ، فَنَامَ ثُمَّ ذَهَبَ ليَقُومُ فَقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ آخِرُ اللَّيْلِ، قَالَ سَلْمَانُ: قُمِ الآنَ، قَالَ: فَصَلَّيَا. . . . الحديث. قال المؤلف: التكلف للضيف لمن قدر على ذلك من سنن المرسلين وآداب النبيين، ألا ترى أن إبراهيم الخليل ذبح لضيفه عجلا سمينًا. قال أهل التأويل: كانوا ثلاثة أنفس: جبريل وميكائيل وإسرافيل فتكلف لهم ذبح عجل وقربه إليهم. وقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : (جائزته يوم وليلة) يقتضى معنى التكلف له يومًا وليلة لمن وجد، ومن لم يكن من أهل الوجود واليسار فليقدم لضيفه ماتيسر عنده ولايتكلف له مالايقدر عليه، وقد ورد بذلك الخبر عن النبى - عليه السلام.(9/311)
ذكر الطبرى قال: حدثنا محمد بن خالد، عن خراش، حدثنا سلم بن قتيبة، عن قيس بن الربيع، عن عثمان بن شابور عن شقيق بن سلمه قال: (دخلت على سلمان فقرب إلى خبز شعير وملحًا، وقال: لولا أن رسول الله عليه السلام نهى أن تكلف أحدنا ماليس عنه تكلفت لك) . فدل بهذا الحديث أن المرء إذا أضافه ضيف أن الحق عليه أن يأتيه من الطعام بما حضره، وأن لا يتكلف له بما ليس عنده، وإن كان ما حضره من ذلك دون مايراه للضيف أهلا؛ لأن فى تكلفة ماليس عنه معان مكروهة. منها: حبس الضيف عن القرى ولعله أن يكون جائعًا فيضر به. ومنها: أن يكون مستعهجلاً فى سفره فيقطعه عنه بحبسه إياه عن إحضاره ماحضره من الطعام إلى إصلاح ما لم يحضر. ومنها: احتقاره ما عظم الله قدره من الطعام. ومنها: خلافه أمر رسول الله وإتيانه ماقد نهى عنه من التكلف. وروى عبد الله بن الوليد عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: (دخل على جابر بن عبد الله نفر من أصحاب النبى عليه السلام فقرب إليهم خبزًا ثم قال: كلوا فإنى سمعت رسول الله يقول: نعم الإدام الخل، هلاك بالرجل أن يدخل إليه الرجل من إخوانه فيحقر ما فى بيته أن يقدمه إليه، وهلاك بالقوم أن يحتقروا ما قدم إليه) . وقال سفيان الثورى: قال ابن سيرين: لا تكرم أخاك بما يشق(9/312)
عليه وفسره الثوري فقال: أئته بحاضر ماعندك ولاتحبسه فعسى أن يشق ذلك عليه. وفى حديث أبى جحيفة زيارة الرجل الصالح صديقه الملاطف ودخوله داره فى غيبته وجلوسه مع أهله. وفيه: شكوى المرأة زوجها إلى صديقه الملاطف ليأخذ على يده ويرده عما يضر بأهله. وفيه: أنه لا بأس أن يأكل الضيف حتى يأكل رب الدار معه. وفيه: أنه لا بأس أن يفطر رب الدار لضيفه فى صيام التطوع. وفيه: كراهية التشدد فى العبادة والغلو فيها خشية مايخاف من عاقبة ذلك، وأن الأفضل فى العبادة القصد والتوسط فهو أحرى بالدوام، ألا ترى قول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (صدق سلمان) . وفيه: أن الصلاة آخر الليل أفضل؛ لأنه وقت تنزل الله إلى سماء الدنيا فيستجيب الدعاء.
84 - باب ما يكره من الغضب والجزع عند الضيف
/ 145 - فيه: عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ، أَنَّ أَبَاه تَضَيَّفَ رَهْطًا، فَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: دُونَكَ أَضْيَافَكَ، فَإِنِّى مُنْطَلِقٌ إِلَى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَافْرُغْ مِنْ قِرَاهُمْ، قَبْلَ أَنْ أَجِيءَ، فَانْطَلَقَ عَبْدُالرَّحْمَنِ، فَأَتَاهُمْ بِمَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: اطْعَمُوا، فَقَالُوا: أَيْنَ رَبُّ مَنْزِلِنَا قَالَ اطْعَمُوا، قَالُوا: مَا نَحْنُ(9/313)
بِآكِلِينَ حَتَّى يَجِيءَ رَبُّ مَنْزِلِنَا؟ قَالَ: اقْبَلُوا عَنَّا قِرَاكُمْ، فَإِنَّهُ إِنْ جَاءَ وَلَمْ تَطْعَمُوا لَنَلْقَيَنَّ مِنْهُ، فَأَبَوْا، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ يَجِدُ عَلَىَّ، فَلَمَّا جَاءَ تَنَحَّيْتُ عَنْهُ، فَقَالَ: مَا صَنَعْتُمْ؟ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: يَا عَبْدَالرَّحْمَنِ، فَسَكَتُّ، ثُمَّ قَالَ: يَا عَبْدَالرَّحْمَنِ، فَسَكَتُّ، فَقَالَ: يَا غُنْثَرُ، أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ إِنْ كُنْتَ تَسْمَعُ صَوْتِى لَمَّا جِئْتَ، فَخَرَجْتُ، فَقُلْتُ: سَلْ أَضْيَافَكَ، فَقَالُوا: صَدَقَ، أَتَانَا بِهِ، قَالَ: فَإِنَّمَا انْتَظَرْتُمُونِى، وَاللَّهِ لا أَطْعَمُهُ اللَّيْلَةَ، فَقَالَ الآخَرُونَ: وَاللَّهِ لا نَطْعَمُهُ حَتَّى تَطْعَمَهُ، قَالَ: لَمْ أَرَ فِى الشَّرِّ كَاللَّيْلَةِ، وَيْلَكُمْ، مَا أَنْتُمْ؟ لِمَ لا تَقْبَلُونَ عَنَّا قِرَاكُمْ، هَاتِ طَعَامَكَ، فَجَاءَهُ فَوَضَعَ يَدَهُ، فَقَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ، الأولَى لِلشَّيْطَانِ، فَأَكَلَ وَأَكَلُوا. قال المؤلف: فقه هذا الحديث أنه ينبغى استعمال أحسن الأخلاق للضيف وترك الضجر لكى تنبسط نفسه، ولا تنقبض وتسقط المؤنة والرقبة خشية أن يظن أن الضجر والغضب من أجله، فلذلك من أدب الإسلام ومايثبت المودة، الا ترى أن الصديق لما رأى إبائة أضيافه من الأكل حتى يأكل معهمآثر الأكل معهم وحنت نفسه، وإنما حمله على الحلف - والله أعلم - أنه استنقص ابنه وأهله فى القيام ببر أضيافه، واشتد عليه تأخير عشائهم إلى ذلك الوقت من الليل، فلحقه ما يلحق البشر من الغضب، ثم لم يسعه مخالفة أضيافه لما أبوا من الأكل دونه، فرأى أن من تمام برهم إسعاف رغبتهم وترك التمادى فى الغضب، وأخذ فى ذلك بقوله عليه السلام: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليكفر عن يمينه، وليأت الذى هو خير) ، وكان مذهبه اختيار الكفارة بعد الحنث. وقوله: (بسم الله الأولى للشيطان) : يعنى اللقمة الأولى إخزاء(9/314)
للشيطان؛ لأنه هو الذى حمله على الحلف وسول له أن لا يأكل مع أضيافه، وباللقمة الأولى وقع الحنث وبها وجبت الكفارة. وقد تقدم تفسيره قوله: (يا عنثر) فى كتاب الصلاة فى الجزء الثانى فى باب السمر مع الضيف، وسيأتى بعد.
85 - باب قول الضيف لصاحبه: لا آكل حتى تأكل
فيه: أبو جحيفة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) / 143 - وفيه: عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ أَبِى بَكْرٍ، مثل حديث الباب قبل هذا، وزاد فيه: فَجَعَلُوا لا يَرْفَعُونَ لُقْمَةً إِلا رَبَا مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرُ مِنْهَا، فَقَالَ: يَا أُخْتَ بَنِى فِرَاسٍ، مَا هَذَا؟ فَقَالَتْ: وَقُرَّةِ عَيْنِى إِنَّهَا الآنَ لأكْثَرُ قَبْلَ أَنْ يَأَكَلُوا، وَبَعَثَ بِهَا إِلَى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) فَذَكَرَ أَنَّهُ أَكَلَ مِنْهَا. قال المؤلف: صاحب المنزل فى منزله كالأمير لا ينبغى لحد التقدم عليه فى أمر، يدل على ذلك الحديث الذى جاء عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (لا يؤمن أحد فى سلطانه ولا يقعد على تكرمته إلا بإذنه) فكان هذا الحديث أصلاً لهذا المعنى، ودل هذا أنه ينبغى للضيف المصير إلى مايحمله عليه ضيفه، ويشهد لهذا المعنى حديث أنس (أن غلامًا خاياطًا دعا النبى عليه السلام للطعام فقدمه بين يديه، فاكل النبى وأقبل الخياط على عمله) وقد ترجم البخارى فى كتاب الأطعمة باب من أضاف رجلا إلى طعامه وأقبل هو على عمله فدل هذا الحديث أن أكل صاحب الطعام مع الضيف ليس من الواجبات، إلا أنه جاء فى حديث ضيف أبى بكر معنى يختص(9/315)
بخلاف هذا الصل المتقدم، وذلك أن اضيافه اقسموا أن لا يفطروا حتى ينصرف من عند النبى عليه السلام فاحتبس عنده إلى هوى من الليل فبقوا دون أكل. وقد كان ينبغى على ظاهر الأصل المتقدم من أن صاحب المنزل لا ينبغى لأحد التسور عليه فى منزله فى أمرهم أن يفطروا حين عرض عليهم الأكل ولا يأبوه، فلما امتنعوا من ذلك وبقوا غير مفطرين إلى إقبال أبى بكر حنث نفسه أبو بكر فى يمينه التى بدرت منه إيثارًا لموافقتهم؛ بان بذلك أن يجوز للضيف أن يخالف صاحب المنزل فى تأخير الطعام، وشبهه إذا رأى لذلك وجهًا من وجوه المصلحة وأنه لا حرج عليه فى ذلك، ألا ترى أن الصديق وإن كان غضب لتأخر قراهم إلى وقت قدومه لم ينكر عليهم يمينهم، ولا قال لهم: أتيتم مايجوز لكم فعله. ولا شك أن أبا بكر أعلم بذلك النبى عليه السلام حين حمل إليه بقية الطعام، ولم يعنف القوم ولا خطأهم فى يمينهم - والله أعلم - هذا الذى يغل على الوهم؛ لأن أصاحبه كانوا لا يخفون عنه كل مايعرض لهم ليسن لهم فيه. وقد تقدم فى باب السمر مع الضيف والأهل فى كتاب الصلاة شىء من الكلام فى هذا الحديث.(9/316)
86 - باب إكرام الكبير ويبدأ الأكبر بالكلام والسؤال
/ 147 - فيه: رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَسَهْلِ بْنِ أَبِى حَثْمَةَ، أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ، أَوْ حدثا أَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ بْنَ مَسْعُودٍ أَتَيَا خَيْبَرَ فَتَفَرَّقَا فِى النَّخْلِ، فَقُتِلَ عَبْدُاللَّهِ بْن سَهْلٍ فَجَاءَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، وَحُوَيِّصَةُ، وَمُحَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ إِلَى النَّبِى عليه السلام فَتَكَلَّمُوا فِى أَمْرِ صَاحِبِهِمْ، فَبَدَأَ عَبْدُالرَّحْمَنِ - وَكَانَ أَصْغَرَ الْقَوْمِ - فَقَالَ لَهُ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (كَبِّرِ الْكُبْرَ) - قَالَ يَحْيَى: يَعْنِى لِيَلِىَ الْكَلامَ الأكْبَرُ. . . الحديث. / 148 - وفيه: ابْن عُمَر، أَنّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (أَخْبِرُونِى بِشَجَرَةٍ مَثَلُهَا كمَثَلُ الْمُسْلِمِ، تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ، بِإِذْنِ رَبِّهَا، وَلا تَحُتُّ وَرَقَهَا، فَوَقَعَ فِى نَفْسِى أَنَّهَا النَّخْلَةُ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ وَثَمَّ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. . .) الحديث. قال المؤلف: إكرام الكبير وتقديمه فى الكلام وجميع الأمور من أدب الإسلام ومعالى الأخلاق، وذكر عبد الرازق أن فى الحديث من تعظيم جلال الله أن يوقر ذو الشبيه فى الإسلام، ولهذا المعنى قال عليه السلام: (كبر الكبر) فأمر أن يبدأ الأكبر بالكلام، فكان ذلك سنة إلا أنه دل حديث ابن عمر أن معنى ذلك ليس على العموم، وأنه إنما ينبغى أن يبدأ بالأكبر فيما يستوى فيه علم الكبير والصغير، فأما إذا علم الصغير مايجهل الكبير؛ فإنه ينبغى لمن كان عنده علم أن يذكره وينزع به وإن كان صغيرًا، ولا يعد ذلك منه سوء أدب، ولا تنقصًالحق الكبير فى التقدم عليه؛ لأن النبى عليه السلام حين سل أصحابه عن الشجرة التى شببها بالمؤمن وفيهم ابنعمر وغيره ممن كان دونه فى السن لم يوقف الجواب على الكبار منهم خاصة، وإنما سأل دونه فى السن لم يوقف الجواب على الكبار منهم خاصة، وإنما سأل جماعتهم ليجيب كل بما علم، وعلى ذلك دل قول عمر لابنه:(9/317)
لو كنت قلتها كان أحب إلى من كذا وكذا. لأن عمر لا يحب ما يخالف أدب افسلام سننه، وقد كان رضى الله عنه يسأل ابن عباس وهو صبى مع المشيخة وكان ذلك معدودًا من فضائله، وقد تقدم هذا المعنى فى باب الحياء فى العلم فى آخر كتاب العلم.
87 - باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء وما يكره منه
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ) [الشعراء: 224] إلى آخر السورة. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَوْلِهِ: (فِى كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (فِى كُلِّ لَغْوٍ يَخُوضُونَ. / 149 - فيه: أُبَىَّ بْنَ كَعْبٍ، أَنَّ النَّبِىّ عليه السلام قَالَ: (إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكْمَةً) . / 150 - وفيه: جُنْدَب، بَيْنَمَا النَّبِى عليه السلام يَمْشِى؛ إِذْ أَصَابَهُ حَجَرٌ، فَعَثَرَ، فَدَمِيَتْ إِصْبَعُهُ، فَقَالَ: (هَلْ أَنْتِ إِلا إِصْبَعٌ دَمِيتِ، وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ) . / 151 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ، كَلِمَةُ لَبِيدٍ: أَلا كُلُّ شَىْءٍ مَا خَلا اللَّهَ بَاطِلُ) . وَكَادَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِى الصَّلْتِ أَنْ يُسْلِم. / 152 - وفيه: سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ، خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىّ عليه السلام إِلَى خَيْبَرَ فَسِرْنَا لَيْلا، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ لِعَامِرِ بْنِ الأكْوَعِ: أَلا تُسْمِعُنَا مِنْ هُنَيْهَاتِكَ؟ قَالَ: وَكَانَ عَامِرٌ رَجُلا شَاعِرًا، فَنَزَلَ يَحْدُو بِالْقَوْمِ، يَقُولُ:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا
فاغفر فداء لك ما اقتقينا
إلى آخرها.(9/318)
فَقَالَ النبي (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ هَذَا السَّائِقُ) ؟ قَالُوا: عَامِرُ بْنُ الأكْوَعِ، فَقَالَ: (يَرْحَمُهُ اللَّهُ) ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: وَجَبَتْ يَا نَبِى اللَّهِ، لَوْلا أَمْتَعْتَنَا بِهِ، قَالَ: فَأَتَيْنَا خَيْبَرَ، فَحَاصَرْنَاهُمْ، حَتَّى أَصَابَتْنَا مَخْمَصَةٌ شَدِيدَةٌ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ فَتَحَهَا عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا أَمْسَى النَّاسُ الْيَوْمَ الَّذِى فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ، أَوْقَدُوا نِيرَانًا كَثِيرَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : مَا هَذِهِ النِّيرَانُ؟ عَلَى أَى شَىْءٍ تُوقِدُونَ؟ قَالُوا: عَلَى لَحْمٍ، قَالَ: عَلَى أَى لَحْمٍ؟ قَالُوا: عَلَى لَحْمِ حُمُرٍ إِنْسِيَّةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : أَهْرِقُوهَا وَاكْسِرُوهَا، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوْ نُهَرِيقُهَا وَنَغْسِلُهَا؟ قَالَ: أَوْ ذَاكَ، فَلَمَّا تَصَافَّ الْقَوْمُ كَانَ سَيْفُ عَامِرٍ فِيهِ قِصَرٌ، فَتَنَاوَلَ بِهِ يَهُودِيًّا؛ لِيَضْرِبَه، ُ وَيَرْجِعُ ذُبَابُ سَيْفِهِ، فَأَصَابَ رُكْبَةَ عَامِرٍ، فَمَاتَ مِنْهُ، فَلَمَّا قَفَلُوا، قَالَ سَلَمَةُ: رَآنِى رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام شَاحِبًا، فَقَالَ لِى: مَا لَكَ؟ فَقُلْتُ فِدًى لَكَ أَبِى وَأُمِّى، زَعَمُوا أَنَّ عَامِرًا حَبِطَ عَمَلُهُ، قَالَ: مَنْ قَالَهُ؟ قُلْتُ: قَالَهُ فُلانٌ وَفُلانٌ وَفُلانٌ وَأُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ الأنْصَارِىُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (كَذَبَ مَنْ قَالَهُ، إِنَّ لَهُ لأجْرَيْنِ - وَجَمَعَ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ - إِنَّهُ لَجَاهِدٌ مُجَاهِدٌ قَلَّ عَرَبِىٌّ نَشَأَ بِهَا مِثْلَهُ) . / 153 - وفيه: أَنَس، أَتَى النَّبِى عليه السلام عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ، وَمَعَهُنَّ أُمُّ سُلَيْمٍ، فَقَالَ: (وَيْحَكَ، يَا أَنْجَشَةُ، رُوَيْدَكَ سَوْقًا بِالْقَوَارِيرِ) . قَالَ أَبُو قِلابَةَ: فَتَكَلَّمَ النَّبِى عليه السلام بِكَلِمَةٍ لَوْ تَكَلَّمَ بِهَا بَعْضُكُمْ لَعِبْتُمُوهَا عَلَيْهِ قَوْلُهُ سَوْقَكَ بِالْقَوَارِيرِ. قال المؤلف: الشعر والرجز والحداء كسائر الكلام، فما كان فيه ذكر تعظيم لله ووحدانيته وقدرته وإيثار طاعته وتصغير الدنيا والاستسلام له تعالى كنحو ماأورده البخارى فى هذا الباب فهو حسن مرغب فيه، وهو الذى قال فيه عليه السلام: (إن من الشعر حمة) وما كان منه كذبًا وفحشًا فهو الذى ذمه الله ورسوله. وقال الشافعى: الشعر كلام، وحسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيحه. وسماع الحداء ونشيد الأعراب لا بأس به؛ فإن الرسول قد سمعه وأقره ولم ينكره.(9/319)
وهذا الباب رد على من نهى عن قليل الشعر وكثيره، واتعتلوا بحديث جبير بن معظم عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أنه كان إذا فتتح الصلاة يستعيذ من الشيطان وهمزه ونفثه ونفخه) وفسره عمرو بن مرة وهو راوى الحديث فقال: نفثه: الشعر، ونفخه: الكبر، وهمزة الموتة التى تأخذ صاحب المس، وبحديث أبى أمامة الباهلى أن النبى عليه السلام قال: لما أنزل إبليس إلى الأرض قال: يارب، وبما روى ابن لهيعة عن أبى قبيل قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: (من قلا ثلاثة أبيات من الشعر من تلقاء نفسه لم يدخل الفردوس) . قال الأعمش: تمثل مسروق بأول بيت شعر ثم سكت، فقيل له: لم سكت؟ قال: أخاف أن أجد فى صحيفتى شعرًا. وقال ابن مسعود: الشعر مزامير الشيطان. وكان الحسن لا ينشد الشعر. قال الطبرى: وهذه أخبار واهية والصحيح فى ذلك أنه عليه السلام كان يتمثل أحيانًا بالبيت فقال: هل أنت إلا إصبع دميت وفى سبيل الله مالقيت وقال عليه السلام: (أصدق كلمة قالها الشاعر لبيت لبيد) ثم تمثل بأول البيت وترك آخرون وقالت عائشة: (كان النبى يتمثل يحدو بالشعر بحضرة النبى وقال: من هذا السائق؟ فقالوا: عامر بن الأكوع فقال: يرحمه الله) وأمر حسان بن ثابت وغيره بهجاء(9/320)
المشركين وأعلمهم أن لهم على ذلك جزيل الأجر وقال: (هو أشد عليهم من نضح النبل) . وذكر الطبرى عن عمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب وجله الصحابة أنهم أنشدوا الأشعار، وتمثل معاوية بالشعر، وكان ابن أبى مليكة وعكرمة ينشدان الشعر وكان ابن أبى ليلى ينشد والمؤذن يقيم، وعن ابن سيرين أنه كان ينشد الشعر الريق وقال معمر: سمعت الزهرى وقتادة ينشدان الشعر. قال قتادة: وكان ابن مسعود ربما تمثل بالبيت من وقائع العرب. قال شعبة: وكان قتادة ينشد الشعر فأقول له: أنشدك بيتًا وتحدثنى بحديث. وقال أهل التأويل فى قوله تعالى: (والشعراء يتبعهم الغاوون) عم شعراء المشركين يتبعهم غواة الناس ومردة الشياطين وعصاة الجن، ويروون شعرهم؛ لأن الغاوى لا يتبع إلا غاويا مثله. عن ابن عباس وغيره. وقوله: (ألم تر أنهم فى كل واد يهيمون (أى: يمرحون ويمرقون ببما ليس فى الممدوح والمذموم فهم كالهائم على وجهه، والهائم: المخالف القصد. عن أبى عبيدة.) وأنهم يقولون مالا يفعلون (أى يكذبون والمراد بقوله: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات (ابن رواحة وحسان وكعب بن مالك. عن ابن عباس. وقوله: (وذكروا الله كثيرا (قال ابن عباس: فى خلال(9/321)
كلامهم الناس. وقال ابن زيد: فى شعرهم. وقيل: لم يشغلهم الشعر عن ذكر الله. (وانتصروا من بعد ما ظلموا) يعنى: ردوا على الكفار الذين يهجون النبى - عليه السلام. قال الطبرى: ولا خلاف أن حكم المستثنى مخالف لحكم المستثنى منه، فوضح أن المذموم من الشعراء غير الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم محمودون غير مذمومين. وقول عامر بن الأكوع: (فاغفر فداء لك ما اقتفينا) فقد زعم بعض أهل الغفلة أن قوله: (فداء لك) تصحيف لا يجوز أن يقال ذلك لله تعالى وليس ذلك كما ظن والشعر صحيح والمعنى فاغفر مااقتفينا أى ماارتكبنا من الذنوب، تقول العرب: قفوت الشىء قفوا: اتبعت أثره، ومنه قوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) . وقوله: (فداء لك) دعاء منه ربه أن يفديه من عقابه على مااقترف من ذنوبه فكأنه قال: اللهم اغفر لى وافدنى لك أى فدء من عندك فلا تعاقبنى، وقوله: (لك) تبين الفاعل للفداء المعنى بالدعاء كما تقول فى الدعاء سقيا لك، فلك هاهنا مذكور لتبيين المعنى بالدعاء له، والمعنى: سقاك الله، فكذلك قوله: (فداء لك) معناه افدنا من عقابك، وقد جاء هذا الشعر فى كتاب المغازى بلفظ آخر (فاغفر فداء لك ما ابقينا من الذنوب) أى: مارتكناه مكتوبًا علينا ونحو ذلك، فداء لك بالرفع والخفض أيضًا، فوجه الرفع: أن يكون خبر مبتدأ مضمر ونحن فداء لك، كأنك قلت: نحن لتفدنا أو أفدنا كما(9/322)
تقول: نحن ارحمنا وزيد ارحمه، ومن خفض (فداء) شبهه بأمس فبناه على الكسر كبناء الأصوات عليه نحو قولهم: قال الغراب: غاق والجبل طاق، وأنشد سيبويه: مهلا فداء لك الأقوام كلهم وتقديره: اغفر افندنا. وأما قول الرجل: (وجبت يا رسول الله) فإنه يعنى الجنة، فهم من دعاء النبى لعامر بالرحمة أنه يستشهد فى تلك الغزاة ويكون من أهل الجنة كما فهم ابن عباس من وقوله: (ورأيت الناس يدخلون فى دين الله افواجا فسبح بحمد ربك واستغفر إنه كان توابا (حضور أجل النبى عليه السلام فلذلك قال الرجل: وجبت يا رسول الله هلا أمتعتنا به. وأما قوله عليه السلام: (وإن له لأجرين إنه لجاهد مجاهد) فيحتمل معنيين - والله أعلم -: أحدهما: أن يكون لما اصاب نفسه وقتلها فى سبيل الله تفضل الله عليه بأن ضاعف أجره مرتين. ويحتمل أن يكون أحد الأجرين لموته فى سبيل الله والأجر الثانى لما كان يحدو به القوم من شعره ويدعو الله فى ثيابهم عند لقاء عدوهم ولك تحضيض للمسلمين وتقوية لنفوسهم، وقد روى نحو هذا المعنى عن النبى. روى معمر، عن الزهرى، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه أنه قال للنبى (صلى الله عليه وسلم) : (إن الله قد أنزل في الشعر(9/323)
ما أنزل، قال: إن المؤمن ليجاهد بنفسه ولسانه، والذى نفسى بيده لكأنما ترمون به فيهم نصح النبل) . وقوله: (ألا أسمعتنا من هنيهاتك) فإن العرب تقول لكل شىء صغير: هنه، والهنوات من الكلام: ماصغر منها ولم يكن له كبير معنى كما قال الشاعر: على هنوات كلها متتابع يريد على صغار من الكلم المستحق بها القطيعة، والنهة كل شىء صغير برز من معظم شىء أو بان منه كزمعه ظلف الشاة وحلمه الثدى والضرع، ويجوز أن يقال: هنية وهنية، وفى كتاب الدعاء: (ألا أسمعتنا من هنياتك) ويقال ذلك للبرهة من الدهر أيضًا. وقوله عليه السلام: (يا أنجشية، رويداك سوقك بالقوارير) فإن القوارير هنا كناية عن النساء الذى على الأبل، أمره بالرفق فى الحداء والإنشاد؛ لأن الحداء يحث الإبل حتى تسرع السير، فلإذا مشت الإبل رويدا أمن على النساء السقوط، وتشبيهه النساء بالقوارير من الاستعارة البديعة؛ لأن القوارير أسرع الأشياء، فأفادت الاستعارة هاهنا من الحض على الرفق بالنساء فى السير ما لم تفده الحقيقة؛ لأنه لو قال له عليه السلام: ارفق فى مشيتك بهن أو ترسل لهم يفهم من ذلك أن التحفظ بالنساء كالتحفظ بالقوارير كما فهم ذلك من الاستعارة لتضمنها من المبالغة فى الرفق ما لم تضمنه الحقيقة. وأنجشة: اسم غلام أسود للنبي - عليه السلام.(9/324)
88 - باب: هجاء المشركين
/ 154 - فيه: عَائِشَةَ، اسْتَأْذَنَ حَسَّانُ النَّبِىّ عليه السلام فِى هِجَاءِ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (فَكَيْفَ بِنَسَبِى) ؟ فَقَالَ حَسَّانُ: لأسُلَّنَّكَ مِنْهُمْ كَمَا تُسَلُّ الشَّعَرَةُ مِنَ الْعَجِينِ. / 155 - وفيه: عُرْوَة، ذَهَبْتُ أَسُبُّ حَسَّانَ عِنْدَ عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: لا تَسُبُّهُ، فَإِنَّهُ كَانَ يُنَافِحُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . / 156 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ فِى قَصَصِهِ يَذْكُرُ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، يَقُولُ: (إِنَّ أَخًا لَكُمْ لا يَقُولُ: الرَّفَثَ - يَعْنِى بِذَاكَ ابْنَ رَوَاحَةَ - قَالَ: إِذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ مِنَ الْفَجْرِ سَاطِعُ بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعُ إِذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالْكَافِرِينَ الْمَضَاجِعُ وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ يَتْلُو كِتَابَهُ أَرَانَا الْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى فَقُلُوبُنَا يَبِيتُ يُجَافِى جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ / 157 - وفيه: أَبُو سَلَمَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ يَسْتَشْهِدُ أَبَا هُرَيْرَةَ، فَيَقُولُ: نَشَدْتُكَ بِاللَّهِ، هَلْ سَمِعْتَ النَّبِىّ عليه السلام يَقُولُ: (يَا حَسَّانُ أَجِبْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ: اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) ؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: نَعَمْ.(9/325)
/ 158 - وفيه: الْبَرَاء، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) لِحَسَّانَ: (اهْجُهُمْ - أَوْ هَاجِهِمْ - وَجِبْرِيلُ مَعَكَ) . قال المؤلف: هجاء المشركين أهل الحرب وسبهم جائز بهذه الأحاديث وأنه لا حرمة لهم إذا سبوا المسلمين، والانتصار منهم بذمهم وذكر كفرهم وقبيح افعالهم من أفضل الأمال عند الله تعالى ألا ترى قوله عليه السلام لحسان: (أهجهم وجبريل معك) وقوله: (اللهم أيده بروح القدس) وكفى بهذا فضلاً وشرفًا للعمل والعامل به، فأما إذا لم يسب أهل الحرب المسلمين فلا وجه لسبهم؛ لأن الله قد أنزل على نبيه فى قنوته على أهل الكفر: إن الله لم يبعثك لعانًا ولا سبابًا، وإنما بعثك عذابًا، فترك سبهم. فإن قيل: فما دليلك أن النبى عليه السلام إنما أمر حسانًا بهجاء المشركين لينتصر منهم لهجوهم المسلمين؟ . قيل: قول عائشة: (إنه كان ينافح عن رسول الله) يقتضى ذلك تقول العرب: نافحت عن فلان ونفحت عنه إذا خاصمت عنه، والمخاصمة والمنافحة لا تكون إلا من اثنين؛ لأنها مفاعلة وكل مفاعلة تكون كذلك، ويبين هذا قوله لأبى هريرة: نشدتك الله هل سمعت النبى يقول: ياحسان أجب عن رسول الله؟ قال: نعم. فبان أن هجاء المشركين إنما كان مجازاة لهم على قبيح قولهم. روى ابن وهب عن جرير بن حازم قال: سمعت ابن سيرين يقول: (هجاء رسول الله والمسلمين ثلاثة رهط من المشركين عمرو بن العاص، وعبد الله بن الزبعرى، وابو سفيان، فقال المهاجرون: يارسول الله، ألا تأمر عليًا أن يهجو عنا هؤلاء القوم؟(9/326)
فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليس على نالك. ثم قال رسول الله: إذا القوم نصروا النبى بأيديهم وأسلحتهم فبألسنتهم أحق أن ينصروه. فقالت الأنصار: أرادنا. فأتو حسان بن ثابت، فذكروا له ذلك، فأقبل حتى وقف على النبى عليه السلام فقال: يارسول الله، والذى بعثك بالحق ماأحب أن لى بمقولى مابين صنعاء وبصرى. فقال رسول الله: أنت لها ياحسان. قال. يارسول الله، لا علم لى بقريش. فقال رسول الله لأبى بكر: أخبره عنهم ونقب له فى مثالبهم. فهجاهم حسان وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك) . ورواه معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين وقال: العصاص بن وائل مكان عمرو بن العاص. قال المهلب: وأما قوله: (كيف بنسبى؟) فإنه أراد كيف تهجوهم ونسبى المهذب الشريف فيهم فربما مسنى من الهجو ونصيب فقال حسان: (لأسلنك منهم) أى: لأخلصنك من بينهم بالسلامة من الهجاء، أى أهجوهم بما لا يقدح فى نسبهم الماس له عليه السلام، ولكن أهجوهم بسىء أفعالهم وبما يخصهم عارة فى أنفسهم، وتبقى فيهم وصمة من الأخلاق والأفعال المذمومة التى طهر الله نبيه منها ونزهه من عيبها. وقوله فى عبد الله بن رواحة: (إنه لا يقول الرفث فى شعره) فهو حجة أن ماكان من الشعر فيه ذكر الله والأعمال الصالحة، فهو حسن وهو الذى قال فيه عليه السلام: (إن من الشعر حكمة) وليس من المذموم الذى قال فيه عليه السلام: (لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحًا خير له من أن يمتلىء شعرًا) .(9/327)
89 - باب: ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر حتى يصده عن ذكر الله والعلم والقرآن
/ 159 - فيه: ابْن عُمَر، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (لأنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا) . / 160 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لأنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ رَجُلٍ قَيْحًا حتَّى يَرِيهِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا) . قال أبو عبيد: فسر العشبى هذا الحديث قال ومعنى قوله: (خير له من أن يمتلىء شعرًا) يعنى: الشعر الذى هجى به النبى - عليه السلام. قال أبو عبيد: ولاذى عندى فى هذا الحديث غير هذا القول؛ لأن الذى هجى به النبى عليه السلام لو كان شطر بيت لكان كفرًا، فكأنه إذا حمل وجه الحديث على امتلاء القلب منه أنه قد رخص فى القليل منه عن القرآن وعن ذكر الله فيكون الغالب عليه، فأما إذا كان القرآن والعلم الغالبين عليه فليس جوفه ممتلئًا من الشعر. وقوله: (حتى يريه) قال الأصمعى: هو من الورى على مثال الرمى، يقال منه: (رجل مورّ) غير مهموز مشدد وهو أن يروى جوفه. وقال أبو عبيد: الورى هو أن يأكل القيح جوفه. وأنشد الصمعى: قالت له وريًا إذا تنحنحا. أى تدعو عليه بالوري.(9/328)
90 - باب: قول النبي (صلى الله عليه وسلم) (تربت يمينك) و (وعقرى حلقى
/ 161 - فيه: عَائِشَةَ، إِنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِى الْقُعَيْسِ اسْتَأْذَنَ عَلَىَّ بَعْدَ مَا نَزَلَ الْحِجَابُ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لا آذَنُ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّهُ عَمُّكِ، تَرِبَتْ يَمِينُكِ) الحديث. / 162 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنّ النَّبِى عليه السلام أَرَادَ أَنْ يَنْفِرَ، فَرَأَى صَفِيَّةَ عَلَى بَابِ خِبَائِهَا كَئِيبَةً حَزِينَةً؛ لأنَّهَا كانت حَاضَتْ، فَقَالَ: (عَقْرَى حَلْقَى - لُغَةٌ لِقُرَيْشٍ. . .) الحديث. قال المؤلف: قال ابن السكيت: يقال: تربت يداه إذا افتقر ولم يدع عليه بذهاب ماله، وإنما أراد المثل ليرى المأمور بذلك الجد وأنه إن خالفه فقد اساء، وقال الأصمعى: فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (تربت يمينك) ، و (وتربت يداك) معناه الاستثاث كما تقول: انج تكلتك أمك، وأنت لا تريد أن يثكل، وقال أبو عمرو: أصابه التراب ولم يدع بالفقر عليها. وقال أبو زيد: ترب إذا افتقر وإنما أراد بهذا أن فى يديه التراب. قال النحاس: أى ليس يحصل فى يديه إلا التراب. وقال ابن كيسان: المثل جرى على أنه إن فاتك ما أغريتك به افتقرت الذى عرف معناه، وقال غيره: هى كلمة لا يراد بها الدعاء، وإنما تستعمل فى المدح كما قالوا للشاعر إذا أجاد: قاتله الله لقد أجاد، وكما قالوا: ويل أمة مسعر حرب، وهو يتعجب منه ويمدحه ولكنه دعاء(9/329)
على أمه يالويل، وهولايريد الدعاء عليها من غضب، وهذا كلامهم وهو مثل تربت يمينك. واختلف أهل اللغة أيضًا فى تأويل قوله: عقرى حلقى فقال صاحب العين: يقال للمرأة: عقرى حلقى أى مشئومة، ويقال: هو دعاء عليها على يراد عقرها الله وحلقها. وقال أبو على القالى: عقرى من العقر دعاء على الإنسان وعقرًا أيضًا، وحلقى من حلق الرأس دعاء على الإنسان أيضًا، وحلقًا أيضًا. وقال ابن قتيبة: عقرى حلق أى عقرها الله وأصابها بوجع فى حلقها. وقال أبو عبيد فى كتاب الأمثال: ومن الدعاء قولهم عقرًا حلقًا وأهل الحديث يقولون: عقرى حلقى، وقال فى غريب الحديث: عقرى حلقى وعقرًا حلقًا.
91 - باب: ما جاء فى زعموا
/ 163 - فيه: أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِى طَالِبٍ، قَالت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَعَمَ ابْنُ أُمِّى أَنَّهُ قَاتِلٌ رَجُلا قَدْ أَجَرْتُهُ، فَقَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ) . قال صاحب الأفعال: يقال: زعم زعمًا وزعمًا وزعمًا ذكر خبرًا لا يدرى أحق هو أم باطل، وزعمت غير مزعم أى قلت غير مقول وادعيت مالا يمكن، وقد روى عن الرسول عليه السلام أنه قال: (زعموا بئس مطية الجرل) رواه وكيع عن الأوزاعى، عن يحيى، عن أبى قلابة، عن أبى مسعود أو عن أبى عبد الله، عن النبى، ومعناه أن من أكثر من الحديث بما لا يصح عنده ولايعلم صدقه لم يؤمن عليه الكذب.(9/330)
وفائدة حديث أم هانى أنها تكلمت بهذه الكلمة بحضرة النبى عليه السلام ولم ينكرها ولا جعلها كاذبة بذكرها.
92 - باب ما جاء فى قول الرجل ويلك
/ 164 - فيه: أَنَس، أَنَّ رسُول اللَّه عليه السلام رَأَى رَجُلا يَسُوقُ بَدَنَةً، فَقَالَ: (ارْكَبْهَا) ، قَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ، قَالَ: (ارْكَبْهَا) ، وَيْلَكَ، فِى الثَّانِيَةِ أَوْ الثَّالِثَةِ. / 165 - وفيه: أَنَس، كَانَ النَّبِىّ عليه السلام فِى سَفَرٍ، وَكَانَ مَعَهُ غُلامٌ لَهُ أَسْوَدُ، يُقَالُ لَهُ: أَنْجَشَةُ، يَحْدُو، فَقَالَ: (وَيْحَكَ يَا أَنْجَشَةُ، رُوَيْدَكَ بِالْقَوَارِيرِ) . / 166 - وفيه: أَبُو بَكْرَة، أَثْنَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (وَيْلَكَ، قَطَعْتَ عُنُقَ أَخِيكَ، ثَلاثًا. . .) ، الحديث. / 167 - وفيه: أَبُو سَعِيد، بَيْنَا النَّبِى عليه السلام يَقْسِمُ ذَاتَ يَوْمٍ يقسم قِسْمًا، فَقَالَ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ - رَجُلٌ مِنْ بَنِى تَمِيمٍ -: يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْدِلْ، قَالَ: (وَيْلَكَ، مَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ. . .) ؟ الحديث. / 168 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِىّ عليه السلام فَقَالَ: هَلَكْتُ فَقَالَ: (وَيْحَكَ وَمَا أهَلَكْك) ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امرأتِى فِى رَمَضَانَ) . / 169 - وفيه: أَبُو سَعِيدٍ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِى عَنِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: (وَيْحَكَ، إِنَّ شَأْنَ الْهِجْرَةِ شَدِيدٌ. . .) ، الحديث. / 170 - وفيه: ابْن عُمَر، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (وَيْلَكُمْ - أَوْ وَيْحَكُمْ، شَكَّ شُعْبَةُ - لا تَرْجِعُوا بَعْدِى كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ) . / 171 - وفيه: أَنَس، أَنَّ رَجُلا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ أَتَى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَتَى السَّاعَةُ قَائِمَةٌ؟ قَالَ: (وَيْلَكَ، وَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا) ؟ .(9/331)
قال سيبوية: ويلك كلمة تقال لمن وقع فى هلكه، ويحك ترحم بمعنى ويل. وقال بعض أهل اللغة: ولا يراد بها الدعاء بإيقاع الهلكة لمن خوطب بها، وإنما يراد به المدح والتعجب كما تقول العرب: ويل أمه مسعر حرب على عادتها فى نقلها الألفاظ الموضوعة فى بابها إلى غيره، كما يقال: انج، ثكلتك أمك، وتربت يداك. وروى يحى بن معين قال: حدثنا معتمر بن سليمان قال: قال لى أبى: أنت حدثتنى عنى عن عبيد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب قال: ويح كلمة رحمة.
93 - باب: علامة الحب فى الله لقوله تعالى: (إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله (
/ 172 - فيه: عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ النَّبِى عليه السَّلام: (الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَب) . / 173 - فيه: وَقَالَ ابْن مَسْعُود، مرة: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىّ عليه السلام فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَقُولُ فِى رَجُلٍ أَحَبَّ قَوْمًا، وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ؟ فَقَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ) . / 174 - وفيه: أَنَس، أَنَّ رَجُلا سَأَلَ النَّبِى عليه السلام فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (مَا أَعْدَدْتَ لَهَا) ؟ قَالَ: مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنْ كَثِيرِ صَلاةٍ وَلا صَوْمٍ وَلا صَدَقَةٍ، وَلَكِنِّى أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قَالَ: (أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ) . قال المؤلف: علامة حب الله حب رسوله واتباع سبيله والاقتداء(9/332)
بسنته؛ لقوله تعالى: (إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله (وقوله عليه السلام: (المرء مع من أحب) فدل هذا أن من أحب عبدًا فى الله فإن الله جامع بينه وبينه فى جنته ومدخله مدخلة وإن قصر عن عمله، وهذا معنى قوله: (ولم يلحق بهم) يعنى فى العمل والمنزلة، وبيان هذا المعنى - والله أعلم - أنه لما كان المحب للصالحين وإنما أحبهم من أجل طاعتهم لله، وكانت المحبة عملا من أعمال القلوب واعتقادًا لها أثاب الله معتقدًا ذلك ثواب الصالحين إذ النية هى الأصل والعمل تابع لها، والله يوتى فضله من يشاء.
94 - باب: قول الرجل للرجل اخسأ
/ 175 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ لابْنِ صَائِدٍ: (قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئًا، فَمَا هُوَ) ؟ قَالَ: الدُّخُّ قَالَ: (اخْسَأْ) . / 176 - وفيه: عُمَر، أَنّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ لابْنِ صَائِدٍ: (اخْسَأْ، فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ. . .) ، وذكر الحديث. قال المؤلف: أخسأ زجر للكب وإبعاد له، هذا أصل هذه الكلمة عند العرب ثم استعملت فى كل من قال أو فعل مالاينبغى له مما زجره فبعد، وفى القرآن: (كونوا قردة خاسئين) أى: مبعدين، وقال تعالى: (اخسئوا فيها ولا تكلمون) أى: ابعدوا بعد الكلاب(9/333)
(ولا تكلمون) فى رفع العذاب عنكم فكل من عصى الله سقطت حرمته ووجب خطابه بالغلظة والشدة والذم له لينزع عن مذهبه ويرجع عن قبيح فعله. وقالوا: (فرضه النبى) من رواه بالضاد فمعناه دفعه حتى وقع فتكسر يقال: رض الشىء فهو رضيض ومرضوض إذا انكسر، ومن رواه بالصاد فمعناه رصه حتى دخل بعضه فى بعض يقال: رص البنيان والقوم فى الحرب رصًا، إذا قرب بعضها إلى بعض، ومنه قوله تعالى: (كأنهم بنيان مرصوص) . وفيه: أن الله لم يطلع نبيه على الدجال متى يخرج فى أمته وأخفى عنه ذلك لما هو أعلم به، فلا علم لنبى مرسل ولاملك مقرب إلا بما أعلمه الله به ولذلك قالت الملاكة: (لا علم لنا إلا ما علمتنا) .
95 - باب قول الرجل مرحبا
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَ النَّبِى عليه السلام لِفَاطِمَةَ: (مَرْحَبًا بِابْنَتِى) وَقَالَتْ أُمُّ هَانِئٍ: جِئْتُ إِلَى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ) . / 177 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) لوَفْدُ عَبْدِالْقَيْسِ: (مَرْحَبًا بِالْوَفْدِ الَّذِينَ جَاءُوا غَيْرَ خَزَايَا وَلا نَدَامَى) ، الحديث. قال الأصمعى: معنى قوله (مرحبًا) لقيت رحبًا وسعة، وقال الفراء: هو منصوب على المصدر وفيه معنى الدعاء والرحب، والترحب: السعة، وتقول العرب: مرحبًا وأهلاً وسهلاً أى لقيت أهلاً كأهلك ولقيت سهلاً أى سهلت عليك أمورك.(9/334)
وقوله عليه السلام: (غير خزايا) يعنى غير مخزنين بل مكرمين مرفعين. ولا ندامى يعنى: غير نادمين بل مغتبطين فرحين بما أنعم الله عليهم من عز الإسلام، وتصديق النبى ونصرته ودعاء قومهم إلى دينه.
96 - باب: هل يدعى الناس بآبائهم
/ 178 - فيه: ابْن عُمَر، أَنّ النَّبِى عليه السلام قَالَ: (إِنَّ الْغَادِرَ يُرْفَعُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلانِ بْنِ فُلانٍ) . قال المؤلف: مصداق هذا الحديث فى قوله تعالى: (وجعلناكم شعوبًا وقبائل) قال أهل التفسير: الشعوب النسب الأبعد والقبائل النسب الأقرب يقال فلان من بنى فلان، غير أن النسب إلى الآباء وإن كان هو الأصل فقد جاء فى الحديث أن يدعى المرء بأحب أسمائه إليه، وأحبها إليه أن يدعى بكنيته لما فى ذلك من توقيرة والدعاء بالآباء أشد فى التعريف وأبلغ فى التميز، وبذلك نطق القرآن والسنة. وقد كان الأعراب الجفاء يأتون النبى عليه السلام وهو جالس مع أصاحبه فيقولون: أيكم محمد بن عبد المطلب، ولايذكرون ما شرفه الله من النوبة المعصومة والرسالة المؤيدة فلا ينكر ذلك عليهم لما خصه الله به من الخلق العظيم، وجبله عليه من الطبع الشريف. وفى قوله عليه السلام: (هذه غدرة فلان بن فلان) رد لقوله من زعم أنه لا يدعى الناس يوم القيامة إلا بأمتهم؛ لأن فى ذلك سترًا على آبائهم، وهذا الحديث خلاف قولهم. وفيه: جواز الحكم بظواهر الأمور إذا لم يمكن علم بواطنها؛ لأنه(9/335)
قد يجوز أن يكون كثير من الناس ممن يدعى إلى أبيه فى الظاهر، وليس كذلك فى الباطن، ودل عموم هذا الحديث على أنه إنما يدعى الناس بالآباء ولايلزم داعيهم البحث عن حقيقة أمورهم والتنقير عنهم.
97 - باب لا يقل خبثت نفسى ولكن ليقل لقست نفسى
/ 179 - فيه: عَائِشَةَ، وَسَهْل بْن سعد، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: خَبُثَتْ نَفْسِى، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: لَقِسَتْ نَفْسِى) . قال المؤلف: كان النبى يعجبه الاسم الحسن ويتفائل به ويكره الاسم القبيح ويغيره، وكره عليه السلام لفظ الخبيث إذ الخبث حرام على المؤمنين، وقال أبو عبيد: لقسمت وخبثت واحد لكنه استقبح لفظ خبثت. قال المؤلف: وليس قوله عليه السلام (لا يقولن أحدكم خبثت نفسى) على معنى الأيحاء والحتم، وإنما هو من باب الأدب، فقد قال فى الذى يعقد الشيطان على رأسه ثلاث عقد وينام عن صلاة: (أصبح خبيث النفس كسلان) وقد نطق القرآن بهذه اللفظة فقال تعالى: (ومثل كلمة خبيئة كشجرة خبيثة) .(9/336)
98 - باب لا تسبوا الدهر
/ 180 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبيىّ (صلى الله عليه وسلم) : (قَالَ اللَّهُ جَلّ ثناؤه: يَسُبُّ بَنُو آدَمَ الدَّهْر، َ وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِى اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ) . / 181 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِي (صلى الله عليه وسلم) : (لا تُسَمُّوا الْعِنَبَ الْكَرْمَ، وَلا تَقُولُوا: خَيْبَةَ الدَّهْرِ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ) . قال الخطابى: كان أهل الجاهلية يضيفون المصائب والنوائب إلى الدهر الذى هو مر الليل والنهار، وهم فى ذلك فريقان، فرقة لا تؤمن بالله ولا تعرف إلا الدهر الليل والنهار اللذين هما محل للحوادث وظرف لمساقط الأقدار، فنسبت المكارة إليه على أنها من فعله، ولا ترى أن لها مدبرًا غيره وهذه الفرقة هى الدهرية التى حكى الله عنهم: (وقالوا ما هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر (. وفرقة ثانية: تعرف الخالق فتنزهه أن تنسب إليه المكارة فتضيفها إلى الدهر والزمان، وعلى هذين الوجهين كانوا يذمون الدهر ويسبونه، فيقول القائل منهم: ياخيبة الدهر، ويا بؤس الدهر، فقال لهم النبى - عليه السلام - مبطلا ذلك من مذهبهم: (لا تسبوا الدهر على أنه الدهر، فإن الله هو الدهر) يريد والله أعلم: لا تسبوا الدهر على أنه الفاعل لهذا الصنع بكم، فإن الله هو الفاعل له، فإذا سببتم الذى أنزل بكم المكارة رجع السب إلى الله وانصرف إليه. ومعنى قوله: (أنا الدهر) : أنا ملك الدهر ومصرفه فحذف اختصارًا للفظ واتساعًا فى المعنى، وبيان هذا فى حديث أبى هريرة(9/337)
حدثنا ابن الأعرابى، حدثنا محمد سعيد بن غالب، حدثنا ابن نمير حدثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبى صالح، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله: (يقول الله: أنا الدهر، بيدى الليل والنهار أجده وأبليه، وأذهب بالملوك وآتى بهم) . روى عبد الرزاق عن معمر، عن الزهرى، عن ابن المسيب، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله: (يقول الله تعالى: يؤذينى ابن آدم، يقول: ياخيبة الدهر، فلا يقولن أحدكم ياخيبة الدهر، وإنى أنا الدهر أقلب ليله ونهاره، وإذا شئت قبضتها) . وقال ابن النحاس: يجوز فيه نصب الراء من قوله: (إن الله هو الدهر) والمعنى: فإن الله معمر الدهر أى: مقيم أبدأ الدهر.
99 - باب: قول النبى عليه السلام وإنما الكرم قلب المؤمن
وَقَدْ قَالَ: إِنَّمَا الْمُفْلِسُ الَّذِى يُفْلِسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَقَوْلِهِ: إِنَّمَا الصُّرَعَةُ الَّذِى يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ، كَقَوْلِهِ: لا مُلْكَ إِلا لِلَّهِ، فَوَصَفَهُ بِانْتِهَاءِ الْمُلْكِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُلُوكَ أَيْضًا، فَقَالَ: (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا) [النمل 34] . / 182 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (وَيَقُولُونَ الْكَرْمُ، إِنَّمَا الْكَرْمُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ) . قال المهلب: قوله: (إنما الكرم قلب المؤمن) وإنما المفلس والصرعة وإنما هو على المبالغة، أى ليس المفلس كل والإفلاس إلا من لم تكن له حسنات يوم القيامة من أجل أنه قد يكون فى الدنيا مفلس من المال، وهو غنى يوم القيامة بحسناته، والغنى فى الدنيا قد(9/338)
يكون مفلسًا يوم القيامة، وهذا على المبالغة، وكذلك الصرعة، ليس الذى يغلب الناس ويصرعهم بقوته، وإنما الصرعة الذى يملك نفسه. وغرضه فى هذا الباب - والله أعلم - أن يعرف بمواقع الألفاظ المشتركة، وأن يقتصر فى الوصف على ترك المبالغة والإغراق فى الصفات إذا لم تستحق الموصوف ذلك ولا يبلغ النهايات فى ذلك إلا فى مواضعها، وحيث يليق الوصف بالنهاية وقال ابن الأنبارى: سمى الكرم كرمًا؛ لأن الخمر المشروبة من عنبه تحث على السخاء وتأمر بمكارم الأخلاق كما سموها راحًا قال الشاعر: والخمر مشتقه المعنى من الكرم ولذلك قال عليه السلام: (لا تسموا العنب الكرم) كره أن يسمى أصل الخمر باسم مأخوذ من الكرم، وجعل المؤمن الذى يتقى شربها ويرى الكرم فى تركها أحق بهذا الاسم الحسن. وقال أبو حاتم: قال رجل من أهل الطائف: شققت من الصبا واشتق منى كما اشتقت من الكرم الكروم
0 - باب قول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (فداك أبى وأمى
فيه الزبير / 183 - وفيه: عَلِىّ، قَالَ: مَا سَمِعْتُ النَّبِىّ عليه السلام يُفَدِّى أَحَدًا غَيْرَ سَعْدٍ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: (ارْمِ فَدَاكَ أَبِى وَأُمِّى) ، أَظُنُّهُ يَوْمَ أُحُدٍ.(9/339)
قد تقدم معنى تفدية الرجل لأخيه فى كتاب الجهاد ونذكر هنا مالم يمض هناك. قال الطبرى: إن قال قائل: قول على: (ماسمعت النبى - على السلام - يفدى رجلا غير سعد) هل يعارض حديث الزبير؛ فقد روى هشام بن عروة، عن أبيه (أن عبد الله بن الزبير قال يوم الخندق للزبير: ياأبه، لقد رأيتك تحمل على فرسك الأشقر. قال: هل رأيتنى أى بنى؟ قلت: نعم. قال: كان رسول الله يجمع لأبيك أبويه، يقول: احمل فداك أبى وأمى) . قال الطبرى: وقول الزبير غير دافع صحة ماقال عليّ؛ لأن عليًا إنما أخبر عن نفسه أنه لم يسمع النبى جمع أبويه لأحد غير سعد، فجائز أن يكون جمع للزبير أبويه ولم يسمعه على وسمعه الزبير، فأخبر كل واحد منهما بما سمع، وليس فى قول من قال: لم أسمع فلانًا يقول كذا نفى منه أن يكون سمع ذلك منه غيره، ولا فى قول من قال: سمعت فلانًا يقول يقول كذا إيجاب منه أن يكون لا أحد إلا وقد سمع ذلك الخبر منه.
1 - باب قول الرجل: جعلنى الله فداك
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّبِى عليه السَّلام: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا. / 184 - فيه: أَنَس، أَنَّهُ أَقْبَلَ هُوَ وَأَبُو طَلْحَةَ مَعَ النَّبِى عليه السلام وَمَعَه صَفِيَّةُ مُرْدِفُهَا عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَلَمَّا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ عَثَرَتِ النَّاقَةُ، فَصُرِعَ النَّبِى عليه السلام وَالْمَرْأَةُ، وَأَنَّ أَبَا طَلْحَةَ قَالَ: أَحْسِبُ اقْتَحَمَ عَنْ بَعِيرِهِ، فَأَتَى(9/340)
النَّبِيّ عليه السلام فَقَالَ: يَا نَبِى اللَّهِ، جَعَلَنِى اللَّهُ فِدَاكَ، هَلْ أَصَابَكَ مِنْ شَىْءٍ؟ قَالَ: (لا، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْمَرْأَةِ) ، فَأَلْقَى أَبُو طَلْحَةَ ثَوْبَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَقَصَدَ قَصْدَهَا، فَأَلْقَى ثَوْبَهُ عَلَيْهَا، فَقَامَتِ الْمَرْأَةُ، فَشَدَّ لَهُمَا عَلَى رَاحِلَتِهِمَا فَرَكِبَا. . . . الحديث. قال المؤلف: وفى هذا الباب رد قول من لم يجز تفديه الرجل للرجل بنفسه أو بأبويه، زعموا أنه فدى النبى سعدًا بأبويه، لأنهما كانا مشتركين، فأما المسلم فلا يجوز له ذلك. قالوا: وروى عن عمر بن الخطاب أن رجلا قال له: جعلنى الله فداك. قال: إذًا يهينك الله. . وقد ثبت فى هذا الباب عن الصديق، وعن أبى طلحة أنهما فديا النبى فلم ينكر ذلك عليهما، ولأنهاهما عنه، وقد تقدم فى كتاب الجهاد متصلا بباب الترسة.
2 - باب: قول الرجل لصاحبه يا أبا فلان وأحب الأسماء إلى الله
/ 185 - فيه: جَابِر، قَالَ: وُلِدَ لِرَجُلٍ مِنَّا غُلامٌ، فَسَمَّاهُ الْقَاسِمَ، فَقُلْنَا: لا نَكْنِيكَ أَبَا الْقَاسِمِ، وَلا كَرَامَةَ، فَأَخْبَرَ النَّبِى عليه السلام فَقَالَ: (سَمِّ ابْنَكَ عَبْدَالرَّحْمَنِ) . قال المؤلف: جاء فى هذا الحديث عن عمر بن الخطاب أنه قال: يصفى للمرء ود أخيه المسلم أن يدعوه بأحب الأسماء إليه، ويوسع له فى المجلس ويسلم عليه إذا لقيه، وإذا قال له يا أبا فلان وكناه فقد أكرمه وتلطف له فى القول، وذلك مما يثبت الود.(9/341)
وروى ابن لهيعة عن أبى قبيل عن عبد الله بن عمر، عن النبى عليه السلام قال: (تكنوا فإنه أكرم للمكنى والمكنى) . وأما أحب الأسماء إلى الله فذكر أبو داود بإسناده عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر عليه السلام أنه قال: (أحب الأسماء إلى الله - عز وجل - عبد الله وعبد الرحمن) وعن عوف، عن الحسن قال: بلغنى أن رسول الله قال: (من خير أسمائكم عبد الله وعبد الرحمن) .
3 - باب قول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (سموا باسمى ولا تكنوا بكنيتى
(1) / 186 - فيه: [سقط] قال الطبرى: إن قال قائل: ماوجه هذا الحديث وقد جمع جماعة من أصحاب النبى عليه السلام بين اسمه وكنيته منهم على بن أبى طالب كنى ابنه محمد ابن الحنفية: أبا القاسم؟ قيل: قد اختلف السلف فبلنا فى ذلك، فقالت طائفة: غير جازلأحد أن يكنى نفسه أو ولده أبا القاسم، أو إن يسميه قاسما ليكنى الأب أبا القاسم، فأما أن يسمى ابنه محمدًا فذلك له، واعتلوا بحديث جابر وأبى هريرة، قالوا: فأذن النبى بالتسمى باسمه، ونهى عن التكنى بكنيته.(9/342)
ذكر من روى ذلك عنه: روى ابن سيرين قال: كان مروان بن الحكم يسمى ابنه القاسم، وكان رجل الأنصار يسمى ابنه القاسم، فلما بلغهما هذا الحديث بالنهى سمى مروان عبد الملك، وغير الأنصارى اسم ابنه. وقال ابن عون: سالت ابن سيرين عن الرجل يكنى بكنية النبى ولم يسم باسمه، أيكره؟ قال: نعن. وقال زبيد الأيامى: كان الرجل منا إذا يكنى بأبى القاسم كنيناه أبا القاسم. وقالت طائفة: غير جائز أن يجمع أحد بين اسم النبى وكنيته، فإن سماه محمدًا لم يكن له أن يكنيه أبا القاسم، فإن كناه أبا القاسم ولم يكن له أن يسميه محمدًا ولا أحمد، واعتلوا بما حدثنا به يوسف بن موسى القطان، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا هشام الدستوائى، حدثنا أبو الزبير عن جابر أن رسول الله قال: (من تسمى باسمى فلا يتكنين بكنيتى، ومن تكنى بكنيتى فلا يستمين باسمى) . وقال آخرون: جائز: أن يجمع بين اسم النبى وكنيته، واعتلوا بما حدثنا محمد بن خلف، حدثنا محمد بن الصلات، حدثنا الربيع بن منذر الثورى، عن أبيه، عن محمد ابن الحنيفة قال: (وقع بين على وبين طلحة كلام، فقال له طلحة: إنك لجرىء جمعت بين اسم رسول الله وكنيته، وقد نهى رسول الله عن ذلك. فقال له على: الجرىء كل الجررىء من قال على رسول الله مالم يقل. ثم استشهد على أناسًا فشهدوا له أن رسول الله رخص له فى ذلك، وقد سمى(9/343)
طلحة ابنه محمدًا وكناه أبا القاسم) ولو صح حديثه ماخالف مارواه عن النبى عليه السلام وقال: إذن النبى لعلى أن يسمى ابنه محمدًا ويكنيه أباالقاسم إطلاق منه ذلك لجميع أمته؛ إذ لم يخبر أنه خص بذلك عليا دون سائر أمته. وقد سمى ولده باسم النبى وكناه بكنيته جماعة من السلف. وروى عشيم عن كغيرة عن إبراهيم أن محمد بن الأشعث كان يكنى أبا القاسم وكان يدخل على عائشة فتكنيه بذلك روان بن معاوية، عن محمد بن عمران الحجبى عن جدته صفية بنت شيبة، عن عائشة قالت: جاءت امرأة إلى النبى عليه السلام فقالت: يارسول الله، ولد لى غلم فسميته محمدًا وكنيته بأبى القاسم، فبلغنى أنك تكره ذلك، فقال رسول الله: (ما حرم اسمى وأحل كنيتى وما حرم كنيتى وأحل اسمي) . وقال آخرون: غير جائز لأحد أن يسمى باسم النبى عليه السلام ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا معاذ بن هشام قال: حدثنى أبى، عن قتادة، عن سالم بن أبى الجعد قال: كتب عمر إلى أهل الكوفة الا تسموا أحدًا باسم نبى. واعتلوا بما حدثنى محمد بن بشار، حدثنا أبو داود، حدثنا الحكم بن عطية، عن ثابت، عن أنس قال: قال النبى - عله السلام - (تسمون أولادكم محمدًا ثم تلعنوهم) .(9/344)
قال الطبري: والصواب عندنا أن يقال كل هذه الأخبار عن النبي صحيح، وليس فى شىء منها مايدفع غيره ولا ينسخه، ولو كان فيها ناسخ أو منسوخ لنقلت الأمة بيان ذلك، وإنما كان نهى النبي عن التكنى بكنيته تكرهًا إعلامًا منه أمته أن الجميع بين اسمه وكنيته أو التكنى بكنيته على الكراهة لا على التحريم، وذلك أنه لو كان على التحريم لم تجهل الأمة ذلك ولم يطلق المهاجرون والأنصار ذلك لمن فعله ولأنكروه، وفى تركهم إنكاره دليل على صحة قولنا. وقال غير الطبرى: وإنما نهى النبي عليه السلام أن يجمع بين اسمه وكنيته تعزيزًا له وتوقرًا؛ لئلا يدعى غيره باسمه فيظن عليه السلام أنه هو المدعو به فيعنت بذلك، وقد روى غيره أن هذا المعنى كان سبب هذا الحديث، روى أبو عيسى الترمذى: حدثنا الحسن بن على الخلال، حدثنا يزيد بن هارون، عن حميد، عن أنس، عن النبي: (أنه سمع رجلا ينادى فى السوق ياأبا القاسم، فالتفت عليه السلام، فقال له الرجل: لم أعنك، فقال عليه السلام: لا تكنوا بكنيتى) وقد أمر الله عباده المؤمنين أن لا يجعلوا دعاء الرسول بينهم كدعاء بعضهم بعضًا، وأن لا يرفعوا أصواتهم فوق صوته، ولايجهروا له بالقول، وهذا كله حض على توقره وإجلاله وتخصيصه بكنيته لا يدعى بها غيره من إجلاله وتوقرة.
4 - باب: اسم الحزن
/ 187 - فيه: ابْن الْمُسَيَّب، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ أَبَاهُ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ، عليه السَّلام،(9/345)
فَقَالَ: (مَا اسْمُكَ) ؟ قَالَ: حَزْنٌ، قَالَ: (أَنْتَ سَهْلٌ) ، قَالَ: لا أُغَيِّرُ اسْمًا سَمَّانِيهِ أَبِى. قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: فَمَا زَالَتِ الْحُزُونَةُ فِينَا بَعْدُه. قال المؤلف: هذا الحديث يدل أن أمره عليه السام بتغيير الأسماء المكروهة ليس على وجه الوجوب، وأن ذلك على معنى الكراهية؛ لأنه لو كان على معنى الوجوب لم يجز لجد سعيد الثبات على حزن، ولاسوغ النبي ذلك، وسيأتى بعد هذا. وروى أبو دود: حدثنا مسدد، حدثنا هشيم، عن داود بن عمرو، عن عبد الله بن أبى زكريا، عن أبى الدرداء قال: قال رسول الله: (إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم، فأحسنوا أسماءكم) .
5 - باب: تحويل الاسم إلى اسم أحسن منه
/ 188 - فيه: سَهْل، أُتِىَ بِالْمُنْذِرِ بْنِ أَبِى أُسَيْدٍ إِلَى النَّبِي (صلى الله عليه وسلم) حِينَ وُلِدَ، فَوَضَعَهُ عَلَى فَخِذِهِ، وَأَبُو أُسَيْدٍ جَالِسٌ، فَلَهَا النَّبِي عليه السلام بِشَىْءٍ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَمَرَ أَبُو أُسَيْدٍ بِابْنِهِ، فَاحْتُمِلَ مِنْ فَخِذِ النَّبِي (صلى الله عليه وسلم) ، فَاسْتَفَاقَ النَّبِي (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (أَيْنَ الصَّبِىُّ) ؟ فَقَالَ أَبُو أُسَيْدٍ: قَلَبْنَاهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (مَا اسْمُهُ) ؟ قَالَ: فُلانٌ، قَالَ: (لَكِنْ أَسْمِهِ الْمُنْذِرَ) ، فَسَمَّاهُ يَوْمَئِذٍ الْمُنْذِرَ. / 189 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ زَيْنَبَ كَانَ اسْمُهَا بَرَّةَ، فَقِيلَ: تُزَكِّى نَفْسَهَا، فَسَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام زَيْنَبَ. / 190 - وفيه: ابْن الْمُسَيَّب، أَنَّ جَدَّهُ حَزْنًا قَدِمَ عَلَى النَّبِي (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (مَا اسْمُكَ) ؟ قَالَ: اسْمِى حَزْنٌ، قَالَ: (بَلْ، أَنْتَ سَهْلٌ) ، قَالَ: مَا أَنَا بِمُغَيِّرٍ اسْمًا سَمَّانِيهِ أَبِى. قال المؤلف: قد قدمنا قبل هذا أن النبي عليه السلام كان(9/346)
يعجبه تغيير الاسم القبيح بالاسم الحسن على وجه التفاؤل والتيمن؛ لأنه كان يعجبه الفأل الحسن، وقد غير رسول الله عدة أسامى، غير برة بزينب وحول اسم عبد الله بن عمرو بن العاص إلى عبد الله كراهة لاسم العصيان الذى هو مناف لصفة المؤمن، وإنما شعار المؤمن الطاعة وسمته العبودية. قال الطبرى: فلا ينبغى لأحد أن يتسمى باسم قبيح المعنى، ولا باسم معناه التزكية والمدجح، ولا باسم معناه الذم والسب، بل الذى ينبغى أن يسمى به ما كان حقًا وصدقًا، كما أمر الذى سمى بنه القاسم أن يسميه عبد الرحمن، إذ كان الصدق الذى لا شك فيه أنه عبد الرحمن فسماه بحقيقة معناه، وإن كانت الأسماء العوارى لم توضع على المسميات لصفاتها بل للدلالة على أشخاصها خشية أن يسمع سامع باسم العاصى فيظن أن ذلك له صفة، وأنه إنما سمى بذلك لمعصية ربه، فحول ذلك عليه السلام إلى ما لإذا دعى به كان صدقًا. وأما تحويله بره إلى زينب؛ فلأن ذلك كان تزكية ومدحًا فحوله إلى ما لا تزكيه فيه ولا ذم، وعلى هذا النحو سائر الأسماء التى غيرها رسول الله، فأولى الأسماء أن يتسمى بها أقربها إلى الصدق وأحرها أن لا يشكل على سامعها؛ لأن الأسماء إنما هى للدلالة والتعريف، وبهذا وردت الآثار عن النبى - عليه السلام. روى أبو داود فى مصنفه حدثنا عن أبى وهب الخشنى - وكانت له صحبة، عن النبى عليه السلام أنه قال: (أحب الأسماء إلى الله:(9/347)
عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام، وأقبها حرب ومرة) وروى عطاء عن أبى سعيد الخدرى قال: قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (لا تسموا أبناءكم حكما ولا أبا الحكم، فإن الله هو الجكيم العليم) . قال الطبرى: وليس تغيير رسول الله ماغير من الأسماء على وجه المنع للتسمى بها؛ بل ذلك على وجه الاختيار؛ لأن الأسماء لم يسم لها لوجود معانيها فى المسمى بها، وإنما هى للتمييز، ولذلك أباح المسلمون أن يتسمى الرجل القبيح بحسن، والرجل الفاسد بصالح، يدل على ذلك قول جد ابن المسيب للنبى عليه السلام حين قال له أنت سهل: ماكنت أغير اسما سمانيه أبى، فلم يلزمه الانتقال عنه على كل حال، ولا جعله بثباته عليه آثما بربه، ولو كان آثما بذلك لجبره على النقلة عنه، إذ غير جائز فى صفته عليه السلام أن يرى منكرًا وله إلى تغييره سبيل.
6 - باب: من تسمى بأسماء الأنبياء عليهم السلام
/ 191 - فيه: إِسْمَاعِيلُ، قُلْتُ لابْنِ أَبِى أَوْفَى: رَأَيْتَ إِبْرَاهِيمَ ابْنَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ؟ قَالَ: مَاتَ صَغِيرًا، وَلَوْ قُضِىَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ مُحَمَّدٍ عليه السلام نَبِىٌّ عَاشَ ابْنُهُ، وَلَكِنْ لا نَبِىَّ بَعْدَهُ. / 192 - وفيه: الْبَرَاءَ، قَالَ: لَمَّا مَاتَ إِبْرَاهِيمُ قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ لَهُ مُرْضِعًا فِى الْجَنَّةِ) . / 193 - وفيه: جَابِر، قَالَ النَّبيّ (صلى الله عليه وسلم) : (سَمُّوا بِاسْمِى، وَلا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِى. . .) الحديث.(9/348)
/ 194 - وفيه: أَبُو هُرَيرَةَ، عن النَّبِىّ مثله. / 195 - وفيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ: وُلِدَ لِى غُلامٌ، فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَسَمَّاهُ إِبْرَاهِيمَ، وَحَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ. . . الحديث. / 196 - وفيه: الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ، قَالَ: كسَفَتِ الشَّمْسُ يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ. ورَوَاهُ أَبُو بَكْرَةَ، عَنِ النَّبِى عليه السَّلام. قال المؤلف: هذه الأحاديث تدل على جواز التسمية بأسماء الأنبياء عليهم السلام، وقد قال سعيد بن المسيب: أحب الأسماء إلى الله أسماء الأنبياء، وقد يرد قول من كره التسمية بأسماء الأنبياء، وهى رواية جاءت عن عمر بن الخطاب، عن طريق قتادة، عن سالم بن أبى الجعد قال: كتب عمر إلى أهل الكوفة ألا يتسمى أحد باسم نبى، وقد مر فى باب قوله: (تسموا باسمى، ولاتكنوا بكنيتى) . وذكر الطبرى أن حجة هذا القول حديث الحكم بن عطية عن ثابت عن أنس قال النبى: (تسمون أولادكم محمدًا ثم تلعنوهم) والحكم بن عطية ضعيف، ذكره البخارى فى كتاب الضعفائ، وقال: كان أبو الوليد يضعفه، وليس قوله عليه السلام: (تسمون أولادكم محمدًا ثم تلعنوهم) لو صح عن النبى عليه السلام بمانع أن يتسمى أحد باسم محمد، فقد أطلق ذلك وأباحه بقوله: (تسموا باسمى) وسمى ابنه إبراهيم باسم الخليل - عليل السلام وإنما فيه النهى عن أن يسمى أحد ابنه محمدًا ثم يلعنه.(9/349)
7 - باب: تسمية الوليد
/ 197 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمَّا رَفَعَ النَّبِى عليه السلام رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ، قَالَ: (اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ. . .) الحديث. قال المؤلف: هذا الحديث يرد ماروى معمر الزهرى قال: (أراد رجل أن يسمى ابنًا له الوليد، فنهاه النبى وقال: إنه سيكون رجل اسمه الوليد يعمل فى أمتى كما عمل فرعون فى قومه) وحديث أبى هريرة أثبت فى الحجة من بلاغ الزهرى، فهو أولى منه.
8 - باب: من دعا صاحبه فنقص من اسمه حرفا
وَقَالَ أَبُو هُرَيرَةَ: قَالَ لىِّ النَّبِىَ (صلى الله عليه وسلم) : (يَا أَبَا هر) . / 198 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (يَا عَائِشَ، هَذَا جِبْرِيلُ يُقْرِئُكِ السَّلامَ) ، قُلْتُ: وَعَلَيْهِ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، قَالَتْ: وَهُوَ يَرَى مَا لا أَرَى. / 199 - وفيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) لأَنْجَشَةُ: (يَا أَنْجَشُ، رُوَيْدَكَ، سَوْقَكَ بِالْقَوَارِيرِ) . أما قوله عليه السلام: (ياعائش) (يا أنجش) فهو من باب النداء المرخم، والترخيم: نقصان أواخر الأسماء، تفعل ذلك العرب على وجه التخفيف، ولاترخم ماليس منادى إلا فى ضرورة الشعر ولاترخم من الأسماء إلا ماكان من ثلاثة أحرف؛ لأن الثلاثة أقل الأصول إلا ماكان فى آخره هاء التأنيث فإنه يرخم(9/350)
قلت حروفه أو كثرت، فتقول فى ترخيم عائشة وأنجشة: ياعائش، وياأنجش، وفى ترخيم مالك: يامال أقبل، ويا حار للحارث، وفى ترخيم جعفر: ياجعف أقبل فنخذف الراء وندع ماقبلها على حركته، ومن العرب من إذا رخم الاسم حذف منه آخره وجعل مابقى اسمًا على حيالة بمنزلة اسم لم يكن فيه ماحذف منه فبناه على الضم فقال: يامال، وياحار، وياجعف، فيجوز على هذا ياعائش وياأنجش. وأما قوله: (ياأبا هر) فليس من باب الترخيم، وإنما هو نقل اللفظ من التصغير والتأنيث إلى التكبير والتذكير؛ لأن أبا هريرة كناه النبى عليه السلام بتصغير هرة كانت له فخطابه باسمها مذكرًا فهو وإن كا نقصانًا من اللفظ ففيه زيادة فى المعنى.
9 - باب: الكنية للصبى وقبل أن يولد للرجل
/ 200 - فيه: أَنَس، كَانَ النَّبِى عليه السلام أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، وَكَانَ لِى أَخٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو عُمَيْرٍ - قَالَ أَحْسِبُهُ فَطِيمًا - وَكَانَ إِذَا جَاءَ، قَالَ: (يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ) ؟ نُغَرٌ كَانَ يَلْعَبُ بِهِ، فَرُبَّمَا حَضَرَ الصَّلاةَ، وَهُوَ فِى بَيْتِنَا، فَيَأْمُرُ بِالْبِسَاطِ الَّذِى تَحْتَهُ، فَيُكْنَسُ، وَيُنْضَحُ، ثُمَّ يَقُومُ وَنَقُومُ خَلْفَهُ فَيُصَلِّى بِنَا. الكنية إنما هى على معنى الكرامة والتفاؤل أن يكون أبا ويكون له ابن، وإذا جاز أن يكنى الصبى فى صغره، فالرجل قبل أن يولد له أولى بذلك.(9/351)
وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال: عجلوا بكنى أولادكم لا تسرع إليهم ألقاب السوء. وهذا كله من حسن الأدب ومما يثبت الود، وفى هذا الحديث جواز المزاح مع الصبى الصغير. وفيه: جواز لعب الصبيان الصغار بالطير، واتخاذها لهم وتسليتهم بها. وفيه: استعمال النضح فيما يشك فى طهارته ولم تتيقن نجاسته.
0 - باب: التكنى بأبى تراب وإن كانت له كنية أخرى
/ 201 - فيه: سَهْل، إِنْ كَانَتْ أَحَبَّ أَسْمَاءِ عَلِىّ إِلَيْهِ لأبُو تُرَابٍ، وَإِنْ كَانَ لَيَفْرَحُ أَنْ ندعوه بِهَا، وَمَا سَمَّاهُ أَبُو تُرَابٍ إِلا النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، غَاضَبَ يَوْمًا فَاطِمَةَ، فَخَرَجَ فَاضْطَجَعَ إِلَى الْجِدَارِ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَجَاءَهُ النَّبِى عليه السلام يَتْبَعُهُ، فَقَالَ: هُوَ ذَا مُضْطَجِعٌ فِى الْجِدَارِ، فَجَاءَهُ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، وَامْتَلأ ظَهْرُهُ تُرَابًا، فَجَعَلَ النَّبِى عليه السلام يَمْسَحُ التُّرَابَ عَنْ ظَهْرِهِ، وَيَقُولُ: (اجْلِسْ يَا أَبَا تُرَابٍ) . قال المؤلف: الكنية موضوعة لإكرام المدعو بها وإتيان مسرته؛ لأنه لا يتكنى المرء إلا بأحب الكنى إليه، وهو مباح له أن يتكنى بكنيتين إن اختار ذلك ولاسيما إن كناه بإحداهما رجل صالح أو عالم، فله أن يتبرك بكنيته لأن عليا كان أحب الكنى اليه: أبا تراب. وفى هذا الحديث أن أهل الفضل قد يقع بينهم وبين أزواجه ماجبل الله عليه البشر من الغضب والحرج حتى يدعوهم ذلك إلى الخروج عن بيوتهم، وليس ذلك بعائب لهم.(9/352)
وفيه ما جبل الله عليه رسوله من كرم الأخلاق وحسن المعاشرة وشدة التواضع، وذلك أنه طلب عليا وأتبعه حتى عرف مكانه ولقيه بالدعابة، وقال له: (اجلس أبا تراب) ومسح التراب عن ظهره ليبسطه ويذهب غيظه وتسكن نفسه بذلك، ولم يعاتبه على مغاضبته لابنته. وفيه من الفقه الرفق بالأصهار وترك معاتبتهم وقد تقدم هذا المعنى فى كتاب الاستئذان فى باب القائلة فى المسجد، وتقدم الحديث أيضًا فى باب نوم الرجل فى المسجد فى كتاب الصلاة.
- باب: أبغض الأسماء إلى الله
/ 202 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَخْنَى الأسْمَاءِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ تَسَمَّى مَلِكَ الأمْلاكِ) . / 203 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ رِوَايَةً، قَالَ: (أَخْنَعُ اسْمٍ عِنْدَ اللَّهِ - وَقَالَ سُفْيَانُ غَيْرَ مَرَّةٍ: أَخْنَعُ الأسْمَاءِ عِنْدَ اللَّهِ - رَجُلٌ تَسَمَّى بِمَلِكِ الأمْلاكِ) ، قَالَ سُفْيَانُ: يَقُولُ غَيْرُهُ تَفْسِيرُهُ: شَاهَانْ شَاهْ. قال المؤلف: شاهان شاه بالفارسية هو ملك الملوك. وقد روى سفيان، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد قال: أكره الأسماء إلى الله ملك الأملاك وإنما كان ملك الأملاك أبغض إلى الله وأكره إليه أن يسمى به مخلوق؛ لأنه صفة الله، ولا تليق بمخلوق صفاته ولا أسماؤه، ولا ينبغى أن يتسمى أحد(9/353)
بشيء من ذلك لأن العباد لا يصفون إلا بالذل والخضوع والعبودية وقد تقدم حديث عطاء عن أبى سعيد الخدرى، عن النبى عليه السلام أنه قال: (لا تسموا أبناءكم حكما ولا أبا الحكم؛ فإن الله هو الحكيم العليم) . وقوله: (أخنع الأسماء عند الله) معناه: أذل الأسماء عند الله قال صاحب الأفعال: يقال: خنع الرجل إذا ذل وأعطى الحق من نفسه. فعاتب الله من طلب الرفعة فى الدنيا بما لا يحل له من صفات ربه بالذل يوم القيامة، كما جاء فى الحديث: (إن المتكبرين يحشرون يوم القيامة فى صور الذر يطوؤهم الناس بأقدامهم) .
2 - باب كنية المشرك
وَقَالَ الْمِسْوَرٌ: سَمِعْتُ النَّبِى عليه السلام يَقُولُ: (إِلا أَنْ يُرِيدَ ابْنُ أَبِى طَالِبٍ) . / 204 - فيه: أُسَامَةَ، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَيْهِ قَطِيفَةٌ فَدَكِيَّةٌ، وَأُسَامَةُ وَرَاءَهُ يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ. . . الحديث، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَى سَعْدُ، أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ) - يُرِيدُ عَبْدَاللَّهِ بْنَ أُبَىٍّ -؟ فَعَفَا عَنْهُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَكَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) وَأَصْحَابُهُ يَعْفُونَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ، وَيَصْبِرُونَ عَلَى الأذَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنِ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرًا (وَكَانَ النَّبِىّ عليه السلام يَتَأَوَّلُ فِى الْعَفْوِ عَنْهُمْ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ حَتَّى أَذِنَ لَهُ فِيهِمْ. . . الحديث. / 205 - وفيه: عباس بن عبد المطلب، قلت: يا رسول الله، هل نفعت أبا(9/354)
طالب بشيء؛ فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: (نعم، هو فى ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان فى الدرك الأسفل من النار) . فيه: جواز كنية المشركين على وجه التألف لهم بذلك رجاء رجوعهم وإسلامهم أو لمنفعة عندهم فأما إذا لم يرج ذلك منهم فلا ينبغى تكنتيتهم، بل يلقون بالإغلاظ والشدة فى ذات الله ألا ترى قوله فى الحديث (إن النبى عليه السلام كان يتأول فى العفو عنهم ماأمره الله به حتى أذن له فيهم) يعنى أذن له فى قتالهم والشدة عليهم، وآيات الشدة والقتال ناسخة لآيات الصفح والعفو. فإن قال قائل: قولك إنه لا يجوز تكنية المشرك إلا على وجه التألف له ورجاء المنفعة بذلك قول حسن، فما معنى تكنية أبى لهب فى القرآن المتلو إلى يوم القيامة، وماوجه التألف ورجاء المنفعة فى ذلك؟ قيل له: ليست تكنية أبى لهب من هذا الباب، ولا من طريق التعظيم للمكنى فى شىء، وقد تأول أهل العلم فى ذلك وجوهًا، أحدها ذكره ثعلب قال: إنما كنى الله أبا لهب؛ لأن اسمه عبد العزى، والله تعالى ولايجعله عبدًا لغيره. والثانى: أخبرت به عن الفقيه ابن أبى زمنين أنه قال: اسم أبى لهب عبد العزى، وكنيته أبو عتبة، وأبو لهب لقبه، وأنما لقب به فيما ذكر ابن عباس - لأنه وجهه كان يتلهب جمالا، فليس بكنية. والثالث: يحتمل أن تكون تكنيته من طريق التجنيس فى البلاغة ومقابلة اللفظ بما شابهه، فكنى فى أول السورة بأبى لهب؛ لقوله في آخرها:(9/355)
(سيصلى نارًا ذات لهب) فجعل الله ماكان يفخر به فى الدنيا ويوينه فى جماله سببًا إلى المبالغة فى خزيه وعذابه، وليس ذلك من طريق الترفيع والتعظيم. وقال الطبرى فى حديث العباس: فيه الدليل على أن الله تعالى قد يعطى الكافر عوضًا من أعماله التى مثلها تكون قربة لأهل الإيمان بالله؛ لأنه عليه السلام أخبر أن عمه أبا طالب قد نفعته نصرته إياه وحياطته له أن يخفف عنه من العذاب فى الآخرة الذى لو لم ينصره فى الدنيا لم يخفف عنه، فعلم بذلك أن ذلك عوض من الله له مع كفره به لنصرته لرسوله، لا على قرابته منه، فقد كان لأبى لهب من القرابة مثل ماكان لأبى طالب، فلم ينفعه ذلك إذ كان له مؤذيا؛ بل قال تعالى: (تبت يدا أبى لهب) . والضحضاح من النار: الرقيق الخفيف، وكذلك الضحضاح من الماء، ومن كل شىء: هو القليل الرقيق منه. والدرك الأسفل من النار: الطبقة السفلى من أطباق جهنم. وقد تأول بعض السلف أن الدرك الأسفل توابيت من نار تطبق عليهم.
3 - باب: المعارض مندوحة عن الكذب
وَقَالَ أَنَس: مَاتَ ابْنٌ لأبِى طَلْحَةَ، فَقَالَ: كَيْفَ الْغُلامُ؟ قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: هَدَأَ نَفَسُهُ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدِ اسْتَرَاحَ وَظَنَّ أَنَّهَا صَادِقَةٌ. / 206 - فيه: أَنَس، كَانَ النَّبِى عليه السلام فِى سَفَرٍ لهُ، فحْدا الحادي(9/356)
فَقَالَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (أرفق يَا أَنْجَشَةُ - ويحك - بِالْقَوَارِيرِ) . قَالَ أَبُو قِلابَةَ: يَعْنِى النِّسَاءَ. / 207 - فيه: وَقَالَ أَنَس مرة: (لا تَكْسِرِ الْقَوَارِيرَ) . قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِى ضَعَفَةَ النِّسَاءِ. / 208 - وفيه: أَنَس، كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَزَعٌ، فَرَكِبَ النَّبِىّ عليه السلام فَرَسًا لأبِى طَلْحَةَ، فَقَالَ: (مَا رَأَيْنَا مِنْ شَىْءٍ، وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا) . ذكر الطبرى فى إسناده عن عمر بن الخطاب: إن فى المعاريض لمندوحة عن الكذب. وعن ابن عباس قال: ماأحب أن لى بمعاريض الكلام كذا وكذا. ومعنى مندوحة متسع. يقال منه: انتدح فلان بكذا ينتدح به انتداحًا إذا اتسع به، وقال ابن الأنبارى: يقال: ندحت الشىء إذا وسعته. وقال الطبرى: ويقال: انتدحت الغنم فى مرابضها إذا تبددت واتسعت من البطنة. وانتدح بطن فلان واندحى - يعنى: استخرى واتسع. قال المهلب: (وظن أنها صادقة) يعنى: بما وردت به من استراحة الحياة وهدوء النفس من تعب العلة، وهى صادقة فى الذى قصدته ولم تكن صادقة فيما اعتقده أبو طلحة وفهمه من ظاهر كلامها، ومثل هذا لا يسمى كذبًا على الحقيقة. وقوله فى النساء (القوارير) شبههن بها؛ لأنهن عند حركة الإبل بالحداء وزيادة مشيها به يخاف عليهن السقوط، فيحدث لهن ما يحدث بالقوارير من التكسر، وكذلك قوله: (إنه لبحر) شبه جريه بالبحر الذى لا ينقطع، فهذا كله أصل فى جواز المعاريض واستعمالها فيما يجوز ويحل، ونحو هذا ماروى عن ابن سيرين أنه قال: (كان رجل من باهلة عيونًا فرأى بغله شريح فأعجبته، فقال له(9/357)
شريح: إنها إذا ربضت لم تقم حتى تقام - يعنى أن الله هو الذى يقيمها بقدرته - فقال الرجل: أف أف - يعنى أنه استصغرها والأف يقال للنتن) . وذكر الطبرى عن الثورى فى الرجل يزوره إخوانه وهو صائم فيكره أن يعلموه بصومه، وهو يحب أن يطعموه عنده، فأى ذلك أفضل؛ ترك ذلك أو إطعامهم؟ قال: إطعامهم أحب إلى، وإن شاء قام عليهم وقال: قد أصبت من الطعام. ويقول: قد تغديت - يعنى: أمس أو قبل ذلك. وقال بعض العلماء: المعاريض شىء يتخلص بها الرجل من الحرام إلى الحلال فيتحيل بها، وإنما يكره أن يحتال فى حق فيبطله أو فى باطل حتى يموهه ويشبه أمره. وقد قال إبراهيم النخعى: اليمين على نية الحالف إذا كان مظلومًا، وإن كان ظالمًا فعلى نية المحلوف له. وقد رخص رسول الله فى الكذب للإصلاح بين الناس، والرجل يكذب لامرأته، والكذب فى الحرب فيما يجوز فيه المعاريض، ماروى عن عقبة بن العيزار أنه قال: كنا نأتى فيما يجوز فيه المعاريض، ماروى عن عقبة بن العيزار أنه قال: كنا نأتى إبراهيم النخعى وكان مختفيًا من الحجاج، فكنا إذا خرجنا من عنده يقول لنا: إن سئلتم عنى وحلفتم، فاحلفوا بالله ماتدرون أين أنا ولا لنا به علم، ولا فى أى موضع هو، واعنوا أنكم لا تدرونى فى أى موضع أنا فيه قاعد أو قائم فتكونون قد صدقتم. قال عقبة: وأتاه رجل فقال: إنى آت الديوان وإنى اعترضت على دابة وقد نفقت، وهم يريدون أن يحلفونى بالله أنها هذه التى اعترضت(9/358)
عليها، فكيف أحلف؟ قال إبراهيم: اركب دابة واعترض عليها - يعنى: بظنك راكبًا - ثم احلف بالله أنها الدابة التى اعترضت - يعنى بظنك. وعاتبت إبراهيم النخعى امرأته فى جاريه له وبيده مروحة، فقال أشهدكم أنها لها - وأشار بالمروحة - فلما خرجنا من عنده قال: على أى شىء أشهدكم؟ قالوا: على الجارية. قال: ألم ترونى أشير بالمروحة. وسئل النخعى عن رجل مر بعشار فادعى حقا، فقال: أحلف بالمشى إلى بيت الله ما له عندك شىء، واعن مسجد حيك. وقال رجل لإبراهيم: إن الشيطان أمرنى أن آتى مكان كذا وكذا، وأنا لا أقدر على ذلك المكان فكيف الحيلة؟ قال: قل: والله ماأبصر إلا ماسددنى غيرى تعنى: إلا مابصرنى ربى.
4 - باب: قول الرجل للشىء ليس بشىء وهو ينوى أنه ليس بحق
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَقَالَ النَّبِى عليه السلام للْقَبْرَيْنِ: (يُعَذَّبَانِ بِلا كَبِيرٍ، وَإِنَّهُ لَكَبِيرٌ) . / 209 - فيه: عَائِشَة: سَأَلَ أُنَاسٌ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الْكُهَّانِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لَيْسُوا بِشَىْءٍ) ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ أَحْيَانًا بِالشَّيْءِ يَكُونُ حَقًّا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْحَقِّ، يَخْطَفُهَا الْجِنِّىُّ، فَيَقُرُّهَا فِى أُذُنِ وَلِيِّهِ قَرَّ الدَّجَاجَةِ، فَيَخْلِطُونَ فِيهَا، أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كَذْبَةٍ) .(9/359)
قال المؤلف: هذا الباب أصل لما تقوله العرب من نفيهم العمل كله إذا نفت التجويد فيه والإتقان، فتقول للصائع إذا لم يحكم صنعته: ماصنعت شيئًا، وتقول للسامر والمتكلم إذا لم يحسن القول: ماقلت شيئا. على سبيل المبالغة فى النفى، ولا يكون ذلك كذبًا كما قال عليه السلام فى الكهان: (ليسوا بشىء) لما يأتون به من الكذب، يعنى الذى ليس بشىء وهو خلق موجود، وهذا الحديث نص الترجمة. وقوله عليه السلام: (يعذبان بلا كبير) عندكم ليسارة التحرز من البول والتحفظ منه، فنفى عنه أنه كبير لانتفاء المشقة عنا فى غسله على سبيل المبالغة فى التحرز مما يوجب العذاب، وإن صغر فى نفسه، ثم قال: (وإنه لكبير) يعنى عند الله، لو ورد الشرع بالأمر بغسل البول وأن من خالفه فقد استحق الوعيد إن لم يعف الله عنه.
5 - باب رفع البصر إلى السماء وقوله تعالى: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت (
وَقَالت عَائِشَة: رَفَعَ النَّبِي (صلى الله عليه وسلم) رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ. / 210 - فيه: جَابِر، قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (ثُمَّ فَتَرَ عَنِّى الْوَحْىُ، فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِى، سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِى إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِى جَاءَنِى بِحِرَاءٍ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِىٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ) . / 211 - وفيه: ابن عباس: بت عند ميمونة والنَّبِىّ عندها، فَلما كَانَ ثلث الليل الآخر قعد فنظر إلى السماء.(9/360)
قال المؤلف: هذا الباب رد على بعض أهل الزهد فى قولهم أنه لا ينبغى النظر إلى السماء تخشعًا وتذللاً لله تعالى. وروى عن عطاء السلمى أنه مكث أربعين سنة لا ينظر إلى السماء فحانت منه نظرة فخر مغشيًا عليه، فأصابه فتق فى بطنه. وذكر الطبرى عن إبراهيم التيمى أنه كان يكره أن يرفع الرجل بصره الس السماء فى الدعاء، قال الطبرى: ولا أؤثم فاعل ذلك؛ لأنه لم يأت بالنهى عن ذلك خبر، وإنما عن ذلك المصلى فى دعاء كان أو غيره. قال المؤلف: والحجة فى كتاب الله تعالى وسنة رسول الله ثابتة بخلاف هذا القول فلا معنى له، وروى ابن إسحاق عن يعقوب بن عتبة، عن عمر بن عبد العزيز، عن يوسف بن عبد الله ابن سلام، عن أبيه قال: (كان رسول الله إذا جلس يتحدث يكثر أن يرفع طرفه إلى السماء) ذكره أبو داود.
6 - باب من نكت العود فى الماء والطين
/ 212 - فيه: أَبُو مُوسَى، أَنَّهُ كَانَ مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِى حَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ، وَفِى يَدِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) عُودٌ يَضْرِبُ بِهِ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ، فَجَاءَ رَجُلٌ يَسْتَفْتِحُ، فَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (افْتَحْ لَهُ، وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ. . .) الحديث. قال المؤلف: من عادة العرب أخذ المخصرة والعصا والاعتماد عليها عند الكلام وفى المحافل والخطب، وأنكرت الشعوبية على(9/361)
خطباء العرب أخذ المخصرة والإشارة بها إلى المعانى، والشعوبية طائفة تبغض العرب وتذكر مثالبها وتفضل العجم، وفى استعمال النبى عليه السلام للمحضرة الحجة البالغة على من أنكرها وسأزيد فى بيان المحاضرة والعصى فى الباب بعد هذا إن شاء الله.
7 - باب: الرجل ينكت الشىء بيده فى الأرض
/ 213 - وفيه: عَلِىّ، كُنَّا مَعَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) فِى جَنَازَةٍ، فَجَعَلَ يَنْكُتُ فِى الأرْضَ بِعُودٍ، وَقَالَ: (لَيْسَ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلا وَقَدْ فُرِغَ مِنْ مَقْعَدِهِ مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ) ، فَقَالُوا: أَفَلا نَتَّكِلُ؟ قَالَ: (اعْمَلُوا، فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ،) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (الآيَةَ) [الليل: 5] . / 214 - وفيه: أُمَّ سَلَمَةَ، اسْتَيْقَظَ النَّبِى عليه السلام فَقَالَ: (سُبْحَانَ اللَّهِ، مَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الْخَزَائِنِ؟ وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الْفِتَنِ؟ مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجَرِ - يُرِيدُ بِهِ أَزْوَاجَهُ - حَتَّى يُصَلِّينَ. . . .) ؟ الحديث. وقد تقدم فى الباب قبل هذا أن الشعوبية تطعن على خطباء الهرب فى أخذ المخصرة عند مناقلة الكلام ومساجله الخصوم، وعابوا الإشارة بالعصا والإتكاء على أطراف القسى، وخد وجه الأرض بها والاعتماد عليها. وحديثه عليه السلام أنه نكت الأرض بحضرة، وقال: (ليس منكم من أحد إلا وقد فرغ من مقعده من الجنة والنار) حجة على من أنكرها، والعصا مأخوذة من أصل كريم ومعدن(9/362)
شريف ولا ينكرها إلا جاهل، وقد جمع الله لموسى فى عصاه من البراهيم العظام والآيات الجسام ما آمن به السحرة المعاندون. واتخذها سليمان بن داود لخبتهه وموعظته وطول صلاته، وكان ابن مسعود صاحب عصا النبى عليه السلام وعنترته، وكان النبى عليه السلام يخطب بالقضيب وكفى بذلك دلايلا على شرف حال العصا، وعلى ذلك الخلفاء وكبراء الخطباء، وروى عن النبى عليه السلام أنه طاف بالبيت يستلم الركن بمحجنه، والمحجن: العصا المعوجه، وكانت العصا لا تفارق يد سليمان بن داود فى مصافاته وصلواته وموته، وقال مالك: كان عطاء بن يسار المخصرة يستعين بها. قال مالك: والرجل إذا كبر لم يكن مثل الشاب يتقوى بها عند قيامه وقد كان الناس إذا جاءهم المطر خرجوا بالعصى يتكئون عليها، حتى لقد كان الشباب يحبسون عصيهم، وربما أخذ ربيعة العصا من بعض من يجلس إليه حتى يقوم. وسألت المهلب عن حديث أم سلمة فقلت له: ليس فيه معنى الترجمة، قال: إنما هو مقو لمعنى الحديث الذى قبله الموافق للترجمة بالقدر السابق على كل نفس وفى كتاب مقعدها من الجنة والنار فى أم الكتاب بقوله: (ماذا أنزل الليلة من الفتن) يحذر أسباب القدر بالتعرض للفتن التى بالغ فى التحذير منها(9/363)
بقوله عليه السلام: (القاتل والمقتول فى النار) فلما ذكر أن لكل نفس مقعدها من الجنة والنار، أكد التحذير من النار بأن ذكر الناس بأقوى أسباب النار وهى الفتن والعبية فيها والتقاتل على الولاية، وما يفتح على الناس من الخزائن التى تطغى وتبطر، وليس عليه تقصير فى أن أدخل مايوافق الترجمة ثم أتبعه بما يوافق معناها.
8 - باب التكبير والتسبيح عند التعجب وَقَالَ عُمَرَ: قُلْتُ لِلنَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : أطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟ قَالَ: (لا) ، قُلْتُ: اللَّهُ أَكْبَرُ
. / 215 - فيه: صَفِيَّةَ، أَنَّهَا جَاءَتْ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) تَزُورُهُ، وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِى الْمَسْجِدِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ الَّذِى عِنْدَ مَسْكَنِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرَّ بِهِمَا رَجُلانِ مِنَ الأنْصَارِ، فَسَلَّمَا عَلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ نَفَذَا، فَقَالَ لَهُمَا النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (عَلَى رِسْلِكُمَا، إِنَّمَا هِى صَفِيَّةُ) ، قَالا: سُبْحَانَ اللَّهِ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا. قال المؤلف: التكبير والتسبيح معناهما تعظيم الله وتنزيه من السوء، واستعمال عند التعجب واستعظام الأمور حسن، وفيه تمرين اللسان على ذكر الله، وذلك من أفضل الأعمال.
9 - باب: النهى عن الحذف
/ 216 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِىِّ، نَهَى النَّبِى عليه السلام عَنِ الْخَذْفِ، وَقَالَ: (إِنَّهُ لا يَقْتُلُ الصَّيْدَ، وَلا يَنْكَأُ الْعَدُوَّ، وَإِنَّهُ يَفْقَأُ الْعَيْنَ، وَيَكْسِرُ السِّنَّ) . الحذف عند العرب: الرمى بالسبابة والابهام، وأكثر ذلك فى الرمى بالحجر، ومنه حصى الحذف فى الحج، وهذا من باب النهى عن أذى المؤمنين، وهو مثل قوله عليه السلام للذى مر فى المسجد(9/364)
بالسهام: (أمسك بنصالها لا تعقرن بها مسلمًا) وهذا من باب أدب الإسلام.
0 - باب: الحمد للعاطس
/ 217 - فيه: أَنَس، عَطَسَ رَجُلانِ عِنْدَ النَّبِى عليه السلام فَشَمَّتَ أَحَدَهُمَا، وَلَمْ يُشَمِّتِ الآخَرَ فَقِيلَ لَهُ: فَقَالَ: (إِن هَذَا حَمِدَ اللَّهَ، وَهَذَا لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ) . وترجم له باب لا يشمت العاطس إذا لم يحمد الله. اختلف العلماء أنه من عطس وحمد الله فإنه ينبغى لمن سمعه أن يشمته، وإنما اختلفوا فى وجوب ذلك على مايأتى بعد هذا، وأجمعوا أنه إذا لم يحمد الله أنه لا يجب على من سمعه تشميته. والتشميت عند العرب: الدعاء، قال الخليل: يقال: سمث وشمت - بالسين والشين. قال ثعلب: التشميت معناه: أبعد الله عنك الشماتة، وجنبك مايشمت به عليك، وأما التسميت فمعناه جعلك الله على سمت حسن.
1 - باب: تشميت العاطس إذا حمد الله
/ 218 - فِيهِ: أَبُو هُرَيْرَةَ، وفيه: الْبَرَاءِ، أَمَر النَّبِى عليه السلام بتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ. . . الحديث. قال المؤلف: إن قال قائل: كيف قال البخارى فى ترجمته باب(9/365)
تشميت العاطس إذا حمد الله، ولم يأت بذلك فى حديث البراء، وأنما دل حديث البراء على أن كل عاطس يجب تشميته، وإن لم يحمد الله؛ لقوله فيه: (أمرنا رسول الله بتشميت العاطس) وهذا لفظ عام؟ قيل له: إنما أشار البخارى إلى حديث أبى هريرة الذى لم يأت بنصه فى الباب، وذكره فى الباب بعد هذا وفى الباب الآخر الذى بعده، وفيه أن النبى عليه السلام ذكر فيه التشميت للعاطس إذا حمد الله على ماتقدم فى حديث أنس قبل هذا فدل حديث أبى هريرة وأنس أن قول البراء أمرنا رسول الله بتشميت العاطس، وإن كان ظاهرة العموم فمعناه الخصوص وأن المراد به بعض العاطسين، وهم الحامدون لله تعالى كان ينبغى للبخارى أن يذكر حديث أبى هريرة بنصه فى هذا الباب ويجعله بعد حديث البراء، وهذا من الأبواب التى عجلته المنية عن تهذيبها، لكن قد فهم المعنى الذى ترجم به.
2 - باب: ما يستحب من العاطس ويكره من التثاؤب
/ 219 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ، وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ، فَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ، فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يُشَمِّتَهُ، وَأَمَّا التَّثَاؤُبُ، فَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِذَا قَالَ: هَا، ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ) . اختلف العلماء فى وجوب التشميت، فذهبت طائفة إلى أنه واجاب متعين على كل من سمع حمد العاطس، هذا قول أهل الظاهر، واحتجوا بهذا الحديث وقالوا: ألا ترى قوله عليه السلام: (فحق(9/366)
على كل مسلم أن يشمته) فوجب على كل سامع، وذهبت طائفة إلى أنه واجب على الكفاية، كرد السلام، هذا قول مالك وجماعة، وقال آخرون: هو إرشاد وندب وليس بواجب، وتأولوا قوله عليه السلام: (فحق على كل مسلم أن يشمته) أن ذلك فى حسن الأدب وكرم الأخلاق كما قال عليه السلام: (من حق الإبل أن تحلب على الماء) أى أن ذلك حق فر كرم المواساة لا أن ذلك فرض؛ لاتفاق أئمة الفتوى أنه لا حق فى المال سوى الزكاة.
3 - باب: إذا عطس كيف يشمت
/ 220 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَقُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلْيَقُلْ لَهُ أَخُوهُ أَوْ صَاحِبُهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَإِذَا قَالَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَلْيَقُلْ: يَهْدِيكُمُ اللَّهُ، وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ) . اختلف السلف فيما يقول العاطس، فاختارت طائفة أن يقول: الحمد لله، على ماجاء فى الحديث، وروى ذلك عن ابن مسعود وأنس، واختارت طائفة الحمد لله رب العالمين، وروى ذلك عن ابن عباس وابن مسعود أيضًا وهو قول النخغى، واختارت طائفة أن يقول: الحمد لله على كل حال، روى ذلك عن أبى هريرة وابن عمر، وقال ابن عمر: هكذا علمنا رسول الله. قال الطبرى: والصواب فى ذلك أن العاطس مخير فى أى هذه المحامد شاء، وقد حدثنا محمد بن عمارة، حدثنا عمرو بن حماد بن أبى طلحة، عن عمرو بن قيس، عن عطاء بن أبى رباح،(9/367)
عن مولى لأم سلمة، عن أم سلمة زوج النبى قالت: (عطس رجل فى جانب بيت النبى فقال: الحمد لله، فقال له النبى: يرحمك الله. ثم عطس آخر فقال: الحمد لله ربا العالمين حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، فقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (ارتفع هذا على تسع عشرة درجة) . وقد روى عن النبى كل ذلك فعله، وفعله السلف الصالحون فلم ينكر بعضهم من ذلك شيئًا على بعض، وقد اختلف أيضًا فى قول المشمت للعاطس، فقالت طائفة: يقول له يرحمك الله، يخصه بالدعاء وحده على ماجاء فى هذا الحديث، روى ذلك عن أنس ورواية عن ابن مسعود، واحتجوا أيضًا بما روى عمرو بن دينار عن عبيد ابن عمير قال: (لما فرغ الله من خلق آدم عطس آدم، فألقى عليه الحمد، فقال له ربه تعالى: يرحمك ربك) . وقالت طائفة: يعم بالتشميت العاطس وغيره روى عن إبراهيم قال: كانوا يعمون بالتشميت والسلام. وكان الحسن يقول: الحمد لله يرحكمكم الله. وقالت طائفة: يقول يرحمنا الله وإياكم، روى ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وسالم وابراهيم. واختلف السلف أيضًا فى الرد على المشمت فقالت طائفة: يقول يهديكم الله ويصلح بالكم على حديث أبى هريرة، روى ذلك عن أبى هريرة وكان الشعبى يقول: يهديكم الله. وأنكرت طائفة أن يقول يهديكم الله ويصلح بالكم، واختارت أن يقول: يغفر الله لنا ولكم، روى ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وأبى وائل والنخعى وهو قول الكوفيين، واحتجوا بحديث أبى بردة بن أبى موسى عن أبيه: (أن اليهود كانوا(9/368)
يتعاطسون عند النبي عليه السلام جاء أن يقول يرحمكم الله، فيقول: يهديكم الله ويصلح بالكم) . وقال مالك والشافعى: إن شاء أن يقول: يهديكم الله ويصلح بالكم، أو: يغفر الله لكم لا بأس بذلك كله. وقال الطبرى: لا وجه لقول من أنكر (يهديكم الله ويصلح بالكم) لأن الأخبار بذلك عن النبى عليه السلام أثبت من غيرها. واحتج الطحاوى لقول مالك بقول الله تعالى: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) فإذا قال جواب قوله يرحمكم الله: يغفر لكم، فقد رد مثل ماحياه به، وإذا قال: يهديكم الله ويصلح بالكم. فقد حياة بأحسن مما حساه؛ لأن المغفرة إنما هى ستر الذنوب، والرحمة ترك العقاب عليها، ومن حصلت له الهداية وكان مهديًا، وكان بعيدًا من الذنوب، ومن أصلح باله فحاله فوق حال المغفور له، فكان ذلك أولى.
4 - باب: إذا تثاءب فليضع يده على فيه
/ 221 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ، وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ. . .) إلى قوله: (وَأَمَّا التَّثَاؤُبُ، فَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا تَثَاءَبَ، ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ) . قال المؤلف: قد جاء فى آخر هذا الحديث معنى كراهية التثاءب وهو من أجل ضحك الشيطان منه فواجب إخزاؤه ودحره برد التثاؤب كما أمر النبى عليه السلام بأن يضع يده على فيه.(9/369)
فإن قيل: ليس فى الحديث وضع اليد على الفم وإنما فيه (فليرده) ، وقد يمكن رده بإلاق الفم. قيل قد روى لك سفيان عن ابن عجلان، عن المقبرى، عن أبى هريرة أن النبى عليه السلام قال: (العطاس من الله والتثاؤب من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليضع يده على فيه، فإذا قال: آه آه، ضحك الشيطان من جوفه) ذكره الترمذى فى مصنفه، وقال ابن القاسم: رأيت مالكًا إذا تثاءب يضع يده على فيه، وينفث فى غير الصلاة، ولا أدرى ماكان يفعل فى الصلاة، وروى عنه فى المتسخرجة أنه كان لا ينفث فى الصلاة. ومعنى إضافة التثاؤب إلى الشيطان إضافة رضى وإرادة أى أن الشيطان يحب أن يرى تثاؤب الانسان؛ لأنها حال المثله وتغيير لصورته فيضحك من جوفه، لا أن الشيطان يفعل التثاؤب فى الانسان لأنه لا خالق للخير والشر غير الله، وكذلك كل ما جاء من الأفعال المنسوبة إلى الشيطان فإنها على معنيين إما إضافة رضى وإرادة أو إضافة بمعنى الوسوسة فى الصدر والتزيين، وقد روى أبو داود من حديث أبى سعيد الخدرى أن النبى عليه السلام قال: (إذا تثاءب أحدكم فليمسك يده على فيه؛ فإن الشيطان يدخل) .(9/370)
68 - كتاب المرضى
- ما جاء فى كفارة المرضى وقوله تعالى: (من يعمل سوءًا يجز به (
/ 1 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا مِنْ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ الْمُسْلِمَ إِلا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا) . / 2 - وفيه: أَبُو سَعِيد، وأَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى عليه السَّلام: (مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ، وَلا هَمٍّ وَلا حُزْنٍ، وَلا أَذًى وَلا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ) . / 3 - وفيه: كَعْب، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَالْخَامَةِ مِنَ الزَّرْعِ، تُفَيِّئُهَا الرِّيحُ مَرَّةً، وَتَعْدِلُهَا مَرَّةً، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ كَالأرْزَةِ، لا تَزَالُ حَتَّى يَكُونَ انْجِعَافُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً) . / 4 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الْخَامَةِ مِنَ الزَّرْعِ مِنْ حَيْثُ أَتَتْهَا الرِّيحُ كَفَأَتْهَا، فَإِذَا اعْتَدَلَتْ تَكَفَّأُ بِالْبَلاءِ، وَالْفَاجِرُ كَالأرْزَةِ صَمَّاءَ مُعْتَدِلَةً حَتَّى يَقْصِمَهَا اللَّهُ إِذَا شَاءَ) . / 5 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ) قال كثير من أهل التأويل فى قوله تعالى: (من يعمل سوءًا يجز(9/371)
به) معناه أن المسلم يجزى بمصائب الدنيا فتكون له كفارة، روى هذا أبى بن كعب وعائشة ومجاهد، وروى عن الحسن وابن زيد أنه فى الكفار خاصة، وحديث عائشة وأبى سعيد وأبى هريرة يشهد بصحة القول الأول، وروى عن ابن مسعود أنه قال: الوجع لا يكتب به الأجر ولكن تكفر به الخطيئة. فإن قيل: إن ظاهرة هذه الآثار يدل على أن المريض إنما يحط عنه بمرضه السيئات فقط دون زيادة. وقد ذكر البخارى فى كتاب الجهاد فى باب يكتب للمسافر ماكان يعمل فى الإقامة فى حديث أبى موسى عن النبى عليه السلام أنه قال: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا) وظاهرة مخالف لآثار هذا الباب لأن فى حديث أبى موسى أنه يزاد على التكفير. قيل له: ليس ذلك بخلاف وإنما هو زيادة بيان على آثار هذا الباب التى جاءت بتكفير الخطايا بالوجع لكل مؤمن لقوله عليه السلام: (مايصيب المؤمن من وصب ولا نصب فعم جميع المؤمنين) . وفى حديث أبى موسى معنى آخر وهو أنه من كانت له عادة من عمل صالح ومنعه الله منه بالمرض أو السفر وكانت نبيته لو كان صحيحًا أو مقيمًا أن يدوم عليه ولايقطعه، فإن الله تعالى يتفضل عليه بأن يكتب له ثوابه، فأما من لم له تنفل ولاعمل صالح فلا يدخل فى معنى الحديث لأنه لم يكن يعمل فى صحته أو لإقامته مايكتب له فى مرضه وسفره، فحديث أبى موسى المراد به الخصوص، وأحاديث هذا الباب المراد بها العموم. وكل واحد منهما يفيد معنى غير معنى صاحبه، فلا خلاف فى شىء منها، وقد بينًا معنى حديث أبى موسى فى كتاب الجهاد.(9/372)
قال المهلب: وأما قوله عليه السلام: (مثل المؤمن الخامة من الزرع يفىء ورقه من حيث أتته الريح) يعنى من حيث جاء أمر الله انطاع له ولان ورضيه، وإن جاءه مكروه رجا فيه الخير والأجر، فإذا سكن البلاء عنه اعتدل قائما بالشكر له على البلاء والاختبار وعلى المعافاة من الأمر والاجتياز ومنتظرًا لاختيار الله له ماشاء مما حكم له بخيره فى دنياه وكريم مجازاته فى أخراه، والكافر كالأرزة صماء معتدلة لا يتفقده الله باختبار بل يعافيه فى دنياه وييسر عليه فى أموره ليعسر عليه فى معاده، حتى إذا أراد الله إهلاكه قصمه قصم الأرزة الصماء فيكون موته أشد عذابًا عليه وأكثر ألما فى خروج نفسه من ألم النفس الملينة بالبلاء المأجور عليه. والأرز من أصلب الخشب. وقال صاحب العين: الخامة: الزرع أول ماينبت على ساق واحد.
- باب شدة المرض
/ 6 - فيه: عَائِشَةَ، مَا رَأَيْتُ أَحَدًا الْوَجَعُ أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . / 7 - وفيه: عَبْدِ اللَّهِ، رأَيْتُ النَّبِى عليه السلام فِى مَرَضِهِ، وَهُوَ يُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، وَقُلْتُ: إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، قُلْتُ: إِنَّ ذَاكَ بِأَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ؟ قَالَ: (أَجَلْ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى إِلا حَاتَّ اللَّهُ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا تَحَاتُّ وَرَقُ الشَّجَرِ) .(9/373)
وترجم لحديث عبد الله باب أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل. وقال فيه بعد قوله: (إنك لتوعك وعكًا شديدًا. قال: أجل إنى أوعك كما يوعك رجلان منكم. قلت: ذاك أن لم لأجرين. قال أجل ذلك كذلك. .) الحديث. قال المؤلف: خص الله أنبياءه الأوجاع والأصواب لما خصهم به من قوة اليقين وشدة الصبر والاحتساب ليكمل لهم الثواب ويتم لهم الأجر وذكر عبد الرزاق من حديث أبى سعيد الخدرى: (أن رجلا وضع يده على النبى فقال: والله ماأطيق أن أضع يدى عليك من شدة حماك. فقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : إنا معشر الأنبياء يضاعف لنا البلاء كما يضاعف لنا الأجر، إن كان النبي من الأنبياء ليبتلى بالقمل حتى يقتله، وإن كان النبي من من الأنبياء ليبتلى بالفقر حتى يأخذ العباءة فيجوبها، وإن كانوا ليفرحون بالبلاء كما تفرحون بالرخاء) . وقوله: باب أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل فقد روى هذا اللفظ عن النبى عليه السلام رواه الترمدذى قال: حدثنا قتيبة، حدثنا حماد بن زيد، عن عاصم بن بهدلة، عن مصعب ابن سعد، عن أبيه قال: (يارسول الله، أى الناس أشد بلاء. قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبًا أشتد بالؤه، وإن كان فى دينه رقه ابتلى على حسبه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يمشى على الأرض وما عليه خطيئة) . قال الترمذى: هذا الحديث حسن صحيح، وفى الباب عن أبى هريرة وأخت حذيفة اليمان.(9/374)
3 - باب: وجوب عيادة المريض
/ 8 - فيه: أَبُو مُوسَى، أَنَّ النَّبِىّ عليه السلام قَالَ: (أَطْعِمُوا الْجَائِعَ، وَعُودُوا الْمَرِيضَ، وَفُكُّوا الْعَانِىَ) . / 9 - وفيه: الْبَرَاء، أَمَرَنَا النَّبِىّ عليه السلام أَنَّ نَعُودَ الْمَرِيضَ. يحتمل أن تكون عيادة المريض من فروض الكفاية، كإطعام الجائع وفك الأسير، وهو ظاهر الكلام، ويحتمل أن يكون معناه الندب والحض على المؤاخاة والألفة كما قال عليه السلام: (مثل المؤمنين فى تواصلهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا تداعى منه عضو تداعى سائره) . وقد جاء فى فضل عيادة المريض آثار منها قوله قوله عليه السلام: (عائد المريض على مخارف الجنة) وروى مالك أنه بلغه عن جابر ابن عبد الله أن رسول الله عليه السلام قال: (إذا عاد الرجل المريض خاض الرحمة حتى إذا قعد عنده قرت فيه) أسنده ابن معين وابن أبى شيبة، عن هشيم، حدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن عمر بن الحكم بن ثوبان، عن جابر.
4 - باب عيادة المغمى عليه
/ 10 - فيه: جَابِر، مَرِضْتُ مَرَضًا، فَأَتَانِى النَّبِى عليه السلام يَعُودُنِى وَأَبُو بَكْرٍ - وَهُمَا مَاشِيَانِ - فَوَجَدَانِى أُغْمِىَ عَلَىَّ، فَأَفَقْتُ. . . . الحديث. الإغماء كسائر الأمراض تنبغى العيادة فيه تأسيًا بالنبي عليه(9/375)
السلام وأبى بكر الصديق، وقوله عليه السلام (عودوا المريض) يدخل فى عمومه جميع الأمراض، وفيه رد لما يعتقده عامة الناس أنه لا يجوز عندهم عيادة من مرض من عينيه وزعموا ذلك لأنهم يرون فى بيته مالا يراه هو، وحالة الإغماء أشد من حالة مرض العينين؛ لأن المغمى عليه يزيد عليه بفقد عقله، وقد جلس النبى عليه السلام فى بيت جابر فى حالة إغمائه حتى أفاق وهو الحجة فيه. وفيه أن عائد المريض قد يطول فى جلوسه عند العليل إذا رأى لذلك وجهًا.
5 - باب فضل من يصرع
/ 11 - فيه: ابْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ لِعَطَاء: (أَلا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ) ؟ فقُلْتُ: بَلَى، قَالَ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ أَتَتِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَتْ: إِنِّى أُصْرَعُ، وَإِنِّى أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ لِى، قَالَ: (إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ) ، فَقَالَتْ: أَصْبِرُ، فَقَالَتْ: إِنِّى أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لِى أَنْ لا أَتَكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَا. وَقَالَ عَطَاءٌ: أَنَّهُ رَأَى أُمَّ زُفَرَ تِلْكَ امْرَأَةً طَوِيلَةً سَوْدَاءَ عَلَى سِتْرِ الْكَعْبَةِ. قال المؤلف: فيه فضل الصع، وفيه أن اختيار البالء والصبر عليه يورث الجنة، وأن الأخذ بالشدة أفضل من الأخذ بالرخصة لمن علم من نفسه أنه يطيق التمادى على الشدة ولايضعف عن التزامها.(9/376)
6 - باب: فضل من ذهب بصره
/ 12 - فيه: أَنَس، سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (قَالَ اللَّهَ: إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِى بِحَبِيبَتَيْهِ، فَصَبَرَ، عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجَنَّةَ) ، يُرِيدُ عَيْنَيْهِ. هذا الحديث أيضًا حجة فى أن الصبر على البلاء ثوابه الجنة، ونعمة البصر على العبد وإن كانت من أجل الله تعالى فعوض الله عليها الجنة أفضل من نعمتها فى الدنيا لنفاذ مدة الالتذاذ بالبصر فى الدنيا وبقاء مدة الالتذاذ به فى الجنة. فمن ابتلى من المؤمنين بذهاب بصره فى الدنيا فلم يفعل ذلك به لسخط منه عليه، وإنما أراد تعالى الإحسان إليه إما بدفع مكروه عنه يكون سببه نظر عينيه لا صبر له على عقابه فى الآخرة أو ليكفر عنه ذنوبًا سلفت لا يكفرها عنه إلا بأخذ أعظم جوارحه فى الدنيا ليلقى ربه طاهرًا من ذنوبه أو ليبلغ به من الأجر إلى درجة لم يكن يبلغها بعمله وكذلك جميع أنواع البالء، فقد أخبر عليه السلام أن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه. وجاء عنه عليه السلام: (إن أهل العافية فى الدنيا يودون لو أن لحومهم قرضت بالمقاريض فى الدنيا لما يرون من ثواب الله لأهل البلاء) فمن ابتلى بذهاب بصره أو بفقد جارحه من جوارحه فليتلق ذلك بالصبر والشكر والاحتساب وليرض باختبار الله له ذلك ليحصل على أفضل العوضين وأعظم النعمتين وهى الجنة التى من صار إليها(9/377)
فقد ربحت تجارته وكرمت صفقته ولم يضره مالقى من شدة البلاء فيما قاده إليها.
7 - باب عيادة النساء الرجال
/ 13 - فيه: عَائِشَةَ، لَمَّا قَدِمَ النَّبِىّ عليه السلام الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلالٌ، قَالَتْ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمَا، فقُلْتُ: يَا أَبَتِ، كَيْفَ تَجِدُكَ؟ وَيَا بِلالُ، كَيْفَ تَجِدُكَ؟ . . . . الحديث. حديث عائشة كان فى أول الإسلام عند قدزمهم المدينة فوجدوها وبئة فدعا لها النبى أن يصححها وينقل حماها إلى الجحفة فأجاب الله دعوته. وعيادة أم الدرداء تحمل على أنها عادت الأنصارى وهى متجالة فلا تزورون امرأة رجلا إلا أن تكون ذات محرم أو تكون متجالة يؤمن من مثلها الفتنة بها. وفيه عيادة السادة الجلة لعبيدهم؛ لأن بلالا وعامر بن فهيرة اعتقلهما أبو بكر رضى الله عنه.
8 - باب: عيادة الأعراب
/ 14 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ النَّبِى عليه السلام دَخَلَ عَلَى أَعْرَابِى يَعُودُهُ، قَالَ: وَكَانَ النَّبِى عليه السلام إِذَا دَخَلَ عَلَى مَرِيضٍ يَعُودُهُ، فَقَالَ لَهُ: (لا بَأْسَ طَهُورٌ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ) ، قَالَ: قُلْتَ: طَهُورٌ، كَلا بَلْ هِىَ حُمَّى تَفُورُ أَوْ تَثُورُ عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ تُزِيرُهُ الْقُبُورَ، فَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (فَنَعَمْ إِذًا) .(9/378)
قال المؤلف: عيادة الأعراب داخله فى عموم قوله: (عودوا المريض) إذ هم من جملة المؤمنين. قال المهلب: وفائدة هذا الحديث أنه لا نقص على السلطان فى عيادة مريض من رعيته أو واحد من باديته ولا على العالم فى عيادة الجاهل؛ لأن الأعراب شأنهم الجهل كما وصفهم الله، ألا ترى رد هذا الأعرابى لقول النبى عليه السلام وتهوينه عليه مرضه بتذكيره ثوابه عليه فقال له: بل هى حمى تفوز على شيخ كبير تزيره القبور، وهذا غاية الجهل، وقد روى معمر عن زيد بن مسلم فى هذا الحديث أن النبى حين قال للأعرابى: (فنعم إذا) أنه مات الأعرابى، وسيأتى زيادة فى هذا فى باب مايقال للمريض ومايجيب بعد.
9 - باب: عيادة الصبيان
/ 15 - فيه: أُسَامَةَ، أَنَّ بنتًا لِلنَّبِى عليه السلام أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ أَنَّ ابْنَتِي قَدْ حُضِرَتْ فَاشْهَدْنَا. . . . إلى قوله:. . . . فَقَامَ النَّبِىُّ عليه السلام وَقُمْنَا، فَرُفِعَ الصَّبِى فِى حَجْرِ النَّبِى عليه السلام وَنَفْسُهُ تقعقع. . . قال المؤلف: فيه من الفقه عيادة الرؤساء وأهل الفضل للصبيان المرضى وفى ذلك صلة لآبائهم ولا يعدم من ذلك بركة دعائهم للمرضى وموعظة الآباء وتصبيرهم واحتسابهم لما ينزل بهم من المصائب عند الله تعالى. وهذا الحديث لم يضبطه الراوى فمرة قال: (إن بنتًا للنبى أرسلت(9/379)
إليه أن ابنتى قد احتضرت) ومرة قال فى آخر الحديث: (فرفع الصبى فى حجر النبى ونفسه تقعقع) ، فأخبر مرة عن صبيه ومرة عن صبى والله أعلم.
- باب: عيادة المشرك
/ 16 - فيه: أَنَس، أَنَّ غُلامًا لِيَهُودى كَانَ يَخْدُمُ النَّبِى عليه السلام فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِى عليه السلام يَعُودُهُ، فَقَالَ: (أَسْلِمْ) ، فَأَسْلَمَ. وقال سعيد بن المسيب عن أبيه: (لما حضر أبو طالب جاءه النبى - عليه السلام) . إنما يعاد المشرك ليدعى إلى الإسلام إذا رجا إجابته إليه، ألا ترى أن اليهودى أسلم حين عرض عليه النبى الإسلام وكذلك عرض الإسلام على عمه أبى طالب، فلم يقض الله له به، فأما إذا لم يطمع بإسلام الكافر ولا رجيت إنابته فلا تنبغى عيادته.
- باب إذا عاد مريضًا فحضرت الصلاة فصلى بهم جماعة
/ 17 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِى عليه السلام دَخَلَ عَلَيْهِ نَاسٌ يَعُودُونَهُ فِى مَرَضِهِ، فَصَلَّى بِهِمْ جَالِسًا، فَجَعَلُوا يُصَلُّونَ قِيَامًا، فَأَشَارَ إِلَيْهِمُ أَنّ اجْلِسُوا. . . . الحديث. وقال الحميدى: هذا مسنوخ لأن النبى عليه السلام آخر ماصلى قاعدًا والناس خلفه قيام.(9/380)
قال المؤلف: من السنة المعروفة أن صاحب المنزل يتقدم للصلاة على من حضره من الناس إلا أن يقدم غيره، وصلاة النبى بمن عاده فى مرضه هو الواجب من وجهين: أحدهما: ماذكرناه من أن صاحب المنزل أولى من غيره بالإمامة، والوجه الثانى: أن النبى لا يجوز أن يتقدمه أحد فى كل مكان، ولا يجوز اليوم لمن كان مريضًا أن يؤم أحد فى بيته جالسًا؛ لأن إمامه الجالس منسوخة عند أكثر العلماء، وقد تقدم اختلافهم فى ذلك فى كتاب الصلاة.
- باب: وضع اليد على المريض
/ 18 - فيه: عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ، أَنَّ أَبَاهَا قَالَ: تَشَكَّيْتُ بِمَكَّةَ شَكْوًا شَدِيدًا، فَجَاءَنِي النَّبِي عليه السلام يَعُودُنِى، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنِّى أَتْرُكُ مَالا. . . . الحديث ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ، ثُمَّ مَسَحَ وَجْهِى وَبَطْنِى، ثُمَّ قَالَ: (اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْدًا، وَأَتْمِمْ لَهُ هِجْرَتَهُ) . / 19 - وفيه: عَبْدُ اللَّهِ، دَخَلْتُ عَلَى النَّبِىّ عليه السلام وَهُوَ يُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، فَمَسِسْتُهُ بِيَدِى، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ لَتُوعَكُ. . . الحديث. قال المؤلف: فى وضع اليد على المريض تأنيس له وتعرف لشدة مرضه ليدعو له العائد على حسب مايبدو له منه، وربما رقاه بيده ومسح على ألمه فانتفع العليل به إذا كان العائد صالحًا تبرك بيده ودعائه كما فعل النبى، وذلك من حسن الأدب واللطف بالعليل وينبغى امتثال أفعال النبى عليه السلام كلها والاقتداء به فيها.(9/381)
- باب ما يقال للمريض وما يجيب
/ 20 - فيه: عَبْدُ اللَّهِ: أتيتُ النَّبِىّ عليه السلام فِى مرضِهِ فَمَسِسْتُهُ وَهُوَ يُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، فَقُلْتُ: إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، وَذَلِكَ أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ؟ قَالَ: (أَجَلْ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى إِلا حَاتَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا تَحَاتُّ وَرَقُ الشَّجَرِ) . / 21 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ يَعُودُهُ، فَقَالَ: (لا بَأْسَ طَهُورٌ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ) ، فَقَالَ: كَلا، بَلْ هِىَ حُمَّى تَفُورُ عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ كَيْمَا تُزِيرَهُ الْقُبُورَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (فَنَعَمْ إِذًا) . قال المهلب: فيه أن السنة أن يخاطب العليل بما يسليه من ألمه وبغطة بأسقامه بتذكيره بالكفارة لذنوبه وتطهيرة من آثامه ويطمعه بالإقالة لقوله: لا بأس عليك مما تجده بل يكفر الله به ذنوبك ثم يفرج عنك فيجمع لك الأجر والعافية لئلا يسخط أقدار الله، واختياره له وتفقده إياه بأسباب الرحمة ولايتركه إلى نزعات الشيطان والسخط فربما جازاه الله بالتسخط وبسوء الظن عقابًا فيوافق قدرًا يكون سببًا إلى أن يحل به مالفظ به من الموت الذى حكم على نفسه. وقوله عليه السلام لابن مسعود: (أجل) أنه ينبغى للمريض أن يحسن جواب زائره ويتقبل مايعده من ثواب مرضه ومن إقالته ولا يرد عليه بمثل مارد الأعرابى على النبى عليه السلام وسيأتى فى باب يريد الله بكم اليسر ولايريد بكم العسر فى كتاب الاعتصام.(9/382)
- باب: عيادة المريض راكبًا وماشيًا
/ 22 - فيه: أُسَامَةَ، أَنَّ النَّبِى عليه السلام رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَى إِكَافٍ عَلَى قَطِيفَةٍ فَدَكِيَّةٍ، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ وَرَاءَهُ يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ. . . وذكر الحديث. / 23 - وفيه: جَابِر، جَاءَنِى النَّبِى عليه السلام يَعُودُنِى لَيْسَ بِرَاكِبِ بَغْلٍ وَلا بِرْذَوْنٍ. فيه أن عيادة المريض راكبًا وماشيًا كل ذلك سنة مرجو بركة العمل بها وثواب الأعمال على صحة النية وإخلاصها لله تعالى وإن قلت المشقة فيها.
- باب: قول المريض إنى وجع، أو وارأساه أو أشتد بى الوجع وقول أيوب: (مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين (
/ 24 - فيه: كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، مَرَّ بِىَ النَّبِى عليه السلام وَأَنَا أُوقِدُ تَحْتَ الْقِدْرِ، فَقَالَ: (أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ (صلى الله عليه وسلم) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَدَعَا الْحَلاقَ فَحَلَقَهُ، ثُمَّ أَمَرَنِى بِالْفِدَاءِ. / 25 - وفيه: عَائِشَةُ، قَالَت: وَا رَأْسَاهْ، فَقَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (ذَاكِ لَوْ كَانَ وَأَنَا حَىٌّ، فَأَسْتَغْفِرَ لَكِ، وَأَدْعُوَ لَكِ) ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَا ثُكْلِيَاهْ، وَاللَّهِ إِنِّى لأظُنُّكَ تُحِبُّ مَوْتِى، فَلَوْ كَانَ ذَاكَ لَظَلِلْتَ آخِرَ يَوْمِكَ مُعَرِّسًا بِبَعْضِ أَزْوَاجِكَ، فَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (بَلْ أَنَا وَا رَأْسَاهْ، لَقَدْ هَمَمْتُ - أَوْ أَرَدْتُ - أَنْ أُرْسِلَ إِلَى أَبِى بَكْرٍ وَابْنِهِ، وَأَعْهَدَ. . .) الحديث. / 26 - وفيه: عبد اللَّهِ بْن مَسْعُود، دَخَلْتُ عَلَى النَّبِي عليه السلام وَهُوَ يُوعَكُ،(9/383)
فَمَسِسْتُهُ بِيَدِي، فَقُلْتُ: إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا؟ قَالَ: (أَجَلْ كَمَا يُوعَكُ رَجُلانِ مِنْكُمْ) ، قَالَ: لَكَ أَجْرَانِ؟ قَالَ: (نَعَمْ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى مَرَضٌ فَمَا سِوَاهُ إِلا حَطَّ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا) . / 27 - وفيه: سَعْد، جَاءَنِى النَّبِىّ عليه السلام يَعُودُنِى مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِى زَمَنَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ. . . . الحديث. قال الطبرى: اختلف العلماء فى هذا الباب فقالت طائفة: لا أحد من ينى آدم إلا وهو يألم من الوجع ويشتكى المرض لأن نفوس بنى آدم بنيت على الجزع من ذلك والألم، فغير قادر أحد على تغييرها عما خلقها الله بارئها، ولا كلف أحد أن يكون بخلاف الجبلة التى جبل عليها، وإنما كلف العبد فى حالة المصيبة أن يفعل ماله إلى ترك فعله سبيل وذلك ترك البكاء على الرزية والتأوه من المرض والبلية. فمن تأو من مرضه أو بكى من مصيبة تحدث عليه أو فعل نظيرًا لذلك فقد خرج من معانى أهل الصبر ودخل فى معانى أهل الجزع وممن روى ذلك عنه مجاهد وطاوس، قال مجاهد: يكتب على المريض ماتكلم به حتى الأنين. وقال ليث: قلت لطلحة بن مصرف: إن طاوسًا كره الأنين فى المرض، فما سمع لطلحة أنين حتى مات. واعتلوا لقولهم بإجماع على كراهة شكوى العبد ربه على ضر ينزل به أو أشتد تحدث به، وشكواه ذلك إنما هو ذكره للناس ما امتحنه به ربه عز وجل على وجه الضجر به، قالوا: فالمتوجع المتأوه فى معنى ذكراه للناس متضجرًا به أو أكثر منه به.(9/384)
وقال آخرون: ليس الذى قال هؤلاء بشىء وقالوا: إنما الشاكى ربه تعالى من أخبر عما أصابه من الضر والبلاء متسخطًا قضاء الله فيه، فأما من أخبر به إخوانه ليدعو له بالشفاء والعافية وأن استراحة إلى الأنين والتأوه فليس ذلك بشاك ربه، وقد شكا الألم والوجع المؤذى للنبى عليه السلام وأصاحبه وأن جماعة من القدوة ممن ذكرهم البخارى فى هذا الباب وغيرهم، روى عن الحسن البصرى أنه دخل عليه أصحابه وهو يشتكى ضرسه فقال: رب مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين، وهذا القول أولى بالصواب لما يشهد له من فعل النبى وأصحابه، وأيضًا فإن الأنين من الم العلة والتأوه قد يغلبان الإنسان ولايطيق كفهما عنه، ولا يجوز إضافة موأخذة العبد به إلى الله تعالي؛ لأنه قد أخبر أنه لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وليس فى وسع ابن آدم ترك الاستراحة إلى الأنين عند الوجع يشتد به والألم ينزل به فيؤمر به أو ينهى عن خلافه.
- باب: قول المريض قوموا عنى
/ 28 - فيه: ابْن عَبَّاس، لَمَّا حُضِرَ النَّبِىّ عليه السلام وَفِى الْبَيْتِ رِجَالٌ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (هَلُمَّ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لا تَضِلُّوا بَعْدَهُ) ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ النَّبِى عليه السلام قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْوَجَعُ، وَعِنْدَكُمُ الْقُرْآنُ، حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ، فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغْوَ وَالاخْتِلافَ عِنْدَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (قُومُوا. . . .) الحديث.(9/385)
قال المؤلف: فيه من الفقه أن المريض إذا اشتد به المرض أنه يجوز أن يقول لزوره قوموا عنى ويأمرهم بالخروج لينفرد بألطافه ويمرضه من يخف عليه مباشرته له من أهله وذوى رحمة، ولا يعد ذلك جفاء على الزائرين بل الجفاء منهم طول الجلوس عند المريض إذا اشتد مرضه، والصواب لهم تخفيف القعود عنده وترك إحراجه وأذاه، وقد تقدم فى كتاب العلم فى باب كتابه العلم وسيأتى فى كتاب الاعتصام فى باب النهى على التحريم إلا بما يعرف إباحتع إن شاء الله تعالى
- باب: من ذهب بالصبى المريض ليدعى له
/ 29 - فيه: السَّائِبَ، ذَهَبَتْ بِى خَالَتِى إِلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنَ أُخْتِى وَجِعٌ، فَمَسَحَ رَأْسِى وَدَعَا لِى بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ. . . . الحديث. لا بأس بالذهاب بالصبيان إلى الصالحين وأهل الفضل رغبة فى بركة دعائم والانتفاع بهم، ألا ترى أن هذا الصبى مسح النبى عليه السلام رأسه ودعا له وسقاه من وضوئه فبرىء حتى قام خلف ظهره عليه السلام ورأى بين كتفيه خاتم النبوة. وفيه أن شرب صاحب الوجع من وضوء الرجل الفاضل مما يذهب وجعه.
- باب تمنى المريض الموت
/ 30 - فيه: أَنَس، قَالَ النَّبِي (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُ الْمَوْتَ مِنْ(9/386)
مرض أصابه، فَإِنْ كَانَ لا بُدَّ فَاعِلا فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي) . / 31 - وفيه: قَيْسِ بْنِ أَبِى حَازِمٍ، دَخَلْنَا عَلَى خَبَّابٍ نَعُودُهُ - وَقَدِ اكْتَوَى سَبْعَ كَيَّاتٍ - فَقَالَ: إِنَّ أَصْحَابَنَا الَّذِينَ سَلَفُوا مَضَوْا، وَلَمْ تَنْقُصْهُمُ الدُّنْيَا، وَإِنَّا أَصَبْنَا مَا لا نَجِدُ لَهُ مَوْضِعًا إِلا التُّرَابَ، وَلَوْلا أَنَّ النَّبِى عليه السلام نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالْمَوْتِ لَدَعَوْتُ بِهِ، ثُمَّ أَتَيْنَاهُ مَرَّةً أُخْرَى، وَهُوَ يَبْنِى حَائِطًا لَهُ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُسْلِمَ لَيُؤْجَرُ فِى كُلِّ شَىْءٍ يُنْفِقُهُ إِلا فِى شَىْءٍ يَجْعَلُهُ فِى هَذَا التُّرَابِ. / 32 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ) ، قَالُوا: وَلا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (وَلا أَنَا، إِلا أَنْ يَتَغَمَّدَنِى اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَلا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ، إِمَّا مُحْسِنًا، فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْرًا، وَإِمَّا مُسِيئًا، فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ) . / 33 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَىَّ: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى، وَارْحَمْنِى، وَأَلْحِقْنِى بِالرَّفِيقِ) . قال المؤلف: نهى النبى أمته عن تمنى الموت عند نزول البلاء بهم وأمرهم أن يدعوا بالموت ما كان الموت خيرًا لهم فى حديث أبى هريرة: (لا يتمنى أحدكم الموت، إما محسنا فلعله أن يزداد خيرًا، وإما مسيئًا فلعله أن يستعتب) . قال الطبرى: فإن قيل: هذا الحديث جاء بلفظ (لعلى) وهى موضوعة لغير التحقيق. قيل: قد جاء هذا الحديث بلفظ (إن) التى هى موضوعة للتحقيق من رواية معمر، عن همام بن منبه، عن أبى هريرة قال: قال النبى: (لا يتمنى أحدكم الموت ولايدعو به قبل أن يأتيه،(9/387)
فإنه إذا مات أحدكم انقطع أمله وعمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرًا) فإن قال قائل: إن قول النبى عليه السلام عند موته: (اللهم ألحقنى بالرفيق) تمن للموت، وذلك معارض للأحاديث المتقدمة وقد تمنى الموت عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب. فأما حديث عمر فرواه معمر عن على بن زيد، عن الحسن، عن سعيد بن أبى العاص قال: (رصدت عمر ليلة فخرج إلى البقيع وذلك فى السحر فاتبعته فصلى فرفع يديه ثم قال: اللهم كبرت سنى وضعفت قوتى وخشيت الانتشار من رعيتى فاقبضنى إليك غير عاجز ولا ملوم) قال الزهرى، عن ابن المسيب: فما انسلخ الشهر حتى مات. وأما حديث على فرواه معمر عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال: سمعت عليًا يخطب فقال: (اللهم إنى قد سئمتهم وسئمونى فارحمنى منهم وارحمهم منى، مايمنع أشقاكم أن يخضبها بدم - وأشار إلى لحيته) . قيل: لا تعارض بين شىء مما ذكرت ولكل خبر منها وجه صحيح، فأما قول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (اللهم ألحقنى بالرفيق) فإنما قال ذلك بعد أن علم أنه ميت فى يومه برؤية الملائكة المبشرة له عن ربه بالسرور الكامل الا تسمعه يقول لابنته فاطمة حين ندبته: (لا كرب على أبيك بعد اليوم) فكانت نفسه مفزعة فى اللحاق بكرامة الله تعالى والمصير إلى ماوعده به من سعادة الأبد، وكذلك قالت عائشة: سمعت النبى عليه السلام يقول: (لا يقبض نبى حتى يخير، فلما سمعته يقول: الرفيق الأعلى علمت أنه ذاهب وأنه لا يختارها) وهذا خير له من كونه فى الدنيا وبهذا أمر أمته فقال:(9/388)
(كان لابد فاعلا فليقل اللهم توفنى ما كانت الوفاة خيرًا لى) . وأما حديث عمر وعلى ففيها بيان معنى نهيه عليه السلام عن تمنى الموت وأن المراد بذلك إذا نزل بالمؤمن ضر أو ضيق فى دنياه فلا يتمنى الموت عند ذلك، فأما إذا خشى أن يصاب فى دينه فمباح له أن يدعو بالموت قبل مصابه بدينه، ويشهد لصحة هذا قوله عليه السلام: (وإذا أردت بالناس قتنة، فأقبضنى إليك غير مفتون) فاستعمل عمر هذا المعنى حين خشى عند كبر سنه وضعف قوته أن يعجز عن القيام بما فرض الله عليه من أمر الأمة أو أن يفعل مايلام عليه فى الدنيا والآخرة، فلذلك قال: فاقبضنى إليك غير عاجز ولاملوم، فأجاب الله دعاءه وأماته قبل انسلاخ الشهر. وكذلك خشى على بن أبى طالب من سآمته لرعيته وسآمتهم له أن يحملهم ذلك على مايئول إلى سخط الله وإلى مالا يرقع فتقه، فكان ذلك من قبلهم فقتلوه وتقلدوا دمه وباءه وبإثمه وهو إمام عدل بر تقى لم يأت مايستحق عليه التأنيب فضلا عن غيره؛ فلذلك سأل الله أن يريحه منهم فليس فى شىء من ذلك تعارض ولا اختلاف، بل كل ذلك يفسر بعضه بعضًا. وقول خباب: (إن المسلم ليؤجر فى كل شىء ينفقه إلا فى شىء يجعله فى هذا التراب) يعنى البنيان، ومعنى الحديث أن من بنى مايكنه ولا غنى به عنه فلا يدخل فى معنى الحديث بل هو مما يؤجر فيه، وإنما أراد خباب من بنى مايفضل عنه ولا يضطر إليه فذلك الذى لا يؤجر عليه لأنه من التكاثر الملهى لأهله.(9/389)
وقد تقدم فى باب البناء فى آخر الاستئذان وسيأتى معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يدخل أحدًا عمله الجنة) وتأويل قوله تعالى: (وتلك الجنة التى أورثتموها بما كنتم تعملون (فى باب القصد والداومة على العمل فى كتاب الرقاق، إن شاء الله تعالى.
- باب: دعاء العائد للمريض
وَقَالَتْ عَائِشَةُ بِنْتُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهَا: قَالَ النَّبِى عليه السَّلام: (اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْدًا) . / 34 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىّ عليه السلام كَانَ إِذَا أَتَى مَرِيضًا، أَوْ أُتِىَ بِهِ، قَالَ: (أَذْهِبِ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ، اشْفِ وَأَنْتَ الشَّافِى، لا شِفَاءَ إِلا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لاَ يُغَادرُ سقمًا) . قال الطبرى: فى هذه الآثار من الفقه أن الرغبة إلى الله فى عافية فى الجسم أفضل للعبد وأصلح له من الرغبة اليه فى البلاء، وذلك أنه عليه السلام كان يدعو للمرضى بالشفاء من عللهم. فإن قال قائل: ماوجه دعائه عليه السلام لسعد بالشفاء، وقد تظاهرت الأخبار عنه عليه السلام أنه قال يومًا لأصحابه: من أحب أن يصح ولايسقم؟ فقالوا: نحن يارسول الله. فقال: أتحبون أن تكونوا مثل الحمر الصيالة؟ وتغير وجه النبى عليه السلام ثم قال: ألا تحبون أن تكونوا أصحاب بلاء وأصحاب كفارات؟ قالوا: بلى يارسول الله. قال: فوالذى نفس أبى القاسم بيده إن الله تعالى ليبتلى المؤمن، وما يبتليه إلا لكرامته عليه، وإلا أن له عنده(9/390)
منزلة لا يبلغها شيء من عمله دون أن يبلغ من البلاء ما يبلغه تلك المنزلة. من حديث أبى عقيل مسلم بن عقيل، عن عبد الله بن إياس بن أبى فاطمة، عن أبيه، عن جده، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) . وروى زيد بن أبى أنيسة، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن المسيب، عن أبى هريرة قال: (جاء رجل مصح إلى النبى عليه السلام فقال له رسول الله: أصابتك أم ملدم قط؟ قال له: لا يارسول الله. فلما ولى الرجل قال لهم رسول الله: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا) . وروى الليث عن يزيد أبى حبيب، عن سعد بن يسار عن أنس بن مالك، عن النبى عليه السلام أنه قال: (إن أعظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضى فله الرضا، ومن سخط فله السخط) مع كثرة من كان يؤثر العلل والأسقام من السلف. قيل: ليس شىء من هذه الآثار يعارض أحاديث هذا الباب ولكل حديث منها وجه مفهوم وذلك أن العلل والأمراض كفارات لأهل الإيمان وعقويات يمحص الله بها عمن شاء منهم فى الدنيا ليلقوه مطهرين من دنس الذنوب، كما روى أيوب، عن أبى قلابة، عن أنس قال: (كان أبو بكر الصديق يأكل مع النبى فنزلت هذه الآية: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل مثقال(9/391)
ذرة شرًا يره) فرفع أبو بكر يده فقال: يارسول الله، إنى أجزى بما عملت من مثقال ذرة من شر؟ فقال: ياأبا بكر، مارأيت فى الدنيا مما تكره فبمثقال ذر الشر ويدخر لك مثاقيل الخير حتى توفاه يومه القيامة) . فإذا كانت العلل والأوجاع إنما هى عقوبات على التبعات ثبت أنه النبى عليه السلام إنما دعا بالشفاء من الأمراض لمن لا كبائر له، ومن سلم من الذنوب الموجبة للعقوبات وبرىء من مظالم العباد وكره اختيار الصحة على البلاء فى هذه الأحاديث الأخر لأهل الإجرام ولمن اقترف على نفسه الآثام، فكره له أن يختار لنفسه لقاء ربه بآثمه وموافاته بإجرامه غير متحمص ولا متطهر من الأدناس، فليس شىء من الاخبار خلاف لصاحبه، والله الموفق.
- باب: وضوء العائد المريض
/ 35 - فيه: جَابِر، دَخَلَ عَلَىَّ النَّبِى عليه السلام وَأَنَا مَرِيضٌ، فَتَوَضَّأَ فَصَبَّ عَلَىَّ فَعَقَلْتُ، فَقُلْتُ: لا يَرِثُنِى إِلا كَلالَةٌ، فَنَزَلَتْ آيَةُ الْفَرَائِضِ. وضوء العائد للمريض إذا كان إماما فى الخير ورئيسًا فى الفضل يتبرك به وصبه عليه مما يرجى نفعه، وقد يمكن أن يكون مرض جابر الذى صب عليه النبى (ص) الماء من الحمى الذى أمر النبى بإبرادها بالماء لأنها من فيح جهنم، فتكون صفه من الإبراد هكذا أن يتوضأ الرجل الفاضل ويصب ذلك الماء طار من وضوئه على المريض.(9/392)
- باب: من دعا برفع الوباء والحمى
/ 36 - فيه: وذكر حديث عَائِشةَ حين وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلالٌ بتمامه إلى قوله: (اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ) . وقد تقدم فى باب عيادة الرجال النساء. قال المؤلف: فيه من الفقه جواز الدعاء إلى الله تعالى فى رفع الوباء والحمى والرغبة إليه فى الصحة والعافية، وهذا رد على الصوفية فى قولهم: إن الولى لا تتم له بالولاية إلا إذا رضى بجميع مانزل به من البلاء ولا يدع الله فى كشفه، وقد تقدم فى آخر كتاب الحج فى أبواب فضائل المدينة.(9/393)
69 - كتاب الطب
- باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاءً
/ 1 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً) . قال الترمذى فى هذا الحديث: عن ابن مسعود، وأبى هريرة، وأبى خزامة، عن أبيه وابن عباس، وعن أسامة بن شريك. وفيه إباحة التداوى وجواز الطب، وهو رد على الصوفية الذى يزعمون أن الولاية لا تتم إلا إذا رضى بجميع مانزل من البلاء، ولا يجوز له له مداوته. وقد أباح عليه السلام التداوى وقال للرجلين: (أيكما أطب؟ فقالا: أو فى الطب خير يارسول الله؟ فقال: أنزل الدواء الذى أنزل الأدواء) فلا معنى لقول من أنكر ذلك.
- باب هل يداوى الرجل المرأة والمرأة الرجل
/ 2 - فيه: رُبَيِّعَ بِنْتِ مُعَوِّذِ، قَالَتْ: كُنَّا نَغْزُو مَعَ النَّبِىّ عليه السلام نَسْقِى الْقَوْمَ وَنَخْدُمُهُمْ، وَنَرُدُّ الْقَتْلَى وَالْجَرْحَى إِلَى الْمَدِينَةِ. قال المؤلف: هذا إنما يجوز للنساء المتجالات اللاتي لا تخشى من(9/394)
قبلهن الفتنة وأما الجواري فلا يباشرون الرجال غير ذوي المحارم منهن.
3 - باب: الدواء بالعسل وقوله تعالى: (فيه شفاء للناس
/ 3 - فيه: عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىُّ عليه السلام يُعْجِبُهُ الْحَلْوَاءُ وَالْعَسَلُ. / 4 - وفيه: جَابِر، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنْ كَانَ فِى شَىْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ خَيْرٌ فَفِى شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ، أَوْ لَذْعَةٍ بِنَارٍ، تُوَافِقُ الدَّاءَ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِىَ) . / 5 - وفيه: أَبُو سَعِيد، أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِى عليه السلام فَقَالَ: أَخِى يَشْتَكِى بَطْنَهُ، فَقَالَ: (اسْقِهِ عَسَلا) ، ثُمَّ أَتَى الثَّانِيَةَ، فَقَالَ: (اسْقِهِ عَسَلا) ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: (اسْقِهِ عَسَلا) ، ثُمَّ أَتَاهُ، فَقَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، فَقَالَ: (صَدَقَ اللَّهُ، وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ، اسْقِهِ عَسَلا، فَسَقَاهُ فَبَرَأَ) . اختلف أهل التأويل فيما عادت عليه الهاء التى فى قوله: (فيه شفاء للناس) فقال بعضهم: عادت على القرآن وهو قول مجاهد. وقال آخرون: يراد بها العسل روى ذلك عن ابن مسعود وابن عباس، وهو قول الحسن وقتادة، وهذا القول أولى بدليل حديث جابر وأبى سعيد، وقال قتادة فى حديث سعيد: (صدق القرآن وكذب بطن أخيك) وقال بعض العلماء فى قوله: (شفاء للناس) المعنى فيه شفاء لبعض الناس. وتأولوا الآية. وحديث جابر وأبى سعيد على الخصوص.(9/395)
وقالوا: الحجامة وشرب العسل والكى إنما هو شفاء لبعض الأمراض دون بعض، ألا ترى قوله عليه السلام: (أو لذعة بنار توافق الداء) فشرط موافقتها للداء فدل هذا أنها إذا لم توافق الداء فلا دواء فيها، وقد جاء فى القرآن مالفظه العموم والمراد به الخصوص كقوله تعالى: (وماخلقت الجن واإنس إلا ليعبدون) يريد المؤمنين منهم لقوله تعالى: (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرًا من الجن والإنس) أى: خلقنا، وقال تعالى فى بلقيس: (وأوتيت من كل شىء) ولم تؤت ملك سليمان، ومثله كثير.
4 - باب: الدواء بأوبوال الإبل وألبانها
/ 6 - فيه: أَنَس، أَنَّ نَاسًا اجْتَوَوْا فِى الْمَدِينَةِ فَأَمَرَهُمُ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، أَنْ يَلْحَقُوا بِرَاعِيهِ - يَعْنِى الإبِلَ - فَيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، فَشَرِبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، فَفَعلوا حَتَّى صَلَحَتْ أَبْدَانُهُمْ، فَقَتَلُوا الرَّاعِىَ. . . . الحديث. قال مالك: لا بأس بشرب أبواب الإبل فى الداء، كذلك أبواب الإنعام والبقر والغنم، قيل له: فأبوال الخيل؟ قال: لا خير فيه. قيل له: تحلب فتبول فى اللبن. قال: أرجو أن لا يكون بذلك بأس. وأبوالها عنده طاهرة كلحومها. وقال مالك مرة: تشرب أبوال الأنعام الثمانية التى ذكر الله سبحانه، وقد تقدم فى كتاب الوضوء فى باب أبواب الإبل والدواب والغنم ومرابضها وقوله: (يكدم الأرض بلسانه) فالكدم عض بأدنى الفم.(9/396)
5 - باب: الحبة السوداء
/ 7 - فيه: خَالِدِ بْنِ سَعْد، خَرَجْنَا وَمَعَنَا غَالِبُ بْنُ أَبْجَرَ، فَمَرِضَ فِى الطَّرِيقِ، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، وَهُوَ مَرِيضٌ، فَعَادَهُ ابْنُ أَبِى عَتِيقٍ، فَقَالَ لَنَا: عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الْحُبَيْبَةِ السَّوْدَاءِ، فَخُذُوا مِنْهَا خَمْسًا أَوْ سَبْعًا فَاسْحَقُوهَا، ثُمَّ اقْطُرُوهَا فِى أَنْفِهِ بِقَطَرَاتِ زَيْتٍ فِى هَذَا الْجَانِبِ، وَفِى هَذَا الْجَانِبِ، فَإِنَّ عَائِشَةَ حَدَّثَتْنِى أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (إِنَّ هَذِهِ الْحَبَّةَ السَّوْدَاءَ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلا مِنَ السَّامِ) ، قُلْتُ: وَمَا السَّامُ؟ قَالَ: (الْمَوْتُ) . / 8 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (فِى الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلا السَّامَ) . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَالسَّامُ الْمَوْتُ، وَالْحَبَّةُ السَّوْدَاءُ الشُّونِيزُ. هذا الحديث يدل عمومه على الانتفاع بالحبة السوداء فى كل داء غير داء الموت كما قال عليه السلام، إلا أن أمر ابن أبى عتيق بتقطير الحبة السوداء بالزيت فى أنف المريض لا يدل أن هكذا سبيل التداوى بها فى كل مرض، فقد يكون من الأمراض مايصلح للمريض شربها أيضًا ويكون منها مايصلح خلطها ببعض الأدوية فيعم الانتفاع بها منفردة ومجموعة مع غيرها، والله أعلم.
6 - باب: التلبية للمريض
/ 9 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّهَا كَانَتْ تَأْمُرُ بِالتَّلْبِينِ لِلْمَرِيضِ وَلِلْمَحْزُونِ عَلَى الْهَالِكِ، وَكَانَتْ تَقُولُ: إِنِّى سَمِعْتُ النَّبِىّ عليه السلام يَقُولُ: (إِنَّ التَّلْبِينَةَ تُجِمُّ فُؤَادَ الْمَرِيضِ، وَتَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ، وكانت تقول: هو [البغيض] النافع) .(9/397)
ويروى (تخم) ومعناه: تنفى والمخمة المكنسة، ومنه قوله عليه السلام حين سئل أى المؤمنين أفضل؟ قال: (الصادق اللسان المخموم القلب. قيل: قد عرفنا الصادق اللسان، فما المخموم القلب؟ قال: الذى لا غل فيه ولا حسد) ومن روى تجم بالجيم، فمعناه قريب من هذا وهو من خفة النفس ونشاطها، تقول العرب: جم الفرس يجم ويجم جمامًا وأجم إذا ترك ولم يركب ولم يتعب.
7 - باب: السعوط
/ 10 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنّ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) احْتَجَمَ، وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ، وَاسْتَعَطَ. روى الترمذى من حديث عبادة بن منصور عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : إن خير ماتداويتم به السعوط والحجامة شفاء لبعض الناس دون بعض، وكلك اللدود والمشى.
8 - باب: السعوط بالقسط الهندي
وَهُوَ الْكُسْتُ مِثْلُ الْكَافُورِ، وَالْقَافُورِ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: قُشِطَتْ، وَكُشِطَتْ. / 11 - فيه: أُمِّ قَيْس أَنَّ النَّبِى عليه السلام قَالَ: (عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْعُودِ الْهِنْدِىِّ، فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ، يُسْتَعَطُ بِهِ مِنَ الْعُذْرَةِ، وَيُلَدُّ بِهِ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ. . . .) الحديث.(9/398)
وفي كتاب العين: العذرة: وجع فى الحلق، ويلد: يداوى، واللدود ماكان من السقى فى أحد شقى الفم، وسيأتى فى باب اللدود.
9 - باب: أى ساعة يحتجم
واحتجم أبو موسى ليلا. / 12 - فيه: ابْن عَبَّاس، احْتَجَمَ النَّبِىُّ عليه السلام وَهُوَ صَائِمٌ. الحجامة فى الليل والنهار وفى كل وقت احتيج اليها مباحة، وقد روى أبو داود عن الربيع بن نافع، حدثنا سعيد بن عبد الرحمن الجمحى، عن سهيل، عن أبيه، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (من احتجم لسبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين، كان شفاء من كل داء) . وسئل مالك عن الحجامة فى خمس وسبع عشرة وثلاث وعشرين، فكره أن يكون لذلك يوم محدود، وقال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبو بكرة بكار بن عبد العزيز قال: أخبرتنى عمتى كبشة بنت أبى بكر: (أن أباها كان ينهى أهله عن الحجامة يوم الثلاثاء، ويزعم عن رسول الله أن يوم الثلاثاء يوم الدم وفيه ساعة لا يرقأ) . وقال مالم: لا أرى بأسا بالحجامة يوم السبت ويوم الأربعاء والأيام كلها، وكذلك السفر والنكاح، وأراه عظيما أن يكون يومًا من لأتقى الحجامة يوم السبت والأربعاء لحديث بلغني.(9/399)
- باب: الحجامة من الدواء
/ 13 - فيه: أَنَس، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَجْرِ الْحَجَّامِ، فَقَالَ: احْتَجَمَ النَّبِىّ عليه السلام حَجَمَهُ أَبُو طَيْبَةَ، وَأَعْطَاهُ صَاعَيْنِ مِنْ طَعَامٍ، وَكَلَّمَ مَوَالِيَهُ فَخَفَّفُوا، عَنْهُ، وَقَالَ: إِنَّ أَمْثَلَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ، وَالْقُسْطُ الْبَحْرِىُّ، وَقَالَ: (لا تُعَذِّبُوا صِبْيَانَكُمْ بِالْغَمْزِ مِنَ الْعُذْرَةِ، وَعَلَيْكُمْ بِالْقُسْطِ) . (1) / 14 - وفيه: جَابِر، أَنَّهُ عَادَ الْمُقَنَّعَ، ثُمَّ قَالَ: لا أَبْرَحُ حَتَّى تَحْتَجِمَ، فَإِنِّى سَمِعْتُ النَّبِىّ عليه السلام يَقُولُ: (إِنَّ فِيهِ شِفَاءً) . قال الطبرى: فإن قال قائل: قول النبى (أمثل ما تداويتم به الحجامة) و (إن فيه الشفاء) هل هو على العموم أو الخصوص، فإن قلت: أنها على العموم فما أنت قائل فيما روى ابن علية عن ابن عون، عن ابن سيرين أنه قال: إذا بلغ الرجل أربعين لم يحتجم، قال ابن عون: فتركت الحجامة وكانت نعمة من الله. وإن قلت: هى على الخصوص. فما الدليل على ذلك؟ . قال الطبرى: فالجواب أن أمر النبى بذلك أمته إنما هو ندب لا إيجاب وهو عام فيما ندبهم إليه من معناه، وذلك أنه أمرهم بالحجامة حضًا منه لهم على مافيه نفعهم، ودفع مايخاف من غائلة الدم على أجسامهم إذا كثر وتبيغ فندبهم إلى استعمال ذلك فى الحين الذى إخراجه فيه صلاح لأبدانهم، وقد بين عليه السلام فى خبر حميد عن أنس أنه قال عليه السلام: (إذا هاج بأحدكم الدم فليحتجم،(9/400)
فإن الدم إذا تبيغ بصاحبه قتله) وغير بعيد ماروى عن ابن سيرين من نهيه ابن أربعين سنة عن الحجامة، وذلك أنه فى انتفاض من عمره وانحلال من قوى جسمه، وفى ذلك غناء له عن معونته عليه بما يزيد وهنًا على وهن، إلا أن يتبيغ به الدم حتى يكون الأغلب من أمره خوف الضرر بتركه إخراجه فيحق عليه حينئذ إخراجه والأخذ بما ندبه اليه نبيه عليه السلام والغمر: العصر باليد.
- باب: الحجامة على الرأس
/ 15 - فيه: ابْن بُحَيْنَة، أَنَّ النَّبِىّ عليه السلام احْتَجَمَ بِلَحْىِ جَمَلٍ مِنْ طَرِيقِ مَكَّةَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، فِى وَسَطِ رَأْسِهِ. / 16 - وفيه: ابْن عَبَّاس أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) احْتَجَمَ فِى رَأْسِهِ. ذكر الطبرى روى شيبان عن جابر، عن محمد بن على عن عبد الله بن جعفر قال: (احتجم رسول الله عليه السلام على قرنه بعدما سم) . روى طاوس عن ابن عباس أن النبى عليه السلام قال: (الحجامة فى الرأس شفاء من سبع: من الجنون والجذام والبرص والصداع والنعاس وظلمة العينين ووجع الأضراس) .
- باب: الحجامة من الشقيقة والصداع
/ 17 - فيه: ابْن عَبَّاس أَنَّ النَّبِى عليه السلام احْتَجَمَ فِى رَأْسِهِ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، مِنْ وَجَعٍ كَانَ بِهِ، وَقَالَ مرة: مِنْ شَقِيقَةٍ كَانَتْ بِهِ.(9/401)
/ 18 - وفيه: جَابِر، قَالَ عليه السَّلام: (إِنْ كَانَ فِى شَىْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ خَيْرٌ، فَفِى شَرْبَةِ عَسَلٍ، أَوْ شَرْطَةِ مِحْجَمٍ. . . .) الحديث. قال الطبري: وقد روى عن النبي أنه كان يحتجم على رأسه وبين كتفيه من حديث أبى كبشة الأنمارى وسلمى خادمة عليه السلام ومن حديث جرير، عن قتادة، عن أنس أنه كان يحتجم فى الأخدعين وبين الكتفين، وصحة هذا غير مبطلة صحة الخبر عنه أنه احتجم على رأسه وذلك أن حجم المحتجم من جسده مايرجو نفعه فى بعض أحايينه غير موجب علينا إحالة احتجامة على هامته ونفره قفاه، وغيرها من أماكن جسده لاختلاف العلل، وقد ذكر عن المتقدمين فى العلم بحجامة الأدواء أن حجامة الأخدعين على النقرة لأدواء العينين، والرأس والعنق والظهر، وأن الحجامة على الكاهل نفعها من داء الجسد كله وأن الحجامة فوق القحف نفعها من السدد وقروح الفخد واحتباس الطمث، فإذا كانت منافع الحجامة مختلفة لاختلاف أماكنها فمعلوم أن حجمه عليه السلام من جسده ما حجم كان لاختلاف أسباب الحاجة إليه، وروى عنه عليه السلام أن حجمه هامته كان لوجع أصابه فى رأسه من أكلة الطعام المسموم بخيير.
- باب: الحلق من الأذى
/ 19 - فيه: كَعْبٍ بْن عُجْرَة، أَتَى عَلَى النَّبِي عليه السلام زَمَنَ(9/402)
الْحُدَيْبِيَةِ، وَأَنَا أُوقِدُ تَحْتَ بُرْمَةٍ، وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى رَأْسِى، فَقَالَ: (أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: (فَاحْلِقْ وَصُمْ. . .) الحديث. فيه: أن ما مايتأذى به المؤمن وإن صغر أذاه فمباح له إزالته وإماطته عنه؛ لأن إنتاثر القمل عليه كان من شعث الإحرام وذلك لا محالة أهون من علة لو كانت بجسده، فكما أمره عليه السلام بإماطة أذى القمل عنه كان مداواة أسقام الأجساد أولى بإمطاتها بالدواء بخلاف قول الصوفية الذين لا يرون المداواة.
- باب: من اكتوى أو كى غيره وفضل من لم يكتو
/ 20 - فيه: جَابِر، قَالَ عليه السَّلام: (إِنْ كَانَ فِى شَىْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ شِفَاءٌ، فَفِى شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ لَذْعَةٍ بِنَارٍ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِىَ) . / 21 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (عُرِضَتْ عَلَىَّ الأمَمُ، فَجَعَلَ النَّبِى وَالنَّبِيَّانِ يَمُرُّونَ وَمَعَهُمُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِى لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ حَتَّى رُفِعَ لِى سَوَادٌ عَظِيمٌ، قُلْتُ: مَا هَذَا؟ أُمَّتِى هَذِهِ؟ قِيلَ: بَلْ هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ، قِيلَ: انْظُرْ إِلَى الأفُقِ، فَإِذَا سَوَادٌ يَمْلأ الأفُقَ، ثُمَّ قِيلَ لِى: انْظُرْ هَاهُنَا وَهَا هُنَا فِى آفَاقِ السَّمَاءِ، فَإِذَا سَوَادٌ قَدْ مَلأ الأفُقَ، قِيلَ: هَذِهِ أُمَّتُكَ، وَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ هَؤُلاءِ سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ) ، ثُمَّ دَخَلَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ، فَأَفَاضَ الْقَوْمُ، وَقَالُوا: نَحْنُ الَّذِينَ آمَنَّا بِاللَّهِ، وَاتَّبَعْنَا رَسُولَهُ، فَنَحْنُ هُمْ أَوْ أَوْلادُنَا الَّذِينَ وُلِدُوا فِى الإسْلامِ، وَإِنَّا وُلِدْنَا فِى الْجَاهِلِيَّةِ، فَبَلَغَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَخَرَجَ، فَقَالَ: (هُمِ الَّذِينَ لا يَسْتَرْقُونَ،(9/403)
وَلا يَتَطَيَّرُونَ، وَلا يَكْتَوُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) ، فَقَالَ عُكَاشَةُ: أَمِنْهُمْ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (نَعَمْ) ، فَقَامَ آخَرُ، فَقَالَ: أَمِنْهُمْ أَنَا، قَالَ: (سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ) . قال المؤلف: فى حديث جابر إباحة الكي والحجامة وأن الشفاء فيهما؛ لأنه عليه السلام لايدل أمته على مافيه الشفاء لهم إلا ومباح لهم الاستشفاء والتداوى. فإن قال قائل: مامعنى قوله عليه السلام: (لا أحب أن أكتوى) ؟ قيل: معنى ذلك - والله أعلم - أن الكي إحراق بالنار وتعذيب وقد كان عليه السلام يتعوذ كثيرًا من فتنة النار وعذاب النار فلو اكتوى بها لكان قد عجل لنفسه ألم ما قد استعاذ بالله منه. فإن قيل: فهل نجد فى الشريعة مثل هذا مما أباحه النبى عليه السلام لأمته ولم يفعله هو فى خاصة نفسه فتسكن النفس إلى ذلك؟ قيل: بلى وذلك أنه عليه السلام أباح لأصحابه أكل الضب على مائدته ولم يأكله هو وبين علة امتناعه منه فقال: (لم يكن بأرض قومى فأجدنى أعافه) ومثله أنه لم يأكل الثوم والبصل والخضروات المنتنه الريح وأباحها لأمته، وقال: (إنى أناجى من لا تناجى) وقال مرة: (إنه يحضرنى من الله حاضرة) فكذلك أباح الكي وكرهه فى خاصة نفسه عليه السلام. وقال الطبرى: أما قوله عليه السلام: (لايتطيرون ولا يسترقون) فمعناه - والله أعلم - الذين لايفعلون شيئًا من ذلك معتقدين أن البرء إن حدث عقيب ذلك كان من عند الله وأنه كان بسبب الكي والرقية،(9/404)
وأن الذي يتطير منه لو لم ينصرف من أجله ومضى فى مضيه إن أصابه مكروه من قبل مضيه لا من قبل الله. فأما من انصرف ومضى وهو فى كلا حالية معتقد أنه لا ضار ولا نافع غير الله تعالى وأن الأمور كلها بيده، فإنه غير معنى بقوله: (لا يكتوون ولا يتطيرون) . قال أبو الحسن بن القابسى: معنى لا يسترقون. يريد الاسترقاء الذى كانوا يسترقونه فى الجاهلية عند كهانهم وهو استرقاء لما ليس فى كتاب الله ولا بأسمائه وصفاته، وإنما هو ضرب من السحر، فأما الاسترقاء بكتاب الله والتعوذ بأسمائه وكلماته فقد فعله الرسول وأمر به ولا يخرج ذلك من التوكل على الله، ولايرجى فى التشفى به إلا رضا الله. وأما قوله: (وعلى ربهم يتوكلون) فقال الطبرى: اختلف الناس فى حد التوكل، فقالت طائفة: لايستحق اسم التوكل حتى لايخالط قلبه خوف شىء غير الله من سبع عاد وعدو لله كافر حتى يترك السعى على نفسه فى طلب رزقه؛ لأن الله تعالى قد ضمن أرزاق العباد والشغل بطلب المعاش شاغل عن الخدمة. واحتجوا بما رواه فضيل بن عياض، عن هشام، عن الحسن، عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله: (من انقطع إلى الله كفاه الله كل مؤمن ورزقه من حيث لا يحتسب، ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها) وبما رواه فضيل عن عطيه عن أبى سعيد الخدرى قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لو فر أحدكم من رزقه لأدركه كما يدركه الموت) .(9/405)
وقالت طائفة: حد التوكل على الله: الثقة به ولاستسلام لأمره والإيقان بأن قضاءه عليه ماض واتباع سنته وسنة رسوله ومن اتباع سنته سعى العبد فيما لابد له من مطعم ومشرب وملبس لقوله تعالى: (وما جعلناهم جسدًا لا يأكلون الطعام) ومن سنته أن يحترز من عدوه كما فعل النبى عليه السلام يوم أحد من مظاهرته بين درعين وتغفره بمغفر يتقى به سلاح المشركين، وإقعاده الرماة على فم الشعب ليدفعوا من أدراد إتيانه، وكصنيعة الخندق حول المدينة حصنًا للمسلمين وأموالهم مع كونه من التوكل والثقة بربه بمحل لم يبلغه أحد ثم كان من أصحابه ما لا يجهله أحد من تحولهم عن منازلهم مرة إلى الحبشة ومرة إلى مدينته عليه السلام خوفًا على أنفسهم من مشركى مكة وهربًا بدينهم أن يفتنوهم عنه بتعذيبهم إياهم. وقد أحسن الحسن البصرى حين قال - للمخبر عن عامر بن عبد الله أنه نزل مع أصحابه فى طريق الشام على ماء فحال الأسد بينهم وبين الماء فجاء عامر إلى الماء فأخذ منه حاجته، فقيل له: قد خاطرت بنفسك قال: لأن تختلف الأسنة فى جوفى خير لى من أن يعلم الله أنى أخاف شيئًا سواه -: قد خاف من كان خيرًا من عامر موسى عليه السلام حين قيل له: (إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إنى لك من الناصحين فخرج منها خائفًا يترقب قال رب نجنى من القوم الظالمين) وقال: (فأصبح فى المدينة خائفًا يترقب) وقال حين القى السحرة حبالهم وعصيهم: (فأوجس فى نفسه خيفة موسى قلنا لاتخف إنك أنت الأعلي) قالوا: فالمخبر عن نفسه بخلاف ماطبع الله نفوس بنى آدم كاذب، وقد طبعهم الله على الهرب مما يضرهم،(9/406)
وقد أمر الله عباده بالإنفاق من طيبات ماكسبوا وقال تعالى: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه) فأحل للمضطر ماكان حرم عليه عند عدمه للغذاء الذى أمره باكتسابه والاغتذاء به، ولم يأمره بانتظار طعام ينزل عليه من السماء، ولو ترك السعى فى طلب مايتغذى به حتى هلك كان لنفسه قاتلا، وقد كان رسول الله يتلوى من الجوع مايجد مايأكله، ولم ينزل عليه طعام من السماء وهو أفضل البشر وكان يدخل لنفسه قوت سنه حين فتح الله عليه الفتوح. وقد روى أنس بن مالك (أن رجلا أتى النبى عليه السلام ببعير، فقال: يارسول الله أعقله وأتوكل أو أطلقه وأتوكل؟ قال: اعقله وتوكل) . وأما اعتلالهم بقوله عليه السلام: (يدخل الجنة من أمتى سبعون الفًا بغير حساب الذين لايسترقون ولايتطيرون ولايكتوون ةعلى ربهم يتوكلون) فذلك إغفال منهم، ومعنى ذلك الذين يايكتوون معتقدين أن الشفاه الله بعلاجه أن الله هو الذى شفاه به فهو المتوكل على ربه التوكل الصحيح ولا أحد يتقدم النبى عليه السلام فى دخول الجنة ولايسبقه إليها وقد قال: (أنا أول من يقرع باب الجنة فيقال لى: من أنت؟ فأقول: محمد فيقول الخازن: أمرت ألا أفتح لأحد قبلك) قالوا: وقد كوى عليه السلام جماعة من أصحابه، كوى أبا أمامه أسعد بن زرارة من الذبحة، وكوى سعد بن معاذ من كلمه يوم الخندق،(9/407)