شاء الله، وفى كتاب النكاح فى إجابة دعوة الوليمة، وقد تقدم جملة منه فى كتاب الجنائز.
6 - بَاب الانْتِصَارِ مِنَ الظَّالِمِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ (الآية) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْىُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (، قَالَ إِبْرَاهِيمُ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُسْتَذَلُّوا فَإِذَا قَدَرُوا عَفَوْا. قال: الانتصار من الظالم مباح بهذه الآية، روى ابن أبى نجيح عن مجاهد قال: نزلت هذه الآية: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم (فى الرجل يمر بالرجل فلا يضيفه فرخص له أن يقول فيه أنه لم يحسن ضيافته ويؤذيه بما فعل به. وقال عز وجل: (والذين إذا أصابهم البغى هم ينتصرون (وقال: (ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل (فأباح الانتصار بهذه الآيات. وأما قول إبراهيم أنهم كانوا يكرهون أن يستذلوا، فإن النبى - عليه السلام - قد روى عنه هذا المعنى، روى أنه استعاذ بالله من غلبة الرجال، واستعاذ من شماتة الأعداء، وقوله: (فإذا قدروا عفوا) ، فإن العفو أجل وأفضل؛ لما جاء فى ثوابه وعظيم أجره (صلى الله عليه وسلم) وقد أثنى الله - تعالى - على من فعل ذلك فقال: (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور (وهذه السبيل امتثل النبى فى خاصة نفسه، فكان لا ينتقم لنفسه، ولا يتقص من جفا عليه ولم يوقره،(6/574)
وقد جفا عليه كثير من الأعراب، وقال له قائل: إنك ما عدلت منذ اليوم، فآثر عليه السلام الأخذ بالعفو ليسن لأمته.
7 - بَاب عَفْوِ الْمَظْلُومِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (،) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا (إلى قوله: (إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (. قد تقدم فى الباب قبل هذا أن العفو أفضل لما جاء فيه من الترغيب، وقد روى عن أحمد بن حنبل - رحمه الله - أنه قال: قد جعلت المعتصم بالله فى حل من ضربى وسجنى؛ لأنه حدثنى هاشم بن القاسم عن ابن المبارك قال: حدثنى من سمع الحسن البصرى يقول: إذا جثت الأمم بين يدى رب العالمين يوم القيامة نودى: ليقم من أجره على الله، فلا يقوم إلا من عفا فى الدنيا. يصدق هذا الحديث قوله تعالى: (فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين (وكان أحمد بن حنبل يقول: ما أحب أن يعذب الله بسببى أحدًا. وقال ابن الأنبارى: كان الحسن البصرى يدعو ذات ليلة: اللهم(6/575)
اعف عمن ظلمنى، فأكثر فى ذلك، فقال له رجل: يا أبا سعيد، لقد سمعتك الليلة تدعو لمن ظلمك حتى تمنيت أن أكون فيمن ظلمك، فما دعاك إلى ذلك؟ قال: قوله تعالى: (فمن عفا وأصلح فأجره على الله (.
8 - بَاب الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
/ 7 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام: (الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . قال المهلب: هذه الظلمات لا نعرف كيف هى، إن كانت من عمى القلب أو هى ظلمات على البصر، والذى يدل عليه القرآن أنها ظلمات على البصر حتى لا يهتدى سبيلا، قال الله - تعالى -: (يوم يقوم المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا (إلى) بسور (. فدلت الآية أنهم حين منعوا النور بقوا فى ظلمة غشيت أبصارهم كما كانت أبصارهم فى الدنيا عليها غشاوة من الكفر، وقال تعالى فى المؤمنين: (يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم (فأثاب الله المؤمنين بلزوم نور الأيمان لهم، ولذذهم بالنظر إليه، وقوى به أبصارهم، وعاقب الكفار والمنافقين بأن أظلم عليهم، ومنعهم لذة النظر، هذا حديث مجمل بينه دليل القرآن.(6/576)
9 - بَاب مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ عِنْدَ أحد فَحَلَّلَهَا لَهُ هَلْ يُبَيِّنُ مَظْلَمَتَهُ
/ 8 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، أَوْ شَىْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ، فَحُمِلَ عَلَيْهِ) . قال المهلب: إن بين فهو أطيب وأصح فى التحلل؛ لأنه يعرف مقدار ما يحلله منه معرفة صحيحة، وقد اختلف العلماء فيمن كانت بينه وبين أحد معاملة وملابسة ثم حلل بعضهم بعضًا من كل ما جرى بينهما من ذلك، فقال قوم: إن ذلك براءة له فى الدنيا والآخرة وإن لم يبين مقداره. وقال آخرون: إنما تصح البراءة إذا بين له وعرف مال عنده أو قارب ذلك بما لا مشاحة فى مثله. قال المهلب: وهذا الحديث حجة لهذا القول؛ لأن قوله عليه السلام: (أخذ منه بقدر مظلمته) يدل أنه يجب أن يكون معلوم القدر مشارًا إليه.
- بَاب الاتِّقَاءِ وَالْحَذَرِ مِنْ دَعْوَةِ الْمَظْلُومِ
/ 9 - فيه: ابْن عَبَّاس، بَعَثَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ: (اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ) . قد فسر ذلك عمر فى حديث الحمى فقال: (اتق دعوة المظلوم فإنها مجابة) ، وقد روى ذلك عن النبى، روى ابن أبى شيبة قال: حدثنا(6/577)
الفضل بن دكين قال: حدثنا أبو معشر، عن سعيد بن أبى سعيد، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله: (دعوة المظلوم مجابة، وإن كان فاجرًا، فجوره على نفسه) . وقال عون بن عبدا لله: أربع دعوات لا ترد، ولا يحجبن عن الله: دعوة والد راض، وإمام مقسط، ودعوة مظلوم، ودعوة رجل دعا لأخيه بظهر الغيب.
- بَاب إِذَا حَلَّلَهُ مِنْ ظُلْمِهِ فَلاَ رُجُوعَ
/ 10 - فيه: عَائِشَةَ،) وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا (قَالَتِ: الرَّجُلُ تَكُونُ عِنْدَهُ الْمَرْأَةُ لَيْسَ بِمُسْتَكْثِرٍ مِنْهَا يُرِيدُ أَنْ يُفَارِقَهَا، فَتَقُولُ: أَجْعَلُكَ مِنْ شَأْنِى فِى حِلٍّ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِى ذَلِكَ. العلماء متفقون أنه إذا حلله مما قد علم مبلغه، فإنه قد أبرأه، ولا رجوع له فيه، وروى عكرمة عن ابن عباس قال: (خشيت سودة بنت زمعة أن يطلقها النبى - عليه السلام - فقالت: يا رسول الله لا تطلقنى وأمسكنى واجعل يومى لعائشة، ففعل؛ فأنزل الله: (أن يصلحا بينهما صلحًا والصلح خير (فما اصطلحا عليه من شىء فهو جائز، فلم يكن لسودة الرجوع فى يومها الذى وهبت لعائشة.(6/578)
- بَاب إِذَا أَذِنَ لَهُ أَوْ أَحَلَّهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ كَمْ هُوَ
/ 11 - فيه: سَهْل، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، أُتِىَ بِشَرَابٍ، فَشَرِبَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ، وَعَنْ يَسَارِهِ الأَشْيَاخُ، فَقَالَ لِلْغُلاَمِ: (أَتَأْذَنُ لِى أَنْ أُعْطِىَ هَؤُلاَءِ؟) فَقَالَ الْغُلاَمُ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لاَ أُوثِرُ بِنَصِيبِى مِنْكَ أَحَدًا، قَالَ: فَتَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى يَدِهِ. قال المهلب: لو حلل الغلام فى نصيبه الأشياخ وأذن فى إعطائه لهم، لكان ما حلل منه غير معلوم لأنه لا يعرف مقدار ما كانوا يشربون ولا مقدار ما كان يشرب هو. وقد تقدم فى كتاب المياه فى باب من رأى صدقة الماء وهبته جائزة مقسومًا كان أو غير مقسوم، أن سبيل ما يوضع للناس للأكل والشرب سبيله المكارمة وقلة التشاح، وقد طابت نفوس أصحاب النبى فى سبى هوازن جملة، وقبل النبى - عليه السلام - ذلك التطييب، ولم يعرف مقدار ما كان بيد كل واحد منهم. وسيأتى فى كتاب الهبات فى آخر هذا الجزء فى باب الهبة المقسومة: الخلاف فى المسألة - إن شاء الله - والمعروف من مذهب مالك أن هبة المجهول جائزة، مثل أن يهب رجل نصيبه فى ميراث رجل أو نصيبه فى دار لا يدرى مقداره، وكذلك كل ما لا يؤخذ عليه عوض فهبته عنده جائزة.
- بَاب إِثْمِ مَنْ ظَلَمَ شَيْئًا مِنَ الأَرْضِ
/ 12 - فيه: سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (مَنْ ظَلَمَ مِنَ الأَرْضِ شَيْئًا، طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ) .(6/579)
/ 13 - وفيه: أَبُو سَلَمَة، أَنَّهُ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُنَاسٍ خُصُومَةٌ،، فَقَالَتْ عَائِشَة: يَا أَبَا سَلَمَةَ، اجْتَنِبِ الأَرْضَ فَإِنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الأَرْضِ، طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ) . / 4 - وفيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ عليه السَّلام: (مَنْ أَخَذَ مِنَ الأَرْضِ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ، خُسِفَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ) . قال المؤلف: قد جاء عن النبى كيف صورة هذا التطويق، ذكره الطبرى قال: حدثنا سيفان بن وكيع قال: حدثنا حسين ابن على، عن زائدة، عن الربيع، عن أيمن أبى ثابت - أو ابن أبى ثابت - قال: حدثنى يعلى بن مرة الثقفى قال: سمعت النبى - عليه السلام - يقول: (أيما رجل ظلم شبرًا من الأرض كلفه الله أن يحفره حتى يبلغ آخر سبع أرضين، ثم يطوقه يوم القيامة حتى يقضى بين الناس) . ورواه الشعبى عن أيمن، عن يعلى بن مرة، عن النبى وقال فيه: (من سرق شبلاً من أرض أو غله جاء يحمله يوم القيامة على عنقه إلى سبع أرضين) . ورواه مروان بن معاوية الفزارى، حدثنا أبو يعقوب، حدثنا أيمن ثنا يعلى بن مرة قال: سمعت النبى - عليه السلام - يقول: (من أخذ أرضًا بغير حقها كلف أن يحمل ترابها إلى المحشر) . قال المهلب: ومعنى قوله: (خسف به) أنه يلج فى سبع أرضين فتكون كلها فى عنقه، فهو تطويق له.(6/580)
- بَاب إِذَا أَذِنَ إِنْسَانٌ لآخَرَ شَيْئًا جَازَ له
/ 15 - فيه: جَبَلَةَ، كُنَّا بِالْمَدِينَةِ فِى بَعْضِ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَأَصَابَتنَا سَنَةٌ، فَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَرْزُقُنَا التَّمْرَ، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَمُرُّ بِنَا فَيَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) نَهَى عَنِ الإِقْرَانِ، إِلاَ أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ أَخَاهُ. / 16 - وفيه: أَبُو مَسْعُود، أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ كَانَ لَهُ غُلاَمٌ لَحَّامٌ، فَقَالَ لَهُ: اصْنَعْ لِى طَعَامَ خَمْسَةٍ، لَعَلِّى أَدْعُو النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) خَامِسَ خَمْسَةٍ، وَأَبْصَرَ فِى وَجْهِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، الْجُوعَ فَدَعَاهُم، فَتَبِعَهُمْ رَجُلٌ لَمْ يُدْعَ، فَقَالَ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ هَذَا قَدِ اتَّبَعَنَا، أَتَأْذَنُ لَهُ) ؟ قَالَ: نَعَمْ. لا يكون الإذن إلا فيما يملكه الذى أذن فيه، كما أذن صاحب اللحم للرجل الذى جاء مع النبى - عليه السلام - فجاز له الأكل من ذلك الطعام، وكما أجاز النبى - عليه السلام - القران فى التمر إذا أذن فيه أصحابه الذين وضع بين أيديهم؛ لأنهم متساون فى الاشتراك فى أكله، فإذا استأثر أحدهم بأكثر من صاحبه لم يجز له؛ لما فى ذلك من الاستئثار بما لا تطيب عليه نفس صاحب الطعام، ولا أنفس الذين وضع بين أيديهم، إلا أن ما وضع للناس فسبيله سبيل المكارم لا سبيل التشاح، وإن تفاضلوا فى الأكل.
- بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَام (
/ 17 - فيه: عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، قَالَ: (إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الأَلَدُّ الْخَصِمُ) . قال: هذا الحديث أدخله العلماء فى تفسير قوله تعالى: (وهو(6/581)
ألد الخصام (قال أهل اللغة: الألد هو العسير الخصومة الشديد الحرب. وقد ذمه الله - تعالى - لمدافعته من الحق ما يعلمه وتشهد به نفسه، قال الله تعالى: (ومن الناس من يعجبك قوله فى الحياة الدنيا ويشهد الله على ما فى قلبه وهو ألد الخصام (وقد ترجم بهذه الترجمة فى كتاب الأحكام.
- بَاب إِثْمِ مَنْ خَاصَمَ فِى بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُهُ
/ 18 - فيه: أُمَّ سَلَمَةَ، أن النَّبِىّ، عليه السَّلام، سَمِعَ خُصُومَةً بِبَابِ حُجْرَتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّهُ يَأْتِينِى الْخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ، فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَدَقَ فَأَقْضِىَ لَهُ بِذَلِكَ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ، فَإِنَّمَا هِىَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ، فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ يَتْرُكْهَا) . قال المهلب: هذا يدل أن القوى على البيان البليغ فى تأدية الحجة قد يغلب بالباطل من أجل بيان، فيقضى له على خصمه، وليس ذلك بمحل ما حرم عليه؛ لقوله عليه السلام: (فإنما هى قطعة من الناس) وهذا هو معنى قوله تعالى: (وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقًا من أموال الناس بالإثم (. ذلك، وسيأتى هذا الحديث وما فيه من انتزاع العلماء فى كتاب الأحكام.(6/582)
- بَاب إِذَا خَاصَمَ فَجَرَ
/ 19 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، قَالَ: (أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ، كَانَ مُنَافِقًا - أَوْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ - كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ) . الفجور: الكذب والريبة، وذلك حرام، ألا ترى أن النبى - عليه السلام - قد جعل ذلك خصلة من النفاق، وليس هو بنفاق يخرج من الإيمان، وإنما أراد عليه السلام أن من كانت فيه هذه الخلال أو واحدة منها، فإنه منافق فيها خاصة، وليس بمنافق فى غيرها من دينه مما صح فيه اعتقاده ويقينه. وإنما أطلق اسم النفاق على صاحب هذه الخلال؛ لأنها تغلب على أحوال المرء، وتستولى على أكثر الأفعال، فاستحق هذه التسمية بما غلب عليه من قبيح أفعاله، ومشابهته فيها المنافقين والكفار، فوصف بصفتهم تقبيحًا لحاله، ومجانبته أفعال المؤمنين - أعاذنا الله من ذلك - وقد تقدم بيان هذا المعنى فى كتاب الإيمان.
- بَاب قِصَاصِ الْمَظْلُومِ إِذَا وَجَدَ مَالَ ظَالِمِهِ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ يُقَاصُّهُ، وَقَرَأَ: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ (الآية
. / 20 - فيه: عَائِشَةَ، جَاءَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، إِلىَ النَّبىِّ عَلَيهِ السَّلاَم(6/583)
فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ، فَهَلْ عَلَىَّ حَرَجٌ أَنْ أُطْعِمَ مِنِ الَّذِى لَهُ عِيَالَنَا؟ فَقَالَ: (لاَ حَرَجَ عَلَيْكِ أَنْ تُطْعِمِيهِمْ بِالْمَعْرُوفِ) . / 21 - وفيه: عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: قُلْنَا لِلنَّبِىِّ عليه السَّلام: إِنَّكَ تَبْعَثُنَا، فَنَنْزِلُ بِقَوْمٍ لاَ يَقْرُونَا فَمَا تَرَى فِيهِ؟ فَقَالَ لَنَا: (إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ، فَأُمِرَ لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِى لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا، فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ) . اختلف العلماء فى الذى يجحد وديعة غيره، ثم يجد المودع له مالا، هل يأخذه عوضًا من حقه أم لا؟ . اختلف قول مالك فى ذلك، فروى ابن القاسم عن مالك أنه لا يفعل، واحتج بما روى عن النبى أنه قال: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك) . وروى زياد عن مالك أن له أن يأخذ حقه إذا وجده من ماله إذا لم يكن فيه شىء من الزيادة، وهو قول الشافعى واحتج بحديث هند. وروى ابن وهب عن مالك أنه إذا لم يكن على الجاحد للمال دين فله أن يأخذ مما يظفر له به من المال حقه، فإن كان عليه دين فليس له أن يأخذ إلا بمقدار ما يكون فيه أسوة الغرماء. وقال أبو حنيفة: يأخذ من الذهب الذهب، ومن الفضة الفضة، ومن المكيل المكيل ومن الموزون الموزون، ولا يأخذ غير ذلك. وقال زفر: له أن يأخذ العرض بالقيمة.(6/584)
وأولى الأقوال بالصواب فى ذلك قول من أجاز الانتصاف من حقه إذا وجد مال من ظلمه بدلالة الآية، ودلالة حديث هند، ألا ترى أن النبى - عليه السلام - أجاز لها أن تطعم عيلة زوجها من ماله المعروف، عوض ما قصر فيه من إطعامهم، فدخل فى معنى ذلك كل من وجب عليه حق ولم يوفه أو جحده أنه يجوز له الاقتصاص منه، وليس قوله عليه السلام: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك) بمخالف لهذا المعنى؛ لأن من أخذ حقه فلا يسمى خائنًا. وقوله: (أد الأمانة إلى من ائتمنك) معناه الخصوص، فكأنه قال: أد الأمانة إلى من ائتمنك إذا لم يكن غاصبًا لمالك ولا جاحدًا له، وأما من غصبك حقك وجحدك فليس يدخل فيمن أمر بأداء الأمانة إليه؛ لقوله تعالى: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به (ولدلالة حديث هند، وهذا التأويل ينفى التضاد عن الآثار ودليل القرآن. وأما حديث عقبة بن عامر فقال أكثر العلماء أنه كان فى أول الإسلام، حين كانت المواساة واجبة، وهو منسوخ بقوله عليه السلام: (جائزته يوم وليلة) قالوا: والجائزة تفضل وليست بواجبة، وستأتى مذاهب العلماء فى الضيافة فى كتاب الأدب فى باب إكرام الضيف - إن شاء الله.(6/585)
- بَاب مَا جَاءَ فِى السَّقَائِفِ وَجَلَسَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَأَصْحَابُهُ فِى سَقِيفَةِ بَنِى سَاعِدَةَ
(1) / 22 - فيه: عُمَرَ، قَالَ حِينَ تَوَفَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ (صلى الله عليه وسلم) : إِنَّ الأَنْصَارَ اجْتَمَعُوا فِى سَقِيفَةِ بَنِى سَاعِدَةَ، فَقُلْتُ لأَبِى بَكْرٍ: انْطَلِقْ بِنَا فَجِئْنَاهُمْ فِى سَقِيفَةِ بَنِى سَاعِدَةَ. قال: السقائف والحوانيت قد علم الناس ما وضعت له، ومن اتخذ فيها مجلسًا فذلك مباح له إذا التزم ما جاء فى ذلك من غض البصر، ورد السلام، وهداية الضال، وجميع شروطه.
- بَاب لاَ يَمْنَعُ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِى جِدَارِهِ
/ 23 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (لاَ يَمْنَعْ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِى جِدَارِهِ) ، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَا لِى أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ، وَاللَّهِ لاَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ. قال أبو جعفر الطحاوى: حدثنى روح بن الفرج قال: سألت أبا زيد والحارث بن هشام ويونس بن عبد الأعلى كيف لفظ: (أن يغرز خشبة فى جداره؟) ، فقالوا جميعًا: خشبة بالنصب والتنوين على خشبة واحدة. واختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث، فقالت طائفة: هو على الوجوب إذا لم يكن فى ذلك مضرة على صاحب الجدار، وهو قول الشافعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور. وذهب مالك والكوفيون إلى أنه لايغرز خشبة فى حائط أحد إلا بإذن صاحب الحائط، ومجمل الحديث عندهم على الندب، والحجة لهم قول الرسول: (إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام) .(6/586)
وأنه لا يجوز لأحد أن يجبر أحدًا على أن يفعل فى ملكه ما يضر به، وقد قال عليه السلام: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه) قالوا: فعلمنا أن قوله: (لا يمنع جاره أن يغرز خشبة فى جداره) محمول على الندب وحسن المجاورة لا على الوجوب، وهو كقوله: (ما زال جبريل يوصينى بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) وكقوله: (ما آمن من بات شبعان وجاره طاو) . قالوا: ولو كان الحديث معناه الوجوب ما جهل الصحابة تأويله، ولا كانوا معرضين عن أبى هريرة حين كان يحدثهم بهذا الحديث، وإنما جاز لهم ذلك لتقرر الأعمال والأحكام عندهم بخلافه، ولا يجوز عليهم جهل الفرائض، فدل ذلك أن معناه على الندب، وفى هذا دليل أن تأويل الأحاديث على ما تلقاها عليه الصحابة، لا على ظواهرها. قال المهلب: ولو بلغ من اجتهاد حاكم أن يحكم به لنفذ حكمه بما حض النبى عليه أمته من ذلك، كما حكم عمر على ابن مسلمة فى تحويل الساقية إلى جنبه، وسئل ابن القاسم عن رجل كانت له خشبة فى حائط أدخلها بإذنه، ثم إن الذى له الحائط وقع بينه وبين الذى له الخشبة شحناء، فقال له: أخرج خشبتك من حائطى. قال مالك: ليس له أن يخرجها على وجه الضرر، ولكن ينظر فى ذلك فإن احتاج الرجل إلى حائطه لهدمه فهو أولى به، وروى ابن عبد الحكم عنه أنه قال: وإن(6/587)
أراد بيع داره فقال: انزع خشبك. فليس له ذلك. وقال مطرف وابن الماجشون: لا يقلع الخشب أبدًا وإن احتاج صاحب الجدار إلى جداره.
- بَاب صَبِّ الْخَمْرِ فِى الطَّرِيقِ
/ 24 - فيه: أَنَس، قَالَ: كُنْتُ سَاقِىَ الْقَوْمِ فِى مَنْزِلِ أَبِى طَلْحَةَ، وَكَانَ خَمْرُهُمْ يَوْمَئِذٍ الْفَضِيخَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مُنَادِيًا يُنَادِى: أَلاَ إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ، قَالَ: فَقَالَ لِى أَبُو طَلْحَةَ: اخْرُجْ فَأَهْرِقْهَا، فَخَرَجْتُ فَأَهْرَقْتُهَا، فَجَرَتْ فِى سِكَكِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: قَدْ قُتِلَ قَوْمٌ، وَهِىَ فِى بُطُونِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا (الآيَةَ. قال المهلب: إنما جاز هرق الخمر فى الطرق للسمعة، بهرقها والتشنيع، والائتمار لله فى رفضها والإعلان بنبذها، ولولا ذلك ما حسن هرقها فى الطريق، من أجل أذى الناس فى ممشاهم، ونحن نمنع من إراقة الماء الطاهر فى الطريق من أجل أذى الناس فى ممشاهم فكيف بالخمر.
- بَاب أَفْنِيَةِ الدُّورِ وَالْجُلُوسِ فِيهَا وَالْجُلُوسِ عَلَى الصُّعُدَاتِ
/ 25 - فيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام: (إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ) ، فَقَالُوا: مَا لَنَا بُدٌّ إِنَّمَا هِىَ مَجَالِسُنَا نَتَحَدَّثُ(6/588)
فِيهَا، قَالَ: (فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلاَ الْمَجَالِسَ، فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا) ، قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ؟ قَالَ: (غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلاَمِ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْىٌ عَنِ الْمُنْكَرِ) . قال الطبرى وغيره: فيه من الفقه وجوب غض البصر عن النظر إلى عورة مؤمن ومؤمنة، وعن جميع المحرمات، وكل ما تخشى الفتنة منه، وقد قال عليه السلام: (لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة) . وفيه: وجوب رد السلام على من سلم عليه، ولزوم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وكف الأذى، وقد روى عمر بن الخطاب هذا الحديث عن النبى - عليه السلام - وزاد فيه: (إغاثة الملهوف) قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: وفيه قطع الذرائع؛ لأن الجلوس ذريعة إلى تسليط البصر، وقلة القيام بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فلذلك نهى عنه. قال المهلب: وإنما يلزم المؤمن تغيير المنكر، وإغاثة الملهوف، وعون الضعيف ما دفعت الحضرة إليه، وليس عليه طلب ذلك، إنما عليه ما حضر منها. قال الطبرى: وفيه الدلالة على الندب إلى لزوم المنازل التى يسلم لازمها من رؤية ما يكره رؤيته، وسماع ما لا يحل له سماعه، مما يجب عليه إنكاره ومن معاونة مستغيث يلزمه إعانته، وذلك(6/589)
أن الرسول إنما أذن فى الجلوس بالأفنية والطرق بعد نهيه عنه إذا كان من يقوم بالمعانى التى ذكرها عليه السلام. وإذا كان ذلك كذلك بالأسواق التى تجمع المعانى التى أمر النبى - عليه السلام - الجالس بالطريق باجتنابها مع الأمور التى هى أوجب منها وألزم من ترك الكذب والحلف بالباطل وتحسين السلع بما ليس فيها، وغش المسلمين، وغير ذلك من المعانى التى لا يطيق القيام بما يلزمه فيها إلا من عصمه الله أحق وأولى بترك الجلوس فيها من الأفنية والطرق، وقد روى نحو قولنا عن جماعة من أهل العلم، روى هشام بن عروة، عن عبد الله بن الزبير قال: المجالس حلق الشيطان، إن يروا حقا لا يقوموا به، وإن يروا باطلا فلا يدفعوه. وقال عامر: كان الناس يجلسون فى مساجدهم، فلما قتل عثمان خرجوا إلى الطريق يسألون عن الأخبار. وقال سلمان: لا تكونن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها، فإنها معركة الشيطان، وبها ينصب رايته. وقال: السوق مبيض الشيطان ومفرخه. وقد يرخص فى الجلوس بالأفنية والطرق والأسواق قوم من أهل الفضل والعلم، ولعلهم إنما فعلوا ذلك؛ لأنهم قاموا بما عليهم فيه. قال أبو طلحة بن عبيد الله: مجلس الرجل بيان مروءة. وقال ابن عوف: مررت بعامر وهو جالس بفنائه. وقال ابن أبى خالد: رأيت الشعبى جالسًا فى الطريق. والصعدات: الطرق، عن صاحب العين.(6/590)
- بَاب الآبَارِ عَلَى الطُّرُقِ إِذَا لَمْ يُتَأَذَّ بِهَا
/ 26 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ عَلَيْهِ السَّلاَم قَالَ: (بَيْنَا رَجُلٌ بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ، ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا كَلْبٌ. . . .) الحديث. قال المهلب: هذا يدل أن حفر الآبار بحيث يجوز للحافر حفرها من أرض مباحة أو مملوكة له جائز، ولم يمنع ذلك لما فيه من البركة وتلافى العطشان، ولذلك لم يكن ضمانًا؛ لأنه قد يجوز مع الانتفاع بها أن يستضر بها ساقط بليل فيها أو تقع فيها ماشية، لكنه لما كان ذلك نادرًا وكانت المنفعة بها أكثر غلب حال الانتفاع على حال الاستضرار؛ فكانت جبارًا لا دية لمن هلك فيها.
- بَاب إِمَاطَةِ الأَذَى
وَقَالَ هَمَّامٌ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ، (تُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ) . قال المؤلف: قول أبى هريرة: (تميط الأذى عن الطريق صدقة) ليس هو من رأيه؛ لأن الفضائل لا تدرك بقياس، وإنما تؤخذ توقيفًا عن النبى - عليه السلام - وقد أسند مالك معناه من حديث أبى هريرة عن النبى - عليه السلام - أنه قال: (بينما رجل يمشى بطريق إذا وجد غصن شوك على الطريق فأخره؛ فشكر الله له فغفر له) . فإن قيل: كيف تكون إماطة الأذى عن الطريق صدقة؟ قيل: معنى الصدقة إيصال النفع إلى المتصدق عليه.(6/591)
فأما إماطة الأذى عن الطريق فقد تسبب إلى سلامة أخيه المسلم من ذلك الأذى، فكأنه قد تصدق عليه بالسلامة منه، فكان له على ذلك أجر الصدقة، وهذا كما جعل عليه السلام الإمساك عن الشر صدقة على نفسه. وإماطة الأذى وكل ما أشبهه حض على الاستكثار من الخير وأن لا يستقل منه شىء، وقد قال عليه السلام لأبى تميمة الهجيمى: (لا تحقرن من المعروف شيئًا، ولو أن تضع من دلوك فى إناء المستقى) .
- بَاب الْغُرْفَةِ وَالْعُلِّيَّةِ الْمُشْرِفَةِ فِى السُّطُوحِ وَغَيْرِهَا
/ 27 - فيه: أُسَامَةَ، أَشْرَفَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ قَالَ: (هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى؟ إِنِّى أَرَى مَوَاقِعَ الْفِتَنِ خِلاَلَ بُيُوتِكُمْ كَمَوَاقِعِ الْقَطْرِ) . / 28 - وفيه ابْن عَبَّاسٍ، لَمْ أَزَلْ حَرِيصًا عَلَى أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ عَنِ الْمَرْأَتَيْنِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، اللَّتَيْنِ، قَالَ اللَّهُ لَهُمَا: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا (فَحَجَجْتُ مَعَه، فَعَدَلَ وَعَدَلْتُ مَعَهُ بِالإِدَاوَةِ، فَتَبَرَّزَ حَتَّى جَاءَ، فَسَكَبْتُ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الإِدَاوَةِ، فَتَوَضَّأَ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَنِ الْمَرْأَتَانِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) اللَّتَانِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمَا: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا (؟ فَقَالَ: وَا عَجَبِى لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ عُمَرُ الْحَدِيثَ(6/592)
يَسُوقُهُ، فَقَالَ: إِنِّى كُنْتُ وَجَارٌ لِى مِنَ الأَنْصَارِ فِى بَنِى أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ، وَهِىَ مِنْ عَوَالِى الْمَدِينَةِ، وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَيَنْزِلُ يَوْمًا، وَأَنْزِلُ يَوْمًا، فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ مِنْ خَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الأَمْرِ وَغَيْرِهِ، وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَهُ، وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى الأَنْصَارِ إِذَا هُمْ قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَأْخُذْنَ مِنْ أَدَبِ نِسَاءِ الأَنْصَارِ، فَصِحْتُ عَلَى امْرَأَتِى، فَرَاجَعَتْنِى، فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِى، فَقَالَتْ: وَلِمَ تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ، فَوَاللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ليُرَاجِعْنَهُ، وَإِنَّ إِحْدَاهُنَّ لَتَهْجُرُهُ الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ، فَأَفْزَعَنِى، فَقُلْتُ: خَابَتْ مَنْ فَعَلَ مِنْهُنَّ بِعَظِيمٍ، ثُمَّ جَمَعْتُ عَلَىَّ ثِيَابِى، فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَقُلْتُ: أَىْ حَفْصَةُ، أَتُغَاضِبُ إِحْدَاكُنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَقُلْتُ: خَابَتْ وَخَسِرَتْ، أَفَتَأْمَنُ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ لِغَضَبِ رَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) فَتَهْلِكِينَ، لاَ تَسْتَكْثِرِى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَلاَ تُرَاجِعِيهِ فِى شَىْءٍ، وَلاَ تَهْجُرِيهِ، وَاسْأَلِينِى مَا بَدَا لَكِ، وَلاَ يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكَ هِىَ أَوْضَأَ مِنْكِ، وَأَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، يُرِيدُ عَائِشَةَ، وَكُنَّا تَحَدَّثْنَا أَنَّ غَسَّانَ تُنْعِلُ النِّعَالَ لِغَزْوِنَا، فَنَزَلَ صَاحِبِى يَوْمَ نَوْبَتِهِ، فَرَجَعَ عِشَاءً، فَضَرَبَ بَابِى ضَرْبًا شَدِيدًا، وَقَالَ: أَنَائِمٌ هُوَ؟ فَفَزِعْتُ، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ، وَقَالَ: حَدَثَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، قُلْتُ: مَا هُوَ أَجَاءَتْ غَسَّانُ؟ قَالَ: لاَ، بَلْ أَعْظَمُ مِنْهُ وَأَطْوَلُ،(6/593)
طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) نِسَاءَهُ، قَالَ: قَدْ خَابَتْ حَفْصَةُ وَخَسِرَتْ، كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ هَذَا يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ، فَجَمَعْتُ عَلَىَّ ثِيَابِى، فَصَلَّيْتُ صَلاَةَ الْفَجْرِ مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَدَخَلَ مَشْرُبَةً لَهُ، فَاعْتَزَلَ فِيهَا، فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَإِذَا هِىَ تَبْكِى، قُلْتُ: مَا يُبْكِيكِ، أَوَلَمْ أَكُنْ حَذَّرْتُكِ، أَطَلَّقَكُنَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَتْ: لاَ أَدْرِى هُوَ ذَا فِى الْمَشْرُبَةِ، فَخَرَجْتُ، فَجِئْتُ الْمِنْبَرَ، فَإِذَا حَوْلَهُ رَهْطٌ يَبْكِى بَعْضُهُمْ، فَجَلَسْتُ مَعَهُمْ قَلِيلاً، ثُمَّ غَلَبَنِى مَا أَجِدُ، فَجِئْتُ الْمَشْرُبَةَ الَّتِى هُوَ فِيهَا، فَقُلْتُ لِغُلاَمٍ لَهُ أَسْوَدَ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَدَخَلَ فَكَلَّمَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ: ذَكَرْتُكَ لَهُ، فَصَمَتَ فَانْصَرَفْتُ حَتَّى جَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الَّذِينَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، ثُمَّ غَلَبَنِى مَا أَجِدُ، فَجِئْتُ فَذَكَرَ مِثْلَهُ، فَجَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الَّذِينَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، ثُمَّ غَلَبَنِى مَا أَجِدُ فَجِئْتُ الْغُلاَمَ، فَقُلْتُ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، فَلَمَّا وَلَّيْتُ مُنْصَرِفًا، فَإِذَا الْغُلاَمُ يَدْعُونِى، قَالَ: أَذِنَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى رِمَالِ حَصِيرٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِرَاشٌ، قَدْ أَثَّرَ الرِّمَالُ بِجَنْبِهِ، مُتَّكِئٌ عَلَى وِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ: طَلَّقْتَ نِسَاءَكَ، فَرَفَعَ بَصَرَهُ إِلَىَّ، فَقَالَ: (لاَ) ، ثُمَّ قُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ: أَسْتَأْنِسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ رَأَيْتَنِى وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى قَوْمٍ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَذَكَرَهُ فَتَبَسَّمَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ قُلْتُ: لَوْ رَأَيْتَنِى وَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَقُلْتُ: لاَ يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ هِىَ أَوْضَأَ مِنْكِ، وَأَحَبَّ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، يُرِيدُ عَائِشَةَ، فَتَبَسَّمَ أُخْرَى، فَجَلَسْتُ حِينَ رَأَيْتُهُ تَبَسَّمَ،(6/594)
ثُمَّ رَفَعْتُ بَصَرِى فِى بَيْتِهِ، فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ فِيهِ شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ غَيْرَ أَهَبَةٍ ثَلاَثَةٍ، فَقُلْتُ: ادْعُ اللَّهَ فَلْيُوَسِّعْ عَلَى أُمَّتِكَ، فَإِنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ وَأُعْطُوا الدُّنْيَا، وَهُمْ لاَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ، وَكَانَ مُتَّكِئًا، فَقَالَ: (أَوَفِى شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتَغْفِرْ لِى، فَاعْتَزَلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ حِينَ أَفْشَتْهُ حَفْصَةُ إِلَى عَائِشَةَ، وَكَانَ قَدْ قَالَ: مَا أَنَا بِدَاخِلٍ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا مِنْ شِدَّةِ مَوْجِدَتِهِ عَلَيْهِنَّ حِينَ عَاتَبَهُ اللَّهُ، فَلَمَّا مَضَتْ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ، فَبَدَأَ بِهَا، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: إِنَّكَ أَقْسَمْتَ أَنْ لاَ تَدْخُلَ عَلَيْنَا شَهْرًا، وَإِنَّا أَصْبَحْنَا لِتِسْعٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً أَعُدُّهَا عَدًّا، فَقَالَ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ) ، وَكَانَ ذَلِكَ الشَّهْرُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأُنْزِلَتْ آيَةُ التَّخْيِيرِ، فَبَدَأَ بِى أَوَّلَ امْرَأَةٍ، فَقَالَ: (إِنِّى ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا وَلاَ عَلَيْكِ أَنْ لاَ تَعْجَلِى حَتَّى تَسْتَأْمِرِى أَبَوَيْكِ) ، قَالَتْ: قَدْ أَعْلَمُ أَنَّ أَبَوَىَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِى بِفِرَاقِكَ، ثُمَّ قَالَ إِنَّ اللَّهَ قَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ (، إِلَى قَوْلِهِ: (عَظِيمًا (قُلْتُ: أَفِى هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَىَّ، فَإِنِّى أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ، ثُمَّ خَيَّرَ نِسَاءَهُ، فَقُلْنَ: مِثْلَ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ. الغرف والسطوح وغيرها مباحة ما لم يطلع منها على حرمة أحد أو(6/595)
عورة له، قال المهلب: وفى حديث ابن عباس الحرص على العلم وخدمة الرجل الشريف للسلطان والعالم، وأنه لا ضعة عليه فى خدمته، وفيه الكلام فى العلم على كل حال، فى المشى والطرق والخلوات، فأما قوله: (واعجبًا لك) عجب من حرصه على سؤاله عما لا ينتبه إليه إلا الحريص على العلم من تفسير ما لا محكم فيه من القرآن. وقوله: (استقبل عمر الحديث) فيه أن المحدث قد يأتى بالحديث على وجهه ولا يختصره؛ لأنه قد كان يكتفى حين سأله ابن عباس عن المرأتين بما أخبره به من قوله: (عائشة وحفصة) . وقوله: (كنا نغلب النساء) يريد أن شدة المواطأة على النساء مذموم؛ لأن النبى سار بسيرة الأنصار فيهن وترك سيرة قومه قريش، وفيه موعظة الرجل ابنته وإصلاح خلقها لزوجها، وفيه الحزن والبكاء لأمور رسول الله وما يكرهه، والاهتمام بما يهمه، وفيه الاستئذان والحجابة للناس كلهم كان مع المستأذن عليه عيال أو لم يكن، وفيه الانصراف بغير صرف من المستأذن عليه. ومن هذا الحديث قال بعض العلماء: إن السكوت يحكم به كما حكم عمر بسكوت النبى عن صرفه له، وفيه التكرير بالاستئذان، وفيه أن للسلطان أن يأذن أو يسكت أو يصرف، وفيه تقلل النبى من الدنيا، وصبره على مضض ذلك، وكانت له عنه مندوحة، وفيه أنه يسئل السلطان عن فعله إذا كان ذلك مما يهم أهل طاعته، وفى قول النبى لعمر: (لا) رد لما أخبر به الأنصارى من طلاق نسائه،(6/596)
ولم يخبر عمر بما أخبر به الأنصارى ولا شكاه، لعلمه أنه لم يقصد للأخبار بخلاف القصة، وإنما هو وهم جرى عليه. وفى قوله: (أستأنس) استنزال السلطان والاستئناس بين يديه بالحديث، وأخذ إذنه فى الكلام، وفى تبسم النبى لعمر حين ذكر غلبة قريش لنسائها وتحكم نساء الأنصار عليهم: دليل أن المعنيين ليسا بمحرمين، وفيه الجلوس بين يدى السلطان وإن لم يأمر بذلك إذا استؤنس منه إلى انبساط خلق. وفيه: أنه لا يجب أن يتسخط أحد حاله ولا ما قسم الله له، ولا يستحقر نعمة الله عنده، ولا سابق فضله؛ لأنه يخاف عليه ضعف يقينه، وفيه أن المتقلل من الدنيا ليرفع طيباته إلى دار البقاء خير حالا ممن تعجلها فى الدنيا الفانية، والمتعجل لها أقرب إلى السفه، وفيه الاستغفار من السخط وقله الرضا، وفيه سؤال النبى (صلى الله عليه وسلم) الاستغفار، وكذلك يجبب أن يسأل أهل الفضل والخير الدعاء والاستغفار. وفيه: أن المرأة تعاقب على إفشاء سر زوجها، وعلى التحيل عليه بالأذى، والمنع من موافقته وشهواته بالتوبيخ لها بالقول، كما وبخ الله أزواج النبى على تظاهرهما عليه وإفشاء سره، وعاقبهن النبى بالإيلاء والاعتزال والهجران كما قال تعالى: (واهجروهن فى المضاجع (وفيه أن الشهر يكون تسعة وعشرين يومًا، فإنما يجرى فيه على الأهلة التى جعلها الله مواقيت للناس فى آجالهم.(6/597)
وفيه: الرجل إذا قدم من سفر أو طرأ على أزواجه أن يبدأ بمن شاء منهن، وأنه ليس عليه أن يبدأ من حيث بلغ قبل الخروج وفى نقض رتبة الدوران وابتدائه من حيث بدأ دليل أن القسمة بين النساء فيها توسعة، ويدل على ذلك قوله تعالى: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل (ومن أبيح له بعض الميل فقد رخص له فى التقصير عن العدل فى القسمة، وفيه أن المرأة الرشيدة لا بأس أن تشاور أبويها وذا الرأى من أهلها فى أمر نفسها ومالها؛ لأن أمر نفسها أخف من أمر مالها، وإذا كان النبى أمرها بالمشاورة فى أمر نفسها التى هى أحق بها من وليها فهى فى المال أولى بالمشاورة لا على أن المشاورة لازمة لها إذا كانت رشيدة كما كانت عائشة، وليس على من يتبين له رشد رأيه أن يشاور، ويسقط عنه الندب فيه. والمشربة: الغرفة، والأطم: حصن مبنى بالحجارة، وقال أبو عبيدة: رملت الحصير رملاً وأرملته إذا نسجته.
- بَاب مَنْ عَقَلَ بَعِيرَهُ عَلَى الْبَلاَطِ أَوْ فِى بَابِ الْمَسْجِدِ
/ 29 - فيه: جَابِر، دَخَلَت على النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) الْمَسْجِدَ، وَعَقَلْتُ الْجَمَلَ فِى نَاحِيَةِ الْبَلاَطِ، فَقُلْتُ: هَذَا جَمَلُكَ. . . . الحديث.(6/598)
قال المهلب: فيه أن للداخل فى المسجد رحابه وما حواليه مناخًا لبعيره ومحبسًا له، وفيه جواز إدخال الأمتعة والأثاث فى المساجد قياسًا على دخول البعير فيه، وفيه حجة لمالك والكوفيين فى طهارة أبوال الإبل وأرواثها، ورد على الشافعى فى قوله بنجاستها، وهذا خلاف لدليل الحديث، ولو كانت نجسة كما زعم ما جاز لجابر إدخال البعير فى المسجد، وحين أدخله فيه ورآه النبى - عليه السلام - لم يسوغه ذلك ولأنكره عليه، وأمره بإخراجه من المسجد خشية لما يكون منه الروث والبول إذا لا يؤمن حدوث ذلك منه، وعلى قول الشافعى لا يجوز إدخال البعير فى المسجد لنجاسة بوله وروثه، وعلى مذهب الآخرين يجوز إدخالها فيه لطهارة أبوالها وأرواثها، وقد تقصيت الحجة فى ذلك فى كتاب الطهارة فأغنى عن إعادته.
- بَاب الْوُقُوفِ وَالْبَوْلِ عِنْدَ سُبَاطَةِ قَوْمٍ
/ 30 - فيه: حُذَيْفَةَ، أَتَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، سُبَاطَةَ قَوْمٍ، فَبَالَ قَائِمًا. قال المهلب: السباطة: المزبلة، ولا حرج على أحد فى البول فيها وإن كانت لقوم بأعيانهم؛ لأنها أعدت لطرح الكناسات والنجاسات فيها. وقال أبو عبيد: السباطة نحو من الكناسة، وقد تقدم حكم البول قائمًا فى كتاب الطهارة.(6/599)
- بَاب مَنْ أَخَذَ الْغُصْنَ أَوْ مَا يُؤْذِى النَّاسَ فِى الطَّرِيقِ فَرَمَى بِهِ
/ 31 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِى بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ فَأَخَذَهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ) . قال المهلب: إماطة الأذى وكل ما يؤذى الناس فى الطرق مأجور عليه، وفيه: أن قليل الأجر قد يغفر الله به كثير الذنوب، وقد قال النبى: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) . وفيه: دليل أن طرح الشوك فى الطريق والحجارة والكناسة والمياه المفسدة للطرق وكل ما يؤذى الناس تخشى العقوبة عليه فى الدنيا والآخرة.
- بَاب إِذَا اخْتَلَفُوا فِى الطَّرِيقِ الْمِيتَاءِ وَهِىَ الرَّحْبَةُ تَكُونُ بَيْنَ الطَّرِيقِ ثُمَّ يُرِيدُ أَهْلُهَا الْبُنْيَانَ فَتُرِكَ مِنْهَا لِلطَّرِيق سَبْعَةَ أَذْرُعٍ
/ 32 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَضَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، إِذَا تَشَاجَرُوا فِى الطَّرِيقِ بِسَبْعَةِ أَذْرُعٍ. قال المهلب: هذا حكم من النبى فى الأفنية، إذا أراد أهل الأرض البنيان أن يجعل الطريق سبعة أذرع حتى لا يضر بالمارة عليها، وإنما جعلها سبعة أذرع لمدخل الأحمال والأثقال ومخرجها وتلاقها،(6/600)
ومدخل الركبان والرحال، ومطرح مما لا بد لهم من مطرحه عند الحاجة إليه، وما لا يجد الناس بدا من الارتفاق من أجله بطرقهم. قال الطبرى: والحديث على الوجوب عند العلماء للقضاء به، ومخرجه على الخصوص عندهم، ومعناه أن كل طريق يجعل سبعة أذرع، وما يبقى بعد ذلك لكل واحد من الشركاء فى الأرض قدر ما ينتفع به، ولا مضرة عليه فيه، فهى المراد بالحديث، وكل طريق يؤخذ لها سبعة أذرع ويبقى لبعض الشركاء من نصيبه بعد ذلك ما لا ينتفع به فغير داخل فى معنى الحديث. وقال غيره: هذا الحديث هو فى أمهات الطرق وما يكثر الاختلاف فيه والمشى عليه، وأما بنات الطرق فيجوز فى أفنيتها ما اتفقوا عليه، وإن كان أقل من سبعة أذرع. وروى ابن وهب عن ابن سمعان أن من أدرك من العلماء قالوا فى الطريق يريد أهلها تبيان عرضها: إن أهلها الذين هم أقرب الناس منها يقتطعونها بالجصص على قدر ما شرع فيها من ربعهم فيعطى صاحب الربع الواسع بقدره، وصاحب الصغيرة بقدره، ويتركون لطريق المسلمين ثمانية أذرع أو سبعة أذرع على ما روى عن النبى. واختلف أصحاب مالك فيمن أراد أن يبنى فى الفناء الواسع ولا يضر فيه بأحد بعد أن يترك للطريق سبعة أذرع أو ثمانية، فروى ابن وهب عن مالك أنه ليس له ذلك، وقال أصبغ: أكرهه، فإن ترك(6/601)
لم يعرض له، قد تركت فأفتى فيها أشهب قال: إذا كانت الطريق واسعة وأخذ منها يسيرًا لا ضرر فيه فلا بأس بذلك. قال ابن حبيب: وقول مالك أعجب إلى، لأن الطريق المنفعة فيه للناس عامة، وربما ضاق الطريق بأهله وبالدواب فيميل الراكب وصاحب الحمل عن الطريق إلى تلك الأفنية والرحاب فيتسع فيها، فليس لأهلها تغييرها عن حالها. وقول أصبغ وأشهب يعضده حديث أبى هريرة، وما وافق الحديث أولى مما خالفه، ففيه الحجة البالغة، ومن معنى هذا الباب ما ذكره ابن حبيب أن عمر بن الخطاب قضى بالأفنية لأرباب الدور، وتفسير هذا يعنى أنه قضى بالانتفاع بالمجالس والمرابط والمصاطب وجلوس الباعة فيها، وليس بأن تحاز بالبنيان والتحضير، وقد مر عمر بكير حداد فى السوق فأمر به فهدم، وقال: يضيقون على الناس. وقال أبو عمرو الشيبانى: الميتاء: أعظم الطريق، وهى التى يكثر إتيان الناس عليها. قال حميد بن ثور: إذا انضم ميتاء الطريق عليهما مضت قدمًا موج الجذام زهوق(6/602)
30 - بَاب النُّهْبَى بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهِ
وَقَالَ عُبَادَةُ: بَايَعْنَا النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ لاَ نَنْتَهِبَ / 33 - وفيه: عَبْدَاللَّهِ بْنَ يَزِيدَ، نَهَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ النُّهْبَى، وَالْمُثْلَةِ. 2561 / 34 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَقَالَ عليه السَّلام: (. . . . وَلاَ يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ) . الانتهاب الذى أجمع العلماء على تحريمه هو ما كانت العرب عليه من الغارات وانطلاق الأيدى على أموال الناس بالباطل، فهذه النهبة لا ينتهبها مؤمن، كما لا يسرق ولا يزنى مؤمن، يعنى مستكمل الإيمان، على هذا وقعت البيعة فى حديث عبادة فى قوله: (بايعنا رسول الله ألا ننتهب) يعنى: ألا نغير على المسلمين فى أموالهم. قال ابن المنذر: وفسر الحسن والنخعى هذا الحديث، فقالا: النهبة المحرمة أن ينتهب مال الرجل بغير إذنه وهو له كاره. وهو قول قتادة. قال أبو عبيد: وهذا وجه الحديث على ما فسره النخعى والحسن، وأما النهبة المكروهة فهو ما أذن فيه صاحبه للجماعة وأباحة لهم وغرضه تساويهم فيه أو مقاربة التساوى، فإذا كان القوى منهم يغلب الضعيف على ذلك ويحرمه، فلم تطب نفس صاحبه بذلك الفعل. وقد اختلف العلماء فيما ينثر على رءوس الصبيان فى الأعراس فتكون فيه النهبة فكرهه مالك والشافعى، وأجازة الكوفيون، قال الأبهرى: وإنما كرهه، لأنه قد يأخذ منه من لا يحب صاحب الشىء أخذه ويحب أخذ غيره له.(6/603)
قال ابن المنذر: إلا أنه لا تجرح بذلك شهادة أحد، وأنما أكرهه، لأن من أخذه إنما أخذه بفضل قوة وقلة حياء، ولم يقصد به هو وحده، إنما قصد به الجماعة، ولا يعرف حظه من حظ غيره، فهو خلسة وسحت. واحتج الكوفيون بأن النبى - عليه السلام - لما نحر الهدى قال: (دونكم فانتهبوا) ، قال ابن المنذر: هذا الحديث حجة فى إجازة أخذ ما نثر فى الملاك وغيره، وأبيح أخذه، لأن المبيح لهم ذلك قد علم اختلاف فعلهم فى الأخذ وليس فى البدن التى أباحها النبى - عليه السلام - لأصحابه معنى إلا وهو موجود فى النثار - والله أعلم.
31 - بَاب كَسْرِ الصَّلِيبِ وَقَتْلِ الْخِنْزِيرِ
/ 35 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ) ؟ . قال المهلب: هذا وعد من النبى - عليه السلام - بنزول عيسى ابن مريم إلى الأرض، وفيه من الفقه كسر نصب المشركين وجميع الأوثان، وإنما قصد إلى كسر الصليب وقتل الخنزير من أجل أنهما فى دين النصارى المغترين المعتدين فى شريعتهم إليه، فأخبر النبى أن عيسى سيغير ما نسبوه إليه كما غيره محمد وأعلمهم(6/604)
أنهم على الباطل فى ذلك، فدل هذا أن عيسى يأتى بتصحيح شريعة محمد حاكمًا بالعدل بين أهلها. وأما قوله: (ويضع الجزية) ، فمعناه يتركها فلا يقبلها، لأنه إنما قبلناها نحن لحاجتنا إلى المال، وليس يحتاج عيسى عند خروجه إلى مال، لأنه يفيض فى أيامه حتى لا يقبله أحد، ولا يقبل إلا الإيمان بالله وحده، وأما الساعة فلو كسر صليب لأهل الكتاب المعاهدين بين أظهرنا لكان ذلك تعديا، لأن على ذلك يؤدون الجزية، وإن كسره لأهل الحرب كان مشكوراُ، وكذلك قتل الخنزير.
32 - بَاب هَلْ تُكْسَرُ الدِّنَانُ الَّتِى فِيهَا الْخَمْرُ أَوْ تُخَرَّقُ الزِّقَاقُ
، فَإِنْ كَسَرَ صَنَمًا أَوْ صَلِيبًا أَوْ طُنْبُورًا، أَوْ مَا لاَ يُنْتَفَعُ بِخَشَبِهِ وَأُتِىَ شُرَيْحٌ فِى طُنْبُورٍ كُسِرَ فَلَمْ يَقْضِ فِيهِ بِشَىْءٍ. / 36 - فيه: سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَع، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، رَأَى نِيرَانًا تُوقَدُ يَوْمَ خَيْبَرَ، قَالَ: (عَلَى مَا تُوقَدُ هَذِهِ النِّيرَانُ؟) قَالُوا: عَلَى الْحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ، قَالَ: (اكْسِرُوهَا وَأَهْرِقُوهَا) ، قَالُوا: أَلاَ نُهَرِيقُهَا وَنَغْسِلُهَا، قَالَ: (اغْسِلُوا) . / 37 - وفيه: ابْن مَسْعُود، دَخَلَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، مَكَّةَ، وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلاَثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ نُصُبًا، فَجَعَلَ يَطْعُنُهَا بِعُودٍ فِى يَدِهِ، وَجَعَلَ يَقُولُ: (جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ (الآيَةَ. / 38 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّهَا كَانَتِ اتَّخَذَتْ عَلَى سَهْوَةٍ لَهَا سِتْرًا فِيهِ تَمَاثِيلُ،(6/605)
فَهَتَكَهُ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فَاتَّخَذَتْ مِنْهُ نُمْرُقَتَيْنِ فَكَانَتَا فِى الْبَيْتِ يَجْلِسُ عَلَيْهِمَا. قال: أما كسر الدنان التى فيها الخمر فلا معنى له، لأنه إضاعة المال، وما طهره الماء جاز الانتفاع به، ألا ترى أن النبى قال فى القدور: (اغسلوها) وأما الدنان فرأى مالك أن الماء لا يطهرها لما تداخلها وغاص فيها من الخمر، ورأى غيره تطهيرها وغسلها بالماء، لأن الماء أيضًا يغوص فيها، ويطهر ما غاص فيها من الخمر. وقال الطبرى: فى حديث ابن مسعود من الفقه كسر آلات الباطل وما لا يصلح إلا لمعصية الله كالطنابير والعيدان والمزامير والبرابط التى لا معنى لها إلا التلهى بها عن ذكر الله عز وجل، والشغل بها عما يحبه إلى ما يسخطه أن يغيره عن هيئته المكروهة إلى ما خالفها من الهيئات التى يزول عنها المعنى المكروه، وذلك أنه عليه السلام كسر الأصنام، والجوهر الذى فيه لا شك أنه يصلح إذا غير عن الهيئة المكروهة لكثير من منافع بنى آدم الحلال وقد روى عن جماعة من السلف كسر آلات الملاهى، وروى سفيان عن منصور، عن إبراهيم قال: كان أصحاب عبد الله يستقبلون الجوارى معهن الدفوف فى الطريق فيخرقونها. وروى نافع عن ابن عمر أنه كان إذا وجد أحدًا يلعب بالنرد ضربه وأمر بها فكسرت. قال المهلب: وما كسر من آلات الباطل وكان فى خشبها بعد كسرها منفعة فصاحبها أولى بها مكسورة، إلا أن يرى الإمام حرقها بالنار على معنى التشريد والعقوبة على وجه الاجتهاد، كما(6/606)
فعل عمر حين أحرق دار رويشد على بيع الخمر، وقد هم النبى بتحريق دور من يتخلف عن صلاة الجماعة، وهذا أصل فى العقوبة فى المال إذا رأى ذلك. وهتك النبى الستر الذى فيه الصور دليل على إفساد الصور وآلات الملاهى. وقال ابن المنذر: فى معنى الأصنام الصور المتخذة من المدد والخشب وشبهها، وكل ما يتخذ الناس مما لا منفعة فيه إلا للهو المنهى عنه فلا يجوز بيع شىء منه إلا الأصنام التى تكون من الذهب والفضة والحديد والرصاص إذا غيرت عما هى عليه وصارت نقراُ، أو قطعا، فيجوز بيعها والشراء بها.
33 - بَاب مَنْ قَاتَلَ دُونَ مَالِهِ فقتل
/ 39 - فيه: ابْن عَمْرٍو، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ) . إنما أدخل هذا الحديث فى هذه الأبواب ليريك أن للإنسان أن يدفع عن نفسه وماله، فإذا كان شهيداُ إذا قتل فى ذلك، كان إذا قتل من أراده فى مدافعته له عن نفسه لا دية عليه فيه، ولا قود. قال المهلب: وكذلك كل من قاتل على ما يحل له القتال عليه من أهل أو دين فهو كمن قاتل دون نفسه وماله فلا دية عليه ولا تبعة، ومن أخذ فى ذلك بالرخصة وأسلم المال أو الأهل أو النفس فأمره إلى الله، والله يعذره ويأجره، ومن أخذ فى ذلك بالشدة وقتل كانت له الشهادة بهذا الحديث.(6/607)
وأما قول أهل العلم فى هذا الباب فذكر ابن المنذر قال: روينا عن جماعة من أهل العلم أنهم رأوا قتال اللصوص ودفعهم عن أنفسهم وأموالهم، وقد أخذ ابن عمر لصا فى داره فأصلت عليه السيف، قال سالم: فلولا أنا نهيناه لضربه به. وقال النخعى: إذا خفت أن يبدأك اللص فابدأه. وقال الحسن البصرى: إذا طرق اللص بالسلاح فاقتله، وروينا هذا المعنى عن غير واحد من المتقدمين، وسئل مالك عن القوم يكونون فى السفر فتلقاهم اللصوص، قال: يناشدونهم الله، فإن أبوا وإلا قوتلوا. وعن الثورى وابن المبارك قال: يقاتلونهم ولوعلى دانق. وقال أحمد بن حنبل: إذا كان اللص مقبلا، وأما موليًا فلا. وعن إسحاق مثله. وقال أبو حنيفة فى رجل دخل على رجل ليلا فسرقه ثم خرج بالسرقة من الدار، فاتبعه الرجل فقتله، قال: لا شىء عليه. وكان الشافعى يقول: من أريد ماله فى مصر أو صحراء، أو أريد حريمه فالاختيار له أن يكلمه ويستغيث، فإن منع أو امتنع لم يكن له قتاله، فإن أبى أن يمتنع من قتله من أراده، فله أن يدفعه عن نفسه وعن ماله، وليس له عمد قتله، فإن أبى ذلك على نفسه فلا عقل عليه ولا قود ولا كفارة. قال ابن المنذر: والذى عليه عوام أهل العلم أن للرجل أن يقاتل عن نفسه وماله وأهله إذا أريد ظلمًا، لقوله عليه السلام: (من قتل دون ماله فهو شهيد) ، ولم يخص وقتًا دون وقت، ولا حالا دون حال إلا السلطان، فإن كل من نحفظ عنهم من علماء الحديث(6/608)
كالمجمعين على أن كل من لم يمكنه أن يدفع عن نفسه وماله إلا بالخروج على السلطان ومحاربته ألا يفعل للآثار التى جاءت عن النبى - عليه السلام - بالأمر بالصبر على ما يكون منه من الجور والظلم، وترك القيام عليهم ما أقاموا الصلاة. وما قلناه من إباحة أن يدفع الرجل عن نفسه وماله قول عوام أهل العلم إلا الأوزاعى، فإنه كان يفرق بين الحال الذى للناس فيها جماعة وإمام وبين حال الفتنة التى لا جماعة فيها ولا إمام، فقال فى تفسير قوله: (من قتل دون ماله فهو شهيد) إذا أقلعت الفتنة عن الجماعة، وأمنت السبل، وحج البيت، وجوهد العدو، وقعد اللص لرجل يريد دمه أو ماله قاتله، وإن كان الناس فى معمعة فتنة وقتال، فدخل عليه يريد دمه وماله اقتدى بمحمد بن مسلمة.
34 - بَاب إِذَا كَسَرَ قَصْعَةً أَوْ شَيْئًا لِغَيْرِهِ
/ 40 - فيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السلام، كَانَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ خَادِمٍ بِقَصْعَةٍ فِيهَا طَعَامٌ، فَضَرَبَتْ بِيَدِهَا، فَكَسَرَتِ الْقَصْعَةَ، فَضَمَّهَا وَجَعَلَ فِيهَا الطَّعَامَ، وَقَالَ: (كُلُوا) ، وَحَبَسَ الرَّسُولَ وَالْقَصْعَةَ حَتَّى فَرَغُوا، فَدَفَعَ الْقَصْعَةَ الصَّحِيحَةَ، وَحَبَسَ الْمَكْسُورَةَ. قال المهلب: روى أن صفية هى التى صنعت الطعام لرسول الله، وروى أنها أم سلمة وأن الكاسرة عائشة. واختلف العلماء فيمن استهلك عروضاُ أو حيوانًا، فذهب الكوفيون والشافعى وجماعة إلى أن عليه مثل ما استهلك، قالوا: ولا يقضى(6/609)
بالقيمة إلا عند عدم المثل - واحتجوا بحديث القصعة، قالوا: ألا ترى أن الرسول ضمن القصعة بقصعة. وذهب مالك إلى أنه من استهلك شيئًا من العروض أو الحيوان فعليه قيمته يوم استهلكه، وقال: القيمة أعدل فى ذلك. واحتج بأن النبى - عليه السلام - قضى فيمن أعتق شركاُ له فى عبد بقيمة حصة شريكه دون حصة من عبد مثله، لأن ضبط المثل بالقيمة أخص منه فى الحلقة والمثل لا يوصل إليه إلا بالاجتهاد، وكما أن القيمة تدرك بالاجتهاد، وقيمة العدل فى الحقيقة مثل، وقد تناقض العراقيون فى قوله تعالى: (فجزاء مثل ما قتل من النعم (وقالوا: القيمة مثل فى هذا الموضع. واتفق مالك والكوفيون والشافعى وأبو ثور فيمن استهلك ذهبًا أو ورقًا أو طعامًا مكيلا، أو موزونًا، أن عليه مثل ما استهلك فى صفته ووزنه وكيله، وقال مالك، وفرق بين الذهب والفضة والطعام، وبين الحيوان والعروض العمل المعمول به. قال ابن المنذر: ولا أعلم فى هذه المسألة خلافًا.
35 - بَاب إِذَا هَدَمَ حَائِطًا يَبْنىِّ مِثْلَهُ
/ 41 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (كَانَ رَجُلٌ فِى بَنِى إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ: جُرَيْجٌ الْرَّاهِب يُصَلِّى، فَجَاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ، فَأَبَى أَنْ يُجِيبَهَا، فَقَالَ: أُجِيبُهَا أَوْ أُصَلِّى، ثُمَّ أَتَتْهُ، فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ لاَ تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ وُجُوهَ الْمُومِسَاتِ، وَكَانَ جُرَيْجٌ فِى صَوْمَعَتِهِ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: لاَفْتِنَنَّ(6/610)
جُرَيْجًا، فَتَعَرَّضَتْ لَهُ، فَكَلَّمَتْهُ فَأَبَى، فَأَتَتْ رَاعِيًا فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا، فَوَلَدَتْ غُلاَمًا، فَقَالَتْ: هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ، فَأَتَوْهُ وَكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ، فَأَنْزَلُوهُ وَسَبُّوهُ، فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى، ثُمَّ أَتَى الْغُلاَمَ، فَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ يَا غُلاَمُ؟ قَالَ: الرَّاعِى، قَالُوا: نَبْنِى صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: لاَ إِلاَ مِنْ طِينٍ) . وذهب الكوفيون والشافعى وأبو ثور إلى أن من هدم حائطا لرجل فإنه يبنى مثله على ظاهر هذا الحديث، واختلف قول مالك فى ذلك، فروى ابن القاسم عنه فى العتبية: فى رجل له خليج يجرى تحت جدار رجل آخر، فجرى السيل فيه فهدمه، قال مالك: أرى أن يقضى يبنيانه على صاحب الخليج الذى أفسد حائط الرجل. وقال فى المدونة: ما انهدم من الربع بيد الغاصب، وإن لم يكن بسببه فعليه قيمته يوم الغصب. وقوله فى مسألة الخليج أشبه بالحديث. قال المهلب: وفى هذا الحديث من الفقه المطالبة بالدعوى، كما طالبت بنو إسرائيل جريجًا بما ادعته المرأة عليه، وفيه استنقاذ عباد الله تعالى لصالح عباده وأوليائه عند جور العامة وأهل الجهل عليهم بآية يريهم الله إياها، فإن كانت عرض فى الإسلام فبكرامة يكرمه الله بها، وسبب يسببه له، لا بخرق عادة، ولا قلب عين، وإنما كانت الآيات فى بنى إسرائيل؛ لأن النبوة كانت ممكنة فيهم غير ممتنعة عليهم. ولا نبى بعد محمد، فليس يجرى من الآيات بعده ما يكون خرقًا 612 للعادة ولا قلب العين، إنما تكون كرامة لأوليائه مثل: دعوة مجابة، ورؤيا صالحة، وبركة ظاهرة، وفضل بين توفيق من الله إلى الإبرار مما اتهم به الصالحون، وامتحن به المتقون. وفى دعاء أمه عليه وهو فى الصلاة دليل أن دعاء الوالدين إذا كان بنية خالصة أنه قد يجاب، وإن كان فى حال ضجر وحرج ولم يكونا على صواب؛ لأنه قد أجيب دعاء أمه بأن امتحن مع المرأة التى كذبت عليه، إلا أنه تعالى استنقذه بمراعاته لأمر ربه، فابتلاه وعافاه، وكذلك يجب للإنسان أن يراعى أمر ربه ودينه، ويقدمه على أمور دنياه فتحمد عاقبته. وقوله: (فتوضأ وصلى) فيه رد على من قال أن هذه الأمة مخصوصة بالوضوء من بين سائر الأمم، وأنهم يأتون لذلك غرًا محجلين يوم القيامة، فبان بهذا الحديث أن الوضوء كان فى غير هذه الأمة، ووضح أن الذى خصت به هذه الأمة من بين سائر الأمم إنما هو الغرر والتحجيل ليمتازوا بذلك من بين سائر الأمم، وقد جاء فى حديث سارة حين أخذها الكافر من إبراهيم أنها قامت فتوضأت وصلت حتى غط الكافر برجله، ذكره البخارى فى كتاب الإكراه، وقد روى عن الرسول أنه توضأ ثلاثًا وقال: (هذا وضوئى ووضوء الأنبياء قبلى) فثبت بهذا كله أن الوضوء مشروع قبل أمه محمد (صلى الله عليه وسلم) . تم بحمد الله الجزء السادس، ويليه بإذن الله الجزء السابع، وأوله: (كتاب الشركة) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(6/611)
الجزء السابع(7/4)
بسم الله الرحمن الرحيم
41 - كِتَاب الشَّرِكَةِ
- بَاب مَا جَاءَ فِى الشَّرِكَةِ فِى الطَّعَامِ وَالنَّهْدِ وَالْعُرُوضِ وَكَيْفَ قِسْمَةُ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ مُجَازَفَةً أَوْ قَبْضَةً قَبْضَةً لَمَّا لَمْ يَرَ الْمُسْلِمُونَ فِى النَّهْدِ بَأْسًا أَنْ يَأْكُلَ هَذَا بَعْضًا وَهَذَا بَعْضًا، وَكَذَلِكَ مُجَازَفَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْقِرَانُ فِى التَّمْرِ.
/ 1 - فيه: جَابِر: بَعَثَ النّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، بَعْثًا قِبَلَ السَّاحِلِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ، وَهُمْ ثَلاَثُمِائَةٍ، وَأَنَا فِيهِمْ، فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ فَنِىَ الزَّادُ، فَأَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِأَزْوَادِ ذَلِكَ الْجَيْشِ، فَجُمِعَ ذَلِكَ كُلُّهُ، فَكَانَ مِزْوَدَىْ تَمْرٍ، فَكَانَ يُقَوِّتُنَا كُلَّ يَوْمٍ قَلِيلاً قَلِيلاً حَتَّى فَنِىَ، فَلَمْ يَكُنْ يُصِيبُنَا إِلاَ تَمْرَةٌ تَمْرَةٌ، فَقُلْتُ: وَمَا تُغْنِى تَمْرَةٌ؟ قَالَ: لَقَدْ وَجَدْنَا فَقْدَهَا حِينَ فَنِيَتْ، قَالَ: ثُمَّ انْتَهَيْنَا إِلَى الْبَحْرِ، فَإِذَا حُوتٌ مِثْلُ الظَّرِبِ، فَأَكَلَ مِنْهُ ذَلِكَ الْجَيْشُ ثَمَانِىَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، ثُمَّ أَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِضِلَعَيْنِ مِنْ أَضْلاَعِهِ فَنُصِبَا، ثُمَّ أَمَرَ بِرَاحِلَةٍ فَرُحِلَتْ، ثُمَّ مَرَّتْ تَحْتَهُمَا، فَلَمْ تُصِبْهُمَا. / 2 - وفيه: سَلَمَةَ: خَفَّتْ أَزْوَادُ الْقَوْمِ وَأَمْلَقُوا، فَأَتَوُا النَّبِىَّ، عَليه السَّلام، فِى نَحْرِ إِبِلِهِمْ، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَلَقِيَهُمْ عُمَرُ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: مَا بَقَاؤُكُمْ بَعْدَ(7/5)
إِبِلِكُمْ؟ فَدَخَلَ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: مَا بَقَاؤُهُمْ بَعْدَ إِبِلِهِمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : نَادِ فِى النَّاسِ يَأْتُونَ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ، فَبُسِطَ لِذَلِكَ نِطَعًا، وَجَعَلُوهُ عَلَى ذَلِك النِّطَعِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَدَعَا وَبَرَّكَ عَلَيْهِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ بِأَوْعِيَتِهِمْ، فَاحْتَثَى النَّاسُ حَتَّى فَرَغُوا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَ اللَّهُ وَأَنِّى رَسُولُ اللَّهِ) . / 3 - وفيه: رَافِعَ، كُنَّا نُصَلِّى مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) الْعَصْرَ، فَنَنْحَرُ جَزُورًا، فَيُقْسَمُ عَشْرَ قِسَمٍ، فَنَأْكُلُ لَحْمًا نَضِيجًا قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ. / 4 - وفيه: أَبُو مُوسَى: قَالَ النَّبىُّ، عَلَيْهِ السَّلام: (إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِى الْغَزْوِ، وَقَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ، جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِى ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِى إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّى وَأَنَا مِنْهُمْ) . النهد: ما يجمعه الرفقاء من مال، أو طعام، على قدر فى الرفقة، ينفقونه بينهم، وقد تناهدوا عن صاحب العين. وقال ابن دريد: يقال من ذلك: ناهد القوم الشىء، تناولوه بينهم. وقال المهلب: هذه القسمة لا تصلح إلا فيما جعل للأكل خاصة؛ لأن طعام النهد وشبهه لم يوضع للآكلين على أنهم يأكلون بالسواء، وإنما يأكل كل واحد على قدر نهمته، وقد يأكل الرجل أكثر من غيره، وهذه القسمة موضوعة بالمعروف، وعلى طريقة بين الآكلين، ألا ترى جمع أبى عبيدة بقية أزواد الناس، ثم شركهم فيها بأن قسم لكل واحد منهم، وقد كان فيهم من لم يكن له بقية طعام، وقد أعطى بعضهم(7/6)
أقل مما كان بقى له ولآخر أكثر، وكذلك فى حديث سلم قسم النبى (صلى الله عليه وسلم) بينهم بالاحتثاء، وهو غير متساو. وهذا الفعل للنبى (صلى الله عليه وسلم) هو الذى امتثل أبو عبيدة فى جمعه للأزواد، وإنما يكون هذا عند شدة المجاعة، فللسلطان أن يأمر الناس بالمواساة ويجبرهم على ذلك، ويشركهم فيما بقى من أزوادهم أحياء لإرماقهم وإبقاء لنفوسهم، وفيه أن للإمام أن يواسى بين الناس فى الأقوات فى الحضر بثمن وبغير ثمن، كما له فعل ذلك فى السفر. وقد استدل بعض العلماء بهذا الحديث، وقال: إنه أصل فى ألا يقطع سارق فى مجاعة؛ لأن المواساة واجبة للمحتاجين، وقد تقدم كثير من معانى هذا الحديث فى باب حمل الزاد فى الغزو فى كتاب الجهاد. وفى حديث رافع: قسمة اللحم بالتحرى بغير ميزان؛ لأن ذلك من باب المعروف، وهو موضوع للأكل، وأما قسمة الذهب والفضة مجازفة، فلا تجوز بإجماع الأمة؛ لتحريم التفاضل فى كل واحد منهما، وإنما اختلف العلماء فى قسمة الذهب مع الفضة مجازفة، أو بيع ذلك مجازفة، فكرهه مالك، ورآه من بيع الغرر والقمار، ولم يجزه. وأما الكوفيون، والشافعى، وجماعة من العلماء، فأجازوا ذلك؛ لأن الأصل فى الذهب بالفضة جواز التفاضل، فلا حرج فى بيع الجزاف من ذلك وقسمته، وكذلك قسمة البر مجازفة لا تجوز، كما لا يجوز بيع جزاف بُر ببر ونحوه مما حرم فيه التفاضل، وما يجوز فيه التفاضل، فإنما الربا فيه فى النسيئة خاصة. وأملق الرجل: افتقر، ومنه قوله تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم(7/7)
خشية إملاق} [الإسراء: 31] ، أى خشى الفقر، ومثله أرملوا، يقال: أرمل القوم، فنى زادهم.
- بَاب مَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ فِى الصَّدَقَةِ
/ 5 - فيه: أَنَس، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُ فَرِيضَةَ الصَّدَقَةِ الَّتِى فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ، فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ) . فقه هذا الباب أن الشريكين إذا كان رأس مالهما سواء، فهما شريكان فى الربح، فمن أنفق من مال الشركة أكثر مما أنفق صاحبه تراجعا عند أخذ الربح بقدر ما أنفق كل واحد منهما، فمن أنفق قليلاً رجع على من أنفق أكثر منه؛ لأن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، لما أمر الخليطين فى الغنم بالتراجع بينهما بالسواء وهما شريكان، دل ذلك على أن كل شريك فى معناهما.
3 - بَاب قِسْمَةِ الْغَنَمِ
/ 6 - فيه رَافِع، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) بِذِى الْحُلَيْفَةِ، فَأَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ، فَأَصَابُوا إِبِلاً وَغَنَمًا، قَالَ: وَكَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فِى أُخْرَيَاتِ الْقَوْمِ، فَعَجِلُوا وَذَبَحُوا وَنَصَبُوا الْقُدُورَ، فَأَمَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِالْقُدُورِ فَأُكْفِئَتْ، ثُمَّ قَسَمَ، فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنَ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ، فَنَدَّ بَعِيرٌ، فَطَلَبُوهُ، فَأَعْيَاهُمْ. . . الحديث.(7/8)
وترجم له باب إذا عدل عشرة من الغنم بجزور فى القسمة، وقال فيه: فعدل عشرة من الغنم بجزور. أجاز قسم الغنم والبقر والإبل بغير تقويم: مالك، والكوفيون، وأبو ثور، إذا كان ذلك على التراضى. وقال الشافعى: لا يجوز قسم شىء من الحيوان بغير تقويم، وحجة من أجاز ذلك أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، قسم الغنائم، وكان أكثر غنائم خيبر الإبل والغنم، ولم يُذكر فى شىء من ذلك تقويم. قالوا: وتعديل الغنم بالغنم، والبقر بالبقر، والإبل بالإبل جائز على التراضى فى القسمة، ولا ربا يدخلها؛ لأنه يجوز فيها التفاضل يدًا بيد. ومن حجة الشافعى أن قسمة النبى (صلى الله عليه وسلم) الغنم مع الإبل إنما كانت على طريق القيمة، ألا ترى أنه عدل عشرة من الغنم ببعير، وهذا هو معنى التقويم.
4 - بَاب الْقِرَانِ فِى التَّمْرِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ أَصْحَابَهُ
/ 7 - فيه: ابْن عُمَر، نَهَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يَقْرُنَ الرَّجُلُ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ جَمِيعًا حَتَّى يَسْتَأْذِنَ أَصْحَابَهُ. قال: النهى عن القران فى التمر عند العلماء من باب حسن الأدب فى الأكل؛ لأن القوم الذين وضع بين أيديهم التمر كالمتساوين فى أكله، فإذا استأثر أحدهم بأكثر من صاحبه لم يحمد له(7/9)
ذلك، ومن هذا الباب جعل أهل العلم النهى عن النهبة فى طعام النثر فى الأعراس وغيرها، لما فيه من سوء الأدب والاستئثار بما لا تطيب عليه نفس صاحب الطعام. وقال أهل الظاهر: إن النهى عن القران على الوجوب لا على حسن الأدب، وفاعل ذلك عاص لله إذا كان عالمًا بالنهى. ولا نقول أنه أكل حرامًا؛ لأن أصله الإباحة جملة، والدليل على أنه على حسن الأدب لا على الوجوب أن ما وضع بين أيدى الناس للأكل، فإنما سبيله سبيل المكارمة لا سبيل التشاح، لاختلاف الناس فى الأكل، فبعضهم يكفيه اليسير، وبعضهم لا يكفيه أضعافه، فلو كانت سهماتهم، سواء لما ساغ لمن لا يشبعه اليسير أن يأكل من مثل نصيب من يشبعه اليسير، ولما لم يتشاح الناس فى هذا المقدار علم أن سبيل هذا المكارمة، وليس على الوجوب، والله أعلم.
5 - بَاب تَقْوِيمِ الأَشْيَاءِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ بِقِيمَةِ عَدْلٍ
/ 8 - فيه: ابْن عُمَر، قَالَ: قَالَ النّبِىّ، عَلَيهِ السَّلام: (مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ فِى عَبْدٍ، أَوْ شِرْكًا لَهُ، أَوْ قَالَ: نَصِيبًا، وَكَانَ لَهُ مال يَبْلُغُ ثَمَنَهُ بِقِيمَةِ الْعَدْلِ، فَهُوَ عَتِيقٌ، وَإِلاَ فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ) .(7/10)
/ 9 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ أَعْتَقَ شَقِصًا لَهُ مِنْ مَمْلُوكِهِ فَعَلَيْهِ خَلاَصُهُ فِى مَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ قُوِّمَ الْمَمْلُوكُ قِيمَةَ عَدْلٍ، ثُمَّ اسْتُسْعِىَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ) . قال: اختلف العلماء فى قسمة الرقيق، فذهب أبو حنيفة والشافعى إلى أنه لا يجوز قسمته إلا بعد التقويم، وحجتهم حديث ابن عمر، وأبى هريرة، أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، قال: (من أعتق شقصًا له من عبد قوم عليه قيمة عدل) ، قالوا: فأجاز، عَلَيْهِ السَّلام، تقويمه فى البيع للعتق، وكذلك تقويمه فى القسمة. وذهب مالك، وأبو يوسف، ومحمد، إلى أنه تجوز قسمة الرقيق بغير تقويم إذا تراضوا على ذلك، وحجتهم أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، قسم غنائم حنين، وكان أكثرها السبى والماشية، لا فرق بين الرقيق وسائر الحيوان، ولم يُذكر فى شىء من السبى تقويم، وتناقض أبو حنيفة، فأجاز قسم الإبل والبقر والغنم بغير تقويم، وزعم أن الفرق بين الرقيق وسائر الحيوان أن اختلاف الرقيق متفاوت، وهذا ليس بشىء؛ لأن القسمة بيع من البيوع، وكل بيع صحيح جائز إذا انعقد على التراضى. ولا خلاف بين العلماء أن قسمة العروض وسائر الأمتعة بعد التقويم جائزة، وإنما اختلفوا فى قسمتها بغير تقويم، فأجاز ذلك مالك، والكوفيون، وأبو ثور، إذا كان ذلك على سبيل التراضى، ومنع من ذلك الشافعى، وقال: لا يجوز قسم شىء من ذلك إلا بعد التقويم قياسًا على حديث ابن عمر فى تقويم العبد.(7/11)
6 - بَاب هَلْ يُقْرَعُ فِى الْقِسْمَةِ وَالاسْتِهَامِ
/ 10 - فيه: النُّعْمَانَ بْن بَشِير، قَالَ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام: (مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ، وَالْوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا، وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِى أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِى نَصِيبِنَا خَرْقًا، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ، وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا) . القرعة سنة لكل من أراد العدل فى القسمة بين الشركاء، والفقهاء متفقون على القول بها، وخالفهم بعض الكوفيين، وردت الأحاديث الواردة فيها، وزعموا أنه لا معنى لها، وأنها تشبه الأزلام التى نهى الله عنها، وحكى ابن المنذر، عن أبى حنيفة أنه جوزها، وقال: القرعة فى القياس لا تستقيم، ولكنا تركنا القياس فى ذلك وأخذنا بالآثار والسنة. وقال إسماعيل بن إسحاق: وليس فى القرعة إبطال شىء من الحق كما زعم الكوفيون، وإذا وجبت القسمة بين الشركاء فى أرض أو دار، فعليهم أن يعدلوا ذلك بالقيمة، ثم يستهموا ويصير لكل واحد منهم ما وقع له بالقرعة مجتمعًا مما كان له فى الملك مشاعًا، فيصير فى موضع بعينه، ويكون له ذلك بالعوض الذى صار لشريكه؛ لأن مقادير ذلك قد عدل بالقيمة. وإنما(7/12)
منعت القرعة أن يختار كل واحد منهم موضعًا بعينه، وهذا إنما يكون فيما يتشابه من الدور والأرض والعروض، وما تستوى رغبة الناس فى كل موضع مما يقترع عليه. وفى قوله، عَلَيْهِ السَّلام: (كمثل قوم استهموا على سفينة) ، جواز القرعة؛ لإقرار النبى (صلى الله عليه وسلم) لها، وأنه لم يذم المستهمين فى السفينة، ولا أبطل فعلهم، بل رضيه وضربه مثلاً لمن نجى نفسه من الهلكة فى دينه، وقد ذكر البخارى أحاديث كثيرة فى القرعة فى آخر كتاب الشهادات، وترجم له باب القرعة فى المشكلات. قال المهلب: وفى حديث النعمان بن بشير تعذيب العامة بذنوب الخاصة، وفيه استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وفيه تبيين العالم للمسألة بضرب المثل الذى يفهم للعوام، وفيه أنه يجب على الجار أن يصبر على شىء من الأذى لجاره خوفًا مما هو أشد منه. وأما أحكام العلو والسفل تكون بين رجلين، فيعتل السفل أو يريد صاحبه هدمه، فذكر سحنون، عن أشهب أنه قال: إذا أراد صاحب السفل أن يهدم، وأراد صاحب العلو أن يبنى علوه، فليس لصاحب السفل أن يهدم السفل إلا من ضرورة يكون هدمه له أرفق لصاحب العلو؛ لئلا ينهدم بانهدامه العلو، وليس لرب العلو أن يبنى على علوه شيئًا لم يكن قبل ذلك إلا الشىء الخفيف الذى لا يضر بصاحب السفل. ولو تكسرت خشبة من سقف العلو لأدخل مكانها خشبة ما لم تكن أثقل منها، ويخاف ضررها على صاحب السفل. قال أشهب:(7/13)
وباب الدار على صاحب السفل. قال: ولو انهدم السفل والعلو، أجبر صاحب السفل على بنائه، وليس على صاحب العلو أن يبنى السفل، فإن أبى صاحب السفل من البناء، قيل له: بع ممن يبنى. وروى ابن القاسم، عن مالك فى السفل لرجل والعلو لآخر، فاعتل السفل، فإن صلاحه على رب السفل، وعليه تعليق العلو حتى يصلح سفله؛ لأن عليه أن يحمله إما على بنيان وإما على تعليق. وكذلك لو كان العلو على علو، فتعليق العلو الثانى على صاحب الأوسط فى إصلاح الأوسط، وقد قيل: إن تعليق العلو على رب العلو حتى يبنى الأسفل. وحديث النعمان حجة لقول مالك وأشهب، وفيه دليل على أن صاحب السفل ليس له أن يحدث على صاحب العلو ما يضر به، وإن أحدث عليه ضررًا لزمه إصلاحه دون صاحب العلو، وأن لصاحب العلو منعه من الضرر، لقوله، عَلَيْهِ السَّلام: (فإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا) ، ولا يجوز الأخذ إلا على يد الظالم ومن هو ممنوع من إحداث ما لا يجوز له فى السنة.
7 - بَاب شَرِكَةِ الْيَتِيمِ وَأَهْلِ الْمِيرَاثِ
/ 11 - فيه: عَائِشَةَ، فِى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَ تُقْسِطُوا فِى الْيَتَامَى) [النساء: 3] ، قَالَتْ: هِىَ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِى حَجْرِ وَلِيِّهَا تُشَارِكُهُ فِى مَالِهِ، فَيُعْجِبُهُ مَالُهَا وَجَمَالُهَا، فَيُرِيدُ وَلِيُّهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ أَنْ يُقْسِطَ فِى(7/14)
صَدَاقِهَا، فَيُعْطِيهَا مِثْلَ مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ، فَنُهُوا أَنْ يُنْكِحُوهُنَّ إِلاَ أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ، وَيَبْلُغُوا بِهِنَّ أَعْلَى سُنَّتِهِنَّ مِنَ الصَّدَاقِ، وَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ. . . الحديث. قال: شركة اليتيم ومخالطته فى ماله لا تجوز عند العلماء إلا أن يكون لليتيم فى ذلك رجحان، فإن كان الرجحان لمخالطه أو مشاركه فلا يحل؛ لأن الله تعالى حرم أكل أموال اليتامى، ثم قال بعد ذلك: (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح) [البقرة: 220] ، فأباحت هذه الآية مخالطتهم ومشاركتهم بغير ظلم لهم.
8 - بَاب الشَّرِكَةِ فِى الأَرَضِينَ وَغَيْرِهَا
/ 12 - فيه: جَابِر، جَعَلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) الشُّفْعَةَ فِى كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتِ الطُّرُقُ فَلاَ شُفْعَةَ. اختلف أهل العلم فيما يحتمل القسم من الدور والأرضين، هل يقسم بين الشركاء إذا دعا بعضهم إلى ذلك، وفى قسمته ضرر على بعض؟ فقال مالك: يقسم بينهم ذلك، وهو قول الشافعى. وقال أبو حنيفة فى الدار الصغيرة بين اثنين يطلب أحدهما القسمة وأبى صاحبه: قسمت له. وقال ابن أبى ليلى: إن كان فيهم من لا ينتفع بما يقسم له فلا يقسم، وكل قسم يدخل الضرر على أحدهم دون الآخر فإنه لا يقسم، وهو قول أبى ثور. قال ابن المنذر: وهذا أصح القولين.(7/15)
وأجاز مالك قسم البيت وإن لم يكن فى نصيب أحدهم ما ينتفع به، وأجاز قسم الحمام وغيره، واحتج بقوله تعالى: (مما قل منه أو كثر نصيبًا مفروضًا) [النساء: 7] . قال ابن القاسم: وأنا أرى أن كل ما لا ينقسم من الدور والحمامات والمنازل، وفى قسمته الضرر ولا ينتفع به إذا قسم، أن يباع ويقسم ثمنه ولا شفعة فيه؛ لقوله، عَلَيْهِ السَّلام: (لا ضرر ولا ضرار) ، ولقوله: (الشفعة فى كل ما لم ينقسم، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة) ، فجعل، عَلَيْهِ السَّلام، الشفعة فى كل ما يتأتى فيه إيقاع الحدود، وعلق الشفعة بما لم ينقسم مما لم يمكن إيقاع الحدود فيه، هذا دليل الحديث، ولا حجة للكوفيين فى إجازة الضرر اليسير من ذلك ومنعهم للكثير؛ لأن دفع الضرر واجب على المسلمين فى كل شىء.
9 - بَاب إِذَا اقَسَمَ الشُّرَكَاءُ الدُّورَ وَغَيْرَهَا فَلَيْسَ لَهُمْ رُجُوعٌ وَلاَ شُفْعَةٌ
/ 13 - فيه: جَابِرِ: قَضَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِالشُّفْعَةِ فِى كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتِ الطُّرُقُ فَلاَ شُفْعَةَ. قال: إذا كانت قسمة مراضاة واتفاق، فلا رجوع فيها، وإن كانت قسمة قرعة وتعديل، ثم بان التغابن فيها، فللمغبون الرجوع ونقض القسمة عند العلماء، وأما الشفعة فلا تكون فى شىء مقسوم عند أحد(7/16)
من العلماء، وإنما هى فى المشاع؛ لقوله، عَلَيْهِ السَّلام: (فإذا وقعت الحدود فلا شفعة) .
- بَاب الاشْتِرَاكِ فِى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَمَا يَكُونُ فِيهِ الصَّرْفُ
/ 14 - فيه: سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِى مُسْلِمٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْمِنْهَالِ عَنِ الصَّرْفِ يَدًا بِيَدٍ، فَقَالَ: اشْتَرَيْتُ أَنَا وَشَرِيكٌ لِى شَيْئًا يَدًا بِيَدٍ وَبنَسِيئَةً، فَجَاءَنَا الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، فَسَأَلْنَاهُ، فَقَالَ: فَعَلْتُ أَنَا وَشَرِيكِى زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، وَسَأَلْنَا النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: (مَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَخُذُوهُ، وَمَا كَانَ نَسِيئَةً فَرَدُوهُ) . فى هذا الحديث أنه لا يجوز فى شىء من الصرف نسيئة، وإنما يكون يدًا بيد، وأما صفة الشركة فى الصرف وغيرها، فأجمع العلماء على أن الشركة فى الدنانير والدراهم جائزة، واختلفوا إذا كانت الدنانير من أحدهما والدراهم من الآخر. فقال مالك، والكوفيون، والشافعى، وأبو ثور: لا تجوز حتى يخرج أحدهما مثل ما أخرج صاحبه. وقال ابن القاسم: وإنما لم يجز ذلك؛ لأنه صرف وشركة، وكذلك قال لى مالك. وذكر ابن أبى زيد، قال: وقد اختلف عن مالك فى إجازة الشركة بدنانير من أحدهما ودراهم من الآخر، وأجازه سحنون،(7/17)
وأكثر قول مالك: أنه لا يجوز. وقال الثورى: يجوز أن يجعل أحدهما دنانير والآخر دراهم فيخلطاها، وذلك أن كل واحد منهما قد باع نصف نصيبه بنصف نصيب صاحبه، فآل: أمرهما إلى قسمة ما يحصل فى أيديهما فى المتعقب. وأجمع العلماء أن الشركة الصحيحة أن يخرج كل واحد من الشريكين مالاً مثل مال صاحبه، ثم يخلطان ذلك ولا يتميز، ثم ليس لأحدهما أن يبيع إلا مع صاحبه، إلا أن يجعل كل واحد منهما لصاحبه أن يتجر بما رآه، ويقيمه مقام نفسه.
- بَاب مُشَارَكَةِ الذِّمِّىِّ وَالْمُشْرِكِينَ فِى الْمُزَارَعَةِ
/ 15 - فيه: ابن عُمَر، أن النّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، أعطى خَيْبَرَ الْيَهُودَ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا وَيَزْرَعُوهَا، وَلَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا. قال المهلب: كل ما لا يدخله ربا ولا ينفرد به الذمى، فلا بأس بشركة المسلم له فيه، وهذه المشاركة إنما معناها معنى الأجرة، واستئجار أهل الذمة جائز حلال، وأما مشاركة الذمى ودفع المال إليه ليعمل فيه، فكرهه ابن عباس، وكرهه الكوفيون، والشافعى، وأبو ثور، وأكثر العلماء، لما يخاف عليه من التجر بالربا وبيع ما لا يحل بيعه، وهو جائز عندهم. وقال مالك: لا تجوز شركة المسلم للذمى إلا أن يكون(7/18)
النصراني يتصرف بحضرته، ولا يغيب عنه فى شراء ولا بيع ولا تقاض، أو يكون المسلم هو متولى البيع والشراء. وروى ذلك عن عطاء والحسن، وبه قال الليث، والثورى، وأحمد، وإسحاق. واحتج من أجاز ذلك بمعاملة النبى (صلى الله عليه وسلم) لهم فى مساقاة خيبر، وإذا جاز مشاركتهم فى عمارة الأرض جاز فى غير ذلك، واحتج لمالك أن الذمى إذا تولى الشراء باع بحكم دينه، وأدخل فى مال المسلم ما لا يحل له، والمسلم ممنوع من أن يجعل ماله متجرًا فى الربا والخمر والخنزير، وأما أخذ أموالهم فى الجزية، فالضرورة دعت إلى ذلك، إذ لا مال لهم غيرها.
- بَاب قِسْمَةِ الْغَنَمِ وَالْعَدْلِ فِيهَا
/ 16 - فيه: عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) أَعْطَاهُ غَنَمًا يَقْسِمُهَا عَلَى أصحابه، فَبَقِىَ عَتُودٌ، فَذَكَرَهُ للنّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (ضَحِّ بِهِ أَنْتَ) . هذه القسمة يجوز فيها ما لا يجوز فى القسمة التى هى تمييز الحقوق بعضها من بعض؛ لأن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، إنما وكل عقبة على تفريق الضحايا على أصحابه، ولم يعين فيها لأحد منهم شيئًا بعينه، فيخاف أن يعطى غيره عند القسمة، فيكون ذلك ظلمًا له ونقصانًا عن حقه، فكان تفريقها موكولاً إلى اجتهاد عقبة، وكان ذلك على سبيل التطوع من النبى، عَلَيْهِ السَّلام، لا أنها كانت واجبة عليه لأصحابه، فلم يكن على عقبة حرج فى قسمتها، ولا لزمه من أحد منهم ملامة إن أعطاه دون ما أعطى صاحبه، وليس كذلك(7/19)
القسمة بين من حقوقهم واجبة متساوية فى المقسوم، فهذه لا يكون فيها تغابن ولا ظلم على أحد منهم، وقد تقدم هذا الحديث فى كتاب الضحايا.
- بَاب الشَّرِكَةِ فِى الطَّعَامِ وَغَيْرِها
وَيُذْكَرُ أَنَّ رَجُلاً سَاوَمَ شَيْئًا، فَغَمَزَهُ آخَرُ، فَرَأَى عُمَرُ أَنَّ لَهُ شَرِكَةً. / 17 - فيه: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِشَامٍ، جَدّ زُهْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ، أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ بِهِ جَدُّهُ إِلَى السُّوقِ، فَيَشْتَرِى الطَّعَامَ، فَيَلْقَاهُ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، فَيَقُولاَنِ لَهُ: أَشْرِكْنَا، فَإِنَّ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، قَدْ دَعَا لَكَ بِالْبَرَكَةِ فَيَشْرَكُهُمْ، فَرُبَّمَا أَصَابَ الرَّاحِلَةَ كَمَا هِىَ، فَيَبْعَثُ بِهَا إِلَى الْمَنْزِلِ. الشركة بيع من البيوع، فتجوز فى الطعام وفى كل ما يجوز تملكه عند جميع العلماء، وإنما اختلفوا فى الشركة بالطعام، وإن تساووا فى الكيل والقيمة، وسواء كان الطعام نوعًا واحدًا أو أنواعًا مختلفة، وهو قول الشافعى، وخالف ابن القاسم مالكًا، فقال: تجوز الشركة بالحنطة إذا اشتركا على الكيل ولم يشتركا على القيمة، وكانتا فى الجودة سواء. وأجاز الشركة بالطعام الكوفيون وأبو ثور، وقال الأوزاعى: تجوز الشركة بالقمح والزيت؛ لأنهما يختلطان جميعًا، ولا يتميز أحدهما من الآخر. قال إسماعيل بن إسحاق: إنما كره مالك الشركة بالطعام،(7/20)
وإن تساوى فى الكيل والجودة؛ لأنه يختلف فى الصفة والقيمة، ولا تجوز الشركة إلا على الاستواء فى القيمة، فاحتيج فى الطعام أن يستوى أمره فى الشركة فى الكيل والقيمة، وكان الاستواء فى ذلك لا يكاد أن يجتمع فيه فكرهه، وليس الطعام مثل الدنانير والدراهم التى هى على الاستواء عند الناس. وكان الأبهرى يقول: قول ابن القاسم أشبه؛ لأن الشركة تشبه البيع. قال: وكما جاز بيع الطعام بالطعام إذا استويا فى الكيل، وإن اختلفا فى القيمة، فكذلك تجوز الشركة فيه. واختلفوا فى الشركة بالعروض، فقال مالك، وابن أبى ليلى: هو جائز. وقال الثورى، والكوفيون، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: لا يجوز ذلك. وقال الشافعى: لا تجوز الشركة فى كل ما يرجع فى حال المفاضلة إلى القيمة، إلا أن يبيع نصف عرضه بنصف عرض الآخر ويتقايضا. وقال ابن المنذر: إنما لم تجز الشركة بالعروض؛ لأن رءوس أموالهم مجهولة، وغير جائز عقد الشركة على مجهول. وحجة مالك فى إجازة ذلك أن الشركة إنما وقعت على قيمة العرض الذى أخرجه كل واحد منهما، فلم يكن رأس مال مجهولاً، وأما إجازة ابن عمر الشركة للذى غمز صاحبه، فهو قول مالك. قال ابن حبيب: من قول مالك فى الذى يشترى الشىء للتجارة، فيقف به الرجل لا يقول له شيئًا، حتى إذا فرغ من الشراء استشركه، فرأى مالك أن الشركة له لازمة وأن يقضى بها؛ لأنه أرفق بالناس من(7/21)
إفساد بعضهم على بعض، ووجه ذلك أن المشترى قد انتفع بترك الزياد عليه، فوجبت الشركة بينهما بسبب انتفاعه بذلك. وكذلك إذا غمزه وسكت، فسكوته رضًا بالشركة؛ لأنه كان يمكنه أن يقول له: لا أشركك، فيزيد عليه، فلما سكت كان ذلك رضًا. قال عبد الملك بن حبيب: وذلك لتجار تلك السلعة خاصة كان مشتريها فى الأول من أهل تلك التجارة أو غيرهم. قال: وكل ما اشتراه لغير تجارة، فسأله رجل أن يشركه وهو يشترى، فلا تلزمه الشركة، وإن كان الذى استشركه من أهل التجارة. والقول قول المشترى مع يمينه أن شراءه ذلك لغير التجارة، قال: وما اشتراه الرجل من تجارته فى حانوته أو فى بيته فوقف به ناس من أهل تجارته فاستشركوه، فإن الشركة لا تلزمه، وليس مثل اشترائه ذلك فى غير حانوته ولا بيته.
- بَاب الشَّرِكَةِ فِى الرَّقِيقِ
/ 18 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِى مَمْلُوكٍ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْتِقَ كُلَّهُ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ قَدْرَ ثَمَنِهِ يُقَامُ قِيمَةَ عَدْلٍ، وَيُعْطَى شُرَكَاؤُهُ حِصَّتَهُمْ) . الشركة بيع من البيوع تجوز فى العبيد وفى كل شىء، وكل ما جاز أن يملكه رجل جاز أن يملكه رجلان شراء أو هبة أو غيره، إلا أن الشريك(7/22)
إذا وطئ جارية من مال الشركة، فإنهما يتقاومانها وتصير لأحدهما بثمن قد عرفه؛ لأنه لا تحل الشركة فى الفروج ولا إعارتها، ويدرأ عنه الحد بالشبهة.
- بَاب الاشْتِرَاكِ فِى الْهَدْىِ وَالْبُدْنِ وَإِذَا أَشْرَكَ الرَّجُلُ رجلاً فِى هَدْيِهِ بَعْدَ مَا أَهْدَى
/ 19 - فيه: جَابِرٍ، وابْن عَبَّاس، قَالاَ: قَدِمَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، وَأَصْحَابُهُ صُبْحَ رَابِعَةٍ مِنْ ذِى الْحِجَّةِ مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ لاَ يَخْلِطُهُمْ شَىْءٌ، فَلَمَّا قَدِمْنَا أَمَرَنَا، فَجَعَلْنَاهَا عُمْرَةً. . .) ، إِلَى قَوله: وَجَاءَ عَلِىُّ، فَقَالَ: لَبَّيْكَ بِمَا أَهَلَّ بِهِ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَمَرَه النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يُقِيمَ عَلَى إِحْرَامِهِ وَإشْرَكَهُ فِى الْهَدْى. قال المهلب: لا يصح فى هذا الحديث ما ترجم به من الاشراك فى الهدى بعد ما أهدى؛ لأنه ما كان بعد تقليد الهدى وإشعاره، فإنما هو شريك فى الفضيلة؛ لأنه لا تجوز هبة الهدى ولا بيعه بعد تقليده، وما كان قبل تقليده فيمكن الشركة فى رقابه وهبته لمن يهدى عنه. قال المؤلف: ذكر البخارى فى المغازى، عن بريدة الأسلمى، أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، كان بعث عليًّا إلى اليمن قبل حجة الوادع ليقبض الخمس، وقال غير جابر: فقدم على من سعايته، فقال له، عَلَيْهِ السَّلام: (بما أهللت يا على؟) ، قال: بما أهل به النبى، عَلَيْهِ السَّلام، قال: (فاهد وامكث حرامًا كما أنت) ، قال: فأهدى له على هديًا.(7/23)
فهذا تفسير قوله: (وأشركه فى الهدى) ، أنه الهدى الذى أهداه على عن النبى، وجعل له ثوابه، فيحتمل أن يفرده، عَلَيْهِ السَّلام بثواب ذلك الهدى كله، فهو شريك له فى هديه؛ لأنه أهداه عنه متطوعًا من ماله، ويحتمل أن يشركه فى ثواب هدى واحد يكون بينهما، كما ضحى النبى عنه وعن أهل بيته بكبش، وعمن لم يضح من أمته بكبش وأشركهم فى ثوابه. ويجوز الاشتراك فى هدى التطوع، وقد تقدم اختلاف العلماء فى الاشتراك فى الهدى فى كتاب الحج فى باب قوله: (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) [البقرة: 196] ، فأغنى عن إعادته.(7/24)
42 - كِتَاب الرَّهون
- الرَّهْنِ فِى الْحَضَرِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ) [البقرة: 283] الآية
/ 1 - فيه أَنَس: رَهَنَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) دِرْعَهُ بِشَعِيرٍ. . . وذكر الحديث. الرهن جائز فى الحضر والسفر، وبه قال جميع الفقهاء، وحكى عن مجاهد أنه قال: لا يحل الرهن إلا فى السفر. وبه قال أهل الظاهر، واحتجوا بقوله: (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبًا فرهان مقبوضة) [البقرة: 283] ، قالوا: فأباح الرهن بشرط أن يكون فى السفر. وحجة الجماعة أن الله لم يذكر السفر على أن يكون شرطًا فى الرهن، وإنما ذكره لأجل أن الغالب فيه أن الكاتب يعدم فى السفر، وقد يوجد الكاتب فى السفر، ويجوز فيه الرهن، فكذلك يجب أن يجوز الرهن فى الحضر، وإن كان الكاتب حاضرًا؛ لأن الرهن إنما هو على معنى الاستيثاق، بدليل قوله تعالى: (فإن أمن بعضكم بعضًا) [البقرة: 283] الآية، وكل ما جاز أن يستوثق به فى الحضر كالكفيل والضمين. وقد رهن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، درعه بالمدينة عند يهودى فى شعير أخذه لأهله، والمدينة حضرته ووطنه، فسقط قولهم.(7/25)
- بَاب مَنْ رَهَنَ دِرْعَهُ
/ 2 - فيه الأَعْمَشُ، قَالَ: تَذَاكَرْنَا عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ الرَّهْنَ وَالْقَبِيلَ فِى السَّلَفِ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: حَدَّثَنِى الأَسْوَدُ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، اشْتَرَى مِنْ يَهُودِىٍّ طَعَامًا إِلَى أَجَلٍ وَرَهَنَ دِرْعَهُ. وترجم له الرهن عند اليهود وغيرهم، وإنما أراد النخعى أن يستدل بأن الرهن لما جاز فى الثمن بالسنة المجتمع عليها، جاز فى المثمن وهو السلم. وبيان ذلك أنه لما جاز أن يشترى الرجل طعامًا أو عرضًا بثمن إلى أجل، ويرهن فى الثمن رهنًا، كذلك يجوز إذا دفع عينًا سلمًا فى عرض طعام أو غيره أن يأخذ فى الشىء المسلم فيه رهنًا، وكل ما جاز تملكه وبيعه جاز رهنه. وفى رهن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، درعه عند يهودى من الفقه دليل أن متاجرة أهل الكتاب والمشركين جائزة، إلا أن أهل الحرب لا يجوز أن يباع منهم السلاح، ولا كل ما يتقوون به على أهل الإسلام، ولا أن يرهن ذلك عندهم، وكان هذا اليهودى الذى رهنه النبى، عَلَيْهِ السَّلام، درعه من أهل الذمة، وممن لا تخشى منه غائلة ولا مكيدة للإسلام، ولم يكن حربيًا.
3 - بَاب رَهْنِ السِّلاَحِ
/ 3 - فيه جَابِر: قَالَ النّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ، فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَنَا، فَأَتَاهُ فَقَالَ: أَرَدْنَا(7/26)
أَنْ تُسْلِفَنَا وَسْقًا أَوْ وَسْقَيْنِ، فَقَالَ: ارْهَنُونِى نِسَاءَكُمْ، قَالُوا: كَيْفَ نَرْهَنُكَ نِسَاءَنَا، وَأَنْتَ أَجْمَلُ الْعَرَبِ؟ قَالَ: فَارْهَنُونِى أَبْنَاءَكُمْ، قَالُوا: كَيْفَ نَرْهَنُكَ أَبْنَاءَنَا، فَيُسَبُّ أَحَدُهُمْ، فَيُقَالُ: رُهِنَ بِوَسْقٍ أَوْ وَسْقَيْنِ، هَذَا عَارٌ عَلَيْنَا، وَلَكِنَّا نَرْهَنُكَ اللأَمَةَ، يَعْنِى السِّلاَحَ، فَوَعَدَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ أَتَوُا النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَأَخْبَرُوهُ. قال ابن إسحاق: كان كعب بن الأشرف من طى، وكانت أمه من بنى النضير، وكان يعادى النبى ويحرض المشركين عليه، فلما أصيب المشركون ببدر خرج إلى مكة يحرض على رسول الله، ثم رجع إلى المدينة يشبب بنساء المسلمين حتى أذاهم، فقال النبى، عَلَيْهِ السَّلام، عند ذلك: (من لكعب بن الأشرف، فإنه قد آذى الله ورسوله) . قال المهلب: ولم تكن بنو النضير ذمة لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فلم يكن كعب بن الأشرف فى عهد لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، قال: والدليل على ذلك إعلان النبى، عَلَيْهِ السَّلام، بأنه آذى الله ورسوله على رءوس الناس، وكيف يكون فى عهد من يشكو منه الأذى، بل كان ممتنعًا وقومه فى حصنه، وكان المسلمون يقنعون منهم بالقعود عن حربهم والتجيش عليهم، وإنما كانت بينهم مسالمة وموافقة للجيرة. فكان النبى (صلى الله عليه وسلم) يمسك عنهم لإمساكهم عنه من غير عهد ولا عقد، ولو كان لكعب عهد لنقضه بالأذى، ولوجب حربه، ولكان بقوله، عَلَيْهِ السَّلام: (من لكعب بن الأشرف، فإنه قد آذى الله ورسوله؟) ، نابذًا(7/27)
إليه عهده، ومسقطًا بذلك ذمته، ولو كان من أهل العهد والذمة لوجب حربه واغتياله بكل وجه. فمن لام النبى، عَلَيْهِ السَّلام، على ذلك، فقد كذب الله فى قوله: (فتول عنهم فما أنت بملوم) [الذاريات: 54] ، ووضف رسوله (صلى الله عليه وسلم) بما لا يحل له مما نزهه الله عنه، والله ولى الانتقام منه. وقد تقدم هذا المعنى فى باب الفتك فى الحرب فى كتاب الجهاد، ولم يجز أن يرهن عند كعب بن الأشرف سلاح ولا شىء مما يتقوى به على أذى المسلمين، وليس قولهم له: نرهنك اللأمة، مما يدل على جواز رهن الحربيين السلاح، وإنما كان ذلك من معاريض الكلام المباحة فى الحرب وغيره.
4 - بَاب الرَّهْنُ مَحْلُوبٌ وَمَرْكُوبٌ
وَقَالَ إِبْرَاهِيمَ: تُرْكَبُ الضَّالَّةُ بِقَدْرِ عَلَفِهَا، وَتُحْلَبُ بِقَدْرِ عَلَفِهَا، وَالرَّهْنُ مِثْلُهُ. / 4 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: (الرَّهْنُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ، وَيُشْرَبُ لَبَنُ الدَّرِّ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا) . / 5 - وَقَالَ مَرةٌ، عَن النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام: (الظهر يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَعَلَى الَّذِى يَشْرَبُ وَيَرْكَبُ النَّفَقَةُ) . قال ابن المنذر: اختلف العلماء فيمن له منفعة الرهن من ركوب الظهر ولبن الدر وغير ذلك، فقالت طائفة: كل ذلك للراهن ليس للمرتهن أن ينتفع بشىء من ذلك. وروى ذلك عن الشعبى،(7/28)
وابن سيرين، وقال النخعى: كانوا يكرهون ذلك، وهو قول الشافعى، فإن للراهن أن يركب الرهن ويشرب لبنه بحق نفقته عليه، ويأوى فى الليل إلى المرتهن. ورخصت طائفة أن ينتفع المرتهن من الرهن بالركوب والحلب دون سائر الأشياء على لفظ الحديث أن الرهن محلوب ومركوب، هذا قول أحمد وإسحاق. وقال أبو ثور: إن كان الراهن لا ينفق عليه وتركه فى يد المرتهن فأنفق عليه، فله ركوبه واستخدامه على ظاهر الحديث. وذكر غير ابن المنذر، عن الأوزاعى، والليث مثله، ولا يجوز عند مالك، والكوفيين للراهن الانتفاع بالرهن وركوبه بعلفه وغلته لربه. واحتج الطحاوى لأصحابه، وقال: أجمع العلماء على أن نفقة الرهن على الراهن لا على المرتهن، وأنه ليس للمرتهن استعمال الرهن، قال: والحديث مجمل لم يبين فيه الذى يركب ويشرب، فمن أين جاز للمخالف أن يجعله للراهن دون المرتهن، ولا يجوز حمله على أحدهما إلا بدليل. قال الطحاوى: وقد روى هشيم، عن زكريا، عن الشعبى، عن أبى هريرة، عن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، قال: (إذا كانت الدابة مرهونة، فعلى المرتهن علفها، ولبن الدر يشرب، وعلى الذى يشرب نفقتها وتركب) . فدل هذا الحديث أن المعنى بالركوب وشرب اللبن فى الحديث الأول هو المرتهن لا الراهن، فجعل ذلك له، وجعلت النفقة عليه بدلاً مما ينقص منه، وكان هذا،(7/29)
والله أعلم، وقت كون الربا مباحًا، ولم ينه حينئذ عن قرض جر منفعة، ولا عن أخذ الشىء بالشىء إن كانا غير متساويين، ثم حرم الربا بعد ذلك، وحرم كل قرض جر منفعة، ونهى عن أخذ الشىء بالشىء إن كانا غير متساويين، وحرمت أشكال ذلك كلها، وردت الأشياء المأخوذة إلى أبدالها المساوية لها، وحرم بيع اللبن فى الضرع، ودخل فى ذلك النهى عن النفقة التى ملك بها المنفق لبنًا فى الضرع، وتلك النفقة غير موقوف على مقدارها، واللبن كذلك أيضًا. فارتفع بنسخ الربا أن تجب النفقة على المرتهن بالمنافع التى تجب له عوضًا منها، وباللبن الذى يحتلبه فيشربه. ويقال لمن جوز للراهن استعمال الرهن: أيجوز للراهن أن يرهن دابة هو راكبها؟ فلا يجد بدًا من أن يقول: لا، فيقال له: فإذا كان الرهن لا يجوز إلا أن يكون محلاً بينه وبين المرتهن فيقبضه ويصير فى يده دون الراهن، كما وصف الله الراهن بقوله: (فرهان مقبوضة) [البقرة: 283] ، فقد ثبت أن دوام القبض فى الرهن لابد منه إذا كان الرهن إنما هو وثيقة فى يد المرتهن بالدين. وقد أجمعت الأُمَّةُ أن الأَمَة الرهن لا يجوز للراهن أن يطأها، فكذلك لا تجوز له خدمتها، وقد حدثنا فهد، قال: نا أبو نعيم، حدثنا الحسن بن صالح، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن الشعبى، قال: لا ينتفع من الرهن بشىء، فهذا الشعبى روى الحديث وأفتى بخلافه، ولا يجوز عليه ذلك إلا وهو عنده منسوخ.(7/30)
وقال ابن القاسم عن مالك: إذا خلى المرتهن بين الراهن وبين الرهن يركبه أو يعيره أو يسكنه لم يكن رهنًا، فإذا أجره المرتهن بإذن الراهن أو أعاره لم يخرج من الرهن، والأجرة لرب الرهن، ولا يكون الكراء رهينة إلا أن يشترط المرتهن، فإن اشترط فى البيع أن يرتهن ويأخذ حقه من الكراء، فإن مالكًا كرهه، وإن كان البيع وقع بهذا الشرط إلى أجل معلوم، فإن ذلك عند مالك يجوز فى الدور والأرضين، وكرهه فى الدواب والثياب، إذ لا يدرى كيف يرجع إليه، وكرهه فى القرض؛ لأنه يصير سلفًا جر منفعة. وقال الكوفيون: إذا أجر المرتهن الرهن بإذن الراهن أو أجره الراهن بإذن المرتهن، فقد خرج من الرهن. وحكم الضالة مخالف لحكم الرهن عند مالك وغيره، قال مالك: إذا أنفق على الضالة من الإبل والدواب، فله أن يرجع بذلك على صاحبها إذا جاء، وإن أنفقها بغير أمر السلطان، وله أن يحبس ذلك بالنفقة، إذ لا يقدر على صاحبها، ولابد من النفقة عليها، والمرتهن يأخذ راهنه بنفقته، فإن غاب رفع ذلك إلى الإمام. وقال أبو حنيفة والشافعى: إن أنفق بغير أمر القاضى، فهو متطوع، وإن أنفق بأمر القاضى، فهو دين على صاحبها.(7/31)
5 - بَاب إِذَا اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ وغيرهما فَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِى وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
/ 6 - فيه ابْن عَبَّاس: أن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَضَى أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. / 7 - وفيه عَبْدُ اللَّهِ: (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا مَالاً وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لَقِىَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ) ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً) [آل عمران: 77] الآية، ثُمَّ إِنَّ الأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ، قَالَ: فِىَّ نزلت، كَانَتْ بَيْنِى وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِى بِئْرٍ، فَاخْتَصَمْنَا إِلَى النّبِى، عَلَيْهِ السَّلام، فَقَالَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ) ، قُلْتُ: إِنَّهُ إِذًا يَحْلِفُ وَلاَ يُبَالِى، فَقَالَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ. . .) الحديث، فأنزل الله الآية. إذا اختلف الراهن والمرتهن فى مقدار الدين والرهن قائم، فقال الراهن: رهنتك بعشرة دنانير. وقال المرتهن: بعشرين دينارًا، فقال أبو حنيفة، وأصحابه، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: القول قول الراهن مع يمينه، وقالوا: المرتهن مدع، فإذا لم تكن له بينة حلف الراهن؛ لأنه مدعى عليه على ظاهر السنة فى الدعوى لو لم يكن ثم رهن، ولا يلزم الراهن من الدين إلا ما أقر به، أو قامت عليه بينة. وفيه قول ثان: وهو أن القول قول المرتهن، ما لم يجاوز ثمنه قيمة الرهن، روى هذا عن الحسن وقتادة، ونحوه قال مالك، قال: القول قول المرتهن مع يمينه ما بينه وبين قيمة الرهن؛ لأن الرهن كشاهد للمرتهن إذا أجازه.(7/32)
وإن ادعى أكثر من قيمة الرهن لم يصدق فى الزيادة، ويكون القول قول الراهن مع يمينه، ويبرأ من الزيادة على قيمته ويؤدى قيمته، وحجته أن الراهن مدع لاستحقاق أخذ الرهن وإخراجه عن يد المرتهن، والمرتهن منكر أن يكون الراهن مستحقًا لذلك بما ذكره، فاليمين على المرتهن؛ لأن الراهن معترف بكونه رهنًا فى يد المرتهن، والرهن وثيقة بالحق وشاهد له، كالشهادة أنها وثيقة بالحق ومصدقة له فأشبه اليد، فصار القول قول من فى يده الرهن إلى مقدار قيمته. وإنما كان القول قول الراهن فيما زاد على قيمة الرهن؛ لأن المرتهن مدع جملة ما يذكره من الحق، فعليه أن يحلف على جملة ذلك، ثم يكون له مما حلف عليه قدر ما يشهد الرهن له من قيمته، فيكون كالشاهد واليمين؛ لأن المرتهن لا شهادة له فيما يذكره فيما زاد على قيمة الرهن، فصار مدعيًا لذلك، والراهن مدعى عليه، فكان حكم ذلك حكم المدعى والمدعى عليه، فإما بينة المدعى، أو يمين المدعى عليه.(7/33)
43 - كِتَاب الْعِتْقِ
- ما جاء فِى الْعِتْقِ وَفَضْلِهِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ) [البلد: 13 - 15]
/ 1 - فيه أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبىُّ، عَلَيْهِ السَّلام: (أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِمًا اسْتَنْقَذَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ. . .) الحديث. قال المهلب: فى هذا الحديث فضل العتق، وأنه من أرفع الأعمال، ومما ينجى الله به من النار، وفيه أن المجازاة قد تكون من جنس الأعمال، فجوزى المعتق للعبد بالعتق من النار، وإن كانت صدقة تصدق عليه فى الآخرة، وهذا الحديث يبين أن تقويم باقى العبد على من أعتق شقصًا منه إنما هو لاستكمال عتق نفسه من النار، وصارت حرمة العتق تتعدى إلى الأموال لفضل النجاة به من النار، وهذا أولى من قول من قال: إنما ألزم المعتق باقيه ليكمل حرمة العبد، وتتم شهادته وحدوده، وهو قول لا دليل عليه.(7/34)
- بَاب أَىُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟
/ 2 - فيه: أَبُو ذَرّ، قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام: أَىُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (إِيمَانٌ بِاللَّهِ، وَجِهَادٌ فِى سَبِيلِهِ) ، قُلْتُ: فَأَىُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (أَغْلاَهَا ثَمَنًا، وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا) ، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: (تُعِينُ ضَائعًا، أَوْ تَصْنَعُ لأَخْرَقَ) ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: (تَدَعُ النَّاسَ مِنَ الشَّرِّ، فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ تَتَصَدَّقُ بِهَا عَلَى نَفْسِكَ) . قال المهلب: وإنما قرن الجهاد فى سبيل الله بالإيمان به؛ لأنه كان عليهم أن يجاهدوا فى سبيل الله حتى تكون كلمة الله هى العليا، وحتى يفشو الإسلام وينتشر، فكان الجهاد ذلك الوقت أفضل من كل عمل. وقوله: (أغلاها ثمنًا وأنفسها عند أهلها) ، فمعنى ذلك أن من اشتراها بكثير الثمن، فإنما فعل ذلك لنفاستها عنده، ومن أعتق رقبة نفيسة عنده وهو مغتبط بها، فلم يعتقها إلا لوجه الله، وهذا الحديث فى معنى قوله: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) [آل عمران: 92] ، وكان لابن عمر جارية يحبها فأعتقها لهذه الآية، ثم ابتغتها نفسه، فأراد أن يتزوجها فمنعه بنوه، فكان بعد ذلك يقرب بنيها من غيره لمكانها من قلبه. وقوله: (تعين ضائعًا) ، أى تعين فقيرًا، (أو تصنع لأخرق) ، يعنى عاملاً لا يستطيع عمل ما يحاوله، والخرق لا يكون إلا فى اليدين، وهو الذى لا يحسن الصناعات.(7/35)
3 - بَاب مَا يُسْتَحَبُّ مِنَ الْعَتَاقَةِ فِى الْكُسُوفِ وَالآيَاتِ
/ 3 - فيه: أَسْمَاء، أَمَرَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، بِالْعَتَاقَةِ فِى كُسُوفِ الشَّمْسِ. قال المهلب: إنما أمر بالعتاقة فى الكسوف؛ لأن بالعتق يستحق العتق من النار، والكسوف آية من آيات الله، قال الله: (وما نرسل بالآيات إلا تخويفًا) [الإسراء: 59] ، فلذلك صلى، عَلَيْهِ السَّلام، وأطال الصلاة من أجل الخوف الذى توعد الله عليه فى القرآن، وأمر بالعتاقة، وقد تقدم هذا الباب فى صلاة الكسوف.
4 - بَاب إِذَا أَعْتَقَ عَبْدًا بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ أَمَةً بَيْنَ شُّرَكَاءِ
/ 4 - فيه: ابْن عُمر، قَالَ النّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا قُوِّمَ عَلَيْهِ ثُمَّ يُعْتَقُ) . / 5 - وقال مرة: (قُوِّمَ عَلَيْهِ بقِيمَةَ العَدْل، فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ، وَأعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ، وَإِلاَ فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ) . وقال: كان ابن عمر يفتى فى العبد والأمة تكون بين الشركاء بذلك. اختلف الفقهاء فى العبد إذا كان بين رجلين، فأعتق أحدهما نصيبه، فقالت طائفة: لا يجب عليه الضمان بقيمة نصيب شريكه لعتاقه إلا أن يكون موسرًا على ظاهر حديث ابن عمر، قالوا: وإنما فى حديث ابن عمر وجوب الضمان على الموسر خاصة دون المعسر، يدل على ذلك قوله، عَلَيْهِ السَّلام: (وإلا فقد عتق منه ما عتق) ، هذا قول ابن أبى ليلى، ومالك، والثورى، وأبى يوسف، ومحمد، والشافعى.(7/36)
وقال زفر: يضمن قيمة نصيب شريكه موسرًا كان أو معسرًا، ويخرج العبد كله حرًا، وقال: العتق من الشريك الموسر جناية على نصيب شريكه يجب بها عليه ضمان قيمته فى ماله، ومن جنى على مال رجل وهو موسر أو معسر، وجب عليه ضمان ما أتلف بجنايته، ولم يفترق حكمه إن كان موسرًا أو معسرًا فى وجوب الضمان عليه. وهذا قول مخالف للحديث، فلا وجه له؛ لأن قوله، عَلَيْهِ السَّلام: (وإلا فقد عتق منه ما عتق) ، دليل أن ما بقى من العبد لم يدخله عتاق، فهو رقيق للذى لم يعتق على حاله، ولو فقد العتق فى الكل إذا كان معسرًا يرجع الشريك إلى ذمة غير ملية، فلا يحصل له عوض، وفى هذا إضاعة المال وإتلاف له، وقد نهى عن ذلك. واختلفوا فى معنى هذا الحديث، فقال مالك فى المشهور عنه: للشريك أن يعتق نصيبه قبل التقويم كما أعتق شريكه أولاً، ويكون الولاء بينهما، ولا يعتق نصيب الشريك إلا بعد التقويم وأداء القيمة. وقال أبو يوسف، ومحمد، والشافعى: إن كان المعتق الأول موسرًا أعتق جميع العبد حينئذ وكان حرًا، ولا سبيل للشريك على العبد، وإنما له قيمة نصيبه على شريكه كما لو قتله، قالوا: لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (من أعتق شقصًا له فى عبد قوم عليه قيمة عدل ثم يعتق إن كان موسرًا) . فأمر بالتقويم للذى يكون فى الشىء المتلف، فعلم أنه إذا(7/37)
أعتق نصيبه فقد أتلف نصيب شريكه بالعتق، فلزمته القيمة، وقد روى مثله عن مالك. والحجة لمالك فى مشهور مذهبه أن نصيب كل واحد من الشريكين غير تابع لنصيب صاحبه، والدليل على ذلك أنه لو باع أحدهما نصيبه لم يصر نصيب شريكه مبيعًا، فكذلك لا يصير نصيب شريكه حرًا بعتق نصيبه. وأيضًا فإنه لو أعتق نصيب شريكه ابتداء لم يعتق، وكذلك يجب إذا ابتدأ عتق نصيب شريكه أن ينعتق، وينعتق نصيبه بعتق نصيب شريكه، فلما لم يكن نصيبه هاهنا تبعًا ولا سرى إليه العتق، كذلك لا يكون نصيب شريكه تبعًا لنصيبه ولا يسرى إليه العتق، واحتج مالك فى المدونة، فقال: ألا ترى أنه لو مات العبد قبل التقويم لم يلزم المعتق الأول شىء.
5 - بَاب إِذَا أَعْتَقَ نَصِيبًا فِى عَبْدٍ وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ اسْتُسْعِىَ الْعَبْدُ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ نَحْوِ الْكِتَابَةِ
/ 6 - فيه أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبىُّ، عَلَيْهِ السَّلام: (مَنْ أَعْتَقَ شَقِصًا فِى عَبْدٍ، فَخَلاَصُهُ عَلَيْهِ فِى مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَإِلاَ قُوِّمَ عَلَيْهِ، وَاسْتُسْعِىَ بِهِ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ) . رواه جرير بن حازم، وسعيد، عن قتادة، وَتَابَعَهُ حَجَّاجُ بْنُ حَجَّاجٍ، وَأَبَانُ، وَمُوسَى ابْنُ خَلَفٍ، عَنْ قَتَادَةَ، واخْتَصَرَهُ شُعْبَةُ.(7/38)
اختلف العلماء فى العبد بين الرجلين يعتق أحدهما نصيبه وهو معسر، فذهب الكوفيون، والثورى، والأوزاعى إلى أنه إذا كان المعتق معسرًا، سعى العبد فى حصة شريكه حتى يؤدى قيمتها، واحتجوا بهذا الحديث. وقال آخرون: لا يعتق منه إلا ما عتق، ولا يجوز أن يستسعى العبد؛ لأنه لم يتعد ولا جنى ما يجب عليه ضمانه ولا يؤخذ أحد بجناية غيره، هذا قول مالك، والشافعى، وأحمد ابن حنبل. وقوله، عَلَيْهِ السَّلام، فى حديث ابن عمر: (وإلا فقد عتق منه ما عتق) ، يبطل الاستسعاء؛ لأنه لم يقل: ويستسعى العبد، وقد روى همام، وشعبة، وهشام الدستوائى هذا الحديث عن قتادة، ولم يذكر فيه السعاية، حدثنا المهلب، قال: حدثنا أبو محمد الأصيلى، قال: حدثنا أبو الحسن الدارقطنى، قال: حدثنا أبو بكر النيسابورى، قال: حدثنا على بن الحسن بن أبى عيسى الهلالى، حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ، حدثنا همام بن يحيى، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبى هريرة، أن رجلاً أعتق شقصًا له فى مملوك، فأجاز النبى (صلى الله عليه وسلم) عتقه وغرمه بقيمة ثمنه. قال قتادة: فإن لم يكن له مال استسعى العبد غير مشقوق عليه. قال الدارقطنى: ما أحسن ما رواه همام وضبطه فصل قول قتادة. قال الأصيلى وابن القصار: ومن أسقط السعاية أولى ممن ذكرها؛(7/39)
لما رواه عمران بن الحصين، عن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، فى الذى أعتق الستة الأعبد، فأسهم النبى، عَلَيْهِ السَّلام، بينهم، فأعتق اثنين وأرق أربعة، ولم يلزمهم الاستسعاء. وعلى مذهب أبى حنيفة كان يجب أن يعتق من كل واحد جزءًا ويلزمه السعاية فى قيمة الباقى منه، والنبى، عَلَيْهِ السَّلام، أقرع بينهم فأعتق اثنين منهم، وهذا مخالف لما يقوله أبو حنيفة.
6 - بَاب الْخَطَأ وَالنِّسْيَانِ فِى الْعَتَاقَةِ وَالطَّلاَقِ وَنَحْوِهِ وَلاَ عَتَاقَةَ إِلاَ لِوَجْهِ اللَّهِ
قَالَ النَّبىُّ عَلَيْهِ السَّلام: (لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى) ، وَلاَ نِيَّةَ لِلنَّاسِى وَالْمُخْطِئِ. / 7 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبىُّ، عَلَيْهِ السَّلام: (إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِى عَنْ أُمَّتِى مَا وَسْوَسَتْ بِهِ صُدُورُهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَكَلَّمْ) . / 8 - وفيه: عُمَرَ، قَالَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام: (الأَعْمَالُ بِالنِّيَّات، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى. . .) الحديث. الخطأ والنسيان إنما يكون فى الحنث فى الأيمان بعتق كانت اليمين أو بطلاق أو غيره، وقد اختلف العلماء فى الناسى فى يمينه، هل يلزمه حنث أم لا؟ فقالت طائفة: لا يلزم الناسى حنث، وهو قول عطاء بن أبى رباح، وهو أحد قولى الشافعى، وبه قال إسحاق، وإليه ذهب البخارى فى هذا الباب. وقال الشعبى وطاوس: من أخطأ فى الطلاق فله نيته. وقال أحمد بن حنبل: يحنث فى الطلاق خاصة. والحجة لقول عطاء: قوله(7/40)
تعالى: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم) [الأحزاب: 5] ، وهو ظاهر أحاديث هذا الباب. وذهب مالك، والكوفيون إلى أنه يحنث فى الخطأ والنسيان، وهو الأشهر عن الشافعى، وروى ذلك عن أصحاب ابن مسعود، وقد تقدم فى كتاب الأيمان والنذور اختلاف أهل العلم فيمن حنث ناسيًا فى يمينه، فأغنى عن إعادته. ومن الخطأ فى العتق والطلاق ما اختلف فيه ابن القاسم وأشهب أنه إذا دعا عبدًا يقال له: ناصح، فأجابه مرزوق، فقال له: أنت حر، وهو يظن أنه ناصح، وشهد عليه بذلك، فقال ابن القاسم: يعتقان جميعًا، يعتق مرزوق لمواجهته بالعتق، ويعتق ناصح بما نواه، وأما فيما بينه وبين الله، فلا يعتق إلا ناصح. قال ابن القاسم: فإن لم يكن عليه بينة لم يعتق إلا الذى نوى. وقال أشهب: يعتق مرزوق فيما بينه وبين الله، وفيما بينه وبين العباد، ولا يعتق ناصح؛ لأنه دعاه ليعتقه فأعتق غيره وهو يظنه هو، فرزق هذا وحرم هذا. وروى مطرف، وابن الماجشون فيمن أراد أن يطلق امرأته واحدة فأخطأ لسانه فطلقها البتة، طلقت عليه البتة، ولا ينفعه ما أراد، ولا نية له فى ذلك. وهو قول مالك، قال: يؤخذ الناس بلفظهم فى الطلاق، ولا تنفعهم نياتهم. وقال أصبغ، عن ابن القاسم: وعلى هذا القول يكون(7/41)
تأويل قوله، عَلَيْهِ السَّلام: (الأعمال بالنيات) ، على الخصوص كأنه قال: الأعمال بالنيات إلا فى العتق والطلاق، فإن الأعمال فيهما بالأقوال والنيات، فمن ادعى الخطأ بلسانه فيهما، فإثم ذلك ساقط عنه، وهو مأخوذ بما نطق به لسانه حياطة للفروج وتحصينًا لها من الإقدام على وطئها بالشك، واحتياطًا من الرجوع فى عتق الرقاب المنجية من النار التى أمر النبى، عَلَيْهِ السَّلام، للمعتق شقصًا منها بتمام عتق جميع الرقبة وتخليصها من الرق، وروى نافع، وزياد بن عبد الرحمن، عن مالك، أنه تنفعه نيته، ولا تطلق إلا واحدة. وقد روى عن الحسن البصرى فى رجل كان يكلم امرأته فى شىء فغلط، فقال: أنت طالق، قال: ليس عليه شىء فيما بينه وبين ربه، والمعمول عليه من مذهب مالك المشهور عند أصحابه القول الأول.
7 - بَاب إِذَا قَالَ للعبد: هُوَ لِلَّهِ وَنَوَى الْعِتْقَ وَالإِشْهَادِ فِى الْعِتْقِ
/ 9 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: لَمَّا أَقْبَلَ يُرِيدُ الإِسْلاَمَ وَمَعَهُ غُلاَمُهُ، ضَلَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ، فَأَقْبَلَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ جَالِسٌ مَعَ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَقَالَ له النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، هَذَا غُلاَمُكَ قَدْ أَتَاكَ) ، فَقَالَ: أَمَا إِنِّى أُشْهِدُكَ أَنَّهُ حُرٌّ.(7/42)
وقال مرة: أبقى لى غلام. . . الحديث، فقال: (هو لوجه الله) ، وقال مرة: أما إنى أشهدك أنه لله. قال المهلب: لا خلاف بين العلماء فيما علمت أنه إذا قال لعبده: هو حر، أو هو لوجه الله، أو هو لله ونوى به العتق أنه يلزمه العتق، وكل ما يفهم به عن المتكلم أنه أراد به العتق لزمه ونفذ عليه، وأما الإشهاد فى العتق فهو من حقوق المعتق، ويتم العتق عند الله، وجميع ما يراد به وجهه بالقول والنية، وإن لم يكن ثم إشهاد، وقد قالت امرأة عمران: (رب إنى نذرت لك ما فى بطنى محررًا) [آل عمران: 35] ، أى محررًا لخدمة المسجد،) فتقبلها ربها بقبول حسن) [آل عمران: 37] ، فتم ما نذرته بدعوتها الله، وقبل الله ذلك منها، فكان ما فى بطنها موقوفًا لما نذرته له من خدمة المسجد، ولم تشهد غير الله تعالى. وفى هذا الحديث من الفقه العتق عند بلوغ الأمل والنجاة مما يخاف من الفتن والمحن، كما فعل أبو هريرة حين نجاه الله من دار الكفر، ومن ضلاله فى الليل عن الطريق، وأعتق الغلام حين جمعه الله عليه وهداه إلى الإسلام.
8 - بَاب أُمِّ الْوَلَدِ
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام: (مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّهَا) .(7/43)
/ 10 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ عُتْبَةَ بْنَ أَبِى وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ أَنْ يَقْبِضَ إِلَيْهِ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، قَالَ عُتْبَةُ: إِنَّهُ ابْنِى، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) زَمَنَ الْفَتْحِ، أَخَذَ سَعْدٌ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، فَأَقْبَلَ بِهِ إِلَى النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَأَقْبَلَ مَعَهُ بِعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا ابْنُ أَخِى عَهِدَ إِلَىَّ أَنَّهُ ابْنُهُ، فَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا أَخِى ابْنُ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أبِى، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى ابْنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، فَإِذَا هُوَ أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِيهِ) ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (احْتَجِبِى مِنْهُ يَا سَوْدَةُ بِنْتَ زَمْعَةَ) ، مِمَّا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ، وَكَانَتْ سَوْدَةُ زَوْجَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . أشكل معنى قصة عتبة على العلماء، وتأولوا فيها ضروبًا من التأويل لخروجها عن الأصول المجمع عليها، فمن ذلك أن الأمة متفقة أنه لا يدعى أحد عن أحد إلا بتوكيل من المدعى له، ولم يذكر فى هذا الحديث توكيل عتبة لأخيه سعد على ما ادعاه عنه، ومنها ادعاء عبد بن زمعة على أبيه ولدًا بقوله: أخى وابن وليدة أبى، ولد على فراشه، ولم يأت ببينة تشهد بإقرار أبيه، ولا يجوز أن يقبل دعواه على أبيه؛ لأنه لا يستلحق غير الأب؛ لقوله تعالى: (ولا تكسب كل نفس إلا عليها) [الأنعام: 164] . وقال الطحاوى: ذهب قوم إلى أن الأمة إذا وطئها مولاها فقد لزمه كل ولد تجىء به بعد ذلك، ادعاه أو لم يدعه، هذا قول مالك والشافعى، واحتجوا بهذا الحديث؛ لأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (هو لك يا عبد بن زمعة) ، ثم قال: (الولد للفراش وللعاهر الحجر) ، فألحقه(7/44)
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بزمعة لا لدعوة ابنه؛ لأن دعوة الابن للنسب لغيره من أبيه غير مقبولة، ولكن لأن أمه كانت فراشًا لزمعة بوطئه إياها. واحتجوا فى ذلك بما رواه مالك، عن نافع، عن صفية بنت أبى عبيد، أن عمر بن الخطاب قال: ما بال رجال يطئون ولائدهم ثم يدعونهن يخرجن، لا تأتينى وليدة يقر سيدها أن قد ألم بها إلا ألحقت به ولدها، فأرسلوهن بعد أو أمسكوهن. وفى حديث آخر: ما بال رجال يطئون ولائدهم، ثم يعزلونهن. وخالفهم فى ذلك آخرون، فقالوا: ما جاءت به هذه الأمة من ولد، فلا يلزم مولاها إلا أن يقربه، فإن مات قبل أن يقربه لم يلزمه. وهو قول الكوفيين. واحتجوا على ذلك بأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إنما قال لعبد بن زمعة: (هو لك يا عبد بن زمعة) ، ولم يقل: هو أخوك، فيجوز أن يكون أراد بقوله: (هو لك) ، أى هو مملوك لك بحق مالك عليه من اليد، ولم يحكم فى نسبه بشىء، والدليل على ذلك أنه قد أمر سودة بالاحتجاب منه، فلو جعله ابن زمعة لما حجب منه بنت زمعة؛ لأنه عَلَيْهِ السَّلام لا يأمر بقطع الأرحام، وإنما كان يأمر بصلتها ومن صلتها التزاور، وكيف يجوز أن يأمرها أن تحتجب من أخيها، وهو يأذن لعائشة أن تأذن لعمها من الرضاعة بالدخول عليها، ولكن وجه ذلك أنه لم يكن حكم فيه بشىء غير اليد التى جعله بها لعبد ولسائر ورثة زمعة دون سعد. واحتجوا أيضًا بما رواه شعبة، عن عمارة بن أبى حفصة، عن عكرمة،(7/45)
قال: كان ابن عباس يأتى جارية له فحملت، فقال: ليس منى، إنى أتيتها إتيانًا لا أريد به الولد. وروى الثورى، عن أبى الزناد، عن خارجة بن زيد، أن أباه كان يعزل عن جارية فارسية فأتت بحمل، فأنكره وقال: إنى لم أكن أريد ولدك، وإنما استطبت نفسك، فجلدها وأعتقها. وقول ابن عباس وزيد خلاف ما روى عن عمر بن الخطاب فى ذلك أهل المقالة الأولى. واختلفوا فى معنى قوله، عَلَيْهِ السَّلام: (هو لك يا عبد بن زمعة) ، فقالت طائفة: إنما قال: (هو لك) ، أى هو أخوك كما ادعيت قضاء منه فى ذلك بعلمه؛ لأن زمعة بن قيس كان صهره، عَلَيْهِ السَّلام، وسودة بنت زمعة كانت زوجته، فيمكن أن يكون علم أن تلك الأمة كان يمسها زمعة، فألحق ولدها به لما علمه من فراش زمعة لا أنه قضى بذلك لاستلحاق عبد بن زمعة له. وقال الطحاوى فى قوله: (هو لك) ، أى هو لك بيدك عليه لا أنك تملكه، ولكن تمنع منه كل من سواك، كما قال فى اللقطة: هى لك بيدك عليها، تدفع غيرك عنها حتى يجىء صاحبها ليس على أنها ملك لك، ولما كان عبد بن زمعة له شريك فيما ادعاه وهى أخته سودة، ولم يعلم منها تصديق له، ألزم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عبد بن زمعة ما أقر به على نفسه، ولم يجعل ذلك حجة على أخته، إذ لم تصدقه، ولم يجعله أخاها وأمرها بالحجاب منه. وقال الطبرى: هو لك ملك لا أنه قضى له بنسبه. قال ابن(7/46)
القصار: فعنه جوابان: أحدهما: أنه كان يدعى عبد بن زمعة أنه حر وأنه أخوه ولد على فراش أبيه، فكيف يقضى له بالملك؟ ولو كان مملوكًا لعتق بهذا القول. والجواب الثانى: أنه لو قضى له بالملك لم يقل: الولد للفراش؛ لأنه المملوك لا يلحق بالفراش، ولكان يقول: هو ملك لك. وقال المزنى فى تأويل هذا الحديث: يحتمل أن يكون النبى (صلى الله عليه وسلم) أجاب فيه على المسألة فأعلمهم بالحكم أن هذا يكون إذا ادعى صاحب فراش وصاحب زنا، لا أنه قبل قول سعد على أخيه عتبة، ولا على زمعة قول ابنه عبد بن زمعة أنه أخوه؛ لأنه كل واحد منهما أخبر عن غيره، وقد أجمع المسلمون أنه لا يقبل إقرار أحد على غيره، فحكم بذلك ليعرفهم كيف الحكم فى مثله إذا نزل، وقد حكى الله مثل ذلك فى قصة داود إذ دخلوا عليه ففزع منهم: (فقالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض) [ص: 22] ، ولم يكونا خصمين، ولا كان لواحد منهما تسع وتسعون نعجة، ولكنهم كلموه ليعرف ما أرادوا، فيحتمل أن يكون، عَلَيْهِ السَّلام، حكم فى هذه القصة بنحو ذلك، ويحتمل أن تكون سودة جهلت ما علم أخوها عبد بن زمعة فسكتت، فلما لم يصح أنه أخ لعدم البينة بذلك أو الإقرار ممن يلزم إقراره، وزاده بعدًا شبهه بعتبة، أمرها بالاحتجاب منه، فكان جوابه، عَلَيْهِ السَّلام، على السؤال لا على تحقيقه زنا عتبة بقول أخيه، ولا بالولد أنه لزمعة بقول ابنه، بل قال: (الولد للفراش على قولك يا عبد بن زمعة لا على ما قال سعد) ، ثم أخبر بالذى يكون إذا ثبت مثل هذا.(7/47)
وقال الكوفيون: قوله: (احتجبى منه يا سودة) ، دليل على أنه جعل للزنا حكمًا، فحرم به رؤية ذلك المستلحق لأخته سودة، وقال لها: (احتجبى منه) ، فمنعها من أخيها فى الحكم؛ لأنه ليس بأخيها فى غير الحكم؛ لأنه من زنا فى الباطن إذا كان شبيهًا بعتبة فجعلوه كأنه أجنبى لا يراها بحكم الزنا، وجعلوه أخاها بالفراش، وزعموا أن ما حرمه الحلال فالزنا أشد تحريمًا له. وقال الشافعى: رؤية ابن زمعة لسودة مباح فى الحكم، ولكنه كرهه للشبهة وأمرها بالتنزه عنه اختيارًا. وقال بعض أصحابه: إنه يجوز للرجل أن يمنع زوجته من رؤية أخيها، وذهبوا إلى أنه أخوها على كل حال؛ لأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قضى بالولد للفراش وألحق ابن أمة زمعة بفراش زمعة، قالوا: وما حكم به فهو الحق. وفى قوله: (الولد للفراش) ، من الفقه إلحاق الولد بصاحب الفراش فى الحرة والأمة. وقوله: (وللعاهر الحجر) ، أى لا شىء للزانى فى الولد إذا ادعاه صاحب الفراش، وهذه كلمة تقولها العرب.
9 - بَاب بَيْعِ الْمُدَبَّرِ
/ 11 - فيه: جَابِرَ، قَالَ: أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنَّا عَبْدًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ، فَدَعَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِهِ فَبَاعَهُ. قَالَ جَابِرٌ: فَمَاتَ الْغُلاَمُ عَامَ أَوَّلَ.(7/48)
اختلف العلماء فى بيع المدبر، فقالت طائفة: يجوز بيعه ويرجع به صاحبه متى شاء، هذا قول مجاهد وطاوس، وبه قال الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، واحتجوا بهذا الحديث، قالوا: وهو مذهب عائشة، وروى عنها أنها باعت مدبرة لها سحرتها. وقالت طائفة: لا يجوز بيع المدبر، روى ذلك عن زيد بن ثابت وابن عمر، وهو قول الشعبى، وسعيد بن المسيب، وابن أبى ليلى، والنخعى، وبه قال مالك، والثورى، والليث، والكوفيون، والأوزاعى، قالوا: لا يباع المدبر فى دين ولا غيره، فى الحياة ولا بعد الموت، والحجة لهم قوله تعالى: (أوفوا بالعقود) [المائدة: 1] ، والتدبير عقد طاعة يلزم الإنسان الوفاء به، فلا سبيل إلى حله والرجوع فيه؛ لأنه عقد حرية بصيغة آتية لا محالة، قالوا: ولا حجة فى حديث جابر لمن أجاز بيع المدبر؛ لأن فى الحديث أن سيده كان عليه دين فباعه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بثمانمائة وأعطاه، وقال له: (اقض دينك) ، فثبت بهذا أن بيعه إنما كان من أجل الدين الذى عليه، فأما إذا لم يكن عليه دين قبل تدبيره فلا سبيل إلى بيعه. وأيضًا فإن سيده كان سفيهًا، ولذلك باعه النبى، عَلَيْهِ السَّلام، وبيع المدبر عند من أجازه لا يفتقر صاحبه فيه إلى بيع الإمام، وهذا الحديث عند العلماء أصل فى أن أفعال السفيه مردودة، فلا حجة لهم فيه. فإن قيل: إن التدبير وصية يجوز الرجوع فيه، قيل: ليس كونه(7/49)
وصية يجوز الرجوع فيه؛ لأن العتق فى المرض لا يجوز الرجوع فيه، وإن كان يخرج من الثلث، فكذلك المدبر. وجمهور العلماء متفقون أن ولد المدبرة الذين تلدهم بعد التدبير بمنزلتها يعتقون بموت سيدها، فإذا كان التدبير يسرى إلى الولد، فلأن يلزم فى الأم أولى. قال الطبرى: وفيه أن للإمام القيم بأمور المسلمين أن يحملهم فى أموالهم على ما فيه صلاحهم، ويرد من أفعالهم ما فيه مضرة لهم.
- بَاب بَيْعِ الْوَلاَءِ وَهِبَتِهِ
/ 12 - فيه: ابْنَ عُمَرَ، نَهَى النّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، عَنْ بَيْعِ الْوَلاَءِ، وَعَنْ هِبَتِهِ. / 13 - وفيه: عَائِشَةَ، اشْتَرَيْتُ بَرِيرَةَ، فَاشْتَرَطَ أَهْلُهَا وَلاَءَهَا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (أَعْتِقِيهَا، فَإِنَّ الْوَلاَءَ لِمَنْ أَعْطَى الْوَرِقَ) ، فَأَعْتَقْتُهَا، فَدَعَاهَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَخَيَّرَهَا مِنْ زَوْجِهَا. . . الحديث. الفقهاء بالعراق والحجاز مجمعون على أنه لا يجوز بيع الولاء ولا هبته. قال ابن المنذر: وفيه قول ثان: روى أن ميمونة بنت الحارث وهبت ولاء مواليها بنى العباس، وولاؤهم اليوم لهم، وأن عروة ابتاع ولاء طهمان لورثة مصعب بن الزبير، وذكر عبد الرزاق عن عطاء أنه يجوز للسيد أن يأذن لعبده أن يوالى من شاء، وهذا هو هبة الولاء.(7/50)
وسأذكر هذه المسألة فى باب إثم من تبرأ من مواليه فى كتاب الفرائض إن شاء الله. وقد روى إسماعيل بن أمية، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (الولاء لحمة كالنسب) ، وقد أجمع العلماء أنه لا يجوز تحويل النسب، وقد نسخ الله المواريث بالتبنى بقوله تعالى: (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم فى الدين ومواليكم) [الأحزاب: 5] . وقد لعن النبى (صلى الله عليه وسلم) من انتسب إلى غير أبيه وانتمى إلى غير مواليه، فكان حكم الولاء كحكم النسب فى ذلك، فكما لا يجوز بيع النسب ولا هبته، فكذلك لا يجوز بيع الولاء ولا هبته، ولا نقله وتحويله، وإنه للمعتق كما قال، عَلَيْهِ السَّلام، وهذا ينفى أن يكون الولاء الذى يسلم على يديه وللملتقط، وسيأتى اختلاف العلماء فى ذلك فى كتاب الفرائض، إن شاء الله.
- بَاب عِتْقِ الْمُشْرِكِ
/ 14 - فيه: عروة، أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ أَعْتَقَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ مِائَةَ رَقَبَةٍ، وَحَمَلَ عَلَى مِائَةِ بَعِيرٍ، فَلَمَّا أَسْلَمَ حَمَلَ عَلَى مِائَةِ بَعِيرٍ، وَأَعْتَقَ مِائَةَ رَقَبَةٍ، قَالَ: وَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ أَشْيَاءَ كُنْتُ أَصْنَعُهَا فِى الْجَاهِلِيَّةِ كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا، يَعْنِى أَتَبَرَّرُ بِهَا، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ لَكَ مِنْ خَيْرٍ) . أما عتق المشرك على وجه التطوع، فلا خلاف بين العلماء فى(7/51)
جوازه، وهذا الحديث حجة فى ذلك؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد جعل عتق المائة رقبة فى الجاهلية من أفعال الخير المجازى بها عند الله المتقرب بها إليه، ودل ذلك على أن مسلمًا لو أعتق كافرًا لكان مأجورًا على عتقه؛ لأن حكيمًا إنما جعل له الأجر على ما فعل فى جاهليته بالإسلام الذى صار إليه، فلم يكن المسلم الذى فعل مثل فعله فى الإسلام بدون حال حكيم، بل هو أولى بالأجر. واختلف فى عتق المشرك فى كفارة اليمين وكفارة الظهار، فأجازه قوم، وقالوا: لما أطلق اللفظ فى عتق رقبة الظهار وكفارة اليمين، ولم يشترط فيها الإيمان، جاز فى ذلك المشرك. ومنع ذلك آخرون، وقالوا: لا يجوز فى شىء من الكفارات إلا عتق رقبة مؤمنة، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى فى كفارة القتل: (فتحرير رقبة مؤمنة) [النساء: 92] ، فقيد الرقبة بالإيمان، قالوا: فوجب حمل المطلق على المقيد إذا كان فى معناه، وهذا فى معناه؛ لأن الكفارة تجمع ذلك، واحتجوا على ذلك بأن الله أمر بالإشهاد عند التبايع، فقال: (وأشهدوا إذا تبايعتم) [البقرة: 282] ، ثم قيد ذلك بالعدالة فى موضع آخر بقوله: (وأشهدوا ذوى عدل منكم) [الطلاق: 2] ، و) ممن ترضون من الشهداء) [البقرة: 282] ، فلم يجز من الشهداء إلا العدول، فوجب حمل المطلق على المقيد.(7/52)
- بَاب إِذَا أُسِرَ أَخُو الرَّجُلِ أَوْ عَمُّهُ هَلْ يُفَادَى إِذَا كَانَ مُشْرِكًا؟
وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ الْعَبَّاسُ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : فَادَيْتُ نَفْسِى، وَفَادَيْتُ عَقِيلاً، وَكَانَ عَلِىٌّ لَهُ نَصِيبٌ فِى تِلْكَ الْغَنِيمَةِ الَّتِى أَصَابَ مِنْ أَخِيهِ عَقِيلٍ، وَمن عَمِّهِ العَبَّاس. / 15 - فيه: أَنَس، أَنَّ رِجَالاً مِنَ الأَنْصَارِ اسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالُوا: ائْذَنْ لَنَا فَلْنَتْرُكْ لابْنِ أُخْتِنَا العَبَّاس فِدَاهُ، فَقَالَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لاَ تَدَعُونَ مِنْهُ دِرْهَمًا) . قال المهلب: أسر العباس وعقيل مع من أسر يوم بدر، فأخذ فيهم النبى (صلى الله عليه وسلم) برأى أبى بكر الصديق فى استحيائهم، وكره استعبادهم، وأباح لهم أن يفادوا أنفسهم بالمال من ذلة العبودية، فقطع كل واحد على نفسه بعدد من المال، وقطع العباس بفدائه، وفدى ابن أخيه عقيل، فأراد الأنصار أن يتركوا فداء العباس إكرامًا للنبى (صلى الله عليه وسلم) لمكان عمومته له، وللرحم التى تمسهم به فى الخئولة، فقال لهم: (لا تدعوا منه درهمًا) ، أراد أن يوهنهم بالغرم ويضعفهم، وقد تقدم هذا المعنى فى كتاب الجهاد فى باب فداء المشركين. وإنما ذكر البخارى هذا فى كتاب العتق، فأنه استنبط منه أن العم وابن العم لا يعتقان على من ملكهما من ذوى رحمهما؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قد(7/53)
ملك من عمه العباس ومن ابن عمه عقيل بالغنيمة التى له فيها نصيب، وكذلك ملك على بن أبى طالب من عمه العباس، ومن أخيه عقيل المشركين فى ذلك الوقت بنصيبه من الغنيمة، ولم يعتقا عليه، وهذا حجة على من قال من السلف: أنه من ملك ذا رحم محرم أنه يعتق عليه، وهو قول الكوفيين. وفيه حجة للشافعى فى قوله: إنه لا يعتق الأخ على من ملكه؛ لأن عقيلاً كان أخا على ابن أبى طالب، ولم يعتق عليه بما ملك من نصيبه منه. وأما تلخيص مذاهب العلماء فيمن يعتق على الرجل إذا ملكه، فذهب مالك أنه لا يعتق عليه إلا أهل الفرائض فى كتاب الله، وهم: الولد ذكورهم وإناثهم، وولد الولد وإن سفلوا، وأبواه، وأجداده، وجداته من قبل الأب والأم وإن بعدوا، وإخوته لأبوين، أو لأب، أو لأم، وبه قال الشافعى، إلا فى الإخوة فإنهم لا يعتقون على ما تقدم فى هذا الباب. وقال الكوفيون: من ملك ذا رحم محرم أنه يعتق عليه. وروى ذلك عن عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وعن عطاء، والشعبى، والحسن، والحكم، والزهرى، وحجة هذا القول ما رواه ضمرة، عن الثورى، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبى، عَلَيْهِ السَّلام: (من ملك ذا رحم محرم فهو حر) ، ورواه الحسن، عن سمرة، عن النبى، عَلَيْهِ السَّلام. وقال ابن المنذر: قد تكلم الناس فى هذين الحديثين، فقالوا: لم يرو حديث ابن عمر عن(7/54)
الثورى غير ضمرة، وحديث الحسن، عن سمرة، وقد تكلم فيهما وليس منهما ثابت. والحجة لمالك أنه لا يجوز ملك الأخ وأنه يعتق على من ملكه قوله تعالى حكاية عن موسى: (رب إنى لا أملك إلا نفسى وأخى) [المائدة: 25] ، وكما لا يجوز أن يسترق نفسه، كذلك لا يجوز أن يسترق أخاه وحجة الجميع فى أنه لا يجوز ملك الأبوين قوله تعالى: (ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما) [الإسراء: 23] ، واسترقاقهما أعظم من قول: أف، والأجداد داخلون فى اسم الآباء، ولم يجز ملك الولد لقوله تعالى: (وما ينبغى للرحمن أن يتخذ ولدًا إن كل من فى السماوات والأرض إلا آتى الرحمن عبدًا) [مريم: 92، 93] ، فلا يجوز أن يستعبد الابن بهذا النص.
- بَاب مَنْ مَلَكَ مِنَ الْعَرَبِ رَقِيقًا
فَوَهَبَ وَبَاعَ وَجَامَعَ وَفَدَى وَسَبَى الذُّرِّيَّةَ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَمْلُوكًا لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَىْءٍ (إلى قوله: (لاَ يَعْلَمُونَ) [النحل: 75] . / 16 - فيه: مَرْوَانَ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، قَامَ حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ، فَقَالَ: (إِنَّ مَعِى مَنْ تَرَوْنَ، وَأَحَبُّ الْحَدِيثِ إِلَىَّ أَصْدَقُهُ، وَاخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، إِمَّا الْمَالَ، وَإِمَّا السَّبْىَ) ، وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِهِمْ،(7/55)
وَكَانَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، انْتَظَرَهُمْ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنَ الطَّائِفِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، غَيْرُ رَادٍّ إِلَيْهِمْ إِلاَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، قَالُوا: فَإِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا، فَقَامَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، فِى النَّاسِ، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: (أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ جَاءُونَا تَائِبِينَ، وَإِنِّى رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُطَيِّبَ ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يُفِىءُ اللَّهُ عَلَيْنَا، فَلْيَفْعَلْ) ، فَقَالَ النَّاسُ: طَبْنَا لَكَ، فَقَالَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّا لاَ نَدْرِى مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ) ، فَرَجَعَ النَّاسُ، فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا. وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ عَبَّاسٌ: فَادَيْتُ نَفْسِى، وَفَادَيْتُ عَقِيلاً. / 17 - وفيه: ابن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، أَغَارَ عَلَى بَنِى الْمُصْطَلِقِ، وَهُمْ غَارُّونَ وَأَنْعَامُهُمْ تُسْقَى عَلَى الْمَاءِ، فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ، وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ، وَأَصَابَ يَوْمَئِذٍ جُوَيْرِيَةَ. / 18 - وفيه: أَبُو سَعِيدٍ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، فِى غَزْوَةِ بَنِى الْمُصْطَلِقِ، فَأَصَبْنَا سَبْيًا مِنْ سَبْىِ الْعَرَبِ، فَاشْتَهَيْنَا النِّسَاءَ، فَاشْتَدَّتْ عَلَيْنَا الْعُزْبَةُ، وَأَحْبَبْنَا الْعَزْلَ، فَسَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (مَا عَلَيْكُمْ أَلاَ تَفْعَلُوا، مَا مِنْ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلاَ وَهِىَ كَائِنَةٌ) .(7/56)
/ 19 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: مَا زِلْتُ أُحِبُّ بَنِى تَمِيمٍ مُنْذُ ثَلاَثٍ، سَمِعْتُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ فِيهِمْ: (هُمْ أَشَدُّ أُمَّتِى عَلَى الدَّجَّالِ) ، قَالَ: وَجَاءَتْ صَدَقَاتُهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (هَذِهِ صَدَقَاتُ قَوْمِنَا، وَكَانَتْ سَبِيَّةٌ مِنْهُمْ عِنْدَ عَائِشَةَ) ، فَقَالَ: أَعْتِقِيهَا، فَإِنَّهَا مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ. فى هذه الآثار أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، سبى العرب واسترقهم من هوازن وبنى المصطلق وغيرهم، وقال، عَلَيْهِ السَّلام، لعائشة فى السبية التميمية: (أعتقيها، فإنها من ولد إسماعيل) ، فصح بهذا كله جواز استرقاق العرب وتملكهم كسائر فرق العجم، وأجمع العلماء أن من وطئ أمة له بملك يمينه أن ولده منها أحرار، عربية كانت أو عجمية. واختلفوا إذا تزوج العربى أمة، هل يكون ولده منها رقيقًا تبعًا لها أم لا؟ فقال مالك، والكوفيون، والليث، والشافعى: إن الولد مملوك لسيد الأمة تبع لها، والحجة لهم أحاديث هذا الباب فى سبى النبى، عَلَيْهِ السَّلام، العرب واسترقاقهم. وقال الثورى، والأوزاعى، وأبو ثور، وإسحاق: يلزم سيد الأمة أن يقومه على أبيه، ويلزم أباه أداء القيمة إليه، ولا يسترق. وهذا قول سعيد بن المسيب، واحتجوا بما روى عن عمر أنه قال لابن عباس: لا يسترق ولد عربى من أمة وفيه عبدان. قال الليث: أما ما روى عن عمر بن الخطاب فى فداء ولد العربى من الولائد ست فرائض، إنما كان من أولاد الجاهلية، وفيما أقر(7/57)
به الرجل من نكاح الإماء، فأما اليوم فمن تزوج أمة، وهو يعلم أنها أمة فولده عبد لسيدها، عربيًا كان أو فارسيًا أو غيره. ومن حجة من جعلهم رقيقًا أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لما سوى بين العرب والعجم فى الدماء، فقال: (المؤمنون تتكافأ دماؤهم) ، وأجمع العرب على القول به، وجب إذا اختلفوا فيما دون الدماء أن يكون حكم ذلك حكم الدماء. قال المهلب: وقول النبى (صلى الله عليه وسلم) لعائشة: (أعتقيها فإنها من ولد إسماعيل) ، يدل على جواز تملك العرب، إلا أن عتقهم أفضل لمراعاة الرحم التى تجمعهم، وكذلك فعل عمر بن الخطاب فى خلافته بمن ملك رقيقًا من العرب الذين ارتدوا فى خلافة أبى بكر، قال: إن الله قد أوسع عليكم فى سبى أهل الكتاب من غير العرب، وإن من العار أن يملك الرجل بنت ابن عمه، فأجابوه إلى ما حض عليه، وهذا كله على وجه الندب لا على أنه لا يجوز تملكهم. قال غيره: وفى حديث سبى هوازن وبنى المصطلق، وقول أبى سعيد: واشتهينا النساء، دليل على أن الصحابة أطلقوا على وطء ما وقع فى سهمانهم من السبى، وهذا لا يكون إلا بعد الاستبراء بإجماع العلماء، وهذا يدل على أن السبى يقطع العصمة بين الزوجين الكافرين. واختلف السلف فى حكم وطء الوثنيات والمجوسيات إذا سبين، فأجاز ذلك سعيد ابن المسيب، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وحجتهم أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أباح وطء سبايا العرب إذا حاضت الحائض أو وضعت الحامل منهن.(7/58)
وهذا القول شذوذ عند العلماء لم يلتفت إليه أحد، واتفق أئمة الفتوى بالأمصار وعامة العلماء على أنه لا يجوز وطء الوثنيات لقوله تعالى: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) [البقرة: 221] ، وإنما أباح الله تعالى وطء نساء أهل الكتاب خاصة بقوله: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) [المائدة: 5] ، فإنما أطلق النبى (صلى الله عليه وسلم) أصحابه على وطء سبايا العرب بعد إسلامهن؛ لأن سبى هوازن كان سنة ثمان، وسبى بنى المصطلق سنة ست، وسورة البقرة من أول ما نزل بالمدينة، فقد كانوا علموا قوله: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) [البقرة: 221] ، وتقرر عندهم أنه لا يجوز وطء الوثنيات البتة حتى يسلمن. وروى عبد الرزاق، قال: حدثنا جعفر بن سليمان، قال: حدثنا يونس بن عبيد، أنه سمع الحسن يقول: كنا نغزو مع أصحاب النبى، عَلَيْهِ السَّلام، فإذا أصاب أحدهم جارية من الفىء، فأراد أن يصيبها أمرها فاغتسلت، ثم علمها الإسلام وأمرها بالصلاة، واستبرأها بحيضة ثم أصابها. قال: وسمعت الثورى يقول: أما السنة، فلا يقع عليها حتى تصلى إذا استبرأها، وعموم قوله تعالى: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) [البقرة: 221] ، يقتضى تحريم وطء المجوسيات بالتزويج وبملك اليمين، ألا ترى أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، سن أن تؤخذ الجزية من المجوس على ألا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم، وعلى هذا أئمة الفتوى وعامة العلماء. وأما قولهم: وأحببنا الفداء وأردنا أن نعزل، فقد استدل به(7/59)
جماعة من العلماء فى منع بيع أم الولد، وقالوا: معلوم أن الحمل منهن يمنع الفداء ويذهب بالثمن، والعلماء مجمعون على أنه لا يجوز بيعها وهى حامل، فإذا وضعت فهى على الأصل الذى اتفقوا عليه من منع البيع، ولا يجوز الانتقال عنه إلا باتفاق آخر، وأئمة الفتوى بالأمصار متفقون على أنه لا يجوز بيع أم الولد، وإنما خالف ذلك أهل الظاهر، وبشر المريسى، وهو شذوذ لا يلتفت إليه. قال ابن القصار: وقد روى عكرمة، عن ابن عباس، أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، قال لما ولدت أم إبراهيم: (أعتقها ولدها) ، وقالت عائشة: ما خلف النبى عبدًا ولا أمة، وقد كان خلف مارية، فعلم أنها عتقت بموته، ولم تكن أمة، وقد قال، عَلَيْهِ السَّلام: (لا نورث ما تركنا صدقة) ، ولم ينقل أن مارية كانت صدقة، فعلم أنها عتقت بموته ولم تكن مما تركه. قال: وأما قوله، عَلَيْهِ السَّلام: (ما عليكم ألا تفعلوا) ، فقد احتج بهذا من أباح العزل ومن كرهه. واختلف السلف فى ذلك قديمًا، وإباحة العزل أظهر فى الحديث، روى مالك، عن سعد بن أبى وقاص، وأبى أيوب الأنصارى، وزيد بن ثابت، وابن عباس أنهم كانوا يعزلون، وروى ذلك أيضًا عن ابن مسعود وجابر، وذكر مالك أيضًا عن ابن عمر أنه كره العزل، وروى كراهيته عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وقد روى عن على بن أبى طالب القولان جميعًا.(7/60)
واحتج من كره العزل بما رواه أبو الأسود، عن عروة، عن عائشة، قالت: وحدثتنى خزامة بنت وهب الأسدية، قالت: ذكر عند النبى (صلى الله عليه وسلم) العزل، فقال: (ذلك الوأد الخفى) . واتفق أئمة الفتوى على جواز العزل عن الحرة إذا أذنت فيه لزوجها، واختلفوا فى الأمة الزوجة، فقال مالك وأبو حنيفة: الإذن فى ذلك إلى مولاها. وقال أبو يوسف: الإذن فى ذلك إليها. وقال الشافعى: يعزل عنها دون إذنها ودون إذن مولاها. واحتج من أباح العزل بما روى عن الليث وغيره عن يزيد بن أبى حبيب، عن معمر ابن أبى حبيب، عن عبيد الله بن عدى بن الخيار، قال: تذاكر أصحاب النبى، عَلَيْهِ السَّلام، عند عمر العزل، فاختلفوا فيه، فقال عمر: قد اختلفتم وأنتم أهل بدر الأخيار، فكيف بالناس بعدكم؟ فقال على بن أبى طالب: لا يكون موءودة حتى يمر بالتارات السبع: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) [المؤمنون: 12] إلى آخر الآية. وروى سفيان، عن الأعمش، عن أبى الوداك، عن ابن عباس، أنه سُئل عن العزل، فذكر مثل كلام على سواء. قال الطحاوى: فهذا على، وابن عباس، قد اجتمعا على ما ذكرنا ووافقهما عمر، ومن كان بحضرتهما من أصحاب الرسول، فدل على أن العزل غير مكروه. قال الطحاوى: وقوله، عَلَيْهِ السَّلام: (ما عليكم ألا تفعلوا. . .)(7/61)
إلى آخر الحديث، فيه دليل أن العزل غير مكروه؛ لأنه، عَلَيْهِ السَّلام، لما أخبروه أنهم يفعلون ذلك لم ينكره عليهم، ولا نهاهم عنه، وقال: (ما عليكم ألا تفعلوا فإنما هو القدر) ، أى فإن الله إذا قدر يكون الولد، لم يمنعه عزل، ووصل الله من الماء إلى الرحم شيئًا وإن قل يكون منه الولد، وإن لم يقدر كونه لم يكن بالإفضاء. فأعلمهم أن الإفضاء لا يكون منه ولد إلا بقدر الله، وأن العزل لا يمنع الولد إذا سبق فى علم الله أنه كائن. وقال ابن مسعود: لو أن النطفة التى أخذ الله ميثاقها كانت فى صخرة لنفخ فيها الروح. قال: وفى قوله، عَلَيْهِ السَّلام: (ما من نسمة كائنة إلا وهى كائنة) ، إثبات العلم، وأن العباد يجرون فى علم الله وقدره، والقدر هو سر الله وعلمه لا يدرك بحجة ولا بجدال، وأنه لا يكون فى ملكه إلا ما شاء تعالى، ولا يقوم شىء إلا بإذنه، له الخلق والأمر. قال المهلب: وقول أبى هريرة: ما زلت أحب بنى تميم؛ لأنهم أشد الأمة على الدجال، وقد روى عنهم أنهم كانوا يختارون ما يخرجون فى الصدقات من أفضل ما عندهم، فأعجب النبى (صلى الله عليه وسلم) بفراهيتها، فقال هذا القول على معنى المبالغة فى نصحهم لله ولرسوله فى جودة الاختيار للصدقة، وقوله تعالى: (ضرب الله مثلاً عبدًا مملوكًا لا يقدر على شىء) [النحل: 75] ، فقد تأول بعض الناس فى هذه الآية أن(7/62)
العبد لا يملك، وسأذكر الاختلاف فى ملك العبد فى باب العبد راع فى مال سيده بعد هذا، وأذكر تأويل هذه الآية فيه، إن شاء الله، وقول ابن عمر: وهم غارون، يعنى على غرة، أى غفلة.
- بَاب فَضْلِ مَنْ أَدَّبَ جَارِيَتَهُ وَعَلَّمَهَا
/ 20 - فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ: قَالَ النّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (مَنْ كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ فَعَلَمهَا، وَأَحْسَنَ إِلَيْهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا، كَانَ لَهُ أَجْرَانِ) . قال المهلب: فيه أجر التأديب والتعليم، وأجر التزويج لله تعالى، وأن الله قد ضاعف له أجره بالنكاح والتعليم، وجعله كمثل أجر العتق، وفيه الحض على العتق، وعلى نكاح المعتق، وعلى التواضع وترك الغلو فى أمور الدنيا، وأخذ القصد والبلغة منها، وأن من تواضع لله فى منكحه وهو يقدر على نكاح أهل الشرف والحسب والمال، فإن ذلك مما يرجى عليه جزيل الأجر وجسيم الثواب.
- بَاب قَوْلِ النَّبِىِّ عَلَيْهِ السَّلام: (الْعَبِيدُ إِخْوَانُكُمْ، فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا (إلى) وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) [النساء: 36]
/ 21 - فيه: أَبُو ذَرّ، كانت عَلَيْهِ حُلَّةٌ، وَعَلَى غُلاَمِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنِّى سَابَبْتُ رَجُلاً، فَشَكَانِى إِلَى النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَقَالَ(7/63)
لِىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟) ، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ إِخْوَانَكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَأَعِينُوهُمْ) . قال المهلب: فيه الحض على كسوة المملوك وإطعامه بالسواء مثل طعام المالك وكسوته، وليس ذلك على الإيجاب عند العلماء، وإنما على المالك أن يكسوا ما يستر العورة ويدفع الحر والبرد، ويطعم ما يسد الجوعة ما لم يكن فيه ضرر على المملوك؛ لأن المولى إذا كان ممن يأكل الفراريج والفراخ ويأكل خبز السميد والأطعمة الرقيقة، وكانت كسوته الشطوى والنيسابورى، لم يكن عليه فى مذهب أحد من أهل العلم أن يطعم رقيقه ولا يكسوهم من ذلك؛ لأن هذه الأطعمة والكسوة التى ذكرناها لم يكن أحد من أصحاب النبى، عَلَيْهِ السَّلام، الذى خاطبهم بما خاطبهم به يأكل مثلها، إنما كان الغالب من قوتهم بالمدينة التمر والشعير. وقد روى أبو هريرة، عن النبى، عَلَيْهِ السَّلام: (للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف، ولا يكلف من العمل ما لا يطيق) ، فإن زاد على ما فرض عليه من قوته وكسوته بالمعروف كان متفضلاً متطوعًا. وقال ربيعة بن أبى عبد الرحمن: لو أن رجلاً عمل لنفسه خبيصًا فأكله دون خادمه، ما كان بذلك بأس. وكان يرى أنه إذا أطعم خادمه من الخبز الذى أكل منه، فقد أطعمه مما يأكل منه؛ لأن من عند العرب للتبعيض، ولو قال: أطعموهم من كل ما تأكلون، لوجب حينئذ إطعامهم من الخبيص ومن كل شىء، وكذلك فى اللباس.(7/64)
وقوله: (ولا تكلفوهم ما يغلبهم) ، هو كقول الله: (لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها) [البقرة: 286] ، ولما لم يكلفنا الله فوق طاقتنا ونحن عبيده، وجب أن نمتثل حكمه وطريقته فى عبيدنا. وقوله: (فإن كلفتموهم فأعينوهم) ، فيه جواز تكليف ما فيه المشقة، فإن كانت غالبة وجب العون عليها، وروى هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لا تستخدموا رقيقكم بالليل والنهار، فإن النهار لكم، والليل لهم) . وروى معمر، عن أيوب، عن أبى قلابة، يرفعه إلى سلمان، أن رجلاً أتاه وهو يعجن، فقال: أين الخادم؟ قال: أرسلته فى حاجة، فلم يكن ليجمع عليه شيئين أن يرسله ولا يكفيه عمله. وفيه الوصاة من النبى، عَلَيْهِ السَّلام، بما ملكت أيماننا؛ لأن الله وصى بهم فى كتابه. وفيه أنه لا حد على من قذف عبدًا، ولا عقوبة، ولا تعزير، وقد قال بعض العلماء: إن كان العبد رجلاً صالحًا، فأرى أن يعاقب القاذف له والمؤذى.
- بَاب الْعَبْدِ إِذَا أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ وَنَصَحَ سَيِّدَهُ
/ 22 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (الْعَبْدُ إِذَا نَصَحَ سَيِّدَهُ، وَأَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ، كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ) . / 23 - وفيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ عَلَيْهِ السَّلام: (لِلْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ النَّاصِحِ أَجْرَانِ، وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لَوْلاَ الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْحَجُّ، وَبِرُّ أُمِّى، لأَحْبَبْتُ أَنْ أَمُوتَ وَأَنَا مَمْلُوكٌ) .(7/65)
قال المهلب: لما كان للعبد فى عبادة ربه أجر، وكان له فى طاعة سيده ونصحه له أجر أيضًا، لكن لا يقال: إن الأجرين متساويان؛ لأن طاعة الله أوجب من طاعة المخلوقين، وفيه حض المملوك على نصح سيده؛ لأنه راع فى ماله، وهو مسئول عما استرعى، فبان أن أثر نصحه طاعة الله، فلهذا تبين فضل أجره فى طاعة الله على طاعة مولاه. وقوله: (والذى نفسى بيده، لولا الجهاد فى سبيل الله والحج وبر أمى، لأحببت أن أموت وأنا مملوك) ، هو من قول أبى هريرة، وفيه دليل أنه ليس على العبد جهاد ولا حج فى حال العبودية، إلا أن ينزل ببلد عدو، فيلزم الجهاد كل مسلم يكون بتلك البلد، فيجب على العبد منه بقدر طاقته ووسعه، وأما الحج، فإنما لم يجب عليه من أجل أنه غير مالك لنفسه، وليس له أن يخرج عن تصرف سيده وما به الحاجة إليه، وإنما خاطب الله من استطاع إليه سبيلاً، والعبد غير مستطيع، وأما بر الوالدين، فيلزم العبد منه من خفض الجناح، ولين القول والتذلل ما يلزم المسلمين، وأما السعى عليهما بالنفقة والكسوة فلا يلزمه؛ لأنه نفقته وكسوته على مولاه، وكسبه لمولاه، ولا تصرف له فى شىء منه إلا بإذنه.(7/66)
- بَاب كَرَاهِيَةِ التَّطَاوُلِ عَلَى الرَّقِيقِ
وَقَول الرجل: عَبْدِى وَأَمَتِى وَقول اللَّهُ: (وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إن يكونوا فقراء) [النور: 32] . وَقَالَ: (عَبْدًا مَمْلُوكًا) [النحل: 75] . وَقَالَ: (وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ) [يوسف: 25] . وَقَالَ: (مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ) [النساء: 25] . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلام: (قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ) . / 24 - فيه: ابن عُمر، قَالَ عَلَيْهِ السَّلام: (الْعَبْدُ إِذَا نَصَحَ لسَيِّدَهُ. . .) الحديث. / 25 - وفيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ عَلَيْهِ السَّلام: (الْمَمْلُوكُ الَّذِى يُحْسِنُ عِبَادَةَ رَبِّهِ، وَيُؤَدِّى إِلَى سَيِّدِهِ. . .) الحديث. / 26 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلام: (لاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ: أَطْعِمْ رَبَّكَ، وَضِّئْ رَبَّكَ، وَاسْقِ رَبَّكَ، وَلْيَقُلْ: سَيِّدِى وَمَوْلاَىَ، وَلاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ: عَبْدِى وَأَمَتِى، وَلْيَقُلْ: فَتَاىَ وَفَتَاتِى وَغُلاَمِى) . / 27 - وفيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا لَهُ مِنَ الْعَبْدِ. . .) الحديث. / 28 - وقال أيضًا عَنْ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ. . .) الحديث. / 29 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَزَيْدَ، قَالَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا زَنَتِ الأَمَةُ فَاجْلِدُوهَا. . .) الحديث. التطاول على الرقيق مكروه؛ لأن الكل عبيد الله، وهو لطيف بعباده رفيق بهم، فينبغى للسادة امتثال ذلك فى عبيدهم، ومن(7/67)
ملكهم الله إياهم وأوجب عليهم حسن الملك ولين الجانب، كما يجب على العبيد حسن الطاعة والنصح لساداتهم، والانقياد لهم وترك مخالفتهم، وقد جاء فى الحديث: (الله الله وما ملكت أيمانكم، فلو شاء الله لملكهم إياكم) . وما جاء فى هذا الباب من النهى عن التسمية، فإن ذلك من باب التواضع، وجائز أن يقول الرجل: عبدى، وأمتى؛ لأن القرآن قد نطق بذلك فى قوله: (والصالحين من عبادكم وإمائكم) [النور: 32] ، وإنما نهى، عَلَيْهِ السَّلام، عن ذلك على سبيل التطاول والغلظة لا على سبيل التحريم، واتباع ما حض عليه النبى (صلى الله عليه وسلم) أولى وأجل، فإن فى ذلك تواضعًا لله تعالى؛ لأن قول الرجل: عبدى، وأمتى، يشترك فيهما الخالق والمخلوق، فيقال: عبد الله، وأمة الله، فكره ذلك لاشتراك اللفظ. وأما الرب، فهى كلمة وإن كانت مشتركة، وتقع على غير الخالق للشىء، كقولهم: رب الدار، ورب الدابة، يراد صاحبهما، فإنها لفظة تختص بالله فى الأغلب والأكثر، فوجب أن لا تستعمل فى المخلوقين، لنفى الشركة بينهم وبين الله، ألا ترى أنه لا يجوز أن يقال لأحد غير الله: إله، ولا رحمن، ويجوز أن يقال له: رحيم؛ لاختصاص الله بهذين الاسمين، فكذلك الرب لا يقال لغير الله.(7/68)
- بَاب إِذَا أَتَاهُ خَادِمُهُ بِطَعَامِهِ
/ 30 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (إِذَا أَتَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ بِطَعَامِهِ، فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ، فَليُنَاوِلْهُ لُقْمَةً، أَوْ لُقْمَتَيْنِ، أَوْ أُكْلَةً، أَوْ أُكْلَتَيْنِ، فَإِنَّهُ وَلِىَ عِلاَجَهُ) . قال المهلب: هذا الحديث يفسر حديث أبى ذر فى التسوية بين العبد وبين سيده فى المطعم والكسوة، أنه على سبيل الحض والندب والتفضل، لا على سبيل الإيجاب على السيد؛ لأنه لم يسوه فى هذا الحديث بسيده فى المؤاكلة، وجعل إلى السيد الخيار فى إجلاسه للأكل معه أو تركه، ثم حضه على إن لم يأكل معه أن ينيله من ذلك الطعام الذى تعب فيه وشمه.
- بَاب إِذَا ضَرَبَ الْعَبْدَ فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ
/ 31 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (إِذَا قاتَلَ أحدُكم فلْيَجْتَنبِ الوَجهَ) . قال المهلب: تمام الحديث: (فإن الله خلق آدم على صورته) . وروى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، أنه مر على رجل يضرب عبده فى وجهه لطمًا، ويقول: قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك، فقال عَلَيْهِ السَّلام: (إذا ضرب أحدكم عبده، فليجتنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته) .(7/69)
وقد نقل الناقلون هذه القصة من الطرق الصحيحة، وربما ترك بعض الرواة بعض الخبر اختصارًا للدلالة على ما حذف منه، إذ كانت القصة مشهورة، فأمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) من قاتل غيره أو ضرب عبده أن يجتنب الوجه إكرامًا لآدم؛ لمشابهة المضروب له، فلا يضرب صورة خلقها الله بيده، فانتسب إلى هذا العبد، ومراعاة لحق الأبوة، وتفضيل الله لها حين خلق آدم بيديه، وأسجد له ملائكته، والهاء راجعة فى قوله: (على صورته) للمضروب. قال المؤلف: وللناس تأويلات فى ضمير الهاء من صورته، إلى من ترجع؟ لم أر لذكرها وجهًا، إذ لا يصح عندى فى ذلك غير ما قاله المهلب.
- بَاب الْعَبْدُ رَاعٍ فِى مَالِ سَيِّدِهِ وَنَسَبَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) الْمَالَ إِلَى السَّيِّدِ
/ 32 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلام: (كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ فِى أَهْلِهِ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ فِى بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ فِى مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) ، وَأَحْسِبُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (وَالرَّجُلُ فِى مَالِ أَبِيهِ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) . قال المهلب: هذه كلها أمانات تلزم من استرعيها أداء(7/70)
النصيحة فيها لله، ولمن استرعاه عليها، ولكل واحد منهم أن يأخذ مما استرعى أمره ما يحتاج إليه بالمعروف من نفقة ومؤنة. وقوله: (العبد والخادم راع فى مال سيده) ، ففيه حجة لمن قال: إن العبد لا يملك. واختلف أهل العلم فى ملك العبد لما فى يديه من المال، فذهبت طائفة إلى أنه لا يملك شيئًا؛ لأن الرق منافى الملك، وماله لسيده عند عتقه وعند بيعه إياه، وإن لم يشترط ماله سيده، روى هذا عن ابن مسعود، وابن عباس، وأبى هريرة، وعن سعيد بن المسيب، وهو قول الثورى، والكوفيين، والشافعى، وأحمد، وإسحاق. وقالت طائفة: ماله له دون سيده فى العتق والبيع، روى ذلك عن عمر بن الخطاب، وابن عمر، وعائشة، وبه قال النخعى، والحسن البصرى. واضطرب قول مالك فى ملك العبد، فقال: من باع عبدًا وله مال، فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع. وقال فيمن أعتق عبدًا: أن ماله للعبد، إلا أن يشترطه السيد، فدل قوله فى البيع أن العبد لا يملك، إذ جعل المال للسيد دون اشتراط، ودل قوله فى العتق أن العبد يملك، إذ جعل ماله له دون اشتراط. والحجة له فى البيع حديث ابن عمر، عن أبيه، عن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، أنه قال: (من باع عبدًا وله مال، فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع) ، والحجة له فى العتق حديث عبيد الله بن أبى جعفر، عن بكير بن الأشج، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، قال: (من أعتق عبدًا، فماله له إلا أن يستثنيه سيده) . قال ابن شهاب: السنة أن العبد إذا أعتق تبعه ماله، ولم يكن أحد أعلم بسنة ماضية من ابن شهاب.(7/71)
وقال قتادة فى قوله تعالى: (عبدًا مملوكًا لا يقدر على شىء) [النحل: 75] : هو الكافر لا يعمل بطاعة الله، ولا يعمل خيرًا،) ومن رزقناه منا رزقًا حسنًا) [النحل: 75] ، هو المؤمن يطيع الله فى نفسه وماله. وحجة من قال: إن العبد لا يملك شيئًا أن إضافة الشىء إلى ما لا يجوز أن يملك أشهر فى كلام العرب من أن يحتاج إلى شاهد، وذلك كقولهم: ماء النهر، وسرج الدابة، فإضافة المال إلى العبد فى قوله، عَلَيْهِ السَّلام: (من باع عبدًا وله مال) ، من أجل أنه بيده، لا أنه يملكه، وخاطب النبى (صلى الله عليه وسلم) قومًا عربًا يعرفون ما خوطبوا به. قال الطبرى: فأخبر النبى، عَلَيْهِ السَّلام، أن ذلك المال للبائع إذا لم يشترطه المبتاع فى عقد البيع، كما أخبر أن ثمرة النخل المؤبر للبائع إذا باع مالكه أصل النخل، كما كانت له قبل بيع النخل إذا لم يشترطها المبتاع فى عقد البيع. قالوا: ولو كان المال للعبد قبل بيع السيد له، لم يكن بيعه ليزيل ملكه عنه إلى البائع ولا إلى المشترى. قالوا: وفى إجماع الأمة أن لسيد العبد قبض مال العبد منه، وأن العبد ممنوع من التصرف فيه إلا بإذن سيده الدليل الواضح على صحة ما قلنا، وإلى هذا المذهب أشار البخارى بقوله: ونسب النبى (صلى الله عليه وسلم) المال إلى السيد فى قوله: (والعبد راع فى مال سيده) . قال المهلب: ومن حجة الذين قالوا: العبد يملك، أنهم قالوا للمحتجين عليهم بما تقدم: هذا يلزم فى السفيه، فإنه لا يجوز أن يتصرف فى ماله إلا بإذن وصيه، والمال ملك له، لقوله تعالى: (فإذا(7/72)
دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم) [النساء: 6] ، فكذلك العبد. وقال تعالى: (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا) [النور: 33] ، يعنى مالاً، بدليل قوله: (إن ترك خيرًا) [البقرة: 180] ، يعنى مالاً. وقال: (والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله) [النور: 32] ، فوصفهم بالفقر والغنى، فدل أنهم مالكون، وقال: (ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات (إلى قوله: (وآتوهن أجورهن) [النساء: 25] ، وهى المهور، فدل أن الإماء مالكات لها؛ لجواز دفعها إليهن، إذ لو كن غير مالكات لما جاز دفعها إليهن مع أمره تعالى بالتوثق عند دفع الحقوق إلى أهلها.(7/73)
بسم الله الرحمن الرحيم
44 - كِتَابَ الْمُكَاتِبِ
- بَاب الْمُكَاتِبِ وَنُجُومِهِ فِى كُلِّ سَنَةٍ نَجْمٌ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) [النور: 33] الآية.
وَقَالَ رَوْحٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَوَاجِبٌ عَلَىَّ إِذَا عَلِمْتُ لَهُ مَالاً أَنْ أُكَاتِبَهُ؟ قَالَ: مَا أُرَاهُ إِلاَ وَاجِبًا. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أتَأْثُرُهُ عَنْ أَحَدٍ؟ قَالَ: لاَ، ثُمَّ أَخْبَرَنِى أَنَّ مُوسَى ابْنَ أَنَسٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّ سِيرِينَ سَأَلَ أَنَسًا الْمُكَاتَبَةَ، وَكَانَ كَثِيرَ الْمَالِ، فَأَبَى، فَانْطَلَقَ إِلَى عُمَرَ، فَقَالَ: كَاتِبْهُ، فَأَبَى فَضَرَبَهُ بِالدِّرَّةِ، وَقَرأ عُمَرُ: (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) [النور: 33] فَكَاتَبَهُ. / 1 - فيه: عَائِشَةُ، أَنَّ بَرِيرَةَ دَخَلَتْ عَلَيْهَا تَسْتَعِينُهَا فِى كِتَابَتِهَا، وَعَلَيْهَا خَمْسَةُ أَوَاقٍ نُجِّمَتْ عَلَيْهَا فِى خَمْسِ سِنِينَ. . . الحديث. سنة الكتابة أن تكون على نجوم، تؤدى نجمًا بعد نجم، والظاهر من قول مالك أن شأن الكتابة التنجيم والتأجيل؛ لأنه قال: لو كاتبه على ألف درهم ولم يذكر أجلاً، نجمت عليه بقدر سعايته وإن كره السيد. وأجاز مالك والكوفيون الكتابة الحالة، وقال الشافعى: لابد فيها من أجل، ولا يجوز على أقل من نجمين، فإن وقعت حالة أو على نجم واحد، فليست كتابة، وإنما هو عتق على صفة، كأنه قال: إذا أديت إلىّ كذا وكذا فأنت حر، والحديث يدل أن النجوم فى الكتابة(7/74)
تجوز قليلة كانت أو كثيرة، وأنه ليس فى ذلك حد لا يتجاوز، ولو كان قول الشافعى صحيحًا أن الكتابة لا تجوز على أقل من نجمين؛ لجاز لغيره أن يقول: لا تجوز على أقل من خمسة نجوم؛ لأن أقل النجوم التى كانت على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى بريرة، وعلم بها وحكم فيها، كانت خمسة، وكان صواب الحجة أولى. وأيضًا فإن النجم الثالث لما لم يكن شرطًا فى صحة الكتابة بإجماع، فكذلك النجم الثانى؛ لأن كل واحد منهما له مدة يتعلق بها تأخير مال الكتابة، فإذا لم يكن أحدهما شرطًا وجب أن لا يكون الآخر كذلك، ولما أجمعوا أنه لو قال له: إن جئتنى من المال بكذا إلى شهر أنه جائز وليس بكتابة، فكذلك ما أشبهه من الكتابة. وقد احتج بقوله، عَلَيْهِ السَّلام، فى هذا الحديث: (وعليها خمس أواق نجمت عليها فى خمس سنين) ، من أجاز النجامة فى الديون كلها، على أن يقول: فى كل شهر كذا، وفى كل عام كذا، ولا يقول: فى أول الشهر، ولا فى وسطه، ولا فى آخره؛ لأنه لم يذكر فى الحديث فى أى وقت يحل النجم فيه، ولم ينكر النبى، عَلَيْهِ السَّلام، ذلك. وأبى هذا القول أكثر الفقهاء، وقالوا: لابد أن يذكر أى شهر من السنة يحل النجم فيه، أو أى وقت من الشهر يحل النجم فيه، فإن لم يذكر ذلك فهو أجل مجهول لا يجوز؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) نهى عن البيع إلا إلى أجل معلوم، ونهى عن حبل الحبلة، وهو نتاج النتاج. وليس تقصير من قصر عن نقل هذا المعنى فى حديث بريرة بصائر لتقرر هذا المعنى عندهم.(7/75)
واختلف العلماء فى تأويل قوله تعالى: (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا) [النور: 33] ، فذهب مالك، والكوفيون، والشافعى، إلى أن الكتابة ليست بواجبة على السيد، ولكنها مستحبة إذا سأله العبد، وروى عن عطاء ومسروق أن الكتابة واجبة، وهو قول أهل الظاهر، وقالوا: هو مذهب عمر بن الخطاب؛ لأنه ضرب أنسًا حين سأله مولاه سيرين الكتابة، فأبى أن يكاتبه، وقرأ عمر: (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا) [النور: 33] . وحجة الجماعة أنه قد انعقد الإجماع على أنه لو سأله أن يبيعه من غيره لم يلزمه ذلك، فكذلك الكتابة؛ لأنها معاوضة لا تصح إلا عن تراض. واختلفوا فى تأويل قوله تعالى: (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا) [النور: 33] ، قال ابن عباس: الخير المال، وقال عطاء: هو مثل قوله تعالى: (وإنه لحب الخير لشديد) [العاديات: 8] ، وقوله: (إن ترك خيرًا) [البقرة: 180] . وقال مجاهد: الخير المال والأداء. وقال الحسن والنخعى: هو الدين والأمانة. وقال مالك: سمعت بعض أهل العلم يقولون: هو القوة على الاكتساب والأداء، وعن الليث نحوه، وكره ابن عمر كتابة من لا حرفة له، فيبعثه على السؤال، وقال: يطعمنى أوساخ الناس، وعن سلمان مثله. قال الطبرى: وقول من قال: إنه المال، لا يصح عندنا؛ لأن العبد نفسه مال لمولاه، فكيف يكون له مال؟ والمعنى عندنا: إن(7/76)
علمتم فيهم الدين والصدق، وعلمتم أنهم يعاملونكم على أنهم متعبدون بالوفاء لكم بما عليهم من الكتابة، والصدق فى المعاملة فكاتبوهم. واختلفوا فى قوله: (وآتوهم من مال الله) [النور: 33] ، فذهب مالك وجمهور العلماء إلى أن ذلك على الندب والحض، أن يضع الرجل عن عبده من أجر كتابته شيئًا مسمى، وذهب الشافعى وأهل الظاهر إلى أن الإيتاء للعبد واجب، وقول الجمهور أولى؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يأمر موالى بريرة بإعطائها شيئًا، وقد كوتبت وبيعت بعد الكتابة، ولو كان الإيتاء واجبًا لكان مقدرًا كسائر الواجبات، حتى إذا امتنع السيد من حطه عنه وادعاه عليه عند الحاكم. فأما دعوى المجهول، فلا يحكم بها، ولو كان الإيتاء واجبًا، وهو غير مقدر؛ لكان الواجب للمولى على المكاتب هو الباقى بعد الحطيطة، فأدى ذلك إلى جهل مبلغ الكتابة، وذلك لا يجوز، وكان النخعى يذهب فى تأويل قوله: (وآتوهم من ماله الله الذى آتاكم) [النور: 33] ، أنه خطاب للموالى وغيرهم، وقاله الثورى. وقال الطحاوى: وهذا حسن من التأويل حض الناس جميعًا على معاونة المكاتبين لكى يعتقوا.
- بَاب مَا يَجُوزُ مِنْ شُرُوطِ الْمُكَاتَبِ وَمَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِى كِتَابِ اللَّهِ
/ 2 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ بَرِيرَةَ جَاءَتْ تَسْتَعِينُهَا فِى كِتَابَتِهَا، وَلَمْ تَكُنْ قَضَتْ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئًا، فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: ارْجِعِى إِلَى أَهْلِكِ، فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ(7/77)
أَقْضِىَ عَنْكِ كِتَابَتَكِ وَيَكُونَ وَلاَؤُكِ لِى فَعَلْتُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ بَرِيرَةُ لأَهْلِهَا فَأَبَوْا، وَقَالُوا: إِنْ شَاءَتْ أَنْ تَحْتَسِبَ عَلَيْكِ فَلْتَفْعَلْ، وَيَكُونَ لَنَا وَلاَؤُكِ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (ابْتَاعِى فَأَعْتِقِى، فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ) ، قَالَ: ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (مَا بَالُ أُنَاسٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِى كِتَابِ اللَّهِ، مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِى كِتَابِ اللَّهِ فَلَيْسَ لَهُ، وَإِنْ شَرَطَ مِائَةَ شَرط، فَشَرْطُ اللَّهِ أَحَقُّ وَأَوْثَقُ) . وترجم له بَاب (اسْتِعَانَةِ الْمُكَاتَبِ وَسُؤَالِهِ النَّاسَ) ، وقالت فيه: فإِنِّى كَاتَبْتُ أَهْلِى عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ، فِى كُلِّ عَامٍ أَوقِيَّةٌ، فَأَعِينِينِى. وترجم له بَاب (بَيْعِ الْمُكَاتَبِ إِذَا رَضِىَ) ، وقالت عائشة: هُوَ عَبْدٌ مَا بَقِىَ عَلَيْهِ شَىْءٌ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: مَا بَقِىَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: هُوَ عَبْدٌ وَإِنْ مَاتَ، وإِنْ عَاشَ، وَإِنْ جَنَى مَا بَقِىَ عَلَيْهِ شَىْءٌ. وترجم له بَاب (إِذَا قَالَ الْمُكَاتَبُ: اشْتَرِنِى وَأَعْتِقْنِى، فَاشْتَرَاهُ لِذَلِكَ) . / 3 - وفيه: قَالَتِ بريرة: اشْتَرِينِى وَأَعْتِقِينِى، قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَتْ: لاَ يَبِيعُونِى حَتَّى يَشْتَرِطُوا وَلاَئِى، فَقَالَتْ: لاَ حَاجَةَ لِى بِذَلِكَ. . . الحديث.(7/78)
أجمع العلماء أن من شرط ما لا يجوز فى السنة أنه لا ينفعه شرطه ذلك، وأنه مردود فى بيع كان الشرط، أو عتق، أو غير ذلك من الأحكام؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يخص شيئًا دون غيره، بل عم الأشياء كلها فى حديث بريرة، وقد تقدم اختلافهم فى جواز البيع والشرط فى كتاب البيوع. وقوله: (كل شرط ليس فى كتاب الله) ، معناه فى حكم الله وقضائه من كتابه، وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) ، وإجماع الأمة، فهو باطل. وفى حديث بريرة دليل على اكتساب المكاتب المال بالسؤال، وأن ذلك طيب لمولاه، وهذا يرد على من قال، هو قول ابن عمر: ذلك أوساخ الناس؛ لأن ما طاب لبريرة أخذه طاب لسيدها أخذه منها، اعتبارًا باللحم الذى كان عليها صدقة، وللنبى (صلى الله عليه وسلم) هدية، واعتبارًا أيضًا بجواز معاملة الناس للسائل، وقد تأول قوم من العلماء فى قوله: (وفى الرقاب) [التوبة: 60] ، أنه يجوز للمكاتبين أخذ الزكاة المفروضة، فكيف بالتطوع. واتفق مالك، والكوفيون، والشافعى، على جواز كتابة من لا حرفة له ولا مال معه، وقد روى عن مالك كراهة ذلك أيضًا، وكرهه الأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، ومما يدل على جواز سعى المكاتب وسؤاله أن بريرة ابتدأت بالسؤال، ولم يقل النبى (صلى الله عليه وسلم) : هل لها مال أو عمل أو كسب، ولو كان واجبًا لسأل عنه ليقع حكمه عليه؛ لأنه بعث معلمًا، عَلَيْهِ السَّلام، وهذا يدل أن من تأول فى قوله تعالى:(7/79)
) وإن علمتم فيهم خيرًا) [النور: 33] ، أن الخير المال، ليس بالتأويل الجيد، وأن الخير المذكور هو القوة على الاكتساب مع الأمانة، وقد يكتسب بالسؤال. وقوله: (اشترطى لهم الولاء) ، أى أظهرى لهم حكم الولاء وعرفيهم، والاشتراط هو الإظهار، ومنه أشراط الساعة ظهور علاماتها. وقال الداودى وغيره: لم يقل لها الرسول (صلى الله عليه وسلم) : اشترطى لهم الولاء، إلا بعد التقدم إليهم وإعلامهم أن الولاء كالنسب، لا يباع ولا يوهب، ومعناه اشترطى لهم الولاء، فإن اشتراطهم إياه بعد علمهم أن اشتراطه لا يجوز غير نافع لهم. قال غيره: والدليل على ذلك قوله، عَلَيْهِ السَّلام، معلنًا على رءوس الناس: (ما بال رجال يشترطون شروطًا ليست فى كتاب الله) ، فإنما وبخهم بما تقرر عندهم من علم السنة فى ذلك، ألا ترى قوله: (قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق) ، فكان هذا على وجه الوعيد لمن رغب عن سنته فى بيع الولاء، وليحذروا من مواقعة مثله، ولم يكن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يتوعد فى الأمر إلا بعد التقدم فيه. قال الداودى: وقيل: إنما قال لها، عَلَيْهِ السَّلام: (اشترطى لهم الولاء) ، على وجه العقوبة لهم، بأن حرمهم الولاء إذ تقدموا على ذلك قبل أن يسألوه وهو بين أظهرهم، عَلَيْهِ السَّلام.(7/80)
قال غيره: ومن الدليل على أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، ربما قال الشىء أو فعله، وليس بالأفضل عنده، لما يريد من تنكيل الناس وعقوبتهم، أنه عَلَيْهِ السَّلام نهاهم عن الوصال فلم ينتهوا، فواصل يومًا ثم يومًا حتى رأوا الهلال، وقال: (لو تأخر لزدتكم) ، كالمنكل بهم حين أبوا أن ينتهوا، ومثله قوله يوم الطائف: (إنا قافلون غدًا إن شاء الله) ، فقال الناس: قبل أن نفتحها؟ قال: (فاغدوا على القتال) ، فغدوا فأصيبوا بجراحات، فقال عَلَيْهِ السَّلام: (إنا قافلون غدًا إن شاء الله) ، فسروا بذلك. وفيه: أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان إذا أراد أن يعاقب فى أمر يكون تأديبًا لمن عاقبه عليه، خطب الناس قائمًا؛ ليكون أثبت فى قلوبهم وأردع لمن أراد مثل ذلك. وفيه: دليل أن المكاتب عبد ما لم يؤد وما بقى عليه درهم، روى ذلك عن عمر بن الخطاب، وابن المسيب، والقاسم، وسالم، وعطاء، وهو قول مالك، والثورى، والكوفيين، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق. قال مالك: وكل من أدركنا من أهل العلم ببلدنا يقولون ذلك. وفيها قول آخر روى عن على بن أبى طالب: أنه إذا أدى نصف كتابته عتق. قال ابن مسعود: لو كانت الكتابة مائتى دينار، وقيمة العبد مائة دينار، فأدى العبد المائة التى من قيمته عتق، وهو قول النحعى، وعن ابن مسعود: إن أدى ثلث الكتابة عتق، وهو قول شريح. وحجة الجماعة أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، أجاز بيع المكاتب بقوله:(7/81)
(اشتريها وأعتقيها) ، فبان بذلك أن عقد الكتابة لا يوجب لها عتقًا حتى تؤدى ما انعقد عليه، وأن عتقها يتعلق بشرط الأداء. قال ابن القصار: ولا تخلو الكتابة أن تجرى مجرى العتق بالصفة، أو مجرى البيع، أو الرهن، وإن كانت تجرى مجرى العتق بالصفة، فيجب ألا يعتق إلا بعد أداء جميع الكتابة، كما لو قال له: أنت حر إن دخلت الدار، فلا يعتق إلا بعد دخولها، وإن كان يجرى مجرى البيع، فيجب ألا يعتق أيضًا إلا بعد الأداء، كما لو باع عبدًا، فإنه لا يلزمه تسليم المبيع إلا بقبض جميع الثمن، وإن جرت مجرى الرهن فكذلك؛ لأنه لا يستحق أخذ الرهن حتى يؤدى جميع ما عليه. وقوله: باب إذا قال: اشترنى وأعتقنى، فاشتراه لذلك، فاختلف فيه العلماء، فقال الأوزاعى: لا يباع المكاتب إلا للعتق، ويكره أن يباع قبل عجزه، وهو قول أحمد، وإسحاق. وقال الكوفيون: لا يجوز بيعه حتى يعجز. وقال الداودى: اختلف قول مالك فى فسخ الكتابة بالبيع للعتق، فقال بعض أصحابه: كانت بريرة عجزت، وهذه دعوى من قائله وتحكم، والحديث يدل على خلافه. قال ابن المنذر: واختلف عن الشافعى فى هذه المسألة، فقال: ولا أعلم حجة لمن قال: ليس له بيع المكاتب، إلا أن يقول: لعل بريرة عجزت. فقال الشافعى: وأظهر معانيه أن لمالك المكاتب بيعه. قال ابن المنذر والداودى: وفى ترك الرسول (صلى الله عليه وسلم) سؤال بريرة هل(7/82)
عجزت أم لا؟ دليل على أن المكاتب يباع للعتق عجز أم لم يعجز. قال ابن المنذر: وإذا لم يختلف أهل العلم أن للرجل أن يبيع عبده قبل أن يكاتبه، فعقده الكتابة غير مبطل ما كان له من بيعه، كما هو غير مبطل ما كان له من عتقه، ولو لم يكن له بيعه ما كان له عتقه؛ لأن بيعه إياه إزالة ملكه عنه، كما عتقه سواء. ودل خبر عائشة فى قصة بريرة أنها بيعت بعلم النبى، عَلَيْهِ السَّلام، فلم ينكره، ومن قول عوام أهل العلم: أن المكاتب عبد ما بقى عليه درهم، فلم يمنع الرجل من بيع عبده الذى لو شاء أعتقه. وخبر عائشة مستغنى به عن قول كل أحد. قال الطبرى: وفى قوله، عَلَيْهِ السَّلام، لعائشة: (اشتريها وأعتقيها، فإنما الولاء لمن أعتق) ، أوضح دليل على أن بريرة إذ عتقت لم تعتق عند عائشة بالتحرير الذى كان من مواليها لها عند عقد الكتابة، ولكنها عتقت بعتق كان من عائشة لها بعد ابتياعها، فلذلك كان ولاؤها لعائشة دون مواليها البائعين لها، وفى ذلك أبين البيان أن عقد الكتابة الذى كان عقد لها مواليها انفسخ بابتياع عائشة لها، وهذا يرد قول من زعم أن عائشة أرادت أن تشترى منهم الولاء بعد عقدهم الكتابة، وتؤدى إليهم الثمن ليكون لها الولاء، ولو كان هذا صحيحًا لكان النكير على عائشة دون موالى بريرة؛ لأنها أرادت أن تشترى الولاء الذى نهى النبى (صلى الله عليه وسلم) عنه، وليس الأمر كذلك، وإنما كان الإنكار على موالى بريرة؛ لأن الولاء لا يباع ولا يكون إلا للمعتق.(7/83)
وفيه من الفقه: أن كتابة الأمة ذات الزوج جائزة دون زوجها، وفى ذلك دليل أنه ليس لزوجها من الكتابة، وإن كان ذلك يئول إلى فراقها إياه بغير إذنه إذا خيرت واختارت نفسها، ولما كان للسيد عتق الأمة تحت العبد، وإن أدى ذلك إلى بطلان نكاحه، وله أن يبيع أمته من زوجها الحر، وإن كان فى ذلك بطلان زوجيتها، كان لهذا المعنى يجيز كتابتها على رغم زوجها. وفيه: حجة لقول مالك أن للمرأة أن تتجر بمالها من غير علم زوجها؛ لأن عائشة اشترت بريرة وأنها إنما استأمرت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى أمر الولاء خاصة. وفيه: أن للمرأة أن تعتق بغير إذن زوجها، وقد أكثر الناس فى تخريج الوجوه فى حديث بريرة حتى بلغوها نحو مائة وجه، وللناس فى ذلك أوضاع، وسيأتى فى كتاب النكاح كثير من معانيه، إن شاء الله.(7/84)
بسم الله الرحمن الرحيم
45 - كِتَاب الْهِبَةِ وَفَضْلِهَا والتَحْرِيضِ عَلَيْهَا
- فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (يَا نِسَاءَ الْمُؤمنات، لاَ تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا، وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ) . / 2 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ لِعُرْوَةَ: ابْنَ أُخْتِى، إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلاَلِ، ثُمَّ الْهِلاَلِ، ثَلاَثَةَ أَهِلَّةٍ فِى شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَتْ فِى أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) نَارٌ، فَقُلْتُ: يَا خَالَةُ، وَمَا كَانَ يُعِيشُكُمْ؟ قَالَتِ: الأَسْوَدَانِ، التَّمْرُ وَالْمَاءُ، إِلاَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) جِيرَانٌ مِنَ الأَنْصَارِ، كَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ، وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ أَلْبَانِهِمْ فَيَسْقِينَاه. قال المهلب: فيه الحض على التهادى والمتاحفة ولو باليسير؛ لما فيه من استجلاب المودة، وإذهاب الشحناء، واصطفاء الجيرة، ولما فيه من التعاون على أمر العيشة المقيمة للإرماق، وأيضًا فإن الهدية إذا كانت يسيرة فهى أدل على المودة، وأسقط للمئونة، وأسهل على المهدى لإطراح التكليف. وفى حديث عائشة ما كان النبى، عَلَيْهِ السَّلام، عليه من الزهد فى الدنيا، والصبر على التقلل، وأخذ البلغة من العيش، وإيثار الآخرة على الدنيا؛ لأنه حمد حين خير بين الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة، وأن يكون نبيًا عبدًا، ولا يكون نبيًا ملكًا، فهذه سنته وطريقته. وفى هذا من الفقه: فضل التقلل والكفاف على التنعم والترفه، وفيه(7/85)
حجة لمن آثر الفقر على الغنى، وفيه أن من السنة مشاركة الواجد المعدم، وأن يكون الناس يشتركون فيما بأيديهم بالتفضل من الواجد. قوله: (يا نساء المؤمنات) ، على غير الإضافة، تقديره: يا أيها النساء المؤمنات، ومثله: يا رجال الكرام، فالمنادى هاهنا محذوف وهو أيها، والنساء فى تقدير النعت لأيها، والمؤمنات نعت للنساء. وحكى سيبويه: يا فاسق الخبيث، ومذهبه فيه أن فاسق وشبهه معرف بياء، كتعريف زيد بياء فى النداء، وكذلك يا نساء هنا مخرج على مذهبه أن يجوز نصب نعته، كما جاز يا زيد العاقل، فنصب العاقل، فيجوز على هذا يا نساء المؤمنات. وأما من روى: (يا نساء المؤمنات) ، على الإضافة ونصب النساء، فيستحيل أن تكون المؤمنات هاهنا من صفات النساء؛ لأن الشىء لا يضاف إلى نفسه، وإنما يضاف إلى غيره مما يبينه به ويضمه إليه، ومحال أن يبينه بنفسه أو يضمه إليها، هذا مذهب البصريين. وقد أجاز الكوفيون إضافة الشىء إلى نفسه، واحتجوا بآيات من القرآن تتخرج معانيها على غير تأويلهم، منها قوله تعالى: (ولدار الآخرة) [يوسف: 109] ، و) دين القيمة) [البينة: 5] . وقال الزجاج وغيره: معناه دار الحال الآخرة؛ لأن للناس حالين، حال الدنيا وحال الآخرة، ومثله صلاة الأولى، والمراد صلاة الفريضة الأولى، والسعة الأولى؛ لأنها أول ما فرض(7/86)
من الصلوات، ومعنى قوله تعالى: (دين القيمة) [البينة: 5] دين الملة القيمة، ولهذا وقع التأنيث، لكنه يخرج (يا نساء المؤمنات) على تقدير بعيد، وهو أن تجعل المؤمنات نعتًا لشىء محذوف غير النساء، كأنه قال: يا نساء الأنفس المؤمنات، والمراد بالأنفس الرجال، وفيه بُعْدٌ لفساد المعنى؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) إنما خاطب النساء بذلك على وجه الفضيلة لهن والتخصيص، وعلى هذا الوجه، لا فضيلة لهن فى ذلك، إلا أن يراد بالأنفس الرجال والنساء معًا، فيكون تقديره: يا نساء من الأنفس المؤمنات، على تقدير إضافة البعض إلى الكل، كما تقول: أخذت دراهم مال زيد، ومال واقع على الدراهم وغيرها. وقوله: (ولو فرسن شاة) ، أصل الفرسن للإبل، وهو موضع الحافر من الفرس، ويقال لموضع ذلك من البقر والغنم: الظلف. وقال الأصمعى: الفرسن ما دون الرسغ من يدى البعير، وهى مؤنثة، والجمع الفراسن. وقال ابن السكيت: إنما الفرسن للبعير، فاستعير للشاة، وأنشد فى مثله: أشكو إلى مولاى من مولاتى تربط بالحبل أكيرعاتى فاستعار الأكارع للإنسان، كما استعار الفرسن للشاة.
- بَاب الْقَلِيلِ مِنَ الهَديِةِ
/ 3 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلام: (لَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ أَوْ ذِرَاعٍ لأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِىَ إِلَىَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ) . هذا حض منه لأمته على المهاداة، والصلة، والتأليف، والتحاب، وإنما(7/87)
أخبر أنه لا يحقر شيئًا مما يُهدى إليه أو يدعى إليه؛ لئلا يمتنع الباعث من المهاداة لاحتقار المهدى، وإنما أشار بالكراع وفرسن الشاة إلى المبالغة فى قبول القليل من الهدية، لا إلى إعطاء الكراع والفرسن ومهاداته؛ لأن أحدًا لا يفعل ذلك.
3 - بَاب مَنِ اسْتَوْهَبَ مِنْ أَصْحَابِهِ شَيْئًا
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: قَالَ رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (اضْرِبُوا لِى مَعَكُمْ سَهْمًا) . / 4 - وفيه: سَهْلٍ، قال النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) للمرأة الأنصارية: (مُرِى غلامك النَّجَار، يَعْمَلْ لى أَعْوَادَ الْمِنْبَرِ. . .) الحديث. / 5 - وفيه: أَبُو قَتَادَةَ، قَالَ: فَنَاوَلْتُهُ الْعَضُدَ فَأَكَلَهَا، حَتَّى نَفِذَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ. استيهاب الصديق الملاطف حسن إذا علم أن ما يستوهبه تطيب به نفسه، ويسر بهبته، ويبين هذا أنه قد جاء فى حديث آخر أن المرأة الأنصارية كانت تطوعت للنبى (صلى الله عليه وسلم) وسألته أن تصنع له المنبر، وكانت وعدته بذلك، وإنما قال، عَلَيْهِ السَّلام: (اضربوا لى معكم سهمًا) فى الغنم التى أخذوا فى الرقية بفاتحة الكتاب، وقال فى لحم الصيد: (هل معكم منه شىء) ، ليؤنسهم لما تحرجوا من أكله بأن يريهم حله عيانًا بأكله منه. ومن هذا الحديث، قال بعض الفقهاء: إن المآكل إذا وردت على قوم دون مجالسيهم أنهم مندوبون إلى مشاركتهم.(7/88)
4 - بَاب مَنِ اسْتَسْقَى
وَقَالَ سَهْلٌ: قَالَ لِىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (اسْقِنِى) . / 6 - فيه: أَنَس، قَالَ: أَتَانَا النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، فِى دَارِنَا هَذِهِ، فَاسْتَسْقَى فَحَلَبْنَا لَهُ شَاةً لَنَا، ثُمَّ شُبْتُهُ مِنْ مَاءِ بِئْرِنَا هَذِهِ، فَأَعْطَيْتُهُ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ يَسَارِهِ، وَعُمَرُ تُجَاهَهُ، وَأَعْرَابِىٌّ عَنْ يَمِينِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ، قَالَ عُمَرُ: هَذَا أَبُو بَكْرٍ، فَأَعْطَى الأَعْرَابِىَّ فَضْلَهُ، ثُمَّ قَالَ: (الأَيْمَنُونَ، الأَيْمَنُونَ، أَلاَ فَيَمِّنُوا) ، قَالَ أَنَسٌ: فَهِىَ سُنَّةٌ، ثَلاَثًا. هذا مثل الباب الذى قبله، لا بأس بطلب ما يتعارف الناس بطلب مثله من شرب الماء واللبن، وما تطيب به النفس، ولا يتشاح فيه، ولاسيما أن زمن النبى (صلى الله عليه وسلم) زمن مكارمة ومشاركة، وقد وصفهم الله أنهم كانوا يؤثرون على أنفسهم، وإنما أعطى الأعرابى ولم يستأذنه كما استأذن الغلام؛ ليتألفه بذلك لقرب عهده بالإسلام. وفيه: أن السنة لمن استسقى أن يسقى من على يمينه، وإن كان من على يساره أفضل ممن جلس على يمينه، ألا ترى قول أنس: فهى سنة ثلاث مرات، وذلك يدل على تأكيدها، وقد تقدم بيان هذا المعنى فى كتاب الأشربة.
5 - بَاب قَبُولِ هَدِيَّةِ الصَّيْدِ وَقَبِلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ أَبِى قَتَادَةَ عَضُدَ الصَّيْدِ
/ 7 - وفيه: أَنَس، أَنْفَجْنَا أَرْنَبًا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، فَسَعَى الْقَوْمُ فَلَغَبُوا، فَأَدْرَكْتُهَا فَأَخَذْتُهَا، فَأَتَيْتُ بِهَا أَبَا طَلْحَةَ فَذَبَحَهَا، وَبَعَثَ إِلىّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) بِوَرِكِهَا، أَوْ فَخِذَيْهَا، قَالَ: فَخِذَيْهَا لاَ شَكَّ فِيهِ، فَقَبِلَهُ، قُلْتُ: وَأَكَلَ مِنْهُ؟ قَالَ: وَأَكَلَ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ بَعْدُ: قَبِلَهُ.(7/89)
/ 8 - وفيه: ابْن عَبَّاس، عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ، أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حِمَارًا وَحْشِيًّا، وَهُوَ بِالأَبْوَاءِ، أَوْ بِوَدَّانَ، فَرَدَّ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِى وَجْهِهِ، قَالَ: (أَمَا إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلاَ أَنَّا حُرُمٌ) . قول شعبة: قوله: فخذيها لا شك فيه، دليل أنه شك فى الفخذين أولاً ثم استيقن، وكذلك شك آخرًا فى الأكل، فأوقف حديثه على القبول، وقبول هدية الصيد وغيره هى السنة؛ لقوله عَلَيْهِ السَّلام: (لو أهدى إلىّ كراع أو ذراع لقبلته) . وفى رد النبى (صلى الله عليه وسلم) الحمار على الصعب بن جثامة وهو محرم دليل على أنه لا يجوز قبول ما لا يحل من الهدية؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) إنما رده عليه لأنه لا يحل له قتل الصيد وهو محرم، وكان الحمار حيًا، فدل هذا أن المهدى إذا كان معروفًا بكسب الحرام، أو بالغصب والظلم، فإنه لا يجوز قبول هديته. وفيه الاعتذار إلى الصديق، وإذهاب ما يخشى أن يقع بنفسه من الوحشة وسوء الظن، وقد تقدم هذا الحديث فى كتاب الحج وما للعلماء فيه، وكذلك تقدم حديث أنس فى كتاب الصيد وتفسير أنفَجْنَا.
6 - بَاب قَبُولِ الْهَدِيَّةِ
/ 9 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ، يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ مَرْضَاةَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . / 10 - وفيه: ابْن عَبَّاس، أَهْدَتْ أُمُّ حُفَيْدٍ، خَالَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ، إِلَى النَّبِىِّ،(7/90)
عَلَيْهِ السلام، أَقِطًا وَسَمْنًا وَضُبًّا، فَأَكَلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) مِنَ الأَقِطِ وَالسَّمْنِ، وَتَرَكَ الضَّبَّ تَقَذُّرًا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا أُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . / 11 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، كَانَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، إِذَا أُتِىَ بِطَعَامٍ سَأَلَ عَنْهُ: (أَهَدِيَّةٌ أَمْ صَدَقَةٌ؟) ، فَإِنْ قِيلَ: صَدَقَةٌ، قَالَ لأَصْحَابِهِ: (كُلُوا) ، وَلَمْ يَأْكُلْ، وَإِنْ قِيلَ: هَدِيَّةٌ، ضَرَبَ بِيَدِهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَكَلَ مَعَهُمْ. / 12 - وفيه: أَنَس، أُتِىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِلَحْمٍ، فَقِيلَ: تُصُدِّقَ به عَلَى بَرِيرَةَ، فَقَالَ: (هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ) . / 13 - وفيه: أُمِّ عَطِيَّةَ، دَخَلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى عَائِشَةَ، فَقَالَ: (عِنْدَكُمْ شَىْءٌ؟) ، قَالَتْ: لاَ، إِلاَ شَىْءٌ بَعَثَتْ بِهِ أُمُّ عَطِيَّةَ مِنَ الشَّاةِ الَّتِى بَعَثْتَ إِلَيْهَا مِنَ الصَّدَقَةِ، قَالَ: (إِنَّهَا قَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا) . قد روى عن مالك فى حديث الضب أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، أمر ابن عباس، وخالد ابن الوليد بأكل الضب فى بيت ميمونة، فقالا له: ألا تأكل يا رسول الله؟ فقال: (إنى يحضرنى من الله حاضرة، يعنى الملائكة الذين يناجيهم، ورائحة الضب ثقيلة) ، فلذلك تقذره، عَلَيْهِ السَّلام، خشية أن يؤذى الملائكة بريحه. فى هذا من الفقه أنه يجوز للإنسان أن يتقذر ما ليس بحرام عليه لقلة عادته بأكله ولذمه، وإنما كان النبى (صلى الله عليه وسلم) لا يأكل الصدقة؛ لأنها أوساخ الناس، وأخذ الصدقة منزلة ضعة؛ لقوله عَلَيْهِ السَّلام: (اليد العليا(7/91)
خير من اليد السفلى) ، والأنبياء منزهون عن منازل الضعة والذلة، وأيضًا فلا تحل الصدقة للأغنياء، وقد عدد الله على نبيه أنه وجده عائلاً فأغناه، فلهذا كله حرمت عليه الصدقة. وقوله فى لحم بريرة: (هو لها صدقة ولنا هدية) ، وقوله: (قد بلغت محلها) ، فإن الصدقة يجوز فيها تصرف الفقير بالبيع والهدية وغير ذلك؛ لصحة ملكه لها، فلما أهدتها بريرة إلى بيت مولاتها عائشة حلت لها وللنبى (صلى الله عليه وسلم) ، وتحولت عن معنى الصدقة لملك المتصدق عليه بها، ولذلك قال عَلَيْهِ السَّلام: (وهى لنا من قبلها هدية، وقد بلغت محلها) ، أى قد صارت حلالاً بانتقالها من باب الصدقة إلى باب الهدية؛ لأن الهدية جائز أن يثيب عليها بمثلها وأضعافها على المعهود منه، عَلَيْهِ السَّلام، وليس ذلك شأن الصدقة، وقد تقدمت هذه المعانى فى موضع آخر.
7 - بَاب مَنْ أَهْدَى إِلَى صَاحِبِهِ وَتَحَرَّى بَعْضَ نِسَائِهِ دُونَ بَعْضٍ
/ 14 - فيه: عَائِشَةَ: كَانَ النَّاسُ يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمِى، وكان نِسَاءَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) حِزْبَيْنِ: حِزْبٌ فِيهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ وَصَفِيَّةُ وَسَوْدَةُ، وَالْحِزْبُ الآخَرُ أُمُّ سَلَمَةَ وَسَائِرُ نِسَاءِ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ عَلِمُوا حُبَّ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَائِشَةَ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ أَحَدِهِمْ هَدِيَّةٌ يُرِيدُ(7/92)
أَنْ يُهْدِيَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَخَّرَهَا، حَتَّى إِذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى بَيْتِ عَائِشَةَ، بَعَثَ صَاحِبُ الْهَدِيَّةِ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى بَيْتِ عَائِشَةَ، فَكَلَّمَ حِزْبُ أُمِّ سَلَمَةَ، فَقُلْنَ لَهَا: كَلِّمِى رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُكَلِّمُ النَّاسَ، يَقُولُ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يُهْدِىَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) هَدِيَّةً فَلْيُهْدِهِا إِلَيْهِ حَيْثُ كَانَ مِنْ نِسَائِهِ، فَكَلَّمَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ بِمَا قُلْنَ، فَلَمْ يَقُلْ لَهَا شَيْئًا ثلاثًا، فَسَأَلْنَهَا فَقَالَتْ: مَا قَالَ لِى شَيْئًا، فَقُلْنَ لَهَا: كَلِّمِيهِ، فَكَلَّمَتْهُ حِينَ دَارَ إِلَيْهَا أَيْضًا، فَقَالَ لَهَا: (لاَ تُؤْذِينِى فِى عَائِشَةَ، فَإِنَّ الْوَحْىَ لَمْ يَأْتِنِى وَأَنَا فِى ثَوْبِ امْرَأَةٍ إِلاَ عَائِشَةَ) ، قَالَتْ: فَقُلت: أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مِنْ أَذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثُمَّ إِنَّهُنَّ دَعَوْنَ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) تَقُولُ: إِنَّ نِسَاءَكَ يَنْشُدْنَكَ الْعَدْلَ فِى ابنةِ أَبِى بَكْرٍ، فَقَالَ: (يَا بُنَيَّةُ، أَلاَ تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ؟) ، فَقَالَتْ: بَلَى، فَرَجَعَتْ إِلَيْهِنَّ فَأَخْبَرَتْهُنَّ، فَقُلْنَ: ارْجِعِى إِلَيْهِ، فَأَبَتْ أَنْ تَرْجِعَ، فَأَرْسَلْنَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ، فَأَتَتْهُ فَأَغْلَظَتْ، وَقَالَتْ: إِنَّ نِسَاءَكَ يَنْشُدْنَكَ الْعَدْلَ فِى بِنْتِ ابْنِ أَبِى قُحَافَةَ، فَرَفَعَتْ صَوْتَهَا حَتَّى تَنَاوَلَتْ عَائِشَةَ وَهِىَ قَاعِدَةٌ فَسَبَّتْهَا، حَتَّى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَنْظُرُ إِلَى عَائِشَةَ هَلْ تَكَلَّمُ، قَالَ: فَتَكَلَّمَتْ عَائِشَةُ(7/93)
حَتَّى أَسْكَتَتْهَا، قَالَ: فَنَظَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى عَائِشَةَ، وَقَالَ: (إِنَّهَا بِنْتُ أَبِى بَكْرٍ) . قال المهلب: فى هذا الحديث من الفقه: أنه ليس على الرجل حرج فى إيثار بعض نسائه بالتحف والطرف من المأكل، وإنما يلزمه العدل فى المبيت والمقام معهن، وإقامة نفقاتهن وما لابد منه من القوت والكسوة، وأما غير ذلك فلا، وفيه تحرى الناس بالهدايا أوقات المسرة ومواضعها من المهداة إليه؛ ليزيد بذلك فى سروره، وفيه أن الرجل يسعه السكوت بين نسائه إذا تناظرن، ولا يميل مع بعضهن على بعض، كما سكت النبى (صلى الله عليه وسلم) حين تناظرت زينب وعائشة، ولكن قال آخرًا: (إنها بنت أبى بكر) ، ففى هذا إشارة إلى التفضيل بالشرف والفهم.
8 - بَاب مَا لاَ يُرَدُّ مِنَ الْهَدِيَّةِ
/ 15 - فيه: أَنَس، كان لاَ يَرُدُّ الطِّيبَ، وَزَعَمَ أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ لاَ يَرُدُّهُ. قال المهلب: إنما كان النبى (صلى الله عليه وسلم) لا يرد الطيب من أجل أنه كان يلازمه لمناجاته الملائكة، ولذلك كان لا يأكل الثوم وما شاكله، وفى هذا الحديث دليل أن من الهدايا ما يرد لعلة، إذا كان لذلك وجه، وأن الطيب لا وجه لرده؛ لأنه من المباحات(7/94)
المستحسنات، وقد قال، عَلَيْهِ السَّلام: (حُبِّبَ إلىّ من الأشياء النساء والطيب) .
9 - بَاب مَنْ رَأَى الْهِبَةَ الْغَائِبَةَ جَائِزَةً
/ 16 - فيه: مَرْوَانَ وَالْمِسْوَر، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ، قَامَ فِى النَّاسِ، فَقَالَ: (إِنَّ إِخْوَانَكُمْ جَاءُونَا تَائِبِينَ، وَإِنِّى رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُطَيِّبَ ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ. . .) ، الحديث. قال المهلب: هبة الشىء الغائب جائزة عند العلماء، ولا أعلم فى ذلك خلافًا، وفيه أن للسلطان أن يرفع أملاك قوم إذا كان فى ذلك مصلحة واستئلاف.
- بَاب الْمُكَافَأَةِ فِى الْهَدِيَّةِ
/ 17 - فيه: عَائِشَةَ، كَانَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ، وَيُثِيبُ عَلَيْهَا. قال المهلب: الهدية على ضربين: فهدية للمكافأة، وهدية للصلة والجوار، فما كان للمكافأة كان على سبيل البيع وطريقه، ففيه العوض، ويجبر المهدى إليه على سبيل العوض، وما كان لله أو للصلة، فلا يلزم عليه مكافأة، وإن فعل فقد أحسن. وقد اختلف الفقهاء فيمن وهب هبة ثم طلب ثوابها، وقال: إنما أردت الثواب، فقال مالك: ينظر فيه، فإن كان مثله ممن يطلب الثواب من الموهوب له، فله ذلك، مثل الفقير للغنى، وهبة الغلام لصاحبه، وهبة الرجل لأميره، ومن هو فوقه، وهو(7/95)
أحد قولى الشافعى. وقال أبو حنيفة: لا يكون له ثواب إذا لم يشترطه، وهو قول الشافعى الثانى، قال: والهبة للثواب باطل لا تنعقد؛ لأنها بيع بثمن مجهول. واحتج الكوفى بأن موضع الهبة التبرع، فلو أوجبنا فيها العوض لبطل معنى التبرع، وصار فى معنى المعاوضات، والعرب قد فرقت بين لفظ البيع ولفظ الهبة، فجعلت لفظ البيع واقعًا على ما يستحق فيه العوض، والهبة بخلاف ذلك. قال ابن القصار: والحجة لمالك أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، كان يقبل الهدية ويثيب عليها، والاقتداء به واجب؛ لقوله تعالى: (لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة) [الأحزاب: 21] . وروى أن أعرابيًا أهدى إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) بعيرًا، فأثابه عليه فأبى، فزاده فأبى، فقال له، عَلَيْهِ السَّلام: (لقد هممت ألا أتهب إلا من قرشى أو دوسى) ، فدل أن الهبة تقتضى الثواب، وإن لم يشترطه؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) أثابه وزاده فى الثواب حتى بلغ رضا الأعرابى، ولو لم يكن واجبًا لم يثبه ولم يزده، ولو أثاب تطوعًا لم تلزمه الزيادة، وكان ينكر على الأعرابى طلبه للثواب حتى يحصل علمه هذا عند الناس. وأما قوله: إن الهبة موضوعة للتبرع، ومخالفة للفظ البيع، فالجواب أن الهبة لو لم تقتض العوض أصلاً لكانت بمنزلة الصدقة، يقصد بها ثواب الآخرة. والفرق بين الهبة والصدقة أن الواهب يقصد المكافأة فى الأغلب،(7/96)
وليست الصدقة كذلك، والفقير إذا وهب للغنى ينبغى أن يكون بمطلقه يقتضى الثواب، وإن كان الثواب مجهولاً، كقطعة الحمام والشارب والملاح، وقد جرى العرف بذلك، وأيضًا فإن الواهب دخل على أخذ العوض، وإن لم ينكره، فصار كأنه عقد معاوضة، ولنا أن نستدل بقوله تعالى: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) [النساء: 86] ، فهو عام فى كل هدية وهبة، فلو أهدى له مما يتحيا به من مسموم وغيره، وطلب الثواب كان ذلك له، ووجب على المحيا أن يحيى بأحسن منها، أو يردها بأمر الله له بذلك. فإن قيل: هذا ندب، والوجوب لا يتعلق بعوض زائد، فالجواب: أنه ندب إلى أحسن منها، وإلا فالرد واجب لفعل الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، وقد روى عن عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب أنهما قالا: إذا وهب الرجل هبة ولم يثب منها فهو أحق بها، ولا مخالف لهما فى الصحابة.
- بَاب الْهِبَةِ لِلْوَلَدِ وَإِذَا أَعْطَى بَعْضَ وَلَدِهِ شَيْئًا لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَعْدِلَ بَيْنَهُمْ وَيُعْطِىَ الآخَرِينَ مِثْلَهُ وَلاَ يُشْهَدُ عَلَيْهِ
وَقَالَ الرسول: (اعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ فِى الْعَطِيَّةِ) ، وَهَلْ لِلْوَالِدِ أَنْ يَرْجِعَ فِى عَطِيَّتِهِ، وَمَا يَأْكُلُ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَلاَ يَتَعَدَّى. وَاشْتَرَى(7/97)
النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، مِنْ عُمَرَ بَعِيرًا، ثُمَّ أَعْطَاهُ ابْنَ عُمَرَ، وَقَالَ: (اصْنَعْ بِهِ مَا شِئْتَ) . / 18 - فيه: النُّعْمَانِ، أَنَّ أَبَاهُ أَتَى بِهِ النّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَقَالَ: إِنِّى نَحَلْتُ ابْنِى هَذَا غُلاَمًا، فَقَالَ: (أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَ مِثْلَهُ؟) ، قَالَ: لاَ، قَالَ: (فَأرْجِعْهُ) ، وقد ذكره البخارى فى كتاب الشهادات، وقال فيه: (لا أشهد على جور) . اختلف العلماء فى الرجل ينحل بعض ولده دون البعض، فكرهه طاوس، وقال: لا يجوز ذلك، ولا رغيف محرق، وهو قول عروة، ومجاهد، وبه قال أحمد، وإسحاق، قال إسحاق: فإن فعل فالعطية باطلة، وإن مات الناحل فهو ميراث بينهم. واحتجوا بأن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، رد عطية النعمان، وقال له: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) ، وبقوله: (لا أشهد على جور) ، وأجاز ذلك مالك فى الأشهر عنه، وهو قول الكوفيين، والشافعى، وإن كانوا يستحبون أن يسوى بينهم ذكرانًا كانوا أو إناثًا. وقال عطاء وطاوس: يجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، كما قسم الله بعد موته، وهو قول الثورى، ومحمد بن الحسن، وأحمد، وإسحاق. وقال سحنون: إذا تصدق بجل ماله ولم يكن فيما استبقى ما يكفيه، ردت صدقته، وإن أبقى من ذلك ما يكفيه جازت صدقته.(7/98)
وقد قال مالك: لم يكن لبشير مال غير الغلام الذى نحله ابنه. ومن حجة الذين أبطلوا ذلك أن إعطاء بعضهم دون بعض يؤدى إلى قطع الرحم والعقوق، فيجب أن يكون محرمًا ممنوعًا منه؛ لأنه لا يجوز عليه (صلى الله عليه وسلم) أن يحث على صلة الرحم ويجيز ما يؤدى إلى قطعها، قالوا: وقد كان النعمان وقت ما نحله أبوه صغيرًا، وكان أبوه قابضًا له لصغره عن القبض، فلما قال له، عَلَيْهِ السَّلام: اردده، بعدما كان فى حكم ما قبض، دل على أن النحل لبعض ولده لا ينعقد ولا يملكه المنحول. قال الطحاوى: ومن حجة الذين أجازوا التفضيل أن حديث النعمان لا دليل فيه على أنه كان حينئذ صغيرًا، ولعله كان كبيرًا لم يكن قبضه، وقد روى الحديث على غير هذا المعنى، روى داود بن أبى هند، عن الشعبى، عن النعمان، أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، قال: (أكُلَّ ولدك نحلته مثل هذا؟) ، قال: لا، قال: (أيسرك أن يكونوا لك فى البر سواء؟) ، قال: بلى، قال: (فأشهد على هذا غيرى) ، فهذا خلاف ما فى الحديث الأول، وهذا القول لا يدل على فساد العقد الذى عقد للنعمان؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قد يتوقى فى الشهادة على ماله أن يشهد عليه. وقوله: (أشهد على هذا غيرى) ، دليل على صحة العقد، وقد أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) بالتسوية بينهم ليستووا جميعًا فى البر، وليس فى شىء من هذا فساد العقد على التفضيل، فكان كلام النبى (صلى الله عليه وسلم) إياه على طريق المشورة، وعلى ما ينبغى أن يفعل عليه الشىء إن آثر فعله.(7/99)
وكان عَلَيْهِ السَّلام إذا قسم شيئًا بين أهله سوى بينهم جميعًا، وأعطى المملوك كما يعطى الحر، ليس ذلك على أنه واجب، لكنه أحسن من غيره، وقد روى معمر، عن الزهرى، عن أنس، قال: كان مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) رجل، فجاء ابن له، فقبله وأجلسه على فخذه، ثم جاءت ابنة له، فأجلسها إلى جنبه، قال: (فهلا عدلت بينهما) ، أفلا ترى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أراد منه التعديل بين البنت والابن، وألا يفضل أحدهما على الآخر. فإن قيل: فقوله عَلَيْهِ السَّلام: (لا أشهد على جور) ، يدل على أن إعطاء بعضهم لا يجوز. قيل: ليس قوله ذلك بأشد من قوله: (فارجعه) ، وهذا يدل على أن العطية قد لزمت وخرجت عن يده، ولو لم تكن صحيحة لم يكن له أن يرتجع؛ لأنها ما مضت ولا صحت فيرتجع، فأمره بذلك لأن المستحب والمسنون التسوية. ولما أجمعوا على أنه مالك لماله، وأن له أن يعطيه من شاء من الناس، كذلك يجوز أن يعطيه من شاء من ولده، والدليل على جواز ذلك أن أبا بكر الصديق نحل ابنته عائشة دون سائر ولده، ونحل عمر ابنه عاصمًا دون سائر ولده، ونحل عبد الرحمن بن عوف ابنته أم كلثوم ولم ينحل غيرها، وأبو بكر وعمر إمامان، وعبد الرحمن ومحله، ولم يكن فى الصحابة من أنكر ذلك. والحجة على من قال: نجعل حظ الذكر مثل حظ الأنثيين كالفرائض، قوله عَلَيْهِ السَّلام: (أكل ولدك نحلت مثل هذا) ، ولم يقل له: هل فضلت الذكر على الأنثى؟ ولو كان ذلك مستحبًا(7/100)
لسأله عنه كما سأله عن التشريك فى العطية، فثبت أن المعتبر عطية الكل على التسوية. فإن قيل: لم يكن لبشير بنت، فلذلك لم يسأله. قيل: قد كان للنعمان أخت لها خبر نقله أصحاب الحديث. قال المهلب: وفى قوله عَلَيْهِ السَّلام: (اردده) من الفقه أن للأب أن يقبض ما وهب لولده ويرجع فيه. وقد اختلف العلماء فى ذلك، فقال مالك: له أن يرجع فى هبته وإن قبضها الولد ما لم تتغير فى يد ولده، أو سيحدث دينًا، أو تتزوج البنت بعد الهبة. وقال الشافعى: له أن يرجع فى هبته على كل حال ولم يعتبر طروء دين أو تزويجًا. وقال أبو حنيفة: لا يرجع فيما وهب لولده، وحديث النعمان حجة على أبى حنيفة؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أمره بالرجوع فيما وهب لابنه، فإن قال: لم يكن قبض النعمان الهبة، فلذلك جاز لأبيه الرجوع فيها، فالجواب أن الهبة تلزم عند مالك بالقول، ولا يفتقد فى صحتها إلى القبض. ولو كان الحكم فيها يختلف بين أن تكون مقبوضة أو غير مقبوضة، لاستعلم الرسول (صلى الله عليه وسلم) الحال وفصل بينهما، وأيضًا فإن مجيئه للنبى، عَلَيْهِ السَّلام، يشهده يدل على أنه كان أقبضه، ولو لم يقبضه لم يكن لقوله: (أرجعه) معنى؛ لأنه عندكم قبل القبض لا يلزمه يرجع فيه، وليس لقوله حكم.(7/101)
وحجة مالك أنه لا يرجع إن استحدث ابنه دينًا، فإنما قال ذلك؛ لأن حق الغرماء قد وجب فى مال الابن؛ لأنهم إنما داينوه على ماله، فليس للأب أن يبطل حقوق غرماء ابنه، وكذلك البنت إذا تزوجت لمالها؛ لأن الزوج له معونة فيه وكمال فى مال زوجته. وقد قال عَلَيْهِ السَّلام: (تنكح المرأة لمالها) ، فليس للأب أن يبطل ما وجب للزوج من الحقوق فى مال زوجته بأن يأخذ ذلك منها، وليس لغير الأب أن يقبض عند مالك وأكثر أهل المدينة، إلا أن الأم لها أن تقبض عندهم ما وهبت لولدها إذا كان أبوهم حيًا. هذا الأشهر عن مالك، وقد روى عنه أنها لا تقبض أصلاً، ولا يجوز عند أهل المدينة أن تقبض الأم ما وهبت ليتيم من ولدها؛ لأن الهبة لليتيم على وجه القربة لله، فهى بمنزلة الصدقة عليه، ولا يجوز الرجوع فى الصدقة؛ لأنها لله، كما لا يجوز الرجوع فى العتق والوقف وأشباهه. وعند الشافعى لا يرجع أحد فى هبته إلا الوالد والجد، وقد روى عن ابن وهب أن الجد يقبض كالأب، وعند الكوفى لا يرجع فيما وهبه لكل ذى رحم محرم بالنسب كالابن، والأخ، والأخت، والعم، والعمة، وكل من لو كان امرأة لم يحل له أن يتزوجها لأجل النسب.(7/102)
قال المؤلف: فى اشتراء النبى (صلى الله عليه وسلم) البعير من عمر وهبته لابنه دليل على ما بوب به البخارى من التسوية بين الأبناء فى الهبة؛ لأنه عَلَيْهِ السَّلام لو سأل عمر أن يهب البعير لابنه عبد الله لم يكن عدلاً بين بنى عمر، فلذلك اشتراه عَلَيْهِ السَّلام ووهبه، ولو أشار على عمر أن يهبه لابنه عبد الله لبادر إلى ذلك. قال المهلب: وفى اشتراء النبى (صلى الله عليه وسلم) الجمل من عمر وهبته لابنه من الفقه أن غير الأب لا تلزمه التسوية فيما يهب بعض ولد الرجل كما يلزم الأب فى ولده، لما جبل الله النفوس عليه من الغضب عند أثرة الآباء بعض بنيهم دون بعض، ولو لزمت التسوية بين الأخوة من غير الأب، كما لزمت من الأب لما وهب النبى (صلى الله عليه وسلم) أحد بنى عمر دون إخوته. وقول البخارى: ولا يشهد عليه معناه: الرد لفعل الأب إذا فضل بعض بنيه، وأنه لا يسع الشهود أن يشهدوا على ذلك من فعل الأب إذا تبين منه الميل، كما لم يشهد الرسول على عطية بشير ابنه النعمان دون إخوته، وقال: (لا أشهد على جور) ، فكان ذلك سنة من النبى (صلى الله عليه وسلم) ألا يشهد على عطية يتبين فيها الجور.
- بَاب الإِشْهَادِ فِى الْهِبَةِ
/ 19 - فيه: النُّعْمَانَ: أَعْطَانِى أَبِى عَطِيَّةً، فَقَالَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لاَ أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: إِنِّى أَعْطَيْتُ ابْنِى مِنْ عَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ عَطِيَّةً، فَأَمَرَتْنِى أَنْ أُشْهِدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (أَعْطَيْتَ سَائِرَ(7/103)
وَلَدِكَ مِثْلَ هَذَا؟) ، قَالَ: لاَ، قَالَ: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ) ، قَالَ: فَرَجَعَ فَرَدَّ عَطِيَّتَهُ. الإشهاد ليس من شروط الهبة والصدقة التى لا تتم إلا بها، وإنما هو ليعلم عزيمة المتصدق على إنفاذ ما تصدق به أو وهب، ولو أن رجلاً تصدق على أحد بشىء، وحازه المتصدق عليه دون إشهاد حتى مات المتصدق، فأقر ورثته وهم بالغون بالصدقة لنفذت، وإن كان لم يشهد عليها فى الأصل عند مالك وأصحابه، وإنما الإشهاد فى الهبة كالإشهاد فى البيع والعتق ليعلم ذلك. قال المهلب: وفيه أن للإمام إذا عرف من الواهب هروبًا من بعض الورثة أن يرد ذلك؛ لأن قوله: (فأمرتنى أن أشهدك) ، وأنها لم ترض حتى يشهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) دليل على هروبه بماله عن سائر بنيه؛ لأن فى بعض طرق الحديث: (لا أشهد على جور) ، وكان معروفًا بالميل إلى تلك المرأة.
- بَاب هِبَةِ الرَّجُلِ لامْرَأَتِهِ، وَالْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا
وقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَىْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ) [النساء: 4] . قَالَ إِبْرَاهِيمُ: جَائِزَةٌ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لاَ يَرْجِعَانِ. وَاسْتَأْذَنَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، نِسَاءَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِى بَيْتِ عَائِشَةَ. وَقَالَ: (الْعَائِدُ فِى هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِى قَيْئِهِ) . وَقَالَ الزُّهْرِىُّ فِيمَنْ قَالَ لامْرَأَتِهِ: هَبِى لِى بَعْضَ صَدَاقِكِ، أَوْ كُلَّهُ، ثُمَّ لَمْ يَمْكُثْ إِلاَ(7/104)
يَسِيرًا حَتَّى طَلَّقَهَا، فَرَجَعَتْ فِيهِ، قَالَ: يَرُدُّ إِلَيْهَا إِنْ كَانَ خَلَبَهَا، وَإِنْ كَانَتْ أَعْطَتْهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ لَيْسَ فِى شَىْءٍ مِنْ أَمْرِهِ خَدِيعَةٌ جَازَ. قَالَ الله: (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَىْءٍ) [النساء: 4] الآية. / 20 - فيه: عَائِشَة، لَمَّا ثَقُلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَاشْتَدَّ وَجَعُهُ اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِى بَيْتِى، فَأَذِنَّ لَهُ. . . الحديث. / 21 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (الْعَائِدُ فِى هِبَتِهِ، كَالْكَلْبِ يَقِىءُ، ثُمَّ يَعُودُ فِى قَيْئِهِ) . اختلف العلماء فى الزوجين يهب كل واحد منهما لصاحبه، فقال جمهور العلماء: ليس لواحد منهما أن يرجع فيما يعطيه للآخر، هذا قول عمر بن عبد العزيز، والنخعى، وعطاء، وربيعة، وبه قال مالك، والليث، والثورى، والكوفيون، والشافعى، وأبو ثور، وفيها قول آخر، وهو أن لها أن ترجع فيما أعطته، وليس له أن يرجع فيما أعطاها، روى هذا عن شريح، والشعبى، والزهرى. قال الزهرى: ما رأيت القضاة إلا يقيلون المرأة فيما وهبت لزوجها، ولا يقيلون الرجل فيما وهب لامرأته. وروى عبد الرزاق، عن الثورى، عن سليمان الشيبانى، قال: كتب عمر بن الخطاب أن النساء يعطين رغبة ورهبة، فأيما امرأة أعطت زوجها فشاءت أن ترجع رجعت. والقول الأول أحسن لقوله: (فإن طبن لكم عن شىء منه نفسًا) [النساء: 4] ، وروى عن على ابن أبى طالب، أنه قال: إذا اشتكى أحدكم فليسأل امرأته ثلاثة دراهم، ويشترى بها عسلاً، ويأخذ من ماء السماء فيتداوى به، فيجمع هنيئًا(7/105)
مريئًا وماء مباركًا، فلو كان لهن فيه رجوع لم يكن هنيئًا مريئًا، ألا ترى أن ما وهبه أزواج النبى (صلى الله عليه وسلم) له من أيامهن ولياليهن، وأن يمرض فى بيت عائشة، لم يكن لهن فيه رجوع؛ لأنه كان عن طيب نفس منهن، لا عن عوض. واختلفوا فيما وهب أحد الزوجين لصاحبه، هل يحتاج إلى حيازة وقبض؟ فقال ابن أبى ليلى والحسن البصرى: الصدقة جائزة وإن لم يقبضها. وقال النخعى وقتادة: ليس بين الزوجين حيازة. وقال ابن سيرين، وشريح، ومسروق، والشعبى: لابد فى ذلك من القبض، وهو قول الثورى، والكوفيين، والشافعى، وهى رواية أشهب عن مالك. قال مالك: إن ما وهب الرجل لامرأته، والمرأة لزوجها وهو فى أيديهما كما كان، إنه حوز ضعيف لا يصح، وله قول آخر، روى ابن القاسم، عن مالك فى العتبية فى الرجل يهب لامرأته خادمًا ولا يخرجها عن البيت الذى هما فيه، ويهبها دارًا يسكناها، أو تهب له ذلك، أن ذلك جائز للمرأة. وروى عيسى، عن ابن القاسم فى الرجل يهب لامرأته دارًا يسكناها، ثم يسكنان بعد ذلك فيها، أو المرأة تفعل مثل ذلك، ففرق بينهما، قال: إذا كان الزوج الواهب فالصدقة غير تامة؛ لأن عليه أن يسكن زوجته، فكأنه هو مسكنها، فإذا كانت المرأة الواهبة فالصدقة جائزة؛ لأنه يسكن ما حوزه لنفسه.(7/106)
- بَاب هِبَةِ الْمَرْأَةِ لِغَيْرِ زَوْجِهَا وَعِتْقِهَا إِذَا كَانَ لَهَا زَوْجٌ
فَهُوَ جَائِزٌ إِذَا لَمْ تَكُنْ سَفِيهَةً، فَإِذَا كَانَتْ سَفِيهَةً لَمْ يَجُزْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ) [النساء: 5] . / 22 - فيه: أَسْمَاءَ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لِىَ مَالٌ إِلاَ مَا أَدْخَلَ عَلَىَّ الزُّبَيْرُ، فَأَتَصَدَّقُ؟ قَالَ: (تَصَدَّقِى، وَلاَ تُوعِى فَيُوعَى اللَّه عَلَيْكِ) . / 23 - وقال مرة: (أَنْفِقِى وَلاَ تُحْصِى، فَيُحْصِىَ اللَّهُ عَلَيْكِ) . / 24 - وفيه: مَيْمُونَةَ زوج النّبِىّ، أَنَّهَا أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً، وَلَمْ تَسْتَأْذِنِ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُهَا الَّذِى يَدُورُ عَلَيْهَا فِيهِ، قَالَتْ: أَشَعَرْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنِّى أَعْتَقْتُ وَلِيدَتِى؟ قَالَ: (أَوَفَعَلْتِ؟) ، قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: (أَمَا إِنَّكِ لَوْ أَعْطَيْتِهَا أَخْوَالَكِ كَانَ أَعْظَمَ لأَجْرِكِ) . / 25 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا لِعَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، تَبْتَغِى بِذَلِكَ رِضَا رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . اختلف العلماء فى المرأة المالكة لنفسها الرشيدة ذات الزوج، فقالت طائفة: لا فرق بينها وبين البالغ من الرجال، فما جاز من عطايا الرجل البالغ الرشيد جاز من عطائها، هذا قول سفيان الثورى، والشافعى، وأبى ثور، وأصحاب الرأى، وروينا معنى ذلك عن عطاء. قال ابن المنذر: وبه نقول. وقالت طائفة: لا يجوز لها أن تعطى من مالها شيئًا بغير إذن زوجها. روى هذا القول عن أنس بن مالك، وهو قول طاوس والحسن البصرى، وقال مالك: لا يجوز عطاؤها بغير إذن زوجها إلا ثلث مالها خاصة، قياسًا على الوصية. وقال الليث: لا يجوز عتق(7/107)
المرأة ذات الزوج ولا صدقتها إلا فى الشىء اليسير الذى لابد لها منه فى صلة الرحم أو غيره، مما يتقرب به إلى الله. وحجة القول الأول أن الله تعالى سوى بين الرجال والنساء عند بلوغ الحلم وظهور الرشد، فقال: (فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أموالهم) [النساء: 6] ، فأمر بدفع أموالهم إليهم، ولم يخص رجلاً من امرأة، فثبت أن من صح رشده صح تصرفه فى ماله بما شاء، وقال: (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة) [النساء: 4] الآية، فأباح للزوج ما طابت له به نفس امرأته، وقال: (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن (إلى) إلا أن يعفون) [البقرة: 237] . فأجاز عفوها عن مالها بعد طلاق زوجها إياها بغير استئمار من أحد، فدل ذلك على جواز أمر المرأة فى مالها، وعلى أنها فيه كالرجل سواء، واحتجوا بأمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) أسماء بالصدقة، ولم يأمرها باستئذان الزبير، وأن ميمونة أعتقت وليدة لها ولم تستأذن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وبحديث ابن عباس أنه، عَلَيْهِ السَّلام، خطب النساء يوم عيد، وقال لهن: (تصدقن ولو من حليكن) ، وليس فى شىء من الأخبار أنهن استأذن أزواجهن، ولا أنه عَلَيْهِ السَّلام أمرهن باستئذانهم. ولا يختلفون فى أن وصاياها من ثلث مالها جائزة كوصايا الرجل، ولم يكن لزوجها عليها فى ذلك سبيل ولا أمر، وبذلك نطق الكتاب، وهو قوله تعالى: (من بعد وصية يوصين بها أو دين) [النساء: 12] ، فإذا كانت وصاياها فى ثلث مالها جائزة بعد وفاتها،(7/108)
فأفعالها فى مالها فى حياتها أجوز، والحجة لطاوس حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، قال: (لا تجوز عطية امرأة فى مالها إلا بإذن زوجها) ، فأحاديث هذا الباب أصح من حديث عمرو بن شعيب. وتأول مالك فى الأحاديث التى جاءت عن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، أنه أمر النساء بالصدقة، إنما أمرهن بإعطاء ما ليس بالكثير المجحف بغير إذن أزواجهن؛ لقوله عَلَيْهِ السَّلام: (تنكح المرأة لمالها ودينها وجمالها) ، فسوى بين ذلك، فكان لزوجها فى مالها حقًا، فلم يكن لها أن تتلفه إلا بإذنه. وعلى هذا يصح الجمع بين حديث عمرو بن شعيب وسائر الأحاديث المعارضة له، فيكون حديث عمرو بن شعيب واردًا فى النهى عن إعطاء الكثير المجحف، وتكون الأحاديث الواردة بحض النساء على الصدقة فيما ليس بالكثير المجحف، والله الموفق. وأما حديث هبة سودة يومها لعائشة، فليس من هذا الباب فى شىء؛ لأن للمرأة الشفيقة أن تهب يومها لضرتها، وإنما السفه فى إفساد المال خاصة. واختلفوا فى البكر إذا تزوجت متى تكون فى حال من تجوز لها العطاء، فقالت طائفة: ليس لها فى مالها أمر حتى تلد، أو يحول عليها الحول، روى هذا عن عمر بن الخطاب، وعن شريح، والشعبى، وبه قال أحمد وإسحاق. وفرق أصحاب مالك بين البكر ذات الأب والوصى، وبين التى(7/109)
لا أب لها ولا وصى، قال ابن القاسم: أما البكر التى لا أب لها، فلا يجوز قضاؤها فى مالها وإن عنست حتى تدخل بيتها وترضى حالها. واختلفوا فى حد تعنيس البكر، فقال ابن وهب: الثلاثين سنة إلى خمس وثلاثين. وقال ابن القاسم: الأربعين سنة إلى الخمس والأربعين. وقال ابن الماجشون، ومطرف فى اليتيمة التى لا أب لها ولا وصى تختلع من زوجها بشىء تهب له: الخلع ماض، ويرد الزوج ما أخذ؛ لأنه لا يجوز لها عطاء حتى تملك نفسها ومالها، وذلك بعد سنة من ابتناء زوجها بها، أو تلد ولدًا. وخالف هذا سحنون، فقال فى البكر تعطى زوجها بعض مالها، وذلك قبل الدخول فيملكها أمرها، أو تباريه بشىء من مالها، فقال: إن كان لها أب أو وصى، فلا يجوز ذلك، ويلزم الزوج الطلاق، ويرد عليها ما أخذ منها، وإن كانت لا أب لها ولا وصى جاز ذلك، وهى عندى بمنزلة السفيه الذى لا وصى له، أن أموره جائزة، بيوعه، وصدقته، وهبته، ما لم يحجر عليه الإمام.
- بَاب بِمَنْ يُبْدَأُ بِالْهَدِيَّةِ؟
وَقَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) لميمونة حين أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً لَهَا: (وَلَوْ وَصَلْتِ بَعْضَ أَخْوَالِكِ كَانَ أَعْظَمَ لأَجْرِكِ) . / 26 - فيه: عَائِشَةَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِى جَارَيْنِ، فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِى؟ قَالَ: (إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا) .(7/110)
وفى حديث ميمونة أن صلة الأقارب أفضل من العتق، على أن العتق قد جاء فيه أن الله يعتق بكل عضو منه عضوًا منها من النار، وأن بالعتق تجاز العقبة يوم القيامة. وفى حديث عائشة أن أقرب الجيران أولى بالصلة والبر والرعاية، وأن صلة الأقرب منهم أفضل من صلة الأبعد إذ لا يقدر على عموم جميعهم بالهدية، وقد أكد الله تعالى ذلك فى كتابه، فقال: (والجار ذى القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب) [النساء: 36] ، فدل هذا على تفضيل الأقرب، وقد تقدم معنى ذلك فى باب أى الجوار أقرب فى كتاب الشفعة، فأغنى عن تكراره.
- بَاب مَنْ لَمْ يَقْبَلِ الْهَدِيَّةَ لِعِلَّةٍ
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ: كَانَتِ الْهَدِيَّةُ فِى زَمَنِ النّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، هدية، وَهى الْيَوْمَ رِشْوَةٌ. / 27 - فيه: الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ اللَّيْثِىَّ، أَنَّهُ أَهْدَى الرَسُول (صلى الله عليه وسلم) حِمَارَ وَحْشٍ، وَهُوَ بِالأَبْوَاءِ، أَوْ بِوَدَّانَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ فَرَدَّهُ، فَلَمَّا عَرَفَ فِى وَجْهِى كَراهية رده، قَالَ: (لَيْسَ بِنَا رَدٌّ عَلَيْكَ، وَلَكِنَّا حُرُمٌ) . / 28 - وفيه: أَبُو حُمَيْد السَّاعِدِىِّ، اسْتَعْمَلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) رَجُلاً مِنَ الأَسد، عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ، قَالَ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِىَ إِلِىّ، قَالَ: (فَهَلاَ جَلَسَ فِى بَيْتِ أَبِيهِ، أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ، فَيَنْظُرَ هل يُهْدَى لَهُ أَمْ لاَ؟ وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لاَ يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْهُ شَيْئًا إِلاَ جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ،(7/111)
إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ) ، ثُمَّ رَفَعَ يَدِهِ، حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إِبْطَيْهِ، ثم قال: (اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ) ثَلاَثًا. قال المهلب: رد الهدية فى حديث الصعب غاية الأدب؛ لأنها لا تحل للمهدى إليه، من أجل أنه محرم، ومن حسن الأدب أن يكافأ المهدى، وربما عسرت المكافأة، فردها إلى من يجوز له الانتفاع بها أولى من تكلف المكافأة، مع أنه لو قبله لم يكن له سبيل إلى غير تسريحه؛ لأنه لا يجوز له ذبحه وهو محرم. وفيه من الفقه: أنه لا يجوز قبول هدية من كان ماله حرامًا ومن عرف بالغصب والظلم، وقد تقدم هذا المعنى فى باب قبول هدية الصيد. وفى حديث ابن اللتية: أن هدايا العمال يجب أن تجعل فى بيت المال، وأنه ليس لهم منها شىء إلا أن يستأذنوا الإمام فى ذلك، كما جاء فى قصة معاذ أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، طيب له الهدية، فأنفذها له أبو بكر الصديق بعد النبى (صلى الله عليه وسلم) لما كان دخل عليه فى ماله من الفلس. وفيه: كراهية قبول هدية طالب العناية، ويدخل فى معنى ذلك كراهية هدية المديان والمقارض، وكل من لهديته سبب غير سبب الجيرة أو الصداقة أو صلة الرحم. وقوله: (عفرة إبطيه) ، قال صاحب العين: العفرة غبرة فى حمرة، كلون الظبى الأعفر.(7/112)
- بَاب إِذَا وَهَبَ هِبَةً أَوْ وَعَدَ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ تَصِلَ إِلَيْهِ
وَقَالَ عَبِيدَةُ: إِنْ مَاتَ وَقد فُصِلَتِ الْهَدِيَّةُ، وَالْمُهْدَى لَهُ حَىٌّ، فَهِىَ له، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حيًا فَهِىَ لِوَرَثَتهُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فُصِلَتِ فَهِىَ لِوَرَثَةِ الذِى أهدى. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَيُّهُمَا مَاتَ قَبْلُ فَهِىَ لِوَرَثَةِ الْمُهْدَى لَهُ، إِذَا قَبَضَهَا الرَّسُولُ. / 29 - فيه: جَابِر، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (لَوْ قَد جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا ثَلاَثًا) ، فَلَمْ يَقْدَمْ حَتَّى تُوُفِّىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَمَرَ أَبُو بَكْرٍ مُنَادِيًا فَنَادَى: مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) عِدَةٌ أَوْ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: إِنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) وَعَدَنِى، فَحَثَى لِى ثَلاَثًا. اختلف العلماء فى الذى يهب أو يتصدق على رجل، ثم يموت الواهب أو المتصدق قبل أن تصل إلى الموهوب له، فذكر البخارى قول عبيدة السلمانى، وقول الحسن، وبمثل قول الحسن قال مالك، قال مالك: إن كان أشهد عليها أو أبرزها أو دفعها إلى من يدفعها إلى الموهوب له فهى جائزة. وفيها قول ثالث، وهو: إن كان بعث بها المهدى مع رسوله، فمات الذى أهديت إليه، فإنها ترجع إليه، فإن كان أرسل بها مع رسول الذى أهديت إليه، فمات المهدى إليه، فهى لورثته، هذا قول الحكم، وأحمد بن حنبل، وإسحاق. وقالت طائفة: لا تتم الهبة إلا بقبض الموهوب له، أو وكيله، فأيهما مات قبل أن تصل الهبة إلى الموهوب له، فهى راجعة إلى الواهب، أو إلى ورثته، هذا قول الشافعى.(7/113)
واختلف الفقهاء فيما يلزم من العدة وما لا يلزم منها، فقال الكوفيون، والأوزاعى، والشافعى: لا يلزم من العدة شىء؛ لأنها منافع لم تقبض، فلصاحبها الرجوع فيها. وقال مالك: أما العدة مثل أن يسأل الرجل أن يهب له هبة، فيقول له: نعم، ثم يبدو له ألا يفعل، فلا أرى ذلك يلزمه، قال مالك: ولو كان ذلك فى قضاء دين، فسأله أن يقضى عنه، فقال: نعم، وثم رجال يشهدون عليه، فما أحراه أن يلزمه إذا شهد عليه اثنان. وقال ابن القاسم: إذا وعد الغرماء، فقال: أشهدكم أنى قد وهبت لهذا من أين يؤدى إليكم؟ فإنه يلزمه، وأما أن يقول: نعم أنا أفعل ثم يبدو له، فلا أرى ذلك. وقال سحنون: الذى يلزمه من العدة فى السلف والعارية، أن يقول للرجل: اهدم دارك وأنا أسلفك ما تبنيها به، أو اخرج إلى الحج، وأنا أسلفك ما يبلغك، أو اشترى سلعة كذا أو تزوج وأنا أسلفك، ذلك كما يدخله فيه وينشئه به، فهذا كله يلزمه. قال: وأما أن يقول: أنا أسلفك وأنا أعطيك بغير شىء يلزمه المأمور نفسه، فإن هذا لا يلزمه منه شىء. قال أصبغ: يلزمه فى ذلك كل ما وعد به. قال المؤلف: والقول الأول أشبه بمعنى الحديث، ألا ترى فتيا عبيدة السلمانى والحسن فى أن العدة والهبة إنما تتم إذا فصلت إلى المهدى له قبل موت الواهب والموهوب له، فى قول الحسن. وفى قول عبيدة: إن مات الموهوب له قبل أن تصل إليه الهبة فهى لورثة الواهب.(7/114)
وذكر عبد الرزاق، عن قتادة، كقول الحسن، وهذا يدل من فتياهم أنهم تأولوا قوله، عَلَيْهِ السَّلام، لجابر: (لو قد جاء مال البحرين أعطيتك) ، أنها عدة غير لازم الوفاء بها فى القضاء؛ لأنها لم تكن فصلت من عند النبى، عَلَيْهِ السَّلام، قبل موته، وإنما وعد بها جابر لو قد جاء مال البحرين، فمات عَلَيْهِ السَّلام قبل ذلك. ولذلك ذكر البخارى قول عبيدة والحسن فى أول الباب؛ ليدل أن فعل أبى بكر الصديق فى قضائه عدات النبى (صلى الله عليه وسلم) بعد موته أنها كانت منه على التطوع، ولم يكن يلزم النبى (صلى الله عليه وسلم) ولا أبا بكر قضاء شىء منها؛ لأنه لم يرو عن أحد من السلف وجوب القضاء بالعدة، وإنما أنفذ ذلك الصديق بعد موت النبى (صلى الله عليه وسلم) اقتداء بطريقة النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وامتثالاً لفعله، فإنه كان أوفى الناس بعهده وأصدقهم لوعده (صلى الله عليه وسلم) .
- بَاب كَيْفَ يُقْبَضُ الْعَبْدُ وَالْمَتَاعُ
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: كُنْتُ عَلَى بَكْرٍ صَعْبٍ لعمر فَاشْتَرَاهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَقَالَ: (هُوَ لَكَ يَا عَبْدَاللَّهِ) . / 30 - فيه: الْمِسْوَرِ، قَسَمَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) أَقْبِيَةً، وَلَمْ يُعْطِ مَخْرَمَةَ مِنْهَا شَيْئًا، فَقَالَ مَخْرَمَةُ: يَا بُنَىِّ، انْطَلِقْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَانْطَلَقْتُ، فَقَالَ لى: (ادْخُلْ، فَادْعُهُ لِى، قَالَ: فَدَعَوْتُهُ لَهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْهَا، فَقَالَ: خَبَأْنَا هَذَا لَكَ، قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: رَضِىَ مَخْرَمَةُ) .(7/115)
أما كيف يقبض المتاع والهبات عند جماعة العلماء، فبإسلام الواهب لها إلى الموهوب له، وحيازة الموهوب له، كركوب ابن عمر الجمل، كإعطاء النبى (صلى الله عليه وسلم) القباء لمخرمة وتلفيه بإزاره، وذكر البخارى فى كتاب الجهاد أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، أهديت إليه أقبية من ديباج مزررة بالذهب، فقسمها بين أصحابه، وعزل منها واحدًا لمخرمة، فجاء مخرمة إلى النبى، عَلَيْهِ السَّلام، فسمع صوته فتلقاه به، واستقبله بإزراره، فقال: يا أبا المسور، خبأت لك هذا، مرتين، وكان فى خلقه شدة. وفى هذا من الفقه الاستئلاف لأهل اللسانة وغيرهم. وقد اختلف العلماء فى الهبات، هل من شرطها الحيازة أم لا؟ فقالت طائفة: من شرطها الحيازة لا تتم إلا بالقبض. روى هذا عن أبى بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان، وابن عباس، وابن عمر، ومعاذ بن جبل، وشريح، ومسروق، والشعبى، وإليه ذهب الثورى، والكوفيون، والشافعى، وقالوا: ليس للموهوب له مطالبة الواهب بتسليمها إليه؛ لأنه ما لم تقبض عدة وعده بها يحسن الوفاء بها ولا يقضى بها عليه. وقالت طائفة: تصح الهبة بالكلام دون القبض، كالبيع تنعقد بالكلام، روى هذا عن على وابن مسعود، وعن الحسن البصرى، والنخعى، وبه قال مالك، وأحمد، وأبو ثور، إلا أن أحمد وأبا ثور قالا: للموهوب له المطالبة بها فى حياة الواهب، فإن مات الواهب بطلت الهبة. ومن حجة أهل المقالة الأولى: أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، قال(7/116)
لابن عمر، وهو راكب الجمل: (هو لك) ، فكان حكم الهبات كلها كذلك لا تتم إلا بقبض الموهوب له. وحجة الآخرين: أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال لابن عمر فى الجمل: (هو لك) ، ملكه إياه، ولا يملك النبى (صلى الله عليه وسلم) شيئًا أحدًا إلا وهو مالك له ومستحقه، فكان لابن عمر المطالبة بهذا الجمل لو لم يركبه؛ لِحَقِّهِ الذى تعين فيه، فوجب له طلبه، وكذلك دل فعله، عَلَيْهِ السَّلام، فى القباء الذى تلقى به مخرمة واسترضاه به قبل سؤاله إياه، أنه قد تعين للمسور فيه حق وجب للمسور طلبه، على ما ذهب إليه مالك. فإن قيل: فإذا تعين فى الهبة حق للموهوب له وجبت به مطالبة الواهب فى حياته، فكذلك يجوز مطالبته به بعد مماته كسائر الحقوق. قيل: هذا هو القياس لولا حكم الصديق بين ظهرانى الصحابة وهم متواترون حين وهب لابنته جداد عشرين وسقًا من ماله بالغابة ولم تكن قبضته، وقال لها: لو كنت حزتيه لكان لك، وإنما هو اليوم مال وارث، ولم يرو عن أحد من الصحابة أنه أنكر ذلك ولا رد عليه، فكان هذا دليلاً لصحة قول مالك.
- بَاب إِذَا وَهَبَ هِبَةً فَقَبَضَهَا الآخَرُ وَلَمْ يَقُلْ: قَبِلْتُ
/ 31 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَقَالَ: هَلَكْتُ، فَقَالَ: (وَمَا ذَاكَ؟) ، قَالَ: وَقَعْتُ بِأَهْلِى فِى رَمَضَانَ. . . الحديث،(7/117)
فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِعَرَقٍ، وهو مِكْتَلُ فِيهِ تَمْرٌ، فَقَالَ: (اذْهَبْ بِهَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ) ، قَالَ: مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا أَحْوَجُ مِنَّا، قَالَ: (اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ) . القبض فى الهبة هو غاية القبول، فلا يحتاج القابض أن يقول: قبلت، وهو قد قبضها، وعلى هذا جماعة العلماء، ألا ترى إلى الواقع على أهله فى رمضان قبض من النبى (صلى الله عليه وسلم) المكتل من التمر، ولم يقل: قبلته، إذ كان مستغنيًا عن ذلك بحصوله عنده، ومثل هذا المعنى فى حديث جابر حين اشترى منه النبى (صلى الله عليه وسلم) الجمل، فلما دفع إليه الثمن، قال: الثمن والجمل لك، ولم يقل جابر: قد قبلته يا رسول الله، فدل ذلك على أن الهبة تتم بإعطاء الواهب وقبض الموهوب له دون قوله باللسان: قد قبلت، وأما إذا قال: قبلت، ولم يقبض، فتعود المسألة إلى ما تقدم من اختلافهم فى قبض الهبة فى الباب قبل هذا.
- بَاب إِذَا وَهَبَ دَيْنًا لَهُ عَلَى رَجُلٍ
وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ: هُوَ جَائِزٌ، وَوَهَبَ الحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ لِرَجُلٍ دَيْنَهُ، وَقَالَ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ فَلْيُعْطِهِ، أَوْ لِيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ) ، وَقَالَ جَابِرٌ: قُتِلَ أَبِى وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَسَأَلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) غُرَمَاءَهُ أَنْ يَقْبَلُوا ثَمَرَ حَائِطِى وَيُحَلِّلُوا أَبِى. / 32 - وذكر حديث جابر هذا.(7/118)
لا خلاف بين العلماء أن من كان عليه دين لرجل فوهبه له ربه أو أبره منه وقبل البراءة، أنه لا يحتاج فيه إلى قبض؛ لأنه مقبوض فى ذمته، وإنما يحتاج فى ذلك إلى قبول الذى عليه الدين؛ لأن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، سأل غرماء أبى جابر أن يقبلوا ثمرة حائطه ويحللوه من بقية دينه، فكان ذلك إبراء لذمة أبى جابر لو رضوا بما دعاهم إليه النبى، عَلَيْهِ السَّلام، ولم يكن يعرف ذلك إلا بقولهم: قد قبلنا ذلك ورضينا، فلم يتم التحلل فى ذلك إلا بالقول. واختلفوا إذا وهب دينًا له على رجل لرجل آخر، فقال مالك: تجوز الهبة إذا سلم إليه الوثيقة بالدين، وأحله فيه محل نفسه، وإن لم تكن له وثيقة، وأشهد على ذلك وأعلن، فهو جائز. وقال أبو ثور: الهبة جائزة أشهد أو لم يشهد إذا تقارا على ذلك. وقال الكوفيون والشافعى: الهبة غير جائزة؛ لأنها لا تجوز عندهم إلا مقبوضة. وقد تقدم فى باب كيف يقبض المتاع مذاهب العلماء فى قبض الهبات، والحجة لمالك وأبى ثور: أنهم جعلوا الموهوب له يحل محل الواهب فى ملك الدين، ويتنزل منزلته فى اقتضائه، ولما أجمعوا أنه يجوز للرجل أن يحيل الرجل على من له دين، كذلك يجوز له أن يجعل ماله من المطالبة بدينه على رجل لرجل آخر يحله محله، وينزله منزلته، إن شاء الله، والله الموفق.(7/119)
- بَاب هِبَةِ الْوَاحِدِ لِلْجَمَاعَةِ
وَقَالَتْ أَسْمَاءُ لِلْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَابْنِ أَبِى عَتِيقٍ: وَرِثْتُ عَنْ أُخْتِى عَائِشَةَ بِالْغَابَةِ، وَقَدْ أَعْطَانِى بِهِ مُعَاوِيَةُ مِائَةَ أَلْفٍ فَهُوَ لَكُمَا. / 33 - فيه: سَهْل، أُتِىَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، بِشَرَابٍ، فَشَرِبَ وَعَنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ، وَعَنْ يَسَارِهِ الأَشْيَاخُ، فَقَالَ لِلْغُلاَمِ: (إِنْ أَذِنْتَ لِى أَعْطَيْتُ هَؤُلاَءِ) ، قَالَ: مَا كُنْتُ لأُوثِرَ بِنَصِيبِى مِنْكَ أَحَدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَتَلَّهُ فِى يَدِهِ. عرض البخارى فى هذا الباب والبابين بعده الرد على أبى حنيفة فى إبطاله هبة المشاع، فإنه يقول: إذا وهب رجل دارًا لرجلين، أو متاعًا، وذلك المتاع مما ينقسم فقبضاه جميعًا، فإن ذلك لا يجوز إلا أن يقسم كل واحد منهما حصته؛ لأن الهبة من شرط صحتها عنده القبض. وذهب مالك، وأبو يوسف، ومحمد، والشافعى، إلى أن هبة الواحد للجماعة جائزة، وقالوا: لو وهب شقصًا من دار أو عبد جاز، وإن لم يكن مقسومًا، وبه قال أحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وحجة من أجاز ذلك أن النبى سأل الغلام أن يهب نصيبه من اللبن للأشياخ، ومعلوم أن نصيبه منه كان مشاعًا فى اللبن، غير متميز ولا منفصل فى القدح، وهذا خلاف ما ذهب إليه أبو حنيفة، فلا معنى لقوله.(7/120)
- بَاب الْهِبَةِ الْمَقْبُوضَةِ وَغَيْرِ الْمَقْبُوضَةِ وَالْمَقْسُومَةِ وَغَيْرِ الْمَقْسُومَةِ
وَقَدْ وَهَبَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَأَصْحَابُهُ لِهَوَازِنَ مَا غَنِمُوا مِنْهُمْ، وَهُوَ غَيْرُ مَقْسُومٍ. / - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) دَيْنٌ، فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ، فَقَالُوا: لاَ نَجِدُ إِلاَّ أَفْضَل مِنْ سِنِّهِ، قَالَ: (أَعْطُوهَا إِيَّاهُ، فَإِنَّ خَيْرِكُمْ أَحْسَنَكُمْ قَضَاءً) . / 35 - وفيه: جَابِر، أَتَيْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فِى الْمَسْجِدِ، فَقَضَانِى وَزَادَنِى. وَقَالَ شُعْبَةَ، عَنْ مُحَارب، عَنْ جَابِر: فَوَزن لِىّ فَأَرجحَ، فَمَا زَال مِنْهَا شَىءٌ، حَتَّى أَصَابَهَا أَهْلِ الشَّام يَوْمَ الْحَرَّةِ. / 36 - وفيه: سَهْلِ، أُتِىَ النَّبِىّ بِشَرَابٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ، وَعَنْ يَسَارِهِ الأَشْيَاخٌ. . . الحديث. وقد تقدم القول فى قبض الهبات، وما للعلماء فى ذلك فأغنى عن إعادته. وأما الهبة غير المقسومة، فهى هبة المشاع، واختلف العلماء فيها، فقال مالك، وأبو يوسف، ومحمد، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: هبة المشاع جائزة، ويتأتى فيها القبض كما يجوز فيها البيع، وسواء كان المشاع مما ينقسم كالدور والأرضين، أو مما لا ينقسم كالعبد والثياب والجواهر، وسواء كان مما يقبض بالتخلية، أو مما يقبض بالنقل والتحويل.(7/121)
وقال أبو حنيفة: إن كان المشاع مما ينقسم لم يجز هبة شىء منه مشاعًا، وإن كان المشاع مما لا ينقسم كالعبد واللؤلؤ والثوب، فإنه تجوز هبته، وحجة أصحاب أبى حنيفة أن الهبات لا تصح عندهم إلا بالقبض، والمشاع لا يتأتى فيه القبض إلا بقبض الجميع، ومتى كلف الشريك هذا أضر به، وله أن يمتنع من ذلك، واحتجوا بأن أبا بكر الصديق وهب لابنته جداد عشرين وسقًا فلم تقبضه، فقال: لو كنت حزتيه لكان لك، وهذا كان بحضرة الصحابة من غير خلاف. وحجة من أجاز هبة المشاع أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) وهب حقه من غنائم حنين لهوازن، وحقه من ذلك مشاع لم يتعين، وأيضًا حديث أبى هريرة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قضى للذى أسلفه الجمل بأفضل من سنه، ووجه الدلالة منه أن ثمن ذلك الفضل مشاع فى ثمن السن التى كانت تلزمه، وقد وهب ذلك، عَلَيْهِ السَّلام، وكذلك قول جابر: فقضانى وزادنى. وقوله: فوزن لى فأرجح، فعلم أن تلك الزيادة وذلك الرجحان لم يكن من الثمن، وإنما كان هبة، ولم يكن متميزًا بل كان مشاعًا، وهبة النبى (صلى الله عليه وسلم) وحديث الغلام والأشياخ بين فى ذلك أيضًا؛ لأنه عَلَيْهِ السَّلام استوهب الغلام نصيبه من الشراب، وكان ذلك مشاعًا غير متميز ولا مقسوم، ولا يعرف ما كان يشرب مما كان يترك للأشياخ. قال ابن القصار: ومن أجاز هبة ما لا ينقسم فبأن يجيز هبة ما ينقسم أولى، وأما احتجاجهم بقول أبى بكر لابنته: لو كنت حزتيه لكان ذلك، فهو حجة عليهم؛ لأنه وهب لها جداد عشرين(7/122)
وسقًا من أوساق كثيرة، وهذا مشاع بينهم، فدل هذا على جواز هبة المشاع؛ لأنه لو لم يجز لم يفعله. وقوله: لو كنت حزتيه لكان لك، لا يدل على أن ما عقده من الهبة لم يجز، وإنما قال ذلك لئلا يقتدى به من يريد الهروب بماله من الميراث، ولما لم تحزه عائشة فى صحته لم ينفذه لها فى مرضه؛ لأن عطايا المريض المقبوضة هى فى ثلثه كالوصايا، والوصية للوارث لا تجوز، ولم يختلف مالك وأبو حنيفة والشافعى أن عطايا المريض للأجنبى جائزة فى ثلثه، فلم يخالف مالك من حديث أبى بكر شيئًا، وأبو حنيفة خالف أوله، وتأول فى آخره ما لم يجامع عليه.
- بَاب إِذَا وَهَبَ جَمَاعَةٌ لِقَوْمٍ أَوْ رَجُلٌ لِجَمَاعَة مَقسُومًا وَغَيْرِ مَقسُوم جَازَ
/ 37 - فيه: مَرْوَانَ، وَالْمِسْوَرَ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ وأَمْوَالَهُمْ، فَقَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (اخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، إِمَّا السَّبْىَ، وَإِمَّا الْمَالَ) ، فَاختَارُوا السبَّى. . . الحديث. قال المؤلف: أما قول البخارى: باب إذا وهب جماعة لقوم، فإن أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) وهبوا هوازن السبى وهو مشاع؛ لأن هوازن لم يقسموه بينهم، ولا حاز كل واحد منهم أهله إلا بعد أن حصل فى ملكهم، وبعد أن نفذت هبة أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) لهم فى السبى،(7/123)
ولم يكن لأحد منهم رجوع فى شىء من ذلك؛ لأنهم طيبوا هبتهم، وأمضوها على شرط ألا يقبلوا العوض من النبى (صلى الله عليه وسلم) فيها، فهذا يرد قول أبى حنيفة أن هبة المشاع الذى تتأتى فيه القسمة لا تجوز؛ لأن هوازن إنما حازوا أهلهم بعد تملكهم لهم، فهذا هبة الجماعة للجماعة. وأما قول البخارى فى الترجمة: أو رجل لجماعة فإن أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) وإن كانوا قد طابت نفوسهم بهبة السبى، فإنما فعلوا ذلك من أجل شفاعة النبى (صلى الله عليه وسلم) عندهم فيه، وأنه وعد بالعوض من لم تطب نفسه بالهبة، فكأنه هو الواهب إذ كان السبب فى الهبة، وأيضًا فإنه عَلَيْهِ السَّلام كان له حق فى جملة السبى، فصح قول البخارى فى جواز هبة الواحد للجماعة. وأما قوله: (مقسومًا أو غير مقسوم) ، فإنما أراد أن المشاع والمقسوم سواء فى جواز الهبة، فلذلك ما ينقسم وما لا ينقسم سواء فى جواز الهبة.
- بَاب مَنْ أُهْدِىَ لَهُ هَدِيَّةٌ وَعِنْدَهُ جُلَسَاؤُهُ فَهُوَ أَحَقُّ
وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ جُلَسَاءَهُ شُرَكَاؤهُ وَلَمْ يَصِحَّ. / 38 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أن النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، قَالَ لِلذِى جَاءهُ يَتَقَاضَاهُ: (أعطوه أَفْضَلَ مِنْ سِنِّهِ. . .) الحديث. / 39 - وفيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِى سَفَرٍ، عَلَى بَكْرٍ صعْبٍ لِعُمَرَ، وَكَانَ يَتَقَدَّمُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ عُمَرُ: لا يتقدم النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) أحَدٌ، فَقَالَ(7/124)
لَهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (بِعْنِيهِ) ، فَقَالَ عُمَرُ: هُوَ لَكَ يا رسول الله، فَاشْتَرَاهُ، ثُمَّ قَالَ: (هُوَ لَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ، فَاصْنَعْ بِهِ مَا شِئْتَ) . لو صح قوله عَلَيْهِ السَّلام: (جلساؤكم شركاؤكم) ، لكان معناه الندب عند الفقهاء فيما خف من الهدايا، وما جرت العادة بترك المشاحة فيه، وأما ما كان له قيمة من الهدايا مثل: الدور، والعقار، والمال الكثير، فصاحبها أحق بها على ما ترجم به البخارى، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أمر أن يعطى الذى تقاضاه الجمل أفضل من سنه التى كانت عليه، ولم يشاركه أحد ممن كان بحضرته فى ذلك الفضل، وكذلك وهب عَلَيْهِ السَّلام الجمل لابن عمر وهو مع الناس، فلم يستحق أحد منهم فيه شركة مع ابن عمر، فعلى هذا مذهب الفقهاء. وروى عن أبى يوسف القاضى أن الرشيد أهدى إليه مالاً كثيرًا، فورد عليه وهو جالس مع أصحابه، فقال له أحدهم: قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (جلساؤكم شركاؤكم) ، فقال له أبو يوسف: إن هذا الحديث لم يرد فى مثل هذا، وإنما ورد فيما خف من الهدايا، وفيما يؤكل ويشرب مما تطيب النفوس ببذله والسماحة به.
- بَاب إِذَا وَهَبَ بَعِيرًا لِرَجُلٍ وَهُوَ رَاكِبُهُ فَهُوَ جَائِزٌ له
/ 40 - فيه: ابْن عُمَرَ، كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِى سَفَرٍ، وَكُنْتُ عَلَى بَكْرٍ صَعْبٍ،(7/125)
فَقَالَ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَا عُمَر، بِعْنِيهِ) ، فَبْاعَهُ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (هُوَ لَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ) . ولا خلاف بين العلماء أن من كان عنده الشىء الموهوب له، فإن ذلك قبض صحيح، وكذلك حكم الوديعة والرهن ومال القراض والدين، يهبها أربابها لمن هى فى يديه، أن ذلك كله حيازة صحيحة لا تحتاج إلى غيرها، وقد تقدم حكم قبض الهبات قبل هذا، فلا معنى لتكريره.
- بَاب هَدِيَّةِ مَا يُكْرَهُ لِبَسُهُ
/ 41 - فيه: ابْن عُمَرَ، رَأَى عُمَرُ حُلَّةً سِيَرَاءَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوِ اشْتَرَيْتَهَا فَتَلبِسْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلِلْوَفْدِ، فَقَالَ: (إِنَّمَا يَلْبَسُهَا مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ فِى الآخِرَةِ) ، ثُمَّ جَاءَتْ حُلَلٌ، فَأَعْطَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عُمَرَ مِنْهَا حُلَّةً، وَقَالَ: أَكَسَوْتَنِيهَا، وَقَدْ قُلْتَ فِى حُلَّةِ عُطَارِدٍ مَا قُلْتَ؟ فَقَالَ: (إِنِّى لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا. . .) الحديث. / 42 - وفيه: ابْن عُمَرَ، أَتَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَاطِمَةَ، فَلَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهَا، وَجَاءَ عَلِىٌّ فَذَكَرَتْ لَهُ فَاطِمَةَ ذَلِكَ، فَذَكَرَهُ لِلنَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَقَالَ: (إِنِّى رَأَيْتُ عَلَى بَابِهَا سِتْرًا مَوْشِيًّا) ، فَقَالَ: مَا لِى وَلِلدُّنْيَا، فَأَتَاهَا عَلِىٌّ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهَا، فَقَالَتْ: لِيَأْمُرْنِى فِيهِ بِمَا شَاءَ، قَالَ: تُرْسِلُى بِهِ إِلَى فُلاَنٍ، أَهْلِ بَيْتٍ بِهِمْ حَاجَةٌ.(7/126)
/ 43 - وفيه: عَلِىُّ، أَهْدَى لَىّ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، حُلَّةَ سِيَرَاءَ فَلَبِسْتُهَا، فَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِى وَجْهِهِ، فَشَقَقْتُهَا بَيْنَ نِسَائِى. هدية ما يكره لبسه مباحة؛ لأن ملكه جائز، ولصاحبه التصرف فيه بالبيع والهبة، لمن يجوز له لباسه مثل النساء والصبيان، وإنما كره من الحرير لباسه للرجال خاصة دون ملكه. قال المهلب: وإنما كره النبى (صلى الله عليه وسلم) الحرير لابنته؛ لأنها ممن يرغب لها فى الآخرة كما يرغب لنفسه، ولا يرضى لها تعجيل طيباتها فى الحياة الدنيا، فدل هذا على أن النهى عن الحرير إنما هو من جهة السرف. لأن الحديث الذى يروى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) فى تحريم الحرير قد سألت عنه أبا محمد الأصيلى، وأوقفته على لفظة حرام، فقال لى: لا تصح لفظة حرام البتة، وإن صحت فإنما معناها حرام تحرمه السنة، وحرام دون حرام، وهو كقوله عَلَيْهِ السَّلام: (كل ذى ناب من السباع حرام) . وفى ذلك الحديث حل لإناثها، فقد كرهه لابنته وهو حلال، فكذلك كرهه للرجال من أجل السرف، وقوله فى حديث ابن عمر: (ما لى وللدنيا؟) ، دليل قاطع. وقوله: (إنما يلبسها من لا خلاق له فى الآخرة) ، فإنما يريد(7/127)
بذلك، والله أعلم، أنها لباس الكفار فى الدنيا ومن لا حظ له فى الآخرة، فنهى عَلَيْهِ السَّلام عن مشابهتهم واستعمال زيهم، والله أعلم، وسأستقصى مذاهب العلماء فى هذه المسألة فى كتاب اللباس، إن شاء الله. وقال أبو عبد الله، أخو المهلب: وقول على: فرأيت الغضب فى وجهه، يدل على أن النهى عن الحرير على غير التحريم، وإنما هو على الكراهية، ولو كان تحريمًا لما عرف على الكراهية إلا من نهيه لا بدليل من وجهه. وقوله: (لا ينبغى هذا للمتقين) ، دليل آخر، ولو كان حرامًا لكان المتقى فيه والمسىء فيه واحدًا، ولكنه كما قال تعالى فى المتعة: (حقًا على المتقين) [البقرة: 241] ، و) حقًا على المحسنين) [البقرة: 236] . قال المؤلف: وحملت طائفة الآثار المروية عن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، فى النهى عن لباس الحرير على التحريم، ولم يأت عنه ما يعارضها إلا ما يخصها من جواز لباسه فى الحرب وعند التداوى، وما عدا هذين الوجهين فباق على التحريم، ومن جعل تحريم الحرير كتحريم كل ذى ناب من السباع، فذلك دليل على التحريم؛ لأن جمهور الأمة على أن تحريم كل ذى ناب من السباع على التحريم البين الذى هو ضد التحليل، فكيف يحتج هذا القائل بما يخالفه فيه أكثر الأمة.(7/128)
- بَاب قَبُولِ الْهَدِيَّةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ بِسَارَةَ، فَدَخَلَ قَرْيَةً فِيهَا مَلِكٌ، أَوْ جَبَّارٌ، فَقَالَ: أَعْطُوهَا هاجَرَ) ، وَأُهْدِيَتْ لِلنَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ. وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: أَهْدَى مَلِكُ أَيْلَةَ لِلنَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، بَغْلَةً بَيْضَاءَ، وَكَسَاهُ بُرْدًا، وَكَتَبَ لَهُ بِبَحْرِهِمْ. / 44 - وفيه: أَنَس، أُهْدِىَ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) جُبَّةُ سُنْدُسٍ، وَكَانَ يَنْهَى عَنِ الْحَرِيرِ، فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْهَا، فَقَالَ: (وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِى الْجَنَّةِ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا) . وَقَالَ سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ أُكَيْدِرَ دُومَةَ أَهْدَى إِلَى النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام. / 45 - وفيه: أَنَس، أَنَّ يَهُودِيَّةً أهدت إلى النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، شَاةٍ مَسْمُومَةٍ فَأَكَلَ مِنْهَا، فَجِىءَ بِهَا، فَقِيلَ: أَلاَ نَقْتُلُهَا؟ قَالَ: (لاَ) ، فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِى لَهَوَاتِ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام. / 46 - وفيه: عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ، كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، ثَلاَثِينَ وَمِائَةً، فَقَالَ: (هَلْ مَعَ أَحَدٍ مِنْكُمْ طَعَامٌ؟) ، فَإِذَا مَعَ رَجُلٍ صَاعٌ فَعُجِنَ، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ مُشْعَانٌّ طَوِيلٌ بِغَنَمٍ يَسُوقُهَا، فَقَالَ النَّبىُّ، عَلَيْهِ السَّلام: (بَيْعًا أَمْ عَطِيَّةً) ، أَوْ قَالَ: (أَمْ هِبَةً؟) ، قَالَ: لاَ، بَلْ بَيْعٌ، فَاشْتَرَى مِنْهُ شَاةً، فَصُنِعَتْ، وَأَمَرَ الرسول (صلى الله عليه وسلم)(7/129)
بِسَوَادِ الْبَطْنِ أَنْ يُشْوَى، وَايْمُ اللَّهِ مَا فِى الثَّلاَثِينَ وَالْمِائَةِ، إِلاَ قَدْ حَزَّ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) لَهُ حُزَّةً مِنْ سَوَادِ بَطْنِهَا، إِنْ كَانَ شَاهِدًا أَعْطَاه، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا خَبَأَ لَهُ، فَجَعَلَ مِنْهَا قَصْعَتَيْنِ، فَأَكَلُوا أَجْمَعُونَ وَشَبِعْنَا، فَفَضَلَتِ الْقَصْعَتَانِ، فَحَمَلْنَاهُ عَلَى الْبَعِيرِ، أَوْ كَمَا قَالَ. وثبت عن النبى بهذه الآثار وغيرها أنه قبل هدايا المشركين، وأكثر العلماء على أنه لا يجوز ذلك لغير النبى (صلى الله عليه وسلم) من الأمراء إذا كان قبولها منهم على جهة الاستبداد بها دون رعيته؛ لأنه إنما أهدى له ذلك من أجل أنه أمير الجيش، وليس النبى (صلى الله عليه وسلم) فى ذلك كغيره؛ لأنه مخصوص بما أفاء الله عليه من أموال الكفار من غير قتال. وقد اختلف العلماء فى هدايا المشركين، فقال ابن حبيب: ما أهداه الحربى إلى والى الجيش كان الوالى الأعظم أو من دونه فهو مغنم؛ لأنه لم ينله إلا بهم، وفيه الخمس، وهو قول الأوزاعى، ومحمد بن الحسن. قال ابن حبيب: وسمعت أهل العلم يقولون: إنما والى الجيش فى سهمانه كرجل منهم له ما لهم وعليه ما عليهم. وقال أبو يوسف: ما أهدى إلى والى الجيش فهو له خاصة، وكذلك ما يعطاه الرسول. وقال محمد بن الحسن: ولو أهدى العدو إلى رجل من المسلمين ليس بقائد ولا أمير هدية، فلا بأس أن يأخذها، وتكون له دون العسكر، وهو قول الأوزاعى، وابن القاسم صاحب مالك. فإن قيل: فقد روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أن عياض بن حمار أهدى إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) هدية، أو ناقة، فقال: (أسلمت؟) ، قال: لا، فلم يقبلها، وقال: (إنى نهيت عن زبد المشركين) ، رواه شعبة، عن قتادة،(7/130)
عن أبى العلاء يزيد بن عبد الله، عن عياض بن حمار، وهذا معارض لما روى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) من قبول هدايا المشركين، فهو ناسخ لها. قيل: يحتمل أن يكون ترك قبول هديته لما فى ذلك من التأنيس والتحاب، ومن حاد الله وشاقه حرم على المؤمنين موالاته، ألا ترى أنه عَلَيْهِ السَّلام جعل علة ردها لما لم يسلم، وقد روى معمر، عن الزهرى، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، قال: جاء ملاعب الأسنة إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) بهدية، فعرض عليه النبى (صلى الله عليه وسلم) الإسلام فأبى أن يسلم، فقال عَلَيْهِ السَّلام: (فإنى لا أقبل هدية مشرك) . فدل هذا الحديث على مثل ما دل عليه حديث عياض، وبان به أن قبول النبى (صلى الله عليه وسلم) هدية من قبل هديته من المشركين إنما كان على وجه التأنيس له والاستئلاف، ورجاء إنابتهم إلى الإسلام، ومن يئس من إسلامه منهم رد هديته. وقال الطبرى: قبول النبى (صلى الله عليه وسلم) هدايا المشركين إنما كان نظرًا منه للمسلمين وعودًا بنفعه عليهم، لا إيثارًا منه نفسه به دونهم، وللإمام قبول هدايا أهل الشرك وغيرهم، إذا كان ما يقبله من ذلك للمسلمين، وأما رده هدية من رد هديته منهم، فإنما كان ذلك من أجل أنه أهداها له فى خاصة نفسه، فلم ير قبولها، تعريفًا منه لأئمة أمته من بعده أنه ليس له قبول هدية أحد لخاصة نفسه.(7/131)
ويبين ذلك ما رواه ابن عوف، عن الحسن، قال: جاء رجل إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) يقال له: عياض، كانت بينه وبين النبى (صلى الله عليه وسلم) صداقة قبل أن يبعث بهديته، فقال له النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أسلمت؟) ، قال: لا، قال: (فإنه لا يحل لنا زبد المشركين) . قال الحسن: الزبد: الرفد، ذكره ابن سلام. قال الطبرى: فإن ظن ظان أن قوله عَلَيْهِ السَّلام: (لا تقبل هدية مشرك) ، وأن ما رواه عطاء، عن جابر، عن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، أنه قال: (هدايا الإمام غلول) ، أن ذلك على العموم، فقد ظن خطأ. وذلك أنه لا خلاف بين الجميع أن الله تعالى قد أباح للمسلمين أموال أهل الشرك بالقهر والغلبة لهم بقوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم) [الأنفال: 41] الآية، فهو بطيب أنفسهم لا شك أحلى وأطيب. والدليل على صحة قولنا ما رواه شعبة، عن على بن زيد، عن أبى المتوكل الناجى، عن أبى سعيد الخدرى، أن ملك الروم أهدى لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) جرة من زنجبيل، فقسمها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بين أصحابه، فأعطى كل رجل قطعة. وما رواه قرة، عن الحسن، قال: أهدى أكيدر دومة الجندل إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جرة فيها مَن، بالنبى عَلَيْهِ السَّلام وأهله إليها حاجة،(7/132)
فلما قضى الصلاة أمر طائفًا فطاف بها على أصحابه، فجعل الرجل يدخل يده فيخرج فيأكل، فأتى على خالد بن الوليد فأدخل يده، فقال: يا رسول الله، أخذ القوم مرة مرة، وأخذت مرتين، فقال: (كل وأطعم أهلك) . وأهدى البون ملك الروم إلى مسلمة بن عبد الملك لؤلؤتين وهو بالقسطنطينية، فشاور أهل العلم، من ذلك الجيش فقالوا: لم يهدها إليك إلا لموقعك من هذا الجيش، فنرى أن تبيعها وتقسم ثمنها على هذا الجيش، فثبت بفعل النبى (صلى الله عليه وسلم) وقول أهل العلم من بعده أن الذى كان من رد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هدية من رد من المشركين كان لما وصف لك، إذ من المحال اجتماع الرد والقبول فى الشىء الواحد والحال الواحدة، فبان أن سبب قبوله، عَلَيْهِ السَّلام، ما قبل غير سبب رده ما رد منه. فإن قيل: إن آخر فعله كان ناسخًا للآخر. قيل له: لو كان كذلك لكان مبينًا، وكان على الناس دليل مفرق بينه وبين المنسوخ، إذ غير جائز أن يكون شىء من حكم الله تعالى غير معلوم الواجب عنه على عباده إما بنص عليه، أو لأدلة منصوبة لهم على اللازم فيه.(7/133)
فبان بهذا أن سبيل الأئمة القائمين بعد النبى (صلى الله عليه وسلم) بأمر الأمة سبيله، عَلَيْهِ السَّلام، فى أن من أهدى إليه ملك من ملوك أهل الحرب هدية فله قبولها وصرفها حيث ما جعل الله ما حول المسلمين بغير إيجاف منهم عليه بخيل ولا ركاب. وإن كان الذى أهدى إليه وهو منتح مع جيش من المسلمين بعقدة دارهم محاصرًا لهم، فله قبوله وصرفه فيما جعل الله من أموالهم مصروفًا فيما نيل بالقهر والغلبة لهم، وذلك ما أوجفوا عليه بالخيل والركاب، كالذى فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) بأموال قريظة إذ نزلوا على حكم سعد لما نزل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه محاصرين لهم. قال المهلب: فى حديث أبى حميد: مكافأة المشرك على هديته؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) أهدى له بردًا. وفيه: جواز تأمير المسلمين المشرك الذمى على قومه لما فى ذلك من طوعهم له وانقيادهم. قال الطبرى: كان صاحب أيلة من أهل الجزية بالصلح الذى جرى بينه وبين النبى (صلى الله عليه وسلم) . قال المهلب: وفيه تولية البحر، وأنه عمل من الأعمال، وفيه جواز نسبة العمل إلى من أمر به؛ لقوله عَلَيْهِ السَّلام: (وكتب له ببحرهم) ، وهو عَلَيْهِ السَّلام لم يكتب كما قال رحم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وإنما أمر بذلك.(7/134)
وفى قبول الشاة المسمومة دليل على أكل طعام من يحل أكل طعامه دون أن يسأل عن أصله ولا يحترس من حيث إن كان فيه مع جواز ما قد ظهر إليه من السم، فدل ذلك على حمل الأمور على السلامة حتى يقوم دليل على غيرها، وكذلك حكم ما أبيع فى سوق المسلمين هو محمول على السلامة حتى يتبين خلافها. وفى حديث المشرك المشعان جواز قبول هدايا المشركين، وقد تقدم كثير من معناه فى كتاب البيوع فى باب الشراء والبيع من المشركين وأهل الحرب، وفيه المواساة بالطعام عند المسغبة والشدة وتساوى الناس فى ذلك، وفى أكل أهل الجيش من الكبد على قلته علامة باهرة من علامات النبوة، وآية قاهرة من آيات النبى، عَلَيْهِ السَّلام.
- بَاب الْهَدِيَّةِ لِلْمُشْرِكِينَ
وَقَالَ تَعَالَى: (لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ) [الممتحنة: 8] الآية. / 47 - فيه: ابْن عُمَرَ، أن النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، أَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ بِحُلَّةٍ سيراء، فَقَالَ: كَيْفَ أَلْبَسُهَا وَقَدْ قُلْتَ فِيهَا مَا قُلْتَ؟ إِنَّمَا يَلبسُها مَنْ لا خِلاق لَهُ فِى الآخِرة، قَالَ: (إِنِّى لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا، تَبِيعُهَا أَوْ تَكْسُوهَا) ، فَأَرْسَلَ بِهَا عُمَرُ إِلَى أَخٍ لَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ. / 48 - وفيه: أَسْمَاءَ، قَدِمَتْ عَلَىَّ أُمِّى، وَهِىَ مُشْرِكَةٌ فِى عَهْدِ النَّبِىّ، عَلَيْهِ(7/135)
السَّلام، فَاسْتَفْتَيْتُ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، قُلْتُ: إن أمِّى أتتنى وَهِىَ رَاغِبَةٌ، أَفَأَصِلُ أُمِّى؟ قَالَ: (صِلِى أُمَّكِ) . وروى الطبرى، عن ابن الزبير، أن قول الله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين) [الممتحنة: 8] ، نزلت فى أم أسماء بنت أبى بكر، وكان اسمها قتيلة بنت عبد العزيز. وقالت طائفة: نزلت فى مشركى مكة من لم يقاتل المؤمنين ولم يخرجهم من ديارهم. وقال مجاهد: هو خطاب للمؤمنين الذين بقوا بمكة ولم يهاجروا. وقال السدى: كان هذا قبل أن يؤمر بقتال المشركين كافة، فاستشار المسلمون النبى (صلى الله عليه وسلم) فى قراباتهم من المشركين أن يبروهم ويصلوهم، فأنزل الله هذه الآية. فى تفسير الحسن قال قتادة وابن زيد: ثم نسخ ذلك، ولا يجوز اليوم مهاداة المشركين ولا متاحفتهم إلا للأبوين خاصة؛ لأن الهدية فيها تأنيس للمهدى إليه، وإلطاف له، وتثبيت لمودته، وقد نهى الله عن التودد للمشركين بقوله: (لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون) [المجادلة: 22] الآية، وقوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا) [الممتحنة: 1] الآية. وإنما بعث عمر بالحلة إلى أخيه المشرك بمكة على وجه التأليف له على الإسلام؛ لأنه كان طمع بإسلامه، وكان التألف على الإسلام حينئذ مباحًا، وقد تألف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صناديد قريش، وجعل الله للمؤلفة قلوبهم سهمًا فى الصدقات، وكذلك فعلت أسماء فى أمها؛(7/136)
لأن الله قد أمر بصلة الآباء الكفار وبرهما بقوله: (وإن جاهداك على أن تشرك بى ما ليس لك به علم) [لقمان: 15] الآية، فأمر تعالى بمصاحبة الأبوين المشركين فى الدنيا بالمعروف، وبترك طاعتهما فى معصية الله. وروى البخارى فى حديث أسماء: إن أمى أتتنى وهى راغبة، بالباء من الرغبة فى العطاء، ورواه أبو داود، قال: حدثنا أحمد بن أبى شعيب، حدثنا عيسى بن يونس، عن هشام بن عروة: راغمة، بالميم. وفسره الخطابى، قال: راغمة، أى كارهة لإسلامى وهجرتى. وقال بعض أصحابه: معناه هاربة من قومها. واحتج بقوله تعالى: (ومن يهاجر فى سبيل الله يجد فى الأرض مراغمًا كثيرًا وسعة) [النساء: 100] ، وأنشد للجعدى يمدح رجلاً: كطود يلوذ بأكتافه عزيز المراغم والمهرب فلو كانت أرادت به المضى لقالت: مراغمة، لا راغمة، وكان أبو عمرو بن العلاء يتأول فى قوله تعالى: (مراغمًا كثيرًا) [النساء: 100] ، قال: الخروج من العدو برغم أنفه، وراغبة بالباء أظهر فى معنى الحديث.(7/137)
- بَاب لاَ يَحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يَرْجِعَ فِى هِبَتِهِ وَصَدَقَتِهِ
/ 49 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ النَّبىُّ، عَلَيْهِ السَّلام: (لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ الَّذِى يَعُودُ فِى هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَرْجِعُ فِى قَيْئِهِ) . / 50 - وفيه: عُمَر، حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَبَاعَهُ الَّذِى هو عِنْدَهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ مِنْهُ، وَظَنَنْتُ أَنَّهُ بَائِعُهُ بِرُخْصٍ، فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَقَالَ: (لاَ تَشْتَرِهِ، وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ الْعَائِدَ فِى صَدَقَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِى قَيْئِهِ) . اختلف العلماء فى هذا الباب، فقالت طائفة: ليس لأحد أن يهب هبة ويرجع فيها على ظاهر حديث ابن عباس وعمر، روى ذلك عن طاوس والحسن، وهو قول الشافعى، وأحمد ابن حنبل، وأبى ثور. وفيها قول آخر، روى عن عمر بن الخطاب: أن من وهب لذى رحم فلا رجوع له، ومن وهب لغير ذى رحم، فله الرجوع إن لم يثب منها، وعن على بن أبى طالب، رضى الله عنه، أنه من وهب لذى رحم فله الرجوع إن لم يثب منها خلاف قول عمر. وقال الثورى والكوفيون: يرجع فيما وهبه لذى رحم غير محرم إذا كانت الهبة قائمة لم تستهلك، ولم تزد فى بدنها أو لم يثب منها مثل: ابن عمه، وابن خاله، وأما إن وهب لذى رحم محرم وقبضوا الهبة، فليس له الرجوع فى شىء منها وهم: ابنته، أو إخوته(7/138)
لأمه، أو جده أبو أمه، أو خاله، أو عمه، أو ابن أخيه، أو ابن أخته، أو بنوهما. وتفسير الرحم المحرم هو من لو كان الموهوب له امرأة لم يحل للواهب نكاحها، وحكم الزوجين عندهم حكم ذى الرحم المحرم، ولا رجوع لواحد منهما فى هبته. وقال مالك: يجوز الرجوع فيما وهبه للثواب، وسواء وهبه لذى رحم محرم أو غير محرم، ولا يجوز له الرجوع فيما وهبه الله ولا لصلة رحم. قال الطحاوى: واحتج أهل المقالة الأولى بما روى شعبة وهشام، قالا: حدثنا قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عباس، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (العائد فى هبته كالعائد فى قيئه) ، قالوا: فبان بهذا الحديث أن المراد العائد فى قيئه الرجل لا الكلب، ولما كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد جعل الرجوع فى الهبة، كالرجوع فى القىء، وكان رجوع الرجل فى قيئه حرامًا عليه، كان كذلك رجوعه فى هبته. وحجة الكوفيين قوله: (كالكلب يعود فى قيئه) ، فبان بهذا الحديث أن العائد فى قيئه هو الكلب، والكلب غير متعبد بتحليل ولا بتحريم، فيكون المعنى العائد فى هبته كالعائد فى قدر كالقدر الذى يعود فيه الكلب، فلا يثبت بذلك منع الواهب من الرجوع فى هبته، فدل هذا أنه عَلَيْهِ السَّلام أراد تنزيه أمته عن أمثال الكلاب؛ لأنه أبطل أن يكون لهم الرجوع فى هباتهم، ويصلح الاحتجاج بهذه الحجة لمالك.(7/139)
قال الطحاوى: واحتج أهل المقالة الأولى بحديث طاوس، عن ابن عباس، وابن عمر، أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، قال: (لا يحل لواهب أن يرجع فى هبته إلا الوالد لولده) ، ولا دليل لهم فيه على تحريم الرجوع فى الهبة، فقد يجوز أن يكون النبى، عَلَيْهِ السَّلام، وصف ذلك الرجوع بأنه لا يحل؛ لتغليظه إياه لكراهته أن يكون أحد من أمته له مثل السوء. وقد قال عَلَيْهِ السَّلام: (لا تحل الصدقة على ذى مرة سوى) ، فلم يكن ذلك على معنى أنها تحرم عليه كما تحرم على الغنى، ولكنها لا تحل له من حيث تحل لغيره من ذوى الحاجة والزمانة، فكذلك قوله: (لا يحل للواهب أن يرجع فى هبته) ، إنما هو على أنه لا يحل له ذلك، كما تحل له الأشياء التى قد أحلها الله له. وقال الطبرى: قوله عَلَيْهِ السَّلام: (العائد فى هبته) ، معناه الخصوص، وذلك لو أن قائلاً قال: العائد فى هبته كالكلب يعود فى قيئه، إلا أن يكون والدًا للموهوب له، أو تكون هبته لثواب يلتمسه، فإنه ليس له مثل السوء، لم يكن مختلاً فى كلامه، ولا مخطئًا فى منطقه. فإن قيل: فبين لنا من يجوز له الرجوع فى هبته ومن لا يجوز، ومن المعنى بالذم فى ذلك. قيل: من وهب طلب ثواب إما باشتراط ذلك أو بغير اشتراط بعد أن يكون الأغلب من أمر الواهب والموهوب له أن مثله يهب مثله طلب الثواب منه، فله الرجوع.(7/140)
وأما الواهب لله يطلب الأجر كالواهب الغنى للفقير المحتاج، أو طلب صلة رحم كالواهب يهب لأحد أبويه، أو أخيه، أو أخته، أو قريب له قريب القرابة يريد بذلك صلة رحمه، فلا رجوع له، فهذا المعنى بالذم بقوله: (كالكلب يعود فى قيئه) . وقد أشار المهلب إلى قريب من هذا المعنى، وقال: وعلى هذا التأويل لا تتعارض الأحاديث، فيكون معنى قوله فى حديث عمر: (العائد فى صدقته) ، مفسرًا لقوله فى حديث ابن عباس: (العائد فى هبته) ، أن الهبة التى تجرى مجرى الصدقة والصلة، لا يجوز الرجوع فيها، وإنما يرجع فيما خرج من هذا المعنى وأريد به الثواب، وقد تقدم فى كتاب الزكاة واختلاف أهل العلم فى شراء الرجل صدقته فى باب هل يشترى الرجل صدقته؟ . قال الطحاوى: وقد بين ما قلنا ما روى عن عمر بن الخطاب، روى مالك، عن داود ابن الحصين، عن أبى غطفان بن ظريف، عن مروان بن الحكم، أن عمر بن الخطاب قال: من وهب لصلة رحم أو على وجه صدقة، فإنه لا يرجع فيها، ومن وهب هبة يرى أنه إنما أراد بها الثواب، فهو على هبته يرجع بها، إن لم يرض منها، فهذا عمر بن الخطاب فرق بين الهبات والصدقات، فجعل الصدقات لله لا يرجع فيها، وجعل الهبات على ضربين، فضرب منها لصلة الأرحام، فرد ذلك إلى حكم الصدقات لله، ومنع الواهب من الرجوع فيها، وضرب منها جعل فيه الرجوع للواهب ما لم يرض منه.(7/141)
30 - بَاب
/ 51 - فيه: [عبد الله بن عبد الله بن أبى مليكة] ، أَنَّ بَنِى صُهَيْبٍ، مَوْلَى ابْنِ جُدْعَانَ ادَّعَوْا بَيْتَيْنِ وَحُجْرَةً، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَعْطَى ذَلِكَ صُهَيْبًا، فَقَالَ مَرْوَانُ: مَنْ يَشْهَدُ لَكُمَا عَلَى ذَلِكَ؟ قَالُوا: ابْنُ عُمَرَ، فَدَعَاهُ، فَشَهِدَ لأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) صُهَيْبًا بَيْتَيْنِ وَحُجْرَةً، فَقَضَى مَرْوَانُ بِشَهَادَتِهِ لَهُمْ. إنما ذكر هذا الحديث فى كتاب الهبة؛ لأن فيه هبة النبى (صلى الله عليه وسلم) البيتين والحجرة لصهيب. فإن قيل: كيف قضى مروان بشهادة ابن عمر وحده لبنى صهيب، وذلك خلاف السنة؟ قيل: إن مروان إنما حكم بشهادة ابن عمر مع يمين المطالب على ما جاء فى السنة من القضاء باليمين مع الشاهد، ولم يذكر ذلك فى الحديث.
31 - بَاب مَا قِيلَ فِى الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى
/ 52 - فيه: جَابِر، أن النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، قَضَى بِالْعُمْرَى أَنَّهَا لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ. / 53 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (الْعُمْرَى جَائِزَةٌ) ، وَجَابِر مثله. قال أبو عبيد: تأويل العمرى أن يقول الرجل للرجل: هذه الدار لك عمرك، أو يقول: هذه الدار لك عمرى، وأصله مأخوذ من العمر. اختلف العلماء فى العمرى، فقال مالك: إذا قال: أعمرتك دارى أو ضيعتى، فإنه قد وهب له الانتفاع بذلك مدة حياته، فإذا مات رجعت الرقبة إلى المالك وهو المعمر، وإذا قال: قد أعمرتك(7/142)
وعقبك، فإنه قد وهب له ولعقبه الانتفاع ما بقى منهم إنسان، فإذا انقضوا رجعت الرقبة إلى المالك المعمر؛ لأنه وهب له المنفعة، ولم يهب له الرقبة. وروى مثله عن القاسم بن محمد، ويزيد بن قسيط، وهو أحد قولى الشافعى. وقال الكوفيون والشافعى فى أحد قوليه وأحمد بن حنبل: العمرى تصير ملكًا للمعمر ولورثته، ولا تعود ملكًا إلى المعطى أبدًا. واحتجوا بما رواه مالك، عن ابن شهاب، عن أبى سلمة، عن جابر، أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، قال: (أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه، فإنها للذى يعطاها لا ترجع إلى الذى أعطاها أبدًا؛ لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث. وقالوا: إن مالكًا روى هذا الحديث وخالفه، قال: ليس عليه العمل ووددت أنه محى، واحتج أصحاب مالك بأن الإعمار عند العرب والإفقار والإسكان والمنحة والعارية والإعراء، إنما هو تمليك المنافع لا تمليك الرقاب، وللإنسان أن ينقل منفعة الشىء الذى يملك إلى غيره مدة معلومة ومجهولة إذا كان ذلك على غير عوض؛ لأن ذلك فعل خير ومعروف، ولا يجوز أن يخرج شىء عن ملك مالكه إلا بيقين ودليل على صحته. وقد قال القاسم بن محمد: ما أدركت الناس إلا على شروطهم فيما أعطوا، والدليل على أن العمرى لا تقتضى نقل الملك عن الرقبة أنه لو قال: بعتك شهرًا أو تصدقت بها عليك شهرًا، وأراد نقل ملك(7/143)
الرقبة لم يصح، كذلك إذا قال: أعمرتك؛ لأنه علقه بوقت مقيد، وهو عمره. وأما حديث أبى سلمة الذى احتجوا به، فهو حجة عليهم، وذلك أن المعمر إذا أعمر زيدًا وعقبه، فليس له أن يرجع فيما أعطى زيدًا، فكذلك فيما أعطى عقبه، والكوفى خالف هذا الحديث، ولم يقل بظاهره كما زعم؛ لأنه يقول: إن للمعمر بيع الشىء الذى أعمره، ومنع ورثته منه، وهذا خلاف شرط المعمر؛ لأنه أعطى عقبه كما أعطاه، وليس هو بأولى بالعطية من عقبه، وهو معنى قوله عَلَيْهِ السَّلام: (لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث) ، يعنى التداول للمنفعة لا ميراث الرقبة. وقد قال تعالى: (وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم) [الأحزاب: 27] ، فلم يملكوها بالمواريث التى فرض الله، وإنما أخذوا منهم ما كان فى أيديهم، فكذلك العقب فى العمرى يأخذ ما كان لأبيه بعطية المالك. واختلفوا فى الرقبى، فأجازها أبو يوسف والشافعى كأنها وصية عندهم. وقال مالك، والكوفيون، ومحمد: لا تجوز، واحتجوا بما رواه حبيب بن أبى ثابت، عن ابن عمر، أن النبى، عَلَيْهِ السَّلام، نهى عن الرقبى، وقال: (من أرقب رقبى فهى له) ، والرقبى عند مالك: أن يقول للرجل: إن مت قبلك فدارى لك، وإن مت قبلى فدارك لى، فكأن كل واحد منهما يقصد إلى عوض لا يدرى هل يحصل له، ويتمنى كل واحد منهما موت صاحبه، وليس كذلك العمرى؛ لأن المعمر لا يقصد عوضًا عن الذى أخرج عن يده.(7/144)
بسم الله الرحمن الرحيم
46 - كتاب العارية
- بَاب مَنِ اسْتَعَارَ مِنَ النَّاسِ الْفَرَسَ وَالدَّابَّةَ وَغَيْرَهما
/ 1 - فيه: أَنَس، كَانَ فَزَعٌ بِالْمَدِينَةِ، فَاسْتَعَارَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَرَسًا مِنْ أَبِى طَلْحَةَ يُقَالُ لَهُ: الْمَنْدُوبُ، فَرَكِبَ، فَلَمَّا رَجَعَ، قَالَ: (مَا رَأَيْنَا مِنْ شَىْءٍ، وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا) . اختلف العلماء فى عارية الحيوان والعقار وما لا يعاب عليه، فروى ابن القاسم، عن مالك، أن من استعار حيوانًا أو غيره مما لا يعاب عليه فتلف عنده، فهو مصدق فى تلفه، ولا يضمنه إلا بالتعدى، وهو قول الكوفيين والأوزاعى. وقال عطاء: العارية مضمونة على كل حال، كانت مما لا يعاب عليه أم لا، وسواء تعدى فيها أو لم يتعد، وبه قال الشافعى، وأحمد بن حنبل، واحتجوا بما رواه إسماعيل ابن عياش، عن شرحبيل بن مسلم الخولانى، قال: سمعت أبا أمامة الباهلى أنه سمع النبى، عَلَيْهِ السَّلام، فى حجة الوداع يقول: (العارية مؤداة، والزعيم غارم) . وروى أن ابن عباس وأبا هريرة ضمنا العارية. والحجة للقول الأول أن معنى قوله: (العارية مؤداة) ، هو كمعنى قوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) [النساء: 58] ، فإذا تلفت الأمانة لم يلزم المؤتمن عزمها، فكذلك العارية إذا علم أنها(7/145)
قد تلفت؛ لأنه لم يأخذها على الضمان، ولا هو متعد بالأخذ، فهى أمانة عند المستعير، فإذا تلفت بتعديه عليها، لزمه قيمتها بجنايته عليها، بمنزلة ما لو تعدى عليها وهى فى يد ربها، فعليه قيمتها، وروى عن على وابن مسعود أنه ليس على مؤتمن ضمان. وممن كان لا يضمن المستعير الحسن والنخعى، وقال شريح: ليس على المستعير غير المغل ضمان، ولا على المستودع غير المغل ضمان، وكتب عمر بن عبد العزيز فى العارية: لا يضمن صاحبها إلا أن يطلع منه على خيانة.
- بَاب الاسْتِعَارَةِ لِلْعَرُوسِ عِنْدَ الْبِنَاءِ
/ 2 - فيه: عَائِشَةَ كَانَ عَلَيْهَا دِرْعُ قِطْرٍ ثَمَنُ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ، فَقَالَتِ: ارْفَعْ بَصَرَكَ إِلَى جَارِيَتِى انْظُرْ إِلَيْهَا، فَإِنَّهَا تُزْهَى أَنْ تَلْبَسَهُ فِى الْبَيْتِ، وَقَدْ كَانَ لِى مِنْهُنَّ دِرْعٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَمَا كَانَتِ امْرَأَةٌ تُقَيَّنُ بِالْمَدِينَةِ إِلاَ أَرْسَلَتْ إِلَىَّ تَسْتَعِيرُهُ. قال المهلب: عارية الثياب فى العرس من فعل المعروف والعمل الجارى عندهم، وأنه مرغب فى أجره؛ لأن عائشة لم تمنع منه أحدًا. وفيه أن المرأة قد تلبس فى بيتها ما خشن من الثياب، وما لا يلبسه بعض الخدم، والقطر ثياب من غليظ القطن، وتقين يعنى تزين. قال صاحب الأفعال: قان الشىء قيانة: أصلحه، والقينة:(7/146)
الأمة، ويقال: قن إياك عند الحداد، أى أصلحه، ومنه قيل للحداد: قين. قال أبو عمرو: أصله من إقيان البيت إقيانًا إذا حسن، ومنه قيل للمرأة: مقينة؛ لأنها تزين. قال غيره: القينة الماشطة، والقينة المغنية، والقينة الجارية، وكل صانع عند العرب قين. واختلف العلماء فى عارية الثياب والعروض وما يعاب عليه، فقال ابن القاسم فى المدونة: من استعار ما يعاب عليه من ثوب أو غيره فهلك عنده، فهو له ضامن ولا يقبل قوله فى هلاكه إلا أن يكون هلاكه ظاهرًا معروفًا، تقوم له به بينة من غير تفريط ولا تضييع فلا يضمن. وقال أشهب: يضمن، وإن أقام بينة أنه هلك بغير سببه، لحديث صفوان فى السلاح، وهو قول الشافعى قال: كل عارية مضمونة ما يعاب عليه وما لا يعاب، وسواء تعدى فى تلفه أم لا، وقد تقدم فى الباب قبل هذا من قال بهذا القول. وقالت طائفة: إنها أمانة على كل وجه، ولا يضمن ما تلف إلا بتعدى المستعير، ويقبل قوله فى تلفها، هذا قول الحسن البصرى والنخعى، وبه قال الأوزاعى والثورى وأبو حنيفة وأصحابه. وروى عن عمر وعلى وابن مسعود أنه لا ضمان فى العارية، واحتج الشافعى وأحمد بحديث صفوان بن أمية، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) استعار منه أدراعًا يوم حنين، فقال له: يا محمد، مضمونة؟ فقال: (مضمونة) ، فضاع بعضها، فقال له النبى (صلى الله عليه وسلم) : (إن شئت غرمناها لك) ، فقال: لأنا أرغب فى الإسلام من ذلك يا رسول الله. رواه(7/147)
ابن أبى مليكة، عن أمية بن صفوان بن أمية، عن أبيه، وروى قتادة، عن عطاء، عن صفوان بن يعلى، عن أبيه، وقال: أعارية مضمونة أو عارية مؤداة؟ فقال: بل مؤداة، وهذا ينفى الضمان، وحديث صفوان قد اضطرب جدًا فلا حجة فيه. وأيضًا: فلو وجب على النبى (صلى الله عليه وسلم) الضمان لم يقل له: (إن شئت غرمناها لك) ، واحتجوا بحديث القصعة التى أهدتها بعض أزواج النبى (صلى الله عليه وسلم) بطعام فكسرتها عائشة، فقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (غارت أمكم، وغرم القصعة) . وقال ابن القصار: اختلفت الألفاظ فى خبر صفوان، فاستعملنا ما ورد منها بالضمان فيما يعاب عليه كما كان فى سلاح صفوان والقصعة، واستعملنا ما ورد بإسقاط الضمان فيما لا يعاب عليه؛ لأنه يمكن كتمانه، فنكون قد استعملنا كل خبر على فائدة غير فائدة صاحبه، ولا يمكن المخالفين استعمالها إلا على معنى واحد فيما يعاب عليه من العارية وما لا يعاب عليه، أما فى وجوب الضمان على قول الشافعى، أو إسقاطه على قول أهل العراق، فاستعمالنا أولى لكثرة الفوائد. قال المهلب: وإنما ألزمته ملك الضمان فيما يعاب عليه؛ لئلا يدعى المستعير هلاك العارية فيتطرق بذلك إلى أخذ مال غيره.(7/148)
3 - بَاب فَضْلِ الْمَنِيحَةِ
/ 3 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (نِعْمَ الْمَنِيحَةُ اللِّقْحَةُ الصَّفِىُّ مِنْحَةً، وَالشَّاةُ الصَّفِىُّ تَغْدُو بِإِنَاءٍ وَتَرُوحُ بِإِنَاءٍ) . وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ، عَنْ مَالِكٍ: نِعْمَ الصَّدَقَةُ. / 4 - فيه: أَنَس، لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَةَ مِنْ مَكَّةَ، وَلَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَىء، وَكَانَتِ الأَنْصَارُ أَهْلَ الأَرْضِ وَالْعَقَارِ، فَقَاسَمَهُمُ الأَنْصَارُ عَلَى أَنْ يُعْطُوهُمْ ثِمَارَ أَمْوَالِهِمْ كُلَّ عَامٍ، وَيَكْفُوهُمُ الْعَمَلَ وَالْمَئُونَةَ، وَكَانَتْ أُمُّهُ أُمُّ أَنَسٍ أُمُّ سُلَيْمٍ، كَانَتْ أُمَّ عَبْدِاللَّهِ بْنِ أَبِى طَلْحَةَ، وَأَعْطَتْ أُمُّ أَنَسٍ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عِذَاقًا، فَأَعْطَاهُنَّ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أُمَّ أَيْمَنَ مَوْلاَتَهُ، أُمَّ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَتْلِ أَهْلِ خَيْبَرَ، فَانْصَرَفَ إِلَى الْمَدِينَةِ رَدَّ الْمُهَاجِرُونَ إِلَى الأَنْصَارِ مَنَائِحَهُمِ الَّتِى كَانُوا مَنَحُوهُمْ مِنْ ثِمَارِهِمْ، فَرَدَّ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى أُمِّهِ عِذَاقَهَا، وَأَعْطَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) أُمَّ أَيْمَنَ مَكَانَهُنَّ مِنْ حَائِطِهِ. وَقَالَ يُونُسَ مرة: (مِنْ خَالِصِهِ) . / 5 - وفيه: عَبْدَاللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَرْبَعُونَ خَصْلَةً أَعْلاَهُنَّ مَنِيحَةُ الْعَنْزِ، مَا مِنْ عَامِلٍ يَعْمَلُ بِخَصْلَةٍ مِنْهَا رَجَاءَ ثَوَابِهَا، وَتَصْدِيقَ مَوْعُودِهَا، إِلاَ أَدْخَلَهُ اللَّهُ بِهَا الْجَنَّةَ) ، قَالَ حَسَّانُ: فَعَدَدْنَا مَا دُونَ مَنِيحَةِ الْعَنْزِ مِنْ رَدِّ السَّلاَمِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَإِمَاطَةِ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَغيره، فَمَا اسْتَطَعْنَا أَنْ نَبْلُغَ خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً. / 6 - وفيه: جَابِر، كَانَتْ لِرِجَالٍ مِنَّا فُضُولُ أَرَضِينَ، فَقَالُوا: نُؤَاجِرُهَا(7/149)
بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَالنِّصْفِ، فَقَالَ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا، أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ) . / 7 - وفيه: أَبُو سَعِيدٍ، جَاءَ أَعْرَابِىٌّ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَسَأَلَهُ عَنِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: (وَيْحَكَ إِنَّ الْهِجْرَةَ شَأْنُهَا شَدِيدٌ، فَهَلْ عندك مِنْ إِبِلٍ) ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَتُعْطِى صَدَقَتَهَا) ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَهَلْ تَمْنَحُ مِنْهَا شَيْئًا) ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَتَحْلُبُهَا يَوْمَ وِرْدِهَا؟) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ الْبِحَارِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَتِرَكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيْئًا) . / 8 - وفيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) خَرَجَ إِلَى أَرْضٍ تَهْتَزُّ بزَرْعها، فَقَالَ: (لِمَنْ هَذِهِ؟) فَقَالُوا: اكْتَرَاهَا فُلاَنٌ، فَقَالَ: (أَمَا إِنَّهُ لَوْ مَنَحَهَا إِيَّاهُ كَانَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهَا أَجْرًا مَعْلُومًا) . المنيحة هى الناقة والشاة ذات الدر تعار للبنها، ثم ترد إلى أهلها، والمنحة عند العرب كالإفقار، والعمرى، والعارية، وهى تمليك المنافع لا تمليك الرقاب، ألا ترى قوله فى حديث أنس: (فلما فتح الله على رسوله (صلى الله عليه وسلم) غنائم خيبر رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم وثمارهم. وقوله فى حديث جابر: (من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه) ، إنما يريد يهبه الانتفاع بها ولا يكريها منه بأجر، يبين ذلك قوله فى حديث ابن عباس: (أما إنه لو منحها إياه لكان خيرًا له من أن يأخذ عليها أجرًا) . وقوله فى حديث أبى سعيد بعد أن سأل النبى (صلى الله عليه وسلم) صاحب الإبل إن كان(7/150)
يؤدى صدقتها، قال: (فهل تمنح منها؟) ، فدل أن المنحة غير إعطاء الرقاب؛ لأن إعطاء الرقاب قد تضمنته الزكاة، فدلت هذه الآثار على أن المنيحة التى حض النبى (صلى الله عليه وسلم) أمته عليها من الأرض والثمار والأنعام، هى تمليك المنافع لا تمليك الرقاب. واللقحة الناقة التى لها لبن يحلب، والجمع لقاح، والصفى الغزيرة اللبن. قال المهلب: وقوله: (تغدو بإناء وتروح بإناء) ، يعنى أنها تغدو بأجر حلبها فى الغدو والرواح، والسنة أن ترد المنيحة إلى أهلها إذا استغنى عنها، كما رد النبى، عَلَيْهِ السَّلام، إلى أم سليم عذاقها، وكما رد المهاجرون للأنصار منائحهم حين أغناهم الله بخيبر، والمنحة والعارية والإفقار وغير ذلك هو من باب المشاركة والصلة، لا من باب الصدقة؛ لأنها لو كانت من باب الصدقة لما حلت للنبى (صلى الله عليه وسلم) ، ولكانت عليه حرامًا، ولو كان فى أخذها غضاضة لما قبلها، عَلَيْهِ السَّلام. وأما قوله عَلَيْهِ السَّلام: (أربعون خصلة أعلاهن منيحة العنز) ، ولم يذكر الأربعين خصلة فى الحديث، ومعلوم أنه كان عالمًا بها كلها لا محالة، إلا لمعنى هو أنفع لنا من ذكرها، وذلك والله أعلم خشية أن يكون التعيين لها والترغيب فيها زهدًا فى غيرها من أبواب المعروف وسبل الخير، وقد جاء عنه، عَلَيْهِ السَّلام، من الحض على أبواب من أبواب الخير والبر ما لا يحصى كثرة، وليس قول(7/151)
حسان بن عطية: فعددنا ما دون منيحة العنز من رد السلام، وتشميت العاطس، وإماطة الأذى عن الطريق فما استطعنا أن نبلغ خمس عشرة خصلة، بمانع أن يجدها غيره، وقد بلغنى عن بعض أهل عصرنا أنه طلبها فى الأحاديث، فوجد حسابها يبلغ أزيد من أربعين خصلة، فمنها: أن رجلاً سأل النبى (صلى الله عليه وسلم) عن عمل يدخله الجنة، فقال له عَلَيْهِ السَّلام: لئن كنت قصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة، فذكر له عتاقات، ثم قال له: والمنحة الركوب الغزيرة الدر، والفىء على ذى الرحم القاطع، فإن لم تطق ذلك فاطعم الجائع، واسق الظمآن، فهذه ثلاث خصال أعلاهن المنحة، وليس الفىء على ذى الرحم منها؛ لأنها أفضل من منيحة العنز، وإنما شرط أربعين خصلة أعلاهن منيحة العنز. ومنها السلام على من لقيت، وفى الحديث: (من قال: السلام عليك، كتبت له عشر حسنات، ومن زاد: ورحمة الله، كتبت له عشرون، ومن زاد: وبركاته، كتبت له ثلاثون حسنة) ، وتشميت العاطس، وفى الحديث: (ثلاث تثبت لك الود فى صدر أخيك: إحداهن تشميت العاطس، وإماطة الأذى عن الطريق. . .) ، وفى الحديث: (أن رجلاً أخر غصن شوك من الطريق، فشكر الله له فغفر له) . وإعانة الصانع، والصنعة للأخرق، وإعطاء صلة الحبل، وإعطاء شسع النعل، وأن يؤنس الوحشان، وسأل رجل النبى (صلى الله عليه وسلم) عن المعروف، فقال: (لا تحقرن منه شيئًا ولو شسع النعل، ولو أن يعطى(7/152)
الحبل، ولو أن يؤنس الوحشان) . وقال أبو سليمان الخطابى: وقيل فى تأويل أنس الوحشان وجهان: أحدهما: أن تلقاه بما يؤنسه من القول الجميل. والوجه الآخر: أنه أريد به المنقطع بأرض الفلاة، المستوحش بها تحمله فتبلغه مكان الأنس، والأول أشبه. وكشف الكربة عن مسلم، قال عَلَيْهِ السَّلام: (من كشف عن أخيه كربة، كشف الله عنه كربة من كربات يوم القيامة) . وكون المرء فى حاجة أخيه، قال عَلَيْهِ السَّلام: (الله فى عون العبد مادام العبد فى عون أخيه) . وستر المسلم، قال عَلَيْهِ السَّلام: (من ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة) . والتفسح لأخيك فى المجلس، قال تعالى: (فافسحوا يفسح الله لكم) [المجادلة: 11] ، وقال عَلَيْهِ السَّلام: (ثلاث تثبت لك الود فى صدر أخيك: إحداهن أن توسع له فى المجلس) . وإدخال السرور على المسلم، ونصر المظلوم، والأخذ على يدى الظالم، قال عَلَيْهِ السَّلام: (انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا) . والدلالة على الخير، وقد قال عَلَيْهِ السَّلام: (الدال على الخير كفاعله) . والأمر بالمعروف، والإصلاح بين الناس، قال الله تعالى: (لا خير فى كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس) [النساء: 114] الآية، وقول طيب ترد به المسكين، قال الله تعالى: (قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى) [البقرة: 263] ، وقال تعالى: (وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى) [النساء: 8] الآية، وقال عَلَيْهِ السَّلام: (اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة) .(7/153)
وأن تفرغ من دلوك فى إناء المستقى، أمر به عَلَيْهِ السَّلام الذى سأله عن المعروف، وغرس المسلم وزرعه، قال عَلَيْهِ السَّلام: (ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له صدقة) . والهدية إلى الجار، قال عَلَيْهِ السَّلام: (يا نساء المؤمنات، لا تحقرن إحداكن لجارتها ولو فرسن شاة محرقًا) . والشفاعة للمسلم، فإن الله تعالى يقول: (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها) [النساء: 85] ، وقال عَلَيْهِ السَّلام: (اشفعوا تؤجروا) . ورحمة عزيز ذل، وغنى افتقر، وعالم بين جهال، روى ذلك فى حديث عن النبى. وعيادة المرضى، وفى الحديث: (عائد المريض على مخارف الجنة، وعائد المريض يخوض فى الرحمة، فإذا جلس عنده استقرت به الرحمة) . والرد على من يغتاب أخاك المسلم، وفى الحديث: (من حمى مؤمنًا من منافق يغتابه بعث الله إليه ملكًا يوم القيامة يحمى لحمه من النار) . ومصافحة المسلم، وفى الحديث: (لا يصافح مسلم مسلمًا فتزول يده من يده حتى يغفر لهما) ، وفى حديث آخر: (تصافحوا يذهب الغل) . والتحاب فى الله، والتجالس فى الله، والتزاور فى الله، والتبادل فى الله، قال الله تعالى: وجبت محبتى لأصحاب هذه الأعمال الصالحة، وعون الرجل الرجل فى دابته يحمله عليها، أو يرفع عليها متاعه صدقة، روى ذلك عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وذكر النصح لكل مسلم.(7/154)
4 - بَاب إِذَا قَالَ: أَخْدَمْتُكَ هَذِهِ الْجَارِيَةَ عَلَى مَا يَتَعَارَفُ النَّاسُ فَهُوَ جَائِزٌ
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: هَذِهِ عَارِيَّةٌ، وَإِنْ قَالَ: كَسَوْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ فَهُوَ هِبَةٌ. / 9 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ بِسَارَةَ، فَأَعْطَوْهَا هَاجَرَ، فَرَجَعَتْ، فَقَالَتْ: أَشَعَرْتَ أَنَّ اللَّهَ كَبَتَ الْكَافِرَ، وَأَخْدَمَ وَلِيدَةً) . وَقَالَ مرة: (فَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ) . لا أعلم خلافًا بين العلماء أنه إذا قال له: أخدمتك هذه الجارية، أو هذا العبد أنه قد وهب له خدمته لا رقبته، وأن الإخدام لا يقتضى تمليك الرقبة عند العرب، كما أن الإسكان لا يقتضى تمليك رقبة الدار، وليس ما استدل به البخارى من قوله: فأخدمها هاجر، بدليل على الهبة، وإنما تصح الهبة فى الحديث من قوله: (فأعطوها هاجر) ، فكانت عطية تامة. واختلف ابن القاسم وأشهب فيمن قال: وهبت خدمة عبدى لفلان، فقال ابن القاسم: يخدمه حياة العبد، فإن مات فلان فلورثته خدمة العبد ما بقى العبد، إلا أن يستدل من قوله أنه أراد حياة المخدم، ولا تكون هبة لرقبة العبد، وقال أشهب: إذا قال: وهبت خدمة عبدى لفلان، فإنه يحمل على أنه حياة فلان، ولو كانت حياة العبد كانت هبة لرقبته. وقول ابن القاسم أصح من قول أشهب؛ لأنه لا يفهم من هبة الخدمة هبة الرقبة، والأموال لا تستباح إلا بيقين.(7/155)
ولم يختلف العلماء أنه إذا قال: كسوتك هذا الثوب مدة يسميها فله شرطه، فإن لم يذكر أجلاً فهو هبة؛ لأن لفظ الكسوة يقتضى الهبة للثوب، لقوله تعالى: (فكفارته إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم) [المائدة: 89] ، ولم تختلف الأمة أن ذلك تمليك للطعام والثياب.
5 - بَاب إِذَا حَمَلَ رَجُلاً عَلَى فَرَسٍ فَهُوَ كَالْعُمْرَى وَالصَّدَقَةِ
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا. / 10 - فيه: عُمَرُ، إنى حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَرَأَيْتُهُ يُبَاعُ، فَسَأَلْتُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (لاَ تَشْتَرِهِ، وَلاَ تَعُدْ فِى صَدَقَتِكَ) . لا خلاف بين العلماء أن العمرى إذا قبضها المعمر لا يجوز الرجوع فيها، وكذلك الصدقة لا يجوز لأحد أن يرجع فى صدقته؛ لأنه أخرجها لله تعالى، فكذلك الحمل على الخيل فى سبيل الله لا رجوع فيه؛ لأنه صدقة لله، فما كان من الحمل على الخيل تمليكًا للمحمول عليه بقوله: هو لك، فهو كالصدقة المبتولة إذا(7/156)
بضت أنها ملك للمتصدق عليه، وما كان منه تحبيسًا فى سبيل الله فهو كالأوقاف لا يجوز الرجوع فيه عند جمهور العلماء. وخالف ذلك أبو حنيفة، وجعل الحبس باطلاً فى كل شىء، ولهذا قال البخارى: وقال بعض الناس: له أن يرجع فيها؛ لأنه عنده حبس باطل راجع إلى صاحبه. وفى حديث عمر جواز تحبيس الخيل، وهو يرد قول أبى حنيفة، ولا يخلو الفرس الذى حمل عليه عمر وأراد شراءه من أن يكون حبسه فى سبيل الله، أو حمل عليه وجعله ملكًا للمحمول عليه، فإن كان حبسًا فلا يجوز بيعه عند العلماء إلا أن يضيع أو يعجز عن اللحاق بالخيل، فيجوز حينئذ بيعه ووضع ثمنه فى فرس عتيق إن وجده، وإلا أعان به فى مثل ذلك، وإن كان عمر قد أمضى الفرس للذى حمله عليه وملكه إياه، فهو ملك للمتصدق عليه كالصدقة المبتولة، فجاز له التصرف فيه وبيعه من الذى حمله عليه، كما يجوز له بيعه من غيره، وإنما أمره عَلَيْهِ السَّلام بتركه تنزهًا لا إيجابًا، وقد تقدم فى كتاب الجهاد فى باب إذا حمل على فرس فى سبيل الله فرآها تباع اختلاف العلماء فيمن حمل على فرس فى سبيل الله، ولم يقل: هو حبس فى سبيل الله،(7/157)
فأغنى عن إعادته، وسيأتى فى كتاب الأوقاف اختلافهم فى جواز تحبيس الحيوان فى باب وقف الدواب والكراع، إن شاء الله.(7/158)
بسم الله الرحمن الرحيم
47 - كِتَاب النِّكَاحِ
- باب التَّرْغِيبِ فِى النِّكَاحِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) [النساء: 3] الآيَة
/ 1 - فيه: أَنَس، جَاءَ ثَلاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا، كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا، فَإِنِّى أُصَلِّى اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلا أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا. فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: (أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا، وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّى لأخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، ولَكِنِّى أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّى وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِى فَلَيْسَ مِنِّى) . / 2 - وفيه: عَائِشَةَ فِى قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِى الْيَتَامَى) [النساء: 3] ، قَالَتْ: هى الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِى حَجْرِ وَلِيِّهَا، فَيَرْغَبُ فِى مَالِهَا وَجَمَالِهَا، يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِأَدْنَى مِنْ سُنَّةِ صَدَاقِهَا، فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ إِلا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ، فَيُكْمِلُوا الصَّدَاقَ، وَأُمِرُوا بِنِكَاحِ مَنْ سِوَاهُنَّ مِنَ النِّسَاءِ. قال أهل التفسير فى قوله تعالى: (فانكحوا ما طاب لكم) [النساء: 3] ، يعنى فانكحوا ما أحللت لكم مثنى وثلاث ورباع.(7/159)
قال المهلب: فى هذا الحديث من الفقه أن النكاح من سنن الإسلام، وأنه لا رهبانية فى شريعتنا، وأن من ترك النكاح رغبة عن سنة محمد، عَلَيْهِ السَّلام، فهو مذموم مبتدع، ومن تركه من أجل أنه أوفق له وأعون على العبادة فلا ملامة عليه؛ لأنه لم يرغب عن سنة نبيه وطريقته، وفيه الاقتداء بالأئمة فى العبادة، والبحث عن أحوالهم وسيرهم فى الليل والنهار، وأنه لا يجب أن يتعدى طرق الأئمة الذين وضعهم الله ليقتدى بهم فى الدين والعبادة، وأنه من أراد الزيادة على سيرهم فهو مفسد، فإن الأخذ بالتوسط والقصد فى العبادة أولى حتى لا يعجز عن شىء منها، ولا ينقطع دونها، لقوله عَلَيْهِ السَّلام: (خير العمل ما دام عليه صاحبه وإن قل) . وفى تفسير عائشة للآية من الفقه ما قال به مالك من صداق المثل، والرد إليه فيما فسد صداقه، ووقع الغبن فى مقداره؛ لقولها: من سنة صداقها، فوجب أن يكون الصداق معروفًا لكل طبقة من الناس على قدر أحوالهم، وقد قال مالك: للناس مناكح قد عرفت لهم، وعرفوا بها، أى أن للناس صدقات وأكفاء، فإذا كان الله قد نهى عن نكاح اليتيمة حتى يبلغها صداق مثلها، فوجب ألا يجوز نكاح بقبضة تبن، ولا بما لا خطر له ولا حطب، كما قال بعض الناس، والذى أصله مالك فى أقل الصداق، وهو الذى يؤدى إليه النظر على كتاب الله،(7/160)
ويصححه القياس من أنه لا يستباح عضو مسلمة بأقل مما استباحه النبى، عَلَيْهِ السَّلام، من عضو مسلم بالسرقة، وذلك ربع دينار فما كان أقل من ذلك فخلاف للسنة، وستأتى مذاهب العلماء فى هذه المسألة بعد هذا. وفيه: أن تفسير القرآن لا يؤخذ إلا عمن له علم به، كما كانت عائشة أولى الناس بعلمه من قبل الرسول (صلى الله عليه وسلم) لاختصاصها به. وفيه: أن المرأة غير اليتيمة لها أن تنكح بأدنى من صداق مثلها؛ لأنه تعالى إنما حرج ذلك فى اليتامى، وأباح سائر النساء بما أجبن إليه من الصداق، هذا مفهوم من الآية. وفيه: أن لولى اليتيمة أن ينكحها من نفسه إذا عدل فى صداقها.
- باب قَوْلِ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام: (مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فإنَّه أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ) ، وَهَلْ يَتَزَوَّجُ مَنْ لا إِرَبَ لَهُ فِى النِّكَاحِ؟
/ 3 - فيه: عَلْقَمَةَ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَبْدِاللَّهِ فَلَقِيَهُ عُثْمَانُ بِمِنًى، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ، إِنَّ لِى إِلَيْكَ حَاجَةً فَخَلَيا، فَقَالَ عُثْمَانُ: هَلْ لَكَ يَا أَبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ فِى أَنْ أُزَوِّجَكَ بِكْرًا تُذَكِّرُكَ(7/161)
مَا كُنْتَ تَعْهَدُ؟ فَلَمَّا رَأَى عَبْدُاللَّهِ أَنْ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى هَذَا أَشَارَ لَىّ، فَقَالَ: يَا عَلْقَمَةُ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ: أَمَا لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ، لَقَدْ قَالَ لَنَا النَّبِىُّ عَلَيْهِ السَّلام: (يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ) . وترجم له: (باب من لم يستطع الباءة فليصم) . ذهب جماعة الفقهاء إلى أن النكاح مندوب إليه مرغب فيه، وذهب أهل الظاهر إلى أنه فرض على الرجل والمرأة مرة فى الدهر إن كان الرجل واجدًا لطول الحرة، وإن عدم لزمه نكاح الأمة، واحتجوا بظاهر هذا الحديث، وحملوا أمره عَلَيْهِ السَّلام بالنكاح على الإيجاب، قالوا: ولكنه أمر لخاص من الناس، وهم الخائفون على أنفسهم العنت بتركهم النكاح، فأما من لم يخف العنت، فهو غير مراد بالحديث. قالوا: وقد بين صحة قولنا إخباره عَلَيْهِ السَّلام عن السبب الذى من أجله أمر الذى يستطيع الباءة بالنكاح، وذلك قوله: (فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج) ، فمن قدر على غض بصره عن المحارم، وتحصين فرجه فغير فرض عليه النكاح، ومن كان غير قادر على ذلك وخشى مواقعة الحرام، فالنكاح فرض عليه لأمر النبى، عَلَيْهِ السَّلام، إياه به. واحتج أهل المقالة الأولى بقوله: (ومن لم يستطع فعليه بالصيام) ، وإذا كان الصوم الذى هو بدل عن النكاح ليس بواجب فمبدله مثله، وأيضًا فإن جماعة من الصحابة تركوه وهم قادرون(7/162)
عليه وعكفوا على العبادة، فلو كان واجبًا لكان تركه معصية، ولا يجوز أن يفعله الصحابة وهو معصية، وخاصة بكون الرسول (صلى الله عليه وسلم) باقيًا، فلما لم ينقل عنه ولا عن الأئمة بعده النكير على من لم يتزوج، علم أنه غير واجب. فإن قال أهل الظاهر: قد قال معاذ بن جبل: زوجونى لئلا ألقى الله أعزب، وقال عمر لأبى الزوائد: لم لا تتزوج؟ ما يمنعك منه مع علمك بوجوبه إلا عجز أو فجور، قيل: أما معاذ فأراد أن يلقى الله على أكمل أحواله؛ لأن النكاح مندوب إليه، ويحتمل أن يريد عمر بوجوبه وجوب سنة، وهذا أبو الزوائد من الصحابة لم يتزوج. ومن الدليل أنه غير فرض أنه قضاء شهوة، ولم يفرض الله على أحد من خلقه فرضًا هو شهوة لا يخاف مع تركها الهلاك، فإن قالوا: الغذاء هو شهوة، وقد فرض الله إحياء النفوس به، قيل: ليس فى ترك الجماع خوف الهلاك كما فى فقد الغذاء، فهما غير مشتبهين. وإذا كان لا يخاف الهلاك فى فقد الجماع، فالفضل فى الصبر على تركه، إذ الفضل فى ترك اللذات، وفى إجماع الحجة على أن من صبر عن النكاح ولم يقتحم محرمًا بصبره عنه غير حرج ولا آثم أدل دليل على صحة ما قلناه من أن أمر النبى، عَلَيْهِ السَّلام، بالنكاح على الندب لا على الفرض، وهذا قول الطبرى، وابن القصار، وقد تقدم تفسير الباءة والوجاء فى كتاب الصيام.(7/163)
3 - باب كَثْرَةِ النِّسَاءِ
/ 4 - فيه: عَطَاء، حَضَرْنَا مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ جِنَازَةَ مَيْمُونَةَ بِسَرِفَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذِهِ زَوْجَةُ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَإِذَا رَفَعْتُمْ نَعْشَهَا، فَلا تُزَعْزِعُوهَا، وَلا تُزَلْزِلُوهَا، وَارْفُقُوا، فَإِنَّهُ كَانَ عِنْدَ النَّبِىِّ عَلَيْهِ السَّلام تِسْعٌ كَانَ يَقْسِمُ لِثَمَانٍ، وَلا يَقْسِمُ لِوَاحِدَةٍ. / 5 - وفيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ فِى لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَهُ تِسْعُ نِسْوَةٍ. / 6 - وفيه: ابْن جُبَيْرٍ، قال: قال لِى ابْنُ عَبَّاسٍ: هَلْ تَزَوَّجْتَ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: فَتَزَوَّجْ، فَإِنَّ خَيْرَ هَذِهِ الأمَّةِ أَكْثَرُهَا نِسَاءً. قال المهلب: لم يرد ابن عباس أنه من كثر نساؤه من المسلمين أنه خيرهم، وإنما قاله على معنى الحض والندب إلى النكاح، وترك الرهبانية فى الإسلام، وأن النبى، عليه السلام، الذى يجب علينا الاقتداء به واتباع سنته كان أكثر أمته نساء؛ لأن الله تعالى أحل له منهن تسعًا بالنكاح، ولم يحل لأحد من أمته غير أربع. وفى هذا الحديث من الفقه أن حرمة المسلم ميتًا كحرمته حيًا؛ لأن ابن عباس راعى من توقير زوج النبى (صلى الله عليه وسلم) بعد موتها ما كان يراعيه فى حياتها، والتى لم يقسم لها النبى (صلى الله عليه وسلم) من أزواجه هى سودة؛ لأنها وهبت يومها لعائشة؛ لعلمها بحب النبى (صلى الله عليه وسلم) لها، وإنما فعلت ذلك رغبة أن تحشر فى جملة أزواج النبى (صلى الله عليه وسلم) ، فكانت من أزواجه ولم يكن لها قسمة فى المبيت. وقال صاحب العين: الزعزعة تحريك الشىء إذا أردت(7/164)
رفعه، وكذلك تحريك الريح الشجر، والزلزلة الاضطراب أخذ من زلزلة الأرض.
4 - باب مَنْ هَاجَرَ أَوْ عَمِلَ خَيْرًا لِتَزْوِيجِ امْرَأَةٍ فَلَهُ مَا نَوَى
/ 7 - فيه: عُمَر، قال النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (الْعَمَلُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لامْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ) . قال محمد بن الحسين الآجرى: لما هاجر النبى، عليه السلام، من مكة إلى المدينة وجب على جميع المسلمين ممن هو بمكة أن يهاجروا، ويدعوا أهليهم وعشائرهم وديارهم، يريدون بذلك وجه الله، فكان الناس يهاجرون على هذا النعت، فخرج رجل من مكة مهاجرًا فى الظاهر قد شمله الطريق مع الناس، ولم يكن مراده الله ورسوله، وإنما كان مراده تزويج امرأة من المهاجرات قبله أراد تزويجها، فلم يعد فى المهاجرين، وسمى مهاجر أم قيس.
5 - باب تَزْوِيجِ الْمُعْسِرِ الَّذِى مَعَهُ الْقُرْآنُ وَالإسْلامُ
/ 8 - فيه: سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام. / 9 - وفيه: ابْن مَسْعُود، كُنَّا نَغْزُو مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) لَيْسَ لَنَا نِسَاءٌ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلا نَسْتَخْصِى؟ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ. قال المهلب: أما قوله: تزويج المعسر الذى معه القرآن والإسلام،(7/165)
فدليل على أنه لم يملكها إياه على التعليم، ولو كان على التعليم لما كان معسرًا. وقوله: والإسلام يدل على ذلك؛ لأنها كانت مسلمة، فلا يجوز أن يعلمها الإسلام، فيكون على معنى الأجرة، وإنما راعى له عليه السلام حرمة حفظه القرآن، ومن جعله على التعليم فقد يجوز ألا تتعلم شيئًا فلا يستحقها الزوج، وقد ملكه الرسول (صلى الله عليه وسلم) إياها قبل التعليم. وسيأتى مذاهب العلماء فى قوله عليه السلام: (قد زوجتكها بما معك من القرآن) ، فى حديث سهل بعد هذا، إن شاء الله، وأما موضع الترجمة من حديث ابن مسعود، فهو أنه عليه السلام، لما نهى أصحابه المعسرين عن الخصاء، دل على جواز التزويج للمعسر، ولو لم يجز التزويج إلا للأغنياء لحظره عليهم من أجل عسرتهم، فهو دليل فى حديث ابن مسعود، ونص فى حديث سهل بقوله: (قد زوجتكها بما معك من القرآن) ، وكتاب الله شاهد بصحة هذا المعنى، وهو قوله: (وأنكحوا الأيامى منكم) [النور: 32] الآية.
6 - باب قَوْلِ الرَّجُلِ لأخِيهِ: انْظُرْ أَىَّ زَوْجَتَىَّ شِئْتَ حَتَّى أَنْزِلَ لَكَ عَنْهَا رَوَاهُ ابْنُ عَوْفٍ.
/ 10 - فيه: أَنَس، قَدِمَ عَبْدُالرَّحْمَنِ، فَآخَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الأنْصَارِىِّ، وَعِنْدَ الأنْصَارِىِّ امْرَأَتَانِ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يُنَاصِفَهُ أَهْلَهُ وَمَالَهُ، فَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِى أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلُّونِى عَلَى السُّوقِ،(7/166)
فَأَتَى السُّوقَ فَرَبِحَ شَيْئًا مِنْ أَقِطٍ وسَمْنٍ، فَرَآهُ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، بَعْدَ أَيَّامٍ، وَعَلَيْهِ وَضَرٌ مِنْ صُفْرَةٍ، فَقَالَ: (مَهْيَمْ يَا عَبْدَالرَّحْمَنِ. . .) الحديث. فى هذا الحديث ما كان عليه الصدر الأول من هذه الأمة من الإيثار على أنفسهم، وبذل النفيس لإخوانهم، كما وصفهم الله فى كتابه. قال المهلب: وفيه جواز عرض الرجل أهله على أهل الصلاح من إخوانه. وفيه: أنه لا بأس أن ينظر الرجل إلى المرأة قبل أن يتزوجها. وفيه: المواعدة بطلاق امرأة لمن يحب أن يتزوجها، وفيه تنزه الرجل عما يبذل له ويعرض عليه من المال وغيره، والأخذ بالشدة على نفسه فى أمر معاشه. وفيه: أن العيش من تجر أو صناعة أولى بنزاهة الأخلاق من العيش من الصدقات والهبات وشبهها. وفيه: مباشرة الفضلاء للتجارات بأنفسهم وتصرفهم فى الأسواق فى معايشهم وليس ذلك نقص لهم. وفيه: سؤال الرجل عن من تزوج وما نقد ليعينه الناس على وليمته ومؤنته. وفيه: سؤاله عما تزوج من البكر أو الثيب، وحضه على البكر للملاعبة والانهمال الحلال، وستأتى سائر معانى هذا الحديث فى مواضعها، إن شاء الله. وقوله: مهيم، كلمة موضوعة للاستفهام، ومعناها ما شأنك وما أمرك.(7/167)
7 - باب مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّبَتُّلِ وَالْخِصَاءِ
/ 11 - فيه: سَعْد، رَدَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لاخْتَصَيْنَا. / 12 - وفيه: ابْن مسعود، كُنَّا نَغْزُو مَعَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) وَلَيْسَ لَنَا نساء، فَقُلْنَا: أَلا نَسْتَخْصِى؟ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ رَخَّصَ لَنَا أَنْ نَنْكِحَ الْمَرْأَةَ بِالثَّوْبِ، ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ) [المائدة: 87] الآية. / 13 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى رَجُلٌ شَابٌّ، وَإِنى أَخَافُ عَلَى نَفْسِى الْعَنَتَ، وَلا أَجِدُ مَا أَتَزَوَّجُ بِهِ النِّسَاءَ، فَسَكَتَ عَنِّى، ثُمَّ قُلْتُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَسَكَتَ عَنِّى، ثُمَّ قُلْتُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَسَكَتَ عَنِّى، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لاقٍ، فَاخْتَصِ عَلَى ذَلِكَ أَوْ ذَرْ) . قال المهلب: إنما نهى عليه السلام عن التبتل والترهب من أجل أنه يكاثر بأمته الأمم يوم القيامة، وأنه فى الدنيا مقاتل بهم طوائف الكفار، وفى آخر الزمان يقاتلون الدجال، فأراد عليه السلام أن يكثر النسل. وقال الطبرى: التبتل الذى أراده عثمان بن مظعون ما كان عزم عليه من ترك النساء والطيب وكل ما يلتذ به، مما أحله الله لعباده من الطيبات والترهب، فأنزل الله فى النهى عن ذلك: (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) [المائدة: 87] الآية، وروى هذا عن ابن عباس وجماعة.(7/168)
فلا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شىء مما أحله الله لعباده المؤمنين على نفسه من طيبات المطاعم والملابس والمناكح إذا خاف على نفسه بإحلال ذلك له بعض العنت والمشقة أو أمنه، وذلك لرد النبى (صلى الله عليه وسلم) التبتل على عثمان بن مظعون، فثبت أنه لا فضل فى ترك شىء مما أحله الله لعباده، وأن الفضل والبر إنما هو فى فعل ما ندب عباده إليه، وعمل به رسوله وسنه لأمته، واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون، إذ كان خير الهدى هدى نبينا محمد. فإذا كان كذلك تبين خطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان إذا قدر على لبس ذلك من حله، وآثر أكل الفول والعدس على أكل خبز البر والشعير، وترك أكل اللحم والودك حذرًا من عارض الحاجة إلى النساء، فإن ظن ظان أن الفضل فى غير الذى قلنا لما فى لباس الخشن وأكله من المشقة على النفس، وصرف فضل ما بينهما من القيمة إلى أهل الحاجة، فقد ظن خطأ. وذلك أن أولى للإنسان بالنفس إصلاحها وعونها له على طاعة ربها ولا شىء أضر للجسم من المطاعم الردية؛ لأنها مفسدة لعقله، ومضعفة لأدواته التى جعلها الله سببًا إلى طاعاته. وفيه: أن خصاء بنى آدم حرام، وذلك أن التبتل إذ كان منهيًا عنه ولا جناية فيه على النفس غير منعها المباح لها، فمنعها ما فيه جناية عليها بإيلامها وتعذيبها بقطع بعض الأعضاء أحرى أن يكون منهيًا عنه، فثبت بهذا أن قطع شىء من أعضاء الإنسان من غير ضرورة تدعوه إلى ذلك حرام عليه.(7/169)
قال المهلب: وقول ابن مسعود: ثم أرخص لنا أن ننكح بالثوب، يعنى المتعة، التى كانت حلالاً فى أول الإسلام، ثم نسخت بالعدة والميراث والصداق، وفى حديث أبى هريرة إثبات القدر، وأن المرء لا يفعل باختياره شيئًا لم يكن سبق فى علم الله. وقال الطبرى: التبتل هو ترك شهوات الدنيا ولذاتها، والانقطاع إلى الله بالتفرغ لعبادته، والبتل القطع، ومنه قيل لمريم: البتول؛ لانقطاعها إلى الله بالخدمة، ومنه قولهم: صدقة بتلة، يعنى منقطعة عن مالكها، وقال أبو زيد الأنصارى: التبتل العزوبة. قال الطبرى: وهذا الذى قاله أبو زيد نوع من أنواع التبتل.
8 - باب نِكَاحِ الأبْكَارِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِعَائِشَةَ: لَمْ يَنْكِحِ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِكْرًا غَيْرَكِ. / 14 - فيه: عَائِشَةَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ لَوْ نَزَلْتَ وَادِيًا وَفِيهِ شَجَرَةٌ قَدْ أُكِلَ مِنْهَا، وَوَجَدْتَ شَجَرة لَمْ يُؤْكَلْ مِنْهَا، فِى أَيِّهَا كُنْتَ تُرْتِعُ بَعِيرَكَ؟ قَالَ: فِى التى لَمْ يُؤْكَلْ مِنْهَا، يَعْنِى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَمْ يَتَزَوَّجْ بِكْرًا غَيْرَهَا. / 15 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (أُرِيتُكِ فِى الْمَنَامِ مَرَّتَيْنِ، إِذَا رَجُلٌ يَحْمِلُكِ فِى سَرَقَةِ حَرِيرٍ، فَيَقُولُ: هَذِهِ امْرَأَتُكَ فَأَكْشِفُهَا، فَإِذَا هِىَ أَنْتِ، فَأَقُولُ إِنْ يَكُنْ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ) .(7/170)
قال المهلب: فيه فضل الأبكار على غيرهن، وروى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه حض على نكاح الأكبار، وقال: (إنهن أطيب أفواهًا، وأنتق أرحامًا، وأطيب أخلاقًا) ، وقيل فى تفسير: (أنتق أرحامًا) : أقبل للولد. وفيه: فخر النساء على ضرائرهن عند الأزواج. وفيه: ضرب الأمثال وتشبيه الإنسان بالشجرة. وسيأتى معنى قوله: (إن يكن هذا من عند الله يمضه) ، فى كتاب التعبير من هذا الكتاب فى باب كشف المرأة فى المنام، إن شاء الله، فهو أولى به.
9 - باب نِكَاحِ الثَّيِّبَاتِ
وَقَالَ النَّبِىّ لأُمُّ حَبِيبَةَ: (لا تَعْرِضْنَ عَلَىَّ بَنَاتِكُنَّ وَلا أَخَوَاتِكُنَّ) . / 16 - فيه: جَابِر، قَفَلْنَا مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ غَزْوَةٍ، فَتَعَجَّلْتُ عَلَى بَعِيرٍ لِى قَطُوفٍ، قَالَ: (مَا يُعْجِلُكَ) ؟ قُلْتُ: كُنْتُ حَدِيثَ عَهْدٍ بِعُرُسٍ، قَالَ: (بِكْر أَمْ ثَيِّب) ؟ قُلْتُ: ثَيِّب، قَالَ: (فَهَلا جَارِيَةً تُلاعِبُكَ وَتُلاعِبُهَا. . .) ؟ الحديث. / 17 - وقال أيضًا: (مَا لَكَ وَلِلْعَذَارَى وَلِعَابِهَا؟) . قال المهلب: فيه جواز نكاح الثيبات للشبان إذا كان ذلك لمعنى، كالمعنى الذى قصد له جابر من سبب أخواته، وذلك أن يكون للناكح بنات أو أخوات غير بالغات يحتجن إلى قيم ومتعهد. وفيه: أن نكاح الأبكار للشبان أولى لقوله عليه السلام: (فهلا جارية) .(7/171)
وفيه: سؤال الإمام رجاله عن أحوالهم فى نكاحهم ومفاوضتهم فى ذلك. وفيه: أن ملاعبة الأهل مستحبة؛ لأن ذلك يحبب الزوجين بعضهما لبعض، ويخفف المؤنة بينهما، ويرفع حياء المرأة عما يحتاج إليه الرجل فى مباعلتها، قال الله تعالى فى نساء الجنة: (عربًا أترابًا) [الواقعة: 37] والعروب المتحببة إلى زوجها، ويقال: العاشقة له، ويقال: الحسنة التبعل. وقوله: (أمهلوا حتى تدخلوا ليلاً) ، يريد حتى يسبقكم خبر قدومكم إلى أهليكم، (فتستحد المغيبة وتمتشط الشعثة) ، أى تصلح كل امرأة نفسها لزوجها مما غفلت عنه فى غيبته، وإنما معنى ذلك لئلا يجد منها ريحًا أو حالة يكرهها، فيكون ذلك سببًا إلى بغضتها، وهذا من حسن أدبه عليه السلام. وقوله: (ولعابها) ، هو مصدر لاعب ملاعبة ولعابًا، كما تقول: قاتل مقاتلة وقتالاً.
- باب تَزْوِيجِ الصِّغَارِ مِنَ الْكِبَارِ
/ 18 - فيه: عُرْوَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) خَطَبَ إِلَى أَبِى بَكْرٍ عَائِشَة، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا أَنَا أَخُوكَ، فَقَالَ: (أَنْتَ أَخِى فِى دِينِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ، وَهِىَ لِى حَلالٌ) . أجمع العلماء على أنه يجوز للآباء تزويج الصغار من بناتهم، وإن كن فى المهد، إلا أنه لا يجوز لأزواجهن البناء بهن إلا إذا صلحن(7/172)
للوطء واحتملن الرجال، وأحوالهن تختلف فى ذلك على قدر خلقهن وطاقتهن، وكانت عائشة حين تزوج بها النبى (صلى الله عليه وسلم) بنت ست سنين، وبنى بها بنت تسع، وقد ذكره البخارى بعد هذا فى باب نكاح الرجل ولده الصغار. قال ابن المنذر: وفى هذا الحديث دليل على أن نهيه، عليه السلام، عن إنكاح البكر حتى تستأذن أنها البالغ التى لها إذن، إذ قد أجازت السنة أن يعقد الأب النكاح على الصغيرة التى لا إذن لها. واختلف العلماء فى تزويج الأولياء غير الآباء اليتيمة الصغيرة، فقال ابن أبى ليلى، ومالك، والليث، والثورى، والشافعى، وابن الماجشون، وأحمد، وأبو ثور: ليس لغير الأب أن يزوج اليتيمة الصغيرة، فإن فعل فالنكاح باطل، وحكى ابن المنذر عن مالك أنه قال: يزوج الوصى الصغيرة دون الأولياء إذا كان وصيًا لها، والجد عند الشافعى عند عدم الأب كالأب. قالت طائفة: إذا زوج الصغيرة غير الأب من الأولياء، فلها الخيار إذا بلغت، روى هذا عن عطاء، والحسن، وطاوس، وهو قول الأوزاعى، وأبى حنيفة، ومحمد، إلا أنهما جعلا الجد كالأب لا خيار فى تزويجه. وقال أبو يوسف: لا خيار لها فى جميع الأولياء. وقال أحمد: لا أرى للولى ولا للقاضى أن يزوج اليتيمة حتى تبلغ تسع سنين، فإذا بلغتها ورضيت فلا خيار لها. وحجة من جعل لها الخيار إذا بلغت أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لما أمر باستئمار(7/173)
اليتيمة، ولا تستأمر إلا من لها ميزة ومعرفة كان لها الخيار والاستئمار إذا بلغت. وحجة القول الأول قول النبى، عليه السلام: (تستأمر اليتيمة فى نفسها) ، ولا يصح استئمارها إلا ببلوغها، ولا يجوز أن يكون العقد موقوفًا على استئمارها بدليل امتناع الجميع من دخول الخيار فى عقد النكاح، ووقوفها إلى مدة فيها الخيار. وفرق مالك بين اليتيمة واليتيم، فأجاز للوصى تزويج اليتيم قبل البلوغ من قبل أن اليتيم لما كان قادرًا على رفع العقد الذى يوقعه الولى إن كرهه بعد بلوغه جاز ذلك لقدرته على الخروج منه، وليس كذلك اليتيمة؛ لأنها لا تقدر إذا بلغت على رفع العقد؛ لأن الطلاق ليس بيد النساء، فافترقا لهذه العلة، ولأن السنة وردت فى منع العقد على اليتيمة حتى تستأمر، ولا يصح استئمارها إلا بعد البلوغ، هذا قول مالك. قال المهلب: وفى حديث عائشة من الفقه جواز خطبة الرجل لنفسه إلى ولى المخطوبة إذا علم أنه لا يرده لتأكد ما بينهما، ويحتمل قول أبى بكر للنبى (صلى الله عليه وسلم) : إنما أنا أخوك، أن يعتقد أنه لا يحل له أن يتزوج ابنته للمؤاخاة والخلة التى كانت بينهما، فأعلمه النبى (صلى الله عليه وسلم) أن أخوة الإسلام ليست كأخوة النسب والولادة، فقال: (إنها لى حلال بوحى من الله تعالى) ، كما قال إبراهيم للذى أراد أن يأخذ منه(7/174)
زوجته: هى أختى، يعنى فى الإيمان؛ لأنه لم يكن أحد مؤمنًا غيرهما يومئذ.
- باب إِلَى مَنْ يَنْكِحُ؟ وَأَىُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ؟ وَمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَخَيَّرَ لِنُطَفِهِ مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ؟
/ 19 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ: (خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الإبِلَ صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ، أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِى صِغَرِهِ، وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِى ذَاتِ يَدِهِ) . قال المهلب: إنما يركب الإبل نساء العرب، ونساء قريش من العرب، فنساء قريش خير نساء العرب، وقد أخبر عليه السلام بما استوجبن ذلك، وهو حنوهن على أولادهن، ومراعاتهن لأزواجهن، وحفظهن لأموالهم، وإنما ذلك لكرم نفوسهن، وقلة غائلتهن لمن عاشرهن وطهارتهن من مكايدة الأزواج ومشاحنتهن. وفيه: جواز مدح الرجل نساء قومه وولياته بفضائلهن، ومعنى هذا الحديث الحض على نكاح أهل الصلاح والدين وشرف الآباء؛ لأن ذلك يمنع من ركوب الإثم وتقحم العار، ولهذا المعنى قال عليه السلام: (عليك بذات الدين تربت يداك) .(7/175)
12 - باب اتِّخَاذِ السَّرَارِىِّ وَمَنْ أَعْتَقَ جَارِيَتَهُ، ثُمَّ تَزَوَّجَ بِهَا / 20 - فيه: أَبُو موسى، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَيُّمَا رَجُلٍ كَانَتْ عِنْدَهُ وَلِيدَةٌ، فَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، وَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَجْرَانِ. . .) ، الحديث. / 21 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عن النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلا ثَلاثَ كَذَبَاتٍ: بَيْنَمَا إِبْرَاهِيمُ مَرَّ بِجَبَّارٍ وَمَعَهُ سَارَةُ. . .) - وَذَكَرَ الْحَدِيثَ: (فَأَعْطَاهَا هَاجَرَ، قَالَتْ: كَفَّ اللَّهُ يَدَ الْكَافِرِ وَأَخْذَ مَنِى هَاجَرَ) . / 22 - وفيه: أَنَس، أَقَامَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) بَيْنَ خَيْبَرَ وَالْمَدِينَةِ ثَلاثًا يبْنَى عَلَى صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَىٍّ، فَدَعَوْتُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى وَلِيمَتِهِ، فَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خُبْزٍ وَلا لَحْمٍ، أُمِرَ إلا التَّمْرِ وَالأقِطِ وَالسَّمْنِ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ، فَقَالُوا: إِنْ حَجَبَهَا، فَهِىَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ لَمْ يَحْجُبْهَا، فَهِىَ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ، فَلَمَّا ارْتَحَلَ وَطَّى لَهَا خَلْفَهُ، وَمَدَّ الْحِجَابَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ. قال المؤلف: اتخاذ السرارى مباح؛ لقوله تعالى: (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم) [المؤمنون: 6] ، فأباح ملك اليمين كما أباح ملك النكاح، ورغب عليه السلام فى عتق الإماء وتزويجهن بقوله أن فاعل ذلك له أجران، وإنما ذكر حديث أبى هريرة لما فيه من هبة الكافر خادمًا لسارة، وقبول إبراهيم لها. واختلف العلماء فيمن أعتق جاريته وتزوجها، فذهب قوم إلى أنه إن أعتقها، وجعل عتقها صداقها، فذلك جائز، فإن تزوجته فلا مهر(7/176)
لها غير العتاق على حديث صفية، روى هذا عن أنس بن مالك أنه فعله، وهو راوى حديث صفية، وهو قول سعيد بن المسيب، وطاوس، والنخعى، والحسن البصرى، والزهرى، وإليه ذهب الثورى، وأبو يوسف، وأحمد، وإسحاق. وقال آخرون: ليس لأحد بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يفعل هذا، وإنما كان ذلك خاصًا لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأن الله أباح له أن يتزوج بغير صداق، ولم يجعل ذلك لأحد من المؤمنين غيره، هذا قول مالك، وأبى حنيفة، وزفر، ومحمد، والشافعى. واحتج أهل المقالة الأولى بأن عبد الله بن عمر، روى عن النبى، عليه السلام، أنه فعل فى جويرية بنت الحارث مثل ما فعله فى صفية أنه أعتقها وتزوجها وجعل عتقها صداقها، رواه حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع عنه. وقال أهل المقالة الثانية: لا حجة فى خبر جويرية أيضًا؛ لأن ابن عمر رواه عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وقال: إنه خاص له. قال الطحاوى: فنظرنا فى عتق النبى (صلى الله عليه وسلم) جويرية كيف كان، فروى ابن إسحاق عن عمر بن جعفر بن الزبير، عن عروة، عن عائشة، أنه لما أصاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بنى المصطلق، وقعت جويرية بنت الحارث فى سهم ثابت بن قيس، فكاتبت على نفسها وجاءت تستعين رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى كتابتها، فقال لها: (هل لك فى خير من ذلك، أقضى عنك كتابتك وأتزوجك؟) ، قالت: نعم، فتزوجها.(7/177)
فبينت عائشة العتاق الذى ذكره ابن عمر الذى جعله مهرها أنه أداه عنها كتابتها لتعتق بذلك الأداء، ويكون مهرًا لها، فلما كان لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يجعل ذلك مهرًا لها كان ذلك له خاصًا دون أمته، كما كان له خاصًا أن يجعل العتاق الذى تولاه هو مهرًا. فإن قال قائل: قد رأيت الرجل يعتق أمته على مال فتقبل منه، فتكون حرة، ويجب له عليها ذلك المال، فما ننكر إذا أعتقها على أن عتقها صداقها فقبلت ذلك منه أن تكون حرة، ويجب ذلك له عليها. قيل: إذا أعتقها على مال فقبلت ذلك منه وجب لها عليه العتاق، ووجب له عليها المال، فوجب لكل واحد منهما بذلك العقد سببًا أوجبه له ذلك العقد لم يكن مالكًا له قبل ذلك. وإذا أعتقها على أن عتقها صداقها، فقد ملكها رقبتها على أن ملكيته بضعها، فملكها رقبة هو لها مالك، ولم تكن هى مالكة لها قبل ذلك، على أن ملكته بضعًا هو له مالك قبل ذلك، فلم تملكه بذلك العتاق شيئًا لم يكن له مالكًا قبله، وإنما ملكته بعض ما قد كان له، فلذلك لم يجب عليها بذلك العتاق شىء، هذه حجة على من يقول: تكون له زوجة بالعتاق الذى هو الصداق. وفيه من الفقه: أنه يجوز للسيد إذا أعتق أمته أن يزوجها من نفسه دون السلطان، وكذلك الولى فى وليته، وسيأتى اختلاف العلماء فى(7/178)
هذه المسألة فى باب إذا كان الولى هو الخاطب بعد هذا، إن شاء الله. قال ابن المنذر: وفى تزويج النبى (صلى الله عليه وسلم) صفية من نفسه إجازة النكاح بغير شهود إذا أعلن، وهو قول الزهرى، وأهل المدينة، ومالك، وعبد الله بن الحسن، وأبى ثور، وروى عن ابن عمر أنه تزوج ولم يحضر النكاح شاهدين، وأن الحسن بن على زوج عبد الله ابن الزبير وما معهما أحد من الناس ثم أعلنوه بعد ذلك. وقالت طائفة: لا يجوز نكاح إلا بشاهدى عدل، روى ذلك عن ابن عباس، وعطاء، والنخعى، وسعيد بن المسيب، والحسن، وبه قال الثورى، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد ابن حنبل، وقال أبو حنيفة: لا يجوز النكاح إلا بشاهدين، ويجوز أن يكونا محدودين فى قذف، أو فاسقين، أو أعميين، وأجمع العلماء على رد شهادة الفاسق. وكان يزيد بن هارون يعتب أصحاب الرأى، ويقول: أمرنا الله بالإشهاد عند التبايع، فقال: (وأشهدوا إذا تبايعتم) [البقرة: 282] ، وأمر بالنكاح ولم يأمر بالإشهاد عليه، فزعم أصحاب الرأى أن البيع الذى أمر الله بالإشهاد عليه جائز من غير شهود، وأن النكاح الذى لم يأمر بالإشهاد عنده لا يجوز إلا بشهود. قال ابن المنذر: وقد اختلف فى ذلك أصحاب الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، وجاء الحديث الثابت الدال على إجازة النكاح من غير شهود، وهو حديث تزويج الرسول (صلى الله عليه وسلم) صفية، ألا ترى أن أصحابه اختلفوا فلم يعرفوا إن كانت زوجة له أو ملك يمين، واستدلوا على أنه تزوجها بالحجاب.(7/179)
فدل ذلك على أنه لم يشهدهم على نكاحها، واجتزأ فيه بالإعلان، ولو كان هناك شهود ما خفى ذلك عليهم، وفيه الحكم بالدليل. ووقع فى المغازى فى هذا الكتاب فى هذا الحديث كلمة من الغريب، وهى قوله: (يحوى لها وراءه بعباءة) ، أى يدير كساء حول سنام البعير لتركب عليه، وهو الحوية. قال الأصمعى: والحوية كساء محشو بثمام أو ليف يجعل على ظهر البعير، وفى قصة بدر أن أبا جهل بعث عمير بن وهب ليحزر أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فطاف عمير برسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فلما رجع قال: رأيت الحوايا عليها المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع.
- باب تَزْوِيجِ الْمُعْسِرِ لِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى: (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) [النور: 32]
/ 23 - فيه: سَهْلِ، جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جِئْتُ أَهَبُ لَكَ نَفْسِى، فَنَظَرَ إِلَيْهَا النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَصَعَّدَ النَّظَرَ فِيهَا وَصَوَّبَهُ، ثُمَّ طَأْطَأَ رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِيهَا شَيْئًا،(7/180)
جَلَسَتْ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا، فَقَالَ: (وَهَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَىْءٍ) ؟ قَالَ: لا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: (اذْهَبْ إِلَى أَهْلِكَ، فَانْظُرْ هَلْ تَجِدُ شَيْئًا) فَذَهَبَ، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: لا، وَاللَّهِ مَا وَجَدْتُ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (انْظُرْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ) ، فَذَهَبَ، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: لا، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلا خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، وَلَكِنْ هَذَا إِزَارِى، قَالَ سَهْلٌ: مَا لَهُ رِدَاءٌ، فَلَه نِصْفُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ، إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَىْءٌ، وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَىْءٌ، فَجَلَسَ الرَّجُلُ حَتَّى إِذَا طَالَ مَجْلِسُهُ قَامَ، فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مُوَلِّيًا، فَأَمَرَ بِهِ فَدُعِىَ، فَلَمَّا جَاءَ، قَالَ: (مَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ) ؟ قَالَ: مَعِى سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا، عَدَّدَهَا، فَقَالَ: (تَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ) ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (اذْهَبْ فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ) . فيه: جواز إنكاح المعسر، وأن الكفاءة إنما هى فى الدين لا فى المال، فإذا استجازت المرأة أو الولى التقصير فى المال جاز النكاح، وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه قال: ابتغوا الغنى فى النكاح، ما رأيت مثل من قعد بعد هذه الآية: (إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله) [النور: 32] ، وذكر إسماعيل بن إسحاق، قال: حدثنى إسماعيل بن أبى أويس، قال: حدثنا سليمان بن بلال، عن ابن غيلان، عن سعيد بن أبى سعيد، عن أبى هريرة، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (ثلاثة كلهم حق على الله عونه: المجاهد فى سبيل الله، والناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء) .(7/181)
قال المهلب: وفى حديث سهل جواز خطبة المرأة الرجل لنفسها إذا كان صالحًا، ولا عار عليها فى ذلك، وفيه أن النساء يخطبن إلى الأولياء، فإن لم يكن ولى فالسلطان ولى من لا ولى له، وسيأتى اختلاف العلماء فى قوله: (قد ملكتكها بما معك من القرآن) ، بعد هذا إن شاء الله.
- باب الأكْفَاءِ فِى الدِّينِ وَقول الله تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا) [الفرقان: 54]
/ 24 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِشَمْسٍ - وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ النَّبِىِّ عَلَيْهِ السَّلام - تَبَنَّى سَالِمًا، وَأَنْكَحَهُ بِنْتَ أَخِيهِ هِنْدا بِنْتَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ - وَهُوَ مَوْلًى لامْرَأَةٍ مِنَ الأنْصَارِ - كَمَا تَبَنَّى النَّبِىُّ عَلَيْهِ السَّلام زَيْدًا. . .) الحديث. / 25 - وفيه: عَائِشَةَ، دَخَلَ النَّبِىّ عَلَيْهِ السَّلام عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ لَهَا: لَعَلَّكِ أَرَدْتِ الْحَجَّ؟ قَالَتْ: لاَ وَاللَّهِ مَا أَجِدُنِى إِلا وَجِعَةً، قَالَ لَهَا: حُجِّى وَاشْتَرِطِى، وَقُولِى: اللَّهُمَّ مَحِلِّى حَيْثُ حَبَسْتَنِى، وَكَانَتْ تَحْتَ الْمِقْدَادِ بْنِ الأسْوَدِ. / 26 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأرْبَعٍ: لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا، وَجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ) .(7/182)
/ 27 - فيه: سَهْل، مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِى هَذَا؟ قَالُوا: حَرِىٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْمَعَ، ثُمَّ سَكَتَ، فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِى هَذَا؟ قَالُوا: حَرِىٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لا يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لا يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لا يُسْمَعَ، فَقَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأرْضِ مِثْلَ هَذَا) . اختلف العلماء فى الأكفاء من هم؟ فقال مالك: الأكفاء فى الدين دون غيره، والمسلمون بعضهم لبعض أكفاء، ويجوز أن يتزوج العربى والمولى القرشية. روى ذلك عن عمر بن الخطاب، قال: لست أبالى إلى أى المسلمين نكحت وأيهم أنكحت. روى مثله عن ابن مسعود، ومن التابعين عمر بن عبد العزيز، وابن سيرين، وقال أبو حنيفة: قريش كلهم أكفاء بعضهم لبعض، والعرب أكفاء بعضهم لبعض، ولا يكون أحد من العرب كفئًا لقريش، ولا أحد من الموالى كفئًا للعرب، ولا يكون كفئًا من لا يجد المهر والنفقة. وقال الشافعى: ليس نكاح غير الكفء بمحرم فأراده بكل حال، وإنما هو تقصير بالمتزوجة والأولياء، فإن تزوجت غير كفء، فإن رضيت به وجميع الأولياء جاز، ويكون حقًا لهم تركوه، وإن رضيت به وجميع الأولياء إلا واحدًا منهم فله فسخه. وقال بعضهم: إن رضيت به وجميع الأولياء لم يجز، وكان الثورى يرى التفريق إذا نكح مولى عربية، ويشدد فيه، وقال أحمد بن حنبل: يفرق بينهما.(7/183)
واحتج الذين جعلوا الكفاءة فى النسب والمال، فقالوا: العار يدخل على الأولياء والمناسبين؛ لأن حق الكفاءة دفع العار عنها وعنهم، قالوا: وقد روى عن ابن عباس أنه قال: قريش بعضهم لبعض كفء، والموالى بعضهم لبعض كفء، إلا الحاكة والحجامين. واحتج أهل المقالة الأولى بحديث عائشة أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة تبنى سالمًا وأنكحه بنت أخيه الوليد بن عتبة، وهى سيدة أيامى قريش، وسالم مولى لامرأة من الأنصار، وتزوج ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب بنت عم النبى (صلى الله عليه وسلم) المقداد بن الأسود، وهو عربى حليف للأسود بن عبد يغوث تبناه ونسب إليه. واحتجوا بقوله عليه السلام: (عليك بذات الدين تربت يداك) ، فجعل العمدة ذات الدين، فينبغى أن تكون العمدة فى الرجل مثل ذلك، ألا ترى قوله عليه السلام فى حديث سهل حين فضل الفقير الصالح على الغنى، وجعله خيرًا من ملء الأرض منه. وقال المهلب: الأكفاء فى الدين هم المتشاكلون وإن كان فى النسب تفاضل، فقد نسخ الله ما كانت تحكم به العرب فى الجاهلية من شرف الأنساب، وجعل الاعتبار بشرف الصلاح والدين، فقال تعالى: (إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) [الحجرات: 13] الآية، وقد نزع هذه الآية مالك بن أنس. وأما قولهم: إن العار يدخل عليها وعلى الأولياء،(7/184)
فيقال لهم: مع الدين والصلاح لا يدخل عار على أحد، وإنما رغبوا فيه لدينه الذى يحمل كل شىء، وفى النسب وعدم الدين كل عار، وقد تزوج بلال امرأة قرشية، وتزوج أسامة بن زيد فاطمة بنت قيس، وهى قرشية. وقد كان عزم عمر بن الخطاب على تزويج ابنته من سلمان الفارسى، فقال عمرو ابن العاص لسلمان: لقد تواضع لك أمير المؤمنين، فقال سلمان: لمثلى يتواضع، والله لا أتزوجها أبدًا، ولولا أن ذلك جائز لما أراده عمر ولا هم به؛ لأنه لا يدخل العار على نفسه وعشيرته، وأما حديث ضباعة فى الاشتراط فى الحج، فإنما ذكره فى هذا الباب لقوله فى آخر الحديث: (كانت تحت المقداد بن الأسود) . واختلف العلماء فى الاشتراط فى الحج، فأجازه طائفة وأخذوا بهذا الحديث، فالاشتراط أن يقول عند إحرامه: لبيك اللهم بحجة أو حجة وعمرة، إلا أن يمنعنى منه ما لا أقدر معه على النهوض، فيكون محلى حيث حبستنى ولا شىء علىّ. وممن أجاز ذلك عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلى، وابن مسعود، وعمار، وابن عباس، ومن التابعين سعيد بن المسيب، وعروة، وعطاء، وعلقمة، وشريح، وعبيدة، وذكر ذلك(7/185)
ابن أبى شيبة، وعبد الرزاق، وقال به بعض أصحاب الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وأنكر الاشتراط طائفة أخرى، وقالوا: هو باطل، روى ذلك عن ابن عمر، وعائشة، وهو قول النخعى، والحكم، وطاوس، وسعيد بن جبير، وإليه ذهب مالك، والثورى، وأبو حنيفة، وقالوا: لا ينفعه اشتراط، ويمضى على إحرامه حتى يتمه، وكان ابن عمر ينكر ذلك، ويقول: أليس حسبكم سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه لم يشترط، فإن حبس أحدكم بحابس عن الحج، فليأت البيت فليطف به وبين الصفا والمروة ويحلق أو يقصر، وقد حل من كل شىء حتى يحج قابلاً، ويهدى أو يصوم إن لم يجد هديًا. وأنكر ذلك طاوس، وسعيد بن جبير، وهما رويا الحديث عن ابن عباس، وأنكره الزهرى، وهو روى الحديث عن عروة، وهذا كله مما يوهن الاشتراط. قال المهلب: وفى قوله: (تنكح المرأة لمالها) ، دليل على أن للزوج الاستمتاع بمال الزوجة، وأنه يقصد لذلك، فإن طابت به نفسًا فهو له حلال، وإن منعته فإنما له من ذلك بقدر ما بذل من الصداق. واختلفوا إذا أصدقها وامتنعت الزوجة أن تشترى شيئًا من الجهاز، فقال مالك: ليس لها أن تقضى منه دينها، ولا أن تنفق منه فى غير ما يصلحها لعرسها إلا أن يكون الصداق شيئًا كثيرًا فتنفق منه شيئًا يسيرًا فى دينها. وقال أبو حنيفة، والثورى، والشافعى: لا تجبر على شراء ما لا تريد، والمهر لها تفعل فيه ما شاءت، واحتجوا بإجماعهم أنها(7/186)
لو ماتت والصداق بحاله أن حكمه كحكم سائر مالها، فإذا كان ذلك حكمه بعد وفاتها، فحكمه كذلك فى حياتها كحكم سائر مالها. وقوله عليه السلام: (تنكح المرأة لمالها) ، يدل على أن للزوج الاستمتاع بمالها والارتفاق بمتاعها، ولولا ذلك لم يفدنا قوله: (تنكح المرأة لمالها) فائدة، ولتساوت الغنية والفقيرة فى قلة الرغبة فيها، فقول مالك أشبه بدليل الحديث. وقوله: (فاظفر بذات الدين تربت يداك) ، فإن حقيقة هذه اللفظة عند أهل اللغة يراد بها الإخبار عن حلول الفقر. قال ابن السكيت: يقال: تربت يداه، إذا افتقر. وقال أبو عمرو: أصابهما التراب، ولم يدع عليه بالفقر. وقال الأصمعى فى تفسير الحديث: لم يرد النبى (صلى الله عليه وسلم) الدعاء عليه بالفقر، وإنما أراد به الاستحثاث كما يقول الرجل: انخ ثكلتك أمك، إذا استعجلته، وأنت لا تريد أن تثكله أمه. وقال ابن قتيبة: وهذا من باب الدعاء الذى لا يراد به الوقوع، وسأتقصى أقوال أهل اللغة فى هذه الكلمة فى كتاب الأدب فى باب قول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (ترتب يمينك) ، و: (عقرى حلقى) ، إن شاء الله.(7/187)
- باب مَا يُتَّقَى مِنْ شُؤْمِ الْمَرْأَةِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ) [النساء: 12] الآية
/ 28 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (الشُّؤْمُ فِى: الْمَرْأَةِ، وَالدَّارِ وَالْفَرَسِ) . وقَالَ ابْن عُمر: ذُكَر الشُّؤْمَ عِنْدَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (إِنْ كَانَ الشُّؤْمُ فِى شَىْءٍ فَفِى: الدَّارِ وَالْمَرأَةِ وَالْفَرَسِ) . / 29 - وفيه: أُسَامَةَ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلام: (مَا تَرَكْتُ بَعْدِى فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ) . قد تقدم الكلام فى معنى أحاديث الشؤم فى كتاب الجهاد فى باب ما يذكر من شؤم الفرس، فأغنى عن إعادته، وسيأتى فى كتاب الطب فى باب الطيرة رد قول من زعم أن أحاديث الشؤم تعارض نهيه، عليه السلام، عن الطيرة، ونفى التعارض عنها، وتوجيهها على ما يليق بها، إن شاء الله. وفى حديث أسامة أن فتنة النساء أعظم الفتن مخافة على العباد؛ لأنه عليه السلام عمم جميع الفتن بقوله: (ما تركت بعدى فتنة أضر على الرجال من النساء) ، ويشهد لصحة هذا الحديث قول الله تعالى: (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين) [آل عمران: 14] الآية، فقدم النساء على جميع الشهوات، وقد روى عن بعض أمهات المؤمنين أنها قالت: من شقائنا قدمنا على جميع الشهوات. فالمحنة بالنساء أعظم المحن على قدر الفتنة بهن، وقد أخبر الله مع(7/188)
ذلك أن منهن لنا عدوًا، فينبغى للمؤمن الاعتصام بالله، والرغبة إليه فى النجاة من فتنتهن، والسلامة من شرهن، وقد روى فى الحديث أنه لما خلق الله المرأة فرح الشيطان فرحًا عظيمًا، وقال: هذه حبالتى التى لا يكاد يخطئنى من نصبتها له.
- باب الْحُرَّةِ تَحْتَ الْعَبْدِ
/ 30 - فيه: عَائِشَةَ، كَانَ فِى بَرِيرَةَ ثَلاثُ سُنَنٍ: عَتَقَتْ فَخُيِّرَتْ، وَقَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ) ، وَدَخَلَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) وَبُرْمَةٌ عَلَى النَّارِ، فَقِيلَ: لَحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، فَقَالَ: (هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ) . أجمع العلماء أن الحرة يجوز لها أن تنكح العبد إذا رضيت به؛ لأن ولدها منه حر تبع لأمه لقوله عليه السلام: (كل ذات رحم فولدها بمنزلتها) ، يعنى فى العتق والرق، وذكر ابن المنذر، عن الشافعى، قال: أصل الكفاءة مستنبط من حديث بريرة وصار زوجها غير كفء لها، فخيرها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . وأجمعوا أن الأمة إذا عتقت تحت عبد قد كانت زوجته أن لها الخيار فى البقاء معه أو مفارقته، وإنما كان لها الخيار؛ لأنها إذا حدثت لها الحرية فقد حدث لها حال كمال ترتفع به عن العبد، ونقص الزوج عنها، وأيضًا فإنها حين عقد عليها سيدها لم تكن من أهل الاختيار لنفسها، فجعل لها الاختيار حين صارت أكمل حرمة من(7/189)
زوجها، فأما إذا كان زوجها حرًا فلا خيار لها عند جمهور العلماء؛ لأنه مساو لها فى حرمتها، فلا فضيلة لها عليه. قال الكوفيون: لها الخيار حرًا كان زوجها أو عبدًا، ورووا عن النخعى، عن الأسود، عن عائشة، أن زوج بريرة كان حرًا، وسيأتى بيان هذه الأقوال فى كتاب الطلاق فى باب التخيير مستوفى، إن شاء الله.
- باب لا يَتَزَوَّجُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ لِقَوْلِهِ: (مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ) [النساء: 3] وَقَالَ عَلِىُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: يَعْنِى مَثْنَى أَوْ ثُلاثَ أَوْ أربع، وَقَوْلُهُ: (أُولِى أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ) [فاطر: 1] مثله.
/ 31 - فيه: عَائِشَةَ: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِى الْيَتَامَى) [النساء: 3] ، قَالَتِ: هى الْيَتِيمَةُ، يَتَزَوَّجُهَا وليها عَلَى مَالِهَا، وَيُسِىءُ صُحْبَتَهَا، وَلا يَعْدِلُ فِى مَالِهَا، فَلْيَتَزَوَّجْ من طَابَ لَهُ مِنَ النِّسَاءِ سِوَاهَا مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ. قال ابن القصار: لا يجوز لأحد أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة فى النكاح، وهو عندنا إجماع. وقال قوم، لا يعدون خلافًا: إنه يجوز الجمع بين تسع، واحتجوا أن معنى قوله تعالى: (مثنى وثلاث ورباع) [النساء: 3] ، يفيد الجمع بين العدد، بدليل أنه عليه السلام مات عن تسع، ولنا فيه الأسوة الحسنة.(7/190)
وحجة الجماعة أن أهل التفسير اتفقوا فى تأويل قوله: (مثنى وثلاث ورباع) [النساء: 3] ، أنه أراد التخيير بين الأعداد الثلاثة لا الجمع من وجهين: أحدهما: أنه لو أراد الجمع بين تسع لم يعدل عن لفظ الاختصار، وكان يقول: فانكحوا تسعًا، والعرب لا تعدل أن تقول: تسعة، وتقول: اثنان وثلاثة وأربعة، فلما قال: (مثنى وثلاث ورباع (صار تقديره: مثنى مثنى، وثلاث ثلاث، ورباع رباع، فيفيد التخيير كقوله تعالى: (أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع) [فاطر: 1] . والوجه الثانى أنه قال: (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم) [النساء: 3] ، واللغة لا تدفع التخيير بين متباعدين يكون بينهما تفاوت، ولا يجوز أن يقال: فإن خفتم ألا تعدلوا فى التسع فواحدة؛ لأنه يصير بمنزلة من يقول: إن خفت أن تخرج إلى مكة على طريق الكوفة فامض إليها على طريق الأندلس أو الصعيد، وبالقرب من مكة طرق كثيرة لا يخاف منها، فعلم أنه أراد التخيير بين الواحدة والاثنين، وبين الثنتين والثلاث. وأما قولهم: إنه عليه السلام مات عن تسع، ولنا أن نتأسى به، فإننا نقول: إنه كان مخصوصًا بالزيادة عن الأربع كما خص بأن ينكح بغير صداق، وكما خص ألا ينكح أزواجه من بعده وأنه اتفق أن مات عن تسع، وروى أن غيلان بن سلمة أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له النبى (صلى الله عليه وسلم) : (اختر منهن أربعًا وفارق سائرهن) ، فسقط قولهم.(7/191)
بسم الله الرحمن الرحيم
48 - كتاب الرضاع
- باب) وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِى أَرْضَعْنَكُمْ) [النساء: 23] وَيَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ
/ 1 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، كَانَ عِنْدَهَا، وَأَنَّهَا سَمِعَتْ صَوْتَ رَجُلٍ يَسْتَأْذِنُ فِى بَيْتِ حَفْصَةَ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ فِى بَيْتِكَ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلام: (أُرَاهُ فُلانًا) - لِعَمِّ حَفْصَةَ مِنَ الرَّضَاعَةِ - قَالَتْ عَائِشَةُ: ولَوْ كَانَ فُلانٌ حَيًّا - لِعَمِّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ دَخَلَ عَلَىَّ؟ - فَقَالَ: (نَعَمْ، الرَّضَاعَةُ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الْوِلادَةُ) . / 2 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قِيلَ لِلنَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، أَلا تَتَزَوَّجُ ابْنَةَ حَمْزَةَ؟ قَالَ: (إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِى مِنَ الرَّضَاعَةِ) . / 3 - وفيه: أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِى سُفْيَانَ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، انْكِحْ أُخْتِى بِنْتَ أَبِى سُفْيَانَ، فَقَالَ: (أَوَتُحِبِّينَ ذَلِكِ) ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ، وَأَحَبُّ مَنْ شَارَكَنِى فِى خَيْرٍ أُخْتِى، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ ذَلِكِ لا يَحِلُّ لِى) ، قُلْتُ: فَإِنَّا نُحَدَّثُ أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَ بِنْتَ أَبِى سَلَمَةَ، قَالَ: (بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: (لَوْ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِى فِى حَجْرِى مَا حَلَّتْ لِى، إِنَّهَا لابْنَةُ أَخِى مِنَ الرَّضَاعَةِ،(7/192)
أَرْضَعَتْنِى وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ، فَلا تَعْرِضْنَ عَلَىَّ بَنَاتِكُنَّ وَلا أَخَوَاتِكُنَّ) . قَالَ عُرْوَةُ: وثُوَيْبَةُ مَوْلاةٌ لأبِى لَهَبٍ كَانَ أَبُو لَهَبٍ أَعْتَقَهَا، فَأَرْضَعَتِ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَلَمَّا مَاتَ أَبُو لَهَبٍ، أُرِيَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ بِشَرِّ خِيبَةٍ، قَالَ لَهُ: مَاذَا لَقِيتَ؟ قَالَ: لَمْ أَلْقَ بَعْدَكُمْ، غَيْرَ أَنِّى سُقِيتُ فِى هَذِهِ بِعَتَاقَتِى ثُوَيْبَةَ. لا خلاف بين الأمة أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب؛ لقوله تعالى: (وأمهاتكم اللاتى أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة) [النساء: 23] ، فإذا كانت الأم من الرضاع محرمة، كان كذلك زوجها، وصار أبًا لمن أرضعته زوجته؛ لأن اللبن منهما جميعًا، وإذا كان زوج التى أرضعت أبًا كان أخوه عمًا، وكانت أخت المرأة خالة، يحرم من الرضاع العمات، والخالات، والأعمام، والأخوال، والأخوات، وبناتهن، كما يحرم من النسب، هذا معنى قوله عليه السلام: (الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة) . قال ابن المنذر: إذا أرضعت امرأة الرجل جارية حرمت على ابنه، وعلى أبيه، وعلى جده، وعلى بنى بنيه وبنى بناته، وعلى كل ولد ذكر، وولد ولده، وعلى كل جد له من قبل أبيه وأمه، وإذا كان المرضع غلامًا حرم الله عليه ولد المرأة التى أرضعته، وأولاد الرجل الذين أرضع هذا الصبى بلبنه، وهو زوج المرضعة، ولا تحل له عمته من الرضاعة ولا خالته، ولا بنت أخيه ولا بنت أخته من الرضاعة.(7/193)
وأما قوله عليه السلام فى ابنة حمزة: (إنها ابنة أخى من الرضاعة) ، فإن حمزة بن عبد المطلب عم النبى (صلى الله عليه وسلم) أرضعته ثويبة مولاة أبى لهب، ثم أرضعت بعده رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، ثم أرضعت بعده أبا سلمة بن عبد الأسد، هذا قول مصعب الزبيرى، قال: فكان أبو سلمة ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) وحمزة بن عبد المطلب أخوة من الرضاعة. قال ابن إسحاق: وكان حمزة أسن من النبى (صلى الله عليه وسلم) بسنتين، وقيل: بأربع. وأما قول أم حبيبة بنت أبى سفيان بن حرب زوج النبى (صلى الله عليه وسلم) : يا رسول الله، انكح أختى، فإنها لم تعلم أن الجمع بين الأختين حرام، فكذلك قال لها ولسائر نسائه: (لا تعرضن علىّ بناتكن ولا إخواتكن، فإن بناتكن ربائب لى) ، والربيبة حرام مثل الجمع بين الأختين، وأما قوله فى بنت أبى سلمة: (لو لم تكن ربيبتى فى حجرى ما حلت لى) ، من أجل أن أباها أبا سلمة أخو النبى، عليه السلام، من الرضاعة، فكانت بنته حرامًا عليه؛ لأنها ربيبة النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وأنها بنت أخيه من الرضاعة. قال ابن المنذر: ولا بأس أن يتزوج الرجل المرأة التى أرضعت ابنه، وكذلك يتزوج بنت المرأة التى هى رضيعة ابنه، ولأخى هذا الصبى المرضع أن يتزوج المرأة التى أرضعت أخاه، ويتزوج ابنتها التى هى رضيع أخيه، وما أراد من ولدها وولد ولدها، وإنما يحرم نكاحهن على المرضع، وهذا مذهب مالك، والكوفيين، والشافعى،(7/194)
وأبى ثور. وذكر على بن المدينى، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهرى، أن أبا لهب أعتق جارية يقال لها: ثويبة، وكانت أرضعت النبى (صلى الله عليه وسلم) ، فرأى أبا لهب بعض أهله فى النوم فسأله، فقال: ما وجدت بعدكم راحة، غير أنى سقيت فى هذه، وأشار إلى النقرة التى تحت إبهامه، بعتقى ثويبة، فبان برواية معمر أنه سقط من رواية البخارى فى هذا الحديث: راحة، بعد قوله: لم ألق بعدكم؛ لأنه لا يتم الكلام على ما رواه البخارى، وكذلك سقط منه: وأشار إلى النقرة التى تحت إبهامه، ولا يقوم معنى الحديث إلا بذلك، ولا أعلم ممن جاء الوهم فيه. وفى هذا الحديث من الفقه: أن الكافر بالله قد يعطى عوضًا من أعماله التى يكون مثلها قربة لأهل الإيمان بالله، وذلك أن أبا لهب أخبر أنه سقى فى النار بعتقه ثويبة فى النقرة التى تحت إبهامه، وكان ذلك تخفيفًا له من العذاب، كما جاء أنه يخفف عن أبى طالب العذاب ويجعل فى ضحضاح من نار يغلى منه دماغه، غير أن التخفيف عن أبى لهب أقل من التخفيف عن أبى طالب؛ لأن أبا لهب كان مؤذيًا للنبى (صلى الله عليه وسلم) ، فلم يقع له التخفيف بعتق ثويبة إلا بمقدار ما تحمل النقرة التى تحت إبهامه من الماء، وخفف عن أبى طالب أكثر من ذلك لنصرته للنبى (صلى الله عليه وسلم) وحياطته له، فدل هذا كله أن التخفيف عنهما مع كفرهما بالله تعالى الذى ماتا عليه كان لأجل ما أوقعاه من القربة وفعل الخير فى حال شركهما، ودل هذا على عظيم تفضل الله على عباده الكافرين. وصح قول من تأول فى معنى الحديث الذى(7/195)
جاء عن الله تعالى: (أن رحمته سبقت غضبه) ، أن رحمته لا تنقطع عن أهل النار المخلدين فيها، إذ فى قدرته تعالى أن يخلق لهم عذابًا يكون عذاب النار لأهلها رحمة وتخفيفًا بالإضافة إلى ذلك العذاب، وقد جاء فى حديث أبى سعيد الخدرى أن الكافر إذا أسلم يكتب له ثواب أعمال أهل الطاعة، وقد قال عليه السلام: (إذا أسلم الكافر فحسن إسلامه كتب له كل حسنة عملها، ومحى عنه كل سيئة عملها) ، وقال عليه السلام لحكيم بن حزام: (اسلمت على ما سلف من خير) ، وقد تقدم حديث حكيم بن حزام فى كتاب الزكاة، فى باب من تصدق فى الشرك ثم أسلم، وفى كتاب العتق فى باب من أعتق المشرك، وقد تقدم حديث أبى سعيد الخدرى فى كتاب الإيمان فى باب حسن إسلام المرء، ومر هناك من الكلام ما فيه كفاية.
- باب مَنْ قَالَ: لا رَضَاعَ بَعْدَ حَوْلَيْنِ لِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى: (حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) [البقرة: 233] وَمَا يُحَرِّمُ مِنْ قَلِيلِ الرَّضَاعِ وَكَثِيرِهِ
/ 4 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، دَخَلَ عَلَيْهَا، وَعِنْدَهَا رَجُلٌ، فَكَأَنَّهُ تَغَيَّرَ وَجْهُهُ، كَأَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ، فَقَالَتْ: إِنَّهُ أَخِى، فَقَالَ: (انْظُرْنَ مَنْ إِخْوَانُكُنَّ، فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ) .(7/196)
اتفق أئمة الأمصار على أن رضاع الكبير لا يحرم، وشذ الليث وأهل الظاهر عن الجماعة، وقالوا: إنه يحرم، وذهبوا إلى قول عائشة فى رضاعة سالم مولى أبى حذيفة، وحجة الجماعة قوله تعالى: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) [البقرة: 233] ، فأخبر تعالى أن تمام الرضاعة حولان، فعلم أن ما بعد الحولين ليس برضاع، إذ لو كان ما بعده رضاعًا لم يكن كمال الرضاعة حولين، ويشهد لهذا قوله عليه السلام: (إنما الرضاعة من المجاعة) ، وهذا المعنى لا يقع برضاع الكبير، وقد روى هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أم سلمة، عن النبى، عليه السلام، أنه قال: (لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء، وكان قبل الفطام) . وأما خبر عائشة فى رضاعة سالم، فلا يخلو أن يكون منسوخًا أو خاصًا لسالم وحده، وقد قالت أم سلمة وسائر أزواج النبى (صلى الله عليه وسلم) : كان رضاع سالم خاصًا له؛ وذلك من أجل التبنى الذى انضاف إليه، ولا يوجد هذا فى غيره، وقد نسخ الله التبنى، فلا ينبغى أن يتعلق به حكم، وقوله تعالى: (حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة) [البقرة: 233] ، وقوله عليه السلام: (الرضاعة من المجاعة) ، قاطع للخلاف فى هذه المسألة، وما جعله الله حدًا لتمام فلا مزيد لأحد عليه. قال المهلب: وقوله: (انظرن ما إخوانكن) ، أى ما سبب أخوته، فإن حرمة الرضاع إنما هى فى الصغير حين(7/197)
تسد الرضاعة المجاعة، لا حين يكون الغذاء يغير الرضاع فى حال الكبر. واختلفوا فى مقدار مدة الرضاع، فقال جمهور العلماء: ما كان فى الحولين فهو يحرم، وما كان بعد الحولين فلا يحرم، روى هذا عن ابن مسعود، وابن عباس، وعن الشعبى، وابن شبرمة، وهو قول الثورى، والأوزاعى، وأبى يوسف، ومحمد، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وهو قول مالك فى الموطأ، وفيها قول ثان: روى الوليد ابن مسلم، عن مالك، أن ما كان بعد الحولين بشهر أو شهرين أو ثلاثة يحرم. وفيها قول ثالث حكى عن أبى حنيفة أن ما كان بعد الحولين بستة أشهر فإنه يحرم. وفيها قول رابع: قال زفر: مادام يجتزئ باللبن ولم يطعم، وإن أتى عليه ثلاث سنين فهو رضاع. والقول قول من قال بالحولين لشهادة كتاب الله وسنة رسوله. روى ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، أن النبى، عليه السلام، قال: (لا رضاع إلا ما كان فى الحولين) ، ودليل آخر وهو قوله تعالى: (وفصاله فى عامين) [لقمان: 14] ، فعلم أن ما بعد الحولين بخلافهما. قال ابن المنذر: والذى يعتمد عليه فى ذلك قوله تعالى: (حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة) [البقرة: 233] ، وليس لما بعد التمام حكم. واختلفوا فى مقدار الرضاع الذى تثبت به الحرمة، ولا تجوز الزيادة فيه. قال ابن المنذر: قالت طائفة: يحرم قليل ذلك وكثيره، وهو قول على، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس،(7/198)
وروى عن سعيد بن المسيب، والحسن، وعطاء، ومكحول، وطاوس، والحكم، وهو قول مالك، والليث، والأوزاعى، والثورى، والكوفيين. وقالت طائفة: لا تحرم الرضعة والرضعتان، وإنما تحرم ثلاث، روى ذلك عن عائشة، وابن الزبير، وبه قال أحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو عبيد، واحتجوا بقوله عليه السلام: (لا تحرم الإملاجة والإملاجتان) . وقالت طائفة: لا يقع التحريم إلا بخمس رضعات مفترقات، روى ذلك عن عائشة، وهو قول الشافعى، وحكى عن إسحاق، واحتجوا بقول عائشة: كان فيما نزل فى القرآن عشر رضعات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهى فيما يقرأ من القرآن. وروى عن عائشة أيضًا أنه لا يحرم إلا سبع رضعات، وروى عنها أنها أمرت أختها أم كلثوم أن ترضع سالم بن عبد الله عشر رضعات ليدخل عليها، وروى مثله عن حفصة أم المؤمنين. وحجة القول الأول قوله تعالى: (وأمهاتكم اللاتى أرضعنكم) [النساء: 23] ، ولم يخص قليل الرضاع من كثيره، وقد قال العلماء: إن أحاديث عائشة فى الرضاع اضطربت، فوجب تركها والرجوع إلى كتاب الله. قال الطحاوى: وكيف يجوز أن تأمر عائشة بعشر رضعات وهى منسوخة، وتركنا ونأخذ بالخمس الناسخة لها، وحديث الإملاجة والإملاجتين لا يثبت؛ لأنه مرة يرويه ابن الزبير عن النبى،(7/199)
عليه السلام، ومرة عن عائشة، ومرة عن أبيه، ومثل هذا الاضطراب يسقطه. قال الطحاوى: والنظر فى ذلك أنا رأينا الذى يحرم لا عدد فيه، ويحرم قليله وكثيره، ألا ترى لو أن رجلاً جامع امرأة بنكاح أو ملك مرة واحدة أن ذلك يوجب حرمتها على أبيه وعلى ابنه، ويوجب حرمة أمها وابنتها عليه، فكذلك الرضاع لما كان كثيره يحرم كان قليله فى القياس أيضًا كذلك.
3 - باب لَبَنِ الْفَحْلِ
/ 5 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِى الْقُعَيْسِ جَاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا - وَهُوَ عَمُّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ - بَعْدَ أَنْ نَزَلَ الْحِجَابُ، فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ، فَلَمَّا جَاءَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) أَخْبَرْتُهُ بِالَّذِى صَنَعْتُ، فَأَمَرَنِى أَنْ آذَنَ لَهُ. اختلف العلماء فى التحريم بلبن الفحل، فذهبت طائفة إلى أنه يحرم، روى ذلك عن على، وابن عباس، وهو قول عطاء، وطاوس، وإليه ذهب مالك، والأوزاعى، والثورى، والكوفيون، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وذهبت طائفة إلى أن لبن الفحل لا يحرم، قالوا: وإنما يقع التحريم من ناحية المرأة لا من ناحية الرجل، روى هذا عن عائشة، وابن عمر، وابن الزبير، والنخعى، وابن المسيب، والقاسم، وأبى سلمة، وهو مذهب أهل الظاهر، واحتجوا بأن عائشة كان يدخل عليها من أرضعته أخواتها وبنات أخيها، ولا يدخل عليها من أرضعته نساء إخوتها، وحجة الذين رأوا به التحريم حديث أفلح أخى أبى القعيس؛ لأن عائشة كانت رضعت(7/200)
من امرأة أبى القعيس بلبنه، فصار أبو القعيس أبًا لعائشة، وصار أخوه عمًا لعائشة، فأشكل هذا على عائشة إذ لا رضاعة حقيقة إلا من امرأة؛ لقوله تعالى: (وأمهاتكم اللاتى أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة) [النساء: 23] ، فلم تر للرجل حكمًا للرضاع، فقالت: يا رسول الله، إنما أرضعتنى المرأة ولم يرضعنى الرجل، فأخبرها النبى (صلى الله عليه وسلم) أن لبن الفحل يحرم بقوله: (إنه عمك فأذنى له) . قال ابن المنذر: والسنة مستغنى بها عما سواها، ومن جهة النظر أن سبب اللبن هو ماء الرجل والمرأة جميعًا، فوجب أن يكون الرضاع منهما كما كان الولد لهما وإن اختلف سببهما، كما أن الجد لما كان سببًا فى الولد تعلق تحريم ولد الولد به كتعلقه بولده، كذلك حكم الرجل والمرأة، وقد سُئل ابن عباس عن رجل له امرأتان، فأرضعت إحداهما غلامًا والأخرى جارية، فقال: لا يجوز للغلام أن يتزوج الجارية؛ لأن اللقاح واحد، أى الأمهات وإن افترقن فإن الأب واحد الذى هو سبب اللبن للمرأتين، فالغلام والجارية أخوان لأب من الرضاع.
4 - باب شَهَادَةِ الْمُرْضِعَةِ
/ 6 - فيه: عُقْبَةَ، قَالَ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً، فَجَاءَتْنَا امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ: أَرْضَعْتُكُمَا، فَأَتَيْتُ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَقُلْتُ: تَزَوَّجْتُ فُلانَةَ، فَجَاءَتْنَا امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ: لِى إِنِّى قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، وَهِىَ كَاذِبَةٌ،(7/201)
فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَأَتَيْتُهُ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ، فقُلْتُ: إِنَّهَا كَاذِبَةٌ، قَالَ: (كَيْفَ بِهَا وَقَدْ زَعَمَتْ أَنَّهَا قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا؟ دَعْهَا عَنْكَ) . اختلف العلماء فى هذا الباب، فقالت طائفة: يجوز شهادة امرأة واحدة فى الرضاع إذا كانت مرضية، وتستحلف مع شهادتها، روى ذلك عن ابن عباس، وطاوس، وهو قول الزهرى، والأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، واحتجوا بقوله عليه السلام: (كيف وقد قيل) ، ونهيه عنها، وذكر عن الأوزاعى أنه إنما أجاز شهادة امرأة واحدة فى ذلك إذا شهدت قبل أن يتزوجها، وأما بعد أن يتزوجها فلا يجيز شهادتها. وقالت طائفة: لا يقبل فى ذلك إلا رجلان أو رجل وامرأتان، روى ذلك عن عمر ابن الخطاب، وهو قول الكوفيين. وقال مالك: تقبل فى ذلك شهادة امرأتين دون رجل، وبه قال الحكم، قال مالك: إذا كان ذلك قد فشا وعرف من قولهما، هذه رواية ابن القاسم، وروى عنه ابن وهب أنه تقبل شهادة امرأتين، وإن لم يفش ذلك من قولهما. وقالت طائفة: لا يقبل فى ذلك أقل من أربع نسوة، روى ذلك عن عطاء، والشعبى، وهو قول الشافعى، قال: ولو شهد فى ذلك رجلان أو رجل وامرأتان لجاز، وتأول أهل هذه المقالات غير أهل المقالة الأولى أن قوله عليه السلام: (كيف وقد قيل) ، إنما هو على وجه التنزه والتورع، لا على الإيجاب، وروى ابن مهدى، و(7/202)
حفص بن غياث، عن حذلم العبسى، عن رجل من بنى عبس، قال: سألت عليًّا وابن عباس عن رجل تزوج امرأة، فجاءت امرأة فزعمت أنها أرضعتهما، فقالا: إن يتنزه عنها فهو خير، وأما أن يحرمها عليه أحد فلا. وقال زيد بن أسلم: إن عمر بن الخطاب لم يجز شهادة امرأة واحدة فى الرضاع، وأن النبى (صلى الله عليه وسلم) أخبر عن رضاع امرأة فتبسم، وقال: (كيف وقد قيل) .
5 - باب مَا يَحِلُّ مِنَ النِّسَاءِ وَمَا يَحْرُمُ
وَقَوْلِ اللَّه تَعَالَى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) [النساء: 23] الآية، وقَوْله تَعَالَى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) [النساء: 24] الآية. وَقَالَ أَنَسٌ: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ (: ذَوَاتُ الأزْوَاجِ الْحَرَائِرُ حَرَامٌ) إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ (: لا نَرَى بَأْسًا أَنْ يَنْزِعَ الرَّجُلُ أمته مِنْ عَبْدِهِ. وَقَالَ: (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) [البقرة: 221] ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا زَادَ عَلَى أَرْبَعٍ، فَهُوَ حَرَامٌ، كَأُمِّهِ وَابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ. / 7 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: حَرُمَ مِنَ النَّسَبِ سَبْعٌ، وَمِنَ الصِّهْرِ سَبْعٌ، ثُمَّ قَرَأَ: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ (الآيَةَ. وَجَمَعَ الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِىٍّ بَيْنَ ابْنَتَىْ عَمٍّ فِى لَيْلَةٍ. وَجَمَعَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ بَيْنَ ابْنَةِ عَلِىٍّ وَامْرَأَةِ عَلِىٍّ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لا بَأْسَ بِهِ.(7/203)
وَكَرِهَهُ الْحَسَنُ مَرَّةً، ثُمَّ قَالَ: لا بَأْسَ بِهِ. وَكَرِهَهُ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ لِلْقَطِيعَةِ، وَلَيْسَ فِيهِ تَحْرِيمٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ) [النساء: 24] . وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِذَا زَنَى بِأُخْتِ امْرَأَتِهِ لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِذَا زَنَى بِهَا لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ، وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِى نَصْرٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ حَرَّمَهُ، وَأَبُو نَصْرٍ هَذَا لَمْ يُعْرَفْ سَمَاعِهِ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَيُرْوَى عَنْ يَحْيَى الْكِنْدِىِّ، عَنِ الشَّعْبِىِّ وأَبِى جَعْفَرٍ فِيمَنْ يَلْعَبُ بِالصَّبِىِّ: إِنْ أَدْخَلَهُ فِيهِ فَلا يَتَزَوَّجَنَّ أُمَّهُ، وَيَحْيَى هَذَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ، وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ. وَيُرْوَى عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَجَابِرِ ابْنِ زَيْدٍ، وَالْحَسَنِ، وَبَعْضِ أَهْلِ الْعِرَاقِ تَحْرُمُ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لا تَحْرُمُ حَتَّى يُلْزِقَ بِالأرْضِ، يَعْنِى تُجَامِعَ، وَجَوَّزَهُ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةُ وَالزُّهْرِىُّ، وَقَالَ الزُّهْرِىُّ: قَالَ عَلِىٌّ: لا تَحْرُمُ، وَهَذَا مُرْسَلٌ. قال المؤلف: الرواية ثابتة عن ابن عباس أن السبع المحرمات بالنسب الأمهات، والبنات، والأخوات، والعمات، والخالات، وبنات الأخ، وبنات الأخت، والسبع المحرمات بالصهر والرضاع الأمهات من الرضاعة، والأخوات من الرضاعة، وأمهات النساء، والربائب، وحلائل الأبناء، والجمع بين الأختين، والسابعة: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) [النساء: 22] . قال الطحاوى: وقوله: (حرمت عليكم أمهاتكم) [النساء: 23] ، المراد به الوالدات ومن فوقهن من الجدات من قبل الأمهات ومن قبل الآباء، وقوله: (وبناتكم) [النساء: 23] المراد البنات للأصلاب ومن أسفل منهن من(7/204)
بنات الأبناء، ومن بنات البنات وإن سفلن، وقوله: (وأخواتكم) [النساء: 23] ، المراد بذلك الأخوات من الآباء والأمهات، ومن الآباء ومن الأمهات، وقوله: (وعماتكم) [النساء: 23] ، المراد به العمات أخوات الآباء من الآباء والأمهات ومن الآباء ومن الأمهات، وكذلك أخوات الأجداد من كل واحدة من الجهات الثلاث وإن علون،) وخالاتكم) [النساء: 23] ، المراد بذلك أخوات الأمهات الوالدات لآبائهن وأمهاتهن، ولآبائهن ولأمهاتهن أخوات الجدات كأخوات الأمهات فى الحرمات؛ لأنه إذا كان لهن حكم الأمهات كان أيضًا لأخواتهن حكم أخوات الأمهات.) وبنات الأخ) [النساء: 23] ، المراد بذلك بنات الأخ من الأب والأم ومن الأب ومن الأم، ومن الأم وبنات بنيهم، وبنات بناتهن وإن سفلن،) وبنات الأخت) [النساء: 23] ، كذلك أيضًا من أى جهة كن وأولادهن وأولاد أولادهن وإن سفلن. وقوله يعنى: (وأمهاتكم اللاتى أرضعنكم) [النساء: 23] ، فكان هذا على الأم المرضعة وعلى من فوقها من أمهاتها وإن بعدن، وقام ذلك مقام الأم الوالدة ومقام أمهاتها، وكذلك حكم الأخوات من الرضاعة حكم اللواتى من النسب، وتحرم زوجة الرجل على أبيه وعلى ابنه دخل بها أو لم يدخل، وعلى أجداده وعلى ولد ولده الذكور والإناث، ولا تحل لبنى بنيه ولا لبنى بناته ما تناسلوا؛ لقوله: (وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم) [النساء: 23] ، ولقوله: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) [النساء: 22] ، ولم يذكر تعالى دخولاً، فصارتا محرمتين بالعقد، والملك والرضاع فى ذلك بمنزلة النسب، والمراد بقوله: (ما نكح آباؤكم (، آباء الآباء، وآباء الأمهات ومن فوقهم من(7/205)
الأجداد، وكل هذا من المحكم المتفق على تأويله، وغير جائز نكاح واحدة منهن بإجماع إلا أمهات النساء اللواتى لم يدخل بهن أزواجهن، فإن بعض السلف اختلفوا إذا بانت الابنة قبل الدخول بها هل تحرم أمها أم لا، فذهب جمهور السلف إلى أن الأم تحرم بالعقد على الابنة ولا تحرم الابنة إلا بالدخول بالأم، وبهذا قال جميع أئمة الفتوى بالأمصار. وقالت طائفة من السلف: الأم والربيبة سواء لا تحرم منهما واحدة إلا بالدخول بالأخرى، وتأولوا القرآن على غير تأويله، فقالوا: المعنى وأمهات نسائكم اللاتى دخلتم بهن وربائبكم اللاتى فى حجوركم من نسائكم اللاتى دخلتم بهن، وزعموا أن شرط الدخول راجع إلى الأمهات والربائب جميعًا، روى هذا القول خلاس، عن على بن أبى طالب، ورواية عن ابن عباس، وزيد بن ثابت، وهو قول ابن الزبير، ومجاهد لم يختلف عنهما. وهذا قول لم يقل به أحد من أئمة الفتوى، وحديث خلاس عن على لا تقوم به حجة؛ لأنه لا يصحح روايته أهل العلم بالحديث، والصحيح عن ابن عباس مثل قول الجماعة، روى سعيد، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس فى قوله: (وأمهات نسائكم) [النساء: 23] ، قال: هى مبهمة لا تحل بالعقد على الابنة، وكذلك روى مالك، عن يحيى بن سعيد، أنه قال: سُئل زيد بن ثابت عن رجل تزوج امرأة ثم فارقها قبل أن يصيبها، هل تحل له أمها؟ فقال زيد بن ثابت: لا، الأم مبهمة وإنما الشرط فى الربائب، وهذا الصحيح عن زيد ابن ثابت.(7/206)
قال ابن المنذر: وهذا هو الصحيح، لدخول جميع أمهات النساء فى قوله: (وأمهات نسائكم) [النساء: 23] ، وحجة أهل هذه المقالة أن الاستثناء راجع إلى الربائب؛ لأنهن أقرب مذكور، ولا يرجع إلى أمهات النساء، والدليل على ذلك من طريق العربية من وجهين: أحدهما: أن العرب تحمل الوصف على أقرب الموصوفين دون أن تحمله على أبعدهما أو أن تشرك بينهما فيه، فتقول: هذا جحر ضب خرب وهو لحن؛ لأن الضب ليس بالخرب، وإنما هو الجحر قصد إلى جرى الكلام على طريقة واحدة. والثانى: أن الخبرين إذا اختلفا لم يكن نعتهما واحدًا، لا يجيز النحويون: مررت بنسائك وهربت من نساء زيد الظريفات على أن تكون الظريفات نعتًا لنسائك ونساء زيد. واختلف أهل التأويل فى قوله: (والمحصنات من النساء) [النساء: 24] ، فقالت طائفة: المحصنات فى هذه الآية كل أمة ذات زوج من المسلمين والمشركين حرام على غير أزواجهن، إلا أن تكون مملوكة اشتراها مشتر من مولاها فتحل له ويبطل بيع سيدها إياها النكاح بينها وبين زوجها، روى هذا القول عن ابن مسعود، وأبى بن كعب، وجابر، وأنس، وقالوا: بيع الأمة طلاق لها، وهو قول النخعى، وابن المسيب، والحسن. وقالت طائفة: المحصنات فى هذه الآية ذوات الأزواج المستثنيات منهن بملك اليمين هن السبايا اللواتى فرق بينهن وبين(7/207)
أزواجهن السبى، فحللن لمن صرن له بملك اليمين من غير طلاق كان من زوجها لها، روى هذا عن ابن عباس، قال: كل ذات زوج إتيانها زنا إلا ما سبيت، وهو قول زيد بن أسلم ومكحول. وقالوا: إن هذه الآية نزلت فى سبى أوطاس، وقالوا: ليس بيع الأمة طلاقها، وإن الآية نزلت فى السبايا خاصة، وبهذا قال مالك، والكوفيون، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، واحتجوا بحديث بريرة، قالوا: ولو كان بيع الأمة طلاقها ما خيرت. قال الطحاوى: والقياس يوجب فساد قول من جعل بيع الأمة طلاقها؛ لأنه لا فعل للزوج فى ذلك ولا سبب له، والطلاق لا يقع إلا من الأزواج. وقال آخرون: بل المحصنات فى الآية وإن كن ذوات الأزواج، فإنه تدخل فى ذلك محصنة عفيفة ذات زوج وغير ذات زوج، مسلمة أو كتابية فى أن الله حرم الزنا بهن وأباحهن بالنكاح أو الملك، روى هذا عن على، وابن عباس، ومجاهد، وهو معنى قول ابن المسيب، ويرجع ذلك إلى أن الله حرم الزنا، ومعنى الآية عندهم) إلا ما ملكت أيمانكم) [النساء: 24] ، يعنى تملكون عصمتهن بالنكاح، وتملكون الرقبة بالشراء. وأما قوله: وجمع عبد الله بن جعفر بين بنت على وامرأة على، فإنما فعل ذلك؛ لأن الابنة كانت من غير تلك المرأة، وهذا جائز عند مالك، والثورى، وأبى حنيفة، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق،(7/208)
وأبى ثور؛ لأنه إنما حرم على الرجل أن يتزوج المرأة وابنتها، وليس بحرام عليه أن يتزوج المرأة وربيبتها، لا فى كتاب الله ولا فى سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، بل هما داخلتان فى جملة قوله: (وأحل لكم ما وراء ذلكم) [النساء: 24] ، وفى قوله: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) [النساء: 3] . وقال ابن أبى ليلى: لا يجوز هذا النكاح، وكرهه الحسن وعكرمة. قال ابن المنذر: وقد ثبت رجوع الحسن عنه، وحجة الذين كرهوه ولم يجيزوه ما أصله العلماء فى معنى الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها. قال الشعبى: انظر فكل امرأتين لو كانت إحداهما رجلاً لم يجز له نكاح الأخرى، فلا يجوز الجمع بينهما، قيل له: عمن؟ قال: عن أصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم) . وقال الثورى: تفسير هذا أن يكون من النسب وليس بين امرأة الرجل وابنته من غيرها نسب يجمعهما، فلذلك يجوز الجمع بينهما، وعلى هذا التفسير جماعة الفقهاء، وكذلك أجاز أكثر العلماء أن تنكح المرأة وتنكح ابنة ابنتها من غيره، وكره ذلك طاوس ومجاهد. وأما الجمع بين ابنتى العم، فكرهه مالك، وليس بحرام عنده، وهو قول عطاء، وجابر ابن زيد، قالا: إنما كره ذلك للقطيعة وفساد ما بينهما، ورخص فيه أكثر العلماء. قال ابن المنذر: ولا أعلم أحدًا أبطل هذا النكاح وهما داخلتان فى جملة ما أبيح بالنكاح غير خارجتين منه بكتاب ولا سنة ولا إجماع، وكذلك معنى الجمع بين ابنتى عم وعمة، أو بين ابنتى خال وخالة.(7/209)
وقول ابن عباس: إذا زنى بأخت امرأته لم تحرم عليه امرأته، فهو قول أكثر العلماء، وإنما حرم الله الجمع بين الأختين بالنكاح خاصة لا بالزنا، ألا ترى أنه يجوز نكاح واحدة بعد أخرى من الأختين ولا يجوز ذلك فى المرأة وابنتها. واختلفوا إذا زنى بالأم، هل تحرم عليه الابنة أو إذا زنى بالابنة هل تحرم عليه الأم؟ فقال الكوفيون، والثورى، والأوزاعى، وأحمد، وإسحاق: إذا زنى بامرأة حرمت عليه أمها وابنتها، وهذه رواية ابن القاسم عن مالك فى المدونة، وقالوا: الحرام يحرم الحلال. وقالت طائفة: لا يحرم الحرام الحلال، روى ذلك عن ابن عباس، وسعيد بن المسيب، وعروة، وربيعة، والليث، وهو قول مالك فى الموطأ، وبه قال الشافعى، وأبو ثور، وحجة هذا القول أنه لما ارتفع الصداق فى الزنا ووجوب العدة والميراث ولحوق الولد ووجوب الحد ارتفع أن يحكم له بحكم النكاح الجائز، ورخص أكثر العلماء فى تزويج المرأة التى زنى بها، وشبه ابن عباس ذلك برجل يسرق ثمر النخلة فيأكلها ثم يشتريها، وكره ذلك ابن مسعود، وعائشة، والبراء، وقالوا: لا يزالان زانيين ما اجتمعا. وأما تحريم النكاح باللواط، فإن أصحاب مالك، وأبى حنيفة، والشافعى، وغيرهم لا يحرمون النكاح باللواط، وقال الثورى: إذا لعب بالصبى حرمت عليه أمه، وهو قول أحمد بن حنبل، قال: إذا تلوط بابن امرأته، أو أبيها، أو أخيها، حرمت عليه امرأته. وقال الأوزاعى: إذا لاط غلام بغلام وولد للمفجور به بنت لم يجز للفاجر(7/210)
أن يتزوجها؛ لأنها بنت من قد دخل هو به، وهو قول أحمد بن حنبل.
6 - باب قَوْلِهِ تَعَالَى) وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِى فِى حُجُورِكُمْ) [النساء: 23]
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الدُّخُولُ وَالْمَسِيسُ وَاللِّمَاسُ هُوَ الْجِمَاعُ. وَمَنْ قَالَ: بَنَاتُ وَلَدِهَا مِنْ بَنَاتِهِ فِى التَّحْرِيمِ، لِقَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) لأمِّ حَبِيبَةَ: لا تَعْرِضْنَ عَلَىَّ بَنَاتِكُنَّ وَلا أَخَوَاتِكُنَّ، وَكَذَلِكَ حَلائِلُ وَلَدِ الأبْنَاءِ هُنَّ حَلائِلُ الأبْنَاءِ، وَهَلْ تُسَمَّى الرَّبِيبَةَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِى حَجْرِهِ، وَدَفَعَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، رَبِيبَةً لَهُ إِلَى مَنْ يَكْفُلُهَا، وَسَمَّى النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، ابْنَ ابْنَتِهِ ابْنًا. / 8 - فيه: أُمِّ حَبِيبَةَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ لَكَ فِى بِنْتِ أَبِى سُفْيَانَ؟ قَالَ: (فَأَفْعَلُ مَاذَا) ؟ قُلْتُ: تَنْكِحُ، قَالَ: (أَتُحِبِّينَ) ؟ قُلْتُ: لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ، وَأَحَبُّ مَنْ شَرِكَنِى فِى خَيْرٍ أُخْتِى، قَالَ: (إِنَّهَا لا تَحِلُّ لِى) ، قُلْتُ: بَلَغَنِى أَنَّكَ تَخْطُبُ، قَالَ: (ابْنَةَ أُمِّ سَلَمَةَ) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: (لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِى فى حَجْرِى مَا حَلَّتْ لِى، أَرْضَعَتْنِى وَأَبَاهَا ثُوَيْبَةُ، فَلا تَعْرِضْنَ عَلَىَّ بَنَاتِكُنَّ وَلا أَخَوَاتِكُنَّ) . اختلف العلماء فى معنى الدخول بالأمهات الذى يقع به تحريم نكاح الربائب، فروى عن ابن عباس أنه قال: الدخول الجماع، وهو قول طاوس، ولم يقل بهذا أحد من الفقهاء، واتفق الفقهاء أنه إذا لمسها بشهوة حرمت عليه أمها وابنتها، ثم اختلفوا فى النظر، فقال(7/211)
مالك: إذا نظر إلى شعرها أو صدرها أو شىء من محاسنها بلذة، حرمت عليه أمها وابنتها. وقال الكوفيون: إذا نظر إلى فرجها بشهوة كان بمنزلة اللمس بشهوة. وقال ابن أبى ليلى: لا تحرم بالنظر حتى يلمس، وهو قول الشافعى، وقد روى التحريم بالنظر عن مسروق، والتحريم باللمس عن النخعى، والقاسم، ومجاهد، وأجمع الفقهاء على أن الربيبة تحرم على زوج أمها إذا دخل بالأم، وإن لم تكن الربيبة فى حجره. وشذ أهل الظاهر عن جماعة الفقهاء، وقالوا: لا تحرم عليه الربيبة إلا أن تكون فى حجره، واحتجوا بقوله تعالى: (وربائبكم اللاتى فى حجوركم) [النساء: 23] الآية، قالوا: تحريم الربيبة بشرطين: أحدهما: أن تكون فى حجره، والآخر: أن تكون أمها قد دخل بها، فإذا عدم أحد الشرطين، لم يوجد التحريم، قالوا: لأن الزوج إنما جعل محرمًا لها من أجل ما يلحق من المشقة فى استتارها عنه، وهذا المعنى لا يوجد إلا إذا كانت فى حجره. واحتجوا بقوله عليه السلام: (لو لم تكن ربيبتى فى حجرى) ، فشرط الحجر، ورووا عن على بن أبى طالب إجازة ذلك. وقال ابن المنذر والطحاوى: فأما الحديث عن على، فلا يثبت؛ لأن راويه إبراهيم، عن عبيد، عن مالك بن أوس، عن على، وإبراهيم هذا لا يعرف.(7/212)
وأكثر أهل العلم قد تلقوه بالدفع والخلاف، واحتجوا فى دفعه بقوله عليه السلام: (فلا تعرضن على بناتكن ولا أخواتكن) ، فدل ذلك على انتفائه. قال أبو عبيد: ويدفعه قوله: (لا تعرضن على بناتكن) فعمهن، ولم يقل: اللاتى فى حجرى، ولكنه سوى بينهن فى التحريم. قال المهلب: وإضافته عليه السلام إياهن إلى الحجور، إنما هو على الأغلب مما تكون عليه الربائب لا أنهن لا يحرمن إذا لم يكن كذلك، وقوله تعالى لنبيه: (يا أيها النبى إنا أحللنا لك أزواجك اللاتى آتيت أجورهن) [الأحزاب: 50] ، وإنما أحلهن له بعقد نكاحهن عليه لا بإتيانه إياهن أجورهن؛ لأنه معقول فيهن أنه لو طلقهن بعد عقدة نكاحهن ولم يؤتهن أجورهن أن الطلاق واقع عليهن، كما قال: (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة) [البقرة: 236] ، فأثبت الله نكاحهن، وإن كن لم يؤتهن أجورهن، فعلمنا بذلك أن أزواج النبى (صلى الله عليه وسلم) إنما حللن له بعقد النكاح وإتيان الأجور وعقلنا بذلك أن قوله تعالى: (اللاتى آتيت أجورهن) [الأحزاب: 50] ، إنما هو على وصف الأغلب مما تكون عليه الزوجات. وكذلك قوله تعالى: (وربائبكم اللاتى فى حجوركم) [النساء: 23] ، إنما هو على التحريم بالسبب الذى كن به ربائب، ووصفهن بالإضافة إلى الحجور؛ لأنه الأغلب مما تكون عليه الربائب مع أزواج أمهاتهن. قال: والقياس يوجب هذا؛ لأنه لا يكون التحريم بشيئين إلا ولكل واحد منهما إذا انفرد حكم، فلذلك جعلنا التحريم فى الربائب بالسبب الذى صرن به ربائب لا بما سواه.(7/213)
قال ابن القصار: وحجة الجماعة أنه لا تأثير للحجر فى التحريم ولا فى الإباحة، بدليل أن الأخت والعمة والخالة لما حرمن عليه لم يفترق الحكم بين أن يكونوا فى حجره أم لا، ولو كان الحجر شرطًا فى التحريم لوجب إذا ارتفع أن يرتفع التحريم، فلما رأينا التحريم قائمًا، وقد زال الحجر بموت أمها أو طلاقها، علمنا أن لا اعتبار بالحجر، ألا ترى أن بنت أم سلمة لم تكن فى حجره، عليه السلام، ولا ربيت فيه قبل نكاحه بأم سلمة. ويشهد لهذا أنه لو وطئ الأم بملك اليمين لحرمت عليه البنت، سواء كانت فى حجره أم لا، وكل امرأة حرمت عليك فابنتها حرام عليك إلا أربعًا بنت العمة، وبنت الخالة، وبنت حليلة الابن، وبنت حليلة الأب.
7 - باب) وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ) [النساء: 23]
/ 9 - فيه: أُمَّ حَبِيبَةَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، انْكِحْ أُخْتِى بِنْتَ أَبِى سُفْيَانَ، قَالَ: (وَتُحِبِّينَ) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ، وَأَحَبُّ مَنْ شَارَكَنِى فِى خَيْرٍ أُخْتِى، قَالَ عَلَيْهِ السَّلام: (إِنَّ ذَلِكِ لا يَحِلُّ لِى، فَلا تَعْرِضْنَ عَلَىَّ بَنَاتِكُنَّ وَلا أَخَوَاتِكُنَّ) . وأجمع العلماء على أنه لا يجوز جمع نكاح الأختين فى عقد واحد؛ لقوله تعالى: (وأن تجمعوا بين الأختين) [النساء: 23] ، وأن ذلك جمع بينهما، وأن ذلك حرام متفق على مراد الله تعالى فى الآية، ولقوله عليه السلام: (لا تعرضن على أخواتكن) ، فإنه لا يجوز الجمع بين الأختين، واختلفوا فى الأختين بملك اليمين، فذهب(7/214)
كافة العلماء إلى أنه لا يجوز الجمع بينهما بالملك فى الوطء، وإن كان يجوز الجمع بينهما، فإن الوطء فى الإماء نظير عقد النكاح فى الحرائر، وشذ أهل الظاهر، فقالوا: يجوز الجمع بينهما فى الوطء كما يجوز الجمع بينهما فى الملك، وقالوا: إن قوله تعالى: (وأن تجمعوا بين الأختين) [النساء: 23] عائد إلى المنكوحات؛ لأنه قدم ذكر المحرمات بالنكاح، ثم عطف عليهن بذكر الأختين، واحتجوا بما روى عن عثمان بن عفان أنه قال فى الأختين من ملك اليمين: حرمتهما آية، وأحلتهما آية. وذكر الطحاوى، عن على، رضى الله عنه، وابن عباس مثل قول عثمان، والآية التى أحلتهما قوله: (وأحل لكم ما وراء ذلكم) [النساء: 24] ، ولم يلتفت أحد من أئمة الفتوى إلى هذا القول؛ لأنهم فهموا من تأويل كتاب الله خلافه، ولا يجوز عليهم تحريف التأويل، وممن قال ذلك من الصحابة عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وابن مسعود، وابن عباس، وعمار بن ياسر، وابن عمر، وعائشة، وابن الزبير، وقال على: لو كان الأمر إلىّ ورأيت أحدًا يفعله جعلته نكالاً، وهؤلاء أهل العلم بكتاب الله والمعرفة بكلام العرب، فمن خالفهم متعسف فى التأويل متبع غير سبيل المؤمنين. وأما قولهم: إن قوله تعالى: (وأن تجمعوا بين الأختين) [النساء: 23] عائد إلى المنكوحات، فإنه لا يمتنع أن يكون أول الآية خاصًا وآخرها عامًا، ألا ترى أن فى أول الآيات تحريم الأمهات(7/215)
والبنات اللواتى لا يستقر الملك عليهن بالشراء، وبعد ذلك فيهما ذكر العمات والخلات اللواتى يستقر الملك عليهن، فكذلك الجمع بين الأختين فى النكاح والوطء بالملك. وقال الطحاوى: لما اختلفوا فى ذلك نظرنا كيف هو، فرأينا الله قد حرم فى هذه الآية الأمهات والبنات إلى قوله: (وحلائل أبنائكم) [النساء: 23] ، فكأن هؤلاء جميعًا محرمات فى ملك اليمين كما هن محرمات فى النكاح، واختلفوا فى الأختين بملك اليمين، فالقياس على ذلك أن تكونا محرمتين فى ملك اليمين، وأن يكون حكمهما كحكمهما فى النكاح، وهذا هو القياس.
8 - باب (لا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا
/ 10 - فيه: جَابِر، نَهَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا. / 11 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، مثله. وزاد الزهرى: فَنُرَى خَالَةَ أَبِيهَا بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ؛ لأنَّ عُرْوَةَ حَدَّثَنِى عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: حَرِّمُوا مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ. أجمع العلماء أنه لا يجوز الجمع بين المرأة وعمتها وإن علت، ولا بين المرأة وخالتها وإن علت. وقال عبد الملك بن حبيب: ولا يجمع بين المرأة وعمة عمتها وعمة أبيها وخالة أبيها، وكذلك المرأة وخالتها وخالة خالتها وخالة أمها وعمة أمها. قال عبد الملك: وأما خالة عمتها، فإن ابن الماجشون(7/216)
قال لى: إن تكن أم العمة وأم الأب واحدة فهى كالخالة، فإنها خالة أبيها، وإن تكن أمها غير أم الأب، فلا بأس بالجمع بينهما إنما هى امرأة أجنبية، ألا ترى أن أباها ينكحها. قال غيره: إنما ينكح خالة العمة أخو العمة؛ لأنها أخت خالته لأب، والخئولة إنما تحرم من قبل الأم، فإذا كانت من قبل الأب فلا حرمة لها كرجل له أخ لأب، وله أخت لأم، فيجوز أن يتزوج كل واحد منهما بالآخر؛ لأنهما لا يجتمعان لا إلى الأب ولا إلى الأم. قال ابن الماجشون: وأما عمة خالتها، فإن تلك خالتها أخت أمها لأبيها، فإن عمة خالتها عمة أمها، فلا يجتمعان، ألا ترى أنه لو كان فى موضعها رجل لم تحل له، وإن كانت خالتها أخت أمها لأمها دون أبيها فلا بأس أن يجمع بينها وبين عمة خالتها لأبيها؛ لأنها منهما أجنبية لو كانت إحداهما رجلاً حلت له الأخرى. قال ابن المنذر: ولست أعلم فى تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها خلافًا إلا فرقة من الخوارج، وإذا ثبت الشىء بالسنة، وأجمع أهل العلم عليه لم يضر خلاف من خالفه. وأما قول الزهرى: فنرى خالة أبيها بتلك المنزلة؛ لأن عروة حدثنى عن عائشة، قالت: حرموا من الرضاع ما يحرم من النسب، فلا حاجة إلى تشبيهها بما حرم بالرضاع، فهو استدلال غير صحيح من(7/217)
الزهرى؛ لأنه استدل على تحريم من حرمت بالنسب بتحريم من حرمت بالرضاع. قال ابن المنذر: ويدخل فى معنى هذا الحديث تحريم نكاح الرجل المرأة على عمتها من الرضاعة وخالتها من الرضاعة؛ لقول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) .
9 - باب الشِّغَارِ
/ 12 - فيه: ابْن عُمَرَ، نَهَى النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، عَنِ الشِّغَارِ. وَالشِّغَارُ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الآخَرُ ابْنَتَهُ، لَيْسَ بَيْنَهُمَا صَدَاقٌ. وتفسير الشغار فى اللغة، قال أبو زيد: شغر الكلب يشغر شغرًا، رفع رجله، بال أو لم يبل. وقال صاحب العين: شغر الكلب: رفع إحدى رجليه ليبول. وقال أبو زيد: شغرت بالمرأة شغورًا، رفعت رجلها عند الجماع. ومعناه فى الشريعة أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته لا صداق بينهما، وإنما هو البضع بالبضع. وقال ابن قتيبة: وكل واحد منهما يشغر إذا نكح، وأصل الشغار للكلب، إذا رفع إحدى رجليه ليبول، فكنى بهذا عن النكاح إذا كان على هذا الوجه وجعل له علمًا. واختلف العلماء فيه: إذا وقع، فقال مالك والشافعى: لا يصح نكاح الشغار دخل بها أو لم يدخل ويفسخ أبدًا، وهو قول أبى عبيد.(7/218)
وقالت طائفة: النكاح جائز، ولكل واحدة منهما صداق مثلها، هذا قول عطاء، ومكحول، والزهرى، وإليه ذهب الليث، والثورى، والكوفيون، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. قال ابن المنذر: وفيها قول ثالث، وهو إن لم يدخل بالمرأتين فسخ النكاح، وإن دخل بهما فلهما مهر مثلهما، وهو قول الأوزاعى. وحجة الذين قالوا: العقد فى الشغار صحيح والمهر فاسد ويصح بمهر المثل، إجماع العلماء على أن الخمر والخنزير لا يكون منهما مهر لمسلم، وكذلك الغرر والمجهول، وسائر ما نهى عن ملكه أو تملك على غير وجهه وسنته. وأجمعوا مع ذلك أن النكاح على المهر الفاسد إذا فات بالدخول، فلا يفسخ بفساد صداقه، ويكون فيه مهر المثل ولو لم يكن نكاحًا منعقدًا حلالاً ما صار نكاحًا بالدخول، والأصل فى ذلك أن التزويج مضمن بنفسه لا بالعوض فيه بدليل تجويز الله تعالى النكاح بغير صداق بقوله: (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة) [البقرة: 236] ، فلما أوقع الطلاق دل على صحة النكاح دون تسمية صداق؛ لأن الطلاق غير واقع إلا على الزوجات، وكونهن زوجات دليل على صحة النكاح بغير تسمية. وحجة الذين أبطلوا النكاح ظاهر نهى النبى، عليه السلام، عن نكاح الشغار، والنهى يقتضى تحريم المنهى عنه وفساده. قال ابن المنذر: ودل نهى النبى (صلى الله عليه وسلم) عن الشغار على إغفال من زعم أنه(7/219)
يجعل ما أباحه الله فى كتابه من عقد النكاح على غير صداق معلوم قياسًا على ما نهى النبى (صلى الله عليه وسلم) من الشغار ولا يشبه ما نهى الله عنه بما أباحه وهذه غفلة. واختلفوا فى إذا قال: أزوجك أختى على أن تزوجنى أختك على أن يسميا لكل واحدة منهما مهرًا، أو يسمياه لإحداهما، فقالت طائفة: ليس هذا بالشغار المنهى عنه والنكاح ثابت والمهر فاسد، ولكل واحدة منهما مهمر مثلها ما إن دخل بها أو ماتت أو مات عنها، أو نصفه إن طلقها قبل الدخول بها، هذا قول الشافعى، وابن القاسم، وكرهه مالك، ورآه من باب الشغار، وأجازه الكوفيون، ولها ما يسمى لها. وقال أحمد ابن حنبل: إذا كان فى الشغار صداق فليس بشغار.
- باب هَلْ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَهَبَ نَفْسَهَا لأحَدٍ؟
/ 13 - فيه: خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ، أَنها كانت مِنَ اللائِى وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِلنَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَمَا تَسْتَحِى الْمَرْأَةُ أَنْ تَهَبَ نَفْسَهَا لِلرَّجُلِ؟ فَلَمَّا نَزَلَتْ: (تُرْجِىُ مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ) [الأحزاب: 51] فقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَرَى رَبَّكَ إِلا يُسَارِعُ فِى هَوَاكَ. قال ابن القاسم، عن مالك: الموهوبة خاصة لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا يحل لأحد بعده أن يتزوج بغير صداق؛ لقوله تعالى: (خالصة لك من دون المؤمنين) [الأحزاب: 50] ، ولا خلاف فى هذا بين العلماء.(7/220)
واختلفوا فى عقد النكاح، هل يصح بلفظ الهبة مثل أن يقول الرجل: قد وهبت لك ابنتى أو وليتى، ويسمى صداقًا أو لم يسم، وهو يريد بذلك النكاح، فقال ابن القاسم: هو عندى جائز كالبيع عند مالك؛ لأن من قال: أهب لك هذه السلعة على أن تعطينى كذا وكذا، فهو بيع. وقال ابن المواز: لم يختلف مالك وأصحابه إذا تزوج على الهبة أنه يفسخ قبل البناء، واختلفوا إذا دخل بها، فقال ابن القاسم وعبد الملك: لا يفسخ ولها صداق المثل، وبهذا قال أبو حنيفة، والثورى. وقال أشهب، وابن عبد الحكم، وابن وهب، وأصبغ: أنه يفسخ وإن دخل. قال أصبغ: لأن فساده فى البضع، وبهذا قال الشافعى، قال: لا يصح النكاح بلفظ الهبة ولا ينعقد عنده إلا بأحد لفظين إما: قد أنكحتك أو زوجتك، وهو قول المغيرة، وابن دينار، وأبى ثور. وحجة من قال: لا يصح بلفظ الهبة، أن الله تعالى جعل انعقاد النكاح بلفظ الهبة خاصًا للنبى، عليه السلام، فلو انعقد نكاح به لم يقع الخصوص، ولما أجمعوا أنه لا تنعقد هبة بلفظ نكاح، كذلك لا ينعقد نكاح بلفظ هبة، وأيضًا فإن الهبة لا تتضمن العوض فوجب ألا ينعقد به النكاح كالإحلال والإباحة. قال ابن القصار: واحتج أهل المقالة الأولى بأن التى وهبت نفسها للنبى، عليه السلام، إنما قصدت بلفظ الهبة التزويج برسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، ولم يقل عليه السلام أن النكاح بهذا اللفظ لا ينعقد،(7/221)
وقولهم: إن لفظ الهبة خاص للنبى، عليه السلام، فإننا نقول: إن الخصوصية له أنه بلا مهر، وليس ذلك لغيره. وقولهم: أنه لما لم تنعقد هبة بلفظ نكاح، فكذلك لا ينعقد نكاح بلفظ هبة، فالفرق بينهما أنه إذا قال: أنكحتك مملوكتى، فلا يفهم منه أنه وهبها، ولا يقع بذلك تمليك، والهية يقع بها التمليك فافترقا. وقولهم: إن الهبة لا تتضمن العوض، فإنه يبطل بقوله: قد زوجتك على ألا مهر، فالنكاح ينعقد عندهم، ولفظ الهبة إذا قصد بها النكاح يتضمن العوض؛ لقوله: (خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم فى أزواجهم) [الأحزاب: 50] ، وكذلك الإحلال والإباحة إذا قصد به النكاح صح وضمن العوض عندنا.
- باب نَهْىِ النَّبِىّ عَلَيْهِ السَّلام عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ
/ 14 - فيه: عَلِىّ، قَالَ لابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) نَهَى عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأهْلِيَّةِ زَمَنَ خَيْبَرَ. / 15 - قال: أَبُو جَمْرَةَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، سُئِلَ عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ فَرَخَّصَ، فَقَالَ لَهُ مَوْلًى لَهُ: إِنَّمَا ذَلِكَ فِى الْحَالِ الشَّدِيدِ، وَفِى النِّسَاءِ قِلَّةٌ - ونَحْوَهُ - فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَعَمْ. / 16 - وفيه: جَابِر، وَسَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ، قَالا: كُنَّا فِى جَيْشٍ، فَأَتى رَسُول اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (إِنَّ الله قَدْ أُذِنَ لَكُمْ أَنْ تَسْتَمْتِعُوا فَاسْتَمْتِعُوا) .(7/222)
وزاد سَلَمَةَ، عَنْ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (أَيُّمَا رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ تَوَافَقَا، فَعِشْرَةُ مَا بَيْنَهُمَا ثَلاثُ لَيَالٍ، فَإِنْ أَحَبَّا أَنْ يَتَزَايَدَا أَوْ يَتَتَارَكَا تَتَارَكَا) ، فَمَا أَدْرِى أَشَىْءٌ، كَانَ لَنَا خَاصَّةً أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَبَيَّنَهُ عَلِىٌّ عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّهُ مَنْسُوخٌ. وذكر الطحاوى، عن على بن أبى طالب، وابن عمر، أن النهى عن المتعة كان يوم خيبر، ورواه مالك، ومعمر، ويونس، عن ابن شهاب فى هذا الحديث، أن النبى، عليه السلام، نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الإنسية. وقد رويت آثار أُخر أن نهيه، عليه السلام، عن المتعة كان فى غير يوم خيبر، فروى أبو العميس عن إياس بن سلمة، عن أبيه، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أذن فى المتعة عام أوطاس، ثم نهى عنها، من حديث ابن أبى شيبة. وروى عكرمة بن عمار، عن سعيد المقبرى، عن أبى هريرة، أنه حرم المتعة فى غزوة تبوك، ذكره الطحاوى. وقال عمرو، عن الحسن: ما حلت المتعة قط إلا ثلاثًا فى عمرة القضاء، ما حلت قبلها ولا بعدها. وروى حماد بن زيد، عن أيوب، عن الزهرى، عن الربيع بن سبرة، عن أبيه، قال:(7/223)
نهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن المتعة عام الفتح. وروى عبد العزيز عن عمر بن عبد العزيز، عن الربيع بن سبرة، عن أبيه، أنه نهى عنها فى حجة الوداع. قال الطحاوى: فكل هؤلاء الذين رووا عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إطلاقها، أخبروا أنها كانت فى سفر، وأن النهى لحقها فى ذلك السفر بعد ذلك فمنع منها، وليس أحد منهم يخبر أنها كانت فى حضر، وكذلك روى عن ابن مسعود، قال: كنا نغزو مع النبى (صلى الله عليه وسلم) وليس لنا نساء، فقلنا: يا رسول الله، ألا نستخصى؟ فنهانا عن ذلك، ورخص لنا أن ننكح بالثوب إلى أجل، من حديث إسماعيل بن أبى خالد، عن قيس بن أبى حازم، عن ابن مسعود، وأخبر ابن مسعود أن النبى، عليه السلام، إنما كان أباحها لهم فى حال الغزو. فأما حديث سبرة الذى فيه إباح النبى، عليه السلام، لها فى حجة الوداع، فخارج عن معانيها كلها؛ لأن فى حديث ابن مسعود أن إباحتها لهم كان فى حال ضرورتهم إليها، حتى سألوه أن يأذن لهم فى الاستخصاء، وحديث سلمة فى غزوة أوطاس وهو وقت ضرورة. وأخلق بحديث سبرة الذى فيه أنها كانت فى حجة الوداع أن يكون خطأ؛ لأنه لم يكن لهم حينئذ من الضرورات ما كان لهم فى الغزوات الأخر، وقد اعتبرنا هذا الحرف، فلم نجده إلا فى رواية عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز خاصة. فأما عبد العزيز بن الربيع بن سبرة فرواه عن أبيه، وذكر أنه كان(7/224)
عام الفتح، وقد رواه إسماعيل بن عياش، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، فذكر أن ذلك كان فى فتح مكة، وأنهم شكوا إليه العزبة فى حجة الوداع، فرخص لهم فيها، ومحال أن يشكوا إليه العزبة فى حجة الوداع؛ لأنهم كانوا حجوا بالنساء، وكان تزويج النساء بمكة يمكنهم ولم يكونوا حينئذ كما كانوا فى الغزوات المتقدمة. فلما اختلفت المواطن المذكورة فيها الإباحة فى حديث سبرة ارتفع الموطن والوقت، وصار حديثه لا على موطن ولا على وقت، ولكن على النهى المطلق. قال غيره: روى أهل مكة واليمن عن ابن عباس تحليل المتعة، وروى أنه رجع عنها بأسانيد ضعيفة، وإجازة المتعة عنه أصح، وهو مضهب الشيعة. واتفق فقهاء الأمصار من أهل الرأى والأثر على تحريم نكاح المتعة، وشذ زفر عن الفقهاء، فقال: إن تزوجها عشرة أيام أو نحوها أو شهرًا، فالنكاح ثابت والشرط باطل، ولا خلاف أن المتعة نكاح إلى أجل لا ميراث فيه، وأن الفرقة تقع فيه عند انقضاء الأجل من غير طلاق، وليس هذا حكم الزوجية عند أحد من الأمة، وقد نزعت عائشة، والقاسم بن محمد فى أن تحريمها ونسخها فى القرآن، وذلك أن قوله تعالى: (والذين هم لفروجهم حافظون) [المؤمنون: 5] الآية، وليست المتعة نكاحًا ولا ملك يمين. وقد روى عن على، وابن مسعود فى قوله تعالى: (فما استمتعتم به منهن) [النساء: 24] ، قالا: ينسخ الطلاق والعدة والميراث المتعة. وقال نافع: سُئل ابن عمر عن المتعة، فقال: حرام، فقيل له: إن ابن عباس(7/225)
يفتى بها، قال: فهلا يزمزم إذا حرك فاه ولا يتكلم، يزمزم بها فى زمن عمر. وقال ابن عمر، وابن الزبير: المتعة هى السفاح. وقال نافع، عن ابن عمر: قال عمر: متعتان كانتا على عهد النبى (صلى الله عليه وسلم) أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما: متعة النساء ومتعة الحج. قال الطحاوى: فهذا عمر نهى عن المتعة بحضرة أصحاب النبى، عليه السلام، فلم ينكر ذلك عليه منكر، وفى ذلك دليل على متابعتهم له على ما نهى عنه، وذلك دليل على نسخها، ثم هذا ابن عباس يقول: إنما أبيحت والنساء قليل، فلما كثرن ارتفع المعنى الذى من أجله أبيحت. فإن قيل: أليس قد رويتم عن على أن النبى، عليه السلام، حرمها يوم خيبر، فما معنى رواية الربيع بن سبرة أنه حرمها فى حجة الوداع؟ قيل: كانت عادة النبى، عليه السلام، تكرير مثل هذا فى مغازيه، وفى المواضع الجامعة، فذكرها فى حجة الوداع لاجتماع الناس حتى يسمعه من لم يكن سمعه، فأكد ذلك حتى لا تبقى شبهة لأحد يدعى تحليلها، ولأن أهل مكة كانوا يستعملونها كثيرًا. قال الطحاوى: والحجة على زفر حديث الربيع بن سبرة، عن أبيه، أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لما نهى عن المتعة قال لهم: (من كان عنده من هذه النساء شىء فليفارقهن، فإن الله قد حرم المتعة إلى يوم القيامة) ، فدل هذا على أن العقد المتقدم لا يوجب دوام العقد للأبد ولو أوجب دوامه لكان بفسخ الشرط الذى تعاقدا عليه، ولا يفسخ النكاح إذا كان ثبت(7/226)
على صحته وجوازه قبل النهى، ففى أمره إياهم بالمفارقة دليل على أن مثل ذلك العقد لا يجب به ملك بضع، والله أعلم.
- باب عَرْضِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا عَلَى الرَّجُلِ الصَّالِحِ
/ 17 - فيه: أَنَس، جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى الرسُول (صلى الله عليه وسلم) تَعْرِضُ عَلَيْهِ نَفْسَهَا، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَكَ بِى حَاجَةٌ؟ فَقَالَتْ بِنْتُ أَنَسٍ: مَا أَقَلَّ حَيَاءَهَا، وَاسَوْأَتَاهْ، وَاسَوْأَتَاهْ، قَالَ: هِىَ خَيْرٌ مِنْكِ، رَغِبَتْ فِى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَعَرَضَتْ نَفْسَهَا عَليهِ. / 18 - وفيه: سَهْلِ، أَنَّ امْرَأَةً عَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَى النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَوِّجْنِيهَا، فَقَالَ: (مَا عِنْدَكَ) ؟ قَالَ: مَا عِنْدِى شَىْءٌ، قَالَ: (زوجتكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ. . .) مختصرًا. قال المهلب: فيه جواز عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح وتعريفه برغبتها فيه لصلاحه وفضله، ولعلمه وشرفه، أو لخصلة من خصال الدين، وأنه لا عار عليها فى ذلك ولا غضاضة، بل ذلك زائد فى فضلها، لقول أنس لابنته: هى خير منك. وفيه: أن للرجل الذى تعرض المرأة نفسها عليه ألا ينكحها إلا إذا وجد فى نفسه رغبة فيها، ولذلك صوب النبى (صلى الله عليه وسلم) النظر فيها وصعده، فلما لم يجد فى نفسه رغبة فيها سكت عن إجابتها. وفيه: جواز سكوت العالم ومن سئل حاجة إذا لم يرد الإسعاف ولا الإجابة فى المسألة، وأن ذلك أدب فى الرد بالكلام وألين فى صرف السائل.(7/227)
وفيه: أن سكوت المرأة فى الجماعات لازم لها إذا لم يقم الدليل على أن سكوتها كان لحياء أو لحشمة؛ لأنه كان للمرأة أن تقول: يا رسول الله، إنما أرغب فيك ولا أرغب فى غيرك، وكذلك يجب أن يكون سكوت كل من عقد عليه عقد فى جماعة، ولم يمنعه من الإنكار خوف ولا حياء ولا آفة فى فهم ولا سمع أن ذلك العقد لازم له. وفيه: دليل على جواز استمتاع الرجل بشورة المرأة وبما يشترى لها من صداقها؛ لقوله عليه السلام: (ما تصنع بإزارك؟ إن لبسته لم يكن عليها منه شىء) ، مع علمه أن النصف لها، فلم يمنعه من الاستمتاع بنصفه الذى وجب لها، وجوز له لبسه أجمع، وإنما منع من ذلك؛ لأنه لم يكن له ثوب غيره، فخشى أن تحتاج إليه المرأة فيبقى عاريًا.
- باب عَرْضِ الرجل ابْنَتَهُ أَوْ أُخْتَهُ عَلَى أَهْلِ الْخَيْرِ
/ 19 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ حِينَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ مِنْ خُنَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَتُوُفِّىَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ عُمَرُ: أَتَيْتُ عُثْمَانَ ابْنَ عَفَّانَ، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَفْصَةَ، فَقَالَ: سَأَنْظُرُ فِى أَمْرِى، فَلَبِثْتُ لَيَالِىَ ثُمَّ لَقِيَنِى، فَقَالَ: قَدْ بَدَا لِى أَنْ لا أَتَزَوَّجَ يَوْمِى هَذَا، قَالَ عُمَرُ: فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتَ زَوَّجْتُكَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ، فَصَمَتَ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَىَّ شَيْئًا، فَكُنْتُ أَوْجَدَ عَلَيْهِ مِنِّى عَلَى عُثْمَانَ، فَلَبِثْتُ أيامًا، ثُمَّ خَطَبَهَا النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ، فَلَقِيَنِى أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: لَعَلَّكَ وَجَدْتَ عَلَىَّ حِينَ عَرَضْتَ عَلَىَّ حَفْصَةَ، فَلَمْ أَرْجِعْ إِلَيْكَ شَيْئًا. قَالَ عُمَرُ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ(7/228)
أَبُو بَكْرٍ: فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِى أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ فِيمَا عَرَضْتَ عَلَىَّ إِلا أَنِّى كُنْتُ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَدْ ذَكَرَهَا، فَلَمْ أَكُنْ لأفْشِىَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَلَوْ تَرَكَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَبِلْتُهَا. / 20 - وفيه: أُمَّ حَبِيبَةَ بنت أَبِى سفيان، قَالَتْ للنَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: إِنَّا قَدْ تَحَدَّثْنَا أَنَّكَ نَاكِحٌ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِى سَلَمَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَعَلَى أُمِّ سَلَمَةَ؟ لَوْ لَمْ أَنْكِحْ أُمَّ سَلَمَةَ مَا حَلَّتْ لِى، إِنَّ أَبَاهَا أَخِى مِنَ الرَّضَاعَةِ) . وفى حديث عمر من الفقه الرخصة فى أن يعرض الرجل ابنته على الرجل الصالح رغبة فيه، ولا نقيصة عليه فى ذلك. وفيه: أن من عرض عليه ما فيه الرغبة فله النظر والاختيار، وعليه أن يخبر بعد ذلك بما عنده؛ لئلا يمنعها من غيره؛ لقول عثمان بعد ليال: قد بدا لى ألا أتزوج يومى هذا. وفيه: الاعتذار لأن عثمان قال: لا أريد التزويج يومى هذا، ولم يقل أبو بكر: لا أريد التزويج، وقد كان يريده حين قال: لو تركها لنكحتها، ولم يقل: نعم، ولا لا. وفيه: الرخصة أن يجد الرجل على صديقه فى الشىء يسأله، فلا يجيبه إليه ولا يعتذر بما يعذره به؛ لأن النفوس جبلت على ذلك، لاسيما إذا عرض عليه ما فيه الغبطة له. وقوله: وكان وجدى على أبى بكر أشد من وجدى على عثمان، لمعنيين: أحدهما: أن أبا بكر لم يرد عليه الجواب. والثانى: أن أبا بكر أخص بعمر منه بعثمان؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) آخى بين أبى بكر وعمر، فكانت موجدته عليه أكثر لثقته به وإخلاصه له.(7/229)
وفيه: كتمان السر، فإن أظهره الله أو أظهره صاحبه جاز للذى أسر إليه إظهاره، ألا ترى أن النبى، عليه السلام، لما أظهر تزويجها أعلم أبو بكر عمر بما كان أسر إليه منه، وكذلك فعلت فاطمة فى مرض النبى، عليه السلام، حين أسر إليها أنها أول أهله لحاقًا به، فكتمته حتى توفى، وأسر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى حفصة تحريم جاريته مارية، فأخبرت حفصة عائشة بذلك، ولم يكن النبى، عليه السلام، أظهره، فذم الله فعل حفصة وقبول عائشة لذلك، فقال: (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما) [التحريم: 4] ، أى مالت وعدلت عن الحق. وفى قول أبى بكر لعمر بعد تزويج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بها: لعلك وجدت علىّ، دليل على أن الرجل إذا أتى إلى أخيه ما لا يصلح أن يؤتى إليه من سوء المعاشرة أن يعتذر ويعترف، وأن الرجل إذا وجب عليه الاعتذار من شىء وطمع بشىء تقوى به حجته أن يؤخر ذلك حتى يظفر ببغيته ليكون أبرأ له عند من يعتذر إليه. وفى قول عمر لأبى بكر: نعم دليل على أن على الإنسان أن يخبر بالحق عن نفسه وإن كان عليه فيه شىء. قال المهلب: والمعنى الذى أسر أبو بكر، عن عمر، ما أخبره به النبى، عليه السلام، هو أنه خشى أبو بكر أن يذكر ذلك لعمر، ثم يبدو للنبى الإعراض عن نكاحها فيقع فى قلب عمر للنبى (صلى الله عليه وسلم) مثل ما وقع فى قلبه لأبى بكر. وفى قول أبى بكر لعمر: كنت علمت أن النبى، عليه السلام،(7/230)
ذكرها، فيه دليل أنه جائز للرجل أن يذكر لأصحابه ولمن يثق برأيه أنه يخطب امرأة قبل أن يظهر خطبتها، وقول أبى بكر: لم أكن لأفشى سر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، يدل أنه من ذكر امرأة قبل أن يظهر خطبتها، فإن ذكره فى معنى السر، فإن إفشاء السر فى النكاح وفى غيره من المباح لا يجوز. وفيه: أن الصديق لا يخطب امرأة علم أن صديقه يريدها لنفسه، وإن كان لم يركن إليها لما يخاف من القطيعة بينهما، ولم تخف القطيعة بين غير الإخوان؛ لأن الاتصال بينهما ضعيف غير اتصال الصداقة فى الله. وفى قول أبى بكر: لو تركها تزوجتها، دليل أن الخطبة إنما تجوز بعد أن يتركها الخاطب. وفيه: الرخصة فى تزويج من عرض النبى، عليه السلام، فيها بخطبة أو أراد أن يتزوجها، ألا ترى قول أبى بكر: لو تركها تزوجتها، وقد جاء فى خبر آخر الرخصة فى نكاح من عقد النبى (صلى الله عليه وسلم) فيها النكاح ولم يدخل بها، وأن أبا بكر كرهه ورخص فيه عمر. روى داود بن أبى هند، عن عكرمة، قال: تزوج النبى (صلى الله عليه وسلم) امرأة من كندة يقال لها: قتيلة، فمات ولم يدخل بها ولا حجبها، فتزوجها عكرمة بن أبى جهل، فغضب أبو بكر، وقال: تزوجت من(7/231)
نساء رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ؟ فقال عمر: ما هى من نسائه وما دخل بها ولا حجبها، ولقد ارتدت مع من ارتد فسكت. وفيه: أن الأب تخطب إليه بنته الثيب كما تخطب إليه البكر، ولا تخطب إلى نفسها، وأنه يزوجها. وفيه: فساد قول من قال: أن للمرأة البالغة المالكة أمرها تزويج نفسها وعقد النكاح عليها دون وليها، وإبطال قول من قال: للبالغ الثيب إنكاح من أحبت دون وليها، وسيأتى بيان ذلك فى باب من قال: لا نكاح إلا بولى إن شاء الله. وفى تركه أن يأمره باستئمارها، ولم نجد عن عمر أنه استأمرها، دليل أن للرجل أن يزوج ابنته الثيب من غير أن يستأمرها إذا علم أنها لا تكره ذلك، وكان الخاطب لها كفئًا؛ لأن حفصة لم تكن لترغب عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فأغنى علم عمر عن استئمارها. وقوله: تأيمت حفصة، أى صارت غير ذات زوج بموت زوجها عنها، والعرب تدعو كل امرأة لا زوج لها وكل رجل لا امرأة له: أيمًا، ومنه قول الشاعر: فإن تنكحى أنكح وإن تتأيمى وإن كنت أفتى منكم أتأيم(7/232)
- باب قَوله تَعالَى: (وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ) [البقرة: 235] الآية
وَقَالَ مُجَاهِد، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ (يَقُولُ: إِنِّى أُرِيدُ التَّزْوِيجَ، وَلَوَدِدْتُ أَنَّهُ تَيَسَّرَ لِى امْرَأَةٌ صَالِحَةٌ. وَقَالَ الْقَاسِمُ: يَقُولُ: إِنَّكِ عَلَىَّ لَكَرِيمَةٌ، وَإِنِّى فِيكِ لَرَاغِبٌ، وَإِنَّ اللَّهَ لَسَائِقٌ إِلَيْكِ خَيْرًا - أَوْ نَحْوَ هَذَا - وَقَالَ عَطَاءٌ: يُعَرِّضُ وَلا يَبُوحُ، يَقُولُ: إِنَّ لِى حَاجَةً، وَأَبْشِرِى وَأَنْتِ بِحَمْدِ اللَّهِ نَافِقَةٌ. وَتَقُولُ هِىَ: قَدْ أَسْمَعُ مَا تَقُولُ، وَلا تَعِدُ شَيْئًا، وَلا يُوَاعِدُ وَلِيُّهَا بِغَيْرِ عِلْمِهَا، وَإِنْ وَاعَدَتْ رَجُلا فِى عِدَّتِهَا، ثُمَّ نَكَحَهَا بَعْدُ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: (لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا (: الزِّنَا. وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ (: تَنْقَضِىَ الْعِدَّةُ. وحرم الله تعالى عقد النكاح فى العدة بقوله: (ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله) [البقرة: 235] ، وهذا من المحكم المجتمع على تأويله أن بلوغ أجله انقضاء العدة، وأباح تعالى التعريض فى العدة بقوله: (ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء) [البقرة: 235] الآية، ولم يختلف العلماء فى إباحة ذلك. قال المهلب: وإنما منع من عقد النكاح فى العدة، والله أعلم؛ لأن ذلك ذريعة إلى المواقعة فى العدة التى هى محبوسة فيها على ماء الميت أو المطلق، كما منع المحرم بالحج من عقد النكاح؛ لأن ذلك داعيه إلى المواقعة، فحرم عليه السبب والذريعة إلى فساد ما هو(7/233)
فيه وموقوف عليه، وأباح التعريض فى العدة خشية أن تفوت نفسها. واختلفوا فى ألفاظ التعريض، والمعنى واحد، وقال قتادة، وسعيد بن جبير فى قوله تعالى: (ولكن لا تواعدوهن سرًا) [البقرة: 235] ، قال: لا يأخذ عهدها فى عدتها ألا تنكح غيره. قال إسماعيل بن إسحاق: وهذا أحسن من قول من تأول فى قوله: (ولكن لا تواعدوهن (أنه الزنا؛ لأن ما قبل الكلام وما بعده لا يدل عليه، ويجوز فى اللغة أن يسمى الغشيان سرًا، فسمى النكاح سرًا، إذ كان الغشيان يكون فيه كما يسمى التزويج نكاحًا، وهو أشبه فى المعنى؛ لأنه لما أجيز لهم التعريض فى النكاح لم يؤذن لهم فى غيره، فوجب أن يكون كل شىء يجاوز التعريض فهو محظور، والمواعدة تجاوز التعريض، فوسع الله على عباده فى التعريض فى الخطبة لما علم منهم. وبلغنى عن الشافعى أنه احتج بهذا التعريض فى القذف، وقال: كما لم يجعل التعريض فى هذا الموضع بمنزلة التصريح كذلك لا يجعل التعريض فى القذف بمنزلة التصريح، واحتج بما هو حجة عليه إذ كان التعريض بالنكاح قد فهم عن صاحبه ما أراد، فكذلك ينبغى أن يكون التعريض بالقذف قد فهم عن صاحبه ما أراد، فإذا فهم أنه قاذف حكم عليه بحكم القذف، وينبغى له على قوله هذا أن يزعم أن التعريض بالقذف مباح كما أبيح التعريض بالنكاح، وسيأتى استيعاب الحجة عليه فى كتاب الحدود، إن شاء الله. واختلفوا(7/234)
فى الرجل يخطب امرأة فى عدتها جاهلاً ويواعدها، ويعقد بعد العدة، فكان مالك يقول: فراقها أحب إلىّ دخل بها أو لم يدخل، وتكون تطليقة واحدة، ويدعها حتى تحل ويخطبها. وقال الشافعى: إن صرح بالخطبة وصرحت له بالإجابة، ولم يعقد النكاح حتى تنقضى العدة، فالنكاح ثابت والتصريح لهما مكروه؛ لأن النكاح حادث بعد الخطبة. واختلفوا إذا تزوجها فى العدة ودخل بها، فقال مالك، والليث، والأوزاعى: يفرق بينهما ولا تحل له أبدًا. قال مالك والليث: ولا بملك اليمين. واحتجوا بأن عمر بن الخطاب، قال: لا يجتمعان أبدًا وتعتد منهما جميعًا. وقال الثورى، والكوفيون، والشافعى: يفرق بينهما، فإذا انقضت عدتها من الأول فلا بأس أن يتزوجها، واحتجوا بإجماع العلماء أنه لو زنى بها لم يحرم عليه تزويجها، فكذلك وطؤه إياها فى العدة، قالوا: وهو قول على بن أبى طالب، ذكره عبد الرزاق، وذكر عن ابن مسعود مثله، وعن الحسن أيضًا. وذكر عبد الرزاق، عن الثورى، عن الأشعث، عن الشعبى، عن مسروق، أن عمر رجع عن ذلك وجعلهما يجتمعان. واختلفوا هل تعتد منهما جميعًا، فروى المدنيون عن مالك أنها تتم بقية عدتها من الأول وتستأنف عدة أخرى من الآخر، روى ذلك عن عمر، وعلى، وهو قول الليث، والشافعى، وأحمد، وإسحاق. وروى(7/235)
ابن القاسم، عن مالك، أن عدة واحدة تكون لهما جميعًا، سواء كانت العدة بالحيض أو الحمل أو الشهور، وهو قول الأوزاعى، والثورى، وأبى حنيفة، وحجتهم الإجماع على أن الأول لا ينكحها فى بقية العدة منه، فدل ذلك على أنها فى عدة من الثانى، ولولا ذلك لنكحها فى عدتها منه، وهذا غير لازم؛ لأنه منع الأول من أن ينكحها فى بقية عدتها إنما وجب لما يتلوها من عدة الثانى، وهما حقان قد وجبا عليها لزوجين كسائر حقوق الآدميين لا يدخل أحدهما فى صاحبه.
- باب النَّظَرِ إِلَى الْمَرْأَةِ قَبْلَ التَّزْوِيجِ
/ 21 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَ لِى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (أُرِيتُكْ فِى الْمَنَامِ يَجِىءُ بِكِ الْمَلَكُ فِى سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ، فَقَالَ لِى: هَذِهِ امْرَأَتُكَ، فَكَشَفْتُ عَنْ وَجْهِكِ الثَّوْبَ، فَإِذَا أَنْتِ هِىَ، فَقُلْتُ: إِنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ) . / 22 - وفيه: عَنْ سَهْلِ، أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جِئْتُ لأهَبَ لَكَ نَفْسِى، فَنَظَرَ إِلَيْهَا النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَصَعَّدَ النَّظَرَ إِلَيْهَا وَصَوَّبَهُ، ثُمَّ طَأْطَأَ رَأْسَهُ. . . الحديث. ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا بأس بالنظر إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها، وهو قول مالك، والثورى، والكوفيين، والشافعى، وأحمد، وقالوا: لا ينظر إلى غير وجهها وكفيها. وقال الأوزاعى: ينظر إليها(7/236)
ويجتهد وينظر إلى مواضع اللحم، وحجتهم أن النبى (صلى الله عليه وسلم) نظر إلى المرأة التى وهبته نفسها وأراه الله عائشة فى منامه قبل تزويجه بها. قال الطحاوى: ومن حجتهم ما حدثنا سليمان بن شعيب، قال: حدثنا يحيى بن حسان، حدثنا أبو شهاب الحناط، عن الحجاج بن أرطاة، عن محمد بن سليمان بن أبى حثمة، قال: رأيت محمد بن مسلمة يطارد ثبيتة بنت الضحاك فوق إجار لها ببصره طردًا شديدًا، فقلت: أتفعل هذا وأنت من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ؟ قال: سمعت النبى، عليه السلام، يقول: (إذا ألقى فى قلب امرئ خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها) . وروى أبو معاوية، عن عاصم الأحول، عن بكر بن عبد الله، عن المغيرة بن شعبة، قال: خطبت امرأة، فقال لى النبى، عليه السلام: (هل نظرت إليها؟) ، قلت: لا، قال: (فانظر، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما) ، ففى هذه الأحاديث إباحة النظر إلى وجه المرأة لمن أراد نكاحها. ورواه أبو حميد، وأبو هريرة، وجابر، عن النبى، عليه السلام. واحتج الشافعى بأن ينظر إليها بإذنها وبغير إذنها إذا كانت مستترة؛ لقوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) [النور: 31] ،(7/237)
قال: الوجه والكفان، وخالفهم آخرون، وقالوا: لا يجوز لمن أراد نكاح امرأة ولا لغيره أن ينظر إليها إلا أن يكون زوجًا لها أو ذا محرم منها، ووجهها وكفاها عورة بمنزلة جسدها، واحتجوا بحديث ابن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن سلمة بن أبى الطفيل، عن على بن أبى طالب، أن النبى قال له: يا على، لا تتبع بالنظرة النظرة، فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة. قالوا: فلما حرم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) النظرة الثانية؛ لأنها تكون باختيار الناظر، وخالف بين حكمها وحكم ما قبلها إذا كانت بغير اختيار من الناظر، دل على أنه ليس لأحد أن ينظر إلى وجه امرأة إلا أن تكون زوجة أو ذات محرم. واحتج عليهم أهل المقالة الأولى أن الذى أباحه النبى، عليه السلام، فى الآثار الأُول هو النظر للخطبة لا لغير ذلك، وذلك نظر لسبب هو حلال، ألا ترى لو أن رجلاً نظر إلى وجه امرأة لا نكاح بينه وبينها ليشهد عليها أو لها أن ذلك جائز، وكذلك إذا نظر إلى وجهها ليخطبها، فأما المنهى عنه فالنظر لغير الخطبة ولغير ما هو حلال. ورأيناهم لا يختلفون فى نظر الرجل إلى صدر الأمة إذا أراد أن يبتاعها أن ذلك له جائز حلال، ولو نظر إليها لغير ذلك كان ذلك(7/238)
عليه حرامًا، فكذلك نظره إلى وجه المرأة إن كان فعل ذلك لمعنى هو حلال فهو غير مكروه. وإذا ثبت أن النظر إلى وجه المرأة لخطبتها حلال خرج بذلك حكمه من حكم العورة؛ لأنا رأينا ما هو عورة لا يباح لمن أراد نكاحها النظر إليه، ألا ترى أنه من أراد نكاح امرأة فحرام عليه النظر إلى شعرها أو إلى صدرها أو إلى ما أسفل من ذلك من بدنها، كما يحرم ذلك منها على من لم يرد نكاحها، فلما ثبت أن النظر إلى وجهها حلال لمن أراد نكاحها، ثبت أنه حلال أيضًا لمن لم يرد نكاحها إذا كان لا يقصد بنظره ذلك إلى معنى هو عليه حرام، وقد قال المفسرون فى قوله: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) [النور: 31] ، أن ذلك المستثنى هو الوجه والكفان.
- باب مَنْ قَالَ: لا نِكَاحَ إِلا بِوَلِىٍّ
لقوله تَعَالَى: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ) [البقرة: 232] فَدَخَلَ فِيهِ الثَّيِّبُ وَالْبِكْرُ. وَقَالَ تَعَالَى: (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا) [البقرة: 221] ، وَقَالَ تَعَالَى: (وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ) [النور: 32] . / 23 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النِّكَاحَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ: فَنِكَاحٌ مِنْهَا نِكَاحُ النَّاسِ الْيَوْمَ يَخْطُبُ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ ابْنَتَهُ، فَيُصْدِقُهَا، ثُمَّ(7/239)
يَنْكِحُهَا. وَالنِكَاحُ الآخَرُ كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ لامْرَأَتِهِ - إِذَا طَهُرَتْ مِنْ طَمْثِهَا - أَرْسِلِى إِلَى فُلانٍ، فَاسْتَبْضِعِى مِنْهُ، وَيَعْتَزِلُهَا زَوْجُهَا وَلا يَمَسُّهَا أَبَدًا، حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِى تَسْتَبْضِعُ مِنْهُ، فَإِذَا تَبَيَّنَ حَمْلُهَا أَصَابَهَا زَوْجُهَا، إِذَا أَحَبَّ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ رَغْبَةً فِى نَجَابَةِ الْوَلَدِ، فَكَانَ هَذَا النِّكَاحُ نِكَاحَ الاسْتِبْضَاعِ. وَنِكَاحٌ آخَرُ، يَجْتَمِعُ الرَّهْطُ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ، فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ كُلُّهُمْ يُصِيبُهَا، فَإِذَا حَمَلَتْ، وَوَضَعَتْ، وَمَرَّ عَلَيْهَا لَيَالٍ بَعْدَ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا، أَرْسَلَتْ إِلَيْهِمْ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَنْ يَمْتَنِعَ حَتَّى يَجْتَمِعُوا عِنْدَهَا، فَتَقُولُ لَهُمْ: قَدْ عَرَفْتُمُ الَّذِى كَانَ مِنْ أَمْرِكُمْ، وَقَدْ وَلَدْتُ وَهُوَ ابْنُكَ يَا فُلانُ تُسَمِّى مَنْ أَحَبَّتْ بِاسْمِهِ، فَيَلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا، لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْتَنِعَ بِهِ الرَّجُلُ. وَالنِكَاحُ الرَّابِعِ، يَجْتَمِعُ النَّاسُ الْكَثِيرُ، فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ لا تَمْتَنِعُ مِمَّنْ جَاءَهَا، وَهُنَّ الْبَغَايَا، كُنَّ يَنْصِبْنَ عَلَى أَبْوَابِهِنَّ رَايَاتٍ تَكُونُ عَلَمًا، فَمَنْ أَرَادَهُنَّ دَخَلَ عَلَيْهِنَّ، فَإِذَا حَمَلَتْ إِحْدَاهُنَّ وَوَضَعَتْ حَمْلَهَا، وجُمِعُوا لَهَا، وَدَعَوْا الْقَافَةَ لَهُمُ، ثُمَّ أَلْحَقُوا وَلَدَهَا بِالَّذِى يَرَوْنَ فَالْتَاطَ بِهِ وَدُعِىَ ابْنَهُ لا يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وسلم) بِالْحَقِّ، هَدَمَ نِكَاحَ الْجَاهِلِيَّةِ كُلَّهُ إِلا نِكَاحَ النَّاسِ الْيَوْمَ. / 24 - وفيه: عَائِشَةَ، فِى قوله تَعَالَى: (وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَابِ فِى يَتَامَى النِّسَاءِ. . .) [النساء: 127] الآية، قَالَتْ: هَذَا فِى الْيَتِيمَةِ الَّتِى تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ لَعَلَّهَا أَنْ تَكُونَ شَرِيكَتَهُ فِى مَالِهِ، وَهُوَ أَوْلَى بِهَا، فَيَرْغَبُ عَنْهَا أَنْ يَنْكِحَهَا، فَيَعْضُلَهَا لِمَالِهَا، وَلا يُنْكِحَهَا غَيْرَهُ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَشْرَكَهُ أَحَدٌ فِى مَالِهَا.(7/240)
/ 25 - وفيه: عُمَر، حِينَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ مِنِ ابْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِىِّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ تُوُفِّىَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ عُمَرُ: لَقِيتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ، فَقَالَ: سَأَنْظُرُ فِى أَمْرِى، فَلَبِثْتُ لَيَالِىَ، ثُمَّ لَقِيَنِى، فَقَالَ: بَدَا لِى أَنْ لا أَتَزَوَّجَ يَوْمِى هَذَا، فَقَالَ عُمَرُ: فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ، فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ. . . . / 26 - وفيه: مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ فِى قوله تَعَالَى: (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ (أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ، قَالَ: زَوَّجْتُ أُخْتًا لِى مِنْ رَجُلٍ فَطَلَّقَهَا، حَتَّى إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا جَاءَ يَخْطُبُهَا، فَقُلْتُ لَهُ: إنى زَوَّجْتُكَ وَفَرَشْتُكَ وَأَكْرَمْتُكَ فَطَلَّقْتَهَا، ثُمَّ جِئْتَ تَخْطُبُهَا، لا وَاللَّهِ، لا تَعُودُ إِلَيْكَ أَبَدًا، وَكَانَ رَجُلا لا بَأْسَ بِهِ، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ: (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ (، فَقُلْتُ: الآنَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ. اتفق جمهور العلماء أنه لا يجوز نكاح إلا بولى إما مناسب أو وصى أو السلطان، ولا يجوز عقد المرأة على نفسها بحال، روى هذا عن عمر، وعلى، وابن عباس، وابن مسعود، وأبى هريرة، وروى عن شريح، وابن المسيب، والحسن، وابن أبى ليلى، وهو قول مالك، والثورى، وأبى يوسف، ومحمد، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى عبيد. وحكى ابن المنذر، عن الشعبى، والزهرى أنه إذا تزوجت بغير إذن وليها كفئًا فهو جائز. وقال مالك فى المعتقة والمسكينة التى لا خطب لها، فإنها تستخلف على نفسها من يزوجها، ويجوز ذلك، وكذلك(7/241)
المرأة يكفلها الرجل أن تزويجه عليها جائز، وأما كل امرأة لها قدر وغنى فلا يزوجها إلى الولى أو السلطان. قال أبو حنيفة: إذا كانت بالغة عاقلة زالت ولاية الولى عنها، فإن عقدت بنفسها جاز، وإن ولت رجلاً حتى عقد جاز، ووافقنا على أنها إذا وضعت نفسها فى غير كفء كان للولى فسخ النكاح. وشذ أهل الظاهر أيضًا، فقالوا: إن كانت بكرًا فلابد من ولى، وإن كانت ثيبًا لم تحتج إلى ولى، وهذا خلاف الجماعة. قال ابن القصار: والدليل على أنها لا تعقد على نفسها بحال قوله تعالى: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن) [البقرة: 232] ، والدلالة فى الآية من وجهين: أحدهما: أن الله عاتب معقلاً لما امتنع من رد أخته إلى زوجها، ولو كان لها أن تزوج نفسها أو تعقد النكاح لم يعاتب أخوها على الامتناع منه ولا أمره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالحنث، فدل على أن النكاح كان إليه دونها. والوجه الثانى: قوله تعالى: (فلا تعضلوهن) [البقرة: 232] ، والعضل هو المنع من التزويج، فمنع الله الأولياء من الامتناع من تزويجهن كما منع أولياء اليتامى أن يعضلوهن إذا رغبوا فى أموالهن، فلو كان العقد إليهن لم يكن ممنوعات. قال المهلب: وفى هذا دليل على أن الرجل إذا عضل وليته وثبت عضله لها يفتئت عليه السلطان فيزوجها بغير أن يأمره بالعقد لها، ويرده عن العضل كما رد النبى، عليه السلام، معقلاً عن ذلك العقد، ولم يعقد النبى (صلى الله عليه وسلم) ، بل دعاه إلى العقد بالحنث فى يمينه، إذ(7/242)
عقده لأخته على من تحبه خير من إبرار اليمين، وأيضًا قوله تعالى: (ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا) [البقرة: 221] ، وقوله تعالى: (وأنكحوا الأيامى منكم) [النور: 32] ، فلم يخاطب بالنكاح غير الرجال، ولو كان على النساء لذكرن فى ذلك. قال الطبرى: فى حديث حفصة حين تأيمت، وعقد عمر عليها النكاح ولم تعقده هى، إبطال قول من قال: إن للمرأة البالغة المالكة لنفسها تزويج نفسها، وعقد النكاح عليها دون وليها، ولو كان لها ذلك لم يكن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليدع خطبة حفصة إلى نفسها، إذ كانت أولى بنفسها من أبيها، ولخطبها إلى من لا يملك أمرها ولا العقد عليها، وفيه بيان قوله عليه السلام: (الأيم أحق بنفسها من وليها) ، أى أن معنى ذلك أنها أحق بنفسها فى أنه لا ينعقد عليها إلا برضاها، لا أنها أحق بنفسها فى أن تعقد عليها عقدة نكاح دون وليها. قال ابن المنذر: ولا أعلم أحدًا من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ثبت عنه خلاف ما قلنا. وقول عائشة: إن النكاح كان على أربعة أنحاء، فنكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل ابنته أو وليته، حجة فى أن سنة عقد النكاح إلى الأولياء. فإن قال من أجاز بغير ولى: فقد روى عن عائشة خلاف هذا، وهو ما رواه مالك فى الموطأ أنها زوجت بنت أخيها عبد الرحمن وهو غائب، فلما قدم قال: مثلى يفتأت عليها فى بناته؟ وهذا يدل أن مذهبها جواز النكاح بغير ولى. قيل: لا حجة لكم فى هذا الخبر، وليس معنى قوله: زوجت(7/243)
بنت أخيها، إلا الخطبة، والكلام فى الرضا والصداق دون العقد، لما رواه ابن جريج، عن عبد الرحمن بن القاسم ابن محمد بن أبى بكر الصديق التيمى، عن أبيه، عن عائشة، أنها أنكحت رجلاً من بنى أخيها، فضربت بينهم بستر، ثم تكلمت حتى لم يبق إلا العقد، أمرت رجلاً فأنكح، ثم قالت: ليس إلى النساء نكاح. قال ابن المنذر: وأما تفريق مالك بين المولاة والمسكينة، وبين من لها منهن قدر وغنى، فليس ذلك مما يجوز أن يفرق به، إذ قد سوى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بين الناس جميعًا، فقال: (المسلمون تتكافأ دماؤهم) ، فسوى بين الجميع فى الدماء، فوجب أن يكون حكمهم فيما دون الدماء سواء. قال المهلب: وأما قوله تعالى: (ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا) [البقرة: 221] ، فإنه خاطب الأولياء ونهاهم عن إنكاح المشركين ولياتهم المسلمات من أجل أن الولد تابع للأب فى دينه بقوله تعالى: (أولئك يدعون إلى النار) [البقرة: 221] ، ولا مدعو فى نفس الاعتبار يمكنه الإجابة إلا الولد، إذ هو تبع لأبيه فى الدين، ولذلك نهى الله عن إنكاح الإماء المشركات؛ لأن الذى يتزوجها يتسبب أن يولدها، فيبيعها سيدها حاملاً من مشرك، إذ أولاد الإماء تبع لأمهاتهم فى الرق فيئول ذلك إلى تمليك المشركين أولاد المسلمين فيحملونهم على الكفر، فنهى الله عن ذلك، وحرمه فى كتابه، وجوز لمن لم يستطع طولاً لحرة إذا خشى العنت أن ينكح الأمة المسلمة فى ملك المسلم لامتناع تمليكهن المشركين، وأباح له استرقاق ولده واستعباده لأخيه المسلم، من أجل أنه قد أمن أن يحمله على غير دين الإسلام.(7/244)
والدليل على جواز إرقاق المسلم بنيه قول النبى، عليه السلام: (وفى جنين المرأة غرة عبد أو وليدة) ، فلما جعل عوض الجنين الحر عبدًا، وأقامه مقامه، وجوز لأبيه ملكه واسترقاقه عوضًا من أبيه، علمنا أن للرجل أن ينكح من النساء من يسترق ولده بها، والله أعلم.
- باب إِذَا كَانَ الْوَلِىُّ هُوَ الْخَاطِبَ
وَخَطَبَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ امْرَأَةً هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِهَا، فَأَمَرَ رَجُلا فَزَوَّجَهُ، وَقَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ لأمِّ حَكِيمٍ ابْنَة قَارِظٍ: أَتَجْعَلِينَ أَمْرَكِ إِلَىَّ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَقَالَ: قَدْ زَوَّجْتُكِ، وَقَالَ عَطَاءٌ: لِيُشْهِدْ أَنِّى قَدْ نَكَحْتُكِ، أَوْ لِيَأْمُرْ رَجُلا مِنْ عَشِيرَتِهَا. وَقَالَ سَهْلٌ: قَالَتِ امْرَأَةٌ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : أَهَبُ لَكَ نَفْسِى، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ لَمْ تَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا. / 27 - فيه: عَائِشَةَ، فِى قَوْلِهِ: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النِّسَاءِ (الآيَةِ، قَالَتْ: هِىَ الْيَتِيمَةُ، تَكُونُ فِى حَجْرِ الرَّجُلِ قَدْ شَرِكَتْهُ فِى مَالِهِ، فَيَرْغَبُ عَنْهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَيَكْرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا غَيْرَهُ، فَيَدْخُلَ عَلَيْهِ فِى مَالِهِ، فَيَحْبِسُهَا، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. / 28 - وفيه: سَهْلُ، جَاءَت امْرَأَةٌ إلى النَّبِىّ تَعْرِضُ عَلَيْهِ نَفْسَهَا، فَلَمْ يُرِدْهَا، فَقَالَ رَجُلٌ: زَوِّجْنِيهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ فَقَالَ: (اذْهَبْ، فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ) . اختلف العلماء فى الولى هل يزوج نفسه من وليته إذا أذنت له وينعقد النكاح ولا يرفع ذلك إلى السلطان، فأجاز ذلك الحسن البصرى، وربيعة، ومالك، والليث، والأوزاعى، والثورى، وأبو حنيفة،(7/245)
وأبو ثور. وقال زفر والشافعى: لا يجوز له أن يتزوجها إلا بالسلطان، أو يزوجها منه ولى لها هو أقعد بها منه أو مثله فى القعدد، واحتجوا أن الولاية من شرط العقد، وكما لا يكون الشاهد ناكحًا ولا منكحًا، كذلك لا يكون الناكح منكحًا. وفيها قول ثالث، وهو أن يجعل أمرها إلى من يزوجها منه، وروى هذا عن المغيرة بن شعبة، وبه قال أحمد بن حنبل ذكره ابن المنذر، واحتج الطحاوى للقول الأول، فقال: لا يختلفون أنه يجوز أن يهب لمن له ولاية عليها، ويكون هو العاقد والقابض، وكذلك النكاح، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) زوج المرأة من الرجل بما معه من القرآن، فكذلك كان له أن يزوجها من نفسه لو قبلها، كما فعل فى خبر صفية حين جعل عتقها صداقها. قال ابن المنذر: وكذلك فعل فى أمر جويرية، قضى كتابتها وتزوجها كما فعل فى حديث صفية سواء. قال المؤلف: ومن الحجة لهذا القول أيضًا حديث عائشة فى الرجل تكون عنده اليتيمة فيرغب عن أن يتزوجها، فنهاهم الله عن عضلهن ومنعهن من التزويج من أجل أنهم لا يقسطون فى صدقاتهن، وجعل لهم أن ينكحوهن من أنفسهن إذا عدلوا فى صدقاتهن، وقد تقدم البيان عن هذه المسألة فى حديث صفية فى باب من أعتق جارية وتزوجها، وأما فعل المغيرة، فهو من باب الأدب فى النكاح أن يأمر الولى رجلآً يعقد نكاحه مع وليته، ولو تولى هو عقده إذا رضيت به لكان حسنًا.(7/246)
- باب إِنْكَاحِ الرَّجُلِ وَلَدَهُ الصِّغَارَ لقوله: (وَاللائِى لَمْ يَحِضْنَ) [الطلاق: 4] ، فَجَعَلَ عِدَّتَهَا ثَلاثَةَ أَشْهُرٍ قَبْلَ الْبُلُوغِ
/ 29 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) تَزَوَّجَهَا وَهِىَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ، وَدْخِلَتْ عَلَيْهِ وَهِىَ بِنْتُ تِسْع سِنِين، وَمَكَثَتْ عِنْدَهُ تِسْعًا. قال المهلب: أجمع العلماء على أنه يجوز للأب تزويج ابنته الصغيرة التى لا يوطأ مثلها لعموم الآية: (واللائى لم يحضن) [الطلاق: 4] ، ويجوز نكاح من لم تحض من أول ما تخلق، وأظن البخارى أراد بهذا الباب الرد على ابن شبرمة، فإن الطحاوى حكى عنه أنه قال: تزويج الآباء على الصغار لا يجوز، ولهن الخيار إذا بلغن، وهذا قول لم يقل به أحد من الفقهاء غيره، ولا يلتفت إليه لشذوذه، ومخالفته دليل الكتاب والسنة، وإنما اختلفوا فى الأولياء غير الآباء إذا زوج الصغيرة، وقد تقدم اختلاف العلماء فى ذلك فى باب تزويج الصغار من الكبار قبل هذا. وفيه من الفقه: جواز نكاح لا وطء فيه لعلة بأحد الزوجين: لصغر، أو آفة، أو غير إرب فى الجماع، بل لحسن العشرة والتعاون على الدهر، وكفاية المؤنة والخدمة بخلاف من قال: لا يجوز نكاح لا وطء فيه، ويؤيد هذا فعل سودة حين وهبت يومها لعائشة، وقالت: ما لى فى الرجال إرب. واختلف العلماء فى الوقت الذى تدخل فيه المرأة على زوجها إذا اختلف الزوج وأهل المرأة فى ذلك، فقالت طائفة: تدخل على(7/247)
زوجها وهى بنت تسع سنين اتباعًا لحديث عائشة، هذا قول أحمد بن حنبل، وأبى عبيد. وقال أبو حنيفة: نأخذ بالتسع غير أنا نقول: إن بلغتها ولم تقدر على الجماع كان لأهلها منعها، وإن لم تبلغ التسع وقويت على الرجال لم يكن لهم منعها من زوجها. وكان مالك يقول: لا نفقة لصغيرة حتى تدرك وتطيق الرجال. وقال الشافعى: إذا قاربت البلوغ وكانت جسيمة تحتمل الجماع، فلزوجها أن يدخل بها، وإن كانت لا تحتمل الجماع فلأهلها منعها من الزوج حتى تحتمل الجماع.
- باب تَزْوِيجِ الأبِ ابْنَتَهُ مِنَ الإمَامِ
وَقَالَ عُمَرُ: خَطَبَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَىَّ حَفْصَةَ فَأَنْكَحْتُهُ. / 30 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) تَزَوَّجَهَا وَهِىَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ. . . الحديث. معنى هذا الباب أن الإمام وإن كان وليًا، وكان النبى (صلى الله عليه وسلم) أفضل الأولياء، وخطب حفصة إلى أبيها عمر بن الخطاب، وأنكحه إياها، دل ذلك على أن الأب أولى من الإمام، وأن السلطان ولى من لا ولى له، وهذا إجماع، ودل أيضًا على صحة ما يقوله مالك، والشافعى، وجمهور العلماء أن الولى من شروط النكاح وأنه مفتقر إليه، وكذلك خطب النبى عائشة إلى أبى بكر، فقال له أبو بكر: إنما أنا أخوك، فقال له النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أنت أخى فى دين الله وكتابه، وهى لى حلال) ، فأنكحه أبو بكر إياها.(7/248)
قال ابن المنذر: وفى إنكاح أبى بكر النبى (صلى الله عليه وسلم) دليل على إباحة النكاح بغير شهود، إذ لا نعلم فى شىء من الأخبار أن شاهدًا حضر عقد ذلك النكاح، والأخبار التى رويت عن عائشة وغيرها بخلاف ذلك واهية لا تثبت عند أهل المعرفة بالأخبار، وقد تقدم بيان هذه المسألة فى حديث صفية فى باب اتخاذ السرارى ومن أعتق جارية ثم تزوجها.
- باب السُّلْطَانُ وَلِىٌّ لِقَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (قَدْ زَوَّجْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ
/ 31 - فيه: سَهْلِ، جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَتْ: إِنِّى وَهَبْتُ لك نَفْسِى، فَقَامَتْ طَوِيلا، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: زَوِّجْنِيهَا إِنْ لَمْ تَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ، قَالَ: (قَدْ زَوَّجْنَاكَهَا، بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ) . أجمع العلماء على أن السلطان ولى من لا ولى له، وأجمعوا أن السلطان يزوج المرأة إذا أرادت النكاح ودعت إلى كفء وامتنع الولى من أن يزوجها. واختلفوا إذا غاب عن البكر أبوها وعمى خبره وضربت فيه الآجال من يزوجها؟ فقال مالك وأبو حنيفة وأصحابه: يزوجها أخوها بإذنها. وقال الشافعى: يزوجها السلطان دون باقى(7/249)
أوليائها، وكذلك الثيب إذا غاب أقرب أوليائها. وحجة مالك، والكوفيين أن الأخ عصبة يجوز أن يزوجها بإذنها مع عدم أبيها بالموت لتعذر التزويج من قبله، فكذلك مع حياته إذا تعذر التزويج من جهته، دليل ذلك إذا جن الأب أو فسق عندهم، ألا ترى أن الأب إذا مات كان الأخ أولى من السلطان؟ واحتج الشافعى بأن السلطان يستوفى لها حقوقها وينظر فى مالها إذا فقد أبوها، فلذلك هو أحق بالتزويج من أخيها. واختلفوا فى الولى، فقال مالك، والليث، والثورى، والشافعى: الأولياء هم العصبة الذين يرثون، وليس الخال ولا الجد لأم ولا الإخوة لأم أولياء عند مالك فى النكاح، وخالفهم محمد بن الحسن، فقال: كل من لزمه اسم ولى، فهو ولى يعقد النكاح، وبه قال أبو ثور. قال الأبهرى: والحجة لمالك ومن وافقه فى أن ذوى الأرحام ليسوا أولياء فى النكاح وأن الأولياء فى ذلك العصبة، هو أن الولى لما كان مستحقًا بالتعصيب لم يكن للرحم مدخل فيه لعدم التعصيب، كذلك عقد النكاح؛ لأن ذلك بولاية التعصيب. قال ابن المنذر: وقوله: (فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن) [البقرة: 232] ، دليل على أن الأولياء من العصبة؛ لأن معقلاً لما منع أخته من التزويج نزلت فيه هذه الآية، فتلاها عليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .(7/250)
واختلفوا من أولى بالنكاح الولى أو الوصى؟ فقال ربيعة، ومالك، والثورى، وأبو حنيفة: الوصى أولى. وقال الشافعى: الولى أولى به؛ لأنه لا ولاية للوصى على الصغير. والحجة للقول الأول أن الأب لو جعل ذلك إلى رجل بعينه فى حياته لم يكن لسائر الأولياء الاعتراض عليه مع بقاء الأب، فكذلك بعد موته، إلا أن مالكًا قال: لا يزوج الوصى اليتيمة قبل البلوغ، إلا أن يكون أبوها أوصى إليه أن يزوجها قبل البلوغ من رجل بعينه فيجوز، وينقطع عنها ما لها من المشورة عند بلوغها. وذكر ابن القصار، قال: ومن أصحابنا من قال: إن الموصى إذا قال: زوج بناتى ممن رأيت أنه يقوم مقام الأب فى تزويج الصغيرة، وفى تزويج البكر البالغ بغير إذنها، وهو يتخرج على مذهب مالك، وهو إذا قالت اليتيمة لوليها: زوجنى ممن رأيت، فزوجها ممن اختار، أو من نفسه ولم يعلمها بعين الرجل قبل العقد، فإنه يلزمها ذلك.
- باب لا يُنْكِحُ الأبُ وَغَيْرُهُ الْبِكْرَ وَلاَ الثَّيِّبَ إِلا بِرِضَاهَا
/ 32 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (لا تُنْكَحُ الأيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ) ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ إِذْنُهَا؟ قَالَ: (أَنْ تَسْكُتَ) .(7/251)
/ 33 - وفيه: عَائِشَةَ، [أَنَّهَا قَالَتْ] : يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحِى، قَالَ: (رِضَاهَا صَمْتُهَا) . قال ابن المنذر: فى هذا الحديث النهى عن نكاح الثيب قبل الاستئمار، وعن نكاح البكر قبل الاستئذان، ودل هذا الحديث على أن البكر التى أمر باستئذانها البالغ، إذ لا معنى لاستئذان من لا إذن لها، ومن سكوتها وسخطها سواء. اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث، فقالت طائفة: لا يجوز للأب أن ينكح البالغ من بناته بكرًا كانت أو ثيبًا إلا بإذنها، قالوا: والأيم التى لا زوج لها، وقد تكون بكرًا وثيبًا، وظاهر هذا الحديث يقتضى أن تكون البكر لا ينكحها وليها أبًا كان أو غيره حتى يستأمرها، وذلك لا يكون إلا فى البوالغ لما دل عليه الحديث، ولتزويج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عائشة وهى صغيرة. وهذا قول الثورى، والأوزاعى، وأبى حنيفة، وأصحابه، وأبى ثور، واحتجوا بهذا الحديث؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال قولاً عامًا: (لا تنكح البكر حتى تستأذن ولا الثيب حتى تستأمر) ، وكل من عقد نكاحًا على غير ما سنه النبى، عليه السلام، فهو باطل، ودل الحديث على أن البكر إذا نكحت قبل إذنها بالصمت أن النكاح باطل، كما يبطل نكاح الثيب قبل أن تستأمر. وقالت طائفة: للأب أن يزوج البكر بغير إذنها صغيرة كانت أو كبيرة، ولا يزوج الثيب إلا بإذنها، وهو قول ابن أبى ليلى، ومالك، والليث، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وقال أبو قرة:(7/252)
سألت مالكًا عن قول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (البكر تستأذن فى نفسها) ، أيدخل فى هذا الأب؟ قال: لا، لم يعن بهذا الأب إنما عنى به غير الأب. وإنكاح الأب جائز على الصغار ولا خيار لواحدة منهن بعد البوغ. وقال ابن حبيب: وقد ساوى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بين البكر والثيب فى مشاورتهما فى أنفسهما، ولم يفرق بينهما إلا فى الجواب بالرضا، فإنه جعل جواب البكر بالرضا فى صماتها لاستحيائها، وجعل جوابها بالكراهة لذلك فى الكلام؛ لأنه لا حياء عليها فى كراهيتها كما يكون الحياء فى رضاها، ولم يلزم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الثيب الرضا بالصمات حتى تتكلم بالرضا لمفارقتها فى الحياء حال البكر لما تقدم من نكاحها، والدليل على أن المراد باستئمار البكر غير ذات الأب ما روى أبو نعيم، قال: حدثنا يونس بن أبى إسحاق، قال: حدثنى أبو بردة بن أبى موسى، عن أبيه، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (تستأمر اليتيمة فى نفسها، فإن سكتت فهو إذنها) ، ففرق بتسميته إياها يتيمة بينها وبين من لها أب. فإذا كانت ثيبًا، فيلزم الأب مؤامرتها، ولا يجوز نكاحه عليها بغير إذنها. وأما قول الكوفيين: الأيم التى لا زوج لها وقد تكون بكرًا، فالجواب أن العرب وإن كانت تسمى كل من لا زوج لها أيمًا فهو على الاتساع وأصل الأيمة عدم الزوج بعد أن كان، لكن المراد بالأيم فى هذا الحديث الثيب، والدليل على ذلك أنه قد(7/253)
روى جماعة عن مالك: (والثيب أحق بنفسها من وليها) ، مكان قوله: (الأيم أحق بنفسها) ، ثم قال: (والبكر تستأذن) ، فذكر البكر بعد ذكره الأيم، فدل أنها الثيب، ولو كانت الأيم فى هذا الحديث البكر لبطل الولى فى النكاح ولكانت كل بكر لا زوج لها أحق بنفسها من وليها، وكان هذا التأويل ردًا لقوله تعالى: (فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن) [البقرة: 232] ، فخاطب بذلك الأولياء. واختلفوا فى الثيب الصغيرة، فقال مالك وأبو حنيفة: يزوجها أبوها جبرًا كالبكر، وسواء أصيبت بنكاح أو زنا. وقال الشافعى: لا يزوجها إلا بإذنها، وسواء جومعت بنكاح أو زنا. ووافقه أبو يوسف ومحمد إذا كان الوطء بزنا، واعتلوا بأنها إذا جربت الرجال كانت أعرف بحظها من الولى، فوجب أن يكون الأمر لها. واحتج الأولون، فقالوا: لما كانت محجورًا عليها فى مالها حجر الصغير جاز أن يجبرها على النكاح، وأيضًا فإنها قد ساوت البكر الصغيرة فى أنها لا يصح اختيارها، فلا معنى لاستئمارها.
- باب إِذَا زَوَّجَ ابْنَتَهُ وَهِىَ كَارِهَةٌ فَنِكَاحُهُ مَرْدُودٌ
/ 34 - فيه: خَنْسَاءَ بِنْتِ خِذَامٍ، أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهْىَ ثَيِّبٌ، فَكَرِهَتْ ذَلِكَ، فَأَتَتْ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَرَدَّ نِكَاحَهُ.(7/254)
اتفق أئمة الفتوى بالأمصار على أن الأب إذا زوج ابنته الثيب بغير رضاها أنه لا يجوز ويرد، واحتجوا بحديث خنساء، وشذ الحسن البصرى، والنخعى، فخالفا الجماعة، فقال الحسن: نكاح الأب جائز على ابنته بكرًا كانت أو ثيبًا، كرهت أو لم تكره. وقال النخعى: إن كانت الابنة فى عياله زوجها ولم يستأمرها وإن لم تكن فى عياله وكانت نائية عنه استأمرها. وإن لم يكن أحد من الأئمة مال إلى هذين القولين لمخالفتهما للسنة الثابتة فى خنساء وغيرها، وما خالف السنة فهو مردود. واختلف الأئمة القائلون بحديث خنساء إن زوجها بغير إذنها، ثم بلغها فأجازت، فقال إسماعيل القاضى: أصل قول مالك أنه لا يجوز إن أجازته إلا أن يكون بالقرب، كأنه فى فور واحد، ويبطل إذا بعد؛ لأن عقده عليها بغير أمرها ليس بعقد ولا يقع فيه طلاق. وقال الكوفيون: إذا أجازته جاز، وإذا أبطلته بطل. وقال الشافعى، وأحمد، وأبو ثور: إذا زوجها بغير إذنها فالنكاح باطل وإن رضيت؛ لأن النبى، عليه السلام، رد نكاح خنساء ولم يقل إلا أن تجيزه.
- باب تَزْوِيجِ الْيَتِيمَةِ لِقَوْلِهِ تَعالَى: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِى الْيَتَامَى فَانْكِحُوا) [النساء: 3]
/ 35 - فيه: عَائِشَةَ،) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِى الْيَتَامَى (إِلَى قَوْلِهِ: (مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) [النساء: 36] ، قَالَتْ: هى الْيَتِيمَةُ التِى تَكُونُ فِى حَجْرِ(7/255)
وَلِيِّهَا، فَيَرْغَبُ فِى جَمَالِهَا وَمَالِهَا، وَيُرِيدُ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ صَدَاقِهَا، فَنُهُوا عَنْ نِكَاحِهِنَّ إِلا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ فِى إِكْمَالِ الصَّدَاقِ، فَأُمِرُوا بِنِكَاحِ مَنْ سِوَاهُنَّ مِنَ النِّسَاءِ. معنى هذا الباب أن الولى شرط فى النكاح؛ لمخاطبة الله الأولياء بإنكاح اليتامى إذا خافوا ألا يقسطوا فيهن، وقد تقدم هذا الحديث فى باب من قال: لا نكاح إلا بولى، واحتج أبو حنيفة، ومحمد بن الحسن، بهذه الآية فى أنه يجوز للولى أن يزوج من نفسه اليتيمة التى لم تبلغ؛ لأن الله لما عاتب الأولياء أن يتزوجوهن إذا كن من أهل المال والجمال إلا على سنتهن من الصداق، وعاتبهم على ترك نكاحهن إذا كن قليلات المال والجمال استحال أن يكون ذلك منه تعالى فيمن لا يجوز نكاحه؛ لأنه لا يجوز أن يعاتب أحد على ترك ما هو حرام عليه، ألا ترى أنه أمر وليها أن يقسط لها فى صداقها، ولو أراد بذلك بالغًا لما كان لذكره أصل سنتها فى الصداق معنى، إذ كان له أن يراضيها على ما تشاء ثم يتزوجها على ذلك، فيكون ذلك له حلالاً كما قال الله تعالى: (فإن طبن لكم عن شىء منه نفسًا فكلوه هنيئًا مريئًا) [النساء: 4] . فثبت أن التى أمر أن يبلغ بها أعلى سنتها فى الصداق هى التى لا أمر لها فى صداقها المولى عليها، وهى غير بالغ، ولا يجوز عند مالك والشافعى وجماعة أن يتزوج اليتيمة التى لا أب لها قبل البلوغ، ويفسخ النكاح عند مالك قبل الدخول وبعده، وقد تقدم الاختلاف فى هذه المسألة فى باب تزويج الصغار.(7/256)
وكان من حجة من خالف أبا حنيفة فى ذلك أنه قد يكون فى اليتامى من تجوز حد البلوغ وبعده وهى سفيهة، لا يجوز بيعها ولا شىء من أفعالها، فأمر تعالى أولياءهن بالإقساط لهن فى الصدقات، فلم تدل الآية على جواز نكاح اليتيمة غير البالغ كما زعم أبو حنيفة، وليس هذا أولى بالتأويل ممن عارضه، وتأويل الآية فى اليتيمة البالغ السفيهة.
- باب إِذَا قَالَ الْخَاطِبُ لِلْوَلِىِّ: زَوِّجْنِى فُلانَةَ، فَقَالَ: قَدْ زَوَّجْتُكَ بِكَذَا وَكَذَا، جَازَ النِّكَاحُ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ الزَوج: رَضيت أَوْ قَبِلت
/ 36 - فيه: سَهْلِ، أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا، فَقَالَ: (مَا لِى الْيَوْمَ فِى النِّسَاءِ مِنْ حَاجَةٍ) ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَوِّجْنِيهَا، قَالَ: (مَا عِنْدَكَ) ؟ قَالَ: مَا عِنْدِى شَىْءٌ، قَالَ: (أَعْطِهَا، وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ) ، قَالَ: مَا عِنْدِى قَالَ: (فَمَا عِنْدَكَ مِنَ الْقُرْآنِ) ؟ قَالَ: كَذَا وَكَذَا، قَالَ: (قَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ) . وترجم له: (باب إذا قال للولى زوجنى فلانة، فمكث ساعة، أو قال: ما معك من القرآن؟ قال: معى كذا وكذا، أو لبثا، ثم قال: زوجتكها، فهو جائز. قال المهلب: بساط الكلام ومفهوم القصة أغنى فى هذا الحديث عن أن يوقف الخاطب على الرضا، وليس هذا فى كل نكاح، بل يجب أن يسأل الزوج أرضى بالصداق والشرط أم لا؟ إلا أن يكون(7/257)
مثل هذا المعسر الراغب فى النكاح، فلا يحتاج إلى توقيفه على الرضا لعلمهم به.
- باب لا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَنْكِحَ أَوْ يَدَعَ
/ 37 - فيه: ابْن عُمَر، نَهَى النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَتْرُكَ الْخَاطِبُ قَبْلَهُ، أَوْ يَأْذَنَ لَهُ الْخَاطِبُ. / 38 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ) ، إلى قوله: (وَلا يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَنْكِحَ أَوْ يَتْرُكَ) . قال ابن المنذر: النهى فى هذا الحديث أن يخطب الرجل على خطبة أخيه نهى تحريم لا نهى تأديب، لما روى الليث، عن ابن أبى حبيب، عن عبد الرحمن بن شماسة، أنه سمع عقبة بن عامر، أنه سمع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: (المؤمن للمؤمن، لا يحل لمؤمن أن يخطب على خطبة أخيه حتى يذر، ولا يحل له أن يبتاع على بيع أخيه حتى يذر) . قال الطبرى: اختلف أهل العلم فى تأويل هذا الحديث، فقال بعضهم: نهيه عليه السلام أن يخطب على خطبة أخيه منسوخ بخطبته، عليه السلام، لأسامة فاطمة بنت قيس على خطبة معاوية وأبى الجهم. وقال آخرون: هو حكم ثابت لم ينسخه شىء، وهو غير جائز لرجل خطبة امرأة قد خطبها غيره حتى يترك ذلك، هذا قول عقبة بن عامر، وعبد الله بن عمر، وابن هرمز. واحتجوا بعموم الحديث. وقال آخرون: نهيه عليه السلام أن يخطب على خطبة أخيه يريد فى حال رضا المرأة به وركونها إليه.(7/258)
وقد فسر مالك هذا الحديث فى الموطأ، فقال: معنى النهى عن ذلك إذا كانت المرأة قد ركنت إليه واتفقا على صداق وتراضيا، فتلك التى نهى النبى (صلى الله عليه وسلم) أن يخطبها على خطبة أخيه، فأما إذا لم تركن إليه ولم يوافقها، فلا بأس أن يخطبها غيره. قال أبو عبيد: وقول مالك هو عندنا وجه الحديث، وبه يقول أهل المدينة، وأهل العراق، أو أكثرهم، واحتج الشافعى والطحاوى بأن النبى، عليه السلام، أباح الخطبة لأسامة على خطبة معاوية وأبى جهم حين خطبا فاطمة بنت قيس، وكان بينًا أن الحالة التى خطب فيها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فاطمة على أسامة غير الحال التى نهى عن الخطبة فيها حتى تصح معانى الآثار ولا تتضاد. واختلف أصحاب مالك إذا أظهرت الرضا ولم يتفقا على صداق، فقال أكثرهم: لا يخطبها؛ لأنه قد يكون نكاحًا ثابتًا إذا تم الرضا وإن لم يسم الصداق، وهو نكاح التفويض، إلا ابن نافع، فإنه قال: لا بأس أن يخطبها ما لم يتفقا على صداق، والقول الأول أولى. واختلف قول مالك وأصحابه إذا ركن إليها، ثم خطب عليه غيره وتزوجها، فروى عنه أنه يفسخ النكاح قبل الدخول، ولا يفسخ بعد الدخول وبئس ما صنع، وذكر عنه ابن المواز أنه يفسخ النكاح على كل حال، كما يفسخ البيع إذا ساوم على سومه، وهو قول أهل الظاهر، وروى عنه أنه لا يفسخ النكاح أصلاً، وهكذا روى سحنون عن ابن القاسم أنه لا يفسخ النكاح ولا البيع ويؤدب فاعله. وقال الكوفيون والشافعى: لا يفسخ، واحتج ابن القصار(7/259)
لقول مالك أنه يفسخ، فقال: النهى يقتضى فساد المنهى عنه، وإذا كان إيقاع المنهى عنه فاسدًا لم تحصل به الاستباحة؛ لقوله عليه السلام: (من أحدث فى أمرنا ما ليس منه فهو رد) ، واحتج ابن حبيب لقوله: إنه لا يفسخ، فقال: ليس يشبه إذا اشترى على شراء أخيه؛ لأن ملك النكاح لا ينتقل بالركون خاصة، هكذا سمعت مطرفًا، وابن الماجشون يقولان: وقال أصبغ، عن ابن القاسم مثله، وقد كان ابن نافع يرى فيه الفسخ قبل البناء وبعده وليس بشىء. قال غيره: والدليل على جواز النكاح أنه لم يملك بضعها بالركون دون العقد، ولا كانت له بذلك زوجة تجب بينهما الموارثة ويقع الطلاق. وأما قولهم: إن النهى يقتضى فساد المنهى عنه، فنقول: العقد صحيح والمنهى عنه الخطبة خاصة ليس العقد كما لو فجر بها أو جردها عن ثيابها ثم نكحها. وأما قوله: إنه يفسخ قبل الدخول ويثبت بعده، فهو من باب إعادة الصلاة فى الوقت ليدرك العمل على كماله وسننه. قال ابن المنذر: ونهيه عليه السلام أن يخطب على خطبة أخيه المسلم يدل على إباحة أن ينكح على خطبة اليهودى والنصرانى؛ لأن الأمور كانت على الإباحة حتى نهى عن الخطبة على المسلم، فثبتت الإباحة على من ليس بمسلم؛ لأن المؤمنين إخوة.(7/260)
- باب تَفْسِيرِ تَرْكِ الْخِطْبَةِ
/ 39 - فيه: ابْن عُمَر، أَنَّ عُمَرَ حِينَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ، لَقِى أَبَا بَكْرٍ، فَقُلْتُ له: إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ، فَلَبِثْتُ لَيَالِىَ، ثُمَّ خَطَبَهَا النَّبِىّ، فَلَقِيَنِى أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: لَمْ يَمْنَعْنِى أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ فِيمَا عَرَضْته إِلا أَنِّى قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَدْ ذَكَرَهَا، فَلَمْ أَكُنْ لأفْشِىَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَلَوْ تَرَكَهَا لَقَبِلْتُهَا. إن قال قائل: كيف ترجم البخارى لهذا الحديث تفسير ترك الخطبة، وقد تقدم من مذاهب العلماء أن الخطبة جائزة على خطبة غيره إذا لم تركن إليه، والنبى (صلى الله عليه وسلم) حين أخبر بذلك أبا بكر لم يكن أعلم بهذا عمر فضلاً أن تركن إليه؟ فالجواب: أن الترجمة صحيحة والمعنى الذى قصد البخارى معنى دقيق يدل على ثقوب ذهنه ورسوخه فى الاستنباط، وذلك أن أبا بكر علم أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) إذا خطب إلى عمر ابنته أنه لا يصرفه ولا يرغب عنه، بل يرغب فيه ويشكر الله على ما أنعم عليه من مصاهرته له وامتزاجه به، فقام علم أبى بكر الصديق بهذه الحالة مكان الركون والتراضى منهما، فكذلك كل من علم أنه لا يصرف إذا خطب لا تنبغى الخطبة على خطبته حتى يترك كما فعل أبو بكر، رضى الله عنه.(7/261)
- باب الْخُطْبَةِ
/ 40 - فيه: ابْن عُمَرَ، جَاءَ رَجُلانِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَخَطَبَا، فَقَالَ النَّبِىُّ عَلَيْهِ السَّلام: (إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا) . قال المؤلف: الخطبة عند الحاجة من الأمر القديم المعمول به، وروى عن ابن مسعود أنه قال: علمنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خطبة الحاجة: الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ثم يقرأ: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة. . .) [النساء: 1] الآية،) اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا. . . (إلى) عظيمًا) [الأحزاب: 70، 71] ،) اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) [آل عمران: 102] . قال المهلب: إنما استحبت فى خطبة النساء خطبة من الكلام ليسهل بها الخاطب أمره ويرغب فيما دعا إليه، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قد شبه حسن التواصل إلى الحاجة بحسن الكلام فيها، واستنزال المرغوب إليه بالبيان بالسحر، وإنما هذا من أجل ما فى النفوس من الأنفة فى أمر الوليات، فقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : إن حسن التواصل إلى هذا الذى تألف النفس منه حتى تحبب ذلك المستبشع وجه من وجوه السحر الحلال. واستحب جمهور العلماء الخطبة فى النكاح، فقال مالك: وهى من الأمر القديم وما قل منها فهو أفضل. قال ابن حبيب:(7/262)
كانوا يستحبون أن يحمد الله الخاطب ويصلى على نبيه ثم يخطب المرأة، ثم يجيبه المخطوب إليه بمثل ذلك من حمد الله والصلاة على نبيه، ثم يذكر إجابته، وأوجبها أهل الظاهر فرضًا، واحتجوا بأن النبى (صلى الله عليه وسلم) خطب حين زوج فاطمة، وأفعاله على الوجوب. واستدل الفقهاء على أنها غير واجبة بقوله: (قد زوجتكها بما معك من القرآن) ، ولم يخطب، وبقوله: (كل أمر ذى بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع) ، أى ناقص، ولم يقل: إن العقد لا يتم لأنه زوج المرأة ولم يخطب.
- باب ضَرْبِ الدُّفِّ فِى النِّكَاحِ وَالْوَلِيمَةِ
/ 41 - فيه: الرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ، جَاءَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَدَخَلَ حِينَ بُنِىَ عَلَىَّ، فَجَلَسَ عَلَى فِرَاشِى كَمَجْلِسِكَ مِنِّى، فَجَعَلَتْ جُوَيْرِيَاتٌ لَنَا يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ، وَيَنْدُبْنَ مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِى يَوْمَ بَدْرٍ؛ إِذْ قَالَتْ إِحْدَاهُنَّ: وَفِينَا نَبِىٌّ يَعْلَمُ مَا فِى غَدٍ، فَقَالَ: (دَعِى هَذِهِ، وَقُولِى بِالَّذِى كُنْتِ تَقُولِينَ) . قال المهلب: السنة إعلان النكاح بالدف والغناء المباح؛ ليكون ذلك فرقًا بينه وبين السفاح الذى يستسر به. وفيه: إقبال العالم والإمام إلى العرس وإن كان فيه لعب ولهو ما لم يخرج اللهو عن المباحات فيه. وفيه: جواز مدح الرجل فى وجهه بما فيه، وإنما المكروه من ذلك مدحه بما ليس فيه.(7/263)
- باب قَوْلِ اللَّهِ: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) [النساء: 4] وَكَثْرَةِ الْمَهْرِ وَأَدْنَى مَا يَجُوزُ مِنَ الصَّدَاقِ، وَقَوْلِهِ: (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا) [النساء: 20] وَقَوْلِهِ تعَالَى: (أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) [النساء: 20]
وَقَالَ سَهْلٌ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ) . / 42 - فيه: أَنَس، أَنَّ ابْن عَوْف تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ من ذهب، فَرَأَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بَشَاشَةَ الْعُرْسِ، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: إِنِّى تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ من ذهب. قال ابن المنذر: هذه الآيات دالة على وجوب المهر. قال المؤلف: ولا حد لأكثر المهر عند العلماء؛ لقوله تعالى: (وآتيتم إحداهن قنطارًا) [النساء: 20] ، ذكر عبد الرزاق، عن قيس بن الربيع، عن أبى حصين، عن أبى عبد الرحمن السلمى، قال: قال عمر بن الخطاب: لا تغالوا فى صدقات النساء، فقالت امرأة: ليس ذلك لك يا عمر، إن الله قال: (وآتيتم إحداهن قنطارًا (، وكذلك فى قراءة عبد الله: ولا يحل لكم أن تأخذوا منه شيئًا، فقال: إن امرأة خاصمت عمر فخصمته. وروى ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم التيمى، قال: أصدق النبى (صلى الله عليه وسلم) كل امرأة من نسائه اثنتى عشرة أوقية ونشا، والنش نصف أوقية، فذلك خمسمائة درهم. قال ابن شهاب: اثنتى عشرة أوقية، فذلك أربعمائة درهم وثمانون درهمًا. وروى عن عمر بن الخطاب أنه أصدق أم كلثوم بنت على بن أبى طالب(7/264)
أربعين ألف درهم، وأن عمر أصدق صفية عشرة آلاف درهم، وعن ابن عباس وأنس مثله، وروى عن الحسن بن على أنه تزوج امرأة فأرسل إليها مائة جارية مع كل جارية ألف درهم. واختلفوا فى مقدار أقل الصداق الذى لا يجوز النكاح بدونه، فقال مالك: لا أرى أن تنكح المرأة بأقل من ربع دينار وهو ثلاثة دراهم كيلاً، وذلك أدنى ما يجب فيه القطع. وقال الكوفيون: لا يكون المهر أقل من عشرة دراهم كيلاً قياسًا على ما تقطع فيه اليد عندهم. وقال النخعى: أقله أربعون ردهمًا. وقال سعيد بن جبير: أقله خمسون درهمًا. وقال ابن شبرمة: خمسة دراهم. وقالت طائفة: لا حد فى أقل الصداق، ويجوز بما تراضوا عليه. وروى هذا عن سعيد بن المسيب، وسالم بن عبد الله، وعبد الله بن يسار، والقاسم بن محمد، وسائر فقهاء التابعين بالمدينة: ربيعة، وأبى الزناد، ويحيى بن سعيد، وابن أبى ذئب، ومن العراق ابن أبى ليلى، والحسن البصرى، وهو قول الثورى، والليث، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وقال الأوزاعى: كل نكاح وقع بدرهم فما فوقه لا ينقضه قاض. وقال الشافعى: ما كان ثمنًا لشىء أو أجرة جاز أن يكون صداقًا، واحتجوا بأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أجاز النكاح بخاتم حديد، وأجاز ابن وهب النكاح بدرهم وبنصف درهم، وقال الدراوردى لمالك: تعرقت فيها يا أبا عبد الله، يقول: ذهبت فيها مذهب أهل العراق.(7/265)
واحتج أصحاب مالك، والكوفيون بأن البضع عضو مستباح ببدل من المال، فلابد أن يكون مقدرًا، قياسًا على القطع، واحتجوا بأن الله لما شرط عدم الطول فى نكاح الإماء وأباحه لمن لم يجد طولاً، دل على أن الطول لا يجده كل الناس، ولو كان الفلس والدانق والقبضة من الشعير ونحوه طولاً لما عدمه أحد، والطول فى معنى الآية المال، ولا يقع عندهم اسم مال على أقل من ثلاثة دراهم، فوجب أن يمنع من استباحة الفروج بالشىء التافه. والنواة عند أهل اللغة: زنة خمسة دراهم كيلاً، وأظن الذى قال: إن أقل الصداق خمسة دراهم إنما أخذه من حديث النواة، وهذه غفلة شديدة؛ لأن زنة النواة ثلاثة مثاقيل ونصف من الذهب، فكيف يحتج بها من جعل أقل الصداق خمسة دراهم من فضة.
30 - باب التَّزْوِيجِ عَلَى الْقُرْآنِ وَبِغَيْرِ صَدَاقٍ
/ 43 - فيه: سَهْل، إِنّ امْرَأَةٌ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَكَ، فَرَ فِيهَا رَأْيَكَ، فَلَمْ يُجِبْهَا بشَىْء، ففعلت ذلك ثلاثًا، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْكِحْنِيهَا، قَالَ: (هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَىْءٍ) ؟ قَالَ: لا، قَالَ: (اذْهَبْ، فَاطْلُبْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ) ، فَذَهَبَ فَطَلَبَ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: مَا وَجَدْتُ شَيْئًا، وَلا خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، فَقَالَ: (هَلْ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ شَىْءٌ) ؟ قَالَ: مَعِى سُورَةُ كَذَا، وَسُورَةُ كَذَا، قَالَ: (اذْهَبْ فَقَدْ أَنْكَحْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ) .(7/266)
وترجم له: (باب الْمَهْرِ بِالْعُرُوضِ وَخَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ) . اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث، فذهب قوم إلى أن النكاح على سورة من القرآن مسماة جائز، وقالوا: معنى ذلك أن يعلمها تلك السورة، هذا قول الشافعى. وقال آخرون: لا يكون تعليم القرآن مهرًا، هذا قول مالك، والليث، وأبى حنيفة، وأصحابه، والمزنى، إلا أن أبا حنيفة، قال: إذا تزوج على ذلك فالنكاح جائز، وهو فى حكم من لم يسم لها مهرًا، فلها مهر مثلها إن دخل بها، وإن لم يدخل بها فلها المتعة. وقال الشافعى: قوله عليه السلام: (التمس شيئًا) ، أو: (هل عندك شىء) ، ثم قال: (قد زوجتكها بما معك من القرآن) ، يدل أنه يجوز أن يكون تعليم القرآن وسورة منه مهرًا؛ لأن تعليم القرآن يصح أخذ الأجرة عليه، فجاز أن يكون صداقًا؛ لأنه التمس الصداق بالإزار وخاتم الحديد ثم بتعليم القرآن. قال: ولا فائدة لذكر القرآن فى الصداق غير ذلك، واحتج عليه الطحاوى، فقال: قوله عليه السلام: (قد زوجتكها بما معك من القرآن) ، خاص للنبى (صلى الله عليه وسلم) لا يجوز لغيره، وذلك أن الله أباح لرسوله (صلى الله عليه وسلم) ملك البضع بغير صداق، ولم يجعل ذلك لأحد غيره؛ لقوله تعالى: (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبى إن أراد النبى أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين) [الأحزاب: 50] ، فكان له عليه السلام مما خصه الله من ذلك أن يملك غيره ما كان له ملكه بغير صداق، فيكون ذلك خاصًا له كما قال الليث: لا يجوز لأحد بعد النبى (صلى الله عليه وسلم) أن يتزوج بالقرآن، والدليل على صحة ذلك أنها قالت لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) : قد وهبت نفسى لك، فقام الرجل، فقال: إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها،(7/267)
ولم يذكر فى الحديث أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) شاورها فى نفسها، ولا أنها قالت: زوجنى منه، فدل أنه عليه السلام كان له أن يهبها بالهبة التى جاز له نكاحها. فإن قيل: قد يحتمل أن يكون فى الحديث سؤال من النبى (صلى الله عليه وسلم) أن يزوجها منه، ولم ينقل فى الحديث. قيل: وكذلك يحتمل أن يكون النبى (صلى الله عليه وسلم) جعل لها مهرًا غير السور، ولم ينقل فى الحديث، وليس أحد التأويلين أولى من صاحبه، ويحتمل وجهًا آخر أن يكون النبى (صلى الله عليه وسلم) زوجها بما معه من القرآن لحرمته، وعلى وجه التعظيم للقرآن وأهله، لا على أنه مهر بدليل ما روى فى الحديث من قوله: (أتقرؤهن عن ظهر قلب؟) ، قال: نعم، قال: (قد زوجتكها) ، فراعى فيه حرمة القرآن، كما زوج النبى (صلى الله عليه وسلم) أبا طلحة أم سليم على إسلامه، ولم يكن إسلامه مهرًا لها فى الحقيقة، وإنما معنى تزويجها على إسلامه، أى أنه تزوجها لإسلامه. قال غيره: ويحتمل أن يريد بقوله: (ولو خاتمًا من حديد) ، تعجيل شىء يقدمه من الصداق، وإن كان قليلاً كقوله: (بعها ولو بضفير) ، والدليل على أنه أراد تعجيل شىء من الصداق أنه كان يجوز أن يزوجه على مهر يكون فى ذمته، وكان من عادتهم أن يقدموا شيئًا من الصداق؛ لأنه لم تجر عادتهم فى وقته، عليه السلام، فى المهور إلا بالشىء الثقيل، وإذا احتمل هذا كله لم يجعل أصلاً فى استباحة الفروج بالشىء الحقير الذى لا يعدمه أحد ولا بمهر مجهول. قال الطحاوى: والدليل على أنه لم يتزوجها على أن يعلمها السورة عوضًا من بضعها، أنا رأينا النكاح إذا وقع على مهر مجهول(7/268)
لم يثبت المهر، ورد حكم المرأة إلى حكم من لم يسم لها مهر، فاحتيج المهر أن يكون معلومًا كما تكون الأثمان فى البياعات معلومة، وكما تكون الأجرة فى الإجارات معلومة، وكان الأصل المجتمع عليه لو أن رجلاً استأجر رجلاً على أن يعلمه سورة من القرآن سماها بدرهم أن ذلك لا يجوز، وكذلك إذا استأجره على أن يعلمه شعرًا بعينه بدرهم لم يجز؛ لأن الإجارات لا تجوز إلا على أحد معنيين، إما على عمل بعينه مثل غسل ثوب بعينه أو خياطته، وإما على وقت معلوم، لابد أن يكون الوقت معلومًا كما يكون العمل معلومًا، وكان إذا استأجره على تعليم سورة، فتلك إجارة لا على وقت معلوم ولا على عمل معلوم، وإنما استأجره على أن يعلمه، وقد يتعلم بقليل التعليم وكثيره، وفى قليل الأوقات وكثيرها، وكذلك لو باعه داره على أن يعلمه سورة من القرآن لم يجز للمعانى التى ذكرناها فى الإجارات، وإذا كان التعليم لا تملك به المنافع ولا أعيان الأموال ثبت بالنظر ألا تملك به الأبضاع، والله الموفق.
31 - باب الشُّرُوطِ فِى النِّكَاحِ
وَقَالَ عُمَرُ: مَقَاطِعُ الْحُقُوقِ عِنْدَ الشُّرُوطِ. وَقَالَ الْمِسْوَرُ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، وَذَكَرَ صِهْرًا لَهُ، فَأَثْنَى عَلَيْهِ فِى مُصَاهَرَتِهِ، فَأَحْسَنَ، قَالَ: حَدَّثَنِى، فَصَدَقَنِى، وَوَعَدَنِى فَوَفَانِى. / 44 - فيه: عُقْبَةَ بْن عامر، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (أَحَقُّ مَا أَوْفَيْتُمْ مِنَ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ) .(7/269)
اختلف العلماء فى الرجل يتزوج المرأة ويشرط لها ألا يخرجها من دارها، ولا يتزوج عليها ولا يتسرى وشبه ذلك من الشروط المباحة. قال ابن المنذر: فقالت طائفة: يلزمه الوفاء بما شرط من ذلك. ذكر عبد الرزاق، وابن المسيب، عن عمر بن الخطاب، أن رجلاً شرط لزوجته ألا يخرجها، فقال عمر: لها شرطها. وقال: المسلمون على شروطهم عند مقاطع حقوقهم. وقال عمرو بن العاص: أرى أن تفى لها بشرطها. وروى مثله طاوس، وجابر بن زيد، وهو قول الأوزاعى، وأحمد، وإسحاق؛ لقول عمر: مقاطع الحقوق عند الشروط، ولقوله عليه السلام: (أحق الشروط أن يوفى بها ما استحللتم به الفروج) ، وحملوا الحديث على الوجوب. وقالت طائفة: لا يلزمه شىء من هذه الشروط. روى ابن وهب، عن الليث، عن عمرو ابن الحارث، عن كثير بن فرقد، عن ابن السباق، أن رجلاً تزوج امرأة على عهد عمر، وشرط لها ألا يخرجها من دارها، فوضع عنه عمر بن الخطاب الشرط، وقال: المرأة مع زوجها. وعن على بن أبى طالب مثله، وقال: شرط الله قبل شروطهم، ولم يره شيئًا. وممن هذا مذهبه عطاء، والشعبى، وسعيد بن المسيب، والحسن، والنخعى، وابن سيرين، وربيعة، وأبو الزناد، وقتادة، والزهرى، وهو قول مالك، والليث، والثورى، وأبى حنيفة، والشافعى، وقال عطاء: إذا شرطت أنك لا تنكح ولا تتسرى ولا تذهب ولا تخرج بها، يبطل الشرط إذا نكحها. وحملوا حديث عقبة على الندب، واستدلوا على ذلك بقوله عليه السلام فى صهره: (حدثنى فصدقنى، ووعدنى فوفى لى) ،(7/270)
قالوا: وإنما استحق المدح؛ لأنه وفى له متبرعًا ومتطوعًا لا فيما لزمه الوفاء به على سبيل الفرض. قال ابن المنذر: وأصح ذلك قول من أبطل الشرط وأثبت النكاح، لقوله عليه السلام فى قصة بريرة: (كل شرط ليس فى كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، فأجاز البيع وأبطل الشرط، فلما أبطل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من الشروط ما ليس فى كتاب الله، كان من اشترط شروطًا خلاف كتاب الله أولى أن تبطل. من ذلك أن الله أباح للرجال أن ينكحوا أربعًا، وأباح للرجل وطء ما ملكت يمينه؛ لقوله: (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين) [المؤمنون: 6] ، فإذا شرطت عليه الزوجة تحريم ما أحل الله له بطل الشرط وثبت النكاح. ولما كان للمرء إذا عقد نكاح امرأة أن ينقلها حيث يصلح أن تنقل إليه مثلها، ويسافر بها، كان اشتراطها عليه كارهًا غير أحكام المسلمين فى أزواجهم، وذلك غير لازم للزوج، فأما معنى قوله عليه السلام: (أحق الشروط أن يوفى بها ما استحللتم به الفروج) ، فيحتمل أن تكون المهور التى أجمع أهل العلم أن على للزوج الوفاء بها، ويحتمل أن يكون ما شرط على الناكح فى عقد النكاح مما أمر الله به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وإذا احتمل الحديث معان كان ما وافق ظاهر كتاب الله وسنن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أولى، وقد أبطل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كل شرط ليس فى كتاب الله، وهذا أولى معنييه. قال المؤلف: فإن كان فى شىء من هذه الشروط ليس بطلاق أو(7/271)
عتق وجب عليه ولزمه عند مالك والكوفيين، وعند كل من يرى الطلاق قبل النكاح بشرط النكاح لازمًا، وكذلك العتق، وهو قول عطاء، والنخعى، والجمهور. قال النخعى: كل شرط فى نكاح فالنكاح يهدمه إلا الطلاق، ولا يلزم شىء من هذه الأيمان عند الشافعى؛ لأنه لا يرى الطلاق قبل النكاح لازمًا ولا العتق قبل الملك، واحتج بقوله: (كل شرط ليس فى كتاب الله فهو باطل) ، ومعناه ليس فى حكم الله وحكم رسوله لزوم هذه الشروط لإباحة الله تعالى أربعًا من الحرائر وإباحته ما شاء بملك اليمين، وإباحته أن يخرج بامرأته حيث شاء، فكل شرط يحظر المباح فهو باطل.
32 - باب الشُّرُوطِ الَّتِى لا تَحِلُّ فِى النِّكَاحِ
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لا تَشْتَرِطِ الْمَرْأَةُ طَلاقَ أُخْتِهَا. / 45 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تَسْأَلُ طَلاقَ أُخْتِهَا؛ لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَهَا، فَإِنَّمَا لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا) . قال ابن حبيب: لم يبلغ العلماء بالشروط المكروهة إلى التحريم، وحملوا قوله عليه السلام: (لا تسأل المرأة طلاق أختها) ، على الندب، لا إن فعل ذلك فاعل يكون النكاح مفسوخًا، وإنما هو استحسان من العمل به، وفضل فى ترك ما كره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من ذلك. قال الطحاوى: أجاز مالك، والكوفيون، والشافعى، أن يتزوج المرأة(7/272)
على أن يطلق زوجته، وقالوا: إن تزوجها على ألف وأن يطلق زوجته، فعند الكوفيين النكاح جائز، فإن وفى بما قال فلا شىء عليه غير الألف، وإن لم يف أكمل لها مهر مثلها. وقال ربيعة، ومالك، والثورى: لها ما سمى لها وفى أو لم يف. وقال الشافعى: لها مهر المثل وفى أو لم يف. قال المؤلف: فإن قيل: قوله عليه السلام: (لا يحل لامرأة تسأل طلاق أختها) ، على ما ثبت فى هذا الباب يدل أن رواية من روى: (لا تسأل المرأة طلاق أختها) ، يراد به التحريم والتحتم، وليس معناه الندب كما قال ابن حبيب، وأن الطلاق إذا وقع بذلك غير لازم. قيل له: ليس كما توهمت، وليس إعلامه عليه السلام لنا تحريم ذلك على المرأة بموجب أن الطلاق إذا وقع غير لازم، وإنما فيه النهى للمرأة والتغليظ عليها ألا تسأل طلاق أختها، ولترض بما قسم الله لها، وليس سؤالها ذلك بزائد فى رزقها شيئًا لم يقدر لها. ودل نهيه عليه السلام المرأة عن اشتراطها طلاق أختها أن الطلاق إذا وقع بذلك ماض جائز، ولئن لم يكن ماضيًا لم يكن لنهيه عليه السلام عن ذلك معنى، وكان اشتراطها ذلك كلا اشتراطها، وقد تقدم فى كتاب الشروط، فى باب الشروط فى الطلاق شىء فى هذا المعنى.
33 - باب الصُّفْرَةِ لِلْمُتَزَوِّجِ
/ 46 - فيه: أَنَس، أَنَّ ابْن عَوْف جَاءَ إِلَى النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، وَبِهِ صُفْرَةٍ،(7/273)
فَسَأَلَهُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنَ الأنْصَارِ، قَالَ: (كَمْ سُقْتَ إِلَيْهَا؟) ، قَالَ: وَزْن نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ) . وفى الباب حديث أنس: أولم النبى، عليه السلام، بزينب وأوسع المسلمين خبزًا. . . الحديث. وليس يتعلق بشىء من الترجمة، وفى رواية النسفى: فيه باب قال المهلب: اختلف لفظ حديث أنس فى ذكر الصفرة، فروى: وبه أثر الصفرة. وروى: وبه وضر صفرة. وروى: فرأى النبى (صلى الله عليه وسلم) بشاشة العروس فسأله. وقد روى حماد بن سلمة، عن ثابت البنانى وحميد، عن أنس، فقالا فيه: وبه ردع من زعفران، فعلم أن تلك الصفرة مما التصق بجسمه من الثياب المزعفرة التى تلبسها العروس. قال المهلب: وقيل: إن من كان ينكح فى أول الإسلام كان يلبس ثوبًا مصبوغًا بصفرة علامة العرس والسرور، ألا ترى قوله فى هذا الحديث: فرأى النبى (صلى الله عليه وسلم) بشاشة العروس، ذكره فى باب قوله تعالى: (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة) [النساء: 4] ، وقيل: إنما كان يلبسها ليعينه الناس على وليمته ومؤنته، وقد قال ابن عباس: أحسن الألوان كلها الصفرة؛ لقوله تعالى: (صفراء فاقع لونها تسر الناظرين) [البقرة: 69] ، فقرن السرور بالصفرة، وكان عليه السلام يحب الصفرة، ألا ترى قول ابن عمر حين سئل عن صبغه بها، فقال: إنى رأيت النبى (صلى الله عليه وسلم) يصبغ بالصفرة، فأنا أصبغ بها وأحبها، وسيأتى من أحب الصفرة ومن كرهها من العلماء فى كتاب اللباس، إن شاء الله.(7/274)
وهذا الحديث يدل أن نهيه عليه السلام الرجال عن المزعفر ليس على وجه التحريم، وإنما ذلك فى وجه دون وجه.
34 - باب كَيْفَ يُدْعَى لِلْمُتَزَوِّجِ
/ 47 - فيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، رَأَى عَلَى عَبْدِالرَّحْمَنِ أَثَرَ صُفْرَةٍ، قَالَ: (مَا هَذَا) ؟ قَالَ: إِنِّى تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ؟ قَالَ: (بَارَكَ اللَّهُ لَكَ، أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ) . وإنما أراد بهذا الباب، والله أعلم، رد قول العامة عند العروس: بالرفاء والبنين على ما كانت تقول الجاهلية عند ذلك، وقد روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه نهى أن يقال ذلك للمتزوج من حديث عقيل بن أبى طالب، ذكره أبو عبيد والطبرى. فأدخل فى هذا الباب دعاء النبى، عليه السلام، بالبركة للمتزوج، وحديث عقيل رواه أشعث، عن الحسن، عن عقيل بن أبى طالب، أنه تزوج امرأة من بنى جشم، فقالوا: بالرفاء والبنين، فقال: لا تقولوا هكذا، ولكن قولوا كما قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (اللهم بارك لهم وعليهم) . قال الطبرى: إلا أن الحسن لم يسمع من عقيل، وقد حدث به عن الحسن غير الأشعث، فلم يرفعه إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) . قال الطبرى: والذى أختار من الدعاء ما صحت به الرواية عن النبى، عليه السلام، أنه قال: إذا رفأ الرجل بتزويج قال: بارك الله لك وبارك عليك، ورواه الدراوردى، عن سهيل، عن أبيه، عن أبى هريرة، عن النبى، عليه السلام، وغير محظور الزيادة على ذلك.(7/275)
35 - باب الدُّعَاءِ لِلنِّسْوَةِ اللاتِى يَهْدِينَ الْعَرُوسَ وَلِلْعَرُوسِ
/ 48 - فيه: عَائِشَةَ، تَزَوَّجَنِى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَتَتْنِى أُمِّى، فَأَدْخَلَتْنِى الدَّارَ، فَإِذَا نِسْوَةٌ مِنَ الأنْصَارِ فِى الْبَيْتِ، فَقُلْنَ: عَلَى الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ، وَعَلَى خَيْرِ طَائِرٍ. قال المؤلف: قد روى هذا الحديث عن النبى (صلى الله عليه وسلم) من رواية ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن معاذ بن جبل، قال: شهد النبى (صلى الله عليه وسلم) إملاك رجل من الأنصار، فقال: (على الألفة والخير والطير الميمون والسعة فى الرزق، بارك الله لكم) . وروى يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، قال: دعوت يونس بن يزيد إلى عرسى فسمعته يقول: سمعت ابن شهاب فى عرس لصاحبه يقول: بالجد الأسعد والطائر الأيمن. وزوج ابن عمر بنته سودة من عروة بن الزبير، فقال: قد زوجتكها، جمع الله ألفتكما على طاعته وطاعة رسوله.
36 - باب مَنْ أَحَبَّ الْبِنَاءَ قَبْلَ الْغَزْوِ
/ 49 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (غَزَا نَبِىٌّ مِنَ الأنْبِيَاءِ، فَقَالَ لِقَوْمِهِ: لا يَتْبَعْنِى رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِىَ بِهَا، وَلَمْ يَبْنِ بِهَا) . قال المهلب: تمام الحديث: (أو رجل بنى دارًا ولم يسكنها) .(7/276)
وفيه من الفقه: وجوب استثبات البصائر فى الغزو والحض على جمع الكلمة والنيات؛ لأن الكلمة إذا اجتمعت واختلفت النيات كان ذريعة إلى اختلاف ذات البين، وقد جعل الله الخذلان فى الاختلاف، وجعل الاعتصام فى الجماعة، فقال: (واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا) [آل عمران: 103] ، فلما كان قلب الرجل معلقًا بابتنائه بأهله أو ببنيان يخشى فساده قبل تمامه أو يحب الرجوع إليه ولم يوثق بثباته عند الحرب فقطعت الذريعة فى ذلك.
37 - باب الْبِنَاءِ فِى السَّفَرِ
/ 50 - فيه: أَنَس، أَقَامَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بَيْنَ خَيْبَرَ وَالْمَدِينَةِ ثَلاثًا يُبْنَى عَلَيْهِ بِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَىٍّ، فَدَعَوْتُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى وَلِيمَتِهِ، فَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خُبْزٍ وَلا لَحْمٍ، أَمَرَ بِالأنْطَاعِ، فَأُلْقِىَ فِيهَا مِنَ التَّمْرِ وَالأقِطِ وَالسَّمْنِ، فَكَانَتْ وَلِيمَتَهُ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ؟ فَقَالُوا: إِنْ حَجَبَهَا فَهِىَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ لَمْ يَحْجُبْهَا فَهِىَ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ، فَلَمَّا ارْتَحَلَ وَطَّى لَهَا خَلْفَهُ، وَمَدَّ الْحِجَابَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ. قال المهلب: فيه من الفقه جواز البناء فى السفر كما ترجم. وفيه: جواز بقاء المسافرين على العالم والسلطان اليومين والثلاثة،(7/277)
وليس ذلك من الحابس ظلمًا لهم ولا قطعًا بهم عن سفرهم؛ لأن الثلاثة الأيام سفر وما زاد فهو حضر، فإن حبس الرئيس جنده أكثر من ثلاثة فى حاجة عرضت له خشى عليه الإثم والحرج. وفيه: أن البقاء مع الثيب عند اليناء بها ثلاثًا سنة مؤكدة فى السفر والحضر من أجل حبس النبى، عليه السلام، الجيش ثلاثة أيام ليأتى على الناس علم ذلك. وفيه: جواز إبطال الاشتغال لإجابة الدعوة وإقامة سنة النكاح؛ لأنهم أبطلوا سفرهم لإقامة ابتناء النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وكذلك يلزم أهل المتزوج وإخوانه عونه على نكاحه، وإن قطع ذلك بهم عن بعض أشغالهم، وفيه الحكم بالدليل.
38 - باب الْبِنَاءِ بِالنَّهَارِ بِغَيْرِ مَرْكَبٍ وَلا نِيرَانٍ
/ 51 - فيه: عَائِشَةَ، تَزَوَّجَنِى النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَأَتَتْنِى أُمِّى، فَأَدْخَلَتْنِى الدَّارَ، فَلَمْ يَرُعْنِى إِلا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ضُحًى. السنة فى النكاح الإعلان، وكلما زاد الإعلان بمركب واجتماع أو نيران فهو أتم، وإلا فالإعلان كاف فى ذلك، وقد ذكر فى هذا الحديث اجتماع فى غير هذا الطريق اجتماع نساء الأنصار عند إدخالها بيتها ودعائهن لها بالبركة وعلى خير طائر، والمراد من اجتماع النساء الإعلان بالنكاح، وقد يجوز أن يبتنى الرجل بأهله بغير إعلان إذا كان النكاح قبل ذلك معروفًا، قاله المهلب.(7/278)
39 - باب الأنْمَاطِ وَنَحْوِهَا لِلنِّسَاءِ
/ 52 - فيه: جَابِر، قال النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (هَلِ اتَّخَذْتُمْ أَنْمَاطًا) ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَنَّى لَنَا أَنْمَاطٌ، قَالَ: (إِنَّهَا سَتَكُونُ) . قال المهلب: فيه من علامات النبوة؛ لأنه عليه السلام أخبر بما يكون فكان. وفيه: جواز اتخاذ شورة البيوت للنساء. وفيه: دليل أن الشورة للمرأة دون الرجل، وأنها عليها فى المعروف من أمر الناس القديم؛ لأن النبى، عليه السلام، إنما قال ذلك لجابر؛ لأن أباه ترك سبع بنات، فقام عليهن جابر وشورهن بعد أبيه وزوجهن.
40 - باب النِّسْوَةِ اللاتِى يَهْدِينَ الْمَرْأَةَ إِلَى زَوْجِهَا وَدُعَائِهِنَّ بِالْبَرَكَةِ
/ 53 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّهَا زَفَّتِ امْرَأَةً إِلَى رَجُلٍ مِنَ الأنْصَارِ، فَقَالَ النِّبِىُ (صلى الله عليه وسلم) : (يَا عَائِشَةُ، مَا كَانَ مَعَكُمْ لَهْوٌ؟ فَإِنَّ الأنْصَارَ يُعْجِبُهُمُ اللَّهْوُ) . اتفق العلماء على جواز اللهو فى وليمة النكاح، مثل ضرب الدف(7/279)
وشبهه ما لم يكن محرمًا، وخصت الوليمة بذلك ليظهر النكاح وينتشر فتثبت حقوقه وحرمته. قال مالك: لا بأس بالدف والكبر فى الوليمة؛ لأنى أراه خفيفًا، ولا ينبغى ذلك فى غير العرس، وقد سئل مالك عن اللهو يكون فيه البوق، فقال: إن كان كبيرًا مشهرًا فإنى أكرهه، وإن كان خفيفًا فلا بأس بذلك. قال أصبغ: ولا يجوز الغناء فى العرس ولا فى غيره إلا مثلما فعل نساء الأنصار أو رجز خفيف مثلما كان من جواب الأنصار، وسأذكر اختلاف العلماء فى اللهو واللعب فى الوليمة فى باب هل يرجع إذا رأى منكرًا فى الدعوة بعد هذا، إن شاء الله.
41 - باب الْهَدِيَّةِ لِلْعَرُوسِ
/ 54 - فيه: أَنَس، قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، إِذَا مَرَّ بِجَنَبَاتِ أُمِّ سُلَيْمٍ دَخَلَ عَلَيْهَا، فَسَلَّمَ عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَرُوسًا بِزَيْنَبَ، فَقَالَتْ لِى أُمُّ سُلَيْمٍ: لَوْ أَهْدَيْنَا لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) هَدِيَّةً، فَقُلْتُ لَهَا: افْعَلِى، فَعَمَدَتْ إِلَى تَمْرٍ وَسَمْنٍ وَأَقِطٍ، فَاتَّخَذَتْ حَيْسَةً فِى بُرْمَةٍ، فَأَرْسَلَتْ بِهَا مَعِى إِلَيْهِ، فَانْطَلَقْتُ بِهَا إِلَيْهِ، فَقَالَ لِى: (ضَعْهَا) ، ثُمَّ أَمَرَنِى، فَقَالَ: (ادْعُ لِى رِجَالا - سَمَّاهُمْ - وَادْعُ لِى مَنْ لَقِيتَ) ، قَالَ: فَفَعَلْتُ الَّذِى أَمَرَنِى فَرَجَعْتُ، فَإِذَا الْبَيْتُ غَاصٌّ بِأَهْلِهِ، فَرَأَيْتُ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى تِلْكَ الْحَيْسَةِ، وَتَكَلَّمَ بِهَا مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ جَعَلَ يَدْعُو عَشَرَةً عَشَرَةً يَأْكُلُونَ مِنْهُ، وَيَقُولُ(7/280)
لَهُمُ: (اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، وَلْيَأْكُلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِمَّا يَلِيهِ) ، قَالَ: حَتَّى تَصَدَّعُوا كُلُّهُمْ عَنْهَا، فَخَرَجَ مِنْهُمْ مَنْ خَرَجَ، وَبَقِىَ نَفَرٌ يَتَحَدَّثُونَ، قَالَ: وَجَعَلْتُ أَغْتَمُّ، ثُمَّ خَرَجَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) نَحْوَ الْحُجُرَاتِ، وَخَرَجْتُ فِى إِثْرِهِ، فَقُلْتُ: إِنَّهُمْ قَدْ ذَهَبُوا، فَرَجَعَ فَدَخَلَ الْبَيْتَ، وَأَرْخَى السِّتْرَ، وَإِنِّى لَفِى الْحُجْرَةِ، وَهُوَ يَقُولُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِىِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ) [الأحزاب: 53] الآية. قال المهلب: فيه الهدية للعروس من أجل أنه مشغول بأهله ومانع لها عن تهيئة الطعام واستعماله، فلذلك استحب أن يهدى لهم طعام من أجل اشتغالهم عنه بأول اللقاء كما كان هذا المعنى فى الجنائز لاشتغالهم بالحزن حتى كان ذلك الطعام يسمى تعزية. وفيه: أن من سنة العروس إذا فضل له طعام أن يدعو له من خف عليه من إخوانه، فيكون زيادة فى الإعلان بالنكاح وسببًا إلى صالح دعاء الآكلين ورجاء البركة بأكلهم. وفيه: من أعلام النبوة، وهو أكل القوم الكثير من الطعام القليل. وفيه: أنه لا بأس بالصبر على الأذى من الصديق والجار والمعرفة، والاستحياء منه لاسيما إذا لم يقصد الأذى، وإنما كان عن جهل أو غفلة، فهذا أولى أن يستحيى منه لذلك.(7/281)
42 - باب اسْتِعَارَةِ الثِّيَابِ وَغَيْرِهَا لِلْعَرُوسِ
/ 55 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّهَا اسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاءَ قِلادَةً، فَهَلَكَتْ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) نَاسًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِى طَلَبِهَا، فَأَدْرَكَتْهُمُ الصَّلاةُ، فَصَلَّوْا بِغَيْرِ وُضُوءٍ. . . . الحديث. قال المهلب: إنما استدل البخارى، والله أعلم، على جواز استعارة الثياب للعروس لاستعارة عائشة القلادة من أسماء لتتزين بها للنبى (صلى الله عليه وسلم) فى سفره، فكأن استعارة الثياب للعروس لتتزين بها إلى زوجها أولى، ويحتمل أن تكون عائشة ذلك الوقت قريبة عهد بعرس. وفيه من الفقه: جواز السفر بالعارية وإخراجها إذا أذن فى ذلك صاحبها، أو يعلم أنه يسمح بمثل هذا. وفيه: النهى عن إضاعة المال. وفيه: حبس المسافرين لحاجة تخص الرئيس والعالم. وفيه: استخدام الرئيس والسيد لأصحابه فيما يهمه شأنه؛ لأن أسيد بن حضير وغيره خرجا فى طلب القلادة.
43 - باب مَا يَقُولُ الرَّجُلُ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ
/ 56 - فيه: ابْن عَبَّاس، قال النَّبِىُّ عَلَيْهِ السَّلام: (أَمَا لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ يَقُولُ حِينَ يَأْتِى أَهْلَهُ: بِاسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنِى الشَّيْطَانَ،(7/282)
وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، ثُمَّ قُدِّرَ بَيْنَهُمَا فِى ذَلِكَ، أَوْ قُضِىَ وَلَدٌ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا) . قال المهلب: فيه أن الدعاء يصرف البلاء ويعتصم به من نزعات الشيطان وأذاه. قال الطبرى: فإذا قال ذلك عند جماع أهله كان قد اتبع سنة النبى (صلى الله عليه وسلم) ، ورجونا له دوام الألفة، وينبغى أن يفعل ذلك عند إتيانه مملوكته مثل الذى ينبغى أن يفعله عند إتيانه زوجته، إذ يمكن أن يحدث بينهما ولد. قال المهلب: واختلف العلماء فى هذا الضرر المدفوع بهذا الدعاء من الشيطان ما هو؟ فقال قوم: إنه الطعن الذى يطعن الشيطان المولود عند الولادة الذى عصم منه عيسى، عليه السلام، فطعن شيطانه فى الحجاب لما استعاذت منه أمه. وقيل: هو ألا يصرع ذلك المولود الذى يذكر اسم الله عليه ويستعاذ من الشيطان عند جماع أمه، وكلا الوجهين جائز، والله أعلم بالأولى منهما، ولا يجوز أن يكون الضرر الذى يكفاه من الشيطان كل ما يجوز أن يكون من الشيطان، فلو عصم أحد من ضرر الشيطان لعصم منه النبى، عليه السلام، وقد اعترض عليه فى الصلاة والقراءة.
44 - بَاب الْوَلِيمَةُ حَقٌّ
وَقَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: قَالَ لِى النَّبِىُّ عَلَيْهِ السَّلام: (أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ) .(7/283)
/ 57 - فيه: أَنَس، أَنَّهُ كَانَ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ فَقْدَمَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، الْمَدِينَةَ، فَكَانَ أُمَّهَاتِى يُوَاظِبْنَنِى عَلَى خِدْمَةِ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَخَدَمْتُهُ عَشْرَ سِنِينَ، وَتُوُفِّىَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، وَأَنَا ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً، فَكُنْتُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِشَأْنِ الْحِجَابِ حِينَ أُنْزِلَ، وَكَانَ أَوَّلَ مَا أُنْزِلَ فِى مُبْتَنَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، أَصْبَحَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِهَا عَرُوسًا، فَدَعَا الْقَوْمَ فَأَصَابُوا مِنَ الطَّعَامِ، ثُمَّ خَرَجُوا. . . . . الحديث. قوله: (الوليمة حق) ، يعنى أن الزوج يندب إليها وتجب عليه وجوب سنة وفضيلة، ولا أعلم أحدًا أوجبها فرضًا، وإنما هى على قدر الإمكان والوجود لإعلان النكاح، وفى حديث أنس فى الباب الذى بعد هذا أنه عليه السلام أولم على زينب بشاة، وفى حديث آخر عن أنس أنه، عليه السلام، أشبع المسلمين خبزًا ولحمًا فى وليمة زينب. وقد روى مالك، عن يحيى بن سعيد، أنه قال: لقد بلغنى أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يولم بالوليمة ما فيها خبز ولا لحم، وهذه الوليمة كانت على صفية بنت حيى فى السفر مرجعه من خيبر، قيل لأنس: فبأى شىء أولم؟ قال: بسويق وتمر.
45 - بَاب الْوَلِيمَةِ وَلَوْ بِشَاةٍ
/ 58 - وفيه: أَنَس، أَن عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ نزل عَلَى سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، لما نزل فَقَالَ: أُقَاسِمُكَ مَالِى، وَأَنْزِلُ لَكَ عَنْ إِحْدَى امْرَأَتَىَّ، قَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِى أَهْلِكَ وَمَالِكَ، فَخَرَجَ إِلَى السُّوقِ، فَبَاعَ وَاشْتَرَى، فَأَصَابَ شَيْئًا مِنْ أَقِطٍ وَسَمْنٍ، فَتَزَوَّجَ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ) .(7/284)
/ 59 - وفيه: أَنَس، مَا أَوْلَمَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى شَىْءٍ مِنْ نِسَائِهِ مَا أَوْلَمَ عَلَى زَيْنَبَ، أَوْلَمَ بِشَاةٍ. / 60 - وفيه: أَنَس: أَنَّ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَتَزَوَّجَهَا، وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا، وَأَوْلَمَ عَلَيْهَا بِحَيْسٍ. / 61 - وفيه: أَنَس، بَنَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِامْرَأَةٍ، فَأَرْسَلَنِى، فَدَعَوْتُ رِجَالا إِلَى الطَّعَامِ. قال المهلب: اختلاف فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) فى هذه الولائم المختلفة يدل على ما ذكرناه فى الباب قبل هذا أنها إنما تجب على قدر اليسار والوجود فى الوقت، وليس قوله لعبد الرحمن: (أولم ولو بشاة) منعًا لما دون ذلك، وإنما جعل الشاة غاية فى التقليل لعبد الرحمن ليساره وغناه، وأنها مما يستطيع عليها ولا يجحفه، ألا ترى أنه (صلى الله عليه وسلم) أولم على صفية وليمة حيس ليس فيها خبز ولا لحم، وأولم على غيرها بمدين من شعير، ولو وجد حينئذ شاة لأولم بها؛ لأنه كان أجود الناس وأكرمهم. وفى حديث عبد الرحمن بن عوف استحباب الذبح فى الولائم لمن وجد ذلك. وفيه أن الوليمة قد تكون بعد البناء؛ لأن قول النبى (صلى الله عليه وسلم) له: (أولم ولو بشاة) ، كان بعد البناء، وإنما معنى الوليمة إشهار النكاح وإعلانه، إذ قد تهلك البينة، قاله ربيعة، ومالك فى كتاب ابن المواز، فكيفما وقع الإشهار جاز النكاح. قال ابن وضاح: الحيس التمر ينزع نواه ويخلط بالسويق.(7/285)
وقول أنس: بعثنى النبى، عليه السلام، فدعوت رجالاً إلى الطعام، فيه أن لصاحب الوليمة أن يبعث الرسل فيمن يحضر وليمته، وإن لم يتول ذلك بنفسه.
46 - بَاب مَنْ أَوْلَمَ عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ أَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ
/ 62 - فيه: أَنَس، مَا رَأَيْتُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أَوْلَمَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَائِهِ مَا أَوْلَمَ على زينب، أَوْلَمَ بِشَاةٍ. كل من زاد فى وليمته فهو أفضل؛ لأن ذلك زيادة فى الإعلان واستزادة من الدعاء بالبركة فى الأهل، والمال، وليس فى الزيادة فى الوليمة سرف لمن وجد، وإنما السرف لمن استأصل ماله وأجحف بأكثره، وهذا معنى السرف فى كل حال مثل الطيب من الطعام والثياب للجمعة والأعياد وشبه ذلك.
47 - بَاب مَنْ أَوْلَمَ بِأَقَلَّ مِنْ شَاةٍ
/ 63 - فيه: صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، أَوْلَمَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ بِمُدَّيْنِ مِنْ شَعِيرٍ. قد تقدم قبل هذا أن الوليمة إنما تجب على قدر الوجود واليسار، وليس فيها حد لا يجوز الاقتصار على دونه، وهذا يدل على أنها ليست بفرض؛ لأن الفروض من الله ورسوله مقدرة مبينة. وفيه: إجابة الدعوة إلى الوليمة وإن كان المدعو إليه قليلاً حقيرًا.(7/286)
48 - بَاب حَقِّ إِجَابَةِ الْوَلِيمَةِ وَالدَّعْوَةِ
وَمَنْ أَوْلَمَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَنَحْوَهُ، وَلَمْ يُوَقِّتِ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمًا وَلا يَوْمَيْنِ / 64 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ الرسُول، عَلَيْهِ السَّلام: (إِذَا دُعِىَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْوَلِيمَةِ، فَلْيَأْتِهَا) . / 65 - وفيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ، عَلَيْهِ السَّلام: (فُكُّوا الْعَانِىَ، وَأَجِيبُوا الدَّاعِىَ، وَعُودُوا الْمَرِيضَ) . / 66 - وفيه: الْبَرَاءُ، أَمَرَنَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِسَبْعٍ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ، منها إِجَابَةِ الدَّاعِى. . . الحديث. / 67 - وفيه: سَهْلِ، دَعَا أَبُو أُسَيْدٍ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فِى عُرْسِهِ، وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ يَوْمَئِذٍ خَادِمَهُمْ، وَهِىَ الْعَرُوسُ، أَنْقَعَتْ لَهُ تَمَرَاتٍ مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا أَكَلَ سَقَتْهُ إِيَّاهُ. اتفق العلماء على وجوب إجابة الوليمة، واختلفوا فى غيرها من الدعوات، فقال مالك، والثورى، وأبو حنيفة، وأصحابه: يجب إتيان وليمة العرس، ولا يجب إتيان غيرها من الدعوات. وقال الشافعى: إتيان وليمة العرس واجبة، ولا أرخص فى ترك غيرها مثل النفاس والختان وحادث سرور، من تركها ليس بعاص كالوليمة. وقال أهل الظاهر: إجابة كل دعوة فيها طعام واجب، واحتجوا بحديث أبى موسى، وحديث البراء، أن النبى، عليه السلام، قال: (أجيبوا الداعى) ، وقالوا: هذا عام فى كل دعوة، وتأول مالك والكوفيون قوله، عليه السلام: (أجيبوا الداعى) ، يعنى فى العرس خاصة، بدليل حديث ابن عمر، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (إذا دعى أحدكم إلى الوليمة(7/287)
فليأتها) ، قالوا: وحديث ابن عمر مفسر فيه بيان وتفسير ما أجمل، عليه السلام، فى قوله: (أجيبوا الداعى) ، والمفسر يقضى على المجمل. قال ابن حبيب: وقد استحبت الوليمة أكثر من يوم، وأولم ابن سيرين ثمانية أيام، ودعى فى بعضها أبى بن كعب، وكره قوم ذلك أيامًا، وقالوا: اليوم الثانى فضل، والثالث سمعة. وأجاب الحسن رجلاً دعاه فى اليوم الثانى، ثم دعاه فى الثالث فلم يجبه، وفعله ابن المسيب، وقال ابن مسعود: نهينا أن نجيب من يرائى بطعامه. وقول من أباحها بغير توقيت أولى؛ لقول البخارى، رحمه الله: ولم يوقت النبى (صلى الله عليه وسلم) يومًا ولا يومين، وذلك يقتضى الإطلاق ومنع التحديد إلا بحجة يجب التسليم لها، ولم يرخص العلماء للصائم فى التخلف عن إجابة الوليمة. وقال الشافعى: إذا كان المجيب مفطرًا أكل وإن كان صائمًا دعا. واحتج بحديث ابن سيرين، عن أبى هريرة، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (إذا دعى أحدكم إلى وليمة فليجب، فإن كان مفطرًا فليطعم، وإن كان صائمًا فليصل) ، يعنى فليدع. وفعله ابن عمر ومد يده، وقال: بسم الله كلوا، فلما مد القوم أيديهم، قال: كلوا فإنى صائم. وقال قوم: ترك الأكل مباح وإن لم يصم إذا أجاب الدعوة، وقد أجاب على بن أبى طالب فدعا ولم يأكل. وقال مالك فى كتاب ابن المواز: أرى أن يجيب فى العرس وحده إن لم يأكل أو كان صائمًا. والحجة له حديث سفيان، عن أبى الزبير، عن جابر، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا دعى أحدكم فليجب، فإن شاء طعم وإن شاء ترك) .(7/288)
49 - باب مَنْ تَرَكَ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ
/ 68 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ، يُدْعَى لَهَا الأغْنِيَاءُ، وَيُتْرَكُ الْفُقَرَاءُ، وَمَنْ تَرَكَ الدَّعْوَةَ، فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ (صلى الله عليه وسلم) . هذا الحديث موقوف على أبى هريرة، إلا أن قوله: (عصى الله ورسوله) ، يقضى برفعه، وقد أخرجه أهل التصنيف فى المسند كما أخرجوا حديث ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبى هريرة، أنه قال: (لولا أن أشق على أمتى لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) ، وحديث أبى الشعثاء، عن أبى هريرة، أنه رأى رجلاً خارجًا من المسجد بعد الأذان، فقال: (أما هذا فقد عصى أبا القاسم) ، ومثل هذا لا يكون رأيًا، وإنما يكون توقيفًا. وهذا الحديث حجة فى وجوب إجابة دعوة الوليمة، ولا خلاف فى ذلك بين الصحابة والتابعين إلا ما روى عن ابن مسعود أنه قال: نهينا أن نجيب من يدعو الأغنياء ويترك الفقراء، وقد دعا ابن عمر فى دعوته الأغنياء والفقراء، فجاءت قريش والمساكين معهم، فقال ابن عمر للمساكين: هاهنا اجلسوا لا تفسدوا عليهم شأنهم، فإنا سنطعمكم مما يأكلون. قال ابن حبيب: ومن فارق السنة فى وليمة فلا دعوة له ولا معصية فى ترك إجابته، وقد حدثنى المغيرة أنه سمع سفيان الثورى يقول: إنما تفسير إجابة الدعوة إذا دعاك من لا يفسد عليك دينك وقلبك. وحدثنى على بن معبد، عن بقية بن الوليد، عن محمد بن عبد الرحمن، عن شقيق بن سلمة، عن ابن مسعود، قال: إذا اتخذت النجد وخص الغنى وترك الفقير أمرنا ألا نجيب. وحدثنى المغيرة، عن(7/289)
الثورى، عن الأعمش، عن أبى صالح، عن أبى هريرة، أنه كان يقول: أنتم العاصون فى الدعوة تدعون من لا يأتى وتدعون من يأتيكم، يعنى بمن لا يأتى الأغنياء، ومن يأتيهم الفقراء. وليس يحرم الطعام بدعوة الأغنياء وترك الفقراء، وإنما المحرم فعل صاحب الطعام فيه إذا تعمد ذلك، والله أعلم.
50 - بَاب مَنْ أَجَابَ إِلَى كُرَاعٍ
/ 69 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (لَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ لأجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِىَ إِلَىَّ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ) . قال المهلب: معناه التواضع وترك التكبر والاستئلاف بقبول اليسير والإجابة إليه؛ لأن الهدية تؤكد المحبة، وكذلك الدعوة إلى الطعام لا تبعث إلى ذلك إلا صحت محبة الداعى وسروره بأكل المدعو إليه من طعامه والتحبب إليه بالمؤاكلة وتوكيد الذمام معه بها، فلذلك حض النبى (صلى الله عليه وسلم) على قبول التافه من الهدية، وإجابة النذر من الطعام.
51 - بَاب إِجَابَةِ الدَّاعِى فِى الْعُرْسِ وَغَيْرِهِ
/ 70 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (أَجِيبُوا هَذِهِ الدَّعْوَةَ إِذَا دُعِيتُمْ لَهَا) . وَكَانَ عَبْدُاللَّهِ يَأْتِى الدَّعْوَةَ فِى الْعُرْسِ، وَغَيْرِ الْعُرْسِ وَهُوَ صَائِمٌ. هذا الحديث حجة لمن أوجب إجابة الوليمة وغيرها فرضًا،(7/290)
وقد تقدم أن إجابة الدعوة فى غير العرس عند مالك والكوفيين مندوب إليها، وروى ابن وهب، عن مالك أنه سئل عن الرجل يحضر الصنيع فيه اللهو، قال: ما يعجبنى للرجل ذى الهيبة أن يجيب الدعوات؛ لأن فى ذلك بذلة ومخالطة لمن لا يشاكله. وسُئل عن الدعوة فى الختان، فقال: ليس تلك من الدعوات، وإن أجاب فلا بأس.
52 - بَاب ذَهَابِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ إِلَى الْعُرْسِ
/ 71 - فيه: أَنَس، أَبْصَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) نِسَاءً وَصِبْيَانًا مُقْبِلِينَ مِنْ عُرْسٍ، فَقَامَ مُمْتَنًّا، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ أَنْتُمْ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَىَّ) . قال المهلب: فيه استحسان شهود النساء والصبيان للأعراس؛ لأنها شهادة لهم عليها، ومبالغة فى الإعلان بالنكاح. وقال أبو الحسن بن القابسى: قوله: ممتنًا، يعنى متفضلاً عليهم بذلك؛ لأن الأنصار أحب الناس إليه، فقال أنس: هو عليه السلام ممتن علينا بمحبته وتخصيصه.
53 - بَاب هَلْ يَرْجِعُ إِذَا رَأَى مُنْكَرًا فِى الدَّعْوَةِ
وَرَأَى ابَنْ مَسْعُودٍ صُورَةً فِى الْبَيْتِ فَرَجَعَ، وَدَعَا ابْنُ عُمَرَ أَبَا أَيُّوبَ، فَرَأَى فِى الْبَيْتِ سِتْرًا عَلَى الْجِدَارِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: غَلَبَنَا عَلَيْهِ النِّسَاءُ، فَقَالَ: مَنْ كُنْتُ أَخْشَى عَلَيْهِ، فَلَمْ أَكُنْ أَخْشَى عَلَيْكَ وَاللَّهِ لا أَطْعَمُ لَكُمْ طَعَامًا، فَرَجَعَ.(7/291)
/ 72 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَامَ عَلَى الْبَابِ، فَلَمْ يَدْخُلْ، فَعَرَفْتُ فِى وَجْهِهِ الْكَرَاهِيَةَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، مَاذَا أَذْنَبْتُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا بَالُ هَذِهِ النُّمْرُقَةِ) ؟ قُلْتُ: اشْتَرَيْتُهَا لَكَ؛ لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا وَتَوَسَّدَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيُقَالُ: لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ) ، وَقَالَ: (إِنَّ الْبَيْتَ الَّذِى فِيهِ الصُّوَرُ لا تَدْخُلُهُ الْمَلائِكَةُ) . قال المؤلف: هذه الأحاديث تدل على أنه لا يجوز الدخول فى الدعوة يكون فيها منكر مما نهى الله عنه ورسوله، وما كان مثله من المناكير، ألا ترى أنه عليه السلام رجع من بيت عائشة حين رأى النمرقة بالتصاوير، وقد جاء الوعيد فى المصورين أنهم أشد الناس عذابًا يوم القيامة، وأنه يقال لهم: أحيوا ما خلقتم. فلا ينبغى حضور المنكر والمعاصى ولا مجالسة أهلها عليها؛ لأن ذلك إظهار للرضا بها، ومن كثر سواد قوم فهو منهم، ولا يأمن فاعل ذلك حلول سخط الله وعقابه عليهم وشمول لعنته لجميعهم، وقد روى ابن وهب، عن مالك، أنه سُئل عن الرجل يدعى إلى الوليمة وفيها شراب أيجيب الدعوة؟ قال: لا؛ لأنه أظهر المنكر. وقال الشافعى: إذا كان فى الوليمة خمر أو منكر وما أشبهه من المعاصى الظاهرة نهاهم، فإن نحوه وإلا رجع، وإن علم أن ذلك عندهم لم أحب له أن يجيب.(7/292)
واختلفوا فى اللهو واللعب يكون فى الوليمة، فقال الليث: إذا كان فى الوليمة الضرب بالعود واللهو، فلا ينبغى أن يشهدها. قال ابن القاسم: وإن كان فيها لهو كالمزامير والعود فلا يدخل. وذكر ابن المواز، عن مالك، قال: إذا رأى أحدًا من اللاعبين فليخرج، مثل أن يجعل ضاربًا على جبهته أو يمشى على حبل. فقال ابن وهب، عن مالك: لا أحب لذى الهيبة أن يحضر اللعب، قيل له: فالكبر والمزمار وغيره من اللهو ينبا لك سماعه وتجد لذته وأنت فى طريق أو مجلس؟ قال: فليقم عن ذلك المجلس. وقد رجع ابن مسعود من لهو سمعه فى وليمة، وقال: قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (من كثر سواد قوم فهو منهم) ، وقد مر ابن عمر براع يزمر، فجعل أصبعيه فى أذنيه ومشى، وجعل يقول لنافع: أتسمع شيئًا؟ قال: لا، فنحى يديه ثم قال: كنت مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فسمع زمارة راع، ففعل مثل ما فعلت. وقال أبو حنيفة: إذا حضر الوليمة فوجد فيها اللعب، فلا بأس أن يقعد ويأكل. وروى أن الحسن وابن سيرين كانا فى جنازة وهناك نوح، فانصرف ابن سيرين، فقيل ذلك للحسن، فقال: إن كنا ما رأينا باطلاً تركنا حقًا، أسرع ذلك فى ديننا. واحتج الكوفيون فى إجازة حضور اللعب بأن النبى، عليه السلام، قد رأى لعب الحبشة ووقف له وأراه عائشة، وضرب عنده فى العيد بالدف والغناء، فلم يمنع من ذلك، وحجة من كرهه أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لما لم يدخل البيت الذى فيه الصورة التى نهى عنها فكذلك كل ما كان مثلها من المناكير.(7/293)
54 - بَاب قِيَامِ الْمَرْأَةِ عَلَى الرِّجَالِ فِى الْعُرْسِ وَخِدْمَتِهِمْ بِالنَّفْسِ
/ 73 - فيه: سَهْلٍ، لَمَّا عَرَّسَ أَبُو أُسَيْدٍ السَّاعِدِىُّ، دَعَا النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) وَأَصْحَابَهُ، فَمَا صَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا وَلا قَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ، إِلا امْرَأَتُهُ أُمُّ أُسَيْدٍ، بَلَّتْ تَمَرَاتٍ فِى تَوْرٍ مِنْ حِجَارَةٍ مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا فَرَغَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) مِنَ الطَّعَامِ، أَمَاثَتْهُ لَهُ فَسَقَتْهُ، تُتْحِفُهُ بِذَلِكَ. فيه: خدمة العروس زوجها وأصحابه فى عرسها. وفيه: أنه لا بأس أن يعرض الرجل أهله على صالح إخوانه ويستخدمهن لهم. وفيه: شرب الشراب الذى لا يسكر فى العرس، وأن ذلك من الأمر المعروف القديم. وترجم له باب النقيع والشراب الذى لا يسكر فى العرس. وفى كتاب العين: مثت الملح فى الماء ميثًا: أذابته، وقد انماث.
55 - بَاب الْمُدَارَاةِ مَعَ النِّسَاءِ
وَقَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا الْمَرْأَةُ كَالضِّلَعِ) . / 74 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (الْمَرْأَةُ كَالضِّلَعِ، إِنْ أَقَمْتَهَا كَسَرْتَهَا، وَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا، وَفِيهَا عِوَجٌ) . قال المهلب: المداراة أصل الألفة واستمالة النفوس من أجل ما جبل الله(7/294)
عليه خلقه وطبعهم من اختلاف الأخلاق، وقد قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (مداراة الناس صدقة) ، وعرفنا فى هذا الحديث أن سياسة النساء بأخذ العفو منهن والصبر على عوجهن، وأن من رام إقامة ميلهن عن الحق، فأراد تقويمهن عدم الانتفاع بهن وصحبتهن لقوله عليه السلام: (إن أقمتها كسرتها) ، ولا غنى بالإنسان عن امرأة يسكن إليها ويستعين بها على معايشه ودنياه، فلذلك قال عليه السلام: (إن الاستمتاع بالمرأة لا يكون إلا بالصبر على عوجها) .
56 - باب الْوَصَاةِ بِالنِّسَاءِ
/ 75 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يُؤْذِى جَارَهُ، وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَىْءٍ فِى الضِّلَعِ أَعْلاهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا) . / 76 - وفيه: ابْن عُمَرَ، كُنَّا نَتَّقِى الْكَلامَ وَالانْبِسَاطَ إِلَى نِسَائِنَا عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) هَيْبَةَ أَنْ يَنْزِلَ فِينَا شَىْءٌ، فَلَمَّا تُوُفِّىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) تَكَلَّمْنَا وَانْبَسَطْنَا. قال المهلب: الوصاة بالنساء يدل على أنه لا يستطاع تقويمهن على ما سلف فى الحديث قبل هذا الباب، وإنما هو تنبيه منه عليه السلام وإعلام بترك الاشتغال بما لا يستطاع، والتأنيس بالأجر بالصبر على ما يكره، وفى هذا الحديث أنه يجب أن تتقى عاقبة الكلام الجافى والمقاومة، والبلوغ إلى ما تدعو النفس إليه من ذلك إذا خشى سوء عاقبته، وإن لم يخش ذلك فله أن يبلغ غاية ما يريد مما يحل له الكلام فيه.(7/295)
57 - بَاب قوله تَعَالَى: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) [التحريم: 6]
/ 77 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام: (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عن رعيته، وَالإمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ زَوْجِهَا وَهِىَ مَسْئُولَةٌ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عنه، أَلا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ) . قال المهلب: هذا الحديث مفسر للآية التى ترجم بها؛ لأنه أخبر عليه السلام أن الرجل مسئول عن أهله، وإذا كان كذلك فواجب عليه أن يعلمهم ما يقيهم به النار. قال زيد بن أسلم: لما نزلت هذه الآية: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا) [التحريم: 6] ، قالوا: يا رسول الله، هذا وقينا أنفسنا، فكيف بأهلينا؟ قال: (تأمرونهم بطاعة الله وتنهوهم عن معاصى الله) ، وذكر ذلك عن على.
58 - بَاب حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ مَعَ الأهْلِ
/ 78 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: جَلَسَ إِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً فَتَعَاهَدْنَ وَتَعَاقَدْنَ أَنْ لا يَكْتُمْنَ مِنْ أَخْبَارِ أَزْوَاجِهِنَّ شَيْئًا، قَالَتِ الأولَى: زَوْجِى لَحْمُ جَمَلٍ غَثٍّ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ، لا سَهْلٍ فَيُرْتَقَى، وَلا سَمِينٍ فَيُنْتَقَلُ، قَالَتِ الثَّانِيَةُ: زَوْجِى لا أَبُثُّ خَبَرَهُ، إِنِّى أَخَافُ أَنْ لا أَذَرَهُ، إِنْ أَذْكُرْهُ أَذْكُرْ عُجَرَهُ وَبُجَرَهُ،(7/296)
قَالَتِ الثَّالِثَةُ: زَوْجِى الْعَشَنَّقُ، إِنْ أَنْطِقْ أُطَلَّقْ، وَإِنْ أَسْكُتْ أُعَلَّقْ، قَالَتِ الرَّابِعَةُ: زَوْجِى كَلَيْلِ تِهَامَةَ، لا حَرٌّ، وَلا قُرٌّ، وَلا مَخَافَةَ، وَلا سَآمَةَ، قَالَتِ الْخَامِسَةُ: زَوْجِى إِنْ دَخَلَ فَهِدَ، وَإِنْ خَرَجَ أَسِدَ، وَلا يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ، قَالَتِ السَّادِسَةُ: زَوْجِى إِنْ أَكَلَ لَفَّ، وَإِنْ شَرِبَ اشْتَفَّ، وَإِنِ اضْطَجَعَ الْتَفَّ، وَلا يُولِجُ الْكَفَّ؛ لِيَعْلَمَ الْبَثَّ، قَالَتِ السَّابِعَةُ: زَوْجِى غَيَايَاءُ - أَوْ عَيَايَاءُ - طَبَاقَاءُ، كُلُّ دَاءٍ لَهُ دَاءٌ، شَجَّكِ أَوْ فَلَّكِ، أَوْ جَمَعَ كُلا لَكِ، قَالَتِ الثَّامِنَةُ: زَوْجِى الْمَسُّ مَسُّ أَرْنَبٍ، وَالرِّيحُ رِيحُ زَرْنَبٍ، قَالَتِ التَّاسِعَةُ: زَوْجِى رَفِيعُ الْعِمَادِ، طَوِيلُ النِّجَادِ، عَظِيمُ الرَّمَادِ، قَرِيبُ الْبَيْتِ مِنَ النَّادِ. قَالَتِ الْعَاشِرَةُ: زَوْجِى مَالِكٌ، وَمَا مَالِكٌ؟ مَالِكٌ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكِ، لَهُ إِبِلٌ كَثِيرَاتُ الْمَبَارِكِ، قَلِيلاتُ الْمَسَارِحِ، وَإِذَا سَمِعْنَ صَوْتَ الْمِزْهَرِ، أَيْقَنَّ أَنَّهُنَّ هَوَالِكُ، قَالَتِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: زَوْجِى أَبُو زَرْعٍ، وَمَا أَبُو زَرْعٍ؟ أَنَاسَ مِنْ حُلِىٍّ أُذُنَىَّ، وَمَلأ مِنْ شَحْمٍ عَضُدَىَّ، وَبَجَّحَنِى فَبَجِحَتْ إِلَىَّ نَفْسِى، وَجَدَنِى فِى أَهْلِ غُنَيْمَةٍ بِشِقٍّ، فَجَعَلَنِى فِى أَهْلِ صَهِيلٍ وَأَطِيطٍ، وَدَائِسٍ وَمُنَقٍّ، فَعِنْدَهُ أَقُولُ فَلا أُقَبَّحُ، وَأَرْقُدُ فَأَتَصَبَّحُ، وَأَشْرَبُ فَأَتَقَمَّحُ، أُمُّ أَبِى زَرْعٍ، فَمَا أُمُّ أَبِى زَرْعٍ؟ عُكُومُهَا رَدَاحٌ، وَبَيْتُهَا فَسَاحٌ، ابْنُ أَبِى زَرْعٍ، فَمَا ابْنُ أَبِى زَرْعٍ؟ مَضْجَعُهُ كَمَسَلِّ شَطْبَةٍ، وَيُشْبِعُهُ ذِرَاعُ الْجَفْرَةِ، بِنْتُ أَبِى زَرْعٍ، فَمَا بِنْتُ أَبِى زَرْعٍ؟ طَوْعُ أَبِيهَا، وَطَوْعُ أُمِّهَا، وَمِلْءُ كِسَائِهَا، وَغَيْظُ جَارَتِهَا، جَارِيَةُ أَبِى زَرْعٍ، فَمَا جَارِيَةُ أَبِى زَرْعٍ؟ لا تَبُثُّ حَدِيثَنَا تَبْثِيثًا، وَلا تُنَقِّثُ مِيرَتَنَا تَنْقِيثًا، وَلا تَمْلأ بَيْتَنَا تَعْشِيشًا.(7/297)
قَالَتْ: خَرَجَ أَبُو زَرْعٍ وَالأوْطَابُ تُمْخَضُ، فَلَقِىَ امْرَأَةً مَعَهَا وَلَدَانِ لَهَا كَالْفَهْدَيْنِ، يَلْعَبَانِ مِنْ تَحْتِ خَصْرِهَا بِرُمَّانَتَيْنِ، فَطَلَّقَنِى وَنَكَحَهَا، فَنَكَحْتُ بَعْدَهُ رَجُلا سَرِيًّا، رَكِبَ شَرِيًّا، وَأَخَذَ خَطِّيًّا، وَأَرَاحَ عَلَىَّ نَعَمًا ثَرِيًّا، وَأَعْطَانِى مِنْ كُلِّ رَائِحَةٍ زَوْجًا، وَقَالَ: كُلِى أُمَّ زَرْعٍ، وَمِيرِى أَهْلَكِ، قَالَتْ: فَلَوْ جَمَعْتُ كُلَّ شَىْءٍ أَعْطَانِيهِ، مَا بَلَغَ أَصْغَرَ آنِيَةِ أَبِى زَرْعٍ، قَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَ لى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (كُنْتُ لَكِ كَأَبِى زَرْعٍ لأمِّ زَرْعٍ) . / 79 - وفيه: عَائِشَةَ، كَانَ الْحَبَشُ يَلْعَبُونَ بِحِرَابِهِمْ، فَسَتَرَنِى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَأَنَا أَنْظُرُ، فَمَا زِلْتُ أَنْظُرُ حَتَّى كُنْتُ أَنَا أَنْصَرِفُ، فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ، تَسْمَعُ اللَّهْوَ. قال المهلب: فيه جواز نقل الأخبار عن حسن المعاشرة وضرب الأمثال بها، والتأسى بأهل الإحسان من كل أمة، ألا ترى أن أم زرع أخبرت عن أبى زرع بحسن عشرته، فتمثله النبى، عليه السلام. وفيه: جواز تذكير الرجل امرأته بإحسانه إليها؛ لأنه لما جاز من النساء كفران العشير، جاز تذكيرهن بالإحسان، وفيه فى قصة الحبشة أن تفسير حسن المعاشرة هو الموافقة والمساعدة على الإرادة غير المحرمة، والصبر على أخلاق النساء والصبيان فى غير المحرم من اللهو، وإن كان الصابر كارهًا لما يحبه أهله.(7/298)
وقال أبو عبيد: سمعت أهل العلم يقولون فى تفسير هذا الحديث: قول الأولى: لحم جمل غث، تعنى المهزول. وقال أبو سعيد النيسابورى: ليس شىء من الغثات من الأزواج الثمانية هو أخبث غثاثة من الجمل؛ لأنه يجمع خبث طعم وخبث ريح. قال أبو عبيد: على رأس جبل، تصف قلة خيره وبعده مع القلة كالشىء فى قمة الجبل الصعب لا ينال إلا بالمشقة، لقولها: لا سهل فيرتقى، تعنى الجبل، ولا سمين فينتقى، تعنى اللحم، ومن روى: فينتقل، تريد ليس بسمين فينقله الناس إلى بيوتهم فيأكلونه. وقول الثانية: زوجى لا أبث خبره، إنى أخاف ألا أذره، إن أذكره أذكر عجزه وبجره، فالعجر أن ينعقد العصب أو العروق حتى تراها ناتئة من الجسد، والبجر نحوها، إلا أنها فى البطن خاصة، واحدها بجرة، ومنه قيل: رجل أبجر، إذا كان عظيم البطن، وامرأة بجراء، يقال: لفلان بجرة، إذا كان ناتئ السرة عظيمها. وقال أبو سعيد النيسابورى: لم يأت أبو عبيد بالمعنى، وإنما عنت أن زوجها كثير العيوب فى أخلاقه، منعقد النفس عن المكارم. قال المؤلف: وفيه تفسير آخر. قال ثعلب فى العجر والبجر: ومنه قول على يوم الجمل: إلى الله أشكو عجرى وبجرى، أى همومى وأحزانى. وقول الثالثة: زوجى العشنق، العشنق الطويل، قاله الأصمعى، تقول: ليس عنده أكثر من طوله بلا نفع، فإن ذكرت ما فيه من العيوب طلقنى، وإن سكت تركنى معلقة لا أيم ولا ذات بعل، ومنه قوله تعالى: (فتذروها كالمعلقة) [النساء: 129] . وقال أبو سعيد:(7/299)
الصحيح غير ما ذكر أبو عبيد، العشنق من الرجال الطويل النجيب الذى ليس أمره إلى امرأته، وأمرها إليه، فهو يحكم فيها بما شاء وهى تخافه. وقول الرابعة: زوجى كليل تهامة، لا حر ولا قر، ولا مخافة ولا سآمة، تقول: ليس عنده أذى ولا مكروه، وتهامة اسم مكة، الحر فيها بالنهار شديد وليلها معتدل بين الحر والبرد، ولذلك خصته بهذا المثل؛ لأن الحر والبرد كلاهما فيه أذى إذا اشتد ولا مخافة، تقول: ليس عنده غائلة ولا شر أخافه ولا سآمة، تقول: لا يسأمنى فيمل صحبتى. وقول الخامسة: زوجى إن أكل لف، فإن اللف فى المطعم الإكثار منه مع التخليط من صنوفه حتى لا يبقى منه شىء، والاشتفاف فى المشرب أن يستقصى ما فى الإناء ولا يسؤر فيه سؤرًا، وإنما أخذ من الشفافة وهى البقية تبقى فى الإناء من الشراب، وقولها: ولا يولج الكف ليعلم البث، فأحسبه كان بجسدها عيب أو داء تكتئب له، والبث هو الحزن، فكان لا يدخل يده فى ثوبها ليمس ذلك العيب فيشق عليها، تصفه بالكرم. وقول السادسة: زوجى غياياء، أو عياياء، فأما غياياء بالغين، فليس بشىء، إنما هو بالعين، والعياياء من الإبل، الذى(7/300)
لا يضرب ولا يلقح، وكذلك هو فى الرجال، والطباقاء الغبى الأحمق الفدم. قال أبو على: وحكى بعضهم فى تفسير الطباقاء من الرجال، الثقيل الصدر الذى يطبق صدره على صدر المرأة عند المباضعة. وقال يعقوب: هو الذى لا يتجه لشىء. وفسره الخليل بأنه الغبى الأحمق، وقولها: كل داء له داء، أى كل شىء من أدواء الناس فهو فيه ومن أدوائه. وقول السابعة: زوجى إذا دخل فهد، فإنها تصفه بكثرة النوم والغفلة فى منزله على وجه المدح له، وذلك أن الفهد كثير النوم، يقال: أنوم من فهد، والذى أرادت أنه ليس يتفقد ما ذهب من ماله، ولا يلتفت إلى معايب البيت، وما فيه كأنه ساه عن ذلك، ومما يبينه قولها: ولا يسأل عما عهد، تعنى عما كان عندى قبل ذلك. وقولها: إن خرج أسد، تصفه بالشجاعة فى الحروب، يقال: أسد الرجل واستأسد بمعنى. وقول الثامنة: زوجى المس مس أرنب، فإنها تصفه بحسن الخلق، ولين الجانب كمس الأرنب إذا وضعت يدك على ظهرها. وقولها: والريح ريح زرنب، فإن فيه معنيين، قد تكون تريد طيب ريح جسده، ويمكن أن تريد طيب الثناء فى الناس وانتشاره فيهم كريح الزرنب، وهو نوع من أنواع الطيب معروف. وقول التاسعة: زوجى رفيع العماد، فإنها تصفه بالشرف وسناء(7/301)
الذكر، وأصل العماد عماد البيت وجمعها عمد، وهى العيدان التى تعمد بها البيوت، وإنما هذا مثل تعنى أن بيته فى حسبه رفيع فى قومه. وقولها: طويل النجاد، فإنها تصفه بامتداد القامة، والنجاد حمائل السيف، فهو يحتاج إلى قدر ذلك من طوله، وهذا مما يمتدح به الشعراء. وقولها: عظيم الرماد، فإنها تصفه بالجود وكثرة الضيافة من لحم الإبل وغيرها، فإذا فعل ذلك عظمت ناره وكثر وقودها، فيكون الرماد كثيرًا. وقولها: قريب البيت من النادى، تعنى أنه ينزل بين ظهرانى الناس ليعلموا مكانه، فينزل به الأضياف، ولا يستبعد منهم ولا يتوارى فرارًا من نزول الأضياف والنوائب. وقول العاشرة: زوجى مالك، وما مالك، مالك خير من ذلك، له إبل قليلات المسارح، كثيرات المبارك، تقول: إنه لا يوجههن ليسرحن نهارًا إلا قليلاً، ولكنهن يبركن بفنائه، فإن نزل به ضيف لم تكن الإبل غائبة عنه، ولكنها بحضرته فيقريه من ألبانها ولحومها. وقولها: إذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك، فالمزهر العود الذى يضرب به، فأرادت المرأة أن زوجها قد عود إبله إذا نزل به الضيف أن ينحر لهم ويسقيهم الشراب ويأتيهم بالمعازف، فإذا سمعت الإبل ذلك الصوت أيقن أنهن منحورات. قال أبو سعيد: إن كن لا يسرحن إلا قليلاً من النهار ثم تُحبس فى المبارك سائر النهار، فهى هالكة هزالاً، وإن كن يسرحن بالليل فقد ضاع أضياف الليل، والتفسير أن مسارحها قليلة لقلة الإبل، وكثرت مباركها بالفناء لكثرة ما تثار فتحلب ثم تترك، فالقليلة إذا فعل بها هذا كثرت مباركها. وقوله: المزهر العود فنحن ننكره؛ لأن العرب(7/302)
كانوا لا يعرفون العود إلا من خالط الحضر منهم، والعود إنما أحدث بمكة والمدينة، والذى نذهب إليه أنه المزهر، وهو الذى يزهر النار للأضياف والطراق، فإذا سمعت صوت ذلك وحسه أيقنت بالعقر. وقول الحادية عشرة: زوجى أبو زرع، وما أبو زرع، أناس من حلى أذنى، تريد حلانى قرطة وشنوفًا ينوس بأذنى، والنوس الحركة من كل شىء متدل، يقال منه: قد ناس ينوس نوسًا وأناسه غيره إناسة. قال أبو عبيد: وأخبرنى ابن الكلبى أن ذا نواس ملك اليمن إنما سمى بهذا لضفيرتين كانتا تنوسان على عاتقيه. وقولها: ملأ من شحم عضدى، لم ترد العضد خاصة، وإنما أرادت الجسد كله، تقول: إنه أسمننى بإحسانه إلىّ، فإذا سمن العضد سمن سائر الجسد. وقولها: بجحنى فبجحت، أى فرحنى ففرحت. وقد بجح الرجل يبجح، إذا فرح. وقولها: وجدنى فى أهل غنيمة بشق، والمحدثون يقولون: بشق، فمن قال بشق فهو موضع، تعنى أن أهلها كانوا أصحاب غنم، ليسوا بأصحاب خيل ولا إبل، قالت: فجعلنى فى أهل صهيل وأطيط، أى فى أصحاب خيل وإبل؛ لأن الصهيل أصوات الخيل والأطيط أصوات الإبل. وقولها: دائس ومنق، فإن بعض الناس يتأوله دياس الطعام، وأهل الشام يسمونه الدراس، وأهل العراق يقولون: دائس الطعام، ولا أظن واحدة من هاتين الكلمتين من كلام العرب. وأما قول(7/303)
المحدثين: منق، فلا أدرى معناه، وأحسبه منق من تنقية الطعام، وأرادت أنهم أصحاب زرع. وقال أبو سعيد: الدياس الطعام الذى أهله فى دياسة، وعندهم من الطعام مقتنى، فخيرهم متصل. وقال غيره: قوله: منق، هو مأخوذ من نقنقة الدجاجة، يقال: أنق الرجل، إذا اتخذ دجاجة تنقنق، تقول: فجعلنى فى أهل طير، أى نقلنى من قفر إلى عمران. قال أبو عبيد: وقولها: فلا أقبح، أى فلا يقبح على قولى، يقبل منى، وأما التقمح من الشراب فهو مأخوذ من الناقة المقامح. قال الأصمعى: وهى التى ترد الماء فلا تشرب. قال أبو عبيد: وأحسب قولها: أتقمح، أروى حتى أدع الشرب من شدة الرى. قال أبو عبيد: ولا أراها قالت هذا إلا من عزة الماء عندهم، وكل رافع رأسه فهو مقامح وقامح، وفى التنزيل: (إلى الأذقان فهم مقمحون) [يس: 8] ، وبعض الناس يروونه فأتقنح، بالنون ولا أعرف هذا الحرف، ولا أراه إلا بالميم. وقال أبو سعيد: أشرب فأتقنح، هو الشرب على رسل لكثرة اللبن؛ لأنها ليست بناهبة غيرها الشرب، وإنما ينتهب ما كان قليلاً يخاف عجزه، وقول الرجل لصاحبه إذا حثه على أن يأكل أو يشرب: والله لتقمحنه، والتقمح الازدياد من الشرب. وقال ابن السكيت فى التقنح بالنون الذى لم يعرفه أبو عبيد أتقنح: أقطع الشراب. قال أبو زيد: قال الكلابيون: قنحت تقنح قنحًا، وهو التكاثر فى الشراب بعد الرى. وقال أبو حنيفة: يقال: قنحت من الشراب قنحًا، وقنحت أقنح قنحًا، تكارهت عليه بعد الرى،(7/304)
والغالب تقنحت والترنح كالتقنح. قال أبو عبيد: وقولها: عكومها رداح، فالعكوم الأعدال والأحمال التى فيها الأوعية من صنوف الأطعمة من جميع المتاع، واحدها عكم، والرداح العظيمة، تقول: هى عظيمة الحشو. وقولها: كمسل شطبة، والشطبة أصلها ما شطب من جريد النخل، وهو سعفه، وذلك أن تشق منه قضبان دقاق تنسج منه الحصر، يقال منه للمرأة التى تفعل ذلك شاطبة، وجمعها شواطب، فأخبرت المرأة أنه مهفهف ضرب اللحم، شبهته بتلك الشطبة، وهو مما يمدح به الرجل. وقال أبو سعيد: كمسل شطبة، أى كسيف مسلول، شبهته بذى شطب يمان، وسيوف اليمن كلها شطبة. قال أبو عبيد: وقولها: وتشبعه ذراع الجفرة، فالجفرة الأنثى من أولاد الغنم، والذكر جفر، والعرب تمدح الرجل بقلة الأكل والشرب، قال الأعشى: تكفيه حزة فلذ إن ألم بها من الشواء ويروى شربه الغمر وقولها: لا تبث حديثنا تبثيثًا، ويروى تنث بالنون، وأحدهما قريب المعنى من الآخر، أى لا تظهر سرنا. وقولها: ولا تنفث ميرتنا تنفيثًا، تعنى الطعام، لا تأخذه(7/305)
فتذهب به، تصفها بالأمانة، والتنفث الإسراع فى السير. وقال أبو سعيد: التنفيث إخراج ما فى منزل أهلها إلى الأجانب، وهو النفث والتنفث، والفاء والثاء يتعاقبان. قال أبو عبيد: والأوطاب أسقية اللبن، واحدها وطب. وقال أبو سعيد النيسابورى: هذا منكر فى العربية أن يكون فعل يجمع على أفعال، لا يقال: كلب وأكلاب، ولا وجه وأوجاه، وإنما الصحيح الأوطب فى القلة والأوطاب فى الكثرة. قال أبو عبيد: قالت: فلقى امرأة معها ولدان كالفهدين يلعبان من تحت خصرها برمانتين، تعنى أنها ذات كفل عظيم، فإذا استقلت نأى الكفل بها من الأرض حتى تصير تحت خصرها فجوة يجرى فيها الرمان. قال أبو عبيد: وبعض الناس يذهب بالرمانتين أنهما الثديان، وليس هذا بموضعه. قالت: فطلقنى ونكحها، ونكحت بعده رجلاً سريًا ركب شريًا، تعنى الفرس أنه يستشرى فى سيره، أى يلج ويمضى فيه بلا فتور ولا انكسار، ومن هذا قيل للرجل إذا لج فى الأمر: قد شرى فيه واستشرى.(7/306)
قال ابن السكيت: ركب فرسًا شريًا، أى خيارًا، من قولهم: هذا من سراة المال أى خياره. قال أبو عبيد: وقولها: أخذ خطيا، تعنى الرمح، سمى خطيا لأنه يأتى من بلاد من ناحية البحرين، يقال لها: الخط، فنسبت الرماح إليها، وإنما أصل الرماح من الهند، ولكنها تحمل إلى الخط فى البحرين ثم يفرق منها فى البلاد. وقولها: نعمًا ثريا، تعنى الإبل، والثراء الكثير من المال وغيره. قال الكسائى: يقال: قد ثرى بنو فلان بنى فلان يثرونهم، إذا كثروهم فكانوا أكثر منهم.
59 - بَاب مَوْعِظَةِ الرَّجُلِ ابْنَتَهُ لِحَالِ زَوْجِهَا
/ 80 - فيه: ابْن عَبَّاس، لَمْ أَزَلْ حَرِيصًا عَلَى أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ، عَنِ الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تظاهرتا على رسول اللَّه. . . وساق الحديث. وَقَالَ عُمَر: وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى الأنْصَارِ، إِذَا قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَأْخُذْنَ مِنْ أَدَبِ نِسَاءِ الأنْصَارِ، فَصَخِبْتُ عَلَى امْرَأَتِى، فَرَاجَعَتْنِى، فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِى، قَالَتْ: وَلِمَ تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ، فَوَاللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، لَيُرَاجِعْنَهُ، وَإِنَّ إِحْدَاهُنَّ لَتَهْجُرُهُ إلى اللَّيْلِ، فَأَفْزَعَنِى ذَلِكَ، فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَقُلْتُ: أَىْ حَفْصَةُ، أَتُغَاضِبُ إِحْدَاكُنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) الْيَوْمَ(7/307)
حَتَّى اللَّيْلِ؟ فقَالَتْ: نَعَمْ، فَقُلْتُ: قَدْ خِبْتِ وَخَسِرْتِ، أَفَتَأْمَنِينَ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ لِغَضَبِ رَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) فَتَهْلِكِى، لا تَسْتَكْثِرِى النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَلا تُرَاجِعِيهِ فِى شَىْءٍ، وَلا تَهْجُرِيهِ، وَسَلِينِى مَا بَدَا لَكِ، وَلا يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ، أَوْضَأَ مِنْكِ، وَأَحَبَّ إِلَى النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، يُرِيدُ عَائِشَةَ. . . وذكر الحديث. قال المهلب: فيه الترجمة. وفيه بذل الرجل المال لابنته لتحسن عشرتها مع زوجها؛ لأن ذلك صيانة لعرضه وعرضها، وبذل المال لصيانة العرض واجب. وفيه: تعريض الرجل لابنته بترك الاستكثار من الزوج إذا كان ذلك يؤذيه ويحرجه. وفيه: سؤال العالم عن بعض أمور أهله إذا كان فى ذلك سنة تنقل ومسألة تحفظ، وإن كان فيه عليه غضاضة وإن كان من سره. وفيه: توقير العالم عما يخشى أن يحسمه والمطل بذلك حتى يخشى فواته، فإذا خشى ذلك جاز للطالب أن يفتش عما فيه غضاضة وعما لا غضاضة فيه. وفيه: إجابة العالم فى ابنته وفى امرأته بما سلف لها من خطأ وما ضلت فيه من سنة. وفيه: سؤال العالم فى الخلوات وفى موضع التبرز لاسيما إذا كان فى شىء من أمر نسائه وأسراره لا يجب أن يسأل عن ذلك فى جماعة الناس ويترقب المواضع الخالية. قال الطبرى: وفيه الدلالة الواضحة على أن الذى هو أصلح(7/308)
للمرء وأحسن به الصبر على أذى أهله والإغضاء عنهم، والصفح عما يناله منهن من مكروه فى ذات نفسه دون ما كان فى ذات الله، وذلك للذى ذكره عمر، عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من صبره على ما يكون إليه منهن من الشر على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأذاهن له وهجرهن له. ولم يذكر عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه عاقبهن على ذلك، بل ذكر أن عمر هو الذى وعظهن عليه دون رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وبنحو الذى ذكر عمر من خلق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تتابعت الأخبار عنه، وإلى مثله ندب أمته عليه السلام. وروى هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلى) ، وروى هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن زمعة، قال: خطب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فذكر النساء، فقال: (علام يعمد أحدكم فيجلد امرأته جلد العبد، ولعله يضاجعها من يومه) . فإن قال قائل: فإن كان الفضل فى الصبر على أذاهن واحتمال مكروههن فما وجه الخبر الذى روى ابن أبى ليلى، عن داود بن على بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن ابن عباس، أن النبى، عليه السلام، قال: (علق سوطك حيث تراه الخادم) ، وحديث محمد بن واسع، عن عبد الله بن الصامت، عن أبى ذر، قال رجل: يا رسول الله، أوصنى، قال: (أخف أهلك ولا ترفع عنهم عصاك) .(7/309)
قيل: قد اختلف العلماء فى ذلك، فقال بعضهم: هذه أحاديث لا يجوز الاحتجاج بها لوهاء أسانيدها، وأفضل ما تخلق به الرجل فى أهله الصفح عنهن على ما صح به الخبر، عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . وقال آخرون بتصحيح هذه الأخبار، ثم اختلفوا فى معناها، فقال بعضهم: معنى ذلك أن يضرب الرجل امرأته إذا أراد منها ما تكره فيما يجب عليها فيه طاعته، واعتلوا بأن جماعة من أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) والتابعين كانوا يفعلون ذلك. روى عن جرير، عن مغيرة، عن أم موسى، قال: كانت ابنة على بن أبى طالب تحت عبد الله بن أبى سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، فربما ضربها فتجىء إلى الحسن بن على تشتكى، وقد لزق درع حرير بجسدها من الضرب، فيقسم عليها لترجعن إلى بيت زوجها. وروى أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء، قالت: كنت رابعة أربع نسوة تحت الزبير، فكان إذا عتب على إحدانا فك عودًا من المشجب فضربها به حتى يكسره عليها. وروى شعبة، عن عمارة، قال: دخلت على أبى مجلز، فدار بينه وبين امرأته كلام، فرفع العصا فشجها قدر نصف أنملة أصبعه. وكان محمد بن عجلان يحدث بقوله، عليه السلام: (لا ترفع عصاك عن أهلك) ، فكان يشترى سوطًا فيعلقه فى قبته لتنظر إليه امرأته وأهله. وقال آخرون: بل ذلك أمر من النبى، عليه السلام، بأدب أهلهم(7/310)
ووعظهم، وألا يخلو من تفقدهم بما يكون لهن مانعًا من الفساد عليهم والخلاف لأمرهم. قالوا: وذلك من قول العرب: شق فلان عصا المسلمين، إذا خالف ألفتهم وفارق جماعتهم. قالوا: ومن ذلك قيل للرجل إذا أقام بالمكان واستقر به واجتمع إليه أمره: قد ألقى فلان عصاه، وضرب فيه أرواقه. وأما ضربها لغير الهجر فى المضجع، فغير جائز له ذلك، بل محرم عليه، قالوا: وقد حرم الله أذى المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا، فكذلك ضربهن بغير ما اكتسبن حرام، والصواب أنه غير جائز لأحد ضرب أحد ولا أذاه إلا بالحق، لقوله تعالى: (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا) [الأحزاب: 58] ، سواء كان المضروب امرأة وضاربها زوجها، أو مملوكًا وضاربه مولاه، أو صغيرًا وضاربه والده، أو وصى لأبيه عليه؛ لأن الله أباح لهؤلاء ضرب من ذكرنا بالمعروف، على ما فيه صلاحهم. وأما قوله عليه السلام للذى قال له: أوصنى، قال: (لا تضع عصاك عن أهلك وأخفهم فى الله) ، فمعناه عندى بخلاف قول من وجهه إلى أنه أراد به وعظ أهله، وإنما ذلك حض منه، عليه السلام، على ترهيب أهله فى ذات الله بالضرب؛ لئلا يركبوا موبقة ويكسبوا سيئة باقيًا عليه عارها، إذ كان النبى، عليه السلام، قد جعله قيمًا على أهله وراعيًا عليهن، كما جعل الأمير راعيًا على رعيته، وعلى الراعى سياسة رعيته بما فيه صلاحهم دنيا ودينًا. والدليل على أن قوله، عليه السلام: (لا تضع عصاك عن أهلك. . .) ،(7/311)
هو ما قلنا، قوله عليه السلام لفاطمة بنت قيس: (أما أبو جهل، فلا يضع عصاه عن عاتقه) ، فأعلمها بذلك غلظته على أهله وشدته عليهم، فلو كان معناه: (لا تضع عصاك عن أهلك) ، لا تخلهم من تأديبك بالوعظ والتذكير عند الترهيب بالضرب عند ركوبها ما لا يحل لها، لم يكن لتزهيده، عليه السلام، فاطمة فى أبى جهم بما وصفه به من ترك وضع عصاه عن أهله معنى، إذ كان الوعظ والتذكير لا يوجبان لصاحبهما ذما. وقد جاء هذا المعنى بينًا فى بعض الروايات: روى شعبة، عن أبى بكر بن أبى الجهم، قال: دخلت أنا وأبو سلمة على فاطمة بنت قيس، فحدثنا بحديثها، وأن النبى، عليه السلام، قال لها: أبو جهم يضرب النساء، أو فيه شدة على النساء، فمعنى قوله عليه السلام فى أبى جهم: (لا يضع عصاه عن عاتقه) ، يعنى فى الحق والباطل وفيما يجب وفيما لا يجب. ومن كان كذلك، فلا شك أنه غير متبع قوله عليه السلام: (لا تضع عصاك عن أهلك) ؛ لأنه عليه السلام لا يأمر بضرب أحد من غير حق، بل ذلك مما نهى عنه، عليه السلام، بقوله: (اتقوا الله فى النساء، فإنهن عندكم عوان) . وفيه: أن لذى السلطان وغيره اتخاذ حجبة تحول بينه وبين من أراده، ومن الوصول إليه إلا بإذنه لهم؛ لقول عمر: والنبى عليه السلام فى مشربة له وعلى بابه غلام أسود. وفيه: بيان أن ما روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه لم يكن له بواب أن معناه لم(7/312)
يكن له بواب فى الأوقات التى يظهر فيها، عليه السلام، لحاجات الناس، ويبرز لهم فيها، فأما فى الأوقات التى كان يخلو بنفسه فيها فيما لابد له منه، فإنه قلما كان يتخذ فيها أحيانًا بوابًا وحاجبًا ليعلم من قصده أنه خال بما لابد له منه من قضاء حاجة، وتلك هى الحال التى وصف عمر أنه وجد على باب مشربته بوابًا، وسيأتى زيادة فى هذا المعنى فى كتاب الأحكام فى باب ما ذكر أن النبى، عليه السلام، لم يكن له بواب. قال المهلب: وفيه أن للإمام والعالم أن يحتجب فى بعض الأوقات عن بطانته وخاصته عندما يطرقه ويحدث عليه من المشقة مع أهله وغيرهم حتى يذهب ما بنفسه من ذلك ليلقى الناس بعد ذلك، وهو منبسط إليهم غير مستنكر لما عرض له. وفى سكوته، عليه السلام، عن الإذن لعمر فى تلك الحال الرفق بالأصهار والحياء منهم عندما يقع للرجل مع أهله؛ لأنه لو أمر غلامه فرد عمر وصرفه لم يجز لعمر أن يتضرب مرة بعد أخرى حتى أذن له، عليه السلام، ودخل عليه، فدل ذلك أن السكوت قد يكون أبلغ من الكلام، وأفضل فى بعض الأحايين. قال الطبرى: وفيه الإبانة عن أن كل لذة وشهوة قضاها المرء فى الدنيا فيما له مندوحة عنها، فهو استعجال بذلك من نعيم الآخرة الذى لو لم يستعجله فى الدنيا كان مدخورًا له فى الآخرة، وذلك لقوله، عليه السلام، لعمر: (أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم فى حياتهم الدنيا) ، فأخبر أن ما أوتيه فارس والروم من نعيم الدنيا تعجيل من الله لهم نظير ما دخر لأهل ولايته عنده؛(7/313)
فكره لأمته أن تؤتى مثل ما أوتى فارس والروم على سبيل التلذذ والتنعم، فأما على صرفه فى وجهه وتفريقه فى سبله التى أمر الله بوضعه فيها، فلا شك فى فضل ذلك وشرف منزلته، إذ هو من منازل الامتحان والصبر على المحن، مع أن الشكر على النعم أفضل من الصبر على الضراء وحدها. تفسير ما فيه الغريب: قوله: فتبرز، يعنى خرج إلى البراز، وهو ما برز عن البيوت والدور وبعد. وقوله: فسكبت على يديه ماء، يعنى صببت، يقال: سكبت أسكب سكبًا، وهو ماء سكوب، إذا سال. والعوالى جمع عالية، وهو ما ارتفع من نجد إلى تهامة، والسوافل ما يسفل من ذلك. وقوله: كنا نتناوب النزول، يعنى كنا نجعله نوبًا أنزل أنا مرة وينزل هو أخرى، ومن ذلك قيل: نابت فلانًا نائبة، إذا حدثت به حادثة، والنوب عند العرب، القرب. وقوله: تراجعنى الكلام، يعنى ترادنى الكلام، ومنه قوله تعالى: (إنه على رجعه لقادر) [الطارق: 8] ، قيل: عنى به رد الماء فى الصلب، وقيل: عنى به رد الإنسان إلى الصغر بعد الكبر، وقيل: عنى به رد الإنسان بعد مماته لهيئته قبل مماته. وقوله: لا يغرنك أن كانت جارتك أوضأ منك، يعنى ضرتك، والجارة عند العرب الضرة، ومنه قول حمل بن مالك:(7/314)
كنت بين جارتين لى، يعنى ضرتين، ومنه قول ابن سيرين: كانوا يكرهون أن يقولوا ضرة، ويقولون: أنها لا تذهب من رزقها بشىء، ويقولون: جارة، والعرب تسمى صاحب الرجل وخليطه جاره والصاحبة والخليطة جارة، وتسمى زوجة الرجل جارته لاصطحابهما ومخالطة كل واحد منهما صاحبه، وقد تقدم ذلك فى كتاب الشفعة عند قوله عليه السلام: الجار أحق بصقبه. وقوله: أوضأ منك، يعنى أجمل منك، من الوضاءة، وهو الجمال. والمشربة الخزانة التى يكون فيها طعامه وشرابه، وقيل لها: مشربة، فيما أرى؛ لأنهم كانوا يخزنون فيها شرابهم، كما قيل للمكان الذى تطلع عليه الشمس وتشرق فيه: ضاحية مشرقة. وقوله: على رمال حصير، يقال: رملت الحصير: نسجته، وحصير مرمول: منسوج، والرمل: هو النسج، والراملة: الناسجة. وقوله: غير أهبة ثلاثة، هو جمع إهاب، وهو الجلد غير المدبوغ، يجمع أهبًا وأهبة.
60 - بَاب صَوْمِ الْمَرْأَةِ بِإِذْنِ زَوْجِهَا تَطَوُّعًا
/ 81 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (لا تَصُومُ الْمَرْأَةُ وَبَعْلُهَا شَاهِدٌ، إِلا بِإِذْنِهِ) . قال المهلب: هذا الصوم المنهى عنه المرأة إلا بإذن زوجها هو(7/315)
صوم التطوع عند العلماء، كما ترجم به البخارى؛ لإجماعهم على أن الزوج ليس له أن يمنعها من أداء الفرائض اللازمة لها، وقوله، عليه السلام: (لا تصوم. . . إلا بإذنه) ، هو محمول على الندب لا على الإلزام، وإنما هو من حسن المعاشرة وخوف المخالفة التى هى سبب البغضة، ولها أن تفعل من غير الفرائض ما لا يضره ولا يمنعه من واجباته بغير إذنه، وليس له أن يبطل عليها شيئًا من طاعة الله عز وجل، إذا دخلت فيه بغير إذنه. وفيه: حجة لمالك ومن وافقه فى أن من أفطر فى صيام التطوع عامدًا أن عليه القضاء؛ لأنه لو كان للرجل أن يفسد عليها صومها بجماع ما احتاجت إلى إذنه، ولو كان مباحًا كان إذنه لا معنى له، وهو قول أبى حنيفة، وأبى ثور، وقال الشافعى، وأحمد، وإسحاق: لا قضاء عليها. وفيه: أن حقوق الزوج آكد على المرأة من التطوع بالخير.
61 - بَاب إِذَا بَاتَتِ الْمَرْأَةُ مُهَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجِهَا
/ 82 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ، فَأَبَتْ أَنْ تَجِىءَ، لَعَنَتْهَا الْمَلائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ) . قال المهلب: هذا يوجب أن منع الحقوق كلها فى الأبدان كانت أو فى الأموال مما يوجب سخط الله تعالى، إلا أن يتغمدها بعفوه.(7/316)
وفيه: جواز لعن العاصى المسلم إذا كان على وجه الإرهاب عليه؛ لئلا يواقع الفعل، فإذا واقعه فإنه يدعى له بالتوبة والهداية. وفيه: أن الملائكة تدعوا على أهل المعاصى ما داموا فى المعصية، وذلك يدل أنهم يدعون لأهل الطاعة ما داموا فيها.
62 - بَاب لا تَأْذَنِ الْمَرْأَةُ فِى بَيْتِ زَوْجِهَا إِلا بِإِذْنِهِ
/ 83 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى، عَلَيْهِ السَّلام: (لا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إِلا بِإِذْنِهِ، وَلا تَأْذَنَ فِى بَيْتِهِ إِلا بِإِذْنِهِ، وَمَا أَنْفَقَتْ مِنْ نَفَقَةٍ عَنْ غَيْرِ أَمْرِهِ، فَإِنَّهُ يُؤَدَّى إِلَيْهِ شَطْرُهُ) . قال المهلب: قوله: (لا تأذن فى بيت زوجها إلا بإذنه) ، يعنى لا لرجل ولا لامرأة يكرهها زوجها، فإن ذلك يوجب سوء الظن، ويبعث الغيرة التى هى سبب القطيعة، ويشهد لهذا قوله عليه السلام: (انظرن ما أخواتكن) ، وإن كان الإذن للنساء أخف من الإذن للرجال. فإن قيل: قد جاء لفظ حديث أبى هريرة مختلفًا، وذلك أنه ذكر فى كتاب الطلاق أنه قال: (إذا أنفقت المرأة من كسب زوجها من غير أمره، فله نصف أجره) ، فهل يعارض قوله عليه السلام: (فإنه يؤدى إليه شطره) ، أم لا؟ قيل: لا تعارض بينهما، بل أحد اللفظين مفسر للآخر، وذلك أن هذا الحديث إنما ورد فى المرأة إذا تصدقت من مال زوجها بغير إذنه بالمعروف مما تعلم أنه يسمح به ولا يتشاح به. وقوله: (فله نصف أجره) ، يفسر قوله: (يؤدى إليه شطره) ، يعنى يتأدى إليه من أجر الصدقة مثل ما يتأدى إلى المتصدق من الأجر، ويصيران فى الأجر نصفين، ويشهد لهذا قوله عليه السلام: (الدال على الخير كفاعله) ، وهذا يقتضى المساواة.(7/317)
63 - بَاب
/ 84 - فيه: أُسَامَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، قَالَ: (قُمْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَكَانَ عَامَّةَ مَنْ دَخَلَهَا الْمَسَاكِينُ، وَأَصْحَابُ الْجَدِّ مَحْبُوسُونَ، غَيْرَ أَنَّ أَصْحَابَ النَّارِ قَدْ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ، وَقُمْتُ عَلَى بَابِ النَّارِ فَإِذَا عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا النِّسَاءُ) . قال المهلب: فيه من الفقه أن أقرب ما يدخل به الجنة التواضع لله تعالى، وأن أبعد الأشياء من الجنة التكبر بالمال وغيره، وإنما صار أصحاب الجد محبوسون لمنعهم حقوق الله الواجبة للفقراء فى أموالهم، فحبسوا للحساب عما منعوه، فأما من أدى حقوق الله فى أمواله، فإنه لا يحبس عن الجنة، إلا أنهم قليل، إذ كثر شأن المال تضيع حقوق الله فيه؛ لأنه محنة وفتنة، ألا ترى قوله: (فكان عامة من دخلها المساكين) ، وهذا يدل أن الذين يؤدون حقوق المال ويسلمون من فتنتة هم الأقل، وقد احتج بهذا الحديث فى فضل الفقر على الغنى، وسيأتى الكلام فى ذلك فى كتاب الزهد، إن شاء الله.
64 - بَاب كُفْرَانِ الْعَشِيرِ وَهُوَ الزَّوْجُ، وَهُوَ الْخَلِيطُ مِنَ الْمُعَاشَرَةِ
/ 85 - فِيهِ: عَنْ أَبِى سَعِيدٍ عَنِ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام. / 86 - وفيه: ابْن عَبَّاس، خَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَصَلَّى وَالنَّاسُ مَعَهُ. . . . وذكر الحديث إلى قوله: (رَأَيْتُ النَّارَ فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ مَنْظَرًا قَطُّ، وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ) ، قَالُوا: بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (بِكُفْرِهِنَّ) ،(7/318)
قِيلَ: يَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: (يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الإحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ) . / 87 - وفيه: عِمْرَانَ بن حصين، عَنِ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، قَالَ: (اطَّلَعْتُ فِى الْجَنَّةِ، فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ، وَاطَّلَعْتُ فِى النَّارِ، فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ) . قال المهلب: إنما استحق النساء النار بكفرانهن العشير من أجل أنهن يكثرن ذلك الدهر كله، ألا ترى أن النبى، عليه السلام، قد فسره، فقال: (لو أحسنت إلى إحداهن الدهر) ، لجازت ذلك بالكفران الدهر كله، فغلب استيلاء الكفران على دهرها، فكأنها مصرة أبدًا على الكفر، والإصرار من أكبر أسباب النار. وفى هذا الحديث تعظيم حق الزوج على المرأة، وأنه يجب عليها شكره والاعتراف بفضله؛ لستره لها وصيانته وقيامه بمؤنتها وبذله نفسه فى ذلك، ومن أجل هذا فضل الله الرجال على النساء فى غير موضع من كتابه، فقال: (الرجال قوامون على النساء بما فضل) [النساء: 34] الآية، وقال: (وللرجال عليهن درجة) [البقرة: 228] ، وقد أمر عليه السلام من أسديت إليه نعمة أن يشكرها، فكيف نعم الزوج التى لا تنفك المرأة منها دهرها كله؟ وقد قال بعض العلماء: شكر الإنعام فرض. واحتج بقوله عليه السلام: (من أسديت إليه نعمة فليشكرها) ، وبقوله: (أن اشكر لى ولوالديك) [لقمان: 14] ، فقرن بشكره شكر الآباء، قال: فكذلك(7/319)
شكر غيرهم واجب، وقد يكون شكر النعمة فى نشرها، ويكون فى أقل من ذلك، فيجزئ فيه الإقرار بالنعمة والمعرفة بقدر الحاجة. وفيه أن الكسوف والزلازل والآيات الحادثة إنما هى كما قال الله: (وما نرسل بالآيات إلا تخويفًا) [الإسراء: 59] ، وأمرهم عليه السلام عند رؤية آيات الله بالفزع إلى الصلاة، فدل أن الصلاة تصرف النقم، وبها يعتصم من المحن، إذ هى أفضل الأعمال.
65 - بَاب لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقٌّ قَالَهُ أَبُو جُحَيْفَةَ عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم)
. / 88 - فيه: عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَمْرِو، قال النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (يَا عَبْدَاللَّهِ، أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ، وَتَقُومُ اللَّيْلَ) ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (فَلا تَفْعَلْ، صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا) . لما ذكر فى الباب قبل هذا حق الزوج على المرأة، ذكر فى هذا الباب حق المرأة على الزوج، وأنه لا ينبغى له أن يجحف نفسه فى العبادة حتى يضعف عن القيام بحق أهله من جماعها والكسب عليها. واختلف العلماء فى الرجل يشتغل بالعبادة عن حقوق أهله، فقال(7/320)
مالك: إذا كف عن جماع أهله من غير ضرورة لا يترك حتى يجامع أو يفارق على ما أحب أو كره؛ لأنه مضار بها. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يؤمر أن يبيت عندها ويفطر لها. وقال الشافعى: لا يفرض عليه من الجماع شىء بعينه وإنما تفرض لها النفقة والكسوة والسكنى، وأن يأوى إليها. وقال الثورى: إذا شكت المرأة أنه لا يأتيها زوجها له ثلاثة أيام ولها يوم وليلة، وبه قال أبو ثور. وقال ابن المنذر: وأعلى ما فى هذا الباب قول الثورى قياسًا على ما أباح الله للرجال من اتخاذ أربع نسوة. وروى عبد الرزاق، عن الثورى، عن مالك بن مغول، عن الشعبى، قال: جاءت امرأة إلى عمر، فقالت: يا أمير المؤمنين، زوجى خير الناس يصوم النهار ويقوم الليل، فقال عمر: لقد أحسنت الثناء على زوجك، فقال كعب بن سوار: لقد اشتكت فأعرضت الشكية، فقال عمر: اخرج من مقالتك، قال: أرى أن ينزل بمنزلة رجل له أربع نسوة له ثلاثة أيام ولياليها، ولها يوم وليلة. وروى ابن عيينة، عن زكريا، عن الشعبى، أن عمر قال لكعب: فإذا فهمت ذلك فاقض بينهما، فقال: يا أمير المؤمنين، أحل الله من النساء مثنى وثلاث ورباع، فلها من كل أربعة أيام يوم يفطر ويقيم عندها، ولها من كل أربع ليال ليلة يبيت عندها، فأمر عمر الزوج بذلك.(7/321)
66 - بَاب الْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِى بَيْتِ زَوْجِهَا
/ 89 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فى بَيْتِ زَوْجِهَا. . . . .) الحديث. كل من جعله الله أمينًا على شىء، فواجب عليه أداء النصيحة فيه، وبذل الجهد فى حفظه ورعايته؛ لأنه لا يسأل عن رعيته إلا من يلزمه القيام بالنظر لها وصلاح أمرها، وسيأتى الكلام فى هذا الحديث فى كتاب الأحكام، إن شاء الله تعالى.
67 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ (إِلَى قَوْلِهِ: (واضربوهن) [النساء 34]
/ 90 - فيه: أَنَس، آلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا، فَقَعَدَ فِى مَشْرُبَةٍ لَهُ، فَنَزَلَ لِتِسْعٍ وَعِشْرِينَ، فقَالَ: (الشَّهْرَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ) . قال المهلب: معنى هذا الباب أن الله تعالى أباح هجران الأزواج عند نشوزهن، ورخص فى ذلك عند ذنب أو معصية تكون منهن. وقال أهل التفسير فى قوله تعالى: (واللاتى تخافون نشوزهن) [النساء: 34] ، يعنى معصيتهن لأزواجهن، وأصل النشوز الارتفاع، فنشوز المرأة ارتفاعها عن حق زوجها، ففسر النبى (صلى الله عليه وسلم) مقدار ذلك الهجران بإيلائه شهرًا حين أسر النبى (صلى الله عليه وسلم) إلى حفصة، فأفشته إلى عائشة وتظاهرتا عليه.(7/322)
قيل: إنه أصاب جاريته مارية فى بيت حفصة ويومها. وقال الزجاج: فى يوم عائشة، وسألها أن تكتمه، فأخبرت به عائشة. وقيل: إنه شرب عسلاً عند زينب، وذلك الهجران لا يبلغ به الأربعة الأشهر التى ضربها الله أجل إعذار للمؤالى، وأمر الله أن يبدأ النساء بالموعظة أولا ثم بالهجران بعد ذلك، فإن لم ينجعا فيها، فالضرب ولكن يكون الضرب غير مبرح، وقوله: (بما فضل الله بعضهم على بعض) [النساء: 34] ، يعنى بما فضل الله به الرجال من القوة على الكسب بالحرث وغيرها، وبما أنفقوا من أموالهم فى المهور وغيرها، فهذا يوجب نفقة الرجال على النساء.
68 - بَاب هِجْرَةِ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، نِسَاءَهُ فِى غَيْرِ بُيُوتِهِنَّ
وَيُذْكَرُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ، رَفْعُهُ: (لا تُهْجَرَ إِلا فِى الْبَيْتِ) وَالأوَّلُ أَصَحُّ. / 91 - فيه: أُمَّ سَلَمَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، حَلَفَ لا يَدْخُلُ عَلَى بَعْضِ أَهْلِهِ شَهْرًا، فَلَمَّا مَضَى تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا، غَدَا عَلَيْهِنَّ. . . . الحديث. / 92 - وفيه: ابْن عَبَّاس، أَصْبَحْنَا يَوْمًا وَنِسَاءُ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) يَبْكِينَ، عِنْدَ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ أَهْلُهَا، فَخَرَجْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا هُوَ مَلآنُ مِنَ النَّاسِ، فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - فَصَعِدَ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) - وَهُوَ فِى غُرْفَةٍ لَهُ - فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ،(7/323)
ثُمَّ سَلَّمَ، فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، فَنَادَاهُ، فَدَخَلَ عَلَى النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَقَالَ: أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟ فَقَالَ: (لا، وَلَكِنْ آلَيْتُ مِنْهُنَّ شَهْرًا) ، فَمَكَثَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ. قال المهلب: هذا الذى أشار إليه البخارى من أن الهجران لا يكون إلا فى غير بيوت الزوجات من أجل ما فعله النبى (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأنه انفرد عنهن فى وقت الهجران فى مشربة واعتزل بيوتهن، وكأنه أراد البخارى أن يستن الناس به فى هجر نسائهم لما فيه من الرفق بالنساء؛ لأن هجرانهن مع الكون فى بيوتهن آلم لأنفسهن وأوجع لقلوبهن، لما يتطرق إليه من العتاب والغضب والإعراض، ولما فى غيبة الرجل عن أعينهن من تسليتهن عن الرجال. وهذا الذى أشار إليه ليس بواجب؛ لأن الله قد أمر بهجرانهن فى المضاجع فضلاً عن البيوت. وقال غيره: إنما اعتزلهن فى غير بيوتهن؛ لأنه أنكى لهن وأبلغ فى عقوبتهن. وروى ابن وهب، عن مالك، قال: بلغنى أن عمر بن عبد العزيز كان له نساء، فكان يغاضب بعضهن، فإذا كانت ليلتها جاء فبات عندها ولم يبت عند غيرها، وكان يفترش فى حجرتها فيبيت فيها، وتبيت هى فى بيتها. قلت لمالك: وذلك له واسع؟ قال: نعم، وذلك فى كتاب الله) واهجروهن فى المضاجع) [النساء: 34] . وقال ابن عباس: الهجران أن يكون الرجل وامرأته فى فراش واحد ولا يجامعها. وقال السدى: هجرها فى المضجع أن يرقد معها ويوليها ظهره، ويطأها ولا يكلمها. وقال ابن عباس نحوه، قال:(7/324)
يهجرها بلسانه ويغلظ لها بالقول، ولا يدع جماعها. ذكره الطبرى، فيكون معنى الآية على هذا القول: قولوا لهن من القول هجرًا فى تركهن مضاجعتكم.
69 - بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ ضَرْبِ النِّسَاءِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَاضْرِبُوهُنَّ (، أَىْ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ
/ 93 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (لا يَجْلِدُ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ، ثُمَّ يُجَامِعُهَا فِى آخِرِ الْيَوْمِ) . قال بعض أهل العراق: فأمر الله بهجر النساء فى المضاجع وضربهن تذليلاً منه للنساء وتصغيرًا لهن على إيذاء بعولتهن، ولم يأمر فى شىء من كتابه بالضرب صراحًا إلا فى ذلك وفى الحدود العظام، فساوى معصيتهن لأزواجهن بمعصية أهل الكبائر، وولى الأزواج ذلك دون الأئمة، وجعله لهم دون القضاة بغير شهود ولا بينات ائتمانًا من الله للأزواج على النساء. قال المهلب: وإنما يكره من ضرب النساء التعدى فيه والإسراف، وقد بين النبى (صلى الله عليه وسلم) ذلك، فقال: (ضرب العبد) ، فجعل ضرب العبد من أجل الرق فوق ضرب الحر لتباين حالتيهم، ولأن ضرب النساء إنما جوز من أجل امتناعها على زوجها فى المباضعة. واختلف فى وجوب ضربها فى الخدمة، والقياس يوجب إذا جاز ضربها فى المباضعة جاز فى الخدمة الواجبة للزوج عليها بالمعروف. وقوله: (ثم يجامعها ذلك اليوم) ، تقبيح من النبى (صلى الله عليه وسلم) للاضطراب(7/325)
وقرب التناقض لقلة الرياضة لهن بذلك؛ لأن المرأة إذا عرفت قرب الرجعة وسرعة الفيئة لم تعبأ بإيذائه، ولا يقع فيها ما ندب الله إليه من رياضتها، ويدل على ذلك طول هجران النبى (صلى الله عليه وسلم) لأزواجه المدة الطويلة، ولم يكن ذلك يومًا ولا يومين ولا ثلاثة، وكذلك كان هجران النبى (صلى الله عليه وسلم) والمسلمين لكعب بن مالك وصاحبيه حتى مضت خمسون ليلة. وقال قتادة فى قوله: (ضربًا غير مبرح) ، قال: يعنى غير شائن، وقال الحسن: غير مؤثر. وقد تقدم فى باب موعظة الرجل ابنته لحال زوجها اختلاف العلماء فى ضرب النساء، واختلاف الآثار فى ذلك، وبيان مذاهبهم، والحمد لله.
70 - بَاب لا تُطِيعُ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا فِى مَعْصِيَةٍ
/ 94 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الأنْصَارِ زَوَّجَتِ ابْنَتَهَا، فَتَمَعَّطَ شَعَرُ رَأْسِهَا، فَجَاءَتْ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَتْ: إِنَّ زَوْجَهَا أَمَرَنِى أَنْ أَصِلَ فِى شَعَرِهَا، فَقَالَ: (لا، إِنَّهُ قَدْ لُعِنَ الْمُوصِلاتُ) . قال المؤلف: واجب على المرأة ألا تطيع زوجها فى معصية، وكذلك كل من لزمته طاعة غيره من العباد، فلا تجوز طاعته له فى معصية الله تعالى، ويشهد لهذا قول النبى، عليه السلام، حين أمر على بعث أميرًا، وأمر الناس بطاعته، فأمرهم ذلك الأمير أن يقتحموا فى نار أججها لهم، فامتنعوا منها، وقالوا: لم ندخل(7/326)
الإسلام إلا فرارًا من النار، فذكر ذلك للنبى (صلى الله عليه وسلم) ، فقال: (والله لو دخلوها ما خرجوا منها أبدًا، إنما الطاعة فى المعروف) ، وصوب فعلهم، وقد روى عنه، عليه السلام، أنه قال: (لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق) . وقوله: (فتمعط شعرها) ، فالعرب تقول: معط الشعر وامعط معطًا إذا تمرط، ومعطته نتفته، والأمعط من الرجال السنوط. وقال أبو حاتم: الذئب يكنى أبا معطة، وفى كتاب العين: ذئب أمعط خبيث؛ لأن شعره تمعط فتأذى بالذباب.
71 - بَاب) وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا) [النساء: 128]
/ 95 - فيه: عَائِشَةَ،) وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا (قَالَتْ: هِىَ الْمَرْأَةُ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ لا يَسْتَكْثِرُ مِنْهَا، فَيُرِيدُ طَلاقَهَا وَيَتَزَوَّجُ غَيْرَهَا، وتَقُولُ لَهُ: أَمْسِكْنِى وَلا تُطَلِّقْنِى، ثُمَّ تَزَوَّجْ غَيْرِى، وَأَنْتَ فِى حِلٍّ مِنَ النَّفَقَةِ عَلَىَّ، وَالْقِسْمَةِ لِى، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَصَّالَحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) [النساء: 128] . أجمع العلماء على جواز هذا الصلح، وكذلك فعلت سودة بالنبى (صلى الله عليه وسلم) حين وهبت يومها لعائشة تبتغى بذلك مرضاة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، روى عكرمة عن ابن عباس، قال: خشيت سودة أن يطلقها النبى، عليه السلام، قالت: لا تطلقنى واحبسنى مع نسائك ولا تقسم لى،(7/327)
فنزلت: (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا) [النساء: 128] ، قال ابن عباس: نشوزًا يعنى البغض. وقال مجاهد: نزلت فى أبى السنابل بن بعكك. واختلفوا هل ينتقض هذا الصلح، فقال عبيدة: هما على ما اصطلحا عليه، فإن انتقضت فعليه أن يعدل عليها أو يفارقها، وبه قال النخعى، ومجاهد، وعطاء. وحكى ابن المنذر أنه قول الثورى، والشافعى، وأحمد. وقال الكوفيون: الصلح فى ذلك جائز. وقال ابن المنذر: لا أحفظ عنهم فى الرجوع شيئًا. وقال الحسن البصرى: ليس لها أن تنقض، وهما على ما اصطلحا عليه. وقول الحسن: هو قياس قول مالك فيمن أنظره بالدين أو أعاره عارية إلى مدة، أنه لا يرجع فى ذلك، وقول عبيدة هو قياس قول أبى حنيفة، والشافعى؛ لأنها هبة منافع طارئة لم تقبض، فجاز فيها الرجوع.
72 - بَاب الْعَزْلِ
/ 96 - فيه: جَابِر، كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ. / 97 - وفيه: أَبُو سَعِيد، أَصَبْنَا سَبْيًا، فَكُنَّا نَعْزِلُ، فَسَأَلْنَا النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (أَوَإِنَّكُمْ لَتَفْعَلُونَ؟ قَالَهَا ثَلاثًا، مَا مِنْ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلا وَهِىَ كَائِنَةٌ) . اختلف السلف فى العزل، فذكر مالك فى الموطأ، عن سعد بن أبى وقاص، وأبى أيوب الأنصارى، وزيد بن ثابت، وابن عباس، أنهم كانوا(7/328)
يعزلون، وذكره ابن المنذر، عن على بن أبى طالب، وخباب بن الأرت، وجابر بن عبد الله، وقال: كنا نفعله على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . وروى ذلك عن جماعة من التابعين منهم ابن المسيب، وطاوس، وبه قال مالك، والكوفيون، والشافعى، وجمهور العلماء. وكرهت طائفة العزل، ذكره ابن المنذر، عن أبى بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعن على بن أبى طالب، رواية أخرى، وعن ابن مسعود، وابن عمر. وحجة من أباحه حديث جابر، وروى ابن أبى شيبة، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبى الزبير، عن جابر، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أذن فى العزل، واحتجوا أيضًا بقوله: أو إنكم لتفعلون ذلك، ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة، إلا وهى كائنة، قالوا: ولا يفهم من قوله عليه السلام: (أو إنكم لتفعلون ذلك) ، إلا الإباحة. ويشهد لذلك قوله فى آخر الحديث: (ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهى كائنة) ، يقول: قد فرغ من الخلق، فاعزلوا أو لا تعزلوا، فإن قدر أن يكون ولد لم يمنعه العزل؛ لأنه قد يكون مع العزل إفضاء بقليل الماء الذى قدر الله أن يكون منه الولد، وقد يكون الاسترسال والإفضاء ولا يكون ولد، فالعزل والإفضاء سواء فى ألا يكون منه ولد إلا بتقدير الله، هذا معنى قول الطحاوى. قال: واحتج من كره العزل بما حدثنا إبراهيم بن محمد بن يونس، قال: حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ، حدثنا سعيد بن أبى أيوب، عن أبى الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل،(7/329)
عن عروة، عن عائشة، قالت: حدثتنى جدامة بنت وهب الأسدية، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) ذكر عنده العزل، فقال: (ذلك الوأد الخفى) ، وأنكر الذين أباحوا العزل حديث جدامة. ورووا عن النبى، عليه السلام، إنكار ذلك. روى أبو داود: حدثنا هشام، عن يحيى بن أبى كثير، عن محمد بن عبد الرحمن، عن أبى رفاعة، وقال مرة: عن أبى مطيع بن رفاعة، عن أبى سعيد الخدرى، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أتاه رجل، فقال: يا رسول الله، إن عندى جارية، وأنا أعزل عنها وأكره أن تحمل، وإن اليهود يقولون: هى الموءودة الصغرى، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (كذبت يهود، لو أن الله أراد أن يخلقه لم يستطع أحد أن يصرفه) . قال الطحاوى: فهذا أبو سعيد قد حكى عن النبى إكذاب من زعم أن العزل موءودة، ثم قد روى عن على دفع ذلك والتنبيه على فساده بمعنى لطيف حسن، روى الليث، عن معمر بن أبى حبيبة، عن عبيد الله بن عدى بن الخيار، قال: تذاكر أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عند عمر العزل، فاختلفوا فيه، فقال عمر: قد اختلفتم وأنتم أهل بدر الأخيار، فكيف بالناس بعدكم، فقال على: إنها لا تكون موءودة حتى تمر بالتارات السبع، قوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) [المؤمنون: 12] الآية، فعجب عمر من قوله، وقال: جزاك الله خيرًا،(7/330)
فأخبر على أنه لا يوأد إلا من قد نفخ فيه قبل ذلك، وما لم ينفخ فيه الروح موات غير موءود. وروى سفيان عن أبى الوداك أن قومًا سألوا ابن عباس عن العزل، فذكر مثل كلام على سواء. فهذا على وابن عباس قد اجتمعا على ما ذكرنا وتابعهما عمر، ومن كان يحضر من الصحابة، فدل على أن العزل غير مكروه، وذهب مالك، والشافعى، وجمهور العلماء، إلى أنه لا يعزل عن الحرة إلا بإذنها، فإن منعت زوجها لم يعزل. واختلفوا فى العزل عن الزوجة الأمة، فقال مالك والكوفيون: لا يعزل عنها إلا بإذن سيدها. وقال الثورى: لا يعزل عنها إلا بإذنها. وقال الشافعى: يعزل عنها دون إذنها ودون إذن مولاها.
73 - بَاب الْقُرْعَةِ بَيْنَ النِّسَاءِ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا
/ 98 - فيه: عَائِشَةَ قالت: كَانَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام، إِذَا خَرَجَ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَطَارَتِ الْقُرْعَةُ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ، وَكَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا كَانَ بِاللَّيْلِ سَارَ مَعَ عَائِشَةَ يَتَحَدَّثُ، فَقَالَتْ حَفْصَةُ: أَلا تَرْكَبِينَ اللَّيْلَةَ بَعِيرِى وَأَرْكَبُ بَعِيرَكِ؟ تَنْظُرِينَ وَأَنْظُرُ، فَقَالَتْ: بَلَى، فَرَكِبَتْ فَجَاءَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى جَمَلِ عَائِشَةَ وَعَلَيْهِ حَفْصَةُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهَا، ثُمَّ سَارَ حَتَّى نَزَلُوا، وَافْتَقَدَتْهُ عَائِشَةُ، فَلَمَّا نَزَلُوا جَعَلَتْ رِجْلَيْهَا بَيْنَ الإذْخِرِ، وَتَقُولُ: يَا رَبِّ سَلِّطْ عَلَىَّ عَقْرَبًا أَوْ حَيَّةً تَلْدَغُنِى، وَلا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقُولَ لَهُ شَيْئًا. قال ابن القصار: إذا أراد أن يسافر بإحدى نسائه، فاختلف قول(7/331)
مالك فى ذلك، فقال: ليس له أن يسافر بمن شاء منهن بغير قرعة، وهو قول أبى حنيفة، والشافعى، وقال مرة: له أن يسافر بمن شاء منهن بغير قرعة. ووجه القول الأول حديث عائشة، أن النبى، عليه السلام، كان إذا سافر أقرع بين نسائه، وفعله سنة لا يجوز العدول عنها. ووجه القول الثانى أن له ذلك بغير قرعة هو أن ضرورته فى السفر أشد منها فى الحضر، فيحتاج إلى من هى أرفق به من نسائه، وأعون له على أموره، وأقوى على الحركة، فلذلك جاز له بغير قرعة. قال المهلب: وفيه العمل بالقرعة فى المقاسمات والاستهام، وقد تقدم فى كتاب القسمة والشركة، وهو مذكور أيضًا فى آخر كتاب الشهادات والأيمان. وفيه: أن القسم يكون بالليل والنهار، وقد بان ذلك فى حديث عائشة، قالت: فكان يقسم لكل امرأة منهن يومها وليلتها، ذكره البخارى فى باب القرعة فى المشكلات فى آخر كتاب الشهادات، فى غير موضع. وفيه: أن الاستهام بين النساء من السنن وليس من الفرائض، يدل على ذلك أن مدة السفر لا تحاسب بها المتخلفة من النساء الغادية، بل يبتدئ القسم بينهن إذا قدم على سبيل ما تقدم قبل سفره، ولا خلاف بين أئمة الفتوى فى أن الحاضرة لا تقاضى المسافرة بشىء من الأيام التى انفردت بها فى السفر عند قدومه، ويعدل بينهن فيما يستقبل، ذكره ابن المنذر، عن مالك، والكوفيين، والشافعى، وأبى عبيد، وأبى ثور.(7/332)
قال المهلب: وفى تحيل حفصة على عائشة فى بدل بعيرها فى الركوب دليل على أنه ليس من الفروض؛ لأن حفصة لا يحل لها من النبى (صلى الله عليه وسلم) إلا ما أباحه لها وبذله من نفسه، وقد تحيلت ولم يبين لها النبى (صلى الله عليه وسلم) أن ذلك لا يحل لها. وذكر ابن المنذر أن القسمة تجب بينهن كما تجب النفقة، وهذا يدل أن القسم بينهن فريضة، وقول أهل العلم يدل على ذلك، قال مالك: الصغيرة التى قد جومعت والكبيرة البالغ فى القسم سواء. وقال الكوفيون فى المرأة لم تبلغ إذا كان قد جامعها: أنها والتى قد أدركت فى القسم سواء، وهو قول أبى ثور. وقال الشافعى: إذا أعطاها مالاً على أن تحلله من يومها وليلتها فقبلت، فالعطية مردودة، وعليه أن يوفيها حقها. قال المهلب: ففيه أن دعاء الإنسان على نفسه عند الحرج وما شاكله يعفو الله عنه فى أغلب الحال؛ لقوله تعالى: (ولو يجعل الله للناس الشر) [يونس: 11] ، وفيه أن الغيرة للنساء مسموح لهن فيها وغير منكر من أخلاقهن، ولا معاقب عليها ولا على مثلها لصبر النبى، عليه السلام، لسماع مثل هذا من قولها، ألا ترى قولها له: أرى ربك يسارع فى هواك، ولم يرد ذلك عليها ولا زجرها، وعذرها لما جعل الله فى فطرتها من شدة الغيرة.(7/333)
74 - باب الْمَرْأَةِ تَهَبُ يَوْمَهَا مِنْ زَوْجِهَا لِضَرَّتِهَا وَكَيْفَ يَقْسِمُ ذَلِكَ
/ 99 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ، وَكَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ بِيَوْمِهَا وَيَوْمِ سَوْدَةَ. وقوله: وكيف يقسم ذلك، يريد أن تكون فيه الموهوبة بمنزلة الواهبة فى رتبة القسمة، فإن كان يوم سودة ثالثًا ليوم عائشة أو رابعًا أو خامسًا، استحقته عائشة على حسب القسمة التى كانت لسودة ولا تتأخر عن ذلك اليوم ولا تتقدم، ولا يكون ثالثًا ليوم عائشة إلا أن يكون يوم سودة بعد يوم عائشة. قال المهلب: وأجراه النبى (صلى الله عليه وسلم) مجرى الحقوق الواجبة، ولم يجره على أصل المسألة من الحكم فيه بما جعل الله له من ذلك بقوله تعالى: (وتئوى إليك من تشاء) [الأحزاب: 51] ، فأجراه مجرى الحقوق تفضلاً منه، عليه السلام، ليكون أبلغ فى رضاهن، كما قال الله تعالى: (ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن) [الأحزاب: 51] ، أى لا يحزن إذا كان هذا منزلاً عليك من الله، ويرضين بما أعطيتهن من تقريب وإرجاء. وقال قتادة فى قوله: (ترجى من تشاء منهن) [الأحزاب: 51] الآية، قال: هذا شىء خص الله به نبيه (صلى الله عليه وسلم) ، وليس لأحد غيره، كان يدع المرأة من نسائه ما بدا له من غير طلاق، وإذا شاء راجعها. قال غيره: وكان ممن آوى عائشة، وأم سلمة، وزينب، وحفصة، وكان قسمه من نفسه وماله فيهن سواء، وكان ممن أرجى سودة، وجويرية، وصفية، وأم حبيبة، وميمونة، وكان يقسم لهن ما شاء. واختلفوا فى كم يقسم لكل واحدة من نسائه، فقال ابن القاسم:(7/334)
لم أسمع مالكًا يقول إلا يومًا لهذه ويومًا لهذه. وقال الشافعى: إن أراد أن يقسم ليلتين ليلتين، وثلاثًا ثلاثًا، كان ذلك له، وأكره مجاوزة الثلاث من الغيرة. قال ابن المنذر: ولا أرى مجاوزة يوم، إذ لا حجة مع من تخطى سنة النبى، عليه السلام، إلى غيره، ألا ترى قولها فى الحديث: إن سودة وهبت يومها لعائشة، ولم يحفظ عن النبى (صلى الله عليه وسلم) فى قسمه لأزواجه أكثر من يوم وليلة، ولو جاز ثلاثة أيام لجاز خمسة أيام ولجاز شهر، ثم يتخطى بالقول إلى ما لا نهاية له، ولا يجوز معارضة السنة. وكان مالك يقول: لا بأس أن يقيم الرجل عند أم ولده اليوم واليومين والثلاثة ولا يقيم عند الحرة إلا يومًا من غير أن يكون مضارًا، وكذلك قال الشافعى: يأتى الإماء ما شاء أكثر مما يأتى الحرائر الأيام والليالى، فإذا صار إلى الحرائر عدل بينهن.
75 - باب الْعَدْلِ بَيْنَ النِّسَاءِ وَقَوْلِ اللَّهِ: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ ولو حرصتم) [النساء 129]
وقوله: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء (، أى لن(7/335)
تطيقوا أيها الرجال أن تسووا بين نسائكم فى حبهن بقلوبكم حتى تعدلوا بينهن فى ذلك؛ لأن ذلك مما لا تملكونه) ولو حرصتم (، يعنى ولو حرصتم فى تسويتكم بينهن فى ذلك. قال ابن عباس: لا تستطيع أن تعدل بالشهوة فيما بينهن ولو حرصت. قال ابن المنذر: ودلت هذه الآية أن التسوية بينهن فى المحبة غير واجبة، وقد أخبر النبى (صلى الله عليه وسلم) أن عائشة أحب إليه من غيرها من أزواجه،) فلا تميلوا كل الميل) [النساء: 129] بأهوائكم حتى يحملكم ذلك أن تجوروا فى القسم على التى لا تحبون، وقوله: (فتذروها كالمعلقة) [النساء: 129] ، يعنى لا أيم ولا ذات بعل،) وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورًا رحيمًا) [النساء: 129] ، يقول: وإن تصلحوا فيما بينكم وبينهن بالاجتهاد منكم فى العدل بينهن وتتقوا الميل فيهن، فإن الله غفور لما عجزت عنه طاقتكم من بلوغ العدل منكم فيهن. وروى عبد الوهاب، عن أيوب، عن أبى قلابة، عن عائشة، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان يقسم بين نسائه، ويقول: (اللهم إن ذا قسمى فيما أملك، فلا تلمنى فيما تملك ولا أملك) . وروى همام بن يحيى، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبى هريرة، عن النبى، عليه السلام، قال: (من كانت له امرأتان يميل مع إحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة أحد شقيه ساقط) . قال الطحاوى: وكأن معنى هذا الحديث عندنا على الميل إليها بغير(7/336)
إذن صاحبتها له فى ذلك، فأما إذا أذنت له فى ذلك وأباحته، فليس يدخل فى هذا المعنى كما فعلت سودة حين وهبت يومها لعائشة؛ لأن حقها إنما تركته بطيب نفسها، فهى فى حكمها لو لم يكن له امرأة غيرها.
76 - باب إِذَا تَزَوَّجَ الْبِكْرِ عَلَى الثَّيِّب
/ 100 - فيه: أَنَس، لَوْ شِئْتُ أَنْ أَقُولَ: قَالَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، وَلَكِنْ قَالَ السُّنَّةُ: إِذَا تَزَوَّجَ الْبِكْرَ، أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا، وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ، أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلاثًا. قال ابن عبد الحكم: لم يعن بهذا الحديث من ليست له امرأة، ثم تزوج أن يقيم عندها سبعًا أو ثلاثًا، ولكن أريد به من له امرأة، ثم تزوج عليها أخرى، فقال بعض العلماء: المراد بالحديث العموم، والمقام عند البكر سبعًا وعند الثيب ثلاثًا واجب لهما، كان عند الرجل زوجة أم لا؛ لأن السنة لم تخص من له زوجة ممن لا زوجة له. قال المؤلف: والقول الأول هو الصحيح، وقد بينه سفيان، عن أيوب، وخالد، عن أبى قلابة، عن أنس فى الباب بعد هذا، قال: من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعًا، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثًا ثم قسم؛ لأنه لا يقسم الذى يقيم عند الثيب ثلاثًا إلا من تقدم عنده زوجة أخرى أو أكثر. فبان بهذا الحديث أن المراد به من له زوجة ثم تزوج عليها أخرى. وروى ابن القاسم، عن مالك، أن مقامه عند البكر سبعًا، وعند(7/337)
الثيب ثلاثًا إذا كان له امرأة أخرى واجب، وروى عنه ابن عبد الحكم أن ذلك مستحب وليس بواجب. قال ابن حبيب: ويخرج إلى حوائجه وصلاته بكرًا كانت أو ثيبًا، كانت له زوجة أخرى أم لا. وروى ابن أبى أويس، عن مالك، فيمن دخل على امرأته ليلة الجمعة أيتخلف عن الجمعة؟ قال: لا، تزوج أمير المؤمنين المهدى بالمدينة، فخرج إلى الصبح وغيرها. وروى ابن القاسم، عن مالك فى العتبية، قال: لا يتخلف العروس عن الجمعة ولا عن حضور الصلوات، وهو قول الشافعى. قال سحنون: وقد قال بعض الناس: لا يخرج، وذلك حق لها بالسنة. قال المؤلف: هذا على من تأول إقامته عند البكر والثيب على العموم، ومن رأى أن يخرج إلى الصلوات، فتأول إقامته عندها على ما يجب لها من القسمة والمبيت دون غيرها من أزواجه، فليس ذلك بمانع له من حضور الصلوات كما يفعل غير العروس فى قسمته بين نسائه، وليس له التخلف عن الجماعة. وقال المهلب: إنما خصت البكر بالسبع، والله أعلم، لما فى خلق الأبكار من الاستيحاش من الرجال والنفار عن مباشرتهم ولما يلقى الرجل من معالجتهن فى الوصول إليهن، وأما الثلاث للثيب فلسهولة أمرها وعلمها بمباشرة الرجال لم تحتج أن يفسح لها فى المدة بأكثر من ثلاث.(7/338)
77 - باب إِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ عَلَى الْبِكْرِ
/ 101 - فيه: أَنَس، إن مِنَ السُّنَّةِ إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ، أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا وَقَسَمَ، وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ عَلَى الْبِكْرِ، أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلاثًا، ثُمَّ قَسَمَ. وَلَوْ شِئْتُ قُلْتُ: إِنَّ أَنَسًا رَفَعَهُ إِلَى النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام. اختلف العلماء فى هذا الباب، فقالت طائفة: يقيم عند البكر سبعًا وعند الثيب ثلاثًا إذا كانت له امرأة أخرى أو أكثر على نص هذا الحديث، ثم يقسم بينهن ولا يقضى المتقدمات بدل ما أقام عند الجديدة، هذا قول مالك، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وأبى عبيد، واحتجوا بحديث أنس. وقال ابن المسيب، والحسن: للبكر ثلاثًا، وللثيب ليلتين، وهو قول الأوزاعى، قال: إذا تزوج البكر على الثيب مكث ثلاثًا، وإذا تزوج الثيب على البكر أقام يومين. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يقيم عند البكر إلا كما يقيم عند الثيب، وهما سواء فى ذلك، واحتجوا بحديث أم سلمة، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال لها: (إن شئت سبعت عندك وسبعت عندهن، وإن شئت ثلثت ودرت) ، قالت: ثلث ودر، قالوا: فلم يعطها فى السبع شيئًا إلا أعلمها أنه يعطى غيرها مثلها، فدل ذلك على المساواة بينهن. قالوا: وكذلك قوله: (وإن شئت ثلثت ودرت) ، أى أدور مثلثًا أيضًا لهن، كما أدور مسبعًا إن سبعت، قالوا: ولو استحقت الثيب ثلاثة أيام قسم لها لوجب إذا سبع عندها أن يربع لهن. وقال لهم أهل المقالة الأولى: قول النبى، عليه السلام: (ليس بك على أهلك هوان) ، يدل أنه رأى منها أنها استقلت الثلاث التى(7/339)
هى حق الثيب، فآنسها عليه السلام بقوله: (ليس بك على أهلك هوان) ، أى ليس أقسم ثلاثًا لهوانك عندى، وإنما أقسمها لك؛ لأنه حق الثيب، وخيرها بين أعلى حقوق النساء وأشرفها عندهن وهى السبع وبين الثلاث، على شرط إن اختارت السبع قسم لكل ثيب مثلها، وإن اختارت الثلاث التى هى حقها لم يقسم لغيرها مثلها، فرأت أن الثلاث التى هى حقها أفضل لها، إذ لا يقسم لغيرها مثلها ولسرعة رجوعه إليها، فاختارتها وطابت نفسها عليها، ورأت أنها أرجح عندها من أن يسبع عندها على أن يسبع عند غيرها. وفى هذا ضرب من اللطف والرفق بمن يخشى منه كراهة قبول الحق حتى يتبين له فضله ويختار الرجوع إليه، ومما يبطل قول الكوفيين أنه إن ثلث عندها ثلث عندهن ثم يستأنف القسم أنه، عليه السلام، لما ذكر السبع قرنها بالقضاء، فقال: (سبعت عندك وسبعت عندهن) ، ولما ذكر الثلاث لم يقرنها بالقضاء؛ لأن الدوران عليهن يقتضى ابتداء قسم لا قضاء، فسقط قولهم، هذا قول ابن القصار. قال: وقد خالف الكوفيون حديث أم سلمة؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال لها: (إن شئت سبعت عندك) ، فجعل لها الخيار فى القسم، وأبو حنيفة يجعل الخيار إلى الزوج، وفى هذا مخالفة الخبر. قال أحمد بن خالد: هذا الباب عجب؛ لأنه صار فيه أهل المدينة إلى ما رواه أهل العراق؛ لأن حديث أنس حديث بصرى، وصار فيه أهل العراق إلى ما رواه اهل المدينة، وقول أهل المدينة أولى؛ لقول أنس: السنة للبكر سبع، وللثيب ثلاث، والصحابى إذا(7/340)
ذكر السنة بالألف واللام، فإنما أشار إلى سنته، عليه السلام، واللام فى قوله: للبكر سبع وللثيب ثلاث، لام الملك، فدل أن ذلك حق من حقوقها، فمحال أن يحاسبها بذلك، وقول ابن المسيب، والحسن، خلاف الآثار، فلا معنى له.
78 - باب مَنْ طَافَ عَلَى نِسَائِهِ فِى غُسْلٍ وَاحِدٍ
/ 102 - فيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ فِى اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعُ نِسْوَةٍ. قد تقدم هذا الباب فى كتاب الطهارة، وأنه يحتمل أن يكون فعل ذلك حين إقباله من سفره حيث لا قسمة تلزمه؛ لأنه حينئذ لا تكون منهن واحدة أولى بالابتداء من صاحبتها، فلما استوت حقوقهن جمعهن كلهن فى ليلة، ثم استأنف القسمة بعد ذلك، ويحتمل أن يكون ذلك بطيب أنفس أزواجه وإذنهن فيه، يدل على ذلك سؤاله أزواجه أن يمرض فى بيت عائشة، حكاه ابن المنذر، عن أبى عبيد. قال المهلب: يحتمل أن يكون ذلك فى يوم يقرع فيه بالقسمة بين أزواجه، فيقرع هذا اليوم لهن كلهن يجمعهن فيه، ثم يستأنف بعده القسمة، والله أعلم. إلا أن هذا من فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) فى القسم بينهن شىء تبرع به وتطوع لما جبله الله عليه من العدل؛ لأن الله قد رفع عنه مئونة القسمة بينهن بقوله: (ترجى من تشاء منهن وتئوى إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك) [الأحزاب: 51] . ولا يجوز عند جماعة العلماء أن يطأ الرجل امرأته فى ليلة أخرى،(7/341)
وإنما يجوز فى الإماء حيث لا قسمة لهن. قال ابن حبيب: وإذا وطئ الرجل إحدى امرأتيه فى يومها، ثم أراد أن يطأ الأخرى قبل أن يغتسل، فحللت امرأته التى لها ذلك اليوم فلا بأس به، ويكره للرجل أن يجمع بين امرأتيه من نسائه فى فراش واحد وإن رضيتا به، لكن لا يجوز أن يطأ إحداهما والأخرى معه فى البيت وإن لم تسمع ذلك. قال ابن الماجشون: ويكره أن تكون معه فى البيت بهيمة أو حيوان، وكان ابن عمر إذا فعل ذلك أخرج كل من عنده فى البيت، حتى الصبى الممهود، ولا بأس أن يطأ امرأته الحرة، ثم يطأ أمته قبل أن يغتسل، ولا بأس أن يطأ أمته، ثم يطأ امرأته قبل أن يغتسل. قال غيره: لما جاز أن يطأ امرأته مرتين وثلاثًا، ثم يغتسل فى آخر ذلك إذا حضر وقت الصلاة جاز له أن يطأ امرأتين فى ليلة إذا أذنت له صاحبة الليلة ويغتسل غُسلاً واحدًا، كما طاف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على نسائه فى غسل واحد فى ليلة. قال ابن الماجشون: ولا يجب على الرجل غشيان امرأتيه جميعًا فى ليلتهما، ولا بأس أن يغشى إحداهما ويكف عن الأخرى ما لم يرد به الضرر والميل.
79 - باب دُخُولِ الرَّجُلِ عَلَى نِسَائِهِ فِى الْيَوْمِ
/ 103 - فيه: عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا انْصَرَفَ مِنَ الْعَصْرِ، دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ، فَيَدْنُو(7/342)
مِنْ إِحْدَاهُنَّ، فَدَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ، فَاحْتَبَسَ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ يَحْتَبِسُ. قال المهلب: هذا إنما كان يفعله، عليه السلام، فى النادر، ولم يكن يفعله أبد الدهر، وإنما كان يفعله لما أباح الله تعالى له بقوله: (ترجى من تشاء منهن) [الأحزاب: 51] ، فكان يذكرهن بهذا الفعل فى الغب بإفضاله عليهن فى العدل بينهن؛ لئلا يظنوا أن القسمة حق لهن عليه. وقال غيره: ليس حقيقة القسم بين النساء إلا فى الليل خاصة؛ لأن للرجل التصرف نهاره فى معيشته وما يحتاج إليه من أموره، فإذا كان دخوله على امرأته فى غير يومها دخولاً خفيفًا فى حاجة يقضيها فلا أعلم خلافًا بين العلماء فى جواز ذلك. وذكر ابن المواز عن مالك، قال: لا يأتى إلى واحدة من نسائه فى يوم الأخرى إلا لحاجة أو عيادة، قال غيره: وأما جلوسه عندها ومحادثتها تلذذًا بها، فلا يجوز ذلك عندهم فى غير يومها.
80 - باب اسْتئذانَ الرَّجُلُ نِسَاءَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِى بَيْتِ بَعْضِهِنَّ فَأَذِنَّ لَهُ
/ 104 - فيه عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَسْأَلُ فِى مَرَضِهِ الَّذِى مَاتَ فِيهِ: (أَيْنَ أَنَا غَدًا؟ أَيْنَ أَنَا غَدًا) ؟ يُرِيدُ يَوْمَ عَائِشَةَ، فَأَذِنَ لَهُ أَزْوَاجُهُ يَكُونُ حَيْثُ شَاءَ، فَكَانَ فِى بَيْتِ عَائِشَةَ حَتَّى مَاتَ عِنْدَهَا، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَاتَ فِى الْيَوْمِ الَّذِى كَانَ يَدُورُ عَلَىَّ فِيهِ فِى بَيْتِى، فَقَبَضَهُ اللَّهُ، وَإِنَّ رَأْسَهُ لَبَيْنَ نَحْرِى وَسَحْرِى، وَخَالَطَ رِيقُهُ رِيقِى.(7/343)
وفيه: حب الرجل لبعض أزواجه أكثر من بعض. وفيه: أن القسمة حق للزوجة، ولذلك استأذنهن، عليه السلام، أن يمرض فى بيت عائشة، وإنما فعل ذلك لأنها كانت أرفق به وألطف بتمريضه مع أن المرض إذا كان ثقيلاً لا يقدر فيه على الانتقال والحركة سقطت القسمة. قال ابن حبيب: إذا مرض مرضًا يقوى معه على الاختلاف فيما بينهن كان له أن يعدل بينهن فى القسم، إلا أن يكون مرضه مرضًا قد غلبه ولا يقدر على الاختلاف، فلا بأس أن يقيم حيث أحب، ما لم يكن منه ميلاً، فإذا صح عدل بينهن فى القسمة، ولم يحتسب للتى لم يقم عندها ما أقام عند غيرها، وهو قول مالك. واتفقوا إذا مرضت المرأة أن لها أيامها من القسمة كالصحيحة، واختلفوا إذا اشتد مرضها وثقلت، فقال الشافعى: لا بأس أن يقيم عندها حتى تخف أو تموت، ثم يوفى من بقى من نسائه مثل ما أقام عندها، وبه قال أبو ثور، وقال الكوفيون: ما مضى هدر، ويستأنف العدل فيما يستقبل. وقولها: (بين نحرى وسحرى) ، فالنحر معروف وهو الصدر. قال أبو عبيد: قال أبو زيد: وبعضه عن ابن عمر وغيره: السحر ما تعلق بالحلقوم، ولهذا قيل للرجل إذا جبن: قد انتفخ سحره، كأنهم إنما أرادوا الرئة وما معها. وقال أبو عبيدة: هو السحر. وقال الفراء: وأكثر العرب على ما قال أبو عبيدة.(7/344)
81 - باب حُبِّ الرَّجُلِ بَعْضَ نِسَائِهِ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ
/ 105 - فيه: عُمَرَ، دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّةِ، لا يَغُرَّنَّكِ هَذِهِ الَّتِى أَعْجَبَهَا حُسْنُهَا وحُبُّ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِيَّاهَا - يُرِيدُ عَائِشَةَ - فَقَصَصْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَتَبَسَّمَ. قال الطبرى: وقوله: لا يغرنك أن كانت جارتك أحب إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) منك، يريد عائشة، ففيه دليل على أنه لا حرج على من كان عنده جماعة نسوة فى إيثار بعضهن فى المحبة على بعض إذا سوى بينهن فى القسمة، ومثله قوله عليه السلام: (اللهم هذا قسمى فيما أملك، فلا تلمنى فيما لا أملك) ، والذى سأل ربه ألا يلومه فيه ما كان لا يملكه من نفسه، هو ما جبلت عليه القلوب من الميل بالمحبة إلى من هويته. وذلك مما لا سبيل للعباد إلى خلافه ودفعه عنه، وهو المعنى الذى أخبر عنه تعالى أنهم لا يطيقونه من معانى العدل بين النساء، فعلم بذلك أن كل ما كان عارضًا لقلب ابن آدم من شىء مال إليه بالمحبة والهوى مما لم يجتلبه المرء إليه باكتساب ولم يتجاوز به العارض منه فى قلبه إلى ما يكرهه الله ولا يرضاه من العمل بجوارحه، فلا حرج عليه فيه ولا تبعة تلحقه فيه فيما بينه وبين الله بسبب ما عرض له من فرط هوى وصبابة نفس. قال ابن حبيب: ولما كان القلب لا يملك ولا يستطاع العدل فيه وضع الله عن عباده الحرج فى ذلك، قال تعالى: (لا يكلف الله(7/345)
نفسًا إلا وسعها} [البقرة: 286] ، وحسب الرجل أن يسوى بين نسائه فى القوت والإدام واللباس على قدرها وكفايتها، ويقسم لها يومًا وليلة، فيبيت عندها، وسواء كانت حائضًا أو طاهرًا، ثم لا حرج عليه أن يوسع على إحداهن دون غيرها من صواحباتها بأكثر من ذلك من ماله. فأما المسيس فعلى قدر نشاطه إذا لم يكن حبسه لنفسه عنها إيفاء لغيرها ممن هى أحب إليه وألصق بقلبه، فلذلك لا يحل له أن يفعله، وهو من الميل الذى نهى الله عنه، فأما أن ينشط لهذه فى ليلتها ويكسل عن هذه فى ليلتها، فلا حرج عليه فى ذلك، وذلك من الذى يقع فى القلب مما لا يملكه العبد. قال المهلب: وفيه أن الصهر قد يعاتب ابنته على الإفراط فى الغيرة على زوجها، وينهاها عن مساماة من هى عند الزوج أحظى منها؛ لئلا يحرج ذلك الزوج ويئول الأمر إلى الفرقة.
82 - باب الْمُتَشَبِّعِ بِمَا لَمْ يَنَلْ وَمَا يُنْهَى مِنِ افْتِخَارِ الضَّرَّةِ
/ 106 - فيه: أَسْمَاءَ، أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِى ضَرَّةً، فَهَلْ عَلَىَّ جُنَاحٌ إِنْ تَشَبَّعْتُ مِنْ زَوْجِى غَيْرَ الَّذِى يُعْطِينِى؟ فَقَالَ: (الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلابِسِ ثَوْبَى زُورٍ) . قال أبو عبيد: قوله: المتشبع بما لم يعط، يعنى المتزين بأكثر مما عنده يتكثر بذلك ويتزين بالباطل، كالمرأة تكون للرجل ولها ضرة، فتتشبع بما تدعيه من الحظوة عند زوجها بأكثر مما عنده لها تريد(7/346)
بذلك غيظ صاحبتها وإدخال الأذى عليها، وكذلك هذا فى الرجل أيضًا، وأما قوله: كلابس ثوبى زور، فإنه الرجل يلبس ثياب أهل الزهد فى الدنيا، يريد بذلك الناس ويظهر من التخشع والتقشف أكثر مما فى قلبه، فهذه ثياب الزور والرياء. وفيه وجه آخر أيضًا: أن يكون أراد بالثياب الأنفس، والعرب تفعل ذلك كثيرًا، يقال: فلان نقى الثوب، إذا كان بريئًا من الدنس والآثام، وفلان دنس الثياب، إذا كان مغموصًا عليه فى دينه، ومنه قوله تعالى: (وثيابك فطهر) [المدثر: 4] . وقال أبو سعيد الضرير فى معنى قوله: كلابس ثوبى زور، هو أن يستعير شاهد الزور ثوبين يتجمل بهما ويتحلى بهما عند الحاكم، وإنما يريد أن يقيم شهادته. وقال بعض أهل المعرفة بلسان العرب: ولقوله: ثوبى، التثنية معنى صحيح؛ لأن كذب المتحلى بما لم يعط مثنى، فهو كاذب على نفسه بما لم يأخذ، وكاذب على غيره بما لم يبذل.
83 - بَاب الْغَيْرَةِ
وَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: لَوْ رَأَيْتُ رَجُلا مَعَ امْرَأَتِى لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ. فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، لأنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّى) . / 107 - فيه: ابن مسعود، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ، وَمَا أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللَّهِ) .(7/347)
/ 108 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، مَا أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَرَى عَبْدَهُ أَوْ أَمَتَهُ تَزْنِى، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا) . / 109 - وفيه: أَسْمَاءَ قَالَ النَّبِىّ: (لا شَىْءَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ) . / 110 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ اللَّهَ يَغَارُ، وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ لاَ يَأْتِىَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ) . / 111 - وفيه: أَسْمَاءَ، تَزَوَّجَنِى الزُّبَيْرُ، وَمَا لَهُ فِى الأرْضِ مِنْ مَالٍ وَلا مَمْلُوكٍ، وَلا شَىْءٍ غَيْرَ نَاضِحٍ، وَغَيْرَ فَرَسِهِ، فَكُنْتُ أَعْلِفُ فَرَسَهُ، وَأَسْقِى الْمَاءَ، وَأَخْرِزُ غَرْبَهُ، وَأَعْجِنُ وَلَمْ أَكُنْ أُحْسِنُ أَخْبِزُ، وَكَانَ يَخْبِزُ جَارَاتٌ لِى مِنَ الأنْصَارِ، وَكُنَّ نِسْوَةَ صِدْقٍ، وَكُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِى أَقْطَعَهُ النَّبِىّ عَلَى رَأْسِى، وَهِىَ مِنِّى عَلَى ثُلُثَىْ فَرْسَخٍ، فَجِئْتُ يَوْمًا وَالنَّوَى عَلَى رَأْسِى، فَلَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنَ الأنْصَارِ، فَدَعَانِى، ثُمَّ قَالَ: (إِخْ، إِخْ، لِيَحْمِلَنِى خَلْفَهُ) ، فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسِيرَ مَعَ الرِّجَالِ، وَذَكَرْتُ الزُّبَيْرَ وَغَيْرَتَهُ - وَكَانَ أَغْيَرَ النَّاسِ - فَعَرَفَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) أَنِّى قَدِ اسْتَحْيَيْتُ، فَمَضَى، فَجِئْتُ الزُّبَيْرَ، فَقُلْتُ: لَقِيَنِى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَعَلَى رَأْسِى النَّوَى، وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَأَنَاخَ لأرْكَبَ، فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ، وَعَرَفْتُ غَيْرَتَكَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَحَمْلُكِ النَّوَى كَانَ أَشَدَّ عَلَىَّ مِنْ رُكُوبِكِ مَعَهُ، قَالَتْ: حَتَّى أَرْسَلَ إِلَىَّ أَبُو بَكْرٍ [بَعْدَ ذَلِكَ] بِخَادِمٍ تَكْفِينِى سِيَاسَةَ الْفَرَسِ، فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَنِى.(7/348)
/ 112 - وفيه: أَنَس، قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِصَحْفَةٍ فِيهَا طَعَامٌ، فَضَرَبَتِ الَّتِى النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، فِى بَيْتِهَا يَدَ الْخَادِمِ، فَسَقَطَتِ الصَّحْفَةُ، فَانْفَلَقَتْ، فَجَمَعَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فِلَقَ الصَّحْفَةِ، ثُمَّ جَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ الَّذِى كَانَ فِى الصَّحْفَةِ، وَيَقُولُ: (غَارَتْ أُمُّكُمْ. . .) الحديث. / 113 - وفيه: جَابِر، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (دَخَلْتُ الْجَنَّةَ، فَأَبْصَرْتُ قَصْرًا، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا؟ قَالُوا: لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَهُ، فَلَمْ يَمْنَعْنِى إِلا عِلْمِى بِغَيْرَتِكَ) ، قَالَ عُمَرُ: بِأَبِى أَنْتَ وَأُمِّى يَا رسول اللَّه، أَوَعَلَيْكَ أَغَارُ؟ . / 114 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) جُلُوسٌ، فَقَالَ: (بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُنِى فِى الْجَنَّةِ، فَإِذَا امْرَأَةٌ تَتَوَضَّأُ إِلَى جَانِبِ قَصْرٍ، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا لِعُمَرَ، فَذَكَرْتُ غَيْرَتَكَ، فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا) ، فَبَكَى عُمَرُ وَهُوَ فِى الْمَجْلِسِ، ثُمَّ قَالَ: أَوَعَلَيْكَ أَغَارُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ . قال المهلب: وهذه الغيرة التى جاءت فى هذه الأحاديث فى وصف الله تعالى ليست منه على حسب ما هى عليه فى المخلوقين؛ لأنه لا تجوز عليه صفات النقص تعالى، إذ لا تشبه صفاته صفات المخلوقين، والغيرة فى صفاته بمعنى الزجر عن الفواحش والتحريم لها والمنع منها؛ لأن الغيور هو الذى يزجر عما يغار عليه، وقد بين ذلك بقوله عليه السلام: (ومن غيرته حرم الفواحش) ، أى زجر عنها ومنع منها، وبقوله فى حديث أبى هريرة: (وغيرة الله أن(7/349)
لا يأتى المؤمن ما حرم الله) ، وقوله فى حديث سعد: (لأنا أغير من سعد، والله أغير منى) ، ومعنى ذلك أنه لزجور عن المحارم وأنا أزجر منه، والله أزجر من الجميع عما لا يحل، وكذلك قوله: (غارت أمكم) ، أى زجرت عن إهداء ما أهدت صاحبتها. قال المهلب: وأما نقل النوى وسياسة الفرس وخرز الغرب، فلا يلزم المرأة شىء من ذلك إلا أن تتطوع به، كما تطوعت أسماء. قال ابن حبيب: وكذلك الغزل والنسج ليس للرجل على امرأته ذلك بحال إلا أن تتطوع، وليس عليه إخدامها إذا كان معسرًا، وإن كانت ذات قدر وشرف، وعليها الخدمة الباطنة كما هى على الدنية، وهكذا أوضح لى ابن الماجشون وأصبغ، وسأتقصى مذاهب العلماء فى هذه المسألة فى كتاب النفقات بعد هذا، إن شاء الله. قال المهلب: وفى حديث أسماء من الفقه أن المرأة الشريفة إذا تطوعت من خدمة زوجها بما لا يلزمها كنقل النوى وسياسة الفرس أنه لا ينكر ذلك عليها أب ولا سلطان. وفيه: إرداف المرأة خلف الرجل وحملها فى جملة ركب من الناس، وليس فى الحديث أنها استترت، ولا أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أمرها بذلك، فعلم منه أن الحجاب إنما هو فرض على أزواج النبى، عليه السلام، خاصة كما نص الله فى القرآن بقوله: (يا نساء النبى) [الأحزاب: 32] . وفيه: غيرة الرجل عند ابتذال أهله فيما يشق عليهن من الخدمة، وأنفة نفسه من ذلك، لاسيما إذا كانت ذات حسب وأبوة، وكذلك عز على النبى (صلى الله عليه وسلم) إفراط امتهانها ولم يلمها على ذلك، ولا وبخ الزبير على تكليفه لها ذلك لما علم من طيب نفسها به.(7/350)
وفى حديث القصعة الصبر للنساء على أخلاقهن وعوجهن؛ لأنه عليه السلام، لم يوبخها على ذلك ولا لامها، ولا زاد على قوله: (غارت أمكم) ، وقد تقدم اختلاف العلماء فيمن استهلك شيئًا لصاحبه هل يلزمه غرم مثله، فى كتاب المظالم والغصب عند ذكر حديث القصعة، فأغنى عن إعادته. وفى حديث جابر، أنه إذا علم من الإنسان خلق، فلا يتعرض لما ينافر خلقه ويؤذيه فى ذلك الخلق، كما فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) حين لم يدخل القصر الذى كان لعمر لمعرفته بغيرته، وفى قوله: أعليك أغار يا رسول الله، أن الرجل الصالح المعروف بالخير والصلاح لا يجب أن يظن به شىء من السوء. وقوله: لضربته بالسيف غير مصفح، وهو من صفحة السيف، وهو عرضه. قال ابن قتيبة: يقال: أصفحت بالسيف فأنا مصفح، والسيف يصفح به إذا أنت ضربت بعرضه، وأراد سعد أنه لو وجد رجلاً مع أهله لضربه بحد سيفه لا بعرضه، ولم يصبر أن يأتى بأربعة شهداء، وسيأتى فى كتاب الديات الحكم فيمن وجد رجلاً مع امرأته فقتله. وذكر ابن قتيبة فى قوله عليه السلام: (فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر) ، (فإذا امرأة شوهاء إلى جانب قصر) ، من حديث ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، وفسره فقال: الشوهاء الحسنة الرائعة، حدثنى بذلك أبو حاتم، عن أبى عبيدة، عن المنتجع، قال:(7/351)
ويقال: فرس شوهاء، ولا يقال للذكر أشوه، ويقال: لا تشوه علىّ، إذا قال: ما أحسنك، أى لا تصبنى بعين. وقال الزبيرى: ذكره أبو على فى التاريخ بفتح التاء والواو وتشديد الواو. قال المؤلف: يشبه أن تكون هذه الرواية الصواب، وتتوضأ تصحيف، والله أعلم؛ لأن الحور طاهرات ولا وضوء عليهن، فكذلك كل من دخل الجنة لا تلزمه طهارة ولا عبادة، وحروف شوهاء يمكن تصحيفها بحروف تتوضأ؛ لقرب صور بعضها من بعض، والله أعلم.
84 - بَاب غَيْرَةِ النِّسَاءِ وَوَجْدِهِنَّ
/ 115 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَ لِى النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (إِنِّى لأعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّى رَاضِيَةً، وَإِذَا كُنْتِ عَلَىَّ غَضْبَى) ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: (أَمَّا إِذَا كُنْتِ عَنِّى رَاضِيَةً، فَإِنَّكِ تَقُولِينَ: لا، وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا كُنْتِ عَلَىَّ غَضْبَى، قُلْتِ: لا، وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ) ، قَالَتْ: قُلْتُ: أَجَلْ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَهْجُرُ إِلا اسْمَكَ. / 116 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ؛ لِكَثْرَةِ ذِكْرِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِيَّاهَا، وَثَنَائِهِ عَلَيْهَا، وَقَدْ أُوحِىَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ لَهَا فِى الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ. وفيه الصبر على النساء وعلى ما يبدو منهن من الجفاء والحرج عند(7/352)
الغيرة لما جبلن عليه منها، وأنهن لا تملكنها، فعفى عن عقوبتهن على ذلك وعذرهن الله فيه. قال المهلب: وقولها: ما أهجر إلا اسمك، يدل على أن الاسم فى المخلوقين غير المسمى، ولو كان المسمى وهجرت اسمه لهجرته بعينه، ويدل على ذلك أن من قال: أكلت اسم العسل، واسم الخبز، فإنه لا يفهم أنه أكل الخبز والعسل، وكذلك إذا قال: لقيت اسم زيد، لا يفهم منه أنه لقى زيدًا، ويبين ذلك ما نشاهده من تبديل أسماء المملوكين وتبديل كنى الأحرار ولا تتبدل الأشخاص مع ذلك. قال المهلب: وإنما يصح عند تحقيق النظر أن يكون الاسم هو المسمى فى الله تعالى وحده لا فيما سواه من المخلوقين، لمباينته تعالى فى أسمائه وصفاته حكم أسماء المخلوقين وصفاتهم. فإن قيل: فإذا كان الاسم غير المسمى فى المخلوقين، فيلزم كذلك فى البارى تعالى، قيل: هذا غير لازم؛ لأن طرق العلم بالشىء إنما يؤخذ من جهة الاستدلال عليه بمثله وشبهه، أو من حكم ضده، وعلمنا يقينًا أن الله تعالى لا شبه له بقوله: (ليس كمثله شىء) [الشورى: 11] ، وبقوله: (ولم يكن له كفوًا أحد) [الإخلاص: 3] ، فثبت بذلك أنه لا ضد له؛ لأن حكم الضد إنما يعلم من حكم ضده، فلما لم يكن لله شبه ولا ضد يستدل على اسمه إذا كان غير المسمى، لم يجز لنا أن نقول بذلك فى الله تعالى؛ لإجماع أهل السنة على أن صفات الله تعالى لا تشبه صفات المخلوقين من قبل أن الشيئين لا يشتبهان باتفاق أسمائهما، وإنما يشتبهان بأنفسهما، ولما كانت نفس البارى(7/353)
سبحانه وتعالى غير مشبهة لشىء من العالم، كانت كذلك صفاته وأسماؤه، ألا ترى وصف البارى تعالى بأنه موجود ووصف الإنسان بذلك لا يوجب تشابهًا بينهما، وإن كانا قد اتفق فى حقيقة الوجود، هذا قول مجاهد. وسيأتى فى كتاب الرد على الجهمية، وهو الجزء الثانى من الاعتصام فى آخر هذا الديوان فى باب السؤال بأسماء الله والاستعاذة بها تبيين مذاهب أهل السنة أن اسم الله عز وجل هو المسمى، فهو موضع ذكره إن شاء الله، وسأذكر فى كتاب الأدب فى باب حسن العهد من الإيمان تفسير الفضل المذكور.
85 - باب ذَبِّ الرَّجُلِ عَنِ ابْنَتِهِ فِى الْغَيْرَةِ وَالإنْصَافِ
/ 117 - فيه: الْمِسْوَر، سَمِعْتُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى الْمِنْبَرِ يقول: (إِنَّ بَنِى هِشَامِ ابْنِ الْمُغِيرَةِ اسْتَأْذَنُونِى فِى أَنْ يُنْكِحُوا ابْنَتَهُمْ عَلِىَّ بْنَ أَبِى طَالِبٍ، فَلا آذَنُ، ثُمَّ لا آذَنُ، ثُمَّ لا آذَنُ إِلا أَنْ يُرِيدَ ابْنُ أَبِى طَالِبٍ أَنْ يُطَلِّقَ ابْنَتِى، وَيَنْكِحَ ابْنَتَهُمْ، فَإِنَّمَا هِىَ بَضْعَةٌ مِنِّى، يُرِيبُنِى مَا أَرَابَهَا، وَيُؤْذِينِى مَا آذَاهَا) . قال المهلب: فى هذا من الفقه أنه قد يحكم فى أشياء لم تبلغ التحريم بأن يمنع منها من يريدها، وإن كانت حلالاً، لما يلحقها من الكراهية فى العرض أو المضرة فى المال.(7/354)
وفيه: بقاء عار الآباء فى أعقابهم وأنهم يعيرون به، ولا يوازون الأشراف كما عير رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بنت أبى جهل وهى مسلمة بعداوة أبيها لله، فحط بذلك منزلتها عن أن تحل محل ابنته، وكذلك السابقة إلى الخير والشرف فى الدين تبقى فى العقب فضله، ويرعى فيهم أمره، ألا ترى قوله تعالى: (وكان أبوهما صالحًا) [الكهف: 82] . وفيه: دليل ألا تجتمع أمة وحرة تحت رجل إلا برضا الحرة؛ لأن النبى، عليه السلام، لم يجعل بنت عدو الله مكافئة لبنت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فكذلك المرأتان الغير متكافئتين بالحرية فى الإسلام لا تجتمعان إلا برضا الحرة، ألا ترى أن رضا فاطمة لو تأتى منها لما منع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذلك؛ لأنه قال: (يؤذينى ما آذاها وأخاف أن تفتن فى دينها) ، ولم تكن بنت عدو الله مأمونة عليها أن تكون ضرة وصاحبة لها، ولو لم يحزنها ذلك ولا خشى منها الفتنة؛ لما منعه من حال نكاح بنت أبى جهل، ومن هذا المعنى وحديث بريرة وجب تخيير الحرة إذا تزوج عليها أمة؛ لأن بريرة حين عتقت فارقته؛ لأن زوجها لم يكافئها لحريتها، فكذلك الحرة لا تكافئها المملوكة. واختلف العلماء فى ذلك، فقال مالك: إذا نكح أمة على حرة يجوز النكاح، والحرة بالخيار. هذه رواية ابن وهب عنه، وروى عنه ابن القاسم أنه سُئل عمن تزوج أمة وهو يجد طولاً إلى حرة، قال: يفرق بينهما، قيل: إنه يخاف العنت، قال: السوط يضرب به، ثم خففه بعد ذلك، قلت: فإن كان لا يخشى العنت، قال: كان يقول: ليس له أن يتزوجها.(7/355)
وقال الكوفيون، والثورى، والأوزاعى، والشافعى: لا يجوز له أن يتزوج أمة وتحته حرة، ولا يصح نكاح الأمة، ولا فرق بين إذن الحرة وغير إذنها. واختلفوا فى نكاح الحرة على الأمة، فقالت طائفة: النكاح ثابت، روى هذا عن عطاء، وسعيد بن المسيب، وبه قال الكوفيون، والشافعى، وأبو ثور، وفيه قول ثان، وهو أن الحرة بالخيار إذا علمت، هذا قول الزهرى، ومالك. وفيها قول ثالث، وهو أن يكون نكاح الحرة طلاقًا للأمة، روى هذا عن ابن عباس، وبه قال أحمد، وإسحاق. وقد تقدم معنى حديث المسور مستوعبًا فى كتاب الجهاد فى باب ما ذكر من درع النبى (صلى الله عليه وسلم) وعصاه وسيفه؛ لأن الحديث هناك أتم منه فى هذا الباب، والحمد لله.
86 - باب يَقِلُّ الرِّجَالُ وَيَكْثُرُ النِّسَاءُ
وَقَالَ أَبُو مُوسَى، عَنِ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام: (وَتَرَى الرَّجُلَ الْوَاحِدَ يَتْبَعُهُ أَرْبَعُونَ امْرَأَةً يَلُذْنَ بِهِ مِنْ قِلَّةِ الرِّجَالِ، وَكَثْرَةِ النِّسَاءِ) . / 118 - فيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، وَيَكْثُرَ الْجَهْلُ، وَيَكْثُرَ الزِّنَا، وَيَكْثُرَ شُرْبُ الْخَمْرِ، وَيَقِلَّ الرِّجَالُ، وَيَكْثُرَ النِّسَاءُ، حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ) . قال المهلب: هذا إنما يكون من أشراط الساعة، كما قال عليه(7/356)
السلام، ويمكن أن تكون قلة الرجال من اشتداد الفتن وترادف المحن، فيقتل الرجال، والله أعلم. ويحتمل قوله: (القيم الواحد) ، معنيين: أحدهما: أن يكون قيمًا عليهن وناظرًا لهن وقائمًا بأمورهن، ويحتمل أن يكون اتباع النساء له على غير الحل، والله أعلم. قال الطحاوى: ولما احتمل الوجهين نظرنا هل روى فى ذلك شىء يدل على أحدهما، فذكر على بن معبد بإسناده عن حذيفة، قال: سمعت النبى، عليه السلام، يقول: (إذا عمت الفتنة يميز الله أصفياءه وأولياءه حتى تطهر الأرض من المنافقين والقتالين، ويتبع الرجل يومئذ خمسون امرأة، هذه تقول: يا عبد الله، استرنى، يا عبد الله، آونى) ، فدل هذا الحديث على القول الأول.
87 - باب لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلا ذُو مَحْرَمٍ وَالدُّخُولُ عَلَى الْمُغِيبَةِ
/ 119 - فيه: عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ) ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟ قَالَ: (الْحَمْوُ الْمَوْتُ) . / 120 - وفيه: ابْن عَبَّاس، أن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلا مَعَ ذِى مَحْرَمٍ) ، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، امْرَأَتِى خَرَجَتْ حَاجَّةً، وَاكْتُتِبْتُ فِى غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: (ارْجِعْ، فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ) . قال المهلب: معنى قوله: (الحمو الموت) ، النهى عن أن يدخل(7/357)
على المغيبة صهر ولا غيره خوف الظنون ونزغات الشيطان؛ لأن الحمو قد يكون من غير ذى المحارم، وإنما أباح، عليه السلام، أن يخلو مع المرأة من كان ذا محرم منها. قال الطبرى: وبمثل ذلك قال جماعة من الصحابة والتابعين: روينا عن عمر بن الخطاب، أنه قال: إياكم والمغيبات، ألا فوالله أن الرجل ليدخل على المرأة، فلأن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يزنى، فما يزال الشيطان يخطب أحدهما إلى الآخر حتى يجمع بينهما) . وروينا عن عمرو بن العاص أنه أرسل إلى على بن أبى طالب يستأذنه، وكانت له حاجة إلى أسماء، فقيل له: ليس ثم على، ثم أرسل إليه الثانية، فقيل: هو ثم، فلما خرج إليه، قال عمرو: إن لى إلى أسماء حاجة فأدخل؟ قال: نعم، قال: وما سألت عن على، قال: حاجتك إلى أسماء، قال: إنا نهينا أن نكلمهن إلا عند أزواجهن. وقال عمرو بن قيس الملائى: ثلاث لا ينبغى للرجل أن يثق بنفسه عند واحدة منهن: لا يجالس أصحاب زيغ، فيزيغ الله قلبه بما زاغ به قلوبهم، ولا يخلو رجل بامرأة، وإن دعاك صاحب سلطان إلى أن تقرأ عليه القرآن فلا تفعل. قال الطبرى: فلا يجوز أن يخلو رجل بامرأة ليس لها بمحرم فى سفر ولا فى حضر، إلا فى حال لا يجد من الخلوة بها بدًا، وذلك كخلوة بجارية امرأته تخدمه فى حال غيبة مولاتها عنهما، وقد رخص فى ذلك الثورى.(7/358)
قال المهلب: وفيه جواز تبكيت العالم على الجواب إلى المشترك من الأسماء على سبيل الإنكار للمسألة. قال الطبرى: الحمو عند العرب كل من كان من قبل الزوج أخًا كان أو أبًا أو عمًا فهم الأحماء، فأما أم الزوج، فكان الأصمعى يقول: هى حماة الرجل، لا يجوز غير ذلك، ولا لغة فيها غيرها، وإنما عنى بقوله: الحمو الموت، أن خلوة الحمو بامرأة أخيه أو امرأة ابن أخيه بمنزلة الموت فى مكروه خلوته بها، وكذلك تقول العرب إذا وصفوا الشىء يكرهونه إلى الموصوف له، قالوا: ما هو إلا الموت، كقول الفرزدق لجرير: فإنى أنا الموت الذى هو واقع بنفسك فانظر كيف أنت مزاوله وقال ثعلب: سألت ابن الأعرابى عن قوله: الحمو الموت، فقال: هذه كلمة تقولها العرب مثلاً كما تقول: الأسد الموت، أى لقاؤه الموت، وكما تقول: السلطان نار، أى مثل النار، فالمعنى احذروه كما تحذرون الموت. وقال أبو عبيد: معناه فليمت ولا يفعل ذلك، وهو بعيد، وإنما الوجه ما قاله ابن الأعرابى، ومن هذا الباب قوله تعالى: (ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت) [إبراهيم: 17] ، أى مثل الموت فى الشدة والكراهية، ولو أراد نفس الموت لكان قد مات. وقال عامر بن فهيرة: لقد وجدت الموت قبل دنوه وقال الأصمعى: الأحماء من قبل الزوج، والأختان من قبل(7/359)
المرأة، والصهر يجمعهما، والحماة أم الزوج، والختنة أم المرأة، وفى الحمو لغات. قال صاحب العين: الحما على مثال قفا: أبو الزوج وجميع قرابته، والجمع أحماء، تقول: رأيت حماه ومررت بحماها، وتقول فى هذه اللغة إذا أفرد: هذا حما، وفيه لغة أخرى حموك مثل أبوك، تقول: هذا حموها، ومررت بحميها ورأيت حماها، فإذا لم تضفه سقطت الواو، فتقول: حم، كما تقول: أب، وفيه لغة أخرى: حمء، بالهمز مثل خبء، ودفء، عن الفراء، وحكى الطبرى لغة رابعة: حمها بترك الهمز. وفى حديث ابن عباس إباحة الرجوع عن الجهاد إلى إحجاج امرأته؛ لأن فرضًا عليه سترها وصيانتها، والجهاد فى ذلك الوقت كان يقوم به غيره، فلذلك أمره عليه السلام أن يحج معها إذ لم يكن لها من يقوم بسترها فى سفرها ومبيتها.
88 - باب مَا يَجُوزُ أَنْ يَخْلُوَ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ عِنْدَ النَّاسِ
/ 121 - فيه: أَنَس، قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الأنْصَارِ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَخَلا بِهَا، فَقَالَ: (وَاللَّهِ إِنَّكُنَّ لأحَبُّ النَّاسِ إِلَىَّ) . قال المهلب: فيه من الفقه أنه لا بأس للعالم والرجل المعلوم بالصلاح أن يخلو بالمرأة إلى ناحية عن الناس وتسر إليه بمسائلها وتسأله عن بواطن أمرها فى دينها، وغير ذلك من أمورها، فإن قيل: ليس فى الحديث أنه خلا بها عند الناس كما ترجم، قيل: قول(7/360)
انس: فخلا بها، يدل أنه كان مع الناس، فتنحى بها ناحية، ولا أقل من أن يكون مع أنس راوى الحديث وناقل القصة، ولم يرد بقوله: فخلا بها، أنه غاب عن أبصارهم، وإنما خلا بها حيث لا يسمع الذين بحضرته كلامها ولا شكواها إليه، ألا ترى أنهم سمعوا قوله لها: (أنتم أحب الناس إلى) يريد الأنصار قوم المرأة.
89 - باب مَا يُنْهَى مِنْ دُخُولِ الْمُتَشَبِّهِينَ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْمَرْأَةِ
/ 122 - فيه: أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، كَانَ عِنْدَهَا وَفِى الْبَيْتِ مُخَنَّثٌ، فَقَالَ الْمُخَنَّثُ لأخِى أُمِّ سَلَمَةَ عَبْدِاللَّهِ بْنِ أَبِى أُمَيَّةَ: إِنْ فَتَحَ اللَّهُ لَكُمُ الطَّائِفَ غَدًا، أَدُلُّكَ عَلَى بِنْتِ غَيْلانَ، فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَدْخُلَنَّ هَذَا عَلَيْكُنَّ) . قال المهلب: أصل هذا الحديث قوله عليه السلام: (لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها حتى كأنه يراها) ، فلما سمع النبى (صلى الله عليه وسلم) وصف المخنث للمرأة بهذه الصفة التى تهيم نفوس الناس، منع أن يدخل عليهن؛ لئلا يصفهن للرجال فيسقط معنى الحجاب. قال غيره: وفيه من الفقه أنه لا ينبغى أن يدخل على النساء من المؤنثين من يفطن لمحاسنهن ويحسن وصفهن، وأن من علم محاسنهن لا يدخل فى معنى قوله تعالى: (غير أولى الإربة من(7/361)
الرجال} [النور: 31] ، وإنما غير أولى الإربة الأبله العنين الذى لا يفطن لمحاسنهن، ولا إرب له فيهن، وهذا الحديث أصل فى نفى كل من يتأذى به وإبعاده بحيث يؤمن أذاه. قال المهلب: قال ابن حبيب: والمخنث هو المؤنث من الرجال وإن لم تعرف فيه الفاحشة، وهو مأخوذ من تكسر الشىء، ومنه حديثه الآخر أنه نهى عليه السلام عن اختناث الأسقية، وهو أن تكسر أفواه الأسقية ليشرب منها. وكان يدخل على أزواج النبى (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأنه كان عندهن من غير ذوى الإربة. حدثنى ابن حبيب، عن مالك فى قوله: (تقبل بأربع وتدبر بثمان) ، أنه أراد أعكانها؛ لأن العكن هى أربع طوابق فى بطنها بعضها فوق بعض، فإذا بلغت خصريها صارت أحواقها ثمانيًا أربعًا من هاهنا، وأربعًا من هاهنا، وقوله: (تدبر بثمان) ، ولم يقل: بثمانية، وإن كان يقع ذلك على الأطراف، والأطراف مذكرة، فإنما أراد العطن التى هى مؤنثة، واحدها عكنة؛ لأن كل جزء من العطن يلزمه من التأنيث ما يلزم جمعه، وهذا من التأنيث المحمول على المعنى. وقال ابن الكلبى: هذا المؤنث يسمى: هيت، وهو مولى لعبد الله بن أبى أمية أخى أم سلمة لأمها، وكان طوس مولى عبد الله بن أبى أمية ومن قبله سرى إلى طوس الخنث. قال المهلب: وفى وصف المخنث لمحاسن المرأة حجة لمن أجاز بيع(7/362)
الأعيان الغائبة على الصفة كما قاله مالك خلافًا للشافعى، ولو لم تكن الصفة فى هذا الحديث بمعنى الرؤية لم ينه النبى، عليه السلام، المؤنث عن الدخول على النساء، والله أعلم، وقد تقدمت هذه المسألة فى كتاب البيوع.
90 - باب نَظَرِ الْمَرْأَةِ إِلَى الْحَبَشِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ غَيْرِ رِيبَةٍ
/ 123 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: رَأَيْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَسْتُرُنِى بِرِدَائِهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْحَبَشَةِ يَلْعَبُونَ فِى الْمَسْجِدِ، حَتَّى أَكُونَ أَنَا الَّتِى أَسْأَمُ، فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ الْحَرِيصَةِ عَلَى اللَّهْوِ. وفى هذا الحديث: حجة لمن أجاز النظر إلى اللعب فى الوليمة وغيرها. وفيه: جواز نظر النساء إلى اللهو واللعب، لاسيما الحديثة السن، فإن النبى عليه السلام قد عذرها لحداثة سنها. وفيه: أنه لا بأس بنظر المرأة إلى الرجل من غير ريبة، ألا ترى إلى ما اتفق عليه العلماء فى الشهادة على المرأة أن ذلك لا يكون إلا بالنظر إلى وجهها، ومعلوم أنها تنظر إليه حينئذ كما ينظر إليها، وإنما أراد البخارى بهذا الحديث، والله أعلم، الرد لحديث ابن شهاب، عن نبهان مولى أم سلمة، عن أم سلمة، أنها قالت: كنت أنا وميمونة جالستين عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فاستأذن عليه ابن أم مكتوم الأعمى، فقال: (احتجبا منه) ، فقلنا: يا رسول الله، أليس أعمى لا يبصرنا؟(7/363)
قال: أفعمياوان أنتما؟) ، وحديث عائشة أصح منه؛ لأن نبهان ليس بمعروف بنقل العلم ولا يروى إلا حديثين، أحدهما هذا، والثانى فى المكاتب إذا كان معه ما يؤدى احتجبت منه سيدته، فلا يشتغل بحديث نبهان لمعارضة الأحاديث الثابت له وإجماع العلماء.
91 - باب خُرُوجِ النِّسَاءِ لِحَوَائِجِهِنَّ
/ 124 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: خَرَجَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ لَيْلا، فَرَآهَا عُمَرُ فَعَرَفَهَا، فَقَالَ: إِنَّكِ وَاللَّهِ يَا سَوْدَةُ مَا تَخْفَيْنَ عَلَيْنَا، فَرَجَعَتْ إِلَى النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، وَهُوَ فِى حُجْرَتِى يَتَعَشَّى، وَإِنَّ فِى يَدِهِ لَعَرْقًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَرُفِعَ عَنْهُ، وَهُوَ يَقُولُ: (قَدْ أَذِنَ اللَّهُ لَكُنَّ أَنْ تَخْرُجْنَ لِحَوَائِجِكُنَّ) . فى هذا الحديث دليل على جواز خروج النساء لكل ما أبيح لهن الخروج فيه من زيارة الآباء والأمهات وذوى المحارم والقرابات، وغير ذلك مما بهن الحاجة إليه، وذلك فى حكم خروجهن إلى المساجد. قال المهلب: وفيه جواز مكالمة المرأة من وراء الستر.(7/364)
92 - باب اسْتِئْذَانِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فِى الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ
/ 125 - فيه: ابُن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (إِذَا اسْتَأْذَنَتِ امْرَأَةُ أَحَدِكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلا يَمْنَعْهَا) . قد تقدم هذا الباب فى كتاب الصلاة، ومذاهب العلماء فيه.
93 - باب مَا يَحِلُّ مِنَ الدُّخُولِ وَالنَّظَرِ إِلَى النِّسَاءِ فِى الرَّضَاعِ
/ 126 - فيه: عَائِشَةَ، جَاءَ عَمِّى مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَاسْتَأْذَنَ عَلَىَّ، فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: (إِنَّهُ عَمُّكِ، فَأْذَنِى لَهُ. . .) ، الحديث. فائدة هذا الباب أنه أصل فى أن الرضاع يحرم من النكاح ما يحرم النسب، ويبيح من الولوج على ذوات المحارم منه مثل ما يبيح من النسب، وقد تقدم ذلك.
94 - باب لا تُبَاشِرِ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ فَتَنْعَتَهَا لِزَوْجِهَا
/ 127 - فيه: ابْن مَسْعُود، قال النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (لا تُبَاشِرُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ، فَتَنْعَتَهَا لِزَوْجِهَا كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا) . قال أبو الحسن بن القابسى: هذا من أبين ما تحمى به الذرائع، فإن وصفتها لزوجها بحسن خيف عليه الفتنة، فيكون ذلك سببًا(7/365)
لطلاق زوجته، ونكاحها إن كانت ثيبًا، وإن كانت ذات بعل كان ذلك سببًا لبغضه زوجته ونقصان منزلتها عنده، وإن وصفتها بقبح، كان ذلك غيبة، وقد جاء عن النبى، عليه السلام، أنه نهى الرجل عن مباشرة الرجل مثل نهيه للمرأة سواء. قال الطبرى: وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يباشر الرجل الرجل، ولا المرأة المرأة) . قال الطبرى: وفيه من البيان أن مباشرة الرجل الرجل والمرأة المرأة مفضيًا كل واحد منهما بجسده إلى جسد صاحبه غير جائز. فإن قال قائل: هذه الأخبار هى على العموم أم على الخصوص؟ قيل: على العموم فيما عنيت به، وعلى الخصوص فيما يحتمله ظاهرها. فإن قيل: وكيف كان ذلك؟ قيل: لقيام الحجة بجواز مصافحة الرجل الرجل والمرأة المرأة، وذلك مباشرة من كل واحد منهما صاحبه ببعض جسده، فكان معلومًا بذلك، إذ لم يكن فى قوله عليه السلام: (لا يباشر الرجل الرجل ولا المرأة المرأة) استثناء مقرون به فى الخبر، وكانت المصافحة مباشرة وهى من الأمور التى ندب المسلمون إليها كالذى حدثنا أحمد بن منصور، حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا بكر أبو عبيدة الناجى، حدثنا الحسن، عن البراء بن عازب، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إن المسلمين إذا التقيا فتصافحا تحاتت ذنوبهما) .(7/366)
وحدثنا أبو كريب، حدثنا ابن المبارك، حدثنا يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن زحر، عن على بن يزيد، عن القاسم، عن أبى أمامة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (تمام تحيتكم بينكم المصافحة) ، ونحو ذلك من الأخبار الدالة على أن المسلمين مندوبون إلى مباشرة بعضهم بعضًا بالأكف مصافحة عند الالتقاء، وكان محالاً اجتماع الأمر بفعل الشىء والنهى عنه فى حالة واحدة، علم أن الذى ندب العبد إلى المباشرة به من جسم أخيه غير الذى نهى عنه من مباشرته به. وقال ابن القاسم: سئل مالك عن الخدم يبيتون عراة فى لحاف واحد فى الشتاء، فكرهه وأنكر أن تبيت النساء عراة لا ثياب عليهن؛ لأن ذلك إشراف على العورات، وذلك غير جائز لنهى النبى، عليه السلام، عن مباشرة الرجال والنساء بعضهم بعضًا.
95 - باب قَوْلِ الرَّجُلِ لأطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى نِسَائِى
/ 128 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قال سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ: لأطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ بِمِائَةِ امْرَأَةٍ، تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ غُلامًا، يُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ وَنَسِىَ، فَأَطَافَ بِهِنَّ، وَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إِلا امْرَأَةٌ نِصْفَ إِنْسَانٍ، قَالَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام: (لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَمْ يَحْنَثْ، وَكَانَ أَرْجَى لِحَاجَتِهِ) . قد تقدم معنى هذا الباب فى باب من طاف على نسائه فى غسل(7/367)
واحد، وأنه لا يجوز أن يجمع الرجل جماعه زوجاته، ولا يطوف عليهن كلهن فى ليلة إلا إذا لم يبدأ القسم بينهن، أو إذا أذن له فى ذلك، أو إذا قدم من سفره، ولعله لم يكن فى شريعة سليمان بن داود من فرض القسمة بين النساء والعدل بينهن ما أخذه الله على أمة محمد (صلى الله عليه وسلم) . قال المهلب: وقوله: (لو قال: إن شاء الله، لم يحنث) ، يعنى لم يخب ولا عوقب بالحرمان حين لم يستثن مشيئة الله ويجعل الأمر له، وليس فى الحديث يمين فيحنث فيها، وإنما أراد أنه لما جعل لنفسه القوة والفضل عاقبه الله تعالى بالحرمان، فكان الحنث بمعنى التخييب. وكذلك من نذر لله طاعة أو دخل فى شىء منها وجب عليه الوفاء بذلك؛ لقوله: (أوفوا بالعقود) [المائدة: 1] ، وقوله: (فما رعوها حق رعايتها) [الحديد: 27] ، فكان مطالبًا بما تألى به، فكأنه ضرب من الحنث؛ لأنه تألى فلم يف. وقد احتج بعض الفقهاء بهذا الحديث، فقال: إن الاستثناء بعد السكوت عن اليمين جائز، بخلاف قول مالك، واحتجوا بقوله: (لو قال: إن شاء الله، لم يحنث) ، وليس كما توهموه؛ لأن هذه لم تكن يمينًا، وإنما كان قولاً جعل الأمر فيه لنفسه ولم تجب عليه فيه كفارة، فسقط عنه الاستثناء، وإنما هذا الحديث مثل قوله تعالى: (ولا تقولن لشىء إنى فاعل ذلك غدًا إلا أن يشاء الله) [الكهف: 22، 23] ، أدبًا أدب الله به عباده(7/368)
ليردوا الأمر إليه، ويتبرءوا من الحول والقوة إلا لله تعالى، ودل هذا المعنى على صحة قول أهل السنة أن أفعال العباد من الخير والشر خلق الله، وسيأتى الكلام فى ذلك فى كتاب الاعتصام، فهو موضعه.
96 - باب لا يَطْرُقْ أَهْلَهُ لَيْلا إِذَا أَطَالَ الْغَيْبَةَ مَخَافَةَ أَنْ يُخَوِّنَهُمْ أَوْ يَلْتَمِسَ عَثَرَاتِهِمْ
/ 129 - فيه: جَابِر، كَانَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، يَكْرَهُ أَنْ يَأْتِىَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ طُرُوقًا. وَقَالَ جَابِر، عن النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (إِذَا أَطَالَ أَحَدُكُمُ الْغَيْبَةَ فَلا يَطْرُقْ أَهْلَهُ لَيْلا) . قال المؤلف: قوله فى الترجمة: مخافة أن يخونهم أو يلتمس عثراتهم، روى هذا اللفظ عن النبى، عليه السلام، من حديث ابن أبى شيبة، عن وكيع، عن سفيان، عن محارب ابن دثار، عن جابر، قال: نهى النبى، عليه السلام، أن يطرق الرجل أهله ليلاً يتخونهم أو يطلب عثراتهم، فبين النبى، عليه السلام، بهذا اللفظ المعنى الذى من أجله نهى عن أن يطرق أهله ليلاً. فإن قيل: وكيف يكون طروقه أهله ليلاً سببًا لتخونهم؟ قيل: معنى ذلك، والله أعلم، أن طروقه إياهم ليلاً هو وقت خلوة وانقطاع مراقبة الناس بعضهم بعضًا، فكان ذلك سببًا لسوء ظن أهله به، وكأنه إنما قصدهم ليلاً ليجدهم على ريبة حين توخى وقت غرتهم وغفلتهم. ومعنى الحديث النهى عن التجسس على أهله، ولا تحمله غيرته على تهمتها إذا لم يأنس منها إلا الخير.(7/369)
قال المهلب: وهذا الحديث يقوم منه الدليل على المنع من التجسس وطلب الغرة والتعرض لما فيه الفتنة وسوء الظن. وقوله: طروقًا، هو مصدر فى موضع الحال، يقال: أتانا طروقًا، أى جاء ليلاً.
97 - باب طَلَبِ الْوَلَدِ
/ 130 - فيه: جَابِر، كُنْتُ مَعَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فِى غَزْوَةٍ، فَلَمَّا قَفَلْنَا، تَعَجَّلْتُ عَلَى بَعِيرٍ قَطُوفٍ، فَلَحِقَنِى رَاكِبٌ مِنْ خَلْفِى، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (مَا يُعْجِلُكَ) ؟ قُلْتُ: إِنِّى حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ، قَالَ: (فَبِكْرًا تَزَوَّجْتَ أَمْ ثَيِّبًا) ؟ قُلْتُ: بَلْ ثَيِّبًا، قَالَ: (فَهَلا جَارِيَةً تُلاعِبُهَا وَتُلاعِبُكَ) ؟ قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا ذَهَبْنَا لِنَدْخُلَ، فَقَالَ: (أَمْهِلُوا حَتَّى تَدْخُلُوا لَيْلا - أَىْ عِشَاءً - لِكَىْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ، وَتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ) . قَالَ: وَحَدَّثَنِى الثِّقَةُ، أَنَّهُ قَالَ فِى هَذَا الْحَدِيثِ: (الْكَيْسَ، الْكَيْسَ، يَا جَابِرُ) ، يَعْنِى الْوَلَدَ. وَقَالَ جَابِر مرةً عن النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (فَعَلَيْكَ بِالْكَيْسِ الْكَيْسِ) . قال المهلب: طلب الولد مندوب إليه؛ لقوله عليه السلام: (إنى مكاثر بكم الأمم) ، وأنه من مات من ولده من لم يبلغ الحلم، فإن الله يدخله الجنة بفضل رحمته إياهم. فإن قال قائل: قوله عليه السلام: (أمهلوا حتى تدخلوا ليلاً) ، أى عشاء، يعارض نهيه عليه السلام أن يأتى الرجل أهله طروقًا. قيل: لا تعارض بينهما بحمد الله، وفى هذا الحديث أمر للمسافر إذا قدم نهارًا أن يتربص حتى يدخل إلى أهله عشاء لكى يتقدمه إلى أهله(7/370)
خبر قدومه، فتمتشط له الشعثة، وتتزين وتستحد له وتتنظف؛ لئلا يجدها على حالة يكرهها فتقع البغضة، رفقًا منه عليه السلام بأمته، ورغبة فى إدامة المودة بينهما وحسن العشرة. وقوله فى الحديث الآخر: (أمهلوا حتى تدخلوا ليلاً) ، أى عشاء، يدل على قدومهم فى النهار، والحديث الآخر الذى نهى فيه عن طروق أهله ليلاً بخلاف هذا المعنى؛ لأن الطروق لا يكون وقت العشاء، وإنما يكون لمن يقدم فجأة بعدما مضى وقت من الليل، فنهى عن ذلك للعلة التى ذكرها فى الحديث، وهى خشية أن يتخونهم أو يطلب غرتهم، لاسيما إذا طالت غيبته، فإنها تبعد مراقبتها له، وتكون يائسة من تعجله إليها، فيجد الشيطان سبيلاً إلى إيقاع سوء الظن.
98 - باب قَوُلُه تَعَالَى: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا) [النور: 31] الآية
/ 131 - فيه: أَبُو حَازِمٍ، قَالَ: اخْتَلَفَ النَّاسُ بِأَىِّ شَىْءٍ دُووِىَ جُرْحُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ أُحُدٍ، فَسَأَلُوا سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ، وَكَانَ مِنْ آخِرِ مَنْ بَقِىَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، [بِالْمَدِينَةِ] ، فَقَالَ: وَمَا بَقِىَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّى، كَانَتْ فَاطِمَةُ تَغْسِلُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَعَلِىٌّ يَأْتِى بِالْمَاءِ عَلَى تُرْسِهِ، فَأُخِذَ حَصِيرٌ، فَحُرِّقَ، فَحُشِىَ بِهِ جُرْحُهُ. قال المهلب: إنما أبيح للنساء أن يبدين زينتهن لمن ذكر فى هذه الآية من أجل الحرمة التى لهم من القرابة والمحرم، إلا فى العبيد، فإن الحرمة إنما هى من جهة السيادة، وأن العبد لا تتطاول عينه إلى سيدته، فهى حرمة ثابتة فى نفسه أبيح للمرأة بها من إظهار الزبينة ما أبيح لها(7/371)
إلى أبيها وابنها وذوى الحرمة منها مع أنه لا يظن بحرة ما انحطاط إلى عبد، هذا المعلوم من نساء العرب، والأكثر فى العرف والعادة. وسُئل سعيد بن جبير: هل يجوز للرجل أن يرى شعر ختنته؟ فتلا قوله: (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن) [النور: 31] الآية، فقال: لا أراها منهن. وقال الطبرى فى قوله تعالى: (أو إخوانهن أو بنى أخواتهن) [النور: 31] ، قال: إخوان جمع أخ، وإخوة جمع أخ أيضًا، ما تجمع فتى فتيان وتجمع فتية أيضًا. وسُئل عكرمة والشعبى عن قوله تعالى: (لا جناح عليهن فى آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن) [الأحزاب: 55] ، قلت: ما شأن العم والخال لم يذكرا؟ قالا: لأنهما ينعتانها لأبنائهما، وكرها أن تضع خمارها عند عمها وخالها، ومن رأى العم والخال داخلين فى جملة الآباء جاز ذلك. وقال النخعى: لا بأس أن ينظر إلى شعر أمه وأخته وعمته وخالته. وذكر إسماعيل، عن الحسن والحسين أنهما كانا لا يريان أمهات المؤمنين. وقال ابن عباس: إن رؤيتهما لهم تحل. قال إسماعيل: أحسب أن الحسن والحسين ذهبا فى ذلك إلى أن أبناء البعولة لم تذكر فى الآية التى فى أزواج النبى، عليه السلام، وهى قوله: (لا جناح عليهن فى آبائهن (، وقال فى سورة النور: (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن) [النور: 31] ، فذهب ابن عباس إلى هذه الآية، وذهب الحسن والحسين إلى الآية الأخرى.(7/372)
وقوله: (ولا نسائهن) [الأحزاب: 55] ، يعنى ولا حرج عليهن ألا يحتجبن من نساء المؤمنين. وروى عن عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، أنه كتب إلى عماله ألا يترك امرأة من أهل الذمة أن تدخل الحمام مع المسلمات، واحتج بهذه الآية. واختلف السلف فى تأويل قوله تعالى: (أو ما ملكت أيمانهن) [النور: 31] ، فقال سعيد بن المسيب: لا تغرنكم هذه الآية، إنما عنى بها الإماء ولم يعن بها العبيد. وكان الشعبى يكره أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته، وهو قول عطاء ومجاهد. وقال ابن عباس: لا بأس أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته، فدل أن الآية عنده على العموم فى المماليك والخدم. وقال إسماعيل: وهذا أعلى القولين وأكثر، وكانت عائشة وسائر أزواج النبى، عليه السلام، يدخل عليهن مماليكهن، قال إسماعيل بن إسحاق: وإنما جاز للمملوك أن ينظر إلى شعر مولاته مادام مملوكًا؛ لأنه لا يجوز له أن يتزوجها مادام مملوكًا، وهو كذوى المحارم كما لا يجوز لذوى المحارم منها أن يتزوجوها ولا يدخل العبد فى المحرم الذى يجوز للمرأة أن تسافر معه؛ لأن حرمته منها لا تدوم، إذ قد يمكن أن تعتقه فى سفرها فيحل له تزويجها. فإن قال قائل: إن حديث أم عطية: كنا نداوى الكلمى. والحديث الآخر: كن النساء ينقلن القرب على متونهن مشمرات حتى يرى خدم سوقهن فى المغازى مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، يخالف الآية وحديث سهل. فالجواب: أنه إن صح أن ظهر من سوقهن غير الخدم(7/373)
مما لا يجوز كشفه، فالأحاديث منسوخة بسورة النور وسورة الأحزاب؛ لأنهما من آخر ما نزل بالمدينة من القرآن، وبإجماع الأمة أنه ليس يجوز للمرأة أن تظهر شيئًا من عورتها لذى رحمها، فكيف بالأجانب؟ وكذلك لا يجوز لها أن تظهر عورتها للنساء أيضًا.
99 - باب قَوُلُه تَعَالَى: (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) [النور: 58]
/ 132 - فيه: ابْن عَبَّاس، سَأَلَهُ رَجُلٌ: هَلْ شَهِدْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الْعِيدَ أَضْحًى أَوْ فِطْرًا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَوْلا مَكَانِى مِنْهُ مَا شَهِدْتُهُ - يَعْنِى مِنْ صِغَرِهِ - قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ - وَلَمْ يَذْكُرْ أَذَانًا وَلا إِقَامَةً - ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ، فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَرَأَيْتُهُنَّ يَهْوِينَ إِلَى آذَانِهِنَّ وَحُلُوقِهِنَّ، وَيَدْفَعْنَ إِلَى بِلالٍ. . . . الحديث. قال المهلب: كان ابن عباس فى هذا الوقت ممن لم يطلع على عورات النساء، ولذلك قال: لولا مكانى من الصغر ما شهدته، وكان بلال من البالغين، وقال تعالى: (ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم) [النور: 58] الآية، فأجرى الذين ملكت أيمانهم مجرى الذين لم يبلغوا الحلم، وأمروا بالاستئذان فى العورات الثلاث؛ لأن الناس ينفصلون فى تلك الأوقات ولا يكونون من الستر فيها كما يكونون فى غيرها.(7/374)
0 - باب قَوُل الرَّجُل لِصَاحِبِه: هَل أَعرستُم الليْلَة وَطَعْنِ الرَّجُلِ ابْنَتَهُ فِى الْخَاصِرَةِ عِنْدَ الْعِتَابِ
/ 133 - فيه: عَائِشَةَ، عَاتَبَنِى أَبُو بَكْرٍ، وَجَعَلَ يَطْعُنُنِى بِيَدِهِ فِى خَاصِرَتِى، فَلا يَمْنَعُنِى مِنَ التَّحَرُّكِ إِلا مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) [وَرَأْسُهُ] عَلَى فَخِذِى. أما قوله: باب قول الرجل لصاحبه: هل أعرستم الليلة؟ فلم يخرج فيه هاهنا حديثًا، وأخرجه فى أول كتاب العقيقة، رواه أنس، قال: كان ابن لأبى طلحة يشتكى، فخرج أبو طلحة فقبض الصبى، فلما رجع أبو طلحة، قال: ما فعل بنى؟ قالت أم سليم: هو أسكن مما كان، فقربت إليه العشاء، فتعشى ثم أصاب منها، فلما فرغ قالت: واروا الصبى، فلما أصبح أبو طلحة أتى النبى، عليه السلام، فأخبره فقال: (أعرستم الليلة؟) ، قال: نعم، قال: (اللهم بارك لهما فيه) ، فولدت غلامًا سماه النبى، عليه السلام، عبد الله، وحنكه بتمرات مضغها، عليه السلام. وفيه من الفقه: أن الرجل الفاضل والصديق الملطف يجوز أن يسأل صديقه عما يفعله إذا خلا مع أهله، ولا حرج عليه فى ذلك. وفيه: أنه من أصيب بمصيبة لم يعلم بها أنه لا ينبغى أن يهجم عليه بالتقريع بذكرها والتعظيم لها عند تعريفه بها، بل يرفق له فى القول ويعرض له بألطف التعريض؛ لئلا يحدث عليه فى نفسه ما هو أشد منها، فقد جبل الله النفوس على غاية الضعف، والناس متباينون فى الصبر عند المصائب، ولاسيما عند الصدمة الأولى.(7/375)
وفى حديث عائشة أن للأب أن يعاتب ابنته بمحضر زوجها ويتناولها بيده بضرب وتهديد، وغير ذلك مباح له، فقد أخرجه فى كتاب الحدود، باب من أدب أهله أو غيرهم دون السلطان.(7/376)
بسم الله الرحمن الرحيم
49 - كِتَاب الطَّلاقِ
- وقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) [الطلاق: 1]
وَطَلاقُ السُّنَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ، وَيُشْهِدَ شَاهِدَيْنِ. أَحْصَيْنَاهُ: حَفِظْنَاهُ. / 1 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِىَ حَائِضٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مُرْهُ، فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِى أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ) . قال ابن المنذر: أباح الله الطلاق بهذه الآية، وقول النبى، عليه السلام، فى حديث ابن عمر: (فإن شاء أمسك، وإن شاء طلق) ، وقد طلق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حفصة ثم راجعها. وقال غيره: هكذا روى هذا الحديث عن نافع، مالك، وابن جريج، والليث، وكذلك رواه ابن شهاب، عن سالم، عن ابن عمر، ورواه يونس بن جبير، وسعيد بن جبير، وأنس بن سيرين، وابن الزبير، وزيد بن أسلم، كلهم عن ابن عمر، وقال فيه مرة: (فليراجعها حتى تطهر، ثم إن شاء طلق، وإن شاء أمسك) ، ولم يقولوا فيه: (ثم تحيض ثم تطهر) . وأجمعوا أنه من طلق امرأته طاهرًا فى طهر لم يمسها فيه أنه مطلق(7/377)
للسنة والعدة التى أمر الله تعالى بها، وأن له الرجعة إذا كانت مدخولاً بها قبل أن تنقضى العدة، فإذا انقضت فهو خاطب من الخطاب. وذهب مالك، وأبو يوسف، والشافعى، إلى ما رواه نافع، عن ابن عمر، فقالوا: من طلق امرأته حائضًا أنه يراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء طلق قبل أن يمس، وإن شاء أمسك. وذهب أبو حنيفة وأكثر أهل العراق إلى ما رواه يونس بن جبير، وسعيد بن جبير، عن ابن عمر فى هذا الحديث، قالوا: يراجعها، فإذا طهرت طلقها إن شاء، وإلى هذا ذهب المزنى. وقالوا: إنما أمر المطلق فى الحيض بالمراجعة؛ لأن طلاقه ذلك أخطأ فيه السنة أمر بمراجعتها ليخرجها من أسباب الخطأ، ثم يتركها حتى تطهر من تلك الحيضة، ثم يطلقها إن شاء طلاقًا صوابًا، ولم يروا للحيضة الثانية بعد ذلك معنى. وأما مالك، وأبو يوسف، والشافعى، فقالوا: للطهر الثانى والحيضة الثانية معان صحيحة، منها أنه لما طلق فى الموضع الذى نهى عنه أمر بمراجعتها ليوقع الطلاق على سنته، ولا يطول فى العدة على امرأته، فلو أبيح له أن يطلقها إذا طهرت من تلك الحيضة كانت فى معنى المطلقة قبل البناء لا عدة عليها، ولابد لها أن تبنى على عدتها الأولى، فأراد الله على لسان نبيه أن يقطع حكم الطلاق الأول بالوطء؛ لئلا يراجعها على نية الفراق حتى يعتقد إمساكها ولو طهرًا واحدًا، فإذا(7/378)
وطئها فى طهر لم يتهيأ له أن يطلقها فيه؛ لأنه قد نهى أن يطلقها فى طهر قد مسها فيه حتى تحيض بعده ثم تطهر، فإذا طلقها بعد ذلك استأنفت عدتها من ذلك الوقت ولم تبن. وقالوا: إن الطهر الثانى جعل للإصلاح الذى قال الله تعالى: (وبعولتهن أحق بردهن فى ذلك إن أرادوا إصلاحًا) [البقرة: 228] ؛ لأن حق المرتجع ألا يرتجع رجعة ضرار؛ لقوله تعالى: (ولا تمسكوهن ضرارًا لتعتدوا) [البقرة: 231] ، قالوا: فالطهر الأول فيه الإصلاح بالوطء ولا تعلم صحة المراجعة إلا بالوطء؛ لأنه المبتغى بالنكاح والمراجعة فى الأغلب، فكان ذلك الطهر مرادًا للوطء الذى تستيقن به المراجعة. فإذا مسها لم يكن له سبيل إلى طلاقها فى طهر قد مسها فيه للنهى عن ذلك، ولإجماعهم على أنه لو فعل ذلك كان مطلقًا لغير العدة، فقيل له: دعها حتى تحيض أخرى ثم تطهر، ثم تطلق إن شئت قبل أن تمس. وقد جاء هذا المعنى منصوصًا عن ابن عمر من حديث قاسم بن أصبغ، قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الرحيم، قال: حدثنا معن بن عبد الرحمن الواسطى، قال: حدثنا عبد الحميد ابن جعفر، قال: حدثنى نافع، عن ابن عمر، أنه طلق امرأته وهى فى دمها حائض، فأمره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يراجعها، فإذا طهرت مسها حتى إذا طهرت أخرى، فإن شاء طلقها، وإن شاء أمسكها. قالوا: ولو أبيح له أن يطلقها بعد الطهر من تلك الحيضة كان قد أمر أن يراجعها ليطلقها، فأشبه النكاح إلى أجل أو نكاح المتعة، فلم يجعل له ذلك حتى يطأ.(7/379)
وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة: إنما أجبر ابن عمر على الرجعة؛ لأنه طلق فى الحيضة، والحيضة لا يعتد بها، ولم يبح له التطليق فى أول طهر؛ لأن فيه تستكمل الرجعة، ففرعها له لاستكمال الرجعة بالوطء إن شاء، ثم لم يبح له بعد الوطء الطلاق؛ لأنه شرط ألا يطلقها إلا فى طهر لم يمسها فيه لتكون الحيضة التى قبل الطلاق للمبالغة فى براءة الرحم. وقد قال به مالك فى الأمة، فاستحسن للبائع أن يستبرئها بحيضة قبل البيع، ثم لا يجتزئ بها عن حيضة المواضعة، ولابد من الإتيان بالحيضة بعد البيع كما لابد من الإتيان بثلاث حيض بعد الطلاق، فالواحدة منهن للفصل بين الثنتين، والثنتان للمبالغة فى براءة الرحم، ألا ترى أنها إن تزوجت قبل حيضة نكاحًا فاسدًا أن الولد للأول، وإن تزوجت بعد حيضة نكاحًا فاسدًا أن الولد للثانى فى رواية المصريين عن مالك، فجعلت أربع حيض واحدة قبل الطلاق للمبالغة وواحدة بعد الطلاق للفصل بين الثنتين والثالثة والرابعة للمبالغة فى براءة الرحم. واختلف العلماء فى معنى قوله، عليه السلام: (مره فليراجعها) ، فقال مالك: هذا الأمر محمول على الوجوب، ومن طلق زوجته حائضًا أو نفساء، فإنه يجبر على رجعتها، فسوى دم النفاس بدم الحيض. قال مالك وأكثر أصحابه: يجبر على الرجعة فى الحيضة التى طلق فيها، وفى الطهر(7/380)
بعدها، وفى الحيضة بعد الطهر، وفى الطهر بعدها ما لم تنقض عدتها، إلا أشهب، فإنه قال: يجبر على رجعتها فى الحيضة الأولى خاصة، فإذا طهرت منها، لم يجبر على رجعتها. قال ابن أبى ليلى، وهو قول الكوفيين، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور: يؤمر برجعتها ولا يجبر على ذلك، وحملوا الأمر فى ذلك على الندب ليقع الطلاق على سنة، ولم يختلفوا أنها إذا انقضت عدتها أنه لا يجبر على رجعتها، فدل على أن الأمر بمراجعتها ندب. وحجة من قال: يجبر على رجعتها قوله (صلى الله عليه وسلم) : (مره فليراجعها) ، وأمره فرض، وأجمعوا أنه إذا طلقها فى طهر قد مسها فيه أنه لا يجبر على رجعتها ولا يؤمر بذلك، وإن كان قد أوقع الطلاق على غير سنته. واختلفوا فى صفة طلاق السنة، فقال مالك: هو أن يطلق الرجل المرأة تطليقة واحدة فى طهر لم يمسها فيه، ثم يتركها حتى تنقضى العدة برؤية الدم من أول الحيضة الثالثة، وهو قول الليث، والأوزاعى. وقال أبو حنيفة وأصحابه: هذا حسن فى الطلاق، وله قول آخر، قال: إذا أراد أن يطلقها ثلاثًا طلقها عند كل طهر واحدة من غير جماع، وهو قول الثورى، وأشهب صاحب مالك. وقال: من طلق امرأته فى طهر لم يمسها فيه طلقة واحدة، ثم إذا حاضت وطهرت طلقها أخرى، ثم إذا حاضت وطهرت طلقها ثالثة فهو مطلق للسنة، وكلا القولين عند الكوفيين طلاق سنة، قالوا: لما كان الطلاق للسنة فى طهر لم تمس فيه، وكانت الزوجة(7/381)
الرجعية تلزمها ما أردفه من الطلاق فى عدتها بإجماع، كان له أن يوقع فى كل طهر لم تمس فيه طلقة؛ لأنها زوجة مطلقة فى طهر لم تمس فيه، وقد روى هذا القول عن ابن مسعود أنه طلاق للسنة. وليس هو عند مالك وسائر أصحابه مطلقًا للسنة، وكيف يكون مطلقًا للسنة والطلقة الثانية لا يكون بعدها إلا حيضتان، والطلقة الثالثة لا يكون بعدها إلا حيضة واحدة، وهذا خلاف السنة فى العدة، ومن طلق كما قال مالك، شهد له الجميع بأنه طلق للسنة. وقال النخعى: بلغنا عن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنهم كانوا يستحبون ألا يزيدوا فى الطلاق على واحدة حتى تنقضى العدة. وقال الشافعى، وأحمد، وأبو ثور: ليس فى عدد الطلاق سنة ولا بدعة، وإنما السنة فى وقت الطلاق، فمن طلق امرأته واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا فى طهر لم يمسها فيه، فهو مطلق للسنة، وحجتهم قوله تعالى: (فطلقوهن لعدتهن) [الطلاق: 1] ، ولم يخص واحدة من اثنتين ولا ثلاثة، وكذلك أمر ابن عمر بالطلاق فى القرء الثانى، ولم يخص واحدة من غيرها. ومن جهة النظر أن من جاز له أن يوقع واحدة جاز له أن يوقع ثلاثًا، وإنما السنة وردت فى الموضع الذى يخشى فيه الحمل أو تطول فيه العدة، فإذا كان طهر لم يمسها فيه أمن فيه الحمل وجاز أن يوقع ما شاء من الطلاق فى ذلك الموضع. فيقال لهم: قوله تعالى: (فطلقوهن لعدتهن) [الطلاق: 1] ، المراد منه أن لا يطلق فى الحيض، وكذلك حديث ابن عمر، وليس فى الآية والحديث ما يتضمن العدد، وكيف يوقع العدد؟ مأخوذ من دليل آخر.(7/382)
ويقال للشافعى: إن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم ينكر على ابن عمر الطلاق، وإنما أنكر عليه موضع الطلاق، فعلمه كيف يوقعه ولا يكون الشافعى أعلم بهذا من عمر وابن عمر، وقد قالا جميعًا: من طلق ثلاثًا فقد عصى ربه. ولو كان من السنة طلاق الثلاث فى كلمة كما قال الشافعى لبطلت فائدة قوله تعالى: (لا تدرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا) [الطلاق: 1] ، أجمع أهل التفسير أنه يعنى به الرجعة فى العدة، قالوا: وأى أمر يحدث بعد الثلاث، فدل أن الارتجاع لا يسوغ إلا فى المطلقة بدون الثلاث. قال ابن القصار: وقد روى عن عمر، وعلى، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وأبى موسى وغيرهم، إظهار النكير على من أوقع ثلاثًا فى مرة واحدة، وكان عمر يوجع من طلق امرأته ثلاثًا فى كلمة واحدة ضربًا، ويفرق بينهما. وفى حديث ابن عمر حجة لأهل المدينة والشافعى لقولهم: إن الأقراء الأطهار لقوله عليه السلام: (ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التى أمر الله أن تطلق لها النساء) ، فأخبر أن الطلاق فى العدة لا يكون إلا فى طهر يعتد به وموضع يحتسب به من عدتها، ويستقبلها من حينئذ، وكان هذا منه، عليه السلام، بيانًا لقوله تعالى: (فطلقوهن لعدتهن) [الطلاق: 1] ، وقد قرئت: لقبل عدتهن، أى لاستقبال عدتهن. ونهى عن الطلاق فى الحيض؛ لأنها لا تستقبل العدة فى تلك الحيضة عند الجميع؛ لأن من قال: الأقراء الحيض، لا يجتزئ بتلك الحيضة من الثلاث حيض عنده حتى تستقبل حيضة بعد طهر،(7/383)
وكذلك لو طلق عندهم فى طهر لم يعتد إلا بالحيضة المقبلة بعد الطهر الذى طلقت فيه، فجعلوا عليها ثلاثة قروء وشيئًا آخر، وذلك خلاف الكتاب والسنة، ويلزمهم أن يقولوا: إنها قبل الحيضة فى غير عدة، وهذا خلاف قوله تعالى: (فطلقوهن لعدتهن) [الطلاق: 1] ، ولقوله عليه السلام: (فتلك العدة التى أمر الله أن تطلق لها النساء) ، وسيأتى اختلاف العلماء فى هذه المسألة فى كتاب العدة وبيان أقوالهم إن شاء الله تعالى.
- باب إِذَا طُلِّقَتِ الْحَائِضُ، هَل يَعْتَدُّ بِذَلِكَ الطَّلاقِ
/ 2 - فيه: ابْن عُمَرَ، أنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِىَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ ذلك عُمَرُ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (لِيُرَاجِعْهَا) ، قُلْتُ: تُحْتَسَبُ، قَالَ: (فَمَهْ) ؟ . وقَالَ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: قُلْتُ: تُحْتَسَبُ؟ قَالَ: (أَرَأَيْتَ إِنْ عَجَزَ، وَاسْتَحْمَقَ) . وَقَالَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: حُسِبَتْ عَلَىَّ بِتَطْلِيقَةٍ. الطلاق يقع فى الحيض عند جماعة العلماء، وإن كان عندهم مكروهًا غير سنة، ولا يخالف الجماعة فى ذلك إلا طائفة من أهل البدع لا يعتد بخلافها، فقالوا: لا يقع الطلاق فى الحيض ولا فى طهر قد جامع فيه، وهذا قول أهل الظاهر، وهو شذوذ لم يعرج عليه العلماء؛ لأن ابن عمر الذى عرضت له القصة احتسب بتلك التطليقة، وأفتى بذلك.(7/384)
وفى أمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ابن عمر بمراجعتها دليل بيِّن على أن الطلاق فى الحيض لازم واقع؛ لأن المراجعة لا تكون إلا بعد صحة الطلاق ولزومه؛ لأنه من لم يطلق لا يقال له: راجع؛ لأنه محال أن يقال لرجل زوجته فى عصمته لم يفارقها: راجعها، بل كان يقال له: طلاقك لم يعمل شيئًا، ألا ترى قول الله تعالى: (وبعولتهن أحق بردهن فى ذلك) [البقرة: 228] ، يعنى فى العدة، وهذا لا يستقيم أن يقال مثله فى الزوجات غير المطلقات. قال المهلب: وقوله: (أرأيت إن عجز واستحمق) ، يعنى أرأيت إن عجز فى المراجعة التى أمر بها عن إيقاع الطلاق واستحمق، أى فقد عقله، فلم تمكن منه الرجعة، أتبقى معلقة لا ذات زوج ولا مطلقة؟ وقد نهى الله عن ترك المرأة بهذه الحال، فلابد أن يحتسب بتلك التطليقة التى أوقعها على غير وجهها، كما أنه لو عجز عن فرض آخر لله تعالى، فلم يقمه واستحمق فلم يأت به، أكان يعذر بذلك وسقط عنه؟ وهذا إنكار على من شك أنه لم يعتد بتلك التطليقة، وقد روى قتادة، عن يونس بن جبير: قلت لابن عمر: أجعل ذلك طلاقًا؟ قال: إن كان ابن عمر عجز واستحمق، فما يمنعه أن يكون طلاقًا. وقوله: (فمه) ، استفهام كأنه قال: فما يكون إن لم يحتسب بتلك التطليقة، والعرب تبدل الهاء بالألف؛ لقرب مخرجها كقولهم: ومهما يكن عند امرئ من خليقة والأصل ما يكون عند امرئ، فأبدل الهاء من الألف، وقد(7/385)
أبدلت الهاء من أخت الألف وهى الياء فى قولهم: هذه، وإنما أرادوا هذى، كما أبدلت الياء من الهاء فى قولهم: دهديت الحجر، والأصل: دهدهت، وقالوا: دهدوهة الجمل ودهدوة، وإنما اجتمعت الياء والألف والواو والهاء فى بدل بعضها من بعض لتشابههما، ولأجل تشابههما اجتمعن فى أن يكن ضمائر، وفى أن يكن وصلاً فى القوافى، وقد أبدلت الهاء من الهمزة فى قولهم: أرقت وهرقت، وإياك وهياك، وكأرجت وهرجت.
3 - بَاب هَلْ يُوَاجِهُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بِالطَّلاقِ
/ 3 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ ابْنَةَ الْجَوْنِ لَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَدَنَا مِنْهَا، قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، فَقَالَ لَهَا: (لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيمٍ الْحَقِى بِأَهْلِكِ) . / 4 - وفيه: أَبُو أُسَيْد، قَالَ: لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (هَبِى نَفْسَكِ لِى) ، قَالَتْ: وَهَلْ تَهَبُ الْمَلِكَةُ نَفْسَهَا لِلسُّوقَةِ؟ قَالَ: فَأَهْوَى بِيَدِهِ يَضَعُ يَدَهُ عَلَيْهَا لِتَسْكُنَ، فَقَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، فَقَالَ: (قَدْ عُذْتِ بِمَعَاذٍ) ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: (يَا أَبَا أُسَيْدٍ، اكْسُهَا رَازِقِيَّتَيْنِ، وَأَلْحِقْهَا بِأَهْلِهَا) . / 5 - قال: يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ، لابْنِ عُمَرَ: رَجُلٌ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، وَهِىَ حَائِضٌ؟ فَقَالَ: أتَعْرِفُ ابْنَ عُمَرَ؟ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِىَ حَائِضٌ. . . . الحديث. مواجهة الرجل أهله بالطلاق جائز له لحديث عائشة، وفى حديث أبى أسيد أنه، عليه السلام، أمره أن يكسوها ويلحقها بأهلها، وليس فيه مواجهته لها، عليه السلام، بالطلاق، وكلا الأمرين سواء غير أن ترك(7/386)
مواجهة المرأة بالطلاق أرفق وألطف وأيسر فى مراعاة ما جعل الله تعالى بين الزوجين من المودة والرحمة. قال الزجاج: خلق الله حواء من ضلع آدم، وجعل بين الرجل والمرأة المودة والرحمة. قال المهلب: وأما أمره، عليه السلام، أن تكسى فهى المتعة التى أمر الله بها للمطلقة غير المدخول بها، وسيأتى مذاهب العلماء فيها بعد هذا. وقوله للرجل: أتعرف ابن عمر؟ ، وهو يخاطبه، إنما هو تقرير على أصل السنة وعلى ناقلها؛ لأنه لازم للعامة الابتداء بمشاهير أهل العلم، فقرره على ما يلزمه من ذلك لا أنه ظن أنه يجهله، وقد قال مثل هذا لرجل سأله عن أم الولد، فقال: أتعرف أبا حفص أو عمر، يريد أباه، ولا خفاء به، ثم أخبره بقضيته فى أم الولد إلزامًا له حكمه فيها بإمامته فى الإسلام، لا على أن السائل كان يجهل عمر. قال ابن المنذر: واختلفوا فى قوله: الحقى بأهلك، وحبلك على غاربك، ولا سبيل لى عليك، وما أشبه ذلك من كنايات الطلاق، فقالت طائفة: ينوى فى ذلك، فإن أراد طلاقًا كان طلاقًا، وإن لم يرده لم يلزمه شىء، هذا قول الثورى، وأبى حنيفة، قالا: إلا إن نوى واحدة أو ثلاثًا، فهو ما نوى، وإن نوى ثنتين فهى واحدة؛ لأنها كلمة واحدة ولا تقع على اثنتين.(7/387)
وقال مالك فى قوله: الحقى بأهلك، إن أراد به الطلاق فهو ما نوى واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا، وإن لم يرد طلاقًا فليس بشىء. وقال الحسن والشعبى: إذا قال لها: الحقى بأهلك، ولا سبيل لى عليك، والطريق لك واسع، إن كان نوى به طلاقًا فهى واحدة وهو أحق بها، وإن لم ينو طلاقًا فليس بشىء. وروى عن عمر، وعلى فى قوله: حبلك على غاربك، أنهما حلفاه عند الركن على ما أراد وأمضياه، وهو قول أبى حنيفة، وكذلك كل كلام يشبه الفرقة مما أراد به الطلاق، فهو مثل ذلك كقولهم: حبلك على غاربك، وقد خليت سبيلك، ولا ملك لى عليك، واخرجى، واستترى، وتقنعى، واعتدى. وقال مالك: لا ينوى أحد فى: حبلك على غاربك؛ لأنه لا يقوله أحد، وقد بقى من الطلاق شيئًا، ولا يلتفت إلى نيته إن قال: لم أرد طلاقًا. وقال الطحاوى: هذا الحديث أصل فى الكنايات عن الطلاق؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال لابنة الجون حين طلقها: الحقى بأهلك، وقد قال كعب بن مالك لامرأته: الحقى بأهلك، حين أمره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) باعتزالها، فلم يكن ذلك طلاقًا، فدل خبر كعب بن مالك على أن هذه اللفظة مفتقرة إلى نية، وأن من قال لامرأته: الحقى بأهلك، فإنه لا يقضى فيه إلا بما ينوى اللافظ بها، وإن لم ينو طلاقًا فليس بطلاق، وهذا قول مالك، والكوفيين، والشافعى. قال غيره: فكذلك سائر الكنايات المحتملات للفراق وغيره. وقال ابن حبيب: قال ابن القاسم، وابن الماجشون، ومطرف: الكنايات المحتملات للطلاق وغيره أن يقول لامرأته: اجمعى عليك(7/388)
ثيابك، ولا حاجة لى بك، ولا نكاح بينى وبينك، ولا سبيل لى عليك، ولست منى بسبيل، أو اذهبى لا ملك لى عليك، أو لا تحلين لى، أو احتالى لنفسك، أو أنت سائبة، أو منى عتيقة، أو ليس بينى وبينك حلال ولا حرام، أو لم أتزوجك، أو استترى عنى، أو تقنعى، أو لست لى بامرأة، أو لا تكونى لى بامرأة حتى تكون أمه امرأته، أو يا طالقة، أو اعتزلى، أو تأخرى عنى، أو اخرجى، وشبه ذلك، فكله سواء بنى بها أو لم يبن لا شىء عليه إلا أن ينوى طلاقًا، فله ما نوى بعد أن يحلف على ذلك. قال غيره: والأصل أن العصمة متيقنة، فلا تزول إلا بنية وقصد؛ لقوله عليه السلام: (الأعمال بالنيات) . وأما الألفاظ التى ليست من ألفاظ الطلاق، ولا يكنى بها عنه، فأكثر العلماء لا يوقعون بها طلاقًا، وإن قصده القائل. وقال مالك: كل من أراد الطلاق بأى لفظ كان لزمه الطلاق حتى بقوله: كلى، واشربى، وقومى، واقعدى، ونحوه، والحجة له أن الله تعالى جعل الرمز وهو الإشارة كالكلام فى الكناية به عن المراد بقوله: (أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا) [آل عمران: 41] ، وكما كان ما فعله المتلاعنان من تلاعنهما وتفرقهما طلاقًا، وإن لم يلفظ به، وكذلك روى فى المختلعة لما ردت عليه الحديقة فأخذها كان طلاقًا.(7/389)
4 - باب مَنْ أَجَازَ طَلاقَ الثَّلاثِ، لِقَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) [البقرة: 229]
وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، فِى مَرِيضٍ طَلَّقَ: لا أَرَى أَنْ تَرِثَ مَبْتُوتَة. وَقَالَ الشَّعْبِىُّ: تَرِثُهُ. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: تَزَوَّجُ إِذَا انْقَضَتِ الْعِدَّةُ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ مَاتَ الزَّوْجُ الآخَرُ، فَرَجَعَ عَنْ ذَلِكَ. / 6 - فيه: أَنَّ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّ عُوَيْمِرًا الْعَجْلانِىَّ جَاءَ إِلَى عَاصِمِ ابْنِ عَدِىٍّ الأنْصَارِىِّ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَاصِمُ، أَرَأَيْتَ رَجُلا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ . . . . . الحديث. فَتَلاعَنَا فَلَمَّا فَرَغَا، قَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ أَمْسَكْتُهَا، فَطَلَّقَهَا ثَلاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَكَانَتْ تِلْكَ سُنَّةَ الْمُتَلاعِنَيْنِ. / 7 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ امْرَأَةَ رِفَاعَةَ الْقُرَظِىِّ جَاءَتْ إِلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَنِى فَبَتَّ طَلاقِى، وَإِنِّى نَكَحْتُ بَعْدَهُ عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ الْقُرَظِىَّ، وَإِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ الْهُدْبَةِ. فقَالَ لها النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَعَلَّكِ تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِى إِلَى رِفَاعَةَ، لا، حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ وَتَذُوقِى عُسَيْلَتَهُ) . / 8 - قالت: عَائِشَةَ مرةً: إِنَّ رَجُلا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلاثًا، فَتَزَوَّجَتْ، فَطَلَّقَ، فَسُئِلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَتَحِلُّ لِلأوَّلِ؟ قَالَ: (لا، حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا كَمَا ذَاقَ الأوَّلُ) . اتفق أئمة الفتوى على لزوم إيقاع طلاق الثلاث فى كلمة واحدة، فإن ذلك عندهم مخالف للسنة، وهو قول جمهور السلف، والخلاف فى ذلك شذوذ، وإنما تعلق به أهل البدع، ومن لا يلتفت إليه لشذوذه(7/390)
عن الجماعة التى لا يجوز عليها التواطؤ على تحريف الكتاب والسنة، وإنما يروى الخلاف فى ذلك عن السلف الحجاج بن أرطاة، ومحمد بن إسحاق. قال أبو يوسف القاضى: كان الحجاج بن أرطاة يقول: ليس طلاق الثلاث بشىء، وكان ابن إسحاق يقول: ترد الثلاث إلى واحدة. واحتجوا فى ذلك بما رواه ابن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: طلق ركانة بن يزيد امرأته ثلاثًا فى مجلس واحد، فحزن عليها حزنًا شديدًا، فسأله النبى، عليه السلام: (كيف طلقتها؟) ، قال: ثلاثًا فى مجلس واحد، قال: (إنما تلك واحدة، فارتجعها إن شئت) ، فارتجعها. وروى ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه، أن أبا الصهباء قال لابن عباس: ألم تعلم أن الثلاث كانت على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وأبى بكر، وصدرًا من خلافة عمر ترد إلى الواحدة؟ قال: نعم. قال الطحاوى: هذان حديثان منكران قد خالفهما ما هو أولى منهما، روى سعيد ابن جبير، ومجاهد، ومالك بن الحارث، ومحمد بن إياس بن البكير، والنعمان بن أبى عياش، كلهم عن ابن عباس فيمن طلق امرأته ثلاثًا أنه قد عصى ربه، وبانت منه امرأته ولا ينكحها إلا بعد زوج، روى هذا عن عمر، وعلى، وابن مسعود، وابن عمر، وأبى هريرة، وعمران بن حصين، ذكر ذلك الطحاوى بالأسانيد عنهم.(7/391)
وروى ابن أبى شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن عمرو بن مرة، عن سعيد ابن جبير، قال: جاء رجل إلى ابن عباس، فقال: إنى طلقت امرأتى ألفًا، أو قال: مائة، قال: بانت منك بثلاث، وسائرها اتخذت بها آيات الله هزوًا. وما رواه الأئمة عن ابن عباس مما يوافق الجماعة يدل على وهن رواية طاوس عنه، وما كان ابن عباس ليخالف الصحابة إلى رأى نفسه، وقد روى معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: كان ابن عباس إذا سُئل عن رجل طلق امرأته ثلاثًا، قال: لو اتقيت الله جعل لك مخرجًا. هذه الرواية لطاوس، عن ابن عباس تعارض رواية ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه؛ لأن من لا مخرج له قد لزمه من الطلاق ما أوقعه، فسقطت رواية ابن جريج، وأيضًا فإن أبا الصهباء الذى سأل ابن عباس عن ذلك لا يعرف فى موالى ابن عباس، وليس تعارض رواية ابن جريج، عن ابن عباس رواية من ذكرنا عن ابن عباس، فصار هذا إجماعًا، وحديث ابن إسحاق منكر خطأ. وأما طلاق ركانة زوجته البتة ثلاثًا، كذلك رواه الثقات من أهل بيت ركانة، روى أبو داود، قال: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح، وأبو ثور، قالا: حدثنا الشافعى، قال: حدثنى عمى محمد بن على بن شافع، عن عبد الله بن على بن السائب، عن نافع بن عجير، عن عبد الله بن يزيد بن ركانة، أن ركانة طلق امرأته شهيمة البتة، فأخبر النبى (صلى الله عليه وسلم) بذلك، فقال: (ما أردت؟) ، فقال: والله ما أردت إلا واحدة، فردها النبى، عليه السلام، فطلقها الثانية فى زمن عمر،(7/392)
والثالثة فى زمن عثمان. قال أبو داود: وهذا أصح ما روى فى حديث ركانة. وحجة الفقهاء فى جواز طلاق الثلاث فى كلمة قوله فى اللعان: فطلقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بذلك، وقبل أن يخبره أنها تطلق عليه باللعان، ولو كان ذلك محظورًا عليه لنهاه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك، وأعلمه أن إيقاع الثلاث محرم ومعصية، فصح أن إيقاع الثلاث مباح، ولولا ذلك لم يقره النبى، عليه السلام. وأما وجه التعلق بحديث رفاعة فى هذا الباب، فقولها: إن رفاعة طلقنى فبت طلاقى، فحمله البخارى على أن ذلك كان فى كلمة واحدة، وقد جاء فى الحديث أنها قالت: يا رسول الله، إن رفاعة طلقنى آخر ثلاث، ذكره فى كتاب الأدب فى باب التبسم والضحك، فبان أن الثلاث كانت مفترقات، ولم تكن فى كلمة، فلا حجة بهذا الحديث فى هذا الباب، وكذلك ما ذكره عن ابن الزبير فى مريض طلق: لا أرى أن ترث مبتوتة، فحمله على ظاهر الكلام، وتأول أن البتة كانت فى كلمة واحدة، ويحتمل أن تكون كانت فى كلمة واحدة أو أكثر منها. واختلف العلماء فى قول الرجل: أنت طالق البتة، فذكر ابن المنذر، عن عمر بن الخطاب أنها واحدة، وعن سعيد بن جبير مثله. وقال عطاء، والنخعى: يدين، فإن أراد واحدة فهى واحدة، وإن أراد ثلاثًا فثلاث، وهو قول أبى حنيفة، والشافعى. وقالت طائفة فى البتة: هى ثلاث، روى ذلك عن على بن أبى طالب، وابن عمر، وعن سعيد ابن المسيب، وعروة، والزهرى، وابن أبى ليلى، ومالك،(7/393)
والأوزاعى، وأبى عبيدة، واحتج الشافعى بحديث ركانة، واحتج مالك بحديث ابن عمر: أبت الطلاق طلاق البتة. قال ابن المنذر: وقد دفع بعض العلماء حديث ركانة، وقال عبد الله بن على بن يزيد ابن ركانة، عن أبيه، عن جده، لا يعرف سماع بعضهم من بعض. واختلفوا فى طلاق المريض يموت فى مرضه، فقالت طائفة: ترثه ما دامت فى العدة، روى عن عثمان بن عفان أنه ورث امرأة عبد الرحمن بن عوف منه، وكانت فى العدة، وبه قال النخعى، والشعبى، وابن شبرمة، وابن سيرين، وعروة، وهو قول الثورى، والكوفيين، والأوزاعى، وأحد قولى الشافعى. وقالت فرقة: ترثه بعد العدة ما لم تزوج، روى عن عطاء، والحسن، وابن أبى ليلى، وبه قال أحمد، وإسحاق، وأبى عبيد. وقالت فرقة: ترثه وإن تزوجت، هذا قول ربيعة، ومالك، والليث، وهو الصحيح عن عثمان، رواه مالك فى الموطأ عن ابن شهاب. وقالت فرقة: لا ترث مبتوتة بحال، وإن مات فى العدة، كقول ابن الزبير، وهو أحد قولى الشافعى، وبه قال أبو ثور وأهل الظاهر، واحتجوا لقول ابن الزبير بالإجماع على أن الزوج لا يرثها وإن ماتت فى العدة ولا بعد انقضاء العدة إذا طلقها ثلاثًا، وهو صحيح أو مريض، فكذلك الزوجة لا ترثه. ومن قال: لا ترثه إلا فى العدة، استحال عنده أن ترث المبتوتة فى حال لا ترث فيه الرجعية؛ لأنه لا خلاف بين المسلمين أن من طلق امرأته صحيحًا طلقة يملك فيها(7/394)
رجعتها، ثم انقضت عدتها قبل موته أنها لا ترثه؛ لأنها أجنبية ليست منه ولا هو منها، فلا تكون المبتوتة المختلف فى ميراثها فى العدة أقوى من الرجعية المجتمع على توريثها فى العدة. وأما الذين قالوا: ترثه بعد العدة ما لم تنكح، فإنهم اعتبروا إجماع المسلمين أنه لا ترث امرأة زوجين فى حال واحد، وقولهم غير صحيح؛ لأنه لا يخلو أن تكون له زوجة بعد انقضاء العدة أو لا تكون له زوجة، فإن كانت له زوجة، فلا يحل لها النكاح للإجماع أن امرأة تكون فى عصمة زوج لا يحل لها نكاح غيره، وإن كانت غير زوجة فمحال أن ترثه وهى زوجة لغيره، ومثل هذه العلة تلزم من قال: ترثه بعد العدة وإن تزوجت. وأهل هذه المقالة اتهمت المريض بالفرار من ميراث الزوجة والمريض محجور عليه الحكم فى ثلثى ماله بأن ينقص ورثته بأن يدخل عليهم وارثًا، فكذلك هو ممنوع من أن يخرج عنهم وارثًا، كما منع النبى، عليه السلام، الذى قتل وليه ميراثه بسبب ما أحدث من القتل، فكذلك لا ينبغى أن يكون المريض مانعًا زوجته الميراث بسبب ما أحدثه من الطلاق؛ لأن الميراث حق قد ثبت لها بمرضه.
5 - باب مَنْ خَيَّرَ نِسَاءَهُ، وقوله تَعَالَى: (يا أيها النبِى قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) [الأحزاب 28] الآية
/ 9 - فيه: عَائِشَةَ، خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَاخْتَرْنَا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَلَمْ يَعُدَّ ذَلِكَ عَلَيْنَا شَيْئًا.(7/395)
وَقَالَ مَسْرُوقٌ: لا أُبَالِى خَيَّرْتُهَا وَاحِدَةً أَوْ مِائَةً بَعْدَ أَنْ تَخْتَارَنِى. قال المؤلف: روى مثل قول مسروق عن عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وابن عباس، وعائشة، ومن التابعين عطاء، وسليمان بن يسار، وربيعة، وابن شهاب، كلهم قال: إذا اختارت زوجها فليس بشىء، وهو قول أئمة الفتوى. وروى عن على بن أبى طالب، وزيد بن ثابت: إن اختارت زوجها فواحدة، وهو قول الحسن البصرى، والقول الأول هو الصحيح لحديث عائشة. قال المهلب: والتخيير هو أن يجعل الطلاق إلى المرأة، فإن لم تطلق ما جعل إليها من ذلك، فليس بشىء، وكما أنه إذا جعل طلاق امرأته بيد رجل، فلم يستعمل ما جعل بيده فليس بشىء. وقال ابن المنذر: وحديث عائشة دلالة على أن المخيرة إذا اختارت زوجها لم يكن ذلك طلاقًا، ويدل على أن اختيارها نفسها يوجب الطلاق؛ لأن فى قولها: فاخترناه، فلم يكن طلاقًا دلالة على أنهن لو اخترن أنفسهن كان ذلك طلاقًا، ويدل على معنى ثالث وهو أن المخيرة إذا اختارت نفسها، فهى تطليقة يملك زوجها رجعتها، إذ غير جائز أن يطلق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بخلاف أمر الله. واختلف العلماء إذا خيرها فاختارت نفسها، فروى عن عمر، وابن مسعود، وابن عباس، أنها واحدة رجعية، وبه قال ابن أبى ليلى، والثورى، والشافعى، وفيها قول ثان: إن اختارت نفسها فواحدة بائنة، روى هذا عن على بن أبى طالب، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه، وقالت طائفة: إن اختارت نفسها فقد طلقت ثلاثًا، روى ذلك عن زيد بن ثابت، وعن الحسن البصرى، وهو قول مالك، والليث، والفرق بين التخيير والتمليك عند مالك أن قول الرجل: قد ملكتك، أى قد(7/396)
ملكتك ما جعل الله لى من الطلاق واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا، فلما جاز أن يملكها بعض ذلك دون بعض وادعى ذلك، كان القول قوله مع يمينه، وقال فى الخيار: إذا اختارت نفسها المدخول بها فهو الطلاق كله، وإن أنكر زوجها فلا يكره له، وإن اختارت واحدة فليس بشىء، وإنما الخيار البتات إما أخذته وإما تركته؛ لأن معنى التخيير التسريح، قال الله تعالى فى آية التسريح: (فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحًا جميلاً) [الأحزاب: 28] ، فمعنى التسريح البتات؛ لأن الله تعالى قال: (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) [البقرة: 229] ، والتسريح بإحسان هى الطلقة الثالثة. قال ابن المنذر: وقالت جماعة: أمرك بيدك، واختارى، سواء. قال الشعبى: هو فى قول عمر، وعلى، وزيد بن ثابت سواء، وهو قول النخعى، وحماد، والكوفى، والزهرى، وسفيان الثورى، والشافعى، وأبى عبيد.
6 - باب إِذَا قَالَ: فَارَقْتُكِ، أَوْ سَرَّحْتُكِ، أَوِ الْبَرِيَّةُ، أَوِ الْخَلِيَّةُ، أَوْ مَا عُنِىَ بِهِ الطَّلاقُ فَهُوَ عَلَى نِيَّتِهِ
وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: (وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا) [الأحزاب: 49] ، وَقَالَ: (وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا) [الأحزاب: 28] ، وَقَالَ: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) [البقرة: 229] ، وَقَالَ: (أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) [الطلاق: 2] . وَقَالَتْ عَائِشَةُ: قَدْ عَلِمَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّ أَبَوَىَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِى بِفِرَاقِهِ.(7/397)
اختلف قول مالك فيمن قال لامرأته: قد فارقتك، أو سرحتك، أو خليت سبيلك، فروى عيسى، عن ابن القاسم، أنها كلها ثلاث فى التى بنى بها إلا أن ينوى أقل، فله نيته ويحلف، وفى التى لم يبن بها حتى ينوى أقل. قال ابن المواز: وأصح قوليه فى ذلك أنها فى التى لم يبن بها واحدة إلا أن يريد أكثر، وقاله ابن القاسم، وابن عبد الحكم. وقال أبو يوسف فى قوله: فارقتك، أو خلعتك، أو خليت سبيلك، أو لا ملك لى عليك: أنها ثلاثًا ثلاثًا. واختلفوا فى الخلية والبرية والبائن، فروى عن على بن أبى طالب أنها ثلاث، وبه قال الحسن البصرى، وروى عن ابن عمر فى الخلية والبرية والبتة: هى ثلاث، وعن زيد ابن ثابت فى البرية: ثلاث. وفيها قول ثان: أن الخلية والبرية والبائن ثلاث فى المدخول بها، هذا قول ابن أبى ليلى. وقال مالك: هى ثلاث فى المدخول بها ويدين فى التى لم يدخل بها تطليقة واحدة أراد أم ثلاثًا، فإن قال: واحدة، كان خاطبًا من الخطاب، وقاله ربيعة. وقال الثورى وأبو حنيفة: نيته فى ذلك، فإن نوى ثلاثًا فهى ثلاث، وإن نوى واحدة فهى واحدة بائنة، وهى أحق بنفسها، وإن نوى ثنتين فهى واحدة. وقال الشافعى: هو فى ذلك كله غير مطلق حتى يقول: أردت بمخرج الكلام منى طلاقًا، فيكون ما نوى، فإن نوى دون الثلاث كان رجعيًا، ولو طلقها واحدة بائنة كانت رجعية.(7/398)
وقال إسحاق: هو إلى نيته يدين. وقال أبو ثور: هى تطليقة رجعية، ولا يسئل عن نيته فى ذلك. ويمكن أن يكون البخارى أشار إلى قول الكوفيين والشافعى وإسحاق فى قوله: أو ما عنى به الطلاق فهو على نيته. والحجة لذلك أن كل كلمة تحتمل أن تكون طلاقًا وغير طلاق، فلا يجوز أن يلزم بها الطلاق إلا أن يقر المتكلم أنه أراد بها الطلاق، فيلزمه ذلك بإقراره، ولا يجوز إبطال النكاح؛ لأنهم قد أجمعوا على صحته بيقين. وقوله: بريت منى، أو بريت منك، وهو من البرية، وكان بعض أصحاب مالك يرى المباراة من البرية ويجعلها ثلاثًا، وتحصيل مذهب مالك أن المباراة من باب الصلح والفدية والخلع، وذلك كله واحدة عندهم بائنة، والحجة لمالك فى قوله: قد فارقتك، وسرحتك، وخلية، وبرية، وبائن، أنها ثلاث فى المدخول بها أن هذه الألفاظ مشهورة فى لغة العرب مستعملة فى عرفهم للإبانة وقطع العصمة كالطلاق الثلاث، بل هذه الألفاظ أشهر عندهم وأكثر استعمالاً من قولهم: أنت طالق، ولم يرد الشرع بخلافها، وإنما ورد أن يفرق عدد الطلاق، فإن ترك ذلك وأوقع الأصل وقع. وأما قوله لعائشة: إنى ذاكر لك أمرًا، فلا تعجلى حتى تستأمرى أبويك، ففيه حجة لمن قال: إنه إذا خير الرجل امرأته أو ملكها، أن لها أن تقضى فى ذلك وإن افترقا من مجلسهما، روى هذا عن الحسن، والزهرى، وقاله مالك، وروى عن مالك أيضًا أن لها أن تقضى ما لم يوقفها السلطان، وكان قول مالك الأول أن اختيارها على(7/399)
المجلس، وهو اختيار ابن القاسم، وهو قول الكوفيين، والثورى، والأوزاعى، والليث، والشافعى، وأبى ثور. قال أبو عبيد: والذى عندنا فى هذا اتباع السنة فى عائشة فى هذا الحديث حين جعل لها التأخير إلى أن تستأمر أبويها، ولم يجعل قيامها من مجلسها خروجًا من الأمر. وقال المروزى: وهذا أصح الأقاويل عندى، وقاله ابن المنذر والطحاوى، وبهذا نقول؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قد جعل لها الخيار فى المجلس وبعده حتى تشاور أبويها، ولم يقل: فلا تستعجلى حتى تستأمرى أبويك فى مجلسك.
7 - باب مَنْ قَالَ لامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَىَّ حَرَامٌ
قَالَ الْحَسَنُ: بنِيَّتُهُ، وَقَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: إِذَا طَلَّقَ ثَلاثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ فَسَمَّوْهُ حَرَامًا بِالطَّلاقِ وَالْفِرَاقِ وَلَيْسَ هَذَا كَالَّذِى يُحَرِّمُ الطَّعَامَ؛ لأنَّهُ لا يُقَالُ لِلطَعَامِ الْحِلِّ: حَرَامٌ، وَيُقَالُ لِلْمُطَلَّقَةِ: حَرَامٌ، وَقَالَ فِى الطَّلاقِ ثَلاثًا: لا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِى نَافِعٌ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا سُئِلَ عَمَّنْ طَلَّقَ ثَلاثًا، قَالَ: لَوْ طَلَّقْتَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، فَإِنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) أَمَرَنِى بِهَذَا، فَإِنْ طَلَّقْتَهَا ثَلاثًا حَرُمَتْ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. / 10 - فيه: عَائِشَةَ، طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ فَتَزَوَّجَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ، فَطَلَّقَهَا وَكَانَتْ مَعَهُ مِثْلُ الْهُدْبَةِ، فَلَمْ تَصِلْ مِنْهُ إِلَى شَىْءٍ تُرِيدُهُ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ طَلَّقَهَا،(7/400)
فَأَتَتِ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ زَوْجِى طَلَّقَنِى، وَإِنِّى تَزَوَّجْتُ زَوْجًا غَيْرَهُ، فَدَخَلَ بِى، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلا مِثْلُ الْهُدْبَةِ، فَلَمْ يَقْرَبْنِى إِلا هَنَةً وَاحِدَةً لَمْ يَصِلْ مِنِّى إِلَى شَىْءٍ، فَأَحِلُّ لِزَوْجِى الأوَّلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَحِلِّينَ لِزَوْجِكِ الأوَّلِ، حَتَّى يَذُوقَ الآخَرُ عُسَيْلَتَكِ، وَتَذُوقِى عُسَيْلَتَهُ) . اختلف العلماء فيمن قال لامرأته: أنت علىّ حرام، على ثمانية أقوال سوى اختلاف قول مالك، فقالت طائفة: هى ثلاث، ولا يسئل عن نيته، روى هذا عن على بن أبى طالب، وزيد بن ثابت، وابن عمر، وبه قال الحسن البصرى فى روايته، والحكم بن عتيبة، وابن أبى ليلى، ومالك، وروى عن مالك وأكثر أصحابه فيمن قال لامرأته قبل أن يدخل بها: أنت علىّ حرام، أنها ثلاث إلا أن يقول: نويت واحدة. وقال عبد العزيز بن أبى سلمة: هى واحدة، إلا أن يقول: أردت ثلاثًا. وقال عبد الملك: لا ينوى فيها، وهى ثلاث على كل حال كالمدخول بها. وقول آخر قاله سفيان: إن نوى ثلاثًا فهى ثلاث، وإن نوى واحدة فهى واحدة بائنة، وإن نوى يمينًا فهى يمين يكفرها، وإن لم ينو فرقة ولا يمينًا فهى كذبة. وقول آخر نحو قول الثورى قاله أبو حنيفة وأصحابه، غير أنهم قالوا: إن نوى اثنتين فهى واحدة، وإن لم ينو طلاقًا فهى يمين وهو مؤل. وقول آخر روى عن ابن مسعود: إن نوى طلاقًا فهى تطليقة، وهو(7/401)
أملك بها، وإن لم ينو طلاقًا فهى يمين يكفرها، وعن ابن عمر مثله، وبه قال النخعى وطاوس. وقال الشافعى: ليس قوله: أنت علىّ حرام، بطلاق حتى ينويه، فإن أراد الطلاق فهو على ما أراد من الطلاق، وإن قال: أردت تحريمًا بلا طلاق، كان عليه كفارة يمين. قال الشافعى: وليس بمؤل. وقول آخر عن ابن عباس: من قال لامرأته: أنت حرام، لزمته كفارة الظهار، وهو قول أبى قلابة، وسعيد بن جبير، وبه قال أحمد بن حنبل، واحتج ابن عباس بقوله تعالى: (يا أيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك) [التحريم: 1] ، ثم قال: عليه أغلظ الكفارات عتق رقبة. وقول آخر: أن الحرام يمين تكفر، روى ذلك عن أبى بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وابن مسعود، وعائشة، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، وعطاء، وطاوس، وجماعة، وبه قال الأوزاعى، وأبو ثور، واحتج أبو ثور بأن الحرام ليس من ألفاظ الطلاق بقوله: (يا أيها النبى لما تحرم ما أحل الله لك) [التحريم: 1] ، ولم يوجب به طلاقًا، وكان حرم على نفسه مارية، ثم قال: (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) [التحريم: 2] . والقول الثامن: أن تحريم المرأة كتحريم الماء ليس بشىء، ولا فيه كفارة ولا طلاق؛ لقوله تعالى: (لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) [المائدة: 87] ، روى ذلك عن الشعبى، ومسروق، وأبى سلمة. قال مسروق: ما أبالى حرمت امرأتى أو جفنة من ثريد. وقال الشعبى: أنت علىّ حرام أهون من نعلى. وقال أبو سلمة: ما أبالى حرمتها أو حرمت الفرات، وهذا القول شذوذ، وعليه بوب البخارى هذا الباب.(7/402)
وذهب إلى أن من حرم زوجته أنها ثلاث، والحجة لذلك إجماع العلماء أن من طلق امرأته ثلاثًا أنها تحرم عليه، فلما كانت الثلاث تحريمًا كان التحريم ثلاثًا، وإلى هذه الحجة أشار البخارى فى حديث رفاعة؛ لأنه طلق امرأته وبت طلاقها، فلم تحل له إلا بعد زوج، فحرمت عليه مراجعتها بالثلاث تطليقات، فكذلك من حرم على نفسه امرأته كان كمن طلقها ثلاثًا، ومن قال: تلزمه كفارة الظهار، فليس بالبين؛ لأن الله إنما جعل كفارة الظهار للمظاهر خاصة. وقال الطحاوى: من قال: تلزمه كفارة الظهار، كان محمولاً على أنه إن أراد الظهار كان ظهارًا، وإن أراد اليمين كان يمينًا مغلظة على ترتيب كفارة الظهار: عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينًا. وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد: لا يكون ذلك ظهارًا، وإن أراده. وأما قول الحسن فى الحرام: له نيته، فهى رواية أخرى ذكرها عبد الرزاق، عن معمر، عن عمرو، عن الحسن، قال: إن نوى طلاقًا فهى طلاق، وإلا فهى يمين، وهو قول ابن مسعود، وابن عمر.
8 - باب) لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) [التحريم: 1]
/ 11 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: إِذَا حَرَّمَ امْرَأَتَهُ لَيْسَ بِشَىْءٍ، وَقَالَ: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب 21] . / 12 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلا، فَتَوَاصَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ أَنَّ أَيَّتَنَا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَلْتَقُلْ: إِنِّى(7/403)
أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ، أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ: فَقَالَ: (لا، بَلْ شَرِبْتُ عَسَلا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَلَنْ أَعُودَ لَهُ) ، فَنَزَلَتْ: (يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ (إِلَى: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ) [التحريم: 4] لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِىُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ) [التحريم: 3] بِقَوْلِهِ: (بَلْ شَرِبْتُ عَسَلا) . أما ما ذكره البخارى عن ابن عباس أنه قال: إذا حرم الرجل امرأته فليس بشىء، يعنى فليس بتحريم مؤبد، وعليه كفارة يمين، روى يعلى بن حكيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: إذا حرم الرجل امرأته فهى يمين يكفرها، أما لكم فى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أسوة حسنة؟ وروى عنه أن عليه كفارة الظهار، وقد تقدم ذلك فى الباب قبل هذا، وتقدم فيه مذاهب الفقهاء فى هذه المسألة. وقال الطحاوى: روى فى قوله تعالى: (لم تحرم ما أحل الله لك) [التحريم: 1] ، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (لن أعود لشرب العسل) ، ولم يذكر يمينًا، فالقول هو الموجب للكفارة، إلا أنه يوجب أن يكون قد كان هناك يمين؛ لقوله تعالى: (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) [التحريم: 2] ، فدل هذا أنه حلف مع ذلك التحريم. وقال زيد بن أسلم فى هذه الآية: إنه حلف، عليه السلام، ألا يطأ مارية أم ولده، ثم قال بعد ذلك: هى حرام، ثم أمره الله فكفر، فكانت كفارته ليمينه لا لتحريمه. قال ابن المنذر: والأخبار دالة على أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان حرم على نفسه شربة من عسل، وحلف على ذلك، فإنما لزمته الكفارة ليمينه لا لتحريمه ما أحل الله له، فلا حجة لمن أوجب فيه كفارة يمين.(7/404)
قال المهلب: قوله تعالى: (يا أيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك) [التحريم: 1] ، هذا فيما لم يشرع فيه التحريم من المطاعم وغيرها والإماء، وأما الزوجات فقد شرع الله التحريم فيهن بالطلاق، وبألفاظ أخر مثل الظهار وغيره، فالتحريم فيهن بأى لفظ فهم أو عبر عنه لازم؛ لأنه مشروع، وغير ذلك من الإماء والأطعمة والأشربة، وسائر ما يملك ليس فيه شرع على التحريم، بل التحريم فيه منهى عنه؛ لقوله تعالى: (لم تحرم ما أحل الله لك) [التحريم: 1] ، وهذه نعمة أنعم الله بها على محمد وأمته بخلاف ما كان فى سائر الأديان. ألا ترى أن إسرائيل حرم على نفسه أشياء، وكان نص القرآن يعطى أن من حرم على نفسه شيئًا أن ذلك التحريم يلزمه، وقد أحل الله ذلك الإلزام إذا كان يمينًا بالكفارة، فإن لم يكن بيمين لم يلزم ذلك التحريم إنعامًا من الله علينا وتخفيفًا عنا. وكذلك ألزمنا كل طاعة جعلناها لله على أنفسنا كالمشى إلى بيت الله الحرام، ومسجد الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، ومسجد إيلياء، وجهاد الثغور، والصوم، وشبه ذلك ألزمنا هذا، لما فيه لنا من المنفعة، ولم يلزم ما حرمناه على أنفسنا، ألا ترى قوله تعالى: (لم تحرم ما أحل الله لك تبتغى مرضات أزواجك) [التحريم: 1] ، فلم يجعل الله تعالى لنبيه، عليه السلام، أن يحرم إلا ما حرم الله،) والله غفور رحيم) [التحريم: 1] ، أى قد غفر الله لك ذلك التحريم. وفيه من الفقه: أن إفشاء السر وما تفعله المرأة مع زوجها ذنب ومعصية تجب التوبة منه؛ لقوله: (إن تتوبا إلى الله) [التحريم: 4] ،(7/405)
ويحتمل أن يتوبا إلى الله من هذا الذنب، ومن التظاهر عليه فى الغيرة والتواطؤ على منعه ما كان يناله من ذلك الشراب. وفيه: دليل أن ترك أكل الطيبات لمعنى من معانى الدنيا لا يحل، وإن كان ورعًا وتأخيرًا لها إلى الآخرة كان محمودًا. والمغافير شبيه بالصمغ تكون فى الرمث فيه حلاوة تطيب نكهة آكله، يقال: أغفر الرمث إذا ظهر فيه، واحدها مغفور. وقال صاحب العين: جرست النحل العسل تجرسه جرسًا، وهو لحسها إياها. والعرفط شجر العضاة، والعضاة كل شجر له شوك، وإذا استيك به كانت له رائحة حسنة تشبه رائحة طيب النبيذ.
9 - باب قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) [الأحزاب 49] الآية
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَعَلَ اللَّهُ الطَّلاقَ بَعْدَ النِّكَاحِ. وَيُرْوَى فِى ذَلِكَ عَنْ عَلِىٍّ بْنِ أَبِى طَالِب، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَبِى بَكْرِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، وَعُبَيْدِاللَّهِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، وَعَلِىِّ بْنِ حُسَيْنٍ، وَشُرَيْحٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَطَاوُسٍ، وَالْحَسَنِ، وَعِكْرِمَةَ، وَعَطَاءٍ، وَعَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَسَالِم، وَنَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، وَعَمْرِو بْنِ هَرِموٍ، وَالشَّعْبِىِّ: أَنَّهَا لا تَطْلُقُ. وقال ابن المنذر: اختلف العلماء فيمن حلف بطلاق من لم(7/406)
يملك على ثلاثة أقوال، فقالت طائفة: لا طلاق قبل نكاح، وهو قول على، وعائشة، وابن عباس، واحتج ابن عباس فى ذلك بقوله: (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات) [الأحزاب: 49] الآية، وقال: جعل الله الطلاق بعد النكاح، وعليه جمهور التابعين المذكورين فى هذا الباب، وهو مذهب الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور. وروى العتبى، عن على بن معبد، عن ابن وهب، عن مالك أنه أفتى رجلاً حلف: إن تزوجت فلانة فهى طالق، فتزوجها أنه لا شىء عليه، وقاله ابن وهب، ونزلت بالمخزومى فأتاه مالك بذلك، وروى أبو زيد، عن ابن القاسم مثله، وقال محمد بن عبد الحكم: ما أراه حانثًا. وقد قال ابن القاسم: أمر السلطان ألا يحكم فى ذلك بشىء وتوقف فى الفتيا به آخر أيامه. قال محمد: وكان عامة مشايخ المدينة لا يرون به بأسًا، وهو قول ابن أبى ذئب، وأما جمهور أصحاب مالك، فلا يرون ذلك. وفيها قول ثان وهو إيجاب الطلاق قبل النكاح، روى ذلك عن ابن مسعود، والقاسم، وسالم، والزهرى، وأبى حنيفة، وأصحابه. والقول الثالث: إذا لم يسم الحالف بالطلاق امرأة بعينها أو قبيلة أو أرضًا وعم فى يمينه تحريم ما أحل الله له، فلا يلزمه ذلك وليتزوج ما شاء، فإن سمى امرأة أو أرضًا أو قبيلة أو ضرب أجلاً يبلغ عمره أكثر منه لزمه الطلاق، وكذلك لو قال: كل عبد أملكه حر، فلا شىء عليه؛ لأنه عم، وإن خص جنسًا أو بلدًا أو ضرب أجلاً يبلغ مثله لزمه، هذا قول النخعى، وربيعة، ومالك، وابن أبى ليلى، والليث، والأوزاعى، وذكر مالك فى الموطأ أنه بلغه عن ابن مسعود.(7/407)
قال ابن المنذر: ومن حجة أهل المقالة الأولى ما رواه ابن أبى ذئب عن عطاء، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لا طلاق قبل نكاح) . قال ابن المنذر: وحجة أخرى وهو أنه لما أجمعوا أن من باع سلعة لا يملكها ثم ملكها أن البيع غير لازم له، فكذلك إذا طلق امرأة ثم تزوجها أن الطلاق غير لازم له. واحتج الكوفيون بما رواه مالك فى الموطأ أنه بلغه أن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمر، وابن مسعود، وسالم، والقاسم، وفقهاء المدينة أنهم كانوا يقولون: إذا حلف الرجل بطلاق المرأة قبل أن ينكحها، ثم أتم، أن ذلك لازم له إذا نكحها، وتأولوا قوله: (لا طلاق قبل نكاح) ، أن يقول الرجل: امرأة فلان طالق، أو عبد فلان حر، وهذا ليس بشىء، وأما أن يقول: إن تزوجت فلانة فهى طالق، فإنما طلقها حين تزوجها وكذلك فى الحرية يريد إن اشتريتك فأنت حرة. قالوا: ومثله (لا نذر لابن آدم فيما لا يملك) ؛ لأنه يحتمل أن يلزمه فيه النذر إذا ملكه، قالوا: وأيضًا فقد جاء الحديث: (لا طلاق إلا بعد نكاح) ، وليس فيه لا عقد طلاق، وهو الذى أجزناه وشبهه لعلة الاحتباس أنه يجوز فيها الصدقة من قبل أن تخلق فى ملكه. واحتج الأبهرى لقول مالك، فقال: إذا سمى امرأة أو قبيلة أو بلدة، فإنه يلزمه عقد الطلاق؛ لأنه ليس بعاص فى هذا العقد، وكل من عقد عقدًا ليس بعاص فيه، فالعقد له لازم وعليه الوفاء به؛ لقوله تعالى: (أوفوا بالعقود) [المائدة: 1] ، وقوله تعالى: (يوفون بالنذر) [الإنسان: 7] ،(7/408)
والنذر فى لسان العرب إيجاب المرء على نفسه شيئًا، وإن لم يكن فى ملكه، يدل على ذلك قوله تعالى: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله) [التوبة: 75] الآية، فثبت بهذا أنه يلزمه ما ألزم نفسه وإن لم يكن فى ملكه، ومخالفنا يقول: إن أوجب على نفسه نذر عتق أو صدقة درهم قبل ملكه أن ذلك يلزمه، فكذلك عقد الطلاق، فأما إذا عم النساء، فإن ذلك معصية؛ لأنه قصد منع نفسه النكاح الذى أباحه الله له، فلا يصح عقده؛ لقوله عليه السلام: (من أحدث فى أمرنا ما ليس منه فهو رد) .
- بَاب إِذَا قَالَ لامْرَأَتِهِ وَهُوَ مُكْرَهٌ: هَذِهِ أُخْتِى، فَلا شَىْءَ عَلَيْهِ قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِسَارَةَ: هَذِهِ أُخْتِى، وَذَلِكَ فِى ذَاتِ اللَّهِ
. إنما أراد البخارى بهذا التبويب، والله أعلم، رد قول من نهى عن أن يقول الرجل لامرأته: يا أختى؛ لأنه قد روى عبد الرزاق، عن الثورى، عن خالد الحذاء، عن أبى تميمة الهجيمى، قال: مرَّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على رجل وهو يقول لامرأته: يا أُخية، فزجره، ومعنى كراهة ذلك، والله أعلم، خوف ما يدخل على من قال لامرأته: يا أختى، أو أنت أختى، أنه بمنزلة من قال: أنت علىَّ كظهر أمى أو كظهر أختى فى التحريم إذا قصد إلى ذلك، فأرشده النبى (صلى الله عليه وسلم) إلى اجتناب الألفاظ المشكلة التى يتطرق بها إلى تحريم المحلات، وليس يعارض هذا بقول إبراهيم فى زوجته: هذه أختى؛ لأنه إنما أراد(7/409)
بها أخته فى الدين والإيمان، فمن قال لامرأته: يا أختى، وهو ينوى ما نواه إبراهيم من أخوة الدين، فلا يضره شيئًا عند جماعة العلماء.
- باب الطَّلاقِ فِى الإغْلاقِ، وَالْكُرْهِ، وَالسَّكْرَانِ، وَالْمَجْنُونِ، وَأَمْرِهِمَا، وَالْغَلَطِ، وَالنِّسْيَانِ فِى الطَّلاقِ، وَالشِّرْكِ وَغَيْرِهِ
لِقَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : الأعْمَالُ بِالنِّيَّةِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَانَوَى وَتَلا الشَّعْبِىُّ: (لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) [البقرة: 286] ، وَمَا لا يَجُوزُ مِنْ إِقْرَارِ الْمُوَسْوِسِ. وَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) لِلَّذِى أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا: (أَبِكَ جُنُونٌ) ؟ وَقَالَ عَلِىٌّ: بَقَرَ حَمْزَةُ خَوَاصِرَ شَارِفَىَّ، فَطَفِقَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، يَلُومُ حَمْزَةَ، فَإِذَا حَمْزَةُ قَدْ ثَمِلَ مُحْمَرَّةٌ عَيْنَاهُ، ثُمَّ قَالَ حَمْزَةُ: هَلْ أَنْتُمْ إِلا عَبِيدٌ لأبِى؟ فَعَرَفَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّهُ قَدْ ثَمِلَ، فَخَرَجَ وَخَرَجْنَا مَعَهُ. وَقَالَ عُثْمَانُ: لَيْسَ لِمَجْنُونٍ وَلا لِسَكْرَانَ طَلاقٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَلاقُ السَّكْرَانِ وَالْمُسْتَكْرَهِ لَيْسَ بِجَائِزٍ. وَقَالَ عُقْبَةُ ابْنُ عَامِرٍ: لا يَجُوزُ طَلاقُ الْمُوَسْوِسِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: إِذَا بَدَأ بِالطَّلاقِ فَلَهُ شَرْطُهُ. وَقَالَ نَافِعٌ: طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ إِنْ خَرَجَتْ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنْ خَرَجَتْ، فَقَدْ بُتَّتْ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ فَلَيْسَ بِشَىْءٍ. وَقَالَ الزُّهْرِىُّ فِيمَنْ قَالَ: إِنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا فَامْرَأَتِى طَالِقٌ ثَلاثًا، يُسْأَلُ عَمَّا قَالَ، وَعَقَدَ عَلَيْهِ قَلْبُهُ حِينَ حَلَفَ بِتِلْكَ الْيَمِينِ، فَإِنْ سَمَّى أَجَلا أَرَادَهُ وَعَقَدَ عَلَيْهِ قَلْبُهُ حِينَ حَلَفَ جُعِلَ ذَلِكَ فِى دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِنْ قَالَ لا حَاجَةَ لِى فِيكِ نِيَّتُهُ، وَطَلاقُ كُلِّ(7/410)
قَوْمٍ بِلِسَانهِمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِذَا قَالَ: إِذَا حَمَلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلاثًا، يَغْشَاهَا عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ مَرَّةً، فَإِنِ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا، فَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا قَالَ: الْحَقِى بِأَهْلِكِ نِيَّتُهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الطَّلاقُ عَنْ وَطَرٍ، وَالْعَتَاقُ مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ. وَقَالَ الزُّهْرِىُّ: إِنْ قَالَ مَا أَنْتِ بِامْرَأَتِى نِيَّتُهُ، وَإِنْ نَوَى طَلاقًا فَهُوَ مَا نَوَى. وَقَالَ عَلِىٌّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الْقَلَمَ رُفِعَ عَنْ ثَلاثَةٍ: عَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ الصَّبِىِّ حَتَّى يُدْرِكَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ. وَقَالَ عَلِىٌّ: كُلُّ طَّلاقِ جَائِزٌ إِلا طَلاقَ الْمَعْتُوهِ. وَقَالَ قَتَادَة: إِذَا طَلَّقَ فِى نَفْسِهِ فَلَيْسَ بِشَىْءٍ. / 13 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِى مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ) . / 14 - وفيه: جَابِر، أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، وَهُوَ فِى الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ زَنَى، فَأَعْرَضَ عَنْهُ فَتَنَحَّى لِشِقِّهِ الَّذِى أَعْرَضَ عنه فَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعًا، فَدَعَاهُ، فَقَالَ: (هَلْ بِكَ جُنُونٌ؟ هَلْ أَحْصَنْتَ) ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُرْجَمَ بِالْمُصَلَّى، فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ جَمَزَ حَتَّى أُدْرِكَ بِالْحَرَّةِ فَقُتِلَ. / 15 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ مثله، إلا أنه زاد: فَأَعْرَضَ عَنْهُ أربعًا، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، فَقَالَ: (هَلْ بِكَ جُنُونٌ) ؟ قَالَ: لا، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ. . .) الحديث. تأويل الإغلاق عند العلماء الإكراه، قال أبو عبيد: الإغلاق التضييق، فإذا ضيق على المكره وشدد عليه حتى طلق لم يقع حكم طلاقه، فكأنه لم يطلق.(7/411)
واختلفوا فى طلاق المكره على ما يأتى ذكره فى كتاب الإكراه، ونذكر منه هاهنا طرفًا قال مالك، والأوزاعى، والشافعى: لا يلزم. وقال الكوفيون: طلاق المكره لازم. واحتج أهل المقالة الأولى بقوله: (الأعمال بالنيات) ، وبما رواه الأوزاعى، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن ابن عباس، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (تجاوز الله لأمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) ، واحتجوا بقوله: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) [النحل: 106] ، فنفى الكفر باللسان إذا كان القلب مطمئنًا بالإيمان، فكذلك الطلاق إذا لم يرده ولم ينوه بقلبه لم يلزمه، ولذلك قال عطاء: الشرك أعظم من الطلاق. قال الطحاوى: التجاوز معناه العفو عن الإثم؛ لأن العفو عن الطلاق والعتاق لا يصح؛ لأنه غير مذنب فيعفى عنه، قال: وكما ثبت له حكم الوطء بالإكراه، فيحرم به على الواطئ ابنة المرأة وأمها، فكذلك القول لا يمنع من وقوع ما طلق. واختلفوا فى طلاق السكران، فأجازته طائفة ذكره ابن وهب، عن عمر بن الخطاب، ومعاوية بن أبى سفيان، وجماعة من التابعين منهم: سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وعطاء، والقاسم، وسالم، وذكره ابن المنذر، عن الحسن، وابن سيرين، والنخعى، والشعبى، وهو قول مالك، وأبى حنيفة، والأوزاعى، والثورى. واختلف فيه قول الشافعى، فأجازه مرة ومنع منه أخرى، وألزمه مالك الطلاق والقود من الجراح والقتل، ولم يلزمه النكاح والبيع. وقال الكوفيون: أقوال السكران وعقوده كلها ثابتة كأفعال(7/412)
الصاحى إلا الردة، فإذا ارتد فإنه لا تبين منه امرأته استحسانًا. وقال أبو يوسف: يكون مرتدًا فى حال سكره. وهو قول الشافعى إلا أن لا نقتله فى حال سكره ولا نستتيبه. وقالت طائفة: لا يجوز طلاق السكران، روى ذلك عن عثمان بن عفان، وابن عباس، وعن عطاء، وطاوس، والقاسم، وربيعة، وهو قول الليث، وإسحاق، وأبى ثور، والمزنى، واختاره الطحاوى، وقال: أجمع العلماء على أن طلاق المعتوه لا يجوز، فالسكران معتوه بسكره كالموسوس معتوه بالوسواس، ولا يختلفون أن من شرب البنج، فذهب عقله أن طلاقه غير جائز، فكذلك من سكر من الشراب. ولا يختلف حكم فقدان العقل بسبب من الله أو بسبب من أجله، ألا ترى أنه لا فرق بين من عجز عن القيام فى الصلاة بسبب من الله أو من قبل نفسه بأن يكسر رجل نفسه فى باب سقوط فرض القيام عنه. واحتج أهل المقالة الأولى، وفرقوا بين المجنون والسكران، قال عطاء: ليس السكران كالمغلوب على عقله؛ لأن السكران أتى ما أتى، وهو يعلم أنه يقول ما لا يصلح. قال غيره: ألا ترى أن المجنون لا يقضى ما فاته من صلاته فى حال جنونه، ويلزم السكران ذلك فافترقا، وذكر ابن المنذر أن بعض أهل العلم رد هذا القول، فقال: ليس فى احتجاج من احتج بأن الصلاة تلزم السكران ولا تلزم المجنون حجة؛ لأن الصلاة قد تلزم النائم ولا تلزم المجنون، ولو طلق رجل فى حال نومه، وطلق آخر فى حال جنونه، لم يقع طلاق واحد منهما.(7/413)
وفى قولهم: إن السكران إذا ارتد لم يستتب فى حال سكره ولم يقتل، دليل على أن لا حكم لقوله، ورد المهلب هذا القول، فقال: معلوم فى الأغلب من الحال أن السكران إذا طلق لم يذهب جميع عقله، والدليل على ذلك أنه أوقع الطلاق، فقد نطق بكلام مفهوم، وقد شرط الله فى حد السكران الذى تبطل الصلاة به وغيرها أن لا يعلم ما يقول، وهذا المطلق يعلم ما يقول، وقصد بالطلاق معنى معلومًا فى السنة، واستدللنا أنه علم ما قال؛ لأنه قاله لمن لا يقال إلا له فصح قصده الطلاق، فوجب إلزامه له. قال ابن القصار: إن شرب السكران للتداوى جائز، ولا حد فى السكر منه كما هو فى الخمر، فلا يقع طلاقه. فيقال لهم: إن شرب الدواء لغير مصلحة، ولكن ليزيل عقله، فإن طلاقه عندنا يقع. قال المهلب: ولا حجة لمن لم يجز طلاق السكران فى حديث حمزة حين سكر؛ لأن الخمر حينئذ كانت مباحة، فلذلك سقط عنه حكم ما نطق به فى حال سكره، وهذه القصة كانت سبب تحريم الخمر، فليس يجب أن نحكم بما كان قبل تحريم الخمر على ما كان بعد تحريمها؛ لاختلاف الحكم فى ذلك، وقد ذكرت فى كتاب الأشربة، فى باب ما جاء أن الخمر ما خامر العقل اختلاف العلماء فى حد السكر الموجب للحد ما هو. قال ابن المنذر: وأجمع العلماء على أن طلاق المعتوه والمجنون لا يلزم وقد احتج فى ذلك على بن أبى طالب فى هذا الباب بما فيه مقنع. قال مالك: وكذلك المجنون الذى يفيق أحيانًا يطلق فى حال(7/414)
جنونه، والمبرسم قد رفع عنه القلم لغلبة العلم أنه فاسد المقاصد، وأن أفعاله وأقواله مخالفة لرتبة العقل. قال المهلب: ومعنى قوله عليه السلام: (أبك جنون) ، يعنى فى بعض أوقاتك، ولو أراد أبك جنون الدهر كله ما وثق بقوله أن به جنونًا، وإنما معناه أبك جنون فى غير هذا الوقت، فيكون قولك: إنك قد زنيت فى وقت ذلك الجنون، وإنما طلب شبهة يدرأ عنه الحد بها؛ لأن المجنون إنما يحمل أمره على فقد العقل وفساد المقاصد فى وقت جنونه، والسكران أصله العقل، والسكر إنما هو طارئ على عقله، فما وقع منه من كلام مفهوم فهو محمول على أصل عقله حتى ينتهى إلى فقدان عقله. واختلفوا فى الخطأ والنسيان فى الطلاق، فقالت طائفة: من حلف على أمر أن لا يفعله بالطلاق ففعله ناسيًا لم يحنث، هذا قول عطاء، وهو أحد قولى الشافعى، وبه قال إسحاق، وروى عن نافع فيمن حلف بالطلاق وهو لا يريده فسبقه لسانه يدين فيما بينه وبين الله تعالى، وكذلك قال الشافعى فيمن غلبه لسانه بغير اختيار منه، فقوله كلا قول، ولا يلزمه طلاق ولا غيره. وروى عن الشعبى، وطاوس فى الرجل يحلف على الشىء، فيخرج على لسانه غير ما يريد له نيته، وحققه أحمد. وقال الحكم: يؤخذ بما تكلم به، وممن أوجب عليه الحنث مكحول، وعمر بن عبد العزيز، وقتادة، وربيعة، والزهرى، وهو قول مالك، والثورى، والكوفيين، وابن أبى ليلى، والأوزاعى. وحجة من لم يوجب الحنث عليه قوله: (الأعمال بالنيات) ،(7/415)
والناسى لا نية له، وقوله: (إن الله رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه) . واحتج الذين أوجبوا الحنث، فقالوا: معنى رفع الخطأ والنسيان إنما هو فى الإثم بينك وبين الله. وأما فى حقوق العباد، فلازمة فى الخطأ والنسيان، فى الدماء والأموال، وإنما يسقط فى قتل الخطأ ما كان يجب لله من عقوبة أو قصاص، ووقع فى كثير من النسخ، والنسيان فى الطلاق والشرك وهو خطأ، والصواب والشك مكان الشرك. واختلف العلماء فى الشك فى الطلاق، فأوجب الطلاق بالشك مالك، وقال الأوزاعى، وسعيد بن عبد العزيز: أفرق بالشك ولا أجمع بالشك، وممن لم يوجب الطلاق بالشك ربيعة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق. وقال الشافعى، وأحمد، وإسحاق: من شك فلم يدر أطلق واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا وجبت عليه واحدة، وهى عنده حتى يستيقن، ولا يجوز عندهم أن يرفع يقين النكاح بشك الحنث، وإلى هذا أشار البخارى. وأما قول عطاء: إذا بدأ بالطلاق فله شرطه، وقول نافع: إذا طلق رجل امرأته البتة إن خرجت، وقول الزهرى فيمن قال: إن لم أفعل كذا وكذا فامرأتى طالق، فسيأتى فى كتاب الطلاق. وأما قول إبراهيم: إن قال: لا حاجة لى فيك، نيته، فهو قول أصحاب مالك، قالوا: إن أراد بذلك الطلاق لزمه ما أراد منه، وإن لم يرد طلاقًا أحلف ودين، وقوله: طلاق كل قوم بلسانهم، فالعلماء(7/416)
مجمعون أن العجمى إذا طلق بلسانه وأراد الطلاق أنه يلزمه؛ لأنهم وسائر الناس فى أحكام الله سواء. وأما قول قتادة: إذا حملت فأنت طالق يغشاها فى كل طهر مرة، فإن استبان حملها فقد بانت منه، فهو قول ابن الماجشون، وحكى مثله ابن المواز، عن أشهب، قال فى قوله: إذا حملت وإذا حضت وإذا وضعت ليس بأجل، ولا شىء عليه حتى يكون ما شرط، وهو قول الثورى، والكوفيين، والشافعى، قالوا: وسواء كان مما هو غيب لا يعلم أو مما يعلم نحو قوله: إن ولدت وإذا أمطرت السماء وإذا جاء رأس الهلال، فإنه لا يقع الطلاق إلا بوجود الوقت والشرط. وقال ابن القاسم فى قوله: إذا حملت فأنت طالق، لا يمنع من وطئها فى ذلك الطهر مرة فقط، ثم يطلق إذا وطئها حينئذ، ولو كان قد وطئها فيه قبل مقالته طلقت مكانها ويصير كالذى قال لزوجته: إن كنت حاملاً فأنت طالق، وإن لم يكن بك حمل فأنت طالق، فإنها تطلق مكانها ولا ينتظر اختبارها أبها حمل أم لا، إذ لو ماتا لم يتوارثا، وكذلك قوله لغير حامل: إذا حملت فوضعت فأنت طالق، أو قال: إذا وضعت فقط فأنت طالق، وإن وطئ فى ذلك الطهر وإلا إذا وطئ مرة طلقت. وقال ابن أبى زيد: اختلف فيه قول مالك. وقال الطحاوى: لا يختلفون فيمن أعتق عبده، إذا كان هذا لما هو كائن لا محالة أو لما قد يكون، وقد لا يكون أنهما سواء ولا يعتق حتى يكون الشرط فكذلك الطلاق. وقول الزهرى: إن قال: ما أنت بامرأتى، نيته، فإن نوى طلاقًا فهو ما نوى، فهو قول مالك، وأبى حنيفة، والأوزاعى. وقال الليث: هى كذبة. وقال أبو يوسف ومحمد: ليس بطلاق.(7/417)
وقول قتادة: فإذا طلق فى نفسه فليس بشىء، هو قول جماعة أئمة الفتوى، واختلف فيه قول مالك، فذكر عنه ابن المواز أن من عقد طلاقًا بقلبه ولم يلفظ به لسانه فإنه لا يقع، وهذا الأظهر من مذهبه، وروى عنه أشهب فى العتبية أنها تطلق عليه، وهذا قول ابن سيرين وابن شهاب، وقال ابن سيرين: إذا طلق فى نفسه أليس قد علمه الله تعالى، وحجة الجماعة قوله: (إن الله تجاوز عن أمتى ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم) ، فجعل ما لم ينطق به اللسان لغوًا لا حكم له، حتى إذا تكلم به يقع الجزاء عليه ويلزم المتكلم. وقال ابن المنذر: وكذلك قوله: (الأعمال بالنيات) ، فجعل الأعمال مقرونة بالنيات، ولو كان حكم من أضمر فى نفسه شيئًا حكم المتكلم، كان حكم من حدث نفسه فى الصلاة بشىء متكلمًا، وفى إجماعهم على أن ذلك ليس بكلام مع قوله، عليه السلام: (من صلى صلاة لا يحدث فيها نفسه غفر له) ، دليل على أن حديث النفس لا يقوم مقام الكلام، وأجمعوا أن من حدث نفسه بالقذف غير قاذف، وكذلك اختلفوا فيمن كتب إلى امرأته بالطلاق من غير لفظ به، فأوجب قوم الطلاق بالكتابة، هذا قول النخعى، والشعبى، والحكم، والزهرى، ومحمد بن الحسن، واحتج الزهرى فى أن الكتاب كلام بقوله: (فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا) [مريم: 11] ، قال: كتب لهم، وهو قول أحمد بن حنبل إذا كتب طلاق امرأته بيده فقد لزمه؛ لأنه عمل بيده. وقالت طائفة: إن أنفذ الكتاب إليها نفذ الطلاق، روى ذلك عن(7/418)
عطاء، والحسن، وقتادة، وقال مالك والأوزاعى: إذا كتب إليها وأشهد على كتابه، ثم بدا له، فله ذلك ما لم يوجه إليها بالكتاب، فإذا وجهه فقد طلقت فى ذلك الوقت، إلا أن ينوى أنها لا تطلق عليه حتى يبلغ كتابه. وقوله: أذلقته الحجارة، قال صاحب الأفعال: أذلقته، يقال: أذلق الرجل غيره أخرقه بطعنة أو حجر يضربه به، وقد تقدم تفسير الحرة فى كتاب الصيام. وقوله: جمز، يعنى وثب، وفى كتاب الأفعال: جمز الفرس جمزًا وأجمز وثب، فاستعير الجمز للإنسان بمعنى الوثب، وجمز الإنسان أسرع فى مشيه.
- باب الْخُلْعِ وَكَيْفَ الطَّلاقُ فِيه وقوله: (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا) [البقرة: 229] الآية
وَأَجَازَ عُمَرُ الْخُلْعَ دُونَ السُّلْطَانِ، وَأَجَازَ عُثْمَانُ الْخُلْعَ دُونَ عِقَاصِ رَأْسِهَا، وَقَالَ طَاوُسٌ: (إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) [البقرة: 229] : فِيمَا افْتَرَضَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فِى الْعِشْرَةِ وَالصُّحْبَةِ، وَلَمْ يَقُلْ قَوْلَ السُّفَهَاءِ لا يَحِلُّ حَتَّى تَقُولَ: لا أَغْتَسِلُ لَكَ مِنْ جَنَابَةٍ. / 16 - وفيه: عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أَتَتِ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مَا أَعْتِبُ عَلَيْهِ فِى خُلُقٍ وَلا دِينٍ، وَلَكِنِّى أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِى الإسْلامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَتَرُدِّينَ(7/419)
عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ) ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (اقْبَلِ الْحَدِيقَةَ، وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً) . قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: لا يُتَابَعُ فِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. / 17 - وعن عِكْرِمَةَ، أَنَّ أُخْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَىٍّ - بِهَذَا - ولم يذكر ابْن عَبَّاس. / 18 - وقال عِكْرِمَةَ: أَنَّ جَمِيلَةَ. . . الحديث. قال ابن المنذر: قوله تعالى: (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن) [البقرة: 229] الآية، فحرم الله على الزوج أن يأخذ من امرأته شيئًا مما أتاها الله إلا بعد الخوف الذى ذكره الله، ثم أكد ذلك بتغليظ الوعيد على من تعدى أو خالف أمره، فقال: (تلك حدود الله فلا تعتدوها) [البقرة: 229] ، وبمعنى كتاب الله جاءت سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى جميلة امرأة ثابت بن قيس حين قالت: يا رسول الله، إنى لا أعتب عليه فى خلق ولا دين، ولكن أكره الكفر فى الإسلام لا أطيقه بغضًا. رواه قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس. وروى معتمر بن سليمان، عن فضيل، عن ابن أبى جرير، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: أول خلع فى الإسلام أخت عبد الله بن أبى، أتت النبى، عليه السلام، فقالت: يا رسول الله، لا تجتمع رأسى ورأسه أبدًا، إنى رفعت جانب الخباء، فرأيته أقبل فى عدة، فإذا هو أشدهم سوادًا، وأقصرهم قامة، وأقبحهم وجهًا، فقال: (أتردين عليه حديقته؟) ، قالت: نعم، وإن شاء زدته، ففرق بينهما. وهذا الحديث أصل فى الخلع، وعليه جمهور الفقهاء، قال مالك: ولم أزل أسمع ذلك من أهل العلم، وهو الأمر المجتمع عليه عندنا أن الرجل إذا لم يضر بالمرأة ولم يسىء إليها ولم تؤت من قبله، وأحبت(7/420)
فراقه، فإنه يحل له أن يأخذ منها كل ما افتدت به، كما فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) فى امرأة ثابت، وإن كان النشوز من قبله بأن يضر بها ويضيق عليها رد عليها ما أخذ منها، روى هذا عن ابن عباس، وعامة السلف، وبه قال الثورى، وإسحاق، وأبو ثور. وقال أبو حنيفة: إن كان النشوز من قبله لم يحل له أن يأخذ مما أعطاها شيئًا ولا يزداد، فإن فعل جاز فى القضاء، وروى ابن القاسم عن مالك مثله، وهذا القول خلاف ظاهر كتاب الله، وخلاف حديث امرأة ثابت، وإنما فيه أخذ الفدية من الناشز لزوجها إذا كان لنشوزها كارهًا، وللمقام معها محبًا، وإن كانت الإساءة من قبله، لم يجز له أن يأخذ منها شيئًا؛ لقول الله تعالى: (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج) [النساء: 20] الآية. قال مجاهد: مجامعة النساء والميثاق الغليظ كلمة النكاح التى تستحل بها فروجهن، فجعله ثمنًا للإفضاء. قال ابن المنذر: واحتج بعض المخالفين، فقال: لما جاز أن يأخذ مالها إذا طابت به نفسًا على غير طلاق، جاز له أن يأخذه على طلاق، قيل: هذا غلط كبير؛ لأنه حمل ما حرمه الله فى كتابه من أبواب المعاوضات على ما أباحه من سائر أبواب العطايا المباحة، أفيجوز لهذا القائل أن يشبه ما حرم الله من الربا فى كتابه بما أباح من العطايا على غير عوض، فنقول: لما أبيح لى أن أهب مالى بطيب نفس من غير عوض، جاز لى أن أعطيه فى أبواب الربا بعوض، فإن قال: لا يجوز ذلك، فليعلم أنه قد أتى مثل ما أنكر فى باب الربا حيث شبه قوله: (فإن طبن لكم عن شىء منه نفسًا فكلوه هنيئًا مريئًا) [النساء: 4] بما حرم فى قوله: (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله) [البقرة: 229] .(7/421)
وفى حديث ابن عباس دلالة على فساد قول من قال: لا يجوز له أخذ الفدية منها حتى تكون من كراهيته لها على مثل ما هى عليه، وهو قول طاوس والشعبى، وروى مثله عن القاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب. قال الطبرى: وذلك أن امرأة ثابت أتت النبى (صلى الله عليه وسلم) شاكية، فقالت له: لا أنا ولا ثابت، فقال لها: (أتردين عليه حديقته؟) ، ولم يسأل ثابتًا هل أنت لها كاره كراهيتها لك؟ فإن ظن أن قوله: (ولا يحل لكم) [البقرة: 229] الآية، يدل أن الزوج إنما أبيح له أخذ الفدية إذا خاف من كل واحد منهما ببغض صاحبه النقص فى الواجب له عليه، قيل: هو خطاب لجميع المؤمنين، وكان معلومًا أن المرأة إذا أظهرت لزوجها البغضة، لم يؤمن عليها النشوز والتقصير على حق زوجها، وإذا كان ذلك لم يؤمن من زوجها مثل ذلك من التقصير فى الواجب عليه، وروى عن ابن سيرين أنه قال: لا يحل للزوج الخلع حتى يجد على بطنها رجلاً، وهذا خلاف الحديث. واختلفوا فى الخلع بأكثر مما أعطاها، فقالت طائفة: لا يجوز له الخلع بأكثر من صداقها، هذا قول عطاء، وطاوس، وكره ذلك ابن المسيب، والشعبى، والحكم، وقال الأوزاعى: كانت القضاة لا يجيزون أن يأخذ منها أكثر مما ساق إليها، وبه قال أحمد، وإسحاق، قالوا: وهو ظاهر حديث ثابت؛ لأن امرأته إنما ردت عليه حديقته فقط. وقالت طائفة: يجوز أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها، وهو مذهب عثمان بن عفان، وابن عمر، وقبيصة، والنخعى، وبه قال مالك، وأبو(7/422)
حنيفة، والشافعى، وأبو ثور، وقال مالك: يجوز أن يأخذ منها أكثر مما ساق إليها، وليس من مكارم الأخلاق، قال: ولم أر أحدًا ممن يقتدى به يكره ذلك، وقد قال الله تعالى: (فلا جناح عليهما فيما افتدت به) [البقرة: 229] ، وقد نزع بهذه الآية قبيصة بن ذؤيب. قال إسماعيل بن إسحاق: وقد احتج بهذه الآية من قال: لا يجوز أن يأخذ منها أكثر مما ساق إليها، وليس كما ظن، ولو قال إنسان: لا تضربن فلانًا إلا أن تخاف منه شيئًا، فإن خفته فلا جناح عليك فيما صنعت به لكان مطلقًا له أن يصنع به ما شاء. ومعنى قول البخارى: وأجاز عثمان الخلع دون عقاص رأسها، يعنى أن يأخذ منها كل ما لها إلى أن يكشف لها رأسها ويترك لها قناعها وشبهه مما لا كثير قيمة له، وقد قال عمر: اخلعها ولو من قرطها. وأما قوله: باب الخلع وكيف الطلاق فيه، فاختلف العلماء فى البينونة بالخلع، فروى عن عثمان، وعلى، وابن مسعود، أن الخلع تطليقة بائنة، إلا أن تكون سميت ثلاثًا فهى ثلاث، وهو قول مالك، والثورى، والكوفيين، والأوزاعى، وأحد قولى الشافعى، وقالت طائفة: الخلع فسخ وليس بطلاق إلا أن ينويه، روى هذا عن ابن عباس، وطاوس، وعكرمة، وبه قال أحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وهو أحد قولى الشافعى، واحتج فى أنه ليس بطلاق؛ لأنه مأذون فيه لغيره قبل العدة بخلاف الطلاق، قال ابن عباس: قال الله تعالى:(7/423)
) والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) [البقرة: 228] ، ثم قال: (فلا جناح عليهما فيما افتدت به) [البقرة: 229] ، ثم ذكر الطلاق بعد الفداء، ولم يذكر فى الفداء طلاقًا، فلا أراه طلاقًا. واحتج من جعله طلاقًا بقوله فى الحديث: فردت الحديقة، وأمره بفراقها، فصح أن فراق الخلع طلاق. قال الطحاوى: روى عن عمر، وعلى، أن الخلع طلاق، وعن عثمان، وابن عباس، أنه ليس بطلاق. قال: وأجمعوا أنه لو أراد به الطلاق لكان طلاقًا، ولما كان يقع به الفرقة عند الجميع بغير نية، علم أنه ليس كالمكنى الذى يحتاج إلى نية، وعلم أنه طلاق. وقال الشافعى: فإن قيل: فإذا جعلته طلاقًا فاجعل فيه الرجعة. قيل له: لما أخذ من الطلقة عوضًا كان كمن ملك عوضًا بشىء خرج من ملكه، فلم يكن له رجعة فيما ملك عليه، فكذلك المختلعة. وقوله: وأجاز عمر الخلع دون السلطان، فهو قول الجمهور، إلا الحسن، وابن سيرين، فإنهما قالا: لا يكون إلا عند السلطان. وقال قتادة: إنما أخذه الحسن عن زياد. وقال الطحاوى: روى عن عثمان، وابن عمر جوازه دون السلطان، وكما جاز النكاح والطلاق دون السلطان كذلك الخلع.
- باب الشِّقَاقِ، وَهَلْ يُشِيرُ بِالْخُلْعِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ؟ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا) [النساء: 35] الآية
/ 19 - فيه: الْمِسْوَر، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ بَنِى الْمُغِيرَةِ اسْتَأْذَنُوا فِى أَنْ يَنْكِحَ عَلِىٌّ ابْنَتَهُمْ، فَلا آذَنُ) .(7/424)
قال المهلب: إنما حاول البخارى بإدخال حديث المسور فى هذا الباب أن يجعل قول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (فلا آذن) خلعًا، ولا يقوى هذا المعنى؛ لأنه قال فى الحديث: (إلا أن يريد ابن أبى طالب أن يطلق ابنتى) ، فدل على الطلاق، فإن أراد أن يستدل من دليل الطلاق على الخلع، فهو دليل على دليل، وذلك ضعيف، وإنما فيه الشقاق والإشارة بالطلاق من خوفه، وفيه الحكم بقطع الذرائع؛ لأنه تعالى أمر ببعثه الحكمين عند خوف الشقاق قبل وقوعه. وأجمع العلماء أن المخاطب بقوله تعالى: (وإن خفتم شقاق بينهما) [النساء: 3] الحكام والأمراء، وأن قوله: (إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما) [النساء: 3] ، يعنى الحكمين، وأن الحكمين لا يكونان إلا أحدهما من أهل الرجل، والثانى من أهل المرأة إلا أن يوجد من أهلهما من يصلح لذلك فيرسل من غيرهما، وأن الحكمين إذا اختلفا لم ينفذ قولهما، وأن قولهما نافذ فى الجمع بينهما بغير توكيل من الزوجين. واختلفوا فى الفرقة بينهما هل تحتاج إلى توكيل من الزوجين أم لا؟ فقال مالك، والأوزاعى، وإسحاق: يجوز قولهما فى الفرقة والاجتماع بغير توكيل من الزوجين ولا إذن منهما فى ذلك، روى هذا عن عثمان، وعلى بن أبى طالب، وابن عباس، وعن الشعبى، والنخعى. وقال الكوفيون والشافعى: ليس لهما أن يفرقا إلا أن يجعل الزوج إليهما التفريق، وهو قول عطاء، والحسن، وبه قال أبو ثور، وأحمد. واحتج أبو حنيفة بقول على للزوج: لا تبرح حتى ترضى بما رضيت به، فدل أن مذهبه لا يفرقان إلا برضا الزوج، قالوا: والأصل(7/425)
المجتمع عليه أن الطلاق بيد الزوج أو بيد من جعل ذلك إليه وجعله من باب طلاق السلطان على المولى والعنين. قال ابن المنذر: ولما كان المخاطبون بقوله تعالى: (فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها) [النساء: 35] الحكام وأن ذلك إليهم، دل على أن التفريق إليهم، ولو لم يكن كذلك ما كان للبعثة معنى. وقال مالك فى الحكمين يطلقان ثلاثًا، قال: تكون واحدة، وليس لهما الفراق بأكثر من واحدة بائنة. وقال ابن القاسم: تلزمه الثلاث إن اجتمعا عليها على حديث زيد، وقاله المغيرة، وأشهب، وابن الماجشون، وأصبغ. وقال ابن المواز: إن حكم أحدهما بواحدة والآخر بثلاث فهى واحدة، وحكى ابن حبيب، عن أصبغ، أن ذلك ليس بشىء.
- باب لا يَكُونُ بَيْعُ الأمَةِ طَلاقًا
/ 20 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ فِى بَرِيرَةَ ثَلاثُ سُنَنٍ، أَنَّهَا أُعْتِقَتْ، فَخُيِّرَتْ فِى زَوْجِهَا، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ) ، وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَالْبُرْمَةُ تَفُورُ بِلَحْمٍ، فَقُرِّبَ إِلَيْهِ خُبْزٌ وَأُدْمٌ مِنْ أُدْمِ الْبَيْتِ، فَقَالَ: (أَلَمْ أَرَ الْبُرْمَةَ فِيهَا لَحْمٌ) ؟ قَالُوا: بَلَى، وَلَكِنْ ذَلِكَ لَحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، وَأَنْتَ لا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، قَالَ: (هو عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ) . اختلف السلف هل يكون بيع الأمة وعتقها طلاقًا لها؟ فروى عن عمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبى وقاص، أنه لا يكون ذلك طلاقًا لها، وهو مذهب كافة الفقهاء.(7/426)
وقالت طائفة: بيعها طلاق لها، روى ذلك عن ابن مسعود، وابن عباس، وأبى بن كعب، ومن التابعين سعيد بن المسيب، والحسن، ومجاهد، واحتجوا بقوله: (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) [النساء: 24] ، قال: فحرم الله علينا المزوجات من النساء، إلا إذا ملكتهن أيماننا فهن حلال لنا؛ لأن البيع لها حدوث ملك فيها، فوجب أن يرتفع حكم النكاح، ويبطل دليله الأمة المسبية ذات الزوج. وحجة الجماعة أن بيعها ليس بطلاق لها، أن بريرة عتقت فخيرت فى زوجها، فلو كان طلاقها يقع ببيعها لم يخبرها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعد ذلك عند العتق ويقول لها: (إن شئت أقمت تحته) ، وأيضًا فإن هذا عقد على منفعة، فوجب ألا يبطله بيع الرقبة، دليله إذا باع رقبة مستأجرة؛ لأن النكاح عقد على منفعة والإجارة كذلك، ثم إن البيع لا يبطل الإجارة كذلك لا يبطل النكاح، وأيضًا فإن انتقال ملك رقبة أحد الزوجين من مالك إلى مالك، فوجب ألا يبطل النكاح، دليله إذا بيع الزوج، ولما لم يمنع ملك البائع صحة النكاح كان ملك المبتاع مثله؛ لأنه يقوم مقامه وهو فرع منه. فإن قالوا: إن الأمة الحربية إذا كانت مزوجة، فإنها إذا استرقت تنتقل من ملك إلى ملك، ومع هذا ينفسخ النكاح عندكم. فالجواب: إن قلنا: لا ينفسخ على إحدى الروايتين كالحربية إذا سبيت سقط سؤالهم، وإن قلنا: ينفسخ على الرواية الأخرى، فالفرق بينهما أن الحربى لا يملك، وإنما له شبهة ملك، فإذا سبيت ملكها المسبى ملكًا صحيحًا، فليس تنتقل من ملك صحيح، وليست كذلك مسألتنا، ولا حجة لهم فى الآية أنها نزلت فى سبى أوطاس خاصة،(7/427)
وتحرج بعض أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) من وطئهن خوفًا أن يكون لهن أزواج، فسألوا النبى (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك، فأنزل الله الآية. فالمراد بها المسبيات إذا حضن قبل أن يحضر أزواجهن أو يسلمن معًا، فإنه يحل وطؤهن وإن كان لهن أزواج مشركون، فأما إن أسلمن وأسلم أزواجهن معًا، فهن على نكاحهن، وستأتى هذه المسألة فى موضعها، إن شاء الله. وفيه: أن الناس على عهد النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يكونوا يستنكرون هدية بعضهم لبعض الطعام والشىء الذى يؤكل وما لا يعظم خطره، والدليل على ذلك قوله عليه السلام: (لو أهدى إلى كراع لقبلت) ؛ لأنه لم ينكر من بريرة أن أهدت اللحم ولا أنكر قبول عائشة له. وفيه: أن من أهديت إليه هدية قلت أو كثرت ألا يردها، فإن أطاق المكافأة عليها فعل، وإن لم يقدر على ذلك أثنى عليه بها وشكرها؛ لما روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) فى ذلك.
- باب خِيَارِ الأمَةِ تَحْتَ الْعَبْدِ
/ 21 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: رَأَيْتُهُ عَبْدًا، يَعْنِى زَوْجَ بَرِيرَةَ. وقَالَ مرة: ذَاكَ مُغِيثٌ عَبْدُ بَنِى فُلانٍ أَسْوَدَ، كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتْبَعُهَا فِى سِكَكِ الْمَدِينَةِ يَبْكِى عَلَيْهَا. أجمع العلماء أن الأمة إذا عتقت تحت عبد، فإن لها الخيار فى البقاء معه أو مفارقته، ومعنى ذلك، والله أعلم، أنه لما كان العبد فى حرمته وحدوده وجميع أحكامه غير مكافئ للحرة، وجب أن تخير تحته إذا حدثت لها الحرية فى عصمته، وأيضًا فإنها حين وقعت العقدة(7/428)
عليها لم تكن من أهل الاختيار لنفسها، فجعل لها ذلك حين صارت أكمل حرمة من زوجها. قال المهلب: وأصل هذا فى كتاب الله، وهو قوله: (ومن لم يستطع منكم طولاً) [النساء: 25] الآية. فكان اشتراط الله تعالى فى جواز نكاح الأحرار الإماء عدم الطول إلى الحرة، وجب مثله فى العبد أن لا يتطاول إلى حرة بعد أن وجدت سبيلاً إلى حر إلا برضاها. واختلفوا فى وقت خيار الأمة إذا أعتقت، فروى عن ابن عمر وأخته حفصة أن لها الخيار ما لم يمسها زوجها، وهو قول مالك، وأحمد بن حنبل، علمت أو لم تعلم. وقالت طائفة: لها الخيار، وإن أصيبت ما لم تعلم، فإذا علمت ثم أصابها، فلا خيار لها، هذا قول عطاء، والحكم، وسعيد بن المسيب، وهو قول الثورى. قال الثورى: هو أن تحلف ما وقع عليها وهى تعلم أن لها الخيار، فإن حلفت خيرت، وكذلك قال الأوزاعى، وإسحاق، وقال الشافعى: إن ادعت الجهالة لها الخيار، وهو أحب إلينا. وفى هذا الحديث ما يبطل أن يكون خيارها على المجلس؛ لأن مشيها فى المدينة لم يبطل خيارها، وقد روى قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: والله لكأنى أنظر إلى زوج بريرة فى طرق المدينة، وإن دموعه لتنحدر على لحيته يتبعها يترضاها لتختاره، فلم تفعل. ومثل هذا فى حديث زبراء، أنها كانت تحت عبد فعتقت، فسألت حفصة أم المؤمنين، فقالت: إن أمرك بيدك ما لم يمسك زوجك، فقالت: هو الطلاق ثلاثًا، ففارقته، رواه مالك، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير.(7/429)
وفى حديث بريرة حجة لمن قال: لا خيار للأمة إذا عتقت تحت الحر؛ لأن خيارها إنما وقع من أجل كونه عبدًا، وقد روى أهل العراق، عن الأسود، عن عائشة، أن زوج بريرة كان حرًا. واختلف العلماء فى الأمة إذا أعتقت تحت الحر، فروى عن ابن عباس، وابن عمر، أنه لا خيار لها، وهو قول عطاء، وسعيد بن المسيب، والحسن، وابن أبى ليلى، وبه قال مالك، والأوزاعى، والليث، والشافعى، وأحمد، وإسحاق. وقالت طائفة: لها الخيار حرًا كان زوجها أو عبدًا، روى ذلك عن الشعبى، والنخعى، وابن سيرين، وهو قول الثورى، والكوفيين، وأبى ثور، واحتجوا برواية الأسود، عن عائشة، أن زوجها كان حرًا، وقالوا: الأمة لا رأى لها فى إنكاح مولاها؛ لإجماعهم أنه يزوجها بغير إذنها، فإذا عتقت كان لها الخيار الذى لم يكن لها حال العبودية. وحجة من قال: لا خيار لها تحت الحر، أنها لم تحدث لها حال ترتفع به عن الحر، فكأنهما لم يزالا حرين ولم ينقص حال الزوج عن حالها، ولم يحدث به عيب، فلم يكن لها خيار، وقد أجمع العلماء أنه لا خيار لزوجة العنين إذا ذهبت العلة قبل أن يقضى بفراقه لها، وكذلك سائر العيوب زوالها ينفى الخيار، وأما رواية الأسود، عن عائشة، فقد عارضها من هو ألصق بعائشة وأقعد بها من الأسود، وهو القاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، رويا عن عائشة أنه كان عبدًا، والأسود كوفى سمع منها من وراء حجاب، وعروة والقاسم كانا يسمعان منها بغير حجاب؛ لأنها خالة عروة وعمة القاسم، فهما أقعد بها من الأسود.(7/430)
قال ابن المنذر: ورواية اثنين أولى من رواية واحد مع رواية ابن عباس من الطرق الثابتة أنه كان عبدًا.
- باب شَفَاعَةِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِى زَوْجِ بَرِيرَةَ
/ 22 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ عَبْدًا يُقَالُ لَهُ: مُغِيثٌ، كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَطُوفُ خَلْفَهَا يَبْكِى، وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) لِعبَّاسٍ: (يَا عَبَّاسُ، أَلا تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ، وَمِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا) ؟ فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْ رَاجَعْتِهِ) ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَأْمُرُنِى، قَالَ: (إِنَّمَا أَنَا أَشْفَعُ) ، قَالَتْ: لا حَاجَةَ لِى فِيهِ. قال الطبرى: فيه من الفقه جواز استشفاع العالم والخليفة فى الحوائج والرغبة إلى أهلها فى الإسعاف لسائلها، وأن ذلك من مكارم الأخلاق، وقد قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (اشفعوا تؤجروا، ويقضى الله على لسان رسوله ما شاء) ، وهذا يدل أن الساعى فى ذلك مأجور، وإن لم تنقض الحاجة. وفيه من الفقه: أنه لا حرج على إمام المسلمين وحاكمهم إذا اختصم إليه خصمان فى حق وثبت الحق على أحدهما، إذا سأله الذى ثبت الحق عليه أن يسأل من ثبت ذلك له تأخير حقه أو وضعه عنه، وأن يشفع له فى ذلك إليه، وذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) شفع إلى بريرة وكلمها بعدما خيرها وأعلمها ما لها من الخيار، فقال: (لو راجعتيه) . وفيه من الفقه: أن من سئل من الأمور ما هو غير واجب عليه فعله، فله رد سائله وترك قضاء حاجته، وإن كان الشفيع سلطانًا أو عالمًا أو شريفًا؛ لأن النبى، عليه السلام، لم ينكر على بريرة ردها إياه فيما(7/431)
شفع فيه، وليس أحد من الخلق أعلى رتبة من النبى، عليه السلام، فغيره من الخلق أحرى ألا يكون منكرًا رده فيما شفع فيه. وفيه من الفقه: أن بغض الرجل للرجل المسلم على وجه كراهة قربه والدنو منه على غير وجه العداوة له، ولكن اختيار التبعد منه لسوء خلقه وخبث عشرته وثقل ظله، أو لغير ذلك مما يكره الناس بعضهم من بعض جائز، كالذى ذكر من بغضه امرأة ثابت بن قيس بن شماس له، مع مكانه من الدين والفضل لغير بأس، لكن لدمامة خلقه وقبحه حتى افتدت منه، وفرق بينهما النبى (صلى الله عليه وسلم) ، ولم ير أنها أتت مأثمًا ولا ركبت معصية بذلك بل عذرها وجعل لها مخرجًا من المقام معه وسبيلاً إلى فراقه والبعد منه، ولم يذمها على بغضها له على قبحه وشدة سواده، وإن كان ذلك جبلة وفطرة خلق عليها، فالذى يبغض على ما فى القدرة تركه من قبيح الأحوال ومذموم العشرة أولى بالعذر وأبعد من الذم. وفيه من الفقه: أنه لا بأس بالنظر إلى المرأة التى يريد خطبتها وإظهار رغبته فيها، وذلك أنه عليه السلام لم ينكر على زوج بريرة وقد اختارت نفسها وبانت منه اتباعه إياها فى سكك المدينة باكيًا على فراقها، وإن ظن أحد أن ذلك كان قبل اختيار بريرة نفسها، فقوله عليه السلام: (لو راجعتيه) ، يدل أن ذلك كان بعد بينونتها، ولو كان قبل بينونتها لقال لها: لو اخترتيه. ولا خلاف بين الجميع أن المملوكة إذا عتقت وهى تحت زوج فاختارت نفسها، أنها لا ترجع إلى الزوج الذى كانت تحته إلا بنكاح جديد غير النكاح الذى كان بينها وبينه قبل اختيارها نفسها، فعلم(7/432)
أن قوله عليه السلام: (لو راجعتيه) ، معناه غير الرجعة التى تكون بين الزوجين فى طلاق يكون للزوج فيه الرجعة، ولو كان ذلك معناه لكان ذلك إلى زوج بريرة دونها، ولم يكن لزوجها حاجة أن يستشفع برسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى أن تراجعه. وفيه: أنه لا حرج على مسلم فى هوى امرأة مسلمة وحبه لها ظهر ذلك منه أو خفى، ولا إثم عليه فى ذلك، وإن أفرط فيه ما لم يأت محرمًا، وذلك أن مغيثًا كان يتبع بريرة بعدما بانت منه فى سكك المدينة مبديًا لها ما يجده من نفسه من فرط الهوى وشدة الحب، ولو كان هذا قبل اختيارها نفسها لم يكن، عليه السلام، يقول لها: (لو راجعتيه) ؛ لأنه لا يقال لامرأة فى حيال رجل وملكه بعصمة النكاح: لو راجعتيه، وإنما يسئل المراجعة المفارق لزوجته، وإذا صح ذلك، فغير ملوم من ظهر منه فرط هوى امرأة يحل له نكاحها نكحته بعد ذلك أم لا، ما لم يأت محرمًا ولم يغش مأثمًا. وفيه: أنه من بانت منه زوجته بخلع أو فدية مما تكون المرأة فيه أولى بنفسها من زوجها ولا رجعة له عليها، أنه يجوز له خطبتها فى عدتها، ولا بأس على المرأة فى إجابته إلى ذلك؛ لأنه عليه السلام شفع إلى بريرة وخطبها على زوجها الذى بانت منه تصريح الخطبة التى هى محظورة فى العدة، ولو أن غيره كان الراغب فيها لما جاز له التصريح بالخطبة.
- بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ) [البقرة: 221] الآية
/ 23 - فيه: ابْنَ عُمَرَ، كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ نِكَاحِ النَّصْرَانِيَّةِ وَالْيَهُودِيَّةِ، قَالَ: إِنَّ(7/433)
اللَّهَ حَرَّمَ الْمُشْرِكَاتِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلا أَعْلَمُ مِنَ الإشْرَاكِ شَيْئًا أَكْبَرَ مِنْ أَنْ تَقُولَ الْمَرْأَةُ رَبُّهَا: عِيسَى، وَهُوَ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ. وذهب جمهور العلماء إلى أن الله تعالى حرم نكاح المشركات بقوله تعالى: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) [البقرة: 221] ، ثم استثنى من هذه الجملة نكاح نساء أهل الكتاب، فأحلهن فى سورة المائدة فى قوله: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) [المائدة: 5] ، وبقى سائر المشركات على أصل التحريم. قال أبو عبيد: روى هذا القول عن ابن عباس، وبه جاءت الآثار عن الصحابة والتابعين وأهل العلم بعدهم أن نكاح الكتابيات حلال، وبه قال مالك، والأوزاعى، والثورى، والكوفيون، والشافعى، وعامة الفقهاء. وقال غيره: ولا يروى خلاف ذلك إلا عن ابن عمر أنه شذ عن جماعة الصحابة والتابعين، ولم يجز نكاح اليهودية والنصرانية، وخالف ظاهر قوله: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) [المائدة: 5] ، ولم يلتفت أحد من العلماء إلى قوله. قال أبو عبيد: والمسلمون اليوم على الرخصة فى نساء أهل الكتاب، ويرون أن التحليل هو الناسخ للتحريم، فقد تزوج عثمان بن عفان بنائلة بنت الفرافصة الكلبية، وهى نصرانية، تزوجها على نسائه، وتزوج طلحة بن عبيد الله يهودية، وتزوج حذيفة يهودية وعنده حرتان مسلمتان، وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه كان يأمر بالتنزه عنهن من غير أن يحرمهن. قال أبو عبيد: حدثنا محمد بن يزيد، عن الصلت بن بهرام، عن(7/434)
شقيق بن سلمة، قال: تزوج حذيفة يهودية، فكتب إليه عمر: أن خل سبيلها، فقال: أحرام هى؟ فكتب إليه عمر: لا، ولكن أخاف أن تواقعوا المومسات منهم، يعنى الزوانى، فيرى أن عمر ذهب إلى قوله تعالى: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) [المائدة: 5] . فنقول: إن الله تعالى إنما شرط العفائف منهن، وهذه لا يؤمن أن تكون غير عفيفة، والذى عليه جماعة الفقهاء فى قوله: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) [البقرة: 221] ، أن المراد بالآية تحريم الوثنيات والمجوسيات، وأنه لم ينسخ تحريمهن كتاب ولا سنة. وشذ أبو ثور عن الجماعة، فأجاز مناكحة المجوس وأكل ذبائحهم، وهو محجوج بالجماعة والتنزيل، وأما الحربيات، فروى مجاهد، عن ابن عباس، أنه قال: لا يحل نكاح نساء أهل الكتاب إذا كانوا حربًا، وتلا قوله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) [التوبة: 29] الآية، وبه قال الثورى، واتفق مالك وأبو حنيفة وأصحابه والشافعى، أن نكاح الحربيات فى دار الحرب حلال، إلا أنهم كرهوا ذلك من أجل أن المقام له ولذريته فى دار الحرب حرام عليه؛ لئلا يجرى عليه وعلى ولده حكم أهل الشرك. واختلفوا فى نكاح إماء أهل الكتاب، فقال مالك، والليث، والأوزاعى، والشافعى: لا يحل نكاح أمة يهودية ولا نصرانية؛ لقوله تعالى: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) [المائدة: 5] ، قال: فهن الحرائر من اليهوديات والنصرانيات، وقال: (ومن لم يستطع منكم(7/435)
طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات} [النساء: 25] ، فقال مالك: وإنما أحل نكاح الإماء المؤمنات ولم يحلل نكاح إماء أهل الكتاب. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا بأس بنكاح إماء أهل الكتاب؛ لأن الله قد أحل الحرائر منهن والإماء تبع لهن، والحجة عليهم نص التنزيل الذى احتج به مالك. وأجمع أئمة الفتوى أنه لا يجوز وطء أمة مجوسية بملك اليمين، وأجاز ذلك طائفة من التابعين، وقالوا: لأن سبى أوطاس وطئن ولم يسلمن، وقد تقدم رد هذا القول فى كتاب الجهاد، فأغنى عن إعادته.
- باب نِكَاحِ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْمُشْرِكَاتِ وَعِدَّتِهِنَّ
/ 24 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، كَانَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى مَنْزِلَتَيْنِ مِنَ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، وَالْمُؤْمِنِينَ، كَانُوا مُشْرِكِى أَهْلِ حَرْبٍ، يُقَاتِلُهُمْ وَيُقَاتِلُونَهُ، وَمُشْرِكِى أَهْلِ عَهْدٍ، لا يُقَاتِلُهُمْ وَلا يُقَاتِلُونَهُ، وَكَانَ إِذَا هَاجَرَتِ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَمْ تُخْطَبْ حَتَّى تَحِيضَ، وَتَطْهُرَ، فَإِذَا طَهُرَتْ حَلَّ لَهَا النِّكَاحُ، فَإِنْ هَاجَرَ زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ رُدَّتْ إِلَيْهِ، وَإِنْ هَاجَرَ عَبْدٌ مِنْهُمْ أَوْ أَمَةٌ فَهُمَا حُرَّانِ، وَلَهُمَا مَا لِلْمُهَاجِرِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ مِثْلَ ذلك فَإِنْ هَاجَرَ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ أَهْلِ الْعَهْدِ لَمْ يُرَدُّوا وَرُدَّتْ أَثْمَانُهُمْ. وَقَالَ عَطَاءٌ [عَنِ] ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَتْ قَرِيبَةُ بِنْتُ أَبِى أُمَيَّةَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ،(7/436)
فَطَلَّقَهَا، فَتَزَوَّجَهَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِى سُفْيَانَ، وَكَانَتْ أُمُّ الْحَكَمِ بِنْتُ أَبِى سُفْيَانَ، تَحْتَ عِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ الْفِهْرِىِّ، فَطَلَّقَهَا، فَتَزَوَّجَهَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُثْمانَ الثَّقَفِىُّ. قال المؤلف: إذا أسلمت المشركة وهاجرت إلى المسلمين، فقد وقعت الفرقة بإسلامها بينها وبين زوجها الكافر عند جماعة الفقهاء، ووجب استبراؤها بثلاث حيض، ثم بذلك تحل للأزواج، هذا قول مالك، والليث، والأوزاعى، وأبى يوسف، ومحمد، والشافعى. وقال أبو حنيفة: إذا خرجت الحربية إلينا مسلمة ولها زوج كافر فى دار الحرب، فقد وقعت الفرقة ولا عدة عليها، وإنما عليها استبراء رحمها بحيضة، واعتل بأن العدة إنما تكون فى طلاق، وإسلامها فسخ وليس بطلاق، قالوا: وهذا تأويل حديث ابن عباس: أنه إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر، أن المراد بذلك الاستبراء، وتأويل هذا عند مالك والليث ومن وافقهما ثلاث حيض؛ لأنها قد حصلت بالهجرة من جملة الحرائر المسلمات، ولا براءة لرحم حرة بأقل من ثلاث حيض. وأكثر العلماء على أن زوجها إن هاجر مسلمًا قبل انقضاء عدتها أنه أحق بها، وسيأتى اختلافهم فى ذلك فى الباب بعد هذا، إن شاء الله. واتفقوا أن الأمة إذا سبيت أن استبراءها حيضة. وأما قوله: وإن هاجر عبد منهم أو أمة فهما حران، فهذا فى أهل الحرب، وأما أهل العهد، فيرد إليهم الثمن عوضًا منهم؛ لأنهم لا يحل للمشركين تملك المسلمين، فيكون وزن الثمن فيهم من باب فداء أسرى المسلمين، وإنما لم يجز تملك العبد والأمة إذا هاجرا مسلمين من أجل ارتفاع العلة الموجبة لاسترقاق المشركين، وهى وجود الكفر فيهم، فإذا أسلموا قبيل القدرة عليهم وقبيل الغلبة لهم وجاءونا(7/437)
مسلمين، كان حكمهم حكم من هاجر من مكة إلى المدينة فى تمام حرمة الإسلام والحرية إن شاء الله.
- بَاب إِذَا أَسْلَمَتِ الْمُشْرِكَةُ أَوِ النَّصْرَانِيَّةُ تَحْتَ الذِّمِّىِّ أَوِ الْحَرْبِىِّ
وَقَالَ ابْنِ عَبَّاس: إِذَا أَسْلَمَتِ النَّصْرَانِيَّةُ قَبْلَ زَوْجِهَا بِسَاعَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ. وسُئِلَ عَطَاءٌ عَنِ امْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ أَسْلَمَتْ، ثُمَّ أَسْلَمَ زَوْجُهَا فِى الْعِدَّةِ، أَهِىَ امْرَأَتُهُ؟ قَالَ: لا، إِلا أَنْ تَشَاءَ هِىَ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ، وَصَدَاقٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا أَسْلَمَ فِى الْعِدَّةِ يَتَزَوَّجُهَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) [الممتحنة: 10] ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ فِى مَجُوسِيَّيْنِ أَسْلَمَا: هُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا، وَإِذَا سَبَقَ أَحَدُهُمَا [صَاحِبَهُ] وَأَبَى الآخَرُ بَانَتْ لا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: امْرَأَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ جَاءَتْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، أَيُعَاوَضُ زَوْجُهَا مِنْهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا (؟ قَالَ: لا، إِنَّمَا كَانَ ذَاكَ بَيْنَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَبَيْنَ أَهْلِ الْعَهْدِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هَذَا كُلُّهُ فِى صُلْحٍ بَيْنَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَبَيْنَ قُرَيْشٍ. / 25 - فيه: عَائِشَةَ، كَانَتِ الْمُؤْمِنَاتُ إِذَا هَاجَرْنَ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) يَمْتَحِنُهُنَّ بِقَوْلِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ (، فَمَنْ أَقَرَّ بِهَذَا الشَّرْطِ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ، فَقَدْ أَقَرَّ بِالْمِحْنَةِ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا أَقْرَرْنَ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِنَّ، قَالَ لَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (انْطَلِقْنَ(7/438)
فَقَدْ بَايَعْتُكُنَّ) ، لا وَاللَّهِ مَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ، غَيْرَ أَنَّهُ بَايَعَهُنَّ بِالْكَلامِ، وَاللَّهِ مَا أَخَذَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى النِّسَاءِ إِلا بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ، بِقَوْلِهِ لَهُنَّ إِذَا أَخَذَ عَلَيْهِنَّ: قَدْ بَايَعْتُكُنَّ كَلامًا. الذى ذهب إليه ابن عباس وعطاء فى هذا الباب أن إسلام النصرانية قبل زوجها فاسخ لنكاحها؛ لعموم قوله تعالى: (لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) [الممتحنة: 10] ، فلم يخص وقت العدة من غيره. وقال ابن عباس: إن الإسلام يعلو ولا يعلى، لا يعلو النصرانى المسلمة، وروى مثله عن عمر بن الخطاب، وهو قول طاوس، وإليه ذهب أبو ثور. وقالت طائفة: إذا أسلم فى العدة يتزوجها، هذا قول مجاهد، وقتادة، وبه قال مالك، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد. وقالت طائفة: إذا أسلمت عرض على زوجها الإسلام، فإن أسلم فهما على نكاحهما، وإن أبى أن يسلم فرق الإمام بينهما، هذا قول الزهرى، والثورى، وبه قال أبو حنيفة إذا كان فى دار الإسلام، وأما إن كانا فى دار الحرب ثم أسلمت، ثم خرجت إلى دار الإسلام، فقد بانت منه بافتراق الدارين، وفيها قول آخر يروى عن عمر بن الخطاب أنه خير نصرانية أسلمت وزوجها نصرانى، إن شاءت فارقته، وإن شاءت أقامت معه. قال ابن المنذر: والقول الأول عندى أصح الأقاويل. قال المؤلف: وإليه أشار البخارى فى قوله: (لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) [الممتحنة: 10] ، يعنى ما دام الزوج كافرًا. قال ابن المنذر: وأجمع عوام أهل العلم على أن النصرانيين إذا أسلم الزوج قبل امرأته أنهما على نكاحهما، إذ جائز أنه يبتدئ(7/439)
نكاحها لو لم تكن له زوجة، وكذلك أجمعوا أنهما لو أسلما معًا أنهما على نكاحهما. وأما قول الحسن وقتادة أن الوثنيين إذا أسلما معًا أنهما على نكاحهما، فهو إجماع من العلماء. واختلفوا إذا سبق أحدهما الآخر بالإسلام، فقالت طائفة: تقع الفرقة بإسلام من أسلم منهما، وقاله غير الحسن، وقتادة، وعكرمة، والحسن، وطاوس، وعطاء، ومجاهد. وقالت طائفة: إذا أسلم المتخلف منهما عن الإسلام قبل انقضاء عدة المرأة فهما على النكاح، هذا قول الزهرى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، ولم يراعوا من سبق بالإسلام إذا اجتمع إسلامهما فى العدة كما كان صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبى جهل أحق بزوجتيهما لما أسلما فى العدة، واحتج الشافعى بأن أبا سفيان بن حرب أسلم قبل امرأته هند، وكان إسلامه بمر الظهران، ثم رجع إلى مكة وهند بها كافرة، ثم أسلمت بعد أيام، فقرا على نكاحهما فى الشرك؛ لأن عدتها لم تنقض، وكذلك حكيم بن حزام أسلم قبل امرأته، ثم أسلمت بعده، فكانا على نكاحهما. وقال مالك والكوفيون: إذا أسلم الرجل منهما قبل امرأته تقع الفرقة بينهما فى الوقت إذا عرض عليها الإسلام فلم تسلم. واحتج مالك بقوله: (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) [الممتحنة: 10] ، فلا يجوز التمسك بعصمة المجوسية؛ لأن الله لم يرد بالكوافر فى هذه الآية أهل الكتاب، بدليل إباحة تزويج نساء أهل الكتاب، فلما كانت المجوسية غير(7/440)
جائز ابتداء العقد عليها، فكذلك لا يجوز التمسك بها؛ لأن ما لا يجوز ابتداء العقد عليه لا يجوز التمسك به إذا طرأ على النكاح، وذهب مالك إلى أنه إن أسلمت الوثنية قبل زوجها، فإن أسلم فى عدتها فهو أحق بها، وعند الكوفيين يعرض على الزوج الإسلام فى الوقت كما يعرض على المرأة إذا أسلمت، ولم يراعوا انقضاء عدة فيها. واحتج مالك فى اعتبار العدة فى إسلام المرأة قبل زوجها بما رواه فى الموطأ عن ابن شهاب أنه قال: لم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وزوجها كافر مقيم بدار الحرب، إلا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها، إلا أن يقدم زوجها مهاجرًا قبل أن تنقضى عدتها، فهذا من جهة الأثر. وأما من جهة القياس، فإن إسلامه بمنزلة الارتجاع، فلما كان له الارتجاع فى الطلاق، فكذلك إذا أسلم؛ لأن إسلامه فعلة والرجعة فعلة، فاشتبها لهذه العلة. ولم تجب عند الكوفيين مراعاة العدة؛ لأن العدة إنما تكون فى طلاق، والكفر فرق بينهما وفسخ نكاحهما كالمرتد، ولم يعلموا الآثار التى عند أهل المدينة فى اعتبار العدة إذا أسلمت المرأة قبل زوجها. قال ابن المنذر: واحتج أهل المقالة الأولى فى أن النكاح يفسخ بالإسلام إذا أسلم بقوله تعالى: (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) [الممتحنة: 10] ، قالوا: فكل امرأة لا يجوز للمسلم ابتداء عقد نكاحها، فلا يجوز له أن يتمسك بذلك النكاح، ولا يرجع إليه فى عدة ولا غير عدة إلا بنكاح مستأنف؛ لأن الله إنما حرم على المشركين نكاح المسلمات، ونهى المسلمين عن نكاح المشركات، فكان ابتداؤه فى معنى استدامته.(7/441)
وقول عطاء ومجاهد: إذا جاءت امرأة من المشركين إلى المسلمين أنه لا يعطى زوجها المشرك عوض صداقها؛ لأن ذلك إنما كان فى عهد بين النبى (صلى الله عليه وسلم) وبين المشركين، وعلى ذلك انعقد الصلح بينهم، ولو كان أهل حرب للنبى (صلى الله عليه وسلم) لم يجز رد شىء مما أنفقوا إليهم، وكذلك قال الشعبى فى قوله تعالى: (وإن فاتكم شىء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم) [الممتحنة: 11] ، قال: هى منسوخة.
- بَاب الإيلاء، وقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا) [البقرة: 226]
/ 26 - فيه: أَنَس، آلَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ نِسَائِهِ، وَكَانَتِ انْفَكَّتْ رِجْلُهُ، فَأَقَامَ فِى مَشْرُبَةٍ لَهُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ، ثُمَّ نَزَلَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آلَيْتَ شَهْرًا، فَقَالَ: (الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ) . / 27 - قَالَ ابْن عُمَر فِى الإيلاءِ الَّذِى سَمَّى اللَّهُ: لا يَحِلُّ لأحَدٍ بَعْدَ الأجَلِ إِلا أَنْ يُمْسِكَ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يَعْزِمَ بِالطَّلاقِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ أيضًا: إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ يُوقَفُ حَتَّى يُطَلِّقَ، وَلا يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلاقُ حَتَّى يُطَلِّقَ، وَيُذْكَرُ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِىٍّ وَأَبِى الدَّرْدَاءِ وَعَائِشَةَ وَاثْنَىْ عَشَرَ رَجُلا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام. الإيلاء فى لغة العرب اليمين، وفى قراءة أبى بن كعب وابن عباس: (للذين يؤلون من نسائهم) [البقرة: 229] ، قالا: يقسمون.(7/442)
وقال ابن عباس: كل يمين منعت جماعًا فهى إيلاء. وقال ابن المنذر: وهو قول كل من أحفظ عنه من أهل العلم. واختلف فى إيلاء المذكور فى القرآن، قال ابن المنذر: فروى عن ابن عباس: لا يكون مؤليًا حتى يحلف ألا يمسها أبدًا. وقالت طائفة: الإيلاء إنما هو إلى حلف ألا يطأ أكثر من أربعة أشهر، هذا قول مالك، والشافعى، وأحمد بن حنبل، وأبى ثور، فإن حلف على أربعة أشهر فما دونها لم يكن مؤليًا، وكان هذا عندهم يمينًا محضًا لو وطئ فى هذه اليمين حنث ولزمته الكفارة، وإن لم يطأ حتى تنقضى المدة لم يكن عليه شىء كسائر الأيمان. وقال الثورى والكوفيون: الإيلاء أن يحلف على أربعة أشهر فصاعدًا، وهو قول عطاء. وقالت طائفة: إذا حلف ألا يقرب امرأته يومًا أو أقل أو أكثر، ثم لم يطأها أربعة أشهر بانت منه بالإيلاء، روى هذا عن ابن مسعود، والنخعى، وابن أبى ليلى، والحكم، وبه قال إسحاق، واعتل أهل هذه المقالة، فقالوا: إذا آلى منها أكثر من أربعة أشهر فقد صار مؤليًا، ولزمه أن يفىء بعد التربص أو يطلق؛ لأنه قصد الإضرار باليمين، وهذا المعنى موجود فى المدة القصيرة. قال ابن المنذر: وأنكر هذا القول أكثر أهل العلم، وقالوا: لا يكون الإيلاء أقل من أربعة أشهر. قال ابن عباس: كان إيلاء أهل الجاهلية السنة والسنتين وأكثر، فوقت الله لهم أربعة أشهر، فمن كان إيلاؤه أقل من أربعة أشهر فليس بإيلاء، وليس فى حديث أنس إيلاء بأربعة أشهر، وإنما فيه أنه، عليه السلام، حلف ألا يجامع نساءه شهرًا، فبر يمينه ونزل لتمامه. واحتج الكوفيون، فقالوا: جعل الله التربص فى الإيلاء أربعة أشهر،(7/443)
كما جعل فى عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرًا، وفى عدة الطلاق ثلاثة قروء، فلا تربص بعدها، قالوا: فيجب بعد المدة سقوط الإيلاء، ولا يسقط إلا بالفىء وهو الجماع فى داخل المدة والطلاق بعد انقضاء الأربعة الأشهر. واحتج أصحاب مالك، فقالوا: جعل الله للمؤلى تربص أربعة أشهر، فهى له بكمالها لا اعتراض لزوجته عليه فيها، كما أن الدين المؤجل لا يستحق صاحبه المطالبة به إلا بعد تمام الأجل وتقدير الكوفيين للآية: فإن فاءوا فيهن، وتقدير المدنيين: فإن فاءوا بعدهن. قال إسماعيل بن إسحاق: لا يخلو التخيير الذى جعل للمؤلى فى الفىء أو الطلاق أن تكون فى الأربعة الأشهر أو بعدها، فإن كان فى الأربعة الأشهر فقد نقصوه من الأجل الذى ضربه الله له، وإن قالوا: بعد الأربعة الأشهر، وهو ظاهر كتاب الله صاروا إلى قولنا، وكذلك قوله تعالى: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن (إلى) بالمعروف) [البقرة: 234] ، فلا يجوز لها أن تعمل فى نفسها شيئًا بالمعروف، وهو التزويج، إلا بعد تمام الأجل الذى ضربه الله لها، وكل من أجل له أجل فلا سبيل عليه فى الأجل، وإنما عليه السبيل بعد الأجل، فنحن وهم مجمعون على صاحب الدين أنه كذلك، وعلى العنيين إذا ضرب له أجل سنة أنه لا سبيل عليه قبل تقضى السنة، فإن وطئ من غير(7/444)
أن يؤخذ بذلك سقط عنه حكم العنيين وإن انقضت السنة ولم يطأ فرق بينه وبين امرأته، فكذلك المؤلى لا سبيل عليه فى الأربعة الأشهر، فإن وطئ فيها من غير أن يؤخذ بذلك سقط عنه الإيلاء، وإن لم يطأ حتى انقضت أخذه الحاكم بالطلاق، فإن لم يطلق فرق بينهما الحاكم. قال ابن المنذر: وأجمع كل من نحفظ عنه العلم أن الفىء هو الجماع لمن لا عذر له، فإن كان له عذر فيجزئه فيؤه بلسانه وقلبه. وقال بعضهم: إذا أشهد على فيئه فى حال العذر أجزأه. وخالف الجماعة سعيد بن جبير، فقال: الفىء الجماع، لا عذر له إلا أن يجامع وإن كان فى سفر أو فى سجن، وأوجب أكثر أهل العلم الكفارة عليه إذا فاء بجماع امرأته، وروى هذا عن ابن عباس، وزيد بن ثابت، وهو قول النخعى، وابن سيرين، ومالك، والثورى، والكوفيين، والشافعى، وعامة العلماء. وقالت طائفة: إذا فاء فلا كفارة عليه، هذا قول الحسن، وقال النخعى: كانوا يقولون: إذا فاء فلا كفارة عليه. وقال إسحاق بن راهويه: قال بعض أهل التأويل فى قوله: (فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم) [البقرة: 226] ، يعنى اليمين الذى حنثوا فيها، وهو مذهب فى الأيمان لبعض التابعين، فمن حلف على بر أو تقوى أو باب من الخير ألا يفعله، فإنه يفعله ولا كفارة عليه، وهو ضعيف ترده السنة الثابتة عن النبى، عليه السلام، أنه قال: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها، فليأت الذى هو خير وليكفر يمينه) . وما ذكره البخارى عن ابن عمر، أن المؤلى يوقف حتى يطلق، وذكره عن اثنى عشر رجلاً من الصحابة، منهم عثمان، وعلى، وذكره(7/445)
ابن المنذر، عن عمر، وعثمان، وعلى، وعائشة، وابن عمر، وأبى الدرداء. وقال سليمان بن يسار: كان تسعة عشر رجلاً من أصحاب النبى، عليه السلام، يوقفون فى الإيلاء. قال مالك: وذلك الأمر عندنا، وبه قال الليث، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، فإن طلق فهى واحدة رجعية، إلا أن مالكًا قال: لا تصح رجعته حتى يطأ فى العدة، ولا أعلم أحدًا قاله غيره. وقالت طائفة: إذا مضت للمؤلى أربعة أشهر بانت منه امرأته دون توقيف بطلقة بائنة لا يملك فيها الرجعة، وروى عن ابن مسعود، وابن عباس، وزيد بن ثابت، ورواية عن عثمان، وعلى، وابن عمر، ذكرها ابن المنذر، وهو قول عطاء، والنخعى، ومسروق، والحسن، وابن سيرين، وإليه ذهب الأوزاعى، والثورى، وجماعة الكوفيين. وقالت طائفة: هى طلقة يملك فيها الرجعة إذا مضت أربعة أشهر، روى عن سعيد ابن المسيب، وأبى بكر بن عبد الرحمن، ومكحول، والزهرى. والصواب أن يوقف المؤلى؛ لأن الله جعل له تربص أربعة أشهر لا يطالب فيها بالوطء، وجعله بعدها مخيرًا فى الفىء بالجماع أو إيقاع الطلاق؛ لقوله: (فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم) [البقرة: 226] ، فمن خيره الله فى أمر، فلا سبيل للافتئات عليه فيه، ودفع ما جعله الله له من دون إذنه. قال الأبهرى: والحجة لقول مالك أنه إذا لم يطأ فى العدة، فلا تصح رجعته، لأن الطلاق إنما أوقع لرفع الضرر، فإذا لم يطأ فالضرر قائم، فلا معنى للرجعة، ومنى ارتجع كانت رجعته معتبرة بالوطء،(7/446)
فإن وطئ وإلا علم أنه لم تكن له رجعة إلا أن يكون له عذر يمنعه من الوطء فتصح رجعته؛ لأن الضرر قد زال، وامتناعه من الوطء ليس من أجل الضرر، وإنما من أجل العذر.
- بَاب حُكْمِ الْمَفْقُودِ فِى أَهْلِهِ وَمَالِهِ
وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: إِذَا فُقِدَ فِى الصَّفِّ عِنْدَ الْقِتَالِ تَرَبَّصُ امْرَأَتُهُ سَنَةً، وَاشْتَرَى ابْنُ مَسْعُودٍ جَارِيَةً، وَالْتَمَسَ صَاحِبَهَا سَنَةً، فَلَمْ يَجِدْهُ وَفُقِدَ فَأَخَذَ يُعْطِى الدِّرْهَمَ وَالدِّرْهَمَيْنِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ عَنْ فُلانٍ، فَإِنْ أَتَى فُلانٌ فَلِى وَعَلَىَّ، وَقَالَ: هَكَذَا فَافْعَلُوا بِاللُّقَطَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ، وَقَالَ الزُّهْرِىُّ فِى الأسِيرِ يُعْلَمُ مَكَانُهُ: لا تَتَزَوَّجُ امْرَأَتُهُ، وَلا يُقْسَمُ مَالُهُ، فَإِذَا انْقَطَعَ خَبَرُهُ، فَسُنَّتُهُ سُنَّةُ الْمَفْقُودِ. / 28 - وفيه: زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، أَنَّ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، سُئِلَ عَنْ ضَالَّةِ الْغَنَمِ، فَقَالَ: (خُذْهَا، فَإِنَّمَا هِىَ لَكَ أَوْ لأخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ) ، وَسُئِلَ عَنْ ضَالَّةِ الإبِلِ، فَغَضِبَ وَاحْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ، وَقَالَ: (مَا لَكَ وَلَهَا؟ مَعَهَا الْحِذَاءُ وَالسِّقَاءُ، تَشْرَبُ الْمَاءَ، وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا) ، وَسُئِلَ عَنِ اللُّقَطَةِ، فَقَالَ: (اعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا وَعَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ مَنْ يَعْرِفُهَا، وَإِلا فَاخْلِطْهَا بِمَالِكَ) . اختلف العلماء فى حكم المفقود إذ لم يعرف مكانه وعمى خبره، فقالت طائفة: إذا خرج من بيته وعمى خبره، فإن امرأته لا تنكح أبدًا، ولا يفرق بينه وبينها حتى توقن بوفاته أو ينقضى تعميره، وسبيل زوجته سبيل ماله، روى هذا القول عن على بن أبى طالب، وهو قول الثورى، وأبى حنيفة، ومحمد، والشافعى، وإليه ذهب البخارى، والله أعلم؛ لأنه بوب باب حكم المفقود فى أهله وماله، وذكر حديث(7/447)
اللقطة والضالة، ووجه الاستدلال فى ذلك أن الضالة إذا وجدت ولم يعلم ربها، فهى فى معنى المفقود؛ لأنه لا يعلم من هو، ولا أين هو، فلم يزل الجهل به وبمكانه ملكه عن ماله، وبقى محبوسًا عليه، فكذلك يجب أن تكون عصمته باقية على زوجته لا يحلها إلا يقين موته أو انقضاء تعميره، وهذه الزوجية قد ثبتت بالكتاب والسنة والاتفاق، ولا تحل إلا بيقين مثله. وقالت طائفة: تتربص امرأته أربع سنين، ثم تعتد أربعة أشهر وعشرًا، ثم تحل للأزواج، روى هذا عن عمر بن الخطاب، وعثمان، وعلى بن أبى طالب، وابن عباس، وابن عمر، وعطاء بن أبى رباح، وإليه ذهب مالك وأهل المدينة، وبه قال أحمد، وإسحاق. واحتج ابن المنذر لهم، فقال: اتباع خمسة من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أولى. قال: وقد دفع أحمد بن حنبل ما روى عن على بن أبى طالب من خلاف هذا القول، وقال: إن راويه أبا عوانة، ولم يتابع عليه. فكما وجب تأجيل العنين تقليدًا لعمر وابن مسعود، كذلك وجب تأجيل امرأة المفقود؛ لأن العدد الذين قالوا بالتأجيل أكثر وهم أربعة من الخلفاء، وقد قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى) . واختلفوا إذا فقد فى الصف عند القتال، فقال ابن المسيب: تؤجل امرأته سنة، وروى أشهب عن مالك أنه يضرب لامرأته أجل سنة بعد أن ينظر فى أمرها، ولا يضرب لها من يوم فقد، وسواء فقد فى الصف بين المسلمين أو فى قتال المشركين، وروى عيسى، عن(7/448)
ابن القاسم، عن مالك، إذا فقد فى المعترك أو فتن المسلمين بينهم أنه ينتظر يسيرًا بمقدار ما ينصرف المنهزم، ثم تعتد امرأته ويقسم ماله. وروى ابن القاسم، عن مالك فى المفقود فى فتن المسلمين أنه يضرب لامرأته سنة ثم تتزوج، واحتج المهلب لهذا القول بحديث اللقظة؛ لأنه حكم فيها عليه السلام بتعريف سنة. وقال الكوفيون، والثورى، والشافعى فى الذى يفقد بين الصفين كقولهم فى المفقود: لا يفرق بينهما، واتفق مالك، والكوفيون، والشافعى فى الأسير لا يستبين موته أنه لا يفرق بينه وبين امرأته، ويوقف ماله وينفق منه عليها. قال الأبهرى: والفرق بين الأسير والمفقود أن الأسير غير مختار لترك الرجوع إلى زوجته، ولا قاصد لإدخال الضرر عليها، فلم يجز دفع نكاحه، وهو كالذى لا يقدر على الوطء لعلة عرضت له، والمفقود فغير معذور بالتأخير عن زوجته، إذ لا سبب له ظاهر يمنعه من ذلك، وحكم زوجة الأسير فى النفقة عليها من ماله كامرأة المفقود؛ لأنا نقدر أن نوصلها إلى حقها من النفقة، سواء غاب أو حضر، ولا خلاف أنه لا يفرق بين الأسير وزوجته حتى يصح موته أو فراقه. ومالك يعمر الأسير الذى تعرف حياته وقتًا، ثم ينقطع خبره فلا يعرف له موت، يعمره ما بين السبعين إلى الثمانين، وكذلك يعمر المفقود بين الصفين والمفقود الذى فقد فى غير الحرب، يعمره كذلك أيضًأ فى قسمة ماله وميراثه، والكوفيون يقولون: لا يقسم ماله حتى يأتى عليه من الزمان ما لا يعيش مثله، وهذا يشبه قول مالك، وقال الشافعى: لا يقسم ماله حتى تعلم وفاته.(7/449)
- بَاب الظِّهَارِ وقوله: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا) [المجادلة: 1] الآية
وسَأَلَ مالك ابْنَ شِهَابٍ عَنْ ظِهَارِ الْعَبْدِ، فَقَالَ: نَحْوَ ظِهَارِ الْحُرِّ. فَقَالَ مَالِكٌ: وَصِيَامُ الْعَبْدِ شَهْرَانِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: ظِهَارُ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ مِنَ الْحُرَّةِ وَالأمَةِ سَوَاءٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: إِنْ ظَاهَرَ مِنْ أَمَتِهِ فَلَيْسَ بِشَىْءٍ إِنَّمَا الظِّهَارُ مِنَ النِّسَاءِ، وَفِى الْعَرَبِيَّةِ لِمَا قَالُوا أَىْ فِيمَا قَالُوا - وَفِى بَعْضِ مَا قَالُوا - وَهَذَا أَوْلَى؛ لأنَّ اللَّهَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى الْمُنْكَرِ وَقَوْلِ الزُّورِ. قال ابن القصار: اختلف العلماء فى كفارة الظهار بماذا تجب؟ على قولين، فقال قوم: إنها تجب بمجرد الظهار، وليس من شرطها العود، روى هذا عن مجاهد، وبه قال سفيان الثورى. وذهب جماعة الفقهاء إلى أنها تجب بشرطين، وهما: الظهار والعود. واختلف هؤلاء فى العود على مذاهب، فقال مالك: العود هو العزم على الوطء، وحكى عنه أنه الوطء بعينه، ولكن تقدم الكفارة عليه، وهذا قول ابن القاسم، وأشار فى الموطأ إلى أنه العزم على الإمساك والإصابة، وعليه أكثر أصحابه، وحكاه ابن المنذر، عن أبى حنيفة، وبه قال أحمد، وإسحاق، وذهب الحسن البصرى، وطاوس، والزهرى، أن العود الوطء نفسه. قال الطحاوى: ومعنى العود عند أبى حنيفة: ألا يستبيح وطأها إلا بكفارة يقدمها. وعند الشافعى العود أن يمكنه طلاقها بعد الظهار بساعة فلا يطلقها، فإن أمسكها ساعة ولم يطلقها عاد لما قال،(7/450)
ووجبت عليه الكفارة ماتت أو مات، وعباراتهم وإن اختلفت فى العود فمعناها متقارب. وقال أهل الظاهر: العود أن يقول: أنت كظهر أمى، ثانية، وروى هذا القول عن بكير بن الأشج. واحتج من قال: إن الكفارة تجب بمجرد الظهار بأن الله ذكر الكفارة وعلل وجوبها، فقال: (وإنهم ليقولون منكرًا من القول وزورًا) [المجادلة: 2] ، فدل أنها وجبت بمجرد القول، قالوا: لأن العود الذى هو إحدى الروايتين العزم على الإمساك، والرواية الثانية العزم على وطئها. قال ابن الجلاب: وقد ذكر فى الموطأ الأمرين جميعًا، ونقيض ذلك الخلاف أن إيراد كل واحد منهما بالعزم عودة العزم على وطئها فمباح، والمباح لا تجب فيه الكفارة. وحجة الجماعة قوله تعالى: (والذين يظاهرون من نسائهم) [المجادلة: 3] الآية، فأوجب الكفارة بالظهار والعود جميعًا، فمن زعم أنها تجب بشرط واحد، فقد خالف الظاهر، وهذا بمنزلة قول القائل: من دخل الدار فصلى فله دينار، فإنه لا يستحق الدينار إلا بدخوله وصلاته؛ لأنهما شرطان فى استحقاق الدينار، فلا يجوز أن يستحق الدينار بأحد الشرطين، والكلام على الشافعى أن العود هو الإمساك فقط. والدليل على بطلان ذلك، أن الذى كان مباحًا بالعقد هو الوطء، فإذا حرمه بالظهار كانت الكفارة له دون ما سواه؛ لأن الأنكحة إنما وضعت له فقط، ولما ثبت أنه لا يجوز أن يطأ حتى يكفر، وجب أن يكون العود هو العزم على الإمساك وعلى الوطء جميعًا، ولو كان(7/451)
الإمساك حتى يكون العود إليه راجعًا، لكان طلاقًا؛ لأن الإمساك إذا حرم ارتفع العقد، وما يرفع النكاح إنما هو الطلاق، ولو كان الظهار كذلك، لكانت الكفارة لا تدخله ولا تصلحه؛ لأن الفراق لا يرتفع حكمه بالكفارة، ولما صح ذلك ثبت أن الكفارة تبيح العود إلى ما حرمه الظهار من الوطء والعزم عليه، ألا ترى أنه إذا حلف ألا يطأها فقد حرم وطأها دون إمساكها، فإذا فعل الوطء، فقد خالف ما حرمته اليمين، فكذلك الظهار، ومن ظاهر فإنما أراد الإمساك دون الطلاق، فكذلك لم يكن العود هو الإمساك. واحتج أهل الظاهر بأن قالوا: كل موضع ذكر الله تعالى فيه العود للشىء، فالمراد به العود إليه بعينه، ألا ترى أنه أخبر عن الكفار أنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، وقال تعالى: (ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه) [المجادلة: 8] ، فكذلك قوله: (ثم يعودون لما قالوا) [المجادلة: 8] ، فيقال لهم: العود فى الشىء يكون فى اللغة بمعنى المصير إليه كما تأولتم، ويكون أيضًا بمعنى الرجوع فيه كما قال: (العائد فى هبته كالكلب يعود فى قيئه) ، أراد به الناقض لهبته، وهذا تفسير الفراء فى العود المذكور فى الآية أنه الرجوع فى قولهم وعن قولهم. قال إسماعيل بن إسحاق: ولو كان معنى قوله: (ثم يعودون لما قالوا) [المجادلة: 8] ، أى يلفظوا بالظهار مرة أخرى لما وقع بعده،) فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا) [المجادلة: 3] ؛ لأنه لم يذكر للمسيس سبب، فيقال من أجله: (من قبل أن يتماسا (، وإنما ذكر التظاهر وهو ضد المسيس، والمظاهر إنما حرم على نفسه المسيس، فكيف يقال له: إذا حرمت على نفسك المسيس، ثم حرمت على نفسك المسيس فأعتق(7/452)
رقبة قبل أن تمس؟ هذا كلام واه ضعيف. ولو قال رجل لرجل: إذا لم ترد أن تمس فأعتق رقبة قبل أن تمس نسبة الناس إلى الجهل، ولو قال: إذا أردت أن تمس فاعتق رقبة قبل أن تمس كان كلامًا صحيحًا مفهومًا أنه لا تجب الكفارة حتى يريد المس، وأيضًا فإن الظهار كان طلاق الجاهلية، تعلق عليه حكم التكفير بشرط العود والرجوع فيه، ألا ترى أن الكفارة إذا وجبت باللفظ وشرط آخر كان ذلك الشرط مخالفة اللفظ لا إعادته كالأيمان. وأجمع العلماء أن الظهار للعبد لازم له كالحر، وأن كفارته الصوم شهران، واختلفوا فى الإطعام والعتق، فقال الكوفيون والشافعى: لا يجزئه إلا الصوم خاصة. وقال ابن القاسم، عن مالك: إن أطعم بإذن مولاه أجزأه، وإن أعتق بإذنه لم يجزئه، وأحب إلينا أن يصوم، يعنى شهرين كالحر. قال ابن القاسم: ولا أرى هذا الجواب إلا وهم منه؛ لأنه إذا قدر على الصوم لم يجزئه الإطعام فى الحر كيف العبد، وعسى أن يكون جواب هذه المسألة فى كفارة اليمين بالله. وقال الحسن: إن أذن له مولاه فى العتق أجزأه. وعن الأوزاعى: إن أذن له مولاه فى العتق والإطعام أجزأه إذا لم يقدر على الصيام. واختلفوا فى الظهار من الأمة وأم الولد، فقال الكوفيون والشافعى: لا يصح الظهار منهما. وقال مالك، والثورى، والأوزاعى، والليث: يكون من أمته مظاهرًا، واحتج الكوفيون بقوله: (والذين يظاهرون منكم من نسائهم) [المجادلة: 3] ، والأمة ليست من نسائنا؛ لأن الظهار كان طلاقًا، ثم أحل بالكفارة، فإذا كان لا حظ للإماء فى الطلاق، فكذلك ما قام(7/453)
مقامه. ومن أوجب الظهار فى الإماء جعلهن داخلات فى جملة النساء لمعنى تشبيه الفرج الحلال بالفرج الحرام فى حال الظهار؛ لأن الله حرم جميع النساء، ولم يخص امرأة دون امرأة، وهذا مذهب على بن أبى طالب، وهو حجة فى معرفة لسان العرب، وهو مذهب الفقهاء السبعة، وعطاء، وربيعة. قال ابن المنذر: يدخل فى عموم قوله: (والذين يظاهرون منكم من نسائهم) [المجادلة: 1] ، أن الظهار يكون من الأمة والذمية والصغيرة وجميع النساء. وقول البخارى: فى العربية لما قالوا، أى فيما قالوا، فقد تقدم فى الباب أنه قول الفراء، وفيها قول ثان قاله الأخفش، قال: المعنى على التقديم والتأخير، أى والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون، فتحرير رقبة لما قالوا، وهذا قول حسن، وفيها وجه آخر: يجوز أن تكون ما بمعنى من، كأنه قال: ثم يعودون لمن قالوا فيهن أو لهن: أنتن علينا كظهور أمهاتنا، وفيها وجه آخر: يجوز أن تكون ما بمعنى مع، قالوا بتقدير المصدر، فيكون التقدير: ثم يعودون للقول، فسمى القول فيهن باسم المصدر، وهذا القول كما قالوا: ثوب نسج اليمن، ودرهم ضرب الأمير، وإنما هو منسوج اليمن، ومضروب الأمير.
- باب الإِشَارَةِ فِى الطَّلاقِ وَالأُمُورِ
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَالَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام: (لا يُعَذِّبُ اللَّهُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا) ، وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ. وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: أَشَارَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَىَّ، خُذِ الشطر. وَقَالَتْ أَسْمَاءُ: صَلَّى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فِى الْكُسُوفِ، فَقُلْتُ(7/454)
لِعَائِشَةَ: مَا شَأْنُ النَّاسِ؟ وَهِىَ تُصَلِّى، فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا إِلَى الشَّمْسِ، فَقُلْتُ: آيَةٌ، فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا، أَنْ نَعَمْ. وَقَالَ أَنَسٌ: أَوْمَأَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِيَدِهِ إِلَى أَبِى بَكْرٍ أَنْ يَتَقَدَّمَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوْمَأَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِيَدِهِ: (لا حَرَجَ) . وَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: قَالَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، فِى الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ: (أحَدٌ مِنْكُمْ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا، أَوْ أَشَارَ إِلَيْهِ؟) ، قَالُوا: لا، قَالَ: (فَكُلُوا) . / 29 - فيه: ابْن عَبَّاسٍ، طَافَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى بَعِيرِهِ، وَكَانَ كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ أَشَارَ إِلَيْهِ وَكَبَّرَ. وَقَالَتْ زَيْنَبُ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (فُتِحَ مِنْ [رَدْمِ] يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ وَعَقَدَ تِسْعِينَ) . وفى هذا الباب أحاديث أخر فيها كلها إشارة النبى (صلى الله عليه وسلم) بيده. قال المهلب: الإشارة إذا فهمت وارتفع الإشكال بها محكوم بها، وما ذكره البخارى فى الأحاديث من الإشارات فى الضروب المختلفة شاهدة بجواز ذلك، وأوكد الإشارات ما حكم النبى (صلى الله عليه وسلم) فى أمر السوداء حين قال لها: (أين الله؟) ، فأشارت بيدها إلى السماء، فقال: (أعتقها فإنها مؤمنة) ، فأجاز الإسلام بالإشارة الذى هو أصل الديانة، الذى يحقن به الدماء ويمنع المال والحرمة، وتستحق به الجنة وينجى به من النار، وحكم بإيمانها كما يحكم بنطق من يقول ذلك، فيجب أن تكون الإشارة عاملة فى سائر الديانة، وهو قول عامة الفقهاء. روى ابن القاسم، عن مالك، أن الأخرس إذا أشار بالطلاق أنه يلزمه، وقال الشافعى فى الرجل يمرض فيختل لسانه: فهو كالأخرس فى الرجعة والطلاق، وإذا أشار إشارة تعقل أو كتب لزمه الطلاق. وقال أبو ثور فى إشارة الأخرس: إذا فهمت عنه تجوز عليه. وقال(7/455)
أبو حنيفة وأصحابه: إن كانت إشارته تعرف فى طلاقه ونكاحه وبيعه، وكان ذلك منه معروفًا فهو جائز عليه، وإن شك فيه فهو باطل، وليس ذلك بقياس إنما هو استحسان، والقياس فى هذا أنه كله باطل؛ لأنه لا يتكلم ولا تعقل إشارته. قال ابن المنذر: فزعم أبو حنيفة أن القياس فى ذلك أنه باطل، وفى ذلك إقرار منه أنه حكم بالباطل؛ لأن القياس عنده حق، فإذا حكم بضده وهو الاستحسان فقد حكم بضد الحق، وفى إظهاره القول بالاستحسان وهو ضد القياس دفع منه للقياس الذى هو عنده حق. قال المؤلف: وأظن البخارى حاول فى هذا الباب الرد عليه؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) حكم بالإشارة فى هذه الأحاديث وجعل ذلك شرعًا لأمته، ومعاذ الله أن يحكم، عليه السلام، فى شىء من شريعته التى ائتمنه الله عليها، وشهد له التنزيل أنه قد بلغها لأمته غير ملوم، وأن الدين قد كمل به بما يدل القياس على إبطاله، وإنما حمل أبا حنيفة على قوله هذا أنه لم يعلم السنن التى جاءت بجواز الإشارات فى أحكام مختلفة من الديانة فى مواضع يمكن النطق فيها ومواضع لا يمكن، فهى لمن لا يمكنه النطق أجوز وأوكد، إذ لا يمكن العمل بغيرها، وفى أحاديث هذا الباب فى قصة اليهودى الذى رضخ رأس الجارية فأخذ أوضاحًا لها، قال صاحب العين: الوضح حلى من فضة. وقوله فى حديث المنفق والبخيل: مادت، قال صاحب العين: ماد الشىء مددًا، تردد فى عرض، والناقة تمدد فى سيرها.(7/456)
- بَاب اللِّعَانِ وَقَوْلِ اللَّهِ: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ (إِلَى: (الصَّادِقِينَ) [النور: 6 - 9]
. فَإِذَا قَذَفَ الأخْرَسُ امْرَأَتَهُ بِكِتَابَةٍ أَوْ بِإِشَارَةٍ أَوْ بِإِيمَاءٍ مَعْرُوفٍ فَهُوَ كَالْمُتَكَلِّمِ؛ لأنَّ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، قَدْ أَجَازَ الإشَارَةَ فِى الْفَرَائِضِ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِى الْمَهْدِ صَبِيًّا) [مريم: 29] ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: (إِلا رَمْزًا (: إِلا إِشَارَةً. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لا حَدَّ وَلا لِعَانَ. ثُمَّ زَعَمَ أَنَّ الطَّلاقَ بِكِتَابٍ أَوْ إِشَارَةٍ أَوْ إِيمَاءٍ جَائِزٌ، وَلَيْسَ بَيْنَ الطَّلاقِ وَالْقَذْفِ فَرْقٌ، فَإِنْ قَالَ: الْقَذْفُ لا يَكُونُ إِلا بِكَلامٍ، قِيلَ لَهُ: كَذَلِكَ الطَّلاقُ لا يَجُوزُ إِلا بِكَلامٍ، وَإِلا بَطَلَ الطَّلاقُ وَالْقَذْفُ، وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ، وَكَذَلِكَ الأصَمُّ يُلاعِنُ. وَقَالَ الشَّعْبِىُّ وَقَتَادَةُ: إِذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ، فَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ تَبِينُ مِنْهُ بِإِشَارَتِهِ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: الأخْرَسُ إِذَا كَتَبَ الطَّلاقَ بِيَدِهِ لَزِمَهُ. وَقَالَ حَمَّادٌ: الأخْرَسُ وَالأصَمُّ إِنْ قَالَ بِرَأْسِهِ جَازَ. / 30 - وفيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَلا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ دُورِ الأنْصَارِ) ؟ قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (بَنُو النَّجَّارِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ بَنُو عَبْدِالأشْهَلِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ بَنُو سَاعِدَةَ) ، ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ: فَقَبَضَ أَصَابِعَهُ، ثُمَّ بَسَطَهُنَّ كَالرَّامِى بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: (وَفِى كُلِّ دُورِ الأنْصَارِ خَيْرٌ) . / 31 - وفيه: سَهْل، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام: (بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَذِهِ مِنْ هَذِهِ - أَوْ كَهَاتَيْنِ - وَقَرَنَ بَيْنَ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى) .(7/457)
/ 32 - وفيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ، عَلَيْهِ السَّلام: (الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا ثَلاَثًا) - يَعْنِى ثَلاثِينَ - ثُمَّ قَالَ: (وَهَكَذَا وَهَكَذَا ثَلاًثًا) - يَعْنِى تِسْعًا وَعِشْرِينَ - يَقُولُ: مَرَّةً ثَلاثِينَ وَمَرَّةً تِسْعًا وَعِشْرِينَ. / 33 - وفيه: ابْن مَسْعُود، قَالَ: أَشَارَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، بِيَدِهِ نَحْوَ الْيَمَنِ: (الإيمَانُ هَا هُنَا مَرَّتَيْنِ، أَلا وَإِنَّ الْقَسْوَةَ وَغِلَظَ الْقُلُوبِ فِى الْفَدَّادِينَ، حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ) . / 34 - وفيه: سهل: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِى الْجَنَّةِ هَكَذَا، وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا) . اختلف العلماء فى لعان الأخرس وقذفه، فقال مالك، وأبو ثور: يلاعن الأخرس إذا عقل الإشارة، وفهم الكتابة، وعلم ما يقوله، وفهم منه، وكذلك الخرساء تلاعن أيضًا بالكتاب. وقال الكوفيون: لا يصح قذفه ولا لعانه، فإذا قذف الأخرس امرأته بإشارة لم يحد ولم يلاعن، وكذلك لو قذف بكتاب، وروى مثله عن الشعبى، وبه قال الأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، واحتجوا بأن هذه المسألة مبنية لهم على أصل، وهو أن صحة القذف تتعلق بصريح الزنا دون معناه، ألا ترى أن من قذف آخر، فقال له: قد وطئت وطئًا حرامًا ووطئت بلا شبهة، لم يكن قاذفًا، فإن أتى بمعنى الزنا كان قاذفًا، فبان أن المعتبر فى هذا الباب صريح اللفظ، وهذا المعنى لا يحصل من الأخرس ضرورة، فلم يكن قاذفًا ولا يتميز بالإشارة الزنا من الوطء الحلال والشبهة. وأيضًا فإن إشارته لما تضمنت وجهين لم يجز إيجاب الحد(7/458)
بها كالكتابة والتعريض، قالوا: واللعان عندنا شهادة، وشهادة الأخرس عندنا لا تقبل بالإجماع. قال ابن القصار: فيقال لهم: قولكم: إن القذف لا يصح إلا بالتصريح، فهو باطل بسائر الألسنة ما عدا العربية، فإنها كلها قائمة مقام العربية، ويصح بكل واحد منها القذف، فكذلك إشارة الأخرس، وقولهم: إنه لا يتميز بالإشارة الزنا من الوطء الحلال والشبهة، فإنه باطل، إذا أقر بقتل عمد، فإنه مقبول منه بالإشارة وصورته غير صورة قتل الخطأ، وما حكموه من الإجماع فى شهادة الأخرس فهو غلط، وقد نص مالك أن شهادته مقبولة إذا فهمت إشارته وأنها تقوم مقام اللفظ بالشهادة، وأما مع القدرة فلا تقع منه إلا باللفظ، وعلى أنهم يصححون لعان الأعمى ولا يجيزون شهادته، فقد فرقوا بين الشهادة واللعان. واحتج ابن القصار بأن إشارة الأخرس إذا فهمت قامت مقام النطق بما احتج به البخارى من قوله: (فأشارت إليه) [مريم: 29] ، يعنى مريم، فعرفوا بإشارتها ما يعرفونه من نطقها، وبقوله تعالى: (قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا) [آل عمران: 41] ، أى إيماء وإشارة، فلولا أنه يفهم منها ما يفهم من النطق لم يقل تعالى: ألا تكلمهم إلا رمزًا، فجعل الرمز كلامًا، وأيضًا فإن النبى، عليه السلام، كبر للصلاة وذكر أنه لم يغتسل، فأشار إليهم أن اثبتوا مكانكم، وكذلك أشار إلى أبى بكر فى الصلاة، والأحاديث فى هذا أكثر من أن تحصى، فصح أنه يعقل من الإشارة ما يعقل من النطق.(7/459)
قال المهلب: وقد تكون الإشارة فى كثير من أبواب الفقه أقوى من الكلام مثل قوله، عليه السلام: (بعثت أنا والساعة كهاتين) ، ومتى كان يبلغ البيان إلى ما بلغت إليه الإشارة، والإعراب بما بينهما بمقدار زيادة الوسطى على السبابة، وفى إجماع العقول على أن العيان أقوى من الخبر دليل أن الإشارة قد تكون فى بعض المواضع أقوى من الكلام. قال ابن المنذر: والمخالفون يلزمون الأخرس الطلاق والبيوع وسائر الأحكام، فينبغى أن يكون القذف مثل ذلك. واتفق مالك، والكوفيون، والشافعى، أن الأخرس إذا كتب الطلاق بيده لزمه. وقال الكوفيون: إذا كان رجل أصمت أيامًا، فكتب لم يجز من ذلك شىء. قال الطحاوى: والخرس مخالف للصمت العارض، كما أن العجز عن الجماع العارض بالمرض ونحوه يومًا أو نحوه مخالف للعجز الميئوس معه الجماع نحو الجنون فى باب خيار المرأة فى الفرقة. قال المهلب: وأما الأصم، فإن فى أمره بعض إشكال، ولكن قد يستبين إشكال أمره بترداد الإشارة على الشىء حتى يرتفع الإشكال، فإن فهم عنه ذلك جاز جميع ما أشار به، وأما المتكلم فإذا كتب الطلاق بيده فله أن يقول: إنما كتبته مراوضًا لنفسى لأستخير الله تعالى فى إنفاذه؛ لأن لى درجة فى البيان بلسانى هى غايتى، فلا يحال بينى وبين غاية ما لى من البيان، والأخرس لا غاية له إلا الإشارة.(7/460)
- باب إِذَا عَرَّضَ بِنَفْىِ الْوَلَدِ
/ 35 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وُلِدَ لِى غُلامٌ أَسْوَدُ، فَقَالَ: (هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ) ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ: (مَا أَلْوَانُهَا) ؟ قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: (هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ) ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَأَنَّى ذَلِكَ) ؟ قَالَ: لَعَلَّ عرقًا نَزَعَهُ، قَال: (فَلَعَلَّ ابْنَكَ هَذَا نَزَعَهُ عِرْقٌ) . احتج بهذا الحديث الكوفيون والشافعى، فقالوا: لا حد فى التعريض، ولا لعان بالتعريض؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يوجب على هذا الرجل الذى عرض له بامرأته حدا. وأوجب مالك الحد فى التعريض واللعان بالتعريض إذا فهم منه من القذف ما يفهم من التصريح. وقال أصحابه فى تأويل هذا الحديث للكوفيين: لا حجة لكم فيه؛ لأن الرجل لم يرد بتعريضه القذف وإنما جاء سائلاً مستشيرًا، ودليل ذلك فى الحديث، وذلك لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لما ضرب له المثل سكت، ورأى أن الحق فيما ضرب له النبى (صلى الله عليه وسلم) من ذلك. قال المهلب: فالتعريض إذا لم يكن على سبيل المشاتمة والمواجهة، وكان على سبيل السؤال عما يجهل من المشكلات، فلا حد فيه، ولو وجب فى هذا حد، لبقى شىء من علم الدين لا سبيل إلى التوصل إليه من ذكر من عرض له فى ذلك عارض، ولا يجب عند مالك فى التعريض حد إلا أن يكون على سبيل مشاتمة ومواجهة يعلم قصده لذلك. وسيأتى اختلاف العلماء وبيان مذاهبهم فى التعريض فى كتاب الحدود، إن شاء الله.(7/461)
قال أبو عبيد، عن الأصمعى: إذا كان البعير أسود يخالط أسوده بياض كدخان الرمث، فذلك الورقة.
- بَاب إِحْلافِ الْمُتلاعِنِين
/ 36 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ رَجُلا مِنَ الأنْصَارِ قَذَفَ امْرَأَتَهُ، فَأَحْلَفَهُمَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا. قوله: باب إحلاف المتلاعنين، يريد أيمان اللعان المعروفة ومعناه: أن الرجل لما قذف امرأته كان عليه الحد إن لم يأت بأربعة شهداء، يشهدون بتصديق ما قال، على ظاهر قوله تعالى: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) [النور: 4] ، فلما رمى العجلانى زوجته بالزنا أنزل الله تعالى: (والذين يرمون أزواجهم) [النور: 6] الآية، فأخرج الله الزوج من عموم الآية وأقام أيمانه الأربع مع الخامسة مقام الشهود الأربعة يدرأ بها عن نفسه الحد كما يدرأ سائر الناس عن أنفسهم بالشهود الأربعة حد القذف، فإذا حلف بها لزم المرأة الحد إن لم تلتعن، فإن التعنت وحلفت دفعت الحد عن نفسها بأيمانها أيضًا كما دفع الرجل بأيمانه عن نفسه.
- بَاب يَبْدَأُ الرَّجُلُ بِالتَّلاعُنِ
/ 37 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ هِلالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ، فَجَاءَ فَشَهِدَ وَالنَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ) ؟ ثُمَّ قَامَتْ فَشَهِدَتْ.(7/462)
أجمع العلماء أن الرجل يبدأ باللعان قبل المرأة؛ لأن الله تعالى بدأ بذلك، وإن بدأت المرأة قبل زوجها لم يجزئها ذلك وإعادة الأيمان بعده على ما رتبه الله وبينه رسوله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث ابن عباس. قال ابن المنذر: وفيه دليل أنهما يتلاعنان وهما قائمان. قال الطبرى: وفى استحلافه، عليه السلام، المتلاعنين قائمين الدليل الواضح على أنه ينبغى لكل حاكم من حكام المسلمين أن يستحلف كل من أراد استحلافه على عظيم من الأمر قائمًا للأخبار الواردة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) بذلك. قال المهلب: وفيه دليل أن المحتلفين المتضارين اللذين لا يكون الحق إلا فى قول واحد منهما يعتدان فى دعاويهما ولا يعاقب كل واحد منهما بتكذيب صاحبه وإبطال قوله؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) عذر المتلاعنين فى الحدود ولم يقم الحد بالتحالف. قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: الصحيح أن القاذف لزوجته عويمر وهلال بن أمية خطأ، وقد روى القاسم، عن ابن عباس، أن العجلانى قذف امرأته كما روى ابن عمر، وسهل بن سعد، وأظنه غلط من هشام بن حسان، ومما يدل على أنها قصة واحدة توقف النبى (صلى الله عليه وسلم) فيها حتى أنزل الله فيها الآية، ولو أنها قضيتان لم يتوقف عن الحكم فيها ولحكم فى الثانية بما أنزل الله فى الأولى. قال الطبرى: يستنكر قوله فى الحديث: هلال بن أمية، وإنما القاذف عويمر بن الحارث بن زيد بن الجد بن العجلانى شهد أحد مع النبى، عليه السلام، رماها بشريك ابن السحماء والسحماء أمه، قيل لها ذلك لسوادها، وهو شريك بن عبدة بن الجد بن(7/463)
العجلانى، كذلك كان يقول أهل الأخبار، وكانت هذه القصة فى شعبان سنة تسع من الهجرة منصرف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من تبوك إلى المدينة.
- بَاب اللِّعَانِ وَمَنْ طَلَّقَ
/ 38 - فيه: سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ، أَنَّ عُوَيْمِرًا الْعَجْلانِىَّ جَاءَ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عَدِىٍّ الأنْصَارِىِّ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَاصِمُ، أَرَأَيْتَ رَجُلا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ سَلْ لِى يَا عَاصِمُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَسَأَلَ عَاصِمٌ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ ذَلِكَ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا، حَتَّى كَبَرَ عَلَى عَاصِم مَا سَمَعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ فَلَمَّا رَجَعَ عَاصِمٌ إِلَى أَهْلِهِ، جَاءَهُ عُوَيْمِرٌ، فَقَالَ: يَا عَاصِمُ، مَاذَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ؟ فَقَالَ عَاصِمٌ لِعُوَيْمِرٍ: لَمْ تَأْتِنِى بِخَيْرٍ، قَدْ كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الْمَسْأَلَةَ الَّتِى سَأَلْتُهُ عَنْهَا، فَقَالَ عُوَيْمِرٌ: وَاللَّهِ لا أَنْتَهِى حَتَّى أَسْأَلَهُ عَنْهَا، فَأَقْبَلَ عُوَيْمِرٌ حَتَّى جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَسَطَ النَّاسِ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ رَجُلا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (قَدْ أُنْزِلَ فِيكَ وَفِى صَاحِبَتِكَ فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا) ، قَالَ سَهْلٌ: فَتَلاعَنَا، وَأَنَا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ تَلاعُنِهِمَا، قَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا، فَطَلَّقَهَا ثَلاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَكَانَتْ سُنَّةَ الْمُتَلاعِنَيْنِ. فى قول عويمر: أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه؟ وسكوت النبى (صلى الله عليه وسلم) على ذلك ولم يقل له: لا نقتله، دليل على أن من قتل رجلاً وجده مع امرأته أنه يقتل به إن لم يأت ببينة تشهد بزناه بها. قال الطبرى: وبذلك حكم على بن أبى طالب إن لم يأت بأربعة شهداء، فليعط برمته.(7/464)
فإن قيل: قد روى عن عمر وعثمان أنهما أهدرا دمه، قيل: إن صح عنهما ذلك فإنما أهدرا دمه؛ لأن البينة قامت عندهما بصحة ما ادعى القاتل على الذى قتله، وسيأتى بيان ما للعلماء فى هذه المسألة فى كتاب الحدود، إن شاء الله. وفيه: أن التلاعن لا يكون إلا عند السلطان، أو عند من استخلفه من الحكام، وهذا إجماع من العلماء. وفى قول عويمر: أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً، دليل أن اللعان بين كل زوجين؛ لأنه لم يُخَص رجل من رجل، ولا امرأة من امرأة، وكذلك قوله تعالى: (والذين يرمون أزواجهم) [النور: 6] ، ولم يخص زوجًا من زوج، ففى هذا حجة لمالك والشافعى أن العبد بمنزلة الحر فى قذفه ولعانه، غير أنه لا حد على من قذف مملوكته؛ لقوله تعالى: (والذين يرمون المحصنات) [النور: 4] ، وهن الحرائر المسلمات، والأمة المسلمة والحرة اليهودية أو النصرانية تلاعن الحر المسلم، وكذلك العبد وإن تزوج الحرة المسلمة والأمة المسلمة أو الحرة اليهودية أو النصرانية لاعنها، وبه قال الشافعى، وقال أبو حنيفة والثورى: إذا كان أحد الزوجين مملوكًا أو ذميًا أو كانت المرأة ممن لا يجب على قاذفها الحد، فلا لعان بينهما إذا قذفها. واختلف العلماء فى صفة الرمى الذى يوجب اللعان بين الزوجين، فقال مالك فى المشهور عنه: إن اللعان لا يكون حتى يقول الرجل لامرأته: رأيتها تزنى أو ينفى حملاً بها أو ولدًا منها، وحديث سهل هذا وإن لم يكن فيه تصريح بالرؤية، فإنه قد جاء التصريح بذلك فى حديث ابن عباس وغيره فى قصة هلال بن أمية أنه وجد مع امرأته(7/465)
رجلاً، فقال: يا رسول الله، رأيت بعينى وسمعت بأذنى، فنزلت آية اللعان، ذكره المصنفون، وذكره الطبرى. وقال الثورى، والكوفيون، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: إنه من قال لزوجته: يا زانية، وجب اللعان إن لم يأت بأربعة شهداء، وسواء قال لها: يا زانية أو زنيت، ولم يدعى رؤية. وقد روى هذا القول عن مالك أيضًا، وحجة هذا القول عموم قوله: (والذين يرمون أزواجهم) [النور: 6] ، كما قال: (والذين يرمون المحصنات) [النور: 4] ، فأوجب بمجرد القذف الحد على الأجنبى إن لم يأت بأربعة شهداء، وأوجب على الزوج اللعان إن لم يأت بأربعة شهداء، فسوى بين الرميتين بلفظ واحد، وقد أجمعوا أن الأعمى يلاعن ولا تصح منه الرؤية، وإنما يصح لعانه من حيث وطؤه لزوجته، وقد ذكر ابن القصار عن مالك أن لعان الأعمى لا يصح إلا أن يقول: لمست فرجًا فى فرجها. وذهب جمهور العلماء إلى أن تمام اللعان منها تقع الفرقة بينهما، وسيأتى بيان هذه المسألة فى بابها بعد هذه المسألة، إن شاء الله تعالى. وشذ قوم من أهل البصرة منهم عثمان البتى، فقالوا: لا تقع الفرقة ولا تأثير للعان فيها، وإنما يسقط النسب والحد وهما على الزوجية كما كانا حتى يطلق الزوج، وذكر الطبرى أن هذا قول جابر بن زيد، واحتج أهل هذه المقالة بقول عويمر: كذبت عليها إن أمسكتها، فطلقها ثلاثًا، قالوا: ولم ينكر النبى (صلى الله عليه وسلم) ذلك عليه ولم يقل له: لم قلت وأنت لا تحتاج إليه؟ لأنها باللعان قد طلقت. فقال لهم مخالفوهم:(7/466)
لا حجة لكم فى حديث عويمر؛ لأن قوله: كذبت عليها إن أمسكتها، وطلاقه لها ثلاثًا إنما كان منه؛ لأنه لم يظن أن الفرقة تحصل باللعان، ولو كان عنده أن الفرقة تحصل باللعان لم يقل هذا، وقد جاء فى حديث ابن عمر، وابن عباس، بيان هذا أن النبى، عليه السلام، فرق بين المتلاعنين، وقال: لا سبيل لك عليها، فطلاق عويمر لها لغو، ولم ينكر ذلك النبى (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأنه يحتمل أن يكون العجلانى أراد التأكيد، أى أنها لو لم تقع الفرقة وأمسكتها فهى طالق ثلاثًا. قال الطحاوى: فإن قال من يذهب إلى قول البتى، قول ابن عمر، وابن عباس، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) فرق بين المتلاعنين، إنما كان فى قضية عويمر، وكان طلاقها بعد اللعان، فلذلك فرق بينهما، وقد روى ابن شهاب، عن سهل بن سعد، قال: فطلقها العجلانى ثلاث تطليقات، فأنفذه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . قال الطبرى: يحتمل أن يكون النبى (صلى الله عليه وسلم) فرق بينهما بعد اللعان، ثم طلقها ثلاثًا حتى يكون تفريق النبى (صلى الله عليه وسلم) واقعًا موقعه على ما روى ابن عمر. وقد قال الأكثر: لا يجوز أن يمسكها ويفرق بينهما، وقد استحب النبى (صلى الله عليه وسلم) الطلاق بعد اللعان، ولم يستحبه قبله، فعلم أن اللعان قد أحدث حكمًا. وقد احتج من قال: إن الطلاق الثلاث مجتمعات تقع للسنة بطلاق عويمر زوجته ثلاثًا، ولم ينكر ذلك عليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، قالوا: ولو كان وقوع الثلاث مجتمعات لا يجوز لبينه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأنكره، وقال: لا يجوز ذلك فى ديننا.(7/467)
- بَاب التَّلاعُنِ فِى الْمَسْجِدِ
/ 39 - فيه: سَهْلِ، فَتَلاعَنَا فِى الْمَسْجِدِ، وَأَنَا شَاهِدٌ، فَطَلَّقَهَا ثَلاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) حِينَ فَرَغَا مِنَ التَّلاعُنِ، فَفَارَقَهَا عِنْدَ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَقَالَ: ذَاكَ تَفْرِيقٌ بَيْنَ كُلِّ مُتَلاعِنَيْنِ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَكَانَتِ السُّنَّةُ بَعْدَهُمَا أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلاعِنَيْنِ، وَكَانَتْ حَامِلا، وَكَانَ ابْنُهَا يُدْعَى لأمِّهِ، قَالَ: ثُمَّ جَرَتِ السُّنَّةُ فِى مِيرَاثِهَا أَنَّهَا تَرِثُهُ وَيَرِثُ مِنْهَا مَا فَرَضَ اللَّهُ لَها. قَالَ سَهْل، عن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنْ جَاءَتْ بِهِ أَحْمَرَ قَصِيرًا كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ، فَلا أُرَاهَا إِلا قَدْ صَدَقَتْ، وَكَذَبَ عَلَيْهَا، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَسْوَدَ أَعْيَنَ ذَا أَلْيَتَيْنِ، فَلا أُرَاهُ إِلا قَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا) ، فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى الْمَكْرُوهِ مِنْ ذَلِكَ. قال ابن المنذر: فيه أن سنة اللعان أن يكون فى المسجد. وقال الطبرى: فى أمر النبى، عليه السلام، المتلاعنين بالتلاعن فى المسجد دليل على أنه ينبغى لكل حاكم من حكام المسلمين أن يستحلف كل من أراد استحلافه على عظيم من الأمر كالقسامة على الدم وعلى المال ذى القدر والخطر العظيم، ونحو ذلك فى المساجد العظام، فإن كانا بالمدينة فعند قبر النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وإن كانا بمكة فبين الركن والمقام، وإن كانا ببيت المقدس ففى مسجدها، ثم فى موضع الصخرة، وإن كانا ببلدة غيرها، ففى جامعها وحيث يعظم منها، وإنما أمرهما، عليه السلام، باللعان فى مسجده لعلمه أنهما يعظمان ذلك الموضع، فأراد التعظيم عليهما ليرجع المبطل منهما إلى الحق وعجز عن(7/468)
الأيمان الكاذبة، وكذلك أيضًا كان لعانه بينهما بعد العصر لعظم اليمين الكاذبة عند الله فى ذلك الوقت. وقال الشافعى: يلاعن فى المسجد إلا أن تكون حائضًا، فعلى باب المسجد. قال الطبرى: ولست أقول أنه إن لاعن بينهما فى مجلس يكره، أو حيث كان من الأماكن، وفى أى الأوقات أنه مضيع فرضًا أو مدخل بذلك من فعله فى اللعان فسادًا. وقوله: وكانت حاملاً، اختلفوا فى الرجل ينتفى من حمل زوجته، فقالت طائفة: له أن يلاعن إذا قال: ليس هو منى، وقد استبرأتها قبل هذا الحمل، ويسقط عنه الولد، هذا قول مالك. وقال ابن أبى ليلى: يجوز اللعان بنفى الحمل، وبه قال الشافعى، ولم يراع استبراء، وزعم أن المرأة قد تحمل مع رؤية الدم وتلد مع الاستبراء. وقال أبو حنيفة والثورى وزفر: إذا قال لامرأته: ليس هذا الحمل منى، سواء قال: استبرأتها أم لا، لم يكن قاذفًا، وبه قال ابن الماجشون. وقال أبو يوسف ومحمد: إن جاءت بالولد بعدما قال لستة أشهر لاعن، وإن جاءت به لأكثر لم يلاعن، وحجة من لم يوجب اللعان على الحمل أنه قال بنفس الحمل، ولا يقطع على صحته ولعله ريح، ولا لعان إلا بيقين. قال ابن القصار: وحجة مالك ومن وافقه أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لاعن بين(7/469)
العجلانى وامرأته وكانت حاملاً، ألا ترى قوله: إن جاءت به أحمر قصيرًا فلا أراها إلا صدقت وكذب عليها، وإن جاءت به أسود أعين، فلا أراه إلا قد صدق عليها، فجاءت به على النعت المكروه. وقول الكوفيين خلاف لهذا الحديث، فلا يلتفت إلى قولهم. وأما فساده من جهة النظر، فإن اللعان وضع بين الزوج لمعنى، وهو أن لا يلحق به ولد ليس منه، فالضرورة داعية إلى حصول اللعان فى هذه الحال، وقد جعل اللعان يدفع العار عما يلحقه فى زوجته، فهو محتاج إلى اللعان. قال الطبرى: وقد زعم أبو حنيفة أن رجلاً لو اشترى جارية فوجدها حاملاً أن ذلك عيب ترد به، فإن كان الحمل لا يوقف عليه ولا يعلم، فقد يجب أن لا يكون لمشترى الجارية الحامل ردها، إذ لا سبيل له إلى العلم بذلك، وإن كان إلى العلم به سبيل حتى يجوز به رد الجارية، فكذلك السبيل إلى العلم حتى يجوز به اللعان مثله لا فرق بينهما. قال الطبرى: وفى قوله عليه السلام: (إن جاءت به أحمر قصيرًا، فلا أراها إلا قد صدقت وكذب عليها، وإن جاءت به أسود أعين، فلا أراه إلا قد صدق عليها) ، فجاءت به على النعت المكروه، البيان البين أن الله تعالى منع العباد أن يحكموا فى عباده بالظنون والتهم، وأنه جعل الأحكام بينهم على ما ظهر دون ما بطن منهم واستتر عنهم، وأنه وكل الحكم فى سرائرهم وما خفى من أمورهم إلى الله دون سائر خلقه، وأنه لو كان لأحد من ذى سلطان أو غيره أخذ أحد بغير الظاهر، لكان أولى الناس بذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، لعلمه بكثير(7/470)
من سرائر الناس، ولكنه كان لا يأخذ أحدًا إلا بما ظهر من أمره، وتبين للناس منه. ولذلك كان يقبل ظاهر ما يبديه المنفقون ولا يأخذهم بما يبطنون مع علمه بكذبهم، وكان يجعل لهم بظاهر ما يظهرونه، من الإقرار بتصديقه والإيمان بما جاء به من عند الله، حكم الله فى المناكحة والموارثة والصلاة عليهم إذا ماتوا، وغير ذلك من الأمور، فكذلك الواجب على كل ذى سلطان أن يعمل فى رعيته مثل الذى عمل به النبى، عليه السلام، فيمن وصفت ممن كان يظهر قولاً وفعلاً، من أخذه بما يظهر من القول والفعل دون أخذه بالظنون والتهم التى يجوز أن تكون حقًا ويجوز أن تكون باطلاً. قال المهلب: وفيه من الفقه أن الحاكم إذا حكم بالبينة المنصوصة، ثم تبين له بدليل غير ما ظهر إليه فيما حكم به، أنه لا يرد ما حكم فيه إلا بالنص لا بما قام له من الدليل، ألا ترى أنه بعد أن جاءت به على المكروه لم يحدها، وكذلك قام له الدليل من الشبه فى ابن وليدة زمعة، فلم يقض به لسعد بن أبى وقاص، ولكن أمر سودة بنت زمعة بالاحتجاب منه، فحكم للشبه فى عين الحكم المنصوص أولا، ولم يعرض لحكم الله بفسخ من أجل الدليل. وفيه من الفقه: أن من اقتطع شيئًا من الحقوق بيمين كاذبة أن الله يلعنه ويغضب عليه كما جاء فى الحديث، ألا ترى أنه قام الدليل على كذب المرأة بعد يمينها بوضعها الصفة المكروهة، فكان ذلك هتك سترها فى الدنيا وفضيحتها بين قومها التى منها فرت، وهذا من العقوبات فى الدنيا، فكيف فى الآخرة؟(7/471)
وقوله: كأنه وحرة، دويبة حمراء كالعضاة تلزق بالأرض، ومنه قيل: وحر الصدر يوحر وحرًا ذهبوا إلى لزوق الحقد بالصدر فشبهوه بإلزاق الوحرة بالأرض.
30 - بَاب قَوْلِ النَّبِىِّ عَلَيْهِ السَّلام: (لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ
/ 40 - فيه: ابْن عَبَّاس: أَنَّهُ ذُكِرَ التَّلاعُنُ عِنْدَ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عَدِىٍّ فِى ذَلِكَ قَوْلا، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ يَشْكُو إِلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ وَجَدَ مَعَ أَهْلِهِ رَجُلا، فَقَالَ عَاصِمٌ: مَا ابْتُلِيتُ بِهَذَا الأمْرِ إِلا لِقَوْلِى، فَذَهَبَ بِهِ إِلَى النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِى وَجَدَ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مُصْفَرًّا، قَلِيلَ اللَّحْمِ سَبْطَ الشَّعَرِ، وَكَانَ الَّذِى ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ وَجَدَهُ عِنْدَ أَهْلِهِ، خَدْلا آدَمَ كَثِيرَ اللَّحْمِ، فَقَالَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام: (اللَّهُمَّ بَيِّنْ) ، فَجَاءَتْ شَبِيهًا بِالرَّجُلِ الَّذِى ذَكَرَ زَوْجُهَا أَنَّهُ وَجَدَهُ، فَلاعَنَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، بَيْنَهُمَا، فَقَالَ رَجُلٌ لابْنِ عَبَّاسٍ فِى الْمَجْلِسِ: هِىَ الَّتِى قَالَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْ رَجَمْتُ أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ رَجَمْتُ هَذِهِ) ، فَقَالَ: لا، تِلْكَ امْرَأَةٌ كَانَتْ تُظْهِرُ فِى الإسْلامِ السُّوءَ. وترجم له: (باب قول الإمام: اللهم بين) . قال المهلب: فيه أنه قد يبتلى الإنسان بقوله، وذلك أن عاصم بن عدى كان قد قال عند النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه لو وجد مع امرأته رجلاً لضربه بالسيف حتى يقتله، فابتلاه الله بعويمر رجل من قومه ليريه الله كيف(7/472)
حكمه فى ذلك، وليعرفه أن التسلط فى الدماء لا يسوغ بالدعوى، ولا يكون إلا بحكم من الله ليرفع أمر الجاهلية. وأما قوله: (لو كنت راجمًا بغير بينة) ، فى المرأة التى كانت تعلن بالسوء، أى لو كنت متعديًا حق الله فيها إلى ما قام من الدلالة عليها لرجمت هذه، لبيان الدلائل على فسقها، ولكن ليس لأحد أن يرجم بغير بينة فيتعدى حدود الله، والله قد نص أن لا يتعدى حدوده لما أراد تعالى من ستر عباده. قال غيره: وقوله عليه السلام: (اللهم بين) ، معناه الحرص على أن يعلم من باطن المسألة ما يقف به على حقيقتها، وإن كانت شريعته قد أحكمها الله عز وجل فى القضاء بالظاهر، وإنما صارت شرائع الأنبياء يقضى فيها بالظاهر؛ لأنها تكون سننًا لمن بعدهم من أمتهم ممن لا سبيل له إلى وحى يعلم به بواطن الأمور. وقال ابن قتيبة فى قوله: (خدل) ، الخدل العظيم الساقين، وهو ضد الحمش، يقال: رجل حمش الساقين إذا كان رقيقهما، وخدل إذا كان عظيمهما.
31 - بَاب صَدَاقِ الْمُلاعَنَةِ
/ 41 - فيه: ابْن جُبَيْر قال: قُلْتُ لابْنِ عُمَر: رَجُلٌ قَذَفَ امْرَأَتَهُ، فَقَالَ: فَرَّقَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بَيْنَ أَخَوَىْ بَنِى الْعَجْلانِ، وَقَالَ: (اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ) ؟ فَأَبَيَا، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا. قَالَ أَيُّوبُ: فَقَالَ لِى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: إِنَّ فِى الْحَدِيثِ شَيْئًا لا أَرَاكَ تُحَدِّثُهُ. قال: قال الرَّجُلُ: مَالِى، قَالَ: قِيلَ:(7/473)
لا مَالَ لَكَ، إِنْ كُنْتَ صَادِقًا، فَقَدْ دَخَلْتَ بِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا، فَهُوَ أَبْعَدُ مِنْكَ. وترجم له (باب قول الإمام للمتلاعنين: إن أحدكما كاذب فهل منكما تائب؟) . صداق الملاعنة واجب لها بالإجماع؛ لأنهما كانا على نكاح صحيح قبل التعانهما، وكل من وطئ امرأة بشبهة، فالصداق لها واجب، فكيف النكاح الصحيح؟ قال ابن المنذر: وفى حديث ابن عمر دليل على وجوب صداقها، وأن الزوج لا يرجع عليها بالمهر، وإن أقرت بالزنا؛ لقوله: (إن كنت صدقت عليها فبما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد منك) ، هكذا رواه فى باب قول الإمام للمتلاعنين: إن أحدكما كاذب. قال ابن المنذر: ولو قال قائل: إن فيه دليلاً على أن المهر إنما يجب بالمسيس لا بالخلوة لساغ ذلك. قال المؤلف: وحديث هذا الباب يوجب الصداق بالدخول. قال المهلب فى قوله: (إن كنت صادقًا فقد دخلت بها) ، فيه دليل على أن الدخول بالمرأة يكنى به عن الجماع، وهو دليل على وجوب جماعها، وإن كان قد لا يكون جماع مع الدخول، فغلب عليه السلام ما يكون فى الأكثر وهو الجماع، لما ركب الله فى نفوس عباده من شهوة النساء، وسيأتى اختلاف أهل العلم فى هذه المسألة فى باب المهر للمدخول عليها بعد هذا إن شاء الله. قال الطبرى: فى قوله عليه السلام: (الله يعلم إن(7/474)
أحدكما كاذب، فهل منكما من تائب؟) ، أنه ينبغى للإمام إذا أراد استحلاف من لزمته يمين لغيره فرآه ماضيًا على اليمين أن يذكره بالله ويعظه ويتلوا عليه قول الله: (إن الذين يشترون بعهد الله) [آل عمران: 77] الآية، ليرتدع عن اليمين إن كان مبطلاً فيها، ولذلك أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) أن يوقف كل واحد منهما عند الخامسة، فيقال له: اتق الله، فإنها الموجبة التى توجب عذاب الله وإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة. قال ابن المنذر: وفيه بدء الإمام بعظة الزوجين والبدء بالزوج فى ذلك قبل المرأة.
32 - بَاب التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُتَلاعِنَيْنِ
/ 42 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَرَّقَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ قَذَفَهَا وَأَحْلَفَهُمَا. اختلف العلماء متى تقع الفرقة باللعان، فذكر ابن المنذر، عن ابن عباس، أن بانقضاء اللعان تقع الفرقة بينهما، وإن لم يفرق الحاكم، وهو قول ربيعة، ومالك، والليث، والأوزاعى، وزفر، وأبى ثور. وقال الثورى، وأبى حنيفة وصاحباه: لا تقع الفرقة بينهما بتمام اللعان حتى يفرق بينهما الحاكم، وبه قال أحمد. وقال الشافعى: إذا أكمل الزوج اللعان وقعت الفرقة بينهما ولم يتوارثا ولو لم تكمل الفرقة ومات ورثه ابنه. واحتج الشافعى، فقال: لما كان التعان الزوج يسقط الحد وينفى(7/475)
الولد كان يقطع العصمة ويرفع الفراش؛ لأن المرأة لا مدخل لها فى الفراق وقطع للعصمة، ولا معنى لالتعان المرأة إلا فى درء الحد عنها. قال الطحاوى: وقول الشافعى خلاف القرآن، قال الله تعالى: (والذين يرمون أزواجهم) [النور: 6] إلى آخر الآيات، وعلى قوله: ينبغى أن لا تلاعن المرأة وهى غير زوجة، وقد اتفقوا أنه من طلق امرأته وأبانها ثم قذفها أن لا تلاعن؛ لأنها ليست بزوجة كذلك لو بانت بلعان الزوج لم يجز لعان المرأة. وحجة الكوفيين أن الفرقة لا تقع إلا بتفريق الحاكم حديث ابن عمر أن النبى (صلى الله عليه وسلم) فرق بين المتلاعنين، فأضاف الفرقة إليه لا إلى اللعان، قالوا: فلما كان اللعان مفتقرًا إلى حضور الحاكم كان مفتقرًا إلى تفريقه بخلاف الطلاق قياسًا على العنين أنه لا يفرق بينه وبين امرأته إلا الحاكم، والحجة لمالك ومن وافقه حديث ابن عمر، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) فرق بين المتلاعنين بلعانهما جميعًا، فدل أن اللعان أوجب الفرقة التى قضى بها النبى (صلى الله عليه وسلم) عند فراغهما من اللعان، وقال: لا سبيل لك عليها إعلامًا منه أن اللعان رفع سبيله عليها، وليس تفريقه بينهما باستئناف حكم، وإنما كان تنفيذًا لما أوجب الله بينهما من المباعدة، وهو معنى اللعان فى اللغة. وإذا قيل: لاعن، فهى مفاعلة من اثنين، ولو كان النكاح بينهما باقيًا حتى يفرق الحاكم لكان إنما يفرق بين زوجين صحيح النكاح غير فاسد من غير سبب حدث من أجله فساده، فإن قال ذلك خرج من قول جميع الأمة وأجاز للحاكم التفريق بين من شاء من الأزواج من غير سبب حدث بينهما يبطل به نكاحهم، وقياسه على العنين خطأ؛ لأنه يجوز لها أن تراجع العنين إن رضيت به، ولا يجوز لها مراجعة الملاعن فافترقا.(7/476)
قال ابن المنذر: وفى إجماعهم أن زوجة الملاعن لا تحل له بعد زوج إذا لم يكذب نفسه، دليل بين أن النكاح لو لم يكن منفسخًا باللعان، لكان طلاق العجلانى يقع عليها، وكانت تحل له بعد النكاح. وذكر جمهور العلماء أن المتلاعنين لا يتناكحان أبدًا، وإن أكذب نفسه جلد الحد ولحق به الولد ولم ترجع إليه أبدًا. قال مالك: وعلى هذا السنة التى لا شك فيها ولا اختلاف، ذكر ابن المنذر، عن عطاء، أن الملاعن إذا أكذب نفسه بعد اللعان لم يحد. وقال: قد تفرقا بلعنة من الله. وقال أبو حنيفة ومحمد: إذا أكذب نفسه جلد الحد ولحق به الولد، وكان خاطبًا من الخطاب إن شاء، وهو قول سعيد بن المسيب، والحسن، وسعيد بن جبير، وحجة هؤلاء الإجماع على أنه إن أكذب نفسه جلد الحد ولحق به الولد، قالوا: فيعود النكاح حلالاً كما عاد الولد؛ لأنه لا فرق بين شىء من ذلك. وحجة الجماعة فى أنهما لا يجتمعان أبدًا أن النبى (صلى الله عليه وسلم) فرق بين المتلاعنين، وقال: لا سبيل لك عليها، ولم يقل له: إلا أن تكذب نفسك، فكان كالتحريم المؤبد فى الأمهات ومن ذكر معهن، وهذا شأن كل تحريم مطلق التأبيد، ألا ترى أن المطلق ثلاثًا لما لم يكن تحريمه تأبيدًا أوقع فيه الشرط بنكاح زوج غيره، ولو قال: فإن طلقها فلا تحل له، لكان تحريمًا مطلقًا لا تحل له أبدًا، وقد أطلق النبى (صلى الله عليه وسلم) التحريم فى الملاعنة، ولم يضمنه بوقت، فهو مؤبد، فإن أكذب نفسه لحق به الولد؛ لأنه حق جحده ثم عاد إلى الإقرار به، وليس كذلك النكاح؛ لأنه حق ثبت عليه بقوله: (لا سبيل لك عليها) ، فلا يتهيأ له إبطاله، وقد(7/477)
روى ابن إسحاق وجماعة عن الزهرى، قال: فمضت السنة بأنهما إذا تلاعنا فرق بينهما فلا يجتمعان أبدًا.
33 - بَاب يَلْحَقُ الْوَلَدُ بِالْمُلاعِنَةِ
/ 43 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) لاعَنَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَتِهِ، فَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْمَرأَةِ. أما قول ابن عمر: وأحلق الولد بالمرأة، فمعلوم أن الأم لا ينتفى عنها ولدها؛ لأنها ولدته ومعناه أنه لما انتفى عن أبيه بلعانها ألحقه بأمه خاصة، كأنه لا أب له، فلا يرث أباه ولا يرثه أبوه ولا أحد ينسبه، وإنما ينسب إلى عصبة أمه، وعلى هذا علماء الأمصار. وقيل: بل ألحقه بأمه، فجعل أمه له كأبيه وأمه، ولهذا الحديث، والله أعلم، اختلف العلماء فى ميراث ابن الملاعنة على ما نذكره فى كتاب الفرائض. قال الطبرى: وإنما يلحق ولد الملاعنة بأمه ولا يدعى لأب ما دام الملاعن مقيمًا على نفيه عن نفسه بعد الالتعان فأما إن هو أقر به يومًا، فإنه يلحق به نسبه، وهذا إجماع من العلماء.
34 - بَاب إِذَا طَلَّقَهَا ثَلاثًا ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ الْعِدَّةِ زَوْجًا غَيْرَهُ فَلَمْ يَمَسَّهَا
/ 44 - فيه: عَائِشَة، أَنَّ رِفَاعَةَ الْقُرَظِىَّ تَزَوَّجَ امْرَأَةً، ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَتَزَوَّجَتْ آخَرَ،(7/478)
فَأَتَتِ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَذَكَرَتْ لَهُ أَنَّهُ لا يَأْتِيهَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ إِلا مِثْلُ هُدْبَةٍ، فَقَالَ: (لا، حَتَّى تَذُوقِى عُسَيْلَتَهُ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ) . فى هذا الحديث من الفقه: أن المطلقة ثلاثًا لا تحل لزوجها إلا بطلاق زوج قد وطئها، ومعنى ذوق العسيلة هو الوطء. قال ابن المنذر: وعلى هذا جماعة العلماء، إلا سعيد بن المسيب. قال: أما الناس فيقولون: لا تحل للأول حتى يجامعها الثانى، وأنا أقول: إذا تزوجها تزويجًا صحيحًا لا يريد بذلك إحلالها، فلا بأس أن يتزوجها الأول، وهذا قول لا نعلم أحدًا من أهل العلم وافقه عليه إلا طائفة من الخوارج، والسنة مستغنى بها عما سواها. قال غيره: وأظنه لم يبلغه حديث العسيلة، فأخذ بظاهر من القرآن، وهو قوله: (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره فإن طلقها (، يعنى الثانى،) فلا جناح عليهما أن يتراجعا) [البقرة: 230] ، وليس فى القرآن ذكر مسيس فى هذا الموضع، وغابت عنه السنة فى ذلك، وكذلك شذ عنه الحسن البصرى، فقال: لا تحل للأول حتى يطأها الثانى وطئًا فيه إنزال، وقال: معنى العسيلة الإنزال، وخالفه سائر الفقهاء، وقالوا: التقاء الختانين يحلها للزوج الأول، وقالوا: ما يوجب الحد والغسل ويفسد الصوم والحج ويحصن الزوجين، ويوجب كمال الصداق يحل المطلقة، والعسيلة كناية عن اللذة. قال ابن المنذر: وقد اعتل بعض أهل العلم بقوله: (حتى تذوقى عسيلته ويذوق عسيلتك) ، أن الزوج الثانى إن أتاها نائمة أو مغمى عليها لا تشعر، أنها لا تحل للزوج الأول حتى يذوقا جميعًا العسيلة، إذ غير جائز أن يسوى بينهما، عليه السلام، فى ذوق العسيلة(7/479)
وتحل بأن يذوقها أحدهما، وهذا قول على، وابن عباس، وجابر، وعائشة، وابن عمر، وهو قول جماعة العلماء، ولا خلاف فى ذلك إلا ما روى عن ابن المسيب. وقوله فى هذا الحديث: (أو يذوق عسيلتك) ، لا يوجب ذوق أحدهما للعسيلة دون صاحبه، و (أو) هاهنا بمعنى الواو، وذلك مشهور فى لغة العرب، وقد بين ذلك رواية من روى: (ويذوق عسيلتك) ، ذكره فى باب من أجاز طلاق الثلاث، وفى باب من قال لامرأته: أنت علىّ حرام. واختلفوا فى صفة الوطء الذى يحل المطلقة ثلاثًا، فقال مالك: لا يحلها إلا الوطء المباح، فإن وقع الوطء فى صوم أو اعتكاف أو حيض أو نفاس، لم تحل المطلقة ثلاثًا، ولا يحل الذمية عنده وطء الذمى ولا الصبى إذا لم يكن بالغًا. وقال الكوفيون، والأوزاعى، والشافعى: يحلها وطء كل زوج بنكاح صحيح، وكذلك لو أصابها محرمة أو صائمة أو حائضًا أو وطئها مراهق لم يحتلم تحل بذلك كله، وتحل الذمية للمسلم بوطء زوج ذمى، وبهذا كله قال ابن الماجشون وبعض المدنيين؛ لأنه زوج. واختلفوا فى عقد نكاح المحلل، فقال مالك: لا يحلها إلا نكاح رغبة، وإن قصد التحليل لم يحلها، وسواء علم ذلك الزوجان أو لم يعلما لا تحل ويفسخ قبل الدخول وبعده، وهذا قول الليث، والثورى، والأوزاعى، وأحمد. وقال أبو حنيفة وأصحابه والشافعى: النكاح جائز، وله أن يقيم على نكاحه، وهو قول عطاء والحكم.(7/480)
وقال القاسم، وسالم، وعروة، والشعبى: لا بأس أن يتزوجها ليحللها إذا لم يعلم بذلك الزوجان، وهو مأجور بذلك، وهو قول ربيعة، ويحيى بن سعيد. والحجة لمالك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لعن المحلل والمحلل له من حديث على، وابن مسعود، وعقبة ابن عامر، وفى حديث عقبة: (ألا أدلكم على التيس المستعار) ، وهو المحلل ولا فائدة للعنة إلا إفساد النكاح والتحذير منه، وقد سئل ابن عمر عن نكاح المحلل، فقال: ذلك السفاح. واحتج الكوفيون بعموم قوله تعالى: (حتى تنكح زوجًا غيره) [البقرة: 230] ، وقد وجد الشرط وعقد الثانى على شرائطه بعد تحليلها للأول، فلا فرق بين أن ينوى التحليل أم لا، قالوا: ألا ترى أن عقد النكاح يبيح الوطء ويوجب الصداق والنفقة وتحليل الطلاق، ولا فرق بين أن ينوى ذلك، فيقول: أنكح لأطأ، وبين أن لا ينوى ذلك. وفى هذا الحديث دليل على أن للمرأة المطالبة بحقها من الجماع وأن لها أن تدعو إلى فسخ النكاح، وذلك أنها إذا ادعت بهذا القول العُنَّة، ولم ترد أن ذلك منه فى رقة الهدبة إنما أرادت أنه كالهدبة ضعفًا واسترخاء، وقد بان ذلك فى رواية أيوب، عن عكرمة، أنها قالت: والله ما لى إليه من ذنب إلا أن ما معه ليس بأغنى عنى من هذه، وأخذت هدبة من ثوبها، فقالت: كذبت يا رسول الله، إنى لأنفضها نفض الأديم. وقال ابن المنذر: اختلف أهل العلم فى الرجل ينكح المرأة، ثم(7/481)
تطالبه بالجماع، فقال كثير من أهل العلم: إذا وطئها مرة لم يؤجل أجل العنين، روى هذا عن عطاء، وطاوس، والحسن، والزهرى، وهو قول مالك، والأوزاعى، وأبى حنيفة، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وحكى أبو ثور عن بعض أهل الأثر أنه كلما أمسك عنها أجل لها سنة؛ لأنه ليس لها فيما مضى من جماعها مقنع. وقال أبو ثور: إذا غشيها مرة واحدة ثم أمسك، فإن رافعته أجل لها سنة، وذلك أن العلة التى فى العنين قد صارت فيه، ولست أنظر فى هذا إلى أول النكاح ولا آخره إذا كانت العلة موجودة، وذلك أن من حقوقها الجماع، فمتى كان المنع لعلة كان حكمه حكم العنين.(7/482)
بسم الله الرحمن الرحيم
50 - كتاب العدة
- بَاب قوله: (وَاللائِى يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ) [الطلاق: 4]
قَالَ مُجَاهِدٌ: وَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا يَحِضْنَ أَوْ لا يَحِضْنَ، وَاللائِى قَعَدْنَ عَنِ الْمَحِيضِ: (وَاللائِى لَمْ يَحِضْنَ () فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) [الطلاق: 4] . وقوله: (وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) [الطلاق: 4] / 1 - فيه: أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ سُبَيْعَةُ، كَانَتْ تَحْتَ زَوْجِهَا، تُوُفِّىَ عَنْهَا، وَهِىَ حُبْلَى، فَخَطَبَهَا أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ، فَأَبَتْ أَنْ تَنْكِحَهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا يَصْلُحُ أَنْ تَنْكِحِيهِ حَتَّى تَعْتَدِّى آخِرَ الأجَلَيْنِ، فَمَكُثَتْ قَرِيبًا مِنْ عَشْرِ لَيَالٍ، ثُمَّ جَاءَتِ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، فَقَالَ: (انْكِحِى) . وكَتَبَ ابْنِ الأرْقَمِ إِلَى سُبَيْعَة: كَيْفَ أَفْتَاهَا النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام؟ فَقَالَتْ: أَفْتَانِى إِذَا وَضَعْتُ حملى أَنْ أَنْكِحَ. أجمع العلماء أن عدة اليائسة من المحيض لكبر ثلاثة أشهر، وأن عدة التى لم تحض لصغر ثلاثة أشهر. واختلفوا إذا ارتفعت حيضة المرأة الشابة التى يمكن مثلها أن تحيض، فروى عن عمر أنه قال: أيما امرأة طلقت فحاضت حيضة أو حيضتين، ثم رفعتها حيضتها أنها تنتظر تسعة أشهر، فإن بان بها حمل(7/483)
وإلا اعتدت بعد التسعة الأشهر ثلاثة أشهر ثم حلت. وروى مثله عن ابن عباس، قال: عدة المرتابة سنة، وروى عن الحسن البصرى، وهو قول مالك، والأوزاعى. وروى ابن القاسم عن مالك أنها تعتد من يوم رفعتها حيضتها لا من يوم طلقت تنتظر تسعة أشهر، فإن لم تحض فيهن اعتدت ثلاثة أشهر، فإن حاضت قبل أن تستكمل الثلاثة أشهر استقبلت الحيض. وقال الأوزاعى: إذا طلق امرأته وهى شابة فارتفعت حيضتها، فلم تر شيئًا ثلاثة أشهر فإنها تعتد سنة. وقال أبو حنيفة، والثورى، والليث، والشافعى، فى التى ترتفع حيضتها وهى غير يائسة: أن عدتها الحيض أبدًا، وإن تباعد ما بين الحيضتين حتى تدخل فى السن التى لا يحيض فى مثله أهلها من النساء، وتستأنف عدة اليائسة ثلاثة أشهر، روى هذا عن ابن مسعود، وزيد بن ثابت. وأخذ مالك فى ذلك بقول ابن عمر، وهو الذى رأى عليه الفتوى والعمل بالمدينة، وأخذ الكوفيون بظاهر القرآن، وظاهر القرآن لا مدخل فيه لذوات الأقراء فى الاعتداد بالأشهر، وإنما تعتد بالأشهر اليائسة والصغيرة، فمن لم تكن يائسة ولا صغيرة فعدتها الأقراء وإن تباعدت. وحجة مالك أن المرتابة تعتد بالأشهر؛ لأن فى ذلك يظهر حملها على كل حال، فلا يمكن أن يستمر الحمل فى الشهر التاسع، فإذا استوقن أن لا حمل فى هذه المدة، قيل: قد علمنا أنك لست مرتابة، ولا من ذوات الأقراء، فاستأنفى ثلاثة أشهر كما قال الله تعالى فيمن لسن من ذوات القراء قياسًا على أن العدة بالشهور(7/484)
لصغر إذا حاضت قبل تمام الثلاثة الأشهر علم أنها من ذوات القراء، فقيل لها: استأنفى الأقراء. وأما قوله تعالى: (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) [الطلاق: 4] ، فإن إسماعيل بن إسحاق قال: قال أكثر العلماء: والذى مضى عليه العمل أنها إذا وضعت حملها فقد انقضت عدتها، وذهبوا إلى أن الآية قد عمت كل معتدة من طلاق أو وفاة إذ جاءت مجملة لم يذكر فيها أنها للمطلقة خاصة ولا للمتوفى عنها زوجها خاصة، فكانت عامة فى كل معتدة، فوجب أن تكون الأقراء والشهور الثلاثة للمطلقة إذا لم تكن حاملاً على ما جاء فيها من النص، ووجب أن تكون الأربعة الأشهر والعشر للمتوفى عنها إذا لم تكن حاملاً، ووجب أن تكون كل ذات حمل مات عنها زوجها أو طلقها، فأجلها أن تضع حملها. قال غيره: وجاء حديث سبيعة شاهدًا لصحة هذا القول، وعليه العلماء بالحجاز، والعراق، والشام، لا أعلم فيه مخالفًا من السلف إلا ابن عباس، ورواية عن على فإنهما قالا فى المتوفى عنها زوجها: عدتها آخر الأجلين أربعة أشهر وعشرًا أو الوضع. وقال ابن مسعود: لما بلغه قول على فى ذلك من شاء لاعنته بأن هذه الآية التى فى سورة النساء القصرى: (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) [الطلاق: 4] ، نزلت بعد التى فى البقرة: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا) [البقرة: 234] ، ولولا حديث سبيعة، وهذا البيان من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى هاتين الآيتين لكان القول ما قاله على، وابن عباس؛ لأنهما عدتان مجتمعتان، فلا يخرج منهما إلا بيقين، واليقين فى ذلك(7/485)
آخر الأجلين، ألا ترى إلى قول فقهاء الحجاز والعراق فى أم الولد يموت عنها زوجها ويموت سيدها، ولا تدرى أيهما مات أولاً أن عليها عدتين أربعة أشهر وعشرًا فيها حيضة عند الشافعى، وذلك لها آخر الأجلين. وعند أبى حنيفة لا حيضة فيها، وعند أبى يوسف ومحمد فيها ثلاث حيض، إلا أن السنة وردت من ذلك فى الحامل المتوفى عنها فى سبيعة، ولو بلغت السنة عليا ما تركها، وأما ابن عباس، فقد روى عنه أنه رجع إلى حديث سبيعة بعد المنازعة منه، ويصحح ذلك أن أصحابه عطاء، وعكرمة، وجابر بن زيد يقولون: إنها إذا وضعت حملها فقد حلت، ولو وضعت بعد موته بساعة.
- بَاب قوله تَعَالَى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة: 228]
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ فِيمَنْ تَزَوَّجَ فِى الْعِدَّةِ فَحَاضَتْ عِنْدَهُ ثَلاثَ حِيَضٍ: بَانَتْ مِنَ الأوَّلِ، وَلا تَحْتَسِبُ بِهِ لِمَنْ بَعْدَهُ. وَقَالَ الزُّهْرِىُّ: تَحْتَسِبُ به، وَهَذَا أَحَبُّ إِلَى سُفْيَانَ - يَعْنِى قَوْلَ الزُّهْرِىِّ - وَقَالَ مَعْمَرٌ: يُقَالُ: أَقْرَأَتِ الْمَرْأَةُ، إِذَا دَنَا حَيْضُهَا، وَأَقْرَأَتْ إِذَا دَنَا طُهْرُهَا. وَيُقَالُ: مَا قَرَأَتْ بِسَلًى قَطُّ إِذَا لَمْ تَجْمَعْ وَلَدًا فِى بَطْنِهَا. اختلف العلماء فى الأقراء التى تجب على المرأة إذا طلقت ما هى؟ والوقت الذى تبين فيه المطلقة من زوجها حتى لا يكون له عليها رجعة، فقالت طائفة: هو أحق بها حتى تغتسل من الحيضة الثالثة، هذا قول ابن عمر، وعلى، وابن مسعود، وروى ذلك عن أبى بكر الصديق،(7/486)
وعثمان، وأبى موسى، وعبادة بن الصامت، وأبى الدرداء، وإليه ذهب الثورى، وإسحاق، وأبو عبيد. وفيها قول ثان: أنه أحق بها ما كانت فى الدم، روى ذلك عن طاوس، وسعيد بن جبير، وهذا على مذهب من يقول: الأقراء الحيض، ومن قال: الأقراء الأطهار، يرى له الرجعة ما لم يكن أول الدم من الحيضة الثالثة إذا طلقها وهى طاهر، هذا قول مالك، والشافعى، وأبى ثور، وممن قال: إن الأقراء الأطهار من السلف، زيد بن ثابت، وابن عمر، وعائشة، والقاسم، وسالم. وقال أبو بكر بن عبد الرحمن: ما أدركت أحدًا من فقهائنا إلا يقول بقول عائشة، ولم يختلف أهل اللغة أن العرب تسمى الحيض قرءًا، وتسمى الطهر قرءًا، وتسمى الوقت الذى يجمع الحيض والطهر قرءًا، فلما احتملت اللفظة هذه الوجوه فى اللغة وجب أن يطلب الدليل على مراد الله بقوله: (ثلاثة قروء) [البقرة: 228] ، فوجدنا الدليل على أن الأقراء الأطهار حديث ابن عمر، وذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لما أمره أن يطلقها فى الطهر، وجعل العدة بقوله، عليه السلام: (فتلك العدة التى أمر الله أن تطلق لها النساء) ، ونهاه أن يطلق فى الحيض، وأخرجه من أن تكون عدة، ثبت أن الأقراء الأطهار. فإن قال الكوفيون: الدليل على الأقراء الحيض قوله، عليه السلام: (اقعدى أيام أقرائك) ، أى حيضتك؛ لأنه لا يأمر بترك الصلاة أيام الطهر.(7/487)
قيل لهم: ليس فى هذا أكثر من أن القرء اسم يصلح للحيض كما يصلح للطهر، ونحن لا نمتنع من هذا، وإنما نطلب ترجيح قولنا، وذلك أن قوله: (دعى الصلاة أيام أقرائك) ، هو خطاب للمستحاضة أن تترك الصلاة عند إقبال دم حيضتها، ولا خلاف فى ذلك، وحديث ابن عمر الأقراء فيه الأطهار، يدل على أن الأقراء المعتد بها الأطهار، وأن أقراء المستحاضة إقبال الدم، فلا تضر رواية من روى: (دعى الصلاة أيام أقرائك) ؛ لأنهما مسألتان مختلفتان، مسألة عدة، ومسألة صلاة. فإن قالوا: إطلاق اسم القروء ينطلق على الحيض؛ لأنها إنما تسمى من ذوات الأقراء إذا حاضت. فالجواب: أن اسم القرء للطهر الذى ينتقل إلى الحيض، ولا نقول: أنه اسم للطهر المحض، فإنما لم نقل هى من ذوات الأقراء إذا لم تحض؛ لأنه طهر لم يتعقبه حيض، فإذا حاضت فقد وجد طهر يتعقبه حيض. وقد اختلف الصحابة فى هذه المسألة، فينبغى أن يقدم قول عائشة وابن عمر؛ لأن عائشة أعرف بحال الحيض؛ لما تختص به من حال النساء وقربها من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وكذلك ابن عمر؛ لأنه قد عرف الطلاق فى الحيض وما أصابه فيه، فهو أعلم به من غيره، وعلى أن الطريق إلى ما ذكره عن الصحابة غير ثابت. وأما قول النخعى: من تزوج فى العدة فحضات عنده ثلاث حيض بانت من الأول ولا تحتسب به، يعنى بالحيض لا يكون عدة للثانى؛(7/488)
لأن العلماء مجمعون على أن الناكح فى العدة يفسخ نكاحه ويفرق بينه وبينها، وهذه مسألة اجتماع العدتين. واختلف العلماء فيها، فروى المدنيون عن مالك: إن كانت حاضت حيضة أو حيضتين من الأول أنها تتم بقية عدتها منه، ثم تستأنف عدة أخرى من الآخر على ما روى عن عمر ابن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وهو قول الليث، والشافعى، وأحمد، وإسحاق. وروى ابن القاسم، عن مالك، أن عدة واحدة تكون لهما، سواء كانت العدة بالحمل أو الحيض أو الشهور، وهو قول الأوزاعى، والثورى، وأبى حنيفة وأصحابه. والحجة لرواية ابن القاسم، عن مالك، إجماعهم أن الأول لا ينكحها فى بقية العدة من الثانى، فدل على أنها فى عدة من الثانى، ولولا ذلك لنكحها فى عدتها منه. ووجه الرواية الأخرى أنهما حقان قد وجبا عليها لزوجين كسائر الحقوق لا يدخل أحدهما فى صاحبه. قال الأصمعى: هو قرء، بضم القاف. وقال أبو زيد: هو قرء، بفتح القاف، وكلاهما قال: أقرأت المرأة.
3 - بَاب قِصَّةِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ وَقَوْلِ اللَّهِ: (وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ) [الطلاق 1] الآية وقوله: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) [الطلاق: 6] الآية
/ 2 - فيه: أَنَّ يَحْيَى بْنَ سَعِيدِ طَلَّقَ بِنْتَ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ الْحَكَمِ، فَانْتَقَلَهَا(7/489)
عَبْدُالرَّحْمَنِ، فَأَرْسَلَتْ عَائِشَةُ إِلَى مَرْوَانَ - وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ - اتَّقِ اللَّهَ وَارْدُدْهَا إِلَى بَيْتِهَا. قَالَ مَرْوَانُ فِى حَدِيثِ سُلَيْمَانَ: إِنَّ عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ الْحَكَمِ غَلَبَنِى، وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: أَوَمَا بَلَغَكِ شَأْنُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ؟ قَالَتْ: لا يَضُرُّكَ أَنْ لا تَذْكُرَ حَدِيثَ فَاطِمَةَ. فَقَالَ مَرْوَانُ: إِنْ كَانَ بِكِ شَرٌّ، فَحَسْبُكِ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ مِنَ الشَّرِّ. / 3 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: مَا لِفَاطِمَةَ؟ أَلا تَتَّقِى اللَّهَ - يَعْنِى فِى قَوْلِهَا: لا سُكْنَى وَلا نَفَقَةَ. / 4 - وقَالَ عُرْوَةُ لِعَائِشَةَ: أَلَمْ تَرَىْ إِلَى فُلانَةَ بِنْتِ الْحَكَمِ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا الْبَتَّةَ فَخَرَجَتْ، فَقَالَتْ: بِئْسَ مَا صَنَعَتْ، قَالَ: أَلَمْ تَسْمَعِى فِى قَوْلِ فَاطِمَةَ؟ قَالَتْ: أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ لَهَا خَيْرٌ فِى ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ. قال ابن المنذر: اختلف العلماء فى خروج المبتوتة بالطلاق من بيتها فى عدتها، فمنعت من ذلك طائفة، روى ذلك عن ابن مسعود، وابن عمر، وعائشة أم المؤمنين. ورأى سعيد بن المسيب، والقاسم، وسالم، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وخارجة بن زيد، وسليمان بن يسار، أن تعتد فى بيت زوجها حيث طلقها، وحكى أبو عبيد هذا القول عن مالك، والكوفيين، والثورى أنهم كانوا يرون أن لا تبين المبتوتة والمتوفى عنها زوجها إلا فى بيتها. وفيها قول آخر: أن المبتوتة تعتد حيث شاءت، روى ذلك عن ابن عباس، وجابر، وعطاء، وطاوس، والحسن، وعكرمة.(7/490)
وقال أحمد وإسحاق: تخرج المطلقة ثلاثًا على حديث فاطمة: ولا سكنى لها ولا نفقة. قال ابن المنذر: واختلف أهل العلم فى خروج المطلقة ثلاثًا من بيتها أو مطلقة لا رجعة للزوج عليها، فأما من له عليها رجعة، فتلك فى معانى الأزواج، وكل من أحفظ عنه العلم يرى لزوجها منعها من الخروج حتى تنقضى عدتها لقوله: (ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) [الطلاق: 1] . وكان مالك يقول فى المتوفى عنها زوجها: تزور وتقيم إلى قدر ما يهدأ الناس بعد العشاء، ثم تنقلب إلى بيتها، وهو قول الليث، والثورى، والشافعى، وأحمد. وقال أبو حنيفة: تخرج المتوفى عنها نهارًا ولا تبيت إلا فى بيتها، ولا تخرج المطلقة ليلاً ولا نهارًا، وفرقوا بينهما، فقالوا: المطلقة لها السكنى عندنا، والنفقة فى عدتها على زوجها، فذلك يغنيها عن الخروج، والمتوفى عنها لا نفقة لها، فلها أن تخرج فى بياض نهارها وتبتغى من فضل ربها. وقال محمد: لا تخرج المطلقة ولا المتوفى عنها ليلاً ولا نهارًا فى العدة. وقالت طائفة: المتوفى عنها تعتد حيث شاءت، روى هذا عن على بن أبى طالب، وابن عباس، وجابر، وعائشة، وعن عطاء، والحسن البصرى. وقال ابن عباس: إنما قال الله: تعتد أربعة أشهر وعشرًا، ولم يقل:(7/491)
تعتد فى بيتها، فتعتد حيث شاءت، وأجمع العلماء أن المطلقة التى يملك زوجها رجعتها لها السكنى والنفقة إذ حكمها حكم الزوجات فى جميع أمورها. واختلفوا فى وجوب النفقة والسكنى للمطلقة ثلاثًا إذا لم تكن حبلى، فقالت طائفة: لا سكنى لها ولا نفقة، على نص حديث فاطمة بنت قيس، روى هذا القول عن على، وابن عباس، وجابر، وبه قال أحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وقالت طائفة: للمبتوتة السكنى ولا نفقة لها، روى هذا عن سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وعطاء، والشعبى، والحسن، وهو قول مالك، وابن أبى ليلى، والليث، والأوزاعى، والشافعى. وقالت طائفة: لكل مطلقة السكنى والنفقة مادامت فى العدة، حاملاً كانت أو غير حامل، مبتوتة كانت أو رجعية، هذا قول الثورى، والكوفيين، وروى عن عمر بن الخطاب، وابن مسعود، واحتج الكوفيون بأن عمر بن الخطاب، وعائشة، وأسامة بن زيد، ردوا حديث فاطمة بنت قيس وأنكروه عليها، وأخذوا فى ذلك بما رواه الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عمر بن الخطاب، أنه قال: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة وهمت أو نسيت. وكان عمر يجعل لها النفقة والسكنى، وقالوا: ما احتج به عمر فى دفع حديث فاطمة حجة صحيحة، وذلك أن الله قال: (يا أيها النبى إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن) [الطلاق: 1] ، ثم قال: (لا تدرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا) [الطلاق: 1] ، وأجمعوا أن الأمر إنما هو الرجعة، ثم قال تعالى: (اسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم) [الطلاق: 6] ، ثم(7/492)
قال: (لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن) [الطلاق: 1] ، يريد فى العدة. فكانت المرأة إذا طلقها زوجها اثنتين للسنة ثم راجعها كما أمره الله، ثم طلقها أخرى للسنة حرمت عليه، ووجب عليها العدة التى جعل لها فيها السكنى، وأمرها فيها أن لا تخرج، وأمر الزوج أن لا يخرجها، ولم يفرق الله بين هذه المطلقة للسنة التى لا رجعة فيها، وبين المطلقة للسنة التى عليها الرجعة. فلما جاءت فاطمة بنت قيس، فروت عن النبى (صلى الله عليه وسلم) إنما السكنى والنفقة لمن كانت عليها الرجعة، خالفت بذلك كتاب الله نصًا؛ لأن كتاب الله قد جعل السكنى لمن لا رجعة عليها، وخالفت سنة النبى (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأن عمر قد روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) خلاف ما روت، فخرج المعنى الذى منه أنكر عمر عليها ما أنكر خروجًا صحيحًا، وبطل حديث فاطمة، فلم يجب العمل به أصلاً لما بينا. قال الكوفيون: إن السكنى تتبع النفقة، وتجب بوجوبها، وتسقط بسقوطها، فقال لهم أصحاب مالك: السكنى التى فى حال الزوجية هى تتبع النفقة من أجل التمكن من الاستمتاع، فلا يجوز أن تسقط إحداهما وتجب الأخرى، والسكنى التى بعد البينونة حق الله، فلا تتبعها النفقة، ألا ترى أنهما لو اتفقا على سقوطها لم يجز أن تعتد فى غير منزل الزوج الذى طلق فيه، وفى الزوجية يجوز أن ينقلها إلى حيث شاء، وبعد الطلاق ليس كذلك. وقال الذين منعوا السكنى والنفقة وأخذوا بحديث فاطمة: إن عمر إنما أنكر عليها لأنها خالفت عنده كتاب الله، يريد قوله: (أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم) [الطلاق: 6] ، وهذا إنما هو فى المطلقة الرجعية،(7/493)
وفاطمة كانت مبتوتة لا رجعة لزوجها عليها، وقد قالت: إن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال لها: (إنما النفقة والسكنى لمن كانت عليها الرجعة) ، وفاطمة لم يكن لزوجها عليها رجعة، فما روت من ذلك فلا يدفعه كتاب الله ولا سنة نبيه، فإن كان عمر، وعائشة، وأسامة أنكروا على فاطمة ما روت عن النبى (صلى الله عليه وسلم) وقالوا بخلافه، فقد تابع فاطمة على ذلك على، وابن عباس، وجابر، وحديث الشعبى بين فى ذلك. روى هشيم، قال: حدثنا مغيرة، وحصين، وإسماعيل بن أبى خالد، ومجالد، عن الشعبى، قال: دخلت على فاطمة بنت قيس، فسألتها عن قضاء رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى السكنى والنفقة، فقالت: طلقنى زوجى البتة، فخاصمته إلى النبى، عليه السلام، فى السكنى والنفقة، فلم يجعل لى سكنى ولا نفقة، وأمرنى أن أعتد فى بيت ابن أم مكتوم، وقال مجالد فى حديثه: (إنما السكنى والنفقة لمن كانت له الرجعة) . واحتج الذين قالوا بالسكنى، ولم يوجبوا النفقة، فقالوا: حديث الشعبى عندنا غلط؛ لأنه قد روى عن الشعبى أنه جعل للمبتوتة السكنى، وقال بعضهم: السكنى والنفقة. وقال إسماعيل بن إسحاق: حدثنا ابن أبى شيبة، حدثنا حميد، عن حسين بن صالح، عن السدى، عن إبراهيم والشعبى فى المطلقة ثلاثًا، قالا: لها السكنى والنفقة، وهذا يوهن رواية الشعبى. وقال ابن إسحاق: كنت مع الأسود بن يزيد فى المسجد الجامع ومعنا الشعبى، فحدثنا بحديث فاطمة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يجعل لها سكنى ولا نفقة، فأخذ الأسود كفًا من حصا فحصبه، وقال: ويحك، أتحدث بها أنت عمر بن الخطاب. قال إسماعيل: فلعل(7/494)
الشعبى أفتى بخلاف ما روى عن فاطمة بنت قيس، لما روى من إنكار الناس عليه. وروى أبو عوانة، عن منصور، عن إبراهيم، قال فى المطلقة ثلاثًا: لها السكنى والنفقة، ولا يجبر على النفقة. قال إسماعيل: فلخص منصور فى روايته شيئًا يدل على ضبطه، وبين أن إبراهيم إنما أراد إثبات السكنى دون النفقة، وإسقاط السكنى هو الذى أنكر على فاطمة بنت قيس، وكذلك أنكرت عليها عائشة إطلاق اللفظ وكتمان السبب الذى من أجله أباح رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خروجها من منزل الزوج، فقالت: اتق الله ولا تكتمى السر الذى من أجله نقلك، وذلك أنها كانت فى لسانها ذرابة، فاستطالت على أحمائها، أهل زوجها، فلهذا نقلها لا أنه لا سكنى لها، والمرأة عندنا إذا آذت أهل زوجها جاز نقلها من ذلك الموضع، فدل أن عائشة علمت معنى ما أمر به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فاطمة، ولم يكن قولها شيئًا قالته برأيها. ألا ترى قولها لمروان: دع عنك حديث فاطمة، فإن لها شأنًا، وقالت: ألا تتقى الله فاطمة، علمت يقينًا أنها عرفت كيف كانت، وقول مروان لعائشة: إن كان بك الشر فحسبك ما بين هذين من الشر، يدل أن فاطمة إنما أمرت بالتحويل إلى الموضع الذى أمرت به لشر كان بينها وبينهم، وإذا كان الشر والشفاق واقعًا بين الزوجين، جاز للحاكم أن يبعث إليها بحكمين يكون لهما الجمع بينهم والفرقة، فكان تحويل المعتدة من مسكن إلى مسكن إذا وقع الشر أحرى أن يجوز. وقد روى فى قول الله: (لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن(7/495)
إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) [الطلاق: 1] أحاديث، فمنهم من ذهب إلى أن الفاحشة البذاء وسوء الخلق، وهذا يشبه قول مروان: وإن كان بك الشر فحسبك ما بين هذين من الشر، وقد روى غير ذلك على ما يأتى ذكره فى الباب بعد هذا إن شاء الله. قال المهلب: فى إنكار عائشة على فاطمة فتياها بما أباح لها النبى (صلى الله عليه وسلم) من الانتقال وترك السكنى، ولم تخبر بالعلة. فيه من الفقه: أن الرجل العالم لا يجب أن يفتى فى المسألة إذا لم يعرف معناها، كما لم تعرف فاطمة الوجه الذى أباح لها النبى (صلى الله عليه وسلم) إخراجها من أجله من مسكنها، فتوهمت أنه ليس لها بهذا سكنى. واحتج الذين قالوا بوجوب السكنى وإبطال النفقة بقوله تعالى: (أسكنوهن من حيث سكنتم (إلى قوله: (فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) [الطلاق: 6] ، قالوا: فلو كانت النفقة تجب كما تجب السكنى لما كان لاختصاص النفقة للحامل معنى، فلما وقع الاختصاص وجب أنه لا نفقة للمرأة إذا لم تكن حاملاً، ووجب أيضًا أن يعلم أن هذه المرأة ليست التى يملك زوجها رجعتها؛ لأن التى يملك زوجها رجعتها نفقتها واجبة عليه، كانت حاملاً أو غير حامل على الأصل التى كانت عليه قبل الطلاق. واحتيج إلى ذكر السكنى فى قوله تعالى: (أسكنوهن من حيث سكنتم) [الطلاق: 6] ؛ لأن المبتوتة قد وجدت فى طلاقها ما خرجت به عن أحكام الزوجات كلها الوارثة وغيرها، فأعيد ذكر السكنى من طريق التحصين لها ما دامت فى عدتها وأجريت مجرى التى قبلها، وأسقطت عنها النفقة التى كانت تجب لها قبل أن تبين من زوجها، ولم يجعل لها ذلك فى عدتها إلا أن تكون(7/496)
حاملاً، فيجب عليه حينئذ أن يغذو ولده بغذاء أمه، كما يجب عليه إذا وضعت وقد انقضت عدتها أن يغذو ولده بغذاء التى ترضعه، فكما وجب على الأب أن ينفق على من ترضعه، وجب عليه أن ينفق على أمه مادام فى بطنها، فدل هذا كله أنها إذا لم تكن حاملاً فلا نفقة عليها، وسيأتى اختلاف العلماء فى السكنى للمتوفى عنها بعد هذا إن شاء الله.
4 - بَاب الْمُطَلَّقَةِ إِذَا خُشِىَ عَلَيْهَا فِى مَسْكَنِ زَوْجِهَا أَنْ يُقْتَحَمَ عَلَيْهَا أَوْ تَبْذُوَ عَلَى أَهْلِه بِفَاحِشَةٍ
/ 5 - فيه: عَائِشَةَ أنها أَنْكَرَتْ ذَلِكَ عَلَى فَاطِمَةَ. وَزَادَ ابْنُ أَبِى الزِّنَادِ، عَنْ هِشَامٍ بْن عروة، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: عَابَتْ عَائِشَةُ أَشَدَّ الْعَيْبِ، وَقَالَتْ: إِنَّ فَاطِمَةَ كَانَتْ فِى مَكَانٍ وَحْش، فَخِيفَ عَلَى نَاحِيَتِهَا، وَلِذَلِكَ أَرْخَصَ لَهَا رَسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) . وفى حديث أبى الزناد: أن خروج فاطمة بنت قيس من بيت زوجها ولم تعتد فيه، لأنه كان فى مكان وحش، فخشى عليها فيه. ولم يذكر البخارى ما شرط فى الترجمة من البذاء، وقد روى عن عائشة أنها قالت لفاطمة بنت قيس: إنما أخرجك هذا اللسان، وذكره إسماعيل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن عائشة. وقد روى مثل هذا عن ابن عباس، قال: الفاحشة المبينة النشوز وسوء الخلق، وأن تبذو عليهم، فإذا بذت فقد حل لهم إخراجها.(7/497)
وقال عكرمة: كان ابن عباس يقرأ بقراءة أبى بن كعب: إلا أن تفحش عليكم. وروى الحارث بن أبى أسامة، عن يزيد بن هارون، عن عمرو بن ميمون بن مهران، عن أبيه، عن سعيد بن المسيب، أن فاطمة استطالت على أحمائها وآذتهم بلسانها. وروى عن ابن عمر، أنه قال: خروجهن من بيوتهن فاحشة، وهو قول الشعبى، وروى عن ابن عباس: (إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) [الطلاق: 1] ، قال: الزنا، قال: فإذا زنت أخرجت فأقيم عليها الحد، وهو قول زيد بن أسلم. قال إسماعيل بن إسحاق: ذهب كل واحد من هؤلاء إلى غير مذهب صاحبه، غير أنه إذا قيل: فاحشة مبينة، دل أنه شىء يكون بعضه أبين من بعض، وأما الزنا وغيره من الحدود، فإنما هو حد محدود إذا بلغه الإنسان كان زانيًا، وأما غير ذلك من الشر الذى يقع بين الرجل وامرأته، فإن بعضه أكثر من بعض، ونحتاج فيه إلى اجتهاد الرأى، فإن كان شرًا لا يطمع فى صلاحه بينهم انتقلت المرأة إلى مسكن غيره، وأما الزنا فليس فيه اجتهاد رأى. وأما من قال: إن خروجها فاحشة، فهو جائز فى كلام العرب، غير أن الأظهر أن خروجها غير الفاحشة، والله أعلم بما أراد من ذلك، وليس يمكن للإنسان أن يوجب قولاً يزعم أنه الصواب دون غيره، وإن كان ما حكى من قراءة أبى بن كعب محفوظًا فهو حجة قوية. وما رواه البخارى، عن عائشة أنها كانت فى مكان وحش، فخيف عليها، فيشبه قول مالك وغيره فى البدوية المعتدة أنها تتبوأ مع أهلها(7/498)
حيث تبوءوا. قال المهلب: وإن صحت الروية أنها أخرجت من أجل البذاء، ففيه دليل أنه يجوز إخراج الرجل البذى المؤذى لجيرانه بأذاه وتباع الدار عليه ويسقط حق سكناه.
5 - بَاب قوله تَعَالَى: (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ) [البقرة: 228] يريد مِنَ الحمل الْحَيْضِ
/ 6 - فيه: عَائِشَةَ، لَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يَنْفِرَ إِذَا صَفِيَّةُ عَلَى بَابِ خِبَائِهَا كَئِيبَة، فَقَالَ لَهَا: عَقْرَى - أَوْ حَلْقَى - إِنَّكِ لَحَابِسَتُنَا؟ أَكُنْتِ أَفَضْتِ يَوْمَ النَّحْرِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ قَالَ: فَانْفِرِى إِذًا. وروى عن السلف فى تفسير هذه الآية، قال أبى بن كعب: إن من الأمانة أن المرأة ائتمنت على فرجها. وقال ابن عباس، وابن عمر: لا يحل لها إن كانت حاملاً أن تكتم حملها، ولا يحل لها إن كانت حائضًا أن تكتم حيضها، يعنى المطلقة. قال ابن شهاب: لتنقضى العدة، فلا يملك الزوج الرجعة إذا كانت له. قال مجاهد: وذلك كله فى بغض المرأة زوجها وجيه. وقال قتادة: فكانت المرأة تكتم حملها، فتذهب به إلى أجل آخر مخافة الرجعة، فنهى الله عن ذلك، وتقدم فيه. قال إسماعيل بن إسحاق: وهذه الآية تدل أن المرأة المعتدة مؤتمنة على رحمها من الحيض والحمل، فإن قالت: قد حضت، كانت مصدقة، وإن قالت: قد ولدت، كانت مصدقة، إلا أن تأتى من ذلك(7/499)
بما يعرف كذبها فيه، وكذلك كل مؤتمن، فالقول قوله، قال تعالى فى آية الدين: (فليكتب وليملل الذى عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئًا) [البقرة: 282] ، فوعظ الذى عليه الحق حين جعل القول قوله كما وعظت المرأة حين جعل القول قولها، وقول أبى بن كعب يدل على ذلك. وقال سليمان بن يسار: لم يؤمر أن تفتح النساء فينظر إلى فروجهن ليعلم صدق قولهن، ولكن وكل ذلك إليهن إذا كن مؤمنات. قال المهلب: وحديث عائشة شاهد لتصديق النساء فيما يدعينه من الحيض والحمل دون شهادة القوابل، وكذلك الإماء، ألا ترى أن النبى، عليه السلام، أراد أن يحبس المسلمين كلهم بما ذكرت صفية من حيضتها ولم يمتحن ذلك عليها ولا أكذبها، وقد تقدم فى كتاب الحيض اختلاف أهل العلم فى أقل ما تصدق فيه المرأة من انقضاء عدتها.
6 - بَاب قول الله تَعَالَى: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِى ذلك) [البقرة: 228] أى فِى الْعِدَّةِ، وَكَيْفَ تُرَاجِعُ الْمَرْأَةَ إِذَا طَلَّقَهَا وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ؟
/ 7 - فيه: مَعْقِل، أن أُخْتُهُ كَانت تَحْتَ رَجُلٍ، فَطَلَّقَهَا، ثُمَّ خَلَّى عَنْهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، ثُمَّ خَطَبَهَا، فَحَمِىَ مَعْقِلٌ مِنْ ذَلِكَ أَنَفًا، فَقَالَ: خَلَّى عَنْهَا، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهَا، ثُمَّ يَخْطُبُهَا، فَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (وَإِذَا(7/500)
طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ) [البقرة: 231] إِلَى آخِرِ الآيَةِ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَرَأَ عَلَيْهِ، فَتَرَكَ الْحَمِيَّةَ، وَاسْتَقَادَ لأمْرِ اللَّهِ. / 8 - وفيه: ابْنَ عُمَرَ، أنّهُ طَلَّقَ امْرَأته وَهِىَ حَائِضٌ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يُرَاجِعَهَا، ثُمَّ يُمْسِكَهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ عِنْدَهُ حَيْضَةً، أُخْرَى، ثُمَّ يُمْهِلَهَا حَتَّى تَطْهُرَ مِنْ حَيْضِتهَا، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا، فَلْيُطَلِّقْهَا حِينَ تَطْهُرُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُجَامِعَهَا، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِى أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ. . . الحديث. وترجم لحديث ابن عمر: (باب مراجعة الحائض) . قال أهل التفسير فى قوله: (وبعولتهن أحق بردهن فى ذلك) [البقرة: 228] ، أى فى العدة، هذا قول النخعى، وقتادة، ومجاهد. وأما قول البخارى: وكيف تراجع المرأة إذا طلقها واحدة أو اثنتين؟ فالمراجعة على ضربين: مراجعة فى العدة على حديث ابن عمر، ومراجعة بعد العدة على حديث معقل، وأجمع العلماء أن الحر إذا طلق زوجته الحرة وكان مدخولاً بها تطليقة أو تطليقتين أنه أحق برجعتها حتى تنقضى عدتها وإن كرهت المرأة. وكذلك قال المفسرون فى قوله: (لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا) [الطلاق: 1] أنه الرجعة، ولذلك كان ابن عمر يقول: لو طلقت مرة أو مرتين خشية أن يبدوا لى فى مراجعتها، وهو قد بت طلاقها فلا يمكنه، فإن لم يراجعها المطلق للسنة حتى انقضت عدتها فهى أحق بنفسها، وتصير أجنبية منه لا تحل إلا بخطبة ونكاح مستأنف بولى وإشهاد، ليس على سنة المراجعة، هذا إجماع من العلماء.(7/501)
قال المهلب وغيره: وعلى هذا جاء حديث معقل بن يسار، ألا ترى أن زوج أخته لو راجعها فى العدة كان أملك بها، فلما انقضت عدتها وصارت أجنبية منه أحب مراجعتها فعضلها أخوها ومنعها نكاحه، ولم يجز له عضلها إلا إن كان ذلك مباحًا له، ولم يجز لزوجها أن يردها بعد ذلك إلا بنكاح جديد وصداق وإشهاد، فهذا معنى حديث معقل فى هذا الباب. وأما حديث ابن عمر، ففيه خلاف هذا المعنى، وذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أمره بمراجعتها فى تلك الحيضة التى طلقها فيها، ولم يذكر فى الحديث أنه احتاج إلى صداق ولا ولى من أجل أن النبى (صلى الله عليه وسلم) حين أمره بارتجاعها لم يذكر رضاها ولا رضا وليها؛ لأنه إنما يرد من لم تقطع عصمته منها، ولو احتيج إلى ذلك لم يكن ابن عمر المأمور بذلك وحده دون المرأة والولى، فكان هذا حكم كل من راجع فى العدة أنه لا يلزمه شىء من أحكام النكاح غير الإشهاد على المراجعة فقط، وهذا إجماع من العلماء، وإنما لم يلزمه شىء من فروض النكاح؛ لأن المطلق للسنة لم يدخل على نكاحه ما ينقضه، وإنما أحدث فيه ثلمة، فإذا راجعها فى العدة فقد سد تلك الثلمة، ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى: (وبعولتهن أحق بردهن فى ذلك) [البقرة: 228] ، يعنى فى العدة) إن أرادوا إصلاحًا) [البقرة: 228] ، يعنى الرجعة، فجعل لهم تعالى الرجعة دون استئذان النساء ودون اشتراط شىء من فروض النكاح. ولم يختلف العلماء أن السنة فى الرجعة أن تكون بالإشهاد عليها؛ لأن الله ذكر الإشهاد فى الرجعة، ولم يذكره فى النكاح ولا فى الطلاق،(7/502)
فقال فى الرجعة: (فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوى عدل منكم وأقيموا الشهادة لله) [الطلاق: 2] . واخلتفوا فيما يكون به الرجل مراجعًا فى العدة للمطلقة واحدة أو اثنتين، فقالت طائفة: إذا جامعها فقد راجعها، روى هذا عن ابن المسيب، وعطاء، وطاوس، وهو قول الأوزاعى. وقال مالك وإسحاق: إذا وطئها فى العدة وهو يريد الرجعة وجهل أن يشهد فهى رجعة، وينبغى للمرأة أن تمنعه الوطء حتى يشهد. وقال ابن أبى ليلى: إذا راجع ولم يشهد صحت الرجعة. وقال الكوفيون والثورى: إن لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة فهى رجعة، وينبغى له أن يشهد. وقال الشافعى: لا تكون رجعة إلا بالكلام أن يقول: قد راجعتها، وهو قول أبى ثور، وقال الشافعى: إن جامعها ينوى الرجعة أو لا ينوى فليس برجعة، ولها عليه مهر المثل، وليس هذا بصواب؛ لأنها فى حكم الزوجات وترثه ويرثها، فكيف يجب مهر فى وطء زوجة؟ ولم يختلفوا فى من باع جاريته بالخيار، ثم وطئها فى أيام الخيار أنه قد ارتجعها بذلك إلى ملكه، واختار نقض البيع، وللمطلقة الرجعية حكم من هذا. قال ابن المنذر: واختلفوا فى مراجعة الحائض، فقال مالك: ومن طلق امرأته وهى حائض أو نفساء أجبر على رجعتها. وقال الكوفيون: ينبغى له أن يراجعها، وهو قول أبى ثور، وقال الشافعى: لا يجبر على رجعتها.(7/503)
قال ابن المنذر: ويشبه أن تكون حجة من أجبره على الرجعة قوله، عليه السلام، لعمر: (مره فليراجعها) ، وأمره فرض. قال المهلب: فى حديث معقل دليل على أنه ليس للمرأة أن تنكح بغير إذن وليها، وأنه إذا عضلها فللسلطان أن يسأله ما الذى حمله على عضلها، ولا يفتأت عليه فيزوجها بغير أمره حتى يعرف معنى فعله، فربما عضلها لأمر إن تم عليه كانت فيه غضاضة عليه فى عرضه، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) ضم معقلاً إلى العقد عليها بعد أن ثبت عضله لها، ولم يعقد لها، عليه السلام، دونه، ففى هذا حجة لما يقوله جمهور العلماء أن الولى من شرط النكاح. وقال أبو عبيد: هذه الآية التى نزلت فى قصة معقل هى الأصل عندنا فى إنكاح الأولياء؛ لأنه لو لم يكن لهم فيه حظ، ما كان لنهيهم عن عضلهن معنى.
7 - بَاب تُحِدُّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا
وَقَالَ الزُّهْرِىُّ: لا أَرَى أَنْ تَقْرَبَ الصَّبِيَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا الطِّيبَ، لأنَّ عَلَيْهَا الْعِدَّةَ. / 9 - فيه: زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِى سَلَمَةَ، أَنَّهَا دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) حِينَ تُوُفِّىَ أَبُوهَا أَبُو سُفْيَانَ، فَدَعَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ بِطِيبٍ فِيهِ صُفْرَةٌ خَلُوقٌ - أَوْ غَيْرُهُ - فَدَهَنَتْ مِنْهُ جَارِيَةً، ثُمَّ مَسَّتْ بِعَارِضَيْهَا، ثُمَّ قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا لِى بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ، غَيْرَ أَنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاثِ لَيَالٍ، إِلا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) . قَالَتْ زَيْنَبُ: فَدَخَلْتُ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ حِينَ تُوُفِّىَ(7/504)
أَخُوهَا، فَدَعَتْ بِطِيبٍ فَمَسَّتْ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَتْ: أَمَا وَاللَّهِ مَا لِى بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ، غَيْرَ أَنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: (لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاثِ لَيَالٍ، إِلا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) . قَالَتْ زَيْنَبُ: وَسَمِعْتُ أُمَّ سَلَمَةَ، تَقُولُ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنَتِى تُوُفِّىَ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا، أَفَتَكْحُلُهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لا) ، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا، كُلَّ ذَلِكَ يَقُولُ: (لا) ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا هِىَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ فِى الْجَاهِلِيَّةِ تَرْمِى بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ؟) . قَالَ حُمَيْدٌ: فَقُلْتُ لِزَيْنَبَ: وَمَا تَرْمِى بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ؟ فَقَالَتْ زَيْنَبُ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا تُوُفِّىَ عَنْهَا زَوْجُهَا، دَخَلَتْ حِفْشًا، وَلَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا، وَلَمْ تَمَسَّ طِيبًا حَتَّى تَمُرَّ بِهَا سَنَةٌ، ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّةٍ حِمَارٍ، أَوْ شَاةٍ، أَوْ طَائِرٍ، فَتَفْتَضُّ بِهِ، فَقَلَّمَا تَفْتَضُّ بِشَىْءٍ إِلا مَاتَ، ثُمَّ تَخْرُجُ، فَتُعْطَى بَعَرَةً، فَتَرْمِى بَهَا، ثُمَّ تُرَاجِعُ بَعْدُ مَا شَاءَتْ مِنْ طِيبٍ أَوْ غَيْرِهِ. وسُئِلَ مَالِكٌ مَا تَفْتَضُّ بِهِ؟ قَالَ: تَمْسَحُ بِهِ جِلْدَهَا. الإحداد ترك المرأة الزينة كلها من اللباس، والطيب، والحلى، والكحل، ما دامت فى عدتها؛ لأن الزينة داعية إلى الأزواج، فنهيت عن ذلك قطعًا للذرائع وحماية لحرمات الله أن تنتهك، يقال: امرأة حاد ومحد. قال ابن المنذر: وحديث أم حبيبة يدل على معان، فمنها: تحريم إحداد المسلمات على غير أزواجهن فوق ثلاث، وإباحة إحدادهن عليهم ثلاثًا، ومنها أن المأمور بالإحداد الزوجة(7/505)
المسلمة دون اليهودية والنصرانية، وإن كانت تحت مسلم؛ لأن قوله: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر) ، دليل على أن الذمية لم تخاطب بذلك. ومنها الدلالة على أن المخاطب بالإحداد من الزوجات من عدتهن الشهور دون الحوامل منهن. وفيه: دليل على أن المطلقة ثلاثًا لا إحداد عليها. قال ابن المنذر: هذا يدل عليه ظاهر الحديث، وقد قاله بعض من لقيته من أهل العلم، فإن يكن فى ذلك إجماع فهو مسلم له، وليس فيه إجماع؛ لأن الحسن البصرى كان لا يرى الإحداد. ومنها: وجوب الإحداد على جميع الزوجات المسلمات، مدخولاً بهن أو غير مدخول بهن؛ لدخولهن فى جملة من خوطب بالإحداد فى عدة الوفاة إذا كانت العدة بالشهور، وتدخل فيما ذكرناه الحرة تحت العبد، والأمة تحت الحر والعبد والمكاتب والمدبر، وأم الولد المزوجة يتوفى عنهن أزواجهن، والمطلقة يطلقها زوجها طلاقًا يملك رجعتها، ثم يتوفى عنها قبل انقضاء عدتها، إذ أحكامها أحكام الأزواج إلى أن توفى عنها. وممن قال أن على الأمة إحداد إذا توفى عنها زوجها، مالك، والثورى، والكوفيون، والشافعى، وأبو ثور، وحكى ذلك عن ربيعة؛ لأنها داخلة فى جملة الأزواج، وفى عموم الأخبار، ولا أحفظ فى ذلك خلافًا إلا ما ذكر عن الحسن. وأجمعوا أن أم الولد لا إحداد عليها إذا توفى سيدها، والحجة فى(7/506)
ذلك أن الأحاديث إنما جاءت فى الأزواج، وأم الولد ليست بزوجة، ذكر هذا كله ابن المنذر. قال المؤلف: واختلف قول مالك فى الكتابية هل يلزمها الإحداد على زوجها المسلم، فروى عنه أشهب أنه لا إحداد عليها، وهو قول ابن نافع، والكوفيين، وقد تقدم أن هذا القول يدل عليه الحديث. قال الكوفيون: وكيف يكون عليها الإحداد مع ما فيها من الشرك، وما تترك من فرائض الله أعظم من ذلك. وروى أيضًا عن مالك أنه قال: عليها الإحداد، وهو قول الليث، والشافعى، وأبى ثور، وحجة هذا القول أن الإحداد من حق الزوج، وهو يحفظ النسب كالعدة، قالوا: وتدخل الكافرة فى ذلك المعنى، كما دخل الكافر فى أنه لا يجوز أن يُستام على سومه، وإنما فى الحديث: (لا يسم على سوم أخيه) ، كما يقال: هذا طريق المسلمين، وقد يسلكه غيره، قالوا: وإن كان الخطاب يتوجه إلى المؤمنات، فإن الذمية خلت فى ذلك لحق الزوجية؛ لأنها فى النفقة والسكنى والعدة كالمسلمة، فكذلك تكون فى الإحداد. واختلفوا فى الزوجة الصغيرة يتوفى عنها زوجها، فقالت طائفة: عليها من ذلك ما على البالغ منهن، هذا قول مالك، والشافعى، وأحمد بن حنبل، وأبى عبيد، وأبى ثور.(7/507)
وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا إحداد عليها؛ لقوله عليه السلام: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث) ، فعلم أن ذلك لا يلزم إلا المكلفين البالغين. واحتج أبو عبيد للقول الأول، فقال: لما كان نكاحها غير محرم على كل ناكح كنكاح الكبيرة، وجب أن تكون فى الإحداد كذلك، وكان يقول: إنما ذلك على من يتولاها من الأبوين وغيرهما. قال المؤلف: ولما أجمعوا أن على الصغيرة عدة الوفاة، فكذلك الإحداد. واختلفوا فى المطلقة ثلاثًا، فقالت طائفة: عليها الإحداد كالمتوفى عنها زوجها سواء، روى ذلك عن سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وابن سيرين، والحكم، وهو قول الكوفيين، وأبى ثور، وأبى عبيد. وقال الشافعى وأحمد وإسحاق: الاحتياط أن تتقى المطلقة الزينة. قال الشافعى: ولا يتبين لى أن أوجبه. واحتج من أوجبه عليها؛ لأنها فى عدة يحفظ بها النسب، كالمتوفى عنها زوجها. وقالت طائفة: لا إحداد على مطلقة، ورخصوا لها فى الزينة، روى ذلك عن عطاء، وربيعة، وهو قول مالك والليث. وقال ابن المنذر: قول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث) ، دليل على أن المطلقة ثلاثًا والمطلق حى لا إحداد عليها؛ لأنه عليه السلام أخبر أن الإحداد إنما هو(7/508)
على نساء الموتى، مع أن الأشياء على الإباحة حتى يدل كتاب أو سنة أو إجماع على حظر شىء فيمتنع منه. وفسر مالك الحفش أنه البيت الردىء، وروى ابن وهب عنه أنه البيت الصغير، وهو قول الخليل. وقال أبو عبيد: الحفش الدرج، وجمعه أحفاش، يشبه البيت الصغير. وقال الخطابى: سمى حفشًا؛ لضيقه وانضمامه، والتحفش الانضمام والاجتماع. وقال مالك: تفتض به، تمسح جلدها كالنشرة. قال صاحب العين: الفضض ماء عذب تصيبه ساعتئذ، وتقول: افتضضته. وقال غيره: كانت المرأة فى الجاهلية تفتض بالدابة، ثم تغتسل وتتنظف، ثم ترمى ببعرة من بعر الغنم، فترمى بها وراء ظهرها، ويكون ذلك إحلالاً لها، ومعنى رميها بالبعرة إعلام لها أن صبرها عامًا أهون عليها من رميها بالبعرة.
8 - بَاب الْكُحْلِ لِلْحَادَّةِ
/ 10 - فيه: زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّهَا، أَنَّ امْرَأَةً تُوُفِّىَ زَوْجُهَا فَخَشُوا عَلَى عَيْنَيْهَا، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَاسْتَأْذَنُوهُ فِى الْكُحْلِ، فَقَالَ: (لا تَكْتَّحِلْ، قَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ تَمْكُثُ فِى شَرِّ أَحْلاسِهَا - أَوْ شَرِّ بَيْتِهَا - فَإِذَا كَانَ حَوْلٌ، فَمَرَّ كَلْبٌ. . . .) الحديث.(7/509)
/ 11 - وفيه: أُمُّ عَطِيَّةَ: نُهِينَا أَنْ نُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاثٍ إِلا عَلَى زَوْجٍ. قال المؤلف: روى مالك أنه بلغه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) دخل على أم سلمة وهى حادة على أبى سلمة، وقد جعلت على عينها صبرًا، فقال: (ما هذا يا أم سلمة؟) ، قالت: إنما هو صبر يا رسول الله، قال: (فاجعليه بالليل وامسحيه بالنهار) ، وهذا مخالف لحديث هذا الباب؛ لأن النبى، عليه السلام، لم يرخص لبنت أم سلمة حين توفى عنها زوجها فى الكحل ليلاً ولا نهارًا. قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: والجمع بين الحديثين أن النبى (صلى الله عليه وسلم) إنما نهى عن الطيب والزينة فى العدة قطعًا للذرائع؛ لأن ذلك من دواعى التزويج التى منعت منه حتى تخرج من العدة احتياطًا للميت، إذ قد زالت مراعاته لها، لكن إذا دخلت على الناس المشقة من قطعها رفعت عنهم، ودلت إباحته، عليه السلام، للكحل بالليل، أن نهيه عنه فى الحديث الآخر ليس على وجه التحريم، وإنما هو على الكراهية، فمن شاء أخذ بالشدة على نفسه كما فعلت صفية بنت أبى عبيد فى ترك الكحل حتى كادت عيناها ترمضان، ومن شاء أخذ بالرخصة فى ذلك. فقد أجاز ذلك جماعة من السلف، ذكر مالك فى الموطأ أنه بلغه عن سالم بن عبد الله، وسليمان بن يسار، أنهما أجازا للمتوفى عنها زوجها إذا خشيت على بصرها من شكوى بها أن تكتحل وتتداوى بما فيه طيب. قال مالك: فإذا كانت الضرورة، فإن دين الله يسر. وقد قال فى المختصر الصغير: لا تكتحل إلا أن تضطر إليه من غير طيب يكون فيه.(7/510)
وقال الشافعى: كل كحل فيه زينة للعين مثل الإثمد وشبهه، فلا خير فيه، وأما الفارسى وشبهه عند الضرورة، فلا بأس به؛ لأنه ليس بزينة بل يزيد العين قبحًا، وما اضطر إليه مما فيه زينة اكتحلت به ليلاً ومسحته نهارًا، واحتج ببلاغ مالك، عن أم سلمة. قال الشافعى: فالصبر يصفر العين، فيكون زينة وليس بطيب، فأذن لها النبى (صلى الله عليه وسلم) فيه بالليل حتى لا ترى، فكذلك ما أشبهه. وذكر ابن المنذر، قال: رخص فى الكحل عند الضرورة، عطاء، والنخعى، وهو قول مالك، والكوفيين، قالوا: لا بأس بالكحل الأسود وغيره إذا اشتكت عينها.
9 - بَاب الْقُسْطِ لِلْحَادَّةِ عِنْدَ الطُّهْرِ
/ 12 - فيه: أُمِّ عَطِيَّةَ، كُنَّا نُنْهَى أَنْ نُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاثٍ إِلا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلا نَكْتَحِلَ، وَلا نَطَّيَّبَ، وَلا نَلْبَسَ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلا ثَوْبَ عَصْبٍ، وَقَدْ رُخِّصَ لَنَا عِنْدَ الطُّهْرِ، إِذَا اغْتَسَلَتْ إِحْدَانَا مِنْ مَحِيضِهَا فِى نُبْذَةٍ مِنْ كُسْتِ أَظْفَارٍ، وَكُنَّا نُنْهَى عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ. وترجم لحديث أم عطية: (باب الحاد تلبس ثياب العصب) . قال ابن المنذر: أجمع العلماء غير الحسن على منع الطيب والزينة للحادة إلا ما ذكر فى حديث أم عطية مما رخص لها عند الطهر من المحيض فى النبذة من القسط؛ لأن القسط ليس من الطيب الذى منعت منه، وإنما تستعمل القسط على سبيل المنفعة ودفع الروائح الزفرة والنظافة، وقد رخص لها فى الدهن بما ليس بطيب، هذا قول عطاء، والزهرى، ومالك، والشافعى، وأبى ثور.(7/511)
قال مالك: تدهن المتوفى عنها زوجها بالزيت والشبرق وما أشبه ذلك إذا لم يكن فيه طيب. قال مالك: وبلغنى أن أم سلمة زوج النبى (صلى الله عليه وسلم) كانت تقول: تجمع المرأة الحاد رأسها بالشبرق والزيت، وذلك ليس بطيب. وقال عطاء: تمتشط بالحناء والكتم. وقال مالك: لا تمتشط بالحناء والكتم ولا بشىء مما يحتمر، وإنما تمتشط بالسدر ونحوه مما لا يحتمر فى رأسها، ونهى عن الامتشاط، وكره الخضاب ابن عمر، وأم سلمة، وعروة، وسعيد بن المسيب. وقال ابن المنذر: ولا نحفظ عن سائر أهل العلم فى ذلك خلافًا، والخضاب داخل فى جملة الزينة المنهى عنها. قال ابن المنذر: وأجمعوا على أنه لا يجوز لها اللباس المصبغة والمعصفرة إلا ما صبغ بالسواد، ورخص فى السواد عروة بن الزبير، ومالك، والشافعى، وكره الزهرى لبس السواد، وكان عروة يقول: لا تلبس من الحمرة إلا العصب. وقال الثورى: تتقى المصبوغ إلا ثوب عصب. وقال الزهرى: لا تلبس العصب، وهو خلاف للحديث. وكان الشافعى يقول: كل صبغ يكون زينة ووشى فى الثوب كان زينة أو تلميع مثل العصب والحبرة والوشى وغيره، فلا تلبسه الحاد، غليظًا كان أو رقيقًا، وذكر ابن المنذر عن مالك، قال: تجتنب(7/512)
الحناء والصباغ إلا السواد، فلها لبسه، وإن كان حريرًا، ولا تلبس الملون من الصوف وغيره، ولا أدكن ولا أخضر. وقال فى المدونة: إلا أن تجد غيره، فيجوز لها لبسه. قال فى المدونة: ولا تلبس رقيق ولا عصب اليمن، ووسع فى غليظه، وتلبس رقيق البياض وغليظه من الحرير والكتان والقطن. وقال ابن المنذر: رخص كل من أحفظ عنه فى لباس البياض. قال الأبهرى: وهذه الثياب التى أبيحت لها لا زينة فيها، وإنما هى ممنوعة من الزينة والطيب دون غيرهما من اللباس. قال ابن المنذر: وكان الحسن البصرى من بين سائر أهل العلم لا يرى الإحداد، وقال: المطلقة ثلاثًا والمتوفى عنها زوجها تكتحلان وتمتشطان وتنتعلان وتختضبان وتتطيبان وتصنعان ما شاءا. قال ابن المنذر: وقد ثبتت الأخبار عن النبى (صلى الله عليه وسلم) بالإحداد، وليس لأحد بلغته إلا التسليم بها، ولعل الحسن لم تبلغه أو بلغته، فتأول حديث أسماء بنت عميس، روى حماد بن سلمة، عن الحجاج، عن الحسن بن سعد، عن عبد الله بن شداد، أن أسماء بنت عميس استأذنت النبى، عليه السلام، أن تبكى على جعفر وهى امرأته، فأذن لها ثلاثة أيام، ثم بعث إليها بعد ثلاثة أيام أن تطهرى واكتحلى. قال ابن المنذر: وقد دفع أهل العلم هذا الحديث بوجوه، وكان أحمد بن حنبل يقول: هذا الشاذ من الحديث لا يؤخذ به، وقاله إسحاق. وقال أبو عبيد: إن أمهات المؤمنين اللواتى روى عنهن خلافه أعلم بالنبى (صلى الله عليه وسلم) ، ثم كانت أم عطية تحدث به مفسرًا فيما تجتنبه الحاد فى عدتها، ثم مضى عليه السلف، وكان شعبة يحدث به عن الحكم ولا يشذه.(7/513)
والنبذة ما نبذته وطرحته من الكست فى النار قدر ما يتبخر به.
- بَاب قوله تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا (إِلَى قَوْلِهِ: (خَبِيرٌ) [البقرة: 234]
/ 13 - فيه: مُجَاهِدٍ: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا (قَالَ: كَانَتْ هَذِهِ الْعِدَّةُ، تَعْتَدُّ عِنْدَ أَهْلِ زَوْجِهَا وَاجِبًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِمْ (إلى) مَعْرُوفٍ (، قَالَ: جَعَلَ اللَّهُ لَهَا تَمَامَ السَّنَةِ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، وَصِيَّةً إِنْ شَاءَتْ سَكَنَتْ فِى وَصِيَّتِهَا، وَإِنْ شَاءَتْ خَرَجَتْ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ: (غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ) [البقرة: 240] ، فَالْعِدَّةُ كَمَا هِىَ وَاجِبةٌ عَلَيْهَا زَعَمَ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَسَخَتْ هَذِهِ الآيَةُ عِدَّتَهَا عِنْدَ أَهْلِهَا، فَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ، وَقَوْلُه: (غَيْرَ إِخْرَاجٍ (قَالَ عَطَاءٌ: إِنْ شَاءَتِ اعْتَدَّتْ عِنْدَ أَهْلِهَا وَسَكَنَتْ فِى وَصِيَّتِهَا، وَإِنْ شَاءَتْ خَرَجَتْ لِقَوْلِ اللَّهِ: (فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنْفُسِهِنَّ (، قَالَ عَطَاءٌ: ثُمَّ جَاءَ الْمِيرَاثُ فَنَسَخَ السُّكْنَى فَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ، وَلا سُكْنَى لَهَا. / 14 - فيه: أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِى سُفْيَانَ، لَمَّا جَاءَهَا نَعِىُّ أَبِيهَا، دَعَتْ بِطِيبٍ، فَمَسَحَتْ ذِرَاعَيْهَا، وَقَالَتْ: مَا لِى بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ، لَوْلا أَنِّى سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ تُحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاثٍ، إِلا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) .(7/514)
قال المؤلف: ذهب مجاهد إلى أن الآية التى فيها: (يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا) [البقرة: 234] ، إنما نزلت قبل الآية التى فيها: (وصية لأزواجهم متاعًا إلى الحول غير إخراج) [البقرة: 240] ، كما هى قبلها فى التلاوة، ولم يجعل آية الحول منسوخة بالأربعة أشهر وعشرًا، وأشكل عليه المعنى؛ لأن المنسوخ لا يمكن استعماله مع الناسخ، ورأى أن استعمال هاتين الآيتين ممكن، إذ حكمهما غير مدافع، ويجوز أن يوجب الله على المعتدة التربص أربعة أشهر وعشر ألا تخرج فيها من بيتها فرضًا عليها، ثم يأمر أهله أن تبقى سبعة أشهر وعشرين ليلة، تمام الحول، إن شاءت، أو تخرج إن شاءت وصية لها؛ لقوله تعالى: (وصية لأزواجهم متاعًا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن) [البقرة: 240] . فحصل له فائدتان فى استعمال الآيتين، ورأى ألا يسقط حكمًا فى كتاب الله يمكنه استعماله، ولا يتبين له نسخه، وهذا قول لم يقله أحد من المفسرين للقرآن غيره، ولا تابعه عليه أحد من فقهاء الأمة، بل اتفق جماعة المفسرين وكافة الفقهاء أن قوله: (متاعًا إلى الحول) [البقرة: 240] ، منسوخ بقوله: (يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا) [البقرة: 234] ، ويشهد لذلك قوله، عليه السلام، فى حديث زينب بنت أبى سلمة: (وقد كانت إحداكن ترمى بالبعرة على رأس الحول) . ومما يدل على خطأ مجاهد أن الله إنما أوجب السكنى للمتوفى عنهن أزواجهن عند من رأى إيجابه فى العدة خاصة، وهى الأربعة أشهر وعشر، وما زاد عليها فالأمة متفقة أن المرأة فيها أجنبية من زوجها لا سكنى لها ولا غيره، شاءت أو لم تشأ، وكيف يجوز أن تبقى فى بيت زوجها بعد العدة إن شاءت وهى غير زوجة منه، ولا فى بطنها حمل يوجب حبسها به، ومنعها من الأزواج حتى تضعه.(7/515)
وأيضًا فإن التسكين إنما كان فى الحول حين كانت العدة حولاً والسكنى مرتبطة بها، فلما نسخ الله الحول بالأربعة أشهر وعشر، استحال أن يكون سكنى فى غير عدة، والله الموفق. وأما ابن عباس، فإنه دفع السكنى للمتوفى عنها زوجها، وقال: قوله عز وجل: (يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا) [البقرة: 234] ، ولم يقل: يعتددن فى بيوتهن، ولتعتد حيث شاءت، وذهب إلى قول ابن عباس: أن المتوفى عنها زوجها تعتد حيث شاءت، على بن أبى طالب، وعائشة، وجابر، ومن حجتهم أن السكنى إنما وردت فى المطلقة، وبذلك نطق القرآن وإيجاب السكنى إيجاب حكم، والأحكام لا تجب إلا بنص كتاب أو سنة أو إجماع، وقد ذكرت اختلاف أهل العلم فى ذلك فى باب قصة فاطمة بنت قيس، فأغنى عن إعادته. وقال إسماعيل بن إسحاق: أما قول ابن عباس فى قوله تعالى: (يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا) [البقرة: 234] ، ولم يقل: فى بيتها، فمثل هذا يجوز أن لا يبين فى ذلك الموضع، ويبين فى غيره، وقد قال الله تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) [البقرة: 228] ، ولم يقل فى هذا الموضع أنها تتربص فى بيتها، ثم قال فى أمر المطلقة فى الموضع الآخر: (لا تخرجوهن من بيوتهن) [الطلاق: 1] ، وقال: (أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم) [الطلاق: 6] ، فبين فى هذا الموضع ما لم يذكر فى ذلك الموضع، وقد بين أمر المتوفى بما جاء فى حديث الفريعة، وعمل به جملة أهل العلم، ورأينا المتوفى عنها احتيط فى أمرها فى(7/516)
العدة بأكثر ما احتيط فى المطلقة؛ لأن المطلقة إن لم يدخل بها فلا عدة عليها، وعلى المتوفى عنها العدة دخل بها أم لا، ويمكن ذلك، والله أعلم؛ لأن الدخول قد يكون ولا يعلم به الناس، فإذا كان الزوج حيًا ذكر ذلك وطالب به، وأمكن أن يبين حجته فيه، والميت قد انقطع عن ذلك، وليس ينبغى فيه النظر إذا كانت المتوفى عنها قد جعلت عليها العدة فى الموضع الذى لم يجعل على المطلقة، أو يكون السكنى على المطلقة، ولا تكون على المتوفى عنها لما فى التسكين من الاحتياط فى أمر المرأة وما يلحق من النسب. وروى وكيع، عن أبى جعفر الرازى، عن الربيع بن أنس، عن أبى العالية، أنه سُئل: لم ضمت العشر إلى الأربعة أشهر؟ قال: لأن الروح تنفخ فيها فى العاشر. فأما إن كان المسكن بكرى قدمه الميت، فلها أن تسكن فى عدتها، وإن كان لم يقدم الكرى وأخرجها رب الدار لم تكن لها سكنى فى مال الزوج، هذا قول مالك، وعلى قول الكوفيين والشافعى أنه لا سكنى للمتوفى عنها فى مال زوجها إن لم يخلف مسكنًا؛ لأن المال صار للورثة، حاملاً كانت أم غير حامل، ولا نفقة لها، وأوجب مالك لها السكنى إن كانت حاملاً من مال الميت ونفقتها من مالها؛ لقوله: (يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا) [البقرة: 234] ، فكان الواجب على ظاهر الآية أن تتربص المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرًا تفعل فيها ما كانت تفعل قبل وفاته، فلما ثبت عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحد على ميت فوق(7/517)
ثلاث إلا على زوج) ، وجب اتباعه لتفسيره لما أجمل فى الآية. وقال الخطابى: قوله: (يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا) [البقرة: 234] ، يريد والله أعلم الأيام بلياليها. وقال المبرد: إنما أتت العشر؛ لأن المراد به المدة، وذهب مالك، والكوفيون، والشافعى، أن المراد الأيام والليالى. قال ابن المنذر: فلو عقد عاقد عليها النكاح على هذا القول وقد مضت أربعة أشهر وعشر ليال كان باطلاً حتى يمضى اليوم العاشر، وذهب بعض الفقهاء إلى أنه إن انقضى لها أربعة أشهر وعشر ليال حلت للأزواج، وذلك لأنه رأى العدة مبهمة، فغلب التأنيث وتأولها على الليالى، وإليه ذهب الأوزاعى من الفقهاء، وأبو بكر الأصم من المتكلمين، ويقال: إنهما اعتبرا أن إنشاء التاريخ من الليالى؛ لأن الأهلة تستهل فيها.
- بَاب مَهْرِ الْبَغِىِّ وَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ
وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا تَزَوَّجَ مُحَرَّمَةً، وَهُوَ لا يَشْعُرُ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَلَهَا مَا أَخَذَتْ، وَلَيْسَ لَهَا غَيْرُهُ، ثُمَّ قَالَ بَعْدُ: لَهَا صَدَاقُهَا. / 15 - فيه: أَبُو مَسْعُود، قَالَ: نَهَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ، وَمَهْرِ الْبَغِىِّ. . . . الحديث. وقَالَ أَبُو جُحَيْفَةَ، نَهَى النَّبِىّ عَنْ مَهْرِ البْغِىِّ. وقال أَبُو هُرَيْرَةَ: نَهَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ كَسْبِ الإمَاءِ. مهر البغى حرام بإجماع الأمة، ولا يلحق فيه نسب، وأما النكاح الفاسد ينقسم قسمين: يكون فساده فى العقد، أو فى(7/518)
الصداق، فما فسد فى العقد لا ينعقد عند أكثر الأمة، ومنه ما ينعقد عند بعضهم، فما فسخ قبل البناء مما فسد لعقد فلا صداق فيه، ويرد ما أخذت، وما فسخ بعد البناء ففيه المسمى، وما فسد لصداقه كالبيع فى فساد ثمنه، أنه يفسخ قبل الدخول، ويمضى إذا فات بالدخول ويرد إلى قيمته. وآخر قول ابن القاسم: أن كل ما نص الله ورسوله على تحريمه ولا يختلف فيه، فإنه يفسخ بغير طلاق، وإن طلق فيه لا يلزم ولا يتوارثان كمتزوج الخامسة، وأختًا من الرضاعة، والمرأة على عمتها وخالتها، أو من تزوج امرأة فلم يبن بها حتى تزوج ابنتها، أو نكح فى العدة. قال: فكل ما اختلف الناس فى إجازته أو فسخه، فالفسخ فيه بطلاق، وتقع فيه الموارثة والطلاق والخلع بما أخذ، ما لم يفسخ، كالمرأة تزوج نفسها أو تنكح بغير ولى أو أمة بغير إذن السيد أو بغرر فى صداق، إذ لو قضى به قاض لم أنقضه، وكذلك نكاح المحرم والشغار للاختلاف فيهما. وأما من تزوج محرمة وهما لا يعلمان التحريم، ففرق بينهما، فلا حد عليهما، واختلف العلماء فى صداقها على قولين بحسب اختلاف قول الحسن البصرى، فقوله: لها ما أخذت، يعنى صداقها المسمى، وقوله بعد ذلك: لها صداقها، يريد صداق مثلها، وسائر الفقهاء على هذين القولين؛ طائفة تقول بصداق المثل، وطائفة تقول المسمى، وأما من تزوج محرمة وهو عالم بالتحريم، فقال مال، وأبو يوسف، ومحمد، والشافعى: عليه الحد، ولا صداق فى ذلك. وقال الثورى، وأبو حنيفة: لا حد عليه، وإن علم عزر. قال أبو حنيفة: ولا يبلغ به أربعين.(7/519)
وفرق ابن القاسم بين الشراء والنكاح، فأوجب فى نكاح المحرمة إذا علم تحريمها الحد، ولا حد عليه إذا اشتراها ووطئها وهو عالم بتحريمها، وسائر الفقهاء غير الكوفيين لا يفرقون بين النكاح والملك فى ذلك، ويوجبون الحد فى كلا الوجهين. وحجة أبى حنيفة، قال: العقد شبهة، وإن كان فاسدًا كما لو وطئ جارية بينه وبين شريكه، فالوطء محرم باتفاق، ولا حد عليه للشبهة، وكذلك الأنكحة الفاسدة كنكاح المتعة، والنكاح بلا ولى ولا شهود، ووطء الحائض، والمعتكفة، والمحرمة، وهذا كله وطء محرم لا حد فيه، وحجة مالك قوله تعالى: (واللاتى يأتين الفاحشة من نسائكم) [النساء: 15] الآية، وهذه فاحشة، وقد بين النبى (صلى الله عليه وسلم) السبيل ما هى بالرجم، وأجمع العلماء أن العقد على أمه وأخته لا يجوز بإجماع ولا شبهة فيه، وإنما هو قاصد إلى الزنا وإسقاط الحد عن نفسه بالنكاح.
- بَاب إرخاء الستور والْمَهْرِ لِلْمَدْخُولِ عَلَيْهَا وَكَيْفَ الدُّخُولُ أَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَالْمَسِيسِ؟
/ 16 - فيه: ابْن عُمَرَ، فَرَّقَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) بَيْنَ أَخَوَىْ بَنِى الْعَجْلانِ، وَقَالَ: (اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ. . . .) ؟ الحديث فَقَالَ الرَّجُلُ: مَالِى؟ قَالَ: (لا مَالَ لَكَ، إِنْ كُنْتَ صَادِقًا، فَقَدْ دَخَلْتَ بِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا، فَهُوَ أَبْعَدُ مِنْكَ) .(7/520)
اختلف العلماء فى الدخول وبما يثبت؟ فقالت طائفة: إذا أغلق بابًا، أو أرخى سترًا على المرأة، فقد وجب الصداق والعدة، روى ذلك عن عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وابن عمر، وهو قول الكوفيين، والثورى، والليث، والأوزاعى، وأحمد، واحتجوا بقوله عليه السلام: (إن كنت صادقًا فقد دخلت بها) ، قالوا: فجعل النبى (صلى الله عليه وسلم) الدخول بالمرأة دليلاً على الجماع، وإن كان قد لا يقع الجماع مع الدخول، لكن حمله على ما يقع فى الأكثر، وهو الجماع لما ركب الله فى نفوس عباده من شهوة النساء. قال الكوفيون: فالخلوة الصحيحة يجب معها المهر كله بعد الطلاق، وطئ أو لم يطأ، إن ادعته أو لم تدعه، إلا أن يكون أحدهما محرمًا، أو مريضًا، أو صائمًا، أو كانت المرأة حائضًا، فإن كانت الخلوة فى مثل هذه الحال، ثم طلق لم يجب إلا نصف المهر، وعليها العدة عندهم فى جميع هذه الوجوه. وقالت طائفة: لا يجب المهر إلا بالمسيس، روى ذلك عن ابن مسعود، وابن عباس، وبه قال شريح، والشعبى، وابن سيرين، وإليه ذهب الشافعى، وأبو ثور، واحتجوا بقوله تعالى: (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن) [البقرة: 237] ، وقال: (فما لكم عليهن من عدة تعتدونها) [الأحزاب: 49] ، فأخبر تعالى أنها تستحق بالطلاق قبل المسيس نصف ما فرض لها، وأوجب العدة بالمسيس، ولا تعرف الخلوة دون وطء مسيسًا، ومن حجة هذا القول رواية من روى فى هذا الحديث: (إن كنت صدقت عليها فبما استحللت من فرجها) ، ذكره فى باب قول الإمام للمتلاعنين: إن أحدكما كاذب.(7/521)
وفيها قول ثالث: قال سعيد بن المسيب: إذا دخل بالمرأة فى بيتها صدق عليها، وإذا دخلت عليه فى بيته صدقت عليه، وهو قول مالك، واحتج أصحابه، فقالوا: تفسير قول سعيد بن المسيب أنها تصدق عليه فى بيته؛ لأن البيت فى البناء بيت الرجل وعليه الإسكان، فدخلوها فى بيته هو دخول بناء، ومعنى قوله: (فى بيتها) ، يريد إذا زارها فى بيتها عند أهلها أو وجدها ولم يدخل عليها دخول بناء، فادعت أنه مسها وأنكر فالقول قوله؛ لأنه مدعى عليه، وهذا أصله فى المتداعين أن القول قول من شبهته قوية كاليد وشبهها. قال مالك: فإذا دخل بها فقبلها أو كشفها واتفقا أنه لم يمسها، فلها نصف الصداق إن كان ذلك قريبًا، وإن تطاول مكثه معها ثم طلقها، فلها المهر كاملاً، وعليها العدة أبدًا. وروى ابن وهب، عن مالك أنه رجع عن قوله فى الموطأ، فقال: إذا خلا بها حيث كان فالقول قول المرأة. وذكر ابن القصار عن الشافعى أنه إذا دخل بها، فقال: لم أطأ، وقالت: وطئنى، فالقول قول الزوج؛ لأن الخلوة غير المسيس الذى يوجب المهر. وروى ابن علية، عن عوف، عن زرارة بن أوفى، قال: مضى الخلفاء الراشدون المهديون أنه من أغلق بابًا أو أرخى سترًا فقد وجب المهر والعدة، بهذا احتج الكوفيون بأنه معلوم أنه لا يرخى الستر فى الغالب إلا للوطء، فهى دلالة عليه. وقوله فى الترجمة: وكيف الدخول أو طلقها قبل الدخول، تقديره: أو كيف طلاقها؟ فاكتفى بذكر الفعل عن ذكر المصدر لدلالته عليه، كقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة(7/522)
تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون) [الصف: 10] ، فأقام) تؤمنون (، وهو فعل مقام الإيمان وهو مصدر.
- بَاب الْمُتْعَةِ لِلَّتِى لَمْ يُفْرَضْ لَهَا
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ) [البقرة: 236] الآية، وَقَوْلِهِ: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة: 241] وَلَمْ يَذْكُرِ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فِى الْمُلاعَنَةِ مُتْعَةً حِينَ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا / 17 - فيه: ابْن عُمَر: أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ لِلْمُتَلاعِنَيْنِ: (حِسَابُكُمَا عَلَى اللَّهِ، أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ، لا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا) . قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَالِى؟ قَالَ: (لا مَالَ لَكَ، إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا، فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا، فَذَاكَ أَبْعَدُ وَأَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا) . اختلف العلماء فى المتعة، فقالت طائفة: المتعة واجبة للمطلقة التى لم يدخل بها ولم يسم لها صداقًا، روى ذلك عن ابن عباس، وابن عمر، وهو قول عطاء، والشعبى، والنخعى، والزهرى، وبه قال الكوفيون، ولا يجمع مهر مع المتعة. وقالت طائفة: لكل مطلقة متعة مدخولاً بها كانت أو غير مدخول بها، إذا وقع الفراق من قبله ولم يتم إلا به إلا للتى سمى لها وطلقها قبل الدخول، هذا قول الشافعى، وأبى ثور، وروى عن على بن أبى طالب: لكل مطلقة متعة، وروى مثله عن الحسن، وأبى قلابة، وطائفة، وحجتهم عموم قوله: (وللمطلقات متاع بالمعروف) [البقرة: 241] ، ولم يخص.(7/523)
وقالت طائفة: المتعة ليست بواجبة فى موضع من المواضع، هذا قول ابن أبى ليلى، وأبى الزناد، وربيعة، وهو قول مالك، والليث، وابن أبى سلمة. واحتج الشافعى بما روى مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أنه قال: لكل مطلقة متعة، إلا التى فرض لها مهر، وقد طلقت ولم يدخل بها فحسبها نصف المهر، وقال الشافعى: وأحسب ابن عمر استدل بقوله تعالى: (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم) [البقرة: 237] ، فاستدل بالقرآن على أنها مخرجة من جميع المطلقات. ولعله رأى أنه إنما أريد أن تكون المطلقة تأخذ بما استمتع به زوجها منها عند طلاقها شيئًا، فلما كانت المدخول بها تأخذ شيئًا، وغير المدخول بها تأخذ أيضًا إذا لم يفرض لها، وكانت التى لم يدخل بها، وقد فرض لها تأخذ بحكم الله نصف المهر، وهو أكثر من المتعة، ولم يستمتع منها بشىء، فلم تجب لها متعة. وقال أبو عبيد: حجة الكوفيين: وجدنا النساء فى المتعة على ثلاثة ضروب، فكانت الآية التى فيها ذكر المعين لصنفين منهن من المطلقات بعد الدخول إن كان فرض لها صداق أو لم يفرض، والمطلقات قبل الدخول مع تسمية صدقاتهن، فلأولئك المهور كوامل بالمسيس، ولهؤلاء الشطر منها بالتسمية، فلما صار هذان الحقان واجبين، كانت المتعة حينئذ تقوى من الله غير واجبة، ووجدنا الآية التى فيها ذكر الموسر والمقتر هى للنصف الثالث، وهى للمطلقات من غير دخول بهن ولا فرض لهن، وذلك قوله تعالى: (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء) [البقرة: 236] الآية، فصارت المتعة لهن حتمًا(7/524)
واجبًا، ولولا هذه المتعة لصار عقد النكاح إذًا يذهب باطلاً من أجل أنهن لم يمسسن، فيستحققن الصدقات ولم يفرض لهن، فيستحققن أيضًا فيها، فلابد من المتعة على كل حال. واحتج من لم يوجب المتعة أصلاً، فقال: قوله تعالى: (ومتعوهن) [البقرة: 236] ، وإن كان ظاهره الوجوب، فقد قرن به ما يدل على الاستحباب، وذلك أنه تعالى قرن بين المعسر والموسر، والواجبات فى النكاح على ضربين، إما أن يكون على حسل حال المنكوحات كالصداق الذى يرجع فيه إلى صداق مثلها، أو يكون على حسب حالهما جميعًا كالنفقات، والمتعة خارجة من هذين المعنيين؛ لأنه اعتبر فيها حال الرجل وحده بأن يكون على الموسر أكثر مما على المعسر، وأيضًا فإن المتعة لو كانت فرضًا كانت مقدرة معلومة كسائر الفرائض فى الأموال، ولم نر فرضًا واجبًا فى المال غير معلوم، فلما لم تكن كذلك خرجت من حد الفرائض إلى حد الندب، وصارت كالصلة والهدية، وأيضًا فإن الله تعالى لما علقها بقوم دل على أنها غير واجبة؛ لأن الواجبات ما لزمت الناس عمومًا كالصلاة والصيام والحج والزكاة، فلما قال: (حقًا على المحسنين) [البقرة: 236] ، و) حقًا على المتقين) [البقرة: 180] ، سقط وجوبها عن غيرهم. وكذلك تأوله شريح، فقال لرجل: متع إن كنت محسنًا، متع إن كنت متقيًا. وقول البخارى: ولم يذكر النبى (صلى الله عليه وسلم) فى الملاعنة متعة حين طلقها زوجها، حجة لمن قال: لكل مطلقة متعة، والملاعنة غير داخلة فى جملة المطلقات، فلا متعة لها عند مالك والشافعى. قال ابن القاسم:(7/525)
لا متعة فى كل نكاح مفسوخ، والتلاعن عندهم كالفسخ؛ لأنهما لا يقران على النكاح، فأشبه الردة، قال: وكل فرقة كانت من قبل المرأة قبل البناء وبعده فلا متعة فيها. وأوجب الشافعى للمختلعة والبارية متعة. وقال أصحاب مالك: كيف يكون للمفتدية متعة وهى تعطى، فكيف تأخذ متاعًا؟ وقال ابن المنذر: قوله تعالى: (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن) [البقرة: 236] ، دليل على إباحة نكاح المرأة ولا يفرض لها صداقًا، ثم يفرض لها إن مات أو دخل عليها مهر مثلها. واختلفوا إن مات ولم يفرض لها، فقالت طائفة: لها مهر مثلها ولها الميراث وعليها العدة، روى هذا عن ابن مسعود، وبه قال ابن أبى ليلى، والثورى، والكوفيون، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وقالت طائفة: لها الميراث وعليها العدة ولا مهر لها، روى هذا عن على بن أبى طالب، وزيد بن ثابت، وابن عباس، وابن عمر، وبه قال مالك، والأوزاعى، والشافعى، واستحب مالك ألا يدخل عليها حتى يقدم لها شيئًا أقله ربع دينار. والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.(7/526)
بسم الله الرحمن الرحيم
51 - كِتَاب النَّفَقَاتِ
- بَاب فَضْلِ النَّفَقَةِ عَلَى الأهْلِ وَقَوْلهُ تَعَالَى: (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) [البقرة: 219]
، وَقَالَ الْحَسَنُ: الْعَفْوُ الْفَضْلُ. / 1 - فيه: أَبُو مَسْعُود الأنْصَارِىِّ، قَالَ النَّبِىّ عَلَيْهِ السَّلام: (إِذَا أَنْفَقَ الْمُسْلِمُ نَفَقَةً عَلَى أَهْلِهِ، وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا، كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً) . / 2 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (قال اللَّهُ: أَنْفِقْ يَا ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْكَ) . / 3 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (السَّاعِى عَلَى الأرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، أَوِ كالْقَائِمِ اللَّيْلَ، الصَّائِمِ النَّهَارَ) . / 4 - وفيه: سَعْد، كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَعُودُنِى، وَأَنَا مَرِيضٌ بِمَكَّةَ، فَقُلْتُ: لِى مَالٌ، أُوصِى بِمَالِى كُلِّهِ؟ قَالَ: (لا) ، قُلْتُ: فَالشَّطْرِ، قَالَ: (لا) ، قُلْتُ: فَالثُّلُث، قَالَ: (الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ فِى أَيْدِيهِمْ، وَمَهْمَا أَنْفَقْتَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ، حَتَّى اللُّقْمَةَ تَرْفَعُهَا إلى فِى امْرَأَتِكَ، وَلَعَلَّ اللَّهَ يَرْفَعُكَ حَتَّى يَنْتَفِعُ بِكَ نَاسٌ، وَيُضَرُّ بِكَ آخَرُونَ) . اختلف السلف فى تأويل قوله تعالى: (ويسألونك ماذا ينفقون قل(7/527)
العفو} [البقرة: 219] ، فروى عن أكثر السلف أن المراد بذلك صدقة التطوع، روى ذلك عن القاسم وسالم، قالا: العفو فضل المال ما تصدق به عن ظهر غنى. وقال الحسن: لا تنفق حتى يجهد مالك فتبقى تسأل الناس، وفيها قول ثالث عن مجاهد، قال: العفو الصدقة المفروضة. قال إسماعيل بن إسحاق: وما ذكره مجاهد غير ممتنع؛ لأن الذى يؤخذ فى الزكاة قليل من كثير، ولكن ظاهر التفسير ومقصد الكلام يدل أنه فى غير الزكاة، والله أعلم. وقال الزجاج: أمر الناس أن ينفقوا الفضل إلى أن فرضت الزكاة، فكان أهل المكاسب يأخذ الرجل من كسبه كل يوم ما يكفيه ويتصدق بباقيه، ويأخذ أهل الذهب والفضة ما ينفقون فى عامهم وينفقون باقيه، روى هذا فى التفسير. ذكر البخارى أن الآية عامة فى النفقة على الأهل وغيرهم؛ لأن الرجل لا تلزمه النفقة على أهله إلا بعد ما يعيش به نفسه، وكان ذلك عن فضل قوته، وقد جاء فى الحديث عن النبى، عليه السلام، فى هذه الأحاديث أن نفقة الرجل على أهله صدقة، فلذلك ترجم بالآية فى النفقة على الأهل. قال الطبرى: إن قال قائل: ما وجه حديث أبى مسعود وحديث سعد وما تأويلهما، وكيف يكون إطعام الرجل أهله الطعام صدقة وذلك فرض عليه؟ فالجواب: أن الله تعالى جعل من الصدقة فرضًا وتطوعًا، ومعلوم أن أداء الفرض أفضل من التطوع، فإذا كان عند الرجل قدر قوته ولا فضل فيه عن قوت نفسه، وبه إليه حاجة، فهو خائف بإيثاره غيره(7/528)
به هلاك نفسه، كائنًا من كان غيره الذى حاجته إليه مثل حاجته، والدًا كان أو ولدًا أو زوجة أو خادمًا، فالواجب عليه أن يحيى به نفسه، وإن كان فيه فضل كان عليه صرف ذلك الفضل حينئذ إلى غيره ممن فرض الله نفقته عليه، فإن كان فيه فضل عما يحيى به نفسه ونفوسهم، وحضره من لم يوجب الله عليه نفقته، وهو مخوف عليه الهلاك إن لم يصرف إليه ذلك الفضل كان له صرف ذلك إليه بثمن أو بقيمة، وإن كان فى سعة وكفاية ولم يخف على نفسه ولا على أحد ممن تلزمه نفقته، فالواجب عليه أن يبدأ بحق من أوجب الله حقه فى ماله، ثم الأمر إليه فى الفضل من ماله، إن شاء تطوع بالصدقة به، وإن شاء ادخره، وإذا كان المنفق على أهله إنما يؤدى فرضًا لله واجبًا له فيه جزيل الأجر، فذلك إن شاء الله معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ومهما أنفقت نفقة، فهى لك صدقة حتى اللقمة ترفعها إلى فى امرأتك) ؛ لأنه بفعله ذلك يؤدى فرضًا لله عليه هو أفضل من صدقة التطوع التى يتصدق بها على غريب منه لا حق له فى ماله.
- بَاب وُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَى الأهْلِ وَالْعِيَالِ
/ 5 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قال: قال النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام: (أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا تَرَكَ غِنًى، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، تَقُولُ الْمَرْأَةُ: إِمَّا أَنْ تُطْعِمَنِى، وَإِمَّا أَنْ تُطَلِّقَنِى، وَيَقُولُ الْعَبْدُ: أَطْعِمْنِى، وَاسْتَعْمِلْنِى، وَيَقُولُ الابْنُ: أَطْعِمْنِى إِلَى مَنْ تَدَعُنِى) ؟ فَقَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: لا، هَذَا مِنْ كِيسِ أَبِى هُرَيْرَةَ.(7/529)
قال المهلب: النفقة على الأهل والعيال واجبة بإجماع، وهذا الحديث حجة فى ذلك. وقوله عليه السلام: (وابدأ بمن تعول) ، ولم يذكر إلا الصدقة يدل أن نفقته على من يعول من أهل وولد محسوب له فى الصدقة، وإنما أمرهم الله أن يبدءوا بأهليهم خشية أن يظنوا أن النفقة على الأهل لا أجر لهم فيها، فعرفهم عليه السلام أنها لهم صدقة حتى لا يخرجوها إلى غيرهم إلا بعد أن يقوتوهم. قال الطبرى: وقوله عليه السلام: (وابدأ بمن تعول) ، إنما قال ذلك؛ لأن حق نفس المرء عليه أعظم من حق كل أحد بعد الله، فإذا صح ذلك فلا وجه لصرف ما هو مضطر إليه إلى غيره، إذ كان ليس لأحد إحياء غيره بإتلاف نفسه وأهله، وإنما له إحياء غيره بغير إهلاك نفسه وأهله وولده، إذ فرض عليه النفقة عليهم، وليست النفقة على غيرهم فرضًا عليه، ولا شك أن الفرض أولى بكل أحد من إيثار التطوع عليه. وفيه: أن النفقة على الولد ما داموا صغارًا فرض عليه؛ لقوله: إلى من تدعنى؟ وكذلك نفقة العبد والخادم للمرء واجبة لازمة. قال ابن المنذر: واختلفوا فى نفقة من بلغ من الأبناء ولا مال له ولا كسب، فقالت طائفة: على الأب أن ينفق على ولد صلبه الذكور حتى يحتلوا والنساء حتى يزوجن ويدخل بهن، فإن طلقها بعد البناء أو مات عنها فلا نفقة لها على أبيها، وإن طلقها قبل البناء فهى على نفقتها، ولا نفقة لولد الولد على الجد، هذا قول مالك.(7/530)
وقالت طائفة: ينفق على ولده حتى يبلغ الحلم والمحيض، ثم لا نفقة عليه إلا أن يكونوا زمنى، وسواء فى ذلك الذكور والإناث ما لم يكن لهم أموال، وسواء فى ذلك ولده أو ولد ولده وإن سفلوا ما لم يكن لهم أب دونه يقدر على النفقة عليهم، هذا قول الشافعى. وقال الثورى: يجبر الرجل على نفقة ولده الصغار غلامًا كان أو جارية، فإن كانوا كبارًا أجبر على نفقة النساء ولا يجبر على نفقة الرجال إلا أن يكونوا زمنى. وأوجبت طائفة النفقة لجميع الأطفال والبالغين من الرجال والنساء إذا لم يكن لهم أموال يستغنون بها عن نفقة الوالد على ظاهر قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لهند: (خذى ما يكفيك وولدك بالمعروف) ، ولم يستثن ولدًا بالغًا دون طفل. وقوله فى حديث أبى هريرة: يقول الابن: أطعمنى إلى من تدعنى؟ يدل على أنه إنما يقول ذلك من لا طاقة له على الكسب والتحرف، ومن بلغ سن الحلم فلا يقول ذلك؛ لأنه قد بلغ حد السعى على نفسه والكسب لها، بدليل قوله تعالى: (حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أموالهم) [النساء: 6] ، فجعل بلوغ النكاح حدًا فى ذلك. واختلفوا فى المعسر هل يفرق بينه وبين امرأته بعدم النفقة؟ فقال مالك، والليث، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: إذا أعسر بالنفقة، فللزوجة الخيار بين أن تقيم عليه، ولا يكون لها شىء فى ذمته أصلاً، وبين أن تطلب الفراق فيفرق الحاكم بينهما، وقاله(7/531)
من الصحابة عمر، وعلى، وأبو هريرة، ومن التابعين سعيد بن المسيب، وقال: إن ذلك سنة. وقالت طائفة: لا يفرق بينهما ويلزمها الصبر عليه وتتعلق النفقة بذمته بحكم الحاكم، هذا قول عطاء، والزهرى، وإليه ذهب الكوفيون والثورى، واحتجوا بقوله تعالى: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) [البقرة: 280] ، فوجب أن ينظر حتى يوسر، وبقوله: (وأنكحوا الأيامى منكم (إلى) يغنهم الله) [النور: 32] ، فندب تعالى إلى إنكاح الفقير، فلا يجوز أن يكون الفقر سببًا للفرقة، وهو مندوب معه إلى النكاح. واحتج عليهم أهل المقالة الأولى بقوله عليه السلام فى حديث أبى هريرة: إما أن تطعمنى، وإما أن تطلقنى، وهذا نص قاطع فى موضع الخلاف، وقالوا أيضًا: أما قوله: (إن يكونوا فقراء يغنهم الله) [النور: 32] ، لم يرد الفقير الذى لا شىء معه أصلاً، وإنما المراد الفقير الذى حالته منحطة عن حالة الغنى، بدليل أنه ندبه إلى النكاح، وأجمعوا أنه من لا يقدر على نفقة الزوجة غير مندوب إلى النكاح ولا مستحب له. وأما قوله: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) [البقرة: 280] ، فإنما ورد فى المداينات التى تتعلق بالذمم، واحتجوا بقوله تعالى: (ولا تمسكوهن ضرارًا لتعتدوا) [البقرة: 231] ، وإذا لم ينفق عليها فهو مضر بها، فوجب عليه الفراق إن طلبته، فإن قال الكوفيون: لو كان قوله تعالى: (ولا تمسكوهن ضرارًا لتعتدوا (، نهيًا واجبًا لم يجز الإمساك وإن رضيته، فيقال لهم: قامت دلالة الإجماع على جواز(7/532)
إمساكهن إذا رضين بذلك، وأما الإعسار فلو أعسر بنفقة خادم أو حيوان له، فإن ذلك يزيل ملكه عنه ويباع عليه، كذلك الزوجة، وأيضًا فإن العنين يجبر على طلاق زوجته إذا لم يطأ، والوطء لمدة يمكن الصبر على فقدها ويقوم بدن المرأة بعدمها، والصبر عن القوت ليس كذلك فصارت الفرقة أولى عند عدم النفقة.
3 - بَاب حَبْسِ الرَّجُلِ قُوتَ سَنَةٍ عَلَى أَهْلِهِ
/ 6 - وَقَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ لِى الثَّوْرِىُّ: هَلْ سَمِعْتَ فِى الرَّجُلِ يَجْمَعُ لأهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ أَوْ بَعْضِ السَّنَةِ؟ قَالَ مَعْمَرٌ: فَلَمْ يَحْضُرْنِى، ثُمَّ ذَكَرْتُ حَدِيث ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ عُمَرَ بن الخطاب: أَنَّ النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، كَانَ يَبِيعُ نَخْلَ بَنِى النَّضِيرِ، وَيَحْبِسُ لأهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ. / 7 - وفيه: إِنَّ اللَّهَ قَدْ خَصَّ رَسُولَهُ (صلى الله عليه وسلم) فِى هَذَا الْمَالِ بِشَىْءٍ. . . . . - إلى قوله -: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنه، ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِىَ، فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ. . . الحديث. قال المهلب: فى هذا الحديث دليل على جواز ادخار القوت للعالم للأهل والعيال، وأن ذلك لا يكون حكرة، وأن ما ضمه الإنسان من أرضه أو جَدَّه من نخله وثمره وحبسه لقوته لا يسمى حكرة، ولا خلاف فى هذا بين الفقهاء. قال الطبرى: فى هذا رد على الصوفية فى قولهم: إنه ليس(7/533)
لأحد ادخار شىء فى يومه لغده، وأن فاعل ذلك قد أساء الظن بربه، ولم يتوكل عليه حق توكله، ولا خفاء بفساد هذا القول؛ لثبوت الخبر عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه كان يدخر لأهله قوت السنة. وفيه أكبر الأسوة لأمر الله تعالى عباده باتباع سنته، فهو الحجة على جميع خلقه، وقد تقدم هذا المعنى مستوعبًا فى كتاب الخمس فى باب نفقة نساء النبى (صلى الله عليه وسلم) بعد وفاته، فأغنى عن إعادته.
4 - بَاب قول اللَّهُ تَعَالَى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ (إِلَى: (بَصِيرٌ) [البقرة: 233]
وَقَالَ: (وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى) [الطلاق: 6] الآية وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِىِّ: نَهَى اللَّهُ أَنْ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا، وَذَلِكَ أَنْ تَقُولَ الْوَالِدَةُ: لَسْتُ مُرْضِعَتَهُ. وَهِىَ أَمْثَلُ لَهُ غِذَاءً، وَأَشْفَقُ عَلَيْهِ، وَأَرْفَقُ بِهِ مِنْ غَيْرِهَا، فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَأْبَى بَعْدَ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ نَفْسِهِ مَا جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلْمَوْلُودِ لَهُ أَنْ يُضَارَّ بِوَلَدِهِ وَالِدَتَهُ، فَيَمْنَعَهَا أَنْ تُرْضِعَهُ ضِرَارًا لَهَا إِلَى غَيْرِهَا، فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَسْتَرْضِعَا عَنْ طِيبِ نَفْسِ الْوَالِدِ وَالْوَالِدَةِ: (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا [عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ] فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا) [البقرة: 233] بَعْدَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ،) فِصَالُهُ (: فِطَامُهُ. قال أهل التأويل: قوله: (والوالدات يرضعن أولادهن) [البقرة: 233] ، لفظه لفظ الخبر، ومعناه الأمر لما فيه من الإلزام، كما تقول: حسبك(7/534)
درهم، فلفظه لفظ الخبر، ومعناه: اكتف بدرهم، ومعنى الآية: لترضع الوالدات أولادهن، يعنى اللواتى بن من أزواجهن، ولهن أولاد قد ولدنهن منهم قبل بينونتهن، يرضعن أولادهن، يعنى أنهن أحق برضاعهن من غيرهن، وليس ذلك بإيجاب من الله عليهن رضاعهم إذا كان المولود له حيًا موسرًا، بقوله فى سورة النساء القصرى: (فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى) [الطلاق: 6] ، فأخبر أن الوالدة والمولود له إن تعاسرا فى الأجرة التى ترضع بها المرأة ولدها أن أخرى سواها ترضعه، فلم يوجب عليها فرضًا رضاع ولدها. وبيان ذلك أن قوله: (والوالدات يرضعن أولادهن) [البقرة: 233] ، دلالة على مبلغ غاية الرضاعة التى متى اختلف الوالدان فى إرضاع الولد بعدها جعل حدا يفصل به بينهما، لا دلالة على أن فرضًا على الوالدات رضاع أولادهن، وأكثر أهل التفسير على أن المراد بالوالدات هاهنا المبتوتات بالطلاق، وأجمع العلماء على أن أجر الرضاع على الزوج إذا خرجت المطلقة من العدة. قال مالك: الرضاع على المرأة إن طلقها طلاقًا رجعيًا ما لم تنقض العدة، فإن انقضت فعلى الأب أجر الرضاع، وكذلك إن كان الطلاق ثلاثًا فعليه أجر الرضاع، وإن لم تنقض العدة، والأم أولى بذلك إلا أن يجد الأب بدون ما سألت، فذلك له إلا ألا يقبل الولد غيرها ويخاف على الولد الموت فلها رضاعه بأجر مثلها وتجبر على ذلك. واختلفوا فى ذات الزوج هل تجبر على رضاع ولدها؟ فقال ابن أبى ليلى: تجبر على رضاعه ما كانت امرأته، وهذا قول مالك، وأبى ثور. وقال الكوفيون، والثورى، والشافعى: لا يلزمها رضاعه وهو على(7/535)
الزوج على كل حال. وقال ابن القاسم: تجبر على رضاعه إلا أن يكون مثلها لا يرضع، فذلك على الزوج، وحجة من جعل الرضاع على الأم ظاهر قوله: (والوالدات يرضعن أولادهن (إلى قوله: (بالمعروف) [البقرة: 233] ، فأمر الوالدات الزوجات بإرضاع أولادهن، وأوجب لهن على الأزواج النفقة والكسوة، والزوجية قائمة، فلم يجمع لهما النفقة والأجرة، فلو كان الرضاع على الأب لذكره مع ما ذكر من رزقهن وكسوتهن، ولم يوجب ذلك على الوالدات، ولا يراد بالآية الوالدات اللاتى بنَّ من أزواجهن. وحجة من قال: الرضاع على الأب، أنه لا يخلو أن تجبر على رضاعه لحرمة الولد أو لحرمة الزوج، قالوا: فبطل أن تجبر لحرمة الولد؛ لأنها لا تجبر عليه إذا كانت مطلقة ثلاثًا بإجماع، وحرمة الولد موجودة، وبطل أن تجبر لحرمة الزوج؛ لأنه لو أراد أن يستخدمها فى حق نفسه لم يكن له ذلك، فلئلا يكون له ذلك فى حق غيره أولى، فصح أنها لا تجبر عليه أصلاً. ومن رد الأمر فى ذلك إلى العادة والعرف، فلأن ذلك أصل محكوم به فى نفقته عليها وخدمتها له، فكذلك فى الرضاع إذا كانت ممن ترضع أو لا ترضع.(7/536)
5 - بَاب نَفَقَةِ الْمَرْأَةِ إِذَا غَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَنَفَقَةِ الْوَلَدِ
/ 8 - فيه: عَائِشَةَ، جَاءَتْ هِنْدٌ بِنْتُ عُتْبَةَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ، فَهَلْ عَلَىَّ حَرَجٌ أَنْ أُطْعِمَ مِنِ الَّذِى لَهُ عِيَالَنَا؟ قَالَ: (لا، إِلا بِالْمَعْرُوفِ) . / 9 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ كَسْبِ زَوْجِهَا عَنْ غَيْرِ أَمْرِهِ، فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِهِ) . وفيه: وجوب نفقة الأهل والولد وإلزام ذلك الزوج، وإن كان غائبًا إذا كان له مال حاضر، واختلف العلماء فى ذلك، فقالت طائفة: نفقتها عليه ثابتة فى غيبته، روى ذلك عن عمر بن الخطاب، وعن الحسن البصرى، وهو قول مالك، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور. وقال أبو حنيفة: ليس لها نفقة عليه إلا أن يفرضها السلطان، ولو استدانت عليه وهو غائب لم يفرض لها شيئًا. قال ابن المنذر: نفقات الزوجات فرض على أزواجهن، وقد وجب عليه فرض، فلا يسقط عنه لغيبته إلا فى حال واحدة، وهى أن تعصى المرأة وتنشز عليه وتمتنع منه، فتلك حال قد أجمع أهل العلم على سقوط النفقة فيها عنه إلا من شذ عنهم، وهو الحكم بن عتيبة وابن القاسم صاحب مالك، ولا يلتفت إلى من شذ عن الجماعة، ولا يزيل وقوف الحاكم عن إنفاذ الحكم بما يجب فرضًا أوجبه الله، والسنة مستقلة بنفسها عن أن يزيدها حكم الحاكم تأكيدًا، والفرائض والديون التى يجب أداؤها، والوفاء بالنذور، وما يجب فى الأموال من(7/537)
الجنايات على الأبدان مثلما يجب فى الحج من الصوم من كفارة وفدية لا يزيله وقوف الحاكم عن الحكم به. ووجد حديث أبى هريرة فى هذا الباب، وإن كان فى صدقة التطوع وحديث هند فى الانتصاف من حق لها منعته، فإن المعنى الجامع بينهما أنه كما جاز للمرأة أن تتصدق من مال زوجها بغير أمره بما يشبه وتعلم أنه يسمح الزوج بمثله، وذلك غير واجب عليه ولا عليها أن تتصدق عنه بماله كان أخذها من مال الزوج من غير علمه ما يجب عليه ويلزمه غرمه أجوز أن تأخذه، ويقضى لها به، والله الموفق. وفى حديث عائشة جواز القضاء على الغائب، وسيأتى فى كتاب الأحكام.
6 - بَاب عَمَلِ الْمَرْأَةِ فِى بَيْتِ زَوْجِهَا
/ 10 - فيه: عَلِىٌّ، أَنَّ فَاطِمَةَ أَتَتِ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) تَشْكُو إِلَيْهِ مَا تَلْقَى فِى يَدِهَا مِنَ الرَّحَى، وَبَلَغَهَا أَنَّهُ جَاءَهُ رَقِيقٌ، فَلَمْ تُصَادِفْهُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ، فَلَمَّا جَاءَ أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ، قَالَ: فَجَاءَنَا، وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا، فَذَهَبْنَا نَقُومُ، فَقَالَ: عَلَى مَكَانِكُمَا، فَجَاءَ فَقَعَدَ بَيْنِى وَبَيْنَهَا، حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى بَطْنِى، فَقَالَ: أَلا أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَا، إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا - أَوْ أَوَيْتُمَا إِلَى فِرَاشِكُمَا - فَسَبِّحَا ثَلاثًا وَثَلاثِينَ وَاحْمَدَا ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، وَكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلاثِينَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ.(7/538)
وترجم له باب خادم المرأة. وقال فيه على: فما تركتها بعد، قيل: ولا ليلة صفين؟ قال: ولا ليلة صفين. قال ابن حبيب: إن الزوج إذا كان معسرًا وإن كانت الزوجة ذات قدر وشرف، فإن عليها الخدمة الباطنة كالعجن والطبخ والكنس وما شاكله، وهكذا أوضح لى ابن الماجشون وأصبغ. قال ابن حبيب: وكذلك حكم النبى، عليه السلام، على فاطمة بالخدمة الباطنة من خدمة البيت، وحكم على علىّ بالخدمة الظاهرة، وقال بعض شيوخى: لا نعرف فى شىء من الأخبار الثابتة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قضى على فاطمة بالخدمة الباطنة، وإنما كان نكاحهم على المتعارف بينهم من الإجمال وحسن العشرة، وأما أن تجبر المرأة على شىء من الخدمة، فليس لها أصل فى السنة، بل الإجماع منعقد على أن على الزوج مئونة الزوجة كلها. وقال الطحاوى: لم يختلفوا أن المرأة ليس عليها أن تخدم نفسها، وأن على الزوج أن يكفيها ذلك، وأنه لو كان معها خادم لم يكن للزوج إخراج الخادم من بيته، فوجب أن تلزمه نفقة الخادم على حسب حاجتها إليه، وذكر ابن الحكم عن مالك أنه ليس على المرأة خدمة زوجها. وقال الطبرى: فى حديث فاطمة الإبانة عن أن كل من كانت به طاقة من النساء على خدمة نفسها فى خبز أو طحين وغير ذلك مما تعانيه المرأة فى بيتها أو لا يحتاج فيه إلى الخروج أن ذلك موضوع عن زوجها إذا كان معروفًا لها أن مثلها تلى ذلك بنفسها، وأن زوجها غير مأخوذ بأن يكفيها ذلك، كما هو مأخوذ فى حال عجزها عنه إما(7/539)
بمرض أو زمانة، وذلك أن فاطمة إذ شكت ما تلقى فى يدها من الطحن والعجين إلى أبيها، وسألته خادمًا لعونها على ذلك، لم يأمر زوجها عليًّا بأن يكفيها ذلك، ولا ألزمه وضع مئونة ذلك عنها إما بإخدامها أو باستئجار من يقوم بذلك، بل قد روى عنه، عليه السلام، أنه قال لها: (يا بنية اصبرى، فإن خير النساء التى نفعت أهلها) . وفى هذا القول من النبى، عليه السلام، دليل بين أن فاطمة مع قيامها بخدمة نفسها كانت تكفى عليًّا بعض مؤنه من الخدمة، ولو كانت كفاية ذلك على علىّ، لكان قد تقدم عليه السلام إلى علىّ فى كفايتها ذلك، كما تقدم إليه إذ أراد الابتناء بها أن يسوق إليها صداقها حين قال له: (أين درعك الحطمية؟) . وغير جائز أن يعلم النبى (صلى الله عليه وسلم) أمته الجميل من محاسن الأخلاق ويترك تعليمهم الفروض التى ألزمهم الله، ولا شك أن سوق الصداق إلى المرأة فى حال إرادته الابتناء بها غير فرض إذا رضيت بتأخيره عن زوجها. فإن قيل: فإنك تلزم الرجل إذا كان ذا سعة كفاية زوجته الخدمة إذا كانت المرأة ممن لا يخدم مثلها. قيل: حكم من كان كذلك من النساء حكم ذوات الزمانة والعاهة منهن اللواتى لا يقدرن على خدمة، ولا خلاف بين أهل العلم أن على الرجل كفاية من كان منهن كذلك، فلذلك ألزمنا الرجل(7/540)
كفاية التى لا تخدم نفسها مئونة الخدمة التى لا تصلح لها، وألزمناه مئونة خادم إذا كان فى سعة، وبنحو الذى قلنا نزل القرآن، وذلك قوله: (لينفق ذو سعة) [الطلاق: 7] الآية، وعليه علماء الأمة مجمعة. وقال غيره: وشذ أهل الظاهر عن الجماعة، فقالوا: ليس عليه أن يخدمها إن كان موسرًا أو كانت ممن لا يخدم مثلها، وحجة الجماعة قوله: (وعاشروهن بالمعروف) [النساء: 19] ، وإذا احتاجت إلى من يخدمها فلم يفعل لم يعاشرها بالمعروف. وقال مالك، والليث، ومحمد بن الحسن: يفرض لها ولخادمين إذا كانت خطيرة. وقال الكوفيون والشافعى: يفرض لها ولخادمها النفقة، وقد تقدم شىء من معنى هذا الباب فى كتاب النكاح فى باب الغيرة فى حديث أسماء. وقوله: باب خادم المرأة، فإن عامة الفقهاء متفقون أن الرجل إذا أعسر عن نفقة الخادم أنه لا يفرق بينه وبين امرأته، وإن كانت ذات قدر؛ لأن عليًا لم يلزمه النبى، عليه السلام، إخدام فاطمة فى عسرته، ولا أمره أن يكفيها ما شكت من الرحى. قال المهلب: وفى هذا الحديث من الفقه أن المرأة الرفيعة القدر يجمل بها الامتهان فى المشاق من خدمة زوجها مثل الطحن وشبهه؛ لأنه لا أرفع منزلة من بنت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، ولكنهم كانوا يؤثرون الآخرة ولا يترفهون عن خدمتهم احتسابًا لله وتواضعًا فى عبادته. وفيه: إيثار التقليل من الدنيا والزهد فيها رغبة فى ثواب الآخرة، ألا ترى إلى قوله عليه السلام: (ألا أدلكما على خير مما سألتما) ، فدلهما على التسبيح والتحميد والتكبير.(7/541)
7 - بَاب خِدْمَةِ الرَّجُلِ فِى أَهْلِهِ
/ 11 - فيه: الأسْوَدِ: أنه سَأَل عَائِشَةَ، مَا كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَصْنَعُ فِى الْبَيْتِ؟ قَالَتْ: كَانَ يَكُونُ فِى مِهْنَةِ أَهْلِهِ، فَإِذَا سَمِعَ الأذَانَ خَرَجَ. قال المهلب: هذا من فعله، عليه السلام، على سبيل التواضع وليسن لأمته ذلك، فمن السنة أن يمتهن الإنسان نفسه فى بيته فيما يحتاج إليه من أمر دنياه وما يعينه على دينه، وليس الترفه فى هذا بمحمود ولا من سبيل الصالحين، وإنما ذلك من سير الأعاجم. وفيه: أن شهود صلاة الجماعة من آكد السنن، فلم يتخلف عن ذلك، عليه السلام، إلا فى مرضه، وكان شديد المحافظة عليها.
8 - بَاب إِذَا لَمْ يُنْفِقِ الرَّجُلُ فَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَأْخُذَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ مَا يَكْفِيهَا وَوَلَدَهَا بِالْمَعْرُوفِ
/ 12 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ هِنْدًا، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَلَيْسَ، يُعْطِينِى مَا يَكْفِينِى وَوَلَدِى، إِلا مَا أَخَذْتُ مِنْهُ، وَهُوَ لا يَعْلَمُ، فَقَالَ: (خُذِى مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ) . فى هذا الحديث من الفقه: أنه يجوز للإنسان أن يأخذ من مال من منعه من حقه أو ظلمه بقدر ماله عنده، ولا إثم عليه فى ذلك؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) أجاز لهند ما أخذت من مال زوجها بالمعروف، وأصل هذا الحديث فى التنزيل فى قوله تعالى: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) [النحل: 126] ، وقد تقدم فى كتاب المظالم اختلاف العلماء فيمن يجحد وديعة ثم يجد المودع له مالاً هل يأخذ عوضًا من حقه أم لا؟(7/542)
وفيه: أن وصف الإنسان بما فيه من النقص على سبيل التظلم منه والضرورة إلى طلب الإنصاف من حق عليه أنه جائز وليس بغيبة؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم ينكر عليها قولها. واختلف العلماء فى مقدار ما يفرض السلطان للزوجة على زوجها، فقال مالك: يفرض لها بقدر كفايتها فى اليسر والعسر، ويعتبر حالها من حاله، وبه قال أبو حنيفة، وليست مقدرة. قال الشافعى: هى مقدرة باجتهاد الحاكم فيها، وهى معتبرة بحال الزوج دون حال المرأة، فإن كان موسرًا فمدان لكل يوم، وإن كان متوسطًا فمد ونصف، وإن كان معسرًا فمد، فيجب لبنت الخليفة ما يجب لبنت الحارس. وحجة مالك والكوفيون قوله: (لينفق ذو سعة من سعته) [الطلاق: 7] ، ولم يذكر لها تقديرًا. وقال لهند: (خذى ما يكفيك وولدك بالمعروف) ، فلم يقدر لها ما تأخذه لولدها ونفسها، فثبت أنها غير مقدرة وأنها على قدر كفايتها، وإنما يجب ذلك كله بالعقد والتمكين وهو عوض من الاستمتاع عند العلماء.
9 - بَاب حِفْظِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فِى ذَاتِ يَدِهِ وَالنَّفَقَةِ عليه
/ 13 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ عَلَيْهِ السَّلام: (خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الإبِلَ نِسَاءُ قُرَيْشٍ - وَقَالَ الآخَرُ: صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ - أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِى صِغَرِهِ، وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِى ذَاتِ يَدِهِ) . وَيُذْكَرُ عَنْ مُعَاوِيَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام.(7/543)
قال المهلب: فى هذا تفضيل نساء قريش على نساء العرب، وذلك لمعنيين: أحدهما: الحنو على الولد والتهمم بأمره وحسن تربيته وإلطافه. والثانى: الحفظ بذات يد الزوج وعونه على دهره، فى هاتين الخصلتين تفضل المرأة غيرها عند الله وعند رسوله، وكذلك يروى عن عمر أنه مدح المرأة التى تعين على الدهر ولا تعين الدهر عليك. وقال الحسن فى تفسير هذا الحديث: الحانية التى لا تزوج ولها ولد.
- بَاب كِسْوَةِ الْمَرْأَةِ بِالْمَعْرُوفِ
/ 14 - فيه: عَلِىّ، آتَى إِلَىَّ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام، بِحُلَّةٍ سِيَرَاءَ فَلَبِسْتُهَا، فَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِى وَجْهِهِ، فَشَقَّقْتُهَا بَيْنَ نِسَائِى. أجمع العلماء أن للمرأة نفقتها وكسوتها بالمعروف واجبة على الزوج، وقد ذكر بعض أهل العلم أنه يجب أن يكسو ثياب بلد كذا، والصحيح فى ذلك ألا يحمل أهل البلدان على كسوة واحدة، وأن يؤمر أهل كل بلد من الكسوة بما يجرى فى عرف بلدهم، بقدر ما يطيقه المأمور على قدر الكفاية لها، وما يصلح لمثلها، وعلى قدر يسره وعسره، ألا ترى أن عليًّا شق الحلة بين نسائه حين لم يقدر على أن يكسو كل واحدة منهن بحلة كاملة، وكذلك قال عليه السلام لهند: (خذى ما يكفيك وولدك بالمعروف) ، ولو كان فى ذلك حد معلوم لأمرها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) به، فينبغى للحاكم أن يجتهد فى ذلك بقدر ما يراه.(7/544)
- بَاب عَوْنِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فِى وَلَدِهِ
/ 15 - فيه: جَابِر، هَلَكَ أَبِى، وَتَرَكَ سَبْعَ بَنَاتٍ - أَوْ تِسْعَ بَنَاتٍ - فَتَزَوَّجْتُ امْرَأَةً ثَيِّبًا، فَقَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (تَزَوَّجْتَ يَا جَابِرُ) ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: (بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا) ؟ قُلْتُ: بَلْ ثَيِّبًا، قَال: (فَهَلا جَارِيَةً، تُلاعِبُهَا وَتُلاعِبُكَ، وَتُضَاحِكُهَا وَتُضَاحِكُكَ) ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ عَبْدَاللَّهِ هَلَكَ، وَتَرَكَ بَنَاتٍ، وَإِنِّى كَرِهْتُ أَنْ أَجِيئَهُنَّ بِمِثْلِهِنَّ، فَتَزَوَّجْتُ امْرَأَةً تَقُومُ عَلَيْهِنَّ وَتُصْلِحُهُنَّ، فَقَالَ: (بَارَكَ اللَّهُ لَكَ، أَوْ قَالَ: خَيْرًا) . عون المرأة زوجها فى ولده من غيرها ليس بواجب عليها، وإنما هو من حسن الصحبة وجميل المعاشرة، ومن سير صالحات النساء وذوات الفضل منهن مع أزواجهن، وقد تقدم هل يلزم المرأة خدمة زوجها.
- بَاب نَفَقَةِ الْمُعْسِرِ عَلَى أَهْلِهِ
/ 16 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَتَى النَّبِىَّ، عَلَيْهِ السَّلام، رَجُلٌ، فَقَالَ: هَلَكْتُ، قَالَ: (وَلِمَ) ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى أَهْلِى فِى رَمَضَانَ، قَالَ: (فَأَعْتِقْ رَقَبَةً) ، قَالَ: لَيْسَ عِنْدِى، قَالَ: (فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) ، قَالَ: لا أَسْتَطِيعُ، قَالَ: (فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا) ، قَالَ: لا أَجِدُ، فَأُتِىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ، فَقَالَ: (أَيْنَ السَّائِلُ) ؟ قَالَ: هَا أَنَا ذَا، قَالَ: (تَصَدَّقْ بِهَذَا) ، قَالَ: عَلَى أَحْوَجَ مِنَّا يَا رَسُولَ اللَّه، فَوَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ مِنَّا، قَالَ فَضَحِكَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، قَالَ: (فَأَنْتُمْ إِذًا) .(7/545)
إنما أراد البخارى فى هذا الحديث إثبات نفقة المعسر على أهله ووجوبها عليه، وذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أباح له إطعام أهله بوجود العرق من التمر، وهو ألزم له من الكفارة، وزعم الطبرى أن قياس قول أبى حنيفة، والثورى: أن الكفارة دين عليه لا تسقطها عنه عسرته، وهو قول مالك وعامة العلماء وأصلهم أن كل ما لزم أداؤه فى اليسار لزم الذمة إلى الميسرة، إن شاء الله.
- بَاب) وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ) [البقرة: 233] وَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْهُ شَىْءٌ؟) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ) [النحل: 76] الآية
/ 17 - فيه: أُمِّ سَلَمَةَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ، لِى مِنْ أَجْرٍ فِى بَنِى أَبِى سَلَمَةَ أَنْ أُنْفِقَ عَلَيْهِمْ، وَلَسْتُ بِتَارِكَتِهِمْ هَكَذَا وَهَكَذَا، إِنَّمَا هُمْ بَنِىَّ، قَالَ: (نَعَمْ لَكِ أَجْرُ مَا أَنْفَقْتِ عَلَيْهِمْ) . / 18 - وفيه: هِنْدُ، قالت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ فَهَلْ عَلَىَّ جُنَاحٌ أَنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ مَا يَكْفِينِى وَبَنِىَّ؟ قَالَ: (خُذِى بِالْمَعْرُوفِ) . اختلف العلماء فى تأويل قوله تعالى: (وعلى الوارث مثل ذلك) [البقرة: 233] ، فروى عن ابن عباس، قال: عليه أن لا يضار، وهو قول الشعبى، ومجاهد، والضحاك، ومالك، قالوا: عليه أن لا يضار ولا غرم عليه. وقالت طائفة: على الوارث ما كان على الوالد من أجر الرضاع إذا كان الولد لا مال له.(7/546)
ثم اختلفت هذه الطائفة فيمن الوارث الذى عناه الله فى هذه الآية على أقوال: فقالت طائفة: هو كل وارث للأب أبًا كان أو عمًا، أو ابن عم، أو ابن أخ، روى هذا عن الحسن البصرى، قال: (وعلى الوارث مثل ذلك) [البقرة: 233] ، قال: على الرجال دون النساء، وهو قول النخعى ومجاهد. وقال آخرون: هو من ورثته من كان ذا رحم محرم للمولود، فمن كان ذا رحم وليس بمحرم كابن العم والمولى، فليس ممن عناه الله بالآية، هذا قول أبى حنيفة وأصحابه. وقال آخرون: الذى عنى الله بقوله: (وعلى الوارث مثل ذلك (هو المولود نفسه، روى هذا عن قبيصة بن ذؤيب، والضحاك، وتأولوا على الوارث المولود ما كان على المولود له. وقال آخرون: هو الباقى من والدى المولود بعد وفاة الآخر منهما، وهذا يوجب أن تدخل الأم فى جملة الورثة الذين عليهم أجر الرضاع، فيكون عليها رضاع ولدها واجبًا إن لم يترك أبوه مالاً، روى هذا القول عن زيد بن ثابت، قال: إذا خلف أمًا وعمًا، فعلى كل واحد رضاعه بقدر ميراثه، وهو قول الثورى. وإلى رد هذا القول أشار البخارى بقوله: وهل على المرأة منه شىء؟ يعنى من رضاع الصبى ومئونته، فذكر قوله تعالى: (وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم لا يقدر) [النحل: 76] ، شبه منزلة المرأة من الوارث منزلة الأبكم الذى لا يقدر على النطق من المتكلم، وجعلها كلا على من يعولها، وذكر حديث أم سلمة والمعنى فيه أن أم سلمة كان لها ابنًا من أبى سلمة، ولم يكن لهم مال، فسألت(7/547)
النبى (صلى الله عليه وسلم) إن كان لها أجر فى الإنفاق عليهم مما يعطيها النبى (صلى الله عليه وسلم) ، فأخبرها أن لها أجرًا فى ذلك، فدل هذا الحديث أن نفقة بنيها لا تجب عليها، ولو وجبت عليها لم تقل للنبى (صلى الله عليه وسلم) : (ولست بتاركتهم) ، وبين لها النبى (صلى الله عليه وسلم) أن نفقتهم واجبة عليها سواء تركتهم أو لم تتركهم. وأما حديث هند، فإن النبى، عليه السلام، أطلقها على أخذ نفقة بنيها من مال الأب، ولم يوجبها عليها كما أوجبها على الأب، فاستدل البخارى أنه لما لم يلزم الأمهات نفقة الأبناء فى حياة الآباء، فكذلك لا يلزمها بموت الآباء، وحجة أخرى وذلك أن قوله: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن) [البقرة: 233] ، يعنى رزق الأمهات وكسوتهن من أجل الرضاع للأبناء، فكيف يعطيهن فى أول الآية وتجب عليهن نفقة الأبناء فى آخرها. وأما من قال: (وعلى الوارث مثل ذلك (، هو الولد، فيقال له: لو أريد بذلك الولد لقال تعالى: وعلى المولود مثل ذلك، فلما قال: (وعلى الوارث مثل ذلك (، وكان الوارث اسمًا عامًا يقع على جماعة غير الولد، لم يجز أن يخص به الولد ويقتصر عليه دون غيره إلا بدلالة بينة وحجة واضحة. قال إسماعيل بن إسحاق: وأما قول أبى حنيفة فى إيجابه رضاع الصبى ونفقته على كل ذى رحم محرم، مثل أن يكون رجل له ابن أخت صغير محتاج وابن عم صغير محتاج وهو وارثه، فإن النفقة تجب على الخال لابن أخته الذى لا يرثه، وتسقط عن ابن العم لابن عمه الذى يرثه، فقالوا قولاً ليس فى كتاب الله، ولا نعلم أحدًا قاله، وإنما أوجب بعضهم الرضاعة على الوارث لما تأول من القرآن،(7/548)
وأسقط بعضهم ذلك عنه لما تأول أيضًا، وهم الذين قالوا: على الوارث ألا يضار، ولا غرم عليه، فأما النفقة على كل ذى رحم محرم، فليس فى قولهم تأويل للقرآن، ولا اتباع للحديث، ولا قياس على أصل يرجع إليه، ومذهب مالك فى هذا الباب أنه لا تجب نفقة الصغير إلا على الأب خاصة، وهو المذكور فى القرآن فى قوله: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) [البقرة: 233] ، وفى قوله: (وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن) [الطلاق: 6] . فلما وجب على الأب الإنفاق على من ترضع ولده وجب عليه النفقة على ولده إذا خرج من الرضاع ما دام صغيرًا، ووجب أن يغذى بالطعام كما كان يغذى بالرضاع، ولم تجب النفقة على الوارث لما فى تأويل الآية من الاختلاف، وليس مجراهم فى النظر مجرى الأب؛ لأن الأب وجب عليه رضاع ولده حين ولد، ولم يجب على غيره من ورثته، فلا يرجع ذلك عليهم بعد أن لم يكن واجبًا فى الأصل إلا بحجة، وكان يجب على قولهم: إذا مات الرجل عن امرأته وهى حامل ولم يخلف مالاً أن يلزموا العصبة النفقة على المرأة من أجل ما فى بطنها، وكان يجب على مذهب أبى حنيفة أن يلزموا كل ذى رحم محرم النفقة على هذه الأم من أجل ما فى بطنها، كما يلزموا أجر رضاعه إذا أرضعته أمه؛ لأنهم إنما يلزمون الرحم النفقة على الأم التى ترضع المولود من أجل المولود.(7/549)
- بَاب قَوْلِ النَّبِىِّ عَلَيْهِ السَّلام: (مَنْ تَرَكَ كَلا أَوْ ضَيَاعًا فَإِلَىَّ
/ 19 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، كَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الْمُتَوَفَّى عَلَيْهِ الدَّيْنُ، فَيَسْأَلُ هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ فَضْلا؟ فَإِنْ حُدِّثَ أَنَّهُ تَرَكَ وَفَاءً صَلَّى عليه، وَإِلا قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ: (صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ) ، الحديث، إلى قوله: (فَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا فَعَلَىَّ قَضَاؤُهُ) . وقد تقدم فى باب الكفالة والحوالة.
- بَاب الْمَرَاضِعِ مِنَ الْمَوَالِيَاتِ وَغَيْرِهِنَّ
/ 20 - فيه: أُمَّ حَبِيبَةَ زَوْجَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، انْكِحْ أُخْتِى بِنْتَ أَبِى سُفْيَانَ، قَالَ: (وَتُحِبِّينَ ذَلِكِ) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ، وَأَحَبُّ مَنْ شَارَكَنِى فِى الْخَيْرِ أُخْتِى، فَقَالَ: (إِنَّ ذَلِكِ لا يَحِلُّ لِى) ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَوَاللَّهِ إِنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِى سَلَمَةَ، فَقَالَ: (بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: (فَوَاللَّهِ لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِى فِى حَجْرِى مَا حَلَّتْ لِى، إِنَّهَا بِنْتُ أَخِى مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَرْضَعَتْنِى وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ، فَلا تَعْرِضْنَ عَلَىَّ بَنَاتِكُنَّ وَلا أَخَوَاتِكُنَّ) . وَقَالَ عُرْوَةُ: ثُوَيْبَةُ أَعْتَقَهَا أَبُو لَهَبٍ. قال المهلب: الترجمة صحيحة، وكانت العرب فى أول أمرها تكره رضاع الإماء، وتقتصر على العربيات من الظئورة، طلبًا لنجابة(7/550)
الولد، فأراهم النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قد رضع فى غير العرب، وأن رضاعة الإماء لا يهجن. وفيه: أن الأخوة بالرضاع حرمتها كحرمة الأخوة من النسب. وقول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (بنت أم سلمة) ، إنما هو على وجه التقرير على تصحيح المسألة؛ لأنه قد كان يجوز للنبى (صلى الله عليه وسلم) أن ينكح بنات أبى سلمة من غير أم سلمة زوج النبى (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأن الجمع بين امرأة الرجل وابنته من غيرها حلال عند جماعة الفقهاء؛ لأنه ليس بينهما نسب، وقد تقدمت هذه المسألة فى كتاب النكاح فى باب ما يحل من النساء ويحرم. وقوله فى الترجمة: (المواليات) ، كان الأقرب أن يقول: الموليات جمع مولاة، و (المواليات) جمع موالى، جمع التكسير، ثم جمع موالى جمع السلامة بالألف والتاء، فصار مواليات جمع الجمع، والحمد لله وحده.
مسألة الكفلاء الستة
وذلك أن رجلاً باع لست رجال سلعة بستمائة درهم: زيد، وعمرو، وعبد الله، وسليمان، وعبد الصمد، وعبد الواحد، فلقى رب المال زيدًا، فأخذه بالستمائة، ثم إن زيدًا لقى عمرًا، فقال له زيد: أعطنى ما أعطيت عنك، وذلك مائة درهم ومائتين من قبل الكفالة التى تكفلنا بها،(7/551)
فيصبح على عمرو ثلاثمائة وعلى زيد ثلاثمائة. ثم إن عبد الله لقيه عمرو، فقال له: أعطنى خمسين أديتها عنك، وأنا وأنت كفيلان بمائة وخمسين، فيكون عليك النصف منها وعلىّ أنا النصف، وذلك خمسة وسبعون، فقد أديت بالكفالة خمسة وسبعين، وكذلك أنت أيضًا، فجملة ما أدى عبد الله خمسة وعشرون ومائة. ثم إن عبد الله لقيه زيد، فقال له زيد: أعطنى ما أديت عنك، وذلك خمسة وخمسون ومائة بينى وبينك من الكفالة، فقال له عبد الله: فقد أديت أنا أيضًا لعمرو خمسة وسبعين من الكفالة، فنقسم أنا وأنت المائة وخمسين والخمسة وسبعين، وذلك مائتان وخمسة وعشرون، اثنا عشر ونصف ومائة عليك، وكذلك علىّ أيضًا. ثم إن سليمان لقيه زيد، فقال: أديت اثنا عشر ونصف ومائة من قبل الكفالة، وعليك منها الثلث، وذلك سبع وثلاثون ونصف، وتبقى خمسة وسبعون بينى وبينك من الكفالة، فيجب عليك منها سبعة وثلاثون ونصف. ثم إن سليمان لقيه عمرو، فقال له: أعطنى ما أعطيت عنك؛ لأنى أعطيت من قبل الكفالة خمسة وسبعين، عليك منها الثلث، وذلك خمسة وعشرون، ثم أقسم أنا وأنت خمسين التى بقيت، فقال له سليمان: قد أديت لزيد أنا سبعة وثلاثين ونصف من طريق الكفالة، فاجمع خمسين وسبعة وثلاثين ونصفًا، فذلك سبعة وثمانون ونصف، النصف منها ثلاثة وأربعون وثلاثة أرباع على كل واحد منا. ثم إن سليمان لقيه عبد الله، فقال له: يا عبد الله، أعطنى ما أديت عنك وذلك ثلث اثنى عشر ونصف ومائة، وهو سبعة وثلاثون ونصف، وتبقى خمسة وسبعون أديتها بالكفالة أغرمها أنا وأنت، قال له سليمان: قد أديت أنا أيضًا ثلاثة وأربعين وثلاثة أرباع، فتجمع خمسة وسبعين مع ثلاث وأربعين(7/552)
وثلاثة أرباع، فجملة ذلك مائة وثمانية عشر وثلاثة أرباع، عليك منها النصف، وذلك تسعة وخمسون وثلاثة أثمان، وكذلك علىّ أنا أيضًا. ثم إن عبد الله لقيه زيد، فقال له زيد: قد بقى لى مما أديت من الكفالة سبعة وثلاثون ونصف، فعليك النصف منها، وذلك ثمانية عشر وثلاثة أرباع، ثم أقسم معك ما بقى، وذلك ثمانية عشر وثلاثة أرباع، فيجب عليك تسعة وثلاثة أثمان من طريق الكفالة، وكذلك علىّ أنا أيضًا. ثم إن عبد الصمد لقيه عمرو، فقال: أعطنى ما أعطيت عنك، وذلك نصف ثلاثة وأربعين وثلاثة أرباع، وأخذ منها نصفًا وهى أحد وعشرون وسبعة أثمان، ثم إن عمرًا يقول له: أقسم معك أحد وعشرين وسبعة أثمان، فيقول عبد الصمد: قد أديت أنا أيضًا من طريق الكفالة تسعة وثلاثة أثمان، فيجتمع أحد وعشرون وسبعة أثمان من تسعة وثلاثة أثمان، فذلك ثلاثون وعشرة أثمان على كل واحد منهما خمسة عشر وخمسة أثمان. ثم إن عبد الصمد لقيه عبد الله، فقال له عبد الله: أعطنى ما أعطيت عنك، وذلك نصف تسعة وخمسين وثلاثة أثمان، فقال له عبد السمد: نعم، هى لك علىّ، وذلك تسعة وعشرون وخمسة أثمان ونصف ثمن، ثم إننى أقسم معك ما بقى، وهى تسعة وعشرون وخمسة أثمان ونصف ثمن، فقال له عبد الصمد: قد أديت أنا أيضًا خمسة عشر وخمسة أثمان، فاجمع ذلك وهو خمسة وأربعون وثمنان ونصف الثمن، فيجب عليك منها اثنا وعشرون وخمسة أثمان وربع الثمن، وكذلك أنا أيضًا. ثم إن عبد الصمد لقيه سليمان، فقال له سليمان: أعطنى ما(7/553)
أعطيت عنك، وذلك نصف تسعة وخمسين وثلاثة أثمان من طريق الكفالة، فأخذ منها نصفًا، وذلك تسعة وعشرون وخمسة أثمان ونصف، ثم قال له سليمان: نقسم معك ما بقى، فقال له عبد الصمد: قد أديت أنا أيضًا اثنين وعشرين وخمسة أثمان وربع الثمن من قبل الكفالة، فجمعنا ذلك فهو اثنان وخمسون وثلاثة أرباع الثمن، وكذلك أيضًا أديت أنا. هذه المسألة ليست من الشرح فتأمل. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(7/554)
الجزء الثامن(8/4)
بسم الله الرحمن الرحيم
52 - كِتَاب الشَّهَادَاتِ
- بَاب مَا جَاءَ فِى الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ (إلى) عَلِيمٌ) [البقرة: 282] ، وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ (إلى قوله: (بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [النساء: 135]
قال إسماعيل بن إسحاق: ظاهر قوله تعالى: (وليملل الذى عليه الحق) [البقرة: 282] يدل أن القول قول من عليه الشىء. قال غيره: لأن الله حين أمره بالإملاء اقتضى تصديقه فيما يمليه، فإذا كان مصدقًا فالبينة على من يدعى تكذيبه. وأما الآية الأخرى فوجه الدلالة منها أن الله قد أخذ عليه أن يقر بالحق على نفسه وأقربائه لمن ادعاه عليهم، فدل الكتاب أن القول قول المدعى عليه، وإن أكذبه المدعى كان على المدعى عليه إقامة البينة، والأمة مجمعة أن البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه فى الأموال، إلا ما خصت به القسامة. وقد ذكر البخارى بعد هذا من حديث ابن مسعود وابن عباس، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أن البينة على المدعى، واليمين على المدعى عليه) .(8/5)
واختلفوا فى صفة يمين المدعى عليه فى الحدود والنكاح والطلاق والعتق على ما يأتى بعد هذا فى بابه، إن شاء الله.
- باب إِذَا عَدَّلَ رَجُلٌ رجلا فَقَالَ: لا نَعْلَمُ إِلا خَيْرًا، أَوْ مَا عَلِمْتُ إِلا خَيْرًا
/ 1 - فساق حديث الإفْكِ، حيث قَالَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) لأُسَامَةُ، فَقَالَ: (أَهْلُكَ وَلا نَعْلَمُ إِلا خَيْرًا) . وقَالَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ يَعْذِرُنَى فِى رَجُلٍ بَلَغَنِى أَذَاهُ فِى أَهْلِى، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِلا خَيْرًا) . اختلف العلماء فى قول المسئول عن التزكية: ما أعلم إلا خيرًا، فذكر ابن المنذر عن ابن عمر أنه كان إذا أنعم مدح الرجل قال: ما علمت إلا خيرًا. وذكر الطحاوى عن أبى يوسف أنه إذا قال ذاك قبلت شهادته، ولم يذكر خلافًا عن الكوفيين، واحتجوا بالحديث الأول، قال محمد بن سعيد الترمذى: سألنى عبد الرحمن بن إسحاق القاضى عن رجل شهد عنده فزكيته له، فقال لى: هل تعلم منه إلا خيرًا؟ فقلت: اللهم غفرًا، قد أعلم منه غير الخير ولا تسقط بذلك عدالته، يلقى كناسته فى الطريق، وليس ذلك من الخير. فسكت. وروى ابن القاسم، عن مالك، أنه أنكر أن يكون قوله: لا أعلم إلا خيرًا، تزكية، وقال: لا تكون تزكية حتى يقول: رضًا وأراه عدلاً رضًا. وذكر المزنى، عن الشافعى قال: لا يقبل فى التعديل، إلا أن(8/6)
يقول عدل علىّ ولىّ، ثم لا يقبله حتى يسأله عن معرفته؛ فإن كانت باطنة متقدمة وإلا لم يقبل ذلك. قال الأبهرى: والحجة لمالك أنه قد لا يعلم منه إلا الخير، ويعلم غيره منه غير الخير مما يجب به رد شهادته، فيجب أن يقول: أعلمه عدلا رضًا؛ لأن هذا الوصف الذى أمر الله تعالى بقبول شهادة الشاهد معه بقوله: (وأشهدوا ذوى عدل منكم) [الطلاق: 2] ) ممن ترضون من الشهداء) [البقرة: 283] فيجب أن يجمع الشاهد العدالة والرضا. قال المهلب: وأما قول أسامة: (لا أعلم إلا خيرًا) فى التزكية، فإن هذا كان فى عصر الرسول الذين شهد الله لهم أنهم خير أمة أخرجت للناس، فكانت الجرحة فيهم شاذة نادرة؛ لأنهم كانوا كلهم على العدالة، فتعديلهم أن يقال: لا أعلم إلا خيرًا، فأما اليوم فالجرحة أعم فى الناس، وليست لهم شهادة من كتاب الله ولا من سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعدالة مستولية على جميعهم، فافترق حكمهم. وفى قول بريرة: (ما أعلم عليها شيئًا أغمصه) دليل على أن من اتهم فى دينه بأمر أنه يطلب فى سائر أحواله نظير ما اتهم به، فإن لم يوجد له نظير لم يصدق عليه ما اتهم فيه، وإن وجد لذلك نظير قويت الشبهة، وحكم عليه بالتهمة فى أغلب الحال لا فى الغيب، والله أعلم.(8/7)
3 - باب شَهَادَةِ الْمُخْتَبِى
وَأَجَازَهُ عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ، قَالَ: وَكَذَلِكَ يُفْعَلُ بِالْخائن الْفَاجِرِ. وَقَالَ الشَّعْبِىُّ وَابْنُ سِيرِينَ وَعَطَاءٌ وَقَتَادَةُ: السَّمْعُ شَهَادَةٌ، وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: لَمْ يُشْهِدُونِى عَلَى شَىْءٍ، وَلَكَنِ سَمِعْتُ كَذَا وَكَذَا. / 2 - فيه: ابْنَ عُمَرَ: (انْطَلَقَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) وَأُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ الأنْصَارِىُّ، يَؤُمَّانِ النَّخْلَ الَّتِى فِيهَا ابْنُ صَيَّادٍ، حَتَّى إِذَا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) طَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَتَّقِى بِجُذُوعِ النَّخْلِ، وَهُوَ يَخْتِلُ أَنْ يَسْمَعَ مِنِ ابْنِ صَيَّادٍ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ، وَابْنُ صَيَّادٍ مُضْطَجِعٌ عَلَى فِرَاشِهِ فِى قَطِيفَةٍ لَهُ فِيهَا رَمْرَمَةٌ، أَوْ زَمْزَمَةٌ، فَرَأَتْ أُمُّ ابْنِ صَيَّادٍ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ يَتَّقِى بِجُذُوعِ النَّخْلِ، فَقَالَتْ لابْنِ صَيَّادٍ أَىْ صَافِ، هَذَا مُحَمَّدٌ، فَتَنَاهَى ابْنُ صَيَّادٍ، قَالَ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) : لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ) . / 3 - وفيه: عَائِشَةَ: جَاءَتِ امْرَأَةُ رِفاعَةَ الْقُرَظِىِّ إلى النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَتْ: (كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ، فَطَلَّقَنِى، فَأَبَتَّ طَلاقِى، فَتَزَوَّجْتُ عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ الزَّبِيرِ، إِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ، فَقَالَ: أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِى إِلَى رِفَاعَةَ؟ لا، حَتَّى تَذُوقِى عُسَيْلَتَهُ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ، وَأَبُو بَكْرٍ جَالِسٌ عِنْدَهُ، وَخَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بِالْبَابِ يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلا تَسْمَعُ إِلَى هَذِهِ مَا تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . اختلف العلماء فى شهادة المختبئ، فروى عن شريح والشعبى والنخعى أنهم كانوا لا يجيزونها، وقالوا: إنه ليس بعدل حين اختبأ ممن يشهد عليه. وهو قول أبى حنيفة والشافعى. وذكر الطحاوى فى المختصر قال: جائز للرجل أن يشهد بما سمع، إذا كان معاينًا لمن سمعت منه؛ وإن لم يشهده على ذلك.(8/8)
قال الشافعى فى الكتاب الكبير للمزنى: العلم من ثلاثة وجوه: ما عاينه فشهد به، وما تظاهرت به الأخبار وثبت موقعه فى القلوب، وشهادة ما أثبته سمعًا إثبات بصر من المشهود عليه، ولذلك قلنا: لا تجوز شهادة الأعمى. وأجاز شهادة المختبئ ابن أبى ليلى، ومالك، وأحمد، وإسحاق، إلا أن مالكًا لا يجيزها له على صحة إلا أن يكون المقر مختدعًا ومقدرًا على حق لا يقوله بالبراءة، والمخرج منه ومثله من وجوه الحيل. وروى ابن وهب، عن مالك فى رجل أدخل رجلين بيتًا، وأمرهما أن يحفظا ما سمعا، وقعد برجل من وراء البيت حتى أقر له بما له عليه فشهدا عليه بذلك، فقال: أما الرجل الضعيف أو الخائف أو المخدوع الذى يخاف أن يستميل أو يستضعف إذا شهد عليه؛ فلا أرى ذلك يثبت عليه، وليحلف أنه ما أقر له بذلك إلا لما يذكر، وأما الرجل الذى ليس على ما وصفت وعسى أن يقول فى خلوته: أنا أقر لك خاليًا، ولا أقر لك عند البينة، فإنه يثبت ذلك عليه، وهذا معنى قول ابن حريث، وكذلك يفعل بالفاجر الخائن. واحتج مالك فى العتبية بشهادة المختبئ قال: إذا شهد الرجل على المرأة من وراء الستر وعرفها وعرف صورتها وأثبتها قبل ذلك، فشهادته جائزة عليها. قال: وقد كان الناس يدخلون على أزواج النبى (صلى الله عليه وسلم) وبينهم وبينهن حجاب، فيسمعون منهن، ويحدثون عنهن. وقد سأل أبو بكر بن عبد الرحمن وأبوه عائشة وأم سلمة من وراء حجاب وأخبرا عنهما.(8/9)
قال المهلب: فى حديث ابن عمر من الفقه جواز الاحتيال على المستترين بالفسق، وجحود الحقوق، بأن يختفى عليهم حتى يسمع منهم ما يستترون به من الحق ويحكم به عليهم، ولكن بعد أن يفهم عنهم فهمًا حسنًا؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لو تركته بين) . وهذا حجة لمالك، وكذلك فى حديث رفاعة جواز الشهادة على غير الحاضر من وراء الباب والستر؛ لأن خالد بن سعيد سمع قول امرأة رفاعة عند النبى (صلى الله عليه وسلم) وهو من وراء الباب، ثم أنكره عليها بحضرة النبى (صلى الله عليه وسلم) وأبى بكر حين دخل إليهما، ولم ينكر ذلك عليه. قال الأبهرى: ومن الحجة لمالك أيضًا فى جواز شهادة المختبئ أن المعرفة بصوت زيد تقع كما تقع بشخصه، وذلك إذا كان قد عرف صوته وتكرر، فجاز له أن يشهد، كما يجوز للأعمى أن يشهد على الصوت الذى يسمعه إذا عرفه. قال المهلب: وفيه إنكار الهجر من القول، إلا أن يكون فى حق لابد له من البيان عند الحاكم فى الحكم بين الزوجين، فحينئذ يجوز أن يتكلم به. قال غيره: وقول الشعبى وغيره: السمع شهادة. قد فسره ابن أبى ليلى قال: السمع سمعان إذا قال: سمعت فلانًا يقر على نفسه بكذا أجزته، وإذا قال: سمعت فلانًا يقول: سمعت فلانًا. لم أجزه. وهذا مذهب مالك وأحمد وإسحاق والجمهور، وليس معنى قولهم: إن السمع شهادة أن شهادة المختبئ جائزة؛ لأن القائلين ذلك لا يجيزونها. قال ابن المنذر: قال النخعى والشعبى: السمع شهادة وأبيا أن يجيزا شهادة المختبئ.(8/10)
وقد تقدم شرح ما فى حديث ابن صياد من اللغة فى كتاب الجنائز فى باب إذا أسلم الصبى. وقوله: فيها رمرمة. قال ثابت: ترمرم الرجل: إذا حرك فاه للكلام، ولم يتكلم. قال بعض الشعراء يصف ملكًا: إذا ترمرم أغضى كل جبار قال الخطابى: قد يكون ترمرم: تحركت مرمته بالصوت. قال الشاعر: ومستعجب مما يرى من أناتنا ولو زبنته الحرب لم يترمرم أى لم ينطق. وقال صاحب الأفعال: الرمرمة: كلام لا يفهم. قال أبو حنيفة: الرمرمة من الرعد ما لم يعل أو يفصح، وقد زمزم السحاب، وهو سحاب زمزام: إذا كثرت زمزمته.
4 - باب إِذَا شَهِدَ شَاهِدٌ أَوْ شُهُودٌ بِشَىْءٍ
فَقَالَ آخَرُونَ: مَا عَلِمْنَا ذَلِكَ يُحْكَمُ بِقَوْلِ مَنْ شَهِدَ. قَالَ الْحُمَيْدِىُّ: هَذَا كَمَا أَخْبَرَ بِلالٌ أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) صَلَّى فِى الْكَعْبَةِ، وَقَالَ الْفَضْلُ: لَمْ يُصَلِّ، فَأَخَذَ النَّاسُ بِشَهَادَةِ بِلالٍ كَذَلِكَ إِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ لِفُلانٍ عَلَى فُلانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَشَهِدَ آخَرَانِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ يُقْضَى بِالزِّيَادَةِ.(8/11)
/ 4 - فيه: عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ: أَنَّهُ تَزَوَّجَ ابْنَةً لأبِى إِهَابِ بْنِ عَزِيزٍ، فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُ عُقْبَةَ وَالَّتِى تَزَوَّجَ، فَقَالَ لَهَا عُقْبَةُ: مَا أَعْلَمُ أَنَّكِ أَرْضَعْتِنِى، وَلا أَخْبَرْتِنِى، فَأَرْسَلَ إِلَى آلِ أَبِى إِهَابٍ فَسْأَلُهُمْ، فَقَالُوا: مَا عَلِمْنَاهُ أَرْضَعَتْ صَاحِبَتَنَا، فَرَكِبَ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) بِالْمَدِينَةِ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (كَيْفَ، وَقَدْ قِيلَ فَفَارَقَهَا، وَنَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ) . إذا شهد شهود بشىء، وقال آخرون: ما علمنا بذلك. فليس هذا شهادة؛ لأن من لم يعلم الشىء فليس بحجة على من علمه، ولهذا المعنى اتفقوا أنه إذا شهد شاهدان بألف وشاهدان بألف وخمسمائة أنه يقضى بالزيادة. ولا خلاف بين الفقهاء أن البينتين إذا شهدت إحداهما بإثبات شىء، وشهدت الأخرى بنفيه، وتكافئا فى العدالة أنه يؤخذ بقول من أثبت دون من نفى؛ لأن المثبت علم ما جهل النافى، والقول قول من علم. وليس حديث عقبة بمخالف لهذا الأصل؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يحكم بشهادة المرأة ولا غلب قولها على قول عقبة، وقول من نفى الرضاع من ظهور الإيجاب، وإنما أشار (صلى الله عليه وسلم) إلى أن قول المرأة شبهة يصلح التورع والتنزه للزوج عن زوجته لأجلها، والدليل على أن ذلك من باب الورع والتنزه اتفاق أئمة الفتوى على أنه لا تجوز شهادة امرأة واحدة فى الرضاع إذا شهدت بذلك بعد النكاح، ومن هذا الباب إذا شهد قوم بعدالة الشاهد، وشهد آخرون بتجريحه فالقول قول من شهد بالجرحة إذا تكافأت البينتان؛ لأن العدالة علم ظاهر والجرحة علم باطن، فهو زيادة على ما علم الشاهد بالعدالة.(8/12)
وهذا قول مالك فى المدونة، وهو قول الكوفيين والشافعى وجمهور العلماء، ولمالك فى العتبية خلاف هذا القول، وسأذكر ذلك فى باب تعديل كم يجوز.
5 - باب الشَّهَادَةِ عَلَى الأنْسَاب وَالرَّضَاعِ الْمُسْتَفِيضِ وَالْمَوْتِ الْقَدِيمِ
وَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَرْضَعَتْنِى وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ) ، وَالتَّثَبُّتِ فِيهِ. / 5 - فيه: عَائِشَةَ: (اسْتَأْذَنَ عَلَىَّ أَفْلَحُ، فَلَمْ آذَنْ لَهُ، فَقَالَ: أَتَحْتَجِبِينَ مِنِّى، وَأَنَا عَمُّكِ؟ فَقُلْتُ: كَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَرْضَعَتْكِ امْرَأَةُ أَخِى، بِلَبَنِ أَخِى، فَقَالَتْ: سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: صَدَقَ أَفْلَحُ، ائْذَنِى لَهُ) . / 6 - وقالت مرة: إن رَجُلٍ اسْتَأْذِنُ فِى بَيْتِ حَفْصَةَ، فَقَالَ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (أُرَاهُ فُلانًا) ، لِعَمِّ حَفْصَةَ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَوْ كَانَ فُلانٌ حَيًّا، لِعَمِّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ، دَخَلَ عَلَىَّ، فَقَالَ النبى (صلى الله عليه وسلم) : (نَعَمْ، إِنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا يَحْرُمُ مِنَ الْوِلادَةِ) . / 7 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ الرسول فِى بِنْتِ حَمْزَةَ: (لا تَحِلُّ لِى، يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ، هِىَ بِنْتُ أَخِى مِنَ الرَّضَاعَةِ) . / 8 - وفيه: عَائِشَةَ: (دَخَلَ عَلَىَّ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَعِنْدِى رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، مَنْ هَذَا؟ قُلْتُ: أَخِى مِنَ الرَّضَاعَةِ، قَالَ: انْظُرْنَ مَنْ إِخْوَانُكُنَّ، فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ) . معنى هذا الباب أن ما صح من الأنساب والموت والرضاع بالاستفاضة وثبت علمه فى النفوس، وارتفعت فيه الريب والشك؛ أنه(8/13)
لا يحتاج فيه المعرفة بعدد الذين به ثبت علم ذلك، ولا يحتاج إلى معرفة الشهود، ألا ترى أن الرضاع الذى فى هذه الأحاديث كلها كان فى الجاهلية، وكان مستفيضًا معلومًا عند القوم الذين وقع الرضاع فيهم، وثبتت به الحرمة والنسب فى الإسلام. ويجوز عند مالك والكوفيين والشافعى الشهادة بالسماع المستفيض فى النسب والموت القديم والنكاح. وقال الطحاوى: اتفقوا أن شهادة السماع تجوز فى النكاح، ولا تجوز فى الطلاق، وتجوز عند مالك والشافعى الشهادة على ملك الدار بالسماع، زاد الشافعى: وعلى ملك الثوب أيضًا، ولا يجوز ذلك عند الكوفيين. قال مالك: لا تجوز الشهادة على ملك الدار بالسماع على خمس سنين ونحوها إلا فيما يكثر من السنين وهو بمنزلة سماع الولاء. قال ابن القاسم: وشهادة السماع إنما هى عليه فيما أتت عليه أربعون أو خمسون سنة. قال مالك: وليس يشهد على أجناس الصحابة إلا على السماع. وقال عبد الملك: أقل ما يجوز فى الشهادة على السماع أربعة شهداء من أهل العدل أنهم لم يزالوا يسمعون أن هذه الدار صدقة على بنى فلان محتبسة عليهم مما يصدق به فلان، ولم يزالوا يسمعون أن فلانًا مولى فلان، قد تواطأ ذلك عندهم وفشا من كثرة ما سمعوه من العدول وغيرهم ومن المرأة والخادم والعبد. واختلف فيما يجوز من شهادة النساء فى هذا الباب، فقال مالك: لا يجوز فى الأنساب والولاء شهادة النساء مع الرجال، وهو قول الشافعى، وإنما تجوز مع الرجال فى الأموال خاصة أو منفردات فى(8/14)
الاستهلال، وما لا يطلع عليه الرجال من أمور النساء، وأجاز الكوفيون شهادة رجل وامرأتين فى الأنساب. وأما الرضاع فيجوز فيه عند مالك شهادة امرأتين دون رجل، وسيأتى مذاهب العلماء فى هذا فى كتاب الرضاع إن شاء الله.
6 - باب شَهَادَةِ الْقَاذِفِ وَالسَّارِقِ وَالزَّانِى وَقَوْلِه: (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلا الَّذِينَ تَابُوا) [النور: 4، 5]
وَجَلَدَ عُمَرُ أَبَا بَكْرَةَ وَشِبْلَ بْنَ مَعْبَدٍ وَنَافِعًا بِقَذْفِ الْمُغِيرَةِ، ثُمَّ اسْتَتَابَهُمْ. وَقَالَ: مَنْ تَابَ قَبِلْتُ شَهَادَتَهُ، وَأَجَازَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَسَعِيدُ ابْنُ جُبَيْرٍ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالشَّعْبِىُّ، وَعِكْرِمَةُ، وَالزُّهْرِىُّ، وَمُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ، وَشُرَيْحٌ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ، وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ: الأمْرُ عِنْدَنَا بِالْمَدِينَةِ إِذَا رَجَعَ الْقَاذِفُ عَنْ قَوْلِهِ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ. وَقَالَ الشُعَّبِّى وَقَتَادَة: إِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ جُلِّدَ وَقُبْلَت شَهَادَتُه. وَقَالَ الثَّوْرِىُّ: إِذَا جُلِدَ الْعَبْدُ ثُمَّ أُعْتِقَ جَازَتْ شَهَادَتُهُ، وَإِنِ اسْتُقْضِىَ الْمَحْدُودُ، فَقَضَايَاهُ جَائِزَةٌ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْقَاذِفِ، وَإِنْ تَابَ، ثُمَّ قَالَ: لا يَجُوزُ نِكَاحٌ بِغَيْرِ شَاهِدَيْنِ، فَإِنْ تَزَوَّجَ بِشَهَادَةِ مَحْدُودَيْنِ جَازَ، وَإِنْ تَزَوَّجَ بِشَهَادَةِ عَبْدَيْنِ لَمْ يَجُزْ، وَأَجَازَ شَهَادَةَ الْمَحْدُودِ وَالْعَبْدِ وَالأمَةِ لِرُؤْيَةِ هِلالِ رَمَضَانَ، وَكَيْفَ تُعْرَفُ تَوْبَتُهُ؟ وَقَدْ نَفَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) الزَّانِىَ سَنَةً وَنَهَى عَنْ كَلامِ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ حَتَّى مَضَى خَمْسُونَ لَيْلَةً.(8/15)
/ 9 - فيه: عَائِشَةُ أَنَّ امْرَأَةً سَرَقَتْ فِى غَزْوَةِ الْفَتْحِ، فَأُتِىَ بِهَا النبى (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَمَرَ بِهَا، فَقُطِعَتْ يَدُهَا، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَحَسُنَتْ تَوْبَتُهَا، وَتَزَوَّجَتْ، وَكَانَتْ تَأْتِى بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَرْفَعُ حَاجَتَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . / 10 - وفيه: زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، أَنَّ النبى (صلى الله عليه وسلم) أَمَرَ فِيمَنْ زَنَى وَلَمْ يُحْصَنْ، بِجَلْدِ مِائَةٍ، وَتَغْرِيبِ عَامٍ. اختلف العلماء فى شهادة القاذف: هل ترد شهادته قبل الحد أم لا؟ فروى ابن وهب عن مالك أنه لا ترد شهادته حتى يحد. وهو قول الكوفيين. وقال الليث والأوزاعى والشافعى: ترد شهادته وإن لم يحد. وهو قول ابن الماجشون. وحجة من أجازها قبل الحد بأن الحد لا يكون إلا بأن يطلبه المقذوف ويعجز القاذف عن البينة، فإذا لم يطلب القاذف لم يؤمن عليه أن يعترف بالزنا أو تقوم عليه بينة فلا يفسق ولا يحد؛ لأنه على أصل العدالة حتى يتبين كذبه. وحجة الشافعى أنه بالقذف يفسق؛ لأنه من الكبائر، ولا تقبل شهادته حتى تصح براءته بإقرار المقذوف له بالزنا أو قيام البينة عليه، وهو عنده على الفسق حتى تتبين براءته ويعود إلى العدالة، وهو قبل الحد شر حالا منه حين يحد؛ لأن الحدود كفارات للذنوب، وهو بعد الحد خير منه قبله، فكيف أرد شهادته فى خير حالتيه وأجيزها فى شرها. واختلفوا إذا حد وتاب فقال جمهور السلف: إذا تاب وحسنت حالته قبلت شهادته، وممن روى عنه سوى من ذكره البخارى فى قول(8/16)
ابن المنذر عطاء، واختلف فيه عن سعيد ابن المسيب، وهو قول مالك والشافعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور وأبى عبيد. وممن قال: إن شهادة القاذف لا تجوز أبدًا وإن تاب: شريح، والحسن، والنخعى، وسعيد ابن جبير، وهو قول الثورى، والكوفيين، وقالوا: توبته فيما بينه وبين الله قال: وأما المحدود فى الزنا والسرقة والخمر إذا تابوا قبلت شهادتهم. واحتج الكوفيون فى رد شهادة القاذف بعموم قوله: (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا) [النور: 4] ، وقالوا: إن الاستثناء فى قوله: (إلا الذين تابوا) [النور: 5] راجع إلى الفسق خاصة لا إلى قبول الشهادة. وقال آخرون: الاستثناء راجع إلى الفسق والشهادة جميعًا إلا أن يفرق بين ذلك بخبر يجب التسليم له، وإذا قبل الكوفيون شهادة الزانى والقاتل والمحدود فى الخمر إذا تابوا، أو المشرك إذا أسلم وقاطع الطريق، ثم لا تقبل شهادة من شهد بالزنا فلم تتم الشهادة فجعل قاذفًا، وأجمعت الأمة أن التوبة تمحو الكفر، فوجب أن يكون ما دون الكفر أولى، وقد قال الشعبى: يقبل الله توبته ولا تقبلون شهادته. واحتجوا بأن عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، جلد الذين قذفوا المغيرة واستتابهم وقال: من تاب قبلت شهادته. وكان هذا بحضرة جماعة الصحابة من غير نكير، ولو كان تأويل الآية ما تأوّله الكوفيون لم يجز أن يذهب علم ذلك عن الصحابة، ولقالوا لعمر: لا يجوز قبول توبة القاذف أبدًا. ولم يسعهم السكوت عن القضاء بتحريف تأويل الكتاب، فسقط قولهم.(8/17)
واختلف قول مالك وأصحابه هل تقبل شهادته فى كل شىء؟ فروى عنه ابن نافع أن المحدود إذا حسنت حاله قبلت شهادته فى كل شىء وهى رواية ابن عبد الحكم عنه، وهو قول ابن كنانة، ورواه أبو زيد عن أصبغ. وذكر الوقار عن مالك أنه لا تقبل شهادته فيما حد فيه خاصة وتقبل فيما سوى ذلك إذا تاب. وهو قول مطرف وابن الماجشون. وروى العتبى عن أصبغ وسحنون مثله، والقول الأول أولى لعموم الاستثناء، ورجوعه إلى أول الكلام وآخره، ومن ادعى تخصيصه فعليه الدليل. واختلف مالك والشافعى فى توبة القاذف ما هى؟ فقال الشافعى: توبته أن يكذب نفسه. روى ذلك عن عمر بن الخطاب، واختاره إسماعيل بن إسحاق. وقال مالك: توبته أن يزداد خيرًا. ولم يشترط إكذاب نفسه فى توبته؛ لجواز أن يكون صادقًا فى قذفه. قال المهلب: وكان المسلمون احتجوا فى هذا على أبى بكرة، ألا ترى أنهم يروون عنه الأحاديث، ويحملون عنه السنة وهو لم يكذب نفسه، وقد قال له عمر: ارجع عن قذفك المغيرة ونقبل شهادتك. وإنما قال له عمر ذلك، والله أعلم، استظهارًا له كمال التوبة بالرجوع عما قال فى القذف، وإن كان يستجزئ بصلاح حاله عن تكذيب نفسه فى قبول شهادته. وأما قوله: وكيف تعرف توبته، وقد نفى النبى (صلى الله عليه وسلم) الزانى سنة، ونهى عن كلام كعب ابن مالك وصاحبيه حتى مضى خمسون ليلة؟ فتقدير الكلام. باب شهادة القاذف والسارق والزانى وباب كيف تعرف توبته، وكثيرًا ما يفعله البخارى يردف ترجمة على ترجمة وإن بعد ما بينهما،(8/18)
وأراد بقوله: وكيف تعرف توبته. . . إلى آخر الكلام الاحتجاج لقول مالك أنه ليس من شرط توبة القاذف تكذيب النفس وتخطئتها، والرد على الشافعى؛ فإنه زعم أن ذلك من شرط التوبة، ووجه الحجة لذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) بعث معلمًا للناس، وأمرهم بالتوبة من ذنوبهم، ولم يأمرهم بأن يستهلوا بأنهم على معاصى الله، بل قد أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) من أتى معصية ألا يتحدث بها ولا يفشيها. واستدل البخارى أن القاذف يكون تائبًا بصلاح الحال، دون إكذابه لنفسه واعترافه أنه عصى الله أو خالف أمره بلسانه؛ حين لم يشترط ذلك على الزانى فى مدة تغريبه، ولا كعب بن مالك وصاحبيه فى الخمسين ليلة، فإن زعم الشافعى أن توبة القاذف كانت مخصوصة بذلك؛ كلف الدليل عليه من كتاب أو سنة، أو إجماع أو قياس صحيح. وإنما أدخل البخارى حديث عائشة فى هذا الباب لقولها فى التى سرقت: (فحسنت توبتها) لأن فيه دليلاً أن السارق إذا تاب وحسنت حاله قبلت شهادته، وكذلك حديث زيد بن خالد أن النبى (صلى الله عليه وسلم) جعل حد الزانى جلد مائة وتغريب عام، ولم يشترط عليه (صلى الله عليه وسلم) بعد الحد والتغريب، إن تاب ألا تقبل شهادته، ولو كان ذلك شرطًا لذكره (صلى الله عليه وسلم) . وإنما ذكر قول الثورى وأبى حنيفة؛ ليلزمها التناقض فى قولهما أن القاذف لا تجوز شهادته، وهم يجيزونها فى مواضع، وأجاز الثورى شهادة العبد إذا جلد قبل العتق وهذا تناقض؛ لأن من قذف فقد فسق، وليس العتق توبة، وهو لو قذف بعد العتق وتاب لم تجز شهادته عنده، وكذلك أجاز قضايا المحدود فى القذف وهذا تناقض،(8/19)
وكيف تجوز قضايا المحدود ولا تجوز شهادته، وكذلك يلزم أبا حنيفة التناقض فى إجازته النكاح بشهادة محدودين، وإنما أجاز ذلك؛ لأن من مذهبه أن الشهود فى النكاح خاصة على العدالة وفيما سوى ذلك على الجرحة وهذا تحكم، وتغنى حكاية هذا القول عن الرد عليه. وقال ابن المنذر: أجاز أبو حنيفة النكاح بشهادة فاسقين، وقد أجمع أهل العلم على رد شهادتهم، وأبطل النكاح بشهادة عبدين. وقد اختلف أهل العلم فى قبول شهادتهم، والنظر دال على أن شهادتهم مقبولة إذا كانا عدلين، ودليل القرآن وهو قوله: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) [الحجرات: 13] . وأما إجازته شهادة المحدود فى هلال رمضان، فإنه أجرى ذلك مجرى الخبر، والخبر يخالف الشهادة فى المعنى؛ لأن المخبر له مدخل فى حكم ما شهد به وهذا غلط؛ لأن الشاهد على هلال رمضان لا يزول عنه اسم شاهد ولا يسمى مخبرًا، فحكمه حكم الشاهد فى المعنى لاستحقاقه ذلك بالاسم، وأيضًا فإن الشهادة على هلال رمضان حكم من الأحكام، ولا يجوز أن يكون يقبل فى الأحكام إلا من تجوز شهادته فى كل شىء، ومن جازت شهادته فى هلال رمضان ولم تجز فى القذف؛ فليس بعدل ولا هو ممن يرضى؛ لأن الله إنما تعبدنا بقبول من نرضى من الشهداء، والله الموفق.(8/20)
7 - باب شَهَادَةِ النِّسَاءِ، وَقَوْلِهِ: (فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ) [البقرة 282]
/ 11 - فيه أَبِو سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ؟ قُلْنَ: بَلَى، قَالَ: فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا) . أجمع العلماء على أن القول بظاهر قوله تعالى: (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) [البقرة: 282] على أن شهادة النساء تجوز مع الرجال فى الديون والأموال، وأجمع أكثر العلماء على أن شهادتهن لا تجوز فى الحدود والقصاص. هذا قول سعيد بن المسيب، والشعبى، والنخعى، والحسن البصرى، والزهرى، وربيعة، ومالك، والليث، والكوفيين، والشافعى، وأحمد، وأبى ثور. واختلفوا فى النكاح والطلاق والعتق والنسب والولاء، فذهب ربيعة، ومالك، والشافعى، وأحمد، وأبو ثور إلى أنه لا تجوز فى شىء من ذلك كله مع الرجال. وأجاز شهادتهن فى ذلك كله مع الرجال الكوفيون، ولا دليل لهم يوجب قبول شهادتهن فى شىء من ذلك، واتفقوا أنه تجوز شهادتهن منفردات فى الحيض والولادة، والاستهلال وعيوب النساء، وما لا يطلع عليه الرجال من عورتهن للضرورة، واختلفوا فى الرضاع فمنهم من أجاز فيه شهادتهن منفردات، ومنهم من أجازها مع الرجال على ما سيأتى ذكره فى النكاح. وقال أبو عبيد: اجتمعت العلماء على أنه لا حظ للنساء فى الشهادة فى الحدود، وكذلك أجمعوا على شهادتهن فى الأموال أنه(8/21)
لا حظ لهن فيها، قال المؤلف: يعنى منفردات، وذلك لآيتين تأولهما، فيما نرى والله أعلم، أما آية الحدود فقوله: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) [النور: 4] فعلم أن الشهادة فى اللغة لا تقع إلا على الذكور، ثم أمضوا على هذا جميع الحدود من الزنا والسرقة والفدية وشرب الخمر والقصاص فى النفس وما دونها. وأما آية الأموال فقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم (إلى) ترضون من الشهداء) [البقرة: 282] ثم أمضوا على هذا جميع الحقوق والمواريث والوصايا والودائع والوكالات والدين، فلما صاروا إلى النكاح والطلاق والعتاق لم يجدوا فيها من ظاهر القرآن ما وجدوا فى تلك الآيتين. واختلفوا فى التأويل فشبهها قوم بالأموال فأجازوا فيها شهادة النساء. وقالوا: ليست بحدود وإنما توجب مهورًا ونفقات النساء. وأبى ذلك آخرون ورأوها كلها حدودًا؛ لأن بها يكون استحلال الفروج وتحريمها. قال أبو عبيد: وهذا القول يختار؛ لأن تأويل القرآن يصدقه، ألا تسمع قوله تعالى حين ذكر الطلاق والرجعة فقال: (وأشهدوا ذوى عدل منكم) [الطلاق: 2] فخص بها الرجال ولم يجعل للنساء فيها حظا كما جعله فى الدين، ثم أبْينُ من ذلك أنه سماها: حدود الله فقال: (تلك حدود الله فلا تعتدوها) [البقرة: 229] فكان هذا أكثر من التأويل. والأمر عندنا عليه أنه لا تجوز شهادتهن فى نكاح ولا طلاق ولا رجعة، وكيف يقبل قولهن فى هذه الحال على غيرهن ولا يملكنها من أنفسهن، ولم يجعل الله إليهن عقد نكاح ولا حله؟ لأن الله خاطب الرجال فى ذلك دونهن فى كتابه.(8/22)
قال أبو عبيد: والعتاق عندنا مثل ذلك كله لا تجوز فيه شهادتهن لما يدخل فيه من تحليل الفروج وتحريمها. قال المهلب: وفى حديث أبى سعيد دليل أن الناس يجب أن يتفاضلوا فى الشهادة بقدر عقولهم وفهمهم وضبطهم، وأن يكون الرجل الصالح الذى نعرف منه الغفلة والبلادة يتوقف عند شهادته فى الأمور الخفية، وتقل شهادة اليقظان الفهم العدل، والتفاضل فى شهادتهما على قدر أفهامهما. وفيه: أن الشاهد إذا نسى الشهادة ثم ذكره بها صاحبه حتى ذكرها أنها جائزة؛ لقوله: (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) [البقرة: 282] فدخل فى معنى ذلك الرجال أيضًا.
8 - باب الشُّهَدَاءِ الْعُدُولِ وَقَوْلِهِ: (وَأَشْهِدُوا ذَوَىْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) [الطلاق 6]
/ 12 - فيه: عُمَرَ: إِنَّ نَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالْوَحْىِ فِى عَهْدِ النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وَإِنَّ الْوَحْىَ قَدِ انْقَطَعَ، وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُمُ الآنَ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا أَمِنَّاهُ، وَقَرَّبْنَاهُ، وَلَيْسَ إِلَيْنَا مِنْ سَرِيرَتِهِ شَيْءٌ، اللَّهُ يُحَاسِبُهُ فِى سَرِيرَتِهِ، وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا شَرًا لَمْ نَأْمَنْهُ، وَلَمْ نُصَدِّقْهُ، وَإِنْ قَالَ: إِنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ. قال أبو الحسن بن القابسى: ينبغى لكل من سمع هذا الحديث أن يحفظه ويتأدب به. والمرفوع من هذا الحديث إخبار عمر عما كان الناس يؤخذون به على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وبقية الخبر بيان لما يستعمله الناس بعد انقطاع الوحى بوفاة النبى (صلى الله عليه وسلم) .(8/23)
وفى هذا الحديث من الفقه: أن من ظهر منه الخير فهو العدل الذى تجب قبول شهادته. واختلفوا فى ذلك فقال النخعى: العدل: الذى لم تظهر له ريبة. وهو قول أحمد وإسحاق. وقال أبو عبيد: من ضيع شيئًا مما أمره الله به أو ركب شيئًا مما نهى الله عنه، فليس بعدل؛ لقوله تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض. .) [الأحزاب: 72] الآية، والأمانة جميع الفرائض اللازمة واللازم تركها. وقال أبو يوسف، ومحمد، والشافعى: من كانت طاعته أكثر من معاصيه، وكان الأغلب عليه الخير، زاد الشافعى: والمروءة، ولم يأت كبيرة يجب بها الحد أو ما يشبه الحد قبلت شهادته؛ لأنه لا يسلم أحد من ذنب. ومن أقام على معصية أو كان كثير الكذب غير مستتر به لم تجز شهادته. وقال الطحاوى: لا يخلو ذكر المروءة أن يكون فيما يحل أو يحرم، فإن كانت فيما يحل فلا معنى لذكرها، وإن كانت فيما يحرم فهى من المعاصى، فالمراعاة هى فى إتيان الطاعة واجتناب المعصية. قال المهلب: فى هذا الحديث دليل أن سلف الأمة كانوا على العدالة؛ لشهادة الله لهم أنهم خير أمة أخرجت للناس. وقال الحسن البصرى وغيره وذكره ابن شهاب: إن القضاة فيما مضى كانوا إذا شهد عندهم الشاهد قالوا: قد قبلناه لدينه، وقالوا للمشهود عليه: دونك فجرح؛ لأن الجرحة كانت فيهم شاذة، فعلى هذا كان السلف، ثم حدث فى الناس غير ذلك.(8/24)
واتفق مالك والكوفيون والشافعى أن الشهود اليوم على الجرحة حتى تثبت العدالة. قال أبو حنيفة: إلا شهود النكاح فإنهم على العدالة. وهذا قول لا سلف له فيه ولا دليل عليه، ولو عكس عليه هذا القول لم يكن أحد القولين أولى بالحكم من الآخر، وحجة الفقهاء أن الشهود على الجرحة قوله: (وأشهدوا ذوى عدل منكم) [الطلاق: 2] ) ممن ترضون من الشهداء) [البقرة: 282] فخاطب الحكام ألا يقبلوا إلا من كان بهذه الصفة، ودل القرآن فى الناس غير مرضى ولا عدل، فلذلك كلف الطالب إذا جعل القاضى أحوال الشهود أن يعدلوا عنده.
9 - باب تَعْدِيلِ كَمْ يَجُوزُ
/ 13 - فيه: أَنَسٍ: (مُرَّ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) بِجَنَازَةٍ، فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ: وَجَبَتْ، ثُمَّ مُرَّ بِأُخْرَى، فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ: وَجَبَتْ، فسئل فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : شَهَادَةُ الْقَوْمِ، الْمُؤْمِنُونَ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِى الأرْضِ) . / 14 - وفيه: عُمَرَ، أنه مُرَّ عليه بجَنَازَةٌ، فَأُثْنِىَ خَيْرًا، فَقَالَ: وَجَبَتْ، ثُمَّ مُرَّ بِأُخْرَى، فَأُثْنِىَ خَيْرًا، فَقَالَ: وَجَبَتْ. . . الحديث. فسئل، فَقَالَ: قُلْتُ كَمَا قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : أَيُّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَ لَهُ أَرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ، قُلْنَا: وَثَلاثَةٌ؟ قَالَ: وَثَلاثَةٌ، قُلْتُ: وَاثْنَانِ؟ قَالَ: وَاثْنَانِ، فلَمْ نَسْأَلْهُ عَنِ الْوَاحِدِ) . اختلف العلماء فى عدد من يجوز تعديله، فقال مالك ومحمد بن الحسن والشافعى: لا يقبل فى التعديل والجرح أقل من رجلين. وقال(8/25)
أبو حنيفة وأبو يوسف: يقبل تعديل الواحد وجرحه. وحديث عمر حجة لمالك ومن وافقه. واحتج الطحاوى لذلك فقال: لما لم ينفذ الحكم إلا برجلين فكذلك الجرح والتعديل، فلما كان من شرط المزكى والجارح العدالة وجب أن يكون من شرطها العدد. واتفقوا أنه لو عدل رجلان وجرح واحد أن التعديل أولى، فلو كان الواحد مقبولا لما صح التعديل مع جرح الواحد. واتفقوا إذا استوى الجرح والتعديل، فإن الجرح أولى أن يعمل به من التعديل وهو قول مالك فى المدونة، والحجة لذلك أن الجرح باطن والعدالة علم ظاهر، والجارح يصدق المعدل ويقول: قد علمت من حاله مثل ما علمت أنت وانفردت أنا بعلم ما لم تعلم أنت من أمره بعلم انفردت به لا ينافى خبر المعدل وخبر المعدل لا ينافى صدق الجارح، فوجب أن يكون الجرح أولى من التعديل. ولمالك قول آخر فى العتبية من رواية أشهب وابن نافع أنه ينظر إلى أعدل البينتين فيقضى بها وقال ابن نافع: الجرحة أولى. والحجة لقول ابن نافع ما تقدم من تصديق الجارحين للمعدلين وإخبارهم بما انفردوا به دونهم، وكذلك لو كثر عدد المعدلين على عدد الجارحين كان قول الجارحين أولى، وهو قول الجمهور والأكثر، والحجة له ما تقدم ذكره.(8/26)
- باب لا يَشْهَدُ عَلَى شَهَادَةِ جَوْرٍ إِذَا أُشْهِدَ
/ 15 - فيه: النُّعْمَانِ قَالَ: سَأَلَتْ أُمِّى أَبِى بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ لِى مِنْ مَالِهِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فَوَهَبَهَا لِى، فَقَالَتْ: لا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَخَذَ بِيَدِى، وَأَنَا غُلامٌ فَأَتَى بِىَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: إِنَّ أُمَّهُ بِنْتَ رَوَاحَةَ سَأَلَتْنِى بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ لِهَذَا، قَالَ: أَلَكَ وَلَدٌ سِوَاهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأُرَاهُ قَالَ لا تُشْهِدْنِى عَلَى جَوْرٍ. وَقَالَ مرة: لا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ. / 16 - فيه: عِمْرَانَ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (خَيْرُكُمْ قَرْنِى ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، قَالَ عِمْرَانُ: لا أَدْرِى، أَذَكَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بَعْدُ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلاثَةً، فَقَالَ النَّبِىُّ عليه السلام: إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَخُونُونَ وَلا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَشْهَدُونَ وَلا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَنْذِرُونَ وَلا يَفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ) . / 17 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (خَيْرُكم قَرْنِى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، مرتين، ثُمَّ يَجِىءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ) . قَالَ إِبْرَاهِيمُ: وَكَانُوا يَضْرِبُونَنَا عَلَى الشَّهَادَةِ وَالْعَهْد. قال المهلب: فى حديث النعمان دليل أن الرجل إذا فهم من عطيته فرار من بعض الورثة أنه لا يعان عليها بشهادة ولا بإمضاء ويؤمر بارتجاعها، وإنما فهم (صلى الله عليه وسلم) الجور فى ذلك لقولها: (لا أرضى حتى تشهد النبى (صلى الله عليه وسلم)) مع علمه بميله إليها وتقمن مسرتها. ففيه دليل أن الحاكم يحكم بما فهم من المسائل كما فهم(8/27)
النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه يطلب رضاها وتفضيل ولدها على إخوته فهذا هو الجور. قال غيره: وفى قوله: (لا أشهد على جور) من الفقه ألا يضع أحد اسمه فى وثيقة لا تجوز. ومن العلماء من رأى أن يضع اسمه فى وثيقة الجور؛ ليكون شاهدًا عليه بأنه فعل ما لا يجوز له فيرد فعله، وإن تعمد ذلك كان فى الشهادة عليه جرحة تسقط شهادته، والقول الأول الذى يوافق الحديث أولى. قال المهلب: وفى حديث عمران تعديل القرون الثلاثة على منازل متفاضلة، وفيه شمول التجريح لمن يأتى بعدهم، وصفة لمن لا تقبل شهادته ممن شهد على ما لم يشهد عليه، ويخون فيما اؤتمن ولا يفى بما حلف به أو نذره، فهذه صفات الجرحة. وقوله: (ويظهر فيهم السمن) يعنى أنه ليس لهم فى الدنيا إلا كثرة الأكل، واتباع اللذات، ولا رغبة لهم فى أسباب الآخرة؛ لغلبة شهوات الدنيا عليهم. قال الطحاوى: واحتج قوم بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (يشهدون ولا يستشهدون) فقالوا: لا تجوز شهادة من شهد بها قبل أن يسألها، وهو مذموم. وخالفهم فى ذلك آخرون وقالوا: بل هو محمود مأجور على ذلك. واحتجوا بأن النبى (صلى الله عليه وسلم) إنما ذكر هذا فى تغير الزمن فقال: (يفشو الكذب حتى يشهد الرجل على الشهادة ولا يسألها، وحتى يحلف على اليمين ولا يستحلف) فمعنى ذلك أن(8/28)
يشهد كاذبًا؛ لقوله: (ثم يفشو الكذب) فيكون كذا وكذا، فلا يجوز أن يكون ذلك الذى يكون إذا فشا الكذب إلا كذبًا، وإلا فلا معنى لذكره فشو الكذب، وأيضًا فإن هذه الشهادة المذمومة لم يرد بها الشهادة على الحقوق، وإنما أريد بها الشهادة فى الأيمان، يدل على ذلك قول النخعى فى آخر الحديث، وهو الذى رواه، قال: وكانوا يضربوننا على الشهادة والعهد. فدل هذا من قول إبراهيم أن الشهادة التى ذم النبى (صلى الله عليه وسلم) صاحبها فى قول الرجل أشهد بالله ما كان كذا على كذا على معنى الحلف، فكره ذلك كما كره الحلف، لأنه مكروه للرجل الإكثار منه وإن كان صادقًا، فنهى عن الشهادة التى هى حلف بها، كما نهى عن اليمين إلا أن يستحلف فيكون حينئذ معزورًا، واليمين قد تسمى شهادة، قال الله تعالى: (فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله) [النور: 6] ، أى أربع أيمان، وقد روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) فى تفضيل الشاهد المبتدئ بالشهادة ما رواه مالك، عن عبد الله بن أبى بكر، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن ابن أبى عمرة الأنصارى، عن زيد بن خالد الجهنى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (ألا أخبركم بخير الشهداء، الذى يأتى بالشهادة قبل أن يسألها) وفسره مالك فقال: الرجل تكون عنده الشهادة فى الحق لمن لا يعلمها فيخبر بشهادته ويرفعها إلى السلطان.(8/29)
قال الطحاوى: فهذا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد مدحه وجعله خير الشهداء، فأولى بنا أن نحمل الأخبار على هذا التأويل حتى لا تتضاد ولا تختلف، فتكون أحاديث هذا الباب على هذا المعنى الذى ذكرناه، ويكون حديث زيد بن خالد على تفضيل المبتدئ بالشهادة لمن هى له أو المخبر بها الإمام. وقد فعل ذلك أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) وشهدوا ابتداء، شهد أبو بكرة ومن كان معه على المغيرة بن شعبة، ورأوا ذلك لأنفسهم لازمًا، ولم يعنفهم عمر على ابتدائهم بها؛ بل سمع شهادتهم، ولو كانوا فى ذلك مذمومين لذمهم، وقال: من سألكم عن هذا ألا قعدتم حتى تسألوا، ولما لم ينكر عليهم عمر ولا أحد ممن كان بحضرته دل أن فرضهم ذلك وابتداؤهم لا عن مسألة محمود، وهو قول مالك والكوفيين. قال الطحاوى: قوله: (ويشهدون ولا يستشهدون) حجة لابن شبرمة فى قوله أنه من سمع رجلا يقول لفلان، عندى كذا وكذا، ولم يشهده الذى عليه بذلك على نفسه فلا يقبل؛ لأنه لعله أن يكون ذلك وديعة عنده فليس بشىء، فأما أن يناقله الكلام فيقول: يا فلان، ألا تعطنى كذا الذى لى عندك. فقال: بل أنا معطيك فأنظرنى، فيجوز أن يشهد عليه. قال: والحجة عليه قوله فى حديث ابن مسعود: (ثم يجئ قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته) . قال إبراهيم: وكانوا ينهوننا ونحن غلمان أن نحلف بالشهادة والعهد. فدل أن الشهادة المذمومة هى المحلوف بها التى يجعلها الإنسان عادته كما قال تعالى: (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم) [البقرة: 224] .(8/30)
ولا خلاف بين العلماء أن من رأى رجلا يقتل رجلا أو يغصبه مالا أنه يجوز أن يشهد به، وإن لم يشهده الجانى على نفسه بذلك. فإن قيل: قوله (صلى الله عليه وسلم) : (تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته) يدل أن الشهادة والحلف عليها يبطلها. قيل: لا خلاف بين العلماء أنه تجوز الشهادة والحلف عليها، وهو فى كتاب الله فى ثلاثة مواضع: (ويستنبئونك أحق هو قل إى وربى إنه لحق) [يونس: 53] ، وقال: (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربى. .) [التغابن: 7] الآية) وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربى لتأتينكم) [سبأ: 3] إلا ما ذكره ابن شعبان فى (كتاب الزاهى) قال: من قال: أشهد بالله: لفلان على فلان كذا. لم تقبل شهادته؛ لأنه حالف وليس بشاهد. والمعروف غير هذا عن مالك، فانظره فى كتبه.
- باب مَا قِيلَ فِى شَهَادَةِ الزُّورِ؛ لِقَوْلِ الله تعالى: (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) [الفرقان 72] وَكِتْمَانِ الشَّهَادَةِ، لِقَوْلِهِ: (وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) [البقرة 283]
/ 18 - فيه: أَنَسٍ: (سُئِلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الْكَبَائِرِ، فَقَالَ: الإشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ) . / 19 - وفيه: أَبِو بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، الإشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا، فَقَالَ: أَلا وَقَوْلُ الزُّورِ، قَالَ: فكَرِّرُهَا، حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ) . فى حديث أبى بكرة أن شهادة الزور أكبر الكبائر. وقد روى عن(8/31)
ابن مسعود أنه قال: عدلت شهادة الزور بالشرك بالله. ثم قرأ: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله (. واختلف العلماء فى عقوبة شاهد الزور، فذكر عبد الرزاق، عن مكحول، عن الوليد ابن أبى مالك، أن عمر بن الخطاب كتب إلى عماله بالشام فى شاهد الزور أن يجلد أربعين، ويسخم وجهه، ويحلق رأسه، ويطال حبسه. ورواية أخرى عن عمر أنه أمر أن يسخم وجهه وتلقى عمامته فى عنقه، ويطاف به فى القبائل ويقال: شاهد زور، ولا تقبل شهادته أبدًا. وروى ابن وهب، عن مالك: أنه يجلد ويطاف به ويشنع به. وقال ابن القاسم: بلغنى عن مالك أنه قال: لا تقبل شهادته أبدًا وإن تاب وحسنت توبته اتباعًا لعمر بن الخطاب. قال ابن أبى ليلى: يعزره. وهو قول أبى يوسف ومحمد، وقال الشافعى: يعزره ويشهر به وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور، وقال شريح: يشهر ولا يعزر. وهو قول أبى حنيفة. قال الطحاوى: شهادة الزور فسق، ومن فسق رجلا عزر بوجود الفسق فيه أولى أن يستحق به التعزير، ولا يختلفون أن من فسق بغير شهادة الزور؛ أن توبته مقبولة وشهادته بعدها، كذلك شاهد الزور.
- باب شَهَادَةِ الأعْمَى، وَأَمْرِهِ، وَنِكَاحِهِ، وَإِنْكَاحِهِ، وَمُبَايَعَتِهِ، وَقَبُولِهِ فِى التَّأْذِينِ وَغَيْرِهِ، وَمَا يُعْرَفُ بِالأصْوَاتِ
وَأَجَازَ شَهَادَتَهُ القَاسِمٌ بن محمد، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ وَالزُّهْرِىُّ وَعَطَاءٌ.(8/32)
وَقَالَ الشَّعْبِىُّ: تَجُوزُ شَهَادَتُهُ إِذَا كَانَ عَاقِلا. وَقَالَ الْحَكَمُ: رُبَّ شَيْءٍ تَجُوزُ فِيهِ. وَقَالَ الزُّهْرِىُّ: أَرَأَيْتَ ابْنَ عَبَّاسٍ لَوْ شَهِدَ عَلَى شَهَادَةٍ أَكُنْتَ تَرُدُّهُ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَبْعَثُ رَجُلا إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ أَفْطَرَ، وَيَسْأَلُ عَنِ الْفَجْرِ، فَإِذَا قِيلَ: طَلَعَ الْفَجْرِ، صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عَائِشَةَ، فَعَرَفَتْ صَوْتِى، قَالَتْ: سُلَيْمَانُ ادْخُلْ، فَإِنَّكَ مَمْلُوكٌ مَا بَقِىَ عَلَيْكَ شَيْءٌ. وَأَجَازَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ شَهَادَةَ امْرَأَةٍ مُنْتَقِبَةٍ. / 20 - فيه: عَائِشَةَ: (سَمِعَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، رَجُلا يَقْرَأُ فِى الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: رَحِمَهُ اللَّهُ، لَقَدْ أَذْكَرَنِى كَذَا وَكَذَا آيَةً أَسْقَطْتُهُنَّ مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا، وَقَالتْ: عَائِشَةَ: تَهَجَّدَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فِى بَيْتِى، فَسَمِعَ صَوْتَ عَبَّادٍ يُصَلِّى فِى الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، أَصَوْتُ عَبَّادٍ هَذَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْ عَبَّادًا) . / 21 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، (قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : إِنَّ بِلالاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَكَانَ أَعْمَى لا يُؤَذِّنُ حَتَّى يَقُولَ لَهُ النَّاسُ: أَصْبَحْتَ) . / 22 - وفيه: الْمِسْوَرِ: (قَدِمَتْ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) أَقْبِيَةٌ، فَقَالَ لِى أَبِى مَخْرَمَةُ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَيْهِ، عَسَى أَنْ يُعْطِيَنَا مِنْهَا شَيْئًا، فَقَامَ أَبِى عَلَى الْبَابِ، فَتَكَلَّمَ، فَعَرَفَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، صَوْتَهُ، فَخَرَجَ النَّبِىُّ وَمَعَهُ قَبَاءٌ، وَهُوَ يُرِيهِ مَحَاسِنَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: خَبَأْتُ هَذَا لَكَ، خَبَأْتُ هَذَا لَكَ) .(8/33)
اختلف العلماء فى شهادة الأعمى فأجازها سوى من ذكره البخارى مالك والليث فيما طريقه الصوت، وسواء علم ذلك قبل العمى أو بعده، قال مالك: وإن شهد على زنا حد للقذف ولم تقبل شهادته. وقال النخعى وابن أبى ليلى: إذا علمه قبل العمى جازت، وما علمه فى حال العمى لم تجز. وهو قول أبى يوسف والشافعى، وقال أبو حنيفة ومحمد: لا تجوز شهادة الأعمى بحال. وحجة الذين أجازوا شهادته أن النبى (صلى الله عليه وسلم) سمع عبادًا فعرف شخصه بكلامه ودعا له، وسمع صوت مخرمة من بيته فعرفه، وكذلك عرفت عائشة صوت سليمان بن يسار. وقد احتج مالك بقصة ابن أم مكتوم فقال: وكان أعمى إمامًا مؤذنًا على عهد النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وقَبِلَ النبى (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه والمسلمون المؤذنين فى الأوقات والسماع منهم، وقال: إنما حفظ الناس عن أزواج النبى (صلى الله عليه وسلم) ما حفظوه وهن من وراء حجاب. قال المهلب: والذى سمع صوت ابن أم مكتوم من بيته فعلم أنه الذى أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) بالكف عن الطعام بصوته، فهو كالأعمى أيضًا يسمع صوت رجل فعرفه فتجوز شهادته عليه بما سمع منه وإن لم يره. قال ابن القصار: والصوت فى الشرع قد أقيم مقام الشهادة، ألا ترى أن الأعمى يطأ زوجته بعد أن يعرف صوتها، والإقدام على الفرج واستباحته أعظم من الشهادة فى الحقوق، واحتج(8/34)
من لم يجز شهادته فقال: إن العقود والإقرارات لا تجوز الشهادة عليها بالاستفاضة، فكذلك لا تجوز شهادة الأعمى؛ لأنه لا يتيقن أن هذا صوت فلان لجواز شبهه بصوت غيره، كالخط لا يجوز أن يشهد عليه حتى يذكر أنه شاهد فيه، وإنما كان ذلك لأن الخط يشبه الخط. قالوا: وهذه دلالة لا انفصال عنها. قال ابن القصار: فالجواب أن العقود والإقرارات مفتقرة إلى السماع ولا تفتقر إلى المعاينة بخلاف الأفعال التى تفتقر إلى المعاينة، والدليل على ذلك قوله تعالى: (واختلاف ألسنتكم وألوانكم) [الروم: 22] ، فجعل من الدلائل على محكم صنعته ووحدانيته اختلاف الألسنة والألوان، ثم وجدنا الخلق قد يتشابه كما تتشابه الأصوات، فلما تقرر أنه إذا شهد على عين جاز، وإن جاز أن تشبه عينًا أخرى، كذلك يشهد على الصوت وإن جاز أن يشبه صوتًا آخر. وقد رجع مالك عن الشهادة على الخط؛ لأن الخطوط كثيرة الشبه وليست الأصوات والخلق كذلك، ألا ترى أنه تعالى ذكر اختلاف الألسنة والألوان ولم يذكر الخطوط. قال ابن القابسى: قد روى الاثنان الحكم بشهادة الخط منهم ابن القاسم وابن وهب واستمر عليه العمل.
- باب شَهَادَةِ الإمَاءِ وَالْعَبِيدِ
وَقَالَ أَنَسٌ: شَهَادَةُ الْعَبْدِ جَائِزَةٌ، إِذَا كَانَ عَدْلا. وَأَجَازَهُ شُرَيْحٌ وَزُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى.(8/35)
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: شَهَادَتُهُ جَائِزَةٌ إِلا الْعَبْدَ لِسَيِّدِهِ. وَأَجَازَهُ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ فِى الشَّيْءِ التَّافِهِ، وَقَالَ شُرَيْحٌ: كُلُّكُمْ بَنُو عَبِيدٍ وَإِمَاءٍ. / 23 - عُقْبَةُ بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّهُ تَزَوَّجَ ابْنَة أَبِى إِهَابٍ، فَجَاءَتْهُ أَمَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَعْرَضَ عَنِّى، قَالَ: فَتَنَحَّيْتُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، قَالَ: كَيْفَ، وَقَدْ زَعَمَتْ أَنْ قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا، فَنَهَاهُ عَنْهَا) . اختلف الناس فى شهادة العبيد على ثلاثة مذاهب: فروى عن على بن أبى طالب كقول أنس وشريح أنها تقبل فى كل شىء كالأحرار، وهو قول أحمد وإسحاق وأبى ثور. وأجازها الشعبى فى الشىء التافه كقول الحسن والنخعى. والمذهب الثالث أنها لا تجوز فى شىء أصلا، روى ذلك عن عمر بن الخطاب وابن عباس وهو قول عطاء ومكحول، وإليه ذهب مالك والثورى وأبو حنيفة والأوزاعى والشافعى. وأما الذين أجازوها فى كل شىء فإنهم قالوا: إذا كان رضىً فإنه داخل فى جملة قوله تعالى: (ممن ترضون من الشهداء) [البقرة: 282] ، وأيضًا فإن إشارة النبى (صلى الله عليه وسلم) إلى عقبة بالتنزه عن زوجته من أجل شهادة الأمة دليل على سماع شهادة المملوك والحكم بشبهتها، واحتج الذين لم يجيزوها فى شىء. فقالوا: ليس قوله (صلى الله عليه وسلم) : (كيف وقد زعمت) مما حكم به (صلى الله عليه وسلم) ، من طريق الوجوب، وإنما هو عرض وندب، فلا تلزم الحجة به. قال تعالى: (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) [البقرة: 282] والإباءة إنما تكون من الحر، والعبد ممنوع من الإجابة لحق المولى فلم يدخل تحت النهى كما لم يدخل فى قوله:(8/36)
) فاسعوا إلى ذكر الله) [الجمعة: 9] ، وقوله: (انفروا خفافًا وثقالاً) [التوبة: 41] ، وقوله: (ولله على الناس حج البيت) [آل عمران: 97] ، وذلك كله لحق المولى. وقال ابن القصار: فإن قيل: أداء الشهادة عليه فرض كالصلاة والصيام ليس لسيده منعه من ذلك. قيل: هذا غلط؛ لأن فرض الصلاة والصيام إيجاب من الله ابتداء، وتحمل الشهادة هو من قبل العبد، فلا فرض عليه فى أدائها حتى يأذن له السيد أو يُعتق كما ينذر على نفسه نذرًا. فإن قيل: كل من جاز قبول خبره جاز قبول شهادته كالحر. قيل: الفرق بين ذلك أن الخبر قد سومح فيه ما لم يسامح فى الشهادة؛ لأن الخبر يقبل من الأمة منفردة والعبد منفردًا، ولا تقبل شهادة الأمة منفردة ولا العبد منفردًا، والعبد ناقص عن رتبة الحر فى الأحكام فكذلك فى الشهادة.
- باب تَعْدِيلِ النِّسَاءِ بَعْضِهِنَّ بَعْضًا
/ 24 - فيه: عَائِشَةَ: حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإفْكِ، مَا قَالُوا، فسأل النبى، (صلى الله عليه وسلم) بَرِيرَةَ: هَلْ رَأَيْتِ مِنْهَا شَيْئًا يَرِيبُكِ؟ قَالَتْ: لا، وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا رَأَيْتُ عَلَيْهَا أَمْرًا أَغْمِصُهُ أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ، تَنَامُ عَنْ العَجِينِ، فَتَأْتِى الدَّاجِنُ، فَتَأْكُلُهُ، وذكر الحديث. . إلى قولها: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَسْأَلُ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ عَنْ أَمْرِى، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحْمِى سَمْعِى وَبَصَرِى وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا إِلا خَيْرًا، قَالَتْ: وَهِىَ الَّتِى كَانَتْ تُسَامِينِى، فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالْوَرَعِ) .(8/37)
اختلف العلماء فى تعديل النساء فذكر الطحاوى فى كتاب الخلاف قال: تعديل المرأة مقبول عند أبى حنيفة وأبى يوسفَ، وقال محمد: لا يقبل فى التعديل إلا رجلان أو رجل وامرأتان. وقال مالك: لا يجوز تعديل النساء بوجه لا فى مال ولا غيره. وقال الشافعى: لا تعدل النساء ولا يجرحن ولا يشهد على شهادتهن إلا الرجال. وقال الطحاوى: الدليل على أنه يقبل تعديل النساء أنه يقبل فى التزكية ما لا يقبل فى الشهادة؛ لأنه يقول فى الشهادة: أشهد، ولا يحتاج فى التزكية إلى لفظ الشهادة، وفى سؤال النبى (صلى الله عليه وسلم) بريرة وزينب بنت جحش عن عائشة حجة لأبى حنيفة فى جواز تعديل النساء ألا ترى قول عائشة عن زينب: (وهى التى كانت تسامينى فعصمها الله بالورع) . وهذا تزكية من عائشة أيضًا لزينب وشهادة لها بالفضل، ومن كانت بهذه الصفة جازت تزكيتها. قال المؤلف: ومن لم يجز تزكية النساء فإنما ذهب إلى ذلك، والله أعلم، لنقصان النساء عن معرفة وجوه التزكية؛ لأن من شرط مالك والشافعى فى التزكية أن يقول: أراه عدلا رضىً أو عدلا علىّ ولى، ولأن هذا لا يعلم إلا بالاختيار لأحوال الرجال وطول المباشرة فى المعاملة وغيرها، والنساء لا يمكنهن تعرف أحوال الرجال من هذه الوجوه، وقد خص الله أزواج نبيه من الفضل ما لا يوجد فى غيرهن ممن يأتى بعدهن من النساء، فاحتيط فى التعديل وأخذ فيه بشهادة الرجال. فإن قيل: فإذا كان كما ذكرت فجوزّ تعديل النساء على ما ترجم به البخارى لإمكان تعريف النساء أحوال النساء.(8/38)
قيل: لو قال قائل: إنه يجوز أن يزكى بعضهن بعضًا بقول حسن وثناء جميل، ولا يكون تعديلا فى شهادة توجب أخذ مال، وإنما هو إبراء من شر قيل؛ لكان حسنًا، وشهادة النساء إنما أجازها الله تعالى فى الديون والأموال مع الرجال، وأجازها المسلمون فى عيوب النساء وعوراتهن وحيث لا يمكن الرجال مشاهدته، وأما فى غيره فلا يجوز فيه غير الرجال، ألا ترى أنه لا تجوز شهادتهن منفردات على شهادة امرأة، ولا رجل عند جمهور العلماء، ولا تجوز مع الرجال فى ذلك عند الشافعى، وابن الماجشون، وابن وهب، واختاره سحنون، وإنما تجوز مع الرجال عند مالك والكوفيين، فكيف يجوز تعديلهن منفردات عند أبى حنيفة وأبى يوسف، وهما يجيزان شهادتهن على الشهادة منفردات؟ هذا تناقض. قال المهلب: وفى حديث الإفك من الفقه سوى ما مر منه فى غير هذا الموضع خروج النساء إلى حاجة الإنسان بغير إذن أزواجهن. وفيه: خدمة الرجال لما يركبنه النساء من الدواب، واحتمالهن فى الهوادج. وفيه: ترك مكالمة النساء ومخاطبتهن فى ذلك. وفيه: كتم ما يقال فى الإنسان من القبيح عنه، كما كتم قول الناس فى عائشة عنها حتى أعلمتها أم مسطح به. وفيه: تشكى السلطان والإمام بمن يؤذيه فى أهله، وفى غير ذلك إلى المسلمين والاستعذار منه. وفيه: مشاورة الرجل بطانته فى فراق أهله لقول قيل.(8/39)
وفيه: الكشف والبحث عن الأخبار الواردة إن كان له نظائر أم لا، لسؤال النبى (صلى الله عليه وسلم) بريرة وأسامة وزينب وغيرهم من بطانته عن عائشة، وعن سائر أفعالها وما يغمص عليها، والحكم بما يظهر من الأفعال على ما قيل. وفيه: أن المرأة لا تخرج إلى دار أبويها إلا بإذن زوجها. وفيه: فضيلة من شهد بدرًا من المسلمين وأن الدعاء عليهم وجفاء الكلمة منهم مما يجب أن ينكر كما أنكرته عائشة على أم مسطح فى ابنها مع ما للأبوين من المقال مما ليس لغيرهما. وفيه: توقيف المقول فيه على ما يقال وأمره بالتوبة إن كان أذنب. وفيه: أن الاعتراف بما فشا من الباطل لا يحل ولا يجمل. وفيه: أن عاقبة الصبر الجميل فيه الغبطة والعزة فى الدارين. وفيه: أن النبى (صلى الله عليه وسلم) ليس كان يأتيه الوحى متى أراد لبقائه شهرًا لا يوحى إليه. وفيه: ترك حد من له منعة والتعرض لما يخشى من تفرق الكلمة وظهور الفتنة، كما ترك النبى (صلى الله عليه وسلم) التعرض لحد عبد الله بن أبى ابن سلول. وفيه: غضب المسلمين لعرض إمامهم وسلطانهم. وفيه: أن المعصية تنقل عن اسم الصلاح كما نقلت سعد(8/40)
بن عبادة من الصلاح عصبيته لعبد الله بن أبى عن حاله؛ لقول عائشة: (وكان قبل ذلك رجلا صالحًا) . وفيه: أنه قد يسب الرجل أو يرمى بشىء نسب إليه، وإن لم يكن فيه ما نسب؛ لقول أسيد: (كذبت لعمرو الله؛ فإنك منافق تجادل عن المنافقين) ولم يكن سعد منافقًا لكن مجادلته عنه استحل منه أسيد أن يرميه بالنفاق. وفيه: أن الشبهة تسقط العقوبة كما سقط الحد، وتبيح الفرض وتسقط الحرمة. وفيه: أن من آذى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى أهله أو فى عرضه أنه يقتل؛ لقول أسيد: (إن كان من الأوس قتلناه) ولم يرد عليه النبى (صلى الله عليه وسلم) شيئًا، فكذلك من سب عائشة بما برأها الله منه، أنه يقتل لتكذيبه القرآن المبرئ لها وتكذيبه الله ورسوله. وقال قوم: لا يقتل من سبها بغير ما برأها الله منه. قال المهلب: والنظر عندى يوجب أن يقتل من سب أزواج النبى (صلى الله عليه وسلم) بما رميت به عائشة أو بغير ذلك؛ لأن قول أسيد: (إن كان من الأوس قتلناه) إنما قال ذلك قبل نزول القرآن، ولم يرد النبى (صلى الله عليه وسلم) قوله، ولو كان قوله غير الصواب لما وسع النبى (صلى الله عليه وسلم) السكوت عنه؛ لأنه مفروض عليه بيان حدود الله، ومن سب أزواجه (صلى الله عليه وسلم) فقد آذاه ونقصه فهو متهم بسوء العقيدة فى إيمانه بالنبى (صلى الله عليه وسلم) فهو دليل على إبطانه النفاق. وفيه: معاقبة المؤذى بقطع المعروف عنه.(8/41)
وفيه: الأخذ بالعفو والصفح عن المسئ، وأن ذلك مما يغفر الله به الذنوب.
ذكر ألفاظ من الغريب وقعت فى حديث الإفك، وفى المغازى، والتفسير
قولها: (فإذا عقد لى من جزع أظفار) هكذا رواه فليح بن سليمان، عن ابن شهاب، وكذلك رواه يونس، عن ابن شهاب فى تفسير القرآن فى سورة النور، وأهل اللغة لا يعرفون هذا ويقولون: من جزع ظفار وهو مبنى على الكسر كما تقول: حزام ورقاس، وقد رواه البخارى (ظفار) كما قال أهل اللغة فى كتاب المغازى من رواية صالح بن كيسان، عن ابن شهاب. قال ابن قتيبة: ظفار مدينة باليمن وهو جزع ظفارى. قال صاحب العين: الجزع ضرب من الجزر، والجزع بكسر الجيم، جانب الوادى ومنعطفه. والعلقة ما فيه بلغة من الطعام إلى وقت الغداة، والعلاق مثله. عن صاحب العين. وقوله: (معرسين فى نحر الظهيرة) التعريس: النزول. قال الخطابى: ونحر الظهيرة أول القائلة. وقد روى: (موغرين فى نحر الظهيرة) فمعنى موغرين أى: مهجرين، يقال: رأيت فلانًا فى وغر الهاجرة. وهو شدة الحر حين تكون الشمس فى كبد السماء، ومنه وغر الصدر: وهو التهاب الحقد وتوقده فى القلب ومن هذا إيغار الماء. قال ابن السكيت: وهو أن تسخن الحجارة، ثم تلقى فى الماء لتسخنه.(8/42)
والمتبرز: المكان الذى تقضى فيه حاجة الإنسان، والبراز أيضًا اسم ذلك المكان، وبها سمى الحدث برازًا، كما يسمى الحدث بالغائط وهو المطمئن من الأرض. والتنزه: البعد عن البيوت، وكانوا يبعدون عنها عند حاجة الإنسان. وقولها: (تعس مسطح) التعس: ألا ينتعش من عثرته. وقد تعس تعسًا وأتعسه الله. وقد تقدم فى باب الحراسة فى الغزو. وقول بريرة: (ما رأيت أمرًا أغمصه عليها) يقال: رجل مغموص عليه فى دينه: إذا طعن عليه فيه. وفى كتاب الأفعال: غمص الناس غمصًا: احتقرهم وطعن عليهم، والغمص فى العين كالرمص. وقال الطبرى: (الداجن) الشاة المعتادة للقيام فى المنزل إذا سمنت للذبح واللبن، ولم تسرح فى المسرح، وكل معتاد موضعًا هو به مقيم فهو كذلك داجن. يقال: دجن فلان بمكان كذا ودجن به إذا أقام به. وقوله: (ما دام مجلسه) أى: ما برح منه. عن صاحب العين. (والبرحاء) : شدة الحر. من كتاب العين. وقال الخطابى: البرحاء: شدة الكرب، مأخوذ من قولك: برحت بالرجل إذا بلغت به غاية الأذى والمشقة. ويقال: لقيت منه البرح. (تسامينى) : المسامة مفاعلة من سما يسمو إذا ارتفع وتطاول. قال صاحب الأفعال: سما الفحل سماوة: تطاول على سواه. ومما وقع فى حديث الإفك من الغريب فى كتاب المغازى والتفسير قولها: (وكان النساء خفافًا لم يهبلن ولم يغشهن اللحم) قال صاحب العين: المهل: الكثير اللحم. قال أبو عبيدة: يقال منه: أصبح فلان مهبلا إذا كان مورم الوجه متهيجًا وأنشد أبياتًا:(8/43)
ريان لا غاش ولا مهبل الغش: الرقيق عظام اليدين والرجلين. وقول عروة فى عبد الله بن أبىّ أنه كان يشاع ويتحدث عنده فيقره ويسمعه ويستوشيه. قال ثابت: يستوشيه أى: يأتلف عليه ويستدعيه ويستخرجه كما يستخرج الفارس جرى الفرس بعقبه وبالسوط. وقال يعقوب: يقال: مرّ فلان يركض فرسه ويربه ويستزده ويستوشيه، كل ذلك طالب ما عنده ليزيده. وقيل: هو من قولك: وشى الكذب وشاية. وقال صاحب العين: وشى النمام يشى وشاية، ووشى الحائك الثوب يشى وشيًا. وفيه: (قلص دمعى نابت) ، يقال: قلص الدمع: ارتفع. وقلص الظل: تقلص. ابن السكيت: قلص الماء فى البئر إذا ارتفع، وهو ماء قليص. وفيه: (ما كشف كنف أنثى) قال ثابت: الكنف هاهنا الثوب الذى يكنفها أى: يسترها، ومنه قولهم: هو فى حفظ الله وكنفه. قال أبو حاتم: وبعض العرب يقول: أنت فى كنفى. وكنفا الطائر: جناحاه. والكنف أيضًا: الجانب. وناحيتا كل شىء: كنفاه. وأكناف الجبل والوادى: نواحيه. ومما وقع فى تفسير القرآن فى سورة النور قول أم مسطح لعائشة: (أى هنتاه) معناه: يا امرأة. وقد تقدم تفسير هذه اللفظة فى كتاب الحج فيمن قدم ضعفة أهله بالليل فيقفون بالمزدلفة ويدعون فى حديث أسماء وفيه: أشيروا على فى أناس أبنوا أهلى التائبين. ذكر الشىء وتتبعه.(8/44)
وقال الراعى: فرفع أصحابى المطى وأبنوا هنيدة فاشتاق العيون اللوامح قال ابن السكيت: أبنوا هنيدة كأنهم جروا بها وذكروها. ومن روى: أبنوا علىّ أهلى بالتخفيف معناه: فرقوها. قال ابن دريد: أمر الرجل الخيل وأبن به، فهو مأمور ومأبون وهما سواء. وقولها: (فنفرت لى الحديث) أى: شرحته وبينته. عن ثابت. وقال صاحب العين: نفر عن الأمر أى: بحث عنه. وفيه بريرة: (أنهرها بعض أصحابه فقال لها: اصدقى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حتى أسقطوا لها به. فقالت: سبحان الله، والله ما أعلم عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر) يحتمل أن يكون معنى قولها (حتى أسقطوا لها به) مأخوذ من قولهم سقط إلى الخبر: إذا علمته، ومن قولهم: فلان يساقط الحديث، معناه: يرويه، ومنه قول بشير بن سعد: كنا نجالس سعدًا فكان يتحدث حديث الناس والأخلاق، وكان يساقط فى ذلك الحديث عن رسول الله، وقوله: (يساقط) معناه يروى الحديث فى خلال كلامه. قال أبو حميد النمرى: إذا هن ساقطن الحديث وقلن لى أخفت علينا [. . . . .] وتخدعا فمعنى قولها: (حتى أسقطوا لها به) أى: ذكروا لها الحديث وبينوه فعند ذلك قالت: (سبحان الله، والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر) إنكارًا أو إعظامًا أن تنطق بمثل هذا القول عمن اختارها الله زوجًا لأطيب خلقه وأفضلهم وجعلها أحب إليه من جميع نساء العالمين، ولا تجوز أن تكون إلا طيبة مثله(8/45)
بقوله تعالى: (والطيبات للطيبين) [النور: 26] ، فلذلك برأها الله فى القرآن المكرم بما تكرر تلاوته إلى يوم القيامة.
- باب إِذَا زَكَّى رَجُلٌ رَجُلا كَفَاهُ
وَقَالَ أَبُو جَمِيلَةَ: وَجَدْتُ مَنْبُوذًا، فَلَمَّا رَآنِى عُمَرُ، قَالَ: عَسَى الْغُوَيْرُ أَبْؤُسًا، كَأَنَّهُ يَتَّهِمُنِى، قَالَ عَرِيفِى: إِنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ، قَالَ: كَذَاكَ اذْهَبْ، وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ. / 25 - فيه: أَبو بَكْرَةَ: أَثْنَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (وَيْلَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ، قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ، مِرَارًا، ثُمَّ قَالَ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لا مَحَالَةَ، فَلْيَقُلْ: أَحْسِبُ فُلانًا، وَاللَّهُ حَسِيبُهُ، وَلا أُزَكِّى عَلَى اللَّهِ أَحَدًا، أَحْسِبُهُ كَذَا وَكَذَا، إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ) . هذا الباب موافق لمذهب أبى حنيفة أنه يجوز تعديل رجل واحد، واحتج أصحابه بحديث أبى جميلة فى ذلك. وقد تقدم اختلاف العلماء فى ذلك فى باب تعديل كم يجوز. قال المهلب: وأما الذين لم يجيزوا تزكية رجل واحد فقالوا: إن هذا السؤال من عمر إنما كان على طريق الخبر لا على طريق الشهادة، وهذا أصل فى أن القاضى إذا سأل عن أحد فى مجلس نظره، فإنه يجتزئ بخبر الواحد وتعديله إذا كان القاضى هو الكاشف لأمره؛ لأن ذلك بمنزلة علم القاضى إذا علم عدالة الشاهد، ألا ترى أن عمر قنع بقول العريف إذ كان خبرًا. وأما إذا كلف المشهود له أن يعدل(8/46)
شهوده فلا يقبل أقل من رجلين كما ذكر الله فى كتابه. هذا قول أصبغ بن الفرج. قال المهلب: وإنما أنكر (صلى الله عليه وسلم) فى حديث أبى بكرة قطعه بالصلاح والخير له، ولم يرد العلم إلى الله فى ذلك، ألا ترى أنه أمره إذا أثنى أحد على أحد أن يقول: أحسب. ولا يقطع؛ لأنه لا يعلم السرائر إلا الله، وهو فى معنى الخبر لا فى معنى الشهادة. وروى أشهب عن مالك أنه سئل عن قول عمر بن الخطاب: (ما حملك على أخذ هذه النسمة؟) فقال مالك: اتهمه عمر أن يكون ولده أتاه به ليفرض له فى بيت المال، ويحتمل أنه ظن به أنه يريد أن يفرض له ويلى أمره ويأخذ ما يفرض له ويصنع به ما شاء، فلما قال له عريفه: إنه رجل صالح، صدقه. وأما قوله: (وعلينا نفقته) يعنى: رضاعه ومئونته من بيت المال. وقال عيسى بن دينار: وكان عمر دوّن الدواوين، وقسم الناس أقسامًا، وجعل على كل ديوان عريفًا ينظر عليهم، فكان الرجل الذى وجد المنبوذ من ديوان الرجل الذى زكاه عند عمر. وفى قول العريف لعمر: (إنه رجل صالح) وتقرير عمر للرجل على ذلك فقال: نعم. فيه: أن مباحًا للإنسان أن يزكى نفسه ويخبر بالصلاح عنها إذا احتيج إلى ذلك وسئل عنه، وهكذا رواه مالك فى الموطأ فقال عمر: (أكذلك؟ قال: نعم) .(8/47)
- باب مَا يُكْرَهُ مِنَ الإطْنَابِ فِى الْمَدْحِ وَلْيَقُلْ مَا يَعْلَمَهُ
/ 26 - فيه: أَبُو مُوسَى: (سَمِعَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) رَجُلا يُثْنِى عَلَى رَجُلٍ، وَيُطْرِيهِ فِى مَدْحِهِ، فَقَالَ: أَهْلَكْتُمْ، أَوْ قَطَعْتُمْ ظَهَرَ الرَّجُلِ) . قال المهلب: وإنما قال هذا، والله أعلم، لئلا يغتر الرجل بكثرة المدح، ويرى أنه عند الناس بتلك المنزلة، فيترك الازدياد من الخير ويجد الشيطان إليه سبيلا، ويوهمه فى نفسه حتى يضع التواضع لله، وكان السلف يقولون: إذا أثنى على أحدهم: اللهم اغفر لنا ما لا يعلمون واجعلنا خيرًا مما يظنون. وقال يحيى بن معاذ: العاقل لا يدعه ما ستر الله عليه من عيوبه بأن يفرح بما أظهره من محاسنه.
- باب بُلُوغِ الصِّبْيَانِ وَشَهَادَتِهِمْ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا) [النور: 59]
. وَقَالَ مُغِيرَةُ: احْتَلَمْتُ، وَأَنَا ابْنُ ثِنْتَىْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَبُلُوغُ النِّسَاءِ فِى الْحَيْضِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (وَاللائِى يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ) [الطلاق: 4] إِلَى قَوْلِهِ: (أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ (. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: أَدْرَكْتُ جَارَةً لَنَا جَدَّةً بِنْتَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً. وذكر الشافعى أنه رأى باليمن جدة بنت إحدى وعشرين سنة حاضت لتسع وولدت لعشر وعرض مثل ذلك لابنتها، ويذكر أن عمرو بن العاص بينه وبين ابنه اثنتا عشرة سنة. / 27 - فيه: ابْنُ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَرَضَهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ(8/48)
سَنَةً، قَالَ: فَلَمْ يُجِزْنِى، ثُمَّ عَرَضَنِى يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَأَجَازَنِى، قَالَ نَافِعٌ، فَقَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِالْعَزِيزِ، وَهُوَ خَلِيفَةٌ، فَحَدَّثْتُهُ هَذَا الْحَدِيثَ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَحَدٌّ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَكَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ أَنْ يَفْرِضُوا لِمَنْ بَلَغَ خَمْسَ عَشْرَةَ. / 28 - وفيه: أَبُو سَعِيدٍ، قَالَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) : (غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ) . أجمع العلماء على أن الاحتلام فى الرجال والحيض فى النساء هو البلوغ الذى تلزم به العبادات والحدود والاستئذان وغيره، وأن من بلغ الحلم فأونس منه الرشد جازت شهادته ولزمته الفرائض وأحكام الشريعة؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (غسل الجمعة واجب على كل محتلم) فعلق الغسل بالاحتلام. وببلوغ الحلم وإيناس الرشد يجوز دفع ماله إليه؛ لقوله: (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أموالهم) [النساء: 6] ، وبلوع النكاح هو الاحتلام، واختلفوا فيمن تأخر احتلامه من الرجال أو حيضته من النساء، فروى عن القاسم وسالم أن الإنبات حد البلوغ. وهو قول الليث، وبه قال أحمد وإسحاق. وقال مالك بالإنبات أو أن يبلغ من السن ما يعلم أن مثله قد بلغ. قال ابن القاسم: وذلك سبع عشرة أو ثمان عشرة سنة، وفى النساء هذه الأوصاف أو الحبل. إلا أن مالكًا لا يقيم الحد بالإنبات إذا زنى أو سرق ما لم يحتلم، أو يبلغ من السن ما يعلم أن مثله لا يبلغه حتى يحتلم فيكون عليه الحد. ولم يعتبر أبو حنيفة الإنبات، وقال: حد البلوغ فى الجارية سبع عشرة سنة، وفى الغلام تسع عشرة. وروى عنه فى الغلام ثمان عشرة(8/49)
مثل قول ابن القاسم، وهو قول الثورى، واختلف قول الشافعى فى الإنبات فقال: يكون بالغًا فى المسلمين. وقال: لا يكون بلوغًا. ولم يختلف قوله أنه محكوم به فى المشركين إذا عدم الاحتلام. اعتبر الشافعى خمس عشرة سنة فى الذكور والإناث، وأخذ بحديث ابن عمر أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أجازه يوم الخندق. وهو مذهب الأوزاعى وأبى يوسف ومحمد، وبه قال ابن الماجشون وابن وهب. واحتج من اعتبر الإنبات بما رواه سعيد بن إبراهيم، عن عامر بن سعد بن أبى وقاص، عن أبيه أن سعد بن معاذ حكم على بنى قريظة أن يقتل منهم كل من جرت عليه المواسى، فقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (حكمت فيهم بحكم الله) . وبما روى نافع، عن أسلم، عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى أمراء الأجناد ألا يضربوا الجزية إلا على من جرت عليه المواسى. وقال عثمان بن عفان فى غلام سرق: إن اخضر مئزره فاقطعوه، وإن لم يخضر فلا تقطعوه. قال ابن القصار: ووجه قول من جعل الثمان عشرة وشبهها حدا للبلوغ، وإن لم يكن إنبات ولا احتلام قول الله تعالى: (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هى أحسن حتى يبلغ أشده) [الأنعام: 152] ، فقال ابن عباس فى تفسير ذلك: ثمان عشرة سنة. ومثل هذا لا يعلم إلا من جهة التوقيف، وقد أجمعوا على اعتبار البلوغ فى دفع المال إليه، فدل أن البلوغ يتعلق بهذا القدر من السن دون غيره إلا أن يقوم دليل. وأما تفرقة الشافعى بين المسلمين والمشركين فى الإنبات على أحد(8/50)
قوليه فلا معنى له؛ لأن كل ما جاز أن يكون علامة فى البلوغ للكافر جاز أن يكون فى المسلم، أصله الحيض فى النساء. وأما اعتبار خمس عشرة سنة فى حد البلوغ إذا لم يحصل فيها احتلام ولا إنبات، فليس فى خبر ابن عمر ذكر البلوغ الذى به تعلق أحكام الشريعة، وإنما فيه ذكر الإجازة فى القتال، وهذا المعنى يتعلق بالقوة والجلد، ومن أصل الجميع أن الحكم متى نقل سببه تعلق به، فإنما أجازه للقتال خاصة بها السن ومن أجلها عرض، ونحن نجيز قتال الصبى إذا لم يبلغ هذا السن ويسهم له إذا قاتل. وقد روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه كان يجيز المراهقين إذا بلغوا حد من يقاتل، وقال سمرة بن جندب: عرضت على النبى (صلى الله عليه وسلم) فى بعض غزواته فلم يجزنى، وعرض عليه غلام غيرى فأجازه، فقلت: يا رسول الله، قبلته ورددتنى، فلو صارعنى لصرعته، فقال: (صارعه) ، فصرعته، ففرض له النبى (صلى الله عليه وسلم) . وعلى ما تأول ابن القصار حديث ابن عمر تأوله أبو حنيفة وقال: إنما أجاز النبى (صلى الله عليه وسلم) ابن عمر لقوته لا لبلوغه، ورده لضعفه. قال الطحاوى: ولا ينكر أبو حنيفة أن يفرض للصبيان إذا كانوا يحتملون القتال ويحضرون الحرب، وإن كانوا غير بالغين. قال ابن المنذر: اختلف العلماء فى شهادة الصبى غير البالغ، فقالت طائفة: لا تجوز شهادته؛ لأنه ليس ممن يرضى، وإنما قال الله: (ممن ترضون من الشهداء) [البقرة: 282] ، روى هذا عن ابن عباس وعن القاسم،(8/51)
وسالم وعطاء، والشعبى والحسن وابن أبى ليلى، وهو قول الثورى والكوفيين، والشافعى وأحمد، وإسحاق وأبى ثور وأبى عبيد. وقالت طائفة: تجوز شهادتهم بعضهم على بعض فى الجراح والدم. روى عن على بن أبى طالب وابن الزبير، وشريح وعروة، والنخعى وربيعة، والزهرى ومالك. ويؤخذ بأول قولهم ما لم ينخسوا أو يتفرقوا. قال مالك: فإذا تفرقوا فلا شهادة لهم، إلا أن يكونوا قد أشهدوا العدول قبل أن يتفرقوا. قال أبو الزناد: وهى السنة أن تؤخذ شهادة الصبيان أول ما يسألون عنه ويكون مع الولى كذلك وإن هم أحدثوا ما يخالف شهادتهم الأولى لم يلتفت إليه، ويؤخذ بالأول من شهادتهم، وبذلك كان يقضى عمر بن عبد العزيز.
- باب سُؤَالِ الْحَاكِمِ الْمُدَّعِىَ هَلْ لَكَ بَيِّنَةٌ قَبْلَ الْيَمِينِ
/ 29 - فيه: عَبْدِاللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ؛ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَقِىَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ، قَالَ: فَقَالَ الأشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ: فِىَّ وَاللَّهِ كَانَ ذَلِكَ، كَانَ بَيْنِى وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ أَرْضٌ، فَجَحَدَنِى، فَقَدَّمْتُهُ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : أَلَكَ بَيِّنَةٌ قَالَ: قُلْتُ: لا، قَالَ: فَقَالَ لِلْيَهُودِىِّ: احْلِفْ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذًا يَحْلِفَ وَيَذْهَبَ بِمَالِى، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا) [آل عمران: 77] ) .(8/52)
قال المؤلف: إنما يلزم الحاكم أن يسأل المدعى: هل لك بينة؟ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) جعل البينة على المدعى، وأجمعت الأمة على القول بذلك، وأنه لا تقبل دعوى أحد على أحد دون بينة. وقال المهلب: معنى سؤال الحاكم المدعى البينة قبل اليمين، خوفًا أن يحلف له المطلوب، ثم يأتى بعد ذلك المدعى ببينة فيأخذ منه حقه؛ فيحصل المطلوب تحت يمين كاذبة غموس يستحق بها عقاب الله، إن شاء أن ينفذ عليه الوعيد، ثم يؤخذ المال منه له كالظلم، فإذا سأله: هل لك بينة؟ فقال: لا. لم يكن له الرجوع عليه ببينة إلا أن يحلف أنه ما علم بها يوم قال: لا، وسيأتى بعد. واختلف العلماء فى المدعى يثبت البينة على ما يدعيه هل للحاكم أن يستحلفه مع بينته أم لا؟ فكان شريح وإبراهيم النخعى يريان أن يستحلف مع بينته أنها شهدت بحق، وقد روى ابن أبى ليلى، عن الحكم، عن حنش أن عليا استحلف عبيد الله بن الحر مع بينته، وهو قول الأوزاعى والحسن بن حى، وقال إسحاق: إذا استراب الحاكم أوجب ذلك، وذهب مالك والكوفيون، والشافعى وأحمد إلى أنه لا يمين عليه، والحجة لهم قوله، عليه السلام، للأشعث: (ألك بينة؟) ، ولم يقل له: وتحلف معه، فلم يوجب على المدعى غير البينة، وأيضًا قوله: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء. . .) [النور: 4] الآية، فأبرأه الله من الجلد بإقامة أربعة شهداء من غير يمين.(8/53)
- باب الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِى الأمْوَالِ وَالْحُدُودِ
وَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ) . وَقَالَ ابْنِ شُبْرُمَةَ، كَلَّمَنِى أَبُو الزِّنَادِ فِى شَهَادَةِ الشَّاهِدِ وَيَمِينِ الْمُدَّعِى، فَقُلْتُ: قَالَ اللَّهُ: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ) [البقرة: 282] الآية. قُلْتُ: إِذَا كَانَ يُكْتَفَى بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ وَيَمِينِ الْمُدَّعِى، فَمَا تَحْتَاجُ أَنْ تُذْكِرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى، مَا كَانَ يَصْنَعُ بِذِكْرِ هَذِهِ الأخْرَى. / 30 - فيه: ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَضَى بِالْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. / 31 - وفيه: ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ. أجمع العلماء على استحلاف المدعى عليه فى الأموال، واختلفوا فى الحدود والطلاق والنكاح والعتاق، فذهب الشافعى أن اليمين واجب على كل مدعى عليه إذا لم يكن للمدعى بينة، وسواء كانت الدعوى فى دم أو جراح أو طلاق أو نكاح أو عتق أو غير ذلك، واحتج بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (شاهداك أو يمينه) قال: ولم يخص النبى (صلى الله عليه وسلم) مدعى مال دون مدعى دم أو غيره، بل الواجب أن يحمل قوله على العموم، ألا ترى أنه جعل القسامة فى دعوى الدم، وقال للأنصار: (تبرئكم يهود بخمسين يمينًا) والدم أعظم حرمة من المال. وقال الشافعى وأبو ثور: إذا ادعت المرأة على زوجها خلعًا أو طلاقًا، وجحد الزوج الطلاق، فالمرأة المدعية عليها البينة، فإن لم يكن لها بينة استحلف الزوج، وإن ادعى الزوج أنه خالعها على مال وهى ناشز فأنكرت المرأة، فإن أقام البينة لزمها المال، وإن لم يقم بينة(8/54)
حلفت ولزم الزوج الفراق؛ لأنه أقرَّ بذلك، وإن ادعى العبد العتق ولم تكن له بينة استحلف السيد فإن حلف برئ، وإن ادعى السيد أنه أعتق عبده على مال، والعبد منكر لذلك حلف ولزم السيد العتق. وكان سوار يحلف فى الطلاق، وكان أبو يوسف ومحمد يريان أن يستحلف على النكاح، فإن أبى أن يحلف ألزم النكاح. وذكر ابن المنذر، عن الشعبى، والثورى، وأصحاب الرأى، أنه لا يستحلف على شىء من الحدود ولا على القذف، وقالوا: يستحلفه على السرقة فإن نكل عن اليمين لزمه النكال، وفيه قول آخر: لا يمين فى الطلاق والنكاح والعتق والفرية إلا أن يقيم المدعى شاهدًا واحدًا، فإذا أقامه استحلف المدعى عليه. هذا قول مالك بن أنس. قال ابن حبيب: إذا أقامت المرأة أو العبد شاهدًا واحدًا على أن الزوج طلقها أو أن السيد أعتقه؛ فإن اليمين تكون على السيد والزوج، فإن حلفا سقط عنهما الطلاق والعتق، هذا قول مالك وابن الماجشون وابن كنانة قال مالك فى المدونة: فإن نكل قضى بالطلاق والعتق. ثم رجع مالك فقال: لا يقضى بالطلاق والعتق. ثم رجع مالك فقال: لا يقضى بالطلاق وليسجن، فإن طال سجنه دين وترك. وبهذا أخذ ابن القاسم، وطول السجن عنده سنة، وروى أشهب عن مالك فى العتبية فى الرجل يأتى بشاهد واحد على رجل شتمه: أيحلف مع شاهده ويستحق ذلك، أو يستحلف المدعى عليه ويبرأ؟ قال: لا يحلف فى مثل هذا مع الشاهد، وأرى إن كان الشاتم معروفًا بالسفه أن يعزر ويؤدب. قلت له: أفترى على المدعى عليه(8/55)
يمينًا؟ قال: نعم، وليس كل ما رأى المرء يحب أن يجعله سنة فيذهب به إلى الأمصار، فتضعف يمين المدعى عليه فى هذه المسألة حين رأى ألا يجعل قوله سنة. وذهب أهل المقالة الأولى إلى وجوب اليمين على المدعى عليه بمجرد الدعوى فى كل دعوى، ولم ير مالك على المدعى عليه يمينًا، حتى يقيم المدعى شاهدًا واحدًا فى دعوى النكاح والطلاق، والعتق والفرية. والعتاقة عند مالك حد من الحدود؛ لأنه إذا أعتق العبد ثبتت حرمته وجازت شهادته ووقعت الحدود له وعليه بخلاف ما كانت قبل ذلك ورأى فى الأموال خاصة اليمين على المدعى عليه دون شاهد يقيمه المدعى؛ لأن إيجاب البينة على المدعى واليمين على من أنكر إنما ورد فى خصام فى أرض بين الأشعث وبين رجل آخر، ففيه قال (صلى الله عليه وسلم) : (شاهداك أو يمينه) . فرأى مالك حمل الحديث على ما ورد عليه فى الأموال خاصة، ورأى فى دعوى النكاح والطلاق والعتق والفرية إذا أقام المدعى شاهدًا واحدًا أن يحلف المدعى عليه فيتبرأ بذلك من الدعوى التى قويت شبهتها بالشاهد، ولو جاز فيها دخول الأيمان دون شاهد يقيمه المدعى لأدى ذلك إلى إضاعة الحدود واستباحة الفروج ورفع الملك. ولا يشاء أحد أن يدعى نكاح امرأة فتنكر فيحلفها أو يبتذلها بذلك، فإن لم تحلف أخذها زوجها واستباح فرجها الذى هو أعلى رتبة من المال؛ لأن المال يقبل فيه شاهد وامرأتان ولا يقبل ذلك فى(8/56)
النكاح، ولو أدعى أنها زوجته وصدقته المرأة لم يحكم بينهما بثبوت الزوجية بتقاررهما دون بينة تشهد على ذلك، فكذلك لا تقبل دعوى المرأة على زوجها أنه طلقها إلا بالبينة ولا تحلفه بدعواها؛ لأن هذا يؤدى إلى أن يستبيح الأجنبى فرجها مع كونها زوجة الأول؛ لأنه لا تشاء امرأة تكره زوجها إلا ادعت عليه كل يوم طلاقها، ولا يشاء عبد العتق إلا ادعى على مولاه أنه أعتقه، ولا سيما إذا علم أن الزوج أو السيد ممن لا يحلف فى مقطع الحقوق فكثير من الناس يتجنب ذلك، وإن لم يحلف الزوج ولا السيد طلقت المرأة وعتق العبد، هذا على قول مالك الأول الذى أوجب العتق والطلاق بالنكول، والقول الآخر الذى رجع إليه أشد احتياطًا فى تحصين الفروج والحدود. وأما قياس الشافعى كل دعوى على القسامة، فالقسامة باب مخصوص ولا يجوز أن يقاس على المخصوص، ولا يجوز أن يؤخذ ما أصله موجود فى سنة النبى (صلى الله عليه وسلم) فيجعل فرعًا يقاس على أصل لا يشبهه؛ لأن قياس الأصول بعضها على بعض لا يجوز، ولو كان فرعًا ما جاز قياسه على أصل لا يشبهه وأحق الناس بأن يمنع أن يجعل فى باب الدعوى بالدم قياسًا على القسامة من لا يرى القود بالقسامة وهو الشافعى، والقسامة يبدأ فيها المدعى باليمين عند مالك والشافعى، والمدعى عليه فى غير هذا يبدأ باليمين وأيضًا فإن القسامة لم يحكم فيها بالأيمان إلا بعد اللوث، وأقيمت الأيمان مقام الشهادة وغلظت حتى جعلت خمسين يمينًا، وليس هذا فى شىء من الأحكام. وقال محمد بن عمر بن لبابة: مذهب مالك على ما روى عن عمر(8/57)
بن عبد العزيز أنه لا يجب يمين إلا بخلطة، وبذلك حكم القضاة عندنا، والذى أذهب إليه فى خاصة نفسى وأفتى به من قلدنى فاليمين بالدعوى؛ لقول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (اليمين على المدعى عليه) . وقال ابن المنذر: لما جعل النبى (صلى الله عليه وسلم) اليمين على المدعى عليه دخل فى ذلك الخيار والشرار، والمسلمون والكفار، والرجال والنساء علم بين المدعى والمدعى عليه معاملة أم لا. هذا قول الكوفيين والشافعى، وأصحاب الحديث وأحمد بن حنبل. قال ابن المنذر: ولما قال من خالفنا أن البينة تقبل بغير سبب تقدم من معاملة بين المدعى وبين صاحبه، وجب كذلك أن يستحلف المدعى عليه وإن لم تعلم معاملة تقدمت بينهما؛ لأن مخرج الكلام من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) واحد، وما أحد فى أول ما يعامل صاحبه إلا ولا معاملة كانت بينهما قبلها. واحتج الكوفيون بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (شاهداك أو يمينه) فى أن اليمين لا يجب ردها على المدعى إذا نكل المدعى عليه. قالوا: ويحكم بنكول المدعى عليه، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (شاهداك أو يمينه) ولم يقل: أو يمينك، ولو كان الحكم يتعلق بيمين المدعى لذكره كما ذكر بينة المدعى ويمين المدعى عليه، وستأتى مذاهب العلماء فى رد اليمين فى باب القسامة. وقوله: (شاهداك أو يمينه) . قال سيبويه: المعنى: ما يثبت لك شاهداك، وتأويله ما يثبت لك بشهادة شاهديك فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.(8/58)
وأما احتجاج ابن شبرمة على أبى الزناد فى إبطال الحكم باليمين مع الشاهد، فإن العلماء اختلفوا فيه، فممن وافق ابن شبرمة فى ذلك: ابن أبى ليلى، وعطاء، والنخعى، والشعبى، والكوفيون، والأوزاعى قالوا: لا يجوز القضاء باليمين مع الشاهد. قال محمد ابن الحسن: وإن حكم قاض بذلك نقض حكمه، وهو بدعة. قالوا: وقال ابن شهاب: إنه بدعة، أول ما حكم به معاوية، وهو قول الزهرى، والليث. وروى عن أبى بكر الصديق وعمر وعلى وأبى بن كعب أنه يحكم باليمين مع الشاهد، وهو قول الفقهاء السبعة المدنيين وربيعة وأبى الزناد، وقال به من أهل العراق: الحسن البصرى وعبد الله بن عتبة وإياس بن معاوية. قال مالك والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور والحكم به فى الأموال عندهم خاصة، وأجمعوا أنه لا يجب حد بيمين وشاهد. واحتج الكوفيون فقالوا: الحكم باليمين مع الشاهد خلاف القرآن والسنة؛ لقوله تعالى: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) [البقرة: 282] ، وقوله: (شاهداكم أو يمينه) فيقال لهم: ليس بخلاف للقرآن والسنة كما توهمتموه، وإنما هو زيادة كنكاح المرأة على عمتها وخالتها مع قوله تعالى: (وأحل لكم ما وراء ذلكم) [النساء: 24] ، ومثل المسح على الخفين مع ما نزل به القرآن من غسل الرجلين ومسحهما، فكذلك ما قضى به النبى (صلى الله عليه وسلم) لعبد الله مع اليمين مع الشاهد مع قوله تعالى: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) [البقرة: 282] .(8/59)
ويقال لهم: إن مالكًا أوجب القصاص فى الجراح باليمين مع الشاهد، فقال فى المدونة: وكل جرح فيه قصاص فإنه يقتص فيه بيمين وشاهد، وقاله عمر بن عبد العزيز، ووقع له فى كتاب الأقضية ما يوهم خلاف هذا الأصل فقال: ومن ادعى على رجل قصاصًا وأنه ضربه بالسوط لم يجب عليه يمين إلا أن يأتى بشاهد فيستحلف له، وقد كان يجب على أصله المتقدم أن يحلف المضروب مع شاهده ويقتص، ولم يجب ذلك له مالك فى هذه المسألة، ووجه المسألتين أن القصاص المذكور فى هذه المسألة الأخيرة ليس بجرح يجب فيه قصاص ولا دية معلومة، وإنما هو فى الركضة واللطمة، ألا ترى أنه جعل القصاص المذكور مع الضربة بالسوط؛ وليس فى شىء من ذلك قصاص عنده مثله، وإنما فيه أدب الإمام، والأدب لا يجب بشاهد ويمين، وإنما هو إلى اجتهاد الإمام، ولو وجب ذلك بشاهد ويمين لكن مقدرًا، ولم يكن فيه لاجتهاد السلطان مدخل، والمسألة الأولى القصاص فيها إلى المجروح وهو من حقوقه فهو كسائر الحقوق التى يستحقها بشاهد ويمين، ولابد مع القصاص من أدب السلطان بجرأته على جرحه، والمسألة الأخرى إنما فيها أدب التعدى فقط فلذلك يحلف فيها المدعى، واحتج الكوفيون أيضًا فقالوا: الزيادة عندنا على النص نسخ له. قال ابن القصار: فالجواب أن ذلك بيان وليس بنسخ؛ لأن النسخ إنما هو لو ورد مقترنًا به لم يمكن الجمع بينهما، وفى هذا الموضع(8/60)
لو ورد مقترنًا لجاز أن يجمع بينهما وهو أن يقول تعالى: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم أو شاهدًا وامرأتين أو شاهدًا ويمين) فإن ذلك لا يتنافى، وإثبات شاهد ويمين هو إثبات حكم كما يأمرنا بالصلاة ثم يوجب الصوم. وقد تناقض الكوفيون فى هذا الأصل، فنقضوا الطهارة بالقهقهة وزادوها على الأحداث الثمانية، وجوزوا الوضوء بالنبيذ، وزادوه على الوضوء بالماء المنصوص عليه فى الكتاب والسنة، ولم يجعلوا ذلك نسخًا لما تقدم فتركوا أصلهم. وقد احتج مالك لهذه المسألة فى الموطأ فقال: من الحجة فيها أن يقال: أرأيت لو أن رجلا ادعى على رجل مالا، أليس يحلف المطلوب ما ذلك الحق عليه؟ فإن حلف بطل ذلك الحق عنه، وإن نكل عن اليمين حلف صاحب الحق أن حقه لَحَق، وثبت حقه على صاحبه، فهذا ما لا اختلاف فيه عند أحد من الناس، فمن أقر بهذا فليقر باليمين مع الشاهد. يريد مالك أنه إذا حلف صاحب الحق فإنه يقضى له بحقه ولا شاهد معه، فكيف بمن معه شاهد؟ فهو أولى أن يحلف مع شاهده. قال المهلب: والشاهد واليمين إنما جعله الله رخصة عند عدم الشاهد الآخر بموت أو سفر أو غير ذلك من العوائق كما جعل تعالى رجلا وامرأتين رخصة عند عدم شاهدين؛ لأنه معلوم أنه لا يحضر المتبايعين شاهدان عدلان أو أكثر فيقتصرا على شاهد وامرأتين أو على شاهد واحد، هذا غير موجود فى العادات، بل من شأن الناس الاستكثار من الشهود، فنقل الله العباد فى صفة الشهود من حال إلى حال أسهل منها رفقًا من الله بخلقه، وحفظًا لأموالهم فلا تناقض فى(8/61)
شىء من ذلك، والحديث فى ذلك رواه مالك، عن جعفر بن محمد، عن أبيه (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قضى باليمين مع الشاهد) .
- باب إِذَا ادَّعَى أَوْ قَذَفَ فَلَهُ أَنْ يَلْتَمِسَ الْبَيِّنَةَ وَيَنْطَلِقَ لِطَلَبِ الْبَيِّنَةِ
/ 32 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ هِلالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (الْبَيِّنَةُ أَوْ حَدٌّ فِى ظَهْرِكَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِذَا رَأَى أَحَدُنَا عَلَى امْرَأَتِهِ رَجُلا، يَنْطَلِقُ يَلْتَمِسُ الْبَيِّنَةَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: الْبَيِّنَةَ أَوْ حَدٌّ فِى ظَهْرِكَ، فَذَكَرَ حَدِيثَ اللِّعَانِ) . هذا الحديث إنما هو فى رمى أحد الزوجين صاحبه، فهو الذى يقال له: انطلق فائت بالبينة؛ لأن الزوجين ليس بينهما جلد، وإنما سقط الجلد بينهما بالتلاعن، والأجنبيون بخلاف حكم الزوجين فى ذلك؛ فإذا قذف أجنبى أجنبيا لم يترك لطلب البينة ولا يضمنه أحد، بل يحبسه الإمام خشية أن يفوت أو يهرب، أو يرتاد من يطلب بينته، وإنما لم يضمنه أحد، لأن الحدود لا كفالة فيها ولا ضمان؛ لأنه لا يحد أحد عن أحد. وقوله: (البينة وإلا حد فى ظهرك) كان قبل نزول حكم اللعان على ظاهر قوله تعالى: (والذين يرمون المحصنات) [النور: 4](8/62)
الآية. فدخل فى حكم الآية الزوجان وغيرهما، فلما نزل قوله تعالى: (والذين يرمون أزواجهم) [النور: 5] ، وحكم الله باللعان بين الزوجين بخلاف حكم الأجنبيين، وخص الزوجين بألا يحد المتلاعن إلا أن يأبى من اللعان، وكذلك المرأة إذا أبت من اللعان بعد لعان الزوج حدت، بخلاف أحكام الأجنبيين أنه من لم يقم البينة على قذفه وجب عليه الحد؛ لقوله: (وإلا حد فى ظهرك) .
- باب يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَيْثُمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ وَلا يُصْرَفُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى غَيْرِهِ
قَضَى مَرْوَانُ بِالْيَمِينِ عَلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: أَحْلِفُ لَهُ مَكَانِى، فَجَعَلَ زَيْدٌ يَحْلِفُ، وَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَجَعَلَ مَرْوَانُ يَعْجَبُ مِنْهُ، وَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ، فَلَمْ يَخُصَّ مَكَانًا دُونَ مَكَانٍ. / 33 - فيه: ابْنِ مَسْعُود، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ؛ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالا، لَقِىَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ) . اختلف العلماء فى هذا الباب فقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يجب استحلاف أحد عند منبر النبى (صلى الله عليه وسلم) ولا بين الركن والمقام فى قليل الأشياء ولا كثيرها ولا فى الدماء، وإنما يحلفون الحكام من وجبت عليه اليمين فى مجالسهم. وإلى هذا القول ذهب البخارى، وقال مالك: لا يحلف أحد عند منبر إلا منبر النبى (صلى الله عليه وسلم) ومن أبى أن يحلف عند منبر النبى (صلى الله عليه وسلم) فهو كالناكل عن اليمين، ويجلب فى(8/63)
أيمان القسامة إلى مكة من كان من عملها فيحلف بين الركن والمقام، ويجلب إلى المدينة من كان من عملها فيحلف عند المنبر. وهو قول الشافعى. ولا يكون اليمين عند مالك فى مقطع الحق فى أقل من ثلاثة دراهم قياسًا على القطع، وعند الشافعى فى عشرين دينارًا قياسًا على الزكاة، كذلك عند منبر كل مسجد، وروى ابن جريج، عن عكرمة قال: أبصر عبد الرحمن بن عوف قومًا يحلفون بين المقام والبيت فقال: أعلى دم؟ فقيل: لا. قال: أفعلى عظيم من المال؟ قيل: لا. قال: لقد خشيت أن يتهاون الناس بهذا المقام. قال: ومنبر النبى (صلى الله عليه وسلم) فى التعظيم مثل ذلك؛ لما ورد فيه من الوعيد على من حلف عنده بيمين كاذبة. واحتج أبو حنيفة بأنا روينا عن زيد بن ثابت أنه لم يحلف على المنبر وخالفتموه إلى قول مروان بغير حجة. قال: وليس قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من حلف على منبرى هذا. .) يوجب أن الاستحلاف لم يجب. واحتج عليه الشافعى فقال: لو لم يعلم زيد أن اليمين عند المنبر سنة لأنكر ذلك على مروان، وقال له: لا والله ما أحلف إلا فى مجلسك. وما كان يمنع أن يقول لمروان ما هو أعظم من هذا لجلالة قدره عنده، وقد أنكر عليه أمر الصكوك وقال له: أتحل الربا يا مروان؟ فقال مروان: أعوذ بالله من هذا. فقال: الناس يتبايعون الصكوك قبل أن يقبضوها. فبعث مروان الحرس ينتزعونها من أيدى(8/64)
الناس. فكذلك كان ينكر عليه اليمين عند المنبر لولا علمه أنها السنة، وإنما كره أن يحلف عند المنبر. قال المؤلف: واليمين عند المنبر بمكة والمدينة لا خلاف فيه فى قديم ولا حديث وأن نقل الحديث فيه تكلف؛ لإجماع السلف عليه، ولقد بلغنى أن عمر بن الخطاب حلف عند المنبر فى خصومة كانت بينه وبين رجل، وأن عثمان ردت عليه اليمين عند المنبر، فافتدى منها وقال: أخاف أن توافق قدرًا فيقال: إنه بيمينه. قال المهلب: وإنما أمر أن يحلف فى أعظم موضع فى المسجد، ليرتدع أهل الباطل، وهذا مستنبط من قوله تعالى: (تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله) [المائدة: 106] ، فاشتراطه بعد الصلاة تعظيمًا للوقت وإرهابًا به؛ لشهود الملائكة ذلك الوقت، مخصوصة وقت التعظيم كخصوصة موضع التعظيم، ألا ترى ما ظهر من تهيب زيد بن ثابت للموضع، فمن هو دون ذلك من أهل المعاصى الخائفين من العقوبات أولى أن يرهبوا المكان العظيم.
- باب الْيَمِينِ بَعْدَ الْعَصْرِ
/ 34 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النبى، (صلى الله عليه وسلم) : (ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ، وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمِ الِقْيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ يَمْنَعُ مِنْهُ ابْنَ السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلا لا يُبَايِعُهُ إِلا لِلدُّنْيَا، فَإِنْ أَعْطَاهُ مَا يُرِيدُ وَفَى لَهُ، وَإِلا لَمْ يَفِ لَهُ وَرَجُلٌ سَاوَمَ رَجُلا بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَحَلَفَ بِاللَّهِ لَقَدْ أَعْطَى بِهَا كَذَا وَكَذَا فَأَخَذَهَا) .(8/65)
قال المهلب: إنما خص النبى (صلى الله عليه وسلم) هذا الوقت بالتعظيم وجعل الإثم فيه أكبر من غيره؛ لشهود ملائكة الليل والنهار فى وقت العصر، وليرتدع الناس عن الأيمان الكاذبة فى هذا الوقت المعظم. وقوله: (ثلاثة لا يكلمهم الله) يعنى: وقتًا دون وقت لمن أنفذ الله عليه الوعيد، وليس على الاستمرار والخلود. هذا مذهب أهل السنة، وفيه أنه قد يستحق النوع من العذاب على ذنوب مختلفة، فالمانع لفضل الماء أصغر معصية من المبايع الناكث، والحالف الآثم، والله أعلم.
- باب إِذَا تَسَارَعَ قَوْمٌ فِى الْيَمِينِ
/ 35 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) عَرَضَ عَلَى قَوْمٍ الْيَمِينَ، فَأَسْرَعُوا، فَأَمَرَ أَنْ يُسْهَمَ بَيْنَهُمْ فِى الْيَمِينِ أَيُّهُمْ يَحْلِفُ. إنما كره النبى (صلى الله عليه وسلم) تسارعهم فى اليمين والله أعلم لئلا تقع أيمانهم معًا فلا يستوفى الذى له الحق أيمانهم على معنى دعواه، ومن حقه أن يستوفى يمين كل واحد منهم على حدته، فإذا استوفى قوم فى حق من الحقوق لم يبدأ أحد منهم قبل صاحبه فى أخذ ما يأخذ أو دفع ما يدفع عن نفسه إلا بالقرعة، والقرعة سنة فى مثل هذا، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أقرع بين نسائه عند سفره، وكن قد استوين فى الحرمة والعصمة، ولم تكن واحدة أولى بالسفر من صاحبتها.(8/66)
- باب كَيْفَ يُسْتَحْلَفُ وَقَالِهِ تَعَالَى: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا) [النساء: 62] . وَقَوْلُهُ: (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ) [التوبة: 56] ) يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) [التوبة: 62] ) فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا) [المائدة: 107]
. يُقَالُ: بِاللَّهِ، وَتَاللَّهِ، وَوَاللَّهِ. وَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (وَرَجُلٌ حَلَفَ بِاللَّهِ كَاذِبًا بَعْدَ الْعَصْرِ) وَلا يُحْلَفُ بِغَيْرِ اللَّهِ / 36 - فيه: طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِاللَّهِ، يَقُولُ: (أَنَّ رجلاً جَاءَ إِلَى النبى (صلى الله عليه وسلم) ، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُهُ عَنِ الإسْلامِ. .، إلى قَوْلهُ: وَاللَّهِ لا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلا أَنْقُصُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ) . / 37 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ قَالَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ) . قال ابن المنذر: اختلف العلماء فى كيفية اليمين التى يجب أن يحلف بها. فقالت طائفة: يحلف بالله ولا يزيد عليه. وقال مالك: يحلف بالله الذى لا إله إلا هو ما له عنده حق وما ادعيت علىّ إلا باطلا. وقال الكوفى: يحلف بالله الذى لا إله إلا هو، فإن اتهمه القاضى غلظ عليه اليمين فيزيد: عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذى يعلم من السر ما يعلم من العلانية الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور. قال ابن المنذر: وبأى ذلك حلفه الحاكم يجزئ.(8/67)
وكل ما أورده البخارى من آيات القرآن ومن الأحاديث فى هذا الباب حجة لمن اقتصر على الحلف بالله ولم يزد عليه، وكذلك قال عثمان لابن عمر: تحلف بالله لقد بعته وما به داء تعلمه. وأجمعوا أنه لا ينبغى للحاكم أن يستحلف بالطلاق أو العتاق أو الحج أو المصحف.
- باب مَنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ الْيَمِينِ وَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ. وَقَالَ طَاوُسٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَشُرَيْحٌ: الْبَيِّنَةُ الْعَادِلَةُ أَحَقُّ مِنَ الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ
. / 38 - وفيه: أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النبى (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَىَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ فَلا يَأْخُذْهَا) . اختلف العلماء فى هذه المسألة، فذهب جمهور العلماء إلى أنه إن استحلف المدعى عليه، ثم أقام المدعى البينة قبلت بينته وقضى له بها على ما ذكر البخارى، عن شريح وطاوس والنخعى، وهو قول الثورى والكوفيين، والليث والشافعى، وأحمد وإسحاق، وقال مالك فى المدونة: إن استحلفه وهو لا يعلم بالبينة ثم علمها قضى له بها، وإن استحلفه ورضى بيمينه تاركًا لبينته وهى حاضرة أو غائبة فلا حق له إذا شهدت له. قاله مطرف، وابن الماجشون. وقال ابن أبى ليلى: لا تقبل بينته بعد استحلاف المدعى عليه. وبه قال أبو عبيد وأهل الظاهر. قال ابن المنذر: واحتج لابن أبى ليلى بعض الناس فقال: لما حكم النبى (صلى الله عليه وسلم) بالبينة على المدعى واليمين(8/68)
على المنكر كان المدعى لا يستحق المال بدعواه والمنكر لا يبرأ من حق المدعى بجحوده، فإذا أقام المدعى البينة أخذ المال، وإذا حلف المدعى عليه برئ، وإذا برئ فلا سبيل إليه. واحتج أهل المقالة الأولى بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فإنما أقطع له قطعة من النار) فدل هذا أن يمين المدعى عليه لا يسقط الحق، وقطعه لا يوجب له ملكه، فهو كالقاطع الطريق لا يملك ما قطعه، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قد نهاه عن أخذه بقوله: (فلا يأخذه) . وقد ذكر ابن حبيب أن عمر بن الخطاب تخاصم إليه يهودى ورجل من المسلمين، فقال عمر: بينتك. فقال: ما تحضرنى اليوم. فأحلف عمر المدعى عليه، ثم أتى اليهودى بعد ذلك بالبينة فقضى له عمر ببينته. وقال: البينة العادلة خير من اليمين الفاجرة. وروى أبو زيد عن ابن الماجشون فى اليمانية أنه يقضى له بالبينة، وإن كان عالمًا بها على قول عمر بن الخطاب. واختلف عن مالك، إذا أقام الطالب شاهدًا واحدًا، وأبى أن يحلف معه فحلف المطلوب، ثم وجد الطالب شاهدًا آخر هل يضيفه إلى الشاهد الأول أم لا؟ فروى ابن الماجشون عن مالك أنه يضيفه إلى الأول، وروى ابن كنانة عن مالك أنه لا يضيفه إلى الشاهد الأول، ورواه يحيى، عن ابن القاسم.(8/69)
- باب مَنْ أَمَرَ بِإِنْجَازِ الْوَعْدِ
وَفَعَلَهُ الْحَسَنُ، وَذَكَرَ إِسْمَاعِيلَ: (إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ) [مريم: 54] ، وَقَضَى ابْنُ الأشْوَعِ بِالْوَعْدِ، وَذَكَرَ ذَلِكَ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، وَقَالَ: الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ، سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) وَذَكَرَ صِهْرًا لَهُ، قَالَ: وَعَدَنِى فَوَفَانِى. / 39 - فيه: ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِى أَبُو سُفْيَانَ أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ: سَأَلْتُكَ مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ أَمَرَكُمْ بِالصَّلاةِ، وَبالصِّدْقِ، وَالْعَفَافِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَأَدَاءِ الأمَانَةِ، قَالَ: وَهَذِهِ صِفَةُ نَبِىٍّ. / 40 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النبى، (صلى الله عليه وسلم) : آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ) . / 41 - وفيه: جَابِرِ: لَمَّا مَاتَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، جَاءَ أَبَا بَكْرٍ مَالٌ مِنْ قِبَلِ الْعَلاءِ بْنِ الْحَضْرَمِىِّ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) دَيْنٌ أَوْ كَانَتْ لَهُ قِبَلَهُ عِدَةٌ، فَلْيَأْتِنَا، قَالَ جَابِرٌ: فَقُلْتُ: وَعَدَنِى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يُعْطِيَنِى هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، فَبَسَطَ يَدَيْهِ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ، قَالَ جَابِرٌ: فَعَدَّ فِى يَدِى خَمْسَ مِائَةٍ، ثُمَّ خَمْسَ مِائَةٍ، ثُمَّ خَمْسَ مِائَةٍ. / 42 - وفيه: ابْنِ جُبَيْرٍ: سَأَلَنِى يَهُودِىٌّ: أَىَّ الأجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قُلْتُ: لا أَدْرِى، حَتَّى أَقْدَمَ عَلَى حَبْرِ الْعَرَبِ، فَأَسْأَلَهُ، فَقَدِمْتُ: فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: قَضَى أَكْثَرَهُمَا وَأَطْيَبَهُمَا، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا قَالَ فَعَلَ. قال المهلب: إنجاز الوعد مندوب إليه مأمور به، وليس بواجب فرضًا، والدليل على ذلك اتفاق الجميع على أن من وعد بشىء لم يضرب به مع الغرماء، ولا خلاف أن ذلك مستحسن، وقد(8/70)
أثنى الله على من صدق وعده، ووفى بنذره، وذلك من مكارم الأخلاق، ولما كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أولى الناس بها وأبدرهم إليها أدى عنه أبو بكر الصديق خليفته، وقام فيه مقامه، ولم يسأل أبو بكر جابرًا البينة على ما ادعاه على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من العدة، لأنه لم يكن شيئًا ادعاه جابر فى ذمة النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وإنما ادعى شيئًا فى بيت المال والفئ، وذلك موكول إلى اجتهاد الإمام، وقد تقدم اختلاف الفقهاء فيما يلزم من العدة، وما لا يلزم منها فى كتاب الهبات.
- باب لا يُسْأَلُ أَهْلُ الشِّرْكِ عَنِ الشَّهَادَةِ وَغَيْرِهَا
وَقَالَ الشَّعْبِىُّ: لا تَجُوزُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْمِلَلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ) [المائدة: 14] ، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : لا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلا تُكَذِّبُوهُمْ وَ) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلينا (الآيَةَ [البقرة: 136] . / 43 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ، وَكِتَابُكُمِ الَّذِى أُنْزِلَ عَلَى نَبِيِّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَحْدَثُ الأخْبَارِ بِاللَّهِ، تَقْرَءُونَهُ لَمْ يُشَبْ، وَقَدْ حَدَّثَكُمُ اللَّهُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بَدَّلُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ وَغَيَّرُوا بِأَيْدِيهِمُ الْكِتَابَ، وَقَالُوا: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا) [البقرة: 79] أَفَلا يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنَ الْعِلْمِ عَنْ مُسَاءَلَتِهِمْ؟ ، وَلا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُمْ رَجُلا قَطُّ يَسْأَلُكُمْ عَنِ الَّذِى أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ.(8/71)
اختلف العلماء فى هذا الباب فقالت طائفة: لا تجوز شهادة أهل الكفر بعضهم على بعض ولا على مسلم. روى ذلك عن الحسن البصرى، وهو قول مالك والشافعى وأحمد وأبى ثور. وقالت طائفة: تقبل على المشركين وإن اختلفت مللهم، ولا تقبل على المسلمين. روى هذا عن شريح وعمر بن عبد العزيز، وهو قول أبى حنيفة والثورى وقالوا: الكفر كله ملة واحدة. وقال ابن أبى ليلى والحكم وعطاء: تجوز شهادة أهل كل ملة بعضهم على بعض، ولا تجوز على ملة غيرها، وهو قول الليث وإسحاق، للعداوة التى بينهم، وقد ذكر الله فى كتابه فقال: (فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء) [المائدة: 14] . وقال ابن شعبان: أجمع العلماء أنه لا تجوز شهادة العدو على عدوّه فى شىء، وإن كان عدلا، والعداوة تزيل العدالة فكيف بعداوة كافر؟ واحتج الكوفيون بما رواه مالك، عن نافع، عن ابن عمر: (أن اليهود جاءوا إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) برجل منهم وامرأة زنيا فأمر النبى (صلى الله عليه وسلم) برجمهما) . واحتج من لم يجزها فقال: لا حجة لكم فى هذا الحديث؛ لأنكم لا تقولون به ولا نحن؛ لأن عندنا وعندكم أن من شروط الرجم الإسلام، وقد روى أن اليهوديين اعترفا بالزنا فرجمهما بإقرارهما لا بالشهادة. قال المهلب: وحجة من لم يجز شهادتهم على كافر ولا على مسلم أن الله وصفهم بالكذب عليه وعلى كتابه، واتفق العلماء أن الكاذبين(8/72)
على الناس لا تقبل شهادتهم، فالكذب على الله أعظم فهو أولى برد شهادتهم. قال ابن القصار: وأيضًا فإن المسلم الفاسق لا تقبل شهادته، والكافر أفسق، فلا يجوز قبوله على فاسق مثله ولا على مطيع. فإن قيل: فقد أجازت طائفة من السلف شهادتهم على المسلم فى الوصية فى السفر للضرورة، روى ذلك عن شريح والنخعى، وبه قال الأوزاعى، وقال ابن عباس فى تأويل قوله: (أو آخران من غيركم) [المائدة: 106] : من غير المسلمين. قيل: قد قال الحسن البصرى: (أو آخران من غيركم) [المائدة: 106] : من غير قومكم من أهل الملة. واتفق مالك والكوفيون والشافعى على أنهم لا تجوز شهادتهم فى الوصية فى حضر ولا سفر، والآية عندهم منسوخة، فلم يلزمهم تأويل ابن عباس؛ لأجل من خالفه من العلماء، وقد شرط الله قبول العدول فى الشهادة بقوله: (ممن ترضون من الشهداء) [البقرة: 282] ، وقال تعالى: (وأشهدوا ذوى عدل منكم) [الطلاق: 2] . قال المهلب: وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا تصدقوا أهل الكتاب) حجة لمن لم يجز شهادتهم. وقوله: (ولا تكذبوهم) يعنى: فيما ادعوا من الكتاب ومن أخبارهم؛ مما يمكن أن يكون صدقًا أو كذبًا؛ لإخبار الله تعالى عنهم أنهم بدلوا الكتاب ليشتروا به ثمنًا قليلا، ومن كذب على الله فهو أحرى بالكذب فى سائر حديثه.(8/73)
وسأل بعض علماء النصارى محمد بن وضاح فقال: ما بال كتابكم معشر المسلمين لا زيادة فيه ولا نقصان وكتابنا بخلاف ذلك؟ فقال له: لأن الله وكل حفظ كتابكم إليكم فقال: (بما استحفظوا من كتاب الله) [المائدة: 44] فما وكله إلى المخلوقين دخله الخرم والنقصان، وقال فى القرآن: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) [الحجر: 9] فتولى الله حفظه فلا سبيل إلى الزيادة فيه ولا إلى النقصان.
- باب الْقُرْعَةِ فِى الْمُشْكِلاتِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) [آل عمران: 44] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اقْتَرَعُوا فَجَرَتِ الأقْلامُ مَعَ الْجِرْيَةِ، وَعَالَ قَلَمُ زَكَرِيَّاءَ الْجِرْيَةَ، فَكَفَلَهَا زكَرِيَّاءُ وَقَوْلِهِ: (فَسَاهَمَ) [الصافات: 141] أَقْرَعَ) فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (مِنَ الْمَسْهُومِينَ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: عَرَضَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى قَوْمٍ الْيَمِينَ، فَأَسْرَعُوا، فَأَمَرَ أَنْ يُسْهِمَ بَيْنَهُمْ أَيُّهُمْ يَحْلِفُ. / 44 - فيه: النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَثَلُ الْمُدْهِنِ فِى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا، مَثَلُ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا سَفِينَةً، فَصَارَ بَعْضُهُمْ فِى أَسْفَلِهَا وَصَارَ بَعْضُهُمْ فِى أَعْلاهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِى أَسْفَلِهَا يَمُرُّونَ بِالْمَاءِ عَلَى الَّذِينَ فِى أَعْلاهَا، فَتَأَذَّوْا بِهِ، فَأَخَذَوا فَأْسًا، فَجَعَلَ يَنْقُرُ أَسْفَلَ السَّفِينَةِ، فَأَتَوْهُ، فَقَالُوا مَا لَكَ؟ قَالَ: تَأَذَّيْتُمْ بِى، وَلا بُدَّ لِى مِنَ الْمَاءِ، فَإِنْ أَخَذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَنْجَوْهُ وَنَجَّوْا أَنْفُسَهُمْ، وَإِنْ تَرَكُوهُ أَهْلَكُوهُ، وَأَهْلَكُوا أَنْفُسَهُمْ) .(8/74)
/ 45 - وفيه: أُمَّ الْعَلاءِ، أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ طَارَ لَهُمْ سَهْمُهُ فِى السُّكْنَى حِينَ أَقْرَعَتِ الأنْصَارُ سُكْنَى الْمُهَاجِرِينَ، قَالَتْ أُمُّ الْعَلاءِ: فَسَكَنَ عِنْدَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، فَاشْتَكَى، فَمَرَّضْنَاهُ حَتَّى إِذَا تُوُفِّىَ، وَجَعَلْنَاهُ فِى ثِيَابِهِ، دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقُلْتُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ، فَشَهَادَتِى عَلَيْكَ، لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ، فَقَالَ لِى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمَهُ، فَقُلْتُ: لا أَدْرِى، بِأَبِى أَنْتَ وَأُمِّى، يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : أَمَّا عُثْمَانُ فَقَدْ جَاءَهُ وَاللَّهِ الْيَقِينُ، وَإِنِّى لأرْجُو لَهُ الْخَيْرَ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِى، وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِهِ، قَالَتْ: فَوَاللَّهِ، لا أُزَكِّى أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا، وَأَحْزَنَنِى ذَلِكَ، قَالَتْ: فَنِمْتُ، فَأُرِيتُ لِعُثْمَانَ عَيْنًا تَجْرِى، فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ذَاكِ عَمَلُهُ) . / 46 - وفيه: عَائِشَةَ: كَانَ النبى (صلى الله عليه وسلم) ، إِذَا أَرَادَ سَفَرًا، أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ. . . الحديث. / 47 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النبى (صلى الله عليه وسلم) : لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِى النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاسْتَهَمُوا. . . الحديث. القرعة فى المشكلات سنة عند جمهور الفقهاء فى المستوين فى الحجة؛ ليعدل بينهم، وتطمئن قلوبهم وترتفع الظنة عمن تولى قسمتهم، ولا يفضل أحد منهم على صاحبه إذا كان المقسوم من جنس واحد اتباعًا للكتاب والسنة. قال أبو عبيد: وقد عمل بالقرعة ثلاثة من الأنبياء: يونس وزكريا ومحمد نبينا، قاله ابن المنذر.(8/75)
واستعماله القرعة كالإجماع من أهل العلم فيما يقسم بين الشركاء، فلا معنى لقول من ردها ورد الآثار الواردة المتواترة بالعمل بها. قال الشافعى: ولا يعدم المقترعون على مريم أن يكونوا تنافسوا كفالتها، فكان أرفق بها وأعطف عليها، وأعلم بما فيه مصلحتها أن تكون عند كافل واحد، ثم يكفلها آخر مقدار تلك المدة، أو تكون عند كافل واحد ويغرم من بقى مئونتها بالحصص، وهم بأن يكونوا تشاحوا كفالتها أشبه من أن يكونوا تدافعوها؛ لأنها كانت صبية غير ممتنعة مما يمتنع منه من عقل ستره ومصالحه، فإن يكفلها واحد من الجماعة أستر عليها وأكرم لها، وأى المعنيين كان، فالقرعة تلزم أحدهم ما يدفعه عن نفسه أو يخلص له ما يرغب فيه. وهكذا معنى قرعة يونس، وقفت بهم السفينة فقالوا: ما عليها إلا مذنب، فتقارعوا فوقعت القرعة على يونس، فأخرجوه منها. وذكر أهل التفسير أنه قيل ليونس: إن قومك يأتيهم العذاب يوم كذا. فخرج ذلك اليوم، ففقده قومه فخرجوا فأتاهم العذاب ثم صرف عنهم، فلما لم يصبهم العذاب ذهب مغاضبًا، فركب البحر فى سفينة مع ناس، فلما لجُّوا ركدت السفينة فلم تسر فقالوا: إن فيكم(8/76)
لشرا. فقال يونس: أنا صاحبكم فألقونى. قالوا: لا حتى نضرب بالسهام. فطار عليه السهم مرتين فألقوه فى البحر، فالتقمه الحوت، فأوحى الله إلى الحوت أن يلتقمه ولا يكسر له عظمًا. قال الشافعى: وكذلك كان إقراع النبى (صلى الله عليه وسلم) فى العدل بين نسائه حين أراد السفر ولم يمكنه الخروج بهن كلهن فأقرع بينهن ليعدل بينهن ولا يخص بعضهن بالسفر، ويكل ذلك إلى الله، ويخرج ذلك من اختياره، فأخرج من خرج سهمها، وسقط حق غيرها، فلما رجع عاد للقسمة بينهن ولم يقسم أيام سفره، فكذلك قسم خيبر وكان أربعة أخمساها لمن حضر فأقرع على كل جزء، فمن خرج فى سهمه أخذه وانقطع منه حق غيره، وقد تقدم فى كتاب الشركة شىء من الكلام فى القرعة. وقوله: (المدهن فى حدود الله) يعنى: المداهن فيها المضيع لها الذى لا يغير المعاصى ولا يعملها فهو مستحق بالعقوبة على سكوته ومداهنته. ومعنى المثل الذى ضربه (صلى الله عليه وسلم) فى السفينة وقوله: (طار لهم سهمه) يقال: طار له فى سهمه كذا. إذا خصه ذلك وأصابه فى سهمه.(8/77)
53 - كِتَاب الصُّلْحِ
- باب مَا جَاءَ فِى الإصْلاحِ بَيْنَ النَّاسِ وَقَوْلِهِ: (لا خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ. . .) [النساء: 114] الآية، وَخُرُوجِ الإمَامِ إِلَى الْمَوَاضِعِ لِيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ بِأَصْحَابِهِ.
/ 1 - فيه: سَهْلِ، (أَنَّ أُنَاسًا مِنْ بَنِى عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ كَانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فِى أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ، فَحَضَرَتِ الصَّلاةُ. . الحديث. / 2 - وفيه: أَنَس: قِيلَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : لَوْ أَتَيْتَ عَبْدَاللَّهِ بْنَ أُبَىٍّ، فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَرَكِبَ حِمَارًا، فَانْطَلَقَ الْمُسْلِمُونَ يَمْشُونَ مَعَهُ، وَهِىَ أَرْضٌ سَبِخَةٌ، فَلَمَّا أَتَاهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: إِلَيْكَ عَنِّى، وَاللَّهِ لَقَدْ آذَانِى نَتْنُ حِمَارِكَ، فَقَالَ: رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ مِنْهُمْ، وَاللَّهِ لَحِمَارُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَطْيَبُ رِيحًا مِنْكَ، فَغَضِبَ لِعَبْدِاللَّهِ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَشَتَمَهُ، فَغَضِبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْحَابُهُ، فَكَانَ بَيْنَهُمَا ضَرْبٌ بِالْجَرِيدِ وَالأيْدِى وَالنِّعَالِ، فَبَلَغَنَا أَنَّهَا أُنْزِلَتْ: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا. . .) [الحجرات: 9] الآية. الإصلاح بين الناس واجب على الأئمة وعلى من ولاه الله أمور المسلمين. قال المهلب: إنما يخرج الإمام ليصلح بين الناس إذا أشكل عليه أمرهم وتعذر ثبوت الحقيقة عنده فيهم، فحينئذ ينهض إلى الطائفتين، ويسمع من الفريقين ومن الرجل والمرأة، ومن كافة الناس(8/78)
سماعًا فاشيًا يدله على الحقيقة. هذا قول كافة العلماء، وكذلك ينهض الإمام إلى العقارات والأرضين المتشاح فى قسمتها فيعاين ذلك. وقال عطاء: لا يحل للإمام إذا تبين له القضاء أن يصلح بين الخصوم وإنما يسعه ذلك فى الأموال المشكلة، فأما إذا استنارت الحجة لأحد الخصمين على الآخر، وتبين للحاكم موضع الظالم من المظلوم فلا يسعه أن يحملها على الصلح. وبه قال أبو عبيد. وقال الشافعى: يأمرهما بالصلح، ويؤخر الحكم بينهما يومًا أو يومين، فإن لم يجتمعا لم يكن له ترديدهما وأنفذ الحكم بينهما، والحكم قبل البيان ظلم، والحبس للحكم بعد البيان ظلم. وقال الكوفيون: إن طمع القاضى أن يصطلح الخصمان فلا بأس أن يرددهما ولا ينفذ الحكم بينهما لعلهما يصطلحان، ولا يردهم أكثر من مرة أو مرتين إن طمع فى الصلح بينهم، فإن لم يطمع فيه أنفذ القضاء بينهم. واحتجوا بما روى عن عمر بن الخطاب أنه قال: ردوا الخصوم حتى يصطلحوا فإن فصل القضاء يورث بين الناس الضغائن. وأما مسير النبى (صلى الله عليه وسلم) إلى عبد الله بن أبىّ، فإنما فعل ذلك أول قدومه المدينة؛ ليدعوه إلى الإسلام؛ إذ التبليغ فرض عليه، وكان يرجو أن يسلم من وراءه بإسلامه لرياسته فى قومه، وقد كان أهل المدينة عزموا أن يتوجوه بتاج الإمارة، وكذلك قال سعد بن عبادة للنبى (صلى الله عليه وسلم) أنه صنع ما صنع عن التوقف عن الإسلام ما كانوا عزموا عليه من توليته الإمارة، حتى بعث الله نبيه فأبطل الباطل وصدع بالحق وبلغ الدين. وفيه من الفقه: أن الإمام إذا مضى إلى موضع فيه أعداء له أن(8/79)
على المسلمين أن يمشوا معه ويحرسوه فإن جفى عليه نصروه، كما فعل عبد الله بن رواحة حين قال: والله لحمار رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أطيب ريحًا منك. فإن نوزع قاتلوا دونه. وقول أنس: (فبلغنا أنها نزلت: (وإن طائفتان) [الحجرات: 9] يستحيل أن تكون الآية نزلت فى قصة عبد الله بن أبى وفى قتال أصحابه مع النبى (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأن أصحاب عبد الله ابن أبىّ ليسوا بمؤمنين، وقد تعصبوا له بعد الإسلام فى قصة الإفك، وقد جاء هذا المعنى مبينًا فى هذا الحديث فى كتاب الاستئذان من رواية أسامة بن زيد أن النبى (صلى الله عليه وسلم) مر فى مجلس فيه أخلاط من المشركين والمسلمين وعبدة الأوثان واليهود، وفيهم عبد الله بن أبى. . وذكر الحديث. فدل أن الآية لم تنزل فى قصة عبد الله بن أبى، وإنما نزلت فى قوم من الأوس والخزرج اختلفوا فى حق فاقتتلوا بالعصى والنعال. هذا قول سعيد بن جبير والحسن وقتادة.
- باب لَيْسَ الْكَاذِبُ الَّذِى يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ
/ 3 - فيه: أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عُقْبَةَ، قَالَتَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : لَيْسَ الْكَاذِبُ الَّذِى يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَنْمِى خَيْرًا أَوْ يَقُولُ خَيْرًا) . وفى هذا الحديث: زيادة لم يذكرها البخارى فى حديثه، حدثنا بذلك أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله الهمدانى قال: حدثنا أبو الربيع محمد بن الفضيل البلخى الصفار، حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق الخزاعى، حدثنى أبو يحيى بن أبى ميسرة، حدثنا يحيى بن محمد الحارثى، حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن عبد الوهاب بن(8/80)
رفيع، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أمه أم كلثوم بنت عقبة قالت: (ما سمعت النبى (صلى الله عليه وسلم) يرخص فى الكذب إلا فى ثلاث: كان النبى (صلى الله عليه وسلم) يقول: لا أعدهن كذبًا: الرجل يصلح بين الناس يقول قولا يريد به الصلاح، والرجل يحدث زوجته، والمرأة تحدث زوجها، والرجل يقول فى الحرب) . قال الطبرى: اختلف العلماء فى هذا الباب فقالت طائفة: الكذب الذى رخص فيه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى هذه الثلاث هو جميع معانى الكذب. واحتجوا بما رواه الأعمش، عن عبد الملك بن ميسرة، عن النزال بن سبرة قال: كنا عند عثمان، وعنده حذيفة فقال له عثمان: إنه بلغنى عنك أنك قلت كذا وكذا. فقال حذيفة: والله ما قلته. وقد سمعناه قبل ذلك يقوله، فلما خرج قلنا له: أليس قد سمعناك تقول؟ قال: بلى. قلنا: فلم حلفت؟ قال: إنى أشترى دينى بعضه ببعض مخافة أن يذهب كله. واحتجوا بحديث ابن شهاب أن عمر بن الخطاب قال لقيس بن مكشوح: هل حدثت نفسك بقتلى؟ قال: لو هممت فعلت. فقال عمر له: لو قلت: نعم ضربت عنقك، فنفاه من المدينة، فقال له عبد الرحمن بن عوف: لو قال: نعم ضربت عنقه؟ قال: لا ولكن أسترهبه بذلك. وقالت طائفة: لا يصلح الكذب تعريضًا فى جد ولا لعب. روى سفيان عن الأعمش قال: ذكرت لإبراهيم الحديث الذى رخص فيه الكذب فى الإصلاح بين الناس، فقال إبراهيم: كانوا لا يرخصون فى الكذب فى جد ولا هزل. وروى مجاهد عن أبى معمر، عن ابن مسعود قال: لا يصلح الكذب فى جد ولا هزل(8/81)
ولا أن يعد أحدكم ولده شيئًا ثم لا ينجزه، اقرءوا إن شئتم: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) [التوبة: 119] . وقال آخرون: بل الذى رخص فيه هو المعاريض. وقد قال ابن عباس: ما أحب بأن لى بمعاريض الكذب كذا وكذا. وهو قول سفيان وجمهور العلماء. وقال المهلب: ليس لأحد أن يعتقد إباحة الكذب، وقد نهى النبى (صلى الله عليه وسلم) عن الكذب نهيًا مطلقًا، وأخبر أنه مجانب للإيمان، فلا يجوز استباحة شىء منه، وإنما أطلق (صلى الله عليه وسلم) للصلح بين الناس أن يقول ما علم من الخير بين الفريقين، ويسكت عما سمع من الشر بينهم ويعد أن يسهل ما صعب ويقرب ما بعد، لا أنه يخبر بالشىء على خلاف ما هو عليه لأن الله قد حرم ذلك ورسوله، وكذلك الرجل يعد المرأة ويمنيها وليس هذا من الكذب؛ لأن حقيقة الكذب الإخبار عن الشىء على خلاف ما هو عليه، والوعد لا يكون حقيقة حتى ينجز، والإنجاز مرجو فى الاستقبال فلا يصح أن يكون كذبًا. وكذلك فى الحرب أيضًا إنما يجوز فيها المعاريض والإيهام بألفاظ تحتمل وجهين فيؤدى بها عن أحد المعنيين ليغتر السامع بأحدهما عن الآخر، وليس حقيقة الإخبار عن الشىء بخلافه وضده، ونحو ذلك ما روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أنه مازح عجوزًا فقال: إن العجز لا يدخلن الجنة) فأوهمها فى ظاهر الأمر أنهن لا يدخلن أصلا، وإنما أراد بهن لا يدخلن الجنة إلا شبابًا، فهذا وشبهه من المعاريض التى فيها مندوحة عن الكذب، فإن لم(8/82)
يسمع المصلح شيئًا فله أن يعد بخير ولا يقول: سمعت وهو لم يسمع ونحوه. قال الطبرى: والصواب فى ذلك قول من قال: الكذب الذى أذن فيه النبى (صلى الله عليه وسلم) هو ما كان تعريضًا ينحو به نحو الصدق، نحو ما روى عن إبراهيم النخعى أن امرأته عاتبته فى جارية وفى يده مروحة فجعل إبراهيم النخعى يقول: اشهدوا أنها لها ويشير بالمروحة فلما قامت امرأته قال: على أى شىء أشهدتكم؟ قالوا: أشهدتنا على أنها لها. قال: ألم ترونى أنى أشير بالمروحة. وأما صريح الكذب فهو غير جائز لأحد كما قال ابن مسعود لما روى عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من تحريمه والوعيد عليه، وأما قول حذيفة فإنه خارج عن معانى الكذب التى روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه أذن فيها، وإنما ذلك من جنس إحياء الرجل نفسه عند الخوف، كالذى يضطر إلى الميتة ولحم الخنزير فيأكل ليحيى به نفسه، وكذلك الحالف له أن يخلص نفسه ببعض ما حرم الله عليه، وله أن يحلف على ذلك ولا حرج عليه ولا إثم، وسيأتى فى كتاب الأدب باب المعاريض مندوحة عن الكذب.
3 - بَاب قولِ الإمامِ لأصحابهِ: (اذهَبوا بنا نُصلِح
/ 4 - فيه: سَهْلِ: (أَنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ اقْتَتَلُوا حَتَّى تَرَامَوْا بِالْحِجَارَةِ، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِذَلِكَ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ بَيْنَهُمْ) . يشبه أن يكون فى هذه القصة نزلت: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا. .) [الحجرات: 9] الآية لا فى قصة عبد الله بن أبىّ بن سلول كما قال(8/83)
أنس، روى عن الحسن أن قومًا من المسلمين كان بينهم تنازع حتى اضطربوا بالجريد والنعال والأيدى، فأنزل الله فيهم: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) [الحجرات: 9] قال قتادة: كان بينهما حق فتنازعا فيه فقال أحدهما: لآخذنه عنوة. وقال الآخر: بينى وبينك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . فتنازعا حتى كان بينهما ضرب بالأيدى والنعال. وقال قتادة فى تأويل هذه الآية: كان الأوس والخزرج اقتتلوا بالعصى. وفيه: خروج الإمام مع أصحابه للإصلاح بين الناس عند تفاقم أمورهم وشدة تنازعهم، وقد تقدم. وفيه: ما كان عليه النبى (صلى الله عليه وسلم) من التواضع والخضوع والحرص على قطع الخلاف وحسم دواعى الفرقة عن أمته كما وصفه الله تعالى.
4 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (أَنْ يَصَّلَحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) [النساء: 128]
/ 5 - فيه: عَائِشَةَ: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا) [النساء: 128] قَالَتْ: هُوَ الرَّجُلُ يَرَى مِنِ امْرَأَتِهِ مَا لا يُعْجِبُهُ كِبَرًا أَوْ غَيْرَهُ، فَيُرِيدُ فِرَاقَهَا، فَتَقُولُ: أَمْسِكْنِى وَاقْسِمْ لِى مَا شئْتَ، قَالَتْ: فَلا بَأْسَ إِذَا تَرَاضَيَا. قال المهلب: الصلح خير فى كل شىء من التمادى على الخلاف والشحناء والبغضاء التى هى قواعد الشر، والصلح وإن كان فيه صبر مؤلم فعاقبته جميلة، وأمرُّ منه وشر عاقبة العداوة والبغضاء، وقد قال(8/84)
(صلى الله عليه وسلم) فى البغضة إنها الحالقة يعنى: حالقة الدين لا حالقة الشعر، أراد النبى (صلى الله عليه وسلم) أن يطلق سودة لسن كان بها، فأحست منه ذلك فقالت له: قد وهبت يومى لعائشة فلا حاجة لى بالرجال، وإنما أريد أن أحشر فى نسائك فلم يطلقها واصطلحا على ذلك. ودل هذا أن ترك التسوية بين النساء وتفضيل بعضهن على بعض لا يجوز إلا بإذن المفضولة ورضاها، ويدخل فى هذا المعنى جميع ما يقع عليه بين الرجل والمرأة فى مال أو وطء أو غير ذلك، وكل ما تراضيا عليه من الصلح فهو حلال للرجل من زوجته لهذه الآية.
5 - باب إِذَا اصْطَلَحُوا عَلَى صُلْحِ جَوْرٍ فَهْوَ مَرْدُودٌ
/ 6 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِىِّ قَالا: جَاءَ أَعْرَابِىٌّ، فَقَالَ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، فَقَامَ خَصْمُهُ، فَقَالَ: صَدَقَ، اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، فَقَالَ الأعْرَابِىُّ: إِنَّ ابْنِى كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، فَقَالُوا لِى: عَلَى ابْنِكَ الرَّجْمُ، فَفَدَيْتُ ابْنِى مِنْهُ بِمِائَةٍ مِنَ الْغَنَمِ وَوَلِيدَةٍ، ثُمَّ سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ، فَقَالُوا: إِنَّمَا عَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : لأقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، أَمَّا الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ فَرَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَمَّا أَنْتَ يَا أُنَيْسُ، لِرَجُلٍ، فَاغْدُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَارْجُمْهَا، فَغَدَا عَلَيْهَا أُنَيْسٌ فَرَجَمَهَا) . / 7 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ النبى (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ أَحْدَثَ فِى أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ) . قال المؤلف: أما قضاء النبى (صلى الله عليه وسلم) فى هذه القصة بكتاب الله فهو(8/85)
رد الغنم والجارية اللذين أخذا بالباطل، وقد نهى الله عباده عن ذلك فقال: (ولا تأكلو أموالكم بينكم بالباطل) [البقرة: 188] ولم يجز هذا الصلح؛ لاشتراء حدود الله ببعض عرض الدنيا، وحدود الله لا تسقط ولا تباع ولا تشترى، وأجمع العلماء أنه لا يجوز الصلح المنعقد على غير السنة وأنه منتقض، ألا ترى أنه رد الغنم والوليدة وألزم ابنه من الحد ما ألزمه الله، فقال: (من أحدث فى أمرنا ما ليس منه فهو رد) وبذلك كتب عمر بن الخطاب إلى أبى موسى الأشعرى فى رسالته إليه يعلمه القضاء فقال: والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالا. وذهب مالك وابن القاسم إلى أن الصلح كالبيع، لايجوز فيه المكروه ولا الغرر. وذكر ابن حبيب عن مطرف قال: كل ما وقع به الصلاح من الأشياء المكروهة التى ليست بحرام صراح فالصلح بها جائز. قال ابن الماجشون: إن عثر عليه بحدثانه فسخ، وإن طال أمر مضى. وقال أصبغ: إن وقع الصلح بالحرام والمكروه مضى ولم يرد، وإن عثر عليه بحدثان ذلك؛ لأنه كالهبة، ألا ترى أنه لو صالح من دعواه تنتقض لم يكن فيه شفعة؛ لأنه كالهبة، وقد حدثنا سفيان بن عيينة أن على بن أبى طالب أتى بصلح فقرأه فقال: هذا حرام، ولولا أنه صلح لفسخته. قال ابن حبيب: وقول مطرف وابن الماجشون أحب إلىّ، لموافقته قوله فى الحديث: (إلاصلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالا) .(8/86)
6 - باب كَيْفَ يُكْتَبُ: هَذَا مَا صَالَحَ فُلانُ بْن فُلانٍ، وَفُلانُ بْن فُلانٍ وَإِنْ لَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى قَبِيلَتِهِ أَوْ نَسَبِهِ
/ 8 - فيه: الْبَرَاءَ، قَالَ: (لَمَّا صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ، كَتَبَ عَلِىُّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ بَيْنَهُمْ كِتَابًا، فَكَتَبَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: لا تَكْتُبْ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، لَوْ كُنْتَ رَسُولا لَمْ نُقَاتِلْكَ، فَقَالَ لِعَلِىٍّ: امْحُهُ، فَقَالَ عَلِىٌّ: مَا أَنَا بِالَّذِى أَمْحَاهُ، فَمَحَاهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِيَدِهِ، وَصَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ يَدْخُلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، وَلا يَدْخُلُوهَا إِلا بِجُلُبَّانِ السِّلاحِ، فَسَأَلُوهُ: مَا جُلُبَّانُ السِّلاحِ؟ فَقَالَ: الْقِرَابُ بِمَا فِيهِ) . (1) / 9 - وَقَالَ الْبَرَاءِ: (اعْتَمَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فِى ذِى الْقَعْدَةِ، فَأَبَى أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يَدَعُوهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ حَتَّى قَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يُقِيمَ بِهَا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، إِلَى قَوْلِهِ: بجلبان السِلاحٌ، وأَلا يَخْرُجَ مِنْ أَهْلِهَا بِأَحَدٍ إِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَّبِعَهُ، وَأَنْ لا يَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ بِهَا، فَلَمَّا دَخَلَهَا وَمَضَى الأجَلُ أَتَوْا عَلِيًّا، فَقَالُوا: قُلْ لِصَاحِبِكَ اخْرُجْ عَنَّا، فَقَدْ مَضَى الأجَلُ، فَخَرَجَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَتَبِعَتْهُمُ ابْنَةُ حَمْزَةَ: يَا عَمِّ، يَا عَمِّ، فَتَنَاوَلَهَا عَلِىُّ، فَأَخَذَ بِيَدِهَا، وَقَالَ لِفَاطِمَةَ، عَلَيْهَا السَّلام: دُونَكِ ابْنَةَ عَمِّكِ، حَمَلَتْهَا، فَاخْتَصَمَ فِيهَا عَلِيٌّ وَزَيْدٌ وَجَعْفَرٌ، فَقَالَ عَلِىٌّ: أَنَا أَحَقُّ بِهَا، وَهِىَ ابْنَةُ عَمِّى، وَقَالَ جَعْفَرٌ: ابْنَةُ عَمِّى وَخَالَتُهَا تَحْتِى، وَقَالَ زَيْدٌ: ابْنَةُ أَخِى، فَقَضَى بِهَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) لِخَالَتِهَا، وَقَالَ: الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الأمِّ، وَقَالَ لِعَلِىٍّ: أَنْتَ مِنِّى، وَأَنَا مِنْكَ، وَقَالَ لِجَعْفَرٍ: أَشْبَهْتَ خَلْقِى، وَخُلُقِى وَقَالَ لِزَيْدٍ: أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلانَا) . أصل هذا الباب أن يكتب فى اسم الرجل من تعريفه ما لا يشكل(8/87)
على أحد، فإن كان اسمه واسم أبيه مشهورين شهرة ترفع الإشكال لم يحتج فى ذلك إلى زيادة ذكر نسبه ولا قبيلته، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) اقتصر فى كتاب المقاضاة مع المشركين على أن كتب محمد بن عبد الله، ولم يزد عليه لما أمن الالتباس فيه؛ لأنه لم يكن هذا الاسم لأحد غير النبى (صلى الله عليه وسلم) . واستحب الفقهاء أن يكتب اسمه واسم أبيه وجده ونسبه ليرفع الإشكال فيه، فقل ما يقع مع ذكر هذه الأربعة اشتباه فى اسمه ولا التباس فى أمره. قال المهلب: وفيه من الفقه رجوع النبى (صلى الله عليه وسلم) إلى اسمه واسم أبيه فى العقد، ومحوه لحظة النبوة إنما كان لأن الكلام فى الصلح وميثاق العقد كان إخبارًا عن أهل مكة، ألا تراهم قالوا: (لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك ولا قاتلناك) فخشوا أن ينعقد عليهم إقرارهم برسالته، فلذلك قالوا ما قالوا هربًا من الشهادة بذلك. وأما محو (الرحمن) من الكتاب فليس بمحو من الصدور، وربما آل التشاح فى ذلك إلى فساد ما كان أحكموه من الصلح. وإباءة علىّ من محو (رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) أدب منه وإيمان وليس بعصيان فيما أمره به، والعصيان هاهنا أبر من الطاعة له وأجمل فى التأدب والإكرام. قال الطبرى: وفى كتابه (صلى الله عليه وسلم) باسمك اللهم، ولم يأب عليهم أن يكتبه إذ لم يكن فى كتابة ذلك نقض شىء من شروط الإسلام، ولا تبديل شىء من شرائعه، وإن كانت سنته الجارية بين(8/88)
أمته أن يستفتحوا كتبهم (بسم الله الرحمن الرحيم) . وكان فعله ذلك والمسلمون يومئذ فى قلة من العدد وضعف من القوة، والمشركون فى كثرة من العدد وشدة من الشوكة، فتبين أن نظير ذلك إذا حدثت للمسلمين حالة تشبه حالة المسلمين يوم الحديبية فى القلة والضعف، وامتنع المشركون من الصلح إلا على حذف بعض أسماء الله أو صفاته، أو حذف بعض محامده أو بعض الدعاء لرسوله أو حذف بعض صفاته، ورأى القيم بأمر المسلمين أن النظر للمسلمين إتمام الصلح أن له أن يفعل كفعل النبى (صلى الله عليه وسلم) فى ذلك. ولو امتنعوا من الصلح على أن يبتدىء الكتاب هذا ما قاضى عليه فلان بن فلان، ويحذف منه كل ما يبتدأ به من ذكر أسماء الله تعالى وصفاته فى ابتداء الكتاب، أو يحذف منه ذكر الخلافة؛ أنه ليس فى ترك ذلك ترك فرض من فرائض الله عز وجل لا يسع المسلمون تضييعه؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) لما أجابهم إلى ما أرادوا من كتاب محمد بن عبد الله؛ لم يكن ذلك مزيلا لصفة من النبوة، ولا يكون للخليفة إذا لم يوصف بالخلافة دخول منقصة عليه، ولا زواله عن منزلة من الإمامة، كما لم يكن فى رضا النبى (صلى الله عليه وسلم) أن يكتب محمد ابن عبد الله منقصة عن النبوة التى جعلها الله تعالى فيه. قال المهلب: وأما اشتراطهم عليه ألا يخرج بأحد من أهلها إن تبعه، ثم خرجت بنت حمزة وفرت معه، فإنما جاز ذلك لأن المشارطة إنما وقعت على الرجال دون النساء، وقد بينه البخارى فى كتاب الشروط بعد هذا، وفى بعض طرق هذا الحديث، فقال سهيل:(8/89)
(وعلى أنه لا يأتيك منا رجل هو على دينك إلا رددته إلينا) ولم يذكر النساء، فصح بهذا أن أخذه لابنة حمزة كان لهذه العلة، ألا تراه رد أبا جندل إلى أبيه، وهو العاقد لهذه المقاضاة. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (الخالة بمنزلة الأم) يعنى فى الحضانة وهو أصل فى الحكم للخالة بالحضانة. وقال الطبرى: فيه دليل على أن أم الصغير ومن كان من قرابتها من النساء أولى بالحضانة من عصبتها من قبل الأب، وإن كانت ذات زوج غير الوالد الذى هو منه؛ وذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قضى بابنة حمزة لخالتها فى الحضانة، وقد تنازع فيها ابنا عمها على وجعفر ومولاها أخو أبيها الذى كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) آخى بيينه وبينه، وخالتها يومئذ لها زوج غير أبيها، وذلك بعد مقتل حمزة، فصح قول من قال: إنه لا حق لعصبة الصغير من قبل الأب فى حضانته ما لم يبلغ حد الاختيار مع قرابته من النساء من قبل الأم وإن كن ذوات أزواج. فإن قيل: فإذا كانت قرابة الأم أحق وإن كن ذوات أزواج، فهلا كانت الأم ذات الزوج كذلك كما كانت الخالة ذات الزوج أحق به؟ قيل: فرق بين ذلك قيام الحجة بالنقل المستفيض رواته عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أن الأم أحق بحضانة الطفل ما لم تنكح، فإذا نكحت فالأب أحق بحضانته، وقد روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. وكل واحدة من المسألتين أصل، إحداهما من جهة النقل المستفيض والأخرى من جهة نقل الآحاد العدول، وغير جائز رد حكم إحداهما على الأخرى، إذ القياس لا يجوز استعماله إلا فيما لا نص فيه من الأحكام.(8/90)
وقوله: (أنت مولانا) فالولاء فى هذا الموضع لا يصلح أن يكون إلا الانتساب فقط لا الموارثة؛ لأنه قد كان نزل فى القران ترك التبنى وترك التوارث به وبالحلف، ولم يبق من ذلك إلا الانتساب أن ينتسب الرجل إلى حلفائه ومعاقديه خاصة، وإلى من أسلم على يديه، فيكتب كما يكتب النسب والقبيلة غير أنه لا يرثه بذلك. قال الخطابى: الجلبان: يشبه الجراب من الأدم ويضع الراكب فيه سيفه بقرابه، ويضع فيه سوطه، يعلقه الراكب من واسطة رحله أو من آخره، وإنما اشترطوا دخول مكة والسيوف فى قربها؛ ليكون ذلك علمًا للصلح، ولو دخلوها متقلدين بها لم تؤمن الفتنة كقول الشاعر: إن تسألوا الحق نعطى سائله والدرع مخفية والسيف مقروب والعرب لا تضع السلاح إلا فى الأمن.
7 - باب الصُّلْحِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ
فِيهِ عَنْ أَبِى سُفْيَانَ، وَقَالَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (ثُمَّ تَكُونُ هُدْنَةٌ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِى الأصْفَرِ) ، وَفِيهِ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ وَأَسْمَاءُ وَالْمِسْوَرُ عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . قَالَ الْبَرَاءِ: صَالَحَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى ثَلاثَةِ أَشْيَاءَ، عَلَى أَنَّ مَنْ أَتَاهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ رَدَّهُ إِلَيْهِمْ، وَمَنْ أَتَاهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَرُدُّوهُ، وَعَلَى أَلاَّ يَدْخُلَهَا مِنْ قَابِلٍ، وَيُقِيمَ بِهَا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، وَلا يَدْخُلَهَا إِلا بِجُلُبَّانِ السِّلاحِ السَّيْفِ وَالْقَوْسِ وَنَحْوِهِ، فَجَاءَ أَبُو جَنْدَلٍ يَحْجُلُ فِى قُيُودِهِ، فَرَدَّهُ إِلَيْهِمْ) .(8/91)
/ 10 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النبى (صلى الله عليه وسلم) خَرَجَ مُعْتَمِرًا، فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَنَحَرَ هَدْيَهُ، وَحَلَقَ رَأْسَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَقَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يَعْتَمِرَ الْعَامَ الْمُقْبِلَ وَلا يَحْمِلَ سِلاحًا عَلَيْهِمْ إِلا سُيُوفًا، وَلا يُقِيمَ بِهَا إِلا مَا أَحَبُّوا، فَاعْتَمَرَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَدَخَلَهَا كَمَا كَانَ صَالَحَهُمْ، فَلَمَّا أَقَامَ بِهَا ثَلاثًا، أَمَرُوهُ أَنْ يَخْرُجَ فَخَرَجَ. / 11 - وفيه: سَهْلِ بْنِ أَبِى حَثْمَةَ قَالَ: انْطَلَقَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ زَيْدٍ إِلَى خَيْبَرَ وَهِىَ يَوْمَئِذٍ صُلْحٌ. قال المؤلف: صلح المسلمين هذا للمشركين جائز إذا دعت الضرورة إلى ذلك، فلم يكن بالمسلمين طاقة على العدو، فأما إذا قدروا عليهم فلا يجوز مصالحتهم؛ لقوله عز وجل: (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم) [محمد: 35] . قال المهلب: وإنما قاضاهم النبى (صلى الله عليه وسلم) هذه القضية التى ظاهرها الوهن على المسلمين؛ لسبب حبس الله عز وجل ناقة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن مكة حين توجه إليها فبركت به، فقال أصحابه: خلأت. فقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (ما خلأت ولا هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل) وكانت إذا حولت عن مكة قامت ومشت، وإذا حرفت إلى مكة بركت،، وكذلك كانت حالة الفيل، ففهمها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من ربه ولم يتعرض لدخوله مكة، وقبل مصالحة المشركين، وحبس جيشه عن انتهاك حرمات الحرم وأهله، ولما كان قد سبق فى علمه عز وجل من دخول أهل مكة فى الإسلام فقال (صلى الله عليه وسلم) : (لا يسألونى اليوم خطة يعظمون فيها حرمات الله أو الحرم إلا أعطيتهم إياها) فكان مما سألوه أن يعظم به أهل الحرم أن يرد إليهم من خرج(8/92)
عنهم ومن حرمهم مسلمًا أو غيره، وألا يردوا ولا يخرجوا من الحرم من فر إليه من المسلمين، وكان هذا من إجلال حرمة الحرم، فلهذا عاقدهم على ذلك مع يقين ما وعده الله تعالى أنه ستفتح عليه مكة ويدخلها حتى قال له عمر: (ألست أخبرتنا أنا داخلون مكة؟ فقال: هل أخبرتك أنك داخلها العام؟) فدل هذا أن المدة التى قاضى النبى (صلى الله عليه وسلم) أهل مكة فيها إنما كانت من الله عز وجل مبالغة فى الإعذار إليهم مع ما سبق من علمه من دخولهم فى الإسلام. قال ابن المنذر: اختلف العلماء فى المدة التى كانت بين رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وبين أهل مكة عام الحديبية. فقال عروة بن الزبير: كانت أربع سنين. وقال ابن جريج: كانت ثلاث سنين. وقال ابن إسحاق: كانت عشر سنين. وقال الشافعى: لا يجوز مهادنة المشركين أكثر من عشر سنين على ما فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) بالحديبية، فإن هودن المشركون أكثر من ذلك فهى منتقضة؛ لأن الأصل فرض قتال المشركين حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية. وقال ابن حبيب عن مالك: يجوز مهادنة المشركين السنة والسنتين والثلاث وإلى غير مدة، وإجازته ذلك إلى غير مدة يدل على أنه تجوز مدة طويلة، وأن ذلك لاجتهاد الإمام، بخلاف قول الشافعى. وقوله: (يحجل فى قيوده) والحجل: مشى المقيد. من كتاب العين.
8 - باب الصُّلْحِ فِى الدِّيَةِ
/ 12 - فيه: أَنَس: (أَنَّ الرُّبَيِّعَ، وَهِىَ ابْنَةُ النَّضْرِ، كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ، فَطَلَبُوا الأرْشَ، وَطَلَبُوا الْعَفْوَ، فَأَبَوْا، فَأَتَوُا النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَمَرَهُمْ بِالْقِصَاصِ، فَقَالَ(8/93)
أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ، أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لا وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا، قَالَ: يَا أَنَسُ، كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ، فَرَضِىَ الْقَوْمُ، وَعَفَوْا، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأبَرَّهُ، فَرَضِىَ الْقَوْمُ وَقَبِلُوا الأرْشَ. الصلح فى الدية من قول الله: (فمن عفى له من أخيه شىء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان) [البقرة: 178] . قال المهلب: (فطلبوا الأرش) يعنى: فطلبوا أن يعطوا الأرش، ويُعفى عن القصاص، فأبى أهل الجارية وتحاكموا إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) فالحكم بالقصاص السن بالسن. وإنما أقسم أنس بن النضر: (والله لا تكسر ثنية الربيع) ثقة منه بالله فى أن يجعل له مخرجًا؛ لأنه كان ممن يتقى الله، فأجاب الله دعاءه وأبر قسمه بأن يسر القوم لقبول الأرش والعفو عن القصاص، فلذلك قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره) ولم يجعله فى معنى المتألى على الله بغير ثقة.
9 - باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِىٍّ: (ابْنِى هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ) ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) [الحجرات: 9]
/ 13 - فيه: الْحَسَنَ البصرى قَالَ: (اسْتَقْبَلَ، وَاللَّهِ، الْحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ مُعَاوِيَةَ بِكَتَائِبَ أَمْثَالِ الْجِبَالِ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: إِنِّى لأرَى كَتَائِبَ لا تُوَلِّى حَتَّى تَقْتُلَ أَقْرَانَهَا، فَقَالَ مُعَاوِية، وَكَانَ وَاللهِ خَيْرُ الرَّجُلينِ، أَىّ عَمْرُو، إِنْ قُتِلَ هَؤُلاءِ هَؤُلاءِ، وَهَؤُلاءِ هَؤُلاءِ، مَنْ لِى بِأُمُورِ النَّاسِ، مَنْ لِى بِنِسَائِهِمْ،(8/94)
مَنْ لِى بِضَيْعَتِهِمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِى عَبْدِشَمْسٍ: عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ وَعَبْدَاللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ، فَقَالَ: اذْهَبَا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ، فَاعْرِضَا عَلَيْهِ، وَقُولا لَهُ، وَاطْلُبَا إِلَيْهِ، فَأَتَيَاهُ، فَدَخَلا عَلَيْهِ، وَتَكَلَّمَا، فَقَالا لَهُ، وَطَلَبَا إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ: إِنَّا بَنُو عَبْدِالْمُطَّلِبِ قَدْ أَصَبْنَا مِنْ هَذَا الْمَالِ: وَإِنَّ هَذِهِ الأمَّةَ قَدْ عَاثَتْ فِى دِمَائِهَا، قَالا: فَإِنَّا نَعْرِضُ عَلَيْكَ كَذَا وَكَذَا، وَنَطْلُبُ إِلَيْكَ، وَنَسْأَلُكَ، قَالَ: فَمَنْ لِى بِهَذَا؟ قَالا: نَحْنُ لَكَ بِهِ، فَمَا سَأَلَهُمَا شَيْئًا، إِلا قَالا: نَحْنُ لَكَ بِهِ، فَصَالَحَهُ، قَالَ الْحَسَنُ: وَلَقَدْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ، يَقُولُ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى الْمِنْبَرِ، وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ إِلَى جَنْبِهِ، وَهُوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً، وَعَلَيْهِ أُخْرَى، وَيَقُولُ: إِنَّ ابْنِى هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ البخارى: قَالَ لِى عَلِىُّ بْنُ عَبْدِاللَّهِ: إِنَّمَا ثَبَتَ لَنَا سَمَاعُ الْحَسَنِ مِنْ أَبِى بَكْرَةَ بِهَذَا الْحَدِيثِ. قال المهلب: قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن ابنى هذا سيد) يدل أن السيادة إنما يستحقها من انتفع به الناس لأنه علق السيادة بالإصلاح بين الناس ونفعهم، هذا معنى السيادة. وقوله: (إن قتل هؤلاء هؤلاء) يدل على نظر معاوية فى العواقب ورغبته فى صرف الحرب. وقوله: (وكان والله خير الرجلين) يريد معاوية خير من عمرو بن العاص. وقوله: (اذهبا إلى هذا الرجل واطلبا إليه واعرضا عليه) يدل على أن معاوية كان الراغب فى الصلح، وأنه عرض على الحسن المال(8/95)
وبذله ورغبه فيه حقنًا للدماء وحرصًا على رفع سيف الفتنة، وعرفه ما وعد به النبى (صلى الله عليه وسلم) من سيادته، وأن الله يصلح به بين فئتين من المسلمين، فقال له الحسن: إنا بنو عبد المطلب المجبولون على الكرم والتوسع لمن حوالينا من الأهل والموالى، وقد أصبنا من هذا المال بالخلافة ما صارت لنا به عادة إنفاق وإفضال على الأهل والحاشية، فإن تخليت من هذا الأمر قطعنا العادة (وإن هذه الأمة قد عاثت فى دمائها) يقول: قتل بعضها بعضًا فلا يكفون إلا بالمال، فأراد أن يسكن أمر الفتنة ويفرق المال فيما لا يرضيه غير المال، فقالا: نفرض لك من المال فى كل عام كذا ومن الأقوات والثياب ما تحتاج إليه لكل ما ذكرت، فصالحاه على ذلك. وفيه من الفقه: أن الصلح على الانخلاع من الخلافة والعهد بها على أخذ مال جائز للمختلع والمال له طيب، وكذلك هو جائز للمصالح الدافع المال إذا كان كل واحد منهما له سبب فى الخلافة يستند إليه، وعقد من الإمارة يعول عليه. وقوله: (بين فئتين من المسلمين) يدل أن قتال المسلم للمسلمين لا يخرجه من الإسلام إذا كان على تأويل، ويفسر قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار) . يريد إن أنفذ الله عليهما الوعيد. وذكر أهل الأخبار أنه لما قتل على بن أبى طالب بايع أهل الكوفة الحسن بن على، وبايع أهل الشام معاوية، فسار معاوية بأهل الشام يريد الكوفة، وسار الحسن بأهل العراقين، فالتقيا بمنزل من أرض الكوفة، فنظر الحسن إلى كثرة من معه من أهل العراق، فنادى: يا معاوية، إنى قد اخترت ما عند الله،(8/96)
فإن يكن هذا الأمر لك فما ينبغى لى أن أنازعك عليه، وإن يكن لى فقد جعلته لك. فكبر أصحاب معاوية، وقال المغيرة ابن شعبة عند ذلك: أشهد أنى سمعت النبى (صلى الله عليه وسلم) يقول للحسن: (إن ابنى هذا سيد سيصلح الله به بين فئتين من المسلمين) . فجزاك الله عن المسلمين خيرًا. وقال الحسن: اتق الله يا معاوية على أمة محمد، لا تفنيهم بالسيف على طلب الدنيا وغرور فانية زائلة، فسلم الحسن الأمر إلى معاوية وصالحه وبايعه على السمع والطاعة على إقامة كتاب الله وسنة نبيه، ثم دخلا الكوفة فأخذ معاوية البيعة لنفسه على أهل العراقين، فكانت تلك السنة سنة الجماعة لاجتماع الناس واتفاقهم وانقطاع الحرب وبايع معاوية كلُ من كان معتزلا عنه، وبايعه سعد بن أبى وقاص وعبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة، وتباشر الناس بذلك، وأجاز معاوية الحسن بن على بثلاثمائة ألف وألف ثوب وثلاثين عبدا ومائة جمل، وانصرف الحسن بن على إلى المدينة وولى معاوية الكوفة المغيرة بن شعبة، وولى البصرة عبد الله بن عامر، وانصرف إلى دمشق واتخذها دار مملكته.
- باب هَلْ يُشِيرُ الإمَامُ بِالصُّلْحِ
/ 14 - فيه: عَائِشَةَ: سَمِعَ النَّبىِّ (صلى الله عليه وسلم) صَوْتَ خُصُومٍ بِالْبَابِ، عَالِيَةٍ أَصْوَاتُهُمْ، وَإِذَا أَحَدُهُمَا يَسْتَوْضِعُ الآخَرَ، وَيَسْتَرْفِقُهُ فِى شَيْءٍ، وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لا أَفْعَلُ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: أَيْنَ الْمُتَأَلِّى عَلَى اللَّهِ، لا يَفْعَلُ الْمَعْرُوفَ، فَقَالَ: أَنَا، يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَهُ أَىُّ ذَلِكَ أَحَبَّ) .(8/97)
/ 15 - وفيه: كَعْبِ، أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَلَى عَبْدِاللَّهِ بْنِ أَبِى حَدْرَدٍ الأسْلَمِىِّ مَالٌ، فَلَقِيَهُ، فَلَزِمَهُ حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، فَمَرَّ بِهِمَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: يَا كَعْبُ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: النِّصْفَ، فَأَخَذَ نِصْفَ مَا لَهُ عَلَيْهِ، وَتَرَكَ نِصْفًا. قال المهلب: فى هذين الحديثين الحض على الرفق بالغريم والإحسان إليه والوضع عنه. قال المهلب: وفى حديث عائشة النهى عن التألى على الله؛ لأن فيه معنى الاستبداد بنفسه، والقدرة على إرادته، فكأنه لما حتم بألا يفعل شابه ما يدعيه القدرية من إثبات القدرة لأنفسها، فوبخه النبى (صلى الله عليه وسلم) بقوله، ففهم ذلك ورجع عن تأليه ويمينه، وقال: (له أى ذلك أحب) من الوضع عنه أو الرفق به متبرئًا من الفعل إلى الله، ورد الحول والقوة إليه، ويمينه إن كانت بعد نزول الكفارة ففيها الكفارة. وفى حديث كعب أصل قول الناس فى حضهم على الصلح: خير الصلح الشطر؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) أمره بوضع النصف عن غريمه فوضعه عنه.
- باب فَضْلِ الإصْلاحِ بَيْنَ النَّاسِ وَالْعَدْلِ بَيْنَهُمْ
/ 16 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ النبى (صلى الله عليه وسلم) : (كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاس عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ يَعْدِلُ بَيْنَ النَّاسِ صَدَقَةٌ) . قال المهلب: قوله: (كل سلامى) يعنى: كل مفصل وكل عظم وإن صغر، والسلاميات: عظام مفاصل الكف، فعلى كل واحد(8/98)
منها صدقة لله من فعل الطاعة والخير كل يوم، إذ كل موضع شعرة فما فوقها من جسد الإنسان عليه فيه نعمة لله، يلزمه شكره والاعتراف بها حين خلقه صحيحًا يتصرف فى منافعه وإرادته، ولم يجعل فى ذلك الموضع داء يمنعه ألمه من استعماله والانتفاع به. وإنما سميت طاعة الله من صلاة وغيرها صدقة؛ لأنه كان لله أن يفترض على عباده ما شاء من الأعمال دون أجر يأجرهم عليها، ولا ثواب فيها، ولكنه برحمته تفضل علينا بالأجر والثواب على ما فرضه، فلما كان لأفعالنا أجر فكأننا نحن ابتدأنا بالعمل فاستحققنا الأجر، فشابه به الصدقة المبتدأة التى عليها الأجر لازم فى فضل الله. وفيه أن العدل بين الناس من الأعمال الزاكية عند الله المرجو قبولها.
- باب إِذَا أَشَارَ الإمَامُ بِالصُّلْحِ فَأَبَى حَكَمَ عَلَيْهِ بِالْحُكْمِ الْبَيِّنِ
/ 17 - فيه: الزُّبَيْرَ، أَنَّهُ خَاصَمَ رَجُلا مِنَ الأنْصَارِ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى شِرَاجٍ مِنَ الْحَرَّةِ، كَانَا يَسْقِيَانِ بِهِ كِلاهُمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لِلْزُّبَيْرِ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ أَرْسِلْ إِلَى جَارِكَ، فَغَضِبَ الأنْصَارِىُّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ آنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ، فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ قَالَ: اسْقِ، ثُمَّ احْبِسْ حَتَّى يَبْلُغَ الْجَدْرَ، فَاسْتَوْعَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حِينَئِذٍ حَقَّهُ لِلْزُّبَيْرِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَبْلَ ذَلِكَ أَشَارَ عَلَى الزُّبَيْرِ بِرَأْىٍ سَعَةٍ لَهُ وَلِلأنْصَارِىِّ، فَلَمَّا أَحْفَظَ الأنْصَارِىُّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) اسْتَوْعَى لِلْزُّبَيْرِ حَقَّهُ فِى صَرِيحِ الْحُكْمِ) . قَالَ عُرْوَة: قَالَ الزُّبَيْرُ: وَاللَّهِ مَا أَحْسِبُ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ إِلا فِى ذَلِكَ: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ. . . (الآيَةَ [النساء: 65] . قال المهلب: الترجمة صحيحة؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) أمر أن يسقى ويأخذ(8/99)
بأيسر ما يكفيه من الماء، ثم يرسله إلى جاره، فأبى ذلك جاره، واتهم النبى (صلى الله عليه وسلم) وأساء الظن بالنبوة من الجور والميل، فغضب النبى (صلى الله عليه وسلم) ، فأمر الزبير أن يسقى ويمسك الماء حتى يبلغ إلى منتهى حاجته، واستوعى الزبير حقه ولم يحمله غضبه (صلى الله عليه وسلم) على أكثر من أنه استوعى له حقه، ونزل القرآن بتصديقه، وهو قوله: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك. .) [النساء: 65] الآية. يعنى: لا يؤمنون إيمانًا كاملا؛ لأنه لا يخرج من الإيمان بخطرة أخطرها الشيطان ونزغ بها. وفيه من الفقه: أنه لا ينبغى الاقتداء بالنبى (صلى الله عليه وسلم) فى غضبه ورضاه وجميع أحواله، وأن يكظم المؤمن غيظه ويملك نفسه عند غضبه، ولا يحملها على التعدى والجور، بل يعفو ويصفح. وقوله: (أحفظ الأنصارى) يعنى: أغضبه.
- باب الصُّلْحِ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ وَأَصْحَابِ الْمِيرَاثِ وَالْمُجَازَفَةِ فِى ذَلِكَ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لا بَأْسَ أَنْ يَتَخَارَجَ الشَّرِيكَانِ، فَيَأْخُذَ هَذَا دَيْنًا، وَهَذَا عَيْنًا، فَإِنْ تَوِىَ لأحَدِهِمَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ. / 18 - فيه: جَابِرِ: (تُوُفِّىَ أَبِى وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَعَرَضْتُ عَلَى غُرَمَائِهِ أَنْ يَأْخُذُوا التَّمْرَ بِمَا عَلَيْهِ، فَأَبَوْا، وَلَمْ يَرَوْا أَنَّ فِيهِ وَفَاءً، فَأَتَيْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: إِذَا جَدَدْتَهُ، فَوَضَعْتَهُ فِى الْمِرْبَدِ، آذَنْتَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَجَاءَ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَجَلَسَ عَلَيْهِ، وَدَعَا بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ غُرَمَاءَكَ فَأَوْفِهِمْ،(8/100)
فَمَا تَرَكْتُ أَحَدًا لَهُ عَلَى أَبِى دَيْنٌ إِلا قَضَيْتُهُ، وَفَضَلَ ثَلاثَةَ عَشَرَ وَسْقًا: سَبْعَةٌ عَجْوَةٌ وَسِتَّةٌ لَوْنٌ. . الحديث. قال المؤلف: كان الدين الذى على أبى جابر ثلاثين وسقًا من تمر ذكره البخارى فى باب إذا قاضاه أو جازفه فى دين فهو جائز. وقال فيه جابر: توفى أبى وترك عليه ثلاثين وسقًا لرجل من اليهود. وقد تقدم هناك أنه لا يجوز عند العلماء أن يأخذ من له دين من تمر على أحد تمرًا مجازفة فى دينه؛ لأن ذلك من الغرر، وإنما يجوز أن يأخذ مجازفة فى ذلك أقل من دينه، وكذلك لا يجوز عندهم أن يأخذ من الطعام مكيل معلوم الكيل طعامًا جزافًا من جنسه إلا أن يكون طعامًا مخالفًا لجنس الطعام المكيل يجوز فيه التفاضل، فلا يجوز إلا يدًا بيد. وروى ابن القاسم عن مالك، أنه كره لمن كان له دين على رجل أن يأخذ فيه ثمرة يجتنيها أو دارًا يسكنها أو جارية يواضعها، وكذلك إذا اشترى منه بدينه كيلا من حنطة، كره أن يفارقه حتى يقبض الحنطة؛ لأنه يكون دينًا فى دين. وقال أشهب: لا بأس بذلك كله. وهو قول أبى حنيفة: وقالوا: ليس من الدين بالدين؛ لأنه إذا شرع فى اجتناء الثمرة. وفى سكنى الدار فقد خرج من معنى الدين بالدين؛ لأن ما كان أوله مقبوضًا وتأخر قبض سائره فهو كالمقبوض. قال مالك: ولا يجوز لمن له طعام من بيع أو سلم أن يصالحه على دراهم يعجلها أو يؤخرها؛ لأنه بيع الطعام قبل أن يستوفى، فلم يجز لجابر أن يعطى اليهودى فيما كان له على أبيه من التمر دراهم. ووجه حديث جابر فى هذا الباب أنه كان على أبيه دين من جنس(8/101)
تمر حائطه فرغب إلى الغرماء أن يأخذوا تمر نخله ويسقطوا عنه باقى دينهم؛ لاتفاقهم أن التمر لا يبلغ قدر الدين، ومثل هذا يجوز عند جميع العلماء؛ لأنه حط وإحسان وليس ببيع، ويجوز عند جماعة العلماء فى الصلح ما لا يجوز فى البيع، وإلى هذا المعنى ذهب البخارى فى ترجمته، والله أعلم. وأما قول ابن عباس فقد اختلف العلماء فيه، فقال الحسن البصرى: إذا اقتسم الشريكان الغرماء فأخذ هذا بعضهم وهذا بعضهم فتوى نصيب أحدهما وخرج نصيب الآخر، قال: إذا أبرأه منه فهو جائز. وقال النخعى: ليس بشىء ما توى أو خرج فهو بينهما نصفان، وهو قول مالك، والكوفيين، والشافعى. وحجة من لم يجز ذلك أنه غرر؛ إذ قد يتوى ما على أحدهما فلا يحصل للذى خرج إليه شىء، ومن حق الشريكين أن يساويا فى الأخذ. وحجة من قال: لا يرجع أحدهما على صاحبه أن الذمة تقوم مقام العين، فإذا توى ما على أحد الغرماء فإنه يبيعه به دينًا. وقال سحنون: إذا قبض أحد الشريكين من دينه عرضًا فإن صاحبه بالخيار إن شاء جوز له ما أخذ وأتبع الغريم بنصيبه، وإن شاء رجع على شريكه بنصف ماقبض وأتبعا الغريم جميعًا بنصف جميع الدين فاقتسماه بينهما نصفين. وهذا قول ابن القاسم.(8/102)
- باب الصُّلْحِ وَالْعَيْنِ بِالدَّيْنِ
/ 19 - فيه: كَعْبَ: أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِى حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى الْمَسْجِدِ، حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَهُوَ فِى بَيْتِهِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ: يَا كَعْبُ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنْ ضَعِ الشَّطْرَ، فَقَالَ كَعْبٌ: قَدْ فَعَلْتُ، فَقَالَ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) : قُمْ فَاقْضِهِ) . اتفق العلماء أنه إن صالح غريمه عن دراهم بدراهم أقل منها أو عن ذهب بذهب أقل منه أنه جائز إذا حل الأجل، وإن أخره بذلك؛ لأنه حط عنه وأحسن إليه ولا يدخله دين فى دين، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (من أنظر معسرًا أو وضع عنه تجاوز الله عنه) ولا يجوز أن يحط عنه شيئًا قبل حلول الأجل على أن يقضيه مكانه؛ لأنه يدخله ضع وتعجل وأما إن صالحه بعد حلول الأجل عن دراهم بدنانير أو عن دنانير بدراهم لم يجز ذلك إلا بالقبض؛ لأنه صرف، فإن قبض بعضًا وبَقَّى بعضًا جاز فيما قبض وانتقض فيما لم يقبض، فإن كان الدين عرضًا فلا يجوز له فى غير جنسه مما يتأخر قبض جميعه؛ لأنه الدين بالدين، وإن كان ناجزًا فلا بأس به. هذا قول مالك. وإذا تقاضاه مثل دينه عند حلول الأجل على غير وجه الصلح فإنه يقبضه مكانه، ولا يجوز أن يحيله به غريمه على من له عليه دين؛ لأنه يكون الدين بالدين الذى نهى عنه، ولذا قال (صلى الله عليه وسلم) : (قم فاقضه) .(8/103)
54 - كِتَاب الشُّرُوطِ
- باب مَا يَجُوزُ مِنَ الشُّرُوطِ فِى الإسْلامِ وَالأحْكَامِ وَالْمُبَايَعَةِ
/ 1 - فيه: مَرْوَانَ وَالْمِسْوَرَ يُخْبِرَانِ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: لَمَّا كَاتَبَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو يَوْمَئِذٍ كَانَ فِيمَا اشْتَرَطَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : أَنَّهُ لا يَأْتِيكَ مِنَّا أَحَدٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلا رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا، وَخَلَّيْتَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، فَكَرِهَ ذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ، وَامْتَعَضُوا مِنْهُ، وَأَبَى سُهَيْلٌ إِلا ذَلِكَ، فَكَاتَبَهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى ذَلِكَ، فَرَدَّ يَوْمَئِذٍ أَبَا جَنْدَلٍ إِلَى أَبِيهِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَلَمْ يَأْتِهِ أَحَدٌ مِنَ الرِّجَالِ إِلا رَدَّهُ فِى تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا، وَجَاءَتِ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ، وَكَانَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِى مُعَيْطٍ مِمَّنْ خَرَجَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَئِذٍ، وَهِىَ عَاتِقٌ، فَجَاءَ أَهْلُهَا يَسْأَلُونَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يَرْجِعَهَا إِلَيْهِمْ، فَلَمْ يَرْجِعْهَا إِلَيْهِمْ لِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِنَّ: (إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ) [غافر: 34] . قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ فَمَنْ أَقَرَّ بِهَذَا الشَّرْطِ مِنْهُنَّ، قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : قَدْ بَايَعْتُكِ كَلامًا يُكَلِّمُهَا بِهِ، وَاللَّهِ مَا مَسَّتْ يَدُهُ يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ فِى الْمُبَايَعَةِ، وَمَا بَايَعَهُنَّ إِلا بِقَوْلِهِ. / 2 - وفيه: جَابِر: (بَايَعْتُ النبى (صلى الله عليه وسلم) فَاشْتَرَطَ عَلَىَّ: وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. وَقَالَ مرة: بَايَعْتُ النبى (صلى الله عليه وسلم) عَلَى إِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. قال المؤلف: الشروط الجائزة فى الإسلام والأحكام هى الشروط(8/104)
الموافقة لكتاب الله وسنة ورسوله، وشروط المبايعة هى التزام الفرائض والنصيحة للمؤمنين وما فى آية الممتحنة مما ألزمه الله عز وجل المؤمنات فى الآية أن) لا يسرقن ولا يزنين) [الممتحنة: 10] إلى آخر الآية. فاختلف العلماء فى صلح المشركين على أن يرد إليهم من جاء منهم مسلمًا، فقال قوم: لا يجوز هذا وهو منسوخ بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (أنا برئ من كل مسلم أقام مع مشرك فى دار الحرب لا تراءى نارهما) . قالوا: فهذا ناسخ لرد المسلمين إلى المشركين؛ إذ كان النبى (صلى الله عليه وسلم) قد برئ ممن أقام معهم فى دار الحرب. وأجمع المسلمون أن هجرة دار الحرب فريضة على الرجال والنساء وذلك الذى بقى من فرض الهجرة. هذا قول الكوفيين، وقول أصحاب مالك. ذكر ابن حبيب عن ابن الماجشون قال: إذا اشترط أهل الحرب فى الصلح رد من أسلم منهم لم ينبغ أن يعطوا ذلك، فإن جهل معطيهم ذلك لم يوف لهم بالشرط؛ لأنه خلاف سنة الإسلام، وفيه إباحة حرمته. وقال الشافعى: هذا الحكم فى الرجال غير منسوخ، ليس لأحد هذا العقد إلا للخليفة أو لرجل يأمره، فمن عقده غير الخليفة فهو مردود، وقول الشافعى: وهذا الحكم فى الرجال غير منسوخ؛ يدل أن مذهبه فى النساء منسوخ، وحجته فى حديث مروان والمسور قوله: (وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط ممن خرج إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) فجاء أهلها إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) يسألونه أن يرجعها إليهم فلم يرجعها لما نزل فيهن ورد أبا جندل. وذكر معمر عن الزهرى قال: نزلت الآية على النبى (صلى الله عليه وسلم) وهو بأسفل(8/105)
الحديبية، وكان صالحهم على أن من أتاه منهم رده إليهم، فلما جاء النساء نزلت عليه الآية وأمر أن يرد الصداق إلى أزواجهن فحكم النبى (صلى الله عليه وسلم) فى النساء بحكم الله فى القرآن وبين المعنى فى ذلك بقوله: (لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) [الممتحنة: 10] فأخبر تعالى أن وطء المؤمنات حرام على الكفار، فلذلك لم ترد إليهم النساء. وقد روى فى هذا الحديث ما يدل أن الشرط إنما وقع فى صلح أهل مكة أن يرد الرجال خاصة ولم يقع على النساء وهو قول سهيل: (وعلى أنه لا يأتيك منا رجل إلا رددته إلينا) فلم يدخل فى ذلك النساء. ذكره البخارى فى باب الشروط فى الجهاد بعد هذا. وقوله: (فامتعضوا) قال صاحب العين: معض الرجل وامتعض: إذا غضب للشىء. وأمعضته ومعضته أنا: إذا أنزلت به ذلك. وقوله: (وهى عاتق) قال ابن دريد: عتقت الجارية: صارت عاتقًا، وذلك إذا أوشكت البلوغ. وقد تقدم تفسير العواتق فى أبواب صلاة العيدين.
- باب إِذَا بَاعَ نَخْلاً قَدْ أُبِّرَتْ وَلَمْ يَشْتَرِطِ الثَّمَرَةَ
/ 3 - فيه: ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النبى (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (مَنْ بَاعَ نَخْلا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إِلا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ) . قد تقدم فى كتاب البيوع.(8/106)
3 - باب الشُّرُوطِ فِى الْبُيُوعِ
/ 4 - فيه: عَائِشَةَ (أَنَّ بَرِيرَةَ جَاءَتْ تَسْتَعِينُهَا فِى كِتَابَتِهَا، وَلَمْ تَكُنْ قَضَتْ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئًا، قَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ، ارْجِعِى إِلَى أَهْلِكِ، فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ أَقْضِىَ عَنْكِ كِتَابَتَكِ، وَيَكُونَ وَلاؤُكِ لِى، فَعَلْتُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ بَرِيرَةُ إِلَى أَهْلِهَا، فَأَبَوْا، وَقَالُوا: إِنْ شَاءَتْ أَنْ تَحْتَسِبَ عَلَيْكِ فَلْتَفْعَلْ، وَيَكُونَ لَنَا وَلاؤُكِ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ لَهَا، ابْتَاعِى فَأَعْتِقِى، فَإِنَّمَا الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ) . وقد تقدم فى البيوع. ونذكر هاهنا منه طرفًا. وروى عن عبد الصمد بن عبد الوارث قال: وجدت فى كتاب جدى قال: أتيت مكة فأصبت بها أبا حنيفة وابن أبى ليلى وابن شبرمة، فأتيت أبا حنيفة فقلت له: ما تقول فى رجل باع بيعًا واشترط شرطًا؟ قال: البيع باطل والشرط باطل. فأتيت ابن أبى ليلى فسألته فقال: إن البيع جائز والشرط باطل. فأتيت ابن شبرمة فسألته، فقال: البيع جائز والشرط جائز. فقلت: سبحان الله ثلاثة من فقهاء الكوفة اختلفوا فى مسألة. فأتيت أبا حنيفة فأخبرته بقولهما فقال: لا أدرى ما قالا، حدثنى عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده (أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نهى عن بيع وشرط) فأتيت ابن أبى ليلى فأخبرته بقولهما فقال: لا أدرى ما قالا، حدثنى هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (اشترى بريرة واشترطى لهم الولاء، فإن الولاء لمن أعتق) فأجاز البيع وأبطل الشرط. فأتيت ابن(8/107)
شبرمة فأخبرته بقولهما فقال: لا أدرى ما قالا، حدثنى مسعر بن كدام، عن محارب بن دثار، عن جابر بن عبد الله قال: (اشترى منى النبى (صلى الله عليه وسلم) ناقة فاشترطت حملانى) فأجاز البيع والشرط. قال المهلب: هذه الثلاث فتاوى جائزة كلها فى مواضعها، فلا يتعدى كل واحد منها ما وضع له ولها أحكام مختلفة على حسب تأويل الأحاديث الثلاثة، وهؤلاء الفقهاء حملوا تأويلها على العموم وظنوا أن كل واحد من هؤلاء الأحاديث عامل فى السنة كلها، وليس كذلك، ولكل واحد موضع لا يتعداه، وقد تقدم فى كتاب البيوع.
4 - باب إِذَا اشْتَرَطَ الْبَائِعُ ظَهْرَ الدَّابَّةِ إِلَى مَكَانٍ مُسَمًّى جَازَ
/ 5 - فيه: جَابِرٌ: أَنَّهُ كَانَ يَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ لَهُ قَدْ أَعْيَا، فَمَرَّ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَضَرَبَهُ، فَدَعَا لَهُ، فَسَارَ سيرًا لَيْسَ يَسِيرُ مِثْلَهُ، ثُمَّ قَالَ: بِعْنِيهِ بِوَقِيَّةٍ، قُلْتُ: لا، ثُمَّ قَالَ: بِعْنِيهِ بِوَقِيَّةٍ، فَبِعْتُهُ، فَاسْتَثْنَيْتُ حُمْلانَهُ إِلَى أَهْلِى، فَلَمَّا قَدِمْنَا أَتَيْتُ بِالْجَمَلِ، وَنَقَدَنِى ثَمَنَهُ، ثُمَّ انْصَرَفْتُ، فَأَرْسَلَ عَلَى إِثْرِى: وَقَالَ: مَا كُنْتُ لآخُذَ جَمَلَكَ، فَخُذْ جَمَلَكَ ذَلِكَ، فَهُوَ مَالُكَ وَقَالَ شُعْبَةُ،: أَفْقَرَنِى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ،(8/108)
وَقَالَ إِسْحَاقُ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ مُغِيرَةَ: فَبِعْتُهُ عَلَى أَنَّ لِى فَقَارَ ظَهْرِهِ حَتَّى آتِى الْمَدِينَةَ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَغَيْرُهُ: وَلَكَ ظَهْرُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ، شَرَطَ ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ جَابِرٍ: وَلَكَ ظَهْرُهُ حَتَّى تَرْجِعَ. وَقَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ: أَفْقَرْنَاكَ ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَالَ الأعْمَشُ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ جَابِرٍ: تَبَلَّغْ عَلَيْهِ إِلَى أَهْلِكَ. قَالَ أَبُو عَبْدِاللَّهِ: الاشْتِرَاطُ أَكْثَرُ وَأَصَحُّ عِنْدِى. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ وَغَيْرِهِ، عَنْ جَابِرٍ: أَخَذْتُهُ بِأَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ، وَهَكَذَا تَكُونُ أوَقِيَّةً عَلَى حِسَابِ الدِّينَارِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَلَمْ يُبَيِّنِ الثَّمَنَ مُغِيرَةُ. عَنِ الشَّعْبِىِّ، عَنْ جَابِرٍ وَابْنُ الْمُنْكَدِرِ وَأَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، وَقَالَ الأعْمَشُ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ جَابِرٍ: أوَقِيَّةُ ذَهَبٍ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ جَابِرٍ مِائَتَىْ دِرْهَمٍ. وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ عُبَيْدِاللَّهِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ جَابِرٍ: اشْتَرَاهُ بِطَرِيقِ تَبُوكَ، أَحْسِبُهُ قَالَ: بِأَرْبَعِ أَوَاقٍ.(8/109)
وَقَالَ أَبُو نَضْرَةَ، عَنْ جَابِرٍ: اشْتَرَاهُ بِعِشْرِينَ دِينَارًا. وَقَوْلُ الشَّعْبِىِّ: بِوَقِيَّةٍ أَكْثَرُ. اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث لاختلاف ألفاظه، فمرة روى بلفظ الهبة والإفقار ومرة روى بلفظ الاستثناء والاشتراط، واختلاف اللفظ يوجب اختلاف المعانى عند الفقهاء إلا أن البخارى غلب لفظ الاشتراط وقضى له على غيره بالصحة، وممن قال بذلك من الفقهاء: الأوزاعى وأحمد وأبو ثور ومحمد بن نصر المروزى، وأهل الحديث قالوا: لا بأس أن يبيع الرجل الدابة ويشترط ظهرها إلى مكان معلوم، والبيع فى ذلك جائز والشرط ثابت. وقال مالك: إن كان الاشتراط للركوب إلى مكان قريب مثل اليوم واليومين والثلاثة فلا بأس بذلك، وإن كان بعيدًا فلا خبر فيه على ظاهر حديث جابر أنه باع الجمل من النبى (صلى الله عليه وسلم) واستثنى ركوبه إلى المدينة، وكان بينه وبينها ثلاثة أيام. وقال مالك: ولا بأس أن يشترط سكنى الدار الأشهر والسنة. وقالت طائفة: إذا اشترط ركوب الدابة أو خدمة العبد أو سكنى الدار فالبيع فاسد. هذا قول الكوفيين والشافعى. وقالوا: قد ورد حديث جابر بلفظ الإفقار والهبة، وهو أولى من حديث الاشتراط. قالوا: ولا يخلو شرط ركوب البائع أن يكون الركوب مستحقا من مال المشترى، فيكون البيع فاسدًا؛ لأنه شرط لنفسه ما قد ملكه المشترى، أو يكون استثناؤه الركوب أوجب بقاء الركوب فى ملك البائع، فهذا محال لأن المشترى لم يملك المنافع بعد البيع من(8/110)
جهة البائع، وإنما ملكها لأنها طرأت فى ملكه، وكذلك سكنى الدار ونحوها. واحتج عليهم من خالفهم، فقال: إنه لا خلاف بيننا أنه لو باع نخلا عليها ثمر قد أبر وبقاها لنفسه أنه جائز، والثمرة تبقى على نخل المبتاع إلى وقت جدادها، وقد باع النخل واستثنى منفعة تلك الثمرة لنفسه، وجاز ذلك فكذلك فى مسألتنا، وقد أجمعوا على جواز الفرد اليسير فى البيوع، وقد أجازه النبى (صلى الله عليه وسلم) وروى عن عثمان أنه باع دارًا واشترط لنفسه سكناها مدة معلومة، وعثمان إمام فعل ذلك بين الصحابة، فلم ينكره أحد. فإن قالوا: إن النبى (صلى الله عليه وسلم) نهى عن بيع وشرط. قيل: الذى نهى عن ذلك هو الذى جوز البيع والشرط فى حديث جابر، فدل أن الخبر مخصوص؛ لأن من الشروط ما يجوز ومنها ما لا يجوز، وقد قال: (المؤمنون عند شروطهم) قال ابن المنذر: وحديث جابر مستغنى به عن قول كل أحد، وإنما نهى أن يستثنى مجهولا من معلوم، فأما إذا علم المستثنى فذلك جائز، ومن خالف حديث جابر مستثنى برأيه فيما لا سنة فيه، كالدار يبيعها الرجل وقد أكراها وقتًا معلومًا أن سكناها للمكترى على المشترى إلى انقضاء المدة، فإذا جاز هذا ولا سنة فيه فالسنة الثابتة أولى أن نستنها. قال المهلب: ومن روى (لك ظهره إلى المدينة) يدل على أنه تفضل عليه بركوبه إلى المدينة، ولم يكن من اشتراط جابر على النبى (صلى الله عليه وسلم) فى أصل البيع.(8/111)
ويؤيد ذلك رواية من روى: فأفقره ظهره إلى المدينة) والإفتقار لا يكون إلا تفضلا، فيكون معنى رواية من روى: (وشرط له ظهره إلى المدينة) شرط تفضل؛ لأن القصة كلها جرت على جهة التفضل من النبى (صلى الله عليه وسلم) والرفق بجابر؛ لأنه وهبه الجمل بعد أن أعطاه ثمنه وزيادة، وكيف يشرط عليه جابر ركوبه وحين قال له النبى (صلى الله عليه وسلم) : (بعنيه. قال له جابر: هو لك يا رسول الله بلا ثمن) فلم يقبله النبى (صلى الله عليه وسلم) إلا بثمن رفقًا به. ذكره البخارى فى كتاب الوكالات فى باب إذا وكل رجلا أن يعطى شيئًا فلم يبين كم يعطى. قال المهلب: وأما اختلافهم فى ثمن الجمل فلا حاجة بنا إلى علم مقداره؛ لأنه لا يجوز بيعه بالقليل والكثير، وإنما الغرض فى الحديث نقل العقد وأنه كان بثمن، فلذلك لم يعتبر مقداره. الإفقار فى الإبل: أن يعار للركوب والحمل عليها. عن الخطابى: وفى كتاب العين: أفقرت الرجل الدابة إذا أعرته ظهرها. والفقار: عظم الصلب.
5 - باب الشُّرُوطِ فِى الْمُعَامَلَةِ
/ 6 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَتِ الأنْصَارُ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : اقْسِمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا النَّخِيلَ، قَالَ: لا، فَقَالَ: تَكْفُونَا الْمَئُونَةَ، وَنُشْرِكْكُمْ فِى الثَّمَرَةِ، قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) . / 7 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) خَيْبَرَ الْيَهُودَ أَنْ يَعْمَلُوهَا وَيَزْرَعُوهَا، وَلَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا.(8/112)
قال المهلب: أراد الأنصار مقاسمة المهاجرين للإخاء الذى آخى بينهما النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وهذه المعاملة هى المساقاة بعينها، وهى خارجة عن معانى البيوع؛ لأنه لا يجوز بيع الثمار قبل بدو صلاحها، وجاز بيعها فى المساقاة قبل أن تخلق وتظهر، وأما خروجها عن الإجارة، فإنه لا تجوز الإجارة المجهولة، وفى المساقاة لا يعلم مقدار ما يخرج النخيل من الثمر، وربما لا يخرج شيئًا، وإنما جازت المساقاة بالسنة، فهى مخصوصة فى نفسها لا تتعدى إلى غيرها مما يشبه معناها، فلا يجوز من الشروط فى معاملاتهم إلا ما كان فى كتاب الله أو سنة نبيه - صلىالله عليه وسلم -.
6 - باب الشُّرُوطِ فِى الْمَهْرِ عِنْدَ عُقْدَةِ النِّكَاحِ
وَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ مَقَاطِعَ الْحُقُوقِ عِنْدَ الشُّرُوطِ، وَلَكَ مَا شَرَطْتَ، وَقَالَ الْمِسْوَرُ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ذَكَرَ صِهْرًا لَهُ، فَأَثْنَى عَلَيْهِ فِى مُصَاهَرَتِهِ، فَأَحْسَنَ، وَقَالَ: حَدَّثَنِى فَصَدَقَنِى وَوَعَدَنِى فَوَفَى لِى. / 8 - فيه عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ النبى (صلى الله عليه وسلم) : أَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ) . هذا الباب مكرر فى كتاب النكاح وهو موضعه وسأذكر مذاهب العلماء فى شروط النكاح إن شاء الله.(8/113)
7 - باب الشُّرُوطِ فِى الْمُزَارَعَةِ
/ 9 - فيه: رَافِعَ: كُنَّا أَكْثَرَ الأنْصَارِ حَقْلا، فَكُنَّا نُكْرِى الأرْضَ، فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ هَذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ ذِهِ، فَنُهِينَا عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ نُنْهَ عَنِ الْوَرِقِ. تقدم معنى حديث رافع واختلاف مساقه فى كتاب المزارعة.
8 - باب مَا لا يَجُوزُ مِنَ الشُّرُوطِ فِى النِّكَاحِ
/ 10 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لا تَسْأَلِ الْمَرْأَةُ طَلاقَ أُخْتِهَا؛ لِتَسْتَكْفِئَ إِنَاءَهَا) . هذا فى كتاب النكاح.
9 - باب الشُّرُوطِ الَّتِى لا تَحِلُّ فِى الْحُدُودِ
/ 11 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ: حَدِيث العَسِيف: (. . . فَأَخْبَرُونِى أَنَّ عَلى ابنى الرَّجم، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ، فَسَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ، فَأَخْبَرُونِى أَنَّ عَلَى ابْنِى جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَنَّ الرَّجْمَ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَقَالَ النبى (صلى الله عليه وسلم) : أَمَّا غَنَمُكَ وَجَارِيَتُكَ فَرَدٌّ عَلَيْكَ. . .) الحديث. قال المهلب: كل شرط وقع فى رفع حد من حدود الله فلا يجوز منه شىء، ولا يجوز فيه صلح ولا فدية، وذلك مردود كله، وقد تقدم هذا الحديث فى كتاب الصلح فى باب إذا اصطلحوا على جور فهو مردود، وسيأتى فى كتاب الرجم فى غير موضع إن شاء الله، وأتقصى ما للعلماء فى معانيه بحول الله وقوته.(8/114)
- باب مَا يَجُوزُ مِنْ شُرُوطِ الْمُكَاتَبِ إِذَا رَضِىَ بِالْبَيْعِ عَلَى أَنْ يُعْتَقَ
/ 12 - فيه: حديث بَرِيرَةُ، أَنَّ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) قال لعَائِشَةَ: اشْتَرِيهَا فَأَعْتِقِيهَا فإن الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ. وترجم له باب المكاتب ومالا يحل من الشروط التى تخالف كتاب الله وقد تقدم فى كتاب المكاتب.
- باب الشُّرُوطِ فِى الطَّلاقِ
وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ: إِنْ بَدَأ بِالطَّلاقِ أَوْ أَخَّرَ، فَهُوَ أَحَقُّ بِشَرْطِهِ. / 13 - فيه أَبُو هُرَيْرَةَ: نَهَى النبى (صلى الله عليه وسلم) أَنْ تَشْتَرِطَ الْمَرْأَةُ طَلاقَ أُخْتِهَا. أما قول ابن المسيب وغيره: إن بدأ بالطلاق أو أخر فهو أحق بشرطه فمعناه أن يقول: أنت طالق إن دخلت الدار أو إن دخلت الدار فأنت طالق، فالطلاق يلزمه عند جماعة الفقهاء، وإنما يروى الخلاف فى ذلك عن شريح والنخعى قالا: إذا بدأ بالطلاق قبل يمينه فإنه يلزمه الطلاق وإن برت يمينه، وإن بدأ باليمين قبل الطلاق فإنه لا يلزمه الطلاق إذا برت. وأما الشروط فى الطلاق فهى عندهم كالشروط فى النكاح، فمنهم من كرهها ومنهم من أجازها إذا وقعت بيمين وسيأتى اختلاف العلماء فى كتاب النكاح.(8/115)
وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا تشترط المرأة طلاق اختها) حجة لمن أجاز الشروط المكروهة؛ لأنه لو لم تكن هذه الشروط عاملة إذا وقعت لم يكن لنهيه عن اشتراط المرأة طلاق أختها معنى، ولكان اشتراطها ذلك كلا اشتراط، فكذلك ما شابه ذلك من الشروط، وإن كانت مكروهة فهى لازمة؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (أحق الشروط أن يوفى بها ما استحللتم به الفروج) .
- باب الشُّرُوطِ مَعَ النَّاسِ بِالْقَوْلِ
/ 14 - فيه ابْنِ عَبَّاس، عَنْ أُبَىُّ، قَالَ: قَالَ النبى (صلى الله عليه وسلم) : مُوسَى رَسُولُ اللَّهِ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ: (قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا) [البقرة: 33] كَانَتِ الأولَى نِسْيَانًا، وَالْوُسْطَى شَرْطًا، وَالثَّالِثَةُ عَمْدًا. وإنما أراد البخارى بهذا الباب والله أعلم ليدل على أن ما يقع بين الناس فى محاوراتهم مما يكثر بينهم، فإن الشرط بالقول يغنى فى ذلك عن الشرط بالكتاب والإشهاد عليه، ألا ترى أن موسى (صلى الله عليه وسلم) لم يشهد أحدًا على نفسه حين قال للخضر: (ستجدنى إن شاء الله صابرًا ولا أعصى لك أمرًا) [الكهف: 69] وكذلك الخضر حين شرط على موسى ألا يسأله عن شىء حتى يحدث له منه ذكرًا؛ لم يكتب بذلك كتابًا ولا أشهد شهودًا، وإنما يجب الإشهاد والكتاب فى الشروط التى يعم المسلمين نفعها ويخاف أن يكون فى انتقاضها والرجوع فيها خرم وفساد، وكذلك ما كان فى معناها مما يخص بعض الناس، واحتيج فيها إلى الكتاب والإشهاد خوف ذلك، ألا ترى أن(8/116)
النبى (صلى الله عليه وسلم) كتب الصلح مع سهيل بن عمرو وأهل مكة ليكون حاجزًا للمشركين عن التناقض والرجوع فى شىء من الصلح وشاهدًا عليهم إن هموا بذلك. قال المهلب: وفيه أن النسيان لا يعد ولا يؤاخذ به. وفيه دليل: أنه يجب الرفق بالعلماء، وألا يهجم عليهم بالسؤال عن معانى أقوالهم فى كل وقت إلا عند انبساط نفوسهم وانشراح صدورهم، لا سيما إذا شرط ذلك العالم على المتعلم. وفيه: أنه يجوز سؤال العالم عن معانى أفعال النبى (صلى الله عليه وسلم) وأقواله؛ لأن موسى سأل الخضر عن معنى قتل الغلام وخرق السفينة وإقامة الجدار، فأخبره بعلل أفعاله، ووجه الحكمة فيها، وإنما كان شرط ألا يسأله عن شىء حتى يحدث له منه ذكرًا والله أعلم أنه أراد أن يتأدب عليه فى تعليمه، ويأخذ عفوه فيه حتى ينبسط إلى الشرح والتفسير، ففى إخباره بتأويل ذلك دليل على أن أفعال الأنبياء وأقوالهم ينبغى أن تعرف معانيها ووجه ما صنعت له، والله الموافق للصواب.
- باب من اسشْتَرَطَ فِى الْمُزَارَعَةِ إِذَا شىءتُ أَخْرَجْتُكَ
/ 15 - فيه: ابْنِ عُمَرَ: لَمَّا فَدَعَ أَهْلُ خَيْبَرَ عَبْدَاللَّهِ بْنَ عُمَرَ، قَامَ عُمَرُ خَطِيبًا، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ عَامَلَ يَهُودَ خَيْبَرَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَقَالَ: نُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ، وَإِنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ عُمَرَ خَرَجَ إِلَى مَالِهِ هُنَاكَ، فَعُدِىَ عَلَيْهِ مِنَ اللَّيْلِ، فَفُدِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلاهُ، وَلَيْسَ لَنَا هُنَاكَ عَدُوٌّ غَيْرَهُمْ، هُمْ عَدُوُّنَا، وَتُهْمَتُنَا وَقَدْ رَأَيْتُ إِجْلاءَهُمْ، فَلَمَّا أَجْمَعَ عُمَرُ عَلَى ذَلِكَ، أَتَاهُ أَحَدُ بَنِى(8/117)
أَبِى الْحُقَيْقِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتُخْرِجُنَا، وَقَدْ أَقَرَّنَا مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وسلم) ، وَعَامَلَنَا عَلَى الأمْوَالِ وَشَرَطَ ذَلِكَ لَنَا، فَقَالَ عُمَرُ: أَظَنَنْتَ أَنِّى نَسِيتُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : كَيْفَ بِكَ إِذَا أُخْرِجْتَ مِنْ خَيْبَرَ، تَعْدُو بِكَ قَلُوصُكَ لَيْلَةً بَعْدَ لَيْلَةٍ؟ فَقَالَ: كَانَتْ هَذِهِ هُزَيْلَةً مِنْ أَبِى الْقَاسِمِ، قَالَ: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، فَأَجْلاهُمْ عُمَرُ، وَأَعْطَاهُمْ قِيمَةَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنَ الثَّمَرِ مَالا وَإِبِلا وَعُرُوضًا مِنْ أَقْتَابٍ وَحِبَالٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وقد تقدم فى كتاب المزارعة فى باب: إذا قال رب الأرض أقرك ما أقرك الله. وهذا الحديث يدل أن عمر إنما أخرجهم لعداوتهم للمسلمين ونصبهم الغوائل لهم اقتداء بالنبى (صلى الله عليه وسلم) فى إجلائه بنى النضير، وأمره لهم ببيع أرضهم حين أرادوا الغدر برسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وأن يلقوا عليه حجرًا مع أنه بلغه أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال عند موته: (لا يبقين دينان بأرض العرب) فرأى عمر إنفاذ وصية النبى (صلى الله عليه وسلم) عندما بدا منهم من فدعهم لابنه وخشى منهم أكثر من هذا. قال المهلب: وفيه دليل على أن العداوة توجب المطالبة بالجنايات كما طالبهم عمر بفدعهم ابنه ورجح ذلك بأن قال: ليس لنا عدو غيرهم، فعلق المطالبة بشاهد العداوة، فأخرجهم من الأرض على ما كان أوصى به النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وإنما ترك عمر مطالبة اليهود بالقصاص فى فدع ابنه؛ لأنه فدع ليلا وهو نائم، فلم يعرف ابن عمر أشخاص من فدعه، فأشكل الأمر كما أشكلت قصة عبد الله بن سهل حين وداه (صلى الله عليه وسلم) من عند نفسه. وفيه: أن أفعال النبى (صلى الله عليه وسلم) وأقواله محمولة على الحقيقة على وجهها، لا على الهزل حتى يقوم دليل المجاز والتعريض، وإنما أقر النبى (صلى الله عليه وسلم) يهود(8/118)
خيبر على أن سلمهم فى أنفسهم ولا حق لهم فى الأرض، واستأجرهم على المساقاة ولهم شطر الثمرة، فلذلك أعطاهم عمر قيمة شطر الثمر من إبل وأقتاب وحبال يستقلون بها؛ إذ لم يكن لهم فى رقبة الأرض شىء. وقد استدل بعض الناس من هذا الحديث أن المزارع إذا كرهه رب الأرض بجناية بدت منه أن له أن يخرجه بعد أن يبتدئ فى العمل ويعطيه قيمة عمله ونصيبه، كما فعل عمر. وقال غيره: إنما يجوز إخراج المساقى والمزارع عند رءوس الأعوام وتمام الحصاد والجداد.
- باب الشُّرُوطِ فِى الْجِهَادِ وَالْمُصَالَحَةِ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ وَكِتَابَةِ الشُّرُوطِ مع الناس بالقول
/ 16 - فيه: الْمِسْوَرِ وَمَرْوَانَ، قَالا: (خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : إِنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ بِالْغَمِيمِ فِى خَيْلٍ لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةٌ، فَخُذُوا ذَاتَ الْيَمِينِ، فَوَاللَّهِ مَا شَعَرَ بِهِمْ خَالِدٌ حَتَّى إِذَا هُمْ بِقَتَرَةِ الْجَيْشِ، فَانْطَلَقَ يَرْكُضُ نَذِيرًا لِقُرَيْشٍ، وَسَارَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) حَتَّى إِذَا كَانَ بِالثَّنِيَّةِ الَّتِى يُهْبَطُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، فَقَالَ النَّاسُ: حَلْ، حَلْ، فَأَلَحَّتْ، فَقَالُوا: خَلأتِ الْقَصْوَاءُ، خَلأتِ الْقَصْوَاءُ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : مَا خَلأتِ الْقَصْوَاءُ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لا يَسْأَلُونِى خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا، ثُمَّ زَجَرَهَا، فَوَثَبَتْ، قَالَ: فَعَدَلَ عَنْهُمْ، حَتَّى نَزَلَ بِأَقْصَى الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى ثَمَدٍ قَلِيلِ الْمَاءِ يَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ تَبَرُّضًا، فَلَمْ(8/119)
يُلَبِّثْهُ النَّاسُ حَتَّى نَزَحُوهُ، وَشُكِىَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الْعَطَشُ، فَانْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِيهِ، فَوَاللَّهِ مَا زَالَ يَجِيشُ لَهُمْ بِالرِّىِّ حَتَّى صَدَرُوا عَنْهُ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِىُّ فِى نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ خُزَاعَةَ، وَكَانُوا عَيْبَةَ نُصْحِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ، فَقَالَ: إِنِّى تَرَكْتُ كَعْبَ بْنَ لُؤَىٍّ وَعَامِرَ بْنَ لُؤَىٍّ نَزَلُوا أَعْدَادَ مِيَاهِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَمَعَهُمُ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ، وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنِ الْبَيْتِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهِكَتْهُمُ الْحَرْبُ، وَأَضَرَّتْ بِهِمْ، فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً، وَيُخَلُّوا بَيْنِى وَبَيْنَ النَّاسِ، فَإِنْ أَظْهَرْ فَإِنْ شَاءُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا، وَإِلا فَقَدْ جَمُّوا، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا، فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لأقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِى هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِى، وَلَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ، فَقَالَ بُدَيْلٌ: سَأُبَلِّغُهُمْ مَا تَقُولُ، قَالَ: فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى قُرَيْشًا، قَالَ: إِنَّا قَدْ جِئْنَاكُمْ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ، وَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ، قَوْلا، فَإِنْ شىءتُمْ أَنْ نَعْرِضَهُ عَلَيْكُمْ فَعَلْنَا، فَقَالَ سُفَهَاؤُهُمْ: لا حَاجَةَ لَنَا أَنْ تُخْبِرَنَا عَنْهُ بِشَيْءٍ، وَقَالَ ذَوُو الرَّأْىِ مِنْهُمْ: هَاتِ مَا سَمِعْتَهُ، يَقُولُ: قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا، فَحَدَّثَهُمْ بِمَا قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَامَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: أَىْ قَوْمِ، أَلَسْتُمْ بِالْوَالِدِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: أَوَلَسْتُ بِالْوَلَدِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَهَلْ تَتَّهِمُونِى، قَالُوا: لا، قَالَ: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّى اسْتَنْفَرْتُ أَهْلَ عُكَاظَ فَلَمَّا بَلَّحُوا عَلَىَّ جِئْتُكُمْ بِأَهْلِى وَوَلَدِى وَمَنْ أَطَاعَنِى؟ قَالُوا:(8/120)
بَلَى، قَالَ: فَإِنَّ هَذَا قَدْ عَرَضَ لَكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ اقْبَلُوهَا وَدَعُونِى آتِيهِ، قَالُوا: ائْتِهِ، فَأَتَاهُ فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، نَحْوًا مِنْ قَوْلِهِ لِبُدَيْلٍ، فَقَالَ عُرْوَةُ عِنْدَ ذَلِكَ: أَىْ مُحَمَّدُ، أَرَأَيْتَ إِنِ اسْتَأْصَلْتَ أَمْرَ قَوْمِكَ هَلْ سَمِعْتَ بِأَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ اجْتَاحَ أَهْلَهُ قَبْلَكَ، وَإِنْ تَكُنِ الأخْرَى فَإِنِّى وَاللَّهِ لأرَى وُجُوهًا، وَإِنِّى لأرَى أَوْشَابًا مِنَ النَّاسِ خَلِيقًا أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوكَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: امْصُصْ بِبَظْرِ اللاتِ، أَنَحْنُ نَفِرُّ عَنْهُ وَنَدَعُهُ؟ فَقَالَ: مَنْ ذَا؟ قَالُوا: أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: أَمَا وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لَوْلا يَدٌ كَانَتْ لَكَ عِنْدِى لَمْ أَجْزِكَ بِهَا لأجَبْتُكَ، قَالَ: وَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَكُلَّمَا تَكَلَّمَ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَمَعَهُ السَّيْفُ وَعَلَيْهِ الْمِغْفَرُ، فَكُلَّمَا أَهْوَى عُرْوَةُ بِيَدِهِ إِلَى لِحْيَةِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ضَرَبَ يَدَهُ بِنَعْلِ السَّيْفِ، وَقَالَ لَهُ: أَخِّرْ يَدَكَ عَنْ لِحْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَرَفَعَ عُرْوَةُ رَأْسَهُ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، فَقَالَ: أَىْ غُدَرُ، أَلَسْتُ أَسْعَى فِى غَدْرَتِكَ؟ وَكَانَ الْمُغِيرَةُ صَحِبَ قَوْمًا فِى الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَتَلَهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، ثُمَّ جَاءَ فَأَسْلَمَ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : أَمَّا الإسْلامَ فَأَقْبَلُ، وَأَمَّا الْمَالَ فَلَسْتُ مِنْهُ فِى شَيْءٍ، ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) بِعَيْنَيْهِ، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) نُخَامَةً إِلا وَقَعَتْ فِى كَفِّ رَجُلٍ(8/121)
مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ؛ تَعْظِيمًا لَهُ، فَرَجَعَ عُرْوَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَىْ قَوْمِ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ، وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِىِّ، وَاللَّهِ، إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) مُحَمَّدًا، وَاللَّهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلا وَقَعَتْ فِى كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ؛ تَعْظِيمًا لَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا، فَقَالَ رَجُلٌ، مِنْ بَنِى كِنَانَةَ: دَعُونِى آتِيهِ، فَقَالُوا: ائْتِهِ، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَأَصْحَابِهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : هَذَا فُلانٌ، وَهُوَ مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ الْبُدْنَ، فَابْعَثُوهَا لَهُ، فَبُعِثَتْ لَهُ، وَاسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ يُلَبُّونَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ، قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَا يَنْبَغِى لِهَؤُلاءِ أَنْ يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ، قَالَ: رَأَيْتُ الْبُدْنَ قَدْ قُلِّدَتْ وَأُشْعِرَتْ، فَمَا أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، يُقَالُ لَهُ: مِكْرَزُ ابْنُ حَفْصٍ، فَقَالَ: دَعُونِى آتِيهِ، فَقَالُوا: ائْتِهِ، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : هَذَا مِكْرَزٌ، وَهُوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ، فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَبَيْنَمَا هُوَ يُكَلِّمُهُ؛ إِذْ جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو. وَقَالَ مَعْمَرٌ: فَأَخْبَرَنِى أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : قَدْ سَهُلَ لَكُمْ، مِنْ أَمْرِكُمْ. قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِىُّ فِى حَدِيثِهِ: فَجَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: هَاتِ اكْتُبْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا، فَدَعَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) الْكَاتِبَ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ، قَالَ سُهَيْلٌ: أَمَّا الرَّحْمَنُ، فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِى مَا هُوَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: وَاللَّهِ لا نَكْتُبُهَا إِلا: بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : اكْتُبْ (بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ) ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ الْبَيْتِ، وَلا قَاتَلْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ (مُحَمَّدُ ابْنُ عَبْدِاللَّهِ) فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : وَاللَّهِ إِنِّى لَرَسُولُ اللَّهِ، وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِى، اكْتُبْ (مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ) . قَالَ الزُّهْرِىُّ: وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ: لا يَسْأَلُونِى خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا(8/122)
حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا، فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَنَطُوفَ بِهِ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللَّهِ لا تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً، وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَكَتَبَ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَعَلَى أَنَّهُ لا يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلا رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا، قَالَ الْمُسْلِمُونَ: سُبْحَانَ اللَّهِ كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ؟ وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ؛ إِذْ دَخَلَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ فِى قُيُودِهِ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ حَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: هَذَا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مَا أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَىَّ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : إِنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ، قَالَ: فَوَاللَّهِ إِذًا لَمْ أُصَالِحْكَ عَلَى شَيْءٍ أَبَدًا، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : فَأَجِزْهُ لِى، قَالَ: مَا أَنَا بِمُجِيزِهِ لَكَ، قَالَ: بَلَى، فَافْعَلْ، قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، قَالَ مِكْرَزٌ: بَلْ قَدْ أَجَزْنَاهُ لَكَ، قَالَ أَبُو جَنْدَلٍ: أَىْ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا؟ أَلا تَرَوْنَ مَا قَدْ لَقِيتُ؟ وَكَانَ قَدْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا فِى اللَّهِ، قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: فَأَتَيْتُ نَبِىَّ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِىَّ اللَّهِ حَقًّا، قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ، وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِى الدَّنِيَّةَ فِى دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ، وَهُوَ نَاصِرِى، قُلْتُ: أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِى الْبَيْتَ، فَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى، فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ؟ قَالَ: قُلْتُ: لا، قَالَ: فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ، قَالَ: فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَيْسَ هَذَا نَبِىَّ اللَّهِ(8/123)
حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ، وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِى الدَّنِيَّةَ فِى دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ، إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَلَيْسَ يَعْصِى رَبَّهُ، وَهُوَ نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ عَلَى الْحَقِّ، قُلْتُ: أَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِى الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى، أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: فَإِنَّكَ آتِيهِ، وَمُطَّوِّفٌ بِهِ. قَالَ الزُّهْرِىُّ: قَالَ عُمَرُ: فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالا، قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لأصْحَابِهِ: قُومُوا فَانْحَرُوا، ثُمَّ احْلِقُوا، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِىَ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ، أَتُحِبُّ ذَلِكَ، اخْرُجْ ثُمَّ لا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ، فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ، نَحَرَ بُدْنَهُ وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ، قَامُوا فَنَحَرُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا، ثُمَّ جَاءَهُ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ) [الممتحنة: 10] ، فَطَلَّقَ عُمَرُ يَوْمَئِذٍ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا لَهُ فِى الشِّرْكِ فَتَزَوَّجَ إِحْدَاهُمَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِى سُفْيَانَ وَالأخْرَى صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، ثُمَّ رَجَعَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى الْمَدِينَةِ فَجَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ، رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَهُوَ مُسْلِمٌ، فَأَرْسَلُوا فِى طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ، فَقَالُوا: الْعَهْدَ الَّذِى جَعَلْتَ لَنَا، فَدَفَعَهُ إِلَى الرَّجُلَيْنِ، فَخَرَجَا بِهِ حَتَّى بَلَغَا ذَا الْحُلَيْفَةِ، فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تَمْرٍ لَهُمْ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ، لأحَدِ الرَّجُلَيْنِ: وَاللَّهِ(8/124)
إِنِّى لأرَى سَيْفَكَ هَذَا يَا فُلانُ جَيِّدًا، فَاسْتَلَّهُ الْآخَرُ، فَقَالَ: أَجَلْ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَجَيِّدٌ لَقَدْ جَرَّبْتُ بِهِ، ثُمَّ جَرَّبْتُ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ: أَرِنِى، أَنْظُرْ إِلَيْهِ، فَأَمْكَنَهُ مِنْهُ فَضَرَبَهُ حَتَّى بَرَدَ وَفَرَّ الآخَرُ، حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ يَعْدُو، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : حِينَ رَآهُ لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعْرًا، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: قُتِلَ وَاللَّهِ صَاحِبِى، وَإِنِّى لَمَقْتُولٌ، فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ، فَقَالَ: يَا نَبِىَّ اللَّهِ، قَدْ وَاللَّهِ أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَكَ قَدْ رَدَدْتَنِى إِلَيْهِمْ، ثُمَّ أَنْجَانِى اللَّهُ مِنْهُمْ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ، لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى سِيفَ الْبَحْرِ، قَالَ: وَيَنْفَلِتُ مِنْهُمْ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ، فَلَحِقَ بِأَبِى بَصِيرٍ، فَجَعَلَ لا يَخْرُجُ مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلٌ قَدْ أَسْلَمَ إِلا لَحِقَ بِأَبِى بَصِيرٍ حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ، فَوَاللَّهِ مَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إِلَى الشَّأْمِ إِلا اعْتَرَضُوا لَهَا، فَقَتَلُوهُمْ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ، فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) تُنَاشِدُهُ بِاللَّهِ وَالرَّحِمِ، لَمَّا أَرْسَلَ فَمَنْ أَتَاهُ فَهُوَ آمِنٌ، فَأَرْسَلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَيْهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ) [الفتح: 24] إِلَى) الْجَاهِلِيَّةِ) [الفتح: 26] وَكَانَتْ حَمِيَّتُهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُقِرُّوا أَنَّهُ نَبِىُّ اللَّهِ، وَلَمْ يُقِرُّوا بِ (بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) وَحَالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ) . فَأَخْبَرَتْنِى عَائِشَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَمْتَحِنُهُنَّ، وَبَلَغْنَا أَنَّهُ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَرُدُّوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ مَا أَنْفَقُوا عَلَى مَنْ هَاجَرَ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ، وَحَكَمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ لا يُمَسِّكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ، أَنَّ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَيْنِ: قَرِيبَةَ بِنْتَ أَبِى أُمَيَّةَ وَابْنَةَ جَرْوَلٍ الْخُزَاعِىِّ، فَتَزَوَّجَ قَرِيبَةَ مُعَاوِيَةُ، وَتَزَوَّجَ الأخْرَى أَبُو جَهْمٍ، فَلَمَّا أَبَى الْكُفَّارُ أَنْ يُقِرُّوا بِأَدَاءِ مَا أَنْفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ، أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ) [الممتحنة: 11] وَالْعَقْبُ: مَا يُؤَدِّى(8/125)
الْمُسْلِمُونَ إِلَى مَنْ هَاجَرَتِ امْرَأَتُهُ مِنَ الْكُفَّارِ، فَأَمَرَ أَنْ يُعْطَى مَنْ ذَهَبَ لَهُ زَوْجٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَا أَنْفَقَ مِنْ صَدَاقِ نِسَاءِ الْكُفَّارِ اللائِى هَاجَرْنَ، وَمَا نَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ ارْتَدَّتْ بَعْدَ إِيمَانِهَا، وَبَلَغَنَا أَنَّ أَبَا بَصِيرِ بْنَ أَسِيدٍ الثَّقَفِىَّ، قَدِمَ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) مُؤْمِنًا مُهَاجِرًا فِى الْمُدَّةِ، فَكَتَبَ الأخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) يَسْأَلُهُ أَبَا بَصِيرٍ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قال المؤلف: فى هذا الحديث من الفقه جواز صلح المشركين ومهادنتهم دون مال يؤخذ منهم إذا رأى لذلك الإمام وجهًا. وفيه: كتاب الشروط التى تنعقد بين المسلمين والمشركين والإشهاد عليها؛ ليكون ذلك شاهدًا على من رام نقض ذلك والرجوع فيه. قال المهلب: وفيه من الفقه: الاستتار عن طلائع المشركين ومفاجأتهم وطلب غرتهم إذا بلغتهم الدعوة. وفيه: جواز التنكيب على الطريق بالجيوش وإن كان فى ذلك مشقة. وفيه: بركة التيامن فى الأمور كلها. وقوله (صلى الله عليه وسلم) فى الناقة: (ما خلأت وما هو لها بخلق) فالخلأ فى النوق مثل الحران فى الخيل. وفيه: دليل على أن الأخلاق المعروفة من الحيوان كلها يحكم بها على الطارئ الشاذ منها، وكذلك فى الناس إذا نسب إنسان إلى غير خلقه المعلوم فى هفوة كانت منه لم يحكم بها. وفيه: أن ما عرض للسلطان وقواد الجيوش وجميع الناس مما هو(8/126)
خارج عن العادة يجب عليهم أن يتأملوه وينظروا شبهه فى قضاء الله فى الأمم الخالية فيتمثلوا صواب الخير فيه، ويعلموا أن ذلك مثل ضرب لهم ونبهوا عليه، كما امتثله رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى أمر ناقته وبروكها بقصة الفيل؛ لأنها كانت إذا وجهت إلى مكة بركت وإذا صرفت عنها مشت، كما دار الفيل، وهذا خارج عن العادة، فعلم أن الله صرفها عن مكة كما صرف الفيل، ولذلك قال (صلى الله عليه وسلم) : (والله لا يسألونى خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها) يريد بذلك موافقة الله فى تعظيم الحرمات؛ لأنه فهم عن الله إبلاغ الأعذار إلى أهل مكة فأبقى عليهم لما كان سبق لهم فى علمه أنهم سيدخلون فى دين الله أفواجًا. وفيه: علامات النبوة، وبركة النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وبركة السلاح المحمولة فى سبيل الله، ونبع الماء من السهم، فإنما قدم النبى (صلى الله عليه وسلم) إلى مكة غير مستأمن مما كان بينه وبين أهل مكة من الحرب والمناصبة والعداوة ولا أخذ إذنهم فى ذلك؛ لأنه جرى على العادة من أن مكة غير ممنوعة من الحجاج والمعتمرين، فلما علم الله أنهم صادوه ومقاتلوه حبس الناقة عن مكة كما حبس الفيل تنبيهًا له على الإبقاء عليهم. وقوله: (إن شاء قريشًا قد نهكتهم الحرب) على وجه بذل النصيحة للقرابة التى كانت بينهم، فقال لهم: (إن شئتم ماددتكم) أى: صالحتكم مدة تستجمون فيها إن أردتم القتال وتدعونى مع الناس، يعنى: طوائف العرب فإن ظهرت عليهم دخلتم فيما دخلوا فيه، وإنما(8/127)
نصحهم النبى (صلى الله عليه وسلم) لما فهم عن الله فى حبس الناقة أنهم سيدخلون فى الإسلام، فأراد أن يجعل بينهم مدة يقلب الله فيها قلوبهم، وفى لين قول بديل وعروة لقريش دليل على أنهم كانوا أهل إصغاء إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) وميل إليه كما قال فى الحديث. وقول عروة للنبى: (أرأيت إن استأصلت قومك) دليل على أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان يومئذ فى جمع يخاف منه عروة على أهل مكة الاستئصال لو قاتلهم. وخوف عروة إن دارت الدائرة فى الحرب عليه أن يفر عنه من تبعه من أخلاط الناس؛ لأن القبائل إذا كانت متميزة لم يفر بعضها عن بعض حتى إذا كانت أخلاطًا فر كل واحد ولم ير على نفسه عارًا، والقبيلة بأصلها ترى العار وتخافه، ولم يعلم عروة أن الذى عقده الله بين قلوب المؤمنين من محض الإيمان فوق ما تعتقده القرابات لقراباتهم؛ فلذلك قال له أبو بكر: (امصص بظر اللات) وهكذا يجب أن يجاوب من جفا على سروات الناس وأفاضلهم ورماهم بالفرار. وقوله: (لم أجزك بها) ، يدل على أن الأيادى تجب على أهل الوفاء مجازاتها والمعاوضة عليها. وقوله: (فكلما أخذ بلحيته) يعنى: على ما جرت به عادة العرب عند مخاطبتها لرؤسائها فإنهم يمسون لحاهم ويصافحونهم، يريدون التحبب إليهم والتبرك بتناولهم، وقد حكى عن بعض العجم أنهم يفعلون ذلك أيضًا، فلما أكثر عروة من فعله ذلك رأى المغيرة أن منزلة النبوة مباينة لمنازل الناس، وأنها لا تحتمل هذا العمل لما يلزم من توقير النبى (صلى الله عليه وسلم) وإجلاله.(8/128)
وفيه من الفقه: أن من جالس إمامًا فرأى أحدًا جفا عليه أنه يلزمه تغيير ذلك ويصون الإمام عن الكلام فيه. وفيه: جواز قيام الناس على رأس الإمام بالسيوف إذا كان ذلك ترهيبًا للعدو ومخافة الغدر. وقوله: (ألست أسعى فى غدرتك) يريد أن عروة كان يصلح على قوم المغيرة ويمنع منهم أهل القتيل الذى قتله المغيرة؛ لأن أهل المغيرة بقوا بعده فى دار الكفر. وقول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أما المال فلست منه فى شىء) يعنى: فى حل؛ لأنه علم أن أصله غصب، وأموال المشركين وإن كانت مغنومة عند القهر فلا يحل أخذها عند الأمن، وإذا كان الإنسان مصاحبًا لهم فقد أمن كل واحد منهم صاحبه، فسفك الدماء وأخذ المال عند ذلك غدر، والغدر بالكفار وغيرهم محظور. وتدلكهم بنخامته (صلى الله عليه وسلم) على وجه التبرك ورجاء نفعها فى أعضائهم. وفيه: طهارة النخامة بخلاف من جعلها تنجس الماء، وإنما أكثروا من ذلك بحضرة عدوه، وتزاحموه عليه؛ لأجل قوله: (إنى لأرى وجوهًا وأشوابًا من الناس خليقًا أن يفروا عنك ويدعوك) فأروه أنهم أشد اغتباطًا وتبركًا بأمره، وتثبتًا فى نصرته من القبائل التى تراعى الرحم بينهم. وأمر النبى (صلى الله عليه وسلم) بإقامة البدن للرجل من أجل علمه بتعظيمه لها؛ ليخبر بذلك قومه، فيخلوا بينه وبين البيت.(8/129)
وفيه: التفاؤل من الاسم وغيره. وقول سهيل: (ما نعرف الرحمن) فإن العرب الله قد أخبر عنهم بذلك فى كتابه) قالوا وما الرحمن) [الفرقان: 60] وفى يمين المسلمين: (والله لا نكتب إلا بسم الله الرحمن الرحيم) فيه من الفقه أن أصحاب السلطان يجب عليهم مراعاة أمره وعونه وعزة البارى التى بها عز السلطان. وترك النبى (صلى الله عليه وسلم) إبرار قسمهم، وقد أمرنا بإبرار القسم، إنما هو مندوب إليه فيما يحسن ويجمل، وأما من حلف عليه فى أمر لا يحسن فى دين ولا مروءة فلا يجيب إليه كما لم يجب النبى (صلى الله عليه وسلم) إلى ما حلف عليه أصحابه؛ لأنه كان يئول إلى انخرام المقاضاة والصلح مع أن ما دعا إليه سهيل لم يكن إلحادًا فى أسمائه تعالى، وكذلك ما أباه سهيل من كتابة محمد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليس فيه إلحاد فى الرسالة، فلذلك أجابه (صلى الله عليه وسلم) إلى ما دعاه إليه مع أنه لم يأنف سهيل من هذا، إلا أنه كان مساق العقد عن أهل مكة، وقد جاء فى بعض الطرق (هذا ما قاضى عليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أهل مكة) فخشى أن ينعقد فى مقالهم الإقرار برسالته. وقوله فى هذا الحديث: (وعلى أنه لا يأتيك منا رجل) يدل أن المقاضاة إنما انعقدت على الرجال دون النساء، فليس فيه نسخ حكم النساء على هذه الرواية؛ لأن النساء لم يردهن كما رد الرجال من أجل أن الشرط إنما وقع برد الرجال خاصة ثم نزلت(8/130)
الآية فى أمر النساء حين هاجرن إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) مثبتة لما تقدم من حكم ذلك وقد تقدم هذا المعنى فى أول كتاب الشروط. وقول النبى (صلى الله عليه وسلم) لسهيل: (إنا لم نفض الكتاب بعد) أراد أن يخلص أبا جندل وقد كان تم الصلح بالكلام والعقد قبل أن يكتب. وفيه: أن من عاقد وصالح على شىء بالكلام ثم لم يوف له به أنه بالخيار فى النقض. وأما قول عمر وما قرر عليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من أنهم على الحق (ولم نعطى الدنية فى ديننا) ، أى نرد من استجار بنا من المسلمين إلى المشركين فقال له: (إنى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، ولست أعصيه) تنبيهًا لعمر أنى إنما أفعل هذا من أجل ما أطلعنى الله عليه بحبس الناقة عن أهل مكة مما فى غيبه لهم من الإبلاغ فى الإعذار إليهم، ولست أفعل ذلك برأى، إنما أفعله بوحى من الله لقوله: (ولست أعصيه) . وفيه: جواز المعارضة فى العلم حتى تتبين المعانى. وفيه: أن الكلام محمول على العموم حتى يقوم عليه دليل الخصوص ألا ترى أن عمر حمل كلامه (صلى الله عليه وسلم) على الخصوص لأنه طالبه بدخول البيت فى ذلك العام فأخبره (صلى الله عليه وسلم) أنه لم يعده به فى ذلك العام، بل وعده وعدًا مطلقًا فى الدهر حتى وقع، فدل أن الكلام محمول على العموم حتى يأتى دليل الخصوص. وفى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فإنك آتيه) يدل أن من حلف على فعل ولم يوقت وقتًا أن وقته أيام حياته. قال ابن المنذر: فإن حلف(8/131)
بالطلاق ليفعلن كذا إلى وقت غير معلوم. فقالت طائفة: لا يطأها حتى يفعل الذى حلف عليه فأيهما مات لم يرثه صاحبه. هذا قول سعيد بن المسيب والحسن البصرى والشعبى والنخعى، وأبى عبيد. وقالت طائفة: إن مات ورثته، وله وطؤها. روى هذا عن عطاء، وقال يحيى بن سعيد: ترثه إن مات. وقال مالك: إن ماتت امرأته يرثها. وقال الثورى: إنما يقع الحنث بعد الموت، وبه قال أبو ثور. وقال أبو ثور أيضًا: إذا حلف ولم يوقت فهو على يمينه حتى يموت، ولا يقع حنث بعد الموت، فإذا مات لم يكن على شىء. قال ابن المنذر: وهذا نظر. وقالت طائفة: يضرب لهما أجل المؤلى أربعة أشهر. روى هذا عن القاسم وسالم، وهو قول ربيعة ومالك والأوزاعى. وقال أبو حنيفة: إن قال: أنت طالق ثلاثًا إن لم آت البصرة. فماتت امرأته قبل أن يأتى البصرة فله الميراث ولا يضره ألا يأتى البصرة بعد؛ لأن امرأته ماتت قبل أن يحنث، ولو مات قبلها حنث وكان لها الميراث؛ لأنه فارق، ولأن الطلاق إنما وقع عليها قبل أن يموت بقليل فلها الميراث، ولو قال: أنت طالق إن لم تأت البصرة أنت فماتت فليس له منها ميراث، وإن مات قبلها فلها الميراث ولا يضرها ألا تأتى البصرة. وفيه قول سادس حكاه أبو عبيد عن بعض أهل النظر قال: إن أخذ الحالف فى التأهب لما حلف عليه والسعى فيه حين تكلم باليمين حتى يكون متصلا بالبر وإلا فهو حانث عند ترك ذلك. قال ابن المنذر: فى هذا الحديث دليل أنه من لم يحد ليمينه أجلا أنه على يمينه ولا يحنث إن وقف عن الفعل الذى حلف يفعله.(8/132)
قال المهلب: وقول عمر: (فعملت لذلك أعمالا) يعنى أنه كان يحض الناس على ألا يعطوا الدنية فى دينهم بإجابة سهيل إلى رد أبى جندل إليهم، يدل على ذلك إتيانه أبا بكر وقوله له مثل ذلك. وفيه: فضل علم أبى بكر الصديق وجودة ذهنه، وحسن قريحته، وقوة نفسه؛ لأنه أجاب عمر بمثل ما أجابه به النبى (صلى الله عليه وسلم) حرفًا حرفًا. وأما توقف أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) عن النحر والحلق فلمخالفتهم العادة التى كانوا عليها ألا ينحر أحد حتى يبلغ الهدى محله، ولا يحلق إلا بعد الطواف والسعى، حتى شاور النبى (صلى الله عليه وسلم) أم سلمة فأراه الله بركة المشورة، ففعل ما قالت، فاقتدى به أصحابه، وكذلك لو فعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى حجة الوداع ما أمر به أصحابه من الحلاق والحل ما اختلف عليه اثنان، ففى هذه من الفقه أن الفعل أقوى من القول. وفيه: جواز مشاورة النساء ذوات الفضل والرأى. وأما إسلام النبى (صلى الله عليه وسلم) لأبى بصير وأصحابه إلى رسل مكة فهو على ما انعقد فى الرجال، وأما قتل أبى بصير لأحد الرسل بعد أن أسلمه إليهم النبى (صلى الله عليه وسلم) فليس على النبى (صلى الله عليه وسلم) حراسة المشركين ممن يدفعه إليهم، ولا عليه القود ممن قتل فى الله وجاهد؛ لأن هذا لم يكن من شرطه، ولا طالب أولياء القتيل النبى (صلى الله عليه وسلم) بالقود من أبى بصير. وقول أبى بصير للنبى: (قد أوفى الله ذمتك) يعنى: أنك قد رددتنى إليهم كما شرطت لهم، فلا تردنى الثانية، فلم يرض النبى (صلى الله عليه وسلم) إلا بما لا شك فيه من الوفاء، فسكت عنه النبى (صلى الله عليه وسلم) ونبهه على ما ينجو به من كفار قريش بتعريض عرض له به وذلك قوله:(8/133)
(لو كان له أحد) يعنى: من ينصره ويمنعه، ففهمها أبو بصير، وخرج إلى سيف البحر، وجعل يطلب غرة أهل مكة، وآذاهم حتى لحق به أبو جندل وجماعة، فرضى المشركون بحل هذا الشرط وأن يكفيهم النبى (صلى الله عليه وسلم) نكايته، ويكف عنهم عاديته. وأما قوله: (ما كانوا يؤدونه إلى المشركين عوضًا مما أنفقوا على أزواجهم المهاجرات فى ذلك الصلح) فهو منسوخ عن الشعبى وعطاء ومجاهد. ذكر ما فى هذا الحديث من غريب اللغة: قوله: (فإذا هم بقترة الجيش) قال صاحب العين: القترة والقتر: الغبار. وقولهم للناقة: (حل حل) يقال: حلحلت الإبل: إذا قلت لها: حل حل. زجرتها بذلك. والخلأ فى الإبل كالحران فى الخيل، وقد تقدم. والقصواء: اسم ناقة النبى (صلى الله عليه وسلم) . والثمد: الماء القليل. عن صاحب العين والتبرض: جمع الماء باليدين. قال صاحب العين: ماء برض: قليل. وتبرض الماء: جمع البرض منه ونزحه. يقال: نزحت البئر: نقص ماؤها. وبئر نزوح: قليلة الماء. عن صاحب العين. وقوله: (أعداد مياة الحديبية) جمع عد، والعد مجتمع الماء. والعوذ: النوق الحديثات العهد بالنتاج، واحدتها عائذ. و (المطافيل) التى معها أولادها. وماددتهم: جعلت بينى وبينهم مدة للصلح. وقوله: (جمعوا) يعنى: استراحوا وقووا. يقال: جم الفرس وأجم، إذا ترك ولم يركب ولم يتعب. وقوله: (حتى تنفرد سالفتى) أى: حتى أنفرد فى قتالهم وحدى. وقولهم: (بلحوا) قال صاحب العين:(8/134)
يقال أبلح البعير والدابة بلوحًا: إذا أعيا، وبلح الغريم: أفلس و (الأشواب) : الأخلاط من الناس. وقوله: (يرسف فى قيوده) والرسف: مشية المقيد. والحجل مثله. من كتاب العين. ويروى: يجلجل فى قيوده. وقد تقدم فى باب الصلح مع المشركين فى كتاب الصلح. وأما قوله: (ويل أمه مسعر حرب) فإعرابه ويل أمه من مسعر حرب فانتصب على التمييز. وقالت الخنساء: ويلمه مسعر حرب إذا التقى فيها وعليه السليل وقال جماعة من أهل اللغة: والمعنى أن الخنساء لم ترد الدعاء بإيقاع الهلكة عليها لكنها أرادت ما من عادة العرب استعماله من نقلها الألفاظ الموضوعة فى بابها إلى غيره، ومرادها بقولها هذا المدح لأمها وأخيها لولادتها مثل أخيها فى بسالته وشجاعته دون الدعاء عليها بالويل الذى معناه الهلكة، كما يقال: انج ثكلتك أمك وتربت يدالك، من غير إرادة مقتضى هاتين اللفظتين بالمخاطب. وقوله: (استمسك بغرزه) قال ثابت: أى تمسك به واتبعه. والغرز لقتب البعير مثل ركاب السرج للدابة.
- باب الشُّرُوطِ فِى الْقَرْضِ
/ 17 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ النبى (صلى الله عليه وسلم) أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلا سَأَلَ بَعْضَ بَنِى إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى. قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَعَطَاءٌ: إِذَا أَجَّلَهُ فِى الْقَرْضِ جَازَ.(8/135)
وهذا خلاف قول أبى حنيفة فإنه يقول: إذا كان القرض إلى أجل أو غير أجل فله أن يأخذه متى أحب وكذلك العارية، ولا يلزم عنده تأخير القرض البتة. وبنحوه قال الشافعى، ويخالفهم مالك، وقد تقدم هذا مبنيًا لأقوال العلماء فى كتاب الاستقراض والديون فأغنى عن إعادته، والحمد لله.
- باب مَا يَجُوزُ مِنَ الاشْتِرَاطِ وَالثُّنْيَا فِى الإقْرَارِ
وَالشُّرُوطِ الَّتِى يَتَعَارَفُهَا النَّاسُ بَيْنَهُمْ وَإِذَا قَالَ: مِائَةٌ إِلا وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ رَجُلٌ لِكَرِيِّهِ: أَرْحِلْ رِكَابَكَ، فَإِنْ لَمْ أَرْحَلْ مَعَكَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَلَكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَلَمْ يَخْرُجْ فَقَالَ شُرَيْحٌ مَنْ شَرَطَ عَلَى نَفْسِهِ شَرْطًا غَيْرَ مُكْرَهٍ فَهُوَ عَلَيْهِ وَقَالَ أَيُّوبُ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ إِنَّ رَجُلا بَاعَ طَعَامًا وَقَالَ إِنْ لَمْ آتِكَ الأرْبِعَاءَ فَلَيْسَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ بَيْعٌ فَلَمْ يَجِئْ فَقَالَ شُرَيْحٌ لِلْمُشْتَرِى أَنْتَ أَخْلَفْتَ فَقَضَى عَلَيْهِ. / 18 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النبى (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةً إِلا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) . الاستثناء على ضربين: استثناء القليل من الكثير، وهذا ما لا خلاف فى جوازه بين أهل الفقه واللغة: والضرب الثانى: استثناء الكثير من القليل وهو جائز عند أصحاب مالك والكوفيين والشافعى وغيرهم من الفقهاء، وهو مذهب اللغويين من أهل الكوفة وأنشد الفراء فى ذلك:(8/136)
أدوا التى نقضت تسعين من مائة ثم ابعثوا حكمًا بالعدل حكامًا فاستثنى تسعين من مائة، فكذا إذا أقر الرجل فقال: لفلان عندى ألف إلا تسعمائة وخمسين لزمه خمسون. أو قال: له عندى مائة إلا تسعين. فهو جائز على ما أنشد الفراء، واحتج له ابن القصار فقال: حجة من أجازه أن حقيقة الاستثناء هو إخراج بعض ما اشتمل عليه اللفظ؛ فإن جميع ما يقتضيه اللفظ ليس بمراد، فإذا كان الاستثناء هذا معناه فقد يكون المراد إخراج الأول، وقد يكون إخراج الأكثر، فإذا جاز إخراج الأقل جاز إخراج الأكثر. وقال عبد الملك بن الماجشون: لا يجوز استثناء الكثير من القليل. وحكى أنه مذهب البصريين من أهل اللغة. وإلى هذا ذهب البخارى فى هذا الباب، ولذلك أدخل قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن لله تسعة وتسعين اسمًا مائة إلا واحدة) فاستثنى القليل من الكثير. واحتج ابن قتيبة لذلك فقال: لا يجوز عندى فى اللغة استثناء الكثير من القليل؛ لأن تأسيس الاستثناء على تدارك قليل من كثير كأنك أغفلته أو نسيته لقلته، ثم تداركت بالاستثناء، ولأن الشىء قد ينقص نقصانًا يسيرًا فلا يزول عنه اسم الشىء بنقصان القليل، فإذا نقص أكثره زال عنه الاسم، ألا ترى أنك لو قلت: صمت هذا الشهر إلا تسعة وعشرين يومًا. أحال لأنه صام يومًا، واليوم لا يسمى شهرًا، ومما يزيد فى وضوح هذا أنه يجوز لك أن تقول: صمت الشهر كله إلا يومًا واحدًا. فتؤكد الشهر وتستقصى عدده بكل ولا يجوز: صمت الشهر كله إلا تسعة وعشرين يومًا. وتقول: لقيت القوم جميعًا إلا واحدًا أو اثنين. ولا تقول: القوم جميعًا إلا أكثرهم.(8/137)
وأما قول ابن سيرين فيمن قال لكريه: (أرحل ركابك فإن لم أرحل معك يوم كذا وكذا فلك مائة درهم) فيفسر ذلك أن المكارين لإبلهم فى الأمصار يخرجون الإبل إلى المسارح الخصبة البعيدة، ويبقون فى الأمصار يعقدون الكرى مع الناس ويتعدون على الرحيل يوم كذا، فربما استجلبوا الإبل ذلك اليوم، فيقول التجار: لم يتهيأ لنا الخروج اليوم فيشق على الحمالين علف إبلهم فيقول التجار: إن لم أرحل معك يوم كذا فلك كذا تعلف به إبلك. فهذا شرط لا يجوز فى السنة عند أكثر العلماء، وإنما قضى بذلك شريح؛ لأنه من طريق العدة والتطوع، ومن تطوع بشىء استحب له إنجازه وإنفاذه، إلا أن جمهور الفقهاء لا يقضون بوجوب العدة، وإنما يستحبون الوفاء بها. وأما قول الذى ابتاع الطعام: (إن لم آتك يوم الأربعاء فلا بيع بينى وبينك) فذهب شريح إلى أنه إن لم يأت للأجل فلا بيع بينهما، فإن العلماء اختلفوا فى جوازه، فقال ابن الماجشون: البيع والشرط جميعًا جائزان وحمله محمل بيع الخيار إلى وقت مسمى، فإذا جاز الوقت فلا خيار له ويبطل البيع، ومصيبه قبل ذلك من البائع، كان ذلك بيده أو بيد المبتاع على سنة بيع الخيار، وممن أجاز البيع والشرط فى هذه المسألة: الثورى وأحمد وإسحاق. وقال أبو حنيفة: إن كان الأجل ثلاثة أيام فالبيع جائز. وقال محمد بن الحسن: يجوز الأجل أربعة أيام وعشرة أيام.(8/138)
وقال مالك فى المدونة: من باع سلعة وشرط إن لم ينقده المشترى إلى أجل فلا بيع بينهما، فهذا بيع مكروه، فإن وقع ثبت البيع وبطل الشرط، ومصيبة السلعة من البائع حتى يقبضها المشترى. ووقع فى بعض النسخ باب ما لا يجوز من الاشتراط والثنيا وهو خطأ، والصواب ما يجوز بإسقاط (لا) وكذلك فى نسخة النسفى وفى رواية أبى ذر أيضًا. وحديث أبى هريرة الذى أدخله البخارى فى هذا الباب يدل على صحة رواية النسفى وأبى ذر، والله الموفق للصواب.
- باب الشُّرُوطِ فِى الْوَقْفِ
/ 19 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، أَنْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَصَابَ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، لَمْ أُصِبْ مَالا قَطُّ أَنْفَسَ عِنْدِى مِنْهُ، فَمَا تَأْمُرُ بِهِ؟ قَالَ: إِنْ شَئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا، قَالَ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ، أَنَّهُ لا يُبَاعُ، وَلا يُوهَبُ، وَلا يُورَثُ، وَتَصَدَّقَ بِهَا فِى الْفُقَرَاءِ، وَفِى الْقُرْبَى، وَفِى الرِّقَابِ، وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، وَالضَّيْفِ، لا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَيُطْعِمَ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ قَالَ: فَحَدَّثْتُ بِهِ ابْنَ سِيرِينَ، فَقَالَ: غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالا. للواقف أن يشترط فى وقفه ما شاء إذا أخرجه من يده إلى متولى النظر فيه، فيجعله فى صنف واحد أو أصناف مختلفة، إن شاء فى(8/139)
الأغنياء أو فى الفقراء، وإن شاء فى الأقارب أو الأباعد، وإن شاء فى إناث بيته دون الذكور، أو الذكور دون الإناث، وإن كان يستحب له التسوية بين بنيه لقوله: فتصدق بها عمر فى الفقراء وفى القربى وسائر من ذكر، فدل ذلك إلى اختيار المحبس يضعه حيث شرط. قال المهلب: وإنما تصدق عمر لأنفس ماله؛ لقوله تعالى: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) [آل عمران: 92] فشاور النبى (صلى الله عليه وسلم) فى ذلك فأشار عليه بتحبيس أصله، والصدقة بثمرته. وهذا الحديث أصل فى تحبيس رقاب الأرض. قال الطبرى: وكل ما كان نظير الأرض التى حبسها عمر مما يحد بوصف ويوصف بصفة، وله منافع تدرك بالعمارة، والإصلاح ففى حكمها فى جواز تحبيسه، وذلك كالدابة تحبس فى سبيل الله إذا كان ممكنًا صفتها بصفة بيان لها من سائر أملاك المتصدق، ومنفعة تدرك منها لا يبطلها الانتفاع بها كالركوب، والعبد يحبس كذلك وسائر الحيوان والمواشى والرقيق والسلاح يحبس فى سبيل الله وأجزاء القرآن وما أشبه ذلك، وبمثل ذلك عملت الأئمة الراشدون والسلف الصالحون، وسأذكر من خالف ذلك وأرد قوله بأقوال العلماء فى باب الوقف وكيف يكتب بعد هذا إن شاء الله.(8/140)
55 - كِتَاب الْوَصَايَا
- باب الْوَصَايَا وَقَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : وَصِيَّةُ الرَّجُلِ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ
، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) [البقرة: 180] الآية. / 1 - فيه: ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النبى (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِى فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ. / 2 - وفيه: عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ خَتَنِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَخِى جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ، قَالَ: مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عِنْدَ مَوْتِهِ دِرْهَمًا وَلا دِينَارًا، وَلا عَبْدًا وَلا أَمَةً، وَلا شَيْئًا إِلا بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ، وَسِلاحَهُ، وَأَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً) . / 3 - وفيه: عَبْدَاللَّهِ بْنَ أَبِى أَوْفَى قيل له: هَلْ كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَوْصَى؟ قَالَ: لا، فَقُلْتُ: كَيْفَ كُتِبَ عَلَى النَّاسِ الْوَصِيَّةُ أَوْ أُمِرُوا بِالْوَصِيَّةِ؟ قَالَ: أَوْصَى بِكِتَابِ اللَّهِ. / 4 - وفيه: عَائِشَةَ ذكر عندها أَنَّ عَلِيًّا كَانَ وَصِيًّا، قَالَتْ: مَتَى أَوْصَى إِلَيْهِ؟ وَقَدْ كُنْتُ مُسْنِدَتَهُ إِلَى صَدْرِى، فَدَعَا بِالطَّسْتِ، وَلَقَدِ انْخَنَثَ فِى حَجْرِى، فَمَا شَعَرْتُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، فَمَتَى أَوْصَى إِلَيْهِ. قال المهلب: فى حديث ابن عمر الحض على الوصية خشية فجأة الموت للإنسان على غير عدة. قال المهلب: واختلف العلماء(8/141)
فى وجوب الوصية على من خلّف مالا فقالت طائفة: الوصية واجبة على ظاهر الآية. قال الزهرى: جعل الله الوصية حقا مما قل أو كثر. قيل لأبى مجلز: على كل مثر وصية؟ قال: كل من ترك خيرًا. وقالت طائفة: ليست الوصية واجبة كان الموصى موسرًا أو فقيرًا. هذا قول النخعى والشعبى، وهو قول مالك والثورى والشافعى. قال الشافعى: قوله: (ما حق امرئ مسلم) يحتمل ما الجزم، ويحتمل ما المعروف فى الأخلاق إلا هذا من جهة الفرض. وقال أبو ثور: ليست الوصية واجبة إلا على رجل عليه دين أو عنده مال قوم؛ فواجب عليه أن يكتب وصيته ويخبر بما عليه؛ لأن الله فرض أداء الأمانات إلى أهلها، فمن لا حق عليه ولا أمانة قبله؛ فليس عليه أن يوصى، والدليل على صحة هذا قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ما حق امرئ مسلم) فأضاف الحق إليه كقوله: هذا حق زيد. فلا ينبغى أن يتركه، فإذا تركه لم يلزمه. وقد روى أيوب، عن نافع، عن ابن عمر أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (ما حق امرئ يريد الوصية) فعلق ذلك بإرادة الموصى، ولو كانت واجبة لم يعلقها بإرادته، ومما يدل على ذلك أيضًا أن ابن عمر روى الحديث عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ولم يوص، ومحال أن يخالف ما رواه لو كان واجبًا، ولكنه عقل منه الاستحباب، وروى عن ابن عباس وابن عمر أن قوله تعالى: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت) [البقرة: 180] نسختها آية المواريث وهو قول مالك والشافعى وجماعة. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (يبيت ليلتين إلا ووصيته كتوبة عنده) فيه من(8/142)
الفقه أن الوصية نافذة، وإن كانت عند صاحبها ولم يجعلها عند غيره وكذلك إن جعلها غيره وارتجعها. فإن قيل: إن حديث ابن أبى أوفى وعائشة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يوص. قال المهلب: فالجواب: أن قول ابن أبى أوفى لم يوص إنما يريد الوصية التى زعم بعض الشيعة أنه أوصى بالأمر إلى على، وقد تبرأ على من ذلك حين قيل له: أعهد إليك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بشىء لم يعهده إلى الناس؟ فقال: لا والذى فلق الحبة وبرأ النسمة ما عندنا إلا كتاب الله وما فى هذه الصحيفة. وأما أرضه وسلاحه وبغلته فلم يوص فيها على جهة ما يوصى الناس فى أموالهم؛ لأنه قال (صلى الله عليه وسلم) : (لا نورث ما تركنا صدقة) فرفع الميراث عن أزواجه وأقاربه وإنما تجوز الوصية لمن يجوز لأهله وراثته. قال ابن المنذر: ووصيته بكتاب الله غير معنى قول عائشة: (ولا أوصى بشىء) قال المهلب: (أوصى بكتاب الله) قد فسره على بقوله: (ما عندنا إلا كتاب الله) وكذلك قال عمر: حسبنا كتاب الله. حين أراد أن يعهد عند موته، وذكر النخعى أن طلحة والزبير كانا يشددان فى الوصية فقال: ما كان عليهما ألا يفعلا، توفى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فما أوصى، وأوصى أبو بكر، فإن أوصى فحسن وإن لم يوص فلا بأس. قال صاحب العين: انخنث السقاء وخنث: إذا مال، وخنثته أنا.(8/143)
- باب الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ وَأَنْ يَتْرُكَ وَرَثَتَهُ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَتْرُكَهُمْ يَتَكَفَّفُون النَّاسَ
/ 5 - فيه: سَعْدِ: جَاءَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَعُودُنِى، وَأَنَا بِمَكَّةَ، وَهُوَ يَكْرَهُ أَنْ يَمُوتَ بِالأرْضِ الَّتِى هَاجَرَ مِنْهَا، قَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ ابْنَ عَفْرَاءَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُوصِى بِمَالِى كُلِّهِ؟ قَالَ: لا، قُلْتُ: فَالشَّطْرُ؟ قَالَ: لا، قُلْتُ: الثُّلُثُ، قَالَ: الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً، يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ فِى أَيْدِيهِمْ، وَإِنَّكَ مَهْمَا أَنْفَقْتَ مِنْ نَفَقَةٍ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ حَتَّى اللُّقْمَةُ تَرْفَعُهَا إِلَى فِى امْرَأَتِكَ، وَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَكَ، فَيَنْتَفِعَ بِكَ نَاسٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ يَوْمَئِذٍ إِلا ابْنَةٌ) . ذكر الله الوصية فى كتابه ذكرًا مجملا، ثم بين النبى (صلى الله عليه وسلم) أن الوصايا مقصورة على ثلث مال الميت؛ لإطلاقه (صلى الله عليه وسلم) لسعد الوصية بالثلث فى هذا الحديث، وأجمع العلماء على القول به واختلفوا فى القدر الذى يستحب أن يوصى به الميت، وسيأتى بعد هذا، إلا أن الأفضل لمن له ورثة أن يقصر فى وصيته عن الثلث غنيا كان أو فقيرًا؛ لأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لما قال لسعد: (الثلث كثير) أتبع ذلك بقوله: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس) ولم يكن لسعد إلا ابنة واحدة كما ذكر فى هذا الحديث، فدل هذا أن ترك المال للورثة خير من الصدقة به وأن النفقة على الأهل من الأعمال الصالحة، وروى ابن أبى شيبة من حديث ابن أبى مليكة، عن عائشة قال لها رجل: إنى أريد أن أوصى. قالت: كم مالك؟ قال: ثلاثة آلاف. قالت: فكم عيالك؟ قال: أربعة. قالت: إن(8/144)
الله يقول: (إن ترك خيرًا) [البقرة: 180] وإن هذا شىء يسير فدعه لعيالك فإنه أفضل. وروى حماد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر أنه ذكر له الوصية فى مرضه فقال: أما مالى فالله أعلم ما كنت أعمل فيه، وأما رباعى فلا أحب أن يشارك فيها ولدى أحد. وعن على بن أبى طالب أنه دخل على رجل من بنى هاشم يعوده، وله ثمانمائة درهم وهو يريد أن يوصى، فقال له: يقول الله: (إن ترك خيرًا) [البقرة: 180] ، ولم تدع خيرًا توصى به. وعن ابن عباس: من ترك سبعمائة درهم فلا يوص، فإنه لم يترك خيرًا. وقال قتادة فى قوله: (إن ترك خيرًا) [البقرة: 180] : ألف درهم فما فوقها. قال ابن المنذر: فدلت هذه الآثار على أن من ترك مالا قليلا، فالاختيار له ترك الوصية وإبقاؤه للورثة. وقوله: (عسى الله أن يرفعك فينتفع بك ناس، ويضر بك آخرون) فهذا قد خرج كما قال (صلى الله عليه وسلم) ، ثبت أن سعدًا أمر على العراق فأتى بقوم ارتدوا عن الإسلام، فاستتابهم فأبى بعضهم فقتلهم، فضر أولئك، وتاب بعضهم فانتفعوا به، وعاش سعد بعد حجة الوداع خمسًا وأربعين سنة. وقال الطحاوى: فى حديث سعد جواز الوصية بالثلث، ولو كان جورًا لأنكر ذلك (صلى الله عليه وسلم) وأمره بالتقصير عنه، ثم تكلم الناس بعد هذا فى هبات المريض وصدقاته إذا مات من مرضه، فقال قوم، وهم أكثر العلماء: هى من الثلث كسائر الوصايا. واتفق على ذلك فقهاء الحجاز والعراق.(8/145)
وقالت فرقة: هى من جميع المال كأفعاله وهو صحيح. وهذا القول لم نعلم أحدًا من المتقدمين قاله، وأظنه قول أهل الظاهر إذا قبضت هبة المريض وعطاياه فهى فى رأس ماله؛ لأن ما قبض قبل الموت ليس بوصية، وإنما الوصية ما يستحق بموت الموصى، وسواء قبضت عند جماعة الفقهاء أو لم تقبض؛ هى من الثلث. قال الطحاوى: وحديث عائشة أن أباها نحلها جداد عشرين وسقًا بالغابة فلما مرض قال: لو كنت حزتيه لكان لك، وإنما هو اليوم مال وإرث. فأخبر الصديق أنها لو كانت قبضته فى الصحة تم لها ملكه، وأنها لا تستطيع قبضه فى المرض قبضًا يتم لها ملكه، وفعل ذلك غير جائز كما لا تجوز الوصية لها به، ولم تنكر ذلك عائشة على أبى بكر ولا سائر الصحابة، فدل أن مذهبهم جميعًا كان فيه مثل مذهبه، وفى هذا أعظم الحجة على من خالف قول جماعة العلماء. وكذلك فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) فى الذى أعتق ستة أعبد له عند الموت لا مال له غيرهم، فأقرع النبى (صلى الله عليه وسلم) بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة، فجعل العتاق فى المرض من الثلث، فكذلك الهبات والصدقات؛ لأنها كلها سواء فى تفويت المال. وقوله: (خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس) والعالة: جمع عائل: وهو الفقير الذى لا شىء له، ومنه قوله: (ووجدك عائلا فأغنى) [الضحى: 8] ويتكففون الناس: يبسطون أكفهم لمسألتهم. قال صاحب العين: استكف السائل: بسط كفه.(8/146)
3 - باب الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ
وَقَالَ الْحَسَنُ: لا يَجُوزُ لِلذِّمِّىِّ وَصِيَّةٌ إِلا بِالثُّلُثَ، وَقَالَ تَعَالَى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) [المائدة: 49] . / 6 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: (لَوْ غَضَّ النَّاسُ إِلَى الرُّبْعِ؛ لأنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، أَوْ كَبِيرٌ) . / 7 - وفيه: سَعْدٍ: مَرِضْتُ، فَعَادَنِى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ لا يَرُدَّنِى عَلَى عَقِبِى، قَالَ: لَعَلَّ اللَّهَ يَرْفَعُكَ، وَيَنْفَعُ بِكَ نَاسًا، قُلْتُ: أُرِيدُ أَنْ أُوصِىَ، وَإِنَّمَا لِى ابْنَةٌ، قُلْتُ: أُوصِى بِالنِّصْفِ؟ قَالَ: النِّصْفُ كَثِيرٌ، قُلْتُ: فَالثُّلُثِ؟ قَالَ: الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، أَوْ كَبِيرٌ، قَالَ: فَأَوْصَى النَّاسُ بِالثُّلُثِ، وَجَازَ ذَلِكَ لَهُمْ. أجمع العلماء على أن الوصية بالثلث جائزة، وأوصى الزبير بالثلث، واختلف العلماء فى القدر الذى تستحب الوصية به، فروى عن أبى بكر أنه أوصى بالخمس، وقال: إن الله تعالى رضى من غنائم المسلمين بالخمس. وقال معمر، عن قتادة: أوصى عمر بالربع. وذكره البخارى عن ابن عباس. وروى عن على بن أبى طالب أنه قال: لأن أوصى بالخمس أحب إلىّ من الربع، ولأن أوصى بالربع أحب إلىّ من الثلث. واختار آخرون السدس قال إبراهيم: كانوا يكرهون أن يوصوا بمثل نصيب أحد الورثة حتى يكون أقل، وكان السدس أحب إليهم من الثلث.(8/147)
واختار آخرون العشر، روى آدم بن أبى إياس قال: حدثنا رقاء، عن عطاء بن السائب، عن أبى عبد الرحمن السلمى، قال: حدثنا سعد بن أبى وقاص (أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) دخل عليه فى مرضه يعوده فقال له: أوص. قال: قد أوصيت يا رسول الله بمالى كله فى سبيل الله وفى الرقاب والمساكين. قال: فما تركت لولدك؟ قال: هم أغنياء بخير. قال: أوص بعشر مالك قال: فلم يزل يناقصنى وأناقصه حتى قال: أوص بالثلث، والثلث كثير) فجرت سنة يأخذ بها الناس إلى اليوم، وقال أبو عبد الرحمن: فمن نقص من الثلث لقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : والثلث كثير. واختار آخرون ولمن كان ماله قليلا وله وارث ترك الوصية. روى ذلك عن على بن أبى طالب وابن عباس وعائشة على ما تقدم فى الحديث قبل هذا. وقال رجل للربيع بن خثيم: أوص لى بمصحفك. فنظر إليه ابنه وقرأ: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض فى كتاب الله) [الأنفال: 75] . وأجمع الفقهاء أنه لا يجوز لأحد أن يوصى بأكثر من الثلث إلا أبا حنيفة وأصحابه فقالوا: إن لم يترك الموصى ورثة جاز له أن يوصى بماله كله، وقالوا: إن الاقتصار على الثلث فى الوصية إنما كان من أجل أن يدع ورثته أغنياء، ومن لا وارث له فليس ممن عنى بالحديث. وروى هذا القول عن ابن مسعود، وبه قال عبيدة ومسروق وإليه ذهب إسحاق بن راهويه. وقال زيد بن ثابت: لا يجوز لأحد أن يوصى بأكثر من ثلثه وإن لم(8/148)
يكن له وارث. وهو قول مالك والأوزاعى والحسن بن حى والشافعى، واحتجوا بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (الثلث كثير) وبما رواه آدم ابن أبى إياس حدثنا عقبة بن الأصم، حدثنا عطاء بن أبى رباح، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إن الله جعل لكم ثلث أموالكم عند الموت زيادة فى أعمالكم) وروى أبو اليمان حدثنا أبو بكر بن أبى مريم، عن ضمرة بن حبيب، عن أبى الدرداء، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم) ولم يخص من كان له وارث أو غيره. وفى المسألة قول شاذ آخر، وهو جواز الوصية بالمال كله، وإن كان له وارث. روى الوليد بن مسلم، عن الأوزاعى، قال: أخبرنى هارون بن رئاب، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال عمرو بن العاص حين حضرته الوفاة: إنى قد أردت الوصية فقلت له: أوص فى مالك ومالى. فدعا كاتبًا فأملى عليه قال عبد الله: حتى قلت: ما أراك إلا قد أتيت على مالك ومالى فلو دعوت إخوتى فاستحللتهم. وعلى هذا القول وقول أبى حنيفة رد البخارى فى هذا الباب، ولذلك صدر بقول الحسن: لا تجوز وصية إلا بالثلث. واحتج بقوله: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) [المائدة: 49] وحكم النبى (صلى الله عليه وسلم) أن الثلث كثير هو الحكم بما أنزل الله، فمن تجاوز ما حد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وزاد على الثلث فى وصيته فقد أتى ما نهى النبى (صلى الله عليه وسلم) عنه، وكان بفعله ذلك عاصيًا إذا كان بحكم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عالمًا. قال الشافعى: وقول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (الثلث كثير) يريد أنه غير قليل وهذا(8/149)
أولى معانيه، ولو كرهه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لقال له: غض منه. وقاله الطحاوى. وفى قول سعد: (ولا يرثنى إلا ابنة لى) إبطال قول من يقول بالرد على الابنة؛ لأن الابنة لا تحيط بالميراث وقد كان لسعد عصبة يرثونه.
4 - باب قَوْلِ الْمَرِيض لِوَصِيِّهِ: تَعَاهَدْ وَلَدِى وَمَا يَجُوزُ لِلْوَصِىِّ إِلَيْهِ مِنَ الدَّعْوَى
/ 8 - فيه: عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: (كَانَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِى وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدِ أَنَّ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ مِنِّى، فَاقْبِضْهُ إِلَيْكَ، فَلَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ أَخَذَهُ سَعْدٌ، فَقَالَ: ابْنُ أَخِى، قَدْ كَانَ عَهِدَ إِلَىَّ فِيهِ، فَقَامَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، فَقَالَ: أَخِى وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِى، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَتَسَاوَقَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْنُ أَخِى، كَانَ عَهِدَ إِلَىَّ فِيهِ، فَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: أَخِى وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ. . الحديث لا يجوز عند أحد من أهل العلم دعوى أحد لغيره؛ لحى أو ميت إلا بوصية تثبت أو وكالة، فإذا ثبت ذلك كلف حينئذ ما تكلف المدعى لنفسه إذا ادعى ولا بينة له. وفيه: ادعاء أخى الميت، وفى ذلك ثبوت حق للأب ولا يستحلق عند جمهور العلماء إلا الأب، وقد تقدم فى باب أم الولد.(8/150)
5 - باب إِذَا أَوْمَأَ الْمَرِيضُ بِرَأْسِهِ إِشَارَةً بَيِّنَةً جَازَتْ
/ 9 - فيه: أَنَسٍ أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَقِيلَ لَهَا: مَنْ فَعَلَ بِكِ أَفُلانٌ، أَوْ فُلانٌ حَتَّى سُمِّىَ الْيَهُودِىُّ، فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا، فَجِىءَ بِهِ، فَلَمْ يَزَلْ حَتَّى اعْتَرَفَ، فَأَمَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَرُضَّ رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ. اختلف العلماء: فى إشارة المريض فذهب مالك والليث والشافعى إلى أنه إذا ثبتت إشارة المريض على ما يعرف من حضره جازت وصيته. وقال أبو حنيفة والثورى والأوزاعى أنه إذا سئل المريض عن الشىء فأومأ برأسه أو بيده فليس بشىء حتى يتكلم. قال أبو حنيفة: وإنما تجوز إشارة الأخرس أو من مرت عليه سنة لا يتكلم، وأما من اعتقل لسانه ولم يدم به ذلك. فلا تجوز إشارته. واحتج الطحاوى عليه بحديث أنس أن النبى (صلى الله عليه وسلم) رض رأس اليهودى بين حجرين بإشارة المرضوضة. قال الطحاوى: فجعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إشارته بمنزلة دعواها ذلك بلسانها من غير اعتبار دوام ذلك عليها مدة من الزمان، فدل على أن من اعتقل لسانه فهو بمنزلة الأخرس فى جواز إقراره بالإيماء والإشارة، وقد ثبت أن النبى (صلى الله عليه وسلم) صلى وهو قاعد فأشار إليهم فقعدوا. واحتج الشافعى بأنه قد أصمت أمامة بنت أبى العاص فقيل لها: لفلان كذا ولفلان كذا؟ فأشارت أى نعم. فنفذت وصيتها. قال المهلب: وأصل الإشارة فى كتاب الله فى قصة مريم: (فأشارت إليه) [مريم: 29] يعنى سلوه. وقوله تعالى: (ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا) [آل عمران: 41] .(8/151)
6 - باب لا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ
(1) / 10 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ الْمَالُ لِلْوَلَدِ، وَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ، فَنَسَخَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ، فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ، وَجَعَلَ لِلأبَوَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسَ، وَجَعَلَ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنَ وَالرُّبُعَ، وَلِلزَّوْجِ الشَّطْرَ وَالرُّبُعَ. أجمع العلماء على أن الوصية للوارث لا تجوز. قال ابن المنذر: وقد روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) مثل ما اتفق عليه من ذلك، حدثنا محمد بن على، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا إسماعيل بن عياش، حدثنا شرحبيل ابن مسلم الخولانى قال: سمعت أبا أمامة الباهلى يقول: (خطبنا النبى (صلى الله عليه وسلم) فى حجة الوداع فقال: إن الله قد أعطى كل ذى حق حقه، فلا وصية لوارث. .) وذكر الحديث. وروى قتادة، عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم عن عمرو بن خارجة (سمعت النبى (صلى الله عليه وسلم) فى خطبته. .) بمثله. قال ابن المنذر: واختلفوا إذا أوصى لبعض ورثته فأجازه بعضهم فى حياته ثم بدا لهم بعد وفاته. فقالت طائفة: ذلك جائز عليهم، وليس لهم الرجوع فيه. هذا قول عطاء والحسن وابن أبى ليلى والزهرى وربيعة والأوزاعى. وقالت طائفة: لهم الرجوع فى ذلك إن أحبوا، هذا قول ابن مسعود وشريح والحكم وطاوس، وهو قول الثورى وأبى حنيفة والشافعى وأحمد وأبى ثور.(8/152)
وقال مالك: إذا أذنوا له فى صحته فلهم أن يرجعوا، وإن أذنوا له فى مرضه وحين يحجب عن ماله، فذلك جائز عليهم. وهو قول إسحاق. وحجة القول الأول أن المنع إنما وقع من أجل الورثة، فإذا أجازوا جاز وصار بمنزلة أن يجب لهم على إنسان مال فيبرئوه منه. وقد اتفقوا أنه إذا أوصى بأكثر من الثلث لأجنبى جاز بإجازتهم، فكذلك هذا. وحجة الذين رأوا فيه الرجوع أنهم أجازوا شيئًا لم يملكوه فى ذلك الوقت، وإنما يملك المال بعد وفاته، وقد يموت الوارث المستأذن قبله، ولا يكون وارثًا وقد يرثه غيره، وقد أجاز من لا حق له فيه فلا يلزمه شىء منه. وحجة مالك أن الرجل إذا كان صحيحًا فهو أحق بماله كله يصنع فيه ما شاء، فإذا أذنوا له فى صحته فقد تركوا شيئًا لم يجب لهم، وذلك بمنزلة الشفيع يترك شفعته قبل البيع، أو الولى إذا عفا عمن سيقتل وليه، فتركه لما لم يجب له غير لازم، فإذا أذنوا له فى مرضه فقد تركوا ما وجب لهم من الحق، فليس لهم أن يرجعوا فيه إذا كان قد أنفذه؛ لأنه قد فات، فإن لم ينفذ المريض ذلك كان للوارث الرجوع فيه؛ لأنه لم يفت بالتنفيذ قاله الأبهرى. وذكر ابن المنذر عن إسحاق بن راهويه أن قول مالك فى هذه المسألة أشبه بالسنن من غيره، قال ابن المنذر: واتفق مالك والثورى والكوفيون والشافعى وأبو ثور أنهم؛ إذا أجازوا ذلك بعد وفاته لزمهم.(8/153)
7 - بَاب الصدقَةِ عندَ الموت
(1) / 11 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قيل لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَىُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (أَنْ تَصَدَّقَ، وَأَنْتَ صَحِيحٌ حَرِيصٌ، تَأْمُلُ الْغِنَى، وَتَخْشَى الْفَقْرَ، وَلا تُمْهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ، قُلْتَ: لِفُلانٍ كَذَا وَلِفُلانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلانٍ) . قال المهلب: فيه دليل على أن أفضل الصدقات ما جاهد الإنسان فيه نفسه وغلب طاعة الله على شهواته، وقد جاهدها أيضًا على حب الغنى وجمع المال. وقوله: (إذا بلغت الحلقوم) فيه ذم من أذهب طيباته فى حياته ولم يقدم لنفسه من ماله فى وقت شحه وحب غناه، حتى إذا رأى المال لغيره جعل يسرع بالوصية لفلان كذا ولفلان كذا، ويتورع عن التبعات والمظالم، وروى عن ابن مسعود فى قوله: (وآتى المال على حبه) [البقرة: 177] قال: أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر. وقال قتادة: يا ابن آدم، اتق الله ولا تجمع إساءتين فى مالك إساءة فى الحياة الدنيا وإساءة عند الموت، انظر قرابتك الذين يحتاجون ولا يرثونك، أوص لهم من مالك بالمعروف. وقال ابن عباس: الضرار فى الوصية من الكبائر، ثم قرأ: (تلك حدود الله ومن يتعد حدود الله) [الطلاق: 1] . وقال عطاء فى قوله تعالى: (فمن خاف من موص جنفًا أو إثمًا) [البقرة: 182] قال: ميلا. وقال أبو عبيدة: جورًا عن الحق وعدولا. وقال طاوس: هو الرجل يوصى لولد ابنته. ويحتمل قول طاوس قد أوصيت لولد ابنتى(8/154)
بكذا، ومعناه أن يريد بذلك ابنته، فذلك مردود بإجماع، فإن لم يرد فوصيته له من الثلث. ويستحب له أن يوصى لقرابته الذين لا يرثون؛ لقول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (الصدقة على المساكين صدقة، وهى على ذى الرحم ثنتان: صدقة، وصلة) . والذى يجب أن يرد من الوصية من باب الجور والميل الوصية بأكثر من الثلث، والوصية للوارث، والوصية فى أبواب المعاصى.
8 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ) [النساء: 11]
وَيُذْكَرُ أَنَّ شُرَيْحًا وَعُمَرَ بْنَ عَبْدِالْعَزِيزِ وَطَاوُسًا وَعَطَاءً وَابْنَ أُذَيْنَةَ أَجَازُوا إِقْرَارَ الْمَرِيضِ بِدَيْنٍ، وَقَالَ الْحَسَنُ: أَحَقُّ مَا تَصَدَّقَ بِهِ الرَّجُلُ آخِرَ يَوْمٍ مِنَ الدُّنْيَا وَأَوَّلَ يَوْمٍ مِنَ الآخِرَةِ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ وَالْحَكَمُ: إِذَا أَبْرَأَ الْوَارِثَ مِنَ الدَّيْنِ بَرِئَ. وَأَوْصَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ أَنْ لا تُكْشَفَ امْرَأَتُهُ الْفَزَارِيَّةُ عَمَّا أُغْلِقَ عَلَيْهِ بَابُهَا، وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا قَالَ لِمَمْلُوكِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ: كُنْتُ أَعْتَقْتُكَ جَازَ. وَقَالَ الشَّعْبِىُّ: إِذَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ عِنْدَ مَوْتِهَا: إِنَّ زَوْجِى قَضَانِى وَقَبَضْتُ مِنْهُ جَازَ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لا يَجُوزُ إِقْرَارُهُ لِسُوءِ الظَّنِّ بِهِ لِلْوَرَثَةِ ثُمَّ اسْتَحْسَنَ، فَقَالَ: يَجُوزُ إِقْرَارُهُ بِالْوَدِيعَةِ وَالْبِضَاعَةِ وَالْمُضَارَبَةِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ،(8/155)
وَلا يَحِلُّ مَالُ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : آيَةُ الْمُنَافِقِ إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَقَالَ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) [النساء: 58] فَلَمْ يَخُصَّ وَارِثًا وَلا غَيْرَهُ. فِيهِ ابْنُ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . / 12 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ) . قال ابن المنذر: أجمع العلماء أن إقرار المريض بالدين لغير الوارث جائز إذا لم يكن عليه دين فى الصحة. واختلفوا إذا أقر لأجنبى وعليه دين فى الصحة ببينة. فقالت طائفة: يبدأ بدين الصحة. هذا قول النخعى والكوفيين، قالوا: فإذا استوفاه صاحبه فأصحاب الإقرار فى المرض يتحاصون. وقالت طائفة: هما سواء دين الصحة والدين الذى يقر به فى المرض إذا كان لغير وارث. هذا قول الشافعى وأبى ثور وأبى عبيد، وذكر أبو عبيد أنه قول أهل المدينة، ورواه عن الحسن. وممن أجاز إقرار المريض بالدين للأجنبى الثورى وأحمد وإسحاق. قال: واختلفوا فى إقرار المريض للوارث بالدين فأجازه طائفة، هذا قول الحسن وعطاء، وبه قال إسحاق وأبو ثور. قال: وروينا عن شريح والحسن أنهما أجازا إقرار المريض لزوجته بالصداق. وبه قال الأوزاعى، وقال الحسن بن صالح: لا يجوز إقراره لوارث فى مرضه إلا لامرأته بصداق. وقالت طائفة: لا يجوز إقرار المريض للوارث. روى ذلك عن القاسم وسالم ويحيى الأنصارى والثورى وأبى حنيفة وأحمد بن حنبل، وهو الذى رجع إليه الشافعى وفيها قول ثالث قاله مالك(8/156)
قال: إذا أقر المريض لوارثه بدين نظر، فإن كان لا يتهم فيه قبل إقراره، مثل أن يكون له بنت وابن عم فيقر لابن عمه بدين فإنه يقبل إقراره، ولو كان إقراره لبنته لم يقبل؛ لأنه يهتم فى أنه يزيد ابنته على حقها من الميراث وينقص ابن عمه، ولا يتهم فى أن يفضل ابن عمه على ابنته. قال: ويجوز إقراره لزوجته فى مرضه إذا كان له ولد منها أو من غيرها، فإن كان يعرف منه انقطاع إليها ومودة، وقد كان الذى بينه وبين ولده متفاقمًا ولعل لها الولد الصغير منه فلا يجوز إقراره لها. واحتج من أبطل إقرار المريض للوارث بأن الوصية للوارث لما لم تجز فكذلك الإقرار فى المرض، ويتهم المريض فى إقراره بالدين للوارث؛ لأنه أراد بذلك الوصية. واحتج من أجاز ذلك بقول الحسن: إن أحق ما تصدق به الرجل آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة؛ لأنه فى حال يرد على الله، فهو فى حالة يتجنب المعصية والظلم ما لا يتجنبه فى حال الصحة، والتهمة منتفية عنه، وقد نهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن الظن وقال: (إنه أكذب الحديث) وقال: (آية المنافق إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان) وقد أجمع العلماء على أنه إذا أوصى رجل لوارثه بوصية وأقر له بدين فى صحته ثم رجع عنه؛ أن رجوعه عن الوصية جائز، ولا يقبل رجوعه عن الإقرار. ولا خلاف أن المريض لو أقر بوارث لصح إقراره، وذلك يتضمن الإقرار بالمال وشىء آخر وهو النسب والولاية، فإذا أقر بمال فهو أولى أن يصح، وهذا معنى صحيح. وقد تناقض أبو حنيفة فى استحسانه(8/157)
جواز الإقرار بالوديعة والمضاربة والبضاعة ولا فرق بين ذلك وبين الإقرار بالدين؛ لأن ذلك كله أمانة ولازم للذمة. واحتج أصحاب مالك بأنه يجوز إقراره فى الموضع الذى تنتفى عنه التهمة؛ وذلك أن المرض يوجب حجرًا فى حق الورثة، يدل على ذلك أن الثلث الذى يملك التصرف فيه من جميع الجهات لا يملك وضعه فى وارثه على وجه الهبة والمنحة، فلما لم تصح هبته فى المرض لم يصح إقراره له، ويجوز أن يهب ماله كله فى الصحة للوارث، وفى المرض لا يصح، فاختلف حكم الصحة والمرض. وأما قول إبراهيم والحكم: إذا أبرأ الوارث من الدين، فلا يبرأ عند مالك؛ لأنه تلحقه تهمة أنه أراد الوصية لوارثه. وأما قول رافع بن خديج: ألا تكشف امرأته. فلا خلاف عن مالك، أن كل زوجة فإن جميع ما فى بيتهما لها وإن لم يشهد لها زوجها بذلك، وإنما يحتاج إلى الإشهاد والإقرار إذا علم أنه تزوجها فقيرة وأن ما فى بيتها من متاع الرجل، أو فى أم الولد. وأما قول الحسن: إذا قال لمملوكه عند الموت كنت أعتقتك جاز. فلا يجوز عند مالك؛ لأنه يتهم أن يكون أراد عتقه من رأس ماله وهو ليس له من ماله إلا الثلث، فكأنه أراد الهروب بثلثى المملوك عن الورثة، ولو أعتقه عند موته كان من ثلثه.(8/158)
9 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ) [النساء: 11]
وَيُذْكَرُ أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَضَى بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) [النساء: 58] فَأَدَاءُ الأمَانَةِ أَحَقُّ مِنْ تَطَوُّعِ الْوَصِيَّةِ، وَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : لا صَدَقَةَ إِلا عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لا يُوصِى الْعَبْدُ إِلا بِإِذْنِ أَهْلِهِ، وَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : الْعَبْدُ رَاعٍ فِى مَالِ سَيِّدِهِ. / 13 - فيه: حَكِيمَ: سَأَلْتُ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَأَعْطَانِى، ثُمَّ قَالَ لِى: يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِى يَأْكُلُ وَلا يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا. فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَدْعُو حَكِيمًا لِيُعْطِيَهُ الْعَطَاءَ، فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ، فَأْبَى أَنْ يَقْبَلَهُ، فَقَالَ، يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، إِنِّى أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ الَّذِى قَسَمَ اللَّهُ لَهُ مِنْ هَذَا الْفَىْءِ، فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ، فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ بَعْدَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) حَتَّى تُوُفِّىَ. / 14 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ قَالَ النبى (صلى الله عليه وسلم) : (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِى أَهْلِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ فِى بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ فِى مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) ، قَالَ: وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ: (وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِى مَالِ أَبِيهِ) .(8/159)
ذكر إسماعيل بن إسحاق بإسناده عن على بن أبى طالب قال: (تعدون الوصية قبل الدين، وقد قضى محمد أن الدين قبل الوصية) والأمة مجمعة على هذا. قال إسماعيل: وليس يوجب تبدية اللفظ بالوصية قبل الدين أن تكون مبداة على الدين، وإنما يوجب الكلام أن يكون الدين والوصية تخرجان قبل قسم الميراث؛ لأنه لما قيل من بعد كذا وكذا علم أنه من بعد هذين الصنفين قال الله: (ولا تطع منهم آثمًا أو كفورًا) [الإنسان: 24] ، أى لا تطع أحدًا من هذين الصنفين، وقد يقول الرجل: مررت بفلان وفلان فيجوز أن يكون الذى بدأ بتسميته مر به أخيرًا ويجوز أن يكون مر به أولا؛ لأنه ليس فى اللفظ ما يوجب تبدئة الذى سمى أولا. قال تعالى: (يا مريم اقنتى لربك واسجدى واركعى مع الراكعين) [آل عمران: 43] ، ففهم إنما أمرت بذلك كله، ولم يجب أن يكون السجود قبل الركوع، ولو قال: مررت بفلان ففلان أو مررت بفلان ثم فلان لوجب أن يكون الذى بدأ بتسميته هو الذى مر به أولا، فلما قال تعالى: (من بعد وصية يوصى بها أو دين) [النساء: 11] وجب أن تكون قسمة المواريث التى فرض الله بعد الدين والوصية ولم يكن فى القرآن تبدئة أحدهما على الآخر باللفظ المنصوص، ولكن فهم بالسنُّة التى مضت، والمعنى أن الدين قبل الوصية؛ لأن الوصية إنما هى تطوع يتطوع بها الموصى وأداء الدين فرض عليه، فعلم أن الفرض أولى من التطوع. قال المهلب: وإنما أدخل حديث حكيم فى هذا الباب؛ لأنه جعله(8/160)
من باب الديون وإن لم يعرفوها لأنه لما رآه قد سماه له ورأى الاستحقاق من حكيم متوجهًا إلى المال إن رضيه وقبله أجرى مجرى مستحقات الديون. وأما حديث أبى هريرة فوجهه فى هذا الباب والله أعلم أنه لما كان العبد مسترعى فى مال سيده؛ صح أن المال للسيد، وأن العبد لا ملك له فيه، فلم تجز وصية العبد بغير إذن سيده، كما قال ابن عباس وأشبه فى المعنى الموصى الذى عليه الدين، فلم تنفذ وصيته إلا بعد قضاء دينه؛ لأن المال الذى بيده إنما هو لصاحب الدين ومسترعى فيه ومسئول عن رعيته، فلم يجز له تفويته على ربه بوصية أو غيرها إلا أن يبقى منه بعد أداء ذلك بقية، كما أن العبد مسترعى فى مال سيده، ولا يجوز له تفويته على سيده إلا بإذنه، فاتفقا فى الحكم لاتفاقهما فى المعنى.
- باب إِذَا وَقَفَ أَوْ أَوْصَى لأقَارِبِهِ وَمَنِ الأقَارِبُ
وَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) لأبِى طَلْحَةَ: (اجْعَلْهَا لِفُقَرَاءِ أَقَارِبِكَ) ، فَجَعَلَهَا لِحَسَّانَ، وَأُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ، وَقَالَ الأنْصَارِىُّ: حَدَّثَنِى أَبِى، عَنْ ثُمَامَةَ، عَنْ أَنَسٍ مِثْلَ حَدِيثِ ثَابِتٍ، قَالَ: (اجْعَلْهَا لِفُقَرَاءِ قَرَابَتِكَ) ، قَالَ أَنَسٌ: فَجَعَلَهَا لِحَسَّانَ، وَأُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ، وَكَانَا أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنِّى، وَكَانَ قَرَابَةُ حَسَّانٍ وَأُبَىٍّ، مِنْ أَبِى طَلْحَةَ، وَاسْمُهُ: زَيْدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ الأسْوَدِ بْنِ حَرَامِ بْنِ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ عَدِىِّ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ المُنْذِرِ بْنِ حَرَامٍ، فَيَجْتَمِعَانِ إِلَى حَرَامٍ، وَهُوَ الأبُ الثَّالِثُ، وَحَرَامُ بْنُ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ عَدِىِّ بْنِ عَمْرِو ابْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، فَهُوَ يُجَامِعُ(8/161)
حَسَّانَ وَأَبَا طَلْحَةَ وَأُبَيًّا إِلَى سِتَّةِ آبَاءٍ إِلَى عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ، وَهُوَ أُبَىُّ بْنُ كَعْبِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ زَيدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، فَعَمْرُو بْنُ مَالِكٍ يَجْمَعُ حَسَّانَ وَأَبَا طَلْحَةَ وَأُبَيًّا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا أَوْصَى لِقَرَابَتِهِ فَهُوَ إِلَى آبَائِهِ فِى الإسْلامِ. / 15 - فيه: أَنَس قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) لأبِى طَلْحَةَ: (أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِى الأقْرَبِينَ) ، قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِى أَقَارِبِهِ وَبَنِى عَمِّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا نَزَلَتْ: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ) [الشعراء: 214] جَعَلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يُنَادِى: (يَا بَنِى فِهْرٍ، يَا بَنِى عَدِىٍّ) ، لِبُطُونِ قُرَيْشٍ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَمَّا نَزَلَتْ: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ (قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ) . اختلف العلماء إذا أوصى بثلثه لأقاربه أو لأقارب فلان من الأقارب الذين يستحقون الوصية فقال الكوفيون والشافعى: يدخل فى ذلك من كان من قبل الأب والأم. غير أنهم رتبوا أقوالهم على ترتيب مختلف فقال أبو حنيفة: القرابة هم كل ذى رحم محرم من قبل الأب والأم ممن لا يرث غير أنه يبدأ بقرابة الأب على قرابة الأم، وتفسير ذلك أن يكون له خال وعم فيبدأ بعمه على خاله، فيجعل له الوصية. وقال أبو يوسف، ومحمد، والشافعى: سواء فى ذلك قرابة الأب والأم ومن بعد منهم أو قرب، ومن كان ذا رحم محرم أو لم يكن.(8/162)
وهو قول أبى ثور. وقال أبو يوسف ومحمد: من جمعه أب واحد منذ كانت الهجرة. وقال آخرون: القرابة كل من جمعه والموصى أبوه الرابع إلى ما هو أسفل منه. وهو قول أحمد بن حنبل. وقال آخرون: القرابة كل من جمعه والموصى أب واحد فى الإسلام أو الجاهلية ممن يرجع بآبائه وأمهاته إليه أبًا عن أب أو أم عن أم إلى أن يلقاه. وقال مالك: لا يدخل فى الأقارب إلا من كان من قبل الأب خاصة: العم وابنة الأخ وشبههم، ويبدأ بالفقراء حتى يغنوا ثم يعطى الأغنياء. قال الطحاوى: وإنما جوز أهل هذه المقالات الوصية للقرابة إذا كانت تلك القرابة تحصى وتعرف، فإن كانت لا تحصى ولا تعرف فإن الوصية لها باطل فى قولهم جميعًا إلا أن يوصى لفقرائهم، فتكون الوصية جائزة لمن رأى الموصى دفعها إليه منهم، وأقل ما يجوز أن يجعلها فيهم اثنان فصاعدًا. فى قول محمد. وقال أبو يوسف: إن دفعها إلى واحد أجزأه. واحتج لأبى يوسف ومحمد بأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لما قسم سهم ذى القربى أعطى بنى هاشم جميعًا، وفيهم من رحمه منهم محرمة وغير محرمة، وأعطى بنى المطلب وأرحامهم منه جميعًا غير محرمة؛ لأن بنى هاشم أقرب إليه من بنى المطلب، فلما لم يقدم فى ذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من قربت رحمه على من بعدت، وجعلهم كلهم قرابة يستحقون ما جعل الله لقرابته، سقط(8/163)
قول أبى حنيفة فى اعتباره ذا الرحم المحرم واعتباره الأقرب فالأقرب، وسقط قول من جعل أهل الحاجة منهم أولى؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) عم بعطيته بنى هاشم وفيهم أغنياء. وحجة أخرى على أبى حنيفة وذلك أن أبا طلحة لما أمره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يجعل أرضه فى فقراء قرابته جعلها لحسان وأبىّ، وأبى إنما يلقى أبا طلحة عند أبيه السابع ويلتقى مع حسان عند أبيه الثالث، فلم يقدم أبو طلحة حسان لقرب رحمه على أبىّ لبعد رحمه منه ولم ير واحدًا منهما مستحقا لقرابته منه فى ذلك إلا كما يستحق منه الآخر، فثبت فساد قول أبى حنيفة. واحتج بعض أصحاب الشافعى فقال: إنما استحقوا باسم القرابة فيستوى فى ذلك القريب والبعيد والغنى والفقير، كما أعطى من شهد القتال باسم الحضور. قال الطحاوى: ثم نظرنا لقول من قال: هو إلى آبائه فى الإسلام. فرأينا النبى (صلى الله عليه وسلم) أعطى سهم ذوى القربى بنى هاشم وبنى المطلب، ولا يجتمع هو مع واحد منهم إلى أب مذ كانت الهجرة، وإنما يجتمع معهم فى آباء كانت فى الجاهلية، وكذلك أبو طلحة وأبىّ وحسان لا يجتمعون عند أب إسلامى، ولم يمنعهم ذلك أن يكونوا قرابة يستحقون ما جعل للقرابة؛ فبطل قول أبى يوسف ومحمد، وثبت أن الوصية لكل من يوقف على نسبه أب عن أب أو أم عن أم، حتى يلتقى هو والموصى لقرابته إلى جد واحد فى الجاهلية أو فى الإسلام. وأما الذين قالوا: إن القرابة هم الذين يلتقون عند الأب الرابع،(8/164)
فإنهم ذهبوا إلى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لما قسم سهم ذى القربى أعطى بنى هاشم وبنى المطلب، وإنما يلتقى هو وبنو المطلب عند أبيه الرابع؛ لأنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، والآخرون هم بنو المطلب بن عبد مناف. فإنما يلتقى معهم عند عبد مناف وهو أبوه الرابع، فمن الحجة عليهم فى ذلك للآخرين أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لما أعطى بنى هاشم وبنى المطلب حرم بنى أمية وبنى نوفل، وقرابتهم منه كقرابة بنى المطلب فلم يحرمهم؛ لأنهم ليسوا قرابة، ولكن لمعنى غير القرابة فكذلك من فوقهم لم يحرمهم؛ لأنهم ليسوا قرابة، ولكن لمعنى غير القرابة وكذلك أعطى أبو طلحة لحسان وأبىّ وإنما يلتقى مع أبىّ لأبيه السابع، فلم ينكر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على أبى طلحة ما فعل، وقد أمر الله نبيه أن ينذر عشيرته الأقربين، فدعا عشائر قريش كلها، وفيهم من يلقاه عند أبيه الثانى، وعند أبيه الثالث وعند أبيه الرابع وعند الخامس وعند السابع، وفيهم من يلقاه عند آبائه الذين فوق ذلك إلا أنه ممن جمعته وإياهم قريش، فبطل قول من جعله إلى الأب الرابع، وثبت قول من جعله إلى أب واحد فى الجاهلية أو الإسلام. واحتج أصحاب مالك لقوله: إن القرابة قرابة الأب خاصة؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لما أعطى ذوى القربى لم يعط قرابته من قبل أمه شيئًا، وسيأتى فى الباب بعد هذا وقد تقدم كثير من معنى حديث أبى طلحة فى كتاب الزكاة فى باب فضل الزكاة على الأقارب.(8/165)
- باب هَلْ يَدْخُلُ الْوَلَدُ وَالنِّسَاءُ فِى الأقَارِبِ
/ 16 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ لما نزلت: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ (، قَامَ النبى (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لا أُغْنِى عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِى عَبْدِمَنَافٍ، لا أُغْنِى عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِالْمُطَّلِبِ، لا أُغْنِى عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ، لا أُغْنِى عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، سَلِينِى مَا شَئْتِ مِنْ مَالِى، لا أُغْنِى عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) . أجمع العلماء على أن اسم الولد يقع على البنين والبنات وأن النساء التى من صلبه وعصبته كالعمة والابنة والأخت يدخلون فى الأقارب إذا أوقف على أقاربه، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) خص عمته بالنذارة كما خص ابنته، وكذلك من كان فى معناهما ممن يجمعه معه أب واحد. وروى أشهب عن مالك أن الأم لا تدخل فى مرجع الحبس. وقال ابن القاسم: تدخل الأم فى ذلك ولا تدخل الأخوات للأم. واختلفوا فى ولد البنات أو ولد العمات ممن لا يجتمع فى أب واحد مع الوصى والمحبس هل يدخلون فى القرابة أم لا؟ فقال أبو حنيفة والشافعى: إذا أوقف وقفًا على ولده أنه يدخل فيه ولد ولده، وولد بناته ما تناسلوا، وكذلك إذا أوصى لقرابته يدخل فيه ولد(8/166)
البنات. والقرابة عند أبى حنيفة كل ذى رحم محرم، فيسقط عنده ابن العم وابن العمة، وابن الخال والخالة؛ لأنهم ليسوا بمحرمين. والقرابة عند الشافعى: كل ذى رحم محرم وغيره، فلم يسقط عنده ابن العم ولا غيره. وقال مالك: لا يدخل فى ذلك ولد البنات. وقوله: لقرابتى وعقبى، كقوله: لولدى وولد ولدى. يدخل فيه ولد البنين، ومن يرجع إلى عصبة الأب وصلبه ولا يدخل ولد البنات. قال ابن القصار: وحجة من أدخل ولد البنات فى الأقارب قوله فى الحسن بن على: (إن ابنى هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين) قالوا: ولا تظن أحدًا يمتنع أن يقول فى ولد البنات أنهم ولد لأبى أمهم فالمعنى يقتضى ذلك؛ لأن الولد فى اللغة مشتق من التولد وهم متولدون عن أبى أمهم لا محالة؛ لأنه أحد أصليهم الذى يرجعون إليه، قال تعالى: (إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) [الحجرات: 13] فللذكر حظه وللأنثى حظها، والتولد عن جهة الأب كالتولد عن جهة الأم، وقد دل القرآن على ذلك قال تعالى: (ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزى المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين) [الأنعام: 84، 85] فجعل عيسى من ذريته وهو ابن بنته، ولم يفرق فى الاسم بين بنى بنيه وبنى ابنته. واحتج عليهم أهل المقالة الثانية فقالوا: إنما سمى النبى (صلى الله عليه وسلم) الحسن ابنًا على وجه التحنن والفضيلة دون الحقيقة، وإنما أبوه فى الحقيقة علىّ وإليه نسبه، ولا يمتنع أن تقع التسمية تارة على الحقيقة وتارة على المجاز، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال فى العباس: (اتركوا لى أبى) فلا يمتنع أن يسمى ولد البنات ابنًا كما يسمى الجد والدًا، والعم والدًا، والخال والدًا، إلا أن اسم الأب فى هذا متميز يرجع فى حقيقته إلى ولد الصلب خاصة، كما يرجع فى اسم الأب حقيقة إلى الأب دينًا.(8/167)
ولما ذكر عيسى (صلى الله عليه وسلم) مع ولد البنين الذين هم ذرية على الحقيقة جرى عليه الاسم على طريق الاتساع والتغليب للأكثر المذكورين، وهذا شائع فى كلام العرب، ودليل آخر وهو قوله: (يوصيكم الله فى أولادكم) [النساء: 11] فلم يعقل المسلمون من ظاهر الآية إلا ولد الصلب وولد الابن خاصة، ألا ترى قوله تعالى: (وللرسول ولذى القربى) [الحشر: 7] اختص ذلك ببنى أعمامه ومن يرجع بنسبه إليه؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) أعطى سهم القرابة بنى أعمامه دون بنى أخواله فكذلك ولد البنات؛ لأنهم لا ينتمون إليه بالنسب، ولا يلتقون معه فى أب، قال الشاعر: بنونا بنو آبائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد وفى إعطائه (صلى الله عليه وسلم) بنى المطلب، وهم بنو أعمامه، حجة على أبى حنيفة، أن ابن العم داخل فى القرابة، ولما أعطى النبى (صلى الله عليه وسلم) لبنى المطلب وبنى هاشم، جاء عثمان، وجبير بن مطعم إليه (صلى الله عليه وسلم) ، فقال: (قد عرفنا بنى هاشم لمكانك الذى وضعك الله فيهم، فما بالنا وبنى المطلب أعطيتهم ومنعتنا وقرابتنا واحدة؟ فقال (صلى الله عليه وسلم) : إنهم لم يفارقونا فى جاهلية ولا إسلام) وعثمان من بنى عبد شمس، وجبير ابن مطعم من بنى نوفل، وهم إخوة عبد شمس بن عبد مناف، والمطلب بن عبد مناف، وهاشم بن عبد مناف. فأعطى بنى المطلب وهم بنو أعمامه وأعطى بنى هشام وهم بنو جده، وليس فيهم من يرجع إلى أجداد الأمهات مثل ولد البنات(8/168)
والأخوال وغيرهم من ذوى الأرحام، فدل ذلك على فساد قول أبى حنيفة والشافعى فى أن القرابة تقع على قرابة الأب والأم؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) لم يعط إلا من رجع إلى عصبته. ويرد قول الشافعى فى التسوية بين الأقرب والأبعد، لأنه (صلى الله عليه وسلم) لما أعطى بنى هشام وبنى المطلب ومنع الآخرين علم أنه لا يستحق بالقرابة إلا على وجه الاجتهاد وقد يدخل فى القرابة جميع قريش؛ لقوله: (يا معشر قريش) وخص بعضهم بالعطاء فصح قول مالك أن يبدأ بالفقراء قبل الأغنياء. قال المهلب: وقوله (صلى الله عليه وسلم) لابنته: (سلينى من مالى ما شئت) فيه من الفقه أن الاستئلاف للمسلمين وغيرهم بالمال جائز؛ لأنه إذا جاز أن يستألف المسلم بالمال حتى يزداد بصيرة فى الإسلام جاز أن يستألف الكافر حتى يدخل فى الإيمان؛ بل هو أوكد.
- باب هَلْ يَنْتَفِعُ الْوَاقِفُ بِوَقْفِهِ
وَقَدِ اشْتَرَطَ عُمَرُ: لا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا، وَقَدْ يَلِى الْوَاقِفُ وَغَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ جَعَلَ بَدَنَةً أَوْ شَيْئًا لِلَّهِ، فَلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا كَمَا يَنْتَفِعُ غَيْرُهُ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ. / 17 - فيه: أَنَسٍ أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) رَأَى رَجُلا يَسُوقُ بَدَنَةً، فَقَالَ لَهُ: ارْكَبْهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا بَدَنَةٌ، قَالَ فِى الثَّالِثَةِ أَوْ فِى الرَّابِعَةِ: ارْكَبْهَا، وَيْلَكَ، أَوْ وَيْحَكَ) . قال المؤلف: لا يجوز للواقف أن ينتفع بوقفه؛ لأنه أخرجه لله وقطعه عن ملكه، فانتفاعه بشىء منه رجوع فى صدقته، وقد نهى النبى (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك، وإنما يجوز له الانتفاع به إن شرط ذلك فى الوقف أو أن يفتقر المحبس أو ورثته فيجوز لهم الأكل منه.(8/169)
وقال ابن القصار: من حبس دارًا أو سلاحًا أو عبدًا فى سبيل الله فأنفذ ذلك فى وجوهه زمانًا، ثم أراد أن ينتفع به مع الناس، فإن كان من حاجة فلا بأس به. وذكر ابن حبيب عن مالك قال: من حبس أصلا تجرى غلته على المساكين، فإن ولده يعطون منه إذا افتقروا، كانوا يوم مات أو حبس فقراء أو أغنياء، غير أنهم لا يعطون جميع الغلة مخافة أن يندرس الحبس، ولكن يبقى منه سهمًا للمساكين؛ ليبقى اسم الحبس، ويكتب على الولد كتاب أنهم إنما يعطون منه ما أعطوا على المسكنة وليس على حق لهم فيه دون المساكين. واختلفوا إذا أوصى بشىء للمساكين فغفل عن قسمته حتى افتقر بعض ورثته، وكانوا يوم أوصى أغنياء أو مساكين، فقال مطرف: أرى أن يعطوا من ذلك على المسكنة وهم أولى من الأباعد. وقال ابن الماجشون: إن كانوا يوم أوصى أغنياء ثم افتقروا أعطوا منه، وإن كانوا مساكين لم يعطوا منه؛ لأنه أوصى وهو يعرف حاجتهم فكأنه أزاحهم عنه. وقال ابن القاسم: لا يعطوا منه شيئًا مساكين كانوا أو أغنياء يوم أوصى. وقول مطرف أشبه بدلائل السنة. قوله: وكذلك كل من جعل بدنة أو شيئًا لله فله أن ينتفع بها كما ينتفع غيره وإن لم يشترط، فإنما ينتفع من ذلك إذا لم يشترط بما لا مضرة على من سبل له الشىء، وإنما جاز ركوب البدنة التى أخرجها لله؛ لأنه ركبها إلى موضع النحر ولم يكن له غنى عن سوقها إليه، ولم يركبها فى منفعة له، ألا ترى أنه لو كان ركوبها مهلكًا لها لم يجز له ذلك، كما لا يجوز له أكل شىء من لحمها.(8/170)
وقوله: يلى الواقف وغيره. فاختلف العلماء فى ذلك فذكر ابن المواز عن مالك أنه إن شرط فى حبسه أن يليه لم يجز. وقاله ابن القاسم وأشهب. وقال ابن عبد الحكم عن مالك: إن جعل الوقف بيد غيره يحوزه ويجمع غلته، ويدفعها إلى الذى حبسه يلى تفرقته وعلى ذلك حبس؛ أن ذلك جائز. وقال ابن كنانة: من حبس ناقته فى سبيل الله فلا ينتفع بشىء منها، وله أن ينتفع بلبنها لقيامه عليها. فمن أجاز للواقف أن يليه فإنما يجيز له الأكل منه بسبب ولايته وعمله، كما يأكل الوصى من مال يتيمه بالمعروف من أجل ولايته وعمله، وإلى هذا المعنى أشار البخارى فى هذا الباب. ومن لم يجز للواقف أن يلى وقفه فإنما منع ذلك قطعًا للذريعة إلى الانفراد بغلته، فيكون ذلك رجوعًا فيه، وسأذكرها فى الباب بعد هذا.
- باب إِذَا وَقَفَ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى غَيْرِهِ فَهُوَ جَائِزٌ
لأنَّ عُمَرَ أَوْقَفَ، وَقَالَ: لا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ، وَلَمْ يَخُصَّ إِنْ وَلِيَهُ عُمَرُ أَوْ غَيْرُهُ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) لأبِى طَلْحَةَ: (أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِى الأقْرَبِينَ) ، فَقَالَ: أَفْعَلُ، فَقَسَمَهَا فِى أَقَارِبِهِ وَبَنِى عَمِّهِ. إِذَا قَالَ: دَارِى صَدَقَةٌ لِلَّهِ وَلَمْ يُبَيِّنْ لِلْفُقَرَاء، أَوْ غَيْرِهِمْ، فَهُوَ جَائِزٌ وَيَضَعُهَا فِى الأَقْرَبِينَ، أَوْ حَيْثُ أَرَادَ قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : لأَبِى طَلْحَةَ حِينَ قَالَ: أَحَبُّ أَمْوَالِى إِلَىَّ بَيْرُحَاءَ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ فَأَجَازَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ذَلِكَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا يَجُوزُ حَتَّى يُبَيِّنَ لِمَنْ وَالأَوَّلُ أَصَحُّ. وَإِذَا قَالَ أَرْضِى أَوْ بُسْتَانِى صَدَقَةٌ عَنْ أُمِّى فَهُوَ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ.(8/171)
/ 18 - فيه: ابْنُ عَبَّاسٍ: (أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ، وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّى تُوُفِّيَتْ، وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهَا، أَيَنْفَعُهَا شَيْءٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنِّى أُشْهِدُكَ أَنَّ حَائِطِىَ الْمِخْرَافَ صَدَقَةٌ عَلَيْهَا) . اختلف العلماء فى الوقف إذا لم يخرجه الواقف من يده إلى أن مات. فقالت طائفة: يصح الوقف ولا يفتقر إلى قبض. وهو قول أبى يوسف والشافعى. وقالت طائفة: لا يصح الوقف حتى يخرجه عن يده ويقبضه غيره. هذا قول ابن أبى ليلى ومالك ومحمد ابن الحسن. وحجة القول الأول أن عمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب وفاطمة، رضى الله عنهم، أوقفوا أوقافًا وأمسكوها بأيديهم وكانوا يصرفون الانتفاع بها فى وجوه الصدقة فلم يبطل. واحتج الطحاوى لأبى يوسف فقال: رأينا أفعال العبادات على ضروب فمنها العتاق وينفذ بالقول؛ لأن العبد إنما يزول ملك مولاه عنه بقوله: أنت لله ومنها الهبات والصدقات لا تنفذ بالقول حتى يكون معه القبض من الذى ملكها، فأردنا أن ننظر حكم الأوقاف بأيها هى أشبه فنعطفه عليه، فرأينا الرجل إذا أوقف أرضه أو داره فإنما ملك الذى أوقفها عليه منافعها ولم يملكه من رقبتها شيئًا، إنما أخرجها من ملك نفسه إلى الله، فثبت أن نظير ذلك ما أخرجه من ملكه إلى الله، فكما كان ذلك لا يحتاج فيه إلى قبض مع القول؛ كذلك الوقف لا يحتاج فيه إلى قبض مع القول.(8/172)
وأيضًا فإن القبض لو أوجبناه لكان القابض يقبض ما لم يملك بالوقف، فقبضه إياه وغير قبضه سواء. فثبت قول أبى يوسف وإليه ذهب البخارى، واستدل من قوله: فقسمها أبو طلحة فى أقاربه وبنى عمه؛ أن الوقف لم يخرج من يدى أبى طلحة. وحجة الذين جعلوا القبض شرطًا فى صحة الوقف إجماع أئمة الفتوى على أنه لا تنفذ الهبات والصدقات بالقول حتى يقبضها الذى ملكها، ألا ترى أن أبا بكر قال فى مرضه لابنته، وقد كان نحلها أحدًا وعشرين وسقًا: لو كنت حزتيه لكان لك، فإنما هو اليوم مال وارث. فكان حكم الوقف حكم الهبات. وقول النبى (صلى الله عليه وسلم) لأبى طلحة: (أرى أن تجعلها فى الأقربين) لا حجة فيه لمن أجاز الوقف، وإن لم يخرج عن يد الذى أوقفه؛ لأنه ليس فى الحديث أن أبا طلحة لم يخرج الوقف عن يده، ولو استدل مستدل بقوله: (فقسمها أبو طلحة فى أقاربه وبنى عمه) أنه أخرجها عن يده لساغ ذلك، ولم يكن من استدل أنه لم يخرجها عن يده أولى منه بالتأويل. واختلفوا إذا قال: هذه الدار وهذه الضيعة وقف ولم يذكر وجوهًا تصرف فيها. فعند مالك أنه يصح الوقف، وكذلك لو قال: على أولادى وأولادهم. ولم يذكر بعدهم الفقراء أو بنى تميم ممن لم ينقطع نسلهم فإنه يصح الوقف، ويرجع ذلك إلى فقراء عصبته، وإن لم يكونوا فقراء فإلى فقراء المسلمين. وبه قال أبو يوسف ومحمد، وهو أحد قولى الشافعى، والقول الثانى: أنه لا يصح الوقف.(8/173)
قال ابن القصار: وحجة القول الأول أنه إذا قال: وقفت. فإنما أراد البر والقربة، وأن لا ينتفع هو بشىء من ذلك، فالانتفاع يكون محبوسًا على ولده وولد ولده، فإذا انقرضوا صرف ذلك إلى أقرب الناس به من فقراء عصبته، وهذا المعنى يحصل به البر والقربة، وكذلك إذا قال: هذا وقف محرم؛ لأنه معلوم أنه قصد به البر والقربة فحمل على ما علم من قصده، كرجل أوصى بثلث ماله فإن ذلك يفرق فى الفقراء والمساكين وإن لم يسمهم؛ لأنه قد علم ذلك من قصده، ألا ترى قول سعد بن عبادة للنبى: (فإنى أشهدك أن حائطى المخراف صدقة عنها) ولم يسم على من يتصدق بالحائط، ولم ينكر ذلك النبى (صلى الله عليه وسلم) ولو لم تجز الصدقة والوقف على غير مسمين لم يترك النبى (صلى الله عليه وسلم) بيان ذلك لأن عليه فرض التبليغ والبيان. قال المهلب: ولا حاجة بنا إلى أن نذكر على من يكون الوقف؛ لأن الله قد بين أصناف الذين تجب لهم الصدقات فى كتابه، وقد مضى من سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى قصة أبى طلحة ما فيه شفاء، فرأى (صلى الله عليه وسلم) فى قصة أبى طلحة أن تصرف الصدقة إلى صنف واحد وهم أقارب أبى طلحة. قال ابن القصار: فإن قيل: قد قلتم إنه إذا أوقف على من لا يولد له ولم يكن له ولد فى الحال لم يجز الوقف، وقلتم هاهنا إذا قال: وقف. صح الوقف فما الفرق؟ قيل: الفرق بينهما أنه إذا أوقفه على من لم يولد له فقد وقفه على غير موجودين؛ لأنه قد يجوز أن لا يولد له، وإذا وقفه ولم يذكر(8/174)
وجهًا يصرف فيه، ففقراء المسلمين الذين تجوز لهم الصدقة، وقد ذكرهم الله فى كتابه، موجودون غير معدومين ففى أيها يجعله الإمام صح الوقف.
- باب إِذَا تَصَدَّقَ أَوْ أَوْقَفَ بَعْضَ مَالِهِ أَوْ بَعْضَ رَقِيقِهِ أَوْ دَوَابِّهِ فَهُوَ جَائِزٌ
/ 19 - فيه: كَعْبٍ: قُلْتُ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ مِنْ تَوْبَتِى أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِى صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ، قُلْتُ: فَإِنِّى أُمْسِكُ سَهْمِى الَّذِى بِخَيْبَرَ) . اتفق مالك والكوفيون والشافعى وأكثر العلماء أنه يجوز للصحيح أن يتصدق بماله كله فى صحته، إلا أنهم استحبوا أن يبقى لنفسه منه ما يعيش به خوف الحاجة وما يتقى من آفات الفقر؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك) فحضه على الأفضل، وفى هذا حجة لمن قال: إن الغنى أفضل من الفقر؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (فهو خير لك) وقد ذكرت من خالف ذلك فى كتاب الزكاة فى باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى من كلام الطبرى. واستدل البخارى بأنه لما جازت الصدقة بالعقار ووقف غلاتها على المساكين جاز ذلك فى الرقيق والدواب؛ إذ المعنى واحد فى انتفاع المساكين بغلاتها وبقاء أصولها وقد تقدم بيان هذا فى باب الشروط فى الوقف فأغنى عن إعادته، وسأذكر اختلاف العلماء فى وقف الرقيق والحيوان بعد هذا إن شاء الله تعالى.(8/175)
قال المهلب: وفيه أن من تاب الله عليه وخلصه من ملمة نزلت به؛ أنه ينبغى له أن يشكر الله على ذلك بالصدقة وما شاكلها من أفعال البر.
- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) [النساء: 8]
/ 20 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ نَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نُسِخَتْ، وَلا وَاللَّهِ مَا نُسِخَتْ، وَلَكِنَّهَا مِمَّا تَهَاوَنَ النَّاسُ بِهَا، هُمَا وَالِيَانِ، وَالٍ يَرِثُ، وَذَاكَ الَّذِى يَرْزُقُ، وَوَالٍ لا يَرِثُ، فَذَاكَ الَّذِى يَقُولُ بِالْمَعْرُوفِ، يَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ أَنْ أُعْطِيَكَ. اختلف العلماء فى هذه الآية فقال قوم: إنها منسوخة بالمواريث. هذا قول سعيد بن المسيب وطائفة من التابعين. وقالت عائشة وابن عباس والنخعى وعطاء والحسن: إنها محكمة غير منسوخة. وقال ابن عباس والنخعى وعطاء والحسن: إنها محكمة غير منسوخة. وقال ابن عباس: هى واجبة يعمل بها. وذكر إسماعيل القاضى، أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى بكر قسم ميراث أبيه عبد الرحمن، وعائشة حية، فلم يدع فى الدار مسكينًا ولا ذا قرابة إلا أعطاه من ميراث أبيه، وتلا: (وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين. . .) [النساء: 8] الآية. قال القاسم بن محمد: فذكرت ذلك لابن عباس فقال: ما أصاب، إنما ذلك فى الوصية، يريد الميت أن يوصى. وقال ابن المسيب: إنما ذلك فى الثلث عند الوصية.(8/176)
وروى قتادة عن يحيى بن يعمر، قال: ثلاث آيات فى كتاب الله محكمات مدنيات قد ضيعهن الناس. فذكر هذه الآية، وآية الاستئذان للذين لم يبلغوا الحلم فى العورات الثلاث، وهذه الآية) يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) [الحجرات: 3] الآية. وقال إسماعيل: وأما الذين قالوا: إنها محكمة. فيمكن أن يكونوا تأولوا أنها على الترغيب دون الإيجاب، ويمكن أن يكونوا تأولوها على الإيجاب، وأما الذين قالوا: إنها منسوخة. فأحسب أنهم تأولوها على الإيجاب، ثم نسخت بآية الوصية، وأما الذين تأولوها أن ذلك إنما عنى به من الوصية فإن الله تعالى قال فى آية المواريث: (من بعد وصية يوصى بها أو دين) [النساء: 11] ، فليس يجوز أن ينقص أهل المواريث مما جعل الله لهم إلا بدين على الميت أو وصية يوصى بها فتنفذ، إلا أن تكون الوصية للفقراء أو فى أبواب البر فيخص منها أولو القربى واليتامى بالاجتهاد، وقد تأول زيد بن أسلم أن هذا شىء أمر به الذى يوصى فى وقت وصيته كما تأوله ابن عباس. وروى ابن وهب عن يعقوب بن عبد الرحمن قال: سألت زيد بن أسلم عن قوله: (وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين) [النساء: 8] ، قال: هذا الرجل حين يوصى ويحضره ناس ويحضره أولو القربى واليتامى والمساكين فيذكرونه قرابته والمساكين، فيقولون: فلان مسكين. وفلان ذو حاجة. فأمره أن يحسن ولا يجحف(8/177)
بولده، فنهى الذين حضروا أن يتكلموا بغير ذلك وتلا: (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم (مثل ما ترك) ذرية ضعافًا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديدًا) [النساء: 9] . وقال قتادة فى قوله تعالى: (وليخش الذين لو تركوا) [النساء: 9] ، قال: إذا حضرت وصية ميت فاؤمره بما كنت تأمر به نفسك مما يتقرب به إلى الله، وخف فى ذلك ما كنت تخافه على ضعفهم لو تركتهم بعدك، فاتق الله وقل قولاً سديدًا إن هو زاغ.
- باب مَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ تُوُفِّىَ فُجَأةً أَنْ يَتَصَدَّقُوا عَنْهُ وَقَضَاءِ النُّذُورِ عَنِ الْمَيِّتِ
/ 21 - فيه: عَائِشَةَ (أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : إِنَّ أُمِّى افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَأُرَاهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، تَصَدَّقْ عَنْهَا) . / 22 - وفيه: ابْنُ عَبَّاسٍ (أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، استفتى رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: إِنَّ أُمِّى تُوُفِّيَتْ، وعليها نذر، فقال: اقضه عنها. قال ابن المنذر: حديث عائشة يدل على إجازة الصدقة التطوع عن الميت، ومثله حديث العلاء، عن أبيه، عن أبى هريرة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) وروى أبو نعيم، عن هشام، عن قتادة، عن سعيد (أن سعد بن عبادة قال للنبى حين أمره أن يتصدق عن أمه: أى الصدقة أفضل يا رسول الله؟ قال: سقى الماء) . فدلت هذه الآثار عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أن تأويل قوله: (وأن ليس للإنسان إلا ما(8/178)
سعى} [النجم: 39] على الخصوص، فأما العتق عن الميت فلا أعلم فيه خبرًا يثبت عن النبى (صلى الله عليه وسلم) . وقد ثبت عن عائشة أم المؤمنين أنها أعتقت عبدًا عن أخيها عبد الرحمن وكان مات ولم يوصى. وأجاز ذلك الشافعى، وقال بعض أصحابه: لما جاز أن يتطوع بالصدقة وهى مال جاز أن يتطوع بالعتق؛ لأنه مال. وفرق غيره بين الصدقة والعتق فقال: إنما أجزنا الصدقة بالأخبار الثابتة، والعتق لا خبر فيه، بل فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (الولاء لمن أعتق) دليل على منعه؛ لأن الحى هو المعتق بغير أمر الميت فله الولاء، فإذا ثبت له الولاء فليس للميت منه شىء. وهذا القول ليس بصحيح؛ لأنه قد روى فى حديث سعد بن عبادة أنه قال للنبى: (إن أمى هلكت فهل ينفعها أن أعتق عنها؟ قال: نعم) فدل أن العتق ينفع الميت، ويشهد لذلك فعل عائشة فى عتقها عن أخيها. وقد اختلف الآثار فى النذر الذى كان على أم سعد، فقيل: إنه كان غير عتق. وذلك مذكور فى كتاب النذور فى باب من مات وعليه نذر. وقال ابن المنذر: ممن كان يجيز الحج التطوع عن الميت: الأوزاعى والشافعى وأحمد، ومنعه غيرهم. وقد تقدم فى كتاب الحج، وقد ثبت عن عائشة أم المؤمنين أنها أعتقت عن أخيها عبد الرحمن بعد ما مات. قال ابن المنذر: وفى ترك النبى (صلى الله عليه وسلم) إنكار فعل المرأة التى افتلتت نفسها(8/179)
حين ماتت ولم توصى؛ دليل على أن تارك الوصية غير عاص لله؛ إذ لو كان فرضًا لأخبر النبى أنها قد تركت فرضًا، وأما قضاء الدين عن الميت فما لزم الذمة فلا خلاف فى قضائه عن الميت، وما لزم البدن ففيه الخلاف عن العلماء، وقد تقدم فى كتاب النذور وفى كتاب الحج. وقوله: (افتلتت نفسها) أى: أخذت نفسها فجأة، يقال: افتلت الشىء إذا أخذته فجأة.
- باب الإشْهَادِ فِى الْوَقْفِ وَالصَّدَقَةِ
/ 23 - فيه: ابْنُ عَبَّاسٍ (أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ، وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهَا، فَأَتَى النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّى تُوُفِّيَتْ، وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهَا، فَهَلْ يَنْفَعُهَا شَيْءٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنِّى أُشْهِدُكَ أَنَّ حَائِطِىَ الْمِخْرَافَ صَدَقَةٌ عَلَيْهَا) . الإشهاد واجب فى الوقف ولا يتم إلا به. قال المهلب: وإذا كان الله قد أمر بالإشهاد فى البيع، والبيع خروج ملك بعوض ظاهر، فالوقف أولى بذلك؛ لأن الخروج عنه بغير عوض، مع أن الأكثر فى الأوقاف والصدقات أن تكون على غير عوض فى الأعيان.(8/180)
- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا (إِلَى) مَا طَابَ لَكُمْ) [النساء: 2]
/ 24 - فيه: عَائِشَةَ) وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لا تُقْسِطُوا فِى الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ) [النساء: 3] قَالَتْ عَائِشَةَ: هِىَ الْيَتِيمَةُ فِى حَجْرِ وَلِيِّهَا، فَيَرْغَبُ فِى جَمَالِهَا وَمَالِهَا، وَيُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِأَدْنَى مِنْ سُنَّةِ نِسَائِهَا، فَنُهُوا عَنْ نِكَاحِهِنَّ إِلا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ فِى إِكْمَالِ الصَّدَاقِ، وَأُمِرُوا بِنِكَاحِ مَنْ سِوَاهُنَّ مِنَ النِّسَاءِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: ثُمَّ اسْتَفْتَى النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . . الحديث. هذا مذكور فى كتاب النكاح وهو أولى به.
- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ (إلى قوله: (مَفْرُوضًا) [النساء: 6، 7]
حسيبًا: كافيًا، وللوصى أن يعمل فى مال اليتيم ويأكل منه بقدر عمالته. / 25 - فيه: ابْنِ عُمَرَ: (أَنَّ عُمَرَ تَصَدَّقَ بِمَالٍ لَهُ عَلَى عَهْدِ النَّبىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ (ثَمْغٌ) ، وَكَانَ نَخْلا، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى اسْتَفَدْتُ مَالا، وَهُوَ عِنْدِى نَفِيسٌ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ لا يُبَاعُ وَلا يُوهَبُ وَلا يُورَثُ، وَلَكِنْ يُنْفَقُ ثَمَرُهُ، فَتَصَدَّقَ بِهِ عُمَرُ، فَصَدَقَتُهُ تِلْكَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَفِى الرِّقَابِ وَالْمَسَاكِينِ وَالضَّيْفِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَلِذِى الْقُرْبَى، وَلا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ يُوكِلَ صَدِيقَهُ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ بِهِ) . وفيه: عَائِشَةَ رَضِى اللَّهُ عَنْهَا) وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ(8/181)
بِالْمَعْرُوفِ) [النساء: 6] قَالَتْ: أُنْزِلَتْ فِى وَالِى الْيَتِيمِ، أَنْ يُصِيبَ مِنْ مَالِهِ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا بِقَدْرِ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ. قال المهلب: إنما أدخل هذا الحديث فى هذا الباب؛ لأن عمر حبس ماله على أصناف وجعله إلى من يليه وينظر فيه كما جعل مال اليتيم إلى من يليه وينظر فيه، فالنظر لهؤلاء الأصناف كالنظر لليتامى؛ لأنهم من جملة هذه الأصناف. وفيه من الفقه: أن عمر فهم عن الله أن لولى هذا المال أن يأكل منه بالمعروف، كما قال الله تعالى. وقوله: غير متمول لقول الله: (ولا تأكلوها إسرافًا وبدارًا أن يكبوا) [النساء: 6] ، فدل أن ما ليس بسرف أنه جائز لولى اليتيم أن يأكله. وقوله: (لا جناح على من وليه) ولم يخص غنيًا من الفقير، فيه إجازة أكل الغنى ممايلى، وتفسير قوله تعالى: (ومن كان غنيا فليستعفف) [النساء: 6] أنه على الندب وإن أكل بالمعروف لم يكن عليه حرج والله أعلم. قال المؤلف: إلا أن جمهور علماء التأويل إنما أباحوا للولى الأكل من مال اليتيم إذا كان فقيرًا ولم يذكروا فى ذلك الغنى، واختلفوا فى الوصى الفقير إذا أكل بالمعروف هل يكون عليه غرم ذلك إذا أيسر؟ فقالت طائفة: إذا أيسر أداه. روى ذلك عن سعيد بن(8/182)
جبير وعبيدة وأبى العالية ومجاهد وعطاء، واحتجوا بما رواه قبيصة، عن سفيان، عن أبى إسحاق، عن حارثة بن مصرف، قال: قال عمر: إنى أنزلت مال الله بمنزلة مال اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن احتجت استقرضت، ثم قضيت. وقالت طائفة: لا غرم عليه إذا أيسر. روى ذلك عن عطاء أيضًا والحسن البصرى والنخعى وقتادة، وعليه الفقهاء، وقد روى حديث عمر ولم يذكر فيه: قضيت. رواه سعيد، عن قتادة، عن أبى مجلز، عن عمر. ومن رأى القضاء، فذلك خلاف لكتاب الله؛ لأن الله أباح للولى الفقير أن يأكل بالمعروف ولم يوجب عليه شيئًا. وقد روى عن ابن عباس ما يبين هذه القصة، روى حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد أن رجلا سأل ابن عباس، فقال: إن لى إبلاً وليتيم فى حجرى إبل، وانا أمنح من إبلى وأفقر فما يحل لى من إبله؟ فقال: إن كنت تلتمس ضالتها وتهنأ جرباها وتليط حوضها وتسقيها، فاشرب غير مضر بنسل ولا ناهك فى ظهر. قال ابن القاسم: ما سمعنا بفتيا من غير رواية أحسن منها. فهذا ابن عباس قد أباح للغنى أن يشرب من لبنها بالمعروف من أجل قيامه عليها وخدمته لها، فكيف يجب أن يكون على الفقير أن يقضى ما أكل منها بالمعروف إذا أيسر، والنظر فى ذلك أيضًا يبطل وجوب القضاء؛ لأن عمر شبه مال الله بمال اليتيم.(8/183)
وقد أجمعت الأمة أن الإمام الناظر للمسلمين لا يجب عليه غرم ما أكل منه بالمعروف؛ لأن الله قد فرض سهمه فى مال الله، فلا حاجة لهم فى قول عمر: (ثم قضيت أن) لو صح عنه، والله الموفق. وأما تأويل قوله تعالى: (فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أموالهم) [النساء: 6] ، قال ابن عباس: ابتلوا اليتامى أى: اختبروا عقولهم. وهو قول الحسن وقتادة، وقال الثورى: جربوهم. وقوله: (حتى إذا بلغ النكاح) [النساء: 6] ، يعنى الحلم. عن ابن عباس ومجاهد) فإن آنستم منهم) [النساء: 6] عرفتم منهم رشدًا. وبهذا قال مالك وأكثر العلماء، وقال الشعبى، والقاسم بن محمد: إن الرجل يمشط وما أونس منه الرشد. وفيه قول آخر: وهو أن يكون بعد بلوغه صالحًا فى دينه. عن الحسن، وبه قال الشافعى. وقال أبو حنيفة: إذا بلغ اليتيم، وكان صحيح العقل، دفع إليه ماله وإن لم يؤنس منه الرشد؛ لأنه لا يرى الحجر على حر مسلم. قال ابن المنذر: الصبى من دفع المال إليه قبل بلوغه وإن كان مصلحًا، فإذا بلغ وكان غير رشيد وجب منع ماله منه، وكل ما أباحه الله بشرطين لم يجز إطلاقه بأحدهما، ألا ترى أن من طلق زوجته ثلاثًا لا تحل له حتى تنكح غيره ويطأها، فإن نكحت ولم تُطأ لم تحل للأول، فكذلك لا يجوز دفع المال إلى اليتيم، وإن بلغ النكاح، حتى يؤنس منه الرشد، والله الموفق.(8/184)
- باب قَوْلِ اللَّهِ: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا) [النساء: 10] الآية
/ 26 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّى يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاتِ) . قال المؤلف: أكل مال اليتيم من الكبائر، وقد أخبر الله أن من أكله ظلمًا أنه يأكل النار ويصلى السعير، وهذا عند أهل السنة إن أنفذ الله عليه الوعيد؛ لأنه عندهم فى مشيئة الله، قال سعيد بن جبير: لما نزلت: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا) [النساء: 10] أمسك الناس فلم يخالطوا اليتامى فى طعامهم حتى نزلت: (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم) [البقرة: 220] ، قال: وليس فى القرآن: (ويسألونك (إلا ثلاث عشرة مسألة من قلة ما كانوا يسألونه، وسيأتى ما قال العلماء فى الكبائر فى كتاب الأدب.
- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) [البقرة: 220]
) لأعْنَتَكُمْ (لأحْرَجَكُمْ وَضَيَّقَ،) وَعَنَتِ) [طه: 111] خَضَعَتْ. وَقَالَ نَافِعٍ: مَا رَدَّ ابْنُ عُمَرَ عَلَى أَحَدٍ وَصِيَّةً، وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ أَحَبَّ الأشْيَاءِ إِلَيْهِ فِى مَالِ الْيَتِيمِ، أَنْ يَجْتَمِعَ إِلَيْهِ نُصَحَاؤُهُ وَأَوْلِيَاؤُهُ، فَيَنْظُرُون الَّذِى هُوَ خَيْرٌ لَهُ، وَكَانَ طَاوُسٌ إِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْيَتَامَى قَرَأَ: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ(8/185)
الْمُصْلِحِ) [البقرة: 220] . قَالَ عَطَاءٌ: فِى يَتَامَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، يُنْفِقُ الْوَلِىُّ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ بِقَدْرِهِ مِنْ حِصَّتِهِ. ذكر أبو عبيد، عن ابن عباس فى قوله: (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير) [البقرة: 220] ، قال: لما أنزل الله: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا) [النساء: 10] الآية كره المسلمون أن يضموا اليتامى إليهم، وتحرجوا أن يخالطوهم فى شىء، وسألوا النبى (صلى الله عليه وسلم) عنه فأنزل الله: (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم. . ولو شاء الله لأعنتكم) [البقرة: 220] ، يعنى لأحرجكم وضيق عليكم، ولكنه يسر ووسع فقال: (ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف) [النساء: 6] ، وروى النخعى، عن عائشة قالت: إنى لأكره أن يكون مال اليتيم عندى، لا أخلط طعامه بطعامى، ولا شرابه بشرابى. قال أبو عبيد: والذى دار عليه المعنى من هذا أن الله تعالى لما أوجب النار لآكل مال اليتيم أحجم المسلمون عن كل شىء من أمرهم حتى عن مخالطتهم، فنسخ الله ذلك بالإذن فى المخالطة، والإذن فى الإصابة من مالهم بالمعروف إذا كان الولى محتاجًا. قال أبو عبيد: ومخالطة اليتامى أن يكون لأحدهم المال ويشق على كافله أن يفرز طعامه عنه ولا يجد بدا من خلطه بعياله، فيأخذ من مال اليتيم ما يرى أنه كافيه بالتحرى، فيجعله مع نفقة أهله، وهذا قد يقع فيه الزيادة والنقصان، فجاءت هذه الآية الناسخة بالرخصة فيه. قال أبو عبيد: وهذا عندى أصل لما يفعله الرفقاء فى الأسفار أنهم يتخارجون النفقات بينهم بالسوية وقد لا يتساوون فى كثرة المطعم وقلته، وليس كل من قل طعمه تطيب نفسه بالتفضل على رفيقه، فلما كان(8/186)
هذا فى أموال اليتامى واسعًا كان فى غيرهم أوسع، ولولا ذلك لخفت أن يضيق فيه الأمر على الناس.
- باب اسْتِخْدَامِ الْيَتِيمِ فِى السَّفَرِ وَالْحَضَرِ إِذَا كَانَ صَلاحًا لَهُ وَنَظَرِ الأمِّ وَزَوْجِهَا لِلْيَتِيمِ
/ 27 - فيه: أَنَسٍ قَالَ: قَدِمَ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) الْمَدِينَةَ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ، فَأَخَذَ أَبُو طَلْحَةَ بِيَدِى، فَانْطَلَقَ بِى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَنَسًا غُلامٌ كَيِّسٌ، فَلْيَخْدُمْكَ، قَالَ: فَخَدَمْتُهُ فِى السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، مَا قَالَ لِى لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ صَنَعْتَ هَذَا هَكَذَا؟ وَلا لِشَيْءٍ لَمْ أَصْنَعْهُ: لِمَ لَمْ تَصْنَعْ هَذَا هَكَذَا؟ . قال المهلب: فيه من الفقه: جواز استخدام اليتيم الحر الصغير الذى لا يحوز أمره. وفيه: أن خدمة العالم والإمام واجبة على المسلمين وأن ذلك شرف لمن خدمهم لما يرجى من بركة ذلك.
- باب إِذَا وَقَفَ أَرْضًا وَلَمْ يُبَيِّنِ الْحُدُودَ فَهُوَ جَائِزٌ وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ
/ 28 - فيه: أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ: (كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِىٍّ بِالْمَدِينَةِ مَالا مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبُّ مَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَدْخُلُهَا،(8/187)
وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا نَزَلَتْ: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمرن: 92] قَامَ أَبُو طَلْحَةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ (وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِى إِلَىَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ، فَقَالَ: بَخْ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، أَوْ رَايِحٌ، شَكَّ ابْنُ مَسْلَمَةَ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّى أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِى الأقْرَبِينَ، قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِى أَقَارِبِهِ وَفِى بَنِى عَمِّهِ) . / 29 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّ رَجُلا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : إِنَّ أُمَّهُ تُوُفِّيَتْ، أَيَنْفَعُهَا إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّ لِى مِخْرَافًا وَأُشْهِدُكَ أَنِّى قَدْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا) . قال المهلب: إذا لم يبين الحدود فى الوقف فإنما يجوز إذا كان للأرض اسم معلوم يقع عليها وتتعين به، كما كان بيرحاء معينًا، وكما كان المخراف معينًا عند من أشهده، وعلى هذا الوجه تصح الترجمة، وأما إذا لم يكن الوقف معينًا وكانت له مخاريف وأموال كثيرة، فلا يجوز الوقف إلا بالتحديد والتعيين، ولا خلاف فى هذا. وفيه: أن لفظ الصدقة يخرج الشىء المتصدق به عن ملك الذى يملكه قبل أن يتصدق به، ولا رجوع له فيه، وهو حجة لمالك فى إجازته للموهوب له، وللمتصدق عليه المطالبة بالصدقة وإن لم يحزها حتى يحوزها، وتصح له ما دام المتصدق والواهب حيا، بخلاف ما ذهب إليه الكوفيون والشافعى أن اللفظ بالصدقة والهبة لا يوجب شيئًا لمعين وغيره حتى تقبض، وليس للموهوب له ولا للمتصدق عليه المطالبة بها على ما تقدم فى كتاب الهبات.(8/188)
وفى هذا الحديث دليل أن الكلام بها قد أوجب حكمًا، فله المطالبة للمعين على ما قاله مالك؛ لقوله: (وإنها صدقة يا رسول الله فضعها حيث أراك الله) فلم يجز لأبى طلحة الرجوع فيها بعد قوله: (إنها صدقة يا رسول الله) لأنه قد صح إخراجه لها عن ملكه بهذا اللفظ إلى ما يجوز له أخذها. وفيه: أن من أخرج شيئًا من ماله ولم يملكه أحدًا فجائز أن يضعه حيث أراه الله من سبل الخير على ما تقدم فى باب: إذا أوقف شيئًا فلم يدفعه إلى غيره فهو جائز، وأنه يجوز أن يشاور فيه من يثق برأيه، وليس لذلك وجه معلوم لا يتعدى كما قال بعض الناس: معنى قول الرجل: لله، وفى سبيل الله كذا دون كذا، ألا ترى أن الصدقة الموقوفة رجعت إلى قرابة أبى طلحة ولو سبلها فى وجه من الوجوه لم تصرف إلى غيره. وذهب مالك والشافعى إلى أن من حبس دارًا على قوم معينين أو تصدق عليهم بصدقة ولم يذكر أعقابهم، أو ذكر ولم يجعل لها بعدهم مرجعًا إلى المساكين أو إلى من لا يعدم وجوده من وجوه البر، فمات المحبس عليهم وانقرضوا؛ أنها لا ترجع إلى الذى حبسها أبدًا، وترجع حبسًا على أقرب الناس بالمحبس يوم ترجع لا يوم حبس، ألا ترى أن أبا طلحة جعل حائطه ذلك صدقة لله ولم يذكر وجهًا من الوجوه التى توضع فيه الصدقة، أمره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يجعلها فى أقاربه، وكذلك كل صدقة لا يذكر لها مرجع تصرف على أقارب المتصدق بدليل هذا الحديث، وهذا عند مالك فيما لم يرد به صاحبه(8/189)
حياة المتصدق عليه، فإذا أراد ذلك فهى عنده عمرى ترجع إلى صاحبها بعد انقراض المتصدق عليه، ولمالك فيها قول ثان: أنه إذا حبس على قوم معينين ولم يجعل لها مرجعًا إلى المساكين أنها ترجع ملكًا إلى ربها كالعمرى. قيل لمالك: لو قال فى صدقته: هى حبس على فلان هل تكون بذلك محبسة؟ قال: لا؛ لأنها لمن ليس بمجهول، وقد حبسها على فلان فهى عمرى؛ لأنه أخبر أن تحبيسها غير دائم ولا ثابت، وأنه إلى غاية. ولم يختلف قوله إذا قال: هى حبس صدقة أنها لا ترجع إليه أبدًا. فالألفاظ التى ينقطع بها ملك الشىء عن ربه ولا يعود إليه أبدًا عند مالك وأصحابه أن يقول: حبس صدقة، أو حبس لا يباع، أو حبس على أعقاب مجهولين مثل الفقراء والمساكين وفى سبيل الله. فهذا كله عندهم مؤبد لا يرجع إلى صاحبها ملك أبدًا. وأما إذا قال: حياة المحبس عليه أو إلى أجل من الآجال فإنها ترجع إلى صاحبها ملكًا أو إلى ورثته، وهى كالعمرى والسكنى. قال ابن المنذر: واختلفوا فى الرجل يأمر وصيه يضع ثلثه حيث أراه الله. فقالت طائفة: يجعله فى سبيل الخير ولا يأكله. هذا قول مالك وبه قال الشافعى وزاد: لا يعطيه وارثًا للميت؛ لأنه إنما كان يجوز له منه ما كان يجوز للميت. وقال أبو ثور: يجوز أن يعطيه لنفسه أو لولده أو لمن شاء، ويجعله لبعض ورثة الميت، وليست هذه وصية للميت إنما هذا أمر للموصى أن يضعه حيث يشاء. وهو قول الكوفيين غير أنهم قالوا:(8/190)
ليس له أن يجعلها لأحد من ورثة الميت؛ فإن جعله لبعضهم فهو باطل مردود على جميع الورثة. وفيه من الفقه: أن من تصدق بشىء من ماله بعينه أن ذلك يلزمه، وإن كان أكثر من ثلث ماله؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يقل لأبى طلحة هل هو ثلث مالك؟ كما قال لأبى لبابة، وقال لسعد: الثلث كثير. وقد تقدم فى الزكاة.
- باب إِذَا أَوْقَفَ جَمَاعَةٌ أَرْضًا مُشَاعًا فَهُوَ جَائِزٌ
/ 30 - فيه: أَنَسٍ: (أَمَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا بَنِى النَّجَّارِ، ثَامِنُونِى بِحَائِطِكُمْ هَذَا، قَالُوا لا، وَاللَّهِ لا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلا إِلَى اللَّهِ) . وقف المشاع جائز عند مالك كهبته وإجارته وبه قال أبو يوسف والشافعى، وقال محمد ابن الحسن: لا يجوز. بناء على أصلهم فى الامتناع من إجارة المشاع، وحجة من أجاز ذلك أن بنى النجار جعلوا حائطكم لمكان المسجد وقالوا: لا نطلب ثمنه إلا إلى الله تعالى. وأجاز النبى (صلى الله عليه وسلم) ذلك من فعلهم وكان ذلك وقفًا للمشاع، والحجة فى السنة لا فى خلافها.
- باب الْوَقْفِ للغَنىِّ وَاْلفَقِيرِ وَالضَّيْفِ
/ 31 - فيه: ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ وَجَدَ مَالا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: إِنْ شَئْتَ تَصَدَّقْتَ بِهَا، فَتَصَدَّقَ بِهَا فِى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَذِى الْقُرْبَى وَالضَّيْفِ) .(8/191)
ليس من شرط الوقف أن يكون للفقراء والمسّاكين خاصة، ألا ترى أن عمر شرط فى وقفه مع الفقراء والمساكين ذا القربى والضيف، وقد يكون فيهم أغنياء، وكذلك قال النبى (صلى الله عليه وسلم) لأبى طلحة: (إنى أرى أن تجعلها فى الأقربين) ، فجعلها لحسان بن ثابت، وأبىّ بن كعب، ولم يكونوا فقراء، ولم يحرم الله على الأغنياء من الصدقات إلا الزكاة وصدقة الفطر خاصة، وأحل لهم الفئ والجزية وصدقات التطوع كلها، فجائز للموقف أن يجعل وقفه فيمن شاء من أصناف الناس، أغنياء كانوا أو فقراء، أو قرباء كانوا أو بعداء له، شرطه فى ذلك. وهذا لا خلاف فيه.
- باب وَقْفِ الأرْضِ لِلْمَسْجِدِ
/ 32 - فيه: أَنَسُ لَمَّا قَدِمَ النبى (صلى الله عليه وسلم) الْمَدِينَةَ، أَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، وَقَالَ: يَا بَنِى النَّجَّارِ، ثَامِنُونِى بِحَائِطِكُمْ هَذَا، قَالُوا: لا، وَاللَّهِ لا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلا إِلَى اللَّهِ) . وترجم له باب إذا قال الواقف لا نطلب ثمنه إلا إلى الله. فى هذا الحديث حجة على أبى حنيفة فى إبطاله الأوقاف والأحباس؛ لأن الأمة مجمعة أن من جعل أرضًا له مسجدًا للمسلمين فى صحته أنه ليس لورثته ردها ميراثًا بينهم. وقال أبو حنيفة فى الرجل يحبس داره على المساكين يسكنونها: أنها ترجع ميراثًا بين ورثته، ويجيز ذلك إن فعله فى مرضه أو فى وصيته، ويكون فى ثلثه فإن قال: إن المسجد لا يجوز له ولا لورثته الرجوع فيه بعد أن أخرجه فى صحته وجعله مسجدًا لجماعة المسلمين؛ قيل له: فما الفرق بين ما جعل من ذلك مسجدًا وبين ما جعله سقاية أو مقبرة أو موقفًا(8/192)
لجماعة المسلمين، وهل بينك وبين من عكس هذا عليك، فأجاز ما أبطلت، وأبطل ما أجزت فرق من أصل أو قياس؛ فلن يقول فى شىء من ذلك قولاً إلا ألزم فى الآخر مثله. قال الطبرى: وقد أجاز العلماء أوقاف أهل الذمة ولم يروا نقضها فكيف تنقض أوقاف المسلمين؟ ووجدت بخط أبى عبيد الحيرى: وسئل أبو الحسن على بن ميسرة القاضى البغدادى عن رجل كان له على نصرانى دين، فأفلس النصرانى ولا مال له سوى وقف أوقفه على مساكين أهل ملته قبل استحداثه الدين؛ هل يجوز نقض الوقف وأخذ المسلم له قضاء من دينه أم لا؟ فأجاب بأن قال بأن أهل الذمة ليست أملاكهم مستقرة، وإنما لهم شبهة ملك على ما فى أيديهم، فإذا اختاروا رفع أيديهم عن الشبهة ارتفعت، ولم يعترض عليهم فى نقض ما عقدوه مما لو كان فى شريعتنا لم يجز نقضه؛ لأنهم على ذلك صولحوا، ولما جاز إقرارهم على غير دين الحق إذا أعطوا الجزية وجب أن لا يعترض عليهم فى نقض وقف ولا غيره مما يتعلق بحق الله.
- باب الْوَقْفِ وَكَيْفَ يُكْتَبُ
/ 33 - فيه: ابْنِ عُمَرَ: (أَصَابَ عُمَرُ بِخَيْبَرَ أَرْضًا، فَأَتَى النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: أَصَبْتُ أَرْضًا لَمْ أُصِبْ مَالا قَطُّ أَنْفَسَ مِنْهُ، فَكَيْفَ تَأْمُرُنِى بِهِ؟ قَالَ: إِنْ شَئْتَ حَبَّسْتَ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا، فَتَصَدَّقَ عُمَرُ، أَنَّهُ لا يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلا يُوهَبُ وَلا يُورَثُ، فِى الْفُقَرَاءِ وَالْقُرْبَى وَالرِّقَابِ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالضَّيْفِ وَابْنِ، السَّبِيلِ لا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ) .(8/193)
هذا الحديث أصل فى إجازة الحبس والوقف، وهو قول أهل المدينة والبصرة، ومكة والشام، والشعبى من أهل العراق، وبه قال أبو يوسف ومحمد بن الحسن والشافعى، وقال أبو حنيفة وزفر: الحبس باطل، ولا يخرج عن مالك الذى أوقفه ويرثه ورثته، ولا يلزم الوقف عنده إلا أن يحكم به الحاكم وينفذه أو يوصى به بعد موته، وإذا أوصى به اعتبر من الثلث، فإن جمله الثلث جاز وإلا رد. وحجة الجماعة قوله (صلى الله عليه وسلم) لعمر: (إن شئت حبست أصلها) وهذا يقتضى أن الشىء إذا حبس صار محبوسًا ممنوعًا منه، لا يجوز الرجوع فيه؛ لأن هذا حقيقة الحبس، ألا ترى أن عمر لما أراد التقرب بفعل ذلك رجع فى صفته إلى بيان النبى (صلى الله عليه وسلم) وذلك قوله: فتصدق بها عمر. أنه لا يباع أصلها ولا توهب ولا تورث. وعند المخالف هذا باطل، وليس فى الشريعة صدقة بهذه الصفة. وأيضًا فإن المسألة إجماع من الصحابة، وذلك أن أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعائشة، وعمرو بن العاص، وابن الزبير، وجابرًا، كلهم أوقفوا الوقوف، وأوقافهم بمكة والمدينة معروفة مشهورة. واحتج أبو حنيفة بما(8/194)
رواه عطاء، عن ابن المسيب قال: سألت شريحًا عن رجل جعل داره حبسًا على الآخر فالآخر من ولده؟ فقال: لا حبس على فرائض الله. قالوا: فهذا شريح قاضى عمر وعثمان وعلى والخلفاء الراشدين حكم بذلك واحتج أيضًا بما رواه ابن لهيعة، عن أخيه عيسى، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: (سمعت النبى (صلى الله عليه وسلم) يقول بعد ما نزلت سورة النساء، وأنزل الله فيها الفرائض: نهى عن الحبس) . قال الطبرى: ولا حجة له فى قول شريح؛ لأن من تصدق بماله فى صحة بدنه فقد زال ملكه عنه، ومحال أن يقال لما زال ملكه عنه قبل موته بزمان حبسه عن فرائض الله، ولو كان حابسًا عن فرائض الله من أزال ملكه عما ملكه لم يجز لأحد التصرف فى ماله، وفى إجماع الأمة أن ذلك ليس كذلك ما ينبئ عن فساد تأويل من تأول قول شريح؛ أنه بمعنى إبطال الصدقات المحرمات، فثبت أن الحبس عن فرائض الله إنما هو لما يملكه فى حال موته، فيبطل حبسه كما قال شريح، ويعود ميراثًا بين ورثته. ومثال ذلك أن يحبس مالا فى حياته على إنسان بعينه فيجعل له غلته دون رقبته، أو على قوم بأعيانهم، ولا يجعل لحبسه مرجعًا فى السبل التى لا يفقد أهلها بحال، فإن ذلك يكون حبسًا على فرائض الله، وليس فى حديث عطاء أن الرجل جعل لحبسه مرجعًا بعد انقراض ورثته، ولا أخرجها من يده إلى من حبسها عليه ولا إلى فائض حتى تحدث به الوفاة، فكانت لا شك أن صاحبها هلك وهى فى ملكه ولورثته بعد وفاته، فيكون هذا من الحبس عن فرائض الله، إذ كانت الصدقة لا تتم لمتصدق بها عليه إلا بقبضه لها. وأما الصدقة التى أمضى المصدق بها فى حياته على ما أذن الله به على لسان رسوله وعمل به الأئمة الراشدون، فليس من الحبس(8/195)
عن فرائض الله، ولا حجة فى قول شريح ولا أحد مع مخالفة السنة وعمل أئمة الصحابة الذين هم الحجة على جميع الخلق. ويقال للمحتج بقول شريح فى إبطال الصدقات المحرمات فى الصحة: إن شريحًا لم يقل: لا حبس عن فرائض الله فى الصحة. فكيف وجب أن تكون صدقة المتصدق فى حال الصحة من الحبس عن فرائض الله ولا يجب أن تكون صدقة فى مرضه الذى يموت فيه، أو فى وصيته من الحبس عن فرائض الله؟ ومعنى الصدقتين واحد، وما البرهان على أن التى أجزت هى الجائزة والتى أبطلت هى الباطلة؟ فإن قال: إن للرجل فى مرضه إخراج ثلث ماله فيما شاء ولا اعتراض للورثة عليه فيه. قيل: وكذلك له فى حال صحته إخراج جميع ماله فيما شاء وليس للورثة عليه سبيل، ولما كان ما يفعله الرجل فى ثلثه لا يدخل فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا حبس عن فرائض الله) عند الجميع كان ما يفعله الرجل فى صحته أولى بذلك لمن أنصف. قال ابن القصار: وأما حديث ابن عباس فرواه ابن لهيعة، وهو رجل اختلط عقله فى آخر عمره وأخوه غير معروف فلا حجة فيه، وقد تأول الناس فى حديث ابن عباس تأويلا هو أولى من تأويل شريح، وذلك أن معنى قوله: (لا حبس عن فرائض الله) منع ما(8/196)
كان أهل الجاهلية يفعلونه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، كأن يحبسون ما يجعلونه كذلك ولا يورثونه أحدًا، فلما نزلت آية المواريث قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لا حبس) . فإن قيل: هذا تأويل فاسد؛ لأن قوله: (لا حبس) يقتضى نفى حبس فعل فى الإسلام، وفعل أهل الجاهلية لم يفعل فى الإسلام. قيل: هو نفى لما كانوا يفعلونه وهم كفار بعد الإسلام. فإن قيل: كيف يجوز أن تخرج الأرض بالوقف من ملك أربابها، لا إلى ملك مالك؟ قال الصحاوى: يقال لهم: وما ينكر هذا وقد اتفقت أنت وخصمك على الأرض يجعلها صاحبها مسجدًا للمسلمين ويخلى بينهم وبينها، وقد خرجت بذلك من ملك إلى غير ملك ولكن إلى الله تعالى وكذلك الساقيات والجسور والقناطر فما ألزمت مخالفك فى حجتك عليه يلزمك فى هذا كله.
- باب وَقْفِ الدَّوَابِّ وَالْكُرَاعِ وَالْعُرُوضِ وَالصَّامِتِ
وَقَالَ الزُّهْرِىُّ: فِيمَنْ جَعَلَ أَلْفَ دِينَارٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، وَدَفَعَهَا إِلَى غُلامٍ لَهُ تَاجِرٍ، يَتْجِرُ بِهَا، وَجَعَلَ رِبْحَهُ صَدَقَةً لِلْمَسَاكِينِ وَالأقْرَبِينَ، هَلْ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ رِبْحِ تِلْكَ الألْفِ شَيْئًا؟ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَعَلَ رِبْحَهَا صَدَقَةً فِى الْمَسَاكِينِ، قَالَ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا. / 34 - فيه: ابْنِ عُمَرَ رَضِى اللَّهُ عَنْهُمَا (أَنَّ عُمَرَ حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ لَهُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَعْطَاهَا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)(8/197)
لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا فَحَمَلَ عَلَيْهَا رَجُلا، فَأُخْبِرَ عُمَرُ أَنَّهُ قَدْ وَقَفَهَا يَبِيعُهَا، فَسَأَلَ النَّبىَّ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يَبْتَاعَهَا، فَقَالَ: لا تَبْتَعْهَا، وَلا تَرْجِعَنَّ فِى صَدَقَتِكَ) . اختلف العلماء فى وقف الحيوان والعروض والدنانير والدراهم فأجاز ذلك مالك إلا أنه كره وقف الحيوان أن يكون على العقب، فإن وقع أمضاه. وأجاز ابن القاسم وأشهب وقف الثياب، وقال محمد بن الحسن، والشافعى: يجوز وقف الحيوان. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يجوز وقف الحيوان والعروض والدنانير والدراهم. وقالوا: إن هذه أعيان لا تبقى على حال أبد الدهر، فلا يجوز وقفها، وأيضًا فإن الوقف يصح على وجه التأبيد، فمن أوجبه فيما لا يتأبد صار كمن أوقف وقفًا مؤقتًا يومًا أو شهرًا أو سنة، وهذا لا يجوز. ولو صح الوقف فيما لا يتأبد لصح فى جميع الأثمان وسائر ما يملك كالهبة والوصية. وقال ابن القصار: الوقف المؤقت يجوز عند مالك، ويجوز فى جميع الأنواع مما يبقى غالبًا، والدليل على جواز وقف الحيوان والسلاح حديث عمر فى الفرس الذى حمل عليه فى سبيل الله، وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إنكم تظلمون خالدًا، إنه قد حبس أدراعه وأعتده فى سبيل الله) وأعتده هى خيله، فأخبر أنه حبس خيله وسلاحه فى سبيل الله، ولفظ حبس يقتضى أن يكون محبوسًا عن جميع المنافع إلا على الوجه الذى حبس فيه، ولو لم يصح تحبيس(8/198)
ذلك لم يكونوا ظالمين فيما طلبوا من ذلك، ولكان (صلى الله عليه وسلم) يبطله. فإن قيل: لا حجة فى حديث عمر على جواز وقف الحيوان؛ لأن هذا الفرس الذى حمل عليه عمر فى سبيل الله إنما كان هبة منه له فلذلك جاز له بيعه، ولو كان حبسًا لم يجز بيعه، ولذلك قال الشافعى وابن الماجشون: لا يجوز بيع الفرس الحبس ويترك أبدًا. فالجواب: أن ربيعة ومالكًا أجازا بيع الفرس الحبس إذا لم يبق فيه قوة للغزو ويجعل ثمنه فى آخره. قال ابن لقاسم: فإن لم يبلغ شورك به فيه، وكذلك الثياب إذا لم يبق فيه منفعة بيعت واشترى بثمنها ما ينتفع به، فإن لم يكن تصدق به فى سبيل الله. وأما صحة الحجة لحديث عمر فى هذا الباب فإنه لا يخلو أن يكون هذا الفرس الذى حمل عليه عمر حبسًا أو هبة وتمليكًا. وعلى كلا الوجهين فقد جاز للرجل بيعه، ولم يأمر النبى (صلى الله عليه وسلم) بفسخ البيع حين بلغه ذلك، وفهم من قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا تشتره وإن أعطاكه بدرهم واحد) أن نهيه عن شرائه إنما كان على وجه التنزه لا على التحريم، ولو كان على التحريم لبين له (صلى الله عليه وسلم) أنه لا يحل شراؤه بدرهم ولا بأقل، وقد تقدم شىء فى هذا المعنى فى باب إذا حمل على فرس فى سبيل الله فهو كالعمرى والصدقة فى آخر أبواب المنحة والهبات. واختلفوا فى حبس الدنانير والدراهم على من تكون زكاتها، فقال(8/199)
مالك فى المدونة: لو أن رجلا حبس مائة دينار موقوفة يسلفها الناس ويردونها هل ترى فيها زكاة؟ قال: نعم، الزكاة فيها قائمة كل عام. وخالف ذلك ابن القاسم فقال فى رجل قال لرجل: خذ هذه المائة دينار تتجر فيها ولك ربحها وليس عليك فيها ضمان، فليس على الذى هى فى يده أن يزكيها ولا على الذى هى له زكاتها حتى يقبضها فيزكيها زكاة واحدة. قال سحنون: أراها كالسلف، وعليه ضمانها إن تلفت، كالرجل يحبس المال على الرجل فينتقص أنه ضامن له. وأما قول الزهرى فى الرجل يجعل ألف دينار فى سبيل الله أنه لا يأكل من ربحها، فإنما ذلك إذا كان فى غنى عنها، وأما إن احتاج وافتقر فمباح له الأكل منها ويكون كأحد المساكين. قال ابن حبيب: وهذا قول مالك وجميع أصحابنا أنه ينفق على ولد الرجل وولد ولده من حبسه إذا احتاجوا، وإن لم يكن جعل لهم فى ذلك اسمًا، فإن استغنوا فلا حق لهم. واستحسن مالك أن لا يستوعبوها إذا احتاجوا وأن يكون منها سهم جار على الفقراء لئلا يدرس. وقاله ربيعة ويحيى بن سعيد.(8/200)
- باب نَفَقَةِ الْقَيِّمِ لِلْوَقْفِ
/ 35 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: لا يَقْتَسِمُ وَرَثَتِى دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِى وَمَؤُنَةِ عَامِلِى، فَهُوَ صَدَقَةٌ) . / 36 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ اشْتَرَطَ فِى وَقْفِهِ أَنْ يَأْكُلَ مَنْ وَلِيَهُ، وَيُؤْكِلَ صَدِيقَهُ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ مَالا. إنما أراد البخارى بقوله نفقة القيم للوقف والله أعلم أن يبين أن المراد بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (مئونة عاملى) أنه عامل أرضه التى أفاءها الله عليه من بنى النضير وفدك وسهمه من خيبر، وليس عامله حافر قبره كما تأول بعض الفقهاء، واستشهد على ذلك البخارى بحديث عمر الذى أردفه بعده؛ أنه شرط فى وقفه أن يأكل من وليه بالمعروف. فبان بهذا أن العامل فى الحبس له منه أجرة عمله وقيامه عليه، وليس ذلك بتغيير للحبس ولا نقض لشرط المحبس إذا حبس على قوم بأعيانهم، لا غنى عن عامل يعمل للمال، وفى هذا من الفقه جواز أخذ أجرة القسام من المال المقسوم، وإنما كره العلماء أجر القسام؛ لأن على الإمام أن يرزقهم من بيت المال؛ فإن لم يفعل فلا غنى بالناس عن قاسم يقسم بينهم، كما لا غنى عن عامل يعمل فى المال، ومما يشبه هذا المعنى ما روى ابن القاسم عن مالك، فى الإمام يذكر له أن ناحية من عمله كثيرة العشور قليلة المساكين، وناحية أخرى قليلة العشور كثيرة المساكين فهل له أن يتكارى ببعض العشور حتى يحملها إلى الناحية الكثيرة المساكين فكره ذلك وقال: أرى أن يكارى(8/201)
عليه من الفئ أو يبيعه ويشترى هناك طعامًا. وقال ابن القاسم: لا يتكارى عليه من الفئ، أو يبيعه ويشترى هناك طعامًا. وقال ابن القاسم: لا يتكارى عليه من الفئ، ولكن يبيعه ويشترى بثمنه طعامًا. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ما تركته بعد نفقة نسائى ومئونة عاملى فهو صدقة) يبين فساد قول من أبطل الأحباس والأوقاف من أجل أنها كانت مملوكة قبل الوقف، وأنه لا يجوز أن تكون ملكًا لمالك ينتقل إلى غير مالك فيقال له: أما أموال بنى النضير وفدك وخيبر لم تنتقل بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى أحد ملكها، بل هى صدقة منه ثابتة على الأيام والليالى، تجرى عنه فى السبل التى أجراها فيها منذ قبض صلى الله عليه، فكذلك حكم الصدقات المحرمة قائمة على أصولها جارية عليها فيما سبلها فيه صاحبها لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يملك.
30 - باب إِذَا وَقَفَ أَرْضًا أَوْ بِئْرًا وَاشْتَرَطَ لِنَفْسِهِ مِثْلَ دِلاءِ الْمُسْلِمِينَ
وَأَوْقَفَ أَنَسٌ دَارًا، فَكَانَ إِذَا قَدِمَهَا نَزَلَهَا. وَتَصَدَّقَ الزُّبَيْرُ بِدُورِهِ، وَقَالَ لِلْمَرْدُودَةِ مِنْ بَنَاتِهِ أَنْ تَسْكُنَ غَيْرَ مُضِرَّةٍ وَلا مُضَرٍّ بِهَا، فَإِنِ اسْتَغْنَتْ بِزَوْجٍ، فَلَيْسَ لَهَا حَقٌّ، وَجَعَلَ ابْنُ عُمَرَ نَصِيبَهُ مِنْ دَارِ عُمَرَ سُكْنَى لِذَوِى الْحَاجَةِ مِنْ آلِ عَبْدِاللَّهِ. / 37 - فيه: أَبُو عَبْدِالرَّحْمَنِ أَنَّ عُثْمَانَ حين حُوصِرَ، أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ، وَلا أَنْشُدُ إِلا أَصْحَابَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ:(8/202)
مَنْ حَفَرَ رُومَةَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، فَحَفَرْتُهَا؟ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ فَلَهُ الْجَنَّةُ، فَجَهَّزْتُهُمْ؟ قَالَ: فَصَدَّقُوهُ بِمَا قَالَ. وَقَالَ عُمَرُ فِى وَقْفِهِ: لا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ، وَقَدْ يَلِيهِ الْوَاقِفُ وَغَيْرُهُ فَهُوَ وَاسِعٌ لِكُلٍّ. قال المؤلف: لا خلاف بين العلماء أن من شرط لنفسه ولورثته نصيبًا فى وقفه أن ذلك جائز، وقد تقدم هذا المعنى فى باب هل ينتفع الواقف بوقفه. وأما حديث بئر رومة فإنه وقع فى هذا الباب أن عثمان قال: (ألستم تعلمون أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: من حفر بئر رومة فله الجنة فحفرتها) من رواية شعبة، عن أبى إسحاق السبيعى، عن أبى عبد الرحمن السلمى. وهو وهم ممن دون شعبة والله أعلم، والمعروف فى الأخبار أن عثمان اشتراها لا أنه حفرها، روى ذلك أبو عيسى الترمذى قال: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن، حدثنا عبد الله بن جعفر الرقى، حدثنا عبيد الله بن عمر، عن زيد بن أبى أنيسة، عن أبى إسحاق، عن أبى عبد الرحمن قال: (هل تعلمون أن بئر رومة لم يكن يشرب منها أحد إلا بثمن فابتعتها فجعلتها للغنى والفقير وابن السبيل؟ قالوا: اللهم نعم) ورواه معمر بن سليمان، عن أبى نضرة، عن أبى سعيد مولى بنى أسد، عن عثمان قال: (ألستم تعلمون أنى اشتريت. . .) ورواه عباس الدورى، عن يحيى بن(8/203)
أبى الحجاج المنقرى، عن أبى مسعود الجريرى، عن ثمامة بن حزن القشيرى قال: (شهدت الدار حين أشرف عليهم عثمان فقال: ألستم تعلمون أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة فقال: من يشترى بئر رومة ويجعل دلوه فيها كدلاء المسلمين وله بها مشرب فى الجنة. فأتى عثمان اليهودى فساومه بها فأبى أن يبيعها كلها، فاشترى نصفها باثنى عشر ألف درهم فجعله للمسلمين. فقال له عثمان: إن شئت جعلت على نصيبى قرنين، وإن شئت فلى يوم ولك يوم. فقال: بل لى يوم ولك يوم. فكان إذا كان يوم عثمان استقى المسلمون ما يكفيهم يومين، فلما رأى ذلك اليهودى قال: أفسدت على ركيتى فاشتر منى نصيبى. هذا الذى نقله أهل الخبر والسير، ولا يوجد أن عثمان حفرها إلا فى حديث شعبة، والله أعلم ممن جاء الوهم، وذكر ابن الكلبى أنه كان يشترى منها قربة بدرهم قبل أن يشتريها عثمان.
31 - باب إِذَا قَالَ الْوَاقِفُ: لا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلا إِلَى اللَّهِ، فَهُوَ جَائِزٌ
/ 38 - فيه: أَنَسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَا بَنِى النَّجَّارِ، ثَامِنُونِى بِحَائِطِكُمْ، قَالُوا: لا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلا إِلَى اللَّهِ) .(8/204)
قال المؤلف: إنما قال لهم: (ثامنونى) أى: اطلبوا ثمن حائطكم منى، ليبتاعه لمكان المسجد. فقالوا له: لا نبتغى الثمن فيه إلا من الله، فكان ذلك تسليما منهم للحائط وإخراجًا له من ملكهم لله، لا يجوز رجوعهم فيه، وأجاز ذلك النبى (صلى الله عليه وسلم) وكان من فعلهم بمنزلة ما لو اشتراه النبى (صلى الله عليه وسلم) ووقفه لمكان المسجد. فإن قيل: قولهم: (لا نطلب ثمنه إلا إلى الله) ليس من الألفاظ الموجبة للتحبيس والوقف عند الفقهاء، وإنما يوجب التحبيس عندهم قوله: هو حبس صدقة، أو حبس مؤبد، أو حبس فقط عند مالك على ما تقدم. فالجواب: أنه لما اقترن بقولهم: (لا نطلب ثمنه إلا إلى الله) ما علموه أن النبى (صلى الله عليه وسلم) إنما أراد ابتياع الحائط منهم لمكان المسجد، قام ذلك مقام قولهم: هو حبس لله. ولا خلاف أنه لو قال رجل: جعلت دارى هذه مسجدًا. أنها وقف غير مملك. وقولهم: (لا نطلب ثمنه إلا إلى الله) كقولك: طلبت إلى الله، وطلبت من الله بمعنى واحد.
32 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ (إلى) الْفَاسِقِينَ) [المائدة: 106]
/ 39 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَنِى سَهْمٍ مَعَ تَمِيمٍ الدَّارِىِّ وَعَدِىِّ بْنِ بَدَّاءٍ، فَمَاتَ السَّهْمِىُّ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا مُسْلِمٌ، فَلَمَّا قَدِمَا بِتَرِكَتِهِ فَقَدُوا(8/205)
جَامًا مِنْ فِضَّةٍ مُخَوَّصًا مِنْ ذَهَبٍ، فَأَحْلَفَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ وُجِدَ الْجَامُ بِمَكَّةَ، فَقَالُوا: ابْتَعْنَاهُ مِنْ تَمِيمٍ وَعَدِىٍّ بْنِ بَدَّاءٍ، فَقَامَ رَجُلانِ مِنْ أَوْلِيَائِهِ، فَحَلَفَا: (لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا (وَإِنَّ الْجَامَ لِصَاحِبِهِمْ، قَالَ: وَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ (. قال المؤلف: اختلف أهل التأويل فى معنى هذه الآية فروى عن ابن عباس أنه أجاز شهادة أهل الكفر على المسلمين فى الوصية فى السفر. وأخذ بذلك الحديث الشعبى وابن المسيب وجماعة من التابعين، ورأوا الآية محكمة غير منسوخة. وقالت طائفة: الآية منسوخة. وهو قول مالك والكوفيين والشافعى، واحتجوا بقوله تعالى: (ممن ترضون من الشهداء) [البقرة: 282] ، وقالوا: لا يكون أهل الكتاب عدولا ممن ترضى شهادته. وقد تقدمت هذه المسألة فى آخر كتاب الشهادات. وروى ابن جريح عن عكرمة فى هذه الآية قال: (كان تميم الدارى وأخوه نصرانيين وهما من لخم، وكان متجرهما إلى مكة، فلما هاجر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى المدينة حولا متجرهما إلى المدينة فقدم ابن أبى مارية مولى عمرو بن العاص المدينة وهو يريد الشام تاجرًا، فخرجوا جميعًا حتى إذا كانوا ببعض الطريق مرض ابن أبى مارية فكتب وصيته بيده، ثم دسها فى متاعه، وأوصى إليهما، فلما مات فتحا متاعه(8/206)
فوجدوا فيها أشياء فأخذاها، فلما قدما على أهله فتحوا متاعه فوجدوا وصيته قد كتب فيها عهده وما خرجوا به، ففقدوا منه أشياء فسألوهما، فقالا: هذا الذى قبضنا له. فرفعوهما إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) فنزلت هذه الآية إلى: (الآثمين) [المائدة: 106] فأمرهما النبى (صلى الله عليه وسلم) أن يستحلفوهما بالله الذى لا إله إلا هو ما قبضنا غير هذا ولا كتمنا، فمكثا ما شاء الله، ثم ظهر على إناء من فضة منقوش بذهب معهما فقالوا: هذا من متاعه. فقالا: اشتريناه منه. فارتفعوا إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) فنزلت: (فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا فآخران يقومان مقامهما) [المائدة: 107] من أولياء الميت، فأمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) رجلين من أهل الميت فكان يقول: صدق الله ورسوله وبلغ، إنى لأنا أخذت الإناء. والجام إنما يشرب به. وقولهم: مخوص من ذهب يعنى: أنه نقش فيه صفة الخوص وطلى بالذهب، والخوص: ورق النخل والمقل.
33 - باب قَضَاءِ الْوَصِىِّ دُيُونَ الْمَيِّتِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنَ الْوَرَثَةِ
/ 40 - فيه: جَابِرُ (أَنَّ أَبَاهُ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَتَرَكَ سِتَّ بَنَاتٍ، وَتَرَكَ عَلَيْهِ دَيْنًا، فَلَمَّا حَضَرَ جِدَادُ النَّخْلِ، أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ وَالِدِى اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ عَلَيْهِ دَيْنًا كَثِيرًا، وَإِنِّى أُحِبُّ أَنْ يَرَاكَ الْغُرَمَاءُ، قَالَ: اذْهَبْ فَبَيْدِرْ كُلَّ تَمْرٍ عَلَى نَاحِيَتِهِ، فَفَعَلْتُ، ثُمَّ دَعَوْتُهُ،(8/207)