الْوَفْودَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ) ، وَنَسِيتُ الثَّالِثَةَ. قَالَ الْمُغِيرَةَ بْنَ عَبْدِالرَّحْمَنِ: جَزِيرَةِ الْعَرَبِ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَالْيَمَنُ. قَالَ يَعْقُوبُ بْن محمد: وَالْعَرْجُ أَوَّلُ تِهَامَةَ. قال المهلب: فيه سنة إجازة الوفد، وهو من باب الاستئلاف. قال غيره: هذا عام فى جميع الوفود الواردين على الخليفة من الروم كانوا أو من المسلمين؛ لأنهم وإن كانوا من الروم فإنهم لا يأتون إلا بأمر فيه منفعة وصلاح للمسلمين، فلذلك أمر (صلى الله عليه وسلم) بالوصاة بإجازتهم. وأيضًا فإنهم ضيف، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) فى الضيف: جائزته يوم وليلة. ولم يخص فهو عام. قال المهلب: وأما الثالثة التى نسيها المحدث فهى: إنفاذ جيش أسامة، وكان المسلمون اختلفوا فى ذلك على أبى بكر، فأعلمهم أن النبى (صلى الله عليه وسلم) عهد بذلك عند موته. وفيه دليل أن الوصية المدعاة لعلى باطل؛ لأنه لو كان وصيا كما زعموا لعلم قصة جيش أسامة كما علم ذلك أبو بكر، وما جهله، وقوله: هجر رسول الله، قال ابن دريد: يقال: هجر الرجل فى المنطق إذا تكلم بما لا معنى له، وأهجر إذا أفحش.
0 - باب: التَّجَمُّل لِلوُفُود
874 / فيه: ابْنَ عُمَرَ، وَجَدَ عُمَرُ حُلَّةَ إِسْتَبْرَقٍ تُبَاعُ فِى السُّوقِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْتَعْ هَذِهِ الْحُلَّةَ، فَتَجَمَّلْ بِهَا لِلْوُفُودِ وَاِلْعِيدِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) :(5/215)
(إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لا خَلاقَ لَهُ) ، فَلَبِثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِجُبَّةِ دِيبَاجٍ، فَأَقْبَلَ بِهَا عُمَرُ إلى النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْتَ: إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لا خَلاقَ لَهُ، ثُمَّ أَرْسَلْتَ إِلَىَّ بِهَذِهِ، فَقَالَ: (تَبِيعُهَا، أَوْ تُصِيبُ بِهَا بَعْضَ حَاجَتِكَ) . فيه أن من السنة المعروفة التجمل للوفد والعيد بحسن الثياب؛ لأن فى ذلك جمالاً للإسلام وأهله، وإرهابًا على العدو، وتعظيمًا للمسلمين. وقول عمر: (تجمل بها للوفد) يدل أن ذلك من عادتهم وفعلهم. وقال الأبهرى: إنما نهى النبى (صلى الله عليه وسلم) عن الحرير والذهب للرجال؛ لأنه من زى النساء وفعلهم. وقد نهى (صلى الله عليه وسلم) أن يتشبه الرجال بالنساء. وقيل: إنما نهى عن ذلك؛ لأنه من باب السرف والخيلاء، وقد جوز لباسه فى الحرب للترهيب على العدو، وقد تقدم اختلافهم فى ذلك، وسيأتى ما للعلماء فى ذلك فى كتاب اللباس. وفى قول عمر للنبى (صلى الله عليه وسلم) -: (أكسوتنيها يا رسول الله، وقد قلت فى حلة عطارد ما قلت) أنه ينبغى السؤال عما يشكل، وفى حديث النبى أنه كساها له لغير اللباس، فيه من الفقه أنه لا بأس بالتجارة والانتفاع بما لا يجوز لبسه.
1 - باب: كَيْفَ يُعْرَضُ الإِسْلاَمُ عَلَى الصَّبىِّ
875 / وذكر حديث ابْن عُمَرَ، أن الرسول أَقْبَلَ فِى رَهْطٍ قِبَلَ ابْن صَيَّادٍ، حَتَّى وَجَدُوهُ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ. . . . وذكر الحديث. وقد تقدم هذا الباب فى (كتاب الجنائز) فأغنى عن إعادته.(5/216)
2 - باب: إِذَا أَسْلَمَ قَوْمٌ فِى دَار الَحربِ وَلَهٌمْ مَالٌ وَأَرْضونَ فَهِىَ لَهَمْ
876 / فيه: أُسَامَةَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا - فِى حَجَّتِهِ؟ - قَالَ: (وَهَلْ تَرَكَ عَقِيلٌ لَنَا مَنْزِلا) ؟ ثُمَّ قَالَ: (نَحْنُ نَازِلُونَ غَدًا بِخَيْفِ بَنِى كِنَانَةَ الْمُحَصَّبِ حَيْثُ قَاسَمَتْ قُرَيْشٌ عَلَى الْكُفْرِ) ، وَذَلِكَ أَنَّ بَنِى كِنَانَةَ حَالَفَتْ قُرَيْشًا عَلَى بَنِى هَاشِمٍ: أَنْ لا يُبَايِعُوهُمْ وَلا يُؤْوُوهُمْ. قَالَ الزُّهْرِىُّ: وَالْخَيْفُ: الْوَادِى. 1877 / فيه: عُمَرَ، أنَّهُ اسْتَعْمَلَ مَوْلًى يُدْعَى هُنَيًّا، عَلَى الْحِمَى، فَقَالَ: يَا هُنَىُّ، اضْمُمْ جَنَاحَكَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ، وَأَدْخِلْ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ وَالْغُنَيْمَةِ، وَإِيَّاىَ وَنَعَمَ ابْنِ عَوْفٍ، وَنَعَمَ ابْنِ عَفَّانَ، فَإِنَّهُمَا إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا يَرْجِعَا إِلَى نَخْلٍ وَزَرْعٍ، وَإِنَّ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ وَالْغُنَيْمَةِ إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا يَأْتِنِى بِبَنِيهِ، فَيَقُولُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَفَتَارِكُهُمْ أَنَا لا أَبَا لَكَ؟ فَالْمَاءُ وَالْكَلأ أَيْسَرُ عَلَىَّ مِنَ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَايْمُ اللَّهِ إِنَّهُمْ لَيَرَوْنَ أَنِّى قَدْ ظَلَمْتُهُمْ إِنَّهَا لَبِلادُهُمْ، فَقَاتَلُوا عَلَيْهَا فِى الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَسْلَمُوا عَلَيْهَا فِى الإسْلامِ، وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَوْلا الْمَالُ الَّذِى أَحْمِلُ عَلَيْهِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ مَا حَمَيْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ بِلادِهِمْ شِبْرًا. قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: لما أسلم أهل مكة عام الفتح مَنَّ عليهم النبى (صلى الله عليه وسلم) وترك لهم أموالهم ودماءهم، ولم ينزل فى شيء منها لمنه عليهم بها، ونزل فى الوادى، وكذلك كان يفعل بهوازن لو بدرت بإسلامها، فلما استأنت قسم النبى (صلى الله عليه وسلم) الغنيمة بين أصحابه، فلما جاءوا بعد القسمة خيرهم فى إحدى الطائفتين: المال أو السبى، فقضى به رسول الله(5/217)
لهم، واستطاب أنفس أصحابه، وقال: من لم تطب نفسه فليبق إلى أول مغنم يفيئه الله علينا، وقضى لأهل مكة بأموالهم، ولم يستطب نفوس أصحابه؛ لأنه مال الله على اجتهاده، لا شيء للغانمين فيه إلا أن يقسمه لهم لقوله: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا (فآتاهم الرسول بهذه الآية أرض خيبر فقسمها بينهم، ونهاهم فى مكة فانتهوا، ونهاهم عمر عن الأرض المغنومة بالشام والعراق بهذه الآية فلم يقسمها لهم. قال المهلب: وإنما أدخل هنى تحت هذه الترجمة؛ لأن أهل المدينة أسلموا عفوًا فكانت لهم أموالهم؛ ألا ترى أنه ساوم بمكان المسجد بنى النجار وقال: (ثامنونى بحائطكم) فأوجبه لهم. وكذلك قال عمر: إنها لأرضهم قاتلوا عليها فى الجاهلية، وأسلموا عليها فى الإسلام. فأوجبها لهم، وهذا كله يشهد لهذه الترجمة أن من أسلم فى أرض الحرب فأرضه له ما لم يغلب عليها. وسئل مالك عن إمام قبل الجزية من قوم فأسلم منهم أحد، أتكون أرضه له وماله؟ فقال مالك: ذلك يختلف، أما الصلح فمن أسلم منهم فهو أحق بأرضه وماله، وأما أهل العنوة فمن أسلم منهم فماله وأرضه فيء للمسلمين؛ لأن أهل العنوة قد غلبوا على بلادهم فهى فيء لمن من عليهم، وأما أهل الصلح فإنهم قوم منعوا أنفسهم وأموالهم حتى صالحوا عليها فليس عليهم إلا ما صولحوا عليه. وقول مالك فى هذا إجماع من العلماء. واختلفوا إذا أسلم فى دار الحرب، وبقى فيها ماله وولده، ثم خرج إلينا مسلمًا، وغزا مع المسلمين بلده.(5/218)
فقال الشافعى وأشهب وسحنون أنه قد أحرز ماله وعقاره حيث كان وولده الصغار؛ لأنهم تبع لأبيهم فى الإسلام، وحجتهم أنه إذا أسلم كان ماله حيث كان من دار الحرب أو غيرها على ملكه، فإذا غنمت دار الحرب كان حكم ماله كحكم مال المسلمين ولم تزل الغنيمة ملكه عنه. وقال مالك والليث: أهله وماله وولده فيء على حكم البلد كما كانت دار النبى (صلى الله عليه وسلم) على حكم البلد وملكهم ولم ير نفسه (صلى الله عليه وسلم) أحق بها. وفرق أبو حنيفة بين حكمها إذا أسلم فى بلده، ثم خرج إلينا؛ فأولاده الصغار أحرار مسلمون وما أودعه مسلمًا أو ذميا فهو له، وما أودعه حربيا فهو وسائر عقاره هنالك فيء. وإذا أسلم فى بلد الإسلام ثم ظهر المسلمون على بلده فكل ماله فيه فيء لاختلاف حكم الدارين عندهم. ولم يفرق مالك ولا الشافعى بين إسلامه فى داره أو فى دار الإسلام. قال المهلب: وفيه أن للإمام أن يحمى أراضى الناس المبورة لغنم الصدقة ومنفعة تشمل المسلمين، كما حمى عمر هذا الحمى لإبل الصدقة وغنمها، وهو الحمى الذى زاد فيه عثمان فأنكر عليه، وليس لأحد أن ينكر هذا على عثمان؛ لأنه لما رأى عمر فعل ذلك جاز لعثمان أن يحمى أكثر إذا احتاج إليه لكثرة الصدقة فى أيامه. وقوله: (اضمم جناحك عن الناس) أى: لا تشد على كل الناس فى الحمى؛ فإن ضعفاء الناس القليلى الغنم والإبل الذى لا تنتهك(5/219)
ماشيته الحمى إن حميته عنه كان ظلمًا، فاتق دعوته؛ فإنها لا تحجب من الله. وقوله: (وإياى ونعم ابن عوف وابن عفان) حذره أن يدخل الحمى؛ فإنها كثيرة، فإن دخلته أنهكته، فإن منعت الدخول وهلكت كان لأربابها عوض من أموالهم يعيشون فيه، ومن ليس له غير الصريمة القليلة إن هلكت أتى يستغيث أمير المؤمنين فى الإنفاق عليه وعلى بنيه من بيت المال. وفيه: جواز الحمل على من له مال ببعض المضرة الداخلة عليه فى ماله إذا كان فى ذلك نظر لغيره من الضعفاء. وقوله: (لولا المال) يريد الإبل التى يحمل عليها المجاهدون فى سبيل الله من نعم الصدفة التى حمى لها الحمى لترعى فيه مدة أيام النظر فى الحمل عليها. وفيه: دليل على أن مسارح القرى وعوامرها التى ترعى فيها مواشى أهلها من حقوق أهل القرية وأموالهم، وليس للسلطان منعه إلا أن تفضل منه فضلة. ومعنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا حمى إلا لله ولرسوله) معناه: لا حمى لأحد يخص به نفسه، وإنما هو لله ورسوله، أو لمن ورث ذلك عنه (صلى الله عليه وسلم) من [. . . .] الشامل للمسلمين وما يحتاجون إلى حمايته.(5/220)
3 باب: كِتَابَةِ الإِمَامِ النَّاسَ
878 / فيه: حُذَيْفَةَ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (اكْتُبُوا لِى مَنْ تَلَفَّظَ بِالإسْلامِ مِنَ النَّاسِ) ، فَكَتَبْنَا لَهُ أَلْفًا وَخَمْسَ مِائَةِ رَجُلٍ، فَقُلْنَا: نَخَافُ وَنَحْنُ أَلْفٌ وَخَمْسُ مِائَةٍ؟ فَلَقَدْ رَأَيْتُنَا ابْتُلِينَا حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّى وَحْدَهُ، وَهُوَ خَائِفٌ. وروى أَبُو حَمْزَةَ، عَنِ الأعْمَشِ: (خَمْسَ مِائَةٍ) . وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: (مَا بَيْنَ سِتِّ مِائَةٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةٍ) . 1879 / وفيه: ابْن عَبَّاس، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى كُتِبْتُ فِى غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، وَامْرَأَتِى حَاجَّةٌ، قَالَ: (ارْجِعْ فاحجج مَعَ امْرَأَتِكَ) . قال المهلب: فيه أن كتابة الإمام الناس سنة من النبى (صلى الله عليه وسلم) عند الحاجة إلى الدفع عن المسلمين، فيتعين حينئذ فرض الجهاد على كل إنسان يطيق المدافعة إذا نزلت بأهل ذلك البلد مخافة. وفيه: أن وجوب ذلك لا يتعدى المسلمين، وليس على أهل الذمة بواجب؛ لأن المسلمين إنما يدافعون عن كلمة التوحيد، وليس على أهل الذمة بواجب؛ لأن المسلمين يدافعون عن أموالهم وذراريهم، ولصيانتها بذلوا لنا الجزية فعلينا حمايتهم والدفع عنهم. وفيه: العقوبة على الإعجاب بالكثرة.
4 باب: إِنَّ اللَّه يُؤِّيُد الدِّينَ بَالرَّجُلِ الفَاجِرِ
880 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَشَهِدْنَا مَعَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ لِرَجُلٍ، مِمَّنْ يَدَّعِى الإسْلامَ: (هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ) ، فَقَاتَلَ الرَّجُلُ قِتَالا شَدِيدًا، وَأَصَابَتْهُ(5/221)
جِرَاحَةٌ، فَلَمْ يَصْبْر فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنِّى رسُول اللَّه، وَأَمَرَ بِلالا، يَنَادَى فِى النَّاسِ: (إِنَّهُ لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلا نَفْسٌ مُؤمنة، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ) . قال المهلب: هذا مما أعلمنا النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه ممن نفذ علينا الوعيد من الفجار المذنبين، لا أن كل من قتل نفسه أو غيره يقضى عليه بالنار ولا يعارض هذا الحديث قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إنا لا نستعين بمشرك) لأن المشرك غير المسلم الفاجر، وقوله: (إنا لا نستعين بمشرك) قد يكون خاصا فى ذلك الوقت؛ لأنه قد استعان بصفوان بن أمية فى هوازن، واستعار منه (صلى الله عليه وسلم) مائة درع [. . . . .] ، وخرج معه صفوان بن أمية حتى قالت له هوازن: تقاتل مع محمد ولست على دينه؟ فقال: رب من قريش خير من رب من هوازن. وقد غدا معه المنافقون وهو يعلم نفاقهم وكفرهم. وقوله: (إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر) يشتمل على المسلم والكافر، فيصح أن قوله: (لا نستعين بمشرك) خاص فى ذلك الوقت، والله أعلم. وفيه من أعلام النبوة إخباره (صلى الله عليه وسلم) بالغيب الذى لا يدرك مثله إلا بالوحى. وفيه جواز إعلام الرجل الصالح بفضيلة تكون فيه والجهر بها لتبلغ معانديه من أهل الباطل والقدح فى فضائله، فيحزنهم ذلك ويعلمون ثباته وشدته على الحق.(5/222)
5 باب: مَنْ تَأَمَرَ فِى الحَرْبِ مِنْ غَيْرِ إِمْرَةِ إِذَا خَافَ العَدُوَّ
880 / فيه: أَنَس، خَطَبَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ، فَفُتِحَ عَلَيْهِ، وَمَا يَسُرُّهُمْ أَنَّهُمْ عِنْدَنَا) ، وَإِنَّ عَيْنَيْهِ لَتَذْرِفَانِ. قال المهلب: فى قوله: (ثم أخذها خالد بن الوليد من غير إمرة ففتح له) . فيه من الفقه أن من رأى للمسلمين عورة قد بدت أن يتناول سد خللها إذا كان مستطيعا لذلك وعلم من نفسه منة وجزالة وهذا المعنى امتثل على بن أبى طالب فى قيامه عند قتل عثمان بأمر المسلمين بغير شورى بينهم واجتماع لأنه خشى على الناس الضيعة وتفرق الكلمة التى آل أمر الناس أليها وعلم إقرار جميع الناس بفضله وأن أحدًا لا ينازعه فيه. قال غيره: وروى البخارى فى المغازى عن ابن عمر قال: أمر رسول الله فى غزوة مؤتة زيد بن حارثة فقال رسول الله: (إن قتل زيد فجعفر وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحه) فبان بهذا الحديث أن جعفرًا وعبد الله إنما تقدما إلى أخذ الراية بتقديم الرسول لهما وتوليته إياهما. ففى هذا من الفقه أن الإمام يجوز له أن يجعل ولاية العهد بعده لرجل، ثم يقول: فإن مات قبل موتى فإن الولاية لفلان رجل آخر يستحق ذلك فإن مات المولى أولا فالعقد الثانى ثابت. فإن قيل: كيف يصح ذلك ولا يخلو أن تنعقد ولاية الثانى فى الحال أو لا تنعقد. فإن كانت منعقدة صارت الإمامة ثابتة لإمامين، وذلك لا يجوز، وإن لم تنعقد للثانى فى الحال فقد جوزتم ابتداء عقدها على شرط وصفة. قيل: إنما جوزنا استخلاف الاثنين على سبيل الترتيب إذا ترتبا فى(5/223)
ولاية العهد. ولو قيل: إن عقد الولاية ينعقد لأحدهما لا بعينه وتتعين لمن انعقدت له عند موت الإمام القائد كان سابقًا، ألا ترى أن عمر لم يعين على أحد من الستة فى الشورى، وانعقدت لأحدهم الولاية من جهته، وتعين الواحد منهم بعد موته ووقوع الاختيار من بينهم عليه. فإن قيل: إن الولاية تنعقد للأول، وإن الثانى إنما وقع عليه الاختيار من غير أن تنعقد له ولاية فى الحال لتنعقد فى الثانى، فيلزم الأمة حينئذ اتباعه باختيار الإمام له، وإن اختياره لهم أولى من نظر من يولى الاختيار منهم لكافتهم كان له وجه، يتعلق ذلك بالمصلحة العامة والنظر للكافة، وقد وردت السنة بمثله، وأجمعت الأمة على استعماله. ولى رسول الله زيد بن حارثة على الجيش الذى جهزه إلى مؤتة، فإن قتل فأميره جعفر بن أبى طالب بعده، ثم إمارة عبد الله بن رواحة بعده، فإن ولى الإمام وليا بعده، وقال: إن مات بعد إفضاء الخلافة إليه بعدى لا قبل فالإمام بعده فلان انعقدت ولاية الأول وصار إمامًا عند موت المتخلف، فكان لولى العهد فى حياته أن يختار غيره لولاية العهد؛ لأن الحق فى الاختيار حينئذ يصير إليه بإفضاء الإمامة إليه، قاله بعض أهل العراق.
6 باب: العَوْن بِالمدَدِ
881 / فيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، أَتَاهُ رِعْلٌ وَذَكْوَانُ وَعُصَيَّةُ وَبَنُو لَحْيَانَ، فَزَعَمُوا أَنَّهُمْ قَدْ أَسْلَمُوا، وَاسْتَمَدُّوهُ عَلَى قَوْمِهِمْ، فَأَمَدَّهُمُ(5/224)
- عليه السلام - بِسَبْعِينَ مِنَ الأنْصَارِ، كُنَّا نُسَمِّيهِمُ الْقُرَّاءَ، يَحْتَطِبُونَ بِالنَّهَارِ وَيُصَلُّونَ بِاللَّيْلِ، فَانْطَلَقُوا بِهِمْ حَتَّى بَلَغُوا بِئْرَ مَعُونَةَ غَدَرُوا بِهِمْ فَقَتَلُوهُمْ، فَقَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَليهم. قَالَ أَنَس: وقَرَءُوا بِهِمْ قُرْآنًا: أَلا بَلِّغُوا عَنَّا قَوْمَنَا بِأَنَّا قَدْ لَقِيَنَا رَبَّنَا فَرَضِىَ عَنَّا وَأَرْضَانَا، ثُمَّ رُفِعَ بَعْدُ ذَلِكَ. قال المهلب: فيه أن السنة مضت من النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى أن يمد ثغوره بمدد من عنده، وجرى بذلك العمل من الأئمة بعده. وفيه: الدعاء فى الصلاة على أهل العصيان والشرك، وإنما ذلك على قدر جرائمهم. وفيه: أنه قد يجوز النسخ فى الأخبار على صفة ولا تكون كليا، إما يكون نسخه ترك تلاوته فقط، كما أن نسخ الأحكام ترك العمل بها، فربما عوض من المنسوخ من الأحكام حكمًا غيره، وربما لم يعوض فى النسخ من الأحكام. منه أمره يعلى بالصدقة عند مناجاة الرسول، ثم عفى عنا بغير عوض من الشرع بنسخه، بل ترك العمل به، وكذلك الأخبار نسخها من القرآن رفع ذكرها، وترك تلاوتها لآثار تكتب بخبر آخر مضاد لها مثله. مما نسخ من الأخبار ما كان يقرأ فى القرآن: (لو أن لابن آدم واديين من ذهب لا بتغى لهما ثالثًا) .
7 - باب مَنْ غَلَبَ الْعَدُوَّ فَأَقَامَ عَلَى عَرْصَتِهِمْ ثَلاثًا
882 / فيه: أَنَس، عَنْ أَبِى طَلْحَةَ، أن النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، كَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ، أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ ثَلاثَ لَيَالٍ.(5/225)
قال المهلب: كان هذا منه والله أعلم ليريح الظهر والأنفس، هذا إذا كان فى أمن من عدو وطارق، وإنما قصد إلى ثلاث والله أعلم لأنه أكثر ما يريح المسافر؛ لأن الأربعة إقامة بحديث العلاء بن الحضرمى، وحديثه الآخر: (لا يبقين مهاجر بمكة بعد قضاء نسكه فوق ثلاث) ولقسمة الغنائم.
8 - باب مَنْ قَسَمَ الْغَنِيمَةَ فِى غَزْوِهِ وَسَفَرِهِ
وَقَالَ رَافِعٌ: كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِذِى الْحُلَيْفَةِ، فَأَصَبْنَا غَنَمًا وَإِبِلا، فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنَ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ. 1883 / فيه: أَنَس، اعْتَمَرَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) مِنَ الْجِعْرَانَةِ، حَيْثُ قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ. قال المهلب: هذا إلى نظر الإمام واجتهاده يقسم حيث رأى الحاجة والأمن، ويؤخر إذا رأى فى المسلمين غنى، وخاف. وممن أجاز قسمة الغنائم فى دار الحرب: مالك والأوزاعى والشافعى وأبو ثور. وقال أبو حنيفة: لا تقسم الغنائم فى دار الحرب. والصواب قول من أجاز ذلك للسنة الواردة فيه، روى ابن القاسم عن مالك قال: الشأن قسمة الغنيمة فى دار الحرب؛ لأنهم أولى برخصها، وما عدل من البعير بعشرة شياه فليس بأمر لازم. فى قوله: (عدل) دليل على أن المعادلة والنظر فيها فى كل بلد؛ لأن البعير فى الحجاز له قيمة زائدة ولأكل لحمه عادة جارية، وليس كذلك فى غيره من البلاد، وإنما هو إلى الاجتهاد فى كل بلدة. وفيه دليل على جواز بيع اللحم باللحم متفاضلا من غير جنسه أيضًا.(5/226)
9 باب: إِذَا غَنِمَ المشْرِكُونَ مَالَ المسْلِمِ ثُمَّ وَجَدُه المسْلِمُ
884 / فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّهُ أَبَقَ له غلامٌ فَلَحِقَ بِالرُّومِ، فَظَهَرَ عَلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَرَدَّهُ عليه، وَأَنَّ فَرَسًا لَهُ عَارَ فَلَحِقَ بِالرُّومِ فَظَهَرَ عَلَيْهِ، فَرَدُّوهُ عليه. 1885 / وقال مرة: أَنَّهُ كَانَ عَلَى فَرَسٍ يَوْمَ لَقِىَ الْمُسْلِمُونَ، وَأَمِيرهم يَوْمَئِذٍ خَالِدُ، بَعَثَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَأَخَذَهُ الْعَدُوُّ، فَلَمَّا هُزِمَ الْعَدُوُّ، رَدَّ خَالِدٌ فَرَسَهُ. اختلف العلماء فى ملك أهل الحرب، هل يملكون علينا؟ فإن غنمناه وجاء صاحبه قبل القسمة أخذه بغير شيء، وإن جاء بعد القسمة أخذه بالقيمة، وهو قول عمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب وزيد بن ثابت، ومن التابعين سعيد بن المسيب وعطاء والقاسم وعروة، وبه قال أحمد بن حنبل. وقال الحسن البصرى والزهرى: لا يرد إلى صاحبه قبل القسمة ولا بعدها. وقال الشافعى: لا يملك أهل الحرب علينا بالغلبة ولصاحبه أخذه قبل القسمة وبعدها بغير شىء. واحتج الشافعى بحديث حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبى قلابة، عن أبى المهلب، عن عمران بن حصين قال: (أغار المشركون على سرح المدينة وأخذوا العضباء وامرأة من المسلمين، فلما كان فى الليل قامت المرأة وقد ناموا، فركبت العضباء وتوجهت قبل المدينة، ونذرت لئن نجاها الله لتنحرنها، فلما قدمت المدينة عرفت الناقة، فأتوا بها النبى (صلى الله عليه وسلم) فأخبرته المرأة بنذرها فقال: بئسما جزيتها، لا نذر فيما لا يملك ابن آدم، ولا نذر فى معصية) وزاد عبد الوهاب الثقفى قال: قال أبو أيوب السختيانى: فأخذها النبى، (صلى الله عليه وسلم)) فهذا دليل على أن(5/227)
أهل الحرب لا يملكون علينا بغلبة ولا غيرها، ولو ملكوا علينا لملكت المرأة الناقة كسائر أموالهم لو أخذت شيئًا منها، ولو ملكتها لصح فيها نذرها. وحجة مالك والجماعة حديث ابن عمر فى الغلام والفرس وأنهما رُدّا عليه قبل القسمة، وأيضًا ما رواه عبد الملك بن ميسرة، عن طاوس، عن ابن عباس: (أن رجلا وجد بعيرًا له كان المشركون أصابوه، فقال رسول الله: إن أصبته قبل أن يقسم فهو لك، وإن أصبته بعد ما قسم أخذته بالقيمة) . قال ابن القصار: فدل على أن أهل الحرب قد ملكوه على المسلمين وصارت لهم يد عليه، ألا ترى أنه لو كان باقيًا على ملك مالكه لم يختلف حكم وجوده قبل القسمة وبعدها، والذى يقوى هذا أن العدو لو أتلفه ثم أسلم لم يتبع بقيمته، ولو أتلفه مسلم على مسلم لزمه غرمه، ولما جاز أن يملك المسلم على الكافر بالقهر والغلبة جاز أن يملك الكافر عليه بذلك. ودليل آخر: وهو قوله (صلى الله عليه وسلم) : (وهل ترك لنا عقيل منزلا) وكان عقيل استولى على دور النبى (صلى الله عليه وسلم) وباعها فلولا أن عقيلا ملكها بالغلبة وباعها لأبطل النبى (صلى الله عليه وسلم) بيعها ولم يجز تصرفه؛ لأن بيع ما لا يصح ملكه لا حكم له. فإن قيل: خبر ابن عباس رواه الحسن بن عمارة وهو ضعيف؛ فإن الطحاوى ذكر أن على بن المدينى روى عن يحيى عن شعبة أنه سأل مسعرًا عن هذا الحديث فقال: هو من حديث عبد الملك بن ميسرة فأثبته من حديثه فدل أنه قد رواه غير الحسن بن عمارة فاستغنى عن روايته بشهرته عن عبد الملك بن ميسره. وأما خبر الناقة والمرأة فلا حجة لهم فيه لأن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لانذر لابن آدم فيما لا يملك) إنما كان قبل أن تملك المرأة الناقة(5/228)
لأنها قالت ذلك وهى فى دار الحرب، وكل الناس تقول: إن من أخذ شيئًا من أهل الحرب فلم ينجح به إلى دار الإسلام أنه غير محرز له / ولا يقع عليه ملكه حتى يخرج به إلى دار الإسلام. فلهذا قال (صلى الله عليه وسلم) : (لا نذر لابن آدم فيما لا يملكه) هذا وجه الحديث. وقال ابن القصار: ما أحرزه المشركون وخرج عن أيديهم إلى المسلمين، فإن لم يقع فى المقاسم ولا حصل بيد إنسان بعوض فإنه يعود إلى ملك صاحبه، فالمرأة لما أخذت الناقة بغير عوض انتقل ملكها عن المشركين وحصل للنبى (صلى الله عليه وسلم) فأما إذا قسمت الغنائم وحصل الشيء فى يد أحد حصلت له شبهة ملك لأجل أنه حصل له بعوض؛ لأن الغانمين قد اقتسموا وتفرقوا، فإن أعطاه الإمام القيمة جاز، وإن لم يعطه لم يأخذه صاحبه إلا بعوض؛ لأن القسم حكم الإمام مع كون شبهه يد الكفار فيصير للغانم بحكم الإمام. قال الطحاوى: والدليل أن المرأة لما أخذت الناقة انتقل ملكها للنبى (صلى الله عليه وسلم) ما رواه سفيان، عن سماك بن حرب، عن تميم بن طرفة: (أن رجلا أصاب العدو له بعيرًا، فاشتراه رجل منهم، فجاء به فعرفه صاحبه، فخاصمه إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) فقال: إن شئت أعطه ثمنه الذى اشتراه به وهو لك، وإلا فهو له) فهذا وجه الحكم فى هذا الباب من طريق الآثار. وأما من طريق النظر فرأينا النبى (صلى الله عليه وسلم) حكم فى مشترى البعير من أهل الحرب أن لصاحبه أن يأخذه منه بالثمن وكان قد تملكه المشترى من الحربيين، كما يملك الذى يقع فى سهمه من الغنيمة ما يقع فى سهمه منها، فالنظر على ذلك أن يكون الإمام إذا قسم الغنيمة(5/229)
فوقع منها فى يد رجل شيء، وإن كان أسر ذلك من يد آخر أن يكون المأسور من يده من الذى وقع فى سهمه بقيمته، كما يأخذ من يد مشتريه بثمنه. وقوله: (إن فرسًا عار) قال صاحب العين: يقال: عار الفرس والكلب وغير ذلك عيارًا: أفلت وذهب فى الناس. قال الطبرى: يقال ذلك للفرس إذا فعله مرة بعد مرة، ومنه قيل للبطال من الرجال الذى لا يثبت على طريقة: عيار، ومنه سهم عائر: لا يدرى من أين أتى.
0 - باب مَنْ تَكَلَّمَ بِالْفَارِسِيَّةِ وَالرَّطَانَةِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ) [الروم: 22]
886 / فيه: جَابِر، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا، وَطَحَنْتُ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، فَتَعَالَ أَنْتَ وَنَفَرٌ، فَصَاحَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (يَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ، إِنَّ جَابِرًا قَدْ صَنَعَ سُؤْرًا، فَحَىَّ هَلا بِكُمْ) . 1887 / وفيه: أُمِّ خَالِدٍ، أَتَيْتُ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مَعَ أَبِى، وَعَلَىَّ قَمِيصٌ أَصْفَرُ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (سَنَهْ، سَنَهْ) ، - وَهِىَ بِالْحَبَشِيَّةِ: حَسَنَةٌ - قَالَتْ: فَذَهَبْتُ أَلْعَبُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ، فَزَبَرَنِى أَبِى، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (دَعْهَا) ، مرتين، ثُمَّ قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (أَبْلِى وَأَخْلِقِى) ، ثلاث مرات، فَبَقِيَتْ حَتَّى ذَكَرَ، دكن. 1888 /(5/230)
وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِىٍّ أَخَذَ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَجَعَلَهَا فِى فِيهِ، فَقَالَ له النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (كِخْ، كِخْ، أَمَا تَعْرِفُ أَنَّا لا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ) . السؤر: الوليمة بالفارسية. قال المؤلف: معنى هذا الباب فى تأمين المسلمين لأهل الحرب بلسانهم ولغتهم أن ذلك أمان لهم؛ لأن الله تعالى يعلم الألسنة كلها. وأيضًا فإن الكلام بالفارسية يحتاج إليه المسلمون للتكلم به مع رسل العجم. قد أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) زيد بن ثابت أن يتكلم بلسان العجم، ولذلك أدخل البخارى عن الرسول أنه تكلم بألفاظ من الفارسية كانت متعارفة عندهم معلومة وفهمها عنه أصحابه، فالعجم أحرى أن يفهموها إذا خوطبوا بها؛ لأنها لغتهم. وسيأتى زيادة فى هذا المعنى فى باب (قوله: إذا قالوا صبأنا ولم يحسنوا أسلمنا) بعد هذا إن شاء الله. قال المهلب: أما دعاؤه بأهل الخندق أجمع لطعام جابر؛ فإنما فعله لأنه علم منهم حاجة إلى الطعام، وعلم أنه طعام قد أذن له فيه ببركته ليكون آية وعلامة للنبوة، فلذلك دعاهم أجمع، ولم يدع السادس إلى دار الخياط واستأذن الخياط أن يدخل معهم لتكون لنا سنة، ولأنه طعام لم يؤذن له فى إتيانه، وإن كان كل طعامه فيه بركة؛ ولكن بركة تكون آية وعلامة فليس هذا من ذلك الطعام. وفيه مداعبة النبى (صلى الله عليه وسلم) للأطفال فى اللعب بحضرة آبائهم وغيرهم، وكان (صلى الله عليه وسلم) على خلق عظيم.(5/231)
وقوله: (أبلى وأخلقي) هو كلام معروف عند العرب معناه الدعاء بطول البقاء، قال صاحب الأفعال: يقال: أبل وأخلقه: أى عش فخرق ثيابك وارقعها. وخلقت الثوب: أى أخرجت باليه ولفقته. وقوله: (فزبرني) يعنى: انتهرنى، عن أبى علي. وقد تقدم تفسير (كخ كخ) فى كتاب الزكاة فى باب (ما يذكر فى الصدقة للنبى (صلى الله عليه وسلم)) . وفيه: حمل الصبيان وتدريبهم على الشرائع، والتجنب بهم الحرام والمكروه، وقد تقدم هذا المعنى بزيادة فيه فى كتاب الزكاة فى باب (أخذ صدقة التمر عند صرام النخل) . وفيه: مخاطبة الصبيان بما يخاطب به الكبار الفهماء إذا فهموا، وهذه المخاطبة وإن كانت للحسن ففيها تعريف للسلمين أنه لا يأكل الصدقة. والرطانة كلام العجم، قال صاحب الأفعال: يقال: رطن رطانة، إذا تكلم بلسان العجم. وقوله: (فحى هلا بكم) قال الفراء: معنى (حي) عند العرب هلم وأهل. فالمعنى هلموا إلى طعام جابر وأقبلوا إليه، ومثله قول المؤذن: (حى على الصلاة) أى: أقبلوا إليها، وفتحت الياء من (حي) لسكونها وسكون الياء التى قبلها، كما قالوا: ليت ولعل. ومنه قول ابن مسعود: إذا ذكر الصالحون فحى هلا، وحى هَلَ، وحى هَلْ، وحى أهلا آل عمر، وحى هلا على عمر.(5/232)
1 - باب الْغُلُولِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يوم القيامة) [آل عمران: 161]
889 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَامَ فِينَا النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَذَكَرَ الْغُلُولَ، فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ، وَقَالَ: (لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ عَلَى رَقَبَتِهِ، فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ، يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَغِثْنِى، فَأَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ. وَعَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَغِثْنِى، فَأَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ. وَعَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَغِثْنِى، فَأَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ بْلَغْتُكَ. أَوْ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَغِثْنِى، فَأَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ بْلَغْتُكَ) . قال المهلب: هذا الحديث على سبيل الوعيد من الله لمن أنفذه عليه من أهل الغلول، وقد تكون العقوبة حمل البعير وسائر ما غله على رقبته على رءوس الأشهاد وفضيحته به، ثم الله مخير بعد ذلك فى تعذيبه بالنار أو العفو عنه، فإن عذبه بناره أدركته الشفاعة إن شاء الله، وإن لم يعذبه بناره فهون واسع المغفرة. وقوله: (لا أملك لك من الله شيئًا) أى: من المغفرة والشفاعة حتى يأذن الله فى الشفاعة لمن أراد، كما قال تعالى: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى (. وفيه: أن العقوبات قد تكون من جنس الذنوب. وهذا الحديث يفسر قوله: (يأت بما غل يوم القيامة (أنه يأتى(5/233)
يحمله على رقبته ليكون أبلغ فى فضيحته وليتبين للأشهاد جنايته، وحسبك بهذا تعظيمًا لإثم الغلول وتحذير أمته. وقوله: (صامت) هو الذهب والفضة. وقال ابن المنذر: وأجمع العلماء أن على الغال أن يرد ما غل إلى صاحب المقسم ما لم يفترق الناس. واختلفوا فيما يفعل بذلك إذا افترق الناس، فقالت طائفة: يدفع إلى الإمام خمسه ويتصدق بالباقى، هذا قول الحسن البصرى والليث والثورى، وروى معناه عن معاوية ابن أبى سفيان، وروى عن ابن مسعود أنه رأى أن يتصدق بالمال الذى لا يعرف صاحبه، وروى معناه عن ابن عباس. قال أحمد فى الحبة والقيراط [. . . . .] على الرحل ولا يعرف موضعه: يتصدق به. وكان الشافعى لا يرى الصدقة به وقال: لا أرى الصدقة به وجهًا، إنه إن كان ماله فليس عليه أن يتصدق به، وإن كان لغيره فليس عليه الصدقة بمال غيره.
2 - باب الْقَلِيلِ مِنَ الْغُلُولِ
وَلَمْ يَذْكُرْ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَنَّهُ حَرَّقَ مَتَاعَهُ وَهَذَا أَصَحُّ. 1890 / فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، كَانَ عَلَى ثَقَلِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: كِرْكِرَةُ، فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (هُوَ فِى النَّارِ) ، فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَوَجَدُوا عَبَاءَةً، قَدْ غَلَّهَا.(5/234)
قال المهلب: هذا يشبه ما قبله، أى أنه فى طريق النار إن أنفذ الله عليه الوعيد. وقول البخارى: (وهذا أصح) يعى: حديث عبد الله بن عمرو (أن رسول الله لم يحرق رحل كركرة حين وجد فيه الغلول) . وحديث ابن عمر انفرد به صالح بن محمد بن زائدة عن سالم، وهو ضعيف مدنى، تركه مالك، وليس ممن يحتج بحديثه. وقد قال قوم من العلماء بحديث ابن عمر أنه يحرق رحل الغال. قال الحسن البصرى: يحرق متاعه كله إلا أن يكون حيوانًا أو مصحفًا. وقال مكحول وسعيد بن عبد العزيز والأوزاعى: يحرق متاعه كله. وقال الأوزاعى: إلا ما غل وسلاحه وثيابه التى عليه. وقال مالك وأبو حنيفة والليث والثورى والشافعى: إنه يعزر ولا يحرق رحله. وقد ذكرنا إجماع الفقهاء أن على الغال أن يرد ما غل إلى صاحب المقاسم وهى توبة له. وقال الطحاوى: ولو صح حديث ابن عمر لاحتمل أن يكون حيث كانت العقوبات فى الأموال، كما قال فى مانع الزكاة، وفى ضالة الإبل غرامتها مثليه وجلدات نكال، وهذا كله منسوخ. وفى هذا الحديث تحريم قليل الغلول وكثيره كما قال (صلى الله عليه وسلم) للذى أتاه بالشراك من المغنم قال: (شراك أو شراكان من نار) وقال فى الشملة: (إنها تشتعل عليه نارًا يوم القيامة) .(5/235)
3 - باب: مَا يُكْرَهُ مِنْ ذَبْحِ الإِبلِ والغَنَمِ فِى المَغَانمِ
891 / فيه: رَافِعٍ، كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِذِى الْحُلَيْفَةِ، فَأَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ، وَأَصَبْنَا إِبِلا وَغَنَمًا، وَكَانَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِى أُخْرَيَاتِ النَّاسِ، فَعَجِلُوا، فَنَصَبُوا الْقُدُورَ، فَأَمَرَ بِالْقُدُورِ فَأُكْفِئَتْ، ثُمَّ قَسَمَ، فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنَ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ، فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ وَفِى الْقَوْمِ خَيْلٌ يَسِيرَةٌ، فَطَلَبُوهُ فَأَعْيَاهُمْ، فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ اللَّهُ، فَقَالَ: (هَذِهِ الْبَهَائِمُ لَهَا أَوَابِدُ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَمَا نَدَّ عَلَيْكُمْ فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا) . قال المهلب: إنما أمر رسول الله بإكفاء القدور من لحوم الإبل والبقر وأكلها جائز، فيء دار الحرب بغير إذن الإمام عند العلماء. هذا قول مالك والليث والأوزاعى والشافعى وجماعة من العلماء رخصوا فى ذبح الأنعام فى بلاد العدو للأكل وفى أكل الطعام؛ لأن هؤلاء الذين أكفئت عليهم القدور إنما ذبحوه بذى الحليفة وهى أرض الإسلام، وليس لهم أن يأخذوا فى أرض الإسلام إلا ما قسم لهم؛ لأنها غنيمة فاضلة، وإباحة الأكل من المغنم إنما هو فى أرض العدو وقبل تخليص الغنيمة وإحرازها، فهذا الفرق بينهما. وقد قال الثورى والشافعى: إن ما أخذه المرء من الطعام فى أرض العدو فيفضل منه فضلة وتقدم بها إلى بلدة الإسلام أنه يردها إلى الإمام. وقال أبو حنيفة: يتصدق به، فكيف من يتسور فيه فى أرض الإسلام ويأخذه بغير إذن الإمام؟ ورخص مالك فى فضلة الزاد مثل الخبز واللحم إذا كان يسيرًا لا بال له. وهو قول أحمد بن حنبل. وقال الليث: أحب إلى إذا دنا من أهله أن يطعمه أصحابه. وقال الأوزاعى: يهديه إلى أهله. وأما البيع(5/236)
فلا يصلح، فإن باعه وضع ثمنه فى المغنم، فإن فات ذلك تصدق به عن الجيش، ورخص فيه سليمان بن موسى. قال المهلب: وأمرهم (صلى الله عليه وسلم) بإكفاء القدور ليعلمهم أن الغنيمة إنما يستحقونها بعد قسمته لها فلا يفتاتوا فى أخذ شيء قبل وجوبه لقوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه (ولقوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدى الله ورسوله (. قال الحسن: إن هذه الآية نزلت فى أهل، نحروا قبل أن يصل النبى (صلى الله عليه وسلم) فأمرهم أن يعيدوا الذبح. وقال مجاهد فى هذه الآية: لا تفتاتوا على رسول الله بشيء حتى يقضيه الله على لسانه. وقال الكلبى: لا تقدموا بين يدى الله ورسوله بقول ولا فعل. وفيها: قول آخر ذكره ابن المنذر، عن سماك بن حرب، عن ثعلبة بن الحكم قال: (أصبنا يوم خيبر غنمًا فانتهبناها، فجاء رسول الله وقدورهم تغلى فقال: إنها نهبة فأكفئوا القدور وما فيها؛ فإنها لا تحل النهبة) . قال بعض أهل العلم: هذا يدل أنهم كانوا قد خرجوا من بلاد العدو؛ لأن النهبة مباحة فى بلاد العدو وغير مباحة فى دار الإسلام، وهذه القصة أصل فى جواز العقوبة فى المال. وقوله: (فأكفئت) قال الطبرى: الأشهر والأفصح فى كلام العرب أن يقال: كفأ القوم القدور يكفئونها، وإن كانت الأخرى (أكفأت) محكية ذكرها ابن الأعرابى عن العرب. وسيأتى ما فى الحديث من الغريب فى (كتاب الذبائح) إن شاء الله.(5/237)
4 - باب: الْبِشَارَةِ فِى الْفُتُوحِ
892 / فيه: جَرِير، قَالَ لِى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَلا تُرِيحُنِى مِنْ ذِى الْخَلَصَةِ) ؟ وَكَانَ بَيْتًا فِى خَثْعَمُ، يُسَمَّى الكَعْبَةَ الْيَمَانِيَةِ، فَانْطَلَقْتُ فِى خَمْسِينَ وَمِائَةٍ فارس كلهم مِنْ أَحْمَسَ، فَكَسَرَهَا وَحَرقها وَأَرْسَلَ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) يُبَشِّرُهُ. . . . الحديث. فيه: البشارة فى الفتوح وما كان فى معناه من كل ما فيه ظهور الإسلام واهله، ليبشر المسلمون بإعلاء الدين، ويبتهلوا إلى الله فى الشكر على ما وهبهم من نعمه ومن عليهم من إحسانه، فقد أمر الله تعالى عباده بالشكر ووعدهم المزيد فقال تعالى: (لئن شكرتم لأزيدنكم (.
5 - باب: لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ
893 / فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: (لا هِجْرَةَ، بعد الفتح وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ. . . . . الحديث. 1894 / وفيه: مُجَاشِعِ، أنَّهُ جَاءَ بِأَخِيهِ مُجَالِدِ بْنِ مَسْعُودٍ إِلَى الرسول (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: هَذَا مُجَالِدٌ، يُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: (لا هِجْرَةَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَلَكِنْ أُبَايِعُهُ عَلَى الإسْلامِ) . 1895 / وفيه: عَائِشَةَ، انْقَطَعَتِ الْهِجْرَةُ بَعْدَ فَتَحَ مَكَّةَ. 1896 / وروى البخارى عن عطاء قال: زرت عَائِشَة مَع عُبيد بْن عمير(5/238)
فَسَألها عن الْهِجْرَةِ، فَقَالَتْ: لاَ هِجْرَةَ اليوم، وَكَانَ المؤمنون يفر أحدهم بدينه إِلى اللَّه، وَإِلى رسوله مخافة أن يفتن عليه، وأما اليوم فقد أظهر الله الإِسْلامِ، وَالْمؤمن يعبد ربه كيف شاء، وَلكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ. فهذا بين أن الهجرة منسوخة بعد الفتح إلا أن سقوط فرضها بعد الفتح لا يسقطها عمن هاجر قبل الفتح، فدل أن قوله: (لا هجرة بعد الفتح) ليس على العموم؛ لأن الأمة مجمعة أن من هاجر قبل الفتح أنه يحرم عليه الرجوع إلى وطنه الذى هاجر منه، كما حرم على أهل مكة الرجوع إليها، ووجب عليهم البقاء مع النبى، والتحول معه حيث تحول لنصرته ومؤازرته وصحبته وحفظ شرائعه والتبليغ عنه، وهم الذين استحقوا اسم المهاجرين ومدحوا به دون غيرهم. ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) رثى بسعد بن خولة أن مات بمكة فى الأرض التى هاجر منها، ولذلك دعا لهم فقال: (اللهم أمض لأصحابى هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم) . وذكر أبو عبيد فى كتاب (الأموال) أن الهجرة كانت على غير أهل مكة من الرغائب ولم تكن فرضًا، يدل على ذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) للذى سأله عن الهجرة: (إن شأنها شديد، فهل لك من إبل تؤدى زكاتها؟ قال: نعم. قال: فاعمل من وراء البحار؛ فإن الله لا يترك من عملك شيئًا) ولم يوجب عليه الهجرة. وقيل: إنما كانت الهجرة واجبة إذا أسلم بعض أهل البلد ولم يسلم بعضهم لئلا يجرى على من أسلم أحكام الكفار، فأما إذا أسلم كل من فى الدار فلا هجرة عليهم؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) لوفد عبد القيس حين أمرهم بما أمرهم به ولم يأمرهم بهجرة أرضهم: (وقد عذر الله المستضعفين من الرجال والنساء الذين لا يجدون حيلة ولا يهتدون(5/239)
سبيلا) يعنى: طريقًا إلى المدينة، وأما الهجرة الباقية إلى يوم القيامة فقوله (صلى الله عليه وسلم) : (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه) .
6 - باب: إِذَا اضْطُرَّ الرَّجُلُ إِلىَ النَّظَرِ فِى شُعُورِ أَهْل الذِّمَّةِ والمؤُمِنَاتِ إِذَا عَصَيْنَ اللَّهِ وَتَجْرِيدِهِنَّ
897 / فيه: أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ - وَكَانَ عُثْمَانِيًّا - قَالَ لابْنِ عَطِيَّةَ - وَكَانَ عَلَوِيًّا -: إِنِّى لأعْلَمُ مَا الَّذِى جَرَّأَ صَاحِبَكَ عَلَى الدِّمَاءِ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: بَعَثَنِى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَالزُّبَيْرَ، فَقَالَ: ائْتُوا رَوْضَةَ خاخ، تَجِدُونَ بِهَا امْرَأَةً أَعْطَاهَا حَاطِبٌ كِتَابًا، فَأَتَيْنَا الرَّوْضَةَ، فَقُلْنَا: الْكِتَابَ، قَالَتْ: لَمْ يُعْطِنِى، قُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ أَوْ لَنُجَرِّدَنَّكِ، فَأَخْرَجَتْ مِنْ حُجْزَتِهَا. . . . الحديث. قال المهلب: فى هذا الحديث من الفقه أن من عصى الله لا حرمة له، وأن المعصية تبيح حرمته وتزيل سترته، ألا ترى أن عليا والزبير أرادا كشف المرأة لو لم تخرج الكتاب؛ لأن حملها له ضرب من التجسس على المسلمين، ومن فعل ذلك فعليه النكال بقدر اجتهاد الإمام مسلمًا كان أو كافرًا. وقد أجمعوا أن المؤمنات والكافرات فى تحريم الزنا بهن سواء فكذلك فى تحريم النظر إليهن متجردات، فهن سواء فيما أبيح من النظر إليهن فى حق الشهادة أو إقامة الحد عليهن، وهذا كله من الضرورات التى تبيح المحظورات. وقول أبى عبد الرحمن: (إنى لأعلم ما الذى جرأ صاحبك على الدماء) ظن منه؛ لأن عليا على مكانته من الفضل والعلم لا يقتل أحدًا إلا بالواجب، وإن كان قد ضمن له الجنة بشهوده بدرًا وغيرها.(5/240)
7 باب: اسْتِقْبَال الغُزَاةِ
898 / - فيه: ابْنُ الزُّبَيْر، قلت لابْنِ جَعْفَرٍ: أَتَذْكُرُ إِذْ لَقَّيْنَا النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَنَا وَأَنْتَ وَابْنُ عَبَّاسٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَحَمَلَنَا وَتَرَكَكَ. 1899 / - قَالَ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ: ذَهَبْنَا نَتَلَقَّى النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مَعَ الصِّبْيَانِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ. قال المهلب: التلقى للمسافرين والقادمين من الجهاد والحج بالبشر والسرور أمر معروف، ووجه من وجوه البر. وبهذا الحديث ثبت تشييعهم؛ لأن ثنية الوداع إنما سميت بذلك؛ لأنهم كانوا يشيعون الحاج والغزاة إليها ويودعونهم عندها، وإليها كانوا يخرجون صغارًا وكبارًا عند التلقى، وقد يجوز تلقيهم بعدها وتشييعهم إلى أكثر منها، وفيه الفخر بإكرام النبى (صلى الله عليه وسلم) .
8 - باب: مَا يَقُولُ إِذَا رَجَعَ مِنَ الغَزْوِ
900 / وفيه: ابْن عُمَرَ، كَانَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، إِذَا قَفَلَ كَبَّرَ ثَلاثًا، قَالَ: (آيِبُونَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَائِبُونَ عَابِدُونَ حَامِدُونَ لِرَبِّنَا سَاجِدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأحْزَابَ وَحْدَهُ) . 1901 / وفيه: أَنَس، كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مَقْفَلَهُ مِنْ عُسْفَانَ وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَقَدْ أَرْدَفَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَىٍّ، فَعَثَرَتْ نَاقَتُهُ، فَصُرِعَا جَمِيعًا، فَاقْتَحَمَ أَبُو طَلْحَةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جَعَلَنِى اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: (عَلَيْكَ الْمَرْأَةَ) ، فَقَلَبَ ثَوْبًا عَلَى وَجْهِهِ، وَأَتَاهَا فَأَلْقَاهُ عَلَيْهَا، وَأَصْلَحَ لَهُمَا مَرْكَبَهُمَا، فَرَكِبَا وَاكْتَنَفْنَا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَلَمَّا أَشْرَفْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ، قَالَ: (آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ) ، فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ ذَلِكَ حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ.(5/241)
قال المهلب: قد تقدم القول فى التكبير عند الصعود والإشراف على المدن والتسبيح عند الهبوط. وفيه إرداف المرأة خلف الرجل وسترها عن الناس، وفيه ستر من لا تجوز رؤيته وستر الوجه عنه. وفيه خدمة العالم والإمام وخدمة أهله. وفيه اكتناف الإمام والاجتماع حوله عند دخول المدن وتلقى الناس سنة ماضية وأمر جار. قال المؤلف: وفيه حمد الله للمسافر عند إتيانه سالمًا إلى أهله وسؤاله الله التوبة والعبادة، وتقدير الكلام: نحن آيبون عابدون حامدون لربنا ساجدون إن شاء الله على ما رزقنا من السلامة والنصر وصدق الوعد ولا تتعلق المشيئة بقوله: (آيبون) لوقوع الإياب، وإنما تتعلق بباقى الكلام الذى لم يقع بعد. وفيه: أنه يجوز للمتكلم أن يقدم المشيئة لله فى أول كلامه، ثم يصلها بما يحب إيقاعه من الفعل. وفيه: أن الرجل الفاضل ينبغى له عندما تجدد له نعمة وسلامة أن يقر لله بطاعته ويسأله أن يديم له حال توبته وعبادته له، وإن كان الرسول قد تقرر عنده أنه لا يزال تائبًا عابدًا ساجدًا حامدًا لربه، لكن هذا هو أدب الأنبياء أخذًا بقوله تعالى: (ولا تقولن لشيء إنى فاعل ذلك غدًا إلا أن يشاء الله (. ولعلمهم بمواقع نعم الله عندهم يعترفون له بها، ويرغبون ويبرءون إليه من الحول والقوة، ويظهرون الافتقار إليه مبالغة فى شكره تعالى، ولتقتدى بهم أممهم فى ذلك صلوات الله عليهم.(5/242)
9 - باب: الصَّلاَةِ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ
902 / فيه: جَابِر، كُنْتُ مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِى سَفَرٍ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، قَالَ لِى: (ادْخُلِ الْمَسْجِدَ، فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ) . 1903 / وفيه: كَعْب، كَانَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ ضُحًى، دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ. قال المهلب: الصلاة عند القدوم سنة وفضيلة فيها معنى الحمد لله على السلامة والتبرك بالصلاة أول ما يبدأ به فى حضره، ونعم المفتاح هى إلى كل خير، وفيها يناجى العبد ربه تعالى وذلك هدى رسول الله وسنته، ولنا فيه أكرم الأسوة.
0 - باب الطَّعَامِ عِنْدَ الْقُدُومِ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُفْطِرُ لِمَنْ يَغْشَاهُ
. 1904 / - فيه: جَابِر، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ، نَحَرَ جَزُورًا أَوْ بَقَرَةً. وقال مرة: فَلَمَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ، أَمَرَنِى أَنْ آتِىَ الْمَسْجِدَ، فَأُصَلِّىَ فيه. (صرار) موضع فى نواحى المدينة. فيه: إطعام الإمام والرئيس أصحابه عند القدوم من السفر، وهو مستحب ومن فعل السلف. وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة: قوله: (كان ابن عمر يفطر لمن يغشاه) أى: إذا قدم من سفر أطعم من يغشاه وأفطر معهم، أى ترك(5/243)
قضاء رمضان؛ لأنه كان لا يصوم رمضان فى السفر أصلا، فإذا انقضى إطعامه وزاده ابتدأ قضاء رمضان الذى أفطره فى السفر، وقد جاء هذا مفسرًا فى (الأحكام) لإسماعيل. قال المؤلف: أما الذى ذكره إسماعيل عن ابن عمر فليس فيه ما يدل على صحة ما تأوله أبو عبد الله، والذى ذكر إسماعيل عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر (أنه كان إذا كان مقيمًا لم يفطر، وإذا كان مسافرًا لم يصم، فإذا قدم أفطر أيامًا لغاشيته ثم يصوم) فليس يدل هذا أن سفره كان أبدًا فى رمضان دون سائر الشهور، بل قوله: (إذا كان مقيمًا لم يفطر) يدل أن إفطاره لغاشيته قد يكون من صيامه التطوع، فيحتمل أن يبيت الفطر. فإن قيل: ويحتمل أن يبيت الصيام ثم يفطر لوراده بعد التبييت. قال أبو عبد الله: يرد ذلك قوله: (ذلك الذى يلعب بصومه) وقد زوج ابنته ولم يفطر، وقد دعاه عروة بن الزبير إلى وليمة فلم يفطر. وقال: (لو أخبرتنى، ولكنى أصبحت صائمًا) فكيف لم يغشاه؟ قال المهلب: فأما إفطار سلمان لأبى الدرداء إذ بات عنده؛ فإنما كان ذلك لأن أبا الدرداء كان اسرف على نفسه فى العبادة وسرمد الصوم، فأراد سلمان أن يأخذ به طريق الرخصة فى الإفطار بعد التبييت، ألا ترى أن ذلك جائز عند جماعة العلماء فى الفرض إذا بيته فى السفر ثم أدركته مشقة الصوم أن له أن يفطر، فكيف التطوع؟ فأخذ سلمان بالرخصة، وأخذ ابن عمر بالشدة؛ لأنه رأى التبييت من العقود التى أمره الله بالوفاء بها. وقد تقدم ما للعلماء فى ذلك فى كتاب الصيام.(5/244)
- كِتَابُ الخُمُس
فَرْضُ الخُمُسِ
905 / فيه: عَلِىّ، كَانَتْ لِى شَارِفٌ مِنْ نَصِيبِى مِنَ الْمَغْنَمِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) أَعْطَانِى شَارِفًا مِنَ الْخُمُسِ، فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَبْتَنِىَ بِفَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَاعَدْتُ رَجُلا صَوَّاغًا مِنْ بَنِى قَيْنُقَاعَ أَنْ يَرْتَحِلَ مَعِىَ، فَنَأْتِىَ بِإِذْخِرٍ، أَرَدْتُ أَنْ أَبِيعَهُ الصَّوَّاغِينَ، وَأَسْتَعِينَ بِهِ فِى وَلِيمَةِ عُرْسِى، فَبَيْنَا أَنَا أَجْمَعُ لِشَارِفَىَّ مَتَاعًا مِنَ الأقْتَابِ وَالْغَرَائِرِ وَالْحِبَالِ، وَشَارِفَاىَ مُنَاخَتَانِ إِلَى جَنْبِ حُجْرَةِ رَجُلٍ مِنَ الأنْصَارِ، فَرَجَعْتُ، حِينَ جَمَعْتُ مَا جَمَعْتُ فَإِذَا شَارِفَاىَ قَدِ اجْتُبَّ أَسْنِمَتُهُمَا، وَبُقِرَتْ خَوَاصِرُهُمَا، وَأُخِذَ مِنْ أَكْبَادِهِمَا، فَلَمْ أَمْلِكْ عَيْنَىَّ حِينَ رَأَيْتُ ذَلِكَ الْمَنْظَرَ مِنْهُمَا، فَقُلْتُ: مَنْ فَعَلَ هَذَا؟ فَقَالُوا: فَعَلَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِالْمُطَّلِبِ، وَهُوَ فِى هَذَا الْبَيْتِ، فِى شَرْبٍ مِنَ الأنْصَارِ، فَانْطَلَقْتُ حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَعِنْدَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فَعَرَفَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فِى وَجْهِى الَّذِى لَقِيتُ، فَقَالَ: مَا لَكَ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ قَطُّ، عَدَا حَمْزَةُ عَلَى نَاقَتَىَّ؛ فَاجْتَبَّ أَسْنِمَتَهُمَا، وَبَقَرَ خَوَاصِرَهُمَا، وَهَذا هُوَ ذَا فِى بَيْتٍ مَعَهُ شَرْبٌ، فَدَعَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِرِدَائِهِ، فَارْتَدَى، ثُمَّ انْطَلَقَ يَمْشِى، وَاتَّبَعْتُهُ أَنَا وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ حَتَّى جَاءَ الْبَيْتَ الَّذِى فِيهِ حَمْزَةُ، فَاسْتَأْذَنَ، فَأَذِنُوا لَهُمْ، فَإِذَا هُمْ شَرْبٌ، فَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَلُومُ حَمْزَةَ فِيمَا فَعَلَ، فَإِذَا حَمْزَةُ قَدْ ثَمِلَ مُحْمَرَّةً عَيْنَاهُ، فَنَظَرَ حَمْزَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ثُمَّ صَعَّدَ النَّظَرَ،(5/245)
فَنَظَرَ إِلَى رُكْبَتِهِ، ثُمَّ صَعَّدَ النَّظَرَ، فَنَظَرَ إِلَى سُرَّتِهِ، ثُمَّ صَعَّدَ النَّظَرَ، فَنَظَرَ إِلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ قَالَ حَمْزَةُ: هَلْ أَنْتُمْ إِلا عَبِيدٌ لأبِى، فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّهُ قَدْ ثَمِلَ، فَنَكَصَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى عَقِبَيْهِ الْقَهْقَرَى، وَخَرَجْنَا مَعَهُ. 1906 / وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ فَاطِمَةَ بنَت الرسول سَأَلَتْ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يَقْسِمَ لَهَا مِيرَاثَهَا، مِمَّا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهَا أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لا نُورَثُ،(5/246)
مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ) ، فَغَضِبَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَهَجَرَتْ أَبَا بَكْرٍ، فَلَمْ تَزَلْ مُهَاجِرَتَهُ حَتَّى تُوُفِّيَتْ، وَعَاشَتْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) سِتَّةَ أَشْهُرٍ، قَالَتْ: وَكَانَتْ فَاطِمَةُ تَسْأَلُ أَبَا بَكْرٍ نَصِيبَهَا مِمَّا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ خَيْبَرَ وَفَدَكٍ وَصَدَقَتَهُ بِالْمَدِينَةِ، فَأَبَى أَبُو بَكْرٍ عَلَيْهَا ذَلِكَ، وَقَالَ: لَسْتُ تَارِكًا شَيْئًا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَعْمَلُ بِهِ، إِلا عَمِلْتُ بِهِ فَإِنِّى أَخْشَى إِنْ تَرَكْتُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ أَنْ أَزِيغَ، فَأَمَّا صَدَقَتُهُ بِالْمَدِينَةِ، فَدَفَعَهَا عُمَرُ إِلَى عَلِىٍّ وَعَبَّاسٍ، وَأَمَّا خَيْبَرُ وَفَدَكٌ، فَأَمْسَكَهَا عُمَرُ، وَقَالَ: هُمَا صَدَقَةُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَانَتَا لِحُقُوقِهِ الَّتِى تَعْرُوهُ وَنَوَائِبِهِ وَأَمْرُهُمَا إِلَى مَنْ وَلِىَ الأمْرَ، قَالَ: فَهُمَا عَلَى ذَلِكَ إِلَى الْيَوْمِ. 1907 / وفيه: مَالِكِ بْنِ أَوْسِ، كنا عند عُمَر إذا جاء حَاجِبُهُ يَرْفَا، فَقَالَ: هَلْ لَكَ فِى عُثْمَانَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرِ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ، يَسْتَأْذِنُونَ، قَالَ: نَعَمْ، فَأَذِنَ لَهُمْ فَدَخَلُوا فَسَلَّمُوا وَجَلَسُوا، ثُمَّ جَلَسَ يَرْفَأ يَسِيرًا، ثُمَّ قَالَ: هَلْ لَكَ فِى عَلِىٍّ وَعَبَّاسٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَذِنَ لَهُمَا فَدَخَلا فَسَلَّمَا فَجَلَسَا، فَقَالَ عَبَّاسٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اقْضِ بَيْنِى وَبَيْنَ هَذَا، وَهُمَا يَخْتَصِمَانِ فِيمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ مَالِ بَنِى النَّضِيرِ، فَقَالَ الرَّهْطُ عُثْمَانُ وَأَصْحَابُهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اقْضِ بَيْنَهُمَا، وَأَرِحْ أَحَدَهُمَا مِنَ الآْخَرِ، قَالَ عُمَرُ: تَيْدَكُمْ أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِى بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: لا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ، يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) نَفْسَهُ، قَالَ الرَّهْطُ: قَدْ قَالَ ذَلِكَ، فَأَقْبَلَ عُمَرُ عَلَى عَلِىٍّ وَعَبَّاسٍ، فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا اللَّهَ، تَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَدْ قَالَ ذَلِكَ؟ قَالا: قَدْ قَالَ ذَلِكَ، قَالَ عُمَرُ: فَإِنِّى أُحَدِّثُكُمْ عَنْ هَذَا الأمْرِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ خَصَّ رَسُولَهُ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ هَذَا الْفَيْءِ بِشَيْءٍ لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا غَيْرَهُ، ثُمَّ قَرَأَ: (وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) [الحشر 6] إِلَى قَوْلِهِ: (قَدِيرٌ (فَكَانَتْ هَذِهِ خَاصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَاللَّهِ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ، وَلا اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكُمْ، قَدْ أَعْطَاكُمُوهَا وَبَثَّهَا فِيكُمْ حَتَّى بَقِىَ مِنْهَا هَذَا الْمَالُ، فَكَانَ (صلى الله عليه وسلم) يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ، ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِىَ، فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ، فَعَمِلَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حَيَاتَهُ، أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، ثُمَّ قَالَ لِعَلِىٍّ وَعَبَّاسٍ: أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ، هَلْ تَعْلَمَانِ ذَلِكَ، قَالَ عُمَرُ: ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ رَسُولَهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا وَلِىُّ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَبَضَهَا أَبُو بَكْرٍ، فَعَمِلَ فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ فِيهَا لَصَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ، تَابِعٌ لِلْحَقِّ، ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ، فَكُنْتُ أَنَا وَلِىَّ أَبِى بَكْرٍ، فَقَبَضْتُهَا سَنَتَيْنِ مِنْ إِمَارَتِى أَعْمَلُ فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَبِمَا عَمِلَ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنِّى فِيهَا لَصَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ، ثُمَّ جِئْتُمَا تُكَلِّمَانِى وَكَلِمَتُكُمَا وَاحِدَةٌ، وَأَمْرُكُمَا وَاحِدٌ جِئْتَنِى يَا عَبَّاسُ تَسْأَلُنِى نَصِيبَكَ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ، وَجَاءَنِى هَذَا - يُرِيدُ عَلِيًّا - يُرِيدُ نَصِيبَ امْرَأَتِهِ مِنْ أَبِيهَا، فَقُلْتُ لَكُمَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: لا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ، فَلَمَّا بَدَا لِى أَنْ أَدْفَعَهُ إِلَيْكُمَا، قُلْتُ: إِنْ شِئْتُمَا دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا عَلَى أَنَّ عَلَيْكُمَا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَتَعْمَلانِ فِيهَا بِمَا عَمِلَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَبِمَا عَمِلَ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ وَبِمَا عَمِلْتُ فِيهَا مُنْذُ وَلِيتُهَا، فَقُلْتُمَا ادْفَعْهَا إِلَيْنَا، فَبِذَلِكَ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا، فَأَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْهِمَا بِذَلِكَ؟ قَالَ الرَّهْطُ: نَعَمْ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَلِىٍّ وَعَبَّاسٍ، فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ، هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا بِذَلِكَ؟ قَالا: نَعَمْ، قَالَ: فَتَلْتَمِسَانِ(5/247)
مِنِّى قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ، فَوَاللَّهِ الَّذِى بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ لا أَقْضِى فِيهَا قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ، فَإِنْ عَجَزْتُمَا عَنْهَا، فَادْفَعَاهَا إِلَىَّ؛ فَإِنِّى أَكْفِيكُمَاهَا. قال المؤلف: أما قول على: أعطانى النبى (صلى الله عليه وسلم) شارفًا من الخمس: يعنى يوم بدر، فظاهره أن الخمس قد كان يوم بدر، ولم يختلف أهل السير أن الخمس لم يكن يوم بدر. ذكر إسماعيل ابن إسحاق قال: فى غزوة بنى قريظة حين حكم سعد بأن تقتل المقاتلة وتسبى الذرية قيل: إنه أول يوم جعل فيه الخمس. قال: وأحسب أن بعضهم قال: نزل أمر الخمس بعد ذلك، ولم يأت فى ذلك من الحديث ما فيه بيان شاف، وإنما جاء أمر الخمس يقينًا فى غنائم حنين، وهى آخر غنيمة حضرها رسول الله. قال المؤلف: وإذا لم يختلف أن الخمس لم يكن يوم بدر فيحتاج قول على: أعطانى رسول الله شارفًا من الخمس إلى تأويل لا يعارض قول أهل السير، ويحتمل أن يكون معناه والله أعلم ما ذكره ابن إسحاق أن النبى بعث عبد الله بن جحش فى رجب فى السنة الثانية من الهجرة قبل بدر الأولى فى سرية إلى نخلة بين مكة والطائف فوجد بها قريشًا، فقتلوهم وأخذوا العير. قال ابن إسحاق: ذكر لى بعض آل عبد الله بن جحش أن عبد الله قال لأصحابه: إن لرسول الله مما غنمنا الخمس. وذلك قبل أن يفرض الله الخمس من المغنم فعزل لرسول الله خمس العير، وقسم سائرها بين أصحابه، فوقع فرض الله فى قسمة الغنائم على ما كان عبد الله صنع فى تلك العير، ثم خرج رسول الله فى رمضان بعد هذه السرية إلى بدر فقتل بها صناديد الكفار. فبان بهذا الخبر معنى قول على أن(5/248)
الرسول أعطاه شارفًا من نصيبه من المغنم يوم بدر (وأعطانى رسول الله شارفًا من الخمس يومئذ) . واختلف العلماء فى الخمس كيف يقسمه الإمام، فقال مالك: يسلك الخمس مسلك الفيء، فإن رأى الإمام جعل ذلك لنوائب تنزل بالمسلمين فعل، وإن شاء قسمه فأعطى كل واحد على قدر ما يغنيه، ولا بأس أن يعطى أقرباء رسول الله على قدر اجتهاد الإمام، وكان يرى التفضيل فى العطاء على قدر الحاجة. وقال أبو حنيفة: الخمس على ثلاثة أسهم، يقسم سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل فيهم، ويؤخذ سهم ذوى القربى وسهم النبى فيردان فى الكراع والسلاح. واحتج أبو حنيفة بما رواه الثورى عن قيس بن مسلم، عن الحسن بن محمد ابن الحنفية أنهم اختلفوا فى سهم الرسول وسهم ذوى القربى، فقال: سهم الرسول للخليفة بعده. وقال بعضهم: سهم ذوى القربى هو لقرابة الرسول. وقال بعضهم: هو لقرابة الخليفة. فأجمع رأيهم أنهم جعلوا هذين السهمين فى العدة والخيل، فكان ذلك فى خلافة أبى بكر وعمر. قال إسماعيل بن إسحاق: ولا يجوز أن يبطل عمر ولا غيره سهم ذوى القربى؛ لأنه مسمى فى كتاب الله ولم ينسخه شيء، ومن أبطله فقد ركب أمرًا عظيمًا. وزعم الشافعى أن الخمس يقسم على خمسة أخماس، فيرد سهم النبى (صلى الله عليه وسلم) على من سمى معه من أهل الصدقات وهم ذوو القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وزعم أن قوله: (لله (مفتاح كلام. قال إسماعيل: ويسقط أبو حنيفة سهم ذوى القربى وأخذ فى طرف، وأخذ الشافعى فى طرف آخر وترك التوسط من القول الذى مضى عليه الأئمة. والاختلاف الذى اختلفوا فيه لم يكن على ما(5/249)
توهم أبو حنيفة وإنما روى ابن عباس أنهم ناظروا عمر فى سهم ذوى القربى على أن يكون لهم خمس الخمس فأبى عمر من ذلك، وذهب إلى أن الخمس يقسم فى ذوى القربى وغيرهم على الاجتهاد. قال إسماعيل: قوله: (لله (وقد ذكر الله فى كتابه: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول (وقال تعالى: (قل الأنفال لله والرسول (فأى كلام جاء بعد هذا فيكون هذا مفتاحًا له. وإذا قيل: (لله) فهو أمر مفهوم اللفظ والمعنى؛ لأنه يعلم أن الرجل إذا قال: فعلت هذا الشيء لله أنه فيما يقرب إلى الله، وهذا لا يحتاج أن يقال فيه: مفتاح كلام. وكذلك قوله: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول (معناه فيما يقرب من الله ورسوله، وكذلك قال عمر بن عبد العزيز فى قوله: (لله (قال: اجعلوه فى سبيل الله التى يأمر بها، ولو كان قوله: (الله (لا يوجب شيئًا لكان ما بعده لا يوجب شيئًا؛ لأن ما بعده معطوف عليه، فإن كان القول الأول لا يجب به شيء فكذلك ما عطف عليه لا يجب به شيء. وأما حديث تنازع على والعباس فلم يتنازعا فى الخمس، وإنما تنازعا فيما كان لرسول الله خاصا مما لم يوجف عليه بخيل ولاركاب فتركه الرسول صدقة بعد وفاته، فحكمه كحكم الفيء، ففيه حجة لمالك فى قوله: إن مجرى الخمس والفئ واحد، وهو خلاف قول الشافعى أن الفئ فيه الخمس، وأن خمس الفيء يقسم على خمسة أسهم وهم الذين قسم الله لهم خمس الغنيمة. وهذا لم يقله أحد قبل الشافعى، والناس على خلافه.(5/250)
وقول عمر فى حديث مالك ابن أوس: (فكان الرسول ينفق على أهله منه نفقة سنتهم، ثم يأخذ ما بقى منه فيجعله مجعل ما لله) يعنى: مجعل الفيء، ولم يذكر أنه كان (صلى الله عليه وسلم) يلزمه إخراج الخمس منه حجة على الشافعى؛ لأنه يمكن أن يفضل له من سهمه بخيبر بعد نفقة سنته مثل الذى ينفقه أو أكثر أو أقل، ولو كان فيه الخمس لبين ذلك. وقال الطحاوى: وقول الشافعى فى الفيء أنه يخمس خطأ؛ لأن الله تعالى ذكر الغنائم فأوجب فيها الخمس، وذكر الفئ فقال تعالى: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى (فذكر فيه الرسول وذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كما قال تعالى فى آية الخمس، ثم قال تعالى: (والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم () والذين جاءوا من بعدهم (فذكر فى الغنائم الخمس لأصناف مذكورين، وذكر فى آية الفيء الجميع فى جميع الفيء، حيث أن حكم الفيء غير حكم الغنيمة. قال المهلب: ووجه هجران فاطمة لأبى بكر أنها لم يكن عندها قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا نورث، ما تركنا صدقة) ولا علمته، ثم أنفت أن تكون لا ترث أباها كما يرث الناس فى الإسلام والجاهلية، مع احتمال الحديث عندها أنه (صلى الله عليه وسلم) أراد بعض المال دون بعض، وأنه لم يرد به الأصول والعقار، فانقادت وسلمت للحديث. وإنما كان هجرها له اقباضًا عن لقائه وترك مواصله وليس هذا من الهجران المحرم، وإنما المحرم من ذلك أن يلتقيا فلا يسلم أحدهما على صاحبه، ولم يرو أحد أنهما التقيا وامتنعا من التسليم، ولو فعلا ذلك لم يكونا بذلك متهاجرين إلا أن تكون النفوس مظهرة(5/251)
للعداوة والهجران، لكنها وجدت عليه أن حرمها ما لم يحرم أحد. ولسنا نظن بهم إضمار الشحناء والعداوة، وإنما هم كما وصفهم الله) رحماء بينهم (وروى عن على أنه لم يغير شيئًا من سنة أبى بكر وعمر بعد ولايته فى تركة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بل أجرى الأمر على ما أجرياه فى حياتهما. فإن قيل: فما معنى حديث عائشة فى هذا الباب، وليس فيه ذكر الخمس؟ قيل: هو موافق للباب؛ وذلك أن فاطمة إنما جاءت تسأل ميراثها من الرسول من فدك وخيبر وغيرهما، وفدك مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فلم يجر فيها خمس. وأما خيبر فابن شهاب ذكر أن بعضها صلح وبعضها عنوة، فجرى فيها الخمس. وقد جاء هذا فى بعض طرق الحديث فى كتاب المغازى قالت عائشة: (إن فاطمة جاءت تسأل نصيبها مما ترك الرسول مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك، وإلى ما بقى من خمس خيبر) وإلى هذا إشارة البخارى، واستغنى بشهرة الأمر عن إيراده مكشوفًا بلفظ (الخمس) فى هذا الباب. وفى حديث مالك بن أوس من الفقه أنه يجب أن يولى أمر كل قبيلة سيدهم؛ لأنه أعرف باستحقاق كل رجل منهم لعلمه بهم. وفيه: أن للإمام أن ينادى الرجل الشريف باسمه وبالترخيم له، ولا عار على المنادى بذلك ولا نقيصة. وفيه: استعفاء الإمام مما يوليه، واستنزاله فى ذلك بألين الكلام؛ لقول مالك لعمر حين أمره بقسمة المال بين قومه: (لو أمرت به غيري) .(5/252)
وفيه: الجلوس بين يدى السلطان بغير إذنه. وفيه: الشفاعة عند الإمام فى إنفاذ الحكم إذا تفاقمت الأمور وخشى الفساد بين المتخاصمين؛ لقول عثمان: (اقض بينهما، وأرح أحدهما من الآخر) وقد ذكر البخارى فى المغازى أن عليا والعباس استبا يومئذ. وفيه: تقرير الإمام من يشهد له على قضائه وحكمه، وبيان وجه حكمه للناس. وأما مجيء العباس وعلى إلى أبى بكر فإنما جاءا يطلبان الميراث من تركة النبى من أرضه من فدك وسهمه من خيبر وصدقته بالمدينة على ما ثبت من حديث عائشة فى هذا الباب، فأخبرهم أنه قال (صلى الله عليه وسلم) : (لا نورث، ما تركنا صدقة) فسلما لذلك وانقادا، ثم جاءا بعد ذلك إلى عمر على اتفاق بينهما، يطلبان أن يوليهما العمل، والنظر فيما أفاء الله على رسوله من بنى النضير خاصة؛ ليقوما به، ويسبلاه فى السبل التى كان النبى (صلى الله عليه وسلم) يسبله فيها؛ إذ كانت عند ذلك مصروفة فى تقوية الإسلام وأهله، وسد خلة أهل الحاجة منهم، فدفعه عمر إليهما على الإشاعة بينهما والتساوى والاشتراك فى النظر والأجرة. وأما مجيئهما إليه المرة الثانية فلا يخلو من أحد وجهين إما أن يطلب كل واحد منهما أن ينفرد بالعمل كله، أو ينفرد بنصيبه؛ فرا من الإشاعة؛ لما يقع بين العمال والخدم من التنازع، فأبى عمر أن يكون إلا على الإشاعة؛ لأنه لو أفرد واحدًا منهما بالعمل والنظر لكان وجهًا من وجوه الأثرة، فتناسخ القرون وهى بيد بعض قرابة الرسول دون بعض فيستحقها الذى هى بيده، ولم ير أن يجعلها نصفين على غير الإشاعة؛ لأن سنة الأوقاف ألا تقسم بين أهلها،(5/253)
وإنما يقسم علاتها، فلذلك حلف أن يتركها مجملة ولا يقسمها بينهم، فيشبه ذلك التوريث، والله أعلم. وقد ذكر البخارى فى المغازى أن عليا غلب العباس على هذه الصدقة ومنعه منها، ثم كانت بيد بنى على بعده يتداولونها. وجميع ما تركه الرسول من الأصول وما جرى مجراها مما يمكن بقاء أصله والانتفاع به، فحكمه حكم الأوقاف تجرى علاتها على المساكين، والأصل باق على ملك الموقف، فقوله: (ما تركنا صدقة) يعنى: صدقة موقوفة، وسيأتى معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا نورث، ما تركنا صدقة) فى كتاب الفرائض إن شاء الله. وأما قوله: (إن الله خص رسوله) فخصه بإحلال الغنيمة ولم تحل لأحد قبله، وخصه بما أفاء الله عليه من غير قتال من أموال الكفار تكون له دون سائر الناس، وخصه بنصيبه فى الخمس، وهذا معنى ذكر هذا الحديث 4 فى باب فرض الخمس، وفيه أنه لا بأس أن يمدح الرجل نفسه ويطريها إذا قال الحق، وذلك إذا ظن بأحد أنه يريد تنقصه. وفيه: جواز ادخار الرجل لنفسه وأهله قوت السنة، وأن ذلك كان من فعل الرسول حين فتح الله عليه من النضير وفدك وغيرهما، وهو خلاف قول جملة الصوفية المنكرة للادخار، الزاعمين أن من أدخر فقد أساء الظن بربه ولم يتوكل عليه حق توكله. وفيه: إباحة اتخاذ العقار التى يبتغى منها الفضل والمعاش بالعمارة، وإباحة اتخاذ نظائر ذلك من المغنم وأعيان الذهب والفضة كسائر الأموال التى يراد بها النماء والمنافع لطلب المعاش وأصولها ثابتة،(5/254)
وستأتى هذه المسألة فى باب (نفقة النبى بعد وفاته) بزيادة فيها، ويأتى أيضًا فى كتاب الأطعمة إن شاء الله. قال الطبرى: وفيه من الفقه أن أبا بكر قضى على العباس وفاطمة بقول رسول الله: (لا نورث) ولم يحاكمهما فى ذلك إلى أحد غيره، فكذلك الواجب أن يكون للحكام والأئمة الحكم بعلومهم، لأنفسهم كان ذلك أو لغيرهم، بعد أن يكون ما حكموا فيه بعلومهم مما يعلم صحة أمره رعيتهم، أو يعلمه منهم من أن يحتاجوا إلى شهادته إن أنكر بعض ما حكموا به من ذلك عليهم بعض رعيتهم، كان فى شهادتهم لهم براءة ساحاتهم، وثبوت الحجة لهم على المحكوم عليه. قال الطبرى: وفى حديث على أن المسلمين كانوا فى أول الإسلام يشربون الخمر ويسمعون الغناء حتى نهى الله عن ذلك بقوله: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان (إلى قوله: (فهل أنتم منتهون (وسيأتى ما فى سماع الغناء عن السلف فى كتاب الاستئذان وفى كتاب فضائل القرآن، وقد تقدم منه شيء في كتاب صلاة العيدين. وقوله: (رجع القهقرى) قال الأخفش: يعنى: رجع وراءه ووجهه إليك. وقوله فى حديث عمر: (متع النهار) قال صاحب العين: متع النهار متوعًا، وذلك قبل الزوال. وفى قوله: (تيدكم أنشدكم بالله) فذكر الكسائى فى كتابه الذى شرحه: رويد زيد وتيد زيدًا ورويدًا زيدًا بمعنى واحد، ومعناه: أمهل(5/255)
زيدًا، ومن روى: أتيدكم، فلا يجوز فى العربية؛ لأن أتاد لا يتعدى إلى مفعول، لا تقول: أتادت زيدًا، وإنما تقول: تدكم، كما تقول رويدكم، ومن روى: أجبت أسنمتها، فلا يعرف ذلك فى اللغة، إنما تقول العرب: جب الشيء إذا قطع منه، ومنه قيل للذى قطع إحليله فاستؤصل: مجبوب، ومن رواه: اجتبت فهو جائز. والثمل: السكران. وسأذكر ما فى هذا الحديث من الغريب فى كتاب المياه فى باب: بيع الحطب والكلأ إن شاء الله. قال الخطابى: وقد احتج بعض أهل العلم بهذا الحديث فى إبطال أحكام السكران وقالوا: لو لزم السكران ما يكون منه فى حال سكره كما كان يلزمه فى حال صحوه لكان المخاطب رسول الله بما استقبله به حمزة كافرًا مباح الدم. قال أبو سليمان: وقد ذهب على هذا القائل أن ذلك كان منه إنما كان قبل تحريم الخمر وفى زمان كان شربها مباحًا، وإنما حرمت الخمر بعد غزوة أحد. قال جابر: (اصطبح الناس الخمر يوم أحد، ثم قتلوا آخر النهار شهداء) فأما وقت شربت فشربها معصية، وما تولد منها لازم، ورخص الله ما تلحق العاصي. قال المهلب: ذهب الخطابى إلى أنه لما كانت الخمر مباحة وقت شربها كان ما تولد منها بالسكر من الجفاء على النبى لا تلزم فيه عقوبة، فعذره (صلى الله عليه وسلم) لتحليل الخمر مع أنه كان شديد التوقير لعمه والتعظيم له والبر به. فأما اليوم والخمر محرمة فيلزم السكران حد الفرية وجميع الحدود؛ لأنه سبب زوال عقله من فعل محرم عليه، وأما ضمان إتلاف الناقتين فلزم حمزة ضمانهما لو طالبه على بذلك ويمكن أن يعوضه النبى منهما؛ إذ العلماء لا يختلفون أن جنايات الأموال لا تسقط عن المجانين وغير المكلفين، ويلزمهم ضمانها فى كل حال كما يلزم العقلاء.(5/256)
فإن قيل: ما تقول فيمن سكر من لبن أو طعام أو دواء مباح فقذف غيره؟ والجواب: أن يحمل محمل المجنون والمغمى عليه والصبى يسقط حد القذف وسائر الحدود غير إتلاف الأموال؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (رفع القلم عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبى حتى يحتلم) فمن سكر من شيء حلال فحكمه حكم هؤلاء. وقد بلغنى عن الفقيه أبى عبد الله بن الفخار أنه كان يقول: من سكر من لبن أو طعام حلال أنه لا يلزمه طلاق إن طلق فى حاله تلك. وحكى الطحاوى أنه إجماع من العلماء.
- باب: أَدَاءُ الخُمُسِ مِنَ الدِّين
908 / فيه: ابْن عَبَّاس، قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِالْقَيْسِ، وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا هَذَا الْحَىَّ مِنْ رَبِيعَةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ كُفَّارُ مُضَرَ، فَلَسْنَا نَصِلُ إِلَيْكَ إِلا فِى الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ نَأْخُذُ بِهِ، وَنَدْعُو إِلَيْهِ مَنْ وَرَاءَنَا، قَالَ: (آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ، الإيمَانِ بِاللَّهِ وَشَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَعَقَدَ بِيَدِهِ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُؤَدُّوا لِلَّهِ خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ: الدُّبَّاءِ، وَالنَّقِيرِ، وَالْحَنْتَمِ وَالْمُزَفَّتِ) . قال المهلب: قد تقدم هذا الباب فى كتاب الإيمان وترجم له (باب أداء الخمس من الإيمان) وذلك بين؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) أمرهم بأربع فبدأ بالإيمان بالله وختم بأن تؤدوا إلى الله الخمس، فدخل ذلك فى جملة الإيمان، وإنما لم يأمرهم بالحج؛ لأنه لم يكن نزل حينئذ فرض الحج، وأمرهم بأداء الخمس؛ لأنه لا يكون الخمس إلا من جهاد، وأمرهم بالجهاد داخل فى أمرهم بالخمس، وإنما قصد إلى أداء الخمس؛ لأن كل من بايع لم يبايع إلا على الجهاد، وكان عبد القيس(5/257)
أهل غارات، ولم يعرفوا أن يؤدوا منها شيئًا؛ لأنهم كانوا من فتاك العرب، فقصد لهم (صلى الله عليه وسلم) إلى إنهاء ما كانوا عليه من الباطل فذمه لهم، ونهاهم عن أشياء كلها فى معنى الانتباذ؛ لأنهم كانوا كثيرًا يفعلونه، فقصد لهم إلى الظروف التى كانوا يتذرعون فيها إلى السكر لإسراع النبيذ إلى السكر فيها، ونسخ ذلك (صلى الله عليه وسلم) بعد هذا لما أمن منهم التذرع إلى الدباء والمزفت على ما يأتى فى كتاب الأشربة - إن شاء الله. قوله: (ولسنا نصل إليك إلا فى الشهر الحرام) إنما قال ذلك لأن كفار العرب كانوا لا يقاتلون فى الأشهر الحرم، ولا يحملون السلاح فيها.
3 - باب: نَفَقَةِ نِسَاءِ النَّبىِّ (صلى الله عليه وسلم) بَعْدَ وَفَاتِهِ
909 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَقْتَسِمُ وَرَثَتِى دِينَارًا، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِى، وَمَئُونَةِ عَامِلِى، فَهُوَ صَدَقَةٌ) . 1910 / وفيه: عَائِشَةَ، تُوُفِّىَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَمَا فِى بَيْتِى مِنْ شَىْءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلا شَطْرُ شَعِيرٍ فِى رَفٍّ لِى، فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَىَّ؛ فَكِلْتُهُ فَفَنِىَ. 1911 / وفيه: عَمْرَو بْنَ الْحَارِثِ، مَا تَرَكَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، إِلا سِلاحَهُ، وَبَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ، وَأَرْضًا تَرَكَهَا صَدَقَةً. قال الطبرى: قوله: (لا تقتسم ورثتى دينارًا ولا درهمًا) ليس بمعنى النهى؛ لأنه لم يترك (صلى الله عليه وسلم) دينارًا ولا درهمًا يقتسم؛ لأنه مات ودرعه مرهونة بوسق من شعير، ولا يجوز النهى عما لا سبيل إلى فعله، وإنما ينهى المرء عما يمكن وقوعه منه. ومعنى الخبر أنه ليس تقتسم ورثتى دينارًا ولا درهمًا؛ لأنى لا أخلفهما بعدي.(5/258)
وقال غيره: إنما استثنى (صلى الله عليه وسلم) نفقة نسائه بعد موته؛ لأنهن حبوسات عليه لقوله تعالى: (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله (الآية. وقوله: (مئونة عاملي) يريد عامل نخله فيما خصه الله به من الفيء فى فدك وبنى النضير، وسهمه بخيبر مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، وكان له من ذلك نفقته ونفقة أهله وجعل سائره فى نفع المسلمين. وجرت النفقة بعده من ذلك على أزواجه وعلى عمال الحوائط إلى أيام عمر، فخير عمر أزواجه بين أن يتمادى على ذلك أو يقطع لهن قطائع، فاختارت عائشة وحفصة أن يقطع لهما قطائع فقطع لهما فى [. . . . .] وأخرجهما عن حصتهما من ثمرة تلك الحيطان، فملكتا ما أقطعهما عمر من ذلك إلى أن ماتتا وورث عنهما. قال الطبرى: وفيه من الفقه أن من كان مشتغلا من الأعمال بما فيه لله بر وللعبد عليه من الله أجر أنه يجوز أخذ الرزق على اشتغاله به إذا كان فى قيامه سقوط مئونة عن جماعة من المسلمين أو عن كافتهم، وفساد قول من حرم [. . . . .] أخذ الأجور على أعمالهم، والمؤذنين أخذ الأرزاق على تأذينهم، والمعلمين على تعليمهم. وذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) جعل لولى الأمر بعده فيما كان أفاء الله عليه مؤنته، وإنما جعل ذلك لاشتغاله، فبان أن كل قيم بأمر من أمور المسلمين مما يعمهم نفعه سبيله سبيل عامل النبى (صلى الله عليه وسلم) فى أن له المئونة فى بيت مال المسلمين والكفاية ما دام مشتغلا به، وذلك كالعلماء والقضاة والأمراء وسائر أهل الشغل بمنافع الإسلام. وفى حديث أبى هريرة من الفقه الدلالة البينة على أن الله أباح لعباده(5/259)
المؤمنين اتخاذ الأموال والضياع ما يسعهم لأقواتهم وأقوات أهليهم وعيالهم، ولما ينوب من النوائب ويفضل عن الكفاية؛ لأن الرسول جعل الفضل عن نفقة أهله للسنة ومئونة عامله صدقة، فكذلك كان هو يأخذ فى حياته، فكان يأخذ ما بقى فيجعله فيما أراه الله من قوة الإسلام، ومنافع أهله، والخيل والسلاح، وما يمكن صرفه فى ذلك فهو مال كثير. وفى ذلك الدليل الواضح على جواز اتخاذ الأموال واقتنائها؛ طلب الاستغناء بها عن الحاجة إلى الناس، وصونًا للوجه والنفس استنانًا برسول الله، وأن ذلك أفضل من الفقر والفاقة إذا أدى حق الله منها، ولو كان الفقر أفضل لما كان الرسول يختار أخس المنزلتين عند الله على أرفعهما، بل كان يقسم أمواله وأصوله على أصحابه ولا سيما بين ذوى الحاجة منهم، فبان فساد قول من منع اتخاذ الأموال وادخار الفضل عن قوت يوم وليلة، ووضح خطأ قول من زعم أن التوكل لا يصح لمؤمن على ربه إلا بعد ألا يحتبس بعد غدائه وعشائه شيئًا فى ملكه، وأن احتباسه ذلك يخرجه من معنى التوكل ويدخله فى معنى من أساء الظن بربه. ولا يجوز أن يقال أن أحدًا أحسن ظنا بربه من النبى (صلى الله عليه وسلم) ولا خفاء بفساد قولهم، فإن اعترضوا بما روى عن ابن مسعود أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (لا تتخذوا الضيعة فترغبوا فى الدنيا) فمعنى ذلك: لا تتخذوها إذا خفتم على أنفسكم باتخاذها الرغبة فى الدنيا، فأما إذا لم تخافوا ذلك فلا يضركم اتخاذها بدليل اتخاذ النبى (صلى الله عليه وسلم) لها. فإن قيل: فقد روى مسروق، عن عائشة قالت: (قال النبى(5/260)
عليه السلام لبلال: أطعمنا. قال: ماعندى إلا صبر تمر خبأناه لك. قال: أما تخشى أن يخسف الله به فى نار جهنم؟ قال: أنفق يا بلال ولا تخف من ذى العرش إقلالا) . قيل: كان هذا منه فى حال ضيق عندهم، فكان يأمر أهل السعة أن يعودوا بفضلهم على أهل الحاجة حتى فتح الله عليهم الفتوح ووسع على أصحابه فى المعاش، فوسع على أصحابه فى الاقتناء والادخار إذا أدوا حق الله فيه. قال المهلب: ومن أجل ظاهر حديث أبى هريرة والله أعلم طلبت فاطمة ميراثها فى الأصول؛ لأنها وجهت قوله: (لا تقتسم ورثتى دينارًا ولا درهمًا) إلى الدنانير والدراهم خاصة، لا إلى الطعام والأثاث والعروض وما يجرى فيه المئونة والنفقة. وفيه من الفقه أن الحبس لا يكون بمعنى الوقف حتى يقال فيه صدقة. وأما حديث عائشة فإن الشعير الذى كان عندها كان غير مكيل، فكانت البركة فيه من أجل جهلها بكيله، وكانت تظن كل يوم أنه سيفنى لقلة كانت تتوهمها فيه، فلذلك طال عليها، فلما كالته علمت مدة بقائه ففنى عند تمام ذلك الأمر، والله أعلم.
4 - باب مَا جَاءَ فِى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَمَا نُسِبَ مِنَ الْبُيُوتِ إِلَيْهِنَّ وقوله تَعَالَى: (وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ ولا تبرجن تبرج الجاهلية) [الأحزاب: 33] ، وقوله: (لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِىِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) [الأحزاب: 53]
. 1912 / فيه: عَائِشَةَ، لَمَّا ثَقُلَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِى بَيْتِى، فَأَذِنَّ(5/261)
لَهُ. وقالت: تُوُفِّىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فِى بَيْتِى، وَفِى نَوْبَتِى وَبَيْن سَحْرِى وَنَحْرِى، وَجَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ رِيقِى وَرِيقِهِ. 1913 / وفيه: صَفِيَّةَ، أَنَّهَا جَاءَتْ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) تَزُورُهُ، وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِى الْعَشْرِ الأوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ، فَقَامَ مَعَهَا، حَتَّى إِذَا بَلَغَ قَرِيبًا مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . . . . الحديث. 1914 / وفيه: ابْن عُمَرَ، ارْتَقَيْتُ فَوْقَ بَيْتِ حَفْصَةَ. 1915 / وفيه: عَائِشَةَ، كَانَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّى الْعَصْرَ، وَالشَّمْسُ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ حُجْرَتِهَا. 1916 / وفيه: ابْن عُمَرَ، قَامَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، خَطِيبًا، فَأَشَارَ نَحْوَ مَسْكَنِ عَائِشَةَ، فَقَالَ: (هُنَا الْفِتْنَةُ، ثَلاثًا، مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ) . 1917 / وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) كَانَ عِنْدَهَا، وَأَنَّهَا سَمِعَتْ إِنْسَانٍ يَسْتَأْذِنُ فِى بَيْتِ حَفْصَةَ. . . الحديث. قال الطبرى: فإن قال قائل: إن كان لم يورث (صلى الله عليه وسلم) لقوله: (ما تركنا صدقة) فكيف سكن أزواجه بعد وفاته فى مساكنه إن كن لم يرثنه إذا؟ وكيف لم يخرجن عنها؟ فالجواب فى ذلك أن طائفة من العلماء قالت: إن النبى (صلى الله عليه وسلم) إنما جعل لكل امرأة منهن كانت ساكنة فى مسكن مسكنها الذى كانت تسكنه فى حياته، فملكت ذلك فى حياته، فتوفى الرسول يوم توفى وذلك لها، ولو كان صار لهن ذلك من وجه الميراث عنه لم يكن لهن منه إلا الثمن، ثم كان ذلك الثمن أيضًا مشاعًا فى جميع المساكن لجميعهن. وفى ترك منازعة العباس وفاطمة إياهن فى ذلك وترك منازعة(5/262)
بعضهن بعضًا، فيه دليل واضح على أن الأمر فى ذلك كما ذكرناه. وقد قال تعالى لهن: (وقرن فى بيوتكن (لئلا يخرجن عن منازلهن بعد وفاة الرسول. وقال آخرون: إنما تركن فى المساكن التى سكنها فى حياة النبى؛ لأن ذلك كان من مئونتهن التى كان رسول الله استثناه لهن مما كان بيده أيام حياته، كما استثنى نفقاتهن حين قال: (ما تركت بعد نفقة نسائى ومئونة عاملى فهو صدقة) قالوا: ويدل على صحة ذلك أن مساكنهن لم يرثها عنهن ورثتهن، ولو كان ذلك ملكًا لهن كان لا شك يورث عنهن، وفى ترك ورثتهن حقوقهم من ذلك دليل أنه لم يكن لهن ملكًا، وإنما كان لهن سكناه حياتهن، فلما مضين بسبيلهن جعل ذلك زيادة فى المسجد الذى يعم المسلمين نفعه كما فعل ذلك فى الذى كان لهن من النفقات فى تركة رسول الله، صرفه فيما يعم نفعه. قال المهلب: وفى هذا من الفقه أن من سكن حبسًا حازه بالسكنى، وإن كان للمحبس فيه بعض السكنى والانتفاع أن ذلك جائز فى التحبس، ولا ينقض التحبس ما له فيه من الانتفاع اليسير؛ لأن الرسول كان ينتاب كل واحدة منهن فى نوبتها، فليلة من تسع ليال يسير. ولذلك قال مالك: إن المحبس قد يسكن البيت من الدار التى حبس ولا ينتقض بذلك حوزها. وقال صاحب العين: السحر والنحر: الرية وما يتعلق بالحلقوم.(5/263)
5 - باب مَا ذُكِرَ مِنْ دِرْعِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَعَصَاهُ وَسَيْفِهِ وَقَدَحِهِ وَخَاتَمِهِ وَمَا اسْتَعْمَلَ الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ قِسْمَتُهُ، وَمِنْ شَعَرِهِ وَنَعْلِهِ وَآنِيَتِهِ مِمَّا يَتَبَرَّكُ أَصْحَابُهُ وَغَيْرُهُمْ بَعْدَ وَفَاتِهِ
. 1918 / فيه: أَنَس، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا اسْتُخْلِفَ بَعَثَهُ إِلَى الْبَحْرَيْنِ، وَكَتَبَ لَهُ هَذَا الْكِتَابَ، وَكَانَ نَقْشُ الْخَاتَمِ ثَلاثَةَ أَسْطُرٍ: (مُحَمَّدٌ سَطْرٌ، وَرَسُولُ سَطْرٌ، وَاللَّهِ سَطْرٌ) . 1919 / وفيه: أَنَس، أَنَّهُ أَخْرَجَ نَعْلَيْنِ جَرْدَاوَيْنِ لَهُمَا قِبَالانِ، وهما نَعْلا النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) . 1920 / وفيه: أَبُو بُرْدَةَ، أَخْرَجَتْ إِلَيْنَا عَائِشَةُ كِسَاءً مُلَبَّدًا، وَقَالَتْ: فِى هَذَا نُزِعَ رُوحُ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) . وَقَالَ مرة: أَخْرَجَتْ إِلَيْنَا إِزَارًا غَلِيظًا مِمَّا يُصْنَعُ بِالْيَمَنِ، وَكِسَاءً مِنْ مُلَبَّدًا. 1921 / وفيه: أَنَس، أَنَّ قَدَحَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، انْكَسَرَ، فَاتَّخَذَ مَكَانَ الشَّعْبِ سِلْسِلَةً مِنْ فِضَّةٍ. 1922 / - وفيه: عَلِىّ بْنَ حُسَيْنٍ، أنَّهُ لَقِى الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ، حِينَ قَدِم الْمَدِينَةَ مِنْ عِنْدِ يَزِيدَ مَقْتَلَ حُسَيْنِ بْنِ عَلِىٍّ، فَقَالَ الْمِسْوَرُ: هَلْ لَكَ إِلَىَّ مِنْ حَاجَةٍ تَأْمُرُنِى بِهَا؟ فَقُلْتُ لَهُ: لا، فَقَالَ لَهُ: فَهَلْ أَنْتَ مُعْطِىَّ سَيْفَ النَّبِى، (صلى الله عليه وسلم) ، فَإِنِّى أَخَافُ أَنْ يَغْلِبَكَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ؟ وَايْمُ اللَّهِ لَئِنْ أَعْطَيْتَنِيهِ لا يُخْلَصُ إِلَيْهِمْ أَبَدًا حَتَّى تُبْلَغَ نَفْسِى، إِنَّ عَلِىَّ بْنَ أَبِى طَالِبٍ خَطَبَ ابْنَةَ أَبِى جَهْلٍ عَلَى فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلام فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَخْطُبُ النَّاسَ فِى ذَلِكَ عَلَى مِنْبَرِهِ هَذَا، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ مُحْتَلِمٌ، فَقَالَ: إِنَّ فَاطِمَةَ مِنِّى، وَأَنَا أَتَخَوَّفُ أَنْ تُفْتَنَ فِى دِينِهَا، ثُمَّ ذَكَرَ صِهْرًا لَهُ إِلىَ قَوْلِهِ: وَاللَّهِ لا تَجْتَمِعُ ابْنَةُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ابْنَةُ عَدُوِّ اللَّهِ أَبَدًا) .(5/264)
23 / وفيه: ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ: لَوْ كَانَ عَلِىٌّ ذَاكِرًا عُثْمَانَ ذَكَرَهُ يَوْمَ جَاءَهُ نَاسٌ فَشَكَوْا سُعَاةَ عُثْمَانَ، فَقَالَ لِى عَلِىٌّ: اذْهَبْ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَخْبِرْهُ أَنَّهَا صَدَقَةُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَمُرْ سُعَاتَكَ يَعْمَلُوا بها، فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ: أَغْنِهَا عَنَّا، فَأَتَيْتُ بِهَا عَلِيًّا، فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: ضَعْهَا حَيْثُ أَخَذْتَهَا. وَقَالَ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا: أَرْسَلَنِى أَبِى، خُذْ هَذَا الْكِتَابَ، فَاذْهَبْ بِهِ إِلَى عُثْمَانَ، فَإِنَّ فِيهِ أَمْرَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِى الصَّدَقَةِ. قال: اتفاق الأمة بعد النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه لم يملك أحد درعه ولا عصاه وسيفه وقدحه وخاتمه ونعله، يدل أنهم فهموا من قوله: (لا نورث، ما تركنا صدقة) أنه عام فى صغير الأشياء وكبيرها فصار هذا إجماعًا معصومًا، لأنه لا يجوز على جماعة الصحابة الخطأ فى التأويل، وهذا رد على الشيعة الذين ادعو أن أبا بكر الصديق وعمر بن الحطاب حرما فاطمة والعباس ميراثهما من النبي. وقد روى الطبرى قال: حدثنا يعقوب ابن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا أبو إسحاق قال: قلت لأبى جعفر: أرأيت عليا حين ولى العراق وما كان بيده من سلطانه كيف صنع فى سهم ذى القربى؟ قال: سلك به والله طريق أبى بكر وعمر) . قال المهلب: إنما ذكر هذه الآثار كلها فى هذا الباب لتكون سنة للخلفاء فى الختم واتخاذ الخاتم لما يحتاج فيه إليه، واتخاذ السيف والدرع أيضًا للحرب، وأما الشعر فإنما استعمله الناس على سبيل التبرك به من النبى خاصة، وليس ذلك من غيره بتلك المنزلة، وكذلك(5/265)
النعلان من باب التبرك أيضًا ليس لأحد فى ذلك مزية رسول الله ولا يتبرك من غيره بمثل ذلك. وأما طلب المسور لسيف الرسول من على بن حسين، فإنه أراد التبرك به؛ لأنه من أحباس المسلمين، وكان بيدى الحسين، فلما قتل أراد أن يأخذه المسور لئلا يأخذه بنو أمية، ثم حلف إن أعطاه إياه أنه لا يخلص إليه أبدًا، بشاهد من فعل رسول الله على الحلف والقطع على المستقبل ثقة بالله فى إبراره، واشترط فى يمينه شريطة دون ما حلف عليه صلى الله عليه وهى قوله: (لا يخلص إليه حتى تخلص إلى نفسي) . وقوله: إن على بن أبى طالب خطب ابنة أبى جهل على بنت رسول الله، فكره رسول الله ذلك، وخطب الناس، وعرفهم أنه لا يحرم حلالا أحله الله مما يعرضه على من الخطبة على فاطمة، ولكنه أعز نفسه وبنته من أن تضارها بنت عدو الله، وأقسم على الله ألا يجتمعا عند رجل واحد ثقة بالله أنه يبر قسمه (صلى الله عليه وسلم) ، وقد قال: (رب أشعث ذى طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره) ، والرسول أولى الناس بهذه المنزلة، فأقسم على ذلك لعلمه أن الله قد منع المؤمنين أذاه؛ لقوله تعالى: (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله (وقد قال (صلى الله عليه وسلم) في ابنته أنه يؤذيه ما يؤذيها، فليس لأحد من المؤمنين أن يفعل شيئًا يتأذى به النبى، وإن كان فعل ذلك له مباحًا، وسيأتى القول فى تمام هذا فى كتاب النكاح فى باب: ذب الرجل عن ابنته فى الغيرة إن شاء الله. وفى حديث ابن الحنفية من الفقه أن الإمام إذا نسب إلى خدمته(5/266)
أمر أنه يجب على أصحابه إعلامه بذلك، وإعلام الصواب فيما نسب إليهم، كما فعل على، وما قيل فى سعاة عثمان وشكى فيهم قد يمكن أن يكون باطلاً، كما شكى سعد بن أبى وقاص إلى عمر بالباطل، وقد يجوز أن يكون من بعض سعاة عثمان ما يكون من البشر. وأما رد الصحيفة وقوله: (أغنها عنا) فذلك لأنه كان عنده نظير منها ولم يجهلها، لا أنه ردها وليس عنده علم منها، ولأنه قد كان أمر بها سعاته فلا يجوز على عثمان غير هذا. وفيه: أن الصاحب إذا سمع عن السلطان أمرًا مكروهًا أن ينبه بألطف التنبيه، وأن يسند ذلك إلى من كان قبله كما أسند على أمر الصحيفة إلى رسول الله، وأسند عروة ابن الزبير فى إنكاره على عمر بن عبد العزيز تأخير الصلاة إلى أبى موسى، وأنه أنكر ذلك على المغيرة بن شعبة فاحتج بأسوة تقدمت له فى الإنكار على الأئمة، ثم أسند له الحديث حين رفعه عمر. وقوله: (لو كان على ذاكرًا عثمان) بشر ذكره فى هذه القصة، فدل أن عليا عذر عثمان بالتأويل، ولم يكن عنده مخطئًا ولا مذمومًا، وقد تقدم فعل أبى بكر وعمر فى باب: فرض الخمس. قال الطبرى: وأما فعل عثمان فى صدقة النبى (صلى الله عليه وسلم) فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة قال: (لما ولى عمر بن عبد العزيز جمع بنى أمية فقال: إن النبى (صلى الله عليه وسلم) كانت له فدك فكان يأكل منها وينفق ويعود على فقراء بنى هاشم ويزوج منهم أيمهم، وأن فاطمة سألته أن يجعلها لها فأبى، فكانت كذلك(5/267)
حياة الرسول حتى قبض، ثم ولى أبو بكر فكانت كذلك فعمل فيها بما عمله رسول الله حياته، ثم ولى عمر فعمل فيها مثل ذلك، ثم ولى عثمان فأقطعها مروان، فجعل مروان ثلثيها لعبد الملك وثلثها لعبد العزيز، فجعل عبد الملك ثلثًا للوليد، وثلثًا لسليمان، وجعل عبد العزيز ثلثه لى، فلما ولى الوليد جعل ثلثه لى، فلم يكن لى مال أعود على ولا أسد لحاجتى منها، ثم وليت أنا فرأيت أن أمرًا منعه النبى (صلى الله عليه وسلم) فاطمة ابنته أنه ليس لى بحق، وإنى أشهدكم أنى قد رددتها إلى ما كانت عليه فى عهد رسول الله) . قال الطبرى: وأما عثمان فإنه كان يرى فى ذلك أنه لقيم أمر المسلمين أن يصرفه فيما رأى صرفه فيه، ولذلك أقطعه مروان وذهب فى ذلك إن شاء الله إلى ما حدثنا أبو كريب قال: حدثنا محمد بن فضيل، حدثنا الوليد بن جميع، عن أبى الطفيل قال: (جاءت فاطمة إلى أبى بكر فقالت: أنت ورثت رسول الله أم أهله؟ قال: بل ورثه أهله. قالت: فما بال سهم الرسول؟ قال: سمعت النبى - (صلى الله عليه وسلم) يقول: (إذا أطعم الله نبيا طعمة فقبض، فهو للذى يقوم بعده، فرأيت أن أجعلها فى الكراع والسلاح) . قالت: فأنت وما سمعت من رسول الله) وبهذا قال الحسن وقتادة. قال الطبرى: فإن قال قائل: فما وجه هذا الحديث وقد صح عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (ما تركت بعد نفقة نسائى ومئونة عاملى فهو صدقة) فكيف يكون وهو صدقة ملكًا لمن يقوم بعده؟ قيل: معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فهو للذى يقوم بعده) يعمل فيه ما كان (صلى الله عليه وسلم) يعمل ويسلك به المسلك الذى كان يسلك، لا أنه جعله ملكًا، وهذا التأويل يمنع الخبرين من التنافى. فإن قيل: وما ينكر أن يكون صدقة له من رسول الله تصدق بها عليه بعد وفاته؛ إذ(5/268)
كانت صدقة التطوع عندك حلال للغنى والفقير، وإنما الحرام منها ما كان فرضًا على الأغنياء؛ لأن الله جعلها لأهل السهمان فى كتابه؟ قيل: أنكرنا ذلك من أجل أنه لو كان كذلك صح أنه كان لأبى بكر ملكًا، ولوجب أن يكون بعد أبى بكر موروثًا عنه، إذ كان أبو بكر قد ورثه أهله، وقيام الحجة بأنه لم يورث عنه، للدلالة الواضحة على أنه لم يكن لولى الأمر من بعد رسول الله ملكًا، وإنما كان إليه صرف علات ذلك فى وجوها وسبلها. فإن قيل: فما معنى قول أبى بكر لفاطمة: بل ورثه أهله؟ قيل: معنى ذلك: بل ورثه أهله إن كان خلف شيئًا يورثه، ولم يترك شيئًا يورث عنه؛ لأن ما كان بيده من الأموال مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، إنما كان طعمة من الله له، على أن يأكل منه هو وأهله ما احتاج واحتاجوا، ويصرف ما فضل على ذلك فى تقوية الإسلام وأهله، فقبضه الله، ولم يخلف شيئًا هو له ملك يقتسمه أهله عنه ميراثًا. ويبين ذلك قول عائشة: (مات رسول الله، ولم يترك دينارًا ولا درهمًا ولا بعيرًا ولا شاة، ولقد مات وإن درعه لمرهونة بوسق من شعير) . وقول عثمان: (أغنها عنا) يقول: اصرفها عنا، يقال: أغنيت عنك كذا: صرفته عنك. ومنه قوله تعالى: (لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه (يعنى: يصرفه. قال صاحب الأفعال: أغنى عنك الشيء صرف عنك ما تكره. وفى القرآن: (ما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون (و) ما أغنى عنى ماليه (وقوله: مما يتبرك أصحابه. المعنى: يتبرك به،(5/269)
وحذف (به) جائز، كحذفها من قوله تعالى: (فاصدع بما تؤمر (وحذف الأدوات موجود سائغ؛ لقوله: (يوم لا تجزى نفس عن نفس شيئًا (تقديره: تجزى فيه. قال الشاعر: إن الكريم وأبيك معتمل إن لم يجد يومًا على من يتكل يريد: يتكل عليه.
6 - باب الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْخُمُسَ لِنَوَائِبِ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَالْمَسَاكِينِ وَإِيثَارِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَهْلَ الصُّفَّةِ وَالأرَامِلَ حِينَ سَأَلَتْهُ فَاطِمَةُ، وَشَكَتْ إِلَيْهِ الطَّحْنَ وَالرَّحَى أَنْ يُخْدِمَهَا مِنَ السَّبْىِ، فَوَكَلَهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى
. 1924 / فيه: عَلِىٌّ، أَنَّ فَاطِمَةَ اشْتَكَتْ مَا تَلْقَى مِنَ الرَّحَى مِمَّا تَطْحَنُ، فَبَلَغَهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أُتِىَ بِسَبْىٍ، فَأَتَتْهُ تَسْأَلُهُ خَادِمًا، فَلَمْ تُوَافِقْهُ، فَذَكَرَتْ لِعَائِشَةَ، فَجَاءَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ لَهُ، فَأَتَانَا، وَقَدْ دَخَلْنَا مَضَاجِعَنَا، فَذَهَبْنَا لِنَقُومَ، فَقَالَ: عَلَى مَكَانِكُمَا، حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى صَدْرِى، فَقَالَ: (أَلا أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَاهُ، إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا، فَكَبِّرَا اللَّهَ أَرْبَعًا وَثَلاثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، وَسَبِّحَا ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمَا مِمَّا سَأَلْتُمَاهُ) . قال إسماعيل بن إسحاق: هذا الحديث شاهد أن الإمام يقسم الخمس حيث رأى على الاجتهاد؛ لأن السبى الذى أتى النبى لا يكون والله أعلم إلا من الخمس؛ إذ كانت الأربعة الأخماس تدفع إلى من حضر الوقعة، ثم منع الرسول أقربيه وصرفه إلى غيرهم، وبهذا قال مالك والطحاوى(5/270)
وذهب قوم أن لذوى قرابة رسول الله سهم من الخمس مفروض، لقوله: (فإن لله خمسه وللرسول ولذى القربى (وهم: بنو هاشم، وبنو عبد المطلب خاصة، لإعطاء رسول الله إياهم دون سائر قرابته. هذا قول الشافعى، وأبى ثور. وذهب قوم إلى أن قرابة رسول الله لا سهم لهم من الخمس معلومًا ولا حظ لهم خلاف حظ غيرهم. وقالوا: وإنما جعل الله لهم ما جعل من ذلك فى الآية المذكورة بحال فقرهم وحاجتهم؛ فأدخلوهم مع الفقراء والمساكين، فكما يخرج الفقير والمسكين من ذلك بخروجهم من المعنى الذى استحقوا به ذلك، وهو الفقر، فكذلك قرابة رسول الله المذكورون معهم إذا استغنوا خرجوا من ذلك. قالوا: ولو كان لقرابة رسول الله حظ لكانت فاطمة ابنته بينهم؛ إذ كانت أقربهم إليه نسبًا، وأمسهم به رحمًا، فلم يجعل لها حظا فى السبى، ولا أخدمها، ولكن وكلها إلى ذكر الله وتحميده وتهليله الذى يرجو لها به الفوز من الله، والزلفى عنده. قال الطبرى: ولو كان قسمًا مفروضًا لذوى القربى لأخدم ابنته، ولم يكن (صلى الله عليه وسلم) ليدع قسمًا اختاره الله لهم وامتن به عليهم؛ لأن ذلك حيف على المسلمين، واعتراض لما أفاء الله عليهم، فأخدم منه ناسًا، وتركه ابنته، ثم لم تدع فيه رضى الله عنها حقا لقرابة حين وكلها إلى التسبيح، ولو كان فرضًا لبينه تعالى كما بين فرائض المواريث. قال الطحاوى: وبذلك فعل أبو بكر وعمر بعد النبى (صلى الله عليه وسلم) قسما جميع الخمس، ولم يريا لقرابة رسول الله حقا، خلاف حق سائر الناس، ولم ينكره عليهما أحد من أصحاب(5/271)
رسول الله، ولا خالفهما فيها، إذا ثبت الإجماع من أبى بكر وعمر وجميع أصحاب النبى عليه السلام ثبت القول به، ووجب العمل به، وترك خلافه، وكذلك فعل على لما صار الأمر إليه، حمل الناس عليه، على ما ثبت فى الباب. قال المهلب: الأثرة بينة فى هذا الحديث، وذلك أن ابنة النبى لما استخدمته خادمًا، فعلمها من تحميده وتسبيحه وتكبيره ما هو أنفع لها بدوم النفع، وآثر بذلك الفقراء الذين كانوا فى المسجد؛ قد أوقفوا أنفسهم لسماع العلم، وضبط السنن على شبع بطونهم، لا يرغبون فى كسب مال ولا راحة عيال، فكأنهم استأجروا أنفسهم من الله بالقوت، فكان إيثار النبى لهم، وحرمان ابنته دليل واضح أن الخمس مرقوب للأوكد فالأوكد، وليس على من ذكر الله بالسوية كما زعم الشافعى لأنه آثر المساكين على ذوى القربى، وهم مذكورون فى الآية قبلهم، وإنما الأمر موكول فيه إلى اجتهاده (صلى الله عليه وسلم) ، له أن يحرم من يشاء، ويعطى من يشاء. وفيه: أن طلبة العلم مقدمون فى خمس الغنائم على سائر من ذكر الله له فيها اسمًا. وذكر إسماعيل بن إسحاق من حديث ابن عيينة وحماد بن سلمة عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن على بن أبى طالب أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال لعلى وفاطمة: (لا أخدمكما وأدع أهل الصفة يطوون جوعًا، لا أجد ما أنفق عليهم، ولكن أبيعه فأنفقه عليهم) .(5/272)
قال المهلب: وفيه من النفقه حمل الإنسان أهله على ما يحمل عليه نفسه من التقلل فى الدنيا، وتسليهم عنها بما أعد الله للصابرين فى الآخرة. وفيه: دخول الرجل على ابنته، وهى راقدة مع زوجها. وفيه: جواز جلوسه بينهما، وهما راقدان ومباشرة قدميه وبعض جسده جسم ابنته، وجواز مباشرة ذوى المحارم، وهو خلاف قول مالك، وقول من أجاز ذلك أولى لموافقة الحديث له. وفيه: أن أقل الأعمال الصالحة خير مكافأة فى الآخرة من عظيم من أمور الدنيا، أن يكون التسبيح وهو قول: خير أجرًا فى الآخرة من خادم فى الدنيا، وعنائها بالخدمة والسعاية عن مالكها، فكيف بالصلاة والحج وسائر الأعمال التى تستعمل فيها الأعضاء والبدن كله.
7 - باب قوله تَعَالَى: (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) [الأنفال: 41] يَعْنِى: ولِلرَّسُولِ قَسْمَ ذَلِكَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَخَازِنٌ، وَاللَّهُ يُعْطِى
. 1925 / فيه: جَابِر، وُلِدَ لِرَجُلٍ غُلامٌ، فَأَرَادَ أَنْ يُسَمِّيَهُ مُحَمَّدًا، فقَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (سَمُّوا بِاسْمِى، وَلا تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِى، إِنَّمَا جُعِلْتُ قَاسِمًا، أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ) . 1926 / وقال جابر: وُلِدَ لِرَجُلٍ مِنَّا غُلامٌ، فَسَمَّاهُ الْقَاسِمَ، فَقَالَتِ الأنْصَارُ: لا نَكْنِيكَ أَبَا الْقَاسِمِ، وَلا نُنْعِمُكَ عَيْنًا، فَأَخبر النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (أَحْسَنَتِ الأنْصَارُ، سَمُّوا بِاسْمِى، وَلا تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِى، فَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ) .(5/273)
27 / وفيه: مُعَاوِيَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِى الدِّينِ، وَاللَّهُ الْمُعْطِى، وَأَنَا الْقَاسِمُ) . 1928 / - وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ) . 1929 / وفيه: خَوْلَة، قَالَ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ رِجَالا يَتَخَوَّضُونَ فِى مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . وغرض البخارى فى هذا الباب أيضًا الرد على من جعل للنبى خمس الخمس ملكًا استدلالا بقوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول (وهو قول الشافعي. قال إسماعيل بن إسحاق: وقد قيل فى الغنائم كلها لله وللرسول، كما قيل فى الخمس لله وللرسول، أفكانت الأنفال كلها للنبى (صلى الله عليه وسلم) بل علم المسلمون أن الأمر فيها مردود إليه، فقسمها (صلى الله عليه وسلم) وكان فيها كرجل من المسلمين، بل لعل ما أخذ من ذلك أقل من حظ رجل، بلغنا أنه تنفل سيفه ذا الفقار يوم بدر، وقيل: جملا لأبى جهل، وقد علم كل عاقل أنه لا يشرك بين الله ورسوله وبين أحد من الناس، وأن ما كان لله ولرسوله، فالمعنى فيه واحد؛ لأن طاعة الله طاعة رسوله. وسئل الحسن بن محمد بن على عن قوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شىء فأن لله خمسه وللرسول (قال: هذا مفتاح كلام الله، الدنيا والآخرة. قال المهلب: وإنما خص بنسبة الخمس إليه (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأن ليس(5/274)
للغانمين فيه دعوى، وإنما هو إلى اجتهاد الإمام، فإن رأى رفعه فى بيت المال لما يخشى أن ينزل بالمسلمين رفعه، أو يجعله فيما يراه، وقد يقسم منه للغانمين، كما أنه يعطى من المغانم لغير الغانمين، كما قسم لجعفر وغيره ممن لم يشهد الوقعة، فالخمس وغيره إلى قسمته (صلى الله عليه وسلم) واجتهاد، وليس له فى الخمس ملك، ولا يمتلك من الدنيا إلا قدر حاجته، وغير ذلك كله عائد على المسلمين، وهذا معنى تسميته بقاسم، وليست هذه التسمية بموجبة ألا تكون أثر فى اجتهاده لقوم دون قوم. وقوله: (أحسنت الأنصار) يعنى: فى تعزيز نبيها، وتوقيره من أن يشارك فى كنيته، فيدخل عليه النعت عند النداء بغيره لتشوفه إلى الداعى، كما عرض له فى السوق، فنهى عن كنيته، وأباح اسمه للبركة المرجوة منه [. . . .] فى التسمية من الفأل الحسن؛ لأنه من معنى الحمد؛ ليكون محمودًا من تسمى باسمه. وقوله: (لا أعطيكم، ولا أمنعكم) يقول: الله يعطى فى الحقيقة، وهو يمنع، وإنما أعطيكم بقدر ما يسرنى الله له. ومعنى حديث خولة فى هذا الباب، أن من أخذ من المقاسم شيئًا بغير قسم الرسول أو الإمام بعده، فقد تخوض فى مال الله بغير حق، ويأتى بما غل يوم القيامة. وفيه ردع للولاة والأمراء أن يأخذوا من مال الله شيئًا بغير حقه، ولا يمنعوه من أهله.(5/275)
8 - باب قَوْلِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (أُحِلَّتْ لَكُمُ الْغَنَائِمُ) وقوله: (وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا (الآية [الفتح: 20]
فَهِىَ لِلْعَامَّةِ حَتَّى يُبَيِّنَهُ الرَّسُولُ (صلى الله عليه وسلم) . 1930 / فيه: عُرْوَةَ الْبَارِقِىِّ، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِى نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ: الأجْرُ وَالْمَغْنَمُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) . 1931 / وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، وجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا هَلَكَ كِسْرَى، فَلا كِسْرَى بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ، فَلا قَيْصَرَ بَعْدَهُ، وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ) . 1932 / وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِى سَبِيلِهِ بِأَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ يَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ) . 1933 / وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (غَزَا نَبِىٌّ مِنَ الأنْبِيَاءِ، فَقَالَ لِقَوْمِهِ: لا يَتْبَعْنِى رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِىَ بِهَا، وَلَمَّا يَبْنِ بِهَا، وَلا أَحَدٌ بَنَى بُيُوتًا، وَلَمْ يَرْفَعْ سُقُوفَهَا، وَلا أَحَدٌ اشْتَرَى غَنَمًا أَوْ خَلِفَاتٍ، وَهُوَ يَنْتَظِرُ وِلادَهَا، فَغَزَا فَدَنَا مِنَ الْقَرْيَةِ صَلاةَ الْعَصْرِ، أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لِلشَّمْسِ: إِنَّكِ مَأْمُورَةٌ، وَأَنَا مَأْمُورٌ، اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيْنَا، فَحُبِسَتْ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَجَمَعَ الْغَنَائِمَ، فَجَاءَتْ - يَعْنِى النَّارَ - لِتَأْكُلَهَا، فَلَمْ تَطْعَمْهَا، فَقَالَ: إِنَّ فِيكُمْ غُلُولا، فَلْيُبَايِعْنِى مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ، فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلٍ بِيَدِهِ، قَالَ: فِيكُمُ الْغُلُولُ، فَلْيُبَايِعْنِى قَبِيلَتُكَ، فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلَيْنِ أَوْ ثَلاثَةٍ بِيَدِهِ، فَقَالَ: فِيكُمُ الْغُلُولُ، فَجَاءُوا بِرَأْسٍ مِثْلِ رَأْسِ بَقَرَةٍ مِنَ الذَّهَبِ، فَوَضَعُوهَا، فَجَاءَتِ النَّارُ، فَأَكَلَتْهَا، ثُمَّ أَحَلَّ اللَّهُ لَنَا الْغَنَائِمَ رَأَى ضَعْفَنَا، وَعَجْزَنَا فَأَحَلَّهَا لَنَا) .(5/276)
قال المهلب: قوله (فهى للعامة) يعنى: لجميع الناس، حتى يبين الرسول من يستحقها، وكيف تقسم، وقد بين الله بقوله: (واعلموا أنما غنمتهم من شيء فأن لله خمسه (إلى) السبيل (وأما قوله: (وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه (فإنما خاطب بهذه الآية أهل الحديبية خاصة، ووعدهم بها، فلما انصرفوا من الحديبية فتحوا خيبر، وهى التى عجل لهم. وقال ابن أبى ليلى: (وأثابهم فتحًا قريبًا (يعنى: خيبر) وأخرى لم تقدروا عليها (قال: فارس والروم. وقال مروان والمسور: انصرف رسول الله من الحديبية، فنزلت عليه سورة الفتح فيما بين مكة والمدينة، فأعطاه الله فيها خيبر، فقدم رسول الله المدينة فى ذى الحجة، وسار إلى خيبر فى المحرم، وقوله: (وكف أيدى الناس عنكم (وحيالكم بالمدينة حين ساروا إلى الحديبية وإلى خيبر. قال المهلب: فى حديث النبى الذى أمر ألا يتبعه من لم يتزوج: فيه دليل أن فتن الدنيا تدعو النفس إلى الهلع وتخيبها؛ لأن من ملك بضع امرأة، ولم يبن بها، أو بنى بها، وكان على طراوة منها، فإن قلبه متعلق بالرجوع إليها، وشغله الشيطان عما هو فيه من الطاعة، فرمى فى قلبه الجزع، وكذلك ما فى الدنيا من متاعها وقنيتها. وفى قوله للشمس: (إنك مأمورة) دليل فى الوم، وأصل فى(5/277)
العبادة على ضيق وقت العمل الذى الرأى فيه فى اليقظة، وثبات وقته، فيكون تنبيها على الأخذ بالحزم. وفيه: أن قتال آخر النهار وإذا هبت رياح النصر أفضل، كما كان (صلى الله عليه وسلم) يفعل. وقوله: (احبسها علينا) دعاء إلى الله أن يمد لهم الوقت حتى يفتحوا المدينة. وقيل: فى قوله: (احبسها علينا) أقوال: أحدها: أنها ردت على أدراجها. وقيل: أوقفت، فلم تبرح. وقيل: بطؤ تجريها وسيرها، وهو أولى الأقوال بجريها على العادة، وإن كان خرق العادة للأنبياء جائز، فكل الوجوه جائزة، وكانت المغانم للأنبياء المتقدمين يجمعونها فى برية، فتأتى نار من السماء فتحرقها، فإن كان فيها غلول أو مالاً يحل لم تأكلها، وكذلك كانوا يفعلون فى قربانهم، كان المتقبل تأكله النار وما لا يتقبل يبقى على حاله لا تأكله. ودعاء هذا النبى قومه بالمبايعة بمصافحة أيديهم، اختبار منه للقبيل الذى فيهم الغلول، من أجل ظهور هذه الآية، وهى لصوق يد المبايع بيد النبي. وفيه: أن الأنبياء قد يحكمون فى الأشياء المعجزات بآيات يظهرها الله على أيديهم شهادة على ما التبس من أمر الحكم، وقد يحكمون أيضًا بحكم لا يكون آية معجزة، ويكون النبى وغيره من الحكام سواء، أو يكون اجتهادهم على حسب ما يتأدى إليهم من مقالة الخصمين؛ فذلك إنما هو ليكون سنة لمن بعدهم. وفيه: أن الغنائم لم تحل لأحد غير محمد وأمته. وفيه: دليل على تجديد البيعة إذا احتيج إلى ذلك لأمر وقع، وقد فعل ذلك (صلى الله عليه وسلم) تحت الشجرة.(5/278)
وفيه: جواز إحراق أموال المشركين وما غنم منها.
9 - باب: الغَنِيمَةُ لمِنَ شَهِدَ الوَقْعَةَ
934 / - وفيه: عُمَرَ، قَالَ: لَوْلا آخِرُ الْمُسْلِمِينَ، مَا فَتَحْتُ قَرْيَةً إِلا قَسَمْتُهَا بَيْنَ أَهْلِهَا كَمَا قَسَمَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، خَيْبَرَ. فيه: الغنيمة لمن شهد الوقعة. وهو قول أبى بكر وعمر، وعليه جماعة الفقهاء. فإن قيل: فإن رسول الله قسم لجعفر بن أبى طالب، ومن قدم فى سفينة أبى موسى من غنائم خيبر، وهم لم يشهدوها؟ فالجواب: أن خيبر مخصوصة بذلك؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) لم يقسم غير خيبر لمن لم يشهدها، فلا يجوز أن تجعل خيبر أصلا يقاس عليه. قال المهلب: وإنما قسم من خيبر لأصحاب السفينة؛ لشدة حاجتهم فى بدء الإسلام، بأنهم كانوا للأنصار تحت منح من النخيل والمواشى لحاجتهم، فضاقت بذلك إخوان الأنصار، وكان المهاجرون من ذلك فى شغل بال [. . . .] عوض الرسول المهاجرين، ورد إلى الأنصار منائحهم. قال الطحاوى: وقد يحتمل أنه (صلى الله عليه وسلم) استطاب أنفس أهل الغنيمة، وقد روى ذلك عن أبى هريرة، وسنذكره عن [. . . . .] ونذكر هناك وجوهًا أخر للعلماء فى إسهام النبى لأهل السفينة من غنائم خيبر. واما قول عمر: (لولا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها بين(5/279)
أهلها، كما فعل رسول الله بخيبر) فإن أهل العلم اختلفوا فى حكم الأرض، فقال أبو عبيد: وجدنا الآثار عن الرسول والخلفاء بعده قد جاءت فى افتتاح الأرض بثلاثة أحكام: أرض أسلم عليها أهلها فهى لهم ملك، وهى أرض عشر لا شيء عليهم فيها غيره، وأرض افتتحت صلحًا على خراج معلوم، فهم على ما صولحوا عليه، لا يلزمهم أكثر منه، وأرض افتتحت عنوة، فهى التى اختلف فيها المسلمون، فقال بعضهم: سبيلها سبيل الغنيمة، فتكون أربعة أخماسها حصصا بين الذين افتتحوها، والخمس الباقى لمن سمى الله. قال ابن المنذر: وهذا قول الشافعى، وأبى ثور، وبه أشار الزبير بن العوام على عمرو ابن العاص حين افتتح مصر. قال أبو عبيد: وقال بعضهم: بل حكمها والنظر فيها إلى الإمام، إن رأى أن يجعلها غنيمة فيخمسها ويقسمها كما فعل رسول الله بخيبر، فذلك له، وإن رأى أن يجعلها موقوفة على المسلمين ما بقوا، كما فعل عمر بالسواد، فذلك له. قال الطحاوى: وهذا قول أبى حنيفة والثورى وأبى يوسف ومحمد. وشذ مالك فى (المدونة) فى حكم أرض العنوة، وقال: يجتهد فيها الإمام، وقال فى العتبية، وكتاب ابن المواز من سماع ابن القاسم: العمل فى أرض العنوة على فعل عمر لا تقسم، وتقر بحالها، وقد ألح بلال وأصحاب له على عمر، فقسم الأرض بالشام، فقال: اللهم اكفنيهم فما أتى الحول، وبقى منهم أحد. قال مالك: ومن أسلم من أرض العنوة، فلا تكون له أرضه ولا داره. وأما من صالح على أرضه، ومنع أهل الإسلام من الدخول(5/280)
عليهم إلا بعد الصلح، فإن الأرض لهم، وإن أسلموا فهى لهم أيضًا، ويسقط عنهم خراج أرضهم و [. . . . .] . وقال ابن حبيب: من أسلم من أهل العنوة أحرز نفسه وماله، وأما الأرض فللمسلمين، وماله وكل ما كسب له؛ لأن من أسلم على شيء فى يده كان له، والحجة لقول الشافعى أن الأرض تقسم كما قسم رسول الله خيبر، وتأول قوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه (فدخل فى هذا العموم الأرض وغيرها فوجب قسمها. قال ابن المنذر: وذهب الشافعى إلى أن عمر استطاب أنفس الذين افتتحوا الأرض، وأنكر أبو عبيد أن يكون استطاب أنفسهم. وذهب الكوفيون إلى أن عمر حدث عن الرسول أنه قسم خيبر، وقال: لولا آخر الناس لفعلت ذلك، فقد بين أن الحكمين جميعًا إليه، لولا ذلك ما تعدى سنة رسول الله إلى غيرها، وهو يعرفها. قال الطحاوى: ومن الحجة فى ذلك ما رواه إبراهيم بن طهمان، عن أبى الزبير، عن جابر قال: أفاء الله خيبر، فأقرهم على ما كانوا، وجعلها بينه وبينهم، وبعث ابن رواحة يخرصها عليهم، فثبت أن رسول الله لم يكن قسم خيبر بكمالها، ولكنه قسم منها طائفة على ما ذكره عمر، وترك منها طائفة لم يقسمها على ما روى جابر، وهى التى خرصها عليهم، والذى كان قسم منها وهو الشق النطاة، وترك سائرها فعلمنا أنه قسم منها وترك، فللإمام أن يفعل من ذلك ما رآه صلاحًا.(5/281)
واحتج عمر فى ترك قسمة الأرض بقوله: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول (إلى قوله: (للفقراء المهاجرين (،) والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم (إلى) والذين جاءوا من بعدهم (الآية. وقال عمر: هذه الآية قد استوعبت الناس كلهم، فلم يبق أحد إلا له فى هذا المال حق، حتى الراعى بعدله. قال أبو عبيد: وإلى هذه الآية ذهب على ومعاذ، وأشارا على عمر بإقرار الأرض لمن يأتى بعد. قال إسماعيل: فكان الحكم بهذه الآية فى الأرض أن تكون موقوفة كما تكون الأوقاف التى يقفها الناس أصلها محبوس، ويقسم ما يخرج منها، فكان معنى قول عمر: لولا الحكم الذى أنزل الله فى القرآن لقسمت الأصول، وهذا لا يشكل على ذى نظر، وعليه جرى المسلمون ورأوه صوابًا. قال إسماعيل: والذين قاتلوا حتى غنموا لم يكن لهم فى الأصل أن يعطوا ذلك؛ لأنهم إنما قاتلوا لله لا للمغنم، ولو قاتلوا للمغنم لم يكونوا مجاهدين فى سبيل الله. قال عمر: إن الرجل ليقاتل للمغنم، ويقاتل ليرى مكانه، وإنما المجاهد من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا. فلما كان أصل الجهاد أن يكون خالصًا لله، وكان إعطاؤهم ما أعطوا من المغانم، إنما هو تفضل من الله على هذه الأمة أعطوا ذلك فى وقت، ومنعوه فى وقت، فأعطوا من المغانم ما ليس له أصل يبقى فاشترك فيه المسلمون كلهم، ومنعوا الأصل الذى يبقى، فلم يكن فى ذلك ظلم لهم؛ لأن(5/282)
ثواب الله الذى قصدوه جار لهم فى كل شيء ينتفع به من الأصول التى افتتحوها، ما دامت وبقيت. وحكى الطحاوى عن الكوفيين أن الإمام إذا أقرهم أرض العنوة أنها ملك لهم، يجرى عليهم فيها الخراج إلى الأبد أسلموا أو لم يسلموا، وإنما حملهم على هذا التأويل أنهم قالوا: إن عمر جعل على جريب النخل فى أرض السواد بالعراق شيئًا معلومًا فى كل عام، فلو لم تكن لهم الأرض لكان يبيع التمر قبل أن يظهر. قال أبو جعفر الداودى: ولا أعلم أحدًا من الصحابة قال بقول أهل الكوفة. واحتج من خالفهم بأن الأرض كلها كانت لا شجر فيها فإنما اعتبر ما يصلح أن يوضع فيها، فمن اكترى ما يصلح أن يزرع فيه البر جعل عليه بقدر ذلك، وإن اكترى ما يصلح أن يزرع فيه الشعير جعل عليه بقدر ذلك، ومن اكترى ما يصلح أن يجعل فيه الشجر جعل عليه بقدر ذلك، لا على أن الشجر كانت فى الأرض يومئذ. قال المؤلف: قول الكوفيين مخالف للكتاب والسنة؛ إذ حلت الغنائم للمسلمين، فإذا افتتحت الأرض فاسم الغنيمة واقع عليها كما يقع على المال سواء، فإن رأى الإمام أبقى الأرض لمن يأى بعد، فإنما يبقيها ملكًا للمسلمين من أجل أنها غنيمة، كما فعل عمر، فمن زعم أن الأرض تبقى ملكًا لمشركين فهو مضاد لحكم الله وحكم رسوله، فلا وجه لقوله. وروى الليث، عن يونس، عن ابن شهاب أن رسول الله افتتح خيبر عنوة بعد القتال، وكانت مما أفاء الله على رسوله، فخمسها وقسمها بين المسلمين، وترك من ترك من أهلها على الجلاء بعد القتال(5/283)
فدعاهم الرسول فقال: إن شئتم دفعت إليكم هذه الأموال على أن تعملوا بها، ويكون ثمرها بيننا وبينكم، وأقركم ما أقركم الله. فقبلوا الأموال على ذلك، وروى يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار أن رسول الله لما قسم خيبر عزل نصفها لنوائبه وما ينزل به، وقسم النصف الباقى بين المسلمين فلما صار ذلك بيد رسول الله لم يكن له من العمال ما يكفونه عملها، فدفعها رسول الله إلى اليهود ليعملوها على نصف ما يخرج منها، فلم يزل الأمر على ذلك حياة النبى، وحياة أبى بكر حتى كان عمر وكثر العمال فى أيدى المسلمين، وقروا على عمل الأرض، وأجلى عمر اليهود إلى الشام، وقسم الأموال بين المسلمين إلى اليوم، فهذا كله يرد قول الكوفيين، ويبين أنهم إنما أبقوا فى الأرض عمالا للمسلمين فقط، فلما أغنى الله عنهم أخرجوا منها.
- باب: مَنْ قَاتَلَ لِلْمَغنَمِ هَل يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ
935 / فيه: أَبُو مُوسَى،، قَالَ: قَالَ أَعْرَابِىٌّ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُذْكَرَ، وَيُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، مَنْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: (مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ) . قال المهلب: من قاتل فى سبيل الله ونوى بعد إعلاء كلمة الله ما شاء فهو فى سبيل الله، والله أعلم بمواقع أجورهم، ولا يصلح لمسلم أن يقاتل إلا ونيته مبنية على الغضب لله، والرغبة فى إعلاء كلمته، ويدل على ذلك أنه قد يقاتل من لا يرجو أن يسلبه من عريان، ولا شيء معه، فيغرر مهجته مستلذًا لذلك، ولو أعطى ملء الأرض على(5/284)
أن يغرر مهجته فى غير سبيل الله ما غرر، ولكن سهل عليه ركوب ذلك استلذاذا بإعلاء كلمة الله، ونكاية عدوه والغضب لدينه. وقد تقدم فى باب قوله (صلى الله عليه وسلم) : (الأعمال بالنيات) فى كتاب الإيمان أن ما كان ابتداؤه فيه من الأعمال لله لم يضره بعد ذلك ما عرض فى نفسه، وخطر بقلبه من حديث النفس ووسواس الشيطان، ولا يزيله عن حكمه إعجاب المرء اطلاع العباد عليه بعد مضيه على ما ندبه الله إليه، ولا سروره بذلك، وإنما المكروه أن يبتدئه بنية غير مخلصة لله، فذلك الذى يستحق عامله عليه العقاب.
- باب قِسْمَةِ الإمَامِ مَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ وَيَخْبَأُ لِمَنْ لَمْ يَحْضُرْهُ أَوْ غَابَ عَنْهُ
936 / فيه: الْمِسْور: أُهْدِيَتْ للنَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَقْبِيَةٌ مِنْ دِيبَاجٍ مُزَرَّرَةٌ بِالذَّهَبِ، فَقَسَمَهَا فِى نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَعَزَلَ مِنْهَا وَاحِدًا لِمَخْرَمَةَ، فَجَاءَ مَخْرَمَةَ إلى النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَسَمِعَ صَوْتَه، فَأَخَذَ قَبَاءً فَتَلَقَّاهُ بِهِ وَاسْتَقْبَلَهُ بِأَزْرَارِهِ، فَقَالَ: (يَا أَبَا الْمِسْوَرِ، خَبَأْتُ لَكَ هَذَا) ، مرتين، وَكَانَ فِى خُلُقِهِ شِدَّةٌ. قال المؤلف: ما أهدى للنبى من هدايا المشركين فحلال له أخذه؛ لأنه مخصوص بما أفاء الله عليه من غير قتال من أموال الكفار، ويكون له دون سائر الناس، وله أن يؤثر به من شاء، ويمنع منه من شاء، كما يفعل بالفيء، ولذلك خبأ القباء لمخرمة، ومن بعده من الخلفاء بخلافه فى ذلك لا يكون له خاصة دون المسلمين؛ لأنه إنما(5/285)
أهدى إليه؛ لأنه أميرهم، ويأتى القول فى هدايا المشركين فى باب: الهبة إن شاء الله. وفيه ما كان عليه النبى من كريم الخلق ولين الكلمة، والتواضع، ألا ترى أنه استقبل مخرمة بأزرار القباء، وكناه مرتين وألطف له فى القول، وأراه إيثاره باعتناءه به فى مغيبه؛ لقوله: (خبأت لك هذا) لما علم من شدة خلقه، فترضاه بذلك، فينبغى الاقتداء به فى فعله (صلى الله عليه وسلم) .
- باب كَيْفَ قَسَمَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيَر، وَمَا أَعْطَى مِنْ ذَلِكَ فِى نَوَائِبِهِ
937 / فيه: أَنَس، كَانَ الرَّجُلُ يَجْعَلُ لِلنَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، النَّخَلاتِ، حَتَّى افْتَتَحَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ، فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ. قوله: (كان الرجل يجعل للنبى النخلات) والرجل: الثلاث، كل واحد على قدر جدته وطيب نفسه، مواساة للنبى ومشاركة له لقوته، وهذا من باب الهدية لا من باب الصدقة؛ لأنها محرمة عليه، أما سائر المهاجرين فكانوا قد نزل كل واحد منهم على رجل من الأنصار فواساه وقاسمه، فكانوا كذلك إلى أن فتح الله الفتوح على الرسول، فرد عليهم ثمارهم، فأول ذلك النضير كانت مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، وانجلى عنها أهلها بالرعب فكانت خالصة لرسول الله دون سائر الناس، وأنزل الله فيهم: (وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ((5/286)
فحبس منها رسول الله لنوائبه وما يعروه، وقسم أكثرها فى المهاجرين خاصة دون الأنصار، وذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال للأنصار: إن شئتم قسمت أموال بنى النضير بينكم وبينهم، وأقمتم على مواساتكم فى ثماركم، وإن شئتم أعطيتها المهاجرين دونكم، وقطعتم عنهم ما كنتم تعطونهم من ثماركم. قالوا: بل تعطيهم دوننا ونقيم على مواساتهم، وأعطى رسول الله المهاجرين دونهم فاستغنى القوم جميعًا، استغنى المهاجرون بما أخذوا، واستغنى الأنصار بما رجع إليهم من ثمارهم. وأما قريظة فإنها نقضت العهد بينها وبين النبى، وتحزبت مع الأحزاب، وكانوا كما قال الله فيهم: (إذ جاءوكم من فوقكم (قريظة، ولم يكن بينهم وبين النبى خندق) ومن أسفل منكم (الأحزاب) وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر (فأنزل الله نصره، وأرسل الريح على الأحزاب فلم تدع بناء إلا قلعته، ولا إناء إلا قلبته، فانصرفوا خائبين كما قال الله تعالى: (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرًا (الآية. فلما انصرف رسول الله من الأحزاب سار إلى قريظة، فحاصرهم، حتى نزلوا على حكم سعد، فحكم فيهم بأن تقتل المقاتلة، وتسبى الذرية، فقسمها النبى فى أصحابه، وأعطى من نصيبه فى نوائبه. قال إسماعيل بن إسحاق: وزعموا أن هذه الغنيمة أول غنيمة قسمت على السهام جعل للفرس ولصاحبه ثلاثة أسهم، وللراجل سهم.(5/287)
- باب بَرَكَةِ الْغَازِى فِى مَالِهِ حَيًّا وَمَيِّتًا مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَوُلاةِ الأمْرِ
938 / فيه: ابْن الزُّبَيْر، لَمَّا وَقَفَ الزُّبَيْرُ يَوْمَ الْجَمَلِ دَعَانِى، فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ، فَقَالَ: يَا بُنَىِّ، إِنَّهُ لا يُقْتَلُ الْيَوْمَ إِلا ظَالِمٌ أَوْ مَظْلُومٌ، وَإِنِّى لا أُرَانِى إِلا سَأُقْتَلُ الْيَوْمَ مَظْلُومًا، وَإِنَّ مِنْ أَكْبَرِ هَمِّى لَدَيْنِى أَفَتُرَى يُبْقِى دَيْنُنَا مِنْ مَالِنَا شَيْئًا، فَقَالَ: يَا بُنَىِّ، بِعْ مَالَنَا، فَاقْضِ دَيْنِى، وَأَوْصَى بِالثُّلُثِ، وَثُلُثِهِ لِبَنِيهِ - يَعْنِى بَنِى عَبْدِاللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ - يَقُولُ: ثُلُثُ الثُّلُثِ، فَإِنْ فَضَلَ مِنْ مَالِنَا فَضْلٌ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ شَيْءٌ، فَثُلُثُهُ لِوَلَدِكَ. قَالَ هِشَامٌ: وَكَانَ بَعْضُ وَلَدِ عَبْدِاللَّهِ قَدْ وَازَى بَعْضَ بَنِى الزُّبَيْرِ خُبَيْبٌ وَعَبَّادٌ، وَلَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعَةُ بَنِينَ وَتِسْعُ بَنَاتٍ فَجَعَلَ يُوصِيى بِدَيْنِهِ، وَيَقُولُ: يَا بُنَىِّ، إِنْ عَجَزْتَ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ، فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ مَوْلاىَ، قَالَ: فَوَاللَّهِ، مَا دَرَيْتُ مَا أَرَادَ حَتَّى قُلْتُ: يَا أَبَةِ، مَنْ مَوْلاكَ؟ قَالَ: اللَّهُ، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا وَقَعْتُ فِى كُرْبَةٍ مِنْ دَيْنِهِ إِلا قُلْتُ: يَا مَوْلَى الزُّبَيْرِ، اقْضِ عَنْهُ دَيْنَهُ، فَيَقْضِيهِ، فَقُتِلَ الزُّبَيْرُ رَضِى اللَّهُ عَنْهُ، وَلَمْ يَتْركْ دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا إِلا أَرَضِينَ مِنْهَا الْغَابَةُ وَإِحْدَى عَشْرَةَ دَارًا بِالْمَدِينَةِ وَدَارَيْنِ بِالْبَصْرَةِ وَدَارًا بِالْكُوفَةِ وَدَارًا بِمِصْرَ، قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ دَيْنُهُ الَّذِى عَلَيْهِ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَأْتِيهِ بِالْمَالِ فَيَسْتَوْدِعُهُ إِيَّاهُ، فَيَقُولُ الزُّبَيْرُ: لا وَلَكِنَّهُ سَلَفٌ، فَإِنِّى أَخْشَى عَلَيْهِ الضَّيْعَةَ، وَمَا وَلِىَ إِمَارَةً قَطُّ وَلا جِبَايَةَ خَرَاجٍ وَلا شَيْئًا إِلا أَنْ يَكُونَ فِى غَزْوَةٍ مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) أَوْ مَعَ أَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِى اللَّهُ عَنْهُمْ، قَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: فَحَسَبْتُ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، فَوَجَدْتُهُ أَلْفَىْ أَلْفٍ وَمِائَتَىْ أَلْفٍ، قَالَ: فَلَقِىَ حَكِيمُ ابْنُ حِزَامٍ عَبْدَاللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِى، كَمْ عَلَى أَخِى مِنَ(5/288)
الدَّيْنِ؟ فَكَتَمَهُ، وَقَالَ: مِائَةُ أَلْفٍ، فَقَالَ حَكِيمٌ: وَاللَّهِ مَا أُرَى أَمْوَالَكُمْ تَسَعُ لِهَذِهِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُاللَّهِ: أَفَرَأَيْتَكَ إِنْ كَانَتْ أَلْفَىْ أَلْفٍ وَمِائَتَىْ أَلْفٍ، قَالَ: مَا أُرَاكُمْ تُطِيقُونَ هَذَا، فَإِنْ عَجَزْتُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ، فَاسْتَعِينُوا بِى، قَالَ: وَكَانَ الزُّبَيْرُ اشْتَرَى الْغَابَةَ بِسَبْعِينَ وَمِائَةِ أَلْفٍ، فَبَاعَهَا عَبْدُاللَّهِ بِأَلْفِ أَلْفٍ وَسِتِّ مِائَةِ أَلْفٍ، ثُمَّ قَامَ، فَقَالَ: مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ حَقٌّ، فَلْيُوَافِنَا بِالْغَابَةِ، فَأَتَاهُ عَبْدُاللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَكَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ أَرْبَعُ مِائَةِ أَلْفٍ، فَقَالَ لِعَبْدِاللَّهِ: إِنْ شِئْتُمْ تَرَكْتُهَا لَكُمْ، قَالَ عَبْدُاللَّهِ: لا، قَالَ: فَإِنْ شِئْتُمْ جَعَلْتُمُوهَا فِيمَا تُؤَخِّرُونَ، إِنْ أَخَّرْتُمْ، فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ: لا، قَالَ: قَالَ: فَاقْطَعُوا لِى قِطْعَةً، فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ: لَكَ مِنْ هَاهُنَا إِلَى هَاهُنَا، قَالَ: فَبَاعَ مِنْهَا فَقَضَى دَيْنَهُ فَأَوْفَاهُ، وَبَقِىَ مِنْهَا أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَنِصْفٌ، فَقَدِمَ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَعِنْدَهُ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ وَالْمُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ زَمْعَةَ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: كَمْ قُوِّمَتِ الْغَابَةُ؟ قَالَ: كُلُّ سَهْمٍ مِائَةَ أَلْفٍ، قَالَ: كَمْ بَقِيَ؟ قَالَ: أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَنِصْفٌ، قَالَ الْمُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ: قَدْ أَخَذْتُ سَهْمًا بِمِائَةِ أَلْفٍ، قَالَ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ: قَدْ أَخَذْتُ سَهْمًا بِمِائَةِ أَلْفٍ، وَقَالَ ابْنُ زَمْعَةَ: قَدْ أَخَذْتُ سَهْمًا بِمِائَةِ أَلْفٍ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: كَمْ بَقِيَ؟ قَالَ: سَهْمٌ وَنِصْفٌ، قَالَ: قَدْ أَخَذْتُهُ بِخَمْسِينَ وَمِائَةِ أَلْفٍ، قَالَ: وَبَاعَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ نَصِيبَهُ مِنْ مُعَاوِيَةَ بِسِتِّ مِائَةِ أَلْفٍ، فَلَمَّا فَرَغَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ، قَالَ بَنُو الزُّبَيْرِ: اقْسِمْ بَيْنَنَا مِيرَاثَنَا، قَالَ: وَاللَّهِ لا أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ حَتَّى أُنَادِىَ بِالْمَوْسِمِ أَرْبَعَ سِنِينَ: أَلا مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ دَيْنٌ، فَلْيَأْتِنَا، فَلْنَقْضِهِ، قَالَ: فَجَعَلَ كُلَّ سَنَةٍ، يُنَادِى بِالْمَوْسِمِ، فَلَمَّا مَضَى أَرْبَعُ سِنِينَ، قَسَمَ بَيْنَهُمْ، قَالَ: فَكَانَ لِلزُّبَيْرِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ، وَرَفَعَ الثُّلُثَ، فَأَصَابَ كُلَّ امْرَأَةٍ أَلْفُ أَلْفٍ وَمِائَتَا أَلْفٍ، فَجَمِيعُ مَالِهِ خَمْسُونَ أَلْفَ أَلْفٍ وَمِائَتَا أَلْفٍ. قال المؤلف: قوله: (لا يقتل اليوم إلا ظالم أو مظلوم) معناه والله أعلم أن الصحابة فى قتال بعضهم بعضًا، كل له وجه من(5/289)
الصواب يعذر به عند الله، فلا يسوغ أن يطلق على أحد منهم أنه قصد الخطأ وقاتل على غير تأويل سائغ له، هذا مذهب أهل السنة، فكل واحد منهم مجتهد محق عند نفسه، والقاتل منهم والمقتول فى الجنة إن شاء الله. والله يوسع لكل منهم رحمته كما سبقت لهم الحسنى. فإن قيل: فما معنى قوله: إلا ظالم أو مظلوم؟ قيل: معناه: ظالم فى تأويله عند خصمه ومخالفه، ومظلوم عند نفسه إن قتل، وإنما أراد الزبير أن يبين بقوله هذا أن تقاتل الصحابة الذين هم خير أمة أخرجت للناس ليس كتقاتل أهل البغى والعصبية الذى القاتل والمقتول فيه ظالم؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار) لأنه لا تأويل لواحد منهم يعذر به عند الله، ولا شبهة له من الحق يتعلق بها، فليس منهم أحد مظلوم بل كلهم ظالم. وكان الزبير وطلحة وجماعة من كبار الصحابة خرجوا مع عائشة أم المؤمنين لطلب قتلة عثمان، وإقامة الحد عليهم، ولم يخرجوا لقتال على؛ لأنه لا خلاف بين الأمة أن عليا أحق بالإمامة من جميع أهل زمانه، وكان قتلة عثمان لجئوا إلى على، فرأى على أنه لا ينبغى إسلامهم للقتل على هذا الوجه حتى يسكن حال الأمة، وتجرى المطالب على وجوهها بالبينات وطرق الأحكام؛ إذ علم أنه أحق بالإمامة من جميع الأمة، ورجاء أن ينفذ الأمور على ما أوجب الله عليه، فهذا وجه منع على للمطلوبين بدم عثمان، فكان من قدر الله ما جرى به القلم من تقاتلهم. ولذلك قال الزبير لابنه ما قال لما رأى من شدة الأمر وأن الجماعة لا تنفصل إلا عن تقاتل. وقال: (لا أرانى إلا سأقتل مظلومًا) لأنه لم يبن على قتال ولا عزم عليه، ولما التقى الزحفان فر، فاتبعه ابن(5/290)
جرموز فقتله فى طريقه فى غير قتال ولا معركة، وقد يمكن الزبير أن يكون سمع قول الرسول: (بشر قاتل ابن صفية بالنار) فلذلك قال: (لا أرانى إلا سأقتل اليوم مظلومًا) والله أعلم. قال المهلب: قوله: (وثلثه لبنيه) يعنى: ثلث الثلث الموصى به لحفدته، وهم بنو ابنه عبد الله. وقوله: (فإن فضل فضل بعد قضاء الدين والوصية، فثلثه لولدك) . يعنى: ثلث ذلك الفضل الذى أوصى للمساكين من الثلث لبنيه. قوله: (وقد وازى بعض بنى الزبير) يجوز أن يكون وازاهم فى السن، ويجوز أن يكون وازى بنو عبد الله فى أنصبائهم من الوصية أولاد الزبير فيما حصل لهم من ميراث الزبير أبيهم، وهذا الوجه أولى. وإلا لم يكن لذكر كثرة أولاد الزبير معنى فى الموازاة فى السن. وفيه دليل على دفع تأويل المتشيعة على عائشة ومن تابعها أنها ظالمة؛ لأن الله لا يكون وليا للظالم. وأما قول الزبير للذين كانوا يستودعونه (لا ولكنه سلف) إنما يفعل ذلك خشية أن يضيع المال فيظن به ظن سوء فيه أو تقصير فى حفظه، فيرى أن هذا أبقى لمروءته، وأوثق لأصحاب الأموال؛ لأنه كان صاحب ذمة وافرة، وعقارات كثيرة، فرأى أن يجعل أموال الناس مضمونة عليه، ولا يبقيها تحت شيء من جواز التلف، ولتطيب نفس صاحب الوديعة على ذمته. وتطيب نفسه هو على ربح هذا المال. وقوله: (وما ولى إمارة قط ولا جباية خراج) فيكثر ماله من هذا الوجه فيكون عليه فيه ظن سوء ومغمز لظن عمر والمسلمين بالعمال، حتى قاسمهم، بل كان كسبه من الجهاد وسهمانه من الغنائم مع رسول الله وخليفتيه بعده، فبارك الله فى ماله لطيب أصله، وربح أرباحًا بلغت ألوف الألوف.(5/291)
وقول عبد الله بن الحكيم بن جزام: إن دين أبى مائة ألف وكتمه ألفى ألف ومائة ألف، قهذا ليس بكذب، لأنه قصد فى البعض، وكتم بعضًا، وللإنسان إذا شئل عن خبر أن يخبر منه بما شاء، وله أن لا يخبر بشىء منه أصلا. وإنما كتمه لئلا يستعظم حكيم ما استدان الزبير، فيظن بالزبير سوء ظن وقلة حزم، ويظن بعبد الله فاقة إلى معونته، فينظر منه بعين الاحتياج إليه. وقوله: (لا أقسم حتى أنادى أربع سنين) ، فيه: أن الوصى له أن يمنع قسمة مال الميت الموصى، حتى ينفذ ديونه ووصاياه إذا كان الثلث يحملها، ولا يقسم ورثة الموصى مالا حتى يؤدى دينه وتستبرأ أمانته. وفيه: جواز الوصية للحفدة إذا كان لهم آباء فى الحياة يحجبونهم. وفيه: أن أجل المفقود والغالب أربع سنين كما قال مالك. وفيه: أن من وهب هبة ولم يثبلها الموهوب له أنها رد على واهبها، ولواهبها الاستمتاع بها؛ لأن ابن جعفر قال: إن شئتم تركتها لكم. ولا يلزمه قوله (صلى الله عليه وسلم) : (العائد فى هبته) لأنه ليس يعود، وإنما يعود فيها إذا قبلت منه. وفيه: أن سيد القوم قد يكون قوله وثبوله جائز على من إليه اتباع قومه، كما أن عبد الله لم يقبل الهبة وحده، وقد كان يجب أن يعرف ما عند ورثة أبيه كلهم، فكان قوله فى الرد جائزًا على ورثة أبيه، كما كان قول العرفاء عند سبى هوازن، فى هبة أنصبائهم من السبى جائزًا على من تبعهم. وليس هذا من الأمر المحكوم به فى شرف النفوس ومحاسن الأخلاق، ولا سيما فى ذلك الزمان المتقدم. وقوله: (فجميع ماله خمسون ألف ألف ومائة ألف، غلط فى(5/292)
الحساب، والصحيح فجميع ماله سبعة وخمسون ألف ألف وتسعمائة ألف.
- باب إِذَا بَعَثَ الإمَامُ رَسُولا فِي حَاجَةٍ أَوْ أَمَرَهُ بِالْمُقَامِ هَلْ يُسْهَمُ لَهُ
939 / (1) ابْنِ عُمَ، قَالَ: (إِنَّمَا تَغَيَّبَ عُثْمَانُ عَنْ بَدْرٍ، فَإِنَّهُ كَانَتْ تَحْتَهُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَكَانَتْ مَرِيضَةً، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمَهُ) . اختلف العلماء فيمن لم يشهد الوقعة، هل يسهم له؟ فذهب أبو جنيفة وأصحابه إلى أنه من بعثه الإمام فى حاجة حتى غنم الإمام أنه يسهم له، وكذلك المدد يلحقون أرض الحرب بعد الغنيمة أنهم شركاؤهم فيها، وأخذوا بحديث ابن عمر. قالوا: وقد ذكر أهل السير أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) بعث سعيد بن زيد فى حاجة له وأمر طلحة بالمقام فى مكان ذكره له وأسهم لهما، وقال لهما: (لكما أجر من شهد) . وذهب مالك والثورى والليث والأوزاعى والشافعى وأحمد وأبو ثور إلى أنه لا يصل إلا لمن شهد القتال، وبذلك حكم عمر بن الخطاب وكتب به إلى عماله بالكوفة، واتج هؤلاء بحديث أبى هريرة: (أنه قدم على النبى (صلى الله عليه وسلم) وهو بخيبر بعد ما فتحوها، فقلت: أسهم لى. فقال بعض بنى سعيد بن العاص: لا تسهم له يا رسول الله. . .) فذكر الحديث.(5/293)
قال الطحاوى: وحجة أهل المقالة الأولى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (إن عثمان انطلق فى حاجة الله ورسوله) فضرب له بسهم ولم يضرب لأحد غيره. قال: أفلا ترى أنه لما كان غائبًا فى حاجة الله ورسوله جعله رسول الله كمن حضرها، فكذلك كل من غاب عن وقعة المسلمين بأهل الحرب لشغل شغله به الإمام من أمور المسلمين، فهو كمن حضرها. وأما حديث أبى هريرة فوجهه عندنا أن النبى (صلى الله عليه وسلم) وجه أبانًا إلى نجد قبل أن يتهيأ خروجه إلى خيبر، ثم حدث من خروج النبى إلى خيبر ما حدث، فكان ما غاب فيه أبان من ذلك، ليس هو لشغل شغله النبى عن حضور خيبر بعد إرادته إياها فيكون كمن حضرها، فهذان الحديثان أصلان لكل من أراد الخروج مع الإمام إلى قتال العدو فرده الإمام عن ذلك بأمر آخر من أمور المسلمين، فتشاغل به حتى غنم الإمام، فهو كمن حضر يسهم له، وكل من تشاغل بشغل نفسه أو شغل المسلمين مما كان دخوله فيه متقدمًا، ثم حدث للإمام قتال عدو، فتوجه له، فغنم، فلا حق للرجل فى الغنيمة، وهو ليس كمن حضرها. واحتج أهل المقالة الثانية فقالوا: إن إعطاء النبى لعثمان وهو لم يحضر بدرًا خصوص له؛ لأن الله تعالى جعل الغنائم لما غنمها والدليل على خصوصه قوله (صلى الله عليه وسلم) لعثمان: (لك أجر رجل ممن شهد بدرًا وسهمه) وهذا لا سبيل أن يعلمه غير النبي. وذكر الطبرى عن قوم من أهل العلم قالوا: إن النبى إنما أعطى(5/294)
عثمان يوم بدر من سهمه (صلى الله عليه وسلم) من الخمس، واحتجوا بقوله (صلى الله عليه وسلم) يوم خيبر: (ما لى مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، وهو مردود فيكم) فدل ذلك أنه (صلى الله عليه وسلم) لم يعط أحدًا ممن لم يشهد الوقعة من الغنيمة، وإنما أعطاه من نصيبه.
- بَاب وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْخُمُسَ لِنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ، مَا سَأَلَ هَوَازِنُ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، بِرَضَاعِهِ فِيهِمْ، فَتَحَلَّلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا كَانَ الرَّسُول يَعِدُ النَّاسَ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنَ الْفَيْءِ وَالأنْفَالِ مِنَ الْخُمُسِ، وَمَا أَعْطَى الأنْصَارَ وَمَا أَعْطَى جَابِرَ بْنَ عَبْدِاللَّهِ مِنْ تَمْرَ خَيْبَرَ.
940 / وفيه: مَرْوَانَ، وَالْمِسْوَرَ، قَالَ، (صلى الله عليه وسلم) ، حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (اخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، إِمَّا السَّبْىَ وَإِمَّا الْمَالَ) ، وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِهِمْ، وَقَدْ كَانَ انْتَظَرَهم بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنَ الطَّائِفِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، غَيْرُ رَادٍّ لَهُمْ إِلا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، قَالُوا: فَإِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا، فَقَامَ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (إِنَّ إِخْوَانَكُمْ هَؤُلاءِ قَدْ جَاءُونَا تَائِبِينَ، وَإِنِّى قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُطَيِّبَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى أُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يُفِىءُ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ) ، فَقَالَ النَّاسُ: قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ. . . . الحديث. 1941 / وفيه: أَبُو مُوسَى، أَتَيْتُ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، فِى نَفَرٍ مِنَ الأشْعَرِيِّينَ نَسْتَحْمِلُهُ، فَقَالَ: (وَاللَّهِ لا أَحْمِلُكُمْ، وَمَا عِنْدِى مَا أَحْمِلُكُمْ) ، وَأُتِىَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) بِنَهْبِ إِبِلٍ، فَسَأَلَ عَنَّا، فَأَمَرَ لَنَا بِخَمْسِ ذَوْدٍ غُرِّ الذُّرَى. .(5/295)
42 / وفيه: ابْن عُمَرَ، بَعَثَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) سَرِيَّةً قِبَلَ نَجْدٍ، فَغَنِمُوا إِبِلا كَثِيرَةً، فَكَانَتْ سِهَامُهُمُ اثْنَىْ عَشَرَ بَعِيرًا. 1943 / وفيه: ابْن عُمَرَ، كَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يُنَفِّلُ بَعْضَ مَنْ يَبْعَثُ مِنَ السَّرَايَا لأنْفُسِهِمْ خَاصَّةً، سِوَى قِسْمِ [عَامَّةِ] الْجَيْشِ. 1944 / وفيه: أَبُو مُوسَى، بَلَغَنَا مَخْرَجُ الرسول (صلى الله عليه وسلم) وَنَحْنُ بِالْيَمَنِ، فَخَرَجْنَا مُهَاجِرِينَ إِلَيْهِ أَنَا وَأَخَوَانِ لِى، أَنَا أَصْغَرُهُمْ، أَحَدُهُمَا أَبُو بُرْدَةَ، وَالآخَرُ أَبُو رُهْمٍ، إِمَّا قَالَ: فِى بِضْعٍ، أو ثَلاثَةٍ وَخَمْسِينَ، أَوِ اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ رَجُلا مِنْ قَوْمِى، فَرَكِبْنَا سَفِينَةً، فَأَلْقَتْنَا سَفِينَتُنَا إِلَى النَّجَاشِىِّ بِالْحَبَشَةِ، وَوَافَقْنَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِى طَالِبٍ وَأَصْحَابَهُ عِنْدَهُ، فَقَالَ جَعْفَرٌ: إِنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) بَعَثَنَا هَاهُنَا، وَأَمَرَنَا بِالإقَامَةِ، فَأَقِيمُوا مَعَنَا، فَأَقَمْنَا مَعَهُ حَتَّى قَدِمْنَا جَمِيعًا، فَوَافَقْنَا النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ، فَأَسْهَمَ لَنَا، أَوْ قَالَ: فَأَعْطَانَا مِنْهَا، وَمَا قَسَمَ لأحَدٍ غَابَ عَنْ فَتْحِ خَيْبَرَ مِنْهَا شَيْئًا إِلا أَصْحَابَ سَفِينَتِنَا [مَعَ] جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ قَسَمَ لَهُمْ مَعَهُمْ. 1945 / وفيه: جَابِر، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْ قَدْ جَاءَنِى مَالُ الْبَحْرَيْنِ، أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا) ، فَلَمْ يَجِئْ حَتَّى قُبِضَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَلَمَّا جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ أَمَرَ أَبُو بَكْرٍ مُنَادِيًا فَنَادَى: مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) عِدَةٌ أَوْ دَيْنٌ، فَلْيَأْتِنَا. . . . . الحديث. 1946 / وفيه: جَابِر، بَيْنَمَا الرسول (صلى الله عليه وسلم) يَقْسِمُ غَنِيمَةً بِالْجِعْرَانَةِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: اعْدِلْ، فَقَالَ لَهُ: (لَقَدْ شَقِيتُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ) . قال المؤلف: غرض البخارى فى هذا الباب أن يبين أن إعطاء النبى فى نوائب المسلمين إنما هو من الفيء والخمس الذين أمرهما مردود إليه، يقسم ذلك بحسب ما يؤدى إليه اجتهاده.(5/296)
ويرد على الشافعى فى قوله: إن الخمس مقسوم على خمسة أسهم، وهم الذين سمى الله الخمس لهم إلا سهم النبى؛ فإنه مردود على الأربعة الأسهم الباقية. وبيان الحجة عليه أن النبى حين تحلل المسلمين من سبى هوازن، واستطابهم، ووعدهم أن يعوضهم من أول ما يفيء الله عليه إنما أشار إلى الخمس، إذ معلوم أن أربعة أخماس الغنيمة للغانمين، فبان أن الخمس لو كان مقسومًا على خمسة أسهم لم يف خمس الخمس بما وعد المسلمين أن يعوضهم من سبى هوازن. ذكر أهل السير أن هوازن لما أبت القتال للنبى أتوا بالإبل والنساء والشاء والذرية وجميع أموالهم أفترى خمس الخمس يفى بما وعدهم من العوض من ذلك. وذهب البخارى إلى أنه إنما تحلل النبى المسلمين من سباياهم بعد ما كانوا فيئًا، فأطلقهم لما كان نساء بنى سعد ولوا من رضاعه، فراعى فى قبيلهم كله حرمة ذلك، كما روعى فى المرأة صاحبة المزادتين أنه لم يضرب على الحى الذى كانت منه لذمامها فى أخذ الماء منها حتى أسلم جميعهم. قال المهلب: وقد احتج بعض أصحاب مالك بقضية هوازن فى أنه يجوز قرض الجوارى إذا رد غيرها، ومنع من ذلك مالك؛ لأنه عنده من باب عارية الفروج، وذلك حرام. وكذلك الإبل التى حمل عليها النبى الأشعريين هى أيضًا من الخمس؛ إذ أربعة أخماس الغنيمة للغانمين. وحديث ابن عمر فيه أيضًا حجة واضحة أن النفل من الخمس كما قال مالك؛ لأنه إنما نفلهم بعيرًا بعيرًا بعد قسمة السهمان بينهم من غير ما وجبت فيه سهمانهم، وهو الخمس.(5/297)
وقال الطحاوى: وذهب قوم إلى أنه ليس للإمام أن ينفل بعد إحراز الغنيمة إلا من الخمس، فأما من غير الخمس فلا؛ لأنه قد ملكته المقاتلة، فلا سبيل للإمام عليه. وقال ابن المنذر: روى هذا القول عن أنس بن مالك وسعيد بن المسيب، وهو قول مالك والكوفيين والشافعى ذكره أبو عبيد عن مكحول، وعمر بن عبد العزيز، وقال أبو عبيد: الناس اليوم على هذا، لا نفل من جملة الغنيمة حتى يخمس. قال الطحاوى: وخالفهم آخرون فقالوا: للإمام أن ينفل من الغنيمة ما أحب بعد إحرازه إياها قبل أن يقسمها، كما كان له قبل ذلك. وذكر ابن المنذر أن هذا قول القاسم بن عبد الرحمن، وفقهاء أهل الشام قالوا: الخمس من جملة الغنيمة، والنفل بعده، ثم الغنيمة بعد ذلك بين أهل العسكر. وهو قول الأوزاعى وأحمد وإسحاق. وحجة هذا المقالة: حديث سليمان بن موسى، عن زياد بن جارية، عن حبيب بن مسلمة (أن رسول الله نفل فى بدأته الربع قبل الخمس) فكذلك الثلث الذى ينفله فى الرجعة هو الثلث أيضًا قبل الخمس، وإلا لم يكن لذكر الثلث معنى. قال الطحاوى: فيقال لهم: بل له معنى صحيح، وذلك أن المذكور من نفله فى البدأة الربع، هو مما يجوز له النفل منه، وكذلك نفله فى الرجعة الثلث مما يجوز له النفل منه وهو الخمس. وروى حديث حبيب بلفظ يدل على هذا المعنى.(5/298)
روى مكحول عن زياد بن جارية، عن حبيب بن مسلمة أن رسول الله كان ينفل الثلث بعد الخمس. قال الطحاوى: واحتجوا أيضًا بما رواه سليمان بن موسى، عن مكحول، عن أبى سلام، عن أبى أمامة الباهلى، عن عبادة بن الصامت قال: كان رسول الله ينفلهم إذا خرجوا بادئين الربع، وينفلهم إذا قفلوا الثلث. قيل لهم: وهذا لا حجة فيه؛ لأنه محتمل أن يكون معناه: ينفلهم إذا قفلوا الثلث، فيكون ذلك على قفول من قتال إلى قتال، فيكون الثلث المنفل هو الثلث قبل الخمس، وذلك جائز عندنا؛ لأنه يرجى بذلك صلاح القوم وتحريضهم على قتال عدوهم. فأما إذا كان القتال قد ارتفع فلا يجوز النفل؛ لأنه لامنفعة للمسلمين فى ذلك. وقال أبو عبيد: النفل فى قوله الذى ذكره ابن عمر (ونفلوا بعيرًا بعيرًا) بعد ذكر السهام. ولا وجه له إلا أن يكون من الخمس وقد جاء مبينًا فى حديث مكحول: أن النبى نفل يوم حنين من الخمس. وروى ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب قال: بلغنى عن عبد الله بن عمر أنه قال: نفل رسول الله سرية بعثها قبل نجد من إبل جاءوا بها نفلا سوى نصيبهم من المغنم. قال الطحاوى: وقوله (صلى الله عليه وسلم) يوم حنين حين أخذ وبرة من جنب بعيره ثم قال: (أيها الناس، إنه لا يحل لى مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، وهو مردود فيكم) . يدل أن ما سوى الخمس من المغنم للمقاتلة. ويدل على صحة ما قلنا ما رواه أبو عوانة، عن عاصم بن كليب،(5/299)
عن أبى الجويرية، عن معن بن يزيد السلمى قال: سمعت رسول الله يقول: (لا نفل إلا بعد الخمس) أى: حتى يقسم الخمس. وإذا قسم الخمس انفرد حق المقاتلة وهو أربعة أخماس، فكان ذلك النفل الذى ينفله الإمام من بعد أن آثر به هو من الخمس لا من الأربعة الأخماس التى هى حق المقاتلة، ولو أخذنا النفل قبل ذلك لكان حقهم قد بطل بعد وجوبه، وإنما يجوز النفل مما يدخل فى ملك المنفل من ذلك العدو. فأما ما قد زال عن ملك العدو قبل ذلك وصار فى ملك المسلمين فلا نفل فيه؛ لأنه من مال المسلمين، فثبت بذلك ألا نفل بعد إحراز الغنيمة. ومما احتج به أصحاب مالك قالوا: إنما لم يجعل مالك النفل من رأس الغنيمة؛ لأن أهلها معينون، وهم الموجفون، وجعله من الخمس؛ لأن قسمته مردودة إلى اجتهاد الإمام وأهله غير معينين. وفى حديث ابن عمر رد لقول من قال: إن النفل من خمس الخمس، وإنما فى الحديث أنه نفل نصف السدس؛ لأنه بلغت سهمانهم اثنا عشر بعيرًا ونفلوا بعيرًا بعيرًا. واما حديث أبى موسى وأهل السفينة، فإن للعلماء فى معناه تأويلات: أحدها ما ذكر موسى بن عقبة، قال إن النبى (صلى الله عليه وسلم) استطاب أنفس الغانمين بما أعطاهم كما فعل فى سبى هوازن، وقد روى ذلك عن أبى هريرة، روى خثيم بن عراك، عن أبيه، عن نفر من قومه أن أبا هريرة قدم المدينة هو ونفر من قومه فوجدوا النبى قد خرج إلى خيبر. قال: فقدمنا عليه وهو قد فتح خيبر، فكلم الناس، فأشركنا فى سهامهم. وقيل: إنما أعطاهم من(5/300)
خيبر ما لم يفتتح بقتال مما قد انجلى عنه أهله بالرعب فصار فيئًا؛ لأنه لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، وبعض خيبر كانت هكذا. وقال آخرون: إنما أعطى من خيبر لأهل الحديبية خاصة، رواه حماد بن سلمة، عن على بن زيد، عن عمار بن أبى عمار، عن أبى هريرة قال: ما شهدت مغنمًا مع رسول الله إلا قسم لى إلا خيبر؛ فإنها كانت لأهل الحديبية خاصة شهدوها أو لم يشهدوها؛ لأن الله كان وعدهم بها لقوله تعالى: (وأخرى لم تقدروا عليه (بعد قوله: (وعدكم الله مغانم كثيرة (. وقال آخرون: إنما أعطاهم من خيبر من الخمس الذى حكمه حكم الفيء، وله أن يضعه باجتهاده حيث شاء، ويمكن أن يذهب البخارى إلى هذا القول، والله أعلم. وحديث جابر يحتمل أن يكون من الخمس أو من الفيء وكذلك حديث جابر، إذ قال الرجل للنبى: اعدل، يحتمل أن يكون من الخمس؛ لأنه إنما أنكر الأعرابى الجاهل ما رأى من التفضيل، وذلك لا يكون فى أربعة أخماس الغنيمة، وإنما يكون فى الخمس الذى هو موكول إلى اجتهاده (صلى الله عليه وسلم) . قال إسماعيل بن إسحاق: هذا مما لا يعلم أنه من الخمس، وقد قسمه رسول الله بغير وزن،، حدثنا بذلك ابن أبى أويس، حدثنا أبى، حدثنا يحيى بن سعيد، أخبرنى أبو الزبير أنه سمع جابرًا يقول: بصر عينى وسمع أذنى رسول الله بالجعرانة وفى ثوب بلال فضة يقبضها للناس يعطيهم فقال له رجل: اعدل الحديث. وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة: فعل الرسول فى سبى هوازن يدل أن الغنائم على حكم الإمام إن رأى أن يصرفها إلى ما هو أوكد وأعظم(5/301)
مصلحة للمسلمين من قسمتها على الغانمين صرفها ولم يعط الغانمين شيئًا، كما فعل بمكة فتحها عنوة ومَنَّ عليهم، ولم يعط أصحابه منها شيئًا، بل أبقاها للرحم التى كانت بينه وبينهم، وكذلك أراد أن يفعل بهوازن للرضاعة فيهم حين استأنى بالغنائم، فلما أبطئوا قسم، ثم لما جاءوا رد بعضًا وأبقى للغانمين بعضًا عن طيب أنفسهم، ولم يستطب أنفسهم بمكة؛ لأنه لم يملكهم، واستطاب أنفسهم بهوازن؛ لأنه قد كان قسم لهم وملكهم، فصح بهذا أنه لا شيء لهم إلا أن يملكوا، ولذلك قال مالك: يحد الزانى، ويقطع السارق وإن كان له فى الغنيمة سهم، إذا فعل ذلك قبل القسمة، فلو كان له فيها شبهة لدرأ الحد بها؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ادرءوا الحدود بالشبهات) . فدل أنه لا شبهة لهم فيها إلا أن يملكوها بالقسمة. وحكى الطبرى هذه المقالة عن بعض أهل العلم قالوا: حكم المغانم كلها لرسول الله فى مغازيه كلها، وله أن يصرفها إلى من شاء، ويحرمها على من حضر القتال، ومن لم يحضر، واعتلوا بقوله تعالى: (قل الأنفال لله والرسول (وبفعله (صلى الله عليه وسلم) فى هوازن، ولم يسم القائلين بذلك. وقال آخرون: أربعة أخماس الغنيمة حق للغانمين لا شيء فيه للإمام، وإنما هو (صلى الله عليه وسلم) كبعض من حضر الوقعة إلا ما كان خصه الله به من الفيء وخمس الخمس، وأما غير ذلك فلم يكن له فيه شيء. قالوا: والذى أعطى (صلى الله عليه وسلم) يوم حنين المؤلفة قلوبهم إنما كان من نصيبه وحقه من الغنيمة.(5/302)
وقوله تعالى: (قل الأنفال لله والرسول (معناه: له وضعها مواضعها التى أمره الله بوضعها فيها، لا أنه ملكها ليعمل فيها ما شاء. قالوا: وكيف يجوز أن يكون معنى قوله: (والرسول (ملكًا له، وهو (صلى الله عليه وسلم) يعزل يوم صدر من حنين، فتناول وبرة من الأرض وقال: (ما لى مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، وهو مردود فيكم) . قالوا: فتبين بهذا الحديث أن ما أعطى النبى المؤلفة ومن لم يشهد الوقعة إنما كان من نصيبه وحقه من الغنيمة خاصة. قال أبو عبيد: مكة لا تشبه شيئًا من البلاد؛ وذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) سن بمكة سننًا لم يسنها فى سائر البلاد. روى عن عائشة أنها قالت: (يا رسول الله، ألا تبنى لك بيتًا يظلك من الشمس بمكة؟ قال: لا، إنما هى مناخ من سبق) رواه عن ابن مهدى، عن إسرائيل، عن إبراهيم بن مهاجر، عن يوسف بن ماهك، عن أمه، عن عائشة، وقال عبد الله بن عمرو: من أكل من أجور بيوت مكة، فإنما يأكل فى بطنه نار جهنم. وكره أهل العلم كراء بيوتها. وقال ابن عباس وابن عمر: الحرم كله مسجد. وقال مجاهد: مكة مناخ لا تباع رباعها، ولا تؤخذ أجور بيوتها، ولا تحل ضالتها إلا لمنشد. قال أبو عبيد: فإذا كان حكم مكة أنها مناخ لمن سبق، وأنها(5/303)
مسجد لجماعة المسلمين، ولا تباع رباعها، ولا يطيب كراء بيوتها، فكيف يقاس غيرها عليها.
باب: المَنِّ عَلَى الأَسَارَى مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخَمَّسُوا
947 / فيه: جُبَيْر، أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ فِى أُسَارَى بَدْرٍ: (لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِىٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِى فِى هَؤُلاءِ السبى لَتَرَكْتُهُمْ) . هذا الحديث حجة فى جواز المن على الأسارى، وإطلاقهم بغير فداء، خلاف قول بعض التابعين؛ لأن النبى لا يجوز فى صفته أن يخبر عن شيء لو وقع لفعله وهو غير جائز. قال المهلب: وفيه جواز التشفيع للمذنبين الشريف على سبيل الاستئلاف، والانتفاع بإشفاعه فى رد عادته المشركين بأكثر ما يخشى من ضد المطلقين لطاعتهم لسيدهم المشفع بهم، وهو نظر من الرسول، وأن الانتفاع بالمن عليهم أكثر من قتلهم أو استرقاقهم. قال المؤلف: وقوله باب: (المن على الأسارى من غير أن يخمسوا) فيه حجة لما ذكره ابن القصار عن مالك وأبى حنيفة أن الغنائم لا يستقر ملك الغانمين عليها بنفس الغنيمة إلا بعد قسمة الإمام لها. وحكى عن الشافعى أنهم يملكون بنفس الغنيمة.(5/304)
قال المؤلف: والحجة للقول الأول هذا الحديث، وذلك أنه (صلى الله عليه وسلم) لو من على الأسارى سقط سهم من له الخمس كما سقط سهم الغانمين. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لتركتهم به) يقضى ترك جميعهم لا ترك بعضهم. واحتج ابن القصار فقال: لو ملكوا بنفس الغنيمة لكان من له أب أو ولد ممن يعتق عليه إذا ملكه يجب أن يعتق عليه بنفس الغنيمة، ويحاسب به من سهمه، وكان يجب لو تأخرت القسمة فى العين والورق ثم قسمت أن يكون حول الزكاة على الغانمين يوم غنموا. وفى اتفاقهم أنه لا يعتق عليهم من يلزمهم عتقه إلا بعد القسمة، ولا يكون حول الزكاة إلا من يوم حاز نصيبه بالقسمة أنه لا يملك بنفس الغنيمة، ولو ملك بنفس الغنيمة لم يجب عليه الحد إذا وطىء جارية من المغنم قبل القسمة. واحتج أصحاب الشافعى فقالوا: لو ترك السبى لمطعم بن عدى كان يستطيب أنفس أصحابه الغانمين، كما فعل فى سبى هوازن؛ لأن الله أوجب لهم ملك الغنائم إذا غنموها بقوله: (واعلموا أنما غنمتم من شىء (فأضافهم إليهم. وأما قولهم: لو ملكوا بنفس الغنيمة، فكان من له أب أو ولد يعتق بنفس الغنيمة، ولا حجة فيه؛ لأن السنة إنما وردت فيمن أعتق شقصًا له فى عبد معين قد ملكه وعرفه بعينه، فأما ما لا يعرف بعينه فلا يشبه عتق الشريك.(5/305)
ألا ترى أن الشريك له أن يعتق كما يعتق صاحبه، وفى إجماعهم أنه يعتق على الشريك الموسر فى المعتق، وإجماعهم أنه لا يعتق عليه فى شركته فى الغنيمة دليل واضح على الفرق بينهما. وأما قوله أنه يجب أن يكون حول الزكاة من وقت الغنيمة لو كان ملكًا فخطأ بين على مذهب المالكيين وغيرهم؛ لأن العوائد لا يراعى حولها عندهم إلا من يوم يصير بيد صاحبه، وأما اعتلالهم بوجوب الحد على من وطىء من المغنم قبل القسمة فلا معنى له؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، ولا خلاف بين العلماء أنه لو وطىء جارية معينة بينه وبين غيره لم يحد، فكيف ما لا يتعين؟
- باب وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْخُمُسَ لِلإمَامِ وَأَنَّهُ يُعْطِى بَعْضَ قَرَابَتِهِ دُونَ بَعْضٍ مَا قَسَمَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) لِبَنِى الْمُطَّلِبِ وَبَنِى هَاشِمٍ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ
قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ: لَمْ يَعُمَّهُمْ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَخُصَّ قَرِيبًا دُونَ مَنْ هُوَ أَحْوَجُ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الَّذِى أَعْطَى لِمَا يَشْكُو إِلَيْهِ مِنَ الْحَاجَةِ وَلِمَا مَسَّهُمْ فِى جَنْبِهِ مِنْ قَوْمِهِمْ وَحُلَفَائِهِمْ. 1948 / فيه: جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطَيْتَ بَنِى الْمُطَّلِبِ وَتَرَكْتَنَا، وَنَحْنُ وَهُمْ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا بَنُو الْمُطَّلِبِ وَبَنُو هَاشِمٍ شَىْءٌ وَاحِدٌ) . قال الخطابِىّ: شىء أى مثل. قَالَ جُبَيْرٌ: وَلَمْ يَقْسِمِ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) لِبَنِى عَبْدِ شَمْسٍ وَلا لِبَنِى نَوْفَلٍ.(5/306)
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَعَبْدُ شَمْسٍ وَهَاشِمٌ وَالْمُطَّلِبُ إِخْوَةٌ لأمٍّ، وَأُمُّهُمْ عَاتِكَةُ بِنْتُ مُرَّةَ، وَكَانَ نَوْفَلٌ أَخَاهُمْ لأبِيهِمْ. قال المؤلف: هذا الباب رد لقول الشافعى أيضًا أن سهم ذى القربى خمس الخمس يقسم بينهم لا يفضل فقير على غني. قال إسماعيل بن إسحاق: وليس فى هذا الباب أنه (صلى الله عليه وسلم) قسم بينهم خمس الخمس، وقد يجوز أن يقسم بينهم أكثر وأقل؛ لأنه لم يخص فى الحديث مبلغ سهمهم كم هو، وإنما قصد فى الحديث الفرق بين بنى هاشم وبنى المطلب، وبين سائر بنى عبد مناف. وهذا الحديث يرد قول ابن عباس حين كتب إليه نجدة يسأله عن سهم ذى القربى ومن هم؟ قال: هم قرابة الرسول، ولكن أبى علينا قومنا فصبرنا، ألا ترى أن ابن عباس لم يظلم من أبى ذلك عليه، فدل أن ما أريد به مع ذلك بقرابة رسول الله بعضهم دون بعض، وجعل الرأى فى ذلك إلى رسول الله يضعه فيمن شاء منهم، وهم أهل الفقر والحاجة خاصة، وكذلك قال عمر بن الخطاب: إنما جعل الخمس لأصناف سماهم، فأسعدهم فيه حظا أشدهم فاقة وأكثرهم عددًا. وذكر الطحاوى بإسناذه عن الحسن بن محمد بن على قال: اختلف الناس بعد وفاة النبى (صلى الله عليه وسلم) فى سهم ذى القربى، فقال قوم: هو لقرابة الخليفة، وقال قوم: سهم النبى (صلى الله عليه وسلم) هو للخليفة من بعده ثم أجمع رأيهم أن يجعلوا هذين السهمين فى العدة والخيل فى سبيل الله، فكان ذلك إمارة أبى بكر وعمر.(5/307)
قال الطحاوى: أفلا ترى أن ذلك مما قد أجمع عليه الصحابة، ولو كان ذلك لقرابة رسول الله لما منعوا منه، ولما صرف إلى غيرهم، ولا خفى ذلك عن الحسن بن محمد مع علمه وتقدمه. وهذا يرد قول من زعم أن لذى القربى سهمًا مفروضًا من الخمس، وقد تقدم هذا المعنى فى باب (درع النبى وعصاه وسيفه) . وزعم الشافعى أنه يعطى الرجل من ذوى القربى سهمين والمرأة سهمًا. وخالفه أصحابه: المزنى، وأبو ثور، وجميع الناس وقالوا: الذكر والأنثى فى ذلك سواء. وهذا هو الصحيح؛ لأنهم إنما أعطوا بالقرابة، وذلك لا يوجب التفضيل، كما لو أوصى الرجل لقرابته بوصية، لم يعط الذكر مثل حظ الأثنيين؛ لأنهم إنما أعطوا باللفظ الذى أوجب لهم ذلك، فأما المواريث فإن الله تعالى قسمها بين أهلها على أمور مختلفة، جعل للوالدين فى حال شيئًا وفى حال غيره والأولاد إذا كانوا ذكورًا وإناثًا شيئًا، وإذا كن إناثًا غير ذلك، وكذلك الإخوة والأخوات. وهذا الحديث حجة للشافعى أن ذا القربى الذى يسهم لهم من الخمس هم بنو هاشم وبنو المطلب أخى هاشم خاصة دون سائر قرابته (صلى الله عليه وسلم) ، وبه قال أبو ثور، وقال ابن الحنفية: سهم ذى القربى هو لنا أهل البيت. وروى عمر بن عبد العزيز أنهم بنو هاشم خاصة. وقال أصبغ بن الفرج: اختلف فى ذلك، فقيل: هم قرابة الرسول، وقيل: قريش(5/308)
كلها. قال: ووجدت معانى الآثار أنهم آل محمد. وقد تقدم فى كتاب الزكاة اختلافهم فى آل محمد الذين لا تحل لهم الصدقة.
- باب مَنْ لَمْ يُخَمِّسِ الأسْلابَ وَمَنْ قَتَلَ قَتِيلا فَلَهُ سَلَبُهُ مِنْ غَيْرِ الخَمِّسَ وَحُكْمِ الإمَامِ فِيهِ
949 / فيه: عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، بَيْنَا أَنَا وَاقِفٌ فِى الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِى وَعَنْ شِمَالِى، فَإِذَا أَنَا بِغُلامَيْنِ مِنَ الأنْصَارِ، حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا، تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا، فَغَمَزَنِى أَحَدُهُمَا، فَقَالَ: يَا عَمِّ، هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، مَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ، يَا ابْنَ أَخِى؟ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لا يُفَارِقُ سَوَادِى سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الأعْجَلُ مِنَّا، فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَغَمَزَنِى الآخَرُ، فَقَالَ لِى مِثْلَهَا، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ أَبِى جَهْلٍ يَجُولُ فِى النَّاسِ، فَقُلْتُ: أَلا إِنَّ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِى سَأَلْتُمَانِى عَنْهُ، فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا، فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلاهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَخْبَرَاهُ، فَقَالَ: أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ، فَقَالَ: هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟ قَالا: لا، فَنَظَرَ فِى السَّيْفَيْنِ، فَقَالَ: كِلاكُمَا قَتَلَهُ، سَلَبُهُ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَكَانَا مُعَاذَ بْنَ عَفْرَاءَ وَمُعَاذَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الجَمُوحِ) . 1950 / وفيه: أَبُو قَتَادَةَ، خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَامَ حُنَيْنٍ، فَلَمَّا الْتَقَيْنَا كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ، فَرَأَيْتُ رَجُلا مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَلا رَجُلا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَدَرْتُ حَتَّى أَتَيْتُهُ مِنْ وَرَائِهِ، حَتَّى ضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ، فَأَقْبَلَ عَلَىَّ فَضَمَّنِى ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ(5/309)
الْمَوْتُ، فَأَرْسَلَنِى، فَلَحِقْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَقُلْتُ: مَا بَالُ النَّاسِ؟ قَالَ: أَمْرُ اللَّهِ، ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ رَجَعُوا، وَجَلَسَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (مَنْ قَتَلَ قَتِيلا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، فَلَهُ سَلَبُهُ) ، فَقُمْتُ، فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِى، ثُمَّ جَلَسْتُ، ثُمَّ قَالَ الثَّالِثَةَ مِثْلَهَا، فَقُمْتُ، [فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا لَكَ يَا أَبَا قَتَادَةَ) ؟ فَاقْتَصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ] فَقَالَ رَجُلٌ: صَدَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَسَلَبُهُ عِنْدِى، فَأَرْضِهِ عَنِّى، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: لاهَا اللَّهِ، إِذًا لا يَعْمِدُ إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) ، يُعْطِيكَ سَلَبَهُ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (صَدَقَ) ، فَأَعْطَاهُ، فَبِعْتُ الدِّرْعَ، فَابْتَعْتُ بِهِ مَخْرَفًا فِى بَنِى سَلِمَةَ، وَإِنَّهُ لأوَّلُ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ فِى الإسْلامِ. ووقع هذا الحديث فى غزوة حنين من حديث الليث، عن يحيى بن سعيد (كلا لا نعطيه أضيبع من قريش، وندع أسدًا من أسد الله. . .) الحديث. اختلف الفقهاء فى السلب، هل يخمس؟ فقال الشافعى: كل شيء من الغنيمة يخمس إلا السلب؛ فإنه لا يخمس. وهو قول أحمد بن حنبل وجماعة من أهل الحديث. وذكر ابن خواز بنداذ عن مالك أن الإمام مخير فيه، إن شاء خمسه على الاجتهاد كما فعل عمر فى سلب البراء بن مالك، وإن شاء لم يخمسه، واختاره إسماعيل ابن إسحاق، وقال إسحاق بن راهويه: إذا كثرت الأسلاب، خمست كما فعل عمر بن الخطاب. وقال مكحول والثورى: السلب مغنم ويخمس. وفى مختصر الوقار، عن مالك أنه يخمس السلب. وهو قول ابن عباس، روى الزهرى، عن القاسم بن محمد، عن ابن عباس قال: السلب من النفل والنفل يخمس. وحجة من رأى تخميسها قوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من(5/310)
شيء فأن لله خمسه} ولم يستثن سلبًا ولا غيره، وحجة من قال: لا يخمس حديث معاذ بن عمرو، وحديث أبى قتادة، وليس فى واحد منهما تخميس الأسلاب. وعموم قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من قتل قتيلا فله سلبه) فملكه السلب ولم يستثن شيئًا منه. وإلى هذا ذهب البخاري. وحجة من رأى تخميسها على الاجتهاد إذا كثرت ما رواه سفيان عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أنس بن مالك (أن البراء بن مالك بارز مرزبان الزاره فقتله، فقوم سلبه ثلاثين ألفًا، فلما صلينا الصبح غدا علينا عمر بن الخطاب فقال لأبى طلحة: إنا كنا لا نخمس الأسلاب وإن سلب البراء بلغ مالا، ولا أرانا خامسه، فقومنا ثلاثين ألفًا فدفعنا إلى عمر ستة آلاف، فكان أول سلب خمس فى الإسلام) فدل فعل عمر أن لهم أن يخمسوا إّذا رأى الإمام ذلك. واختلف العلماء فى حكم السلب، فقال مالك: لا يستحق القاتل سلب قتيله إلا أن يرى ذلك الإمام بحضرة القتال فينادى ليحرض الناس على القتال، أو يجعله مخصوصًا لإنسان إذا كان جهده. وبه قال أبو حنيفة والثوري. واحتج مالك بأن رسول الله إنما قال: (من قتل قتيلا فله سلبه) بعد أن برد القتال يوم حنين ولم يحفظ ذلك عنه فى غير يوم حنين، ولا بلغنى ذلك عن الخليفتين. فليس السلب للقاتل إلا أن يقول ذلك الإمام، وإلا فالسلب غنيمة، وحكمه حكم الغنائم؛ لأن الأربعة الأخماس للغانمين والنفل زيادة على الواجب، فلا تكون تلك الزيادة من الواجب بل من غيره وهو الخمس. وقال الأوزاعى والليث والشافعى وأبو ثور: السلب للقاتل على(5/311)
كل حال سواء قال ذلك الإمام أو لم يقله؛ لأنها قضية قضاها رسول الله فى مواطن شتى لا يحتاج إلى إذن الإمام فيها. وقد أعطى رسول الله سلب أبى جهل يوم بدر لمعاذ بن عمرو، فثبت أن ذلك كان قبل يوم حنين، خلاف قول مالك. واحتج أصحاب الشافعى بحديث معاذ بن عمرو أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان أعطاه السلب؛ لأنه كان أثخنه ومعاذ بن عفراء أجهز عليه. قالوا: وعندنا أنه إذا أثخن أحدهم المشرك بالضرب وذبحه الآخر، كان السلب للمثخن لا للذابح. قال المهلب: ونظره (صلى الله عليه وسلم) إلى سيفيهما واستدلاله منهما على أيهما قتله، دليل أنه لم يعط السلب إلا لمن أثخنه، وله مزية فى قتله، وموضع الاستدلال منه أنه رأى فى سيفيهما مبلغ الدم من جانبى السيفين، ومقدار عمق دخولهما فى جسم أبى جهل، ولذلك سألهما هل مسحاهما؛ لأنه لو مسحاهما لتغير مقدار ولوجهما فى جسمه. وقوله: (كلاكما قتله) فلو كان السلب مستحقًا بالقتل لكان يجعله بينهما؛ لأنهما اشتركا فى قتله، ولا ينتزعه من أحدهما. فلما قال لهما: (كلاكما قتله) ثم قضى بالسلب لأحدهما دون الآخر، دل ذلك على ما قلنا؛ ألا ترى أن الإمام لو قال: (من قتل قتيلا فله سلبه) فقتل رجلان قتيلا أن سلبه بينهما نصفين وأنه ليس للإمام أن يحرمه أحدهما ويدفعه للآخر؛ لأن كل واحد منهما له فيه من الحق مثلما لصاحبه، وهما أولى به من الإمام، فلما كان للنبى فى سلب أبى جهل أن يجعله لأحد قاتليه دل أنه كان أولى به منهما؛ لأنه لم يكن قال يومئذ: (من قتل قتيلا فله سلبه) قاله الطحاوي. وقال ابن القصار: لما خص به (صلى الله عليه وسلم) أحدهما علم أنه غير(5/312)
مستحق إلا بعطية الإمام؛ لأن عطاء الإمام عندنا من الخمس، فيكون معنى قوله: (من قتل قتيلا فله سلبه) يعنى: من الخمس لا من مال الغانمين. واحتج أصحاب الشافعى فقالوا: إنما أعطى السلب لأحدهما وإن كان قال: (كلاكما قتله) لأنه استطاب نفس صاحبه، ولم ينقل ذلك، ويشهد لصحة هذا ما ثبت عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه جعل السلب للقاتل يوم بدر وغيره، روى ذلك من حديث عبد الرحمن بن عوف، وحديث عوف بن مالك، وحديث أبى قتادة، وحديث ابن عباس، قالوا: لأنه محال أن يقول: (كلاكما قتله) ويقول: (من قتل قتيلا فله سلبه) ثم يعطى أحدهما إلا عن إذن صاحبه، كما فعل فى غنائم هوازن. وبهذا التأويل تسلم الحاديث من التعارض والاختلاف. قالوا: وحديث أبى قتادة، يدل أن السلب من رأس الغنيمة لا من الخمس؛ لأن الرسول أعطى أبا قتادة سلب قتيله قبل قسمة الغنيمة لأنه نفله حين برد القتال، ولم يقسم الغنيمة إلا بعد أيام كثيرة بالجعرانة. فأجابهم أصحاب مالك والكوفيون، فقالوا: هذا حجة لنا؛ وذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) إنما قال ذلك فى حديث أبى قتادة بعد تقضى الحرب وقد حيزت الغنائم وهذه حالة قد سبق فيها مقدار حق الغانمين وهو الأربعة الأخماس على ما فرضها الله لهم؛ فينبغى أن يكون من الخمس، وإذا تقرر أنه صلى الله عليه ابتدأ فأعطى القاتل السلب بعد أن قال: (ما لى مما أفاء الله عليكم إلا الخمس وهو مردود فيكم) علم أن عطية ذلك وغيره من الخمس المضاف إليه، ولا يكون الخمس إلا بعد حصول الأربعة الأخماس للغانمين.(5/313)
وما رأى الإمام أن يعطيه من أبلى واجتهد فى نكاية العدو، فهو ابتداء عطية منه؛ فينبغى ألا يكون من حق الغانمين، وأن يكون مما إليه صرفه على وجه الاجتهاد وهو الخمس، كما ينفل من الخمس، لا من حقوق الغانمين. واختلفوا فى الرجل يدعى أنه قتل رجلا بعينه، ويدعى سلبه، فقالت طائفة: يكلف على ذلك البينة، فإن جاء بشاهدين أخذه، وإن جاء بشاهد واحد حلف معه وكان له سلبه، واحتجوا بحديث أبى قتادة وبأنه حق يستحق مثله بشاهد ويمين، وهو قول الليث والشافعى، وجماعة من أهل الحديث. وقال الأوزاعى: يعطاه إذا قال إنه قتله ولا يسأل على ذلك بينة. وقال ابن القصار وغيره: إن النبى شرط البينة، وأعطى أبا قتادة سلبه على بينة، وذلك بشهادة رجل واحد دون يمين؛ فعلم أنه لم يعطه لأنه استحقه بالقتل لأن المغانم له أن يعطى منها مما يبقى لمن شاء، ويمنع من شاء؛ لقوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه (الآية والمغانم خلاف الحقوق التى لا تستحق إلا بإقرار أو شاهدين. وقال أصحاب الشافعى: إن النبى لم يعطه أبا قتادة إلا ببينة؛ لأنه أقر له به من كان حازه لنفسه فى القتال، فصدق أبا قتادة، وقال أبو بكر الصديق ما قال، وأضاف السلب إليه؛ فحصل شاهدان له. وأيضًا فإن كل من فى يده شيء فإقراره به لغيره يقوم مقام البينة. قال المهلب: فى حديث أبى قتادة من الفقه جواز كلام الوزير ورد سائر الأمر قبل أن يعلم جواب الأمير، كما فعل أبو بكر حين قال: لا ها الله، وقال ثابت فى (غريب الحديث) : قال أبو عثمان المازنى:(5/314)
من قال: (لا ها الله إذا) فقد أحطأ، إنما هو: لا ها الله ذا. أى: ذا يمينى وذا قسمي. وقال أبو زيد: يقال: (لا ها الله ذا) ، و (ذا) صلة فى الكلام وليس من كلامهم: لا ها الله إذا. وقال غيره: هو مثل قول زهير: تعلمتها لعمر الله ذا قسمًا وقوله: فابتعت به مخرفًا. قال أبو حنيفة اللغوى: إذا اشترى الرجل نخلتين وثلاثًا إلى العشر يأكلهن قيل: قد اشترى مخرفًا جيدًا، والخرائف للنخل التى يخترفن، واحدها خروفة وخريفة والمخرف بكسر الميم - الزنبيل الذى يخترف فيه، والخارف اللاقط والحافظ للنخل. وقوله فى حديث عبد الرحمن بن عوف: (تمنيت أن أكون بين أصلح منهما) هكذا رواه مسدد، عن يوسف بن الماجشون، ورواه إبراهيم بن حمزة الزبيرى، وموسى بن إسماعيل، وعفان عن يوسف بن الماجشون (تمنيت أن أكون بين أضلع منهما) وهو أشبه بالمعنى. ورواية ثلاثة حفاظ أولى من رواية واحد خالفهم. وأماحديث إبراهيم بن حمزة فرواه الطحاوى عن أبى داود عنه. وحديث موسى بن إسماعيل رواه ابن سنجر عنه، وحديث عفان رواه ابن أبى شيبة عنه. وأما رواية الليث فى حديث أبى قتادة (كلا لا نعطيه أضيبع من قريش) فيمكن أن يكون معناها والله أعلم - ما ذكره الخطابى أن عتبة بن ربيعة نهى يوم بدر عن القتال وقال: يا قوم(5/315)
اعصبوها برأسى وقولوا: جبن عتبة، وقد تعلمون أنى لست بأجبنكم. فقال أبو بكر: الله لو غيرك قالها لأعضضته، قد ملىء جوفه رعبًا. فقال عتبه: أولى تعنى يا مصفر استه، ستعلم أينا اليوم أجبن. . .) فى حديث طويل. قال الخطابى: قوله: (يا مصفر استه) قيل: إنه نسبه إلى التوضيع والتأنيث، وقيل: إنه لم يرد به ذلك، وإنما هى كلمة تقال للرجل المترف الذى يؤثر الراحة ويميل إلى التنعيم. قال المؤلف: قال لى بعض أهل اللغة: إنما سمى أضيبع؛ لأنه كان له شامة يصبغها.
- باب مَا كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يُعْطِى الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ مِنَ الْخُمُسِ وَنَحْوِهِ
رَوَاهُ عَبْدُاللَّهِ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . 1951 / فيه: حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَأَعْطَانِى، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِى، ثُمَّ قَالَ لِى: (يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِى يَأْكُلُ وَلا يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى) . قَالَ حَكِيمٌ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا، حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ، يَدْعُو حَكِيمًا، لِيُعْطِيَهُ الْعَطَاءَ، فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، إِنِّى أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ الَّذِى قَسَمَ اللَّهُ لَهُ مِنْ هَذَا الْفَىْءِ، فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ. فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ شَيْئًا بَعْدَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) حَتَّى تُوُفِّىَ.(5/316)
52 / وفيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ كَانَ عَلَىَّ اعْتِكَافُ يَوْمٍ فِى الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَفِىَ بِهِ، وَأَصَابَ عُمَرُ جَارِيَتَيْنِ مِنْ سَبْىِ حُنَيْنٍ، فَوَضَعَهُمَا فِى بَعْضِ بُيُوتِ مَكَّةَ، قَالَ: فَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى سَبْىِ حُنَيْنٍ، فَجَعَلُوا يَسْعَوْنَ فِى السِّكَكِ، قَالَ عُمَرُ: يَا عَبْدَاللَّهِ، انْظُرْ مَا هَذَا؟ قَالَ: فَقَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى السَّبْىِ، قَالَ: اذْهَبْ فَأَرْسِلِ الْجَارِيَتَيْنِ. وَزَادَ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: مِنَ الْخُمُسِ. 1953 / وفيه: عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ، أَعْطَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَوْمًا، وَمَنَعَ آخَرِينَ، فَكَأَنَّهُمْ عَتَبُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ: (إِنِّى أُعْطِى قَوْمًا أَخَافُ ظَلَعَهُمْ وَجَزَعَهُمْ، وَأَكِلُ أَقْوَامًا إِلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ فِى نُفُوسِهِمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالْغِنَى، مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ) ، فَقَالَ عَمْرُو: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِى بِكَلِمَةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حُمْرَ النَّعَمِ. 1954 / وفيه: أَنَس، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنِّى أُعْطِى قُرَيْشًا أَتَأَلَّفُهُمْ؛ لأنَّهُمْ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ) . 1955 / وفيه: أَنَسُ، أَنَّ نَاسًا مِنَ الأنْصَارِ قَالُوا لِلْنَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) حِينَ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ أَمْوَالِ هَوَازِنَ: مَا أَفَاءَ، فَطَفِقَ يُعْطِى رِجَالا مِنْ قُرَيْشٍ الْمِائَةَ مِنَ الإبِلِ، فَقَالُوا: يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُعْطِى قُرَيْشًا، وَيَدَعُنَا وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ، فَحُدِّثَ بِمَقَالَتِهِمْ، فَأَرْسَلَ إِلَى الأنْصَارِ، فَجَمَعَهُمْ فِى قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ، وَلَمْ يَدْعُ مَعَهُمْ أَحَدًا غَيْرَهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا، جَاءَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (مَا كَانَ حَدِيثٌ بَلَغَنِى عَنْكُمْ) ؟ فَقَالَ لَهُ فُقَهَاؤُهُمْ: أَمَّا ذَوُو آَرَأَيَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَلَمْ يَقُولُوا شَيْئًا، وَأَمَّا أُنَاسٌ مِنَّا حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمْ، فَقَالُوا: يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُعْطِى قُرَيْشًا، وَيَتْرُكُ الأنْصَارَ وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنِّى أُعْطِى رِجَالا حَدِيثِى عَهْدُهُمْ بِكُفْرٍ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالأمْوَالِ، وَتَرْجِعُون(5/317)
إِلَى رِحَالِكُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَوَاللَّهِ مَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ) ، قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ رَضِينَا، فَقَالَ لَهُمْ: (إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِى أَثَرَةً شَدِيدَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى الْحَوْضِ) . قَالَ أَنَسٌ: فَلَمْ يَصْبِرْوا. 1956 / وفيه: جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، بَيْنَا هُوَ مَعَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) وَمَعَهُ أُنَاسٌ مُقْفَلَه مِنْ حُنَيْنٍ، عَلِقَتْ بِرَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الأعْرَابُ يَسْأَلُونَهُ حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى سَمُرَةٍ، فَخَطِفَتْ رِدَاءَهُ، فَوَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (أَعْطُونِى رِدَائِى، فَلَوْ كَانَ عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ، ثُمَّ لا تَجِدُونِى بَخِيلا وَلا كَذُوبًا وَلا جَبَانًا) . 1957 / وفيه: أَنَس، كُنْتُ أَمْشِى مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِىٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِىٌّ، فَجَذَبَهُ جَذْبَةً شَدِيدَةً، حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) قَدْ أَثَّرَتْ بِهِ حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَذْبَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: مُرْ لِى مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِى عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ، فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاه. 1958 / وفيه: ابْن مسعود، لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ آثَرَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) أُنَاسًا فِى الْغَنِمَةِ، وَأَعْطَى الأقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِنَ الإبِلِ، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَعْطَى أُنَاسًا مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ، فَآثَرَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِى الْقِسْمَةِ، فَقَالَ رَجُلٌ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ مَا عُدِلَ فِيهَا، وَمَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لأخْبِرَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَتَيْتُهُ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: (فَمَنْ يَعْدِلُ، إِذَا لَمْ يَعْدِلِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى قَدْ أُوذِىَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ) . 1959 / وفيه: أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِى بَكْرٍ قَالَتْ: كُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِى أَقْطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى رَأْسِى، وَهِىَ مِنِّى عَلَى ثُلُثَىْ فَرْسَخٍ. وَقَالَ عروة، عن أَسْمَاءَ: أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَقْطَعَ الزُّبَيْرَ أَرْضًا مِنْ أَمْوَالِ بَنِى النَّضِيرِ.(5/318)
60 / وفيه: ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ أَجْلَى الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَمَّا ظَهَرَ عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ الْيَهُودَ مِنْهَا، وَكَانَتِ الأرْضُ لَمَّا ظَهَرَ عَلَيْهَا لِلْيَهُودِ وَلِلرَّسُولِ وَلِلْمُسْلِمِينَ، فَسَأَلَ الْيَهُودُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يَتْرُكَهُمْ عَلَى أَنْ يَكْفُوا الْعَمَلَ، وَلَهُمْ نِصْفُ الثَّمَرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (نُقِرُّكُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا) ، فَأُقِرُّهم حَتَّى أَجْلاهُمْ عُمَرُ فِى إِمَارَتِهِ إِلَى تَيْمَاءَ وَأَرِيحَا. قال المؤلف: آثار هذا الباب ترد قول الشافعى؛ فإنه زعم أن النبى عليهه السلام إنما كان يعطى المؤلفة قلوبهم وغيرهم من خمس الخمس؛ لأنه سهمه خاصة. قال إسماعيل بن إسحاق: وهذه قسمة لم يعدل فيها الشافعى؛ لأنه لا يتوهم أحد أن خمس الخمس يكون مبلغه ما أعطى المؤلفة من تلك العطايا الكثيرة، فإن كان ذلك كله من خمس الخمس، فإن أربعة أخماس الخمس أضعاف ذلك كله. قال إسماعيل: وأعطى النبى المؤلفة قلوبهم من الخمس وليس للمؤلفة قلوبهم ذكر فى الخمس ولا فى الفيء، وإنما ذكروا فى الصدقات فدل إعطاؤهم من غنائم حنين، أن الخمس يقسمه الإمام على ما يراه، وليس على الأجزاء التى قال الشافعى، وأبو عبيدة، ولو كان كذلك ما جاز أن يعطى المؤلفة قلوبهم من ذلك شيئًا. قال المؤلف: وآثار هذا الباب أيضًا ترد مقالة قوم ذكرهم الطبرى، زعموا أن إعطاء النبى (صلى الله عليه وسلم) المؤلفة قلوبهم كان من جملة الغنيمة لا من الخمس، وزعموا أنه كان له (صلى الله عليه وسلم) أن يمنع الغنيمة من شاء ممن حضر القتال ويعطيها من لم يحضر، وهو قول مردود بالآثار الثابتة، وبدلائل القرآن. قال المهلب: وكان حكيم ممن استؤلف بالمال؛ لأنه كان يحب المال.(5/319)
وفيه: رد السائل إذا ألحف بالموعظة الحسنة، لا بالانتهار الذى نهى الله عنه. وفيه: أن الحرص على المال والإفراط فى حبه وطلبه يوجب المحق له، وأن النفس الشريفة هى سخية به إن أعطته وسخية به إن أخذته، ولم تكن عليه حريصة، يبارك لها فيه، كما قال (صلى الله عليه وسلم) ، وقد تقدم كثير من معانى حديث حكيم فى كتاب الزكاة من التعفف عن المسألة. وفيه: ذم كثرة الأكل، وتقبيحه. وفى حديث أنس من الفقه أن على الإمام أن يمتحن ما يكره مما يبلغه من الأخبار، ولا يدع الناس يخوضون من أمره فيما يؤزرون به، فربما أورث ذلك نفاقًا فى قلوبهم فيجب امتحان ما سمعه من ذلك، واختباره بنفسه حتى يتبين وجه ما أنكر عليه، ومعنى مراده؛ لتذهب نزغات الشيطان من نفوسهم، كما فعل (صلى الله عليه وسلم) بالأنصار حين رضاهم بما لم يكونوا يرضون به من قبل من الأثرة عليهم لما بينه لهم. وفيه: أن الإمام إذا اختص قومًا بنفسه وجيرته، أن يعلم لهم حق الجوار على غيرهم من الناس. وفيه: شرف جيران الملك على سائر من بعد عن جيرته. وفيه: أن الرجل العالم والإمام العادل، خير من المال الكثير. وفيه: استئلاف الناس بالعطاء الجزيل لما فى ذلك من المنفعة للمسلمين والدفاع عنهم. وفيه: أن الأنصار لا حق لهم فى الخلافة؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) عرفهم(5/320)
أنه سيؤثر عليهم، والمؤثر يجب أن يكون من غيرهم؛ ألا ترى قوله: (فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله) فعرفهم أن ذلك حالهم إلى انقضاء الزمان. وفى حديث جبير استعمال حسن الأخلاق والحلم لجهل الناس والأعراب وقلة ردهم بالخيبة. وفيه: سنة الأمراء أن يسكنوا عن رد السائل، ويتركوه تحت الرجاء ولا يؤيسوه ويوحشوه. وفيه: مدح الرجل نفسه إذا ألحف عليه فى المسألة فى المال والعلم وغيره. وفيه: أن النبى (صلى الله عليه وسلم) مدح نفسه بالجود العظيم، ووصف نفسه بالشجاعة والبأس الذى بسببه كانت الأعراب تسأله، ووصف نفسه بالصدق فيما يعد به من العطايا. وفيه: أنه من أخلف وعد الله جاز أن يسمى: كاذبًا، وقد قال تعالى: (إنه كان صادق الوعد (. وقال ابن المنذر: فى حديث جبير دليل على أن الإمام بالخيار إن شاء قسم الغنائم بين أهلها قبل أن يرجع إلى بلاد الإسلام، وإن شاء أخر ذلك، على قدر فراغه وشغله إلى وقت خروجه، وعلى قدر ما يرى من الصلاح فيه. وقال المهلب: فى حديث الذى جبذ النبى معنى ما تقدم من صبر السلاطين والعلماء لجهال السؤال واستعمال الحلم لهم، والصبر على أذاهم فى المال والنفس.(5/321)
وفى حديث ابن مسعود الأثرة فى القسمة نصا. وفيه: الإعراض عن الأذى إذا لم يعين قائلوه، والتأسى بما تقدم من الفضلاء فى الصبر والحلم. وفى حديث أسماء: عون المرأة للرجل فيما يمتهن فيه الرجل، وذلك من باب التطوع منها وليس بواجب عليها، وسيأتى فى كتاب النكاح ما يلزم المرأة من خدمة واختلاف العلماء فى ذلك عند ذكر هذا الحديث إن شاء الله. وأما قوله: (إن النبى (صلى الله عليه وسلم) أقطع الزبير أرضًا من بنى النضير) فليست من جملة الخمس؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) أجلى بنى النضير حين أرادوا الغدر به وقتله [. . . .] كانت فيما لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، فخمس منها رسول الله فى نوائبه وقسم أكثرها فى المهاجرين خاصة، فلم يجر فيها خمس. وأما خيبر فإن ابن شهاب قال: بعضها كان عنوة، وبعضها كان صلحًا، وما كان عنوة فجرى فيه الخمس. فأما قوله: (وكانت الأرض لما ظهر عليها لليهود وللرسول وللمسلمين) فقد اختلفت الرواية فى ذلك، فروى ابن السكن عن الفريرى: (وكانت الأرض لما ظهر عليها لله وللرسول وللمسلمين) . وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة: بل الصواب لليهود، وهو الصحيح. وكذلك روى البيهقى عن الفربرى. وقوله: (لما ظهر عليها) أى: لما ظهر عليها بفتح أكثرها ومعظمها قبل أن يسأله اليهود أن يصالحوه بأن ينزلوا ويعطوه الأرض، ويسلمهم(5/322)
فى أنفسهم فكانت لليهود، فلما صالحهم على أن يسلموا له الأرض، كانت الأرض لله ولرسوله، يريد هذه الأرض التى صالحه اليهود بها وخمس الأرض التى كان أخذها عنوة، وللمسلمين الأربعة الأخماس من العنوة، ولم يكن لليهود فيها شيء؛ لخروجهم عنها بالصلح، والدليل على ذلك أن عمر لما أخرجهم إنما أعطاهم قيمة الثمرة لا قيمة الأصول، فصح أنهم كانوا مساقين فيها بعد أن صولحوا على أنفسهم وبالله التوفيق.
- باب مَا يُصِيبُ مِنَ الطَّعَامِ فِى أَرْضِ الْحَرْبِ
961 / فيه: ابْن مُغَفَّلٍ، قَالَ: كُنَّا مُحَاصِرِينَ قَصْرَ خَيْبَرَ، فَرَمَى إِنْسَانٌ بِجِرَابٍ فِيهِ شَحْمٌ، فَنَزَوْتُ لآخُذَهُ، فَالْتَفَتُّ، فَإِذَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ. 1962 / وفيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كُنَّا نُصِيبُ فِى مَغَازِينَا الْعَسَلَ وَالْعِنَبَ فَنَأْكُلُ منه، وَلا نَرْفَعُهُ. 1963 / وفيه: ابْن أَبِى أَوْفَى، قَالَ: أَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ لَيَالِىَ خَيْبَرَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ وَقَعْنَا فِى الْحُمُرِ الأهْلِيَّةِ، فَانْتَحَرْنَاهَا، فَلَمَّا غَلَتِ الْقُدُورُ نَادَى مُنَادِى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَنْ أَكْفِئُوا الْقُدُورَ، وَلاَ تَأْكُلُوْا مِنْ لُحُومِ الْحُمُرِ شَيْئًا) ، قَالَ عَبْدُاللَّهِ: فَقُلْنَا: إِنَّمَا نَهَى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) عَنْهَا، لأنَّهَا لَمْ تُخَمَّسْ، قَالَ: وَقَالَ آخَرُونَ: حَرَّمَهَا أَلْبَتَّةَ. وَسَأَلْتُ ابْن جُبَيْرٍ، فَقَالَ: حَرَّمَهَا أَلْبَتَّةَ. جمهور العلماء متفقون على أنه لا بأس بأكل الطعام والعلف فى دار الحرب بغير إذن الإمام، ولا بأس بذبح الإبل والبقر والغنم قبل أن يقع فى المقاسم. هذا قول مالك والكوفيين والليث والأوزاعى والشافعى وأحمد. قال مالك: ولو أن ذلك لا يؤكل حتى يقسم فيهم أضر ذلك بهم. قال: وإنما يأكلون ذلك على وجه المعروف(5/323)
والحاجة، ولا يدخر أحد منهم شيئًا يرجع به إلى أهله، وقد احتج الفقهاء فى هذا بحديث ابن مغفل فى قصة الجراب، وقالوا: ألا ترى أن النبى لم ينكر عليه، وقد ورد فى بعض طرق حديث ابن مغفل قال: (فالتفت فإذا النبى (صلى الله عليه وسلم) يبتسم إلي) وشذ الزهرى فى هذا الباب، فقال: لا يجوز أخذ الطعام فى دار الحرب إلا بإذن الإمام. وأظنه رأى الخلفاء والأمراء كانوا يأذنون لهم فى ذلك، وهذا لا حجة فيه؛ لأن ما أذنوا فيه مرة علمت فيه الإباحة؛ لأنهم لا يأذنون فى استباحة غير المباح. وقول ابن عمر: (كنا نصيب فى مغازينا العنب والعسل فنأكله ولا نرفعه) هو كالإجماع من الصحابة. قال المهلب: وحديث ابن أبى أوفى حجة فى ذلك أيضًا، وأن العادة كانت عندهم فى المغازى انطلاق أيديهم على المطاعم والمستلحمات، ولولا ذلك ما تقدموا إلى شيء إلا بأمر الرسول. وسيأتى ما للعلماء فى تحريم لحوم الحمر فى كتاب الذبائح إن شاء الله. وكره جمهور العلماء أن يخرج شيئًا من الطعام إلى دار الإسلام إذا كانت له قيمة، وكان للناس فيه رغبة، وحكمةا فيه بحكم الغنيمة فإن أخرجه رده فى المقاسم إن أمكنه وإلا باعه وتصدق بثمنه. قال مالك: وإن كان يسيرًا أكله. وقال الأوزاعى: ما أخرجه إلى دار الإسلام فهو له أيضًا. قال ابن المنذر: وليس لأحد أن ينال من أموال العدو شيئًا سوى الطعام للأكل والعنف للدواب، وكل مختلف فيه بعد ذلك من ثمن طعام أو فضلة طعام يقدم به إلى أهله أو جراب أو حبل أو غير ذلك(5/324)
مردود إلى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (أدوا الخائط والمخيط) . وإلى قوله: (شراك أو شراكان من نار) . وقال الطحاوى: وقد حدثنا سليمان بن شعيب، عن أبيه، عن أبى يوسف، عن أبى إسحاق الشيبانى، عن محمد بن أبى المجالد، عن عبد الله بن أبى أوفى قال: (كنا مع رسول الله بخيبر يأتى أحدنا إلى الطعام من الغنيمة، فيأخذ منه حاجته) . قال: وقد خالف هذا حديث آخر رواه ابن وهب، عن ابن لهيعة، عن جعفر بن ربيعة، عن أبى مرزوق التجيبى، عن حنش بن عبد الله، عن رويفع بن ثابت، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال عام خيبر: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يأخذ دابة من المغنم فيركبها حتى إذا أنقصها ردها فى المغانم، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يليس ثوبًا من المغانم حتى إذا أخلقه رده فى المغانم) . وذهب قوم منهم الأوزاعى إلى أنه لا بأس أن يأخذ الرجل السلاح من الغنيمة فيقاتل به فى معمعة القتال ما كان إلى ذلك محتاجًا، ولا ينتظر برده الفراغ من الحرب، فيعرضه للهلاك وانكساد الثمن فى طول مكثه فى دار الحرب. واحتجوا بهذا الحديث، وخالفهم آخرون منهم أبو حنيفة، فقالوا: لا بأس أن يأخذ السلاح من الغنيمة إذا احتاج إليه بغير إذن الإمام، فيقاتل به حتى يفرغ من الحرب فيرده فى المغنم.(5/325)
وقال أبو يوسف: ولحديث رسول الله معنى لا يفهمه إلا من أعانه الله عليه، ومعنى الحديث عندنا: على من يفعل ذلك وهو عنه غنى يبقى بذلك دابته أو ثوبه أو يأخذه يريد به الخيانة، فأما رجل مسلم فى دار الحرب ليس له دابة، وليس مع المسلمين فضل يحملونه إلا دواب الغنيمة، ولا يقدر على المشى، فلا يحل للمسلمين تركه، ولا بأس أن يركب شاءوا أو كرهوا، وكذلك الحال فى الثياب والسلاح. ألا ترى أن قومًا من المسلمين لو تكسرت سيوفهم أو ذهبت، ولهم غنى عن المسلمين أنه لا بأس أن يأخذوا سيوفًا من الغنيمة، فيقاتلوا بها ما داموا فى دار الحرب؟ أرأيت إن لم يحتاجوا إليها فى معمعة القتال، واحتاجوا إليها بعد ذلك بيومين أغار عليهم العدو يقومون فى وجوههم بغير سلاح أيستأسرون؟ هذا الرأى فيه توهين لمكيدة المسلمين، فكيف يحل هذا فى المعمعة ويحرم بعد ذلك؟ وحديث ابن أبى أوفى يبين أنه إذا كان الطعام لا بأس بأخذه وأكله واستهلاكه لحاجة المسلمين إليه، كذلك لا بأس بأخذ الدواب والثياب واستعمالها للحاجة إليها حتى يكون الذى أريد من حديث ابن أبى أوفى غير الذى أريد من حديث رويفع حتى لا تتضاد، وهذا قول أبى يوسف ومحمد وبه نأخذ، قاله الطحاوي.(5/326)
- كتاب الجزية
- باب الْجِزْيَةِ وَالْمُوَادَعَةِ مَعَ أَهْل الذمةِ وَالْحَرْبِ
وقوله تَعَالَى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ (إلى قوله: (صَاغِرُونَ) [التوبة: 29] ، وَمَا جَاءَ فِى أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَالْعَجَمِ. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِى نَجِيحٍ: قُلْتُ لِمُجَاهِدٍ: مَا شَأْنُ أَهْلِ الشَّأْمِ عَلَيْهِمْ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ، وَأَهْلُ الْيَمَنِ عَلَيْهِمْ دِينَارٌ؟ قَالَ: جُعِلَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الْيَسَارِ. 1964 / فيه: جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عن بَجَالَةُ، قَالَ: كُنْتُ كَاتِبًا لِجَزْءِ بْنِ مُعَاوِيَةَ - عَمِّ الأحْنَفِ - فَأَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ، فَرِّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذِى مَحْرَمٍ مِنَ الْمَجُوسِ، وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنَ الْمَجُوسِ حَتَّى شَهِدَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ. 1965 / وفيه: عَمْرَو بْنَ عَوْفٍ، أَنَّ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ إِلَى الْبَحْرَيْنِ، فَأْتِى بِجِزْيَتِهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) هُوَ صَالَحَ [أَهْلَ] الْبَحْرَيْنِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمُ الْعَلاءَ بْنَ الْحَضْرَمِىِّ، فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ، فَسَمِعَتِ الأنْصَارُ بِقُدُومِ أَبِى عُبَيْدَةَ، فَوَافَتْ صَلاةَ الصُّبْحِ مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمَّا صَلَّى بِهِمُ الْفَجْرَ انْصَرَفَ، يتَعَرَّضُون لَهُ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)(5/327)
حِينَ رَآهُمْ، وَقَالَ: (أَظُنُّكُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدْ جَاءَ بِشَىْءٍ) ، قَالُوا: أَجَلْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللَّهِ لا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ) . 196 / وفيه: جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ، قَالَ: بَعَثَ عُمَرُ النَّاسَ فِى أَفْنَاءِ الأمْصَارِ يُقَاتِلُونَ الْمُشْرِكِينَ، فَأَسْلَمَ الْهُرْمُزَانُ، فَقَالَ: إِنِّى مُسْتَشِيرُكَ فِى مَغَازِىَّ هَذِهِ، قَالَ: نَعَمْ، مَثَلُهَا وَمَثَلُ مَنْ فِيهَا مِنَ النَّاسِ مِنْ عَدُوِّ الْمُسْلِمِينَ مَثَلُ طَائِرٍ لَهُ رَأْسٌ، وَلَهُ جَنَاحَانِ، وَلَهُ رِجْلانِ، فَإِنْ كُسِرَ أَحَدُ الْجَنَاحَيْنِ نَهَضَتِ الرِّجْلانِ بِجَنَاحٍ وَالرَّأْسُ، فَإِنْ كُسِرَ الْجَنَاحُ الآخَرُ نَهَضَتِ الرِّجْلانِ وَالرَّأْسُ، وَإِنْ شُدِخَ الرَّأْسُ، ذَهَبَتِ الرِّجْلانِ وَالْجَنَاحَانِ وَالرَّأْسُ، فَالرَّأْسُ كِسْرَى، وَالْجَنَاحُ قَيْصَرُ، وَالْجَنَاحُ الآخَرُ فَارِسُ، فَمُرِ الْمُسْلِمِينَ، فَلْيَنْفِرُوا إِلَى كِسْرَى. وَقَالَ بَكْرٌ وَزِيَادٌ جَمِيعًا: عَنْ جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ قَالَ: فَنَدَبَنَا عُمَرُ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْنَا النُّعْمَانَ بْنَ مُقَرِّنٍ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِأَرْضِ الْعَدُوِّ، وَخَرَجَ عَلَيْنَا عَامِلُ كِسْرَى فِى أَرْبَعِينَ أَلْفًا، فَقَامَ تَرْجُمَانٌ لَهُ فَقَالَ: لِيُكَلِّمْنِى رَجُلٌ مِنْكُمْ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: سَلْ عَمَّا شِئْتَ، قَالَ: مَا أَنْتُمْ؟ قَالَ: نَحْنُ أُنَاسٌ مِنَ الْعَرَبِ، كُنَّا فِى شَقَاءٍ شَدِيدٍ وَبَلاءٍ شَدِيدٍ نَمَصُّ الْجِلْدَ وَالنَّوَى مِنَ الْجُوعِ، وَنَلْبَسُ الْوَبَرَ وَالشَّعَرَ، وَنَعْبُدُ الشَّجَرَ وَالْحَجَرَ، فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأرَضِينَ، إِلَيْنَا نَبِيًّا مِنْ أَنْفُسِنَا، نَعْرِفُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ، فَأَمَرَنَا نَبِيُّنَا ورَسُولُ رَبِّنَا (صلى الله عليه وسلم) أَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ أَوْ تُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ، وَأَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا (صلى الله عليه وسلم) عَنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا أَنَّهُ مَنْ قُتِلَ مِنَّا صَارَ إِلَى الْجَنَّةِ وَنَعِيمٍ، لَمْ يَرَ مِثْلَهُ(5/328)
قَطُّ، وَمَنْ بَقِىَ مِنَّا مَلَكَ رِقَابَكُمْ، فَقَالَ النُّعْمَانُ: رُبَّمَا أَشْهَدَكَ اللَّهُ مِثْلَهَا مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمْ يُنَدِّمْكَ، وَلَمْ يُخْزِكَ، وَلَكِنِّى شَهِدْتُ الْقِتَالَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ فِى أَوَّلِ النَّهَارِ انْتَظَرَ حَتَّى تَهُبَّ الأرْوَاحُ، وَتَحْضُرَ الصَّلَوَاتُ. اختلف العلماء، فيمن تؤخذ منه الجزية، فروى ابن القاسم عن مالك أن الجزية تؤخذ من أهل الكتاب، ومن المجوس وعبدة الأوثان، وكل المشركين غير المرتدين، وقريش. وفى مختصر ابن أبى زيد: وتقاتل جميع الأمم حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية. وحكى الطحاوى عن أبى حنيفة وأصحابه: أن الجزية تقبل من أهل الكتاب، ومن سائر كفار العجم، ولا يقبل من مشركى العرب إلا الإسلام أو السيف. وقال الشافعى: لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب عربًا كانوا أو عجمًا، وزعم أن المجوس كانوا أهل كتاب فلذلك تؤخذ منهم الجزية، وروى ذلك عن على بن أبى طالب. وقال الطحاوى: فى حديث عمرو بن عوف أن رسول الله بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتى بجزيتها، أن أهل البحرين كانوا مجوسًا من الفرس، ولم يكونوا من العرب، ولذلك قبل منهم الجزية، وأقرهم على مجوسيتهم. واحتج الشافعى بقوله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون(5/329)
بالله ولا باليوم الآخر (إلى قوله: (من الذين أوتوا الكتاب (. قال: فدل هذا الخطاب أن من لم يؤت الكتاب ليس بمنزلتهم بدليل قوله (صلى الله عليه وسلم) : (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله) ولا يجوز أن يكون أهل الكتاب داخلين تحت هذه الجملة؛ لأنهم يقولون: لا إله إلا الله لإخباره (صلى الله عليه وسلم) أن هذه الكلمة يحقن بها الدم والمال، فدل أن بغيرها لا يحقن الدم. وحجة مالك حديث عبد الرحمن بن عوف (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أخذ الجزية من مجوس هجر) وقال فى المجوس: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب فى أخذ الجزية منهم) وأيضًا فإن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان يبعث أمراء السرايا فيقول لهم: (إذا لقيتم العدو فادعوهم إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا فالجزية، فإن أعطوا وإلا فقاتلوهم) ولم ينص على مشرك دون مشرك، بل عم جميع المشركين؛ لأن الكفر يجمعهم، ولما جاز أن يسترقهم جاز أن يأخذ منهم الجزية، عكسه المرتد لما لم يجز أن يسترقه لم يجز أخذ الجزية منه. وليس فيما احتج به الشافعى من قوله: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر (دليل على أن الجزية لا يجوز أخذها من غير أهل الكتاب؛ لأن الله تعالى لم ينه أن تؤخذ الجزية من غيرهم، وللنبى (صلى الله عليه وسلم) أن يزيد فى البيان، ويفرض ما ليس بموجود فى الكتاب، ألا ترى أن الله حرم الأمهات ومن ذكر معهن فى الآية، وحرم النبى أن تنكح المرأة على عمتها وخالتها، وليس ذلك بخلاف لكتاب الله؛ فكذلك أخذ الجزية من جميع المجوس هو ثابت بالسنة(5/330)
الثابتة، وهذا ينتظم الرد على أبى حنيفة فى قوله أن مجوس العرب، لا يجوز أخذ الجزية منهم، ويؤخذ من سائر المجوس غيرهم؛ لإطلاقه (صلى الله عليه وسلم) أخذ الجزية من جميع المجوس بقوله: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) ومن ادعى الخصوص فى هذا وأن المراد بعضهم فعليه الدليل. وأما قول الشافعى: أن المجوس كانوا أهل كتاب فرفع فهو غير صحيح؛ لأنه لو كان كذلك لكان لنا أن نأكل ذبائحهم، وننكح نساءهم، وهذا لا يقوله أحد. وقوله: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) يدل أنه لا كتاب لهم، وأيضًا فإنه لو كانوا أهل كتاب فرفع كتابهم لوجب أن يصيروا بمنزلة من لا كتاب له؛ لأن الشيء إذا كان لمعنى فارتفع المعنى ارتفع الحكم. هذا قول ابن القصار. واختلف العلماء فى مقدار الجزية، فقال مالك: أكثر الجزية أربعة دنانير على أهل الذهب، وعلى أهل الورق أربعون درهمًا، ولا حد لأقلها، وأخذ فى ذلك مالك ما رواه عن نافع، عن أسلم (أن عمر بن الخطاب ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير، وأهل الورق أربعين) . وقال الكوفيون: يؤخذ من الغنى: ثمانية وأربعون درهمًا، ومن الوسط أربعة وعشرون، ومن الفقير اثنا عشر درهمًا، وبه قال أحمد بن حنبل، وأخذوا فى ذلك بما رواه إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن عمر (أنه بعث عثمان بن(5/331)
حنيف، فوضع الجزية على أهل السواد ثمانية وأربعين، وأربعة وعشرين، واثنى عشر) . قال أحمد بن حنبل: ويزاد فيه وينقص على قدر طاقتهم، على قدر ما يرى الإمام. وقال الشافعى: الجزية دينار على الغنى والفقير، واحتج أصحابه بما رواه أبو وائل عن مسروق، عن معاذ أن الرسول قال له حين بعثه إلى اليمن: (خذ من كل حالم دينارًا، وعد له معافري) وهو ثياب اليمن. وقال الثورى: قد اختلفت الروايات فى هذا عن عمر بن الخطاب، فللوالى أن ياخذ بأيها شاء، إذا كانوا أهل ذمة، وأما أهل الصلح فما صولحوا عليه لا غير، وما حكاه البخارى عن مجاهد أنه جعل على أهل الشام أربعة دنانير، وعلى أهل اليمن دينارًا من أجل اليسار فهو قول حسن. وقال عبد الوهاب بن نصر فى أمر النبى أن يأخذ من كل حالم دينارًا، يحتمل أن يكونوا لم يقدروا على أكثر منه. وقد روى عن مالك أنه لا يزاد على الأربعين درهمًا، ولا بأس بالنقصان منها إذا لم يطق. قال مالك: وأرى أن ينفق من بيت المال على كل من احتاج من أهل الذمة إن لم تكن لهم حرفة. ولا قوة على نفقة نفسه، وينفق على يتاماهم حتى يبلغوا. قال ابن حبيب: وحدثنى مطرف، عن مالك قال: بلغنى أن عمر بن الخطاب كان ينفق على رجل من أهل الذمة حين كبر وضعف عن العمل والخراج. قال المهلب: وأما قول عمر: (فرقوا بين كل ذى محرم من(5/332)
المجوس) فيحتمل وجهين: أحدهما: أن الله لم يأمر بأخذ الجزية إلا من أهل الكتاب، وأهل الكتاب لا ينكحون ذوات المحارم، فإذا استعمل فيهم قوله (صلى الله عليه وسلم) : (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) احتمل أن لا يقبل منهم الجزية إلا أن يسن بهم سنة أهل الكتاب فى مناكحتهم أيضًا، والوجه الآخر: أن يكون عمر غلب على المجوس عنوة ثم أبقاهم فى أموالهم عبيدًا يعملون فيها، والأرض للمسلمين، ثم رأى أن يفرق بين ذوات المحارم من عبيده الذين استبقاهم على حكمه واستبقاهم باجتهاده، وإن كان منعقدًا فى أصل استحيائهم واستبقائهم، ويكون اجتهاده فى تفريقه بين ذوات محارمهم مستنبطًا من قوله (صلى الله عليه وسلم) : (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) أى: ما كان أهل الكتاب يحملون عليه فى حرمهم ومناكحتهم، فاحملوا عليه المجوس، والله أعلم أى الوجهين أراد عمر. فيه: أنه قد يغيب عن العالم المنور بعض العلم. وفيه: قبول خبر الواحد والعمل به. وفيه: أن طلب العطاء من الإمام لا غضاضة فيه على طالبه؛ لقولهم: (أجل يا رسول الله) . وفيه: التبشير بالإسهام لهم بقوله: (أبشروا وأملوا) ومعنى ذلك: أى أملوا أكثر ما تطلبون من العطاء؛ لأنهم لم يعرفوا مقدار ما قدم به أبو عبيدة فسرهم بأكثر مما يظنون. وفيه: علامة النبوة؛ لأنه أخبرهم بما يخشى عليهم فيما يفتح عليهم من الدنيا.(5/333)
وفيه: أن المنافسة فى الاستكثار من المال من سبل الهلاك فى الدنيا. وقوله فى حديث جبير بن حية: أفناء الأنصار فهم طوائف منهم لم يكونوا من فخذ واحد. وأما مشاورة عمر الهرمزان فبعد أن أسلم، وكان رجلا بصيرًا بالحرب له دربة ورأى فى المملكة وتدبيرها؛ فلذلك شاوره عمر. وفى هذا من الفقه: أن المشاورة سنة لا يستغنى عنها أحد، ولو استغنى عنها لكان النبى (صلى الله عليه وسلم) أغنى الناس عنها؛ لأن جبريل كان يأتيه بصواب الرأى من السماء، ومع ذلك فإن الله تعالى قال: (وشاورهم فى الأمر (ولو لم يكن في المشاورة إلا استئلاف النفوس، وإظهار المفاوضة والثقة بالمستشار لعلمه أن يبدو من الرأى ما لم يكن ظهر. وأما العزيمة والعمل فإلى الإمام لا يشركه فيه أحد؛ لقوله تعالى: (فإذا عزمت فتوكل على الله (فجعل العزيمة إليه، وجعله مشاركًا فى الرأى لغيره. وفى هذا من الفقه: جواز مشاورة غير الوزير إذا كان ممن يظن عنده الرأى والمعرفة. وفيه: ضرب الأمثال. وفيه: أن الرأى فى الحرب القصد إلى أعظم أهل الخلاف شوكة، كما أشار الهرمزان؛ لأنه إذا استؤصل الأقوى سلم الأضعف. وفيه: كلام الوزير دون رأى الأمير، كما كلم عمر يوم(5/334)
حنين لأبى سفيان، وكما كلم أبو بكر الصديق فى قصة سلاح قتل أبى قتادة. وقوله: (كنا فى شقاء شديد) ففى ذلك وصف أنفسهم بالصبر والثبات على مضض العيش. وقوله: (نعرف أباه وأمه) فإنه أراد شرفه ونسبه؛ لأن الأنبياء لا تبعث إلا من أشراف قومهم، فوصف شرف الطرفين من الأب والأم. وقول النعمان للمغيرة: (ربما أشهدك الله مثلها) يريد ربما شهدت مع النبى فيما سلف مثل هذه الأحوال الشديدة، وشهدت معه القتال، فلم يندمك ما لقيت معه من الشدة، ولم يحزنك لو قفلت معه؛ لعلمك بما تصير إليه من النعيم، وثواب الشهادة. وقوله: (ولكنى شهدت القتال مع رسول الله كثيرًا) فهذا ابتداء كلام، واستئناف قصة أخرى، أعلمهم أن الرسول كان إذا لم يقاتل أول النهار ترك حتى تهب الرياح، يعنى: رياح النصر، وتحضر أوقات الصلوات، وقد بين هذا المعنى حديث حماد بن سلمة عن النعمان بن مقرن قال: (كان النبى إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تزول الشمس، وتهب رياح النصر) وقد تقدم هذا الحديث وإسناده فى الجزء الأول من الجهاد فى باب (كان النبى إذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس) ، وأيضًا فإن أفضل الأوقات أوقات الصلوات، وفيها الأذان وقد جاء فى الحديث (أن الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد) .(5/335)
- باب إِذَا وَادَعَ الإمَامُ مَلِكَ قَرْيَةِ هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ لِبَقِيَّتِهِمْ
967 / فيه: أَبُو حُمَيْدٍ، غَزَوْنَا مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) تَبُوكَ، وَأَهْدَى مَلِكُ أَيْلَةَ لِلنَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بَغْلَةً بَيْضَاءَ، وَكَسَاهُ بُرْدًا، وَكَتَبَ لَهُ بِبَحْرِهِمْ. قال المؤلف: ذكر ابن إسحاق فى السير قال: لما انتهى رسول الله إلى تبوك أتاه بحنة ابن رؤبة صاحب أيلة فصالح رسول الله، وأعطى الجزية، وكتب لهم رسول الله كتابًا فهو عندهم، وكتب لبحنة بن رؤبة: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذه أمنة من الله ومحمد النبى رسول الله لبحنة بن رؤبة وأهل أيلة، سفنهم وسيارتهم فى البر والبحر لهم ذمة الله وذمة محمد النبى، ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثًا فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيبة لمن أخذه من الناس، وإنه لا يحل أن يمنعوا من ماء يردونه، ولا طريق يردونها من بر أو بحر) . والعلماء مجمعون على أن الإمام إذا صالح ملك القرية أنه يدخل فى ذلك الصلح بقيتهم؛ لأنه إنما صالح على نفسه ورعيته، ومن يلى أمره، وتشتمل عليه بلده وعمله، ألا ترى أن فى كتاب النبى تأمين ملك أيلة وأهل بلده. واختلفوا إذا أمن طائفة منهم هل يدخل فى ذلك الإمام العاقد للأمان؟ فذكر الفزارى عن حميد الطويل قال: حدثنى حبيب أبو يحيى - وكان مولاه مع أبى موسى - قال: حاصر أبو موسى حصنًا بتستر - أو بالسوس - فقال صاحبهم: أتؤمن لى مائة من أصحابى وأفتح لك الحصن؟ قال: نعم. فجعل يعزلهم(5/336)
ويعدهم، فقال أبو موسى: أرجو أن يمكن الله به وينسى نفسه بعد مائة. فعد مائة وعزلهم، ونسى نفسه فأخذه فقال: إنك قد أمنتني. قال: لا، وأما إذ أمكن الله منك من غير غدر. فضرب عنقه) . وذكر أبو عبيد عن الفزارى، عن حميد الطويل، عن حبيب أبى يحيى عن خالد بن زيد قال: (حاصرنا السوس، فلقينا جهدًا، وأمير الجيش أبو موسى، فصالحه دهقانها) وذكر الحديث. وذكر عن النخعى قال: ارتد الأشعث بن قيس فى زمن أبى بكر الصديق مع ناس، وتحصنوا فى قصر، وطلب الأمان بسبعين رجلا فأعطاهم، فنزل فعد سبعين ولم يدخل نفسه منهم، فقال له أبو بكر: إله لا أمان لك إنا قاتلوك، فأسلم وتزوج أخت أبى بكر الصديق. وقال أصبغ وسحنون: يدخل العلج الآخذ للأمان للعدد المصالح عليهم فى الأمان، وإن لم يعد نفسه، ولا يحتاج أن يعد نفسه فيهم، ولا يذكرها؛ لأنه لم يأخذ الأمان لغيره إلا وقد صح الأمان لنفسه، ولم يريا فعل أبى موسى حجة. قال سحنون: وبأقل من هذا صح الأمان للهرمزان من عند عمر بن الخطاب.(5/337)
3 - باب الْوَصَاةِ بِأَهْلِ ذِمَّةِ النَّبىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَالذِّمَّةُ: الْعَهْدُ، وَالإلُّ: الْقَرَابَةُ
968 / فيه: عُمَرَ، قُلْنَا: أَوْصِنَا، قَالَ: أُوصِيكُمْ بِذِمَّةِ اللَّهِ، فَإِنَّها ذِمَّةُ نَبِيِّكُمْ، وَرِزْقُ عِيَالِكُمْ. قال المهلب: فيه الحض على الوفاء بالذمة، وما عوقدوا عليه من قبض الأيدى عن أنفسهم وأموالهم غير الجزية، وقد ذم النبى (صلى الله عليه وسلم) من إذا عاهد غدر، وجعل ذلك من أخلاق النفاق.
4 - باب مَا أَقْطَعَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) مِنَ الْبَحْرَيْنِ وَمَا وَعَدَ مِنْ مَالِ الْبَحْرَيْنِ، وَالْجِزْيَةِ، وَلِمَنْ يُقْسَمُ الْفَىْءُ وَالْجِزْيَةُ؟
969 / فيه: أَنَس، دَعَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بالأنْصَارَ؛ لِيَكْتُبَ لَهُمْ بِالْبَحْرَيْنِ، فَقَالُوا: لا، وَاللَّهِ حَتَّى تَكْتُبَ لإخْوَانِنَا مِنْ قُرَيْشٍ بِمِثْلِهَا، فَقَالَ: (ذَلِكَ لَهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ) ، يَقُولُونَ لَهُ. قَالَ: (فَإِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِى أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِى عَلَى الْحَوْضِ) . 1970 / وفيه: جَابِر، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْ قَدْ جَاءَنَا مَالُ الْبَحْرَيْنِ، قَدْ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا) ، فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَجَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَنْ كَانَتْ لَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عِدَةٌ فَلْيَأْتِنِى، فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَدْ كَانَ قَالَ لِى: (لَوْ قَدْ جَاءَنَا مَالُ الْبَحْرَيْنِ، لأعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا) ، فَقَالَ لَهُ: احْثُهُ، فَحَثَوْتُ حَثْيَةً، فَقَالَ لِى: عُدَّهَا، فَعَدَدْتُهَا، فَإِذَا فِيهَا خَمْسُمِائَةٍ.(5/338)
71 / وفيه: أَنَسٍ، أن النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أتى بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ، فَقَالَ: (انْثُرُوهُ فِى الْمَسْجِدِ) ، فَكَانَ أَكْثَرَ مَالٍ أُتِىَ بِهِ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، إِذْ جَاءَهُ الْعَبَّاسُ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطِنِى فَإِنِّى فَادَيْتُ نَفْسِى وَفَادَيْتُ عَقِيلا، قَالَ: خُذْ، فَحَثَا فِى ثَوْبِهِ. . . . . وذكر الحديث. قال المهلب: إنما أراد (صلى الله عليه وسلم) أن تخص الأنصار بهذا الإقطاع؛ لما كانوا تفضلوا به على المهاجرين، من مشاركتهم فى أموالهم، فقالت الأنصار: لا والله حتى تكتبه لإخواننا من قريش تعنى المهاجرين بمثلها إمضاء لما وصفهم الله به من الأثرة على أنفسهم، وحسن التمادى على الكرم. وفيه: جواز التردد على الإنسان بالقول فيما يأباه المرة بعد المرة، وجواز التردد بالإبانة عن الشيء، لما يكون فى ذلك من الفخر والعز، كما أبت الأنصار أن تقبل مال البحرين دون المهاجرين، فكان فى ذلك فخرهم وعزهم. وفيه: لزوم الوعد للأمراء وأشراف الناس، وأنه مما يقضى عنهم على طريق الفضل لمشاكلة ذلك لأخلاقهم، وسيأتى ما يلزم من العدة وما لا يلزم منها فى كتاب الهبة، فى باب: (إذا وعد أو وهب ثم مات قبل أن يصل إليه) إن شاء الله. وفيه: تأدية الإمام ديون من كان قبله من الأئمة والخلفاء. وفيه: أن ما كان أصله على سبيل التفضل أن يكون جزافًا بغير وزن؛ بخلاف البيوع وما فيه معنى التشاح. وأما الفيء والجزية والخراج فحكم ذلك واحد، وما اجتبى من أموال أهل الذمة مما صولحوا عليه من جزية رءوسهم التى بها حقنت(5/339)
دماؤهم، وحرمت أموالهم، ومنها وضيعة أرض الصلح التى منعها أهلها حتى صولحوا منها على خراج مسمى، ومنها خراج الأرضين التى فتحت عنوة، ثم أقرها الإمام فى أيدى أهل الذمة التى يمرون بها لتجارتهم، ومنها ما يؤخذ من أهل الحرب إذا دخلوا بلاد الإسلام للتجارة، فكل هذا من الفيء، وهو الذى يعم المسلمين غنيهم وفقيرهم، فيكون فى أعطية المقاتلة وأرزاق الذرية، وما ينوب الإمام من أمور الناس بحسن النظر للإسلام وأهله قاله أبو عبيد. واختلف الصحابة فى قسم الفيء، فروى عن أبى بكر الصديق التسوية بين الحر والعبد، والشريف والوضيع، وروى عنه أنه كلم فى أن يفضل بين الناس، فقال: (فضيلتهم عند الله، فأما هذا المعاش فالتسوية فيه خير) . وهو مذهب على بن أبى طالب، وإليه ذهب الشافعي. وأما عمر فكان يفضل أهل السوابق ومن له من رسول الله قرابة فى العطاء، وفضل أزواج النبى فى العطاء على الناس أجمعين، ففرض لكل واحدة اثنى عشر ألفًا؛ ولم يلحق بهن أحدًا إلا العباس، فإنه جعله فى عشرة آلاف، وذهب عثمان فى ذلك إلى التفضيل، وبه قال مالك، فلما جاء على بن أبى طالب سوى بين الناس، وقال: (لم أعب تدوين عمر الدواوين ولا تفضيله، ولكن أفعل كما كان خليلى رسول الله يفعل) فكان يقسم ما جاءه بين المسلمين، ثم يأمر ببيت المال فينضح، ويصلى فيه. واما الكوفيون فالأمر عندهم فى ذلك إلى اجتهاد الإمام، إن رأى التفضيل فضل، وإن رأى التسوية سوى. وأحاديث هذا الباب تدل على التفضيل، وهو حجة لمن قال به.(5/340)
5 باب: إِثْم مَنْ قَتَلَ مُعَاهِدًا بِغَيرِ جُرمٍ
972 / فيه: ابْن عَمْرٍو، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا، لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا) . هذا على طريق الوعيد، والله تعالى فيه بالخيار، وسيأتى الكلام فى هذا الحديث فى الديات والعقول إن شاء الله فقد كرر فيه هذه الترجمة.
6 - باب إِخْرَاجِ الْيَهُودِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ
وَقَالَ عُمَرُ، عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) : (أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ بِهِ) . 1973 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، بَيْنَمَا نَحْنُ فِى الْمَسْجِدِ، خَرَجَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (انْطَلِقُوا إِلَى يَهُودَ) فَخَرَجْنَا حَتَّى جِئْنَا بَيْتَ الْمِدْرَاسِ، فَقَالَ: (أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الأرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنِّى أُرِيدُ أَنْ أُجْلِيَكُمْ مِنْ هَذِهِ الأرْضِ، فَمَنْ يَجِدْ مِنْكُمْ بِمَالِهِ شَيْئًا فَلْيَبِعْهُ، وَإِلا فَاعْلَمُوا أَنَّ الأرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) . 1974 / وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: يَوْمُ الْخَمِيْس اشْتَدَّ بِالنَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَجَعُهُ، فَقَالَ: (ائْتُونِى بِكَتِفٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لا تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا، فَتَنَازَعُوا وَلا يَنْبَغِى عِنْدَ نَبِىٍّ تَنَازُعٌ) ، فَقَالُوا: مَا لَهُ أَهَجَرَ اسْتَفْهِمُوهُ، فَقَالَ: (ذَرُونِى، لَلَّذِى أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونَنِى إِلَيْهِ، فَأَمَرَهُمْ بِثَلاثٍ، فَقَالَ: أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ كَمَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ) ، وَالثَّالِثَةُ نسيها سليمان الأحوال. أما قوله (صلى الله عليه وسلم) : (أقركم ما أقركم الله) فمعناه: أنه كان يكره أن يكون بأرض العرب غير المسلمين؛ لأنه امتحن فى استقبال(5/341)
القبلة حتى نزل: (قد نرى تقلب وجهك فى السماء فلنولينك قبلة ترضاها (فامتحن مع بنى النضير حين أرادوا الغدر به، وأن يلقوا عليه حجرًا، فأمره الله تعالى باجتلائهم وإخراجهم، وترك سائر اليهود. وكان لا يتقدم فى شيء إلا بوحى الله وكان يرجو أن يحقق الله رغبته فى إبعاده اليهود عن جواره فقال ليهود خيبر: (أقركم ما أقركم الله) منتظر للقضاء فيهم، فلم يوح إليه فى ذلك بشيء إلى أن حضرته الوفاة، فأوحى إليه فيه فقال: (لا يبقين دينان بأرض العرب) فأوصى بذلك عند موته، فلما كان فى خلافة عمر وعدوا على ابنه وفدعوه، فحص عن قول النبى فيهم، فأخبر أن نبى الله أوصى عند موته بإخراجهم من جزيرة العرب. فقال: من كان عنده عهد من رسول الله فليأت به، وإلا فإنى مجليكم. فأجلاهم. قال المهلب: وإنما أمر بإخراجهم والله أعلم خوف التدليس منهم، وأنهم متى ناوؤا عدوًا قويا صاروا معه كما فعلوا بالنبى يوم الأحزاب. قال الطبرى: فيه من الفقه أن النبى (صلى الله عليه وسلم) بين لأئمة المؤمنين إخراج كل من دان بغير دين الإسلام من كل بلدة للمسلمين سواء كانت تلك البلدة من البلاد التى أسلم عليها أهلها أو من بلاد العنوة إذا لم لم يكن بالمسلمين ضرورة إليهم ولم يكن الإسلام يومئذ ظهر فى غير جزيرة العرب ظهور قهر، فبان بذلك أن سبيل بلدة قهر فيها المسلمون أهل الكفر، ولم يكن تقدم قبل ذلك من إمام المسلمين لهم عقد صلح على إقرارهم فيها أن على الإمام إخراجهم منها، ومنعهم القرار بها، إلا أن يكون بالمسلمين إليهم ضرورة الإقرار(5/342)
مسافرًا ومقام ظعن وأكثر ذلك ثلاثة أيام ولياليها، كالذى فعل الأئمة الأبرار عمر وغيره، فإن ظن ظان أن فعل عمر فى ذلك إنما هو خاص بمدينة الرسول، وسائر جزيرة العرب؛ لأمره (صلى الله عليه وسلم) بإخراجهم منها دون سائر بلاد الإسلام وقال: (لو كان) حكم غير جزيرة العرب كحكمها فى التسوية بين جميعها فى إخراج أهل الكفر منها، لما كان عمر يقر النصارى فى سواد العراق وقد قهرهم الإسلام وعلاهم ولكان قد أجلى نصارى الشام ويهودها عنه، وقد غلب الإسلام على بلادهم، ولما ترك مجوس فارس فى أرضهم، وقد غلبهم الإسلام وأهله، فإن الأمر فى ذلك بخلاف ما ظن، وذلك أن عمر لم يقر أحدًا من أهل الشرك فى أرض قد قهر فيها الإسلام، وغلب ولم يتقدم قبل ذلك قهره إياهم منه لهم أو من المؤمنين عقد صلح على الترك فيها إلا لضرورة المسلمين إلى إقرارهم فيها، كإقراره نبط سواد العرق فى السواد بعد غلبة المسلمين عليه، وكإقراره من أقر من نصارى الشام فيها بعد غلبتهم على أرضها دون حصونها؛ فإنه أقرهم للضرورة إليهم فى عمارة الأرض؛ إذ كان المسلمون فى الحرب مشاغيل، ولو أجلوا عنها لخربت الأرض، وبقيت بغير عامر. فكان فعلهم فى ذلك نظير فعله (صلى الله عليه وسلم) وفعل الصديق فى يهود خيبر بعد قهر المسلمين لهم، عمالا عمارا؛ إذ كانت بالمسلمين ضرورة لعمارة أرضهم، لاشتغالهم بالحرب فى مناوأة الأعداء. ثم أمر رسول الله بإجلائهم عند استغنائهم عنهم، وقد كانوا سألوه عند قهرهم على الأرض إقرارهم فيها عمالا لأهلها فأجابهم إلى إقرارهم فها ما أقرهم الله، وإجلائهم منها إذا رأى ذلك.(5/343)
وأقرهم الصديق على نحو ذلك. فأما إقرارهم مع المسلمين فى مصر لم يكن تقدم فى ذلك قبل غلبة المسلمين عليه عقد صلح بينهم وبين المسلمين بما لا نعلمه صح به عنه، ولا عن غيره من أئمة الهدى خبر ولا قامت بجواز ذلك حجة، بل الحجة فى ذلك عن الأئمة ما قلناه. حدثنى محمد بن يزيد الرفاعى، حدثنا محمد بن عبد الرحمن، عن قيس بن أبى الربيع، عن أبان بن تغلب، عن رجل قال: (كان منادى على ينادى كل يوم: لا يبيتن بالكوفة يهودى ولا نصرانى ولا مجوسى، الحقوا بالحيرة) . وحدثنا الرفاعى، حدثنا ابن فضيل، عن ليث، عن طاوس، عن ابن عباس قال: (لا يساكنكم أهل الكتاب فى أمصاركم) قال أبو هشام الرفاعى: سمعت يحى بن آدم يقول: هذا عندنا على كل مصر اختطه المسلمون ولم يكن لأهل الكتاب فنزل عليهم المسلمون. قال الطبرى: وهذا قول لا معنى له؛ لأن ابن عباس لم يخصص بقوله: لا يساكنكم أهل الكتاب مصرًا سكانه المسلمون دون غيرهم، بل عم بذلك جميع أمصارهم، وإن دلالة أمره (صلى الله عليه وسلم) بإخراج اليهود من جزيرة العرب يوضح صحة ما قال ابن عباس وأن الواجب على الإمام إخراجهم من كل مصر غلب عليه الأسلام إذا لم يكن بالمسلمين إليهم ضرورة، ولا كانت من بلاد الذمة التى صولحوا على الإقرار فيها إلحاقا لحكمة بحكم جزيرة(5/344)
العرب، وذلك أن خيبر لم تكن من البلاد التى اختطها المسلمون وكذلك نجران بل كانت لأهل الكتاب وهم كانوا عمارهم وسكانها فأمر رسول الله بإخراجهم منها حين غلب عليهم الإسلام، ولم يكن بهم إليهم ضرورة. وقد حدثنا أبو كريب حدثنا جرير، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: قال رسول الله: (لا تصح قبلتان فى أرض) فإذا صح ما قلناه فالواجب على إمام المسلمين إذا أقر بعض أهل الكتاب فى بعض بلاد المسلمين لحاجتهم إليهم لعمارتها أو غير ذلك ألا يدعهم فى مصرهم معهم أكثر من ثلاث، وأن يسكنهم خارجًا من مصرهم كالذى فعل عمر وعلى، وأن يمنعهم اتخاذ الدور والمساكن فى أمصارهم، فإن اشترى منهم مشتر فى مصر من أمصار المسلمين دارًا، أو ابتنى به مسكنًا، فالواجب على إمام المسلمين أخذه ببيعها عليه، كما يجب عليه لو اشترى مملوكًا مسلمًا أن يأخذه ببيعه؛ لأنه ليس للمسلمين إقرار مسلم فى ملك كافر، فكذلك غير جائز إقرار أرض المسلمين فى غير ملكهم. قال غيره: وكذلك الحكم فى الرجل المسلم الفاسق، إذا شهد عليه أنه مؤذ لجيرانه بالسفه والتسليط، ويشكى به جيرانه، وصح ذلك عند الحاكم، أن له أن يخرجه من بين أظهرهم، وإن كان له دار أكراها عليه، فإن لم يجد لها مكر باعها عليه، ودفع الأذى عن جيرانه، ورأيت لابن القاسم أنه قال فى المؤذى: تكرى عليه الدار ولا تباع، وسيأتى هذا المعنى فى كتاب الأحكام إن شاء الله.(5/345)
وقال أبو عبيد: قال الأصمعى: جزيرة العرب ما بين أقصى عدن إلى ريف العراق فى الطول. وأما فى العرض من جدة، وما والاها من ساحل البحر إلى أطوار الشام. وقال إسماعيل بن إسحاق: عقبة تبوك هو الفرق بين جزيرة العرب وأرض الشام. وقال أبو عبيد: جزيرة العرب ما بين حفر أبى موسى إلى أقصى اليمن فى الطول. وأما فى العرض فما بين رمل يبرين إلى منقطع السماوة. قال الطبرى: وإنما قيل لها: جزيرة العرب، وهى جزيرة البحر؛ تعريفا لها، وفرقًا بينها وبين سائر الجزائر، كما قيل: لأجأ وسلمى وهما جبلان من نجد: جبلا طيء؛ تعريفًا لهما بطيء، وفرقًا بينهما وبين سائر جبال نجد، وإنما قيل لها جزيرة؛ لانقطاع ما كان فائضًا عليها من ماء البحر، وأصل الجزر فى كلام العرب القطع، ومنه سمى الجزار: جزارًا؛ لقطعه أعضاء البهيمة. قال المهلب: فى حديث ابن عباس أن جوائز الوفود سنة.
7 - باب: إِذَا غَدَرَ المشْرِكُون بِالْمُسْلِمِينَ هَلْ يُعْفَى عَنْهُم؟
975 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (اجْمَعُوا إِلَىَّ مَنْ كَانَ هَاهُنَا مِنْ يَهُودَ) ، فَجُمِعُوا لَهُ، فَقَالَ:(5/346)
(إِنِّى سَائِلُكُمْ عَنْ شَىْءٍ، فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِىَّ عَنْهُ) ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، قَالَ لَهُمُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ أَبُوكُمْ) ؟ قَالُوا: فُلانٌ، قَالَ: (كَذَبْتُمْ، بَلْ أَبُوكُمْ فُلانٌ) ، قَالُوا: صَدَقْتَ، قَالَ: (فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِىَّ عَنْ شَىْءٍ إِنْ سَأَلْتُ عَنْهُ، فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَإِنْ كَذَبْنَا عَرَفْتَ كَذِبَنَا كَمَا عَرَفْتَهُ فِى أَبِينَا، فَقَالَ لَهُمْ: (مَنْ أَهْلُ النَّار؟) قَالُوْا: نَكُونُ فِيهَا يَسِيرًا، ثُمَّ تَخْلُفُونَا فِيهَا، فَقَال (صلى الله عليه وسلم) : اخْسَئُوا فِيهَا وَاللَّهِ لاَ نَخْلُفُكُم فِيهَا أَبَدًا. ثُمَّ قَالَ: (هَلْ جَعَلْتُمْ فِى هَذِهِ الشَّاةِ سُمًّا) ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: (مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ) ؟ قَالُوا: أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا نَسْتَرِيحُ مِنْكَ، وَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ. قال المهلب: ويعفى عن المشركين إذا غدروا بشيء يستدرك إصلاحه وجبره ويعصم الله تعالى منه إذا رأى الإمام ذلك، وإن رأى عقوبتهم عاقبهم بما يؤدى إليه اجتهاده، وأما إذا غدروا بالقتل أو بما لا يستدرك جبره وما لا يعتصم من شره؛ فلا سبيل إلى العفو، كما فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) فى العرنيين عاقبهم بالقتل، وإن كان (صلى الله عليه وسلم) ، قال لعائشة: (ما زالت أكلة خيبر تعادنى فهذا أوان قطع أبهري) لكنه عفا عنهم حين لم يعلم أنه يقضى عليه؛ لأن الله تعالى دفع عنه ضر السم بعد أن أطلعه على المكيدة فيه بآية معجزة أظهرها له من كلام الذراع، ثم عصمه الله من ضره مدة حياته، حتى إذا دنا أجله بغى عليه السم، فوجد ألمه وأراد الله له الشهادة بتلك الأكلة؛ فلذلك لم يعاقبهم، وأيضًا فإن اليهود قالوا: أردنا أن نختبر بذلك نبوتك وصدقك، فإن كنت نبيا لم يضرك. فقد يمكن أن يعذرهم بتأويلهم، وأيضًا فإنه كان لا ينتقم لنفسه تواضعًا لله، وكان(5/347)
لا يقتل أحدًا من المنافقين المناصبين له بالعداوة والغوائل، لأنه كان على خلق عظيم من الصفح، والإغضاء والصبر، وأصل هذا كله أن الإمام فيه بالخيار إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه وفيه من علامات النبوة.
8 - باب: دُعَاءِ الإِمَامِ عَلَى مَنْ نَكَثَ عَهْدًا
976 / فيه: أَنَس، سُئل عَنِ الْقُنُوتِ، قَبْلَ الرُّكُوعِ، فَقُلْتُ: إِنَّ فُلانًا يَزْعُمُ أَنَّكَ قُلْتَ: بَعْدَ الرُّكُوعِ، فَقَالَ: كَذَبَ، ثُمَّ حَدَّثَنَا عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّهُ قَنَتَ شَهْرًا بَعْدَ الرُّكُوعِ، يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ بَنِى سُلَيْمٍ، قَالَ: بَعَثَ أَرْبَعِينَ أَوْ سَبْعِينَ - شُكُّ فِيهِ - مِنَ الْقُرَّاءِ إِلَى أُنَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَعَرَضَ لَهُمْ هَؤُلاءِ، فَقَتَلُوهُمْ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) عَهْدٌ، فَمَا رَأَيْتُهُ وَجَدَ عَلَى أَحَدٍ مَا وَجَدَ عَلَيْهِمْ. قال المؤلف: كان النبى لا يدعو بالشر على أحد من الكفار ما دام يرجو لهم الرجوع والإقلاع عما هم عليه. ألا ترى أنه سئل أن يدعو على دوس، فدعا لها بالهدى، وإنما دعا على بنى سليم حين نكثوا العهد وغدروا ويئس من إنابتهم ورجوعهم عن ضلالتهم؛ فأجاب الله دعوته، وأظهر بذلك صدقه وبرهانه، وهذه القصة أصل فى جواز الدعاء فى الصلاة والخطبة على عدو المسلمين أومن خالفهم ومن نكث عهدًا وشبهه.(5/348)
9 - باب: أَمَانَ النِسَّاءِ وَجِوَارِهنَّ
977 / فيه: أَبُو مُرَّة، مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ، عن أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِى طَالِبٍ، قَالَتْ: ذَهَبْتُ إِلَى الرسول (صلى الله عليه وسلم) عَامَ الْفَتْحِ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ، وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: (مَنْ هَذِهِ) ؟ فَقُلْتُ: أَنَا أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِى طَالِبٍ، فَقَالَ: (مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ) ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ، قَامَ فَصَلَّى ثَمَانِىَ رَكَعَاتٍ مُلْتَحِفًا فِى ثَوْبٍ وَاحِدٍ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَعَمَ ابْنُ أُمِّى عَلِىٌّ أَنَّهُ قَاتِلٌ رَجُلا قَدْ أَجَرْتُهُ فُلانُ بْنُ هُبَيْرَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ) ، وَذَلِكَ ضُحًى. فيه من الفقه: جواز أمان المرأة، وأن من أمنته حرم قتله، وقد أجارت زينب بنت رسول الله أبا العاص بن الربيع، وعلى هذا جماعة الفقهاء بالحجاز والعراق منهم: مالك، والثورى، وأبو حنيفة، والأوزاعى، والشافعى، وأبو ثور، وأحمد، وإسحاق، وشذ عبد الملك بن الماجشون وسحنون عن الجماعة فقالوا: أمان المرأة موقوف على جواز الإمام، فإن أجازه جاز وإن رده رد. واحتج من أجاز ذلك بأمان أم هانىء؛ لو كان جائزا على كل حال دون إذن الإمام، ما كان على يريد قتل من لا يجوز قتله لأمان من يجوز أمانه، ولقال لها رسول الله: قد أمنت أنت وغيرك، فلا يحل قتله، فلما قال لها (صلى الله عليه وسلم) : (قد أجرنا من أجرت) . كان ذلك دليلا على أن أمان المرأة موقوف على إجازة الإمام أو رده. واحتج الآخرون بأن عليا وغيره لا يعلم إلا ما علمه الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأن إرادته لقتل ابن هبيرة كان قبل أن يعلم قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم) . ولما وجدنا هذا الحديث من رواية على بن أبى طالب، ثبت ما قلناه، وكان من المحال أن يعلم على هذا من النبى ويرويه عنه، ثم يريد قتل من(5/349)
أجارته أخته، وعلى هذا القول يكون تأويل قوله: (قد أجرنا من أجرت) ، أى: فى سنتنا وحكمنا إجارة من أجرت أنت ومثلك، والدليل على صحة هذا التأويل قوله (صلى الله عليه وسلم) : (المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم) . والمرأة من أدناهم، وقد ذكر إسماعيل بن إسحاق من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن الرسول خطب بها عام الفتح على درجات الكعبة، وقال: (يد المسلمين واحدة على من سواهم) .
- باب: ذِمةُ المسْلِمِينَ وَجِوَارُهُم وَاحِدةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُم
978 / فيه: عَلِىّ، قَالَ: مَا عِنْدَنَا كِتَابٌ نَقْرَؤُهُ إِلا كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا فِى هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، قَالَ: فِيهَا الْجِرَاحَاتُ. . . . . إلى قوله: وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. قال المهلب: معنى قوله: (ذمة المسلمين واحدة) أى: من انعقدت عليه ذمة من طائفة من المسلمين أن الواجب مراعاتها من جماعتهم إذا كان يجمعهم إمام واحد، فإن اختلفت الأئمة والسلاطين فالذمة لكل سلطان لازمة لأهل عمله، وغير لازمة للخارجين عن طاعته؛ لأن النبى إنما قال ذلك فى وقت إجماعهم فى طاعته، ويدل على ذلك حديث أبى بصير، حين كان شارط النبى (صلى الله عليه وسلم) أهل مكة وقاضاهم على المهادنة بينهم وبين المسلمين، فلما خرج أبو بصير من طاعة النبى وامتنع، لم تلزم النبى ذمته، ولا طولب برد جنايته، ولا لزمه غرم ما انتهكه من المال. وقال ابن المنذر فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (يسعى بها أدناهم) قال:(5/350)
الذمة: الأمان، يقول: إن كل من أمن أحدًا من الحربيين جاز أمانه على جميع المسلمين دنيا كان أو شريفًا، حرا كان أو عبدًا، رجلا أو امرأة، وليس لهم أن يخفروه. واتفق مالك والثورى والأوزاعى والليث والشافعى وأبو ثور على جواز أمان العبد قاتل أو لم يقاتل، واحتجوا بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (يسعى بذمتهم أدناهم) . وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يجوز أمان العبد إلا أن يقاتل. وقولهما خلاف مفهوم الحديث. وأجاز مالك أمان الصبى إذا عقل الإسلام، ومنع ذلك أبو حنيفة والشافعى وجمهور الفقهاء، واحتج الشافعى بأن الصبى لا يصح عقده؛ فكذلك أمانه، والحجة لمالك عموم قوه (صلى الله عليه وسلم) : (يجير على المسلمين أدناهم) فدخل فى ذلك الصبى وغيره، وأيضًا فإن أحكام الصبى تطوع، وهو ممن يصح منه التطوع، ويفرض له سهمه إذا قاتل، وإنما الأمان مما اختص به من له حرمة الإسلام، فجعل لأدناهم كما جعل لأعلاهم، وعلى أن الصبى والعبد أحسن حالا من المرأة، لأنها ليست من جيش من يقاتل. قال المهلب: وقوله (فمن اخفر مسلمًا) يعنى: فيمن أجاره فعليه لعنة الله والملائكة. وهذا اللعن وسائر لعن المسلمين إنما هو متوجه إلى الإغلاظ والترهيب لهم عن المعاصى، والإيعاد لهم من قبل مواقعتها، فإذا وقعوا فيها دعى لهم بالتوبة، يبين هذا حديث النعمان. وقوله: (لا يقبل منه صرف ولا عدل) يعنى: فى هذه الجناية أى لا كفارة لها؛ لأنه لم يشرع فيها كفارة فهى إلى أمر الله إن شاء عذب فيها وإن شاء غفرها على مذهب أهل السنة فى الوعيد.(5/351)
- باب إِذَا قَالُوا صَبَأْنَا وَلَمْ يُحْسِنُوا أن يقولوا أَسْلَمْنَا
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ) . وَقَالَ عُمَرُ: إِذَا قَالَ: مَتْرَسْ، فَقَدْ آمَنَهُ، إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الألْسِنَةَ كُلَّهَا، أَوَ قَالَ: تَكَلَّمْ، لا بَأْسَ. قال المؤلف: غرض البخارى فى هذا الباب نحو ما تقدم فيمن تكلم بالفارسية والرطانة، وقوله تعالى: (واختلاف ألسنتكم وألوانكم (فذكر فيه عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه تكلم بألفاظ الفارسية، وكانت متعارفة عندهم، خاطب بها أصحابه، وفهموها عنه. فالمراد من هذين البابين أن العجم إذا قالوا: صبأنا، وأرادوا بذلك الإسلام فقد حقنوا دماءهم ووجب لهم الأمان؛ ألا ترى قول عمر: (إذا قال: مترس، فقد آمنه، إن الله يعلم الألسنة كلها) فسواء خاطبنا العجم بلغتهم، أو خاطبناهم بها على معنى الأمان؛ فقد لزم الأمان وحرم القتل. ولا خلاف بين العلماء أن من أمنَّ حربيا بأى كلام يفهم به الأمان، فقد تم له الأمان وأكثرهم يجعلون الإشارة بالأمان أمانًا، وهو قول مالك والشافعى وجماعة. قال المهلب: ولم يفهم خالد من قوله: (صبأنا) أنهم يريدون به أسلمنا، ولكن حمل اللفظة على ظاهرها، وتأولها أنها فى معنى الكفر؛ فلذلك قتلهم، ثم تبين أنهم أرادوا بها أسلمنا فجهلوا فقالوا: صبأنا. وإنما قالوا ذلك؛ لأن قريشًا كانت تقول لمن أسلم مع النبى:(5/352)
صبأ فلان حتى صارت هذه اللفظة معروفة عند الكفار وعادة جارية، فقالها هؤلاء القوم، فتأولها خالد على وجهها، فعذره النبى بتأويله، ولم يقد منه، وسيأتى اختلاف العلماء فى الحاكم إذا أخطأ فى اجتهاده فقتل من لم يجب عليه القتل، على من ضمان ذلك؟ فى كتاب الأحكام فى باب: إذا قضى القاضى بجور أو خلاف أهل العلم فهو مردود إن شاء الله. وأما قول عمر فذكره مالك فى الموطأ أن عمر بن الخطاب كتب إلى عامل جيش: (بلغنى أن رجالا منكم يطلبون العلج حتى إذا اشتد فى الجبل وامتنع قال رجل: مترس. يقول: لا تخف، فإذا أدركه قتله، والذى نفسى بيده، لا أعلم أحدًا فعل ذلك إلا ضربت عنقه) . قال مالك: وليس على هذا العمل. قال المؤلف: يعنى فى قتل المسلم بالكافر، وعليه العمل فى جواز التأمين. وأما قول عمر: أو قال: تكلم. لا بأس. فإنه يعنى قول عمر: للهرمزان تكلم. لا بأس فكان ذلك له عهدًا وتأمينًا. ذكر ابن أبى شيبة، حدثنا مروان بن معاوية، عن حميد، عن أنس قال: (حاصرنا تستر فنزل الهرمزان فلم يتكلم، فقال عمر: تكلم فقال: كلام حى أو كلام ميت؟ فقال عمر تكلم فلا بأس. قال: إنا وإياكم معشر العرب ما خلا الله بيننا كنا نقتلكم ونغصبكم، فأما إذا كن معكم فلم يكن لنا بكم يدان، فقال عمر: نقتله يا أنس؟ قلت: يا أمير المؤمنين، تركت خلفى(5/353)
شوكة شديدة وعدوًا كثيرًا، إن قتلته يئس القوم من الحياة، وكان أشد لشوكتهم، وإن استحييته طمع القوم. فقال: يا أنس، أستحيى قاتل البراء بن مالك ومجزأة بن ثور؟ فلما خشيت أن ينبسط عليه قلت له: ليس لك إلى قتله سبيل، فقال: أعطاك شيئًا؟ قلت: ما فعلت، ولكنك قلت له: تكلم فلا بأس، قال: لتجيئن بمن يشهد معك وإلا بدأت بعقوبتك؟ فخرجت من عنده، فإذا أنا بابن الزبير بن العوام قد حفظ ما حفظت، فشهد عنده فتركه، وأسلم الهرمزان وفرض له) .
- باب الْمُوَادَعَةِ وَالْمُصَالَحَةِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ بِالْمَالِ وَغَيْرِهِ وَفَضْلُ الوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَإِثْمِ مَنْ لَمْ يَفِ بِهِ
979 / فيه: سَهْلِ بْنِ أَبِى حَثْمَةَ، قَالَ: انْطَلَقَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ سَهْلٍ، وَمُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودِ، إِلَى خَيْبَرَ، وَهِىَ يَوْمَئِذٍ صُلْحٌ، فَتَفَرَّقَا، فَأَتَى مُحَيِّصَةُ إِلَى عَبْدِاللَّهِ بْنِ سَهْلٍ، وَهُوَ يَتَشَمَّطُ فِى دَمِهِ قَتِيلا، فَدَفَنَهُ، ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَانْطَلَقَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، وَمُحَيِّصَةُ وَحُوَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ، إِلَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَذَهَبَ عَبْدُالرَّحْمَنِ يَتَكَلَّمُ، فَقَالَ: كَبِّرْ، كَبِّرْ، وَهُوَ أَحْدَثُ الْقَوْمِ، فَسَكَتَ، فَتَكَلَّمَا، فَقَالَ: (تَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ قَاتِلَكُمْ، أَوْ صَاحِبَكُمْ) ، قَالُوا: وَكَيْفَ نَحْلِفُ، وَلَمْ نَشْهَدْ، وَلَمْ نَرَ، قَالَ: (فَتُبْرِيكُمْ يَهُودُ(5/354)
بِخَمْسِينَ) ، فَقَالُوا: كَيْفَ نَأْخُذُ أَيْمَانَ قَوْمٍ كُفَّارٍ، فَعَقَلَهُ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مِنْ عِنْدِهِ. قال المهلب: لا بأس بالموادعة والمصالحة للمشركين بالمال إذا كان ذلك بمعنى الاستئلاف للكفار، لا إذا كانت الجزية لأنها ذلة وصغار، وقد قال تعالى: (ولا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون (وإنما وداه النبى من عنده استئلافًا لليهود وطمعًا منه فى دخولهم الإسلام، وليستكف بذلك شرهم عن نفسه، وعن المسلمين مع إشكال القضية بإبائة أولياء القتيل من اليمين وإبائتهم أيضًا من قبول أيمان اليهود، فكان الحكم أن يكون مطلولا، ولكن أراد (صلى الله عليه وسلم) أن يوادع اليهود بالغرم عنهم؛ لأن الدليل كان متوجهًا إلى اليهود فى القتل لعبد الله، وأراد أن يذهب ما بنفوس أوليائه من العداوة لليهود، بأن غرم لهم الدية؛ إذ كان فى العرب جاريًا أن من أخذ جية قتيله فقد انتصف. وذكر الوليد بن مسلم قال: سألت الأوزاعى عن موادعة إمام المسلمين أهل الحرب على فدية أو هدنة يؤديها المسلمون إليهم فقال: لا يصلح ذلك إلا عن ضرورة وشغل من المسلمين عن حربهم من قتال عدوهم، أو فتنة (سلمت) المسلمين، فإذا كان ذلك وذكرت ذلك لسعيد بن عبد العزيز فقال: قد صالحهم معاوية أيام صفين، وصالحهم عبد الملك بن مروان لشغله بقتال ابن الزبير، يؤدى عبد الملك إلى طاغية الروم فى كل يوم ألف دينار، وإلى تراجمة الروم وأنباط الشام فى كل جمعة ألف دينار.(5/355)
وقال الشافعى: لا يعطيهم المسلمون شيئا بحال إلا أن يخافوا أن يصطلحوا لكثرة العدد لأنه من معانى الضرورات أو يؤسر مسلم فلا يخلى إلا بفديه فلا بأس به لأن رسول الله قد فدا رجلا برجلين. قال المؤلف: ولم أجد لمالك وأصحابه ولا للكوفيين نصًا فى هذه المسألة، وقال الأوزاعى: لا بأس أن يصالحهم الإمام على غير خراج يؤدونه إليه، ولا فدية إذا كان ذلك نظرًا للمسلمين وإبقاء عليهم، وقد صالح رسول الله قريشًا عام الحديبية على غير خراج أدته قريش إلى رسول الله ولا فدية.
- باب: فَضْلُ الوَفَاءِ بِالْعَهْدِ
980 / فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ، أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِى رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانُوا تِجَارًا بِالشَّأْمِ فِى الْمُدَّةِ الَّتِى مَادَّ فِيهَا النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) أَبَا سُفْيَانَ فِى كُفَّارِ قُرَيْشٍ. قال المؤلف: قد جاء فضل الوفاء بالعهد وذم الختر فى غير موضع فى الكتاب والسنة، وإنما أشار البخارى فى هذا الحديث إلى سؤال هرقل لأبى سفيان: هل يغدر؟ إذ كان الغدر عند كل أمة مذمومًا قبيحًا، وليس هو من صفات رسل الله، فأراد أن يمتحن بذلك صدق النبى؛ لأن من غدر ولم يف بعهد لا يجوز أن يكون نبيًا؛ لأن الأنبياء والرسل عليهم السلام أخبرت عن الله بفضل من وفى بعهد وذم من غدر وختر ألا ترى قةله (صلى الله عليه وسلم) فى صفة المنافق: (إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر) وقال (صلى الله عليه وسلم) : (يرفع للغادر لواء يوم(5/356)
القيامة، فيقال: هذه غدرة فلان) وهذه مبالغة فى العقوبة وشدة الشهرة والفضيحة.
- باب مَا يُحْذَرُ مِنَ الْغَدْرِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ (الآية [الأنفال: 62]
981 / فيه: عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ، أَتَيْتُ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، فِى غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَهُوَ فِى قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ، فَقَالَ: (اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَىِ السَّاعَةِ مَوْتِى، ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ مُوْتَانٌ، تَأْخُذُ فِيكُمْ كَقُعَاصِ الْغَنَمِ، ثُمَّ اسْتِفَاضَةُ الْمَالِ، حَتَّى يُعْطَى الرَّجُلُ مِائَةَ دِينَارٍ، فَيَظَلُّ سَاخِطًا، ثُمَّ فِتْنَةٌ لا يَبْقَى بَيْتٌ مِنَ الْعَرَبِ إِلا دَخَلَتْهُ، ثُمَّ هُدْنَةٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِى الأصْفَرِ، فَيَغْدِرُونَ، فَيَأْتُونَكُمْ تَحْتَ ثَمَانِينَ غَايَةً تَحْتَ كُلِّ غَايَةٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا) . قال المهلب: فى هذا الحديث علامات النبوة، وأن الغدر من أشراط الساعة، وفى الآية دليل أن الرسول معصوم من مكر الخديعة طول أيامه، وليس ذلك لغيره (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأن الله قال: (والله يعصمك من الناس (وأجمع المسلمون أنه معصوم فى الرسالة، وقد عصم من مكر الناس وغدرهم له. وقوله: (كقعاص الغنم) قال صاحب العين: (القعاص) : هو داء يأخذ الدواب، فيسيل من أنوفها شيء، وقد قعصت الدابة. والغاية هاهنا: الراية؛ لأنها غاية المتبع، إذا وقفت وقف، وإذا(5/357)
مشت تبعها. وهذه العلامات التى أنذر (صلى الله عليه وسلم) بها قد ظهر كثير منها، والفتنة لم تزل من زمن عثمان عصمنا الله من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن وقد دعا (صلى الله عليه وسلم) ألا يجعل بأس أمته بينهم فمنعها. فلم يزل الهرج إلى يوم القيامة.
- باب هَلْ يُعْفَى عَنِ الذِّمِّىِّ إِذَا سَحَرَ
وَسُئِلَ ابْن شِهَابٍ أَعَلَى مَنْ سَحَرَ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ قَتْلٌ؟ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَدْ صُنِعَ لَهُ ذَلِكَ، فَلَمْ يَقْتُلْ مَنْ صَنَعَهُ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. 1982 / فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، سُحِرَ حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ صَنَعَ الْشَىْءِ وَلَمْ يَصْنَعْهُ. قال المؤلف: لا يقتل ساحر أهل الكتاب عند مالك؛ لقول ابن شهاب، ولكن يعاقب إلا أن يقتل بسحره؛ فيقتل، أو يحدث حدثًا؛ فيأخذ منه بقدر ذلك، وهو قول أبى حنيفة والشافعي. وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك أيضًا أنه لا يقتل ساحر أهل العهد إلا أن يدخل بسحره ضررًا على مسلم لم يعاهد عليه، فإذا فعلوا ذلك، فقد نقضوا العهد؛ يحل بذلك قتلهم. وعلى هذا القول لا حجة لابن شهاب فى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يقتل الهيودى الذ سحره؛ لوجوه، منها أنه قد ثبت عن الرسول أنه كان لا ينتقم لنفسه، ولو عاقبه لكان حاكمًا لنفسه. قال المهلب: وأيضًا فإن ذلك السحر لم يضره (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأنه لم يفقده شيئًا من الوحى، ولا دخلت عليه داخلة فى الشريعة، وإنما(5/358)
اعتراه شيء من التخيل والتوهم، ثم لم يتركه الله على ذلك، بل تداركه ثم عصمه وأعلمه بموضع السحر، وأمره باستخراجه وحله عنه، فعصمه الله من الناس ومن شرهم، كما وعده، وكما دفع عنه أيضًا ضر السم بعد أن أطلعه الله على المكيدة فيه، بأنه أظهرها إليه معجزة من كلام الذراع. وقد اعترض بعض الملحدين بحديث عائشة، وقالوا: وكيف يجوز السحر على النبى، والسحر كفر وعمل من أعمال الشياطين، فكيف يصل ضره إلى النبى مع حياطة الله له وتسديده إياه بملائكته، وصون الوحى من الشياطين؟ وهذا اعتراض يدل على جهل وغباوة من قائله وعناد للقرآن؛ لأن الله قال لرسوله: (قل أعوذ برب الفلق (إلى قوله: (ومن شر النفاثات فى العقد (والنفاثات: السواحر ينفثن فى العقد كما ينفث الراقى فى الرقية، فإن كانوا أنكروا ذلك؛ لأن الله لا يجعل للشياطين سبيلا على النبى، فقد قال تعالى: (وما أرسلنا من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى ألقى الشيطان فى أمنيته (يريد إذا تلا ألقى الشيطان. وقد روى عن النبى - (صلى الله عليه وسلم) أن عفريتًا تغلب عليه ليلة ليقطع عليه الصلاة حتى هم أن يربطه إلى سارية من سوارى المسجد فذكر قول سليمان: (رب اغفر لى وهب لى ملكًا لا ينبغى لأحد من بعدى (فرده خاسئًا. وليس فى جواز ذلك على النبى ما يدل أن ذلك يلزمه أبدًا، أو يدخل معه عليه داخلة فى شيء من حاله أو شريعته، وإنما ناله من ضر السحر ما ينال المريض من ضر الحمى والبرسام من غير سحر، من الضعف عن الكلام، وسوء التخيل،(5/359)
ثم زال ذلك عنه، وأفاق منه، وأبطل الله كيد السحرة، وقد أجمع المسلمون أنه معصوم فى الرسالة فسقط اعتراض الملحدة.
- باب كَيْفَ يُنْبَذُ إِلَى أَهْلِ الْعَهْدِ وَقَوْل اللَّهِ: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً (الآيَةَ [الأنفال: 58]
983 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، بَعَثَنِى أَبُو بَكْرٍ فِيمَنْ يُؤَذِّنُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى: أَلاَ لا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَيَوْمُ الْحَجِّ الأكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ، وَإِنَّمَا قِيلَ: (الأكْبَرُ) مِنْ أَجْلِ قَوْلِ النَّاسِ (الْحَجُّ الأصْغَرُ) ، فَنَبَذَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى النَّاسِ فِى ذَلِكَ الْعَامِ، فَلَمْ يَحُجَّ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ الَّذِى حَجَّ فِيهِ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مُشْرِكٌ. أجمع العلماء أن للإمام أن يبدأ من يخاف خيانته وغدره بالحرب بعد أن يعلمه ذلك، وقيل: إن هذه الآية نزلت فى قريظة؛ لأنهم ظاهروا المشركين على حرب رسول الله ونقضوا العهد. وقال الكسائى وغيره فى قوله: (على سواء (السواء: العدل، وروى عن ابن عباس قال السواء: المثل، وقيل: انبده إليهم على سواء. أى: أعلمهم أنك حاربتهم حتى يصيروا مثلك فى العلم. قال المهلب: وإنما خشى الرسول من المشركين عند الطواف بالبيت خيانتهم ولم يأمن من مكرهم، فأراد تعالى أن يطهر البيت من نجاستهم بقوله: (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا (وأراد تنظيف البيت ممن كان يطوف عريانًا، وفى هذا(5/360)
دليل أن حجة أبى بكر بالناس كانت حجة الإسلام؛ لأنه وقفه بعرفة ووقف فى ذى الحجة، والوقوف بعرفة بنص كتاب الله) ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس (يعنى: طواف العرب، وقد اتفق أهل السير أن العرب كانت تفترق فرقتين، فرقة تقف بعرفة، وكانت قريش تقف بالمشعر الحرام، وتقول نحن الحمس، ولا تعظم غير الحرم، فإذا كان يوم النحر اجتمعت القبائل كلها بمنى، وهو يوم الاجتماع الأكبر. وقول أبى هريرة: (يوم الحج الأكبر: يوم النحر؛ من أجل قول الناس: الأصغر) يريد العمرة أنها الحج الأصغر. ومذهب مالك وجماعة من الفقهاء أن يوم الحج الأكبر: يوم النحر وقال قوم: هو يوم عرفة. والحجة للقول الأول ما نصه أبو هريرة، ونادى به فى الموسم عن أبى بكر الصديق عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أن يوم الحج الأكبر: يوم النحر. وأما جهة النظر: يوم النحر يعظمه أهل الحج وسائر المسلمين بالتكبير، وفيه صلاة العيد والنحر، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (أى يوم هذا؟) فجعل له حرمة على سائر الأيام كحرمة الشهر على سائر الشهور والبلد على سائر البلاد.(5/361)
- باب: إِثمِ مَنْ عَاهَدَ ثُمَّ غَدَرَ
984 / فيه: ابْن عَمْرٍو قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (أَرْبَعُ خِلالٍ مَنْ كُنَّ فِيهِ، كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا: مَنْ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ. . . . . .) الحديث. 1985 / وفيه: عَلِىّ، مَا كَتَبْنَا عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) إِلا الْقُرْآنَ، وَمَا فِى هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (الْمَدِينَةُ حَرَامٌ. . . . .) إلى قوله: (فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. . . . .) الحديث. 1986 / وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا لَمْ تَجْتَبُوا دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا، قِيلَ لَهُ: وَكَيْفَ تَرَى ذَلِكَ كَائِنًا؟ قَالَ: إِى وَالَّذِى نَفْسُ أَبِى هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ، عَنْ قَوْلِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ، قَالُوا: عَمَّ ذَاكَ؟ قَالَ: تُنْتَهَكُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) فَيَشُدُّ اللَّهُ قُلُوبَ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَيَمْنَعُونَ مَا فِى أَيْدِيهِمْ. قد تقدم معنى حديث ابن عمرو فى كتاب الإيمان. قال المهلب: ويحتمل أن تكون هذه الأربعة الخلال فى رجل اشتملت على معالم أحواله فسمى بالأغلب مما يظهر منه توبيحًا له، وتقبيحًا لحالة، لا على أنه منافق كافر، وفى السنة نظائر لهذا كثيرة من الحكم بالأغلب، والغدر حرام بالمؤمنين وبأهل الذمة، وفاعله مستحق لاسم النفاق وللعنة الله والملائكة والناس أجمعين، على ما رواه علي. ودل حديث أبى هريرة على أن الغدر لأهل الذمة لا يجوز أيضًا، ألا ترى ما أوصى به النبى من الذمة والوفاء بها لأهلها من أجل إنماء معاش المسلمين، ورزق عيالهم، فأعلمهم بهذا الحديث أنهم متى ظلموا منعوا ما فى أيديهم، واشتدوا وحاربوا وأعادوا الفتنة، وخلعوا ربقة الذمة، فلم يجتب المسلمون درهمًا، فضاقت أحوالهم وساءت. وفيه من علامات النبوة.(5/362)
- باب
987 / فيه: الأعْمَشَ، سَأَلْتُ أَبَا وَائِلٍ، شَهِدْتَ صِفِّينَ؟ قَالَ: نَعَمْ، سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ، يَقُولُ: اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ، رَأَيْتُنِى يَوْمَ أَبِى جَنْدَلٍ، وَلَوْ أنى أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) لَرَدَدْتُهُ، وَمَا وَضَعْنَا أَسْيَافَنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا لأمْرٍ يُفْظِعُنَا إِلا أَسْهَلْنَ بِنَا إِلَى أَمْرٍ نَعْرِفُهُ غَيْرِ أَمْرِنَا هَذَا. 1988 / وفيه: أَبُو وَائِلٍ، كُنَّا بِصِفِّينَ، فَقَامَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ، فَإِنَّا كُنَّا مَعَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَلَوْ نَرَى قِتَالا لَقَاتَلْنَا، فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: (نعم) ، قَالَ: أَلَيْسَ قَتْلانَا فِى الْجَنَّةِ، وَقَتْلاهُمْ فِى النَّارِ؟ قَالَ: (بَلَى) ، قَالَ: فَعَلامَ نُعْطِى الدَّنِيَّةَ فِى دِينِنَا، أَنَرْجِعُ ولَمْ يَحْكُمِ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟ فَقَالَ: (يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ، وَلَنْ يُضَيِّعَنِى اللَّهُ أَبَدًا) ، فَانْطَلَقَ عُمَرُ إِلَى أَبِى بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَوْل النَّبىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَلَنْ يُضَيِّعَهُ اللَّهُ أَبَدًا، فَنَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ، فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى عُمَرَ إِلَى آخِرِهَا، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَفَتْحٌ هُوَ؟ قَالَ: (نَعَمْ) . 1989 / وفيه: أَسْمَاءَ، قَدِمَتْ عَلَىَّ أُمِّى، وَهِىَ مُشْرِكَةٌ فِى عَهْدِ قُرَيْشٍ، إِذْ عَاهَدُوا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَمُدَّتِهِمْ مَعَ أَبِيهَا، فَاسْتَفْتَتْ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّى قَدِمَتْ عَلَىَّ وَهِىَ رَاغِبَةٌ، أَفَأَصِلُهَا؟ قَالَ: (نَعَمْ، صِلِيهَا) . قال المهلب: قوله: (اتهموا رأيكم) يعنى: فى هذا القتال، يعظ الفريقين؛ لأن كل فريق منهم يقاتل على رأى يراه، واجتهاد يجتهده، فقال لهم سهل: اتهموا رأيكم فإنما تقاتلون فى الإسلام إخوانكم براى رأيتموه، فلو كان الرأى يقضى به لقضيت يوم أبى(5/363)
جندل برد أمر النبى يوم الحديبية، حين قاضى أهل مكة أن يرد إليهم من فر إلى النبى من المسلمين، فحرج أبو جندل يستغيب يجر قيوده، وكان قد عذب على الإسلام. فقال سهيل، والد أبى جندل: هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه. فرد إليه أبا جندل، وهو ينادى: أتردوننى إلى المشركين وأنا مسلم، وترون ما لقيت من العذاب فى الله؟ وقام سهيل إلى ابنه بحجر فكسر فمه، ففارت نفوس المسلمين حينئذ، وقال عمر: لسنا على الحق؟ ولذلك قال سهل ولو أستطيع أن أرد أمر النبى لرددته. وقوله: (فما وضعنا سيوفنا) يعنى: ما جردناها فى الله لأمر فظيع علينا عظيم إلا أسهلت بنا سيوفنا، أقضته بنا إلى أسهل من أمرنا، غير هذا الأمر، يعنى: أمر الفتن التى وقعت بين المسلمين فى صدر الإسلام؛ فإنها [. . . . .] لم تتبين السيوف فيها الحقيقة بل حلت المصيبة بقتل المسلمين، فنزع السيف أول من سله فى الفتنة. وغرض البخارى فى هذا الباب: أن يعرفك أن الصبر على المفاتن، والصلة للمقاطع أقطع للفتنة وأحمد عاقبة، فكأنه قال: باب الصبر على أذى المفاتنين وعاقبة الصابرين. ألا ترى أن النبى أحذ يوم الحدبيية فى قتال المشركين بالصبر لهم، والوقوع تحت الدنية التى ظنها عمر فى الدين؟ وكان ذلك الصبر واللين الذى فهمه رسول الله عن ربه فى بروك الناقة عن توجيهها إلى مكة أفضل عاقبة فى الدنيا والآخرة من القتال لهم، وفتح مكة على ذلك الحنق الذى قال المسلمين من تحكمهم على النبى، فكان عاقبة صبر النبى(5/364)
ولينه لهم أن أدخلهم الله الإسلام، وأوجب لهم أجرهم فى الآخرة. ألا ترى قوله: (لأن يهدى الله بك رجلا واحدًا خير لك من حمر النعم) فكيف بأهل مكة أجمعين، وهم الذين كانوا أئمة العرب وسادة الناس، وبدخولهم دخلت العرب فى دين الله أفواجًا. وفيه من الفقة: أن صلة المقاطع أنجع فى سياسة النفوس، وأحمد عاقبة، وعلى مثل هذا المعنى دل حديث أسماء فى صلة أمها وهى مشركة. قال الطبرى: وفى حديث سهل بن حنيف الدلالة البينة أن رسول الله كان يدير كثيرًا من حروبه بحسب ما يحضره من الرأى مما الأغلب عنده أنه الصواب، وإن كان الله تعالى قد كان عهد إليه فى جواز الصلح فى مثل الحال التى صالحهم عليها عهدًا، فمن ذلك الرأى كان، لولا ذلك كان عمر وسهل بن حنيف ومن كان ينكر الصلح ويرى قتال القوم أصلح فى التدبير والرأى لينكروا ذلك، ويؤثروا آراءهم بالقتال على تركة لو كان عندهم آية من أمر الله تعالى نبيه، ولكنه كان عندهم أنه رأى من النبى وإبقاء على من معه من الصحابة؛ لقلة عددهم، وكثرة عدد المشركين، وكان عمر والذين يرون قتال القوم لحسن تصابرهم وجميل نياتهم فى الإسلام إذ كانوا أهل الحق، والمشركون أهل الباطل يرون أن الحق لن يعلوه باطل، لا سيما عدد: الله وليهم ورسوله، فأيدهم، فعظم بذلك عليهم الانحطاط فى الصلح، ورأوه وهنا فى الدين، وكان رسول الله أعلم بما يؤدى إليه عاقبة ذلك الصلح منهم مما هو(5/365)
أجدى على الإسلام وأهله نفعًا، وأن الله أوحى إليه الأمر بترك قتال القوم؛ لأن ذلك أسد فى الرأي. وفيه الدلالة الواضحة على أن لأهل العلم الاجتهاد فى النوازل فى دينهم فيما لا نص فيه من كتاب الله ولا سنة. وذلك أن الذين أنكروا الصلح يوم أبى جندل أنكروه اجتهادًا منهم، ورسوله الله بحضرتهم يعلم ذلك من أمرهم، فلم ينههم عن القول بما أدى إليه اجتهادهم، وإن كان قد عرفهم خطأ رأيهم فى ذلك، وصواب رأيه، ولو كان الاجتهاد خطأ لكان حريا عليه (صلى الله عليه وسلم) أن يتقدم إليهم بالنهى عن القول بما أداهم إليه اجتهادهم أشد النهي. وفيه أيضًا: أن المجتهد عند نفسه مما يدرك بالاستنباط لا تبعة عليه فيما بينه وبين الله خطأ، إن كان منه فى اجتهاده، إذا كان اجتهاده على أصل، وكان من أهله؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يؤثم عمر ومن أنكر الصلح، والمعانى التى جرت بينهم فى كتاب الصلح مما كان خلافًا لرأى رسول الله، ولو كانوا فى ذلك مذنبين لأمرهم النبى بالتوبة، ولكنهم كانوا على اجتهادهم مأجورين، وإن كان الصواب فيما رأى رسول الله، وذلك نظير قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر) وستأتى زيادة فى هذا المعنى فى كتاب: الاعتصام إن شاء الله. وقال أبو الحسن بن القابسى: وقول عمر: أليس قتلادهم فى النار؟ فعلام نعطى الدنية فى ديننا؟ هذه المراجعة هى التى قال فيها عمر فى حديث مالك: نزرت رسول الله كل ذلك لا يجيبك.(5/366)
- باب: المُصَالَحَةَ عَلَى ثَلاَثَةَ أَيَامٍ أَوْ وَقْتٍ مَعْلُومٍ
990 / فيه: الْبَرَاء، أَنَّ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَعْتَمِرَ أَرْسَلَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ يَسْتَأْذِنُهُمْ؛ لِيَدْخُلَ مَكَّةَ، فَاشْتَرَطُوا عَلَيْهِ أَنْ لا يُقِيمَ فِبهَا إِلا ثَلاثَ لَيَالٍ، وَلا يَدْخُلَهَا إِلا بِجُلُبَّانِ السِّلاحِ، وَلا يَدْعُوَ مِنْهُمْ أَحَدًا. فَلَمَّا مَضَتِ الأيَّامُ، أَتَوْا عَلِيًّا، فَقَالُوا: مُرْ صَاحِبَكَ، فَلْيَرْتَحِلْ، فَذَكَرَ ذَلِكَ عَلِىٌّ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (نَعَمْ) ، ثُمَّ ارْتَحَلَ. ليس فى أمر المهادنة حد عند أهل العلم لا يجوز غيره، وإنما ذلك على حسب الحاجة، والاجتهاد فى ذلك إلى الإمام وأهل الرأي. وقال المهلب: إنما قاضاهم على ثلاثة أيام؛ لأنها ليست بعام وهى داخلة فى حكم السفر، والصلاة تقصر فيها. وفيه: الوفاء بالشرط، والمطالبة بما وقعت عليه العقود، وسيأتى هذا الحديث فى كتاب الصلح إن شاء الله.
- باب: طَرْح جَيفِ المْشرِكِينَ فِى الْبِئرِ وَلاَ يُؤْخَذُ لَهَا ثَمنٌ
991 / فيه: ابْن مسعود: بَيْنَا النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) سَاجِدٌ وَحَوْلَهُ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ؛ إِذْ جَاءَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِى مُعَيْطٍ بِسَلَى جَزُورٍ فَقَذَفَهُ عَلَى ظَهْرِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ، حَتَّى جَاءَتْ فَاطِمَةُ فَأَخَذَته مِنْ ظَهْرِهِ، وَدَعَتْ عَلَى مَنْ صَنَعَ ذَلِكَ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ عَلَيْكَ الْمَلأ مِنْ قُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ أَبَا جَهْلِ، وَعُتْبَةَ، وَشَيْبَةَ، وَعُقْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، أَوْ أُبَىَّ بْنَ خَلَفٍ) . فَلَقَدْ(5/367)
رَأَيْتُهُمْ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ، فَأُلْقُوا فِى بِئْرٍ غَيْرَ أُمَيَّةَ - أَوْ أُبَىٍّ - فَإِنَّهُ كَانَ [رَجُلا] ضَخْمًا، فَلَمَّا جَرُّوهُ تَقَطَّعَتْ أَوْصَالُهُ، قَبْلَ أَنْ يُلْقَى فِى الْبِئْرِ. قال المؤلف: فى طرح جيف المشركين فى البئر دليل على جواز المثلة بهم إذا ماتوا؛ لأنهم جروه حتى تقطعت أوصاله، وهذا يدل أن نهيه (صلى الله عليه وسلم) عن المثلة إنما هو فى الأحياء، والبئر التى ألقوا فيها يحتمل أن تكون للمشركين، فأراد (صلى الله عليه وسلم) إفسادها عليهم أو لا يكون لأحد عليها ملك، وكانت معطلة. وقوله: (ولا يؤخذ لها ثمن) أى: لا يجوز أخذ الفداء من المشركين إذ كان أصحاب القليب رؤساء مشركى مكة، ولو مكن أهلهم من إخراجهم من البئر، ودفنهم لبذلوا فى ذلك كثير المال، وإنما لم يجز أخذ الثمن فيها؛ لأنها ميتة لا يجوز تملكها، ولا أخذ عوض عنها، وقد حرم رسول الله ثمن الميتة والأصنام فى حديث جابر، وروى فى ذلك أثر عن النبى أخرجه أبو عيسى الترمذى قال: حدثنا محمود بن غيلان قال: حدثنا أبو أحمد، حدثنا سفيان، عن ابن أبى ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس (أن المشركين أرادوا أن يشتروا جسد رجل من المشركين فأبى (صلى الله عليه وسلم) أن يبيعهم إياه) . قال أبو عيسى: وقد رواه أيضًا الحجاج بن أرطأة عن الحكم. وقال أحمد بن حنبل: لا يحتج بحديث ابن أبى ليلى. قال البخارى: هو صدوق، ولكن لا يعرف صحيح حديثه من سقيمه.(5/368)
قال الترمذى: إنما يهم فى الإسناد. وقال الثورى: فقهاؤنا ابن أبى ليلى وابن شبرمة. وذكر ابن إسحاق فى السير قال: لما كان يوم الخندق اقتحمه نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومى، فتورط فيه فقتل، فغلب المسلمون على جسده، فسألوا رسول الله أن يبيعهم جسده، فقال رسول الله: لا حاجة لنا بجسده، ولا ثمنه. فخلى بينهم وبينه. قال ابن هشام: أعطوا رسول الله فى جسده عشرة آلاف درهم فيما بلغنا عن الزهري. قال المهلب: وفيه من الفقه: جواز ستر عورات المشركين، وطرحهم فى الآبار المعطلة، وهو من باب ستر الأذى، ومواراة السوءة والعورة الظاهرة. وقال الطبرى: فيه من الفقه: أن من الحق مواراة جيفة كل ميت من بنى آدم عن أعين الناس ما وجد السبيل إلى ذلك، مؤمنًا كان الميت أو كافرًا؛ لأمره (صلى الله عليه وسلم) أن يجعلوا بقليب بدر ولم يتركهم مطرحين بالعراء، فالحق الاستنان به (صلى الله عليه وسلم) فيمن أصابه فى معركة الحرب أو غيرها من المشركين، فيوارون جيفته إن لم يكن لهم مانع من ذلك، ولا شيء يعجلهم عنه من خوف كرة عدو. وإذا كان ذلك من سنته (صلى الله عليه وسلم) فى مشركى أهل الحرب، فالمشركون من أهل العهد والذمة إذا مات منهم ميت بحيث لا أحد من أوليائه، وأهل ملته بحضرته، وحضره أهل الإسلام أولى أن تكون السنة فيهم، لسنته فى أهل بدر، وأن يواروا جيفته ويدفنوه، وقد أمر (صلى الله عليه وسلم) عليا فى أبيه أبى طالب إذ مات قال: (اذهب(5/369)
ره) فإن يفعلوا ذلك لشاغل أو مانع من ذلك، لم أرهم حرجين بتركهم ذلك؛ لأن أكثر مغازى رسول الله التى كان فيها القتال لم يذكر عنه فى ذلك ما ذكر عنه يوم بدر.
- باب: إِثْمِ الْغَادِرِ للْبَرِّ وَالْفَاجِرِ
992 / فيه: أَنَسٍ قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - قَالَ أَحَدُهُمَا: يُنْصَبُ، وَقَالَ الآخَرُ: يُرَى - يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُعْرَفُ بِهِ) . 1993 / وفيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُنْصَبُ بِغَدْرَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . 1994 / وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: (إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ، يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لأحَدٍ قَبْلِى، وَلَمْ يَحِلَّ لِى إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهُوَ حَرَامٌ، [بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ] ، لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلا مَنْ عَرَّفَهَا، وَلا يُخْتَلَى خَلاها. . .) . قال المهلب: أخبر (صلى الله عليه وسلم) أن عقوبة الغادر يوم القيامة أن يرفع له لواء ليعرف الناس بغدرته، فينظرون منه بعين المعصية، وهذه عقوبة من نوع ما قال الله فى عقوبة الكاذبين على الله: (ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم (وإنما قال البخارى: باب (إثم الغادر للبر والفاجر) لعموم قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لكل غادر لواء(5/370)
يوم القيامة) فدخل فيه من غدر من بر أو فاجر، دل أن الغدر حرام لجميع الناس برهم وفاجرهم؛ لأن الغدر ظلم، وظلم الفاجر حرام كظلم البر التقي. فإن قال قائل: فما وجه موافقة حديث ابن عباس للترجمة؟ قيل: وجه ذلك والله أعلم أن محارم الله عهود إلى عباده، فمن انتهك منها شيئًا لم يف بما عاهد الله عليه، ومن لم يف فهو من الغادرين، وأيضًا فإن النبى (صلى الله عليه وسلم) لما فتح مكة من على أهلها كلهم مؤمنهم ومنافقهم، ومعلوم أنه كان فيهم منافقون، ثم أخبر (صلى الله عليه وسلم) أن مكة حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة وأنه لا يحل قتال أحد فيها، وإذا كان هذا فلا يجوز الغدر ببر منهم ولا فاجر؛ إذ شمل جميعهم أمان النبى وعفوه عنهم، والله الموفق.(5/371)
- كتاب العقيقة
- بَاب تَسْمِيَةِ الْمَوْلُودِ غَدَاةَ يُولَدُ لِمَنْ لَمْ يَعُقَّ عَنْهُ وَتَحْنِيكِهِ
995 / فيه: أَبُو مُوسَى، وُلِدَ لِى غُلامٌ، فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، فَسَمَّاهُ إِبْرَاهِيمَ، وَحَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ، وَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ، وَدَفَعَهُ إِلَىَّ؛ وَكَانَ أَكْبَرَ وَلَدِ أَبِى مُوسَى. 1996 / وفيه: عَائِشَةَ، أن النَّبِيّ (صلى الله عليه وسلم) أُتِىَ بِصَبِىٍّ يُحَنِّكُهُ، فَبَالَ عَلَيْهِ، فَأَتْبَعَهُ الْمَاءَ. 1997 / وفيه: أَسْمَاءَ، أَنَّهَا حَمَلَتْ بِعَبْدِاللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ، قَالَتْ: فَخَرَجْتُ وَأَنَا مُتِمٌّ، فَأَتَيْتُ الْمَدِينَةَ، فَنَزَلْتُ بقُبَاءً، فَوَلَدْتُ بِقُبَاءٍ، ثُمَّ أَتَيْتُ بِهِ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَوَضَعْتُهُ فِى حَجْرِهِ، ثُمَّ دَعَا بِتَمْرَةٍ، فَمَضَغَهَا، ثُمَّ تَفَلَ فِى فِيهِ، فَكَانَ أَوَّلَ شَىْءٍ دَخَلَ جَوْفَهُ رِيقُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ حَنَّكَهُ بِتَّمْرَةِ، ثُمَّ دَعَا لَهُ فَبَرَّكَ عَلَيْهِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِى الإسْلام، فَفَرِحُوا بِهِ فَرَحًا شَدِيدًا؛ لأنَّهُمْ قِيلَ لَهُمْ: إِنَّ الْيَهُودَ قَدْ سَحَرَتْكُمْ فَلا يُولَدُ لَكُمْ. 1998 / وفيه: أَنَس، كَانَ ابْنٌ لأبِى طَلْحَةَ يَشْتَكِى، فَخَرَجَ أَبُو طَلْحَةَ، فَقُبِضَ الصَّبِىُّ، فَلَمَّا رَجَعَ أَبُو طَلْحَةَ، قَالَ: مَا فَعَلَ ابْنِى؟ قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: هُوَ أَسْكَنُ مَا كَانَ، فَقَرَّبَتْ إِلَيْهِ الْعَشَاءَ فَتَعَشَّى، ثُمَّ أَصَابَ مِنْهَا فَلَمَّا فَرَغَ، قَالَتْ: وَارُوا الصَّبِىَّ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَبُو طَلْحَةَ، أَتَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: (أَعْرَسْتُمُ اللَّيْلَةَ) ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ: (اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمَا) ، فَوَلَدَتْ(5/372)
غُلامًا، قَالَ لِى أَبُو طَلْحَةَ: احْفَظْهُ حَتَّى تَأْتِىَ بِهِ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَتَى بِهِ النَّبِىَّ وَأَرْسَلَتْ مَعَهُ بِتَمَرَاتٍ، فَأَخَذَهَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَمَضَغَهَا، ثُمَّ أَخَذَ مِنْ فِيهِ، فَجَعَلَهَا فِى فِى الصَّبِىِّ وَحَنَّكَهُ بِهَا، وَسَمَّاهُ عَبْدَاللَّهِ. قال المهلب: تسمية المولود حين يولد، وبعد ذلك بليلة وليلتين وما شاء إذا لم ينو الأب العقيقة عنه يوم سابعه جائز، فإن أراد أن ينسك عنه فالسنة أن يؤخر تسميته إلى يوم النسك وهو السابع، لما روى الحسن، عن سمرة، عن الرسول أنه قال: (الغلام مرتهن بعقيقته يذبح عنه يوم السابع، ويحلق رأسه ويسمى) قال: ويحنكه بالتمر (تقال) له بالإيمان؛ لأنها ثمرة الشجرة التى شبهها الله تعالى بالمؤمن وبحلاوتها أيضًا. وفيه: أنه حسن أن يقصد بالمولود من أهل الفضل والعلماء والأثمة الصالحين ويحنكونهم بالتمر وشبهه، ويتبرك بتسميتهم إياهم، غير أنه ليس ريق أحد فى البركة كريق النبي. فمن وصل إلى جوفه من ريقه (صلى الله عليه وسلم) فقد أسعده الله وبارك فيه؛ ألا ترى بركة عبد الله بن الزبير وما حازه من الفضائل؛ فإنه كان قارئًا للقرآن عفيفًا فى الإسلام، وكذلك كان عبد الله بن أبى طلحة من أهل الفضل والتقدم فى الخير ببركة تحنيك النبى (صلى الله عليه وسلم) له، وقد تقدم فى كتاب الجنائز الكلام فى حديث أسماء فى باب (من لم يظهر حزنه عند المصيبة) فأغنى عن إعادته. وأما خوفهم أن اليهود سحرتهم فإن ذلك لصحة السحر عندهم(5/373)
وخشية أن يفعل ذلك من لا يتقى الله من الكفار، كما سحر لبيد بن الأعصم النبى (صلى الله عليه وسلم) فلما ولد عبد الله بن الزبير أمنوا ذلك وفرحوا. وقولها: (وأنا متم) قال صاحب الأفعال: أتمت كل حامل: جاز أن تضع.
- باب: إماطة الأذى عن الصبى فى العقيقة
999 / فيه: حديث سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَعَ الْغُلامِ عَقِيقَةٌ، فَأَهْرِيقُوا عَنْهُ دَمًا، وَأَمِيطُوا عَنْهُ الأذَى) . 2000 / وفيه: حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ، قَالَ: أَمَرَنِى ابْنُ سِيرِينَ أَنْ أَسْأَلَ الْحَسَنَ مِمَّنْ سَمِعَ حَدِيثَ الْعَقِيقَةِ، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: مِنْ سَمُرَةَ. قال المؤلف: حديث سمرة: رواه قتادة، عن الحسن، عن سمرة، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (كل غلام مرتهن بعقيقته، يذبح عنه يوم السابع، ويسمى) وقد ذكرته فى الباب قبل هذا، وإماطة الأذى عن الصبى هو حلق الشعر الذى على رأسه. وقال الأصمعى وغيره: العقيقة أصلها الشعر الذى يكون على رأس الصبى، وإنما سميت الشاة التى تذبح: عقيقة، لأنه يحلق رأس الصبى عند ذبحها. قال الطبرى: فسمت العرب الذبيحة التى يذبحونها عند حلق ذلك الشعر باسم ذلك الشعر، كما سموا النجو: عذرة، وإنما العذرة(5/374)
فناء الدار؛ لأنهم كانوا يلقون ذلك بأفنيتهم، وكما قالوا الغائط للحدث، والغائط المطمئن من الأرض؛ لأنهم كانوا يفعلون ذلك فيما اطمأن من الأرض، وذلك كثير فى كلام العرب، أن ينقلوا اسم الشيء إلى ما صاحبه إذا كثرت مصاحبته له. وقوله: (أميطوا) يعنى: أزيلوا وأنفقوا. قال المهلب: ومعنى أمره (صلى الله عليه وسلم) بإماطة الأذى عنه، وإراقة الدم يوم سابعه نسيكة لله تعالى ليبارك فيه، تفاؤلا بطهرة الله له بذلك، وليس ذلك على الحتم لما تقدم من تسميته (صلى الله عليه وسلم) لابن أبى طلحة وابن الزبير وتحنيكه لهما قبل الأسبوع. وروى مالك فى الموطأ أن فاطمة بنت رسول الله وزنت شعر حسن وحسين فتصدقت بزنته فضة. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (أميطوا عنه الأذى) رد لقول الحسن البصرى، وقتادة أن الصبى يطلى رأسه بدم العقيقة؛ لأن الدم من أكبر الأذى، فغير جائز أن ينجس رأس الصبى بدم. وقال الحسن: يعق عنه يوم سابعه، ثم يسمى، وهو قول مالك وأحمد وإسحاق. قال مالك: فإن جاوز السابع لم يعق عنه، ولا يعق عن كبير وروى عنه ابن وهب أنه إن لم يعق عنه يوم السابع عق عنه فى السابع الثانى، وهو قول عطاء. وعن عائشة: إن لم يعق عنه فى السابع الثانى عق عنه فى السابع الثالث، وهو قول ابن وهب وإسحاق. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (مع الغلام عقيقته) حجة لقول مالك أنه لا يعق عن الكبير، وعلى هذا أئمة الفتوى بالأمصار، واختلفوا فى وجوب العقيقة، فأوجبها الحسن البصرى وأهل الظاهر وتأولوا قوله (صلى الله عليه وسلم) : (مع الغلام عقيقته) على الوجوب.(5/375)
وقال مالك والشافعى وأحمد وأبو ثور وإسحاق: العقيقة سنة يجب العمل بها ولا ينبغى تركها لمن قدر عليها. وقال الكوفيون: ليست بسنة. وقولهم خلاف ما عليه العلماء من الترغيب فيها والحض عليها، ألا ترى قول مالك أنها من الأمر الذى لم يزل عليه أمر الناس عندنا. وقال محمد بن الحسن: العقيقة تطوع ونسخها الأضحى. ولا أصل لقوله، إذ لاسلف له ولا أثر به. وروى أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس: (أن الرسول عق عن الحسن والحسين بكبشين، كبش عن كل واحد منهما) . وروى حماد بن سلمة، عن عبد الله بن خثيم، عن يوسف بن ماهك، عن حفصة بنت عبد الرحمن، عن عائشة قالت: (أمرنا رسول الله أن نعق عن الغلام بشاتين وعن الجارية بشاة) وبه قال مكحول. فإن قيل: فأيهم الصحيح من هذه الآثار؟ قال الطبرى: كلاهما صحيح والعمل بأى ذلك شاء العامل فعل؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) لما صح عنه أنه عق عن الحسن والحسين شاة شاة عن كل واحد منهما، ولم يأتنا خبر أن ذلك خاص لهما، علم أن أمره بالعق عن الغلام بشاتين إنما هو أمر ندب لا أمر إيجاب، وأن لأمته الخيار فى أى ذلك شاءوا. وقد رأى قوم أن العقيقة سنة فى الذكور، غير سنة فى الإناث. روى ذلك عن أبى وائل والحسن. وإلا لما عق - عليه السلام -، عن(5/376)
الحسن والحسين، فالسنة فى كل مولود من الذكران مثل السنة فيهما. وأما الإناث فلم يصح عندنا عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه أمر بالعقيقة عنهن ولا أنه فعل ذلك، إلا أن الذى مضى عليه السلف بالمدينة وانتشر فى بلدان المسلمين أن يعق عن الغلام والجارية. قال يحيى بن سعيد: أدركت الناس وما يدعون العقيقة عن الغلام والجارية. قال الطبرى: والدليل على أنها غير واجبة، ترك النبى (صلى الله عليه وسلم) بيان من يجب ذلك عليه فى المولود، هل هو الأب أو المولود أو إمام المسلمين؟ ولو كان ذلك فرضًا لبين (صلى الله عليه وسلم) من يلزمه ذلك، فمن عق عن المولود من والديه أو غيرهما كان بذلك محسنًا؛ ألا ترى أن الرسول عق عن الحسن والحسين دون أبيهما؟ ولو وجب ذلك على والد المولود لما أجزأ عن على عق النبى عن ابنيه، كما أن على لو لزمه هدى من جزاء صيد أو نذر لم يجزه إهداء مهد عنه إلا بأمره. وفى عقه (صلى الله عليه وسلم) عنهما من غير مسألة على إياه ذلك الدليل الواضح على أنها لم تجب على علىّ، وإذا لم تجب عليه فهو أبعد من وجوبها على فاطمة، ولا نعلم أحدًا من الأئمة أوجبها إلا الحسن البصرى، وقد أبطل وجوبها بقوله إن الأضحى يجزىء عنها؛ لأن الأضحى نسك غير العقيقة، ولو أجزأت منها صار الأضحى يجزىء من فدية حلق الرأس للمحرم، ومن هدى واجب عليه. وفى إجماع الجميع أن الأضحى لا يجزىء عن ذلك الدليل الواضح أنها لا تجزىء من العقيقة، وهى سنة.(5/377)
3 - باب: الفرع
001 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لا فَرَعَ وَلا عَتِيرَةَ) . وَالْفَرَعُ: أَوَّلُ النِّتَاجِ، كَانُوا يَذْبَحُونَهُ لِطَوَاغِيتِهِمْ، وَالْعَتِيرَةُ: فِى رَجَبٍ. وترجم له باب (العتيرة) . قال أبو عمرو: وهى الفرع بنصب الراء أول ولد تلده الناقة، كانوا يذبحونه فى الجاهلية لآلهتهم فنهوا عنها. قال أبو عبيد: وأما العتيرة فهى الرجبية كان أحدهم إذا طلب أمرًا نذر إن ظفر به أن يذبح من غنمه فى رجب كذا وكذا. فنسخ ذلك بعد. وكان ابن سيرين من بين سائر العلماء يذبح العتيرة فى رجب، وكان يروى فيها شيئًا لا يصح، وأظنه حديث ابن عون، عن أبى رملة، عن مخنف بن سليم، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (على كل أهل بيت أضحى وعتيرة) ولا حجة فيه؛ لضعفه، ولو صح لكان حديث أبى هريرة ناسخًا له. والعلماء مجمعون على القول بحديث أبى هريرة.(5/378)
- كتاب الصيد والذبائح
- بَاب التَّسْمِيَةِ عَلَى الصَّيْدِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَىْءٍ مِنَ الصَّيْدِ (الآية. [المائدة 94] وَقَوْلِهِ: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غير محلى الصيد وأنتم حرام (إِلَى: (وَاخْشَوْنِ) [المائدة 1] . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْعُقُودُ: الْعُهُودُ، مَا أُحِلَّ وَحُرِّمَ،) إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ (: الْخِنْزِيرُ،) يَجْرِمَنَّكُمْ (: يَحْمِلَنَّكُمْ،) شَنَآنُ (: عَدَاوَةُ،) الْمُنْخَنِقَةُ (: تُخْنَقُ فَتَمُوتُ،) الْمَوْقُوذَةُ (: تُضْرَبُ بِالْخَشَبِ، يُوقِذُهَا فَتَمُوتُ،) وَالْمُتَرَدِّيَةُ) [المائدة 3] تَتَرَدَّى مِنَ الْجَبَلِ،) وَالنَّطِيحَةُ (: تُنْطَحُ الشَّاةُ، فَمَا أَدْرَكْتَهُ يَتَحَرَّكُ بِذَنَبِهِ أَوْ بِعَيْنِهِ، فَاذْبَحْ وَكُلْ. 2002 / فيه: عَدِىّ، سَأَلْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ صَيْدِ الْمِعْرَاضِ، قَالَ: (مَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَكُلْهُ، وَمَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَهُوَ وَقِيذٌ) ، وَسَأَلْتُهُ عَنْ صَيْدِ الْكَلْبِ، فَقَالَ: (مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَكُلْ فَإِنَّ أَخْذَ الْكَلْبِ ذَكَاةٌ، وَإِنْ وَجَدْتَ مَعَ كَلْبِكَ أَوْ كِلابِكَ كَلْبًا غَيْرَهُ، فَخَشِيتَ أَنْ يَكُونَ أَخَذَهُ مَعَهُ، وَقَدْ قَتَلَهُ، فَلا تَأْكُلْ، فَإِنَّمَا ذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَى كَلْبِكَ، وَلَمْ تَذْكُرْهُ عَلَى غَيْرِهِ) . اختلف العلماء فى التسمية على الصيد والذبيحة، فروى عن نافع مولى ابن عمر ومحمد ابن سيرين والشعبى أنها فريضة فمن تركها عامدًا أو ساهيًا لم تؤكل، وهو قول أبى ثور وأهل الظاهر.(5/379)
وذهب مالك والثورى وأبو حنيفة وأصحابه إلى أنه إن ترك التسمية عامدًا لم تؤكل، وإن تركها ساهيًا أكل. وقال مالك: هو بمنزلة من ذبح ونسى أن يذكر اسم الله، يأكل ويسمي. وقال الشافعى: يؤكل الصيد والذبيحة فى الوجهين جميعًا تعمد ذلك أو نسيه. روى ذلك عن أبى هريرة وابن عباس، وقال ابن عباس: (لا يضرك إنما ذبحت بدينك) . واحتج أصحاب الشافعى بأن المجوسى لو سمى الله لم ينتفع بتسميته؛ لأن المراعى دينه، وكذلك المسلم إذا ترك التسمية عامدًا لا يضره؛ لأن المراعى دينه، وبهذا قال سعيد بن المسيب، وعطاء، وابن أبى ليلى. قال ابن القصار: وكان الأبهرى وابن الجهم يقولان: إن قول مالك أن من تعمد ترك التسمية لم تؤكل كراهية وتنزهًا. قال ابن القصار: والدليل على أن التسمية ليست واجبة قوله تعالى: (فكلوا مما أمسكن عليكم (فأمر بأكل ما أمسكن علينا، ثم عطفه على الأكل بقوله: (واذكروا اسم الله عليه (والهاء فى (عليه) ضمير الأكل؛ لأنه أقرب مذكور، فإن قيل: الهاء فى (عليه) : عائدة على الإرسال. قيل: لو كانت شرطًا لذكرها قبله، ولم يذكرها بعده. ولما قال: (فكلوا مما أمسكن عليكم (وقال بعد تقدم الأكل) واذكروا اسم الله عليه (لم يحل أن(5/380)
يريد بالتسمية على الإمساك الذى قد حصل. فإذا أمسك علينا حينئذ يسمى أو يريد التسمية على الأكل فبطل أن يريد بالتسمية بعد الإمساك علينا من غير أكل؛ لأنه ليس بقول لأحد؛ لأن الناس على قولين: إما أن تكون التسمية قبل الإرسال وقبل الإمساك. أو يكون المراد بها عند الأكل. وإنما أراد تعالى نسخ أمر الجاهلية التى كانت تذكر اسم طواغيتها على صيدها وذبائحها. وقد روى مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: (سئل رسول الله فقيل: يا رسول الله، إن ناسًا من أهل البادية يأتوننا بلحمان لا ندرى أسموا الله عليها أم لا، فقال رسول الله: (سموا الله وكلوا) . واحتج من أوجب التسمية بحديث عدى بن حاتم، وأن النبى (صلى الله عليه وسلم) علل له بأن قال: (لأنك سميت على كلبك ولم تسم على غيره) فأباح كل الصيد الذى يجد عليه كلبه؛ لأنه ذكر الله عليه، فدليله أنه إذا لم يسم فلا يأكل فأجابهم الآخرون، فقالوا لحق بدليل الخطاب فإنا نقول: إن لم يسم فلا يأكل كراهية وتنزيها، لما ذكرناه من الدلائل المتقدمة. واختلف العلماء فى ذكاة المتردية والنطيحة والموقوذة والمنخنقة، فذكر ابن حبيب عن ابن الماجشون وابن عبد الحكم أن ما أصاب هذه من نثر الدماغ والحشوة أو قرض المصير، وشق الأوداج(5/381)
وانقطاع النخاع، فلا يؤكل وإن ذكيت، فأما كسر الرأس ولم تنتثر الدماغ، أو شق الجوف ولم تنتثر الحشوة، ولا انشق المصير، أو كسر الصلب، ولم ينقطع النخاع، فهذه تؤكل إن ذكيت إن أدرك الروح فيها، ولم تزهق أنفسها، فإن لم يكن من هذه المقاتل شيء، ويئس لها من الحياة وأشكل أمرها، فذبحت فلا تؤكل، وإن طرفت بعينها واستفاض نفسها عند الذبح، وقد كان أصبغ وابن القاسم يحلان أكلها، ولا يريان دق العنق مقتلا حتى ينقطع النخاع، قالا: وهو المخ الأبيض الذى فى داخل العنق والظهر، وليس النخاع عندنا إلا دق العنق، وإن لم ينقطع المخ. كذلك قال ابن الماجشون ومطرف عن مالك. قال ابن حبيب: وأما انكسار الصلب ففيه يحتاج إلى انقطاع المخ الذى فى الفقار، فإن انقطع فهو مقتل، وإن لم ينقطع فليس بمقتل؛ لأنه قد يبرأ على حدب ويعيش. وقال أبو يوسف والحسن بن حيى كقول ابن الماجشون وابن عبد الحكم قالا: إذا بلغ التردى وشبهه حالا لا يعيش من مثله لم يؤكل وإن ذكيت قبل الموت. واحتج ابن حبيب لهذا القول فقال: تأول قوله: (إلا ما ذكيتم (يعنى: فى الحياة القائمة فمات بتذكيتكم لا فى حال اليأس منها؛ لأن الذكاة لا تقع عليها وإن تحركت؛ لأن تلك الحركة من الموت وقد تسبق إليها؛ لأنه هو الذى أماتهم، فإجراء الشفرة عليها وتلك حالها لا يحلها ولا يذكيها، كما أن المذبوحة التى قد قطعت الشفرة حلقومها وأوداجها إذا سقط عليها جدار قبل زهق نفسها أو(5/382)
أصابها غرق أو تردى لا يضرها ولا يحرمها؛ لأن الذى سبق إليها من التذكية قبل التردى أو غيره هو الذى أماتها و [. . . .] . وفيها قول آخر: روى الشعبى، عن الحارث، عن على قال: (إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة وهى تحرك يدًا أو رجلا فكلها) وعن ابن عباس وأبى هريرة مثله. وإليه ذهب النخعى والشعبى وطاوس والحسن وقتادة، وأبو حنيفة والثورى وقالا: يدرك ذكاته وفيه حياة ما كانت فإنه ذكى إذا ذكى قبل أن يموت، وهو قول الأوزاعى والليث والشافعى وأحمد وإسحاق. وذكرنا تأويل قتادة وأصحابه فى قوله تعالى: (إلا ما ذكيتم (قالوا: يعنى: من هذه إذ طرفت بعينها أو حركت ذنبها أو أذنها أو ركضت برجلها فذك وكل. واحتج بعض الفقهاء لصحة هذا القول بأن عمر بن الخطاب كانت جراحته مثقلة، وصحت عهوده وأوامره، ولو قتله قاتل فى ذلك الوقت كان عليه القود. قال الطحاوى: ولم يختلفوا فى الأنعام إذا أصابتها الأمراض المثقلة التى قد تعيش معها مدة قصيرة أو طويلة أن ذكاتها الذبح، فكذلك ينبغى فى القياس أن تكون المتردية ونحوها. وقال إسماعيل بن إسحاق: بلغنى عن بعض من يتكلم فى الفقه أن قوله: (إلا ما ذكيتم (إنما هو على ما أكله السبع خاصة، وأحسبه توهم ذلك؛ لأن الاستثناء يلى ما أكل السوابع، وإنما وقع الاستثناء على كل ما ذكر فى الآية كما قال قتادة: (إلا ما ذكيتم ((5/383)
أى: ولكن ما ذكيتم. كما قال تعالى: (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس (يعنى: ولكن قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم، وإنما كان أهل الجاهلية يأكلون كل ما مات وكل ما قتل؛ فأعلم الله المسلمين أن المقتولة لا تحل إلا بالتذكية، وأن المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع حرام كله، وهو لا يسمى: موقوذة حتى يموت بالذى فعل بها، وكذلك المتردية والنطيحة وما أكل السبع، ولو متردية تركت فلم تمت من ترديها أو شاة عضها سبع أو أكل من لحمها فلم تمت من ذلك، لما كانت داخلة فى هذا الحكم، ولما سميت أكيلة السبع؛ لأنه لم يقتلها، وإنما تسمى العرب أكيلة السبع التى قتلها السبع فأكل منها وبقى منها، فإن العرب تقول للباقى: هذه أكيلة السبع. فنهوا عن ذلك الباقى، وأعلموا أن قتل السبع وغيره مما ذكر لا يقوم مقام التذكية، وإن كان ذلك كله قتلا؛ لأن فى التذكية التى أمرهم الله بها خصوصًا فى تحليل الذبيحة. وقال أبو عبيد: أكيلة السبع هو الذى صاده السبع فأكل منه وبقى بعضه، وإنما هو فريسة، والنصب: حجارة حول الكعبة كان يذبح عليها أهل الجاهلية.
- باب صَيْدِ الْمِعْرَاضِ
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ فِى الْمَقْتُولَةِ بِالْبُنْدُقَةِ: تِلْكَ الْمَوْقُوذَةُ، وَكَرِهَهُ سَالِمٌ وَالْقَاسِمُ وَمُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ، وَكَرِهَ الْحَسَنُ رَمْىَ الْبُنْدُقَةِ فِى الْقُرَى وَالأمْصَارِ، وَلا يَرَى بَأْسًا فِيمَا سِوَاهُ. 2003 / فيه: عَدِىَّ، سَأَلْتُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، عَنِ الْمِعْرَاضِ، فَقَالَ: (إِذَا أَصَبْتَ بِحَدِّهِ فَكُلْ،(5/384)
فَإِذَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَقَتَلَ، فَإِنَّهُ وَقِيذٌ فَلا تَأْكُلْ) ، فَقُلْتُ: أُرْسِلُ كَلْبِى، قَالَ: (إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَسَمَّيْتَ فَكُلْ) ، قُلْتُ: فَإِنْ أَكَلَ؟ قَالَ: (فَلا تَأْكُلْ، فَإِنَّهُ لَمْ يُمْسِكْ عَلَيْكَ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ) ، قُلْتُ: أُرْسِلُ كَلْبِى فَأَجِدُ مَعَهُ كَلْبًا آخَرَ، قَالَ: (لا تَأْكُلْ، فَإِنَّكَ إِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ، وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى آخَرَ) . وترجم له (باب: ما أصاب المعراض بعرضه) . وقال عدى: (قلت: يا رسول الله، إنا نرمى بالمعراض. قال: كل ما خزق، وما أصاب بعرضه فلا تأكل) . اختلف العلماء فى صيد المعراض والبندقة، فقال مالك والثورى والكوفيون والشافعى: إذا أصاب المعراض بعرضه وقتله لم يؤكل، وإن خزق جلده وبلغ المقاتل بعرضه أكل. وذهب مكحول والأوزاعى وفقهاء الشام إلى جواز أكل ما قتل المعراض خزق أم لا. وكان أبو الدرداء وفضالة بن عبيد لا يريان به بأسًا. واحتج مالك بقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم (قال: فكل شيء يناله الإنسان بيده أو رمحه أو بشيء من سلاحه، فأنفذه وبلغ مقاتله فهو صيد، كما قال تعالى. ولا حجة لأهل الشام لخلافهم لحديث عدى بن حاتم أن ما أصاب بعرضه فهو وقيذ، والحجة فى السنة لا فيما خالفها. وأما البندقة والحجر فأكثر العلماء على كراهة صيدها وهو عندهم وقيذ كقول ابن عباس، إلا أن يدرك ذكاته، وبه قال النخعى، وذهب إليه مالك والثورى وأبو حنيفة والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو(5/385)
ثور، ورخص فى صيد البندقة عمار بن ياسر، وهو قول سعيد بن المسيب وابن أبى ليلى وبه قال الشاميون. الأصل فى ذلك حديث عدى بن حاتم أن النبى أباح له أكل ما أصاب بحده ومنعه أكل ما أصاب بعرضه؛ لأنه وقيذ، ولا حجة لمن خالف السنة، وإنما كره الحسن البندقة للقرى والأمصار؛ لإمكان وجودهم للسكاكين وما تقع به الذكاة، وأجازها فى البرارى، وفى مواضع يتعذر وجود ذلك فيه. واختلفوا فيما قتلته الجوارح ولم تدمه. فقال الشافعى: لا يؤكل حتى يخزق؛ لقوله تعالى: (من الجوارح (وقال مرة: إنه حلال. واختلف ابن القاسم وأشهب فيها على هذين القولين. فقال ابن القاسم: لا يؤكل حتى يدميه ويجرحه. وقال أشهب: إن مات من صدمة الكلب أكل. والمعراض: السهم دون ريش، عن صاحب العين. وزاد الأصمعى: خزق يخزق خزوقا، وخسق يخسق خسوقا. وقال صاحب العين: كل شىء حاد رززته فى الأرض فارتز تقول: خزقته فانخزق والخسق يثبت، والخزق ما ينفذ.
3 - باب: صيد القوس
وَقَالَ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ: إِذَا ضَرَبَ صَيْدًا فَبَانَ مِنْهُ يَدٌ أَوْ رِجْلٌ، لا تَأْكُلُ الَّذِى بَانَ منه، وَتأكُلْ سَائِرَه.(5/386)
قَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِذَا ضَرَبْتَ عُنُقَهُ أَوْ وَسَطَهُ فَكُلْهُ. وَقَالَ الأعْمَشُ، عَنْ زَيْدٍ: اسْتَعْصَى عَلَى رَجُلٍ مِنْ آلِ عَبْدِاللَّهِ حِمَارٌ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَضْرِبُوهُ حَيْثُ تَيَسَّرَ، دَعُوا مَا سَقَطَ مِنْهُ وَكُلُوهُ. 2004 / فيه: أَبُو ثَعْلَبَةَ، قُلْتُ: يَا نَبِىَّ اللَّهِ، إِنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَفَنَأْكُلُ فِى آنِيَتِهِمْ؟ وَبِأَرْضِ صَيْدٍ أَصِيدُ بِقَوْسِى وَبِكَلْبِى الَّذِى لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ؟ وَبِكَلْبِى الْمُعَلَّمِ فَمَا يَصْلُحُ لِى؟ قَالَ: (أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا، فَلا تَأْكُلُوا فِيهَا، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَاغْسِلُوهَا، وَكُلُوا فِيهَا، وَمَا صِدْتَ بِقَوْسِكَ، فَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ، فَكُلْ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ، فَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ غَيْرِ مُعَلَّمٍ، فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَكُلْ) . أجمع العلماء أن السهم إذا أصاب الصيد فجرحه وأدماه فسقط على الأرض ميتًا ولم يدر أمات فى الهواء أو بعد ما صار إلى الأرض فإن سقط فمات، فقال مالك: إنه يؤكل إذا أنفذ السهم مقاتله. وهو قول أبى حنيفة والأوزاعى والشافعى وأبى ثور قالوا: وإن وقع على جبل فتردى فمات أو وقع فى ماء ولم ينفذ السهم مقاتله لم يؤكل، وإذا رمى الصيد بسهم مسموم أدرك ذكاته، فكان مالك يقول: لا يعجبنى أن يؤكل. وبه قال أحمد وإسحاق إذا علم أن السهم قتله، وقال غيره: إذا ذكاه فأكله جائز. واختلفوا فى الصيد يضرب فيبين منه عضو. فقالت طائفة: يطرح العضو الذى بان منه ويؤكل الباقى، هذا قول ابن مسعود وابن عباس وعطاء وقتادة. وقال مالك: إذا قطع وسطه أو ضرب عنقه أكل كله، وإن قطع فخذه لم يؤكل الفخذ وأكل الباقي.(5/387)
وقال الشافعى: إن قطعه قطعتين أكله، وإن كانت إحداهما أقل من الأخرى إذا مات من تلك الضربة، وإن قطع يدًا أو رجلا أو شيئًا يمكن أن يعيش بعده ساعة أو أكثر ثم قتله بعد رميته أكل ما لم يبن، ولا يأكل ما بان وفيه الحياة، وهذا نحو قول مالك. وقال الثورى وأبو حنيفة: إذا قطعه نصفين أكلا جميعًا، وإن قطع الثلث مما يلى الرأس أكلا جميعًا، وإن قطع الثلث الذى يلى العجز أكل الثلثين مما يلى الرأس، ولا يأكل الثلث الذى يلى العجز. قال المهلب: وحجة القول الأول أن ما قطع من الصيد قبل أن تنفذ مقاتله فالمقطوع منه ميتة؛ لا شك فى ذلك. وكذلك كان أهل الجاهلية يقطعون أسنمة الإبل وهى أحياء ويأكلونها ثم تكبر الأسنمة وتعود على ما كانت، وقول الكوفيين لا أعلم له وجهًا.
4 - باب: الخذف والبندقة
005 / فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، أَنَّهُ رَأَى رَجُلا يَخْذِفُ، فَقَالَ لَهُ: لا تَخْذِفْ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) نَهَى عَنِ الْخَذْفِ - أَوْ كَانَ يَكْرَهُ الْخَذْفَ - وَقَالَ: (إِنَّهُ لا يُصَادُ بِهِ صَيْدٌ، وَلا يُنْكَى بِهِ عَدُوٌّ، وَلَكِنَّهَا قَدْ تَكْسِرُ السِّنَّ، وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ) ، ثُمَّ رَآهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَخْذِفُ، فَقَالَ لَهُ: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْخَذْفِ - أَوْ كَرِهَ الْخَذْفَ - وَأَنْتَ تَخْذِفُ، لا أُكَلِّمُكَ كَذَا وَكَذَا. والخذف عند أهل اللغة: الرمى بالحصاة والعصا. قال المهلب: وأباح الله الصيد فى كتابه على صفة اشترطها تعالى من الاصطياد بالأيدى والرماح بقوله: (تناله أيديكم ورماحكم ((5/388)
فمعنى الأيدى: الذبح، ومعنى الرماح: كل ما رميت به الصيد بنوع من أنواع فعل اليد من الخزق لجلد الصيد، وإنفاذ مقاتله، وليس البندقة والخذف بالحجر من ذلك المعنى، وإنما هو وقيذ، وقد حرم الله الموقوذة، وبين ذلك نبيه (صلى الله عليه وسلم) أن الخذف لا يصاد به صيد؛ لأنه ليس من المجهزات، فدل أن الحجر لا تقع به ذكاة. وأثمة الفتوى بالأمصار على أنه لا يجوز أكل ما قتلته البندقة والحجر، واحتجوا بحديث عبد الله بن مغفل، وأجاز ذلك الشاميون، فخالفوا حديث ابن مغفل، ولا حجة لمن خالف السنة، وإنما الحجة العمل بها، وقد ذكرنا ذلك فى باب (صيد المعراض) . قال المهلب: فيه من الفقه أن من خالف السنة أنه لا بأس بهجرانه وقطع الكلام عنه، وليس يدخل هجرانه تحت نهى النبى عن أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يدل على ذلك أمر الرسول بذلك فى كعب بن مالك وصاحبيه. وفيه: وجوب تغيير العالم ما خالف العلم.
5 - باب: من اقتنى كلبًا ليس بكلب صيد أو ماشية
006 / فيه: ابْن عُمَر، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا، لَيْسَ بِكَلْبِ مَاشِيَةٍ أَوْ ضَارِيَةٍ، نَقَصَ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ عَمَلِهِ قِيرَاطَانِ) . وقال مرة: سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا، إِلا كَلْبًا ضَارِيًا لِصَيْدٍ، أَوْ كَلْبَ مَاشِيَةٍ، فَإِنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ قِيرَاطَينِ) .(5/389)
كان ابن عمر يجيز الكلب للصيد والماشية خاصة على نص حديثه، ولم يبلغه ما روى غيره فى ذلك. وقد روى مالك، عن يزيد بن خصيفة أن السائب بن يزيد أخبره أنه سمع سفيان بن أبى زهير يحدث (أنه سمع النبى (صلى الله عليه وسلم) يقول: من اقتنى كلبًا لا يغنى عنه زرعًا ولا ضرعًا نقص من عمله كل يوم قيراط) . ويدخل فى معنى الزرع الكرم والثمار وغير ذلك، ولم يختلف العلماء فى تأويل قوله تعالى: (وداود وسليمان إذ يحكمان فى الحرث (أنه كان كرمًا، وروى عبد الله بن مغفل أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (من اتخذ كلبًا ليس بكلب صيد ولا ماشية ولا حرث. . .) ويدخل فى معنى الزرع والكرم منافع البادية كلها من الطارق وغيره. وقد سئل هشام بن عروة عن اتخاذ الكلب للدار، فقال: لا بأس به إذا كانت الدار مخوفة. فأما ما روى عنه (صلى الله عليه وسلم) فى حديث سفيان بن أبى زهير: (قيراط) وفى حديث ابن عمر: (قيراطان) فيحتمل والله أعلم أنه (صلى الله عليه وسلم) غلظ عليهم فى اتخاذ الكلاب، لأنها تروع الناس، فلم ينتهوا؛ فزاد فى التغليظ فجعل مكان القيراط قيراطين. وقد روى حماد بن زيد، عن واصل مولى أبى عيينة قال: سأل سائل الحسن فقال: يا أبا سعيد، أرأيت ما ذكر فى الكلب أنه ينقص من أجر أهله كل يوم قيراط، بم ذلك؟ قال: لترويعه المسلم.(5/390)
6 - بَاب إِذَا أَكَلَ الْكَلْبُ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ) [المائدة: 4] الآية. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنْ أَكَلَ الْكَلْبُ، فَقَدْ أَفْسَدَهُ، إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ (فَيضْرَبُ وَيُعَلَّمُ حَتَّى يَتْرُكَ، وَكَرِهَهُ ابْنُ عُمَرَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: إِنْ شَرِبَ الدَّمَ وَلَمْ يَأْكُلْ فَكُلْ. 2007 / - وفيه: عَدِىّ، سَأَلْتُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقُلْتُ: إِنَّا قَوْمٌ نَصِيدُ بِهَذِهِ الْكِلابِ، فَقَالَ: (إِذَا أَرْسَلْتَ كِلابَكَ الْمُعَلَّمَةَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ، فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ، وَإِنْ قَتَلْنَ إِلا أَنْ يَأْكُلَ الْكَلْبُ، فَإِنِّى أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ خَالَطَهَا كِلابٌ مِنْ غَيْرِهَا فَلا تَأْكُلْ) . اختلف العلماء فى الكلب المعلم إذا أكل من الصيد هل يجوز أكله أم لا؟ فقال ابن عباس: إذا أكل فقد أفسده وأمسك على نفسه. وقال بذلك من التابعين: الشعبى وعطاء وعكرمة وطاوس والنخعى وقتادة، وحجتهم حديث عدى بن حاتم، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه والثورى والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور قالوا كلهم: إذا أكل الكلب من الصيد فهو غير معلم، فلا يؤكل صيده. وفيها قول آخر روى عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم قالوا: كل وإن أكل الكلب ولو لم يبق إلا نصفه، وهذا قول على بن أبى طالب وابن عمر، وسعد بن أبى وقاص، وسلمان الفارسى، ومن التابعين سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، والحسن،(5/391)
والزهرى، وربيعة، وهو قول مالك، والليث، والأوزاعى، وحجتهم ما رواه أبو داود، حدثنا محمد بن عيسى، حدثنا هشيم، حدثنا داود بن عمرو، عن بسر بن عبيد الله عن أبى إدريس الخولانى، عن أبى ثعلبة الخشنى قال: قال رسول الله: (إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل، وإن أكل منه) . وقال لى بعض شيوخى: فى الظاهر أن حديث أبى ثعلبة ناسخ لحديث عدي. وقال إسماعيل بن إسحاق: إنما ذكر فى الحديث (إن أكل فلا تأكل) قال إسماعيل: ولما ثبت فى حديث عدى وغيره أن النبى (صلى الله عليه وسلم) جعل قتل الكلب للصيد تذكية. لم يضر ما حدث بعد التذكية من أكل الكلب أو غيره، كما أن البهيمة إذا ذبحت لم يضر لحمها ما حدث بعد التذكية، وإنما الكلب بمنزلة السهم إنما أرسلته؛ فذهب بإرسالى إلى الصيد فقتله فقلته، فكأنى أنا قتلته، فكذلك السهم إذا أرسلته من يدى فأصاب الصيد فكأنى أنا ذبحت الصيد؛ لأنى لا أنال الصيد الذى أناله بيدى إلا كذلك. والمعنى فى قوله تعالى: (فكلوا مما أمسكن عليكم (حبسه الصيد حتى جئت فأدركته مقتولا، فلا يضره ما صنع بلحمه بعد التذكية. قال المهلب: ويحتمل أن يكون معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فإنى أخشى أن يكون قد أمسك على نفسه) إذا أكل الكلب قبل إنفاذ مقاتله وفوات نفسه. وقد أجمع العلماء أنه إن أكل الكلب وحياته قائمة حتى مات من أجل أكله أنه غير مذكى ولا يحل أكله، وهو فى معنى الوقيذ.(5/392)
قال إسماعيل: والذين قالوا: إذا أكل الكلب فلا يؤكل. يقولون إذا أكل البازى والصقر فلا بأس أن يؤكل، قالوا: لأن الكلب ينهى فينتهى، والبازى والصقر إنما يعلمان بالأكل. قال إسماعيل: وهذا يفسد اعتلالهم، ولو كانت علتهم صحيحة لكان البازى والصقر إذا أكلا أمسكا على أنفسهما أيضًا؛ إذ الطير فى معنى الكلاب، لأنها جوارح، والجوارح عند العرب الكواسب على أهلها قال تعالى: (ويعلم ما جرحتم بالنهار (أى: كسبتم، وقوله: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات (. وروى عن ابن عمر ومجاهد قول شاذ أنه لا يكون جارح إلا كلبًا، وكرها صيد الطير، والناس على خلافهم لما دل عليه الكتاب من كونها كلها جوارح.
7 - باب: الصيد إذا غاب عنه يومين أو ثلاثة
008 / فيه: عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ،، عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (إِنْ رَمَيْتَ صيدًا، فَوَجَدْتَهُ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، وَلَيْسَ بِهِ إِلا أَثَرُ سَهْمِكَ، فَكُلْ، وَإِنْ وَقَعَ فِى الْمَاءِ، فَلا تَأْكُلْ) . وَقَالَ عَدِىّ أيضًا: إنا نَرْمِى الصَّيْدَ فَنَفْتَقِرُ أَثَرَهُ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلاثَةَ، ثُمَّ نَجِدُهُ مَيِّتًا، وَفِيهِ سَهْمُهُ؟ قَالَ: (يَأْكُلُ إِنْ شَاءَ) . اختلف العلماء فى الصيد يغيب عن صاحبه. فقال الأوزاعى: إذا وجده من الغد ميتًا ووجد فيه سهمه أو أثرًا من(5/393)
كلبه، فليأكله. وهو قول أشهب وابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ، قالوا: إذا مات وأنفذت الجوارح أو السهم مقاتله، ولم يشك فى ذلك فليؤكل. وذكر ابن القصار أنه روى مثله عن مالك، والمعروف عنه خلافه. وقال مالك فى الموطأ والمدونة: لا بأس بأكل الصيد وإن غاب عنك مصرعه، إذا وجدت به أثرًا من كلبك، أو كان به سهمك، ما لم يبت، فإذا بات لم يؤكل. وقال أبو حنيفة: إذا توارى عنه الصيد والكلب فى طلبه فوجده قد قتله جاز أكله، وإن ترك الكلب الطلب واشتغل بعمل غيره، ثم ذهب فى طلبه فوجده مقتولا. والكلب عنده كرهت أكله. وقال الشافعى: القياس ألا يأكله إذا غاب عنه لأنه يمكن أن يكون غيره قتله، وقد قال ابن عباس: (كل ما أصميت ودع ما أنميت) . وقال أبو عبيد: الإصماء: أن يرميه فيموت بين يديه لم يغب عنه، والإنماء: أن يغيب عنه فيجده ميتًا. واحتج ابن القصار لأهل المقالة الأولى الذين أوقفوا حديث عدى قالوا: إن النبى (صلى الله عليه وسلم) أجاز أكله بعد يومين وثلاثة إذا وجد فيه أثر سهمه، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) بين له أنه إنما يحل أكله بشرط أن يجد فيه أثر سهمه أو سهمه وهو يعلم أنه قتله، فإذا عدم الشرط لم يحل. واحتج الكوفيون بقول عدى: إنا نرمى الصيد، فنقتفوا أثره اليومين والثلاثة، يأكل إن شاء. قالوا: إنما أباح أكله لأجل افتقاده أثره، وهو أن يتبعه؛ لأنه إذا لم يتبعه ووجده مقتولا عسى أن يكون(5/394)
قد صار مقدورًا عليه فلم يلحق ذكاته فلا يؤكل. فيقال لهم: قد جاء حديث عدى فى أول هذا الباب أنه قال: (إذا رميت صيدًا فوجدته بعد يوم أو يومين، وليس به إلا أثر سهمك فكل) ولم يذكر الاتباع فنستعمل الجميع، فيجوز أن يؤكل وإن لم يتبعه إذا كان فيه سهمه ولا أثر فيه غيره، ويستعمل خبركم إذا شاهده قد أنفذ مقاتله، ثم غاب الصيد عنه ثم وجده على حاله، واستعمال الأخبار أولى من إسقاط بعضها. وأما قولهم: إذا لم يتبعه لم يأمن أن يكون قد صار مقدورًا عليه. فإننا نقول: هذا حكم بشيء مظنون، وإنما يجوز أكله إذا لم ير فيه أثرًا غير كون سهمه فيه، ولو روعى هذا الذى ذكره لوجب أن يتوقف عن كل صيد؛ لأنه يجوز أن يكون مات خوفًا وفزعًا، وإن شاهدناه واتبعناه، فإذا وجدنا السهم فيه ولا أثر فيه غيره فالظاهر أنه مات منه. وقد روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) (أنه مر بالروحاء فإذا هو بوحش عقير فيه سهم قد مات، فقال النبى: دعوه حتى يجيء صاحبه فجاء البهزى، فقال: يا رسول الله هى رميتي. فأمره أن يقسمه بين الرفقة وهم محرمون) . ولو كان الحكم يختلف بين أن يتبعه حتى يجده، أو يشتغل عنه ثم يطلبه ويجده، لاستفسره (صلى الله عليه وسلم) ، فلما لم يسأل عن ذلك وقال: (دعوه حتى يجيء صاحبه) ولم يزد: هل كان يتبعه؟ علم أن الحكم لا يختلف. والحجة لقول مالك: ما روى عن ابن عباس أنه سئل عن الرجل يرمى الصيد فيجد فيه سهمه من الغد، قال: لو أعلم أن سهمك قتله لأمرتك بأكله ولكن لا أدرى قتله هو أو غيره، وفى حديث آخر: (وما غاب عنك ليلة فلا تأكله) .(5/395)
قال ابن القصار: وهذا عندى على الكراهية والله أعلم. واقتفوت الأثر: اتبعته.
8 - باب: إذا وجد مع الصيد كلبًا آخر
009 / فيه: عَدِىّ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى أُرْسِلُ كَلْبِى وَأُسَمِّى، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ، وَسَمَّيْتَ فَأَخَذَ فَقَتَلَ فَأَكَلَ، فَلا تَأْكُلْ، فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ) . قُلْتُ: إِنِّى أُرْسِلُ كَلْبِى أَجِدُ مَعَهُ كَلْبًا آخَرَ لا أَدْرِى أَيُّهُمَا أَخَذَهُ؟ فَقَالَ: (لا تَأْكُلْ، إِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ، وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِهِ) . جمهور العلماء بالحجاز والعراق متفقون أنه إذا أرسل كلبه على الصيد ووجد معه كلبًا آخر لا يدرى أيهما أخذه؛ فإنه لا يؤكل ذلك الصيد، وأخذوا بحديث عدى بن حاتم. وممن قال ذلك: عطاء ومالك والكوفيون والشافعى وأحمد وأبو ثور، وقد بين الرسول (صلى الله عليه وسلم) المعنى فى ذلك فقال: إنما سميت على كلبك عند إرسالك له ولم تسم على غيره، فينبغى أن يكون الصيد بإرسال ونية لله تعالى عند إرساله. وكان الأوزاعى يقول: إذا أرسل كلبه المعلم فعرض له كلب آخر فقتلاه فهو حلال، وإن كان غير معلم فقتلاه لم يؤكل. وقال لى بعض من لقيت: إن كان الكلب المعلم قد أرسله صاحبه فالمسألة إجماع جواز أكله، ولو أن كلبًا معلمًا انطلق على صيد، وأخذه لم يرسله أحد عليه أنه لايجوز أكله لعدم الإرسال والنية، وهذا إجماع. قال ابن المنذر: وإذا اجتمع أصحاب كلاب وأطلقوا كلابهم على صيد وسمى كل واحد منهم، ثم وجدوا الصيد قتيلا، ولا يدرى من(5/396)
قتله منهم فكان أبو ثور يقول: إذا مات الصيد بينهم فإنه يؤكل، وهذا إجماع، فإن اختلفوا فيه وكانت الكلاب متعلقة به كان بينهم، وإن كان مع واحد منهم كان صاحبه أولى، وإن كان قتيلا والكلاب ناحية أقرع بينهم، فمن أصابته القرعة كان له.
9 - باب: ما جاء فى الصيد
010 / فيه: عَدِىِّ، قلت: يَا رسُول اللَّه، إِنَّا قَوْمٌ نَتَصَيَّدُ بِهَذِهِ الْكِلابِ. 2011 / وفيه: أَبُو ثَعْلَبَةَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابِ نَأْكُلُ فِى آنِيَتِهِمْ، وَأَرْضِ صَيْدٍ أَصِيدُ بِقَوْسِى، وَأَصِيدُ بِكَلْبِى الْمُعَلَّمِ، وَالَّذِى لَيْسَ مُعَلَّمًا. . . . الحديث. 2012 / وفيه: أَنَس، قَالَ: أَنْفَجْنَا أَرْنَبًا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، فَسَعَوْا عَلَيْهَا حَتَّى تَعِبُوا، فَسَعَيْتُ عَلَيْهَا حَتَّى أَخَذْتُهَا، فَجِئْتُ بِهَا إِلَى أَبِى طَلْحَةَ، فَبَعَثَ إِلَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِوَرِكَيْهَا أَوْ فَخِذَيْهَا، فَقَبِلَهُ. 2013 / وفيه: أَبُو قَتَادَةَ، أَنَّهُ كَانَ مَعَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِبَعْضِ طَرِيقِ مَكَّةَ فَرَأَى حِمَارًا وَحْشِيًّا، فَاسْتَوَى عَلَى فَرَسِهِ. . . الحديث. فقال (صلى الله عليه وسلم) : (إنما هى طعمة أطعمكموها الله) العلماء مجمعون على جواز الصيد للاكتساب وطلب المعاش. وقال مالك: إن من كان شأنه الصيد للذة أن شهادته غير جائزة.(5/397)
وقد روى ابن عباس عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (من طلب الصيد غفل) إلا أن حال الذى يصيد للذة ينبغى أن يعتبر، وإن كان يضيع له فرائضه وما يلزمه من مراعاة أوقات الصلوات وشبهها فهذا هو الأمر المسقط لشهادته ولو لم يكن ثم صيد، وإن كان لا يضيع شيئًا يلزمه؛ فلا ينبغى أن ترد شهادته. وحديث ابن عباس رواه سفيان الثورى، عن أبى موسى التمار، عن وهب بن منبه، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله: (من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن لزم السلطان افتتن) . وقوله: (أنفجنا أرنبًا) يعنى: أجرينا، وفى كتاب الأفعال: نفج الأرنب وغيره نفوجًا: أسرع. وقال صاحب العين: وأنفجته وكل ما ارتفع فقد انتفج، ورجل نفاج بما لم يفعل.
- باب: الصيد على الجبال
014 / فيه: أَبُو قَتَادَةَ، كنت مَعَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِيمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَهُمْ مُحْرِمُونَ، وَأَنَا حِلٌّ عَلَى فَرَسى، وَكُنْتُ رَقَّاءً عَلَى الْجِبَالِ، فَبَيْنَا أَنَا عَلَى ذَلِكَ، إِذْ رَأَيْتُ النَّاسَ مُتَشَوِّفِينَ لِشَيْءٍ، فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ، فَإِذَا هُوَ حِمَارُ وَحْشٍ. . . . الحديث. التصيد على الجبال، كالصيد على السهل فى الإباحة والجواز. وفيه: أن الجرى على الخيل فى الجبال والأوعار جائز للحاجة إلى ذلك، وليس من تعذيب البهائم والتحامل عليها.(5/398)
- بَاب قَوْلِ اللَّهِ: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) [المائدة 96]
وَقَالَ عُمَرُ: صَيْدُهُ مَا اصْطِيدَ،) وَطَعَامُهُ (مَا رَمَى بِهِ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الطَّافِى حَلالٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ،) طَعَامُهُ (: مَيْتَتُهُ إِلا مَا قَذِرْتَ مِنْهَا، وَالْجِرِّىُّ لا تَأْكُلُهُ الْيَهُودُ، وَنَحْنُ نَأْكُلُهُ. وَقَالَ شُرَيْحٌ صَاحِبُ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : كُلُّ شَىْءٍ فِى الْبَحْرِ مَذْبُوحٌ. وَقَالَ عَطَاءٌ: أَمَّا الطَّيْرُ، فَأَرَى أَنْ تَذْبَحَهُ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: صَيْدُ الأنْهَارِ وَقِلاتِ السَّيْلِ، أَصَيْدُ بَحْرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ تَلا: (هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ) [فاطر: 12] . وَرَكِبَ الْحَسَنُ عَلَى سَرْجٍ مِنْ جُلُودِ كِلابِ الْمَاءِ. وَقَالَ الشَّعْبِىُّ: لَوْ أَنَّ أَهْلِى أَكَلُوا الضَّفَادِعَ لأطْعَمْتُهُمْ، وَلَمْ يَرَ الْحَسَنُ بِالسُّلَحْفَاةِ بَأْسًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلْ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ نَصْرَانِىٍّ أَوْ يَهُودِىٍّ أَوْ مَجُوسِىٍّ، وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: فِى الْمُرِى، ذَبَحَ الْخَمْرَ النِّينَانُ وَالشَّمْسُ. 2015 / فيه: جَابِر، غَزَوْنَا جَيْشَ الْخَبَطِ، وَأُمِّرَ أَبُو عُبَيْدَةَ، فَجُعْنَا جُوعًا شَدِيدًا، فَأَلْقَى الْبَحْرُ حُوتًا مَيِّتًا لَمْ يُرَ مِثْلُهُ، يُقَالُ لَهُ: الْعَنْبَرُ، فَأَكَلْنَا مِنْهُ نِصْفَ شَهْر، فَأَخَذَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَظْمًا مِنْ عِظَامِهِ، فَمَرَّ الرَّاكِبُ تَحْتَهُ. 2016 / - وقَالَ جَابِر مرة: بَعَثَنَا النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، ثَلاثَمِائَةِ رَاكِبٍ، وَأَمِيرُنَا أَبُو عُبَيْدَةَ، نَرْصُدُ عِيرًا لِقُرَيْشٍ، فَأَصَابَنَا جُوعٌ شَدِيدٌ حَتَّى أَكَلْنَا الْخَبَطَ، فَسُمِّىَ جَيْشَ الْخَبَطِ، وَأَلْقَى الْبَحْرُ حُوتًا، يُقَالُ لَهُ: الْعَنْبَرُ، فَأَكَلْنَا نِصْفَ شَهْرٍ، وَادَّهَنَّا بِوَدَكِهِ حَتَّى صَلَحَتْ أَجْسَامُنَا، فَأَخَذَ أَبُو عُبَيْدَةَ ضِلَعًا مِنْ أَضْلاعِهِ فَنَصَبَهُ، فَمَرَّ الرَّاكِبُ تَحْتَهُ، وَكَانَ فِينَا رَجُلٌ، فَلَمَّا اشْتَدَّ الْجُوعُ نَحَرَ ثَلاثَ جَزَائِر، ثُمَّ ثَلاثَ جَزَائِرَ، ثُمَّ نَهَاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ.(5/399)
اختلف العلماء فى تأويل قوله تعالى: (وطعامه متاعا لكم (فقال ابن عباس: طعامه ما لفظه فألقاه ميتًا. وقال ابن عباس: أشهد على أبى بكر الصديق لسمعته يقول: (السمكة الطافية حلال لمن أكلها) . وعن عمر بن الخطاب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمرو وأبى هريرة، مثل قول ابن عباس فى تأويل الآية، وروى عن ابن عباس قول آخر قال: (طعامه مملوحه) وعن سعيد بن المسيب، والنخعى، ومجاهد، وابن جبير مثله، ومن قال: طعامه مملوحه كره أكل ما يلقى منه ميتًا، وروى ذلك عن جابر بن عبد الله، وابن عباس، وعن طاوس، وابن سيرين، والكوفيين: لا يؤكل الطافيء ولا يؤكل من البحر غير السمك. وقال مالك: يؤكل كل حيوان فى البحر، وهو حلال حيا كان أو ميتًا. وهو قول الأوزاعى، وأجاز الشافعى خنزير الماء، وكرهه مالك. قال ابن القصار: من غير تحريم. وقال ابن القاسم: لا أراه حرامًا. وحديث جابر حجة على الكوفيين ومن وافقهم؛ لأن أبا عبيدة فى أصحاب النبى أكلوا الحوت الذى لفظه البحر ميتًا، ولا يجوز أن يخفى عليهم وجه الصواب فى ذلك، ويأكلوا الميتة وهم ثلاثمائة رجل. وقال بعض المالكيين: إنهم لم يأكلوا ذلك الحوت على وجه ما يؤكل عليه الميتة عند الضرورة إليها، وذلك أنهم أقاموا عليه أيامًا يأكلون منه، والمضطر إلى الميتة إنما يأكل منها ثم ينتقل يطلب المباح.(5/400)
وقوله تعالى: (أحل لكم صيد البحر (يقتضى عمومه إباحة كل ما فى البحر من جميع الحيوان حوتًا كان أو غيره مما صاد، خنزيرًا كان أو كلبًا أو ضفدعًا، ويشهد لذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) : (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) فأطلق على جميع ميتته وأباحها؛ فسقط قول أبى حنيفة. قال ابن القصار: وقد قال أبو بكر الصديق: (كل دابة فى البحر فقد ذكاها الله لكم) ولم يخص، ولا مخالف له، وأيضًا فإن البحر لما عفى عن الذكاة فيما يخرج منه عفى عن مراعاة صورها، وبعضها كصور الحيات، وكذلك صورة الدابة التى يقال لها: العنبر خارجة عن عادات السمك ولم يحرم أكلها. وأيضًا فإن اسم سبع وكلب وخنزير لا يتناول حيوان الماء؛ لأنك تقول خنزير الماء وكلب الماء بالإضافة، والخنزير المحرم مطلق لا يتناول إلا ما كان فى البر خاصة، وكذلك البحرى داخل فى صيد البحر ولم يرو كراهته إلا عن على بإسناد لا يصح. وأجازه الكوفيون؛ لأنه داخل فى عموم السمك، وحرموا الضفادع، وبه قال الشافعي. وأما قول ابن عباس: كل ما صاد من البحر مجوسى أو غيره. فهو قول جمهور العلماء؛ لأن طعام البحر ميتة ولا يحتاج فيه إلى ذكاة. قال مالك: فإذا أكل ميته فلا يضر من صاده. وقال الحسن: أدركت سبعين من أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) كلهم يأكل صيد المجوسى؛ الحيتان وما ينخلج فى صدورهم منه شيء. وروى ذلك عن عطاء، والنخعى، وهو قول مالك، والكوفيين، والليث والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور. وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة: معنى قول أبى الدرداء: (ذبح الخمر النينان(5/401)
والشمس) أن الخمر تطرح فى الحيتان حتى تصير مريا فكأن الحيتان والشمس ذكاة الخمر وذبحها الذى يحللها. وهذا حجة فى جواز تخليل الخمر، وسيأتى ذلك فى كتاب البيوع فى باب: تحريم التجارة فى الخمر إن شاء الله. والقلات: جمع قلت والقلت نفرة بحجر يحفرها السيل وكل نقرة فى الجبل أو غيره: قلت؛ فإنما أراد ما سابق السيل من الماء وبقى فى الغدر الصفار فكان فيها حيتان. والجرى ضرب من سمك. والخبط: اسم ما خبط من القشر والورق.
- باب: الجراد
017 / فيه: ابْن أَبِى أَوْفَى، غَزَوْنَا مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) سَبْعَ غَزَوَاتٍ - أَوْ سِتًّا - كُنَّا نَأْكُلُ مَعَهُ الْجَرَادَ. اختلف الناس فى الجراد فقال الكوفيون: يؤكل الجراد كيفما مات وهو قول الشافعى، وقال مالك: إن وجده ميتًا لم يأكله حتى يقطع رءوسه أو يطرح فى النار وهو حى من غير أن تقطف رءوسه فهو حلال. ومن أجاز أكله ميتًا جعله من صيد البحر كطافى الحيتان يجوز أكلها. وذكر الطبرى عن ابن عباس أنه قال: الجراد ذكى حيه وميته. وذكر عبد الرزاق أن ابن عباس قال: كان عمر يأكل الجراد، ويقول: لا بأس به؛ لأنه لا يذبح. وعن على بن أبى طالب أنه قال: الجراد مثل صيد البحر وهو قول عطاء. وأما مالك فهو عنده من صيد البر، ولا يجوز أكله إلا بذكاة، وهو قول ابن شهاب وربيعة. وكان علقمة يكره الجراد ولا يأكله. قال الأبهرى: والدليل على أنه من صيد البر أن المحرم يجوز له(5/402)
صيد البحر وهو ممنوع من صيد الجراد، وذلك لئلا يقتله، فعلم أنه من صيد البر، وإذا كان ذلك كذلك فيحتاج إلى ذكاة إلا أن ذكاته حسب ما تيسر كما يكون فى الصيد، ذكاته حسب ما يقدر عليه من الرمى، وإرسال الكلب؛ لأنه لا يتمكن من ذبحه من الحلق واللبة، كذلك الجراد تذكيته كيفما تيسر؛ لأنه لا حلق له ولا لبة، ولما كان يعيش فى البر وجب أن يفارق السمك فلا يستباح إلا بما يقوم مقام الذكاة من أخذه كيف تيسر؛ لأن صيد البر لم يسامح فيه بغير ذكاة كما سومح فى صيد البحر.
- باب: آنية المجوسى والميتة
018 / فيه: أَبُو ثَعْلَبَةَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا بِأَرْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَنَأْكُلُ فِى آنِيَتِهِمْ؟ فَقَالَ: (لا تَأْكُلُوا فِى آنِيَتِهِمْ، إِلا أَنْ لا تَجِدُوا بُدًّا، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا بُدًّا، فَاغْسِلُوا وَكُلُوا. . . .) الحديث. 2019 / وفيه: سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ، لَمَّا أَمْسَوْا يَوْمَ فَتَحُوا خَيْبَرَ، وَأَوْقَدُوا النِّيرَانَ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (عَلامَ أَوْقَدْتُمْ هَذِهِ النِّيرَانَ) ؟ قَالُوا: لُحُومِ الْحُمُرِ الإنْسِيَّةِ، قَالَ: (أَهْرِيقُوا مَا فِيهَا، وَاكْسِرُوا قُدُورَهَا) ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقَالَ: نُهَرِيقُ مَا فِيهَا وَنَغْسِلُهَا، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (أَوْ ذَاكَ) . قال المهلب: معنى ذكر آنية المجوسى فى هذه الترجمة، وذكر سؤال أبى ثعلبة للنبى (صلى الله عليه وسلم) عن آنية أهل الكتاب، من أجل أن أهل الكتاب لا يتحرزون من الميتة والخنزير والخمر، و [. . . . .] أعناق الحيوان وذلك ميتة كطعام المجوس، وقد جاء هذا(5/403)
المعنى مبينًا فى حديث أبى ثعلبة الخشنى قال: قلت: يا رسول الله، إن أرضنا أرض أهل كتاب وإنهم يأكلون لحم الخنزير، ويشربون الخمر، فكيف نصنع بآنيتهم وقدورهم؟ فقال: (إن لم تجدوا غيرها فارحضوها واطبخوا فيها واشربوا) فأباح (صلى الله عليه وسلم) غسل ما جعل فيه الخنزير والخمر، واستعمال الأواني. والعلماء مجمعون على أن الماء مطهر لكل نجاسة من جميع أوانى الشراب وغيرها إلا ما روى أشهب عن مالك فى زقاق الخمر أنها لا تطهر بالغسل؛ لأنها تشرب الخمر وذلك مخالف لجميع الظروف. وأما حديث تحريم الحمر فى هذا الباب فهو بين؛ لأن الحمر قد ثبت تحريمها فهى كالميتة، وأباح النبى (صلى الله عليه وسلم) القدور بعد غسلها، وكذلك آنية المجوس يجوز استعمالها بعد غسلها؛ لأن ذبائحهم ميتة، وذكر ابن حبيب، عن ابن عباس أنه قيل له: (إنا نغزو أرض الشرك، ونزل بالمجوس وقد طبخوا فى قدورهم الميتة، والدم، ولحم الخنزير، فقال: (ما كان من حديد أو نحاس فاغسلوه بالماء ثم اطبخوا فيه، وما كان من فخار فاغلوا فيها الماء، ثم اغسلوها واطبخوا فيها، فإن الله جعل الماء طهورًا) وسيأتى الكلام فى ظروف الخمر هل تضمن إذا كسرت فى كتاب المظالم، إن شاء الله.(5/404)
- كتاب الذبائح
- باب: التسمية على الذبيحة ومن ترك متعمدًا
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ نَسِىَ فَلا بَأْسَ، قَالَ تَعَالَى: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) [الأنعام: 121] وَالنَّاسِى لا يُسَمَّى فَاسِقًا،) وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ (الآية. 2020 / فيه: رَافِعِ، كُنَّا مَعَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) بِذِى الْحُلَيْفَةِ، فَأَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ، فَأَصَبْنَا إِبِلا وَغَنَمًا، وَكَانَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِى أُخْرَيَاتِ النَّاسِ، فَعَجِلُوا فَنَصَبُوا الْقُدُورَ، فَدُفِعَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، إِلَيْهِمُ، فَأَمَرَ بِالْقُدُورِ فَأُكْفِئَتْ، ثُمَّ قَسَمَ، فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنَ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ، فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ، وَكَانَ فِى الْقَوْمِ خَيْلٌ يَسِيرَةٌ، فَطَلَبُوهُ فَأَعْيَاهُمْ، فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَجُلٌ بِسَهْمٍ، فَحَبَسَهُ اللَّهُ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَمَا نَدَّ عَلَيْكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا) ، وَقَالَ جَدِّى: إِنَّا لَنَرْجُو - أَوْ نَخَافُ - أَنْ نَلْقَى الْعَدُوَّ غَدًا، وَلَيْسَ مَعَنَا مُدًى، أَفَنَذْبَحُ بِالْقَصَب. فَقَالَ: (مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَكُلْ، لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ) ، وَسَأُحْدثُكُمْ عَنْهُ: (أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ) . قال المؤلف: اختلاف العلماء فى التسمية على الذبيحة كاختلافهم(5/405)
على التسمية فى الصيد، وقد تقدم اختلاف العلماء فى ذلك، والحجة لأقوالهم فى أول كتاب الصيد فأغنى عن إعادته. وقال أبو الحسن بن القابسى: يمكن أن يكون أمره (صلى الله عليه وسلم) بإكفاء القدور من أجل أنهم استباحوا من الغنائم كما كانوا يعرفون فيما بعد عن بلاد الإسلام، وموضع الانقطاع عن مواضعهم، فهم مضطرون إلى ما وجدوه فى بلاد العدو كما جاء فى قصة خيبر أن قومًا أخذوا جرابًا فيه شحم فما عيب عليهم ولا طولبوا به، وقد مضى من سنن المسلمين فى الغنائم وأكلهم منها ما لاخلاف فيه. وكانوا فى هذه القسمة بذى الحليفة قريبًا من المدينة، ولم يكونوا مضطرين إلى أكل الغنيمة فأراهم النبى (صلى الله عليه وسلم) أن هذا ليس لهم، فمنعهم مما فعلوه بغير إذنه (صلى الله عليه وسلم) فكان فى باب الخوف من الغلول، وقد تقدم هذا المعنى في كتاب الجهاد فى باب (ما يكره من ذبح الإبل والغنم فى المغانم) وذكرت هناك وجهًا آخر. قال ابن القابسى: ولو قيل إن معنى ذلك من قبل أنهم بادروا قبل القسم كان داخلا فى المعنى الذى ذكره، ولو قيل: إنما كان ذلك من قبل أن الغنيمة كانت إبلا وغنمًا كلها لكان داخلا فى المعنى؛ لأن وجهه أنهم فعلوا ما ليس لهم. وقوله: (ثم قسم وعدل) ولم ينقل أحد أنه دخل فى ذلك قرعة، وما لم يدخله قرعة لا يضره اختلاف أجناسه فى القسمة فساووا فيه وتفاضلوا إذا رضوا بذلك. وقوله: (فند منها بعير) يقال: ند نديدًا وندادًا إذا شرد. وقوله: (فأهوى إليه رجل منهم بسهم فحبسه الله) يعنى: أن البعير حبسه الله بذلك السهم ومنعه من النفار الذى كان به حتى أدرك(5/406)
فذكى، وليس فى الحديث ما يمنع من هذا المعنى إذ لم يقل فيه: فحبسه الله فمات، لما أنه أدرك فذكى وذكاته ترفع التنازع فى أكله وتصير إلى الإجماع فى أكله، وهو قولنا فيما غلبنا من المواشى الإنسية أنا نحبسها بما استطعنا فما أدركنا منها لم تنفذ مقاتله فذكيناه أكلناه، وإذا أنفذنا مقاتله لم نحمله محمل الصيد؛ إذ لم يأتنا فى ذلك شيء من تتبعه، فنحن فى صيد الوحش على ما أذن الله ورسوله وفى ذكاة الإنسى على ما جاءنا به حكم الذكاة، وسيأتى اختلاف العلماء فى هذه المسألة فى بابها، وفى سائر الحديث فى الذبح بالسن والظفر فى بابه إن شاء الله. وقوله: (إن لهذه البهائم أوابد) قال أبو عمرو الشيبانى: قال النميرى: الآبد: التى تلزم الخلاء فلا تقرب أحدا، ولا يقربها. وقال أبو عمرو: قد أبدت الناقة تأبدًا وأبودًا إذا انفردت وحدها وتفردت، وتأبد أى: تفرد. وقال مرة: هى آبدة إذا ذهبت فى المرعى، وليس لها راعى فأبعدت شهرًا أو شهرين. وقال أبو على فى البارع فى باب وبد: قال ابن أبى طرفة: المستوبد: المستوحش. يقال: خلوت واستوبدت أى: استوحشت.(5/407)
- باب: ما يذبح على النصب والأصنام
021 / فيه: ابْن عُمَرَ، عَنْ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَنَّهُ لَقِىَ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ بِأَسْفَلِ بَلْدَحٍ - وَذَاكَ قَبْلَ أَنْ يُنْزَلَ عَلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) الْوَحْىُ - فَقَدَّمَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) سُفْرَةً فِيهَا لَحْمٌ، فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا، ثُمَّ قَالَ: (إِنِّى لا آكُلُ مِمَّا تَذْبَحُونَ عَلَى أَنْصَابِكُمْ، وَلا آكُلُ إِلا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) . قال المؤلف: ظاهر هذا الحديث يدل أن زيدًا قال للنبى: إنى لا آكل مما تذبحون على أنصابكم. يوهم أن النبى كان يأكل ذلك، والنبى كان أولى باجتناب ذلك من زيد. وقد جاء هذا الحديث مبينًا فى مناقب زيد بن عمرو فى كتاب فضائل الصحابة، بينه فضيل بن سليمان عن موسى بن عقبة (أن النبى - (صلى الله عليه وسلم) - لقى زيد بن عمرو بأسفل بلدح - قبل أن ينزل الوحى على الرسول - فقدمت إلى النبى سفرة، فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: إنى لست آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا مما ذكر اسم الله عليه) فالسفرة إنما قدمتها قريش للنبى (صلى الله عليه وسلم) فأبى أن يأكل منها، فقدمها النبى (صلى الله عليه وسلم) إلى زيد، فأبى أن يأكل منها، ثم قال لقريش الذين قدموها إلى النبى: (أنا لا آكل مما تذبحون على أنصابكم) . ولم يكن زيد فى الجاهلية بأفضل من النبى، فحين امتنع زيد فالنبى الذى كان حباه الله لوحيه واختاره ليكون خاتم النبيين وسيد المرسلين أولى بالامتناع منها فى الجاهلية أيضًا. قال الطبرى: أنصاب الحرم: أعلامه، وهو جمع نصب، وقد(5/408)
يجمع أيضًا: نصبًا. كما قال تعالى: (وما ذبح على النصب (. وكانت هذه النصب ثلاثمائة وستين حجرًا مجموعة عند الكعبة، كانوا يذبحون عندها لآلهتهم ولم تكن أصنامًا، وذلك أن الأصنام كانت تماثيل وصورًا مصورة، وأما النصب فكانت حجارة مجموعة. وقال ابن زيد: ما ذبح على النصب، وما أهل به لغير الله واحد، ومعنى (أهل به لغير الله) : ذكر عليه غير اسم الله من أسماء الأوثان التى كانوا يعبدونها، وكذلك المسيح وكل اسم سوى الله. قال الطبرى: ومعنى (ما أهل به لغير الله) : ما ذبح للآلهة والأوثان، فسمى عليه غير اسم الله. واختلف الفقهاء فى ذلك: فكره عمر، وابن عمر، وعائشة ما أهل به لغير الله. وعن النخعى والحسن مثله، وهو قول الثوري. وكره مالك ذبائح النصارى لكنائسهم وأعيادهم، وقال: لا يؤكل ما سمى عليه المسيح. وقال إسماعيل بن إسحاق: كرهه مالك من غير تحريم. وقال أبو حنيفة: لا يؤكل ما سمى عليه المسيح. وقال الشافعى: لا يحل ما ذبح لغير الله ولا ما ذبح للأنصاب. ورخص فى ذلك آخرون روى ذلك عن عبادة بن الصامت، وأبى الدرداء، وأبى أمامة، وقال عطاء والشعبى: قد أحل الله ما أهل به لغير الله؛ لأنه قد علم أنهم سيقولون هذا القول وأحل ذبائحهم، وإليه ذهب الليث وفقهاء أهل الشام: مكحول، وسعيد بن عبد العزيز، والأوزاعى قالوا: سواء سمى المسيح على ذبيحته، أو ذبح لعيد أو كنيسة، كل ذلك حلال؛ لأنه كتابى ذبح لدينه، وكانت هذه ذبائحهم قبل نزول القرآن، وأحلها الله فى كتابه.(5/409)
قال المؤلف: وإذا ثبت أن ما ذبحوه لكنائسهم، وأعيادهم، وما أهلوا به لغير الله من طعامهم المباح لنا، فلا حجة لمن حرمه ومنعه.
3 - باب: قول النبى (صلى الله عليه وسلم) : فليذبح على اسم الله
022 / فيه: جُنْدَبِ بْنِ سُفْيَانَ، ضَحَّيْنَا مَعَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أُضْحِيَةً ذَاتَ يَوْمٍ، فَإِذَا نَاسٌ قَدْ ذَبَحُوا ضَحَايَاهُمْ قَبْلَ الصَّلاةِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَآهُمُ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَنَّهُمْ قَدْ ذَبَحُوا قَبْلَ الصَّلاةِ، فَقَالَ: (مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاةِ، فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى، وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ حَتَّى صَلَّيْنَا، فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ) . قال المهلب: قد تقدم أن التسمية من سنن الذبح. وفيه العقوبة فى المال؛ لمخالفة السنة، والتعزير عليها كما عاقب الذين استعجلوا فى ذى الحليفة، وإنما اتجهت العقوبة بالمنع لهم كما استعجلوه قبل وقته، من أصل السنة أن من استعجل شيئًا قبل وجوبه أنه يحرمه، كمن استعجل الميراث حرمه أيضًا، ومن استعجل الوطء فنكح فى العدة حرم ذلك أبدًا، فكذلك هؤلاء الذين عجلوا بالضحايا قبل وقتها حرموها عقوبة لهم.
4 - باب: ما أنهر الدم من القصب والمروة والحديد
023 / فيه: كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ جَارِيَةً لَهُمْ كَانَتْ تَرْعَى غَنَمًا بِسَلْعٍ، فَأَبْصَرَتْ شَاةٍ مِنْ غَنَمِهَا مَوْتًا، فَكَسَرَتْ حَجَرًا فَذَبَحَتْهَا، فَقَالَ لأهْلِهِ:(5/410)
لا تَأْكُلُوا حَتَّى آتِىَ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَسْأَلَهُ، فَأَتَى إِلَيْهِ، فَأَمَرَ (صلى الله عليه وسلم) بِأَكْلِهَا. 2024 / وفيه: رَافع أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَيْسَ لَنَا مُدًى، فَقَالَ: (مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ، فَكُلْ، لَيْسَ الظُّفُرَ وَالسِّنَّ، أَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ، وَأَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ) . وترجم لحديث رافع باب (لا يذكى بالسن والعظم والظفر) . المروة: الحجارة البيض، وقيل: إنها الحجارة التى يقدح منها النار. واختلف العلماء فيما يجوز أن يذبح به. فقالت طائفة: كل ما ذكى به من شيء أنهر الدم وفرى الأوداج ولم يشرد جازت به الذكاة إلا السن والظفر؛ لنهى النبى عنهما، وإن كانا منزوعين، هذا قول النخعى والليث والشافعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور، واحتجوا بحديث نافع، وقال مالك وأبو حنيفة: كل ما فرى الأوداج وأنهر الدم تجوز الذكاة به، وتجوز بالسن والظفر المنزوعين، فأما إن كانا غير منزوعين، فإنه لا يجوز ذلك؛ لأنه يصير خنقًا، وفى ذلك ورد النهى، وكذلك قال ابن عباس: ذلك الخنق؛ لأن ما ذبح به إنما يذبح بكف لا بغيرها، فهو مخنوق، وكذلك ما نهى عنه من السن إنما هو المركبة؛ لأن ذلك يكون عضا، فأما إن كانا منزوعين وفريا الأوداج فجائز الذكاة بهما؛ لأن فى حكم الحجر كل ما قطع ولم يشرد. وإذا جازت التذكية بغير الحديد، جازت بكل شيء فى معناه. وذكر الطحاوى: أن طائفة ذهبت إلى أنه تجوز الذكاة بالسن والظفر المنزوعين وغير المنزوعين، واحتجوا بما روى سفيان عن(5/411)
سماك بن حرب، عن مرى بن قطرى، عن رجل من بنى ثعلب، عن عدى بن حاتم (قلت: يا رسول الله، أرسل كلبى فيأخذ الصيد، فلا يكون معى ما يذكيه به إلا المروة والعصا. قال: أنهر الدم بما شئت، واذكر اسم الله) . وحديث رافع أصح من هذا الحديث فالمصير إليه أولى، ولو صح حديث عدى فكان معناه: أنهر الدم بما شئت إلا بالسن والظفر، وزاد الطبرى: وما كان نظيرًا لهما، وهو القرن. قالا: وهذه زيادة وتفسير لحديث عدى يجب الأخذ بها. وفى حديث عدى جواز ذبيحة المرأة، وهو قول جمهور الفقهاء وذلك إذا أحسنت الذبح، وكذلك الصبى عندهم إذا أحسن الذبح، واحتجوا بحديث كعب. واحتج الفقهاء بحديث كعب على جواز كل ما ذبح بغير إذن مالكه، وردوا بهذا الحديث على من أبى من أكل ذبيحة السارق، وهو قول يروى عن عكرمة وطاوس، وبه قال أهل الظاهر وإسحاق، وهو شذوذ لا يلتفت إليه، والناس على خلافه. وقال ابن المنذر: وليس بين ذبيحة السارق وذبيحة المحرم فرق. قال المهلب: فيه تصديق الراعى والأجير فيما اؤتمن عليه حتى يظهر عليه دليل الخيانة والكذب.(5/412)
5 - باب: ذبيحة الأعراب ونحوهم
025 / فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ قَوْمًا قَالُوا لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَنَا بِاللَّحْمِ، لا نَدْرِى أَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لا، فَقَالَ: (سَمُّوا عَلَيْهِ أَنْتُمْ وَكُلُوهُ) ، قَالَتْ: وَكَانُوا حَدِيثِى عَهْدٍ بِالْكُفْرِ. قال المهلب: هذا أصل أن التسمية فى الذبح ليست بفرض، ولو كانت فرضًا لاشترطت على كل حال. والأمة مجمعة أن التسمية على الأكل مندوب إليه، وليست بفريضة، فلما نابت عن التسمية على الذبح دل أنها سنة؛ لأنه لا ينوب عن فرض، وهذا الحديث يدل أن حديث عدى بن حاتم وأبى ثعلبة محمولان على التنزه من أجل أنهما كانا صائدين على مذهب الجاهلية فعلمهما أمر الصيد والذبح دقيقه وجليله، لئلا يواقعا شبهة من ذلك، ويأخذا بأكمل الأمور فى بدو الأمر فعرفهم (صلى الله عليه وسلم) . وهؤلاء القوم جاءوا مستفتين لأمر قد وقع ويقع من غيرهم، ليس لهم فيه قدرة على الأخذ بالكمال فى بدئه، فعرفهم (صلى الله عليه وسلم) بأصل ما أحله الله لهم، ولم يقل لعدى: إنك إن فعلت فإنه حرام، ولكن قال له: (لا تأكل فإنى أخاف) فأدخل عليه الشبهة التى يجب التنزه عنها، والأخذ بالأكمل قبل مواقعتها. ويدل على صحة هذا المعنى أنه قد يشتد قبل وقوع الأمر ولا يشتد بعد وقوعه: قصة اللعن لشارب الخمر قبل شربها، ونهيه عن اللعنة بعد شربها بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا تعينوا الشيطان على أخيكم) .(5/413)
6 - بَاب ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَشُحُوم أَهْلِ الْحَرْبِ وَغَيْرِهِمْ وَقَوْلِهِ: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) [المائدة: 5]
. وَقَالَ الزُّهْرِىُّ: لا بَأْسَ بِذَبِيحَةِ نَصَارَى الْعَرَبِ، وَإِنْ سَمِعْتَهُ يُسَمِّى لِغَيْرِ اللَّهِ، فَلا تَأْكُلْ، وَإِنْ لَمْ تَسْمَعْهُ، فَقَدْ أَحَلَّهُ اللَّهُ، وَعَلِمَ كُفْرَهُمْ. وَيُذْكَرُ عَنْ عَلِىٍّ نَحْوُهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ: لا بَأْسَ بِذَبِيحَةِ الأقْلَفِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَعَامُهُمْ: ذَبَائِحُهُمْ. 2026 / فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، كُنَّا مُحَاصِرِينَ قَصْرَ خَيْبَر، فَرَمَى إِنْسَانٌ بِجِرَابٍ فِيهِ شَحْمٌ، فَنَزَوْتُ لآخُذَهُ، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ. قال المؤلف: أباح الله لعباده المؤمنين ذبائح أهل الكتاب بقوله تعالى: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم (وأجمعوا أنه أريد بطعامهم فى هذه الآية ذبائحهم. اختلفوا فى شحومهم المحرمة عليهم إذا ذكروها، فكرهها مالك، وقال ابن القاسم وأشهب: إنها حرام. وأجاز أكلها الكوفيون والثورى والأوزاعى والليث والشافعى، واعتل من حرمها بأن الله إنما أباح لنا ما كان طعامًا لهم من ذبائحهم، والشحم ليس بطعام لهم فدليله أن ما ليس بطعام لهم فلا يحل لنا، وأيضًا فإنهم لا يقصدونه بالذكاة، والذكاة تحتاج إلى قصد، بدليل أنها لا تصح من المجنون والمبرسم، فجرت مجرى الدم الذى فى الشاة. قال المهلب: والحجة لمن أجازها: أن الشحوم محرمة عليهم(5/414)
لا علينا؛ لأن ذبائحهم حلال لنا، فما وقع تحت ذبائحهم مما هو فى شريعتنا مسكوت عنه بالتحريم فهو حلال بإطلاق الله لنا. فإن قيل: لما لم تعمل ذكاتهم فى الدم شيئًا لم يجب أن تعمل فى الشحوم. قيل: الدم منصوص على تحريمه علينا، وعلى كل أمة. والشحوم محرمة عليهم لا علينا. ألا ترى قوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما (الآية، وليس للشحوم فيها ذكر. قال ابن القصار: ومن حجة من لم يحرمها أن التذكية لا تقع على بعض الشاة دون بعض، ولما كانت الذكاة شائعة فى جميعها دخل الشحم فى التذكية؛ لأنها إذا ذكيت ذبحت كلها، ثم إذا فصل الشحم فهو المحرم عليهم، وكرهناه نحن بعد أن سبقت الذكاة فيه، وحديث ابن مغفل فى قصة جراب الشحم واضحة فى جوازه؛ لأنه لو كان حرامًا لزجره عنه (صلى الله عليه وسلم) ، وأعلمه تحريمه؛ لأنه يلزمه فرض التبليغ، وبيان ما أنزل إليه من ربه، إذ كان الأغلب أن يهود خيبر لا يذبح لهم مسلم، ويحتمل أن يكون ذلك الشحم الذى فى الجراب من الشحم الذى لم يحرم عليه؛ إذ الآية حرمت بعض الشحم دون بعض. وقوله: (فنزوت لآخذه) قال صاحب الأفعال: نزى نزوًا ونزا ونزوانًا: وثب. ونزى على الشيء: ارتفع. وقد تقدم الاختلاف فى ذبائح أهل الكتاب للأصنام فى باب: (ماذبح على النصب والأصنام) ويذكر ما لم يذكر هناك. ذكر البخارى عن على: أنه أجاز ذبائح نصارى العرب إن لم تسمعه يسمى لغير الله.(5/415)
وذكر الطبرى عن على فى نصارى بنى تغلب خلاف ما ذكره البخاري. روى عن عبيدة عن على أنه سأله عن ذبائح نصارى العرب فقال: لا تأكل ذبائحهم، فإنهم لم يتمسكوا من دينهم إلا بشرب الخمر، وهو قول ابن سيرين والنخعي. وقال مكحول: لا تأكلوا ذبائح بنى تغلب، وكلوا ذبائح تنوخ وبهذا [. . . .] فمن نهى عن أكل ذبائحهم، فيجب على مذهبه أن ينهى عن نكاح نسائهم. وقال آخرون: أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم حلال، روى ذلك عن ابن عباس وقرأ: (ومن يتولهم منكم فإنه منهم (وعن الشعبى والحسن وعطاء والحكم مثله. قال الطبرى: فإذا كان الاختلاف بين بنى تغلب موجودًا بين السلف، وكانت تغلب تدين بالنصرانية، ولا تدفع الأمة أن عمر أخذ منها الجزية بين ظهرانى المهاجرين والأنصار من غير نكير، وكان أخذه ذلك بمعنى أنهم أهل كتاب، لا بمعنى أنهم مجوس، صح أنهم أهل كتاب، وأن ذبائحهم ونساءهم حلال للمسلمين. وأما ذبيحة الأقلف فروى عن ابن عباس أنها لا تؤكل. قال ابن المنذر: واتفق عوام أهل الفتيا من أهل الأمصار على جوازها؛ لأن الله أباح ذبائح أهل الكتاب، وفيهم من لا يختتن، فذبيحة المسلم الذى ليس بمختون أولى بالإباحة.(5/416)
فإن قيل: فما معنى قوله: (وطعامكم حل لهم (وهم لا يؤمنون بالقرآن؟ قال ابن قتيبة: فالذى عندى أن القصد بالتحليل لنا، وإن كان القول لهم كأنه قال: أحل لكم طعام أهل الكتاب أن تأكلوه، وأحل لكم أن تطعموهم طعامكم، ولو لم يقل: (وطعامكم حل لهم (لم نعلم إن كان يجوز لنا أن نطعم الكفار طعامنا.
7 - بَاب مَا نَدَّ مِنَ الْبَهَائِمِ
فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَحْشِ وَأَجَازَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا أَعْجَزَكَ مِنَ الْبَهَائِمِ مِمَّا فِى يَدَيْكَ فَهُوَ كَالصَّيْد، وَفِى بَعِيرٍ تَرَدَّى فِى بِئْرٍ مِنْ حَيْثُ قَدَرْتَ عَلَيْهِ فَذَكِّهِ، وَرَأَى ذَلِكَ عَلِىٌّ وَابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ. 2027 / فيه: رَافِع، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا ملاقُو الْعَدُوِّ غَدًا، وَلَيْسَتْ مَعَنَا مُدًى، فَقَالَ: (اعْجَلْ - أَوْ أَرِنْ - مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ فَكُلْ، لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ، وَسَأُحَدِّثُكَ، أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ) ، وَأَصَبْنَا نَهْبَ إِبِلٍ وَغَنَمٍ، فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَإِذَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا شَيْءٌ، فَافْعَلُوا بِهِ هَكَذَا) . اختلف العلماء فى الإنسى الذى لا يحل إلا بالذكاة فى الحلق واللبة إذا توحش فلم يقدر عليه، أو وقع فى بئر فلم يوصل إلى حلقه ولبته، فذهبت طائفة من العلماء إلى أنه يقتل بما يقتل به الصيد،(5/417)
ويجوز أكله. روى ذلك البخارى عن خمسة من الصحابة، وقاله من التابعين عطاء وطاوس، ومن الفقهاء: الثورى، وسائر الكوفيين، والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور. وقال ابن المسيب: لا يكون ذكاة كل إنسية إلا بالذبح والنحر، وإن شردت لاتحل بما يحل به الصيد. وهو قول ربيعة ومالك والليث. واحتج الكوفيون بحديث رافع بن خديج، وقالوا: موضع الدلالة من الحديث من وجهين: أحدهما: أنه لو كان رمى فلم ينكر النبى عليه الرمى؛ بل أقره عليه، وإباحة مثل ذلك الرمى بأن قال: (اصنعوا به هكذا) ومن خالفنا لا يجيز رميه. والدلالة الثانية: قوله: (إن لها أوابد كأوابد الوحش) ورسول الله لا يعلمنا اللغة، وإنما يعلمنا الحكم، فعلم أنه أراد أنه يصير حكمه حكم الوحشى فى الذكاة. قالوا: ومن جهة القياس أنه لما كان الوحشى إذا قدر عليه لم يحل إلا بما يحل به الإنسى؛ لأنه صار مقدورًا عليه، فكذلك ينبغى فى الإنسى إذا توحش وامتنع أن يحل بما يحل به الوحشي. واحتج الآخرون فقالوا: لا تلزم هذه الحجة؛ لو كان المستأنس إذا استوحش كالوحشى فى الأصل، لوجب أن يكون حكمه حكم الوحشى فى الجزاء فيه إذا قتله المحرم، وفى أنه لا يجوز فى الضحايا والعقيقة، ويجب أن يصير ملكًا لمن أخذه ولا شيء على قاتله. قال مالك: لو أن رجلا رماها فقتلها غرمها، ولم يحل له أكلها، ولو كانت بمنزلة الصيد حلت له، فلما أجمعنا على أن جميع أحكامه التى كانت عليه قبل أن يتوحش لم تزل ولم تتغير، وكانت كلها بخلاف الوحشى فى الأصل، كذلك الذكاة. وأما احتجاجهم بحديث رافع بن خديج فنقول: يجوز إذا ند ولم يقدر عليه أن يرميه(5/418)
ليحبسه ثم يلحقه فيذكيه، وهذا معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فاصنعوا به هكذا) أى: ارموه لتحبسوه، ثم ذكوه، ولم يرد قتله كما يقتل الوحشى، قاله ابن القصار، وقد تقدم بعض هذا المعنى فى أول كتاب الذبائح. وقوله: (أعجل أو أرنى ما أنهر الدم) وهكذا وقعت هذه اللفظة فى رواية الفربرى بالألف والراء والنون والياء بعدها. ولم أجد لها معنى يستقيم به الكلام، وأظنها مصحفة والله أعلم. وقال الخطابى: هذا حرف طالما استثبت فيه الرواة، وسألت عنه أهل العلم باللغة فلم أجد عند واحد منهم شيئًا يقطع بصحته، وقد طلبت له مخرجًا فرأيته يتجه لوجوه: أحدها: أن يكون ماخوذًا من قولهم: أران القوم فهم مرينون، إذا هلكت مواشيهم، فيكون معناه: أهلكها ذبحًا وأزهق أنفسها بكل ما أنهر الدم غير السن والظفر، هذا إذا رويته بكسر الراء على رواية أبى داود السجستاني. والوجه الثانى: أن يقال: أرأن القوم مهموز على وزن أعرن من أرن يأرن أرنا إذا نشط وخف، يقول: خف وأعجل لئلا يقتلها خنقًا، وذلك أن غير الحديد لا يمور فى الذكاة موره، والأرن الخفة والنشاط، يقال فى مثل سمن فأرن أى: بطر. والوجه الثالث: أن يكون أرن بمعنى: أدم الحز ولا تفتر من(5/419)
قولك: رنوت النظر إلى الشيء إذا أدمته أو يكون أراد: أدم النظر إليه وراعه ببصرك لا تزول عن المذبح. قال الخطابى: وأقرب من هذا كله: أن يكون أرز بالزاى من قولك: أرز الرجل أصبعه إذا أناخها فى الشيء، وأرزت الجرادة إرزازًا، إذا أدخلت ذنبها فى الأرض لكى تبيض. وارتز السهم فى الجدار إذا ثبت، هذا إن ساعدته رواية والله أعلم بالصواب. قال الخطابى: حدثنا به ابن داسة عن أبى داود قال: أرن مكسورة الراء على وزن عرِن، ورواه البخارى ساكنة الراء على وزن عرْن، هكذا حدثنى الخيام عن إبراهيم بن مغفل عنه. قال المؤلف: فعرضت قول الخطابى على بعض أئمة اللغة والنقد فى كلام العرب فقال لى: أما الوجه الأول الذى قال: هو مأخوذ من قولهم: أرن القوم فهم مرينون. فلا وجه له؛ لأن أران لا يتعدى إلى مفعول لا تقول أران الرجل غنمه ولا أرن غنمك. وقوله فى الوجه الثانى: أرأن على وزن أعرن خطأ؛ لاجتماع همزتين فى كلمة إحداهما ساكنة، وإنما تقول فى الأمر من هذه اللفظة ائرن، بياء بعد همزة الوصل بدلا من الهمزة التى هى فاء الفعل؛ لأن المستقبل منها يأرن، والأمر إنما يكون فى الفعل المستقبل. قال المؤلف: وهذا الوجه أولى بالصواب والله أعلم فكأنه قال (صلى الله عليه وسلم) : أعجل وانشط فى الذبح؛ لأن السنة فيه سرعة الإجهاز على المذبوح بخلاف فعل الجاهلية فى تعذيب الحيوان، ويمكن أن يكون (أو) جاءت لشك المحدث فى أى اللفظين قال - عليه(5/420)
السلام - لتقاربهما فى المعنى أو تكون (أو) جاءت بمعنى الواو للتأكيد والله أعلم. وقول الخطابى: وأقرب من هذا كله: أن يكون أرز بالزاء، فلا وجه له؛ لعدم الرواية به.
8 - بَاب النَّحْرِ وَالذَّبْحِ
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ: لا ذَبْحَ وَلا مَنْحَرَ، إِلا فِى الْمَذْبَحِ وَالْمَنْحَرِ، قُلْتُ: أَيَجْزِى مَا يُذْبَحُ أَنْ أَنْحَرَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، ذَكَرَ اللَّهُ ذَبْحَ الْبَقَرَةِ، فَإِنْ ذَبَحْتَ شَيْئًا يُنْحَرُ جَازَ، وَالنَّحْرُ أَحَبُّ إِلَىَّ، وَالذَّبْحُ قَطْعُ الأوْدَاجِ، قُلْتُ: فَيُخَلِّفُ الأوْدَاجَ حَتَّى يَقْطَعَ النِّخَاعَ؟ قَالَ: لا إِخَالُ. وَنَهَى ابْنَ عُمَرَ عَنِ النَّخْعِ، يَقُولُ: يَقْطَعُ مَا دُونَ الْعَظْمِ، ثُمَّ يَدَعُ حَتَّى الْمُوتَ،) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) [البقرة: 54] وَقَالَ: (فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ) [البقرة: 71] وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: الذَّكَاةُ فِى الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسٌ: إِذَا قَطَعَ الرَّأْسَ فَلا بَأْسَ. 2028 / فيه: أَسْمَاءَ، نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) فَرَسًا، فَأَكَلْنَاهُ. هكذا رواه جماعة عن هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء: (ذبحنا على عهد رسول الله فرسًا ونحن بالمدينة فأكلناه) ذكره البخارى. قال المؤلف: غرضه فى هذا الباب أن يبين أن ما يجوز فيه النحر يجوز ذبحه، وما يجوز فيه الذبح يجوز نحره، فأما البقر فالأئمة مجمعون على جواز النحر والذبح فيها، قال تعالى: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة (وروت عمرة عن عائشة أنها قالت: (دخل علينا يوم النحر بلحم، فقيل: نحر رسول الله عن أزواجه البقرة) فجاز(5/421)
فيها الوجهان: وأراد البخارى أن يريك أن الفرس مما يجوز فيه النحر والذبح، لما جاء فيه من اختلاف الرواية، وسأذكر اختلاف العلماء فى أكله فى باب بعد هذا إن شاء الله. واختلفوا فى ذبح ما ينحر من الإبل ونحر ما يذبح من الغنم، فأجاز أكثر الفقهاء أى ذلك فعل المذكي. قال ابن المنذر: روى ذلك عن عطاء، والزهرى، وقتادة. وقال أبو حنيفة والثورى والليث والشافعى نحو ذلك ويكرهونه، ولم يكرهه أحمد وإسحاق وأبو ثور، وهو قول عبد العزيز بن أبى سلمة فى ذبح الإبل أو نحر ما يذبح من طير أو غيره من غير ضرورة. وقال أشهب: إن ذبح بعيرًا من غير ضرورة لم يؤكل، واعتل أصحابه بأن النبى (صلى الله عليه وسلم) بين وجه الذكاة فنحر الإبل وذبح الغنم والطير، ولا يجوز تحويل شيء من ذلك عن موضعه مع القدرة عليه إلا بحجة واضحة. وقال ابن المنذر: لا أعلم أحدًا حرم أكل ما نحر مما يذبح، أو ذبح ما ينحر، وإنما كره ذلك مالك ولم يحرمه، وقد يكره المرء الشيء ولا يحرمه، وحجة الجمهور أنه لما جاز فى البقر والخيل الذبح والنحر، جاز ذلك فى كل ما تجوز تذكيته؛ ألا ترى قول ابن عباس: (الذكاة جائزة فى الحلق واللبة) ولم يخص شيئًا من ذلك دون شيء فهو عام فى كل ذى حلق وكل ذى لبة، والناس على هذا ولم يخالف ذلك غير مالك وحده. وأما قول ابن عباس: إن الذكاة فى الحلق واللبة. فمعناه: أن الذكاة لا تكون إلا فى هذين الموضعين.(5/422)
وقال صاحب العين: اللبة واللب من الصدر: أوسطه، ولبة القلادة واسطتها. واختلف العلماء فيما يكون بقطعه من الحلقوم الذكاة. فقال بعض الكوفيين: إذا قطع ثلاثة من الأوداج جاز. والأوداج أربعة وهى: الحلقوم والمريء وعرقان من كل جانب عرق. وقال الثورى: إذا قطع الأوداج جاز وإن لم يقطع الحلقوم وحكى ابن المنذر عن محمد بن الحسن: إذا قطع الحلقوم والمريء وأكثر من نصف الأوداج ثم يدعها تموت فلا بأس بأكلها وأكره ذلك، فإن قطع أقل من نصف الأوداج فلا خير فيها. وقال مالك والليث: يحتاج أن يقطع الودجين والحلقوم، وإن ترك شيئًا منها لم يجز. ولم يذكر المريء. وقال الشافعى: أقل ما يجزىء من الذكاة قطع الحلقوم والمريء، وينبغى أن يقطع الودجين، فإن لم يفعل فيجزىء؛ لأنهما يسلان من البهيمة والإنسان ويعيشان. وقال ابن جريح: قال عطاء: الذبح: قطع الأوداج. قلت: فإن ذبح ذابح فلم يقطع أوداجها؟ فقال: ما أراه إلا قد ذكاها، فليأكلها. وروى يحيى عن ابن القاسم فى الدجاجة والعصفور والحمام، إذا أجيز على أوداجه ونصف حلقه أو ثلثه فلا بأس بذلك إلا أن يتعمد. وفى العتبية: فى سماع أبى زيد عن ابن القاسم عن مالك فيمن ذبح ذبيحة فأخطأ بالغلصمة أن تكون فى الرأس أنها لا تؤكل، وقاله أشهب وأضبغ وسحنون ومحمد بن عبد الحكم.(5/423)
قال ابن حبيب: إنما لم يؤكل؛ لأن الحلقوم إنما هو من العقدة إلى ما تحتها، وليس فوق العقدة إلى الرأس حلقوم، وإنما العقدة طرف الحلقوم، فمن جهل فذبح فوق العقدة لم يقطع الحلقوم، إنما قطع الجلدة المتعلقة بالرأس، فلذلك لم يؤكل. وأجاز أكلها ابن وهب فى العتبية، وأجازه أشهب وأبو مصعب وموسى بن معاوية من رواية ابن وضاح. وذكر ابن أبى زيد، عن أبى لبابة، عن محمد بن عبد الحكم أنها تؤكل. قال ابن لبابة على قياس قول القاسم: إذا جازت فى البدن وبقى فى الرأس منها مقدار حلقة الخاتم أنها تؤكل إلا أن يبقى فى الرأس منها ما لا يستدير فلا تؤكل. وحكى ابن المنذر عن أبى حنيفة أنه لا بأس بالذبح فى الحلق كله، أسفله وأوسطه وأعلاه. وقال ابن وضاح: سألت موسى بن معاوية عن هذه المسألة، فغضب وقال: هذه من مسائل المريسى وابن علية يخلطون على الناس دينهم. قد علم رسول الله أصحابه كل شيء حتى الخراءة أفكان يدعهم لا يعرفهم الذبح؟ قال موسى: لقد كتبت بالعراق نحوًا من مائة ألف حديث، وبمكة كذا وكذا ألف وبمصر نحوًا من أربعين ألف حديث ما سمعت لرسول الله ولا لأصحابه ولا للتابعين فيها شيئًا، وكان يحيى بن يحيى وأصحابه يقولون: ما نعرف العقدة، ما فرى الأوداج فكل. قال ابن وضاح: ثم بلغنى عن أبى زيد بن أبى الغمر أنه روى عن ابن القاسم، عن مالك كراهتها، فلما قدمت مصر سألته عنها،(5/424)
فأنكرها وقال: ما أعرف هذا. قلت له: فما تقول فى أكلها؟ قال: لا بأس بذلك. قال ابن وضاح: ولم تعرف العقدة فى أيام مالك، ولا أيام ابن القاسم، وإنما أول ما سمعوا بها أن عبد الله بن عبد الحكم ذبح شاة فطرحت العقدة إلى الجسد، فأمر بها أن تلقى، فبلغ ذلك أشهب فأنكره، وأجاز أكلها. وسئل عنها أبو مصعب بالمدينة، وذلك أن أهل المدينة يطرحون العقدة فى ذبائحهم إلى الجسد بمعنى الجلود، فأجاز ذلك، فقيل له: إذا طرحها إلى الجسد لم يذبح فى الحلق إنما يذبح فى الرأس، فانتهره الشيخ، وقال: مغاربة برابر يأتوننا يريدون أن يعملونا هذه دار السنة والهجرة، وبها كان المهاجرون والأنصار، فكانوا لا يعرفون الذبح؟ ولم يذكروا عقدة ولم يعبئوا بها. قال ابن وضاح: ثم سألت بمكة يعقوب بن حميد بن كاسب ولم أر بالحجاز أعلم بقول المدنيين منه فقال: لا بأس بها، فرددت عليه، فنزع بحديث عائشة: (أن ناسًا سألوا النبى (صلى الله عليه وسلم) أن ناسًا يأتوننا بلحمان لا ندرى أسموا الله عليها أم لا، فقال رسول الله: سموا وكلوا) فقال ابن كاسب: فهلا قال لهم رسول الله: انظروا إن كانوا يصيبون العقدة إن كان الذبح إنما هو فيها، ونزع بحديث عطاء بن يسار: أن امرأة كانت ترعىغنمًا فرأت بشاة موتها، فذكتها بشظاظ، فقال النبى (صلى الله عليه وسلم) - (ليس بها بأس فكلوها) فهلا قال لهم (صلى الله عليه وسلم) : انظروا أين طرحت العقدة، أو هل كانت هذه تعرف العقدة. قال ابن وضاح: ما فرى الأوداج، وقطع الحلقوم فكل.(5/425)
وأما قوله: فنهى ابن عمر عن النخع، فقال أبو عبيدة: الفرس هو النخع، يقال منه: فرست الشاة ونخعتها وذلك أن ينتهى الذبح إلى النخاع، وهو عظم فى الرقبة. قال أبو عبيد: أما النخع فكما قال أبو عبيدة، وأما الفرس فقد خولف فيه فقيل: هو كسر رقبة الذبيحة. وممن كره نخع الشاة إذا ذبحت سوى ابن عمر: عمر بن الخطاب وقال: لا تعجلوا الأنفس حتى تزهق. وكرهه إسحاق. وكرهت ذلك طائفة، وأباحت أكله، هذا قول النخعى والزهرى ومالك وأبى حنيفة والشافعى وأحمد وأبى ثور. وقال ابن المنذر: ولا حجة لمن منع أكلها؛ لأن القياس أنها حلال بعد الذكاة، والنخع لا يحرم الذكي. أما إذا قطع الرأس فأكثر العلماء على إجازته، وممن روى عنه سوى من ذكره البخارى: على بن أبى طالب وعمران بن حصين: ومن التابعين: عطاء والنخعى والشعبى والحسن والزهرى، وبه قال مالك والكوفيون والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وكرهها ابن سيرين ونافع والقاسم وسالم ويحيى بن سعيد وربيعة، والصواب: قول من أجازها. وقد قال فيها على بن أبى طالب: هى ذكاة وحية. إلا أنهم اختلفوا إن قطع رأسها من قفاها، فأجازه الكوفيون والشافعى وإسحاق وأبو ثور، وكره ذلك ابن المسيب وقال: لابد فى الذبح من المذبح. وهو قول مالك وأحمد بن حنبل، وقالوا: فاعل هذا(5/426)
فاعل غير ما أمر به، فإذا ذبحها من مذبحها فسبقت يده فأبان الرأس فلا شىء عليه.
9 - باب: ما يكره من المثلة والمصبورة والمجثمة
029 / فيه: أَنَسٍ أنَّهُ َرَأَى صبيانًا قد نَصَبُوا دَجَاجَةً يَرْمُونَهَا، فَقَالَ أَنَسٌ: نَهَى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَنْ تُصْبَرَ الْبَهَائِمُ. 2030 / وفيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَغُلامٌ مِنْ بَنِى يَحْيَى رَابِطٌ دَجَاجَةً يَرْمِيهَا، فَمَشَى بها ابْنُ عُمَرَ حَتَّى حَلَّهَا، ثُمَّ أَقْبَلَ بِهَا وَبِالْغُلامِ مَعَهُ، فَقَالَ: ازْجُرُوا غُلامَكُمْ عَنْ أَنْ يَصْبِرَ هَذَا الطَّيْرَ لِلْقَتْلِ، فَإِنِّى سَمِعْتُ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، نَهَى أَنْ تُصْبَرَ بَهِيمَةٌ، أَوْ غَيْرُهَا لِلْقَتْلِ، وَإِنَّ النَّبىِّ لَعَنَ مِنْ فَعَلَ هَذَا. 2031 / - وَقَالَ مرةً: لَعَنَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مَنْ مَثَّلَ بِالْحَيَوَانِ. وَعَن ابْنِ عَبَّاسٍ، مثله. 2032 / وقال ابْن عُمَرَ أيْضًا: إن النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، نَهَى عَنِ النُّهْبَةِ وَالْمُثْلَةِ. قال أبو عبيد: قال أبو زيد وابن عمرو وغيرهما فى نهيه (صلى الله عليه وسلم) أن تصبر البهائم: هو الطائر وغيره من ذوات الروح، يصبر حيا ثم يرمى حتى يقتل وأصل الصبر: الحبس، وكل من حبس شيئًا فقد صبره. ومنه قيل للرجل يقدم فيضرب عنقه: قتل صبرًا. عنى: أمسك للموت. قال أبو عبيد: فأما المجثمة فهى المصبورة أيضًا، ولكنها لا تكون إلا فى الطير والأرانب وأشباه ذلك مما يجثم بالأرض.(5/427)
قال ابن المنذر: وقال أحمد وإسحاق: لا تؤكل المصبورة والمجثمة. قال غيره: ولا أعلم أحدًا من العلماء أجاز أكل المصبورة وكلهم يحرمها؛ لأنه لا ذكاة فى المقدور عليه إلا فى الحلق واللبة. قال المهلب: وهذا إنما هو نهى عن العبث فى الحيوان وتعذيبه من غير مشروع. وأما تجثيمها للنحر وما شاكله فلا بأس به، وإنما يكره العبث لحديث شداد بن أوس أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء؛ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته) وكره أبو هريرة أن تحد الشفرة والشاة تنظر إليها، وروى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) رأى رجلا أضجع شاة، فوضع رجله على عنقها، وهو يحد شفرته فقال له (صلى الله عليه وسلم) : (ويلك، أردت أن تميتها موتات؟ هلا أحددت شفرتك قبل أن تضجعها) وكان عمر بن الخطاب ينهى أن تذبح الشاة عند الشاة، وكرهه ربيعة أيضًا، ورخص فيه مالك. وقال الطبرى: فى نهيه (صلى الله عليه وسلم) عن صبر البهائم الإبانة عن تحريم قتل ما كان حلالا أكله من الحيوان إذا كان إلى تذكيته سبيل، وذلك أن رامى الدجاجة بالنبل ومتخذها غرضًا قد تخطىء رميته موضع الذكاة فيقتلها، فيحرم أكلها، وقاتله كذلك غير ذابحه ولا ناحره، وذلك حرام عند جميع الأمة، ومتخذه غرضًا مقدم على معصية ربه من وجوه: منها: تعذيبه ما قد نهى عن تعذيبه، وتمثيله ما قد نهى عن التمثيل به، وإماتته بما قد يحظر عليه إصابته به، وإفساده من ماله ما كان له إلى إصلاحه والانتفاع به سبيل بالتذكية، وذلك من تضييع المال المنهى عنه. وقال ابن عمر: من اتخذ شيئًا ممن فيه الروح غرضًا لم يخرج من(5/428)
الدنيا حتى تصيبه قارعة. وقال عبد الله بن عمر وقد أبصر قومًا يفعلون ذلك بطائر: أما إنهم سيقادون لها. وذكر الطبرى عن قتادة، وعن عكرمة، عن ابن عباس: أن النبى نهى عن المجثمة. قال: المجثمة التى التصقت بالأرض، وحبست على القتل والرمى، فإذا جثمت من غير أن يفعل ذلك بها فهى جاثمة. وفى كتاب الأفعال: قال: جثم على ركبتيه جثومًا. ومنه قوله تعالى: (فأصبحوا فى ديارهم جاثمين (. قال الطبرى: ويحتمل قوله (صلى الله عليه وسلم) عن المجثمة معنين: أحدهما: أن يكون نهيًا عن رميها بعد تجثيمها فيكون المعنى فيها النهى عن تعذيبها بالرمى والضرب. والثانى: أن يكون معنى النهى عنها عن أكل لحمها إذا هى ماتت بالضرب والرمى؛ لأنها إذا ماتت كذلك بعد أن تجثم، فهى ميتة؛ لأنها لا تجثم إلا بعد أن تصاد، ولو كانت هى الجاثمة من قبل نفسها، ولم يقدر على صيدها إلا بالرمى، فرماها ببعض ما يخرجها ليحبسها، فماتت من رميه كانت حلالا؛ لأنها حينئذ جاثمة لا مجثمة، وهى صيد صيد بما يصاد به الوحش. ونهيه (صلى الله عليه وسلم) عن المجثمة نظير نهيه عن المصبورة، غير أن التجثيم عند العرب هو فى الممتنعات من الوحش والطير الذى ينبذ بالأرض ويجثم بها، وأن الصيد المصبر يكون فى ذلك وغيره، فإن وجه موجه معنى نهيه (صلى الله عليه وسلم) عن المجثمة بالمعنى الأول؛ كان ذلك نظير نهيه (صلى الله عليه وسلم) عن صبر البهائم، وذلك نهى عن تعذيبها، وإن وجهه إلى المعنى الثانى، وهو النهى عن أكل لحمها إذا ماتت من الرمى؛ كان ذلك نظير نهيه تعالى عن المنخنقة والموقوذة والمتردية،(5/429)
وتحريمه أكلها إذا ماتت من ذلك، وإن جثمت فرست ولم تمت فذبحها مجثمها كان حلالا أكلها بالتذكية.
- باب: الدجاج
033 / فيه: أَبُو مُوسَى رَأَيْتُ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، يَأْكُلُ دَجَاجة. 2034 / - وَقَالَ زَهْدَمٍ الجرمى: كُنَّا عِنْدَ أَبِى مُوسَى، وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ هَذَا الْحَىِّ مِنْ جَرْمٍ إِخَاءٌ، فَأُتِىَ بِطَعَامٍ فِيهِ لَحْمُ دَجَاجٍ، وَفِى الْقَوْمِ رَجُلٌ جَالِسٌ أَحْمَرُ، لَمْ يَدْنُ مِنْ طَعَامِهِ، فَقَالَ: ادْنُ، فَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَأْكُلُ مِنْهُ. قَالَ: إِنِّى رَأَيْتُهُ أَكَلَ شَيْئًا فَقَذِرْتُهُ. . . . فذكر الحديث. قال الطبرى: كان ابن عمر لا يأكل الدجاجة حتى يقصرها أيامًا؛ لأنها تأكل العذرة. قال غيره: وكان يتأول أنها من الجلالة التى نهى النبى (صلى الله عليه وسلم) عن أكلها. روى سعيد بن أبى عروبة، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) نهى عن الإبل الجلالة) وكان ابن عمر إذا أراد أن يأكل بيض الدجاجة قصرها ثلاثة أيام. وكره الكوفيون لحوم الإبل الجلالة حتى تحبس أيامًا. وقال الشافعى: أكرهه إذا لم تكن أكلته غير العذرة، أو كانت أكثر أكله، وإذا كان أكثر علفها غيره لم أكرهه. وقال مالك والليث: لا بأس بلحوم الجلالة كالدجاج، وما يأكل.(5/430)
قال أبو حنيفة: الدجاجة تخلط، والدجاجة لا تأكل إلا العذرة وهى التى تكره. فالعلماء مجمعون على جواز أكل الجلالة. وقد سئل سحنون عن خروف أرضعته خنزيرة؟ فقال: لا بأس بأكله. قال الطبرى: والعلماء مجمعون على أن حملا أو جديًا غذى بلبن كلبة أو خنزيرة أنه غير حرام أكله، ولا خلاف أن ألبان الخنازير نجسة، كالعذرة. قال غيره: والمعنى فيه أن لبن الخنزيرة لا يدرك فى الخروف إذا ذبح بذوق ولا شم ولا رائحة، فقد نقله الله وأحاله كما يحيل الغذاء، فإنما حرم الله أعيان النجاسات المدركات بالحواس، فالدجاجة والإبل الجلالة وما شاكلها لا يوجد فيها أعيان العذرات، وليس ذلك بأكثر من النبات الذى ينبت فى العذرة، وهو طاهر حلال بإجماع، ولا يخلو الزرع من ذلك. وإنما النهى عن الجلالة من جهة التقذر والتنزه لئلا يكون الشأن فى علف الحيوان النجاسات، والنهى عن الجلالة ليس بقوى الإسناد.
- باب: لحوم الخيل
035 / فيه: أَسْمَاءَ، قَالَتْ: نَحَرْنَا فَرَسًا عَلَى عَهْدِ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَأَكَلْنَاهُ. 2036 / وفيه: جَابِر، نَهَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ، وَرَخَّصَ فِى لُحُومِ الْخَيْلِ. اختلف العلماء فى أكل لحوم الخيل، فكرهه مالك وأبو حنيفة والأوزاعي. وقال أبو يوسف ومحمد والشافعى: حلال أكلها.(5/431)
واحتج من كره أكلها بما رواه ثور بن يزيد عن صالح بن يحيى بن المقدام، عن أبيه، عن جده، عن خالد بن الوليد (أن رسول الله نهى عن لحوم الخيل والبغال والحمير) . قالوا: ومن جهة النظر أنه لو كانت الخيل تؤكل لوجب أن يؤكل أولادها، فلما اتفقنا على أن الأم إذا كانت من الخيل والأب حمار لم يؤكل ما تولد منهما، علمنا أن الخيل لا تؤكل؛ ألا ترى أن ولد البقرة يتبع أمه فى جواز الأضحية به، وإن كان أبوه وحشيا فلو كانت الخيل تؤكل تبع الولد أمه فى ذلك. واحتج الذين أجازوا أكلها بتواتر الأخبار فى ذلك، وأن أحاديث الإباحة أصح من أحاديث النهي. قالوا: ولو كان ذلك مأخوذًا من طريق النظر لما كان بين الخيل الأهلية والحمر الأهلية فرق، ولكن الآثار عن النبى إذا صحت أولى أن يقال بها من النظر، لا سيما وقد أخبر جابر فى حديثه أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أباح لهم لحوم الخيل فى وقت منعه إياهم لحوم الحمر، فدل ذلك على اختلاف حكم لحومها قاله الطحاوى.
- بَاب لُحُومِ الْحُمُرِ الإنْسِيَّةِ فِيهِ سَلَمَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم)
037 / فيه: ابْن عُمَرَ نَهَى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأهْلِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ.(5/432)
38 / وفيه: عَلِىّ، نَهَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الْمُتْعَةِ عَامَ خَيْبَرَ، وَعَنْ لُحُومِ الحُمُرِ الإنْسِيَّةِ. 2039 / وفيه: جَابِر، نَهَى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ، وَرَخَّصَ فِى لُحُومِ الْخَيْلِ. 2040 / وفيه: الْبَرَاءِ، وَابْنِ أَبِى أَوْفَى نَهَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ. 2041 / وفيه: أَبُو ثَعْلَبَةَ، قَالَ: حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لُحُومَ الْحُمُرِ الأهْلِيَّةِ. رواه صالح والزُّبَيْدِىّ وَعُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ. وَقَالَ مَالِكٌ وَمَعْمَرٌ وَالْمَاجِشُونُ وَيُونُسُ وَابْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِىِّ: نَهَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ كُلِّ ذِى نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ. 2042 / وفيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، جَاءَهُ جَاءٍ، فَقَالَ: أُكِلَتِ الْحُمُرُ، ثُمَّ جَاءَهُ جَاءٍ، فَقَالَ: أُفْنِيَتِ الْحُمُرُ، فَأَمَرَ مُنَادِيًا، فَنَادَى فِى النَّاسِ: (إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأهْلِيَّةِ، فَإِنَّهَا رِجْسٌ) ، فَأُكْفِئَتِ الْقُدُورُ، وَإِنَّهَا لَتَفُورُ بِاللَّحْمِ. 2043 / وفيه: عَمْرو، قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ يَزْعُمُونَ أَنَّ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، نَهَى عَنْ لحم الْحُمُرِ الأهْلِيَّةِ. فَقَالَ: قَدْ كَانَ يَقُولُ ذَاكَ الْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو الْغِفَارِىُّ عِنْدَنَا بِالْبَصْرَةِ، وَلَكِنْ أَبَى ذَاكَ الْبَحْرُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَرَأَ: (قُلْ لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا (الآية [الأنعام: 145] . قال المؤلف: فقهاء الأمصار مجمعون على تحريم الحمر، وروى(5/433)
خلاف ذلك عن ابن عباس فأباح أكلها، وروى مثله عن عائشة، والشعبي. وقد روى عنهم خلافه. قال الطحاوى، وقد افترق الذين أباحوا أكل الحمر على مذاهب فى معنى نهيه (صلى الله عليه وسلم) عن أكلها، فقال قوم: إنما نهى رسول الله عنها إبقاء على الظهر ليس على وجه التحريم. ورووا فى ذلك حديث يحيى بن سعيد، عن الأعمش قال: حدثت عن عبد الرحمن بن أبى ليلى قال: قال ابن عباس: (ما نهى رسول الله يوم خيبر عن أكل لحوم الحمر الأهلية إلا من أجل أنها ظهر) وابن جريح، عن نافع، عن ابن عمر قال: (نهى رسول الله عن أكل الحمار الأهلى يوم خيبر، وكانوا قد احتاجوا إليها) . قال الطحاوى: فكان من الحجة عليهم أن جابرًا قد أخبر أن النبى أطعمهم يومئذ لحوم الخيل، ونهاهم عن لحوم الحمر، فهم كانوا إلى الخيل أحوج منهم إلى الحمر. فدل تركه منعهم أكل لحوم الخيل أنهم كانوا فى بقية من الظهر، ولو كانوا فى قلة منه حتى احتيج لذلك أن يمنعوا من أكل لحوم الحمر لكانوا إلى المنع من أكل لحوم الخيل أحوج؛ لأنهم يحملون على الخيل كما يحملون على الحمر، ويركبون الخيل بعد ذلك لمعان لا يركبون لها الحمر، فدل أن العلة التى ذكروها ليست هى علة منعها. وقال آخرون: إنما منعوا منها لأنها كانت تأكل العذرة، ورووا فى ذلك حديث شعبة عن الشيبانى قال: (ذكرت لسعيد بن جبير حديث ابن أبى أوفى وأمر النبى (صلى الله عليه وسلم) بإكفاء القدور يوم(5/434)
خيبر، فقال: إنما نهى عنها، لأنها كانت تأكل العذرة) فكان من الحجة عليهم فى ذلك أنه لو لم يكن جاء فى هذا إلا الأمر بإكفاء القدور لاحتمل ما قالوا، ولكن قد جاء هذا وجاء النهى فى ذلك مطلقًا؛ حدثنا على بن معبد حدثنا شبابة بن سوار، حدثنا أبو زيد عبد الله بن العلاء، حدثنا مسلم بن مشكم كاتب أبى الدرداء قال: سمعت أبا ثعلبة الخشنى يقول: (أتيت النبى (صلى الله عليه وسلم) فقلت: يا رسول الله، حدثنى ما يحل لى مما يحرم عليّ فقال: لا تأكل الحمار الأهلى، ولا كل ذى ناب من السباع) فكان كلام الرسول فى هذا الحديث جوابًا لسؤال أبى ثعلبة إياه عما يحل له مما يحرم عليه، فدل ذلك أن نهيه (صلى الله عليه وسلم) عنها لا لعلة تكون فى بعضها دون بعض من أكل العذرة وشبهها ولكن لها فى أنفسها. وقال قوم: إنما نهى عنها رسول الله؛ لأنها كانت نهبة، واحتجوا بما روى يحيى بن أبى كثير عن النحاز الحنفى، عن سنان بن سلمة، عن أبيه (أن النبى - (صلى الله عليه وسلم) - مر يوم خيبر بقدور فيها الحمر حمر الناس فأمر بها فأكفئت، فكان من الحجة عليهم فى ذلك أن قوله: (حمر الناس) يحتمل أن تكون نهبوها من الناس، ويحتمل أن تكون نسبتها إلى الناس؛ لأنهم يركبوها فيكون وقع النهى عنها؛ لأنها أهلية لا لغير ذلك. وقد بين أنس فى حديثه أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال لهم: (أكفئوها، لأنها رجس) فدل أن النهى وقع عنها لأنها رجس لا لأنها نهبة.(5/435)
وروى سلمة بن الأكوع أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال لهم: (أكفئوا القدور واكسروها. قالوا: يا رسول الله أو نغسلها قال: (أو ذاك) فدل ذلك على أن النهى كان لنجاسة لحومها، لا لأنها نهبة؛ ألا ترى لو أن رجلا غصب شاة فذبحها وطبخ لحمها أن قدره التى طبخ فيها لا تنجس وأن حكمها حكم ما طبخ فيه لحم غير مغصوب، فدل أمره بغسلها على نجاسة ما طبخ فيها، وعلى أن الأمر بطرح ما كان فيها لنجاسته، وكذلك من غصب شاة فذبحها وطبخها أنه لا يؤمر بطرح لحمها فى قول أحد من الناس، فلما انتفى أن يكون نهيه (صلى الله عليه وسلم) عن أكل لحوم الحمر بمعنى من هذه المعانى التى ادعاها الذين أباحوا لحمها، ثبت أن نهيه كان عنها فى أنفسها. فإن قيل: فقد رويتم عن ابن عباس ما احتج به من قوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحى إلى محرمًا (الآية. قيل له: ما قاله رسول الله أولى مما قاله ابن عباس، وما قاله رسول الله هو مستثنى من الآية، وعلى هذا ينبغى أن يحمل ما جاء عن رسول الله مجيئًا متواترًا فى الشيء المقصود إليه بعينه مما قد أنزل الله فى كتابه آية مطلقة على ذلك الجنس، فيكون ما جاء عنه (صلى الله عليه وسلم) مستثنى من تلك الآية غير مخالف لها، حتى لا يضاد االقرآن السنة، ولا السنة القرآن. قال غيره: وأما حديث أبى ثعلبة فلا يصح فيه تحريم الحمر، إنما يصح فيه ما رواه مالك عن ابن شهاب أن النبى (صلى الله عليه وسلم) نهى عن أكل كل ذى ناب من السباع، ومن ذكر فيه بهذا الإسناد الحمر(5/436)
فقد وهم؛ لأن مالكًا ومعمرًا وابن الماجشون، ويونس ابن يزيد أثبت فى ابن شهاب من صالح بن كيسان والزبيدى وعقيل.
- باب: أكل كل ذى ناب من السباع
044 / فيه: أَبُو ثَعْلَبَةَ، أَنَّ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِى نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ. اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث، فذهب الكوفيون والشافعى إلى أن النهى فيه على التحريم، ولا يؤكل ذو الناب من السباع ولا ذو المخلب من الطير، ولا تعمل الذكاة عند الشافعى فى جلود السباع شيئًا، ولا يجوز الانتفاع بها إلا أن تدبغ. وذكر ابن القصار أن الذكاة عاملة فى جلودها عند مالك وأبى حنيفة، فإن ذكى سبع فجلده طاهر، يجوز أن يتوضأ فيه، ويجوز بيعه وإن لم يدبغ، والكلب منها، إلا الخنزير خاصة. والشافعى يحلل من السباع الضبع والثعلب خاصة، وقال ابن القصار: إن محمل النهى فى هذا الحديث عن أكل ذى ناب من السباع عند مالك على الكراهية لا على التحريم. قال: والدليل على أن السباع ليست بمحرمة كالخنزير اختلاف الصحابة فيها، وقد كان ابن عباس وعائشة إذا سئلا عن أكلها احتجا بقوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحى إلى محرمًا (الآية. ولا يجوز أن يذهب التحريم على مثل ابن عباس وعائشة مع(5/437)
مكانهما من رسول الله ويدركه غيرهما. ولا يجوز أن ينسخ القرآن بالنسبة إلا بتاريخ متفق عليه، فوجب مع هذا الخلاف ألا نحرمها كالميتة، ونكرهها؛ لأنه لو ثبت تحريمها لوجب نقله من حيث يقطع العذر. وقد روى عن الرسول أنه أجاز أكل الضبع وهو ذو ناب. فبان بهذا أنه (صلى الله عليه وسلم) أراد بتحريم كل ذى ناب من السباع الكراهية. وقال الكوفيون والشافعى: ليس فى قوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه (حجة لمن خالفنا؛ لأن سورة الأنعام مكية، وقد نزل بعد هذا قرآن فيه أشياء محرمات، ونزلت سورة المائدة بالمدينة وهى من آخر ما نزل، وفيها تحريم الخمر وتحريم المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة. وحرم رسول الله من البيوع أشياء كثيرة. ونهيه (صلى الله عليه وسلم) عن أكل ذى ناب من السباع كان بالمدينة؛ لأنه رواه عنه متأخرو أصحابه: أبو هريرة، وأبو ثعلبة، وابن عباس. وقد حرم رسول الله نكاح المرأة على عمتها وخالتها، ولم يقل أحد من العلماء أن قوله: (وأحل لكم ما وراء ذلكم (يعارض ذلك؛ بل جعلوا نهيه عن نكاح المرأة على عمتها وخالتها زيادة بيان على ما فى الكتاب. واختلفوا هل المراد بالنهى عن أكل كل ذى ناب من السباع جميعها أو بعضها، فقال الشافعى: إنما أراد رسول الله بالنهى ما كان يعدو على الناس، ويفترس مثل الأسد، والذئب، والنمر، والكلب العادى وشبهه مما فى طبعه فى الأغلب أن يعدو، وما لم يكن يعدو فلم يدخل فى النهى فلا بأس بأكله واحتج بحديث الضبع فى إباحة أكلها، وأنها سبع. ولابن حبيب شيء نحو هذا، قال فى جلود السباع العادية: إن ذكيت فلا تباع ولا يصلى عليها، وينتفع بها فى(5/438)
غير ذلك، وأما السبع الذى لا يعدو إذا ذكى جاز بيعه ولباسه والصلاة عليه. وعند الكوفيين النهى فى ذلك على العموم، فلا يحل عندهم أكل شيء من سباع الوحش كلها ولا الهر الوحشى ولا الأهلى؛ لأنه سبع، ولا الضبع ولا الثعلب؛ لعموم نهيه (صلى الله عليه وسلم) عن أكل كل ذى ناب من السباع. قالوا: فما دخل عليه اسم (سبع) فهو داخل تحت النهي. قالوا: وليس حديث الضبع مما يعارض به حديث النهى؛ لأنه انفرد به عبد الرحمن بن أبى عمار عن جابر، وليس بمشهور بنقل العلم ولا هو حجة إذا انفراد فكيف إذا خالفه من هو أثبت منه؟ وقد قال سعيد بن المسيب: إن الضبع لا يصلح أكلها. وهو قول الليث. وقال ابن شهاب: الثعلب سبع لا يؤكل. ومالك يكره أكل ما يعدو من السباع وما لا يعدو من غير تحريم. ومن أجاز من السلف أكل الضبع والثعلب، روى عن ابن عمر بن الخطاب أنه كان لا يرى بأسًا بأكل الضبع ويجعلها صيدًا. وعن على بن أبى طالب، وسعد بن أبى وقاص، وجابر، وأبى هريرة مثله. وقال عكرمة: لقد رأيتها على مائدة ابن عباس. وبه قال عطاء، ومالك، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأجاز الثعلب: طاوس وقتادة واحتجا بأنه يؤذى، وقالا: كل شيء يؤذى فهو صيد. وأما الضب فقد ثبت عن النبى (صلى الله عليه وسلم) جواز أكله. وقال ابن مسعود: لا بأس بأكل الوبر، وهو عندى مثل الأرنب؛ لأنه يغتذى البقول والنبات. وأجاز أكله طاوس، وعطاء. وأجاز عروة وعطاء اليربوع، وكره الحسن أكل الفيل؛ لأنه ذو ناب، وأجاز أكله أشهب.(5/439)
واختلفوا فى سباع الطير فروى ابن وهب عن مالك أنه قال: لم أسمع أحدًا من أهل العلم قديمًا ولا حديثًا بأرضنا ينهى عن أكل كل ذى مخلب من الطير، وقال أبو حنيفة والشافعى: لا يؤكل. ورووا فى ذلك حديث شعبة، عن الحكم، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) (أنه نهى عن أكل كل ذى ناب من السباع ومخلب من الطير) ودفع أصحاب مالك هذا الحديث وقالوا: لا يثبت. وقد أوقفه جماعة على ابن عباس ولم يسمعه منه ميمون، وإنما رواه عن سعيد بن جبير عنه. وقد روى عن ابن عباس خلافه، وما يدل على أنه ليس عن النبى (صلى الله عليه وسلم) وإنما هو قول لابن عباس ثم رجع عنه. وقد روى عمرو بن دينار، عن أبى الشعثاء، عن ابن عباس أنه قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرًا، فبعث الله نبيه، وأنزل كتابه، وأحل حلاله، وحرم حرامه، وما سكت عنه يعنى لم ينزل فيه شيء فهو معفو وتلا: (قل لا أجد فيما أوحى إلى محرمًا (الآيتين. فإن صح حديث النهى فيجوز أن يكون نهى عنها؛ لأن النفس تعافها لأكلها الأنجاس فى الأغلب، والله أعلم.
- باب: جلود الميتة
045 / فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مَرَّ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ، فَقَالَ: (هَلا اسْتَمْتَعْتُمْ بِإِهَابِهَا) ، قَالُوا: إِنَّهَا مَيِّتَةٌ، قَالَ: (إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا) . لم يذكر صالح بن كيسان فى حديث ابن شهاب الدباغ، وتابعه مالك، ومعمر، ويونس. وقد ذكر ابن عيينة، والأوزاعى،(5/440)
والزبيدى، وعقيل، عن ابن شهاب (الدباغ) فى هذا الحديث. وذكر الدباغ فى حديث ابن عباس من رواية ابن وعلة وعطاء عن ابن عباس ثابت محفوظ، فمعنى قوله: (هلا استمتعتم بإهابها) يعنى: بعد الدباغ؛ لأنه معلوم أن تحريم الميتة قد جمع إهابها وعصبها ولحمها، فإنما أباح الانتفاع بجلدها بعد دباغه بدليل ابن وعلة عن ابن عباس: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر) وبدليل حديث عائشة: (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أمر أن يستمتع بجلد الميتة إذا دبغ) وذكره مالك فى الموطأ، وعلى هذا جمهور العلماء وأئمة الفتوى. وذكر ابن القصار أن هذا آخر قول مالك. وهو قول أبى حنيفة والشافعي. وفى المسألة قول ثان. روى عن ابن شهاب أنه أجاز الانتفاع بجلود الميتة قبل الدباغ مع كونها نجسة. وفيها قول ثالث ذهب إليه أحمد بن حنبل وهو فى الشذوذ قريب من الذى قبله ذهب إلى تحريم الجلد وتحريم الانتفاع به قبل الدباغ وبعده، واحتج بحديث شعبة، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبى ليلى عن عبد الله بن عكيم: قرىء علينا كتاب رسول الله: (لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب) . ولمالك قول آخر فيه شبه من قول أحمد وليس به، وهو أن جلود الميتة لا تطهر بالدباغ، ولكنه أجاز استعمالها فى الأشياء اليابسة وفى الماء خاصة من بين سائر المائعات فخالفه فى استعمالها. وفيها قول آخر قاله الأوزاعى وأبو ثور قالا: يطهر جلد ما يؤكل لحمه بالدباغ دون ما لا يؤكل. ذكره ذلك ابن القصار. وحجة القول الأول الذى عليه الجمهور أنه معلوم أن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا دبغ الإهاب) هو ما لم يكن طاهرًا من الأهب كجلود(5/441)
الميتات وما لم تعمل فيه الذكاة من الدواب والسباع؛ لأن الطاهر لا يحتاج إلى الدباغ للتطهير، ومحال أن يقال فى الجلد الطاهر: إذا دبغ فقد طهر. وفى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا دبغ الإهاب فقد طهر) نص ودليل، فالنص منه طهارة الإهاب بالدباغ والدليل منه أن كل إهاب لم يدبغ فليس بطاهر، وإذا لم يكن طاهرًا فهو نجس، والنجس محرم، وإذا كان ذلك كذلك كان هذا الحديث مبينًا لحديث ابن عباس، وبطل بنصه قول من قال: إن جلد الميتة لا ينتفع به بعد الدباغ، وهو قول أحمد وما ضارعه، وبطل بالدليل منه قول من قال: إن جلد الميتة إن لم يدبغ ينتفع به، وهو قول الزهري. قال أبو عبد الله المروزى: وما علمت أحدًا قال هذا القول بعد الزهري. وقال الطحاوى: لم نجد عن أحد من الفقهاء جواز جلد الميتة قبل الدباغ إلا عن الليث رواه عنه ابن وهب. قال ابن القصار: وإنما اعتمد الزهرى فى ذلك على روايته فى حديث ابن عباس: أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (ما على أهلها لو أخذوا إهابها فانتفعوا به) ولم يذكر (فدبغوه) قال: فدل أنه يجوز الانتفاع به قبل الدباغ، فيقال: قد روى عنه ابن عيينة والأوزاعى وغيرهم الحديث، وقالوا فيه: (فدبغوه وانتفعوا به) فإذا كان الزهرى الراوى للحديثين أخذنا بالزائد منهما، ومن أثبت شيئًا حجة على من قصر عنه ولم يحفظه. وأيضًا فإن الدباغ قد جاء من طرق متواترة عن ابن عباس، عن النبى (أنه مر بشاة مطروحة من الصدقة، فقال: أفلا أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به) . وروى الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود،(5/442)
عن عائشة قالت: قال النبى (صلى الله عليه وسلم) -: (دباغ جلد الميتة ذكاته) . قال الطحاوى: وأما حديث ابن عكيم الذى أخذ به أحمد بن حنبل فيحتمل ألا يكون مخالفًا لأحاديث الدباغ، ويكون معناه: لا تنتفعوا به ما دام ميتة غير مدبوغ؛ فإنه قد كان (صلى الله عليه وسلم) سئل عن الانتفاع بشحم الميتة، فأجاب فيها مثل هذا. وروى ابن وهب، عن زمعة بن صالح، عن أبى الزبير، عن جابر: (أن ناسًا أتوا النبى (صلى الله عليه وسلم) فقالوا: يا رسول الله، إن سفينة لنا انكسرت، وإنا وجدنا ناقة سمينة ميتة، فأردنا أن ندهن بها. فقال رسول الله: لا تنتفعوا بشىء من الميتة) فأخبر جابر بالسؤال الذى كان قول النبى: (لا تنتفعوا من الميتة) جوابًا له أن ذلك كان على النهى عن الانتفاع بشحومها، فأما ما دبغ منها وعاد إلى معنى الإهاب فإنه مطهر بذلك على ما تواترت به الآثار، وعلى هذا لا تتضاد الآثار. قال المهلب: وحجة مالك فى كراهية الصلاة عليها وبيعها وتجويز الانتفاع بها فى بعض الأشياء أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أهدى حلة من حرير لعمر، وقال: (لم أعطكها لتلبسها، ولكن لتبيعها أو تكسوها) فأباح له (صلى الله عليه وسلم) التصرف فى الحلة فى بعض الوجوه، فكذلك جلد الميتة يجوز الانتفاع به فى بعض الوجوه دون بعض. قال ابن القصار: وأما قول الأوزاعى وأبى ثور أنه يطهر جلد ما يؤكل لحمه دون ما لا يؤكل، واحتجوا بما رواه أبو المليح الهذلى عن أبيه (أن النبى نهى عن افتراش جلود السباع) ولم يفرق بين أن تكون مدبوغة أو غير مدبوغة، وقال (صلى الله عليه وسلم) : (دباغ الأديم ذكاته) فأقام الدباغ مقام الذكاة، وأنه يعمل عملها، فلما لم تعمل الذكاة فيما لا يؤكل لحمه لم يعمل الدباغ فيه.(5/443)
والحجة عليهما قوله (صلى الله عليه وسلم) : (أيما إهاب دبغ فقد طهر) وإنما نهى عن افتراش جلود السباع التى لم تدبغ. وأما قولهم إن الذكاة لا تعمل فى السباع. فإنها تعمل فيها، ويستغنى فيها عن الدباغ، إلا الخنزير وإنما لم يعمل فيه لأنه محرم العين، وحكى عن أبى يوسف وأهل الظاهر أن جلد الخنزير يطهره الدباغ، وهو قول سحنون ومحمد بن عبد الحكم، واحتجوا بعموم قوله (صلى الله عليه وسلم) : (أيما إهاب دبغ فقد طهر) والصواب قول الجمهور. والفرق بين الخنزير وغيره أن النص ورد بتحريمه، والإجماع حاصل على المنع من اقتنائه فلم تعمل الذكاة فى لحمه ولا جلده، فكذلك الدباغ لا يطهر جلده. وأجاز مالك والكوفيون الخرازة بشعره، ومنع ذلك الشافعى لتحريم عينه.
- باب: المسك
046 / - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قال (صلى الله عليه وسلم) : (مَا مِنْ مَكْلُومٍ يُكْلَمُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ إِلا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَكَلْمُهُ يَدْمَى، اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ وَالرِّيحُ رِيحُ مِسْكٍ) . 2047 / وفيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ، وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ، إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ، إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً) . قال المؤلف: إنما أدخل المسك فى هذا الباب ليدل على تحليله إذ أصله التحريم؛ لأنه دم، فلما تغير عن الحالة المكروهة عن الدم، وهو الزهم وبفيح الرائحة صار حلالا بطيب الرائحة،(5/444)
وانتقلت حاله وكانت حاله كحال الخمر تتحلل، فتحل بعد أن كانت حرامًا بانتقال الحال، وأصل هذا فى كتاب الله تعالى فى قصة موسى: (فألقاها فإذا هى حية تسعى قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى (فحكم لها بما انقلبت إليه وأسقط عنها حكم ما انقلبت عنه. قال: وحديث أبى موسى حجة فى طهارة المسك؛ لأنه لا يجوز حمل النجاسة، ولا يأمر (صلى الله عليه وسلم) بذلك، فدل على طهارته، وجل العلماء على هذا. قال ابن المنذر: وممن أجاز الانتفاع بالمسك: على بن أبى طالب وابن عمر وأنس بن مالك وسلمان، ومن التابعين: سعيد بن المسيب وابن سيرين وجابر بن زيد، ومن الفقهاء: مالك والليث والشافعى وأحمد وإسحاق. وخالف ذلك آخرون، ذكر ابن أبى شيبة عن عمر بن الخطاب أنه كره المسك، وقال: لا تحنطونى به. وكرهه عمر بن عبد العزيز وعطاء والحسن ومجاهد والضحاك. وقال أكثرهم: لا يصلح للحى ولا للميت؛ لأنه ميتة، وهو عندهم بمنزلة ما قطع من الميتة. قال ابن المنذر: ولا يصح ذلك إلا عن عطاء وهذا قياس غير صحيح؛ لأن ما قطع من الحى يجرى فيه الدم، وهذا ليس سبيل نافجة المسك؛ لأنها تسقط عند الاحتكاك لسقوط الشعر. وقد روى أبو داود قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا المستمر بن الريان، عن أبى نضرة، عن أبى سعيد(5/445)
الخدرى قال: قال رسول الله: (أطيب طيبكم المسك) وهذا نص قاطع للخلاف. قال ابن المنذر: وقد روينا عن النبى بإسناد جيد أنه كان له مسك يتطيب به. وقوله: (يحذيك) يعنى: يعطيك. تقول العرب: حذوته، وأحذيته: إذا أعطيته. والاسم: الحذيا مقصور.
- باب: الأرنب
048 / فيه: أَنَس، أَنْفَجْنَا أَرْنَبًا، وَنَحْنُ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، فَسَعَى الْقَوْمُ فَلَغِبُوا، فَأَخَذْتُهَا، فَجِئْتُ بِهَا إِلَى أَبِى طَلْحَةَ، فَذَبَحَهَا، فَبَعَثَ بِوَرِكَيْهَا - أَوْ قَالَ بِفَخِذَيْهَا - إِلَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَبِلَهَا. الأرنب أكلها حلال عند جمهور العلماء، وذكر عبد الرزاق، عن عمرو بن العاص أنه كرهها، وذكر الطبرى عن عبد الله بن عمر وابن أبى ليلى أنهما كرهاها، وعلتهم فى ذلك ما روى عن عبد الله بن عمرو أنه قال: (كنت قاعدًا عند النبى فجيء بها إليه، فلم يأمر بأكلها ولم ينه عنها، وزعم أنها تحيض) . قال الطبرى: وروى عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: سأل رجل أبى عن الأرنب أيحل أكلها؟ قال: وما الذى يحرمها؟ قال: زعموا أنها تطمث كما تطمث المرأة. فقال: هل يعلم متى تطهر؟ قال: لا. قال: فإن الذى يعلم متى طمثها يعلم متى طهرها، وإنها فإنما هى حاملة من الحوامل، إن الله لم يرد شيئًا نسيه، فما قال الله ورسوله فهو كما قالا، وما لم يقولاه فعفو من الله. قال المؤلف: وهذا مثل ما كره رسول الله الضب ولم يحرمه.(5/446)
- باب الضب
049 / فيه: ابْن عُمَرَ، قال: قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (الضَّبُّ لَسْتُ آكُلُهُ، وَلا أُحَرِّمُهُ) . 2050 / وفيه: خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بَيْتَ مَيْمُونَةَ، فَأُتِىَ بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ، فَأَهْوَى إِلَيْهِ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) بِيَدِهِ، فَقَالَ بَعْضُ النِّسْوَةِ: أَخْبِرُوا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ، فَقَالُوا: هُوَ ضَبٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَرَفَعَ يَدَهُ، فَقُلْتُ أَحَرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: (لا، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِى، فَأَجِدُنِى أَعَافُهُ) . قَالَ خَالِدٌ: فَاجْتَرَرْتُهُ، فَأَكَلْتُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَنْظُرُ. قال الطبرى: قال بهذا الخبر جماعة من السلف وأحلوا أكل الضب، روى ذلك عن عمر بن الخطاب وعائشة وابن مسعود، وقال أبو سعيد الخدرى: إن كان أحدنا لتهدى إليه الضب المكونة أحب إليه من أن تهدى إليه الدجاجة السمينة. رووى عن ابن سيرين، وهو قول مالك والأوزاعى والشافعي. وقال الكوفيون: أكلها مكروه وليست بحرام، وروى هذا القول عن أبى هريرة. وقال آخرون: أكل الضب حرام، واعتلوا بحديث الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبد الرحمن بن حسنة قال: (كنا مع النبى (صلى الله عليه وسلم) فنزلنا أرضًا كثيرة الضباب، فذبحنا منها، فبينما القدور تغلى خرج علينا رسول الله، فقال: إن أمة من بنى إسرائيل مسخت، وإنى أخشى أن تكون هذه. فأمرنا فأكفأناه وإنا لجياع) وروى سفيان، عن حماد، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة: (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) بعث إليه بضب، فأبى أن يأكله، فقلت: ألا أطعمه السؤال؟ فقال: لا تطعميهم مما لا نأكل منه) قالوا: والأخبار بالنهى عن أكلها صحيحة.(5/447)
وروى عبد الرحمن البياضى، عن الحارث، عن على أنه نهى عن الضب. والصواب فى ذلك قول من قال: إنه حلال؛ للخبر الصحيح عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه أكل على مائدته وبحضرته. ولو كان حرامًا لم يترك (صلى الله عليه وسلم) أحدًا ياكله؛ إذ غير جائز أن يرى (صلى الله عليه وسلم) منكرًا ولا يغيره، ولا يقر أحدًا على انتهاك شيء من محارم الله، فدل أنه إنما تركه؛ لأنه عافه كما قال عمر، ولم يأت خبر صحيح بتحريمه، بل قال له عمر: (أحرام هو يا رسول الله؟ قال: لا) . وقد روى الثورى، عن علقمة بن مرثد، عن المغيرة بن عبد الله اليشكرى، عن المعرور بن سويد، عن أبى مسعود (أن النبى - (صلى الله عليه وسلم) - سألته أم حبيبة فقالت: يا رسول الله، القردة والخنازير الذين مسخوا؟ قال: إن الله لم يهلك - أو لم يمسخ - قومًا فيجعل لهم عاقبة ولا نسلا) . قال الطحاوى: فبين الرسول فى هذا الحديث: أن المسوخ لا يكون لها نسل ولا عقب، فعلمنا بذلك أن الضب لو كان مسخًا لم يبق. وروى عن ابن عباس أنه قال: لم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام، ولم يأكل ولم يشرب. وأما حديث الأسود عن عائشة، فلا حجة لهم فيه؛ لأنه يجوز أن يكون كره لها أن تطعمه؛ لأنها عافته، وكان ما تطعمه للسائل إنما هو لله تعالى فأراد (صلى الله عليه وسلم) أن يكون ما يتقرب به إلى الله من(5/448)
خير الطعام، كما نهى أن يتصدق بالبر والتمر الرديئين وفى ذلك نزل: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون (وبقول مالك قال الطحاوي. قال الطبرى: وليس فى الحديث أنه (صلى الله عليه وسلم) قطع أن الضب من الأمة التى مسخت بأعيانها، وإنما قال: أخشى أن تكون هذه، أو أخشى أن تكون مسخت على صورة هذه وخلقتها، لا أنها بعينها، فكرهها لشبهها فى الخلقة والصورة خلقًا غضب الله عليه فغيره عن صورته وهيئته، وعلى هذا التأويل يصح معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) أن المسخ لا يعقب، ومعنى قول ابن عباس أن المسخ لا يعيش أكثر من ثلاثة، إذ لم يمسخ الله تعالى خلقًا من خلقه على صورة دابة من الدواب إلا كره إلى نبينا وأمته أكل لحم تلك الدابة، أو حرمه لتحريمه عليهم أكل لحوم الخنازير التى مسخت على صورتها أمة من اليهود، وكتحريمه لحم القردة التى مسخت على صورتها منهم أمة أخرى. غير أن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (اخشى أن تكون هذه) بيان واضح أنه لم يتبين أن الضب من نوع الأمة التى مسخت، ولذلك لم يحرمها، ولو تبين له منها ما تبين من القردة والخنازير لحرمها، ولكنه (صلى الله عليه وسلم) رأى خلقًا مشكلا يشبه المسوخ فكرهه ولم يحرمه؛ إذ لم يأته وحى من الله بذلك. قال غيره: وفيه من الفقه أنه يجوز للمرء أن يترك أكل ما هو حلال إذا لم يجر له بأكله عادة، ويكون فى سعة من ذلك. وقوله: (فأجدنى أعافه) يقال: عاف الطعام يعافه عيافًا(5/449)
وعيوفًا: إذا كرهه. المحنوذ: المشوى، فى التنزيل: (جاء بعجل حنيذ (أى: محنوذ، حنذت اللحم حنذًا: شويته.
- باب: إذا وقعت الفأره فى السمن الجامد أو الذائب
051 / فيه: ابْن عَبَّاس، وَمَيْمُونَةَ، أَنَّ فَأْرَةً وَقَعَتْ فِى سَمْنٍ فَمَاتَتْ، فَسُئِلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَنْهَا، فَقَالَ: (أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوهُ) . قيل لسفيان: فإن معمرًا يحدثه، عن االزهرى، عن سعيد بن المسيب، عن أبى هريرة. قال: ما سمعت الزهرى يقول إلا عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ولقد سمعته منه مرارًا. وسئل ابن شهاب عن الدابة تموت فى الزيت أو السمن وهو جامد أو غير جامد، الفأرة أو غيرها. قال: بلغنا أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أمر بفأرة ماتت فى سمن فأمر بما قرب منها فطرح، ثم أكل. عن حديث عبيد الله بن عبد الله. توقف البخارى فى إسناد معمر، عن الزهرى، عن سعيد، عن أبى هريرة؛ لأنه انفرد به معمر، عن الزهرى، وأما حديث الزهرى، عن عبيد الله، عن ابن عباس فرواه جماعة أصحاب ابن شهاب عنه بهذا الإسناد، وقد صحح الذهلى الإسنادين جميعًا عن ابن عباس، وإنما لم يدخل البخارى فى الحديث قوله (صلى الله عليه وسلم) : (وإن كان مائعًا فلا تقربوه) لأنه من رواية معمر، عن الزهرى، واستراب انفراد معمر.(5/450)
وفى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ألقوها وما حولها) دليل أن السمن كان جامدًا، لأنه لا يتمكن طرح ما حولها فى الذائب المائع؛ لأن فى الحركة يسرح بعضه بعضًا. والعلماء مجمعون أن هذا حكم السمن الجامد تقع فيه الميتة أنها تلقى وما حولها ويؤكل سائره؛ لأن رسول الله حكم للسمن الملاصق للفأرة بحكم الفأرة، لتحريم الله الميتة، فأمر بإلقاء ما مسها منه. وأما السمن المائع والزيت والخل والمرى والعسل وسائر المائعات تقع فيها الميتة، فلا خلاف أيضًا بين أئمة الفتوى أنه لا يؤكل منها شيء. واختلفوا فى بيعه والانتفاع به، فقالت طائفة: لا يباع ولا ينتفع بشيء منه، كما لا يؤكل. هذا قول الحسن بن صالح وأحمد بن حنبل، واحتجوا بما رواه معمر، عن الزهرى، عن سعيد، عن أبى هريرة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (فإن كان مائعًا فلا تقربوه) وبقوله: (لعن الله اليهود؛ حرمت عليهم الشحوم فباعوها، وأكلوا ثمنها) . وقال آخرون: يجوز الاستصباح به، والانتفاع فى الصابون وغيره، ولا يجوز بيعه وأكله. هذا قول مالك والثورى والشافعي. واحتجوا برواية عبد الواحد بن زياد، عن معمر، عن الزهرى، عن سعيد، عن أبى هريرة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (وإن كان مائعًا فاستصبحوا به) قالوا: وقد روى عن على بن أبى طالب وابن عمر وعمران بن حصين أنهم أجازوا الاستصباح به، وأمر ابن عمر أن تدهن به الأدم. وذكر الطبرى عن ابن عباس مثله، وذكر ابن المنذر عن ابن مسعود وأبى سعيد الخدرى وعطاء مثله. واحتجوا فى منع بيعه بقوله (صلى الله عليه وسلم) فى الخمر: (إن الذى حرم شربها حرم بيعها) وبحديث النبى(5/451)
عن بيع الشحوم، وأيضًا فإنه قد ينتفع بما لا يجوز بيعه؛ ألا ترى أنا ننتفع بأم الولد ولا يجوز بيعها، وينتفع بكلب الصيد ويمنع من بيعه، ونطفىء الحريق بالماء النجس والخمر ولا يجوز بيعه، وهذا كله انتفاع، ذكره ابن القصار. وقال آخرون: ينتفع بالزيت الذى تقع فيه الميتة بالبيع وبكل شيء ما عدا الأكل. قالوا: يجوز أن يبيعه ويبين؛ لأن كل ما جاز الانتفاع به جاز بيعه، والابتياع من الانتفاع. وهو قول أبى حنيفة وأصحابه والليث. وروى عن أبى موسى أنه قال: بيعوه وبينوا لمن تبيعونه منه، ولا تبيعونه من مسلم. وروى ابن وهب عن القاسم وسالم أنهما أجازا بيعه وأكل ثمنه بعد البيان. قال الكوفيون: ويحتمل ما قال معمر من قوله (صلى الله عليه وسلم) : (وإن كان مائعًا فلا تقربوه أو فلا تقربوه) للأكل، وليس فى تحريم الشحوم على اليهود تحريم ثمنها حجة لمن منع بيع الزيت تقع فيه الميتة؛ لأن الحديث خرج على تحريم شحوم الميتة وهى نجسة الذات، ولا يجوز بيعها ولا أكلها ولا الانتفاع بها، والزيت والسمن الذى تقع فيه الميتة إنما تنجس بالجوار، ولا ينجس بالذات، كالثوب الذى يصيبه الدم، ولذلك رأى بعض العلماء غسله، ويجوز عندهم الاستصباح به، ولا يجوز بشحوم الميتة. قال ابن القصار: وقال أهل الظاهر: لا يجوز بيع السمن ولا الانتفاع به إذا وقعت فيه الفأرة، ويجوز بيع الزيت والخل والمرى وجميع المائعات تقع فيه الفأرة؛ لأن النهى إنما ورد فى السمن لا فى الزيت وغيره. وهذ إبطال للمعقول؛ لأن الرسول نص على السمن(5/452)
وهو مما يؤكل ويشرب، وهو من المائعات الطاهرات، كان فيه تنبيه على ما هو مثله؛ لأنه يثقل (صلى الله عليه وسلم) أن يقول: الثمن والزيت والشيرج والخل والمرى والدهن والمرق والعصير وكل مائع؛ لأنه أوتى جميع الكلم، وهذا كما قال تعالى: (فلا تقل لهما أف (فنبه بذلك على أن كل ما كان فى معناه من الانتهار والسب فما فوقه مثله فى التحريم. وكذلك كل مائع وقعت فيه نجاسة هو مثل السمن. قال المؤلف: ومما يبطل به مذهب أهل الظاهر أن يقال لهم: ما تقولون فى السمن تموتع فيه وزغة أو حية أو سائر الحيوان؟ فإن طردوا أصلهم وقالوا: لا ينجس السمن بموت سائر الحيوان [. . . . .] غير الفأرة التى ورد النص فيها، خرجوا من قول الأمة ومن المعقول، وإن سووا بين جميع ما يموت فى السمن من سائر الحيوان، لزمهم ترك مذهبهم.
- باب: العلم والوسم فى الصورة
052 / فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ تُعْلَمَ الصُّورَةُ، وَقَالَ: نَهَى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَنْ تُضْرَبَ الصُّورَةُ. 2053 / وفيه: أَنَس، دَخَلْتُ عَلَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِأَخٍ لِى يُحَنِّكُهُ - وَهُوَ فِى مِرْبَدٍ لَهُ - فَرَأَيْتُهُ يَسِمُ شَاةً، حَسِبْتُهُ قَالَ: فِى آذَانِهَا. معنى قوله: (الوسم والعلم فى الصورة) يريد فى الوجه وهو المكروه عند العلماء.(5/453)
قال المهلب: إنما كرهه العلماء؛ لأنه من الشين وتغيير خلق الله، وأما الوسم فى غير الوجه للعلامة والمنفعة بذلك فلا بأس به إذا كان يسيرًا غير شائن؛ ألا ترى أنه يجوز فى الضحايا وغيرها. والدليل على أنه لايجوز الشائن من ذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) حكم أن من شان عبده أو مثل به باستئصال أنف أو أذن أو جارحة عتق عليه، وليس يعتق إن جرحه أو شق أذنه، ووسم النبى إبل الصدقة حجة على جواز ما لا يشين منه، وقد تقدم حيث يجوز الوسم من البهائم فى باب (وسم الإمام إبل الصدقة) فى كتاب الزكاة.
- باب: إذا أصاب قوم غنيمة فذبح بعضهم إبلا أو غنمًا بغير أمر أصحابهم لم تؤكل لحديث رافع عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وقال طاوس وعكرمة فى ذبيحة السارق: اطرحوه
054 / فيه: رَافِع، إِنا لاقُو الْعَدُوَّ غَدًا - الحديث - وَتَقَدَّمَ سَرَعَانُ النَّاسِ، فَأَصَابُوا مِنَ الْغَنَائِمِ وَالنَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فِى آخِرِ النَّاسِ، فَنَصَبُوا قُدُورًا، فَأَمَرَ بِهَا، فَأُكْفِئَتْ وَقَسَمَ بَيْنَهُمْ، وَعَدَلَ بَعِيرًا بِعَشْرِ شِيَاهٍ. . . . الحديث. قال المؤلف: قوله فى الترجمة: فذبح بعضهم إبلا أو غنمًا بغير أمر أصحابهم هم سرعان الناس الذين فعلوه دون اتفاق من أصحابهم، وقد تقدم القول فى ذلك فى كتاب الجهاد، فى باب (ما يكره من ذبح الإبل والغنم فى المغانم) . ومعنى أمره (صلى الله عليه وسلم) بإكفاء القدور هو فى أول كتاب الذبائح فلا وجه لإعادته، وأما ذبيحة السارق فلا أعلم من تابع طاوسًا وعكرمة على كراهية أكلها غير إسحاق ابن راهويه، وجماعة الفقهاء على إجازتها، وأظن البخارى أراد نصر قول طاوس وعكرمة،(5/454)
وجعل أمر النبى بإكفاء القدور حجة لمن كره ذبيحة السارق، ورأى الذين ذبحوا الغنائم بغير أمر أصحابهم فى معنى ذبيحة السارق حين ذبحوا ما ليس لهم؛ لأنهم إنما ذبحوا فى بلاد الإسلام بذى الحليفة قرب المدينة، وقد خرجوا من أرض العدو، فلم يكن لبعضهم أن يسأثر بشيء منها دون أصحابه، وليس فى ذلك حجة قاطعة؛ لأنه قد اختلف فى معنى أمره (صلى الله عليه وسلم) بإكفاء القدور، وقيل: إنها كانت نهبة، ولا يقطع على وجه من ذلك، واختلف أيضًا فى قطع من سرق من المغنم.
- باب: إذا ند بعير لقوم فرمى بعضهم بسهم فقتله وأراد صلاحهم فهو جائز لخبر رافع عن النبى
055 / فيه: رَافِع، كُنَّا فِى سَفَرٍ، فَنَدَّ بَعِيرٌ مِنَ الإبِلِ، قَالَ: فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ لَهَا أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَمَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا، فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا) . قال المهلب: معنى قوله: أراد صلاحهم. يعنى: إذا علم مرادهم فأراد حبسه على أربابه، ولم يرد إفساده عليهم، فلذلك لم يضمن البعير وحل أكله؛ لأن هذا الحبس الذى حبسه بالسهم قد يكون فيه هلاكه من غير ذبح ولا نحر مشروع، وقد تقدم اختلاف العلماء فى ذلك. وأما من قتل بعيرًا لقوم بغير أمرهم فعليه ضمانه، إلا أن تقوم بينة بأنه صال عليه.(5/455)
- بَاب إِذَا أَكَلَ الْمُضْطَرُّ
لقوله تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ (إلى قوله: (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) [البقرة: 172] وَقَالَ: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ (، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) [الأنعام: 118] ، وَقَوْلِهِ) قُلْ لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا (الآية، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُهْرَاقًا. إلى قوله: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ) [الأنعام: 145] . اختلف العلماء فى أكل المضطر الميتة، فقال مالك: أحسن ما سمعت فى المضطر يأكل من الميتة حتى يشبع، ويتزود منها، فإذا وجد عنها غنى طرحها. وهو قول ابن شهاب وربيعة. وقال أبو حنيفة والشافعى: لا يأكل منها إلا مقدار ما يمسك الرمق والنفس. وحجتهم أن المضطر إنما أبيح له أكل الميتة إذا خاف الموت على نفسه، فإذا أكل منها ما يزيل الخوف فقد زالت الضرورة وارتفعت الإباحة فلا يحل له أكلها. وحجة مالك أن المضطر قد أباح الله له الميتة، فقال تعالى: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه (يعنى: إذا أكل منها، ولم يفرق بين القليل والكثير؛ فإذا حلت له الميتة أكل منها ما شاء. واختلف أهل التأويل فى معنى قوله تعالى: (غير باغ ولا عاد (فقال ابن عباس: غير باغ: فى الميتة، ولا عاد: فى الأكل. وقال الحسن: غير باغ فيها ولا متعد بأكلها، وهو غنى عنها. وقال مجاهد: غير باغ: على الأئمة، ولا عاد: قاطع طريق سبيل. فإن خرج على الأئمة أو قطع الطريق فلا رخصة له فى الأكل.(5/456)
فإن احتج الكوفيون والشافعى بتفسير ابن عباس، وأن معنى قوله تعالى: (غير باغ ولا عاد (يعنى غير متعد فى الأكل، وإذا شبع وتزود فهو متعد فيه. قيل: قد فسر مجاهد وغيره أن معنى الآية: غير متعد على الناس وقاطع سبيلهم، وإنما معنى قول ابن عباس أن الباغى والمتعدى لا يأكلها؛ لأنه غنى عنها غير مضطر إلها، فإذا اضطر إليها لم يكن متعديًا فى شبعه؛ لأنه لا يقدر على سفره وتصرفه إلا بشبع نفسه، والتزود أولى فى حفظ النفس وحياطتها؛ لأنه لا يأمن ألا يجد ما يمسك رمقه من طعام ولا ميتة، ولعله أن يطول سفره فيهلك نفسه، والله تعالى قد حرم على الإنسان أن يتعرض لإهلاك نفسه، وسيأتى اختلاف العلماء فى شرب الخمر والبول، عند الضرورة فى كتاب الأشربة، إن شاء الله.(5/457)
الجزء السادس(6/4)
بسم الله الرحمن الرحيم
- كتاب الأضاحى
- بَاب سُنَّةِ الأضْحِيَّةِ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ هِىَ سُنَّةٌ وَمَعْرُوفٌ
/ 1 - فيه: الْبَرَاءِ، قَالَ عليه السَّلام: (إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِى يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّىَ، ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، مَنْ فَعَلَهُ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلُ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لأهْلِهِ، لَيْسَ مِنَ النُّسُكِ فِى شَىْءٍ) ، فَقَامَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ، وَقَدْ ذَبَحَ، فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِى جَذَعَةً، فَقَالَ: (اذْبَحْهَا، وَلَنْ تَجْزِىَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ) . وَقَالَ الْبَرَاء مرة، عن النَّبِىّ عليه السَّلام: (مَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلاةِ تَمَّ نُسُكُهُ، وَأَصَابَ سُنَّةَ الْمُسْلِمِينَ) . / 2 - وروى أَنَس عَن النَّبِىّ - عليه السَّلام - مثله. اختلف العلماء فى وجوب الأضحية، فقال أبو حنيفة ومحمد: إنها واجبة. وروى عن النخعى أنه قال: الأضحى واجب على أهل الأمصار ما خلا الحاج. وذكر ابن حبيب عن مالك أنه قال: الأضحية سنة لا رخصة لأحد فى تركها. وفى المدونة من اشترى أضحية فحبسها حية حتى ذهبت أيام الذبح أنه آثم؛ إذ لم يضح بها. وروى عنه أنه إن تركها بئس ما صنع، وهذا إنما يطلق فى ترك الواجب. وهو قول ربيعة والليث.(6/5)
قال مالك: وإن وجد الفقير من يسلفه ثمنها فليستلف. وروى عن سعيد ابن المسيب وعلقمة والأسود أنه كانوا لا يوجبونها، وهو قول أبى يوسف. وقال الشافعى: الأضحية سنة وتطوع، وليست بواجبة، وهو قول أحمد وأبى ثور. وقال الثورى: لا بأس بتركها، وقد روى عن الصحابة ما يدل أنها ليست بواجبة ولا بأس بتركها. ذكر عبد الرزاق، عن الثورى، عن إسماعيل، عن الشعبى، عن أبى سريحة قال: رأيت أبا بكر وعمر وما يضحيان. وعن ابن عمر: من شاء ضحى ومن شاء لم يضح. وروى الثورى، عن أبى معشر عن مولى لابن عباس قال: أرسلنى ابن عباس أشترى له لحمًا بدرهم، وقال: قل: هذه أضحية ابن عباس. وقال النخعى: قال علقمة: لأن لا أضحى أحب إلى من أن أراه حتمًا على. وهو قول أبى مسعود البدرى وسعد، وبلال. واحتج الكوفيون على وجوبها بقوله عليه السلام لأبى بردة: (إنها تجزئ عنك، ولن تجزئ عن أحد بعدك) . قال الطحاوى: فإن قيل: كان أوجبها فأتلفها فلذلك أوجب عليه(6/6)
إعادتها. قيل له: أراد هذا ليعرفه قيمة المتلفة ليأمره بمثلها، فلما لم يتعرف ذلك دل أنه لم يقصد إلى ما ذكرت. واحتج من لم يوجبها بقوله عليه السلام: (أول ما نبدأ به فى يومنا هذا أن نصلى ثم ننحر فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا) وما كان سنة فليس بواجب، وبقوله عليه السلام: (إذا دخل عشر ذى الحجة فأراد أحدكم أن يضحى. .) . قال ابن المنذر: فلو كانت واجبة لم يجعلها إلى إرادة المضحى. واختلفوا فى تفصيل الصدقة على الأضحية: فقال ربيعة وأبو الزناد والكوفيون: الضحية أفضل. وروى عن طاوس مثله. وروى عن بلال أنه قال: ما أبالى أن لا أضحى إلا بديك، ولأن أضعه فى فى يتيم قد ترب أحب إلى من أن أضحى به. وقال الشعبى: الصدقة أفضل. وهو قول مالك وأبى ثور، ذكره ابن المنذر، والمعروف من مذهب مالك عند أصحابه أن الضحية أفضل من الصدقة. وروى ابن وهب عن مالك أن الصدقة بثمنها أحب إلى للحاج من أن يضحى؛ فهذا يدل أن الضحية عنده لغير الحاج أفضل من الصدقة. قال ابن حبيب: هى أفضل من العتق ومن عظيم الصدقة؛ لأن إحياء السنة أفضل من التطوع. وقال ربيعة: هى أفضل من صدقة سبعين دينارًا. قال غيره: ولم يحفظ عن النبى - عليه السلام - أنه ترك الأضحى(6/7)
طول عمره وندب أمته إليها، فلا ينبغى لموسر تركها، وإنما قال: إن الصدقة بثمنها أفضل للحاج بمنى من أجل أنه لا يرى للحاجة أضحية.
- بَاب قِسْمَةِ الإمَامِ الأضَاحِىَّ بَيْنَ النَّاسِ
/ 3 - فيه: عُقْبَةَ بْنِ عَامِر، قَسَمَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بَيْنَ أَصْحَابِهِ ضَحَايَا، فَصَارَتْ لِعُقْبَةَ جَذَعَةٌ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صَارَتْ لِى جَذَعَةٌ، قَالَ: (ضَحِّ بِهَا) . وأما قسمة الرسول الضحايا بين أصحابه، فإن كان قسمها بين الأغنياء لكانت من الفىء أو ما يجرى مجراه مما يجوز أخذها للأغنياء، وإن كان إنما قسمها بين فقرائهم خاصة فكانت من الصدقة. وإنما أراد البخارى بهذا الباب - والله أعلم - ليريك أن إعطاء النبى - عليه السلام - الضحايا لأصحابه دليل على تأكيدها وندبهم إليها. فإن قيل: لو كان كما زعمت لم يخف ذلك عن الصحابة الذين قصدوا تركها وهم موسرون. قيل: ليس كما توهمت ولم يتركها من تركها منهم؛ لأنها غير وكيدة ولا مرغب فيها، وإنما تركها لما روى عن معمر والثورى عن أبى وائل قال: قال أبو مسعود الأنصارى: إنى لأدع الأضحى وأنا موسر؛ مخافة أن يرى جيرانى أنه حتم على. وروى الثورى، عن إبراهيم، عن مهاجر، عن النخعى، عن علقمة قال: لأن لا أضحى أحب إلى من أراه حتما على. وهكذا ينبغى للعالم الذى يقتدى به إذا خشى من العامة أن يلتزموا السنن التزام(6/8)
الفرائض أن يترك فعلها ليتأسى به فيها ولئلا يخلط على الناس أمر دينهم فلا يفرقوا بين فرضه ونفله. وفى حديث عقبة من الفقه: أنه تجوز الضحايا بما تهدى إليك وبما لم تشتره بخلاف ما يعتقده عامة الناس.
3 - بَاب الأضْحِيَّةِ لِلْمُسَافِرِ وَالنِّسَاءِ
/ 4 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) دَخَلَ عَلَيْهَا وَحَاضَتْ بِسَرِفَ قَبْلَ أَنْ تَدْخُلَ مَكَّةَ وَهِىَ تَبْكِى، فَقَالَ: (مَا لَكِ، أَنَفِسْتِ) ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: (إِنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَاقْضِى مَا يَقْضِى الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لا تَطُوفِى بِالْبَيْتِ) ، فَلَمَّا كُنَّا بِمِنًى أُتِيتُ بِلَحْمِ بَقَرٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ أَزْوَاجِهِ بِالْبَقَرِ. اختلف العلماء فى المسافر هل تجب عليه أضحية؟ فقال الشافعى: الضحية سنة على جميع الناس، وعلى الحاج بمنى. وبه قال أبو ثور. وقال مالك: الأضحية على المسافر، ولا يؤمر بتركها إلا الحاج بمنى. وذكر ابن المواز عن مالك: أن من لم يحج من أهل مكة ومنى فليضح. ومذهب ابن عمر أن الضحية تلزم المسافر وهو قول الأوزاعى والليث. وقال أبو حنيفة: لا تجب الضحية على المسافر.(6/9)
وروى عن النخعى أنه قال: رخص للحاج والمسافر فى أن لا يضحى. وحجة الشافعى ظاهر هذا الحديث وهو قوله: (ضحى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن أزواجه) وكانوا فى الحج وفى حال سفر. قال الأبهرى: والحجة لمالك فى وجوبها على المسافرين: أن المسلمين كلهم مندوبون إليها وإلى غيرها من السنن فعليهم فعلها، ولا فرق فى ذلك بين حضرى ولا بدوى؛ كما لا فرق بنيهم فى الفرائض، وحجته أنها لا تلزم الحاج بمنى أن منى إنما تذبح فيها الهدايا لا الضحايا، وهى مخصوصة بالهدايا، والهدى هو ما سيق من الحل إلى الحرام، وليس كذلك الأضحية. وذكر ابن وهب، عن أفلح بن حميد، عن القاسم بن محمد قال: كنا نحج مع عائشة فلم يكن يضحى منا أحد. وعن عمر بن الخطاب أنه كان يحج ولا يضحى. وعن ابن عمر مثله. قال: وأخبرنى رجل من أهل العلم أن عبد الله بن عباس وسالم بن عبد الله وجماعة كانون يحجون ولا يضحون. وعن النخعى أن أبا بكر وعمر كانا يحجان ولا يضحيان. وحجة أبى حنيفة فى سقوطها عن المسافرين أنه لما سقطت الجمعة والعيدان عنهم سقطت الضحية، ورواه عن على بن أبى طالب أنه قال: لا جمعة ولا تشريق إلا فى مصر جامع. وأما النساء فإن من أوجب الضحايا أوجبها عليهن، ومن لم يوجبها استحبها لهن كالرجال، والله أعلم.(6/10)
4 - بَاب مَا يُشْتَهَى مِنَ اللَّحْمِ يَوْمَ النَّحْرِ
/ 5 - فيه: أَنَسِ، قَالَ النَّبِىُّ، عليه السلام، يَوْمَ النَّحْرِ: (مَنْ كَانَ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاةِ فَلْيُعِدْ) ، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا يَوْمٌ يُشْتَهَى فِيهِ اللَّحْمُ، فَذَكَرَ من جِيرَانَهُ، وَعِنْدِى جَذَعَةٌ خَيْرٌ مِنْ شَاتَىْ لَحْمٍ، فَرَخَّصَ لَهُ فِى ذَلِكَ، فَلا أَدْرِى بَلَغَتِ الرُّخْصَةُ مَنْ سِوَاهُ أَمْ لا؟ ثُمَّ انْكَفَأَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى كَبْشَيْنِ، فَذَبَحَهُمَا، وَقَامَ النَّاسُ إِلَى غُنَيْمَةٍ فَتَوَزَّعُوهَا، أَوْ قَالَ: فَتَجَزَّعُوهَا. قال المهلب: من استعجل شيئا قبل وقته فعقوبته أن يمنع ذلك الشىء، وهذا أبو بردة استعجل الذبح قبل وقته؛ فحرم أن تجزئ عنه مرة أخرى، ولولا أنه ذكر من جيرانه جوعة ومشقة أراد إطعامهم وسد جوعتهم وخلتهم لما عذره النبى - عليه السلام - وجوز له الضحية بجذعة من المعز ويدل على ذلك قوله عليه السلام فى غير هذه الرواية: (ولن تجزئ أحدا بعدك) فلم يكن فى الحديث شىء يمكن أن يتناول منه معنى اختصاص النبى - عليه السلام - إياه بإجازة الجذعة إلا ما ذكر من حاجة جيرانه وجوعهم. قال المؤلف: وفيه أن من اشتهى اللحم يوم النحر أنه لا حرج عليه، ولا يتوجه إليه ما قال عمر بن الخطاب حين لقى جابر بن عبد الله ومعه حمال لحم بدرهم، فقال له: ما هذا؟ فقال: يا أمير المؤمنين، قرمنا إلى اللحم. فقال له: أين تذهب هذه الآية(6/11)
) أذهبتم طيباتكم فى حياتكم الدنيا واستمتعتم بها (لأن يوم النحر مخصوص بأكل اللحم والالتذاذ بالحلال لقوله تعالى: (ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام (وأما فى غير وقت النحر فأكل اللحم مباح، إلا أن السلف كانوا لا يواظبون على أكله دائمًا، وستأتى سيرتهم فى أكلهم وأخذهم من الدنيا فى كتاب الأطعمة، وكتاب الرقائق - إن شاء الله. وفيه: ما كان عليه سلف هذه الأمة من مواساتهم لجيرانهم مما رزقهم الله، وترك الاستئثار عليهم، ألا ترى حرص أبى بردة تعجيل الذبح من أجل خلة جيرانه، ولم يتعرف إن كان ذلك يجزئ أم لا. قوله: (فتجزعوها) هو مثل توزعوها وتقسموها، قال صاحب العين الجزع: القطع. وقول أنس: (لا أدرى أبلغت الرخصة من سواه أم لا) فقد بين أن الرخصة لم تكن لأحد غيره؛ قوله عليه السلام فى حديث البراء: (ولن تجزئ أحدًا بعدك) .
5 - بَاب مَنْ قَالَ إن الأضْحَى يَوْمُ النَّحْرِ
/ 6 - فيه: أَبُو بَكْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، قَالَ: (الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِى بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ، أَىُّ شَهْرٍ هَذَا) ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ،(6/12)
فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: (أَلَيْسَ ذَا الْحِجَّةِ) ؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: (أَىُّ بَلَدٍ هَذَا) ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: (أَلَيْسَ الْبَلْدَةَ) ؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: (فَأَىُّ يَوْمٍ هَذَا) ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: (أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ) ؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: (فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ. . . . .) . اختلف العلماء فى أيام الأضحى، فقال مالك وأبو حنيفة وأصحابه والثورى وأحمد ابن حنبل: الأضحى يوم النحر ويومان بعده. روى ذلك عن عمر وعلى وابن عمر وابن عباس وأبى هريرة وأنس، ذكره ابن القصار، وذكره ابن وهب عن ابن مسعود. وقال عطاء والحسن البصرى والأوزاعى والشافعى وأبو ثور: الأضحى يوم النحر وثلاثة أيام بعده. وروى ذلك عن على وابن عباس قالا: أيام النحر الأيام المعلومات. وهو اختلاف من قولهما، وليس عن الصحابة غير هذين القولين، وبهما قال أئمة الفتوى، وللتابعين فيها شذوذ، قال ابن سيرين: الأضحى يوم واحد. يعنى يوم النحر، وبذلك ترجم البخارى. وقال سعيد بن جبير وجابر بن زيد: النحر فى الأمصار يوم واحد، وفى منى ثلاثة أيام. وروى عن الحسن البصرى: النحر إلى آخر يوم من ذى الحجة.(6/13)
وقال قتادة: يوم النحر وستة أيام بعده. وهذه الأقوال لا أصل لها فى السنة، ولا فى أقوال الصحابة، وليس استدلال من استدل من قوله عليه السلام: (أليس يوم النحر) أنه لا يكون نحر ولا ذبح فى غيره بشىء؛ لأن النحر فى أيام منى قد نقله الخلف عن السلف، وجرى عليه العمل فى جميع الأمصار، فلا حجة بقوله تعالى: (ويذكروا اسم الله فى أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام (قال فذكر الأيام دون الليالى. وقال أبو حنيفة والشافعى: لا بأس بالذبح ليلا فى أيام النحر؛ لأن الله - تعالى - إذا ذكر الأيام فالليالى تبع لها، وإذا ذكر الليالى فالأيام تبع لها، وبه قال أشهب وإسحاق وأبو ثور. وأجمعوا أنه لا يجوز أن يضحى قبل طلوع الفجر من يوم النحر، وقد تقدم فى كتاب صلاة العيدين اختلاف العلماء فى الأيام المعلومات والمعدودات، والحمد لله. وقال أبو عبيد: قوله عليه السلام: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض) يقال: إن بدء ذلك كان - والله أعلم - أن العرب كانت تحرم الشهور الأربعة، وكان هذا مما تمسكت به من ملة إبراهيم، فربما احتاجوا إلى تحليل المحرم للحرب تكون بينهم؛ فيكرهون أن يستحلوه ويكرهون تأخير حربهم،(6/14)
فيؤخرون تحريم المحرم إلى صفر، فيحرمونه ويستحلون المحرم، وهذا هو النسىء الذى قال الله تعالى: (إنما النسىء زيادة فى الكفر (الآية، وكان ذلك فى كتابه. والنسىء هو التأخير، ومنه قيل: بعت الشىء بنسيئة. فكانوا يحرمون صفر يريدون به المحرم، ويقولون: هو أحد الصفرين. قال أبو عبيد: وقد تأول بعض الناس فى قوله عليه السلام: (ولا صفر) على هذا، ثم يحتاجون أيضًا إلى تأخير صفر إلى الشهر الذى بعده كحاجتهم إلى تأخير المحرم، فيؤخرون تحريمه إلى ربيع، ثم يمكثون بذلك ما شاء الله، ثم يحتاجون إلى مثله، ثم كذلك، فكذلك يتدافع شهرًا بعد شهر حتى استدار التحريم على السنة كلها، فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه الذى وصفه الله به، وذلك بعد دهر طويل. وزعم بعض الناس أنهم كانوا يستحلون المحرم عاما، فإذا كان قابل ردوه إلى تحريمه، والتفسير الأول أحب إلى لقوله عليه السلام: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض) وليس فى التفسير الأخير استدارة، وعلى هذا الذى فسرناه يكون قوله تعالى: (يحلونه عامًا ويحرمونه عامًا (مصدقا له؛ لأنهم إذا حرموا فى العام المحرم وفى قابل صفر، ثم احتاجوا بعد ذلك إلى تحليل صفر أيضا أحلوه، وحرموا الذى بعده، فهذا تأويل قوله تعالى: (يحلونه عامًا ويحرمونه عامًا ((6/15)
قال أبو عبيد: وفى هذا تفسير آخر، يقال: إنه فى الحج، حدثناه سفيان بن عيينة، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد فى قوله تعالى: (ولا جدال فى الحج (قال: قد استقر الحج فى ذى الحجة لا جدال فيه. وفى غير حديث سفيان يروى عن معمر، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد قال: كانت العرب فى الجاهلية يحجون عامين فى ذى القعدة، وعامين فى ذى الحجة، فلما كانت السنة التى حج فيها أبو بكر قبل حجة النبى - عليه السلام - كان الحج فى السنة الثانية من ذى القعدة، فلما كانت السنة التى حج فيها النبى - عليه السلام - فى العام المقبل عاد الحج إلى ذى الحجة. وقال ثابت بن حزم: روى سفيان بن حسين قال: حدثنى أبو بشر، عن مجاهد قال: حج أبو بكر فى ذى الحجة. وذكر ثابت فى غريب الحديث حديث أبى بكرة وقال فيه: (أليس البلدة؟) بفتح اللام، قال: ومنى أيضًا يسمونها البلدة، وقد ذكر الله مكة فى كتابه فقال: (إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة (بإسكان اللام، فلا أعرف ما قال ثابت إلا أن تكون لغة للعرب أيضا بفتح اللام.
6 - بَاب الأضْحَى وَالْمَنْحَرِ بِالْمُصَلَّى
/ 7 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَنْحَرُ فِى الْمَنْحَرِ، يَعْنِى مَنْحَرَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام.(6/16)
/ 8 - وقال ابْن عُمَرَ: إن النَّبِىّ، عليه السَّلام، كَانَ يَنْحَرُ وَيَذْبَحُ بِالْمُصَلَّى. إنما هذا سنة الإمام خاصة أن يذبح أضحيته أو ينحر بالمصلى، وعلى ذلك جرى العمل فى أمصار المسلمين، وكان ابن عمر يذبح بالمصلى، ولم ير ذلك مالك لغير الإمام. وقال المهلب: وإنما يذبح الإمام بالمصلى ليراه الناس فيذبحون على يقين بعد ذبحه، ويشاهدون صفة ذبحه؛ لأنه مما يحتاج فيه إلى العيان، وليتأخر الذبح بعد الصلاة كما قال فى الخطبة: (أول ما نبدأ به أن نصلى ثم ننصرف فننحر) . قال مالك: إنما يذبح الإمام فى المصلى لئلا يذبح أحد قبله. من رواية ابن وهب.
7 - بَاب فِى أُضْحِيَّةِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، بِكَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ وَيُذْكَرُ سَمِينَيْنِ
وَقَالَ سَهْل بْن حنيف: كُنَّا نُسَمِّنُ الأضْحِيَّةَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُسَمِّنُونَ. / 9 - فيه: أَنَس، كَانَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، يُضَحِّى بِكَبْشَيْنِ، وَأَنَا أُضَحِّى بِكَبْشَيْنِ. / 10 - وَقَالَ أَنَس: انْكَفَأَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، إِلَى كَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ فَذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ. / 11 -(6/17)
وفيه: عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، أَعْطَاهُ غَنَمًا يَقْسِمُهَا عَلَى أَصَحَابِهِ ضَحَايَا، فَبَقِىَ عَتُودٌ، فَذَكَرَهُ لِلنَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَقَالَ: (ضَحِّ أَنْتَ بِهِ) . قال المؤلف: روى عن النبى - عليه السلام - أنه ضحى بكبشين، أحدهما عنه وعن أهل بيته، والثانى عن أمته، وروى عنه من طرق متواترة أنه ضحى بكبشين. وروى ابن وهب عن حيوة، عن أبى صخر، عن ابن نشيط، عن عروة، عن عائشة (أن النبى - عليه السلام - أمر بكبش أقرن يطأ فى سواد، وينظر فى سواد، ويبرك فى سواد، ثم ذبحه، وقال: بسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد، ومن أمته، ثم ضحى به) ، ذكره ابن المنذر. وذكر ابن وهب عن يحيى بن عبد الله بن سالم ويعقوب بن عبد الرحمن، عن عمرو مولى المطلب، عن المطلب بن عبد الله، عن جابر بن عبد الله: (أن النبى - عليه السلام - دعا بكبشه فذبحه، وقال: بسم الله والله أكبر، اللهم عنى وعن من لم يضح من أمتى) . وذكر الطحاوى حديث عائشة وحديث جابر وذكر مثله من حديث أبى سعيد الخدرى، وهذه الآثار مبينة لمعنى حديث أنس، ومفسرة له واختلافها يدل على أن الأمر فى ذلك واسع، فمن أراد أن يضحى عن نفسه باثنين وثلاثة، فهو أزيد فى أجره إذا أراد(6/18)
بذلك وجه الله وإطعام المساكين، وذهب مالك والليث والأوزاعى والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور إلى أنه يجوز للرجل أن يضحى بالشاة الواحدة عنه وعن أهل بيته، وروى مثله عن أبى هريرة وابن عمر، واحتج أحمد بن حنبل بذبح النبى عن أمته، قال ابن المنذر: وكره ذلك الثورى وأبو حنيفة وأصحابه. وقال الطحاوى: لا يجوز أن يضحى بشاة واحدة عن اثنين، وقالوا: إن ما روى عن النبى أنه ذبح عنه وعن أمته منسوخ أو مخصوص، ومما يدل على ذلك أنه لو كان الكبش يجزئ عن غير واحد، ولا وقت ولا عدد فى ذلك لكانت البدنة والبقرة أحرى أن تكونا كذلك، ولما رأينا النبى - عليه السلام - وقت فى البدن والبقر، فنحر فى الحديبية كل واحدة عن سبعة، دل أنه لا تجزئ فى البدنة والبقرة عن أكثر ممن ذبحت عنه يومئذ؛ وذلك سبعة، والشاة أحرى بذلك. قال ابن المنذر: والقول الأول أولى؛ للثابت عن النبى - عليه السلام. قال المؤلف: والنسخ لا يكون بالدعوى إلا بالنقل الثابت، واستعمال السنن أولى من إسقاط بعضها، ولا سلف للكوفيين فى قولهم بالنسخ فى ذلك، وقد تقدم حديث عقبة فى باب قسمة الإمام الأضاحى بين أصحابه. والعَتُود: الجذع من المعز، وهو ابن خمسة أشهر، ولا يجوز الجذع من المعز فى الضحايا، وإنما يجوز فيها الثنى، وهو بعد دخوله(6/19)
فى السنة الثانية، والحديث خاص لعقبة لا يجوز لغيره إلا لأبى بردة بن نيار، والذى رخص له النبى فى مثله، ولا يجوز لغيرهما. وقوله: (أملحين) يعنى أنهما بلون الملح، عن الطبرى. وقال صاحب العين: الملحة والملح: بياض يشوبه شىء من سواد، وكبش أملح وعنب ملاحى: ضرب منه فى حبه طول. وقال أبو عبيد عن الكسائى وأبى زيد: الأملح الذى فيه بياض وسواد، ويكون البياض أكثر. وقول سهل: (كنا نسمن الأضحية بالمدينة) فقد قال ابن عباس فى قوله تعالى: (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب (قال: فى الاستسمان والاستعظام والاستحسان.
8 - بَاب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) لأبِى بُرْدَةَ: (ضَحِّ بِالْجَذَعِ مِنَ الْمَعَزِ وَلَنْ تَجْزِىَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ
/ 12 - فيه: الْبَرَاء، قَالَ: ضَحَّى خَالٌ لِى يُقَالُ لَهُ: أَبُو بُرْدَةَ قَبْلَ الصَّلاةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (شَاتُكَ شَاةُ لَحْمٍ) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ عِنْدِى دَاجِنًا جَذَعَةً مِنَ الْمَعَزِ، قَالَ: (اذْبَحْهَا وَلَنْ تَصْلُحَ لِغَيْرِكَ. . . .) الحديث. / 13 - وقال مرة: عَنَاقُ لَبَنٍ، وعَنَاقٌ جَذَعَة، قَالَ: (اجْعَلْهَا مَكَانَهَا، وَلَنْ تَجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ) . العلماء مجمعون على القول بظاهر هذا الحديث، وقد تقدم(6/20)
الكلام فيه فى باب ما يشتهى من اللحم يوم النحر، والعناق من المعز ابن خمسة أشهر أو نحوها، وهو جذعة، ولا يجوز فى الضحايا بإجماع، وإنما يجوز من المعز الثنى فما فوقه، وهو ثنى إذا تم له سنة ودخل فى الثانية، وإنما يجوز الجذع من الضأن فقط، وهو ابن سبعة أشهر، قيل: إذا دخل فيها. وقيل إذا أكملها. وعلامته أن يرقد صوف ظهره بعد قيامه، وإذا كان كذلك قالت العرب: إنه قد أجذع. ولا يجوز من سائر الأزواج الثمانية من الأنعام إلا الثنى فما فوقه، فثنى البقر إذا كمل له سنتان ودخل فى الثالثة، وثنى الإبل إذا كمل له خمس سنين ودخل فى السادسة.
9 - بَاب مَنْ ذَبَحَ الأضَاحِىَّ بِيَدِهِ
/ 14 - فيه: أَنَس، ضَحَّى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ، فَرَأَيْتُهُ وَاضِعًا قَدَمَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا يُسَمِّى وَيُكَبِّرُ، فَذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ. ذبح الرجل أضحيته بيده هى السنة، والعلماء يستحبون ذلك، قال أبو إسحاق السبيعى: كان أصحاب محمد يذبحون ضحاياهم بأيديهم. قال مالك: وذلك من التواضع لله - تعالى وأن رسول الله كان يفعله، فإن أمر بذلك مسلمًا أجزأته وبئس ما صنع. وكذلك الهدى، وقد كان أبو موسى الأشعرى يأمر بناته أن يذبحن نسكهن بأيديهن، وروى الزهرى عن النبى - عليه السلام - أنه قال لعائشة أو لفاطمة: (اشهدى نسيكتك، فإنه يغفر لك عند أول قطرة من دمها) وترجم له باب وضع القدم على صفحة الذبيحة، ومعنى ذلك - والله أعلم -(6/21)
ليقوى على الإجهاز عليها، ويكون أسرع لموتها، لقوله عليه السلام: (إذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته) وليس ذلك من تعذيبها المنهى عنه، إذ لا يقدر على ذبحها إلا بتفاقها. وقال ابن القاسم: الصواب أن يضجعها على شقها الأيسر، وعلى ذلك مضى عمل المسلمين، فإن جهل فأضجعها على الشق الآخر لم يحرم عليه أكلها. وترجم له باب التكبير عند الذبح. قال المهلب: التكبير عند الذبح مما أمر الله به لقوله: (ولتكبروا الله على ما هداكم (وهذا على الندب والاستنان، ومعناه إحضار النية لله - تعالى - لا لشىء من المعبودات التى كانت الجاهلية تذبح لها، وكان الحسن البصرى يقول عند ذبح أضحيته: بسم الله والله أكبر، هذا منك ولك اللهم تقبل من فلان. وكره أبو حنيفة أن يذكر مع اسم الله غيره، أن يقول: اللهم تقبل من فلان عند الذبح، ولا بأس بذلك قبل التسمية وقبل الذبح. وقال ابن القاسم: ليقل الذابح: بسم الله والله أكبر، وليس بموضع صلاة على النبى، ولا يذكر هناك إلا الله وحده. وهو قول الليث، وكان ابن عمر يقول: بسم الله والله أكبر. قال ابن القاسم: وإن سمى الله أجزأه، وإن شاء قال: اللهم تقبل منى. وأنكر مالك قولهم: اللهم منك وإليك. وقال الشافعى: التسمية على الذبيحة بسم الله، فإن زاد(6/22)
بعد ذلك شيئًا من ذكر الله أو صلى على محمد لم أكرهه، وإن قال: اللهم تقبل منى، فلا بأس. وقال محمد بن الحسن: إن ذبح شاة فقال: الحمد لله، أو قال: سبحان الله والله أكبر، يريد بذلك التسمية، فلا بأس، وهذا كله تسمية، قال وإن قال: الحمد لله، يريد أن يحمده، ولا يريد به التسمية، فلا يجزئ شىء عن التسمية، ولا يؤكل وبه قال أبو ثور.
- بَاب مَنْ ذَبَحَ ضَحِيَّةَ غَيْرِهِ وَأَعَانَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ فِى بَدَنَتِهِ، وَأَمَرَ أَبُو مُوسَى بَنَاتِهِ أَنْ يُضَحِّينَ بِأَيْدِيهِنَّ
/ 15 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِسَرِفَ وَأَنَا أَبْكِى، فَقَالَ: (مَا لَكِ، أَنَفِسْتِ) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: (هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَاقْضِى مَا يَقْضِى الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لا تَطُوفِى بِالْبَيْتِ) ، وَضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ. قال المهلب: فى هذا الحديث حجة لرواية ابن عبد الحكم عن مالك أنه إن ذبح لرجل أضحيته بغير أمره من يقوم بخدمته من الولد أو بعض عياله، وذبحها على وجه الكفاية، أنها تجزئ عنه، كما ذبح الرسول عن أزواجه البقر. وقال الأبهرى: إذا ذبحها من يقوم بأمره كالأخ والوكيل فيجوز، لأنه ناب عنه وذبح عنه. واختلفوا إن أمر بذبحها غير مسلم، فكره ذلك على بن(6/23)
أبى طالب، وابن عباس، وجابر، ومن التابعين: ابن سيرين، والشعبى، والحسن، وربيعة، وقاله الليث. وقال مالك: أرى أن يبدلها بأخرى حتى يذبحها هو بنفسه صاغرًا، فإن ذلك من التواضع، وكان رسول الله يذبح بنفسه. وكره ذلك الثورى والكوفيون والشافعى وأشهب صاحب مالك، فإن وقع أجزأ ذلك عندهم، وأجاز ذلك عطاء. وجه هذه المقالة أن الله أباح لنا ذبائحهم، وإذا كان لنا أن نولى ذبائحنا من تحل لنا ذبيحته من المسلمين، كان جميع من حلت لنا ذبيحته من المسلمين، فى معناه فى أنه يقوم مقامه ولا فرق بين ذلك. قال ابن المنذر: ومن كرهه، فإنما هو على وجه الاستحباب لا على وجه التحريم. قال مالك: فإن ذبحها أجنبى مسلم بغير أمره، لم تجز عنه، وهو ضامن لها، وأجاز ذلك أبو حنيفة والشافعى. وحجة من أجازها أن من أصولهم أن الضحية تجب عندهم بالشراء قياسا على ما اتفقوا عليه من الهدى إذا بلغ محله فذبحه ذابح بغير أمره أنه يجزئ عنه، لأنه شىء خرج من ماله لله فكأن الذابح ذبحه للمساكين المستحقين له. وأما مالك فالهدى عنده مخالف للضحايا، فتجب الضحايا عنده بالذبح لا بالشراء، لأنه يجيز للمضحى أن يبدل أضحيته بأفضل منها وأسمن، فهى مفتقرة إلى نية، فلذلك لم يجز أن يذبحها أحد(6/24)
عنه بغير أمره، وقول مالك أولى بالحديث - والله أعلم - وليس لأحد عنده أن يبدل هديه.
- بَاب الذَّبْحِ بَعْدَ الصَّلاةِ
/ 16 - فيه: الْبَرَاء، سَمِعْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، يَخْطُبُ، فَقَالَ: (إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ مِنْ يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّىَ، ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، فَمَنْ فَعَلَ هَذَا، فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا وَمَنْ نَحَرَ، فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ يُقَدِّمُهُ لأهْلِهِ لَيْسَ مِنَ النُّسُكِ فِى شَىْءٍ) ، فَقَالَ أَبُو بُرْدَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أُصَلِّىَ وَعِنْدِى جَذَعَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُسِنَّةٍ؟ قَالَ: (اجْعَلْهَا مَكَانَهَا وَلَنْ تَجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ) . وترجم له: باب: من ذبح قبل الصلاة أعاد. / 17 - وزاد فيه: حديث جُنْدَبَ ابْنَ سُفْيَانَ الْبَجَلِىَّ، قَالَ: شَهِدْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، يَوْمَ النَّحْرِ، فَقَالَ: (مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّىَ فَلْيُعِدْ مَكَانَهَا أُخْرَى، وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ) . قال المؤلف: سنة الذبح بعد الصلاة، وأجمع العلماء أن من ذبح قبل الصلاة فعليه الإعادة، لأنه ذبح قبل وقته، واختلفوا فيمن ذبح بعد الصلاة وقبل ذبح الإمام، فذهب أبو حنيفة والثورى والليث إلى أنه يجوز ذلك، واحتجوا بحديث البراء أن النبى - عليه السلام - قال: (أول ما نبدأ به فى يومنا هذا أن نصلى، ثم نرجع فننجر) وبقوله فى حديث جندب ابن سفيان: (من ذبح قبل أن يصلى فليعد) قالوا: فإذا حل للإمام الذبح بتمام الصلاة، حل لغيرة، ولا معنى لانتظاره.(6/25)
وقال مالك والأوزاعى والشافعى: لا يجوز لأحد أن يذبح قبل الإمام، واحتجوا بحديث ابن جريج، عن أبى الزبير، عن جابر: (أن النبى - عليه السلام - صلى يوم النحر بالمدينة، فتقدم رجال فنحروا وظنوا أن النبى قد نحر، فأمرهم أن يعيدوا) . وقال الحسن فى قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدى الله ورسوله (قال: نزلت فى قوم نحروا قبل أن ينحر النبى - عليه السلام. ودفع الطحاوى حديث ابن جريج عن أبى الزبير، عن جابر، وقال: رواه حماد بن سلمة، عن أبى الزبير، عن جابر: (أن رجلا ذبح قبل أن يصلى النبى - عليه السلام - فنهى رسول الله أن يذبح أحد قبل الصلاة) قال: ففى هذا الحديث أن النهى من النبى - عليه السلام - إنما قصد به إلى النهى قبل الصلاة لا قبل ذبحه هو ولا يجوز أن ينهاهم عن الذبح قبل أن يصلى إلا وهو يريد بذلك إعلامهم إباحة الذبح لهم بعدما يصلى، وإلا لم يكن لذكر الصلاة معنى. قالوا: ويشهد لهذا قوله عليه السلام فى حديث البراء: (إن أول نسكنا فى يومنا هذا أن نبدأ بالصلاة، ثم نرجع فنحر) فأخبر أن النسك يوم النحر إنما هو الصلاة، ثم الذبح بعدها، فدل ذلك على أن ما يحل به الذبح هو الصلاة لا نحر الإمام الذى يكون بعدها، وأن حكم النحر قبل الصلاة خلاف حكمه بعدها، وأما من طريق النظر فإنا رأينا الإمام لو لم ينحر أصلا لم يكن ذلك بمسقط عن الناس النحر، ولا مانع لهم منه، ولو أن إماما تشاغل يوم النحر(6/26)
بقتال عدو أو غيره فلم ينحر؛ أن لغيره ممن أراد الضحية أن يضحى، فإن قال: ليس له أن يضحى. خرج من قول جميع الأئمة، وإن قال: لهم أن يضحوا بعد زوال الشمس لذهاب وقت الصلاة. فدل أن ما حل به النحر ما كان وقت صلاة العيد، إنما هو الصلاة لا نحر الإمام، ألا ترى أن الإمام لو نحر قبل أن يصلى لم يجزئه ذلك؟ وكذلك سائر الناس، فكان حكم الإمام والناس فى الذبح قبل الصلاة سواء فى أن لا يجزئهم، فالنظر على ذلك أن يكون الإمام وسائر الناس سواء فى الذبح بعد الصلاة، أنه يجزئهم كلهم. قال المهلب: إنما كره الذبح قبل الإمام - والله أعلم - لئلا يشتغل الناس عن الصلاة ويحرمها المساكين مع المشتغلين بالذبح، ألا ترى أن النبى قد أمر بإخراج العوائق وغيرهن ليشهدوا بركة دعوة المسلمين؟ واختلفوا فى وقت ذبح أهل البادية، فقال مالك: يذبح أهل البوادى إذا نحر أقرب أئمة القرى إليهم فإن أخطئوا وذبحوا قبله أجزأهم. وقال عطاء: يذبح أهل القرى بعد طلوع الشمس. وقال الشافعى: وقت الذبح وقت صلاة النبى من حيث حلت الصلاة، وقد خطبتين، وأما صلاة من بعده فليس فيها وقت. وبه قال أحمد.(6/27)
وقال أبو حنيفة وأصحابه: من ذبح من أهل السواد بعد طلوع الفجر أجزأه؛ لأنه ليس عليهم صلاة العيد. وهو قول الثورى وإسحاق.
- بَاب إِذَا بَعَثَ بِهَدْيِهِ لِيُذْبَحَ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ شَىْءٌ
/ 18 - فيه: مَسْرُوق، أَنَّهُ أَتَى عَائِشَةَ، فَقَالَ لَهَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ رَجُلا يَبْعَثُ بِالْهَدْىِ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَيَجْلِسُ فِى الْمِصْرِ، فَيُوصِى أَنْ تُقَلَّدَ بَدَنَتُهُ، فَلا يَزَالُ مِنْ ذَلِكِ الْيَوْمِ مُحْرِمًا حَتَّى يَحِلَّ النَّاسُ، قَالَ: فَسَمِعْتُ تَصْفِيقَهَا مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ، فَقَالَتْ: لَقَدْ كُنْتُ أَفْتِلُ قَلائِدَ هَدْىِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَيَبْعَثُ هَدْيَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مِمَّا حَلَّ لِلرِّجَالِ مِنْ امرأته حَتَّى يَرْجِعَ النَّاسُ. هذا الباب فيه رد على من قال: إن من بعث بهديه إلى الكعبة لزمه إذا قلده الإحرام، ويجتنب كل ما يجتنبه الحاج حتى ينحر هديه، روى هذا عن ابن عباس وابن عمر، وهو قول عطاء بن أبى رباح. وأئمة الفتوى على خلاف هذا القول، وقد تقدم بيان الحجة لهم فى ذلك فى كتاب الحج، وهذا الحديث يرد ما روى عن أم سلمة عن النبى أنه قال: (من رأى منكم هلال ذى الحجة وأراد أن يضحى، فلا يأخذ من شعره أو أظفاره حتى يضحى) . وأخذ بظاهر حديث أم سلمة سعيد بن المسيب، وأحمد، وإسحاق. وقال الليث: قد جاء هذا الحديث، وأكثر الناس على خلافه.(6/28)
قال الطحاوى: حديث عائشة أحسن مجيئًا من حديث أم سلمة، لأنه جاء مجيئًا متواترًا، وحديث أم سلمة قد طُعن فى إسناده، وقيل: إنه موقوف على أم سلمة، رواه ابن وهب وعثمان بن عمر، عن مالك، عن عمر بن مسلم، عن سعيد بن المسيب، عن أم سلمة، ولم يرفعه. وأما من طريق النظر فرأينا الإحرام يحظر أشياء مما كانت حلالا قبله، منها الجماع والقبلة وقص الأظفار وحلق الشعر والصيد. فكل هذه الأشياء تحرم بالإحرام وأحكامها مختلفة، وذلك أن الجماع يفسد الإحرام، ولا يفسده ما سوى ذلك، ثم رأينا من دخلت عليه أيام العشر لا يحرم عليه الجماع، وهو أغلظ ما يحرم به الإحرام، فكان أحرى أن لا يمنع ما دون ذلك.
- بَاب مَا يُؤْكَلُ مِنْ لُحم الأضَاحِىِّ وَمَا يُتَزَوَّدُ مِنْهَا
/ 19 - فيه: جَابِر، كُنَّا نَتَزَوَّدُ لُحُومَ الأضَاحِىِّ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، إِلَى الْمَدِينَةِ. وَقَالَ غَيْرَ مَرَّةٍ: لُحُومَ الْهَدْيِ. / 20 - وفيه: أَبُو سَعِيدٍ، أَنَّهُ كَانَ غَائِبًا، فَقَدِمَ فَقُدِّمَ إِلَيْهِ لَحْمٌ، فَقَالُوا: هَذَا مِنْ لَحْمِ ضَحَايَانَا، فَقَالَ: أَخِّرُوهُ لا أَذُوقُهُ، ثُمَّ قُمْتُ فَخَرَجْتُ حَتَّى آتِىَ أَخِى أَبَا قَتَادَةَ - وَكَانَ أَخَاهُ لأمِّهِ - فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ حَدَثَ بَعْدَكَ أَمْرٌ.(6/29)
/ 21 - وفيه: سَلَمَةَ، قال: قال الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ ضَحَّى مِنْكُمْ فَلا يُصْبِحَنَّ بَعْدَ ثَالِثَةٍ، وَبَقِىَ فِى بَيْتِهِ مِنْهُ شَىْءٌ) ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَفْعَلُ كَمَا فَعَلْنَا عَامَ الْمَاضِى؟ قَالَ: (كُلُوا وَأَطْعِمُوا وَادَّخِرُوا، فَإِنَّ ذَلِكَ الْعَامَ كَانَ بِالنَّاسِ جَهْدٌ، فَأَرَدْتُ أَنْ تُعِينُوا فِيهَا) . / 22 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتِ: الضَّحِيَّةُ كُنَّا نُمَلِّحُ مِنْهُ، فَنَقْدَمُ بِهِ إِلَى النَّبِىِّ، عليه السَّلام، بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ: (لا تَأْكُلُوا إِلا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَيْسَتْ بِعَزِيمَةٍ، وَلَكِنْ أَرَادَ أَنْ نُطْعِمَ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ) . / 23 - وفيه: أَبُو عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ، أَنَّهُ شَهِدَ الْعِيدَ يَوْمَ الأضْحَى مَعَ عَلِىِّ ابْنِ أَبِى طَالِبٍ، فَصَلَّى قَبْلَ الْخُطْبَةِ، ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ: (إِنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، نَهَاكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا لحم نُسُكِكُمْ فَوْقَ ثَلاثٍ) . / 24 - وفيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ عليه السَّلام: (كُلُوا مِنَ الأضَاحِىِّ ثَلاثًا) . وَكَانَ ابْن عُمَرَ يَأْكُلُ بِالزَّيْتِ حِينَ يَنْفِرُ مِنْ مِنًى مِنْ أَجْلِ لُحُومِ الْهَدْىِ. واختلف العلماء فى هذا الباب، فذهب قوم إلى أن يحرموا لحوم الأضاحى بعد ثلاث، واحتجوا بحديث أبى عبيد عن على بن أبى طالب: (أن النبى نهى أن يؤكل من لحم الأضاحى بعد ثلاث) وبحديث ابن عمر: (أنه عليه السلام أباح لهم الأكل منها ثلاثًا) وإليه ذهب ابن عمر. وخالفهم فى ذلك آخرون ولم يروا بأكلها وادخارها بأسًا، وعليه الجمهور، واحتجوا بحديث جابر وحديث أبى سعيد الخدرى وحديث سلمة وقالوا: أحاديث الإباحة ناسخة للنهى فى ذلك، هذا قول الطحاوى.(6/30)
وقال المهلب: والذى يصح عندى أنه ليس فيها ناسخ ولا منسوخ، وقد فسر ذلك فى الحديث بقوله: إنما كان ذلك من أجل الجهد، ومن أجل الدافة، فكان نظرًا منه عليه السلام لمعنى، فإذا زال المعنى سقط الحكم، وإذا ثبت المعنى ورأى ذلك الإمام عهد بمثل ما عهد به عليه السلام؛ توسعه على المحتاجين. وقول عائشة: (وليست بعزيمة ولكنه أراد أن يطعم منه) يبين أنه ليس بمنسوخ، ولا النهى عن ذلك بمعنى التحريم، وان للإمام والعالم أن يأمر بمثل هذا، ويحض عليه إذا نزل بالناس حاجة. وروى إسرائيل عن أبى إسحاق، عن عياش بن ربيعة قال: (أتيت عائشة فقلت: يا أم المؤمنين، أكان رسول الله يحرم لحوم الأضاحى فوق ثلاث؟ قالت: لا، ولكن لم يكن ضحى منهم إلا قليل، ففعل ذلك ليطعم من ضحى منهم من لم يضح، ولقد رأيتنا نخبئ الكراع ثم نأكلها بعد ثلاث) . رواه الطحاوى: عن فهد، عن أبى غسان، عن إسرائيل. قال الطحاوى: فإن قيل: قد روى عبد الوارث، عن على بن زيد قال: حدثنى النابغة ابن مخارق بن سليم، عن أبيه، عن على، عن النبى أنه قال: (إنى كنت قد نهيتكم عن لحوم الأضاحى أن تدخروها فوق ثلاث؛ فادخروها ما بدا لكم) وهذا يعارض ما روى عن على أنه خطب به الناس وعثمان محصور فى الدار فقال: (لا تأكلوا من لحوم أضاحيكم بعد ثلاثة أيام، فإن رسول الله كان يأمرنا بذلك) .(6/31)
فدل هذا على أن النبى - عليه السلام - كان قد نهى عن ذلك بعد ما أباحه حتى تتفق معانى ما روى عن على فى ذلك ولا تتضاد. قيل: قد جاء فى الحديث بيان هذا، وذلك أنه قد كان عليه السلام نهى عنها لشدة كان الناس فيها، ثم ارتفعت تلك الشدة فأباح لهم ذلك، ثم عاد مثل ذلك فى وقت ما خطب على بالناس، فأمرهم بما كان رسول الله أمرهم به فى مثل ذلك. والدليل على ذلك حديث سلمة بن الأكوع أنه قال عليه السلام: (كلوا وادخروا؛ فإن ذلك العام كان بالناس جهد، فأردت أن تعينوا فيها) ، وقال: (إنما كنت نهيتكم من أجل الدافة التى دفت) فدل هذا القول أن النهى من رسول الله للعارض المذكور، فلما ارتفع ذلك العارض أباح لهم رسول الله ما كان حظر عليهم، فكذلك ما فعل على فى زمن عثمان، وأمر به الناس بعد علمه بإباحة رسول الله ما قد نهاهم عنه إنما كان لضيق بدا فيه مثلما كان فى زمن رسول الله فى الوقت الذى نهاهم عن لحوم الأضاحى. وبإباحة أكل لحوم الأضاحى وتزودها قال مالك والكوفيون والشافعى وجمهور الأئمة. فإن قال قائل: فقوله عليه السلام: (كلوا وأطعموا) هل فيه دليل على وجوب الأكل من الضحية؟ وهل هو كقوله: (ويذكروا اسم الله فى أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها (.(6/32)
قال الطبرى: معناهما واحد، وهو أمر بمعنى الإطلاق والإذن للأكل، لا بمعنى الإيجاب، وذلك أنه لا خلاف بين سلف الأمة وخلفها أن المضحى غير حرج بتركه الأكل من أضحيته ولا آثم، فدل إجماعهم على ذلك أن الأمر بالأكل منها بمعنى الإذن والإطلاق. فإن قيل: اذكر لنا بعض من قال ذلك. قيل: سئل مجاهد وعطاء عن الذى لا يأكل من أضحيته، قالا: إن شاء لم يأكل منها، قال الله تعالى: (وإذا حللتم فاصطادوا (أرأيت إن لم يصطد؟ . وقال إبراهيم: كان المشركون لا يأكلون من ذبائحهم، فرخص للمسلمين، فمن شاء أكل ومن شاء لم يأكل. وقال سفيان: لا بأس ألا يأكل منها ويطعمها كلها. قال الطبرى: وهو قول جميع أئمة الأمصار. فإن قيل: فهل روى عن أحد من السلف أنه كان يطعم منها غنيًا أو من ليس بمسلم؟ قيل: نعم، قد روى هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة قالت: كان عمر يبعث إلينا من فضول الأضاحى بالرءوس والأكارع. وقال الحسن: لا بأس أن تطعم من أضحيتك جارك اليهودى والنصرانى والمجوسى. فإن قيل: فكم مقدار ما يستحب له أن يأكل منها، ومقدار ما يتصدق به؟(6/33)
قيل له: يستحب له أن يتصدق بثلثها، ويأكل ثلثها، وُيطعم الجيران ثلثها؛ لأن ذلك كان يفعله بعض السلف، وأما قدر ما ينبغى له أن لا يقصر فى أكله منها فبضعة؛ لأن النبى قد ورد عنه (أنه أمر أن يطبخ من كل بدنة من بدنه التى نحرها بضعة، فأكل منها وتحسى من مرقها) . وروى عن على (أنه ذبح أضحيته، فشوى كبدها وتصدق بسائرها، ثم أخذ رغيفًا وكبدًا بيده الأخرى فأكل) . وقال سفيان الثورى: إن أراد أن لا يتصدق من أضحيته بشىء، قال: لا ينبغى له، ولكن إن تصدق بلقمة أجزأه.(6/34)
بسم الله الرحمن الرحيم
- كتاب الأشربة
- بَاب قوله اللَّه تَعَالَى: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ (الآية [المائدة: 90]
/ 1 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ عليه السَّلام: (مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِى الدُّنْيَا، ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا حُرِمَهَا فِى الآخِرَةِ) . / 2 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) أُتِىَ لَيْلَةَ أُسْرِىَ بِهِ بِإِيلِيَاءَ بِقَدَحَيْنِ مِنْ خَمْرٍ وَلَبَنٍ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمَا، ثُمَّ أَخَذَ اللَّبَنَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى هَدَاكَ لِلْفِطْرَةِ، وَلَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ. / 3 - وفيه: أَنَس، قَالَ عليه السَّلام: (مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَظْهَرَ الْجَهْلُ، وَيَقِلَّ الْعِلْمُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا، وَتُشْرَبَ الْخَمْرُ، وَيَقِلَّ الرِّجَالُ، وَتكْثُرَ النِّسَاءُ حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً قَيِّمُهُنَّ رَجُلٌ وَاحِدٌ) . / 4 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَزْنِى الزَّانِى حِينَ يَزْنِى وَهُوَ مُؤْمِنٌ، [وَلا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ] ، وَلا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ. . . . .) الحديث. قال المهلب: تحريم الخمر فى الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى: (إنما الخمر والميسر والأنصاب (الآيتين، ويبين الله فيها علة تحريم الخمر بقوله: (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء فى الخمر والميسر (. قال ابن القصار وغيره: وهاتان الآيتان تتضمن دلائل كثيرة على(6/35)
تحريمها: فمنها: قوله تعالى: (رجس (يعنى نجسًا، ثم قال فى موضع آخر: (قل لا أجد فيما أوحى إلى محرمًا على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دمًا مسفوحًا أو لحم خنزير فإنه رجس (، فبان فى هذه الآية أن الرجس المأمور باجتنابه فى الآية الأخرى حرام بنص الله - تعالى - على ذلك. والثانى: قوله) من عمل الشيطان (. والثالث: قوله) فاجتنبوه لعلكم تفلحون (أى: كونوا جانبًا منه، وهذا أمر كقوله: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان () واجتنبوا الطاغوت (وضد الفلاح الفساد، ثم قال تعالى: (فهل أنتم منتهون (. وهذه اللفظة يقال: إنها أبلغ لفظ للعرب فى النكير والمنع، وقال تعالى: (قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغى (والمراد بالإثم الخمر، قال الشاعر: شربت الإثم حتى زال عقلى كذلك الإثم يذهب بالعقول وقال تعالى: (ويسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما (فلما جعل الغلبة للإثم علم أن ذلك محرم. قال المهلب: وهذه الأحاديث التى ذكرها البخارى فى هذا الباب تدل على التحريم؛ لشدة الوعيد فيها، وهى قوله: (من شرب(6/36)
الخمر ثم لم يتب منها حُرِمَها فى الآخرة) ومعنى هذا عند أهل السنة إن أنفذ الله عليه الوعيد. وقوله فى حديث أبى هريرة: (لو أخذت الخمر غوت أمتك) دليل على تحريم الخمر؛ لأن الغى محرم، وفى هذا دليل على أن الأقدار عند الله بشروط، متى وقعت الشروط وقعت الأقدار، ومتى لم تقع الشروط لم يوقع الله تلك الأقدار على ما سبق من هدايته لعبده إلى تلك الشروط أو لغيرها من الأفعال التى أراد أن ينفذها عليه من هدى أو ضلال. وقوله فى حديث أنس: (إن من أشراط الساعة أن يظهر الزنا، ويُشرب الخمر) فقرن بينهما فى الرتبة فكذلك هما فى التحريم وأما قوله: (لا يزنى وهو مؤمن ولا يشرب الخمر وهو مؤمن) فهذا من أشد ما جاء فى شارب الخمر، وقد تعلق بظاهر هذا الحديث الخوارج؛ فكفروا المؤمنين بالذنوب. والذى عليه أهل السنة وعلماء الأمة أن قوله: (مؤمن) يعنى مستكمل الإيمان؛ لأن شارب الخمر والزانى أنقص حالا ممن لم يأت شيئًا من ذلك لا محالة، لا أنه كافر بذلك، وسأستقصى مذاهب العلماء فى تأويل هذا الحديث فى أول كتاب الحدود - إن شاء الله - وإنما أدخل البخارى هذه الأحاديث فى هذا الباب - والله أعلم - بالوعيد والتشديد فى الخمر؛ ليكون عوضًا من حديث ابن عمر أن(6/37)
النبى - عليه السلام - قال: (كل مسكر حرام) ولم يخرجه فى كتابه؛ لأنه - يروى موقوفًا -؛ فلذلك تركه. قال الطبرى: وفى قوله تعالى: (إنما يريد الشيطان (الآية الدلالة على تحريم الله على عباد المؤمنين أن يعادى بعضهم بعضًا، والأمر منه لهم بالألفة والتواخى والتواصل، ودلت الآية على أن تحريم الخمر إنما كان من أجل إيجابه إثارة العداوة والبغضاء، ومعلوم أن الله - تعالى - إذا كان حرمه من أجل إيجابه العداوة والبغضاء بين عبادة، أن المعنى الذى حرم ذلك من أجله أوكد فى التحريم، وأبعد من التحليل، فالعداوة والبغضاء إذا بين المؤمنين أشد وأعظم عند الله، بدلالة هذه الآية، وكذلك التفريط فى الصلاة وتضييع وقتها أعظم عند الله من شرب الخمر والقمار. وفيه دليل أن عداوة المؤمن للمؤمن عدل تضييع وقت الصلاة والتفريط فيها وفى ذكر الله، لأن الله جمع بين جميع ذلك فى تحريمه السبب الذى يوجب لأجله ذلك، فحرم الله الخمر والميسر لمصلحة خلقه.
- بَاب الْخَمْرُ مِنَ الْعِنَبِ وغيره
/ 5 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، لَقَدْ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ، وَمَا بِالْمَدِينَةِ مِنْهَا شَىْءٌ. / 6 - وفيه: أَنَس قَالَ: حُرِّمَتْ عَلَيْنَا الْخَمْرُ حِينَ حُرِّمَتْ، وَمَا نَجِدُ خَمْرَ الأعْنَابِ إِلا قَلِيلا، وَعَامَّةُ خَمْرِنَا الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ.(6/38)
/ 7 - وفيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ: قَامَ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وَهِىَ مِنْ خَمْسَةٍ: الْعِنَبِ، وَالتَّمْرِ، وَالْعَسَلِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ. قال المؤلف: هذا الباب رد على الكوفيين فى قولهم: إن الخمر من العنب خاصة، وإن كل شراب يتخذ من غيره فغير محرم ما دون السكر منه. قال المهلب: وهذا التفسير من عمر مقنع، ليس لأحد أن يتسور فيقول: إن الخمر من العنب وحده، فهؤلاء أصحاب النبى وهم فصحاء العرب، والفقهاء عن الله ورسوله قد فسروا ما حرمه الله وقالوا: إن الخمر من خمسة أشياء، وقد أخبر عمر بذلك حكاية عما نزل من القرآن، وتفسيرًا للجملة، وقال: الخمر ما خامر العقل، وخطب بذلك على منبر النبى - عليه السلام - بحضرة الصحابة من المهاجرين والأنصار وغيرهم، ولم ينكره أحد منهم فصار كالإجماع، وهذا ابن عمر يقول: (حرمت الخمر وما بالمدينة منها شىء) يعنى خمر العنب. وقال أنس: (وما نجد خمر الأعناب إلا قليلا) وممن روى عنه من الصحابة أن الخمر يكون من غير العنب - وان كان لا مخالف فيهم -: عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب وأبو موسى الأشعرى، وابن عباس، وابن عمر، وأبو هريرة، وسعد، وعائشة. ومن التابعين: سعيد بن المسيب، وعروة، وعمر بن عبد العزيز، فى تابعى أهل المدينة.(6/39)
ومن أهل الكوفة ابن مسعود روى عنه فى نقيع التمر أنه خمر، وبه قال الشعبى، وابن أبى ليلى، والنخعى، والحسن البصرى، وعبد الله ابن إدريس الأدوى، وسعيد بن جبير، وطلحة بن مصرف، كلهم قالوا: المسكر خمر. وهو قول مالك، والأوزاعى، والثورى، وابن المبارك، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وعامة أهل الحديث. وروى صفوان بن محرز قال: سمعت أبا موسى على المنبر يقول: (ألا إن خمر أهل المدينة: البسر والتمر، وخمر أهل فارس: العنب، وخمر أهل اليمن: البتع، وهو العسل، وخمر الحبشة: الإسكركة، وهو الأرز) . قال إسماعيل بن إسحاق: فإذا تبين أن الخمر يكون من هذا كله، وجب أن يجرى كله مجرى واحدًا وألا نفرق بين المسكر من العنب، والمسكر من غيره، والمزر يصنع من الشعير، وهو الجعة أيضًا.
3 - بَاب نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِىَ مِنَ الْبُسْرِ وَالتَّمْرِ
/ 8 - فيه: أَنَسِ، قَالَ: كُنْتُ أَسْقِى أَبَا عُبَيْدَةَ وَأَبَا طَلْحَةَ وَأُبَىَّ بْنَ كَعْبٍ مِنْ فَضِيخِ زَهْوٍ وَتَمْرٍ، فَجَاءَهُمْ آتٍ، فَقَالَ: إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: قُمْ يَا أَنَسُ، فَأَهْرِقْهَا، فَأَهْرَقْتُهَا. / 9 - وَقَال سليمان والد الْمُعْتَمِر لأَنَس: مَا شَرَابُهُمْ؟ قَالَ: رُطَبٌ وَبُسْرٌ،(6/40)
قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَنَسٍ: وَكَانَتْ خَمْرَهُمْ، فَلَمْ يُنْكِرْ أَنَسٌ. وَحَدَّثَنِى بَعْضُ أَصْحَابِى أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسًا يَقُولُ: كَانَتْ خَمْرَهُمْ يَوْمَئِذٍ. / 10 - وفيه: أَنَس، أَنَّ الْخَمْرَ حُرِّمَتْ، وَالْخَمْرُ يَوْمَئِذٍ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ. وهذا الباب أيضًا كالذى قبله حجة على العراقيين أن الخمر من العنب وحده؛ لأن الصحابة القدوة فى علم اللسان، ولا يجوز عليهم أن يفهموا أن الخمر إنما هى من العنب خاصة، ويهريقوا جرار الفضيخ وهى غير خمر، وقد نهى عن إضاعة المال، وإنما أهراقوها لأنها الخمر المحرمة عندهم من غير شك، ولو شكوا فى ذلك لسألوا النبى - عليه السلام - عن عينها وما يقع عليه أسمها، وقد قال أنس: إنهم لم يعودوا فيها حتى لقوا الله. قال إسماعيل بن إسحاق: جاء فى الآثار من تفسير الخمر ما هى واللغة المشهورة والنظر ما يعرفه ذوو الألباب بعقولهم، أن كل شىء أسكر فهو خمر، أما كتاب الله فقوله: (ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرًا ورزقا حسنًا (فعلم أن السكر من العنب مثل السكر من النخيل، وقال تعالى: (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون (فنهى عن الصلاة فى حال السكر، واستوى فى ذلك السكر من ثمرات الأعناب والسكر من ثمرات النخيل، فكما كان السكر من ثمرات النخيل والأعناب منهى عن الصلاة فيه، فكذلك كانت الخمر من ثمرات النخيل والأعناب محرمة بهذه الآية، والله أعلم.(6/41)
4 - بَاب الْخَمْرُ مِنَ الْعَسَلِ وَهُوَ الْبِتْعُ
وَقَالَ مَعْنٌ: سَأَلْتُ مَالِكًا عَنِ الْفُقَّاعِ، فَقَالَ: إِذَا لَمْ يُسْكِرْ فَلا بَأْسَ بهِ. وَقَالَ ابْنُ الدَّرَاوَرْدِىِّ: سَأَلْنَا عَنْهُ، فَقَالُوا: لا يُسْكِرُ لا بَأْسَ بِهِ. / 11 - وفيه: عَائِشَةَ، أن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) سُئِلَ عَنِ الْبِتْعِ، وَهُوَ نَبِيذ الْعَسَل، وَكَانَ أَهْل الْيَمَنِ يَشْرَبُونَهُ فَقَالَ: (كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ) . / 12 - وفيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (لا تَنْتَبِذُوا فِى الدُّبَّاءِ، وَالْمُزَفَّتِ) . وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُلْحِقُ مَعَهُمَا الْحَنْتَمَ وَالنَّقِيرَ. هذا الباب حجة لقول مالك وأهل الحجاز أن المسكر كله من أى نوع كان من غير العنب فهو الخمر المحرمة فى القرآن والسنة. قال إسماعيل بن إسحاق: ألا ترى أنه عليه السلام سئل عن البتع فقال: (كل شراب أسكر فهو حرام) . فعلمنا أن المسألة إنما وقعت على ذلك الجنس من الشراب، ودخل فيه كل ما كان فى معناه مما يسمى شرابًا مسكرًا، من أى نوع كان، فإن قال أهل الكوفة: إن قوله عليه السلام: (كل شراب أسكر) يعنى به الجزء الذى يحدث بعقبه السكر فهو حرام. قال ابن القصار: فالجواب أن الشراب اسم جنس،(6/42)
فيقتضى أن يرجع التحريم إلى الجنس، وهذا كما تقول: هذا الطعام مشبع، وهذا الماء مرو، يريد به الجنس، وكل جزء منه يفعل ذلك الفعل، فاللقمة تشبع العصفور، وما هو أكبر منها يشبع ما هو أكبر من العصفور، وعلى هذا حتى يشبع الكبير، وكذلك جنس الماء يروى الحيوان على هذا الحد، فكذلك النبيذ. قال الطبرى: يقال لهم: أخبرونا عن الشربة التى كان يعقبها السكر، أهى التى أسكرت شاربها دون ما تقدمها من الشربات أو أسكرت باجتماعها مع ما تقدمها، وأخذت كل شربة بحظها من الإسكار؟ . فإن قالوا: إنما أحدثت له السكر الشربة الآخرة، التى وُجد خبل العقل بعقبها. قيل لهم: وهل هذه التى حدث له ذلك عند شربها إلا كبعض ما تقدم من الشربات قبلها، حتى أنها لو انفردت دون ما تقدم قبلها كانت غير مسكرة وحدها، وإنها إنما أسكرت باجتماعها واجتماع غيرها فحدث عن جميعها السكر والخبل؟ ومما يبين صحة ذلك لو أن رطلاً من ماء العنب ألقيت فيه قطرة من خل فلم يتغير طعمه إلى الحموضة، ثم تابعنا ذلك بقطرات كثيرة كل ذلك لا يتغير له طعم الماء، ثم ألقينا آخر ذلك قطرة(6/43)
منه فتغير طعمه وحمض أترونه حمض من القطرة الآخرة أم حمض منها ومن سائر القطرات قبلها؟ فإن قالوا: حمض من القطرة الآخرة قالوا: ما تعلم العقلاء خلافه، فكابروا العقول؛ لأن أمثالها قد ألقيت فيه ولم يحدث ذلك فيه، فكان معلومًا بذلك أن الحموضة حدثت عن جميع ما ألقى من الخل، وأنه لولا قوة عمل ما تقدم من قطرات الخل المتقدمة مع عمل القطرة الآخرة فيه لم يحدث ذلك فيه. فإن قالوا: حمض باجتماع قوة عمل جميع ما ألقى فيه من أجزاء الخل، ولكنه ظهرت الحموضة عند آخر جزء من الخل الذى ألقى فيه. قيل لهم: فهلا قلتم كذلك فى الشراب الذى أسكر كثيرة أنه إنما أسكر باجتماع قوة عمل جميع ما شرب منه، ولكن السكر والخبل إنما ظهر فيه عند اجتماع قوة عمل أول الشربة مع سائرها، كما قلتم فى الماء الذى ظهرت فيه حموضة الخل، فعلموا بذلك أن كل شراب أسكر كثيره مستحق بذلك قليله اسم مسكر، وكذلك الزعفران المغير للماء، والكافور المغير ريحه فى أن قليل ذلك مستحق من الاسم والصفة فيما عمل فيه من التغير مثل الذى هو مستحق كثيره. قال المهلب: إنما دخل الوهم على الكوفيين من حديث رووه عن ابن عباس: (حرمت الخمر بعينها والسكر من غيرها) هكذا رواه أبو نعيم عن مسعر، وإنما الحديث: (والمسكر من غيرها) وكذلك رواه شعبة وسفيان عن مسعر، عن أبى عون الثقفى، عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس ورواه ابن شبرمه عن ابن شداد (السكر) بغير ميم أيضًا على الوهم.(6/44)
قال الأصيلى: وشعبة وسفيان أضبط ممن أسقط الميم، على أن هذا الحديث لم يسمعه عبد الله بن شداد من ابن عباس، قاله أحمد بن حنبل، وقد بينه هشيم فقال: عن الثقة عن ابن عباس وقال مرة أخرى: عمن حدثه عن ابن عباس فهذا كله يدل على الوهم، وقال النسائى: لم يسمعه ابن شبرمة من ابن شداد، وسأزيد فى بيان هذه المسألة فى باب الباذق ومن نهى عن كل مسكر من الأشربة بعد هذا، إن شاء الله. فإن قيل: فإن حديث نافع عن ابن عمر، عن النبى - عليه السلام - أنه قال: (كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام) أوقفه مالك وغيره عن نافع، عن ابن عمر، فهم أقعد وأولى ممن أسنده عن نافع، قال الطبرى: وقد روى: (كل مسكر حرام) عن النبى جماعة، منهم أبو موسى الأشعرى، وأبو هريرة، وابن عباس، والنعمان بن بشير، وبريدة الأسلمى، ووائل بن حجر، وعبد الله بن مغفل، وعبد الله بن عمرو، وأبو سعيد الخدرى، ومعاوية، وأم سلمة، وعائشة، وابن مسعود، ذكر هؤلاء الطبرى فى تهذيب الآثار. وقال غيره: فإن احتج العراقيون فقالوا: الدليل على صحة قولنا فى التفريق بين عصير العنب وبين سائر الأنبذة أن الأمة كفرت مستحل عصير العنب، ولم تكفر مستحل نقيع التمر، فاعتلالهم بالتكفير ليس بشىء، لأن التكفير إنما يقع فيما يثبت بالإجماع، لا فيما ثبت من جهة أخبار الآحاد، ألا ترى أنه لا يكفر(6/45)
القائل بأن الصلاة تجوز بغير أم القرآن، ولا يكفر من أجاز النكاح بغير ولى، ولا من قال الوضوء جائز بغير نية، ومثله كثير لا يكفر القائل به، ويعتقد فيه التحليل والتحريم، ألا ترى أنه لا يكفر من قال لا يقطع سارق ربع دينار مع ثبوت ذلك عن الرسول من أخبار الآحاد، ولا يمتنع أحد من العلماء أن يحرم ما قام له الدليل على تحريمه من كتاب الله أو سنة رسوله، وإن كان غيره يخالفه فيه لدليل استدل به ووجه من العلم أداه إليه، وليس فى شىء من هذا خروج من الدين ولا يكفر بما فيه الخطأ والصواب. فإن قال قائل: فما معنى حديث أنس فى هذا الباب، وإنما فيه النهى عن الانتباذ؟ قال المهلب: هو موافق للتبويب، وذلك أن الخمر من العسل لا يكون إلا منتبذا فى الأوانى بالماء الأيام حتى يصير خمرًا، وأن الرسول إنما نهى عن الانتباذ فى الظروف المذكورة؛ لسرعة كون ما ينبذ فيها خمرًا من كل ما ينتبذ فيها.
5 - باب مَا جَاءَ فِى أَنَّ الْخَمْرَ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ مِنَ الشَّرَابِ
/ 13 - فيه: ابْن عُمَرَ، خَطَبَ عُمَرُ عَلَى مِنْبَرِ النَّبِىّ، عليه السَّلام، فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وإنه مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: مِنَ الْعِنَبِ، وَالتَّمْرِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالْعَسَلِ، وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ. . . . . . الحديث.(6/46)
قال المهلب: قوله: (نزل تحريم الخمر وهى من خمسة أشياء) ففسر ما أنزل، وهذا يجرى مجرى المسندات، وإذا لم يجد مخالفًا له فى الصحابة وجب أن يكون هذا التفسير لكتاب الله ولما حرم فيه مجمعًا عليه فى الصحابة فيرتفع الإشكال عمن تلبس عليه أمره، إن أراد الله هدايته، ومن الدليل القاطع لهم إجماعنا وإياهم على تحريم قليل الخمر من العنب، ولا يخلو تحريمها أن يكون لمعنى أو لغير معنى، فإن قيل: إنه لغير معنى، فمعاذ الله أن يأمر بشىء عبثًا، وإذا كان ذلك لمعنى، فلا معنى لقليل الخمر من العنب إلا وهو موجود فى قليل الخمر من غيرها، فإذا صحت العلة فيهما جميعًا وجب أن يكون حكمهما واحدًا، وإن كان إلى المعقول والإنصاف سبيل ووجه العلة التى حرم بها قليل الخمر من العنب وغيرها: أن كل نقطة من الخمر تأخذ بنصيب من إسكار العقل؛ لأن من شرب عشرة كئوس فلم يسكر، وشرب كأسًا واحدًا بعدها فسكر منه، لم يجز أن يقال: إن ذلك الكأس وحده أسكره؛ لأنه قد شرب قبله تسعًا فلم يسكر، فوجب بهذا النظر أن لكل كأس جزءًا من السكر. ومثال ذلك لو أن سفينة رُمى فيها عشرة أقفزة فلم تغرق، فرمى فيها قفيز زائد فغرقت، لم يكن غرقها بالقفيز ولا بثقله وحده، بل إنما كان غرقها بالجميع؛ لأن القفيز الواحد قد رمى فيها أولا فلم تغرق به، وليس بين العقول وبين هذا حجاب. قال ابن القصار: وإنما احتاط الله - تعالى - على عباده بأن يمتنعوا(6/47)
من قليل الخمر وإن لم يسكر؛ لأن ذلك داعى إلى كثيرها، ومثل هذا فى العبادات كثير. منه أن البيع يوم الجمعة وقت النداء منهى عنه خشية فوت الجمعة، فاحتيط عليهم بأن منعوا البيع فيه. ومنه سائق الهدى تطوعًا إذا عطب قبل محله أمر ألا يأكل منه، ولا يطعم أحدًا؛ خيفة أن يتطرق إلى نحره ويدعى عطبه. ومنه الخاطب فى العدة منع من التصريح؛ لما يدعو إليه التصريح من دواعى الشهوة. فكذلك كل ما وقع عليه اسم خمر فحكمه واحد فى التحريم، مع أن القدر الذى يحدث عنه السكر غير معلوم، فلا يجوز أن يتعلق به التحريم؛ لاختلاف طباع الناس، فربما أسكر القليل منه بعض الناس، ومنهم من لا يسكره إلا الكثير، فحسم الله المادة بتحريم قليله وكثيره خيفة مواقعة السكر. وقد ألزم الشافعى الكوفيين إلزامًا صحيحًا فقال: ما تقولون فيمن شرب القدر الذى لا يسكره؟ قالوا: مباح، قال لهم: فإن خرج فهبت عليه الريح فسكر مما شربه؟ قالوا: حرام، فقال: هل رأيتم شيئًا يدخل الجوف وهو حلال ثم يصير محرمًا؟ قال إسماعيل بن إسحاق: وقوله: (الخمر ما خامر العقل) فهو أن يصير على القلب من ذلك شىء يغطيه، ومن ذلك سمى الِخمَار؛ لأنه يغطى الرأس، ويقال للشجر الملتف الذى يغطى من تحته: الخمَر.(6/48)
قال ابن المنذر: واختلف العلماء فى حد السكر والذى يلزم صاحبه اسم السكر، فقال مالك: إذا تغير من طباعه التى هو عليها، وهو قول أبى ثور. وقال الثورى: لا يجلد إلا فى اختلاط العقل، وهو أن يُستقرأ، فإن أقام القراءة وسئل فتكلم بما يعرف لم يحد، وإن لم يقم ذلك حُد. وقال أبو حنيفة: هو ألا يعرف الرجل من المرأة. وقال مرة: ألا يعرف قليلاً ولا كثيرًا. وقال أبو يوسف: لا يكون هذا، ولا يُحد سكران إلا وهو يعرف شيئًا، فإذا كان الغالب عليه اختلاط العقل واستقرئ سورة فلم يقمها وجب عليه الحد. وقال الشافعى: أقل السكر أن يغلب على عقله فى بعض ما لم يكن عليه قبل الشرب. قال ابن المنذر: وهذا أولى بالصواب؛ لقوله تعالى: (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون (وقد كان الذين خوطبوا بهذه الآية قبل نزول تحريم الخمر يقربون الصلاة قاصدين لها فى حال سكرهم، عالمين بالصلاة التى لها يقصدون، وسموا سكارى؛ لأن فى الحديث أن أحدهم أمهم فخلط فى القراءة؛ فأنزل الله: (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون (فقصدهم إلى الصلاة دلالة أن اسم السكران قد يستحق من عرف شيئًا(6/49)
وذهب عليه غيره، ولو كان السكران لا يكون إلا من لا يعرف شيئًا ما اهتدى سكران لمنزله أبدًا، إذ معروف أن السكران يأتى منزله، ويقال: جاءنا وهو سكران.
6 - باب فِيمَنْ يَسْتَحِلُّ الْخَمْرَ وَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ
/ 13 م - وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ: حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُالرَّحْمَنِ ابْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ الْكِلابِىُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ الأشْعَرِىُّ، قَالَ: حَدَّثَنِى أَبُو عَامِرٍ - أَوْ أَبُو مَالِكٍ الأشْعَرِىُّ - وَاللَّهِ مَا كَذَبَنِى، سَمِعَ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، يَقُولُ: (لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِى أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ، وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ، وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ يَرُوحُ عَلَيْهِمْ بِسَارِحَةٍ لَهُمْ، يَأْتِيهِمْ لِحَاجَةٍ، فَيَقُولُونَ: ارْجِعْ إِلَيْنَا غَدًا، فَيُبَيِّتُهُمُ اللَّهُ، وَيَضَعُ الْعَلَمَ، وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) . قال المهلب: هذا الحديث لم يسنده البخارى من أجل شك المحدث فى الصاحب فقال: أبو عامر أو أبو مالك، أو لمعنى آخر لا أعلمه، وإنما أدخله البخارى على أنه جائز وقوعه من الله - تعالى - فى المسرفين على أنفسهم من أهل هذه الملة، وأنه مروى يجب أن يتوقع ما روى فيه من العقوبة، وليس فى هذا الحديث تسمية الخمر بغير اسمها، وقد جاء مبينًا من رواية ابن أبى شيبة فى هذا الحديث، قال ابن أبى شيبة: حدثنا زيد بن الخباب، عن معاوية بن صالح قال: حدثنا حاتم بن حريث، عن مالك ابن أبى مريم، عن(6/50)
عبد الرحمن بن غنم قال: حدثنى أبو مالك الأشعرى، أنه سمع رسول الله يقول: (يشرب ناس من أمتى الخمر يسمونها بغير اسمها، يضرب على رءوسهم بالمعازف والقينات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير) . وقال ابن وهب: حدثنى عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبى هلال، عن محمد بن عبد الله: (أن أبا مسلم الخولانى حج فدخل على عائشة زوج النبى - عليه السلام - فجعلت تسأله عن الشام، وعن بردها، فقال: يا أم المؤمنين، إنهم يشربون شرابًا لهم يقال له الطلاء. فقالت: صدق الله وبلغ حبيبى، سمعت رسول الله يقول: إن ناسًا من أمتى يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها) . وروى ابن أبى شيبة من حديث عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله: (ليستحلن آخر أمتى الخمر يسمونها بغير اسمها) . وأما الحر فهو الفرج، وليس كما تأوله من صحفه فقال: الخز، من أجل مقاربته للحرير فاستحل التصحيف بالمقارنة مع أنه ليس فى الخز تحريم، وقد جاء فى الحرير تحريم. ومعنى قوله: (يستحلون الحرير) أى: يستحلون النهى عنه، والنهى فى كتاب الله ومن الرسول متوعد عليه بقوله تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره (. وقوله: (ولينزلن أقوام) الحديث، إنما هو من الأخبار الدالة(6/51)
على الحدثان، فننظر فإن وقع ما أنذر به كان من علامات النبوة، وكان الحديث صحيحًا، وإن كان لم يقع فسيقع؛ لقوله فى حديث عبادة: (ليستحلن آخر أمتى الخمر) فدل هذا الحديث أن كل ما أنذر به عليه السلام من ذلك يكون فى آخر الإسلام. وقوله: (فيبيتهم الله) أى يهلكهم ليلاً، ومنه قوله تعالى: (أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتًا وهم نائمون (. وقوله: (يضع العلم) إن كان العلم بناءً فيهدمه، وإن كان جبلاً فيدكدكه، وهكذا إن كان غيره. (ويمسخ آخرين قردة) يعنى ممن لم يهلكهم فى البيات، والمسخ فى حكم الجواز فى هذه الأمة إن لم يأت خبر يرفع جوازه، وقد رويت أحاديث لينة الأسانيد: (أنه يكون فى أمتى خسف ومسخ) عن النبى - عليه السلام - ولم يأت ما يرفع ذلك، وقال بعض العلماء: معنى ما ورى عن النبى - عليه السلام -: (أنه سيكون فى هذه الأمة مسخ) فالمراد به مسخ القلوب حتى لا تعرف معروفًا ولا تنكر منكرًا، وقد جاء عن النبى - عليه السلام - أن القرآن يرفع من صدور الرجال، وان الخشوع والأمانة تنزع منهم، ولا مسخ أكبر من هذا، وقد يجوز أن يكون الحديث على ظاهره، فيمسخ الله من أراد تعجيل عقوبته كما قد(6/52)
خسف بقوم وأهلكهم بالخسف والزلازل، وقد رأينا هذا عيانا؛ فكذلك يكون المسخ، والله أعلم.
7 - باب الانْتِبَاذِ فِى الأوْعِيَةِ وَالتَّوْرِ
/ 14 - فيه: سَهْل قَالَ: أَتَى أَبُو أُسَيْدٍ السَّاعِدِىُّ، فَدَعَا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى عُرْسِهِ، فَكَانَتِ امْرَأَتُهُ خَادِمَهُمْ، وَهِىَ الْعَرُوسُ، قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ؟ أَنْقَعْتُ لَهُ تَمَرَاتٍ مِنَ اللَّيْلِ فِى تَوْرٍ. قال ابن المنذر: كان التور الذى ينتبذ فيه لرسول الله تورًا من حجارة. قال المهلب: فالإنقاع حلال إذا لم يلبث حتى تخشى شدته، والشدة مكروهة؛ للجهل بموقعها من السكر أو غيره والأشياء المشكوك فيها والمشتبهات قد نص الرسول على تركها، وإنما كان ينقع للنبى من الليل ويشربه يومًا آخر، وينقع له بالنهار ويشربه من ليلته. وفيه: أن الحجاب ليس بفرض على نساء المؤمنين، وإنما هو خاص لأزواج النبى، كذلك ذكره الله فى كتابه بقوله: (وإذا سألتموهن متاعًا فاسألوهن من وراء حجاب (.
8 - بَاب تَرْخِيصِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِى الأوْعِيَةِ وَالظُّرُوفِ بَعْدَ النَّهْيِ
/ 15 - فيه: جَابِر، نَهَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، عَنِ الظُّرُوفِ، فَقَالَتِ الأنْصَارُ: إِنَّهُ لا بُدَّ لَنَا مِنْهَا، قَالَ: (فَلا إِذًن) .(6/53)
/ 16 - وفيه: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، لَمَّا نَهَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَنِ الأسْقِيَةِ، قِيلَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : لَيْسَ كُلُّ النَّاسِ يَجِدُ سِقَاءً، فَرَخَّصَ لَهُمْ فِى الْجَرِّ غَيْرِ الْمُزَفَّتِ. وَقَالَ مرة: عَن الأوْعِيَةِ. 2096 م / 17 - وفيه على: (نهى النبى عن الدباء والمزفت) . / 18 - وفيه: الأسْوَد، سَأَلْتَ عَائِشَةَ عَمَّا يُكْرَهُ أَنْ يُنْتَبَذَ فِيهِ؟ فَقَالَتْ: نَهى النَّبِىّ، عليه السَّلام، أَنْ نَنْتَبِذَ فِى الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ، قُلْتُ: أَمَا ذَكَرَتِ الْجَرَّ وَالْحَنْتَمَ؟ قَالَتْ: إِنَّمَا أُحَدِّثُكَ مَا سَمِعْتُ، أَفَأُحَدِّثُ مَا لَمْ أَسْمَعْ. / 19 - وفيه: ابْن أَبِى أَوْفَى، نَهَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَنِ الْجَرِّ الأخْضَرِ، قُلْتُ: أَنَشْرَبُ فِى الأبْيَضِ؟ قَالَ: (لا) . اختلف العلماء فى هذا الباب على أقوال، فذهب مالك إلى جواز الانتباذ فى جميع الظروف غير الدباء والمزفت، فإنه كره الانتباذ فيهما، ولم ينسخ عنده، وأخذ فى ذلك بحديث على وحديث عائشة: (أن النبى - على السلام - نهى عن الدباء والمزفت) وروى مثله عن ابن عمر، وذهب الثورى والشافعى إلى كراهية الانتباذ فى الدباء والمزفت والحنتم والنقير، لنهى النبى - عليه السلام - عنها، ذكر ذلك البخارى فى باب الخمر من العسل وهو البتع من حديث الزهرى عن أنس، أن النبى قال: (لا تنتبذوا فى الدباء ولا فى المزفت) . وكان أبو هريرة يلحق معها الحنتم والنقير.(6/54)
وقد روي النهى عن الانتباذ فى هذه الأربعة من حديث ابن عباس فى حديث وفد عبد القيس، وقد ذكره البخارى فى كتاب الإيمان والعلم. ومعنى النهى عندهم عن الانتباذ فيها - والله أعلم - لسرعة استحالة ما ينتبذ فيها، فيصير خمرًا وهم لا يظنون ذلك، فيواقعون ما نهى الله عنه. وذكر الطبرى عن القائلين بتحريم الشراب المتخذ فى الأوعية المذكورة المنكرين أن تكون منسوخة عن عمر بن الخطاب أنه قال: (لا أشرب فى قمقم محمى فيحرق ما أحرق، ويبقى ما أبقى، أحب إلى من أن أشرب من نبيذ الجر) . وعن على بن أبى طالب النهى عنه، وعن ابن عمر، وابن عباس، وجابر، وأبى هريرة، وأنس مثله، وقال ابن عباس لأبى جمرة: (لا نشرب نبيذ الجر وإن كان أحلى من العسل) وكرهه ابن المسيب والحسن البصرى. وقال إسماعيل بن إسحاق: قال سليمان بن حرب: كل شىء ذكر عمن كان يشرب نبيذ الجر أو يكرهه فإنما هو الحلو، فأما المسكر فهو حرام فى كل وعاء. وقال أبو حنيفة وأصحابه: الانتباذ فى جميع الأوعية كلها مباح. وقالوا: أحاديث النهى عن الانتباذ منسوخة بحديث جابر وغيره. ألا ترى أن النبى أطلقهم على جميع الأوعية والظروف حين قال له(6/55)
الأنصار إنه لا بد لنا منها، فقال عليه السلام: (فلا إذن) ولم يستثن منها شيئًا، واحتجوا بما رواه إسماعيل بن إسحاق قال: حدثنا سعيد ابن أبى مريم قال: حدثنا نافع بن يزيد، قال: حدثنى أبو جمرة يعقوب بن مجاهد قال: حدثنى عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله عن أبيه أن النبى - عليه السلام - قال: (إنى كنت نهيتكم أن تنتبذوا فى الدباء والحنتم والمزفت فانتبذوا، ولا أُحل مسكرًا) ورواه ابن وهب عن أسامة بن زيد، عن محمد بن يحيى بن حيان، عن عمه واسع، عن أبى سعيد الخدرى، عن النبى - عليه السلام - مثله. قالوا: فثبت بهذه الآثار نسخ ما جاء فى النهى عن الانتباذ فى الأوعية، وثبتت إباحة الانتباذ فى الأوعية كلها. وذكر الطبرى عن ابن عمر: الأوعية لا تحل شيئًا ولا تحرمه. وعن ابن عباس قال: كل حلال فى كل ظرف حلال، وكل حرام فى كل ظرف حرام وهو قول النخعى والشعبى، قال الطبرى: وهذا القول أولى بالصواب، وقد تواترت الأخبار عن النبى بتحريم كل مسكر، وفى ذلك مقنع. وقال أبو جعفر الداودى: النهى عن الأوعية إنما كان قطعًا للذريعة، فلما قالوا للنبى - عليه السلام -: إنا لا نجد بدا من الانبتاذ فيها قال عليه السلام: (انتبذوا، وكل مسكر حرام) . وكذلك كل نهى كان بمعنى التطرق إلى غيره يسقط عند(6/56)
الضرورة، وذلك كنهيه عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح، ويجوز أن يصلى على الجنائز فى تلك الساعتين لما بالناس من الضرورة إلى دفن موتاهم، وليس ذلك كصلاة النافلة، إذ لا ضرورة إلى صلاتها حينئذ، وكنهيه عليه السلام عن الجلوس فى الطرقات، فلما ذكروا أنهم لا يجدون بُدًا من ذلك؛ قال: (إذا أبيتم فأعطوا الطريق حقه) . وذلك غض البصر، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، وعون الضعيف، وإرشاد الضال. وأما الجر الأبيض فهو مثل الأخضر؛ لأنه كله حنتم، وقال أبو عبيد: الحنتم: جرار خضر كانت تحمل إليهم.
9 - بَاب نَقِيعِ التَّمْرِ مَا لَمْ يُسْكِرْ
/ 20 - فيه: سَهْل، أَنَّ أَبَا أُسَيْدٍ، دَعَا النَّبِىَّ، عليه السَّلام، لِعُرْسِهِ، فَكَانَتِ امْرَأَتُهُ خَادِمَهُمْ يَوْمَئِذٍ، وَهِىَ الْعَرُوسُ، فَقَالَتْ: مَا تَدْرُونَ مَا أَنْقَعْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ؟ أَنْقَعْتُ لَهُ تَمَرَاتٍ مِنَ اللَّيْلِ فِى تَوْرٍ. أجمع العلماء أن نقيع التمر وغيره ما لم يسكر فهو حلال شربه، وقالت عائشة: (كنا ننبذ لرسول الله غدوة ويشربه عشية، وننبذه عشيا فيشربه غدوة) . وفى حديث ابن عباس: (أن النبى كان ينبذ له فيشربه من الغد ومن بعد الغد فإذا كان اليوم الثالث أهريق) . قال ابن المنذر: الشراب فى المدة التى ذكرتها عائشة يشرب حلوا، وفى حديث ابن عباس: (فإذا كان فى اليوم الثالث أهريق) يعنى إذا غلا، وغير جائز أن يظن أحد أنه كان مسكرًا؛ لأنه حرم المسكر.(6/57)
- بَاب الْبَاذَقِ وَمَنْ نَهَى عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ مِنَ الأشْرِبَةِ
وَرَأَى عُمَرُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَمُعَاذٌ شُرْبَ الطِّلاءِ عَلَى الثُّلُثِ، وَشَرِبَ الْبَرَاءُ وَأَبُو جُحَيْفَةَ عَلَى النِّصْفِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اشْرَبِ الْعَصِيرَ مَا دَامَ طَرِيًّا. وَقَالَ عُمَرُ: وَجَدْتُ مِنْ عُبَيْدِ اللَّهِ رِيحَ شَرَابٍ، وَأَنَا سَائِلٌ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ يُسْكِرُ جَلَدْتُهُ. / 21 - فيه: ابْن عَبَّاس، أنه سُئل عَنِ الْبَاذَقِ، فَفَالَ: سَبَقَ مُحَمد الْبَاذَق، فَمَا أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ، قَالَ: الشَّرَابُ الْحَلالُ الطَّيِّبُ، قَالَ: لَيْسَ بَعْدَ الْحَلالِ الطَّيِّبِ، إِلا الْحَرَامُ الْخَبِيثُ. / 22 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ. شراب الطلاء على الثلث هو ما صنعه عمر لأهل الشام، وهو أن يطبخ العصير حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه، وحده أن يتمدد ويشبه طلاء الإبل، وبذلك شبهه عمر بن الخطاب، فهذا الذى تؤمن غائلته، والطلاء هو طبيخ العنب الثخين. واختلف العلماء فى شربه، فقال كثير من الصحابة والتابعين: إذا ذهب ثلثاه وبقى ثلثه فجائز شربه، هذا قول عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وأبى عبيدة، ومعاذ، وأبى طلحة، وأبى الدرداء، وأبى أمامة الباهلى، ومن التابعين: الحسن البصرى، وعكرمة، وسعيد بن المسيب، وهو قول مالك والثورى، والليث،(6/58)
وأحمد بن حنبل، وكلهم أجاز شربه إذا ذهب ثلثاه؛ لأنه لا يسكر كثيره. وفيه قول ثان: وهو أن يذهب نصفه بالطبخ، روى أنه أجاز شربه البراء، وأبو جحيفة، وجرير، وأنس، ومن التابعين: ابن الحنفية، وعبيدة، وشريح، والحكم بن عتيبة، والنخعى، وسعيد بن جبير، وأجازه أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، واحتجوا أنه لا يشرب أحد من الصحابة والتابعين ما يسكر؛ لأنهم مجمعون أن قليل الخمر وكثيرها حرام، وأما الذى كرهه فإنه تورع عنه. قال المهلب: وقوله: (سبق محمد الباذق) يعنى سبق محمد بالتحريم للخمر قبل تسميتهم لها بالباذق، وهو من شراب العسل، وليس تسميتهم لها بغير اسمها بنافع لها إذا أسكرت، ورأى ابن عباس أن سائله أراد استحلال الشراب المحرم بهذا الاسم فحسم منه رجاءه، وباعد منه أمله، وأخبره أن ما أسكره فهو حرام. وقوله: (ليس بعد الحلال الطيب إلا الحرام الخبيث) معناه أن المشتبهات تقع فى حيز الحرام، وهى الخبائث، قال إسماعيل ابن إسحاق: فى قول ابن عباس هذا رد لما روى عنه أنه قال: (حُرمت الخمر بعينها، والسكر من كل شراب) والصحيح عنه: (المسكر) كما رواه شعبة وسفيان، وقد روى عن ابن عباس من وجوه ما يضعف رواية الكوفيين عن مسعر. قال إسماعيل: وحدثنا حجاج بن منهال، قال: حدثنا أبو عوانة، عن ليث، عن عطاء وطاوس ومجاهد، عن ابن عباس قال: (قليلُ ما أسَكَر كَثِيُره حرام) .(6/59)
وحدثنا سليمان بن حرب قال: حدثنا حماد بن زيد، أبو جمرة قال: سمعت ابن عباس يقول: (لا يُشرب نبيذ الحر وإن كان أحلى من العسل) . قال إسماعيل: فإذا كان هذا فتيا ابن عباس، فكيف يقبل عنه خلافه؟ . قال المهلب: وأما قول عائشة: (إن النبى كان يحب الحلواء والعسل) فهذا الحلال الذى لا شك فى طيبه، فالحلواء تطبخ حتى تنعقد والعسل يمزج بالماء فيشرب من ساعته فهذا لا شك فى طيبه وحله. وفى حديث عمر من الفقه: الجلد فى ريح الشراب الذى يسكر كثيره؛ ألا ترى قوله: وأنا سائل عنه، فإن كان يسكر حددته. ولم يخص بذلك المسكر من خمر العنب، بل أطلق ذلك على كل ما يسكر من جميع الأشربة، وروى عن ابن مسعود أنه ورد حمص، فشم من رجل رائحة خمر فحده، ولا مخالف له من الصحابة، وعن عمر بن عبد العزيز مثله. قال ابن المنذر: وبه قال مالك، قال: إذا شهد عدلان ممن شرب الخمر فى كفره ثم أسلم، أو شربها فى إسلامه فحد ثم تاب منها، وقالا: إنها ريح مسكر، جلد الحد. وقال عطاء: لا حد إلا بالبينة؛ لأن الريح تكون من الشراب الذى ليس فيه بأس. وهو قول أبى حنيفة والشافعى، وقالوا: لا يحد(6/60)
الذى يوجد منه رائحة الشرب إلا أن يقول: شربت مسكرًا، أو يُشهد عليه بذلك. قالوا: لأن الروائح تتفق، فرائحة التفاح الشامى والخمر تتفق، درأ الحد بالشبهة أولى. وحجة مالك أن رائحة الخمر وإن تشابهت فإنه إذا تأملها من يعرفها لم تختلط مع غيرها وإن تقاربت وقد تشتبه الألسن والروائح ثم لا بد من الفرق بينها كما نقول فى شهادة الأعمى على الصوت. وقال ابن المنذر: روى عن عطاء: لا يُحد فى شىء من الشراب حتى يسكر إلا الخمر وبه قال أبو حنيفة. وعن ابن أبى ليلى والنخعى: لا يجلد السكران من النبيذ حدًا. وقال أبو ثور: من كان المسكر عنده حرامًا فشرب منه ما يسكر، حددته، ومن كان متأولا مخطئًا فى تأويله، فشربه على خبر ضعيف قلده أو اتبع أقوامًا؛ لم يكن عليه حد، وذلك أنه لا يحد إلا من فسق، إنما الحد على من علمه، وأما من أتى الشىء يظنه حلالا؛ فلا حد عليه. قال ابن المنذر: وقد ثبت عن النبى أنه قال: (من شرب الخمر فاجلدوه) فالحد على شاربه واجب سكر أم لا، على ظاهر الحديث، وكل شراب أسكر كثيره فهو خمر، وقليله حرام؛ للأخبار الثابتة.(6/61)
- بَاب مَنْ رَأَى أَنْ لا يَخْلِطَ الْبُسْرَ وَالتَّمْرَ إِذَا كَانَ مُسْكِرًا وَأَلا يَجْعَلَ إِدَامَيْنِ فِى إِدَامٍ
/ 23 - فيه: أَنَس، إِنِّى لأسْقِى أَبَا طَلْحَةَ وَأَبَا دُجَانَةَ وَسُهَيْلَ بْنَ الْبَيْضَاءِ خَلِيطَ بُسْرٍ وَتَمْرٍ؛ إِذْ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ، فَقَذَفْتُهَا - وَأَنَا سَاقِيهِمْ وَأَصْغَرُهُمْ - وَإِنَّا نَعُدُّهَا يَوْمَئِذٍ الْخَمْرَ. / 24 - وفيه: جَابِر، نَهَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَنِ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ، وَالْبُسْرِ وَالرُّطَبِ. / 25 - وفيه: أَبُو قَتَادَة، نَهَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ التَّمْرِ وَالزَّهْوِ، وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، وَلْيُنْبَذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ. وترجم لحديث أنس بن مالك باب: خدمة الصغار الكبار. قال المهلب: قوله: (من رأى ألا يخلط البُسر والتمر إذا كان مسكرًا) خطأ من البخارى، وليس مما قصد البخارى أنهما مما يسكران فى الحال، وإنما أراد أنهما ما يئول حالهما إلى السكر، وليس النهى عن الخليطين من جهة الإسكار؛ لأن المسكر مأمور بهرقه قليله وكثيره، وقد سئل الشافعى عن رجل شرب خليطين مسكرًا فقال: هذا بمنزلة رجل أكل لحم خنزير ميت، فهو حرام من جهتين: الخنزير حرام والميتة حرام، والخليطان حرام والمسكر حارم. وإنما نهى عن الخليطين وإن لم يسكر واحد منهما - والله أعلم - من أجل خيفة إسراع السكر إليهما، وحدوث الشدة فيهما، وأنهما يصيران خمرًا وهم لا يظنون، وقد روى هذا عن الليث،(6/62)
وجمهور العلماء قائلون بهذه الأحاديث فى النهى عن الخليطين من جميع الأشربة، وأن ينبذ كل واحد على حدته، وممن روى عنه ذلك من الصحابة: أبو مسعود الأنصارى، وأنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، وأبو سعيد الخدرى. ومن التابعين: عطاء، وطاوس. وبه قال مالك، والليث، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وروى عن الليث بن سعد أنه قال: لا بأس أن يخلط نبيذ الزبيب ونبيذ التمر ثم يشربان جميعًا، وإنما جاء الحديث فى النهى أن ينبذا جميعًا؛ لأن أحدهما يشد صاحبه. وخالفه مالك والشافعى، فلم يريا أن يخلطا عند شرب ولا انتباذ، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا بأس بشرب الخليطين من الأشربة، قالا: وكل ما لو طبخ على الانفراد حل، كذلك هو إذا طبخ مع غيره، قالوا: روى مثل قولنا عن ابن عمر، والنخعى. قال الطحاوى: ومعنى النهى عن الخليطين: على وجه السرف؛ لضيق ما كانوا فيه من العيش، كما روى حنظلة بن سحيم قال: (أصابتنا سنة فرآنا ابن عمر ونحن نأكل التمر، فقال لنا: لا تقرنوا؛ فإن رسول الله نهى عن القران، قال ابن عمر: إلا أن يستأذن الرجل أخاه) . وهذا معنى النهى عن الخليطين عندهم؛ لأن كل واحد على حياله يجوز شربه، كما يجوز أكل كل تمرة على حيالها.(6/63)
قال غيره: والمعروف عن ابن عمر ما حكاه الطحاوى عنه؛ لأنه كان أشد الناس اتباعًا لآثار النبى - عليه السلام - فلم يكن ليخالفه، وقد روى عن ابن عمر أنه كان ينبذ التمر، فينظر إلى التمرة بعضها بُسرة وبعضها رطبة فيقعطها ولا ينبذها كلها؛ كراهية أن يواقع نهى النبى - عليه السلام - عن الخليطين. وأما قياسهم أن ما حل على الانفراد حل مع غيره، لا قياس لأحد، ولا رأى مع مخالفة السنة، ومن خالفها فمحجوج بها. قال ابن المنذر: يقال للكوفيين: إذا جاز نكاح المرأة ونكاح أختها منفردتين، فليس بالجمع بينهما بأس، فإن قال: حرم الله الجمع بين الأختين، قيل: وكذلك حرم النبى - عليه السلام - الجمع بين البُسر والتمر، والزبيب والتمر، وقال: (لينبذ كل واحد على حدة) وكذلك الجواب فى الجمع بين العمة وبين بنت أخيها. قال المهلب: ولا يصح عن النبى - عليه السلام - النهى عن خلط الأدم، وإنما روى ذلك عن عمر، وذلك من أجل السرف؛ لأنه كان يمكن أن يأتدم بأحدهما، ويرفع الآخر إلى مرة أخرى، وستأتى هذه المسألة فى كتاب الأطعمة - إن شاء الله.(6/64)
- بَاب شُرْبِ اللَّبَنِ، وَقَالَ تَعَالَى: (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا) [النحل: 11] الآية
/ 26 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أُتِىَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) لَيْلَةَ أُسْرِىَ بِهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ، وَقَدَحِ خَمْرٍ. / 27 - وفيه: أُمِّ الْفَضْلِ، شَكَّ النَّاسُ فِى صِيَامِ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ عَرَفَةَ، فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ بِقَدَحِ لَبَن فَشَرِبَ. / 28 - وفيه: جَابِر، جَاءَ أَبُو حُمَيْدٍ بِقَدَحٍ مِنْ لَبَنٍ مِنَ النَّقِيعِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَلا خَمَّرْتَهُ؟ وَلَوْ أَنْ تَعْرُضَ عَلَيْهِ عُودًا) . / / 29 - وفيه: الْبَرَاءَ، قَدِمَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ مَكَّةَ وَأَبُو بَكْرٍ مَعَهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَرَرْنَا بِرَاعٍ، وَقَدْ عَطِشَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَحَلَبْتُ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ فِى قَدَحٍ، فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ. الحديث. / 30 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (نِعْمَ الصَّدَقَةُ اللِّقْحَةُ الصَّفِىُّ مِنْحَةً، وَالشَّاةُ الصَّفِىُّ مِنْحَةً، تَغْدُو بِإِنَاءٍ وَتَرُوحُ بِآخَرَ) . / 31 - وفيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) شَرِبَ لَبَنًا فَمَضْمَضَ، وَقَالَ: (إِنَّ لَهُ دَسَمًا) .(6/65)
/ 32 - وفيه: أَنَس،، قال: قال رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (رُفِعْتُ إِلَى السِّدْرَةِ، فَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ نَهَرَانِ ظَاهِرَانِ، وَنَهَرَانِ بَاطِنَانِ، فَأَمَّا الظَّاهِرَانِ: النِّيلُ وَالْفُرَاتُ، وَأَمَّا الْبَاطِنَانِ: فَنَهَرَانِ فِى الْجَنَّةِ، فَأُتِيتُ بِثَلاثَةِ أَقْدَاحٍ، قَدَحٌ فِيهِ لَبَنٌ وَقَدَحٌ فِيهِ عَسَلٌ وَقَدَحٌ فِيهِ خَمْرٌ، فَأَخَذْتُ الَّذِى فِيهِ اللَّبَنُ، فَشَرِبْتُ، فَقِيلَ لِى: أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ أَنْتَ وَأُمَّتُكَ) . قال المهلب: شرب اللبن حلال بكتاب الله، وليس قول من قال إنه يسكر الكثير منه بشىء؛ لأن كل ما أباح الله أكله وشربه فوقع منها لشاربه أو آكله سكر فهو غير مأثوم؛ إلا أن يتعمد شربه لذهاب عقله دون منفعة يقصدها، فهو آثم لقصده إلى ذهاب عقله. قال المؤلف: وإنما يكون السكر منه بصناعة تدخله، وإن وجد أحد منه فهى آفة فى خلقته، وهذا فى الشاذ والنادر، فلذلك لم يحكم فيه بحكم عام، وفى الآية دليل أن الماء إذا خالطته نجاسة فتغير ثم قعدت عنه حتى صفا وحلا وطابت رائحته، أنه طاهر يجوز الوضوء به لقوله تعالى: (من بين فرث ودم لبنًا خالصا (فوصفه بالخلوص مما خالطه من الدم وحثالة الفرث، وهذا دليل لازم، وقد روى عن مالك فى حباب تقع فيها الدابة فتموت وتروث فيها البقر والغنم والدواب حتى(6/66)
تنتن ثم تسعى عليها الرياح حتى تصفو وتطيب؛ أنه يجوز التوضؤ بمائها. والنهران الباطنان فى الجنة إذا بدلت الأرض ظهرا - إن شاء الله - وأما أخذه اللبن وما قيل له: (هُديت الفطرة) فهو من باب الفأل الحسن لأن اللبن أول ما يفتح الرضيع إليه فمه، فلذلك سمى فطرة؛ لأنه فطر جوفه أى: شقه أول شىء، فالفطور: الشقوق. وأما قوله: (لو أخذت الخمر غوت أمتك) فيه دليل على أن الخمر كلها قليلها وكثيرها مقرون بها الغى، فيجب أن تكون حراما كلها، وإنما أتى بثلاثة أقداح وقيل له: خذ أيها أحببت، ليريه الله - تعالى - فضل تيسيره له، ولو أتى بقدح واحد لخفى موضع التيسير عليه. وقوله: (فحلبت كثبة) قال صاحب العين: كل ما جمعته من قليل فقد كثبته، وهى الكثبة، وسيأتى تفسير اللقحة الصفى والشاة الصفى فى كتاب المنحة والعارية - إن شاء الله.
- بَاب اسْتِعْذَابِ الْمَاءِ
/ 33 - فيه: أَنَس، كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِىٍّ بِالْمَدِينَةِ مَالا مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبُّ مَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران: 92] . . . . الحديث. شراب الماء العذب وطلبه مباح للصالحين والفضلاء، وليس(6/67)
شرب الماء الذعاق أفضل من شرب العذب؛ لأن النبى - عليه السلام - كان يشرب العذب ويوثره، وفيه القدوة والأسوة الحسنة، ومحال أن يترك الأفضل فى شىء من أفعاله، وفى هذا الحديث دليل على استعذاب الأطعمة وجميع المآكل جائز لأولى الفضل، وأن ذلك من أفعال الصالحين، ولو أراد الله ألا تؤكل لذيذ المطاعم لم يخلقها لعباده، ولا امتن بها عليهم، بل أراد تعالى منهم أكلها ومقابلتها من الشكر الجزيل عليها والحمد، بما مَنَّ به منها؛ بما ينبغى لكرم وجهه وعز سلطانه، وإن كانت نعمة لا يكافئ شكر أقلها إلا بتجاوزه عن تقصيرنا، وقد قال أهل التأويل فى قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم (أنها نزلت فيمن حرم على نفسه لذيذ المطاعم، وسيأتى بيان هذا فى أول كتاب الأطعمة.
- بَاب شَرْبِ اللَّبَنِ بِالْمَاءِ
/ 34 - فيه: أَنَس، أَنَّهُ رَأَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، يشَرِبَ لَبَنًا، وَأَتَى دَارَهُ فَحَلَبْتُ شَاةً فَشُبْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنَ اللَّبَنِ، فَتَنَاوَلَ الْقَدَحَ فَشَرِبَ، وَعَنْ يَسَارِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ أَعْرَابِىٌّ، فَأَعْطَى الأعْرَابِىَّ فَضْلَهُ، ثُمَّ قَالَ: (الأيْمَنَ، فَالأيْمَنَ) . / 35 - وفيه: جَابِر، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأنْصَارِ(6/68)
وَمَعَهُ صَاحِبٌ لَهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنْ كَانَ عِنْدَكَ مَاءٌ بَاتَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ فِى شَنَّةٍ، وَإِلا كَرَعْنَا) ، قَالَ: وَالرَّجُلُ يُحَوِّلُ الْمَاءَ فِى حَائِطِهِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عِنْدِى مَاءٌ بَائِتٌ، فَانْطَلِقْ إِلَى الْعَرِيش، قَالَ: فَانْطَلَقَ بِهِمَا، فَسَكَبَ فِى قَدَحٍ ثُمَّ حَلَبَ عَلَيْهِ مِنْ دَاجِنٍ لَهُ، قَالَ: فَشَرِبَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ شَرِبَ الرَّجُلُ الَّذِى جَاءَ مَعَهُ. وترجم لحديث جابر: باب: الكرع فى الحوض وفيه: (فقال: يا رسول الله، بأبى أنت وأمى، وهى ساعة حارة) . يشرب اللبن بالماء، وهو أصل فى نفسه، وليس من باب الخليطين فى شىء. قال المهلب: والحكمة فى شرب الماء البارد ما فعله النبى من الجرع لاستلذاذه ببرودته، وكان ذلك فى يوم حر، ألا ترى قوله فى باب الكرع: (وهى ساعة حارة) . ولذلك صب له اللبن على الماء ليقوى برده، لاجتماع برد اللبن مع برد الماء البائت، وفيه أنه لا بأس بطلب الماء البارد فى سموم الحر، وقصد الرجل الفاضل بنفسه فيه حيث يعرف مواضعه عن إخوانه، وقد روى أبو هريرة عن النبى - عليه السلام - (إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة أن يقال له: ألم أصح جسمك وأروك من الماء البارد؟) . وقوله: (وإلا كرعنا) يريد إن لم يكن عندك ماء بارد ولا عذب كان الأولى فى شربه الكرع؛ لئلا يعذب نفسه بكراهته فى كثره الجرعات.(6/69)
والكرع: شرب الرجل بفيه، يقال: كرع كرعًا وكروعًا، وكرع فى الإناء: إذا مال نحوه بعنقه فشرب منه. وخلط اللبن بالماء إنما يجوز عند الشرب لطلب اللذة أو الحاجة إلى ذلك، وأما عند البيع فلا يجوز، لأنه غش.
- بَاب شَرَابِ الْحَلْوَى وَالْعَسَلِ
وَقَالَ الزُّهْرِىُّ: لا يَحِلُّ شُرْبُ بَوْلِ النَّاسِ لِشِدَّةٍ تَنْزِلُ لأنَّهُ رِجْسٌ، قَالَ تَعَالَى: (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ) [المائدة: 4] . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِى السَّكَرِ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ. / 36 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) يُعْجِبُهُ الْحَلْوَاءُ وَالْعَسَلُ. الحلوى: كل شىء حلو. وفيه من الفقه: أن الأنبياء والصالحين الفضلاء يأكلون الحلاوات والطيبات ولا يتركونها تقشفًا، وقد نزع ابن عباس فى أكل الطعام الطيب بقوله تعالى: (قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق (ومدار الآية على أن الطيبات الحلال، فكل ما كان حلالا حلوًا كان أو حامضًا فهو طيب لمن استطابه. وأما أبوال الناس فهى مثل الميتة والخمر فى التحريم، ولم يختلفوا فى جواز أكل الميتة عند الضرورة، فكذلك البول، والفقهاء على خلاف قول ابن شهاب، وإما اختلفوا فى جواز شرب الخمر عند(6/70)
الضرورة، فقال مالك: لا يشربها؛ لأنها لا تزيده إلا عطشًا وجوعًا. وأجاز أبو حنيفة أن يشرب منها مقدار ما يمسك رمقه. واحتج من منع شربها بقول ابن مسعود: إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم. وقد روى هذا عن النبى - عليه السلام. واحتج الكوفيون بأن الضرورة أباحت أكل ما حرمه الشرع من الميتة والدم والبول وما لا ينقلب إلى حالة أخرى، فأن تبيح الخمر أولى؛ لأنها قد تنقل من حالها إلى حال التخليل. قال ابن القصار: وكان الشيخ أبو بكر الأبهرى يقول: إن دفعته إليها ضرورة يغلب على ظنه أنه يتخلص بشربها جاز؛ لأنه لو تغصص بلقمة فى حلقة فلم يجد ما يدفعها به، واضطر أن يزردها بالخمر جاز له ذلك، ولم يجز أن يمنعه من حالة الحال فتصير كالميتة عند الضرورة. والأمر كما قال - إن شاء الله.
- بَاب الشُّرْبِ قَائِمًا
/ 37 - فيه: عَلِىٌّ، أنه شَرِبَ قَائِمًا، فَقَالَ: إِنَّ نَاسًا يَكْرَهُ أَحَدُهُمْ أَنْ يَشْرَبَ وَهُوَ قَائِمٌ، وَإِنِّى رَأَيْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، فَعَلَ كَمَا رَأَيْتُمُونِى فَعَلْتُ. / 38 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: شَرِبَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، قَائِمًا مِنْ زَمْزَمَ.(6/71)
إنما رسم البخارى هذا الباب؛ لأنه قد رويت عن النبى آثار فيها كراهية الشرب قائمًا، فلم تصح عنده، وصحت عنده أحاديث الإباحة فى ذلك، وعمل بهذا الخلفاء بعد النبى، وقال بها أئمة الفتوى، وروى الطبرى عن عمر بن الخطاب أنه شرب قائمًا، وعن على بن أبى طالب وسعد وابن عمر وعائشة وأبى هريرة مثله، وعن إبراهيم وطاوس وسعيد بن جبير مثله أيضًا. وروى عن أنس كره الشرب قائمًا، وعن أبى هريرة مثله، وبه قال الحسن البصرى. والدليل على جواز ذلك أن الأكل مباح قائمًا وعلى كل حال، فكذلك الشرب، ذكر ابن أبى شيبة قال: حدثنا حفص بن غياث، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: (كنا نشرب ونحن قيام، ونأكل ونحن نمشى على عهد رسول الله) . قال الطبرى: وأحاديث النهى عن ذلك ليست على وجه التحريم، وإنما هى على وجه التأديب والإرشاد، يدل على ذلك أنه عليه السلام شرب قائمًا، ولم يرد عنه أن أحد الخبرين ناسخ للآخر، ولا يجوز أن يكون منه عليه السلام تحريم شىء بعد إطلاقه، أو إطلاق شىء بعد تحريمه، ثم لا يُعلم أمته أى ذلك الواجب عليهم العمل به، وقد روى فى سبب نهيه عن ذلك خبر فى إسناده نظر؛ روى بقية عن إسحاق بن مالك، عن محمد بن إبراهيم، عن الحارث بن فضيل، عن جعفر بن عبد الله، عن ابن عمر قال: قال النبى -(6/72)
عليه السلام -: (من أصابه الجن فى إحدى ثلاث لم يشف: وهو يشرب قائمًا، أو يمشى فى نعل واحدة، أو يشبك بين أصابعه) وهذا الخبر وإن كان مما لا يعتمد عليه لضعفه، فإن فى إجماع الحجة على أن نهى النبى عن الشرب قائمًا على غير وجه التحريم له دليل على أنه نهى عنه كراهية له سبب هو غير التحريم. وروى عن النخعى أنه قال: إنما أكره الشرب قائمًا مخافة أن يأخذ منه الداء. وقال مرة: يأخذ منه ذا البطن، وقال غيره: النهى عنه - والله أعلم - نهى اختيار، لأن الشرب جالسًا أهنأ وأمرأ.
- بَاب مَنْ شَرِبَ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ
/ 39 - فيه: أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ، أَنَّهَا أَرْسَلَتْ إِلَى النَّبِىِّ، عليه السَّلام، بِقَدَحِ لَبَنٍ وَهُوَ وَاقِفٌ، عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، فَأَخَذَه وَشَرِبَهُ. زَادَ مَالِكٌ، عَنْ أَبِى النَّضْرِ: عَلَى بَعِيرِهِ. وترجم له: باب الشرب فى الأقداح. إذا جاز الشرب قائمًا بالأرض، فالشرب على الدابة أحرى بالجواز؛ لأن الراكب أشبه بالجالس.
- بَاب الأيْمَنَ فَالأيْمَنَ فِى الشُّرْبِ
/ 40 - فيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، أُتِىَ بِلَبَنٍ قَدْ شِيبَ بِمَاءٍ، وَعَنْ(6/73)
يَمِينِهِ أَعْرَابِىٌّ، وَعَنْ شِمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، فَشَرِبَ، ثُمَّ أَعْطَى الأعْرَابِىَّ، وَقَالَ: (الأيْمَنَ فَالأيْمَنَ) . قال المهلب: التيامن فى الأكل والشرب وجميع الأشياء من السنن، وأصله ما أثنى الله به على أصحاب اليمين فى الآخرة، فكان رسول الله يحب التيامن استشعارً منه لما شرف الله به أهل اليمين، ولئلا تكون أفعاله كلها إلا مرادا بها ما عند الله، وليحتذى حكمة الله فى أفعاله فنبه أن سنة المناولة فى الطعام والشراب من على اليمين. قال غيره: وما روى عن مالك أنه قال ذلك فى الماء خاصة، فلا أعلم أحدا قاله غيره، وحديث عائشة (أن النبى - عليه السلام - كان يحب التيامن فى طهوره، وتنعله وترجله) يعم الماء وجميع الأشياء.
- بَاب هَلْ يَسْتَأْذِنُ الرَّجُلُ مَنْ عَلَى يَمِينِهِ فِى الشُّرْبِ لِيُعْطِىَ الأكْبَرَ
/ 4 - وفيه: سَهْل، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) أُتِىَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلامٌ، وَعَنْ يَسَارِهِ الأشْيَاخُ، فَقَالَ لِلْغُلامِ: (أَتَأْذَنُ لِى أَنْ أُعْطِىَ هَؤُلاءِ) ؟ فَقَالَ الْغُلامُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لا أُوثِرُ بِنَصِيبِى مِنْكَ أَحَدًا، قَالَ: فَتَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى يَدِهِ. الغلام المذكور فى هذا الحديث: هو ابن عباس، والأشياخ: خالد بن الوليد، وقد نقل هذا من طرق، ورواه الحميدى عن سفيان(6/74)
قال: حدثنا على بن زيد بن جدعان، عن عمر ابن حرملة، عن ابن عباس قال: (دخلت مع رسول الله على خالتى ميمونة ومعنا خالد بن الوليد، فقدمت إلينا ضبابًا مشوية، فلما رآها رسول الله تفل ثلاث مرات ولم يأكل منها، وأمرنا أن نأكل، ثم أتى رسول الله بإناء فيه لبن فشرب وأنا عن يمنيه، وخالد عن يساره، فقال لى رسول الله: الشربة لك يا غلام وإن شئت آثرت بها خالدًا. فقلت: ما كنت لأوثر بسؤر رسول الله أحدًا. ثم قال رسول الله: من أطعمه الله طعامًا فليقل: اللهم بارك لنا فيه وأبدلنا به ما هو خير منه، ومن سقاه لبنًا فليقل: اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه، فإنى لا أعلم شيئًا يجزئ من الطعام والشراب غيره) . وفيه من الفقه: أنه وجب له حق أنه لا يؤخذ منه إلا عن إذنه، فلذلك قال الغلام: (والله يا رسول الله، لا أوثر بنصيبى منك أحدًا) تبركًا بفضله صلى الله عليه. قال المهلب: واستئذانه صاحب اليمين من باب التأدب لفضل السن، فلو أذن الشاب الذى على اليمين لكان من المؤثرين على أنفسهم، وإذ لم يأذن وتشاح فى نصيبه من النبى فله ما شح عليه من شريف المكان وفى هذا(6/75)
دليل أنه من يسبق إلى مجالسة الإمام والعالم أنه لا يقام لمن هو أسن منه، لأن النبى - عليه السلام - لما لم يقم ذلك الأعرابى لأبى بكر ولا الغلام للشيخ، علم أن من سبق إلى المواضع عند العالم أو المسجد أو غيره مما حقوق الناس فيه متساوية أنه أحق به. قال غيره: وقوله: (كبر كبر) فى غير هذا الحديث، إنما ذلك إذا استوت حال القوم فى شىء واحد، فحينئذ يبتدأ بالأكبر، وأما إذا كان لبعضهم على بعض فضل فى شىء فصاحب الفضل أولى بالتقدمة، وسيأتى فى كتاب المياه فى باب: من رأى صدقة الماء وهبته ووصيته جائزة شىء من الكلام فى حديث سهل، إن شاء الله.
- بَاب تَغْطِيَةِ الإنَاءِ
/ 42 - فيه: جَابِر، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (إِذَا كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ - أَوْ أَمْسَيْتُمْ - فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ، فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ، فَإِذَا ذَهَبَ سَاعَةٌ مِنَ اللَّيْلِ فَحُلُّوهُمْ، فَأَغْلِقُوا الأبْوَابَ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لا يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا، وَأَوْكُوا قِرَبَكُمْ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، وَخَمِّرُوا آنِيَتَكُمْ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، وَلَوْ أَنْ تَعْرُضُوا عَلَيْهَا شَيْئًا، وَأَطْفِئُوا مَصَابِيحَكُمْ) . قال المهلب: خشى النبى - عليه السلام - على الصبيان عند انتشار الجن أن تلم بهم فتصرعهم، فإن الشيطان قد أعطاه الله قوة على هذا، وقد علمنا رسول الله أن التعرض للفتن مما لا ينبغى، فإن الاحتراس منها أحزم، على أن ذلك الاحتراس لا يرد قدرًا ولكن(6/76)
لتبلغ النفس عذرها، ولئلا يسبب له الشيطان إلى لوم نفسه فى التقصير. وأما قوله: (إن الشيطان لا يفتح غلقا) فهو إعلام من النبى أن الله لم يعطه قوة على هذا، وإن كان قد أعطاه ما هو أكثر منه، وهو الولوج حيث لا يلج الإنسان، وسيأتى هذا المعنى فى باب إغلاق الأبواب بالليل فى آخر كتاب الاستئذان - إن شاء الله. والوكاء والتخمير دلائل على أن الاستعاذة تردع الشيطان، وقيل: إنما أمر بتغطية الإناء لحديث القعقاع بن حكيم عن جابر أن الرسول قال: (غطوا الإناء وأوكوا السقاء؛ فإن فى السنة ليلة ينزل فيها وباء لا يمر بإناء ليس فيه غطاء إلا نزل فيه من ذلك الوباء) قال الليث بن سعد - وهو راوى الحديث -: والأعاجم يتقون ذلك فى كانون الأول. قال المهلب: وأما إطفاء السراج فقد بينه فى غير هذا الحديث، وقال: من أجل الفويسقة - وهى الفأرة - فإنها تضرم على الناس بيوتهم. وإنما سماها فويسقة لفسادها وأذاها، وسيأتى زيادة فى هذا المعنى فى كتاب الاستئذان فى باب قوله: لا تترك النار فى البيت عند النوم. وفيه: أن أوامر النبى قد تكون لمنافعنا لا لشىء من أمر الدين.(6/77)
- بَاب اخْتِنَاثِ الأسْقِيَةِ
/ 43 - فيه: أَبُو سَعِيد، نَهَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ اخْتِنَاثِ الأسْقِيَةِ - يَعْنِى أَنْ تُكْسَرَ أَفْوَاهُهَا - فَيُشْرَبَ مِنْهَا. قال المهلب: معنى هذا النهى - والله أعلم - على وجه الأدب لجواز أن تكون فى أفواهها حية أو بعض الهوام لا يراها الشارب فيدخل فى حلقه، وقد قيل: إن ذلك على سبيل التقذر؛ لأنه يدخلها فى فيه، وقد روى ذلك فى الحديث، روى ابن وهب عن أنس ابن عياض، عن هشام بن عروة، عن أبيه (أن النبى نهى أن يشرب من فم السقاء، وقال: إنه ينتنه) ، وقد أجاز مالك أن يشرب من أفواه الأسقية، وتقول العرب: خنث السقاء، وانخنث السقاء: إذا مال، ومنه قيل للمخنث مخنث لتكسره وميله إلى شبه النساء.
- بَاب الشُّرْبِ مِنْ فَمِ السِّقَاءِ
/ 44 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، نَهَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، عَنِ الشُّرْبِ مِنْ فَمِ السِّقَاءِ - أَو الْقِرْبَةِ. / 45 - وَعن ابْن عَبَّاس، مثله. قد تقدم فى الباب قبل هذا أن النهى عن الشرب من فم السقاء نهى أدب، لا نهى تحريم، روى عن أبى سعيد الخدرى: (أن رجلا شرب من فى السقاء فانساب جان فى بطنه؛ فنهى رسول الله عن اختناث الأسقية) ، وهذا يدل أن من فعل ذلك أنه ليس بحرام عليه شربه.(6/78)
- بَاب التَّنَفُّسِ فِى الإنَاءِ
/ 46 - فيه: أَبُو قَتَادَة، قال عليه السَّلام: (إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلا يَتَنَفَّسْ فِى الإنَاءِ، وَإِذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلا يَمْسَحْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ، وَإِذَا تَمَسَّحَ أَحَدُكُمْ فَلا يَتَمَسَّحْ بِيَمِينِهِ) . قال المهلب: التنفس إنما نهى عنه عليه السلام كما نهى عن النفخ فى الطعام والشراب - والله أعلم - من أجل أنه لا يؤمن أن يقع فيه شىء من ريقه، فيعافه الطاعم له ويستقذر أكله؛ إذ كان التقذر فى باب الطعام والشراب، والتنظف فيه الغالب على طباع أكثر الناس، فنهاه عن ذلك؛ لئلا يفسد الطعام والشراب على من يريد تناوله هذا إذا أكل أو شرب مع غيره، وإذا كان الإنسان يأكل أو يشرب وحده أو مع أهله أو مع من يعلم أنه لا يقذر شيئا مما يأكل منه، فلا بأس بالتنفس فى الإناء، كما فعل النبى مع عمر بن أبى سلمة أمره أن يأكل مما يليه، وكان هو عليه السلام، يتتبع الدباء فى الصحفة، علما منه أنه لا يقذر منه شىء عليه السلام، وكيف يظن ذلك وكان إذا تنخم تبادر أصحابه نخامته فدلكوا بها وجوههم، وكذلك فضل وضوئه، فهذا فرق بين فعل النبى وأمره غيره بالأكل مما يليه.
- بَاب الشُّرْبِ بِنَفَسَيْنِ أَوْ ثَلاثَةٍ
/ 47 - فيه: أَنَس، أَنَّهُ كَانَ يَتَنَفَّسُ فِى الإنَاءِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا، وَزَعَمَ أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَتَنَفَّسُ ثَلاثًا. قال المهلب: إن قال قائل: حديث أبى قتادة (أن النبى -(6/79)
عليه السلام - نهى عن التنفس فى الإناء) فى الباب قبل هذا يعارض حديث أنس هذا. قيل: لا تعارض بينهما بحمد الله، ويحتمل معنيين: أحدهما ذكره ابن المنذر قال: روى أبو هريرة عن النبى قال: (لا يتنفس أحدكم فى الإناء إذا شرب، ولكن إذا أراد أن يتنفس فليؤخره عن فيه، ثم يتنفس) فيحتمل أن يكون هذا الحديث مفسرًا لحديث أنس أنه عليه السلام كان يتنفس ثلاثًا يعنى أنه كان يزيل القدح عنه فيه كل مرة يتنفس؛ ليعلم أمته ذلك، حتى لا يختلف الحديثان. قال المؤلف: والمعنى الثانى: أن يكون نهيه عليه السلام عن التنفس فى الإناء فى حديث أبى قتادة إذا شرب مع من يكره تنفسه فيه ويتقذر الشرب منه، كما تقدم فى الباب قبل هذا وإذا شرب مع من لا يتقذر منه فالتنفس له مباح، ولذلك تنفس عليه السلام؛ لعلمه برغبة الناس فيما يتنفس فيه؛ ليدل أمته على إباحة ذلك ممن لا يتقذر بنفسه، ألا ترى أنه مج فى وجه محمود بن الربيع مجة فكانت له بذلك فضيلة، وهذا الوجه أولى بالصواب؛ لأن عامة الفقهاء لا يختلفون أنه لو تنفس فى الشراب لم يحرم بذلك. واختلفوا هل يجوز الشرب بنفس واحد، فروى عيسى عن ابن القاسم، أن مالكًا سئل عن قول الرجل للنبى (صلى الله عليه وسلم) : (إنى لا أروى من نفس واحد، فقال له عليه السلام: فأبن القدح عن فيك) فقال مالك: أرى ذلك رخصة أن يشرب من نفس واحد ما شاء.(6/80)
يريد مالك أن النبى لما لم ينه الرجل أن يشرب من نفس واحد، وقال له: (أبن القدح عن فيك) عُلم أن ذلك كالإباحة، وقد روى عن سعيد بن المسيب، وعطاء بن أبى رباح أنهما أجازا الشرب بنفس واحد. قال ميمون بن مهران: رآنى عمر بن عبد العزيز وأنا أشرب، فجعلت أقطع شرابى وأتنفس، فقال: إنما نُهى أن يتنفس فى الإناء، فأما إذا لم تتفس فى الإناء فاشربه إن شئت بنفس واحد. وروى عن ابن عباس وطاوس وعكرمة كراهية الشرب بنفس واحد، وقالوا: هو شرب الشيطان. وقول عمر بن عبد العزيز تفسير لهذا الباب وأصل له.
- بَاب الشُّرْبِ فِى آنِيَةِ الذَّهَبِ
/ 48 - فيه: حُذَيْفَةُ، أنَّهُ اسْتَسْقَى، فَأَتَاهُ دِهْقَانٌ بِقَدَحِ فِضَّةٍ، فَرَمَى بِهِ، فَقَالَ: إِنِّى لَمْ أَرْمِهِ إِلا أَنِّى نَهَيْتُهُ فَلَمْ يَنْتَهِ، وَإِنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) نَهَانَا عَنِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ، وَالشُّرْبِ فِى آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَقَالَ: (هُنَّ لَهُمْ فِى الدُّنْيَا، وَهُنَّ لَكُمْ فِى الآخِرَةِ) . العلماء متفقون أنه لا يجوز الأكل والشرب فى آنية الذهب والفضة؛ لأن ذلك من باب السرف، إذ جعل الله الذهب والفضة قوامًا للناس وأثمانًا لمعايشهم وقيمًا للأشياء، فكره استعمالها فى غير(6/81)
ذلك إلا ما أباحته السنة للرجال من السيف والخاتم والمصحف، والحلى للنساء. قال المهلب: وقوله عليها السلام: (هن لهم فى الدنيا وهن لكم فى الآخرة) وهو مثل قوله عليه السلام فى الحرير: (إنما يلبس هذه من لا خلاق له فى الآخرة) وهم الكفار؛ لأنه لما كان الحرير من لباسهم فى الدنيا، وآثروه على ما أعده الله فى الآخرة لأوليائه، وأحبوا العاجلة؛ ذمهم النبى بذلك، ونهى المسلمين أن يتشبهوا بالكفار المؤثرين الدنيا على الآخرة، ولئلا يدخلوا تحت قوله تعالى: (أذهبتم طيباتكم فى حياتكم الدنيا (الآية، وقال مالك بن دينار: قرأت فيما أنزل الله - تعالى -: (أن قل لأوليائى لا يطعموا مطاعم أعدائى، ولا يلبسوا ملابس أعدائى، فيكونوا أعدائى كما هم أعدائى) .
- بَاب آنِيَةِ الْفِضَّةِ
/ 49 - فيه: حُذَيْفَةَ، قَالَ عليه السَّلام: (لا تَشْرَبُوا فِى آنِيَةِ الْفِضَّةِ) . / 50 - وفيه: أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، قَالَ: (الَّذِى يَشْرَبُ فِى آنِيَةِ الْفِضَّةِ، إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِى بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ) . / 51 - وفيه: الْبَرَاء، أَمَرَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، بِسَبْعٍ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ، عَنِ الشُّرْبِ فِى آنِيَةِ الْفِضَّةِ. . . . . الحديث.(6/82)
قد تقدم فى الباب قبل هذا أنه لا يجوز الأكل والشرب فى آنية الفضة والذهب. واختلفوا فى الآنية المفضضة، فروى عن عائشة أنها نهت أن تضبب الآنية أو تحلقها بفضة. وكان ابن عمر لا يشرب فى آنية فيها حلقة أو ضبة فضة. وهو قول عطاء، وسالم، وعروة بن الزبير، وبه قال مالك والليث. ورخصت فى ذلك طائفة، روى ذلك عن عمران بن حصين وأنس بن مالك أنهما أجازا الشرب فى الإناء المفضض، وأجازه من التابعين: طاوس والحكم والنخعى والحسن البصرى. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا بأس أن يشرب الرجل بالقدح المفضض إذا لم يجعل فاه على الفضة كالشرب بيده وفيها الخاتم. وقال أحمد بن حنبل: لا بأس به إذا لم يجعل فاه على الفضة وهو مثل العلم فى الثوب، وبه قال إسحاق. وقال ابن المنذر: ثبت أن النبى - عليه السلام - نهى عن آنية الفضة، والمفضض ليس بإناء فضة وكذلك المضبب، فالذى يحرم فيه الشرب ما نهى عنه النبى ولا نُعصِّى من شرب فيما لم ينه عنه. وقال أبو عبيدة نحوه. وفعل ابن عمر إنما هو محمول على التورع لا على التحريم، كما(6/83)
روى عنه أنه كان ينضح الماء فى عينيه لغسل الجنابة، وليس ذلك بواجب عليه. وروى أبو نعيم قال: حدثنا شريك عن حميد قال: (رأيت عند أنس قدح النبى - عليه السلام - فيه فضة أو شد بفضة) . قال الطحاوى: لا يخلو ذلك أن يكون فى زمن النبى - عليه السلام - أو أحدثه أنس بعده، فأى ذلك كان، فقد ثبت عن أنس إباحته؛ لأنه كان يسقى الناس فيه تبركا برسول الله قال أبو عبيدة: الجرجرة: صوت وقوع الماء فى الجوف، وإنما يكون ذلك عند شدة الشرب، ومنه قيل للبعير إذا صاح: هو يجرجر. وقوله: (يجرجر فى بطنه نار جهنم) محمول عند أهل السنة على أن الله فى ذلك بالخيار لمن أراد أن ينفذ عليه الوعيد.
30 - بَاب الشُّرْبِ مِنْ قَدَحِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام وَآنِيَتِهِ
قَالَ أَبُو بُرْدَةَ: قَالَ لِى ابْن سَلام: أَلا أَسْقِيكَ فِى قَدَحٍ شَرِبَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فِيهِ. / 52 - فيه: سَهْل، ذُكِرَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) امْرَأَةٌ مِنَ الْعَرَبِ، فَأَمَرَ أَبَا أُسَيْدٍ السَّاعِدِىَّ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا، فَقَدِمَتْ، فَنَزَلَتْ فِى أُجُمِ بَنِى سَاعِدَةَ، فَخَرَجَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) حَتَّى جَاءَهَا، فَدَخَلَ عَلَيْهَا، فَإِذَا امْرَأَةٌ مُنَكِّسَةٌ رَأْسَهَا. . . . . الحديث(6/84)
إلى قوله: (اسْقِنَا يَا سَهْلُ) ، فَأَخذت هَذَا الْقَدَحِ، فَأَسْقَيْتُهُمْ فِيهِ، فَأَخْرَجَ لَنَا سَهْلٌ ذَلِكَ الْقَدَحَ فَشَرِبْنَا مِنْهُ، ثُمَّ اسْتَوْهَبَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ فَوَهَبَهُ لَهُ. / 53 - وفيه: عَاصِمٍ الأحْوَلِ، رَأَيْتُ قَدَحَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، عِنْدَ أَنَسِ، وَكَانَ قَدِ انْصَدَعَ فَسَلْسَلَهُ بِفِضَّةٍ، قَالَ وَهُوَ قَدَحٌ جَيِّدٌ عَرِيضٌ مِنْ نُضَارٍ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: إِنَّهُ كَانَ فِيهِ حَلْقَةٌ مِنْ حَدِيدٍ، فَأَرَادَ أَنَسٌ أَنْ يَجْعَلَ مَكَانَهَا حَلْقَةً مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو طَلْحَةَ: لا تُغَيِّرَنَّ شَيْئًا صَنَعَهُ النَّبِىّ، عليه السَّلام، فَتَرَكَهُ. الشرب من قدح النبى وآنيته من باب التبرك بالنبى وامتثال فعله، كما كان ابن عمر يصلى فى المواضع التى صلى فيها رسول الله، ويدور ناقته حيث أدارها، تبركا بالاقتداء به، وحرصًا على اقتفاء آثاره، ومن هذا الباب ما يفعله الناس إلى اليوم من الدخول فى الغار الذى اختفى فيه عليه السلام وأبو بكر الصديق على صعوبة الارتقاء إليه والدخول فيه، وهذا كله وإن كان ليس بواجب ولا لازم وإنما يحمل على فرط المحبة فى النبى - عليه السلام - والاغتباط بموافقته، وقد قال عليه السلام: (والله لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين) . وقوله: (قدح عريض من نضار) قال صاحب العين: قدح من(6/85)
نضار - ويتخذ من أثل، ورسى اللون - وذهب نضار، والنضار: الخالص. والأجم: جمع أجمة، وهى الغياض، قال ابن الفاسى: النضار: عود أصفر يشبه لون الذهب، وهو أعمق العود.
- بَاب شُرْبِ الْبَرَكَةِ وَالْمَاءِ الْمُبَارَكِ
/ 54 - فيه: جَابِر، رَأَيْتُنِى مَعَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، وَقَدْ حَضَرَتِ الْعَصْرُ، وَلَيْسَ مَعَنَا مَاءٌ غَيْرَ فَضْلَةٍ، فَجُعِلَ فِى إِنَاءٍ، فَأُتِىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِهِ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ، وَفَرَّجَ بَيْنَ أَصَابِعَهُ، ثُمَّ قَالَ: (حَىَّ عَلَى أَهْلِ الْوُضُوءِ، والْبَرَكَةُ مِنَ اللَّهِ) ، فَلَقَدْ رَأَيْتُ الْمَاءَ يَتَفَجَّرُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، فَتَوَضَّأَ النَّاسُ، وَشَرِبُوا، فَجَعَلْتُ لا آلُوا مَا جَعَلْتُ فِى بَطْنِى مِنْهُ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ بَرَكَةٌ. قُلْتُ لِجَابِرٍ: كَمْ كُنْتُمْ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: أَلْفًا وَأَرْبَعَ مِائَةٍ وقَالَ جَابِر: خَمْس عَشْرَة مِائَةٍ. قال المهلب: قال البخارى: (باب شرب البركة) لقول جابر فى الحديث: (فعلمت أنه بركة) وهذا جائز سائغ فى لسان العرب أن يسمى الشىء المبارك فيه: بركة، كما قال أيوب النبى - عليه السلام -: (لا غنى بى عن بركتك) فسمى الذهب بركة، ومثله قوله تعالى: (هذا خلق الله (يعنى مخلوقاته، والخلق اسم الفعل.(6/86)
وفيه من الفقه: أن الإسراف فى الطعام والشراب مكروه إلا الأشياء التى أرى الله فيها بركة غير معهودة وآية قائمة بينة، فلا بأس بالاستكثار منها، وليس فى ذلك سرف ولا كراهية، ألا ترى قول جابر: (فجعلت لا آلو ما جعلت فى بطنى منه) أى لا أقصر عن جهدى فى الاستكثار من شربه. وفيه: علم عظيم من أعلام النبوة، وقد تقدم بيان هذا المعنى وما فى نبع الماء من بين أصابع النبى من عظم الآية، وشرف الخصوصية فى باب التماس الوضوء إذا حانت الصلاة فى كتاب الوضوء، فأغنى عن إعادته. والحمد لله وحده وصلواته على خير خلقه محمد وآله وصحبه(6/87)
بسم الله الرحمن الرحيم
- كِتَاب الأيْمَانِ وَالنُّذُورِ
- باب قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: (لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ (الآية [المائدة: 89]
/ 1 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَكُنْ يَحْنَثُ فِى يَمِينٍ قَطُّ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ، وَقَالَ: لا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْتُ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، إِلا أَتَيْتُ الَّذِى هُوَ خَيْرٌ، وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِى. / 2 - وفيه: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ عليه السَّلام: (يَا عَبْدَالرَّحْمَنِ، لا تَسْأَلِ الإمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُوتِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُوتِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَأْتِ الَّذِى هُوَ خَيْرٌ) . / 3 - وفيه: أَبُو موسى، أَتَيْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، فِى رَهْطٍ مِنَ الأشْعَرِيِّينَ أَسْتَحْمِلُهُ، فَقَالَ: (وَاللَّهِ، لا أَحْمِلُكُمْ وَمَا عِنْدِى مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) ، قَالَ: ثُمَّ لَبِثْنَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ نَلْبَثَ، ثُمَّ أُتِىَ بِثَلاثِ ذَوْدٍ غُرِّ الذُّرَى، فَحَمَلَنَا عَلَيْهَا، فَلَمَّا انْطَلَقْنَا، قُلْنَا: - أَوْ قَالَ بَعْضُنَا - وَاللَّهِ، لا يُبَارَكُ لَنَا أَتَيْنَا النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) نَسْتَحْمِلُهُ، فَحَلَفَ أَنْ لا يَحْمِلَنَا، ثُمَّ حَمَلَنَا، فَارْجِعُوا بِنَا إِلَى النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَنُذَكِّرُهُ، فَأَتَيْنَاهُ، فَقَالَ: (مَا أَنَا حَمَلْتُكُمْ، بَلِ اللَّهُ حَمَلَكُمْ، وَإِنِّى وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ(6/88)
فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِى، وَأَتَيْتُ الَّذِى هُوَ خَيْرٌ، أَوْ أَتَيْتُ الَّذِى هُوَ خَيْرٌ، وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِى) . / 4 - وفيه: هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَاه أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (وَاللَّهِ لأنْ يَلِجَّ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِى أَهْلِهِ، آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يُعْطِىَ كَفَّارَتَهُ الَّتِى افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ) . / 5 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ عليه السَّلام: (مَنِ اسْتَلَجَّ فِى أَهْلِهِ بِيَمِينٍ، هُوَ أَعْظَمُ إِثْمًا، لِيَبَرَّ) ، يَعْنِى الْكَفَّارَةَ. (ليبر) ، يعنى الكفارة، للنسفى، وكذا عند ابن الفاسى. قال المؤلف: حض النبى - عليه السلام - أمته على الكفارة إذا كان إتيانها خيرًا من التمادى على اليمين، وأقسم عليه السلام أنه كذلك يفعل هو، ألا ترى أنه حلف ألا يحمل الأشعريين حين لم يكن عنده ما يحملهم عليه، فلما أتى بالإبل حملهم عليها، وأقسم أيضًا أن التمادى على اليمين والاستلجاج فيها أشد إثمًا من إعطاء الكفارة. والاستلجاج فى أهله وهو أن يحلف ألا ينيلها خيرًا، أو لا يجامعها، أو لا يأذن لها فى زيارة قرابة أو مسير إلى المسجد، فتماديه فى هذه اليمين وبره فيها آثم له عند الله من إثمه أن لا يكفر يمينه؛ لأن من فعل ذلك دخل فى قوله: تألى ألا يفعل خيرًا، وهذا منهى عنه، وقد جاء مصداق هذه الأحاديث فى كتاب الله - تعالى - قال(6/89)
تعالى: (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا (الآية. قال أهل التفسير: نزلت هذه الآية فى الرجل يحلف أن لا يبر ولا يصل قرابته ورحمه، ولا يصلح بين اثنين، فأمروا بالصلة والمعروف والإصلاح بين الناس. والعرضة فى كلام العرب: القوة والشدة، يقال: هذا الأمر عرضة لك أى: قوة وشدة على أسبابك، فمعناه على هذا: لا تجعلوا يمينكم قوة لكم فى ترك فعل الخير. وأما قوله فى حديث أبى هريرة: (ليست تغنى الكفارة) . هكذا رواه جماعة، وروى أبو الحسن بن القابسى (ليبر، يعنى: الكفارة) وكذلك رواه النسفى، وهو الصواب، ومن روى: ليس تغنى الكفارة فلا معنى له؛ لأن الكفارة تغنى غناءً شديدًا، وقد جعلها الله تحلة الأيمان، ومعنى قوله: (ليبر) أى ليأت البر، ثم فسر ذلك البر ما هو بقوله: (يعنى الكفارة) خوفًا من أن يظن أنه من إبرار القسم والتمادى على اليمين، وهذا الحديث يرد قول مسروق وعكرمة وسعيد بن جبير، فإنهم ذهبوا إلى أنه يفعل الذى هو خير، ولا كفارة عليه، وقولهم خلاف الأحاديث، فلا معنى له. قال المهلب: وقوله تعالى: (لا يؤاخذكم الله باللغو فى أيمانكم (الآية يدل أن الله لا يعذب إلا على ما كسبت القلوب بالقصد والعمل من الجوارح، لقوله: (ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان (وبقوله عليه السلام: (الأعمال بالنيات) وسيأتى تفسير وجوه اللغو فى بابه - إن شاء الله.(6/90)
وقوله: (غُر الُذرى) يعنى بيض الأسنمة، والأغر: الأبيض فى حُسن، ومن ذلك قيل للثنايا إذا كانت بيضًا حسانًا: هن غُر، وذروة كل شىء أعلاه.
- باب قَوْلِ النَّبِىِّ عليه السَّلام: (وَايْمُ اللَّهِ
/ 6 - فيه: ابْن عُمَرَ، بَعَثَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) بَعْثًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَطَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ فِى إِمْرَتِهِ، فَقَامَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (إِنْ كُنْتُمْ تَطْعَنُونَ فِى إِمْرَتِهِ، فَقَدْ كُنْتُمْ تَطْعَنُونَ فِى إِمْرَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ، وَايْمُ اللَّهِ، إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلإمَارَةِ، وَإِنْ كَانَ لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَىَّ، وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَىَّ بَعْدَهُ) . اختلف أهل العلم بلسان العرب فى معنى (ايم الله) فقال أبو القاسم الزجاجى: ايم الله وايمن الله ومَ الله كل هذه لغات فيها، واشتقاقها عند سيبويه من اليمن والبركة، وألفها عنده ألف وصل، واستدل على ذلك بقول بعضهم وايمن الله بكسر الألف، ولو كانت ألف قطع لم تكسر، وسقوطها مع لام الابتداء قال الشاعر: وقال فريق ليمن الله ما ندرى وإنما التقدير لأيمن الله(6/91)
وقال الفراء: ألفها ألف قطع، وهى جمع يمين عنده، ومعنى قولهم: يمين الله أى يمين الحالف بالله؛ لأن الله لا يجوز أن يوصف بأنه يحلف بيمين، وإنما هذه من صفات المخلوقين، وروى عن ابن عمر وابن عباس أنهما كانا يحلفان بايم الله، ورأى الحلف بها الحسن البصرى وإبراهيم النخعى، وذكر ابن خواز بنداد عن مالك أن ايم الله عنده يمين. وقال الطحاوى: (ايم الله) يمين عند أصحابنا، وهو قول مالك، وقال الشافعى: إن لم يرد بأيم الله يمينًا فليست بيمين، وقال إسحاق بن راهويه. إذا أراد بها يمينًا كانت يمينًا بالإرادة وعقد القلب.
3 - باب كَيْفَ كَانَتْ يَمِينُ النَّبِىِّ عليه السَّلام؟
قَالَ سَعْدٌ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ) . وَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ عِنْدَ النَّبِىِّ عليه السَّلام: لاهَا اللَّهِ، ويُقَالُ: وَاللَّهِ وَبِاللَّهِ وَتَاللَّهِ. / 7 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ: كَانَتْ يَمِينُ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا، وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ) . / 8 - وفيه: جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، وأَبُو هُريرة، قَالَ عليه السَّلام: (إِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلا قَيْصَرَ بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلا كِسْرَى بَعْدَهُ، وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ) .(6/92)
/ 9 - وفيه: عَائِشَةَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ عليه السَّلام: (يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ، لَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَلَضَحِكْتُمْ قَلِيلا) . / 10 - وفيه: عَبْدَاللَّهِ بْنَ هِشَامٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ ابْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لأنْتَ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ كُلِّ شَىْءٍ إِلا نَفْسِى، فَقَالَ عليه السَّلام: (لا، وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ) ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ، وَاللَّهِ لأنْتَ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ نَفْسِى، فَقَالَ عليه السَّلام: (الآنَ يَا عُمَرُ) . / 11 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، أنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، قَالَ: (أَمَا وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لأقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، أَمَّا غَنَمُكَ وَجَارِيَتُكَ، فَرَدٌّ عَلَيْكَ. . . .) ، الحديث. / 12 - وفيه: أَبُو بَكْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ عليه السَّلام: (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ أَسْلَمُ وَغِفَارُ وَمُزَيْنَةُ وَجُهَيْنَةُ خَيْرًا مِنْ بَمِّى تَمِيمٍ وَعَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ وَغَطَفَانَ وَأَسَدٍ خَابُوا وَخَسِرُوا) ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَقَالَ: (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لَهُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ) . / 13 - وفيه: أَبُو حُمَيْد، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، اسْتَعْمَلَ عَامِلا، فَجَاءَهُ الْعَامِلُ. . . . الحديث، فَقَالَ عليه السَّلام: (وَالَّذِى نَفْسى بِيَدِهِ، لا يَغُلُّ أَحَدُكُمْ مِنْهَا شَيْئًا. . . . .) الحديث. / 14 - وفيه: أَبُو ذَرّ، انْتَهَيْتُ إِلى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فِى ظِلِّ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ يَقُولُ: (هُمُ الأخْسَرُونَ، وَرَبِّ الْكَعْبَةِ) ، مرتين، يعنى الأكثرين. . . . . الحديث، إِلا مَنْ قَالَ: (هَكَذَا وَهَكَذَا) .(6/93)
/ 15 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (قَالَ سُلَيْمَانُ: لأطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةً، كُلُّهُنَّ تَأْتِى بِفَارِسٍ، يُجَاهِدُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَلَمْ يَقُلْ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَايْمُ الَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ؛ لَجَاهَدُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ) . / 16 - وفيه: الْبَرَاء، أُهْدِىَ إِلَى النَّبِىِّ، عليه السَّلام، سَرَقَةٌ مِنْ حَرِيرٍ، فَقَالَ عليه السَّلام: (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لَمَنَادِيلُ سَعْدٍ فِى الْجَنَّةِ خَيْرٌ من هذا) . / 17 - وفيه: عَائِشَةَ، إِنَّ هِنْدَ ابِنة عُتْبَةَ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الأرْضِ أَهْلُ أَخْبَاءٍ - أَوْ خِبَاءٍ، شَكَّ يَحْيَى - أَحَبَّ إِلَىَّ من أَنْ يَذِلُّوا مِنْ أَهْلِ أَخْبَائِكَ - أَوْ خِبَائِكَ - ثُمَّ مَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ أَهْلُ أَخْبَاءٍ - أَوْ خِبَاءٍ - أَحَبَّ إِلَىَّ مِنْ أَنْ يَعِزُّوا مِنْ أَهْلِ أَخْبَائِكَ - أَوْ خِبَائِكَ - قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (وَأَيْضًا، وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ) الحديث. / 18 - وفيه: ابْن مَسْعُود،، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) لأصْحَابِهِ: (أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ) ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: (أَفَتَرْضُوْنَ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ) ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: (فَوَالَّذِى نَفْسى بِيَدِهِ، إِنِّى لأرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ) . / 19 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) للذى قرأ) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (: (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ) . / 20 - وفيه: أَنَس، قَالَ عليه السَّلام: (أَتِمُّوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، إِنِّى لأرَاكُمْ مِنْ بَعْدِ ظَهْرِى إِذَا مَا رَكَعْتُمْ وَسَجَدْتُمْ) . / 21 - وفيه: أَنَس، أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الأنْصَارِ أَتَتِ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) مَعَهَا أَوْلاَدٌهَا، فَقَالَ: (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، إِنَّكُمْ لأحَبُّ النَّاسِ إِلَىَّ) ، ثَلاثًا.(6/94)
قال المؤلف: أما قوله: (والذى نفسى بيده) و (لا ومقلب القلوب) فهذه أيمان النبى - عليه السلام - فالسنة أن يحلف بهما وبما شابههما من أسماء الله وصفاته - تعالى - وقد قال عليه السلام: (من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت) . وأجمع العلماء أنه من حلف فقال: والله أو بالله أو تالله أن عليه الكفارة؛ لأن الواو والباء والتاء هى حروف القسم عند العرب، والواو والباء يدخلان على كل محلوف به، ولا تدخل الفاء إلا على الله وحده. وقولهم: (لا ها الله) أصله لا والله، حذف حرف القسم وعوض منه (ها) التى للتنبيه، فصار واو القسم خافضًا مضمرًا مثله مظهرًا، غير أنه لا يجوز أن يظهر مع ما هو عوض منه. وأجمعوا أنه من حلف باسم من أسماء الله - تعالى - أن عليه الكفارة واختلفوا فيمن حلف بصفاته، وسيأتى ذلك فى بابه - إن شاء الله. واحتج من أوجب الكفارة فى الأيمان بالصفات كلها بحديث ابن عمر (أن النبى - عليه السلام - كانت يمينه لا ومقلب القلوب) ، وصفاته تعالى كلها منه، وليس شىء مخلوق. وقوله: (خباء أو أخباء) : فالمعروف فى جمع خباء أخبية، وكذلك تجمع فعال وفعيل فى القليل على أفعلة، كمثال وأمثلة، وسقاء وأسقية، ورغيف وأرغفة، وقد جمع فعيل على أفعال كيتيم وأيتام، وشريف وأشراف، ويمين وأيمان، وهذا قياس خباء وأخباء.(6/95)
فإن قال قائل: بم يتعلق القسم فى قوله عليه السلام فى حديث هند (وأيضًا والذى نفسى بيده) ؟ قيل: قد فسر المعنى معمر فى روايته عن الزهرى قال معمر: (لتزدادن) . قال المؤلف: يعنى لتزدادن محبة فيما ذكرت إذا قوى إسلامك وتحكم الإيمان فى قلبك، كما قال عليه السلام: (والله لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من أهله وولده ومن الناس أجمعين) يريد لا يبلغ حقيقة الإيمان وأعلى درجاته.
4 - باب لا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ
/ 22 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، أَدْرَكَ عُمَرَ، وَهُوَ يَسِيرُ فِى رَكْبٍ فَحْلِفُ بِأَبِيهِ، فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، مَنْ كَانَ حَالِفًا، فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ) . قَالَ عُمَرُ: فَوَاللَّهِ مَا حَلَفْتُ بِهَا مُنْذُ سَمِعْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، ذَاكِرًا وَلا آثِرًا. قَالَ مُجَاهِدٌ: (أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) [الأحقاف: 4] يَأْثُرُ عِلْمًا. / 23 - وفيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ عليه السَّلام: (لا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ) . / 24 - وفيه: أَبُو مُوسَى، (وَاللَّهِ لا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا. . . .) الحديث. قال المهلب: كانت العرب فى الجاهلية تحلف بآبائها وآلهتها، فأراد الله أن ينسخ من قلوبها وألسنتها ذكر كل شىء سواه، ويبقى(6/96)
ذكره تعالى، لأنه الحق المعبود، فالسنة اليمين بالله، كما رواه أبو موسى وغيره عن النبى، والحلف بالمخلوقات فى حكم الحلف بالآباء، لا يجوز عند الفقهاء شىء من ذلك. قال الطبرى فى حديث عمر: إن الأيمان لا تصلح بغير الله - تعالى - كائنًا ما كان، وأن من قال والكعبة أو وجبريل وميكائيل أو آدم وحوا ونوح أو قال: وعذاب الله، أو ثواب الله أنه قد قال من القول هجرًا، وتقدم على ما نهى النبى - عليه السلام - عنه، ولزمه الاستغفار من قوله ذلك دون الكفارة، لثبوت الحجة أنه لا كفارة على الحالف بذلك. قال غيره: فإن قال قائل: فأين ما فى القرآن من الإقسام بالمخلوقات نحو قوله) والطور وكتاب مسطور () والتين والزيتون () والسماء والطارق (وما كان مثله؟ . قيل: المعنى فيه عند المفسرين: ورب السماء والطارق، ورب الطور، ورب النجم، فعلى هذا القول هى إقسام بالله - تعالى - لا بغيره. قال ابن المنذر: فالجواب أن الله أقسم بما شاء من خلقه، ثم بين الرسول ما أراد الله من عباده أنه لا يجوز لأحد أن يحلف بغيره، لقوله: (من كان حالفًا فليحلف بالله) . قال الشعبى: الخالق يقسم بما شاء من خلقه، والمخلوق لا ينبغى له أن يقسم إلا بالخالق، والذى نفسى بيده لأن أقسم بالله فأحنث أحب إلى من أن أقسم بغيره فأبر. وذكر ابن القصار مثله عن ابن عمر.(6/97)
وقال قطرب: إنما أقسم الله بهذه الأشياء ليعجب منها المخلوقين، ويعرفهم قدرته فيها ليعظم شأنها عندهم، ولدلالتها على خالقها، فلا يجوز لأحد أن يقسم بهذه الأقسام وشبهها، لأجماع العلماء أنه من وجبت له يمين على رجل أنه لا يحلف له إلا بالله، ولو حلف له بالنجم أو بالسماء والطارق وقال: نويت رب ذلك، لم يكن عندهم يمينًا. وقال ابن المنذر: من حلف بغير الله وهو عالم بالنهى فهو عاص. قال: واختلف أهل العلم فى معنى نهى النبى عن الحلف بغير الله، أهو عام فى الأيمان كلها، أو هو خاص فى بعضها؟ فقالت طائفة: الأيمان النهى عنها، هى الأيمان التى كان أهل الجاهلية يحلفون بها تعظيما منهم لغير الله، كاليمين باللات والعزى والآباء والكعبة والمسيح وبملل الشرك، فهذه المنهى عنها ولا كفارة فيها، وأما ما كان من الأيمان مما يئول الأمر فيه إلى تعظيم الله فهى غير تلك، وذلك كقول الرجل: وحق النبى، وحق الإسلام، وكاليمين بالحج والعمرة والصدقة والعتق وشبهه، فكل هذا من حقوق الله ومن تعظيمه، وقال أبو عبيد: إنما ألفاظ الأيمان ما كان أصله يراد به تعظيم الله والقربة إليه، ومن القربة إليه اليمين بالعتق والمشى والهدى والصدقة. قال ابن المنذر: وقد مال إلى هذا القول غير واحد ممن لقيناه، واستدل بعضهم بما روى عن أصحاب النبى - عليه السلام - من إيجابهم على الحالف بالعتق وصدقة المال والهدى ما أوجبوه(6/98)
مع روايتهم هذه الأخبار التى فيها التغليظ فى اليمين بغير الله، أن معنى النهى فى ذلك غير عام، إذ لو كان عاما ما أوجبوا فيه من الكفارات ما أوجبوا، ولنهوا عن ذلك. وقوله: (ذاكرًا) يعنى متكلمًا به، كقولك: ذكرت لفلان حديثًا حسنا، وليس من الذكر الذى هو ضد النسيان. وقوله: (ولا آثرًا) يقول: ولا مخبرًا عن غيرى أنه حلف به. وقال الطبرى: ومنه حديث مأثور عن فلان، أى تحدث به عنه.
5 - باب لا يُحْلَفُ بِاللاتِ وَالْعُزَّى وَلا بِالطَّوَاغِيتِ
/ 25 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، (مَنْ حَلَفَ فَقَالَ فِى حَلِفِهِ: بِاللاتِ وَالْعُزَّى، فَلْيَقُلْ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ، أُقَامِرْكَ فَلْيَتَصَدَّقْ) . قال المهلب: كان أهل الجاهلية قد جرى على ألسنتهم الحلف باللات والعزى، فلما أسلموا ربما جروا على عادتهم من ذلك من غير قصد منهم فكان من حلف بذلك فكأنه قد راجع حاله إلى حالة الشرك، وتشبه بهم فى تعظيمهم غير الله، فأمر النبى - عليه السلام - من عرض له ذلك بتجديد ما أنساهم الشيطان أن يقولوا: لا إله إلا الله، فهو كفارة له، إذ ذلك براءة من اللات والعزى ومن كل ما يعبد من دون الله. قال الطبرى: وقول ذلك واجب عليه مع إحداث التوبة،(6/99)
والندم على ما قال من ذلك، والعزم على ألا يعود، ولا يعظم غير الله، وقد روى أبو إسحاق السبيعى، عن مصعب بن سعد، عن أبيه قال: (حلفت باللات والعزى، فقال أصحابى: ما نراك قلت إلا هجرًا. فأتيت النبى فقلت: إن العهد كان قريبًا فحلفت باللات والعزى. فقال: قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شىء قدير، ثلاث مرات، وانفث عن شمالك ثلاثًا، وتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ولا تعد) . قال الطبرى: وفيه الإبانة أن كل من أتى أمرًا يكرهه الله، ثم أتبعه من العمل بما يرضاه الله ويحبه بخلافه، وندم عليه، وترك العود له، فإن ذلك واضع عنه وزر عمله، وماح إثم خطيئته، وذلك كالقائل يقول: كفر بالله إن فعل كذا، فالصواب له أن يندم على قوله ندامة [.] على حلفه، وأن يحدث من قول الحق خلاف ما قال من الباطل، وكذلك أعمال الجوارح، كالرجل يهم بركوب معصية، فإن توبته ترك العزم عليه، والانصراف عن فعل ما هم به، وأن يهم بعمل طاعة لله مكان همه بالمعصية، كما قال عليه السلام لمعاذ فى وصيته: (إذا عملت سيئة فأتبعها بحسنة تمحها) . قال غيره: وأما قوله عليه السلام: (من قال لصاحبه: تعالى أقامرك، فليتصدق) فهو محمول عند الفقهاء على الندب لا على الإيجاب، بدليل أنه من أراد أن يعصى الله ولم يفعل ذلك فليس عليه صدقة ولا غيرها، وقد روى ابن عباس عن النبى - عليه السلام - أنه قال: (من هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة) وروى أبو(6/100)
هريرة عن النبى أنه قال: (من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه شىء) . واحتج ابن عباس لروايته بقول الله - تعالى -) ولمن خاف مقام ربه جنتان (قال: هو العبد يهم بالمعصية ثم يتركها من خوف الله - تعالى - وستأتى زيادة فى معنى هذه الحديث فى آخر كتاب الاستئذان فى باب كل لهو باطل إذا شغل عن طاعة الله، ومعنى قوله: (ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك) ، إن شاء الله. والطاغوت قد اختلف السلف فى معناه، فقال جماعة: هو الشيطان. روى ذلك عن عمر ومجاهد والشعبى وقتادة وجماعة. وقال آخرون: هو الساحر، روى ذلك عن أبى العالية وابن سيرين وغيرهما. وقال آخرون: هو الكاهن، روى ذلك عن جابر وسعيد بن جبير. قال الطبرى: وهو عندى فعلوت من الطغيان، كالجبروت من التجبر، والجلبوت من الجلب، قيل ذلك لكل من طغى على ربه، فعبد من دونه إنسانًا كان ذلك الطاغى أو شيطانًا أو صنمًا.
6 - باب مَنْ حَلَفَ عَلَى الشَّىْءِ وَإِنْ لَمْ يُحَلَّفْ
/ 26 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، اصْطَنَعَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، وَكَانَ يَلْبَسُهُ، فَيَجْعَلُ فَصَّهُ فِى بَاطِنِ كَفِّهِ، ثُمَّ إِنَّهُ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَنَزَعَهُ، فَقَالَ: (إِنِّى كُنْتُ أَلْبَسُ هَذَا الْخَاتِمَ، وَأَجْعَلُ فَصَّهُ مِنْ دَاخِلٍ، فَرَمَى بِهِ) ، ثُمَّ قَالَ: (وَاللَّهِ لا أَلْبَسُهُ أَبَدًا فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ) .(6/101)
قال المهلب: إنما كان النبى يحلف على تضاعيف كلامه وكثير من فتواه، متبرعًا بذلك لينسخ ما كانت الجاهلية عليه من الحلف بآبائها وآلهتها من الأصنام وغيرها، ليعرفهم ألا محلوف به إلا الله، وليتدربوا على ذلك حتى ينسوا ما كانون عليه من الحلف بغير الله. وقوله: (لا ألبسه أبدًا) أراد بذلك تأكيد الكراهية فى نفوس الناس بيمينه؛ لئلا يتوهم الناس أنه كرهه لمعنى، فإن زال ذلك المعنى لم يكن بلبسه بأس، وأكد بالحلف ألا يلبسه على جميع وجوهه. وفيه من الفقه: أنه لا بأس بالحلف على ما يحب المرء تركه، أو على ما يحب فعله من سائر الأفعال.
7 - باب مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ سِوَى الإسْلامِ
وَقَالَ النَّبِىُّ عليه السَّلام: (مَنْ حَلَفَ بِاللاتِ وَالْعُزَّى، فَلْيَقُلْ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ) ، وَلَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى الْكُفْرِ. / 27 - وفيه: ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ، قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام: (مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ مِلَّةِ الإسْلامِ فَهُوَ كَمَا قَالَ) ، قَالَ: (وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَىْءٍ، عُذِّبَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ، وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ) . قال المهلب: قوله: (فهو كما قال) يعنى هو كاذب فى يمينه لا كافر؛ لأنه لا يخلو أن يعتقد الملة التى حلف بها، فلا كفارة له إلا الرجوع إلى الإسلام، أو يكون معتقدًا للإسلام بعد الحنث فهو كاذب فيما قاله، بمنزلة من حلف يمين الغموس لا كفارة عليه،(6/102)
ألا ترى قوله عليه السلام: (من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله) ، ولم ينسبه إلى الكفر. قال ابن المنذر: وفسر ابن المبارك الكفر فى هذه الأحاديث أن المراد به التغليظ وليس بالكفر، كما روى عن ابن عباس فى قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (أنه ليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وكذلك قال عطاء: كفر دون كفر، وفسق دون فسق وظلم دون ظلم، وكما قال عليه السلام: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) أى كفر بما أمر به ألا يقتل بعضهم بعضًا. قال غيره: والأمة مجمعة أن من حلف باللات والعزى فلا كفارة عليه، فكذلك من حلف بملة سوى الإسلام لا فرق بينهما، ومعنى الحديث عن الحلف بما حلف من ذلك والزجر عنه. فإن ظن ظان أن فى هذا الحديث دليلا على إباحة الحلف بملة غير الإسلام صادقًا، لاشتراطه فى هذا الحديث أن يحلف بذلك كاذبًا. قيل له: ليس كما توهمت؛ لورود نهى رسول الله عن الحلف بغير الله نهيًا مطلقًا، فاستوى الكاذب والصادق فى النهى، وقد تقدم معنى هذا الحديث فى آخر كتاب الجنائز فى باب قاتل النفس، وستأتى زيادة فى بيانه فى كتاب الأدب فى باب من كفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال - إن شاء الله. وقوله: (من قتل نفسه بشىء عذب به فى نار جهنم) هو على الوعيد، والله - تعالى - فيه بالخيار.(6/103)
وقوله: (ولعن المؤمن كقتله) فيه تأويلان. قال المهلب: وهو معنى قوله الطبرى: اللعن فى اللغة هو الإبعاد. فمن لعن مؤمنًا فكأنه أخرجه من جماعة الإسلام، فأفقدهم منافعه وتكثير عددهم، فكان كمن أفقدهم منافعه بقتله، ويفسر هذا قوله للذى لعن ناقته: (انزل عنها فقد أجيبت دعوتك) فسرحها ولم ينتفع بها أحد بعد ذلك، فأفقد منافعها لما أجيبت دعوته، فكذلك يخشى أن تجاب دعوة اللاعن فيهلك الملعون. والتأويل الآخر: أن الله حرم لعن المؤمن كما حرم قتله فهما سواء فى التحريم، وهذا يقتضى تحذير لعن المؤمنين والزجر عنه؛ لأن الله - تعالى - قال: (إنما المؤمنون إخوة (فأكد حرمة الإسلام، وشبهها بإخوة النسب، وكذلك معنى قوله: (من رمى مؤمنًا بكفر فهو كقتله) يعنى فى تحريم ذلك عليه - والله أعلم. فإن قيل: هذا التأويل يعارض ما ثبت عن رسول الله أنه لعن جماعة من المؤمنين فلعن المخنثين من الرجال، ولعن شارب الخمر، ولعن فيه عشرة، ولعن المصورين، ولعن من غير تخوم الأرض، ولعن من انتمى إلى غير مواليه، ومن انتسب إلى غير أبيه، ولعن من سب والديه، وجماعة سواهم. قيل: لا تعارض فى شىء من ذلك، والمؤمن الذين حرم رسول الله لعنهم هم غير من لعنهم، فنهى عن لعن من لم يظهر الكبائر ولا استباح ركوب ما نهى الله عنه، وأمر بموالاتهم وموآخاتهم فى الله والتودد إليهم، ولعن من خالف أمره واستباح نهيه، وأمر(6/104)
بإظهار النكير عليهم، وترك موالاتهم والانبساط إليهم والرضا عن أفعالهم، فالحديثان مختلفان؛ فانتفى التعارض بحمد الله. واختلف العلماء فى الرجل يقول: أكفر بالله أو أشرك بالله ثم يحنث، فقال مالك: لا كفارة عليه، وليس بكافر ولا مشرك حتى يكون قلبه مضمرًا على الشرك والكفر، وليستغفر الله، وبئس ما صنع. وهو قول عطاء ومحمد بن على وقتادة، وبه قال الشافعى وأبو ثور وأبوعبيد. وقال أبو حنيفة وأصحابه، والثورى، والأوزاعى: من قال هو يهودى أو نصرانى أو كفرت بالله أو أشركت بالله أو برئت من الله أو من الإسلام؛ فهو يمين، وعليه الكفارة إن حنث؛ لأنه تعظيم لله، فهو كاليمين بالله. وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق. وممن رأى الكفارة على من قال هو يهودى أو نصرانى: عبد الله بن عمر، وعائشة، والشعبى، والحسن، وطاوس، والنخعى، والحكم. قال ابن المنذر: وقول من لم يرها يمينًا أصح؛ لقول النبى - عليه السلام -: (من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله) ولم يأمره بكفارة. قال ابن القصار: وبقوله عليه السلام: (من حلف بملة غير الإسلام فهو كما قال) ومعناه النهى عن مواقعة ذلك اللفظ والتحذير منه؛ لا أنه يكون كافرًا بالله بقول ذلك. قال ابن القصار: وإنما أراد التغليظ فى هذه الأيمان حتى لا يجترئ عليها أحد. وكذلك قال ابن(6/105)
عباس وأبو هريرة والمسور، ثم تلاهم التابعون فلم يوجبوا على من أقدم عليها الكفارة. قال: وأما قولهم: إذا قال أنا يهودى فقد عظم الإسلام وأراد الامتناع من الفعل، فالجواب أنهم يقولون: لو قال: وحق القرآن وحق المصحف ثم حنث أنه لا كفارة عليه، وفى هذا من التعظيم لله وللإسلام ما ليس لما ذكروه، فسقط قولهم، وأيضًا فإنه إذا قال: هو يهودى، أو كفر بالله، فليس من طريق التعظيم، وإنما هو من الجرأة والإقدام على المحرمات، كالغموس وسائر الكبائر، وهى أعظم من أن يكون فيها كفارة.
8 - بَاب لا يَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ وَهَلْ يَقُولُ: أَنَا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ
/ 28 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، يَقُولُ: (إِنَّ ثَلاثَةً فِى بَنِى إِسْرَائِيلَ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ، فَبَعَثَ مَلَكًا فَأَتَى الأبْرَصَ، فَقَالَ: تَقَطَّعَتْ بِىَ الْحِبَالُ فَلا بَلاغَ لِى إِلا بِاللَّهِ، ثُمَّ بِكَ. . .) ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قال المهلب: إنما أراد البخارى أن يجيز (ما شاء الله ثم شئت) استدلالا بقوله عليه السلام فى حديث أبى هريرة: (ولا بلاغ لى إلا بالله ثم بك) وإنما لم يجز أن نقول: ما شاء الله وشئت؛ لأن الواو تشرك المشيئتين جميعًا، وقد روى هذا المعنى عن النبى - عليه السلام - أنه قال: (لا يقولن أحدكم: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن ليقل: ما شاء الله ثم شاء فلان) وإنما أجاز دخول (ثم) مكان الواو؛ لأن مشيئة الله متقدمة على مشيئة خلقه، قال تعالى: (ما تشاءون إلا أن يشاء الله (.(6/106)
فهذا من الأدب، وذكر عبد الرزاق عن إبراهيم النخعى أنه كان لا يرى بأسًا أن يقول: ما شاء الله ثم شئت. وكان يكره أن يقول: أعوذ بالله وبك، حتى يقول: ثم بك. والحديث فى ذلك رواه محمد بن بشار، حدثنا أبو أحمد الزبيرى، قال: حدثنا مسعر عن معبد بن خالد، عن عبد الله بن يسار، عن قتيلة امرأة من جهينة قالت: (جاء يهودى إلى النبى - عليه السلام - فقال: إنكم تشركون وإنكم تجعلون لله ندا، تقولون: والكعبة، وتقولون ما شاء وشئت، فأمرهم النبى - عليه السلام - إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، وأمرهم أن يقولوا: ما شاء الله ثم شئت) ، وهذا الحديث رأى البخارى ولم يكن من شرط كتابه، فترجم به واستنبط معناه من حديث أبى هريرة - والله أعلم.
9 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ) [الأنعام: 109]
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَتُحَدِّثَنِّى بِالَّذِى أَخْطَأْتُ فِى الرُّؤْيَا، قَالَ: (لا تُقْسِمْ) . / 29 - فيه: الْبَرَاء، أَمَرَنَا النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بِإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ. / 30 - وفيه: أُسَامَةَ، أَنَّ ابِنْة للنَّبِىّ، عليه السَّلام، أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ: أَنَّ ابْنِى قَدِ احْتُضِرَ فَاشْهَدْنَا، فَأَرْسَلَ يَقْرَأُ السَّلامَ، وَيَقُولُ: (إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ، وَلِلَّهِ مَا أَعْطَى. . . .) الحديث. فَأَرْسَلَتْ تُقْسِمُ عَلَيْهِ، فَقَامَ وَقُمْنَا مَعَهُ. الحديث.(6/107)
/ 31 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ عليه السَّلام: (لا يَمُوتُ لأحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ فتَمَسُّهُ النَّارُ إِلا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ) . / 32 - وفيه: حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، يَقُولُ: (أَلا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعَّفٍ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأبَرَّهُ، وَأَهْلِ النَّارِ كُلُّ جَوَّاظٍ عُتُلٍّ مُسْتَكْبِرٍ) . قال المؤلف: من روى (بإبرار المقسم) بفتح السين، فمعناه بإبرار الإقسام؛ لأنه قد يأتى المصدر على لفظ المفعول، كقوله: أدخلته مدخلا بمعنى إدخال، وأخرجته مخرجًا بمعنى إخراج. وقال المهلب: قوله تعالى: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم (دليل على أن الحلف بالله - عز وجل - أكبر الأيمان كلها؛ لأن الجهد شدة المشقة. اختلف العلماء فى قول الرجل: أقسمت بالله، أو أقسمت ولم يقل بالله، فذهب أبو حنيفة والثورى أنها أيمان، سواء أريد بها اليمين أم لا. وقال مالك: (أقسم) لا تكون يميًا حتى يقول: أقسم بالله أو ينوى بقوله: (أقسم) اليمين، فإذا لم ينوه فليست بيمين. وروى مثله عن الحسن وعطاء وقتادة والزهرى. وقال الشافعى: (أقسم) ليست بيمين سواء أراد بها اليمين أم لا، و (أقسم بالله) يمين إن أراد بها اليمين. وروى عنه الربيع: إذا قال أقسم، ولم يقل: بالله فهو كقوله: والله. وحجة الكوفيين رواية من روى فى حديث أبى بكر: (أقسمت(6/108)
عليك يا رسول الله لتحدثنى فقال النبى: لا تقسم) واحتجوا بحديث البراء قال: (أمرنا النبى - عليه السلام - بإبرار المقسم) قالوا: ولم يقل: بالله، وبحديث أسامة (أن ابنة النبى أرسلت تقسم عليه) ولم يقل: بالله، وبقوله عليه السلام: (لو أقسم على الله لأبره) ولم يأت فى شىء من هذه الأحاديث ذكر اسم الله، قالوا: وقد جاء فى القرآن ذكر الله مع القسم فى موضع، ولم يأت فى موضع آخر؛ اكتفاء بما دل عليه اللفظ، قال تعالى: (وأقسموا بالله (فذكر اسمه، قال تعالى: (إذا أقسموا ليصرمنها مصبحين (، فحذف اسمه، فدل على أن أحد الموضعين يفيد ما أفاده الآخر. وقال السيرافى: لا تكون (أقسم) إلا يمينًا؛ لدخول اللام فى جوابها، ولو كانت غير يمين لما دخلت اللام فى الجواب؛ لأنك لا تقول: ضربت لأفعلن، كما تقول: أقسمت لأفعلن. وحجة مالك قوله عليه السلام: (الأعمال بالنيات وإنما لامرئ ما نوى) ومن لم ينو اليمين فلا يمين له، وأيضًا فإن العادة جرت بأن يحلف الناس على ضروب، فمنها اللغو يصرحون فيه باسم الله، ثم لا تلزمهم الكفارة؛ لعدم قصدهم إلى الأيمان، فالموضع الذى عدم فيه التصريح والقصد أولى ألا تجب فيه كفارة، قاله ابن القصار قال: وقال أصحاب الشافعى:(6/109)
اليمين تكون يمينًا لحرمة اللفظ، وإذا قال: أقسمت، فلا لفظ هاهنا له حرمة، وكل ما احتج به الكوفيون فهو حجة على الشافعى. قال ابن القصار: ويقال للشافعى: قال الله - تعالى -: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم (فوصل القسم باسمه تعالى، فكان يمينًا وقال فى موضع آخر: (إذا أقسموا ليصرمنها مصبحين (فأطلق القسم ولم يقيده بشىء، فوجب أن يبنى المطلق على المقيد، كالشهادة قرنت بالعدالة فى موضع، وعريت فى موضع من ذكر العدالة، كالرقبة فى الكفارة، قيد فى موضع مؤمنة، وأطلق فى موضع، فبنى المطلق على المقيد. قال ابن المنذر: وأمر النبى - عليه السلام - بإبرار المقسم أمر ندب لا أمر وجوب؛ لأن أبا بكر أقسم على النبى فلم يبر قسمه، ولو كان ذلك واجبًا لم يشأ رجل أن يسأل آخر بأن يخرج له من كل ما يملك، ويطلق زوجته، ثم يحلف على الإمام فى حد أصابه أن يُسقط عنه؛ إلا تم له، وفى ذلك تعطيل الحدود وترك الاقتصاص مما فيه القصاص، وإذا لم يجز ذلك كان معنى الحديث الندب فيما يجوز الوقوف عنه دون ما لا يجوز تعطيله. وقال المهلب: إبرار القسم إنما يستحب إذا لم يكن فى ذلك ضرر على المحلوف عليه أو على جماعة أهل الدين؛ لأن الذى سكت عنه النبى - عليه السلام - من بيان موضع الخطأ فى تعبير أبى بكر، هو عائد على المسلمين بهم وغم؛ لأنه عبر قصة عثمان بأنه(6/110)
يخلع ثم يراجع الخلافة، فلو أخبره النبى بخطئه لأخبر الناس بأنه يقتل ولا يرجع إلى الخلافة، فكان يُدخل على الناس فتنة بقصة عثمان من قبل كونها، وكذلك لو أقسم على رجل ليشربن الخمر ما وجب عليه إبرار قسمه، بل الفرض عليه ألا يبره. واختلف الفقهاء إذا أقسم على الرجل فحنثه، فروى عن ابن عمر أن الحالف يُكفر، وروى مثله عن عطاء وقتادة، وهو قول أهل المدينة والعراق والأوزاعى. وفيها قول ثان روى عن عائشة أم المؤمنين: (أن مولاة لها أقسمت لها فى قديدة تأكلها فأحنثتها عائشة، فجعل النبى تكفير اليمين على عائشة) قال ابن المنذر: وإسناده لا يثبت. وفيها قول ثالث روى عن أبى هريرة وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: أنهما لم يجعلا فى ذلك كفارة، قال عبيد الله، ألا ترى أن أبا بكر قال للنبى فى الرؤيا: (أقسمت عليك لتخبرنى بالذى أخطأت، فقال النبى: لا تقسم) قال: ولم يبلغنا أنه أمره بالتكفير. قال ابن المنذر: ويقال للذى قال: إن الكفارة تجب على المقسم عليه: ينبغى أن يوجب الكفارة على النبى حين أقسم عليه أبو بكر فلم يخبره. وقال أبو زيد الأنصارى: الجواظ: الكثير اللحم، المختال فى مشيته، يقال: جاظ يجوظ جوظانا، وقال الأصمعى مثله، وأنشد لرؤبة: وفى العين: يعلو به ذا العضل الجواظا(6/111)
وفي العين: الجواظ: الأكول، ويقال: الفاجر، والعتل: الأكول.
- باب إِذَا قَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ، أَوْ شَهِدْتُ بِاللَّهِ
/ 33 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، سُئِلَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، أَىُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: (قَرْنِى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِىءُ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ) . قَالَ إِبْرَاهِيمُ: وَكَانَ أَصْحَابُنَا يَنْهَوْنَنَا - وَنَحْنُ غِلْمَانٌ - أَنْ نَحْلِفَ بِالشَّهَادَةِ وَالْعَهْدِ. قال المؤلف: إنما قصد البخارى من هذا الحديث إلى قول إبراهيم: وكان أصحابنا ينهوننا ونحن غلمان أن نحلف بالشهادة والعهد يريد: أشهد الله، وعلى عهد الله فدل نهيهم عن الحلف بذلك أنهما يمينان مغلظان، ووجه النهى عنهما - والله أعلم - أن قوله: أشهد بالله، يقتضى معنى العلم بالقطع وعهد الله لا يقدر أحد على التزامه بما يجب فيه، واختلف العلماء فى ذلك، فقال النخعى وهو قول أبى حنيفة والثورى -: أشهد وأحلف وأعزم كلها أيمان تجب فيها الكفارة. وقال ربيعة والأوزاعى: إذا قال: أشهد لا أفعل كذا ثم حنث، فهى يمين. وقال مالك: (أشهد) لا تكون يمينا حتى يقول أشهد(6/112)
بالله، وكذلك (أحلف) و (أعزم) إذا أراد الله، وإن لم يرد ذلك فليست بأيمان. قال ابن خواز بنداد: وضعف مالك (أعزم الله) وكأنه لم يره يمينًا إلا أن يريد به اليمين؛ لأنه يكون على وجه الاستعانة، فيقول الرجل: أعزم بالله وأصول بالله، كأنه يقول: أستعين بالله، ولا يجوز أن يقال: إن قول الرجل: (أستعين بالله) تكون يمينًا. وقال المزنى: قال الشافعى: (أشهد بالله) و (أعزم بالله) إن نوى اليمين فيمين. وروى عنه الربيع: إن قال: (أشهد) و (أعزم) ولم يقل: (بالله) فهو كقوله: والله، وإن قال: (أحلف) فلا شىء عليه إلا أن ينوى اليمين. واحتج الكوفيون بقوله تعالى: (والله يعلم إنك لرسوله (ثم قال: (اتخذوا أيمانهم جنة (فدل على أن قول القائل: (أشهد) يمين؛ لأن هذا اللفظ عبارة عن القسم بالله وإنما يحذف اسم الله اكتفاءً بما دل عليه اللفظ. واحتج أصحاب مالك أن قولك: أشهد لأفعلن كذا ليس بصريح يمين؛ لأنه يحتمل أن يريد أشهد عليك بشىء إن فعلت كذا، وقد تقول: أشهد بالكعبة وبالنبى، فلا يكون يمينًا. وأنكر أبو عبيد أن تكون (أشهد) يمينًا، وقال: (الحالف غير الشاهد) ، قال: وهذا خارج من الكتاب والسنة ومن كلام العرب. قال الطحاوى: وقوله عليه السلام: (ثم يجىء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته) إنما أراد أنهم يكثرون الأيمان على كل(6/113)
شىء حتى تصير لهم عادة، فيحلف أحدهم حيث لا يراد منه اليمين وقبل أن يُستحلف، يدل على ذلك قول النخعى: وكانوا ينهوننا ونحن غلمان أن نحلف بالشهادة العهد. يعنى أن نحلف بالشهادة بالله وعلى عهد الله، كما قال تعالى: (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم (والشهادة هاهنا اليمين بالله قال تعالى: (فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله (أى أربع أيمان بالله.
- باب عَهْدِ اللَّهِ
/ 34 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ النَّبِىّ عليه السَّلام: (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ، يَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ - أَوْ قَالَ: أَخِيهِ - لَقِىَ اللَّهَ، وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَهُ: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ () [آل عمران 77] . قَالَ سُلَيْمَانُ فِى حَدِيثِهِ: فَمَرَّ الأشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ. . . . الحديث. اختلف العلماء فيمن قال: على عهد الله، فقال مالك وأبو حنيفة والأوزاعى: من حلف بذلك وجبت عليه الكفارة سواء نوى اليمين أو لا، وروى هذه القول عن طاوس، والشعبى، والنخعى، والحكم، والحسن البصرى، وقتادة، ومجاهد. وروى عن عطاء: ليس ذلك بيمين إلا أن ينوى اليمين، وهو قول الشافعى وأبى ثور وأبى عبيد. والحجة للقول الأول قوله: (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلاً (فخص عهد الله بالتقدمة على سائر الأيمان؛ فدل على(6/114)
تأكيد الحلف به ولذلك قال إبراهيم: كانوا ينهوننا عن الحلف بالعهد وليس ذلك إلا لغلظ اليمين به وخشية التقصير فى الوفاء به، فعهد الله ما أخذه على عباده وما أعطاه عباده قال تعالى: (ومنهم من عاهد الله (إلى قوله: (بما أخلفوا الله ما وعدوه (فذمهم على ترك الوفاء؛ لأن تاركه مُستخِف بمن كان عاهده فى منعه ما كان وعده. قال ابن القصار: واحتجوا بقوله تعالى: (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم (فأمر بالوفاء بعهده ثم عطف عليه بقوله: (ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها (ولم يتقدم ذكر غير العهد، فأعلمنا أنه يمين مؤكد، ألا ترى قوله: (وقد جعلتم الله عليكم كفيلا (. وقال يحيى بن سعيد فى قوله: (ولا تنقضوا الأيمان (قال: العهود. وقد روى عن جابر بن عبد الله فى قوله تعالى: (أوفوا بالعقود (قال: عقدة الطلاق، وعقدة البيع، وعقد الحلف، وعقد العهد، فإذا قال: علىَّ عهد الله، فقد عقد على نفسه عقدًا يجب الوفاء به؛ لقوله تعالى: (أوفوا بالعقود (وروى عن ابن عباس: إذا قال: علىَّ عهد الله، فحنث يعتق رقبة. فإن قال الشافعى: فإذا قال: علىَّ عهد الله، يحتمل أن يريد معهود الله، وهو ما ذكره تعالى فى قوله: (ألم أعهد إليكم يا بنى آدم ألا تعبدوا الشيطان (وإذا كان هذا معهود الله، وهو محدث فهو كقوله: فرض الله، يكون عبارة عن مفروض الله، ولا يكون(6/115)
يمينًا، لأنه يمين بمحدث؛ قيل: قوله: علىَّ عهد الله، غير قوله: معهود الله؛ لأنه لم يجر العرف والعادة بأن يقول أحد: علىَّ معهود الله، وإنما جرى بأن يراد بذلك اليمين. وقال مالك: إذا قال: علىَّ عهد الله وميثاقه، فعليه كفارتان إلا أن ينوى التأكيد فتكون يمينًا واحدةً. وقال الشافعى: عليه كفارة واحدة، وهو قول مطرف وابن الماجشون وعيسى بن دينار. والحجة لمالك أنه لما خالف بين اللفظين، وكل واحد يجوز أن يستأنف به اليمين كانت يمينين ووجب أن يكون لكل لفظ فائدة محددة.
- باب الْحَلِفِ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَكَلاَمِهِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، يَقُولُ: (أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ) . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ عليه السَّلام: (يَبْقَى رَجُلٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِى عَنِ النَّارِ، يَقُولُ: لا وَعِزَّتِكَ لا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا) . وَقَالَ أَيُّوبُ: (وَعِزَّتِكَ لا غِنَى بِى عَنْ بَرَكَتِكَ) . / 35 - فيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام: (لا تَزَالُ جَهَنَّمُ: تَقُولُ: (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) [ق: 30] حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا قَدَمَهُ، فَتَقُولُ: قَطْ، قَطْ، وَعِزَّتِكَ، وَيُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ) .(6/116)
اختلف العلماء فى اليمين بصفات الله، فقال مالك فى المدونة: الحلف بأسماء الله وصفاته لازم كقوله: والعزيز، والسميع، والبصير، والعليم، والخبير، واللطيف، أو قال: وعزة الله وكبريائه، وعظمة الله وقدرته، وأمانته، وحقه، فهى أيمان كلها تُكفر، وذكر ابن المنذر مثله عن الكوفيين أنه إذا قال: وعظمة الله، وعزة الله، وجلال الله، وكبرياء الله، وأمانة الله: وجبت عليه الكفارة، وكذلك فى كل اسم من أسمائه تعالى. وقال الشافعى فى جلال الله، وعظمة الله، وقدرة الله، وحق الله، وأمانة الله: إن نوى بها اليمين فهى أيمان، وإن لم ينو اليمين فليست بيمين؛ لأنه يحتمل: وحق الله واجب، وقدرة الله ماضية. وقال أبو بكر الرازى: عن أبى حنيفة أن قول الرجل: وحق الله، وأمانة الله. ليست بيمين. قال أبو حنيفة: قال الله - تعالى -: (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها (الآية، المراد بذلك الإيمان والشرائع. وهو قول سعيد بن جبير، وقال مجاهد: الصلاة. وقال أبو يوسف: وحق الله يمين وفيها الكفارة. وحجة القول الأول أن أهل السنة أجمعوا على أن صفات الله أسماء له، ولا يجوز أن تكون صفاته غيره، فالحلف بها كالحلف بأسمائه تجب فيها الكفارة، ألا ترى أن النبى - عليه السلام - كثيرًا ما كان يحلف: (لا ومقلب القلوب) وتقليبه لقلوب عبادة صفة من صفاته، ولا يجوز على النبى أن يحلف بما ليس بيمين؛ لأنه قال: (من كان حالفًا فليحلف بالله) .(6/117)
قال أشهب: من حلف بأمانة الله التى هى صفة من صفاته، فهى يمين، وإن حلف بأمانة الله التى بين العباد، فلا شىء عليه، وكذلك عزة الله التى هى صفة ذاته، وأما العزة التى خلقها فى خلقه فلا شىء عليه. وقال ابن سحنون: معنى قوله: (سبحان ربك رب العزة (أنها العزة التى هى غير صفته التى خلقها فى خلقه، التى يتعازون بها، قال: وقد جاء فى التفسير أن العزة هاهنا يراد بها الملائكة. قال المؤلف: وإنما ذهب ابن سحنون إلى هذا القول - والله أعلم - فرارًا من أن تكون العزة التى هى صفة الله مربوبة، فيلزمه الحدث؛ وليس كما توهم لأن لفظ الرب قد يأتى فى كلام العرب لصاحب الشىء ومستحقه، ولا يدل ذلك على الحدث والخلق، فتقول لصاحب الدابة: رب الدابة، ولصاحب الماشية: رب الماشية، ولا تريد بذلك معنى الخلق، قال تعالى: (وتعز من تشاء وتذل من تشاء (فليس إعزازه بعلة، ولا إذلاله بعلة، بل هما حاصلان بالقضاء والمشيئة، وقوله تعالى: (من كان يريد العزة فلله العزة جميعًا (وقوله: (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين (فكيف الجمع بينهما، فإن إحدى الآيتين توجب انفراده تعالى بالعزة، والثانية تشير إلى أن لغيره عزا؟ قيل: لا منافاة بينهما فى الحقيقة؛ لأن العز الذى للرسول وللمؤمنين فهو لله ملكًا وخلقًا، وعزه سبحانه له وصفًا، فإذن العز كله - لله تعالى - فقوله: (سبحان ربك رب العزة (يريد صاحب(6/118)
العزة ومستحقها، وهى نهاية العزة وغايتها التى لم يزل موصوفا بها قبل خلقه الخلق، التى لا تشبه عزة المخلوقين، ألا ترى أنه تعالى نزه نفسه بها فقال: (سبحان ربك رب العزة عما يصفون (ولا ينزه نفسه تعالى إلا بما يباين به صفات عباده، ويتعالى عن أشباهم، إذا ليس كمثله شىء. واختلفوا فيمن حلف بالقرآن أو المصحف، أو بما أنزل الله فحنث، فروى عن ابن مسعود: أن عليه بكل آية كفارة يمين. وهو قول الحسن البصرى وأحمد بن حنبل، وقال ابن القاسم فى العتبية: عليه إذا حلف بالمصحف كفارة يمين. وهو قول الشافعى فيمن حلف بالقرآن، قال: لأن القرآن كلام الله. وإليه ذهب أبو عبيد. وقال أبو حنيفة: من حلف بالقرآن فلا كفارة عليه. وهو قول عطاء، وروى عن على ابن زياد عن مالك نحوه، غير أن المعروف من أصل مذهبه ما يخالف هذه الرواية؛ روى إسماعيل بن أبى أويس عن مالك أنه قال: القرآن كلام الله وكلام الله من الله وليس من الله شىء مخلوق، فهذا القول منه يقطع أن الحالف بالقرآن إذا حنث أن عليه الكفارة، كما إذا حلف بالله أو باسم من أسمائه، وهذا مذهب جماعة أهل السنة. , وذكر ابن المنذر عن بعض أهل العلم أنهم قالوا: إذا كانوا يوجبون الكفارة على من حلف بعظمة الله، وعزة الله، وجلال الله، وكبرياء الله، فلم لا يوجبون على من حلف بكلام الله وهو صفة الله،(6/119)
وما الفرق بين ذلك؟ ويسألون عمن حلف بوجه الله فحنث. فإن قالوا: عليه الكفارة. قيل: وكذلك تجب الكفارة على من حلف بصفة من صفات الله فحنث. وأما قول ابن مسعود: عليه لكل آية كفارة يمين، فهو منه على التغليظ، ولا دليل على صحته، لأنه لا فرق ببينه وبين آخر لو قال: إن عليه لكل سورة كفارة، وآخر لو قال: عليه لكل كلمة كفارة. وهذا لا أصل له، وحسبه إذا حلف بالقرآن فقد حلف بصفة من صفات الله. قال المهلب: وقوله فى حديث أنس: (يضع فيها قدمه) أى ما قدم لها من خلقه، وسبق لها به مشيئته ووعده ممن يدخلها ومثله قوله تعالى: (لهم قدم صدق عند ربهم (أى متقدم صدق.(6/120)
- باب قَوْلِ الرَّجُلِ لَعَمْرُ اللَّهِ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَعَمْرُكَ: لَعَيْشُكَ. / 36 - فيه: عَائِشَةَ، حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإفْكِ مَا قَالُوا، فَبَرَّأَهَا اللَّهُ، فَقَامَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ أُبَىٍّ، فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ: (لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ) . قال أبو القاسم الزجاجى: (لعمر الله) كأنه حلف ببقائه تعالى، وقوله: لعمرك، مرفوع بالابتداء، والخبر مضمر، والتقدير لعمرك ما أُقسم به، وكذلك (لعمر الله) . واختلف الفقهاء فى قول الرجل: لعمر الله، فقال مالك والكوفيون: هى يمين. وقال الشافعى: إن لم يرد بها اليمين فليست بيمين، وهو قول إسحاق. والحجة لمالك والكوفيين أن أهل اللغة قالوا: إنها بمعنى بقاء الله، وبقاؤه صفة ذاته، فهى لفظة موضوعة لليمين فوجب فيها كفارة. وأما قولهم: (العمرى) فقال الحسن البصرى: عليه كفارة إذا حنث فيها، وسائر الفقهاء لا يرون فيها كفارة؛ لأنها ليست بيمين عندهم. قال ابن المنذر: وأما قوله تعالى: (لعمرك إنهم لفى سكرتهم يعمهون (فإن الله يقسم بما شاء من خلقه، وقد نهى النبى عن الحلف بغير الله.(6/121)
- باب) لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ (الآية [البقرة: 225]
/ 37 - فيه: عَائِشَةَ،) لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ (قَالَتْ: أُنْزِلَتْ فِى قَوْلِهِ: لا وَاللَّهِ، وبَلَى وَاللَّهِ. اختلف العلماء فى لغو اليمين، فذهب إلى قول عائشة: ابن عمر، وابن عباس - فى رواية - وروى ذلك عن القاسم، وعطاء، وعكرمة، والحكم، وطاوس، والحسن، والنخعى. وروى حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبى قلابة قال: لا والله، وبلى والله لغة من لغات العرب لا يراد بها اليمين، وهى من صلة الكلام. وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه والشافعى، إلا أن أبا حنيفة قال: اللغو قول الرجل: لا والله، وبلى والله، فيما يظن أنه صادق فيه على الماضى، وعند الشافعى سواء كانت فى الماضى أو المستقبل. وفيها قول ثان روى عن ابن عباس أنه قال: لغو اليمين أن يحلف الرجل على الشىء يعتقد أنه كما حلف عليه، ثم يوجد على غير ذلك. وروى هذا القول أيضًا عن عائشة، ذكره ابن وهب عن عمر بن قيس، عن عطاء، عن عائشة. وروى مثله أيضًا إسماعيل القاضى عن النخعى، والحسن وقتادة، وهو قول ربيعة، ومكحول، ومالك، والليث، والأوزاعى. وقال أحمد بن حنبل: اللغو: الوجهان جميعًا. وجعل مالك لا والله، وبلى والله موضوعة لليمين، ورأى فيها الكفارة إلا ألا يراد به اليمين.(6/122)
وجعلها الشافعى ومن لم ير فيها الكفارة موضوعة لغير اليمين إلا أن يراد بها اليمين، ورأى الشافعى فى اللغو الذى عند مالك الكفارة؛ لأن حقيقة اللغو عند الشافعى ما لم يقصد له الحالف لكن سبق لسانه، كأنه يريد أن يتكلم بشىء فتبدر منه اليمين. قال إسماعيل: وأعلى الرواية وأمثلها فى تأويل الآية أن ما جاء فى قول الرجل: لا والله، وبلى والله، وهو لا يريد اليمين فلم يكن عليه يمين؛ لأنه لم ينوها، وقال رسول الله: (الأعمال بالنيات) وما جرى على لسان الرجل من قول لم يقصده ولا نواه سقطت عنه الكفارة؛ إذا جعل بمنزلة من لم يحلف، ألا ترى قول أبى قلابة فى قوله: لا والله، وبلى والله، أنهما من لغة العرب ليست بيمين. وقال غيره: فى اللغو ثلاثة أقوال غير هذين. أحدهما: ما رواه طاوس عن ابن عباس قال: اللغو أن يحلف الرجل وهو غضبان. والثانى: قال الشعبى: اللغو فى اليمين كل يمين على معصية فليس لها كفارة، ثم قال لمن يُكفر، للشيطان؟ والثالث: قول سعيد بن جبير: هو تحريم الحلال، كقول الرجل: هذا الطعام علىَّ حرام فيأكله، فلا كفارة عليه. قال إسماعيل بن إسحاق: وقول سعيد بن جبير ليس على مجرى ما ذهب إليه أهل العلم فى ذلك. ولا حجة له. وإنما يرجع معنى(6/123)
قوله إلى معنى الحديث الذى فيه: (فليأت الذى هو خير، وليكفر عن يمينه) ، لأن من حلف ألا يأكل طعامًا، أو لا يدخل على أخيه؛ فقد حرم على نفسه ما أحل الله له. قال غيره: وأما قول ابن عباس اللغو يمين الغضبان، فإنما يشبه الغاضب بمن لم يقصد إلى اليمين ولا أراده، وكأنه غلبه الغضب، فهو كمن لم ينو اليمين فلا كفارة عليه وهذا معنى ضعيف؛ لأن جمهور الفقهاء على أن الغاضب عندهم قاصد إلى أفعاله، والغضب يزيده تأكيدًا وقوة فى قصده، وستأتى مذاهب العلماء فيمن حلف على معصية أو نذرها فى باب النذر فيما لا يملك، ولا نذر فى معصية بعد هذا - إن شاء الله.
- باب إِذَا حَنِثَ نَاسِيًا وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ) [الأحزاب: 5] وَقَالَ: (لا تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ) [الكهف: 73]
/ 38 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، يَرْفَعُهُ، قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لأمَّتِى عَمَّا وَسْوَسَتْ - أَوْ حَدَّثَتْ بِهِ - أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَكَلَّمْ) . / 39 - وفيه: عَبْدَاللَّهِ بْنَ عَمْرِو، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، بَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبنا فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: كُنْتُ أَحْسِبُ كَذَا قَبْلَ كَذَا، ثُمَّ قَامَ إليه آخَرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُنْتُ أَحْسِبُ كَذَا، فَقَالَ عليه السَّلام: (افْعَلْ وَلا حَرَجَ. . . .) الحديث.(6/124)
/ 40 - وفيه: ابن عباس مثله. / 41 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلا دَخَلَ الْمَسْجِدَ يُصَلَّى، وَالنَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فِى نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ، فَجَاءَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: (ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ) ، فَرَجَعَ فَصَلَّى ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَالَ: (وَعَلَيْكَ ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ) ، فَقَالَ فِى الثَّالِثَةِ: علِمْنِى، فَقَالَ: (إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاةِ، فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ، ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ، وَكَبِّرْ، وَاقْرَأْ بِمَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ رَأْسَكَ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِىَ وَتَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِىَ قَائِمًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِى صَلاتِكَ كُلِّهَا) . / 42 - وفيه: عَائِشَةَ، هُزِمَ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ أُحُدٍ هَزِيمَةً تُعْرَفُ فِيهِمْ، فَصَرَخَ إِبْلِيسُ: أَىْ عِبَادَ اللَّهِ، أُخْرَاكُمْ، فَرَجَعَتْ أُولاهُمْ، فَاجْتَلَدَتْ هِىَ وَأُخْرَاهُمْ، فَنَظَرَ حُذَيْفَةُ ابْنُ الْيَمَانِ فَإِذَا هُوَ بِأَبِيهِ، فَقَالَ: أَبِى، أَبِى، قَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا انْحَجَزُوا حَتَّى قَتَلُوهُ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ. قَالَ عُرْوَةُ: فَوَاللَّهِ مَا زَالَتْ فِى حُذَيْفَةَ مِنْهَا بَقِيَّةُ خَيْرٍ حَتَّى لَقِىَ اللَّهَ. / 43 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ عليه السَّلام: (مَنْ أَكَلَ نَاسِيًا، وَهُوَ صَائِمٌ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ) . / 44 - وفيه: ابْن بُحَيْنَةَ، صَلَّى بِنَا النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فَقَامَ فِى الرَّكْعَتَيْنِ الأولَيَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ، فَمَضَى فِى صَلاتِهِ، فَلَمَّا قَضَى صَلاتَهُ، انْتَظَرَ النَّاسُ تَسْلِيمَهُ، فَكَبَّرَ وَسَجَدَ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَسَلَّمَ. / 45 - وفيه: ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، صَلَّى بِهِمْ صَلاةَ الظُّهْرِ،(6/125)
فَزَادَ أَوْ نَقَصَ مِنْهَا فقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقَصُرَتِ الصَّلاةُ أَمْ نَسِيتَ؟ قَالَ: (وَمَا ذَاكَ) ؟ قَالُوا: صَلَّيْتَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: فَسَجَدَ بِهِمْ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: (هَاتَانِ السَّجْدَتَانِ لِمَنْ لَمْ يَدْرِ زَادَ فِى صَلاتِهِ أَمْ نَقَصَ، فَيَتَحَرَّى الصَّوَابَ، فَيُتِمُّ مَا بَقِىَ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ) . / 46 - وفيه: أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، قَالَ: (لا تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِى مِنْ أَمْرِى عُسْرًا) [الكهف: 73] قَالَ: (كَانَتِ الأولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا) . / 47 - وفيه: الْبَرَاء، كَانَ عِنْدَهُمْ ضَيْفٌ، فَأَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يَذْبَحُوا قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ؛ لِيَأْكُلَ ضَيْفُهُمْ، فَذَبَحُوا قَبْلَ الصَّلاةِ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ الذَّبْحَ. / 48 - وفيه: جُنْدَب، شَهِدْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، صَلَّى يَوْمَ عِيدٍ، ثُمَّ خَطَبَ، فَقَالَ: (مَنْ ذَبَحَ فَلْيُعد مَكَانَهَا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذَبَحَ، فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ) . اختلف العلماء فيمن حنث ناسيًا، هل تجب عليه كفارة أم لا؟ فقال عطاء وعمرو بن دينار فى الرجل يحلف بالطلاق على أمر لا يفعله ففعله ناسيًا: لا شىء عليه. وبه قال إسحاق. وأوجبت طائفة الكفارة عليه فى كل شىء، هذا قول سعيد بن جبير، وقتادة، والزهرى، وربيعة، وبه قال مالك والكوفيون. واختلف قول الشافعى، فمرة قال: لا يحنث، ومرة قال: يحنث. وقاله أحمد بن حنبل فى الطلاق خاصة.(6/126)
واحتج من أسقط الكفارة بقوله تعالى: (ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم (فبين أنه لا جناح علينا إلا فيما تعمدت قلوبنا، واحتجوا بقوله عليه السلام: (رُفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) فوجب أن يكون مرفوعًا من كل وجه إلا أن يقوم دليل، قالوا: ووجدنا النسيان لا حكم له فى الشرع، مثل كلام الناسى فى الصلاة، فوجب أن يُحمل عليه كلامه إذا حنث ناسيًا. فعارضهم من أوجب الكفارة فقال: قوله تعالى: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به (لا ينفى وجوب الكفارة؛ لأنه قد أوقع الحنث، فلا يكون عليه جناح والكفارة تجب، وإنما أراد برفع الجناح الضيق والإثم، ألا ترى أن الكفارة تجب فى قتل الخطأ مع رفع الجناح والإثم. قال المهلب: وهذه الأحاديث التى أدخل البخارى فى هذه الباب إنما حاول فيها إثبات العذر بالجهل والنسيان وإسقاط الكفارة، وجعلها كلها فى معنى واحد عند الله، واستدل بأفعال النبى وأقواله، وما بسطه من عذر من جهل أو تأول فأخطأ، وبما حكم به فى النسيان فى الصلاة وغيرها، والذى يوافق تبويبه قوله عليه السلام: (إن الله تجاوز لأمتى عما حدثت به أنفسها) وحديث أبى هريرة: (من أكل ناسيًا فليتم صومه) ولم يأمره بالإعادة، وحديث ابن بحينة فيما نسيه النبى - عليه السلام - من الجلوس فى الصلاة فلم يعد عليه السلام على حسب ما نسيه، ولا قضاه، وكذلك نسيان موسى(6/127)
لم يطالبه به الخضر بعد أن كان شرط عليه ألا يسأله عن شىء، فلما سمح له الخضر وهو عبد من عباد الله؛ كان الله أولى بالعفو عن مثل ذلك، فصدر البخارى على سبيل قوة الرجاء فى عفو الله، وكذلك قوله: (ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به (يعنى فى قضية التبنى الذى قد كان لصق بقلوب العرب، وغلب عليهم من نسبة المتبنين إلى من تبناهم لا لآبائهم، فعذرهم الله بغلبة العادة وآخذهم بما تعمدوه من ذلك. وأما غير ذلك مما ذكره من المعانى فى هذا الباب فإنما هى على التشبيه، فأما قوله: (لا حرج) فيما قدم من النسك، فإنما عذرهم بالجهالة لحدود ما أنزل الله فى كتابه، وكان فرض الحج لم تنتشر كيفيته عند العرب حتى كان عليه السلام هو تولى بيانه عملا بنفسه، فلم يوجب على المخطئ فى التقديم والتأخير فدية لغلبة الجهالة. فإن قيل: فإن فى الأحاديث التى ذكرها البخارى فى هذا الباب ما يدل على سقوط الكفارة فى النسيان، ومنها ما يدل على إثباتها، فأما ما يدل على إثباتها فقوله عليه السلام: (ارجع فصل فإنك لم تصل) ومنها حديث ابن مسعود أنه عليه السلام قال: (من لم يدر ما صلى فليتحر الصواب فيتم ما بقى ثم يسجد سجدتين) ، ومنها حديث ابن نيار فى إعادة الأضحية. قيل: أما قوله عليه السلام: (ارجع فصل فإنك لم تصل) فإنه قد كان تقدم العلم بحدود الصلاة من النبى عيانًا، فلم يعذر(6/128)
الناقص منها، فأمره بالإعادة لصلاته تلك ثم أوسعه لما حلف له أنه لا يعرف غير هذا ما أوسع أهل الجهالة من أن لم يأمره بعد يمينه بالإعادة لصلاته تلك ولا لما سلف من صلاته قبلها. وأما ما ذكره لحديثى السهو فمعناهما مختلف؛ لأن المتروك من السنن نسيانًا لا يرجع إليه، بل يجبره بغيره من السنن، كما جبر الجلسة المتروكة بالسجدتين المسنونتين، وأما ما ترك من الفرائض فلا بد من الإتيان به، وإرغام أنف الشيطان بالسجود لله الذى بتركه خلده الله فى الجحيم، وذلك لتقدم المعرفة بهيئة الصلاة سننًا وفرائض. وأما إعادة الأضحية فعذر النبى ابن نيار بما توهمه جائزًا له من أجل إكرام الضيف وإطعام جاعة الجيران، فجوز عنه ما لا يجزئ عن أحد بعده، وأوجب عليه الإعادة لتقدم المعرفة بالسنن، وقطع الذريعة إلى الاشتغال بالأكل عن الصلاة الفاضلة التى أمر عليه السلام بإخراج ذوات الخدور والحيض من النساء إليها، لما فى شهودها من الخير وبركة دعوة المسلمين، وأما حديث حذيفة فإنه أسقط الدية عن قاتلى أبيه، وعذرهم بالجهالة؛ لأن دية الخطأ كانت عليهم بنص القرآن، وبقيت الكفارة عليهم فيما بينهم وبين ربهم. وقد يدخل البخارى نصوص الأحاديث المختلفة الألفاظ؛ لاختلاف الناس فيها، وينشرها لأهل النظر والفقه، وليستنبط كل واحد منهم ما يوافق مذهبه، كحديث جابر فى بيع الجمل فيه لفظ اشتراط(6/129)
ظهره، ولفظ إفقار ظهره، والإفقار تفضل، والاشتراط كراء وكحديثه فيما دون الحد من العقوبات، فكذلك أدخل فى هذا الباب أحاديث فى ظاهرها ما يتعارض لينظر الناظر ويتدبر المستبحر فالله أعلم. وإنما يصح معنى الحديث فى نسيان اليمين إذا فات بالموت، فحينئذ يمكن أن يعذر بالنسيان، ويرجى له تجاوز الله وعفوه، وأما متى ذكره فالكفارة تلزمه فيه والله الموفق.
- باب الْيَمِينِ الْغَمُوسِ وَقَوْلِ اللَّه: (َلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا (الآية
[النحل: 94] دَخَلا: مَكْرًا وَخِيَانَةً. / 49 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ النَّبِىّ عليه السلام: (الْكَبَائِرُ: الإشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ) . اليمين الغموس هو أن يحلف الرجل على الشىء وهو يعلم أنه كاذب؛ ليرضى بذلك أحدًا، أو يقتطع بها مالا، وهى أعظم من أن يكفر، وجمهور العلماء لا يرى فيها الكفارة، وهو قول(6/130)
النخعى والحسن البصرى ومالك ومن تبعه من أهل المدينة، والأوزاعى فى أهل الشام، والثورى وسائر أهل الكوفة، وأحمد وإسحاق وأبى ثور وأبى عبيد وأصحاب الحديث. وفيها قول ثانٍ روى عن الحكم بن عتيبة وعطاء: أن اليمين الغموس فيها كفارة. قال عطاء: ولا يريد بالكفارة إلا خيرًا. وهو قول الشافعى، واحتج الشافعى بأن قال: جاءت السنة فيمن حلف ثم رأى خيرًا مما حلف عليه أن يُحنث نفسه ثم يكفر، وهذا قد تعمد الحنث وأمر بالكفارة، فقيل له: النبى أمره أن يحنث فعلم أن ذلك طاعة فينبغى أن يُجوز للحالف باليمين الغموس أن يحلف ويكون ذلك طاعة فلما كان عاصيًا والحانث مطيعًا؛ افترق حكمهما. قال ابن المنذر: وقوله عليه السلام: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها، فليأت الذى هو خير ويكفر) يدل أن الكفارة إنما تجب فيمن حلف على فعل يفعله فيما يستقبل فلا يفعله، أو على فعل لا يفعله فيما يستقبل ففعله، وليس هذا المعنى فى اليمين الغموس، ألا ترى أن الرجل إذا حلف على المستقبل أو قاله من غير أن يحلف عليه، فإنما عقد شيئًا قد يكون وقد لا يكون، فخرج من باب الكذب. قال إسماعيل: وينبغى للشافعى ألا يسمى من تعمد الحلف على الكذب آثمًا إذا كفر يمينه؛ لأن الله جعل الكفارة فى تكفير اليمين، وقد قال تعالى: (ويحلفون على الكذب وهم يعلمون أعد الله لهم عذابًا شديدًا إنهم ساء (الآية. وقال ابن مسعود: كنا نعد الذنب الذى لا كفارة له اليمين الغموس أن يحلف الرجل على مال أخيه(6/131)
كاذبًا ليقتطعه - ولا مخالف له من الصحابة، فصار كالإجماع، وقد أخبر عليه السلام أن من فعل ذلك فقد حرم الله عليه الجنة، وأوجب له النار. قال ابن المنذر: وأما قوله: (وإنهم ليقولون منكرًا من القول وزورًا (فلا يجوز أن يقاس ذلك على اليمنى الغموس؛ لأنه لا يقاس أصل على أصل، ولو جاز قياس أحدهما على الآخر لكان أحدهما فرعًا، وللزم أن يكون على الحالف بهذه اليمين التى شبهت بالظهار كفارة الظهار، وليس لأحد أن يوجب كفارة إلا حيث أوجبها الله ورسوله. ومن الحجة فى إسقاط الكفارة حديث عبد الله بن عمرو وقد أجمعت الأمة أن الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس لا كفارة فيها، وإنما كفارتها تركها والتوبة منها فكذلك اليمين الغموس حكمها حكم ما ذكر معها فى الحديث فى سقوط الكفارة. والدليل على أن الحالف بها لا يسمى عاقدًا ليمينه قوله تعالى: (لا يؤاخذكم الله باللغو فى أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان (والعقد فى اللغة عبارة عن الإلزام والتوثق، يقال: عقدت على نفسى أن أفعل أى: التزمت، فمن قال: لقيت زيدًا. وما لقيه، فلم يلزم نفسه شيئًا، ولا ألزم غيره أمرًا يجب الامتناع منه أو(6/132)
الإقدام عليه، فلا يسمى عاقدًا، ومعنى الاستيثاق: وهو أن يستوثق بالعقد حتى لا يواقع المحلوف عليه، وهذا معنىُ لا يحصل فى اليمين الغموس؛ لأنها منحلة بوجود الحنث معها، فلا يسمى عقدًا، ألا ترى أن اللغو لما لم يكن يمينًا معقودة لم تجب فيها كفارة، كذلك اليمين الغموس، عن ابن القصار.
- باب قوله تَعَالَى) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ (الآية [آل عمران: 77] وَقَوْلِهِ: (وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأيْمَانِكُمْ) [البقرة: 224] وَقَوْلِهِ: (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا (إلى) كَفِيلا) [النحل: 91]
/ 50 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ، يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَقِىَ اللَّهَ، وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ (الآيَةِ، وذكر الحديق. وبهذه الآيات والحديث احتج جمهور العلماء فى أن اليمين الغموس لا كفارة فيها؛ لأنه عليه السلام ذكر فى هذه اليمين المقصود بها الحنث والعصيان العقوبة والإثم ولم يذكر هاهنا كفارة، ولو كان هاهنا كفارة لذكرها كما ذكر فى اليمين المعقودة فقال: (فليكفر عن يمينه وليأت الذى هو خير) ويقوى هذا المعنى قوله عليه السلام فى المتلاعنين بعد تكرار أيمانهما: (الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟) ولم يوجب كفارة، ولو وجبت لذكرها كما قال: (هل منكما تائب؟) .(6/133)
قال ابن المنذر: والأخبار دالة على أن اليمين التى يحلف بها الرجل يقتطع بها مالا حرامًا هى أعظم أن يكفرها ما يكفر اليمين، ولا نعلم سنةً تدل على قول من أوجب فيها الكفارة، بل هى دالة على قول من لم يوجبها، قال تعالى: (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقووا وتصلحوا بين الناس (قال ابن عباس: هو الرجل يحلف ألا يصل قرابته، فجعل الله له مخرجًا فى التفكير، وأمره ألا يعتل بالله، ويكفر يمينه ويبر. ويمين الصبر هو أن يحبس السلطان الرجل على اليمين حتى يحلف بها، ويقال: صبرت يمينه أى: حلفته بالله.
- باب الْيَمِينِ فِيمَا لا يَمْلِكُ وَفِى الْمَعْصِيَةِ وَفِى الْغَضَبِ
/ 51 - فيه: أَبُو مُوسَى، أَرْسَلَنِى أَصْحَابِى إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) أَسْأَلُهُ الْحُمْلانَ، فَقَالَ: (وَاللَّهِ لا أَحْمِلُكُمْ عَلَى شَىْءٍ) ، وَوَافَقْتُهُ، وَهُوَ غَضْبَانُ، فَلَمَّا أَتَيْتُهُ، قَالَ: (انْطَلِقْ إِلَى أَصْحَابِكَ، فَقُلْ: إِنَّ اللَّهَ، أَوْ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَحْمِلُكُمْ) . / 52 - وفيه: عَائِشَةَ، حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإفْكِ مَا قَالُوا، فَبَرَّأَهَا اللَّهُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِى قَالَ لِعَائِشَةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا) [النور: 22] ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى، وَاللَّهِ إِنِّى لأحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِى، فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِى كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لا أَنْزِعُهَا مَنْهُ أَبَدًا. / 53 - وفيه: أَبُو مُوسَى، أَتَيْتُ النَّبِىّ، عليه السَّلام، فِى نَفَرٍ مِنَ(6/134)
الأشْعَرِيِّينَ، فَوَافَقْتُهُ، وَهُوَ غَضْبَانُ، فَاسْتَحْمَلْنَاهُ، فَحَلَفَ أَنْ لا يَحْمِلَنَا، ثُمَّ قَالَ: (وَاللَّهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ لا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، إِلا أَتَيْتُ الَّذِى هُوَ خَيْرٌ، وَتَحَلَّلْتُهَا) . واليمين فيما لا يملك فى حديث الأشعريين معناه أن النبى حلف ألا يحملهم، فكان ظاهر هذه اليمين الإطلاق والعموم، ثم آنسهم بقوله: (وما عندى ما أحملكم عليه) ومثال هذا أن يحلف رجل ألا يهب ولا يتصدق ولا يعتق، وهو فى حال يمينه لا يملك، ثم يطرأ له بعد ذلك مال، فيهب أو يتصدق أو يعتق، فعند جماعة الفقهاء تلزمه الكفارة إن فعل شيئًا من ذلك، كما فعل عليه السلام بالأشعريين، أنه تحلل من يمينه، وأتى الذى هو خير، ولو حلف ألا يهب ولا يتصدق ما دام معدمًا، وجعل العدم عله لامتناعه من ذلك، ثم طرأ له بعد ذلك مال، لم يلزمه عند الفقهاء كفارة إن وهب أو تصدق أو أعتق، لأنه إنما أوقع يمينه على حالة العدم لا على حالة الوجود، هذا ما فى حديث أبى موسى من معنى اليمين فيما لا يملك. واختلفوا من هذا المعنى إذا حلف الرجل يعتق ما لا يملك إن ملكه فى المستأنف، فقال مالك: إن عين أحدًا أو قبيلة أو جنسًا لزمه العتق، وإن قال: كل مملوك أملكه أبدًا حر، لم يلزمه عتق، وكذلك فى الطلاق إن عين قبيلة أو بلدة أو صفة ما، لزمه الحنث، وإن لم يعين لم يلزمه. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يلزمه الطلاق والعتق سواء عم أو خص. وقال الشافعى: لا يلزمه ما خص ولا ما عم.(6/135)
وحجة مالك أن الله نهى عباده أن يحرموا ما أحل لهم، ومن استثنى موضع نكاح أو عتق، فلم يحرم على نفسه كل ما أحل الله له. وحجة الكوفيين أنها طاعة لله يلزمه الوفاء بها إن قدر عليها، ومخرجها مخرج النذر كما يقول مالك فى الأيمان. وحجة الشافعى قوله عليه السلام: (لا نذر فى معصية، ولا فيما لم يملك ابن آدم) . وإذا لم يلزمه النذر فيما لا يملك فاليمين أولى ألا تلزمه، وأما الطلاق فإن الله - تعالى - إنما جعله فى كتابه بعد النكاح، فقال تعالى) إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن (و (ثم) لا توجب غير التعقيب. وأجمعوا إذا حلف بعتق عبيد غيره، أنه لا يلزمه شىء من ذلك، إلا ابن أبى ليلى فإنه كان يقول: إن كان موسرًا بأثمانهم لزمه عتقهم. ثم رجع عن ذلك. وإن حلف على غيره مثل: أن يحلف على امرأته النصرانية أن تسلم، أو حلفه على رجل ليسلفنه مالا، أو حلف على غريمه ليقضينه حقه، فإن ضرب لذلك أجلا وكان الدين إلى أجل أُخر إلى الأجل وإن لم يقض، وإلا تلوم له على قدر ما يراه. هذا قول ابن القاسم عن مالك قال مالك: إن لم يضرب لذلك أجلا، فلا يكون من امرأته موليًا إن حلف بالطلاق، ولكن يتلوم له على قدر الطلبة إلى المحلوف عليه بفعل ما حلف عليه. وروى ابن الماجشون عن مالك وغيره من علماء المدينة: إن حلف(6/136)
بالطلاق، أو بالعتاق على فعل غيره مثل حلفه على فعل نفسه فى جميع وجوه ذلك، ويدخل عليه الإيلاء فى حلفه بالطلاق. وأما حديث عائشة فى يمين أبى بكر ألا ينفق على مسطح، فإنما هى يمين فى ترك طاعة وفضيلة فى حال غضبه، ولا خلاف بين علماء المدينة فى وجوب الكفارة على من حلف أن يمتنع من فعل الطاعة إذا رأى غير ما حلف عليه، وكذلك فعل أبو بكر كفر عن يمينه. وجمهور الفقهاء يلزمون الغاضب الكفارة، ويجعلون غضبه مؤكدًا ليمينه، وقد روى عن ابن عباس أن الغضبان يمينه لغو، ولا كفارة فيها. وروى عن مسروق، والشعبى، وجماعة أن الغضبان لا يلزمه يمين ولا طلاق ولا عتق، واحتجوا بقوله عليه السلام: (لا طلاق فى إغلاق، ولا عتق قبل ملك) وفى حديث الأشعريين رد لهذه المقالة، لأن النبى - عليه السلام - حلف وهو غاضب ثم قال: (والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتيت الذى هو خير وتحللتها) وهذه حجة قاطعة، وكذلك فعل أبو بكر. وأما الحديث (لا طلاق فى إغلاق) فليس بثابت، ولا مما يعارض به مثل هذه الأحاديث الثابتة، وتأول المدنيون والكوفيون معنى هذا الحديث (لا طلاق فى إغلاق) يعنى لا طلاق فى إكراه، هذا معنى الحديث عندهم. وأما اليمين فى المعصية فليس هذا الباب موضعه، وسيأتى عند قوله عليه السلام: (من نذر أن يعصى الله فلا يعصه) ، إن شاء الله.(6/137)
- باب إِذَا قَالَ: وَاللَّهِ لا أَتَكَلَّمُ الْيَوْمَ، فَصَلَّى، أَوْ قَرَأَ، أَوْ سَبَّحَ، أَوْ كَبَّرَ، أَوْ حَمِدَ، أَوْ هَلَّلَ، فَهُوَ عَلَى نِيَّتِهِ
وَقَالَ عليه السَّلام: (أفْضَلُ الْكَلامِ أَرْبَعة: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ) . وقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: كَتَبَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى هِرَقْلَ: (تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) [آل عمران 64] ، قَالَ مُجَاهِدٌ: كَلِمَةُ التَّوحيد: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ. / 54 - فيه: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ، جَاءَهُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (قُلْ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ) . / 54 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ عليه السَّلام: (كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِى الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ) . / 56 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، كَلِمَةً وَقُلْتُ أُخْرَى، قَالَ: (مَنْ مَاتَ يَجْعَلُ لِلَّهِ نِدًّا أُدْخِلَ النَّارَ) ، وَقُلْتُ أُخْرَى: مَنْ مَاتَ لا يَجْعَلُ لِلَّهِ نِدًّا أُدْخِلَ الْجَنَّةَ. أما قول البخارى: فهو على نيته. فالمعنى عند العلماء فى الحالف ألا يتكلم اليوم أنه محمول على كلام الناس لا على التلاوة والتسبيح، وقد أجمعوا أن الكلام محرم فى الصلاة، وأن تلاوة القرآن وفيها من القربات إلى الله - تعالى - وقال زيد بن أرقم: لما نزلت: (وقوموا لله قانتين (أمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام، فتراه نهى عن القراءة؟ . وقال عليه السلام: (إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شىء من كلام(6/138)
الناس، إنما هو التهليل والتحميد وتلاوة القرآن) ، فحكم للذكر كله والتلاوة بغير حكم كلام الناس، والحالف إذا حلف ألا يتكلم، فإنما هو محمول عند العلماء على كلام الناس، لا على الذكر والتلاوة وهذا لا أعلم فيه خلافا، إلا أنه إذا نوى ألا يقرأ ولا يذكر الله فهو على نيته كما قال البخارى. وأجمعوا أنه إذا حلف ألا يتكلم وتكلم بالفارسية أو بأى لغة تكلم أن حانث، ويشبه معنى هذا الباب إذا حلف ألا يكلم رجلا فكتب إليه أو أرسل إليه رسولا، فقال مالك: يحنث فيهما جميعًا إلا أن تكون له نية على المشافهة، ثم ذكر أنه رجع بعد ذلك فقال: لا ينوى فى الكتاب، وأراه حانثًا إلا أن يرتجع الكتاب قبل وصوله فلا يحنث. وحكى ابن أبى أويس أنه قال: الرسول أهون من الكتاب؛ لأن الكتاب سر لا يعلمه إلا هو وصاحبه، وإذا أرسل إليه رسولا علم ذلك الرسول. وقال الكوفيون والليث والشافعى: لا يحنث فيهما. وهو قول ابن أبى ليلى، وقال أبو ثور: لا يحنث فى الكتاب. واختلفوا إذا أشار إليه بالسلام، فقال مالك: يحنث. واحتج ابن حبيب فى أن الإشارة بالسلام كلام بقوله تعالى لزكريا: (ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا (. وقال عيسى عن ابن القاسم: ما أرى الإشارة بالسلام كلامًا. وقال محمد بن عبد الحكم: لا يحنث فى الإشارة بالسلام، ولا فى الرسول، ولا فى الكتاب؛ لأنه لم يكلمه فى ذلك كله.(6/139)
واحتج أبو عبيد فقال: الكلام غير الخط والإشارة، وأصل هذا - قال -: أن الله قال لزكريا: (آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا (. وقال فى موضع آخر: (فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا (والرمز: الإشارة بالعين والحاجب. والوحى: الخط والإشارة، ويقال: كتب إليهم وأشار إليهم وفى قصة مريم: (إنى نذرت للرحمن صومًا فلن أكلم اليوم إنسيا (ثم قال: (فأشارت إليه (فصار الإيماء والخط خارجين من معنى النطق. واختلفوا لو سلم على قوم هو فيهم، فقال مالك والكوفيون: قد حنث، قال ابن القاسم عن مالك: علم أنه فيهم أو لم يعلم إلا أن يحاشيه. وقال الشافعى: لا يحنث إلا أن ينويه بالسلام. واحتج أبو عبيد لقول مالك والكوفيين فقال: ومما يبين أن السلام كلام أن إمامًا لو سلم بين ركعتين متعمدًا كان قاطعًا للصلاة، كما يقطعها المتكلم، وقد نهى النبى عن الهجرة وأمر بإفشاء السلام، فبان بأمره بهذا ونهيه عن هذا أنهما متضادان، وأن المسلم على صاحبه ليس بهاجر له.(6/140)
ولو صلى ورآه فرد عليه السلام، فقال ابن القاسم: لا يحنث؛ لأن رده السلام من سنة الصلاة، وليس من معنى، المكالمة. وقال ابن وهب: يحنث؛ لأنه كان قادرًا على أن يجتزئ بتسليمه عن يمينه وأخرى عن يساره ولا يرد على الإمام، وقالوا: لو تعايا ففتح عليه الحالف حنث، ولو كتب إليه المحلوف عليه، فروى عيسى وأبو زيد عن ابن القاسم أنه إذا قرأ كتابه حنث. وقال ابن حبيب: لا يحنث، وكذلك روى أصبغ عن ابن القاسم.
- باب مَنْ حَلَفَ أَنْ لا يَدْخُلَ عَلَى أَهْلِهِ شَهْرًا فَكَانَ الشَّهْرُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ
/ 57 - فيه: أَنَسٍ، آلَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ نِسَائِهِ، وَكَانَتِ انْفَكَّتْ رِجْلُهُ، فَأَقَامَ فِى مَشْرُبَةٍ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ نَزَلَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آلَيْتَ شَهْرًا؟ فَقَالَ: (إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ) . قال الطحاوى: ذهب قوم إلى أن الرجل إذا حلف ألا يكلم رجلا شهرًا، فكلمه بعد مضى تسعة وعشرين يومًا أنه لا يحنث، واحتجوا بهذا الحديث، وخالفهم فى ذلك آخرون فقالوا: إن حلف مع رؤية الهلال فهو على ذلك الشهر كان ثلاثين يومًا أو تسعة وعشرين، وإن كان حلف فى بعض شهر فيمينه على ثلاثين يومًا. وهو قول مالك والكوفيين والشافعى، واحتجوا بقوله عليه السلام: (الشهر تسعة وعشرون يومًا، فإن غم عليكم فأكملوا ثلاثين) ، أفلا تراه(6/141)
أوجب عليهم ثلاثين يومًا وجعله على الكمال حتى يروا الهلال قبل ذلك؟ وأخبر أنه إنما يكون تسعة وعشرين برؤية الهلال قبل الثلاثين، وقد روى هذا عن الحسن البصرى، ودل نزوله من المشربة لتسع وعشرين أنه كان حلف مع غرة الهلال، هذا وجه الحديث، ومن هذا الحديث قال مالك وأبو حنيفة والشافعى: إنه من نذر صوم شهور بغير عينها فله أن يصومها للأهلة أو لغير الأهلة، فإن صامها للأهلة فكان الشهر تسعة وعشرين يومًا أجزأه، وما صام لغير الأهلة أكملها ثلاثين يومًا. وروى ابن وهب عن مالك: من أفطر رمضان كله فى سفر أو مرض فكان تسعة وعشرين يومًا، فأخذ فى قضائه شهرًا فكان ثلاثين يومًا؛ أنه يصومه كله، وإن كان شهر القضاء تسعة وعشرين يومًا ورمضان ثلاثين يومًا أجزأه. وقال محمد بن عبد الحكم: إنما يصوم عدد الأيام التى أفطر. وفى رواية ابن وهب مراعاة شهر القضاء، وعلى قول ابن عبد الحكم مراعاة الشهر الفائت، وهو أصح فى القياس؛ لأن الله افترض عليه عدد الأيام التى أفطر.
- باب من حَلَفَ أَنْ لا يَشْرَبَ النَبِيذ فَشَرِبَ الطِلاء، أَوْ سَكَرًا، أَوْ عَصِيرًا، لَمْ يَحْنَثْ فِى قَوْلِ بَعْضِ النَّاسِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ بِأَنْبِذَةٍ عِنْدَهُ
/ 58 - فيه: سَهْل، أَنَّ أَبَا أُسَيْدٍ صَاحِبَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، عرَسَ، فَدَعَا النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) لِعُرْسِهِ، فَكَانَتِ الْعَرُوسُ خَادِمَهُمْ، فَقَالَ سَهْلٌ لِلْقَوْمِ: هَلْ تَدْرُونَ(6/142)
مَا سَقَتْهُ؟ قَالَ: أَنْقَعَتْ لَهُ تَمْرًا فِى تَوْرٍ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى أَصْبَحَ عَلَيْهِ، فَسَقَتْهُ إِيَّاهُ. / 59 - وفيه: ابْن عَبَّاس، عَنْ سَوْدَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَتْ: مَاتَتْ لَنَا شَاةٌ، فَدَبَغْنَا مَسْكَهَا، ثُمَّ مَا زِلْنَا نَنْبِذُ فِيهِ حَتَّى صَارَ شَنًّا. قال المؤلف: زعم أبو حنيفة أن الطلاء والعصير ليسا بنبيذ فى الحقيقية، وإنما النبيذ ما نبذ فى الماء ونقع فيه، ومنه سمى المنبوذ منبوذًا، لأنه نبذ أى: طرح. ومعنى قوله: من شرب سكرًا يعنى ما يسكر مما يعصر ولا ينبذ، ويعنى قوله: ما كان عصيرًا: ما كان حديث العصر من العنب ولم يبلغ حد السكر، وبالطلاء ما طبخ من عصير العنب حتى بلغ إلى ما لا يسكر، فلا يحنث عند أبى حنيفة فى شرب شىء من هذه الثلاثة، لأنها لم تنبذ، وإنما يحنث عنده بشرب ما نبذ فى الماء من غير العنب، سواء أسكر أو لم يسكر. قال المهلب: والذى عند جمهور الفقهاء أنه إذا حلف ألا يشرب النبيذ بعينه دون سائر المشروبات أنه لا يحنث بشرب العصير والطبيخ وشبهه، وإن كان إنما حلف على النبيذ خشية منه لما يكون من السكر وفساد العقل كان حانثًا فى كل ما شرب مما يكون فيه المعنى الذى حلف عليه، ويجوز أن تسمى سائر الأشربة من الطبيخ والعصير نبيذًا لمشابهتها له فى المعنى، ومن حلف عندهم ألا يشرب شرابًا ولا نية له، فأى شراب شربه مما يقع عليه اسم شراب فهو حانث.(6/143)
قال المؤلف: ووجه تعلق البخارى من حديث سهل فى الرد على أبى حنيفة هو أن سهلا إنما عرف أصحابه بأنه لم يسق النبى إلا نبيذًا قريب العهد بالانتباذ مما يحل شربه، ألا ترى قوله: (أنقعت له تمرًا فى تور من الليل حتى أصبح عليه فسقته إياه) وكان ينتبذ له عليه السلام ليلا ويشربه غدوة، وينتبذ له غدوة ويشربه عشية، ولو كان بعيد العهد بالانتباذ مما بلغ حد السكر لم يجز أن يسقيه النبى - عليه السلام - ففهم من هذا أن ما بلغ حد السكر من الأنبذة حرام كالمسكر من عصير العنب، وأن من شرب مسكرًا من أى نوع سواء كان معتصرًا أو منتبذًا فإنه يحنث لاجتماعهما فى حدوث السكر، وكونها كلها خمرًا. ووجه استدلاله من حديث سودة: أنهم حبسوا مسك الشاة للانتباذ فيه الذى يجوز لهم شربه غير المسكر، ووقع عليه اسم نبيذ، ولو ذكر حديث أنس حين كسر الجرار من نبيذ التمر كان أقرب للتعلق وأوضح للمعنى، لأنهم لم يكسروا جرار نبيذ التمر المسكر، وهم القدوة فى اللغة والحجة فيها، إلا أن معنى نبيذ التمر المسكر فى معنى عصير العنب المسكر فى التحريم، لأنهم كانوا أتقى لله من أن يتلفوا نعم الله ويهريقوها استخفافًا بها، وقد نهى النبى عن إضاعة المال، ولو كان المسكر غير خمر لجاز ملكه وبيعه وشربه وهبته وكانت إراقته من الفساد فى الأرض.(6/144)
- باب إِذَا حَلَفَ أَلاَّ يَأْتَدِمَ فَأَكَلَ تَمْرًا بِخُبْزٍ وَمَا يَكُونُ مِنْهُ الأدْمِ؟
/ 60 - فيه: عَائِشَةَ، مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ خُبْزِ بُرٍّ مَأْدُومٍ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ. / 61 - وفيه: أَنَس، قَالَ أَبُو طَلْحَةَ لأمِّ سُلَيْمٍ: لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ضَعِيفًا أَعْرِفُ فِيهِ الْجُوعَ، فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَىْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَأَخْرَجَتْ أَقْرَاصًا مِنْ شَعِيرٍ، ثُمَّ أَخرجت خِمَارًا لَهَا، فَلَفَّتِ الْخُبْزَ بِبَعْضِهِ، وَأَرْسَلَتْنِى إِلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَذَهَبْتُ بِهِ، فَوَجَدْتُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فِى الْمَسْجِدِ، وَمَعَهُ النَّاسُ. . . . الحديث. . فَأَتَتْ بالْخُبْزِ، وأَمَرَ بِهَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَفُتَّ وَعَصَرَتْ عُكَّةً لَهَا، فَأَدَمَت، ثُمَّ قَالَ فِيهِ النَّبِىّ، عليه السَّلام، مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ. . . . . الحديث. اختلف العلماء فيمن حلف ألا يأكل إدامًا فأكل لحمًا مشويًا، فقال مالك والشافعى، قد حنث كما لو أكل زيتًا وخلا. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: الإدام ما يصطبغ به مثل الزيت والعسل والخل، فأما ما لا يصطبغ به مثل اللحم المشوى والجبن والبيض فليس بإدام. وقال محمد: ما كان الغالب فيه أنه يؤكل بالخبز فهو إدام. واحتج الكوفيون أن حقيقة الإدام هو اسم للجمع بين شيئين، قال عليه السلام: (إذا أراد أحدكم أن يتزوج المرأة فلينظر إليها قبل أن يتزوجها، فإنه أحرى أن يؤدم بينهما) معناه يجمع بينهما، وليس كل اسم يتناوله إطلاق الاسم، بدليل أن من جمع بين لقمتين لا يسمى بهذا الاسم، وإنما المراد أن يستهلك فيه الخبز ويكون تابعًا له بأن(6/145)
تتداخل أجزاؤه بأجزاء غيره، وهذا لا يحصل إلا فيما يصطبغ به وهذا الوجه مجمع عليه، وما سواه مختلف فيه؛ فلا يصح إثباته إلا بلغة أو عادة، وقد قال تعالى: (وصبغ للآكلين (. قال ابن القصار: فيقال لهم: لا خلاف بين أهل اللغة أن من أكل خبزًا بلحم مشوى انه قد ائتدم به، ولو قال: أكلت خبزى بلا أدم لكان كاذبًا. ولو قال: أكلت خبزى بإدام كان صادقا. فيقال لهم: أما قولكم: إن الأدم اسم للجمع بين شيئين، فكذلك نقول، وليس الجمع بين الشيئين هو امتزاجهما واختلاطهما، بل هو صفة زائدة على الجمع؛ لأننا نعلم أن الخبز بالعسل ليس يستهلك أحدهما صاحبه، ولا الخبز مع الزيت أيضًا، فلم يراع فى الشريعة فى الجمع الاستهلاك، وأما الخل والزيت فهو وإن يشربه فليس يستهلك فيه ولو كان كذلك لم يبن لونه ولا طعمه، وإنما المراعى فى الجمع بين الشيئين فى الأكل هو أن يؤكل هذا بهذا على طريق الائتدام به، سواء كان مائعًا أو غير مائع كالسمن الذائب والعسل. قال غيره: والدليل على أن كل ما يؤتدم به يسمى إدامًا ما روى عن النبى - عليه السلام - أنه قال: (تكون الأرض خبزة يوم القيامة، إدامها زائدة كبد نون وثور) ، فجعل الكبد إدامًا، فكذلك التمر، وكل شىء غير مائع فهو إدام كالكبد. وروى حفص بن غياث عن محمد بن أبى يحيى الأسلمى، عن يزيد الأعور، عن ابن أبى أمية، عن يوسف، عن عبد الله بن سلام قال: (رأيت النبى(6/146)
- عليه السلام - أخذ كسرة من خبز شعير، فوضع عليها تمرة وقال: هذه إدام هذه، فأكلها) . وروى القاسم بن محمد عن عائشة قالت: (دخل على رسول الله والبرمة تفور بلحم، فقربت إليه أدمًا من أدم البيت، فقال: ألم أر برمة فيها لحم. . .) الحديث، فدل هذا الحديث أن كل ما فى البيت مما جرت العادة بالائتدام به فهو إدام، مائعًا كان أو جامدًا.
- باب النِّيَّةِ فِى الأيْمَانِ
/ 62 - فيه: عُمَرَ، قَالَ عليه السَّلام: (إِنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لامْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ) . قال المهلب وغيره: إذا كانت اليمين بين العبد وربه وأتى مستفتيًا، فلا خلاف بين العلماء أنه ينوى ويحمل على نيته، وأما إذا كانت اليمين بينه وبين آدمى وادعى فى نية اليمين غير الظاهر لم يقبل قوله، وحمل على ظاهر كلامه إذا كانت عليه بينة بإجماع. وإنما اختلفوا فى النية إذا كانت نية الحالف أو نية المحلوف له، فقالت طائفة: النية فى حقوق الآدميين نية المحلوف له على كل حال، وهو قول مالك. وقال آخرون: النية نية الحالف أبدًا، وله أن يورى ويورك، واحتجوا بقوله: (الأعمال بالنيات) .(6/147)
وحجة مالك أن الحالف إنما ينبغى أن تكون يمينه على ما يدعى عليه صاحبه؛ لأنه عليه يحلفه. وقد أجمعوا على أنه لا ينتفع بالتورية إذا اقتطع مال امرئ مسلم بيمينه، فكذلك لا ينتفع بالتورية فى سائر الأيمان، وسيأتى اختلافهم فى يمين المكره، وحيث تجوز التورية فى آخر كتاب الإكراه وأول كتاب ترك الحيل - إن شاء الله - وشىء منه مذكور فى باب المعاريض مندوحة عن الكذب فى آخر كتاب الأدب أيضًا.
- باب إِذَا أَهْدَى مَالَهُ عَلَى وَجْهِ النَّذْرِ أوَ التَّوْبَةِ
/ 63 - فيه: كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، فِى حَدِيثِهِ: (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) [التوبة: 118] ، فَقَالَ فِى آخِرِ حَدِيثِهِ: إِنَّ مِنْ تَوْبَتِى أَنِّى أَنْخَلِعُ مِنْ مَالِى. اختلفوا فى الرجل يقول: مالى فى سبيل الله. فقالت طائفة: لا شىء عليه. هذا قول الشعبى، وابن أبى ليلى، والحكم، وطاوس. وفيها قول ثان: أن عليه كفارة يمين. روى عن عمر، وابن عباس، وابن عمر، وعائشة، وهو قول عطاء، وإليه ذهب الثورى، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وفيها قول ثالث: وهو أن يتصدق من ماله بقدر الزكاة. روى هذا القول أيضًا عن ابن عمر وابن عباس، وبه قال ربيعة. وفيها قول رابع: وهو أن يخرج ثلث ماله فيتصدق به، وهو قول مالك.(6/148)
وفيها قول خامس: وهو أن يخرج ماله كله، روى هذا عن النخعى، وهو قول أبى حنيفة وزفر، إلا أن أبا حنيفة قال: يتصدق بالأموال التى تجب فيها الزكاة خاصة، وقال زفر: يحبس لنفسه من ماله قوت شهرين ثم يتصدق بمثله إذا أفاد. وحجة من قال: لا يلزمه شىء أنه لو قال: مالى حرام، لم يحرم عليه بإجماع، فكذلك فى هذه المسألة. واحتج الشافعى بما رواه أبو الخير عن عقبة بن عامر أن النبى - عليه السلام - قال: (كفارة النذر كفارة يمين) فظاهره يقتضى أن كل نذر كفارته كفارة يمين إلا ما قام دليله. وذهب ربيعة إلى أن الزكاة جعلها الله طهرًا للأموال، فكذلك هذا الحالف بصدقة ماله يطهره ما تطهر الزكاة. واحتج أبو حنيفة بقوله تعالى: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن (الآية، فبين تعالى أنه لما لم يفوا بما عاهدوا الله عليه استحقوا الوعيد والذم، فلزمهم الوفاء به. واحتج ابن شهاب لمن قال: يجزئه الثلث بأن النبى - عليه السلام - قال لكعب بن مالك حين قال: إن من توبتى أن أنخلع من مالى صدقة لله قال: (أمسك عليك بعض مالك) وقال عليه السلام لأبى لبابة فى مثل ذلك: (يكفيك الثلث) . فكان حديث أبى لبابة مبينًا لما أجمل فى حديث كعب من مقدار الجزء المتصدق به، فثبت التقدير بحديث أبى لبابة، وسقطت سائر الأقاويل.(6/149)
قال ابن القصار: ومن الحجة لمالك قوله: (ولا تنس نصيبك من الدنيا (فأمر الله - تعالى - نبيه بأن لا ينسى نصيبه من الدنيا لما بالخلق ضرورة إليه من القوت وما لا بد منه، ووجب الاقتصار على إخراج الثلث، لحديث أبى لبابة، ويدل على صحة هذا القول أن المريض لما منع من إخراج ماله إلا الثلث، نظرًا لورثته وإبقاء عليهم، وجب أن يبقى المرء على نفسه قصد إخراج ماله كله. وأما من قال: يخرج زكاة ماله. فلا وجه له، لأن الزكاة تجب على الإنسان سواء نذرها أم لا. وأما قول أبى حنيفة أنه لا يخرج إلا الأموال التى تجب فيها الزكاة فقط، فإننا نقول: إن الأموال تشتمل على ما فيه الزكاة وعلى ما لا زكاة فيه، قال تعالى: (وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم (ولم يفرق بين عبيدهم وعروضهم، وبين العين والورق، والحرث والماشية.
- باب إِذَا حَرَّمَ طَعَامًا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِى مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ) [التحريم: 1] ، وَقَوْلُهُ: (لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ) [المائدة: 87]
. / 64 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلا، فَتَوَاصَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ أَنَّ أَيَّتَنَا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَلْتَقُلْ له: إِنِّى أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ، أَكَلْتَ مَغَافِيرَ، فَدَخَلَ(6/150)
عَلَى إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: لا، بَلْ شَرِبْتُ عَسَلا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَلَنْ أَعُودَ لَهُ، فَنَزَلَتْ: (يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ (، إلى) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ (لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ،) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِىُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا) [التحريم: 3] لِقَوْلِهِ: بَلْ شَرِبْتُ عَسَلا. وقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، عَنْ هِشَامٍ: وَلَنْ أَعُودَ لَهُ، وَقَدْ حَلَفْتُ فَلا تُخْبِرِى بِذَلِكِ أَحَدًا. اختلف العلماء فيمن حرم على نفسه طعامًا أو شرابًا أحله الله له، فقالت طائفة: لا يحرم عليه ذلك وعليه كفارة يمين. هذا قول أبى حنيفة وأصحابه والأوزاعى. وقال مالك: لا يكون الحرام يمينًا فى طعام ولا شراب إلا فى المرأة فإنه يكون طلاقًا يحرمها عليه. وروى الربيع عن الشافعى: إن حرم على نفسه طعامًا أو شرابًا فهو حلال له ولا كفارة عليه، كقول مالك. وروى عن بعض التابعين أن التحريم ليس بشىء، وسواء حرم على نفسه زوجته أو شيئًا من ماله لا تلزمه كفارة فى شىء من ذلك، وهو قول أبى سلمة ومسروق والشعبى. وحجة من لم يوجب الكفارة حديث عائشة أن الآية نزلت فى شرب العسل الذى حرمه النبى (صلى الله عليه وسلم) على نفسه لم تذكر فى ذلك كفارة. وحجة من أوجب الكفارة فى ذلك أنه زعم أن سبب نزل الآية أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حرم جاريته القبطية على نفسه؛ لأنه أصابها فى بيت(6/151)
حفصة وفى يومها، وقيل: كان فى بيت عائشة، ذكره الزجاج فوجدت حفصة من ذلك وقالت: يا رسول الله، لقد جئت إلى شيئًا ما جئته إلى أحد من أزواجك فى يومى، وفى بيتى وعلى فراشى، فقال: ألا ترضين أن أحرمها فلا أقربها، فحرمها وقال لها: لا تذكرى ذلك لأحد، فذكرت ذلك لعائشة، فأظهره الله عليه، فنزلت الآيات، وكفر النبى يمينه وأصاب جاريته، هذا قول قتادة وغيره. قال إسماعيل بن إسحاق: والحكم فى ذلك واحد؛ لأن الأمة لا يكون فيها طلاق فتطلق بالتحريم، فكان تحريمها كتحريم ما يؤكل ويشرب، ولعل القصتين كانتا جميعًا فى وقتين مختلفين، غير أن أمر الجارية فى هذا الموضع أشبه، لقوله تعالى: (تبتغى مرضات أزواجك (ولقوله تعالى: (وإذ أسر النبى إلى بعض أزواجه حديثا (فكان ذلك فى الأمة أشبه؛ لأن الرجل يغشى أمته فى ستر، ولا يشرب العسل فى ستر، وتحريم الأمة فيه مرضاة لهن، وتحريم الشراب إنما حرمه للرائحة، وقد يمكن أن يكون حرمها وحلف كما روى، ويمكن أن يكون حرمها بيمينه بالله؛ لأن الرجل إذا قال لأمته: والله لا أقربك. فقد حرمها على نفسه باليمين فإذا غشيها وجبت عليه اليمين، وإذا قال لأمته: أنت على حرام، فلم يحلف وإنما أوجب على نفسه شيئًا لا يجب فلم تحرم عليه، ولم تكن كفارة؛ لأنه لم يحلف، وقوله لامرأته: أنت على حرام مثل قوله: أنت طالق، فلا تحرم به، وكذلك أنت خلية وبرية(6/152)
وبائن، ليس فى شىء منه يمين، وإنما هو فراق أوجبه الإنسان على نفسه، فإن كان شيئًا يجب وجب، وإن كان شيئًا لا يجب لم يجب، وقد قال عليه السلام: (من نذرك أن يعصى الله فلا يعصه) ، فلم يوجب عليه كفارة كما أوجبها فى قوله: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها، فليكفر عن يمينه) . قال المهلب: والتحريم إنما هو لله - تعالى - ولرسوله، فلا يحل لأحد أن يحرم شيئًا، وقد وبخ الله من فعل ذلك فقال تعالى: (لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم (الآية فجعل ذلك من الاعتداء، وقال: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب (فهذا كله حجة فى أن تحريم الناس ليس بشىء. وقال الكسائى وأبو عمرو المغافير: شىء شبيه بالصمغ يكون فى الرمث، وفيه حلاوة. وقال غيره: وهو شىء ينضحه العُرفط، حلو كالناطف، وله ريح منكرة. وقال أبو عمرو: يقال منه: أغفر الرمث: إذا ظهر ذلك فيه. وفال الكسائى: يقال: قد خرج الناس يتمغفرون: إذا خرجوا يجنونه من ثمره، وواحد المغافير مغفور. وقال غيره: ويقال: مغثور - بالثاء - أيضًا كما يقال: فوم وثوم، وجدف وجدث.(6/153)
بسم الله الرحمن الرحيم
وما توفيقى إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب
- باب الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (يُوفُونَ بِالنَّذْر) [الإنسان: 7]
/ 65 - فيه: ابْن عُمَرَ، رَضِى اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ عليه الصلاة والسَّلام: (إِنَّ النَّذْرَ لا يُقَدِّمُ شَيْئًا وَلا يُؤَخِّرُ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِالنَّذْرِ مِنَ الْبَخِيلِ) . وَقَالَ مرة: لاَ يرد شيئًا. / 66 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، رضى الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَأْتِى بنِى آدَمَ النَّذْرُ بِشَىْءٍ لَمْ أَكُنْ قَدَّرَتَهُ، وَلَكِنْ يُلْقِيهِ النَّذْرُ إِلَى الْقَدَرِ قَدْ قَدَّرَتَهُ، فَيَسْتَخْرِجُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ، فَيُؤْتِى عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ يُؤْتِى عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) . العلماء متفقون أن الوفاء بالنذر إذا كان طاعة واجب لازم لمن قدر عليه؛ لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود (وقوله: (يوفون بالنذر (فمدحهم بذلك، وقوله عليه الصلاة والسلام: (من نذر أن يطع الله فليطعه) وإنما اختلفوا فى اليمين بالطاعة، كالصدقة بالمال أو المشى إلى مكة، فذهب مالك - رحمة الله - إلى أن اليمين بذلك كالنذر، وان كفارتها الوفاء بها، ورأى بعض العلماء أنها أيمان يكفرها ما يكفر اليمين، وليست فى(6/154)
معنى النذر فيلزم الوفاء بها، لأن النذر قصد به التبرر والطاعة لله - عز وجل - وهذه الأيمان إنما قصد بها إلى أشياء من أمور الدنيا، كقولهم: مالى صدقة إن فعلت كذا. فافترقا لهذه العلة - والله أعلم. قال المهلب: وقوله: (لا يقدم شيئًا ولا يؤخره) يعنى من قدر الله ومشيئته. وقوله: (يستخرج به من البخيل) يعنى: من الناس من لا يسمح بالصدقة والصوم إلا إذا نذر شيئًا لخوف أو طمع، فكأنه لولا ذلك الشىء الذى طمع فيه أو خافه لم يسمح بإخراج ما نذره لله تعالى ولا يفعله، فهو بخيل، وسيأتى تفسير هذا الحديث مستوعبًا فى كتاب القدر، إن شاء الله تعالى. وقوله: (فيؤتينى عليه) يعنى فيؤتى ما يجعله الناذر على نفسه لله - تعالى - مما لم يكن يفعله بغير نذر.
- باب إِثْمِ مَنْ لا يَفِى بِالنَّذْرِ
/ 67 - فيه: عِمْرَانَ، رضى الله عنه، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (خَيْرُ الْقٌرُونِ قَرْنِى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِىءُ قَوْمٌ يَنْذِرُونَ وَلا يَفُونَ، وَيَخُونُونَ وَلا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَشْهَدُونَ وَلا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ) .(6/155)
هذا الحديث يوجب الذم والنقص لمن لم يف بالنذر، وهذا من أشراط الساعة، وقرن النبى (صلى الله عليه وسلم) ذم من لم يف بالنذر بخيانة الأمانة شهد به كتاب الله العزيز وجاء به على لسان الرسول، وذلك أن من لم يف لله بما عاهده فقد خان أمانته فى نقضه ما جعل لربه - عز وجل - على نفسه فأشبه ذلك من خان غيره فيما ائتمنه عليه، والأول أعظم خيانة وأشد إثمًا، وأثنى الله - تعالى - على أهل الوفاء فقال: (يوفون بالنذر ويخافون (الآية. فدل هذا أن الوفاء بالنذر مما يدفع به شر ذلك اليوم، وقوله: (ويظهر فيهم السمن) هو كناية عن رغبتهم فى الدنيا، وإيثارهم شهواتها على الآخرة وما أعد الله فيها لأوليائه من الشهوات التى تنفد، والنعيم الذى لا يبيد، فهم يأكلون فى الدنيا كما تأكل الأنعام، ولا يقتدون بمن كان قبلهم من السلف الذين كانت همتهم من الدنيا فى أخذ القوت والبلغة، وتوفير الشهوات إلى الآخرة.
- باب النَّذْرِ فِى الطَّاعَةِ
/ 68 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلا يَعْصِهِ) . النذر فى الطاعة واجب الوفاء به عند جماعة الفقهاء لمن قدر عليه، وإن كانت تلك الطاعة قبل النذر غير لازمة له فنذره لها قد أوجبها عليه؛ لأنه ألزمها نفسه لله - تعالى - فكل من ألزم نفسه شيئًا(6/156)
لله فقد تعين عليه فرض الأداء فيه، وقد ذم الله من أوجب على نفسه شيئًا ولم يف به، قال تعالى: (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم (الآية، وسيأتى اختلاف العلماء فى النذر فى المعصية فى بابه، إن شاء الله.
- باب إِذَا نَذَرَ أَوْ حَلَفَ أَنْ لا يُكَلِّمَ إِنْسَانًا فِى الْجَاهِلِيَّةِ، ثُمَّ أَسْلَمَ
/ 69 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى نَذَرْتُ فِى الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؟ قَالَ: (أَوْفِ بِنَذْرِكَ) . اختلف العلماء فيمن نذر فى الجاهلية نذرًا مما يوجبه المسلمون لله ثم أسلم، فقال الشافعى وأبو ثور: واجب عليه الوفاء بنذره، وإن حنث بعد إسلامه فعليه الكفارة. وهو قول الطبرى. واحتجوا بقوله عليه السلام لعمر: (أوف بنذرك) قالوا: وأوامر الرسول على الوجوب، وهو قول المغيرة المخزومى، والى هذا ذهب البخارى، وحمل قوله: (أوف بنذرك) على الوجوب، فقاس اليمين على النذر، فإن كان النذر مما الوفاء به طاعة فى الإسلام لزمه الوفاء به، وإن كان النذر واليمين مما لا ينبغى الوفاء به، كيمينه ألا يكلم إنسانًا، فعليه الكفارة فى الإسلام، وكذلك يقول الشافعى وأبو ثور فيمن نذر معصية أن عليه كفارة يمين. وقال آخرون: لا يجب عليه شىء من ذلك، وكل من حلف فى كفره فحنث بعد إسلامه فلا شىء عليه فى كل الأيمان. هذا قول مالك والثورى والكوفيين.(6/157)
قال الطحاوى: والحجة فى ذلك قوله عليه السلام: (ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه) وقالوا: لما كانت النذور إنما تجب إذا كانت مما يتقرب بها إلى الله - تعالى - ولا تجب إذا كانت معاصى، وكان الكافر إذا قال: لله على اعتكاف أو صيام، ثم فعل ذلك، لم يكن بذلك متقربًا إلى الله، فأشبه ذلك قوله عليه السلام: (لا نذر فى معصية) لأن ما لم يصح أن يكون طاعة لا يلزم الوفاء به، وقد يجوز أن يكون قول رسول الله لعمر: (أوف بنذرك) ليس على طريق الوجوب، ولكن لما كان عمر قد سمح فى حال نذره أن يفعله، استحب له عليه السلام أن يفى به؛ لأن فعله الآن طاعة لله، فكان ما أمره به خلاف ما أوجبه هو على نفسه؛ لأن الإسلام يهدم أمر الجاهلية وقد تقدم فى كتاب الاعتكاف شىء من معنى هذا الباب فى باب الاعتكاف ليلا.
30 - باب مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرٌ
وَأَمَرَ ابْنُ عُمَرَ امْرَأَةً جَعَلَتْ أُمُّهَا عَلَى نَفْسِهَا صَلاةً بِقُبَاءٍ، فَقَالَ: صَلِّى عَنْهَا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. / 70 - وفيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ اسْتَفْتَى النَّبِىَّ، عليه السَّلام، فِى نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ، فَتُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ، فَأَفْتَاهُ أَنْ يَقْضِيَهُ عَنْهَا، فَكَانَتْ سُنَّةً بَعْدُه.(6/158)
/ 71 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: أَتَى رَجُلٌ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ لَهُ: إِنَّ أُخْتِى قَدْ نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، وَإِنَّهَا مَاتَتْ،؟ فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ) ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَاقْضِ اللَّهَ، فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ) . اختلف العلماء فى وجوب قضاء النذر عن الميت على ورثته، فقال أهل الظاهر: يقضيه عنه وليه، وهو واجب عليه صومًا كان أو مالا. وقال جمهور العلماء: ليس ذلك فى الوارث بواجب، وإن فعل أحسن إن كان صدقة أو عتقًا، واختلفوا فى الصوم. واختلفوا أيضًا إذا أوصى به، فقالت طائفة: هو فى ثلثه. وهو قول مالك، وقال آخرون: كل واجب إذا أوصى به فهو من رأس ماله. وأما أمر ابن عمر وابن عباس بالصلاة بقباء، فهو على وجه الرأى لا على وجه الإلزام، وقد روى عن ابن عمر وابن عباس خلاف ما حكى البخارى عنهما، ذكر مالك فى الموطأ أنه بلغه أن عبد الله بن عمر كان يقول: لا يصلى أحد عن أحدٍ ولا يصوم أحد عن أحد. وروى أيوب بن موسى عن عطاء بن أبى رباح، عن ابن عباس قال: لا يصلى أحد عن أحدٍ ولا يصوم أحد عن أحد. وأجمع الفقهاء أنه لا يصلى أحد عن أحد فرضًا وجب عليه من الصلاة ولا سنة، لا عن حى ولا عن ميت. قال المهلب: لو جاز أن يصلى أحد عن أحد؛ لجاز ذلك فى جميع ما يلزم الأبدان من الشرائع، ولجاز أن يؤمن إنسان عن آخر، وما كان أحد أحق بذلك من النبى - عليه السلام - أن يؤمن عن أبويه وعمه أبى طالب ولما نهى عن الاستغفار لمن استغفر له، ولبطل(6/159)
معنى قوله تعالى: (ولا تكسب كل نفس إلا عليها (وإنما أراد - والله أعلم - كسب الفرائض، وأما النوافل فقد أمر عليه السلام الأعقاب بقضائها عن الأموات وغيرهم تبرعًا بذلك. وقوله: (كانت سنة) أى سنة فى الحض على التبرر عن الميت. قال ابن القابسى: وهذا يدل أن الموتى ينفعهم العمل الصالح، وإن كان من غير أموالهم، وقد قال تعالى: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى (لكن فعل هذا سنة لمن فعله. واختلف العلماء فى النذر الذى كان على أم سعد بن عبادة، فقال: قوم كان صيامًا. واستدلوا بحديث الأعمش عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: (جاء رجل إلى النبى فقال: إن أمى ماتت وعليها صوم، أفأصوم عنها؟ قال: نعم) . قال بعض العلماء: لا يصح أن يجعل حديث الأعمش مفسرًا لحديث الزهرى؛ لأنه قد اختلف فيه على الأعمش، فقال فيه قوم عنه: (إن امرأة جاءت إلى النبى فقالت: يا رسول الله، إن أمى ماتت وعليها صيام) . وهذا يدل أنه ليس السائل عن ذلك سعد بن عبادة، وأنها كانت امرأة، وقد ذكرنا أن ابن عباس كان يفتى بألا يصوم أحد عن أحد. وقال آخرون: إن النذر الذى كان على أم سعد كان عتقا، واستدلوا على ذلك بحديث القاسم بن محمد أن سعد بن عبادة قال:(6/160)
(يا رسول الله، إن أمى هلكت، فهل ينفعها أن أعتق عنها؟ قال: نعم) ، قالوا: وهذا يفسر النذر المجمل فى حديث ابن عباس. وقال آخرون: كان النذر صدقة، واستدلوا بحديث مالك عن سعيد بن عمرو بن شرحبيل بن سعيد بن سعد بن عبادة، عن أبيه، عن جده (أن سعد بن عبادة خرج فى بعض المغازى فحضرت أمه الوفاة، فقيل لها: أوصى، فقالت: فيم أوصى، وإنما المال مال سعد؟ فتوفيت قبل أن يقدم سعد، فلما قدم سعد ذُكر ذلك له، فقال سعد: يا رسول الله، هل ينفعها أن أتصدق عنها؟ فقال: نعم) ، وليس فى هذا بيان النذر المذكور بل الظاهر فى الحديث أنه وصية، والوصية غير النذر، ولا خلاف بين العلماء فى جواز صدقة الحى عن الميت نذرًا كان أو غيره. وقال آخرون: كان نذر أم سعد نذرًا مطلقًا، لا ذكر فيه لصيام ولا عتق ولا صدقة. قالوا: ومن جعل على نفسه نذرًا مبهما فكفارته كفارة يمين. روى هذا عن ابن عباس وعائشة وجابر، وهو قول جمهور الفقهاء. وروى عن سعيد بن جبير وقتادة أن النذر المبهم أغلظ الأيمان، وله أغلظ الكفارات: عتق أو كسوة أو إطعام. والصحيح قول من جعل فيه كفارة يمين، لما رواه ابن أبى شيبة عن وكيع، عن إسماعيل ابن رافع عن خالد بن يزيد، عن(6/161)
عقبة بن عامر قال: قال رسول الله: (من نذر نذرًا لم يسمه فكفارته كفارة يمين) . وأما الحج عن الميت فهو مذكور فى كتاب الحج. قال المهلب: وقوله: (أرأيت لو كان عليها دين) هو تمثيل من النبى (صلى الله عليه وسلم) وتعليم لأمته القياس والاستدلال، ويبين ذلك أن الديون لازمة للأموات فى ذمته، فإن لم تكن لهم ذمة من المال لم يلزمهم الدين إلا فى الآخرة، فحذر النبى - عليه السلام - من أن يبقى على الميت تباعة من دين كان لخلقه أو من طاعة كان نذرها، وعرف أن ما لزمه لله أحق أن يقضى مما لزمه لأحدٍ من عباده حضا وندبًا - والله الموفق.
31 - باب النَّذْرِ فِيمَا لا يَمْلِكُ وَلاَ نَذْرٍ فِى مَعْصِيَةٍ
/ 72 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَ عليه السَّلام: (مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلا يَعْصِهِ) . / 73 - وفيه: أَنَس، قَالَ عليه السَّلام: (إِنَّ اللَّهَ لَغَنِىٌّ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ، وَرَآهُ يَمْشِى بَيْنَ ابْنَيْهِ) . / 74 - وفيه: ابْن عَبَّاس: أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) رَأَى رَجُلا يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ بِزِمَامٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَقَطَعَهُ. وَقَالَ مرة: يَقُودُ إِنْسَانًا بِخِزَامَةٍ فِى أَنْفِهِ، فَقَطَعَهَا النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بِيَدِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَقُودَهُ بِيَدِهِ.(6/162)
/ 75 - وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ مرة: بَيْنَا النَّبِىُّ، عليه السَّلام، يَخْطُبُ، إِذ هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقَالُوا: أَبُو إِسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلا يَقْعُدَ، وَلا يَسْتَظِلَّ، وَلا يَتَكَلَّمَ، وَيَصُومَ، فَقَالَ عليه السَّلام: (مُرْهُ، فَلْيَتَكَلَّمْ، وَلْيَسْتَظِلَّ، وَلْيَقْعُدْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ) . ليس فى هذه الأحاديث شىء من معنى النذر فيما لا يملك، وقد تقدم قبل هذا شىء منه، وإنما فى هذه الأحاديث من نذر معصية أو ما ليس بطاعة. وقد اختلف العلماء فى ذلك، فقال مالك: من نذر معصية كقوله: لله على أن أشرب الخمر أو أزنى أو أسفك دمًا، فلا شىء عليه وليستغفر الله، استدلالا بقوله عليه السلام: (ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه) ولم يذكر كفارة. قال مالك: وكذلك إذا نذر ما ليس لله بطاعة ولا معصية كقوله: لله على أن أدخل الدار أو آكل أو أشرب، فلا شىء عليه أيضًا؛ لأنه ليس فى شىء من ذلك لله طاعة، استدلالا بحديث أبى إسرائيل. قال مالك: ولم أسمع رسول الله أمره بكفارة. وقد أمره أن يتم ما كان لله طاعة، ويترك ما خالف ذلك. وقول الشافعى كقول مالك. وقال أبو حنيفة والثورى: من نذر معصية كان عليه مع تركها كفارة يمين، واحتجوا بحديث عمران بن حصين وأبى هريرة أن الرسول قال: (لا نذر فى معصية الله، وكفارته كفارة يمين) ، وهذا حديث لا أصل له؛ لأن حديث أبى هريرة إنما يدور على سليمان بن أرقم، وهو متروك الحديث، وحديث عمران بن حصين يدور على زهير بن(6/163)
محمد عن أبيه، وأبوه مجهول، لم يرو عنه غير ابنه زهير، وزهير أيضًا عنده مناكير. وفى قوله عليه السلام: (من نذر أن يعصى الله فلا يعصه) حجة لمن قال: إن من نذر ينحر ابنه فلا كفارة عليه؛ لأنه لا معصية أعظم من إراقة دم مسلم بغير حق، ولا معنى للاعتبار فى ذلك بكفارة الظهار فى قول المنكر والزور، كما اعتبر ذلك ابن عباس؛ لأن الظهار ليس بنذر، والنذر فى المعصية قد جاء فيه نص عن النبى - عليه السلام. قال مالك: من نذرك أن ينحر ابنه ولم ولم يقل عند مقام إبراهيم، فلا شىء عليه، وكذلك إن لم يرد أن يحجه، وإن نوى وجه ما ينحر فعليه الهدى. وقال أبو حنيفة: علية شاة إذا حلف أن ينحر ولده. وقال أبو يوسف: لا شىء عليه. وبه يأخذ الطحاوى. وفى حديث أبى إسرائيل دليل على السكوت عن المباح أو عن ذكر الله ليس من طاعة الله، وكذلك الجلوس فى الشمس، وفى معناه كل ما يتأذى به الإنسان مما لا طاعة لله فيه ولا قربة بنص كتاب أو(6/164)
سنة كالجهاد وغيره، وإنما الطاعة ما أمر الله ورسوله مما يُتقرب بعمله لله، ألا ترى أنه عليه السلام أمره بإتمام الصيام لما كان لله طاعة.
32 - باب مَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ أَيَّامًا فَوَافَقَ يَوْم الْفِطْرَ أَو النَّحْرَ
/ 76 - فيه: ابْن عُمَرَ، أن رَجلا سَأله عَنْ رَجُل نَذَرَ أَنْ لا يَأْتِىَ عَلَيْهِ يَوْمٌ إِلا صَامه، فَوَافَقَ يَوْمَ الأَضْحًى أَوْ فِطْرٍ، فَقَالَ: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب: 21] لَمْ يَكُنْ يَصُومُ يَوْمَ الأضْحَى وَالْفِطْرِ، وَلا يَرَى صِيَامَهُمَا. / 77 - وَقَالَ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ: سَأَل ابْنِ عُمَرَ رَجُلٌ، فَقَالَ: نَذَرْتُ أَنْ أَصُومَ كُلَّ يَوْمِ ثَلاثَاءَ - أَوْ أَرْبِعَاءَ - مَا عِشْتُ، فَوَافَقْتُ هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ النَّحْرِ؟ فَقَالَ: (أَمَرَ اللَّهُ بِوَفَاءِ النَّذْرِ، وَنُهِينَا أَنْ نَصُومَ يَوْمَ النَّحْرِ) ، فَأَعَادَ عَلَيْهِ، فَقَالَ مِثْلَهُ، لا يَزِيدُ عَلَيْهِ. العلماء مجمعون أنه لا يجوز لأحد صوم يوم الفطر والنحر، وأن صومهما محرم على قاضٍ فرضًا أو ناذر، ومن نذر صومهما فقد نذر معصية، وهو داخل تحت قوله عليه السلام: (من نذر أن يعصى الله فلا يعصه) . واختلفوا فى قضائهما لمن نذر صيام يوم بعينه فوافقهما، وقد تقدم فى كتاب الصيام، فأغنى عن إعادته.(6/165)
33 - باب هَلْ يَدْخُلُ فِى الأيْمَانِ وَالنُّذُورِ الأرْضُ وَالْغَنَمُ وَالزُّرُوعُ وَالأمْتِعَةُ
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَالَ عُمَرُ لِلنَّبِىِّ عليه السَّلام: أَصَبْتُ أَرْضًا لَمْ أُصِبْ مَالا قَطُّ أَنْفَسَ مِنْهُ، قَالَ: (إِنْ شِئْتَ حَبَّسْتَ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا) . وَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : أَحَبُّ أَمْوَالِى إِلَىَّ بَيْرُحَاءَ لِحَائِطٍ لَهُ مُسْتَقْبِلَةِ الْمَسْجِدِ. / 78 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، خَرَجْنَا مَعَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ خَيْبَرَ، فَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلا فِضَّةً، إِلا الأمْوَالَ وَالثِّيَابَ وَالْمَتَاعَ، فَأَهْدَى رَجُلٌ مِنْ بَنِى الضُّبَيْبِ، يُقَالُ لَهُ: رِفَاعَةُ إلى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) غُلامًا، يُقَالُ لَهُ: مِدْعَمٌ. . . الحديث. قال المهلب: إنما أراد البخارى أن يبين أن المال يقع على كل متملك، ألا ترى قول عمر للنبى: (إنى أصبت أرضًا لم أصب مالا قط أنفس منه) وقول أبى طلحة: (أحب أموالى إلى بيرحاء) . وهم القدوة فى الفصاحة ومعرفة لسان العرب. وأما قوله فى حديث أبى هريرة: (فلم نغنم ذهبًا ولا فضة إلا الأموال والثياب والمتاع) . فقد اختلفت الرواية فى ذلك عن مالك، فروى ابن القاسم عنه مثل رواية البخارى، وروى يحيى بن يحيى وجماعة عن مالك: (إلا الأموال والمتاع والثياب) وإنما تخرج هذه الرواية على لغة دوس قبيل أبى هريرة، فإنها لا تسمى العين مالا، وإنما الأموال عندهم العروض والثياب، وعند غيرهم المال(6/166)
الصامت من الذهب والفضة خاصة، والمعروف من كلام العرب أن كل ما تمول وتملك فهو مال، وإنما أراد البخارى - والله أعلم - الرد على أبى حنيفة فإنه يقول إن من حلف أو نذر أن يتصدق بمال كله، فإنه لا يقع يمينه ولا نذره من الأموال إلا على ما فيه الزكاة خاصة، وعند مالك ومن تبعه تقع يمينه على جميع ما يقع عليه اسم مال، وأحاديث هذا الباب تشهد لقول مالك، وهو الصحيح.(6/167)
بسم الله الرحمن الرحيم
- كِتَاب كَفَّارَة الأيْمَانِ
وقَوْلِ اللَّهِ: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ) [المائدة: 89] ، وَمَا أَمَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) حِينَ نَزَلَتْ: (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) [البقرة: 196] . وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٍ، وَعِكْرِمَةَ: مَا كَانَ فِى الْقُرْآنِ (أَوْ) ، فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ، وَقَدْ خَيَّرَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) كَعْبًا فِى الْفِدْيَةِ. / 1 - فيه: كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، قَالَ: أَتَيْتُهُ - يَعْنِى النَّبِىَّ، عليه السَّلام - فَقَالَ: (ادْنُ) ، فَدَنَوْتُ، فَقَالَ: (أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ) ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ، أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ نُسُكٍ) . وَقَالَ أَيُّوبَ: صِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ، وَالنُّسُكُ شَاةٌ، وَالْمَسَاكِينُ سِتَّةٌ. والعلماء متفقون أن (أو) تقتضى التخيير، وأن الحانث فى يمينه بالخيار إن شاء كسا، وإن شاء أطعم، وإن شاء أعتق. واختلفوا فى مقدار الإطعام فى كفارة الأيمان، فقالت طائفة: يجزئه لكل إنسان مد من طعام بمد النبى - عليه السلام - وروى ذلك عن ابن عباس، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وأبى هريرة، وهو قول عطاء، والقاسم، وسالم، والفقهاء السبعة، وبه قال مالك، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد وإسحاق، غير أن مالكًا قال: إن أطعم بالمدينة فمدًا لكل مسكين؛ لأنه وسط عيشهم وسائر الأمصار وسطًا من عيشتهم.(6/168)
وقال ابن القاسم: يجزئه مد بمد النبى حيث ما أخرجه. وقالت طائفة: يطعم لكل مسكين نصف صاع حنطة، وإن أعطى تمرًا أو شعيرًا فصاعًا صاعًا، روى هذا عن عمر بن الخطاب، وعلى، ورواية عن زيد بن ثابت، وهو قول النخعى، والشعبى، والثورى، وسائر الكوفيين. واحتجوا بحديث كعب بن عجرة أن النبى أمره أن يطعم لكل مسكين نصف صاع حنطة فى فدية الأذى على ما ثبت فى كتاب الحج فى حديث كعب. والحجة للقول الأول أن النبى - عليه السلام - أمر فى كفارة الواقع على أهله فى رمضان بإطعام مد لكل مسكين، وإنما ذكر البخارى حديث كعب بن عجرة فى فدية الأذى فى باب كفارة اليمين من أجل التخيير فى كفارة الأذى كما هى فى كفارة اليمين. قال ابن القصار: ومن الحجة لهذه المقالة قوله تعالى: (فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم (وأوسط ما نطعم أهلينا ما غلب فى العرف، وهو ما يغدى ويعشى ويشبع، وليس فى العرف أن يأكل الواحد صاعًا من شعير أو تمر، الذى هو عندهم ثمانية أرطال، ولا نصف صاع من بر، وهو أربعة أرطال، والحكم معلق على الغالب لا على النادر، ويجوز أن يغدى المساكين ويعشيهم عند مالك والكوفيين، وقال الشافعى: لا يعطيهم المد إلا دفعة واحدة. قال ابن القصار: والجميع عندنا يجوز لقوله: (فكفارته إطعام ((6/169)
ولم يخص، فإن أطعم بالغداة والعشى فقد أطعم، وعلى أصل مالك يجوز أن يغديهم ويعشيهم دون إدام؛ لأن الأصل عنده مد دون إدام. وذهب مالك فى الأدم إلى الزيت، قال إسماعيل: وأحسبه ذهب إلى الزيت؛ لأنه الوسط من أدم أهل المدينة، وقال غيره: من ذهب إلى مد بمد النبى تأول قوله: (من أوسط ما تطعمون (أنه أراد الوسط من الشبع، ومن ذهب إلى مدين من بر أو صاع من شعير ذهب إلى الشبع، وتأول فى أوسط ما تطعمون الخبز واللبن، والخبز والسمن، والخبز والزيت، قالوا: والأعلى الخبز واللحم، والأدون خبز دون إدام، ولا يجوز عندهم الأدون لقوله: (من أوسط (. واختلف فيما يجزئ من الكسوة فى الكفارة، فقال مالك: ما يستر عورة المصلى، فالرجل يستره القميص، والمرأة قميص ومقنعة؛ لأنها عورة لا يجوز أن يظهر فى الصلاة إلا وجهها وكفاها. وقال أبو حنيفة والشافعى يجزئه ما يقع عليه اسم كسوة. وحجة مالك قوله تعالى) من أوسط (فعطف بالكسوة على الأوسط، فكما يطعم الأوسط، فكذلك يكسو الأوسط. وذهب مالك إلى أنه إذا عدم فى الكفارة العتق والإطعام والكسوة(6/170)
حتى وجب عليه صيام ثلاثة أيام أنه يجوز له تفريق صومها، وأحب إليه متابعتها، وعند أبى حنيفة لا يجزئه إذا فرقها، وهو أحد قولى الشافعى، وحجة مالك أن الله ذكر صيامًا ولم يشترط فيه التتابع، كما لم يشترط فى فدية الأذى، وحجة الكوفيين أن ابن مسعود قرأ: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات (.
- باب قَوْلِهِ تَعَالَى: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) [التحريم: 2] ومَتَى تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْغَنِىِّ وَالْفَقِيرِ
/ 2 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: هَلَكْتُ، قَالَ: (وَمَا شَأْنُكَ) ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِى فِى رَمَضَانَ، قَالَ: (تَسْتَطِيعُ تُعْتِقُ رَقَبَةً) ؟ قَالَ: لا، قَالَ: (فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) ؟ قَالَ: لا، قَالَ: (فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا) ؟ قَالَ: لا، قَالَ: (اجْلِسْ) ، فَجَلَسَ، فَأُتِىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِعَذَقٍ فِيهِ تَمْرٌ - وَالْعَذَقُ الْمِكْتَلُ الضَّخْمُ - قَالَ: (خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ. . .) الحديث. أراد البخارى أن يعرفك أن الكفارة تجب بعد الحنث وانتهاك الذنب، وستأتى مذاهب العلماء فى الكفارة قبل الحنث أو بعده، بعد هذا - إن شاء الله - وقد تقدم ما للعلماء فى الفقير تجب عليه الكفارة ولا يجد ما يكفر، هل تسقط عنه أو تبقى فى ذمته إلى حال يسره فى كتاب الصيام. واستدل مالك والشافعى بهذا الحديث أن الإطعام فى كفارة الأيمان مُد لكل مسكين؛ لأن المكتل الذى أتى به عليه السلام وقال للواطئ:(6/171)
خذه فتصدق به. كان فيه خمسة عشر صاعًا، وذلك ستون مدا، فالذى يصيب كل مسكين منهم مُد. وزعم الكوفيون أنه قد يجوز أن يكون النبى لما علم حاجة الرجل أعطاه المكتل من التمر بالخمسة عشر صاعًا ليستعين به فيما وجب عليه لا على أنه جميع ما وجب عليه، كالرجل يشكو إلى الرجل ضعف حاله وما عليه من الدين، فيقول له خذ هذه العشرة دراهم فاقض بها دينك، ليس على أنها تكون قضاء عن جميع دينه، ولكن على أن تكون قضاء لمقدارها من دينه. وهذه دعوى لا دليل عليها إلا الظن، والظن لا يغنى من الحق شيئًا، وقول مالك أولى بالصواب، وهو ظاهر الحديث؛ لأن النبى - عليه السلام - لم يذكر مقدار ما تبقى عليه من الكفارة بعد الخمسة عشر صاعًا ولم يكن يسعه السكوت عن ذلك حتى يبينه؛ لأنه بُعث معلمًا.
- باب يُعْطِى فِى الْكَفَّارَةِ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ قَرِيبًا كَانَ أَوْ بَعِيدًا
/ 3 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أن النَّبِىّ، عليه السَّلام، قَالَ لَهُ: (أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ) . قال المهلب: قال تعالى: (فكفارته إطعام عشرة مساكين (فجاء هذا اللفظ مبهمًا بغير شرط قريب ولا بعيد، وبين النبى - عليه السلام - فى كفارة المفطر فى رمضان أنه جائز فى الأقارب لقوله: (أطعمه أهلك) فقاس البخارى بذلك المبهم من كفارة الأيمان بالله؛ لأنه مفسر، والمفسر يقضى على المجمل، إلا أن أكثر العلماء(6/172)
على أن الفقير تبقى الكفارة فى ذمته، فمن قال هذا لا يجيز أن يعطى الكفارة أحدًا من أهله ممن تلزمه نفقته إلا وتكون باقية فى ذمته، وإن كان ممن لا تلزمه نفقتهم فيجوز أن يعطيهم، ويجزئه فى الكفارة، وقد تقدم بيان هذا فى كتاب الصيام.
3 - باب صَاعِ الْمَدِينَةِ وَمُدِّ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، وَبَرَكَتِهِ وَمَا تَوَارَثَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذَلِكَ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ
/ 4 - فيه: السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: كَانَ الصَّاعُ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) مُدًّا وَثُلُثًا بِمُدِّكُمُ الْيَوْمَ، فَزِيدَ فِيهِ فِى زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِالْعَزِيزِ. / 5 - وفيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يُعْطِى زَكَاةَ رَمَضَانَ بِمُدِّ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) الْمُدِّ الأوَّلِ، وَفِى كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِمُدِّ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . وَقَالَ مَالِكٌ: لَوْ جَاءَكُمْ أَمِيرٌ، فَضَرَبَ لكم مُدًّا أَصْغَرَ مِنْ مُدِّ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، بِأَىِّ شَىْءٍ كُنْتُمْ تُعْطُونَ؟ قُلْتُ: كُنَّا نُعْطِى بِمُدِّ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، قَالَ: أَفَلا تَرَى أَنَّ الأمْرَ إِنَّمَا يَعُودُ إِلَى مُدِّ النَّبِىِّ، عليه السَّلام. / 6 - وفيه: أَنَس، قَالَ عليه السَّلام: (اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِى مِكْيَالِهِمْ وَمُدِّهِمْ وَصَاعِهِمْ) . وقوله: (كان الصاع على عهد النبى مدا وثلثًا) يدل أن مدهم ذلك الوقت حين حدث به السائب وزنه أربعة أرطال، وإذا زيد(6/173)
عليه ثلثه، وذلك رطل وثلث قام منه خمسة أرطال وثلث، وهو الصاع بدليل أن مد النبى - عليه السلام - فيه رطل وثلث، وصاعه أربعة أمداد بمده عليه السلام، وأما مقدار ما زيد فيه فى زمن عمر بن عبد العزيز فلا يعلم ذلك إلا بخبر. وقوله: إن ابن عمر كان يعطى زكاة رمضان وفى كفارة اليمين بمد النبى - عليه السلام - الأول، فإنما وصف مد النبى - عليه السلام - بالأول ليفرق بينه وبين مد هشام الحادث الذى أحدثه أهل المدينة فى كفارة الظهار، ليغلظها على المتظاهرين الذين شهد الله عليهم أنهم يقولون منكرًا من القول وزورًا، فجعلوها بمد هشام، وهو أكبر من مد النبى بثلثى مد، ولم يكن للنبى - عليه السلام - إلا مد واحد، وهو الذى نقله أهل المدينة، وعمل به الناس إلى اليوم. والفقهاء على قولين فى كفارة الأيمان، فطائفة تقول: إن الكفارات كلها بمد النبى - عليه السلام - مد مد لكل مسكين، وكذلك الإطعام عمن فرط فى صيام رمضان حتى يأتى رمضان آخر، وهو قول مالك والشافعى على ما ثبت فى هذه الأحاديث وحديث الواقع على أهله فى رمضان. وقال أهل العراق: الكفارات كلها مدان مدان لكل مسكين قياسًا على ما أجمعوا عليه من فدية الأذى فى حديث كعب بن عجرة أن النبى أمره أن يطعم كل مسكين نصف صاع. قال المهلب: وإنما دعا النبى - عليه السلام - لهم بالبركة فى مكيالهم وصاعهم ومدهم، فإنه خصهم من بركة دعوته بما أضطر أهل الأرض كلها أن يشخصوا إلى المدينة ليأخذوا هذا المعيار المدعو له(6/174)
بالبركة، وينقلوه إلى بلدانهم، ويكون ذلك سنة فى معايشهم وما افترض الله عليهم لعيالهم، وقد تقدم فى كتاب الوضوء والغسل الحجة لمقدار مده وصاعه عليه السلام بما فيه مقنع.
4 - باب قَوْلِ اللَّهِ: (فتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مؤمنة (وَأَىُّ الرِّقَابِ أَزْكَى؟
/ 7 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ عليه السَّلام: (مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً، أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنَ النَّارِ، حَتَّى فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ) . اختلف العلماء فى عتق غير المؤمنة فى كفارة اليمين، فقال مالك والأوزاعى والشافعى: لا تجزئ إلا برقبة مؤمنة، وأجاز عطاء بن أبى رباح عتق غير المؤمنة، وهو قول الكوفيين وأبى ثور، واحتج الكوفيون أن الله إنما شرط الرقبة المؤمنة فى كفارة قتل الخطأ خاصة، ولم يشترط المؤمنة فى كفارة اليمين بالله، ولا فى كفارة الظهار، فلا يجب أن يتعدى بالمؤمنة غير الموضع الذى ذكرها الله فيه. قال الطحاوى: فلا تقاس الرقبة على الرقبة، كما لم يقس الصوم المطلق على المتتابع، وكما لم يجعل الإطعام فى القتل بدلا من الصوم قياسًا على الظهار. وحجة القول الأول أن الله - تعالى - لما شرط فى كفارة قتل الخطأ الرقبة المؤمنة، وكانت كفارة ثم ذكر فى كفارة اليمين وكفارة الظهار(6/175)
رقبة، ولم يذكر مؤمنة ولا غير مؤمنة، وكانت كفارات كلها، وجب اعتبار المؤمنة فى كل موضع، ألا ترى أن الله شرط العدالة فى الشهادة بقوله: (ممن ترضون من الشهداء (ثم قال فى موضع آخر: (وأشهدوا إذا تبايعتم (ولم يختلف العلماء أن العدالة من شرط الإشهاد فى التبايع، وجب أن يكون مثل ذلك فى الرقبة، وهذا عندهم من باب المجمل الذى يقضى عليه المفسر، فلما فسر أمر الرقبة فى الموضع الواحد استغنى عن إعادتها فى كل موضع، ألا ترى أن النبى إنما حض على عتق المؤمن، لأنه أزكى وأطهر، ولم يختلف العلماء فى جواز عتق الكافر فى التطوع، واحتج مالك فى ذلك بقول الله تعالى: (فإما منا بعد وإما فداء (فالمن: العتق للمشركين، وقد من رسول الله على جماعة منهم.
5 - باب عِتْقِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبِ فِى الْكَفَّارَةِ وَعِتْقِ وَلَدِ الزِّنَا
وَقَالَ طَاوُسٌ: يُجْزِئُ الْمُدَبَّرُ، وَأُمُّ الْوَلَدِ. / 8 - فيه: جَابِر، أَنَّ رَجُلا مِنَ الأنْصَارِ دَبَّرَ مَمْلُوكًا لَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَبَلَغَ النَّبِىَّ عليه السَّلام، فَقَالَ: (مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّى) ؟ فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ النَّحَّامِ بِثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ. اختلف العلماء فى هذا الباب فقال مالك: لا يجوز أن يعتق فى الرقاب الواجبة مكاتب ولا مدبر ولا أم ولد ولا معتق إلى سنين.(6/176)
وهو قول الكوفيين والأوزاعى والشافعى، إلا أن الشافعى أجاز عتق المدبر. وأن الكوفيين والأوزاعى قالوا: إن كان المكاتب قد أدى شيئًا من كتابته فلا يجوز عتقه فى الكفارة، وإن لم يؤد شيئًا جاز عتقه وبه قال الليث وأحمد وإسحاق. وفيه قول ثالث: أن عتقه يجزئ وإن أدى بعض كتابته، قال: لأن المكاتب عبد ما بقى عليه درهم فهو يباع، وقد اشترت عائشة بريرة بأمر النبى عليه السلام. وهذا قول أبى ثور. وحجة مالك ومن وافقه أن المكاتب والمدبر وأم الولد قد ثبت لهم عقد حرية لا سبيل إلى دفعها، والله - تعالى - إنما ألزم من عليه عتق رقبة واجبة أن يبتدئ عتقها من غير عقد حرية تقدمت فيها قبل عتقه فقال تعالى: (فتحرير رقبة (ولم يقل بعض رقبة. واحتج الشافعى فى المدبر يجزئ عتقه فى الكفارة بحديث جابر أن النبى - عليه السلام - باع المدبر على الذى لم يكن له مال غيره من نعيم النحام، وقال: لما جاز بيعه جاز عتقه فى الكفارة وغيرها؛ لأنه لو كانت فيه شعبة من الحرية لم يبعه النبى - عليه السلام. وقال المالكيون: من جعل جواز البيع حجة على جواز عتقه فقوله غير صحيح؛ لأن كثيرًا ممن يجوز بيعه لا يجوز عتقه مثل الأعمى والمقعد وشبهه. وقال مالك والكوفيون: إنما بيع المدبر فى حديث جابر؛ لأن تدبيره(6/177)
كان سفهًا، وكان من الإعلان بسوء النظر لنفسه، فلذلك رده النبى - عليه السلام - لأن تدبيره كلا تدبير، وبهذا الحديث احتج بعض العلماء فى جواز نقض أفعال السفيه قبل أن يولى عليه، وأما التدبير الصحيح بخلاف هذا، لا يجوز أن يباع من ثبت له ذلك؛ لأنه قد ثبت له شرط الحرية بعد الموت. وأما عتق أم الولد فى الرقاب الواجبة، فإن فقهاء الأمصار على أنه لا يجوز عتقها فى ذلك من أجل أنه قد ثبت لها شرط الحرية بعد موت سيدها، على ما حكم به عمر بن الخطاب بحضرة الصحابة، وما ذكره البخارى عن طاوس أنه أجاز عتقها فى الرقاب الواجبة، فهو قول النخعى والحسن البصرى، وحجتهم الإجماع على أن أحكامها فى جراحها وحدودها أحكام أمة، لا أحكام حرة. وأما عتق ولد الزنا فى الرقاب الواجبة، فأجاز عتقه جمهور الفقهاء روى ذلك عن عمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب، وعائشة، وجماعة من الصحابة - رضى الله عنهم - وقال عطاء والشعبى والنخعى: لا يجوز عتقه، وهو قول الأوزاعى وما روى عن أبى هريرة أن النبى عليه السلام - قال فيه: (إنه شر الثلاثة) . فقد روى عن ابن عباس وعائشة إنكار ذلك، قال ابن عباس: لو كان شر الثلاثة ما استوى بأمه حتى تضعه، وقالت عائشة: ما عليه من ذنب أبويه شىء، ثم قرأت: (ولا تز وازرة وزر أخرى (.(6/178)
6 - باب إِذَا أَعْتَقَ عبدًا بينه وبين آخر فِى الْكَفَّارَةِ، لِمَنْ يَكُونُ وَلاؤُهُ؟
/ 9 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِىَ بَرِيرَةَ، فَاشْتَرَطُوا عَلَيْهَا الْوَلاءَ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِلنَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَقَالَ: (اشْتَرِيهَا، فَإِنَّمَا الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ) . اختلف العلماء فى هذه المسألة، فقال مالك والأوزاعى: إذا أعتق أحد الشريكين عبدًا بينه وبين غيره عن الكفارة، إن كان موسرًا أجزأه ويضمن لشريكه حصته، وإن كان معسرًا لم يجزئه، وهو قول محمد وأبى يوسف والشافعى وأبى ثور. وقال أبو حنيفة وبعض أصحابه: لا يجزئه عن الكفارة موسرًا كان أو معسرًا. وحجة مالك أن للمعتق الموسر إذا لم يكن شريكه يعتق نصيبه، فالعبد كله على الموسر حر، فلذلك أجزأ عنده، وحجة من لم يجز العتق أنه أعتق نصف عبد لا عبدًا كاملا؛ لأن أصل أبى حنيفة أن الشريك مخير، إن شاء قوم على شريكه، وإن شاء استسعى العبد فى نصف قيمته، وإن شاء أعتق فيكون الولاء بينهما نصفين. وأما الولاء فهو للمكفر المعتق عند جمهور العلماء؛ لأنه لما أعتق نصيبه وكان موسرًا أوجب عليه عتقه كله، وقد قال عليه(6/179)
السلام: (الولاء لمن أعتق) فلذلك أدخل البخارى حديث بريرة فى هذا الباب.
7 - باب الاسْتِثْنَاءِ فِى الأيْمَانِ
/ 10 - فيه: أَبُو مُوسَى، أَتَيْتُ النَّبِىّ، عليه السَّلام، فِى رَهْطٍ مِنَ الأشْعَرِيِّينَ أَسْتَحْمِلُهُ، فَقَالَ: (وَاللَّهِ لا أَحْمِلُكُمْ، مَا عِنْدِى مَا أَحْمِلُكُمْ) ، ثُمَّ لَبِثْنَا مَا شَاءَ اللَّهُ، فَأُتِىَ بِإِبِلٍ، فَأَمَرَ لَنَا بِثَلاثَةِ ذَوْدٍ، فقلنا: لا يُبَارِكُ اللَّهُ لَنَا، فَأَتَيْنَا النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فأخبرناه، فَقَالَ: (مَا أَنَا حَمَلْتُكُمْ، بَلِ اللَّهُ حَمَلَكُمْ إِنِّى وَاللَّهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ لا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، فَأَرَى غَيْرِهَا خَيْرًا مِنْهَا، إِلا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِى، وَأَتَيْتُ الَّذِى هُوَ خَيْرٌ، أَوْ أَتَيْتُ الَّذِى هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِى. / 11 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ سُلَيْمَانُ: لأطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةً، كُلٌّهن تَلِدُ غُلامًا، يُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ - يَعْنِى الْمَلَكَ -: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَنَسِىَ، فَطَافَ بِهِنَّ، فَلَمْ تَأْتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ بِوَلَدٍ إِلا وَاحِدَةٌ بِشِقِّ غُلامٍ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: تَرَوْنَهُ لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ، وَكَانَ دَرَكًا لَهُ فِى حَاجَتِهِ. وَقَالَ مَرَّةً: قَالَ عليه السَّلام: (لَوِ اسْتَثْنَى) . اختلف العلماء فى الوقت الذى إذا استثنى فيه الحالف سقطت عنه الكفارة، فقال مالك والكوفيون والأوزاعى والليث(6/180)
والشافعى وجمهور العلماء: الثُنَيا لصاحبها فى اليمين ما كان من ذلك نسقًا يبتع بعضه بعضًا، ولم يقطع كلامه قطعًا يشغل عن الاستثناء ما لم يقم عن مجلسه، فإذا سكت وقطع كلامه فلا ثنيا له. وقال الحسن البصرى وطاوس: للحالف الاستثناء ما لم يقم من مجلسه. وقال قتادة: أو يتكلم. وقال أحمد: يكون له الاستثناء ما دام فى ذلك الأمر. وكذلك قال إسحاق، إلا أن يكون سكوت ثم عود إلى الأمر، وعن عطاء رواية أخرى، وهو أن له ذلك قدر حلب الناقة الغزيرة، وقال سعيد بن جبير: له ذلك بعد أربعة أشهر. وقال مجاهد: له ذلك بعد سنتين. وروى عن ابن عباس أنه قال: يصح له الاستثناء ولو بعد حين. فقيل: أراد به سنة. وقال ابن القصار: وقيل: أراد به أبدًا. وروى وكيع، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: يستثنى فى يمينه متى ذكر، واحتج بقوله تعالى: (واذكر ربك إذا نسيت (. واحتج من أجاز الاستثناء بعد السكوت بما روى قيس، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن النبى - عليه السلام - قال: (والله لأغزون قريشًا - ثلاثًا - ثم سكت، ثم قال: إن شاء الله) . قال ابن القصار: ولا حجة فى هذا؛ لأن حديث ابن عباس رواه شريك عن سماك عن عكرمة، عن النبى، فالحديث مرسل،(6/181)
ولو صح عن ابن عباس لم يرد به إسقاط الحنث، وإنما أراد - والله أعلم - أن الله - تعالى - أوجب الاستثناء على كل قائل أنه يفعل شيئًا بقوله: (ولا تقولن لشىء إنى فاعل ذلك غدًا إلا أن يشاء الله (يقول: فإذا نسى: إن شاء الله، فليقله أى وقت ذكره ولو بعد سنةٍ، حتى يخرج بذلك عن المخالفة، لا أنه يجوز هذا فى اليمين، ولو صح الخبر عن النبى - عليه السلام - احتمل أن يكون ناويًا للاستثناء وسكوته ليتذكر شيئًا أراده فى اليمين حتى إذا تممه استثنى، ويجوز أن يكون لانقطاع نَفَسٍ، أو لشىء شغله عن اتصال الاستثناء حتى يتمكن منه. ومن حجة أهل المقالة الأولى أيضًا قوله عليه السلام: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها، فليأت الذى هو خير وليكفر عن يمينه) ولو أمكنه أن يخرج من هذه اليمين بقوله: إن شاء الله، لما أوجب كفارة على حانث أبدًا، ولقال له عليه السلام: إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها فاستثن وائت الذى هو خير ولم يذكر كفارة، ولبطل معنى قوله تعالى: (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم (وكذلك معنى حديث سليمان أن كان حلف بالله ليطوفن على نسائه، فإن الاستثناء بعد يمينه متى أرادها كانت تخرجه من الحنث، لو كان كما زعم من خالف أئمة الفتوى.(6/182)
وقد قيل: إن قوله: (لأطوفن) لم يكن يمينًا على ما يأتى بيانه فى هذا الباب - إن شاء الله. قال المهلب: وإنما جعل الله الاستثناء فى اليمين رفقًا منه بعباده فى أموالهم؛ ليوفر بذلك الكفارة عليه إذا ردوا المشيئة إليه تعالى. واختلفوا فى الاستثناء فى الطلاق والعتق، فقال مالك، وابن أبى ليلى، والليث، والأوزاعى: لا يجوز فيه الاستثناء وروى مثله عن ابن عباس، وابن المسيب، والشعبى، والحسن، وعطاء، ومكحول، وقتادة، والزهرى. وأجاز الاستثناء فيهما طاوس والنخعى والحكم ورواية عن عطاء، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والشافعى وإسحاق، واحتج لهم بعموم قوله عليه السلام فى حديث سليمان: (لو قال: إن شاء الله، لم يحنث) وأن قول الحالف: إن شاء الله، عامل فى جميع الأيمان، لأنه لم يخص بعض الأيمان من بعض، فوجب أن يرفع الاستثناء الحنث فى الطلاق والعتق وجميع الأيمان. وحجة من أوجب الطلاق والعتق ومنع دخول الاستثناء فيهما، أن الاستثناء لا يكون إلا فى اليمين بالله وحده، وبذلك ورد الأثر عن النبى أنه قال: (من حلف بالله ثم قال: إن شاء الله، فلا حنث عليه) أسنده أيوب السختيانى، وكثير بن فرقد، وأيوب بن موسى(6/183)
عن نافع، عن ابن عمر - فى اليمين - عن النبى - عليه السلام - وذكره مالك فى الموطأ عن نافع، عن ابن عمر من قوله. قال الأبهرى: فكان ذكره الاستثناء إنما هو فى اليمين بالله دون غيرها من الأيمان، ولم يجز تعدى ذلك إلى غيرها بغير دليل، وأما من جهة القياس، فلما كان الطلاق والعتق لا تحله الكفارة التى هى العتق والإطعام والكسوة، وهى أقوى فعلا وأغلظ على النفوس من الاستثناء الذى هو القول لم يحله القول، لأن ما لا يحله الأوكد لم يحله الأضعف، ولا تعلق لهم بحديث سليمان، لأن ظاهر قوله: (لأطوفن) لم يكن معه يمين، وإنما كان قولاً جعل فيه المشيئة لنفسه حين لم يقل: إن شاء الله، فعاقبه الله بالحرمان، كما قال تعالى لمحمد نبيه: (ولا تقولن لشىء إنى فاعل ذلك غدًا إلا أن يشاء الله (وأدب عباده بذلك ليتبرءوا إليه تعالى من الحول والقوة، ولم يكن قول سليمان يمينا بالله يوجب عليه الكفارة فتسقط عنه بالاستثناء. فإن قيل: قوله عليه السلام: (لو قال: إن شاء الله، لم يحنث) يدل أنه كان يمينًا. قيل: معنى قوله: (لم يحنث) لم يأثم على تركه استثناء مشيئة الله - تعالى - فلما أعطى لنفسه الحول عاقبه الله بالحرمان وخيبه، فكأنه تحنيث لقوله، والحنث فى لسان العرب: الإثم.(6/184)
ومن لم يرد المشيئة إلى الله - تعالى - فى جميع أموره فقد أثم وحرج، والحنث أيضًا أن لا يبر ولا يصدق. ووقع فى رواية أبى زيد: (بشائل) مكان قوله: (بإبل) وأظنه (بشوائل) إن صحت الرواية، وقال أبو عبيد عن الأصمعى: إذا أتى على الناقة من يوم حملها سبعة أشهر جف لبنها، فهى حينئذ شائل، وجمعها: شوائل. وفى كتاب العين: ناقة شائلة، ونوق شول للتى جف لبنها. وشولت الإبل: لزقت بطونها بظهورها.
8 - باب الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ وَبَعْدَهُ
/ 12 - فيه: حديث أَبِى مُوسَى، إلى قوله عليه السَّلام: (إِنِّى وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلا أَتَيْتُ الَّذِى هُوَ خَيْرٌ، وَتَحَلَّلْتُهَا) . / 13 - وفيه: عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (لا تَسْأَلِ الإمَارَةَ. . . . . .) إلى قوله: (وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَأْتِ الَّذِى هُوَ خَيْرٌ، وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ) . اختلف العلماء فى جواز الكفارة قبل الحنث، فقال ربيعة ومالك والثورى والليث والأوزاعى: تجزئ قبل الحنث. وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور، وروى مثله عن ابن عباس وعائشة وابن عمر. وقال الشافعى: يجوز تقديم الرقبة والكسوة والإطعام قبل(6/185)
الحنث، ولا يجوز تقديم الصوم. وقال أبو جنيفة وأصحابه: لا تجزئ الكفارة قبل الحنث. قال ابن القصار: ولا سلف لأبى حنيفة فى ذلك. واحتج له الطحاوى بقوله تعالى: (ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم (والمراد إذا حلفتم فحنثتم. ولم يذكر البخارى فى حديث أبى موسى ولا فى حديث عبد الرحمن بن سمرة فى هذا الباب تقديم الكفارة قبل الحنث، وقد ذكر ذلك فى باب الاستثناء فى الأيمان، وفى أول كتاب الأيمان، وهو قوله عليه السلام: (إلا كفرت عن يمينى وأتيت الذى هو خير، أو أتيت الذى هو خير وكفرت عن يمينى) . وقال ابن المنذر: قد قال بعض أصحابنا: إنه ليس فى اختلاف ألفاظ هذه الأحاديث إيجاب لتقديم أحدهما على الآخر، إنما أمر الحالف بأمرين: أمر بالحنث والكفارة، فإذا أتى بهما جميعًا فقد أطاع وفعل ما أمر به كقوله تعالى: (وأتموا الحج والعمرة لله (فأيهما قدم على الآخر فقد أتى بما عليه، كذلك إذا أتى بالذى هو خير وكفر فقد أتى بما عليه. قال ابن القصار: وقد رأى جواز تقديم الكفارة قبل الحنث أربعة عشر من الصحابة، وهم: ابن مسعود، وعائشة، وابن عباس، وابن عمر، وأبو الدرداء، وأبو أيوب، وأبو موسى، وأبو مسعود،(6/186)
وحذيفة، وسلمان، ومسلمة بن مخلد، وابن الزبير، ومعقل، ورجل لم يذكر، وبعدهم من التابعين: سعيد بن المسيب وعطاء، وطاوس، وسعيد بن جبير، والحسن، وابن سرين، وعلقمة، والنخعى، والحكم بن عتيبة، ومكحول. فهؤلاء أعلام أئمة الأمصار، ولا نعلم لهم مخالفًا إلا أبا حنيفة، على أن أبا حنيفة يقول ما هو أعظم من تقديم الكفارة، وذلك لو أن رجلا أخرج عنزا من الظباء من الحرم، فولدت له أولادًا ثم ماتت فى يده هى وأولادها، أن عليه الجزاء عنها وعن أولادها، وإن كان حين أخرجها أدى جزاءها ثم ولدت أولادًا ثم ماتت هى وأولادها لم يكن عليه فيها ولا فى أولادها شىء. ولا شك أن الجزاء الذى أخرجه عنها وعن أولادها كان قبل أن تموت هى وأولادها، ومن قال هذا لم ينبغ له أن ينكر تقديم الكفارة قبل الحنث. وأما قوله: تقدير الآية: ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتهم فحنثتم؛ فتقدير الآية عندنا: ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم فأردتم أن تحنثوا. وأما قول الشافعى: لا يجوز تقديم الصيام على الحنث، فيرد عليه قوله عليه السلام: (فليكفر عن يمينه، وليأت الذى هو خير) ولم يخص شيئًا من جنس الكفارة فى جواز التقديم، فإن قال: إن الصيام من حقوق الأبدان، ولا يجوز تقديمها قبل وقتها(6/187)
كالصلاة، والعتق والكسوة والإطعام من حقوق الأموال فهى كالزكاة يجوز تقديمها. قيل له: ليس كل حق يتعلق بالمال يجوز تقديمه قبل وقته، ألا ترى أن كفارة القتل وجزاء الصيد لا يجوز تقديمه قبل وجوبه، وقد جاز تقديم العتق والإطعام والكسوة فى كفارة اليمين قبل وجوبه، فكذلك يجوز تقديم صيامها. وقال الأبهرى: وأما جواز تقديم ذلك من طريق النظر؛ فلأن عقد اليمين لما كان يحله الاستثناء إذا اتصل باليمين وإنما هو قول؛ كانت الكفارة بأن تحل عقد اليمين أولى؛ لأنها أقوى؛ لأنها ترفع حكم الحنث حتى كأنه لم يكن فكذلك ترفع حكم العقد حتى كأنه لم يكن وتشبيهه الإطعام والكسوة والعتق بالزكاة يجوز تقديمها فغير صحيح؛ لأن الزكاة لما كان وجوبها معلقًا بوقت لم يجز تقديمها، كما لا يجوز فى الصلاة والصيام، ووقت الكفارة غير معلق بوقت، وإنما هو على حسب ما يريده المكفر من الحنث، فكان فعلها جائزًا قبل الحنث وبعده.(6/188)
بسم الله الرحمن الرحيم
- كِتَاب الْبُيُوعِ
- بَاب مَا جَاءَ فِى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِى الأرْضِ (إلى آخر السورة وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) [الجمعة: 10]
/ 1 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: إِنَّكُمْ تَقُولُونَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَتَقُولُونَ: مَا بَالُ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ لا يُحَدِّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِى هُرَيْرَةَ؟ وَإِنَّ إِخْوَتِى مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمْ صَفْقٌ بِالأسْوَاقِ، وَكُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى مِلْءِ بَطْنِى، فَأَشْهَدُ إِذَا غَابُوا، وَأَحْفَظُ إِذَا نَسُوا، وَقَدْ قَالَ النَّبِىّ عليه السَّلام: (إِنَّهُ لَنْ يَبْسُطَ أَحَدٌ ثَوْبَهُ حَتَّى أَقْضِىَ مَقَالَتِى هَذِهِ، ثُمَّ يَجْمَعَ إِلَيْهِ ثَوْبَهُ إِلا وَعَى مَا أَقُولُ) ، فَبَسَطْتُ نَمِرَةً عَلَىَّ حَتَّى إِذَا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مَقَالَتَهُ جَمَعْتُهَا إِلَى صَدْرِى، فَمَا نَسِيتُ مِنْ مَقَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) تِلْكَ مِنْ شَىْءٍ. / 2 - وفيه: عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ آخَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بَيْنِى وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ: إِنِّى لأَكْثَرُ الأنْصَارِ مَالا، فَأَقْسِمُ لَكَ نِصْفَ مَالِى، وَانْظُرْ أَىَّ زَوْجَتَىَّ هَوِيتَ نَزَلْتُ لَكَ عَنْهَا، فَإِذَا حَلَّتْ تَزَوَّجْتَهَا، فَقَالَ لَهُ عَبْدُالرَّحْمَنِ: لا حَاجَةَ لِى فِى ذَلِكَ، هَلْ مِنْ سُوقٍ فِيهِ تِجَارَةٌ؟ قَالَ: سُوقُ قَيْنُقَاعٍ، قَالَ: فَغَدَا إِلَيْهِ عَبْدُالرَّحْمَنِ، فَأَتَى بِأَقِطٍ وَسَمْنٍ. . . الحديث.(6/189)
/ 3 - وفيه: ابْن عَبَّاس كَانَتْ عُكَاظٌ وَمَجَنَّةُ وَذُو الْمَجَازِ أَسْوَاقًا فِى الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا جَاء الإسْلامُ كَأَنَّهُمْ تَأَثَّمُوا فِيهِ، فَنَزَلَتْ: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ) [البقرة: 198] فِى مَوَاسِمِ الْحَجِّ. قال المؤلف: أباح الله التجارة فى كتابه وأمر بالابتغاء من فضله، وكان أفاضل الصحابة يتجرون ويتحرفون فى طلب المعاش، وقد نهى العلماء والحكماء عن أن يكون الرجل لا حرفة له ولا صناعة؛ خشية أن يحتاج إلى الناس فيذل لهم، وقد روى عن لقمان أنه قال لابنه: يا بنى، خذ من الدنيا بلاغك، وأنفق من كسبك لآخرتك، ولا ترفض الدنيا كل الرفض فتكون عيالا وعلى أعناق الرجال كلا. وروى عن حماد بن زيد أنه قال: كنت عند الأوزاعى فحدثه شيخ كان عنده أن عيسى ابن مريم - عليه السلام - قال: إن الله يحب العبد يتعلم المهنة يستغنى بها عن الناس، وإن الله - تعالى - يبغض العبد يتعلم العلم يتخذه مهنة. وقال أبو قلابة لأيوب السختيانى: إنى يا أيوب ألزم السوق؛ فإن الغنى من العافية. قال المهلب: وفى حديث عبد الرحمن من الفقه أنه لا بأس للشريف أن يتصرف فى السوق فى البيع والشراء، ويتعفف بذلك عما يبذل له من المال وغيره. وفيه: الأخذ بالشدة على نفسه فى أمر معاشه، وأن العيش(6/190)
من الصناعات أولى بنزاهة الأخلاق من العيش من الهبات والصدقات وشبهها. وفيه: بركة التجارة، وفيه: المؤاخاة فى الإسلام على التعاون فى أمر الله، وبذل المال لمن يؤاخى عليه. وفيه معان ستأتى فى كتاب النكاح - إن شاء الله. وفى حديث أبى هريرة: الحرص على التعلم وإيثار طلبه على طلب المال. وفيه: فضيلة لأبى هريرة وهى أن النبى - عليه السلام - خصه بأن يبسط له رداءه، وقال: ضمه، فما نسى من مقالة النبى - عليه السلام - تلك من شىء، وقد تقدم فى كتاب العلم. وأما قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم (فإن إسماعيل بن إسحاق قال: كل شىء حرمه الله من القمار ومن البيوع الفاسدة فهو من أكل المال بالباطل؛ لأن المقامر يقول لصاحبه: إن كان كذا فلى كذا، وإن لم يكن فلك كذا، وكذلك البيع الفاسد من الغرر؛ لأنه يبيع صاحبه البيع الذى فيه غرر، فإن سلم غلبه المشترى، وإن لم يسلم غلبه البائع. وأما الربا فليس فساده من وجه القمار والغرر، ولكنه أخذ من صاحبه عوضًا للتأخير الذى لم يجعله الله له ثمنًا، والقرض الذى يجر منفعة، وما أشبه ذلك.(6/191)
وقوله: (من مساكين الصفة) فإن العرب تقول: صففت البيت وأصففته: جعلت له صفة، وهى السقيفة أمامه، وأصحاب الصفة: الملازمون لمسجد النبى - عليه السلام - وقوله: (فبسطت نمرة) النمرة: ثوب مخمل من وبر أو صوف.
- باب الْحَلالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ
/ 4 - فيه: النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، قَالَ النَّبِىَّ، عليه السَّلام: (الْحَلالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ، فَمَنْ تَرَكَ مَا شُبِّهَ عَلَيْهِ مِنَ الإثْمِ، كَانَ لِمَا اسْتَبَانَ أَتْرَكَ، وَمَنِ اجْتَرَأَ عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ مِنَ الإثْمِ، أَوْشَكَ أَنْ يُوَاقِعَ مَا اسْتَبَانَ وَالْمَعَاصِى حِمَى اللَّهِ، فَمَنْ يَرْتَعْ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ) . قال المؤلف: ما نص الله على تحليله فهو الحلال البين، كقوله تعالى: (اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم () وأحل الله البيع () وأحل لكم ما وراء ذالكم (وما نص على تحريمه فهو الحرام البين، مثل قوله تعالى: (حرمت عليكم أمهاتكم (إلى آخر الآية) وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا (وتحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وكل ما جعل الله فيه حدًا أو عقوبة أو وعيدًا فهو الحرام، كأكل أموال اليتامى، وأكل أموال الناس بالباطل، وهذا باب يتسع(6/192)
القول فيه، وهو واضح يغنى عن تدبره وطلبه. وأما المشتبهات فكل ما تنازعته الأدلة من الكتاب والسنة وتجاذبته المعانى فوجه منه يعضده دليل الحرام ووجه منه يعضده دليل الحلال، فهذا الذى قال فيه عليه السلام: (وبينهما أمور مشتبهة) ، وقال فيه: (من ترك الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) ، فالإمساك عنه ورع، والإقدام عليه لا يقطع عالم بتحريمه؛ لأن الحرام ما عرف بعينه منصوصًا عليه أو فى معنى المنصوص. وقد اختلف العلماء فى معنى الشبهات، فقالت طائفة: الشبهات التى أشار إليها عليه السلام فى هذا الحديث حرام أو فى حيز الحرام، واستدلوا بقوله عليه السلام: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) ، قالوا: ومن لم يستبرئ لدينه وعرضه فقد واقع الحرام. وقال آخرون: الشبهات المذكورة فى هذا الحديث حلال بدليل قوله عليه السلام فيه: (كالراعى حول الحمى) فجعل الشبهات ما حول الحمى، وما حول الحمى غير الحمى، فدل أن ذلك حلال وأن تركه ورع، والورع عند ابن عمر ومن ذهب مذهبه ترك قطعة من الحلال خوف مواقعة الحرام. وقال آخرون: الشبهات لا نقول إنها حلال ولا إنها حرام، لأن النبى - عليه السلام - قال: (الحلال بين والحرام بين) وجعل الشبهات غير الحلال البين والحرام البين، فوجب أن نتوقف عندها، وهذا من باب الورع أيضًا، ويقضى عليه قوله عليه السلام:(6/193)
(لا يعلمها كثير من الناس) فدل أن منهم من يعلمها، فمن علمها فهى عنده فى أحد الحيزين الحلال أو الحرام، وسأتقصى الكلام فى هذا المعنى فى الباب بعد هذا - إن شاء الله تعالى. وقال أبو الحسن بن القابسى: افهموا تكرير أسانيد هذا الحديث، ذكر فى الإسنادين الأولين الشعبى سمعت النعمان، سمعت النبى (صلى الله عليه وسلم) وفى الإسناد الثالث النعمان عن النبى، وفى الرابع النعمان قال النبى (صلى الله عليه وسلم) وإنما ذكر هذا، لأن يحيى بن معين قال: قال أهل المدينة: إن النعمان بن بشير لا يصلح له سماع من النبى (صلى الله عليه وسلم) حديث علنى، أى فلا بد أنه عقل عن النبى (صلى الله عليه وسلم) مجاوبته لأبيه.
3 - باب تَفْسِيرِ الْمُشَبَّهَاتِ
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ أَبِى سِنَانٍ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَهْوَنَ مِنَ الْوَرَعِ، دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لا يَرِيبُكَ. / 5 - فيه: عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ، أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ جَاءَتْ فَزَعَمَتْ أَنَّهَا أَرْضَعَتْهُمَا، فَذَكَرَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَأَعْرَضَ عَنْهُ، وَتَبَسَّمَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ) ؟ وَقَدْ كَانَتْ تَحْتَهُ ابْنَةُ أَبِى إِهَابٍ. / 6 - وفيه: عَائِشَةَ، كَانَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِى وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ أَنَّ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ مِنِّى فَاقْبِضْهُ، فَلَمَّا كَانَ عَامَ الْفَتْحِ أَخَذَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِى وَقَّاصٍ، وَقَالَ: ابْنُ أَخِى، قَدْ عَهِدَ إِلَىَّ فِيهِ، فَقَامَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، فَقَالَ: أَخِى وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِى، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَتَسَاوَقَا إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ) ، ثُمَّ قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ) ، (واحْتَجِبِى مِنْهُ يَا سَوْدَة لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ، فَمَا رَآهَا حَتَّى لَقِىَ اللَّهَ) .(6/194)
/ 7 - وفيه: عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ، سَأَلْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الْمِعْرَاضِ، فَقَالَ: (إِذَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَكُلْ، وَإِذَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَقَتَلَ فَلا تَأْكُلْ، فَإِنَّهُ وَقِيذٌ) ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُرْسِلُ كَلْبِى، وَأُسَمِّى فَأَجِدُ مَعَهُ كَلْبًا آخَرَ عَلَى الصَّيْدِ لَمْ أُسَمِّ عَلَيْهِ، وَلا أَدْرِى أَيُّهُمَا أَخَذَ، قَالَ: (لا تَأْكُلْ، إِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى الآخَرِ) . قد تقدم فى الباب قبل هذا أن الشبهات ما تنازعته الأدلة، وتجاذبته المعانى، وتساوت فيه الأدلة، ولم يغلب أحد الطرفين صاحبه، وبيان ذلك فى حديث عقبة بن الحارث، وذلك أن جمهور العلماء ذهبوا إلى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أفتاه بالتحرر من الشبهة، وأمره بمجانبة الريبة خوفًا من الإقدام على فرج يُخاف أن يكون الإقدام عليه ذريعة إلى الحرام؛ لأنه قد قام دليل التحريم بقول المرأة: أنها أرضعتهما، لكنه لم يكن قاطعًا ولا قويا لإجماع العلماء أن شهادة امرأة واحدة لا تجوز فى مثل ذلك، لكن أشار عليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالأحوط. وأما حديث ابن وليدة زمعة فإنه عليه السلام حكم فيه بالولد للفراش لزمعة على الظاهر، وأنه أخو سودة على سبيل التغلب لا على سبيل القطع أنه لزمعة عند الله - عز وجل - ثم أمر سودة بالاحتجاب منه؛ للشبهة الداخلة عليه وهى ما رأى من شبهه بعتبة فاحتاط لنفسه وذلك فعل الخائفين لله عز وجل إذ لو كان ابن زمعة فى علم الله فى حكمه هذا لما أمر سودة بالاحتجاب منه كما لم يأمرها بالاحتجاب من سائر إخوتها. وأما حديث عدى بن حاتم فإن النبى (صلى الله عليه وسلم) أفتاه بالتنزه عن الشبهة(6/195)
أيضًا خشية أن يكون الكلب الذى قتله غير مسمى عليه، فكأنه أهل به، وقد قال الله - تعالى - فى ذلك: (وإنه لفسق (فكأن فى فتياه عليه السلام باجتناب الشبهات دلالة على اختيار القول فى الفتوى، والاحتياط فى النوازل والحوادث المحتملات للتحليل والتحريم التى لا يقف العالم على حلالها وحرامها؛ لاشتباه أسبابها، وهذا معنى قوله عليه السلام: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) يقول: دع ما تشك فيه ولا تتيقن إباحته، وخذ ما لا شك فيه ولا التباس. وقال ابن المنذر: قال بعضهم: الشبهات تنصرف على وجوه: فمنها شىء يعلمه المرء محرمًا ثم يشك فيه هل حل ذلك أم لا، فما كان من هذا النوع فهو على أصل تحريمه، لا يحل التقدم عليه إلا بيقين، مثل الصيد حرام على المرء أكله قبل ذكاته، وإذا شك فى ذكاته لم يزل عن التحريم إلا بيقين الذكاة، والأصل فيه حديث عدى بن حاتم أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال له: (إذا أرسلت كلبك فخالطه كلب لم تسم عليه فلا تأكل؛ فإنك لا تدرى أيهما قتله) ، وهذا أصل لكل محرم أنه على تحريمه حتى يعلم أنه قد صار حلالا بيقين، ومن ذلك أن يكون للرجل أخ له ولا وارث له غيره، فتبلغه وفاته ولأخيه جارية، فهى محرمه عليه حتى يوقن بوفاته، ويعلم أنها قد حلت له. وكذلك لو أن شاتين ذكية وميتة سلختا فلم يدر أيهما الذكية؛ كانتا محرمتين بقين على أصل التحريم حتى يعلم الذكية من الميتة، ولا يحل أن يأكل منهما واحدة بالتحرى؛ لأنهما كانتا محرمتين بيقين، فلا يجوز الانتقال من يقين التحريم إلى شك الإباحة. والوجه الثانى: أن يكون الشىء حلالا فيشك فى تحريمه، فما كان(6/196)
من هذه الوجه فهو على الإباحة حتى نعلم تحريمه بيقين، كالرجل تكون له الزوجة فيشك فى طلاقها، أو يكون له جارية فيشك فى وقوع العتق عليها، فالأصل فى هذا حديث عبد الله بن زيد أن من شك بالحدث بعد أن أيقن بالطهارة فهو على يقين طهارته؛ لقوله عليه السلام: (فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا) . والوجه الثالث: أن يُشكل الشىء فلا يدرى أحرام هو أو حرام، ويحتمل الأمرين جميعًا ولا دلالة على أحد المعنيين، فالأحسن التنزه عنه كما فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) فى التمرة الساقطة.
4 - باب مَا يُتَنَزَّهُ عَنْهُ مِنَ الشُّبُهَاتِ
/ 8 - فيه: أَنَس، مَرَّ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِتَمْرَةٍ مَسْقُوطَةٍ، فَقَالَ: (لَوْلا أَنْ تَكُونَ مِنْ صَدَقَةٍ لأكَلْتُهَا) . وقال أبو هريرة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أجد تمرة ساقطة على فراشى) . قال المهلب: إنما ترك النبى (صلى الله عليه وسلم) أكل التمرة تنزهًا عنها؛ لجواز أن تكون من تمر الصدقة، وليس على أحد بواجب أن يتبع الجوازات؛ لأن الأشياء مباحة حتى يقوم حتى يقوم الدليل على التحظير، فالتنزه عن الشبهات لا يكون إلا فيما أشكل أمره ولم يدر أحلال هو أو حرام واحتمل المعنيين، ولا دليل على أحدهما، ولا يجوز أن يحكم على أحد من مثل ذلك أنه أخذ حرامًا؛ لاحتمال أن يكون حلالا، غير أنا نستحب من باب الورع أن نقتدى برسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيما فعل فى التمرة، وقد قال عليه السلام لوابصة بن معبد حين سأله عن الِبرَ والإثم فقال:(6/197)
(البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك فى الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك) ، وقال ابن عمر: لا يبلغ أحد حقيقة التقوى حتى يدع ما حاك فى الصدر. وقال أبو الحسن بن القابسى: إن قال قائل: إذا وجد التمرة فى بيته فقد بلغت محلها وليست من الصدقة. قيل له: يحتمل أن يكون النبى (صلى الله عليه وسلم) كان يقسم الصدقة ثم ينقلب إلى أهل، فربما علقت تلك التمرة بثوبه فسقطت على فراشه؛ فصارت شبهة. قال غيره: وفيه من الفقه: تحريم قليل الصدقة وكثيرها على النبى (صلى الله عليه وسلم) وآله، وقد تقدم اختلاف العلماء فى ذلك فى كتاب الزكاة. وفيه أيضًا: أن أموال المسلمين لا يحرم منها إلا ما له قيمة ويتشاح فى مثله، وأما التمرة واللبابة من الخبز أو التينة أو الزبيبة، وما أشبه ذلك، فقد أجمعوا على أخذها ورفعها من الأرض، وإكرامها بالأكل دون تعريفها، استدلالا بقوله عليه السلام: (لأكلتها) ، وأنها مخالفة لحكم اللقطة، وسيأتى ذلك فى كتاب اللقطة.
5 - باب مَنْ لَمْ يَرَ الْوَسَاوِسَ وَنَحْوَهَا مِنَ الشُّبُهَاتِ
/ 9 - فيه: عبد الله بن زيد، شُكِىَ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) الرَّجُلُ يَجِدُ فِى الصَّلاةِ شَيْئًا، أَيَقْطَعُ الصَّلاةَ؟ قَالَ: (لا، حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا) .(6/198)
وَقَالَ الزُّهْرِىِ: لا وُضُوءَ إِلا فِيمَا وَجَدْتَ الرِّيحَ أَوْ سَمِعْتَ الصَّوْتَ. / 10 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ أقَوْمًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَنَا بِاللَّحْمِ، لا نَدْرِى أَذَكَرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (سَمُّوا اللَّهَ عَلَيْهِ وَكُلُوهُ) . إنما لم يدخل الوسواس فى حكم الشبهات المأمور باجتنابها لقوله عليه السلام: (إن الله تجاوز لأمتى عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم) ، فالوسوسة ملغاة مطرحة لا حكم لها ما لم تستقر وتثبت، وحديث عبد الله بن زيد محمول عند الفقهاء [. . . . .] الذى يعتريه ذلك كثيرًا، بدليل قوله: (شكى إلى النبى) ذلك، لأن الشكوى إنما تكون من علة، فإذا كثر الشك فى مثل ذلك وجب إلغاؤه وإطراحه، لأنه لو أوجب له عليه السلام حكمًا لما انفك صاحبه من أن يعود إليه مثل ذلك التخيل والظن، فيقع فى ضيق وحرج وقد قال الله - تعالى -: (وما جعل عليكم فى الدين من حرج (وكذلك حديث عائشة مثل هذا المعنى، لأنه لو حمل ذلك الصيد على أنه لم يذكر اسم الله عليه لكان فى ذلك أعظم الحرج، والمسلمون محمولون على السلامة، ولا ينبغى أن يظن بهم ترك التسمية، فضعفت الشبهة فيه فلذلك لم يحكم بها النبى - عليه السلام - وغلب الحكم بضدها؛ لأن المسلمين فى ذلك الزمن كانوا من القرن الذين أُثنى عليهم، فلا يتوجه إليهم سوء الظن فى دينهم. فإن قيل: فما معنى قوله عليه السلام: (سموا لله وكلوا)(6/199)
؟ قيل: هذا منه عليه السلام من الأخذ بالحزم فى ذلك خشية أن ينسى الذى صاده التسمية، وإن كانت التسمية عند الأكل غير واجبة لما قدمناه من فضل أهل ذلك القرن، وبعدهم عن مخالفة أمر الله ورسوله فى ترك التسمية على الصيد.
6 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا) [الجمعة: 11]
/ 11 - فيه: جَابِر، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّى مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) إِذْ أَقْبَلَتْ مِنَ الشَّأْمِ عِيرٌ تَحْمِلُ طَعَامًا، فَالْتَفَتُوا إِلَيْهَا حَتَّى مَا بَقِىَ مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) إِلا اثْنَا عَشَرَ رَجُلا، فَنَزَلَتْ: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا (. تقدير الآية عند المبرد: وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها، وإذا رأوا لهوًا انفضوا إليه، ثم حذف ضمير الثانى، وأخر ضمير الأول، والمعنى وإذا رأوا ذلك أسرعوا إليه. واللهو ما يصنع عند النكاح من الدف، وقيل: هو الطبل. وقال قتادة: (وتركوك قائما (. قال الحسن: قال النبى - عليه السلام -: (لو اتبع آخرهم أولهم التهب الوادى عليهم نارًا) وقال قتادة: لم يبق مع النبى إلا اثنا عشر رجلا وامرأة. وقال الحسن: إن أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء سعر، فلذلك خرجوا إلى العير حين قدمت.) قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة (أى ما عند الله من(6/200)
الثواب والأجر خير من ذلك لمن جلس واستمع الخطبة) والله خير الرازقين (فارغبوا إليه فى سعة الأرزاق.
7 - باب مَنْ لَمْ يُبَالِ مِنْ حَيْثُ كَسَبَ الْمَالَ
/ 12 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ عليه السَّلام: (يَأْتِى عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لا يُبَالِى الْمَرْءُ مَا أَخَذَ مِنْهُ أَمِنَ الْحَلالِ أَمْ مِنَ الْحَرَامِ) . هذا يكون لضعف الدين وعموم الفتن، وقد أخبر عليه السلام أن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا، وأنذر كثرة الفساد، وظهور المنكر، وتغير الأحوال، وذلك من علامات نبوته عليه السلام، وقد روى عنه عليه السلام أنه قال: (من بات كالا من عمل الحلال بات والله عنه راضٍ، وأصبح مغفورًا له) و (طلب الحلال فريضة على كل مؤمن، وهو مثل مقارعة الأبطال فى سبيل الله) .
8 - باب التِّجَارَةِ فِى الْبَرِّ وَقَوْلِهِ تعالى: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) [النور: 37]
وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ الْقَوْمُ يَتَبَايَعُونَ وَيَتَّجِرُونَ وَلَكِنَّهُمْ إِذَا نَابَهُمْ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ لَمْ تُلْهِهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ حَتَّى يُؤَدُّوهُ إِلَى اللَّهِ. / 13 - فيه: الْبَرَاء، وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، كُنَّا تَاجِرَيْنِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ(6/201)
(صلى الله عليه وسلم) ، فَسَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الصَّرْفِ، فَقَالَ: (إِنْ كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَلا بَأْسَ، وَإِنْ كَانَ نَسَاءً فَلا يَصْلُحُ) . وأما التجارة فى البر فليس فى الباب ما يقتضى تعيينها من بين سائر التجارات، غير أن قوله تعالى: (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله (يدخل فى عمومه جميع أنواع التجارات من البر وغيره، وهذا الحديث يدل أن اسم الصرف إنما يقع على بيع الورق بالذهب، وأما الذهب بالذهب، أو الورق بالورق فإنما يسمى مراطلة ومبادلة. وفيه: أن الصرف لا يكون إلا يدًا بيد، وفى الآية نعت تجار سلف الأمة، وما كانوا عليه من مراعاة حقوق الله، والمحافظة عليها، والتزام ذكر الله فى حال تجارتهم، وصبرهم على أداء الفرائض وإقامتها وخوفهم سوء الحساب والسؤال يوم عرض القيامة، ورأيت فى تفسير قوله تعالى: (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله (قال: كانوا حدادين وخرازين، فكان أحدهم إذا رفع المطرقة أو غرز الإشفى فسمع الأذان لم يخرج الإشفى من الغرزة، ولم يوقع المطرقة، ورمى بها وقام إلى الصلاة.
9 - باب الْخُرُوجِ فِى التِّجَارَةِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (فَانْتَشِرُوا فِى الأرْضِ) [الجمعة: 10]
/ 14 - فيه: أَبُو مُوسَى، أنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ وَكَانَ مَشْغُولا، فَرَجَعَ أَبُو مُوسَى فَفَرَغَ عُمَرُ، فَقَالَ: أَلَمْ أَسْمَعْ صَوْتَ(6/202)
عَبْدِاللَّهِ بْنِ قَيْسٍ، ائْذَنُوا لَهُ، قِيلَ: قَدْ رَجَعَ، فَدَعَاهُ، فَقَالَ: كُنَّا نُؤْمَرُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: تَأْتِينِى عَلَى ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ، فَانْطَلَقَ إِلَى مَجْلِسِ الأنْصَارِ، فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا: لا يَشْهَدُ لَكَ عَلَى هَذَا إِلا أَصْغَرُنَا أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىُّ، فَذَهَبَ بِأَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ فَقَالَ عُمَرُ: أَخَفِىَ هَذَا عَلَىَّ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ؟ أَلْهَانِى الصَّفْقُ بِالأسْوَاقِ، يَعْنِى الْخُرُوجَ إِلَى تِجَارَةٍ. وقوله تعالى: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا فى الأرض وابتغوا من فضل الله (وهو إباحة بعد حظر مثل قوله: (وإذا حللتم فاصطادوا (. قال المهلب: أما قوله: (ألهانى الصفق بالأسواق) مأخوذ من قوله تعالى: (وإذا رأوا تجارة أو لهوًا انفضوا إليها (فقرن التجارة باللهو، فسماها عمر لهوًا مجازًا؛ لأن اللهو المذكور فى الآية غير التجارة؛ لأنه تعالى فصل بينهما بالواو، وهو الدف عند النكاح وشبهه، فدل هذا أنما أراد شغلنى البيع والشراء عن ملازمة النبى - عليه السلام - فى كل أحيانه، حتى حضر من هو أصغر منى ما لم أحضره من العلم. وفيه: أن الصغير قد يكون عنده العلم ما ليس عند الكبير. وفيه: أنه يجب البحث وطلب الدليل على ما ينكره من الأقوال حتى يثبت عنده.(6/203)
- باب التِّجَارَةِ فِى الْبَحْرِ
وَقَالَ مَطَرٌ: لا بَأْسَ بِهِ وَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِى الْقُرْآنِ إِلا بِحَقٍّ ثُمَّ تَلا: (وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) [النحل: 14] . / 15 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أن النَّبِىّ، عليه السَّلام، ذَكَرَ رَجُلا مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ خَرَجَ إِلَى الْبَحْرِ، فَقَضَى حَاجَتَهُ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ. استدلال مطر الوراق من الآية حسن؛ لأن الله - تعالى - جعل تسخيره البحر لعباده لابتغاء فضله من نعمه التى عددها عليه، وأراهم فى ذلك عظيم قدرته، وسخر الرياح باختلافها تحملهم وتردهم، وهذا من عظيم آياته وكبير سلطانه، ونبههم على شكره عليها بقوله: (ولعلكم تشكرون (وهذا يرد قول من منع ركوب البحر فى أبان ركونه، وهو قول يروى عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى عمرو بن العاص يسأله عن البحر، فقال: خلق عظيم يركبه خلق ضعيف، دود على عود. فكتب إليه عمر ألا يركبه أحد طوله حياته. فلما كان بعد عمر لم يزل يركب حتى كان عمر بن عبد العزيز، فاتبع فيه رأى عمر بن الخطاب، وقد تقدم هذا المعنى فى كتاب الجهاد فى باب ركوب البحر، وذكرت هناك قول من منع ركوبه للحج، وإذا كان الله قد أباح ركوبه للتجارة، فركوبه للحج والجهاد أجوز، ولا حجة لأحد مع مخالفة الكتاب والسنة، فأما إذا كان أبان ارتجاجه فالأمة مجمعة أنه لا يجوز ركوبه؛ لأنه تعرض للهلاك، وقد نهى الله عباده عن ذلك بقوله: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة (وبقوله: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا (ولم يزل البحر يركب(6/204)
فى قديم الزمان، ألا ترى ما ذكر فى هذا الحديث أنه ركب فى زمن بنى إسرائيل، فلا وجه لقول من منع ركوبه.
- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ) [البقرة: 267]
/ 16 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَ عليه السَّلام: (إِذَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ، وَلِزَوْجِهَا بِمَا كَسَبَ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ، لا يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ أَجْرَ بَعْضٍ شَيْئًا) . / 17 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (إِذَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ كَسْبِ زَوْجِهَا عَنْ غَيْرِ أَمْرِهِ فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِهِ) . ومعنى هذه الآية أن الله أمر عباده بالأكل والصدقة من حلال كسبهم وتجارتهم، والآية التى ترجم بها وقع فيها غلط من الناسخ - والله أعلم - وصوابها) يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم (وقال فى موضع آخر: (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم (. وأما صدقة المرأة من بيت زوجها بغير إذنه فإنما يباح لها أن تتصدق منه بما تعلم أن نفسه تطيب به ولا تشح بمثله، فيؤجر كل واحد منهم لتعاونهم على الطاعة، وقد تقدم هذا المعنى فى كتاب الزكاة.(6/205)
- باب مَنْ أَحَبَّ الْبَسْطَ فِى الرِّزْقِ
/ 18 - فيه: أَنَس، قَالَ عليه السَّلام:: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِى رِزْقِهِ أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِى أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ) . فى هذا الحديث إباحة اختيار الغنى على الفقر، وسيأتى الكلام فى ذلك فى كتاب الرقائق - إن شاء الله تعالى. فإن قيل: هذا الحديث يعارض قوله عليه السلام: (يجمع خلق أحدكم فى بطن أمه أربعين يومًا مضغة: وفيه: (فيكتب رزقه وأجله) . قال المهلب: اختلف العلماء فى وجه الجمع بينهما على قولين: فقيل: معنى البسط فى رزقه هو البركة؛ لأن صلته أقاربه صدقة، والصدقة تُربى المال وتزيد فيه، فينمو بها ويزكو. ومعنى قوله: (وينسأ فى أثره) أى: يبقى ذكره الطيب وثناؤه الجميل مذكورًا على الألسنة، فكأنه لم يمت، والعرب تقول الثناء يضارع الخلود، قال الشاعر: إن الثناء هو الخلود كما يسمى الذم موتًا قال سابق البريرى: قد مات قوم وهم فى الناس أحياء يعنى بسوء أفعالهم وقبح ذكرهم. والقول الثانى: أنه يجوز أن يكتب فى بطن أمه أنه إن وصل رحمه(6/206)
فإن رزقه وأجله كذا، وإن لم يصل رحمه فكذا، بدلالة قوله تعالى فى قصة نوح: (أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى (يريد أجلا قد قضى به لكم إن أطعتم يؤخركم إليه لأن أجل الله إذا جاء فى حال معصيتكم لا يؤخر عنكم قال تعالى: (إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزى فى الحياة (وهو الهلاك على الكفر) ومتعناهم إلى حين (فهذا كله من المكتوب فى بطن أمه، أى الأجلين استحق لا يؤخر عنه، ويؤيد هذا قوله تعالى: (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب (وقد روى عن عمر بن الخطاب ما هو تفسير لهذه الآية، روى أنه كان يقول فى دعائه: اللهم إن كنت كتبتنى عندك شقيا، فامحنى واكتبنى سعيدًا، فإنك تقول: (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب (وستأتى جملة من هذا فى كتاب الأدب فى باب من بُسط له فى الرزق لصلة الرحم، إن شاء الله.
- باب شِرَاءِ النَّبِىِّ عليه السَّلام بِالنَّسِيئَةِ
/ 19 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ يَهُودِىٍّ إِلَى أَجَلٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ. / 20 - وفيه: أَنَس، أنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، رَهَنَ دِرْعًا لَهُ عِنْدَ يَهُودِىٍّ، وَأَخَذَ مِنْهُ شَعِيرًا لأهْلِهِ. . . الحديث.(6/207)
العلماء مجمعون على جواز البيع بالنسيئة لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) اشترى الشعير من اليهودى نسيئة. وقال ابن عباس: البيع بالنسيئة فى كتاب الله وقرأ: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين (الآية. وسيأتى ما للعلماء فى الرهن والسلم فى موضعه إن شاء الله. وقال أبو عبيدة: الإهالة: الشحم والزيت. وفيه: جواز معاملة من يخالط ماله الحرام ومبايعته؛ لأن الله - تعالى - ذكر أن اليهود أكالون السحت، وقد اشترى النبى من اليهودى طعامًا ورهنه درعه، وقد تقدم اختلاف العلماء فى ذلك فى كتاب الزكاة فى باب من أعطاه الله شيئًا من غير مسألة ولا إشراف نفس، فتأمله هناك.
- باب كَسْبِ الرَّجُلِ وَعَمَلِهِ بِيَدِهِ
/ 21 - فيه: عَائِشَةَ، لَمَّا اسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: لَقَدْ عَلِمَ قَوْمِى أَنَّ حِرْفَتِى لَمْ تَكُنْ تَعْجِزُ عَنْ مَئُونَةِ أَهْلِى، وَشُغِلْتُ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَسَيَأْكُلُ آلُ أَبِى بَكْرٍ مِنْ هَذَا الْمَالِ، وَيَحْتَرِفُ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ. / 22 - وفيه: عَائِشَة، كَانَ أَصْحَابُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عُمَّالَ أَنْفُسِهِمْ، وَكَانَ لَهُمْ أَرْوَاحٌ، فَقِيلَ لَهُمْ: لَوِ اغْتَسَلْتُمْ؟ . / 23 - وفيه: الْمِقْدَامِ، عَنْ الرسول (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ(6/208)
خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِىَّ اللَّهِ دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلام، كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ) . / 24 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لأنْ يَحْتَطِبَ أَحَدُكُمْ حُزْمَةً عَلَى ظَهْرِهِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ أَحَدًا، فَيُعْطِيَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ) . قال المهلب: الحرفة هاهنا التصرف فى المعاش والمتجر فلما اشتغل أبو بكر عنه بأمر المسلمين ضاع أهله، فاحتاج أن يأكل هو وأهله من بيت مال المسلمين، لاستغراقه وقته فى أمورهم واشتغاله عن تعيش أهله. وقوله: (وأحترف لهم فيه) أى: أتجر لهم فى مالهم حتى يعود عليهم من ربحه بقدر ما آكل أو أكثر. وليس بواجب على الإمام أن يتجر فى مال المسلمين بقدر مؤنته، إلا أن يتطوع بذلك كما تطوع أبو بكر؛ لأن مؤنته مفروضة فى بيت مال المسلمين بكتاب الله؛ لأنه رأس العاملين عليها. وفى حديث عائشة: ما كان عليه أصحاب النبى من التواضع واستعمال أنفسهم فى أمور دنياهم. وقوله: (لو اغتسلتم) يبين ما روى أبو سعيد الخدرى أن النبى قال: (غسل الجمعة واجب على كل مسلم) . أنه ليس بواجب فرضًا، وأن المراد بذلك الندب إلى النظافة، وتأكيد الغسل عليهم؛ لفضل الجمعة ومن يشهدها من الملائكة والمؤمنين، وقد تقدم ما للعلماء فى ذلك فى كتاب الجمعة.(6/209)
وفى حديث المقدام: أن أفضل الكسب من عمل اليد، ألا ترى أن نبى الله داود كان يأكل من عمل يديه، وقال أبو الزاهرية: كان داود يعمل القفاف، ويأكل منها. قال ابن المنذر: وإنما فُضل عمل اليد على سائر المكاسب، إذا نصح العامل بيده، وروى أبو سعيد المقبرى عن أبى هريرة، أن النبى عليه السلام قال: (خير الكسب يد العامل إذا نصح) وروى عن النبى (أن زكريا كان نجارًا) وقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (وهل من نبى إلا وقد رعى الغنم) . وقد ذكر معمر عن سليمان أنه كان يعمل الخوص، فقيل له: أتعمل هذا وأنت أمير المدائن، يجرى عليك رزق؟ قال: إنى أحب أن آكل من عمل يدى.
- باب السُّهُولَةِ وَالسَّمَاحَةِ فِى الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ وَمَنْ طَلَبَ حَقًّا فَلْيَطْلُبْهُ فِى عَفَافٍ
/ 25 - فيه: جَابِر، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (رَحِمَ اللَّهُ رَجُلا سَمْحًا إِذَا بَاعَ وَإِذَا اشْتَرَى وَإِذَا اقْتَضَى) . فيه: الحضُ على السماحة وحسن المعاملة، واستعمال معالى الأخلاق ومكارمها، وترك المشاحة والرقة فى البيع، وذلك سبب إلى وجود البركة فيه لأن النبى عليه السلام لا يحض أمته إلا على ما فيه النفع لهم فى الدنيا والآخرة، فأما فضل ذلك فى الآخرة(6/210)
فقد دعا عليه السلام بالرحمة لمن فعل ذلك، فمن أحب أن تناله بركة دعوة النبى - عليه السلام - فليقتد بهذا الحديث ويعمل به. وفى قوله عليه السلام: (إذا اقتضى) حض على ترك التضييق على الناس عند طلب الحقوق وأخذ العفو منهم، وقد روى يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن أبى جعفر، عن نافع، عن ابن عمر وعائشة، أن النبى - عليه السلام - قال: (من طلب حقا فليطلبه فى عفاف واف أو غير واف) ، قال ابن المنذر: وفى هذا الحديث الأمر بحسن المطالبة وإن قبض هذا الطالب دون حقه، وقد جاء فى إنظار المعسر من الفضل ما يذكر فى الباب بعد هذا - إن شاء الله.
- باب مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا
/ 26 - فيه: حُذَيْفَةَ، قَالَ عليه السَّلام: (تَلَقَّتِ الْمَلائِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، قَالُوا: أَعَمِلْتَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا؟ قَالَ: كُنْتُ آمُرُ فِتْيَانِى أَنْ يُنْظِرُوا وَيَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُعسِرِ، قَالَ: فَتَجَاوَزُوا عَنْهُ) . وقال أبو مالك، عن ربعى قال: كنت أيسر على الموسر وأنظر المعسر، وتابعه الملك، عن ربعى: أنظر الموسر وأتجاوز عن المعسر. / 27 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا، قَالَ، لِفِتْيَانِهِ: تَجَاوَزُوا عَنْهُ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ) .(6/211)
قال المهلب: فيه أن الله يغفر الذنوب بأقل حسنة توجد للعبد، وذلك - والله أعلم إذا خلصت النية فيها لله - تعالى - وان يريد بها وجهه، وابتغاء مرضاته، فهو أكرم الأكرمين، ولا يجوز أن يخيب عبده من رحمته، وقد قال فى التنزيل: (من ذا الذى يقرض الله قرضًا حسنًا فيضاعفه له وله أجر كريم (. وروى أبو عيسى الترمذى هذا الحديث، وزاد فيه: (أنه ينظر فلا يجد حسنة ولا شيئًا، فيقال له، فيقول: ما أعرف شيئًا إلا أنى كنت إذا داينت معسرًا تجاوزت عنه، فيقول الله: أنت معسر، ونحن أحق بهذا منك) . قال ابن المنذر: فى هذا الحديث: دليل أن المؤمن يلحقه أجر ما يأمر به من أبواب البر والخير، وإن لم يتول ذلك بنفسه.
- باب إِذَا بَيَّنَ الْبَيِّعَانِ وَلَمْ يَكْتُمَا وَنَصَحَا
وَيُذْكَرُ عَنِ الْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدٍ، قَالَ: كَتَبَ لِىَ النَّبِىُّ عليه السَّلام: (هَذَا مَا اشْتَرَى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنَ الْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدٍ، بَيْعَ الْمُسْلِمِ مِنَ الْمُسْلِمِ، لا دَاءَ وَلا خِبْثَةَ وَلا غَائِلَةَ) . وَقَالَ قَتَادَةُ: الْغَائِلَةُ: الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ وَالإبَاقُ. وَقِيلَ لإبْرَاهِيمَ: إِنَّ بَعْضَ النَّخَّاسِينَ يُسَمِّى آرِىَّ خُرَاسَانَ وَسِجِسْتَانَ، فَيَقُولُ: جَاءَ أَمْسِ مِنْ خُرَاسَانَ، جَاءَ الْيَوْمَ مِنْ سِجِسْتَانَ، فَكَرِهَهُ كَرَاهِيَةً شَدِيدَةً.(6/212)
وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ: لا يَحِلُّ لامْرِئٍ بِيعُ سِلْعَةً يَعْلَمُ أَنَّ بِهَا دَاءً إِلا أَخْبَرَهُ. / 28 - فيه: حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ، مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، أَوْ قَالَ حَتَّى يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِى بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا) . وترجم له (باب ما يمحق الكذب والكتمان فى البيع) . وأصل هذه الباب أن نصيحة المسلم للمسلم واجبة، وقد كان رسول الله يأخذها فى البيعة على الناس كما يأخذ عليهم الفرائض، قال جرير: (بايعت رسول الله على السمع والطاعة، فشرط على والنصح لكل مسلم) وأمر المؤمنين بالتحاب والمؤاخاة فى الله، قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) فحرم بهذا كله غش المؤمنين وخديعتهم، ألا ترى قول عقبة بن عامر: (لا يحل لامرئ بيع سلعة يعلم بها داءً إلا أخبره) وقد رواه عن النبى - عليه السلام - ذكره ابن المنذر، وذكر مثله من حديث واثلة بن الأسقع عن النبى - عليه السلام. قال ابن المنذر: فكتمان العيوب فى السلع حرام، ومن فعل ذلك فهو متوعد بمحق بركة بيعه فى الدنيا والعذاب الأليم فى الآخرة. وقال ابن قتيبة: قوله: (لا داء) يعنى لا داء فى العبد من الأدواء التى يرد منها مثل الجنون، والجذام، والبرص، والسل، والأوجاع المتقادمة.(6/213)
وقوله: (لا غائلة) هو من قولك: اغتالنى فلان، إذا احتال عليك بحيلة يتلف بها بعض مالك، يقال: غائلت فلانًا غولا: إذا أتلفته، والمعنى: لا حيلة عليك فى هذا البيع يغتال بها مالك. و (الخبثة) يريد الأخلاق الخبيثة مثل: الإباق والسرف، والعرب أيضًا تدعو الزنا خبثًا وخبثةً، وقال صاحب العين: الخبثة: الزنية. وقوله: (كان بعض النخاسين يسمى آرى) يريد يسمى موضوع الدابة فى داره ومربطها خراسان وسجستان، ويريد بذلك الخديعة والغرر بالمشترى منه، واختلف أهل اللغة فى تفسير الآرى فقال ابن الأنبارى: الآرى عند العرب الأِخيةُ التى تُحبس بها الدابة وتلزم بها موضعًا واحدًا، وهو مأخوذ من قولهم: قد تأرى الرجل بالمكان، إذا أقام به. قال الأعشى: لا يتأرى لما فى القدر يرقبه فالعامة تخطئ فى الآرى فتظن أنها المعلف. هذا قول ابن الأنبارى. وقال صاحب العين: الآرى: المعلف، وآرت الدابة إلى معلفها تأرى: إذا ألفته.
- باب بَيْعِ الْخِلْطِ مِنَ التَّمْرِ
/ 29 - فيه: أَبُو سَعِيدٍ، قَالَ: كُنَّا نُرْزَقُ تَمْرَ الْجَمْعِ، وَهُوَ الْخِلْطُ مِنَ التَّمْرِ، وَكُنَّا نَبِيعُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا صَاعَيْنِ بِصَاعٍ، وَلا دِرْهَمَيْنِ بِدِرْهَمٍ) .(6/214)
فقه هذا الباب: أن التمر كله جنس واحد رديئه وجيده، لا يجوز التفاضل فى شىء منه، ويدخل فى معنى التمر جميع الطعام، فلا يجوز فى الجنس الواحد منه التفاضل ولا النسيئة بإجماع، فإذا كانا جنسين جاز فيهما التفاضل ولم تجز النسيئة، هذا حكم الطعام المقتات كله عند مالك؛ وعند الشافعى الطعام كله المقتات وغير المقتات، وعند الكوفيين الطعام المكيل والموزون. وفى حديث أبى سعيد من الفقه: أن من لم يعلم بتحريم الشىء فلا حرج عليه حتى يعلمه، والبيع إذا وقع محرمًا فهو مفسوخ مردود لقوله عليه السلام: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) .
- باب مَا قِيلَ فِى اللَّحَّامِ وَالْجَزَّارِ
/ 30 - فيه: أَبُو مَسْعُود، جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ، يُكْنَى أَبَا شُعَيْبٍ، فَقَالَ لِغُلامٍ لَهُ قَصَّابٍ: اجْعَلْ لِى طَعَامًا يَكْفِى خَمْسَةً، فَإِنِّى أُرِيدُ أَنْ أَدْعُوَ النَّبِىَّ، عليه السَّلام - خَامِسَ خَمْسَةٍ، فَإِنِّى قَدْ عَرَفْتُ فِى وَجْهِهِ الْجُوعَ، فَدَعَاهُمْ فَجَاءَ مَعَهُمْ رَجُلٌ، فَقَالَ النَّبِىُّ عليه السَّلام: (إِنَّ هَذَا قَدْ تَبِعَنَا فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَأْذَنَ لَهُ، فَأْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ يَرْجِعَ رَجَعَ، فَقَالَ: لا، بَلْ قَدْ أَذِنْتُ لَهُ) . قال المهلب: إنما صنع طعام خمسة لعلمه أن النبى - عليه السلام - سيتبعه من أصحابه غيره، فوسع فى الطعام لكى يبلغ النبى شبعه. وفى هذا الحديث من الأدب ألا يدخل المدعو مع نفسه غيره. وفيه: كراهية طعام الطفيلى؛ لأنه مقتحم غير مأذون له، وقيل: إنما استأذن النبى - عليه السلام - للرجل؛ لأنه لم يكن بينه وبين(6/215)
القصاب الذى دعاه من الذمام والمودة ما كان بينه وبين أبى طلحة، إذ قام هو وجميع من معه، وقد قال الله: (أو صديقكم (. وفيه: الشفاعة؛ لأن النبى - عليه السلام - شفع للرجل عند صاحب الطعام بقوله: (إن شئت أن تأذن له) . وفيه: الحكم بالدليل لقوله: (فإنى قد عرفت فى وجهه الجوع) . وفيه: أكل الإمام والعالم والشريف طعام الجزار، وإن كان فى الجزارة شىء من الضعة؛ لأنه يمتهن فيها نفسه فإن ذلك لا ينقصه ولا يسقط شهادته إذا كان عدلا. والقصاب: الجزار، عن صاحب العين.
- باب قَوْلِ اللَّهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا (الآية [آل عمران: 130]
/ 31 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ عليه السَّلام: (لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لا يُبَالِى الْمَرْءُ بِمَا أَخَذَ الْمَالَ، مِنْ حَلالٍ أَوْ مِنْ حَرَامٍ) . نهى الله عباده المؤمنين أن يأكلوا الربا بعد إسلامهم، والربا: هو الزيادة على أصل المال بالتأخير عن الأجل الحال، عن عطاء ومجاهد. وتدخل فيه كل زيادة محرمة فى المعاملة لا تجوز من جهة المضاعفة، وكان أهل الجاهلية يعطون الدرهم بالدرهمين، والدينار(6/216)
بالدينارين إلى أجل، فإذا حل الأجل قال: إما أن تقضى وإما أن تربى، وكان كلما أخر عن الأجل إلى غيره زيد زيادة على المال الثانى أضعافًا مضاعفة، فحرم الله ذلك على المؤمنين. وأما وجه حديث أبى هريرة فى هذا الباب، فإن الربا محرم فى القرآن متوعد عليه، فمن لم يبال عن الحرام من أين أخذه، لم يبال عن الربا، لأنه نوع من الحرام.
- باب آكِلِ الرِّبَا وَشَاهِدِهِ وَكَاتِبِهِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ (الآية [البقرة: 275]
/ 32 - فيه: عَائِشَةَ، لَمَّا نَزَلَتْ آخِرُ سُورَة الْبَقَرَةِ قَرَأَهُنَّ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فِى الْمَسْجِدِ، ثُمَّ حَرَّمَ التِّجَارَةَ فِى الْخَمْرِ. / 33 - وفيه: سَمُرَةَ، قَالَ النَّبِىُّ عليه السَّلام: (رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِى، فَأَخْرَجَانِى إِلَى أَرْضٍ مُقَدَّسَةٍ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ مِنْ دَمٍ فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ، وَعَلَى وَسَطِ النَّهَرِ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ، فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِى فِى النَّهَرِ، فَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَخْرُجَ، رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ فِى فِيهِ فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ، فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ رَمَى فِى فِيهِ بِحَجَرٍ، فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: الَّذِى رَأَيْتَهُ فِى النَّهَرِ آكِلُ الرِّبَا) . أكل الربا من الكبائر، متوعد عليه بمحاربة الله ورسوله، وبما ذكره فى الحديث، وأما شاهداه وكاتبه، فإنما ذكروا مع آكله، لأن كل من أعان على معصية الله - تعالى - فهو شريك فى إثمها بقدر سعيه وعمله إذا علمه، وكان يلزم الكاتب ألا يكتب ما لا يجوز،(6/217)
والشاهدين ألا يشهدا على جواز ما حرم الله رسوله إذا علموا ذلك، فكل واحد منهما له حظه من الإثم، ألا ترى أن النبى لم يشهد لأبى النعمان بن بشير حين تبين له إيثاره للنعمان وقال: (لا أشهد على جور) وقد روى معمر، عن الزهرى، عن ابن المسيب، أن النبى - عليه السلام قال: (لعن الله آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه) فسوى بينهم فى الإثم، ولهذا الحديث ترجم البخارى بهذه الترجمة. ومعنى قوله تعالى: (الذين يأكلون الربا (يعنى فى الدنيا) لا يقومون (فى الآخرة إذا بعثوا من قبورهم إلا مثل قيام المجانين. والمس: الجنون، وعن مجاهد وقتادة وغيرهم قالوا: يقوم الخلق من قبورهم مسرعين كما قال تعالى: (يخرجون من الأجداث سراعًا (إلا أكلة الربا، فإن الربا يربو فى بطونهم، فيقومون ويسقطون، يريدون الإسراع فلا يقدرون، فهم بمنزلة المتخبط من الجنون، وقال ابن جبير: يبعث أحدهم حين يبعث ومعه شيطان يخنقه. والمراد فى هذه الآية بالأكل من أخذ الربا، أكله أم لم يأكله، ودخل فى معناه كل ما شابهه فى البيوع والدين وغير ذلك مما بينته السنة، كقرض جر منفعة وشبهه.(6/218)
- باب مُوكِلِ الرِّبَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِىَ مِنَ الرِّبَا (إلى) وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [البقرة: 278]
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذِهِ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ عَلَى النَّبِىِّ، عليه السَّلام. - 34 - فيه: أَبُو جُحَيْفَةَ، رَأَيْتُ أَبِى اشْتَرَى عَبْدًا حَجَّامًا، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: نَهَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَثَمَنِ الدَّمِ، وَنَهَى عَنِ الْوَاشِمَةِ وَالْمَوْشُومَةِ، وَآكِلِ الرِّبَا وَمُوكِلِهِ، وَلَعَنَ الْمُصَوِّرَ. سوى النبى - عليه السلام - بين آكل الربا وموكله فى النهى، تعظيمًا لإثمه كما سوى بين الراشى والمرشى فى الإثم، وموكل الربا هو معطيه، وآكله هو آخذه، وأمر الله عباده بتركه والتوبة منه بقوله: (اتقوا الله وذروا ما بقى من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله (وتوعد تعالى من لم يتب منه بمحاربة الله ورسوله وليس فى جميع المعاصى ما عقوبتها محاربة الله ورسوله غير الربا، فحق على كل مؤمن أن يجتنبه، ولا يتعرض لما لا طاقة له به من محاربة الله ورسوله، ألا ترى فهم عائشة هذا المعنى حيث قالت للمرأة التى قالت لها: بعت من زيد من أرقم جارية إلى العطاء بثمانمائة درهم، ثم ابتعتها منه بستمائة درهم نقدًا، فقالت لها عائشة: بئس ما شريت، أبلغى زيدًا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله إن لم يتب. ولم تقل لها: إنه أبطل صلاته ولا صيامه ولا حجه، فمعنى ذلك - والله أعلم - أن من جاهد فى سبيل الله فقد حارب عن الله، ومن فعل ذلك ثم استباح الربا، فقد استحق محاربة الله،(6/219)
ومن أربى فقد أبطل حربه عن الله، فكانت عقوبته من جنس ذنبه قال المهلب: هذه الأشياء المنهى عنها فى الحديث مختلفة الأحكام، فمنها على سبيل التنزه مثل: كسب الحجام، وثمن الكلب، وهو مكروه غير محروم، وإنما كره للضعة والسقوط فى بيعه، ومنها حرام بين مثل الربا، وإنما اشترى أبو جحيفة العبد الحجام، ثم قال: نهى النبى عن ثمن الدم ليحجمه ويخلص من إعطاء الحجام أجر حجامته خشية أن يواقع نهى النبى عن ثمن الدم على ما تأوله فى الحديث، وقد جاء هذا بينا فى باب: ثمن الكلب بعد هذا، قال عون ابن أبى جحيفة: (رأيت أبى اشترى حجامًا، فأمر بمحاجمه فكسرت، فسألته عن ذلك، فقال: (إن رسول الله نهى عن ثمن الدم) وإنما فعل ذلك على سبيل التورع والتنزه، وسيأتى القول فى كسب الحجام بعد هذا - إن شاء الله.
- باب) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ) [البقرة: 267]
/ 35 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِىّ، عليه السَّلام، يَقُولُ: (الْحَلِفُ مُنَفِّقَةٌ لِلسِّلْعَةِ مُمْحِقَةٌ لِلْبَرَكَةِ) . قال المهلب: سئل بعض العلماء عن معنى قوله تعالى: (يمحق الله الربا ويربى الصدقات (وقيل له: نحن نرى صاحب الربا يربو ماله، وصاحب الصدقة ربما كان مقلا قال: متى يربى الله(6/220)
الصدقات؟ إن الصدقة يجدها صاحبها مثل أحد يوم القيامة، كذلك صاحب الربا يجد عمله كله ممحوقًا إن تصدق منه، أو وصل رحمه لم يكتب له بذلك حسنة، وكان عليه إثم الربا بحاله. وقالت طائفة: إن الربا يمحق فى الدنيا والآخرة على عموم اللفظ، واحتجوا على ذلك بقوله عليه السلام: (الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للبركة) فلما كان نفاق السلعة بالحلف الكاذبة فى الدنيا كان ممحقًا للبركة فيها فى الدنيا فكذلك محق الربا يكون أيضًا فى الدنيا وذكر عبد الرزاق عن معمر قال: سمعنا أنه لا يأتى على صاحب الربا أربعون سنه حتى يمحق.
- باب مَا يُكْرَهُ مِنَ الْحَلِفِ فِى الْبَيْعِ
/ 36 - فيه: ابْن أَبِى أَوْفَى، أَنَّ رَجُلا أَقَامَ سِلْعَةً، وَهُوَ فِى السُّوقِ، فَحَلَفَ بِاللَّهِ لَقَدْ أَعْطَى بِهَا مَا لَمْ يُعْطِ؛ لِيُوقِعَ فِيهَا رَجُلا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَنَزَلَتْ: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا (الآيَةَ [آل عمران 77] . وهو وعيد شديد فى اليمين الغموس، وذلك قوله تعالى: (أولئك لا خلاق لهم فى الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم (فجمع الله هذه العقوبات كلها فى هذه اليمين الغموس لما جمعت من المعانى الفاسدة، وذلك كذبه فى اليمين بالله - تعالى - وهو أجل ما يحلف به، ومنها غروره فى سلعته من يقع فيها من أجل يمينه تلك، ومنها استحلاله ماله بالباطل، وهو الثمن القليل الذى لا يدوم له فى الدنيا لتسمية(6/221)
الله له قليلا عوضًا مما كان يلزمه من تعظيم حق الله - تعالى - والوفاء بعهده، والوقوف عند نهيه وأمره، فخاب تجره، وخسرت صفقته.
- باب مَا قِيلَ فِى الصَّوَّاغِ
وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِىُّ عليه السَّلام: (لا يُخْتَلَى خَلاهَا) . وَقَالَ الْعَبَّاسُ: إِلا الإذْخِرَ، فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ، فَقَالَ: (إِلا الإذْخِرَ) . وَقَالَ أَيْضًا: فِإنَهُ لِصَاغَتِهُمْ. / 37 - فيه: عَلِىّ، كَانَتْ لِى شَارِفٌ مِنْ نَصِيبِى مِنَ الْمَغْنَمِ، وَكَانَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) أَعْطَانِى شَارِفًا مِنَ الْخُمْسِ، فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَبْتَنِىَ بِفَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَاعَدْتُ رَجُلا صَوَّاغًا مِنْ بَنِى قَيْنُقَاعَ أَنْ يَرْتَحِلَ مَعِى، فَنَأْتِىَ بِإِذْخِرٍ أَرَدْتُ أَنْ أَبِيعَهُ مِنَ الصَّوَّاغِينَ وَأَسْتَعِينَ بِهِ فِى وَلِيمَةِ عُرُسِى. فيه أن الصياغة صناعة جائز التكسب منها، وأن الصياغ إذا كان عدلا لا تضره صناعته، لأن الرسول قد أقره. قال المهلب: وفيه: جواز بيع الإذخر وسائر المباحات، والاكتساب منها للرفيع والوضيع. وفيه: الاستعانة بأهل الصناعة فيما ينفق عندهم. وفيه: السعاية على الولائم والتكسب لها من طيب الكسب. وفيه: أن إطعام الوليمة على الناكح.(6/222)
- باب ذِكْرِ الْقَيْنِ وَالْحَدَّادِ
/ 38 - فيه: خَبَّاب، قَالَ: كُنْتُ قَيْنًا فِى الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ لِى عَلَى الْعَاصِ ابْنِ وَائِلٍ دَيْنٌ، فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ، قَالَ: لا أُعْطِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقُلْتُ: لا أَكْفُرُ بمحمد حَتَّى يُمِيتَكَ اللَّهُ، ثُمَّ يبْعَثَك، قَالَ: دَعْنِى حَتَّى أَمُوتَ وَأُبْعَثَ، فَسَأُوتَى مَالا وَوَلَدًا فَأَقْضِيكَ، فَنَزَلَتْ: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِى كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا) [مريم 77] . وهذا الباب كالذى قبله أن الحداد لا تضره مهنته فى صناعته إذا كان عدلا. وفيه: أن الكلمة من الاستهزاء قد يتكلم بها المرء فيكتب الله له بها سخطه إلى يوم القيامة، ألا ترى وعيد الله له على الاستهزاء بقوله: (سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا ونرثه ما يقول ويأتينا فردًا (. يعنى المال والولد بعد إهلاكنا إياه، ويأتينا فردا أى: نبعثه وحده تكذيبًا لظنه، وكان العاص بن وائل لا يؤمن بالبعث، فلذلك قال له خباب: والله لا أكفر بمحمد حتى تموت وتبعث، ولم يرد خباب أنه إذا بعثه الله بعد الموت أن يكفر بمحمد؛ لأن حينئذ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين، ويتمنى العاص ابن وائل وغيره أن لو كانوا ترابًا ولم يكن كافرًا، وبعد البعث يستوى يقين المكذب مع يقين المؤمن، ويرتفع الكفر وتزول الشكوك، فكان غرض خباب فى قوله إياس العاص من كفره، وذكر ابن الكلبى عن جماعة فى الجاهلية أنهم كانوا زنادقة منهم: العاص بن وائل، وعقبة بن أبى معيط، والوليد ابن المغيرة، وأبى بن خلف.(6/223)
وفيه: جواز الإغلاظ فى اقتضاء الدين لمن خالف الحق، وظهر منه الظلم والتعدى. قال صاحب العين: القين: الحداد، والتقين: التزين بألوان الزينة. وقال ابن دريد: أصل القين: الحداد، ثم صار كل صانع عند العرب قينًا، وجمعه أقيان وقيون، وقد قان الحديدة قينًا: ضربها بالمطرقة، وقان الشىء قيانةً: أصلحه، وقالت أم أيمن: أنا قينت عائشة لرسول الله: أى زينتها. وقان الله الإنسان على الشىء: جعله عليه قينةً، عن صاحب الأفعال.
- باب الْخَيَّاطِ
/ 39 - فيه: أَنَس، إِنَّ خَيَّاطًا دَعَا النَّبِىّ، عليه السَّلام، لِطَعَامٍ صَنَعَهُ، قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: فَذَهَبْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى ذَلِكَ الطَّعَامِ، فَقَرَّبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) خُبْزًا وَمَرَقًا فِيهِ دُبَّاءٌ وَقَدِيدٌ، فَرَأَيْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوَالَىِ الْقَصْعَةِ، قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ مِنْ يَوْمِئِذٍ. قال المهلب: فيه جواز أكل الشريف طعام الخياط والصانع، وإجابته إلى دعوته. وفيه: مؤاكلة الخدم. وفيه: أن المؤاكل لأهله وخدمه مباح له أن يتبع شهوته(6/224)
حيث رآها إذا علم أن ذلك لا يُكره منه، وإذا لم يعلم ذلك فلا يأكل إلا مما يليه، وقد سئل مالك عن هذه المسألة، فأجاب بهذا الجواب.
- باب النَّسَّاجِ
/ 40 - فيه: سَهْلَ، قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ بِبُرْدَةٍ، قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ؟ قِيلَ لَهُ: نَعَمْ، هِىَ الشَّمْلَةُ مَنْسُوجٌ فِى حَاشِيَتِهَا، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى نَسَجْتُ هَذِهِ بِيَدِى أَكْسُوكَهَا، فَأَخَذَهَا رسُول اللَّه، عليه السَّلام، مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَإِنَّهَا إِزَارُهُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اكْسُنِيهَا، فَقَالَ: (نَعَمْ) ، فَجَلَسَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فِى الْمَجْلِسِ، ثُمَّ رَجَعَ فَطَوَاهَا، ثُمَّ أَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْقَوْمُ: مَا أَحْسَنْتَ سَأَلْتَهَا إِيَّاهُ، لَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لا يَرُدُّ سَائِلا، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَاللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ إِلا لِتَكُونَ كَفَنِى يَوْمَ أَمُوتُ، قَالَ سَهْلٌ: فَكَانَتْ كَفَنَهُ. قال المهلب: فيه: جواز قبول الهدية من الضعيف إذا كان له مقصدًا من التبرك وشبهه. وفيه: الهبة لما يسأله الإنسان من ثوب أو غيره. وفيه: الأثرة على نفسه وإن كانت به حاجة إلى ذلك الشىء. وفيه: التبرك بثوب الإمام والعالم، رجاء النفع به فى استشعاره كفنًا وشبه ذلك.(6/225)
- باب النَّجَّارِ
/ 41 - فيه: سَهْل، سأله رجل عَنِ الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: بَعَثَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، إِلَى فُلانَةَ، أَنْ مُرِى غُلامَكِ النَّجَّارَ يَعْمَلُ لِى أَعْوَادًا أَجْلِسُ عَلَيْهِنَّ إِذَا كَلَّمْتُ النَّاسَ، فَأَمَرَتْهُ يَعْمَلُهَا مِنْ طَرْفَاءِ الْغَابَةِ، ثُمَّ جَاءَ بِهَا، فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِهَا، فَأَمَرَ بِهَا فَوُضِعَتْ، فَجَلَسَ عَلَيْهَا. / 42 - وقال جَابِر: أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الأنْصَارِ قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلا أَجْعَلُ لَكَ شَيْئًا تَقْعُدُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ لِى غُلامًا نَجَّارًا، قَالَ: (إِنْ شِئْتِ) ، قَالَ: فَعَمِلَتْ لَهُ الْمِنْبَرَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ قَعَدَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى الْمِنْبَرِ الَّذِى صُنِعَ، فَصَاحَتِ النَّخْلَةُ الَّتِى كَانَ يَخْطُبُ عِنْدَهَا حَتَّى كَادَتْ تَنْشَقُّ، فَنَزَلَ، عليه السَّلام، حَتَّى أَخَذَهَا فَضَمَّهَا إِلَيْهِ، فَجَعَلَتْ تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِىِّ الَّذِى يُسَكَّتُ حَتَّى اسْتَقَرَّتْ، قَالَ: (بَكَتْ عَلَى مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنَ الذِّكْرِ) . قال المهلب: هذان الحديثان متعارضان فى الظاهر، وإنما يصح المعنى فيهما أن تكون المرأة هى ابتدأت النبى بسؤال ذلك، ثم أضرب عليه السلام عنه حتى رآه من الصواب، فبعث إليها فيما كانت تبرعت به. وفيه: المطالبة بالوعد، والاستنجاز فيه. وفيه: تكليف العبد ما يفعله العبد، ولا يسأل عن طيب نفس العبد بما عمل. وفيه: كلام ما لا يعرف له كلام من الجمادات وشبهها إذا أتانا ذلك(6/226)
من طريق النبوة، وكانت هذه آية معجزة أراد الله أن يريها عبادة ليزدادوا إيمانًا، وما جرى على مجرى الإعجاز فهو خرق للعادة، وأما بيننا، فلا يجوز كلام الجمادات بيننا.
30 - باب شِرَاءِ الْحَوَائِجَ بِنَفْسِهِ
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: اشْتَرَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، جَمَلا مِنْ عُمَرَ، وَاشْتَرَى ابْنُ عُمَرَ بِنَفْسِهِ وَقَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ أَبِى بَكْرٍ: جَاءَ مُشْرِكٌ بِغَنَمٍ فَاشْتَرَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، مِنْهُ شَاةً وَاشْتَرَى مِنْ جَابِرٍ بَعِيرًا. / 43 - فيه: عَائِشَةَ، اشْتَرَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، مِنْ يَهُودِىٍّ طَعَامًا نَسِيئَةٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ. فيه من الفقه: مباشرة الشريف والإمام والعالم شراء الحوائج بنفسه وإن كان له من يكفيه؛ إيثارًا للتواضع، وخروجًا عن أحوال المتكبرين؛ لأنه لا يشك أحد أن جميع المؤمنين كانوا حراصًا على كفاية النبى - عليه السلام - ما يعن له من أموره، وما يحتاج إلى التصرف فيه؛ رغبة منهم فى دعوة منه، وتبركًا بذلك.
31 - باب شِرَاءِ الدَّوَابِّ وَالْحُمُرِ، وَإِذَا اشْتَرَى دَابَّةً أَوْ جَمَلا وَهُوَ عَلَيْهِ، هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ قَبْضًا قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ
قَالَ النَّبِىُّ عليه السَّلام لِعُمَرَ: (بِعْنِيهِ) ، يَعْنِى جَمَلا صَعْبًا.(6/227)
/ 44 - فيه: جَابِر، كُنْتُ مَعَ النَّبِىِّ عليه السَّلام فِى غَزَاةٍ، فَأَبْطَأَ بِى جَمَلِى وَأَعْيَا، فَأَتَى عَلَىَّ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فَقَالَ: (يَا جَابِرٌ) ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، وقَالَ: (مَا شَأْنُكَ) ؟ قُلْتُ: أَبْطَأَ عَلَىَّ جَمَلِى وَأَعْيَا، فَتَخَلَّفْتُ، فَنَزَلَ يَحْجُنُهُ بِمِحْجَنِهِ، ثُمَّ قَالَ: (ارْكَبْ) ، فَرَكِبْتُ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ أَكُفُّهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (أَتَبِيعُ جَمَلَكَ) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَاشْتَرَاهُ مِنِّى بِأُوقِيَّةٍ، ثُمَّ قَدِمَ النَّبِى، عليه السَّلام، قَبْلِى وَقَدِمْتُ بِالْغَدَاةِ، فَجِئْنَا إِلَى الْمَسْجِدِ فَوَجَدْتُهُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، قَالَ: (الآنَ قَدِمْتَ) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: (فَدَعْ جَمَلَكَ، فَادْخُلْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ) ، فَدَخَلْتُ فَصَلَّيْتُ، فَأَمَرَ بِلالا أَنْ يَزِنَ لَهُ أُوقِيَّةً، فَوَزَنَ لِى بِلالٌ، فَأَرْجَحَ لِى فِى الْمِيزَانِ، فَانْطَلَقْتُ حَتَّى وَلَّيْتُ، فَقَالَ: (ادْعُ لِى جَابِرًا) ، قُلْتُ: الآنَ يَرُدُّ عَلَىَّ الْجَمَلَ، وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ أَبْغَضَ إِلَىَّ مِنْهُ، قَالَ: (خُذْ جَمَلَكَ وَلَكَ ثَمَنُهُ) . اختلف أهل العلم فى البيع، هل القبض شرط فى صحته أم لا؟ فذهب مالك وأحمد وإسحاق إلى أن البيع يتم بالقول، وليس القبض شرطًا فى صحته، غير الصرف وبيع الطعام بالطعام، وسيأتى فى موضعه - إن شاء الله. وقال أبو حنيفة والشافعى: من تمام العقد القبض، فإن تلف قبل قبض المبتاع فمن مال البائع، وسيأتى حكم تلفه قبل القبض فى موضعه - إن شاء الله. قال ابن المنذر: قد وهب رسول الله الجمل لجابر قبل أن يقبضه، فإذا جاز أن يهب المشترى الشىء المشترى للبائع قبل أن يقبضه؛ جاز أن يهبه لغير البائع، وجاز بيعه، وأن يفعل فيما اشتراه ما يفعله المالك فيما ملك، وليس مع من خالف هذا سنة يدفع بها هذه السنة الثابتة.(6/228)
وأما قوله: (فوزن لى بلال فأرجح) فذهب مالك والكوفيون والشافعى إلى أن الزيادة فى المبيع من البائع والمشترى، والحط من الثمن يجوز سواء قبض الثمن أم لا على حديث جابر، وهى عندهم هبة مستأنفة. وقال ابن القاسم: الزيادة هبة، فإن وجد بالمبيع عيبًا رجع بالثمن فى الهبة. وقال أبو حنيفة: إن كانت الزيادة فاسدة لحقت بالعقد وأفسدته. وخالفه أبو يوسف ومحمد. وقال الطحاوى: لا تجوز الزيادة فى البيع، وترك أصحابنا فيه القياس، وصاروا إلى حديث جابر. وسأزيد فى بيان هذه المسألة فى كتاب الاستقراض وأداء الديون فى باب استقراض الإبل - إن شاء الله. إلا أنهم اختلفوا فى أحكام الهبة، فعند مالك أنها تجوز وإن لم تقبض، وعند الكوفيين والشافعى لا تجوز حتى تقبض، وهى عندهم هبة، وستأتى أحكام الهبة فى موضعها - إن شاء الله. وقوله: (فنزل يحجنه بمحجنه) ، قال صاحب العين: المحجن: عصا فيها عقافة، والحجن والحجنة: الاعوجاج، ويحجنه بها: يصرفه، يقال: حجنته عن الشىء: صرفته ومنعته.(6/229)
32 - باب الأسْوَاقِ الَّتِى كَانَتْ فِى الْجَاهِلِيَّةِ فَتَبَايَعَ بِهَا النَّاسُ فِى الإسْلامِ
/ 45 - فيه: ابْن عَبَّاس، كَانَتْ عُكَاظٌ وَمَجَنَّةُ وَذُو الْمَجَازِ أَسْوَاقًا فِى الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا كَانَ الإسْلامُ تَأَثَّمُوا مِنَ التِّجَارَةِ فِيهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ) [البقرة: 198] فِى مَوَاسِمِ الْحَجِّ، قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَذَا. فقه هذا الباب: أن الناس تجروا قبل الإسلام وبعده، وأن التجارة فى الحج وغيره جائزة، وأن ذلك لا يحط أجر الحج إذا أقام الحج على وجهه، وأتى بجميع مناسكه؛ لأن الله - تعالى - قد أباح لنا الابتغاء من فضله. وفيه: أن مواضع المعاصى وأفعال الجاهلية لا يمنع من فعل الطاعة فيها، بل يستحب توخيها وقصدها بالطاعة وبما يرضى الله - تعالى - ألا ترى أن النبى أباح دخول حجر ثمود لمن دخله متعظا باكيًا خائفًا من نقمة الله ونزول سطوته لمن عصاه.
33 - باب شِرَاءِ الإبِلِ الْهِيمِ أَوِ الأجْرَبِ
الْهَائِمُ الْمُخَالِفُ لِلْقَصْدِ فِى كُلِّ شَىْءٍ قَالَ عَمْرٌو: كَانَ هَاهُنَا رَجُلٌ اسْمُهُ نَوَّاسٌ، وَكَانَتْ عِنْدَهُ إِبِلٌ هِيمٌ، فَذَهَبَ ابْنُ عُمَرَ فَاشْتَرَى تِلْكَ الإبِلَ مِنْ شَرِيكٍ لَهُ، فَجَاءَ إِلَيْهِ شَرِيكُهُ، فَقَالَ: بِعْنَا تِلْكَ الإبِلَ، فَقَال: َ مِمَّنْ بِعْتَهَا، قَالَ: مِنْ شَيْخٍ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: وَيْحَكَ ذَاكَ وَاللَّهِ ابْنُ عُمَرَ فَجَاءَهُ، فَقَالَ: إِنَّ شَرِيكِى بَاعَكَ إِبِلا هِيمًا، وَلَمْ يَعْرِفْكَ،(6/230)
قَالَ: فَاسْتَقْهَا، قَالَ: فَلَمَّا ذَهَبَ يَسْتَاقُهَا، قَالَ: دَعْهَا رَضِينَا بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لا عَدْوَى. فيه من الفقه: أنه يجوز شراء الشىء المعيب وبيعه إذا كان البائع قد عرف المبتاع بالعيب فرضيه، وليس ذلك من الغش إذا بين له، وأما ابن عمر فرضى بالعيب والتزمه، فصحت الصفقة فيه. وقال صاحب العين: الهيام كالمجنون، ويقال الهيوم: أن يذهب على وجهه، والهيمان: العطشان.
34 - باب بَيْعِ السِّلاحِ فِى الْفِتْنَةِ وَغَيْرِهَا
وَكَرِهَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ بَيْعَهُ فِى الْفِتْنَةِ / 46 - فيه: أَبُو قَتَادَةَ، خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، عَامَ حُنَيْنٍ، [فَأَعْطَاهُ، يَعْنِى دِرْعًا] ، فَبِعْتُ الدِّرْعَ، فَابْتَعْتُ بِهِ مَخْرَفًا فِى بَنِى سَلِمَةَ، فَإِنَّهُ لأوَّلُ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ فِى الإسْلامِ. إنما كره بيع السلاح من المسلمين فى الفتنة؛ لأنه من باب التعاون على الإثم والعدوان، وذلك مكروه منهى عنه، ومن هذا الباب منع مالك بيع العنب ممن يعصره خمرًا، وذهب إلى فسخ البيع فيه، وكره الشافعى، وأجازه إذا وقع؛ لأنه باع حلالا بحلال، وقال الثورى: لا يكره شىء منه، وقال: بع حلالك ممن شئت. أما بيعه فى غير الفتنة من المسلمين فمباح، وداخل فى عموم قوله تعالى: (وأحل الله البيع (.(6/231)
35 - باب فِى الْعَطَّارِ وَبَيْعِ الْمِسْكِ
/ 47 - فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ، كَمَثَلِ صَاحِبِ الْمِسْكِ وَكِيرِ الْحَدَّادِ، لا يَعْدَمُكَ مِنْ صَاحِبِ الْمِسْكِ إِمَّا تَشْتَرِيهِ أَوْ تَجِدُ رِيحَهُ، وَكِيرُ الْحَدَّادِ يُحْرِقُ بَدَنَكَ أَوْ ثَوْبَكَ أَوْ تَجِدُ مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً) . وقد تقدم فى كتاب الذبائح اختلاف العلماء فيمن كره المسك ومن استحبه، وهذا الحديث حجة فى جوازه؛ لأن النبى ضرب مثل الجليس الصالح بصاحب المسك، وقال: لا تعدم منه أن تشتريه أو تجد ريحه. فأخبر عليه السلام بعادة الناس فى شرائه، ورغبتهم فى شمه، ولو لم يجز شراؤه لبين ذلك عليه السلام، وقد حرم الله بيع الأنجاس، واستعمال روائح المنتة فلا معنى لقول من كرهه، وإنما خرج كلامه عليه السلام فى هذا الحديث على المثل فى النهى عن مجالسة من يتأذى بمجالسته، كالمغتاب والخائض فى الباطل، والندب إلى مجالسة من ينال فى مجالسته الخير من ذكر الله - تعالى - وتعلم العلم وأفعال البر كلها، وقد روى عن إبراهيم الخليل أنه كان عطارًا.
36 - باب ذِكْرِ الْحَجَّامِ
/ 48 - فيه: أَنَس، قَالَ: حَجَمَ أَبُو طَيْبَةَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَمَرَ لَهُ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ وَأَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يُخَفِّفُوا مِنْ خَرَاجِهِ. / 49 - وَقَالَ ابْن عَبَّاس: احْتَجَمَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، وَأَعْطَى الَّذِى حَجَمَهُ، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يُعْطِهِ.(6/232)
فى هذا الباب بيان أن أجر الحجام حلال كما تأوله ابن عباس، وفيه دليل أنه لا وجه لكراهة أبى حنيفة لأجر الحجام، واستدلاله على ذلك بنهيه عليه السلام عن ثمن الدم، وهذا النهى عن العلماء ليس كنهيه عن ثمن الخمر والميتة، وليس من كسب الحجام فى شىء، بدليل حديث أنس وابن عباس ولو أراد عليه السلام بنهيه عن ثمن الدم النهى عن كسب الحجام لكان منسوخًا بحديث أنس وابن عباس، أو يكون نهيه عنه على سبيل التنزه، لأن قريشًا فى الجاهلية كانت تتكرم عن كسب الحجام، وهو كنهيه عن عسب الفحل وهو خسة وضعة، فأراد عليه السلام أن يرفع أمته عن الصناعات الوضيعة، وسيأتى فى كتاب الإجازات مذاهب العلماء فى كسب الحجام.
37 - باب التِّجَارَةِ فِيمَا يُكْرَهُ لُبْسُهُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
/ 50 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَرْسَلَنى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى عُمَرَ بِحُلَّةِ حَرِيرٍ، أَوْ سِيَرَاءَ فَرَآهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: (إِنِّى لَمْ أُرْسِلْ بِهَا إِلَيْكَ لِتَلْبَسَهَا، إِنَّمَا يَلْبَسُهَا مَنْ لا خَلاقَ لَهُ إِنَّمَا بَعَثْتُ إِلَيْكَ لِتَسْتَمْتِعَ بِهَا) ، يَعْنِى تَبِيعَهَا. / 51 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَامَ عَلَى الْبَابِ فَلَمْ يَدْخُلْهُ، فَعَرَفْتُ فِى وَجْهِهِ الْكَرَاهِيَةَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ، وَإِلَى رَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) ، مَاذَا أَذْنَبْتُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا بَالُ هَذِهِ النُّمْرُقَةِ) ؟ قُلْتُ: اشْتَرَيْتُهَا لَكَ لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا وَتَوَسَّدَهَا، فَقَالَ(6/233)
رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعَذَّبُونَ، فَيُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ) ، وَقَالَ: (إِنَّ الْبَيْتَ الَّذِى فِيهِ الصُّوَرُ لا تَدْخُلُهُ الْمَلائِكَةُ) . التجارة فيما يكره لبسه جائزة إذا كان فى المبيع منفعة لغير اللباس وأما إذا لم يكن فيه منفعة لشىء من المنافع فلا يجوز بيعه ولا شراؤه؛ لأن أكل ثمنه من أكل المال بالباطل، وأما بيع الثياب التى فيها الصور المكروهة، فظاهر حديث عائشة يدل بأن بيعها لا يجوز، لكن قد جاءت آثار مرفوعة عن النبى تدل على جواز بيع ما يوطأ ويمتهن من الثياب التى فيها الصور، روى وكيع عن أسامة بن زيد، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: (سترت سهوة لى بستر فيه تصاوير، فلما قدم النبى - عليه السلام - هتكه، فجعلته مسندتين فرأيت النبى - عليه السلام - متكئًا على إحداهما) وإذا تعارضت الأخبار فالأصل الإباحة حتى يرد الحظر، ويحتمل أن يكون معنى حديث عائشة فى النمرقة لو لم يعارضه غيره محمولا على الكراهية دون التحريم، بدليل أن النبى - عليه السلام - لم يفسخ البيع فى النمرقة التى اشترتها عائشة - والله أعلم. قال صاحب العين: السيراء: برود يخالطها حرير.(6/234)
38 - باب صَاحِبُ السِّلْعَةِ أَحَقُّ بِالسَّوْمِ
/ 52 - فيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام: (يَا بَنِى النَّجَّارِ ثَامِنُونِى بِحَائِطِكُمْ) ، وَفِيهِ خِرَبٌ وَنَخْلٌ. لا خلاف بين الأمة أن صاحب السلعة أحق الناس بالسوم فى سلعته، وأولى بطلب الثمن فيها، ولا يجوز ذلك إلا له أو لمن وكله على البيع.
39 - باب كَمْ يَجُوزُ الْخِيَارُ
/ 54 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (إِنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِالْخِيَارِ فِى بَيْعِهِمَا مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، أَوْ يَكُونُ الْبَيْعُ خِيَارًا) . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ فَارَقَ صَاحِبَهُ. / 54 - وفيه: حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، قَالَ النَّبِىّ عليه السَّلام: (الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا) . اختلف الفقهاء فى أمد الخيار، فقالت طائفة: البيع جائز والشرط لازم إلى الأمد الذى اشترط إليه الخيار، هذا قول ابن أبى ليلى والحسن بن صالح وأبى يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق وأبى ثور، عن ابن المنذر. وقال مالك: يجوز شرط الخيار فى بيع الثوب اليوم واليومين، والجارية الخمسة أيام والجمعة، وفى الدابة تركب اليوم وشبهه، ويسار عليها البريد ونحوه، وفى الدار الشهر لتختبر ويستشار(6/235)
فيها، وما بعد من أجل الخيار فلا خير فيه، لأنه غرر ولا فرق بين شرط الخيار للبائع والمشترى. وقال الثورى: يجوز شرط الخيار للمشترى عشرة أيام وأكثر، ولا يجوز شرطه للبائع. وقال الأوزاعى: يجوز أن يشترط الخيار شهرًا وأكثر. وقال أبو حنيفة وزفر والشافعى: الخيار فى البيع ثلاثة أيام، ولا تجوز الزيادة عليها، فإن زاد فسد البيع، واحتجوا بأن حبان ابن منقذ كان يخدع فى البيوع، فقال له النبى - عليه السلام -: (قل: لا خلابة) وجعل له الخيار ثلاثًا فيما ابتاع، وفى حديث المصراة إثبات الخيار ثلاثًا، قالوا: ولولا الحديث فى الثلاثة الأيام ما جاز الخيار ساعة واحدة. وحجة أهل المقالة الأولى ظاهر قوله عليه السلام: (المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا إلا بيع الخيار) فبان بهذا أن الخيار على الإطلاق دون توقيت مدة، ولم يخص من بيع الخيار بشرط الثلاث أو أكثر، فهو على ما اشترطاه، وقد قال عليه السلام: (المسلمون عند شروطهم) . والحجة لقول مالك أن العبد والجارية لا يعرف أخلاقهما ولا ما هما عليه من الطبائع فى مدة الثلاث، لأنهما يتكلفان ما ليس من طبعهما فى مدة يسيرة، ثم يعودان بعد ذلك إلى الطبع، فوجب أن يكون الخيار مدة يختبران فى مثلها، ليكون المبتاع داخلا على(6/236)
بصيرة، ومما يدل على صحة هذا أن أجل العنين سنة، لأن حاله يختبر فيها، فكذلك ينبغى أن يكون كل خيار على حسب تعرف حال المختبر، ويقال لأبى حنيفة والشافعى: إن خيار الثلاث فى حديث حبان من رواية ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر، وليس فى رواية الثقات الحفاظ، وأما حديث المصراة فهو حجة لنا، لأن المصراة لما كان لا يختبر أمرها فى أقل من ثلاث، جعل فيها هذا المقدار الذى يختبر فى مثله، فوجب أن يكون الخيار فى كل مبيع على قدر المدة التى يختبر فى مثلها. قال الطحاوى: وأما تفريق الثورى بين البائع والمشترى فى جواز الخيار إذا شرط المشترى، وإبطاله للبائع، فلم يقل به أحد من أهل العلم.
40 - باب إِذَا لَمْ يُوَقِّتْ فِى الْخِيَارِ هَلْ يَجُوزُ الْبَيْعُ
/ 55 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، أنَّ النَّبِىّ عليه السَّلام قَالَ: (الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، أَوْ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ اخْتَرْ، وَرُبَّمَا قَالَ: أَوْ يَكُونُ بَيْعَ خِيَارٍ) . اختلف العلماء إذا اشترط فى الخيار مدة غير معلومة، فقالت طائفة: البيع جائز والشرط باطل. هذا قول ابن أبى ليلى والأوزاعى، واحتجا بحديث بريدة. وقالت طائفة: البيع جائز والشرط لازم، وللذى شرط الخيار أبدًا وهذا قول أحمد وإسحاق.(6/237)
وقال مالك: البيع جائز، ويجعل له من الخيار مثل ما يكون له فى تلك السلعة. وقال أبو يوسف ومحمد: له أن يختار بعد الثلاث. وقال أبو حنيفة والثورى والشافعى: إذا شرط الخيار بغير مدة معلومة فالبيع فاسد، فإن أجازه فى الثلاث جاز، وإن مضت الثلاث لم يكن له أن يجيزه. وظاهر هذا الحديث يرد هذا القول، ويدل أن الخيار يجوز اشتراطه بغير توقيت، لأن النبى - عليه السلام لما قال: (البيعان بالخيار ما لم يفترقا أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر) لم يذكر أمد الخيار فى ذلك، وسوى عليه السلام بين تمام البيع بعد التفرق وبعد الأخذ بالخيار إذا شرطاه دون ذكر توقيت مدة، فلا معنى لقول من خالفه.
41 - باب الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا
وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَشُرَيْحٌ وَالشَّعْبِىُّ وَطَاوُسٌ وَعَطَاءٌ وَابْنُ أَبِى مُلَيْكَةَ. / 56 - فيه: حَكِيم، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِى بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا) . / 57 - وفيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (الْمُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلا بَيْعَ الْخِيَارِ) . وترجم لهما (باب إذا كان البائع بالخيار هل يجوز البيع) .(6/238)
اختلف العلماء فى معنى التفرق المذكور فى هذا الحديث، فذهبت طائفة إلى أن المراد به التفرق بالأبدان، وأن المتبايعين إذا عقدا بيعهما، فكل واحد منهما بالخيار فى إتمامه وفسخه ما داما فى مجلسهما لم يفترقا بأبدانهما. روى هذا القول عن ابن عمر وأبى برزة الأسلمى وجماعة من التابعين، ذكرهم البخارى وقد روى عن سعيد بن المسيب والزهرى، وبه قال الليث وابن أبى ذئب والثورى والأوزاعى وأبو يوسف والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور. وذهبت طائفة إلى أن البيع يتم بالقول دون الافتراق بالأبدان، ومعنى قوله عليه السلام: (البيعان بالخيار ما لم يفترقا) أن البائع إذا قال له: قد بعتك، فله أن يرجع ما لم يقل المشترى: قد قبلت. والمتبايعان هما المتساومان. روى هذا القول عن النخعى، وهو قول ربيعة ومالك وأبى حنيفة ومحمد. واحتج من جعل التفرق بالأبدان بأن ابن عمر راوى الحديث، وهو أعلم بمخرجه، وقد روى عنه أنه بايع عثمان بن عفان قال: فرجعت على عقبى كراهة أن يُرادنِى البيع. قالوا: فالتفرق عند ابن عمر بالبدن لا باللفظ. وقالوا: إن من جعل المتبايعين فى هذا الحديث المتساومين لا وجه له؛ لأنه معقول أن كل واحد فى سلعته بالخيار قبل السوم، وما دام متساومًا حتى يمضى البيع ويعقده، وكذلك المشترى بالخيار قبل الشراء وفى حال المساومة،(6/239)
وإذا كان هذا كذلك بطلت فائدة الخبر، وقد جل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن أن يخبر بما لا فائدة فيه. واحتج عليهم من جعل التفرق بالقول فقال: أما قولكم أن من جعل المتبايعين المتساومين لا وجه له؛ لأنه لا يكون فى الكلام فائدة، فالجواب عن ذلك أن فائدته صحيحة، وذلك أن المتبايعين لا يبعد أن يختلفا قبل الافتراق بالأبدان، فلو كان كل واحد منهما بالخيار لم يجب على البائع ثمن ولا ترد؛ لأن التراد إنما يكون فيما تم من البيوع. قال الطحاوى: ومن لم يسم المتساومين متبايعين فقد أغفل سعة اللغة؛ لأنه يحتمل أن يتسميا متبايعين لقربهما من التبايع وإن لم يتبايعا، كما سمى إسحاق ذبيحًا لقربه من الذبح وإن لم يكن ذبح، وقد سمى النبى - عليه السلام - المتساومين متبايعين، فقال عليه السلام: (لا يسوم الرجل على سوم أخيه) وقال: (لا يبع الرجل على بيع أخيه) ومعناهما واحد، ووهو اللازم لهم، والتفرق فى لسان العرب بالكلام معروف كعقد النكاح، وكوقوع الطلاق الذى سماه الله فراقًا، قال تعالى: (وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته (وأجمعت الأمة أن التفرق فى هذه الآية أن يقول لها: أنت طالق. وقال عليه السلام: (تفترق أمتى) ولم يرد التفرق بالأبدان. وأجمعوا أن رجلا لو اشترى قرصًا أو [. . . . .] ماء، فأكل(6/240)
القرص أو شرب الماء قبل التفرق؛ لكان ذلك له جائزًا، وكان قد أكل ماله، وسيأتى عند ذكر مبايعة ابن عمر لعثمان بعد هذا - إن شاء الله - فبان مذهب ابن عمر، وأنه حجة لم قال التفرق بالكلام. قال ابن المنذر: وإثبات النبى الخيار للمتبايعين ما لم يفترقا إنما هو على ما سوى بيع الخيار لقوله عليه السلام: (المتبايعان كل واحد منهما على صاحبه بالخيار ما لم يفترقا إلا بيع الخيار) . فاستثنى بيع الخيار فيما قد تم فيه البيع بالتفرق، وبقى الخيار فى بيع الخيار بعد التفرق حتى يتم أمد الخيار، فيختار البيع أو يرد.
42 - باب إِذَا خَيَّرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بَعْدَ الْبَيْعِ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ
/ 58 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (إِذَا تَبَايَعَ الرَّجُلانِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، وَكَانَا جَمِيعًا أَوْ يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ، وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ يَتَبَايَعَا وَلَمْ يَتْرُكْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الْبَيْعَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ) . ذهب أكثر العلماء الذين يرون الافتراق بالأبدان إلى أنه إذا خير أحدهما صاحبه بعد البيع، فاختار إمضاء البيع فقد تم البيع وإن لم يفترقا بالأبدان، إلا أحمد بن حنبل، فإنه قال: هما بالخيار حتى يفترقا، خيرا أحدهما صاحبه أو لم يُخيره. وأما الذين يجيزون البيع بالكلام دون افتراق الأبدان، فهو عندهم بيع جائز، قال: اختر أو لم يقله، فتحصل من ذلك اتفاق الجميع غير أحمد بن حنبل وحده، وقوله خلاف الحديث، فلا معنى له.(6/241)
43 - باب إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا فَوَهَبَ مِنْ سَاعَتِهِ قَبْلَ التفرق وَلَمْ يُنْكِرِ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِى أَوِ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ
وَقَالَ طَاوُسٌ، فِيمَنْ يَشْتَرِى السِّلْعَةَ عَلَى الرِّضَا ثُمَّ بَاعَهَا: وَجَبَتْ لَهُ، وَالرِّبْحُ لَهُ. / 59 - فيه: ابْن عُمَرَ، كُنَّت مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِى سَفَرٍ، فَكُنْتُ عَلَى بَكْرٍ صَعْبٍ لِعُمَرَ، فَكَانَ يَغْلِبُنِى فَيَتَقَدَّمُ أَمَامَ الْقَوْمِ، فَيَزْجُرُهُ عُمَرُ، وَيَرُدُّهُ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ فَيَزْجُرُهُ عُمَرُ وَيَرُدُّهُ، فَقَالَ النَّبِىُّ عليه السَّلام لِعُمَرَ: (بِعْنِيهِ) ، قَالَ: هُوَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (بِعْنِيهِ) ، فَبَاعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (هُوَ لَكَ يَا عَبْدَاللَّهِ بْنَ عُمَرَ تَصْنَعُ بِهِ مَا شِئْتَ) . / 60 - وفيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ: بِعْتُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ مَالا بِالْوَادِى بِمَالٍ لَهُ بِخَيْبَرَ، فَلَمَّا تَبَايَعْنَا، رَجَعْتُ عَلَى عَقِبِى حَتَّى خَرَجْتُ مِنْ بَيْتِهِ خَشْيَةَ أَنْ يُرَادَّنِى الْبَيْعَ، وَكَانَتِ السُّنَّةُ أَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا، قَالَ عَبْدُاللَّهِ: فَلَمَّا وَجَبَ بَيْعِى وَبَيْعُهُ رَأَيْتُ أَنِّى قَدْ غَبَنْتُهُ بِأَنِّ سُقْتُهُ إِلَى أَرْضِ ثَمُودَ بِثَلاثِ لَيَالٍ، وَسَاقَنِى إِلَى الْمَدِينَةِ بِثَلاثِ لَيَالٍ. هذا الباب حجة لمن يقول الافتراق بالكلام فى قوله عليه السلام: (البيعان بالخيار ما لم يفترقا) ، وحديث ابن عمر بين فى ذلك، ألا ترى أن النبى وهب الجمل من ساعته لابن عمر قبل التفرق من عمر، ولو لم يكن الجمل للنبى لما جاز له أن يهبه لابن عمر حتى يحب له بافتراق الأبدان، وأما حديث ابن عمر فى مبايعته لعثمان، فقد احتج به من قال: إن(6/242)
الافتراق بالأبدان، واحتج به من قال: إن الافتراق بالكلام، وكان من حجة الذين جعلوا الافتراق بالكلام أن قالوا: لو كان معنى الحديث التفرق بالأبدان، لكان المراد به الحض والندب إلى حسن المعاملة من المسلم للمسلم، وألا يفترسه فى البيع على استخباره عن الداء والغائلة، وقد قال عليه السلام: (من أقال نادمًا أقال الله عثرته يوم القيامة) من حديث أبى هريرة، ألا ترى قول ابن عمر: وكانت السنة أن المتبايعين بالخيار ما لم يفترقا فحكى ابن عمر أن الناس كانوا يلتزمون حينئذ الندب؛ لأنه كان زمن مكارمة، وأن الوقت الذى حدث ابن عمر هذا الحديث كان التفرق بالأبدان متروكًا، ولو كان التفرق بالأبدان على الوجوب ما قال ابن عمر: وكانت السنة بل كان يقول: وكانت السنة، ويكون أبدًا فلذلك جاز أن يرجع على عقبيه؛ لأنه فهم أن المراد بالحديث الحض والندب، لا سيما وهو الذى حضر فعل النبى فى هبته البكر له بحضرة البائع قبل التفرق. وقال الطحاوى: يحتمل قول ابن عمر الوجهين جميعًا، فنظرنا فى ذلك فروينا عنه ما يدل أن رأيه كان فى الفرقة بخلاف ما ذهب إليه من قال: إن البيع لا يتم إلا بها، وهو ما حدثنا سليمان بن شعيب، حدثنا بشر بن بكر، حدثنا الأوزاعى، حدثنى الزهرى، عن حمزة ابن عبد الله، أن ابن عمر قال: ما أدركت الصفقة حيا فهو من مال المبتاع. قال ابن المنذر: يعنى فى السلعة تتلف عند البائع قبل أن يقبضها المشترى بعد تمام البيع. قال ابن المنذر: هى من مال المشترى؛ لأنه لو كان عبدًا فأعتقه المشترى كان عقته جائزًا ولو أعتقه البائع لم يجز عتقه.(6/243)
قال الطحاوى: فهذا ابن عمر قد كان يذهب فيما أدركت الصفقة حيا فهلك بعدها، أنه من مال المشترى، فدل ذلك أنه كان يرى أن البيع يتم بالأقوال قبل الفرقة التى تكون بعد ذلك، وأن المبيع ينتقل بالأقوال من ملك البائع إلى ملك المبتاع حتى يهلك من ماله إن هلك، وهذا من ابن عمر دال على مذهبه فى الفرقة التى سمعها من النبى - عليه السلام - فيما ذكروا، وقد وجدنا عن رسول الله ما يدل على أن المبيع يملكه المشترى بالقول دون التفرق بالأبدان، وذلك أن النبى قال: (من ابتاع طعامًا، فلا يبعه حتى يقبضه) فكان ذلك دليلا على أنه إذا قبضه حل له بيعه، ويكون قابضًا له قبل افتراق بدنه من بدن بائعه، وروى عن سعيد بن المسيب قال: سمعت عثمان يخطب على المنبر ويقول: (كنت أشترى التمر فأبيعه بربح الآصع فقال لى رسول الله: إذا اشتريت فاكتل، وإذا بعت فكل) ، فكان من ابتاع طعامًا مكايلة فباعه قبل أن يكتاله لا يجوز بيعه، فإذا ابتاعه فاكتاله وقبضه، ثم فارق بائعه فكل قد أجمع أنه لا يحتاج بعد الفرقة إلى إعادة الكيل، وخولف بين اكتياله إياه بعد البيع قبل التفرق وبين اكتياله إياه قبل البيع، فدل ذلك أنه إذا اكتاله اكتيالا يحل له به بيعه، فقد كان ذلك الاكتيال له وهو له مالك، وإن اكتاله اكتيالا لا يحل به بيعه، فقد كاله وهو غير مالك له، فثبت بما ذكرنا وقوع ملك المشترى فى المبيع بابتياعه إياه قبل فرقة تكون بعد ذلك، فهذا وجه من طريق الآثار.(6/244)
وأما من طريق النظر فرأينا الأموال تملك بعقود فى أبدان، وفى أموال، وفى أبضاع، وفى منافع، فكان ما يملك من الأبضاع هو النكاح، فكان يتم بعقده لا بفرقة بعد العقد، وكان ما يملك به المنافع هو الإجارات، فكان ذلك أيضًا مملوكًا بالعقد لا بفرقة بعد العقد، فالنظر على ذلك أن تكون كذلك الأموال المملوكة بسائر العقود من البيوع وغيرها، تكون مملوكة بالأقوال لا بفرقة بعدها قياسًا ونظرًا. وفى حديث ابن عمر جواز بيع الشىء الغائب على الصفة، وسيأتى ذلك بعد هذا - إن شاء الله. وأجمع العلماء أن البائع إذا لم ينكر على المشترى ما أحدثه من الهبة أو العتق أنه بيع جائز، واختلفوا إذا أنكر ولم يرض بما أحدثه المشترى، فالذين يرون أن البيع يتم بالكلام يجيزون هبته وعتقه، ومن يرى التفرق بالأبدان لا يجيز شيئًا من ذلك إلا بعد التفرق، وحديث عمر حجة عليهم - والله الموفق.
44 - باب مَا يُكْرَهُ مِنَ الْخِدَاعِ فِى الْبَيْعِ
/ 61 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ رَجُلا ذَكَرَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّهُ يُخْدَعُ فِى الْبُيُوعِ، فَقَالَ: (إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ: لا خِلابَةَ) . قال المهلب: قوله: (فقل: لا خلابة) أى: لا تخلبونى فإنه لا يحل، فإن اطلعت على عيب رجعت به.(6/245)
وفى كتاب العين: الخلابة: المخادعة، ورجل خلوب وخلبوب: خداع. وقال غيره: هذا الرجل المذكور فى الحديث منقذ بن عمرو الأنصارى جد واسع بن حبان، روى ذلك ابن عيينة عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر: (أن منقذًا ضرب فى رأسه مأمومة فى الجاهلية فحبلت لسانه، وكان يخدع فى البيوع. فقال له رسول الله: (بع وقل: لا خلابة، وأنت بالخيار ثلاثًا. قال ابن عمر: فسمعته يقول إذا بايع: لا خلابة لا خلابة) وقيل: إن حبان بن منقذ هو الذى كان يخدع، وفيه جاء الحديث، والأول أصح. واختلف الفقهاء فيمن باع بيعًا غبن فيه غبنًا لا يتغابن الناس بمثله، فقال مالك: إن كانا عارفين بتلك السلعة، وبأسعارها وقت البيع، لم يفسح البيع كثيرًا كان الغبن أو قليلا، وإن كانا أو أحدهما غير عارف بتقلب السعر وبتغيره وتفاوت الغبن، فسخ البيع، إلا أن يريد أن يمضيه. ومن أصحاب مالك من اعتبر مقدار ثلث قيمة السلعة، ولم يحد مالك فى ذلك حدا، ومذهبه إذا خرج عن تغابن الناس فى مثل تلك السلعة أنه يفسخ، وبهذا قال أبو ثور. وقال أبو حنيفة والشافعى: ليس له أن يفسخ فى الغبن الكثير، كما لا يفسخ فى القليل، وقد قال ابن القاسم فى العتبية: إنه لا يفسخ فى الغبن الكثير. واحتج الكوفيون فقالوا: إن حبان بن منقذ أصابته آفة فى رأسه فكان يخدع فى البيوع، فقال له النبى: (إذا بايعت فقل: لا خلابة، ولك الخيار ثلاثًا) قالوا: فموضع الدليل منه هو أنه كان يخدع فى البيع، ومن كان يخدع فى عقله(6/246)
بضعف يلحقه الغبن فى عقوده، فجعل له النبى الخيار لما يلحقه من ذلك، فلو كان الغبن شيئًا يملكه به فسخ العقد لما احتاج إلى شرط الخيار مع استغنائه عنه، وقال مالك: هذه الحجة لنا، لأنه عليه السلام قال له: لك الخيار، ولم يقل له: اشترط الخيار، وإنما قال له قل: لا خلابة أى: لا خديعة، فلو كان الغبن مباحًا لم يكن لقوله: لا خلابة معنى، ولم ينفعه ذلك، فلما كان ذلك ينفعه جعل له النبى - عليه السلام - الخيار بعد ذلك لينظر فيما باعه، ويسأل عن سعره، ويرى رأيه فى ذلك وإنما جعل ذلك فى حبان ليعلمنا الحكم فى مثله، وإنما تعرف الأحكام بما بينه عليه السلام، فبين عليه السلام حكم من يغبن فى بيعه إذا لم يكن عارفًا بما يبيعه، ودليل آخر وهو قوله عليه السلام: (لا تلقوا الركبان للبيع، فمن تلقاها فهو بالخيار إذا دخل السوق) . وإنما جعل له الخيار فى ذلك لأجل الغبن الذى يلحقه، لأنه لم يدخل السوق، ولا عرف سعر ما باع، ومن يتلقاه فإنما يقصد الغبن والاسترخاص، فعلم بهذا أن الغبن يوجب الخيار، وأيضًا فإنه لو ابتاع سلعة فوجد بها عيبًا كان له الخيار فى الرد، لأجل النقص الموجود بها، فلا فرق بين أن يجد النقص بالسلعة أو بالثمن، لأنه فى كلا الموضعين قد وجد النقص الذى يخرج به عن القصد. فإن قيل: يلزمكم أن تفسدوا البيع وإن كان غبنًا يسيرًا. قيل: البيع لا يخلو من الغبن اليسير، لأن كل واحد منهما يقصد الاسترخاص، فأجيز على حسب تعارفهم فيه فإذا خرج عن عرفهم ثبت فيه الخيار، ذكر هذا كله ابن القصار.(6/247)
وذكر ابن حبيب قال: سئل مالك عن رجل جاهل باع حجرًا أو درة بدرهمين، فألفاه المشترى ياقوتة، فلم ير فيه رجوعًا، لأن الغلط ماض على البائع والمبتاع فى البيع على المساومة، وإنما يرد فى البيع على المرابحة، إلا أن يبيعه بائعه على أنه زجاج، فألفاه المشترى ياقوتة فإنه يرد البيع، وكذلك لو باعه على أنه ياقوت فألفاه المشترى زجاجًا يرده أيضًا.
45 - باب مَا يذُكِرَ فِى الأسْوَاقِ
وَقَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، قُلْتُ: هَلْ مِنْ سُوقٍ فِيهِ تِجَارَةٌ؟ قَالَ: سُوقُ قَيْنُقَاعَ. وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ: دُلُّونِى عَلَى السُّوقِ، وَقَالَ عُمَرُ: أَلْهَانِى الصَّفْقُ بِالأسْوَاقِ. / 62 - فيه: عَائِشَةُ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ، [فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الأرْضِ] يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ) ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: (يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ) . / 63 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: النَّبِىّ، عليه السَّلام: (صَلاةُ أَحَدِكُمْ فِى جَمَاعَةٍ تَزِيدُ عَلَى صَلاتِهِ فِى سُوقِهِ وَبَيْتِهِ. . .) الحديث. / 64 - وفيه: أَنَس، كَانَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فِى السُّوقِ، - وَقَالَ مَرَةٍ: فِى الْبَقِيع -: فَقَالَ رَجُلٌ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فَقَالَ: إِنَّمَا دَعَوْتُ هَذَا، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (سَمُّوا بِاسْمِى، وَلا تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِى) .(6/248)
/ 65 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، خَرَجَ النَّبِىُّ عليه السَّلام فِى طَائِفَةِ النَّهَارِ لا يُكَلِّمُنِى وَلا أُكَلِّمُهُ، حَتَّى أَتَى سُوقَ بَنِى قَيْنُقَاعَ، فَجَلَسَ بِفِنَاءِ بَيْتِ فَاطِمَةَ، فَقَالَ: (أَثَمَّ لُكَعُ، أَثَمَّ لُكَعُ) ، فَحَبَسَتْهُ شَيْئًا، فَظَنَنْتُ أَنَّهَا تُلْبِسُهُ سِخَابًا أَوْ تُغَسِّلُهُ، فَجَاءَ يَشْتَدُّ حَتَّى عَانَقَهُ وَقَبَّلَهُ. . . . الحديث. / 66 - وفيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْتَرُونَ الطَّعَامَ مِنَ الرُّكْبَانِ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَيَبْعَثُ عَلَيْهِمْ مَنْ يَمْنَعُهُمْ أَنْ يَبِيعُوهُ حَيْثُ اشْتَرَوْهُ، حَتَّى يَنْقُلُوهُ حَيْثُ يُبَاعُ الطَّعَامُ. قَالَ: وَحَديث ابْن عُمَرَ: نَهَى النَّبِىُّ عليه السَّلام أَنْ يُبَاعَ الطَّعَامُ إِذَا اشْتَرَاهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ. إنما أراد بذكر الأسواق إباحة المتاجر ودخول السوق، والشراء فيه للعلماء والفضلاء، وكأنه لم يصح عنده الحديث الذى روى (شر البقاع الأسواق، وخيرها المساجد) وهذا إنما خرج على الأغلب؛ لأن المساجد يذكر فيه اسم الله - تعالى - والأسواق قد غلب عليها اللغط واللهو والاشتغال بجمع المال، والكلب على الدنيا من الوجه المباح وغيره، وأما إذا ذكر الله فى السوق فهو من أفضل الأعمال، روى عن محمد بن واسع أنه قال: سمعت سالم بن عبد الله يقول: (من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد بيده الخير يحيى ويميت، وهو على كل شىء قدير، كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، وبنى له بيت فى الجنة) وكذلك إذا لغا فى المسجد أو لغط فيه، أو عصى ربه لم يضر المسجد، ولا نقص من فضله، وإنما أضر بنفسه،(6/249)
وبالغ فى إثمه. وقد روى عن على بن أبى طالب أنه قال: من عصى الله فى المسجد فكأنما عصاه فى الجنة، ومن عصاه فى الحمام فكأنما عصاه فى النار، ومن عصاه فى المقبرة فكأنما عصاه فى عرصات القيامة، ومن عصاه فى البحر فكأنما عصاه على أكف الملائكة. قال المهلب: وفى حديث عائشة أن من كثر سواد قوم فى معصية أو فتنة أن العقوبة تلزمه معهم إذا لم يكونوا مغلوبين على ذلك؛ لأن الخسف لما أخذ السوقة عقوبة لهم شمل الجميع. واستنبط منه مالك أن من وجد مع قوم يشربون الخمر، وهو لا يشرب أنه يعاقب، ويؤيد أن المغلوبين على تكثير السواد ليسوا ممن يستحق العقوبة قوله تعالى: (ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم (. وفيه: علم من أعلام النبوة، وهو إخباره عليه السلام بما يكون. وقوله فى حديث أبى هريرة: (ثم أتى المسجد لا ينهزه إلا الصلاة) النهز: الدفع، وقوله: (أثم لكع) ، فإنما أراد الحسن بن على. فيه من الفقه: أنه لا بأس بمهازلة الصبى وغيره إذا كان واقعًا تحت السن والفضل لا سيما إن عضد ذلك أبوه؛ لأن النبى أبوه، والجد أب، واللكع: اللئيم، تقول العرب: لكع الرجل لكعًا ولكعة: إذا لؤم، وهو لكع ولكيع وألكع، والمرأة لكاع.(6/250)
46 - باب الْكَيْلِ عَلَى الْبَائِعِ وَالْمُعْطِى
وقوله تَعَالَى: (وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) [المطففين: 3] كَالُوا لَهُمْ وَوَزَنُوا لَهُمْ، كَقَوْلِهِ: (يَسْمَعُونَكُمْ) [الشعراء: 72] يَسْمَعُونَ لَكُمْ. وَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (اكْتَالُوا حَتَّى تَسْتَوْفُوا) ، وَيُذْكَرُ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّ النَّبِىَّ عليه السَّلام قَالَ: (إِذَا بِعْتَ فَكِلْ، وَإِذَا ابْتَعْتَ فَاكْتَلْ) . / 67 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، قَالَ: (مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ) . / 68 - وفيه: جَابِر، تُوُفِّىَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَاسْتَعَنْتُ النَّبِىَّ، عليه السلام، عَلَى غُرَمَائِهِ أَنْ يَضَعُوا مِنْ دَيْنِهِ، فَطَلَبَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَيْهِمْ فَلَمْ يَفْعَلُوا، فَقَالَ لِىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (اذْهَبْ فَصَنِّفْ تَمْرَكَ أَصْنَافًا: الْعَجْوَةَ عَلَى حِدَةٍ، وَعَذْقَ زَيْدٍ عَلَى حِدَةٍ، ثُمَّ أَرْسِلْ إِلَىَّ) ، فَفَعَلْتُ، ثُمَّ أَرْسَلْتُ إِلَى النَّبِىِّ، عليه السلام، فَجَاءَ فَجَلَسَ عَلَى أَعْلاهُ، أَوْ فِى وَسَطِهِ، ثُمَّ قَالَ: (كِلْ لِلْقَوْمِ) ، فَكِلْتُهُمْ حَتَّى أَوْفَيْتُهُمِ الَّذِى لَهُمْ، وَبَقِىَ تَمْرِى كَأَنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَىْءٌ. وَقَالَ جَابِر مرة: فَمَا زَالَ يَكِيلُ لَهُمْ حَتَّى أَدَّاهُ. وَقَالَ جَابِر، عن النَّبِىّ عليه السلام: (جُذَّ لَهُ فَأَوْفِ لَهُ) . الذى عليه الفقهاء أن الكيل والوزن فيما يكال ويوزن من المبيعات على البائع، ومن كان عليه الكيل أو الوزن فعليه أجرة ذلك، وهو قول مالك وأبى حنيفة والثورى والشافعى وأبى ثور.(6/251)
وقال الثورى: كُل بيع فيه كيل أو وزن أو عدد، فهو على البائع حتى يوفيه إياه، فإن قال: أبيعك هذه النخلة، فجذاذها على المشترى، قال: وكل بيع ليس فيه كيل ولا وزن ولا عدد فجذاذه عليه ونقصه على المشترى. قال المهلب: كتاب الله يشهد لقوله صلى الله عليه: (إذا بعت فكل، وإذا ابتعت فاكتل) ، وهو قوله تعالى: (ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون (فدل هذا على أن يكيل له غيره إذا اشترى، ويكيل لغيره إذا باع، وفى قصة يوسف - عليه السلام - أن البائع عليه الكيل، قال الله - تعالى - عنه: (ألا ترون أنى أوفى الكيل وأنا خير المنزلين (وكذلك فى قصة جابر، قال له عليه السلام: (كل للقوم) وجابر هو الغارم عن أبيه، وهذا هو الذى يعطيه النظر، لأنه من باع شيئًا مسمى، ومقدارًا معروفًا من طعام، فعليه أن يعينه ويميزه مما سواه، وكذلك من ابتاع إنما يبتاع بدراهم موزونة معلومة يعطيها للبائع فى سلعته، فعليه الوزن والانتقاء، لأن عليه تعيين ما باعه من الدراهم بالسلعة - والله الموفق.(6/252)
47 - باب بَرَكَةِ صَاعِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، وَمُدِّهِ
/ 96 - فيه: عَائِشَةَ، عن النَّبِىّ - عليه السَّلام. / 70 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ النَّبِىِّ عليه السَّلام: (أَنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا لَهَا، وَحَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، وَدَعَوْتُ لَهَا فِى مُدِّهَا وَصَاعِهَا مِثْلَ مَا دَعَا إِبْرَاهِيمُ لِمَكَّةَ) . قوله عليه السلام: (اللهم فى صاعهم ومدهم) ، يعنى ما يكال بالصاع والمد، وأضمر ذلك لفهم السامع، وهذا من باب تسمية الشىء باسم ما يقاربه، وكان مد أهل المدينة صغيرًا، لقلة الطعام عندهم، فدعا لهم النبى بالبركة فى طعامهم، ويستحب أن يتخذ ذلك المكيال رجاء لبركة دعوة النبى - عليه السلام - والاستنان بأهل البلد الذين دعا لهم، وقد قال عليه السلام: (كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه) .
48 - باب كَرَاهِيَةِ الصَّخَبِ فِى السُّوقِ
/ 71 - فيه: عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، لَقِيتُ عَبْدَاللَّهِ بْنَ عَمْرِو، فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِى عَنْ صِفَةِ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فِى التَّوْرَاةِ، قَالَ: أَجَلْ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِى التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِى الْقُرْآنِ: (يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) [الأحزاب: 45] وَحِرْزًا لِلأمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِى وَرَسُولِى، سَمَّيْتُكَ المتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلا غَلِيظٍ، وَلا سَخَّابٍ فِى الأسْوَاقِ، وَلا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ، بِأَنْ يَقُولُوا: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا.(6/253)
ابن سلام: غلف كل شىء فى غلاف، سيف أغلف، وقوس غلفاء، ورجل أغلف: إذا لم يكن مختونًا، قاله البخارى فى رواية السرخسى. الصخب عند أهل اللغة: الصياح، قال صاحب العين: صخب صخبًا: إذا صاح، ذكره فى حرف الصاد، ولم يذكره فى حرف السين، فهو فى بعض نسخ البخارى بالسين، وقال أبو حاتم: ما كان مع الخاء من الحروف فيجوز كتابته بالسين والصاد. فى هذا الحديث مدح النبى - عليه السلام - ببعض صفاته الشريفة، التى خصه الله - تعالى - بها وجبله عليها. قال المهلب: وقوله: (سميتك المتوكل) لقناعته باليسير من الرزق، واعتماده على الله تعالى بالتوكل عليه فى الرزق والنصر، والصبر على انتظام الفرج، والأخذ بمحاسن الأخلاق. وقوله: (ولا يدفع بالسيئة السيئة) أى: لا يسيئ إلى من أساء إليه على سبيل المجازاة المباحة ما لم تنتهك لله حرمة، لكن يأخذ بالفضل كما قال تعالى: (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور (وقوله: (الملة العوجاء) المعوجة وهى ملة الكفر، فأقام الله بنبيه عوج الكفر حتى ظهر دين الإسلام، ووضحت أعلامه، وأيد الله نبيه بالصبر والأناة، والسياسة لنفوس العالمين، والتوكل على الله، وقد وصفه الله فى آخر سورة براءة بنحو هذه الصفة. وفى هذا الحديث ذم الأسواق وأهلها إذ كانوا بهذه الصفة المذمومة من الصخب واللغط والزيادة فى المديحة أو الذم لما(6/254)
يتبايعونه والأيمان الحانثة، وفى مثل هذا المعنى قال عليه السلام: (شر البقاع الأسواق) لما يغلب على أهلها من هذه الأحوال المذمومة.
49 - باب مَا يُسْتَحَبُّ مِنَ الْكَيْلِ
/ 72 - فيه: الْمِقْدَامِ، قَالَ عليه السَّلام: (كِيلُوا طَعَامَكُمْ يُبَارَكْ لَكُمْ فيه) . / 73 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا لَهَا فِى مُدِّهَا وَصَاعِهَا، وَحَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، وَدَعَوْتُ لَهَا فِى مُدِّهَا وَصَاعِهَا) . / 74 - وفيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِى مِكْيَالِهِمْ، وَبَارِكْ لَهُمْ فِى صَاعِهِمْ وَمُدِّهِمْ، يَعْنِى أَهْلَ الْمَدِينَةِ) . الكيل مندوب إليه فيما ينفقه المرء على عياله ونَدبُ النبى أمته إليه يدل على البركة فيه. قال المهلب: ويحتمل المعنى - والله أعلم - أنهم كانوا يأكلون بلا كيل، فيزيدون فى الأكل فلا يبلغ لهم الطعام إلى المدة التى كانوا يقدرونها، فقال لهم عليه السلام: (كيلوا) أى: أخرجوا بكيل معلوم يبلغكم إلى المدة التى قدرتم مع ما وضع الله من البركة فى مد أهل المدينة بدعوته عليه السلام. فإن قيل: فما معنى قول عائشة: (كان عندى شطر شعير، نأكل منه حتى طال على فكلته ففنى) ، وهذا معارض لحديث المقدام. قال(6/255)
المهلب: ليس بينهما تعارض بحمد الله، ومعناه: أنها كانت تخرج قوتها بغير كيل، وهى متقوتة باليسير، فبورك لها فيه مع بركة النبى الباقية عليها وفى بيتها فلما كالته علمت المدة التى يبلغ إليها، ففنى عند انقضائها، لا أن الكيل وكد فيه أن يفنى.
50 - باب مَا يُذْكَرُ فِى بَيْعِ الطَّعَامِ وَالْحُكْرَةِ
/ 75 - فيه: ابْن عُمَرَ، رَأَيْتُ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ الطَّعَامَ مُجَازَفَةً يُضْرَبُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يَبِيعُوهُ حَتَّى يُؤْوُوهُ إِلَى رِحَالِهِمْ. / 76 - وفيه: ابْن عَبَّاس، نَهَى الرسول (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ طَعَامًا حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ، قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ: كَيْفَ ذَاكَ؟ قَالَ: دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ، وَالطَّعَامُ مُرْجَأٌ. اختلف العلماء فى بيع الطعام جزافًا قبل أن يقبض، فذهب أبو حنيفة وأصحابه والثورى والشافعى وأحمد وأبو ثور إلى أنه لا يجوز بيعه قبل قبضه وروى الوقار عن مالك مثله، وقال ابن عبد الحكم: إنه استحسان من قوله. وقالت طائفة: يجوز بيع الطعام الجزاف قبل قبضه. روى ذلك عن عثمان بن عفان، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن البصرى والحكم وحماد، وهو المشهور عن مالك، وبه قال الأوزاعى وإسحاق. وحجة القول الأول ظاهر حديث ابن عمر، وعموم نهيه(6/256)
عليه السلام عن بيع الطعام قبل استيفائه، فدخل فيه الجزاف والمكيل، وقد أشار ابن عباس إلى أنه إذا باعه قبل قبضه أنه دراهم بدراهم، والطعام لغو فأشبه عنده العينة، وقال الأبهرى: العينة عنده من باب سلف جر منفعة. والحجة لقول مالك ومن وافقه أن من ابتاع جزافًا فلم يبع إلا ما وقعت حاسة العين عليه، ولذلك سقط الكيل عن البائع والاستيفاء إنما يكون بالكيل أو الوزن، هذا هو المشهور عند العرب، ويشهد لذلك قوله - تعالى -: (فأوف لنا الكيل () وأوفوا الكيل إذا كلتم (وقوله: (الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون (فإنما عنى بالاستيفاء فى المكيل والموزون خاصة، وما عدا هذه الصفة فلم يبق فيه إلا التسليم، فبه يستوفى من جزاف الطعام كالعقار وشبهه. فإن قيل: لو كان كما زعمتم لم يتأكد النهى عن ذلك حتى يضرب الناس عليه، فدل على أن حكم الجزاف كحكم المكيل. فالجواب: أنهم إنما أمروا بانتقال طعامهم وإن كان جزافًا، لأنهم كانوا بالمدينة يتبايعون بالعينة، وكذلك يجب أن يؤمر بانتقال الجزاف فى كل موضع يشتهر فيه العمل بالعينة؛ ليكون حاجزًا بين دراهم بأكثر منها، كان الطعام لغوًا وكانت دراهم بأكثر منها، وقد روى عن ابن عمر أن النهى إنما ورد فى المكيل خاصة، ذكر ابن وهب قال: حدثنى عمرو بن الحارث عن المنذر بن عبيد(6/257)
المدينى، أن القاسم بن محمد حدثه، أن عبد الله بن عمر حدثه: (أنه عليه السلام نهى أن يبيع أحد طعامًا اشتراه بكيل حتى يستوفيه) . وفى حديث ابن عمر: (رأيت الذين يشترون الطعام مجازفة يضربون على عهد النبى حتى يئووه إلى رحالهم) إباحة الحكرة؛ لأنه لو لم يجز لهم احتكاره لتقدم إليهم فى بيعه، ولم يؤذن لهم فى حبسه، هذا قول أئمة الأمصار. ورخصت طائفة لمن رفع الطعام من أرضه أو من جلبه من مكان فى جنبه، ومنعت من ذلك لمشتريه من السوق للحكرة وروى ذلك عن عمر بن الخطاب، وعن الحسن البصرى وبه قال الأوزاعى. وقال مالك فيمن رفع طعامًا فى ضيعته فرفعه فليس بحكرة. وقال أحمد بن حنبل: إنما يحرم احتكار الطعام الذى هو قوت دون سائر الأشياء. وقالت طائفة: احتكار الطعام فى الحرم إلحاد فيه روى هذا عن عمر بن الخطاب ومجاهد. فإن قيل: قد روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (لا يحتكر إلا خاطئ) من حديث سعيد بن المسيب عن معمر بن عبد الله بن نضلة، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) وروى عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان أنهما نهيا عن الحكرة. قيل: معنى هذا النهى عند الفقهاء فى وقت الشدة وما ينزل بالناس من الحاجة، يدل على ذلك أن ابن المسيب روى هذا الحديث وكان يحتكر الزيت، فقيل له فى ذلك، فقال: كان معمر يحتكر. وقد علما مخرج الحديث.(6/258)
وقال أبو الزناد: قلت لابن المسيب: أنت تحتكر قال: ليس هذا بالذى قال رسول الله إنما قال: أن يأتى الرجل السلعة عند غلائها فيغالى بها وأما أن يشتريه إذا أبضع ثم يرفعه، فإذا احتاج الناس إليه أخرجه، فذلك خير، فبان أن معنى النهى عن الحكرة فى وقت حاجة الناس. روى ابن القاسم عن مالك أنه قال: من اشترى طعامًا فى قوت لا يضر بالناس شراؤه لا يضره إن تربص به ما شاء، وهو قول الكوفيين والشافعى. قال مالك: وجميع الأشياء فى ذلك كالطعام. وقال الأوزاعى: لا بأس أن يشترى فى سنة الرخص طعامًا لسنين لنفسه وعياله مخافة الغلاء قال مالك: وأما إذا قل الطعام فى السوق، فاحتاج الناس إليه، فمن احتكر منه شيئًا فهو مضر بالمسلمين، فليخرجه إلى السوق وليبعه بما ابتاعه ولا يزدد فيه، فعلى هذا القول تتفق الآثار، ألا ترى أن الناس إذا استوت حالتهم فى الحاجة، فقد صاروا شركاء، ووجب على المسلمين المواساة فى أموالهم فكيف لا يمنع الضرر عنهم وقد جمع النبى - عليه السلام الأزواد بالصهباء عند الحاجة، ونهى عن ادخار اللحوم بعد ثلاث للدافة، وجمع أبو عبيدة أزواد السرية وقسمها بين من لم يكن له زاد وبين من كان له زاد، وأمر عمر أن يحمل فى عام الرمادة على أهل كل بيت مثلهم من الفقراء، وقال: إن المرء لا يهلك عن نصف شبعه.(6/259)
51 - باب بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ
/ 77 - فيه: مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ عِنْدَهُ صَرْفٌ؟ فَقَالَ طَلْحَةُ: أَنَا، حَتَّى يَجِىءَ خَازِنُنَا مِنَ الْغَابَةِ، فقَالَ عُمَرَ: قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ رِبًا إِلا هَاءَ وَهَاءَ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إِلا هَاءَ وَهَاءَ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا إِلا هَاءَ وَهَاءَ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا إِلا هَاءَ وَهَاءَ) . قال المؤلف: لا يجوز بيع ما ليس عندك ولا فى ملكك وضمانك من الأعيان المكيلة والموزونة والعروض كلها، لنهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك. وروى النهى عن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن عن النبى (صلى الله عليه وسلم) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ومن حديث حكيم بن حزام، ولم يكن إسناده من شرط البخارى، فاستنبط معناه من حديث مالك بن أوس، وذلك أنه يدخل من باب بيع ما ليس عندك بالمعنى ما يكون فى ملكك غائبًا من الذهب والفضة، لا يجوز بيع غائب منها بناجز، وكذلك البر والتمر والشعير لا يباع شىء منها بجنسه ولا بطعام مخالف لجنسه إلا يدًا بيد، وكذلك ما كان فى معناها من سائر أنواع الطعام، لا يباع منها طعام بطعام إلا يدًا بيد، لقوله عليه السلام: (إلا هاء وهاء) ، يعنى خذ وأعط حياطة من الله - تعالى - لأصول الأموال وحرزًا لها إلا ما خصت السنة بالجواز من بيع ما ليس عندك ومن ربح ما لم يضمن وهو السلم، فجوزت فيه بيع ما ليس عندك مما يكون فى الذمة من غير الأعيان، توسعة من الله - تعالى - لعباده ورفقًا بهم. قال ابن المنذر: وبيع ما ليس عندك يحتمل معنيين: يحتمل أن(6/260)
يقول: أبيعك عبدًا لى أو دارًا مغيبة عنى فى وقت البيع، فلعل الدار أن تتلف أو لا يرضاها، وهذا يشبه بيع الغرر، ويحتمل أن يقول: أبيعك هذه الدار بكذا على أن أشتريها لك من صاحبها، أو على أن يسلمها لك صاحبها، وهذا مفسوخ على كل حال، لأنه غرر، إذ قد يجوز أن لا يقدر على تلك السلعة، أو لا يسلمها إليه مالكها، وهذا أصح القولين عندى، لأنى لا أعلمهم يختلفون أنه يجوز أن أبيع جارية رآها المشترى ثم غابت عنى وتوارت بجدار وعقدنا البيع ثم عادت إلى، فإذا أجاز الجميع هذا البيع لم يكن فرق بين أن تغيب عنى بجدار أو تكون بينى وبينها مسافة وقت عقد البيع. وقال غيره: ومن بيع ما ليس عندك العينة، وهى ذريعة إلى دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل، كأن رجلا سأل رجلا أن يسلفه دراهم بدراهم أكثر منها فقال له: هذا لا يحل، ولكن أبيعك فى الدراهم التى سألتنى سلعة كذا ليست عندى، أبتاعها لك فبكم تشتريها منى؟ فيوافقه على الثمن يبتاعها ويسلمها إليه، فهذه العينة المكروهة، وهى بيع ما ليس عندك وبيع ما لم تقبضه، فإن وقع هذا البيع فسخ عند مالك فى مشهور مذهبه وعند جماعة العلماء، وقيل للبائع: إن أعطيت السلعة لمبتاعها منك بما اشتريتها جاز ذلك، وكأنك إنما أسلفته الثمن الذى ابتاعها به. وقد روى عن مالك أنه لا يفسخ البيع، لأن المأمور كان ضامنًا للسلعة لو هلكت. قال ابن القاسم: وأحب إلى لو تورع عن أخذ(6/261)
ما ازداده عليه. وقال عيسى بن دينار: بل يفسخ البيع إلا أن تفوت السلعة، فتكون فيها القيمة، وعلى هذا سائر العلماء بالحجاز والعراق.
52 - باب بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ
/ 78 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: أَمَّا الَّذِى نَهَى عَنْهُ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فَهُوَ الطَّعَامُ أَنْ يُبَاعَ حَتَّى يُقْبَضَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلا أَحْسِبُ كُلَّ شَىْءٍ إِلا مِثْلَهُ. / 79 - وفيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، قَالَ: (مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ) ، وَقَالَ مرة: (حَتَّى يَقْبِضَهُ) . أجمع العلماء أن كل ما يكال أو يوزن من الطعام كله مقتاتًا أو غير مقتات، وكذلك الإدام والملح والكسبر وزريعة الفجل الذى فيه الزيت المأكول، فلا يجوز بيع شىء منه قبل قبضه، ومعنى نهيه عليه السلام عن بيع الطعام قبل قبضه عند مالك فيما بيع منه مكيلا أو موزونًا لا فيما بيع منه جزافًا على ما تقدم ذكره قبل هذا. واختلفوا فى بيع العروض قبل قبضها، فذهب ابن عباس وجابر إلى أنه لا يجوز بيع شىء منها قبل قبضها قياسًا على الطعام، وهو قول الكوفيين والشافعى، وحملوا نهيه عليه السلام عن ربح ما لم يضمن على العموم فى كل شئ، إلا الدور والأرضين عند أبى حنيفة، فأجاز بيعها قبل قبضها، لأنها لا تنقل ولا تحول.(6/262)
وحمل مالك نهيه عليه السلام عن ربح ما لم يضمن على الطعام وحده، قال عيسى: سألت ابن القاسم عن ربح ما لم يضمن. فقال: ذكر مالك أن ذلك بيع الطعام قبل أن يستوفى، لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) نهى عنه فربحه حرام. وأما العروض والحيوان فربحها حلال، لأن بيعها قبل استيفائها حلال. قال ابن المنذر: والحجة لهذا القول أن النبى (صلى الله عليه وسلم) إنما نهى عن بيع الطعام قبل قبضه خاصة، فدل أن غير الطعام ليس كالطعام، ولو لم يكن كذلك ما كان فى تخصيص الطعام فائدة. وقد أجمعوا أن من اشترى جارية وأعتقها فى تلك الحال قبل قبضها، أن عتقه جائز وكذلك يجوز له بيعها قبل قبضها، وقال أبو ثور كقول مالك.
53 - باب إِذَا اشْتَرَى مَتَاعًا أَوْ دَابَّةً فَوَضَعَهُ عِنْدَ الْبَائِعِ أَوْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَا أَدْرَكَتِ الصَّفْقَةُ حَيًّا مَجْمُوعًا فَهُوَ مِنَ الْمُبْتَاعِ. / 80 - فيه: عَائِشَةَ، لَقَلَّ يَوْمٌ كَانَ يَأْتِى عَلَى النَّبِىِّ، عليه السَّلام، إِلا يَأْتِى فِيهِ بَيْتَ أَبِى بَكْرٍ أَحَدَ طَرَفَىِ النَّهَارِ، فَلَمَّا أُذِنَ لَهُ فِى(6/263)
الْخُرُوجِ إِلَى الْمَدِينَةِ لَمْ يَرُعْنَا إِلا وَقَدْ أَتَانَا ظُهْرًا، فَخُبِّرَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: مَا جَاءَنَا النَّبِىُّ عَلَيّهِ السَّلاَم فِى هَذِهِ السَّاعَةِ إِلا لأمْرٍ حَدَثَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ، قَالَ لأبِى بَكْرٍ: (أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ) ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا هُمَا ابْنَتَاىَ، يَعْنِى عَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ، قَالَ: (أَشَعَرْتَ أَنَّهُ قَدْ أُذِنَ لِى فِى الْخُرُوجِ) ، قَالَ: الصُّحْبَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (الصُّحْبَةَ) ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ عِنْدِى نَاقَتَيْنِ أَعْدَدْتُهُمَا لِلْخُرُوجِ، فَخُذْ إِحْدَاهُمَا قَالَ: (قَدْ أَخَذْتُهَا بِالثَّمَنِ) . اختلف العلماء فى هلاك المبيع قبل أن يقبض، فذهب أبو حنيفة والشافعى إلى أن ضمانه إن تلف من البائع، وقال أحمد وإسحاق وأبو ثور: تلافه من المشترى. وفرق مالك بين الثياب والحيوان، فقال: ما كان من الثياب والطعام، وما يعاب عليه فهلك قبل القبض، فضمانه من البائع. قال ابن القاسم: لأنه لا يعرف هلاكه ولا بينة عليه، ويتهم أن يكون ندم فيه فعيبه، وأما الدواب والحيوان والعقار فضمانه من المشترى. وقال ابن حبيب: اختلف العلماء فيمن باع عبدًا واحتبسه بالثمن، وهلك فى يديه قبل أن يأتى المشترى بالثمن، وكان سعيد بن المسيب وربيعة والليث يقولون: وهو من البائع. وأخذ به ابن وهب، وكان مالك قد أخذ به أيضًا، وقال سليمان بن يسار: مضيته من المشترى سواء حبسه البائع وثيقة من الثمن أم لا. ورجع مالك إلى قول سليمان بن يسار، واحتج الكوفيون والشافعى بفساد بيع الصرف قبل القبض، فدل أنه فى ضمان البائع، قالوا: ولا خلاف أنه من اشترى طعامًا مكايلة، فهلك قبل القبض فى يد البائع، أنه من مال البائع، فكذلك ما سواه فى القياس، واحتجوا بأن النبى - عليه السلام - نهى عن بيع ما لم يقبض وربح ما لم يضمن، قالوا: ألا ترى أنه عليه السلام نهى عن بيع ما لم يقبض وربح ما لم يضمن، فكأنه نهى عن بيع ما لم يقبض؛ لأنه لم يضمن.(6/264)
وقال ابن القصار: والحجة عليهم فى قياسهم على الصرف، بأن البيع يتم فيه بالعقد، ثم يبطل بالتفرق قبل القبض؛ لأنه عقد خص بألا يفترقا وبينهما معاملة؛ لأن سنة الصرف يدًا بيد، وهاء بهاء، لوجود الربا فى كل واحد من العوضين، وأما الطعام إذا اشترى مكايلة فإن البيع قد تم بالقول، ثم وجب على البائع حق التوفية، وهو الكيل الذى يلزمه بإجماع، وكذلك المبيع إذا كان فيه حق يوفيه من وزن أو عدد وتلف قبل القبض فضمانه من البائع، وأما احتجاجهم بنهيه عليه السلام عن بيع ما لم يقبض، فالجواب: عليه أنه نهى عن بيع ما لم يقبض إذا لم يضمن، بدليل أن المشترى لو أتلف المبيع كان ضمانه فيه بالثمن لا بالقيمة لأنه بحكم الملك أتلفه، فيجب إذا تلف المبيع من قبل الله - تعالى - أن يكون من ضمانه. قال المهلب: ووجه استدلال البخارى بحديث عائشة فى هذا الباب أن قول الرسول لأبى بكر فى الناقة: (قد أخذتها) لم يكن أخذًا باليد، ولا بحيازة شخصها، وإنما كان التزامه لابتياعها بالثمن، وإخراجها من ملك أبى بكر، لأن قوله: (قد أخذتها) يوجب أخذًا صحيحًا، وإخراجًا واجبًا للناقة من ذمة أبى بكر إلى ذمة النبى بالثمن الذى يكون عوضًا منها، فهل يكون الضياع أو التصرف بالبيع قبل القبض إلا لصاحب الذمة الضامنة لها. قال ابن المنذر: ولا مخالف لابن عمر فى الصحابة، فهو كالإجماع. قال المهلب: وفيه من الفقه: إخفاء السر فى أمر الله إذا خشى من أهل الفجر.(6/265)
وفيه: أن أبا بكر أوثق الناس عند رسول الله، وأنه آمن الُناس عليه فى صحبته وماله؛ لأنه لم يرغب بنفسه عنه فى حضر ولا سفر، ولا استأثر بماله دونه، ألا ترى أنه أعطاه إحدى ناقتيه بلا ثمن، فأبى رسول الله إلا بالثمن، وفى استعداد أبى بكر بالناقتين دليل على أنه أفهم الناس لأمر الدين؛ لأنه أعدهما قبل أن ينزل الإذن فى الخروج من مكة إلى المدينة، كأنه قبل ذلك قد رجا أنه لا بد أن يؤذن له فأعد لذلك. وفيه: أن الافتراق الذى يتم به البيع فى قوله عليه السلام: (البيعان بالخيار ما لم يفترقا) إنما يكون بالكلام لا بالأبدان؛ لقول النبى لأبى بكر: (قد أخذتها بالثمن) قبل أن يفترقا، وتم البيع بينهما، وسيتأتى بعض معانى هذا الحديث فى كتاب اللباس فى باب التقنع، إن شاء الله.
54 - باب لا يَبِعُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلا يَسُومُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ حَتَّى يَأْذَنَ لَهُ أَوْ يَتْرُكَ
/ 81 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (لا يَبِعُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ) . / 82 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، نَهَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ وَلا تَنَاجَشُوا، وَلا يَبِيعُ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ. . . .) الحديث. قال أبو عبيد: كان أبو عبيدة وأبو زيد وغيرهما من أهل العلم(6/266)
يقولون: إنما النهى فى قوله عليه السلام: (لا يبع على بيع أخيه) . إنما هو لا يشتر على شراء أخيه، فإنما وقع النهى على المشترى لا على البائع؛ لأن العرب تقول: بعت الشىء، بمعنى اشتريته، قال أبو عبيد: وليس للحديث عندى وجه غير هذا؛ لأن البائع لا يكاد يدخل على البائع، هذا قليل فى معاملة الناس، وإنما المعروف أن يعطى الرجل الرجل بسلعته شيئًا فيجىء مشترٍ آخر فيزيد عليه، ومما يبين ذلك أنهم كانوا يتبايعون فى مغازيهم فيمن يزيد، فالمعنى هاهنا للمشترى، ومنه النهى عن الخطبة على خطبة أخيه كما نهى عن البيع، بعد علمنا أن الخاطب هو الطالب بمنزلة المشترى، وقد فسره مالك فى الموطأ بنحو هذا، قال مالك: وتفسير قوله عليه السلام: (لا يبع بعضكم على بيع بعض) إنما نهى أن يسوم الرجل على سوم أخيه إذا ركن البائع للمشترى، وجعل يشترط وزن الذهب، ويتبرأ من العيوب وشبه هذا مما نعرف به أن البائع قد أراد مبايعة السائم، فهذا الذى نهى عنه - والله أعلم - ونحوه قال أبو حنيفة وأصحابه، وقال الشافعى مثله فى قوله عليه السلام: (لا يسوم الرجل على سوم أخيه) ، وخالفهم فى قوله: (لا يبع على بيع أخيه) . فقال: معناه: أن يبتاع سلعة فيقبضها وهو مغتبط بها، فيأتيه قبل الافتراق من يعرض عليه سلعة خيرًا منها بأقل من ذلك الثمن، وهذا فساد، وقال الثورى نحوه. والفقهاء كلهم يكرهون أن يسوم على سوم أخيه بعد السكون(6/267)
والرضا، والبيع عندهم مع ذلك صحيح؛ لأن سوم المساوم لم يتم به عقد البيع، كان لكل واحد منهما أن لا يتمه إن شاء، وأهل الظاهر يفسخونه، وقد روى عن مالك وعن بعض أصحابه فسخه ما لم يفت وفسخ النكاح ما لم يفت بالدخول، وأنكر ابن الماجشون أن يكون مالك قاله فى البيع، وقال: إنما قاله فى الخطبة. واختلفوا فى دخول الذمى فى معنى قوله: (لا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا يسم على سوم أخيه) فقال الأوزاعى: لا بأس بدخول المسلم على الذمى فى سومه؛ لأن النبى إنما خاطب المسلمين بذلك، فلا يدخل فيه غيرهم. وقال مالك والثورى وأبو حنيفة والشافعى: لا يجوز أن يبيع المسلم على بيع الذمى، وحجتهم أنه كما دخل الذمى فى النهى عن النجش، وعن ربح ما لم يضمن، وفى الشفعة وغيرها مما الذمى فيه تبع للمسلم، فكذلك يدخل فى هذا، وقد يقال: هذا طريق المسلمين، ولا يمنع ذلك من سلوك أهل الذمة فيه. وقد أجمع العلماء على كراهة سوم الذمى على سوم الذمى، يدل أنهم داخلون فى ذلك - والله أعلم.
55 - باب بَيْعِ الْمُزَايَدَةِ
وَقَالَ عَطَاءٌ: أَدْرَكْتُ النَّاسَ لا يَرَوْنَ بَأْسًا بِبَيْعِ الْمَغَانِمِ فِيمَنْ يَزِيدُ. / 83 - فيه: جَابِر، أَنَّ رَجُلا أَعْتَقَ غُلامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ، فَاحْتَاجَ، فَأَخَذَهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّى) ؟ فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ بِكَذَا وَكَذَا، فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ.(6/268)
اختلف الفقهاء فى بيع المزايدة، فأجازها مالك والكوفيون والشافعى وأحمد، وكان الأوزاعى يكره المزايدة إلا فى المغانم والمواريث، وهو قول إسحاق. وروى عن أبى أيوب وعقبة بن عامر كراهية الزيادة، وعن إبراهيم النخعى أنه كره بيع من يزيد، واحتج مالك لقوله: لا بأس بالسلعة، توقف للبيع فيسوم بها غير واحد، قال: ولو ترك الناس السوم عند أول من يسوم بها، أُخذت بشبه الباطل من الثمن، ودخل على الباعة فى سلعهم المكروه، ولم يزل الأمر عندنا على ذلك. وحديث جابر حجة على من كره ذلك؛ لأنه عليه السلام قال فى المدبر: (من يشتريه منى؟) فعرضه للزيادة، وأحب أن يستقصى فيه للمفلس الذى باعه عليه، وهذا الحديث يفسر نهيه عليه السلام أن يسوم الرجل على سوم أخيه، أو يبيع على بيع أخيه، أنه أراد بذلك إذا تقاربا من تمام البيع كما قال جمهور الفقهاء، وعلى هذا المعنى حمل العلماء ما روى عن أبى أيوب وعقبة بن عامر أن ذلك بعدما رضى البائع ببيعه الأول.
56 - باب النَّجْشِ ومن قال لا يجوز ذلك البيع
وَقَالَ ابْنُ أَبِى أَوْفَى: النَّاجِشُ آكِلُ رِبًا خَائِنٌ، وَهُوَ خِدَاعٌ بَاطِلٌ، لا يَحِلُّ. قَالَ عليه السَّلام: (الْخَدِيعَةُ فِى النَّارِ، وَمَنْ عَمِلَ عَمَلا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ) . / 84 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: نَهَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَنِ النَّجْشِ.(6/269)
قال ابن الأنبارى: النجش: أن يزيد الرجل فى ثمن السلعة، وهو لا يريد شراءها، ولكن ليسمعه غيره فيزيد بزيادته. وذكر مثله صاحب العين، وقال أبو عبيد: النجش: استثارة الشىء، والنجاشى والناجش: الذى ينجش الشىء نجشاُ فيستخرجه. وقال بعضهم: النجش: أن ينفر الناس عن الشىء إلى غيره قال وأصل: النجش: تنفير الوحش من مكان إلى مكان. وذكره ابن الأنبارى وذكر عن ابن عباس أنه قال: نجاشوا سوق الطعام من هذا أخذوا. وذكر أيضا عن الأصمعى أن النجش: مدح الشىء وإطراؤه، وأنشد النابغة الشيبانى: ويعدى كرمها عند النجش وأجمع العلماء أن الناجش عاص بفعله. واختلفوا فى البيع إذا وقع على ذلك، فذهب أهل الظاهر إلى أن البيع فى النجش مفسوخ، لأنه طابق النهى ففسد، وقال مالك المشترى بالخيار، وهو عيب من العيوب، وحجته أن النبى - عليه السلام - نهى عن التصرية، ثم جعل المشترى بالخيار إذا علم أنها مصراة، ولم يقض بفساد البيع، ومعلوم أن التصرية غش وخديعة، فكذلك النجش يصح فيه البيع، ويكون المشترى بالخيار. وقال أبو حنيفة وأصحابه والشافعى: البيع فى النجش لازم، ولا خيار للمبتاع فى ذلك، لأنه ليس بعيب فى نفس البيع، وإنما هى خديعة فى الثمن، وقد كان على المشترى أن يتحفظ ويحضر من يميز(6/270)
إن لم يكن ممن يميز، وقول مالك أعدل الأقوال فى ذلك وأولاها بالصواب.
57 - باب بَيْعِ الْغَرَرِ وَحَبَلِ الْحَبَلَةِ
/ 85 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، نَهَى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ، وَكَانَ بَيْعًا يَتَبَايَعُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، كَانَ الرَّجُلُ يَبْتَاعُ الْجَزُورَ إِلَى أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ، ثُمَّ تُنْتَجُ الَّتِى فِى بَطْنِهَا. قال مالك: هذا الحديث أصل فى النهى عن البيوع إلى الآجال المجهولة، لقوله: (إلى أن تنتج الناقة، ثم تنتج التى فى بطنها) ، واختلف العلماء فى معنى نهيه عليه السلام عن بيع حبل الحبلة، فقال مثل قول مالك الشافعى، ولا خلاف بين الأمة أن البيع إلى مثل هذا الأجل المجهول غرر لا يجوز، وإنما يجوز إلى أجل معلوم، لأن الله قد جعل الأهلة مواقيت للناس والحج، وهى معلومة، فما كان من الآجال لا يختلف، ولا يجهل وقته فجائز البيع إليه بإجماع. وقال آخرون: معنى بيع حبل الحبلة: هو النهى عن بيع الجنين فى بطن أمه، فلا يجوز بيع ما لم يخلق، ولا بيع ما لا تقع عليه العين، ولا يحيط به العلم. هذا قول أحمد وإسحاق وأبى عبيد. قال ابن المنذر: فأى ذلك كان فالبيع فيه باطل من وجوه، وكذلك يبطل كل ما كان فى معناه مما يحتمل أن يكون موجودًا أو غير موجود، وهذا كله من أكل المال بالباطل، وقد نهى الله عن ذلك. فإن قيل: فقد ذكر الطبرى عن ابن عون، عن ابن سيرين(6/271)
قال: لا أعلم ببيع الغرر بأسًا. وذكر ابن المنذر عن ابن سيرين قال: لا بأس ببيع العبد الآبق إذا كان علمهما فيه واحد، وحكى مثله عن شريح، وذكر عن ابن عمر أنه اشترى من بعض ولده بعيرًا شاردًا. فالجواب: أن الغرر هو ما يجوز أن يوجد وأن لا يوجد كحبل الحبلة وشبهه، وكل شىء لا يعلم المشترى هل يحصل له أم لا، فشراؤه غير جائز، لأنه غرر، وكل شىء حاصل للمشترى أو يعلم فى الغالب أنه يحصل له فشراؤه جائز، هذا أصل البيوع، إذا كان الغرر فيها الغالب لم يجز، وإذا كان يسيرًا تبعًا جاز، لأنها لا تخلو منه، ولو منع البيع حتى لا يكون فيه غرر وإن قل لأضر ذلك بالناس، وقد منع رسول الله بيع الثمرة قبل بدو صلاحها على التبقية، ولو بدا صلاحها جاز بيعها على التبقية لأن الغرر قد قل فيها. فإن قيل: يحتمل قول ابن سيرين: أنه لا بأس ببيع الغرر إن سلم. فالجواب: أن السلامة وإن كانت فإنما هى فى المال، والمال لا يراعى فى البيوع فى الأكثر من مذاهب أهل العلم، وإنما تراعى السلامة فى حال عقد البيع، وقد ذكرنا أن الغرر هو ما يجوز أن يوجد وألا يوجد، وهذا المعنى موجود فى عقد الغرر وإن سلم ماله، فلذلك لم يجز، وقد يمكن أن يكون ابن سيرين ومن أجاز بيع الغرر(6/272)
لم يبلغهم نهى النبى - عليه السلام - عن ذلك، ولا حجة لأحد خالف السنة.
58 - باب بَيْعِ الْمُلامَسَةِ
قَالَ أَنَسٌ: نَهَى النَّبِىُّ عليه السَّلام عَنْهُ / 86 - فيه: أَبُو سَعِيد، نَهَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، عَنِ الْمُنَابَذَةِ، وَهِىَ طَرْحُ الرَّجُلِ ثَوْبَهُ بِالْبَيْعِ إِلَى الرَّجُلِ قَبْلَ أَنْ يُقَلِّبَهُ، أَوْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ، وَنَهَى عَنِ الْمُلامَسَةِ، وَالْمُلامَسَةُ لَمْسُ الثَّوْبِ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِ. / 87 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، نُهِىَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ اللِّمَاسِ وَالنِّبَاذِ. وترجم له (باب بيع المنابذة) . لا يجوز بيع الملامسة والمنابذة عند جماعة العلماء، وهو من بيع الغرر والقمار، لأنه إذا لم يتأمل ما اشتراه ولا علم صفته فلا يدرى حقيقته، وهو من أكل المال بالباطل، وكان مالك يقول: المنابذة أن ينبذ الرجل ثوبه وينبذ الآخر إليه ثوبه على غير تأمل منهما، ويقول كل واحد منهما لصاحبه: هذا بهذا. ومن هذا الباب بيع الشىء الغائب واختلف العلماء فى ذلك، وقال مالك: لا يجوز بيع الغائب حتى يتواصفا فإن وجد على الصفة لزم المشترى، ولا خيار له إذا رآه، وإن كان على غير الصفة فله الخيار. وهو قول أحمد وإسحاق وأبى ثور والمروزى، وروى مثله عن محمد بن سيرين.(6/273)
وقال أبو حنيفة وأصحابه والثورى: يجوز بيع الغائب على الصفة وغير الصفة، وللمشترى خيار الرؤية إن وجده على الصفة. وروى مثله عن ابن عباس والشعبى والنخى والحسن البصرى. وللشافعى قولان: أحدهما كقول أبى حنيفة. والثانى: لا يجوز شراء الأعيان الغائبة. وهو قول الحكم وحماد، واحتج الشافعى بأن مالكًا لم يجز بيع الثوب المدرج فى جرابه ولا الثوب المطوى فى طيه حتى ينشر أو ينظر إلى ما فى جوفهما، وذلك من الغرر، وأجاز بيع الأعدال على الصفة والبرنامج، فأجاز الغرر الكثير ومنع اليسير، فيقال له: قد سئل مالك عن هذا فقال: فرق ما بين ذلك الأمر المعمول به وما مضى من عمل الماضين أن بيع البرنامج لم يزل من بيوع الناس الجائزة بينهم، وأنه لا يراد به الغرر ولا يشبه الملامسة. واحتج الكوفيون فى جواز بيع ما لم ير بأن النبى - عليه السلام - نهى عن بيع الحب حتى يشتد، فدل ذلك على إباحة بيعه بعدما يشتد، وهو فى سنبله؛ لأنه لو لم يكن كذلك لقال: حتى يشتد ويزال من سنبله، فلما جعل الغاية فى النهى عنه هى شدته ويبوسته، دل على أن البيع بعد ذلك بخلاف ما كان عليه فى أول مرة، ودل ذلك على جواز بيع ما لا يراه المتبايعان إذا كانا يرجعان منه إلى معلوم، كما يرجع فى الحنطة المبيعة المغيبة فى السنبل إلى حنطة معلومة.(6/274)
واحتجوا أيضًا بأن الصحابة تبايعوا الأشياء الغائبة، فباع عثمان من طلحة دارًا بالكوفة بدار بالبصرة، وباع عثمان من عبد الرحمن فرسًا بأرض له، وباع ابن عمر من عثمان مالا له بالوادى بمال له بخيبر، وليس فى الأحاديث عنهم صفة شىء من ذلك. واحتج أهل المقالة الأولى أن قالوا: إن تبايع الصحابة للأشياء الغائبة محمول إما على الصفة، وإما على خيار الرؤية، وفى الخبر أن عثمان قيل له: غُبنِت. فقال: لا أبالى، لى الخيار إذا رأيت. فترافعا إلى جبير بن مطعم فقضى بالبيع، وجعل الخيار لعثمان لأجل الغبن. قالوا: وقد صحت الأخبار بنهيه عليه السلام عن بيع الملامسة والمنابذة، وإنما كان سبب بطلان ذلك أن المبيع كان يدخل فى ملك المبتاع قبل تأمله إياه ووقوفه على صفته، فكل ما اشترى كذلك من غير صفة ولا رؤية فحكمه حكم بيع الملامسة والمنابذة. وإما قول الشافعى: إن البيع على الصفة وبيع البرنامج من بيوع الغرر. فالجواب عنه: أن الصفة تقوم مقام المعاينة؛ لأن العلم يقع بحاسة السمع والشم والذوق كما يقع بحاسة العين. وقد أجاز الجميع بيع الطعام المصبر، والجوز فى قشره، والحب فى سنبله للحاجة إلى ذلك؛ ولأن القصد لم يكن إلى الغرر، فكذلك يجوز بيع الأعدال على الصفة والبرنامج لضرورة الناس إلى البيع لأنهم لو منعوا منه منعوا من وجه يرتفقون به من فتح الأعدال ونشرها؛ لمشقة ذلك عليهم، فإنه قد لا يشتريها من يراها، فجاز بيعها على الصفة؛ لأنها تقوم مقام العيان، كما تقوم فى(6/275)
السلم، وجواز بيعه كجواز بيع العين، وليس الأعدال كالثواب الواحد المطوى أو الثوبين؛ لأن نشرهما وطيهما لا مؤنة فيه ولا ضرر، وقد قال عليه السلام: (لا تصف المرأة المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها) ، فأقام الصفة مقام الرؤية.
59 - بَاب النَّهْىِ لِلْبَائِعِ أَنْ لاَ يُحَفِّلَ الإِبِلَ وَالْبَقَرَ وَالْغَنَمَ وَكُلَّ مُحَفَّلَةٍ وَالْمُصَرَّاةُ الَّتِى صُرِّىَ لَبَنُهَا وَحُقِنَ فِيهِ وَجُمِعَ فَلَمْ يُحْلَبْ أَيَّامًا،
وَأَصْلُ التَّصْرِيَةِ حَبْسُ الْمَاءِ يُقَالُ مِنْهُ صَرَّيْتُ الْمَاءَ إِذَا حَبَسْتَهُ / 88 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ عليه السَّلام: (لاَ تُصَرُّوا الإِبِلَ وَالْغَنَمَ فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدُ، فَإِنَّهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِبَهَا إِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعَ تَمْرٍ) . وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلاَثًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: صَاعًا مِنْ تَمْرٍ وَلَمْ يَذْكُرْ ثَلاَثًا، وَالتَّمْرُ أَكْثَرُ. قال المهلب: هذا الحديث أصل فى الرد بالعيب والدلسة؛ لأن اللبن إذا حبس فى ضرعها أيامًا فلم تحلب، ظن المشترى أنها هكذا كل يوم، فاغتر به، وقد روى أبو الضحى عن مسروق قال ابن مسعود: (أشهد على الصادق المصدوق أبى القاسم صلى الله عليه أنه قال: بيع المحفلات خلابة، ولا تحل خلابة مسلم) ، وقال بحديث المصراة جمهور العلماء، منهم: ابن أبى ليلى ومالك والليث(6/276)
وأبو يوسف والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور، قالوا: إذا بان لمشتريها أنها مصراة ردها بعد الثلاث، ورد معها صاعًا من تمر، ورد أبو حنيفة ومحمد الحديث وقالا: ليس له أن يردها بالعيب، ولكنه يرجع على البائع بنقصان العيب، قالوا: لأنه لو ابتاع شيئًا به عيب فإنما يأخذ الأرش ولا خيار له فى الرد البتة، ألا ترى لو ابتاع عبدًا فقطعت يده عند المشترى، ثم ظهر على عيب كان عند البائع لم يكن له رد العبد، وإنما يأخذ الأرش بقدر العيب. وزعموا أن حديث المصراة منسوخ بحديث الغلة بالضمان، قالوا: ومعلوم أن اللبن المحلوب فى المرة الأولى هو لبن التصرية، وقد خالطه جزء من اللبن الحادث فى ملك المبتاع، وكذلك المرة الثانية والثالثة غلة طارئة فى ملك المشترى، فكيف يرد له شيئًا؟ قالوا: فالأصول المجتمع عليها فى المستهلكات أنها لا تضمن إلا بالمثل أو بالقيمة من الذهب أو الورق، فكيف يجوز أن يضمن لبن التصرية الذى هو فى ملك البائع فى حين البيع بصاع تمر فات عند المشترى أو لم يفت، وقد وقعت عليه الصفقة كما وقعت على الشاة، فيكون صاعًا دينًا بلبن دين، وهذا يبين أن حديث المصراة منسوخ بتحريم الرباء؛ لأن النبى - عليه السلام - جعل الطعام بالطعام ربًا إلا هاء وهاء. قال المهلب: وما ادعوه من نسخ حديث المصراة فباطل، والصاع المردود إنما هو عبادة، وتحلل من اللبن الذى صرى الذى وقعت عليه الصفقة، وما حدث بعده من اللبن فهو للمشترى بالضمان، ولبن(6/277)
التصرية لم يبعه صاحب الشاة على أنه مصرى، وإنما باعه على أنه غلة حادثة فى الحلاب، فليس له فى الحقيقة رجوع بقيمته، ولا أخذ عوض فيه؛ لأنه لم تكن نيته عند البيع أن يأخذ فيه عوضًا، ولا أنه مبيع، فلما ظهر العيب بالاختبار علم أنه عين قائمة باعه مع الشاة على أنه غلة وهو غيرها، فأمر بالصاع على وجه التحلل. قال غيره: وأجمع العلماء على أنه إذا ردها بعيب التصرية لم يرد اللبن الحادث فى ملكه، ولم يجز أن يرد لبنا مثل لبن التصرية، لأنه لا يعلم مقداره، وإذا لم يعلم ذلك دخله بيع اللبن باللبن متفاضلا والى أجل، وذلك لا يجوز، ولما كان لبن التصرية مغيبًا لا يعلم مقداره، لأن لبن ناقة أو بقرة أكثر من لبن شاة، وأمكن التداعى فى قيمته، قطع النبى الخصومة فى ذلك بما حده من الصاع، كما فعل فى دية الجنين، قطع فيه بالغرة حسمًا لتداعى الموت فيه والحياة، لأن الجنين لما أمكن أن يكون حيا فى حين ضرب بطن أمه، فتكون فيه دية كاملة، وأمكن أن يكون ميتًا فلا تكون فيه دية كاملة، قطع النبى - عليه السلام - التنازع والخصام بأن جعل فيه غرة عبدًا أو أمة وفى اتفاق العلماء على القول بدية الجنين دليل على أن لزوم القول بحديث المصراة اتباعًا للسنة وتسليمًا لها، ومما يشهد لصحة هذا التأويل أنها لو كانت عشر شياه أو أكثر لما رد معها إلا صاعًا واحداُ كما يرد عن الواحدة فثبت أنه ليس على سبيل القيمة والمماثلة، وإنما هو على سبيل التحليل. قال ابن القصار: وأما قولهم فى العبد تقطع يده عند المشترى ثم(6/278)
يظهر على عيب أنه لا يرده، ويأخذ أرش العيب. فمذهب مالك أن المشترى بالخيار فى أن يتمسك ويأخذ أرش العيب الذى كان عند البائع، أو يرده ومعه أرش العيب الذى عنده، وهذا أصلنا، ولا يمنع حدوث العيب من الرد، كما لو اشترى العدل من المتاع ثم نشره له، ثم ظهر على عيب أنه يرده كله وكذلك يرد البيضة إذا كسرت وفيها العيب، ولو اشترى عبدين من رجل فمات أحدهما، ووجد بالآخر عيبًا فإنه يرد العبد الباقى، ومع هذا فإنه قد دخل النقص فى المبيع بموت الآخر. وقولهم: إن التمر ليس من جنس اللبن. فنقول: إن الأصول على ضربين: مضمون بالمثل، ومضمون بالقيمة، ثم لما جاز أن يكون المضمون بالقيمة غير مضمون بالقيمة فى موضع، كذلك يجوز أن يكون المضمون بالمثل غير مضمون بجنسه، ألا ترى أن الجنين فيه غرة عبد أو أمة، وليست مثلا له ولا قيمة، وأيضاُ فإن الشىء المكيل لا يكون مضمونا بالمثل والجنس إلا فى المواضع التى يمكن اعتبار ذلك فيها فأما الموضع الذى لا يمكن اعتبار مثله، فإنه يجوز أن يضمن بغير مثله، ألا ترى أننا قد اتفقنا على أن اللبن المضمون بمثله إذا تلف عليه فى وعاء أنه يمكن اعتبار المثل فيه، ثم لو أتلف عليه شاة لبونًا جعلنا بإزاء ذلك اللبن الذى أتلف فى ضرعها زيادة قيمة فيها، ولم يضمنه بالمثل إذ لا يمكن اعتباره.(6/279)
قال غيره: فى حديث المصراة دلالة على أن من اشترى نخلا وفيها نخل قد أبر، أو أمة حاملا، فأكل التمر أو هلك الابن ثم رد النخل أو الأمة بعيب، أنه يرد قيمة المبيع معها، لأنه قد وقع له حصة من الثمن، كما فعل النبى بالمصراة، وهو قول ابن القاسم، وخالفه أشهب فى التمرة، وقال: التمرة للمشترى بالضمان، وقول ابن القاسم يشهد له الحديث. وقال أبو عبيد: أصل التصرية حبس الماء وجمعه، يقال: منه صريت الماء وصريته. قال الزبيدى: الكلمة من الثلاثى المعتل اللام من صرى يصرى: إذا جمع وقد غلط أبو على البغدادى فذكره فى باب الثنائى المضاعف وأنشد الفراء: رأت غلامًا قد صرى فى فقرته ماء الشباب عنفوان تحرته قال المؤلف: أى: جمع الماء فى ظهره قال أبو عبيد: ويقال: إنما سميت المصراة كأنها مياه اجتمعت. قال المؤلف: فينبغى أن يكون لا تصروا: بضم التاء وفتح الصاد، كما تقول: ربيت، فهى مرباة، ولا يجوز أن تقول: لا تصروا بفتح التاء وضم الصاد، وإنما كان يجوز ذلك إذا قيل للشاة: مصرورة، واختلف فى لفظه عن مالك، فقيل هكذا، وقيل: لا تصروا. قال أبو عبيد: المحفلة: هى المصراة بعينها، وإنما سميت محفلة،(6/280)
لأن اللبن حفل فى ضرعها واجتمع وكل شىء كثرته فقد حفلته، يقال: قد احتفل القوم: إذا اجتمعوا، ولهذا سمى محفل القوم، وجمع المحفل: محافل، وذكر النبى الإبل والغنم فى حديث المصراة، ويدخل فى ذلك البقر بالمعنى، هذا قول مالك.
60 - بَاب إِنْ شَاءَ رَدَّ الْمُصَرَّاةَ وَفِى حَلْبَتِهَا صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ
/ 89 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (مَنِ اشْتَرَى غَنَمًا مُصَرَّاةً فَاحْتَلَبَهَا، فَإِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا فَفِى حَلْبَتِهَا صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ. اختلف العلماء فيما يرد مع المصراة، فذهب الليث والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور إلى أنه لا يرد معها إلا صاعًا من تمر لا من بر ولا غيره على ظاهر الحديث، واحتجوا أيضًا بحديث هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبى هريرة، أن النبى - عليه السلام - قال: (يرد المصراة صاعًا من تمر لا سمراء) ، وقال مالك: يرد مع المصراة صاعًا من قوت بلده تمرًا كان أو برًا أو غيره، وحجته أن النبى - عليه السلام - إنما جعل التمر فى حديث المصراة؛ لأنه كان عيشهم، فوجب أن يخرج كل واحد من قوته. وقال ابن أبى ليلى وأبو يوسف: يرد مع الشاة قيمة صاع من تمر. وقال زفر: يرد صاعًا من تمر أو نصف صاع من بر. وقال غيره: لا يرد غير التمر. ويجىء على أصله أن التمر إذا عدم وجب رد قيمته لا قيمة اللبن. وقال عيس بن دينار: لو حلبها مرة وثانية فنقص لبنها ردها ورد(6/281)
معها صاعًا من تمر لحلبته الأولى، ولو جاء باللبن بعينه كما حلبه لم يقبل منه، ولزمه غرم الصاع؛ لأن الصاع قد وجب عليه فليس عليه أن يعطى فيه لبنًا فيدخله بيع الطعام قبل يسُتوفى، وأجاز ذلك سحنون وقال: هى إقالة إذا جاء باللبن بعينه؛ لحدثان ذلك. وقال عيسى بن دينار: من اشترى عدة محفلات فى صفقة، فإنما يرد عن الجميع صاعًا واحدًا على ظاهر قوله: (من اشترى غنمًا مصراة ففى حلبتها صاع من تمر) على هذا عامة العلماء، وحكى عن بعض المتأخرين أنه يرد صاعًا عن كل واحدة، والذى عليه الجماعة أولى بدليل هذا الحديث.
61 - بَاب بَيْعِ الْعَبْدِ الزَّانِى وَقَالَ شُرَيْحٌ: إِنْ شَاءَ رَدَّ مِنَ الزِّنَا
. / 90 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبىُّ، عليه السَّلام: (إِذَا زَنَتِ الأَمَةُ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا، فَلْيَجْلِدْهَا وَلاَ يُثَرِّبْ، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا، وَلاَ يُثَرِّبْ ثُمَّ إِنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ فَلْيَبِعْهَا، وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعَرٍ) . / 91 - وَقَالَ مرة: إِنَّ النَّبِى، عليه السَّلام، سُئِلَ عَنِ الأَمَةِ إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصِنْ، قَالَ: (إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَبِيعُوهَا، وَلَوْ بِضَفِيرٍ) . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: لاَ أَدْرِى بَعْدَ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ. قال المهلب: فقه هذا الحديث على بيع العبد الزانى والندب(6/282)
إلى مباعدة الزانية، وقوله: (ولو بحبل من شعر) معناه المبالغة فى التزهيد فيها، وليس هذا من وجه إضاعة المال؛ لأن أهل المعاصى مأمور بقطعهم ومنابذتهم. وقوله: (ثم إن زنت الثالثة فبيعوها) ولم يذكر الحد اكتفاء بما تقدم من تقرر الحد ووجوبه، وقد قال تعالى: (فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب (يعنى: الجلد؛ لأن الرجم لا يتنصف، وإحصان الأمة إسلامها عند مالك والكوفيين والشافعى وجماعة. قوله: (ولا يثرب) أى لا يلومن ولا يعددن بعد الجلد، ويؤيد هذا أن توبة كعب بن مالك ومن فر يوم حنين حين تاب الله عليهم كانت شرفًا لهم، ولم تكن لهم ملامة، فبان بهذا أن اللوم والتثريب لا يكون إلا قبل التوبة أو الحد وأوجب أهل الظاهر بيع الأمة إذا زنت الرابعة وجلدت، والأمة كلها على خلافهم، وكفى بقولهم جهلا خلاف الأمة له. اختلف العلماء فى العبد إذا زنى، هل الزنا عيب يجب الرد به أم لا؟ فقال مالك: الزنا عيب فى العبد والأمة. وهو قول أحمد وإسحاق وأبى ثور. وقال الشافعى: كل ما ينقص من الثمن فهو عيب. وقال الكوفيون: الزنا فى الأمة عيب؛ لأنها تستولد وليس بعيب فى الغلام، وذلك ولد الزنا عيب يرد به.(6/283)
وقال مالك: إذا كانت الجارية ولد زنا فهو عيب، وإنما جعل الزنا عيب؛ لأنه ربما بلغ الحد به مبلغ تلف النفس، وان المنايا قد تكون من القليل والكثير، وإذا صح أنه عيب وجب على البائع أن يبينه، فإذا رضى به المبتاع صح البيع كسائر العيوب، وإذا لم يبينه كان للمبتاع رده إن شاء. فان قيل: فما معنى أمره عليه السلام ببيع الأمة الزانية والذى يشتريها يلزمه من اجتنابها ومباعدتها ما يلزم البائع. قيل: إن فائدة ذلك - والله أعلم - المبالغة فى تقبيح فعلها، والإعلام أن الأمة الزانية لا جزاء لها إلا البيع أبدًا، وأنها لا بقاء لها عند سيد، وذلك زجر لها عند معاودة الزنا، وأدب بالغ.
62 - بَاب الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مَعَ النِّسَاءِ
/ 92 - فيه: عَائِشَة، دَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَذَكَرْتُ لَهُ، فَقَالَ لها رَسُولُ اللَّه: (اشْتَرِى وَأَعْتِقِى، فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ) . / 93 - وَقَالَ ابْن عُمَرَ: أَنَّ عَائِشَةَ سَاوَمَتْ بَرِيرَةَ، فَخَرَجَ النَّبِىّ إِلَى الصَّلاَةِ، فَلَمَّا جَاءَ، قَالَتْ: إِنَّهُمْ أَبَوْا أَنْ يَبِيعُوهَا إِلاَ أَنْ يَشْتَرِطُوا الْوَلاَءَ، فَقَالَ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ) . والأمة مجمعة على أن المرأة إذا كانت مالكة أمر نفسها جاز لها أمرها أن تبيع وتشترى، وليس لزوجها عليها فى ذلك اعتراض، فإن كان فى البيع محاباة قصدت إليها، فالمحاباة كالعطية. وقد اختلف العلماء فى عطية المرأة بغير إذن زوجها، وهو مذكور(6/284)
فى كتاب الزكاة فى حديث ابن عباس حين أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) النساء بالصدقة يوم العيد، فأغنى عن إعادته.
63 - بَاب هَلْ يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ بِغَيْرِ أَجْرٍ وَهَلْ يُعِينُهُ أَوْ يَنْصَحُهُ؟
وَقَالَ عليه السَّلام: (إِذَا اسْتَنْصَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيَنْصَحْ لَهُ) . وَرَخَّصَ فِيهِ عَطَاءٌ. / 94 - فيه: جَرِير، بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَ اللَّهُ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. مختصرًا. / 95 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ عليه السَّلام: (لاَ تَلَقَّوُا الرُّكْبَانَ، وَلاَ يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ) ، فَقُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ: مَا قَوْلُهُ: (لاَ يَبِعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ) ؟ قَالَ: لاَ يَكُونُ لَهُ سِمْسَارًا. نهى النبى أن يبيع حاضر لباد عند العلماء أريد به نفع أهل الحضر، لما روى سفيان عن أبى الزبير، عن جابر أن النبى عليه السلام، قال: (لا يبع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض) . قال الطحاوى: فعلمنا من هذا أن الحاضر إنما نهى أن يبيع للبادى لأن الحاضر يعلم أسعار الأسواق، فيستقصى على الحاضرين فلا يكون لهم فى ذلك ربح، وإذا باعهم أعرابى على غرته وجهله بأسعار الأسواق ربح عليه الحاضرون، فأمر النبى أن يخلى بين الأعراب والحاضرين فى البيوع.(6/285)
واختلف العلماء فى ذلك، فأخذ قوم بظاهر الحديث، كرهوا أن يبيع الحاضر للبادى، روى ذلك عن أنس وأبى هريرة وابن عمر، وهو قول مالك والليث والشافعى. ورخص فى ذلك آخرون، روى ذلك عن عطاء ومجاهد، وقال مجاهد: إنما نهى رسول الله عن ذلك فى زمانه، فأما اليوم فلا. وهو قول أبى حنيفة وأصحابه، وقالوا: قد عارض هذا الحديث قوله عليه السلام: (الدين النصيحة) لكل مسلم. فيقال لهم: (الدين النصيحة) عام، و (لا يبع حاضر لباد) خاص، والخاص يقضى على العام؛ لأن الخصوص استثناء، كأنه قال عليه السلام: الدين النصيحة إلا أنه لا يبع حاضر لباء. فيستعملان جميعًا، فيستعمل العام منهما فيما عدا الخاص. وقال مالك فى تفسير الحديث: لا أرى أن يبيع الحاضر للبادى ولا لأهل القرى، وأما أهل المدن من أهل الريف فليس بالبيع لهم بأس إلا من كان منهم يشبه أهل البادية فإنى لا أحب أن يبيع لهم حاضر، وقال فى البدوى يقدم المدينة فيسأل الحاضر عن السعر: أكره أن يخبره. وقال مرة أخرى: لا بأس أن يشير عليه. روى عنه ابن القاسم القولين جميعًا. وقال ابن المنذر: قد تأول قوم نهيه عليه السلام أن يبيع حاضر لباد على وجه التأديب لا على معنى التحريم؛ لقوله عليه السلام: (دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض) قال: وليس يبين عندى أن هذا الكلام يدل على أنه نهى تأديب، بل هو عندى على الحظر.(6/286)
واختلفوا هل يفسخ البيع، فروى عيسى عن ابن القاسم أنه يفسخ، فإن فات فلا شىء عليه، وروى سحنون عنه أنه يمضى البيع، وهو قول ابن وهب والشافعى. واحتج الشافعى على جواز البيع بقوله عليه السلام: (دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض) ولم يقع الفساد فى ثمن ولا مثمون ولا فى عقد البيع، فلا ينبغى فسخه.
64 - بَاب مَنْ كَرِهَ أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ بِأَجْرٍ، وَبَهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
/ 96 - فيه: ابْنِ عُمَرَ: نَهَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ. أراد البخارى فى هذا الباب والذى قبله أن يجيز بيع الحاضر للباد بغير أجر، ويمنعه إذا كان بأجر، واستدل على ذلك بقول ابن عباس: لا يكون له سمسارًا. فكأنه أجاز ذلك لغير السمسار إذا كان ذلك من طريق النصح للمسلم وقد أجاز الأوزاعى أن يشير الحاضر على البادى، وقال: ليست الإشارة بيعًا. وقد روى عن مالك الرخصة فى الإشارة عليه، وقال الليث: لا يشير عليه؛ لأنه إذا أشار عليه فقد باع له، ولم يراع الفقهاء فى السمسار أجرًا ولا غيره، والناس فى تأويل هذا الحديث على قولين: فمن كره بيع الحاضر للباد كره بأجر وغير أجر، ومن أجازه أجازه بأجر وغير أجر.(6/287)
65 - بَاب لاَ يَشْتَرِى حَاضِرٌ لِبَادٍ بِالسَّمْسَرَةِ
وَكَرِهَهُ ابْنُ سِيرِينَ وَإِبْرَاهِيمُ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِى. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِنَّ الْعَرَبَ يقولون: بِعْ لِى ثَوْبًا وَهِىَ تَعْنِى الشِّرَاءَ. / 97 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَنَس، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لاَ يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ) . اختلف العلماء فى شراء الحاضر للبادى، فكرهته طائفة كما كرهت البيع له، واحتجوا بأن البيع فى اللغة يقع على الشراء، كما يقع الشراء على البيع؛ لقول الله: (وشروه بثمن بخس (يعنى باعوه، وهو من الأضداد، وروى ذلك عن أنس. وأجازت طائفة الشراء لهم، وقالوا: إن النهى إنما جاء فى البيع خاصة ولم يعدوا ظاهر اللفظ، روى ذلك عن الحسن البصرى. واختلف قول مالك فى ذلك، فمرة قال: لا يشترى له ولا يشير عليه، ومرة أجاز الشراء له. وبهذا قال الليث والشافعى. واحتج الشافعى لجواز الشراء له بقوله عليه السلام: (دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض) .
66 - بَاب النَّهْىِ عَنْ تَلَقِّى الرُّكْبَانِ، وَبَيْعَهُ مَرْدُودٌ لأَنَّ صَاحِبَهُ عَاصٍ آثِمٌ إِذَا كَانَ بِهِ عَالِمًا، وَهُوَ خِدَاعٌ فِى الْبَيْعِ وَالْخِدَاعُ لاَ يَجُوزُ
/ 98 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، نَهَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَنِ التَّلَقِّى، وَأَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ. وَقَالَ طَاوُس: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عن مَعْنَى قَوْلِهِ: (لاَ يَبِيعَنَّ حَاضِرٌ لِبَادٍ؟) فَقَالَ: لاَ يَكُنْ لَهُ سِمْسَارًا.(6/288)
/ 99 - وفيه: ابْن مسعود: نَهَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَنْ تَلَقِّى الْبُيُوعِ. / 100 - وفيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، قَالَ: (لاَ تَلَقَّوُا السِّلَعَ حَتَّى يُهْبَطَ بِهَا إِلَى السُّوقِ) . قال ابن المنذر: كره تلقى السلع للمشترى مالك والليث والأوزاعى والشافعى وأحمد وإسحاق، وأجاز ذلك أبو حنيفة. واختلفوا فى معنى التلقى: فذهب مالك إلى أنه لا يجوز تلقى السلع حتى تصل إلى السوق، ومن تلقاها فاشتراها منهم شركه فيها أهل السوق إن شاءوا، فكان واحدًا منهم. قال ابن القاسم: وإن لم يكن للسلعة سوق عرضت على الناس فى المصر فيشتركون فيها إن أحبوا، فإن أخذوها، وإلا ردوها عليها، ولم أردها على بائعها. وقال غير ابن القاسم: يفسخ البيع فى ذلك. وقال الشافعى: من تلقى فقد أساء، وصاحب السلعة بالخيار إذا قدم بها السوق فى إنفاذ البيع أو رده؛ لأنهم يتلقونهم فيخبرونهم بكساد السلع وكثرتها، وهم أهل غرة، وهذا مكر وخديعة. وحجته ما رواه أيوب، عن ابن سيرين، عن أبى هريرة: (أن النبى - عليه السلام - نهى عن تلقى الجلب، فإن تلقاه فاشتراه، فصاحبه بالخيار إذا أتى السوق) فذهب مالك أن نهيه عليه السلام عن التلقى إنما أريد به نفع أهل السوق، لا نفع رب السلعة، وعلى ذلك يدل مذهب الكوفيين والأوزاعى. وقال الأبهرى: معنى النهى عن التلقى لئلا يستبد الأغنياء وأصحاب الأموال بالشراء دون أهل الضعف؛ فيؤدى ذلك إلى الضرر بهم(6/289)
فى معايشهم، ولهذا المعنى قال مالك: إنه يشرك بينهم إذا تلقوا السلع ليشترك فيها من أرادها من أهل الضعف، ولا ينفرد بها الأغنياء. ومذهب الشافعى أنه إنما أريد بالنهى نفع رب السلعة لا نفع أهل السوق، وهذا أشبه بمعنى قوله عليه السلام: (فإن تلقاها فصاحبها بالخيار) فجعل النبى (صلى الله عليه وسلم) الخيار للبائع؛ لأنه المغرور، فثبت أن المراد بذلك نفع رب السلعة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا كان التلقى فى أرض لا يضر بأهلها فلا بأس به، وإن كان يضرهم فهو مكروه وعن الأوزاعى نحوه. واحتج الكوفيون بحديث ابن عمر قال: (كنا نتلقى الركبان فنشترى منهم الطعام، فنهانا النبى - عليه السلام - أن نبيعه حتى نبلغ به سوق الطعام) . وقال الطحاوى: فى هذا الحديث إباحة التلقى، وفى الأحاديث الأولى النهى عنه، فأولى بنا أن نجعل ذلك على غير التضاد، فيكون ما نهى عنه من التلقى لما فى ذلك من الضرر على غير المتلقين المقيمين فى السوق، وما أبيح من التلقى هو ما لا ضرر عليه فيه. قال المؤلف: وتأويل هذا الحديث يأتى ذكره فى باب منتهى التلقى بعد هذا. قال الطحاوى: والحجة فى إجازة الشراء مع التلقى المنهى عنه ما حدثنا على بن معبد، حدثنا عبد الله بن أبى بكر السهمى، حدثنا(6/290)
هشام، عن محمد، عن أبى هريرة، قال رسول الله: (لا تلقوا الجلب، فمن تلقاه فهو بالخيار إذا أتى السوق) . ففى هذا الحديث عن الرسول النهى عن تلقى الجلب، ثم جعل للبائع الخيار فى ذلك إذا دخل السوق، والخيار لا يكون إلا فى بيع صحيح؛ لأنه لو كان فاسدًا لأجبر بائعه ومشتريه على فسخه.
67 - بَاب مُنْتَهَى التَّلَقِّى
/ 101 - فيه: ابْن عُمَرَ، كُنَّا نَتَلَقَّى الرُّكْبَانَ فَنَشْتَرِى مِنْهُمُ الطَّعَامَ، فَنَهَانَا النَّبِىُّ، عليه السَّلام، أَنْ نَبِيعَهُ حَتَّى يُبْلَغَ بِهِ سُوقُ الطَّعَامِ. / 102 - قَالَ عُبَيْدِاللَّهِ، عَن نَافِعٌ، عَنْ ابْن عُمَرَ: كَانُوا يَبْتَاعُونَ الطَّعَامَ فِى أَعْلَى السُّوقِ، فَيَبِيعُونَهُ فِى مَكَانِهِ، فَنَهَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يَبِيعُوهُ فِى مَكَانِهِ حَتَّى يَنْقُلُوهُ. وَقَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: هَذَا فِى أَعْلَى السُّوقِ، يُبَيِّنُهُ حَدِيثُ عُبَيْدِاللَّهِ. قال المهلب: قول البخارى: هذا فى أعلى السوق. يعنى قول ابن عمر فى الحديث الأول: (كنا نتلقى الركبان فنشترى منهم) يريد أنهم كانوا يتلقونهم فى أعلى السوق، وذلك جائز، وبين ذلك عبد الله بن عمر بقوله: (كانوا يتبايعون الطعام فى أعلى السوق) . وأن ما كان خارجًا عن السوق فى الحاضرة أو قريبًا منها بحيث يجد من يسأله عن سعرها، أنه لا يجوز الشراء هنالك؛ لأنه داخل(6/291)
فى معنى التلقى، وأما الموضع البعيد الذى لا يقدر فيه على ذلك فيجوز فيه البيع، وليس بتلق. قال مالك: وأكره أن يشترى فى نواحى المصر حتى يهبط به السوق. قال ابن المنذر: وبلغنى هذا القول عن أحمد وإسحاق، أنهما نهيا عن التلقى خارج السوق، ورخصا فى ذلك فى أعلى السوق، واحتجا بحديث مالك عن نافع، عن ابن عمر: (أن النبى - عليه السلام - نهى عن تلقى السلع حتى يهبط بها الأسواق) . ومذاهب العلماء فى حد التلقى متقاربة، روى عن يحيى بن سعيد أنه قال فى مقدار الميل فى المدينة أو آخر منازلها: هو من تلقى البيوع المنهى عنه. وروى ابن القاسم، عن مالك أن الميل من المدينة تلقى. قيل له: فإن كان على ستة أميال؟ فقال: لا بأس بالشراء وليس بتلق. وروى أشهب عن مالك فى الصحافين الذين يخرجون إلى الأجنة فيشترون الفاكهة قال ذلك تلق وقال أشهب: لا بأس بالشراء وليس ذلك؛ لأنهم يشترون فى مواضعه من غير جالب. وقال ابن حبيب: لا يجوز للرجل فى الحضر أن يشترى ما مر به من السلع وإن كان على بابه إذا كان لها مواقف فى السوق تباع فيها، وهو متلق إن فعل ذلك، وما لم يكن لها موقف وإنما يطاف بها فأدخلت أزقة الحاضرة، فلا بأس أن يشترى وإن لم تبلغ السوق. وقال الليث: من كان على بابه أو فى طريقه، فمرت به سلعة فاشتراها، فلا بأس بذلك، والمتلقى عنده الخارج القاصد إليه(6/292)
قال ابن حبيب: ومن كان موضعه فى غير الحاضرة قريبًا منها أو بعيدًا فلا بأس أن يشترى ما مر به للأكل خاصة لا للبيع، رواه أشهب عن مالك.
68 - بَاب إِذَا شرط فِى الْبَيْعِ شُرُوطًا لاَ تَحِلُّ
/ 103 - فيه: حديث بَرِيرَةُ، وقول النَّبِىّ، عليه السَّلام: (مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِى كِتَابِ اللَّهِ، مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِى كِتَابِ اللَّهِ، فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ، وَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ) . أجمع العلماء على أنه من اشترط فى البيع شروطًا لا تحل أنه لا يجوز شىء منها؛ لقوله عليه السلام: (من اشترط شرطًا ليس فى كتاب الله فهو باطل) . واختلفوا فى غيرها من الشروط فى البيع على مذاهب مختلفة، فذهبت طائفة إلى أن البيع جائز والشرط باطل على نص حديث بريرة وهو قول ابن أبى ليلى والحسن البصرى والشعبى والنخعى والحكم، وبه قال أبو ثور، قالوا: ودل هذا الحديث أن الشروط كلها فى البيوع تبطل وتثبت البيوع. وذهبت طائفة إلى أن البيع جائز والشرط جائز، واحتجوا بحديث جابر: (أن النبى اشترى منه جملا وشرط ركوبه إلى المدينة) ، روى ذلك عن ابن شبرمة وبعض التابعين.(6/293)
وذهبت طائفة إلى أن البيع باطل والشرط باطل، واحتجوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده: (أن النبى - عليه السلام - نهى عن بيع وشرط) ، وهو قول الكوفيين والشافعى، فحملوا هذه الأحاديث التى نزعوا بها على العموم، ولكل واحد منها موضع لا يتعداه، ولها عند مالك أحكام مختلفة، وقد يجوز عنده البيع والشرط فى مواضع فأما إجازته للبيع والشرط، فمثل أن يشرط المشترى على البائع شيئًا مما فى ملك البائع مما لم يدخل فى صفقة البيع، وذلك أن يشترى منه زرعًا ويشترط على البائع حصاده، أو يشترى منه دارًا ويشترط البائع سكناها مدة يسيرة، أو يشترط ركوب الدابة يومًا أو يومين، وقد روى عنه أنه لا بأس أن يشترط سكنى الدار الأشهر والسنة. ووجه إجازته لذلك أن البيع وقع على الشيئين معًا: على الزرع، وعلى الحصاد، والحصاد إجارة، والإجارة بيع، منفعة، وكذلك وقع البيع على الدار غير سكنى المدة، وعلى الدابة غير الركوب، وأبو حنيفة والشافعى لا يجيزان هذا البيع كله؛ لأنه عندهم بيع وإجارة، ولا يجوز؛ لأن الإجارة عندهم بيع منافع طارئة فى ملك البائع لم تخلق بعد، وهو من باب بيعتين فى بيعة، ومما أجاز فيه مالك البيع والشرط شراء العبد على أن يعتق؛ اتباعًا للسنة فى بريرة، وهو قول الليث، وبه قال الشافعى فى رواية الربيع، ولم يقس عليه غيره من أجل نهيه عليه السلام عن بيع والشرط، وأجاز ابن أبى ليلى هذا البيع وأبطل الشرط، وبه قال أبو ثور.(6/294)
وأبطل أبو حنيفة البيع والشرط، وأخذ بعموم نهيه عليه السلام عن بيع وشرط، إلا أن أبا حنيفة يقول: إن المبتاع إذا أعتقه كان مضمونًا عليه بالثمن، وهذا خلاف أصوله؛ لأنه كان ينبغى أن يكون مضمونًا عليه بالقيمة، كما قال وقلنا فى البيع الفاسد، ومضى أبو يوسف ومحمد على القياس فقالا: يكون مضمونًا عليه بالقيمة. قال ابن المنذر: وما قالوه خطأ؛ لأن البيع إن كان غير جائز والعبد فى ملك البائع لم يزل ملكه عنه، وعتق المشترى له باطل؛ لأنه أعتق ما لا يملك. ومما أجاز فيه مالك البيع وأبطل الشرط، وذلك شراء العبد على أن يكون الولاء للبائع، وهذا البيع أجمعت الأمة على جوازه، وإبطال الشرط فيه لمخالفته السنة فى أن الولاء لمن أعتق، وأن النبى - عليه السلام - أجاز هذا البيع وأبطل الشرط، وكذلك من باع سلعة وشرط أنه إن لم ينفذه المشترى إلى ثلاثة أيام أو نحوها مما يرى، أنه لا يريد تحويل الأسواق والمخاطرة، فالبيع جائز والشرط باطل عند مالك. وأجاز ابن الماجشون البيع والشرط وحمله محمل بيع الخيار إلى وقت مسمى، فإذا جاز الوقت فلا خيار له، وممن أجاز هذا البيع والشرط الثورى ومحمد بن الحسن وأحمد وإسحاق، ولم يفرقوا بين ثلاثة أيام أو أكثر منها، وأجاز أبو حنيفة البيع والشرط إلى ثلاثة أيام، فإن قال: إلى أربعة أيام بطل البيع عنده لأن الخيار لا يجوز عنده اشتراطه أكثر من ثلاثة أيام، وبه قال أبو ثور. ومما يبطل فيه عند مالك البيع والشرط، وذلك مثل أن يبيعه جارية على ألا يبيعها ولا يهبها أو على أن يتخذها أم ولد، فالبيع(6/295)
عنده فاسد، وهو قول أبى حنيفة والشافعى، واعتلوا فى فساد البيع بفساد الشرط فيه، وذلك عدم تصرف المشترى فى المبيع، وكما لا يجوز عند الجميع أن يشترط المبتاع على البائع عدم التصرف فى الثمن، فكذلك لا يجوز أن يشترط البائع على المبتاع عدم التصرف فيما اشتراه، وهذا عندهم معنى نهيه عليه السلام عن بيع وشرط. وأجازت طائفة هذا البيع وأبطلت الشرط، هذا قول النخعى والشعبى والحسن وابن أبى ليلى وبه قال أبو ثور، وقال حماد والكوفيون البيع جائز والشرط لازم. قال ابن المنذر: وقد أبطل النبى - عليه السلام - ما اشترطه أهل بريرة من الولاء وأثبت البيع، ومثال هذا أن كل من اشترط فى المبيع شرطًا خلاف كتاب الله وسنة رسول الله أن الشرط باطل والبيع ثابت استدلالا بحديث بريرة، واشتراطُ البائع على المشترى ألا يبيع ولا يهب ولا يطأ شروط ينبغى إبطالها وإثبات البيع؛ لأن الله - تعالى - أحل وطء ما ملكت اليمين، وأحل للناس أن يبيعوا أملاكهم ويهبوها، فإذا اشترط البائع شيئًا من هذه فقد اشترط خلاف كتاب الله، فهو مثل اشتراط موالى بريرة ولاءها لهم، فأجاز عليه السلام ذلك البيع وأبطل الشرط، فكذلك ما كان مثله. ومما يبطل فيه عند مالك والكوفيين والشافعى البيع والشرط: بيع الأمة والناقة واستثناء ما فى بطنها، وهو عندهم من بيوع الغرر؛ لأنه لا يعلم مقدار ما يصلح أن يحط من ثمنها قيمة الجنين، وقد أجاز هذا(6/296)
البيع والشرط النخعى والحسن، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور، واحتجوا بأن ابن عمر أعتق جارية واستثنى ما فى بطنها. قال ابن المنذر: وهذا البيع معلوم، ولا يضرهما أن يجهلا ما لم يدخل فى البيع، ولا أعلمهم يختلفون أنه يجوز بيع جارية وقد أعتق ما فى بطنها ولا فرق بين ذلك؛ لأن المبيع فى المسألتين جميعًا الجارية دون الولد. قال المهلب: وحديث بريرة أصل فى العقوبة فى الأموال؛ لأن مواليها أبوا الوقوف عند حكم الله وحكم السنة، فلما عرفت عائشة النبى - عليه السلام - بإبائهم واستمرارهم على خلاف الحق باشتراطهم ما لا يجوز قال لها: (اشترطى لهم ذلك) فإن ذلك غير نافعهم، ولا ناقض لبيعهم فعاقبهم فى المال بتخسيرهم ما وضعوا من الثمن من أجل اشتراط الولاء واستبقائه لهم، ولم يعطهم قيمته عقوبة لهم. قال أبو عبد الله: فلو وقع اليوم مثل هذا وباع رجل جارية على أن يتخذها المشترى أم ولد أو على ألا يبيعها ولا يهبها ثبت البيع ورجع البائع بقيمة ما وضع.(6/297)
69 - بَاب بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ
/ 104 - فيه: عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (الْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إِلاَ هَاءَ وَهَاءَ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا إِلاَ هَاءَ وَهَاءَ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا إِلاَ هَاءَ وَهَاءَ) . وترجم له (باب بيع الشعير بالشعير) . معنى هاء وهاء فى كلام العرب: خذ وأعط، يعنى: لا يجوز بيع شىء من البر والشعير والتمر بجنسه إلا يدًا بيد، قال ثابت: فإعرابه هاء وهاء، وقال صاحب العين هى كلمة تستعمل عند المناولة وهى ممدودة: وقال ابن السكيت: يقال: هاء يا رجل، وهاؤما يا رجلان، وهاؤهم يا رجال. قال الله - تعالى -: (هاؤم اقرءوا كتابيه (وهاء يا امرأة. مكسورة الهمزة بلا ياء، وهاؤما يا امرأتان، وهاؤن يا نسوة. وقال مالك: الأمر المجتمع عليه عندنا أنه لا تباع الحنطة بالحنطة، ولا الشعير بالشعير، ولا التمر بالتمر، ولا الحنطة بالتمر، ولا شىء من الطعام كله بعض بعضه إلا يدًا بيد، فإن دخل شيئًا من ذلك الأجلُ فلا يصلح وكان حرامًا، قال: وكذلك حكم الإدام كله وعلى هذا عامة علماء الأمة بالحجاز والعراق، أن الطعام بالطعام من صنف واحد كان أو من صنفين، فإنه لا يجوز فيه(6/298)
النسيئة؛ فإنه بمنزلة الذهب والورق، وذلك حكم كل ما يكال أو يوزن مما يؤكل أو يشرب حكم ما ذكره النبى - عليه السلام - من البر والشعير والتمر فى ذلك، قال مالك: وإذا اختلف ما يكال أو يوزن مما يؤكل أو يشرب، فلا بأس باثنين منه بواحد يدا بيد، لا بأس أن يؤخذ صاع من تمر بصاعين من حنطة، وصاع من تمر بصاعين من زبيب، وصاع من حنطة بصاعين من تمر فإن دخل ذلك الأجل فلا يحل. قال: ولا تباع صبرة الحنطة بصبرة الحنطة، ولا بأس بصبرة الحنطة بصبرة التمر يدًا بيد. قال مالك: وكل ما اختلف من الطعام أو الإدام فبان اختلافه فلا بأس أن يشترى بعضه ببعضه جزافًا يدًا بيد، وشراء بعض ذلك ببعض جزافًا كشراء بعض ذلك بالذهب والورق جزفًا. واتفق أهل الحجاز والعراق على أن التفاضل جائز فى كل ما اختلف أجناسه من الطعام؛ لأنه إذا اختلتف أجناسه اختلفت أغراض الناس فيه؛ لاختلاف منافعه، فلذلك جاز بيعه متفاضلا، وكل ما جاز فيه التفاضل جاز بيع بعضه ببعض جزافًا معلومًا بمجهول، ومجهولا بمجهول، ما لا يجوز فيه التفاضل فلا يجوز بيعه جزافًا، ولا يباع معلوم بمجهول، إلا أن مالكًا يجعل البر والشعير والسلت صنفًا واحدًا لا يجوز فيه التفاضل أحدهما لصاحبه، وهو قول الليث والأوزاعى. وعند الكوفيين والثورى والشافعى يجوز بيع البر بالشعير متفاضلا، وهما جنسان عندهم، وهو قول أحمد وإسحاق وأبى ثور.(6/299)
70 - بَاب بَيْعِ الزَّبِيبِ بِالزَّبِيبِ وَالطَّعَامِ بِالطَّعَامِ
/ 105 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، نَهَى عَنِ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُزَابَنَةُ بَيْعُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ كَيْلاً، وَبَيْعُ الزَّبِيبِ بِالْكَرْمِ كَيْلاً. / 106 - وَقَالَ مرة: الْمُزَابَنَةُ أَنْ يَبِيعَ الثَّمَرَ بِكَيْلٍ إِنْ زَادَ فَلِى، وَإِنْ نَقَصَ فَعَلَىَّ. سندخل الكلام فى هذا الباب فى معنى المزابنة فلا معنى لتكريره.
71 - بَاب بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ
/ 107 - فيه: أَبُو بَكْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلاَ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَالْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ إِلاَ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ، وَالْفِضَّةَ بِالذَّهَبِ كَيْفَ شِئْتُمْ) . وترجم له باب بيع الذهب بالورق يدًا بيد. أجمع أئمة الأمصار أنه لا يجوز بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة تبرهما وعينهما ومصنوعهما إلا مثلا بمثل يدًا بيد، ولا يحل التفاضل فى شىء منهما، وعلى هذا مضى السلف والخلف، وبذلك كتب أبو بكر الصديق إلى عماله، وروى مثله عن على بن أبى طالب وروى مجاهد عن ثلاثة عشر من أصحاب النبى - عليه السلام - مثله، وإنما حرم الله الربا حراسة للأموال وحفظًا لها، فلا يجوز واحد باثنين من جنس واحد؛ لاتفاق أغراض الناس فيه، ويجوز(6/300)
واحد باثنين إذا اختلف الصنفان؛ لاختلاف الأغراض والمنافع، ولذلك قال عليه السلام: (وبيعوا الذهب بالفضة، والفضة بالذهب كيف شئتم) .
72 - بَاب بَيْعِ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ
/ 108 - فيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَالْوَرِقُ بِالْوَرِقِ مِثْلاً بِمِثْلٍ) . / 109 - وَقَالَ مرة عَن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلاَ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلاَ تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلاَ تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إِلاَ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلاَ تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلاَ تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ) . قوله: (لا تشفوا بعضها على بعض) يرد ما رواه أهل مكة عن ابن عباس أنه كان يجيز الدرهم بالدرهمين يدًا بيد، ويقول: إنما الربا فى النسيئة. وستأتى مذاهب العلماء فى هذا الباب بعد هذا - إن شاء الله. وقوله: (ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز) فالناجز: الحاضر، يقال: نجز المال: إذا حضر، ومنه قوله أنجز فلان ما وعد: إذا وفى له به وأحضره. وقوله: (ولا تشفوا بعضها على بعض) يقتضى تحريم قليل الزيادة وكثيرها، يقول: لا تبيعوا إحداهما زائدًا على الأخرى. تقول العرب: قد أشف فلان بعض بنيه على بعض: إذا فضل(6/301)
بعضهم على بعض، ويقال ما أقرب شف ما بنيهما، أى: فضل ما بينهما، وفلان حريص على الشف، يعنى: الربح عن الطبرى.
73 - بَاب بَيْعِ الدِّينَارِ بِالدِّينَارِ نَسَاءً
/ 110 - فيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ: الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ، قَالَ أَبُو صالح: قُلْتُ لَهُ: فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لاَ يَقُولُهُ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: سَأَلْتُهُ، فَقُلْتُ: سَمِعْتَهُ مِنَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، أَوْ وَجَدْتَهُ فِى كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: كُلَّ ذَلِكَ لاَ أَقُولُ، وَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنِّى، وَلَكِنْ أَخْبَرَنِى أُسَامَةُ أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، قَالَ: (لاَ رِبًا إِلاَ فِى النَّسِيئَةِ) . اختلف العلماء فى تأويل قوله عليه السلام فى حديث أسامة: (لا ربا إلا فى النسيئة) فروى عن قوم السلف أنهم أجازوا بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة يدًا بيد متفاضلة، رواه سعيد بين جبير عن ابن عباس، قال: (ما كان ربًا قط فى هاء وهاء. ورواية عن ابن عمر وهو قول عكرمة وشريح. واحتجوا بظاهر حديث أسامة بن زيد: (لا ربا إلا فى النسيئة) فدل أن ما كان نقدًا فلا بأس بالتفاضل فيه وخالف جماعة العلماء بعدهم هذا التأويل، وقالوا: قد عارض ذلك حديث أبى سعيد الخدرى وحديث أبى بكرة عن النبى - عليه السلام - أنه حرم التفاضل(6/302)
فى الذهب بالذهب، والفضة بالفضة يدًا بيد، وروى الطبرى من حديث عبد الله بن موسى قال: حدثنا حيان بن عبد الله العدوى قال: سئل أبو مجلز عن الصرف فقال: (كان ابن عباس لا يرى به بأسًا زمانًا من عمره إذا كان يدًا بيد، ويقول: إنما الربا فى النسيئة، فلقيه أبو سعيد فقال: يا ابن عباس، ألا تتق الله حتى متى تؤكل الناس الربا؟ إنى سمعت النبى - عليه السلام - يقول: الذهب بالذهب، والورق بالورق، والتمر بالتمر، والحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير يدًا بيد مثلا بمثل، فما زاد فهو ربا) . فهذه السنن الثابتة لا تأويل لأحد معها، فلا معنى لما خالفها، وقد تأول بعض العلماء أن قوله عليه السلام: (لا ربا إلا فى النسيئة) خرج على جواب سائل سأل عن الربا فى الذهب بالورق أو البر بالتمر، ونحو ذلك مما هو جنسان، فقال عليه السلام: (لا ربا إلا فى النسيئة) فسمع أسامة كلامه، ولم يسمع السؤال، فنقل ما سمع. وقال الطبرى فى حديث أسامة: المراد به الخصوص، ومعناه: لا ربا إلا فى النسيئة إذا اختلفت أجناس المبيع فإذا اتفقت فلا يصلح بيع شىء منه من نوعه إلا مثلا بمثل، والفضل فيه يدًا بيد ربا، وقد قامت الحجة ببيان الرسول فى الذهب الفضة، والفضة بالذهب، والحنطة بالتمر نساء، أنه لا يجوز متفاضلا، ولا مثل بمثل، فعلمنا أن قوله: (لا ربا إلا فى النسيئة) . فيما اختلفت أنواعه دون ما اتفقت.(6/303)
قال المهلب: وفى حديث أبى سعيد وابن عباس من الفقه أن العالم يناظر العالم، ويوقفه على معنى قوله، ويرده من الاختلاف إلى الإجماع. وفيه: إقرار الصغير للكبير بفضل التقدم؛ لقول ابن عباس لأبى سعيد: أنتم أعلم برسول الله منى. والنساء: التأخير، يقال: باع منه نسيئة ونظرة وأخرة ودينًا، كل ذلك بمعنى واحد، ومنه قوله تعالى: (إنما النسىء زيادة فى الكفر (يعنى تأخير الأشهر الحرم التى كانت العرب فى الجاهلية تفعلها من تأخير المحرم إلى صفر، ومنه انتساء فلان عن فلان، أى: تباعده منه، عن الطبرى.
74 - بَاب بَيْعِ الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ نَسِيئَةً
/ 111 - فيه: الْبَرَاء، وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، أنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، نَهَى عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ دَيْنًا. الأمة مجمعة على أنه لا تجوز النسيئة ولا التأخير فى بيع الذهب بالورق، كما لا يجوز فى بيع الذهب بالذهب، والورق بالورق، وهو الربا المحرم فى القرآن، وفى هذا الحديث حجة للشافعى فى قوله إن من كان له على رجل دراهم، ولذلك الرجل عليه دنانير فلا يجوز أن يقاص أحدهما ماله بما له عليه، وإن كان قد حل أجلهما جميعًا لأنه يدخل فى معنى نهيه عليه السلام عن بيع الذهب بالورق دينًا؛ لأنه غائب بغائب، وإذا لم(6/304)
يجز غائب بناجز، فأحرى أن لا يجوز غائب بغائب، وأجاز ذلك مالك إذا كان قد حلا جميعًا، فإن كانا إلى أجل لم يجز؛ لأنه يكون ذهب بفضة متأخرًا. وقال أبو حنيفة: يجوز فى الحال وغير الحال. والحجة لمالك فى إجازته ذلك فى الحال دون الأجل أنه إذا حل أجل الدين، واجتمع المتصارفان فإن الذمم تبرأ كالعين إذا لم يفترقا إلا وقد تفاضلا فى صرفهما، والغائب لا يحل بيعه بناجز، ولا بغائب مثله، ومن حجته حديث ابن عمر أنه قال: (كنت أبيع الإبل بالبقيع أبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ بالدنانير، فسألت رسول الله عن ذلك فقال: لا بأس به إذا كان بسعر يومكما، ولم تفترقا وبينكما شىء) رواه سماك بن حرب عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر. وحجة من أجاز ذلك فى الحال وغير الحال أن النبى - عليه السلام - لما لم يسأله عن الدين أحالا هو أم مؤجل، دل ذلك على استواء الحكم فيهما ولو كان بينهما فرق فى الشريعة لوقفه عليه. وأما تقاضى الدنانير من الدراهم، والدراهم من الدنانير من غير دين يكون على الآخر، فأجازه عمر بن الخطاب وابن عمر، وروى عن عطاء وطاوس والحسن والقاسم، وبه قال مالك والثورى والأوزاعى والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وقال كثير منهم: إذا كان بسعر يومه. ورخص فيه أبو حنيفة بسعر ذلك اليوم وبأغلى وأرخص، وكره ذلك ابن عباس وأبو سلمة وابن شبرمة، وهو قول(6/305)
الليث، وروى عن طاوس قول ثالث: أنه كره فى البيع، وأجازه فى القرض. وقال ابن المنذر: والقول الأول أولى لحديث ابن عمر. قال المؤلف: ولا يدخل هذا فى نهيه عليه السلام عن بيع الذهب بالورق دينًا؛ لأن الذى يقتضى الدنانير من الدراهم لم يقصد إلى تأخير فى الصرف، ولا نواه، ولا عمل عليه فهذا الفرق بينهما.
75 - بَاب بَيْعِ الْمُزَابَنَةِ
وَهو بَيْعُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ وَبَيْعُ الزَّبِيبِ بِالْكَرْمِ وَبَيْعُ الْعَرَايَا قَالَ أَنَس: نَهَى النَّبىِّ - عَلَيْهِ السَّلاَم - عَنْ الْمُزَابَنَةِ وَالَمُحَاقَلَةِ. / 112 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (لاَ تَبِيعُوا الثَّمَرَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهُ، وَلاَ تَبِيعُوا الثَّمَرَ بِالتَّمْرِ) . قَالَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: وَرَخَّصَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، بَعْدَ ذَلِكَ فِى بَيْعِ الْعَرِيَّةِ بِالرُّطَبِ أَوْ بِالتَّمْرِ، وَلَمْ يُرَخِّصْ فِى غَيْرِهِ. / 113 - وفيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، نَهَى عَنِ الْمُزَابَنَةِ، وَهِىَ اشْتِرَاءُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ كَيْلاً، وَبَيْعُ الْكَرْمِ بِالزَّبِيبِ كَيْلاً. / 114 - وَقَالَ أَبُو سَعِيد: نَهَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، عَنِ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ، وَالْمُزَابَنَةُ اشْتِرَاءُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ فِى رُءُوسِ النَّخْلِ. المزابنة عند العرب: المدافعة، وذلك أن المتبايعين إذا وقفا فيه على الغبن أراد المغبون أن يفسخ البيع، وأراد الغابن أن يمضيه تزابنا أى: تدافعا واختصما، وسيأتى تفسير المحاقلة بعد هذا فى موضعه - إن شاء الله - ومعنى النهى عن المزابنة خوف وقوع التفاضل(6/306)
فى ذلك، والتفاضل حرام فى كل ما كان فى معنى الرطب بالتمر، ومعنى الزبيب بالعنب من سائر المأكولات والمشروبات إذا كان أحدهما مجهولا، وهذا إجماع. قال مالك: وتفسير المزابنة أن كل شىء من الجزاف لا يعلم كيله ولا عدده ولا وزنه أبيع بشىء مسمى من الكيل أو العدد أو الوزن، وما عدا المأكول والمشروب فإنه تدخله المزابنة من جهة القمار والغرر، فيدخل معنى المزابنة عند مالك فيما يجوز فيه التفاضل، وما لا يجوز إذا قصد فيه إلى الغرر والقمار. قال فى الموطأ: وذلك أن يقول الرجل للرجل له الطعام المصبر الذى لا يعلم كيله من سائر الأطعمة، أو تكون السلعة من الحنطة أو النوى أو الكرسف أو الكتان، وما أشبه ذلك من السلع: لا أعلم كيله ولا عدده ولا وزنه، فيقول الرجل لرب تلك السلعة: كل سلعتك هذه، أو زن ما يوزن، أو اعدد ما يعد منها، فما نقص من كذا وكذا صاعًا لتسمية يسميها فعلى غرمها حتى أوفيك تلك التسمية، وما زاد على ذلك فهو لى ضمن ما نقص على أن يكون له ما زاد، فليس ذلك بيعًا ولكنه مخاطرة وقمار وغرر؛ لأنه لم يشتر منه شيئًا بشىء أخرجه، ولكنه ضمن له ما سمى من ذلك الكيل، فإن نقصت تلك السلعة من تلك التسمية أخذ من مال صاحبه ما نقص من غير ثمن ولا هبة طيبة بها نفسه، فهذا شبه القمار، وذكر مالك مسألة الثوب يضمن لصاحبه منه قلانس(6/307)
أو قمصًا والجلود يضمن له منها نعالا وحب البان يعصره على أنه له ما زاد على ما ضمن من ذلك، وعليه ما نقص، وإنما ذكر مالك هذه المسائل فى باب المزابنة؛ لأن فيها شراء مجهول بمعلوم؛ لأنه ألزم نفسه كيلا أو وزنًا أو عددًا معلومًا يضمنه عن كيل أو وزن أو عدد مجهول يرجو أن يبقى له بعد ضمانه، ويشهد لقول مالك ما تعرفه العرب، أن المزابنة مأخوذ لفظها من الزبن، وهو الدفع والمغالبة، وذلك خطر وقمار.
76 - بَاب بَيْعِ التَّمَرِ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ بِالذَّهَبِ والْفِضَّةِ
/ 115 - فيه: جَابِر، نَهَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَطِيبَ، وَلاَ يُبَاعُ شَىْءٌ مِنْهُ إِلاَ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ إِلاَ الْعَرَايَا. / 116 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، رَخَّصَ فِى بَيْعِ الْعَرَايَا فِى خَمْسَةِ أَوْسُقٍ. / 117 - وفيه: سَهْل بْنَ أَبِى حَثْمَةَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ، وَرَخَّصَ فِى الْعَرِيَّةِ أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا يَأْكُلُهَا أَهْلُهَا رُطَبًا. بيع التمر على رءوس النخل إذا بدا صلاحه بالذهب والفضة لا خلاف بين الأمة فى جوازه، وكذلك يجوز بيعها بالعروض قياسًا على الدنانير والدراهم وإنما خص عليه السلام الدنانير والدراهم(6/308)
فى هذا الحديث؛ لأنهما جل ما يتعامل الناس به. قال ابن المنذر: وادعى الكوفيون أن بيع العرايا منسوخ بنهيه عليه السلام عن بيع التمر بالثمر، وهذا نفس المحال؛ لأن الذى روى عن النبى - عليه السلام - النهى عن المزابنة هو الذى روى الرخصة فى العرايا، فأثبت الرخصة والنهى معًا على ما ثبت فى حديث سهل بن أبى حثمة وفى حديث جابر من رواية سفيان عن ابن جريج عن عطاء، عن جابر: (أن النبى - عليه السلام - نهى عن المزابنة) . والمزابنة: بيع التمر بالثمر إلا أنه رخص فى العرايا، وكان مالك يقول: العرايا تكون فى الشجر كله من النخل والعنب والتين والرمان والزيتون والثمار كلها. وبه قال الأوزاعى، إلا أن مالكًا قال: إذا أعاره الفاكهة مثل الرمان والتفاح وشبهه لم يجز أن يشتريها بخرصها؛ لأنه يقطع أخضر ويشتريها بعدما طابت بما يجوز به شراء الثمرة بالعين والعرض نقدًا أو إلى أجل، وبالطعام نقدًا من غير صنفها إذا جدها مكانه قبل أن يفترقا وكان الليث يقول: لا تكون العرايا إلا فى النخل خاصة. وقال الشافعى: فى النخل والعنب.
77 - بَاب تَفْسِيرِ الْعَرَايَا
وَقَالَ مَالِكٌ: الْعَرِيَّةُ أَنْ يُعْرِىَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ النَّخْلَةَ، ثُمَّ يَتَأَذَّى بِدُخُولِهِ عَلَيْهِ، فَرُخِّصَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ بِتَمْرٍ.(6/309)
وَقَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ: الْعَرِيَّةُ لاَ تَكُونُ إِلاَ بِالْكَيْلِ مِنَ التَّمْرِ يَدًا بِيَدٍ لاَ تَكُونُ بِالْجِزَافِ، وَمِمَّا يُقَوِّيهِ قَوْلُ سَهْلِ بْنِ أَبِى حَثْمَةَ: بِالأَوْسُقِ الْمُوَسَّقَةِ، وَقَالَ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْن: الْعَرَايَا نَخْلٌ كَانَتْ تُوهَبُ لِلْمَسَاكِينِ، فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَنْتَظِرُونهَا رُخِّصَ لَهُمْ أَنْ يَبِيعُوهَا بِمَا شَاءُوا مِنَ التَّمْرِ. وفى صحيح مسلم أنه عليه السلام أرخص فى العرية يأخذها أهل البيت تمرًا يأكلونها رطبًا، وفى كتاب النسائى أن رسول الله رخص فى بيع العرايا بالرطب وبالتمر، ولم يرخص فى غير ذلك. / 118 - وفيه: زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) رَخَّصَ فِى الْعَرَايَا أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا كَيْلاً. قال أبو عبيد: وفى العرايا تفسير آخر غير ما فسره مالك، وهو أن العرايا هى النخلات يستثنيها الرجل من حائطه إذا باع ثمرته لا يدخلها فى البيع فيبقيها لنفسه وعياله، فتلك الثنايا لا تخرص عليهم لأنه قد عفى لهم عما يأكلون سميت عرايا؛ لأنها أعريت من أن تباع أو تخرص فى الصدقة فأرخص النبى - عليه السلام - لأهل الحاجة المسكنة الذين لا ورق لهم ولا ذهب، وهم يقدرون على التمر أن يبتاعوا بتمرهم من تمر هذا العرايا بخرصها رفقًا بأهل الفاقة الذين لا يقدرون على الرطب،(6/310)
ولم يرخص لهم أن يبتاعوا منه ما يكون لتجارة ولا ادخار. قال أبو عبيد: وهذا أصح فى المعنى من الأول، فالعرايا مستثناة من جملة نهى النبى عن بيع التمر بالثمر، وعن المزابنة. هذا قول عامة أهل العلم، ويجوز عند مالك أن يعرى من حائطه ما شاء غير أن البيع لا يكون إلا فى خمسة أوسق فما دون فى حق كل واحد ممن أعرى وإنما تباع العرايا بخرصها من التمر فى رءوس النخل إلى جذاذها ولا يجوز أن يبتاعها. بخرصها نقدًا، وليست له مكيلة؛ لأنه أنزل بمنزلة التولية والإقالة والشركة ولو كان بمنزلة البيوع ما أشرك أحد أحدًا فى طعام حتى يستوفيه، ولا أقاله منه ولا ولاه حتى يقبضه المبتاع. قال: ولا يبيعها إلا من المعرى خاصة، ولا يجوز من غيره إلا على سنة بيع الثمار فى غير العرايا، ولا يشتريها بطعام إلى أجل ولا بتمر نقدًا وإن وجدها فى الوقت. وقال الشافعى: العرية بيع ما دون خمسة أوسق من التمر، وجعل هذا المقدار مخصوصًا من المزابنة، وذكر ابن القصار عن مالك مثله، قال الشافعى: ويجوز بيعها من المعرى وغيره يدًا بيد، ومتى افترقا ولم ينقده بطل العقد وبه قال أحمد. قال المزنى: ويفسخ البيع فى خمسة أوسق لا شك؛ لأن أصل بيع الثمر بالثمر فى رءوس النخل حرام، ولا يجوز فيه إلا ما استوفيت الرخصة فيه، وذلك ما دون خمسة أوسق. قال ابن القصار: ومن حجة هذه المقالة أيضًا ما رواه أبو سعيد الخدرى - أن النبى - عليه السلام - قال: (لا صدقة فى العرية) . فلو(6/311)
كانت العرية فى خمسة أوسق جائزة لوجبت فيها الصدقة، فعلم بسقوط الصدقة عنها أنها دون خمسة أوسق. واحتج الشافعى بما رواه محمد بن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان، عن جابر بن عبد الله: (أن النبى - عليه السلام - رخص فى العرايا فى الوسق والوسقين والثلاثة والأربعة) قال: فجاءت رواية جابر بغير شك، وثبتت رواية مالك عن داود التى جاءت بالشك فى خمسة أوسق أو دون خمسة. وقول البخارى: ومما يقويه قول سهل بن أبى حثمة بالأوسق الموسقة، فإنما أردفه على قوله: لا تكون العرية بالجزاف، وهذا إجماع، وهو مستغن عن تقوية، ولم يأت ذكر الأوسق الموسقة إلا فى حديث مالك عن داود بن الحصين، وفى حديث جابر من رواية ابن إسحاق، لا فى رواية سهل ابن أبى حثمة، وإنما يروى عن سهل من قوله من رواية الليث، عن جعفر بن أبى ربيعة، عن الأعرج قال: سمعت سهل بن أبى حثمة قال: لا يباع التمر فى رءوس النخل بالأوساق الموسقة إلا أوسق ثلاثة أو أربعة أو خمسة يأكلهن الناس، وهى المزابنة، ففى قول سهل حجة لمالك فى مشهور قوله أنه يجوز العرايا فى خمسة أوسق، وقد يجوز أن يكون الشك فى دون خمسة أوسق، واليقين فى خمسة أوسق، إذا الواو لا تعطى رتبة، فلذلك ترجح قول مالك فى ذلك - والله أعلم -(6/312)
ووجه قول مالك أنه لا يجوز بيعها إلا من المعرى خاصة قوله عليه السلام فى حديث سهل: (يأكلها أهلها رطبًا) ولا أهل لها إلا الذى أعراها، فجاز أن يبيعها من المعرى خاصة لما يقطع من تطرق المعرى على المعرى لأنهم كانوا يسكنون بعيالهم فى حوائطهم ويستضرون بدخول المعرى، ولم يكن قصدهم المعروف، فرخص لهم فى ذلك ولذلك قال مالك: لا يجوز بيعها يدًا بيد؛ لأن المشترى لم يقصد بشرائها الفضل والمتجر، وأما الكوفيون فإنهم أبطلوا سنة العرية وقالوا: هى بيع الثمر بالثمر، وقد نهى رسول الله عن ذلك. قال ابن المنذر: فبيع العرايا جائز على ما ثبتت به الأخبار عنه عليه السلام، والذى رخص فى بيع العرايا هو الذى نهى عن بيع التمر بالثمر فى لفظ واحد ووقت واحد، من رواية جابر وسهل بن أبى حثمة على ما تقدم فى الباب قبل هذا، وليس قبول إحدى السنتين أول من الأخرى، ولا فرق بين نهيه عليه السلام عن بيع ما ليس عندك وبين إذنه فى السلم، وهو بيع بما ليس عندك، وبين نهيه عن بيع التمر بالثمر وإذنه فى العرايا ومن قبل إحدى السنتين وترك الأخرى فقد تناقض.(6/313)
78 - بَاب بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلاَحُهَا
وَقَالَ اللَّيْثُ عَنْ أَبِى الزِّنَادِ: كَانَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ يُحَدِّثُ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِى حَثْمَةَ الأَنْصَارِىِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: كَانَ النَّاسُ فِى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَتَبَايَعُونَ الثِّمَارَ، فَإِذَا جَدَّ النَّاسُ وَحَضَرَ تَقَاضِيهِمْ، قَالَ الْمُبْتَاعُ: أَصَابَ الثَّمَرَ الدُّمَانُ، أَصَابَهُ مُرَاضٌ - أَصَابَهُ قُشَامٌ - عَاهَاتٌ يَحْتَجُّونَ بِهَا - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَمَّا كَثُرَتْ الْخُصُومَةُ فِى ذَلِكَ: (فَإِمَّا لاَ، فَلاَ تَتَبَايَعُوا حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُ الثَّمَرِ) ، كَالْمَشُورَةِ يُشِيرُ بِهَا لِكَثْرَةِ خُصُومَتِهِمْ. وَكَانَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ لاَ يَبِيعُ ثِمَارَ أَرْضِهِ حَتَّى تَطْلُعَ الثُّرَيَّا، فَيَتَبَيَّنَ الأَصْفَرُ مِنَ الأَحْمَرِ. / 119 - وفيه: ابْن عُمَرَ، نَهَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا، نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُبْتَاعَ. / 120 - وفيه: أَنَس، نَهَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، أَنْ يُبَاعَ النَّخْلِ حَتَّى تَزْهُوَ. قَالَ: يَعْنِى تَحْمَرَّ. / 121 - وفيه: جَابِر، نَهَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، أَنْ تُبَاعَ الثَّمَرَةُ حَتَّى تُشَقِّحَ، قِيلَ: وَمَا تُشَقِّحُ؟ قَالَ: تَحْمَارُّ وَتَصْفَارُّ وَيُؤْكَلُ مِنْهَا. قال الطحاوى: وذهب قوم إلى هذه الآثار فقالوا: لا يجوز بيع الثمر فى رءوس النخل حتى تحمر أو تصفر. قال غيره: وهو قول مالك والليث والثورى والأوزاعى والشافعى وأحمد وإسحاق، وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنه يجوز بيعها إذا تخلقت وظهرت، وإن لم يبد صلاحها، واحتجوا بقوله عليه السلام: (من(6/314)
ابتاع نخلا قبل أن يؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع) فأباح عليه السلام بيع ثمره فى رءوس النخل قبل بدو صلاحها، وقالوا: لما لم يدخل بعد الإبار فى الصفقة إلا بالشرط جاز بيعها منفردة، فدل هذا أن نهيه عليه السلام عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، المراد به غير هذا المعنى، وهو النهى عن السلم فى الثمار فى غير حينها وقبل أن تكون، وأما بيع الثمار بعدما ظهرت فى أشجارها فجائز عندنا. قال المؤلف: فيقال لأبى حنيفة: قد يدخل فى عقد البيع أشياء لو أفردت بالبيع لم يجز بيعها مفردة وتجوز فى البيع تبعًا لغيرها، من ذلك أنه يجوز بيع الأمة والناقة حاملتين، ولا يجوز عند أحد من الأمة بيع الجنين دون أمه، لنهيه عليه السلام عن بيع حبل الحبلة، وإنما لم يجز إفراد الجنين بالبيع، لأنه من بيع الغرر المنهى عنه. ونظير نهيه عليه السلام عن بيع الجنين فى بطن أمه نظير نهيه عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، لأن ذلك كله من بيع ما لم يخلق ولم يتم، ومما يحتمل أن يكون موجودًا أو غير موجود، وذلك من أكل المال بالباطل، وجاز أن يكون الجنين تبعًا لأمه، والثمرة تبعاُ لأصلها فى البيع، لأنهما إن هلكا فلم يكونا المقصد بالشراء، وإنما قصد إلى أم الجنين، والى أصل الثمرة، فافترقا لهذه العلة، مع أن حديث جابر وحديث أنس فى النهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها يغنيان عن حجة سواهما، لأنه قد فسر فيهما أن المراد ببدو صلاح الثمار أن تحمر أو تصفر، وذلك علامة صلاحها للأكل، ألا ترى قوله(6/315)
عليه السلام فى حديث جابر: (حتى تحمار أو تصفار ويؤكل منها) فلا تأويل لأحد مع تفسير النبى - عليه السلام - فهو المقنع والشفاء. وقال بعض الكوفيين: إن نهيه عليه السلام عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها لم يكن منه على وجه التحريم، وإنما كان على وجه الأدب والمشورة منه عليهم، لكثرة ما كانوا يختصمون إليه فيه، واحتجوا بحديث زيد بن ثابت. وأئمة الفتوى على خلاف قولهم، والنهى عندهم محمول على التحريم. وتخصيصه عليه السلام البائع والمبتاع بالذكر يدل على تأكيد النهى فى ذلك، لأن النهى إذا ورد عن الله - تعالى - وعن رسوله فحقيقته الزجر عما ورد فيه، لقوله تعالى: (وما نهاكم عنه فانتهوا (ومعنى النهى عن ذلك عند عامة العلماء خوف الغرر، لكثرة الجوائح فيها، وقد بين ذلك عليه السلام بقوله: (أرأيت إن منع الله الثمرة، فبم يأخذ أحدكم مال أخيه؟) فنهى عن أكل المال بالباطل، فإذا بدا صلاحها واحمرت أمنت العاهة عليها فى الأغلب، وكثر الانتفاع بها لأكلهم إياها رطبًا، فلم يكن قصدهم بشرائها الغرر، وأما فعل زيد بن ثابت فى مراعاته طلوع الثريا، فقد روى عن عطاء، عن أبى هريرة، عن النبى - عليه السلام - أنه قال: (إذا طلع النجم صباحًا رفعت العاهة عن أهل البلد) يعنى: الحجاز - والله أعلم - والنجم: هو الثريا، وطلوعها صباحًا لاثنتى عشرة، يعنى: يروح من شهر مائة.(6/316)
وقال عيسى بن دينار: كان مالك لا يرى العمل بفعل زيد بن ثابت، وكان لا يجيز بيعها إلا حين تزهى، اتباعًا لنص الحديث. وقال غيره: كان بيع زيد لها إذا بدا صلاحها، لأن الثريا إذا طلعت آخر الليل بدا صلاح الثمار بالحجاز خاصة، لأن الحجاز أشد حرا من غيره. وقال ابن القاسم، عن مالك: لا بأس أن يباع الحائط وإن لم يزه: إذا أزهى ما حوله من الحيطان، وكان الزمان قد أمنت العاهة فيه. ولا يجوز عند الشافعى. واختلفوا فى بيع جميع الحائظ فيه أجناس الثمر يطيب جنس واحد منها، فقال مالك: لا أرى أن يباع إلا ذلك الصنف الذى طاب أوله دون غيره، وبه قال الشافعى. وقال الليث: لا بأس أن تباع الثمار كلها متفقة الأجناس أو مختلفة، يطيب جنس منها، أو مخالف لها، واحتج بأن النبى - عليه السلام - نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، فعم الثمار كلها، فإذا بدا الصلاح فى شىء منها فقد بدا الصلاح فى الثمار كلها، لأنه لم يخص عليه السلام. وقال أبو عبيد: قال الأصمعى: إذا انشقت النخلة عن عفن أو سواد قيل: أصابه الدمان. قال ابن أبى الزناد: هو: الإدمان. قال الأصمعى: ويقال للتمر العفن: الدمان. قال ابن دريد: الدمان داء يصيب النخل، فيسود طلعه قبل أن يلقح. وقال أبو حنيفة الدمار التمر الذى قد عتق جدا ففسد وأصل الدمان السماد.(6/317)
قال الأصمعى: وإذا انتقض ثمر النخل قبل أن يصير بلحًا قيل: أصابه القشام، فإذا كثر نقض النخلة وعظم ما بقى من بسرها قيل: خردلت. وقال غيره: القشام أكال يقع فى التمر من القشم وهو: الأكل. وذكر الطحاوى فى حديث عروة عن سهل، عن زيد: والقشام: شىء يصيبه حتى لا يرطب. وقوله: (إما لا فلا تبايعوا) قال سيبويه: معناه: افعل هذا إن كنت لا تفعل غيره. وقال ابن الأنبارى: دخلت (ما) صلة ل (إن) كما قال تعالى: (فإما ترين من البشر أحدًا (فاكتفى بلا من الفعل كما تقول العرب: من سلم عليك فسلم عليه، ومن لا فلا معناه: ومن لم يسلم عليك فلا تسلم عليه، فاكتفى بلا من الفعل، وأجاز الفراء: من أكرمنى أكرمته، ومن لا لم أكرمه، بمعنى: ومن لم يكرمنى لم أكرمه.
79 - بَاب إِذَا بَاعَ ثِّمَارَ الجوائح قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلاَحُهَا ثُمَّ أَصَابَتْهَا عَاهَةٌ فَهُوَ مِنَ الْبَائِعِ
/ 122 - فيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِىَ، فَقِيلَ لَهُ: وَمَا تُزْهِى؟ فَقَالَ: (حَتَّى تَحْمَرَّ) ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَرَأَيْتَ إِذَا مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ) . وَقَالَ ابْنِ شِهَابٍ،(6/318)
لَوْ أَنَّ رَجُلاً ابْتَاعَ ثَمَرًا قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلاَحُهُ، ثُمَّ أَصَابَتْهُ عَاهَةٌ كَانَ مَا أَصَابَهُ عَلَى رَبِّهِ. وَقَالَ ابْنِ عُمَرَ: قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (لاَ تَبَايَعُوا الثَّمَرَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا، وَلاَ تَبِيعُوا الثَّمَرَ بِالتَّمْرِ) . بيع الثمار قبل بدو صلاحها بيع فاسد، لنهى النبى - عليه السلام - عنه، ومصيبة الجائحة فيه من البائع لفساد البيع، وأنه لم ينتقل ملك البائع عن الثمرة بالعقد، ولا قبضها المشترى، لأن القبض لا يكون فيما لم يتم، وإنما تلفت فى ملك البائع ويده، فلا شىء على المشترى. الأصل فى وضع الجائحة فى الثمار حديث جابر قال: (أمر النبى - عليه السلام - بوضع الجوائح) وقال فى حديث آخر: قال رسول الله: (لو بعت من أخيك ثمرًا فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، بم تأخذ من مال أخيك بغير حق) أخرج هذين الحديثين مسلم. واستدل جماعة من الفقهاء بقوله عليه السلام: (أرأيت لو منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه؟) على وضع الجائحة فى الثمر يشترى بعد بدو صلاحه شراء صحيحًا، ويقبضه فى رءوس النخل، ثم تصيبه جائحة، فذهب مالك وأهل المدينة إلى أن الجائحة التى توضع عن المشترى الثلث فصاعدًا، ولا يكون ما دون ذلك جائحة.(6/319)
وقال أحمد بن حنبل وأبو عبيد وجماعة من أهل الحديث: الجائحة موضوعة فى القليل والكثير، وذهب الليث والكوفيون والشافعى إلى أن الجائحة فى مال المشترى، ولا يرجع على البائع بشىء، واحتجوا بأن قوله عليه السلام: (أرأيت إن منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه؟) إنما ورد فى بيع الثمرة قبل بدو صلاحها مطلقاُ من غير شرط القطع قالوا: وعندنا أن الثمرة إذا بيعت قبل بدو صلاحها من غير شرط القطع فتلفت بجائحة أن مصيبتها من البائع، لأن البيع كان باطلا، والى هذا المعنى ذهب البخارى فى هذا الباب. قالوا: والدليل على أنه وارد فى بيع الثمرة قبل بدو صلاحها قوله: (فبم يستحل أحدكم مال أخيه) ، وبعد بدو الصلاح يكون البيع صحيحًا، ولا يجوز أن يقال فيه: فبم يستحل؛ لأنه يستحله بالعقد. قال ابن القصار: فالجواب: أنه إن استحله بعقد البيع فإن تمام القبض لا يحصل عندنا إلا باجتناء الثمرة، وقبل أن تجتنى المصيبة من البائع وليس قبض كل ما يشترى كله على وجه واحد، ألا ترى أن الرجل يستأجر ظئرًا شهرًا لرضاع ولده، فهو فى معنى شراء اللبن الذى لا يستطيع قبضه فى موضع واحد، فلو انقطع اللبن فى نصف الشهر لرجع بما يصيبه، فكذلك فى الثمر، إذ العادة جرت بأن يؤخذ أولا فأولا عند إدراكه وتناهيه، ولو اشتراه مقطوعًا لكانت مصيبته من المشترى، لأنه يقدر على أخذه كله فى الحال.(6/320)
فإن قيل: فقولوا بالجائحة فى القليل والكثير، وقد قال به أحمد بن حنبل وجماعة. قيل: الجائحة فى لسان العرب إنما هى فيما كثر دون ما قل، لأنه لا يقال لمن ذهب درهم من ماله وهو يملك ألوفًا أنه أجيح، ومن جهة المعقول أن المشترى قد دخل على ذهاب اليسير من الثمرة، لأنه لا بد أن يسقط شىء منها وتلحقه الآفة ويأكل الطير وغيره منها، فلم يجب على البائع أن يضع عن المشترى ذلك المقدار الذى دخل عليه حتى يكون فى حد الكثير، وهو الحد الكثير من الشىء ثلثه فصاعداُ بدليل قوله عليه السلام لسعد: (الثلث، والثلث كثير) فجعل ثلث ماله كثيرًا فى ماله، فلهذا قال مالك: إنه يوضع الثلث فصاعدًا، ليكون قد أخذ بالخبر والنظر، وقال يحيى بن سعيد: لا جائحة فيما أصيب دون ثلث رأس المال، وذلك فى سنة المسلمين.
80 - بَاب شِرَاءِ الطَّعَامِ إِلَى أَجَلٍ مسمى
/ 123 - فيه: الأَعْمَش، ذَكَرْنَا عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ الرَّهْنَ فِى السَّلَفِ، فَقَالَ: لاَ بَأْسَ بِهِ، ثُمَّ حَدَّثَنَا عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ يَهُودِىٍّ إِلَى أَجَلٍ وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ. لا خلاف بين أهل العلم أنه يجوز شراء الطعام بثمن معلوم إلى أجل معلوم.(6/321)
81 - بَاب إِذَا أَرَادَ أَنّ بَيْعَ تَمْرا بِتَمْرٍ خَيْرٍ مِنْهُ
/ 124 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، وأَبُو سَعِيد، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، اسْتَعْمَلَ رَجُلاً عَلَى خَيْبَرَ، فَجَاءَهُ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا) ؟ قَالَ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بصَّاعَيْنِ، وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلاَثَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لاَ تَفْعَلْ، بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا) . فيه من الفقه: أن التمر كله جنس واحد رديئه وجيده، لا يجوز التفاضل فى شىء منه، ويدخل فى معنى التمر جميع الطعام، فلا يجوز فى الجنس الواحد التفاضل ولا النسيئة بإجماع، فإن كانا جنسين جاز فيهما التفاضل يدًا بيد، ولم تجز النسيئة، هذا حكم الطعام المقتات كله عند مالك. وعند الشافعى الطعام كله مقتات أو غير مقتات. وعند الكوفيين: الطعام المكيل كله والموزون دون غيره. وفيه من الفقه: أن من لم يعلم تحريم الشىء فلا حرج عليه حتى يعلمه، قال تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا (. وأجمع العلماء أن البيع إذا وقع محرمًا، فهو مفسوخ مردود، لقوله عليه السلام: (من عمل عملا على غير أمرنا فهو رد) . وقد روى أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمر برد هذا البيع من حديث بلال بن(6/322)
رباح، ومن حديث أبى سعيد الخدرى، وروى منصور وقيس ابن الربيع عن أبى حمزة، عن سعيد ابن المسيب، عن بلال قال: (كان عندى تمر دون، فابتعت تمرًا أجود منه فى السوق بنصف كيله، صاعين بصاع، فأتيت النبى - عليه السلام - فحدثته بما صنعت، فقال: هذا الربا بعينه، انطلق فرده على صاحبه، وخذ تمرك فبعه، ثم اشتر التمر) . وقد زعم قوم أن بيع العامل الصاعين بالصاع كان قبل نزول آية الربا، وقبل أن يخبرهم النبى - عليه السلام - بتحريم التفاضل فى ذلك، ولذلك لم يأمر بفسخه. وهذه غفلة، لأنه عليه السلام قد قال فى مغنم خيبر للسعدين: (أربيتما، فردا) وفتح خيبر مقدم على ما كان بعد ذلك مما وقع فى تمرها وجميع أمرها. وقد احتج بحديث هذا الباب من أجاز أن يبيع الطعام من رجل بالنقد، ويبتاع منه بذلك النقد طعامًا قبل الافتراق وبعده، لأنه لم يخص فيه بائع الطعام ولا مبتاعه من غيره، وهو قول الشافعى وأبى ثور، ولا يجوز هذا عند مالك، لأنه عنده كأنه طعام بطعام والدراهم ملغاة إلا أن يكون الطعام جنسًا واحدًا وكيلا واحدًا، فيجوز عنده.
82 - بَاب مَنْ بَاعَ نَخْلاً قَدْ أُبِّرَتْ أَوْ أَرْضًا مَزْرُوعَةً أَوْ بِإِجَارَةٍ
وقَال نَافِعٍ: أَيُّمَا نَخْلٍ بِيعَتْ قَدْ أُبِّرَتْ - لَمْ يُذْكَرِ الثَّمَرُ - فَالثَّمَرُ لِلَّذِى أَبَّرَهَا، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ وَالْحَرْثُ، سَمَّى لَهُ نَافِعٌ هَؤُلاَءِ الثَّلاَثَ.(6/323)
/ 125 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، قَالَ: (مَنْ بَاعَ نَخْلاً قَدْ أُبِّرَتْ، فَثَمَرُهَا لِلْبَائِعِ، إِلاَ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ) . قال الخليل: الأبر: لقاح النخل أبر النخل يأبرها أبرًا، والتلقيح: هو أن يؤخذ طلع ذكور النخيل فيدخل بين ظهرانى طلع الإناث، وأما معنى الإبار فى سائر الأشجار فإن ابن القاسم يراعى ظهور الثمرة لا غير، وقال ابن عبد الحكم: كل ما لا يؤبر من الثمار فاللقاح فيها بمنزلة الإبار فى النخل. وأخذ بظاهر حديث ابن عمر: مالك والليث والشافعى وأحمد وإسحاق، فقالوا: من باع نخلا قد أبر ولم يشترط ثمرته المبتاع، فالثمرة للبائع، وهى فى النخل متروكة إلى الجداد، وعلى البائع السقى، وعلى المشترى تخليته وما يكفى من الماء، وكذلك إذا باع الثمرة دون الأصل، فعلى البائع السقى. قال أبو حنيفة: سواء أبر أو لم يؤبر هو للبائع، وللمشترى أن يطالبه بقلعها عن النخل فى الحال، ولا يلزمه أن يصبر إلى الجداد، فإن اشترط البائع فى البيع ترك الثمرة إلى الجداد، فالبيع فاسد، واحتجوا بالإجماع على أن الثمرة لو لم تؤبر حتى تناهت وصارت بلحًا أو بسرًا وبيع النخل، أن الثمرة لا تدخل فيه، فعلمنا أن المعنى فى ذكر الإبار ظهور الثمرة خاصة، إذ لا فائدة لذكر الإبار غير ذلك، ولم يفرقوا بين الإبار وغيره، قالوا: وقد تقرر أن من باع دارًا له فيها متاع، فللمشترى المطالبة بنقله عن الدار فى الحال،(6/324)
ومن باع شيئًا فعليه تسليمه ورفع يده عنه، وبقاء الثمرة على النخل بعد البيع انتفاع بالنخل إلى وقت الجداد، فيكون فى معنى من باع شيئًا واستثنى منفعته، وهذا لا يجوز، فخالفوا السنة إلى قياس، ولا قياس لأحد مع السنة. ويقال لهم: إن من باع شيئًا مشغولاً يحق للبائع، فإن البائع يلزمه نقله عن المبيع على ما جرت به العادة فى نقل مثله، ألا ترى أنه لو باع دارًا هو فيها وعياله فى نصف الليل وله فيها طعام كثير وآلة، فلا خلاف أنه لا يلزمه نقله عنها نصف الليل حتى يرتاد منزلا يسكنه، ولا يطرح ماله فى الطريق، هذا عرف الناس، وكذلك جرت العادة فى أخذ الثمرة عند الجداد، وهو حين كمال بلوغها، ولما ملك النبى - عليه السلام - الثمرة بعد الإبار للبائع اقتضى استيفاء منفعته به على كمالها، وأغنى ذلك عن استثناء البائع تبقية الثمرة إلى الجداد، وأبو حنيفة يجيز أن يبيع السلعة أو الثمرة ويستثنى نصفها وثلثيها وما شاء منها إذا كان المستثنى معلومًا، كذلك قول أكثر العلماء إذا باع نخلا وفيها ثمرة لم تؤبر، فهى للمبتاع تابعة لأصلها بغير شرط، استدلالا بحديث ابن عمر، وخالف ذلك أبو حنيفة فقال: هى للبائع بمنزلة لو كانت مؤبرة، إلا أن يشترطها المبتاع. فيقال له: الثمر له صفتان: مؤبر، وغير مؤبر، ولما جعله النبى - عليه السلام - إذا كان مؤبرًا للبائع بترك المشترى اشتراطها، أفادنا ذلك أن الثمرة للمشترى إذا لم تؤبر وكانت فى أكمامها وإن لم يشترطها المشترى، ولو كان الحكم فيها غير مختلف حتى يكون الكل للبائع، لكان يقول: من باع نخلا فيها ثمر فهى للبائع. فخالف أبو(6/325)
حنيفة الحديث من وجهين: خالف نصه إذا كانت الثمرة مؤبرة، وخالف دليله إذا كانت الثمرة لم تؤبر. فأما بيع الأرض فيها زرع، فروى ابن القاسم عن مالك: أن من اشترى أرضًا فيها زرع ظهر ولم يسبل، فالزرع للبائع إلا أن يشترطه المشترى، وإن وقع البيع والبذر لم ينبت، فهو للمبتاع بغير شرط. وروى ابن عبد الحكم عن مالك: إن كان الزرع لقح أكثره - ولقاحه أن يتحبب ويسبل - حتى لو يبس يومئذ لم يكن فسادًا فهو للبائع إلا أن يشترطه المشترى، وإن كان لم يلقح فهو للمبتاع. وذكر ابن عبد الحكم فى موضع آخر من كتابه مثل رواية ابن القاسم - والله أعلم.
83 - بَاب بَيْعِ الزَّرْعِ بِالطَّعَامِ كَيْلاً
/ 126 - فيه: ابْن عُمَرَ، نَهَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، عَنِ الْمُزَابَنَةِ، أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَة حَائِطِهِ إِنْ كَانَ نَخْلاً بِتَمْرٍ كَيْلاً، وَإِنْ كَانَ كَرْمًا أَنْ يَبِيعَهُ بِزَبِيبٍ كَيْلاً، وَإِنْ كَانَ زَرْعًا أَنْ يَبِيعَهُ بِكَيْلِ طَعَامٍ، نَهَى عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ. أجمع العلماء أنه لا يجوز بيع الزرع قبل أن يقطع بالطعام، ولا بيع العنب فى كرمه بالزبيب ولا بيع الثمر فى رءوس النخل بالتمر،(6/326)
لأن النبى - عليه السلام - نهى عنه وسماه مزابنة، وذلك خطر وغرر، لأنه بيع مجهول بمعلوم من جنسه، وأما بيع رطب ذلك بيابسه إذا كان مقطوعًا وأمكن فيه الممائلة، فجمهور العلماء لا يجيزون بيع شىء من ذلك بجنسه، لا متماثلا ولا متفاضلاً، لأنه من المزابنة المنهى عنه، وبهذا قال أبو يوسف ومحمد. وخالفهم أبو حنيفة فأجاز بيع الحنطة الرطبة باليابسة والرطب بالتمر مثلا بمثل، ولا يجيز ذلك متفاضلا. قال ابن المنذر: وأظن أبا ثور وافقه على ذلك، واحتج له الطحاوى وقال: لما أجمعوا أنه يجوز بيع الرطب بالرطب مثلا بمثل، وإن كان فى أحدهما رطوبة ليست فى الآخر، وكل ذلك ينقص إذا بقى نقصانًا مختلفاُ، ولم ينظروا إلى ذلك فيبطلوا به البيع، بل نظروا إلى حاله فى وقت وقوع البيع، فالنظر أن يكون الرطب بالثمر كذلك، وهذا قياس فاسد، لأن الرطب بالرطب وإن كان يختلف نقصانه إذا يبس، فهو نقصان معفو عنه لقلته، وقد جوز فى البيوع يسير الغرر، لأنه لا يكاد يخلو منه، ونقصان الرطب بالتمر له بال وقيمة فافترقا لذلك، وحديث ابن عمر حجة للجماعة أن النبى - عليه السلام - نهى عن بيع التمر بالتمر، والتمر بالرطب، فكأنه نهى عن بيع الرطب بالتمر على النخل ومقطوعًا، على عموم اللفظ، ويدل على ذلك قوله عليه السلام حين سئل عن اشتراء التمر بالرطب فقال: (أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم، فنهى عنه) . قال ابن القصار: فقوله - عليه السلام -: (أينقص الرطب إذا يبس؟ فقالوا: نعم، فنهى(6/327)
عنه) ، فصار كأنه نهى عن الرطب بالتمر، ولم يخف عنه عليه السلام ذلك، وإنما سألهم على سبيل التقرير لهم عليه، حتى إذا تقرر ذلك عندهم نهاهم عنه، فصار كأنه نهاهم عنه، وعلله فقال: لا يجوز بيع الرطب بالتمر؛ لأنه ينقص إذا يبس، فسواء كان الرطب فى النخل أو فى الأرض، إذ بيع بتمر مجهول فإنه يكون مزابنة، ويقال للكوفيين: إنه يلزمكم التناقض فى منعكم بيع الحنطة بالدقيق، وبيعها بالسويق، والمماثلة بينهما أقرب من المماثلة بين التمر والرطب، وأجاز مالك والليث الدقيق بالحنطة مثلاً بمثل، وقول الشافعى كقول الكوفى.
84 - بَاب بَيْعِ النَّخْلِ بِأَصْلِهِ
/ 127 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (أَيُّمَا امْرِئٍ أَبَّرَ نَخْلاً، ثُمَّ بَاعَ أَصْلَهَا، فَلِلَّذِى أَبَّرَ ثَمَرُ النَّخْلِ، إِلاَ أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ) . وقد تقدم الكلام فى الحديث قبل هذا، ونذكر هاهنا ما لم يمر فيه، اختلف قول مالك فيمن اشترى أصول النخل وفيها ثمر قد أبرها لم يشترطها فأجاز لمشترى النخل وحده أن يشتر الثمر قبل بدو صلاحها فى صفقة أخرى، كما كان له أن يشترطها فى صفقته، هذه رواية ابن القاسم، وكذلك مال العبد، وروى ابن وهب عن مالك أن ذلك لا يجوز فى الثمرة، ولا فى مال العبد له ولا(6/328)
لغيره، وهذا قول المغيرة وابن دينار وابن عبد الحكم، وهو قول الثورى والشافعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور، وهذا القول أولى؛ لعموم نهيه عليه السلام عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وكذلك مالُ العبد هو شراء مجهول، فهو من بيع الغرر.
85 - بَاب بَيْعِ الْجُمَّارِ وَأَكْلِهِ
/ 128 - فيه: ابْن عُمَرَ، كُنْتُ عِنْدَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، وَهُوَ يَأْكُلُ جُمَّارًا، فَقَالَ: (مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةٌ كَالرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ) ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ: النَّخْلَةُ، فَإِذَا أَنَا أَحْدَثُهُمْ، فَقَالَ: (هِىَ النَّخْلَةُ) . بيع الجمار وأكله من المباحات التى لا اختلاف فيها بين العلماء، وكل ما انتفع به للأكل وغيره فجائز بيعه.
86 - بَاب بَيْعِ الْمُخَاضَرَةِ
/ 129 - فيه: أَنَس، أنّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، نَهَى عَنِ بيع الْمُحَاقَلَةِ، وَالْمُخَاضَرَةِ، وَالْمُلاَمَسَةِ، وَالْمُنَابَذَةِ، وَالْمُزَابَنَةِ. / 130 - وفيه: أَنَس أَيْضًا، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) نَهَى عَنْ بَيْعِ ثَمَرِ التَّمْرِ حَتَّى يَزْهُوَ، فَقُلْت لأَنَسٍ: مَا يزَهْو؟ قَالَ: تَحْمَرُّ وَتَصْفَرُّ - أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بِمَ تَسْتَحِلُّ مَالَ أَخِيكَ؟ . فى تفسير المحاقلة ثلاث أقوال: فقال بعضهم: هى بيع الزرع فى سنبله بالحنطة. وقيل: هى اكتراء الأرض بالحنطة. وقيل: هى المزارعة بالثلث والربع ونحوه، وهذا الوجه أشبه بها على طريق اللغة؛ لأن المحاقلة مأخوذة من الحقل والمفاعلة من اثنين فى(6/329)
أمر واحد كالمزراعة، ويقال للأرض التى تزرع: المحاقل، كما يقال لها: المزارع، عن الزجاجى. والمخاضرة هى بيع الثمار وهى خضر لم يبد صلاحها، سميت بذلك من المفاعلة أيضًا؛ لأن المتبايعين تبايعا شيئًا أخضر. وأجمع العلماء أنه لا يجوز بيع الثمار والزرع والبقول قبل بدو صلاحها على شرط التبقية إلى وقت طيها، ولا يجوز بيع الزرع أخضر إلا للقصيل وأكل الدواب، وكذلك أجمعوا أنه يجوز بيع البقول إذا قلعت من الأرض وانتفع بها وأحاط علمًا بها المشترى، ومن بيع المخاضرة: شراؤها مغيبة فى الأرض كالفجل والكراث والبصل واللفت وشبهه، فأجاز شراءها مالك والأوزاعى، قال مالك: ذلك إذا استقل ورقه وأمن، والأمان عنده أن يكون ما يقطع منه ليس بفساد. وقال أبو حنيفة: بيع المغيب فى الأرض جائز، وهو بالخيار إذا رآه. قال الشافعى: لا يجوز بيع مالا يرى، وهو عنده من بيوع الغرر. وحجة من أجاز ذلك أنه لو قلعها ثم باعها لأضر ذلك به وبالناس؛ لأنهم إنما يأكلون ذلك أولاً أولاً، كما يأكلون الرطب والثمر ولا يقصدون بذلك الغرر، فإذا باعها على شىء يراه أو صفة توصف له جاز، فمتى جاء بخلاف الصفة أو الرؤية كان له رد ذلك بحصته، وإنما يجوز بيع ذلك كله على التبقية إذا كان قد طاب للأكل، كما يجوز بيع الثمرة على التبقية إذا طابت للأكل.(6/330)
واختلفوا فى بيع القثاء والبطيخ وما يأتى بطنا بعد بطن، فقال مالك: يجوز بيعه إذا بدا صلاحه، ويكون للمشترى ما ينبت حتى ينقطع ثمره؛ لأن وقته معروف عند الناس. وقال أبو حنيفة والشافعى: لا يجوز بيع بطن منه إلا بعد طيبه كالبطن الأولى، وهو عندهم من بيع ما لم يخلق. وجعله مالك كالثمرة إذا بدا صلاح أولها، جاز بيع ما بدا صلاحه وما لم يبد؛ لحاجتهم إلى ذلك، ولو منعوا منه لأضر بهم؛ لأن ما تدعو إليه الضرورة يجوز فيه بعض الغرر، ألا ترى أن الظئر تكرى لأجل لبنها الذى لم يخلق ولم يوجد إلا أوله، ولا يدرى كم يشرب الصبى منه أولاً، كذلك لو اكترى عبدًا يخدمه لكانت المنفعة التى وقع عليها العقد لم تخلق، وإنما تحدث أولاً أولاً، ولو مات العبد لوقعت المحاسبة على ما حصل من المنفعة، فَجُوَز ذلك لحاجة الناس إليه، فيبع ما لم يخلق، وقد جرت العادة فى الأغلب إذا كان الأصل سليمًا من الآفات أن تتبايع بطونه وتتلاحق، وعدم مشاهدته لا يدل على بطلان بيعه، بدليل بيع الجوز واللوز فى قشرهما، وفساده لا يبين من خارج، ولو كان مقشورًا مغطى بشىء غير قشره لم يصح بيعه.(6/331)
87 - بَاب مَنْ أَجْرَى أَمْرَ الأَمْصَارِ عَلَى مَا يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ فِى الْبُيُوعِ وَالإِجَارَةِ وَالْمِكْيَالِ وَالْوَزْنِ وَسُنَتِهِمْ عَلَى نِيَّاتِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمُ الْمَشْهُورَةِ
وَقَالَ شُرَيْحٌ لِلْغَزَّالِينَ: سُنَّتُكُمْ بَيْنَكُمْ [رِبْحًا] . وَقَالَ عَبْدُالْوَهَّابِ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ: لاَ بَأْسَ الْعَشَرَةُ بِأَحَدَ عَشَرَ، وَيَأْخُذُ لِلنَّفَقَةِ رِبْحًا. وَقَالَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، لِهِنْدٍ: (خُذِى مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ) . وَقَالَ تَعَالَى: (وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ (وَاكْتَرَى الْحَسَنُ مِنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مِرْدَاسٍ حِمَارًا، فَقَالَ: بِكَمْ؟ قَالَ بِدَانَقَيْنِ، فَرَكِبَهُ، ثُمَّ جَاءَه مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالَ: الْحِمَارَ الْحِمَارَ، فَرَكِبَهُ، وَلَمْ يُشَارِطْهُ فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ. / 132 - فيه: أَنَس، حَجَمَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَبُو طَيْبَةَ، فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ، وَأَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يُخَفِّفُوا عَنْهُ مِنْ خَرَاجِهِ. / 132 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، لهِنْدٍ حين قَالَتْ له: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، فَهَلْ عَلَىَّ جُنَاحٌ أَنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ سِرًّا؟ فَقَالَ: (خُذِى أَنْتِ وَبَنُوكِ مَا يَكْفِيكِ بِالْمَعْرُوفِ) . / 133 - وَقَالَتْ عَائِشَةَ: (وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ (أُنْزِلَتْ فِى وَالِى الْيَتِيمِ الَّذِى يُقِيمُ عَلَيْهِ، وَيُصْلِحُ فِى مَالِهِ، إِنْ كَانَ فَقِيرًا أَكَلَ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ.(6/332)
العرف عند الفقهاء أمر معمول به، وهو كالشرط اللازم فى البيوع وغيرها، ولو أن رجلا وكل رجلا على بيع سلعة، فباعها بغير النقد الذى هو عرف الناس لم يجز ذلك، ولزمه النقد الجارى، وكذلك لو باع طعامًا موزونًا أو مكيلاً بغير الوزن أو الكيل المعهود لم يجز، ولزمه الكيل المعهود المتعارف من ذلك. وقوله: يأخذ للعشرة أحد عشر، يعنى: لكل عشرة دينار من رأس المال ربح دينار. واختلف العلماء فى ذلك، فأجازه قوم وكرهه آخرون، وممن كرهه: ابن عباس، وابن عمر، ومسروق، والحسن، وبه قال أحمد وإسحاق، وقال أحمد: البيع مردود. وأجازه سعيد ابن المسيب والنخعى، وهو قول مالك والثورى والكوفيين والأوزاعى. وحجة من كرهه: لأنه عنده بيع مجهول إلا أن يعلم عدد العشرات، فيعلم عدد ربحها، ويكون الثمن كله معلومًا. وحجة من أجازه: بأن الثمن معلوم، فالربح معلوم. وأصل هذا الباب بيع الصبرة كل قفيز بدرهم، ولا يعلم مقدار ما فى الصبرة من الطعام، فأجازه قوم وأباه آخرون، ومنهم من قال: لا يلزمه منه إلا القفيز الواحد، ومن البيع العشرة الواحدة. واختلفوا فى النفقة هل يأخذ لها ربحًا فى بيع المرابحة؟ فقال مالك: لا يؤخذ فى النفقة ربح إلا فيما له تأثير فى السلعة(6/333)
وعين قائمة كالصبغ والخياطة والكمد فهذا كله يحسب فى أصل المال ويحسب له ربح، لأن تلك المنافع كأنها سلعة ضمت إلى سلعة، قال مالك: ولا يحسب فى المرابحة أجر السماسرة، ولا أجر الشد والطى ولا النفقة على الرقيق، ولا كراء البيت، وإنما يحسب هذا فى أصل المال، ولا يحسب له ربح، وأما كراء البز فيحسب له الربح، لأنه لابد منه، ولا يمكنه حمله ببدنه من بلد إلى بلد، فإن أربحه المشترى على ما لا تأثير له جاز إذا رضى بذلك، فإن لم يبين البائع للمشترى ذلك، وأجمل البيع، كان للمشترى رد ذلك كله إن شاء، لأن البائع قد غره. وقال أبو حنيفة: يحسب فى المرابحة أجر القصارة، وكراء البيت، وأجر السمسرة، ونفقة الرقيق وكسوتهم، ويقول: قام على بكذا وكذا. وأما أجرة الحجام فأكثر العلماء يجيزونها، هذا إذا كان الذى يعطاه مما يرضى به، فإن أعطى ما لا يرضى به فلا يلزم، ورد إلى عرف الناس، ومما يدل على أن العرف سنة جارية قوله - عليه السلام - لهند: (خذى ما يكفيك وولدك بالمعروف) . فأطلق لها أن تأخذ من متاع زوجها ما تعلم أن نفسه تطيب لها بمثله، وكذلك أطلق الله لولى اليتيم أن يأكل من ماله بالمعروف.(6/334)
88 - بَاب بَيْعِ الشَّرِيكِ مِنْ شَرِيكِهِ
/ 134 - فيه: جَابِر، جَعَلَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) الشُّفْعَةَ فِى كُلِّ مَالٍ لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتِ الطُّرُقُ، فَلاَ شُفْعَةَ. وترجم له (باب بيع الأرض والعروض مشاعًا غير مقسوم) . بيع الشريك من الشريك فى كل شىء مشاع جائز، وهو كبيعه من الأجنبى، فإن باعه من الأجنبى فللشريك الشفعة لعلة الإشاعة، وخوف دخول ضرر الدخيل عليه، وإن باعه من شريكه ارتفعت الشفعة، وإذا كان للشريك الأخذ بالشفعة بالسنة الثابتة عن النبى - عليه السلام - فعلى البائع إذا أحب البيع ألا يبيع من أجنبى حتى يستأذن شريكه، وقد روى هذا عن النبى - عليه السلام - من حديث سفيان عن أبى الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله: (من كانت له شركة فى أرض أو ربعة فليس له أن يبيع حتى يستأذن شريكه، فإن شاء أخذ وإن شاء ترك) . وأما بيع العروض مشاعًا فأكثر العلماء أنه لا شفعة فيها، وإنما الشفعة فى الدور والأرض خاصة، هذا قول عطاء والحسن وربيعة والحكم وحماد، وبه قال مالك والثورى والكوفيون والأوزاعى والشافعى وأحمد وإسحاق. وروى عن عطاء أنه قال: الشفعة فى كل شىء حتى فى الثوب وإذا اختلف فيها قول عطاء فكأنه لم يأت عنه فيها شىء، فهو كالإجماع أنه لا شفعة فى العروض والحيوان، قاله ابن المنذر.(6/335)
89 - بَاب إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَرَضِىَ
/ 135 - فيه: ابْن عُمَرَ، [عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ] : (خَرَجَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ يَمْشُونَ، فَأَصَابَهُمُ الْمَطَرُ، فَدَخَلُوا فِى غَارٍ فِى جَبَلٍ، فَانْحَطَّتْ عَلَيْهِمْ صَخْرَةٌ. . . . .) الحديث. (فَقَالَ الثالث: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّى اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرَقٍ مِنْ ذُرَةٍ، فَأَعْطَيْتُهُ فَأَبَى فَعَمَدْتُ إِلَى ذَلِكَ الْفَرَقِ فَزَرَعْتُهُ حَتَّى اشْتَرَيْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرَاعِيهَا، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: يَا عَبْدَاللَّهِ، أَعْطِنِى حَقِّى؟ فَقُلْتُ: انْطَلِقْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ وَرَاعِيهَا، [فَإِنَّهَا لَكَ] ، فَقَالَ: أَتَسْتَهْزِئُ بِى؟ قَالَ: فَقُلْتُ: مَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ، وَلَكِنَّهَا لَكَ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّى فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا، فَكُشِفَ عَنْهُمْ) . أجمع الفقهاء أنه لا يلزم شراء الرجل لغيره بغير إذنه إلا حتى يعلمه ويرضى به فيلزمه بعد الرضا به إذا أحاط علمًا به، واختلف ابن القاسم وأشهب فى مسألة من هذا الباب، إذا أودع رجل رجلاً طعامًا فباعه المودع بثمن، فرضى المودع، فقال ابن القاسم: له الخيار، إن شاء أخذ مثل طعامه من المودع، وإن شاء أخذ الثمن الذى باعه به. وقال أشهب: إن رضى بذلك فلا يجوز؛ لأنه طعام بطعام فيه خيار. وهذا الحديث دليل على صحة قول ابن القاسم؛ لأن فيه أن الذى كان ترك الأجير: فرق ذرة، وأنه زرعه له الذى بقى عنده حتى صار منه بقر وراعيها فلو كان خيار صاحب الطعام يحرم عليه الطعام، ما جاز له أخذ البقر وراعيها لأن أصلها كان من ذلك الفرق المزروع له بغير علمه، وقد رضى النبى - عليه السلام -(6/336)
بذلك وأقره، وأخبر أن الذى انطبق عليه الغار توسل بذلك إلى ربه، ونجاه به، فدل هذا الحديث أنه لم يكن أخذ الأجير للبقر وراعيها لازمًا إلا بعد رضاه بذلك لقوله: (أتستهزئ بى؟) وإنكاره ما بذل له عوضا من الفرق، ولذلك عظمت المثوبة فى هذه القصة، وظهرت هذه الآية الشنيعة من أجل تطوع الزارع للفرق بما بذل له، وأنه فعل أكثر مما كان يلزمه فى تأدية ما عليه، فشكر الله له ذلك. وقد اختلف العلماء فى الطعام المغصوب يزرعه الغاصب، فذكر ابن المنذر أن قول مالك والكوفيين: أن الزرع للغاصب، وعليه مثل الطعام الذى غصب؛ لأن كل من تعدى على كل ماله مثل فليس عليه غير مثل الشىء المتعدى عليه، غير أن الكوفيين قالوا: إن زيادة الطعام حرام على الغاصب لا تحل له، وعليه أن يتصدق به، وقال أبو ثور: كل ما أخرجت الأرض من الحنطة فهو لصاحب الحنطة، وسيأتى اختلافهم فيمن تعدى على ذهب أو ورق، فتجر فيه بغير إذن صاحبه فى كتاب الإجارة فى باب من استأجر أجيرًا فترك الأجير أجره، فعمل فيه المستأجر فزاد فى حديث ابن عمر بعد هذا - إن شاء الله. قوله: (يتضاغون عند رجلى) . قال صاحب العين: يقال: ضغا يضغوا ضغوًا، أضغيته: وهو صوت الذليل.(6/337)
90 - بَاب الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْحَرْبِ
/ 136 - فيه: عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ مُشْعَانٌّ طَوِيلٌ بِغَنَمٍ يَسُوقُهَا، فَقَالَ له النَّبىُّ، عليه السَّلام: (بَيْعًا أَمْ عَطِيَّةً - أَوْ قَالَ: أَمْ هِبَةً) فَقَالَ: لاَ، بَلْ بَيْعٌ، فَاشْتَرَى مِنْهُ شَاةً. الشراء والبيع من الكفار كلهم جائز، إلا أن أهل الحرب لا يباع منهم ما يستعينون به على إهلاك المسلمين من العدة والسلاح، ولا ما يقوون به عليهم. قال ابن المنذر: واختلف العلماء فى مبايعة من الغالب على ماله الحرام وقبول هداياه وجوائزه، فرخصت طائفة فى ذلك، كان الحسن البصرى لا يرى بأسا أن يأكل الرجل من طعام العشار والصراف والعامل، ويقول: قد أحل الله طعام اليهود والنصار، وأكله أصحاب رسول الله، وقد قال تعالى فى اليهود: (أكالون للسحت (. وقال مكحول والزهرى: إذا اختلط المال وكان فيه الحلال والحرام، فلا بأس أن يؤكل منه، وإنما كره من ذلك الشىء الذى يعرفه بعينه. وقال الحسن: لا بأس ما لم يعرفوا شيئًا بعينه. وقال الشافعى: لا يجب مبايعة من أكثر ماله ربا أو كسبه من حرام، وإن بايعه لم أفسخ البيع لأن هؤلاء قد يملكون حلالاً، ولا يحرم إلا حرامًا بينا، إلا أن يشترى الرجل حراما بينًا يعرفه، والمسلم والذمى والحربى فى هذا سواء.(6/338)
وحجة من رخص فى ذلك قوله - عليه السلام - للمشرك المشعان فى الغنم: (أبيعًا أم عطية أم هبة) ؟ قال ابن المنذر: وأيضًا فإن النبى - عليه السلام - رهن درعه عند يهودى قال: وكان ابن عمر وابن عباس يأخذان هدايا المجتار، وبعث عمر بن عبد الله بن معمر إلى ابن عمر بألف دينار، والى القاسم بن محمد بألف دينار، فأخذها ابن عمر وقال: وصلته رحم، لقد جاءتنا على حاجة، وأبى أن يقبلها القاسم، فقالت امرأته: إن لم تقبلها فأنا ابنة عمه كما هو ابن عمه، فأخذتها، وقال عطاء: بعث معاوية إلى عائشة بطوق من ذهب فيه جوهر، فقوم بمائة ألف فقسمته بين أزواج النبى - عليه السلام. وكرهت طائفة الأخذ منهم، روى ذلك عن مسروق وسعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وبشير بن سعيد وطاوس وابن سيرين وسفيان الثورى وابن المبارك وابن المبارك ومحمد بن واسع وأحمد بن حنبل، وأخذ ابن المبارك قذاة من الأرض فقال: من أخذ منهم مثل هذه فهو منهم. وقد تقدم هذا المعنى فى كتاب الزكاة فى باب من أعطاه الله شيئا من غير مسألة ولا إشراف نفس. قال المهلب: وقوله عليه السلام للمشرك: (أبيعا أم عطية أم هبة؟) فإنما قال ذلك على معنى أن يثيبه لو كانت هدية، لا أنه كان يقبلها منه دون إثابة عليها، كما فعل عليه السلام بكل من هاداه من المشركين، وسيأتى حكم هدية المشركين فى كتاب الهبة فى باب (قبول الهدية من المشركين إن شاء الله) . وفيه: قصد الرؤساء وكبراء الناس بالسلع لاستجزال الثمن.(6/339)
وفيه: أن ابتياع الأشياء من مجهول الناس ومن لا يعلم حاله بعفاف أو غيره جائز حتى يطلع على ما يلزم الورع عنه، أو يوجب ترك مبايعته لغصب أو سرقة أو غير ذلك، قال ابن المنذر: لأن من بيده الشىء فهو مالكه على الظاهر، ولا يلزم المشترى أن يعلم حقيقة ملكه له بحكم اليد. وقال صاحب العين: يقال: شعر مشعان، إذا كان منتفشًا، ورجل مشعان الرأس.
91 - بَاب شِرَاءِ الْمَمْلُوكِ مِنَ الْحَرْبِىِّ وَهِبَتِهِ وَعِتْقِهِ
وَقَالَ عليه السَّلام لِسَلْمَانَ: (كَاتِبْ) ، وَكَانَ حُرًّا فَظَلَمُوهُ وَبَاعُوهُ، وَسُبِىَ عَمَّارٌ وَصُهَيْبٌ وَبِلاَلٌ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِى الرِّزْقِ (إلى قوله: (أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (. / 137 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبىُّ عليه السَّلام: (هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَم بِسَارَةَ، فَدَخَلَ بِهَا قَرْيَةً فِيهَا مَلِكٌ مِنَ الْمُلُوكِ - أَوْ جَبَّارٌ مِنَ الْجَبَابِرَةِ - فَقِيلَ: دَخَلَ إِبْرَاهِيمُ بِامْرَأَةٍ هِىَ مِنْ أَحْسَنِ النِّسَاءِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ مَنْ هَذِهِ الَّتِى مَعَكَ؟ قَالَ: أُخْتِى، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: لاَ تُكَذِّبِى حَدِيثِى، فَإِنِّى أَخْبَرْتُهُمْ أَنَّكِ أُخْتِى، وَاللَّهِ إِنْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ مُؤْمِنٌ غَيْرِى وَغَيْرُكِ، فَأَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ فَقَامَ إِلَيْهَا، فَقَامَتْ تَوَضَّأُ وَتُصَلِّى، فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ، وَأَحْصَنْتُ فَرْجِى إِلاَ عَلَى زَوْجِى، فَلاَ(6/340)
تُسَلِّطْ عَلَىَّ الْكَافِرَ، فَغُطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ - قَالَ الأَعْرَجُ: قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَتِ: اللَّهُمَّ إِنْ يَمُتْ يُقَالُ هِىَ قَتَلَتْهُ - فَأُرْسِلَ، ثُمَّ قَامَ إِلَيْهَا، فَقَامَتْ تَوَضَّأُ تُصَلِّى، وَتَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ، وَأَحْصَنْتُ فَرْجِى إِلاَ عَلَى زَوْجِى، فَلاَ تُسَلِّطْ عَلَىَّ هَذَا الْكَافِرَ، فَغُطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ - قَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ: قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ إِنْ يَمُتْ، فَيُقَالُ: هِىَ قَتَلَتْهُ - فَأُرْسِلَ فِى الثَّانِيَةِ، أَوْ فِى الثَّالِثَةِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرْسَلْتُمْ إِلَىَّ إِلاَ شَيْطَانًا، ارْجِعُوهَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ، وَأَعْطُوهَا آجَرَ، فَرَجَعَتْ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَم، فَقَالَتْ: أَشَعَرْتَ أَنَّ اللَّهَ كَبَتَ الْكَافِرَ، وَأَخْدَمَ وَلِيدَةً) . / 138 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتِ: اخْتَصَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِى وَقَّاصٍ، وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فِى غُلاَمٍ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هذا ابْنُ أَخِى عُتْبَةُ بْنُ أَبِى وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَىَّ فِيهِ أَنَّهُ ابْنُهُ انْظُرْ إِلَى شَبَهِهِ، وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: هَذَا أَخِى يَا رَسُولَ اللَّهِ، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِى مِنْ وَلِيدَتِهِ، فَنَظَرَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، إِلَى شَبَهِهِ فَرَأَى شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ، فَقَالَ: (هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ، وَاحْتَجِبِى مِنْهُ يَا سَوْدَةُ بِنْتَ زَمْعَةَ، فَلَمْ تَرَهُ سَوْدَةُ قَطُّ) . / 139 - وفيه: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، أنه قَالَ لِصُهَيْبٍ: اتَّقِ اللَّهَ، وَلاَ تَدَّعِ إِلَى غَيْرِ أَبِيكَ، فَقَالَ صُهَيْبٌ: مَا يَسُرُّنِى أَنَّ لِى كَذَا وَكَذَا، وَأَنِّى قُلْتُ ذَلِكَ، وَلَكِنِّى سُرِقْتُ وَأَنَا صَبِىٌّ. / 140 - وفيه: حَكِيم، قلت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ أُمُورًا كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِى الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ صِلَةٍ وَعَتَاقَةٍ وَصَدَقَةٍ، هَلْ لِى فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ حَكِيمٌ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ لَكَ مِنْ خَيْرٍ) . غرض البخارى فى هذا الباب - والله أعلم - إثبات ملك الحربى والمشرك، وجواز تصرفه فى ملكه بالبيع والهبة والعتق، وجميع ضروب التصرف؛ إذ قد أقر النبى - عليه السلام - سلمان عند مالكه(6/341)
من الكفار، فلم يُزِل ملكه عنه، وأمره أن يكاتب، وقد كان حرا وأنهم ظلموه وباعوه، ولم ينقض ذلك ملك مالكه، وكذلك كان أمر عمار وصهيب وبلال، باعهم مالكوهم الكفار من المسلمين، واستحقوا أثمانهم وصارت ملكًا لهم، ألا ترى أن إبراهيم - عليه السلام - قبل هبة الملك الكافر، وأن عبد بن زمعة قال للنبى: هذا ابن أمة أبى ولد على فراشه؛ فأثبت لأبيه أمة وملكًا عليه فى الجاهلية، فلم ينكر ذلك النبى - عليه السلام - وسماعه الخصام فى ذلك دليل على تنفيذ عهد المشرك، والحكم له إن تحوكم فيه إلى المسلمين، وكذلك جوز عليه السلام عتق حكيم بن حزام وصدقته فى الجاهلية، ومعنى قوله تعالى: (والله فضل بعضكم (الآية، فالآية تضمنت التقريع للمشركين والتوبيخ لهم على تسويتهم عبادة الأصنام بعبادة الله، فنبههم الله أن مماليكهم غير مساوين لهم فى أموالهم، فالله - تعالى - أولى بإفراد العبادة وألا يشرك معه أحد من عبيده، إذ لا ملك على الحقيقة، ولا مستحق للإلهية غيره عز وجل. قال الطبرى: فإن قال قائل: كيف جاز لليهودى ملك سلمان وهو مسلم، ولا يجوز للكافر ملك مسلم؟ فالجواب: إن حكم النبى - عليه السلام - وشريعته أن من غلب من أهل الحرب على نفسه غيره أو ماله، ولم يكن المغلوب على ذلك ممن دخل فى صبغة الإسلام، فهو لغالبه ملكًا، وكان سلمان حين غلب على نفسه لم يكن مؤمنا، وإنما كان إيمانه تصديق بالنبى - عليه السلام - إذا بعث، مع إقامته على شريعة عيسى - عليه السلام - فأقره عليه السلام مملوكا لمن(6/342)
كان فى يده، إذ كان فى حكمه عليه السلام أن من أسلم من رقيق المشركين فى دار الحرب، ولم يخرج مراغمًا لسيده فهو لسيده، أو كان سيده من أهل صلح المسلمين، فهو مملوك لمالكه. قال المهلب: وفى حديث إبراهيم عليه السلام من الفقه: إباحة المعاريض، وأنها لمندوحة عن الكذب. وفيه: أن أخوة الإسلام أخوة يجب أن يسمى بها. وفيه: الرخصة فى الانقياد للظالم والغاصب. وفيه: قبول صلة السلطات الظالم. وفيه: إجابة الدعوة بإخلاص النية، وكفاية الله - جل ثناؤه وتقدست أسماؤه - لمن أخلصها بما يكون نوعًا من الآيات، وزيادة فى الإيمان، وتقوية عل التصديق والتسليم والتوكل. وقوله: فغط، يقال: غط غطيطًا: صوت فى نومه، من كتاب الأفعال. وقوله: كبت الله الكافر - يعنى: صرعه لوجهه - وكبت الله العدو: أهلكه من الأفعال.
92 - بَاب جُلُودِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ أَنْ تُدْبَغَ
/ 141 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) مَرَّ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ، فَقَالَ: (هَلاَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِإِهَابِهَا؟) قَالُوا: إِنَّهَا مَيِّتَةٌ، قَالَ: (إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا) .(6/343)
قد تقدم اختلاف العلماء فى جلود الميتة، وأن جمهور العلماء على جواز بيعها والانتفاع بها بعد دباغها فى كتاب الذبائح، فأغنى عن إعادته - والحمد لله.
93 - بَاب قَتْلِ الْخِنْزِيرِ
وَقَالَ جَابِرٌ: حَرَّمَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بَيْعَ الْخِنْزِيرِ / 142 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ) . أجمع العلماء على أن بيع الخنزير وشراءه حرام، واجمعوا على قتل كل ما يستضر به ويؤذى مما لا يبلغ أذى الخنزير، كالفواسق التى أمر النبى المحرم بقتلها، فالخنزير أولى بذلك، لشدة أذاه، ألا ترى أن عيسى ابن مريم يقتله عند نزوله، فقتله واجب. وفيه دليل أن الخنزير حرام فى شريعة عيسى، وقتله له تكذيب للنصارى أنه حلال فى شريعتهم. واختلف العلماء فى الانتفاع بشعره، فكرهه ابن سيرين والحكم، وهو قول الشافعى وأحمد وإسحاق. وقال الطحاوى عن أصحابه: لا ينتفع من الخنزير بشىء، ولا يجوز بيع شىء منه، ويجوز للخرازين أن ينتفعوا بشعره أو شعرتين للخرازة، ورخص فيه الحسن وطائفة. وذكر ابن خواز بنداد عن مالك أنه قال: لا بأس بالخرازة(6/344)
بشعر الخنزير، قال: فيجئ على هذا أنه لا بأس ببيعه وشرائه. وقال الأوزاعى: يجوز للخراز أن يشتريه، ولا يجوز له بيعه. وقال المهلب: قوله: (فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية) يدل أن الناس كلهم يدخلون فى الإسلام، ولا يبقى من يخالفه - والله أعلم.
94 - بَاب لاَ يُذَابُ شَحْمُ الْمَيْتَةِ وَلاَ يُبَاعُ وَدَكُهُا
رَوَاهُ جَابِرٌ عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام. / 143 - فيه: ابْن عَبَّاس، بَلَغَ عُمَرَ أَنَّ فُلاَنًا بَاعَ خَمْرًا، فَقَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ فُلاَنًا، أَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ، فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا؟) . أجمع العلماء على تحريم بيع الميتة، لتحريم الله تعالى لها بقوله: (حرمت عليكم الميتة والدم (قال الطبرى: فإن قيل: ما وجه قوله فى بيع الخمر: (لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها) وأنت تعلم أن أشياء كثيرة حرم الله أكلها ولم تحرم أثمانها، كالحمر الأهلية وسباع الطير كالعقبان والبزاة وشبهها؟ قلت: المعنى الذى خالف بينهما مع اشتباههما فى الوجه الذى وصفت بين، وهو أن الله - تعالى - جعل الخمر والخنزير(6/345)
نجسين، فحكمهما فى أنه لا يحل بيعهما ولا شراؤهما، ولا أكل أثمانهما حكم سائر النجاسات من الميتة والدم والعذرة والبول، وذلك هو المعنى الذى مثل به بائع الخمر وآكل ثمنها بالبائع من اليهود الشحوم وآكل أثمانها، إذ كانت الشحوم حرام أكلها على اليهود، نجسة عندهم نجاسة الخمر والميتة فى ديننا، فكان بائعها منهم وآكل ثمنها نظير بائع الخمر والخنزير منا وآكل ثمنها، فالواجب أن يكون كل ما كان نجساُ حرام بيعه وشراؤه، وأكل ثمنه، وكل ما حرم أكله وهو طاهر، فحلال بيعه وشراؤه، والانتفاع به فيما لم يحظر الله - تعالى - الانتفاع به، فبان الفرق بينهما. قال المؤلف: واختلف العلماء فى جواز بيع العذرة والسرقين، فكره مالك والكوفيون بيع العذرة، وقالوا: لا خير فى الانتفاع بها وأجاز الكوفيون بيع السرقين. قال الطحاوى: وزبل الدواب عند مالك نجس، فينبغى أن يكون كالعذرة، وأما بعر الإبل وخثى البقر فلا بأس ببيعه عند مالك، وقال الشافعى: لا يجوز بيع العذرة ولا الروث، ولا شىء من الأنجاس. قال الطحاوى: وقد جرت عادت الناس بالانتفاع بالسرقين وإن كان نجسا وتمريغ دوابهم فيه، وخلطه بالطين والبناء للفخار، ولوقود النيران غير منكر ذلك عندهم، فهون من النجاسات التى أبيح الانتفاع بها، فدل أنها مملوكة، وأن على مستهلكها ضمانها، فكان دلادلة على أنه يجوز بيعه؛ لأنه مال، وإذا كان كذلك فالحاجة إلى العذرة قائمة فى الانتفاع بها للأرضين. فوجب أن تكون كذلك، وفى سماع ابن القاسم أنه سئل(6/346)
عن قوم لهم خربة فرمى الناس فيها زبلاً، فأرادوا ضربه طوبًا وبيعه، ليعمروا به تلك الأرض، قال: ذلك لهم. وقوله: (فجملوها) ، يعنى أذابوها، يقال: جملت الشحم أجمله جملاً واجتملته، وإذا أذبته، والجميل: الودك.
95 - بَاب بَيْعِ التَّصَاوِيرِ الَّتِى لَيْسَ فِيهَا أَرْوَاحٌ وَمَا يُكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ
/ 144 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إن مَعِيشَتِى مِنْ صَنْعَةِ يَدِى، وَإِنِّا أَصْنَعُ هَذِهِ التَّصَاوِيرَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لاَ أُحَدِّثُكَ إِلاَ مَا سَمِعْتُ من رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: (مَنْ صَوَّرَ صُورَةً، فَإِنَّ اللَّهَ مُعَذِّبُهُ حَتَّى يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ، وَلَيْسَ بِنَافِخٍ فِيهَا أَبَدًا) ، فَرَبَا الرَّجُلُ رَبْوَةً شَدِيدَةً، وَاصْفَرَّ وَجْهُهُ، فَقَالَ: وَيْحَكَ، إِنْ أَبَيْتَ إِلاَ أَنْ تَصْنَعَ فَعَلَيْكَ بِهَذَهِ الشَّجَرِةِ كُلِّ شَىْءٍ لَيْسَ فِيهِ رُوحٌ) . قال المهلب: إنما كره هذا من أجل أن الصور التى فيها الأرواح كانت معبودة فى الجاهلية، فكرهت كل صورة وإن كانت لا فىء لها ولا جسم؛ قطعًا للذريعة، حتى إذا استوطن أمر الإسلام وعرف الناس من أمر الله وعبادته ما لا يخاف عليهم فيه من الأصنام والصور، أرخص فيما كان رقمًا أو صبغًا إذا وضع موضع المهنة، وإذا نصب نصب العبادة، وسأتقصى ما للعلماء فى الصور فى كتاب الزينة - إن شاء الله.(6/347)
وقال صاحب العين: يقال ربا الرجل أصابه نفس فى جوفه، وهو الربو والرَّبوة والرِّبوة.
96 - بَاب تَحْرِيمِ التِّجَارَةِ فِى الْخَمْرِ
وقال جابر: حرم النبى عليه السلام بيع الخمر. / 145 - وفيه عائشة: لَمَّا نَزَلَتْ آيَاتُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ عَنْ آخِرِهَا، خَرَجَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فَقَالَ: (حُرِّمَتِ التِّجَارَةُ فِى الْخَمْرِ) . الأمة مجمعة على تحريم بيع الخمر، كما أجمعوا على تحريم شربها والانتفاع بها، واختلفوا فى تخليلها، واختلف قول مالك فى ذلك أيضًا، فروى عنه ابن وهب وابن القاسم: أنه لا يحل لمسلم أن يخلل الخمر، ولكن يهريقها، فإن صارت خلا بغير علاج فهى حلال، وهو قياس قول الشافعى، وروى ابن القاسم عن مالك أنه إن خللها جاز أكلها وبيعها، وبئس ما صنع. وروى عن أشهب: إن خللها النصارى فلا بأس بأكلها، وكذلك إن خللها مسلم واستغفر الله، وهو قول الليث. وأجاز الثورى والأوزاعى وأبو حنيفة وأصحابه تخليل الخمر، ولا بأس أن يطرح فيها السمك والملح فيصير مريا إذا تحولت عن حال الخمر. واحتج الشافعى بما روى الثورى عن السدى، عن أبى هريرة قال: (جاء رجل إلى النبى وفى حجره يتيم، وكان عنده خمر له حين حرمت الخمر، فقال: يا رسول الله، نصنعها خلا؟ فقال: لا.(6/348)
فصبها حتى سال الوادى) . قال الطحاوى: واحتمل نهى النبى - عليه السلام - أن تجعل خلا وأمره بالإراقة معان: أحدها: أن يكون نهيًا عن التخليل، ولا دلالة فيه بعد ذلك على حظر ذلك الخل الكائن منها، واحتمل أن يكون مراده تحريم ذلك الخل، ويحتمل أن يكون أراد التغليظ وقطع العادة؛ لقرب عهدهم بشرب الخمر. واحتج الكوفيون بما روى أبو إدريس الخولانى أن أبا الدرداء كان يأكل المرى الذى جعل فيه الخمر، ويقول: دبغته الشمس والملح. قالوا: وكما لا يختلف حكم جلد الميتة فى دبغه بعلاج آدمى وغيره، كذلك استحالة الخمر خلا.
97 - بَاب إِثْمِ مَنْ بَاعَ حُرًّا
/ 146 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (قَالَ اللَّهُ: ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِى، ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا، ثُمَّ أَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا، فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ) . قال المهلب: قوله: (أعطى بى ثم غدر) يريد نقض عهدًا عاهده عليه، وقوله: (استأجر أجيرا فلم يعطه أجره) ، هو داخل فى معنى من باع حرًا؛ لأنه استخدمه بغير عوض، وهذا عين الظلم، وإنما عظم الإثم فيمن باع حرا؛ لأن المسلمين أكفاء فى الحرمة والذمة، وللمسلم على المسلم أن ينصره ولا يظلمه، وأن ينصحه ولا(6/349)
يسلمه، وليس فى الظلم أعظم من أن يستعبده أو يعرضه لذلك، ومن باع حرا فقد منعه التصرف فيما أباح الله له، وألزمه حال الذلة والصغار، فهو ذنب عظيم، ينازع الله به فى عبادة. قال ابن المنذر: وكل من لقيت من أهل العلم على أنه من باع حرا أنه لا قطع عليه ويعاقب، ويروى عن ابن عباس قال: يرد البيع ويعاقبان. وروى جلاس عن على أنه قال: تقطع يده. والصواب قول الجماعة؛ لأنه ليس بسارق، ولا يجوز قطع غير السارق.
98 - بَاب أَمْرِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) الْيَهُودَ بِبَيْعِ أَرضهم حتى أَجْلاَهُمْ
/ 147 - فيه: الْمَقْبُرىُّ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ.
99 - بَاب بَيْعِ الْعَبِيدِ وَالْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً
وَاشْتَرَى ابْنُ عُمَرَ رَاحِلَةً بِأَرْبَعَةِ أَبْعِرَةٍ مَضْمُونَةٍ عَلَيْهِ، يُوفِيهَا صَاحِبَهَا بِالرَّبَذَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَدْ يَكُونُ الْبَعِيرُ خَيْرًا مِنَ الْبَعِيرَيْنِ. وَاشْتَرَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ بَعِيرًا بِبَعِيرَيْنِ، فَأَعْطَاهُ أَحَدَهُمَا، وَقَالَ: آتِيكَ بِالآخَرِ غَدًا رَهْوًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: لاَ رِبَا فِى الْحَيَوَانِ الْبَعِيرُ بِالْبَعِيرَيْنِ، وَالشَّاةُ بِالشَّاتَيْنِ إِلَى أَجَلٍ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لاَ بَأْسَ بِبَعِيرٍ بِبَعِيرَيْنِ نَسِيئَةً، وَدرهم بِدرهم نَسِيئَةً.(6/350)
/ 148 - فيه: أَنَس، قَالَ: كَانَ فِى السَّبْىِ صَفِيَّةُ، فَصَارَتْ إِلَى دَحْيَةَ الْكَلْبِىِّ، ثُمَّ صَارَتْ إِلَى النَّبِىِّ، عليه السَّلام. قال المؤلف: حديث المقبرى عن أبى هريرة الذى أشار إليه البخارى فى هذا الباب، قد ذكره فى آخر كتاب الجهاد، فى باب: إخراج اليهود من جزيرة العرب، قال أبو هريرة: (بينا نحن فى المسجد خرج النبى - عليه السلام - فقال: انطلقوا إلى يهود، فخرجنا حتى جئنا بيت المدراس، فقال: أسلموا، واعلموا أن الأرض لله ولرسوله، وإنى أريد أن أجليكم من هذه الأرض، فمن وجد منكم بماله ثمنًا فليبعه، وإلا فاعلموا أن الأرض لله ولرسوله) . قال المؤلف: وهؤلاء اليهود الذين أجلاهم النبى - عليه السلام - هم بنو النضير، وذلك أنهم أرادوا الغدر برسول الله، وأن يلقوا عليه حجرًا، فأوحى الله إليه بذلك، فأمر بإجلائهم، وأن يسيروا حيث شاءوا، فلما سمع المنافقون بذلك بعثوا إلى بنى النضير: اثبتوا وتمنعوا؛ فإنا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم، فتربصوا بذلك لنصرهم فلم يفعلوا، وقذف الله فى قلوبهم الرعب، فسألوا رسول الله أن يجليهم، ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلفة، ففعل، فاحتملوا ذلك وخرجوا إلى خيبر، وخرج أكثرهم إلى الشام، وخلوا الأموال لرسول الله، فكانت(6/351)
له خاصة يضعها حيث يشاء، فقسمها رسول الله على المهاجرين دون الأنصار فى حديث طويل ذكره ابن إسحاق , قال المؤلف: فإن قال قائل: هذا معارض لحديث المقبرى عن أبى هريرة؛ لأن فيه أن النبى - عليه السلام - أمرهم ببيع أرضهم، وفى حديث ابن إسحاق أنهم تركوا أرضهم دون عوض، وحلت لرسول الله فما وجه ذلك؟ فالجواب: أن النبى إنما أمرهم ببيع أرضهم - والله أعلم - قبل أن يكونوا له حربا، فكانوا مالكين لأرضهم، وكانت بينهم وبين النبى مسالمة وموافقة للجيرة، فكان النبى - عليه السلام - يمسك عنهم لإمساكهم عنه، ولم يكن بينهم عهد، ثم أطلعه الله على ما يؤملون من الغدر به، وقد كان أمره لهم ببيع أرضهم وإجلائهم قبل ذلك فلم يفعلوا؛ لأجل قول المنافقين لهم: اثبتوا فإنا لن نسلمكم إن قوتلتم فوثقوا بقولهم، وثبتوا ولم يخرجوا، وعزموا على مقاتلة النبى - عليه السلام - فصاروا له حربًا؛ فحلت بذلك دماؤهم وأموالهم، فخرج إليه رسول الله وأصحابه فى السلاح وحاصرهم، فلما يئسوا من عون المنافقين ألقى الله فى قلوبهم الرعب، وسألوا رسول الله الذى كان عرضه عليهم قبل ذلك، فلم يبح لهم بيع الأرض، وقاضاهم على أن يجليهم ويتحملوا بما استقلت به الإبل، وعلى أن يكف عن دمائهم وأموالهم، فحلوا عن ديارهم، وكفى الله المؤمنين القتال، وكانت أراضيهم وأموالهم مما لم يوجف عليها بقتال مما انجلى عنها أهلها بالرعب، وصارت خالصة لرسول الله يضعها حيث شاء، قال ابن إسحاق: ولم يسلم من بنى النضير إلا رجلان أسلما على أموالهما فأحرزاها،(6/352)
قال: ونزلت فى بنى النضير سورة الحشر إلى قوله: (ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم فى الدنيا (أى: بالقتل والسبى، ولهم فى الآخرة مع ذلك عذاب النار. وقوله: (لأول الحشر (، يعنى: الشام الذى جلا أكثرهم إليه؛ لأنه روى فى الحديث أنه تجىء نار تحشر الناس إلى الشام، ولذلك قيل فى الشام أنها أرض المحشر. وأما بيع الحيوان بالحيوان نسيئة فإن العلماء اختلفوا فى ذلك، فقالت طائفة: لا ربا فى الحيوان، وجائز بيع بعضه ببعض نقدًا ونسيئة اختلف أو لم يختلف، هذا مذهب على ابن أبى طالب وابن عمر وابن المسيب، وهو قول الشافعى وأبى ثور، وقال مالك: لا بأس بالبعير النجيب بالبعيرين من حاشية الإبل نسيئة، وإن كانت من نعم واحدة إذا اختلف فبان اختلافها، وإن أشبه بعضها بعضا واتفقت أجناسها، فلا يؤخذ منها اثنان بواحد إلى أجل، ويؤخذ يد بيد، وهو قول سليمان بن يسار وربيعة ويحيى بن سعيد، وقال الثورى والكوفيون وأحمد: لا يجوز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، اختلفت أجناسه أو لم تختلف، واحتجوا بحديث الحسن عن سمرة ابن جندب (أن النبى - عليه السلام - نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة) . وبحديث يحيى بن أبى كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: (نهى رسول الله عن بيه الحيوان بالحيوان نسيئة) ومعنى النهى عن ذلك عندهم لعدم وجود مثله؛ ولأنه غير موقوف عليه، قالوا: وهذا مذهب ابن عباس وعمار بن ياسر، وأجازوا التفاضل فيه يدًا بيد، وحجة القول الأول: ما رواه ابن(6/353)
إسحاق، عن أبى سفيان، عن مسلم بن كثير، عن عمرو بن حريش قال: قلت لعبد الله عمرو: (إنه ليس بأرضنا ذهب ولا فضة، وإنما نبيع البعير بالبعيرين، والبقرة بالبقرتين، والشاة بالشاتين. فقال: (إن رسول الله أمر أن يجهز جيش، فنفدت الإبل، فأمر أن نأخذ على قلائص الصدقة بالبعيرين إلى إبل الصدقة) . وقد سأل عثمان السجستانى يحيى بن معين عن سند هذا الحديث، فقال: سند صحيح مشهور، وهذا المذهب أراد البخارى، ووجه إدخاله حديث صفية فى هذا الباب، أن صفية صارت إلى دحية الكلبى بأمر النبى - عليه السلام - فأخبر النبى أنها سيدة قريظة ولا تصلح إلا له، وذكر من جمالها، فأمر النبى فأتى بها، فلما رآها عليه السلام قال لدحية: دعها وخذ غيرها، فكان تركه لها عند النبى وأخذه جارية السبى غير معينة، بيعًا لها بجارية نسيئة حتى يأخذها ويستحسنها، فحينئذ تتعين له، وليس ذلك يدًا بيد، وحجة مالك أن الحيوان إذا اختلفت منافعه صار كجنسين من سائر الأشياء، ويجوز فيه التفاضل والأجل؛ لاختلاف أغراض الناس فيه لأن غرض الناس من العبيد والحيوان والمنافع، ولا ربا عندهم فى الحيوان والعروض إذا حدث فيها النسيئة إلا من باب الزيادة فى السلف، وإذا كان التفاضل فى الجهة الواحدة خرج من أن تتوهم فيه الزيادة فى السلف، وليس العبد الكاتب والصائغ عندهم مثل العبد الذى هو مثله فى الصورة، إذا لم يكن كاتبًا ولا صائغًا، وأما إذا اتفقت منافعها فلا يجوز عندهم صنف منه بصنف مثله أكثر منه إلى أجل؛ لأن ذلك يدخل فى معنى قرض جر منفعة؛ لأنه أعطى(6/354)
شيئًا له منفعة بشىء أكثر منه له مثل تلك المنفعة؛ لأنه إنما طلب زيادة الشىء لاختلاف منافعه، فلم يجز ذلك، وتأول مالك فيما روى عن على بن أبى طالب أنه باع جملا له يدعى عصيفير بعشرين بعيرًا إلى أجل، وما روى عن ابن عمر أنه اشترى راحلة بأربعة أبعرة، أن منافعها كانت مختلفة، وليس فى الحديث عنهم أن منافعها كانت متفقة، فلا حجة للمخالف فى ذلك. وأما قول ابن سيرين: لا بأس ببعير ببعيرين، ودرهم بدرهم نسيئة، وفى بعض النسخ بدرهمين نسيئة، فإن ذلك خطأ فى النقل عن البخارى، والصحيح عن ابن سيرين ما رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين قال: (لا بأس ببعير ببعيرين وردهم، والدرهم نسيئة فإن كان أحد البعيرين نسيئة فهو مكروه) وهذا مذهب مالك، وقد ذكره فى الموطأ فى مسألة الجمل بالجمل وزيادة دراهم، قال: والذى يجوز من ذلك أن يكون الجملان نقدًا، ولا يبالى تأخرت الدراهم أم تعجلت؛ لأن الجمل بالجمل قد حصل يدًا بيد، فبطل أن يتوهم فيه السلف، وأعلم أنه بيع؛ لأن الدراهم هاهنا تبع للجمل، وليس هى المقصد، وأما إذا كان أحد الجملين نسيئة فلا يجوز؛ لأنه عنده من باب الزيادة فى السلف، كأنه أسلفه جملا فى مثله واستزاد عليه الدراهم، ولو كانت الدراهم والجمل جميعًا إلى أجل لم يجز؛ لأنه أقرضه الجمل على أنه يرده إليه بصفته ويرد معه دراهم، فهو سلف جر منفعة، وزيادة على ما أخذ المستسلف فلا يجوز.(6/355)
وقول رافع بن خديج: (آتيك غدًا رهوًا) قال صاحب العين: الرهو: مشى فى سكون. وقال أبو عبيد: يقول: آتيك عفوًا لا احتباس فيه.
0 - بَاب بَيْعِ الرَّقِيقِ
/ 149 - فيه: أَبُو سَعِيد، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نُصِيبُ سَبْيًا فَنُحِبُّ الأَثْمَانَ فَكَيْفَ تَرَى فِى الْعَزْلِ؟ فَقَالَ: (أَوَإِنَّكُمْ لَتَفْعَلُونَ ذَلِكَ، لاَ عَلَيْكُمْ أَنْ لاَ تَفْعَلُوا ذَلِكُ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ نَسَمَةٌ كَتَبَ اللَّهُ أَنْ تَخْرُجَ إِلاَ هِىَ خَارِجَةٌ) . / 150 - وفيه: جَابِر، قَالَ: بَاعَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) الْمُدَبَّرَ. / 151 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَزَيْدَ بْنَ خَالِدٍ، أنّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، سُئل، عَنِ الأَمَةِ تَزْنِى وَلَمْ تُحْصَنْ، قَالَ: (اجْلِدُوهَا، فَإِنْ زَنَتْ، فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ بِيعُوهَا بَعْدَ الثَّالِثَةِ، أَوِ الرَّابِعَةِ) . بيع الرقيق كبيع سائر المباحات الداخلة فى عموم قوله تعالى: (وأحل الله البيع (. وقوله فى حديث أبى سعيد: فنحب الأثمان. يدل أنه لا يجوز بيع أم الولد؛ لأن الحمل منهن يمنع الفداء والثمن، وسيأتى تمام القول فى أم الولد فى موضعه - إن شاء الله. وأما بيع المدبر فإن العلماء اختلفوا فيه، فذهب مالك والكوفيون إلى أنه لا يجوز بيعه، ولا يجوز تحويله عن موضعه الذى وضع فيه،(6/356)
وقال الشافعى: بيع المدبر جائز، واحتج بحديث جابر أن النبى - عليه السلام - باع مدبرًا، وسيأتى بيان مذاهبهم فيه فى موضعه، وقد تقدم فى باب بيع العبد الزانى، الكلام فى حديث أبى هريرة، فأغنى عن إعادته - والحمد لله.
1 - بَاب هَلْ يُسَافِرُ بِالْجَارِيَةِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا
وَلَمْ يَرَ الْحَسَنُ بَأْسًا أَنْ يُقَبِّلَهَا أَوْ يُبَاشِرَهَا. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِذَا وُهِبَتِ الْوَلِيدَةُ الَّتِى تُوطَأُ، أَوْ بِيعَتْ أَوْ عَتَقَتْ، فَلْيُسْتَبْرَأْ رَحِمُهَا بِحَيْضَةٍ، وَلاَ تُسْتَبْرَأُ الْعَذْرَاءُ. وَقَالَ عَطَاءٌ: لاَ بَأْسَ أَنْ يُصِيبَ مِنْ جَارِيَتِهِ الْحَامِلِ مَا دُونَ الْفَرْجِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (إِلاَ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ (. / 152 - فيه: أَنَس، قَدِمَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، خَيْبَرَ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْحِصْنَ ذُكِرَ لَهُ جَمَالُ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَىِّ بْنِ أَخْطَبَ، وَقَدْ قُتِلَ زَوْجُهَا وَكَانَتْ عَرُوسًا، فَاصْطَفَاهَا النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) لِنَفْسِهِ، فَخَرَجَ بِهَا حَتَّى بَلَغْنَا سَدَّ الرَّوْحَاءِ حَلَّتْ فَبَنَى بِهَا، ثُمَّ صَنَعَ حَيْسًا فِى نِطَعٍ صَغِيرٍ، ثُمَّ قَالَ عليه السَّلام: (آذِنْ مَنْ حَوْلَكَ) ، فَكَانَتْ تِلْكَ وَلِيمَةَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى صَفِيَّةَ، ثُمَّ خَرَجْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ، قَالَ: فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُحَوِّى لَهَا وَرَاءَهُ بِعَبَاءَةٍ، ثُمَّ يَجْلِسُ عِنْدَ بَعِيرِهِ فَيَضَعُ رُكْبَتَهُ، فَتَضَعُ صَفِيَّةُ رِجْلَهَا عَلَى رُكْبَتِهِ حَتَّى تَرْكَبَ. فى(6/357)
حديث صفية دليل على أن الاستبراء أمانة، يؤتمن المبتاع عليها بألا يطأها حتى تحيض حيضة إن لم تكن حاملاً؛ لأن النبى - عليه السلام - ألقى رداءه على صفية، وأمرها أن تحتجب بالجعرانة حين صارت فى سهمه، ومعلوم أن من سنته أن الحائل لا توطأ حتى تحيض حيضة؛ خشية أن تكون حاملاً، وأن الحامل لا توطأ حتى تضع؛ لئلا يسقى ماءه زرع غيره، فلما كان الاستبراء أمانة ارتفعت فيه الحكومة، وفى هذا حجة لمن لم يوجب المواضعة على البائع، وهو قول جماعة فقهاء الأمصار غير ربيعة ومالك بن أنس، فإنهما أوجبا المواضعة فى الجوارى المرتفعات المتخذات للوطء خاصة، قال مالك فى المدونة: أكره ترك المواضعة وائتمان المبتاع على الاستبراء، فإن فعلا أجزأهما، وهى من البائع حتى تدخل فى أول دمها. قال المهلب: وإنما قال مالك بالمواضعة خشية أن يتذرع المشترى إلى الوطء، فجعل الاستبراء حياطة على الفروج وحفظا للأنساب، ولقوله عليه السلام: (لا توطأ حائل حتى تحيض) . وأحتج من لم ير المواضعة بأن عطاء بن أبى رباح قال: ما سمعنا بالمواضعة قط. وقال محمد بن عبد الحكم: أول من قال بالمواضعة ربيعة. قال الطحاوى: والدليل على أن المواضعة غير واجبة أن العقد إنما يوجب تسليم البدلين، وقد وافقنا مالك على أن غير المرتفعات من الجوارى لا يجب فيهن استبراء، فوجب أن يكون كذلك حكم المرتفعات، وأجمع الفقهاء على أن حيضة واحدة براءة فى الرحم،(6/358)
إلا أن مالكًا والليث قالا: إن اشتراها فى أول حيضتها اعتد بها، وإن كان فى آخرها لم يعتد بها. واختلفوا فى تقبيل الجارية ومباشرتها قبل الاستبراء، فأجاز ذلك الحسن البصرى وعكرمة، وبه قال أبو ثور، وثبت عن ابن عمر أنه قبل جارية وقعت فى سهمه يوم جلولاء ساعة قبضها. وكره ذلك ابن سيرين، وهو قول الليث ومالك وأبى حنيفة والشافعى، ووجه كراهتهم لذلك قطعا للذريعة، وحفظاُ للانساب. وحجة الذين أجازوا ذلك قوله تعالى: (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم (وقوله عليه السلام: (لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض) . فدل هذا أن ما دون الوطء من المباشرة والقبلة فى حيز المباح وسفر النبى عليه السلام بصفية قبل أن يستبرئها حجة فى ذلك لأنه لو لم يحل له من مباشرتها ما دون الجماع لم يسافر بها معه، لأنه لا بد أن يرفعها أو ينزلها، وكان عليه السلام لا يمس بيده امرأة لا تحل له، ومن هذا الباب اختلافهم فى مباشرة المظاهر وقبلته لامرأته التى ظاهر منها، فذهب الزهرى والنخعى ومالك وأبو حنيفة والشافعى إلى أنه لا يقبل امرأته ولا يتلذذ منها بشىء. وقال الحسن البصرى: لا بأس أن ينال منها ما دون الجماع. وهو قول الثورى والأوزاعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور، وكذلك(6/359)
فسر عطاء وقتادة والزهرى قوله تعالى: (من قبل أن يتماسا (أنه عنى بالمسيس الجماع فى هذه الآية، واختلفوا فى استبراء العذراء فقال ابن عمر: لا تستبرأ. وبه قال أبو ثور، وقال سائر الفقهاء: تستبرأ بحيضة إذا كانت ممن تحيض ويوطأ مثلها.
2 - بَاب بَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالأَصْنَامِ
/ 153 - فيه: جَابِر، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ عَامَ الْفَتْحِ، وَهُوَ بِمَكَّةَ: (إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ، وَالْمَيْتَةِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَالأَصْنَامِ) ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ، فَإِنَّهَا يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ، فَقَالَ: (لاَ هُوَ حَرَامٌ) ، ثُمَّ قَالَ عليه السَّلام عِنْدَ ذَلِكَ: (قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ إِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا أجَمَلُوهُ، ثُمَّ بَاعُوهُ، فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ) . أجمعت الأمة على أنه لا يجوز بيع الميتة والأصنام، لأنه لا يحل الانتفاع بهما، فوضع الثمن فيهما إضاعة المال، وقد نهى النبى عن إضاعة المال، قال ابن المنذر: فإذا أجمعوا على تحريم بيع الميتة، فبيع جيفة الكافر من أهل الحرب كذلك، وقد روى ذلك عن النبى - عليه السلام - وهو مذكور فى آخر كتاب الجهاد. قال الطبرى: فإن قال قائل: ما وجه قوله عليه السلام إذ سأله السائل عن شحوم الميتة وقال: إنها تدهن بها الجلود والسفن(6/360)
ونستصبح بها، فقال مجيبًا له: (قاتل الله اليهود؛ حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها) . قيل: إن جوابه عليه السلام كان عن مسألة بيع الشحوم، لا عن دهن الجلود والسفن، وإنما سأله عن بيع ذلك إذ ظنه جائزًا من أجل ما فيه من المنافع، كما جاز بيع الحمر الأهلية لما فيها من المنافع وإن حرم أكلها، فظن أن شحوم الميتة كذلك، يحل بيعها وشراؤها وإن حرم أكلها، فأخبره عليه السلام أن ذلك ليس كالذى ظن، وأن بيعها حرام وثمنها حرام إذ كانت نجسة، ونظيره الدم والخمر فيما يحرم من بيعها وأكل ثمنها، فأما الاستصباح ودهن السفن والجلود بها، فهو مخالف بيعها وأكل ثمنها، إذ كان ما يدهن بها من ذلك ينغسل بالماء غسل الشىء الذى أصابته نجاسة فيطهره الماء. هذا قول عطاء بن أبى رباح وجماعة من العلماء، وممن أجاز الاستصباح بالزيت تقع فيه الفأرة: على بن أبى طالب، وابن عباس، وابن عمر، وقد تقصينا هذا فى كتاب الذبائح فى باب (إذا وقعت الفأرة فى سمن جامد أو دهن) .
3 - بَاب ثَمَنِ الْكَلْبِ
/ 154 - فيه: أَبُو مَسْعُود الأَنْصَارِىِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَمَهْرِ الْبَغِىِّ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ.(6/361)
/ 155 - وفيه: أَبُو جُحَيْفَةَ، نَهَى النَّبِىّ عَنْ ثَمَنِ الدَّمِ، وَثَمَنِ الْكَلْبِ، وَكَسْبِ الأَمَةِ. . . الحديث. اختلفت الرواية عن مالك فى بيع الكلب، فقال فى الموطأ: أكره بيع الكلب الضارى وغيره؛ لنهى رسول الله عن ثمن الكلب. وروى ابن نافع عن مالك أنه كان يأمر ببيع الكلب الضارى فى الميراث والدين والمغانم، وكان يكره بيعه للرجل ابتداءً، قال ابن نافع: وإنما نهى رسول الله عن ثمن الكلب العقور، وروى أبو زيد عن ابن القاسم أنه لا بأس باشتراء كلب الصيد، ولا يعجبنى بيعها، وكان ابن كنانة وسحنون يجيزان بيع كلاب الصيد والحرث والماشية، قال سحنون: ويحج بثمنها، وهو قول الكوفيين. وقال مالك: إن قتل كلب الدار فلا شىء عليه إلا أن يسرح مع الماشية. وروى عن أبى حنيفة أنه من قتل كلبًا لرجل ليس بكلب صيد ولا ماشية فعليه قيمته، وكذلك السباع كلها، وقال الأوزاعى الكلب لا يباع فى مقاسم المسلمين، هو لمن أخذه، وقال الشافعى: لا يجوز بيع كلاب الصيد والحرث والماشية، ولا قيمة فيها. وهو قول أحمد بن حنبل، احتجا بعموم نهيه عليه السلام عن ثمن الكلب. وحجة مالك والكوفيين قوله تعال: (يسئلونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين (فإذا أحل لنا الذى علمناه، أفادنا ذلك إباحة(6/362)
التصرف فيها بالإمساك والبيع وغير ذلك، فوجب أن يجوز بيعها وشراؤها بظاهر الآية. فإن قيل: المذكور فى هذه الآية هو تحليل تعليم الكلاب، وأكل ما أمسكن علينا. فالجواب: أن (ما) بمعنى الذى، وتقديره أحل لكم الطيبات والذى علمتم من الجوارح، ثم أباح تعليمهن بقوله: (تعلمونهن مما علمكم الله (وهذا قول جماعة السلف. روى عن جابر بن عبد الله أنه جعل القيمة فى كلب الصيد، وعن عطاء مثله، وقال: لا بأس بثمن الكلب السلوقى. وعن النخعى مثله، وقال أشهب: إذا قتل الكلب المعلم ففيه القيمة. وأوجب فيه ابن عمر أربعين درهمًا، وفى كلب ماشية، شاة، وفى كلب الزرع فرقًا من طعام، وأجاز عثمان الكلب الضارى فى المهر، وجعل فيه عشرين من الإبل على من قتله. وقد روى عن ابن عمر عن النبى - عليه السلام - أنه قال: (من اقتنى كلبًا إلا كلبًا ضاريًا أو كلب صيد؛ نقص من عمله كل يوم قيراطان) فهذا الحديث زائد، فكأنه عليه السلام نهى عن ثمن الكلب إلا الكلب الذى أذن فى اتخاذه للانتفاع به، ويحتمل أن يكون الحديث الذى فيه النهى عن ثمن الكلب وكسب الحجام كان فى بدء الإسلام، ثم نسخ ذلك، وأبيح الاصطياد به، وكان كسائر الجوارح فى جواز بيعه، وكذلك لما أعطى الحجام أجره كان ناسخًا لما تقدمه، وذكر الطحاوى من حديث أبى رافع أن النبى - عليه السلام - لما أمر بقتل(6/363)
الكلاب أتاه ناس فقالوا: يا رسول الله، ما يحل لنا من هذه الأمة التى أمرت بقتلها؟ فنزلت: (يسئلونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين (فلما حل لنا الانتفاع بها، حل لنا بيعها وأكل ثمنها. وقال المهلب: ما فى حديث أبى جحيفة غير كسب الإماء وأكل الربا، فهو مكروه تنزهًا عن رذائل المكاسب، وكسب الإماء والزنا محرمان بالكتاب والسنة، وهو كله مذكور تحت قول واحد، فلا حجة لأحدٍ فى جمع أمور مختلفة الأحكام تحت كلام واحد. وحلوان الكاهن يعنى: أجره على الكهانة. وسيأتى تفسير البغى فى كتاب الإجارة، إن شاء الله.
- بَاب السَّلَمِ فِى كَيْلٍ مَعْلُومٍ
/ 1 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَدِمَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، الْمَدِينَةَ، وَالنَّاسُ يُسْلِفُونَ فِى الثَّمَرِ الْعَامَ وَالْعَامَيْنِ - أَوْ قَالَ: عَامَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً شَكَّ إِسْمَاعِيلُ - فَقَالَ: (مَنْ سَلَّفَ فِى تَمْرٍ فَلْيُسْلِفْ فِى كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ) . وترجم له: (باب السلم فى وزن معلوم) وزاد فيه: (إلى أجل معلوم) . / 2 - وفيه: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادِ، أنَّهُ اختلف هو وَأَبُو بُرْدَةَ فِى السَّلَفِ، فَبَعَثُونِى إِلَى ابْنِ أَبِى أَوْفَى، فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: إِنَّا كُنَّا نُسْلِفُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَم وَأَبِى بَكْرٍ، وَعُمَرَ فِى الْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالزَّبِيبِ، وَالتَّمْرِ، وَسَأَلْتُ ابْنَ أَبْزَى، فَقَالَ: مِثْلَ ذَلِكَ.(6/364)
أجمع العلماء أنه لا يجوز السلم إلا فى كيل معلوم أو وزن معلوم فيما يكال أو يوزن، وأجمعوا أنه إن كان السلم فيما لا يكال ولا يوزن فلا بد فيه من عدد معلوم، وأجمعوا أنه لا بد من معرفة صفة الشىء المسلم فيه، واختلفوا فى الأجل على ما يأتى ذكره فى بابه بعد هذا - إن شاء الله. واختلفوا فى ترك ذكر مكان القبض، فقال أحمد وإسحاق وأبو ثور: إن لم يسم مكانًا فالسلم جائز، استدلالاً بحديث ابن عباس؛ لأنه ليس فيه ذكر المكان، ولو كان ترك ذلك يفسد السلم لأعلمهم بذلك عليه السلام، وقال مالك: إن لم يذكر الموضع جاز السلم، ويقبضه فى المكان الذى كان فيه السلم، فإن اختلفا فى الموضع فالقول قول البائع. وقال الثورى وأبو حنيفة: لا يجوز السلم فيما له حمل مؤنة إلا أن يشترط فى تسليمه مكانًا معلومًا. وهو قول الشافعى. قال ابن المنذر: وقوله: (يسلفون فى التمر العام والعامين) فيه إجازة السلم فى التمر وإن لم يكن ذلك الوقت موجودًا إذا وجد وقت يحل فيه السلم، ويفسد السلم عند الثورى والكوفيين والشافعى بالافتراق دون القبض لرأس المال، وهو عندهم من باب الدين بالدين، وعند مالك إن تأخر قبض رأس المال يومين وثلاثة بغير شرط فى العقد جاز، كما لو كان لرجل على رجل دين جاز أن يؤخر اليوم واليومين على وجه الرفق.(6/365)
- بَاب السَّلَم إِلَى مَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ أَصْلٌ
/ 3 - فيه: عَبْد اللَّه بِن أَبِى أَوْفَى، كُنَّا نُسْلِفُ نَبِيطَ أَهْلِ الشَّأْمِ فِى الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالزَّيْتِ فِى كَيْلٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ، قُلْتُ: إِلَى مَنْ كَانَ أَصْلُهُ عِنْدَهُ؟ قَالَ: مَا كُنَّا نَسْأَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ بَعَثَانِى إِلَى عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: كَانَ أَصْحَابُ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، يُسْلِفُونَ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، وَلَمْ نَسْأَلْهُمْ أَلَهُمْ حَرْثٌ أَمْ لاَ؟ . وَقَالَ: جَرِيرٌ، عَنِ الشَّيْبَانِىِّ: فِى الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالزَّبِيبِ. / 4 - وفيه: ابْن عَبَّاس، سُئل عَنِ السَّلَمِ فِى النَّخْلِ، قَالَ: نَهَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ، حَتَّى يُؤكَلَ مِنْهُ، وَحَتَّى يُوزَنَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَأَىُّ شَىْءٍ يُوزَنُ؟ قَالَ رَجُلٌ إِلَى جَانِبِهِ: حَتَّى يُحْرَزَ. قال المؤلف: روى وكيع، عن شعبة، عن محمد بن أبى المجالد قال: (اختلف أبو بردة وعبد الله بن شداد فى السلم فقال: فأرسلونى إلى ابن أبى أوفى، فقال: كنا نسلم على عهد رسول الله فى الحنطة والشعير والزبيب، ولا ندرى عند أصحابه من شىء أم لا) فهذا اختلاف من أبى بردة وعبد الله بن شداد فى هذه المسألة وإنما كره السلم إلى من ليس عنده أصل من كرهه؛ لأنه جعله من باب الغرر، وأصل السلم أن يكون إلى من عنده مما يسلم فيه أصل، إلا أنه لما وردت السنة فى السلم بالصفة المعلومة والكيل أو الوزن والأجل المعلوم كان ذلك عاما فيمن عنده أصل وفيمن(6/366)
ليس عنده، وجماعة الفقهاء يجيزون السلم إلى من ليس عنده أصل، وحجتهم حديث عبد الله بن أبى أوفى، وهو نص فى ذلك. قال المهلب: وفيه من الفقه جواز السلم فى العروض إلى من ليس عنه ما باع بالسلم، ولو كان عنده ما باع ما حل البيع؛ لأنه بيع شىء بعينه لا يقبض إلى مدة طويلة، وهذا لا يجوز بإجماع. وقال ابن المنذر: فى حديث ابن أبى أوفى مبايعة أهل الذمة والسلم إليهم. وفيه دليل على إباحة السلم فى السمن والشبرق وما أشبه ذلك كيلاً معلومًا أو وزنًا معلومًا، إذ هو فى معنى الزيت، وأما حديث ابن عباس الذى هو فى آخر الباب، فليس هو من هذا الباب، وإنما هو من الباب الذى بعده، وغلط فيه الناسخ - والله أعلم.
3 - بَاب السَّلَمِ فِى النَّخْلِ
/ 5 - فيه: ابْن عُمَرَ، أنه سُئل عَنِ السَّلَمِ فِى النَّخْلِ، فَقَالَ: نُهِىَ عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يَصْلُحَ، وَعَنْ بَيْعِ الْوَرِقِ نَسِيئًا بِنَاجِزٍ. وَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ السَّلَمِ فِى النَّخْلِ، فَقَالَ: نَهَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يُؤْكَلَ أَوْ يَأْكُلَ مِنْهُ وَحَتَّى يُوزَنَ. قُلْتُ: وَمَا يُوزَنُ؟ قَالَ رَجُلٌ عِنْدَهُ: حَتَّى يُحْرَزَ.(6/367)
اختلف العلماء فى هذا الباب، فقال الكوفيون والثورى والأوزاعى: لا يجوز السلم إلا أن يكون المسلم فيه موجودًا فى أيدى الناس من وقت العقد إلى حين حلول الأجل، فإن انقطع فى شىء من ذلك لم يجز. وهو مذهب ابن عمر وابن عباس - على ما ذكره البخارى فى هذا الباب - وقال مالك والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور: يجوز السلم فيما هو معدود من أيدى الناس إذا كان مأمون الوجود عند حلول الأجل فى الغالب، فإن كان ينقطع حينئذ لم يجز. واحتج الكوفيون بأن النبى نهى عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها، وعن بيع ما لم يخلق، وقالوا: من مات فقد حل دينه وإن لم يوجد كان غررًا. قال ابن القصار: وهذا فاسد؛ فإنه قد يحل الأجل ويتعذر السلم؛ بأن يموت المسلم إليه أو يفلس، ولو وجب أن يمنع السلم لجواز ما ذكروه، لوجب ألا يجوز بيع شىء نسيئةً؛ لأنه قد يطرأ على المشترى الموت والفلس قبل محل الأجل، فلا يصل صاحب الحق إلى ماله فيكون هذا غررًا، ولكنه جائز؛ لأن الناس يدخلون فى وقت العقد على رجاء السلامة، ولم يكلفوا مراعاة ما يجوز أن يحدث ويجوز ألا يحدث، ولو سلم فى شىء إلى شهر فإن وقت المطالبة بالتسليم فيه هو رأس الشهر بدليل أن الشىء لو كان موجودًا قبل الشهر لم تكن له المطالبة(6/368)
به، ولا للمسلم إليه أن يجبره على مراعاة وجوده قبل المحل وحين العقد؛ لأن جوده كعدمه، ولو كان المسلم فيه موجودًا طول السنة إلا يوم القبض فسلم فيه إلى سنة، كان هذا السلم باطلاً بإجماع، وإن كان موجودًا وقت العقد وطول السنة؛ لأنه حين المحل والقبض معدوم، فعلم بهذا أن الاعتبار بوجوده حين القبض لا حين العقد، والدليل على صحة هذا أنهم كانوا يسلفون فى زمن النبى - عليه السلام - فى الثمر السنة والسنتين، ومعلوم أنه إذا أسلف فى الثمر سنة فإنه يتخلل الأجل زمان ينقطع فيه الثمر، وهو زمان الشتاء، ثم إن النبى - عليه السلام - أقرهم على ذلك، ولم ينكر عليهم السلف فى سنة وأكثر، فثبت ما قلناه. وأما نهيه عليه السلام عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها فهو محمول عندنا على أن بيع الثمرة عينًا لا يجوز إلا بعد بدو صلاحها، وفى السلم ليس عند العقد ثمرة موجودة عند البائع تستحق اسم البيع حقيقة، وحديث النهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها مرتب على السلم، تقديره: أنه نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها إلا أن يكون سلمًا، بدليل حديث ابن عباس أنهم كانوا يسلفون فى الثمر السنتين والثلاث، وذلك بيع له قبل أن يبدو صلاحه وقبل أن يخلق، وإذا جاز السلم فى الثمر فقد جاز فى الرطب، والرطب لا يوجد فى سائر السنة كما يوجد التمر، فلا معنى لقولهم. وقال الخطابى: قوله: (حتى يوزن) معناه حتى يخرص، وسماه(6/369)
وزنًا، لأن الخارص يحرزها ويقدرها، فيحل ذلك محل الوزن لها، والمعنى فى النهى عن بيعها قبل الخرص شيئان: أحدهما: تحصين الأموال؛ وذلك أنها فى الغالب لا تأمن العاهة إلا بعد الإدراك، وهو أوان الخرص. والمعنى الآخر: أنه إذا باعها قبل بدو الصلاح على القطع سقط حقوق الفقراء؛ لأن الله أوجب إخراجها فى وقت الحصاد.
4 - بَاب الْكَفِيلِ فِى السَّلَمِ
/ 6 - فيه: عَائِشَةَ، اشْتَرَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) طَعَامًا مِنْ يَهُودِىٍّ بِنَسِيئَةٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعًا لَهُ مِنْ حَدِيدٍ.
5 - بَاب الرَّهْنِ فِى السَّلَمِ
/ 7 - فيه: الأَعْمَشُ، تَذَاكَرْنَا عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ الرَّهْنَ فِى السَّلَمِ، فَقَالَ: حَدَّثَنِى الأَسْوَدُ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، اشْتَرَى مِنْ يَهُودِىٍّ طَعَامًا إِلَى أَجَلٍ، وَارْتَهَنَ مِنْهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ. اختلف العلماء فى هذا الباب، فقال مالك: لا بأس بالرهن والكفيل فى السلم، ولم يبلغنى أن أحدًا كرهه غير الحسن البصرى، ورخص فيه عطاء والشعبى، وبه قال أبو حنيفة والثورى وأبو يوسف ومحمد والشافعى. وكره الرهن والكفيل فى السلم على بن أبى طالب وسعيد بن جبير، وقال: ذلك الربح المضمون. وقال زفر: لا يجوز ذلك فى(6/370)
السلم، ولا سبيل له على الكفيل. وهو قول الأوزاعى وأحمد حنبل وأبى ثور. قال المهلب: وحجة من كرهه أنه إن أخذ الرهن فى رأس المال، فرأس المال غير الدين، إنما دينه ما سلم فيه، ورأس المال مستهلك فى الذمة غير مطلوب به، وإن أخذه بالمسلم فيه، فكأنه اقتضاه قبل أجله، وهو من باب سلف جر منفعة؛ لأنه ينتفع بما يستوثق به من الرهن والضامن، وحجة من أجازه إجماعهم على إجازة الرهن والكفيل والحوالة فى الدين المضمون من ثمن سلعة قبضت، فكذلك السلم، ووجه احتجاج النخعى بحديث عائشة: أنه استدل بأن الرهن لما جاز فى الثمن بالنسيئة المجمع عليها، جار فى المثمون وهو المسلم فيه وبيان ذلك أنه لما جاز أن يشترى الرجل طعامًا أو عرضًا بثمن إلى أجل، ويرهن فى الثمن رهنًا، كذلك يجوز إذا دفع عينًا سلمًا فى غوص طعام أو غيره إلى أجل أن يأخذ فى الشىء المسلم فيه رهنًا، ولا فرق بينهما.
6 - بَاب السَّلَمِ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ
وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ، وَالأَسْوَدُ، وَالْحَسَنُ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لاَ بَأْسَ بالسلم فِى الطَّعَامِ الْمَوْصُوفِ بِسِعْرٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ، مَا لَمْ يَكُ ذَلِكَ فِى زَرْعٍ لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ. / 8 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَدِمَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَهُمْ يُسْلِفُونَ فِى(6/371)
الثِّمَارِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلاَثَ، فَقَالَ: (أَسْلِفُوا فِى الثِّمَارِ فِى كَيْلٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ) . اختلف العلماء فى أجل السلم، فقال مالك والكوفيون وجمهور الفقهاء إنه لا يجوز السلم الحال، ولا بد فيه من أجل معلوم، وروى ابن عبد الحكم عن مالك أنه لابد فيه من أجل وإن كانت أيامًا يسيرة، وقال ابن القاسم: معناه إذا كانت أيامًا تتغير فيها الأسواق. وقال الشافعى وأبو ثور: يجوز السلم بغير ذكر أجل أصلاً، وهذا خلاف الحديث؛ لأنه عليه السلام قال: (من أسلم) ، فأتى بلفظ العموم، وأيضًا فإنه عليه السلام أحل الأجل محل الكيل والوزن وقرنه بهما، فلما لم يجز العقد إذا عدمت صفة الكيل والوزن، فكذلك الأجل يجب اعتباره، كما لو قال: صل على صفة كذا. لم يجز العدول عن الصفة. واحتج الشافعى أن السلم بيع من البيوع، والبيوع تجوز بثمن معجل ومؤجل، فكذلك السلم، قيل: هذا ينتقض بجواز السلم فى المعدوم، وهو يجوز مؤجلاً ولا يجوز معجلاً، وإنما لم يجز ابن عمر السلم فى زرع لم يبد صلاحه؛ لأنه سلم فى عين، وحكم السلم ألا يكون فى عين معلومة، وإنما يكون فى صفة معلومة ثابتة فى الذمة، لا ينفسخ بموت أحد المتعاقدين فى السلم، ولا بجائحة تنزل، وهذا مذهب أهل الحجاز، إلا أن مالكًا أجاز السلم فى طعام بلد بعينه إذا كان الأغلب فيه أنه لا يخلف.(6/372)
ولم يختلف العلماء أنه لا يجوز أن يكون السلم فى قمح فدان بعينه؛ لأنه غرر لا يدرى هل يتم زرعه أم لا، ويجوز عند جميعهم أن يكون السلم فى زمن يكون فيه الزرع قد بدا صلاحه إذا لم يكن يعين زرعًا ما. فإن أسلم الرجل فى تمر حائط بعد طيبه أو زرع بعد ما أدرك، فذكر ابن حبيب عن ابن القاسم أنه كرهه، وإن فات لم يفسخ، وليس بالحرام البين، ولا يجوز عند سائر الفقهاء؛ لأنه كبيع عين اشترط فيه تأخير القبض، وهذا لا يجوز؛ لأن من شرط البيع تسليم البيع. قال ابن المنذر: قوله عليه السلام: (أسلموا فى الثمار) إجازة السلم فى الثمار كلها لعموم لفظه، وهو قول ابن عمر: لا بأس بالسلم فى الطعام بسعر معلوم. فإن العلماء اختلفوا فى رأس مال السلم، فقال مالك: ولو أسلم إليه عروضًا أو تبرًا أو فضة مكسرة جزافًا صح السلم، ولا يجوز أن يسلم إليه دنانير أو دراهم جزافًا، فرق بين التبر والدنانير والدراهم؛ لأن التبر بمنزلة الثوب والسلعة عنده. وقال أبو حنيفة: لا يسلم إليه تبرًا جزافًا، ولا شيئًا مما يكال أو يوزن جزافًا. هو أحد قولى الشافعى، وقال أبو يوسف ومحمد: يجوز أن يسلم إليه الدنانير والدراهم وكل ما يكال أو يوزن جزافًا. وهو قول الشافعى الآخر. وحجة أبى حنيفة أنه لابد من معرفة رأس المال لأنه قد يعدم المسلم فيه حين المطالبة، فينفسخ العقد فيرجع بالثمن، وإذا لم يكن معلومًا لم يمكن المطالبة به، وهو كالقراض لا بد فيه معرفة رأس المال،(6/373)
والحجة لمالك أن مقتضى العقد أن تقع المطالبة بالمسلم فيه لا بالسلم، فلم يفتقر إلى الصفة، وهذا المعنى موجود فى بيع الأعيان؛ لأنه قد يستحق المبيع فتقع المطالبة برأس المال، ثم يجوز جزافًا كما يجوز معلومًا، وقد تجوز الإجازة بالجزاف، وقد تنهدم الدار فتقع المطالبة بالأجرة التى سلمها إليه المستأجر، ولم تفتقر الأجرة فيها إلى أن تكون موصوفة بل يكون جزافًا، كذلك رأس مال السلم، وإنما افتقر القراض أن تكون الدراهم موصوفة؛ لأن المطالبة تقع ببدل ما تسلمه، فهو بمنزلة المسلم فيه.
7 - بَاب السَّلَمِ إِلَى أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ
/ 9 - فيه ابن عمر: كَانُوا يَتَبَايَعُونَ الْجَزُورَ إِلَى حَبَلِ الْحَبَلَةِ، فَنَهَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَنْهُ. فَسَّرَهُ نَافِعٌ، أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ مَا فِى بَطْنِهَا. العلماء مجمعون على أنه لا يجوز هذا السلم؛ لأنه أجل مجهول، والنبى - عليه السلام - إنما أجاز السلم إلى أجل معلوم. قال ابن المنذر: واختلفوا فيمن باع إلى الحصاد أو الجداد أو إلى العطاء أو عيد النصارى، فقالت طائفة: البيع جائز، وكذلك لو باع إلى رجوع الحاج، وأجاز ذلك كله أبو ثور، وقال مالك: من باع إلى الحصاد، أو إلى الجداد، أو إلى العطاء، فهو جائز؛ لأنه معروف. وبه قال أحمد. وكذلك إلى قدوم الغزاة، وروى عن ابن عمر أنه كان يشترى إلى العطاء، وعن القاسم بن محمد مثله، وقال الأوزاعى: إن باع إلى فصح النصارى أو(6/374)
صومهم، فذلك جائز، وإن باع إلى الأندر والعصير فهو مكروه؛ لتقارب ما بين أول الأندر وآخره. وقالت طائفة: لا يجوز السلم ولا البيع إلى العصير والحصاد والدراس. هذا قول ابن عباس، وبه قال أبو حنيفة والشافعى، واحتجوا بأن الله - تعالى - جعل المواقيت بالأهلة لقوله تعالى: (يسئلونك عن الأهلة (وفيها قول رابع: أن البيع إلى العطاء جائز والمال حال. هذا قول ابن أبى ليلى. ومن باع إلى أجل غير معلوم فالبيع إليه فاسد، استدلالاً بنهيه عليه السلام عن بيع حبل الحبلة، وحجة مالك: أن المقصود بالحصاد وجداد النخل الأوقات، فهى أوقات معلومة عند أهل المعرفة بها سواء تقدمت أفعال الناس لها أو تأخرت.(6/375)
بسم الله الرحمن الرحيم
31 - كِتَاب الشُّفْعَةِ
- بَاب الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ فَلاَ شُفْعَةَ
/ 1 - فيه: جَابِر، قَضَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، بِالشُّفْعَةِ فِى كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتِ الطُّرُقُ فَلاَ شُفْعَةَ. اتفق جماعة الفقهاء على القول بهذا الحديث، وأوجبوا الشفعة للشريك فى المشاع من الرباع، وكل ما تأخذه الحدود وتحتمله القسمة، وإنما اختلفوا فى غير الشريك. فذهب مالك والأوزاعى والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور إلى أنه لا شفعة إلا فى المشاع بين الشركاء على ظاهر حديث جابر، وروى مثل ذلك عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وربيعة، وأبى الزناد. وقال أهل العراق بالشفعة للجار الملاصق غير الشريك، وأوجبها بعضهم إذا كانت الطرق واحدة. وفى هذا الحديث ما ينفى الشفعة للجار؛ لأن ضرب الحدود إذا نفى الشفعة كان الجار أبعد من ذلك. وفيه أيضًا ما ينفى الشفعة فى كل ما لا يحتمل قسمة ولا تضرب فيه الحدود، وذلك ينفى الشفعة فى العروض والحيوان، وهو قول شاذ يروى عن عطاء، والسنة المجتمع عليها بالمدينة ألا شفعة إلا فى الأرضين والرباع.(6/376)
قال ابن القصار: واتفق مالك وأبو حنيفة والشافعى أن المسلم والذمى فى أخذ الشفعة من المسلم سواء، وحكى عن الشعبى أنه لا شفعة للذمى، لأنه صاغر، وهو قول الثورى وأحمد بن حنبل، وحجة من أجاز ذلك عموم قوله عليه السلام: (الشفعة فى كل ما لم يقسم) ، ولم يفرق بين مسلم وذمى، وأيضًا فإن ما يجب بالشركة لا يختلف فيه المسلم والذمى كالعتق، ألا ترى أنه لو أعتق شقصًا من عبد بينهما، قوم عليه كما يقوم على شريكه المسلم؟ والشفعة حق من حقوق الآدميين كسائر الحقوق التى هى له، مثل البيع والإجارة وغيرها، والشفعة حق يتعلق بالمال وضع لإزالة الضر كالرد بالعيب، فما وجب للمسلم فيه وجب للذمى مثله، وليس الصغار يدل على بطلان حقه؛ لأنه لا فرق بين المسلم والذمى فى الحقوق المتعلقة بالأموال، كخيار الشرط والأجل، وإمساك الرهن.
- بَاب عَرْضِ الشُّفْعَةِ عَلَى صَاحِبِهَا قَبْلَ الْبَيْعِ
وَقَالَ الْحَكَمُ: إِذَا أَذِنَ لَهُ قَبْلَ الْبَيْعِ فَلاَ شُفْعَةَ لَهُ. وَقَالَ الشَّعْبِىُّ: مَنْ بِيعَتْ شُفْعَتُهُ، وَهْوَ شَاهِدٌ لاَ يُغَيِّرُهَا، فَلاَ شُفْعَةَ لَهُ. / 2 - فيه: أَبُو رَافِعٍ، مَوْلَى النَّبِىِّ، عليه السَّلام، أنه قَالَ لسعد: ابْتَعْ مِنِّى بَيْتَىَّ فِى دَارِكَ؟ فَقَالَ سَعْدٌ: وَاللَّهِ مَا أَبْتَاعُهُمَا، فَقَالَ الْمِسْوَرُ: وَاللَّهِ(6/377)
لَتَبْتَاعَنَّهُمَا، فَقَالَ سَعْدٌ: وَاللَّهِ لاَ أَزِيدُكَ عَلَى أَرْبَعَةِ آلاَفٍ مُنَجَّمَةً، أَوْ مُقَطَّعَةً، قَالَ أَبُو رَافِعٍ: وَاللَّهِ لَقَدْ أُعْطِيتُ بِهَا خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ، وَلَوْلاَ أَنِّى سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ) ، مَا أَعْطَيْتُكَهَا بِأَرْبَعَةِ آلاَفٍ، وَأَنَا أُعْطَى بِهَا خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ. قال المؤلف: عرض الشفعة على الشريك قبل البيع مندوب إليه كما فعل أبو رافع، ألا ترى أنه حط من ثمن البيتين كثيرًا رغبة فى العمل بالسنة؟ وفيه ما كانوا عليه من الحرص على موافقة السنن والعمل بها، والسماحة بأموالهم فى جنب ذلك، فإن عرض عليه الشفعة وأذن له الشريك فى بيع نصيبه، ثم رجع فطالبه بالشفعة، فقالت طائفة: لا شفعة له. هذا قول الحكم والثورى وأبى عبيد وطائفة من أهل الحديث، واحتجوا بحديث سفيان عن أبى الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله: (من كان له شريك فى ربعة، فليس له أن يبيع حتى يستأذن شريكه، فإن رضى أخذ، وإن كره ترك) قالوا: فدل هذا الحديث على أن تركه ترك تنقطع به شفعته، ومحال أن يقول له النبى: (إن شاء أخذ، وإن شاء ترك) ، فإذا ترك لا يكون لتركه معنى. وقالت طائفة: إن عرض عليه الأخذ بالشفعة قبل البيع فأبى أن يأخذ ثم باع، فأراد أن يأخذ بشفعته فذلك له. هذا قول مالك والكوفيين، ورواية عن أحمد، ويشبه مذهب الشافعى، واحتج أحمد فقال: لا تجب له الشفعة حتى يقع البيع، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك وقد احتج بمثله ابن أبى ليلى.(6/378)
واختلفوا فى المسألة التى ذكرها الشعبى فى هذا الباب، فقال مالك: إذا باع الشريك نصيبه من أجنبى وشريكه حاضر يعلم ببيعه، فله المطالبة بالشفعة متى شاء، ولا تنقطع شفعته إلا بمضى مدة يعلم أنه فى مثلها تارك. واختلف فى المدة، فذكر ابن [. .] أن الحد الذى تنقطع إليه الشفعة عند مالك مرور السنة، وقال ابن القاسم: وقفت مالكًا على مرور السنة فلم يرها كثيرًا، وذلك إذا علم الشفيع بشفعته، فإذا لم يعلم فهو على شفعته أبدًا، إن كان غائبًا فهو على شفعته وإن علم بها. وقال ابن الماجشون: لا ينقطع حق الشفعة إلا الطول، وقد سمعت مالكًا يقول: الخمس أعوام ليس بكثير. وقال أصبغ: السنتان والثلاث قليل لا ينقطع معه الشفعة. وقال أبو حنيفة: إذا وقع البيع فعلم الشفيع به، فأشهد مكانه أنه على شفعته، وألا بطلت شفعته. وبه قال الشافعى وقال: إلا أن يكون له عذر مانع من طلبها من حبس أو غيره، فهو على شفعته. واحتج الكوفيون فقالوا: إذا سكت عن المطالبة بالشفعة على الفور، كان ذلك رضى منه بتقرير النبى - عليه السلام - ملك المشترى، قياسًا على خيار البكر أنه على الفور. والحجة لمالك فى أنه على شفعته إلا أن يطول زمانه فلأن الشفعة حق للشفيع، فهو واجب له حتى يعلم أنه(6/379)
قد تركها، وذلك بمنزلة الأمة إذا أعتقت تحت العبد، أن لها أن تختار نفسها أبدًا ما لم يعلم تركها للخيار، وذلك بأن تختار زوجها، أو يطأها بعد علمها بالعتق وهى طائعة، وكذلك المشترى للسلعة المعيبة، له ردها إلا إن يرضى بالعيب، أو يستخدم العبد أو الأمة، أو يستعمل ما اشتراه وبه عيب بعد أن يعلم به، فليس له الرد؛ لأن استعماله ذلك دليل على رضاه، وقبل أن يعلم رضاه بقوله أو دلالة الحال، فله الرد بالعيب، وكذلك الشفيع قبل أن يعلم ترك شفعته بالقول أو دلالة الحال، فله الأخذ بالشفعة. واستدل أهل العراق على وجوب الشفعة للجار بقوله عليه السلام: (الجار أحق بصقبه) غير أنهم جعلوا الشريك فى المنزل أحق بالشفعة من الجار، فإن سلم الشفعة الشريك فى الدار، فالجار الملاصق أحق بالشفعة من غيره، فإنت كان بينهما طريق نافذة فلا حق له فى الشفعة، هذا قول أبى حنيفة وأصحابه فتعلقوا بلفظة الجار فى قوله عليه السلام: (الجار أحق بصبقه) وقالوا: لا يراد بهذا الحديث الشريك؛ لأن الجار لا يقع إلا على غير الشريك، وزعموا أنه لا يوجد فى اللغة أن الشريك يسمى جارًا، فخالفوا نص الحديث، وتركوا أوله لتأويل تأولوه فى آخره، فأما خلافهم لنصه، فهو أن أبا رافع كان شريك سعد بالبيتين فى داره، ولذلك دعاه إلى الشراء بأقل مما أعطاه غيره ممن ليس شريك له وفيه: أن أبا رافع سمى شريكه جارًا حين صرف معنى قوله عليه السلام: (الجار أحق بصقبه) إلى شريكه، وهو روى الحديث وعلم معناه، ولو كان المراد بقوله: (الجار أحق بصقبه) الجار غير الشريك كما زعم أهل العراق ما سلم(6/380)
سعد لأبى رافع احتجاجه بالحديث ولا استدلاله به، ولقال له سعد: ليس معنى الحديث كما تأولته، وإنما الجار المراد به غير الشريك. فلما لم يرد عليه تأويله، ولا أنكره المسور، وهم الفصحاء أهل اللسان المرجوع إليهم؛ علم أن معنى الحديث ما تأوله أبو رافع، وأن الجار فيه يراد به الشريك، وأما بيع أبى رافع للبيتين من سعد بأقل مما أعطاه غيره، فإنما كان على وجه التطوع منه؛ لأنه لا خلاف بين العلماء أنه لا يجب على الشريك أن يعطى شريكه الشقص الذى يريد بيعه بأقل من ثمنه، وكل منا قارب بدنه بدن صاحبه قيل له: جار فى لسان العرب، ولذلك قالوا لامرأة الرجل: جارة؛ لما بينهما من الاختلاط بالزوجية، وقد جاء فى حديث دية الجنين: (أن حمل بن مالك قال: كنت بين جارتين لى) يريد امرأيته، ومنه قول الأعشى لامرأته: أجارتنا بينى فإنك طالقة فكذلك الشريك يسمى جارًا لما بينهما من الاختلاط بالشركة، وتأويل قوله عليه السلام: (الجار أحق بصقبه) عند أهل الحجاز على وجهين: أحدهما: أن يراد به الشريك، ويكون حقه الأخذ بالشفعة دون غيره، وهو أولى الوجهين لما تقدم من الدلائل. والوجه الثانى: يحتمل أن يراد به الجار غير الشريك، ويكون حقه غير الشفعة، فيكون جار الرحبة يريد الارتفاق بها، ويريد مثل ذلك غير الجار، فيكون الجار أحق بصقبه، فإن لم يكن هذا فيكون ذلك فيما يجب للجيران بعضهم على بعض من حق الجوار(6/381)
وما للأجنبيين من الكرامة والبر وسائر الحقوق الذى إذا اجتمع فيها الجار ومن ليس بجار، وجب إيثار الجار على من ليس بجار من طريق مكارم الأخلاق وحسن الجوار، لا من طريق الفرض اللازم، فقد أوصى الله - تعالى - بالجار فقال: (والجار ذى القربى والجار الجنب (وقال عليه السلام: (ما زال جبريل يوصينى بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) ذكره ابن المنذر عن الشافعى. وإذا احتمل هذا كله الحديث المجمل، ثم فسره حديث آخر بقوله: (فإذا وقعت الحدود فلا شفعة) كان المفسر أولى من المجمل. والصقب: القرب، يقال: قد أصقب فلان فلانًا، إذا قربه منه، فهو يصقبه، وقد تصاقبا: إذا تقاربا.
3 - بَاب أَىُّ الْجِوَارِ أَقْرَبُ
/ 3 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِى جَارَيْنِ، فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِى؟ قَالَ: (إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا) . لا حجة فى هذا الحديث لمن أوجب الشفعة بالجوار، لأن عائشة إنما سألت النبى عمن تبدأ به من جيرانها فى الهدية، فأخبرها أنه من قرب بابه أولى بها من غيره، فدل بهذا أنه أولى بجميع حقوق الجوار وكرم العشرة والبر ممن هو أبعد منه بابًا. قال ابن المنذر: وهذا الحديث يدل أن اسم الجار يقع على غير(6/382)
اللزيق، لأنه قد يكون له جارًا لزيقًا وبابه من سكة غير سكته، وله جار بينه وبين بابه قدر ذراعين وليس بلزيق له، وهو أدناهما بابًا، وقد خرج أبو حنيفة عن ظاهر هذا الحديث فقال: إن الجار اللزيق إذا ترك الشفعة، وطلبها الذى يليه وليس له حد إلى الدار ولا طريق، ألا شفعة له. وعوام العلماء يقولون: إذا أوصى الرجل لجيرانه بمال أُعطى اللزيق وغيره، إلا أبا حنيفة فإنه فارق عوام العلماء وقال: لا يعطى إلا اللزيق وحده. وكان الأوزاعى يقول: الجار أربعين دارًا من كل ناحية. وقاله ابن شهاب. وقال على ابن أبى طالب: من سمع النداء فهو جار. قال المهلب: وإنما أمر عليه السلام بالهدية إلى من قرب بابه؛ لأنه ينظر إلى ما يدخل دار جاره وما يخرج منها، فإذا رأى ذلك أحب أن يشاركه فيه، وأنه أسرع إجابة لجاره عند ما ينوبه من حاجة إليه فى أوقات الغفلة والغرة؛ فلذلك بدأ به على من بعد بابه، وإن كانت داره أقرب.(6/383)
بسم الله الرحمن الرحيم
32 - كِتَاب الإِجَارَات
- بَاب اسْتِئْجَارُ الرَّجُلِ الصَّالِحِ وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِىُّ الأَمِينُ (وَالْخَازِنُ الأَمِينُ وَمَنْ لَمْ يَسْتَعْمِلْ مَنْ أَرَادَهُ
/ 1 - فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبىُّ، عليه السَّلام: (الْخَازِنُ الأَمِينُ الَّذِى يُؤَدِّى مَا أُمِرَ بِهِ طَيِّبَةً نَفْسُهُ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقِينَ) . / 2 - وَقَالَ أَيْضًا: أَقْبَلْتُ إِلَى النَّبِىِّ، عليه السَّلام، وَمَعِى رَجُلاَنِ مِنَ الأَشْعَرِيِّينَ، فَقُلْتُ: مَا عَلِمَتُ أَنَّهُمَا يَطْلُبَانِ الْعَمَلَ، فَقَالَ: لَنْ - أَوْ لاَ - نَسْتَعْمِلُ عَلَى عَمَلِنَا مَنْ أَرَادَهُ. ذكر أهل التفسير أن شعيبًا كان غيورًا، فلما قالت له ابنته: يا أبت أستاجره إن خير من استأجرت القوى الأمين، قال لها: وما يدريك ما قوته وأمانته؟ قالت: أما قوته فما رأيت منه حين استقى، لم أر رجلاً أقوى فى السقاء منه، قال مجاهد: وقيل: إنه استقى بدلو لم يكن يرفعها إلا جملة من الناس، وقيل: إنه رفع عن البئر حجرًا لا يرفعه إلا فئام من الناس، وأما أمانته فإنه نظر(6/384)
إلى حين أقبلت إليه، فلما علم أنى امرأة صوب رأسه فلم يرفعه، ولم ينظر إلى حين بلغته رسالتك، وقيل: إنها مشت بين يديه تدله على الطريق فضربتها الريح، فنظر إلى عجيزتها فقال لها: امشى خلفى ودلينى على الطريق فسرى عنه وصدقها. فمعنى قولها: (استأجره) أى: لرعى غنمك والقيام عليها. (إن خير من استأجرت القوى) على حرز ماشيتك وإصلاحها، (الأمين) عليه، فلا تخاف منه فيها خيانة. قال المهلب: لما كان طلب العمالة دلالة على الحرص وجب أن يحترز من الحريص عليها، وقد أخبر عليه السلام أنه لا يعان من طلب العمل على ما يطلبه، وإنما يعان عليه من طلب به، وإذا كان هذا فى علم الله معروفًا وعلى لسان نبيه عليه السلام، وجب ألا يستعمل من علم أنه لا يعان عليه ممن طلبه، ووجب على العاقل ألا يدخل فى ذلك إلا بضم السلطان له إليه إذا علم أنه سيطلع به، وإنما أدخل فى هذا الباب حديث (الخازن الأمين أحد المتصدقين) لأن من استؤجر على شىء فهو فيه أمين، وليس عليه فى شىء منه ضمان إن فسد أو تلف إلا أن يضيع تضييعًا معلومًا فعليه الضمان، وقال ملك: لا يضمن المستأجر(6/385)
ما يعاب عليه، والقول قوله فى ذلك مع يمينه، وروى أشهب عنه فيمن استأجر جفنة أنه لها ضامن، إلا أن يقيم بينة على الضياع.
- بَاب رَعْىِ الْغَنَمِ عَلَى قَرَارِيطَ
/ 3 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام: (مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلاَ رَعَى الْغَنَمَ) ، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟ قَالَ: (نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لأَهْلِ مَكَّةَ) . معنى قوله عليه السلام: (ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم) - والله أعلم - أن ذلك توطئة وتقدمةً فى تعريفه سياسة العباد، واعتبارًا بأحوال رعاة الغنم، وما يجب على راعيها من اختيار الكلأ لها، وإيرادها أفضل مواردها، واختيار المسرح والمراح لها، وجبر كسيرها، والرفق بضعيفها، ومعرفة أعيانها وحسن تعهدها، فإذا وقف على هذه الأمور كانت مثالاً لرعاية العباد، وهذه حكمة بالغة. وأجمع العلماء أنه جائز أن يستأجر الراعى شهورًا معلومة بأجرة معلومة. قال مالك: وليس على الراعى ضمان، وهو مصدق فيما هلك أو سرق؛ لأنه أمين كالوكيل، وإلا أن يفرط أو يتعدى.
3 - بَاب اسْتِئْجَارِ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ أَوْ إِذَا لَمْ يُوجَدْ أَهْلُ الإِسْلاَمِ وَعَامَلَ النَّبِىُّ عليه السَّلام يَهُودَ خَيْبَرَ
/ 4 - فيه: عَائِشَةَ، اسْتَأْجَرَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلاً مِنْ(6/386)
بَنِى الدِّيلِ، ثُمَّ مِنْ بَنِى عَبْدِ بْنِ عَدِىٍّ هَادِيًا - الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ - قَدْ غَمَسَ يَمِينَ حِلْفٍ فِى آلِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَأَمِنَاهُ فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا، وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، فَأَتَاهُمَا بِرَاحِلَتَيْهِمَا صَبِيحَةَ لَيَالٍ ثَلاَثٍ، فَارْتَحَلاَ وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وَالدَّلِيلُ الدِّيلِىُّ، فَأَخَذَ بِهِمْ أَسْفَلَ مَكَّةَ، وَهُوَ طَرِيقُ السَّاحِلِ. استئجار المشركين عند الضرورة وغيرها جائز حسن؛ لأن ذلك ذلة وصغار لهم، وإنما قال البخارى فى ترجمته: إذا لم يوجد أهل الإسلام، ومن أجل أن النبى - عليه السلام - إنما عامل أهل خيبر على العمل فى أرضها إذ لم يوجد من المسلمين من ينوب منابهم فى عمل الأرض، حتى قوى الإسلام واستغنى عنهم وأجلاهم عمر بن الخطاب، وعامة الفقهاء يجيزون استئجارهم عند الضرورة وغيرها. قال المهلب: وفيه من الفقه ائتمان أهل الشرك على السر والمال إذا علم منهم وفاءً ومروءة، كما استأمن النبى - عليه السلام - هذا الدليل المشرك، وهو من الكفار الأعداء المطالبين له، لكنه علم منه مروءة ووفاء ائتمنه من أجلهما على سره فى الخروج من مكة، وعلى الناقتين اللتين دفعهما إليه ليوافيهما بهما بعد ثلاث فى غار ثور. وقال ابن المنذر: فيه استئجار المسلم الكافر على هداية الطريق، وفيه استئجار الرجلين الرجل الواحد على عمل واحد لهما.(6/387)
وعامر بن فهيرة مولى أبى بكر الصديق، ويقال: إنه من العرب، واسترق وهو غلام فاشتراه أبو بكر فأعتقه، ويقال: إنه من الأزد، وكان ممن يعذب بمكة فى الله، شهد بدرًا وأحدًا، وقتل يوم بئر معونة سنة أربع من الهجرة، وهو الذى حكت عائشة عنه أنه كان إذا أخذته الحمى يقول: قد رأيت الموت قبل ذوقه إن الجبان حتفه من فوقه وقال مالك فى العتبية: كان اسم الدليل رقيط. وقال ابن إسحاق: اسمه عبد الله.
4 - بَاب إِذَا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَعْمَلَ لَهُ بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَوْ بَعْدَ شَهْرٍ أَوْ بَعْدَ سَنَةٍ جَازَ وَهُمَا عَلَى شَرْطِهِمَا الَّذِى اشْتَرَطَاهُ إِذَا جَاءَ الأَجَلُ
/ 5 - فيه: عَائِشَةَ، اسْتَأْجَرَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلاً مِنْ بَنِى الدِّيلِ هَادِيًا خِرِّيتًا، وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، بِرَاحِلَتَيْهِمَا صُبْحَ ثَلاَثٍ. قال ابن المنذر: وهذا الخبر دال على إباحة أن يستأجر الرجل الرجل على أن يدخل فى العمل بعد أيام معلومة، يصح عقد الاجارة قبل وقت العمل، وقياس هذا أن يجوز أن يستأجر منزلاً معلومًا سنة معلومة قبل مجىء السنة بأيام، وأجاز مالك وأصحابه استئجار الأجير على أن يعمل بعد يوم أو يومين أو ما قرب، وهذا إذا نقده الأجرة.(6/388)
واختلفوا إذا استأجره ليعمل له بعد شهر أو سنة ولم ينقده، فأجازه مالك وابن القاسم، وقال أشهب: لا يجوز، وهذا عندهم فى الأجير المعين والراحلة المعينة، وأما إذا كان كراء مضمونًا فيجوز فيه ضرب الأجل البعيد وتقديم رأس المال، ولا يجوز أن يتأخر رأس المال إلا اليومين والثلاثة؛ لأنه إذا تأخر كان من باب الدين بالدين، وتفسير الكراء المضمون أن يستأجره على حمولة بعينها على غير دابة معينة، والإيجارة المضمونة أن يستأجر على بناء بيت، ولا يشترط عليه عمل يده، ويصف له طوله وعرضه وجميع آلته، وعلى أن المؤنة فيه كله على العامل مضمونًا عليه حتى يتمه، فإن مات قبل تمامه كان ذلك فى ماله ولا يضره بُعد الأجل فيه، ووجه قول أشهب أنه لا يدرى أيعيش المستأجر أو الدابة، وهو من باب منع التصرف فى الراحلة والأجير. والخريت: الدليل الحاذق. من كتاب العين.
5 - بَاب الأَجِيرِ فِى الْغَزْوِ
/ 6 - وفيه: يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، جَيْشَ الْعُسْرَةِ، فَكَانَ مِنْ أَوْثَقِ أَعْمَالِى فِى نَفْسِى، فَكَانَ لِى أَجِيرٌ، فَقَاتَلَ إِنْسَانًا، فَعَضَّ أَحَدُهُمَا إِصْبَعَ صَاحِبِهِ، فَانْتَزَعَ إِصْبَعَهُ، فَأَنْدَرَ ثَنِيَّتَهُ فَسَقَطَتْ، فَانْطَلَقَ إِلَى النَّبِىِّ، عليه السلام. . . الحديث. استئجار الأجير للخدمة وكفاية مؤنة العمل فى الغزو وغيره سواء.(6/389)
قال المهلب: وأما القتال فلا يستأجر عليه، لأن على كل مسلم أن يقاتل حتى تكون كلمة الله هى العليا. قال غيره: وإنما ذكر هذا الباب، لأن عمل الجهاد كله عمل بر، ومن أهل العلم من كره أن يؤاجر نفسه فى شىء من أعمال البر، لكنه لما كان الجهاد فرضًا على الكفاية ولم يتعين، جاز للرجل أن يؤاجر نفسه فى سبب منه أو مما يتعلق به، وقد تقدم فى كتاب الجهاد: هل يسهم للأجير أم لا؟
6 - بَاب مَنِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَبَيَّنَ لَهُ الأَجَلَ وَلَمْ يُبَيِّنِ الْعَمَلَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنِّى أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَىَّ هَاتَيْنِ (، إِلَى قَوْلِهِ: (وَكِيلٌ (
. قال المهلب: ليس كما ترجم، لأن العمل عندهم معلوم من سقى وحرث ورعى واحتطاب، وما شاكل أعمال البادية ومهنة أهلها، فهذا متعارف وإن لم يبين له أشخاص الأعمال ولا مقاديرها، مثل أن يقول له: إنك تحرث كذا من السنة، وترعى كذا من السنة. فهذا إنما هو على المعهود من خدمة البادية، والذى عليه المدار فى هذا أنه قد عرفه بالمدة وسماها له، وإنما الذى لا يجوز عند الجميع أن تكون المدة مجهولة والعمل مجهول غير المعهود، لا يجوز حتى يعلم. قال المهلب: والنكاح على أعمال البدن لا يجوز عند أهل المدينة، لأنه غرر، وما وقع من النكاح على مثل هذا الصداق لا نأمر به اليوم، لظهور الغرر فى طول المدة، وهو خصوص لموسى عند أكثر العلماء، لأنه قد قال: إحدى ابنتى، ولم يعينها، وهذا لا يجوز إلا بالتعيين،(6/390)
وأما مذاهب العلماء فى ذلك، فقال مالك: إذا تزوجها على أن يؤاجرها نفسه سنة أو أكثر يفسخ النكاح إن لم يكن دخل بها، وإن كان دخل بها ثبت النكاح بصداق المثل. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: إن كان حرًا فلها مهر مثلها، وإن كان هبدًا فلها خدمة سنة. وقال الشافعى: النكاح جائز على خدمته إذا كان وقتها معلومًا. وقال بعض أصحاب مالك: إنما كره مالك النكاح على الخدمة، لأنه لم يبلغه أن أحدًا من السلف فعل ذلك، والنكاح موضوع على الاتباع والاقتداء. وقوله: (أيما الأجلين قضيت فلا عدوان على (أى: ذلك واجب لك على فى تزويجى إحدى ابنتيك، فما قضيت من هذين الأجلين، فليس لك على مطالبة بأكثر منه، والله على ما أوجبه كل واحد منا على نفسه شهيد وحفيظ. وروى عن ابن عباس أن النبى - عليه السلام - قال: (سألت جبريل: أى الأجلين قضى موسى؟ قال: أتمهما وأكملهما) يعنى عشر سنين.(6/391)
7 - بَاب إِذَا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا عَلَى أَنْ يُقِيمَ حَائِطًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ جَازَ
/ 7 - ابْنُ عَبَّاسٍ، عَن أُبَىُّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (فَانْطَلَقَا فَوَجَدَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ، قَالَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَاسْتَقَامَ) . قَالَ: (لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (. قال المهلب: إنما جاز الاستئجار عليه لقول موسى: لو شئت لتخذت عليه أجرًا. والأجر لا يتخذ إلا على عمل معلوم، وإنما كان يكون له الأجر لو عامله عليه قبل عمله، وأما بعد أن أقامه بغير إذن صاحبه فلا يجبر صاحبه على غرم شىء وقال ابن المنذر: فى قصة موسى والخضر جواز الإجارة على البناء. وفى قوله: (حملونا بغير قول) ، فيه جواز أخذ الأجرة من الركبان فى البحر.
8 - بَاب الإِجَارَةِ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ
/ 8 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام: (مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ، كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ، فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِى مِنْ غُدْوَةَ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتِ الْيَهُودُ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِى مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلاَةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتِ النَّصَارَى، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِى مِنَ الْعَصْرِ إِلَى أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ عَلَى قِيرَاطَيْنِ؟ فَأَنْتُمْ هُمْ) ، فَغَضِبَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَقَالُوا: مَا لَنَا أَكْثَرَ عَمَلاً وَأَقَلَّ عَطَاءً، قَالَ: هَلْ نَقَصْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ؟ ، قَالُوا: لاَ، قَالَ: فَذَلِكَ فَضْلِى أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ) .(6/392)
وترجم له (باب الإجارة إلى صلاة العصر) ، وترجم له (باب الإجارة من العصر إلى الليل) . / 9 - وذكر فيه حديث أَبُو مُوسَى، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، قَالَ: (مَثَلُ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ قَوْمًا يَعْمَلُونَ لَهُ عَمَلاً يَوْمًا إِلَى اللَّيْلِ عَلَى أَجْرٍ مَعْلُومٍ، فَعَمِلُوا لَهُ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ، فَقَالُوا: لاَ حَاجَةَ لَنَا إِلَى أَجْرِكَ الَّذِى شَرَطْتَ لَنَا، وَمَا عَمِلْنَا بَاطِلٌ، فَقَالَ لَهُمْ: لاَ تَفْعَلُوا، أَكْمِلُوا بَقِيَّةَ عَمَلِكُمْ وَخُذُوا أَجْرَكُمْ كَامِلاً، فَأَبَوْا وَتَرَكُوا، وَاسْتَأْجَرَ أَجِيرَيْنِ بَعْدَهُمْ، فَقَالَ: أَكْمِلوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمَ هَذَا وَلَكُمَا الَّذِى شَرَطْتُ لَهُمْ مِنَ الأَجْرِ، فَعَمِلُوا حَتَّى إِذَا كَانَ صَلاَةِ الْعَصْرِ، قَالوا: لَكَ مَا عَمِلْنَا بَاطِلٌ وَلَكَ الأَجْرُ الَّذِى جَعَلْتَ لَنَا فِيهِ، فَقَالَ: أَكْمِلوا بَقِيَّةَ يَومِكُم، مَا بَقِىَ مِنَ النَّهَارِ شَىْءٌ يَسِيرٌ فَأَبَوا، فَاسْتَأْجَرَ قَوْمًا أَنْ يَعْمَلُوا لَهُ بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ، [فَعَمِلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ] حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ، فَاكْمَلُوا أَجْرَ الْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا، فَذَلِكَ مَثَلُهُمْ وَمَثَلُ مَا قَبِلُوا مِنْ هَذَا النُّورِ) . قال ابن النذر: فى حديث ابن عمر ذكر الإجارة الصحيحة بالأجر المعلوم إلى الوقت المعلوم، ولولا أن ذلك جائز ما ضرب بها عليه السلام المثل. وقال المهلب: إنما هذا مثل ضربه النبى للناس الذين خلقهم الله لعبادته، فشرع لهم دين موسى ليعملوا الدهر كله بما يأمرهم به وينهاهم عنه، فعملوا على دين موسى إلى أن بعث الله عيسى، فأمرهم بأن يتبعوه على شريعته، فأبوا وتبرءوا مما جاء به عيسى، وعمل آخرون بما جاء به عيسى على أن يعملوا باقى الدهر بما يؤمرون(6/393)
به وينهون عنه، فعملوا حتى بعث الله محمداُ فدعاهم إلى العمل بما جاء به، فعصوا وأبوا وقطعوا العمل، فعمل المسلمون بما جاء به، ويعملون به إلى يوم القيامة، فلهم أجر من عمل الدهر كله، لأنهم أتموا الدهر بعبادة الله كإتمام النهار الذى كان استؤجر عليه كله أول طبقة. وقوله فى حديث ابن عمر: (من يعمل لى من غدوة إلى نصف النهر) قدر لهم مدة أعمال اليهود ولهم أجرهم عليه إلى أن نسخ الله شريعتهم بعيسى، وقال عند مبعث عيسى: من يعمل فى مدة هذا الشرع وله أجر قيراط؟ فعملت النصارى إلى أن نسخ الله دين عيسى بمحمد، ثم قال متفضلاً على المسلمين: من يعمل بقية النهار إلى الليل وله قيراطان فقال المسلمون: نحن نعمل إلى انقطاع الدهر بشريعة محمد، فهذا الحديث وجهه العمل بمدد الشرائع، والحديث الثانى وجهه العمل الدهر كله، فبقى أن من عمل من اليهود إلى أن نسخ دين موسى، ثم انتقل وآمن بعيسى وعمل بشريعته أن له أجره مرتين، كما كان للمسلمين أجرهم مرتين يعنى كأجر اليهود والنصارى قبلهم، لأنهم أعطوا قيراطين على أكثره، وإنما ذلك من أجل إيمان المسلمين بموسى وعيسى وإن كانوا لم يعملوا بشريعتهما، لأن التصديق عمل. فإن قيل: فما قول اليهود والنصارى: (نحن أكثر عملاً وأقل عطاء) وبين نصف النهار والعصر ثلاث ساعات، كما بين العصر إلى الليل ثلاث ساعات، وإنما كان يكون معنى الحديث(6/394)
ظاهرًا لو قال ذلك اليهود خاصة، لأنهم عملوا نصف النهار على قيراط وذلك ست ساعات، وعملت النصارى ثلاث ساعات على قيراط. قيل: يحتمل معان من التأويل: أحدها: أن يكون قوله: (نحن أكثر عملاً وأقل عطاء) من قول اليهود خاصة، لأنهم عملوا ست ساعات بقيراط، ويكون من قول النصارى: (نحن أقل عطاء) . وإن كانوا متقاربين مع المسلمين فى العمل، فيكون الحديث على العموم فى اليهود، وعلى الخصوص فى النصارى، وقد يأتى الكلام إخبار عن جملة والمراد بعضها، كقوله تعالى: (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان (وإنما يخرج من أحدهما من الملح لا من العذب، ومثله) فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما (والناسى كان يوشع وحده، يدل على ذلك قوله لموسى: إنى نسيت الحوت. وفيه تأويل آخر على العموم فيهما، على أن كل طائفة منهما أكثر عملاً وأقل عطاء، وذلك قوله: (فعملت النصارى إلى صلاة العصر) وليس فيه أنه إلى أول وقت العصر، فنحمله أنها عملت إلى آخر وقت صلاة العصر، قاله ابن القصار. وفيه وجه آخر: وذلك أن نصف النهار وقت زوال الشمس، والزوال فى آخر الساعة السادسة، والعصر فى أول العاشرة بعد مضى شىء يسير منها، فزادت المدة التى بين الظهر إلى العصر على المدة التى بين العصر إلى الليل بمقدار ما بين آخر الساعة التاسعة وأول(6/395)
العاشرة، وإن كان ذلك القدر لا يتبينه كثير من الناس، فهى زيادة معلومة بالعقل والله أعلم.
9 - بَاب مَنِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَتَرَكَ الأَجِيرُ أَجْرَهُ فَعَمِلَ فِيهِ الْمُسْتَأْجِرُ فَزَادَ أَوْ مَنْ عَمِلَ فِى مَالِ غَيْرِهِ فَاسْتَفْضَلَ
/ 10 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (انْطَلَقَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَتَّى أَوَوُا الْمَبِيتَ إِلَى غَارٍ، فَدَخَلُوهُ فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الْغَارَ، فَقَالُوا: إِنَّهُ لاَ يُنْجِيكُمْ مِنْهَا إِلاَ أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمُ: اللَّهُمَّ إِنِّى اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ، فَأَعْطَيْتُهُمْ أَجْرَهُمْ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَرَكَ الَّذِى لَهُ وَذَهَبَ، فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ الأَمْوَالُ، فَجَاءَنِى بَعْدَ حِينٍ، فَقَالَ لى: يَا عَبْدَ اللَّهِ، أَدِّ إِلَىَّ أَجْرِى، فَقُلْتُ لَهُ: كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْرِكَ مِنَ الإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالرَّقِيقِ، فَقَالَ: أَتَسْتَهْزِئُ بِى؟ فَقُلْتُ: لاَ، فَأَخَذَهُ كُلَّهُ فَاسْتَاقَهُ. . . .) الحديث. قال المهلب: تجره فى أجر أجيره على التفضل والتبرع والإحسان منه، وإنما كان عليه مقدار العمل خاصة، فلما أنماه له. وقبل ذلك الأجير، راعى الله له حق تفضله فعجل له المكافأة فى الدنيا بأن خلصه بذلك من هلكة الغار، والله تعالى يأجره على ذلك فى الآخرة. قال المؤلف: وأما من تجر فى مال غيره، فقالت طائفة: يطيب له الربح إذا رد رأس المال إلى صاحبه، وسواء كان غاصبًا للمال أو(6/396)
وديعة عنده متعديًا فيه. هذا قول عطاء وربيعة ومالك والليث والثورى والأوزاعى وأبى يوسف، واستحب مالك والثورى والأوزاعى تنزهه عنه، ويتصدق به. وقالت طائفة: يرد المال ويتصدق بالربح كله، ولا يطيب له منه شىء. هذا قول أبى حنيفة وزفر ومحمد بن الحسن، وقالت طائفة: الربح لرب المال، وهو ضامن لما تعدى فيه. هذا قول ابن عمر وأبى قلابة، وبه قال أحمد وإسحاق، وقال الشافعى: إن اشترى السلعة بالمال بعينه فالربح ورأس المال لرب المال، وإن اشتراها بمال بغير عينه مثل أن يستوجبها منه بثمن معروف المقدار غير معروف العين، ثم نقد المال المغصوب أو الوديعة بغير إذن ربها فالربح له، وهو ضامن لما استهلك من مال غيره. وأصح هذه الأقوال قول من رأى أن الربح للغاصب والمتعدى، والحجة له أن العين قد صار فى ذمته، وهو وغيره من ماله سواء، إذ لا غرض للناس فى أعيان الدنانير والدراهم، وإنما غرضهم فى تصرفهم فيها، ولو غصبها من رجل ثم أراد أن يدفع إليه غيرها مثلها وهى قائمة بيده، لكان له ذلك على أصل قول مالك، فإذا كان له أن يدفع إليه غيرها فربحها له، وحديث الباب حجة لذلك، ألا ترى أن الأجير حيث قال له من أجره: (كل ما ترى من الإبل والبقر والغنم والرقيق من أجرك، قال له: أتستهزئ بى؟) فدل هذا أن السنة كانت عندهم أن الربح للمتعدى العامل، وأنه لاحق فيه لرب رأس المال، وأخبر بذلك النبى فأقره ولم ينسخه، وقد روى عن عمر(6/397)
ابن الخطاب ما يدل على أن الربح له بالضمان، روى مالك فى الموطأ: (أن أبا موسى أسلف عبد الله وعبيد الله ابنى عمر من بيت المال، فاشتريا به متاعًا وحملاه إلى المدينة، فربحا فيه، فقال عمر: أديا المال وربحه. فقال عبيد الله: ما ينبغى لك هذا، لو هلك المال أو نقص ضمناه، فقال رجل: لو جعلته قراضًا يا أمير المؤمنين. قال: نعم، فأخذ منهما نصف الربح، فلم ينكر عمر قول ابنه: لو هلك المال أو نقص ضمناه، فلذلك طاب له ربحه، ولا أنكره أحد من الصحابة بحضرته، وقد تقدم فى كتاب البيوع فى حديث ابن عمر من زرع طعامًا مغصوبًا فى باب (إذا اشترى شيئًا لغيره بغير إذنه فرضى) ومذاهب العلماء فى ذلك. والاغتباق والغبوق: شرب العشى، واسم الشراب: الغبوق، وقال صاحب الأفعال: غبقت الرجل، ولا يقال: أغبقته. وقوله: (ألمت بها سنة) يعنى: أتت عليها سنة شديدة أحوجتها.
- بَاب إِثْمِ مَنْ مَنَعَ الأَجِيرِ أجره
/ 11 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِى ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ) . وروى ابن المنذر فى هذا الحديث: (ومن كنت خصمه خصمته) . وقال المهلب: هذا الحديث مصداقه فى كتاب الله، قال الله -(6/398)
تعالى: (ومن نكث فإنما ينكث على نفسه (وقد وبخ الله من عاهده ثم نكث، ومن باع حرا فقد ألزمه الذلة والصغار، ومنعه التصرف فيما أباح الله له، وهذا ذنب عظيم ينازع الله به فى عباده، ومن ضع أجيرًا حقه فقد ظلمه حين استخدمه واستحل عرقه بغير أجر وخالف بصيرة الله فى عباده؛ لأنه استعملهم ووعدهم على عبادته جزيل الثواب وعظيم الأجر وهو خالقهم ورازقهم.
- بَاب مَنْ آجَرَ نَفْسَهُ لِلحْمِلَ عَلَى ظَهْرِهِ ثُمَّ تَصَدَّقَ بِهِ وَأُجْرَةِ الْحَمَّالِ
/ 12 - فيه: أَبُو مَسْعُود، قَالَ: كَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ انْطَلَقَ أَحَدُنَا إِلَى السُّوقِ، فَيُحَامِلُ فَنُصِيبُ الْمُدَّ، وَإِنَّ لِبَعْضِهِمْ لَمِائَةَ أَلْفٍ، قَالَ: (مَا يراد إِلاَ نَفْسَهُ) قال المهلب: إنما هذا على الترغيب فى الصدقة، ورجاء أجرها عند الله، وقد أثنى الله - تعالى - على أهل هذه الصفة بقوله تعالى: (ويطعمون الطعام على حبه (الآية. وقوله: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة (. وفيه ما كان عليه سلف هذه الأمة من الحرص على اتباع أوامر النبى - عليه السلام - والمبادرة إلى ما ندب إليه وحض عليه من الطاعة، وما كانوا عليه من التواضع والمهنة لأنفسهم فى الأعمال الشاقة عليهم؛(6/399)
لينالوا بذلك رضى ربهم، ولذلك وصفهم الله بأنهم خير أمة أخرجت للناس، وكل هذا كان فى أول الإسلام قبل أن يفتح الله عليهم خزائن البلاد، وكان إذ حدَّث أبو مسعود هذا الحديث قد وسع الله عليهم لقوله: (وإن لبعضهم لمائة ألف) فأدرك الحالتين معًا، وقد ظن المحدث أن أبا مسعود أراد بذلك نفسه، وقد جاء هذا الحديث فى كتاب الزكاة وفيه: (وإن لبعضهم اليوم لمائة ألف) .
- بَاب أَجْرِ السَّمْسَرَةِ
وَلَمْ يَرَ ابْنُ سِيرِينَ وَعَطَاءٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَالْحَسَنُ بِأَجْرِ السِّمْسَارِ بَأْسًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لاَ بَأْسَ أَنْ يَقُولَ: بِعْ هَذَا الثَّوْبَ، فَمَا زَادَ عَلَى كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لَكَ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: إِذَا قَالَ: بِعْهُ بِكَذَا، وَكَذا، فَمَا كَانَ مِنْ رِبْحٍ فَهُوَ لَكَ، أَوْ قَالَ: بَيْنِى وَبَيْنَكَ، فَلاَ بَأْسَ بِهِ. وَقَالَ النَّبىُّ عليه السَّلام: (الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ) / 13 - فيه: ابْن عَبَّاس، نَهَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يُتَلَقَّى الرُّكْبَانُ، وَلاَ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ. قُلْتُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، مَا قَوْلُهُ: (لاَ يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ؟) ، قَالَ: لاَ يَكُونُ لَهُ سِمْسَارًا. اختلف العلماء فى أجر السمسار، فأجازه غير من ذكرهم(6/400)
البخارى، منهم: مالك وأحمد ابن حنبل، وقال مالك: يجوز أن يستأجره على بيع سلع إذا ضرب لذلك أجلاً، قال: وكذلك إذا قال له: بع لى هذا الثوب ولك درهم، أنه جائز وإن لم يوقت له ثمنًا، وهو جعل، وكذلك إن جعل له فى كل مائة دينار شيئًا وهو جعل. وقال أحمد بن حنبل: لا بأس أن يعطيه من الألف شيئًا معلومًا. وذكر ابن المنذر عن حماد والثورى أنهما كرها أجر السمسار، وقال أبو حنيفة: إن دفع إليه ألف درهم يشترى له بها بزا بأجر عشرة دراهم، فهو فاسد، وذلك لو قال له: اشتر مائة ثوب، فهو فاسد، فإن اشترى فله أجر مثله، ولا يجاوز ما سمى له من الأجر. وقال أبو ثور: إذا جعل له فى كل ألف شيئًا معلومًا لم يجز، وإن جعل له فى كل ثوب شيئًا معلومًا لم يجز؛ لأن ذلك غير معلوم، فإن عمل على ذلك فله أجر مثله، فإن اكتراه شهرًا على أن يشترى له ويبيع فذلك جائز. وحجة من كرهه: أنه إجارة فى أمد غير محصور، والإجارة مفتقرة إلى أجل معلوم. وحجة من أجازه: أنه إذا سمى له ما على المائة، فقد عُرفت أجرة كل ثوب واستغنى عن الأجل فيه؛ لأنه عندهم من باب الجعل، وليس على المشترى إذا لم يطلب الشراء شىء من أجر(6/401)
السمسار عند من أجازه، وإنما عليه أجره إذا طلب الشراء أو طلب البيع. وقوله: (لا تكون له سمسارًا) يعنى: من أجل الضرر الداخل على التجار، لا من أجل أجرته، لأن السمسار أجير، وقد (أمر النبى - عليه السلام - بإعطاء الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) من حديث زيد بن أسلم عن أبى صالح، عن أبى هريرة. وأما قول ابن عباس: (بع هذا الثوب فما زاد على كذا فهو لك) . وقول ابن سيرين: (بعه بكذا فما كان من ربح فهو لك، أو بينى وبينك) . فإن أكثر العلماء لا يجيزون هذا البيع، وممن كرهه النخعى والحسن والثورى والكوفيون، وقال مالك والشافعى: لا يجوز، فإن باع فله أجر مثله. وأجازه أحمد وإسحاق، وقالا: هو من باب القراض، وقد لا يربح المقارض. وحجة الجماعة أنه قد يمكن ألا يبيعه بالثمن الذى سمى له؛ فيذهب عمله باطلاً، وهو من باب الغرر، وهى أجرة مجهولة أو جعل مجهول فلا يجوز، وأما حجة من أجازه فقول النبى - عليه السلام -: (المسلمون عند شروطهم) ولا حجة لهم فيه؛ لأنه قد أحكمت السنة أنه لا يجوز من شروط المسلمين شرط أحل حرامًا أو حرم حلالاً، وأما معنى قوله: (المسلمون عند شروطهم) يعنى: الجائزة بينهم.(6/402)
- بَاب هَلْ يُؤَاجِرُ المسلم نَفْسَهُ مِنْ مُشْرِكٍ فِى أَرْضِ الْحَرْبِ
/ 14 - فيه: خَبَّاب، قَالَ: كُنْتُ قَيْنًا، فَعَمِلْتُ لِلْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، فَاجْتَمَعَ لِى عِنْدَهُ، فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ، فَقَالَ: لاَ وَاللَّهِ لاَ أَقْضِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ، فَقُلْتُ: أَمَا وَاللَّهِ حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ تُبْعَثَ فَلاَ، قَالَ: وَإِنِّى لَمَيِّتٌ ثُمَّ مَبْعُوثٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. . . . الحديث. قال المهلب: كره العلماء أن يؤاجر المسلم نفسه من مشرك فى دار الحرب أو دار الإسلام؛ لأن فى ذلك ذلة للمسلمين، إلا أن تدعوا إلى ذلك ضرورة، فلا يخدمه فيما يعود على المسلمين بضر، ولا فيما لا يحل مثل: عصر خمر، أو رعاية خنازير أو عمل سلاح أو شبه ذلك، وأما فى دار الإسلام فقد أغنى الله بالمسلمين وبخدمتهم عن الاضطرار إلى خدمة المشركين، وقد أمر الله عبادة المؤمنين بالترأس على المشركين، فقال تعالى: (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون (فلا يصح لمسلم أن يهين نفسه بالخدمة لمشرك إلا عند الضرورة، فإن وقع ذلك فهو جائز؛ لأنه لما جاز لنا أن نأخذ أموالهم بالمعارضة منهم فى أثمان ما بيع منهم، كان كذلك المنافع الطارئة منا - والله أعلم - ألا ترى أن خبابًا عمل للعاص بن وائل وهو كافر، وجاز له ذلك، وقد تقدم تفسير القين فى كتاب البيوع فى باب: (القين) .(6/403)
- بَاب مَا يُعْطَى فِى الرُّقْيَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِىِّ عليه السَّلام: (أَحَقُّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا، كِتَابُ اللَّهِ) . وَقَالَ الشَّعْبِىُّ: لاَ يَشْتَرِطُ الْمُعَلِّمُ إِلاَ أَنْ يُعْطَى شَيْئًا فَيَقْبَلْهُ. وَقَالَ الْحَكَمُ: لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا كَرِهَ أَجْرَ الْمُعَلِّمِ وَأَعْطَى الْحَسَنُ دَرَاهِمَ عَشَرَةً. وَلَمْ يَرَ ابْنُ سِيرِينَ بِأَجْرِ الْقَسَّامِ بَأْسًا، وَقَالَ: كَانَ يُقَالُ: السُّحْتُ الرِّشْوَةُ فِى الْحُكْمِ، وَكَانُوا يُعْطَوْنَ عَلَى الْخَرْصِ. / 15 - فيه: أَبُو سَعِيدٍ، قَالَ: انْطَلَقَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فِى سَفْرَةٍ سَافَرُوهَا، حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حَىٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، فَاسْتَضَافُوهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ، فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الْحَىِّ، فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَىْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ شَىْءٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلاَءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ نَزَلُوا، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَىْءٌ، فَأَتَوْهُمْ فَقَالُوا: يَا أَيُّهَا الرَّهْطُ، إِنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ، وَسَعَيْنَا لَهُ بِكُلِّ شَىْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ، فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ مِنْ شَىْءٍ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَعَمْ وَاللَّهِ إِنِّى لاَرْقِى، وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضَيِّفُونَا، فَمَا أَنَا بِرَاقٍ لَكُمْ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلاً، فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنَ الْغَنَمِ، فَانْطَلَقَ يَتْفِلُ عَلَيْهِ وَيَقْرَأُ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (، فَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ، فَانْطَلَقَ يَمْشِى وَمَا بِهِ قَلَبَةٌ. قَالَ: فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمِ الَّذِى صَالَحُوهُمْ عَلَيْهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمُ: اقْسِمُوا، فَقَالَ الَّذِى رَقَى: لاَ تَفْعَلُوا حَتَّى نَأْتِىَ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، فَنَذْكُرَ لَهُ الَّذِى كَانَ، فَنَنْظُرَ مَا(6/404)
يَأْمُرُنَا، فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَذَكَرُوا لَهُ، فَقَالَ: (وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ) ، ثُمَّ قَالَ: (قَدْ أَصَبْتُمُ، اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِى مَعَكُمْ سَهْمًا. . . .) ، الحديث. اختلف العلماء فى جواز الأجر على الرقى بكتاب الله وعلى تعليمه، فأجاز ذلك عطاء وأبو قلابة، وهو قول مالك والشافعى وأحمد وأبى ثور، وحجتهم حديث ابن عباس وحديث أبى سعيد. وكره تعليم القرآن بالأجر الزهرى، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يجوز على تعليم القرآن أجر. قال الطحاوى: وتجوز الأجرة على الرقى وإن كان يدخل فى بعضه القرآن؛ لأنه ليس على الناس أن يرقى بعضهم بعضًا، وتعليم الناس بعضهم بعضًا القرآن واجب؛ لأن فى ذلك التبليغ عن الله إلا أن من علمه أجزأ عنه بقيتهم، وذلك كتعليم الصلاة لا يجوز أخذ الأجرة عليه، ولا يجوز على الأذان، واحتجوا بأحاديث ضعاف منها حديث ابن مسعود أن النبى - عليه السلام - قال: (اقرءوا القرآن ولا تأكلوا به) وبحديث حماد بن سلمة عن أبى جرهم، عن أبى هريرة، ومرة يرويه حماد عن أبى المهزم، عن أبى هريرة قال: قلت: (يا رسول الله، ما تقول فى المعلمين؟ قال: درهمهم حرام) . وبحديث المغيرة ابن زياد عن عبادة بن نسى، عن الأسود بن ثعلبة، عن عبادة بن الصامت أنه قال: (علم رجل من أهل الصفة سورة من القرآن فأهدى إليه قوسًا، فقال له رسول الله: إن سرك أن يطوقك الله طوقًا من نار فاقبلها) .(6/405)
والمغيرة بن زياد ضعيف، وأبو جرهم غير معروف، وأبو المهزم مجمع على ضعفه، وحديث ابن مسعود ضعيف، ومحال أن تُعارض هذه الأحاديث إذا تساوت طرقها فى النقل والعدالة، وأما إذا كان بعضها ضعيفًا فالصحيح منها يسقط الضعيف. وأما قول الطحاوى: إن تعليم الناس القرآن بعضهم بعضًا فرض، فغلط؛ لأن تعلم القرآن ليس بفرض، فكيف تعليمه وإنما الفرض المتعين منه على كل أحد ما تقوم به الصلاة، وغير ذلك فضيلة ونافلة، وكذلك تعليم الناس بعضهم بعضا الصلاة ليس بفرض متعين عليهم، وإنما هو على الكفاية، ولا فرق بين الأجرة على الرقى وعلى تعليم القرآن؛ لأن ذلك كله منفعة. وقوله عليه السلام: (إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله) هو عام يدخل فيه إباحة التعليم وغيره، فسقط قولهم. وقد أجاز مالك أجر المؤذن، وكره أجر الإمام، وأجاز الشافعى جميع ذلك بحديث ابن عباس وأبى سعيد. قال المهلب: ومما يدل على جواز أخذ الأجرة على ذلك، أن الذين أخذوا الغنم تحرجوا من قسمتها وأكلها حتى سألوا رسول الله عن ذلك، فأعلمهم النبى أنها حلال لهم أخذ الأجر عليه، وأكد تأنيسهم، وطيب نفوسهم بأن قال: (اضربوا لى معكم بسهم) .(6/406)
وأما أجر القسام فإن أكثر الفقهاء أجازوه، وأما ما روى عن مالك فيه من الكراهة، فإنما ذلك لأن القسام كانوا يرزقون من بيت المال، فإذا لم يكن ذلك فلا بأس باستئجارهم على القسمة عنده، والقسمة مثل عقد الوثائق، كل ذلك جائز عنده، وعقد الوثائق فرض على الكفاية بقوله: (وليكتب بينكم كاتب بالعدل (فلما لم يتعين الفرض جاز فيه أخذ الأجرة. وقال ابن المنذر وأبو حنيفة: يكره تعليم القرآن بالأجر، ويجوز أن يستأجر الرجل أن يكتب له نوحًا أو شعرًا أو غناء معلومًا بأجر معلوم. فيجيز الإجارة فيما هو معصية، ويبطلها فيما هو طاعة لله تعالى وقد دلت السنة على إجازته. قال المهلب: وفى حديث أبى سعيد من الفقه: وجوب التضيف على العادة المعروفة بين الناس فى القرى، وقوله: (قد استضفناكم فلم تضيفونا) دليل أنهم فاوضوهم فى منع معروفهم بأن منعوهم هؤلاء أيضًا معروفهم فى الرقية إلا بعوض، فهذا يدل على أن ترك الضيافة وأخذ الأجرة على الرقية ليس من مكارم الأخلاق. وقوله عليه السلام: (وما يدريك أنها رقية) يدل أن فى القرآن ما يخص الرقى وأن فيه ما لا يخصها، وإن كان القرآن كله مرجو البركة من أجل أنه كلام الله، لكن إذا كان فى الآية تعوذ بالله أو دعاء كان أخص بالرقية ما ليس فيه ذلك، وإنما أراد النبى - عليه السلام - بقوله: (وما يدريك أنها رقية) أن يختبر علمه بذلك؛(6/407)
لأنه ربما خفى موضعها فى الحمد، وقوله: (وإياك نستعين (هو الموضع الذى فيه الرقية؛ لأن الاستعانة به تعالى على كشف الضر، وسؤال الفرج والتبرؤ إليه من الطاقة، والإقرار بالحاجة إليه وإلى عونه هو فى معنى الدعاء. قال المؤلف: ويحتمل أن يكون الراقى إنما رقى بالحمد لله لما علم أنها ثناء على الله، فاستفتح رقيته بالثناء رجاء الفرج، كما يرجى فى الاستفتاح به فى الدعاء الإجابة، ولذلك قال إبراهيم التيمى: إذا بدأ الرجل بالثناء قبل الدعاء فقد استوجب، وإذا بدأ بالدعاء قبل الثناء كان على الرجاء. قال صاحب الأفعال: أنشطت العقدة: حللتها، والتفل: البصاق، يقال: تفل تفلاً: بصق.
- بَاب ضَرِيبَةِ الْعَبْدِ وَتَعَاهُدِ ضَرَائِبِ الإِمَاءِ
/ 16 - فيه: أَنَس، قَالَ: حَجَمَ أَبُو طَيْبَةَ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، فَأَمَرَ لَهُ بِصَاعٍ، أَوْ بِصَاعَيْنِ مِنْ طَعَامٍ، وَكَلَّمَ مَوَالِيَهُ، فَخَفَّفَ عَنْ غَلَّتِهِ أَوْ ضَرِيبَتِهِ. وترجم له: باب خراج الحجام. وذكر فيه: (أن النبى - عليه السلام - احتجم وأعطى الحجام أجره) ولو علم كراهية لم يعطه، وقال أنس: (كان النبى - عليه السلام - يحتجم، ولم يكن يظلم أحدًا أجره) .(6/408)
وترجم للأول باب: (من كلم موالى العبد أن يخففوا عنه من خراجه) . قال المهلب: فيه من الفقه: أنه لا بأس أن يضرب الإنسان على عبده خراجًا معلومًا فى الشهر، وأن يبلغ فى ذلك وسع العبيد وطاقتهم، ولا يثقل عليهم؛ لأن التخفيف لا يكون إلا عن ثقل. وفيه: الشفاعة للمديان فى الوضيعة، وللعبد فى الضريبة، وإن كان ليس بالدين الثابت لكنه مطالب به مستعمل فيه. وفيه: استعمال العبد بغير إذن سيده إذا كان معوضًا لذلك معروفًا به. وفيه: الحكم بالدليل؛ لأنه استدل على أنه مأذون له فى العمل لانتصابه له وعرض نفسه عليه. وأما مذاهب العلماء فى خراج الحجام وكسبه، فقال ابن القصار: يجوز للحجام أن يأكل من كسبه، وإن كان عبدًا جاز لسيده أن يأكله، وإن كنا لا نحبه؛ لأنها صنعة دنية، ولكنه غير محرم. وبهذا قال جماعة الفقهاء إلا أحمد وغيره من أصحاب الحديث فإنهم قالوا: هو محرم على الأحرار ومباح للعبيد، ولا يجوز للحر أن يحترف بالحجامة، وإن كان غلامه حجامًا لم ينفق على نفسه من كسبه، وإنما ينفقه على العبد وعلى بهائمه. والقصد بالحجام: الذى يحجم ليس الذى يزين الناس، واستدلوا لقولهم بحديث أبى رافع أن النبى - عليه السلام - قال: (كسب الحجام خبيث) قالوا: والخبيث عبارة عن الحرام، بحديث ابن محيصة عن أبيه قال: (استأذنت النبى - عليه السلام - فى(6/409)
إجارة الحجام فنهانى عنها، فما زلت أسأله حتى قال: اعلفه ناضحك، وأطعمه رقيقك) . وحجة الجماعة حديث أنس وابن عباس: (أن النبى احتجم، وأعطى الحجام أجرة، قال ابن عباس: ولو علم كراهية لم يعطه) . قال الطحاوى: وفى إباحة النبى أن يطعمه رقيقه وناضحه دليل أنه ليس بحرام، ألا ترى أن المال الحرام الذى لا يحل للرجل أكله لا يحل له أن يطعمه رقيقه ولا ناضحه، فثبت بذلك نسخ ما تقدم من نهيه، وهو النظر عندنا؛ لأنا رأينا الرجل يستأجر الرجل يفصد له عرقًا، أو ينزع له ضرسًا فيجوز ذلك، فكذلك تجوز الحجامة. قال غيره: والدليل على ذلك قوله تعالى: (قو أنفسكم وأهليكم نارًا (قال أهل التفسير: جنبوهم ما يقود إلى النار وما يؤدى إلى سخطه، وذلك فرض على المخاطبين بهذه الآية. وقال ربيعة: إن الحجامين كان لهم سوق على عهد عمر بن الخطاب. وقال يحيى بن سعيد: لم يزل المسلمون مقرين بأجر الحجام، ولا ينكرونها. وأما قولهم: إنها صنعة دنية، فليست بأدنى من صنعة الكناس الذى ينقل الحش، وليست بحرام، وكذلك الحجام. وقولهم: إن اسم الخبيث عبارة عن الحرام، فليس كذلك، وقد يقع على الحلال، قال تعالى: (ولا يتمموا الخبيث منه تنفقون (وكانوا يتصدقون بالحشف وردىء التمر فنزلت هذه الآية فيه.(6/410)
- بَاب كَسْبِ الْبَغِىِّ وَالإِمَاءِ
وَكَرِهَ إِبْرَاهِيمُ أَجْرَ النَّائِحَةِ وَالْمُغَنِّيَةِ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ (الآية. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: (فَتَيَاتِكُمْ (إِمَاءَكُمْ. / 17 - فيه: أَبُو مَسْعُودٍ الأَنْصَارِىِّ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَمَهْرِ الْبَغِىِّ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ. / 18 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، نَهَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ كَسْبِ الإِمَاءِ. ذكر أهل التفسير فى هذه الآية أنها كانت لعبد الله بن أبى حارثة أمة يكرهها على الزنا، فلما حرم الله الزنا قال لها: ألا تزنين؟ قالت: والله لا أزنى أبدًا، فنزلت هذه الآية، ليعرف أن إثمهن على من أكرهن، قال إسماعيل بن إسحاق: فدلت هذه الآية أن المكرهة على الزنا والمغتصبة توطأ، أنه لا حد عليها. قال غيره: وحرم الله كسب البغى بفرجها. وأجمع العلماء على إبطال النائحة والمغنية، وهو عندهم من أكل المال بالباطل. والبغى: الفاجرة، والاسم البغاء.(6/411)
- بَاب عَسْبِ الْفَحْلِ
/ 19 - فيه: ابْن عُمَرَ، نَهَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ. اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث، فكرهت طائفة أن يستأجر الفحل لينز به مدة معلومة بأجر معلوم، ذكر ذلك عن أبى سعيد الخدرى والبراء بن عازب، وذهب الكوفيون والشافعى وأبو ثور إلى أنه لا يجوز عسب الفحل، واحتجوا بحديث ابن عمر، فقالوا: هو شىء مجهول لا ندرى أينتفع به أم لا؟ وقد لا ينزل الفحل. وقال عطاء لا يأخذ عليه أجرًا، ولا بأس أن يعطى الأجر إذا لم تجد من يطرقك. ورخص فيه الحسن وابن سيرين، وأجاز ذلك مالك مدة معلومة أو ضربات معلومة، واحتج الأبهرى بأنها بيع منفعة، وكما جاز للإنسان الانتفاع به جاز أن يبيعه ويعاوض عليه غير الوطء خاصة، وإنما الذى لا يجوز أخذ العوض عليه ما لا يجوز فعله، مما هو منهى عنه كبيع الخمر والخنزير، ومهر البغى، وحلوان الكاهن، وشبه ذلك من الأعيان المحرمة، والمنافع الممنوعة، ومعنى نهيه عليه السلام عن عسب الفحل هو أن يكر به إلى العلوق؛ لأن ذلك مجهول لا يدرى متى يعلق، ولا يجوز إجارة المجهول، كما لا يجوز بيعه، فأما إذا كان إلى أجل معلوم أو نزوات معلومة فلا بأس بذلك. قال صاحب الأفعال: تقول العرب: عسب الرجل عسبًا: أكرى منه فحلاً ينز به، ويقال: العسب: ماء الفحل، قال أبو على: قال أبو ليلى: العسب: ماء الفحل فرسًا كان أو بعيرًا، ولا يتصرف منه فعل، يقال: قطع الله عسبه، أى ماءه ونسله.(6/412)
- بَاب إِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا فَمَاتَ أَحَدُهُمَا
قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لَيْسَ لأَهْلِهِ أَنْ يُخْرِجُوهُ إِلَى تَمَامِ الأَجَلِ. وَقَالَ الْحَكَمُ وَالْحَسَنُ وَإِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: تُمْضَى الإِجَارَةُ إِلَى أَجَلِهَا. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَعْطَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، خَيْبَرَ بِالشَّطْرِ، فَكَانَ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ عليه السَّلام، وَأَبِى بَكْرٍ، وَصَدْرًا مِنْ خِلاَفَةِ عُمَرَ، وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ جَدَّدَا الإِجَارَةَ بَعْدَمَا قُبِضَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) . / 20 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَعْطَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، خَيْبَرَ الْيَهُودَ أَنْ يَعْمَلُوهَا وَيَزْرَعُوهَا، وَلَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا. وَأَنَّ ابْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ أَنَّ الْمَزَارِعَ كَانَتْ تُكْرَى عَلَى شَىْءٍ سَمَّاهُ نَافِعٌ، ولاَ أَحْفَظَهَا. وَأَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ حَدَّثَ: أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ. اختلف العلماء فى هذا الباب، فقالت طائفة: لا تنفسخ الإجارة بموت أحدهما ولا بموتهما، بل يقوم الوارث منهما مقام الميت، هذا قول مالك والشافعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور ومن حجتهم ما ذكره البخارى فى هذا الباب، وقال الكوفيون والثورى والليث: تنتقض الإجارة بموت أيهما مات، واحتجوا لذلك فقالوا: لو قلنا: إن العقد لا ينفسخ، لم تحل للمكترى أن يستوفى المنافع من ملك المكرى، أو من ملك الوارث، فبطل أن يستوفيها من ملك المكرى؛ لأن المكرى إذا مات فلا ملك له، ولا يجوز أن يستوفيها من ملك الوارث؛ لأن الوارث لم يملكها، ولا عقد له معه، فلا يجوز أن يستوفى المنافع من ملكه فوجب أن ينفسخ العقد.(6/413)
قال ابن القصار: فيقال لهم: إن المكترى لا يستوفى المنافع من ملك واحد منهما. قلنا إنما يستوفيها من ملك نفسه؛ لأن المكرى كان يملك الرقبة وما يحدث لها من المنافع، فلما عقد على منافعها مدة ما زال ملكه عنها إلى المكترى فإذا مات قبل انقضاء المدة لم ينتقل إلى الوارث عنه ملك المنافع؛ لأنها ليست فى ملكه، وإنها انتقلت إليهم العين دون المنافع، فالمكترى إذا استوفى المنافع فإنه لا يستوفى شيئًا ملكه الوارث، بل يستوفى ملك نفسه، وأيضًا فإن مذهب أبى حنيفة أن الرجل إذا وقف دارًا أو ضيعة على غيره، وجعل إليه النظر فى ذلك، فأكرى الموقف على يديه ذلك عن غيره ثم مات، فالإجارة لا تنفسخ كما نقول نحن.(6/414)
بسم الله الرحمن الرحيم
33 - كِتَاب الْحِوَالَهَ والكَفَالَة
وَهَلْ يَرْجِعُ فِى الْحَوَالَةِ
وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: إِذَا كَانَ يَوْمَ أَحَالَ عَلَيْهِ مَلِيًّا جَازَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَتَخَارَجُ الشَّرِيكَانِ وَأَهْلُ الْمِيرَاثِ، فَيَأْخُذُ هَذَا عَيْنًا وَهَذَا دَيْنًا، فَإِنْ تَوِىَ لأَحَدِهِمَا، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ. / 1 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (مَطْلُ الْغَنِىِّ ظُلْمٌ، وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِىٍّ فَلْيَتْبَعْ) . قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: الحوالة لا تكون إلا بعد حلول أجل الدين؛ لقوله عليه السلام: (مطل الغنى ظلم) لأن المطل لا يكون إلا بعد حلول الأجل. وقوله: (إذا أتبع أحدكم على ملى فليتبع) معناه الحوالة، يقول: إذا أحيل أحدكم على ملى فليستحل. قال الخطابى: وأكثر المحدثين يقولون: إذا اتبع بتثقيل التاء، والصواب أتبع بالتخفيف. وقال ابن المنذر: هذا الخبر يدل على معان منها: أن من الظلم دفع الغنى صاحب المال عن ماله بالمواعيد، ومن لا يقدر على القضاء غير داخل فى هذا المعنى؛ لأن الله - تعالى - قد أنظره بقوله: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة (.(6/415)
وفيه ما دل على تحصين الأموال، وذلك أمره باتباع الملى دون المعسر؛ لأنه حض بقوله: (ومن أتبع على ملى فليتبع) فدل أن من أتبع على غير ملى فلا يتبع. قال غيره: وهذا معناه عند العلماء: إرشاد وندب وليس بواجب، ويجوز عندهم لصاحب الدين إذا رضى بذمة غريمه، وطابت نفسه على الصبر عليه ألا يستحيل عليه، وإذا علم غنى جاز له ألا يستحلى عليه إذا كان سيئ القضاء، وأوجب أهل الظاهر أن يستحيل على الملى فرضًا. والحوالة عند الفقهاء رخصة من بيع الدين بالدين؛ لأنها معروف، كما كانت العرية متثناة من المزابنة؛ لأنها معروف وكما جاز قرض الدراهم بالدراهم إلى أجل؛ لأن ذلك معروف. واختلف الفقهاء فى الرجل يحتال المال على ملى من الناس، ثم يفلس المحال عليه أو يموت، فقالت طائفة: يرجع على المحيل بماله. هذا قول شريح والشعبى والنخعى، وبه قال أبو يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة: يرجع عليه إذا مات المحال عليه مفلسًا. وقال الحكم: لا يرجع مادام حيا حتى يموت ولا يترك شيئًا، فإن الرجل يوسر مرة ويعسر مرةً. وقالت طائفة: لا يرجع على المحيل بالمال أفلس المحال عليه أو مات، وسواء غره بالفلس أو طول عليه أو أنكره؛ لأنه فى معنى من قبض العوض، هذا قول الليث والشافعى وأحمد وأبى عبيد وأبى ثور، وقال مالك: لا يرجع على الذى أحاله إلا أن يغره من فلس علمه. واحتج الشافعى فقال: قول الرجل: أحلته وأبرأنى، أى: حولت حقه عنى وأثبته على غيرى، فلا(6/416)
يرجع فيه، ودل قوله عليه السلام: (من أتبع على ملى فليتبع) على تحول المال عن المحيل إلى المحال عليه، ولو لم يكن كذلك ما ضره لو أحيل على معدوم. والحجة لمالك أن الحوالة تحول من دين إلى دين، وبيع دين بدين، باع صاحب الحق دينه الذى له على زيد بالدين الذى لعمرو عليه فى ذمته، فليس له أن يرجع متى مات أو أفلس، لأن حقه قد وجب على المحال عليه، وفى ذمته دون ذمة المحيل، وكأنه باع سلعة له بسلعة، وهذا يوجب براءة كل واحد منهما من صاحبه، وذلك مخالف للمحالة، لأن الحمالة وثيقة من حقه، وليس بيع شئ، فأما إذا غره المحيل بفلس فإنه يرجع على من غره، لأن ذلك عيب لم يرض به صاحب الحق، كما يرجع المشترى على البائع بإرش العيب إذا دلس به، أو يرد السلعة إن كانت قائمة، ألا ترى قوله عليه السلام: (وإذا أتبع أحدكم على ملى فليتبع) فحكم أن الاتباع بشرط الملاء، فدل أنه إذا أحيل على غير ملى أنه لا يتبع، وإذا لم يتبعه وجبت له المطالبة بدينه، ويقال للكوفيين: إن الحوالة بيع دراهم فى ذمة المحيل بدراهم فى ذمة المحال عليه، وبيع الدراهم بالدراهم صرف، والصرف يبطل بترك القبض، فعلم أن الحوالة فى معنى القبض والاستيفاء، ولولا ذلك لم تصح الحوالة. فإن قالوا: إن إفلاس الغريم يجرى مجرى العيب، فيجب أن يكون له الرد بالعيب والرجوع، إلى الحق قيل: هو عيب حدث بعد البيع، فسقطت المطالبة به، والعيب الذى يجب به الرجوع إلى الحق هو العيب المتقدم قبل سقوط المطالبة، والفرق بين الحوالة والحمالة عند مالك، أن الحمالة والكفالة لفظان معناهما الضمان، وهما(6/417)
وثيقة لصاحب الدين بمنزلة الرهن هو وثيقة للمرتهن، وليس هو بانتقال من دين إلى دين، ولا من ذمة إلى ذمة، فمتى تلف الحميل رجع إلى المتحمل عنه، كما إذا تلف الرهن فللمرتهن أخذ حقه من الراهن.
- بَاب إِنْ أَحَالَ دَيْنَ الْمَيِّتِ عَلَى رَجُلٍ جَازَ إِذَا أَحَالَ عَلَى مَلِىٍّ فَلَيْسَ لَهُ رَدٌّه
/ 2 - فيه: سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، إِذْ أُتِىَ بِجَنَازَةٍ، فَقَالُوا: صَلِّ عَلَيْهَا، فَقَالَ: (هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟) ، قَالُوا: لاَ، قَالَ: (فَهَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟) ، قَالُوا: لاَ، فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ أُتِىَ بِجَنَازَةٍ أُخْرَى، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صَلِّ عَلَيْهَا، قَالَ: (هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟) ، قِيلَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَهَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟) ، قَالُوا: ثَلاَثَةَ دَنَانِيرَ، فَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ أُتِىَ بِالثَّالِثَةِ، فَقَالُوا: صَلِّ عَلَيْهَا، قَالَ: (هَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟) ، قَالُوا: لاَ، قَالَ: (فَهَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟) ، قَالُوا: ثَلاَثَةُ دَنَانِيرَ، قَالَ: (صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ) ، قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: صَلِّ عَلَيْهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَعَلَىَّ دَيْنُهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ. وإنما ترجم إن أحال دين الميت على رجل، ثم أدخل حديث الضمان، لأن الحوالة والحمالة عند بعض العلماء معناهما متقارب وهو قول ابن أبى ليلى وإليه ذهب أبو ثور، فلهذا جاز(6/418)
أن يعبر عن الضمان بأحال، لأنه كله نقل ذمة رجل إلى ذمة آخر، ونقل ما على رجل من دين إلى آخر، والحمالة فى حديث أبى قتادة براءة لذمة الميت، فصار كالحوالة سواء. وقد اختلفوا فى الرجل يضمن دينًا معلومًا عن ميت بعد موته، ولم يترك وفاءً، فقالت طائفة: الضمان له لازم ترك الميت شيئًا أم لا. هذا قول ابن أبى ليلى، وبه قال مالك والشافعى. وقال أبو حنيفة: لا ضمان على الكفيل؛ لأن الدين قد توى، فإن ترك شيئًا ضمن الكفيل بقدر ما ترك، فإن ترك وفاءً فهو ضامن لجميع ما تكفل به. قال ابن المنذر: فخالف أبو حنيفة هذا الحديث، وفى امتناع رسول الله أن يصلى عليه قبل ضمان أبى قتادة، وصلاته عليه بعد ضمان البيان البين عن صحة ضمان أبى قتادة، وأن من ضمن عن ميت دينًا فهو له لازم ترك الميت شيئًا أو لم يترك؛ لأنهم قالوا له: ما ترك وفاءً. وفى حديث أبى قتادة حجة على أبى حنيفة فى قوله أنه لا تصح الكفالة بغير قبول الطالب، وخالفه أبو يوسف وقال: الكفالة جائزة كان له مخاطب أو لم يكن. وقال ابن القاسم: لا حفظ عن مالك فيه شيئًا، وأراه لازمًا، وأجازه الشافعى إذا عرف مقدار ما تكفل به. وقال الطحاوى: قد أجاز النبى - عليه السلام - ضمان أبى قتادة عن الميت من غير قبول المضمون له، فدل على صحة قول أبى يوسف.(6/419)
واختلفوا إذا تكفل عن رجل بمال، هل للطالب أن يأخذ من أيهما شاء منهما، فقال الثورى والكوفيون والأوزاعى والشافعى وأحمد وإسحاق: يأخذ أيهما شاء من المطلوب أو من الكفيل حتى يستوفى حقه. وهذا كان قول مالك ثم رجع عنه وقال: لا يأخذ الكفيل إلا أن يفلس الغريم أو يغيب. وقالت طائفة: الكفالة والحوالة والضمان سواء، ولا يجوز أن يكون شىء واحد على اثنين، على كل واحد منهما. هذا قول أبى ثور، وقال ابن أبى ليلى: إذا ضمن الرحل عن صاحبه مالا تحول على الكفيل، وبرئ صاحب الأصل إلا أن يشترط المكفول له عليهما أن يأخذ أيهما شاء، واحتج ببراءة الميت من الدين بضمان أبى قتادة، ولذلك صلى النبى عليه، وقال الأبهرى: وحجة مالك أن يأخذ الذى عليه الحق، فإن وفى بالدين وإلا أخذ ما نقصه من مال الحميل؛ فلأن الذى عليه الحق قد أخذ عوض ما يؤخذ منه، ولم يأخذ الحميل عوض ما يؤخذ منه، وإنما دخل على وجه المكرمة والثواب، فكان التبدئة بالذى عليه الحق أولى إلا أن يكون الذى عليه الحق غائبًا أو معدمًا، فإنه يؤخذ من الحميل؛ لأنه معذور فى أخذه فى هذه الحال. وهذا قول حسن، والقياس أن للرجل مطالبة أى الرجلين شاء، وحجة هذا القول ما رواه شريك عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر (أن رجلاً مات وعليه دين، فلم يصل عليه النبى حتى قال أبو اليسر أو غيره: هو على، فصلى عليه، فجاءه من الغد يتقاضاه، فقال: إنما كان ذلك أمس، ثم أتاه من بعد الغد فأعطاه، فقال عليه السلام: الآن بردت عليه جلدته) . قال(6/420)
الطحاوى: فدل هذا على أن المطلوب لا يبرأ بكفالة الكفيل عنه، وأن للطالب أن يأخذ به بعد الكفالة أيهما شاء. قال الأبهرى: ولما كان الضامن يلزمه إذا ضمن كما يلزم المديان أداء ما عليه، كان صاحب الحق مخيرًا أن يأخذ ممن شاء منهما. وقال المهلب: ترك النبى الصلاة على المديان، إنما هو أدب للأحياء؛ لئلا يستأكلوا أموال الناس فتذهب، وهذا كان فى أول الإسلام قبل أن يفتح الله عليه المال، فلما فتح عليه الفىء جعل منه نصيبًا لقضاء دين المسلم، وهذه عقوبة فى أمور الدين أصلها المال، فلما جاز أن يعاقب فى طريق دينه على سبب المال، جاز أن يعاقب فى المال على سبب الدين، كما توعد النبى من لم يخرج إلى المسجد أن يحرق بيته، وسيأتى الحديث الذى نسخه فى آخر باب من تكفل عن ميت دينا، والتنبيه عليه - إن شاء الله.
3 - بَاب الْكَفَالَةِ فِى الْقَرْضِ وَالدُّيُونِ بِالأَبْدَانِ وَغَيْرِهَا
وَبعث عُمَرَ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو مُصَدِّقًا، فَوَقَعَ رَجُلٌ عَلَى جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ، فَأَخَذَ حَمْزَةُ مِنَ الرَّجُلِ كَفِيلاً حَتَّى قَدِمَ عَلَى عُمَرَ، وَكَانَ عُمَرُ قَدْ جَلَدَهُ مِائَةَ جَلْدَةٍ، فَصَدَّقَهُمْ وَعَذَرَهُم بِالْجَهَالَةِ. وَقَالَ جَرِيرٌ وَالأَشْعَثُ لِعَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِى الْمُرْتَدِّينَ: اسْتَتِبْهُمْ وَكَفِّلْهُمْ، فَتَابُوا وَكَفَلَهُمْ عَشَائِرُهُمْ. وَقَالَ حَمَّادٌ: إِذَا تَكَفَّلَ بِنَفْسٍ فَمَاتَ، فَلاَ شَىْءَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْحَكَمُ: يَضْمَنُ. / 3 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِىّ، عليه السَّلام، أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلاً مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ، سَأَلَ بَعْضَ بَنِى إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ: ائْتِنِى(6/421)
بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ، قَالَ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا، فَقَالَ: فَأْتِنِى بِالْكَفِيلِ، قَالَ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلاً، قَالَ: صَدَقْتَ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَخَرَجَ فِى الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلأَجَلِ الَّذِى أَجَّلَهُ، فَلَمْ يَجِدْ، فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا، فَأَدْخَلَ فِيهَا الأَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَيه، ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى الْبَحْرِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّى تَسَلَّفْتُ منه، وَسَأَلَنِى شَهِيدًا وَكَفِيلاَ، فَرَضِىَ بِكَ. . . وذكر الحديث. قال المهلب: الكفالة فى القرض الذى هو السلف بالأموال كلها جائزة، وحديث الخشبة أصل فى الكفالة بالديون من قرض كانت أو بيع، والكفالة بالأبدان والحدود غير صحيحة، ويستحق المدعى علته الحد حتى ينظر فى أمره، إلا أن جمهور الفقهاء قد أجازوا الكفالة بالنفس، وهذا قول مالك والليث والثورى والأوزاعى وأبو حنيفة وأحمد واختلف عن الشافعى، فمرة أجازها ومرة ضعفها.؟ وقالت طائفة: لا تجوز الكفالة بالنفس، ولم يختلف الذين أجازوها فى النفس أن المطلوب إن غاب أو مات لم يقم على الكفيل به حد، ولا لزمه قصاص، فصارت الكفالة بالنفس عندهم غير موجبة لحكم فى البدن. وشذ أبو يوسف ومحمد، فأجازا الكفالة فى الحدود والقصاص، وقالا: إذا قال المقذوف أو المدعى للقصاص: بينتى حاضرة، كفلته ثلاث أيام. واحتج لهما الطحاوى بما روى عن حمزة(6/422)
بن عمرو وابن مسعود وجرير بن عبد الله والأشعث أنهم حكموا بالكفالة بالنفس بمحضر الصحابة حتى كتب إلى عمر فى ذلك، ولا حجة فيه؛ لأن ذلك إنما كان على سبيل الترهيب على المطلوب والاستيثاق، لا أن ذلك لازم لمن تكفل إذا زال المتكفل به؛ لأنه يؤدى ما ضمن فى ذمته عمن تكفل عنه، وإنما تصح الكفالة فى الأموال؛ لأنه يؤدى ما ضمن فى ذمته عمن تكفل عنه، وأصل الكفالة فى المال قوله تعالى: (ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم (أى: كفيل وضامن. واختلف الفقهاء فى من تكفل بالنفس أو بالوجه، هل يلزمه ضمان المال، فقال الكوفيون: من تكفل بنفس رجل لم يلزمه الحق الذى على المطلوب. وهذا أحد قولى الشافعى، وقال مالك والليث والأوزاعى: إذا تكفل بنفسه وعليه مال، فإنه إن لم يأت به غرم المال، ويرجع به على المطلوب، فإن اشترط ضمان نفسه أو وجهه وقال: لا أضمن المال؛ فلا شىء عليه من المال. قال: والحجة لمن أوجب غرم المال أن الكفيل قد علم أن المضمون وجهه لا يطلب بدم وإنما يطلب بمال، فإذا ضمنه له ولم يأت به، فكأنه قد فوت عليه وغره منه؛ فلذلك لزمه المال. واحتج الطحاوى للكوفيين فقال: أما ضمان المال بموت المكفول به، فلا معنى له إذا لم يشترط؛ لأنه إنما تكفل بالنفس وقد فاتت، ولا قيمة لها يرجع إليها بعد عدمه، وأيضًا فإنه تكفل بالنفس ولم يتكفل بالمال، فمحال أن يلزمه ما لم يتكفل به. قال المهلب: وفى حديث الخشبة أن من صح منه التوكل على الله فإن الله - عز وجل - ملى بنصره وعونه، قال الله - تعالى -: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه (فالذى نقر الخشبة توكل(6/423)
على الله ووثق به فى تبليغها وحفظها، والذى سلفه وطلب الكفيل صح منه أيضًا التوكيل على؛ لأنه قنع بالله كفيلاً وحميلاً، فوصل إليه ماله، وسيأتى حكم أخذ الرجل الخشبة حطبًا لأهله فى كتاب اللقطة - إن شاء الله تعالى.
4 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) [النساء: 33]
/ 4 - فيه: ابْن عَبَّاس،) وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِىَ (، قَالَ: وَرَثَةً) وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ (، قَالَ: كَانَ الْمُهَاجِرُونَ لَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَرِثُ الْمُهَاجِرُ الأَنْصَارِىَّ دُونَ ذَوِى رَحِمِهِ، لِلأُخُوَّةِ الَّتِى آخَى بَيْنَهُمْ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: (وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِىَ (نَسَخَتْ، ثُمَّ قَالَ: (وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ (، إِلاَ النَّصْرَ وَالرِّفَادَةَ وَالنَّصِيحَةَ، وَقَدْ ذَهَبَ الْمِيرَاثُ وَيُوصِى لَهُ. / 5 - فيه: أَنَس، قَدِمَ عَلَيْنَا ابْنُ عَوْفٍ، فَآخَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ. / 6 - وفيه: فقيل له: أَبَلَغَكَ أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، قَالَ: (لاَ حِلْفَ فِى الإِسْلاَمِ) ، قَالَ: قَدْ حَالَفَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بَيْنَ قُرَيْشٍ وَالأَنْصَارِ فِى دَارِى. قال الطبرى: قد روى عن النبى - عليه السلام - أنه قال: (لا حلف فى الإسلام، وما كان من حلف الجاهلية فلن يزيده الإسلام إلا شدة) فإن قيل: يعارض قول أنس: (حالف(6/424)
رسول الله بين قريش والأنصار فى دارى بالمدينة) . قيل: كان هذا فى أول الإسلام، كان عليه السلام آخى بين المهاجرين والأنصار، فكانوا يتوارثون بذلك العقد، وعاقد أبو بكر مولى له فورثه، وكانت الجاهلية تفعل ذلك فى جاهليتها، فنسخ الله ذلك بقوله: (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض فى كتاب الله (ورد المواريث إلى القرابات بالأرحام والحرمة بقوله: (يوصيكم الله فى أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين (وأما الذى قال فيه عليه السلام: (ما كان من حلف فى الجاهلية فلن يزيده الإسلام إلا شدة) ، فهو ما لم ينسخه الإسلام، ولم يبطله حكم القرآن، وهو التعاون على الحق والنصرة على الأخذ على يد الظالم الباغى، وهو معنى قول ابن عباس: إلا النصر والرفادة، أنها مستثناة مما ذكر نسخه من مواريث المعاقدين.
5 - بَاب مَنْ تَكَفَّلَ عَنْ مَيِّتٍ دَيْنًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ
. / 7 - فيه: سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) أُتِىَ بِجَنَازَةٍ لِيُصَلِّىَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: (هَلْ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ؟) ، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: (صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ) ، قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: عَلَىَّ دَيْنُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ. / 8 - وفيه: جَابِر، قَالَ: قَالَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْ قَدْ جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ قَدْ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا) ، فَلَمْ يَجِئْ مَالُ الْبَحْرَيْنِ حَتَّى قُبِضَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فَلَمَّا(6/425)
جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ أَمَرَ أَبُو بَكْرٍ، فَنَادَى: مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ النَّبِىِّ، عليه السلام، عِدَةٌ أَوْ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: إِنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، قَالَ لِى كَذَا، فَحَثَى لِى حَثْيَةً فَعَدَدْتُهَا، فَإِذَا هِىَ خَمْسُمِائَةٍ، وَقَالَ: خُذْ مِثْلَيهَا. / 9 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الْمُتَوَفَّى عَلَيْهِ الدَّيْنُ، فَيَسْأَلُ: (هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ وَفَاء؟) ، فَإِنْ حُدِّثَ أَنَّهُ تَرَكَ لِدَيْنِهِ وَفَاءً، صَلَّى عليه، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْفُتُوحَ، قَالَ: (أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ تُوُفِّىَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَتَرَكَ دَيْنًا فَعَلَىَّ قَضَاؤُهُ، وَمَنْ تَرَكَ مَالاً فَلِوَرَثَتِهِ) . اختلف العلماء فيمن تكفل عن ميت بدين، فقال ابن أبى ليلى وأبو يوسف ومحمد والشافعى: الكفالة جائزة عنه وإن لم يترك الميت شيئًا، ولا يرجع به فى مال الميت إن ثاب للميت مالك، وكذلك إن كان للميت مال وضمن عنه لم يرجع فى قولهم؛ لأنه متطوع. قال مالك: إذا تكفل عن ميت فله أن يرجع فى ماله، كذلك إن قال: إنما أديت لأرجع فى ماله. وإن لم يكن للميت مال وعلم الضامن بذلك فلا رجوع له إن بان للميت مال. قال ابن القاسم: لأنه بمعنى الهبة. وشذ أبو حنيفة وخالف الحديث وقال: إذا لم يترك الميت شيئًا فلا تجوز الكفالة، وإن ترك شيئًا جازت الكفالة بقدر ما ترك. وقال الطحاوى: هذا خلاف لحديث النبى؛ لأنه عليه السلام قد أجاز الضمان عن الميت الذى لم يترك شيئًا، واحتج من قال أنه لا رجوع له على الميت وإن كان للميت مال، أنه لو كان له رجوع لقام الكفيل مقام الطالب، فلم يكن النبى - عليه السلام - ليصلى عليه(6/426)
حين ضمن دينه أبو قتادة، وحجة مالك أن أبا قتادة علم أنه لا وفاء للميت حين ضمن دينه، ولو علم أن له مالاً وتكفل بدينه على أن يرجع به فى ماله، لم يمنعه من ذلك كتاب ولا سنة، بل هو الذى بينه عليه السلام بقوله: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه) ، وكذلك اختلافهم إذا تكفل عن حى بغير أمره، فقال الكوفيون والشافعى: لا يرجع به عليه إذا أداه؛ لأنه متطوع. وروى ابن القاسم عن مالك أن له الرجوع بذلك على المطلوب. وحجة مالك أن كل من فعل عن غير فعلاً كان واجبًا على الغير أن يفعله، فإنه واجب عليه الخروج مما لزمنه عنه قياسًا على الإمام يستأجر على السفيه والممتنع من أداء الحق. وقال المهلب: وأما تحمل أبى بكر لعدات النبى - عليه السلام - وديونه، فذلك لأن الوعد منه عليه السلام يلزم فيه الإنجاز، لأنه من مكارم الأخلاق، وقد وصفه الله بأنه على خلق عظيم، وأثنى على إسماعيل بأنه كان صادق الوعد، وإنما صدق أبو بكر من ادعى أن له قبل النبى عدةً أو دينًا؛ لقوله عليه السلام: (ليس كذب على ككذب على غيرى، من كذب على متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار) فهو وعيد، ولا نظن بأن يقدم عليه من شهد الله لهم فى كتابه أنهم خير أمة أخرجت للناس. وحديث أبى هريرة فيه: تكفل النبى - عليه السلام - بديون من مات من أمته معدمًا، وتحمل كل دينهم وضياع عيالهم، وقد جاء هذا الحديث بهذا اللفظ: (ومن ترك كلاً أو ضياعًا فعلى) قال: وهذا الحديث ناسخ لتركه عليه السلام الصلاة على من مات وعليه دين.(6/427)
وقوله: (فعلى قضاؤه) يعنى مما يفىء الله عليه من المغانم والصدقات التى أمر الله بقسمها على الغارمين والفقراء، وجعل للذرية نصيبًا فى الفىء، وقضى منه دين المسلم، وهكذا يلزم السلطان أن يفعله لمن مات وعليه دين، فإن لم يفعله وقع القصاص منه فى الآخرة، ولم يحبس الغريم عن الجنة بدين له مثله فى بيت المال، إلا أن يكون الدين الذى عليه أكثر مما له فى بيت المال ولم تف بذلك حسناته، ومعلوم أن حق المسلم فى بيت المال وإن لم يتعين عنده مال من ماله، يعلمه الذى أحصى كل شىء عددًا، ومحال أن يحبس عن الجنة من له من الحسنات عند من ظلمه ولا يقدر على الانتصاف منه فى الدنيا مما يفى بدينه، والله أعلم.
6 - بَاب جِوَارِ أَبِى بَكْرٍ فِى عَهْدِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَعَقْدِهِ
/ 10 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَىَّ قَطُّ إِلاَ وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلاَ يَأْتِينَا فِيهِ النَّبِىّ، عليه السَّلام طَرَفَىِ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، فَلَمَّا ابْتُلِىَ الْمُسْلِمُونَ، خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا قِبَلَ الْحَبَشَةِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الْغِمَادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ، وَهُوَ سَيِّدُ الْقَارَةِ، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْرَجَنِى قَوْمِى، فَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِى الأَرْضِ فَأَعْبُدَ رَبِّى، قَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ: إِنَّ مِثْلَكَ لاَ يَخْرُجُ وَلاَ يُخْرَجُ، فَإِنَّكَ تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَقْرِى الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ، وَأَنَا لَكَ جَارٌ، فَارْجِعْ فَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبِلاَدِكَ، فَارْتَحَلَ ابْنُ الدَّغِنَةِ، فَرَجَعَ مَعَ أَبِى بَكْرٍ، فَطَافَ(6/428)
فِى أَشْرَافِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لاَ يَخْرُجُ مِثْلُهُ وَلاَ يُخْرَجُ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلاً يُكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَحْمِلُ الْكَلَّ، وَيَقْرِى الضَّيْفَ، وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْدَهرِّ، فَأَنْفَذَتْ قُرَيْشٌ جِوَارَ ابْنِ الدَّغِنَةِ، وَآمَنُوا أَبَا بَكْرٍ، وَقَالُوا لابْنِ الدَّغِنَةِ: مُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِى دَارِهِ، فَلْيُصَلِّ وَلْيَقْرَأْ مَا شَاءَ وَلاَ يُؤْذِينَا بِذَلِكَ وَلاَ يَسْتَعْلِنْ بِهِ، فَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا، قَالَ ذَلِكَ ابْنُ الدَّغِنَةِ لأَبِى بَكْرٍ، فَطَفِقَ أَبُو بَكْرٍ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِى دَارِهِ وَلاَ يَسْتَعْلِنُ بِالصَّلاَةِ وَلاَ الْقِرَاءَةِ فِى غَيْرِ دَارِهِ، ثُمَّ بَدَا لأَبِى بَكْرٍ، فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ وَبَرَزَ، فَكَانَ يُصَلِّى فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَيَتَقَصَّفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ يَعْجَبُونَ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلاً بَكَّاءً لاَ يَمْلِكُ دَمْعَهُ حِينَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّغِنَةِ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِى دَارِهِ، وَإِنَّهُ جَاوَزَ ذَلِكَ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ وَأَعْلَنَ الصَّلاَةَ وَالْقِرَاءَةَ، وَقَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا فَأْتِهِ، فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِى دَارِهِ فَعَلَ، وَإِنْ أَبَى إِلاَ أَنْ يُعْلِنَ ذَلِكَ، فَسَلْهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْكَ ذِمَّتَكَ، فَإِنَّا كَرِهْنَا أَنْ نُخْفِرَكَ وَلَسْنَا مُقِرِّينَ لأَبِى بَكْرٍ الاسْتِعْلاَنَ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَتَى ابْنُ الدَّغِنَةِ أَبَا بَكْرٍ، فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتَ الَّذِى عَقَدْتُ لَكَ عَلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ تَرُدَّ إِلَىَّ ذِمَّتِى، فَإِنِّى لاَ أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبُ أَنِّى أُخْفِرْتُ فِى رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنِّى أَرُدُّ إِلَيْكَ جِوَارَكَ(6/429)
وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللَّهِ وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (قَدْ أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ، [رَأَيْتُ سَبْخَةً ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لاَبَتَيْنِ) ، وَهُمَا الْحَرَّتَانِ] ، فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ، وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْضُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا، فَقَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (عَلَى رِسْلِكَ، فَإِنِّى أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِى) ، فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى النَّبىِّ عَلَيْهِ السَّلاَم؛ لِيَصْحَبَهُ، وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. قال المهلب: هذا الجوار كان معروفًا بين العرب، وكان وجوه العرب يجيرون من لجأ إليهم واستجار بهم، وقد أجار أبو طالب النبى - عليه السلام - ولا يكون الجوار إلا من الظلم والعداء، ففى هذا من الفقه أنه إذا خشى المؤمن على نفسه من ظالم أنه مباح له وجائز أن يستجير بمن يمنعه ويحميه من الظلم، وإن كان مجيره كافرًا، إن أراد الأخذ بالرخصة، وإن أراد الأخذ بالشدة على نفسه فله ذلك كما رد أبو بكر الصديق على ابن الدغنة جواره، ورضى بجوار الله وجوار رسوله - عليه السلام - وأبو بكر يومئذ من المستضعفين، فآثر الصبر على ما يناله من أذى المشركين محتسبا على الله وواثقا به، فوفى الله له ما وثق به فيه، ولم ينله مكروه حتى أذن الله لنبيه فى الهجرة، فخرج أبو بكر معه ونجاهم الله - تعالى - من كيد أعدائهما حتى بلغ مراده تعالى من إظهار النبوة وإعلاء الدين، وكان لأبى بكر فى ذلك من الفضل والسبق فى نصرة نبيه وبذل نفسه وماله فى ذلك ما لم يخف مكانه، ولا جهل موضعه. قال أبو على: (قط) تجزم إذا كانت بمعنى التقليل، وتضم وتثقل إذا كانت فى معنى الزمن والحين من الدهر، تقول: لم أر هذا قط،(6/430)
وليس عندى إلا هذا فقط، وأخفرت الرجل: نقضت عهده، وخفرته: منعته وحميته، وفى كتاب الأفعال: طفق بالشىء طفوقاُ إذا أدام فعله ليلاً ونهارًا، ومنه قوله تعالى: (فطفق مسحاُ بالسوق والأعناق (.(6/431)
بسم الله الرحمن الرحيم
34 - كِتَاب الْوَكَالَةِ
- َكَالَةُ الشَّرِيكِ فِى الْقِسْمَةِ وَغَيْرِهَا
وَقَدْ أَشْرَكَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَلِيًّا فِى هَدْيِهِ ثُمَّ أَمَرَهُ بِقِسْمَتِهَا. / 1 - فيه: عَلِىّ، أَمَرَنِى النَّبِىّ، عليه السَّلام، أَنْ أَتَصَدَّقَ بِجِلاَلِ الْبُدْنِ الَّتِى نُحِرَتْ وَبِجُلُودِهَا. / 2 - وفيه: عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، أَعْطَاهُ غَنَمًا يَقْسِمُهَا عَلَى صَحَابَتِهِ، فَبَقِىَ عَتُودٌ، فَذَكَرَهُ لِلنَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَقَالَ: (ضَحِّ بِهِ أَنْتَ) . وكالة الشريك جائزة كما تجوز شركة الوكيل، وهو بمنزلة الأجنبى فى أن ذلك مباح منه، وحديث على بين فى الترجمة، فإن قيل: ليس فى حديث عقبة وكالة الشريك، قيل: عقبة إنما وكله النبى - عليه السلام - على قسمة الضحايا وهو شريك للموهوب لهم، فتوكيله على ذلك كتوكيل شركائه الذين قسم بينهم الضحايا.
- بَاب إِذَا وَكَّلَ الْمُسْلِمُ حَرْبِيًّا فِى دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِى دَارِ الإِسْلاَمِ جَازَ
/ 3 - فيه: عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، كَاتَبْتُ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ كِتَابًا، بِأَنْ يَحْفَظَنِى فِى صَاغِيَتِى بِمَكَّةَ وَأَحْفَظَهُ فِى صَاغِيَتِهِ بِالْمَدِينَةِ،(6/432)
فَلَمَّا ذَكَرْتُ الرَّحْمَنَ، قَالَ: لاَ أَعْرِفُ الرَّحْمَنَ، كَاتِبْنِى بِاسْمِكَ الَّذِى كَانَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ، فَكَاتَبْتُهُ عَبْدَ عَمْرٍو، فَلَمَّا كَانَ يَوْمِ بَدْرٍ، خَرَجْتُ إِلَى جَبَلٍ لأُحْرِزَهُ حِينَ نَامَ النَّاسُ، فَأَبْصَرَهُ بِلاَلٌ، فَخَرَجَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى مَجْلِسٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ: لاَ نَجَوْتُ إِنْ نَجَا أُمَيَّةُ، فَخَرَجَ مَعَهُ فَرِيقٌ مِنَ الأَنْصَارِ فِى آثَارِنَا، فَلَمَّا خَشِيتُ أَنْ يَلْحَقُونَا، خَلَّفْتُ لَهُمُ ابْنَهُ لأَشْغَلَهُمْ فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ أَبَوْا حَتَّى تَتْبَعُونَا، وَكَانَ رَجُلاً ثَقِيلاً، فَلَمَّا أَدْرَكُونَا قُلْتُ لَهُ: ابْرُكْ، فَبَرَكَ فَأَلْقَيْتُ عَلَيْهِ نَفْسِى لأَمْنَعَهُ، فَتَخَلَّلُوهُ بِالسُّيُوفِ مِنْ تَحْتِى حَتَّى قَتَلُوهُ، وَأَصَابَ أَحَدُهُمْ رِجْلِى بِسَيْفِهِ، وَكَانَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يُرِينَا ذَلِكَ الأَثَرَ فِى ظَهْرِ قَدَمِهِ. قال ابن المنذر: إذا وكل المسلم الحربى المستأمن أو وكل الحربى المستأمن المسلم فهو جائز. قال المؤلف: ألا ترى أن عبد الرحمن بن عوف وكل أمية بن خلف بأهله وحاشيته بمكة أن يحفظهم؟ وأمية مشرك، والتزم عبد الرحمن لأمية من حفظ حاشيته بالمدينة مثل ذلك مجازاة لصنعه. قال المهلب: وترك عبد الرحمن بن عوف أن يكتب إليه عبد الرحمن لأن التسمية علامة، كما فعل ذلك النبى - عليه السلام - يوم الحديبية حين قال له رسول أهل مكة: لا أعرف الرحمن فكتب باسمك اللهم. فلم يضره محو ذلك عليه السلام، ولا تشاح فيه إذا ما محى من الكتاب ليس بمحو من الصدور، وإذ التشاح فى مثل هذا ربما آل إلى فساد ما أحكموه من المقاضاة.(6/433)
وقوله: فألقيت عليه نفسى لأمنعه، فلم يمتنع بذلك أمية بن خلف من القتل، هو منسوخ بقوله عليه السلام: (يجير على المسلمين أدناهم) لأن حديث أم هانئ كان يوم فتح مكة. وفيه من الفقه: مجازاة المسلمُ الكافَر على البر يكون منه للمسلم والإحسان إليه، ومفارضته على جميل فعله، والسعى له فى تخليصه من القتل وشبهه. وفيه أيضًا: المجازاة على سوء الفعل بمثله، والانتقام من الظالم، وإنما سعى بلال فى قتل أمية بن خلف، واستصرخ الأنصار عليه وأغراهم به فى ندائه: أمية بن خلف، لا نجوتُ إن نجا أمية؛ لأنه كان عذب بلالاً بمكة على ترك الإسلام، وكان يخرجه إلى الرمضاء بمكة إذا حميت فيضجعه على ظهره، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ويقول: لا تزال هكذا أو تفارق دين محمد، فيقول بلال: أحد أحد. قال عبد الرحمن بن عوف: فكنت بين أمية وابنه آخذًا بأيديهما، فلما رآه بلال صرخ بأعلى صوته: يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوتُ إن نجا، فأحاطوا بنا وأنا أذب عنه، فضرب رجل ابنه بالسيف فوقع، وصاح أمية صيحة ما سمعت بمثلها قط، قلت: انج بنفسك - ولا نجاية - فو الله لا أغنى عنك شيئًا فهذوهما بأسيافهم حتى فرغوا منهما. ذكره ابن إسحاق وذكر فى حديث آخر عن عبد الله بن أبى بكر وغيره عن عبد الرحمن بن عوف قال:(6/434)
وكان أمية بن خلف لى صديقًا بمكة، وكان اسمى عبد عمرو فتسميت حين أسلمت عبد الرحمن ونحن بمكة، فكان يلقانى بمكة ويقول: يا عبد عمرو أرغبت عن اسم سماكه أبوك؟ فأقول: نعم. فيقول: فإنى لا أعرف الرحمن، فاجعل بينى وبينك شيئًا أدعوك به، فسماه عبد الإله. فلما كان يوم بدر مررت به وهو واقف به مع ابنه على بن أمية، ومعى أدراع أسبيتها فأنا أحملها فلما رآنى قال: يا عبد عمرو، فلم أجبه. قال: يا عبد الإله، قلت: نعم. قال: هل لك فى فأنا خير لك من هذه الأدراع التى معك، قلت: نعم. قال: فطرحت الأدراع من يدى وأخذت بيده ويد ابنه، وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط، فرآهما بلال، فكان حديثه ما تقدم، فكان عبد الرحمن يقول: يرحم الله بلالا، ذهبت أدراعى وفجعنى بأسيرى. وقول بلال: أمية بن خلف، معناه عليكم أمية ابن خلف، ونصبه على الإغراء، ويجوز فيه الرفع على أن يكون خبر ابتداء مضمر تقديره: هذا أمية بن خلف. وقال الأصمعى: صاغية الرجل: الذين يميلون إليه ويأتونه. قال المؤلف: وهو مأخوذ من صغى يصغو ويصغى صغوًا، إذا مال، ومنه قوله تعالى: (ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة (وكل مائل إلى شىء أو معه فقد صغى إليه، وأصغى من كتاب الأفعال.(6/435)
3 - بَاب الْوَكَالَةِ فِى الصَّرْفِ وَالْمِيزَانِ وَقَدْ وَكَّلَ عُمَرُ وَابْنُ عُمَرَ فِى الصَّرْفِ
. / 4 - فيه: أَبُو سَعِيد، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، اسْتَعْمَلَ رَجُلاً عَلَى خَيْبَرَ، فَجَاءَهُمْ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقَالَ: (أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا) ؟ قَالَ: إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ، وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلاَثَةِ، فَقَالَ: (لاَ تَفْعَلْ، بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا) ، وَقَالَ فِى الْمِيزَانِ مِثْلَ ذَلِكَ. الترجمة صحيحة، وبيع الطعام بالطعام يدًا بيد مثل الصرف سواء، وهو شبيهه فى المعنى، فلذلك ترجم لهذا الحديث باب الوكالة فى الصرف، وإنما صحت الوكالة فى هذا الحديث لقوله عليه السلام لعامل خيبر: (بع الجمع بالدراهم) بعد أن كان باع على غير السنة، فلو لم يجز بيع الوكيل والناظر فى المال لعرفه عليه السلام بذلك، وأعلمه أن بيعه مردود وإن وقع على السنة، فلما لم ينه النبى - عليه السلام - إلا عن الربا الذى واقعه فى بيعه الصاع بالصاعين، دل ذلك أنه إذا باع على السنة أن بيعه جائز. وقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن الوكالة فى الصرف جائزة، ولو وكل رجل رجلا يصرف له دراهم، ووكل آخر يصرف له دنانير، فالتقيا وتصارفا صرفًا جائزًا، أن ذلك جائز، وإن لم يحضر الموكلان أو أحدهما، وكذلك إذا وكل الرجل الرجلين يصرفان دراهم، فليس لأحدهما أن يصرف ذلك دون(6/436)
صاحبه، فإن قام أحدهما فى المجلس الذى تصارفا فيه قبل تمام الصرف انتقض الصرف؛ لقوله عليه السلام: (الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء) . وقال أصحاب الرأى: إن قام أحدهما قبل أن يقبضا انتقضت حصة الذى ذهب، وحصة الثانى جائزة. وقال ابن المنذر: لم يجعل الموكل إلى أحدهما شيئًا دون الآخر، ولهذا أصل فى كتاب الله - تعالى - قال الله تعالى: (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها (ولا يجوز لأحد من الحكمين أمر إلا مع صاحبه. وقوله: (وقال فى الميزان مثل ذلك) يعنى: أن الموزونات حكمها فى الربا حكم المكيلات، وهذا عند أهل الحجاز فى المطعومات التى يجرى فيها الكيل والوزن، والكوفيون يجعلون علة الربا الكيل والوزن فى المطعوم وغيره؛ لقوله فى الذهب والورق: (وزنًا بوزن) وقوله فى الطعام فى حديث عبادة: (مدى بمدى وكيل بكيل) .
4 - بَاب إِذَا أَبْصَرَ الرَّاعِى أَوِ الْوَكِيلُ شَاةً تَمُوتُ أَوْ شَيْئًا يَفْسُدُ [ذَبَحَ] وَأَصْلَحَ مَا يَخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادَ
/ 5 - فيه: كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ كَانَتْ لَه غَنَمٌ تَرْعَى بِسَلْعٍ، فَأَبْصَرَتْ جَارِيَةٌ لَنَا بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِنَا مَوْتًا، فَكَسَرَتْ حَجَرًا فَذَبَحَتْهَا بِهِ،(6/437)
فَقَالَ لَهُمْ: لاَ تَأْكُلُوا حَتَّى أَسْأَلَ رَسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) ، أَوْ أُرْسِلَ مَنْ يَسْأَلُهُ، وَأَنَّهُ سَأَلَ النَّبِىَّ، عليه السلام، عَنْ ذَاكَ، أَوْ أَرْسَلَ، فَأَمَرَهُ بِأَكْلِهَا. قَالَ عُبَيْدُاللَّهِ: فَيُعْجِبُنِى أَنَّهَا أَمَةٌ، وَأَنَّهَا ذَبَحَتْ. قال المهلب: وفيه من الفقه تصديق الراعى والوكيل على ما أؤتمن عليه حتى يظهر عليه دليل الخيانة والكذب، وهذا قول مالك وجماعة، وقال ابن القاسم: إذا خاف الموت على شاة فذبحها لم يضمن، ويصدق إن جاء بها مذبوحة. وقال غيره: يضمن حتى يتبين ما قال. واختلف ابن القاسم وأشهب إذا أنزى على إناث بغير أمر أربابها فهلك فقال ابن القاسم: لا ضمان عليه؛ لأن الإنزاء من صلاح المال ونمائه. وقال أشهب: عليه الضمان. وقول ابن القاسم أشبه بدليل هذا الحديث؛ لأن الرسول لما أجاز ذبح الأمة الراعية للشاة، وأمرهم بأكلها، وقد كان يجوز ألا تموت لو بقيت؛ دل على أن الراعى والوكيل يجوز له الاجتهاد فيما استرعى عليه ووكل به، وأنه لا ضمان عليه فيما أتلف باجتهاده إذا كان من أهل الصلاح، وممن يعلم إشفاقه على المال والنية فى إصلاحه، وأما إن كان من أهل الفسوق والفساد وأراد صاحب المال أن يضمنه فعل؛ لأنه لا يصدق أنه رأى بالشاة موتا؛ لما عرف من فسقه، وإن صدقه لم يضمنه.(6/438)
5 - بَاب وَكَالَةُ الشَّاهِدِ وَالْغَائِبِ جَائِزَةٌ
وَكَتَبَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَمْرٍو إِلَى قَهْرَمَانِهِ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهُ، أَنْ يُزَكِّىَ عَنْ أَهْلِهِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ. / 6 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى النَّبِىِّ، عليه السلام، سِنٌّ مِنَ الإِبِلِ، فَجَاءَهُ يَتَقَاضَاهُ، فَقَالَ: (أَعْطُوهُ) ، فَطَلَبُوا سِنَّهُ، فَلَمْ يَجِدُوا لَهُ إِلاَ سِنًّا فَوْقَهَا، فَقَالَ: (أَعْطُوهُ) ، فَقَالَ: أَوْفَيْتَنِى أَوْفَى اللَّهُ بِكَ، قَالَ عليه السلام: (إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً) . هذا الحديث حجة على أبى حنيفة فى قوله: لا يجوز توكيل الحاضر بالبلد الصحيح البدن إلا برضى من خصمه أو عذر مرض أو سفر ثلاثة أيام، وهذا الحديث خلاف قوله؛ لأن النبى - عليه السلام - أمر أصحابه أن يقضوا عنه السن التى كانت عليه وذلك توكيل منه لهم على ذلك. ولم يكن عليه السلام غائبًا ولا مريضًا ولا مسافرًا، وعامة الفقهاء يجيزون توكيل الحاضر الصحيح البدن وإن لم يرض خصمه بذلك على ما دل عليه هذا الحديث، وهذا قول ابن أبى ليلى ومالك وأبى يوسف ومحمد والشافعى إلا أن مالكًا قال: يجوز ذلك وإن لم يرض خصمه إذا لم يكن الوكيل عدوا للخصم. وقال سائرهم: يجوز ذلك وإن كان الوكيل عدو للخصم. وقال الطحاوى: اتفق الصحابة على جواز ذلك، فروى أن على بن أبى طالب وكل عقيلا عند أبى بكر، فلما أسر عقيل وكل عبد الله ابن جعفر، فخاصم عبد الله بن جعفر طلحة فى صغيرة أحدثها على عند عثمان،(6/439)
وأقر عثمان بذلك، فصار ذلك إجماعا، وقال النبى لعبد الرحمن بن سهل الأنصارى لما خاصم إليه فى دم أخيه عبد الله ابن سهل، الذى وجد مقتولا بخيبر بمحضر من عميه حويصة ومحيصة: (كبر كبر - يريد ولى الكلام فى ذلك الكبير منهما - فتكلم حويصة ثم محيصة، وكان الوارث عبد الله ابن سهل دونهما، فكانا وكيلين) ، وأما إذا وكل وكيلا غائبًا على طلب حقه، فإن ذلك يفتقر إلى قبول الوكيل للوكالة عند الفقهاء، وإذا كانت الوكالة مفتقرة إلى قبول الوكيل فحكم الغائب والحاضر فيها سواء، فإن قيل: فأين القبول فى حديث أبى هريرة؟ قيل: عملهم بأمر النبى - عليه السلام - من توفية صاحب الحق حقه، قبول منهم لأمره عليه السلام.
6 - بَاب الْوَكَالَةِ فِى قَضَاءِ الدُّيُونِ
/ 7 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِىَّ، عليه السلام، يَتَقَاضَاهُ فَأَغْلَظَ، فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (دَعُوهُ، فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالاً) ، ثُمَّ قَالَ: (أَعْطُوهُ سِنًّا مِثْلَ سِنِّهِ) ، فَقَالُوا: لاَنجد إِلاَ أَمْثَلَ مِنْ سِنِّهِ، فَقَالَ: (أَعْطُوهُ، فَإِنَّ مِنْ خَيْرِكُمْ أَحْسَنَكُمْ قَضَاءً) . الوكالة فى قضاء الديون وجميع الحقوق جائزة. قال المهلب: وفيه من الفقه أن من آذى السلطان بجفاء أو استنقاص،(6/440)
أن حقا على أصحابه وجلسائه أن يعاقبوه على ذلك، وينكروا عليه الجفاء وإن لم يأمرهم السلطان بذلك، وليس لهم أن يتركوا مثل هذا حتى ينهاهم السلطان عنه، كما نهى النبى - عليه السلام - الذين هموا بالذى أغلظ له. ويبين هذا قصة المغيرة بن شعبة مع الشاب الأنصارى الذى جفا على أبى بكر الصديق، فكسر المغيرة أنفه، فاستعدى عليه الأنصارى ليقيده أبو بكر بن المغيرة، فقال أبو بكر: والله لخروجهم من ديارهم أقرب إليهم من ذلك أقيده من ورعه أنفه وكذلك فعل المغيرة برسول أهل مكة يوم المقاضاة، إذ كان يكلم النبى ويشير بيده نحو لحيته، فضربه المغيرة بسيفه مغمدًا، فقال: أقبض يدك عن لحية رسول الله قبل ألا ترجع إليك، فلم ينكر ذلك النبى - عليه السلام.
7 - بَاب إِذَا وَهَبَ شَيْئًا لِوَكِيلٍ أَوْ شَفِيعِ قَوْمٍ جَازَ؛ لِقَوْلِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) لِوَفْدِ هَوَازِنَ حِينَ سَأَلُوهُ الْمَغَانِمَ: (نَصِيبِى لَكُمْ
/ 8 - فيه: مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ، وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ، أَخْبَرَاهُ أَنَّ النَّبِىّ، عليه السلام، قَامَ حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَحَبُّ الْحَدِيثِ إِلَىَّ أَصْدَقُهُ، فَاخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، إِمَّا السَّبْىَ، وَإِمَّا الْمَالَ، وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِهِمْ) ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) انْتَظَرَهُمْ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ(6/441)
قَفَلَ مِنَ الطَّائِفِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) غَيْرُ رَادٍّ إِلَيْهِمْ إِلاَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، قَالُوا: فَإِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى الْمُسْلِمِينَ، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: (أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ هَؤُلاَءِ قَدْ جَاءُونَا تَائِبِينَ، وَإِنِّى قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُطَيِّبَ بِذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يُفِىءُ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ) ، فَقَالَ النَّاسُ: قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ يا رَسُولِ اللَّهِ لَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّا لاَ نَدْرِى مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ فِى ذَلِكَ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعُ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ) ، فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ قَدْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا. قال: إذا كان الوكيل أو الشفيع طلب لنفسه ولغيره فشفع فيما طلب كان حكمهم كحكمه فى الشىء الذى سأل لنفسه ولهم، وأما إن وهب لقوم وقبض لهم وكيلهم تلك الهبة جازت، ولم يدخل الوكيل فى الهبة , والوفد رسل هوازن هم الوكلاء والشفعاء فى رد أموالهم إلى جماعتهم، فشفعهم النبى وقال لهم: (ونصيبى لكم) يعنى: من المال ومن العيال، ثم أخذ أنصباء الناس من العيال خاصة، وأبقى لهم المال لحاجتهم إليه. قال أبو عبد الله: فيه من الفقه أن بيع المكره فى الحق جائز، لأن النبى - عليه السلام - حكم برد السبى، ثم قال: (من أحب أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفئ الله علينا) ، ولم يجعل(6/442)
لهم الخيار فى إمساك السبى أصلا، وإنما خيرهم فى أن يعوضهم من مغانم أخر، ولم يخيرهم فى أعيان السبى، لأنه قال لهم هذا بعد أن رد إليهم أهليهم، وإنما خيرهم فى إحدى الطائفتين لئلا يجحف بالمسلمين فى مغانمهم فيخليهم منه كله، ويخيبهم مما غنموه وتعبوا فيه. قال المهلب: وفى رفع النبى - عليه السلام - إملاك الناس عن الرقيق، ولم يجعل إلى تملك أعيانهم سبيلا دليل على أن للإمام أن يستعين على مصالح المسلمين بأخذ بعض ما فى أيدى الناس ما لم يجحف بهم، ويعد من لم تطب نفسه مما يأخذ منه بالعوض، ألا ترى قوله: (من أحب أن يطيب بذلك) ، فأراد عليه السلام أن يطيب نفوس المسلمين لأهل هوازن بما أخذ منهم من العيال، ليرفع الشحناء والعداوة، ولا تبقى إحنة الغلبة لهم فى انتزاع السبى منهم فى قلوبهم، فيولد ذلك اختلاف الكلمة. وفيه أنه يجوز للإمام إذا جاءه أهل الحرب مسلمين بعد أن غنم أهليهم وأموالهم أن يرد إليهم عيالهم إذا رأى ذلك صوابًا كما فعل النبى - عليه السلام - لأن العيال ألذق بنفوس الرجال من المال، والعار عليهم فيهم أشد. وقوله عليه السلام: (إنا لا ندرى من أذن منكم فى ذلك ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم) إنما هذا تقص من النبى فى استطابة نفوس الناس رجلا رجلا، وليعرف الحاضر منهم الغائب.(6/443)
8 - بَاب إِذَا وَكَّلَ رَجُلاً أَنْ يُعْطِىَ شَيْئًا وَلَمْ يُبَيِّنْ كَمْ يُعْطِى فَأَعْطَى عَلَى مَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ
/ 9 - فيه: جَابِر، كُنْتُ مَعَ النَّبِىِّ، عليه السلام، فِى سَفَرٍ، فَكُنْتُ عَلَى جَمَلٍ ثَقَالٍ، إِنَّمَا هُوَ فِى آخِرِ الْقَوْمِ، فَمَرَّ بِى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (مَنْ هَذَا؟) فَقُلْتُ: جَابِرُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ، قَالَ: (مَا لَكَ؟) قُلْتُ: إِنِّى عَلَى جَمَلٍ ثَقَالٍ، قَالَ: (أَمَعَكَ قَضِيبٌ؟) قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: (أَعْطِنِيهِ) ، فَأَعْطَيْتُهُ، فَضَرَبَهُ فَزَجَرَهُ، فَكَانَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ الْقَوْمِ، قَالَ: (بِعْنِيهِ) ، فَقُلْتُ: بَلْ، هُوَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (بَلْ بِعْنِيهِ، قَدْ أَخَذْتُهُ بِأَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ، وَلَكَ ظَهْرُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ) ، فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ أَخَذْتُ أَرْتَحِلُ، قَالَ: (أَيْنَ تُرِيدُ؟) قُلْتُ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً. . . . . . . الحديث. فَلَمَّا قَدِمْت الْمَدِينَةَ قَالَ: (يَا بِلاَلُ، اقْضِهِ وَزِدْهُ) ، فَأَعْطَاهُ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ، وَزَادَهُ قِيرَاطًا، قَالَ جَابِرٌ: لاَ تُفَارِقُنِى زِيَادَةُ النَّبِىّ، عليه السلام، فَلَمْ يُفَارِقُ الْقِيرَاطُ جِرَابَ جَابِرِ. المأمور بالصدقة إذا أعطى ما يتعارف الناس ويصلح للمعطى، ولا يخرج عن حال المعطى جاز ونفذ، فإن أعطى أكثر مما يتعارف الناس، تعلق ذلك برضا صاحب المال، فإن أجاز ذلك جاز، وإلا رجع عليه بمقدار ذلك، والدليل على ذلك أنه لو أمره أن يعطيه قفيزًا فأعطاه قفيزين ضمن الزيادة بإجماع، فدل أن المتعارف يقوم مقام الشىء المعين. قال المهلب: وهذا الحديث يبين أن من روى الاشتراط فى حديث جابر أن معناه: أن النبى - عليه السلام - شرط له ذلك شرط تفضل،(6/444)
لأن القصة كلها جرت من النبى - عليه السلام - على جهة التفضل والرفق بجابر، لأنه وهبه الجمل بعد أن أعطاه ثمنه وزاده. وجابر أيضًا قال للنبى حين سأله بيعه: (هو لك يا رسول الله) يعنى: بلا ثمن، وسيأتى إيضاح هذا المعنى ومذاهب العلماء فى ذلك فى كتاب الشروط بعد هذا إن شاء الله. وفيه بركة النبى عليه السلام. قال ثعلب: يقال بعير ثقال بفتح الثاء، أى: بطئ، والثقال بكسر الثاء: جلد أو كساء يوضع تحت الرحى يقع عليه الدقيق.
9 - بَاب وَكَالَةِ الْمَرْأَةِ الإِمَامَ فِى النِّكَاحِ
/ 10 - فيه: سَهْل، جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى قَدْ وَهَبْتُ لَكَ مِنْ نَفْسِى، فَقَالَ رَجُلٌ: زَوِّجْنِيهَا، قَالَ: (قَدْ زَوَّجْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ) . وجه استنباط الوكالة من هذا الحديث: هو أن الرسول لما قالت له المرأة: (قد وهبت نفسى لك) كان ذلك كالوكالة له على تزويجها من نفسه، أو ممن رأى النبى تزويجها منه، فكان كل ولى للمرأة بهذه المنزلة أنه لا ينكحها حتى تأذن له فى ذلك، إلا الأب فى(6/445)
البكر، والسيد فى الأمة فإذا أذنت له وافتقر الولى إلى إباحتها ورضاها، كانت إباحتها ورضاها وكالة، وليست هذه الوكالة من جنس سائر الوكالات التى لا يفعل الوكيل شيئًا إلا والموكل يفعل مثله، من أجل أن الرسول قد خص النكاح أنه لا يتم إلا بهذه الوكالة بقوله: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطل) . وجمهور العلماء على أنه لا تلى المرأة عقد نكاح بحال: لا نكاح نفسها، ولا امرأة غيرها، هذا قول ابن أبى ليلى ومالك والثورى والليث والشافعى، قال مالك: ويفسخ النكاح وإن ولدت منه. وقال الأوزاعى: إذا زوجت نفسها فحسن ألا يعرض لها الولى إلا أن تكون عربية تزوجت مولى فيفسخ. وقال أبو حنيفة وزفر: يجوز عقد المرأة على نفسها، وأن تزوج نفسها كفئًا. واختلفوا إذا لم يكن لها ولى فجعلت عقد نكاحها إلى رجل ليس بولى، ولم يرفع أمرها إلى السلطان، فروى المصريون عن مالك أن للسلطان أن ينظر فيه، فيجيزة أو يرده كما كان ذلك للولى، وقد روى عن مالك فيمن تزوجت بغير ولاية من يجوز له ولايتها، ودخل بها، والزوج كفء فلا يفسخ، وقال سحنون: قال غير ابن القاسم: لا يجوز وإن أجازه السلطان والولى، لأنه نكاح عقد بغير ولى. وهو قول ابن الماجشون، وحجتهم قوله عليه السلام: (أيما امرأة نكحت بغير ولى، فنكاحها باطل) .(6/446)
- بَاب إِذَا وَكَّلَ رجل رَجُلاً فَتَرَكَ الْوَكِيلُ شَيْئًا فَأَجَازَهُ الْمُوَكِّلُ فَهُوَ جَائِزٌ وَإِنْ أَقْرَضَهُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى جَازَ
/ 11 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: وَكَّلَنِى النَّبِىّ، عليه السَّلام، بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِى آتٍ، فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ، وَقُلْتُ: [وَاللَّهِ] لأرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: إِنِّى مُحْتَاجٌ ولىَّ عِيَالٌ، وَبِى حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ، قَالَ: فَخَلَّيْتُ عَنْهُ، أَصْبَح، النَّبىُّ فقال: (يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ) ؟ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالاً، فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ: (أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ، وَسَيَعُودُ) ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ سَيَعُودُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِنَّهُ سَيَعُودُ، فَرَصَدْتُهُ، فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ، فَقُلْتُ: لاَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: دَعْنِى فَإِنِّى مُحْتَاجٌ، وَعَلَىَّ عِيَالٌ لاَ أَعُودُ، فَرَحِمْتُهُ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فَأَصْبَحْتُ، فَقَالَ لِى النَّبىِّ: (يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ؟) قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالاً، فَرَحِمْتُهُ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ: (أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ، وَسَيَعُودُ) ، فَرَصَدْتُهُ الثَّالِثَةَ، فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ، فَقُلْتُ: لاَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَهَذَا آخِرُ ثَلاَثِ مَرَّاتٍ تزعم أَنَّكَ لاَ تَعُودُ، ثُمَّ تَعُودُ، قَالَ: دَعْنِى أُعَلِّمْكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهَا، قُلْتُ: مَا هِىَ؟ قَالَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِىِّ، فَإِنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلاَ يَقْرَبَنَّكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ فَأَصْبَحْتُ، فَقَالَ لِى النَّبىِّ عَلَيِه السَّلاَم: (مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ) ؟ قُلْتُ: زَعَمَ أَنَّهُ يُعَلِّمُنِى كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِى اللَّهُ بِهَا، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، وَكَانُوا أَحْرَصَ شَىْءٍ(6/447)
عَلَى الْخَيْرِ، وحكيت له القول، فَقَالَ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ، وَهُوَ كَذُوبٌ (ذَاكَ شَيْطَانٌ) . قال المهلب: قوله: فترك الوكيل شيئًا، يريد أن أبا هريرة ترك الذى حثا الطعام حين شكا إليه الحاجة، فأخبر النبى - عليه السلام - بذلك، فأجاز فعله ولم يرده. قال غيره: ففهم من ذلك الحديث أن من وكل على حفظ شئ، أو أؤتمن على مال فأعطى منه شيئًا لأحد أنه لا يجوز، وإن كان بالمعروف، لأنه إنما جاز فعل أبى هريرة لأجازة النبى - عليه السلام - له، لأنه عليه السلام لم يوكل أبا هريرة على عطاء، ولا أباح له إمضاء ما انتهب منه، وإنما وكله بحفظه خاصة. والدليل على صحة هذا التأويل أنه ليس لمن أؤتمن على شىء أن يتلف منه شيئًا، وأنه إذا أتلفه ضمنه إلا أن يجيزه رب المال، وفى تعلق جواز ذلك بإجازة رب المال دليل على صحة الضمان لو لم يجزه وهذا لا أعلم فيه خلافاُ بين الفقهاء. وأما قوله: وإن أقرضه إلى أجل مسمى جاز، فلا أعلم خلافًا بين الفقهاء أن أحدًا لا يجوز له أن يقرض من وديعة عنده أو مال استحفظه لأحد شيئًا لا حالا ولا إلى أجل، ولكنه إن فعل كان رب المال مخيرًا بين إجازة فعله أو تضمينه، أو طلب الذى قبض المال.(6/448)
وقال المهلب: ويخرج قوله فى الترجمة: وإن أقرضه إلى أجل مسمى جاز لأن الطعام كان مجموعًا للصدقة، فلما أخذ السارق وقد حثا من الطعام، وقال له: دعنى فإنى محتاج، وتركه، فكان سلفه ذلك الطعام إلى أجل، وهو وقت قسمته وتفرقته على المساكين، لأنهم كانوا يجمعونه قبل الفطر بثلاثة أيام للتفرقة، فكأنه سلفه إلى ذلك الأجل، وفيه من الفقه أن السارق لا يقطع فى مجاعة، وفيه أنه يجوز أن يعفى عنه قبل أن يبلغ الإمام، وفيه أنه قد يعلم الشيطان علمًا ينتفع به إذا صدقته السنة وفيه أن الكاذب قد يصدق فى الندرة، وفيه علامات النبوة، وفيه تفسير لقوله تعالى: (إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم (يعنى: الشياطين، أن المراد بذلك ما هم عليه من خلقتهم الروحانية التى جبلوا عليها فإذا تشخصوا فى صور الأجسام المدركة بالعين جازت رؤيتهم، كما تشخص الشيطان فى هذا الحديث لأبى هريرة فى صورة سارق.
- بَاب إِذَا بَاعَ الْوَكِيلُ شَيْئًا بيعًا فَاسِدًا فَبَيْعُهُ مَرْدُودٌ
/ 12 - فيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ: جَاءَ بِلاَلٌ إِلَى النَّبِىِّ، عليه السلام، بِتَمْرٍ بَرْنِىٍّ، فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (مِنْ أَيْنَ هَذَا) ؟ قَالَ بِلاَلٌ: كَانَ عِنْدَى تَمْرٌ رَدِىٌّ فَبِعْتُ مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ لِنُطْعِمَ النَّبِىَّ، عليه السلام، فَقَالَ عليه السلام: (أَوَّهْ أَوَّهْ،(6/449)
عَيْنُ الرِّبَا، مرتين، لاَ تَفْعَلْ، وَلَكِنْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِىَ فَبِعِ التَّمْرَ بِبَيْعٍ آخَرَ، ثُمَّ اشْتَرِ بهِ) . قال المهلب: لا خلاف بين العلماء أن كل من باع بيعًا فاسدًا أن بيعه مردود، وقول النبى - عليه السلام -: (أوه عين الربا) دليل على فسخ البيع، لأن الله - تعالى - قد أمر بذلك فى كتابه، وقضى برد رأس المال بقوله: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربا (وقوله: (فلكم رءوس أموالكم (وقد روى فى هذا الحديث عن بلال أن النبى قال: (اردده مكسومًا) وروى منصور وقيس بن الربيع عن أبى جمرة عن سعيد بن المسيب، عن بلال قال: (كان عندى تمر دون، فابتعت تمرًا أجود منه فى السوق بنصف كيله صاعين بصاع، وأتيت النبى فقال: من أين لك هذا؟ فحدثته بما صنعت، فقال: هذا الربا بعينه، انطلق فرده على صاحبه، وخذ تمرك وبعه بحنطة أو شعير، ثم اشتر من هذا التمر، ثم جئنى. .) وذكر الحديث. قال المهلب: فإنما الغرض فى بيع الطعام من صنف واحد - والله أعلم - مثلا بمثل التوسعة على الناس، ولئلا يستولى أهل الجدة على الطيب. وقال صاحب العين: تأوه الرجل آهة، إذا توجع، ويقال: أوهة لك، فى موضع مشقة وهم، ويقال: أوه من كذا، على معنى التذكر والتحزن.(6/450)
- بَاب الْوَكَالَةِ فِى الْوَقْفِ وَنَفَقَتِهِ وَأَنْ يُطْعِمَ صَدِيقًا لَهُ وَيَأْكُلَ بِالْمَعْرُوفِ
/ 13 - وَقَالَ عَمْرٍو فِى صَدَقَةِ عُمَرَ: لَيْسَ عَلَى الْوَلِىِّ جُنَاحٌ أَنْ يَأْكُلَ وَيُؤْكِلَ صَدِيقًا لَهُ غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالاً، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ هُوَ يَلِى صَدَقَةَ عُمَرَ يُهْدِى لِنَاسٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ. قال المهلب: هذا إنما أخذه عمر من كتاب الله فى ولى اليتيم فى قوله: (ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف (والمعروف ما تعارفه الناس بينهم غير مكتسب مالا، فهذا مباح عند الحاجة، وهذا سنة الوقف أن يأكل منه الولى له ويؤكل، لأن الحبس لهذا حبس، وليس هو مثل من أؤتمن على مال لغير الصدقة فأعطى منه بغير إذن ربه شيئًا، فإنه لا يجوز له ذلك بإجماع العلماء.
- بَاب الْوَكَالَةِ فِى الْحُدُودِ
/ 14 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ،، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السلام، قَالَ: (وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا) .(6/451)
/ 15 - وفيه: عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: جِىءَ بِالنُّعَيْمَانِ، أَوِ ابْنِ النُّعَيْمَانِ شَارِبًا، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مَنْ كَانَ فِى الْبَيْتِ أَنْ يَضْرِبُوا، قَالَ: فَكُنْتُ أَنَا فِيمَنْ ضَرَبَهُ، فَضَرَبْنَاهُ بِالْجَرِيدِ والنِّعَالِ. فى حديث أنس من الفقه أنه يجوز للإمام أن يبعث فى إنفاذ الحكم من يقوم مقامه فيه، كالوكيل للموكل. واختلف العلماء فى الوكالة فى الحدود والقصاص، فذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنه لا يجوز قبول الوكالة فى ذلك، ولا يقيم الحد والقصاص حتى يحضر المدعى، وهو قول الشافعى، وقال ابن أبى ليلى وطائفة: تقبل الوكالة فى ذلك، وقالوا: لا فرق بين الحدود والقصاص والديون إلا أن يدعى الخصم أن صاحبه قد عفا، فيوقف عن النظر فيه حتى يحضر. وقول من أجاز الوكالة فى ذلك يشهد له دلائل الأحاديث الثابتة، فإن قيل: إن فى بعث النبى - عليه السلام - أنيسًا لإقامة الحد على المرأة إن اعترفت بالزنا دليلاً على ذلك، وأما حديث ابن النعيمان فإنما أقيم فيه الحد بحضرته عليه السلام. قيل: المعنى واحد، وذلك أنه لما كان الإمام لا يتناول إقامة الحد بنفسه، وأنه إنما يولى ذلك غيره، كان ذلك فى معنى إقامة أنيس الحد غائبًا عنه إن اعترفت المرأة لأن فى كلتا الحالتين إنما أقام الحد عن أمره عليه السلام بإقامته، وذلك فى معنى الوكيل، ويجئ على مذهب مالك أن الحد يقام على المقر دون حضور المدعى، خلاف قول أبى حنيفة والشافعى،(6/452)
لأنه حق وجب عليه، وليس دعواه على المدعى بها يسقط الحد مما يجب أن يلتفت إليه بمجرد دعواه، إلا أن يقيم بينه على ما ادعى من ذلك.
- بَاب الْوَكَالَةِ فِى الْبُدْنِ وَتَعَاهُدِهَا
/ 16 - فيه: عَائِشَة، أَنَا فَتَلْتُ قَلاَئِدَ هَدْىِ النَّبِىّ، عليه السلام، ثُمَّ قَلَّدَهَا، ثُمَّ بَعَثَ بِهَا مَعَ أَبِى. . . الحديث. الوكالة فى البدن وفى كل ما يجوز للإنسان أن ينوب عن غيره فيه منابه من الأعمال جائزة، لا خلاف فى شىء من ذلك، وقد تقدم هذا الحديث فى كتاب الحج، فأغنى عن إعادته.
- بَاب إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِوَكِيلِهِ ضَعْهُ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ وَقَالَ الْوَكِيلُ قَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ
/ 17 - فيه: أَنَس، قَالَ: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِى بِالْمَدِينَةِ مَالاً، وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ بَيْرُحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ (قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ (فَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِى إِلَىَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا، وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا(6/453)
يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ شِئْتَ، فَقَالَ: (بَخٍ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ قَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ فِيهَا، وَأَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِى الأَقْرَبِينَ) ، قَالَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِى أَقَارِبِهِ وَبَنِى عَمِّهِ. قال المهلب: قوله عليه السلام: (قد سمعت ما قلت) يدل على قبول النبى لما جعل إليه أبو طلحة من الرأى فى وضعها، ثم رد النبى الوضع فيها إلى أبى طلحة بعد أن أشار عليه فيمن يضعها. وفيه أن للوكيل أن يقبل ما وكل عليه وله أن يرد، وأن الوكالة لا تتم إلا بقبول الوكيل، ألا ترى أن أبا طلحة قال للنبى: (فضعها يا رسول الله حيث أراك الله) فأشار عليه بالرأى، ورد عليه العمل وقال: (أرى أن تجعلها فى الأقربين) فتولى أبو طلحة قسمتها. وفيه: أن من أخرج شيئًا من ماله لله ولم يملكه أحد، فجائز له أن يضعه حيث أراه الله من سبل الخير، وجائز أن يشاور فيه من يثق برأيه من إخوانه وليس لذلك وجه معلوم لا يتعدى، كما قال بعض الناس: معنى قول الرجل: لله وفى سبيل الله فى وجه دون وجه، ألا ترى أن هذه الصدقة الموقوفة رجعت إلى قرابة أبى طلحة، ولو سبلها فى وجه من الوجوه لم تصرف إلى غيره. واختلف الفقهاء إذا قال الرجل: خذ هذا المال فاجعله حيث أراك الله من وجوه الخير، هل يأخذ منه لنفسه إن كان فقيرًا أم لا؟ فقالت طائفة: لا يأخذ منه شيئًا، لأنه إنما أمر بوضعه عند غيره. وهذا يشبه مذهب مالك فى المدونة، سئل مالك عن رجل أوصى بثلث ماله لرجل أن يجعله حيث رأى، فأعطاه ولد نفسه، يعنى ولد الوصى أو أحدًا من ذوى قرابته، قال مالك: لا أرى ذلك جائزًا.(6/454)
وقال آخرون: يأخذ منه كنصيب أحد الفقراء وقال آخرون: جائز له أن يأخذه لنفسه كله إن كان فقيرًا. ووجه قول من قال: لا يأخذ منه شيئًا لنفسه، لأن ربه أمره أن يضعه فى الفقراء، ولم يأذن له أن يأخذه لنفسه، ولو شاء أن يعطيه له لم يأمره أن يضعه فى غيره، فكأنه أقامه مقام نفسه ولو فرقه ربه لم يحبس منه شيئًا، ووجه قول من قال: يأخذ منه كنصيب أحد الفقراء، فهو أن ربه أمره أن يضعه فى الفقراء، وهو أحدهم، فلم يتعد ما قاله، ووجه قول من قال: يأخذه كله لنفسه، أن ربه أمره أن يضعه فى الفقراء، ومعلوم أنه لا يحيط بجماعتهم، وأن المال إنما يوضع فى بعضهم، وإذا كان فقيرًا فهو من بعضهم لأنه من الصفة التى أمره أن يضعه فيها.
- بَاب وَكَالَةِ الأَمِينِ فِى الْخِزَانَةِ وَنَحْوِهَا
/ 18 - فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِىّ عليه السَّلام: (الْخَازِنُ الأَمِينُ الَّذِى يُنْفِقُ - وَرُبَّمَا قَالَ: الَّذِى يُعْطِى - مَا أُمِرَ بِهِ كَامِلاً مُوَفَّرًا طَيِّبًا نَفْسُهُ إِلَى الَّذِى أُمِرَ بِهِ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَيْنِ) . قال المهلب: إنما كان أحد المتصدقين - والله أعلم - لأنه معين على إنفاذ الحسنة، وأما إذا أعطاه كارهًا غير مريد لإعطائه لم يؤجر على ذلك، لأنه لا نية له مع فعله، وقد اشترط النبى - عليه السلام - أن الأعمال بالنيات، فدل ذلك أنها إذا لم تصحبها نية لا يؤجر بها، ألا ترى أن المنافقين لم تقبل منهم صلاة ولا صيام ولا غيره إذ عريت أعمالهم عن النيات.(6/455)
بسم الله الرحمن الرحيم
35 - كِتَاب الْمُزَارَعَةِ
- بَاب مَا جَاء فِى الحرث والْمزارعة وَفَضْلِ الزَّرْعِ وَالْغَرْسِ إِذَا أُكِلَ مِنْهُ وَقوله تَعَالَى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ (الآية.
/ 1 - فيه: أَنَس، قَالَ عليه السَّلام: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ، أَوْ إِنْسَانٌ، أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلاَ كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ) . قال المهلب: هذا يدل أن الصدقة على جميع الحيوان وكل ذى كبد رطبة فيه أجر، لكن المشركين لا نأمر بإعطائهم من الزكاة الواجبة لقوله عليه السلام: (أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها فى فقرائكم) . وفيه من الفقه: أن من يزرع فى أرض غيره أن الزرع للزارع، ولرب الأرض عليه كراء أرضه لقوله عليه السلام: (ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا إلا كان له صدقة) . فجعل الصدقة للزارع والثواب له خاصة دون رب الأرض، فعلمنا أنه ليس لرب الأرض حق فى الزرع الذى أخرجته الأرض وفيه الحض على عمارة الأرض لتعيش نفسه أو من يأتى بعده ممن يؤجر فيه، وذلك يدل على جواز اتخاذ الصناع، وأن الله - تعالى - أباح ذلك لعباده المؤمنين لأقواتهم وأقوات أهليهم طلبًا للغنى بها عن الناس، وفساد قول من أنكر ذلك، ولو كان كما زعموا ما كان لمن زرع زرعًا وأكل منه إنسان أو بهيمة أجر، لأنه لا يؤجر أحد فيما(6/456)
لا يجوز فعله، وقد تقدم بيان هذه المسألة بأوضح من هذا فى كتاب الخمس فى باب نفقة نساء النبى - عليه السلام - بعد وفاته، فأغنى عن إعادته.
- بَاب مَا يُحَذَّرُ مِنْ عَوَاقِبِ الاشْتِغَالِ بِآلَةِ الزَّرْعِ وَتَجَاوِزِ الْحَدِّ الَّذِى أُمِرَ بِهِ
/ 2 - فيه: أَبُو أُمَامَةَ، أنَّهُ رَأَى سِكَّةً أَو شَيْئًا مِنْ آلَةِ الْحَرْثِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (لاَ يَدْخُلُ هَذَا بَيْتَ قَوْمٍ إِلاَ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الذُّلَّ) . قال المهلب: معنى هذا الحديث - والله أعلم - الحض على معالى الأحوال، وطلب الرزق من أشرف الصناعات لما خشى النبى على أمته من الاشتغال بالحرث وتضييع ركوب الخيل والجهاد فى سبيل الله، لأنهم إن اشتغلوا بالحرث غلبتهم الأمم الراكبة للخيل المتعيشة من مكاسبها، فحضهم على التعيش من الجهاد لا من الخلود إلى عمارة الأرض ولزوم المهنة، والوقوع بذلك تحت أيدى السلاطين وركاب الخيل. ألا ترى أن عمر قال: تمعددوا واخشوشنوا، واقطعوا الركب، وثبوا على الخيل وثبًا لا يغلبكم عليها دعاة الإبل. أى دعوا التملك والتدلك بالنعمة، وخذوا أخشن العيش لتتعلموا الصبر فيه، فأمرهم بملازمة الخيل والتدريب عليها والفروسية، لئلا تملكهم الرعاة الذين شأنهم خشونة العيش، ورياضة أبدانهم(6/457)
بالوثوب على الخيل، وقد رأينا عاقبة وصيته فى عصرنا هذا بميلنا إلى الراحة والنعمة. قال المؤلف: فمن لزم الحرث وغلب عليه، وضيع ما هو أشرف منه، لزمه الذل كما قال عليه السلام، ويلزمه الجفاء فى خلقه لمخالطته من هو كذلك، وقد جاء فى الحديث (من لزم البادية جفا) وقد أخبرنا عليه السلام بما يقوى هذا المعنى فقال: (السكينة فى أهل الغنم، والخيلاء فى أصحاب الخيل، والقسوة فى الفذاذين أهل الوبر) ، فكأنه قال: والذل فى أهل الحرث، أى: من شأن ملازمة هذه المهن توليد ما ذكر من هذه الصفات ومن الذل الذى يلزم من اشتغل بالحرث ما ينوبه من المؤنة بخراج الأرضين. وفيه: علامة النبوة، وذلك أنه عليه السلام علم أن من يأتى فى آخر الزمان من الولاة يجورون فى أخذ الصدقات والعشور، ويأخذون فى ذلك أكثر مما يجب لهم، لأنه لا ذل لمن أخذ منه الحق الذى عليه، وإنما يصح الذل بالتعدى وترك الحق فى الأخذ.
3 - بَاب اقْتِنَاءِ الْكَلْبِ لِلْحَرْثِ
/ 3 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ اقتنِى كَلْبًا فَإِنَّهُ يَنْقُصُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ عَمَلِهِ قِيرَاطٌ، إِلاَ كَلْبَ حَرْثٍ، أَوْ مَاشِيَةٍ) . وقال مرة: (إِلاَ كَلْبَ غَنَمٍ، أَوْ حَرْثٍ، أَوْ صَيْدٍ) .(6/458)
اقتناء الكلب للحرث والماشية والصيد مباح بدليل الكتاب والسنة، وقد تقدم حكم الكلب فى جميع وجوهه فى كتاب البيوع وكتاب الصيد فأغنى عن إعادته.
4 - بَاب اسْتِعْمَالِ الْبَقَرِ لِلْحِرَاثَةِ
/ 4 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ،، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، قَالَ: (بَيْنَمَا رَجُلٌ رَاكِبٌ عَلَى بَقَرَةٍ الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: لَمْ أُخْلَقْ لِهَذَا خُلِقْتُ لِلْحِرَاثَةِ، قَالَ: آمَنْتُ بِهِ أَنَا، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَأَخَذَ الذِّئْبُ شَاةً، فَتَبِعَهَا الرَّاعِى، فَقَالَ لَهُ الذِّئْبُ: مَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ، يَوْمَ لاَ رَاعِىَ لَهَا غَيْرِى، قَالَ: آمَنْتُ بِهِ أَنَا، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ) . وَمَا هُمَا يَوْمَئِذٍ فِى الْقَوْمِ. قال المهلب: فبيان كلام البهائم من الآيات التى خصت بها بنو إسرائيل، لجواز أن تكون النبوة فيهم غير محظورة، وهذا الحديث حجة على من جعل علة المنع من أكل الخيل والبغال والحمير أنها خلقت للركوب والزينة لقوله تعالى: (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة (وقد خلقت البقر للحراثة، وأنطقها الله بذلك زيادة فى الآية المعجزة، ولم يمنع ذلك من أكل لحومها لا فى بنى إسرائيل ولا فى الإسلام، وفيه الثقة بما يعلم من صحة إيمان المرء وثاقب علمه والقضاء عليه بالعادة المعلومة منه، كما قضى النبى (صلى الله عليه وسلم) على أبى بكر وعمر بتصديق كلام البقرة والذئب، الذى توقف الناس عن الإقرار به، حتى احتاج رسول الله أن يقول أن هذا(6/459)
بقربه معه أبو بكر وعمر، وناهيك بذلك فضيلة لهما ورفعة، لشهادة النبى لهما الذى لا ينطق عن الهوى. وقال إسماعيل بن إسحاق القاضى: قال لى على بن المدينى: سمعت أبا عبيدة معمر ابن المثنى يقول فى حديث النبى، حين أخذ الذئب الشاة وأخذت منه - فقال: (من لها يوم السبع، يوم لا راعى لها غيرى) قال: ليس هو السبع الذى يسبع الناس، إنما هو عيد كان لهم فى الجاهلية يشتغلون بأكلهم ولعبهم، فيجئ الذئب فيأخذها.
5 - بَاب إِذَا قَالَ اكْفِنِى مَئُونَةَ النَّخْلِ وَغَيْرِهِ وَتُشْرِكُنِى فِى الثَّمَرِ
/ 5 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَتِ الأَنْصَارُ: اقْسِمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا النَّخِيلَ، قَالَ: (لاَ) ، قَالَ: (تَكْفُونَا الْمَئُونَةَ، وَنَشْرَكْكُمْ فِى الثَّمَرَةِ) ، قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا. قال المهلب: إنما أراد الأنصار مشاركة المهاجرين بأن يقاسموهم أموالهم، فكره رسول الله أن يخرج عنهم شيئاَ من عقارهم، وعلم أن الله سيفتح عليهم البلاد فيغنى جميعهم، فأشركهم فى الثمرة على أن يكفوهم المئونة والعمل فى النخيل، وتبقى رقاب النخل للأنصار، وهذه هى المسافة بعينها.(6/460)
قال غيره: فإن وجد فى بعض طرق هذا الحديث مقدار الشركة بين المهاجرين والأنصار فى الثمرة صير إليه، وإلا فظاهر اللفظ يقتضى عملهم على نصف ما تخرج الثمرة، لأن الشركة إذا أبهمت ولم يذكر فيها حد معلوم حملت على المساقاة. وروى عن مالك فى رجلين اشتريا سلعة فأشركا فيها ثالثاُ ولم يسميا له جزءا، أن السلعة بينهم أثلاثًا، فهذا يدل من قوله أنه لو كان المشرك واحدًا كانت بينهما نصفين. واختلف أهل العلم فى الرجل يدفع المال قراضاُ على أن للعامل شركاُ فى الربح، فقال الكوفيون: له فى ذلك أجر مثله، والربح والوضيعة على رب المال، وهو قول أحمد وإسحاق وأبى ثور، وقال ابن القاسم: يرد فى ذلك إلى قراض مثله. وقال الحسن البصرى وابن سيرين: له نصف الربح. وهو قول الأوزاعى وبعض أصحاب مالك. وحديث أبى هريرة فى هذا الباب يدل على صحة قول الحسن ومن وافقه، لأن من رد القراض فى ذلك إلى أجر مثله، أو إلى قراض مثله فعلته أنه فاسد إذ لم يعلم مقدار الشركة فى الربح، ولو كان كما قالوا لكانت مساقاة المهاجرين للأنصار فاسدة حين لم يسموا لهم مقدار ما يعملون عليه، والقراض عند أهل العلم أشبه شىء بالمساقاة، ومحال أن تكون مساقاة المهاجرين للأنصار عن أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) ورأيه الموفق فاسدة.(6/461)
6 - بَاب قَطْعِ الشَّجَرِ وَالنَّخيلِ
وَقَالَ أَنَسٌ أَمَرَ النَّبِىُّ عليه السَّلام بِالنَّخْلِ فَقُطِعَ / 6 - فيه: ابْن عُمَرَ، أنّ النَّبِىّ، عليه السلام، حَرَّقَ نَخْلَ بَنِى النَّضِيرِ، وَقَطَعَ وَهِىَ الْبُوَيْرَةُ، وَلَهَا يَقُولُ حَسَّانُ: وَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِى لُؤَىٍّ حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ / 7 - فيه: رَافِع، كُنَّا أَكْثَرَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مُزْدَرَعًا كُنَّا نُكْرِى الأَرْضَ بِالنَّاحِيَةِ مِنْهَا مُسَمًّى لِسَيِّدِ الأَرْضِ، قَالَ: فَمِمَّا يُصَابُ ذَلِكَ وَتَسْلَمُ الأَرْضُ، وَمِمَّا تُصَابُ الأَرْضُ، وَيَسْلَمُ ذَلِكَ، فَنُهِينَا، فَأَمَّا الذَّهَبُ وَالْوَرِقُ فَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ. قال المهلب: يجوز قطع الشجر والنخل لخشب يتخذ منه، أو ليخلى مكانها لزرع أو غيره مما هو أنفع منه، يعود على المسلمين من نفعه أكثر مما يعود من بقاء الشجر، لأن النبى قطع النخل بالمدينة، وبنى فى موضعه مسجده الذى كان منزل الوحى، ومحل الإيمان، وقد تقدم قطع شجر المشركين وتخريب بلادهم فى كتاب الجهاد، ونذكر منه طرفاُ فى هذا الباب. احتج من أجاز قطع شجر المشركين وكرومهم بقطع الرسول نخل بنى النضير، وذهبت طائفة من العلماء إلى أنه إذا رجى أن يصير البلد للمسلمين، فلا بأس أن يترك ثمارهم، والوجهان جائزان، لأن أبا بكر الصديق أمر ألا يقطع شجر مثمر، ولم يجهل ما فعل النبى بنخل بنى النضير، وما اعتل به من قال: إذا رجى أن يصير البلد للمسلمين(6/462)
فلا يقطع، ليس بصحيح، لأن النبى - عليه السلام - كان قد أعلمه الله أنه سيفتح عليه تلك البلاد وغيرها، وبشر أمته بذلك ثم قطعها، فدل ذلك على إباحة الوجهين، وفى قطعها خزى للمشركين ومضرة لهم، وأما حديث رافع، فلا أعلم وجهه فى هذا الباب، ولعل الناسخ غلط فكتبه فى غير موضعه. وفى رواية النسفى قبله باب فصل بينه وبين حديث ابن عمر، وسيأتى الكلام فيه فى موضعه بعد هذا - إن شاء الله - وسألت المهلب عنه فقلت له: حديث رافع لا أعلم له وجهاُ فى هذا الباب، فقال لى: قد يمكن أن يكون له فيه وجه، وهو أن من اكترى أرضاُ لسنين فله أن يزرع فيها ما شاء، ويغرس فيها الشجر وغيرها مما لا يضر بها، فإذا تمت الوجيبة قال صاحب الأرض: احصد زرعك، واقلع شجرك عن أرضى، فذلك لازم لمكتريها حتى يخلى له أرضه مما شغلها به، لقوله عليه السلام: (ليس لعرق ظالم حق) . فهو من باب إباحة قطع الشجر.
7 - بَاب الْمُزَارَعَةِ بِالشَّطْرِ وَنَحْوِهِ
قَالَ قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِى جَعْفَرٍ: مَا بِالْمَدِينَةِ أَهْلُ بَيْتِ هِجْرَةٍ إِلاَ يَزْرَعُونَ عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَزَارَعَ عَلِىٌّ وَسَعْدُ بْنُ مَالِكٍ، وَعَبْدُاللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ، وَالْقَاسِمُ، وَعُرْوَةُ، وَآلُ أَبِى بَكْرٍ، وَآلُ عُمَرَ، وَآلُ عَلِىٍّ، وَابْنُ سِيرِينَ. وَقَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ ابْنُ الأَسْوَدِ: كُنْتُ أُشَارِكُ عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ فِى الزَّرْعِ، وَعَامَلَ عُمَرُ(6/463)
النَّاسَ عَلَى إِنْ جَاءَ عُمَرُ بِالْبَذْرِ مِنْ عِنْدِهِ فَلَهُ الشَّطْرُ، وَإِنْ جَاءُوا هُمْ بالْبَذْرِ فَلَهُمْ كَذَا وَكَذا، وَقَالَ الْحَسَنُ: لاَ بَأْسَ أَنْ تَكُونَ الأَرْضُ لأَحَدِهِمَا فَيُنْفِقَانِ جَمِيعًا فَمَا خَرَجَ، فَهُوَ بَيْنَهُمَا، وَرَأَى ذَلِكَ الزُّهْرِيُّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لاَ بَأْسَ أَنْ يُجْتَنَى الْقُطْنُ عَلَى النِّصْفِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَكَمُ، وَالزُّهْرِىُّ، وَقَتَادَةُ: لاَ بَأْسَ أَنْ يُعْطِىَ الثَّوْبَ بِالثُّلُثِ، أَوِ الرُّبُعِ وَنَحْوِهِ. وَقَالَ مَعْمَرٌ: لاَ بَأْسَ أَنْ تَكُونَ الْمَاشِيَةُ عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى. / 8 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السلام، عَامَلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ، فَكَانَ يُعْطِى أَزْوَاجَهُ مِائَةَ وَسْقٍ، ثَمَانُونَ وَسْقَ تَمْرٍ، وَعِشْرُونَ وَسْقَ شَعِيرٍ، فَقَسَمَ عُمَرُ خَيْبَرَ، فَخَيَّرَ أَزْوَاجَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يُقْطِعَ لَهُنَّ مِنَ الْمَاءِ وَالأَرْضِ أَوْ يُمْضِىَ لَهُنَّ، فَمِنْهُنَّ مَنِ اخْتَارَ الأَرْضَ، وَمِنْهُنَّ مَنِ اخْتَارَ الْوَسْقَ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ اخْتَارَتِ الأَرْضَ. اختلف العلماء فى كراء الأرض بالشطر والثلث والربع، فأجاز ذلك على بن أبى طالب، وابن مسعود، وسعد، والزبير، أسامة، وابن عمر، ومعاذ، وخباب، وهو قول سعيد ابن المسيب وطاوس وابن أبى ليلى. قال ابن المنذر: وروينا عن أبى جعفر قال: (عامل رسول الله أهل خيبر بالشطر ثم أبو بكر وعمر وعثمان وعلى، ثم أهلوهم إلى اليوم يعطون بالثلث والربع) وهو قول الأوزاعى والثورى(6/464)
وأبى يوسف ومحمد وأحمد، هؤلاء أجازوا المزارعة والمساقاة، وكرهت ذلك طائفة، روى عن ابن عباس، وابن عمر، وعكرمة، والنخعى، وهو قول مالك وأبى حنيفة، والليث، والشافعى، وأبى ثور أنه لا تجوز المزارعة، وهى كراء الأرض بجزء منها، وتجوز عندهم المساقاة. وقال أبو حنيفة وزفر: لا تجوز المزارعة ولا المساقاة بوجه من الوجوه، وقالوا: المزارعة منسوخة بالنهى عن كراء الأرض بما يخرج منها، وهى إجارة مجهولة؛ لأنه قد لا تخرج الأرض شيئًا، وادعوا أن المساقاة منسوخة بالنهى عن المزابنة. وحجة أهل المقالة الأولى حديث ابن عمر: (أن النبى - عليه السلام - ساقى يهود خيبر على شطر ما يخرج من الأرض والثمر جميعًا) قالوا: والأرض أصل مال فيجوز أن يعطيها لمن يعمل فيها كالثمن سواء وكالقراض، واحتج الذين منعوا المزارعة بأنها كراء الأرض بما يخرج منها، وهو من باب الطعام بالطعام نسيئة، وقد نهى رسول الله عن المخابرة، والمحاقلة، وهى كراء الأرض بما يخرج منها، وقالوا: لا حجة لكم فى مساقاة النبى - عليه السلام - لأهل خيبر، لأن خلافنا لكم إنما هو إذا لم يكن فى الأرض شجر وكانت الأرض مفردة، والنبى - عليه السلام - إنما عامل أهل خيبر على النخل والشجر وكانت الأرض تبعًا للثمرة، وهذا يجوز عندنا، وأما إذا كانت الأرض مفردة فلا يجوز؛ لأنه يمكن إجارتها، ولا تدعو إلى مزارعتها ضرورة كما تدعو إلى مساقاة الثمر، ألا ترى أن بيع(6/465)
الثمر الذى لم يبد صلاحه من أصل النخل جائز وإن لم يشترط فيه القطع؛ لأنه تبع للنخل، ولا يجوز بيعها مفردة من غير شرط القطع؛ لأنها لا تكون تبعًا لغيرها بل تكون مقصودة بالبيع، فلم يكن حكمها مفردًا كحكمه إذا كان مضافًا، وأما قياسهم المزارعة على القراض والمساقاة فالجواب عنه: أن رأس المال فى ذلك لا تجوز إجارته، ولا يتواصل إلى منفعته إلا بالعمل عليه، فجاز أن يعطيه لمن يعمل فيه وتكون المنفعة بينهما، وليس كذلك الأرض؛ لأنه يمكن إجارتها. واحتج الذين منعوا المساقاة بأن النبى - عليه السلام - لما فتح خيبر أقرهم فى أرضهم ملكًا لهم، وشرط عليهم نصف الثمرة جزية، فكان ذلك يؤخذ منهم بحق الجزية لا بحق المساقاة. فقال لهم مخالفوهم: هذا باطل من وجوه. أحدها: ما روى عبد العزيز ابن صهيب عن أنس (أن النبى - عليه السلام - افتتح خيبر عنوة) وقال ابن شهاب عن ابن المسيب: (خمس رسول الله خيبر، ولا يخمس إلا ما أخذ عنوة) . والوجه الثانى: أن النبى - عليه السلام - قسم الأرض بين الغانمين، فأعطى الزبير سهمه، وأعطى عمر سهمه من خيبر، فوقف عمر سهمه. والوجه الثالث: أن عمر أجلاهم من خيبر إلى الشام لما فدغوا ابنه، ولو أقرهم النبى - عليه السلام - على الأرض ولم يملكها عليهم؛ لم يكن لمن بعده أن يجليهم وأن يفارق بينهم وبين أرضهم. وجواب(6/466)
آخر: وهو أن عائشة قالت: (إن رسول الله بعث ابن رواحة إلى خيبر ليخرصها، ويعلم مقدار الزكاة فى مال المسلمين) ، فأخبرت عائشة أن ذلك مال المسلمين، وأن الزكاة كانت تجب فيه، فبطل قولهم: إن ذلك جزية؛ لأن الجزية لا تجب فيها زكاة، قاله ابن القصار. وأما قول البخارى: وعامل عمر الناس على إن جاء عمر بالبذر فله الشطر، فإن الذين أجازوا المزارعة بالثلث والربع اختلفوا فيمن يخرج البذر، فروى عن ابن مسعود، وسعد بن أبى وقاص، وابن عمر أنهم قالوا: يكون البذر من عند العامل. وروى عن بعض أهل الحديث أنه قال: من أخرج البذر منهما فهو جائز، لأن النبى - عليه السلام - دفع خيبر معاملة، وفى تركه اشتراط البذر من عند أحدهما دليل على أن ذلك يجوز من عند أيهما كان. وقال أحمد وإسحاق: البذر يكون من عند صاحب الأرض، والعمل من الداخل. وقال محمد بن الحسن وأصحابه: المزارعة على أربعة أوجه: ثلاثة منها جائزة، ووجه رابع لا يجوز، فأما الذى يجوز: فأن يكون البذر من قبل رب الأرض، والعمل من قبل المزارع، فهذا وجه. والوجه الثانى: أن يكون البذر والآلة كلها من قبل رب الأرض، والعمل من قبل المزارع، فهذا وجه. والثالث: أن يكون البذر من قبل المزارع، والعمل والآلة كلها من قبله، فهذا وجه. والوجه الذى لا يجوز: أن يكون البذر من قبل المزارع والعمل والآلة من قبل رب الأرض. قال المفسر: وأما وجه إجازتهم هذه الثلاثة الوجوه فإنما قاسوها(6/467)
على القراض، لأن العامل فيه يعمل بجزء من الربح معلوم، وإن كان لايدرى كم يكون مبلغ الربح فكذلك يجوز أن يكرى الأرض بجزء معلوم وإن لم يعلم مقدار ما تخرجه الأرض، وهذا أصله عندهم قصة خيبر. وأما قولهم: لا يجوز أن يكون البذر من قبل المزارع، والعمل والآلة كلها من قبل رب الأرض، فإنه لما كان المزارع لم يخرج إلا البذر خاصة فكأنه باع البذر من رب الأرض بمجهول من الطعام نسيئة، وهذا الوجه لا يجوز عند جميع العلماء. وذهب مالك إلى أنه لا يجوز أن يكون البذر إلا من عندهما جميعًا، وتكون الأرض من عند أحدهما، والعمل من الآخر، ويكون فيه العمل يوازى قيمة كراء الأرض. والعلماء متفقون على جواز هذا الوجه، لأن أحدهما لا يفضل صاحبه بشىء، وإن كان البذر من عند أحدهما والأرض من الآخر فلا يجوز عنده كراء الأرض. والعلماء متفقون على جواز هذه الوجه؛ لأن أحدهما لا يفضل صاحبه بشىء، وإن كان البذر من عند أحدهما والأرض من الآخر فلا يجوز عند مالك؛ لأنه كأنه أكراه نصف أرضه بنصف بذره، ولا يجوز عنده كراء الأرض بشىء من الطعام، ويجوز عنده وجه آخر من المزارعة أن يكريا الأرض جميعًا، ويخرج أحدهما البذر، ويخرج الآخر البقر وجميع العمل، وتكون قيمة العمل والبقر مثل قيمة البذر فلا بأس بذلك؛ لأنهما سلما من كراء الأرض بالطعام وتكافئا فى سائر ذلك. وأما تخيير عمر أزواج النبى - عليه السلام - بين الأوسق أو الأرض، من خيبر فمعنى ذلك أن أرض خيبر لم تكن للنبى(6/468)
ملكًا ورثت بعده؛ لأنه قال عليه السلام: (لا نورث ما تركنا صدقة) ، وإنما خيرهن بين أخذ الأوسق أو بين أن يقطعن من الأرض من غير تمليك ما يحد منه مثل الأوسق؛ لأن الرطب قد تشتهى أيضًا كما يشتهى التمر، فاختارت ذلك عائشة لتأكله رطبًا وتمرًا، فإذا ماتت عادت الأرض والنخل على أصلها وقفًا مسبلة فيما سبل فيه الفىء. وأما اجتناء القطن والعصفر ولقاط الزيتون والحصاد كل ذلك بجزء معلوم، فأجازه جماعة من التابعين، وهو قول أحمد بن حنبل قاسوه على القراض؛ لأنه يعمل بالمال على جزء منه معلوم، لا يدرى مبلغه، وكذلك إعطاء الثوب للنساج بجزء منه معلوم، وإعطاء الثور والغنم للراعى عند من أجازها، قاسها على القراض، ومنع ذلك كله مالك، والكوفيون والشافعى؛ لأنها عندهم إجارة بثمن مجهول لا يعرف، وأجاز عطاء، وابن سيرين، والزهرى، وقتادة أن يدفع الثوب إلى النساج ينسجه بالثلث والربع، واحتج أحمد بن حنبل بإعطاء النبى خيبر على الشطر.
8 - بَاب إِذَا لَمْ يَشْتَرِطِ السِّنِينَ فِى الْمُزَارَعَةِ
/ 9 - فيه: ابْن عُمَرَ، عَامَلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أهل خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ. وقال عمرو: قلت لطاوس: (لو تركت المخابرة، فإنهم يزعمون أن النبى نهى عنه قال ابن عمر: وإنى أعطيهم وأعينهم، فإن(6/469)
أعلمهم أخبرنى - يعنى ابن عباس - أن النبى - عليه السلام - لم ينه عنه، ولكن قال: (إن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليه خرجًا معلومًا) . وترجم لحديث ابن عمر باب (مزارعة اليهود) وقال فيه: (إن النبى - عليه السلام - أعطى خيبر اليهود على أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما خرج منها) . اختلف العلماء فى المزارعة من غير أجل، فكرهها مالك، والثورى، والشافعى، وأبو ثور حتى يسمى أجلا معلومًا. قال ابن المنذر: وقال أبو ثور: إذا لم يسم سنين معلومةً فهو على سنة واحدة، وحكى عن بعض الناس أنه قال: أجيز ذلك استحسانًا، وأدع القياس. وقال ابن المنذر: قال بعض أصحابنا: ذلك جائز واحتج بقوله عليه السلام: (نقركم ما شئنا) ، وفى ذلك دليل على إجازة دفع النخل مساقاة والأرض مزارعة من غير ذكر سنين معلومة، فيكون لصاحب الأرض والنخل أن يخرج المساقى والزارع من الأرض والنخل متى شاء، وفى ذلك دلالة أن المزارعة بخلاف الكراء، ولا يجوز فى الكراء أن يقول: أخرجك عن أرضى متى شئت. ولا خلاف بين أهل العلم أن الكراء فى الدور والأرضين لا يجوز إلا وقتًا معلومًا، وقول أبى ثور حسن؛ لأن معاملته - عليه السلام - اليهود بشطر ما يخرج منها يقتضى سنة واحدة حتى يبين أكثر منها، فلم تقع المدة إلا معلومة، وسأزيد فى الكلام فى هذه المسألة فى باب: (إذا قال رب الأرض: اقرك، ما أقرك الله) ، بعد هذا - إن شاء الله.(6/470)
9 - بَاب مَا يُكْرَهُ مِنَ الشُّرُوطِ فِى الْمُزَارَعَةِ
/ 10 - فيه: رَافِع، كُنَّا أَكْثَرَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ حَقْلاً، وَكَانَ أَحَدُنَا يُكْرِى أَرْضَهُ، فَيَقُولُ: هَذِهِ الْقِطْعَةُ لِى، وَهَذِهِ لَكَ، فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ ذِهِ، وَلَمْ تُخْرِجْ ذِهِ، فَنَهَاهُمُ النَّبِىُّ عليه السَّلام. هذا الوجه المنهى عنه فى هذا الحديث لا خلاف بين العلماء أنه لا يجوز؛ لأن غرر ومجهول، وهذه المزارعة المنهى عنها، وإنما اختلفوا فى المزارعة بالثلث والربع مما تخرج الأرض على ما تقدم قبل هذا. وقال ابن المنذر: جاء فى هذا الحديث العلة التى نهى النبى من أجلها عن كراء الأرض، وعن المخابرة، وهى اشتراطهم أن لرب الأرض ناحية منها، وقد جاء فى حديث رافع أيضا علل أخر سأذكرها فى موضعها - إن شاء الله - وقد تقدم مذاهب العلماء فى المزارعة، وما يجوز منها وما لا يجوز، فأغنى عن إعادته. ومما لا يجوز فى المزارعة عند مالك أن يجتمع معنيان فى جهة واحدة، وهو أن يخرج صاحب الأرض البذر، فيجتمع له أرضه وبذره فلا يجوز، فيكون للعامل أجرة عمله وزرعه، ويكون الزرع لصاحب الأرض والبذر، وكذلك لو اجتمع للعامل البذر والعمل كانت المزارعة فاسدة، وكان عليه كراء الأرض لصاحب الأرض والزرع كله للعامل.(6/471)
- بَاب إِذَا زَرَعَ بِمَالِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ وَكَانَ فِى ذَلِكَ صَلاَحٌ لَهُمْ
/ 11 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (بَيْنَمَا ثَلاَثَةُ نَفَرٍ يَمْشُونَ أَخَذَهُمُ الْمَطَرُ فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ. . . .) الحديث، (فَقَالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ إِنِّى اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرَقِ أَرُزٍّ، فَلَمَّا قَضَى عَمَلَهُ قَالَ: أَعْطِنِى حَقِّى فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ، فَرَغِبَ عَنْهُ، فَلَمْ أَزَلْ أَزْرَعُهُ حَتَّى جَمَعْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرَاعِيَهَا، فَجَاءَنِى، فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ، فَقُلْتُ: اذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ الْبَقَرِ وَرُعَاتِهَا فَخُذْ، قَالَ: اتَّقِ اللَّهَ، وَلاَ تَسْتَهْزِئْ بِى، فَقُلْتُ: إِنِّى لاَ أَسْتَهْزِئُ بِكَ، فَخُذْ، فَأَخَذَهُ كله. . . .) ، الحديث. قال المهلب: لا تصح هذه الترجمة إلا أن يكون الزارع متطوعًا إذ لا خسارة على صاحب المال؛ لأنه لو هلك الزرع أو ما ابتاع له بغير إذنه كان الهلاك من الزارع، وإنما يصح هذا على سبيل التفضل بالربح وضمان رأس المال، لا أن من تعدى فى مال غيره، فاشترى منه بغير إذنه أو زرع به أنه يلزم صاحبه فعله؛ لأن ما فى ذمته من الدين لا يتغير إلا بقبض الأجير له، أو برضاه بعمله فيه، وقد تقدم فى كتاب الإجارة حكم من تجر فى مال غيره بغير إذنه فربح، ومذاهب العلماء فى ذلك.(6/472)
- بَاب أَوْقَافِ أَصْحَابِ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) وَأَرْضِ الْخَرَاجِ وَمُزَارَعَتِهِمْ وَمُعَامَلَتِهِمْ
وَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) لِعُمَرَ: (تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ لاَ يُبَاعُ ثَمَرُةُ وَلَكِنْ يُنْفَقُ ثَمَرُهُ فَتَصَدَّقَ بِهِ) . / 12 - وفيه: عُمَر، قَالَ: لَوْلاَ آخِرُ الْمُسْلِمِينَ مَا فَتَحْتُ قَرْيَةً إِلاَ قَسَمْتُهَا بَيْنَ أَهْلِهَا، كَمَا قَسَمَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) خَيْبَرَ. قال إسماعيل بن إسحاق: كانت خيبر جماعة حصون، فافتتح بعضها بقتال، وبعضها أسلمها أهلها على أن تحقن دماؤهم، هذا قول ابن إسحاق عن الزهرى، فكان حكم خيبر كلها العنوة، ومعنى هذه الترجمة - والله أعلم - أن الصحابة كانوا يزارعون ويساقون أوقاف النبى - عليه السلام - بعد وفاته على ما كان عامل عليه النبى يهود خيبر، فإن العمل جرى بالمزارعة والمساقاة فى أوقاف النبى عليه السلام - وأرض خراج المسلمين، ولم يرو عن أبى بكر ولا عمر ولا غيرهما أنهم غيروا حكم رسول الله فى هذا، فهى سنة ثابتة معمول بها، وقد تقدم فى كتاب الجهاد فى باب (الغنيمة لمن شهد الوقعة) الكلام فى حكم الأرض العنوة إذا غنمها المسلمون فى حديث عمر هذا.
- بَاب في إحياء الموات مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا
وَرَأَى ذَلِكَ عَلِىٌّ فِى أَرْضِ الْخَرَابِ بِالْكُوفَةِ. وَقَالَ عُمَرُ: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِىَ لَهُ. وَيُرْوَى عَنْ عَمْرِ وابْنِ عَوْفٍ، عَنِ النَّبِىِّ، عليه(6/473)
السَّلام، وَقَالَ فِى حَقِّ غَيْرِ مُسْلِمٍ: (وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ فِيهِ حَقٌّ) ، وَيُرْوَى فِيهِ عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِىِّ عليه السلام. / 13 - فيه: عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، قَالَ: (مَنْ أَعْمَرَ أَرْضًا لَيْسَتْ لأَحَدٍ، فَهُوَ أَحَقُّ) . قَالَ عُرْوَةُ: قَضَى بِهِ عُمَرُ فِى خِلاَفَتِهِ. وقوله عليه السلام: (من أحيا أرضا ميتة فهى له، وليس لعرق ظالم حق) وهذا حديث حسن السند. اختلف العلماء فى إحياء الموات، فقال مالك: من أحيا أرضًا ميتة فيما قرب من العمران، فلا بد فى ذلك من إذن الإمام، وإن كانت فى فيافى المسلمين والصحارى وحيث لا يتشاح الناس فيه، فهى له بغير إذن الإمام؟ وقال أبو يوسف، ومحمد، والشافعى: من أحيا أرضًا ميتة فهى له، ولا يحتاج إلى إذن الأمام فيما قرب كما لا يحتاج فيما بعد. قال أشهب وأصبغ: إن أحيا فيما قرب بغير إذنه أمضيت ولم يعنف. وقال مطرف وابن الماجشون: الإمام مخير بين أربعة أوجه: إن رأى أن يقره له فعل، أو يقره للمسلمين ويعطيه قيمته منقوضًا، أو يأمره بقلعه، أو يعطيه غيره فيكون للأول قيمته منقوضًا، والبعيد ما كان خارجًا عما يحتاجه أهل ذلك العمران من محتطب ومرعى، مما العادة أن الرعاء يبلغونة ثم يبيتون فى منازلهم، ويحتطب المحتطب ثم يعود إلى موضعه، وما كان من الأحياء فى المحتطب والمرعى فهو القريب من العمران فيمنع. وقال أبو حنيفة: ليس لأحد أن يحيى مواتًا إلا بإذن الإمام فيما بعد وقرب. قال الطحاوى: الحجة لأبى يوسف ومحمد قوله(6/474)
عليه السلام: (من أحيا أرضا ميتة فهى له) . فقد جعل إحياء ذلك إلى من أحب بلا أمر الإمام فى ذلك، قال: وقد دلت على ذلك شواهد من النظر، منها أن الماء الذى فى البحار والأنهار، من أخذ منه شيئًا ملكه بأخذه إياه، وإن لم يأمره الإمام بذلك، وكذلك الصيد هو لمن صاده، ولا يحتاج إلى تمليك من الإمام، لأن الإمام وسائر الناس فى ذلك سواء، فكذلك الأرض التى لا ملك لأحد عليها هى كالصيد الذى ليس بمملوك والماء المباح. والحجة لأبى حنيفة أن قوله: (من أحيا أرضا ميتة فهى له) إنما معناه من أحياها على شرائط الأحياء فهى له، وذلك أن يحظرها وأذن الإمام له فيها، والدليل على صحة هذا التأويل قوله عليه السلام: (لا حمى إلا لله ولرسوله) ، والحمى ما حمى من الأرض، فدل أن حكم الأرضين إلى الأئمة لا إلى غيرهم، وأن حكم ذلك غير حكم الصيد والماء. والفرق بينهما أنا رأينا ماء الأنهار لا يجوز للإمام تمليك ذلك أحدًا، ورأينا لو ملك رجلا أرضًا ميتة ملكها بذلك، ولو احتاج الإمام إلى بيعها فى نائبة للمسلمين جاز بيعه لها، ولا يجوز ذلك فى ماء نهر ولا صيد بر ولا بحر، وأنه ليس للإمام بيعهما ولا تمليكهما أحدًا، وأن الإمام فيهما كسائر الناس، فكان ملكهما يجب بأخذهما دون الإمام، فثبت بذلك ما ذهب إليه أبو حنيفة. والحجة لمالك أن النبى - عليه السلام -: (أقطع لبلال بن الحارث معادن القبلية جلسيها وغوريها وحيث يصلح الزرع) ، ولم يقطعه حق مسلم، وهذا فيما قرب، فوجب استعمال الحديثين(6/475)
جميعًا، فما وقع فيه التشاح والتنافس لم يكن لأحد عمارته بغير إذن الإمام، وما تباعد من العمارة ولم يتشاح فيه جاز أن يعمر بغير إذن الإمام، لأن النبى قال: (من أحيا أرضاُ ميتة فهى له) ، وهذا الإذن من النبى إقطاع. قال سحنون: وقد أقطع عمر العقيق وهو قرب المدينة، قال: ومسافة يوم عن العمارة بعيد. فإن قال أبو حنيفة: إن إحياء الموات من مصالح المسلمين، لأن الأرض مغلوب عليها، فوجب ألا تملك إلا بإذن الإمام كالغنيمة. قيل: الموات فى الفيافى من المباح كالصيد وطلب الركاز والمعادن، لا يفتقر شىء منها إلى إذن الإمام وإن كانت فى الأرض التى عليها يد الإمام، فكذلك الموات. وإحياء الموات عند مالك إجراء العيون، وحفر الآبار، والبنيان، والحرث، وغرس الأشجار، وهو قول الشافعى. وقال ابن القاسم: ولا يعرف مالك التحجير إحياء. والحجة له ما روى الزهرى، عن سالم، عن ابن عمر قال: كان الناس يتحجرون على عهد عمر فى الأرض التى ليست لأحد، فقال عمر: من أحيا أرضًا ميتة فهى له. وهذا يدل أن التحجير غير الإحياء. قال ابن حبيب: وبلغنى عن ربيعة أنه قال: العرق الظالم عرقان: عرق ظاهر، وعرق باطن، فالباطن ما احتفره الرجل من الآبار أو غرس. قال ربيعة فى كتاب ابن حبيب: العروق أربعة: عرقان فوق الأرض، وهما الغرس والنبات، وعرقان فى جوفها: المياه والمعادن، وفى كتاب ابن سفيان: العروق أربعة: عرقان ظاهران، وعرقان(6/476)
باطنان، فالظاهران: البناء والغرس، والباطنان: الآبار والعيون، والعرق الظاهر ما بنى فى أرض غيره. قال ابن حبيب: فالحكم فيه أن يكون صاحب الأرض مخيرًا على الظالم، إن شاء حبس ذلك فى أرضه بقيمته مقلوعًا، وإن شاء نزعه من أرضه. وقال غيره: ومعنى قوله: (وليس لعرق ظالم حق) يريد ليس له حق كحق نم غرس أو بنى بشبهة، فإذا غرس أو بنى بشبهة فله حق إن شاء رب الأرض أن يدفع إليه قيمته قائمًا فعل، وإن أبى قيل للذى بنى أو غرس ادفع إليه قيمة أرضه براحًا، فإن أبى كانا شريكين فى الأرض والعمارة، هذا بقيمة أرضه براحًا وهذا بقدر قيمة العمارة. قال ابن حبيب: لا خيار للذى بنى أو غرس إذا أبى ربُ الأرض أن يدفع إليه قيمة ما بنى أو غرس بأن يخرج رب الأرض من أرضه، ولكن إذا أبى رب الأرض من دفع قيمة ما بنى أو غرس نشرك فيها بينهما مكانه، هذا بقيمة أرضه براحًا، والآخر بقيمة عمارته قائمة، أخبرنى ابن الماجشون والمغيرة عن مالك: وتفسير اشتراكهما أن تقوم الأرض اليوم براحًا، ثم تقوم بعمارتها، فما زادت قيمتها بالعمارة على قيمتها براحًا، كان العامر شريكًا لرب الأرض فيها إن أحبا قسمًا أو حبسا. قال ابن الجهم: فإذا دفع رب الأرض قيمة العمارة وأخذ أرضه كان له كرهًا فيما مضى من السنين. ووقع فى الأمهات: من أعمر أرضًا. ولم أجد ذلك فى كتب اللغة، وذكر صاحب العين: أعمرت الأرض: وجدتها عامرة.(6/477)
وليس هذا المعنى بمراد من هذا الحديث، وفى كتاب الأفعال: عمر المكان وعمرته عمارةً، فهو عامر ومعمور، وفى القرآن: (وعمروها أكثر مما عمروها (فجاء عمرت الأرض، ولم يجئ أعمرت الأرض، ويمكن أن يكون من اعتمر أرضًا وسقطت التاء من الأمر والله أعلم.
- باب
/ 14 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، أُرِىَ، وَهُوَ فِى مُعَرَّسِهِ مِنْ ذِى الْحُلَيْفَةِ فِى بَطْنِ الْوَادِى، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ بِبَطْحَاءَ مُبَارَكَةٍ، فَقَالَ مُوسَى: وَقَدْ أَنَاخَ بِنَا سَالِمٌ بِالْمُنَاخِ الَّذِى كَانَ عَبْدُاللَّهِ يُنِيخُ بِهِ، يَتَحَرَّى مُعَرَّسَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَهُوَ أَسْفَلُ مِنَ الْمَسْجِدِ الَّذِى بِبَطْنِ الْوَادِى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّرِيقِ وَسَطٌ مِنْ ذَلِكَ. / 15 - وفيه: ابْن عَبَّاس، عَنْ عُمَرَ، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السلام، قَالَ: (اللَّيْلَةَ أَتَانِى آتٍ مِنْ رَبِّى، وَهُوَ بِالْعَقِيقِ، أَنْ صَلِّ فِى هَذَا الْوَادِى الْمُبَارَكِ، وَقُلْ عُمْرَةٌ فِى حَجَّةٍ) . قال المهلب: هذا المعنى الذى حاول البخارى من أنه جعل موضع معرس النبى وصلاته موقوفًا له، ومتملكًا له لصلاته وتعريسه فيه لا يقوم على ساق؛ لأنه عليه السلام قد قال: (جعلت لى الأرض مسجدًا وطهورًا) وقد يصلى فى أرض متملكة، فلم تكن(6/478)
صلاته فيها بمبيحة للصلاة فيها للناس إلى يوم القيامة، وقد صلى فى دار أبى طلحة ودار عتبان، فلم يبح ذلك للناس أن يتخذوا ذلك الموضع مسجدًا، وإنما أدخله البخارى من أجل أنه نسب المعرس إلى رسول الله.
- بَاب إِذَا قَالَ رَبُّ الأَرْضِ: أُقِرُّكَ مَا أَقَرَّكَ اللَّهُ وَلَمْ يَذْكُرْ أَجَلاً مَعْلُومًا فَهُمَا عَلَى تَرَاضِيهِمَا
/ 16 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ أَجْلَى الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ، وَكَانَ عليه السَّلام لَمَّا ظَهَرَ عَلَى خَيْبَرَ أَرَادَ إِخْرَاجَ الْيَهُودِ مِنْهَا، وَكَانَتِ الأَرْضُ حِينَ ظَهَرَ عَلَيْهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ، وَأَرَادَ إِخْرَاجَ الْيَهُودِ مِنْهَا، فَسَأَلَتِ الْيَهُودُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لِيُقِرَّهُمْ بِهَا أَنْ يَكْفُوا عَمَلَهَا، وَلَهُمْ نِصْفُ الثَّمَرِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (نُقِرُّكُمْ بِهَا عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا) ، فَقَرُّوا بِهَا حَتَّى أَجْلاَهُمْ عُمَرُ إِلَى تَيْمَاءَ، وَأَرِيحَاءَ. اعتل من دفع بأنها كانت من النبى - عليه السلام - إلى غير أجل معلوم، لقوله عليه السلام لليهود: (أقركم ما أقركم الله) وكل من أجاز المساقاة فإنما أجازها إلى أجل معلوم، إلا ما ذكر ابن المنذر عن بعض أصحابه أنه تأول فى قوله عليه السلام لليهود: (أقركم ما أقركم الله) جواز المساقاة بغير أجل، وقد تقدم ذكره فى باب (إذا لم يشترط السنين فى المزارعة) . والذى عليه أئمة الفتوى أنها لا تجوز إلا بأجل معلوم، قال مالك:(6/479)
الأمر عندنا فى النخل أنها تساقى السنتين والثلاث والأربع وأقل وأكثر. وأجازها أصحاب مالك فى عشر سنين فما دونها، وقال محمد بن الحسن: إذا ساقاه ولم يسم سنين معلومة كان ذلك على سنة واحدة. وهو قول أبى ثور، وهو يشبه قول ابن الماجشون فيمن اكترى دارًا مشاهرة أنه يلزمه شهر واحد، لأن النبى - عليه السلام - أقر اليهود على أن لهم النصف، وهذا يقتضى سنة واحدة حتى يتبين أكثر منها. ولا حجة لمن دفع المساقاة فى قوله عليه السلام لليهود: (أقركم ما أقركم الله) ، ولم يذكر أجلا، لأنه عليه السلام كان يرجو أن يحقق الله رغبته فى إبعاد اليهود من جواره، لأنه امتحن معهم فى شأن القبلة فكان مرتقبًا للوحى فيهم، فقال لهم: (أقركم ما أقركم الله) منتظراُ للقضاء فيهم، فلم يوح إليه فى ذلك حتى حضرته الوفاة فقال: (لا يبقين دينان بأرض العرب) . فقوله عليه السلام: (أقركم ما أقركم الله) لا يوجب فساد عقد النبى - عليه السلام - ويوجب فساد عقد غيره بعده، لأنه عليه السلام كان ينزل عليه الوحى بتقرير الأحكام ونسخها، فكان بقاء حكمة موقوفًا على تقرير الله له، وكان بقاؤه ما أقره الله، وزواله إذا نسخه من مقتضى العقد، فإذا شرط ذلك فى عقده لم يوجب فساده، وليس كذلك صورته من غيره، لأن الأحكام قد ثبتت وتقررت. ومساقاة رسول الله اليهود على نصف الثمر يقتضى عموم جميع الثمر، ففيه حجة لمن أجاز المساقاة فى الأصول كلها، وهو قول ابن أبى ليلى، ومالك، والثورى، والأوزاعى، وأبى يوسف، ومحمد،(6/480)
وبه قال أحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وقال الشافعى: لا تجوز إلا فى النخل والكرم خاصة، لأن المساقاة عنده لا تجوز إلا فيما يجوز فيه الخرص للزكاة، وذلك النخل والكرم، قال: لأن ثمرها بائن من شجره، ولا حائل دونه يمنع إحاطة النظر إليه، وغيرهما متفرق بين أضعاف ورق شجره، لا يحاط بالنظر إليه. وحجة القول الأول أن المساقاة إنما جازت فى النخل، لأنها أصول ثابتة لا يمكن بيع ثمرها، ولا إجارتها قبل وجودها، فجاز أن يساقى عليها بجزء من ثمرها، كما جاز فى القراض أن يدفع المال بجزء من ربحه لحاجة الناس إلى ذلك، وضرورتهم إليه فى أمر معاشهم، فجازت فى كل أصل ثابت يبقى كالزيتون، والتين، والرمان، والفرسك، والورد، والياسمين ونحوه، لأن النبى ساقى أهل خيبر على نصف الثمر، وهذا عام فى جميع الأشجار. ومن قال: إنما تجوز المساقاة فيما فيه الزكاة، فيلزمه أن يجيز المساقاة فى الزرع وغيره من الحبوب التى فيها الزكاة، فلما لم يجزها علم أن المساقاة لم تجب من أجل وجوب الزكاة، وإنما جازت للضرورة إليه وأن مالكها لا يقدر على عملها بنفسه. قال الطحاوى: ويلزم الشافعى أن يجيز المساقاة فى الزيتون، والتين، والكمثرى والأجاص، والرمان وكل شىء يظهر من شجره، لأن ذلك يحاط بالنظر إليه. وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة: قوله: (وكانت الأرض لما ظهر عليها لله ولرسوله وللمسلمين) يريد حين ظهر عليها كل الظهور، حين صالحوه بالخروج عن أموالهم على أن يحقن دماءهم، فكانت(6/481)
خيبر لله وللرسول وللمسلمين بما أخذ منهم فى الصلح وخمس ما أخذ عنوة، لأن المسلمين أخذوا سهامهم من العنوة. ولا يعارض ما روى فى كتاب الخمس (وكانت الأرض لما ظهر عليها لليهود وللرسول وللمسلمين) وهذا معناه حين ظهر عليها فى العنوة قبل القسمة كانت لله ولرسوله، وكانت عين العنوة لليهود قبل أن يصالحوه، فلما صالحوه كانت بعد الصلح وقبل قسمة العنوة لله ولرسوله، ثم لما قسم العنوة كانت لله ولرسوله الصلح وخمس العنوة، وللمسلمين أربعة أخماس العنوة. وقوله: (لما ظهر عليهم فى الطريق الذى فيه لله ولرسوله ولليهود) ، أى ظهر فى الرجاء؛ لأنه كان أخذ أعظمها حصنًا، فاستولى عليها رجاء، ألا ترى أنهم لجئوا إلى مصالحته لما رأوا من ظهوره، فتركوا الأرض وسلموها لحقن دمائهم، فكان حكم ذلك الصلح، وما انجلى عنه أهله بالرعب حكم الفىء لم يجز فيه خمس، وإنما استخلص منه رسول الله لنفسه، وكان باقيه لنوائب المسلمين وما يحتاجون إليه.
- بَاب مَا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) يُوَاسِى بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِى الزِّرَاعَةِ وَالثَّمَر
/ 17 - فيه: رَافِع، عَنْ عَمِّهِ، قَالَ: لَقَدْ نَهَانَا النَّبِىّ، عليه السلام، عَنْ أَمْرٍ كَانَ بِنَا رَافِقًا، قُلْتُ: مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَهُوَ حَقٌّ، قَالَ: دَعَانِى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (مَا تَصْنَعُونَ بِمَحَاقِلِكُمْ؟) قُلْتُ: نُؤَاجِرُهَا عَلَى الرُّبُعِ، وَعَلَى(6/482)
الأَوْسُقِ مِنَ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ، قَالَ: (لاَ تَفْعَلُوا، ازْرَعُوهَا، أَوْ أَزْرِعُوهَا، أَوْ أَمْسِكُوهَا) . قَالَ رَافِعٌ: قُلْتُ: سَمْعًا وَطَاعَةً. / 18 - وفيه: جَابِر، قَالَ: كَانُوا يَزْرَعُونَهَا بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَالنِّصْفِ، فَقَالَ عليه السَّلام: (مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا، أَوْ لِيَمْنَحْهَا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ) . وروى أبو هريرة مثل حديث جابر، وقال عمرو: ذكرته لطاوس، فقال: يزرع، قال ابن عباس: (أن النبى - عليه السلام - لم ينه عنه، ولكن قال: أن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ شيئًا معلومًات) . وفيه ابن عمر: (أنه كان يكرى مزارعه على عهد النبى عليه السلام وأبى بكر، وعمر، وعثمان، وصدرًا من إمارة معاوية، ثم حدث عن رافع بن خديج أن النبى نهى عن كراء المزارع، فذهب ابن عمر إلى رافع فذهبت معه فسأله، فقال: نهانا النبى - عليه السلام - عن كراء المزارع. فقال ابن عمر: قد علمت أنا كنا نكرى مزارعنا على عهد رسول الله بما على الأربعاء وشىء من التبن، ثم خشى عبد الله أن يكون النبى - عليه السلام - قد أحدث فى ذلك شيئًا لم يكن يعلمه، فترك كراء الأرض) . احتج من منع المزارعة بحديث رافع عن عمه قال: (لقد نهانا النبى عن أمر كان بنا رافقًا. . .) وبحديث جابر، وبترك(6/483)
ابن عمر كراء الأرض من أجل حديث رافع، واحتج الذين أجازوا المزارعة بحديث ابن عمر أن النبى - عليه السلام - عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر على ما تقدم ذكره. وقال ابن المنذر: اختلفت ألفاظ أحاديث رافع، واختلفت فيها العلل التى من أجلها نهى عن كراء الأرض وعن المخابرة، فأحد تلك العلل: اشتراطهم أن لرب الأرض ناحية منها. وعلة ثانية: وهو اشتراطهم الأكار أن ما سقى الماذيان والربيع فهو لنا، وما سقت الجداول فهو لكم. وعلة ثالثة: وهى إعطاؤهم الأرض على الثلث والربع والنصف. وعلة رابعة: وهو أنهم كانوا يكرونا بالطعام المسمى والأوسق من الثمر. وعلة خامسة: وهى أن نهيه عن ذلك عليه السلام كان لخصومة وقتال كان بينهم. وروى عن عروة بن الزبير، عن زيد بن ثابت قال: (يغفر الله لرافع، أنا والله أعلم بالحديث منه، إنما أتى رجلان من الأنصار قد اقتتلا، فقال رسول الله: إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع، فسمع قوله: لا تكروا المزارع) . وعلة سادسة: احتج بها من جعل نهيه عليه السلام عن ذلك نهى تأديب، وذلك قول ابن عباس: (أن النبى - عليه السلام - لم ينه عنه: يعنى: لم يحرمه) . وروى شعبة عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس (أن النبى - عليه السلام - لم يحرم المزارعة، وإنما أراد أن يرزق بعضهم بعضها) . قال ابن المنذر: فإذا كان سبيل أخبار رافع ما ذكرنا وجب الوقوف(6/484)
عن استعمالها؛ لكثرة عللها، ووجب القول بحديث ابن عمر، وهو خبر ثابت لا علة فيه، وكذلك قال سالم بن عبد الله: أكثر رافع، ولو كانت لى مزارع لأكريتها. وقال أحمد بن حنبل: أحاديث رافع مضطربة، وأحسنها حديث يعلى بن حكيم عن سليمان بن يسار. وأما قوله فى حديث رافع: (فنؤاجرها على الأوسق من التمر والشعير) ، فإن العلماء اختلفوا فى كراء الأرض بالطعام، فقال أبو حنيفة، والأوزاعى، والثورى، والشافعى، وأبو ثور: يجوز أن تكرى الأرض بالطعام كله إذا كان معلومًا فى ذمة المكترى، قالوا: وكل ما جاز أن يكون ثمنًا لشىء جاز أن تكرى به الأرض ما لم يكن مجهولا أو غررًا. وروى ذلك عن النخعى. وعكرمة، وسعيد بن جبير، والحجة لهم حديث الأوزاعى عن ربيعة، عن حنظلة ابن قيس قال: (سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والورق، فقال: لا بأس به، إنما كان الناس على عهد رسول الله يؤاجرون الأرض بما على الماذيانات وإقبال الجداول، فيهلك هذا، ويسلم هذا، فزجر عنه رسول الله، فأما شىء معلوم مضمون فلا) قالوا: فقد أخبر رافع بالعلة التى لها نهى رسول الله عن ذلك، وهو جهل البدل، وأخبر أن كراها جائز بكل شىء معلوم. قال ابن المنذر: إن أكراها بطعام معلوم يكون فى ذمة المكترى، أو بطعام حاضر يقبضه: فذلك جائز، وأما إن أكراها بجزء(6/485)
مما يخرج منها فذلك غرر، لأنها قد تخرج وقد لا تخرج وهذا عند الشافعى المزارعة المنهى عنها، وقال مالك: لا يجوز أن يكرى الأرض بشىء مما يخرج منها أكل أو لم يؤكل، ولا بشىء من ما يؤكل ويشرب، خرج منها أم لا. واختلف أصحابه فى ذلك، فقال ابن كنانة: لا تكرى الأرض بشىء إذا أعيد فيها نبت، ولا بأس أن تكرى بما سوى ذلك من الطعام وغيره. وقال ابن نافع: جائز كراء الأرض بكل شىء من الطعام والإدام غير الحنطة والسلت والشعير، فإنها محاقلة. والحجة لمالك ما رواه شعبة عن يعلى بن حكيم، عن سليمان بن يسار، عن رافع بن خديج قال: قال رسول الله: (من كانت له أرض فليزرعها، أو يزرعها، ولا يكريها بثلث ولا بربع، ولا بطعام مسمى) ، وهذا عموم فى كل ما يخصه اسم طعام، سواء أنبتته الأرض أم لا، وإذا أكراها بطعام فهو فى معنى المخابرة المنهى عنها، لأنه يصير طعاماُ بطعام متأخر أو طعامًا بطعام متفاضلا وذلك محرم. الربيع: الجدول، والماذيانات: جداول الماء، وما نبت على حافتى مسيل الماء.
- بَاب كِرَاءِ الأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ أَمْثَلَ مَا أَنْتُمْ صَانِعُونَ أَنْ تَسْتَأْجِرُوا الأَرْضَ الْبَيْضَاءَ مِنَ السَّنَةِ إِلَى السَّنَةِ.(6/486)
/ 19 - فيه: رَافِع، قَالَ: حَدَّثَنِى عَمَّاىَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُكْرُونَ الأَرْضَ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ عليه السلام، بِمَا يَنْبُتُ عَلَى الأَرْبِعَاءِ، أَوْ بِشَىْءٍ يَسْتَثْنِيهِ صَاحِبُ الأَرْضِ، فَنَهَانا النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَنْ ذَلِكَ، فَقُلْتُ لِرَافِعٍ: فَكَيْفَ هِىَ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ؟ فَقَالَ رَافِعٌ: لَيْسَ بِهَا بَأْسٌ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ. قَالَ اللَّيْثُ: وَكَانَ الَّذِى نُهِىَ عَنْ ذَلِكَ، مَا لَوْ نَظَرَ فِيهِ ذَوُو الْفَهْمِ بِالْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ، لَمْ يُجِيزُوهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُخَاطَرَةِ. اتفق العلماء على أنه يجوز كراء الأرض بالذهب والفضة، قال ابن المنذر: وهذا إجماع الصحابة، وذهب ربيعة إلى أنه لا يجوز أن يكرى بشىء غير الذهب والفضة. وقال طاوس: لا تكرى بالذهب ولا بالفضة، وتكرى بالثلث والربع. وقال الحسن البصرى: لا يجوز أن تكرى الأرض بشىء لا بذهب وفضة ولا بغيرهما. والحجة لقول الحسن ما روى عن رافع بن خديج (أن الرسول نهى عن كرى الأرض مطلقًا) ، وقال: إذا استأجرها وحرث فيها لعله أن يحترق زرعه، فيردها وقد زادت بحرثه لها، فينتفع رب الأرض بتلك الزيادة دون المستأجر، وهذا ليس بشىء، لأن سائر البيوع لا تخلو من شىء من الغرر، والسلامة فيها(6/487)
أكثر، ولو روعى فى البيوع ما يجوز أن يحدث لم يصح بيع لأحد، لأجل خشية ما يحدث من عند الله تعالى. وقد ثبت عن رافع فى هذا الباب أن كراء الأرض بالذهب والفضة جائز، وذلك مضاف إلى رسول الله، وهو خاص يقضى على العام الذى جاء فيه النهى عن كراء الأرض بغير استثناء ذهب ولا فضة، والزائد من الأخبار أولى أن يؤخذ به، لئلا تتعارض الأخبار ويسقط شىء منها. والأربعاء: جداول الماء، واحدها: ربيع، عن صاحب العين.
- باب السقى
/ 20 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السلام، كَانَ يَوْمًا يُحَدِّثُ، وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ: (أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِى الزَّرْعِ، فَقَالَ لَهُ: أَلَسْتَ فِيمَا شِئْتَ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنِّى أُحِبُّ أَنْ أَزْرَعَ، قَالَ: فَبَذَرَ، فَبَادَرَ الطَّرْفَ نَبَاتُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ وَاسْتِحْصَادُهُ، فَكَانَ أَمْثَالَ الْجِبَالِ، فَيَقُولُ اللَّهُ، عز وجل: دُونَكَ يَا ابْنَ آدَمَ، فَإِنَّهُ لاَ يُشْبِعُكَ شَىْءٌ) ، فَقَالَ الأَعْرَابِىُّ: وَاللَّهِ لاَ نجِدُهُ إِلاَ قُرَشِيًّا، أَوْ أَنْصَارِيًّا، فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ زَرْعٍ، وَأَمَّا نَحْنُ فَلَسْنَا بِأَصْحَابِ زَرْعٍ، فَضَحِكَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) . قال الهلب: فى هذا الحديث أن كل ما اشتهى فى الجنة(6/488)
من أعمال الدنيا ولذاتها فممكن فيها، لقوله تعالى: (وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين (. قال المؤلف: وفيه الحكم بالدليل، ووصف الناس بغالب عادتهم وأحوالهم، لقول الأعرابى: (والله لا نجده إلا قرشيا أو أنصاريا فإنهم أصحاب زرع، فضحك النبى) فدل ضحكه على إصابة الأعرابى للحق فى استدلاله، ففى ذلك من الفقه أنه من لزم طريقة وحالة من خير أو شر أنه يجوز وصفه بها، ولا حرج على واصفه بالشر إن لزم طريقته، وفيه ما جبل الله عليه نفوس بنى آدم من حب الاستكثار، والرغبة فى متاع الدنيا، لأن الله قد أغنى أهل الجنة عن نصب الدنيا ومتاعها، فقال تعالى: (وقالوا الحمد لله الذى أذهب عنا الحزن (. وقوله: (دونك يا ابن آدم، لا يشبعك شىء) يدل على فضل القناعة، والاقتصار على البلغة، وذم الشره والرغبة.
- بَاب مَا جَاءَ فِى الْزرع
/ 21 - فيه: سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، كُنَّا نَفْرَحُ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، كَانَتْ لَنَا عَجُوزٌ تَأْخُذُ مِنْ أُصُولِ سِلْقٍ لَنَا كُنَّا نَغْرِسُهُ فِى أَرْبِعَائِنَا، فَتَجْعَلُهُ فِى قِدْرٍ لَهَا فَتَجْعَلُ فِيهِ حَبَّاتٍ مِنْ شَعِيرٍ، لاَ أَعْلَمُ إِلاَ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِيهِ شَحْمٌ، وَلاَ وَدَكٌ، فَإِذَا صَلَّيْنَا الْجُمُعَةَ زُرْنَاهَا، فَقَرَّبَتْهُ إِلَيْنَا، فَكُنَّا نَفْرَحُ(6/489)
بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، وَمَا كُنَّا نَتَغَدَّى، وَلاَ نَقِيلُ إِلاَ بَعْدَ الْجُمُعَةِ. / 22 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، يَقُولُونَ: أكثر أَبَا هُرَيْرَةَ، وَاللَّهُ الْمَوْعِدُ، وَيَقُولُونَ: مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ لاَ يُحَدِّثُونَ مِثْلَ حديثه، وَإِنَّ إِخْوَتِى مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَتْ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ، وَإِنَّ إِخْوَتِى مِنَ الأَنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمْ عَمَلُ أَمْوَالِهِمْ، وَكُنْتُ امْرًَا مِسْكِينًا أَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى مِلْءِ بَطْنِى، وَأَحْضُرُ حِينَ يَغِيبُونَ، وَأَعِى حِينَ يَنْسَوْنَ، وَقَالَ عليه السَّلام يَوْمًا: (إن يَبْسُطَ أَحَدٌ مِنْكُمْ ثَوْبَهُ حَتَّى أَقْضِىَ مَقَالَتِى هَذِهِ، ثُمَّ يَجْمَعَهُ إِلَى صَدْرِهِ، فَلا يَنْسَى مِنْ مَقَالَتِى شَيْئًا أَبَدًا. . . .) ، الحديث. فى هذا الحديث عمل الصحابة فى الحرث والزرع بأيديهم، وخدمة ذلك بأنفسهم، ألا ترى قول أبى هريرة: (وإن إخوانى من الأنصار كان يشغلهم عمل أموالهم) ، وكذلك المرأة العجوز كانت تغرس السلق للنبى - عليه السلام - وأصحابه ففى هذا أن الامتهان فى طلب المعاش للرجال والنساء من فعل الصالحين، وأنه لا عار فيه ولا نقيصة على أهل الفضل. قال المهلب: وفيه إجابة المرأة الصالحة إلى الطعام. وفيه دليل على التهجير بالجمعة والمبادرة إليها عند أول الزوال، وإنما كانوا يشغلون بالغسل، ومراعاة التهجير عن قائلتهم المعروفة فى سائر الأيام، فلا يجدون السبيل إليها إلا بعد الصلاة، لا أنهم كانوا يصلونها قبل زوال الشمس، كما ظن بعض الناس وخالف كتاب الله فى قوله: (أقم الصلاة لدلوك الشمس (وقد تقدم هذا فى كتاب الجمعة.(6/490)
بسم الله الرحمن الرحيم
36 - كِتَاب الْمِيَاهِ
- بَاب مَا جَاء فِى الشُّرْبِ وَقَوْلِ اللَّهِ: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ (وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِة (إلى قوله: (تَشْكُرُونَ (.
وَقَالَ عُثْمَانُ: عن النَّبىّ عليه السَّلام: (مَنْ يَشْتَرِى بِئْرَ رُومَةَ فَيَكُونُ دَلْوُهُ فِيهَا كَدِلاَءِ الْمُسْلِمِينَ) ، فَاشْتَرَاهَا عُثْمَانُ. معنى قوله تعالى: (وجعلنا من الماء كل شىء حى (أراد به حياة جميع الحيوان الذى يعيش بالماء، وقيل: عنى بالماء هاهنا: النطفة خاصة. ومن قرأ: (وجعلنا من الماء كل شىء حيا (يدخل فيه الحيوان والجماد، لأن الزرع والشجر لها موت إذا جفت ويبست، فحياتها خضرتها ونضرتها، والمزن: السحاب، والأجاج: المالح. عدد الله على عباده نعمته فى خلقه لهم الماء عذبًا يتلذذون بشربه، وتنموا به ثمارهم، ولو شاء لجعله مالحاُ فلا يشربون منه، ولا ينتفعون به فى زرعهم وثمارهم) فلولا تشكرون (أى: فهلا تشكرون الله على ما فعل بكم. وأما بئر رومة فإنها كانت ليهودى، وكان يضرب عليها القفل ويغيب، فيأتى المسلمون ليشربوا منها الماء فلا يجدونه حاضرًا،(6/491)
فيرجعون بغير ماء، فشكا المسلمون ذلك، فقال عليه السلام: (من يشترى بئر رومة ويبيحها للمسلمين، ويكون نصيبه فيها كنصيب أحدهم وله الجنة، فاشتراها عثمان) ، وهذا الحديث حجة لمالك ومن وافقه فى قولهم: إنه لا بأس ببيع الآبار والعيون فى الحضر إذا احتفرها لنفسه ولم يحتفرها للصدقة، فلا بأس ببيع مائها، وكره بيع ماء حفر من الآبار فى الصحارى من غير أن يحرمه. وأما قوله: (فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين) يعنى: يجعلها حبسًا لله، ويكون حظه منها كحظ غيره ممن لم يحبسها، ولا يكون له فيها مزية على غيره. فإن قيل: إذا شرط أن يكون دلوه فيها كدلاء المسلمين، ففيه من الفقه أن يجوز للمحبس أن ينتفع بما يحبسه إذا شرط ذلك. قيل: هذا ينقسم قسمين: فأما من حبس بئراُ وجعلها للسقاة فلا بأس أن يشرب منها وإن لم يشترط ذلك، لأنه داخل فى جملة السقاة. ومن حبس عقاراُ فلا يجوز له أن ينتفع بشىء منها إلا أن يشترط أن يكون نصيبه فيه كنصيب أحد المسلمين، فإذا لم يشترط ذلك فلا يجوز له الانتفاع بشىء منه، لأنه أخرجه لله - تعالى - ولا يجوز الرجوع فيه. فإن قيل: فما الفرق بين وقف البئر ووقف العقار؟ قيل: الفرق بينهما أن سائر الغلات تنقطع فى أوقات ما، وإذا أخذ منها المحبس فقد حرم ذلك الشىء أهل الحاجة وانفرد به. وماء الآبار لا ينقطع أبدًا، لأنها نابعة فلا يحرم أحد(6/492)
من أهل الحاجة ما أخذ منها محبسها وسيأتى ما يجوز انتفاع المحبس به من حبسه فى باب: هل ينتفع الواقف بوقفه فى كتاب الأوقاف - إن شاء الله.
- بَاب مَنْ رَأَى صَدَقَةَ الْمَاءِ وَهِبَتَهُ وَوَصِيَّتَهُ جَائِزَةً مَقْسُومًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَقْسُومٍ
وَقَالَ عُثْمَانُ: قَالَ النَّبىُّ عليه السَّلام: (مَنْ يَشْتَرِى بِئْرَ رُومَةَ فَيَكُونُ دَلْوُهُ فِيهَا كَدِلاَءِ الْمُسْلِمِينَ) ، فَاشْتَرَاهَا عُثْمَانُ. / 1 - فيه: سَهْل، أُتِىَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بِقَدَحٍ فَشَرِبَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ أَصْغَرُ الْقَوْمِ، وَالأَشْيَاخُ عَنْ يَسَارِهِ، فَقَالَ: (يَا غُلاَمُ، أَتَأْذَنُ لِى أَنْ أُعْطِيَهُ الأَشْيَاخَ؟) فَقَالَ: مَا كُنْتُ لأُوثِرَ بِفَضْلِى مِنْكَ أَحَدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ. / 2 - وفيه: أَنَس، حُلِبَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) شَاةٌ دَاجِنٌ، وَهِىَ فِى دَارِ أَنَسِ، فَشِبَت لَبَنُهَا بِمَاءٍ مِنَ الْبِئْرِ الَّتِى فِى دَارِ أَنَسٍ بْن مالك، فَأَعْطَى رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الْقَدَحَ، فَشَرِبَ مِنْهُ، حَتَّى إِذَا نَزَعَ الْقَدَحَ مِنْ فِيهِ، وَعَلَى يَسَارِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعَلىّ، وَعَنْ يَمِينِهِ أَعْرَابِىٌّ، فَقَالَ لَه عُمَرُ - وَخَافَ أَنْ يُعْطِيَهُ الأَعْرَابِىَّ -: أَعْطِ أَبَا بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدَكَ، فَأَعْطَاهُ الأَعْرَابِىَّ الَّذِى عَلَى يَمِينِهِ، ثُمَّ قَالَ: (الأَيْمَنَ، فَالأَيْمَنَ) . جميع ما يوهب للجماعة من الأشياء كلها هم فيها متشاركون، وحقوقهم فيها متساوية، لا فضل لأحد منهم على صاحبه، وإنما(6/493)
جازت هبة الماء واللبن غير مقسومين لقلة التشاح فيهما، ولأن العادة قد جرت من الجماعة إذا أكلت أو شربت معًا أنها تجرى فى ذلك على المكارمة، ولا ينقضى بعضهم على بعض، لأن ذلك إنما يوضع للناس على قدر نهمتهم، فمنهم من يكفيه اليسير، ومنهم من يكفيه أكثر منه، إلا أن من استعمل أدب المؤاكلة والمشاربة أولى، وأن لا يستأثر أحدهم بأكثر من نصيب صاحبه. ألا ترى أن مالكًا قد قال: لا يقرن أحد بين تمرتين إلا أن يستأذن أصحابه فى ذلك، لما كان التمر مما يتشاح فيه أكثر من التشاح فى الماء واللبن. وقال المهلب: إنما استأذن النبى - عليه السلام - الغلام فى حديث سهل، ولم يستأذن الأعرابى فى حديث أنس، لأن الأعرابى الذى كان عن يمين النبى - عليه السلام - كان من السادة والمشيخة وكان طرى الهجرة لا علم له بالشرائع، فأعطاه النبى - عليه السلام - ولم يستأذن أبا بكر استئلافًا منه للأعرابى، وتطييبًا لنفسه، وتشريفاُ له، ولم يجعل للغلام تلك المنزلة، لأنه كان من قرابته، وسنه دون سن الأشياخ الذين كانوا على يساره فاستأذنه فى أن يعطيهم بادئًا عليهم، ولئلا يوحشهم بإعطاء ابن عمه وهو صبى ويقدمه عليهم حتى أعلمهم أن ذلك يجب له بالتيامن فى الجلوس، وقيل: إن الغلام: الفضل بن عباس، وقد تقدم فى كتاب الأشربة زيادة فى هذا المعنى.(6/494)
3 - بَاب مَنْ قَالَ إِنَّ صَاحِبَ الْمَاءِ أَحَقُّ بِالْمَاءِ حَتَّى يَرْوَى لِقَوْلِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (لاَ يُمْنَعُ فَضْلُ الْمَاءِ ليمنع به الكلأ
/ 3 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، قَالَ: (لاَ يُمْنَعُ فَضْلُ الْمَاءِ، لِيُمْنَعَ بِهِ الْكَلأَ) . وَقَالَ مرة: (فَضْلُ الْكَلأَ) . لا خلاف بين العلماء أن صاحب الماء أحق بالماء حتى يروى، لأن النبى - عليه السلام - إنما نهى عن منع فضل الماء، فأما من لا يفضل له ماء فلا يدخل فى هذا النهى، لأن صاحب الشىء أولى به، وتأويل قوله عليه السلام: (لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ) عند مالك فى الآبار التى يحتفرها الرجل فى الصحارى والفلوات التى ليست لأحد، إنما هى مرعى للماشية، فيريد أن يمنع ماشية غيره أن تسقى من تلك البئر. ففيها قال عليه السلام ذلك، يقول: إذا منع حافرها فضل مائها لغير ماشيته فقد منع حافرها فضل مائها فقد منع الكلأ الذى حول البئر وانفرد به دون غيره، لأن أحدًا لا يرعى فيه إذا لم يكن للماشية ما تشربه، فأما البئر التى يحتفرها الرجل فى أرضه فيجوز له عند مالك أن يمنع ماءها. وكره مالك منع ما عمل من ذلك فى الصحارى من غير أن يحرمه، قال: ويكون أحق بمائها حتى يروى، ويكون للناس ما فضل إلا من مر بهم شفاههم ودوابهم فإنهم لا يمنعون كما يمنع من سواهم. وقال الكوفيون: له أن يمنع من دخول أرضه وأخذ مائه إلا أن يكون لشفاههم وحيوانهم ماء فيسقيهم وليس عليه سقى زرعهم.(6/495)
وقال عيسى بن دينار فى تفسير قوله عليه السلام: (لا يمنع فضل بئر) يقول: من كان له جار انقطع ماؤه وله عليه زرع أو أصل فلم يجد ما يسقى به زرعه أو حائطه، وله بئر فيها فضل عن سقى زرعه أو حائطه، فلا يمنع جاره أن يسقى بفضل مائه، قلنا: فنحكم عليه بذلك؟ قال: لا، ولكن يؤمر بذلك عليه، فإن أبى منه لم يقض عليه. قال أصبغ: وقال ابن القاسم: يقضى ذلك لجاره بالثمن. وفى المدونة قلت لابن القاسم: يقضى عليه بثمن أو بغير ثمن؟ قال: قال مالك: يقضى بغير ثمن. قال ابن مزين: قلت لعيسى: فإن باع فضله، أترى جاره الذى انقطع ماؤه أولى به بالثمن؟ قال: نعم. وفى قوله عليه السلام: (لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ) من الفقه المنع من الذرائع، وذلك لأنه نهى أن يمنع الماء، لئلا يتذرع بذلك إلى منع الكلأ، وقال الكوفيون: لا تجوز إجارة المراعى ولا بيعها، ولا يملك الكلأ صاحب الأرض حتى يأخذه فيحوزه. وهو قول الشافعى، وقال مالك: لا بأس أن يبيع مراعى أرضه سنة واحدة، ولا يبيعها سنتين ولا ثلاثًا، ولا يبيعها حتى تطيب ويبلغ الخصب أن يرعى. وقال الثورى: لا بأس أن يحمى الكلأ للبيع، والشجر للحطب أو البيع.(6/496)
4 - بَاب مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِى مِلْكِهِ لَمْ يَضْمَنْ
/ 4 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (الْمَعْدِنُ جُبَارٌ، وَالْبِئْرُ جُبَارٌ، وَالْعَجْمَاءُ جُبَارٌ، وَفِى الرِّكَازِ الْخُمْسُ) . اختلف العلماء فى هذه المسألة، فقال مالك فيمن حفر بئرًا، أو أوقف دابة فى موضع يجوز له أن يصنع ذلك فيه، فسقط أحد فى البئر، أو ضربت الدابة أحدًا أنه لا ضمان عليه ولا دية، وإنما يضمن من ذلك ما حفره فى طريق المسلمين، أو صنع من ذلك ما لا يجوز له أن يصنعه فيه، فهذا بمنزلة الإمام إذا حد أحدًا فمات المحدود فلا شىء على الإمام؛ لأنه فعل ما يجوز له، وإنما يلزمه الضمان إذا تعدى فى الحد، وبمثله كله قال الشافعى. وقال أبو حنيفة وأصحابه: من حفر بئرًا أو أوقف دابة فى موضع يجوز له ذلك فيه فليس يبرئه من الضمان ما أجاز إحداثه له. واختلفوا فى رجل حفر فى داره بئرًا لسارق يرصده، أو وضع حبالات له فعطب به السارق أو غيره، فقال مالك: هو ضامن. وقال الليث: لا ضمان عليه. وحجته قول الرسول: (البئر جبار) . وحجة مالك أنه لا يجوز له أن يقصد بذلك الفعل أن يهلك به أحدًا؛ لأنه متعد بهذا القصد، وقد يمكنه التحرز بغيره. قال: فإن حفر الحفيرة فى حائطه للسباع فعطب به إنسان فلا ضمان عليه عند مالك؛ لأنه فعل ما يجوز له فعله، ولا غنى به عنه،(6/497)
ولم يقصد بالحفر تلف إنسان فيكون متعديًا، وسيأتى معنى قوله: (العجماء جبار) فى كتاب الديات - إن شاء الله.
5 - بَاب الْخُصُومَةِ فِى الْبِئْرِ وَالْقَضَاءِ فِيهَا
/ 5 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بن مسعود، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، قَالَ: (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ هُوَ فَيْهَا فَاجِرٌ، لَقِىَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ) ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً (الآيَةَ، فَجَاءَ الأَشْعَثُ، فَقَالَ: مَا يُحَدَّثَكُمْ أَبُو عَبْدِالرَّحْمَنِ فِىَّ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ كَانَتْ لِى بِئْرٌ فِى أَرْضِ ابْنِ عَمٍّ لِى، فَقَالَ لِى: (شُهُود ذَلِكَ) ، قُلْتُ: مَا لِى شُهُودٌ، قَالَ: (فَيَمِينُهُ) ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِذًا يَحْلِفَ فَذَكَرَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، هَذَا الْحَدِيثَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ تَصْدِيقًا لَهُ. قال المهلب: هذا الوعيد يخشى إنفاذه على كل يمين غموس تقتطع بها مال أحد بغير حق، وفيه الترجمة، وفيه أن البينة على المدعى، واليمين على من أنكر، وفيه جواز تولى الخصوم بعضهم بعضًا بما عرف من أحوالهم؛ لقوله: (إذا يحلف ويذهب بحقى) لأنه كان معلومًا بقلة التقوى، وقد قيل: إنه كان يهوديًا، فإن كان كذلك فليس بين المسلم والذمى قصاص ولا حد، وإن كان غير ذمى فلأنه كان معلومًا بالمجاهرة بالباطل. والدليل على صحة هذا القول نزول الآية مصدقة لقوله النبى -(6/498)
عليه السلام - وليس بمعلوم بالأحوال الدينية من الحرمة ما لصالح المسلمين.
6 - بَاب إِثْمِ مَنْ مَنَعَ ابْنَ السَّبِيلِ مِنَ الْمَاءِ
/ 6 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (ثَلاَثَةٌ لاَ يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، رَجُلٌ كَانَ لَهُ فَضْلُ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ فَمَنَعَهُ مِنِ ابْنِ السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لاَ يُبَايِعُهُ إِلاَ لِدُنْيَا، فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا رَضِىَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا سَخِطَ، وَرَجُلٌ أَقَامَ سِلْعَتَهُ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ الَّذِى لاَ إِلَهَ إلا هو لَقَدْ أَعْطَيْتُ بِهَا كَذَا وَكَذَا فَصَدَّقَهُ رَجُلٌ) ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً (. قال المهلب: وهذا وعيد على المسلمين أيضًا، وكل وعيد يتوجه إلى المسلمين فهو موكول إلى مشيئة الله، وهو فيه بالخيار إن شاء عفا عنه، وإن شاء أنفذه فإن أنفذه على المسلم فلا يكون فيه خلود؛ لأن الخلود فى الذنوب قد رفع عن أهل التوحيد. وقوله: (منع فضل الماء) يدل أن صاحب البئر أولى من ابن السبيل عند الحاجة، فإذا أخذ صاحب البئر حاجته لم يجز له منع ابن السبيل، وقوله: (بايع إمامًا) هو فى معنى قوله عليه السلام: (من كانت هجرته لدنيا يصيبها) الحديث، وأن الله - تعالى - لا يقبل فى الهجرة والمبايعة والأعمال إلا ما أريد به وجهه، وما لا يريد به(6/499)
وجهه فلا يرضى به، وله أن يعاقب عليه، وقوله: (بعد العصر) يدل أنه وقت تعظم فيه المعاصى لارتفاع الملائكة بأعمال الناس إلى الله، فيعظم أن يرتفعوا عن العبد بالمعصية إلى الله ويكون أجر عمله المرفوع، وفيه أن خواتم الأعمال هى المرجوة والمحتسبة.
7 - بَاب سَكْرِ الأَنْهَارِ
/ 7 - فيه: ابْن الزُّبَيْرِ أَنَّهُ حَدَّثَهُ، أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ عِنْدَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فِى شِرَاجِ الْحَرَّةِ الَّتِى يَسْقُونَ بِهَا النَّخْلَ، فَقَالَ الأَنْصَارِىُّ: سَرِّحِ الْمَاءَ يَمُرُّ، فَأَبَى عَلَيْهِ، فَاخْتَصَمَا عِنْدَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لِلزُّبَيْرِ: (أسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ) ، فَغَضِبَ الأَنْصَارِىُّ، فَقَالَ: أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ، فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ قَالَ: (اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ) ، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: وَاللَّهِ إِنِّى لأحْسِبُ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِى ذَلِكَ) فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ (. وترجم له باب شرب الأعلى قبل(6/500)
الأسفل، وترجم له شرب الأعلى إلى الكعبين إلى: (حتى يرتفع إلى الجدر واستوعى له حقه. . .) الحديث. قال ابن شهاب: فقدرت الأنصار والناس قول النبى - عليه السلام -: (اسق ثم احبس حتى يرتفع إلى الجدر) ، فكان ذلك إلى الكعبين. اختلف أصحاب مالك فى صفة إرسال الماء الأعلى إلى الأسفل، فقال ابن حبيب: يدخل صاحب الأعلى جميع الماء فى حائطه ويسقى به إذا بلغ الماء من قاعه الحائط إلى الكعبين من القائم فيه: أغلق مدخل الماء وصرف ما زاد من الماء على مقدار الكعبين إلى من يليه، فيصنع به مثل ذلك حتى يبلغ ماء السيل إلى أقصى الحوائط، وهكذا فسر لى مطرف وابن الماجشون، وقاله ابن وهب. وقال ابن القاسم: إذا انتهى الماء فى الحائط إلى مقدار الكعبين أرسله كله إلى من تحته ولم يحبس منه شيئًا فى حائطه. قال ابن حبيب: وقول مطرف وابن الماجشون أحب إلى، وهما أعلم بذلك، لأن المدينة كانت دارهما وبها كانت القضية، وفيها جرى العمل بها. وذكر ابن مزين عن ابن القاسم مثل ما حكاه ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون. قال ابن حبيب: وما كان من الخلج والسواقى التى يجتمع أهل القرى على إنشائها وأجرى الماء فيها لمنافعهم، فقل الماء فيها ونضب عنها فى أوقات نضوبه فالأعلى والأسفل فيها بالسواء، يقسم بينهم على قدر حقوقهم فيها، استوت حاجتهم أو اختلفت، هكذا فسر لى مطرف وابن الماجشون وأصبغ وقاله ابن وهب وابن القاسم وابن نافع. قال المهلب: وفى الحديث من الفقه الإشارة بالصلح والأمر به، وفيه أن للحاكم أن يستوعى لكل واحد من المتخاصمين حقه إذا لم ير(6/501)
منهما قبولا للصلح ولا رضًا بما أشار به، كما فعل النبى - عليه السلام - وفيه توبيخ من جفا على الإمام والحاكم ومعاقبته، لأن النبى - عليه السلام - عاقبه على قوله: (أن كان ابن عمتك) بأن استوعى للزبير حقه، ووبخه الله فى كتابه بأن نفى عنهم الإيمان حتى يرضوا بحكمه، فقال: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك (الآية. ابن السكيت: سكرت النهر أسكره سكرًا: سددته. قال صاحب العين: والسكر اسم ذلك السداد الذى يجعل سدا للعين ونحوه. قال الفسوى: ومنه قوله تعالى: (سكرت أبصارنا (. ابن دريد: أصله من سكرت الريح: سكن هبوبها. قال أبو عبيد: والشروج والشراج مسائل الماء من الحرار إلى السهولة، واحدها شرج قال غيره: شرج. وقال أبو حنيفة: تسمى الحواجز التى بين الديار التى تمسك الماء الجدور، واحدها جدر.
8 - بَاب فَضْلِ سَقْىِ الْمَاءِ
/ 8 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عن النَّبِىّ، عليه السَّلام، قَالَ: (بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِى فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَنَزَلَ بِئْرًا فَشَرِبَ مِنْهَا، ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِى بَلَغَ بِى، فَمَلاَ خُفَّهُ، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ، ثُمَّ رَقِىَ فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ) ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّ لَنَا فِى الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟ قَالَ: (فِى كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ) . / 9 - وفيه: أَسْمَاء، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، صَلَّى صَلاَةَ الْكُسُوفِ،(6/502)
فَقَالَ: (أدَنَتْ مِنِّى النَّارُ، حَتَّى قُلْتُ: أَىْ رَبِّ، وَأَنَا مَعَهُمْ؟ فَإِذَا امْرَأَةٌ - حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: تَخْدِشُهَا هِرَّةٌ - قَالَ: مَا شَأْنُ هَذِهِ؟ قَالُوا: حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا) ، قَالَ: فَقَالَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -: (لاَ أَنْتِ أَطْعَمْتِتهَا وَلاَ سَقَيِتيِهَا حِينَ حَبَسْتِيهَا، وَلاَ أَنْتِ أَرْسَلْتِيهَا تَأَكْلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ) . سقى الماء من أعظم القربات إلى الله - تعالى وقد قال بعض التابعين: من كثرت ذنوبه فعليه بسقى الماء، وإذا غفرت ذنوب الذى سقى الكلب فما ظنكم بمن سقى رجلا مؤمنًا موحداُ أو أحياه بذلك. وقد استدل بهذا الحديث من أجاز صدقة التطوع على المشركين، لعموم قوله عليه السلام: (فى كل كبد رطبة أجر) وفيه أن المجازاة على الخير والشر قد تكون يوم القيامة من جنس الأعمال، كما قال عليه السلام: (من قتل نفسه بحديدة عذب بها فى نار جهنم) . وقال صاحب الأفعال: لهث الكلب، ولهث بفتح الهاء وكسرها: أدلع لسانه عطشًا، ولهث الإنسان أيضًا اشتد عطشه.
9 - بَاب مَنْ قَالَ: أَنَّ صَاحِبَ الْحَوْضِ وَالْقِرْبَةِ أَحَقُّ بِمَائِهِ
/ 10 - فيه: سَهْل، أُتِىَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، بِقَدَحٍ فَشَرِبَ منه، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ هُوَ أَحْدَثُ الْقَوْمِ، وَالأَشْيَاخُ عَنْ يَسَارِهِ، قَالَ: (يَا غُلاَمُ، أَتَأْذَنُ لِى أَنْ أُعْطِىَ الأَشْيَاخَ؟) فَقَالَ: مَا كُنْتُ لأُوثِرَ بِنَصِيبِى مِنْكَ أَحَدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ. / 11 -(6/503)
وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، قَالَ: (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لاَذُودَنَّ رِجَالاً عَنْ حَوْضِى، كَمَا تُذَادُ الْغَرِيبَةُ مِنَ الإِبِلِ عَنِ الْحَوْضِ) . / 12 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ عليه السَّلام: (يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ، أَوْ لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنَ الْمَاءِ، لَكَانَتْ عَيْنًا مَعِينًا، وَأَقْبَلَ جُرْهُمُ فَقَالُوا: أَتَأْذَنِينَ أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ، قَالَتْ: نَعَمْ، وَلاَ حَقٌ لكُمْ فِى الْمَاء قالوا: نَعَمْ. / 13 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىِّ عليه السَّلام: (ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ. . . . . . - الحديث - وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ، فَيَقُولُ اللَّهُ: الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِى كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ) . قال المهلب: لا خلاف أن صاحب الحوض أحق بمائه، لقوله عليه السلام: (لأذودن رجالا عن حوضى) . فأما حديث الغلام والأشياخ فصاحب الماء واللبن أحق به أولا، ثم يستحقه المتيامن منه، فكان بين الحوض والقربه أو القدح فرق، لأنه لو كان صاحب القدح أحق به أبدًا لما استأذن النبى الغلام الذى كان عن يمينه فى أن يعطى الأشياخ، فإنما تصح الترجمة فى الابتداء أن صاحب الماء أولى به، ثم الأيمن فالأيمن أولى من صاحب الماء فى أن يعطيه غيره، وإنما هذا فيما يؤكل أو يشرب الموضوع بين يدى الجماعة، وأما فى المياه والآبار والجباب والعيون فصاحبها أولى بها أولا، وأولى بها فى أن يعطى من شاء آخراُ بخلاف حديث الغلام، وكذلك فى مسألة أم إسماعيل هى أحق بمائها أولا وآخرًا. قال أبو عبد الله: وقوله: (لأذودن رجالا عن حوضى) قال(6/504)
قبيصة فى البخارى: هم المرتدون الذين بدلوا، فإن قيل: كيف يأتون غرا محجلين والمرتد لا غرة له ولا تحجيل؟ فالجواب أن النبى - عليه السلام - قال: (تأتى كل أمة فيها منافقوها) ، وقد قال تعالى ذلك فى كتابه: (يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم (الآية فصح أن المؤمنين يحشرون وفيهم المنافقون الذين كانوا معهم فى الدنيا حتى يضرب بينهم بسور له باب والمنافق لا غرة له ولا تحجيل له، لكن المؤمنون سموا غرا محجلين بالجملة وإن كان المنافقون فى خلالهم.
- بَاب لاَ حِمَى إِلاَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم)
/ 14 - فيه: الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ، قَالَ: إِنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، قَالَ: (لاَ حِمَى إِلاَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ) ، وَقَالَ أبو عبد اللَّه: بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) حَمَى البَّقِيعَ، وَأَنَّ عُمَرَ حَمَى السَّرَفَ وَالرَّبَذَةَ. أصل الحمى فى اللغة: المنع، يعنى: لا مانع لما لا مالك له من الناس من أرض أو كلأ أو شجر إلا لله ولرسوله، وذكر ابن وهب أن البقيع الذى حماه النبى - عليه السلام - قدره ميل فى ثمانية أميال، حماه لخيل المهاجرين، وحمى أبو بكر الربذة لما يحمل عليه فى سبيل الله نحو خمسة أميال فى مثلها، وحمى ذلك عمر لإبل الصدقة، وحمى أيضًا السرف وهو مثل الربذة وزاد عثمان فى(6/505)
الحمى لما كثرت الإبل والبقر فى أيامه من الصدقات، أصل فعلهم ذلك من سنة النبى عليه السلام. فمعنى قوله: (لا حمى إلا لله ولرسوله) أى: أنه لا حمى لأحد يخص به نفسه ترعى فيه ماشيته دون سائر الناس، وإنما هو لله ولرسوله ولمن ورث ذلك عنه عليه السلام من الخلفاء بعده إذا احتاج إلى ذلك لمصلحة تشمل المسلمين ومنفعة تعمهم، كما فعل أبو بكر وعمر وعثمان لما احتاجوا إلى ذلك. وقد عاتب رجل من العرب عمر بن الخطاب فقال له: بلاد الله حميت لمال الله. وأنكر أيضاُ على عثمان أنه زاد فى الحمى، وليس لأحد أن ينكر ذلك، لأن النبى - عليه السلام - قد تقدم إليه، ولخلفائه الاقتداء به والاهتداء بهدية وإنما يحمى الإمام ما ليس بملك لأحد مثل: بطون الأودية، والجبال، والموات، وإن كان قد ينتفع المسلمون بتلك المواضع فمنافعهم فى حماية الإمام لها أكثر - والله الموفق - وقال الأصمعى: البقيع: القاع، يقال: انزل بذلك البقع، أى: القاع، والجمع البقعان.
- بَاب شُرْبِ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ مِنَ الأَنْهَارِ
/ 15 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (الْخَيْلُ لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ، فَأَمَّا الَّذِى لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ. . . .) ، الحديث، (وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِىَ كَانَ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ لَهُ، وَهِىَ لِذَلِكَ أَجْرٌ) .(6/506)
/ 16 - وفيه: زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، فَسَأَلَهُ عَنِ اللُّقَطَةِ. . . . . قَالَ: فَضَالَّةُ الإِبِلِ؟ قَالَ: (مَا لَكَ وَلَهَا، مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا، تَرِدُ الْمَاءَ، وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا) . أجمع العلماء أنه يجوز الشرب من الأنهار دون استئذان أحد، لأن الله - تعالى - خلقها للناس والبهائم، وأنه لا مالك لها غير الله - تعالى - وأجمعوا أنه لا يجوز لأحد بيع الماء فى النهر، لأنه لا يتعين لأحد فيه حق، فإذا أخذه فى وعائه أو آنيته جاز له بيعه. وقال مالك: لا بأس ببيع الماء بالماء متفاضلا وإلى أجل وهو قول أبى حنيفة، وقال محمد: هو مما يكال ويوزن لما روى أنه كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع. وعلى هذا لا يجوز عنده فيه التفاضل والنسيئة، لأن علته فى الربا الكيل والوزن. قال الشافعى: لا يجوز بيعه متفاضلا ولا إلى أجل، لأن علته فى الربا أن يكون مأكولا جنسًا.
- بَاب بَيْعِ الْحَطَبِ وَالْكَلاَ
/ 17 - فيه: الزُّبَيْر، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، قَالَ: (لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حْبُلاً، فَيَأْخُذَ حُزْمَةً مِنْ حَطَبٍ فَيَبِيعَ فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهِ وَجْهَهُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أُعْطِىَ أَوْ مُنِعَ) . / 18 - وفيه: عَلِىّ، أَصَبْتُ شَارِفًا مَعَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، فِى مَغْنَمٍ يَوْمَ بَدْرٍ، قَالَ: وَأَعْطَانِى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) شَارِفًا أُخْرَى فَأَنَخْتُهُمَا(6/507)
يَوْمًا عِنْدَ بَابِ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَحْمِلَ عَلَيْهِمَا إِذْخِرًا لأَبِيعَهُ، فَأَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى وَلِيمَةِ فَاطِمَةَ. . . . . الحديث. قال المهلب: فى هذا الباب إباحة الاحتطاب فى المباحات والاختلا من نبات الأرض، كل ذلك مباح حتى يقع التحظير من مالك الأرض، فترتفع الإباحة، وذكر ابن المواز عن ابن القاسم، عن مالك قال: من كانت له أرض يملكها ليست بأرض خربة فأراد أن يبيع ما نبت فيها من المرعى بعد طيبه، أنه لا بأس له. وقال أشهب: لا يجوز ذلك، لأنه رزق من رزق الله، ولا يحل لرب الأرض أن يمنع منه أحداُ، لقوله عليه السلام: (لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ) ولو كان النبات فى حائط إنسان لما جاز له أن يمنع منه أحدًا، لقوله عليه السلام: (لا حمى إلا لله ولرسوله) . وقال الكوفييون كقول أشهب. قال المهلب: وفيه من الفقه أن تضمين الجنايات بين ذوى الأرحام العادة فيها أن تهدر من أجل القرابة، كما هدر على قيمة الناقتين والجناية فيهما مع وكيد الحاجة إليهما أو إلى ما كان يستقبله من الإنفاق فى وليمة عرسه، وفيه أن للإمام أن يمضى إلى أهل بيت بلغه أنهم على منكر فيغيره، وفيه علة تحريم الخمر، ومعنى قوله تعالى: (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء فى الخمر والميسر (من أجل ما جفا به حمزة على النبى من هجر القول.(6/508)
والشرف جمع شارف، وهى الحسنة من النوق والنواء جمع ناوية، والناوية السمينة، وقد نويت نيا ونواية. ابن السكيت: نواية. أبو حنيفة: أنوينا إبلنا: أسمناها. الخطابى: النى: السمن والنى بالكسر: اللحم الطرى، وجب: قطع ومنه قيل للخصى: مجبوب، أى: مقطوع. وبقر البطن والشىء بقرًا: شقه.
- بَاب الْقَطَائِعِ
/ 19 - فيه: أَنَس، أَرَادَ النَّبِىُّ، عليه السَّلم، أَنْ يُقْطِعَ الأَنْصَار مِنَ الْبَحْرَيْنِ، فَقَالَتِ الأَنْصَارُ: حَتَّى تُقْطِعَ لإِخْوَانِنَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِثْلَ الَّذِى يُقْطِعُ لَنَا، قَالَ: (سَتَرَوْنَ بَعْدِى أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِى) . وترجم له (باب كتابة القطائع) . قَالَ أَنَس: دَعَا النَّبِىُّ، عليه السَّلام، الأَنْصَارَ لِيُقْطِعَ لَهُمْ بِالْبَحْرَيْنِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ فَعَلْتَ فَاكْتُبْ لإِخْوَانِنَا مِنْ قُرَيْشٍ بِمِثْلِهَا، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عِنْدَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَقَالَ: (إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِى أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِى) . قال إسماعيل بن إسحاق: مال البحرين كان من الجزية، لأن المجوس كانوا فيها كثيرًا فى ذلك الوقت بسبب سلطان كسرى كان بها، وكان فيها أيضًا من أهل الذمة سوى المجوس، وكان عامله عليها أبان بن سعيد بن العاص.(6/509)
قال المؤلف: فهذا يدل أن الذى أراد أن يقطع النبى - عليه السلام - للأنصار من البحرين لم تكن نفس الأرض، لأنها كانت أرض صلح يؤدى أهلها الجزية عليها، وإنما أراد أن يقطع لهم مالا يأخذونه من جزية البحرين، لأن الجزية تجرى مجرى الخراج والخمس، فيجوز أخذها للأغنياء، وليست تجرى مجرى الصدقة. وقوله: (فلم يكن ذلك عند النبى) يعنى: فلم يرد ذلك النبى - عليه السلام - لأنه كان قد أقطع المهاجرين أرض بنى النضير حين أجلوها وليستغنوا عن رفد الأنصار ومشاركتهم، وردوا إليهم منائحهم. قال المهلب: وقوله عليه السلام للأنصار: (إنكم سترون بعدى أثرة فاصبروا حتى تلقونى) يدل أن الخلافة لا تكون فى الأنصار، ألا ترى أنه جعلهم تحت الصبر إلى يوم يلقونه، والصبر لا يكون إلا من مغلوب محكوم عليه.
- بَاب حَلَبِ الإِبِلِ عَلَى الْمَاءِ
/ 20 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (مِنْ حَقِّ الإِبِلِ أَنْ تُحْلَبَ عَلَى الْمَاءِ) . قال المهلب: قوله عليه السلام: (من حق الإبل أن تحلب على الماء) يعنى الحق المعهود المتعارف بين العرب من التصدق باللبن على المياه إذ كانت طوائف الضعفاء والمساكين ترتصد يوم ورود الإبل على المياه لتنال من رسلها وتشرب من لبنها، وهذا حق حلبها على الماء، لا أنه فرض لازم عليهم، وقد تأول بعض السلف فى قوله تعالى: (وآتوا حقه يوم حصاده (قال: هو أن(6/510)
يعطى المساكين عند الجداد والحصاد ما تيسر من غير الزكاة، وهذا مذهب ابن عمر، وبه قال عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير، وجمهور الفقهاء على أن المراد بقوله تعالى: (وآتوا حقه يوم حصاده (الزكاة المفروضة، وهو تأويل ابن عباس وغيره، وقد تقدم بيان هذا فى كتاب الزكاة فى باب إثم مانع الزكاة.
- بَاب الرَّجُلِ يَكُونُ لَهُ مَمَرٌّ أَوْ شِرْبٌ فِى حَائِطٍ أَوْ فِى نَخْلٍ
وقَالَ النَّبىُّ عليه السَّلام: (مَنْ بَاعَ نَخْلاً بَعْدَ أَنْ يُؤَبَّرَ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ، فَلِلْبَائِعِ الْمَمَرُّ وَالسَّقْىُ، حَتَّى يَرْفَعَ، وَكَذَلِكَ رَبُّ الْعَرِيَّةِ) . / 21 - وفيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (مَنِ ابْتَاعَ نَخْلاً بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ، إِلاَ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ) . / 22 - وفيه: زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، رَخَّصَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، أَنْ تُبَاعَ الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا تَمْرًا. إنما أراد البخارى أن يستدل من حديث ابن عمر وحديث زيد بن ثابت على تصحيح ما ترجم، وذلك أن النبى - عليه السلام - لما جعل لبائع أصول النخل المثمرة بعد أن تؤبر؛ كان له أن يدخل فى الحائط لسقيها وتعهدها حتى يجدها، ولم يجز لمشترى أصول النخل أن يمنعه الطريق والممر إليها. وكذلك يجوز لصاحب العرية أن يدخل فى حائط المعرى لتعهد عريته وإصلاحها وسقيها، ولا خلاف فى هذا بين الفقهاء، وأما من له طريق مملوكة فى أرض غيره، فقال مالك: ليس للذى له الطريق أن يدخل فيها بماشيته وغنمه؛ لأنه يفسد زرع صاحبه وقال الكوفيون والشافعى: ليس لصاحب الأرض أن يزرع فى موضع الطريق.(6/511)
بسم الله الرحمن الرحيم
37 - كِتَاب الاسْتِقْرَاضِ وَأَدَاءِ الدُّيُونِ، وَالْحَجْرِ، وَالتَّفْلِيسِ
- بَاب مَنِ اشْتَرَى بِالدَّيْنِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ ثَمَنُهُ أَوْ لَيْسَ بِحَضْرَتِهِ
/ 1 - فيه: جَابِر، غَزَوْتُ مَعَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَقَالَ: (كَيْفَ تَرَى بَعِيرَكَ أَتَبِيعَهِ) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَبِعْتُهُ إِيَّاهُ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ غَدَوْتُ إِلَيْهِ بِالْبَعِيرِ، فَأَعْطَانِى ثَمَنَهُ. / 2 - وفيه: الأَعْمَشُ، تَذَاكَرْنَا عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ الرَّهْنَ فِى السَّلَمِ، فَقَالَ: حَدَّثَنِى الأَسْوَدُ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ يَهُودِىٍّ إِلَى أَجَلٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن استقراض الدنانير والدراهم والحنطة والشعير والتمر والزبيب، وكل ما له مثل من سائر الأطعمة جائز، والشراء بالدين مباح؛ لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه (ألا ترى أن النبى اشترى الجمل من جابر فى سفره ولم يقضه ثمنه إلا بالمدينة، وكذلك اشترى الشعير من اليهودى إلى أجل، فكان ذلك كله سننًا.(6/512)
- بَاب مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَوْ إِتْلاَفَهَا
/ 3 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، قَالَ: (مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلاَفَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ) . هذا الحديث شريف ومعناه: الحض على ترك استئكال أموال الناس والتنزه عنها، وحسن التأدية إليهم عند المداينة، وقد حرم الله فى كتابه أكل أموال الناس بالباطل، وخطب النبى - عليه السلام - بذلك فى حجة الوداع، فقال: (إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام) يعنى: من بعضكم على بعض، وفى حديث أبى هريرة أن الثواب قد يكون من جنس الحسنة، وأن العقوبة قد تكون من جنس الذنوب، لأنه جعل مكان أداء الإنسان أداء الله عنه، ومكان إتلافه إتلاف الله له.
3 - بَاب أَدَاءِ الدَّيْنِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا (الآية
. / 4 - فيه: أَبُو ذَرّ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَلَمَّا أَبْصَرَ، يَعْنِى أُحُدًا، قَالَ: مَا أُحِبُّ أَنَّهُ تَحَوَّلَ لِى ذَهَبًا يَمْكُثُ عِنْدِى مِنْهُ دِينَارٌ فَوْقَ ثَلاَثٍ إِلاَ دِينَارًا(6/513)
أُرْصِدُهُ لِدَيْنٍ. . . . . الحديث. قال المهلب: هذه الآية أصل فى أداء الأمانات وحفظها، ألا ترى أن النبى لم يحب أن يبقى عنده من مثل أحد ذهبًا فوق ثلاث إلا دينار أرصده لدين، فدل هذا الحديث على ما دلت الآية عليه من تأكيد أمر الدين والحض على أدائه. قال المؤلف: وفى هذا الحديث دليل على الاستدانة بيسير الدين اقتداءً بالنبى - عليه السلام - فى إرصاده دينارًا لدينه، ول كان عليه مائة دينار أو أكثر لم يرصد لأدائها دينارًا؛ لأنه عليه السلام كان أحسن الناس قضاءً، وبان بهذا الحديث أنه ينبغى للمؤمن ألا يستغرق فى كثرة الدين؛ خشية الاهتمام به، والعجز عن أدائه، وقد استعاذ الرسول بالله من ضلع الدين، واستعاذ من المأثم والمغرم، وقال: (إن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف) . فقد جاء فى خيانة الأمانة من الوعيد ما رواه إسماعيل بن إسحاق قال: حدثنا محمد ابن المثنى قال: حدثنا أبو معاوية قال: حدثنا الأعمش، عن عبد الله بن السائب، عن زاذان، عن عبد الله بن مسعود قال: إن القتل فى سبيل الله يكفر كل ذنب إلا الدين والأمانة، قال: وأعظم ذلك الأمانة تكون عند الرجل فيخونها فيقال له يوم القيامة: أد أمانتك، فيقول: من أين وقد ذهبت الدنيا؟ فيقال له: نحن نريكها، قال: فتمثل له فى قعر جهنم، فيقال له: انزل فأخرجها، قال: فينزل فيحملها على عنقه حتى إذا كاد زلت، فهوت وهوى فى أثرها أبد الأبد. قال: والأمانة فى كل شىء حتى فى الصلاة والصيام والوضوء(6/514)
والغسل من الجنابة، والأمانة فى الكيل والوزن. وقال الربيع بن أنس: الأمانة ما أمروا به، وما نهوا عنه.
4 - بَاب اسْتِقْرَاضِ الإِبِلِ
/ 5 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلاً تَقَاضَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، فَأَغْلَظَ لَهُ فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ، فَقَالَ: دَعُوهُ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالاً وَاشْتَرُوا لَهُ بَعِيرًا، فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ، قَالُوا: لاَ نَجِدُ إِلاَ أَفْضَلَ مِنْ سِنِّهِ، قَالَ: (اشْتَرُوهُ، فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ فَإِنَّ خَيْرَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً) . وترجم له (باب هل يعطى أكبر من سنه، وباب حسن القضاء) . اختلف العلماء فى استقراض الحيوان فأجاز ذلك مالك والشافعى وأحمد وإسحاق، واحتجوا بهذا الحديث، ولا يحل عند مالك وأهل المدينة استقراض الإماء؛ لأن ذلك ذريعة إلى استحلال الفرج. ومنع ذلك الكوفيون وقالوا: لا يجوز استقراض الحيوان؛ لأن وجود مثله متعذر غير موقوف عليه، وقالوا: يحتمل أن يكون حديث أبى هريرة قبل تحريم الربا، ثم حرم الربا بعد ذلك، وحرم كل قرض جر منفعة، وردت الأشياء المستقرضة إلى أمثالها، فلم يجز القرض إلا فيما له مثل. وحجة من أجاز ذلك قالوا: محال أن يستقرض النبى شيئًا لا يقدر على أداء مثله، ولا يضبط ذلك بصفة، ولو لم يكن له(6/515)
إلى رد مثله سبيل لم يستقرضها؛ إذ كان عليه السلام أبعد الخلق من ظلم أحد. واحتج مالك لتفريقه بين الإماء وجميع الحيوان فقال: قد أحاط الله ورسوله والمسلمون الفروج، فجعل المرأة لا تنكح إلا بولى وشهود، ونهى النبى أن يخلو بها رجل فى حضر أو سفر، ولم يحرم ذلك فى شىء مما أحل غيرها، فجعل الأموال مرهونة ومبيعة بغير بينة، ولم يجعل المرأة هكذا حتى حاطها فيما حللها بالولى والشهود ففرقنا بين حكم الفروج وغيرها بما فرق الله ورسوله والمسلمون بينها. وقال أهل المقالة الأولى: وأيضًا فإنه يجوز أن يرد أفضل مما استلف إذا لم يشرط ذلك عليه؛ لأن الزيادة فى ذلك من باب المعروف، استدلالا بحديث أبى هريرة، وهو قول ابن عمر وابن المسيب والنخعى والشعبى وعطاء، وبه قال الثورى والشافعى وأحمد وإسحاق وجماعة. واختلف أصحاب مالك فى ذلك، فقال ابن حبيب: لا بأس أن يرد أفضل مما اسقرض فى العدد والجود؛ لأن الآثار جاءت بأن النبى - عليه السلام - رد أكثر عددًا فى طعام. وأجاز أشهب أن يزيده فى العدد إذا طابت نفسه بذلك. وقال ابن نافع: لا بأس أن يعطى أكثر عددًا إذا لم يكن ذلك عادة. وقال مالك: لا يجوز أن يكون بزيادة فى العدد، وإنما يصلح أن تكون فى الجودة. وقال ابن القاسم: لا يعجبنى أن يعطيه أكثر فى العدد ولا فى الذهب والورق إلا اليسير مثل الرجحان فى(6/516)
الوزن والكيل، ولو زاد بعد ذلك لم يكن به بأس. وهو قول مالك، وإنما لم يجز أن يشترط أن يأخذ أفضل؛ لأنه يخرج من باب المعروف ويصير ربا، ولا خلاف بين العلماء أن اشتراط الزيادة فى ذلك ربا لا يحل.
5 - بَاب حُسْنِ التَّقَاضِي
/ 6 - فيه: حُذَيْفَةَ، قَالَ النَّبِىّ عليه السَّلام: (مَاتَ رَجُلٌ، فَقِيلَ لَهُ، فَقَالَ: كُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ فَأُخَفِّفُ عَنِ الْمُوسِرِ، وَأَتَجَوَّزُ عَنِ الْمُعْسِرِ، فَغُفِرَ لَهُ) ، قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ: سَمِعْتُهُ مِنَ النَّبِىِّ عليه السَّلام. قال المؤلف: فى هذا الحديث ترغيب عظيم فى حسن التقاضى، وان ذلك مما يدخل الله به الجنة، وهذا المعنى نظير قوله: (خيركم أحسنكم قضاء) ، فجاء الترغيب فى كلا الوجهين فى حسن التقاضى لرب الدين وفى حسن القضاء للذى عليه الدين، كل قد رغب فى الأخذ بأرفع الأحوال، وترك المشاحة فى القضاء والاقتضاء، واستعمال مكارم الأخلاق فى البيع والشراء والأخذ والإعطاء، وقد جاء هذا كله فى حديث جابر أن النبى - عليه السلام - قال: (رحم الله رجلا سمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى) . ذكره فى أول كتاب البيوع.(6/517)
6 - بَاب إِذَا قَضَى دُونَ حَقِّهِ أَوْ حَلَّلَهُ فَهُوَ جَائِزٌ / 7 - فيه: جَابِر، أَنَّ أَبَاهُ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَاشْتَدَّ الْغُرَمَاءُ فِى حُقُوقِهِمْ، فَأَتَيْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، فَسَأَلَهُمْ أَنْ يَقْبَلُوا تَمْرَ حَائِطِى، وَيُحَلِّلُوا أَبِى، فَأَبَوْا، فَلَمْ يُعْطِهِمُ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، حَائِطِى، وَقَالَ: (سَنَغْدُو عَلَيْكَ) ، فَغَدَا عَلَيْنَا حِينَ أَصْبَحَ، فَطَافَ فِى النَّخْلِ وَدَعَا فِى ثَمَرِهَا بِالْبَرَكَةِ، فَجَدَدْتُهَا فَقَضَيْتُهُمْ، وَبَقِىَ لَنَا مِنْ تَمْرِهَا. وترجم له باب من أخر الغريم إلى الغد أو نحوه ولم ير ذلك مطلا هكذا وقعت هذه الترجمة فى النسخ كلها باب إذا قضى دون حقه أو حلله فهو جائز، والصواب إذا قضى دون حقه وحلله بغير ألف، لأنه لا يجوز أن يقضى رب الدين دون حقه ويسقط مطالبته بباقيه إلا أن حلل منه. ولا خلاف بين العلماء أنه لو حلله من جميع الدين أو أبرأ ذمته أنه جائز، فكذلك إذا حلله من بعضه، وأما تأخير الغريم الواحد إلى الغد فهو مرتبط بالعذر، وأما من قدر على الأداء فلا يمطل به؛ لقوله عليه السلام: (مطل الغنى ظلم) ، وإنما أخر جابر غرماءه رجاء بركة النبى - عليه السلام - لأنه كان وعده أن يمشى معه على التمر ويبارك فيها، فحقق الله رجاءه، وظهرت بركة النبى، وثبتت أعلام نبوته.(6/518)
وفيه من الفقه: مشى الإمام فى حوائج الناس، واستشفاعه فى الديون، وقد ترجم لذلك.
7 - بَاب إِذَا قَاصَّ أَوْ جَازَفَهُ فِى الدَّيْنِ تَمْرًا بِتَمْرٍ أَوْ غَيْرِهِ
/ 8 - فيه: جَابِر، أَنَّ أَبَاهُ تُوُفِّىَ، وَتَرَكَ عَلَيْهِ ثَلاَثِينَ وَسْقًا لِرَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ، فَاسْتَنْظَرَهُ جَابِرٌ، فَأَبَى أَنْ يُنْظِرَهُ، فَكَلَّمَ جَابِرٌ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لِيَشْفَعَ لَهُ إِلَيْهِ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَكَلَّمَ الْيَهُودِىَّ لِيَأْخُذَ ثَمَرَ نَخْلِهِ بِالَّذِى لَهُ، فَأَبَى، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) النَّخْلَ فَمَشَى فِيهَا، ثُمَّ قَالَ لِجَابِرٍ: (جُدَّ لَهُ، فَأَوْفِ لَهُ الَّذِى لَهُ) ، فَجَدَّهُ بَعْدَمَا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَوْفَاهُ ثَلاَثِينَ وَسْقًا، وَفَضَلَتْ لَهُ سَبْعَةَ عَشَرَ وَسْقًا، فَجَاءَ جَابِرٌ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لِيُخْبِرَهُ بِالَّذِى كَانَ، فَوَجَدَهُ يُصَلِّى الْعَصْرَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَخْبَرَهُ بِالْفَضْلِ، فَقَالَ: (أَخْبِرْ ذَلِكَ ابْنَ الْخَطَّابِ) ، فَذَهَبَ جَابِرٌ إِلَى عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَقَدْ عَلِمْتُ حِينَ مَشَى فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَيُبَارَكَنَّ فِيهَا. قال المؤلف: لا يجوز عند العلماء أن يأخذ من له دين من تمر على أحد تمرًا مجازفة فى دينه؛ لأن ذلك من الغرر والمجهول، وذلك حرام فيما أمر فيه بالمماثلة، وإنما يجوز أن يأخذ مجازفة فى حقه أقل من دينه إذا علم ذلك وتجاوز له، وهذا المعنى بين فى حديث جابر، لأن النبى - عليه السلام - حين كلم اليهودى أن يأخذ تمر(6/519)
النخل بالذى على أبى جابر وأبى اليهودى من ذلك، ثبت أن تمر النخل لا يفى بالدين، وأنه أقل مما كان يلزمه غرمه، وقد جاء هذا منصوصًا فى هذا الحديث. ذكره فى كتاب الصلح فى باب الصلح بين الغرماء وأصحاب الميراث، وفيه قال: (فعرضت على غرمائه أن يأخذوا التمر بما عليه فأبوا، ولم يروا أن فيه وفاء) وقد يجوز فى باب حسن القضاء أن يزيده من صفته، وإنما تحرم الزيادة بالشرط، وقال فى باب الشفاعة وفى وضع الدين، فأرجف الجمل يقال: أرجف البعير إذا أعيا فخر برسنه، ورجف أيضًا.
8 - بَاب مَنِ اسْتَعَاذَ مِنَ الدَّيْنِ
/ 9 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىّ عليه السَّلام، كَانَ يَدْعُو فِى الصَّلاَةِ، وَيَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ) ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مِنَ الْمَغْرَمِ، قَالَ: (إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ) . قال المهلب: فيه وجوب قطع الذارئع؛ لأنه عليه السلام إنما استعاذ من الدين؛ لأنه ذريعة إلى الكذب، والخلف فى الوعد مع ما يقع المديان تحته من الذلة، وما لصاحب الدين عليه من المقال - والله أعلم - فإن قيل: فقد عارض هذا الحديث ما رواه جعفر ابن محمد عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر، عن النبى - عليه السلام - أنه قال: (إن الله مع الدائن حتى يقضى دينه ما لم يكن فيما يكره الله - تعالى) ،(6/520)
وكان عبد الله بن جعفر يقوله لحارثة: اذهب فخذ لى بدين، فإنى أكره أن أبيت الليلة إلا والله معى. قال الطبرى: كلا الخبرين صحيح، وليس فى أحدهما دفع معنى الآخر، فأما قوله عليه السلام: (إن الله مع الدائن حتى يقضى دينه ما لم يكن فيما يكره الله) ، فهو المستدين فيما لا يكرهه الله، وهو يريد قضاءه، وعنده فى الأغلب ما يؤديه منه فالله - تعالى - فى عونه على قضائه. وأما المغرم الذى استعاذ منه عليه السلام فإنه الدين الذى استدين على أوجه ثلاثة: إما فيما يكرهه الله ثم لا يجد سبيلاً إلى قضائه، أو مستدين فيما لا يكرهه الله ولكن لا وجه لقضائه عنده، فهو متعرض لهلاك مال أخيه ومتلف له، أو مستدين له إلى القضاء سبيل غير أنه نوى ترك القضاء وعزم على جحده، فهو عاص لربه ظالم لنفسه، فكل هؤلاء لوعدهم إن وعدوا من استدانوا منه القضاء يخلفون، وفى حديثهم كاذبون لوعدهم. وقد صحت الأخبار عنه عليه السلام أنه استدان فى بعض الأحوال، فكان معلومًا بذلك أن الحال التى كره ذلك - عليه السلام - فيها غير الحال التى ترخص لنفسه فيها. وقد استدان السلف: استدان عمر بن الخطاب وهو خليفة، وقال لما طعن: انظروا كم على من الدين، فحسبوه فوجوده ثمانين ألفًا أو أكثر، وكان على الزبير دين عظيم ذكره البخارى. فمما ثبت عن النبى - عليه السلام - وعن السلف من استدانتهم(6/521)
الدين مع تكريههم له إلى غيرهم الدليل الواضح على اختلاف الأمر فى ذلك كان على قدر اختلاف حال المدينين.
9 - بَاب الصَّلاَةِ عَلَى مَنْ تَرَكَ دَيْنًا
/ 10 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (مَنْ تَرَكَ مَالاً فَلِوَرَثَتِهِ وَمَنْ تَرَكَ كَلاً فَإِلَيْنَا. . . .) الحديث. هذا الحديث ناسخ لترك النبى الصلاة على مات وعليه دين، وقد تقدم هذا المعنى مستوعبًا فى كتاب الكفالة فى باب من تكفل عن ميت دينًا، فكرهنا إعادته.
- بَاب مَطْلُ الْغَنِىِّ ظُلْمٌ
/ 11 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (مَطْلُ الْغَنِىِّ ظُلْمٌ) .
- بَاب لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالٌ
وَيُذْكَرُ عَنِ النَّبِىِّ عليه السَّلام أَنَّهُ قَالَ: (لَىُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ، وَعُقُوبَتَهُ) ، قَالَ سُفْيَانُ: عِرْضُهُ، أَنْ يَقُولُ: مَطَلْنِى، وَعُقُوبَتُهُ: الْحَبْسُ. / 12 - وذكر حديث أَبِى هُرَيْرَةَ، أن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (دَعُوهُ، فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالاً) . إذا مطله وهو غنى فقد ظلمه، والظلم محرم قليله وكثيره. وقال أصبغ وسحنون: إذا مطل بدين لم تجز شهادته؛ لأن(6/522)
الرسول سماه ظالمًا. وعند غيرهما من العلماء لا تسقط شهادته إلا أن يكون ذلك الأغلب من فعله. وفسر الفقهاء قوله عليه السلام: (لى الواجد يحل عرضه وعقوبته) كما فسره سفيان، وهو كقوله عليه السلام: (لصاحب الحق مقال) ، أى له أن يصفه بالمطل، وقالوا: قد جاء فى القرآن مصداق هذا، قال تعالى: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم (وهذه الآية نزلت فيمن منع الضيافة، فأبيح له أن يقول فى المانع أنه لئيم، وأنه لم يقره، وشبه هذا. وأما عقوبته بالحبس فإن ذلك إذا رُجى له مال أو وفاء بما عليه، فإذا ثبت عسرته وجبت نظرته ولم يلزمه حبس؛ لزوال العلة الموجبة لحبسه، وهى الوجدان. واختلفوا فى الرجل إذا ثبتت عسرته وأطلقه القاضى من السجن، هل يلازمه غريمه؟ فقال مالك والشافعى: ليس لغرمائه لزومه ولا يعترض له حتى يثوب له مال آخر. وقال أبو حنيفة: لا يمنع الحاكم غرماءه من لزومه. قال الطحاوى: وقوله عليه السلام: (مطل الغنى ظلم) يدل أن مطل غير الغنى ليس بظلم، فلا مطالبة عليه إذًا، وإذا سقطت المطالبة زالت الملازمة. وقوله: (فنظرة إلى ميسرة (يوجب تأخيره، فصار كالدين المؤجل فيمنع من لزومه.(6/523)
- بَاب إِذَا وَجَدَ مَالَهُ عِنْدَ مُفْلِسٍ فِى الْبَيْعِ وَالْقَرْضِ وَالْوَدِيعَةِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ
وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا أَفْلَسَ وَتَبَيَّنَ لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُ، وَلاَ بَيْعُهُ وَلاَ شِرَاؤُهُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: قَضَى عُثْمَانُ مَنِ اقْتَضَى مِنْ حَقِّهِ قَبْلَ أَنْ يُفْلِسَ، فَهُوَ لَهُ، وَمَنْ عَرَفَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ. / 13 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قال النَّبِىّ، عليه السَّلام: (مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ، أَوْ إِنْسَانٍ قَدْ أَفْلَسَ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ) . اختلف العلماء فى هذا الباب، فروى عن عثمان بن عفان وعلى وابن مسعود وأبى هريرة: أن المشترى إذا أفلس ووجد البائع متاعه بعينه فهو أحق به من سائر الغرماء. وهو قول عروة بن الزبير، وإليه ذهب مالك، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، واحتجوا بهذا الحديث. وروى عن النخعى والحسن البصرى أن البائع أسوة الغرماء، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه، ودفعوا حديث التفليس بالقياس وقالوا: السلعة مال المشترى، وثمنها فى ذمته، ومن باع شيئًا فله إمساكه وحبسه حتى يستوفى الثمن، كما أن المرتهن له حق الحبس وإمساك الرهن ليستوفى حقه من ثمنه. ثم قد ثبت أن المرتهن لو أبطل حق الحبس، وأزال يده عن الرهن وسلمه إلى الراهن، لم يكن له بعد ذلك الرجوع فيه، فكذلك البائع إذا أزال يده عن المبيع وسلمه إلى المشترى فقد تعلق حقه بالذمة المجردة. والسنة مستغنى بها عن قول كل أحد، ولا مدخل للقياس والنظر إلا إذا عدمت السنة، وأما مع وجودها فهى حجة على من خالفها،(6/524)
وأيضًا فإن البائع إذا نقل حقه من العين إلى الذمة وتعذر قبضه من الذمة بالفلس، وجب أن يكون له الرجوع إلى العين مع بقائها. فإن قال الكوفيون: نتأول قوله عليه السلام: (فهو أحق به) على المودع والمقرض دون البائع، قيل: هذا فاسد، لأنه عليه السلام جعل لصاحب المتاع الرجوع إذا وجده بعينه، والمودع أحق بعين ماله سواء كان على صفته أو قد تغير عنها، فلم يجز حمل الخبر عليه، ووجب حمله على البائع، لأنه إنما يرجع بعين ماله إذا وجده على صفته لم يتغير، فإذا تغير فإنه لا يرجع. وذهب مالك إلى أن صاحب المتاع أحق به إذا وجده فى الفلس وهو فى الموت أسوه الغرماء، وبه قال أحمد بن حنبل، وقال الشافعى: هو فى الفلس والموت سواء، واحتج بما رواه ابن أبى ذئب عن أبى المعتمر عمرو بن نافع، عن عمرو بن خلدة الزرقى، عن أبى هريرة، عن النبى - عليه السلام - قال: (من مات أو أفلس فوجد رجل متاعة فهو أحق به) وأبو المعتمر ضعفه ابن معين، وقال أبو داود: لا يعرف. وحجة مالك فى تفرقته بين الفلس والموت أن المفلس ذمته باقية، وللغرماء ذمة يرجعون إليها، وفى الموت تبطل الذمة أصلا، فلا يكون للغرماء شىء يرجعون إليه، ولا يجوز أن ينظر لبعضهم دون بعض، وقد فرقت السنة فى الفلس بين الموت والحياة، روى مالك عن ابن شهاب، عن أبى بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، أن(6/525)
رسول الله قال: (أيما رجل باع متاعًا فأفلس الذى ابتاعه منه، ولم يقبض الذى باعه من ثمنه شيئًا فوجده بعينه فهو أحق به، وإن مات الذى ابتاعه فصاحب المتاع فيه أسوة الغرماء) .
- بَاب مَنْ بَاعَ مَالَ الْمُفْلِسِ أَوِ الْمُعْدِمِ فَقَسَمَهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ أَوْ أَعْطَاهُ حَتَّى يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ
/ 14 - فيه: جَابِر، أَعْتَقَ رَجُلٌ غُلاَمًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ، فَقَالَ النَّبىُّ عليه السَّلام: (مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّى؟) فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ، فَأَخَذَ ثَمَنَهُ فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ. لا يفهم من الحديث معنى قوله فى الترجمة: فقسمه بين الغرماء؛ لأن الذى باع عليه رسول الله مدبره لم يكن له مال غيره، ذكره فى كتاب الأحكام ولم يذكر فى الحديث أنه كان عليه دين، وإنما باعه عليه؛ لأن من سنته عليه السلام أن لا يتصدق المرء بماله كان ويبقى فقيرًا فيتعرض لفتنة الفقر، ولذلك قال عليه السلام: (خير الصدقة ما كان ظهر غنى، وابدأ بمن تعول) وعوله لنفسه أوكد عليه من الصدقة، وأما قسمة مال المفلس بين الغرماء فهو أصل مجمع عليه إذا قام عليه غرماؤه وحال الحاكم بينه وبين ماله ووقفه لهم، ولا يخرج هذا المعنى من حديث جابر أصلا.(6/526)
- بَاب إِذَا أَقْرَضَهُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى أَوْ أَجَّلَهُ فِى الْبَيْعِ
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ فِى الْقَرْضِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى: لاَ بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ أُعْطِىَ أَفْضَلَ مِنْ دَرَاهِمِهِ مَا لَمْ يَشْتَرِطْ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: هُوَ إِلَى أَجَلِهِ فِى الْقَرْضِ. / 15 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِىّ، عليه السَّلام، أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلاً مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ، سَأَلَ بَعْضَ بَنِى إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ ألف دينار، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى. اختلف العلماء فى تأخير الدين فى القرض إلى أجل، هل له أن يأخذه قبل الأجل؟ فقال مالك وأصحابه: من أقرض رجلا دنانير أو دراهم أو شيئًا مما يكال أو يوزن أو غير ذلك حالا، ثم طاع له فأخره به إلى أجل، ثم أراد الانصراف عن ذلك، وأخذه قبل الأجل لم يكن ذلك له؛ لأن هذا مما يتقرب به إلى الله، وهو من باب الحسبة. وقال أبو حنيفة: سواء كان القرض إلى أجل أو غير أجل له أن يأخذه متى أحب، وكذلك العارية، ولا يجوز عندهم تأخير القرض البتة، ويجوز تأخير الغصوب وقيم المتلفات. وقال الشافعى: إذا أخره بدينه حال فله أن يرجع فيه متى شاء، وسواء كان ذلك من قرض أو غيره، وكذلك العارية وغيرها؛ لأن ذلك عندهم من باب العدة والهبة غير المقبوضة وهبة ما لم يخلق، وهذا كله لازم عند مالك فى تأجيل القرض، وفى عارية المنفعة للسكنى وغيرها، ويحمل ذلك على العرف فيما يستعار الشىء(6/527)
لمثله من العمل والسكنى، وكل ذلك عنده من أعمال البر التى أوجبها على نفسه فيلزمه الوفاء بها، وحديث أبى هريرة يشهد لقول مالك؛ لأن القرض فيه إلى أجل مسمى ولا يجوز تعديه والاقتضاء قبله، ولو جاز ذلك لكان ضرب الأجل وتركه سواء، ولم يكن لضرب الأجل معنى وبطل معنى قوله: (ولتعلموا عدد السنين والحساب (وإنما فائدتها معرفة الآجال، وأما إذا أجله فى البيع فلا خلاف بين العلماء فى جواز الآجال فيه؛ لأنه من باب المعارضات، ولا يأخذ قبل محله.
- بَاب مَا يُنْهَى عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ وَقَوْلِ تَعَالَى: (وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ (وَ) لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (
وَقَالَ: (أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِى أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ (وَقَالَ: (وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ (وَالْحَجْرِ فِى ذَلِكَ وَمَا يُنْهَى عَنَهُ مِنَ الْخِدَاعِ. / 16 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ رَجُلٌ للرسول (صلى الله عليه وسلم) : إِنِّى أُخْدَعُ فِى الْبُيُوعِ، فَقَالَ: (إِذَا بَايَعْتَ، فَقُلْ لاَ خِلاَبَةَ) ، فَكَانَ الرَّجُلُ يَقُولُهُ. / 17 - وفيه: الْمُغِيرَة، قَالَ رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الأُمَّهَاتِ، وَوَأْدَ الْبَنَاتِ، وَمَنَعَ وَهَاتِ، وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ) . اختلف العلماء فى إضاعة المال؛ فقال سعيد بن جبير: إضاعة(6/528)
المال أن يرزقك الله رزقا فتنفقه فيما حرم الله عليك. وكذلك. قال مالك، قال المهلب: وقيل: إضاعة المال: السرف فى إنفاقه وإن كان فيما يحل، ألا ترى أن النبى رد تدبير المعدم؛ لأنه أسرف على ماله فيما يحل له ويؤجر فيه، لكنه أضاع نفسه، وأجره فى نفسه أوكد عليه من أجره فى غيره. واختلف العلماء فى وجوب الحجة على البالغ المضيع لماله، فقال جمهور العلماء: يجب الحجر على كل مضيع لماله صغيرًا كان أو كبيرًا. روى هذا عن على وابن عباس وابن الزبير وعائشة، وهو قول مالك والأوزاعى وأبى يوسف ومحمد والشافعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور. وقالت طائفة: لا حجر على الحر البالغ. هذا قول النخعى وابن سيرين، وبه قال أبو حنيفة وزفر، قال أبو حنيفة: فإن حجر عليه القاضى ثم أقر بدين أو تصرف فى ماله جاز ذلك كله. واحتج بحديث الذى كان يخدع فى البيوع فقال له عليه السلام: (إذا بايعت فقل: لا خلابة) . قال: ففى هذا الحديث وقوف النبى - عليه السلام - على أنه كان يخدع فى البيع لم يمنعه من التصرف ولا حجر عليه. وحجة الجماعة قوله تعالى: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التى جعل الله لكم قيامًا (فنهى تعالى عن دفع الأموال إلى السفهاء وقال: (فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم (فجعل شرط دفع أموالهم إليهم وجود الرشد، وهذه الآية محكمة غير منسوخة، ومن كان مبذرًا لماله فهو غير رشيد.(6/529)
وقال ابن المنذر: قوله تعالى فى قصة شعيب: (أصلاتك تأمرك (الآية، وقال تعالى: (أتبنون بكل ريع آية تبعثون (فخبر تعالى أن أنبيائه منعوا قومهم من إضاعة الأموال والعبث، والأنبياء لا تأمر إلا بأمر الله. واحتجوا بقوله عليه السلام: (إن الله كره لكم إضاعة المال) وما كره الله لنا فمحرم علينا فعله. وقوله: (إن الله لا يصلح عمل المفسدين (، و) لا يحسب الفساد (فالمبذر لماله داخل فى النهى ممنوع منه. واحتج الطحاوى على أبى حنيفة فقال: لما قال له عليه السلام: (إذا بايعت فقل: لا خلابة) أى: لا شىء على من خلابتك إياى، جعل بيوعه معتبرة، فإن كان فيها خلابة لم تجز. وليس فى هذا الحديث دفع الحجر، إنما فيه اعتبار عقود المحجور عليه. قال غيره: ويحتمل أن يكون الرجل يغبن بما لا ينفك التجار منه، فجعل له النبى الخيار ثلاثًا ليستدرك الغبن فى مدة الخيار، ولو أوجبت الضرورة الحجر عليه لفعله. قال المهلب: ألا ترى أنه قد شعر لما يمكر به فيه فسأل عنه النبى - عليه السلام - وليس من شكا مثل هذا مضيع لماله، وإنما هو حريص على ضبطه والنظر فيه فحضه عليه السلام أن جعل له إذا بايع أن يقول: لا خلابة، أى: لا تخدعونى فإن خديعتى لا تحل. قال الطحاوى: ولم أجد عن أحد من الصحابة والتابعين أنه قال: لا حجر، كما قال أبو حنيفة إلا عن النخعى وابن سيرين.(6/530)
وقوله: (ووأد البنات) من قوله: (وإذا الموءودة سئلت بأى ذنب قتلت (وقوله: (ومنع وهات) يعنى: أن يمنع الناس خيره ورفده، ويأخذ منهم رفدهم. وقال مالك فى قوله: (قيل وقال) : وهو الإكثار من الكلام والإرجاف، نحو قول الناس: أعطى فلان كذا ومنع كذا، والخوض فيما لا يعنى. وقال أبو عبيد فى قوله: (قيل وقال) : كأنه قال من قول وقيل:، يقال: قلت قولا وقيلا وقالا، وقرأ ابن مسعود: (ذلك عيسى ابن مريم قال الحق) يعنى: قول الحق. وأما (كثرة السؤال) فقال مالك: لا أدرى أهو ما أنهاكم عنه من كثرة المسائل فقد كره رسول الله المسائل وعابها أو هو مسألة الناس أموالهم.
- بَاب الْعَبْدُ رَاعٍ فِى مَالِ سَيِّدِهِ وَلاَ يَعْمَلُ إِلاَ بِإِذْنِهِ
/ 18 - فيه: ابْن عُمَرَ قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ فِى بَيْتِ زَوْجِهَا، وَالْخَادِمُ فِى مَالِ سَيِّدِهِ. . . .) الحديث. قال المهلب: العبد راع فى مال سيده، يلزمه ما يلزم سائر الرعاة من حفظ ما استرعى عليه، ولا يعمل فى معظم الأمور إلا بإذن سيده، وما كان من المعروف المعتاد أن يعفى عنه مثل الصدقة بالكسرة والقطعة فلا يحتاج فيه إلى إذن سيده، وقد جاء فى حديث النبى - عليه السلام - أن الخادم أحد المتصدقين ولم يشترط إذن سيده إلا فى الكثير لقوله: (يعطى ما أمر به كاملا موفرًا إلى(6/531)
الذى أمر له) فهذا يدل على العطاء الجزيل؛ لأن اشتراط الكمال فيه دليل على الكثرة.
- بَاب مَا يُذْكَرُ فِى الإِشْخَاصِ وَالْمُلاَزَمَةِ وَالْخُصُومَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْيَهُودِي
/ 1 - فيه: عَبْدَاللَّهِ، سَمِعْتُ رَجُلاً قَرَأَ آيَةً سَمِعْتُ مِنَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، خِلاَفَهَا، فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِىّ، عليه السَّلام، فَقَالَ: (كِلاَكُمَا مُحْسِنٌ) ، قَالَ شُعْبَةُ: أَظُنُّهُ قَالَ: (لاَ تَخْتَلِفُوا، فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا) . / 2 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلاَنِ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَرَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ الْمُسْلِمُ: وَالَّذِى اصْطَفَى مُحَمَّدًا عَلَى الْعَالَمِينَ، فَقَالَ الْيَهُودِىُّ: وَالَّذِى اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْعَالَمِينَ، فَرَفَعَ الْمُسْلِمُ يَدَهُ عِنْدَ ذَلِكَ فَلَطَمَ وَجْهَ الْيَهُودِىِّ، فَذَهَبَ الْيَهُودِىُّ إِلَى النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ، وَأَمْرِ الْمُسْلِمِ، فَدَعَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) الْمُسْلِمَ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ عليه السَّلام: (لاَ تُخَيِّرُونِى عَلَى مُوسَى، فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَصْعَقُ مَعَهُمْ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ جَانِبَ الْعَرْشِ، فَلاَ أَدْرِى أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِى، أَوْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ، أو قَالَ: حوسب لصعقته) . (1) / 3 م - وفيه: أَنَس، أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فقِيلَ: مَنْ(6/532)
فَعَلَ هَذَا بِكِ، أَفُلاَنٌ أَفُلاَنٌ حَتَّى سُمِّىَ الْيَهُودِىُّ، فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا، فَأُخِذَ الْيَهُودِىُّ فَاعْتَرَفَ، فَأَمَرَ بِهِ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَرُضَّ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ. اختلف العلماء فى إشخاص المدعى عليه، فقال ابن القاسم فى معنى قول مالك: إن كان المدعى عليه غائبًا إلى مثل ما يسافر الناس إليه ويقدمون كتب إلى والى الموضع فى أخذ المدعى عليه بالاستحلاف أو القدوم للخصومة وإن كانت غيبة بعيدة فيسمع من بينة المدعى ويقضى له، وقياس قول الشافعى أنه يجلب بدعوى المدعى. وقال الليث: لا يجلب المدعى عليه حتى يشهد بينته على الحق. قال الطحاوى: وليس عند أصحابنا المتقدمين فيه شىء، والقياس ألا يجلب لا ببينة ولا بغير بينة. قال غيره: إنما يريد أن يكتب إلى حكم الجهة. قال المهلب: وفى حديث أنس الإشخاص إذا قويت شبهة الدعوى والتوفيق والملازمة فى الجواب عن الدعوى، لأن الجارية ادعت بإشارة فأشخص اليهودى ووقف، وألزم الجواب، وشدد عليه فيه، واستدل على كذبه حتى أقر واعترف، قال: وإذا كان الخصم فى موضع يخاف فى فواته منه فلا بأس بإشخاصه وملازمته، وإن كان فى موضع لا يخاف فواته منه فليس له إشخاصه إلا برفع من(6/533)
السلطان، إلا أن يكون فى شىء من أمور الدين، فإن من الإنكار على أهل الباطل أن يشخصوا ويرفعوا كما فعل ابن مسعود بالرجل، وكما فعل عمر بهشام بن حكيم حين تأول عليه أنه يخطئ. قال عنه: وأما الملازمة فأوجبها من لم ير السجن على مدعى العدم حتى يثبت عدمه. وهم الكوفيون، وأما مالك وأصحابه فيرون أنه يسجن حتى يثبت العدم، وفرق الكوفيون بين الذى يكون أصله من معاوضة فيجب سجن من ادعى، لأنه قد حصل بيده العوض ويدعى العدم، وأما إن كانت معاملة بغير معاوضة كالهبة وشبهها فلا يسجن، لأن أصل الناس عندهم على الفقر حتى يثبت الغنى، وإذا وجدت المعاوضة فقد صح عنده ما ينفى الفقر، ولم يفرق مالك بين شىء من ذلك، وهو عنده على الغنى حتى يثبت العدم، فلذلك يلزمه السجن. قال المهلب: وفى حديث أبى هريرة أنه لا قصاص بين المسلم والذمى، لأن النبى لم يقد اليهودى من المسلم فى اللطمة، وقد ترجم فى كتاب الديات باب إذا لطم المسلم يهوديا عند الغضب، وفيه تأدب النبى - عليه السلام - بما خصه الله به من الفضيلة، فإن قال قائل: قوله عليه السلام: (لا تخيرونى من بين الأنبياء) . وقوله: لا ينبغى لأحد أن يقول: (أنا خير من يونس ابن متى) يعارض قوله: (أنا أول من تنشق الأرض عنه) وقوله: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر (. فالجواب: إن للعلماء فى ذلك تأويلين ينفيان عنهما التضاد:(6/534)
فأحدهما ذكره ابن قتيبة فقال: لا اختلاف بين شىء من ذلك بحمد الله، وذلك أنه أراد أنه سيد ولد آدم يوم القيامة، لأنه الشافع يومئذ، وله لواء الحمد والحوض، وأراد بقوله: (لا تخيرونى على موسى) طريق التواضع كما قال أبو بكر الصديق: وليتكم ولست بخيركم. وكذلك قوله: (لا ينبغى لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى) يدل على معنى التواضع، لأن يونس دون غيره من الأنبياء مثل إبراهيم وموسى وعيسى، يريد إذا كنت لا أحب أن أفضل على يونس، فكيف غيره ممن هو فوقه من أولى العزم من الرسل، وقد قال تعالى: (فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت (أراد يونس لم يكن له صبر غيره من الأنبياء. وفى هذه الآية ما يدل على أن رسول الله أفضل منه، لأن الله يقول له ولا تكن مثله، فدل أن قوله: (لا تفضلونى عليه) من طريق التواضع، ويجوز أن يريد لا تفضلونى عليه فى العمل فلعله أفضل عملا منى. ولا فى البلوى والامتحان فإنه أعظم محنة منى. وليس ما أعطى الله نبينا محمدًا من السؤدد والفضل يوم القيامة على جميع الأنبياء والرسل بعمله، بل بتفضيل الله إياه واختصاصه له، وكذلك أمته أسهل الأمم محنة، بعثه الله بالحنيفية السمحة، ووضع عنها الإصر والأغلال التى كانت على بنى إسرائيل فى فرائضهم، وهى مع هذا خير أمة أخرجت للناس بفضل الله وبرحمته، هذا تأويل ابن قتيبة، واختاره المهلب. والتأويل الآخر: قال غيره: ليس شىء من هذه الأحاديث(6/535)
يتعارض، لأنه يجوز أن يكون فى وقتين، فقال عليه السلام: (ولا تفضلونى على موسى) و (لا ينبغى لأحد أن يقول إنى خير من يونس) فى أول أمره، فى وقت أنزل عليه: (وما أدرى ما يفعل بى ولا بكم (ووقت قيل له: يا خير البرية فقال: هذا إبراهيم وقبل أن ينزل الله عليه: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر (فلما غفر الله له ذلك علم أنه سيد ولد آدم، فقال ذلك حينئذ - والله أعلم. قال المهلب: وقوله عليه السلام: (أم جوزى بصعقة الطور) فيه دليل أن المحن فى الدنيا والهموم والآلام يرجى أن يخفف الله بها يوم القيامة كثيرًا من أهوال القيامة، وأما كفارة الذنوب بها فمنصوص عليه من النبى - عليه السلام - بقوله: (حتى الشوكة يشاكها) . وفيه: رد قول سعيد بن جبير الذى ذكره البخارى فى كتاب تفسير القرآن أن الكرسى العلم، لأن العلم ليس له جانب ولا قائمة تقع اليد عليها، لأن اليد لا تقع إلا على ما له جسم، والعلم ليس بجسم، وستأتى زيادة فى هذا المعنى فى كتاب العقول فى باب إذا لطم المسلم يهوديا عند الغضب - إن شاء الله.
- بَاب مَنْ رَدَّ أَمْرَ السَّفِيهِ وَالضَّعِيفِ الْعَقْلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَجَرَ عَلَيْهِ الإِمَامُ
وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، رَدَّ عَلَى الْمُتَصَدِّقِ قَبْلَ النَّهْىِ، ثُمَّ نَهَاهُ، وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ مَالٌ وَلَهُ عَبْدٌ لاَ شَىْءَ لَهُ غَيْرُهُ، فَأَعْتَقَهُ لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُ.(6/536)
3 - بَاب وَمَنْ بَاعَ عَلَى الضَّعِيفِ وَنَحْوِهِ، فَدَفَعَ ثَمَنَهُ إِلَيْهِ وَأَمَرَهُ بِالإِصْلاَحِ وَالْقِيَامِ بِشَأْنِهِ، فَإِنْ أَفْسَدَ بَعْدُ مَنَعَهُ، لأَنَّ النَّبِىَّ عليه السَّلام نَهَى عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ وَقَالَ لِلَّذِى يُخْدَعُ فِى الْبَيْعِ: (إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ لاَ خِلاَبَةَ) ، وَلَمْ يَأْخُذِ النَّبِىُّ عَلَيْهِ السَّلام مَالَهُ
. / 3 - فيه: ابْن عُمَرَ، كَانَ رَجُلٌ يُخْدَعُ فِى الْبَيْعِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا بَايَعْتَ، فَقُلْ: لاَ خِلاَبَةَ) ، فَكَانَ يَقُولُهُ. / 4 - وفيه: جَابِر، أَنَّ رَجُلاً أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ لَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَرَدَّهُ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فَابْتَاعَهُ مِنْهُ نُعَيْمُ بْنُ النَّحَّامِ. اختلف العلماء فى هذا الباب، فقال مالك، وجميع أصحابه غير ابن القاسم: إن فعل السفيه وأمره كله جائز حتى يضرب الإمام على يده وهو قول الشافعى، وقال ابن القاسم: أفعاله غير جائزة وإن لم يضرب عليه الإمام. وقال أصبغ: إن كان ظاهر السفه فأفعاله مردودة، وإن كان غير ظاهر السفه فلا ترد أفعاله حتى يحجر عليه الإمام. واحتج سحنون لقول مالك بأن قال: لو كانت أفعال السفيه مردودة قبل الحجر عليه ما احتاج السلطان أن يحجر على أحد. واحتج غيره بأن النبى - عليه السلام - أجاز بيع الذى كان يخدع فى البيوع، ولم يذكر فى الحديث أنه فسخ ما تقدم من بيوعه، وحجة ابن القاسم حديث جابر أن النبى - عليه السلام - رد عتق الذى أعتق عبده ولم يكن حجر عليه قبل ذلك، ولما تنوع حكم النبى - عليه السلام - فى السفيهين نظر بعض الفقهاء فى ذلك، فاستعمل الحديثين جميعًا فقال: ما كان من السفه اليسير والخداع الذى لا يكاد(6/537)
يسلم منه مع تنبه المخدوع إليه والشكوى له، فإنه لا يوجب الضرب على اليد، ولا رد ما وقع له قبل ذلك من البيع، ولا انتزاع ماله كما لم يرد عليه السلام بيع الذى قال له: لا خلابة، ولا انتزع ماله وما كان من البيع فاحشًا فى السفه فإنه يرد كما رد النبى - عليه السلام - تدبير العبد الذى اشتراه ابن النحام، لأنه لم يكن أبقى لنفسه سيده مالا يعيش به، فرد عتقه، وصرف عليه ماله الذى فوته بالعتق ليقوم به على نفسه، ويؤدى منه دينه، وإنما ذلك على قدر اجتهاد الإمام فى ذلك وما يراه. وقد تقدم الكلام فى حديث ابن عمر فى كتاب البيوع فى باب ما يكره من الخداع فى البيع ومذاهب العلماء فيمن باع بيعًا وغبن فيه - والحمد لله.
4 - بَاب كَلاَمِ الْخُصُومِ بَعْضِهِمْ فِى بَعْضٍ
/ 5 - فيه: عَبْدِاللَّهِ قَالَ عليه السَّلام: (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَقِىَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ، قَالَ: فَقَالَ الأَشْعَثُ بن قيس: فِىَّ وَاللَّهِ كَانَ هذا كَانَ بَيْنِى وَبَيْنَ يَهُودِى أَرْضٌ فَجَحَدَنِى، فَقَدَّمْتُهُ إِلَى النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَقَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَلَكَ بَيِّنَةٌ) ؟ قُلْتُ: لاَ، قَالَ: فَقَالَ لِلْيَهُودِىِّ: (احْلِفْ) ،(6/538)
قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِذًا يَحْلِفَ وَيَذْهَبَ بِمَالِى، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً (الآيَةِ. / 6 - وفيه: كَعْب، أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِى حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِى الْمَسْجِدِ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَهُوَ فِى بَيْتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ، فَنَادَى: (يَا كَعْبُ) ، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (ضَعْ مِنْ دَيْنِكَ هَذَا) ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَىِ الشَّطْرَ، قَالَ: لَقَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (قُمْ فَاقْضِهِ) . / 7 - وفيه: عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَؤُهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَقْرَأَنِيهَا، وَكِدْتُ أَنْ أَعْجَلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَمْهَلْتُهُ حَتَّى انْصَرَفَ، ثُمَّ لَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ، فَجِئْتُ بِهِ النَّبِىّ، عليه السَّلام. . . . وذكر الحديث. لا يجوز من كلام الخصوم بعضهم لبعض إلا ما يجوز من كلام غيرهم مما لا يوجب أدبًا ولا حدا. قال المهلب: معنى الترجمة من حديث ابن مسعود قول الأشعث: (إذا والله يحلف ويذهب بمالى) فمثل هذا الكلام مباح فيمن عرف فسقه، كما عرف فسق اليهودى الذى خاصم الأشعث وقلة مراقبته لله - تعالى - فحينئذ يسمح الحاكم للقائل لخصمه ذلك، وأما إن قال ذلك فى رجل صالح أو من لا يعرف له فسق فيجب أن ينكر عليه، ويؤخذ له الحق، ولا يبيح له النيل من عرضه. وحديث عمر مع هشام بن حكيم فى تولى الخصوم بعضهم بعضًا(6/539)
سديد فى هذا الباب، لأن فيه امتدادًا باليد، فهو أقوى من القول، وإنما جاز له ذلك - والله أعلم - لأنه أنكر عليه فى أمر الدين، وفى حديث كعب جواز ارتفاع الأصوات بين الخصوم لما فى خلائق الناس من ذلك، ولو قصر الناس عن اختلافهم لكان ذلك من المشقة عليهم، بل يسمح لهم فيما جبلهم الله عليه، لأن النبى - عليه السلام - سمعهما ولم ينههما عن رفع أصواتهما، وفيه أن الحاكم إذا سمع قول الخصوم واستعجم عليه أمرهما أشار عليهما بالصلح، وأمرهما به، وإذا رأى مديانًا غير مستضلع بدينه، ولا ملى به، وثبتت عسرته، أنه لا بأس للحكم أن يأمر صاحب الدين بالوضيعة لقطع الخصام، لما فى تماديه من قطع ذات البين وفساد النيات.
5 - بَاب إِخْرَاجِ أَهْلِ الْمَعَاصِى وَالْخُصُومِ مِنَ الْبُيُوتِ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ
وَقَدْ أَخْرَجَ عُمَرُ أُخْتَ أَبِى بَكْرٍ حِينَ نَاحَتْ / 8 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلاَةِ، فَتُقَامَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى مَنَازِلِ قَوْمٍ لاَ يَشْهَدُونَ الصَّلاَةَ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ) . قال المهلب: فيه من الفقه أن من ترك سنة من سنن النبى(6/540)
- عليه السلام - المجتمع عليها فى الإقامة، أنه يعاقب فى نفسه وماله، لأن حرق المنازل عقوبة فى المال على عمل الأبدان، فإذا كانت العقوبة تتعدى إلى المال عن البدن، فهى أحرى أن تقع فى البدن، وفيه أن العقوبات على أمور الدين التى لا حدود فيها موكولة إلى اجتهاد الإمام لقوله: (لقد هممت) فهذا نظر واجتهاد. وقد قال قوم: إن هذا الحديث فى المنافقين، وليس كذلك، لأن النبى - عليه السلام - لم يعن بإخراج المنافقين إلى الصلاة، ولا التفت إلى شىء من أمرهم، وقيل فيه: إنه فى المؤمنين، وقد تقدم القولان فى باب وجوب صلاة الجماعة، وسيأتى فى كتاب الأحكام - إن شاء الله - شىء من الكلام فى معنى هذا الباب تركته لأنه بوب بهذا الحديث بعينه، وذكر هذا الحديث فيه.
6 - بَاب دَعْوَى الْوَصِىِّ لِلْمَيِّتِ
/ 9 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ عَبْدَ بْنَ زَمْعَةَ، وَسَعْدًا، اخْتَصَمَا إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِى ابْنِ أَمَةِ زَمْعَةَ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوْصَانِى أَخِى إِذَا قَدِمْتُ أَنْ أَنْظُرَ ابْنَ أَمَةِ زَمْعَةَ، فَأَقْبِضَهُ فَإِنَّهُ ابْنِى، وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: أَخِى، وَابْنُ أَمَةِ أَبِى، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِى، فَرَأَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ، فَقَالَ: (هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَاحْتَجِبِى مِنْهُ يَا سَوْدَةُ. . . .) الحديث. هذا الحديث ترجم له فى كتاب الوصايا ما يجوز للموصى إليه من الدعوى، وهى هذه الترجمة، وسيأتى الكلام فيها هناك - إن شاء الله - وللعلماء فى هذا الحديث ضروب من التخريج سأذكرها - إن شاء الله - فى باب أم الولد.(6/541)
7 - بَاب التَّوَثُّقِ مِمَّنْ تُخْشَى مَعَرَّتُهُ
وَقَيَّدَ ابْنُ عَبَّاسٍ عِكْرِمَةَ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ وَالْفَرَائِضِ. / 10 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، بَعَثَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، خَيْلاً قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِى حَنِيفَةَ، يُقَالُ لَهُ: ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ سَيِّدُ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِى الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ) ؟ قَالَ: عِنْدِى يَا مُحَمَّدُ خَيْرٌ. . . . وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَقَالَ: (أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ) . قال أهل العلم: يوجبون التوثق بالحبس والضامن وما أشبهه ممن وجب عليه حق لغيره، فأبى أن يخرج منه وادعى مخرجًا لم يحضره فى الوقت، وقد روى وكيع أن عليا كان يحبس فى الدين، وروى معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين قال: كان شريح إذا قضى على رجل بحق أمر بحبسه فى المسجد إلى أن يقوم، فإن أعطى حقه وإلا أمر به إلى السجن. وقال طاوس: إذا لم يقر الرجل بالحكم حبس. وروى معمر عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده (أن رسول الله حبس رجلا فى تهمة) . وحديث ثمامة أصل فى ذلك، لأنه كان قد حل دمه بالكفر، والسنة فى مثله أن يقتل، أو يستعبد، أو يفادى به، أو يمن عليه، فحبسه النبى حتى يرى فيه رأيه وأى الوجوه أصلح للمسلمين فى أمره، وترجم له فى كتاب الصلاة باب الأسير والغريم يربط فى المسجد.(6/542)
8 - بَاب الرَّبْطِ وَالْحَبْسِ فِى الْحَرَمِ
وَاشْتَرَى نَافِعُ بْنُ عَبْدِالْحَارِثِ دَارًا لِلسِّجْنِ بِمَكَّةَ مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ عَلَى أَنَّ عُمَرَ إِنْ رَضِىَ، فَالْبَيْعُ بَيْعُهُ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ عُمَرُ، فَلِصَفْوَانَ أَرْبَعُ مِائَةِ دِينَارٍ، وَسَجَنَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ. / 11 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أن النَّبِىّ، عليه السَّلام، بَعَثَ خَيْلاً قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بثُمَامَة، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِى الْمَسْجِدِ. قال المهلب: اشترى نافع الدار للسجن بمكة من مال المسلمين، لأن عمر كان يومئذ أمير المؤمنين، فاشترى نافع الدار من صفوان وشرط عليه إن رضى عمر الابتياع فهو لعمر وإن لم يرض ذلك بالثمن المذكور فالدار لنافع بأربعمائة، وهذا بيع جائز، فابتياع الدار لتكون سجنًا بمكة، يدل أن الحبس فى الحرم والربط والأسر فيه جائز بخلاف قول من قال من التابعين أن من فر إلى الحرم بحد أو جرم، أنه لا يقاد منه فى الحرم، واحتجوا بقوله تعالى: (ومن دخله كان آمنا (وأئمة الفتوى بالأمصار لا يمنع عندهم الحرم إقامة الحدود والقود فيه على من وجب عليه ذلك فى غير الحرم، وكلهم يقول: إن من قتل فى الحرم قتل فيه.
9 - بَاب فِى الْمُلاَزَمَةِ
/ 12 - فيه: كَعْب، كَانَ لَهُ عَلَى عَبْدِاللَّهِ بْنِ أَبِى حَدْرَدٍ دَيْنٌ، فَلَقِيَهُ فَلَزِمَهُ، فَتَكَلَّمَا حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، فَمَرَّ بِهِمَا النَّبِىُّ،(6/543)
عليه السَّلام، فَقَالَ: (يَا كَعْبُ) ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: النِّصْفَ، فَأَخَذَ نِصْفَ مَا عَلَيْهِ، وَتَرَكَ نِصْفًا. قال: هذا الحديث حجة للكوفيين فى قولهم بالملازمة للغريم، ألا ترى أن النبى - عليه السلام - مر بكعب بن مالك وهو قد لزم غريمه فلم ينكر ذلك عليه، وأشار عليه بالصلح، وسائر الفقهاء لا ينكرون على صاحب الدين أن يطلب دينه كيف أمكنه بإلحاح عليه وملازمة أو غير ذلك، وإنما اختلفوا فى الغريم المعدم هل يلازمه غريمه بعد ثبوت الإعدام وانطلاقه من السجن أم لا؟ وقد تقدم ذلك فى باب قوله عليه السلام: (مطل الغنى ظلم) فأغنى عن إعادته.
- بَاب التَّقَاضِى
/ 13 - فيه: خَبَّاب، كُنْتُ قَيْنًا فِى الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ لِى عَلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ دَرَاهِمُ، فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ، فَقَالَ: لاَ أَقْضِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ، فَقُلْتُ: لاَ وَاللَّهِ لاَ أَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) حَتَّى يُمِيتَكَ اللَّهُ، ثُمَّ يَبْعَثَكَ، قَالَ: فَدَعْنِى حَتَّى أَمُوتَ، ثُمَّ أُبْعَثَ، فَأُوتَى مَالاً وَوَلَدًا، ثُمَّ أَقْضِيَكَ. . . . الحديث. فيه من الفقه أن الرجل الفاضل إذا كان له دين عند الفاسق والكافر أنه لا بأس أن يطلبه ويشخص فيه بنفسه، ولا نقيصة عليه فى ذلك، لأن النبى قد نهى عن إضاعة المال - والحمد لله وحده.(6/544)
بسم الله الرحمن الرحيم
39 - كِتَاب اللُّقَطَةِ
- بَاب إِذَا أَخْبَرَ رَبُّ اللُّقَطَةِ بِالْعَلاَمَةِ دَفَعَت إِلَيْهِ
/ 1 - فيه: سُوَيْدَ بْنَ غَفَلَةَ، لَقِيتُ أُبَىَّ بْنَ كَعْبٍ، فَقَالَ: وجدتُ صُرَّةً مِائَةَ دِينَارٍ، فَأَتَيْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، فَقَالَ: (عَرِّفْهَا حَوْلاً) ، فَعَرَّفْتُهَا حَوْلاً، فَلَمْ أَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهَا، ثُمَّ أَتَيْتُهُ، فَقَالَ: (عَرِّفْهَا حَوْلاً) ، فَعَرَّفْتُهَا، فَلَمْ أَجِدْ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ ثَلاَثًا، فَقَالَ: (احْفَظْ وِعَاءَهَا وَعَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا، وَإِلاَ فَاسْتَمْتِعْ بِهَا) ، [فَاسْتَمْتَعْتُ] فَلَقِيتُهُ بَعْدُ بِمَكَّةَ، فَقَالَ: لاَ أَدْرِى أثَلاَثَةَ أَحْوَالٍ أَم حَوْلاً وَاحِدًا. هذا الحديث لم يقل بظاهره أحد من أئمة الفتوى أن اللقطة تعرف ثلاثة أعوام، لأن سويد بن غفلة قد وقف عليه أبى بن كعب مرة أخرى حين لقيه بمكة، فقال: لا أدرى ثلاثة أحوال أم حولا واحداُ، وهذا الشك يوجب سقوط التعريف ثلاثة أحوال، ولا يحفظ عن أحد قال ذلك إلا رواية جاءت عن عمر بن الخطاب ذكرها عبد الرزاق عن ابن جريج قال: قال مجاهد: وجد سفيان بن عبد الله الثقفى عبية فيها مال عظيم، فجاء بها عمر بن الخطاب، فقال: عرفها سنة، فعرفها سنة ثم جاءه، فقال: عرفها سنة فعرفها ثم جاءه فقال: عرفها سنة، فعرفها ثم جاءه بها، فجعلها عمر فى بيت مال المسلمين. وقد روى عن عمر ابن الخطاب(6/545)
أن اللقطة تعرف سنة مثل قول الجماعة، وممن روى عنه أنها تعرف سنة: على ابن أبى طالب، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، والشعبى، وإليه ذهب مالك، والكوفيون، والشافعى، وأحمد بن حنبل، واحتجوا بحديث زيد بن خالد الجهنى. واختلف العلماء إذا جاء رب اللقطة بالعلامة هل يلزمه إقامة البينة أنها له أم لا؟ فقال مالك والليث وجماعة من أهل الحديث: إذا جاء بعلامتها وجب أن يأخذها، ولم يكلف إقامة البينة. وبه قال أحمد بن حنبل، وقال أبو حنيفة والشافعى: لا يأخذها إلا بعد إقامة البينة. قال ابن القصار: وحجة مالك قوله عليه السلام: (اعرف وعاءها وعددها ووكاءها، فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها) ولم يقل: فإن جاء صاحبها وأقام بينة، وإنما أمر الملتقط بمعرفة الوعاء والوكاء ليضبطها، فإذا جاء طالبها وعرف صفتها سلمت إليه، ولو لم يجب عليه دفعها إلى من يأتى بصفتها لم يكن لمعرفة صفتها معنى، ولو كلف البينة لتعذر عليه، لأنه لا يعلم متى تسقط فيشهد عليها من أجل ذلك. واحتج الآخرون بقوله عليه السلام: (البينة على المدعى) ، وصاحب اللقطة مدع فلا يستحقها إلا بالبينة، فأجابهم أهل المقالة الأولى فقالوا: البينة إنما تجب على المدعى إذا كان المدعى عليه ممن يدعى الشىء المدعى فيه لنفسه. والملتقط لا يدعى اللقطة لنفسه، ألا ترى أن الملتقط لو ادعى عليه اللقطة بغير صفة ولا بينة وأنكر لم يكن عليه يمين، فعلم بهذا أن البينة إنما تجب فى موضع يدعى عليه ذلك الشىء، وهو يدعيه لنفسه. قال ابن حبيب: وأكثر ما يمكن فى اللقطة أن يقبل منه الصفة ويحلف(6/546)
على ذلك، فيكون بمنزلة شاهد ويمين. وهو قول سحنون، وقال سحنون: أصحابنا يقولون باليمين. وهو قول أشهب، وقال: إن نكل عن اليمين لم يأخذها، ومن الناس من يقول: لا يمين عليه. قال ابن القصار: وقول من رأى اليمين أحوط. وقال الأبهرى: العلامة تقوم مقام اليمين، وهو الذى يقتضى الحديث، ويدل عليه. واختلفوا إذا جاء بصفتها ودفعها إليه، ثم جاء آخر فأقام بينة أنها له، فقال ابن القاسم: لا يضمن الملتقط شيئًا؛ لأنه فعل ما وجب عليه، وهو أمين والشىء ليس بمضمون عليه والحكم فيها عنده أن تقسم بين صاحب الصفة وصاحب البينة، كما يحكم فى نفسين إذا ادعيا شيئًا وأقاما بينة. وقال أشهب: إذا أقام الثانى البينة حُكم له بها على الذى أخذها بالعلامة. وقال أبو حنيفة والشافعى: إذا أقام الثانى البينة فعلى الملتقط الضمان. وقول ابن القاسم أولى؛ لأن الضمان لا يلزم فيما سبيله الأمانة، ولا خلاف عن مالك وأصحابه أن الثانى إذا أتى بعلامتها بلا بينة أنه لا شىء له.
- بَاب ضَالَّةِ الإِبِلِ
/ 2 - فيه: زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، جَاءَ أَعْرَابِىٌّ إلى النَّبِىَّ، عليه السَّلام، فَسَأَلَهُ عَمَّا يَلْتَقِطُ، فَقَالَ: (عَرِّفْهَا سَنَةً، ثُمَّ اعْرَفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا،(6/547)
فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُخْبِرُكَ بِهَا، وَإِلاَ فَاسْتَنْفِقْهَا) ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ضَالَّةُ الْغَنَمِ؟ قَالَ: (لَكَ، أَوْ لأَخِيكَ، أَوْ لِلذِّئْبِ) ، قَالَ: ضَالَّةُ الإِبِلِ؟ فَتَمَعَّرَ وَجْهُ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَقَالَ: (مَا لَكَ وَلَهَا، مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا، تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ) . قال أبو عبيد: العفاص: الوعاء الذى تكون فيه النفقة من جلد كان أو غيره، ولهذا يسمى الجلد التى تلبسه القارورة العفاص؛ لأنه كالوعاء لها، والوكاء: الخيط الذى يشد به، وحذاؤها يعنى: أخفافها، يقول: تقوى على السير وتقطع البلاد، وسقاؤها: يعنى أنها تقوى على ورود المياه لتشرب والغنم لا تقوى على ذلك. واختلفوا فى ضالة الإبل هل تؤخذ؟ قال مالك والأوزاعى والشافعى: لا يأخذها ولا يعرفها؛ لنهيه - عليه السلام - عن ضالة الإبل. وقال الليث: إن وجدها فى القرى عرفها، وفى الصحراء لا يقربها. وقال الكوفيون: أخذ ضالة الإبل وتعريفها أفضل؛ لأن تركها سبب لضياعها، قالوا: وأمر عمر بتعريف البعير يدل على جواز ذلك، وإنما النهى عن أخذها لمن يأكلها، وهو معنى قول عمر بن الخطاب: لا يأوى الضالة إلا ضال. وقد باع عثمان ضوال الإبل، وحبس أثمانها على أربابها ورأى أن ذلك أقرب إلى(6/548)
جمعها عليهم لفساد الناس. قيل لهم: ترك عمر لضوال الإبل أشبه لمعنى قوله - عليه السلام -: (معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وترعى الشجر حتى يلقاها ربها) وذلك أقرب إلى جمعها على صاحبها مع جور الأئمة؛ لأن صاحبها لا يستطيع أن يخاصم فيها الإمام الجائر، ولا يجد من يحكم له عليه، ويستطيع أن يخاصم فيها الرعية فيقضى له عليه السلطان، وظاهر الحديث على تركها حيث وجدها والنهى عن أخذها. قال ابن المنذر: وممن رأى أن ضالة البقر كضالة الإبل: طاوس والأوزاعى، والشافعى. وقال مالك والشافعى فى ضالة البقر: إن وجدت بموضع يخاف عليها فهى بمنزلة الشاة، وإن كانت بموضع لا يخاف عليها فهى بمنزلة البعير. قال ابن حبيب: والخيل والبغال والعبيد وكل ما يستقل بنفسه ويذهب هو داخل فى اسم الضالة، وقد شدد رسول الله فى أخذ كل ما يرجى أن يصل إلى صاحبه، فمن أخذ شيئًا من ذلك فى غير الفيافى فهو كاللقطة، ومن أخذ شيئًا مجمعًا على أخذه ثم أرسله فهو له ضامن، إلا أن يأخذه غير مجمع على أخذه مثل: أن يمر رجل فى آخر الركب أو آخر الرفقة فيجد شيئًا ساقطًا، فيأخذه وينادى من أمامه: لكم هذا؟ فيقال له: لا ثم يخليه فى مكانة فلا شىء عليه فيه. فهذا قول مالك. قال غيره: وأما إن وجد عرضًا فأخذه وعرفه فلم يجد صاحبه، فلا يجوز له رده إلى الموضع الذى وجده فيه، فإن فعل وتلف ضمنه لصاحبه. وذكر ابن المنذر عن الشافعى إن أخذ بعيرًا ضالا ثم أرسله فتلف فعليه الضمان.(6/549)
3 - بَاب ضَالَّةِ الْغَنَمِ
/ 3 - وفيه: زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ، سُئِلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: (اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً) - يَقُولُ يَزِيدُ: إِنْ لَمْ تُعْرَفِ اسْتَنْفَقَ بِهَا صَاحِبُهَا، وَكَانَتْ وَدِيعَةً عِنْدَهُ. قَالَ يَحْيَى بن سعيدٍ: فَهَذَا الَّذِى لاَ أَدْرِى أَفِى حَدِيثِ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) هُوَ، أَمْ شَىْءٌ مِنْ عِنْدِهِ - ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ تَرَى فِى ضَالَّةِ الْغَنَمِ؟ قَالَ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (خُذْهَا، فَإِنَّمَا هِىَ لَكَ، أَوْ لأَخِيكَ، أَوْ لِلذِّئْبِ) - قَالَ يَزِيدُ: وَهِىَ تُعَرَّفُ أَيْضًا -. . . . الحديث. اختلف العلماء فى ضالة الغنم، فقال ابن المنذر: روينا عن عائشة أنها منعت من ضالة الغنم ومن ذبحها. وقال الليث: لا أحب أن تعرف ضالة الغنم إلا أن يحرزها لصاحبها. وقال أبو حنيفة والشافعى: إن أكلها فعليه الضمان إذا جاء صاحبها. وهو قول عبد العزيز بن أبى سلمة وسحنون. وقال مالك: ومن وجد شاة فى أرض فلاة وخاف عليها فهو مخير فى تركها أو أكلها، ولا ضمان عليه. والحجة لمالك أن النبى أذن فى أكل الشاة، وأقام الذى وجدها مقام ربها وقال: (لك أو لأخيك أو للذئب) فإذا أكلها بإذن النبى لم يجز أن يغرم فى حال ثان إلا بحجة من كتاب أو سنة أو إجماع. قالوا: وهذا أصل فى كل ما يوجد من الطعام الذى لا يبقى ويسرع إليه الفساد، فلمن وجده أكله إذا لم يمكنه تعريفه ولا يضمنه لأنه فى معنى الشاة، والشاة فى حكم المباح الذى لا قيمة له، ألا(6/550)
ترى أن النبى - عليه السلام - وجد تمرة فقال: (لولا أنى أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها) فإنما نبه أنه يجوز أكلها من ملك الغير لو لم تكن من الصدقة؛ لأنها فى معنى التافه، فكذلك الشاة فى الفلاة لا قيمة لها. واحتج الطحاوى للكوفيين فقال: ليس قوله عليه السلام: (هى لك أو لأخيك أو للذئب) على معنى التمليك، كما أنه إذا قال: أو للذئب لم يرد به التمليك لأن الذئب لا يملك وإنما يأكلها على ملك صاحبها، فينزل على أجر مصيبها، فكذلك الواجد إن أكلها، أكلها على ملك صاحبها فإن جاء ضمنها له. قالوا: وقد روى ابن وهب عن عمرو بن الحارث، وهشام بن سعيد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده (أن رجلا أتى النبى - عليه السلام - فقال: يا رسول الله كيف ترى فى ضالة الغنم؟ قال: طعام مأكول لك أو لأخيك أو للذئب، فاحبس على أخيك ضالته) . فهذا دليل على أن الشاة على ملك صاحبها. وأجمع العلماء أن صاحبها لو جاء قبل أن يأكلها الواجد لها أخذها منه، وكذلك لو ذبحها أخذها منه مذبوحة، وكذلك لو أكل بعضها أخذ ما وجد منها، فدل على أنا على ملك صاحبها فى الفلوات وغيرها، ولا يزول ملكه عنها إلا بإجماع، ولا فرق بين قوله فى الشاة: (هى لك أو لأخيك أو للذئب) وبين قوله فى اللقطة: (فشأنك بها) بل هذا أشبه بالتمليك؛ لأنه لم يشرك معه فى لفظ التمليك ذئبًا ولا غيره.(6/551)
4 - بَاب إِذَا لَمْ يُوجَدْ صَاحِبُ اللُّقَطَةِ بَعْدَ سَنَةٍ فَهِىَ لِمَنْ وَجَدَهَا
/ 4 - فيه: زَيْد، سُأل رجل النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ اللُّقَطَةِ، فَقَالَ: (اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا، وَإِلاَ فَشَأْنَكَ بِهَا. . .) الحديث. وأجمع أئمة الفتوى على أن اللقطة إذا عرفها سنة وانتفع بها وأنفقها بعد السنة ثم جاء صاحبها أنه يرد عليها قيمتها ويضمنها له، وليس قوله: (فشأنك بها) يبيح له أخذها ويسقط عنه ضمانها؛ لما ثبت عنه عليه السلام فى اللقطة: (فإن جاء صاحبها بعد السنة أدها إليه؛ لأنها وديعة عند ملتقطها) وسيأتى تمام القول فى ذلك فى بابه - إن شاء الله - وخرق الإجماع رجل نُسب إلى العلم يعرف بداود بن على، فقال: إذا جاء صاحبها بعد السنة لم يضمنها ملتقطها؛ لأن النبى - عليه السلام - أطلقه على ملكها بقوله: (فشأنك بها) فلا ضمان عليه، ولا سلف له فى ذلك إلا اتباع الهوى والجرأة على مخالفة الجماعة التى لا يجوز عليها تحريف التأويل ولا الخطأ فيه، أعاذنا الله من اتباع والابتداع فى دينه مما لم يأذن فيه عز وجل.
5 - بَاب إِذَا وَجَدَ خَشَبَةً فِى الْبَحْرِ أَوْ سَوْطًا أَوْ نَحْوَهُ
/ 5 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أن النَّبِىّ، عليه السَّلام، ذَكَرَ رَجُلاً مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ. . . . وَسَاقَ الْحَدِيثَ، فَخَرَجَ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ، فَإِذَا هُوَ بِالْخَشَبَةِ فَأَخَذَهَا لأَهْلِهِ حَطَبًا، فَلَمَّا نَشَرَهَا، وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ. . . . الحديث.(6/552)
هذه الخشبة حكمها حكم اللقطة، قال المهلب: وإنما أخذها حطبًا لأهله؛ لأنه قوى عنده انقطاعها عن صاحبها لغلبة العطب على صاحبها وانكسار سفينته، وروى ابن عبد الحكم عن مالك أنه قال: إذا ألقى البحر خشبة فتركها أفضل. وقال ابن شعبان: فيها قول آخر: إن وجدها يأخذها، فمتى جاء ربها غرم له قيمتها. واختلف العلماء فيما يفعل باللقطة اليسيرة، فرخصت طائفة فى أخذها والانتفاع بها وترك تعريفها، وممن روى ذلك عنه: عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وابن عمر، وعائشة، وهو قول عطاء والنخعى وطاوس. قال ابن المنذر: روينا عن عائشة فى اللقطة لا بأس بما دون الدرهم أن يستمع به، وعن جابر بن عبد الله قال: كانوا يرخصون فى السوط والحبل ونحوه إذا وجده الرجل ولم يعرف صاحبه أن ينتفع به، وقال عطاء: لا بأس للمسافر إذ وجد السوط والسقاء والنعلين أن يستمتع به وحديث الخشبة الحجة لهذه المقالة، لأن النبى أخبر أنه أخذها حطبًا لأهله، ولم يأخذها ليعرفها، وأقر النبى - عليه السلام - ذلك، ولم يذكر أنه فعل ما لا ينبغى له. وأوجبت طائفة تعريف قليل اللقطة وكثيرها حولا إلا ما لا قيمة له. قال ابن المنذر: روينا ذلك عن أبى هريرة أنه قال فى لقطة الحبل والزمام ونحوه: عرفه فإن وجدت صاحبه رددته عليه إلا استمتعت به. وهو قول مالك والشافعى وأحمد ابن حنبل.(6/553)
قال مالك: من وجد لقطة دينارًا أو درهمًا أو أقل من ذلك فليعرفه سنة إلا الشىء اليسير مثل: القرص، أو الفلس، أو الجوزة، أو نحو ذلك فإنه يتصدق به من يومه، ولا أرى أن يأكله، ولا يأكل التمرات والكسرة إلا المحتاج، وأما النعلان والسوط وشبه ذلك فإنه يعرفه، فإن لم يجد له صاحبًا تصدق به، فإن جاء صاحبه غرمه. وهو قول الكوفيين إلا فى مدة التعريف فإنهم قالوا: ما كان عشرة دراهم فصاعداُ عرفه حولا، وما كان دون ذلك عرفه بقدر ما يراه. وقال الثورى: تعرف الدراهم أربعة أيام. وقال أحمد: يعرفه سنة. وقال إسحاق: ما دون الدينار يعرفه جمعة أو نحوها. وحجة هذه المقالة قوله عليه السلام فى اللقطة: (اعرف عفاصها ووكاءها) ، ولم يخص قليل اللقطة من كثيرها، فيجب على ظاهر حديث زيد بن خالد أن يستوى حكم قليلها وكثيرها فى ذلك. قال ابن المنذر: ولا أعلم شيئًا استثنى من جملة هذا الخبر إلا التمرة التى منعه من أكلها خشية أن تكون من الصدقة، فما له بقاء مما زاد على التمرة وله قيمة يجب تعريفه. واختلفوا فيما لا يبقى إلى مدة التعريف، فقال مالك: يتصدق به أحب إلى. قيل لابن القاسم: فإن أكله أو تصدق به وأتى صاحبه؟ قال: لا يضمنه فى قياس قول مالك على الشاة يجدها فى فيافى الأرض. وفى قول الكوفيين: ما لا يبقى إذا أتى عليه يومان أو يوم وفسد، قالوا: يعرفه فإن خاف فسادة تصدق به، فإن جاء ربه(6/554)
ضمنه. وهو قول الشافعى، وحجتهم أن ما كان له رب فلا يملكه عليه أحد إلا بتملكه إياه قل أو كثر.
6 - بَاب إِذَا وَجَدَ تَمْرَةً فِى الطَّرِيقِ
/ 6 - فيه: أَنَس، مَرَّ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بِتَمْرَةٍ فِى الطَّرِيقِ، فَقَالَ: (لَوْلاَ أَنِّى أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لأَكَلْتُهَا) . / 7 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (إِنِّى لأَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِى، فَأَجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِى، فَأَرْفَعُهَا لآكُلَهَا، ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً فَأُلْقِيهَا) . أما ما لا بال له ولا يتشاح الناس فيه ولا يطلبونه كالتمرة والجوزة والتينة والعنابة والحبة من الفضة وشبه ذلك، فلا يلزم فى شىء منه تعريف؛ لجواز أكله عليه السلام للتمرة الساقطة لو لم تكن من الصدقة المحرم عليه قليلها وكثيرها. فدل هذا الحديث على إباحة الشىء التافه الملتقط، وأنه معفو عنه وخارج من حكم اللقطة؛ لأن صاحبه لا يطلبه، فلذلك استحل النبى - عليه السلام - أكل التمرة لولا شبهة الصدقة، وقد روى عبد الرزاق أن على بن أبى طالب التقط حبة أو حبتين من رمان من الأرض فأكلها، وعن ابن عمر أنه وجد تمرة فى الطريق فأخذها فأكلها نصفها، ثم لقيه مسكين فأعطاه النصف الآخر.(6/555)
7 - بَاب كَيْفَ تُعَرَّفُ لُقَطَةُ أَهْلِ مَكَّةَ؟
وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِىِّ عليه السلام: (لاَ يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهَا إِلاَ مَنْ عَرَّفَهَا) . وَقَالَ مرة: عَنْ النَّبىِّ: (لاَ تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إِلاَ لِمُنْشِدٍ) . / 8 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) مَكَّةَ قَامَ فِى النَّاسِ فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهَا لاَ تَحِلُّ لأَحَدٍ كَانَ قَبْلِى، وَإِنَّهَا أُحِلَّتْ لِى سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَإِنَّهَا لاَ تَحِلُّ لأَحَدٍ بَعْدِى، وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلاَ يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلاَ تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلاَ لِمُنْشِدٍ. . . .) الحديث. اختلف العلماء فى لقطة مكة، فقالت طائفة: حكم لقطتها كحكم لقطة سائر البلدان. قال ابن المنذر: روينا هذا القول عن عمر وابن عباس وعائشة وسعيد بن المسيب، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل. وقالت طائفة: إن لقطتها لا تحل البتة، وليس لواجدها إلا إنشادها. هذا قول الشافعى وابن مهدى وأبى عبيد، قال ابن مهدى: معنى قوله: (لا تحل لقطتها) ، كأنه يريد البتة، فقيل له: إلا لمنشد؟ فقال: إلا لمنشد، وهو يريد المعنى الأول، كما يقول الرجل: والله لأفعلن كذا وكذا، ثم يقول: إن شاء الله، وهو لا يريد الرجوع عن يمينه، ولكنه لقن شيئًا فلقنه فمعناه: أنه ليس يحل له منها إلا إنشادها، فأما الانتفاع بها فلا يجوز.(6/556)
وفيها قول ثالث: قال جرير بن عبد الله الحميدى قوله: (إلا لمنشد) ، يعنى: إلا من سمع ناشدًا يقول: من أصاب كذا، فحينئذ يجوز للملتقط أن يرفعها إذا رآها، لكى يردها على صاحبها، ومال إسحاق بن راهويه إلى هذا القول، وقاله النضر بن شميل. وفيها قول رابع: يعنى: لا تحل لربها الذى يطلبها. قال أبو عبيد هو جيد فى المعنى ولكن لا يجوز فى العربية أن يقال للطالب: منشدًا إنما المنشد المعرف، والطالب هو الناشد، يدل على ذلك أن الرسول سمع رجلا ينشد ضالة فى المسجد فقال: (أيها الناشد غيرك الواجد) ، قال أبو عبيد: وليس للحديث وجه إلا ما قاله ابن مهدى. قال المؤلف: ولو كان حكم لقطة مكة حكم غيرها؛ ما كان لقوله: (لا تحل لقطتها إلا لمنشد) ، معنى تختص به مكة كما تختص بسائر ما وكد فى هذا الحديث؛ لأن لقطة غيرها كذلك يحل لمنشدها بعد الحول الانتفاع بها، فدل مساق هذا الحديث كله على تخصيص مكة ومخالفة لقطتها لغيرها من البلدان، كما خالفتها فى كل ما ذكر فى الحديث من أنها حرام لا تحل لأحد ساعة من نهار بعد النبى - عليه السلام - وأنه لا ينفر صيدها، ولا يختلى خلاها وغير ذلك مما خصت به من أنه لم يستبح دماءهم ولا أموالهم، ولا جرى فيهم الرق كغيرهم. ومن الحجة أيضًا لذلك أن الملتقط إنما يتملك اللقطة فى غير مكة بعد الحول، حفظًا لها على ربها وحرزًا لها؛ لأنه لا يقدر على إيصالها(6/557)
إليه ويخشى تلفها، فيتملكها وتتعلق قيمتها بذمته، ولقطة مكة يمكن إيصالها إلى ربها، لأنه إن كان من أهل مكة فإن معرفته تقرب، وإن كان غريبًا لا يقيم بها فإنه يعود إليها بنفسه أو يقدر على من يسير إلى مكة من أهل بلده فيتعرف له ذلك؛ لأنها تقصد فى كل عام من أقطار الأرض، فإذا كانت اللقطة فيها معرضة للإنشاد أبدًا أو شك أن يجدها باغيها ويصل إليها ربها، فهذا الفرق بين مكة وسائر البلاد.
8 - بَاب لاَ تُحْتَلَبُ مَاشِيَةُ أَحَدٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ
/ 9 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، قَالَ: (لاَ يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ امْرِئٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرُبَتُهُ فَتُكْسَرَ خِزَانَتُهُ، فَيُنْتَقَلَ طَعَامُهُ، فَإِنَّمَا تَخْزُنُ لَهُمْ ضُرُوعُ مَوَاشِيهِمْ أَطْعِمَاتِهِمْ، فَلاَ يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إِلاَ بِإِذْنِهِ) . قال: أجمع العلماء أنه لا يجوز كسر قفل مسلم ولا ذمى، ولا أخذ شىء من ماله بغير إذنه، وشبه رسول الله اللبن فى الضرع بالطعام المخزون تحت الأقفال، وهذا هو قياس الأشياء على نظائرها وأشباهها، أرانا رسول الله بهذا المثل قياس الأمور إذا تشابهت معانيها، فوجب امتثال ذلك واستعماله خلافًا لقوله من أبطل القياس. وقوله: (أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فتكسر خزانته) فمعناه: أن يكره المسلم لأخيه المسلم ما يكرهه لنفسه، وهذا فى معنى قوله عليه السلام: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب عن نفس منه) . وأكثر العلماء يجيز أكل مال الصديق إذا كان تافهًا لا يتشاح فى(6/558)
مثله، وإن كان ذلك بغير إذنه ما لم يكن تحت قفله، وقال أبو عبد الله ابن أبى صفرة: وهذا الحديث لا يعارض حديث الهجرة حين قال أبو بكر للراعى: (لمن أنت؟ قال: لرجل من قريش، قال: هل أنت حالب لنا؟) لأن حديث الهجرة فى زمن المكارمة، وهذا الحديث فى زمن التشاح لما علم عليه السلام أنه سيكون من تغير الأحوال بعده. قال المهلب: مع أن قوله عليه السلام: (لا يحلبن أحد ماشية أحد بغير إذنه) ، نهى عن التسور والاحتلاب، وحديث الهجرة لم يتسور النبى - عليه لاسلام - ولا أبو بكر، وإنما سأل أبو بكر الراعى وقال له: هل أنت حالب لنا؟ والراعى فى المال له عادة العرب من الحلب فلذلك أجاز النبى - عليه السلام - شرب ما حلب الراعى، وكذلك عادة العرب فى الحلب على الماء ولابن السبيل مباحة له، وكل مسترعى له مثل ذلك فى الذى استرعى، كالمرأة فى بيت زوجها تعطى اللقمة من ماله والتمرات وكف الطعام فقال عليه السلام: (إنها أحد المتصدقين) . وقال أشهب: خرجنا مرابطين إلى الإسكندرية فمررنا بجنان الليث بن سعد، فأكلنا من التمر، فلما رجعت دعتنى نفسى أن أستحل ذلك من الليث بن سعد، فدخلت إليه، فأخبرته بذلك، فقال لى: يا ابن أخى، لقد نسكت نسكًا أعجميًا، أما سمعت الله يقول: (أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعًا أو أشتاتا (فلا بأس(6/559)
أن يأكل الرجل من مال أخيه الشىء التافه ليسره بذلك. وروى ابن وهب عن مالك فى الرجل يدخل الحائط فيجد الثمر ساقطًا، قال: لا تأكل منه إلا أن تعلم أن صاحب الحائط طيب النفس به، أو يكون محتاجًا إلى ذلك فأرجو ألا يكون به بأس.
9 - بَاب إِذَا جَاءَ صَاحِبُ اللُّقَطَةِ بَعْدَ سَنَةٍ رَدَّهَا عَلَيْهِ لأَنَّهَا وَدِيعَةٌ عِنْدَهُ
/ 10 - فيه: زَيْد، أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ اللُّقَطَةِ، فَقَالَ: (عَرِّفْهَا سَنَةً، ثُمَّ اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ اسْتَنْفِقْ بِهَا، فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ. . . . .) ، الحديث. أجمع أئمة الفتوى على أن صاحب اللقطة إذا جاء بعد الحول أن الذى وجدها يلزمه ردها إليه؛ لقوله عليه السلام: (فإن جاء صاحبها فأدها إليه) وقد ذكرنا قبل هذا أن بعض من نسب إلى العلم وحظه من أن يوسم بمخالفة الأئمة خالف إجماعهم فى اتباع هذا الحديث، وخالف قوله عليه السلام: (فأدها إليه) وقال: لا يؤدى إليه شيئًا بعد الحول استدلالا منه بقوله عليه السلام: (فشأنك بها) ، قال: لأن هذا إطلاق منه عليه السلام على ملكها فلا يلزمه تأديتها. وهذا قول يؤدى إلى تناقض السنن، وقد جل الرسول عن أن يتناقض. وقوله عليه السلام: (فأدها إليه) فيه بيان وتفسير لقوله(6/560)
عليه السلام: (فشأنك بها) ولو كان المراد بقوله: (فشأنك بها (إطلاق يده عليها، وسقوط ضمانها عنه؛ لبطلت فائدة قوله: (فأدها إليه (واستعمال الحديثين لفائدتين أولى من إسقاط أحدهما، هذه طريقة العلماء فى التأليف بين الآثار، والقضاء بالمجمل على المفسر. واختلفوا هل للواجد بعد الحول أن يأكلها أو يتصدق بها فروى عن على وابن عباس أنه يتصدق بها ولا يأكلها، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن والشعبى، وإليه ذهب الثورى، وقال أبو حنيفة: لا يأكلها الغنى، إلا أن يكون فقيرًا فيأكلها، ثم إن جاء صاحبها ضمنها، وروى ابن القاسم عن مالك انه استحب له أن يتصدق بها وروى عنه ابن وهب أنه إن شاء أمسكها، وإن شاء استنفقها، وإن شاء تصدق بها، فإن جاء صاحبها أداها إليه. وروى مثل هذا عن عمر وابن مسعود وابن عمر وعائشة، وهو قول عطاء، وبه قال الشافعى وأحمد وإسحاق. وقوله عليه السلام - بعد الحول -: (ثم استنفق بها) حجة لمن قال: يصنع ما شاء من صدقة بها، أو أكل، أو غيره لعموم قوله عليه السلام: (استنفق بها) ولم يخص وجهًا يستنفقها فيه من غيره، وأيضًا فإنه عليه السلام لما قال: (استنفق بها) ولم يفرق بين الغنى والفقير دل على قول أبى حنيفة. وإنما لم يذكر البخارى فى هذا الباب رواية سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد أنه قال: وكانت وديعة عنده. وذكرها فى باب ضالة الغنم؛ لأنه قد بين سليمان فى الحديث أن يحيى بن سعيد قال: عن يزيد قال: لا أدرى أفى حديث النبى(6/561)
- عليه السلام - هو أم من عنده. فاستراب البخارى بهذا الشك، وترجم بالمعنى ولم يذكره فى الحديث؛ لأنه استغنى بقوله: (فأدها إليه) عن قوله: (وكانت وديعة عنده) .
- بَاب هَلْ يَأْخُذُ اللُّقَطَةَ وَلاَ يَدَعُهَا حَتَّى تَضِيعُ وَيَأْخُذَهَا مَنْ لاَ يَسْتَحِقُّ
/ 11 - فيه: سُوَيْدَ بْنَ غَفَلَةَ، كُنْتُ مَعَ سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَزَيْدِ بْنِ صُوحَانَ فِى غَزَاةٍ، فَوَجَدْتُ سَوْطًا، فَقَالاَ لِى: أَلْقِهِ، فَقُلْتُ: لاَ، وَلَكِنْ إِنْ وَجَدْتُ صَاحِبَهُ، وَإِلاَ اسْتَمْتَعْتُ بِهِ، فَلَمَّا رَجَعْنَا حَجَجْنَا، فَمَرَرْتُ بِالْمَدِينَةِ، فَسَأَلْتُ أُبَىَّ بْنَ كَعْبٍ، فَقَالَ: وَجَدْتُ صُرَّةً عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِيهَا مِائَةُ دِينَارٍ، فَأَتَيْتُ بِهَا النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (عَرِّفْهَا حَوْلاً) ، فَعَرَّفْتُهَا حَوْلاً، ثُمَّ أَتَيْتُ، فَقَالَ: (عَرِّفْهَا حَوْلاً) ، فَعَرَّفْتُهَا حَوْلاً، ثُمَّ أَتَيْتُهُ الرَّابِعَةَ، فَقَالَ: (اعْرِفْ عِدَّتَهَا وَوِكَاءَهَا وَوِعَاءَهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا، وَإِلاَ اسْتَمْتِعْ بِهَا) . اختلف العلماء فى اللقطة هل أخذها أفضل أم تركها؟ فكرهت طائفة أخذها، ورأوا تركها أفضل، روى ذلك عن ابن عمر وابن عباس، وهو قول عطاء، وروى ابن القاسم عن مالك أنه كره أخذ اللقطة والآبق، فإن أخذ ذلك وضاعت اللقطة وأبق الآبق من غير تضييعه لم يضمن، وكره أحمد بن حنبل أخذ اللقطة أيضًا. وقالت طائفة: أخذها وتعريفها أفضل من تركها. هذا قول سعيد بن المسيب، وقال أبو حنيفة وأصحابه: تركها سبب لضياعها. وبه(6/562)
قال الشافعى، وروى عن مالك: إن كان شىء له بال فأخذه وتعريفه أحب إلى. وحجة القول الأول حديث جرير أن النبى - عليه السلام - قال: (لا يأوى الضالة إلا ضال) وحديث الجارود أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (ضالة المؤمن حرق النار) . وحجة من رأى أن تعريفها أفضل قول النبى، عليه السلام، للذى سأله عن اللقطة: (أعرف عفاصها ووكاءها) ، فأمره بتعريفها ولم يقل له: لم أخذتها؟ وذلك دليل على أن الفضل فى أخذها وتعريفها لأن تركها عون على ضياعها ومن الحق النصيحة للمسلم، وأن يحوطه فى ماله بما أمكنه، وتأويل قوله عليه السلام: (لا يأوى الضالة إلا ضال) و (ضالة المؤمن حرق النار) أن المراد بذلك من لم يعرفها وأراد الانتفاع بها حتى لا تتضاد الأخبار. قال الطحاوى: ويدل على ذلك ما روى يحيى بن أيوب قال: حدثنى عمرو بن الحارث، أن بكر بن سوادة، حدثه عن أبى سالم الجيشانى، عن زيد بن خالد الجهنى قال: قال رسول الله: (من أوى الضالة فهو ضال ما لم يعرفها) . وروى شعبة عن خالد الحذاء، عن يزيد بن عبد الله بن الشخير، عن أبى مسلم، عن الجارود قال: (أتينا على رسول الله ونحن على إبل عجاف فقلنا: يا رسول الله، إنا نمر بالجدف فنجد إبلا فنركبها؟ فقال: ضالة المسلم حرق النار) فكان سؤالهم عن أخذها إنما هو لأن يركبوها، فأجابهم عليه السلام بأن قال: (ضالة المسلم حرق النار) ، أى: ضالة المسلم حكمها أن تحفظ على صاحبها حتى تؤدى إليه، لا لأن ينتفع بها لركوب ولا غيره.(6/563)
- بَاب مَنْ عَرَّفَ اللُّقَطَةَ وَلَمْ يَدْفَعْهَا إِلَى السُّلْطَانِ
/ 12 - فيه: زَيْد، أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ اللُّقَطَةِ، قَالَ: (عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُخْبِرُكَ بِعِفَاصِهَا وَوِكَائِهَا، وَإِلاَ فَاسْتَنْفِقْ بِهَا. . .) ، الحديث. ولا يجب عند جماعة العلماء على ملتقط اللقطة إن لم تكن ضالة من الحيوان أن يدفعها إلى السلطان، وإنما معنى هذه الترجمة أن السنة وردت بأن واجد اللقطة هو الذى يعرفها دون غيره؛ لقوله عليه السلام: (عرفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها) لأنهم اختلفوا فى الملتقط إن كان غير مأمون على اللقطة على قولين: أحدهما: أنه يعرفها سنة، وليس للسلطان أخذها منه. والثانى: أن للسلطان أخذها منه ويدفعها إلى ثقة يعرفها. واختلف قول الشافعى على هذين القولين، وأما حكم الضوال فإنها تحتاج إلى حرز ومؤنة، وهذا لا يكون إلا بحكم حاكم، ولهذا كانت تدفع ضوال الإبل على عمر وعثمان وسائر الخلفاء بعدهما. واختلفوا إذا التقط لقطة فضاعت عنده، فقال أبو حنيفة وزفر: إن أشهد أنه أخذها ليعرفها لم يضمنها إن هلكت، وإن لم يشهد ضمنها. واحتج بحديث عياض بن حمار أن النبى - عليه السلام - قال: (من التقط لقطة فليشهد ذوى عدل، ولا يكتم، ولا يغيب، فإن جاء صاحبها، وإلا فهو مال من مال الله يؤته من يشاء) ، رواه خالد الحذاء عن يزيد ابن الشخير، عن مطرف بن الشخير، عن، عياض، عن النبى - عليه السلام.(6/564)
وقال مالك وأبو يوسف ومحمد والشافعى: لا ضمان عليه إن هلكت من غير تضييع منه وإن لم يشهد. وحجتهم إجماع العلماء أن المغصوبات لو أشهد الغاصب على نفسه أنه غصبها لم يدخلها إشهاده ذلك فى حكم الأمانات، فكذلك ترك الإشهاد على الأمانات لا يدخلها فى حكم المغصوبات ولا خلاف أن الملتقط أمين لا يضمن إلا بما تضمن به الأمانات من التعدى والتضييع. وأما حديث عياض بن حمار فمعناه: أن الملتقط إذا لم يعرف اللقطة ولم يشهدها وكتمها، ثم قامت عليه بينة أنه وجد لقطة وضمها إلى ماله ثم ادعى تلفها، أنه لا يصدق ويضمنها؛ لأنه بفعله ذلك خارج عن الأمانة، إلا أن تقوم البينة على تلفها، وأما إذا عرفها فى المحافل ولم يشهد فلا ضمان عليه. وقوله: (وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء) ، فإنه يريد انطلاق يد الملتقط عليها بعد الحول ثم يضمنها لصاحبها إن جاء بإجماع.
- باب
/ 13 - فيه: أَبُو بَكْر، انْطَلَقْتُ، فَإِذَا أَنَا بِرَاعِى غَنَمٍ يَسُوقُ غَنَمَهُ، فَقُلْتُ: لِمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَسَمَّاهُ فَعَرَفْتُهُ، فَقُلْتُ: هَلْ فِى غَنَمِكَ مِنْ لَبَنٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقُلْتُ: هَلْ أَنْتَ حَالِبٌ لِى؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرْتُهُ فَاعْتَقَلَ شَاةً مِنْ غَنَمِهِ، ثُمَّ أَمَرْتُهُ أَنْ يَنْفُضَ ضَرْعَهَا مِنَ الْغُبَارِ، ثُمَّ أَمَرْتُهُ أَنْ يَنْفُضَ كَفَّيْهِ، فَقَالَ: هَكَذَا ضَرَبَ إِحْدَى(6/565)
كَفَّيْهِ بِالأُخْرَى، فَحَلَبَ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ، وَقَدْ جَعَلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِدَاوَةً عَلَى فَمِهَا خِرْقَةٌ، فَصَبَبْتُ عَلَى اللَّبَنِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ، فَانْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقُلْتُ: اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ. قال المؤلف: سألت بعض شيوخى عن وجه استجازة أبى بكر الصديق لشرب اللبن من ذلك الراعى، فقال لى: يحتمل أن يكون النبى - عليه السلام - قد كان أذن له فى الحرب، وكانت أموال المشركين له حلالا فعرضته على المهلب بن أبى صفرة فقال لى: ليس هذا بشىء، لأن الحرب والجهاد إنما فرض بالمدينة، وكذلك المغانم إنما نزل تحليلها يوم بدر بنص القرآن. قال: وإنما شرب رسول الله وأبو بكر ذلك اللبن بالمعنى المتعارف عندهم فى ذلك الزمن من المكارمات، وبما استفهم به أبو بكر الراعى من أنه حالب أو غير حالب، ولو كان بمعنى الغنيمة ما استفهمه، ولحلب ما أراد الراعى أو كره، ولساق الغنم غنيمة، ولقتل الراعى إن شاء أو أخذه أسيرًا. والدليل على صحة هذا التأويل وأن شرب اللبن كان على وجه العادة عندهم ما ذكره أبو على البغدادى، قال: حدثنا أبو بكر بن دريد قال أبو عثمان السامدانى: عن الثورى، عن أبى عبيدة قال: مر رجل من أهل الشام بامرأة من كلب فقال لها: هل من لبن يباع؟ فقالت: إنك للئيم أو حديث عهد بقوم لئام، هل يبيع الرسل كريم أو يمنعه إلا لئيم؟ إنا لندع الكوم لأضيافنا تكوس إذا عكف الزمن الضروس ونغلى اللحم غريضًا ونهبته نضيجًا.(6/566)
قال أبوعلى: الرسل: اللبن، وتكوس: تمشى على ثلاث، وتغلى: من الغلا. قال المهلب: وقد قال أخى أبو عبد الله: إن هذا الحديث لا يعارض قوله - عليه السلام -: (لا يحلبن أحد ماشية أحد بغير إذنه) ، لأن هذا قاله عليه السلام لما علم أنه سيكون من التشاح وقله المواساة. قال المهلب: والحديث معناه: لا يهجمن أحدكم على ماشية غيره فيحلبها بغير إذنه أو غير إذن راعيها الذى له حكم العادات فيما استرعى فيه من المعروف، فكان بين الحديثين فرق يمنع من التعارض، فى حديث أبى بكر من الأدب والتنظف ما صنعه أبو بكر من أمره بنفض يدى الراعى، ونفض الضرع، وخدمته للنبى - عليه السلام - وإلطافه به ما يجب أن يتمثل به فى كل عالم وإمام عادل - والله الموفق - وقد ذكرت تفسير الكثبة فى هذا الحديث وفى كتاب الأشربة فى باب شرب اللبن.(6/567)
بسم الله الرحمن الرحيم
40 - كِتَاب الْمَظَالِمِ وَالْغَصْبِ وَقَوْل اللَّهِ: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ (إلى) عزيز ذو انتقام)
- بَاب قِصَاصِ الْمَظَالِمِ
/ 1 - فيه: أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ حُبِسُوا بِقَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيَتَقَاصُّونَ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِى الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا نُقُّوا وَهُذِّبُوا أُذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ، فَوَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لأَحَدُهُمْ بِمَسْكَنِهِ فِى الْجَنَّةِ أَدَلُّ بِمَسْكنه كَانَ فِى الدُّنْيَا) . وهذه المقاصة التى فى هذا الحديث هى لقوم دون قوم وهم من لا تستغرق مظالمهم جميع حسناتهم؛ لأنه لو استغرقت جميعها لكانوا ممن وجب لهم العذاب، ولما جاز أن يقال فيهم: خلصوا من النار، فمعنى الحديث - والله أعلم - على الخصوص لمن يكون عليه تبعات يسيرة. فالمقاصة أصلها فى كلام العرب مقاصصة، وهى مفاعلة، ولا تكون المفاعلة أبدًا إلا من اثنين، كالمقاتلة والمشاتمة، فكأن كل واحد منهم له(6/568)
على أخيه مظلمة وعليه له مظلمة، ولم يكن فى شىء منها ما يستحق عليه النار فيتقاصون بالحسنات والسيئات، فمن كانت مظلمته أكثر من مظلمة أخيه أخذ من حسناته فيدخلون الجنة، ويقتطعون فيها المنازل على قدر ما بقى لكل واحد منهم من الحسنات، فلهذا يتقاصون بالحسنات بعد خلاصهم من النار - والله أعلم - لأن أحدًا لا يدخل الجنة ولأحد عليه تبعة، فإن قلت: إذا نقوا وهذبوا دخلوا الجنة. وقوله: (فوالذى نفس محمد بيده لأحدهم بمسكنه فى الجنة أدل بمنزله كان فى الدنيا) وإنما عرفوا منازلهم فى الجنة بتكرير عرضها عليهم بالغداة والعشى، فقد أخبرنا عليه السلام أن المؤمن إذا كان من أهل الجنة عرض عليه مقعده منها بالغداه والعشى، فيقال له: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة. وقال المهلب: هذه المقاصة إنما تكون فى المظالم فى الأبدان من اللطمة وشبهها مما المظالم فيه ممكن لأداء القصاص فيه بحضور بدنه، فيقال للمظلوم: إن شئت أن تنتصف، وإن شئت أن تعفو للأجر. وقال غيره: الآثار تدل على أنه لا قصاص فى الآخرة فى العرض والمال وغيره إلا بالحسنات والسيئات، فمن ظلم غيره وكانت له حسنات أخذ منها وزيدت فى حسنات المظلوم، وإن لم يكن للظالم حسنات أخذ من سيئات المظلوم وردت على الظالم.(6/569)
- بَاب قوله تَعَالَى: (أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (
/ 2 - فيه: ابْن عُمَرَ، سَمِعْتَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، فِى النَّجْوَى؟ يَقُولُ: (إِنَّ اللَّهَ يُدْنِى الْمُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، أَىْ رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِى نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ، قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِى الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِق، فَيَقُولُ الأَشْهَادُ: (هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ () . قال المهلب: فى هذا الحديث عظيم تفضل الله على عباده المؤمنين وستره لذنوبهم يوم القيامة، وأنه يغفر ذنوب من شاء منهم بخلاف قول من أنفذ الوعيد على أهل الإيمان؛ لأنه لم يستثن فى هذا الحديث عليه السلام ممن يضع عليه كنفه وستره أحدًا إلا الكفار والمنافقين، فإنهم الذين ينادى عليهم على رءوس الأشهاد باللعنة لهم. وسيأتى فى كتاب الأدب فى باب ستر المؤمن على نفسه حديث النجوى، وانقضاء الكلام فى معناه - إن شاء الله - وهذا الحديث حجة لأهل السنة فى قولهم: إن أهل الذنوب من المؤمنين لا يكفرون بالمعاصى كما زعمت الخوارج. وقوله تعالى: (ألا لعنة الله على الظالمين (أن المراد بالظلم هاهنا الكفر والنفاق كما ذكر فى الحديث، وليس كل ظالم يدخل فى معنى الآية ويستحق اللعنة؛ لأنه لا تكون عقوبة الكفر عند الله كعقوبة صغائر الذنوب، واللعن فى كلام العرب: الإبعاد من(6/570)
الله - تعالى - فدلت الآية أن الكلام ليس على العموم، وأنه يفتقر إلى ما يبين معناه، وهذا الحديث يبين أن قول الله: (ثم لتسألن يومئذ عن النعيم (أن السؤال عن النعيم الحلال إنما هو سؤال تقرير وتوقيف له على نعمه التى أنعم بها عليه، ألا ترى أنه تعالى يوقفه على ذنوبه التى عصاه فيها، ثم يغفرها له، فإذا كان ذلك فسؤاله عباده عن النعيم الحلال أولى أن يكون سؤال تقرير لا سؤال حساب وانتقام.
3 - بَاب لاَ يَظْلِمُ الْمُسْلِمُ الْمُسْلِمَ وَلاَ يُسْلِمُهُ
/ 3 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لاَ يَظْلِمُهُ، وَلاَ يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِى حَاجَةِ أَخِيهِ، كَانَ اللَّهُ فِى حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . قوله عليه السلام: (المسلم أخو المسلم) من قوله تعالى: (إنما المؤمنون إخوة (وقوله: (لا يظلمه ولا يسلمه) فإن الله حرم قليل الظلم وكثيره. وقوله: (لا يسلمه) مثل قوله عليه السلام: (انصر أخالك ظالمًا أو مظلومًا) وباقى الحديث حض على التعاون، وحسن التعاشر، والألفة، والستر على المؤمن، وترك التسمع به، والإشهار لذنوبه، وقد قال تعالى: (وتعانوا على البر والتقوى (وهذا حديث شريف يحتوى على كثير من(6/571)
آداب الإسلام، وفيه أن المجازاة قد تكون فى الآخرة من جنس الطاعة فى الدنيا. وقال ابن المنذر: ويستحب لمن اطلع من أخيه المسلم على عورة أو زلة توجب حدا، أو تعزيرًا، أو يلحقه فى ذلك عيب أو عار أن يستره عليه؛ رجاء ثواب الله، ويجب لمن بلى بذلك أن يستتر بستر الله، فإن لم يفعل ذلك الذى أصاب الحد، وأبدى ذلك للإمام وأقر بالحد لم يكن آثمًا؛ لأنا لم نجد فى شىء من الأخبار الثابتة عن النبى - عليه السلام - أنه نهى عن ذلك، بل الأخبار الثابتة دالة على أن من أصاب حدا وأقيم عليه فهو كفارته.
4 - بَاب أَعِنْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا
/ 4 - فيه: أَنَسَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا) ، قَيل: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا نصرُته مَظْلُومًا، فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ: (تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَهِ) . والنصرة عند العرب: الإعانة والتأييد، وقد فسره رسول الله أن نصر الظالم منعه من الظلم؛ لأنه إذا تركته على ظلمه ولم تكفه عنه أداه ذلك إلى أن يقتص منه؛ فمنعك له مما يوجب عليه القصاص نصره، وهذا يدل من باب الحكم للشىء وتسميته بما يئول إليه، وهو من عجيب الفصاحة، ووجيز البلاغة، وفى الباب بعد هذا شىء من معنى هذا الباب.(6/572)
5 - بَاب نَصْرِ الْمَظْلُومِ
/ 5 - فيه: الْبَرَاء، أَمَرَنَا النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بِسَبْعٍ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ، فَذَكَرَ عِيَادَةَ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعَ الْجَنَائِزِ، وَتَشْمِيتَ الْعَاطِسِ، وَرَدَّ السَّلاَمِ، وَنَصْرَ الْمَظْلُومِ، وَإِجَابَةَ الدَّاعِى، وَإِبْرَارَ الْمُقْسِمِ. / 6 - وفيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام: (الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ) . نصر المظلوم فرض واجب على المؤمنين على الكفاية، فمن قام به سقط عن الباقين، ويتعين فرض ذلك على السلطان، ثم على كل من له قدرة على نصرته إذا لم يكن هناك من ينصره غيره من سلطان وشبهه. وأما عيادة المريض فهى سنة مرغب فيها، مندوب إليها، واتباع الجنائز من فروض الكفايات لمن قام بها، وتشميت العاطس قيل: إنه من فروض الكفايات، وقيل: إنه سنة، وإجابة الداعى سنة أيضًا، إلا أنه فى الوليمة آكد، وسيأتى ذلك فى بابه - إن شاء الله - وإبرار المقسم مندوب إليه إذا أقسم عليه فى مباح يستطيع فعله، فإن أقسم على ما لا يجوز ويشق على صاحبه لم يندب إلى الوفاء به. وسأذكر كلام الطبرى فى حديث البراء فى كتاب الاستئذان، فى باب إفشاء السلام، فقد تقصى القول فى معانية إن(6/573)