يريد أن من يلزمه إخراج الزكاة عن نفسه، وعن عبده لا يكون إلا مسلمًا، وأما العبد فإنه لم يدخل فى هذا الحديث، لأنه لا يملك شيئًا ولا يفرض عليه شىء، وإنما أريد بالحديث مالك العبد، ألا ترى إجماعهم فى العبد يعتق قبل أن يؤدى عنه مولاه صدقة الفطر أنه لا يلزمه إذا ملك بعد ذلك مالا إخراجها عن نفسه، كما يلزمه إخراج كفارة ما حنث فيه من الأيمان وهو عبد، فإنه لا يكفرها بصيام، ولو لزمته صدقة الفطر لأداها عن نفسه بعد عتقه، وقال ابن المنذر: القول الأول أصح، لأنها طهرة للمسلمين وتزكية، والكافر لا يتزكى، فلا وجه لأدائها عنه، وحجة هذا القول ما رواه أبو داود بإسناده، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: فرض رسول الله زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين. فدل هذا الحديث أن زكاة الفطر لا تكون إلا عن مسلم، والله أعلم.
69 - باب صَدَقَةِ الْفِطْرِ صَاعٌ مِنْ طَعَامٍ
/ - فيه: أَبُو سَعِيد الْخُدْرِىَّ، كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ. لم يختلف العلماء أن الطعام المذكور فى هذا الحديث هو البُّر، واختلفوا فى مكيلته فى صدقة الفطر، فروى عن الحسن البصرى، وأبى العالية، وجابر بن زيد، أنه لا يجزئ من البر إلا صاع، وهو قول مالك، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وروى عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم قالوا: يجزئ من البر نصف صاع،(3/564)
ولا يجزئ مما ذكر فى الحديث إلا صاع، وهو قول أبى حنيفة، والثورى. قال ابن المنذر: وروى عن أبى بكر وعثمان، ولا يثبت عنهما، وروى عن على بن أبى طالب، وابن عباس، وابن مسعود، وجابر، وأبى هريرة، وابن الزبير، ومعاوية، وأسماء واختلف عن على، وابن عباس، فروى عنهما القولان جميعًا واحتج الكوفيون بقول ابن عمر: فعدل الناس بالتمر والشعير نصف صاع من بر، والناس فى ذلك الزمان كبار الصحابة. وحجة من أوجب صاعًا من بر حديث أبى سعيد، وأنه ذكر فيه صاعًا من طعام وصاعًا من سائر الحبوب، ولم يفصل بين واحد منهما فى المكيلة، فوجب أن لا يتعدى هذا المقدار. قال أشهب: سمعت مالكًا سئل عمن يقول: مدين من بُرّ، فقال: القول ما قال رسول الله: (صاع) ، فذكر له الأحاديث التى تروى عن رسول الله فى المدين من الحنطة فأنكرها. قال ابن القصار: وأيضًا فإن اعتبار القيمة لا وجه له، وذلك أن قيمة التمر والشعير تختلف، ثم لم ينظر إلى ذلك واعتبرت المكيلة ومقدارها، فكذلك البر، وعندنا أن البر والشعير جنس واحد فى تحريم التفاضل بينهما، وجمعهما فى الزكاة لتقاربهما فى المنفعة، ولكونهما قوتًا يستغنى به الفقير عن قوت يومه، فلا ينبغى أن يفترق حكمهما. قال ابن القاسم: ويخرج أهل كل بلد من جل عيشهم، فالتمر عيش أهل المدينة، ولا يخرج أهل مصر إلا البر، إلا أن يغلو سعرهم،(3/565)
ويصير جل عيشهم الشعير فيجزئهم، وذكر عبد الرزاق، عن ابن عباس، قال: من أدى زبيبًا قبل منه، ومن أدى تمرًا قبل منه، ومن أدى شعيرًا قبل منه، ومن أدى سلتا قبل منه صاع صاع.
70 - باب الصَّدَقَةِ قَبْلَ الْعِيدِ
/ 92 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) أَمَرَ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاةِ. وفيه: أَبُو سَعِيد، كُنَّا نُخْرِجُ فِى عَهْدِ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، وَكَانَ طَعَامَنَا الشَّعِيرُ وَالزَّبِيبُ وَالأقِطُ وَالتَّمْرُ. قال أَبُو سَعِيد: فلما جاء معاوية وجاءت السمراء، قال: أرى مدًا من هذا يعدل مدين. قال المؤلف: السنة إخراج زكاة الفطر قبل خروج الناس إلى الصلاة، لأمر النبى بذلك، وروى هذا عن ابن عباس، وابن عمر وعطاء، وهو قول مالك والكوفيين. وقال سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز فى قوله: (قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى) [الأعلى: 14، 15] ، قالا: هى صدقة الفطر. وقال ابن مسعود: من أراد الخروج إلى الصلاة تصدق بشىء، وقال عطاء: الصدقات كلها. وقال ابن عباس: (قد أفلح من تزكى (من الشرك) وذكر اسم ربه (قال: وحد الله سبحانه فصلى الصلوات الخمس، قال عكرمة: (قد أفلح (من قال: لا إله إلا الله. وقول أبى سعيد: كنا نخرج يوم الفطر، هو مجمل يحتمل أن يكون قبل الصلاة، ويحتمل أن يكون بعد الصلاة، وإذا كانت صدقة الفطر لإغناء السؤال عن المسألة ذلك اليوم جاز إخراجها بعد الصلاة؛(3/566)
لأن ذلك كله يوم الفطر وفى المدونة، إن أداها بعد الصلاة فواسع، وقد رخص قوم فى تأخيرها عن يوم الفطر، روى ذلك عن النخعى وابن سيرين، وقال أحمد بن حنبل: أرجو ألا يكون به بأس، وروى عن ابن شهاب أنه لا بأس أن تؤدى زكاة الفطر قبله بيوم أو بيومين أو بعده بيوم أو يومين، وكان يخرجها هو قبل أن يغدو. وقال ابن القاسم فى المدونة: إن أداها قبل الفطر بيوم أو يومين أجزأه، وقال أصبغ: لا بأس أن يخرجها قبل الفطر بيومين أو ثلاثة وتجزئه، قال ابن المواز: ولو هلكت ضمنها، واختلف قول مالك فى وقت وجوب صدقة الفطر، فروى عنه أشهب أنها تجب بغروب الشمس من ليلة الفطر، وبه قال أشهب والشافعى وروى عنه ابن القاسم، وعبد الملك ومطرف أنها تجب بطلوع الفجر من يوم الفطر وبه قالوا وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه. قال ابن القصار: والحجة لرواية أشهب قول ابن عمر: فرض رسول الله صدقة الفطر من رمضان وأول فطر يقع من رمضان هو ليلة العيد، ووجه الرواية الأخرى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (أغنوهم عن المسألة فى هذا اليوم) أمر بأدائها يوم الفطر فدل أنه أول أحوال الوجوب.
71 - باب صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَلَى الْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ وَقَالَ الزُّهْرِىُّ فِى الْمَمْلُوكِينَ لِلتِّجَارَةِ: يُزَكَّى فِى التِّجَارَةِ، وَيُزَكَّى فِى الْفِطْرِ
/ 93 - فيه: ابْنِ عُمَرَ قَالَ: فَرَضَ النَّبِىُّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ، أَوْ قَالَ: (رَمَضَانَ عَلَى الذَّكَرِ وَالأنْثَى، وَالْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ،(3/567)
فَعَدَلَ النَّاسُ بِهِ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ) ، قَالَ نافع: فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُعْطِى التَّمْرَ، فَأَعْوَزَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنَ التَّمْرِ، فَأَعْطَى شَعِيرًا، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُعْطِى عَنِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ حَتَّى إِنْ كَانَ يُعْطِي عَنْ بَنِىَّ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُعْطِيهَا الَّذِينَ يَقْبَلُونَهَا، وَكَانُوا يُعْطُونَ قَبْلَ الْفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ. وترجم له باب صدقة الفطر عن الصغير، قال مالك: أحسن ما سمعت أن الرجل تلزمه زكاة الفطر عمن تلزمه نفقته، ولابد له من أن ينفق عليه، وعن مكاتبه ومدبريه ورقيقه غائبهم وشاهدهم، للتجارة كانوا أو غير تجارة إذا كان مسلمًا، وهو قول جمهور العلماء. وقال أبو حنيفة والثورى: لا تلزمه زكاة الفطر عن عبيد التجارة، وهو قول عطاء والنخعى، وحجة من أوجب الزكاة قوله: (فرض النبى صدقة الفطر على الحر والمملوك) وهو على عمومه فى كل العبيد، لأنه (صلى الله عليه وسلم) لم يخص عبد الخدمة من عبد التجارة، وكذلك خالف أبو حنيفة والثورى الجمهور فقالا: ليس على الزوج أن يؤدى عن زوجته ولا خادمها صدقة الفطر. قال ابن القصار: والحجة للجمهور أن على بمعنى عن فقوله فى الحديث: (على الذكر والأنثى) معناه: عمن يلزم الرجل نفقته، وقد روى عن نافع ستة نفر: عن كل حر وعبد، ويدل على صحة هذا قول نافع: فكان ابن عمر يعطى عن الصغير والكبير، وأيضًا فإن زكاة الفطر تتبع النفقة لإجماعهم أن نفقة الصغير(3/568)
المعسر على أبيه ففطرته عليه، وإذا أيسر سقطت عنه نفقته وفطرته، ولما وجبت نفقة الزوجة على زوجها وجبت فطرتها عليه. فإن قيل: العبد تجب عليه نفقة امرأته، ولا تلزمه فطرتها، قيل: ليس للعبد أن ينفق عليها من مكاسبه إلا بإذن السيد، فإذا أذن له قلنا له: زك عنها زكاة الفطر، ولست أعرفه منصوصًا، واختلفوا فى الولد الصغير إذا كان موسرًا، فذهب مالك، وأبو حنيفة، والشافعى وأحمد إلى أن نفقته فى ماله، فكذلك زكاة الفطر، وذهب محمد بن الحسن إلى أن نفقته فى ماله، وزكاة الفطر على أبيه، وهذا غلط، لأن كل من لا تلزمه نفقته لا تلزمه عنه زكاة الفطر، دليله الأجنبى والأب إذا كان موسرًا، قوله: (فأعوز أهل المدينة من التمر فأعطى شعيرًا) يدل أنه لا يجوز أن يعطى فى زكاة الفطر إلا من قوته، لأن التمر كان من جل عيشهم بالمدينة، فأعطى شعيرًا حين لم يجد التمر، وقوله: (وكان ابن عمر يعطيها الذين يقبلونها قبل الفطر بيومين) يريد الذين تجتمع عندهم ويتولون تفرقتها صبيحة يوم العيد لأنها السنة، وكان ابن عمر كثير الاتباع ولا يخالف السنة. وروى ابن جريج قال: أخبرنى عبيد الله بن عمر قال: أدركت سالم بن عبد الله وغيره من علمائنا وأشياخنا فلم يكونوا يخرجونها إلا حين يغدون، وقال عكرمة وأبو سلمة: كانوا يخرجون زكاتهم ويأكلون قبل أن يخرجوا إلى المصلى. تم كتاب الزكاة [والحمد لله رب العالمين، يتلوه كتاب الصيام - إن شاء الله] .
. . . . . . . . . . .(3/569)
الجزء الرابع(4/4)
بسم الله الرحمن الرحيم
- كِتَاب الصَّيامِ
- باب وُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَانَ
وَقَوْلِ اللَّهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) [البقرة 183] الآية / 1 - فيه: طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِاللَّهِ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، ثَائِرَ الرَّأْسِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِى مَاذَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَىَّ مِنَ الصَّلاةِ؟ قَالَ: (الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، إِلا أَنْ تَطَّوَّعَ شَيْئًا) ، قَالَ: أَخْبِرْنِى مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَىَّ مِنَ الصِّيَامِ؟ قَالَ: (شَهْرَ رَمَضَانَ، إِلا أَنْ تَطَّوَّعَ شَيْئًا) ، قَالَ: أَخْبِرْنِى بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَىَّ مِنَ الزَّكَاةِ؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِشَرَائِعَ الإسْلامِ، قَالَ: وَالَّذِى أَكْرَمَكَ، بالحق لا أَتَطَوَّعُ شَيْئًا، وَلا أَنْقُصُ مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ عَلَىَّ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ، أَوْ دَخَلَ الْجَنَّةَ إِنْ صَدَقَ) . وفيه: ابن عمر: صام النبى عاشوراء وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان ترك، وكان عبد الله بن عمر لا يصومه إلا أن يوافق صومه. وفيه: عائشة: أن قريشًا كانت تصوم عاشوراء فى الجاهلية، ثم أمر رسول الله بصيامه حتى فرض رمضان، وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (من شاء فليصمه، ومن شاء فليفطره) .(4/5)
وقال المؤلف: قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) [البقرة: 183] ، أى فرض عليكم كما فرض على الذين من قبلكم، والكتاب فى اللغة بمعنى الوجوب والفرض، قال الله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ) [البقرة: 178] بمعنى فر ض، وقال ابن عباس فى هذه الآية: كان كتاب الصيام على أصحاب محمد، أن الرجل كان يأكل ويشرب وينكح ما بينه وبين أن يصلى العتمة أو يرقد، فإذا صلى العتمة أو رقد، منع من ذلك إلى مثلها من القابلة، فنسختها هذه الآية: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ) [البقرة: 187] الآية. وروى: أن صرمة بن مالك كان شيخًا كبيرًا جاء إلى أهله وهو صائم، فدعا بعشائه، فقالوا: امهل حتى نجعل لك طعامًا سَخنًا تفطر عليه، فوضع الشيخ رأسه فنام، فجاءوا بطعامه، فقال: قد كنت نمت، فلم يطعم، فبات ليلته يتسلق ظهرًا لبطن، فلما أصبح أتى النبى، عليه السلام، فنزلت هذه الآية: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ) [البقرة: 187] الآية. وجاء عمر بن الخطاب فأراد أهله، فقالت: إنها قد كانت نامت، فظن أنها اعتلت عليه، فواقعها، وفعل مثل ذلك كعب بن مالك، فذكر ذلك للنبى، عليه السلام، فنزلت: (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ (، إلى قوله: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ) [البقرة: 187] ، وقد تقدم الكلام فى قوله: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص، وقوله عليه السلام: (أفلح إن تصدق) ، فى كتاب الإيمان، فأغنى عن إعادته هاهنا.(4/6)
قال المهلب: وفيه أن أداء الفرائض يوجب الجنة، وأن عمل السنن والرغائب يوجب الزيادة فى الجنة. قال الطبرى: وأما الآثار فى صيام عاشوراء، فإن أهل العلم اختلفوا فى حكم صومه اليوم، هل هو فى فضله وعيظ ثوابه على مثل ذلك الذى كان عليه قبل أن يفرض رمضان؟ فقالت طائفة: كان ذلك يومًا تصومه اليهود شكرًا لله على أن نجى موسى وبنى إسرائيل من البحر وأغرق فرعون، فصامه رسول الله وأمر بصومه، فلما فرض رمضان لم يأمر بصومه ولم ينه عنه، فمن شاء صامه ومن شاء تركه. وقال آخرون: لم يزل رسول الله يصومه ويحث أمته على صومه حتى مضى بسبيله، عليه السلام، روى هذا عن ابن عباس، قال: ما رأيت رسول الله يومًا يتحرى فضله إلا يوم عاشوراء وشهر رمضان. فإن قيل: فما وجه كراهية ابن عمر صومه؟ . قيل: نظير كراهية من كره صوم رجب، إذ كان شهرًا تعظمه الجاهلية، فكره أن يعظم فى الإسلام ما كان يعظم فى الجاهلية، من غير تحريم صومه على من صامه، ولا مؤيسه من الثواب الذى وعد الله صائمه على لسان رسوله إذا صامه مبتغيًا بصومه ثواب الله، لا مريدًا به إحياء سنة أهل الشرك، وكذلك صوم رجب، وسيأتى بقية القول فى هذا المعنى فى باب صوم عاشوراء بعد هذا إن شاء الله.(4/7)
- باب فَضْلِ الصَّوْمِ
/ 2 - فيه: أَبِو هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبىِّ، عليه السلام: (الصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَلا يَرْفُثْ، وَلا يَجْهَلْ، فإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّى صَائِمٌ، مَرَّتَيْنِ، وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِى، الصِّيَامُ لِى وَأَنَا أَجْزِى بِهِ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا) . قوله: (الصيام جنة) ، أى ستر من النار، ومنه قيل للترس: مجن؛ لأن صاحبه يستتر به. وقوله: (فلا يرفث) ، فالرفث هاهنا الفحش والخنا، والجهل ما لا يصلح من القول والفعل، قال الشاعر: فنجهل فوق جهل الجاهلينا ألا لا يجهلن أحد علينا والجهل: السفه. قال المهلب: واختلف أهل العلم فى معنى قوله: (فليقل: إنى صائم) ، فقيل: يقول: إنى صائم، للذى يشاتمه، ليكف عن شتمه، واستدل بعضهم بقول مريم: (إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا) [مريم: 26] ، فكان حكم الصيام عند مريم وأهل زمانها أن لا يتكلموا فيه، وكان هذا متعارفًا عندهم. وقال ابن جريج: قلت لعطاء: أبلغك أنه يؤمر الإنسان إذا دعى إلى طعام أن يقول: إنى صائم؟ قال: سمعنا أبا هريرة يقول: إذا كنت صائمًا، فلا تساب ولا تجهل، فإن جهل عليك فقل: إنى صائم. وروى عن ابن مسعود: إذا دعى أحدكم إلى طعام وهو صائم، فليقل: إنى صائم، وقاله قتادة، والزهرى. وقال طائفة: معنى قوله: (فليقل: إنى صائم) ، أى يذكر نفسه بذلك، ولا يجهر به، ولا يراجع به(4/8)
من سبه؛ لأنه إذا تكلم به، فقد أظهر نيته، وربما دخل فيه الرياء، قال ثابت: ومعنى القول هاهنا: العلم. قال الشاعر: خلوت ولكن قل على رقيب إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل ومثله قول مجاهد فى قوله تعالى: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُورًا) [الإنسان: 9] قال: أما إنهم لم يتكلموا به، ولكن علمه الله من قلوبهم، فأثنى عليهم به؛ ليرغب فى ذلك راغب، وعلى هذا المعنى يدل قوله فى الحديث: (الصيام لى وأنا أجزى به) ، ولا يكون لله خالصًا إلا بانفراده بعلمه دون الناس. وقوله: (الصيام لى وأنا أجزى به) ، فالصيام وجميع الأعمال لله، لكن لما كانت الأعمال الظاهرة يشرك فيها الشطان بالرياء وغيره، وكان الصيام لا يطلع عليه أحد إلا الله، فيثيبه عليه على قدر خلوصه لوجهه، جاز أن يضيفه تعالى إلى نفسه. قال الطبرى: ألا ترى قوله فى الحديث: (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلى) ، وكان ابن عيينة يقول فى قوله: (ألا الصوم فإنه لى) ، قال: لأن الصوم هو الصبر، يصبر الإنسان نفسه عن المطعم والمشرب والمنكح، ثم قرأ: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10] وهذا كله إنما يكون فيما خلص لله من الرياء قال عبد الواحد أيضًا قوله عليه السلام عن الله تعالى أنه قال: (من عمل عملا أشرك فيه غيرى فهو له، وأنا أغنى الشركاء عن(4/9)
الشرك) فجعل عمل الرياء لغيره، وجعل ما خلص من الرياء له تعالى، وقال آخرون: إنما خص الصوم بأن يكون هو الذى يتولى جزاءه، لأن الصوم لا يظهر من ابن آدم بلسان، ولا فعل فتكتبه الحفظة، إنما هو نية فى القلب، وإمساك عن المطعم والمشرب، فيقول: أنا أتولى جزاءه على ما أحب من التضعيف، وليس على كتاب كتب، وهذا القول ذكره أبو عبيد. قال الطبرى: والصواب عندى القول الأول، وأما معنى قوله: (وأنا أجزى به) ، فأنا المنفرد بجزائه على عمله ذلك لى بما لا يعلم كنه مبلغه غيرى، إذ كان غير الصيام من أعمال الطاعة قد علم غيرى بإعلامى إياه أن الحسنة فيها بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف. قال المؤلف: وقد روى يحيى بن بكير عن مالك فى هذا الحديث بعد قوله: (الحسنة بعشر أمثالها) ، فقال: (كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فهو لى وأنا أجزى به) . فخص الصيام بالتضعيف على سبعمائة ضعف فى هذا الحديث، وقد نطق التنزيل بتضعيف النفقة فى سبيل الله أيضًا كتضعيف الصيام، فقال عز وجل: (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِى سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِى كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء) [البقرة: 261] وجاء فى ثواب الصبر مثل ذلك وأكثر، فقال تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10] فيحتمل والله أعلم أن تكون هاتان الآيتان نزلتا على النبى عليه السلام، بعد ما أعلمه الله(4/10)
ثواب الصيام، لأنه لا ينطق عن الهوى، والفضائل إنما تدرك من طريق الوحى. وقال عبد الواحد: أما قول من قال: كل عمل تكتبه الحفظة إلا الصيام فإنما هو نية فى القلب، وإمساك عن المطعم والمشرب فلا يكتب فغير صحيح، لأن الحفظة تعلم الإمساك عن الأكل، وهو حقيقة إذا اطعلت على الإمساك عن الأكل فى خلوته فقد علمت صيامه، لأنه ليس يرائى أحد الحفظة، ولا ينتفع بالرياء إلا إذا أكل فى الباطن، فإذا كف عن الأكل فى الباطن وتمادى على ذلك فقد علمت صيامه، وليس أيضًا قول من تأول فى قوله: (إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا) [مريم: 26] ، أن مريم كانت صائمة فى ذلك الوقت صواب، بدليل قوله تعالى فى الآية: (وَهُزِّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِى وَاشْرَبِى وَقَرِّى عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِى إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا) [مريم: 25، 26] ، فأخبر أن ذلك كان بعد أكلها وشربها، ويشهد لذلك أنها كانت نفساء، والنفساء لا تصوم، وإنما معنى قولها: (إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا) [مريم: 26] ، أى إمساكًا عن الكلام، والعرب تقول: صام، إذا أمسك عن الكلام، فإن قيل: فكيف نذرت أن تمسك عن الكلام وقد قيل لها: (فَقُولِى (؟ قيل: المراد هاهنا: تقول بالإشارة بدليل قوله بعد هذا: (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ) [مريم: 29] الآية، وقال زيد بن أسلم: كانت بنو إسرائيل يصومون من الكلام كما يصومون من الطعام ولا يتكلمون إلا بذكر الله. وقوله: (لخلوت فم الصائم) بضم الخاء، هو مصدر خلف(4/11)
فمه يخلف يعنى تغير رائحته فى آخر النهار، لأن الفم يتغير بترك الطعام، قال أبو عبيد: خلف اللبن وغيره: تغير ريحه وطعمه، وقال صاحب العين الخالف: اللحم المتغير الريح، قال الخطابى: فأما الخلوف بفتح الخاء، فهو الذى يعد ثم يخلف، قال النمر بن تولب: جزى الله عنى جمرة ابنة نوفل جزاء خلوف بالخلافة كاذب وقوله: (أطيب عند الله من ريح المسك) ، يريد أزكى عند الله الواحد: ومعنى قوله: (عند الله) يريد فى الآخرة، أى يجازيه يوم القيامة بتطييب نكهته الكريهة فى الدنيا حتنى تكون كريح المسك، والدليل على أنه أراد الآخرة بقوله: (عند الله) قوله تعالى: (وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ) [الحج: 47] يريد أيام الآخرة، ومن هذا الباب قوله عليه السلام فى الشهيد: (أنه يأتى يوم القيامة وجرحه يثعب دمًا اللون لون الدم والريح ريح المكسك) ، فأخبر أنه يجازى الشهيد فى الآخرة بأن يجعل رائحة دمه الكريهة فى الدنيا كريح المسك فى الآخرة.(4/12)
3 - باب الصَّوْمُ كَفَّارَةٌ
/ 3 - فيه: حُذَيْفَةَ: قَالَ عُمَرُ مَنْ يَحْفَظُ حَدِيث النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فِى الْفِتْنَةِ؟ قَالَ حُذَيْفَةُ: أَنَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ: (فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِى أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَجَارِهِ، تُكَفِّرُهَا الصَّلاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ) ، قَالَ: لَيْسَ أَسْأَلُ عَنْ ذِهِ، إِنَّمَا أَسْأَلُ عَنِ الَّتِى تَمُوجُ كَمَا يَمُوجُ الْبَحْرُ الحديث. الفتنة عند العرب: الابتلاء والاختبار، وهى فى هذا الحديث شدة حب الرجل لأهله، وشغفه بهن، كما روى عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: (رأيت رسول الله يخطب، فجاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان، فنزل رسول الله فرفعهما ووضعهما فى حجره، ثم قال: صدق الله) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ) [التغابن: 15] رأيت هذين فلم أصبر، ثم أخذ فقال له: أتدعو الله ألا يرزقك مالا وولدًا فاستعذ بالله من مضلات الفتن. وقال ابن مسعود: لا يقل أحدكم: اللهم إنى أعوذ بك من الفتنة، فليبس أحد إلا وهو مشتمل على فتنة، لأن الله يقول: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ) [التغابن: 15] فأيكم استعاذ فليستعذ بالله من مضلات الفتن. ومن فتنة الأهل أيضًا الإسراف والغلو فى النفقة عليهن، والشغل بأمورهن عن كثير من النوافل، وفتنته فى ماله أن يشتد سروره به حتى يغلب عليه، وهذا مذموم، ألا ترى أن النبى لما نظر إلى علم الخميصة فى الصلاة ردها إلى أبى جهم وقال: (كاد يفتننى) فتبرأ ممال خشى منه الفتنة، وكذلك عرض لأبى طلحة حين كان يصلى فى حائطه فطار دبسى فأعجبه فأتبعه بصره ثم رجع إلى صلاته(4/13)
فلم يَدْرِ كَمْ صلى، لقد لحقنى فى مالى هذا فتنة، فجاء إلى النبى فذكر ذلك له فقال: هو صدقة يا رسول الله فضعه حيث شئت، ومن فتنة المال أيضًا ألا يصل منه أقاربه، ويمنع معروفه أجانبه، وفتنته فى جاره أن يكون أكثر مالا منه وحالا، فيتمنى مثل حله، وهو معنى قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ) [الفرقان: 20] فهذه الأنواع وما شابهها مما يكون من الصغائر فدونها تكفرها أعمال البر، ومصداق ذلك فى قوله تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) [هود: 114] قال أهل التفسير: الحسنات هاهنا: الصلوات الخمس، والسيئات: الصغائر.
4 - باب الرَّيَّانُ لِلصَّائِمِينَ
/ 4 - فيه: سَهْلٍ قال: قال النَّبِىِّ عليه السلام: (إِنَّ فِى الْجَنَّةِ بَابًا، يُقَالُ: لَهُ الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لا يَدْخُلُ أَحَدٌ منه غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ، لا يَدْخُلُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا، أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ) . / 5 - وفيه: أَبِو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النبى عليه السلام: (مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، نُودِىَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَا عَبْدَ اللَّهِ، هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاةِ دُعِىَ مِنْ بَابِ الصَّلاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِىَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِىَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِىَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ) ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بِأَبِى أَنْتَ وَأُمِّى يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا عَلَى مَنْ يُدْعَى مِنْ تِلْكَ الأبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ،(4/14)
فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الأبْوَابِ كُلِّهَا، قَالَ: (نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ) . قال المهلب: إنما أفرد الصائمين بهذا الباب ليسارعوا إلى الرى من عطش الصيام فى الدنيا إكرامًا لهم واختصاصًا، وليكون دخولهم فى الجنة هينًا غير متزاحم عليهم عند أبوابها، كما خص النبى أبا بكر الصديق بباب فى المسجد يقرب منه خروجه إلى الصلاة ولا يزاحمه أحد، وأغلق سائرها إكراهًا له وتفضيلاً. ومعنى قوله: (زوجين) أى شيئين، كدينارين أو ثوبين، وشبه ذلك، والحجة لذلك ما رواه حماد بن سلمة، عن يونس بن عبيد، وحميد، عن الحسن، عن صعصعة بن معاوية، عن أبى ذر، أن النبى عليه السلام، قال: (من أنفق زوجين من ماله ابتدرته حجبة الجنة) ، ثم قال: (بعيرين، شاتين، حمارين، درهمين) ، قال حماد: أحسبه قال: (خفين) . , وروى أسد بن موسى، نا مبارك بن فضالة، عن الحسن، عن صعصعة، قال: لقيت أبا ذر بالربذة، وهو يسوق بعيرا له عليه مزادتان، قال: سمعت النبى عليه السلام يقول: (ما من مسلم ينفق من كل ماله زوجين فى سبيل الله إلا استقبلته حجبة الجنة كلهم يدعوه إلى ما عنده) ، قلت: زوجين من ماذا؟ قال: إن كان صاحب خيل ففرسين، وإكان صاحب إبل فبعيرين، وإن كان صاحب بقر فبقرتين) ، حتى عد أصناف المال. فإن قال قائل: إن النفقة إنما تسوغ فى باب الجهاد وباب الصدقة، فكيف تكوت فى باب الصلاة والصيام؟ .(4/15)
قال عبد الواحد: معنى زوجين أراد نفسه وماله، والله أعلم، قال المؤلف: والعرب تسمى ما يبذله الإنسان من نفسه واجتهاده نفقة فيقول أحدهم فيما تعلم من العلم أو صنعة من سائر الأعمال: أنفقت فى هذا عمرى، وبذلت فيه نفسى، قال حبيب بن أوس، كم بين قوم إنما نفقاتهم مال وقوم ينفقون نفوسًا. قال المهلب: فتكون النفقة على هذا الوجه فى باب الصلاة والصيام من الجسم بإتعابه له، فإن قيل: كيف تكون النفقة فى زوجين، وإنما نجحد الفعل فى هذا الباب نفقة الجسم لا غير؟ فالجواب: أن نفقة المال مقترنة بنفقة الجسم فى ذلك، لأنه لابد للمصلى والصائم من قوت يقيم رمقه، وثوب يستره، وذلك من فروض الصلاة، ويستعين بذلك على طاعة الله تعالى، فقد صار منفقًا لزوجين: لنفسه وماله، وقد تكون النفقة فى باب الصلاة، أن يبنى لله مسجدًا للمصلين، لدلالة قوله: (من بنى لله مسجدًا بنى الله له بيتًا فى الجنة) ، والنفقة فى الصيام إذا فطر صائمًا فكأنما صام يومًا ويعضده قوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) [البقرة: 184] ، فجعل الإطعام للمسكين عوضًا من صيام يوم، وأبواب الجنة ثمانية، وإنما ذكر منها فى الحديث أربعة. وروى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (إن من أبواب الجنة أبواب الواطئين) . ذكر إسماعيل بن أبى خالد، عن يونس بن خباب، قال: أخبرت أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (إن للجنة ثمانية أبواب منها: باب للصائمين، وباب للمجاهدين، وباب للمتصدقين، وباب للواطئين، وليس أحد من هذه الأصناف يمر بخزنة الجنة إلا كلهم يدعوه: هلم إلينا يا(4/16)
عبد الله) ، ومن أبواب الجنة باب الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس. وذكر ابن البراء فى كتاب الروضة، عن أحمد بن حنبل، قال: حدثنا روح، عن أشعث، عن الحسن، قال: إن الله فى الجنة بابًا لا يدخله إلا من عفا عن مظلمة، فقال أحمد لابنه: يا بنى ما خرجت من دار أبى إسحاق حتى أحللته ومن معه إلا رجلين: ابن أبى دؤاد، وعبد الرحمن بن إسحاق فإنهما طلبا دمى، وأنا أهون على الله من أن يُعَذِّبَ فىّ أحدًا، أشهدك أنهم فى حل. ومنها: باب التوبة، روى عن ابن مسعود أنه سأله رجل عن ذنب ألم به، هل له من توبة؟ فأعرض عنه ابن مسعود، ثم التفت فرأى عينيه تذرقان، فقال: إن للجنة ثمانية أبواب كلها تفتح وتغلق إلا باب التوبة فإن عليه ملكًا موكلاً به لا يغلق، فاعمل ولا تيأس. ووجه الإنفاق فى ذلك ما يتقوى به على طاعة الله، ويتحلل من المحارم التى سلفت منه، ويؤدى المظالم إلى أهلها، ويمكن أن يكون الباب الباقى، باب المتوكلين الذين يدخلون الجنة فى سبعين ألفا من باب واحد، لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم، وجوههم كالبدر: الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون، ووجه الإنفاق فى ذلك أنهم ينفقون على أنفسهم فى حال المرض المانع لهم من التصرف فى طلب المعاش، صابرين على ما أصابهم، وينفقون على من أصابه ذلك البلاء من غيرهم. ومنها: باب الصابرين لله على المصائب، المحتسبين الذين يقولون عند(4/17)
نزولها: (إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) [البقرة: 156] الآية، ومنها: باب الحافظين فروجهم والحافظات المستعفين بالحلال عن الحرام، وغير المتبعين للشهوات، ووجه الإنفاق فى ذلك: الصداق والوليمة والإطعام حتى اللقمة يضعها فى فىِّ امرأته والله أعلم بحقيقة الثلاثة الأبواب. فإن قيل: فإذا جاز أن يسمى استعمال الجسم فى طاعة الله نفقة، فيجوز أن يدخل فى معنى الحديث (من أنفق نفسه فى سبيل الله فاستشهد وأنفق كريم ماله) ؟ قيل: نعم وهو أعظم أجرًا من الأول. ويدل على ذلك ما رواه سفيان، عن الأعمش، عن أبى سفيان، عن جابر، قال: قال رجل: يا رسول الله، أى الجهاد أفضل؟ قال: (أن يعقر جوادك ويهراق دمك) . قال عبد الواحد: فإن قيل: هل يدخل فى ذلك صائم رمضان، والمزكى لماله، ومؤدى الفرائض؟ قيل: المراد بالحديث النوافل وملازمتها والتكثير منها، فذلك الذى يستحق أن يدعى من أبوابها لقوله: (فمن كان من أهل كذا) . قال المهلب: قول أبى بكر: ما على أحد يدعى من تلك الأبواب من ضرورة، يريد أنه من لم يكن إلا من أهل خصلة واحدة من هذه الخصال، ودعى من باب تلك الخصلة، فإنه لا ضرورة عليه، لأن الغاية المطلوبة دخول الجنة. وقوله: (هل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: نعم) ، يريد أن من كان من أهل الصلاة والجهاد والصيام والصدقة أنه يدعى منها كلها، فلا ضرورة عليه فى دخوله من أى باب شاء، لاستحالة دخوله منها كلها معا، ولا يصح دخوله إلا من باب واحد، ونداؤه منها كامل إنما هو على سبيل الإكرام والتخيير له فى الدخول من أيها شاء.(4/18)
قال عبد الواحد: وفيه أن أعمال البر كلها يجوز أن يقال فيها فى سبيل الله ولا يخص بذلك الجهاد وحده.
5 - باب هَلْ يُقَالُ رَمَضَانُ، أَوْ شَهْرُ رَمَضَانَ
، وَمَنْ رَأَى كُلَّهُ وَاسِعًا وَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ) ، وَقَالَ: (لا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ) . / 6 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِىّ عليه السلام: (إِذَا جَاء رَمَضَانَ، فُتِّحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ) . / 7 - وفيه: ابْنَ عُمَرَ قَالَ: قَالَ النَّبِىّ عليه السلام: (إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ) . يعنى هِلالِ رَمَضَانَ. قال ابن النحاس: قال ابن النحاس: كان عطاء ومجاهد يكرهان أن يقال: رمضان، قالا: وإنما نقول ما قال الله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ) [البقرة: 185] ، لأنا لا ندرى لعل رمضان اسم من أسماء الله. قال: وهذا قول ضعيف، لأنا وجدنا النبى، عليه السلام، قال: (رمضان) ، بغير شهر، فقال: (من صام رمضان) ، ولا تقدموا رمضان، والأحاديث كثيرة فى ذلك. وأبواب السماء فى هذا الحديث يراد بها أبواب الجنة بدليل قوله فى الحديث: (وغلقت أبواب جهنم) ، وقد تبين هذا المعنى فى رواية مالك عن عمه أبى سهيل بن مالك، عن أبيه، عن أبى هريرة أنه قال:(4/19)
(رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين) ، وهذا حجة فى أن الجنة فى السماء، وتأول العلماء فى قوله: (فتحت أبواب الجنة وسلسلت الشياطين) ، معنيين. أحدهما: أنهم يسلسلون على الحقيقة، فيقل أذاهم ووسوستهم ولا يكون ذلك منهم كما هو فى غير رمضان، وفتح أبواب الجنة على ظاهر الحديث. والثانى: على المجاز، ويكون المعنى فى فتح أبواب الجنة ما فتح الله على العياد فيه من الأعمال المستوجب بها الجنة من الصلاة والصيام وتلاوة القر آن، وأن الطريق إلى الجنة فى رمضان أسهل والأعمال فيه أٍرع إلى القبول، وكذلك أبواب النار تغلق بما قطع عنهم من المعاصى، وترك الأعمال المستوجب بها النار، ولقلة ما يؤاخذ الله العباد بأعمالهم السيئة، يستنفذ منها ببركة الشهر أقوامًا ويهب المسئ للمحسن، ويتجاوز عن السيئات فهذا معنى الغلق، وكذلك قوله: (سلسلت الشياطين) ، يعنى: أن الله يعصم فيه المسلمين أو أكثرهم فى الأغلب عن المعاصى والميل إلى وسوسة الشياطين وغرورهم، ذكره الداودى والمهلب. واحتج المهلب لقول من جعل المعنى على الحقيقة فقال: ويدل على ذلك ما يذكر من تغليل الشيباطين ومردتهم بدخول أهل المعاصى كلها فى رمضان فى طاعة الله، والتعفف عما كانوا عليه من الشهوات، وذلك دليل بين.(4/20)
6 - باب مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا وَنِيَّةً وَقَالَتْ عَائِشَةُ عَنِ النَّبِىِّ: (يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ
. / 8 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السلام: (مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) . قوله: (إيمانًا) ، يريد تصديقًا بفرضه وبالثواب من الله تعالى، على صيامه وقيامه، وقوله: (احتسابًا) ، يريد بذلك يحتسب الثواب على الله، وينوى بصيامه وجه الله، وهذا الحديث دليل بين أن الأعمال الصالحة لا تزكو ولا تتقبل إلا مع الاحتساب وصدق النيات، كما قال عليه السلام: (الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى) ، وهذا يرد قول زفر، فإنه زعم أنه يجزئ صوم رمضان بغير نية، وقوله مردود بهذه الآثار، وإذا صح أنه لا عمل إلا بنية، صح أنه لا يجزئ صوم رمضان إلا بنية من الليل، كما ذهب إليه الجمهور. وخالف ذلك أبو حنيفة، والأوزاعى، وإسحاق، وقالوا: يجزئه التبييت قبل الزوال، ولا سلف لهم فى ذلك، والنية إنما ينبغى أن تكون متقدمة قبل العمل، وحقيقة التبييت فى اللغة يقتضى زمن الليل، وروى هذا عن ابن عمر، وحفصة، وعائشة، ولا مخالف لهم، وقد تقدم ما للعلماء فى قوله عليه السلام: (الأعمال بالنيات) ، فى آخر كتاب الإيمان، فى باب: ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة.(4/21)
7 - باب أَجْوَدُ مَا كَانَ النَّبِىُّ عليه السلام يَكُونُ فِى رَمَضَانَ
/ 9 - فيه: ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: (كَانَ النَّبِىُّ، عليه السلام، أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِى رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِى رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ، يَعْرِضُ النَّبِىُّ، عليه السلام، عليه الْقُرْآنَ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كَانَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ) . قال المهلب: وامتثل النبى، عليه السلام، فى هذا قول الله تعالى: وأمره بتقديم الصدقة بين يدى نجوى الرسول الذى كان أمر به تعالى عباده، ثم عفا عنهم، لإشفاقهم من ذلك، فامتثل عليه السلام ذلك عند مناجاته جبريل صلى الله عليه وعلى جميع الملائكة، وقد تقدم هذا المعنى فى كتاب بدء الوحى. قال المهلب: وفيه بركة مجالسة الصالحين، وأن فيها تذكار لفعل الخير، وتنبيها على الازديار من العمل الصالح، ولذلك أمر عليه السلام بمجالسة العلماء، ولزوم حلق الذكر، وشبه الجليس الصالح بالعطار إن لم يصبك من متاعه لم تعدم طيب ريحه. ألا ترى قول لقمان لابنه: يا بنى جالس العلماء، وزاحمهم بركبتيك، فإن الله يحيى القلوب بنور الحكمة، كما يحيى الأرض الميتة بوابل السماء، وقال مرة أخرى: فلعل أن تصضيبهم رحمة فتنالك معهم، فهذه ثمرة مجالسة أهل الفضل ولقائهم. وفيه: بركة أعمال الخير، وأن بعضها يفتح بعضًا، ويعين على بعض، ألا ترى أن بركة الصيام، ولقاء جبريل وعرضه القرآن عليه زاد(4/22)
فى وجود النبى، عليه السلام، وصدقته حتى كان أجود من الريح المرسله. قال عبد الواحد: ونزول جبريل فى رمضان للتلاوة دليل عظيم لفضل تلاوة القرآن فيه، وهذا أصل تلاوة الناس للقرآن فى كل رمضان، تأسيًا به (صلى الله عليه وسلم) ، ومعنى مدارسة جبريل للنبى، عليه السلام، فيه، لأنه الشهر الذى أنزل فيه القرآن، كما نص الله تعالى. وفيه: أن المؤمن كلما ازداد عملاً صالحًا وفتح له باب من الخير فإنه ينبغى له أن يطلب بابا آخر، وتكون عينه ممتدة فى الخير إلى فوق عمله، ويكون خائفا وجلاً، غير معجب بعمله، طالبًا للارتقاء فى درجات الزيادة.
8 - باب مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فِى الصَّوْمِ
/ 10 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النِّبِىّ، عليه السلام: (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ، وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِى أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ) . قال المهلب: فيه دليل أن حكم الصيام الإمساك عن الرفث وقول الزور، كما يمسك عن الطعام والشراب، وإن لم يمسك عن ذلك فقد تنقص صيامه وتعرض لسخط ربه وترك قبوله منه. وقال غيره: وليس معناه أن يؤمر بأن يدع صيامه إذا لم يدع قول الزور، وإنما معناه التحذير من قول الزور، وهذا كقوله، عليه السلام: (من باع الخمر فليشقص الخنازير) ، يريد أى يذبحها، ولم يأمره بشقصها، ولكنه على التحذير والتعظيم لإثم شارب الخمر، فكذلك حذر الصائم من قول الزور والعمل به ليتم أجر صيامه، فإن قيل:(4/23)
فما معنى قوله: (فليس لله حاجة) ، والله لا يحتاج إلى شئ؟ قيل معناه: فليس لله إرادة فى صيامه فوضع الحاجة موضع الإرادة.
9 - باب هَلْ يَقُولُ إِنِّى صَائِمٌ إِذَا شُتِمَ
/ 11 - فيه: أَبَو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النبى، عليه السلام: (كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِى، وَأَنَا أَجْزِى بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ، فَلا يَرْفُثْ وَلا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّى امْرُؤٌ صَائِمٌ، وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِىَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ) . قال الداودى: تخصيصه فى هذا الحديث ألا يرفث ولا يجهل، وذلك لا يحل فى غير الصيام، وإنما هو تأكيد لحرمة الصوم عن الرفث والجهل، كما قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ) [المؤمنون: 1، 2] ، والخشوع فى الصلاة أوكد منه فى غيرها، وقال فى الأشهر الحرم: (فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ) [التوبة: 36] ، فأكد حرمة الأشهر الحرم، وجعل الظلم فيها آكد من غيرها، فينبغى للصائم أن يعظم من شهر رمضان ما عظم الله ورسوله، ويعرف ما لزمه من حرمة الصيام. قال غيره: واتفق جمهور العلماء على أن الصائم لا يفطره السب والشتم والغيبة، وإن كان مأمورًا أن ينزه صيامه عن اللفظ(4/24)
القبيح، وقال الأوزاعى: إنه يفطر بالسب والغيبة، واحتج بما روى أن الغيبة تفطر الصائم. قال ابن القصار: معناه أنه يصير فى معنى المفطر فى سقوط الأجر لا أنه يفطر فى الحقيقة، كقوله تعالى: (وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا) [الحجرات: 12] ، ومن اغتاب فلم يكن آكلا لحم أخيه ميتًا فى الحقيقة، وإنما يصير فى معناه ويجوز أن يكون فى معنى التغليظ، كما قال: الكذب مجانب للإيمان، فإن قيل: فما معنى قوله: (فليقل إنى صائم) ، والمندوب إليه أن يستتر بعمله ليكثر ثوابه؟ قيل: إذا قال: إنى صائم، ارتدع وعلم أنه إذا اجترأ عليه فى صوم كان أعظم فى الإثم، فليعلم أيضًا أن الصوم يمنع من الرد عليه، ومثل هذا لا يكره إذا كان لعذر، وقيل معناه: أن يقول ذلك لنفسه، وقد تقدم هذا المعنى فى باب: فضل الصوم.
- باب الصَّوْمِ لِمَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْعُزْوبَةَ
/ 12 - فيه: ابن مسعود قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ، عليه السلام، فَقَالَ: (مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ) . قال المؤلف: ندب النبى، عليه السلام، لأمته النكاح، ليكونوا على كمال من أمر دينهم، وصيانة لأنفسهم فى غض أبصارهم(4/25)
وحفظ فروجهم لما يخشى على من زين الله فى قلبه حب أعظم الشهوات، ثم عليه السلام، أن الناس كلهم لا يجدون طولا إلى النساء، وربما خافوا العنت بفقد النكاح فعوضهم منه ما يدافعون به سورة شهواتهم، وهو الصيام. فإنه وجاء، والوجاء: القطع، يعنى: أنه مقطعة للانتشار وحركة العروق التى تتحرك عند شهوة الجماع، وأصل الوجاء عند العرب أن ترض البيضتان، يقال: وجأ فلان الكبش، وهو كبش موجوء، فإذا سلت البيضتان، فهو الخصى، وفى كتاب العين: وجأت الرجل ضربته. والباءة فى كلام العرب: الجماع، وتجمع بآء، كما تجمع الراءة رآء.
- باب قَوْلِ النَّبِىِّ عليه السلام: (إِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلالَ فَصُومُوا وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا
وَقَالَ عَمَّارٍ: مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ، فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ. / 13 - فيه: ابْنِ عُمَرَ قَالَ عليه السلام: (لا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلالَ، وَلا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ) . / 14 - وقَالَ بْنِ عُمَرَ: قَالَ النبى، عليه السلام: (الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً، فَلا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ الْهلالَ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ، فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلاثِينَ) .(4/26)
/ 15 - وقَالَ أَبَا هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبِىُّ، عليه السلام: (صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمِّىَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاثِينَ) . ذهب كافة الفقهاء إلى أن معنى قوله عليه السلام: (فاقدروا له) ، مجمل يفسره قوله: (فأكملوا العدة ثلاثين يومًا) ، ولذلك جعل مالك فى الموطأ (فأكملوا العدة ثلاثين يومًا) ، بعد قوله: (فاقدروا له) ، كما صنع البخارى، لأنه مفسر ومبين لمعنى قوله: (فاقدروا له) ، وحكى محمد بن سيرين أن بعض التابعين كان يذهب فى معنى قوله عليه السلام: (فاقدروا له) ، إلى اعتباره بالنجوم، ومنازل القمر، وطريق الحساب، ويقال: إنه مطرف بن الشخير. وقوله عليه السلام: (فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين يومًا) ، نص فى أنه عليه السلام لم يرد اعتبار ذلك بالنجوم والمنازل، لأنه لو كلف ذلك أمته لشق عليه، لأنه لا يعرف النجوم والمنازل إلا قليل من الناس، ولم يجعل الله تعالى فى الدين من حرج، وإنما أحال عليه السلام على إكمال ثلاثين يومًا، وهو شىء يستوى فى معرفته الكل، وقد انضاف إلى أمره باعتبار العدد ثلاثين عند عدم الرؤية فعله فى نفسه. فروى عن عائشة أنها قالت: (كان رسول الله يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من سائر الشهور، فإذا رأى هلال رمضان صام، وإن غم عليه عد شعبان ثلاثين يومًا وصام) ، ولو كن هاهنا علم آخر لكان يفعله أو يأمر به. وجمهور الفقهاء على أنه لا يصام رمضان إلا بيقين من خروج(4/27)
شعبان، إما برؤية الهلال أو إكمال شعبان ثلاثين يومًا، وكذلك لا يقضى بخروج رمضان إلا بيقين مثله، لأنه ممكن فى الشهر أن يكون تسعة وعشرين يومًا، فالرؤية تصحح ذلك وتوجب اليقين كإكمال العدة ثلاثين يقينًا، هذا معنى قوله: (فاقدروا له) ، عند العلماء، ولابن عمر فيه تأويل شاذ لم يتابع عليه وسنذكره فى باب نهى النبى عن صيام يوم الشك، إن شاء الله. وقال الطبرى: أما حديث ابن عمر أن النبى، عليه السلام، قال: (الشهر تسع وعشرون ليلة) ، فإن معناه: الشهر الذى نحن فيه والذى قد علمتم إخبارى عنه، لأن الألف واللام إنما تدخلهما العرب فى الأسماء إما لمعهود قد عرفه المخبر والمخبر، وإما للجنس العام من المشهور ومعلوم أن النبى، عليه السلام، لم يقصد بذلك الخبر عن الجنس، لأنه لو كان كذلك لم يقل: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته) ، فأحال على الرؤية، ونحن نرى الشهر يكون مرة ثلاثين ومرة تسعة وعشرين فعلم أن قوله: (الشهر تسع وعشرون) ، أن ذلك قد يكون فى بعض الأحوال، وقد جاء هذا عن ابن عمر، عن النبى، عليه السلام، بينا فى قوله: (إنا أمة مية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا، وهكذا يعنى: مرة تسعًا وعشرين، ومرة ثلاثين) . وروى عن عروة، عن عائشة نها أنكرت قول من قال أن النبى، عليه السلام، قال: (الشهر تسع وعشرون) ، وقالت لا والله(4/28)
ما قال كذلك، إنما قال حين هجرنا: لأهجرنكم شهرًا، وأقسم على ذلك، فجاءنا حين ذهب تسع وعشرون ليلة، فقلت: يا رسول الله إنك أقسمت شهرًا فقال: (إن الشهر كان تسعًا وعشرين ليلة) .
- باب شَهْرَا عِيدٍ لا يَنْقُصَانِ
/ 16 - فيه: أَبو بَكْرَةَ، قَالَ النَّبِىِّ، عليه السلام: (شَهْرَا عِيدٍ لا يَنْقُصَانِ: رَمَضَانُ، وَذُو الْحَجَّةِ) . اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث على وجهين، فذكر أحمد بن عمرو البزار أن معناه: لا ينقصان جميعًا فى سنة واحدة. قال المهلب: وقد روى زيد بن عقبة، عن سمرة بن جندب، عن النبى، عليه السلام، أنه قال: (شهرا عيد لا يكونان ثمانية وخمسين يومًا) . والوجه الثانى قال المهلب: معناه: أنه لا ينقص عند الله، تعالى أجر العاملين فيهما، وإن كانا ناقصيبن فى العدد. قال الطحاوى: وقد دفع قوم التأويل الأول بالعيان، قالوا: لأنا قد وجدناهما ينقصان فى أعوام، ويجتمع ذلك فى كل واحد منهما، فدفعوا ذلك بهذا، وبحديث رسول الله أنه قال: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين) ، وبقوله: (إن الشهر قد يكون تسعًا وعشرين ويكون ثلاثين) ، فأخبر أن ذلك جائز فى كل شهر من الشهور، إذ لم يخص بذلك شهرًا من سائر الشهور، فدل على أن شهر رمضان وذى الحجة وما(4/29)
سواهما قد يكونان تسعًا وعشرين، وقد يكونان ثلاثين، فثبت بذلك أن معنى قوله: (شهرا عيد لا ينقصان) ، ليس على نقصان العدد، ولكنه على نقصان الأحكام، والوجه عندنا أنهما لا ينقصان، وإن كانا تسعًا وعشرين فهما شهران كاملان، لأن فى أحدهما الصيام، وفى الآخر الحج، والأحكام فى ذلك متكاملة غير ناقصة، ويدل على ذلك قوله عليه السلام: (من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه) ، فمن صامه ناقصًا أو تاما كان أجره واحدًا. قال المؤلف: فإن قال قائل: إن كان أراد بقوله عليه السلام: (لا ينقصان) : من الأجر والحكم وإن كانا ناقصين فى العدد، فإنا نجد رمضان يصام كله، فيكون مرة تاما ومرة ناقصًا، ونقصانه فى آخره، وذو الحجة إنما يقع الحج فى العشر الأول منه، فلا حرج على أحد فى نقصانه ولا تمامه، لأن العبادة منه فى أوله خاصة. قيل: قد يكون فى أيام الحج من النقصان والإغماء مثل ما يكون فى آخر رمضان، وذلك أنه قد يغمى هلال ذى القعدة ويقع فيه غلط بزيادة يوم أو نقصان يوم، فإذا كان ذلك، وقع وقوف الناس بعرفة مرة اليوم الثامن من ذى الحجة، ومرة اليوم العاشر منه، وقد اختلف العلماء فى ذلك، فقالت طائفة: من وقف بعرفة بخطأ شامل لجميع أهل الموقف فى يوم قبل يوم عرفة أو بعده أنه مجزئ عنه، لأنهما لا ينقصان عند الله من أجر المتعبدين بالاجتهاد، كما لا ينقص أجر رمضان الناقص، وهو قول عطاء، والحسن، وأبى حنيفة، والشافعى. واحتج أصحاب الشافعى على جواز ذلك بصيام من التبست عليه الشهور أنه جائز أن يقع صيامه قبل رمضان أو بعده، قالوا: كما(4/30)
يجزئ حج من وقف بعرفة قبل يوم عرفة أو بعده، وروى يحيى بن يحيى، عن ابن القاسم أنهم إن أخطئوا ووقفوا بعد يوم عرفة يوم النحر أنه يجزئهم، وإن قدموا الوقوف يوم التروية لم يجزئهم، وأعادوا الوقوف من الغد، وهذا يخرج على أصل مالك فيمن التبست عليه الشهور فصام رمضان ثم تبين له أنه أوقعه بعد رمضان أنه يجزئه، ولا يجزئه إذا أوقعه قبل رمضان، كمن اجتهد وصلى قبل الوقت أنه لا يجزئه. وقد قال بعض العلماء: إنه لا يقع وقوف الناس اليوم الثامن أصلا، لأنه لا يخلو من أن يكون الوقوف برؤية أو إعماء، فإن كان برؤية وقفوا اليوم التاسع، وإن كان بإغماء وقفوا اليوم العاشر.
- باب قَوْلِ النَّبِىِّ عليه السلام: (لا نَكْتُبُ وَلا نَحْسُبُ
/ 13 - فيه: ابْنَ عُمَرَ قَالَ: قَالَ النَّبِىِّ، عليه السلام: (إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لا نَكْتُبُ وَلا نَحْسُبُ الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا، يَعْنِى مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَمَرَّةً ثَلاثِينَ) . قال المؤلف: فيه بيان، لقوله عليه السلام: (فاقدروا له) ، أن معناه إكمال العدد ثلاثين يومًا، كما تأول الفقهاء،(4/31)
ولا اعتبار فى ذلك بالنجوم والحساب، وهذا الحديث ناسخ لراعاة النجوم بقوانين التعديل، وإنما المعول على الرؤية فى الأهلة التى جعلها الله مواقيت للناس فى الصيام والحج والعدد والديون، وإنما لنا أن ننظر من علم الحساب ما يكون عيانا أو كالعيان، وأما ما غمض حتى لا يدرك إلا بالظنون وتكييف الهيئات الغائبة عن الأبصار فقد نهينا عنه، وعن تكلفه. وعلة ذلك أن رسول الله إنما بعث إلى الأميين الذين لا يقرءون الكتاب، ولا يحسبون بالقوانين الغائبة، وإنما يحسبون الموجودات عيانا.
- باب لا يَتَقَدَّمُ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أو يَوْمَيْنِ
/ 18 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ، قَالَ قَالَ: النَّبِىِّ، عليه السلام: (لا يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدُكُمْ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ إِلا أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمَهُ، فَلْيَصُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ) . قال المؤلف: ذهبت طائفة إلى أنه لا يجوز أن يصام آخر يوم من شعبان تطوعًا إلا أن يوافق صومًا كان يصومه، وأخذوا بظاهر هذا الحديث، وروى ذلك عن عمر، وعلى، وعمار، وحذيفة، وابن مسعود، ومن التابعين سعيد بن المسيب، والشعبى، والنخعى، والحسن، وابن سيرين، وهو قول الشافعى، وكان ابن عباس، وأبو هريرة يأمران أن يفصل بين شعبان ورمضان بفطر يوم أو يومين، كما استحبوا أن يفصلوا بين صلاة الفريضة والنافلة بكلام أو قيام وتقدم أو تأخر، وقال عكرمة: (من صام يوم الشك فقد عصى الله ورسوله) .(4/32)
وأجازت طائفة صومه تطوعا، روى عن عائشة، وأسماء أختها أنهما كانتا تصومان يوم الشك، وقالت عائشة: (لئن أصوم آخر يوم من شعبان أحب إلى من أن أفطر يوما من رمضان) ، وهو قول مالك، والأوزاعى، وأبى حنيفة، وأحمد، وإصحاق. قال ابن القصار: وحجة هذا القول أنا إنما نكره صوم يوم الشك قطعًا أن يكون من رمضان أو على وجه المراعاة خوفا أن يكون من رمضان، فليحق بالفرض ما ليس من جنسه، فأما إذا أخلص النية للتطوع، فلم يحصل فيه معنى الشك، فإنما نيته أنه من شعبان، فهو كما يصومه عن نذر أو قضاء رمضان، وإنما النهى عن أن يصومه على أنه إن كان من رمضان فذاك وإلا فهو تطوع. واختلفوا إذا صامه على أنه من رمضان، قال مالك: سمعت أهل العلم ينهون عن أن يصام اليوم الذى يشك فيه من شعبان إذا نوى به رمضان، ويروى أنه من صامه على غير رؤية، ثم جاء الثبت أنه من رمضان أن عليه قضاءه، قال مالك: وعلى هذا الأمر عندنا. وفيه قول آخر، ذكر ابن المنذر، عن عطاء، وعمر بن عبد العزيز، والحسن أنه إذا نوى صومه من الليل على أنه من رمضان ثم علم بالهلال أول النهار أو آخره نه يجزئه، وهو قول الثورى، والأوزاعى، وأبى حنيفة، وأصحابه، وذهب ابن عمر إلى أنه يجوز صيامه إذا حال دون منظر الهلال ليلة ثلاثين من شعبان غيم وسحاب ويجزئهم من رمضان، وإن ثبت بعد ذلك أن شعبان من تسع(4/33)
وعشرين وبه قال أحمد بن حنبل: وهو قول شاذ، وهذا صوم يوم الشك، وهو خلاف للحديث فلا معنى له، وقول أهل المدينة أولى لنهيه عليه السلام أن يتقدم صوم رمضان، ولقول عكرمة، وعمار: من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم.
- بَاب قَوْلِ اللَّهِ تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) [البقرة: 187] الآية
/ 19 - فيه: الْبَرَاءِ: كَانَ أَصْحَابُ النبى، عليه السلام، إِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَائِمًا، فَحَضَرَ الإفْطَارُ، فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ، لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ وَلا يَوْمَهُ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ كَانَ صَائِمًا، فأَتَى امْرَأَتَهُ، للإفطار، فَقَالَ لَهَا: أَعِنْدَكِ طَعَامٌ، قَالَتْ: لا، وَلَكِنْ أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ لَكَ، وَكَانَ يَوْمَهُ يَعْمَلُ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ: خَيْبَةً لَكَ، فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِىَ عَلَيْهِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِىِّ، عليه السلام، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ) [البقرة: 187] الآية فَفَرِحُوا بِهَا فَرَحًا شَدِيدًا وَنَزَلَتْ: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ) [البقرة: 187] . قال المؤلف: ذكر إسماعيل بن إسحاق، عن زيد بن أسلم، وإبراهيم التينى، فالا: كان المسلمون فى أول الإسلام يفعلون كما يفعل أهل الكتاب، إذا نام أحدهم لم يطعم حتى تكون القابلة، فنسخ الله ذلك، وقال مجاهد: كان رجال من المسلمين يختانون أنفسهم فى ذلك، فعفا الله عنهم، وأحل لهم الأكل والشرب والجماع بعد(4/34)
الرقاد، وقبله فى الليل كله، وقال ابن عباس: الرفث، الجماع، وقال: (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) [البقرة: 187] الولد، وهو قول مجاهد، والحسن، والضحاك وجماعة، وقال زيد بن أسلم) وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) [البقرة: 187] الجماع، وقد روى أبو الجوزاء عن ابن عباس أنه قال: ابتغوا ليلة القدر، قال إسماعيل: وقولهم أنه الجماع، فهو مذهب حسن، لأن الذى كتب لهم يدل على أنه شىء لهم فى خاصة أنفسهم، وأنه شىء قد وجب لهم، فكان المعنى، والله أعلم) فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ) [البقرة: 187] أى: جامعوهن) وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) [البقرة: 187] أى: ما أحل الله لكم من ذلك بعد أن كان محضورًا عليكم، فهو شىء أوجب لهم، والولد ليس بشىء أوجب لهم ولا كتب لهم لأنه قد يولد لرجل ولا يولد لآخر. وأما رواية أبى الجوزاء عن ابن عباس فى ليلة القدر فهو مما كتب للمسلمين، وهو شىء لا يدفع، غير أن الكلام قد سيق فى معنى الجماع، والله أعلم.
- بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ) [البقرة: 187] الآية
/ 20 - فِيهِ: الْبَرَاءُ عَنِ النَّبِىِّ عليه السلام. قَالَ عَدِىِّ: لَمَّا نَزَلَتْ: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ من الفجر) [البقرة 187] عَمَدْتُ إِلَى عِقَالٍ أبيض، وإلى عقال أَسْوَدَ،(4/35)
فَجَعَلْتُهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِى، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ فِى اللَّيْلِ، فَلا يَسْتَبِينُ لِى، فَغَدَوْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ فَذَكَرْتُ ذلك لَهُ، فَقَالَ: (إِنَّمَا ذَلِكَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ) . / 21 - وفيه: سَهْلِ قَالَ: أُنْزِلَتْ) وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ (وَلَمْ يَنْزِلْ: (مِنَ الْفَجْرِ) [البقرة: 187] وَكَانَ رِجَالٌ إِذَا أَرَادُوا الصَّوْمَ، رَبَطَ أَحَدُهُمْ فِى رِجْلِهِ الْخَيْطَ الأبْيَضَ وَالْخَيْطَ الأسْوَدَ، وَلا يَزَلْ يَأْكُلُ ويشرب حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ رُؤْيَتُهُمَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدُ: (مِنَ الْفَجْرِ (فَعَلِمُوا أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِى اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. قال المؤلف: قال أبو عبيد: الخيط الأبيض هو الصبح المصدق، والخيط الأسود هو الليل، والخيط هو النور، قال ابن المذر: اختلف العلماء فى الوقت الذى يحرم فيه الطعام والشراب على من يريد الصوم، فذهب مالك، وأبو حنيفة، والشافعى، وأبو ثور إلى أنه يحرم الطعام والشراب عند اعتراض الفجر الآخر فى الأفق، وروى معنى هذا عن عمر بن الخطاب، وابن عباس، وهو قول عطاء، وعوام علماء الأمصار. وفيه قول ثان رويناه، عن أبى بكر الصديق، وعلى، وحذيفة، وابن مسعود وغيرهم، فروينا عن سالم بن عبيد، أن أبا بكر الصديق نظر إلى الفجر مرتين ثم تسحر فى الثالثة، ثم قام فصلى ركعتين، ثم أقام بلال الصلاة، وعن على أنه قال حين صلى الفجر: الآن حين يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وروينا عن حذيفة: أنه لما طلع الفجر تسحر ثم صلى، وروينا عن ابن مسعود مثله.(4/36)
قال المؤلف: وزاد الطحاوى: فلما صلى حذيفة قال: هكذا فعل رسول الله غير أن الشمس لم تطلع، وروى حماد، عن أبى هريرة أنه سمع النداء والإناء على يده فقال: أحرزتها ورب الكعبة، وقال هشام بن عروة: كان عروة يأمرنا بهذا، يعنى إذا سمع النداء والإناء على يده فلا يضعه حتى يقضى حاجته منه، ورواه الحسن عن النبى، عليه السلام، مرسلاً. وقال مسروق: لم يكونوا يعدون الفجر فجركم، إنما كانوا يعدون الفجر الذى يملأ الطرق والبيوت، قال ابن المنذر: فتأول بعضهم قوله فى حديث عدى بن حاتم: (إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار) ، قال: فبياض النهار أن ينتشر فى الطرق والسكك، والبيوت، وقت صلاة المسفرين بصلاة الصبح، وذكر إسحاق بن راهويه عن وكيع أنه سمع الأعمش يقول: لولا الشهرة لصليت الغداة ثم تسحرت. قال إسحاق: بعد أن ذكر ما ذكرناه عن أبى بكر وعلى وحذيفة: هؤلاء لم يروا فرقًا بين الأكل وبين الصلاة المكتوبة، رأوا أن تصلى المكتوبة بعد طلوع الفجر المعترض ورأوا الأكل بعد طلوع الفجر المعترض صباحًا حتى يتبين بياض النهار من سواد الليل، ومال إسحاق إلى القول الأول، ثم قال: من غير أن يطعن على هؤلاء الذين تأولوا الرخصة فى الوقت: فمن أكل فى ذلك الوقت فلا قضاء عليه ولا كفارة إذا كان متأولا. واحتج أصحاب مالك للقول الأول فقالوا: الصائم يلزمه اغتراف طرفى النهار، وذلك لا يكون إلا بتقدم شىء وإن قل من السحر، وأخذ شىء من الليل، لأن عليه أن يدخل فى إمساك أول جزء من(4/37)
اليوم بيقين، كما أن عليه أن يدخل فى أول رمضان بيقين، والأكل مناف لأول جزء من الإمساك، فينبغى له أن يقدم الإمساك ليتحقق له أنه حصل فى طلوع الفجر ممسكا، ومن أكل حتى يتبين له الفجر ويعلمه فقد حصل أكلا فى أول اليوم. وذكر الطحاوى حديث حذيفة، ولم يذكر حديث أبى بكر، ولا على، ولا فعل أبى هريرة، وابن مسعود، ثم قال: فدل حديث حذيفة على أن أول وقت الصيام طلوع الشمس، وأن ما قيل طلوع الشمس ففى حكم الليل، وهذا يحتمل عندنا أن يكون بعد ما أنزل الله: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ) [البقرة: 187] قبل أن ينزل: (مِنَ الْفَجْرِ (على مكا فى حديث سهل، ثم أنزل الله بعد ذلك: (مِنَ الْفَجْرِ (وذهب علم ذلك على حذيفة، وعلمه غيره، فعمل حذيفة بما علم إذ لم يعلم الناسخ، وعلم غيره، الناسخ فصار إليه، ومن علم شيئا أولى ممن لم يعلمه فدل ما ذركناه على أن الدخول فى الصيام من طلوع الفجر، وعلى أن الخروج منه بدخول الليل، ثم كان قوله تعالى: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ (غاية لم يدخلها فى الصيام. قال المؤلف: فكما لم يدخل أول الليل فى الصيام، فكذلك لا يدخل أول النهار فى الإفطار. واختلفوا فيمن أكل وهو شاك فى طلوع الفجر، فقالت طائفة: الأكل والشرب مباح حتى يتيقن طلوع الفجر الآخر. وروى سفيان، عن أبان، عن أنس بن مالك، عن أبى بكر الصديق قال: (إذا(4/38)
نظر الرجلان إلى الفجر فقال أحدهما: طلع، وقال الآخر: لم يطلع فليأكلا حتى يتبين لهما) ، وعن ابن عباس قال: أحل الله الأكل والشرب ما شككت. وروى وكيع، عن عمارة بن زاذان، عن مكحول قال: رأيت عمر أخذ دلوا من زمزم ثم قال لرجلين: أطلع الفجر؟ فقال أحدهما: لا، وقال الآخر: نعم فشرب، ومكحول هذا ليس بالشامى، وهو قول عطاء، وأبى حنيفة، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وأبى ثور، كلهم قال: لا قضاء عليه، وليس كمن يأكل، وهو يشك فى غروب الشمس. وقال مالك: من أكل وهو شاك فى الفجر فعليه القضاء. وقال ابن حبيب: والقضاء عنده استحباب، إلا أن يعلم أنه أكل بعد الفجر فيصير واجبًا كمن أفطر وظن أنه قد أمسى ثم ظهرت الشمس، واحتج ابن حبيب لقول من أباح الأكل بالشك قال: هو القياس، لقول الله: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ) [البقرة: 187] ، قال ابن الماجشون: وهو العلم به، وليس الشك علمًا به، ولكن الاحتياط أن لا يأكل فى الشك. ومن حجة العراقيين فى سقوط القضاء قالوا: إذا شك فى طلوعه فالأصل بقاء الليل، وقد قال تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ (فلم يمنعهم من الأكل حتى يستبين لهم الفجر، قاله الثورى، وهذا قد أكل قبل أن يتبين له، فلا معنى للقضاء. قالوا: ومذهب العلماء البناء على اليقين، ولا يوجب الشىء بالشك، والليل عنده يقينى، فلا يزال إلا بيقين، وبهذا وردت السنة فى(4/39)
قوله عليه السلام: (من شك فى صلاته فلم يدر أثلاثًا صلى أم أربعًا، فليبن على اليقين) ، ومن شك هل زالت الشمس لم تلزمه الصلاة. قالوا: وقد اتفقنا أنه إذا أكل يوم الشك أنه لا قضاء عليه إذا لم يتبين أنه من رمضان، ومسألتنا كذلك، وقد أكل فى زمن يجوز أن يكون من الليل، ويجوز أن يكون من النهار، فلم يلتفت إلى التجويز مع استصحاب حكم الليل، كما لم يوجب الإعادة فى يوم الشك مع استصحاب حكم شعبان. قالوا: وهذه المسألة مبنية على أصولنا فيمن تيقن بالطهارة ثم شك فى الحديث. واحتج أصحاب مالك لإيجاب فقالوا: الطعام والشراب يحرم عند اعتراض الفجر الآخر، وصوم رمضان عليه بيقين، ولا يسقط حكم الصوم إلا بيقين، ومن شك هل أكل بعد الفجر أو قبله فليس يتيقن دخوله فى الإمساك، وهو كمن شك فى غروب الشمس فأكل، وكمن شك فى زوال الشمس فلا تجزئه الصلاة، لأن الوقت عليه بيقين، وكذلك لو شك فى دخول رمضان فصام على الشك لم يجزئه عن رمضان، وكذلك لو شك هل كبر للإحترام لم يجزئه، لأن عليه الدخول فى الصلاة بيقين كما يدخل فى وقتها بيقين، كذلك عليه أن يدخل فى أول جزء من اليوم بيقين، كما عليه أن يدخل فى أول رمضان بيقين، أعنى باعتقاد صحيح، قاله ابن القصار. وقد فرق ابن حبيب بين من أكل وهو شاك فى الفجر، وبين من أكل وهو شاك فى غروب الشمس، وسنذكر ذلك فى باب إذا أفطر فى رمضان ثم طلعت عليه الشمس، إن شاء الله.(4/40)
واختلف أصحاب مالك فيمن طلع عليه الفجر، وهو يأكل أو يطأ، فقال ابن القاسم: فليلق ما فى فمه، ولينزل عن امرأته، ولم يفرق بين الأكل والوطء، وقال ابن الماجشون: ليس الأكل كالجماع، لأن إزالته لفرجه جماع بعد الفجر، ولكن لم يبتدئه ولم يتعمده، فعليه القضاء إذا تنحى مكانه، فإن عاد أو خضخض فعليه القضاء والكفار، وهو قول الشافعى. وقال أبو حنيفة والمزنى: لا كفارة عليه، واحتجوا بأنه إذا أولج ثم قال: إن جامعتك فأنت طلق، فلبث فإنه لا حنث عليه ولا مهر، فلم يجعلوا اللبث كالإيلاج فى وجوب المهر والحد، وجعلتم اللبث هاهنا كاٌيلاج فى وجوب الكفار، وفى حديث عدى وسهل أن الحكم للمعانى لا للألفاظ، بخلاف قول أهل الظاهر. وقوله: (فعلموا: إنما يعنى الليل والنهار) ، حجة فى أن النهار من طلوع الفجر، وذكر البخارى فى التفسير زيادة فى حديث عدى بن حاتم، قال: (إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين) ، قال الخطابى: وعريض القفا يفسر على وجهين: أحدهما أن يكون كناية عن العبارة أو سلامة الصدر، يقال للرجل الغبى: إنك لعريض القفا. والوجه الآخر: أن يكون أراد إنك غليظ الرقبة وافر اللحم، لأن من أكل بعد الفجر لم ينهكه الصوم ولم يبن له أثر فيه.
- باب قَوْلِ النَّبِىِّ: (لا يَمْنَعَنَّكُمْ مِنْ سَحُورِكُمْ أَذَانُ بِلالٍ
/ 22 - فيه: عَائِشَةَ: أَنَّ بِلالا كَانَ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (كُلُوا وَاشْرَبُوا(4/41)
حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَإِنَّهُ لا يُؤَذِّنُ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ) ، قَالَ الْقَاسِمُ: (وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ أَذَانِهِمَا إِلا أَنْ يَرْقَى ذَا وَيَنْزِلَ ذَا) . معنى حديث عائشة، ومعنى لفظ الترجمة واحد وإن اختلف اللفظ، ولم يصح عند البخارى عن النبى، عليه السلام، حديث لفظ الترجمة، واستخرج معناه من حديث عائشة، ولفظ الترجمة رواه، وكيع عن أبى هلال، عن سوادة بن حنظلة، عن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله: (لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال، ولا الفجر المستطيل، ولكن الفجر المستطير فى الأفق) ، وقال الترمذى: وهو حديث حسن. قال المهلب: والذى يفهم من اختلاف ألفاظ هذا الحديث أن بلالا كانت رتبته وخطئه أن يؤذن بليل على ما أمره به النبى، عليه السلام، من الوقت، ليرجع القائم وينبه النائم، وليدرك السحور منهم من لم يتسحر، وقد روى هذا كله ابن مسعود عن النبى، عليه السلام، فكانوا يتسحرون بعد أذانه. وقال الطحاوى: فى هذا الحديث قرب أذان ابن أم مكنوم من ذانن بلال الذى كان يؤذنه بالليل. قال الداودى: قوله: لم يكن بين أذانيهما إلا أن ينزل ذا ويرقى ذا، وقد قيل له: أصبحت أصبحت، دليل أن ابن أم مكتوم كان يراعى قرب طلوع الفجر أو طلوعه، لأنه لم يكن يكتفى بأذان بلال فى عمل الوقت، لأن بلالا فيما يدل عليه الحديث كان تختلف أوقاته، وإنما حكى من قال: ينزل ذا ويطلع ذا، ما شاهد فى بعض الأوقات، ولو كان فعله لا يختلف اكتفى به النبى، عليه السلام،(4/42)
ولم يقل: (كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) ، ولقال: فإذا فرغ بلال فكفوا، ولكنه جعل أول أذا ابن أم مكتوم علامة للكف، ويحتمل أن يكون لابن أم مكتوم من يراعى له الوقت، ولولا ذلك لكان ربما خفى عنه الوقت، ويبين ذلك ما روى ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن سالم قال: كان ابن أم مكتوم ضرير البصر، ولم يكن يؤذن حتى يقول له الناس حين ينظرون إلى فروع الفجر: أذن، وقد روى الطحاوى عن على بن معبد، عن روح، عن شعبة، قال: سمعت خبيب بن عبد الرحمن يحدث عن عمته أنيسة، وكانت قد حجت مع النبى أنها قالت: كان إذا نزل بلال وأراد أن يصعد ابن أم مكتوم تعلقوا به وقالوا: كما أنت حتى نتسحر.
- بَاب تعجيل السَّحُورِ
/ 23 - فيه: سَهْلِ قَالَ: (كُنْتُ أَتَسَحَّرُ فِى أَهْلِى، ثُمَّ تَكُونُ سُرْعَتِى أَنْ أُدْرِكَ السُّجُودَ مَعَ النبى، عليه السلام) . قال المهلب: قوله: تعجيل السحور، إنما يريد تعجيل الأكل فيه، لمراهقتهم بالأكل والشرب لآخر الليل ابتغاء القوة على الصوم، ولبيان علم الصبح بالفجر الأول ولم يحتج أن يجعل له حريم مع العلم عليه، وروى مالك عن عبد الله بن أبى بكر، قال: سمعت أبى يقول: (كنا ننصرف فى رمضان فنستعجل الخدم بالطعام مخافة(4/43)
الفجر) ، وكان رسول الله يغلس بالصبح ليتمكن من طول القراءة وترتيلها، ليدرك المتفهم التفهم والتدبر، وليمتثل قول الله فى الترتيل والتدبير، ولو ترجم له باب: تأخير السحور لكان حسنًا.
- باب قَدْرِ كَمْ بَيْنَ السَّحُورِ وَصَلاةِ الْفَجْرِ
/ 24 - فيه: زَيْدِ ابْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: (تَسَحَّرْنَا مَعَ النَّبِىِّ، عليه السلام، ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلاةِ، قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَ الأذَانِ وَالسَّحُورِ؟ قَالَ: قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً) . قال المهلب: هذا يدل على تأخير السحور ليتقوى به على الصوم، وإنما كان يؤخره إلى الفجر الأول الذى هو البياض المعترض فى الأفق، ولذلك جعل الله الفجر الأول حدا للأكل بقدر ما يتم أكله ويطلع الفجر الثانى، ولولا هذا الفجر الأول لصعب ضبط هذا الوقت على الناس، فقيل لهم: إذا رأيتم الفجر الأول فهو نذير بالثانى، وهو بأثره بقدر ما يتعجل الأكل وينهض إلى الصلاة. وفيه: دليل على تقدير الأوقات بأعمال الأبدان، والاستدلال على المغيب بالعادة فى العمل، ألا ترى فى حديث طلوع الشمس من مغربها أنه لا يعرف تلك الليلة التى تطلع من صبيحتها إلا المتهجدون بتقدير الليل بمقدار صلاتهم وقراءتهم المعتادة، والعرب تقدر الأوقات بالأعمال، فيقولون: قدر حلب شاة، وفواق ناقة.(4/44)
- باب بَرَكَةِ السَّحُورِ مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ؛ لأنَّ النَّبِىَّ، عليه السلام، وَأَصْحَابَهُ وَاصَلُوا وَلَمْ يُذْكَرِ السَّحُورُ
/ 25 - فيه: ابن عمر: أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السلام، وَاصَلَ فَوَاصَلَ النَّاسُ، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَنَهَاهُمْ، قَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ قَالَ: (لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّى أَظَلُّ أُطْعَمُ وَأُسْقَى) . / 26 - وفيه: أَنَسَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ، عليه السلام: (تَسَحَّرُوا، فَإِنَّ فِى السَّحُورِ بَرَكَةً) . قال ابن المنذر: أجمع العلماء أن السحور مندوب إليه مستحب، ولا مأثم على من تركه، وحض أمته عليه السلام، عليه ليكون قوة لهم على صيامهم، وروى ابن عباس عن النبى، عليه السلام، أنه قال: (استعينوا بأكل السحر على صيام النهار، وبقائلة النهار على قيام الليل) ، وقد سماه عليه السلام الغداء المبارك من حديث العرباض بن سارية، وروى عمرو بن العاص عن النبى، عليه السلام، أنه قال: (فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر) ، ذكر هذه الآثار ابن المنذر. وقول البخارى فى هذه الترجمة أن الرسول وأصحابه واصلوا، ولم يذكر سحوره غفلة منه، لأنه قد خرج فى باب الوصال حديث أبى سعيد أن الرسول قال لأصحابه: (أيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر) ، وفهم من ذلك أنه، عليه السلام، أراد قطع الوصال بالأكل فى السحر فحديث أبى سعيد مفسر يقضى على المجمل الذى لم يذكر فيه سحور، وقد ترجم له البخارى باب: الوصال إلى السحر.(4/45)
- باب إِذَا نَوَى بِالنَّهَارِ صَوْمًا
وَقَالَتْ أُمَّ الدَّرْدَاءِ: كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: عِنْدَكُمْ طَعَامٌ؟ فَإِنْ قُلْنَا: لا، قَالَ: إِنِّى صَائِمٌ يَوْمِى هَذَا، وَفَعَلَهُ أَبُو طَلْحَةَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَحُذَيْفَةُ. / 27 - فيه: سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ: أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السلام، بَعَثَ رَجُلا يُنَادِى فِى النَّاسِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ: (إِنَّ مَنْ أَكَلَ فَلْيُتِمَّ، أَوْ فَلْيَصُمْ، وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلا يَأْكُلْ) . قال المؤلف: عرض البخارى فى هذا الباب إجازة صوم النافلة بغير تبييت، وذكر ذلك عن بعض الصحابة، وقد روى عن ابن مسعود، وأبى أيوب الأنصارى أيضًا إجازة ذلك، وذكره الطحاوى عن عثمان بن عفان، وهو قول أبى حنيفة، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، كلهم يجيز أن ينوى النافلة بالنهار، واحتجوا بحديث سلمة بن الأكوع هذا وبحديث عائشة بنت طلحة عن عائشة أن النبى، عليه السلام، كان يدخل على بعض أزواجه فيقول: (هل عنكم من غداء؟ فإذا قالوا: لا، قال: فإنى إذا صائم) ، وقال الكوفيون، والشافعى: يجزئه أن ينوى صوم النافلة بعد الزوال. وذهب مالك، وابن أبى ذئب، والليث، والمزنى إلى أنه لا يصح صيام التطوع إلا بنية من الليل كالفرضسواء، وهو مذهب ابن عمر، وعائشة وحفصة، وحجتهم ما رواه الليث عن يحيى بن أيوب، عن عبد الله بن أبى بكر، عن الزهرى، عن سالم، عن أبيه، عن(4/46)
حفصة، عن النبى، عليه السلام، أنه قال: (من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له) قال النسائى: الصواب فى هذا الحديث أنه موقوف، لأن يحيى بن أيوب ليس بالقوى. واحتج ابن القصار بعموم هذا القول، ولم يفرق بين فريضة ولا نافلة، واحتج أيضًا بقوله: (الأعمال بالنيات) ، وكل جزء من النهار الإمساك فيه عمل، فلا يصح بغير نية فى الشرع، ولنا أن نقيس الصيام على الصلاة، لأنه لم يختلف فرضها ونفلها فى باب النية. قالوا فى حديث سلمة بن الأكوع: إن صوم عاشوراء منسوخ فنسخت شرائطه، فلا يجوز رد غيره إليه، وحديث عائشة رواه طلحة بن يحيى، واضطرب فى إسناده، فرواه عنه طائفة عن مجاهد، عن عائشة، وروته طائفة عنه عن عائشة بنت طلحة، عن عائشة أم المؤمنين ومنهم من لا يقول فيه: (إذًا) ويقول: (إنى صائم) . قال ابن القصار: يحتمل أن يكون معناه أن يسألهم عليه السلام عن الغداء ليعلم هل عندهم شىء، وهم يظنون أنه يتغدى، وهو ينوى الصوم ليقول لهم: اجعلوه للإفطار، فتسكن نفسه إليه، فلا يتكلف ما يفطر عليه، فلما قالوا له: (لا) قال: (إنى صائم إذا) ، أى أنى كما كنت، أو إنى بمنزلة الصائم، ويحتمل أن يكون عزم على الفطر لعذر وجده، فلما قيل له: ليس عندنا شىء، تمم الصوم، وقال: إنى صائم كما كنت، وإذا احتمل هذا كله لم تخص الظواهر به، والأصول تشهد لما قلنا.(4/47)
واحتج الكوفيون بحديث سلمة بن الأكوع، وقالوا: هو حجة لنا فى أن كل صوم فرض فى وقت معين فإنه لا يحتاج إلى تبييت من الليل كالنذر المعين، ويجوز أن ينوى له بالنهار قبل الزوال، وكل صوم واجب فى الذمة ولا يتعلق بوقت معين فلابد فيه من النية فى الليل، قالوا: ألا ترى أن النبى، عليه السلام، أمر الناس بيوم عاشوراء بعد ما أصبحوا أن يصوموا، وهو يومئذ عليهم فرض كما صار صوم رمضان بعد ذلك على الناس فرضا، وكان تصحيح هذه الأخبار أن يحمل حديث عاشوراء فى صوم الفرض فى اليوم المعين، لأن عاشوراء فرض فى يوم معين كرمضان فرض فى أيام معينة، فلما كان يجزئ صوم عاشوراء من نوى صومه بعد ما أصبح، كذلك شهر رمضان. وقال الأوزاعى: كقول أبى حنيفة، وذهب مالك، والليث، والشافعى، وأحمد إلى أنه لابد فى صوم الفرض من نية متقدمة فى الليل، واحتج ابن القاصر لهم فقال: إنا لا نسلم استدلال من خالفنا بحديث سلمة بن الأكوع أن صوم عاشوراء كان واجبًا، بدليل قوله فيه: (من أكل فليصم) ، فأمر من كان آكلاً بالإمساك، ولم يأمره بالقضاء، ولو كان واجبًا لأمره بقضائه، وقوله عليه السلام: (نحن أحق بصيامه) ، يدل أنه كان على وجه التطوع حين نسخ برمضان، فزال حكمه، ولو قلنا: إن صومه كان واجبًا، لقلنا: إن صومه إنما وجب فى الوقت الذى أمر به، وقد زال ذلك بزواله، فحصلت النية متقدمة عليه، ولا يقاس عليه وسأتقصى الكلام فى صوم عاشوراء فى بابه بعد هذا، إن شاء الله.(4/48)
- باب الصَّائِمِ يُصْبِحُ جُنُبًا
/ 28 - فيه: عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ: (أَنْ النَّبىُّ، عليه السلام، كَانَ يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ، وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ أَهْلِهِ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَصُومُ) ، وَقَالَ مَرْوَانُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ: أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَتُقَرِّعَنَّ بِهَا أَبَا هُرَيْرَةَ، وَمَرْوَانُ يَوْمَئِذٍ عَلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَكَرِهَ ذَلِكَ عَبْدُالرَّحْمَنِ، ثُمَّ قُدِّرَ لَنَا أَنْ نَجْتَمِعَ بِذِى الْحُلَيْفَةِ، وَكَانَتْ لأبِى هُرَيْرَةَ هُنَاكَ أَرْضٌ، فَقَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ لأبِى هُرَيْرَةَ: إِنِّى ذَاكِرٌ لَكَ أَمْرًا وَلَوْلا مَرْوَانُ أَقْسَمَ عَلَىَّ فِيهِ لَمْ أَذْكُرْهُ لَكَ، فَذَكَرَ قَوْلَ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَ: كَذَلِكَ حَدَّثَنِى الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ، وَهُنَّ أَعْلَمُ، وَقَالَ هَمَّامٌ، وَابْنُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ: (كَانَ النَّبِىُّ، عليه السلام، يَأْمُرُ بِالْفِطْرِ) وَالأوَّلُ أَسْنَدُ. وأجمع فقهاء الأمصار على الأخذ بحديث عائشة، وأم سلمة فى من أصبح جنبًا أنه يغتسل ويتم صومه، وقال ابن المنذر: وروى عن الحسن البصرى فى أحد قوليه أنه يتم صومه ويقضيه، وعن سالم بن عبد الله مثله، واختلف فيه عن أبى هريرة، فأشهر قوليه عند أهل العلم: أنه لا صوم له، وفيه قول ثالث عن أبى هريرة، قال: إذا علم بجنابته ثم نام حتى يصبح فهو مفطر، وإن لم يعلم حتى يصبح فهو صائم. وروى ذلك عن طاوس، وعروة بن الزبير، وعن النخعى قول رابع: وهو أن ذلك يجزئه فى التطوع، ولا يجزئه فى الفرض، واحتجوا بحديث أبى هريرة أن النبى، عليه السلام، قال: (من أصبح جنبًا أفطر ذلك اليوم) ، ولم يقل أحد به من فقهاء الأمصار غير الحسن بن صالح.(4/49)
واحتج ربيعة بن أبى عبد الرحمن لجماعة الفقهاء بقوله تعالى: (فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) [البقرة: 187] فأباح لنا الأكل والجماع إلى طلوع الفجر، فوجب أن يقع الغسل بعد طلوع الفجر، ولولا أن الغسل إذا وقع بعد طلوع الفجر أجزأ الصوم لما أباح الجماع إلى وقت طلوعه، ذكره ابن القصار. وقال الطحاوى: وحجة الجماعة حديث عائشة وأم سلمة، وأيضًا فإن أبا هريرة الذى روى حديث الفضل قد رجع عن فتياه إلى قول عائشة وأم سلمة، ورأى ذلك أولى مما حدثه به الفضل عن النبى، عليه السلام، وروى منصور عن مجاهد، عن أبى بكر بن عبد الرحمن، أن أنا هريرة رجع عن ذلك لحديث عائشة، وروى محمد بن عمرو، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة أنه نزع عن ذلك أيضًا. قال الطحاوى: والنظر فى ذلك أنا رأيناهم قد أجمعوا أن صائمًا لو نام نهارًا فأجنب أن ذلك لا يخرجه عن صومه، فأردنا أن ننظر هل يكون حكم الجنابة إذا طرأت على الصوم خلاف حكم الصوم إذا طرأ عليها؟ فرأينا الأشياء التى تمنع من الدخول فى الصوم من الحيض والنفاس إذا طرأ ذلك على الصوم، أو طرأ عليه الصوم فهو سواء، ألا ترى أنه ليس لحائض أن تدخل فى الصوم وهى حائض، وأنها لو دخلت فى الصوم طاهرًا ثم طرأ عليها الحيض فى ذلك اليوم أنها(4/50)
بذلك خارجة من الصوم، وكان حكم الجنابة إذا طرأت على الصوم لم تبطله بإجماعهم، فالنظر على ذلك أن يكون كذلك إذا طرأ عليها الصوم لم تمنع من الدخول فيه. وفى حديث الباب من الفقه أن الشىء إذا نوزع فيه وجب رده إلى من يظن علمه عنده، لأن أزواج النبى أعلم الناس بهذا المعنى، وفيه: أن الحجة القاطعة عند الاختلاف فيما لا نص فيه سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وفيه اعتراف العالم بالحق وإنصافه إذا سمع الحجة، وقد ثبت أن أبا هريرة لم يسمع ذلك من النبى، عليه السلام، ففى رواية الزهرى، عن أبى بكر بن عبد الرحمن، عن أبى هريرة أنه قال: حدثنيه الفضل بن عباس، وفى رواية المقبرى، عن أبى هريرة، قال: حدثنيه ابن عباس، وفى رواية عمر بن أبى بكر بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن جده، عن أبى هريرة، قال: هن أعلم برسول الله منا حدثنيه أسامة بن زيد. ذكره النسائى.
- باب الْمُبَاشَرَةِ لِلصَّائِمِ وَقَالَتْ عَائِشَةُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ فَرْجُهَا.
/ 29 - فيه: عَائِشَةَ: (كَانَ النَّبِىُّ، عليه السلام، يُقَبِّلُ وَيُبَاشِرُ، وَهُوَ صَائِمٌ، وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لإرْبِهِ) ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَآرِبُ: حَاجَةٌ، قَالَ طَاوُسٌ: أُولِى الإرْبَةِ: الأحْمَقُ لا حَاجَةَ لَهُ فِى النِّسَاءِ. وقال جابر بن زيد: إن نظر فأمنى يتم صومه. والمباشرة والقبلة للصائم حكمهما واحد، وقال أشهب:(4/51)
القبلة أيسر من المباشرة، وقال ابن حبيب: المباشرة والملاعبة، والقبلة، وإدامة النظر، والمحادثة تنقص أجر الصائم، وإن لم تفطره. واختلفوا فى المباشرة، فكرهها قوم من السلف، وروى ابن وهب عن ابن أبى ذئب، أن شعبة مولى ابن عباس حدثه أن ابن عباس كان ينهى الصائم عن القبلة، والمباشرة، قال: وأخبرنى رجال من أهل العلم عن ابن عمر مثله، وروى حماد بن سلمة، عن عائشة أنها كرهت ذلك، وروى مثله عن ابن المسيب، وعطاء، والزهرى، ورخص فيه آخرون، روى عن ابن مسعود أنه كان يباشر امرأته نصف النهار، وهو صائم، وعن سعد بن أبى وقاص مثله، وروى أبو قلابة عن مسروق أنه سأل عائشة: ما يحل للرجل من امرأته وهو صائم؟ قالت: كل شىء إلا الجماع، وكان عكرمة يقول: لا بأس بالمباشرة للصائم، لأن الله أحل له أن يأخذ بيدها وأدنى جسدها ولا يأخذ بأقصاه. قال المهلب: وكل من رخص فى المباشرة للصائم فإنما ذلك بشرط السلام مما يخاف عليه من دواعى اللذة والشهوة، ألا ترى قول عائشة عن النبى، عليه السلام: (وكان أملككم لإربه) . ولهذا المعنى كرهها من كرهها، وروى حماد عن إبراهيم، عن الأسيود: (أنه سأل عائشة عن المباشرة للصائم، فكرهتها، فقلت: بلغنى أن النبى، عليه السلام، كان يباشر وهو صائم، فقالت: أجل، إن رسول الله كان أملك لإربه من الناس أجمعين) . وحماد عن داود، عن سعيد، عن ابن عباس أن رجلا قال(4/52)
له: إنى تزوجت ابنة عم لى جميلة فبنيت فى رمضان، فهل لى إن قبلتها من سبيل؟ قال: هل تملك نفسك؟ قال: نعم. قال: قبل. قال: فهل لى إلى مباشرتها من سبيل؟ قال: هل تملك نفسك؟ قال: نعم. قال: فباشر. قال: فهل لى أن أضرب بيدى على فرجها من سبيل؟ قال: هل تملك نفسك؟ قال: نعم. قال: فاضرب. وقال مالك فى المختصر: لا أحب للصائم فى فرض أو تطوع أن يباشر أو يقبل، فإن فعل ولم يمذ فلا شىء عليه، فإن أمذى فعليه القضاء، وهو قول مطرف، وابن الماجشون، وأحمد بن حنبل، وقال بعض البغداديين من أصحاب مالك: القضاء فى ذلك عندنا استحباب، وروى عيسى عن ابن القاسم أنه إن أنعظ وإن لم يمذ فإنه يقضى، وأنكره سحنون، وهو خلاف قول مالك، وقال أبو حنيفة، والأوزاعى، والشافعى، وأبو ثور: لا شىء عليه إذا أمذى، وهو قول الحسن والشعبى، وحجتهم أن اسم المباشرة ليس على ظاهره، وإنما هو كناية عن الجماع، ولم يختلف العلماء أن قوله تعالى: (فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ (يراد به الجماع، فكل مباشرة اختلفوا فيها فالواجب ردها إلى ما أجمعواعليه منها. واختلفوا إذا باشر أو جامع دون الفرج فأمنى، فقال أبو حنيفة والثورى والشافعى: عليه القضاء فقط، لأن الكفارة إنما تجب عندهم بالإيلاج فى الفرج والجماع التام، وقال عطاء: عليه القضاء مع الكفارة، وهو قول الحسن البصرى، وابن شهاب، ومالك، وابن(4/53)
المبارك، وأبى ثور، وإسحاق، وحجة هذا القول أنه إذا باشر أو جامع دون الفرج فأنزل فقد حصل المعنى المقصود من الجماع، لأن الإنزال أقصى ما يطلب من الالتذاذ، وهو من جنس الجماع التام فى إفساد الصوم، فقد وجبت فيه الكفارة.
- باب الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ
وَقَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: إِنْ نَظَرَ فَأَمْنَى يُتِمُّ صَوْمَهُ. / 30 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: (إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَيُقَبِّلُ بَعْضَ أَزْوَاجِهِ وَهُوَ صَائِمٌ، ثُمَّ ضَحِكَتْ) . / 31 - فيه: أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: (بَيْنَا أَنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، عليه السلام، فِى الْخَمِيلَةِ؛ إِذْ حِضْتُ فَانْسَلَلْتُ، فَأَخَذْتُ ثِيَابَ حِيضَتِى، فَقَالَ: (مَا لَكِ أَنَفِسْتِ) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَدَخَلْتُ مَعَهُ فِى الْخَمِيلَةِ، وَكَانَتْ هِىَ وَرَسُولُ اللَّهِ يَغْتَسِلانِ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ) . قال ابن المنذر: اختلف العلماء فى القبلة للصائم، فرخص فيها جماعة، روى ذلك عن عمر بن الخطاب، وأبى هريرة، وابن عباس، وعائشة، وبه قال عطاء، والشعبى، والحسن، وهو قول أحمد، وإسحاق، وقال ابن مسعود: إن قبل وهو صائم صام يومًا مكانه، قال الثورى: وهذا لا يؤخذ به، وكره ابن عمر القبلة للصائم، ونهى عنها، وقال عروة: لم أر القبلة للصائم تدعو إلى خير، وذكر الطحاوى عن شعبة، عن عمران بن(4/54)
مسلم، عن زاذان، عن عمر بن الخطاب قال: لأن أعض على جمرة أحب إلىّ من أن أقبل وأنا صائم، وروى الثورى عن عمران بن مسلم، عن زاذان، عن ابن عمر مثله، وذكر عن سعيد بن المسيب، قال: الذى يقبل امرأته وهو صائم ينقض صومه، وكره مالك القبلة للشيخ والشاب، وأخذ بقول ابن عمر، وأباحتها فرقة للشيخ وحظرتها على الشاب، روى ذلك عن ابن عباس، ورواه مورق عن ابن عمر، وهو قول أبى حنيفة، والثورى، والأوزاعى، والشافعى. قال الطحاوى: فأما ما روى عن ابن مسعود فقد روى عنه خلافه، روى إسرائيل عن طارق، عن حكيم بن جابر، عن ابن مسعود أنه كان يباشر امرأته وهو صائم، وما ذكره من قول سعيد أنه ينقض صومه فإن ما روى عن رسول الله أنه كان يقبل وهو صائم، أولى من قول سعيد، فلو قال قائل: إنما خص به رسول الله، ألا ترى قول عائشة: (وأيكم كان أملك لإربه من رسول الله) قيل: إن قولها هذا إنما هو على أنها لا تأمن عليهم، ولا يأمنون على أنفسهم ما كان رسول الله يأمن على نفسه، لأنه محفوظ، والدليل على أن القبلة عندها لا تفظر الصائك ما قد رويناه عنها أنها قالت: (ربما قبلنى رسول الله وباشرنى وهو صائم، وأما أنتم فلا بأس للشيخ الكبير الضعيف) ، رواه عمرو بن حريث، عن الشعبى، عن مسروق، عنها، أرادت به أنه لا يخاف من إربه، فدل ذلك أن من لم يخف من القبلة شيئًا وأمن على نفسه أنها له مباحة، وقالت مرة أخرى حين سئلت عن القبلة للصائم، فقالت جوابًا لذلك: (كان(4/55)
رسول الله يقبل وهو صائم) ، فلو كان حكم رسول الله عندها فى ذلك بخلاف حكم غيره من الناس، لما كان ما علمته من فعل رسول الله جوابًا لما سئلت عنه من فعل غيره. ويبين ذلك ما رواه مالك عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار: أن رجلا قبل امرأته وهو صائم، فوجد من ذلك وجدًا شديدًا، فأرسل امرأته تسأل له عن ذلك، فدخلت على أم سلمة زوج النبى فذكرت ذلك لها، فأخبرتها أم سلمة أن رسول الله كان يقبل وهو صائم، فرجعت فأخبرت ذلك زوجها، فزاده شرا، وقال: لسنا مثل رسول الله، يحل الله لرسوله ما شاء، ثم رجعت المرأة إلى أم سلمة فوجدت رسول الله فأخبرته، فغضب رسول الله، وقال: والله إنى لأتقاكم لله، وأعلمكم بحدوده) . فدل هذا المعنى استواء حكم رسول الله وسائر الناس فى حكم القبلة إّا لم يكن معها الخوف على ما بعدها مما تدعو إليه، ولهذا المعنى كرهها من كرهها، وقال: لا أراها تدعو إلى خير، يريد إذا لم يأمن على نفسه، ليس لأنها حرام عليه، ولكن لا يأمن إذا فعلها أن تغلبه شهوته فيقع فيما يحرم عليه، فإذا ارتفع هذا المعنى كانت مباحة. وقال أبو حنيفة والثورى والأوزاعى والشافعى: إن من قبل فأمذى فلا قضاء عليه، وإن نظر فأمنى لم ينقض صومه، وإن قبل أو لمس فأمنى أفطر ولا كفارة عليه، لأن الكفارة عندهم لا تجب إلا على من أولج فأنزل، وقال مالك: إن قبل فأنزل فعليه القضاء والكفارة، وكذلك إن نظر فتابع النظر، لأن الإنزال هو المبتغى من الجماع،(4/56)
وسواء أكان بإيلاج أو غيره، قال: فإن قبل فأمذى، أو نظر فأمذى فعليه القضاء، ولا كفارة عليه ولا قضاء فى ذلك عند الكوفيين، والأوزاعى، والشافعى على ما تقدم فى الباب قبل هذا.
- باب اغْتِسَالِ الصَّائِمِ
وَبَلَّ ابْنُ عُمَرَ ثَوْبًا فَأَلْقَاهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ صَائِمٌ، وَدَخَلَ الشَّعْبِىُّ الْحَمَّامَ وَهُوَ صَائِمٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لا بَأْسَ أَنْ يَتَطَعَّمَ الْقِدْرَ أَوِ الشَّيْءَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لا بَأْسَ بِالْمَضْمَضَةِ وَالتَّبَرُّدِ لِلصَّائِمِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلْيُصْبِحْ دَهِينًا مُتَرَجِّلا. وَقَالَ أَنَسٌ: إِنَّ لِى أَبْزَنَ أَتَقَحَّمُ فِيهِ وَأَنَا صَائِمٌ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: يَسْتَاكُ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لا بَأْسَ بِالسِّوَاكِ الرَّطْبِ، قِيلَ لَهُ طَعْمٌ قَالَ: وَالْمَاءُ لَهُ طَعْمٌ، وَأَنْتَ تتمَضْمِضُ بِهِ، وَلَمْ يَرَ أَنَسٌ وَالْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ بِالْكُحْلِ لِلصَّائِمِ بَأْسًا. / 32 - فيه: عَائِشَةُ وأُمِّ سَلَمَةَ: (كَانَ النَّبِىُّ، عليه السلام، يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ فِى رَمَضَانَ جنبًا مِنْ غَيْرِ حُلْمٍ، فَيَغْتَسِلُ وَيَصُومُ) . وذكر الطحاوى عن الكوفيين أن الصائم لا يفطره الانغماس فى(4/57)
الماء، ولم يذكروا كراهية، وقال الليث والشافعى: لا بأس به، وذكر الطحاوى عن مالك أنه كرهه، وروى ابن القاسم عن مالك فى المجموعة أنه لا بأس أن يغتسل الصائم ويتمضمض من العطش خلاف ما ذكره الطحاوى. وقال الحسن بن حى: يكره الانغماس فيه إذا صب على رأسه وبدنه، ولا يكره أن يستنقع فيه، وحديث عائشة وأم سلمة حجة على من كره ذلك، وروى مالك: عن سمى مولى أبى بكر، عن أبى بكر بن عبد الرحمن، عن بعض أصحاب النبى، عليه السلام: (أن النبى خرج فى رمضان يوم الفتح صائمًا، فلما أتى العرج شق عليه الصيام، فكان يصب على رأسه الماء وهو صائم) . وقال الحسن: رأيت عثمان بن أبى العاص بعرفة وهو صائم يمج الماء ويصب على رأسه. وأما ذوق الطعام للصائم، فقال الكوفيون: إذا لم يدخل حلقه لا يفطره وصومه تام، وهو قول الأوزاعى، وقال مالك: أكرهه ولا يفطره إن لم يدخل حلقه، وهو قول الشافعى، وقال ابن عباس: لا بأس أن تمضغ الصائمة لصبيها الطعام، وهو قول الحسن البصرى، والنخعى، وكره ذلك مالك، والثورى، والكوفيون، وقال الكوفيون: إلا لمن لم تجد بدا من ذلك. وأما الدهن للصائم فاستحبته طائفة، روى عن قتادة أنه قال: يستحب للصائم أن يدهن حتى تذهب عنه غبرة الصوم، وأحازة الكوفيون والشافعى، وقال: لا بأس أن يدهن الصائم شاربه، وممن أجازة الدهن للصائم مطرف: وابن عبد الحكم وأصبغ، ذكره ابن حبيب، وكرهه ابن أبى ليلى.(4/58)
واختلفوا فى الكحل للصائم، فرخص فيه ابن أبى أوفى، وعطاء، والشعبى، والزهرى، وهو قول أبى حنيفة، والأوزاعى، والليث، والشافعى، وأبى ثور، وحكاه ابن حبيب عن مطرف، وابن عبد الحكم، وأصبغ، وقال ابن الماجشون: لا بأس بالكحل بالإثمد للصائم، وليس ذلك مما يصام منه، ولو كان ذلك لذكروه كما ذكروا فى المحرم، وأما الكحل الذى يعمل بالعقاقير، ويوجد طعمه، ويخرق إلى الجوف فأكرهه، والإثمد لا يوجد طعمه وإن كان ممسكًا، وإنما يوجد من المسك طعم ريحه لا طعم ذوقه. ورخص فى الإثمد قتادة، وقال ابن أبى ليلى وابن شبرمة: إن اكتحل الصائم قضى يومًا مكانه، وكرهه الثورى وأحمد وإسحاق، وفى المدونة: لا يكتحل الصائم، فإن اكتحل بإثمد أو صبر أو غيره فوصل إلى حلقه يقضى يومًا مكانه، وكره قتادة الاكتحال بالصبر، وأجازه عطاء والنخعى، وسيأتى اختلاف العلماء فى السواك الرطب واليابس فى بابه بعد هذا، إن شاء الله، ويأتى اختلافهم فى المضمضة والاستنشاق للصائم إذا دخل الماء إلى حلقه فى بابه بعد هذا إن شاء الله.
- باب الصَّائِمِ إِذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا
قَالَ عَطَاءٌ: إِنِ اسْتَنْثَرَ، فَدَخَلَ الْمَاءُ فِى حَلْقِهِ فلا بَأْسَ إِنْ لَمْ يَمْلِكْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنْ دَخَلَ حَلْقَهُ الذُّبَابُ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: إِنْ جَامَعَ نَاسِيًا فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ.(4/59)
/ 33 - وفيه: أَبو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىِّ، عليه السلام: (إِذَا نَسِىَ فَأَكَلَ وَشَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ) . قال ابن المنذر: اختلف العلماء فى الصائم إذا أكل أو شرب ناسيًا، فقالت طائفة: فلا شىء عليه، روينا هذا القول عن على، وابن عمر، وأبى هريرة، وعطاء، وطاوس، والنخعى، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، والثورى، والأوزاعى، والشافعى، وأبو ثور، وأحمد، وإسحاق واحتجوا بهذا الحديث وقالت طائفة: عليه القضاء، هذا قول ربيعة، ومالك، وسعيد بن عبد العزيز، واحتج له ربيعة فقال: ما نعلم ناسيًا لشىء من حقوق الله إلا وهو عائد له. قال ابن القصار: والأكل مناف للصوم، وقد تقرر أنه لو أكل وعنده أن الفجر لم يطلع، وكان قد طلع إن عليه القضاء، كذلك إذا وقع فى خلاف الصوم، ولا فرق بين أن يظن أنه يأكل قبل الفجر أو يظن أنه يأكل فى يوم من شعبان أو شوال أن عليه القضاء، واحتج مالك لذلك بقول عمر بن الخطاب: الخطب يسير وقد اجتهدنا. قال مالك: ولا شك أن عمر قضى ذلك اليوم، وذكره ابن وهب، قال ابن المنذر: وحجة القول الأولقوله عليه السلام فىلا من أكل أو شرب ناسيًا أنه يتم صومه، وغير جائز أن يأمر من هذه صفته أن يتم صومه فيتمه ويكون غير تام، هذا يستحيل وإذا أتمه فهو صوم تام ولا شىء على من صومه تام. قال المؤلف: فعارض هذا أهل المقالة الثانية وقالوا: أما قوله: (فليتم صومه) ، فمعناه أنه لما كان قبل أكله داخلا فى(4/60)
صوم جاز أن يقال له: تتم صومك الذى كنت دخلت فيه، وعليك القضاء، لأنك مفطر قاله ابن القصار، وقال المهلب: معنى قوله (فإن الله أطعمه وسقاه) ، إثبات عذر الناسى وعلة لسقوط الكفارة عنه، وأن النسيان، لا يرفع نية الصوم التى بيتها، فأمره عليه السلام بإتمام العمل على النية، وأسقط عنه الكفارة، لأنه ليس كالمنتهك العامد، ووجب عليه القضاء بنص كتاب الله تعالى وهو قوله: (فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة: 185] ، فإن قيل: إنه لم ينقل فى الحديث القضاء، فلا قضاء عليه، قيل: يجوز ألا يشكل القضاء على السائل أو ذكره، ولم ينقل كما لم ينقل فى حديث الذى وطئ أهله فى رمضان القضاء عليه ولا على امرأته، فلا تعلق لهم بهذا. قال ابن القصار: وليس معكم أن قوله عليه السلام: (فإن الله أطعمه وسقاه) كان فى رمضان، فيحمل الحديث على صوم التطوع، وأنه يكون بذلك مفطرًا، ولا قضاء عليه. وكذلك اختلفوا فيمن جامع ناسيًا فى شهر رمضان، فقالت طائفة: لا شىء عليه. قال ابن المنذر: روينا هذا عن الحسن، ومجاهد، وبه قال الثورى، وأبو حنيفة، والشافعى، وإسحاق، وأبو ثور، وقالت طائفة: عليه القضاء، روينا هذا عن ابن عباس، وعطاء، وهو قول مالك والليث، والأوزاعى، وفيه قول ثالث: وهو أن عليه القضاء والكفارة، وهو قول ابن الماجشون، وأحمد بن حنبل، ورواية ابن نافع عن مالك، واحتج ابن الماجشون بأن الذى قال للنبى، عليه السلام: (وطئت أهلى) لم يذكر عمدًا ولا سهوًا، فالناسى(4/61)
والعامد سواء، واختاره ابن حبيب. قال ابن القصار: واستدلاله بهذا على وجوب الكفارة خطأ، لأنه عليه السلام، أوجب عليه الكفارة لعمده، ألا ترى أنه قال له: (هلكت) فلحقه المأثم، والناسى لا يكون هالكًا، لأنه لا مأثم عليه، وهذا خلاف الإجماع فلا يعتد به، وكفارة رمضان إنما تتعلق بالمأثم، بدلالة سقوطها عن الحائض والمسافر والمريض، والناسى أعذر منهم. وقال ابن المنذر: فى قول الرجل للنبى، عليه السلام: (احترقت) ، وترك النبى إنكار ذلك عليه أبين البيان أنه كان عامدًا، لإجماعهم على سقوط المأثم عمن جامع ناسيًا، ويدل على ذلك قول الرسول: (أين المحترق؟) وغير جائز أن توجب السنة على من وطئ ناسيًا مأثمًا، وإجماع الناس على ارتفاع المأثم عنه. وأما الذباب يدخل حلق الصائم، فروى عن ابن عباس أنه لا شىء عليه، وهو قول مالك، وأبى حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق. قال ابن المنذر: ولم يحفظ عن غيرهم خلافهم. قال ابن القصار: سبق الذباب إلى الحلق لا يمكن التحرز منه، وهو كغبار الطريق والدقيق فلم يكلفه. قال ابن المنذر: وهذا يلزم مالكًا حين أوجب على المرأة توطأ مستكرهة القضاء والكفارة ويلزم من أوجب عليها القضاء، ومن أسقط القضاء عمن دخل حلقه الذباب مغلوبًا عليه لزمه أن يقول مثله فى المرأة التى يستكرهها زوجها أو يأتيها وهى نائمة.(4/62)
- باب السِوَاكِ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ لِلصَّائِمِ
وَيُذْكَرُ عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ: (رَأَيْتُ النَّبِىَّ، عليه السلام، يَسْتَاكُ وَهُوَ صَائِمٌ مَا لا أُحْصِى، أَوْ أَعُدُّ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ عَنِ النَّبِىِّ: (السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ، مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ) . وَقَالَ عَطَاءٌ وَقَتَادَةُ: يَبْتَلِعُ رِيقَهُ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِى لأمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ) ، وَيُرْوَى نَحْوُهُ عَنْ جَابِرٍ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ عَنِ النَّبِىِّ، عليه السلام، وَلَمْ يَخُصَّ الصَّائِمَ مِنْ غَيْرِهِ. / 34 - وفيه: (عُثْمَانَ أَنَّه تَوَضَّأَ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ ثَلاثًا، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ) الحديث. واختلف العلماء فى السواك للصائم فى كل وقت من النهار، فأجازه الجمهور، قال مالك أنه سمع أهل العلم لا يكرهون السواك للصائم فى أى ساعات النهار شاء غدوة وعشية، ولم يسمع أحدًا من أهل العلم يكره ذلك ولا ينهى عنه، وقد روى ذلك عن عائشة، وابن عمر، وابن عباس، وبه قال النخعى، وابن سيرين، وعروة، والحسن، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه، وقال عطاء: أكرهه بعد الزوال إلى آخر النهار من أجل الحديث فى خلوف فم الصائم، وهو قول مجاهد، وإليهخ ذهب الشافعى، وأحمد،(4/63)
وإسحاق، وأبو ثور، وحجة القول الأول ما نزعه البخارى من قوله عليه السلام: (لولا أن أشق على أمتى لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء) ، وهذا يقتضى إباحته فى كل وقت، وعلى كل حال، لأنه لم يخص الصائم من غيره، وهذا احتجاج حسن لا مزيد عليه. واحتج ابن المنذر بهذا الحديث فى إباحة السواك للمحرم، وقال: هو داخل فى عموم هذا الحديث، قال: ولا أعلم أحدًا من أهل العلم منع المحرم من السواك واختلفوا فى السواك بالعود الرطب للصائم، فرخصت فيه طائفة، روى ذلك عن ابن عمر، وإبراهيم، وابن سيرين، وعروة، وهو قول أبى حنيفة، والثورى، والأوزاعى، والشافعى، وأبى ثور، وكرهت طائفة السواك الرطب، روى ذلك عن الشعبى، وقتادة، والحكم، وهو قول مالك، وأحمد، وإسحاق، والحجة لمن أجاز الرطب أمره عليه السلام، بالسواك عند كل وضوء، كما لم يخص الصائم من غيره بالإباحة، كذلك لم يخص السواك الرطب من غيره بالإباحة، فدخل فى عموم الإباحة كل جنس من السواك رطبًا أو يابسًا، ولو افترق حكم الرطب واليابس فى ذلك لبينه عليه السلام، لأن الله فرض عليه البيان لأمته، وحديث عثمان فى الوضوء حجة واضحة فى ذلك وهو انتزاع ابن سيرين حين قال: لا بأس بالسواك الرطب، قيل: له طعم. قال: والماء له طعم، وأنت تتمضمض به، وهذا لا انفكاك منه، لأن الماء أرق من ريق المتسوك وقد أباح(4/64)
الله المضمضة بالماء فى الوضوء للصائم، وإنما كرهه من كرهه خشية من ألا يعرف أن يحترس من ازدراد ريقه، قال ابن حبيب: من استاك بالأخضر ومج من فيه ما اجتمع فى فيه، فلا شىء عليه، ولا بأس به للعالم الذى يعرف كيف يتقى ذلك، ومن وصل من ريقه إلى حلقه شىء فعليه القضاء.
- باب قَوْلِ النَّبِىِّ عليه السلام: (إِذَا تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمَنْخِرِهِ الْمَاءَ) ، وَلَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الصَّائِمِ وَغَيْرِهِ
وَقَالَ الْحَسَنُ: لا بَأْسَ بِالسَّعُوطِ لِلصَّائِمِ، إِنْ لَمْ يَصِلْ إِلَى حَلْقِهِ وَيَكْتَحِلُ. وَقَالَ عَطَاءٌ: إِنْ تَمَضْمَضَ ثُمَّ أَفْرَغَ مَا فِى فِيهِ مِنَ الْمَاءِ لا يَضِرُهُ، إِنْ لَمْ يَزْدَرِدْ رِيقَهُ وَمَاذَا بَقِىَ فِى فِيهِ، وَلا يَمْضَغُ الْعِلْكَ فَإِنِ ازْدَرَدَ رِيقَ الْعِلْكِ لا أَقُولُ أَنَّهُ يُفْطِرُ، وَلَكِنْ يُنْهَى عَنْهُ. اختلف العلماء فى الصائم يتمضمض أو يستنشق أو يستنثر فيدخل الماء فى حلقه، فقالت طائفة: صومه تام ولا شىء عليه، هذا قول عطاء وقتادة فى الاستنثار، وبه قال أحمد وإسحاق، وقال الحسن: لا شىء عليه إن مضمض فدخل الماء فى حلقه. وهو قول الأوزاعى، وكان الشافعى يقول: لو أعاد احتياطًا، ولا يلزمه أن يعيد. وقال أبو ثور: لا شىء عليه فى المضمضة والاستنشاق. وإلى هذا ذهب البخارى، وقالت طائفة: يقضى يومًا مكانه. وهذا قول مالك والثورى، وقال أبو حنيفة وأصحابه فى المضمضة: إن كان ذاكرًا لصومه قضى، وإن كان ناسيًا فلا شىء عليه. وفرق آخرون(4/65)
بين المضمضة للصلاة المكتوبة والنافلة، فأوجبوا القضاء فى النافلة وأسقطوه فى المكتوبة، روى هذا عن ابن عباس، والنخعى، وابن أبى ليلى، قال ابن القصار: وحجة من أوجب القضاء أنه ليس المضمضة والاستنشاق هما الموصلان الماء إلى جوفه، وإنما توصله المبالغة، والاحتراز منها ممكن فى العادة، وإن لم يبالغ فالمضمضة سبب ذلك أيضًا، وهذا بمنزلة القبيلة إذا حصل معها الإنزال سواء كانت القبلة مباحة أو غير مباحة، لأنه لما كانت القبلة مع الإنزال تفطر، كذلك المضمضة مع الازدراد، وأظن أبا حنيفة إنما فرق بين الذاكر لصومه والناسى على أصله فى كل من أكل ناسيًا فى رمضان أنه لا شىء عليه، وقد تقدم ذلك فى باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسيًا، فأغنى عن إعادته، ولا معنى لقول من فرق بين الوضوء للمكتوبة والنافلة بغير دليل ولا حجة. وأما السعوط للصائم فذهب الثورى، وأبو حنيفة، وأصحابه، والأوزاعى، وإسحاق إلى أنه إذا استعط فعليه القضاء، يعنون إذا احتاج إليه للتداوى، وقال مالك: إذا وصل ذلك إلى فمه لضرورته إلى التداوى به فعليه القضاء. وقال الشافعى: إذا وصل طعم ذلك إلى دماغه عليه القضاء، غير أن أل الشافعى أنه لا كفارة على من أكل عمدًا، قال إسحاق: إن دخل حلقه عليه القضاء والكفارة، قال ابن المنذر: وقال قائل: لا قضاء عليه، وقد روينا عن النخعى روايتين: إحداهما كراهية السعود، والأخرى الرخصة فيه. قال المؤلف: والحجة المتقدمة لمن أوجب القضاء فى المضمضة إذا(4/66)
أوصل الماء منها إلى الجوف، هى الحجة فى إيجاب القضاء عن السعود إذا وصل ذلك فمه أو جوفه. قال ابن المنذر: وحجة من لم ير القضاء فى ذلك أن القضاء إلزام فرض، ولا يجب ذلك إلا بسنة أو إجماع، وذلك غير موجود، وما حكاه البخارى عن عطاء أنه إن مضمض ثم أفرغ ما فى فيه لم يضره أن يزدرد ريقه وما بقى فى فيه، فلا يوهم هذا أن عطاء يبيح أن يزدرد ما بقى فى فيه من الماء الذى تمضمض به، وإنما أراد أنه إذا مضمض ثم أفرغ ما فى فيه من الماء أنه لا يضره أن يزدرد ريقه خاصة، لأنه لا ماء فى فيه بعد تفريغه له، قال عطاء: وماذا بقى فى فيه؟ هكذا رواه عبد الرزاق عن ابن جريج، عن عطاء، وأظنه سقط (ذا) للناسخ، والله أعلم. قال ابن المنذر: وأجمعوا أنه لا شىء على الصائم فى ما يزدرده مما يجرى مع الريق مما بين أسنانه من فضل سحور أو غيره مما لا يقدر على إخراجه وطرحه، وكان أبو حنيفة يقول: إذا كان بين أسنانه لحم فأكله متعمدًا فلا قضاء عليه ولا كفارة، وفى قول سائر أهل العلم إما عليه القضاء والكفارة أو القضاء على حسب اختلافهم فيمن أكل عامدًا فى الصيام، قال ابن المنذر: هو بمنزلة الأكل فى الصوم فعليه القضاء. واختلفوا فى مضغ العلك للصائم، فرخصت فيه طائفة، روى ذلك عن عائشة وعطاء، وقال مجاهد: كانت عائشة ترخص فى الغار وحده، وكرهت ذلك طائفة، روى ذلك عن النخعى،(4/67)
والشعبى، وعطاء، والكوفيين، والشافعى، وأشهب، وأحمد، وإسحاق، إلا أنه لا يفطر ذلك عند الكوفيين والشافعى، وإسحاق، ولم يذكر عنهم ابن المنذر الفرق بين مجه وازدراده، وعند أصحاب مالك إن مجه فلا شىء عليه، وإن ازدرده فقد أفطر.
- باب إِذَا جَامَعَ فِى رَمَضَانَ
وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: (مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلا مَرَضٍ، لَمْ يَقْضِهِ صِيَامُ الدَّهْرِ وَإِنْ صَامَهُ) . وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالشَّعْبِىُّ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَقَتَادَةُ، وَحَمَّادٌ: يَقْضِى يَوْمًا مَكَانَهُ. / 35 - فيه: عَائِشَةَ: (إِنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِىَّ، عليه السلام، فِى رَمَضَانَ، فَقَالَ له إِنَّهُ احْتَرَقَ، قَالَ: (مَا لَكَ) ؟ قَالَ: أَصَبْتُ أَهْلِى فِى رَمَضَانَ، فَأُتِىَ النَّبِىُّ، عليه السلام، بِمِكْتَلٍ يُدْعَى الْعَرَقَ، فَقَالَ: (أَيْنَ الْمُحْتَرِقُ) ؟ قَالَ: أَنَا، قَالَ: (تَصَدَّقْ بِهَذَا) . اختلف العلماء فيما يجب على الواطىء عامدًا فى نهار من شهر رمضان، فذكر البخارى عن جماعة من التابعين أن على من أفطر القضاء فقط بغير كفارة، قال المؤلف: فنظرت أقوال التابعين الذين ذكرهم البخارى فى صدر هذا الباب فى المصنفات، فلم أر(4/68)
قولهم بسقوط الكفارة إلا فى المفطر بالأكل لا فى المجامع، فيحتمل أن يكون عندهم الآكل والمجامع سواء فى سقوط الكفارة، إذ كل ما أفسد الصيام من أكل وشرب أو جماعة فاسم فطر يقع عليه، وفاعله مفطر بذلك من صيامه، وقد قال عليه السلام، فى ثواب الصائم: (قال الله تعالى: يدع طعامه وشرابه، وشهوته من أجلى) ، فدخلت فى ذلك أعظم الشهوات، وهى شهوة الجماع. وذكر عبد الرزاق عن سعيد بن المسيب: ن كل من أكل فى شهر رمضان عامدًا عليه صيام شهر، وذكر عن ابن سيرين: عليه صيام يوم، وأوجب جمهور الفقهاء على المجامع عامدًا الكفارة والقضاء، هذا قول مالك، وعطاء، والثورى، وأبى حنيفة، وأصحابه، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، واحتجوا بإعطاء النبى للمحترق المكتل ليتصدق به، قالوا: فثبت بهذا الخبر الكفارة على المجامع، ولا وجه لقول من لم ير الكفارة فى ذلك لخلافهم السنة الثابتة والجمهور، وقد تقدم فى (باب: من أكل وشرب ناسيًا) ، أن فى قول الرجل: إنه احترق، دليلاً أنه كان عامدًا منتهكًا فى وطئه، لأن الله قد رفع الحرج عن السهو والخطأ، ويؤيد هذا قوله عليه السلام: (أين المحترق؟) فأثبت له حكم العمد بهذا، لأنه لا ينطق عن الهوى. وذكر الطحاوى فى (شرح معانى الآثار) ، قال: ذهب قوم إلى أن من وقع بأهله فى رمضان فعليه أن يتصدق، ولا يجب عليه من الكفارة غير ذلك، واحتجوا بهذا الحديث. ولم يسم القائلين بذلك(4/69)
وحديث أبى هريرة أول منه، لأنه قد كان قبل الذى فى حديث عائشة شىء حفظه أبو هريرة ولم تحفظه عائشة، فهو ألو لما زاد فى الحديث من العتق والصيام، فأما قول البخارى: ويذكر عن أبى هريرة: (من أفطر يومًا من رمضان متعمدًا لم يقضه صيام الدهر) ، فرواه الثورى عن حبيب بن أبى ثابت، عن ابن المطوس، عن أبيه، عن أبى هريرة، عن النبى، عليه السلام، وهو حديث ضعيف لا يحتج بمثله، وقد صضحت الكفارة بأسانيد صحاح، ولا تعارض بمثل هذا الحديث، وقال البخارى فى التاريخ: تفرد أبو المطوس بهذا الحديث، ولا نعرف له غيره، ولا أدرى سمع أبوه من أبى هريرة أم لا، واسمه: يزيد بن المطوس. واختلفوا فيمن أكل عامدًا فى رمضان، فقال مالك: وأبو حنيفة، والثورى، والأوزاعى، وأبو ثور، وإسحاق: عليه ما على المجامع من الكفارة مع القضاء، وهو قول عطاء، والحسن، والزهرى، وقال الشافعى، وأحمد بن حنبل: عليه القضاء دون الكفارة، وهو قول النخعى، وابن سيرين، وقالوا: إن الكفارة إنما وردت فى المجامع خاصة، وليس الآكل مثله بدليل قوله عليه السلام: (من استقاء فعليه القضاء) ، وهو مفطر عمدًا، وكذلك مزدرد الحصى عمدًا عليه القضاء، وحجة من أوجب الكفارة أن الأكل والشرب فى القياس كالجماع سواء، وأن الصوم فى الشريعة الامتناع من الأكل والشرب والجماع، فإذا ثبت فى الشريعة فى وجه واحد منهما حكم فسبيل نظيره فى ذلك الحكم سبيله، لأن المعنى الجامع بينهما انتهاك حرمة الشهر بما يفسد الصوم عمدًا، وذلك أن الأكل(4/70)
والجماع كانا محرمين فى ليل الصوم بعد النوم، فنسخ الله ذلك رفقًا بعباده، وأباح الجماع والأكل إلى الفجر، وقال تعالى: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ) [البقرة: 187] ، فبقى الأكل والجماع بالنهار محرمين، وأوجب عليه السلام على الواطئ فى رمضان الكفارة، فوجب أن يكون حكم الأكل فى الكفارة مثله، إذ هما فى التحريم سواء. وأما قوله عليه السلام: (من استقاء فعليه القضاء) ، فقد ثبت بقوله: عليه القضاء أنه مفطر، فإن كان استقاء لحاجة دعته إلى ذلك، فهو كالعليل الذى يحتاج إلى شرب الدواء، وهو مفطر غير مأثوم ولا ممنوع، فلا كفارة عليه، وإن كان لغير حاجة فهو منتهك لحركة الصوم، فعليه الكفارة، وقد أوجب عطاء على المستقىء عمدًا لغير عذر القضاء والكفارة، وهو قول أبى ثور، ويدخل على الشافعى التناقض فى قياسه الأكل على القىء، لأنه فرق بين الأكل والقىء فى المكره، فقال: إذا أكره على الأكل فعليه القضاء، وإن أكره على القىء فلا قضاء عليه، فيلزمه أن يفرق فى الصيام بين القىء والأكل والجماع، ولا يجمع بينها. وقد اختلف الفقهاء فى قضاء ذلك اليوم مع الكفارة، قال مالك: عليه قضاء ذلك اليوم مع الكفارة، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه، والثورى، وأبى ثور، وأحمد، وإسحاق، وقال الأوزاعى: إن كفر بالعتق أو الإطعام صام يوًا مكان ذلك اليوم الذى أفطر، وإن صام شهرين متتابعين دخل فيهما قضاء ذلك اليوم، وقال الشافعى: يحتمل أن تكون الكفارة بدلا من الصيام، ويحتمل أن يكون الصيام مع الكفارة، وأحب إلى أن يكفر(4/71)
ويصوم، وحجة من أوجب صوم اليوم مع الكفارة أن الكفارة عقوبة للذنب الذى ركبه، والقضاء بدل من اليوم الذى أفسده، فكما لا يسقط عن المفسد حجه بالوطء إذا أهدى البدن، فكذلك قضاء اليوم، والله أعلم. واعتل من لم يَرَ مع الكفارة صيام اليوم بأنه ليس فى حديث عائشة ولا خبر أبى هريرة فى نقل الحفاظ ذكر القضاء، وإنما فيهما الكفارة فقط، فيقال له: قد روى عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده: (أن أعرابيا جاء ينتف شعره، وقال: يا رسول الله، وقعت على امرأتى فى رمضان، فأمره رسول الله أن يقضى يومًا مكانه) ، وهو من مرسلات سعيد بن المسيب، وهى حجة عند الفقهاء، وكتاب الله يشهد بصحته، وهو قوله تعالى: (فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة: 185] ولا تبرأ الذمة إلا بيقين الأداء وهو قضاء اليوم مع الكفارة. واختلفوا فى مقدار الكفارة، فقال مالك والشافعى: الإطعام فى ذلك مد لكل مسكين بمد النبى، عليه السلام، وقال أبو حنيفة: إن أخرج من البر فنصف صاع لكل مسكين، ومن التمر والشعير صاع، والحجة لمالك أن العرق الذى فى الحديث مبلغه خمسة عشر صاعًا، وذلك ستون مدا. وروى ابن المنذر عن مؤمل بن إسماعيل، حدثنا سفيان، عن منصور، عن الزهرى، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبى هريرة: أن رجلا أتى النبى فقال: يا رسول الله، إنى وقعت على امرأتى فى رمضان؟ فقال: (أعتق رقبة) ،(4/72)
قال: لا أجد، قال: (صم شهرين متتابعين) ، قال: لا أستطيع، قال: (أطعم ستين مسكينًا) ، قال: لا أجد، فأتى النبى، عليه السلام، بمكتل فيه خمسة عشر صاعًا، قال: (خذ هذا فأطعمه عنك) الحديث. قال ابن المنذر: فقد أمر النبى، عليه السلام، الواقع على أهله فى رمضان بعد أن أعلمه أن الذى يجب على من لا يجد الرقبة إطعام ستين مسكينًا أن يتصدق بخمسه عشر صاعًا من تمر، وذلك مد لكل مسكين، وفى إعطاء الرسول للرجل الصاع ليتصدق به حجة لمالك فى اختياره الإطعام فى كفارة المفطر فى رمضان، لأنه يشبه البدل من الصيام، ألا ترى أن الحامل والمرضع والشيخ الكبير والمفرط فى قضاء رمضان حتى يدخل عليه رمضان آخر لا يؤمر بالإطعام وهذا مأخوذ من قوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) [البقرة: 184] ، وذكر أبو عبيد عن الأصمعى، قال: أصل العرق: السقيفة المنسوجة من الخوص قبل أن يجعل منها زبيل، فسمى الزبيل عرقًا بذلك، زعم الأخفش أنه سمى عرقًا، لأنه يعمل عرقة عرقة ثم تضم، والعرقة الطريقة، ولذلك سميت درة الكتاب عرقة لعرضها واصطفافها، يقال: عرقة وعرق، كما يقال: علقة وعلق.(4/73)
30 - باب إِذَا جَامَعَ فِى رَمَضَانَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ فَتُصُدِّقَ عَلَيْهِ فَلْيُكَفِّرْ
/ 36 - فيه: أَبَو هُرَيْرَةَ: جَاءَ إِلَى النبى، عليه السلام، رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكْتُ، قَالَ: (مَا لَكَ) ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِى، وَأَنَا صَائِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا) ؟ قَالَ: لا، قَالَ: (فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) ؟ قَالَ: لا، قَالَ: (فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا) ؟ قَالَ: لا، قَالَ: فَمَكَثَ النَّبِىُّ، عليه السلام، فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ، أُتِىَ النَّبِىُّ، عليه السلام بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ، وَالْعَرَقُ الْمِكْتَلُ، قَالَ: (أَيْنَ السَّائِلُ) ؟ فَقَالَ: أَنَا، قَالَ: (خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ) ، قَالَ الرَّجُلُ: أَعَلَى أَفْقَرَ مِنِّى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَوَاللَّهِ مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِى، فَضَحِكَ النَّبِىُّ حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: (أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ) . وترجم له باب: (المجامع فى رمضان هل يطعم أهله من الكفارة إذا كانوا محاويج) ، وفيه: أن الرجل قال للنبى: (إن الأخر وقع على امرأته فى رمضان) . اختلف العلماء فى الواطئ فى رمضان إذا وجب عليه التكفير بالإطعام دون غيره، ولم يجد ما يطعم كالرجل الذى ورد فى هذا الحديث، قال ابن شهاب: إباحة النبى لذلك الرجل أكل الكفارة لعسرته رخصة له وخصوص، وقال: لو أن رجلاً فعل ذلك اليوم لم يكن له بد من التكفير، وزعم الطبرى أن قياس قول أبى حنيفة، والثورى، وأبى ثور أن الكفارة دين عليه لا يسقطها عنه عسرته كسائر الكفارات، وقال عيسى بن دينار: الكفارة على المعسر واجبة، فإذا أيسر أداها، وقال الأوزاعى: الكفارة ساقطة عن ذمته إذا كان(4/74)
محتاجًا، لأنه لما جاز للمكفر أن يطعم أهله الكفارة علم أنها ساقطة عن ذمته، قيل للأوزاعى: أنسأل فى الكفارة؟ قال: لا، رد رسول الله كفارة المفطر عليه وعلى أهله، فليستغفر الله ولا يعد، ولم ير عليه شيئًا، وهو قول أحمد بن حنبل. وقال الشافعى: يحتمل أن تكون الكفارة دينًا عليه متى أطاقها أداها، وإن كان ذلك ليس فى الخبر، وهو أحب إلينا وأقرب إلى الاحتياط وله احتمالات أخر، هذا الوجه الذى أستحب، سأوردها فى هذا الذى بعد هذا، وأرد فيه قول من جعل الكفارة ساقطة عن المعسر خلاف من ذكرت قوله فى هذا الباب، إن شاء الله. ويحتمل أنه لما كان فى الوقت الذى أصاب فيه أهله ليس ممن يقدر على واحدة من الكفارات، تطوع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بأن قال له فى شىء أتى به: (كَفِّر) . فلما ذكر الحاجة ولم يكن الرجل قبضه. قال له: (كله وأطعمه أهلك) ، وجعل التمليك له حينئذ مع القبض، ويحتمل أن يكون لما ملكه وهو محتاج، وكان إنما تجب عليه الكفارة إذا كان عنده فضل، ولم يكن عنده فضل، قال له كله، هو وأهله، لحاجته ويحتمل إذا كان لا يقدر على شىء من الكفارات، وكان لغيره أن يكفر عنه، كان لغيره أن يتصدق عليه وعلى بيته بتلك الكفارة إذا كانوا محتاجين، وتجزئ عنه ويحتمل أن تسقط عنه الكفارة لعدمه، كما سقطت الكفارة عن المغمى عليه إذا كان مغلوبًا. قال المهلب: قوله عليه السلام: (كله) دليل على أنه إذا وجبت على معسر كفارة إطعام، وكان محتاجًا إلى إبقاء رمق(4/75)
نفسه وأهله أن يؤثرها بذلك الإطعام، ويكون ذلك مجزئًا عنه على قول من رأى سقوط الكفارة عنه بالعسرة، وعلى مذهب الآخرين يكون فى ذمته إلى الميسرة، ورد ابن القصار على من رأى سقوط الكفارة عنه بالعسرة فقال: أما إباحته عليه السلام للواطئ أكل الكفارة، فلا يمتنع من بقاء حكم الكفارة فى ذمته، لأنه لما أخبر عن حاجته أباح له الانتفاع بما أعطاه، ولم يتعرض لحكم ما فى ذمته، فبقى ذلك بحاله. وقال غيره: فإن احتج محتج فى سقوط الكفارة بقوله عليه السلام: (أطعمه أهلك) . ولم يقل له: وتؤديها إذا أيسرت، لأنها لو كانت واجبة لم يسكت حتى يبين ذلك، قيل له: ولا قال له رسول الله: إنها ساقطة عنك لعسرك بعد أن كان أخبره بوجوبها عليه وكل ما وجب عليه أداؤه فى اليسار لزم الذمة إلى الميسرة. قال المهلب: وفيه أن الصدقة على أهل الفقير واجبة بهذا الحديث واحتج بهذا الحديث من جعل كفارة المفطر فى رمضان مرتبة على ما جاء فى هذا الحديث، أولها بالعتق، فإن لم يجد صام، فإن لم يقدر أطعم، هذا قول أبى حنيفة وأصحابه، والثورى، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وأبى ثور، وفى المدونة قال ابن القاسم: لا يعرف مالك فى الكفارة إلا الإطعام، لا عتقًا ولا صومًا، وقال فى كتاب الظهار: ما للعتق وماله قال تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) [البقرة: 184] ، قال المؤلف:(4/76)
وأمر المحترق بالصدقة، وروى عن مالك أنه مخير بين العتق أو الصيام أو الإطعام، ذكره ابن القصار، والحجة له حديثه عن الزهرى، عن حميد، عن أبى هريرة (أن رجلاً أفطر فى رمضان، فأمره النبى أن يعتق أو يصوم أو يطعم) ، و (أو) موضعها فى كلام العرب للتخيير، ولا توجب الترتيب، ويجوز أن يكون أبو هريرة قد حفظ الفتيا من الرسول فى مرتين فرواه مرة على التخيير، ومرة على الترتيب، ليعلمنا الجواز فى التخيير أو الندب إلى تقديم العتق، ولا يكون أحدهم ناسخًا للآخر. وقال الطحاوى: إنما أمره النبى، عليه السلام، بكل صنف من أصناف الكفارة الثلاثة لما لم يكن واجدًا للصنف الذى ذكر له قبله على ما ثبت فى حديث هذا الباب، وقال بعض العراقيين: القصة واحدة، والراوى واحد وهو الزهرى، وقد نقل التخيير والترتيب، ولا يجوز أن يكون خيره ورتبه، فلابيد من المصير إلى أحد الروايتين، فالمصير إلى الترتيب أولى من وجوه: أحدها: كثرة ناقليها، والثانى: أن من نقل الترتيب فإنما نقل لفظه عليه السلام، ومن نقل التخيير فإنما نقل لفظًا لراوٍ، وإن كانا فى الحجة سواء، وإذا تعارضا كان المصير إلى من نقل لفظه عليه السلام أولى. والثالث: أن من نقل الترتيب نقل الخبر مفسرًا، لأنه قال له: (أعتق، قال: لا أجد، قال: فصم) ، ومن نقل التخيير لم يذكر أنه أمره بالصيام والإطعام بعد أن ذكر الأعرابى عجزه، وهذه زيادة، و(4/77)
الرابع: أن فيه احتياطًا، لأنها إن كانت على التخيير أجزأه إذا رتب، وإن كانت على الترتيب لم يجزئه ما دونه. واختلفوا فى المرأة إذا وطئها طائعة فى رمضان، فقال مالك: عليها مثل ما على الرجل من الكفارة، وهو قول أبى حنيفة، وأبى ثور، وقال الشافعى: تجزئ الكفارة التى كفرها الرجل عنهما، وفيه قول ثالث: أن الكفارة الواحدة تجزئهما إلا الصيام، فإنه عليهما، يصوم كل واحد منهما شهرين متتابعين، وإن أكرهها فالصوم عليه وحده. واختلفوا إذا وطئها مكرهة، فقال مالك: عليهخ كفارتان عنه وعنها، وكذلك إن وطئ أمته كفر كفارتين، وقال أبو حنيفة: عليه كفارة واحدة ولا شىء عليها، وقال الشافعى: ليس عليها كفارة سواء طاوعته أو أكرهها، واحتج بأن النبى إنما أجاب السائل بكفارة واحدة ولم يسأله هل طاوعته أم أكرهها، ولو اختلف الحكم لم يترك النبى تبيين ذلك، وحجة من أوجب عليها الكفارة إن طاوعته القياس على قضاء ذلك اليوم، فلما وجب عليها قضاء ذلك اليوم، وجب عليها الكفارة عنه، وأما وجوب الكفارة عليه عنها إذا أذكرهها، فلأنه سبب إفساد صومها بتعديه الذى أوجب الكفارة عليه عن نفسه،، فوجب أن يكفر عنها، وهذا مبنى على أصولهم إذا أكرهها، وأفسد حجها بالوطء، فعليه أن يحجها من ماله، ويهدى عنها، وكذلك إذا حلق رأس محرم نائم، فإنه ينسك عنه، لأنه أدخل ذلك عليه بتعديه من غير اختيار من المفعول به ذلك، ولا يلزم على هذا الناسى،(4/78)
والحائض، والمريض وغيرهم من المعذورين إذا أفطروا، لأن السبب أتاهم من قبل الله تعالى، وفى مسألتنا الفطر أتى من قبل الواطئ، والكفارة تتعلق بالذمة، لأن ماله لو تلف لم تسقط. وقوله: (إن الأخر وقع على امرأته) قال ثابت: الأخر على مثال فعل هو الأبعد، وقال بعضهم: الأخير الأبعد، والآخر الغائب، وقال قيس بن عاصم لبنيه: يا بنى، إياكم ومسألة الناس، فإنها آخر كسب المرء يعنى: أرذله وأوسخه.
31 - باب الْحِجَامَةِ وَالْقَيْءِ لِلصَّائِمِ
يروى عن أَبَى هُرَيْرَةَ: إِذَا قَاءَ فَلا يُفْطِرُ، إِنَّمَا يُخْرِجُ وَلا يُولِجُ، وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يُفْطِرُ، وَالأوَّلُ أَصَحُّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ: الفطَّرْ مِمَّا دَخَلَ وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ، ثُمَّ تَرَكَهُ فَكَانَ يَحْتَجِمُ بِاللَّيْلِ، وَاحْتَجَمَ أَبُو مُوسَى لَيْلا، وَيُذْكَرُ عَنْ سَعْدٍ وَزَيْدِ ابْنِ أَرْقَمَ وَأُمِّ سَلَمَةَ احْتَجَمُوا صِيَامًا، وَقَالَ بُكَيْرٌ عَنْ أُمِّ عَلْقَمَةَ: كُنَّا نَحْتَجِمُ عِنْدَ عَائِشَةَ فَلا تَنْهَى، وَيُرْوَى عَنِ الْحَسَنِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مَرْفُوعًا: (أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ) ، قِيلَ لَهُ: عَنِ النَّبِىِّ، عليه السلام، قَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ. / 37 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السلام، احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ،(4/79)
وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ، قِيلَ لأَنَس: أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ الْحِجَامَةَ لِلصَّائِمِ؟ قَالَ: لا، إِلا مِنْ أَجْلِ الضَّعْفِ) . قال المؤلف: أما قول أبى هريرة: (إذا قاء فلا يفطر) ، فقد روى مرفوعًا من حديث عيسى بن يونس، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله: (من استقاء فعليه القضاء، ومن ذرعه القىء فلا قضاء عليه) ، وهذا الحديث انفرد به عيسى بن يونس، عن هشام بن حسان، وعيسى ثقة، إلا أن أهل الحديث أنكروه عليه، ووهم عندهم فيه، وقال البخارى: لا يعرف إلا من هذا الطريق، ولا أراه محفوظًا وروى معاوية بن سلام عن يحيى بن أبى كثير، قال: أخبرنى عمر بن الحكم بن ثوبان أنه سمع أبا هريرة يقول: إذا قاء أحدكم فلا يفطر، فإنما يخرج ولا يدخل. وهذا عندهم أصح موقوفًا على أبى هريرة. وأجمع الفقهاء أن من ذرعه القىء فلا قضاء عليه، واختلفوا فى من استقاء، فقال مالك، والليث، والثورى، وأبو حنيفة، والشافعى، وأحمد: من استقاء عامدًا فعليه القضاء، وعليه الجمهور، روى ذلك عن على، وابن عمر، وأبى هريرة. وقال الأوزاعى وأبو ثور: عليه القضاء والكفارة مثل كفارة الآكل عامدًا فى رمضان، وهو قول عطاء، واحتجوا بحديث الأوزاعى عن يعيش بن الوليد بن هشام أن أباه حدثه قال: حدثنا معدان بن طلحة أن أبا الدرداء حدثه: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قاء فأفطر، قالوا: وإذا كان القيىء يفطر الصائم فعلى من تعمده ما على من تعمد الأكل والشرب والجماع القضاء(4/80)
والكفارة، وتأول الفقهاء هذا الحديث قالوا: معنى قاء أى استقاء، قال الطحاوى: ويجوز أن يكون قوله: (قاء فأفطر) أى: قاء فضعف فأفطر، وقد يجوز هذا فى اللغة، وقد روى هذا المعنى محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبى حبيب، عن أبى مرزوق، عن فضالة بن عبيد: أن رسول الله دعا بإناء فشرب، فقيل: يا رسول الله، هذا يوم كنت تصومه، قال: (أجل، إنى قئت فأفطرت) ، وهذا معناه ولكنى قئت فضعفت عن الصيام فأفطرت، وليس فى هذين الحديثين دليلا أن القىء كان مفطرًا له، إنما فيهما أنه قاء فأفطر بعد ذلك. وأما الحجامة للصائم: فجمهور الصحابة والتابعين والفقهاء على أنه لا تفطره، وروى عن على بن أبى طالب أنها تفطر الصائم، وهو قول الأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، واحتجوا بأحاديث (أفطر الحاجم والمحجوم) ، وقد صحح على بن المدينى، والبخارى منها حديث شداد وثوبان. قال ابن القصار: وحجة الجماعة ما رواه ابن عباس: أن النبى، عليه السلام، احتجم وهو صائم، واحتجم وهو محرم. فإن صح حديثهم، فحديث ابن عباس ناسخ له، لأن فى حديث شداد بن أوس أن النبى، عليه السلام، قال عام الفتح فى رمضان لرجل كان يحتجم: (أفطر الحاجم والمحجوم) ، والفتح كان فى سنة ثمان، وحجة الوداع سنة عشر، فخبر ابن عباس متأخر ينسخ المتقدم، فإن قيل: لا حجة فى هذا، لأن النبى لم يكن محرمًا إلا وهو مسافر، لأنه خرج إلى مكة وأحرم ودخلها وهو مسافر، وللمسافر أن يفطر(4/81)
بالحجامة وغيرها، وهذا سؤال لهم جيد، فنقول: إن الخبر لم ينقل إلا لفائدة، فهذا يقتضى أنه وجد منه كمال الحجامة وهو صائم لم يتحلل من صومه فأفطر بعد ذلك إذ الراوى لم يقل: احتجم فأفطر، وعندكم أن الفطر يقع بأول خروج الدم، ولا يبقى صائمًا إلى أن تتم الحجامة، والخبر يقتضى أن يكون صائمًا فى حال حجامته وبعد الفراغ، والحجامة كالفصاد وهو لا يفطر الصائم، قال الطحاوى: وليس ما رووه من قوله عليه السلام: (أفطر الحاجم والمحجوم) ، ما يدل أن ذلك الفطر كان لأجل الحجامة، وإنما كان بمعنى آخر كانا يفعلانه، كما يقال: فسق القاسم، ليس بأنه فسق بقيامه، ولكنه فسق بمعنى آخر غير القيام. وروى يزيد بن ربيعة الدمشقى عن أبى الأشعث الصنعانى قال: إنما قال رسول الله: (أفطر الحاجم والمحجوم) ، لأنهما كانا يغتابان، وليس إفطارهما ذلك كالإفطار بالأكل والشرب والجماع، لكن حبط أجرهما باغتيابهما، فصار بذلك مفطرين، لا أنه إفطار يوجب عليهما القضاء، كما قالوا: الكذب يفطر الصائم، إنما هو بمعنى حبوط الأجر، وقد روى عن جماعة من الصحابة فى ذلك معنى آخر، روى قتادة عن أبى المتوكل الناجى، عن أبى سعيد الخدرى قال: إنما كرهت الحجامة للصائم، من أجل الضعف، وعن ابن عباس، وأنس بن مالك مثله، فدلت هذه الآثار على أن المكروه من أجل الحجامة فى الصيام هو الضعف الذى يصيب الصائم فيفطر من أجله بالأكل والشرب، وقد روى هذا المعنى عن أبى العالية، وأبى قلابة، وسالم، والنخعى، والشعبى، والحسين(4/82)
ابن على، وقال القاسم بن محمد فى ما يذكر من قول الناس (أفطر الحاجم والمحجوم) ، فقال: لو أن رجلا حجم يده أو بعض جسده لم يفطره ذلك، قال الطحاوى، وتأويل أبى الأشعث أشبه بالصواب، لأن الضعف لو كان هو المقصود بالنهى لما كان الحاجم داخلا فى ذلك، فإذا كان الحاجم والمحجوم قد جمعا فى ذلك أشبه أن يكون ذلك لمعنى واحد هما فيه سواء، مثل الغيبة التى هما فيها سواء، كما قال أبو الأشعث. وحديث ابن عباس المقنع فى هذا الباب. قال الطحاوى: وأما طريق النظر فرأينا خروج الدم أغلظ أحواله أن يكون حدثًا تنتقض به الطهارة. وقد رأينا الغائط والبول خروجهما حدث تنتقض به الطهارة، ولا ينقض الصيام، فالنظر على ذلك أن يكون الدم كذلك، ورأينا لا يفطره فصد العروق فالحجامة فى النظر كذلك، وبالله التوفيق.
32 - باب الصَّوْمِ فِى السَّفَرِ وَالإفْطَارِ
/ 38 - فيه: ابْنَ أَبِى أَوْفَى: كُنَّا مَعَ النَبِى، عليه السلام، فِى سَفَرٍ، فَقَالَ لِرَجُلٍ: (انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الشَّمْسُ، قَالَ: (انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي) ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الشَّمْسُ، قَالَ: (انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي) ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الشَّمْسُ، قَالَ: (انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي) ، فَنَزَلَ فَجَدَحَ لَهُ، فَشَرِبَ، ثُمَّ رَمَى بِيَدِهِ هَاهُنَا، ثُمَّ قَالَ: (إِذَا رَأَيْتُمُ اللَّيْلَ أَقْبَلَ مِنْ هَاهُنَا، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ) .(4/83)
/ 39 - وفيه: حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو، قَالَ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنى أسرد الصوم أَأَصُومُ فِى السَّفَرِ) ؟ وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ، فَقَالَ: (إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ) . قال ابن المنذر: فى هذا الحديث من الفقه تخيير الصائم فى الصيام فى السفر أو الفطر، وفيه دليل أن أمره تعالى للمسافر بعدة من أيام أخر، إنما هو لمن أفطر، لا أن عليه أن يفطر ويقضى، وممن روى عنه تخيير المسافر فى الصيام ابن عباس، وذكر أنس وأبو سعيد ذلك عن أصحاب الرسول، وبه قال سعيد بن المسيب، وعطاء، وسعيد بن جبير، والحسن، والنخعى، ومجاهد، والأوزاعى، والليث. واختلفوا فى الأفضل من ذلك لمن قدر عليه، فروى عن عثمان بن أبى العاصى، وأنس ابن مالك صاحبى النبى أن الصوم أفضل، وهو قول النخعى، وسعيد بن جبير، والأسود بن يزيد، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه، وقال مالك، والثورى، والشافعى، وأبو ثور: الصوم أحب إلينا، وروى عن ابن عمر، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، والشعبى، أن الفطر أفضل، لأنه رخصة وصدقة تصدق الله بها فيجب قبولها، وهو قول الأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، وروى عن عمر بن الخطاب، وأبى هريرة، وابن عمر، وابن عباس إن صام فى السفر لم يجزئه، وعليه أن يصوم فى الحضر، وعن عبد الرحمن(4/84)
ابن عوف، قال: الصائم فى السفر كالمفطر فى الحضر، وذكر هذا كله ابن المنضر، وبهذا قال أهل الظاهر، وقد صح التخيير فى الصيام فى السفر أو الفطر عن النبى، عليه السلام، من حديث حمزة ابن عمرو، وحديث أنس، وابن عباس، وأبى سعيد الخدرى، وأن النبى، عليه السلام، وأصحابه صاموا مرة فى السفر، وأفطروا أخرى، فلم يعب بعضهم ذلك على بعض، فلا يلتفت إلى من خالف ذلك، لأن الحجة فى السنة. وقوله: (يا رسول الله، الشمس) ، إنما أراد أن نور الشمس باق، وظن أن ذلك يمنعه من الإفطار، فأجابه النبى، عليه السلام، أن ذلك لا يضر إذا أقبل الليل، وسيأتى الكلام فى حديث ابن أبى أوفى فى باب: (متى يحل فطر الصائم) . قوله: (اجدح لى) ، قال أبو عبيد: المُجدّح: الشراب المخوض بالمِجدَح، وقال صاحب (العين) : المجدح: خشبة فى رأسها خشبتان معترضتان.
33 - باب إِذَا صَامَ أَيَّامًا مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ سَافَرَ
/ 40 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ فِى رَمَضَانَ فَصَامَ، حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ أَفْطَرَ، فَأَفْطَرَ النَّاسُ) . وَالْكَدِيدُ: مَاءٌ بَيْنَ عُسْفَانَ وَقُدَيْدٍ. / 41 - فيه: أَبِو الدَّرْدَاءِ، قَالَ: (خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىِّ، عليه السلام، فِى بَعْضِ(4/85)
أَسْفَارِهِ فِى يَوْمٍ حَارٍّ حَتَّى يَضَعَ الرَّجُلُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَمَا فِينَا صَائِمٌ إِلا مَا كَانَ مِنَ النَّبِىِّ، عليه السلام، وَابْنِ رَوَاحَةَ) . فى حديث ابن عباس إباحة السفر فى رمضان والفطر فيه، وهو رد لما روى عن على بن أبى طالب أنه قال: (من استهل عليه هلال رمضان مقيمًا صم سافر أنه ليس له أن يفطر لقول الله تعالى: (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة: 185] . والمعنى عنده: من أدرك رمضان وهو مسافر فعدة من أيام أخر، ومن أدركه حاضرًا فليصمه، وهو قول عبيدة السلمانى وسويد بن غفلة، وأبى مجلز، وهذا القول مردود لسفر النبى، عليه السلام، فى رمضان، وإفطاره فيه فى الكديد، وجمهور الأمة على خلاف هذا القول، لثبوت السنة بالتخيير فى الصيام أو الفطر فى السفر، ولصيامه عليه السلام فى سفره. قال ابن المنذر: وإنما أمر من شهد الشهر كله أن يصوم، ولا يقال لمن شهد بعض الشهر أنه شهد الشهر كله، لأن النبى أنزل عليه الكتاب، وأوجب عليه بيان ما أنزل عليه، سافر فى رمضان وأفطر فى سفره. قال المؤلف: ومعنى حديث أبى الدرداء فى هذا الباب هو أنه عليه السلام كان صائمًا، وابن رواحة، وسائر أصحابه مفطرون، فلو لم يجز الفطر فى رمضان لمن سافر فيه ما ترك النبى أصحابه مفطرين فيه، ولا سوغهم ذلك. وفى حديث ابن عباس وأبى الدرداء رد لقول من قال: إن الصيام فى السفر لا يجزئ، لأن الفطر عزيمة من الله وصدقة، ألا ترى صيامه عليه السلام فى السفر فى اليوم الشديد الحر، وقول أبى الدرداء: (وما فينا صائم إلا النبى، عليه السلام،(4/86)
وابن رواحة) فلو كان الفطر عزمة من الله تعالى، لم يتحمل النبى مشقة الصيام فى شدة الحر، وإنما أراد أن يسن لأمته ليقتدوا به، وقد روى على بن معبد، عن عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم بن مالك، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: (إنما أراد النبى بالفطر فى السفر التيسير عليكم، فمن يسر عليه الصيام فليصم، ومن يسر عليه الفطر فليفطر) . فهذا ابن عباس لم يجعل إفطار النبى فى السفر بعد صيامه فيه ناسخًا للصوم فى السفر، ولكنه جعله على جهة التيسير.
34 - باب قَوْلِ النَّبِىِّ عليه السلام لِمَنْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ وَاشْتَدَّ الْحَرُّ: (لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِى السَّفَرِ
/ 42 - فيه: جَابِرِ: كَانَ النبى (صلى الله عليه وسلم) فِى سَفَرٍ فَرَأَى رَجُلا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: صَائِمٌ، فَقَالَ: (لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِى السَّفَرِ) . احتج محتج من أهل الظاهر بهذا الحديث، وقال: ما لم يكن من البر فهو من الإثم، فدل ذلك أن صوم رمضان لا يجزئ فى السفر. قال الطحاوى: قيل له هذا الحديث خرج لفظه على شخص معين، وهو رجل رآه رسول الله وهو صائم قد ظلل عليه، وهو يجود بنفسه فقال ذلك القول، ومعناه ليس البر أن يبلغ الإنسان بنفسه هذا المبلغ، والله قد رخص فى الفطر، والدليل على صحة هذا التأويل صوم رسول الله فى السفر فى شدة الحر، ولو كان إثمًا لكان رسول الله(4/87)
أبعد الناس منه، ومعنى قول النبى، عليه السلام: (ليس من البر الصوم فى السفر) . أى ليس هو أبر البر، لأنه قد يكون الإفطار أبر منه إذا كان فى حج أو جهاد ليقوى عليه، وهذا كقوله: (ليس المسكين بالطواف الذى ترده التمرة والتمرتان) ، ومعلوم أن الطواف مسكين، وأنه من أهل الصدقة، وإنما أراد المسكين الشديد المسكنة الذى لا يسأل ولا يتصدق عليه.
35 - باب لَمْ يَعِبْ أَصْحَابُ النَّبِىِّ، عليه السلام، بَعْضُهُمْ على بَعْض فِى الصَّوْمِ وَالإفْطَارِ
/ 43 - فيه: أَنَسِ، قَالَ: (كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ النَّبِىِّ فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ) . هذا حجة على من رغم أن الصائم فى السفر لا يجزئه صومه، لأن تركهم لإنكار الصوم والفطر يدل أن ذلك عندهم من المتعارف المشهور الذى تجب الحجة به، ولا حجة مع أحد فى خلاف السنة الثابتة، فقد ثبت أنه عليه السلام صام فى السفر، ولم يعب على من صام، ولا على من أفطر فوجب التسليم له.
36 - باب مَنْ أَفْطَرَ لِيَرَاهُ النَّاسُ
/ 44 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: (خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ عُسْفَانَ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَرَفَعَهُ إِلَى فيه، لِيُرِيَهُ النَّاسَ، فَأَفْطَرَ حَتَّى(4/88)
قَدِمَ مَكَّةَ، وَذَلِكَ فِى رَمَضَانَ، فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: قَدْ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ وَأَفْطَرَ، فَمَنْ شَاءَ صَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ. اختلف العلماء فى الفطر المذكور فى هذا الحديث، فقال قوم: معناه أنه أصبح مفطرًا قد نوى الفطر فى ليلته، وهذا جائز بإجماع العلماء أن يبيت المسافر الفطر إن اختاره، وقال آخرون: معناه أنه أفطر فى نهاره بعد أن قد مضى صدر منه، وأن الصائم جائز له أن يفعل ذلك فى سفره، لأن النبى صنع ذلك رفقًا بأمته، وقد جاء هذا مبينًا فى حديث جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر: (أن رسول الله خرج إلى مكة عام الفتح فى رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم، فصام الناس وهم مشاة وركبان، فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصوم، وإنما ينظرون إلى ما فعلت، فدعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه، وصام بعض، فقيل للنبى، عليه السلام: إن بعضهم قد صام، فقال: (أولئك العصاة) . قال المؤلف: وهذا الحديث يبين معنى الترجمة، وأنه عليه السلام، إنما أفطر ليراه الناس فيقتدوا به ويفطرون، لأن الصيام قد نهكهم وأضر بهم، فأراد الرفق بهم والتيسير عليهم أخذًا بقوله تعالى: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185] ، فأخبر تعالى أنه أطلق الإفطار فى السفر إرادة التيسير على عباده، فمن أراد رخصة الله فأفطر فى سفره أو مرضه لم يكن معنفًا، ومن اختار الصوم، وهو يسير عليه فهو له أفضل لصحة الخبر عن النبى أنه صام حين شخص من المدينة متوجهًا إلى مكة حتى بلغ عسفان أو الكديد، وصام معه أصحابه إذ(4/89)
كان ذلك يسيرًا عليهم، وأفطر وأمر أصحابه لما دنا من عدوه، فصار الصوم عسيرًا، إذ كان لا يؤمن عليهم الضعف والوهن فى حربهم لو كانوا صيامًا عند لقاء عدوهم، فكان الإفطار حينئذ أولى بهم من الصوم، وأفضل عند الله لما يرجون من القوة على العدو وإعلاء كلمة الدين بالإفطار، قاله الطبرى، وروى شعبة عن عمرو بن دينار، عن عبيد بن عمير: (أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمر أصحابه يوم فتح مكة، فقال: أفطروا فإنه يوم قتال) . وروى حماد، عن الجريرى، عن أبى نضرة، عن جابر: (أن النبى، عليه السلام، كان فى سفر فأتى على غدير فقال للقوم: (اشربوا) ، فقالوا: يا رسول الله، أنشرب ولا تشرب؟ فقال: (إنى أيسركم، إنى أركب وأنتم مشاة، فشرب وشربوا) . واختلف الفقهاء فى من اختار الصوم فى السرف وأصبح صائمًا ثم أفطر نهارًا من غير عذر، فقال مالك: عليه القضاء والكفارة، لأنه كان مخيرًا فى الصوم والفطر، فلما اختار الصوم لزمه ولم يكن له الفطر، وقد روى عنه أنه لا كفارة عليه، وهو قول أصحابه إلا عبد الملك فإنه قال: إن أفطر بجماع كَفَّر، لأنه لا يقوى بذلك على سفره ولا عذر له، وقال سائر الفقهاء بالحجاز والعراق: أنه لا كفارة عليه، والحجة فى سقوط الكفارة واضحة بحديث ابن عباس وجابر، ومن جهة النظر أيضًا، لأنه متأول غير هاتك لحرمة صومه عند نفسه، وهو مسافر قد دخل فى عموم إباحة الفطر، وقال ابن القابسى: هذا الحديث لم يسمعه ابن عباس من النبى، ولكنه يعد من جملة المسند، لأنه لم يروه إلا عن صاحب، وقد انفرد الصحابة بتسليم هذا(4/90)
المعنى لهم وليس لغيرهم، ويذكر عن أنس أنه قال عن الصحابة: (يروى بعضنا عن بعض، وليس فينا من يكذب) .
37 - باب: قوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ) [البقرة 184]
وقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَسَلَمَةُ بْنُ الأكْوَعِ نَسَخَتْهَا: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ (إلى) تَشْكُرُونَ) [البقرة 185] . وَقَالَ ابْنُ أَبِى لَيْلَى: حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ: نَزَلَ رَمَضَانُ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ مَنْ أَطْعَمَ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا تَرَكَ الصَّوْمَ مِمَّنْ يُطِيقُهُ، وَرُخِّصَ لَهُمْ فِى ذَلِكَ فَنَسَخَتْهَا: (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة: 184] ، فَأُمِرُوا بِالصَّوْمِ. / 45 - فيه: ابْنُ عُمَرَ قَرَأَ: (فِدْيَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ) [البقرة: 184] ، قَالَ: هِىَ مَنْسُوخَةٌ. اختلف العلماء فى تأويل هذه الآية، فروى عن ابن عباس، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومجاهد أنهم قرءوها: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ (، قال: الذين يحملونه ولا يطيقونه فدية، فعلى هذا تكون الآية محكمة غير منسوخة يعنى فى الشيخ والحامل والمرضوع، قال أبو عبيد: وهو قول حسن، ولكن الناس ليسوا عليه، لأن الذين ثبت بين اللوحين فى مصاحف أهل الحجاز والشام والعراق) وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ (، ولا تكون الآية على هذا اللفظ إلا منسوخة، روى ذلك عن ابن عباس وسلمة بن الأكوع، وابن عمر، وابن أبى ليلى، وعلقمة، وابن شهاب، فتفرق الناس فى ناسخ(4/91)
هذه الآية ومنسوخها على أربع منازل، لكل واحدة منهن حكم سوى حكم الأخرى، فالفرقة الأولى منهم: وهم الأصحاء ففرضهم الصيام لا يجزئهم غيره، لزمهم ذلك بالآية المحكمة، وهى قوله: (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة: 185] . والثانية: هم مخيرون بين الإفطار والصيام، ثم عليهم القضاء بعد ذلك ولا إطعام عليهم، وهم المسافرون والمرضى بقوله: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة: 184] . والثالثة: هم الذين لهم الرخصة فى الإطعام ولا قضاء عليهم، وهم الشيوخ الذين لا يطيقون الصيام. والرابعة: هم الذين اختلف العلماء فيهم بين القضاء والإطعام. وبكل ذلك قد جاء تأويل القرآن، وأفتت به الفقهاء، فذهب القاسم، وسالم، وربيعة، ومكحول، ومالك، وأبو ثور إلى أن الشيخ إن استطاع الصوم صام، وإلا فليس عليه شىء لقوله تعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) [البقرة: 286] إلا أن مالكًا يستحب له الإطعام عن كل يوم مدا، وحجة هذا القول أن الله تعالى، إنما أوجب الفدية قبل النسخ على المطيقين دون غيرهم، وخيرهم فيه بين أن يصوموا بقوله: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ (ثم نسخ ذلك وألزمهم الصوم حتمًا، وسكت عمن لا يطيق فلم يذكره فى الآية، فصار فرض الصيام زائلاً عنهم كما زال فرض الزكاة والحج عن المعدمين الذين لا يجدون إليها سبيلاً، وأبى ذلك أهل العراق، والثورى، وأوجبوا الفدية على الشيخ، وقالوا: إن الزكاة والحج لا يشبهان الصيام، لأن الكتاب والسنة فرق بينهما، وذلك أن الله تعالى، جعل من الصوم(4/92)
بدلا أوجبه على كل من حيل بينه وبين الصيام وهو الفدية، كما جعل التيمم بدلا من الطهور واجبًا على كل من أعوزه الماء، وكما جعل الإيماء بدلا من الركوع والسجود لمن لا يقدر عليهما، ولم يجعل من الزكاة والحج بدلا لمن لا يقدر عليهما، وإلى هذا ذهب الكوفيون، والأوزاعى، والشافعى. وأما الفرقة الرابعة: فالحوامل والمراضع، وفيهن اختلف الناس قديمًا وحديثًا، فقال بعض العلماء: إذا ضعفن عن الصيام وخافت على نفسها وولدها أفطرت وأطعمت عن كل يوم مسكينًا، فإذا فطمت ولدها قضته، وهو قول مجاهد، وبه قال الشافعى وأحمد، وقال آخرون: عليهما الإطعام ولا قضاء، وهو قول ابن عباس، وابن عمر، وسعيد بن جبير، وقال آخرون: عليهما القضاء ولا إطعام عليهما، وجعلوهما بمنزلة المريض، وهو قول عطاء، والنخعى، والحسن، والزهرى، وربيعة، والأوزاعى، وأبى حنيفة، والثورى، وروى ابن عبد الحكم عن مالك مثله، ذكره ابن القصار، وهو قول أشهب، وفرقة رابعة فرقت بين الحبلى، والمرضع فقال فى الحبلى: هى بمنزلة المريض تفطر وتقضى ولا إطعام عليها، والمرضع تفطر وتطعم وتقضى، هذا قول مالك فى المدونة، وهو قول الليث. قال أبو عبيد: وكل هؤلاء إنما تأولوا قوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ (فمن أوجب القضاء والإطعام معًا ذهب إلى أن الله حكم فى تارك الصوم من عذر بحكمين، فجعل الفدية فى آية والقضاء فى أخرى، فلما لم يجد ذكر الحامل والمرضع مسمى فى واحدة منهما جمعهما جميعًا عليهما احتياطًا لهما وأخذًا(4/93)
بالثقة، وأما الذين رأوا أن يطعما ولا يقضيا فإنهم أرادوا أنهما ليستا من السفر ولا من المرضى الذين فرهم القضاء، ولكنهما ممن كلف الصيام وطوقه وليس بمطيق، فهم من أهل الفدية لا يلزمهم سواها لقوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) [البقرة: 248] ، وهى قراءة ابن عباس وفتياه، وقد يجوز هذا القول على قراءة من قرأ: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ (أى يطيقونه بجهد ومشقة، ويكون معنى القراءتين واحدًا. قاله غير أبى عبيد. وأما الذين أوجبوا عليهما القضاء بلا طعام ذهبوا إلى أن الحمل والرضاع علتان من العلل، لأنه يخاف فيهما من التلف على الأنفس ما يخاف من المرض، قال أبو عبيد، وقد وجدنا شاهدًا لهذا القول ودليلا عليه، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا أيوب، قال: حدثنى أبو قلابة، عن أنس بن مالك قال: (أتيت النبى، عليه السلام، فى إبل لجار لى، أخذت، فوافقته يأكل فدعانى إلى طعامه فقلت: إنى صائم، قال: ادن أخبرك عن ذلك، إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة، وعن الحامل والمرضع) ، قال أبو عبيد: فقرن رسول الله الحامل والمرضع بالمسافر، وجعلهما معًا فى معنى واحد، فصار حكمهما كحكمه، فهل على المسافر إلا القضاء لا يعدوه إلى غيره.(4/94)
38 - باب مَتَى يُقْضَى قَضَاءُ رَمَضَانَ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لا بَأْسَ أَنْ يُفَرَّقَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ (. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ فِى صَوْمِ الْعَشْرِ: لا يَصْلُحُ حَتَّى يَبْدَأَ بصوم بِرَمَضَانَ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِذَا فَرَّطَ حَتَّى جَاءَ رَمَضَانُ آخَرُ يَصُومُهُمَا، وَلَمْ يَرَ عَلَيْهِ طَعَامًا، وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ مُرْسَلا وَابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ يُطْعِمُ، وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ الإطْعَامَ، إِنَّمَا قَالَ: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ (. / 46 - فيه: عَائِشَةَ: (كَانَ يَكُونُ عَلَىَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِىَ إِلا فِى شَعْبَانَ) ، قَالَ يَحْيَى: الشُّغْلُ مِنَ النَّبِىِّ، عليه السلام، أَوْ بِالنَّبِىِّ. إنما حمل عائشة على قضاء رمضان فى شعبان الأخذ بالرخصة والتوسعة، لأن ما بين رمضان عامها ورمضان العام المقبل وقت للقضاء، كما أن وقت الصلاة له طرفان، ومثله قوله عليه السلام: (ليس التفريط فى النوم، إنما التفريط فى اليقظة) ، على من لم يصل الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى، وأجمع أهل العلم على أن من قضى ما عليه من رمضان فى شعبان بعده أنه مؤد لفرضه غير مفرط. واختلفوا هل يجوز أن يقضى رمضان متفرقًا فقال طائفة: لا يقضيه إلا متتابعًا، روى ذلك عن على بن أبى طالب، وابن عمر، وعائشة، وهو قول الحسن البصرى، والنخعى، وعروة بن الزبير، وهو قول أهل الظاهر، وقالت طائفة: يجوز أن يقضى(4/95)
متفرقًا، روى ذلك عن ابن عباس، وأبى هريرة، وأنس بن مالك، ومعاذ، وحذيفة، وهو قول جماعة أئمة الأمصار، قال ابن القصار: وحجة الجماعة ظاهر قوله تعالى: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ (ولم يخص، فعلى أى وجه قضاه جاز، هذا مقتضى اللفظ، فإن قيل: فإن عائشة قالت: نزلت) فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ (متتابعات، فسقطت متتابعات، قيل: قد أخبرت أنها ساقطة، فلا حكم لها حتى تثبت القراءة، وهذه حجة لنا. واختلفوا فى المسافر والمريض إذا فرطا فى قضاء رمضان حتى جاء رمضان آخر، فروى عن أبى هريرة، وابن عباس أنه يصوم الذى حصل فيه، فإذا خرج قضى ما كان عليه وعليه الفدية، وهو قول عطاء، والقاسم، والزهرى، ومالك، والأوزاعى، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وقال أبو حنيفة وأصحابه: ليس عليه إلا القضاء فقط ولا إطعام عليه، وحجة من قال بالإطعام ما حكاه الطحاوى عن يحيى بن أكثم قال: فتشت عن أقاويل الصحابة فى هذه المسألة فوجدت عن ستة منهم قالوا: عليه القضاء والفدية، ولم أجد لهم مخالفًا، فإن قيل: فقد قال عليه السلام للواطئ فى رمضان: (اقض يومًا مكانه) ، ولم يذكر له حَدا، قيل: قد قامت الدلالة على الحَدِّ من تأخير عائشة له إلى شعبان، فعلم أنه الوقت المضيق، فإذا ثبت أن للقضاء وقتًا يؤدى فيه ويفوت، ثبتت الفدية، لأنه يشبه الحج الذى يفوت وقته، ألا ترى أن حجة القضاء إذا دخل وقتها وفاتت وجب الدم، فكذلك إّا فات الصوم وجبت الفدية. واختلفوا فيما يجب عليه إن لم يصح من مرضه حتى دخل رمضان(4/96)
المقبل، فقال ابن عباس، وابن عمر، وسعيد بن جبير: يصوم الثانى ويطعم عن الأول ولا قضاء عليه، وقال الحسن، والنخعى، وطاوس، ومالك، والأوزاعى، وأبو حنيفة، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق: يصوم الثانى، ويقضى الأول، ولا فدية عليه، لأنه لم يفرط.
39 - باب الْحَائِضِ تَتْرُكُ الصَّوْمَ وَالصَّلاةَ
وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ: إِنَّ السُّنَنَ وَوُجُوهَ الْحَقِّ لَتَأْتِى كَثِيرًا عَلَى خِلافِ الرَّأْيِ، فَلا يَجِدُ الْمُسْلِمُونَ بُدًّا مِنِ اتِّبَاعِهَا، مِنْ ذَلِكَ: أَنَّ الْحَائِضَ تَقْضِى الصِّيَامَ، وَلا تَقْضِى الصَّلاةَ. / 47 - فيه: أَبِو سَعِيدٍ قَالَ النَّبىُّ، عليه السلام: (أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ، فَذَلِكَ نُقْصَانُ دِينِهَا) . قال المهلب: هذا الحديث أصل لترك الحائض الصوم والصلاة، وفيه من الفقه أن للمريض ترك الصيام، وإن كان فيه بعض القوة إذا كان يدخل عليه المشقة والخوف، ألا ترى أن الحائض ليست تضعف عن الصيام ضعفًا واحدًا، وإنما يشق عليها بعض المشقة من أجل نزف دمها، وضعف النفس عند خروج الدم معلوم ذلك من عادة اليسير فغلبت على كل النساء، وفى جميع الأحوال، رحمةً من الله، ورعفًا لقليل الحرج وكثيره، وأمرت بإعادة(4/97)
الصيام من قول الله تعالى: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا (ونزف الدم مرض) فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ (، ولم تؤمر بإعادة الصلاة، لأنها أكبر الفرائض وأكثرها ترددًا، ولما يلزم من المحافظة على وضوئها والقيام إليها، وإحضار النية للمناجاة، كما شهد الله تعالى لذلك بقوله: (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ) [البقرة: 45] ، وهى التى حطها الله فى أصل الفرض من خمسين إلأى خمس، فلو أمرت بإعادة الصلوات لتضاعف عليها الفرض، إذ المرأة نصف دهرها أو نحوه حائض، فكان الناس يصلون صلاة واحدة وتصلى هى فى كل صلاة صلاتين، فتختلف أحوال النساء والرجال، والله أعلم. واختلفوا فى المرأة تطهر من حيضتها فى بعض النهار، والمسافر يقدم، والمريض يبرأ، فقال أبو حنيفة والأوزاعى، وأحمد، وإسحاق: يلزمهم كلهم الإمساك بقية النهار، وإن قدم المسافر مفطرًا فلا يطأ زوجته لتعظيم حرمة الشهر، وقال مالك، والشافعى، وأبو ثور: يأكلون بقية يومهم، وللمسافر المفطر يقدم أن يطأ زوجته إذا وجدها قد طهرت من حيضتها، واحتج الأولون بقوله عليه السلام، يوم عاشوراء: (من أكل فليمسك بقية نهاره) . فأمرهم بالإمساك مع الفطر، وهذا المعنى موجود فى الإقامة الطارئة فى بعض النهار قال ابن القصار: والحجة لمالك، والشافعى قوله تعالى: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة: 184] ، وهؤلاء قد أفطروا فحكم الإفطار لهم باق، والفطر رخصة للمسافر، ومن تمام الرخصة ألا يجب عليه أكثر من يوم، فلو أمرناه أن يمسك بعد ذلك ثم يصوم يومًا آخر مكانه،(4/98)
كنا قد منعناه من الرخصة، وأوجبنا عليه فى ترك اليوم أكثر من يوم والله إنما قال: (فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ (، وكذلك الحائض كان يلزمها أكثر من يوم، وإنما يلزم الصيام من يصح منه الصيام الذى لا يجب معه قضاء، وأما صوم يوم عاشوراء فإنما لزمهم صومه من الوقت الذى خوطبوا فيه، ولم يجب عليهم الابتداء، لأنهم لم يعلموا ذلك إلا وقت قيل لهم، وأيضًا فإنهم متطوعون، وأمره بالإمساك لهم كان مستحبًا، فلا يلزم الاعتراض به.
40 - باب مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ
وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنْ صَامَ عَنْهُ ثَلاثُونَ رَجُلا يَوْمًا وَاحِدًا جَازَ. / 48 - وفيه: عَائِشَةَ أَنَّ النبى، عليه السلام، قَالَ: (مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوم صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ) . / 49 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ، عليه السلام، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّى مَاتَتْ، وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ، أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا؟ قَالَ: (نَعَمْ، فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى) . وروى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (أن امرأة جاءت إلى النبى، عليه السلام، فَقَالتْ: إِنَّ أُخْتِى مَاتَتْ) . وقَالَ أيضًا: (إِنَّ أُمِّى مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ) . قَالَ أيضًا: (إنَّ أُمِّى مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا) . اختلف العلماء فيمن عليه صوم من شهر رمضان فمات قبل أن(4/99)
يقضيه، فقالت طائفة: جائز أن يصام عن الميت، وهو قول طاوس، والحسن، والزهرى، وقتادة، وبه قال أبو ثور، وأهل الظاهر، واحتجوا بهذه الأحاديث التى ذكرها البخارى. وقال أحمد بن حنبل: يصوم عنه وليّه فى النذر، ويطعم عنه فى قضاء رمضان، وذكر ابن وهب عن الليث أنه يصوم عنه وليه فى النذر، وقال ابن عمر، وابن عباس، وعائشة: لا يصوم أحدٌ عن أحدٍ، وهو قول مالك، وأبى حنيفة، والشافعى، وحجة هؤلاء أن ابن عباس لم يخالف بفتواه ما رواه إلا لنسخٍ علمه، وكذلك روى عبد العزيز بن رفيع، عن عمرة، عن عائشة أنها قالت: (يطعم عنه فى قضاء رمضان ولا يصام عنه) ولهذا قال أحمد بن حنبل: إن معنى حديث ابن عباس فى النذر دون قضاء رمضان من أجل فتيا ابن عباس، وقد ذكر ذلك البخارى فى بعض طرق الحديث فى هذا الباب، وقال أبو داود فى حديث عائشة: معناه فى النذر. قال ابن القصار: ومعنى الأحاديث التى احتجوا بها عندنا أن يفعل عنه وليه ما يقوم مقام الصيام، وهو الإطعام، ويستحب لهم فيصيرون كأنهم صاموا عنه. قال المهلب: ولو جاز أن يقضى عمل البدن عن ميت قد فاته لجاز أن يصلى الناس عن الناس، ويؤمنون عنهم ولو كان سائغًا لكان رسول الله أحرص الناس أن يؤمن عن عمه أبى طالب لحرصه على إدخاله فى الإسلام، والإيمان من عمل القلب،(4/100)
والقلب عضو من أعضاء البدن اللازم لها الأعمال، وقد أجمعت الأمة على أنه لا يؤمن أحد عن أحد، ولا يصلى أحد عن أحد. واختلفوا فى الصوم والحج، فيجب أن يرد حكم ما اختلف فيه إلى ما اتفق عليه، قال ابن القصار: ولما لم يجز الصيام عن الشيخ الكبير فى حياته كان بعد الموت أولى من أن لا يجوز، وذهب الكوفيون والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور إلى أنه واجب أن يطعم عنه من رأس ماله وإن لم يوص، إلا أبا حنيفة فإنه قال: يُسْقِطُ عنه ذلك الموت، وقال مالك: الإطعام غير واجب على الورثة إلا أن يوصى بذلك إليهم فيكون فى ثلثه، فإن قال من أوجب الإطعام أن النبى، عليه السلام، شبهه بالدين قيل: هو حجة لنا، لأنه قال: (أفأقضيه عنها؟) ونحن نقول: قضاؤه أن يطعم عن كل يوم مسكينًا. وقوله: (أرأيت لو كان عليها دين أكنت قاضيه؟) ، إنما سأله هل كنت تفعل ذلك تطوعًا، لأنه لا يجب عليه أن يقضى دين أمه إذا لم يكنه لها تركة.
41 - باب مَتَى يَحِلُّ فِطْرُ الصَّائِمِ
وَأَفْطَرَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىُّ حِينَ غَابَ قُرْصُ الشَّمْسِ. / 50 - فيه: عُمَرَ، قَالَ: قَالَ عليه السلام: (إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا، وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ) . / 51 - وفيه: ابْنِ أَبِى أَوْفَى: كُنَّا مَعَ النبى فِى سَفَرٍ، وَهُوَ صَائِمٌ فَلَمَّا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، قَالَ لِبَعْضِ الْقَوْمِ: (يَا فُلانُ، قُمْ فَاجْدَحْ لَنَا) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،(4/101)
لَوْ أَمْسَيْتَ، قَالَها ثلاثًا، فَنَزَلَ فَجَدَحَ لَهُ، فَشَرِبَ ثُمَّ قَالَ: (إِذَا رَأَيْتُمُ اللَّيْلَ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ هَاهُنَا، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ) . وترجم لحديث ابن أبى أوفى قال: يفطر بما تيسر بالماء وغيره. وقال المؤلف: أجمع العلماء أنه إذا غربت الشمس فقد حل فطر الصائم، وذلك آخر النهار وأول أوقات الليل، قال الطبرى: إن قال قائل: قوله: (فقد أفطر الصائم) أَعَزْمٌ من النبى على الصائم أن يفطر عند إقبال الليل أم ندب؟ قيل: هو عزم عليه أن يكون معتقدًا أنه مفطر وأن وقت صومه قد انقضى، غير عزم عليه أن يأكل أو يشرب. فإن قال قائل: وما الدليل على ذلك؟ قيل: إجماع الجميع من أهل العلم على أن المرء قد يكون مفطرًا بترك العزم على الصوم من الليل مع تركه نية الصوم نهاره أجمع، وإن لم يأكل ولم يشرب، وكان معلومًا بذلك أن اعتقاد المعتقد بعد انقضاء وقت الصوم للإفطار وترك الصوم. وإن لم يفعل شيئًا مما أبيح للمفطر فعله، موجب له اسم المفطر، إذا كان ذلك كذلك، وكان الجميع مجمعين على أن الأكل والشرب غير فرض على الصائم فى ذلك الوقت مع إجماعهم أن وقت الصوم قد انقضى بمجىء الليل وإدبار النهار، كان بينا أن معنى أمره بالإفطار فى تلك الحال إنما هو أمر عزم منه على ما وصفنا. فإن قيل: فإذا كان كما ذكرت من أنه معنى به العزم على اعتقاد الإفطار وترك العزم على الصوم، فما أنت قائل فى ما روى عنه عليه السلام أنه كان يواصل؟ قيل: كان وصاله من السحر إلى السحر،(4/102)
ولعله كان ذلك توخيًا منه للنشاط على قيام الليل، فإنه كان إذا دخل العشر شد مئزره، ورفع فراشه، لأن الطعام مثقل للبدن، مفتر عن الصلاة، مجتلب للنوم، فكان يؤخر الإصابة من الطعام إلى السحر، إذ كان الله قد أعطاه من القوة على تأخير ذلك إلى ذلك الوقت والصبر عنه ما لم يعط غيره من أمته، وقد بين لهم ذلك بقوله: (إنى لست كهيئتكم إنى أظل يطعمنى ربى ويسقينى) . فأما الصوم ليلاً فلا معنى له، لأنه غير وقت للصوم، لقوله: (إذا غربت الشمس فقد أفطر الصائم) ، أى حل وقت فطره على ما تقدم، وسيأتى فى باب (الوصال) من فعله من السلف، ومن كرهه، وتمام الكلام فيه، إن شاء الله. قال المؤلف: وقوله عليه السلام: (فاجدح لنا، قال: يا رسول الله لو أمسيت، ثلاثًا) ، فيه من الفقه أن الناس سراع إلى إنكار ما يجهلون، كما فعل خادم النبى، عليه السلام، حين توقف عن إنقاذ أمره لما جهله من الدليل الذى علمه النبى، عليه السلام، وفيه أن الجاهل بالشىء ينبغى أن يسمح له فيه المرة والثانية، وتكون الثالثة فاصلة بينه وبين معلمه، كما فعل النبى، عليه السلام، حين دعا عليه بالويل لكثرة التغيير، وكذلك فعل الخضر بموسى فى الثالثة قال له: (هَذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ) [الكهف: 78] ، وذلك كان شرط موسى لنفسه بقوله: (إِن سَأَلْتُكَ عَن شَىْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِى) [الكهف: 76] .(4/103)
42 - باب تَعْجِيلِ الإفْطَارِ
/ 52 - فيه: سَهْلِ، قَالَ عليه السلام: (لا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ) . / 53 - وفيه: ابْنِ أَبِى أَوْفَى، قَالَ: (كُنْتُ مَعَ النَّبِىِّ، عليه السلام، فِى سَفَرٍ، فَصَامَ حَتَّى أَمْسَى، قَالَ لِرَجُلٍ: (انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي) ، قَالَ: لَوِ انْتَظَرْتَ حَتَّى نُمْسِيَ، قَالَ: (فانْزِلْ فَاجْدَحْ لِى، إِذَا رَأَيْتَ اللَّيْلَ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ هَاهُنَا، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ) . قال المهلب: إنما حض عليه السلام على تعجيل الفطر لئلا يزاد فى النهار ساعة من الليل، فيكون ذلك زيادة فى فروض الله، ولأن ذلك أرفق بالصائم وأقوى له على الصيام، وقد روى محمد بن عمرو، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله: (لا يزال الدين ظاهرًا ما عجل الناس الفطر لأن اليهود يؤخرون) . وقال عمرو بن ميمون الأودى: كان أصحاب محمد أسرع الناس فطرًا، وأبطأهم سحورًا. وقال سعيد بن المسيب: كتب عمر إلى أمراء الأجناد: لا تكونوا مسبوقين بفطركم، ولا منتظرين لصلاتكم اشتباك النجوم، وروى عبد الرزاق عن ابن جريج، قال: (سمعت عروة بن عياض يخبر عبد العزيز بن عبد الله أنه يؤمر أن يفطر قبل أن يصلى ولو على حسوة) . وروى أيضًا عبد الرزاق عن صاحب له، عن عوف، عن أبى رجاء قال: (كنت أشهد ابن عباس عند الفطر فى رمضان، فكان يوضع له طعامه، ثم يأمر مراقبًا يراقب الشمس، فإذا قال: قد وجبت، قال: كلوا، ثم قال: كنا نفطر قبل الصلاة) ، وليس ما رواه مالك فى الموطأ، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن: (أن عمر وعثمان كانا يصليان المغرب حين ينظران إلى الليل الأسود قبل أن يفطرا، ويفطران بعد الصلاة) ،(4/104)
بمخالف لما روى من تعجيل الفطر، لأنهما إنما كانا يراعيان أمر الصلاة، وكانا يعجلان الفطر بعدها من غير كثرة تنقل، لما جاء من تعجيل الفطر، ذكره الداودى.
43 - باب إِذَا أَفْطَرَ فِى رَمَضَانَ ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ
/ 54 - فيه: أَسْمَاءَ، قَالَتْ: (أَفْطَرْنَا عَلَى عَهْدِ رسول الله يَوْمَ غَيْمٍ، ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ) ، قِيلَ لِهِشَامٍ بن عروة: فَأُمِرُوا بِالْقَضَاءِ؟ قَالَ: بُدَّ مِنْ القَضَاءٍ؟ وَقَالَ مَعْمَرٌ: سَمِعْتُ هِشَامًا، لا أَدْرِى أَقَضَوْا أَمْ لا. جمهور العلماء يقولون بالقضاء فى هذه المسألة، وقد روى ذلك عن عمر بن الخطاب من رواية أهل الحجاز وأهل العراق، فأما رواية أهل الحجاز، فروى ابن جريج، عن زيد بن أسلم، عن أبيه قال: (أفطر الناس فى شهر رمضان فى يوم غيم ثم طلعت الشمس، فقال عمر: الخطب يسير وقد اجتهدنا، نقضى يومًا) ، هكذا قال ابن جريج عن زيد بن أسلم، عن أبيه، وهو متصل. ورواية مالك فى الموطأ عن زيد بن أسلم، عن أخيه أن عمر. وهى مرسلة، لأن خالد ابن أسلم أخا زيد لم يدرك عمر، وأما رواية أهل العراق، فروى الثورى، عن جبلة بن سحيم بن حنظلة، عن أبيه أنه شهد عمر، فذكر القصة، وقال: (يا هؤلاء، من كان أفطر فإن قضاء يوم يسير) ، وجاء رواية أخرى عن عمر أنه قال: (لا قضاء عليه) . روى معمر، عن الأعمش، عن زيد بن أسلم قال: ' أفطر الناس في زمن عمر، فطلعت، فطلعت الشمس فشق ذلك على) الناس فقالوا:(4/105)
نقضي هذا اليوم؟ [فقال عمر] : ولم نقضي؟ والله ما تجانفنا الإثم '. والرواية الأولى أولى بالصواب، وقد روى القضاء عن ابن عباس ومعاوية، وهو قول عطاء، ومجاهد، والزهرى، ومالك، والثورى، وأبى حنيفة، والشافعى، وأحمد، وأبى ثور، وقال الحسن البصرى: لا قضاء عليه كالناسى، وهو قول إسحاق وأهل الظاهر. وحجة من أوجب القضاء إجماع العلماء أنه لو غم هلال رمضان فأفطروا، ثم قامت البينة برؤية الهلال أن عليهم القضاء بعد إتمام صيام يومهم، وقال المهلب: ومن حجتهم أيضًا قول الله تعالى: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ) [البقرة: 187] ، ومن أفطر ثم طلعت الشمس فلم يتم الصيام إلى الليل كما أمره الله فعليه القضاء من أيام أخر بنص كتاب الله. قال ابن القصار: يحتمل ما روى عن عمر أنه قال: (لا نقضى، والله ما تجانفنا الإثم) ، أن يكون ترك القضاء إذا لم يعلم ووقع الفطر على الشك، وتكون الرواية عنه بثبوت القضاء إذا وقع الفطر فى النهار بغير شك. قال المؤلف: وقد ذكرنا فى مسألة الذى يأكل وهو يشك فى الفجر من جعله بمنزلة من أكل وهو يشك فى غروب الشمس، ومن فرق بين ذلك فى باب قوله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) [البقرة: 187] الآية، وفرق ابن حبيب بين من أكل وهو يشك فى الفجر وبين من أكل وهو يشك فى غروب الشمس، وأوجب القضاء للشاك فى غروب الشمس، واحتج بأن الأصل بقاء النهار، فلا يأكل حتى يوقن بالغروب، والأصل فى الفجر بقاء الليل، فلا يمسك عن الأكل حتى يوقن بالنهار، وبهذا قال المخالفون لمالك فى هذا الباب.(4/106)
44 - باب صَوْمِ الصِّبْيَانِ
وَقَالَ عُمَرُ لِنَشْوَانٍ فِى رَمَضَانَ: وَيْلَكَ، صِبْيَانُنَا صِيَامٌ، فَضَرَبَهُ. / 55 - فيه: الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ، قَالَتْ: أَرْسَلَ النَّبِىُّ، عليه السلام، غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الأنْصَارِ: (مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَليَصُمْ، قَالَتْ: فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ، وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا، وَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الإفْطَارِ) . أجمع العلماء أنه لا تلزم العبادات والفرائض إلا عند البلوغ، إلا أن كثيرًا من العلماء استحبوا أن يدرب الصبيان على الصيام والعبادات رجاء بركتها لهم، وليعتادوها، وتسهل عليهم إذا لزمتهم، قال المهلب: وفى هذا الحديث من الفقه أن من حمل صبيا على طاعة الله ودربه على التزام شرائعه فإنه مأجور بذلك، وأن المشقة التى تلزم الصبيان فى ذلك غير محاسب بها من حملهم عليها. قال ابن المنذر: واختلفوا فى الوقت الذى يؤمر فيه الصبيان بالصيام، فكان الحسن، وابن سيرين، وعروة، وعطاء، والزهرى، وقتادة، والشافعى يقولون: يؤمر به إذا أطاقه، وقال الأوزاعى: إذا أطاق صوم ثلاثة أيام تباعًا لا يخور فيهن ولا يضعف حمل على صوم رمضان، واحتج بحديث ابن أبى لبيبة عن أبيه، عن جده، عن النبى، عليه السلام، أنه قال: (إذا صام الغلام ثلاثة أيام(4/107)
متتابعة فقد وجب عليه صيام شهر رمضان) ، وقال إسحاق: إذا بلغ ثنتى عشرة سنة أحببت له أن يتكلف الصيام للعادة، وقال ابن الماجشون: إذا أطاقوا الصيام ألزموه، فإن أفطروا لغير عذر ولا علة فعليهم القضاء. وقال أشهب: يستحب لهم إذا أطاقوه.
45 - باب الْوِصَالِ وَمَنْ قَالَ: لَيْسَ فِى اللَّيْلِ صِيَامٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة 187] وَنَهَى النَّبِىُّ، عليه السلام، رَحْمَةً لَهُمْ وَإِبْقَاءً عَلَيْهِمْ، وَمَا يُكْرَهُ مِنَ التَّعَمُّقِ
. / 56 - فيه: أَنَسٍ: قَالَ عليه السلام: (لا تُوَاصِلُوا، قَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ، قَالَ: لَسْتُ كَأَحَدٍ مِنْكُمْ، إِنِّى أُطْعَمُ وَأُسْقَى) ، أَوْ إِنِّى أَبِيتُ أُطْعَمُ وَأُسْقَى. / 57 - وفيه: أَبو سَعِيدٍ: قَالَ عليه السلام: (لا تُوَاصِلُوا، فَأَيُّكُمْ أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ، فَلْيُوَاصِلْ حَتَّى السَّحَرِ. . .) الحديث. وترجم له باب الوصال إلى السحر، اختلف العلماء فى تأويل أحاديث الوصال، فقال قائلون: إنما هى رسول الله عن الوصال رحمة لأمته وإبقاء عليهم، فمن قدر عليه فلا حرج، لأنه لله تعالى، يدع طعامه وشرابه، وقد واصل جماعة من السلف، ذكر الطبرى بإسناده عن ابن الزبير أنه كان يواصل سبعة أيام حتى تيبس أمعاؤه، فإذا كان اليوم السابع أتى بسمن و [. . . . . . .] فتحساه(4/108)
حتى يفتق الأمعاء، وعن عبد الرحمن بن أبى نعم أنه كان لا يفطر فى رمضان كله إلا مرتين، وحكى مالك عن عامر بن عبد الله بن الزبير: (أنه كان يواصل ليلة ست عشرة وليلة سبع عشرة من رمضان، لا يفرق بينهما، فقيل له: ماذا تجده يقوتك فى وصالك؟ قال: السمن أشربه، أجده يبل عروقى، فأما الماء فإنه يخرج من جسدى) . وأجاز ابن وهب، وأحمد بن حنبل، وإسحاق الوصال من سحر إلأى سحر، واحتجوا بحديث أبى سعيد أن النبى، عليه السلام، قال: (لا تواوصلوا، وأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر) . فأذن فى ذلك لمن أطاقه من أمته على النحو الذى يجوز، وذلك تأخير الأكل إلى السحر، ونهى عنه من كان له غير مطيق بقوله: (فاكلفوا من العمل ما تطيقون) بعد أن بين لهم أنه قد أعطى من القوة على الوصال ما لم يعط غيره بقوله: (إنى لست كهيئتكم، إنى أبيت يطعمنى ربى ويسقينى) . فأما الصوم ليلا فلا معنى له، لأن ذلك غير وقت للصوم، كما شعبان غير وقت لصوم شهر رمضان، وكذلك لا معنى لتأخير الأكل إلى السحر لمن كان صائمًا فى رمضان إذا لم يكن تأخيره ذلك طلبًا للنشاط على قيام الليل، لأن فاعل ذلك إن لم يفعله لما ذكرناه فإنه مجيع نفسه فى غير ما فيه لله رضا، فلا معنى لتركه الأكل بعد مغيب الشمس لقوله عليه السلام: (إذا غربت الشمس فقد أفطر الصائم) ، وكره مالك، والثورى، وأبو حنيفة، والشافعى، وجماعة الوصال على كل حال لمن قدر عليه، ولم يجيزوه لأحد، واحتجوا أنه عليه السلام نهى عنه وقال: (إذا نهيتكم عن شىء فانتهوا) . قالوا: ولما(4/109)
قال: (لست كهيئتكم) ، أعلمهم أن الوصال لا يجوز لغيره، واحتجوا بقوله عليه السلام: (إذا غربت الشمس فقد أفطر الصائم) . قالوا: فهذا يدل أن الوصال للنبى، عليه السلام، خصوص، وأن المواصل لا ينتفع بوصاله، لأن الليل ليس موضعًا للصوم بدليل هذا الحديث، وبقوله: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة: 187] . قال الطبرى: وأما ما روى عن بعض الصحابة وغيرهم من تركهم الأكل الأيام ذوات العدد ليلاً ونهارًا، فإن ذلك كان منهم على أنحاء شتى، فمنهم من كان ذلك منه لقدرته عليه، فيصرف فطره، إذ لم يكن يمنعه تركه من أداء فرائض الله الواجبة عليه إلى أهل الفقر والحاجة، طلب ثواب الله وابتغاء وجهه، مثل ما روى عن الحسن أنه قال: لقد أدركنا أقوامًا، وصحبنا طوائف، إن أحدهم يمسى وما عنده من العشاء إلا قدر ما يكفيه، ولو شاء لأتى عليه، فيقول: ما أنا بآكله حتى أجعل لله منه، ومنهم من كان يفعله استغناء عنه إذا كانت نفسه قد مرنت عليه واعتادته، كما حدثنى أبو كريب عن أبى بكر بن عياش، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمى قال: ربما لبثت ثلاثين يومًا ما أطعم من غير صوم إلا الحبة، وما يمنعنى ذلك من حوائجى، قال الأعمش: وكان إبراهيم التيمى يمكث شهرين لا يأكل، ولكنه كان يشرب شربة نبيذ، ومنهم من كان يفعله منعًا لنفسه شهوتها ما لم تَدْعُهُ إلأيه الضرورة، ولا خاف العجز عن أداء الواجب لله عليه، إرادة منه قهرها، وحملها على الأفضل، كالذى روينا عن مجاهد أنه قال: (لو أكلت كل ما أشتهى ما سويت حشفة) . فما روى عن السلف أنهم كانوا يواصلون الأيام الكثيرة فإنه على بعض هذه الوجوه التى ذكرت، لا أنه كان يصوم الليل، أو على أنه(4/110)
كان يرى أن تركه الأكل والشرب فيه كصوم النهار ولو كان ذلك صومًا، كان لمن شاء أن يفرد الليل بالصوم دون النهار، والنهار دون الليل ويقرنهما إذا شاء، وفى إجماع من تقدم وتأخر ممن أجاز الوصال، وممن كرهه، على أن إفراد الليل بالصوم إذا لم يتقدمه صوم نهار تلك الليلة غير جائز، أَدَلُّ الدليل على أن صومه غير جائز، وإن كان تقدمه صوم نهار تلك الليلة. وقوله: (إنى أبيت أطعم وأسقى) ، فيه تأويلان: أحدهما: على ظاهر الحديث يطعمه الله ويسقيه. والثانى: على الاستعارة. والمعنى أن الله تعالى، يرزقه قوة على الصيام كقوة من أكل وشرب، والدليل على صحة هذا القول الآخر أنه لو أطعم وأسقى على الحقيقة لم يكن مواصلاً، ولكان مفطرًا.
46 - باب التَّنْكِيلِ لِمَنْ أَكْثَرَ الْوِصَالَ
رَوَاهُ أَنَسٌ عَنِ النَّبِىِّ، عليه السلام. / 58 - فيه: أَبَو هُرَيْرَةَ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ عَنِ الْوِصَالِ فِى الصَّوْمِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: إِنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (وَأَيُّكُمْ مِثْلِى، إِنِّى أَبِيتُ يُطْعِمُنِى رَبِّى وَيَسْقِينِ) ، فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنِ الْوِصَالِ، وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا، ثُمَّ يَوْمًا، ثُمَّ رَأَوُا الْهِلالَ، فَقَالَ: (لَوْ تَأَخَّرَ لَزِدْتُكُمْ) ، كَالتَّنْكِيلِ لَهُمْ حِينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا. قال المهلب: لما نهاهم عليه السلام عن الوصال فلم ينتهوا، بين لهم أنه مخصوص بالقوة بقوله: (إنى لست كهيئتكم) ، لأن الله يطعمه ويسقيه، فأرادوا تحمل المشقة فى الاستنان به، والاقتداء(4/111)
به، فواصل بهم كالمنكل لهم على تركهم ما أمرهم به من الرخصة، فبان بهذا أن الوصال ليس بحرام، لأنه لو كان حرامًا ما واصل بهم، ولا أتى معهم الحرام الذى نهاهم عنه.
47 - باب مَنْ أَقْسَمَ عَلَى أَخِيهِ لِيُفْطِرَ فِى التَّطَوُّعِ وَلَمْ يَرَ عَلَيْهِ قَضَاءً إِذَا كَانَ أَوْفَقَ لَهُ
/ 59 - فيه: أَبُو جُحَيْفَةَ، قَالَ: آخَى النَّبِىُّ، عليه السلام، بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِى الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِى النساء فِى الدُّنْيَا، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ: كُلْ فَإِنِّى صَائِمٌ، قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، قَالَ: فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، فَقَالَ: نَمْ، فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فَقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، قَالَ سَلْمَانُ: قُمِ الآنَ، فَصَلَّيَا، قَالَ سَلْمَانُ: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلأهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِى حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَتَى النَّبِىَّ، عليه السلام، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: (صَدَقَ سَلْمَانُ) . اختلف العلماء فيمن دخل فى صلاة أو صيام تطوع فقطعه عامدًا، فروى عن على بن أبى طالب، وابن عباس، وجابر بن عبد الله نه لا قضاء عليه، وبه قال الثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، واحتجوا بحديث أبى جحيفة وقالوا: ألا ترى سلمان لما أمر بالفطر(4/112)
جوزه النبى، عليه السلام، وجعله أفقه منه، واحتج ابن عباس لذلك فقال: (مثل ذلك كمثل رجل طاف سبعًا ثم قطعه فلم يوفه، فله ما احتسب، أو صلى ركعة ثم انصرف ولم يصل أخرى، فله ما احتسب، أو ذهب بمال يتصدق به فرجع ولم يتصدق، أو تصدق ببعضه وأمسك بعضًا) ، فكره ابن عمر ذلك وقال: (المفطر متعمدًا فى صوم التطوع ذلك اللاعب بدينه) ، وكره النخعى، والحسن البصرى، ومكحول الفطر فى التطوع، وقالوا: يقضيه، وذكر ابن القصار عن مالك أمنه من أفطر فى التطوع لغير عذر فعليه القضاء، وإن أفطره لعذر فلا قضاء عليه، وقال أ [وحنيفة وأصحابه: عليه القضاء وإن أفطر لعذر. واحتج مالك لمذهبه بما رواه فى (الموطأ) ، عن ابن شهاب أن عائشة، وحفصة زوجى النبى، عليه السلام، أصبحتا صائمتين متطوعتين، فأهدى لهما طعام، فأفطرتا عليه، فدخل عليهما رسول الله فأخبرتاه بذلك فقال رسول الله: (اقضيا مكانه يومًا آخر) . فكان معنى هذا الحديث عند مالك أنهما أفطرتا بغير عذر، فلذلك أمرهما بالقضاء، ومن حجته أيضًا قوله تعالى: (وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) [محمد: 33] ، ومن أفطر متعمدًا بعد دخوله فى الصوم فقد أبطل عمله، وقوله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ) [البقرة: 196] ، وأجمع المسلمون أن المفسد لحجة التطوع وعمرته أن عليه القضاء، فالقياس على هذا الإجماع يوجب القضاء على مفسد صومه عامدًا، فإن قيل: فقد روى عن النبى، عليه السلام، أنه قال: (اقضيا إن شئتما يومًا مكانه) قيل: لا يصح، ولو صح لكان معناه أنهما أفطرتا لعذر، فقال لهما: (اقضيا إن شئتما) . وأفطرتا فى حال أخرى لغير(4/113)
عذر، فأمرهما بالقضاء حتى لا تتنافى الأحاديث، عن ابن القصار. ومن حجة أبى حنيفة ظاهر حديث مالك أن النبى، عليه السلام، قال لعائشة وحفصة: (اقضيا يومًا مكانه) ، ولم يشترط ذلك لعذر ولا غيره، فدل أنه موجب للقضاء فى جميع الأحوال. قال الطحاوى: والنظر فى ذلك أنا رأينا أشياء تجب على العباد بإيجابهم لها على أنفسهم، منها الصلاة والصدقة والحج والعمرة والصيام، فكان من أوجب شيئًا من ذلك على نفسه فقال: لله علىّ كذا، وجب الوفاء عليه بذلك، وكان من دخل فى حج أو عمرة تطوعًا ثم أراد الخروج منهما لم يكن له ذلك، وكان بدخوله فيهما فى حكم من قال: لله علىّ حج أو عمرة، فعليه الوفاء بهما، وإن خرج منهما بعذر أو بغير عذر فعليه قضاؤهما، والصلاة والصيام فى النظر كذلك. قال المهلب: وفى حديث أبى جحيفة حُجة لمالك أن من أفطر لعذر أنه لا قضاء عليه، لأن فطر أبى الدرداء إنما كان لوجه من أوجه الاجتهاد فى السنة وسلوك السبيل الوسطى، ولم يكن إفطاره منتهكًا ولا متهاونًا فيجب عليه القضاء، وإنما يجب القضاء على من أفطر متهاونًا بحرمة الصيام لغير عذر ولا وجه من أوجه الصواب. ألا ترى أن ابن عمر لم يجد ما يصفه به إلا أن قال: ذلك المتلاعب بدينه، فإذا لم يكن متلاعبًا وكان لإفطاره وجه لم يكن عليه قضاء، وفيه النهى عن التعمق والغلو فى العبادة. واحتج الشافعى على من احتج عليه بالإجماع فى الحج التطوع والعمرة أنه ليس لأحد الخروج منهما، ومن خرج منهما قضاهما، فإن الصيام قياس على ذلك، فقال: الفرق بين ذلك أن من أفسد(4/114)
صلاته أو صيامه أو طوافه كان عاصيًا لو تمادى فى ذلك فاسدًا، وهو فى الحج مأمور بالتمادى فيه فاسدًا، ولا يجوز له الخروج منه حتى يتمه على فساده، ثم يقضيه، وليس كذلك الصوم والصلاة.
48 - باب صَوْمِ شَعْبَانَ
/ 60 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: (كَانَ عليه السلام، يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لا يَصُومُ، فَمَا رَأَيْتُ النبى اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِى شَعْبَانَ) . وَقَالَتْ أيضًا: (لَمْ يَكُنِ النَّبِىُّ، عليه السلام، يَصُومُ شَهْرًا أَكْثَرَ مِنْ شَعْبَانَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، وَكَانَ يَقُولُ: خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا. . .) الحديث. قال المهلب: فيه من الفقه أن أعمال التطوع ليست منوطة بأوقات معلومة، وإنما هى على قدر الإرادة لها والنشاط فيها، وقد روى فى بعض الحديث أن هذا الصيام الذى كان يصوم فى شعبان كان لأنه عليه السلام يلتزم صوم ثلاثة أيام من كل شهر كما قال لعبد الله بن عمرو، لأن الحسنة بعشر أمثالها، فذلك صيام الدهر فكان يلتزم ذلك، فربما شغل عن الصيام أشهرًا فيجمع ذلك كله فى شعبان ليدركه قبل صيام الفرض، وفيه وجه آخر، ذكر الطحاوى، وابن أبى شيبة من حديث يزيد بن هارون، عن صدقة بن موسى، عن ثابت، عن أنس، قال: سئل رسول الله أى الصوم أفضل؟ قال: (صوم شعبان تعظيمًا لرمضان) .(4/115)
وفيه وجه آخر، ذكر الطحاوى من حديث ابن مهدى، قال: حدثنا ثابت بن قيس أبو الغصن، عن أبى سعيد المقبرى، عن أسامة بن زيد، قال: كان رسول الله يصوم يومين من كل جمعة لا يدعهما: يوم الاثنين والخمس، فقال عليه السلام: (هذان يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين، فأحب أن يعرض عملى وأنا صائم) ، قال: وما رأيت رسول الله يصوم من شهر ما يصوم من شعبان، فسألته عن ذلك. فقال: (هو شهر ترفع فيه الأعمال لرب العالمين، فأحب أن يرفع عملى وأنا صائم) . وقول عائشة فى حديث يحيى عن أبى سلمة بأنه كان يصوم شعبان كله، فليس على ظاهره وعمومه، والمراد أكثره لا جميعه، وقد جاء ذلك عنها مفسرًا، روى ابن وهب عن أسامة بن زيد، قال: حدثنى محمد بن إبراهيم، عن أبى سلمة، قال: (سألت عائشة عن صيام رسول الله فقالت كان يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وكان يصوم شعبان، أو عامة شعبان) . وروى عبد الرزاق عن ابن عيينة، عن ابن أبى لبيد، عن أبى سلمة، قال: سألت عائشة عن صيام رسول الله. . .) فذكرت الحديث، وقالت: (ما رأيت رسول الله أكثر صيامًا منه فى شعبان، فإنه كان يصومه كله إلا قليلاً) . وهذه الآثار تشهد لصحتها رواية أبى النضر عن أبى سلمة، عن عائشة: (أنه ما استكمل صيام شهر قط إلا رمضان) ، ومنها حديث ابن عباس الذى فى الباب بعد هذا، فهى أولى من رواية يحيى عن أبى سلمة. وقوله: (فإن الله لا يمل حتى تملوا) ، فإن الله تعالى لا يجوز(4/116)
عليه الملل، ولا هو من صفاته، وإنما سمى المجازاة باسم الفعل، وهذا هو أعلى طبقات الكلام، وقد تقدم بيان هذا بزيادة فيه فى كتاب الإيمان فى باب: أحب الدين إلى الله أدومه، وفى آخر كتاب الصلاة فى باب: ما يكره من التشديد فى العبادة.
49 - باب مَا يُذْكَرُ مِنْ صَوْمِ النَّبِىِّ، عليه السلام، وَإِفْطَارِهِ
/ 61 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: (مَا صَامَ النَّبِىُّ، عليه السلام، شَهْرًا كَامِلا قَطُّ غَيْرَ رَمَضَانَ، وَيَصُومُ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ: لا وَاللَّهِ لا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى يَقُولَ: لا وَاللَّهِ لا يَصُومُ) . / 62 - وفيه: أَنَس: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُفْطِرُ مِنَ الشَّهْرِ حَتَّى نَظُنَّ أَلا يَصُومَ مِنْهُ، وَيَصُومُ حَتَّى نَظُنَّ أَلا يُفْطِرَ مِنْهُ شَيْئًا، وَكَانَ لا تَشَاءُ تَرَاهُ مِنَ اللَّيْلِ مُصَلِّيًا إِلا رَأَيْتَهُ، وَلا نَائِمًا إِلا رَأَيْتَهُ. . .) الحديث. قال المهلب: فى هذه الأحاديث من الفقه أن النوافل ليس لها أوقات معلومة، وإنما يراعى فيها وقت النشاط لها والحرص عليها. وفيه أن النبى، عليه السلام، لم يلزم سرد الصيام الدهر كله، ولا سرد الصلاة الليل كله، رفقًا بنفسه وأمته لئلا يقتدى به فى ذلك فيجحف، وإن كان قد أُعطى عليه السلام من القوة فى أمر الله ما لو التزم الصعب منه لم ينقطع عنه فركب من العبادة الطريقة الوسطى، فصام وأفطر، وقام ونام، وبهذا أوصى عبد الله بن عمرو حين أراد التشديد على نفسه فى العبادة فقال: (إنك لا تستطيع ذلك، فصم وأفطر، وقم ونم) ، فكان إذ كبر يقول: يا ليتنى قبلت رخصة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) .(4/117)
وقوله: (ما مست حريرة ألين من كف رسول الله) . فهذا يدل على كمال فضائل رسول الله خَلْقًا وخُلقًا، وأما طيب رائحته فإنما طيبها الله لمباشرته الملائكة ومناجاته لهم، وقول ابن عباس: (إن النبى، عليه السلام، ما صام شهرًا كاملا قط غير رمضان) ، يشهد لحديث أبى النضر عن أبى سلمة، عن عائشة بالصحة، وهما مبيِّنان لرواية يحيى بن أبى كثير عن أبى سلمة، عن عائشة (أنه عليه السلام كان يصوم شعبان كله) ، أن المراد بذلك أكثره على ما جاء فى حديث محمد بن إبراهيم، وابن أبى لبيد جميعًا عن أبى سلمة المذكورين فى الباب قبل هذا.
50 - باب حَقِّ الضَّيْفِ فِى الصَّوْمِ
/ 63 - فيه: عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: (دَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ. . .) فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلىَ قوله: (إِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا. . .) إِلى آخره. وقد جاء عن النبى، عليه السلام، إكرام الضيف وبره، وذلك من سنن المرسلين، ألا ترى ما صنع إبراهيم بضيفه حين جاءهم بعجل سمين، وقال عليه السلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) ، ومن إكرام الضيف أن تأكل معه، ولا توحشه بأن يأكل وحده، وهو معنى قوله عليه السلام: (إن لضيفك عليك حقًا) ، يريد أن تطعمه أفضل ما عندك، وتأكل معه، ألا ترى أن أبا(4/118)
الدرداء كان صائمًا فزاره سلمان، فلما قرب إلأيه الطعام قال: لا آكل حتى تأكل، فأفطر أبو الدرداء من أجله وأكل معه. والزور: الضيف، والرجل يأتيه زائرًا الواحد والاثنان والثلاثة. والمذكر والمؤنث فى ذلك بلفظ واحد، يقال: هذا رجل زور، ورجلان زور، وقوم زور، فيوحد فى كل موضع، لأنه مصدر وضع موضع الأسماء، مثل ذلك هم قوم صوم وفطر وعدل فى أن المذكر والمؤنث بلفظ واحد.
51 - باب حَقِّ الْجِسْمِ فِى الصَّوْمِ
/ 64 - فيه: عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَمْرِو، قَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ: (يَا عَبْدَاللَّهِ، أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟ فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (فَلا تَفْعَلْ، صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ كُلَّ شَهْرٍ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا، فَإِذَّا ذَلِكَ صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ) ، فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَىَّ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى أَجِدُ قُوَّةً، قَالَ: (فَصُمْ صِيَامَ أَخْىِ دَاوُدَ، وَلا تَزِدْ عَلَيْهِ) ، قُلْتُ: وَمَا صِيَامُ دَاوُدَ نَبِىِّ اللَّهِ؟ قَالَ: (نِصْفَ الدَّهْرِ) ، فَكَانَ عَبْدُاللَّهِ يَقُولُ: بَعْدَ مَا كَبِرَ: يَا لَيْتَنِى قَبِلْتُ رُخْصَةَ رسول الله) . قال المهلب: وحق الجسم أن يترك فيه من القوة ما يستديم به العمل، لأنه إذا أجهد نفسه قطعها عن العبادة وفترت، وقد جاء فى(4/119)
الحديث (أن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى) ، وقال عليه السلام: (أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإِنْ قَلَّ) ، وقال: (اكلفوا من العمل ما تطيقون) ، فنهى عليه السلام عن التعمق فى العبادة وإجهاد النفس فى العمل خشية الانقطاع، ومتى دخل أحد فى شىء من العبادة لم يصلح له الانصراف عنها. وقد ذم الله من فعل ذلك بقوله: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا) [الحديد: 27] الآية، فوبخهم على ترك التمادى فيما دخلوا فيه، ولهذا قال عبد الله بن عمرو حين ضعف عن القيام بما كان التزمه: (ليتنى قبلت رخصة رسول الله) .
52 - باب صَوْمِ الدَّهْرِ
/ 65 - فيه: عَبْدَاللَّهِ بْنَ عَمْرٍو: أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ أَنِّى أَقُولُ: وَاللَّهِ لأصُومَنَّ النَّهَارَ، وَلأقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ، فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ قُلْتُهُ بِأَبِى أَنْتَ وَأُمِّى، قَالَ: (فَإِنَّكَ لا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، وَصُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ) ، قُلْتُ: فَإِنِّى أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: (فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ) ، قُلْتُ: إِنِّى أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: (فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا، فَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ وَهُوَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ) ، فَقُلْتُ: إِنِّى أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ عليه السلام: (لا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ) .(4/120)
قال المهلب: فيه من الفقه أن التألى على الله فى أمر لا يجد منه سعة ولا إلى غيره سبيلاً منهى عنه، كما نهى النبى، عليه السلام، عبد الله بن عمرو عن ما تألى فيه من قيام الليل وصيام النهار، وكذلك من حلف ألا يتزوج ولا يأكل ولا يشرب، فهذا كله غير لازم عند أهل العلم لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) [التحريم: 1] وللذى حلف ألا ينكح أن ينكح، وكذلك سائر المحرجات الشاملة مباح له إتيان ما حلف عليه وعليه كفارة اليمين بالله. وفيه: أن التعمق فى العبادة والإجهاد للنفس مكروه لقلة صبر الشر على التزامها لا سيما فى الصيام الذى هو إضعاف للجسم، وقد رخص الله فيه فى السفر، لإدخال الضعف على من تكلف مشقة الحل والترحال، فكيف إذا انضاف ذلك إلى من كلفه الله قتال أعدائه الكافرين حتى تكون كلمة الله هى العليا، ألا ترى أن النبى، عليه السلام، قال ذلك فى هذا الحديث عن داود: (وكان لا يفر إذا لاقى) ، فإنه أبقى لنفسه قوة، لئلا تضعف نفسه عند المدافعة واللقاء. وقد كره قوم من السلف صوم الدهر، روى ذلك عن عمر، وابن مسعود، وأبى ذر، وسلمان، وعن مسروق، وابن أبى ليلى، وعبد الله بن شداد، وعمرو بن ميمون، واعتلوا بقوله عليه السلام فى صيام داود: (لا أفضل من ذلك) . وقوله: (لا صام من صام الأبد، مرتين) ، وقالوا: إنما نهى عن صيام الأبد لما فى ذلك من الإضرار بالنفس، والحمل عليها، ومنعها من الغذاء الذى هو قوامها(4/121)
وقوتها على ما هو أفضل من الصوم كالصلاة النافلة وقراءة القرآن والجهاد وقضاء حق الزور والضعيف، وقد أخبر عليه السلام بقوله فى صوم داود: (وكان لا يفر إذا لاقى) ، أن من فضل صومه على غيره إنما كان من أجل أنه كان لا يضعف عن القيام بالأعمال التى هى الأفضل من الصوم، وذلك ثبوته لحرب أعداء الله عند التقاء الزحوف، وتركه الفرار منهم، فكان عليه السلاك إذ قضى بصوم داود بالفضل على غيره من معانى الصيام قد بين أن كل من كان صومه لا يورثه ضعفًا عن أداء فرائض الله، وعن ما هو أفضل من صومه، وذلك من نفل الأعمال، وهو صحيح الجسم، فغير مكروه له صومه ذلك. وكل من أضعفه صومه النفل عن أداء شىء من فرائض الله فغير جائز له صومه، بل هو محظور عليه، فإن لم يضعفه عن الفرائض، وأضعفه عما هو أفضل منه من النوافل فإن صومه مكروه، وإن كان غير آثم، وكان ابن مسعود يقل الصوم فقيل له فى ذلك، فقال: إنى إذا صمت ضعفت عن الصلاة، والصلاة أحب إلى من الصوم، وكان أبو طلحة لا يكاد يصوم على عهد النبى من أجل الغزو، فلما توفى النبى، عليه السلام، ما رأيته يفطر إلا يوم فطر أو أضحى، وقد سرد ابن عمر الصيام قبل موته بسنتين، وسرد الصيام أيضًا أبو الدرداء، وأبو أمامة الباهلى، وعبد الله بن عمرو، وحمزة بن عمرو، وعائشة، وأم سلمة زوجا النبى، وأسماء بنت أبى بكر، وعبد الله وعروة ابنا الزبير، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وابن سيرين،(4/122)
وقالوا: من أفطر الأيام التبى نهى رسول الله عن صيامها، فليس بداخل فى ما نهى عنه من صوم الدهر، وقال مالك فى (المجموعة) : لا بأس بصيام الدهر إذا أفطر يوم الفطر، ويوم النحر، وأيام منى، وقد قيل: إن رسول الله إنما قال إذ سئل عن صوم الدهر: (لا صام ولا أفطر) ، لمن صام حتى هلك من صومه، حدثنى بذلك يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، عن خالد الحذاء، عن أبى قلابة: أن امرأة صامت حتى ماتت فقال النبى، عليه السلام: (لا صامت ولا أفطرت) ، ومن صام حتى بلغ به الصوم هذا الحد فلا شك أنه بصومه ذلك آثم، قاله الطبرى.
53 - باب حَقِّ الأهْلِ فِى الصَّوْمِ
/ 66 - فيه: عَبْدَاللَّهِ بْنَ عَمْرٍو: بَلَغَ النَّبِىَّ أَنِّى أَسْرُدُ الصَّوْمَ، وَأُصَلِّى اللَّيْلَ، فَقَالَ: (صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِعَيْنِيْكَ عَلَيْكَ حَظًّا، وَلِنَفْسِكَ وَأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَظًّا) ، قُلْت: إِنِّى لأقْوَى لِذَلِكَ، يَا رَسُولُ الله، قَالَ: (فَصُمْ صِيَامَ دَاوُدَ، وَكَانَ يَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَلا يَفِرُّ إِذَا لاقَى) ، قَالَ: مَنْ لِى بِهَذِهِ يَا رَسُولُ اللَّهِ. وَقَالَ: (لا صَامَ مَنْ صَامَ الأبَدَ مَرَّتَيْنِ) . وترجم له باب: (صوم يوم وإفطار يوم) ، وباب: (صوم نبى الله داود) . حق الأهل أن يبقى فى نفسه قوة يمكنه معها جماعها، فإنه حق يجب للمرأة المطالبة به لزوجها عند بعض أهل العلم، كما لها المطالبة بالنفقة عليها، فإن عجز عن واحدة منهما طلقت عليه بعد(4/123)
الأجل فى ذلك، هذا قول أبى ثور، وحكاه عن أهل الأثر، ذكره ابن المنذر وجماعة الفقهاء على خلافه فى الطلاق إذا عجز عن الوطء، وسيأتى الكلام فى أحكام ذلك فى موضعه من كتاب النكاح، إن شاء الله.
54 - باب صِيَامِ الأَيَّامِ الْبِيضِ ثَلاثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ
/ 67 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ: أَوْصَانِى النبى، عليه السلام، بِثَلاثٍ: (صِيَامِ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَىِ الضُّحَى، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ) . قال المؤلف: ليس فى حديث أبى هريرة أن الثلاثة الأيام التى أوصاه بها من كل شهر هى الأيام البيض كما ترجم به البخارى، وهى موجودة فى حديث آخر، روى الطبرى، قال: حدثنا مخلد بن الحسن، حدثنا عبيد الله بن عمرو الرقى، عن زيد بن أبى أنيسة، عن أبى إسحاق السبيعى، عن جرير بن عبد الله البجلى، عن النبى، عليه السلام، أنه قال: (صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر، أيام البيض: صبيحة ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة) ، وروى شعبة، عن أنس بن سيرين، عن عبد الملك بن المنهال، عن أبيه، قال: (أمرنى النبى، عليه السلام، بالأيام البيض، وقال: هو صوم الشهر) . وروى من حديث عمر، وأبى ذر عن النبى، عليه السلام: أنه قال لأعرابى ذكر له أنه صائم قال: (أين أنت عن العزِّ البيض: ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة) .(4/124)
رواه ابن عيينة عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، عن موسى بن طلحة، عن رجل من بنى تميم يقال له: ابن الحَوْتكيّة عن عمرو، وأبى ذر. وممن كان يصوم الأيام البيض من السلف: عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وأ [وذر، ومن التابعين الحسن البصرى، والنخعى، وسئل الحسن البصرى لم صام الناس الأيام البيض وأعرابى يسمع، فقال الأعرابى: لأنه لا يكون الكسوف إلآ فيها، ويحب الله ألا تكون فى السماء آية إلا كانت فى الأرض عبادة. قال الطبرى: فاختار هؤلاء صيام هذه الأيام البيض لهذه الآثار، واختار قوم من السلف صيام ثلاثة أيام من كل شهر غير معيَّنة على ظاهر حديث أ [ى هريرة المذكور فى هذا الباب، وروى معمر عن الجريرى، عن أبى العلاء بن الشخير أن أعرابيا سمع النبى، عليه السلام، قال: (صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر يذهبن كثيرًا من وغر الصدر) . قال مجاهد: وغر الصدر: هو غشه. وممن كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر ويأمر بهن: على بن أبى طالب، ومعاذ بن جبل، وأبو ذر، وأبو هريرة، وكان بعض السلف يختار الثلاثة من أول الشهر، وهو الحسن البصرى، وكان بعضهم يختار الاثنين والخميس، وهى أم سلمة زوج النبى، عليه السلام، وقالت إنه أمرها بذلك، وكان بعضهم يختار السبت والأحد والاثنين، ومن الشهر الذى يليه الثلاثاء والأربعاء والخميس، ومن الشهر الذى(4/125)
يليه كذلك، وهى عائشة أم المؤمنين، ومنهم من كان يصوم آخر الشهر، وهو النخعى ويقول: هو كفارة لما مضى، فأما الذين اختاروا صوم الاثنين والخميس فلحديث أم سلمة وأخبار أخر رويت عن النبى، عليه السلام، أن الأعمال تعرض على الله فى الاثنين والخميس، فأحبوا أن تعرض أعمالهم على الله وهم صيام، وأما الذين اختاروا ما اختارت عائشة فلئلا يكون يوم من أيام السنة إلا قد صامه، وأما الذين اختاروا ذلك من أول الشهر فلما رواه شيبان عن عاصم بن بهدلة، عن زر عن عبد الله بن مسعود، قال: (كان النبى، عليه السلام، يصوم من غرة كل شهر ثلاثة أيام) . قال الطبرى: والصواب عندى فى ذلك أن جميع الأخبار عن النبى، عليه السلام، صحاح، ولكن لما صح عنه أنه اختار لمن أراد صوم الثلاثة الأيام من كل شهر الأيام البيض، فالصواب اختيار ما اختار عليه السلام، وإن كان غير محظور عليه أن يجعل صوم ذلك ما شاء من أيام الشهر، إذ كان ذلك نفلا لا فرضًا. فإن قيل: أو ليس قد قلت أن النبى، عليه السلام، كان يصوم الاثنين والخميس، ويصوم الثلاثة من غرة الشهر؟ . قيل: نعم، ولا يدل على أن الذى اختار للأعرابى من أيام البيض ليس كما اختار وأن ذلك من فعله دليل على أن أمره للأعرابى ليس بالواجب، وإنما هو أمر ندب وإرشاد، وأن لمن أراد من أمته صوم ثلاثة أيام من كل شهر تخير ما أحب من أيام الشهر، فيجعل صومه فيما اختار من(4/126)
ذلك كما كان الرسول يفعله، فيصوم مرة الأيام البيض، ومرة غرة الهلال، ومرة الاثنين والخميس، إذ كان لأمته الاستنان به فيما لم يعلمهم أنه له خاص دونهم، روى ابن القاسم عن مالك فى العتبية أنه كره تعمد صوم الأيام البيض، وقال: ما هذا ببلدنا، وقال: الأيام كلها لله، وكره أن يجعل على نفسه صوم يوم يؤقته أو شهر، قال عنه ابن وهب: فإنه لعظيم أن يجعل على نفسه صوم يوم يؤقته أو شهر كالفرض، ولكن يصوم إذا شاء، ويفطر إذا شاء. قال ابن حبيب: وبلغنى أن صوم مالك بن أنس أول يوم من الشهر واليوم العاشر واليوم العشرون.
55 - باب مَنْ زَارَ قَوْمًا فَلَمْ يُفْطِرْ عِنْدَهُمْ
/ 68 - فيه: أَنَسٍ: دَخَلَ النَّبِىُّ، عليه السلام، عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ، فَأَتَتْهُ بِتَمْرٍ وَسَمْنٍ، فَقَالَ: (أَعِيدُوا سَمْنَكُمْ فِى سِقَائِهِ، وَتَمْرَكُمْ فِى وِعَائِهِ، فَإِنِّى صَائِمٌ) ، ثُمَّ قَامَ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ الْبَيْتِ، فَصَلَّى غَيْرَ الْمَكْتُوبَةِ، فَدَعَا لأمِّ سُلَيْمٍ، وَأَهْلِ بَيْتِهَا، فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِى خُوَيْصَّةً، قَالَ: (مَا هِيَ) ؟ قَالَتْ: خَادِمُكَ أَنَسٌ، فَمَا تَرَكَ خَيْرَ آخِرَةٍ وَلا دُنْيَا إِلا دَعَا لِى بِهِ، قَالَ: (اللَّهُمَّ ارْزُقْهُ مَالاً وَوَلَدًا وَبَارِكْ لَهُ فِيهِ) ، فَإِنِّى لَمِنْ أَكْثَرِ الأنْصَارِ مَالا، وَحَدَّثَتْنِى ابْنَتِى أُمَيْنَةُ أَنَّهُ دُفِنَ لِصُلْبِى مَقْدَمَ الحَجَّاجٍ الْبَصْرَةَ بِضْعٌ وَعِشْرُونَ وَمِائَةٌ. فى هذا الحديث حجة لمالك والكوفيين أن الصائم المتطوع لا ينبغى له أن يفطر بغير عذر ولا سبب موجب للإفطار، وليس هذا الحديث بمعارض لإفطار أبى الدرداء حين زاره سلمان وامتنع من الأكل إن لم(4/127)
يأكل معه، وهذه توجب الإفطار، لأن للضيف حقا كما قال عليه السلام. قال المهلب: وفيه أن الصائم إذا دعى إلى طعام فليدع لأهله بالبركة يؤنسهم بذلك ويسرهم، وفيه وجوب الإخبار عن نعم الله عند الإنسان والإعلان بمواهبه، وأن لا يجحد نعمه، وبذلك أمر الله، تعالى، فى كتابه فقال: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [الضحى: 11] ، وفيه أن تصغير اسم الرجل على معنى التعطف له، والترحم عليه، والمودة له، لا ينقصه ولا يحطه، وفيه دليل على جواز رد الهدية والطعام المبذول إذا لم يكن فى ذلك سوء أدب على باذله ومُهْديه، ولا نقيصة عليه، ويخص الطعام من ذلاك أنه إذا لم يعلم من الناس حاجة فحينئذ يجمل رده، وإذا علم منهم حاجة فلا يرده ويبذله لأهله، كما فعل عليه السلام بأم سليم فى غير هذا الحديث حين بعث هو وأبو طلحة أنسًا إلأيها لتعد الطعام لرسول الله وأصحابه.
56 - باب الصَّوْمِ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ
/ 69 - فيه: عِمْرَانَ قَالَ النَّبِىِّ، عليه السلام: (يَا فُلانٍ، أَمَا صُمْتَ سَرَرَ هَذَا الشَّهْرِ) ؟ قَالَ: أَظُنُّهُ، قَالَ: يَعْنِى رَمَضَانَ، قَالَ الرَّجُلُ: لا،(4/128)
يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (فَإِذَا أَفْطَرْتَ، فَصُمْ يَوْمَيْنِ) ، لَمْ يَقُلِ الصَّلْتُ: أَظُنُّهُ يَعْنِى رَمَضَانَ. وَقَالَ ثَابِتٌ: عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ عِمْرَانَ، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السلام: (مِنْ سَرَرِ شَعْبَانَ) . قال أبو عبيد: السرار آخر الشهر إذا استسر الهلال، قال ابن قتيبة: ربما استسر القمر ليلة أو ليلتين، قال: ويقال: سرر الشهر وسراره وسره، وسرار أجود، قال الخطابى: وفيه لغات يقال: سَرَرُ الشهر وسَرَارُهُ وسِرُّهُ. قال الطبرى: فالذين اختاروا صيام الثلاثة الأيام من آخر الشهر فإنهم تأولوا أن يكون ذلك كفارة لما مضى من ذنوبهم، ويجوز أن يكون معنى قوله: (سرر هذا الشهر) أى من وسطه، لأنها الأيام الغر التى كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يأمر بصيامها، وسرارة كل شىء وسطه وأفضله. قال ذو الرمة يصف حمارًا: كأنه عن سرار الأرض محجوم يريد عن وسطها، وهو موضع الكلأ منها، وقال ابن السكيت: سرار الأرض أكرمه وأفضله، وقال الخطابى: قد كان بعض أهل العلم يقول إن سؤاله عليه السلام فى هذا الحديث سؤال زجر وإنكار، لأنه قد نهى أن يستقبل الشهر بيوم أو يومين، ويشبه أن يكون هذا(4/129)
الرجل قد كان أوجبهما على نفسه فاستحب له الوفاء بهما، وأن يجعل قضاؤهما فى شوال.
57 - بَاب صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ
وَإِذَا أَصْبَحَ صَائِمًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُفْطِرَ، يَعْنِى إِذَا لَمْ يَصُمْ قَبْلَهُ، وَلا يُرِيدُ أَنْ يَصُومَ بَعْدَهُ. / 70 - فيه: جَابِر، نَهَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ. / 71 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، يَقُولُ: (لا يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلا يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ) . / 72 - وفيه: أَبُو أَيُّوبَ دَخَلَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، عَلَى جُوَيْرِيَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهِىَ صَائِمَةٌ، فَقَالَ: (أَصُمْتِ أَمْسِ) ؟ قَالَتْ: لا، قَالَ: (تُرِيدِينَ أَنْ تَصُومِى غَدًا) ؟ قَالَتْ: لا، قَالَ: (فَأَفْطِرِى) ، فَأَمَرَهَا فَأَفْطَرَتْ. اختلف العلماء فى صيام يوم الجمعة، فنهت طائفة عن صومه إلا أن يصام قبله أو بعده على ما جاء فى هذه الآثار، روى هذا القول عن أبى هريرة وسلمان، وروى عن أبى ذر، وعلى بن أبى طالب أنهما قالا: إنه يوم عيد وطعام وشراب، فلا ينبغى صيامه، وهذا(4/130)
قول ابن سيرين والزهرى، وبه قال أحمد وإسحاق، ومنهم من قال: يفطر ليقوى على الصلاة فى ذلك اليوم، وروى ذلك عن النخعى، كما قال ابن عمر: لا صيام يوم عرفة بعرفة من أجل الدعاء، وأجازت طائفة صيامه، روى عن ابن عباس أنه كان يصوم يوم الجمعة ويواظب عليه، وقال مالك: لم أسمع أحدًا من أهل العلم والفقه ممن يقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة، وصيامه حسن، وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه، وأراه كان يتحراه، وقيل: إنه ابن المنكدر. وقال الشافعى: لا يبين لى أنه نهى عن صيام يوم الجمعة إلا على الاختيار، وقد روى عن ابن مسعود أنه قال: (ما رأيت النبى عليه السلام يفطر يوم الجمعة) رواه شيبان عن عاصم، عن زر، عن عبد الله. ورواه شعبة عن عاصم فلم يرفعه، فهى علة فيه. وروى ليث ابن أبى سليم، عن عمير بن أبى عمير، عن ابن عمر أنه قال: (ما رأيت رسول الله مفطرًا يوم الجمعة قط) وليث ضعيف، وأحاديث النهى أصح. وأكثر الفقهاء على الأخذ بأحاديث الإباحة؛ لأن الصوم عمل بر، فوجب ألا يمنع عنه بدليل لا معارض له. قال المهلب: ويحتمل أن يكون نهيه عن صيام يوم الجمعة والله أعلم خشية أن يستمر الناس الناس على صومه فيفرض عليهم، كما خشى من صلاة الليل، فقطعه لذلك، وخشى أن يلتزم الناس من تعظيم يوم الجمعة ما التزمه اليهود والنصارى فى يوم السبت والأحد من ترك العمل والتعظيم، فأمر بإفطاره، ورأى أن قطع الذرائع أعظم أجرًا من إتمام ما نوى صومه لله. وذكر الطحاوى قال: روى ابن وهب عن معاوية بن صالح، عن أبى بشر، عن عامر ابن لدين الأشعرى أنه سأل أبا هريرة عن صيام(4/131)
يوم الجمعة فقال: على الخبير وقعت، سمعت رسول الله يقول: إن يوم الجمعة عيدكم، فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا قبله أو بعده) . فكره رسول الله أن يقصد إليه بعينه بصوم للتفرقة بينه وبين شهر رمضان وسائر الأيام؛ لأن فريضة الله فى رمضان بعينه وليس كذلك سائر الأيام والله أعلم.
58 - باب هَلْ يَخُصُّ مِنَ الأيَّامِ شَيْئًا
/ 73 - وفيه: عَلْقَمَةَ، قُلْتُ لِعَائِشَةَ: هَلْ كَانَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، يَخْصُّ مِنَ الأيَّامِ شَيْئًا؟ قَالَتْ: لا، كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً، وَأَيُّكُمْ يُطِيقُ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُطِيقُ. معناه: أنه كان لا يخص شيئًا من الأيام دائمًا ولا راتبًا، إلا إنه قد عنه عليه السلام أنه كان أكثر صيامه فى شعبان، وقد حض عليه السلام على صيام الاثنين والخميس، ذكره عبد الرزاق وغيره، لكن كان صيامه عليه السلام على حسب نشاطه، فربما وافق الأيام التى رغب فيها، وربما لم يوافقها، وقد روى الطحاوى عن على بن شيبة، حدثنا روح، حدثنا شعبة قال: حدثنا يزيد الرشك، عن معاذة، عن عائشة (أنها سئلت أكان رسول الله يصوم ثلاثة أيام من كل شهر؟ قالت: نعم، فقيل لها من أيِّه؟ قالت: ما كان يبالى من أى الشهر صامها) .(4/132)
59 - باب صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ
/ 74 - فيه: أُمِّ الْفَضْلِ أَنَّ النَّاسَ تَمَارَوْا عِنْدَهَا يَوْمَ عَرَفَةَ فِى صَوْمِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ، وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ، فَشَرِبَهُ. / 75 - وفيه: مَيْمُونَةَ، أَنَّ النَّاسَ شَكُّوا فِى صِيَامِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ عَرَفَةَ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ بِحِلابٍ، وَهُوَ وَاقِفٌ فِى الْمَوْقِفِ، فَشَرِبَ مِنْهُ، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ. قال ابن المنذر: ثبت أن النبى عليه السلام أفطر يوم عرفة، وروى عنه أن صوم عرفة يكفر سنتين، رواه الثورى عن منصور، عن مجاهد، عن حرملة بن إياس الشيبانى، عن أبى قتادة: (أن رسول الله سئل عن صيام يوم عرفة فقال: (يكفر سنتين: سنة ماضية، وسنة مستأخرة) ، ورواه شعبة عن غيلان بن جرير، عن عبد الله بن معبد الزِّمَّانى، عن أبى قتادة. واختلفوا فى صوم يوم عرفة بعرفة فقال ابن عمر: لم يصمه النبى عليه السلام ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، وأنا لا أصومه. وقال ابن عباس يوم عرفة: لا يصحبنا أحد يريد الصيام، فإنه يوم تكبير وأكل وشرب، واختار مالك، وأبو حنيفة، والثورى الفطر، وقال عطاء: من أفطر يوم عرفة ليتقوى به على الذكر كان له مثل أجر الصائم، وكان ابن الزبير وعائشة يصومان يوم عرفة، وكان الحسن يعجبه صوم يوم عرفة، ويأمر به الحاج، وقال: رأيت عثمان بعرفة فى يوم شديد الحر وهو صائم وهم يروحون عنه، وكان(4/133)
أسامة بن زيد، وعورة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وسعيد بن جبير يصومون بعرفة، وقال قتادة: لا بأس بذلك إذا لم يضعف عن الدعاء، وقال الشافعى: أحب صيام يوم عرفة لغير الحاج، فأما من حج فأحب أن يفطر ليقوى به على الدعاء، وقال عطاء: أصومه فى الشتاء، ولا أصومه فى الصيف. قال الطبرى: وإنما أفطر عليه السلام بعرفة ليدل على أن الاختيار فى ذلك الموضع للحاج الإفطار دون الصوم؛ كيلا يضعف عن الدعاء، وقضاء ما لزمه من مناسك الحج، وكذلك من كره صومه من السلف فإنما كان لما بيناه من إيثرهم الأفضل من نفل الأعمال على ما دونه، وإبقاء على نفسه ليتقوى بالإفطار على الاجتهاد فى العبادة، ومن آثر صومه أراد أن يفوز بثواب صومه لقوله عليه السلام: (للجنة باب يدعى الريان، لا يدخل منه إلا الصائمون) . وقال المهلب: فى شربه عليه السلام اللبن يوم عرفة أن العيان أقطع الحجج وأنه فوق الخبر، وقد قال عليه السلام: (ليس الخبر كالمعاينة) . وفيه أن الأكل والشرب فى المحافل مباح إذا كان لتبيين معنَّى، أَوْ دَعَت إليه ضرورة، كما فعل يوم الكديد إذا علم بما يريد بيانه من سنته عليه السلام، وفيه جواز قبول الهدية من النساء، ولم يسألها إن كان من مالها أو من مال زوجها، إذا كان هذا المقدار لا يتشاح الناس فيه.(4/134)
60 - باب صَوْمِ يَوْمِ الْفِطْرِ
/ 76 - فيه: عُمَر بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: هَذَانِ يَوْمَانِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ صِيَامِهِمَا، يَوْمُ فِطْرِكُمْ مِنْ صِيَامِكُمْ، وَالْيَوْمُ الآخَرُ تَأْكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسُكِكُمْ. / 77 - وفيه: أَبُو سَعِيد، نَهَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْفِطْرِ وَالنَّحْرِ. قال الطبرى: إن قال قائل: إنك تكره صوم اليوم الذى يشك فيه أنه من رمضان، وصوم أيام التشريق نحو الذى تكره من صوم هذين اليومين، ويروى عن النبى عليه السلام من النهى عن صيامها نظير روايتك عنه النهى عن صومهما، ثم تجيز صوم أيام التشريق قضاءً من واجب، وتبيح صوم الشك تطوعًا، فما بال يوم الفطر والأضحى خالفا حكم ذلك، وهل اتفق حكم جميع ذلك كما اتفق النهى عن صوم جميعها. قيل: لم نخالف بين حكم شىء من ذلك إلا لمخالفة الله تعالى بين ذلك، وذلك أن الأمة مجمعة وارثة عن نبيها أن صوم اليومين غير جائز تطوعًا ولا فريضة، وهما يوما عيد، وصحت الأخبار عن النبى عليه السلام أنه كان يصوم شعبان فوصله برمضان، وقيام الحجة بأن لم يجد من المتمتعين هديًا صوم أيام منى، فذلك الدليل الثابت على افتراق أحكام ذلك.(4/135)
61 - باب الصَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ
/ 78 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَبُو سَعِيد، نَهَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، عَنْ صِيَامَيْنِ الْفِطْرِ وَالنَّحْرِ. وجَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عُمَرَ، فَقَالَ: رَجُلٌ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ يَوْمًا، قَالَ: أَظُنُّهُ: قَالَ: الاثْنَيْنِ، فَوَافَقَ ذَلِكَ يَوْمَ عِيدٍ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَمَرَ اللَّهُ بِوَفَاءِ النَّذْرِ، وَنَهَى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عَنْ صَوْمِ هَذَا الْيَوْمِ. قد تقدم أن الأمة مجمعة على أنه لا يجوز صيام يوم الفطر والنحر، ولو نذر ناذر صيام يوم بعينه فوافق ذلك يوم فطر أو أضحى، فأجمعوا أنه لا يصومها. واختلفوا فى قضائهما، فروى عن مالك فى ذلك ثلاثة أقوال، روى ابن وهب عنه أنه لا يقضيهما، وروى ابن القاسم، وابن وهب عنه أنه يقضيهما إلا أن يكون نوى ألا يقضيهما، وبه قال الأوزاعى، وروينا عنه أنه لا يقضيهما إلا أن يكون نوى أن يصومهما، قال ابن القاسم: وقوله: لا قضاء عليه إلا أن ينوى أن يقضيه، أحب إلى، وقال أبو حنيفة وصاحباه: يقضيهما، واختلف قول الشافعى، فمرة قال: يقضيهما، ومرة قال: لا يقضيهما، قال غيره: والقياس ألا قضاء فى ذلك؛ لأنه من نذر صوم يوم بعينه أنه لا يخلو أن يدخل فيه صوم يوم الفطر والأضحى أو لا يدخل، فإن دخل فى نذره فلا يلزمه؛ لأن من قصد إلى نذر صومه لم يلزمه، ونذره باطل، وإن لم يدخل فى نذره فهو أبعد من أن يجب عليه قضاؤه.(4/136)
62 - باب صوم أَيَّامِ التَّشْرِيقِ
/ 79 - فيه: عَائِشَةُ، أنها كانت تَصُومُ أَيَّامَ مِنًى، وَكَانَ أَبُوهَا يَصُومُهَا. / 80 - وفيه: عَائِشَةَ، وابْن عُمَرَ: الصِّيَامُ لِمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ عَرَفَةَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا وَلَمْ يَصُمْ، صَامَ أَيَّامَ مِنًى. قال المؤلف: أيام التشريق هى أيام منى، وهى الأيام المعدودات، وهى الحادى عشر والثانى عشر والثالث عشر من ذى الحجة. قال ابن المنذر: واختلف العلماء فى صيامها، فروى عن ابن الزبير أنه كان يصومها، وعن الأسود بن يزيد مثله، وقال أنس: كان أبو طلحة قل ما رأيته يفطر إلا يوم فطر أو أضحى، وكذلك كان ابن سيرين يصوم الدهر غير هذين اليومين، وكان مالك والشافعى يكرهان صوم أيام التشريق إلا للمتمتع الذى لا يجد الهدى، فيصوم هذه الثلاثة الأيام؛ لأنها فى الحج إذا لم يصمها فى العشر على ما جاء عن عائشة وابن عمر، وروى ذلك عن عبيد ابن عمير وعروة، وهو قول الأوزاعى وإسحاق، ذكره ابن المنذر. وذكر الطحاوى أن هؤلاء أباحوا صيام أيام التشريق للمتمتع والقارن والمحصر إذا لم يجد هديًا ولم يكونوا صاموا قبل ذلك، ومنعوا منها من سواهم، وخالفهم آخرون فقالوا: ليس هؤلاء ولا لغيرهم من الناس أن صوموا هذه الأيام عن شىء من ذلك، ولا عن كفارة، ولا فى تطوع؛ لنهى النبى عليه السلام عن ذلك، ولكن على المتمتع والقارن الهدى لتمتعهما وقرانهما، وهدى آخر؛ لأنهما حلا بغير صوم، هذا قول الكوفيين، وهو أحد قولى الشافعى، وذكر ابن المنذر عن على بن أبى طالب أن المتمتع إذا لم يجد الهدى، ولم(4/137)
يصم الثلاثة الأيام فى العشر، يصومها بعد أيام التشريق، وهو قول الحسن وعطاء، واحتج الكوفيون بما روى إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبى وقاص، عن أبيه، عن جده قال: (أمرنى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن أنادى أيام منى أنها أيام أكل وشرب، ولا صوم فيها) يعنى أيام التشريق، وروته عائشة، وعمرو بن العاص، وعبد الله بن حذافة، وأبو هريرة كلهم عن النبى عليه السلام فلما تواترت هذه الآثار بالنهى عن صيام أيام التشريق، وكان نهيه عن ذلك بمنى والحاج مقيمون بها، وفيهم المتمتعون والقارنون ولم يستثن منهم أحدًا، دخل فى ذلك المتمتعون والقارنون وغيرهم، قال ابن القصار: ومن حجة مالك قوله تعالى: (فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِى الْحَجِّ) [البقرة: 196] ، ولا خلاف بين العلماء أن هذه الآية نزلت يوم التروية، وهو الثامن من ذى الحجة، فعلم أنه أباح لهم صومها، وأنهم صاموا فيها؛ لأن الذى بقى من العشر الثامن والتاسع، والثامن الذى نزلت فيه الآية لا يصح صومه؛ لأنه يحتاج إلى تبييت من الليل، والعاشر يوم النحر، والإجماع أنه لا يصام، فعلم أنهم صاموا بعد ذلك. وقول ابن عمر وعائشة: (لم يرخص فى أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدى) يرفع الإشكال فى ذلك، قال المهلب: ومن حجة مالك أيضًا قول عمر بن الخطاب فى يوم الفطر والنحر: (هذان يومان نهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن صيامهما: يوم فطركم من صيامكم،(4/138)
والآخر يوم تاكلون فيه من نسككم) ، فخص اليومين بالنهى، وبقيت أيام التشريق مباحة، فأما قوله عليه السلام: (فإنها أيام أكل وشرب) فإنما يختص بذلك من لم يكن عليه صوم واجب، فعلى هذا تتفق الأحاديث، وفى إباحة صيامها للمتمتع حجة لمالك فيما ترجح قوله فيه فيمن يبتدئ صوم الظهار فى ذى القعدة، وقال: عسى أن يجزئه إن نسى أو غفل إذا أفطر يوم النحر وصام أيام التشريق، ثم وصل اليوم الذى أفطره، رجوت أن يجزئه، ويبتدئه أحب إلى، وإنما قال ذلك؛ لأن صوم المتمع صوم واجب، وإنما ينهى عن صيامها من ليس عليه صوم واجب، وقال غير واحد عن مالك: إن اليوم الرابع لم يختلف قوله فيه، ولا يصام تطوعًا، وقال ابن المنذر: مذهب ابن عمر فى صيام هذه الثلاثة الأيام من حين يحرم بالحج وآخرها يوم عرفة، وهذا معنى قول البخارى عن ابن عمر: (الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى الحج إلى يوم عرفة) . قال ابن المنذر: وجماعة الفقهاء لا يختلفون فى جواز صيامها بعد الإجرام بالحج، إلا عطاء فإنه قال: إن صامهن حلالاً أجزأه، وهو قول أحمد بن حنبل، قال أبو بكر: لا يجب الصوم على المتمتع إلا بعد الإحرام، فمن صام قبل ذلك كان تطوعًا، ولا يجزئه عن فرضه، وفى قوله تعالى: (فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِى الْحَجِّ) [البقرة: 296] أبين البيان أنه لا يجزئه صيامها فى غير الحج، وهذا يرد أيضًا ما روى عن على والحسن وعطاء.(4/139)
63 - باب صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَإِذَا أصبح وَلم ينو الصيام ثُمَّ صام
/ 81 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، يَوْمَ عَاشُورَاءَ: (إِنْ شَاءَ صَامَ وَإِنْ شَاءَ فطر) . / 82 - وفيه: عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، أَمَرَ بِصِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ كَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ. وَقَالَ مُعَاوِيَةَ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ؟ سَمِعْتُ النَّبِىّ، عليه السَّلام، يَقُولُ: (هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ، وَلَمْ يَكْتُبِ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، وَأَنَا صَائِمٌ فَمَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْ) . / 83 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَدِمَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، الْمَدِينَةَ، فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: (مَا هَذَا) ؟ قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِى إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى، قَالَ: (فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ، فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ) . وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا رَأَيْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلا هَذَا الْيَوْمَ، يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَهَذَا الشَّهْرَ، يَعْنِى شَهْرَ رَمَضَانَ. / 84 - وفيه: سَلَمَةَ، قَالَ: أَمَرَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، رَجُلا مِنْ أَسْلَمَ أَنْ أَذِّنْ فِى النَّاسِ: (أَنَّ مَنْ كَانَ أَكَلَ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ، فَإِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ) .(4/140)
اختلفت الآثار فى صوم يوم عاشوراء، فدل حديث عائشة على أن صومه كان واجبًا قبل أن يفرض رمضان، ودل أيضًا أن صومه قد رد إلى التطوع بعد أن كان فرضًا، ودل حديث سلمة أيضًا على وجوبه. قال الطحاوى: وفى أمر النبى عليه السلام إياهم بصومه بعد أن أصبحوا دليل على أن من كان فى يوم عليه صومه بعينه، ولم يكن نوى صومه من الليل أنه يجوز أن ينوى صومه بعد ما أصبح إذا كان ذلك قبل الزوال. قال المؤلف: قد تقدمت هذه المسألة والخلاف فيها فى باب (إذا نوى بالنهار صومًا) . قال الطحاوى: ورويت عن الرسول آثار أخر دليل على أن صومه اختيار لا فرض، منها: حديث ابن عباس وذلك أنه أخبر بالعلة التى من أجلها صامه النبى عليه السلام وأنه إنما صامه شكرًا لله فى إظهاره موسى على فرعون، فدل ذلك على الاختيار لا على الفرض، وعلى مثل ذلك دل حديث ابن عمر ومعاوية. واختلفت الآثار أى يوم هو يوم عاشوراء، فروى فى حديث الحكم بن الأعرج أنه سأل ابن عباس عنه فقال: (إذا أصبحت من تاسعه فأصبح صائمًا، قلت: كذلك كان يصوم النبى عليه السلام؟ قال: نعم) . قال المؤلف: وهذا يدل أنه عنده اليوم التاسع، وقد بين ذلك حماد ابن سلمة، عن على بن زيد، عن عمار ابن أبى عمار، عن ابن عباس قال: هو اليوم التاسع. قال الطحاوى: وقد جاء فى حديث الحكم بن الأعرج أنه اليوم العاشر، ذكر عبد الرزاق، عن إسماعيل بن عبد الله، أخبرنى يونس بن عبيد،(4/141)
عن الحكم بن الأعرج، عن ابن عباس قال: (إذا أصبحت فعد تسعًا وعشرين يومًا، ثم أصبح صائمًا فهو يوم عاشوراء، يعنى عد من بعد يوم النحر) وكذلك قال الحسن البصرى، وسعيد ابن المسيب: هو اليوم العاشر. وقالت طائفة: يصوم التاسع والعاشر، روى ذلك عن ابن عباس وأبى رافع أصحاب أبى هريرة، وابن سيرين، وهو قول الشافعى وأحمد وإسحاق، هذا قول ابن المنذر، وقال صاحب العين: عاشوراء اليوم العاشر من المحرم، وقيل هو التاسع، قال الطحاوى: وقد روى ابن أبى ذئب عن القاسم بن عباس، عن عبد الله بن عمير، عن ابن عباس، عن النبى عليه السلام أنه قال: (لئن عشت للعام القابل لأصومن يوم التاسع، عاشوراء) . وقال ابن أبى ذئب مرة فى حديثه (لأصومن عاشوراء، يوم التاسع) خلاف قوله: (لأصومن يوم التاسع) ؛ لأن قوله: (لأصومن عاشوراء، يوم التاسع) إخبار منه أنه يكون ذلك اليوم يوم عاشوراء، وقوله: (لأصومن التاسع) يحتمل لأصومنه مع العاشر لئلا أقصد بصومى إلى يوم عاشوراء بعينه كما تفعل اليهود، ولكنى أخلطه بغيره فأكون قد صمته بخلاف ما تصومه اليهود، وقد روى عن ابن عباس ما دل على هذا المعنى، روى ابن جريح عن عطاء، عن ابن عباس قال: (خالفوا اليهود، صوموا يوم التاسع والعاشر) فدل ذلك على أن ابن عباس صرف تأويل قوله: (لأصومن يوم التاسع) إلى ما صرفناه إليه، وقد جاء ذلك عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، روى ابن أبى ليلى عن داود بن على، عن أبيه، عن جده ابن عباس، عن النبى(4/142)
عليه السلام فى صوم يوم عاشوراء: (صوموه وصوموا قبله يومًا أو بعده، ولا تشبهوا باليهود) فثبت بهذا الحديث أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أراد بصوم يوم التاسع أن يدخل صوم يوم عاشوراء فى غيره من الصيام حتى لا يكون مقصودًا بعينه كما جاء عنه فى صيام يوم الجمعة، روى سعيد بن أبى عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن عبد الله ابن عمرو قال: (دخل النبى عليه السلام على جويرية يوم جمعة وهى صائمة، فقال لها: (أصمت أمس؟) قالت: لا، قال: (وتصومين غدًا؟) قالت: لا، قال: (فأفطرى إذًا) قال الطحاوى: ووجه كراهيته إفراد هذه الأيام بالصيام التفرقة بين شهر رمضان وبين سائر ما يصوم الناس غيره؛ لأن شهر رمضان مقصود إليه بعينه لفرضه بعينه، وغيره من الشهور ليس كذلك، وبهذا كان يأخذ ابن عمر فكان لا يصوم عاشوراء إلا أن يوافق صومه. وقال الطبرى: كراهية ابن عمر لصيامه نظير كراهية من كره صوم رجب إذ كان شهر تعظمه الجاهلية، فكره أن يعظم فى الإسلام ما كان يعظمه أهل الجاهلية من غير تحريم صومه إذا ابتغى بصومه ثواب الله عز وجل لا مريدًا به إحياء سنة أهل الشرك. وقد جاء فى فضل يوم عاشوراء ما روى شعبة عن غيلان بن جرير، عن عبد الله بن معبد، عن أبى قتادة، عن النبى عليه السلام قال فى صوم يوم عاشوراء: (إنى أحتسب على الله أن يكفر السنة التى قبله) ، وكان يصومه من السلف: على بن أبى طالب، وأبو موسى، وعبد الرحمن بن عوف، وابن مسعود، وابن عباس، وأمر بصومه أبو بكر وعمر. فإن قيل: فقد رخص فى صيام أيام بعينها مقصودة بالصوم، وهى(4/143)
الأيام البيض، فهذا دليل أنه لا بأس بالقصد بالصوم إلى يوم بعينه. قال الطحاوى: قيل له: إنه قد قيل إن الأيام البيض إنما أمر بصومها؛ لأن الكسوف يكون فيها، ولا يكون فى غيرها، وقد أمر بالتقرب إلى الله بالصلاة والعتاق وغير ذلك من أعمال البر عند الكسوف، فأمر بصيام هذه الأيام، ليكون ذلك برًا مفعولاً بعقب الكسوف، فذلك صيام غير مقصود به إلى يوم لعلته فى نفسه، ولكنه مقصود به فى وقت شكره لله لعرض كان فيه، فلا بأس بذلك، فكذلك صيام يوم الجمعة إذا صامه رجل لعارض من كسوف شمس أو قمر أو شكر الله لمعنى فلا بأس بذلك وإن لم يصم قبله يومًا ولا بعده يومًا. وعاشوراء وزنه: فاعولا، وهو من أبنية المؤنث، وهو صفة لليلة، واليوم مضاف إليها، وعلى ما حكاه الخليل أنه اليوم التاسع يكون عاشوراء صفة لليوم، فيقال: سوم عاشوراء، وينبغى ألا يضاف إلى اليوم؛ لأن فيه إضافة الشىء إلى نفسه، ومن جعل عاشوراء صفة لليلة فهو أصح فى اللغة، وهو قول من يرى أنه اليوم العاشر، وقال الداودى: قول معاوية: (أين علماؤكم؟) . يدل أنه سمع شيئًا أنكره، إما أن سمع قول من لا يرى بصومه فضلاً، أو سمع قول من يقول إنه فرض، فذكر ما روى فيه. وليوم عاشوراء فضائل منها: ما ذكر فى الحديث أن الله فرق فيه البحر لموسى بن عمران، وغرق فرعون وجنوده، ومنها ما روى معمر عن قتادة قال: ركب نوح فى السفينة فى رجب فى عشر بقين منه، ونزل من السفينة يوم عاشوراء. وقال عكرمة: هو يوم تاب الله(4/144)
فيه على آدم. وقال ابن حبيب: وفيه أخرج يوسف من الجب، وفيه نَجَّى الله يونس من بطن الحوت، وفيه تاب الله على قوم يونس، وفيه ولد عيسى بن مريم، وفيه تكسى الكعبة البيت الحرام فى كل عام. وروى شعبة، عن أبى الزبير، عن جابر، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (من وسع على نفسه وأهله يوم عاشوراء، وسع الله عليه سائر السنة) قال جابر وأبو الزبير وشعبة: جربناه فوجدناه كذلك، وقاله يحيى بن سعيد وابن عيينة أيضًا.
64 - باب فَضْلِ مَنْ قَامَ رَمَضَانَ
/ 85 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ لِرَمَضَانَ: (مَنْ قَامَهُ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَتُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَالأمْرُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ كَانَ الأمْرُ عَلَى ذَلِكَ فِى خِلافَةِ أَبِى بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلافَةِ عُمَرَ. / 86 - وفيه: ابْن عَبْدٍالْقَارِىِّ، خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ لَيْلَةً فِى رَمَضَانَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ، يُصَلِّى الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ، وَيُصَلِّى الرَّجُلُ فَيُصَلِّى بِصَلاتِهِ الرَّهْطُ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّى أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلاءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ، ثُمَّ عَزَمَ، فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ، ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاةِ قَارِئِهِمْ، قَالَ عُمَرُ: نِعْمَ الْبِدْعَةُ هَذِهِ، وَالَّتِى يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنِ الَّتِى يَقُومُونَ، يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْلِ، وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ.(4/145)
/ 87 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، خَرَجَ لَيْلَةً مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، فَصَلَّى فِى الْمَسْجِدِ، وَصَلَّى رِجَالٌ بِصَلاتِهِ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ فَتَحَدَّثُوا، فَاجْتَمَعَ أَكْثَرُ مِنْهُمْ، فَصَلَّى فَصَلَّوْا مَعَهُ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ فَتَحَدَّثُوا، فَكَثُرَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَصَلَّى فَصَلَّوْا بِصَلاتِهِ، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ عَجَزَ الْمَسْجِدُ عَنْ أَهْلِهِ حَتَّى خَرَجَ لِصَلاةِ الصُّبْحِ، فَلَمَّا قَضَى الْفَجْرَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَتَشَهَّدَ ثُمَّ قَالَ: (أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَىَّ مَكَانُكُمْ، وَلَكِنِّى خَشِيتُ أَنْ تُفْتَرَضَ عَلَيْكُمْ فَتَعْجِزُوا عَنْهَا) ، فَتُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَالأمْرُ عَلَى ذَلِكَ. / 88 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: لم يكن رسُولُ اللَّهِ يَزِيدُ فِى رَمَضَانَ وَلا فِى غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّى أَرْبَعًا، فَلا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ أَرْبَعًا، ثُمَّ ثَلاثًا. . . الحديث. قوله: (من قام رمضان إيمانًا) يعنى مصدقًا بما وعد الله من الثواب عليه، وقوله: (احتسابًا) يعنى يفعل ذلك ابتغاء وجه الله تعالى. وفى جمع عمر الناس على قارئ واحد دليل على نظر الإمام لرعيته فى جمع كلمتهم وصلاح دينهم، قال المهلب: وفيه أن اجتهاد الإمام ورأيه فى السنن مسموع منه مؤتمر له فيه، كما ائتمر الصحابة لعمر فى جمعهم على قارئ واحد؛ لأن طاعتهم لاجتهاده واستنباطه طاعة لله تعالى لقوله: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِى الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء: 83] ،(4/146)
وفيه جواز الاجتماع لصلاة النوافل، وفيه أن الجماعة المتفقة فى عمل الطاعة مرجو بركتها، إذ دعاء كل واحد منهم يشمل جماعتهم، فلذلك صارت صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة، فيجب أن تكون النافلة كذلك، وفيه أن قيام رمضان سنة لأن عمر لم يسن منه إلا ما كان رسول الله يحبه، وقد أخبر عليه السلام بالعلة التى منعته من الخروج إليهم، وهى خشية أن يفترض عليهم، وكان بالمؤمنين رحيمًا، فلما أمن عمر أن تفترض عليهم فى زمانه لانقطاع الوحى؛ أقام هذه السنة وأحياها، وذلك سنَةَ أربع عشرة من الهجرة فى صدر خلافته. قال المهلب: وفيه أن الأعمال إذا تركت لعلة، وزالت العلة أنه لا بأس بأعادة العمل، كما أمر عمر صلاة الليل فى رمضان بالجماعة، وفيه أنه يجب أن يؤم القوم أقرؤهم، فلذلك قال عمر: أُبَى أقرؤنا، فلذلك قدمه عمر، وهذا على الاختيار إذا أمكن؛ لأن عمر قدم أيضًا تميمًا الدارى، ومعلوم أن كثيرًا من الصحابة أقرأ منه، فدل هذا أن قوله عليه السلام: (يؤم القوم أقرؤهم) إنما هو على الاختيار، قول عمر: (نعم البدعة) فالبدعة اختراع ما لم يكن قبل، فما خالف السنة فهو بدعة ضلالة، وما وافقها فهو بدعة هُدى، وقد سئل ابن عمر عن صلاة الضحى فقال: بدعة، ونعم البدعة. وقوله: (والتى ينامون عنها أفضل) يعنى القيام آخر الليل لحديث التنزل واستجابة الرب تعالى فى ذلك الوقت لمن دعاه،(4/147)
وقد تقدم معنى قوله عليه السلام: (خشيت أن يفترض عليكم) فى باب (تحريض الرسول على صلاة الليل والنوافل من غير إيجاب) فى آخر كتاب الصلاة، فأغنى عن إعادته، وكذلك تقدم فى باب (قيام النبى بالليل فى رمضان وغيره) واختلافهم فى عدد القيام فى رمضان، ونذكر منه هنا طرفًا لم يمض هناك، وهو أن قول عائشة: (لم يكن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يزيد فى رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة) . فهذه الرواية مطابقة لما روى مالك عن محمد ابن يوسف، عن السائب بن يزيد قال: أمر عمر، رضى الله عنه، أبىَّ بن كعب وتميمًا الدارى أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة. وقال الداودى وغيره: وليست رواية مالك عن السائب بمعارضة برواية من روى عن السائب ثلاثًا وعشرين ركعة، ولا ما روى مالك عن يزيد ابن رومان قال: (كان الناس يقومون فى رمضان بثلاث وعشرين ركعة) معارضة لروايته عن السائب؛ لأن عمر جعل الناس يقومون فى أول أمره بإحدى عشرة ركعة كما فعل النبى عليه السلام وكانوا يقرؤن بالمئين ويطولون القراءة، ثم زاد عمر بعد ذلك فجعلها ثلاثًا وعشرين ركعة على ما رواه يزيد بن رومان، وبهذا قال الثورى، والكوفيون، والشافعى، وأحمد، فكان الأمر على ذلك إلى زمن معاوية، فشق على الناس طول القيام لطول القراءة، فخففوا القراءة وكثروا من الركوع، وكانوا يصلون تسعًا وثلاثين ركعة، فالوتر منها ثلاث ركعات، فاستقر الأمر على ذلك وتواطأ عليه الناس، وبهذا قال مالك، فليس ما جاء من اختلاف أحاديث قيام(4/148)
رمضان يتناقض، وإنما ذلك فى زمان بعد زمان، والله الموفق، وقد تقدم اختلافهم فى تأويل قولها: (يصلى أربعًا ثم أربعًا) فى أبواب صلاة الليل فى كتاب الصلاة، وأن ذلك مرتب على قوله: (صلاة الليل مثنى مثنى) ، وأنه سلم من الأربع، والرد على من أنكر ذلك، وكذلك تقدم فى باب (تحريض النبى على صلاة الليل والنوافل من غير إيجاب) اختلافهم فى صلاة رمضان، هل هى أفضل فى البيت أو مع الإمام؟ وقوله: (فإذا الناس أوزاع) قال صاحب (العين) : أوزاع الناس: ضروبهم منهم، والتوزيع: القسمة.
65 - باب فَضْلِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر: 1] إلى آخر السورة. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: مَا كَانَ فِى الْقُرْآنِ: (وَمَا أَدْرَاكَ (فَقَدْ أَعْلَمَهُ، وَمَا قَالَ: (وَمَا يُدْرِيكَ (فَإِنَّهُ لَمْ يُعْلِمْهُ. / 89 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ. . .) الحديث. قال ابن المنذر: معنى قوله: (إيمانًا) يعنى: تصديقًا أن الله فرض عليه الصوم، واحتسابًا لثواب الله عليه، وقد تقدم هذا المعنى. وقوله: (غفر له ما تقدم من ذنبه) قول عام يُرجى لمن(4/149)
فعل ما ذكره فى الحديث أن يغفر له جميع الذنوب: صغيرها وكبيرها؛ لأنه لم يستثن ذنبًا دون ذنب، وفى الخبر أن القيام فى ليلة القدر أرجى منه فى غيرها من الليالى. وقوله: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ (روى سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: نزل القرآن جملة واحدة فى ليلة القدر فى شهر رمضان إلى السماء الدنيا، فجعل فى بيت العزة، ثم نزل على النبى (صلى الله عليه وسلم) فى عشرين سنة. وقال ابن عباس أيضًا: أنزل الله القرآن جملة واحدة فى ليلة القدر إلى السماء الدنيا، فكان يمواقع النجوم، فكان الله ينزله على رسوله بعضه فى إثر بعض، فقالوا: (لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً) [الفرقان: 32] . وذكر ابن وهب، عن مسلمة بن على، عن عروة قال: (ذكر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أربعة من بنى إسرائيل فقال: اعبدوا الله ولم يعصوه طرفة عين، فذكر أيوب، وزكريا، وحزقيل، ويوشع بن نون، فعجب أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) من ذلك، فأتاه جبريل فقال: يا محمد، عجبت أمتك من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة لم يعصوا الله طرفة عين، فقد أنزل الله عليك خيرًا من ذلك، ثم قال: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ (هذا أفضل مما عجبت منه أنت وأمتك، فَسُرَّ بذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والناس معه) . قال مالك: وبلغنى عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول: من شهد العشاء ليلة القدر فقد أخذ بحظه منها. وقال ابن عباس: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) [الدخان: 4] قال: يكتب فى أم الكتاب فى ليلة القدر ما يكون من السنة إلى السنة. وقال مجاهد: ليلة القدر(4/150)
ليلة الحكم. وقال غيره: كأنه تقدر فيها الأشياء. وقال قتادة: (سَلاَمٌ هِىَ (قال: خير هى) حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (.
66 - باب الْتِمَسوا لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِى السَّبْعِ الأوَاخِرِ
/ 90 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ رِجَالا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِى الْمَنَامِ فِى السَّبْعِ الأوَاخِرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِى السَّبْعِ الأوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا، فَلْيَتَحَرَّهَا فِى السَّبْعِ الأوَاخِرِ) . / 91 - وفيه: أَبُو سَعِيد، اعْتَكَفْنَا مَعَ رسُولُ اللَّه (صلى الله عليه وسلم) الْعَشْرَ الأوْسَطَ مِنْ رَمَضَانَ، فَخَرَجَ صَبِيحَةَ عِشْرِينَ فَخَطَبَنَا، وَقَالَ: (إِنِّى أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، ثُمَّ أُنْسِيتُهَا، أَوْ نُسِّيتُهَا، فَالْتَمِسُوهَا فِى الْعَشْرِ الأوَاخِرِ فِى الْوَتْرِ، وَإِنِّى رَأَيْتُ أَنِّى أَسْجُدُ فِى مَاءٍ وَطِينٍ، فَمَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَلْيَرْجِعْ) ، فَرَجَعْنَا، وَمَا نَرَى فِى السَّمَاءِ قَزَعَةً، فَجَاءَتْ سَحَابَةٌ، فَمَطَرَتْ حَتَّى سَالَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ، وَأُقِيمَتِ الصَّلاةُ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَسْجُدُ فِى الْمَاءِ وَالطِّينِ حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ فِى جَبْهَتِهِ. قوله فى حديث ابن عمر: (فمن كان متحريها فليتحراها فى السبع الأواخر) يريد فى ذلك العام الذى تواطأت فيه الرؤيا على ذلك، وهى ليلة ثلاث وعشرين؛ لأنه قال فى حديث أبى سعيد:(4/151)
(فالتمسوها فى العشر الأواخر فى الوتر، وإنى رأيت أنى أسجد فى ماء وطين فمطرنا فى ليلة إحدى وعشرين) ، وكانت ليلة القدر فى حديث أبى سعيد فى ذلك العام فى غير السبع الأواخر. قال الطحاوى: وعلى هذا التأويل لا تتضاد الأخبار، وفى حديث أبى سعيد زيادة معنى أنها تكون فى الوتر، وقد جاء فى حديث عبد الله بن أنيس أنه عليه السلام قال: (التمسوها الليلة) ، وكانت ليلة ثلاث وعشرين، فقال رجل: هذا أول ثمان، فقال: بل أول سبع؛ لأن الشهر لا يتم) فثبت بهذا أنها فى السبع الأواخر، وأنه قصد ليلة ثلاث وعشرين؛ لأن ذلك الشهر كان ناقصًا، فدل هذا أنها قد تكون فى غيرها من السنين بخلاف ذلك. قال المؤلف: وقد روى الثورى عن عاصم بن أبى النجود، عن زر بن حبيش قال: (قلت لأبى بن كعب: أخبرنى عن ليلة القدر؛ فإن ابن مسعود قال: من يقم الحول يصبها. فقال: يرحمه الله، لقد علم أنها فى رمضان، ولكن عمى على الناس لئلا يتكلوا، والذى أنزل الكتاب على محمد، إنها فى رمضان، وإنها ليلة سبع وعشرين) . قال المهلب: ومن ذهب إلى قول ابن مسعود وتأول منه أنها فى سائر السنة فلا دليل له إلا الظن من دوران الزمان بالزيادة والنقصان فى الأهلة، وذلك ظن فاسد؛ لأنه محال أن يكون تعليقها بليلة فى غير شهر رمضان كما لم يعلق(4/152)
صيامها بأيام معلومة تدور فى العام كله بالزيادة والنقصان فى الأهلة فيكون صوم رمضان فى غير رمضان، فكذلك لا يجب أن تكون ليلة القدر فى غير رمضان. قال الطحاوى: وفى كتاب الله ما يدل أنها فى شهر رمضان خاصة، وهو قول: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) [الدخان: 3، 4] ، فأخبر تعالى أن الليلة التى يفرق فيها كل أمر حكيم هى ليلة القدر، وهى الليلة التى أنزل الله فيها القرآن فقال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِىَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [البقرة: 185] فثبت بذلك أن تلك الليلة فى شهر رمضان. والقزع: قطع من سحاب دقاق، عن صاحب العين، وقوله: (من كان متحريها) يعنى: من كان قاصدًا لها، يقال: تحريت الشئ، إذا قصدته وتعمدته، وقوله: (إنى أرى رؤياكم قد تواطت) فإن المحدثين يرونه كذلك، وإنما هو تواطأت بالهمز من قوله تعالى: (لِّيُوَاطِؤُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ) [التوبة: 37] ، ومن قوله: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِىَ أَشَدُّ وَطْءًا) [المزمل: 6] ، ولكنه يجوز فى كلام كثير من العرب حذف الهمز، ومعنى (تواطت) : اتفقت واجتمعت على شىء واحد، والتوطئة: التلبين يقال: وطأت لفلان هذا الأمر، إذا سهلته ولينته.
67 - باب تَحَرِّى لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِى الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الأوَاخِرِ فِى رَمَضَانَ
/ 92 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَ، عليه السَّلام: (تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِى الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الأوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ) .(4/153)
/ 93 - وفيه: أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ، وَقَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (وَقَدْ أُرِيتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا، فَابْتَغُوهَا فِى الْعَشْرِ الأوَاخِرِ، وَابْتَغُوهَا فِى كُلِّ وِتْرٍ، وَقَدْ رَأَيْتُنِى أَسْجُدُ فِى مَاءٍ وَطِينٍ) ، فَاسْتَهَلَّتِ السَّمَاءُ فِى تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَأَمْطَرَتْ فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ فِى مُصَلَّى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، فَبَصُرَتْ عَيْنِى رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ انْصَرَفَ مِنَ الصُّبْحِ وَوَجْهُهُ مُمْتَلِئٌ طِينًا وَمَاءً. / 94 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (الْتَمِسُوهَا فِى الْعَشْرِ الأوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِى تَاسِعَةٍ تَبْقَى، فِى سَابِعَةٍ تَبْقَى، فِى خَامِسَةٍ تَبْقَى) . وقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، عن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) أيضًا: (هِىَ فِى الْعَشْرِ الأوَاخِرِ، فِى تِسْعٍ يَمْضِينَ، أَوْ فِى سَبْعٍ يَبْقَيْنَ) . وَقَالَ: ابْنِ عَبَّاس: الْتَمِسُوا فِى أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ. قال الطبرى: اختلف الصحابة والتابعون لهم بإحسان فى تحديد ليلة القدر بعينها، مع اختلافهم عن النبى عليه السلام حدها، قال ابن مسعود: هى ليلة عشرة من رمضان. وقال على وابن مسعود وزيد بن ثابت: هى ليلة تسع عشرة. وقال بعضهم: ليلة إحدى وعشرين على حديث أبى سعيد، روى ذلك أيضًا عن على وابن مسعود، وقال آخرون: ليلة ثلاث وعشرين على حديث ابن عمر، وابن عباس. وروى ذلك عن ابن عباس وعائشة وبلال، وقاله مكحول، وقال ابن عباس وبلال: هى ليلة أربع وعشرين، وهو قول الحسن وقتادة، وأحسب الذين قالوا هذه(4/154)
المقالة ذهبوا إلى قوله عليه السلام: (التمسوها لسبع بقين) أن السابعة هى أول الليالى السبع البواقى، وهى ليلة أربع وعشرين إذا كان الشهر كاملاً، وقال على، وابن عباس، وأبى بن الكعب، ومعاوية: هى ليلة سبع وعشرين. وروى عن بن عمر أنه قال: هى فى رمضان كله، وروى عبد الله بن بريدة عن معاوية، عن النبى عليه السلام (أنها آخر ليلة) . وقال أيوب عن أبى قلابة: إنها تجول فى ليالى العشر كلها. قال الطبرى: والآثار المروية فى ذلك عن النبى عليه السلام صحاح، وهى متفقة غير مختلفة، وذلك أن جميعها ينبئ عنه عليه السلام أنها فى العشر الأواخر، وغير منكر أن تتجول فى كل سنة فى ليلة من ليالى العشر كما قال أبو قلابة، وكان معلومًا أنه عليه السلام إنما قال فى كل ليلة من الليالى التى أمر أصحابه بطلبتها فيها أنها كانت عنده فى ذلك العام فى تلك اليلة، فالصواب أنها فى شهر رمضان دون شهور السنة؛ لإجماع الجميع وراثة عن النبى عليه السلام أنه قال: (هى فى العشر الأواخر فى وتر منها) ثم لا حد فى ذلك خاص لليلة بعينها لا يعدوها إلى غيرها؛ لأن ذلك لو كان محصورًا على ليلة بعينها لكان أولى الناس بمعرفتها النبى عليه السلام مع جده فى أمرها ليعرفها أمته، فلم يعرفهم منها إلا الدلالة عليها أنها ليلة طلقة، لا حارة ولا باردة، وأن الشمس تطلع فى صبيحتها بيضاء لا شعاع لها، ولأن فى دلالته أمته عليها بالآيات دون توقيفه على ليلة بعينها دليل واضح على كذب من زعم أنها تظهر فى(4/155)
تلك اليلة للعيون ما لا يظهر فى سائر السنة من سقوط الأشجار إلى الأرض، ثم رجوعها قائمة إلى أماكنها؛ إذ لو كان ذلك حقا، لم يخفف عن بصر من يقوم ليال السنة كلها، فكيف ليالى شهر رمضان، وأما الذى خصت به هذه الليلة من دون سائر الليالى فإنها خير من ألف شهر، يعنى بذلك أن عملاً فيها بما يرضى الله ويحبه من صلاة ودعاء وشبهه خير من عمل فى ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، وأنه يستجاب فيها الدعاء ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، وقال مالك فى قوله عليه السلام: (التمسوها فى تاسعة تبقى) هى ليلة إحدى وعشرين و (سابعة تبقى) ليلة ثلاث وعشرين، و (خامسة تبقى) ليلة خمس وعشرين. قال المؤلف: وإنما يصح معناه وتوافق ليلة القدر وترًا من الليالى على ما ذكر فى الحديث إذا كان الشهر ناقصًا، فأما إن كان كاملاً فإنها لا تكون إلا فى شفع فتكون التاسعة الباقية ليلة ثنتين وعشرين، والخامسة الباقية ليلة ست وعشرين، والسابعة الباقية ليلة أربع وعشرين على ما ذكره البخارى عن ابن عباس، فلا تصادف واحدة منهن وترا، وهذا يدل على انتقال ليلة القدر كل سنة فى العشر الأواخر من وتر إلى شفع، ومن شفع إلى وتر؛ لأن النبى عليه السلام لم يأمر أمته بالتماسها فى شهر كامل دون ناقص، بل أطلق على طلبها فى جميع شهور رمضان التى قد رتبها الله مرة على التمام، ومرة على النقصان، فثبت انتقالها فى العشر الأواخر كلها ما قاله أبو قلابة. وقول ابن عباس فى حديثه: (هى فى تسع يمضين أو فى سبع يبقين) هو شك منه أو من غيره فى أى اللفظين قال عليه السلام،(4/156)
ودل قوله فى الحديث الآخر: (فى سابعة تبقى) أن الصحيح من لفظ الشك قوله: (فى سبع يبقين) على طريقة العرب فى التأريخ إذا جازوا نصف الشهر فإنما يؤرخوا بالباقى منه لا بالماضى، ولهذا المنى عدوا تاسعة تبقى ليلة إحدى وعشرين، ولم يعدوها ليلة تسع وعشرين، وعدوا سابعة تبقى ليلة أربع وعشرين، ولم يعدوها ليلة سبع وعشرين لما لم يأخذوا العدد من أول العشر، وإنما كان يكون ذلك لو قال عليه السلام: (فى تاسعة تمضى) ولما قال عليه السلام: (التمسوها فى التاسعة والخامسة) وكان كلامًا مجملاً يحتمل معانى، وخشى عليه السلام التباس معناه على أمته، بَيَّن الوجه المراد منه فقال: (فى تاسعة تبقى، وفى سابعة تبقى، وفى خامسة تبقى) ليزول الإشكال فى ذلك والله أعلم. وقوله: (فوكف المسجد) قال صاحب الأفعال: يقال: وكف المطر والدمع والبيت وكوفًا ووكيفا ووكفانًا: سال.
68 - باب رَفْعِ مَعْرِفَةِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ بِتَلاحِى النَّاسِ
/ 98 - وفيه: عُبَادَةَ، خَرَجَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، لِيُخْبِرَنَا بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلاحَى رَجُلانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: (خَرَجْتُ لأخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلاحَى فُلانٌ وَفُلانٌ، فَرُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ، فَالْتَمِسُوهَا فِى التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ) . وقوله: (فرفعت) يعنى رفع علمها عنه بسبب تلاحى الرجلين،(4/157)
فحرموا به بركة ليلة القدر، والتلاحى: التجادل والتخاصم، يقال: تلاحى فلان وفلان تلاحيًا، ولاحى فلان فلانًا ملاحاة ولحاءً بالمد، وهذا يدل أن الملاحاة والخلاف يصرف فضائل كثير من الدين، ويحرم أجرًا عظيمًا؛ لأن الله تعالى لم يرد التفرق من عباده، وإنما أراد الاعتصام بحبله، وجعل الرحمة مقرونة بالاعتصام بالجماعة لقوله تعالى: (وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ) [هود: 118، 119] ، وروى عن الرسول وجه آخر فى رفع معرفتها، روى ابن وهب عن يونس، عن ابن شهاب، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة، أن رسول الله قال: (أريت ليلة القدر، ثم أيقظنى بعض أهلى فنسيتها، فالتمسوها فى العشر الغوابر) . قال الطحاوى: وهذا خلاف حديث عبادة، إلا أنه قد يجوز أن يكون ذلك كان فى عامين، فرأى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى أحدهما ما ذكره عنه أبو هريرة قبل كون الليلة التى هى ليلة القدر، وذلك لا ينفى أن يكون فيما بعد ذلك العام فيما قبل ذلك من الشهر، ويكون ما ذكره عبادة على أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقف على ليلة القدر بعينها، ثم خرج ليخبرهم بها فرفعت، ثم أمر بالتماسها فيما بعد ذلك العام فى التاسعة والسابعة والخامسة، وذلك كله على التحرى لا على اليقين، فدل ذلك على انتقالها. وقوله: (عسى أن يكون خيرًا لكم) يريد أن البحث عنها والطلب لها بكثير من العمل، هو خير من هذه الجهة، والغوابر: البواقى فى آخر الشهر، ومنه قوله تعالى: (إِلاَّ عَجُوزًا فِى الْغَابِرِينَ) [الشعراء: 171] يعنى الباقين الذين أتت عليهم الأزمنة، وقد تجعله العرب بمعنى الماضى أحيانًا، وهو من الأضداد، عن الطبرى.(4/158)
69 - باب الْعَمَلِ فِى الْعَشْرِ الأوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ
/ 96 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: (كَانَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ الأواخر شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ) . إنما فعل ذلك عليه السلام؛ لأنه أخبر أن ليلة القدر فى العشر الأواخر، فَسَنَّ لأمته الأخذ بالأحوط فى طلبها فى العشر كله لئلا تفوت، إذ يمكن أن يكون الشهر ناقصًا وأن يكون كاملا، فمن أحيا ليال العشر كلها لم يفته منها شفع ولا وتر، ولو أعلم الله عباده أن فى ليالى السنة كلها مثل هذه الليلة لوجب عليهم أن يحيوا الليالى كلها فى طلبها، فذلك يسير فى جنب طلب غفرانه، والنجاة من عذابه، فرفق تعالى بعباده وجعل هذه الليلة الشريفة موجودة فى عشر ليال؛ ليدركها أهل الضعف وأهل الفتور فى العمل مَنا من الله ورحمة. وقال سفيان الثورى: قوله: (شد مئزره) فى هذا الحديث يعنى: لم يقرب النساء، وفى قوله: (أيقظ أهله) من الفقه أن للرجل أن يحض أهله على عمل النوافل، ويأمرهم بغير الفرائض من أعمال البر، ويحملهم عليها. كمل (كتاب الصيام) بحمد الله وحسن عونه وتأييده، وصلى الله على محمد رسوله، خير خلقه، وصفوة عبيده(4/159)
بسم الله الرحمن الرحيم
- كِتَاب الاعْتِكَافِ
- بَاب الاعْتِكَافِ فِى الْعَشْرِ الأوَاخِرِ
الاعْتِكَافِ فِى الْمَسَاجِدِ كُلِّهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِى الْمَسَاجِدِ) [البقرة: 187] الآية. / 1 - فيه: ابْن عُمَرَ، وعَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الأوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، زادت عائشة: حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ. / 2 - وفيه: أَبُو سَعِيد، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، كَانَ يَعْتَكِفُ فِى الْعَشْرِ الأوْسَطِ مِنْ رَمَضَانَ، فَاعْتَكَفَ عَامًا حَتَّى إِذَا كَانَ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَهِىَ اللَّيْلَةُ الَّتِى يَخْرُجُ مِنْ صَبِيحَتِهَا مِنِ اعْتِكَافِهِ، قَالَ: (مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِى فَلْيَعْتَكِفِ الْعَشْرَ الأوَاخِرَ، وَقَدْ أُرِيتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا، وَقَدْ رَأَيْتُنِى أَسْجُدُ فِى مَاءٍ وَطِينٍ مِنْ صَبِيحَتِهَا، فَالْتَمِسُوهَا فِى الْعَشْرِ الأوَاخِرِ، وَالْتَمِسُوهَا فِى كُلِّ وِتْرٍ. . .) الحديث. العكوف فى اللغة: اللزوم للشىء والمقام عليه، وقال عطاء: قال يعلى بن أمية: إنى لأمكث فى المسجد الساعة، وما أمكث إلا لأعتكف. قال عطاء: وهو اعتكاف ما مكث فيه، وإن جلس فى المسجد احتساب الخير فهو معتكف وإلا فلا.(4/160)
وأجمع العلماء أن الاعتكاف لا يكون إلا فى المساجد لقوله تعالى: (وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِى الْمَسَاجِدِ) [البقرة: 187] . وقال حذيفة: لا اعتكاف إلا فى مسجد مكة أو المدينة أو بيت المقدس. وقال سعيد بن المسيب: لا اعتكاف إلا فى مسجد نبى، وذهب هؤلاء إلى أن الآية خرجت على نوع من المساجد، وهو ما بناه نبى؛ لأن الآية نزلت على النبى عليه السلام وهو معتكف فى مسجده، فكان القصد والإشارة إلى نوع تلك المساجد مما بناه نبى، وذهبت طائفة إلى أنه لا اعتكاف إلا فى مسجد تجمع فيه الجمعة، روى هذا القول عن على، وابن مسعود، وعروة، وعطاء، والحسن، وابن شهاب، وهو قول مالك فى (المدونة) ، قال: أما من تلزمه الجمعة فلا يعتكف إلا فى الجامع، قال: وأقل الاعتكاف عشرة أيام، وروى عنه ابن القاسم فى العتبية: لا بأس بالاعتكاف يومًا أو يومين، وقد روى أن أقله يوم وليلة، وقال فى المدونة: لا أرى أن يعتكف أقل من عشرة أيام، فإن نذر دونها لزمه. وقالت طائفة: الاعتكاف فى كل مسجد جائز، روى ذلك عن النخعى، وأبى سلمة والشعبى، وهو قول أبى حنيفة، والثورى، والشافعى، وأحمد، وهو قول مالك فى (الموطأ) ، قال: لا أراه كره الاعتكاف فى المساجد التى لا يجمع فيها، إلا كراهية أن يخرج المعتكف من مسجده الذى اعتكف فيه إلى الجمعة، فإن كان(4/161)
مسجدًا لا يجمع فيه، ولا يجب على صاحبه إتيان الجمعة فى مسجد سواه، فلا أرى بأسًا بالاعتكاف فيه؛ لأن الله تعالى قال: (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِى الْمَسَاجِدِ) [البقرة: 187] فعم المساجد كلها ولم يخص منها شيئًا، ونحوه قال الشافعى: المسجد الجامع أحب إلى، وإن اعتكف فى غيره فمن الجمعة إلى الجمعة. قال المهلب: وقول أبى سعيد فى هذا الحديث: (حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين، وهى الليلة التى يخرج من صبيحتها من اعتكافه) فليس معارضًا لما روى فى حديث أبى سعيد (أن النبى عليه السلام خرج صبيحة عشرين فخطبهم) والمعنى واحد، وذلك أنه قد روى جماعة هذا الحديث وقالوا فيه: وهى الليلة التى يخرج فيها من اعتكافه. وهذا هو الصحيح؛ لأن يوم عشرين معتكف فيه، وبه تتم العشرة الأيام؛ لأنه دخل فى أول الليل فيخرج فى أوله، فيكون معنى قوله: (فى ليلة إحدى وعشرين، وهى الليلة التى يخرج من صبيحتها) يريد الصبيحة التى قبل ليلة إحدى وعشرين، وأضافها إلى الليلة كما تضاف أيضًا الصبيحة التى بعدها إلى الليلة، وكل متصل بشىء فهو مضاف إليه، سواء كان فيه أو بعده، وإن كانت العادة فى نسبة الصبيحة إلى الليلة التى قبلها؛ لتقديم الليل على النهار، فإن نسبة الشىء إلى ما بعده جائز بدليل قوله تعالى: (لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا) [النازعات: 46] فنسب الضحى إلى ما بعده، ويبين ذلك رواية من روى عن أبى سعيد (فخرجنا صبيحة عشرين) فلا إشكال فى هذا بعد بيان أبى سعيد أنها صبيحة عشرين وبعد قول من روى: (فى ليلة إحدى وعشرين، وهى الليلة التى يخرج فيها(4/162)
من الاعتكاف) ، وسيأتى حكم خروج المعتكف فى بابه إن شاء الله. وقوله: (وكان المسجد على عريش) قال صاحب (العين) : العريش شبه الهودج، وعريش البيت سقفه، وقال الداودى: كان الجريد قد بسط فوق الجذوع بلا طين، فكان المطر يسقط داخل المسجد، وكان عليه السلام قال لبنى النجار: (ثامنونى بحائطكم هذا. فقالوا: لا نطلب ثمنه إلا إلى الله. فأخرج قبور المشركين، وقطع النخل التى كانت فيه، فجعل منها سوارى وجذوعًا وألقى الجريد عليها، فقيل له بعد ذلك: يا رسول الله، ألا تبنيه؟ قال: بل عريش كعريش موسى) .
- باب الْحَائِضِ تُرَجِّلُ الْمُعْتَكِفِ
/ 3 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يُصْغِى إِلَىَّ رَأْسَهُ، وَهُوَ مُجَاوِرٌ فِى الْمَسْجِدِ، فَأُرَجِّلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ. قولها: (كان يصغى إلى رأسه) يعنى أنه كان يدخل رأسه وكتفيه إل الحجرة فترجله، لئلا يخرج من المسجد ما وجد المقام فيه؛ لأن الحائض لا تدخل المسجد، وقد ترجم له باب (المعتكف يدخل رأسه البيت للغسل) ، وقال فيه: (كانت عائشة ترجل النبى عليه السلام وهى حائض، وهو معتكف فى المسجد، وهى فى(4/163)
حجرتها يناولها رأسه) ، وفيه جواز ترجيل رأس المعتكف، وفى ذلك دليل على أن اليدين من المرأة ليستا بعورة، ولو كانتا عروة ما باشرته بهما فى اعتكافه، ويشهد لذلك أن المرأة تُنْهى عن لبس القفارين فى الإحرام، وتؤمر بستر ما عدا وجهها وكفيها، وهكذا حكمهما فى الصلاة، وفيه من الفقه أن الحائض طاهر إلا موضع النجاسة منها، والجوار والاعتكاف سواء عند مالك، حكمهما واحد إلا من جاور نهارًا بمكة، وانقلب ليلاً إلى أهله فلا صوم فيه، وله أن يطأ أهله، قال: وجوار مكة أمر يتقرب به إلى الله كالرباط والصيام. وقال عمرو بن دينار: الاعتكاف والجوار واحد. وقال عطاء: هما مختلفان، كانت بيوت النبى عليه السلام فى المسجد، فلما اعتكف فى شهر رمضان خرج من بيوته إلى بطن المسجد فاعتكف فيه، والجوار بخلاف ذلك إن شاء الله جاور بباب المسجد أو فى جوفه إن شاء. وقال مجاهد: الحرم كله مسجد يعتكف فى أيه شاء، وإن شاء فى منزله، إلا أنه لا يصلى إلا فى جماعة.
3 - باب لا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلا لِحَاجَةٍ
/ 4 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَيُدْخِلُ عَلَىَّ رَأْسَهُ، وَهُوَ فِى الْمَسْجِدِ فَأُرَجِّلُهُ، وَكَانَ(4/164)
لا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلا لِحَاجَةٍ إِذَا كَانَ مُعْتَكِفًا. قولها: (وكان يدخل البيت إلا لحاجة) تريد الغائط والبول، وهكذا فسره الزهرى وهو راوى الحديث، ورواه مالك عن ابن شهاب، عن عروة، عن عمرة، عن عائشة وقال فيه: (وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان) . وقال أبو داود: لم يتابع أحد مالكًا فى هذا الحديث على ذكره عمرة، واضطرب فيه أصحاب ابن شهاب، فقالت طائفة عنه عن عروة، عن عائشة وكذلك رواه ابن مهدى عن مالك، وقالت طائفة: عن عروة وعمرة جميعًا عن عائشة. وكذلك رواه ابن وهب عن مالك، وأكثر الرواة عن مالك عن عروة، عن عمرة، فخطؤه فى ذكر عمرة. قال المؤلف: ولهذه العلة والله أعلم لم يدخل البخارى حديث مالك، وإن كان فيه زيادة تفسير، لكنه ترجم للحديث بتلك الزيادة إذ كان ذلك عنده معنى الحديث. وقولها: (وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان) يدل أن المعتكف لا يشتغل بغير ملازمة المسجد للصلوات وتلاوة القرن وذكر الله، ولا يخرج إلا لما له إليه حاجة، وفى معنى ترجيل رأس رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جواز استعمال الإنسان كل ما فيه صلاح بدنه من الغذاء وغيره، ومن جهة النظر أن المعتكف ناذر جاعل على نفسه المقام فى المسجد لطاعة الله، فواجب عليه الوفاء بذلك، وألا يشتغل عنه بما يلهيه، ولا يخرج إلا لضرورة كالمرض البيّن، والحيض فى النساء، وهذا فى معنى خروجه لحاجة الإنسان. واختلفوا فى خروجه لما سوى ذلك، فروى عن النخعى والحسن البصرى وابن جبير أن له أن يشهد الجمعة، ويعود المرضى، ويتبع الجنائز، وذكر ابن الجهم عن مالك أنه يخرج إلى الجمعة، ويتم اعتكافه فى الجامع. وقال عبد الملك: إن خرج إلى الجمعة فسد اعتكافه. ومنعت طائفة خروجه لعيادة المريض والجنائز، وهو قول(4/165)
عطاء، وعروة، والزهرى، ومالك، وأبى حنيفة، والشافعى، وأبى ثور. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يخرج المعتكف إلا إلى الجمعة، والبول والغائط خاصة. وقال مالك: إن خرج المعتكف لعذر ضرورة مثل أن يموت أبوه أو ابنه، ولا يكون له من يقوم به، فإنه يبتدئ اعتكافه، والذين منعوا خروجه لغير حاجة الإنسان أسعد باتباع الحديث. قال ابن المنذر: قولها: (وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان) فيه دلالة على منع المعتكف من العشاء فى بيته، والخروج من موضعه إلا لحاجة الإنسان لبول أو لغائط، قال ابن المنذر: واختلفوا فى ذلك، فكان الحسن وقتادة يقولان: له أن يشترط العشاء فى منزله. وبه قال أحمد بن حنبل، وقال الشافعى: إن كان المعتكف فى بيته فلا شىء عليه. وقال أبو مجلز: ليس له ذلك، وهو يشبه مذهب المدنين، وبه نقول؛ لأنه موافق للسنة، وذلك قول عائشة: (وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان) . وفى العتبية لابن القاسم عن مالك فى الرجل يأتيه الطعام من منزله ليأكله فى المسجد، قال: أرجو أن يكون خفيفًا، قال ابن المنذر: وفيه دليل على أن من حلف لا يدخل دارًا، فأدخل بعض بدنه أنه غير حانث؛ لأن المعتكف ممنوع من الخروج من المسجد، ففى إدخاله رأسه لترجله عائشة دليل على إباحة ذلك، وعلى إباحة غسل المعتكف رأسه، ولو أراد المعتكف حلق رأسه فأخرجه إلى الحلاق ليحلقه، كان ذلك عندى فى معنى هذا، والله أعلم.(4/166)
4 - باب غَسْلِ الْمُعْتَكِفِ
/ 5 - فيه: عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، يُبَاشِرُنِى، وَأَنَا حَائِضٌ، وَكَانَ يُخْرِجُ رَأْسَهُ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ مُعْتَكِفٌ، فَأَغْسِلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ. غسل رأس المعتكف جائز كترجيله على نص هذا الحديث، وغسل جسده فى معنى غسله رأسه، ولا أعلم فى ذلك خلافًا، وروى ابن وهب عن مالك قال: لا بأس أن يخرج إلى غسل الجمعة إلى الموضع الذى يتوضأ فيه، ولا بأس أن يخرج يغتسل للحر يصيبه. وقولها: (كان يباشرنى وأنا حائض) تريد غير معتكفٍ؛ لأن المعتكف لا تجوز به المباشرة لقوله تعالى: (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِى الْمَسَاجِدِ) [البقرة: 187] ، وإنما ذكرت المباشرة فى هذا الحديث لتدل على جواز غسلها لرأسه وهى حائض، ويدل على طهارة بدن الحائض.
5 - باب الاعْتِكَافِ لَيْلا
/ 6 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، قَالَ: كُنْتُ نَذَرْتُ فِى الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؟ قَالَ: (فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ) . وترجم له باب: (إذا نذر فى الجاهلية أن يعتكف ثم أسلم) ، وباب: (من أجاز الاعتكاف بغير صيام) ، فقياس قوله أن يجيزه ليلا، وسيأتى اختلاف العلماء فى ذلك فى بابه إن شاء الله. وقال(4/167)
مالك: من نذر اعتكاف ليلة لزمه يوم وليلة. وقال سحنون: لا شىء عليه إن نذر اعتكاف ليلة؛ لأنه لا صيام فى الليل، قال: ومن نذر اعتكاف يوم لزمه يوم وليلة، ويدخل اعتكافه قبل غروب الشمس من ليلته، وإن دخل قبل الفجر لم يُجْزِهِ، وإن أضاف إليه الليلة المستقبلة. وقوله عليه السلام: (أوف بنذرك) محمول عند الفقهاء على الحض والندب لا على الوجوب؛ بدلالة أن الإسلام يهدم ما قبله، وقد حمل الطبرى قوله عليه السلام: (أوف بنذرك) على الوجوب وقال: إنما أمر النبى عليه السلام عمر بالوفاء فى الإسلام بنذر كان نذره فى الجاهلية إذ كان ذلك لله برا فى الإسلام، فالواجب أن يكون نظيره كل نذر نذره فى حال كفره مما هو طاعة فى الإسلام أن عليه الوفاء لله به فى حال إسلامه قياسًا على أمره عليه السلام عمر أن يفى بنذره الذى كان نذره فى الجاهلية فى حال إسلامه، وسيأتى فى (كتاب الأيمان والنذور) من حمل ذلك على الوجوب، ومن حمله على الندب من العلماء، وبيان أقوالهم، إن شاء الله. قال المهلب: وفيه دليل على تأكيد الوفاء بالوعد؛ ألا ترى أنه أمره بالوفاء به وقد خرج من حال الجاهلية إلى حالة الإسلام، وإن كان عند الفقهاء أن ما كان فى الجاهلية من أيمان وطلاق وجميع العقود، فإن الإسلام يهدمها، ويسقط حرمتها.(4/168)
6 - باب اعْتِكَافِ النِّسَاءِ
/ 7 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، يَعْتَكِفُ فِى الْعَشْرِ الأوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَكُنْتُ أَضْرِبُ لَهُ خِبَاءً فَيُصَلِّى الصُّبْحَ، ثُمَّ يَدْخُلُهُ، فَاسْتَأْذَنَتْ حَفْصَةُ عَائِشَةَ أَنْ تَضْرِبَ خِبَاءً، فَأَذِنَتْ لَهَا، فَضَرَبَتْ خِبَاءً فَلَمَّا رَأَتْهُ زَيْنَبُ ابْنَةُ جَحْشٍ، ضَرَبَتْ خِبَاءً آخَرَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) رَأَى الأخْبِيَةَ، فَقَالَ: (مَا هَذَا) ؟ فَأُخْبِرَ، فَقَالَ، عليه السَّلام: (أَالْبِرَّ تَقُولُونَ بِهِنَّ) ؟ فَتَرَكَ الاعْتِكَافَ ذَلِكَ الشَّهْرَ، ثُمَّ اعْتَكَفَ عَشْرًا مِنْ شَوَّالٍ. اختلف العلماء فى اعتكاف النساء، فقال مالك: تعتكف المرأة فى مسجد الجماعة، ولا يعجبه أن تعتكف فى مسجد بيتها. وقال الشافعى: تعتكف المرأة والعبد والمسافر حيث شاءوا؛ لأنه لا جمعة عليهم. وقال الكوفيون: لا تعتكف المرأة إلا فى مسجد بيتها، ولا تعتكف فى مسجد الجماعة، وذلك مكروه. واحتجوا بأن النبى عليه السلام نقض اعتكافه إذ تبعه نساؤه، وهذا إنكار منه عليهن، قالوا: وقد قال عليه السلام: (صلاة المرأة فى بيتها أفضل) فإذا منعت المرأة من المكتوبة فى المسجد مع وجوبها، فلأن تكون ممنوعة من اعتكاف هو نفل أولى، ولما كانت صلاة الرجل فى المسجد أفضلً، كان اعتكافه فيه أفضل. قال ابن القصار: وحجة مالك أن النبى عليه السلام لما أراد الاعتكاف أذن لعائشة وحفصة فى ذلك، وقد جاء هذا مبينًا فى باب: (من أراد أن يعتكف ثم بدا له أن يخرج) ، ولو كان المسجد غير موضع اعتكافهن لما أباح ذلك لهن معه، ولا يجوز أن يظن به عليه السلام أنه نقض اعتكافه، ولكنه أخره تطييبًا لقلوبهن لئلا يحصل معتكفًا وهن غير معتكفات، وإنما فعل ذلك لأنه كره أن يكن مع الرجال فى مسجده عليه السلام؛(4/169)
لأنه موضع الاجتماع، والوفود ترد عليه فيه، وهذا كما يستحب لهن أن يتعمدن الطواف فى الأوقاف الخالية، وكما يكره للشابات منهن الخروج للجمع والعياد، فإذا أردن أن يصلين الجمع لم يجز إلا فى الجامع مع الرجال. وقال ابن المنذر: فى هذا الحديث إباحة اعتكاف النساء؛ لأنه عليه السلام أذن لعائشة وحفصة فى ذلك. وفيه: دليل أن المرأة إذا أرادت اعتكافًا لم تعتكف حتى تستأذن زوجها، ويدل على أن الأفضل والأعلى للنساء لزوم منازلهن، وترك الاعتكاف مع إباحته لهن؛ لأن ردهن ومنعهن منه يدل على أن لزوم منازلهن أفضل من الاعتكاف.
7 - باب الأخْبِيَةِ فِى الْمَسْجِدِ
/ 8 - وذكر حديث عَمْرَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِى أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ، إِذَا أَخْبِيَةٌ: خِبَاءُ عَائِشَةَ، وَخِبَاءُ حَفْصَةَ، وَخِبَاءُ زَيْنَبَ. . . الحديث. قال المهلب: فيه من الفقه أن المعتكف يجب أن يجعل لنفسه فى المسجد مكانًا لمبيته، بحيث لا يضيق على المسلمين، كما فعل الرسول (صلى الله عليه وسلم) فى الصحن إذا ضرب فيه خباءه، وفيه من الفقه أن المعتكف إذا أراد أن ينام فى المسجد أن يتنحى عن الناس؛ خوف أن يكون منه ما يؤذيهم من آفات البشر. وقال ابن المنذر: وفيه دليل على إباحة ضرب الأخبية فى المسجد للمعتكفين. وقال مالك فى المجموعة: وليعتكف فى عجز المسجد ورحابه، فذلك الشأن فيه. وقال الخطابى: وقوله: (آلبر تقولون بهن؟) معناه: آلبر تظنون بهن؟ قال الشاعر:(4/170)
متى تقول القُلُصَ الرواسما يلحقن أم عاصم وعاصمًا أى: متى تظن القُلُص يلحقهما، ولذلك نصب القلص، قال الفراء: والعرب تجعل ما بعد القول مرفوعًا على الحكاية فتقول: عبد الله ذاهب، وقلت: إنك قائم، هذا فى جميع القول إلا فى أتقول وحدها فى حروف الاستفهام، فإنهم ينزلونها منزلة أتظن، فيقولون: أتقول إنك خارج، ومتى تقول: إن عبد الله منطلق وأنشد: أما الرحيل فدون بعد غد فمتى تقول الدار تجمعنا بنصب الدار كأنه يقول: فمتى تظن الدار تجمعنا، وأجاز سيبويه الرفع فى قوله: الدار تجمعنا على الحكاية.
8 - باب هَلْ يَخْرُجُ الْمُعْتَكِفُ لِحَوَائِجِهِ إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ
/ 9 - فيه: صَفِيَّةَ، أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) تَزُورُهُ فِى اعْتِكَافِهِ فِى الْمَسْجِدِ فِى الْعَشْرِ الأوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً، ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ، فَقَامَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، مَعَهَا يَقْلِبُهَا، حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرَّ رَجُلانِ مِنَ الأنْصَارِ، فَسَلَّمَا عَلَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، فَقَالَ لَهُمَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّمَا هِىَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَىٍّ) ، فَقَالا: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا، فَقَالَ، عليه السَّلام: (إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنَ الإنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ، وَإِنِّى خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِى قُلُوبِكُمَا شَيْئًا) .(4/171)
وترجم له باب: (زيارة المرأة زوجها فى اعتكافه) ، وذكر أن بيت صفية كان فى دار أسامة خارج المسجد، فخرج النبى عليه السلام معها. لا خلاف فى جواز خروج المعتكف فيما لا غنى به عنه، وإنما اختلفوا فى المعتكف يدخل لحاجته تحت سقف، فأجاز ذلك الزهرى، ومالك، وأبو حنيفة، والشافعى، وروى عن ابن عمر، والنخعى، وعطاء أنه لا يدخل تحت سقف، وهو قول إسحاق، وقال الثورى والحسن بن حيى: إن دخل بيتًا غير المسجد بطل اعتكافه، إلا أن يكون ممره فيه. وكذلك اختلفوا فى اشتغاله بالأمور المباحة، فقال مالك فى الموطأ: لا يأتى المعتكف حاجة ولا يخرج لها، ولا يعين أحدًا عليها، ولا يشتغل بتجارة، ولا بأس أن يأمر أهله ببيع ماله وصلاح ضيعته. وقال أبو حنيفة والشافعى: له أن يتحدث ويبيع ويشترى فى المسجد، ويتشاغل بما لا يأثم فيه، وليس عليه صمت. وقال مالك: لا يشترى إلا ما لا غنى له عنه من طعامه إذا لم يكن له من يكفيه. وكره مالك والليث للمؤذن الصعود على المنارة قالا: ولا يصعد على ظهر المسجد، وأجاز ذلك أبو حنيفة والشافعى، قالا: ولو كانت المنارة خارج المسجد. وكذلك اختلفوا فى حضوره مجالس العلم، فرخص فى ذلك كثير من العلماء، روى ذلك عن عطاء والأوزاعى والليث والشافعى. وقال مالك: لا يشتغل فى مجالس العلم، وكره أن(4/172)
يكتب العلم. وقال ابن المنذر: طلب العلم من أفضل العمال بعد أداء الفرائض لانتشار الجهل ونقصان العلم، وذلك إذا أراد اللهَ به طَالبُهُ، وعمل البر لا ينافى الاعتكاف. وقال غيره: مجالس العلم شاغلة له عن اعتكافه، ومالك أسعد بأصله؛ لأنهم يوافقونه فى أن المعتكف لا يعود مريضًا ولا يشهد جنازة، وذلك من عمل البر، واحتج الطحاوى على جواز اشتغال المعتكف بالمباح من الأفعال بشغله عليه السلام فى اعتكافه بمحادثة صفية ومشيه معها إلى باب المسجد. قال المهلب: وفيه من الفقه أنه لا بأس بزيارة أهل المعتكف له فى اعتكافه، وفيه أنه لا بأس أن يعمل فى اعتكافه بعض العمل الذى ليس من الاعتكاف من تشييع قاصد، وبر زائر، وإكرام مفتقر، وما كان فى معناه مما لا ينقطع به عن اعتكافه.
9 - باب الاعْتِكَافِ وَخَروجَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) صَبِيحَةَ عِشْرِينَ
/ 10 - فيه: أَبُو سَعِيد، اعْتَكَفْنَا مَعَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، الْعَشْرَ الأوْسَطَ مِنْ رَمَضَانَ، قَالَ: فَخَرَجْنَا صَبِيحَةَ عِشْرِينَ، قَالَ: فَخَطَبَنَا النَّبِىّ، عليه السَّلام، صَبِيحَةَ عِشْرِينَ، فَقَالَ: (إِنِّى أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ. . .) الحديث. قد تقدم فى أول (كتاب الاعتكاف) أن قول أبى سعيد فى هذا(4/173)
الحديث: (فخرجنا صبيحة عشرين) أنه بيان للرواية التى فيها (حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين، وهى الليلة التى يخرج من صبيحتها من اعتكافه) أنه يريد الصبيحة التى قبل ليلة إحدى وعشرين، إذ قد يجوز إضافة الشىء إلى ما قبله وما بعده، وسيأتى حكم خروج المعتكف فى بابه بعد إن شاء الله.
- باب اعْتِكَافِ الْمُسْتَحَاضَةِ
/ 11 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتِ: اعْتَكَفَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) امْرَأَةٌ مِنْ أَزْوَاجِهِ مُسْتَحَاضَةٌ، فَكَانَتْ تَرَى الْحُمْرَةَ وَالصُّفْرَةَ، فَرُبَّمَا وَضَعْنَا الطَّسْتَ تَحْتَهَا، وَهِىَ تُصَلِّى. حكم المستحاضة كحكم الطاهر، ولا خلاف بين العلماء فى جواز اعتكافها، وفيه أنه لا بأس أن تعتكف مع الرجل زوجته إذا كان لها موضع تستتر فيه، وأما المعتكفة تحيض، فقال الزهرى، وربيعة، ومالك، والأوزاعى، وأبو حنيفة، والشافعى: تخرج إلى دارها، فإذا طهرت فلترجع ثم تبنى على ما مضى من اعتكافها، وقال أبو قلابة: تضرب خباءها على باب المسجد إذا حاضت.
- باب هَلْ يَدْرَأُ الْمُعْتَكِفُ عَنْ نَفْسِهِ
/ 12 - فيه: صَفِيَّةَ أنها أَتَتِ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، وَهُوَ مُعْتَكِفٌ، فَلَمَّا رَجَعَتْ مَشَى مَعَهَا، فَأَبْصَرَهُ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ، فَلَمَّا أَبْصَرَهُ دَعَاهُ، فَقَالَ: (تَعَالَ، هِىَ صَفِيَّةُ، وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ: هَذِهِ صَفِيَّةُ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِى(4/174)
مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّم) . قُلْتُ لِسُفْيَانَ: أَتَتْهُ لَيْلا؟ قَالَ: وَهَلْ هُوَ إِلا لَيْلٌ؟ . قال المهلب: فيه من الفقه تجنب مواضه التهم، وأن الإنسان إذا خشى أن يسبق إليه بظن سوء أن يكشف معنى ذلك الظن، ويبرئ نفسه من نزغات الشيطان الذى يوسوس بالشر فى القلوب، وإنما خشى عليه السلام أن يحدث على الرجل من سوء الظن فتنة، وربما زاغ بها فيأثم أو يرتد، وإن كان النبى عليه السلام منزهًا عند المؤمنين من مواضع التهم، ففى قول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (إنها صفية) السنة الحسنة لأمته، أن يتمثلوا فعله ذلك فى البعد عن التهم ومواقف الريب، وكما جاز أن يدرأ المعتكف عن نفسه بالقول، كذلك يجوز أن يدرأ عن نفسه بالفعل من يريد أذاه، وليس المعتكف أكثر من المصلى، وقد أبيح له أن يدرأ عن نفسه فى صلاته من يمر بين يديه فكذلك المعتكف.
- باب مَنْ خَرَجَ مِنِ اعْتِكَافِهِ عِنْدَ الصُّبْحِ
/ 13 - فيه: أَبُو سَعِيد، اعْتَكَفْنَا مَعَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، الْعَشْرَ الأوْسَطَ، فَلَمَّا كَانَ صَبِيحَةَ عِشْرِينَ نَقَلْنَا مَتَاعَنَا، فَأَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ فَلْيَرْجِعْ إِلَى مُعْتَكَفِهِ، فَإِنِّى رَأَيْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ. . .) الحديث. قال المهلب: ترجم البخارى لما سبق من ظاهر الأحاديث فى خروج المعتكف فى صبيحة عشرين، وبين لك أن الذى يظنه الناس من ظاهر الحديث من خروجه صبيحة عشرين، أنه ليس(4/175)
بخروج من الاعتكاف، وإنما خو خروج بالمتاع الذى كانوا يبيتون فيه، ويأكلون ويشربون فيه، إذ لا حاجة لهم بشىء من ذلك فى يوم عشرين الذى به ينقضى اعتكافهم للعشر الأوسط، فإذا انقضى اليوم بمغيب الشمس خرجوا ليلة إحدى وعشرين إلى بيوتهم خفافًا من أثقالهم، وقد بين ذلك أبو سعيد بقوله: (فلما كان صبيحة عشرين نقلنا متاعنا) ولم يقل: خرجنا من اعتكافنا، فأخبر الله تعالى نبيه أن الذى تطلب أمامك، فقال: (من كان اعتكف معى فليعتكف العشر الأواخر فإنى أُريت هذه الليلة. .) الحديث. قال غيره: وأجمع العلماء أنه من اعتكف العشر الأول أو الأوسط أنه يخرج إذا غابت الشمس من آخر يوم من اعتكافه، وفى إجماعهم على ذلك ما يوهن رواية من روى فى ليلة إحدى وعشرين أنه يخرج من صبحها أو فى صبيحتها، وأن الصواب رواية من روى يخرج فيها من اعتكافه، يعنى بعد الغروب، وإجماعهم يقضى على ما اختلفوا فيه من الخروج لمن اعتكف العشر الأواخر. قال النخعى: كانوا يستحبون للمعتكف أن يبيت ليلة الفطر حتى يكون غدوه منه إلى العيد، وهو قول أبى قلابة وأبى مجلز، وبه قال مالك، وحكاه عن أهل الفضل، وهو قول أحمد بن حنبل، وذكر ابن وهب عن الليث، عن عقيل، أن ابن شهاب كان لا يرى بأسًا أن ينصرف المعتكف إلى أهله إذا غابت الشمس ليلة الفطر، وهو قول الليث، والأوزاعى، والشافعى، وروى ابن القاسم عن مالك فى العتبية: إن خرج من معتكفه ليلة الفطر أنه لا شىء عليه، وهذا(4/176)
هو الصحيح؛ لأن ليلة العيد ويم العيد ليس بموضع اعتكاف، والعشر يزول بزوال الشمس، والعشر يزول بزوال الشهر، والشهر ينقضى بغروب الشمس من آخر يوم من رمضان، فدل هذا أن قول مالك الأول أنه استحباب ليتصل له نسك بنسك، لا أنه واجب.
- باب الاعْتِكَافِ فِى شَوَّالٍ
/ 14 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، يَعْتَكِفُ فِى كُلِّ رَمَضَانٍ، فَإِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ دَخَلَ مَكَانَهُ الَّذِى اعْتَكَفَ فِيهِ، قَالَ: فَاسْتَأْذَنَتْهُ عَائِشَةُ أَنْ تَعْتَكِفَ، فَأَذِنَ لَهَا فَضَرَبَتْ فِيهِ قُبَّةً، فَسَمِعَتْ بِهَا حَفْصَةُ فَضَرَبَتْ قُبَّةً، فَسَمِعَتْ زَيْنَبُ بِهَا فَضَرَبَتْ قُبَّةً، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنَ الْغَدَاةِ رآها، فأمر بنزعها، فَلَمْ يَعْتَكِفْ فِى رَمَضَانَ حَتَّى اعْتَكَفَ فِى آخِرِ الْعَشْرِ مِنْ شَوَّالٍ. قال المؤلف: الاعتكاف فى شوال وسائر السنة مباح لمن أراده. وقال المهلب: هذا الحديث الذى جاء بدخول المعتكف إلى اعتكافه إذا صلى الصبح يوهم أنه كان يدخل ذلك الحين الاعتكاف، وليس ذلك على ما يوهم ظاهره؛ لأنه عليه السلام إنما كان يدخل الخباء الذى يضرب له لينظر كيف ترتيب مكان نومه ومصلاه وحوائجه، ثم يخرج فى حوائجه، فإذا صلى المغرب دخل معتكفه، ولا يمكن أن يدخل بنية الاعتكاف ثم ينصرف عنه؛ لأنه لا يحل قطع الاعتكاف البتة بعد أن يدخل فيه، ولا يجوز أيضًا أن يقطع اعتكاف غيره لا سيما وقد كان عليه السلام أذن لعائشة وحفصة فى ذلك، ودليل آخر وهو أنه إن(4/177)
كان دخل للاعتكاف بعد صلاة الصبح فقد دخل فى بعض النهار، ولا يجزئه ذلك من اعتكافه حتى يثبت أنه دخل الخباء قبل انصداع الفجر بنية الاعتكاف، وذلك معدوم فى الروايات. وقال غيره: ويمكن أن يكون دخوله صبيحة عشرين متطوعًا بذلك، وكان اعتكافه كله تطوعًا، ومن زاد فى التطوع فهو أفضل، وإنما يقع التحريم فى النذر، ولو أن امرأ نذر اعتكاف العشر الأواخر ما لزمه أن يدخل إلا ليلة إحدى وعشرين عند الغروب، ويخرج صبيحة ثلاثين عند الغروب. واتفق مالك، وأبو حنيفة، والشافعى، وأحمد أن المعتكف إذا أوجب على نفسه اعتكاف شهر أنه لا يدخل إلا عند غروب الشمس، وهو قول النخعى، وقال الأوزاعى بظاهر الحديث يصلى الصبح ثم يقوم إلى معتكفه، وما ذكرناه فى هذا الباب يرد قوله. واختلفوا إذا نذره يومًا أو أيامًا، فقال مالك: يدخل قبل غروب الشمس من ليلة ذلك اليوم، وقال الشافعى: إذا أراد اعتكاف يوم دخل قبل طلوع الفجر، وخرج بعد غروب الشمس، خلاف قوله فى الشهر. وقال أبو ثور: إذا أراد أن يعتكف عشرة أيام دخل فى اعتكافه قبل طلوع الفجر، واليومُ والشهرُ عندهم سواء، ذهب هؤلاء إلى أن الليل لا يدخل فى الاعتكاف إلا أن يتقدمه اعتكاف النهار، وليس الليل بموضع للاعتكاف فلا يصح الابتداء به، وذهب الأولون إلى أن النهار تبع لليل على كل حال، فلذلك بدءوا بالليل، وهذا هو(4/178)
الصحيح فى هذه المسألة؛ لأن المعروف عند جميع الأمة تقدم الليل للنهار بكون الأهلة مواقيت للناس فى الشهور والعدد وغير ذلك، فأول الشهر ليلة، فكذلك كل عدد من الأيام وإن قل فإن أوله ليلة، ولا حجة لمن خالف هذا والله أعلم.
- باب مَنْ لَمْ يَرَ عَلَيْهِ صَوْمًا إِذَا اعْتَكَفَ
/ 15 - فيه: ابْن عُمَرَ، أن عُمَر، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى نَذَرْتُ فِى الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ، عليه السَّلام: (أَوْفِ نَذْرَكَ فَاعْتَكَفَ لَيْلَةً) . قال المؤلف: احتج بهذا الحديث من أجاز الاعتكاف بغير صوم، وروى ذلك عن على وابن مسعود قالا: إن شاء صام المعتكف، وإن شاء لم يصم. وقالت طائفة: الصوم لا يجب على المعتكف فرضًا؛ لأن الله لم يوجبه فى كتابه ولا رسوله، فلا يجب على المعتكف الصوم إلا أن يوجبه نذرًا، فيجب الوفاء بالنذر، وممن قال بهذا القول: الحسن البصرى، وإليه ذهب الشافعى وأبو ثور والمزنى، واحتج المزنى بهذا الحديث وقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمره أن يوفى بنذره، وليس الليل موضع صيام، وأيضًا فإن رمضان لا يجوز أن ينوى به رمضان وغيره معًا، وذهبت طائفة إلى أن الاعتكاف من شرطه الصوم، روى ذلك عن ابن عمر، وابن عباس، وعائشة، وبه قال القاسم وعروة وابن شهاب، وهو قول مالك، والثورى، وأبى حنيفة، والأوزاعى، واحتج مالك فى الموطأ بقول القاسم ونافع(4/179)
قالا: لا اعتكاف إلا بصوم لقول الله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ (إلى) الْمَسَاجِدِ) [البقرة: 187] فإنما ذكر الله الاعتكاف مع الصيام، قال مالك: وعلى ذلك الأمر عندنا، واحتج أهل المقالة الأولى فقالوا: لو كان الاعتكاف لا يصح إلا بصوم؛ لم يكن لنهيه تعهالى عن المباشرة لأجل الاعتكاف معنى. قال ابن القصار: فالجواب أن الله تعالى لما ذكر الوطء فى أول الآية وعلق حظره بالصوم فى النهار، عطف عليه حكم الاعتكاف، وذكر حظر الوطء معه؛ لأنه قد يصح فى وقت لا يصح فيه الصوم وهو زمن الليل. ولو وطئ ليلا فسد اعتكافه فهذه فائدة ذكره للوطء بعد تقدم ذكره، وأما احتجاجهم بأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال لعمر فى الليلة: (أوف بنذرك) . فالمعنى أنه أراد ليلة بيومها، وقد يعبر عن اليوم بالليلة كما قال تعالى: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ) [الأعراف: 142] فأراد تعالى الليالى بأيامها، وقد روى عمرو بن دينار عن ابن عمر: (أن عمر قال للنبى عليه السلام بالجعرانة: إنى نذرت أن أعتكف يومًا وليلة) . فهذا أصل الحديث، فنقل بعض الرواة ذكر الليلة وحدها، ويجوز للراوى نقل بعض ما سمع.
- باب الاعْتِكَافِ فِى الْعَشْرِ الأوْسَطِ مِنْ رَمَضَانَ
/ 16 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ، عليه السَّلام، يَعْتَكِفُ فِى كُلِّ شهر رَمَضَانٍ عَشْرَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِى قُبِضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ.(4/180)
يحتمل أن يكون إنما ضاعف اعتكافه فى العام الذى قبض فيه من أجل أنه علم بانقضاء أجله، فأراد أن يستكثر من عمل الخير؛ ليسن لأمته الاجتهاد فى العمل إذا بلغوا انقضاء العمر ليلقوا الله على خير أحوالهم. وقد روى ابن المنذر حديثًا دل على غير هذا المعنى قال: حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا عفان، حدثنا حماد، حدثنا ثابت، عن أبى رافع، عن أبى بن كعب (أن النبى عليه السلام كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فسافر عامًا فلم يعتكف، فلما كان العام المقبل اعتكف عشرين ليلة) . وقوله: (كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يعتكف فى كل رمضان) فهذا يدل على أن الاعتكاف من السنن المؤكدة؛ لأنه مما واظب عليه النبى عليه السلام فينبغى للمؤمنين الاقتداء فى ذلك بنبيهم، وذكر ابن المنذر عن ابن شهاب أنه كان يقول: عجبًا للمسلمين تركوا الاعتكاف، وإن النبى عليه السلام لم يتركه منذ دخل المدينة كل عام فى العشر الأواخر حتى قبضه الله. وروى ابن نافع عن مالك قال: ما زلت أفكر فى ترك الصحابة الاعتكاف، وقد اعتكف النبى حتى قبضه الله تعالى وهم أتبع الناس بآثاره، حتى أخذ بنفسى أنه كالوصال المنهى عنه، وأراهم إنما تركوه لشدته، وأن ليله ونهاره سواء، قال مالك: ولم يبلغنى أن أحدًا من السلف اعتكف إلا أبو بكر بن عبد الرحمن. واسمه المغيرة، وهو ابن أخى أبى جهل، وهو أحد فقهاء تابعى المدينة. قال ابن المنذر: روينا عن عطاء الخرسانى أنه قال: كان يقال:(4/181)
مثل المعتكف كمثل عبد ألقى نفسه بين يدى ربه ثم قال: رب لا أبرح حتى تغفر لى، رب لا أبرح حتى ترحمنى.
- باب مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَخْرُجَ
/ 17 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، ذَكَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ الْعَشْرَ الأوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، فَاسْتَأْذَنَتْهُ عَائِشَةُ، فَأَذِنَ لَهَا، وَسَأَلَتْ حَفْصَةُ عَائِشَةَ أَنْ تَسْتَأْذِنَ لَهَا، فَفَعَلَتْ، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ زَيْنَبُ أَمَرَتْ بِبِنَاءٍ فَبُنِىَ لَهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا صَلَّى انْصَرَفَ إِلَى بِنَائِهِ فَبَصُرَ بِالأبْنِيَةِ، فَقَالَ: (مَا هَذَا) ؟ قَالُوا: بِنَاءُ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَزَيْنَبَ، فَقَالَ، عليه السَّلام: (أَالْبِرَّ أَرَدْنَ بِهَذَا؟ مَا أَنَا بِمُعْتَكِفٍ) ، فَرَجَعَ، فَلَمَّا أَفْطَرَ اعْتَكَفَ عَشْرًا مِنْ شَوَّالٍ. قال المؤلف: يحتمل أن يكون النبى عليه السلام قد كان شرع فى الاعتكاف ودخل فيه، فلذلك قضاه لقول عائشة: (إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان إذا صلى انصرف إلى بنائه) . فإن كان هذا فيكون قضاؤه واجبًا عليه. وأهل العلم متفقون أنه لا يجب قضاء الاعتكاف إلا على من نواه وشرع فى عمله ثم قطعه لعذر، ويحتمل أن يكون عليه السلام لم يكن شرع فى الاعتكاف ولا بدأ به، وإنما كان انصرافه إلى بنائه بعد صلاة الصبح مطلعًا لأموره، والنظر فى إصلاحها غير معتقد الدخول فى الاعتكاف، ومن كان هكذا فله أن يرجع عن إمضاء نيته لأمر يراه، وقد قال العلماء: إن من نوى اعتكافًا فله تركه(4/182)
قبل أن يدخل فيه، وعلى هذا الوجه تأوله البخارى، وترجم له باب من أراد أن يعتكف ثم بدا له أن يخرج، وعلى هذا يكون قضاؤه له تطوعًا. قال المهلب: وفيه من الفقه أن من نوى شيئًا من الطاعات، ولم يبدأ بَعْدُ بالعمل فيه أن له تركه إن شاء تركًا واحدًا، وإن شاء تركًا مؤخرًا إلى وقت غيره، وقال غيره: واعتكافه عليه السلام وإن كان تطوعًا فغير نكير أن يكون قضاه فى شوال من أجل أنه كان قد نوى أن يعلمه وإن لم يدخل فيه؛ لأنه كان أوفى الناس بما عاهد عليه، ذكر سنيد قال: حدثنا معتمر بن سليمان، عن كهمس، عن معبد ابن ثابت فى قوله تعالى: (وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ) [التوبة: 75] الآية. قال: إنما هو شىء نووه فى أنفسهم ولم يتكلموا به، ألم تسمع إلى قوله فى الآية: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ) [التوبة: 78] . قال المهلب: فى قوله عليه السلام: (آلبر ترون بهن) من الفقه أن من عُلم منه الرياء فى شىء من الطاعات فلا بأس أن يُقطع عليه فيه ومنعه منه، ألا ترى قوله عليه السلام: (آلبر ترون بهن) . يعنى أنهن إنما أردن الحظوة والمنزلة منه عليه السلام، فلذلك قطع عليهن ما أردنه وأخر ما أراده لنفسه.(4/183)
وفيه من الفقه: أن للرجل منع زوجته وأمته وعبده من الاعتكاف فى الابتداء، كما منع نساءه الذين ضربوا الأبنية، وهو قول مالك والكوفيين والشافعى. واختلفوا إذا أذن لهم فى ذلك فقال مالك: لا يمنعهم، وقال الكوفيون: لا يمنع زوجته إن أذن لها، ويمنع عبده إن أذن له، وقال الشافعى: له منعهما جميعًا، وقال ابن شعبان كقول الشافعى: له أن يمنعهما جميعًا، وأن أذن لهما ما لم يدخلا فيه، وهذا الحديث يدل على صحة هذا القول؛ لأن النبى عليه السلام قد كان أذن لعائشة وحفصة فى الاعتكاف ثم منعهما منه حين رأى ذلك، وفيه من الفقه: أنه قد يستر عن الضرائر تفصيل بعضهن على بعض ولو بترك طاعة لله تستدرلاك بعد حين. تم كتاب الاعتكاف والحمد لله رب العالمين يتلوه كتاب الحج إن شاء الله والله المعين(4/184)
بسم الله الرحمن الرحيم
- كِتَاب الْحَجِّ
وُجُوبِ الْحَجِّ وَفَضْلِهِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [آل عمران: 97] .
/ 1 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: كَانَ الْفَضْلُ بْن عباس رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ، فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الآخَرِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِى الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِى شَيْخًا كَبِيرًا لا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: (نَعَمْ) ، وَذَلِكَ فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ. أجمع العلماء على أن على المرء فى عمره حجة واحدة، حجة الإسلام إذا كان مستطيعًا. واختلفوا فى الاستطاعة، فذهبت طائفة إلى أن من قدر على الوصول إلى البيت ببدنه فقد لزمه فرض الحج وإن لم يجد راحلة، وهو بمنزلة من يجد الراحلة ولا يقدر على المشى، وهو قول ابن الزبير وعكرمة والضحاك، وبه قال مالك، وذهب الحسن البصرى ومجاهد وسعيد بن جبير إلى أن الاستطاعة: الزاد والراحلة، وبه قال أبو حنيفة والثورى والشافعى وأحمد وإسحاق.(4/185)
قال المهلب: فى هذا الحديث أن الاستطاعة لا تكون الزاد والراحلة؛ ألا ترى أن ما اعتذرت به هذه المرأة عن أبيها ليس بزاد ولا راحلة، وإنما كان ضعف جسمه، فثبت أن الاستطاعة شائعة كيفما وقعت وتمكنت. قال ابن القصار: والاستطاعة فى لسان العرب القدرة، فإن جعلناها فى كل قادر جاز، سواء قدر ببدنه، أو ببدنه وماله، أو بماله، إلا أن تقوم دلالة. وإن قلنا: إن حقيقة الاستطاعة أن تكون صفة قائمة فى المستطيع كالقدرة والكلام والقيام والقعود، فينبغى أن تكون الاستطاعة صفة فيه تختصه وهذا لا يكون إلا لمن هو مستطيع ببدنه دون ماله. فإن احتجوا بما روى عن الرسول أنه قال: (السبيل: الزاد والراحلة) فإن ابن معين وغيره قالوا: روايه إبراهيم الخوزى، وهو ضعيف. وقال ابن المنذر: لا يثبت الحديث الذى فيه ذكر الزاد والراحلة، وليس بمتصل، والآية عامة ليست مجملة ولا تفتقر إلى بيان، فكأنه تعالى كلف كل مستطيع على أى وجه قدر بمال أو ببدن، والدليل على ذلك قوله عليه السلام: (لا تحل الصدقة لغنى، ولا لذى مرة سوى) فجعل صحة الجسم مساوية للغنى، فسقط قول من اعتبر الراحلة. وقال إسماعيل بن إسحاق: لو أن رجلا كان فى موضع يمكنه المشى إلى الحج، وهو لا يملك راحلة لوجب عليه الحج؛ لأنه مستطيع إليه سبيلا. وما روى عن السلف فى ذلك أن السبيل: الزاد والراحلة: فإنما أرادوا التغليظ على من ملك هذا المقدار ولم يحج؛ لأنهم ذكروا أقل الأملاك التى يبلغ بها الإنسان إلى الحج، فإن قيل: فإنها عبادة تتعلق(4/186)
بقطع مسافة بعيدة فوجبت فيها الراحلة، أصله الجهاد، قيل: لا فرق بينهما، وعندنا أن من تعين عليه فرض الجهاد وهو قادر ببدنه على المشى، فليست الراحلة شرطًا فى وجوبه عليه؛ لأنه منكسر بالهجرة، وسيأتى بعض معانى هذا الحديث فى باب: الحج عمن لا يستطيع الثبوت على الراحلة من هذا الكتاب إن شاء الله. قال المهلب: وفيه من الفقه جواز الارتداف لسادة الناس ورؤسائهم، ولا سيما فى الحج لتزاحم الناس، ومشقة الرجالة، ولأن الراكب فيه أفضل، ولا خلاف بين العلماء فى جواز ركوب نفسين على دابة إذا أطاقت الدابة ذلك، وفى نظر الفضل إلى المرأة مغالبة طباع البشر لابن آدم وضعفه عما ركب فيه من شهوات النساء، وفيه أن على العالم أن يغير من المنكر ما يمكنه إذا رآه، وسيأتى بقية القول فى قصة الفضل بن عباس فى كتاب الاستئذان فى باب قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) [النور: 27] . وذكر ابن المنذر قال: حدثنا محمد بن إسماعيل الصايغ، حدثنا عفان، حدثنا سكين بن عبد العزيز قال: حدثنى أبى قال: سمعت ابن عباس يقول: (كان الفضل رديف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم عرفة، فجعل الفتى يلاحظ النساء وينظر إليهن، فقال: يا ابن أخى هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غفر له) . وقال عكرمة والضحاك ومجاهد فى قوله تعالى: (وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [آل عمران: 97] قالوا: من كفر بالله واليوم الآخر. وقال الحسن: من كفر بالحج فلم يره واجبًا، وقال سعيد بن جبير: قال عمر بن(4/187)
الخطاب: لو أن الناس تركوا الحج لقاتلتهم عليه كما نقاتلهم على الصلاة والزكاة.
- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) [الحج: 27] ) فِجَاجًا (: الطُّرُقُ الْوَاسِعَة
. / 2 - فيه: ابْن عُمَرَ، رَأَيْتُ النَّبِىّ، عليه السَّلام، يَرْكَبُ رَاحِلَتَهُ بِذِى الْحُلَيْفَةِ، ثُمَّ يُهِلُّ حَتَّى تَسْتَوِىَ بِهِ قَائِمَةً. / 3 - وفيه: جَابِر، أَنَّ إِهْلالَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ ذِى الْحُلَيْفَةِ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ. ورَوَاهُ أَنَسٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ. ذكر ابن المنذر عن ابن عباس فى هذه الآية: هم المشاة والركبان على كل ضامر من الإبل، وروى محمد بن كعب عن ابن عباس قال: ما فاتنى شىء أشد علىَّ إلا أن أكون حججت ماشيًا؛ لأن الله تعالى يقول: (يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ) [الحج: 27] فبدأ بالرجال قبل الركبان، وذكر إسماعيل بن إسحاق عن مجاهد قال: أهبط آدم بالهند، فحج على قدميه البيت أربعين حجة، وعن ابن أبى نجيح، عن مجاهد أن إبراهيم وإسماعيل، عليهما السلام، حجا ماشيين، وحج النبى عليه السلام راكبًا، ولذلك ذكر حديث ابن عمر وجابر فى هذا الباب، وذلك كله مباح، وقد قال تعالى: (وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ) [الحج: 30] . قال ابن القصار: فى قوله: (يَأْتُوكَ رِجَالاً (دليل قاطع لمالك أن الراحلة ليست من شرط السبيل، والمخالفون يزعمون أن الحج لا يجب على الرجالة، وهذا خلاف الآية.(4/188)
واختلفوا فى تأويل قوله تعالى: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) [الحج: 28] فروى عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد أنها التجارة، وزاد مجاهد: وما يرضاه الله من أمر الدنيا والآخرة، وقال أبو جعفر: هى المغفرة، واختاره إسماعيل بن إسحاق، وسيأتى الاختلاف فى بدء إهلال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعد هذا فى موضعه إن شاء الله.
3 - باب الْحَجِّ عَلَى الرَّحْلِ
وقالت عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، بَعَثَ مَعَهَا أَخَاهَا عَبْدَالرَّحْمَنِ، فَأَعْمَرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ، وَحَمَلَهَا عَلَى قَتَبٍ. / 4 - وَقَالَ عُمَرُ: شُدُّوا الرِّحَالَ فِى الْحَجِّ، فَإِنَّهُ أَحَدُ الْجِهَادَيْنِ. وَحَجَّ أَنَسٌ عَلَى رَحْلٍ، وَلَمْ يَكُنْ شَحِيحًا، وَحَدَّثَ أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، حَجَّ عَلَى رَحْلٍ، وَكَانَتْ زَامِلَتَهُ. / 5 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اعْتَمَرْتُمْ وَلَمْ أَعْتَمِرْ، فَقَالَ: (يَا عَبْدَالرَّحْمَنِ، اذْهَبْ بِأُخْتِكَ، فَأَعْمِرْهَا مِنَ التَّنْعِيمِ) ، فَأَحْقَبَهَا عَلَى نَاقَةٍ، فَاعْتَمَرَتْ. فى هذا الباب: فضل الحج على الرواحل، قال ابن المنذر: اختلف العلماء هل المشى فى الحج أفضل أو الركوب، فقال مالك: الركوب أحب إلىَّ من المشى، وبه قال الشافعى؛ لأن النبى عليه السلام حج راكبًا، ولفضل النفقة فى الحج، ولأنه إذا كان مستريحًا كان أقوى له على الدعاء والابتهال والتضرع، وروى عبد الله بن بريدة عن أبيه، أن النبى عليه السلام قال: (النفقة فى الحج كالنفقة فى(4/189)
سبيل الله سبعمائة ضعف) . وكان حسين بن على يمشى فى الحج، وفعل ذلك ابن جريج والثورى، وقال إسحاق: المشى أفضل، وهو محجوج بفعل النبى عليه السلام.
4 - باب فَضْلِ الْحَجِّ الْمَبْرُورِ
/ 6 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، سُئِلَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، أَىُّ الأعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) ، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: (جِهَادٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ) ، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: (حَجٌّ مَبْرُورٌ) . / 7 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ، أَفَلا نُجَاهِدُ؟ قَالَ: (لا، لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ) . / 8 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيّ، عليه السَّلام: (مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ) . قال المؤلف: إنما جعل الجهاد فى هذا الحديث أفضل من الحج؛ لأن ذلك كان فى أول الإسلام وقلَّته، وكان الجهاد فرضًا متعينًا على كل أحد، فأما إذ ظهر الإسلام وفشا، وصار الجهاد من فروض الكفاية على من قام به، فالحج حينئذ أفضل؛ ألا ترى قوله لعائشة: (إن أفضل جهادكن الحج) لما لم يكنّ من أهل القتال والجهاد للمشركين، فإن حّلَّ العدو ببلدة واحتيج إلى دفعه، وكان له ظهور وقوة وخيف منه؛ توجه فرض الجهاد على العيان، وكان أفضل من الحج والله أعلم.(4/190)
وقال المهلب: وقوله: (لكن أفضل الجهاد حج مبرور) . يفسر قوله تعالى: (وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى) [الأحزاب: 33] أنه ليس على الفرض لملازمة البيوت، كما زعم من أراد تنقص عائشة فى خروجها إلى العراق للإصلاح بين المسلمين، وهذا الحديث يخرج الآية عما تأولوها؛ لأنه قال: (لكن أفضل الجهاد حج مبرور) فدل هذا أن لهن جهادًا غير جهاد الحج، والحج أفضل منه. فإن قيل: إن النساء لا يحل لهن الجهاد، قيل: قد قالت حفصة: (قدمت علينا امرأة غزت مع النبى عليه السلام ست غزوات، وقالت: كنا نداوى الكلمى، ونقوم على المرضى، وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذا أراد الغزو أسهم بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها غزا بها) .
5 - بَاب فَرْضِ مَوَاقِيتِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ
/ 9 - فيه: زَيْدُ بْنُ جُبَيْرٍ، أَنَّهُ أَتَى عَبْدَاللَّهِ بْنَ عُمَرَ فِى مَنْزِلِهِ، وَلَهُ فُسْطَاطٌ وَسُرَادِقٌ، فَسَأَلْتُهُ مِنْ أَيْنَ يَجُوزُ أَنْ أَعْتَمِرَ؟ قَالَ: فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لأهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا، وَلأهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلأهْلِ الشَّأْمِ الْجُحْفَةَ. أجمع أئمة الفتوى أن المواقيت فى الحج والعمرة سنة واجبة،(4/191)
وقالوا: هى توسعة ورخصة يتمتع المرء يحلها حتى يبلغها، ولا أعلم أحدًا قال: إن المواقيت من فروض الحج. وقول ابن عمر: (فرضها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) يريد وَقَّتَها وَبَّيَنها، وهذا الباب رد على عطاء والنخعى والحسن، فإنهم زعموا أنه لا شىء على من ترك الميقات ولم يُحْرم وهو يريد الحج والعمرة، وهذا شذوذ من القول، وقال مالك وأبو حنيفة والشافعى: إنه يرجع من مكة إلى الميقات، واختلفوا إذا رجع هل عليه دم أم لا؟ فقال مالك، ورواية عن الثورى: لا يسقط عنه الدم برجوعه إليه محرمًا، وهو قول ابن المبارك. وقال أبو حنيفة: إن رجع إليه فلبى فلا دم عليه، وإن لم يلب فعليه الدم، وقال الثورى وأبو يوسف ومحمد والشافعى: لا دم عليه إذا رجع إل الميقات بعد إحرامه على كل وجه.
6 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) [البقرة: 197]
/ 10 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَحُجُّونَ وَلا يَتَزَوَّدُونَ، وَيَقُولُونَ: نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ، فَإِذَا قَدِمُوا مَكَّةَ سَأَلُوا النَّاسَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى (. قال المهلب: فيه من الفقه أن ترك سؤال الناس من التقوى؛ ألا ترى أن الله مدح قومًا فقال: (لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) [البقرة: 273] ، وكذلك معنى قوله تعالى: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) [البقرة: 197] أى تزودوا فلا تؤذوا الناس بسؤالكم إياهم، واتقوا الإثم فى أذاهم بذلك. وفيه: أن التوكل لا يكون مع السؤال، وإنما التوكل على الله(4/192)
دون استعانة بأحد فى شئ، ويبين ذلك قوله عليه السلام: (يدخل الجنة سبعون ألفًا بغير حساب، وهم الذين لا يسترقون، ولا يكتتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون) . فهذه أسباب التوكل وصفاته. وقال الطحاوى: لما كان التزود فيه ترك المسألة النهى عنها فى غير الحج، وكانت حرامًا على الأغنياء قبل الحج؛ كانت فى الحج أوكد حرمة، وقال سعيد بن جبير فى قوله تعالى: (وَتَزَوَّدُوا (قال: الكعك والسويق، وليس هذا من سعيد على أن هذه الأصناف من الأزواد هى التى أبيحت فى الحج دون ما سواها، ولكنه على إفهام السائل أن المراد هو الزاد الذى هو قوام الأبدان، لا على التزود من الأعمال، ثم أتبع ذلك بقوله: (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى (فكان هذا والله أعلم أن من التقوى ترك التعرض لحال من الأحوال التى يخرج أهلها إلى المسألة المحرمة عليهم.
7 - باب مُهَلِّ أَهْلِ مَكَّةَ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ
/ 11 - فيه: ابْنِ عَبَّاس، إِنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) وَقَّتَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلأهْلِ الشَّأْمِ الْجُحْفَةَ، وَلأهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ، وَلأهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ، هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ، فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ. وترجم له باب: (مهل أهل الشام) ، وباب: (مهل من كان دون المواقيت) ، وباب: (مهل أهل اليمن) . قال ابن المنذر: والعلماء متفقون على أن مهل مكة للحج من(4/193)
مكة، كما وقت لهم النبى عليه السلام فاللازم على ظاهر هذا الخبر أن لا يخرج أهل مكة عن بيوت مكة إلا محرمين، وسنتهم ألا طواف ولا سعى عليهم، وإنما ذلك على من يقدم مكة من غير أهلها. قال ابن المنذر: يجمع هذا الحديث أبوابًا من السنن، منها: أن هذه المواقيت لكل من أتى عليها من غير اهلها، فإذا جاء المدنى من الشام على طريق الساحل أحرم من الجحفة، وإذا أتى اليمانى على ذى الحليفة احرم منها، وإذا أتى النجدى من تهامة أحرم من يلملم، وكل من مر بميقات بلدة احرم منه، ومنها: أن ميقات كل مَنْ منزله دون الميقات مما يلى مكة مِنْ منزله ذلك. ومنها: أن أهل مكة ميقاتهم مكة، ومنها: أن هذه المواقيت إنما يلزم منها ومن يريد حجا أو عمرة، ولا يلزم الإحرام منها من لا يريد الحج والعمرة، ولو مر مدنى بذى الحليفة ولا يريد حجا ولا عمرة فسار حتى قرب من الحرم أراد الحج والعمرة فإنه يحرم من حيث حضرته نية الحج أو العمرة، ولا يجب عليه ما وجب على من مر بميقاته وهو يريد الحج والعمرة ولم يحرم منه، واحرم من وراء ذلك مما يلى مكة. وعلى هذا عامة العلماء إلا أحمد وإسحاق فإنهما قالا: يرجع إلى ذى الحليفة ويحرم، والقول الأول أبين؛ لدلالة حديث ابن عباس على ذلك؛ ولأن ابن عمر أحرم من الفرع، وهو بعد الميقات، وهو راوى حديث المواقيت، ومحال أن يتعدى ذلك مع علمه به ويوجب على نفسه دمًا، هذا ما لا يظنه عالم.(4/194)
وقال الشافعى: يحمل فعل ابن عمر أنه مر بميقاته لا يريد إحرامًا، ثم بدا له أو جاء إلى الفرع من مكة أو غيرها، ثم بدا له فى الإحرام. واختلفوا إذا مر بذى الحليفة وهو يريد الحج والعمرة ولم يحرم منها، وأحرم من الجحفة، فقال مالك: عليه دم، وهو قول الليث والثورى والشافعى، واختلف فى ذلك أصحاب مالك، فمنهم من أوجب الدم، ومنهم من لم يوجبه، ورخص فى ذلك الكوفيون والأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وقالوا: لا شىء عليه. وروى عن عائشة انها كانت إذا أرادت العمرة أحرمت من الجحفة، وإن أرادت الحج أحرمت من ذى الحليفة. قال ابن المواز: ويدل امر النبى عليه السلام عائشة أن تخرج من الحرم وتحرم بعمرة، على أن مكة ليست بميقات يحرم منها للعمرة، فبان بهذا أن معنى قوله عليه السلام فى حديث ابن عباس: (حتى أهل مكة يهلون من مكة) أنه أراد الإحرام بالحج فقط، دون الإحرام بالعمرة؛ إذ لو كان على ظاهر الحديث لكان ميقات أهل مكة للحج والعمرة مكة، كما كان لأهل المواقيت ولمن دونها مما يلى الحرم الإحرام من مواقيتهم، فلما امر عائشة أن تحرم من التنعيم دل أن إهلال أهل مكة من مكة إنما هو بالحج دون العمرة. قال غيره: وأئمة الفتيا متفقون على أن المكى إذا أراد العمرة أنه لابد له من الخروج إلى الحِلِّ يهل منه؛ لأنه لابد له فى عمرته من(4/195)
الجمع بين الحل والحرم، وليس ذلك على الحاج المكى؛ لأنه خارج فى حجه إلى عرفات، وهى الحل، وشذ ابن الماجشون فى مسألة من هذا الباب فقال: لا يقرن المكى من مكة قياسًا على المعتمر، وخالفه مالك وجميع أصحابه فقالوا: إنه يقرن من مكة؛ لأنه خارج فى حجه إلى الحل عرفات، وقد ذكر ابن المواز عن مالك أنه لا يقرن المكى إلا بمكة؛ لأنه خارج فى حجه من الحل، كقول ابن الماجشون. فإن اعتمر من مكة ولم يخرج إلى الحل للإحرام حتى طاف وسعى، ففيها قولان: أحدهما: أن عليه دمًا لترك الميقات، وعمرته تامة، وهذا قول الكوفيين وأبى ثور، وأحد قول الشافعى، والقول الثانى: أن ذلك لا يجزئه حتى يخرج من الحرم ثم يطوف ويسعى، ويقصر أو يحلق، ولا شىء عليه، ولو كان حلق أهراق دمًا، هذا قول الشافعى الآخر، وهو قول مالك وأصحابه. قال مالك: وما رأيت أحدًا أحرم بعمرة من الحرم، ولا يحرم أحد بعمرة من مكة، ولا تصح العمرة عند جميع العلماء إلا فى الحل المكى أو غيره. قال ابن المنذر: وهذا أشبه. وحكى الثورى عن عطاء أنه من أهل بعمرة أنه لا شىء عليه، قال سفيان: ونحن نقول: إذا أهل بها لزمته ويخرج إلى الميقات، وقال ابن المنذر: المحرم بعمرة من مكة تارك لميقاته، فعليه أن يخرج من الحرم ليكون قد رجع إلى ميقاته، كما نأمر من جاز ميقاته أن يرجع ما لم يطف بالبيت، فإن لم يخرج إلى الحل حتى يفرغ من نسكه فعليه دم، كما يكون ذلك على من ترك ميقاته حتى فرغ من نسكه، وأما إذا كان منزل الرجل(4/196)
بين مكة والمواقيت، فجمهور الفقهاء قائلون بحديث ابن عباس أنه يحجرم من موضعه بالحج، وهو ميقاته، وإن لم يحرم منه فهو كمن ترك ميقاته، فعليه أن يرجع، فإن لم يفعل فعليه دم، قال مجاهد: ميقاته من مكة. وهذا خلاف قوله عليه السلام: (ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ) قال ابن المنذر: وفى حديث ابن عباس إثباته عليه السلام يلملم ميقاتًا لأهل اليمن؛ لأن ابن عمر قال: (ويزعمون أن النبى عليه السلام قال: وهل أعل اليمن من يلملم) فأسنده ابن عباس.
8 - باب مِيقَاتِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَلا يُهِلُّوا قَبْلَ ذِى الْحُلَيْفَةِ
/ 12 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِى الْحُلَيْفَةِ، وَيُهِلُّ أَهْلُ الشَّأْمِ مِنَ الْجُحْفَةِ، وَأَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ) . قَالَ عَبْدُاللَّهِ: وَبَلَغَنِى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ) . وترجم له باب: (مهل أهل نجد) . قال ابن المنذر: أمر النبى عليه السلام أهل المدينة وأهل الشام وأهل نجد واليمن أن يهلوا من المواضع التى حَدَّها، وأحرم عليه السلام من الميقات الذى بينه لأهل المدينة، وترك أن يحرم من منزله، وعمل بذلك أصحابه وعوام أهل العلم، وغير جائز أن يكون فعل أعلى من فعله، أو عمل أفضل من عمله، ولقد سئل مالك عن هذه المسألة فتلا قوله تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) [النور: 63] الآية. وقد أجمع أهل العلم على أنه من أحرم قبل أن يأتى الميقات(4/197)
أنه محرم، غير أن طائفة من السلف كرهت ذلك، واستحبه آخرون، فممن رأى ذلك ابن عمر أحرم من إيلياء، وسئل على وابن مسعود عن قوله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ) [البقرة: 196] فقالا: أن تحرم من دوبرة أهلك. وأجاز ذلك علقمة والأسود، وهو قول أبى حنيفة، والثورى، والشافعى. وكره الإحرام قبل المواقيت عمر بن الخطاب، وأنكر على عمران بن حصين إحرامه من البصرة، وأنكر عثمان بن عفان على عبد الله بن عامر إحرامه قبل الميقات، وهو قول عطاء، والحسن، ومالك، وأحمد، وإسحاق، وقال أحمد: المواقيت أفضل؛ لأنها سنة النبى عليه السلام قال إسماعيل القاضى: وإنما كرهوا ذلك والله أعلم لئلا يضيق المرء على نفسه ما وسع الله عليه، وأن يتعرض لما لا يؤمن أن يحدث فى إحرامه، وكلهم ألزمه الإحرام فإنه زاد ولم ينقص. قال الطحاوى: وأخذ قوم بحديث ابن عمر وابن عباس، وذهبوا إلى أن أهل البعراق لا ميقات لهم فى الإحرام كميقات سائر أهل البلدان؛ وإنما يلهون من حيث مروا عليه من هذه المواقيت المؤقتة فى حديث ابن عباس وابن عمر. قال المؤلف: وسأذكر فى الباب بعد هذا اختلاف الناس فى ميقات أهل العراق إن شاء الله.
9 - باب ذَاتُ عِرْقٍ لأهْلِ الْعِرَاقِ
/ 13 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ: لَمَّا فُتِحَ هَذَانِ الْمِصْرَانِ، أَتَوْا عُمَرَ، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حَدَّ لأهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا، وَهُوَ جَوْرٌ عَنْ(4/198)
طَرِيقِنَا، وَإِنَّا إِنْ أَرَدْنَا قَرْنًا شَقَّ ذلك عَلَيْنَا، قَالَ: (فَانْظُرُوا حَذْوَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ، فَحَدَّ لَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ) . اختلف العلماء فى ميقات أهل العراق، فقال مالك والكوفيون، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: ميقاتهم ذات عرق، وقالت طائفة: ميقاتهم العقيق، روى ذلك عن أنس بن مالك، واستحبه الشافعى. قال ابن المنذر: والإحرام من العقيق أفضل، ومن ذات عرق يجزئ، وكان القاسم بن عبد الرحمن، وخصيف يحرمان من الربذة، وهو قول الحسن بن صالح، ولولا سنة عمر لكان هذا أشبه بالنظر؛ لأن المعنى عندهم فى ذات عرق أنه بإزاء قرن، والربذة بإزاء ذى الحليفة، غير أن عمر لما سن ذات عرق وتبعه عليه من حج من أهل العراق، فمر بذلك العمل من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والتابعين وعوام أهل العلم إلى اليوم كان أولى بالاتباع. واختلفوا فيمن وَقَّتَ لهم ذات عرق، فقالت طائفة: وقته عمر بن الخطاب، واحتجوا بهذا الحديث، وهو قول ابن عباس وابن عمر وعطاء، وقال آخرون: بل وقت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لهم العقيق وذات عرق، كما وقت لأهل الشام بالجحفة، والشام كلها يومئذ دار كفر كما كانت العراق، فوقت المواقيت لأهل النواحى؛ لأنه علم أنه سيفتح الله على أمته الشام والعراق وغيرها من البلاد لقوله عليه السلام: (وسيبلغ ملك أمتى ما زوى لى منها) . واحتجوا بما رواه أبو داود قال: حدثنا هشام بن بهرام، حدثنا المعافى، حدثنا أفلح بن حميد، عن القاسم، عن عائشة قالت: (وَقَّت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لأهل العراق ذات(4/199)
عرق) . وهو قول جابر بن عبد الله، وروى الثورى عن يزيد بن أبى زياد، عن محمد بن على، عن ابن عباس قال: (وقت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لأهل المشرق العقيق) . وهذا اختلاف، قال ابن المنذر: ولا يثبت فى ذلك عن الرسول سنة. قال المهلب: وفى قول عمر: (فانظروا حذوها من طريقكم) إباحة القياس على السنن المعروفة الحكم بالتشبيه والتمثيل، يدل على ذلك ما رواه عبد العزيز بن أبى رواد، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: لما وقت قرن لأهل نجد، قال عمر: قيسوا من نحو العراق كنحو قرن. فاختلفوا فى القياس، فقال بعضهم: ذات عرق، وقال بعضهم: بطن العقيق، قال ابن عمر: فقاس الناس ذلك. والناس حينئذ هم علماء الصحابة الذين هم حجة على من خالفهم. وقولهم لعمر: (وهو جَوْر عن طريقنا) يعنون هو منحرف ومنعدل عنه، ومنه قوله تعالى: (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ) [النحل: 9] يعنى غير قاصد. قال الراجز: فجار عن نهج الطريق القاصد ومنه جار السلطان إذا عدل فى حكمه عن الحق إلى الباطل.(4/200)
- بَاب الصلاة بذِى الْحُلَيْفَةِ
/ 14 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، أَنَاخَ بِالْبَطْحَاءِ بِذِى الْحُلَيْفَةِ، فَصَلَّى بِهَا. وَكَانَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ ذَلِكَ. الصلاة بذى الحليفة ليست من سنن الحج، وإنما هو موضع الإهلال لأهل المدينة، وقد أرى النبى عليه السلام فى النوم وهو يعرس فيها قيل له: إنك ببطحاء مباركة، فلذلك كان عليه السلام يصلى فيها تبركًا بها، ويجعلها عند رجوعه من مكة موضع مبيته ليبكر منها إلى المدينة، ويدخلها فى صدر النهار والله أعلم.
- باب خُرُوجِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، عَلَى طَرِيقِ الشَّجَرَةِ
/ 15 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، كَانَ يَخْرُجُ مِنْ طَرِيقِ الشَّجَرَةِ، وَيَدْخُلُ مِنْ طَرِيقِ الْمُعَرَّسِ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ يُصَلِّى فِى مسْجِدِ الشَّجَرَةِ، وَإِذَا رَجَعَ صَلَّى بِذِى الْحُلَيْفَةِ بِبَطْنِ الْوَادِى، وَبَاتَ حَتَّى يُصْبِحَ. وقال المؤلف: ليس خروجه على طريق الشجرة ورجوعه من طريق المعرس من سنن الحج. قال المهلب: وإنما فعل ذلك والله أعلم ليكثر عدد المسلمين فى أعين المنافقين وأهل الشرك كما فعل فى العيدين، ومبيته عليه السلام بذى الحليفة عند رجوعه من الحج على قرب من الوطن لتتقدم أخبار القادمين على أهليهم، فتأخذ المرأة على نفسها، وهو فى معنى كراهيته عليه السلام للرجل أن يطرق أهله ليلا من سفره والله أعلم.(4/201)
- باب قَوْلِ النَّبِىِّ عليه السَّلام: (الْعَقِيقُ وَادٍ مُبَارَكٌ
/ 16 - فيه: عُمَرَ، سَمِعْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، بِوَادِى الْعَقِيقِ يَقُولُ: (أَتَانِى اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّى، فَقَالَ: صَلِّ فِى هَذَا الْوَادِى الْمُبَارَكِ، وَقُلْ: عُمْرَةً فِى حَجَّةٍ) . / 17 - وفيه: ابْن عُمَرَ، أنّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، رُئِىَ وَهُوَ فِى مُعَرَّسٍ بِذِى الْحُلَيْفَةِ بِبَطْنِ الْوَادِى، قِيلَ لَهُ: إِنَّكَ بِبَطْحَاءَ مُبَارَكَةٍ، وَقَدْ أَنَاخَ بِنَا سَالِمٌ، يَتَوَخَّى بِالْمُنَاخِ الَّذِى كَانَ عَبْدُاللَّهِ يُنِيخُ، يَتَحَرَّى مُعَرَّسَ رَسُولِ اللَّه (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ أَسْفَلُ مِنَ الْمَسْجِدِ الَّذِى بِبَطْنِ الْوَادِى، بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الطَّرِيقِ وَسَطٌ مِنْ ذَلِكَ. قال المهلب: بهذه الرؤيا حكم النبى عليه السلام بنسخ ما كان فى الجاهلية من تحريم العمرة فى أشهر الحج؛ لأن رؤيا الأنبياء وحى، فأمر أصحابه الذين أهلوا بالحج من ذى الحليفة ممن لم يكن معه هدى أن يفسخوه فى عمرة، فعظم ذلك عليهم لبقائه هو على حجه من أجل ما كان ساق من الهدى، وما كان استشعره من التلبيد لرأسه، وفيه أن السنن والفرائض قد يخبر عنها بخبر واحد فيما اتفقا فيه، وإن كان حكمها يختلف فى غيره، فلما كان الإحرام بالحج والعمرة واحدًا أخبر الله عنها فى هذه الرؤيا بذلك فقال: (عمرة فى حجة) أى إحرامكم تدخل فيه العمرة والحجة متتاليًا ومفترقًا.(4/202)
قال ابن القصار: وقد احتج الكوفيون للقِران أنه أفضل من الإفراد، وأنه الذى أمر به النبى عليه السلام أن نفعله بقوله عليه السلام: (وقل عمرة فى حجة) . فالجواب أنه يحتمل أن يريد أحد أمرين: إما أن يحرم بالعمرة إذا فرغ من حجته قبل أن يرجع إلى منزله، فكأنه قال: إذا خرجت وحججت فقل: لبيك بعمرة، وتكون فى حجتك التى تحج فيها. قال المؤلف: ويؤيد هذا التأويل ما رواه البخارى فى هذا الحديث فى كتاب الاعتصام (وقل: عمرة وحجة) ففصل بينهما بالواو. قال ابن القصار: ويحتمل أن يريد أن أفعال العمرة هى بعض أفعال الحج، فكأنه أوقع أفعال العمرة فى فعل هو بعض أفعال الحج، وقال غيره: معناه: (قل: عمرة فى حجة) أى قل ذلك لأصحابك، أى أعلمهم أن القِران جائز، وأنه من سنن الحج. قال الطبرى: وهذا نظير قوله عليه السلام: (دخلت العمرة فى الحج إلى يوم القيامة) . قال: ومعنى قوله عليه السلام: (أتانى آت من ربى فقال: صل فى هذا الوادى المبارك) . فهو إعلام منه عليه السلام بفضل المكان لا إيجاب الصلاة فيه؛ لأن الأمة مجمعة أن الصلاة بوادى العقيق غير فرض، فبان بهذا أن أمره عليه السلام بالصلاة فيه نظير حثه لأمته على الصلاة فى مسجده ومسجد قباء والله الموفق.(4/203)
- باب غَسْلِ الْخَلُوقِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنَ الثِّيَابِ
/ 18 - فيه: يَعْلَى أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ: أَرِنِى النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) حِينَ يُوحَى إِلَيْهِ، قَالَ: فَبَيْنَمَا النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بِالْجِعْرَانَةِ وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ تَرَى فِى رَجُلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ، وَهُوَ مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ، فَسَكَتَ، عليه السَّلام، سَاعَةً، فَجَاءَهُ الْوَحْىُ، فَأَشَارَ عُمَرُ إِلَى يَعْلَى، فَجَاءَ يَعْلَى، وَعَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ثَوْبٌ قَدْ أُظِلَّ بِهِ، فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مُحْمَرُّ الْوَجْهِ وَهُوَ يَغِطُّ، ثُمَّ سُرِّىَ عَنْهُ، فَقَالَ: (أَيْنَ الَّذِى سَأَلَ عَنِ الْعُمْرَةِ) ؟ فَأُتِىَ بِرَجُلٍ، فَقَالَ: (اغْسِلِ الطِّيبَ الَّذِى بِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وَانْزِعْ عَنْكَ الْجُبَّةَ، وَاصْنَعْ فِى عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِى حَجَّتِكَ) ، قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَرَادَ الإنْقَاءَ حِينَ أَمَرَهُ أَنْ يَغْسِلَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. كان هذا الحديث بالجعرانة فى منصراف النبى عليه السلام من غزوة حنين، وفى ذلك الموضع قسم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) غنائم حنين، وقال الطحاوى: ذهب قوم إلى هذا الحديث، فكرهوا التطيب عند الإحرام، وهو قول عمر، وعثمان، وابن عمر، وعثمان بن أبى العاص، وعطاء، والزهرى، ومالك، ومحمد بن الحسن، وخالفهم فى ذلك آخرون، فأجازوا الطيب عند الإحرام. قال المؤلف: وسأذكرهم فى الباب بعد هذا إن شاء الله، وقالوا: لا حجة فى حديث يعلى لمن خالفنا؛ لأن ذلك الطيب الذى كان على الرجل إنما كان صفرة خلوق، وذلك مكروه للرجال فى حال الإحلال والإحرام، وإنما نبيح من الطيب عند الإحرام ما هو حلال فى حال الإحلال، وقد بيَّن ذلك ما رواه همام عن عطاء، عن صفوان بن يعلى، عن أبيه، عن النبى عليه السلام(4/204)
أنه قال له: (اغسل عنك أثر الخلوق أو الصفرة) فأمره بغسله لما ثبت من نهيه عليه السلام أن يتزعفر الرجل فى حال الإحلال والإحرام؛ لأنه من طيب النساء، لا لأنه طيب تطيب به بعد الإحرام، وليس فى ذلك دليل على حكم من أراد الإحرام: هل له أن يتطيب بطيب يبقى عليه بعد الإحرام أم لا؟ قالوا: وقد ثبت عن عائشة أنها كانت تطيب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عند إحرامه بأطيب ما تجد. قال المؤلف: وسيأتى الجواب عن حديث عائشة لمن لم يجز الطيب عند الإحرام فى الباب بعد هذا إن شاء الله. واحتج الطحاوى لمحمد بن الحسن فى رد هذا التأويل المتقدم. فقال: الحجة لمنع الطيب عند الإحرام من طريق النظر أن الإحرام يمنع من لبس الثياب كلها، ويمنع من الطيب، ومن قتل الصيد وإمساكه، فلما أجمعوا أن الرجل إذا لبس قميصًا قبل أن يحرم ثم أحرم وهو عليه؛ أنه يؤمر بنزعه، وإن لم ينزعه وتركه بعد إحرامه كان كمن لبسه بعد إحرامه لبسًا مستقبلا، وتجب عليه الفدية، وكذلك لو اصطاد وهو حلال فأمسكه بيده ثم أحرم أمر بتخليته، وإلا كان كابتداء الصيد فى إحرامه، فلما صح ما ذكرناه وكان التطيب محرمًا على المحرم بعد إحرامه كحرمة هذه الأشياء، كان ثبوت الطيب عليه بعد إحرامه، وإن كان قد تطيب به قبل إحرامه كتطيبه به بعد إحرامه قياسًا ونظرًا، وبه يأخذ الطحاوى.(4/205)
قال المؤلف: وأما قول من أباح الطيب قبل الإحرام أن الخلوق والصفوة نهى عن الرجال فى حال الإحلال والإحرام، فليس كذلك عند من منع الطيب للإحرام، وإن نهى النبى عليه السلام أن يتزعفر الرجل إنما هو محمول عند أهل المدينة على أن المراد به حال الإحرام فقط، وأنه مباح فى الإحلال، ولهم فى ذلك حجج سأذكرها فى كتاب اللباس والزينة عند نهيه عليه السلام أن يتزعفر الرجل إن شاء الله. قال المهلب: وفيه من الفقه أن السنن قد تكون بوحى من الله كما كان غسل الطيب فى هذا الحديث بالوحى، ولم يقل أحد أنه فرض، وفيه وجوب التثبت للعالم فيما يسئل عنه، وإن لم يعرفه سأل من فوقه كما فعل النبى عليه السلام، وفيه أن غسل الطيب عند الإحرام ينبغى أن يبالغ فى إزالته؛ ألا ترى أنه أمره بغسله ثلاث مرات. وقوله: (اصنع فى عمرتك ما تصنع فى حجتك) : يعنى اجتنب فى عمرتك كل ما تجتنب فى حجتك؛ ألا ترى قول ابن عمر: ما أمرُهما إلا واحد. يعنى فى الإحرام والحرمة، وكذلك كل ما يستحسن من الدعاء والتلبية فى الحج فهو مستحسن فى العمرة. قال ابن المنذر: وقد احتج بعض من أسقط الفدية عمن جهل، فلبس فى إحرامه ما ليس له لبسه، وجعل الناسى فى معناه، بحديث الجبة؛ لأن النبى عليه السلام أمره بنزعها ولم يأمره بالفدية، وهو قول عطاء، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وقال مالك: من ابتاع خفين فجربهما فى رجليه، فإن كان شيئًا(4/206)
خفيفًا فلا شىء عليه، وإن تركهما حتى منعه ذلك من حر أو برد أو مطر افتدى، وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن غطى المحرم وجهه ورأسه متعمدًا أو ناسيًا يومًا إلى الليل فعليه دم، وإن كان أقل من ذلك فعليه صدقة يتصدق بها.
- باب الطِّيبِ عِنْدَ الإحْرَامِ وَمَا يَلْبَسُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ وَيَتَرَجَّلَ وَيَدَّهِنَ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَشَمُّ الْمُحْرِمُ الرَّيْحَانَ، وَيَنْظُرُ فِى الْمِرْآةِ، وَيَتَدَاوَى بِمَا يَأْكُلُ الزَّيْتِ وَالسَّمْنِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: يَتَخَتَّمُ وَيَلْبَسُ الْهِمْيَانَ. وَطَافَ ابْنُ عُمَرَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَقَدْ حَزَمَ عَلَى بَطْنِهِ بِثَوْبٍ، وَلَمْ تَرَ عَائِشَةُ بِالتُّبَّانِ بَأْسًا لِلَّذِينَ يَرْحَلُونَ هَوْدَجَهَا. / 19 - فيه: ابْن عُمَرَ، أنَّهُ كَانَ يَدَّهِنُ بِالزَّيْتِ، قَالَ سعيد بن جبير: فَذَكَرْتُهُ لإبْرَاهِيمَ، فقَالَ: مَا تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ: حَدَّثَنِى الأسْوَدُ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِى مَفَارِقِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ مُحْرِمٌ. / 20 - فيه: عَائِشَةَ، كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لإحْرَامِهِ حِينَ يُحْرِمُ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ. أجاز الطيب قبل الإحرام من الصحابة: سعد بن أبى وقاص، وابن عباس، وأبو سعيد الخدرى، وابن الزبير، وعائشة، وأم حبيبة، ومن التابعين: عروة، والقاسم بن محمد، والشعبى، والنخعى، وبه قال أبو حنيفة، وأبو يوسف، والثورى، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، واحتجوا بحديث عائشة أنها كانت تطيب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لإحرامه قبل أن يحرم.(4/207)
واعتل الذين لم يجيزوا الطيب للإحرام، الذين ذكرتهم فى الباب قبل هذا، بأن قالوا: يحتمل أن يكون عليه السلام مخصوصًا بالطيب؛ لأنه أملك لإربه من سائر أمته، وأن الطيب إنما مُنِعَ فى الإحرام؛ لأنه داعية إلى الجماع ويذكر النساء، فكان أملك لإربه، فلذلك تطيب، قاله ابن القصار والمهلب، وزاد المهلب معنى آخر أنه خص عليه السلام بالطيب عند الإحرام لمباشرته الملائكة بالوحى وغيره. واعتل الطحاوى فى دفع حديث عائشة بما رواه شعبة وسفيان ومسعر، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه قال: (سألت ابن عمر عن الطيب عند الإحرام فقال: لأن أطلى بقطران أحب إلى من أن أصبح محرمًا ينضح منى ريح الطيب، قال: فدخلت على عائشة فأخبرتها بقول ابن عمر فقالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن، طيبت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فطاف على نسائه ثم أصبح محرمًا) . قال: فقد بان بهذا الحديث أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) طاف على نسائه بعد التطيب، وإذا طاف على نسائه اغتسل لا محالة، فكان بين إحرامه وتطييبه غسل، قال: فكأن عائشة إنما أرادت بهذا الحديث الاحتجاج على من كره أن يوجد من المحرم بعد إحرامه ريح الطيب كما كره ذلك ابن عمر، وأما بقاء نفس الطيب على بدن المحرم بعدما أحرم فإن كان إنما تطيب به قبل الإحرام فلا، فَتَفَهَّمْ هذا الحديث فإن(4/208)
معناه معنى لطيف. فإن قيل: قد قالت عائشة: (كنت أرى وبيص الطيب فى مفارق رسول الله بعدما أحرم) ، والوبيص عند العرب: البريق، قيل: يجوز أن يكون ذلك وقد غسله، وهكذا الطيب ربما غسله الرجل عن وجهه فيذهب ويبقى وبيصه. وأما الطيب للحل بعد رمى جمرة العقبة، فرخص فيه ابن عباس، وابن الزبير، وعائشة، والنخعى، وخارجة ابن زيد، وهو قول الكوفيين، والشافعى، وأحمد، وأبى ثور على ظاهر حديث عائشة، وكرهه سالم، وهو قول مالك. قيل لابن القاسم: فإن فعل أَفَتَرَى عليه الفدية؟ قال: لا أرى عليه شيئًا لما جاء فى ذلك، رواها أبو ثابت عنه. وقال ابن المنذر: أجمع عوام العلماء أن للمحرم أن يأكل الزيت والسمن والشيرج، وأن له أن يستعمل ذلك فى جميع بدنه سوى رأسه ولحيته، فإن استعمله فى رأسه ولحيته افتدى. وأجمعوا أن الطيب لا يجوز له استعماله فى بدنه، ففرقوا بين الطيب والزيت فى هذا الوجه، فقياس هذا أن يكون المحرم ممنوعًا من استعمال الطيب فى رأسه كما منع فى بدنه، وأن يجب له استعمال السمن والزيت فى رأسه كما أبيح له فى بدنه، وكلهم أوجب فى دهن البنفسج الفدية إلا الشافعى فإنه قال: ليس بطيب، وإنما يستعمل للمنفعة. وأجمع عوام العلماء على أن للمحرم أن يعقد الهيمان على وسطه، روى ذلك عن ابن عباس، وسعيد بن المسيب، والقاسم، وعطاء،(4/209)
وطاوس، والنخعى، وهو قول مالك والكووفيين والشافعى، وأحمد، وأبى ثور، غير إسحاق فقال: لا يعقده، ولكن يدخل السيور بعضها فى بعض، وسئلت عائشة عن المنطقة، فقالت: أوثق عليك نفقتك، وقال ابن علية: قد أجمعوا أن للمحرم أن يعقد الهيمان والإزار على وسطه، والمنطقة كذلك. وقول إسحاق لا يعد خلافًا ولا حَظَّ له فى النظر؛ لأن الأصل النهى عن لباس المخيط، وليس هذا مثله، فارتفع أن يكون له حكمه. واختلفوا فى الرداء الذى يلتحف به على مئزره، فكان مالك لا يرى عقده، وتلزمه الفدية إن انتفع به، ونهى عنه ابن عمر، وعطاء، وعروة، ورخص فيه سعيد بن المسيب، وكرهه الكوفيون وأبو ثور وقالوا: لا شىء عليه إن فعل، وحكى عن مالك أنه رخص للعامل أن يحزم الثوب على بطنه، وكرهه لغيره. وأجاز شم الريحان للمحرم سوى ابن عباس: الحسن، ومجاهد، وهو قول إسحاق، وكرهه مالك والكوفيون قالوا: لا شىء عليه إن شمه، وكرهه الشافعى وأبو ثور، وأوجبوا عليه الفدية. وأجاز جمهور العلماء النظر فى المرآة، وكان أبو هريرة يفعله، وقال مالك: لا يفعل ذلك إلا من ضرورة. قال المؤلف: وقول النخعى لسعيد بن جبير: (ما تصنع بقوله) فيه حجة أن المَفْزَعَ فى النوازل إلى السنن، وإنها مستغنية عن آراء(4/210)
الرجال، وفيها المقنع والحجة البالغة، وأن ممن نزع بها عند الإختلاف فقد أفلح وغلب خصمه.
- باب مَنْ أَهَلَّ مُلَبِّدًا
/ 21 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ الرسول (صلى الله عليه وسلم) يُهِلُّ مُلَبِّدًا. التلبيد عند الإحرام مستحب، فمن شاء فعله، ومن شاء تركه، ون لبد فعليه الحلاق؛ لأن النبى عليه السلام حلق، وستأتى أقوال العلماء فى هذه المسألة بعد هذا إن شاء الله. وقال ابن قتيبة: الملبد الذى لبد رأسه بلزوق يجعله فيه.
- باب الإهْلالِ عِنْدَ مَسْجِدِ ذِى الْحُلَيْفَةِ
/ 22 - فيه: ابْن عُمَرَ، مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِلا مِنْ عِنْدِ الْمَسْجِدِ، يَعْنِى مَسْجِدَ ذِى الْحُلَيْفَةِ. اختلف العلماء فى المواضع الذى أحرم منه رسول الله، فقال قوم: إنه أهل من مسجد ذى الحليفة، وقال آخرون: لم يهل إلا من بعد أن استوت به راحلته بعد خروجه من المسجد، روى ذلك عن ابن عمر أيضًا، وعن أنس، وابن عباس، وجابر، وقال آخرون: بل أحرم حين أطل على البيداء. قال الطحاوى: وقد قال من خالفهم: قد يجوز أن يكون عليه السلام أحرم منها، لا لأنه قصد أن يكون إحرامه منها أفضل فى(4/211)
الإحرام منها على الإحرام مما سواها، وقد رأيناه فعل فى حجته أشياء فى مواضع لا لفضلها، كنزوله عليه السلام بالمحصب من منى، لم يكن ذلك لأنه سنة، ولكن لمعنى آخر، فلما حصب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، ولم يكن ذلك لأنه سنة، فكذلك أحرم حين صار على البيداء، لا لأن ذلك سنة، وقد أنكر قوم أن يكون رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أحرم من البيداء، روى مالك عن موسى بن عقبة، عن سالم، عن أبيه أنه قال: (بيداؤكم هذه التى تكذبون على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيها، ما أهل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلا من مسجد ذى الحليفة، قالوا: وإنما كان ذلك بعدما ركب راحلته) . واحتجوا بما رواه أبى ذئب عن الزهرى، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبى عليه السلام: (أنه كان يهل إذا استوت به راحلته قائمة) . وكان ابن عمر يفعله، قالوا: وينبغى أن يكون ذلك بعدما تنبعث به راحلته، واحتجوا بما رواه مالك عن سعيد المقبرى، عن عبيد بن جريج، عن ابن عمر قال: (لم أر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يهل حتى تنبعث به راحلته) . فلما اختلفوا فى ذلك أردنا أن ننظر من أين جاء اختلافهم، فذكر ابن إسحاق قال: حدثنى خصيف، عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: عجبت لاختلاف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى إهلاله فى حجته، فقال: إنى لأعلم الناس بذلك، خرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حاجا، فلما صلى فى مسجد ذى الحليفة أهل بالحج، فسمع ذلك قوم فحفظوا عنه، ثم ركب فلما استقلت به ناقته أَهَلَّ، وأدرك ذلك منه أقوام لم يشهدوه فى المرة الأولى؛ لأن الناس قد كانوا(4/212)
يأتون أرسالاً، فسمعوه حين استقلت به ناقته يهل، ثم مضى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فلما وقف على شرف البيداء أَهَلَّ، وأدرك ذلك منه أقوام لم يشهدوه فى المرتين فنقل كل واحد منهم ما سمع، فإنما كان إهلال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى مصلاه حين فرغ من صلاته) . فبين ابن عباس الوجه الذى منه جاء اختلافهم وأن إهلال النبى (صلى الله عليه وسلم) الذى ابتدأ الحج به كان فى مصلاه، فينبغى لمن أراد الإحرام أن يصلى ركعتين ثم يحرم فى دبرهما كما فعل النبى عليه السلام، وهو قول جمهور العلماء. قال ابن المنذر: وإن أحرم من غير صلاة تتقدم إحرامه أجزأه لأمر النبى عليه السلام أسماء بنت عميس وهى نفساء بالاغتسال والإحرام، والنفساء غير طاهر، ومحال أن تصلى فى تلك الحال، وقد أخبر عليه السلام أنه لا تقبل صلاة بغير طهور، وسأذكر فى باب: (من أهل حين استوت به راحلته) وجهًا آخر غير ما قاله ابن عباس فى معنى اختلاف الروايات فى ابتداء إهلال النبى عليه السلام عن سعد بن أبى وقاص إن شاء الله.
- باب مَا لا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ
/ 23 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ رَجُلا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَلْبَسُ الْقُمُصَ، وَلا الْعَمَائِمَ، وَلا السَّرَاوِيلاتِ، وَلا الْبَرَانِسَ، وَلا الْخِفَافَ، إِلا أَحَدٌ لا يَجِدُ نَعْلَيْنِ،(4/213)
فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ، وَلا تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ أَوْ وَرْسٌ) . كل ما ذكر فى هذا الحديث فمجمع عليه أنه لا يلبسه المحرم، ويدخل فى عنى ما ذكر من القمص والسراويلات المخيط كله، فلا يجوز لباس شىء منه عند جميع الأمة. وأجمعوا أن المراد بالخطاب المذكور فى اللباس فى هذا الحديث الرجال دون النساء، أنه لا بأس بلباس المخيط والخفاف للنساء، وأجمعوا أن إحرام الرجل فى رأسه، وأنه ليس له أن يغطيه لنهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن لبس البرانس والعمائم، وعند مالك إحرام الرجل فى رأسه ووجهه، واختلفوا فى تخمير وجهه، وسنذكره بعد هذا إن شاء الله، ونذكر اختلافهم فى من لبس خفين غير مقطوعين وهو غير واجد للنعلين، أو من لبسهما مقطوعين وهو واجد للنعلين فى آخر كتاب الحج إن شاء الله. وأجمعت الأمة على أن المحرم لا يلبس ثوبًا مسه ورس أو زعفران، والورس: نبات باليمن صبغه بين الحمرة والصفرة ورائحته طيبة، فإن غسل ذلك الثوب حتى يذهب منه ريح الروس أو الزعفران فلا بأس به عند جميعهم، وكرهه مالك للمحرم إلا أن لا يجد غيره. وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة: قوله: (ولا تلبسوا شيئًا مسه زعفران أو روس) دليل أن قول عائشة: (طيبت رسول الله لإحرامه) خصوص له؛ لأنه تطيب ونهى عن الطيب فى هذا الحديث، وإنما اختص بذلك؛ لأن الطيب من دواعى الجماع، وهو أملك(4/214)
لإربه، كما نهى المحرم عن النكاح، وعقد هو نكاح ميمونة وهو محرم؛ لأنه أملك لإربه.
- باب الرُّكُوبِ وَالارْتِدَافِ فِى الْحَجِّ
/ 24 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ أُسَامَةَ كَانَ رِدْفَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، ثُمَّ أَرْدَفَ الْفَضْلَ مِنَ الْمزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى، قَالَ: فَكِلاهُمَا، قَالَ: لَمْ يَزَلِ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يُلَبِّى حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ. قال المهلب: فيه أن الحج راكبًا أفضل منه على الرجلة، وقد تقدم هذا القول، ومن خالفه فى باب الحج على الرَّحْل، وفيه ارتداف العالم من يخدمه، وفيه التواضع بالإرداف للرجل الكبير والسلطان الجليل، وقد تقدم هذا المعنى فى أول كتاب الحج، وسيأتى ذكر قطع التلبية فى موضعه إن شاء الله.
- باب مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ وَالأرْدِيَةِ وَالأزُرِ
وَلَبِسَتْ عَائِشَةُ الثِّيَابَ الْمُعَصْفَرَةَ، وَقَالَتْ: لا تَلَثَّمْ، وَلا تَتَنقب، وَلا تَلْبَسْ ثَوْبًا بِوَرْسٍ، أوْ زَعْفَرَانٍ. وَقَالَ جَابِرٌ: لا أَرَى الْمُعَصْفَرَ طِيبًا، وَلَمْ تَرَ عَائِشَةُ بَأْسًا بِالْحُلِىِّ، وَالثَّوْبِ الأسْوَدِ، وَالْمُوَرَّدِ، وَالْخُفِّ لِلْمَرْأَةِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: لا بَأْسَ أَنْ يُبْدِلَ ثِيَابَهُ. / 25 - فيه: ابْن عَبَّاس، انْطَلَقَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، مِنَ الْمَدِينَةِ بَعْدَ مَا تَرَجَّلَ،(4/215)
وَادَّهَنَ، وَلَبِسَ إِزَارَهُ وَرِدَاءَهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَلَمْ يَنْهَ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الأرْدِيَةِ وَالأزُرِ تُلْبَسُ إِلا الْمُزَعْفَرَةَ الَّتِى تَرْدَعُ عَلَى الْجِلْدِ، فَأَصْبَحَ بِذِى الْحُلَيْفَةِ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ حَتَّى اسْتَوَى عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَقَلَّدَ بَدَنَتَهُ، وَذَلِكَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِى الْقَعْدَةِ فَقَدِمَ مَكَّةَ لأرْبَعِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِى الْحَجَّةِ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ، وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلَمْ يَحِلَّ مِنْ أَجْلِ بُدْنِهِ؛ لأنَّهُ قَلَّدَهَا، ثُمَّ نَزَلَ بِأَعْلَى مَكَّةَ عِنْدَ الْحَجُونِ، وَهُوَ مُهِلٌّ بِالْحَجِّ، وَلَمْ يَقْرَبِ الْكَعْبَةَ بَعْدَ طَوَافِهِ بِهَا حَتَّى رَجَعَ مِنْ عَرَفَةَ، فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ يُقَصِّرُوا مِنْ رُءُوسِهِمْ، ثُمَّ يَحِلُّوا، وَذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ بَدَنَةٌ قَلَّدَهَا، وَمَنْ كَانَتْ مَعَهُ امْرَأَتُهُ فَهِىَ لَهُ حَلالٌ وَالطِّيبُ وَالثِّيَابُ. قال المهلب: أجمع المسلمون أن المحرم لا يلبس إلا الأرز والأردية وما ليس بمخيط، لأن لبس المخيط من الترفه، فأراد الله عز وجل أن يأتوه شعثًا غبرًا آثار الذلة والخشوع، فلذلك نهى عليه السلام المحرم أن يلبس ثوبًا مصبوغًا بورس أو زعفران؛ لأن ذلك طيب، ولا خلاف بين العلماء أن لبس المحرم ذلك لا يجوز. واختلفوا فى الثوب المعصفر للمحرم، فأجازه جابر، وابن عمر، وعائشة، وأسماء بنت أبى بكر، وهو قول القاسم وعطاء وربيعة. وقال مالك: العصفر ليس بطيب، وكرهه للمحرم؛ لأنه ينتفض على جلده، فإن فعل فقد أساء ولا فدية عليه، وهو قول الشافعى، وقال أبو ثور: إنما كرهنا المعصفر؛ لأن النبى عليه السلام نهى عنه، لا أنه طيب، وكره عمر بن الخطاب لباس الثياب المصبغة. وقال أبو حنيفة والثورى: العصفر طيب وفيه الفدية،(4/216)
وقال ابن المنذر: إنما نهى عن المصبغة فى الإحرام تأديبًا، ولئلا يلبسه من يقتدى به، فيغتر به الجاهل ولا يميز بينه وبين الثوب المزعفر، فيكون ذريعة للجهال إلى لبس ما نهى عنه المحرم من الورس والزعفران. والدليل على ذلك: أن عمر رأى على طلحة بن عبيد الله ثوبًا مصبوغًا فقال له: ما هذا يا طلحة؟ قال: يا أمير المؤمنين إنما هو مدر، فقال عمر: (إنكم أيها الرهط أئمة يقتدى بكم، لو أن رجلا جاهلا رأى هذا الثوب قال: رأيت طلحة يلبس المصبغة فى الإحرام) . وإن كان أراد به التحريم فقد خالفه غيره من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والصواب عند اختلافهم أن ينظر إلى أَوْلاهم قولا فيقال به، وإطلاق ذلك أولى من تحريمه؛ لأن الأشياء كانت على الإباحة قبل الإحرام، فلا يجب التحريم إلا بيقين، وقد روينا أن عمر لما أنكر على عقيل لبسه الموردتين، وأنكر على عبد الله بن جعفر ثوبين مضرجين قال على لعمر: دعنا منك، فإنه ليس أحد يعلمنا السنة، قال عمر: صدقت. قال ابن المنذر: ورخصت عائشة فى الحلى للمحرمة، وهو قول أبى حنيفة وأحمد، وكره ذلك عطاء، والثورى، وأبو ثور، وأجمع العلماء أن المرأة تلبس المخيط كله والخُمُر والخفاف، وأن إحرامها فى وجهها، وأن لها أن تغطى رأسها وتستر شعرها، وتسدل الثوب على وجهها سدلا خفيفًا تستتر به عن نظر الرجال، ولم يجيزوا لها تغطية وجهها إلا ما روى عن فاطمة بنت المنذر. قالت:(4/217)
كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبى بكر. قال ابن المنذر: على أن يكون كنحو ما روى عن عائشة قالت: (كنا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ونحن محرمات، فإذا مر بنا ركب سدلنا الثوب من قبل رءوسنا، فإذا جاوزنا رفعناه) . ولا يكون ذلك خلافًا، وثبت كراهية النقاب عن سعد، وابن عباس، وابن عمر، وعائشة، ولا نعلم أحدًا من أصحاب النبى عليه السلام رخص فيه، وكان ابن عمر ينهى عن القفازين، وهو قول النخعى. وقال مالك: إن لبست البرقع والقفازين افتدت كفدية الرجل؛ لأن إحرام المرأة عنده فى وجهها ويديها، وكرهت عائشة اللثام والنقاب للمرأة، وأباحت لها القفازين، وهو قول عطاء. واختلفوا فى تخمير وجه المحرم، فقال ابن عمر: لا يخمر وجهه. وكرهه مالك ومحمد ابن الحسن، قيل لابن القاسم: أترى عليه الفدية؟ قال: لا أرى عليه فدية لما جاء عن عثمان. وقال فى المدونة فى موضع آخر: إن غطى وجهه ونزعه مكانه فلا شىء عليه، وإن لم ينزعه حتى انتفع افتدى وكذلك المرأة إلا إذا أرادت سترًا. وروى عن ابن عباس، وابن الزبير، وزيد بن ثابت، وسعد بن أبى وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وجابر أنهم أجازوا للمحرم تغطية وجهه خلاف ابن عمر، وبه قال الثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وهذا يخرج على أن يكون إحرام الرجل عندهم فى رأسه خاصة لا فى وجهه. قال المهلب: فى حديث ابن عباس إفراد النبى عليه السلام للحج، وفسخ الحج لمن لم يكن معه هدى، والبقاء على الإحرام(4/218)
الأول لمن كان معه هدى؛ لأن من قلد هديه فلابد من أن يوقعه موقعه بعرفة لقوله تعالى: (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ) [البقرة: 196] ، وسيأتى معنى ذلك فى بابه إن شاء الله. قال المؤلف: من روى فى هذا الحديث (التى تردع على الجلد) بالعين فهو معنى معروف. تقول العرب: ارتدع وتردع: التطخ بالطيب، والردع أثر الطيب، وردع به الطيب: إذا التزق بجلده ويده منه (ردعة) ، ومن رواه (تردغ) بالغين المنقوطة فهو من قولهم: أردغت الأرض: كثرت رداغها، وهى مناقع المياه، ومثله أرزغت الأرض بالزاى: كثرت رزاغها، جمع رزغة كالردغة، ذكره صاحب كتاب الأفعال وذكر أردغ وأرزغ فى باب أفعل خاصة.
- باب مَنْ بَاتَ بِذِى الْحُلَيْفَةِ حَتَّى أَصْبَحَ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام
. / 26 - فيه: أَنَس، صَلَّى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بِالْمَدِينَةِ الظَّهْرَ أَرْبَعًا، وَبِذِى الْحُلَيْفَةِ الْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ بَاتَ حَتَّى أَصْبَحَ بِذِى الْحُلَيْفَةِ، فَلَمَّا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ وَاسْتَوَتْ بِهِ أَهَلَّ. قال المؤلف: ليسس مبيته عليه السلام بذى الحليفة عند خروجه من المدينة من سنن الحج، وإنما هو من جهة الرفق بأمته ليلحق به من تأخر عنه فى السير، ويدركه من لم يمكنه الخروج معه. قال المهلب: وفيه تقصير الصلاة بنية السفر، وإن لم يبلغ إلى موضع المشقة منه؛ لأنه قصر بذى الحليفة، وهو حجة لمالك ومن(4/219)
وافقه أن المسافر إذا خرج عن بيوت المصر لزمه تقصير الصلاة، وفيه أن سنة افهلال أن يكون بعد صلاة، وكان ابن عمر يحرم فى دبر صلاة مكتوبة، وهو قول ابن عباس، واستحب ذلك عطاء، والثورى، وطاوس، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، واستحب مالك أن يكون بإثر صلاة نافلة، فإن كان فى وقت لا يتنفل فيه كوقت الصبح أو العصر أجزأه أن يكون بإثر الفريضة، قال ابن المنذر: وإن أحرم ولم يكن صلى أجزأه، وقد تقدمت حجة هذه المقالة فى باب الإهلال عند مسجد ذى الحليفة.
- باب رَفْعِ الصَّوْتِ بِالإهْلالِ
/ 27 - فيه: أَنَس، صَلَّى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِالْمَدِينَةِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا، وَالْعَصْرَ بِذِى الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، وَسَمِعْتُهُمْ يَصْرُخُونَ بِهِمَا جَمِيعًا. قال الطبرى: الإهلال رفع الصوت بالتلبية، ومنه استهلال المولود، وهو صياحه إذا سقط من بطن أمه، ومنه قوله تعالى: (وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) [البقرة: 173] يعنى ما رفع به الصوت عند ذبحه للآلهة، وكل رافع صوته بشىء فهو يهل به، ومنه استهلال المطر والدمع، وهو صوت وقعه بالأرض، ويقال: أهل القوم الهلال، إذا رأوه. وأرى أن ذلك إنما هو من الإهلال الذى هو الصوت؛ لأنه كان يرفع عند رؤيته الأصوات إما بدعاء أو غيره، وأوجب أهل الظاهر رفع الصوت بالإهلال، وخالفهم فى ذلك، وهو عندهم مستحب. فروى عن ابن عباس أنه كان يرفع صوته بالتلبية ويقول: هى زينة(4/220)
الحج، وكان ابن عمر يرفع بها صوته، وقال أبو حازم: كان أصحاب النبى عليه السلام لا يبلغون الروحاء حتى تبح حلوقهم من التلبية. وبه قال أبو حنيفة والثورى والشافعى. واختلف الرواية عن مالك فروى ابن القاسم عنه أنه لا ترفع الأصوات بالتلبية إلا فى المسجد الحرام ومسجد منى، وزاد فى الموطأ: ولا يرفع صوته فى مساجد الجماعات، وروى ابن نافع عنه أنه يرفع صوته فى المساجد التى بين مكة والمدينة. واحتج إسماعيل للقولين فقال: وجه القول الأول أن مساجد الجماعات إنما بنيت للصلاة خاصة، فكره رفع الصوت فيها، وليس كذلك المسجد الحرام ومسجد منى؛ لأن المسجد الحرام جعل للحاج وغيره، وكان المبلى إنما يقصد إليه فكان له فيه من الخصوص ما ليس فى غيره، ومسجد منى فهو للحاج خاصة، ووجه رواية ابن نافع أن المساجد التى بين مكة والمدينة إنما جعلت للمجتازين، وأكثرهم المحرمون فهم من النحو الذى وصفنا. وأجمعوا أن المرأة لا ترفع صوتها بالتلبية، وإنما عليها أن تُسمع نفسها. قال المهلب: وقول أنس: (وسمعتهم يصرخون بهما) إنما سمع الذين قرنوا خاصة لثبوت الإفراد، وليس فى حديث أنس أنه سمع الرسول (صلى الله عليه وسلم) يصرخ بالحج والعمرة، وإنما أخبر ذلك عن قوم فعلوه، وقد يمكن أن يسمع قومًا يصرخون بحج وقومًا يصرخون بعمرة، وقد روى أنس عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ما يرد روايته هذه، وهو قوله عليه السلام:(4/221)
(لولا أن معى الهدى لأحللت) . وسيأتى بيان ذلك فى باب التمتع والقران والإفراد بالحج بعد هذا إن شاء الله. وفيه: رد قول أهل الظاهر فى إجازتهم تقصير الصلاة فى مقدار ما بين المدينة وذى الحليفة وفى أقل من ذلك؛ لأنه إنما قصر الصلاة بذى الحليفة؛ لأنه كان خارجًا إلى مكة فلذلك قصر العصر بذى الحليفة، بدليل قوله: (وسمعتهم يصرخون بهما جميعًا) يعنى بالحج والعمرة، وبين المدينة وذى الحليفة ستة أميال.
- باب التَّلْبِيَةِ
/ 28 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لا شَرِيكَ لَكَ) . وعن عائشة مثله. قال المهلب: معنى التلبية، إجابة دعوة إبراهيم بالحج إذ أمره الله بالأذان به، وهو من المواعيد المنتجزة؛ لأن تعالى وعده أن يأتوه رجالا وعلى كل ضامر، وروى عن ابن عباس أنه قال: (لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قيل له: أذن فى الناس بالحج، قال: يا رب، وما يبلغ صوتى؟ قال: أذن وعلىَّ البلاغ، فنادى إبراهيم: أيها الناس، كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق، فسمعه من بين السماء والأرض، ألا ترى الناس يجيئون من أقطار الأرض يلبون) . وقال أهل اللغة: معنى لبيك لبيك: إجابة بعد إجابة، من قولهم: ألب بالمكان، إذا أقام به، فكأنه قال: أنا مقيم على طاعتك(4/222)
وإرادتك، وكذلك قولهم: سعديك، أى إسعادًا لك بعد إسعاد، أى أنا مساعد لك ومتابع لإرادتك. واختلف العلماء بتأويل القرآن فى قوله تعالى: (فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) [البقرة: 197] فقال ابن عباس وعكرمة وعطاء وطاوس: الفرض الإهلال، وهو التلبية. قال ابن مسعود وابن الزبير: الفرض: الإحرام. وعند الثورى وأبى حنيفة أن التلبية ركن من أركان الحج، ولا تنوب النية عنها، كالدخول فى الصلاة لا يصح إلا بالنية والتكبير جميعًا، إلا أن أبا حنيفة ينوب عنده سائر الذكر عن التلبية كالتكبير والتسبيح والتهليل، كما يقول فى الإحرام بالصلاة. وعند مالك والشافعى النية فى الإحرام تجزئه عن الكلام، وكان مالك يرى على من ترك التلبية الدم، ولا يراه الشافعى، والحجة لمالك أن التلبية نسك، ومن ترك من نسكه شيئًا أهراق دمًا، وقال إسماعيل بن إسحاق: ليس الإهلال للإحرام بمنزلة التكبير للصلاة؛ لأن الرجل لا يكون داخلا فى الصلاة إلا بالتكبير، ويكون داخلا فى الإحرام بالتلبية وغيرها من الأعمال التى يوجب بها الإحرام على نفسه، مثل أن يقول: قد أحرمت بالعمرة أو الحج أو يشعر البدن، وهو يريد بذلك الإحرام، أو يتوجه نحو البيت وهو يريد بذلك الإحرام، فيكون بذلك كله محرمًا. وأجمع العلماء على القول بهذه التلبية، واختلفوا فى الزيادة عليها، فذكر ابن القصار عن الشافعى قال: الأفضل الاقتصار على تلبية رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلا أن يزيد عليها شيئين: (لبيك إله الحق) لأن(4/223)
أبا هريرة رواه عن النبى عليه السلام. والثانى: أن يقول إذا رأى شيئًا فأعجبه: (لبيك إن العيش عيش الآخرة) . كما فعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حين رأى الناس يزدحمون فى الطواف، وإذا زاد هذين كان كمن اقتصر على تلبية رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، واحتج بأن سعد بن أبى وقاص سمع رجلا يقول: (لبيك ذا المعارج) ، فقال: ما كنا نقول هذا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . وقال مالك: إن اقتصر على تلبية رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فحسن، وإن زاد عليها فحسن، وهو قول أبى حنيفة والثورى وأحمد وأبى ثور، وقالوا: يزيد عليها ما شاء، واحتجوا بما رواه مالك عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يزيد فيها: (لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل) . وروى القطان عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر قال: (أهل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . .) . فذكر مثل الحديث ابن عمر فى التلبية قال: (والناس يزيدون لبيك ذا المعارج ونحوه من الكلام، والنبى عليه السلام يسمع فلا يقول لهم شيئًا) ، وأن عمر كان يقول بعد التلبية: لبيك ذا النعماء والفضل والثناء الحسن، لبيك مرهوبًا منك ومرغوبًا إليك. وكان أنس يقول فى تلبيته: لبيك حقا حقًا ورقا.(4/224)
- باب التَّحْمِيدِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ قَبْلَ الإهْلالِ عِنْدَ الرُّكُوبِ عَلَى الدَّابَّةِ
/ 29 - فيه: أَنَس، قَالَ: صَلَّى النَّبِىّ، عليه السَّلام، وَنَحْنُ مَعَهُ بِالْمَدِينَةِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا، وَالْعَصْرَ بِذِى الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ بَاتَ بِهَا حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ، حَمِدَ اللَّهَ وَسَبَّحَ وَكَبَّرَ، ثُمَّ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهِمَا، فَلَمَّا قَدِمْنَا أَمَرَ النَّاسَ فَحَلُّوا، حَتَّى كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ، قَالَ: وَنَحَرَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بَدَنَاتٍ بِيَدِهِ قِيَامًا، وَذَبَحَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِالْمَدِينَةِ كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ. قال المؤلف: غرض البخارى بهذه الترجمة والله أعلم الرد على أبى حنيفة فى قوله: إن من سبح أو كبر أو هلل أجزأه من إهلاله، فأثبت البخارى أن التسبيح والتحميد من النبى عليه السلام إنما كان قبل الإهلال؛ لقوله فى الحديث بعد أن سبح وكبر: (ثم أهل بالحج) . ويمكن أن يكون فعل تكبيره وتحميده عليه السلام عند ركوبه أخذًا بقول الله تعالى: (ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) [الزخرف: 13] ويمكن أن يكون يعلمنا عليه السلام جواز الذكر والدعاء مع الإهلال، وأن الزيادة عليه مستحبة بخلاف قول الشافعى. قال المهلب: وقوله: (ثم أهل بحج وعمرة) فقد رد عليه ابن عمر هذا القول وقال: كان أنس حينئذ يدخل على النساء وهن متكشفات، ينسب إليه الصغر وقلة الضبط حين نسب إلى النبى عليه السلام الإهلال بالقِران.(4/225)
قال المؤلف: ومما يدل على قلة ضبط أنس للقصة قوله فى الحديث: (فلما قدمنا أمر الناس فحلوا حتى إذا كان يوم التروية أهلوا بالحج) . وهذا لا معنى له، ولا يفهم إن كان النبى عليه السلام وأصحابه قارنين كما زعم أنس؛ لأن الأمة متفقة على أن القارن لا يجوز له الإحلال حتى يفرغ من عمل الحج كله كان معه هدى أو لم يكن، فلذلك أنكر عليه ابن عمر، وإنما حل من كان أفرد الحج وفسخه فى عمرة ثم تمتع. والأملح: الأبيض الذى يشوبه شىء من سواد، من كتاب العين.
- باب مَنْ أَهَلَّ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ
/ 30 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَهَلَّ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً. قال الطبرى: روى ابن إسحاق عن أبى الزناد، عن عائشة ابنة سعد بن أبى وقاص قالت: قال سعد: (كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذا أخذ طريق الفرع أهل حين استقلت به راحلته، وإذا أخذ طريق أحد أهل إذا علا على شرف البيداء) . قال الطبرى: جعل الله ذا الحليفة ميقاتًا لهل المدينة، ومن مر بها من سائر الناس، فسوى فى جواز الإحرام من أى مكان أحرم منها: من المسجد، أو من فنائه بعدما استقلت به راحلته، أو قبل أن تنهض به قائمة بعدما علا على شرف البيداء، أو قبل، ما لم يجاوز ذا(4/226)
الحليفة، إذ كل ذلك قد روى عن النبى أنه فعله، وليس شىء من ذلك بخلاف لغيره، وقد يمكن أن يكون فعل ذلك عليه السلام فى عمرته التى اعتمر، إذ ذلك كله ميقات، وممكن أن يكون ذلك على ما قاله ابن عباس، وقد ذكرناه فى باب الإهلال من عند مسجد ذى الحليفة.
- باب الإهْلالِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ الْغَدَاةِ بذِى الْحُلَيْفَةِ
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا صَلَّى بِالْغَدَاةِ بِذِى الْحُلَيْفَةِ أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَرُحِلَتْ، ثُمَّ رَكِبَ، فَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ قَائِمًا، ثُمَّ يُلَبِّى حَتَّى يَبْلُغَ الْحَرَمَ، ثُمَّ يُمْسِكُ حَتَّى إِذَا جَاءَ ذَا طُوًى بَاتَ بِهِ حَتَّى يُصْبِحَ، فَإِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ اغْتَسَلَ، وَزَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَعَلَ ذَلِكَ. / 31 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى مَكَّةَ ادَّهَنَ بِدُهْنٍ، لَيْسَ لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، ثُمَّ يَأْتِى مَسْجِدَ ذِى الْحُلَيْفَةِ، فَيُصَلِّى، ثُمَّ يَرْكَبُ، فَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً أَحْرَمَ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَفْعَلُ. قال المهلب: أما تلبية ابن عمر إذا ركب راحلته فأراد به غجابة لقوله تعالى: (وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ) [الحج: 27] . وأما استقباله القبلة لتلبيته فلاستقبال دعوة إبراهيم لمكة، فلذلك يلبى الداعى أبدًا بعد أن يستقبل بالوجه؛ لأنه لا يصلح أن يولى المجيب ظهره من يدعوه ثم يلبيه؛ بل يستقبله بالتلبية فى موضعه الذى دعا منه. وقوله: (ثم يلبى حتى يبلغ الحرم) فمعلوم من مذهبه أنه كان(4/227)
لا يلبى فى طوافه، وكره مالك التلبية فى الطواف، وقال ابن عيينة: ما رأيت أحدًا يُقتدى به يلبى حول البيت إلا عطاء بن السائب، وسيأتى من أجاز ذلك ومن كرهه فى باب الاغتسال عند دخول مكة إن شاء الله، وإنما كان يدهن بغير طيب ليمنع بذلك الدواب والقمل.
- باب التَّلْبِيَةِ إِذَا انْحَدَرَ فِى الْوَادِى
/ 32 - فيه: ابْن عَبَّاس، ذَكَرُوا الدَّجَّالَ، أَنَّهُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ أَسْمَعْهُ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: (أَمَّا مُوسَى كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَيْهِ إِذِ انْحَدَرَ فِى الْوَادِى يُلَبِّى) . قال المهلب: أما قوله فى هذا الحديث: (أما موسى) فهو وهم من الرواة والله أعلم لأنه لم يأت خبر ولا أثر عن موسى أنه حى، وأنه سيحج، وإنما أتى ذلك عن عيسى، عليهما السلام، فاختلط على الراوى فجعل فعل عيسى لموسى، وذلك على رواية من روى (إذا انحدر) لأنه إخبار عما يكون، وأما من روى إذا انحدر يحكى عما مضى، فيصح عن موسى أن يراه النبى عليه السلام فى منام، أو يوحى إليه بذلك والله أعلم وفيه من الفقه أن التلبية فى بطن المسيل من سنن المرسلين.(4/228)
- باب كَيْفَ تُهِلُّ الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ؟
أَهَلَّ: تَكَلَّمَ بِهِ، وَاسْتَهْلَلْنَا وَأَهْلَلْنَا الْهِلالَ: كُلُّهُ مِنَ الظُّهُورِ، وَاسْتَهَلَّ الْمَطَرُ: خَرَجَ مِنَ السَّحَابِ،) وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) [المائدة: 3] وَهُوَ مِنِ اسْتِهْلالِ الصَّبِىِّ. / 33 - فيه: عَائِشَةَ، خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ قَالَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام: (مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْىٌ فَلْيُهِلَّ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ لا يَحِلَّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا) ، فَقَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ، وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ وَلا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَة، فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَقَالَ: (انْقُضِى رَأْسَكِ، وَامْتَشِطِى، وَأَهِلِّى بِالْحَجِّ، وَدَعِى الْعُمْرَة) ، فَفَعَلْتُ فَلَمَّا قَضَيْنَا الْحَجَّ، أَرْسَلَنِى رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) مَعَ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ، فَاعْتَمَرْتُ، فَقَالَ: (هَذِهِ مَكَانَ عُمْرَتِكِ. . .) ، الحديث. قال المهلب: قولها: (فأهللنا بعمرة) يعارضه رواية عمرة عن عائشة أنها قالت: (خرجنا لخمس بقين من ذى القعدة، ولا نرى إلا أنه الحج) . وقال أبو نعيم فى حديث (مهلين بالحج، قالت عَمرة: فلما دنونا من مكة قال النبى عليه السلام لأصحابه: (من لم يكن معه هدى فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل، ومن كان معه هدى فلا) والتوفيق بين الحديثين أن يكون معنى قولها: (فاهللنا بعمرة) تريد حين دنونا من مكة حين أمر النبى عليه السلام من لم يسق الهدى بفسخ الحج فى العمرة، فأهلوا بها، وبينت عمرة عن عائشة ابتداء القصة من اولها، وعروة إنما ذكر ما آل إليه أمرهم حين دنوا من مكة وفسخوا الحج فى العمرة، إلا من كان ساق الهدى من المفردين(4/229)
فإنه مضى على إحرامه من أجل هديه، ولم يفسخه فى عمرة لقول الله: (لاَ تُحِلُّوا شَعَآئِرَ اللهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْىَ) [المائدة: 2] . وقولها: (فقدمت مكة وأنا حائض، ولم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة) . فلا خلاف بين العلماء أن الحائض لا تطوف بالبيت، ولا تسعى بين الصفا والمروة؛ لأن السعى بينهما موصول بالطواف، والطواف موصول بالصلاة، ولا تجوز صلاة بغير طهارة. وقوله عليه السلام: (انقضى رأسك وامتشطى، وأَهلِّى بالحج ودعى العمرة) احتج به الكوفيون فقالوا: إن المعتمرة إذا حاضت قبل الطواف، وضاق عليها وقت الحج رفضت عمرتها وألقتها واستهلت بالحج، وعليها لرفض عمرتها دم، ثم تقضى عمرة بعد، قالوا: وقوله: (انقضى رأسك وامتشطى) دليل على رفض العمرة؛ لأن القارنة لا تمتشط ولا تنفض رأسها، فجاوبهم مخالفوهم بأن ابن وهب روى عن مالك أنه قال: حديث عروة عن عائشة ليس عليه العمل عندنا قديمًا ولا حديثًا وأظنه وهمًا. يعنى ليس عليه العمل فى رفض الدعوة؛ لأن الله تعالى أمر بإتمام الحج والعمرة لمن دخل فيهما، وقال: (وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) [محمد: 33] ورفضها قبل إتمامها هو إبطالها. قال ابن القصار: وكذلك لو احرمت بالحج ثم حاضت قبل الطواف لم ترفضه، فكذلك العمرة، بعلة أنه نسك يجب المضى فى فاسده فلا يجوز تركِه قبل إتمامه مع القدرة عليه. والذى عليه العمل عند مالك، والأوزاعى، والشافعى، وأبى(4/230)
ثور فى المعتمرة تحيض قبل أن تطوف بالبيت وتخشى فوات عرفة وهى حائض، أنها تهل بالحج وتكون كمن قرن بين الحج والعمرة ابتداءَ، وعليها دم القران، ولا يعرفون رفض العمرة ولا رفض الحج لأحد دخل فيهما أو فى أحدهما، قالوا: وكذلك المعتمر يخاف فوات عرفة قبل أن يطوف، لا يكون إهلاله رفضًا للعمرة؛ بل يكون قارنًا لإدخاله الحج على العمرة. ودفعوا حديث عروة عن عائشة بضروب من الاعتلال منها: أن القاسم والأسود وعمرة رووا عن عائشة ما دل أنها كانت محرمة بحج، فكيف يجوز أن يقال لها: دعى العمرة، وقال إسماعيل بن إسحاق: رواية عروة غلط؛ لأن الثلاثة خالفوه، وقال غيره: أقل الأحوال فى ذلك سقوط الاحتجاج بما صح فيه التعارض والرجوع إلى قوله: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ) [البقرة: 196] . وأجمعوا فى غير الخائف لفوت عرفة أنه لا يحل له رفض العمرة، فكذلك من خاف فوات عرفة؛ لأنه يمكنه إدخال الحج على العمرة ويكون قارنًا، فلا وجه لرفض العمرة فى شىء من النظر. قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: ولو ثبت قوله عليه السلام: (دعى العمرة) لكان له تأويل سائغ، فيكون معنى قوله: (أهلى بالحج) أنه الذى أنت فيه، أى استديمى ما أنت عليه ودعى العمرة التى أردت أن يفسخ حجك فيها؛ لأنها إنما طهرت بمنى، وقد رهقها الوقوف بعرفة، وهذا أصل فى المراهق أن له تأخير طواف الورود، ومما يوهن رواية عروة ما رواه حماد بن زيد عن هشام بن عروة، عن أبيه(4/231)
قال: حدثنى غير واحد أن النبى عليه السلام قال لها: (دعى عمرتك) فدل أن عروة لم يسمعه من عائشة، ولو ثبت قوله: (انقضى رأسك وامتشطى) لما نافى ذلك إحرامها ولجبرته بالفدية كما أمر عليه السلام كعب بن عجرة بالحلق والفدية لما بلغ به أذى القمل، فيكون أمره لها بنقضها رأسها وامتشاطها لضرورة كانت بها مع الفدية، هذا سائغ ومحتمل فلا تعارض به الأصول، وقد يمكن أن يكون أمرها بغسل رأسها وإن كانت حائضًا لا يجب عليها غسله ولا نقضه لغسل الإهلال بالحج؛ لأن من سنة الحائض والنفساء أن يغتسلا عند الميقات والإهلال بالحج، كما امر عليه السلام أسماء بنت عميس حين ولدت محمد بن أبى بكر بالبيداء بالاغتسال والإهلال، ولو أمر عليه السلام عائشة بنقض رأسها والاغتسال لوجوب الغسل عليها، لكانت قد طهرت فتطوف للعمرة التى قد تركت. وقوله عليه السلام لها: (غير ألا تطوفى بالبيت) يدل أنها لم تنقض رأسها إلا لمرض كان بها أو لإهلال كما ذكرنا.
- باب مَنْ أَهَلَّ فِى زَمَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام كَإِهْلالِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام
. / 34 - فيه: جَابِر، أَمَرَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَلِيًّا أَنْ يُقِيمَ عَلَى إِحْرَامِهِ، وَذَكَرَ قَوْلَ سُرَاقَةَ. وَقَالَ، عليه السَّلام: (بِمَا أَهْلَلْتَ يَا عَلِىُّ؟) قَالَ: بِمَا أَهَلَّ بِهِ نبِى اللَّه، قَالَ: (فَأَهْدِ، وَامْكُثْ حَرَامًا كَمَا أَنْتَ) . / 35 - وفيه: مَرْوَانَ الأصْفَرَ، عَنْ أَنَس، قَدِمَ عَلِىٌّ عَلَى النَّبِىِّ، عليه السَّلام،(4/232)
مِنَ الْيَمَنِ، فَقَالَ: (بِمَا أَهْلَلْتَ) ؟ قَالَ: بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (لَوْلا أَنَّ مَعِى الْهَدْىَ لأحْلَلْتُ) . / 36 - وفيه: أَبُو مُوسَى، بَعَثَنِى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، إِلَى قَوْمٍ بِالْيَمَنِ فَجِئْتُ، وَهُوَ بِالْبَطْحَاءِ، فَقَالَ: (بِمَا أَهْلَلْتَ) ؟ قُلْتُ: أَهْلَلْتُ كَإِهْلالِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (هَلْ مَعَكَ مِنْ هَدْىٍ) ؟ قُلْتُ: لا، فَأَمَرَنِى فَطُفْتُ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ أَمَرَنِى فَأَحْلَلْتُ فَأَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِى فَمَشَطَتْنِى، أَوْ غَسَلَتْ رَأْسِى، فَقَدِمَ عُمَرُ، فَقَالَ: إِنْ نَأْخُذْ بِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يَأْمُرُنَا بِالتَّمَامِ، قَالَ تَعَالَى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) [البقرة: 196] وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) فَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى نَحَرَ الْهَدْىَ. قصة علىّ وحديث أبى موسى لم يقل بهما مالك ولا الكوفيون، وقال بهما الشافعى، فذهب إلى أن الحج ينعقد بإحرام من غير تعيين إفراد أو قران أو تمتع، وله عنده أن يمضى فى ذلك الإحرام ثم يجعله أى وجه شاء من الأوجه الثلاثة، وله عنده أيضًا أن ينقله من وجه إلى وجه، إلا أن يكون قارنًا فليس له أن ينقض إحرامه؛ لأنه يخرج مما أوجب على نفسه من الحج والعمرة، واحتج فى ذلك بقوله عليه السلام لعلى: (بم أهللت؟ قال: بإهلال كإهلال النبى (صلى الله عليه وسلم)) فأخبره عليه السلام بما أهلَّ به، وهو قوله: (إنى سقت الهدى) . واحتج الطبرى فقال: والدليل على صحة هذا أن أبا موسى لما أهل لم يعلم بما أهل به النبى عليه السلام فى وقت ابتدائه الإهلال؛ لأنه كان باليمن عام حج النبى عليه السلام بالناس، فلما بلغه خروج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالناس للحج خرج من اليمن حتى قدم على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فلبى من ميقات أهل اليمن وقال: لبيك بإهلال كإهلال النبى(4/233)
عليه السلام ولَّبى بمثل تلبيته على بن أبى طالب، وكان أقبل معه من اليمن، فأمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أبا موسى أن يجعل إحرامه عمرة إذ لم يكن ساق معه هديًا، وأخذ مالك وأبو حنيفة بظاهر قوله عليه السلام: (الأعمال بالنيات) . وقالوا: لابد أن ينوى المحرم حجا أو عمرة عند دخوله فيه، وقالوا: إذا نوى بحجته التطوع وعليه حجة الإسلام أنه لا يجزئه عنها، وبه قال الثورى، وإسحاق، وقال الشافعى: بجزئه من حجة الإسلام وتعود النافلة فرضًا لمن لم يؤد فرضه فى الحج خاصة، كما يعود الإحرام بالحج قبل وقته، وإن نوى به الفريضة تطوعًا. فيقال: له: قد أجمعوا أن من صلى قبل الزوال أربعًا إن نوى بها الظهر أنه لا يجزئه، وهى تطوع، فكذلك الحج. قال المهلب: وحديث مروان الأصفر عن أنس موافق لرأى الجماعة فى إفراد النبى عليه السلام ويرد وهم أنس أن النبى عليه السلام قرن، واتفاقه مع الجماعة أولى بالاتباع مما انفرد به وخالفهم فيه، وقال أبو عبد الله أخوه: فتسويغ النبى عليه السلام الإحلال لنفسه لولا الهدى يدل أنه كان منفردًا الحج غير قارن؛ لأنه لا يجوز للقارن الإحلال كان معه هدى أو لم يكن حتى يفرغ من عمل الحج. فإن قيل: كيف قال عليه السلام: (لولا أنى سقت الهدى لأحللت) وهو مفرد، والمفرد لا يجوز له اليوم الإحلال كان معه هدى أو لمن يكن؟ فالجواب: أن قوله: (لأحللت) : أى لفسخت الحج فى العمرة؛ لأن الفسخ كان مباحًا حينئذ لمن لا هدى له، فجاز لهم(4/234)
الإحلال ووطء النساء قبل الشروع فى عمل العمرة فى وقت فسخهم الحج، فأما من كان معه هدى فلم يكن يفسخ لقوله تعالى: (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ) [البقرة: 196] . قال المهلب: وقول أبى موسى: (فقدم عمر) يعنى إذ حج بالناس فى خلافته فقال: (إن نأخذ بكتاب الله فإنه أمر بالتمام) يعنى أن من أهل بشىء فليتم ما بدأ فيه ولا يفسخه، وإن نأخذ بسنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فإنه لم يفسخ ما كان أَهَلَّ به أولا من الحج من أجل الهدى تعظيمًا لحرمات الله، وإنما أباح عليه السلام الفسخ ردا لقول الجاهلية: إن العمرة فى الحج من أفجر الفجور.
- باب قوله تَعَالَى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِى الْحَجِّ) [البقرة: 197] ، وَقَوْلِهِ: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) [البقرة: 189] .
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَشْهُرُ الْحَجِّ: شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَعَشْرٌ مِنْ ذِى الْحَجَّةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنَ السُّنَّةِ أَنْ لا يُحْرِمَ بِالْحَجِّ إِلا فِى أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَكَرِهَ عُثْمَانُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ خُرَاسَانَ أَوْ كَرْمَانَ. / 37 - فيه: الْقَاسِمَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، فِى أَشْهُرِ الْحَجِّ وَلَيَالِىَ الْحَجِّ وَحُرُمِ الْحَجِّ، فَنَزَلْنَا بِسَرِفَ، قَالَتْ: فَخَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: (مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ مَعَهُ هَدْىٌ فَأَحَبَّ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْىُ فَلا) ، قَالَتْ: فَالآخِذُ بِهَا وَالتَّارِكُ لَهَا مِنْ أَصْحَابِهِ، قَالَتْ: فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَرِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَكَانُوا أَهْلَ قُوَّةٍ، وَكَانَ(4/235)
مَعَهُمُ الْهَدْىُ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْعُمْرَةِ، قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَأَنَا أَبْكِى، فَقَالَ: (مَا يُبْكِيكِ يَا هَنْتَاهُ) ؟ قُلْتُ: سَمِعْتُ قَوْلَكَ لأصْحَابِكَ فَمُنِعْتُ الْعُمْرَةَ، قَالَ: (وَمَا شَأْنُكِ) ؟ قُلْتُ: لا أُصَلِّى، قَالَ: (فَلا يَضِيرُكِ إِنَّمَا أَنْتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِ آدَمَ، كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكِ مَا كَتَبَ عَلَيْهِنَّ، فَكُونِى فِى حَجَّتِكِ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَرْزُقَكِيهَا) ، قَالَتْ: فَخَرَجْنَا فِى حَجَّتِهِ حَتَّى قَدِمْنَا مِنًى، فَطَهَرْتُ، ثُمَّ خَرَجْتُ مِنْ مِنًى، فَأَفَضْتُ بِالْبَيْتِ، قَالَتْ: ثُمَّ خَرَجَتْ مَعَهُ فِى النَّفْرِ الآخِرِ حَتَّى نَزَلَ الْمُحَصَّبَ، وَنَزَلْنَا مَعَهُ، فَدَعَا عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ أَبِى بَكْرٍ، فَقَالَ: (اخْرُجْ بِأُخْتِكَ مِنَ الْحَرَمِ، فَلْتُهِلَّ بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ افْرُغَا، ثُمَّ ائْتِيَا هَاهُنَا، فَإِنِّى أَنْظُرُكُمَا حَتَّى تَأْتِيَانِى) ، قَالَتْ: فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا فَرَغْتُ، وَفَرَغْتُ مِنَ الطَّوَافِ، ثُمَّ جِئْتُهُ بِسَحَرَ، فَقَالَ: (هَلْ فَرَغْتُمْ) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَآذَنَ بِالرَّحِيلِ فِى أَصْحَابِهِ، فَارْتَحَلَ النَّاسُ فَمَرَّ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَدِينَةِ. قال ابن المنذر: اختلف العلماء فى معنى قوله: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ) [البقرة: 197] فقالت طائفة: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذى الحجة، وهو قول ابن مسعود، وابن عباس، وابن الزبير، وروى عن الشعبى، والنخعى، وعطاء، والثورى، وأبى حنيفة، والأوزاعى، الشافعى، وأبى ثور. قال ابن القصار: وقد روى مثله عن مالك، والمشهور عن مالك أنها ثلاثة: شوال وذو القعدة وذو الحجة كله. قال ابن المنذر: واختلف عن ابن عباس وابن عمر فى ذلك، فروى(4/236)
عنهما كما قال ابن مسعود، وروى عنهما كقول مالك، وكان الفَرَّاء يقول: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ) [البقرة: 197] قال: الأشهر رفع ومعناه: وقت الحج أشهر معلومات، وقال غيره: تاويله أن الحج فى أشهر معلومات. واختلف العلماء فى من أحرم بالحج فى غير أشهر الحج. فقال ابن عباس: لا ينبغى لأحد أن يهل بالحج فى غير أشهر الحج لقول الله تعالى: (فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) [محمد: 33] وهو قول جابر بن عبد الله، وقال الشافعى وأبو ثور: لا ينعقد إحرامه بالحج؛ لكنه ينعقد بعمرة، وهو مذهب عطاء وطاوس، وبه قال الأوزاعى وأحمد وإسحاق، واحتجوا بقوله: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ) [البقرة: 197] وقالوا: لو انعقد الإحرام فى غيرها لم يكن لتخصيصها فائدة، واحتجوا أيضًا بقول عائشة: (خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى أشهر الحج وليالى الحج وحرم الحج) . وقال آخرون: من أحرم فى غير أشهر الحج لزمه، روى هذا عن النخعى، وهو قول أهل المدينة والثورى والكوفيين، إلا أن المستحب عند مالك ألا يحرم فى غير أشهر الحج، فإن فعل لزمه، وهو حرام حتى يحج. وقالوا: إِنَّ ذِكْرَ اللهِ فى الحج: الأشهر المعلومات، إنما معناه عندهم عل التوسعة والرفق بالناس، وافعلام بالوقت الذى فيه يتأدى الحج، فأخبرهم تعالى بما يقرب من ذلك الوقت، وبيَّن ذلك بقوله عليه السلام: (الحج عرفات) وبنحره يوم النحر، ورميه الجمار فى ذلك اليوم وما بعده، فمن ضيق على نفسه وأحرم بالحج قبل أشهر الحج فهو فى معنى من أحرم بالحج من بلده قبل الميقات، ويعضد هذا قوله تعالى: (وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) [محمد: 33] وقوله: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ) [البقرة: 196] ولم يخص محرمًا من محرم.(4/237)
قال ابن القصار: ولا يمتنع أن يجعل الله الأشهر كلها وقتًا لجواز الإحرام فيها، ويجعل شهور الحج وقت الاختيار، وهذا سائغ فى الشريعة. قال المهلب: وقول عائشة: (نزلنا بسرف) فإنما ذكرت المآل؛ لأن سرف هو أول حدود مكة، ولم تذكر ما كانوا أحرموا به ميقات ذى الحليفة؛ ولأن فى الحديث دليل على ما كانوا أحرموا به أولا؛ لأنه قال: (من لم يكن معه هدى فليجعلها عمرة) . وهذا يدل أنها كانت حجة مفردة، ولو كانت قرنًا لقال: فليجعلهما عمرة، وإنما أمر بالفسخ من أفرد، لا من قرن ولا من أهل بعمرة، لأنهم أمرهم كلهم أن يجعلوها عمرة ليتمتعوا بالعمرة إلى الحج. وقولها: (حتى قدمنا مِنىً فطهرت) تريد ثانى يوم النحر؛ لأن أيام منى ثلاثة أيام بعد يوم النحر، وسيأتى اختلاف الناس فى الرفث والفسوق فى الجزء الثانى من الحج إن شاء الله. وقوله: (يا هنتاه) هى كلمة يكنى بها عن اسم الإنسان يقال للمرأة: يا هنتاه، أى يا مرأة، وللرجل يا هناه، أى يا رجل، ولا يستعمل فى غير النداء، ذكره سيبويه وقال: هو مثل قولهم: يا غدار ويا لكاع ويا فساق، ولا يستعمل ذلك إلا فى النداء خاصة.(4/238)
30 - باب التَّمَتُّعِ وَالإقْرَانِ وَالإفْرَادِ بِالْحَجِّ وَفَسْخِ الْحَجِّ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْىٌ
/ 38 - فيه: الأسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، خَرَجْنَا مَعَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) وَلا نُرَى إِلا أَنَّهُ الْحَجُّ، فَلَمَّا قَدِمْنَا تَطَوَّفْنَا بِالْبَيْتِ، فَأَمَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) مَنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْىَ أَنْ يَحِلَّ، فَحَلَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ، وَنِسَاؤُهُ لَمْ يَسُقْنَ فَأَحْلَلْنَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَحِضْتُ، فَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ، قلت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَرْجِعُ النَّاسُ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ، وَأَرْجِعُ أَنَا بِحَجَّةٍ، قَالَ: (وَمَا طُفْتِ لَيَالِىَ قَدِمْنَا مَكَّةَ) ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: (فَاذْهَبِى مَعَ أَخِيكِ إِلَى التَّنْعِيمِ، فَأَهِلِّى بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ مَوْعِدُكِ كَذَا وَكَذَا) ، قَالَتْ صَفِيَّةُ: مَا أُرَانِى إِلا حَابِسَتَهُمْ، قَالَ: (عَقْرَى حَلْقَى أَوَ مَا طُفْتِ يَوْمَ النَّحْرِ) ؟ قَالَتْ: قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: (لا بَأْسَ، انْفِرِى) . / 39 - وفيه: عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، [وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ] ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِالْحَجِّ، فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، أَوْ جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، لَمْ يَحِلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ. / 40 - وفيه: مَرْوَانَ، قَالَ: شَهِدْتُ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا، وَعُثْمَانُ يَنْهَى عَنِ الْمُتْعَةِ، وَأَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا رَأَى عَلِىٌّ أَهَلَّ بِهِمَا، لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ، قَالَ: مَا كُنْتُ لأدَعَ سُنَّةَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، لِقَوْلِ أَحَدٍ. / 41 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الْعُمْرَةَ فِى أَشْهُرِ الْحَجِّ أَفْجَرِ(4/239)
الْفُجُورِ فِى الأرْضِ، وَيَجْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ صَفَرًا، وَيَقُولُونَ: إِذَا بَرَا الدَّبَرْ، وَعَفَا الأثَرْ، وَانْسَلَخَ صَفَرْ، حَلَّتِ الْعُمْرَةُ لِمَنِ اعْتَمَرْ، قَدِمَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، وَأَصْحَابُهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَىُّ الْحِلِّ؟ قَالَ: (حِلٌّ كُلُّهُ) . / 42 - وفيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَأَمَرَهُ بِالْحِلِّ. / 43 - وفيه: حَفْصَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا بِعُمْرَةٍ وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ؟ قَالَ: (إِنِّى لَبَّدْتُ رَأْسِى، وَقَلَّدْتُ هَدْيِى، فَلا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ) . / 44 - وفيه: أَبُو جَمْرَةَ نَصْرُ بْنُ عِمْرَانَ الضُّبَعِىُّ، قَالَ: تَمَتَّعْتُ، فَنَهَانِى نَاسٌ، فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَأَمَرَنِى، فَرَأَيْتُ فِى الْمَنَامِ، كَأَنَّ رَجُلا يَقُولُ لِى: حَجٌّ مَبْرُورٌ وَعُمْرَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ، فَأَخْبَرْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: سُنَّةَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَقَالَ: لِى أَقِمْ عِنْدِى، فَأَجْعَلَ لَكَ سَهْمًا مِنْ مَالِى، قَالَ شُعْبَةُ: فَقُلْتُ: لِمَ؟ فَقَالَ: لِلرُّؤْيَا الَّتِى رَأَيْتُ. / 45 - وفيه: أَبُو شِهَابٍ عبد ربه بْن نافع، قَدِمْتُ مُتَمَتِّعًا مَكَّةَ بِعُمْرَةٍ، فَدَخَلْنَا قَبْلَ التَّرْوِيَةِ بِثَلاثَةِ أَيَّامٍ، فَقَالَ لِى أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ: تَصِيرُ حَجَّتُكَ الآنَ مَكِّيَّةً، فَدَخَلْتُ عَلَى عَطَاءٍ أَسْتَفْتِيهِ، فَقَالَ: حَدَّثَنِى جَابِرُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ، أَنَّهُ حَجَّ مَعَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ سَاقَ الْبُدْنَ مَعَهُ، وَقَدْ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ مُفْرَدًا، فَقَالَ لَهُمْ: (أَحِلُّوا مِنْ إِحْرَامِكُمْ بِطَوَافِ الْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا(4/240)
وَالْمَرْوَةِ، وَقَصِّرُوا، ثُمَّ أَقِيمُوا حَلالا حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، فَأَهِلُّوا بِالْحَجِّ، وَاجْعَلُوا الَّتِى قَدِمْتُمْ بِهَا مُتْعَةً) ، فَقَالُوا: كَيْفَ نَجْعَلُهَا مُتْعَةً وَقَدْ سَمَّيْنَا الْحَجَّ؟ فَقَالَ: (افْعَلُوا مَا أَمَرْتُكُمْ، فَلَوْلا أَنِّى سُقْتُ الْهَدْىَ لَفَعَلْتُ مِثْلَ الَّذِى أَمَرْتُكُمْ، وَلَكِنْ لا يَحِلُّ مِنِّى حَرَامٌ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ) ، فَفَعَلُوا. قال المهلب: أشكلت أحاديث الحج على الأئمة صعب تخليصها ونفى التعارض عنها، وكل ركب فى توجيهها غير مذهب صاحبه، واختلفوا فى الإفراد والتمتع والقران أيها أفضل، وفى الذى كان به النبى عليه السلام محرمًا من ذلك. فذهبت طائفة إلى أن إفراد الحج أفضل، هذا قول مالك وعبد العزيز ابن أبى سلمة والأوزاعى وعبيد الله بن الحسن، وهو أحد قولى الشافعى، وبه قال أبو ثور، وممن روى أن النبى عليه السلام أفرد الحج جابر وابن عباس وعائشة، وبهذا عمل أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعائشة، وابن مسعود بعد النبى عليه السلام. وقال أبو حنيفة والثورى: القران أفضل، وبه عمل النبى عليه السلام واحتجوا بحديث أنس أن النبى عليه السلام لما استوت به راحلته على البيداء أهل بحج وعمرة، وهو مذهب على بن أبى طالب، وطائفة من أهل الحديث، واختاره الطبى، وقال أحمد ابن حنبل: لا شك أن الرسول كان قارنًا، قال: والتمتع أحب إلى، لقول النبى عليه السلام: (لو استقبلت من أمرى ما استدبرت ما(4/241)
سقت الهدى، ولجعلتها عمرة) . وقال آخرون: التمتع أفضل، وهو قول ابن عمر وابن عباس وابن الزبير، وبه قال عطاء، وهو أحد قولى الشافعى، وإليه ذهب أحمد بن حنبل، واحتجوا بحديث ابن عمر أن النبى عليه السلام تمتع فى حجة الوداع، وبقول حفصة: ما شأن الناس حلوا ولم تحل من عمرتك. قال المؤلف: وأما ما جاء من اختلاف ألفاظ حديث عائشة مما يوهم القران والتمتع فليس ذلك بموهن الإفراد؛ لأن رواة حديث الحج عنها: الأسود، وعَمرة، والقاسم، وعروة، فأما الأسود وعَمرة فقالا عنها: (خرجنا لا نرى إلا الحج) ، وقال أبو نعيم فى حديثه: (مهلين بالحج) . وقال القاسم عنها: (خرجنا فى أشهر الحج وليالى الحج وحرم الحج) . وفى رواية مالك فى الموطأ عن القاسم، عن عروة، عن عائشة: (أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أفرد الحج) ، وكذلك صرح عروة عنها أنه عليه السلام أفرد الحج، ويشهد لصحة روايتها بالإفراد أن جابرًا وابن عباس رويا الإفراد عن النبى عليه السلام، فوجب رد ما خالف الإفراد من حديث عائشة إلى معنى الإفراد لتواتر الرواية به عن النبى عليه السلام. قال الطحاوى: وقد روى عبد العزيز بن عبد الله، وحماد بن سلمة، ومالك بن أنس، وعمرو بن الحارث، ومحمد بن مسلم الطائفى عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة فى إحرامها الذى كانت مع النبى عليه السلام فيه أنه كان حجة، وأنها قدمت مكة على النبى (صلى الله عليه وسلم) على ذلك، وزاد عمرو وابن أبى(4/242)
سلمة، وحماد بن سلمة، ومحمد بن مسلم على مالك (أن النبى عليه السلام وأصحابه كانوا أيضًا فى حجة حتى قدموا مكة فأمرهم أن يجعلوها عمرة) . وكذلك فى رواية عمرة والأسود موافقة القاسم عن عائشة بالإفراد. وقولها: (لا نرى إلا الحج) إنما هو على معنى لا نعرف إلا الحج؛ لأنهم لم يكونوا يعرفون العمرة فى أشهر الحج، فخرجوا محرمين بالذى لا يعرفون غيره، قال: والأشبه عندى أن يكون إحرام النبى عليه السلام كان بالحج خاصة لا بالحج والعمرة؛ لأنه قد أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة، ولا يجوز أن يكون أمرهم بذلك وهم فى حرمة عمرة أخرى؛ لأنهم يرجعون بذلك إلى أن يصيروا فى حرمة عمرتين، وقد أجمع المسلمون على المنع من ذلك، ومحال عندنا أن يجمعوا على خلاف ما كان من أمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، ما لم يكن مخصوصًا به، وما لم ينسخ بعد فعله إياه. قال المهلب: وقد أشكل حديث عائشة على أئمة الفتوى، فمنهم من أوقف الاضطراب فيه عليها، ومنهم من جعل ذلك من قبيل ضبط الرواة عنها، ومعناه يصح إن شاء الله بترتيبه على موطنه ووقت إخبارها عنه فى المواقيت التى ابتدأ الإحرام منها، ثم أعقب حين دنا من مكة بما أمر من لم يسق الهدى بالفسخ. فأما حديث الأسود عن عائشة فإنها ذكرت فيه البداءة وأنها أهلت بحجة مفردة بذى الحليفة، وأهل الناس كذلك، ثم لما دنوا من مكة أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) من لم يكن ساق الهدى أن يجعلها عمرة، إذ(4/243)
أوحى الله إليه بتجويز الاعتمار فى أشهر الحج فسخة منه تعالى لهذه الأمة ورحمة لهم بإسقاط أحد السفرين عنهم، وأمر من لم يكن معه هدى بالإحلال بعمرة؛ ليرى أمته جوازها، ويعرفهم بنعمة الله عليهم عيانًا وعملا بحضرة النبى عليه السلام. وفى حديث عروة عن عائشة ذكرت أنهم كانوا فى إهلالهم على ضروبٍ: مِنْ مُهلٍّ بحج، ومن مُهلٍّ بعمرة، وجامع بينهما، فأخبرت عمال آل أمر المحرمين، واختصرت ما أهلوا به فى ابتداء إحرامهم، ولم تأت بالحديث على تمامه كما جاء فى حديث عمرة عنها، فإنها ذكرت إحرامهم فى الموطنين، ولذلك قال القاسم: أتتك بالحديث على وجهه. يريد أنها ذكرت الابتداء بالإحرام والانتهاء إلى مكة، وأول حدودها (سرف) ، وما أمر به من الفسخ بعمرة. قال الطحاوى: ودل حديث عروة أنهم عرفوا العمرة فى أشهر الحج بما عرفهم به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وأمرهم به بعد قدومه مكة. قال المؤلف: واحتج من قال بالإفراد بقول مالك: إذا جاء عن النبى عليه السلام حديثان مختلفان وبلغنا أن أبا بكر وعمر عملا بأحد الحديثين وتركا الآخر، فإن فى ذلك دلالة على أن الحق فى ما عملا به. وقال الزهرى: بلغنا أن عمر بن الخطاب قال فى قوله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ) [البقرة: 196] ، قال: من تمامها أن تفرد كل واحدة من الأخرى. وقال ابن حبيب: أخبرنى ابن الماجشون قال: حدثنى الثقات من علماء المدينة وغيرهم أن أول ما أقيم للناس الحج سنة ثمان مرجع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من حنين، فاستخلف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على مكة عتاب بن أسيد فأفرد الحج، ثم حج أبو بكر بالناس سنة تسع فأفرد الحج،(4/244)
ثم قبض رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فاستخلف أبو بكر فأفرد الحج خلافته سنتين، ثم ولى عمر بن الخطاب فلم يشك أحد أن عمر أفرد الحج عشر سنين، وولى عثمان فأفرد الحج اثنتى عشرة سنة. قال ابن الماجشون: وحدثنى ابن أبى حازم، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر أن عليا أفرد الحج، وأفرد ابن عمر ثلاثين سنة متوالية، ما تمتع ولا قرن إلا عامًا واحدًا، وأفردت عائشة كل عام حتى توفيت، قال ابن الماجشون: فعلمنا أن الإفراد هو الذى فعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كاليقين؛ لأنا نعلم بفعل أصحابه بعده، وهم بطانته، أنهم لا يتركون ما فعل، وهكذا قال لى المدنيون والمصريون من أصحاب مالك. وأما نهى عثمان عن المتعة والقران وإهلال على بهما، فإن عثمان اختار ما أخذ به النبى عليه السلام فى خاصة نفسه وما أخذ به أبو بكر وعمر، ورأى أن الإفراد أفضل عنده من القران والتمتع. والقران عند جماعة من العلماء من معنى التمتع لاتفاقهما فى المعنى، وذلك أن القارن يتمتع بسقوط سفره الثانى من بلده كما يصنع المتمتع الذى يحل من عمرته، وكذلك يتفقان فى الهدى والصوم لمن لم يجد هديًا عند أكثر العلماء. قال المهلب: وأما قول من اختار القران؛ لأنه الذى فعل النبى عليه السلام فإنه يفسد من وجهين: أحدهما: توهين قول أنس بما رواه مروان الأصفر عن أنس نفسه أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال لِعَلىٍّ: (لولا أن معى الهدى لأحللت) فبان بهذا أن النبى عليه السلام لم يكن قارنًا؛(4/245)
لأن القارن لا يجوز له الإحلال، كان معه هدى أو لم يكن، وهذا إجماع. والوجه الآخر: أن التمتع والقران رخصتان، والإفراد أصل، ومحال أن تكون الرخصة أفضل من الأصل؛ لأن الدم الذى يدخل فى التمتع والقران جبران، وهو يجب لإسقاط أحد السفرين أو لترك شىء من الميقات؛ لأنه لو لم يقرن وأتى بكل واحدة منهما مفردة بعد ألا تكون العمرة فعلت فى شهور الحج، وأتى بكل واحدة من ميقاتها، لما وجب عليه دم. وقد أَنْكَر القرانَ على أنسٍ: عائشةُ وابنُ عمر وجعلاه من وهمه، وقالا: كان أنس يدخل على النساء وهن منكشفات يصفانه بصغر السن وقلة الضبط لما خالف فيه الجماعة، هذا قول المهلب، قال: وأما حجة من قال بالتمتع وأن النبى عليه السلام كان متمتعًا بحديث ابن عمر، فهى مردودة بما رواه البخارى فى حديث ابن عمر مما يرد به على نفسه، وهو حديث مسدد، قال: حدثنا بشر ابن المفضل، حدثنا حميد الطويل، حدثنا بكر أنه ذكر لابن عمر أن أنسًا حدثهم (أن النبى عليه السلام أهل بعمرة وحجة، فقال ابن عمر: أهل الرسول (صلى الله عليه وسلم) بالحج وأهللنا به، فلما قدمنا مكة قال النبى عليه السلام: من لم يكن معه الهدى فليجعلها عمرة، وكان معه النبى عليه السلام هدى. . .) . وذكر الحديث. ذكره البخارى فى المغازى فى باب: (بعثه عليا وخالد بن الوليد(4/246)
إلى اليمن قبل حجة الوداع) ، وأيضًا قوله فى حديث عائشة: (لو استقبلت من أمرى ما استدبرت ما سقت الهدى، ولجعلتها عمرة) وهذا نص قاطع أنه عليه السلام لم يهل بعمرة، وليس فى قوله: (لو استقبلت من أمرى ما استدبرت، ما سقت الهدى، ولجعلتها عمرة) دليل أن التمتع أفض من القران كما زعم أحمد بن حنبل، وإنما قال ذلك من أجل ما كَبُرَ عليهم مخالفة فعله لفعلهم حين بقى على إحرامه ولم يحل معهم حين أمرهم بفسخ الحج والإحلال وإصابة النساء، فشق ذلك عليهم وقالوا: لما لم يكن بيننا وبين عرفة إلا خمس، أمرنا أن نحل إلى نسائنا فنأتى عرفة تقطر مذاكرنا المنى، فآنستهم النبى عليه السلام وقال لهم: (قد علمتم أنى أصدقكم لله وأبركم، ولولا هدبى لتحللت كما تحلون) فسكنوا إلى قوله وطابت نفوسهم، وسأذكر ما روى عن عروة، عن عائشة مما يوهم أن النبى عليه السلام تمتع، فى باب: من ساق الهدى معه إن شاء الله وأبين الشبهة فيه. وأما قول أهل مكة لأبى شهاب حين قدم مكة متمتعًا: تصير حجتك الآن مكية، فمعنى ذلك أنه ينشئ حجة من مكة إذا فرغ من تمتعه كما ينشئ أهل مكة الحج من مكة؛ لأنها ميقاتهم للحج؛ لأن غير أهل مكة إن أحلوا من العمرة فى أشهر الحج، وأنشئوا الحج من عامهم دون أن يرجعوا إلى أُفُقِهم أو أُفُقٍ مثل أُفُقهِم فى البعد، فعليهم فى ترك ذلك الدم. ولو خرج إلى الميقات بعد تمام العمرة ليهل بالحج منه لم يسقط ذلك عنه الدم عند مالك وأصحابه إلا أن يكون الميقات أُفُقه أو مثل(4/247)
أُفقه، وأما حديث حفصة وقولها: (ما شأن الناس حلوا ولم تحل من عمرتك) فإنه يوهم أنه عليه السلام أهل بعمرة وأنه تمتع؛ لأن الإحلال كان لمن تمتع، فهو توهم فاسد، وذكر (عمرتك) فى هذا الحديث وتركها سواء؛ لأن المأمورين بالحل هم المحرمون بالحج ليفسخوه فى عمرة، ويستحيل أن يأمر بذلك المحرمين بعمرة؛ لأن المعتمر يحل بالطواف والسعى والحلاق، لا شك فى ذلك عندهم، وقد اعتمروا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عُمَرًا، وعرفوا حكم العمرة فى الشريعة، فلم يكن يعرفهم بشىء فى علمهم، بل عرفهم بما أحل الله لهم فى عامهم ذلك من فسخ الحج فى عمرة لما أنكروه من جواز العمرة فى زمن الحج. وللعلماء فى قول حفصة: (ما شأن الناس حلوا ولم تحل من عمرتك؟) ضروب من التاويل، فقال بعضهم: إنما قالت له ذلك لأنها ظنت أنه عليه السلام كان فسخ حجه فى عمرة كما أمر بذلك من لا هدى معه من أصحابه وهم الأكثر، فذكر لها عليه السلام العلة المانعة من الفسخ، وهى سوقه للهدى، فبان أن الأمر ليس كما ظننته. وقيل: معناه ما شأن الناس حلوا من إحرامهم، ولم تحل أنت من إحرامك الذى ابتدأته معهم بنية واحدة، بدليل قوله: (لو استقبلت من أمرى ما استدبرت ما سقت الهدى، ولجعلتها عمرة) . فعلم بهذا أنه لم يحرم بعمرة، هذا قول ابن القصار. وقيل: معناه: لِمَ لَمْ تحل من حجك بعمرة كما أمرت أصحابك؟ وقالوا: قد تأتى (من) بمعنى (الباء) ، كما قال تعالى:(4/248)
) يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [الرعد: 11] أى بأمر الله، تريد لم تحل أنت بعمرة من إحرامك الذى جئت به مفردًا فى حجتك. وأما قول ابن عباس لأبى جمرة فى المتعة: هى السنة، فمعنى ذلك أن كل ما فى أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) بفعله فهو سنة، وكذلك معنى قول على لعثمان فى القران: ما كنت لأدع سنة النبى عليه السلام لقول أحد، يعنى: سنته التى أمر بها؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) فعل فى خاصته غيرها وهو الإفراد. وأما فسخ الحج فى عمرة فهو فى حديث عائشة وابن عباس وجابر وغيرهم، فالجمهور على تركه، وأنه لا يجوز فعله بعد النبى عليه السلام وليس لأحد دخل فى حجة أن يخرج منها إلا بتمامها، ولا يحله منها شىء قبل يوم النحر من طواف ولا غيره، وإنما أمر به أصحابه ليفسخ ما كان عليه أهل الجاهلية من تحريم العمرة فى أشهر الحج؛ لأنه خشى عليه السلام حلول أجله قبل حجة أخرى فيجعلها عمرة فى أشهر الحج. فلما لم يتسع له العمر بما استدل عليه من كتاب الله ومن قرب أجله، أمرهم بالفسخ وأحل لهم ما كانت الجاهلية تحرمه من ذلك، وقد قال أبو ذر: ما كان لأحد بعده أن يحرم بالحج ثم يفسخه فى عمرة. رواه الأعمش عن إبراهيم التيمى، عن أبيه، عن أبى ذر، ورواه الليث عن المرقع بن صيفى الأسدى، عن أبى ذر، وروى ذلك عن عثمان بن عفان، رواه أبو عوانة عن معاوية بن إسحاق، عن إبراهيم(4/249)
التيمى، عن أبيه، عن عثمان، عن عمر بن الخطاب أنه قال: (إن الله تعالى كان يخص نبيه بما شاء، وإنه قد مات فأتموا الحج والعمرة لله تعالى) . وقال جابر: (المتعتان فعلناهما على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، نهى عمر عنهما فلن نعود إليهما) يعنى: فسخ الحج ومتعة النساء. وروى ربيعة بن عبد الرحمن عن الحارث بن بلال بن الحارث المزنى، عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، أفسخ الحج لنا خاصة أم لمن بعدنا؟ قال (صلى الله عليه وسلم) : (بل لنا خاصة) . قال الطحاوى: ولا يجوز للصحابة أن يقولوا هذا بآرائهم، وإنما قالوه من جهة ما وقفوا عليه؛ لأنهم لا يجوز لهم ترك ما فعلوه مع النبى عليه السلام من الفسخ إلا بتوقيف منه إياهم على الخصوصية بذلك، ومنع من سواهم منه، فثبت أن الناس جميعًا بعدهم ممنوعون من الخروج من الحج إلا بتمامه إلا أن يُصَدُّوا. ووجه ذلك من طريق النظر أنه من أحرم بعمرة فطاف لها وسهى أنه قد فرغ منها، وله أن يحلق ويحل، هذا إذا لم يكن ساق هديًا، ورأيناه إذا ساق الهدى لمتعته، فطاف لعمرته وسعى لم يحل حتى جاء يوم النحر فيحل منها ومن حجته إحلالاً واحدًا، فكان الهدى الذى ساقه لمتعته التى لا يكون عليه فيها هدى إلا بأن يحج؛ يمنعه من أن يحل بالطواف إلا يوم النحر؛ لأن عقد إحرامه هكذا؛ كان أن يدخل فى عمرة فيتمها، فلا يحل منها حتى يحرم بحجة ثم يحل منها ومن العمرة التى قدمها قبلهما معًا. وكانت العمرة لو أحرم بها منفردة حل منها بعد فراغه منها إذا حلق(4/250)
ولم ينتظر يوم النحر، وكان إذا ساق الهدى لحجه يحرم بها بعد فراغه من تلك العمرة بقى على إحرامه إلى يوم النحر، فلما كان الهدى الذى هو من سبب الحج يمنعه الإحلال بالطواف بالبيت قبل يوم النحر، كان دخوله فى الحج أحرى أن يمنعه من ذلك إلى يوم النحر. قال المؤلف: ولم يُجِزْ فسخ الحج أحد من الصحابة إلا ابن عباس، وتابعه أحمد بن حنبل وأهل الظاهر، وهو شذوذ من القول، والجمهور الذين لا يجوز عليهم تحريف التاويل هم الحجة التى يلزم اتباعها. قال المهلب: فى حديث عائشة الأول فى قولها: (فلما قدمنا تطوفنا بالبيت) تفسير لقول من قال فى العمرة: (صنعناها مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) يعنى: أنه عليه السلام صنعها أمرًا لا فعلاً؛ لأنه معلوم أن عائشة لم تطف لأنها كانت حائضًا، وإنما حكت عمن طاف. وقوله: (ما طفتِ ليالى قدمنا مكة) يعنى لم تُحِلِّى من حجتك بعمرة كما حل الناس بالطواف بالبيت والسعى، قالت: (لا، فأمر أخاها فأعمرها إذ لم تعتمر قبل) . وقول صفية: (ما أرانى إلا حابستهم) أى حتى أطهر من حيضتى وأطوف طواف الوداع؛ لأنها قد كانت طافت طواف الإفاضة المفترض وهى طاهر، قال مالك: والمرأة إذا حاضت بعد الإفاضة فلتنصرف إلى بلدها، فإنه قد بلغنا فى ذلك رخصة من النبى (صلى الله عليه وسلم) للحائض، يعنى حديث صفية، وستأتى مذاهب العلماء فى من ترك طواف الوداع فى باب: إذا حاضت المرأة بعدما أفاضت إن شاء الله. قال المهلب: وأما قوله فى حديث ابن عباس: (كانوا يجعلون المحرم صفر) فهو النسئ الذى قال الله تعالى يحلون الشهر(4/251)
الحرام أعنى المحرم، ويحرمون الحلال: صفر، أى يؤخرون حرمة الحرام إلى الحلال صفر. قوله: (فتعاظم ذلك) أى تعاظم مخالفة العادة التى كانوا عليها من تأخيرالعمرة عن أشهر الحج، فسألوه عن الإحلال فقالوا: (أى الحل؟) إحلال الطيب والمخيط كما يحل مَنْ رمى جمرة العقبة وطاف للإفاضة أم غيره، فأخبرهم أنه الحل كله بإصابة النساء. وقول أبى موسى: (قدمت على النبى عليه السلام فأمره بالحل) يريد أنه أمره بالفسخ لما لم يكن معه هدى، كما أمر أصحابه الذين لا هدى لهم، وأما أبو جمرة فإنه خشى من التمتع حبوط الأجر ونقصان الثواب للجمع بينهما فى سفر واحد وإحرام واحد، وكان الذين أمروه بالإفراد إنما أمروه بفعل النبى عليه السلام فى خاصة نفسه لينفرد الحج وحده، ويخلص عمله من الاشتراك فيه، فأراه الله الرؤيا ليعرفه أن حجه مبرور وعمرته متقلبة فى حال الاشتراك، ولذلك قال له ابن عباس: (أقم عندى) ليقص على الناس هذه الرؤيا المثبتة لحل التمتع، وفى هذا دليل أن الرؤيا الصادقة شاهد على أمور اليقظة. وفى قوله: (أجعل لك سهمًا من مالى) أن العالم يجوز له أخذ الأجرة على العلم والله أعلم. وقوله: (عَقْرى حَلْقى) دعاء عليها، وقد اختلف فى معناه، فقيل: معناه: عقرها الله وأصابها بوجع فى حلقها، وقيل: هو من(4/252)
حلق الرأس، وسأذكر أقوال أهل اللغة فى هذه الكلمة وأتقصاه فى كتاب الدب فإنه بوب لها بابًا إن شاء الله.
31 - باب مَنْ لَبَّى بِالْحَجِّ وَسَمَّاهُ
/ 46 - فيه: جَابِر، قَدِمْنَا مَعَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، وَنَحْنُ نَقُولُ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ، لَبَّيْكَ بِالْحَجِّ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَجَعَلْنَاهَا عُمْرَةً. / 47 - وفيه: عِمْرَان، تَمَتَّعْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَنَزَلَ الْقُرْآنُ، قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ. قال المؤلف: السنة لمن أراد الحج أن ينويه ويسميه عند التلبية به، وكذلك فى التمتع والقران، وعلى هذا جمهور الفقهاء؛ لقوله عليه السلام: (الأعمال بالنيات) وهذا الباب خلاف على الشافعى، فإنه يجيز أن ينعقد الحج بإحرام من غير تعيين إفراد أو قران أو تمتع، وقد تقدم هذا مستقصى فى باب: من أهل فى زمن النبى عليه السلام كإهلال النبى. ومعنى حديث عمران فى هذا الباب كمعنى حديث جابر فى التلبية بالحج والتسمية له، ووجه ذلك أن عمران لم يكن ليقدم على القول عن نفسه وعن أصحابه أنهم تمتعوا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلا وأنهم قد أسمع بعضهم بعضًا تلبيتهم للحج وتسميتهم له، ولولا ما تقدم لهم قبل تمتعهم من تسمية الحج والإهلال به لم يعلم عمران إن كانوا قصدوا مكة بحج أو عمرة، إذ عملهما واحد إلى موضع الفسخ، والفسخ لم يكن حينئذ إلا للمفردين بالحج، وهو الذين تمتعوا بالعمرة ثم حلوا ثم أحرموا بالحج، فدل هذا كله على أنه لابد(4/253)
من تعيين الحج أو العمرة عند الإهلال، وإن كان ذلك مفتقرًا إلى النية عند الدخول فيه. قال المهلب: وقول عمران: (تمتعنا على عهد النبى عليه السلام ونزل القرآن) فإنه يريد أن التمتع والقران معمول به على عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم ينسخه شئ، ونزل القرآن بإباحة العمرة فى أشهر الحج فى قوله تعالى: (فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ) [البقرة: 196] وقوله: (قال رجل برأيه ما شاء) يعنى: من تركه والأخذ به، وأن الرأى بعد النبى عليه السلام باختيار الإفراد لا ينسخ ما سَنَّهُ من التمتع والقرانِ.
32 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) [البقرة: 196]
/ 48 - فيه: ابْن عَبَّاسٍ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ، فَقَالَ: أَهَلَّ الْمُهَاجِرُونَ وَالأنْصَارُ وَأَزْوَاجُ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَأَهْلَلْنَا، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (اجْعَلُوا إِهْلالَكُمْ بِالْحَجِّ عُمْرَةً إِلا مَنْ قَلَّدَ الْهَدْىَ) ، فَطُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَأَتَيْنَا النِّسَاءَ، وَلَبِسْنَا الثِّيَابَ، وَقَالَ: (مَنْ قَلَّدَ الْهَدْىَ، فَإِنَّهُ لا يَحِلُّ لَهُ: (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ () ، ثُمَّ أَمَرَنَا عَشِيَّةَ التَّرْوِيَةِ أَنْ نُهِلَّ بِالْحَجِّ، فَإِذَا فَرَغْنَا مِنَ الْمَنَاسِكِ جِئْنَا فَطُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَقَدْ تَمَّ حَجُّنَا وَعَلَيْنَا الْهَدْىُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِى الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ (إِلَى أَمْصَارِكُمُ، الشَّاةُ تَجْزِى، فَجَمَعُوا نُسُكَيْنِ فِى عَامٍ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَهُ فِى كِتَابِهِ وَسَنَّهُ نَبِيُّهُ، وَأَبَاحَهُ لِلنَّاسِ غَيْرَ أَهْلِ مَكَّةَ، قَالَ:(4/254)
) ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ (وَأَشْهُرُ الْحَجِّ الَّتِى ذَكَرَ اللَّهُ: شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحَجَّةِ، فَمَنْ تَمَتَّعَ فِى هَذِهِ الأشْهُرِ فَعَلَيْهِ دَمٌ أَوْ صَوْمٌ، وَالرَّفَثُ: الْجِمَاعُ، وَالْفُسُوقُ: الْمَعَاصِى، وَالْجِدَالُ: الْمِرَاءُ. اختلف العلماء: فى حاضرى المسجد الحرام مَنْ هُمْ؟ فذهب طاوس ومجاهد إلى أنهم أهل الحرم، وقالت طائفة: هم أهل مكة بعينها، روى هذا عن نافع مولى ابن عمر، وعن عبد الرحمن الأعرج، وهو قول مالك، قال: هم أهل مكة، ذى طوى وشبهها، وأما أهل منى وعرفة والمناهل مثل قديد وعسفان ومَرُّ الظهران فعليهم الدم. وذهب أبو حنيفة إلى أنهم أهل المواقيت فمن دونهم إلى مكة، وقال مكحول: من كان منزله دون المواقيت إلى مكة فهو من حاضرى المسجد الحرام، وأما أهل المواقيت فهم كسائر أهل الآفاق، روى هذا عن عطاء، وبه قال الشافعى بالعراق، وقال الشافعى: من كان من الحرم على مسافة لا يقصر فى مثلها الصلاة، فهو من حاضرى المسجد الحرام. قال الطحاوى: ولما اختلفوا فى ذلك نظرنا فوجدنا أصحابنا الكوفيين يقولون: لكل من كان من حاضرى المسجد الحرام دخول مكة بغير إحرام، إذ كانوا قد جعلوا المكان الذى هم من أهله كمكة، واحتجوا فيه بما روى مالك عن نافع، عن ابن عمر: (أنه أقبل من مكة حتى إذا كان بقديد بلغه خبر من المدينة، فرجع فدخل(4/255)
مكة حلالا) ؛ فدل هذا على أن أهل قديد كأهل مكة، وقد روى عن ابن عباس خلاف هذا، وروى عنه عطاء أنه كان يقول: لا يدخل أحد مكة إلا محرمًا، وقال ابن عباس: (لا عمرة على المكى إلا أن يخرج من الحرم فلا يدخله إلا حرامًا وإن خرج قريبًا من مكة) ، فهذا ابن عباس قد منع الناس جميعًا من دخول مكة بغير إحرام، فدل هذا أن من كان غير أهل مكة فهو عنده مخالف لحكم أهل مكة، ويدل على صحة هذا المعنى قوله عليه السلام: (إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، ولم تحل لأحد قبلى، ولم تحل لى إلا ساعة من نهار) . أو لا ترى أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قصد بالحرمة إلى مكة دون ما سواها، فدل ذلك أن سائر الناس سوى أهلها فى حرمة دخولهم إياها سواء، فثبت بذلك قول ابن عباس، وفى ثبوت ذلك ما يجب به أن حاضرى المسجد الحرام هم أهل مكة خاصة، كما قال نافع والأعرج، لا كما قال أبو حنيفة وأصحابه. قال إسماعيل بن إسحاق: ومن الحجة لمالك أن حاضرى المسجد الحرام أهل القرية التى فيها المسجد الحرام خاصة، وليس أهل الحرم كذلك؛ لأنه لو كان كذلك لما جاز لأهل مكة إذا أرادوا سفرًا أن يقصروا الصلاة حتى يخرجوا عن الحرم كله، فلما جاز لهم قصر الصلاة إذا خرجوا عن بيوت مكة، دل ذلك على أن حاضرى المسجد الحرام هم اهل مكة دون الحرم، قاله الأبهرى. قال إسماعيل: وأما قول من قال: من كان أهله دون المواقيت، فإن المواقيت ليس من هذا الباب فى شئ؛ لأنها لم تجعل للناس؛ لأنها حاضرة المسجد؛ ألا ترى أن بعض المواقيت بينها وبين مكة مسيرة(4/256)
ثمان ليال، وبين بعضها وبين مكة مسيرة ليلتين، فيكون من كان دون ذى الحليفة إلى مكة من حاضرى المسجد الحرام وبينه وبين مكة ثمان ليال، ومن كان منزله من وراء قرن مما يلى نجد ألا يكون من حاضرى المسجد الحرام، وإنما بينه وبين مكة مسيرة ليلتين وبعض أخرى، وإنما الحاضر للشىء من كان معه، فكيف يجعل من هو أبعد حاضرًا ومن هو أقرب ليس بحاضرٍ؟ ودليل آخر: وهو قوله تعالى: (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْىَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) [الفتح: 25] فهذا يدل أنه المسجد الحرام نفسه، وإنما صد المشركون النبى (صلى الله عليه وسلم) عن المسجد وعن البيت، فأما الحرم فقد كان غير ممنوع منه؛ لأن الحديبية تلى الحرم، وهذا قاطع لطاوس ومجاهد. قال المؤلف: وأما قول ابن عباس فى التمتع: (فإن الله أنزله فى كتابه وسنة نبيه، وأباحه للناس غير أهل مكة) فإن مذهبه أن أهل مكة لا متعة لهم، وذلك والله أعلم لأن العمرة لابد فى الإحرام بها من الخروج إلى الحل، ومن كان من أهل مكة فهى داره لا يمكنه الخروج منها، وهى ميقاته فى الإحرام بالحج، وقد صرح بذلك ابن عباس فقال: (يا أهل مكة، لا متعة لكم، إنما يجعل أحدكم بينه وبين مكة بطن واد، ويُهِلُّ) . وهذا مذهب أبى حنيفة وأصحابه، قالوا: ليس لأهل مكة تمتع ولا قران، فإن فعلوا فعليهم الدم، وأوجب ابن الماجشون الدم للقران ولم يوجبه للتمتع، واعتل ابن الماجشون بأن القارن قارن من حيثما حج، والمتمتع إنما هو المعتمر من بلده فى أشهر الحج المقيم(4/257)
بمكة حتى يحج، ومن كان أهلها فهى داره لا يمكنه الخروج منها إلى غير داره، وقد وضع الله ذلك عنه، ولم يذكر القارن. قال ابن القصار: وهذا خطأ؛ لأنه إذا جاز التمتع لأهل مكة فقد جاز لهم القران؛ لأنه لا فرق بينهما، واحتج أبو حنيفة بأن الاستثناء عنده فى الآية راجع إلى الجملة لا إلى الدم، قال: ولو رجع إلى الدم لقال: (ذلك على من لم يكن أهله) ، وقول القائل: إن لفلان كذا يفيد نفى الإيجاب عليه، ولهذا لا يقال: له الصلاة والصوم، وإنما يقال: عليه الصلاة والصوم. قال ابن القصار محتجا لمالك: قوله تعالى: (فَمَن تَمَتَّعَ (لفظ يقتضى إباحة التمتع، ثم علق عليه حكمًا وهو الهدى، ثم استثنى فى آخرها أهل مكة، والاستثناء إذا وقع بعد فعل قد علق عليه حكم انصَرف إلى الحكم المعلق على الفعل لا إلى الفعل نفسه، فأهل مكة وغيرهم فى إباحة التمتع الذى هو الفعل سواء، والفرق بينهم فى الاستثناء يعود إلى الدم؛ لأنه الحكم المعلق على التمتع، وهذا بمنزلة قوله عليه السلام: (من دخل دار أبى سفيان فهو آمن، ومن دخل منزله فهو آمن) فلو وصله بقوله: ذلك لمن لم يكن من أهل القينتين أو لغير ابن خطل لم يكن ذلك الاستثناء عائدًا إلا إلى الأمر، لا إلى الدخول، ولا يكون سائر الناس ممنوعين من دخول منازلهم ومنزل أبى سفيان، بل إن دخلوا فلهم الأمان كلهم إلا ابن خطل والقينتين ومن استثنى معهم.(4/258)
وقوله: (فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ (لو تجرد من تمامه لم يعد كقوله: زيد لا يفيد بانفراده حتى يخبر عنه بقائم أو قاعد أو غيره، فكذلك قوله: (فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ (لا يفيد شيئًا حتى يخبر عن حكمه، قوله: (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ (هو الحكم الذى به تتم الفائدة. والفوائد إنما هى فى الأحكام المعلقة على أفعال العباد لا على أسمائهم، ومثله: (فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ) [الحجر: 30، 31] معناه: فإنه لم يسجد فلم تكن الفائدة فى الاستثناء راجعة إلا إلى نفى السجود الذى به يتم الكلام. قال غيره: فإنما أوجب الله الدم على المتمتع غير المكى؛ لأنه كان عليه أن يأتى مُحْرمًا بالحج من داره فى سفر، وبالعمرة فى سفر ثان، فلما تمتع بإسقاط أحد السفرين أوجب الله عليه الهدى، فكذلك القارن هو فى معنى المتمتع لإسقاط أحد السفرين، ودلت الآية على أن أهل مكة بخلاف هذا المعنى؛ لأن إهلالهم بالحج خاصة من مكة، ولا خروج لهم إلى الحل للإهلال إلا بالعمرة خاصة، فإذا فعلوا ذلك لم يُسْقِطُوا سفرًا لزمهم فلا دم عليهم، ففارقوا سائر أهل الآفاق فى هذا، وقد تقدم اختلافهم فيمن أحرم من مكة بالعمرة ولم يخرج إلى الحل للإحرام فى باب: مهل أهل مكة للحج والعمرة.(4/259)
33 - باب الاغْتِسَالِ عِنْدَ دُخُولِ مَكَّةَ
/ 49 - فيه: ابْنُ عُمَرَ، أنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ [أَدْنَى] الْحَرَمِ أَمْسَكَ عَنِ التَّلْبِيَةِ، ثُمَّ يَبِيتُ بِذِى طِوًى، ثُمَّ يُصَلِّى بِهِ الصُّبْحَ، وَيَغْتَسِلُ، وَيُحَدِّثُ أَنَّ نَبِىَّ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ. قال ابن المنذر: الاغتسال لدخول مكة مستحب عند جميع العلماء، إلا أنه ليس فى تركه عامدًا عندهم فدية، وقال أكثرهم: الوضوء يجزئ منه، وكان ابن عمر يتوضأ أحيانًا ويغتسل أحيانًا، وروى ابن نافع عن مالك أنه استحب الأخذ بقول ابن عمر فى الغسل للإهلال بذى الحليفة، وبذى طوى لدخول مكة، وعند الرواح إلى عرفة. قال: ولو تركه تارك من عذر لم أر عليه شيئًا، وقال ابن القاسم عن مالك: إن اغتسل بالمدينة وهو يريد الإحرام ثم مضى من فوره إلى ذى الحليفة فأحرم، فإِنَّ غسله يجزئ عنه، قال: وإن اغتسل بالمدينة غدوة وأقام إلى العشى ثم راح إلى ذى الحليفة فلا يجزئه، وأوجبه أهل الظاهر فرضًا على من أراد أن يحرم وإن كان طاهرًا، والأمة على خلافهم، وروى عن الحسن: إذا نسى الغسل للإحرام يغتسل إذا ذكر، واختلف فيه عن عطاء، فقال مرة: يكفى منه الوضوء، وقال مرة غير ذلك. قال المهلب: وإنما أمسك ابن عمر عن التلبية فى أول الحرم؛ لأنه تأول أنه قد بلغ إلى الموضع الذى دعى إليه، ورأى أن يكبر الله ويعظمه ويسبحه؛ إذ قد سقط عنه معنى التلبية بالبلوغ، وكره مالك التلبية حول البيت، وقال ابن عيينة: ما رأيت أحدًا يُقْتَدى به(4/260)
يلبى حول البيت إلا عطاء بن السائب. وروى عن سالم أنه كان يلبى فى طوافه، وبه قال ربيعة والشافعى وأحمد وإسحاق، فَكُل وَاسِعٌ.
34 - باب دُخُولِ مَكَّةَ نَهَارًا ولَيْلا
/ 50 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ: بَاتَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بِذِى طُوًى حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ دَخَلَ مَكَّةَ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ. ذو طوى بضم الطاء: موضع بمكة، مقصور، وذو طوى بفتح الطاء: موضع باليمن، ممدود، قاله بعض أهل اللغة، وليس دخوله عليه السلام مكة إذا أصبح بأمر لازم لا يجوز تركه، ودخولها فى كل وقت واسع.
35 - باب مِنْ أَيْنَ يَدْخُلُ مَكَّةَ
/ 51 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، كَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَدْخُلُ مِنَ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا، وَيَخْرُجُ مِنَ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى.
36 - باب مِنْ أَيْنَ يَخْرُجُ مِنْ مَكَّةَ؟
/ 52 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، دَخَلَ مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ مِنَ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا الَّتِى بِالْبَطْحَاءِ، وَخَرَجَ مِنَ كَدَاءِ مِنَ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى. / 53 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، لَمَّا جَاءَ إِلَى دَخَلَ مَكَّةَ مِنْ أَعْلاهَا،(4/261)
وَخَرَجَ مِنْ أَسْفَلِهَا. وقالت مرة: دَخَلَ، عليه السَّلام، مِنْ كَدَاءٍ، وَخَرَجَ مِنْ كُدًا مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ. وَكَانَ عُرْوَةُ يَدْخُلُ عَلَى كِلْتَيْهِمَا، وَأَكْثَرُ مَا يَدْخُلُ مِنْ كَدَاءٍ، وَكَانَتْ أَقْرَبَهُمَا إِلَى مَنْزِلِهِ. قال المهلب: أما دخوله عليه السلام مرة من أعلى مكة ومرة من أسفلها، فإنما فعله ليعلم الناس السعة فى ذلك، وأن ما يمكن لهم منه فمجزئ عنهم والله أعلم ألا ترى أن عروة كان يفعل ذلك، وإذا فتحت الكاف من كَدَاء مددت، وإذا ضممتها قصرت، وقد قيل: كدى بالضم هو أعلى مكة، وقيل: بل كداء بفتح الكاف أعلى مكة، وهو أصح.
37 - باب فَضْلِ مَكَّةَ وَبُنْيَانِهَا
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا (إلى قوله: (إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة: 125 - 128] . / 54 - فيه: جَابِر، لَمَّا بُنِيَتِ الْكَعْبَةُ ذَهَبَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، وَعَبَّاسٌ يَنْقُلانِ الْحِجَارَةَ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ لِلنَّبِىِّ، عليه السَّلام: اجْعَلْ إِزَارَكَ عَلَى رَقَبَتِكَ، فَخَرَّ إِلَى الأرْضِ، وَطَمَحَتْ عَيْنَاهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: (أَرِنِى إِزَارِى، فَشَدَّهُ عَلَيْهِ) . / 55 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، قَالَ لَهَا: (أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ قَوْمَكِ لَمَّا بَنَوُا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَلى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ) ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلا تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: (لَوْلا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَفَعَلْتُ) ، فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ: لَئِنْ كَانَتْ عَائِشَةُ سَمِعَتْ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مَا أُرَى(4/262)
رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) تَرَكَ اسْتِلامَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحِجْرَ إِلا أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يُتَمَّمْ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ. / 56 - وفيه: عَائِشَةَ، سَأَلْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، عَنِ الْجَدْرِ أَمِنَ الْبَيْتِ هُوَ؟ قَالَ: (نَعَمْ) ، قُلْتُ: فَمَا لَهُمْ لَمْ يُدْخِلُوهُ فِى الْبَيْتِ؟ قَالَ: (إِنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ) ، قُلْتُ: فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا؟ قَالَ: (فَعَلَ ذَلِكَ قَوْمُكِ لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا، وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا، وَلَوْلا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ، فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الْجَدْرَ فِى الْبَيْتِ وَأَنْ أُلْصِقَ بَابَهُ بِالأرْضِ) . / 57 - وقالت: قال عليه السَّلام: (لأمَرْتُ بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ، فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ، وَأَلْزَقْتُهُ بِالأرْضِ، وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا، وَبَابًا غَرْبِيًّا، فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ) . فَذَلِكَ الَّذِى حَمَلَ ابْنَ الزُّبَيْرِ عَلَى هَدْمِهِ. قَالَ يَزِيدُ: وَشَهِدْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ حِينَ هَدَمَهُ وَبَنَاهُ وَأَدْخَلَ فِيهِ مِنَ الْحِجْرِ، وَقَدْ رَأَيْتُ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ حِجَارَةً كَأَسْنِمَةِ الإبِلِ. قَالَ جَرِيرٌ: فَقُلْتُ لَهُ: أَيْنَ مَوْضِعُهُ؟ قَالَ: أُرِيكَهُ الآنَ، فَدَخَلْتُ مَعَهُ الْحِجْرَ، فَأَشَارَ إِلَى مَكَانٍ، فَقَالَ: هَاهُنَا، قَالَ جَرِيرٌ: فَحَزَرْتُ مِنَ الْحِجْرِ سِتَّةَ أَذْرُعٍ أَوْ نَحْوَهَا. قال المؤلف: قد ذكر الله فضل مكة فى غير موضع من كتابه، ومن أعظم فضلها أنه تعالى فرض على عباده حجها، وألزمهم قصدها، ولم يقبل من أحد إلا باستقبالها، وهى قبلة أهل دينه أحياءً وأمواتًا.(4/263)
وفى حديث عائشة معرفة بنيان قريش الكعبة، وقد بناها إبراهيم عليه السلام قبل ذلك، وقيل: إن آدم خط البيت قبل إبراهيم، وقد نقل فيه النبى عليه السلام الحجارة مع عمه العباس وقريش فى الجاهلية. وذكر أهل السير أن قريشًا لما بنت الكعبة وبلغت موضع الركن اختصمت فى الركن، أى القبائل يلى رفعه، فقالوا: تعالوا نحكم أول رجل يطلع علينا، فطلع النبى عليه السلام فحكموه وسموه الأمين، وكان ذلك الوقت ابن خمس وثلاثين سنة فيما ذكر ابن إسحاق، فأمر بالركن فوضع فى ثوب، ثم أَمَر سَيِّدَ كُلِّ قبيلةٍ فأعطاه ناحية من الثوب، ثم ارتقى هو فرفعوا إليه الركن فوضعه عليه السلام بيده، فعجبت قريش من سداد رأيه. وكان الذى أشار بتحكيم أول رجل يطلع عليهم أبو أمية ابن المغيرة، والد أم سلمة زوج النبى عليه السلام، وكان عامئذٍ أسَنَّ قريش كلها، وقد ذكر الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه إنما امتنع من رده على قواعد إبراهيم خشية إنكار قريش لذلك. وفى هذا من الفقه أنه يجب اجتناب ما يُسْرِعُ الناس إلى إنكاره وإن كان صوابًا، وقد روى أن هارون الرشيد ذكر لمالك بن أنس أنه يريد هدم ما بناه الحجاج من الكعبة، وأن يرده إلى بنيان ابن الزبير، فقال له: ناشدتك الله يا أمير المؤمنين أن لا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك، لا يشاء أحد منهم إلا نقض البيت وبناه، فتذهب هيبته من صدور الناس. وفى الحديث دليل أن الحجر من البيت، وإذا كان ذلك فإدخاله واجب فى الطواف.(4/264)
واختلف العلماء فيمن سلك الحجر فى طوافه، فكان عطاء، ومالك، والشافعى، وأحمد، وأبو ثور يقولون: يقضى ما طاف قبل أن يسلك فيه، ولا يعتد بما طاف فى الحجر، وقال أبو حنيفة: إن كان بمكة قضى ما بقى عليه، وإن رجع إلى بلده فعليه دم، واحتج المهلب وأخوه لهذا القول فقالا: إنما عليه أن يطوف بما بنى من البيت؛ لأن الحكم للبنيان لا للبقعة، لقوله تعالى: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج: 29] أشار إلى البناء، والبقعة دون البناء لا تسمى بيتًا، والنبى عليه السلام إنما طاف بالبيت ولم يكن على الحجر علامة، وإنما علمها عمر إرادة استكمال البيت. ذكر ذلك عبيد الله بن أبى يزيد وعمرو بن دينار فى باب بنيان الكعبة فى آخر مناقب الصحابة فى هذا الديوان، قالا: (لم يكن حول البيت حائط، إنما كانوا يصلون حول البيت، حتى كان عمر فبنى حوله حائطًا جَدْرُهُ قصير، فبناه ابن الزبير) وكذلك كان الطواف قبل تحجير عمر حول البيت الذى قصرته قريش عن القواعد كما قال تعالى: (وَطَهِّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ) [الحج: 26] ، والطواف فرضه البيت المبنى ولو كان ذراعًا منه، وقد حج الناس من زمن النبى عليه السلام إلى زمن عمر فلم يؤمر أحد بالرجوع من بلده إلى استكمال. وقد قال مالك: من حلف لا يدخل دار فلان، فهدمت فدخلها أنه لا يحنث، فهذا يدل أن الدار والبيت إنما يخص بالبنيان لا بالبقعة. قال المهلب: ومعنى قول عبيد الله بن أبى يزيد وعمرو:(4/265)
(ولم يكن حول البيت حائط) أى حائط يحجر الحجر من سائر المسجد حتى حجره عمر بالبنيان، ولم يبنه على الجَدْر الذى كان علامة أساس إبراهيم عليه السلام بل زاد ووسع قطعًا للشك أن الجَدْر هو آخر قواعد إبراهيم، فلما لم يكن عند عمر أن ذلك الجدر هو آخر قواعد البيت التى رفعها إبراهيم وإسماعيل، عليهما السلام، على يقين، ونقلِ كافة، مع معرفته أن قريشًا كانت قد هدمت البيت وبنته على غير القواعد، خشى أن يكون الجدر من بنيان قريش القديم، فزاد فى الفسحة استبراء للشك، ووسع الحجر حتى صار الجدر فى داخل التحجير، وقد بان هذا فى حديث جرير وهو قوله: (فحزرت من الحجر ستة أذرع أو نحوها) . والحائط الذى بناه عمر حول الحجر ليس بحائط مرتفع، وهو من ناحية الحجر نحو ذراعين، ومن الجرف خارجه نحو أربعة أذرع إلى صدر الواقف من خارجه، ولم يكن الجدر الذى ظهر من أساس إبراهيم مرتفعًا، إنما كان علامة كالنجم والهدف لا بنيانًا. قال ابن القصار: والحجة لقول مالك إخبار الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن البيت قصر به عن قواعد إبراهيم ولم يتم عليها، فمن طاف فى الحجر حصل طائفًا ببعضه؛ لأن البيت ما خطه آدم وبناه إبراهيم، وقد قال عمر وابنه عبد الله: لولا أن الحجر من البيت ما طيف به. قال ابن عباس: الحجر من البيت، قال تعالى: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (، ورأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) طاف من وراء الحجر، فدل أنه إجماع، ومن لم يستوف الطواف بالبيت وجب ألا يجزئه، كما لو فتح(4/266)
بابا فى البيت فطاف وخرج منه، والباء عند سيبويه فى قوله تعالى: (بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (للامتزاج والاختلاط لا للتبعيض، وسيأتى ذكر استلام الأركان فى موضعه إن شاء الله. والجَدْر: واحد الجدور، وهى الحواجز التى بين السواقى التى تمسك الماء، وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج قال: سمعت الوليد بن عطاء يحدث عن الحارث ابن عبد الله بن أبى ربيعة، عن عائشة، أن النبى عليه السلام قال لها: (وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها؟ قالت: لا، قال: تعززًا لئلا يدخلها إلا من أرادوا، فكان الرجل إذا كرهوا أن يدخلها يدعوه يرتقى حتى إذا كاد أن يدخلها دفعوه فسقط) .
38 - باب فَضْلِ الْحَرَمِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ (الآية [النمل: 91] ، وَقَوْلِهِ: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا (الآية [القصص: 57] . / 58 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: (إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ، لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلا مَنْ عَرَّفَهَا) . فيه: التصريح بتحريم الله تعالى مكة والحرم وتخصيصها بذلك من بين البلاد، قال القاضى أبو بكر بن الطيب: وقد اعترض تحريمَ الله لمكة وأنه جعلها حرمًا آمنًا قوم من أهل البدع وقالوا: قد قُتل خلق بالحرم والبيت من الأفاضل كعبد الله بن الزبير ومن جرى مجراه، وهو تكذيب للخبر، زعموا.(4/267)
قال القاضى: ولا تعلق لهم بذلك؛ لأن هذا القول خرج مخرج الخبر، والمراد به الأمر بأمان من دخل البيت وألا يقتل، ولم يرد الإخبار عن أن كل داخل إليه آمن، فعلى مثل هذا خرج قول الرسول عليه السلام: (من ألقى سلاحه فهو آمن، ومن دخل الكعبة ودخل دار أبى سفيان فهو آمن) . إنما قصد الأمر بأمان من ألقى سلاحه ودخل فى هذه المواضع، ولم يرد بذلك الخبر، ومثل هذا قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ) [البقرة: 228] يعنى بذلك الأمر لهن بالتربص دون الخبر عن تربص كل مطلقة؛ لأنها قد تعصى الله ولا تتربص، فكذلك قال: (وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) [آل عمران: 97] ، أى أَمِّنُوا من دخله. وهو على صفة من يجب أن يُؤَمَّنَ، فمن لم يفعل ذلك عصى الله تعالى وخالف، ومتى جعل هذا القول أمرًا بطل تمويههم، وقد يجوز أن يكون أراد تعالى: ومن دخله كان آمنًا يوم الفتح وقت قوله عليه السلام: (من ألقى سلاحه فهو آمن ومن دخل دار أبى سفيان كان آمنًا، ومن اعتصم بالكعبة كان آمنًا) فلا يناقض عدم الأمن فى غير ذلك الوقت وجوده فيه، فيكون قوله أن من دخل البلد الحرام كان آمنًا فى بعض الأوقات دون بعضها، وسيأتى فى باب: (لا يحل القتال بمكة) من كتاب الحج زيادة فى بيان هذا المعنى والله الموفق.(4/268)
39 - بَاب تَوريثِ دُورِ مكةَ وبَيِعها وشِرائها وأنَّ الناسَ فِى المسجدِ الحَرامِ سواء خاصَّة، لقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِى جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) [الحج: 25] .
/ 59 - فيه: أُسَامَةَ، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيْنَ تَنْزِلُ فِى دَارِكَ بِمَكَّةَ؟ فَقَالَ: (وَهَلْ تَرَكَ عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ) ، وَكَانَ عَقِيلٌ وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ، هُوَ وَطَالِبٌ، وَلَمْ يَرِثْهُ جَعْفَرٌ وَلا عَلِىٌّ شَيْئًا لأنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ، وَكَانَ عَقِيلٌ وَطَالِبٌ كَافِرَيْنِ، فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: لا يَرِثُ الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ. وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانُوا يَتَأَوَّلُونَ قَوْلَ اللَّهِ: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ (الآيَةَ [الأنفال: 72] . اختلف السلف فى تأويل قوله تعالى: (سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) [الحج: 25] فروى عن عطاء أنه قال: الناس فى البيت سواء ليس أحد أحق به من أحد، وروى نحوه عن ابن عباس، وقال مجاهد: أهل مكة وغيرهم فى المنازل سواء. قال الطحاوى: وقد اختلف العلماء فى بيعها وكرائها، فذكر عن عطاء ومجاهد أنه لا يحل بيع أرض مكة ولا كرائها، وهو قول أبى حنيفة والثورى ومحمد، وكره مالك بيعها وكراءها. وخالفهم آخرون فقالوا: لا بأس ببيع أرضها وإجازتها، وجعلوها كسائر البلدان، هذا قول أبى يوسف، وذكر ابن المنذر عن الشافعى وطاوس إباحة الكرى، وكان أحمد بن حنبل يتوقى الكراء فى الموسم، ولا يرى بأسًا بالشراء، واحتج بأن عمر اشترى دار السجن بأربعة آلاف.(4/269)
قال الطحاوى: واحتج من أجاز بيعها وكراءها بحديث أسامة؛ لأنه ذكر فيه ميراث عقيل وطالب لما تركه أبو طالب فيها من رباع ودور، قال الشافعى: فأضاف الملك إليه وإلى من ابتاعها منه. قال الطحاوى: واعتبرنا ذلك فرأينا المسجد الحرام الذى كل الناس فيه سواء لا يجوز لأحد أن يبتنى فيه بناء، ولا يحتجز منه موضعًا، وكذلك حكم جميع المواضع التى لا يقع لأحد فيها ملك وجميع الناس فيها سواء؛ ألا ترى أن عرفة لو أراد رجل أن يبتنى فى المكان الذى يقف الناس فيه منها بناء لم يكن له ذلك، وكذلك نى لو أراد أن يبتنى فيها دارًا كان من ذلك ممنوعًا. وكذلك جاء الأثر عن النبى عليه السلام روى إبراهيم بن مهاجر عن يوسف بن ماهك، عن أمه، عن عائشة أنها قالت: (يا رسول الله، ألا تتخذ لك بمنى شيئًا تستظل فيه؟ قال: (يا عائشة، إنها مُناخ لمن سبق) وكانت أم يوسف بن ماهك تخدم عائشة فسألت مكان عائشة بعدما توفى النبى عليه السلام أن تعطيها إياه فقالت لها عائشة: لا أحل لك ولا لأحد من أهل بيتى أن يستحل هذا المكان) ، تعنى مِنىً، فهذا حكم المواضع التى الناس فيها سواء ولا ملك لأحد عليها. ورأينا مكة على غير ذلك، قد أجيز البناء فيها، وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم دخلها: (من دخل دار أبى سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن) . فأثبت لهم أملاكهم، فلما كانت مما يغلق عليه الأبواب ومما يبنى فيها المنازل كانت صفتها صفة المواضع التى تجرى عليها الأملاك وتقع فيها المواريث.(4/270)
وقال غيره: ألا ترى أن عمر اشترى دار السجن من صفوان، ومحال أن يشترى منه ما لا يجوز له ملكه، وقد ثبت عن الصحابة أنهم كانت لهم الدور بمكة، منهم أبو بكر الصديق، والزبير بن العوام، وحكيم بن حزام، وعمرو بن العاص، وصفوان بن أمية وغيرهم، وتبايع أهل مكة لدورهم قديمًا أشهر من أن يخفى. واحتج الذين كرهوا بيع دور مكة وكراءها بحديث علقمة بن نضلة قال: (توفى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأبو بكر وعمر وما ترعى رباع مكة إلا السوائب) . وبما رواه نافع، عن ابن عمر أن عمر كان ينهى أن تغلق دور مكة فى زمن الحاج. وقال إسماعيل بن إسحاق: وما تأول مجاهد فى الآية فظاهر القرآن يدل على أنه المسجد الذى يكون فيه النسك والصلاة، لا سائر دور مكة، قال الله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) [الحج: 25] أى: ويصدون عن المسجد الحرام، فدل ذلك كله على أن الذى كان المشركون يفعلونه هو التملك على المسجد الحرام وادعاؤهم أنهم أربابه وولائه، وأنهم منعوا منه ومن أرادوا ظلمًا، وأن الناس كلهم فيه سواء، فأما المنازل والدور فلم تزل لأهل مكة غير أن المواساة تجب إذ كانت الضرورة، ولعل عمر فعل ذلك على طريق المواساة عند الحاجة والله أعلم. وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة: وحديث أسامة حجة فى أن من(4/271)
خرج من بلده مسلمًا وبقى أهله وولده فى دار الكفر ثم غزا مع المسلمين بلده؛ أن أهله وماله وولده على حكم البلد كما كانت دار النبى عليه السلام على حكم البلد وملكه، ولم ير نفسه أحق بها، وهذا قول مالك فى (المدونة) ، وبه قال الليث، وسيأتى اختلاف العلماء فى هذه المسألة فى كتاب الجهاد فى باب: (إذا غنم المشركون مال المسلم ثم وجده المسلم) إن شاء الله، وبيان مذاهبهم فيها، وفى حديث أسامة أن المسلم لا يرث الكافر، وسيأتى بيان ذلك أيضًا فى كتاب الفرائض إن شاء الله.
40 - بَاب نُزُولِ النَّبِىِّ عليه السَّلام مَكَّةَ
/ 60 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، حِينَ أَرَادَ قُدُومَ مَكَّةَ وَهُوَ بِمِنًى الغَدِ مِن يَوْمَ النَّحْرِ: (مَنْزِلُنَا غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِخَيْفِ بَنِى كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ) . يَعْنِى ذَلِكَ الْمُحَصَّبَ، وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا وَكِنَانَةَ تَحَالَفَتْ عَلَى بَنِى هَاشِمٍ، وَبَنِى عَبْدِالْمُطَّلِبِ، أَوْ بَنِى الْمُطَّلِبِ، أَنْ لا يُنَاكِحُوهُمْ وَلا يُبَايِعُوهُمْ حَتَّى يُسْلِمُوا إِلَيْهِمُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: بَنِى الْمُطَّلِبِ أَشْبَهُ. قال المؤلف: قد فسر ابن عباس أن نزول النبى عليه السلام بالمحصب لم يكن سنة، وقال: المحصب ليس بشئ، فإنما هو منزل نزله رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليكون أسمح لخروجه، يعنى: إلى المدينة. وذكر أهل السير أنهم بقوا ثلاث سنين فى الشِّعب وكان المشركون كتبوا صحيفة لبنى هاشم وبنى المطلب بالتبرؤ منهم، وألا يقبلوا منهم صلحاَ(4/272)
أبدًا، ولا يدخلوا إليهم طعامًا، وعلقوا الصحيفة فى الكعبة، فاشتد عليهم البلاء فى الشِّعب. وكان قوم من قصى ممن ولدتهم بنو هاشم قد أجمعوا على نقض ما تعاهدوا عليه من الغدر والبراءة، فبعث الله عند ذلك الأرضة على الصحيفة، فلحست كل ما كان فيها من عهد وميثاق لهم، ولم تترك فيها اسمًا من أسماء الله عز وجل إلا لحسته وبقى ما كان فيها من شرك أو ظلم أو قطيعة رحم، فأطلع الله رسوله على ذلك، فذكر ذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لأبى طالب فقال أبو طالب: لا والثواقب ما كذبتنى، فانطلق فى عصابة من بنى عبد المطلب حتى أتوا المسجد وهم خائفون لقريش، فلما رأتهم قريش أنكروهم، وظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء ليسلموا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) برمته إليهم. فقال أبو طالب: جرت بيننا وبينكم أمور لم نذكرها لكم، فائتوا بصحيفتكم التى فيها مواثيقكم فلعله أن يكون بيننا صلح، وإنما قال ذلك أبو طالب خشية أن ينظروا فى الصحيفة قبل أن يأتوا بها، فأتوا بها معجبين لا يشكون أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يدفع إليهم. فلما وضعوها قال أبو طالب: إنما أتيناكم فى أمر هو نصف بيننا وبينكم، إن ابن أخى لم يكذبنى، إن هذه الصحيفة قد بعث الله عليها دابة لم تترك فيها اسمًا لله إلا لحسته، وتركت فيها غدركم وظلمكم لنا، فإن كان الحديث كما يقول فلا والله لا نسلمه حتى نموت، وإن كان باطلا دفعنا إليكم صاحبكم فقتلتم أو استحييتم، فقالوا: رضينا، ففتحوا الصحيفة فوجدوا الصادق المصدوق عليه السلام قد أخبر بالحق، قالوا: هذا سحر ابن أخيك، وزادهم ذلك بغيًا وعدوانًا.(4/273)
قال ابن شهاب: فلما أفسد الله صحيفة مكرهم خرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ورهطه، فعاشوا وخالطوا الناس، ثم أذن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالهجرة إلى المدينة، وكان الذى كتب الصحيفة منصور بن عكرمة بن هاشم بن عبد العزى، وذكر أنه شلت يده بعد ذلك، عن ابن إسحاق. قال الخطابى: الخيف: ما انحدر عن الجبل، وارتفع عن المسيل، وبه سمى مسجد الخيف.
41 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ (الآيات [إبراهيم: 35 - 37]
وقوله: (جَعلَ اللهُ الكعبةَ البيتَ الحَرامَ قِيامًا للناسِ (الآية [المائدة: 97] . / 61 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةِ) . / 62 - وفيه: عَائِشَةَ، كَانُوا يَصُومُونَ عَاشُورَاءَ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ رَمَضَانُ، وَكَانَ يَوْمًا تُسْتَرُ فِيهِ الْكَعْبَةُ، فَلَمَّا فَرَضَ اللَّهُ رَمَضَانَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ شَاءَ أَنْ يَصُومَهُ فَلْيَصُمْهُ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيَتْرُكْهُ) . / 63 - وفيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ: قَالَ رسُولُ اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (لَيُحَجَّنَّ الْبَيْتُ وَلَيُعْتَمَرَنَّ بَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) . وروى شُعْبَةَ، عن قَتَادَة: (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لا يُحَجَّ الْبَيْتُ) ، وَالأوَّلُ أَكْثَرُ. اختلف السلف فى تأويل قوله تعالى: (قِيامًا للناسِ ((4/274)
فقال سعيد بن جبير: قوامًا لدينهم وعصمة لهم، وقال عطاء: (قِيامًا للناسِ (: لو تركوه عامًا لم يُنظروا أن يهلكوا. وأما حديث عائشة فهو مصدق للآية، ومعناه: أن المشركين كانوا يعظمون الكعبة قديمًا بالستور والكسوة ويقومون إليها كما يفعل المسلمون، وأما حديث أبى هريرة أن ذا السويقتين يخرب الكعبة، فهو مبين لقوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا) [إبراهيم: 53] أن معناه الخصوص، وأن الله تعالى جعلها حرمًا آمنًا غير وقت تخريب ذى السويقتين لها؛ لأن ذلك لا يكون إلا باستباحته حرمتها وتغلبه عليها، ثم تعود حرمتها ويعود الحج إليها كما أخبر الله نبيه وخليله إبراهيم فقال له: (وَأَذِّن فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) [الحج: 27] فهذا شرط الله لا ينخرم ولا يحول، وإن كان فى خلاله وقت يكون فيه خوف فلا يدوم ولابد من ارتفاعه ورجوع حرمتها وأمنها وحج العباد إليها، كما كان قبل إجابته لدعوة إبراهيم خليله، يدل على ذلك حديث أبى سعيد الخدرى أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (ليحججن البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج) . وعلى هذا التأويل لا تتضاد الآثار ولا معنى الآية، ولو صح ما ذكره قتادة لكان ذلك وقتًا من الدهر، ويحتمل أن يكون ذلك وقت تخريب ذى السويقين لها بدليل حديث أبى سعيد.(4/275)
42 - باب كِسْوَةِ الْكَعْبَةِ
/ 64 - فيه: عُمَرَ، أنَّهُ جَلَس عَلَى الْكُرْسِىِّ فِى الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ لا أَدَعَ فِيهَا صَفْرَاءَ وَلا بَيْضَاءَ إِلا قَسَمْتُهُ، قُلْتُ: إِنَّ صَاحِبَيْكَ لَمْ يَفْعَلا، قَالَ: هُمَا الْمَرْءَانِ أَقْتَدِى بِهِمَا. قال ابن جريج: زعم بعض علمائنا أن أول من كسا الكعبة إسماعيل، عليه السلام. قال ابن جريج: وبلغنى أن تُبَّعًا أول من كساها، ولم تزل الملوك فى كل زمان يكسونها بالثياب الرفيعة، ويقومون بما تحتاج إليه من المؤنة تبركًا بذلك، فرأى عمر أن ما فيها من الذهب والفضة لا تحتاج إليه الكعبة لكثرته، فأراد أن يصرفه فى منافع المسلمين نظرًا لهم وحيطة عليهم، فلما أخبره شيبة بأن النبى (صلى الله عليه وسلم) وأبا بكر لم يتعرضا لذلك وتركاه أمسك وصوب فعلهما، وإنما ترك ذلك والله أعلم لأن ما جعل فى الكعبة وسبل لها يجرى مجرى الأوقاف، ولا يجوز تغيير الأوقاف عن وجوهها ولا صرفها عن طرقها، وفى ذلك أيضًا تعظيم للإسلام وحرمانه، وترهيب على العدو، وقد روى ابن عيينة عن عمرو، وعن الحسن قال: قال عمر ابن الخطاب: (لو أخذنا ما فى هذا البيت، يعنى الكعبة، فقسماه، فقال له أبىّ بن كعب: والله ما ذلك لك، قال: ولم؟ قال: لأن الله بين موضع كل مال، وأقره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . قال: صدقت) . فإن قال قائل: ما وجه ترجمة هذا الباب بباب كسوة الكعبة ولا ذكر فيه لكسوة؟ قيل له: معنى الترجمة صحيح، ووجهها أنه معلوم أن الملوك فى كل زمان كانوا يتفاخرون بكسوة الكعبة برفيع الثياب المنسوجة بالذهب وغيره، كما يتفاخرون بتسبيل الأموال(4/276)
إليها، فأراك البخارى أن عمر لما رأى قسمة الذهب والفضة الموقفين بهما على أهل الحاجة صوابًا، كان حكم الكسوة حكم المال، تجوز قسمتها، بل ما فضل من كسوتها أولى بالقسمة على أهل الحاجة من قسمة المال، إذ قد يكون نفقة المال فيما تحتاج إليه الكعبة فى إصلاح ما يهى منها، وفى [. . . . . .] وأجرة قيم، والكسوة لا تدعو إليها ضرورة وبكفى منها بعضها. وفى هذا حجة لمن قال: إنه يجوز صرف ما فضل فى سبيل من سبل الله فى سبيل آخر من سبل الله إذا كان ذلك صوابًا، وفى فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) وفعل أبى بكر حجة لمن رأى إبقاء الأموال على ما سبلت عليه، وترك تغييرها عما جعلت له، وفى قوله: (هما المرآن أقتدى بهما) من الفقه ترك خلاف كبار الأئمة وفضل الاقتداء بهما، وأن ذلك فعل السلف.
43 - باب هَدْمِ الْكَعْبَةِ
/ 65 - فيه: عَائِشَةُ: قَالَ عليه السَّلام: (يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ فَيُخْسَفُ بِهِمْ) . / 66 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (كَأَنِّى بِهِ أَسْوَدَ أَفْحَجَ، يَقْلَعُهَا حَجَرًا حَجَرًا) .(4/277)
/ 67 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ، عليه السَّلام: (يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةِ) . فى هذه الآثار إخبار عما يكون من الحدثان والأشراط، وذلك يكون فى أوقات مختلفة، فحديث عائشة أن الجيش الذى يغزو الكعبة يخسف بهم هو فى وقت غير وقت هدم ذى السويقتين لها، ويمكن أن يكون هدمه لها عند اقتراب الساعة والله أعلم، ولا يدل ذلك أن الحج ينقطع؛ فقد أخبر عليه السلام أن البيت يحج بعد خروج يأجوج ومأجوج، وأن عيسى ابن مريم يحج ويعتمر بعد ذلك، وقال صاحب العين: الفحج: تباعد ما بين أوساط الساقين، والنعت: أفحج.
44 - باب مَا ذُكِرَ فِى الْحَجَرِ الأسْوَدِ
/ 68 - فيه: عُمَرَ، أَنَّهُ جَاءَ إِلَى الْحَجَرِ الأسْوَدِ، فَقَبَّلَهُ، فَقَالَ: إِنِّى أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لا تَضُرُّ وَلا تَنْفَعُ، وَلَوْلا أَنِّى رَأَيْتُ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ. قال الطبرى: إنما قال ذلك عمر والله أعلم؛ لأن الناس كانوا حديث عهد بعبادة الأصنام، فخشى عمر أن يظن الجهال أن استلام الحجر هو مثل ما كانت العرب تفعله فى الجاهلية، فأراد عمر أن يعلم أن استلامه لا يقصد به إلا تعظيم الله تعالى والوقوف عند أمر نبيه عليه السلام إذ ذلك من شعائر الحج التى أمر الله بتعظيمها، وأن استلامه مخالف لفعل أهل الجاهلية فى عبادتهم الأصنام؛ لأنهم كانوا يعتقدون أنها تقربهم إلى الله زلفى، فنبه عمر على مجانبة هذا الإعتقاد، وأنه لا ينبغى أن يعبد إلا من يملك الضر والنفع، وهو الله تعالى. وقال المهلب: حديث عمر هذا يرد قول من قال: إن الحجر(4/278)
يمين الله فى الأرض، يصافح بها عباده، ومعاذ الله أن يكون لله جارحة مجسمة بائنة عن ذاته، وإنما شرع النبى عليه السلام تقبيله على ما كانت شريعة إبراهيم عليه مع أن معناه التذلل لله والخضوع، والائتمار لما امر به على لسان نبى من أنبيائه، وليعلم عيانًا ومشاهدة طاعة من أطاع أمره، وعصيان من أبى من امتثاله، وهى شبيهة بقصة إبليس فيما أمر به من السجود لآدم اختبارًا له. وروى عن ابن عباس أن استلام الحجر مبايعة الله عز وجل. وقال مالك فى المجموعة: إذا استقبل الركن حمد الله وكبر. وقيل: أيرفع يديه عنده؟ قال: ما سمعت، ولا عند رؤية البيت. وقال مكحول: كان عليه السلام إذا رأى البيت رفع يديه وقال: اللهم زد هذا البيت تشريفًا وتعظيمًا ومهابة، وزد من شَرَفِهِ وكَرَمِهِ مَنْ حج إليه واعتمر تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا، ويقال عند استلام الركن: بسم الله، والله أكبر، اللهم إيمانًا بك وتصديقًا بما جاء به محمد نبيك.
45 - باب إِغْلاقِ الْبَيْتِ وَيُصَلِّى فِى أَىِّ نَوَاحِى الْبَيْتِ شَاءَ
/ 69 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) هُوَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَبِلالٌ، وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ الْبَيْتَ، فَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا فَتَحُوا كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ وَلَجَ، فَلَقِيتُ بِلالا فَسَأَلْتُهُ هَلْ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ؟ قَالَ: نَعَمْ، بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ. قال المؤلف: قال الشافعى: من صلى فى جوف الكعبة مستقبلا(4/279)
حائطًا من حيطانها فصلاته جائزة، فإن صلى نحو الباب والباب مفتوح فصلاته باطل؛ لأنه لم يستقبل شيئًا منها، فكأنه استدل على ذلك بغلق النبى عليه السلام الباب عل نفسه حين صلى، فيقال له: لم يغلق النبى (صلى الله عليه وسلم) على نفسه الباب حين صلى فى الكعبة إلا لئلا يكثر الناس عليه فيه فيصلوا بصلاته، ويكون ذلك عندهم من مناسك الحج، كما فعل النبى عليه السلام فى صلاة الليل حين لم يخرج إليهم خشية أن يكتب عليهم، ولو كان غلق الباب من أجل أنه لا تجوز الصلاة فى البيت نحو الباب وهو مفتوح لبيَّنه عليه السلام لأمته؛ لأنه قد علم أنهم لابد لهم من دخول البيت والصلاة فيه، فلا معنى لقول الشافعى. قال ابن القصار: ويقال: إنه من صلى فى جوفها نحو الباب وهو مفتوح فقد استقبل بعض أرض الكعبة واستدبر الباقى منها، فكان يجب أن تجزئه عنده؛ لأنه لو انهدمت حيطان الكعبة صلى فى أرضها وأجزأه ذلك عنده.
46 - باب الصَّلاةِ فِى الْكَعْبَةِ
/ 70 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ الْكَعْبَةَ مَشَى قِبَلَ الْوَجْهِ حِينَ يَدْخُلها، وَيَجْعَلُ الْبَابَ قِبَلَ الظَّهْرِ، يَمْشِى حَتَّى يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ الَّذِى قِبَلَ وَجْهِهِ قَرِيبًا مِنْ ثَلاثِ أَذْرُعٍ، فَيُصَلِّى يَتَوَخَّى الْمَكَانَ الَّذِى أَخْبَرَهُ بِلالٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) صَلَّى فِيهِ، وَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَأْسٌ أَنْ يُصَلِّىَ فِى أَىِّ نَوَاحِى الْبَيْتِ شَاءَ.(4/280)
وقد تقدمت مذاهب العلماء فى الصلاة فى الكعبة فى أبواب القبلة فى كتاب الصلاة فى باب قوله تعالى: (وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) [البقرة: 125] فأغنى عن إعادته. وقال ابن المنذر: اختلف بلال وأسامة فى صلاة النبى (صلى الله عليه وسلم) فى الكعبة، فحكم أهل العلم لبلال على أسامة؛ لأنه شاهد، وأسامة نافٍ غيرُ شاهد، وكذلك الفضل أيضًا نافٍ، والشاهد أولى من النافى؛ لأن الشاهد يحكى فعلا حفظه، والنافى غير حافظ لشىء يؤديه، وقد روينا حديثًا هو كالدليل فى هذا الباب على أن أسامة كان يغيب عن النبى عليه السلام فيحتمل أن يكون صلى فى غيبته. حدثنا على بن عبد العزيز، حدثنا عاصم بن على قال: حدثنى ابن أبى ذئب، عن عبد الرحمن بن مهران، عن عمير مولى ابن عباس، عن أسامة بن زيد قال: (رأى النبى عليه السلام صورًا فى الكعبة، قال: فكنت آتية بماء فى الدلو ويضرب به الصور، وقال: قاتل الله قومًا يصورون ما لا يخلقون) . وروى موسى بن عقبة عن سالم بن عبد الله أن عائشة كانت تقول: (عجبًا لمن يدخل فى الكعبة كيف يرفع رأسه إعظامًا لله وإجلالاً، دخل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الكعبة فما خلف بصره موضع سجوده) .(4/281)
47 - باب مَنْ لَمْ يَدْخُلِ الْكَعْبَةَ
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَحُجُّ كَثِيرًا وَلا يَدْخُلُ. / 71 - فيه: ابْن أَبِى أَوْفَى، قَالَ: اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَطَافَ بِالْبَيْتِ، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَهُ مَنْ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الْكَعْبَةَ؟ قَالَ: لا. ليس دخول الكعبة من مناسك الحج؛ ألا ترى أن النبى عليه السلام لم يدخلها حين اعتمر، فمن دخلها فهو حسن، ومن لم يدخلها فلا شىء عليه، وروى عن ابن عباس أنه قال: دخول الكعبة ليس من نسككم.
48 - باب مَنْ كَبَّرَ فِى نَوَاحِى الْكَعْبَةِ
/ 72 - فيه: ابْن عَبَّاس، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَمَّا قَدِمَ أَبَى أَنْ يَدْخُلَ الْبَيْتَ وَفِيهِ الآلِهَةُ، فَأَمَرَ بِهَا فَأُخْرِجَتْ، فَأَخْرَجُوا صُورَةَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ فِى أَيْدِيهِمَا الأزْلامُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (قَاتَلَهُمُ اللَّهُ، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمَا لَمْ يَسْتَقْسِمَا بِهَا قَطُّ، فَدَخَلَ الْبَيْتَ فَكَبَّرَ فِى نَوَاحِيهِ، وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ) . قد تقدم فى باب الصلاة فى الكعبة، وفى كتاب الصلاة أن الناس تركوا رواية ابن عباس وأسامة، وأخذوا بقول بلال: (أنه عليه السلام صلى فى الكعبة) وقد روى عن ابن عباس فى هذه المسألة أنه قال: فترك الناس قولى، وأخذوا بقول بلال. فهذا يدل على أن العمل على الحكم للمثبت وترك النافى، وعليه جمهور الفقهاء.(4/282)
وفى هذا الحديث من الفقه: أنه يجب على العالم والرجل الفاضل اجتناب مواضع الباطل، وأن لا يشهد مجالس الزور، وينزه نفسه عن ذلك. قال الطبرى: وفيه من الفقه الإبانة عن كراهة دخول النبى (صلى الله عليه وسلم) بيتًا فيه صورة، وذلك لأن الآلهة التى كانت فى البيت يومئذ إنما كانت تماثيل وصورًا، وقد تظاهرت الأخبار عنه عليه السلام أنه كان يكره دخول بيت فيه صورة، فإن قال قائل: الإحرام دخول البيت الذى فيه التماثيل والصور؟ قيل: لا، ولكنه مكروه، وسأتقصى الكلام فى ذلك فى كتاب اللباس والزينة فى باب: من كره القعود على الصور، وفى باب: لا تدخل الملائكة بيتًا فيه صورة إن شاء الله. قال الطبرى: والأزلام جمع زلم، ويقال: زلم، وهى قداح كانت الجاهلية يتخذونها يكتبون على بعضها: نهانى ربى، وعلى بعضها: أمرنى ربى، وعلى بعضها: نعم، وعلى بعضها: لا، فإذا أراد أحدهم سفرًا أو غير ذلك، دفعوها إلى بعضهم حتى يقبضها، فإن خرج القدح الذى عليه أمرنى ربى مضى، وإن خرج الذى مكتوب نهانى ربى كَفَّ عن الذى أراد من العمل. والاستقسام: الاستفعال من قسم الرزق والحاجات، وذلك طلب أحَدِهم بالأزلام على ما قسم له فى حاجته التى يلتمسها من نجاح أو حرمان، فأبطل الله ذلك من فعلهم وأخبر أنه فسق، وإنما جعله فسقًا؛ لأنهم كانوا يستقسمون عند آلهتهم التى يعبدونها(4/283)
ويقولون: يا إلهنا، أخرج الحق فى ذلك، ثم يعلمون بما خرج فيه، فكان ذلك كفرًا بالله، لإضافتهم ما يكون من ذلك من صواب أو خطأ إلى أنه من قسم آلهتهم، فأخبر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن إبراهيم وإسماعيل أنهما لم يكونا يستقسمان بالأزلام، وإنما كانا يفوضان أمرهما إلى الله الذى لا يخفى عليه علم ما كان وما هو كائن؛ لأن الآلهة لا تضر ولا تنفع.
49 - باب كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الرَّمَلِ؟
/ 73 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَأَصْحَابُهُ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ، وَقَدْ وَهَنَهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِىُّ، عليه السَّلام أَنْ يَرْمُلُوا الأشْوَاطَ الثَّلاثَةَ، وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الأشْوَاطَ كُلَّهَا إِلا الإبْقَاءُ عَلَيْهِمْ. ذكر ابن أبى شيبة قال: حدثنا عبد الأعلى، عن الجريرى، عن أبى الطفيل قال: قلت لابن عباس: (ألا تحدثنى عن الرمل، فإن قومك زعموا أنه سنة، قال: صدقوا وكذبوا، قلت: ما صدقوا وكذبوا؟ قال: قدم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مكة فقال أهل مكة: إن محمدًا وأصحابه لا يستطعون أن يطوفوا من الهزل، وأهل مكة ناس حُسَّد، فبلغ ذلك النبى عليه السلام فاشتد عليه فقال: أَرُوهُمُ اليومَ منكم ما يكرهون، قال: فرمل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه الثلاثة الأشواط، ومشوا الأربعة) . وروى فطر عن أبى الطفيل، عن ابن عباس (فكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يرمل من الحجر الأسود إلى الركن اليمانى، فإذا توارى عنهم مشى) . ففى هذا الحديث أن الرمل كان من أَجْلِهم، لا لأنه سنة.(4/284)
قال المهلب: وفيه من الفقه أن إظهار القوة للعدو فى الجسام والعدة والسلاح، ومفارقة الهدوء والوقار فى ذلك من السنة، كما أمر النبى عليه السلام بالخب فى الثلاثة الأشواط، ومثله إباحته عليه السلام للحبشة اللعب فى المسجد بالحراب لهذا المعنى، والمسجد ليس بموضع لعب، بل هو موضع وقار وخشوع لله تعالى، لكن لما كان من باب القوة والعدة والرهبة على المنافقين وأهل الكتاب المجاورين لهم أباحه فى المسجد؛ لأنه أمر من امر جماعة المسلمين، والمسجد الجماعة المسلمين، وقال صاحب الأفعال: رمل رملا: أسرع فى المشى، وقال صاحب العين: الرمل: ضرب من المشى، والشوط: جرى مرة إلى الغاية، والجمع أشواط، وقال الطبرى: يقال: شاط يشوط شوطًا، إذا عدا غَلْوَةً بعيدة.
50 - باب اسْتِلامِ الْحَجَرِ الأسْوَدِ حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ أَوَّلَ مَا يَطُوفُ وَيَرْمُلُ ثَلاثًا
/ 74 - فيه: ابْن عُمَرَ، رَأَيْتُ النَّبِىّ، عليه السَّلام، حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ إِذَا اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الأسْوَدَ أَوَّلَ مَا يَطُوفُ يَخُبُّ ثَلاثَةَ أشواط مِنَ السَّبْعِ. سنة الطواف أن يبدأ الداخل مكة بالحجر الأسود فيقبله إن استطاع،(4/285)
أو يمسحه بيمينه ويقبلها بعد أن يضعها عليه، فإن لم يقدر قام بحذائه فكبر ثم أخذ فى طوافه، ثم مضى على يمينه على باب الكعبة إلى الركن الذى لا يستلم، ثم إلى الذى يليه مثله، ثم إلى الركن الثالث، وهو اليمانى الذى يستلم، ثم إلى الركن الأسود، وهذه طوفة واحدة، يفعل ذلك ثلاثة أطواف يرمل فيها، ثم أربعة لا يرمل فيها، وهذا إجماع من العلماء أنه من فعل هذا فقد فعل ما ينبغى، فإن لم يطف كما وصفنا، وجعل البيت عن يمينه ومضى من الركن الأسود على يساره فقد نكس طوافه، ولم يجزئه عند مالك والشافعى وأبى ثور، وعليه أن يرجع من بلاده ويطوف؛ لأنه كمن لم يطف، لخلافه سنة النبى عليه السلام فى طوافه، ومن خالفه فَفِعْلُه رد، والمردود غير مقبول. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يعيد الطواف ما كان بمكة، فإذا بلغ الكوفة أو أبعد كان عليه دم ويجزئه، واحتجوا بقوله تعالى: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج: 29] . قالوا: ولم يفرق بين طواف منكوس أو غيره، فوجب أن يجزئه، والخب: ضرب من العَدْو، يقال: خبت الدابة تخب خبا، إذا أسرعت المشى وراوحت بين قدميها، وكذلك تقول العرب للخيل إذا وصفتها بسرعة السير: مراوحة بين أيديها، فأما إذا رفعت أيديها معًا ووضعتها كذلك فذلك التقرين لا الخَبَب.(4/286)
51 - باب الرَّمَلِ فِى الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ
/ 75 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، سَعَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، ثَلاثَةَ أَشْوَاطٍ، وَمَشَى أَرْبَعَةً فِى الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. / 76 - وفيه: عُمَرَ، أنه قَالَ لِلرُّكْنِ: أَمَا وَاللَّهِ إِنِّى لأعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ، لا تَضُرُّ وَلا تَنْفَعُ، وَلَوْلا أَنِّى رَأَيْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) اسْتَلَمَكَ مَا اسْتَلَمْتُكَ، فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ قَالَ: فَمَا لَنَا وَلِلرَّمَلِ إِنَّمَا كُنَّا رَاءَيْنَا بِهِ الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: شَىْءٌ صَنَعَهُ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) فَلا نُحِبُّ أَنْ نَتْرُكَهُ. / 77 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: مَا تَرَكْتُ اسْتِلامَ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ فِى شِدَّةٍ وَلا رَخَاءٍ مُنْذُ رَأَيْتُ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) يَسْتَلِمُهُمَا، قُلْتُ لِنَافِعٍ: أَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَمْشِى بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ؟ قَالَ: إِنَّمَا كَانَ يَمْشِى، لِيَكُونَ أَيْسَرَ لاسْتِلامِهِ. واختلف أهل العلم فى الرمل هل هو سنة لا يجب تركها فى الحج والعمرة أو لا؟ فروى عن أبى بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وابن مسعود، وابن عمر أن الرمل سنة لكل قادم مكة فى الثلاثة الأطواف الول، وهو قول مالك، وأبى حنيفة، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق. وقال آخرون: ليس الرمل سنة، ومن شاء فعله، ومن شاء تركه، روى ذلك عن ابن عباس، وعطاء، وطاوس، والحسن، والقاسم، وسالم. واختلفوا فيما يجب على من تركه، فروى عن ابن عباس وهو المشهور عنه أنه لا شىء عليه، وبه قال عطاء، ورواه ابن وهب عن مالك، وهو قول أبى حنيفة، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور.(4/287)
وقال الحسن البصرى: عليه دم، وهو قول الثورى، ورواه معن عن مالك، وقال ابن القاسم: رجع عن ذلك مالك، وذكر ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون وابن القاسم أن عليه الدم فى قليل ذلك وكثيره، واحتج بقول ابن عباس: من ترك من نسكه شيئًا فعليه دم. وهذا الاستدلال خطأ؛ لأن الأَشْهَر عن ابن عباس أن من شاء رمل، ومن شاء لم يرمل، ومذهبه أن من ترك الرمل فلا شىء عليه. وقال الطبرى: قد ثبت أن النبى عليه السلام رمل ولا مشرك يومئذ بمكة يرائى بالرمل، فكان معلومًا أنه من مناسك الحج، غير أنا لا نرى على من تركه عامدًا ولا ساهيًا قضاء ولا فدية؛ لأن من تركه فليس بتارك لعمل، وإنما هو تارك منه لهيئة وصفة، كالتلبية التى من سنة النبى عليه السلام فيها العج ورفع الصوت، فإن خفض الصوت بها كان غير مضيع للتلبية ولا تاركها، وإنما ضيع صفة من صفاتها، ولا يلزمه بترك العج ورفع الصوت قضاء ولا فدية. وأجمعوا أنه لا رَمَل على النساء فى طوافهن بالبيت ولا هرولة فى سعيهن بين الصفا والمروة، وكذلك أجمعوا أنه لا رمل على من أحرم بالحج من مكة من غير أهلها؛ لأنهم رملوا فى حين دخولهم مكة حين طافوا للقدوم. واختلفوا فى اهل مكة هل عليهم رمل؟ فكان ابن عمر لا يراه عليهم، واستحبه مالك والشافعى للمكى. وعلة من لم ير الرمل للمكى أنه من سنة القادم، وليس المكى(4/288)
بقادم، وعلة من استحبه للمكى فى طواف الإفاضة؛ لأنه طواف ينوب عن طواف القدوم وطواف الإفاضة، فاستحب له الرمل ليأتى بِسُنَّة هى فى أحد الطوافين، فتتم له السُّنَّةُ فى ذلك، كما أنه يسعى بين الصفا والمروة فى طواف الإفاضة، وغير المكى لا يسعى بين الصفا والمروة إلا مع طواف الدخول.
52 - باب اسْتِلامِ الرُّكْنِ بِالْمِحْجَنِ
/ 78 - فيه: ابْن عَبَّاس، طَافَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ، يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ. يحتمل أن يكون استلامه الركن بمحجنه لشكوى كان به، وقد روى ذلك أبو داود فى مصنفه، وروى فى ذلك وجه آخر، وروى الطبرى من حديث هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة قالت: (طاف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حول البيت على بعير يستلم الركن بمحجنه، كراهية أن يصرف الناس عنه) . فترك الرسول (صلى الله عليه وسلم) استلامه بيده إما لشكواه، وإما كراهة أن يُضَيِّق على الطائفين ويزاحمهم ببعيره، فيؤذيهم بذلك، أو لهما جميعًا، فركب راحلته وأشار بالمحجن، وقد روى فى ذلك وجه ثالث سأذكره فى باب: التكبير عند الركن إن شاء الله. قال المهلب: واستلام الرسول (صلى الله عليه وسلم) الركن بمحجنه يدل على أن استلام الركن ليس بفرض، وإنما هو سنة من النبى (صلى الله عليه وسلم) ؛ ألا ترى قول(4/289)
عمر: (لولا أنى رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قبلك ما قبلتك) ، وسيأتى الطواف على الدابة بعد هذا فى موضعه إن شاء الله. وقال أبو عبيد: قال الأصمعى: المحجن: العصا المعوجة الرأس. وقال صاحب العين: هى عصا يجتذب بها العامل ما نأى عنه من [. . . . . .] معوجة الرأس. قال الطبرى: ومنه قولهم: احتجن فلان كذا، إذا أخذه، وأصله إمالته إلى نفسه، كالمحجن الذى أُميل طرفه إلى معظَمِهِ وعُطِفَ عَلَيْهِ. قال الطبرى: وقوله: (يستلم) يعنى: يصيب السَّلام، والسلام هو الحجر، وإنما يستلم يستفعل منه، فمعنى الكلام: طاف النبى (صلى الله عليه وسلم) على راحلته يومئ بالمحجن الذى معه إلى الحجر الأسود حتى يصيبه ويكبر، ثم يقبل من محجنه الموضع الذى أصاب الحجر منه.
53 - باب مَنْ لَمْ يَسْتَلِمْ إِلا الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ
/ 79 - فيه: جَابر بْن زيد، قَالَ: وَمَنْ يَتَّقِى شَيْئًا مِنَ الْبَيْتِ؟ وَكَانَ مُعَاوِيَةُ يَسْتَلِمُ الأرْكَانَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ لا يُسْتَلَمُ هَذَانِ الرُّكْنَانِ، فَقَالَ: لَيْسَ شَىْءٌ مِنَ الْبَيْتِ مَهْجُورًا، وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَسْتَلِمُهُنَّ كُلَّهُنَّ.(4/290)
/ 80 - وفيه: ابْن عُمَرَ، لَمْ أَرَ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، يَسْتَلِمُ مِنَ الْبَيْتِ إِلا الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ. قال الطحاوى: إنما لم يستلم النبى (صلى الله عليه وسلم) إلا الركنين اليمانيين، لأنهما مبنيان على منتهى البيت مما يليهما، والآخران ليسا كذلك؛ لأن الحجر وراءهما وهو من البيت، وذلك أن قريشًا قصرت بهم النفقة عن قواعد إبراهيم فتركت منه فى الحجر ستة أذرع، وقد أجمعوا أن ما بين الركنين اليمانيين لا يستلم؛ لأنه ليس من قواعد إبراهيم، فكان يجئ فى النظر أن يكون كذلك الركنان الآخران لا يستلمان؛ لأنهما ليسا من قواعد إبراهيم، فليسا بركنين لبيت. قال الطحاوى: وقد نزع ابن عمر بمثل ما نزعنا به فى ذلك، وذلك لأنه لما أخبرت عائشة بقول النبى (صلى الله عليه وسلم) لها: (ألم ترى أن قومك حين بَنَوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم قالت: قلت: يا رسول الله، ألا تردها على قواعد إبراهيم. .) وذكر الحديث، قال ابن عمر: لو كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، ما أرى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر، إلا أن البيت لم يتم على قواعد إبراهيم. وجمهور العلماء على استلام الركنين اليمانين، وهو قول مالك، وأبى حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وقد روى عن أنس وجابر ومعاوية وابن الزبير وعروة أنهم كانوا يستلمون الأركان(4/291)
كلها، والحجة عند الاختلاف فى السنة، وكذلك قال ابن عباس لمعاوية حين قال له معاوية: ليس شىء من البيت مهجورًا، فقال ابن عباس: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب: 21] .
54 - باب تَقْبِيلِ الْحَجَرِ
/ 81 - فيه: عُمَرَ أَنَّهُ قَبَّلَ الْحَجَرَ، وَقَالَ: لَوْلا أَنِّى رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَبَّلَكَ مَا قَبَّلْتُكَ. / 82 - وفيه: ابْن عُمَرَ، أنَّهُ سَأل رجل عَنِ اسْتِلامِ الْحَجَرِ، فَقَالَ: رَأَيْتُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ زُحِمْتُ، أَرَأَيْتَ إِنْ غُلِبْتُ؟ قَالَ: اجْعَلْ أَرَأَيْتَ بِالْيَمَنِ، رَأَيْتُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ. لا يختلف العلماء أن تقبيل الحجر الأسود فى الطواف من سنن الحج لمن قدر عليه، فإن لم يقدر عليه وضع يده عليه مستلمًا ثم رفعها إلى فيه، فإن لم يقدر قام بحذائه وكبر، فإن لم يفعل فلا أعلم أحدا أوجب عليه فدية ولا دَمَا. قال المهلب: وقول عمر: (لولا أنى رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقبلك ما قبلتك) . إنما قاله دفعًا لأمر الجاهلية وما كانوا يعبدونه من الأحجار، فأعلم الناس أن تقبيله للحجر ليست عبادة له، إنما هى عبادة لله باتباع سنة رسوله، والحجر لا يضر ولا ينفع، إنما ينفع الاستتان برسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى تقبيله، وقد تقدم هذا المعنى للطبرى،(4/292)
وروى ابن المنذر عن إبراهيم بن مرزوق قال: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن نبى الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (ليبعثن اللهُ الحجَر يوم القيامة له عينان ولسان، يشهد لمن استلمه بحق) .
55 - باب التَّكْبِيرِ عِنْدَ الرُّكْنِ
/ 83 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: طَافَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بِالْبَيْتِ عَلَى بَعِيرٍ، كُلَّمَا أَتَى الرُّكْنَ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَىْءٍ كَانَ عِنْدَهُ وَكَبَّرَ. قد تقدم أن التكبير عند الركن دون استلام لا يفعل اختيارًا، وإنما يُفعل لعذر مرض أو زحام الناس عند الحجر. واختلفوا فى الطواف راكبًا أو محمولاً، فقال الشافعى: لا أحب لمن أطاق الطواف ماشيًا أن يركب، فإن طاف راكبًا أو محمولا من عذر أو غيره فلا دم عليه، واحتج بحديث ابن عباس هذا أن النبى عليه السلام طاف على راحلته، وبما رواه ابن جريج عن أبى الزبير، عن جابر (أن النبى عليه السلام طاف فى حجة الوداع بالبيت وبين الصفا والمروة على راحلته ليراه الناس، وليشرف لهم وليسألوه؛ لأن الناس غَشَوْهُ) . وذهب مالك والليث وأبو حنيفة إلى أن من طاف بالبيت راكبًا أو محمولا فإن كان من عذر أجزأه، وإن كان من غير عذر فعليه أن يعيد(4/293)
إن كان بمكة، وإن رجع إلى بلاده فعليه دم، وحجتهم ما رواه أبو داود قال: حدثنا مسدد، حدثنا خالد بن عبد الله، حدثنا يزيد بن أبى زياد، عن عكرمة، عن ابن عباس: (أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قدم مكة وهو يشتكى، فطاف على راحلته، كلما أتى الركن استلمه بمحجن، فلما فرغ من طوافه أناخ فصلى) . قالوا: فدل أن طوافه راكبًا كان لشكوى كانت به.
56 - باب مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ إِذَا قَدِمَ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى بَيْتِهِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّفَا
/ 84 - فيه: عَائِشَة، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، أَوَّلَ شَىْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ، ثُمَّ طَافَ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً، ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ مِثْلَهُ، ثُمَّ حَجَجْتُ مَعَ أَبِى الزُّبَيْرِ ابْن العوام، فَأَوَّلُ شَىْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ، ثُمَّ رَأَيْتُ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارَ يَفْعَلُونَهُ، وَقَدْ أَخْبَرَتْنِى أُمِّى أَنَّهَا أَهَلَّتْ هِىَ وَأُخْتُهَا وَالزُّبَيْرُ وَفُلانٌ وَفُلانٌ بِعُمْرَةٍ، فَلَمَّا مَسَحُوا الرُّكْنَ حَلُّوا. / 85 - وفيه: ابْن عُمَرَ، كَانَ، عليه السَّلام، إِذَا طَافَ فِى الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ أَوَّلَ مَا يَقْدَمُ سَعَى ثَلاثَةَ أَطْوَافٍ، وَمَشَى أَرْبَعَةً، ثُمَّ يسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. وَكَانَ يَسْعَى فِى بَطْنَ الْمَسِيلِ. غرضه فى هذا الباب أن يبين سنة من قدم مكة حاجا أو معتمرًا أن يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة، فإن كان معتمرًا حلق(4/294)
وحل، وإن كان حاجا ثبت على إحرامه حتى يخرج إلى منى يوم التروية لعمل حجه، ولذلك قال مالك: إذا دخلت المسجد فلا تبدأ بالركوع، ولكن تستلم الركن وتطوف، وكذلك فعل النبى عليه السلام. وقوله: (ثم لم تكن عمرة) يعنى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) طاف بالبيت ثم لم يحل من حجه بعمرة من أجل الهدى، وكذلك فعل أبو بكر وعمر أفردا الحج. وقال ابن المنذر: سَنَّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) للقادمين المحرمين بالحج تعجيل الطواف والسعى بين الصفا والمروة عند دخولهم، وفعل هو ذلك على ما روته عائشة عنه، وأمر من حَلَّ من أصحابه أن يحرموا إذا انطلقوا إلى منى، فإذا أحرم من هو منطلق إلى منى فغير جائز أن يكون طائفًا وهو منطلق إلى منى. فدل هذا الحديث على أن من أحرم من مكة من أهلها أو غيرهم أن السنة أن يؤخروا طوافهم وسعيهم إلى يوم النحر، خلاف فعل القادمين؛ لتفريق السنة بين الفريقين، وأيضًا فإن أهل العلم سموا هذا الطواف: طواف الورود، وليس من أنشأ الحج من مكة واردًا بحجه عليها، فسقط بذلك عنهم تعجيله. وكان ابن عباس يقول: يا أهل مكة، إنما طوافكم بالبيت وبين الصفا والمروة يوم النحر، وأما أهل الأمصار فإذا قدموا، وكان يقول: لا أرى لأهل مكة أن يحرموا بالحج حتى يخرجوا، ولا أن يطوفوا بين الصفا والمروة حتى يرجعوا، هذا قول ابن عمر وجابر، وقالوا: من أنشأ الحج من مكة فحكمه حكم أهل مكة. قال ابن المنذر: وهذا قول مالك وأهل المدينة وطاوس، وبه قال(4/295)
أحمد وإسحاق، واختلف قول مالك فيمن طاف وسعى قبل خروجه فكان يقول: يعيد إذا رجع ولا يجزئه طوافه الأول ولا سعيه، وقال أيضًا: إن رجع إلى بلاده قبل أن يعيد فعليه دم. ورخصت طائفة فى ذلك، ورأت المكى ومن دخل مكة إن طفا وسعيا قبل خروجهما أن ذلك جائز، هذا قول عطاء والشافعى، غير أن عطاء كان يرى تأخيره أفضل، وقد فعل ذلك ابنُ الزبير، أَهَلَّ لما أَهَلَّ هلالُ ذى الحجة، ثم طاف وسعى وخرج، وأجازه القاسم بن محمد، وقال عطاء: منزلة من جاور بمنزلة أهل مكة، إِنْ أَحْرَمَ أَوَّلَ العشر طاف حين يُحرم، وإن أحرم يوم التروية أخر الطواف إلى يوم النحر. واختلفوا فيمن قدم مكة فلم يطف حتى أتى منى، فقالت طائفة: عليه دم، هذا قول أبى ثور، واحتج بقول ابن عباس: (من ترك من نسكه شيئًا فليهرق لذلك دمًا) . وحكى أبو ثور عن مالك: يجزئه طواف الزيارة لطواف الدخول والزيارة والصدر، وحكى غيره عن مالك أنه إن كان مراهقًا فلا شىء عليه، فإن دخل غير مراهق فلم يطف حتى مضى إلى عرفات فإنه يهريق دما؛ لأنه فرط فى الطواف حين قدم حتى أتى إلى عرفات، وقال أبو حنيفة، والشافعى، وأشهب: لا شىء عليه إن ترك طواف القدوم. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من ترك طواف القدوم وطاف للزيارة ثم رجع إلى بلده أن حجه تام، ولم يوجبوا عليه الرجوع كما أوجبوه عليه فى طواف الإفاضة، فدل إجماعهم(4/296)
على ذلك أن طواف القدوم ليس بفرض، وكان ابن عمر وسعيد بن جبير ومجاهد والقاسم بن محمد لا يرون بأسًا إذا طاف الرجل أول النهار أنه يؤخر السعى حتى يبرد، وكذلك قال أحمد وإسحاق إذا كانت به علة، وقال الثورى: لا بأس إذا طاف أن يدخل الكعبة، فإذا خرج سعى. وقوله: (فلما مسحوا الركن حَلُّوا) . يريد بعد أن سعوا بين الصفا والمروة؛ لأن العمرة إنما هى الطواف بالبيت والسعى بين الصفا والمروة، ولا يحل من قدم مكة بأقل من هذا، فخشى البخارى أن يتوهم متوهم أن قوله: (فلما مسحوا الركن حلوا) أن العمرة إنما هى الطواف بالبيت فقط، وأن المعتمر يحل من عمرته بالطواف بالبيت، ولا يحتاج إلى سعى بين الصفا والمروة، وهو مذهب ابن عباس، وروى عنه أنه قال: إن العمرة الطواف. وقال به إسحاق ابن راهويه، ويمكن أن يحتج من قال بهذا بقراءة ابن مسعود: (وأتموا الحج والعمرة إلى البيت) . أى أن العمرة لا يجاوز بها البيت. فأراد البخارى بيان فساد هذا التأويل بما أردف فى آخر الباب من حديث ابن عمر: (أن النبى عليه السلام كان إذا قدم مكة للحج أو العمرة طاف بالبيت، ثم سعى بين الصفا والمروة) . وعلى هذا جماعة فقهاء الأمصار.(4/297)
57 - باب طَوَافِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ
/ 86 - فيه: عَطَاء أنَّهُ قَالَ لابن هِشَام إِذْ مَنَعَ النِّسَاءَ الطَّوَافَ مَعَ الرِّجَالِ: قَالَ: كَيْفَ يَمْنَعُهُنَّ وَقَدْ طَافَ نِسَاءُ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، مَعَ الرِّجَالِ؟ قَالَ: أَبَعْدَ الْحِجَابِ أَم قَبْلُ؟ قَالَ: لَقَدْ أَدْرَكْتُهُ بَعْدَ الْحِجَابِ، قُلْتُ: كَيْفَ يُخَالِطْنَ الرِّجَالَ؟ قَالَ: لَمْ يَكُنَّ يُخَالِطْنَ، كَانَتْ عَائِشَةُ تَطُوفُ حَجْرَةً مِنَ الرِّجَالِ لا تُخَالِطُهُمْ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: انْطَلِقِى نَسْتَلِمْ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَتِ: انْطَلِقِى عَنْكِ وَأَبَتْ، يَخْرُجْنَ مُتَنَكِّرَاتٍ بِاللَّيْلِ فَيَطُفْنَ مَعَ الرِّجَالِ، وَلَكِنَّهُنَّ كُنَّ إِذَا دَخَلْنَ الْبَيْتَ قُمْنَ حَتَّى يَدْخُلْنَ، وَأُخْرِجَ الرِّجَالُ وَكُنْتُ آتِى عَائِشَةَ أَنَا وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَهِىَ مُجَاوِرَةٌ فِى جَوْفِ ثَبِيرٍ، قُلْتُ: وَمَا حِجَابُهَا؟ قَالَ: هِىَ فِى قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ لَهَا غِشَاءٌ، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَرَأَيْتُ عَلَيْهَا دِرْعًا مُوَرَّدًا. / 87 - فيه: أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنِّى أَشْتَكِى، فَقَالَ: (طُوفِى مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ، وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ) ، فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حِينَئِذٍ يُصَلِّى إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ، وَهُوَ يَقْرَأُ: (وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (. قال المهلب: قول عطاء: قد طاف الرجال مع النساء، يريد أنهم(4/298)
طافوا فى وقت واحد غير مختلطات بالرجال؛ لأن سنتهن أن يطفن ويصلين وراء الرجال ويستترن عنهم؛ لقوله عليه السلام: (طوفى من وراء الناس وأنت راكبة) . وفيه: أن السنة إذا أراد النساء دخول البيت أن يخرج الرجال عنه، بخلاف الطواف حول البيت، وفيه المجاورة بمكة وهو نوع من الاعتكاف، وهو على ضربين: مجاورة بالليل والنهار، فهو الاعتكاف، ومجاورة بالنهار وانصراف بالليل على حسب نيته وشرطه فيها. وفيه: جواز المجاورة فى الحرم كله، وإن لم يكن فى المسجد الحرام؛ لأن ثبيرًا خارج عن مكة، وهو فى طريق منى، وقراءة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالطور كانت فى صلاة الفجر، كذلك بوب له البخارى فى كتاب الصلاة، وذكره بعد هذا فى باب: من صلى ركعتى الطواف خارجًا من المسجد: أن النبى عليه السلام قال لأم سلمة: (إذا أقيمت صلاة الصبح فطوفى على بعيرك والناس يصلون) . وابن جرير هو راوى الحديث عن عطاء، وهو السائل له عن هذه القصة، وبينهما جرى الخطاب، وعطاء هو القائل: وكنت آتى عائشة أنا وعبيد بن عمير وهى مجاورة فى جوف ثبير، قال: ورأيت عليها درعًا موردًا وأنا صبى، وروى عبد الرزاق هذا الحديث عن ابن جريج أتم من رواية البخارى، وقال فيه: فأبت أن تستلم، قال:(4/299)
وكن يخرجن متنكرات بالليل، وقال فيه أيضًا: (كن إذا دخلن البيت سترن حين يدخلن) ، مكان: (قمن حتى يدخلن) . وقوله: حجرة، يعنى ناحية من الناس معتزلة، وقال عبد الرزاق: يعنى محجوزًا بينها وبين الرجال بثوب، والتركية: قبة صغيرة من لبود.
58 - باب الْكَلامِ فِى الطَّوَافِ
/ 88 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، مَرَّ، وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ بِإِنْسَانٍ رَبَطَ يَدَهُ إِلَى إِنْسَانٍ بِسَيْرٍ أَوْ بِخَيْطٍ أَوْ بِشَىْءٍ غَيْرِ ذَلِكَ، فَقَطَعَهُ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: (قُدْهُ بِيَدِهِ) . وترجم له باب إذا رأى سيرًا أو شيئًا يكره فى الطواف قطعه. قال ابن المنذر: أَوْلى ما شَغَلَ المرءُ به نفسَهُ فى الطواف ذكرُ الله وقراءة القرآن، ولا يشتغل فيه بما لا يجدى عليه منفعة فى الآخرة، مع أنا لا نحرم الكلام المباح فيه، غير أن الذكر فيه أسلم؛ لأن من تخطى الذكر إلى غيره لم يأمن أن يخرجه ذلك إلى ما لا تحمد عاقبته، وقد قال ابن عباس: (الطواف صلاة، ولكن قد أذن الله لكم فيه(4/300)
بالكلام، فمن نطق فلا ينطق إلا بخير) . وقال عطاء: كانوا يطوفون ويتحدثون. وقال مالك: لا بأس بالكلام فيه، فأما الحديث فأكرهه. واختلفوا فى قراءة القرآن، فكان ابن المبارك يقول: ليس شىء أفضل من قراءة القرآن. وكان مجاهد يقرأ عليه القرآن فى الطواف، واستحبه الشافعى وأبو ثور، وقال الكوفيون: إذا قرأ فى نفسه. وكرهت طائفة قراءة القرآن، وروى ذلك عن عروة والحسن البصرى ومالك ابن أنس، وقال مالك: وما القراءة فيه من عمل الناس القديم، ولا بأس به إذا أخفاه، ولا يكثر منه. قال عطاء: قراءة القرآن فى الطواف محدث. وقال ابن المنذر: والقراءة أحب إلى من التسبيح، وكُل حَسَن، ومن أباح قراءة القرآن فى الطرق والبوادى ومنعه الطائف متحكم مدع لا حجة له. وينبغى أن يفتتح الطواف بتوحيد الله كما يفتتح الصلاة بالتكبير، ويخشع لربه، ويعقل بِبَيْتِ مَنْ يطوف، ولمعروف من يتعرض، وليسأل غفران ذنوبه والتجاوز عن سيئاته، ويشغل نفسه بذلك وخواطره، ويترك أمور الدنيا، كما فعل ابن عمر حين خطب إليه عروة بن الزبير ابنته فى الطواف، فلم يرد عليه كلامًا، فلما جاء إلى المدينة لقيه عروة فقال له ابن عمر: (أدركتنى فى الطواف ونحن نتراءى الله بين أعيننا، فذاك الذى منعنى أن أرد عليك، ثم زوجه) ، والذى سأل عروةُ باب من أبواب المباح، فأبى ابن عمر أن يجيبه تعظيمًا لله تعالى إذ هو طائف ببيته الحرام. وفى قطعه عليه السلام السير من يد الطائف من الفقه أنه يجوز(4/301)
للطائف فعل ما خف من الأفعال، وأنه إذا رأى منكرًا فله أن يغيره بيده، وإنما قطعه والله أعلم لأن القود بالأزمَّة إنما يُفعل بالبهائم، وهو مُثْلَة، وقد روى ابن جريج عن سليمان الأحول، عن طاوس، عن ابن عباس (أن الرسول مَرَّ وهو يطوف بالبيت بإنسان يقوده إنسان بخزامة فى أنفه، فقطعه عليه السلام وأمره أن يقوده بيده) .
59 - باب لا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ وَلا يَحُجُّ مُشْرِكٌ
/ 89 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ بَعَثَهُ فِى الْحَجَّةِ الَّتِى أَمَّرَهُ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَوْمَ النَّحْرِ فِى رَهْطٍ يُؤَذِّنُ فِى النَّاسِ: (أَلا لا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ) . قال المهلب: أراد عليه السلام أن ينظف له البيت من المشركين والعراة، ويكون حجه بهم عليه السلام على نظافة البيت من هاتين الطائفتين، وقد اختلف الناس فى حجة أبى بكر هذه إن كانت حجة الإسلام بعد نزول فرضه لقوله تعالى: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [آل عمران: 97] أو إن كانت على حج الجاهلية ومواسمها، والذى يعطى النظر أن حجة أبى بكر بالناس كانت حجة الإسلام وبعد نزول فرضه؛ لأن وقوفه كان بعرفة مع الناس كافة، وإنما كان الحمس وهم قريش يقفون بالمشعر الحرام، فلما خالف أبو بكر العادة بقريش، وأخرجهم من الحرم إلى عرفات، دل أنه إنما وقف بأمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فإن النبى (صلى الله عليه وسلم) إنما امتثل قوله تعالى: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) [البقرة: 199] يعنى العرب كافة، وقوله تعالى هذا هو متقدم بفرض الحج ووصف شرايعه كلها.(4/302)
فثبت بهذا أن حجة أبى بكر على حج الإسلام، مع أنه أيضًا حج فى ذى الحجة، وكانت العرب لا تتوخى بحجها إلا ما كانت عليه من النسئ، يحلونه عامًا ثم يحرمونه عامًا آخر، ودليل آخر أنه حج حجة الإسلام بعد نزول فرضه؛ بعثته عليه السلام لعلى فى أثره لينادى المشركين ببراءة، ولينبذ إليهم عهدهم بكتاب الله، وكذلك أمره ألا يطوف عريان ولا يحج مشرك؛ لقوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) [التوبة: 28] وفى هذه السورة ذكر النسئ وذكر شرائع الحج، وهذا يدل أن الحج لازم للمسلمين، ليس على الفور ولا على وقت معين كالصلاة والزكاة والصيام، بل فى العمر كله مرة متى وجد إليه سبيلا، لا يتعلق بوقت دون وقت؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يحج بعد فور نزول فرض الحج عليه، بل أخر ذلك إلى عام آخر. قال ابن خواز بنداد: وقد اختلف فى هذه المسألة أصحاب مالك: وأصحاب أبى حنيفة، وأصحاب الشافعى على قولين، فقال مالك: إذا كانت المرأة صرورة أجبر الزوج على الإذن لها فى الحج ولا تعجل عليه وتؤخر عامًا بعد عام. قال: وسئل سحنون عن الرجل يجد ما يحج به فيؤخر ذلك سنين كثيرة مع قدرته على الحج، هل يفسق بتأخيره الحج وترد شهادته؟ قال: لا يفسق وإن مضى من عمره ستون سنة يؤخر فيها الحج وهو قادر على فعله، فإذا جاوز الستين سنة فسق وردت شهادته، قال: وتحصيل مذهبنا أن الحج تأخيره مع القدرة عليه، ورأينا أصحابنا العراقيين من المالكيين يقولون: هو على الفور، ولا يجوز تأخيره مع القدرة، وهو قول أبى يوسف والمزنى، وروى عن محمد بن الحسن أنه على التراخى، وكذلك روى عن أصحاب الشافعى القولان جميعًا.(4/303)
60 - باب إِذَا وَقَفَ فِى الطَّوَافِ
وَقَالَ عَطَاءٌ: فِيمَنْ يَطُوفُ فَتُقَامُ الصَّلاةُ أَوْ يُدْفَعُ عَنْ مَكَانِهِ: إِذَا سَلَّمَ يَرْجِعُ إِلَى حَيْثُ قُطِعَ عَلَيْهِ فَيَبْنِى، وَيُذْكَرُ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ. 61 - باب صَلَّى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، لِسُبُوعِهِ رَكْعَتَيْنِ وَقَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّى لِكُلِّ سُبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ: قُلْتُ لِلزُّهْرِىِّ: إِنَّ عَطَاءً يَقُولُ: تُجْزِئُهُ الْمَكْتُوبَةُ مِنْ رَكْعَتَىِ الطَّوَافِ، فَقَالَ: السُّنَّةُ أَفْضَلُ، لَمْ يَطُفِ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) سُبُوعًا قَطُّ إِلا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. / 90 - فيه: عَمْرٍو، سَأَلْنَا ابْنَ عُمَرَ أَيَقَعُ الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ فِى الْعُمْرَةِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؟ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، ثُمَّ صَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، وَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَقَالَ: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ إِسْوَةٌ حَسَنَةٌ (، وَسَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِاللَّهِ، فَقَالَ: لا يَقْرَبُ امْرَأَتَهُ حَتَّى يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. وترجم له: (باب من صلى ركعتى الطواف خلف المقام) .(4/304)
قال المؤلف: قال مالك: لا ينبغى الوقوف ولا الجلوس فى الطواف، فإن فعل منه شيئًا بنى فيما خف ولم يتطاول وأجزأه. وقال نافع: ما رأيت ابن عمر قائمًا قط إلا عند استلام الركن، وقال عمرو بن دينار: رأيت ابن الزبير يطوف فيسرع، قال نافع: ويقال: القيام فى الطواف بدعة، وطاف ابن عمر فى يوم حار ثم قعد فى الحجر، ثم استراح، ثم أتى ما بقى، وأجاز عطاء أن يجلس ويستريح فى الطواف، فإن قيل: فما معنى ذكره أن النبى عليه السلام طاف لسبوعه وصلى ركعتين فى باب إذا وقف فى الطواف؟ قيل: معناه والله أعلم أنه (صلى الله عليه وسلم) حين طاف وركع بأثره ركعتين لم يحفظ عنه أنه وقف ولا جلس فى طوافه. ولذلك قال نافع: إن القيام فيه بدعة إلا أن يضعف فلا بأس بالوقوف والقعود اليسير فيه للراحة، ويبنى عليه، وإنما كره العلماء القعود فيه والوقوف لغير عذر والله أعلم لأن من أجاب دعوة أبيه إبراهيم على بُعْدِ الشقة وشدة المشقة لا يصلح إذا بلغ إلى العمل أن يتوانى فيه بوقوف أو قعود لغير عذر، ولهذا المعنى والله أعلم كان ابن الزبير يسرع فى طوافه. وجمهور العلماء يرون لمن أقيمت عليه الصلاة البناء على طوافه إذا فرغ من صلاته، روى ذلك عن ابن عمر، وعطاء، والنخعى، وابن المسيب، وطاوس، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور إلا الحسن البصرى فإنه قال: يبتدئ الطواف. قال ابن المنذر: وحجة الجماعة أن الخارج إلى الصلاة المكتوبة(4/305)
معذور قد حيل بينه وبين أن يتم طوافه، فإذا فرغ ووجد السبيل إلى إكماله أكمله، وغير جائز أن يبطل عمل الطائف بغير حجة. وفى المسألة خلاف آخر ذكره عبد الرزاق عن أبى الشعثاء، أنه أقيمت عليه الصلاة وطاف خمسة أطواف فلم يتم ما بقى، وعن سعيد بن جبير مثله، وعن عطاء: إن كان الطواف تطوعًا وخرج فى وتر فإنه يجزئ عنه، وكذلك إن عرضت له حاجة فخرج فيها. وعن ابن عباس: من بدت له حاجة فخرج لها فليخرج على وتر من طوافه، ويركع ركعتين ولا يَعُدْ لبقيته. وقال مالك: من طاف بعض طوافه ثم خرج لصلاة على جنازة، أو خرج لنفقة نسيها، فليستأنف الطواف ولا يبنى، ولا يخرج من طوافه لشىء إلا الصلاة الفريضة، وهو قول الشافعى وأبى ثور، وقال أشهب: يبنى إذا صلى على جنازة، وهو قول أبى حنيفة، وقال ابن المنذر: لا يخرج من بِرٍّ هو فيه إلى بِرٍّ، وليتم طوافه. واختلف العلماء فيمن طاف سبوعًا ثم وافق صلاة مكتوبة هل تجزئه من ركعتى الطواف؟ فروى عن ابن عمر أنه أجاز ذلك خلاف ما ذكره البخارى عنه أنه كان يفعله، وروى مثله عن سالم وعطاء وأبى الشعثاء، قال أبو الشعثاء: ولو طاف خمسة. وقال الزهرى ومالك وأبو حنيفة: لا يجزئه. قال ابن المنذر: ويشبه مذهب الشافعى، وهو قول أبى ثور، واحتجاج ابن شهاب على عطاء فى هذا الباب بأن النبى عليه السلام لم يطف سبعًا قط إلا صلى ركعتين فى أنه لا تجزئه المكتوبة من ركعتى الطواف؛ مغن عن غيره، وكان طاوس يصلى لكل سبوع أربع ركعات، فذكر ذلك لابن جريج فقال: حدثنا عطاء أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)(4/306)
كان يصلى على كل سبوع ركعتين. وعلى هذا مذهب الفقهاء. قال ابن المنذر: ثبت أن النبى (صلى الله عليه وسلم) طاف بالبيت سبعًا وصلى ركعتين. وأجمعوا أن من فعل فعله عليه السلام فهو متبع للسنة، ورخصت طائفة أن يجمع أسابيع ثم يركع لها كلها، روى ذلك عن عائشة وعطاء وطاوس، وبه قال أبو يوسف وأحمد وإسحاق، وكره ذلك ابن عمر والحسن البصرى وعروة والزهرى، وهو قول مالك والكوفيين وأبى ثور، وهذا القول أولى؛ لأن فاعله متبع للسنة. قال ابن المنذر: وأرجو أن يجزئ القول الأول، وهو كمن صلى وعليه صلاة قبلها، أو طاف وعليه صلاة ثم صلاها بعد طوافه، قال: وثبت أن النبى عليه السلام صلى ركعتى الطواف عند المقام. وأجمع العلماء أن الطائف يجوز أن يركعهما حيث شاء إلا مالكًا فإنه كره أن يركعهما فى الحجر، وقد صلى ابن عمر ركعتى الطواف فى البيت، وصلاهما ابن الزبير فى الحجر، قال مالك: ومن صلى ركعتى الطواف والمروة، وإن لم يركعهما حتى يبلغ بلده أهراق دمًا ولا إعادة عليه. قال ابن المنذر: ولا يخلو من صلى فى الحجر ركوع الطواف أن يكون قد صلاهما، فلا إعادة عليه، أو يكون فى معنى من لم يصلهما فعليه أن يعيد أبدًا، فأما أن يكون بمكة فى معنى من لم يصلهما وإن رجع إلى بلاده فى معنى من قد صلاهما، فلا أعلم لقائله حجة فى التفريق بين ذلك، ولا أعلم الدم يجب فى شىء من أبواب الطواف.(4/307)
62 - باب مَنْ لَمْ يَقْرَبِ الْكَعْبَةَ وَلَمْ يَطُفْ حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى عَرَفات وَيَرْجِعَ بَعْدَ الطَّوَافِ الأوَّلِ
/ 91 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَدِمَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، مَكَّةَ فَطَافَ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلَمْ يَقْرَبِ الْكَعْبَةَ بَعْدَ طَوَافِهِ بِهَا، حَتَّى رَجَعَ مِنْ عَرَفَةَ. قال المهلب: معنى قوله: من لم يقرب الكعبة، يريد من لم يطف طوافًا آخر تطوعًا غير طواف الورود؛ لأن الحاج لا طواف عليه غير طواف الورود حتى يخرج إلى عرفات وينصرف ويرمى جمرة العقبة، وكذلك يطوف طواف الإفاضة الذى هو الفرض، وهذا معنى حديث ابن عباس، وهو اختيار مالك لا ينتقل بطواف بعد طواف الورود حتى يتم حجه، وقد جعل الله فى ذلك توسعة، فمن أراد أن يطوف بعد طواف الورود فله ما شاء من ذلك ليلاً ونهارًا، ولا سيما إن كان من أقاصى البلدان، ومن لا عهد به بالطواف بالبيت فقد قال مالك: إن الطواف بالبيت أفضل من صلاة النافلة لمن كان من أهل البلاد البعيدة؛ لقلة وجود السبيل إلى البيت. وروى عن عطاء والحسن قالا: إذا أقام الغريب بمكة أربعين يومًا كانت الصلاة أفضل له من الطواف، وقال أنس: الصلاة للغرباء أفضل.
63 - باب مَنْ صَلَّى رَكْعَتَىِ الطَّوَافِ خَارِجًا مِنَ الْمَسْجِدِ وَصَلَّى عُمَرُ خَارِجًا مِنَ الْحَرَمِ.
/ 92 - فيه: أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ نَبِى اللَّه (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ وَهُوَ بِمَكَّةَ وَأَرَادَ الْخُرُوجَ وَلَمْ تَكُنْ طَافَتْ بِالْبَيْتِ وَأَرَادَتِ الْخُرُوجَ: (إِذَا أُقِيمَتْ صَلاةُ الصُّبْحِ فَطُوفِى(4/308)
عَلَى بَعِيرِكِ، وَالنَّاسُ يُصَلُّون) ، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ، فَلَمْ تُصَلِّ حَتَّى خَرَجَتْ. قال ابن المنذر: واختلفوا فى من نسى ركعتى الطواف حتى خرج من الحرم أو رجع إلى بلاده، فقال عطاء والحسن البصرى: يركعهما حيثما ذكر من حِلٍّ أو حَرَم، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعى، وهو موافق لحديث أم سلمة؛ لأنه ليس فى الحديث أنها صلتها فى الحرم أو فى الحل، وقال الثورى: يركعهما حيث شاء ما لم يخرج من الحرم. قال مالك: إن لم يركعهما حتى تباعد أو رجع إلى بلاده عليه دم. وقال فى المدونة: من طاف فى غير إبّان صلاة أَخَّرَ الركعتين، وإن خرج إلى الحل ركعهما فيه ويجزئانه ما لم ينتقض وضوءه، فإن انتقض قبل أن يركعهما وكان طوافه ذلك واجبًا رجع فابتدأ بالطواف بالبيت وركع؛ لأن الركعتين من الطواف تُوصَلا به إلا أن يتباعد، فليركعهما ويهدى ولا يرجع. قال ابن المنذر: ليس ذلك أكثر من صلاة المكتوبة، وليس على من تركها إلا قضاؤها حيث ذكرها.(4/309)
64 - باب الطَّوَافِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّى رَكْعَتَىِ الطَّوَافِ مَا لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ، وَطَافَ عُمَرُ بَعْدَ صَلاةِ الصُّبْحِ، فَرَكِبَ حَتَّى صَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ بِذِى طُوًى، يعنِى بعد طلوع الشَّمس. / 93 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ نَاسًا طَافُوا بِالْبَيْتِ بَعْدَ صَلاةِ الصُّبْحِ، ثُمَّ قَعَدُوا إِلَى الْمُذَكِّرِ، حَتَّى إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ قَامُوا يُصَلُّونَ. / 94 - وفيه: ابْن عُمَرَ، سَمِعْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، يَنْهَى عِنِ الصَّلاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا. / 95 - قَالَ عَبْدُالْعَزِيزِ بْنُ رُفَيْعٍ: رَأَيْتُ ابْن الزُّبَيْرِ، يَطُوفُ بَعْدَ الْفَجْرِ، وَيُصَلِّى رَكْعَتَيْنِ، وَيُخْبِرُ عن عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، لَمْ يَدْخُلْ بَيْتَهَا قط إِلا صَلاهُمَا. قال المؤلف: قد ذكر البخارى الخلاف فى هذه المسألة عن الصحابة، وكان ابن عمر يصلى بعد الصبح والعصر ركعتى الطواف، وهو قول عطاء، وطاوس، والقاسم، وعروة، وإليه ذهب الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وحجتهم حديث ابن عيينة عن أبى الزبير، عن عبد الله بن بابيه، عن جبير بن مطعم: أن النبى عليه السلام قال: (يا بنى عبد مناف، لا تمنعن أحدًا طاف بهذا البيت وصلى أى ساعة شاء من ليل أو نهار) . فَعَمَّ الأوقات كلها. وروى عن أبى سعيد الخدرى مثل قول عمر بن الخطاب: لا بأس بالطواف بعد الصبح والعصر، ويؤخر الركعتين إلى بعد طلوع الشمس وبعد غروبها رواه سفيان عن الزهرى، عن عروة،(4/310)
عن عبد الرحمن بن عبد القارى قال: طاف عمر بالبيت بعد الصبح فلم يركع، فلما صار بذى طوى وطلعت الشمس صلى ركعتين، وهو قول مالك وأبى حنيفة والثورى. قال الطحاوى: فهذا عمر، رضى الله عنه، لم يركع حين طاف؛ لأنه لم يكن عنده وقت صلاة، وأخر ذلك إلى أن دخل عليه وقت الصلاة، وهذا بحضرة جماعة من أصحاب النبى عليه السلام فلم ينكره عليه منهم أحد، ولو كان ذلك الوقت عنده وقت صلاة الطواف لصلى، ولما أخر ذلك؛ لأنه لا ينبغى لأحد طاف بالبيت إلا أن يصلى حينئذ إلا من عذر. وقد روى ذلك عن معاذ بن عفراء، وعن ابن عمر، حدثنا ابن خزيمة، حدثنا حجاج، حدثنا همام، حدثنا نافع: أن ابن عمر قدم عند صلاة الصبح فطاف ولم يصل إلا بعد ما طلعت الشمس، فهذا قول آخر عن ابن عمر فى المسألة غير ما ذكره عنه البخارى. قال المهلب: وما ذكره البخارى عن ابن عمر أنه كان يركع ركعتى الطواف ما لم تطلع الشمس، وهو يروى نهى النبى عليه السلام عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، فيدل والله أعلم أن النهى عنده عن ذلك إنما هو عند موافقة الطلوع والغروب، فأما إذا أمن أن يوافق ذلك فله أن يصلى ركعتى الطواف؛ لأن الوقت لهما واسع، ومن سنتهما الاتصال بالطواف. وقد بين ذلك ما رواه الطحاوى قال: حدثنا أحمد بن داود قال: نا يعقوب بن حميد، حدثنا ابن أبى غنية، عن عمر بن(4/311)
ذر، عن مجاهد قال: كان ابن عمر يطوف بعد العصر ويصلى ما كانت الشمس بيضاء حية، فإذا اصفرت وتغيرت طاف طوافًا واحدًا حتى يصلى المغرب، ثم يصلى ويطوف بعد الصبح ما كان فى غلس، فإذا أسفر طاف طوافًا واحدًا ثم يجلس حتى ترتفع الشمس ويمكن الركوع، وهذا قول مجاهد والنخعى وعطاء، وهو قول ثالث فى المسألة ذكره الطحاوى.
65 - باب الْمَرِيضِ يَطُوفُ رَاكِبًا
/ 96 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، طَافَ بِالْبَيْتِ وَهُوَ عَلَى بَعِيرٍ، كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَىْءٍ فِى يَدِهِ وَكَبَّرَ. / 97 - وفيه: أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: شَكَوْتُ إِلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) أَنِّى أَشْتَكِى، فَقَالَ: (طُوفِى مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ، وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ) ، فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّى إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ، وَهُوَ يَقْرَأُ بِ: (الطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (. قد تقدم فى (باب: التكبير عند الركن) حديث مسدد عن ابن عباس من رواية أبى داود: (أن نبى الله كان مريضًا) ولذلك طاف راكبًا، وعلى هذا تأوله البخارى، ولذلك ترجم لحديث ابن عباس باب: المريض يطوف راكبًا، وذكر معه حديث أم سلمة، وأنه عليه السلام إنما أباح لها الطواف راكبة لشكواها. قال ابن المنذر: وأجمع أهل العلم على جواز طواف المريض على الدابة ومحمولا، إلا عطاء روى عنه فيها قولان: أحدهما: أن يطاف به، والآخر: أن يستأجر من يطوف عنه، وقد تقدم قول(4/312)
من أجاز طواف الصحيح راكبًا لغير عذر فى باب التكبير عند الركن، واختلافهم فى الطواف راكبًا لغير عذر. قال المهلب: وفيه أنه لا يجب أن يطوف أحد بالبيت فى وقت صلاة الجماعة إلا من وراء الناس، ولا يطوف بين المصلين وبين البيت فيشغل الإمام والناس ويؤذيهم، وفيه: أن ترك أذى المسلم أفضل من صلاة الجماعة، ومثله قوله عليه السلام: (من أكل من هذه الشجرة فلا يقربن مسجدنا) .
66 - باب سِقَايَةِ الْحَاجِّ
/ 98 - فيه: ابْن عُمَرَ، اسْتَأْذَنَ الْعَبَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِىَ مِنًى مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ، فَأَذِنَ لَهُ. / 99 - وفيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، جَاءَ إِلَى السِّقَايَةِ فَاسْتَسْقَى، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا فَضْلُ، اذْهَبْ إِلَى أُمِّكَ فَأْتِ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِشَرَابٍ مِنْ عِنْدِهَا، فَقَالَ: (اسْقِنِى) ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ أَيْدِيَهُمْ فِيهِ، قَالَ: (اسْقِنِى) ، فَشَرِبَ مِنْهُ، ثُمَّ أَتَى زَمْزَمَ، وَهُمْ يَسْقُونَ وَيَعْمَلُونَ فِيهَا، فَقَالَ: (اعْمَلُوا فَإِنَّكُمْ عَلَى عَمَلٍ صَالِحٍ) ، ثُمَّ قَالَ: (لَوْلا أَنْ تُغْلَبُوا لَنَزَلْتُ حَتَّى أَضَعَ الْحَبْلَ عَلَى هَذِهِ، يَعْنِى عَاتِقَهُ) . قال جماعة من أهل السير: كانت السقاية للعباس مكرمة، يسقى الناس نبيذ التمر، فأقرها النبى عليه السلام فى الإسلام، وروى عن طاوس قال: شُرْبُ نبيذ السقاية من تمام الحج، وقال عطاء: لقد أدركت هذا الشراب، وإن الرجل ليشربه فتلتزق شفتاه من حلاوته، فلما ذهب الخزنة وَوَلِيَهُ العبيد تهاونوا بالشراب(4/313)
واستخفوا به، وروى ابن جريج عن نافع، أن ابن عمر لم يكن يشرب من النبيذ فى الحج. وروى الطبرى حديث ابن عباس فى قصة السقاية أتم مما ذكرها البخارى فقال: حدثنا أبو كريب، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن يزيد بن أبى زياد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: (لما طاف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أتى العباس وهو فى السقاية فقال: (اسقونى) ، قال العباس: إن هذا قد مرث، أفلا نسقيك مما فى بيوتنا؟ قال: (لا، ولكن اسقونى مما شرب الناس) ، فأتى به فذاقه فقطب، ثم دعا بماء فكسره، ثم قال: (إذا اشتد نبيذكم فاكسروه بالماء) . فاستدل أهل الكوفة بهذا الخبر على جواز شرب المسكر، قالوا: وقد روى عن عمر وعلى مثل ذلك. قال الطبرى: فيقال لهم: إن تقطيبه منه لم يكن لأجل أنه كان مسكرًا، ولا أن قوله: (إذا اشتد نبيذكم فاكسروا بالماء) أن معناه: إذا اشتد فصار يسكر شرب كثيره؛ لأن ذلك لو كان معناه لكان ذلك إباحة منه عليه السلام شرب الخمر إذا صب عليه الماء؛ لأن الخمر لا تصير حلالا بصب الماء عليها، بل تفسد الماء الذى يخالطها ويزول عن حد الطهارة. فدل أن تقطيبه منه عليه السلام إنما كان من حموضته لا من إسكاره، وأن قوله: (إذا رابكم منه شىء) . يعنى إذا خفتم تغييره إما إلى حموضة، وإما إلى إسكار، فاكسروه قبل تغييره إلى ذلك؛ كى لا يفسد عليكم، وهذا من أدل الدليل على تحريم شرب ما(4/314)
أسكر كثيره؛ لأنه أمر بكسره بالماء إذا صار إلى حد يريب شاربه، فلو حل شربه بعدما يصير مسكرًا لم يأمر بعلاجه بالماء قبل مصيره مسكرًا، بل كان يقول عليه السلام: إذا رابكم منه شىء فانتفعوا به واشربوه، ولا تكسروه. وإنما أمر بكسره؛ لأنه كان قد بدت فيه الاستحالة إلى الخَلِّية بما حدث فيه من الفساد والحموضة، وذلك موجود فى الأشربة التى تنتقل إلى الحموضة قبل دخول الحال التى تصير بها خمرًا، فكسره بالماء ليهون عليه شربه، ومثل هذا المعنى ما روى عن عمر وعلى فى ذلك، حدثنا الربيع بن سليمان، حدثنا ابن وهب، عن أسامة بن زيد، أنه سمع نافعًا يقول: إن عمر قال ليرفأ: اذهب إلى إخواننا الثقفيين فالتمس لنا عندهم شرابًا، فأتاهم فقالوا: ما عندنا إلا هذه الإداوة وقد تغيرت، فدعا بها عمر فذاقها، فقبض وجهه، ثم دعا بالماء فصب عليه فشرب. قال نافع: والله ما قبض وجهه إلا أنها تخللت. قال ابن وهب: وحدثنا عمرو بن الحارث، أن سلام بن حفص أخبره، أن زيد بن أسلم، أخبره أن أصحاب النبى عليه السلام كانوا إذا حمض عليهم النبيذ كسروه بالماء. وروى إسماعيل بن أبى خالد عن قيس قال: حدثنا عتبة بن فرقد قال: دعا عمر بعس من نبيذ قد كاد يكون خلا، فقال لى: اشرب، فأخذته فجعلت لا أستطيع شربه، فأخذه من يدى فشرب حتى قضى حاجته. قال المهلب: وإنما أذن النبى (صلى الله عليه وسلم) للعباس فى المبيت عن منى، ولم يوجب عليه الهدى من أجل السقاية؛ لأنها عمل من أعمال الحج،(4/315)
ألا ترى قوله عليه السلام إذ ورد زمزم وهم يسقون: (اعملوا فإنكم على عمل صالح) وقوله عليه السلام: (لولا أن تغلبوا لنزلت) يعنى: لنزلت لاستقاء الماء، فهذه ولاية من النبى عليه السلام للعباس وآله السقاية، وإنما خشى أن تتخذها الملوك سنة يغلبون عليها من وليها من ذرية العباس.
67 - باب مَا جَاءَ فِى زَمْزَمَ
/ 100 - فيه: أَبُو ذَرٍّ، قَالَ، عليه السَّلام: (فُرِجَ سَقْفِى، وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ، فَفَرَجَ صَدْرِى، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَأَفْرَغَهَا فِى صَدْرِى، ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِى، فَعَرَجَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا. . .) الحديث. / 101 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ زَمْزَمَ، فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ. فَحَلَفَ عِكْرِمَةُ مَا كَانَ يَوْمَئِذٍ إِلا عَلَى بَعِيرٍ. قال المهلب: فيه أن شرب ماء زمزم من سنن الحج لفضله وبركته، وقد قال ابن عباس: إن ماء زمزم لما شرب له، وقال مجاهد: إن شربته تريد الشفاء شفاك الله، وإن شربته تريد أن تقطع ظمأك قطعه الله، وإن شربته تريد أن يشبعك أشبعك الله، وهى هزمة جبريل، وسقيا الله إسماعيل. وقال وهب بن منبه: تجدها فى كتاب الله. يعنى: زمزم شراب الأبرار، وطعام طعم، وشفاء من سقم، ولا تُنْزَحُ ولا تُذَمُّ، من شرب منها حتى يتضلع أحدثت له شفاء، وأخرجت منه داء.(4/316)
وروى ابن جريج عن نافع عن ابن عمر أنه كان لا يشرب منها فى الحج، ومعنى ذلك أنه كان قد شرب منه ولم يواظب على شربه؛ لئلا يظن به أنه كان يرى شربه من الفرض اللازم، ولا يجوز أن يتأول عليه ترك شيئًا فعله النبى عليه السلام لأنه لم يكن أحد أتبع منه لآثار رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . قال ابن عباس: ينبغى أن يأخذ الدلو، ويستقبل القبلة، ويدعو الله، ثم يشرب ويتنفس ثلاث مرات، ويتضلع منها، فإنى سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: (إن آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلعون من زمزم) . قال معمر عن الزهرى: إن عبد المطلب لما انبط ماء زمزم بنى عليها حوضًا، فطفق هو وابنه الحارث ينزعان، فيملآن ذلك الحوض فيشرب فيه الحاج، فيكسره أناس من حسدة قريش بالليل، ويصلحه عبد المطلب حين يصبح، فلما أكثروا إفساده دعا عبد المطلب ربه، فأرى فى المنام فقيل له: قل: اللهم إنى لا أحلها لمغتسل، ولكن هى لشارب حِل وبِل، ثم كفيتهم. فقام فنادى بالذى أرى فلم يكن أحد يفسد عليه حوضه بالليل إلا رمى بداء فى جسده، ثم تركوا له حوضه وسقايته، قال سفيان: حِل بِل محل.
68 - باب طَوَافِ الْقَارِنِ
/ 102 - فيه: عَائِشَةَ، خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ قَالَ: (مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْىٌ فَلْيُهِلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، ثُمَّ لا يَحِلُّ حَتَّى(4/317)
يَحِلَّ مِنْهُمَا) ، فَقَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ، فَلَمَّا قَضَيْنَا حَجَّنَا، أَرْسَلَنِى مَعَ عَبْدِالرَّحْمَنِ إِلَى التَّنْعِيمِ، فَاعْتَمَرْتُ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (هَذِهِ مَكَانَ عُمْرَتِكِ) ، فَطَافَ الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ حَلُّوا ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا آخَرَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى، وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا. / 103 - وفيه: ابْنَ عُمَرَ، إِنْ حِيلَ بَيْنِى وَبَين الْبَيْتَ أَفْعَلُ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ قَالَ: (أُشْهِدُكُمْ أَنِّى قَدْ أَوْجَبْتُ مَعَ عُمْرَتِى حَجًّا) ، ثُمَّ قَدِمَ، فَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا. / 104 - وفيه: خبر آخر عن ابْن عُمَرَ، وَأَهْدَى هَدْيًا، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمْ يَنْحَرْ وَلَمْ يَحِلَّ مِنْ شَىْءٍ حَرُمَ مِنْهُ، وَلَمْ يَحْلِقْ، وَلَمْ يُقَصِّرْ، حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ فَنَحَرَ، وَحَلَقَ، وَرَأَى أَنْ قَدْ قَضَى طَوَافَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِطَوَافِهِ الأوَّلِ، ثُمَّ قام لهما طوافًا واحدًا. اختلف العلماء فى طواف القارن، فروى عن ابن عمر وجابر بن عبد الله أنه يجزئه طواف واحد وسعى واحد، وروى ذلك عن عطاء وطاوس والحسن، وهو قول مالك والشافعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور، وحجتهم أحاديث هذا الباب. وقالت طائفة: على القارن طوافان وسعيان. روى ذلك عن على وابن مسعود، وعن الشعبى وابن أبى ليلى، وإليه ذهب الثورى وأبو حنيفة والأوزاعى، واحتجوا بأن العمرة إذا أفردها لزمته أفعالها، فلم يكن ضمها إلى الحج بموجب لسقوط جميع أفعالها، دليله التمتع.(4/318)
قال ابن القصار: فيقال لهم: هذا ينتقض بالحلق؛ لأن المتمتع لما كان عليه حِلاقان، كان عليه طوافان، ولما كان القارن يكفيه حلق واحد كفاه طواف واحد، فإن قالوا: قياسكم الطواف على الحلق لا يسلم؛ لأن المستحق فى الحلق عن كل إحرام مقدار الربع فمتى حلق جميع رأسه بعد الحلق، فيقوم مقام الحلق الآخر عند العجز، فيقال لهم: ما تقولون إن اقتصر القارن على حلق ربع رأسه ولم يتجاوزه، ولم يجر الموسى على رأسه، هل يجزئه أو يحتاج إلى زيادة ربع آخر، فإن قلتم هذا، فليس هو مذهبكم، وإن كفاه واحد، فقد ثبت ما قلناه، وأيضًا فإن القارن إن قتل صيدًا واحدًا فعليه جزاء واحد. قال غيره: والحجة للكوفيين لازمة بحديث عائشة وابن عمر؛ لأنهم يأخذون بحديث عائشة فى رفض العمرة مع احتماله فى ذلك للتأويل، ويتركونه فى طواف القارن، وهو لا يحتمل التأويل، قال ابن المنذر: والرواية عن على لا تثبت؛ لأن راويها أبو نصر عن على، وأبو نصر مجهول، ولو كان ثابتًا لكانت سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أولى. وذكر عبد الرازق عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن على قال: (القارن يجزئه طواف واحد وسعى واحد) بخلاف رواية أهل العراق عنه، وقول ابن عمر: (إذًا أصنع كما صنع رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) يعنى: حين صُدَّ عليه السلام عام الحديبية، فَحَلَق ونَحَر وحَلَّ، فلم يصد ابن عمر فقران الحج إلى العمرة، وكان عمله لهما واحدًا(4/319)
وطوافًا واحدًا، وقد احتج أبو ثور لذلك فقال: لما لم يجز أن يجمع بين عملين إلا الحج والعمرة فأجزنا ومن خالفنا لهما سفرًا واحدًا، وإحرامًا واحدًا، وكذلك التلبية؛ كان كذلك يجزئ عنهما طواف واحد وسعى واحد.
69 - باب الطَّوَافِ عَلَى وُضُوءٍ
/ 105 - فيه: عُرْوَة، عن عَائِشَةَ، حَجَّ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فَأَوَّلُ شَىْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ، ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً، ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ، فَكَانَ أَوَّلَ شَىْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً، ثُمَّ عُمَرُ كذَلِكَ. . . وذكر الحديث. هذا الحديث حجة لمن اختار الإفراد بالحج وأن ذلك كان عمل النبى عليه السلام وأصحابه بعده، لم يعدل أحد منهم إلى تمتع ولا قران؛ لقولها: (ثم لم تكن عمرة) . وفيه ما ترجم به أن سنة الطواف أن يكون على طهارة، واتفق جمهور العلماء على أنه لا يجزئ بغير طهارة كالصلاة، وخالف ذلك أبو حنيفة فقال: إن طاف بغير طهارة، فإن أمكنه إعادة الطواف أعاده، وإن رجع إلى بلاده جبره بالدم. قال ابن القصار: والحجة للجماعة قول عائشة: (أول شىء بدأ به النبى عليه السلام أنه توضأ ثم طاف بالبيت) وفعله على الوجوب إلا أن تقوم دلالة، وأيضًا فإن فعله خرج مخرج البيان لقوله تعالى: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج: 29] ؛ لأن الطواف مجمل يحتاج إلى بيان صفته؛ لأنه يقتضى طوفة واحدة.(4/320)
وقد قال ابن عباس: (إن الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله تعالى أباح فيه المنطق) وقد يكون فى الشرع صلاة لا ركوع فيها ولا سجود كصلاة الجنازة، فإن قيل: فينبغى أن يكون لها تحريم وتسليم، قيل: ليس كل ما كان صلاة يحتاج إلى ذلك؛ لأن كثيرًا من الناس من يقول فى سجود السهو أنه صلاة ولا يحتاج إلى ذلك، وكذلك سجود التلاوة، ولنا أن نستدل بحديث صفية لما حاضت فقال: (أحابستنا هى؟ فلما قيل: إنها قد أفاضت، قال: فلا إذاَ) . فلو كان الدم ينوب مناب طوافها بغير طهارة لكان عليه السلام لا يحتاج أن يقيم هو وأصحابه إلى أن تطهر ثم تطوفه، فإن قيل: إن الطواف ركن لا يصح الحج إلا به فلا يحتاج إلى طهارة كالوقوف بعرفة، قيل: لما كان يعقب كل أُسْبُوع من الطواف ركعتان، لا فصل بينه وبينهما، وجب أن يكون الطائف متوضئًا لتتصل صلاته بطوافه، والوقوف بعرفة لا صلاة بأثره، فافترقا. واختلفوا فيمن انتقض وضوءه وهو فى الطواف، فقال عطاء ومالك: يتوضأ ويستأنف الطواف، قال مالك: وهو بخلاف السعى بين الصفا والمروة لا يقطع عليه ذلك ما أصابه من انتقاض وضوئه، وقال النخعى: يبنى. وهو قول الشافعى وأحمد وإسحاق، إلا أن الشافعى قال: إن تطاول استأنف. وقال مالك: إن كان تطوعًا فأراد إتمامه توضأ واستأنف، وإن لم يرد إتمامه تركه. وقد تقدم بعض ما فى هذا الحديث فى باب: من طاف بالبيت إذا قدم مكة، وسيأتى شىء منه فى باب: متى يحل المعتمر بعد هذا إن شاء الله.(4/321)
70 - باب وُجُوبِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَجُعِلَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ
/ 106 - فيه: عُرْوَة: سَأَلْتُ عَائِشَةَ أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) [البقرة: 158] ، فَوَاللَّهِ مَا عَلَى أَحَدٍ جُنَاحٌ أَنْ لا يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، قَالَتْ: بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا ابْنَ أُخْتِى، إِنَّ هَذِهِ لَوْ كَانَتْ كَمَا أَوَّلْتَهَا عَلَيْهِ كَانَتْ لا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لا يَتَطَوَّفَ بِهِمَا، وَلَكِنَّهَا أُنْزِلَتْ فِى الأنْصَارِ كَانُوا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ الَّتِى كَانُوا يَعْبُدُونَهَا عِنْدَ الْمُشَلَّلِ، فَكَانَ مَنْ أَهَلَّ يَتَحَرَّجُ أَنْ يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ ذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا نَتَحَرَّجُ أَنْ نَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ (الآيَةَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَقَدْ سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا، فَلَيْسَ لأحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ أَخْبَرْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِالرَّحْمَنِ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَعِلْمٌ مَا كُنْتُ سَمِعْتُهُ، وَلَقَدْ سَمِعْتُ رِجَالا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَذْكُرُونَ أَنَّ النَّاسَ إِلا مَنْ ذَكَرَتْ عَائِشَةُ مِمَّنْ كَانَ يُهِلُّ بِمَنَاةَ، كَانُوا يَطُوفُونَ كُلُّهُمْ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ فِى الْقُرْآنِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُنَّا نَطُوفُ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ فَلَمْ يَذْكُرِ الصَّفَا، فَهَلْ عَلَيْنَا مِنْ حَرَجٍ أَنْ نَطَّوَّفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ (الآيَةَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَسْمَعُ هَذِهِ الآيَةَ(4/322)
نَزَلَتْ فِى الْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا فِى الَّذِينَ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَطُوفُوا بِالْجَاهِلِيَّةِ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَالَّذِينَ يَطُوفُونَ، ثُمَّ تَحَرَّجُوا أَنْ يَطُوفُوا بِهِمَا فِى الإسْلامِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الصَّفَا حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا ذَكَرَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ. قال المؤلف: ذكر إسماعيل بن إسحاق عن الشعبى قال: كان على الصفا وثن يقال له: (يساف) ، وعلى المروة وثن يقال له: (نائلة) ، فكان المشركون يطوفون بينهما، فلما كان الإسلام قال ناس: (يا رسول الله، إن أهل الجاهلية كانوا يطوفون بين الصفا والمروة للوثنين الذين كان عليهما، وليسا من شعائر الله. فنزلت هذه الآية) . واختلف العلماء فى وجوب السعى بين الصفا والمروة، فروى عن ابن مسعود، وأُبى بن كعب، وابن عباس أنه غير واجب، وقال أنس ابن مالك وابن الزبير: هو تطوع. وروى مثله عن ابن سيرين، وقال الثورى والكوفيون: هو واجب إلا أنه ينوب عند الدم. وروى مثله عن عطاء والحسن وقتادة، وقالت عائشة: هو فرض. وبه قال مالك والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور، ويأمرون من بقى عليه منه شىء بالرجوع إليه من بلده، فإن كان وطأ النساء قبل أن يرجع كان عليه إتمام حجه أو عمرته، وحج قابل والهدى. واحتج من لم يره واجبًا بقراءة من قرأ: (فلا جناح عليه ألا يطوف بهما) قالوا: فعلى هذه القراءة لا جناح عليه فى ترك السعى كما قالت عائشة: واحتج بعض أهل هذه المقالة أيضًا بقراءة الجماعة(4/323)
وقالوا: قوله تعالى: (فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا) [البقرة: 158] يقتضى أن يكون السعى مباحًا لا واجبًا، كقوله: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ) [النساء: 101] ، والقصر مباح لا واجب، واحتجوا بقول عائشة فى هذا الحديث: (وقد سَنَّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الطواف بينهما) فمن قال: إن السعى فرض، فقد خالف ما تقتضيه الآية، وخالف لفظ الحديث: وما سُمى سُنَّة فليس بفريضة، فهى سنة مؤكدة لا ينبغى تركها. قال ابن القصار: فيقال لهم: إن عائشة قد ردت على عروة تاويل المخالف فى الآية وقالت: بئس ما قلت يا ابن أختى، إن هذه لو كانت كما تأولتها، لكانت: (فلا جناح عليه ألا يطوف بهما) . وإنما نزلت فى الأنصار الذين كانوا يتحرجون فى الجاهلية أن يطوفوا بينهما، وفى الذين كانوا يطوفون فى الجاهلية ثم تحرجوا أن يطوفوا فى الإسلام، وهذا يبطل تأويلهم؛ لأن عائشة علمت سبب الآية وضبطت هذا المعنى الجليل، والصاحب إذا روى القصة مُفَسَّرة فلا تفسير لأحد معه. وقال غيره: لا حجة لمن تعلق بقول عائشة (وقد سَنَّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الطواف بينهما) ؛ لأنه قد صح من مذهبها أن ذلك فريضة، والفرائض تثبت بالسنة كما تثبت بالقرآن؛ لأن الله قد فرض طاعة رسوله، فكل ما جاء عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) من فرض أو سنة فسائغ أن يقال فيه: سَنَّةُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأنه فرض عُلم من طريق السنة، وأما قراءة من قرأ: (فلا جناح عليه ألا يطوف بهما) فلا حجة فيها لشذوذها، وأنه لم يقرأ بها أحد من أئمة القراء.(4/324)
قال الطحاوى: وقد يجوز أن يرجع معنى القراءتين جميعًا إلى معنى واحد؛ لأن العرب قد تصل ب (لا) وتزيدها كقوله تعالى: (لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) [القيامة: 1، 2] ، وكقوله: (فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) [الواقعة: 75] ، و) فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ) [المعارج: 40] فى معنى أقسم بيوم القيامة، وأقسم بكل ما ذكر، و) مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ) [الأعراف: 12] أى: ما منعك أن تسجد، فيحتمل قول عائشة لعروة: كلا لو كانت كما تقول لكانت: (فلا جناح عليه ألا يطوف بهما) على معنى الصلة التى يرجع بها إلى معنى قوله: (فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا) [البقرة: 158] وفى حديث عائشة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سَنَّ الطواف بينهما، وأن قوله: (فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا (إنما هو على إباحة الطواف بينهما الذى كانوا يتحرجونه، ثم سَنَّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الطواف بينهما، فصار من سنته التى ليس لأحد التخلف عنها مع ما تقدم من قوله تعالى فيهما أن جعلهما من شعائره، والشعائر: العلامات، وقد قال تعالى: (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج: 32] . وقال عليه السلام حين طاف بهما: (نبدأ بما بدأ الله به) . وقال: (خذوا عنى مناسككم، لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا) . وطاف بينهما، ودل حديث حماد بن سلمة عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: (ما تمت حجة أحد ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة) أن ذلك مما لا يكون مأخوذًا من جهة الرأى، وإنما(4/325)
يؤخذ من جهة التوقيف، وقولها ذلك يدل على وجوب الصفا والمروة فى الحج والعمرة جميعًا.
71 - باب مَا جَاءَ فِى السَّعْىِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: السَّعْىُ مِنْ دَارِ بَنِى عَبَّادٍ إِلَى زُقَاقِ بَنِى أَبِى حُسَيْنٍ. / 107 - فيه: ابْن عُمَرَ، كَانَ، عليه السَّلام، إِذَا طَافَ الطَّوَافَ الأوَّلَ، خَبَّ ثَلاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا، وَكَانَ يَسْعَى بَطْنَ الْمَسِيلِ إِذَا طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَقُلْتُ لِنَافِعٍ: أَكَانَ عَبْدُاللَّهِ يَمْشِى إِذَا بَلَغَ الرُّكْنَ الْيَمَانِىَ؟ قَالَ: لا، إِلا أَنْ يُزَاحَمَ عَلَى الرُّكْنِ، فَإِنَّهُ كَانَ لا يَدَعُهُ حَتَّى يَسْتَلِمَهُ. / 108 - وسَئل ابْنَ عُمَرَ، عَنْ رَجُلٍ طَافَ بِالْبَيْتِ فِى عُمْرته، وَلَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، أَيَأْتِى امْرَأَتَهُ؟ فَقَالَ: قَدِمَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، وَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ (وَقَالَ جَابِرَ كذلك، فَقَالَ: لا يَقْرَبَنَّهَا حَتَّى يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. وَقَالَ أيضًا ابْن عُمَر: إن النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) سعى بين الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. / 109 - وفيه: عَاصِم، قَالَ: قُلْتُ لأنَسِ: أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ السَّعْىَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، لأنَّهَا كَانَتْ مِنْ شَعَائِرِ الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ (الآية. / 110 - وفيه: ابْن عَبَّاس، إِنَّمَا سَعَى الرسول (صلى الله عليه وسلم) بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؛ لِيُرِىَ الْمُشْرِكِينَ قُوَّتَهُ.(4/326)
قال المؤلف: معنى هذا الباب كالذى قبله، وفيه بيان صفة السعى وأنه شىء معمول به غير مرخَّص فيه؛ ألا ترى أن ابن عمر حين ذكره قال: (وقد كان لكم فى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أسوة حسنة) وذكر ابن عباس فى حديث هذا الباب علة السعى فى الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة، وأن النبى عليه السلام فعله لُيِرىَ المشركين قوته؛ لأنهم قالوا: إن حُمَّى يثرب أنهكتهم، فكان عليه السلام يرمل فى طوافه بالبيت مقابل المسجد ومقابل السوق موضع جلوسهم وأنديتهم، فإذا توارى عنهم مشى، ذكره أهل السير، وقد ذكرته فى باب: كيف كان بدء الرَّمَل، فالسنة التزام الخبّ فى الثلاثة أشواط فى الطواف بالبيت، تبركًا بفعله عليه السلام وسنته، وإن كانت العلة قد ارتفعت فذلك من تعظيم شعائر الله. وقد ذكر البخارى فى (كتاب الأنبياء) عن ابن عباس علّة أخرى للسعى والهرولة بين الصفا والمروة؛ فقال ابن عباس: (انطلقت أم إسماعيل إلى الصفا فوجدته أقرب جبل فى الأرض إليها، فقامت عليه تنظر هل ترى أحدًا، فلم تر، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادى رفعت طرف درعها، فسعت سعى المجهود حتى جاوزت الوادى، ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدًا، فلم تره، ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس: قال النبى عليه السلام: (فلذلك سعى الناس بينهما) . فبيّن فى هذا الحديث أن سبب كونها سبعة أطواف، وسبب السعى فيها فعل أم إسماعيل عليهم السلام ذلك. وذكر ابن أبى شيبة قال: حدثنا عبد العلى، عن الجريرى، عن أبى الطفيل قال: قلت لابن عباس: (ألا تحدثنى عن الطواف راكبًا(4/327)
بين الصفا والمروة، فإنهم يزعمون أنه سنة. فقال: صدقوا وكذبوا، فقلت: وما صدقوا وكذبوا؟ قال: صدقوا، إن الطواف بين الصفا والمروة سنة، وكذبوا فى أن الركوب فيه سنة، أتى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الصفا والمروة فلما سمع به أهل مكة خرجوا ينظرون إليه، حتى خرجت العواتق، وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا يدفع أحَدًا عنه، فأكبُّوا عليه، فلما رأى ذلك دعا براحلته فركب ثم طاف على بعيره ليسمعوا كلامه، ولا تناله أيديهم، ويروا مكانه) . واختلفوا فى ذلك، فكانت عائشة تكره السعى بينهما راكبًا، وكرهه عروة بين الزبير، وهو قول أحمد وإسحاق، وقال أبو ثور: لا يجزئه وعليه أن يعيد. وقال الكوفيون: إن كان بمكة أعاد ولا دَمَ عليه، وإن رجع إلى الكوفة فعليه دم. ورخصت فيه طائفة، روى عن أنس بن مالك أنه طاف على حمار، وعن عطاء ومجاهد مثله. وقال الشافعى: يجزئه ولا إعادة عليه إن فعل، وحجة من أجاز ذلك فعل النبى عليه السلام وحجة من كرهه أنه ينبغى امتثال فعل أم إسماعيل فى ذلك، وأن ركوب النبى عليه السلام راحلته فيه كان للعلة التى ذكرها ابن عباس فى الحديث. قال الطحاوى: وأما قول أنس: إنهم كانوا يكرهون الطواف بهما لأنهما من شعائر الجاهلية حتى نزلت الآية، فقد كان ما سواهما من الوقوف بعرفة والمزدلفة والطواف بالبيت من شعائر الحج فى الجاهلية أيضًا، فلما جاء الإسلام ذكر الله ذلك فى كتابه، فصار من شعائر الحج فى الإسلام.(4/328)
فإن قال قائل: فإن الله قال بعقب قوله: (فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا) [البقرة: 158] ) وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (. فدل أن الطواف بهما فى الحج والعمرة تطوع، قيل له: لو كان كما وصفت لكان الطواف بينهما قربة، وكان للناس أن يتطوعوا بالطواف بينهما، وإن لم يكونوا حاجين ولا معتمرين، وقد أجمع المسلمون على أن الطواف بينهما فى غير الحج والعمرة ليس مما يتقرب به العباد إلى الله ولا يتطوعون به، وأن الطواف بينهما لا قربة فيه إلا فى حج أو عمرة، فَدَلَّ ذلك على أن قوله: (وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا (لا يرجع إلى الطواف بين الصفا والمروة، وإنما يرجع إلى قوله تعالى: (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ) [البقرة: 158] ، أى من تطوع بحج أو عمرة فإن الله شاكر عليم.
72 - باب تَقْضِى الْحَائِضُ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إِلا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَإِذَا سَعَى عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ
/ 111 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَدِمْتُ مَكَّةَ، وَأَنَا حَائِضٌ، وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ وَلا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، قَالَتْ: فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (افْعَلِى كَمَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لا تَطُوفِى بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِ) . / 112 - وفيه: جَابِر، أَهَلَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) وَأَصْحَابُهُ بِالْحَجِّ، وَلَيْسَ مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ هَدْىٌ غَيْرَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، وَطَلْحَةَ، وَقَدِمَ عَلِىٌّ مِنَ الْيَمَنِ، وَمَعَهُ هَدْىٌ. . . الحديث، وَحَاضَتْ عَائِشَةُ، فَنَسَكَتِ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا غَيْرَ أَنَّهَا لَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا طَهُرَتْ طَافَتْ بِالْبَيْتِ. / 113 - وفيه: حَفْصَةَ، كُنَّا نَمْنَعُ عَوَاتِقَنَا أَنْ يَخْرُجْنَ، فَقَدِمَتِ امْرَأَةٌ، فَنَزَلَتْ قَصْرَ بَنِى خَلَفٍ. . . الحديث، وَقَالَت: سَمعت النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يقول: (لِتَخْرُجِ(4/329)
الْعَوَاتِقُ وَذَوَاتُ الْخُدُورِ، فَيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُؤمنين، وَتَعْتَزِلُ الْحائض الْمُصَلَّى) ، فَقُلْتُ: أَالْحَائِضُ؟ فَقَالَتْ: أَوَلَيْسَ تَشْهَدُ عَرَفَةَ وَتَشْهَدُ كَذَا وَكَذَا. العلماء مجمعون على أن الحائض تشهد المناسك كلها غير الطواف بالبيت لقوله عليه السلام لعائشة: (افعلى ما يفعل الحاج غير ألا تطوفى بالبيت حتى تطهرى) . فكان فى حكم الحائض كل من ليس على طهارة من جنب وغير متوضئ؛ لأن ركوع الطواف متصل به لا فصل بينه وبينه، هذه سنته. قال المهلب: وإنما منعت الحائض الطواف على غير طهارة؛ تنزيهًا للمسجد من النجاسات لقوله عز وجل: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ) [التوبة: 28] ولأمره عليه السلام الحيض فى العيدين بالاعتزال للمصلى، فوجب تنزيهه عن الحائض والجنب، ومن عليه نجاسة، وأما السعى بين الصفا والمروة فلا أعلم أحدًا شرط فيه الطهارة إلا الحسن البصرة فقال: إن ذكر أنه سعى على غير طهارة قبل أن يحل فليعد، وإن ذكر ذلك بعدما حل فلا شىء عليه. وذكر ابن وهب عن ابن عمر أنه كان يكره السعى بينهما على غير طهارة. قال ابن المنذر: قوله عليه السلام لعائشة: (لفعلى ما يفعل الحاج غير ألا تطوفى بالبيت) يبين أن ذلك جائز؛ لأنه أباح لها السعى بين الصفا والمروة بعرفة وجميع المناسك على غير طهارة، غير الطواف بالبيت خاصة.(4/330)
73 - باب الإهْلالِ مِنَ الْبَطْحَاءِ وَغَيْرِهَا لِلْمَكِّىِّ وَلِلْحَاجِّ إِذَا خَرَجَ إِلَى مِنًى
وَسُئِلَ عَطَاءٌ، عَنِ الْمُجَاوِرِ يُلَبِّى بِالْحَجِّ، قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُلَبِّى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، إِذَا صَلَّى الظُّهْرَ وَاسْتَوَى عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَقَالَ جَابِرٍ: قَدِمْنَا مَعَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) فَأَحْلَلْنَا حَتَّى يَوْمِ التَّرْوِيَةِ، وَجَعَلْنَا مَكَّةَ بِظَهْرٍ لَبَّيْنَا بِالْحَجِّ، وَقَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ: أَهْلَلْنَا مِنَ الْبَطْحَاءِ. وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ جُرَيْجٍ لابْنِ عُمَرَ: رَأَيْتُكَ إِذَا كُنْتَ بِمَكَّةَ أَهَلَّ النَّاسُ إِذَا رَأَوُا الْهِلالَ، وَلَمْ تُهِلَّ أَنْتَ حَتَّى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، فَقَالَ: لَمْ أَرَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ. قال المهلب: من أنشأ الحج من مكة فله أن يهل من بيته أو من المسجد الحرام أو من البطحاء، وهى طرف مكة، أو من حيث أحب مما دون عرفة، ذلك كله واسع؛ لأن ميقات أهل مكة منها، وليس عليه أن يخرج إلى الحِلِّ؛ لأنه خارج فى حجته إلى عرفة، فيحصل له بذلك الجمع بين الحل والحرم، وهو بخلاف منشئ العمرة من مكة، وقد ذكرنا حكمه فى باب قبل هذا. ويستحب للمكى وللمتمتع إذا أنشأ الحج من مكة أن يُهِلا من حيث أهل ابن عمر ويوم التروية من البطحاء، وكذلك قال جابر. قال غيره: وأما وجه احتجاج ابن عمر بإهلال النبى عليه السلام بذى الحليفة، وهو غير مكى على من أنشأ الحج من مكة أنه يجب أن يهل يوم التروية، وهى قصة أخرى، فوجه ذلك أن النبى(4/331)
عليه السلام أهل من ميقاته فى حين ابتدائه فى عمل حجته، واتصل به عمله، ولم يكن بينهما مكث ينقطع به العمل، فكذلك المكى لا يهل إلا يوم التروية الذى هو أول عمله للحج، ليتصل له عمله تأسيًا برسول الله فى ذلك (صلى الله عليه وسلم) . وقد تابع ابن عمر على ذلك ابن عباس قال: لا يهل أحد من أهل مكة بالحج حتى يريد الرواح إلى منى. وبه قال عطاء، واحتج بأن أصحاب النبى عليه السلام إذ دخلوا فى حجتهم مع النبى أهلُّوا عشية التروية، حين توجهوا إلى منى، قال: وأخبرنى أبو الزبير عن جابر أن النبى عليه السلام قال لهم فى حجته: (إذا أردتم أن تنطلقوا إلى منى فأهلوا، قال: فأهللنا من البطحاء) . وأما قول عبيد بن جريح لابن عمر: إن أهل مكة يهلون إذا رأوا الهلال، فهو مذهب عمر بن الخطاب وابن الزبير، روى مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن عمر بن الخطاب قال: (يا أهل مكة، ما بال الناس يأتون شعثًا وأنتم مدهنون، أهلوا إذا رأيتم الهلال) فهو على وجه الاستحباب، لأن الإهلال إنما يجب على من يتصل عمله، وليس من السنة أن يقيم المحرم فى أهله، وقد روى عن ابن عمر ما يوافق مذهب عمر. ذكر مالك فى (الموطا) : أن ابن عمر كان يهل لهلال ذى الحجة، ويؤخر الطواف بالبيت والسعى بين الصفا والمروة حتى يرجع من منى، قال نافع: أَهَلَّ ابن عمر مرة بالحج حين رأى الهلال، ومرة أخرى بعد الهلال من جوف الكعبة، ومرة أخرى حين راح إلى منى. قال(4/332)
مجاهد: فقلت لابن عمر: أهللت فينا إهلالا مختلفًا قال: أما أول عام فأخذت بأخذ أهل بلدى، يعنى: المدينة، ثم نظرت فإذا أنا أدخل على أهلى حرامًا، وأخرج حرامًا، وليس كذلك نصنع، إنما كنا نهل ثم نقبل على شأننا، قلت: فبأى شىء نأخذ؟ قال: تحرم يوم التروية.
74 - باب أَيْنَ يُصَلِّى الظُّهْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ؟
/ 114 - فيه: عَبْدِالْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عن أَنَس بْنَ مَالِكٍ، أَخْبِرْنِى بِشَىْءٍ عَقَلْتَهُ عَنِ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) أَيْنَ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ؟ قَالَ: بِمِنًى، قُلْتُ: فَأَيْنَ صَلَّى الْعَصْرَ يَوْمَ النَّفْرِ؟ قَالَ: بِالأبْطَحِ، ثُمَّ قَالَ: افْعَلْ كَمَا يَفْعَلُ أُمَرَاؤُكَ. وَقَالَ مرة: خَرَجْتُ إِلَى مِنًى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، فَلَقِيتُ أَنَسًا ذَاهِبًا عَلَى حِمَارٍ، فَقُلْتُ: أَيْنَ صَلَّى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، الْيَوْمَ الظُّهْرَ؟ فَقَالَ: انْظُرْ حَيْثُ يُصَلِّى أُمَرَاؤُكَ فَصَلِّ. قال المهلب: الناس فى سعة من هذا، يخرجون متى أحبوا ويصلون حيث أمكنهم، ولذلك قال أنس: صل حيث تصل أمراؤك. والمستحب من ذلك ما فعله رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، صلى الظهر والعصر بمنى، وهو قول مالك، والثورى، وأبى حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وعادة أهل مكة أن يخرجوا إلى مِنى بعد صلاة العشاء، وكانت عائشة تخرج ثلث الليل. وهذا يدل على التوسعة، وكذلك المبيت عن منى ليلة عرفة ليس فيه حرج إذا وافى عرفة الوقت الذى يَجِبُ، ولا فيه جبر، كما يجبر ترك المبيت بها بعد الوقوف أيام رمى الجمار، وبه قال مالك وأبو حنيفة والشافعى وأبو ثور.(4/333)
والمستحب فى ذلك أن يصلى الظهر والعصر بمنى، ثم يصلى المغرب والعشاء والصبح بها، ثم يدفع بعد طلوع الشمس إلى عرفة فيصلى فيها الظهر والعصر، ثم يطلع إلى جبال الرحمة يدعو إلى أن تغرب الشمس، فإذا غربت دفع مع الإمام فيصلى المغرب والعشاء بالمزدلفة يجمع بينهما، ثم يبيت بالمزدلفة، فإن أخذ مننها حصى الجمار فَحَسَن، ثم يصلى الصبح بها، ثم يدفع من المزدلفة قبل طلوع الشمس إلى منى لرمى جمرة العقبة يرميها يوم النحر إلى وقت الزوال، ثم يحل له وكل شىء إلا النساء والطيب، والصيد عند مالك، وعند غيره إلا النساء، فإن أراد استعجال تمام الحل كله نهض إلى مكة فطاف طواف الإفاضة، وحل حلا كاملا، ثم يرجع يوم النحر إلى منى فيبيت بها ويرمى الجمار فى الثلاثة الأيام من منى بعد الزوال، إلا أن يتعجل فى يومين وقد تم حجه. وحَدُّ منى من محسر إلى العقبة، وكان منزل الرسول عليه السلام من منى بالخيف.
75 - باب الصَّلاةِ بِمِنًى
/ 115 - فيه: ابْن عُمَرَ، صَلَّى النَّبِىّ، عليه السَّلام، بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ صَدْرًا مِنْ خِلافَتِهِ. / 116 - وَقَالَ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ: صَلَّى بِنَا النَّبِىُّ، عليه السَّلام، وَنَحْنُ أَكْثَرُ مَا كُنَّا قَطُّ وَآمَنُهُ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ. / 117 - وَقَالَ عَبْدِ اللَّهِ: صَلَّيْتُ مَعَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) رَكْعَتَيْنِ، وأَبِى بَكْرٍ مثله ِ،(4/334)
وعُمَرَ مثله، ثُمَّ تَفَرَّقَتْ بِكُمُ الطُّرُقُ، فَيَا لَيْتَ حَظِّى مِنْ أَرْبَعٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ. قد تقدم هذا الباب فى كتاب الصلاة فى أبواب قصر المسافر الصلاة وقد تقدم فيه اختلاف العلماء فيمن يلزمه قصر الصلاة بمنى، وما نزع فيه كل فريق منهم، ونذكر منه هنا طرفًا. ذهب مالك والأوزاعى وإسحاق إلى أن أهل مكة ومن أقام بها من غيرها يقصرون الصلاة بمنى وعرفة، وأن القصر سنة الموضع، وإنما يُتِمُّ بمنى وعرفة من كان مقيمًا فيها، وذهب الثورى، وأبو حنيفة، والشافعى، وأحمد، وأبو ثور، إلى أنهم يُتمون الصلاة بها وقالوا: إن من لم يكن سفره سفرًا تقصر فيه الصلاة فحكمه حكم المقيم، وكذلك قد تقدم هناك معنى إتمام عثمان وعائشة الصلاة فى السفر وما للعلماء فى ذلك من الوجوه.
76 - باب صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ
/ 118 - فيه: أُمِّ الْفَضْلِ، شَكَّ النَّاسُ يَوْمَ عَرَفَةَ فِى صَوْمِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَبَعَثْتُ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) بِشَرَابٍ فَشَرِبَهُ. قد تقدم هذا الباب فى (كتاب الصيام) ، وذكرت فيه قول استحب صوم يوم عرفة بعرفة وغيرها، ومن كرهه، وذكرت الأثر الوارد عن النبى عليه السلام فى فضل صيامه، وأن ذلك كفارة سنتين، وما للعلماء فى صومه من المذاهب، فأغنى عن إعادته فتأمله هناك.(4/335)
قال المهلب: وفيه قبول الهدية من المطعم والمشرب، وفيه الشرب فى المحافل للعالم والسلطان.
77 - باب التَّلْبِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ إِذَا غَدَا مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَات
/ 119 - فيه: مُحَمَّدِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ الثَّقَفِىِّ، أَنَّهُ سَأَلَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، وَهُمَا غَادِيَانِ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ، كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ فِى هَذَا الْيَوْمِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ؟ فَقَالَ: كَانَ يُهِلُّ مِنَّا الْمُهِلُّ، فَلا يُنْكِرُ عَلَيْهِ، وَيُكَبِّرُ مِنَّا الْمُكَبِّرُ، فَلا يُنْكِرُ عَلَيْهِ. قال أبو عبد الله بن صفرة: فى هذا الحديث ابتداء قطع التلبية من الغُدُوِّ من منى، وآخرها رمى جمرة العقبة فى حديث الفضل وأسامة وابن مسعود عن النبى عليه السلام والذى مضى عليه جمهور العلماء من أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) وأهل المدينة اختيار قطعها عند الرواح إلى عرفة؛ لأنهم فهموا أن تعجيل قطعها وتأخيره على الإباحة، يدل على ذلك ترك إنكار بعضهم على بعض، وهم فهموا السنن وتلقوها، فوجب الاقتداء بهم فى اختيارهم؛ لأنا أمرنا باتباعهم. قال الطحاوى: لا حجة لكم فى هذا الحديث؛ لأن فيه أن بعضهم كان يهل، وبعضهم كان يكبر، ولا يمنع أن يكونوا فعلوا ذلك ولهم أن يلبوا لأن للحاج فيما قبل يوم عرفة أن يكبر، وله أن يهل، وله أن يلبى، فلم يكن تكبيره وإهلاله يمنعانه من التلبية. وقال المهلب: وجه قطع التلبية عند الرواح إلى الموقف من عرفة؛(4/336)
لأنه آخر السفر، وإليه منتهى الحاج، وما بعد ذلك فهو رجوع فالتكبير فيه أولى لقوله تعالى: (فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) [البقرة: 198] ، وقال: (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ) [البقرة: 185] فدل هذا على أن التكبير والدعاء لله عند المشعر الحرام وأيام منى أولى من التلبية؛ لأن معنى التلبية الإجابة، وإذا بلغ موضع النداء قطع التلبية، وأخذ فى الدعاء، وسأل الله حاجاته، وسأذكر اختلافهم فى قطع التلبية فى حديث الفضل وأسامة بعد هذا إن شاء الله.
78 - باب التَّهْجِيرِ بِالرَّوَاحِ يَوْمَ عَرَفَةَ
/ 120 - فيه: سَالِم، قَالَ: كَتَبَ عَبْدُالْمَلِكِ إِلَى الْحَجَّاجِ أَنْ لا يُخَالِفَ ابْنَ عُمَرَ فِى الْحَجِّ، فَجَاءَ ابْنُ عُمَرَ وَأَنَا مَعَهُ يَوْمَ عَرَفَةَ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ، فَصَاحَ عِنْدَ سُرَادِقِ الْحَجَّاج، فَخَرَجَ وَعَلَيْهِ مِلْحَفَةٌ مُعَصْفَرَةٌ، فَقَالَ: مَا لَكَ يَا أَبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ؟ فَقَالَ: الرَّوَاحَ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ، قَالَ: هَذِهِ السَّاعَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَنْظِرْنِى حَتَّى أُفِيضَ عَلَى رَأْسِى، ثُمَّ أَخْرُجُ، فَنَزَلَ حَتَّى خَرَجَ الْحَجَّاجُ، فَسَارَ بَيْنِى وَبَيْنَ أَبِى، فَقُلْتُ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ فَاقْصُرِ الْخُطْبَةَ وَعَجِّلِ الْوُقُوفَ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى عَبْدِاللَّهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَبْدُاللَّهِ، قَالَ: صَدَقَ. هذا الحديث يخرج فى المسندات لقول عبد الله للحجَّاج: إن كنت تريد السنة؛ لأن السنة سنة رسول الله. وقال معمر: إن الزهرى سمع هذا الحديث من ابن عمر؛ لأنه شهد تلك الحجة وحضر القصة، وسمع منه حديثًا آخر، وفيه أن تعجيل الرواح للإمام للجمع بين الظهر والعصر فى مسجد عرفة فى أول وقت الظهر سنة، وقد(4/337)
رَوى عن مالك فى هذا الحديث: (وعجل الصلاة) مكان: (وعجل الوقوف) ابنُ القاسم، وابنُ وهب، ومطرف، ويحيى بن يحيى، وهو صحيح المعنى؛ لأن تعجيل الرواح إنما يراد لتعجيل الصلاتين والجمع بينهما، فدل أن تعجيل الصلاة بعرفة سنة. وروى القعنبى وأشهب عن مالك: (وعجل الوقوف) ، كما رواه البخارى وهو صحيح المعنى أيضًا؛ لأن تعجيل الوقوف بعرفة بعد الصلاة سنة أيضًا، وفيه: الغسل للوقوف بعرفة، لقول الحجاج لعبد الله: أنظرنى حتى أفيض على ماء. وأهل العلم يستحبونه. قال الطحاوى: وفيه خروج الحجّاج وهو محرم وعليه ملحفة معصفرة، ولم ينكر ذلك عليه ابن عمر، ففيه حجة لمن أجاز المعصفر للمحرم، وقد تقدم ذكر ذلك فى بابه. وقال المهلب: فى حديث ابن عمر من الفقه جواز تأمير الأّدْوَن على الأفضل والأعلم، وفيه أن إقامة الحج إلى الحلفاء ومن جَعلوا ذلك إليه، وفيه أن الأمير يجب أن يعمل فى الدين بقول أهل العلم ويصير إلى رأيهم، وفيه مداخلة العلماء السلاطين وأنه لا نقيصة على العلماء فى ذلك، وفيه: فتوى التلميذ بحضرة معلمه عند السلطان وغيره، وفيه ابتداء العالم بالفتيا قبل أن يُسأل عنها، وفيه الفهم بالإشارة والنظر، وفيه أن اتباع الرسول (صلى الله عليه وسلم) هى السنة وإن كان فى المسألة أوجه جائزة غيرها.(4/338)
79 - باب الْوُقُوفِ عَلَى الدَّابَّةِ بِعَرَفَةَ
/ 121 - فيه: أُمِّ الْفَضْلِ، أَنَّ نَاسًا اخْتَلَفُوا عِنْدَهَا يَوْمَ عَرَفَةَ فِى صَوْمِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ، وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ، فَشَرِبَهُ. الوقوف على الدابة بعرفة أفضل من الوقوف راجلا؛ لأن النبى عليه السلام لا يفعل إلا الأفضل، مع أن فى ذلك قوة على الدعاء والتضرع وتعظيمًا لشعائر الله، وهو الذى اختار مالك والشافعى وجماعة، وقد تقدم، وفيه أن الوقوف على ظهر الدواب مباح إذا كان بالمعروف ولم يجحف بالدابة، وأن النهى الذى ورد ألا تتخذ ظهورها مجالس، فإن معناه فى الأغلب والأكثر بدليل هذا الحديث.
80 - باب الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ بِعَرَفَةَ
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا فَاتَتْهُ الصَّلاةُ مَعَ الإمَامِ جَمَعَ بَيْنَهُمَا. / 122 - فيه: سَالِمٌ، أَنَّ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ حين نَزَلَ بِابْنِ الزُّبَيْرِ، سَأَلَ عَبْدَاللَّهِ كَيْفَ تَصْنَعُ فِى الْمَوْقِفِ يَوْمَ عَرَفَةَ؟ فَقَالَ سَالِمٌ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ، فَهَجِّرْ بِالصَّلاةِ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ ابْنُ عُمَرَ: صَدَقَ، إِنَّهُمْ كَانُوا يَجْمَعُونَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِى السُّنَّةِ. قال المهلب: إنما كان جمع الصلاتين فى أول الوقت لاشتراك الوقتين من أول الزوال إلى غروب الشمس فى أصل السنّة، وبمفهوم كتاب الله ليجعلوا الوقوف وينفردوا فيه الدعاء؛ لأنه موقف يقصد إليه من أطراف الأرض، فكأنهم أرادوا الاستكثار من الدعاء فى بقية النهار؛ لأنهم يدفعون من عرفة إلى المزدلفة عند سقوط الشمس.(4/339)
واختلفوا فى الوقت الذى يُؤَذَِن فيه المؤذن بعرفة للظهر والعصر، واختلف قول مالك فى ذلك، فحكى ابن نافع عنه أنه قال: الأذان بعرفة بعد جلوس الإمام للخطبة، وحكى آخر عنه أنه يؤذن بعدما يخطب الإمام صدرًا من خطبته، حتى يفرغ من خطبته مع فراغ المؤذن ويقيم، ونحوه قال الشافعى، قال: يأتى الإمام المسجد إذا زالت الشمس فيجلس على المنبر فيخطب الخطبة الأولى، فإذا خطب أخذ المؤذون فى الأذان، وأخذ هو فى الكلام وخفف الكلام الآخر حتى ينزل بقدر فراغ المؤذن من الأذان ويقيم. واختلفوا فى الأذان والإقامة لهما، فقال مالك: يصليهما بأذانين وإقامتين. وقال أبو حنيفة والشافعى: يصليهما بأذان واحد وإقامتين، وهو قول أبى ثور، وقال أحمد وإسحاق: يجمع بينهما بإقامة إقامة أو بأذان وإقامتين إن شاء. قال الطبرى: وجائز العمل فى ذلك بكل ما جاءت به الآثار. واختلفوا فيمن فاتته الصلاة بعرفة مع الإمام، فكان ابن عمر يجمع بينهما، وهو قول عطاء ومالك وأحمد وإسحاق وأبى ثور، وحكاه أبو ثور عن يعقوب ومحمد والشافعى، وقال النخعى وأبو حنيفة والثورى: إذا فاتته مع الإمام صلى كل صلاة لوقتها، ولا يجوز له الجمع إلا مع الإمام؛ لأن النبى عليه السلام بَيَّنَ أوقات الصلوات، فلا يجوز الخروج عن وقتها إلا بدلالة، وقد قامت الدلالة على أنه جمع بين الظهر والعصر بعرفة، فلا يجوز الجمع إلا بإمام كما فعل النبى عليه السلام.(4/340)
قال المؤلف: ووجه الدلالة على الكوفيين من حديث ابن عمكر قول سالم للحجاج: إن كنت تريد السنة فهجر بالصلاة يوم عرفة. وهذا خطاب يتوجه إلى كل أحد مأمومًا كان أو منفردًا أن سنة الصلاة ذلك الوقت، وكذلك قول ابن عمر: (كانوا يجمعون بينهما فى السنة) لفظ عام يدخل فيه كل مصل، فمن زعم أنه لبعض المصلين فعليه الدليل. وقال الطحاوى: قد روى عن ابن عمر وعائشة مثل قول أبى يوسف ومحمد من غير خلاف من الصحابة. وقال ابن القصار: وقول الكوفيين ليس بشىء لقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (صلوا كما رأيتمونى أصلى) . وهذا خطاب لكل أحد فى نفسه أن يصلى الصلاتين فى وقت أحدهما بعرفة كما فعل النبى عليه السلام لأن الخطاب إنما يتوجه إلى هيئة الصلاة ووقتها لا إلى الإمامة. واتفق مالك وأبو حنيفة والشافعى على أنه إذا وافق يوم عرفة يوم الجمعة لم يصل بهم الإمام الجمعة، وكذلك قال الطحاوى، قال أبو حنيفة والشافعى: لا يُجَمِّعُ، وإنما يصلى بعرفة الظهر ركعتين لا يجهر فيهما بالقراءة، هذا إذا كان الإمام من غير أهل عرفة. وقال أبو يوسف: يصلى الجمعة بعرفة. وسأل أبو يوسف مالكًا عن هذه المسألة بحضرة الرشيد فقال مالك: سقاياتنا بالمدينة يعلمون ألا جمعة بعرفة، وعلى هذا أهل الحرمين: مكة والمدينة، وهم أعلم بذلك من غيرهم. وقد جمع الرسول (صلى الله عليه وسلم) بين الصلاتين بعرفة وصادف ذلك يوم جمعة، ولم ينقل أنه جهر بالقراءة، فدل أنه صلى الظهر بغير جهر، ولو جهر لنقل، وأيضًا فإن من شرط الجمعة الاستيطان، وليست عرفة بموطن(4/341)
لأهل مكة، فلم يجز لهم أن يصلوا الجمعة، وروى ابن وهب عن مالك أنه إذا وافق يوم جمعة يوم التروية، أو يوم عرفة، أو يوم النحر، أو أيام التشريق قال: لا جمعة عليهم، من كان من أهل مكة أو من أهل الآفاق، قال: ولا صلاة عيد يوم النحر بمنى.
81 - باب قَصْرِ الْخُطْبَةِ بِعَرَفَةَ
ذكر فيه حديث ابن عمر، وقد تقدم فى باب التهجير بالرواح يوم عرفة قصر الخطبة بعرفة أو بغيرها سنة، وقد أخرج مسلم فى كتابه عن أبى وائل، عن عمار، أن النبى عليه السلام قال: (طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه) . وقد أجمعوا أن الإمام لو صلى بغير خطبة بعرفة أن صلاته جائزة، وقال أبو زيد: مئنة، كقولك: مخلقة ومجدرة ومحراة ولذلك قال أبو عبيد: يعنى أن هذا مما يعرف به فقه الرجل، ويستدل به عليه، وكذلك كل شىء دلك على شىء فهو مئنة.
82 - باب الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ
/ 123 - فيه: جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، كنت أطلب بَعِيرًا لِى، يَوْمَ عَرَفَةَ كنت أضللته، فَرَأَيْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) وَاقِفًا بِعَرَفَةَ، فَقُلْتُ: هَذَا وَاللَّهِ مِنَ الْحُمْسِ، فَمَا شَأْنُهُ هَاهُنَا.(4/342)
/ 124 - وقَالَ عُرْوَةُ: كَانَ النَّاسُ يَطُوفُونَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ عُرَاةً إِلا الْحُمْسَ، وَالْحُمْسُ قُرَيْشٌ وَمَا وَلَدَتْ، وَكَانَتِ الْحُمْسُ يَحْتَسِبُونَ عَلَى النَّاسِ، يُعْطِى الرَّجُلُ الرَّجُلَ الثِّيَابَ يَطُوفُ فِيهَا، وَتُعْطِى الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ الثِّيَابَ تَطُوفُ فِيهَا، فَمَنْ لَمْ يُعْطِهِ الْحُمْسُ، طَافَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانًا، وَكَانَ يُفِيضُ جَمَاعَةُ النَّاسِ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَيُفِيضُ الْحُمْسُ مِنْ جَمْعٍ، قَالَ: وَأَخْبَرَنِى أَبِى عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِى الْحُمْسِ: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) [البقرة: 199] ، قَالَ: كَانُوا يُفِيضُونَ مِنْ جَمْعٍ، فَدُفِعُوا إِلَى عَرَفَاتٍ. قال المهلب: إنما كان وقوف قريش وهم الحُمس عند المشعر الحرام من أجل أنها كانت عزتهافى الجاهلية بالحرم، وسكناها فيه، وتقول: نحن جيران الله، فكانوا لا يرون الخروج عنه إلى الحل عند وقوفهم فى الحج، ويقولون: لا نفارق عزنا، وما حرم الله به أموالنا ودماءنا، وكانت طوائف العرب تقف فى موقف إبراهيم عليه السلام من عرفة، وكان وقوف النبى عليه السلام مع طوائف العرب بعرفة ليدعوهم إلى الإسلام، وما افترض الله عليه من تبليغ الدعوة، وإفشاء الرسالة، وأمر الناس كلهم بالإفاضة من حيث أفاض الناس من عرفة. وقال إسماعيل بن إسحاق: قال الضحاك: الناس فى هذه الآية هو إبراهيم عليه السلام. وقال الطحاوى: قال تعالى: (فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) [البقرة: 198] الآية. فكان ظاهر الآية على أن الإفاضة الأولى من عرفة، وعلى أن الإفاضة الثانية(4/343)
من المشعر الحرام؛ لأنه قال تعالى: (فَاذْكُرُوا اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ (إلى) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ (غير أنا وجدنا أهل العلم تأولوا ذلك على إفاضة واحدة، وكانت هذه الآية عندهم من المحكم المتفق على المراد به، وجعلوا قوله: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ (فى معنى وأفيضوا، وقالوا: قد تجعل ثم فى موضع الواو، كما قال الله تعالى: (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ) [يونس: 46] فكان قوله: (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (فى معنى: والله شهيد، وفى قوله: (فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ (الآية، دليل على أنه قد أمرهم بوقوف عرفة قبل إفاضتهم منها. غير أنا لم نجده تعالى ذكر لنا ابتداء ذلك الوقوف أى وقت هو فى كتابه، وبينه لنا فعل رسوله فى حديث جابر وحديث ابن عمر، حين قال للحجاج يوم عرفة حين زالت الشمس: (الرواح إن كنت تريد السنة) . فدل أن دفع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى عرفة كان بعد زوال الشمس يوم عرفة. قال المؤلف: ولم يختلفوا أن النبى عليه السلام صلى الظهر والعصر جميعًا بعرفة، ثم ارتفع فوقف بجبالها داعيًا الله إلى غروب الشمس، فما غربت دفع منها إلى المزدلفة. واختلفوا إذا دفع من عرفة قبل غروب الشمس ولم يقف فيها ليلا، فذهب مالك إلى أن الاعتماد فى الوقوف بعرفة على الليل من ليلة النحر، والنهار من يوم عرفة تَبَع، فإن وقف جزءًا من النهار(4/344)
وحده ودفع قبل غروب الشمس لم تجزئه، وإن وقف جزءًا من الليل، أى جزء كان، قبل طلوع الفجر من يوم النحر أجزأه، وأخذ فى ذلك بما رواه عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: من لم يقف بعرفة ليلة المزدلفة قبل أن يطلع الفجر فقد فاته الحج، وعن عروة بن الزبير مثله. وقال أبو حنيفة والثورى والشافعى: الاعتماد على النهار من يوم عرفة من وقت الزوال، والليل كله تبع، فإن وقف جزءًا من النهار أجزأه، وإن وقف جزءًا من الليل أجزأه إلا أنهم يقولون: إن وقف جزءًا من النهار بعد الزوال دون الليل كان عليه دم، وإن وقف جزءًا من الليل دون النهار لم يجب عليه دم، وأخذوا بحديث عروة ابن مضرس، إلا فى إيجاب الدم لمن وقف نهارًا دون الليل، وتفريقهم فى وقوف النهار بين بعد الزوال وقبله، فإنه ليس فى حديث عروة بن مضرس، وذهب أحمد بن حنبل إلى أن وقت الوقوف من حين طلوع الفجر من يوم عرفة إلى طلوع الفجر من ليلة النحر، فسوى بين أجزاء النهار وأجزاء الليل، فأخذ فى ذلك بنص حديث عروة بن مضرس قال: أتيت النبى عليه السلام وهو بمزدلفة فقلت: يا رسول الله، إنى أكللت ناقتى وأتعبت نفسى، وما من جبل إلا وقفت عليه، فهل لى من حج؟ فقال عليه السلام: (من صلى معنا هذه الصلاة، يعنى: بجمع، وكان قد وقف بعرفة ليلا أو نهارًا فقد تم حجه) . فلم يفرق بين النهار والنهار، رواه شعبة عن عبد الله بن أبى السفر، عن الشعبى سمعته يقول: حدثنى عروة بن مضرس، عن النبى عليه السلام.(4/345)
وقال ابن القصار: أما قوله فى حديث عروة: (وكان قد وقف بعرفة ليلا أو نهارًا) فنحن نعلم أنه عليه السلام وقف وقفة واحدة بعرفة جمع فيها بين الليل والنهار، فصار معناه: من ليل ونهار، واستفدنا من فعله عليه السلام أن المقصود آخر النهار، وهو الوقت الذى وقفه، وعقلنا بذلك أن المراد جزء من النهار مع جزء من الليل؛ لأنه لم يقتصر عليه السلام على جزء من النهار دون الليل، ولو تحرر هذا من فعله عليه السلام لجاز أن تكون (أو) بمعنى: (الواو) ، كقوله تعالى: (وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا) [الإنسان: 24] معناه: وكفورًا، فإن قيل: وأنتم لا توجبون الجمع بين النهار والليل فى الوقوف، قيل: لما قال: (فقد تم حجه) علمنا أن التمام يقتضى الكمال والفضل، فيجمع فيه بين السنة والفرض، والسنة الوقوف بالنهار، والفرض هو الليل؛ لأنه هو انتهاء الوقوف، فهو الوقت المقصود، وهو أخص به من النهار؛ لأنه لو انفرد وقوفه فى هذا الجزء لأجزأه بإجماع، ولووقف هذا القدر من النهار لكان فيه خلاف ووجب عليه الدم، فكيف يكون النهار أخص به من الليل. والحُمْسُ: قريش وما ولدت من العرب، والتحمس: التشدد، وذلك أن قريشًا أحدثت هذا الدين فقالت: لا نطوف بالبيت عراة، ولا تسلى نساؤنا سمنًا، ولا تغزل وبرًا، ولا تخرج إلى عرفات، ولا نزايل حرمنا، ولا نعظم غيره، ولا نطوف بين الصفا والمروة، وكانوا يقفون بالمزدلفة، ومن سواهم من العرب يقال لهم:(4/346)
الحلّة، كانوا إذا حجوا طافوا بالبيت عراة، ورموا ثيابهم التى قدموا فيها وقالوا: نكرم البيت أن نطوف به فى ثيابنا التى جرحنا فيها الآثام، فما طرحوا من ثوب لم يمسه أحد، وسمى: النسئ واللقى والحريم، ذكره ابن الكلبى.
83 - باب السَّيْرِ إِذَا دَفَعَ مِنْ عَرَفَةَ
/ 125 - فيه: [عروة] أنه سُئِلَ [أسامة بن زيد] كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَسِيرُ فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ حِينَ دَفَعَ؟ قَالَ: كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ، قَالَ هِشَامٌ: وَالنَّصُّ فَوْقَ الْعَنَقِ. قال المؤلف: تعجيل الدفع من عرفة والله أعلم إنما هو لضيق الوقت؛ لأنهم إنما يدفعون من عرفة إلى المزدلفة عند سقوط الشمس، وبين عرفة والمزدلفة نحو ثلاثة أميال، وعليهم أن يجمعوا المغرب والعشاء بالمزدلفة، وتلك سنتها، فتعجلوا فى السير لاستعجال الصلاة. قال الطبرى: وبهذا قال العلماء فى صفة سيره عليه السلام من عرفة إلى المزدلفة، ومن المزدلفة إلى منى أنه كان يسير العَنَق، وبذلك عمل السلف، قال الأسود: شهدت مع عمر الإفاضتين(4/347)
جميعًا لا يزيد على العَنَق، لم يُوضِعْ فى واحدة منهما، وكان ابن عمر سيره: العَنَق، وعن ابن عباس مثله. وقال آخرون: الإفاضة من عرفات وجمع الإِيضَاع دون العَنَق، وروى شعبة عن إسماعيل بن رجاء قال: سمعت معرورًا قال: رأيت عمر بن الخطاب رجلا أصلع على بعير يقول: أيها الناس، أَوْضِعُوا فإنا وجدنا الإفاضة الإيضاع، وروى ابن عيينة عن ابن المنكدر، عن سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع، عن جبير بن الحويرث، أن أبا بكر الصديق وقف على قزح وقال: أيها الناس، أصبحوا أصبحوا، ثم دفع فكأنى أنظر إلى فخذه قد انكشف مما يخرش بعيره بمحجنه. قال الطبرى: والصواب فى صفة السير فى الإفاضتين جميعا ما صحت به الآثار أنه عليه السلام كان يسير العنق إلا فى وادى محسر، فإنه يوضع فيه لصحة الخبر عن النبى عليه السلام بذلك، ولو أَوْضع أحد فى الموضع الذى ينبغى أن يعنق فيه، أو أعنق فى الموضع الذى ينبغى أن يوضع فيه لم يلزمه شئ؛ لإجماع الجميع على ذلك، غير أنه يكون مخطئًا سبيل الصواب وأدب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . والعَنَق: سير فوق المشى، والنَّصُّ: أرفع السير، ومن ذلك قيل لمنصة العروس: منصة؛ لارتفاعها، فإذا ارتفع عن ذلك فصار إلى العَدْوِ فهو الخَبَب، فإذا ارتفع عن ذلك فهو الوَضْع والإِيضَاع، والفَجْوَةُ: الفُرْجَةُ والسعة، ومنه قوله: (وَهُمْ فِى فَجْوَةٍ مِّنْهُ) [الكهف: 17] ويخرش بعيره يعنى: يخرشه بالمحجن، ومنه تخارش السنانير والكلاب.(4/348)
84 - باب النُّزُولِ بَيْنَ عَرَفَةَ وَجَمْعٍ
/ 126 - فيه: أُسَامَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، حَيْثُ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ، مَالَ إِلَى الشِّعْبِ، فَقَضَى حَاجَتَهُ فَتَوَضَّأَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُصَلِّى؟ فَقَالَ: (الصَّلاةُ أَمَامَكَ؟) . / 127 - وفيه: نَافِعٍ، وَكَانَ ابْن عُمَرَ يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ، غَيْرَ أَنَّهُ يَمُرُّ بِالشِّعْبِ الَّذِى أَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَيَدْخُلُ، فَيَنْتَفِضُ وَيَتَوَضَّأُ، وَلا يُصَلِّى حَتَّى يُصَلِّىَ بِجَمْعٍ. نزوله (صلى الله عليه وسلم) بالشعب إنما كان نزول حاجة للبول، وليس ذلك من سنن الحج، وهو مباح لمن أراد امتثال أفعاله عليه السلام مثل ابن عمر، فإنه كان يقف فى المواضع التى وقف فيها النبى عليه السلام ويدير ناقته حيث أدار فيها ناقته، ويقتفى آثاره وحركاته، وليس ذلك بلازم إلا فيما تعلق منها بالشريعة.
85 - باب أَمْرِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، بِالسَّكِينَةِ عِنْدَ الإفَاضَةِ وَإِشَارَتِهِ إِلَيْهِمْ بِالسَّوْطِ
/ 128 - فيه: ابْن عَبَّاس، دَفَعَ مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ عَرَفَةَ، فَسَمِعَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، وَرَاءَهُ زَجْرًا شَدِيدًا، وَضَرْبًا لِلإبِلِ، فَأَشَارَ بِسَوْطِهِ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ، عليه السَّلام: (أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ، فَإِنَّ الْبِرَّ لَيْسَ بِالإيضَاعِ) . قال المهلب: إنما نهاهم عن الإيضاع والجرى إبقاء عليهم، ولئلا يجحفوا بأنفسهم بالتسابق من أجل بُعْدِ المسافة، لأنها كانت(4/349)
تبهرهم فيفشلوا وتذهب ريحهم، فقد نهى عن البلوغ إلى مثل هذه الحال. قال ابن المنذر: فكان فى معنى قوله: (عليكم بالسكينة) إلا فى بطن وادى محسر، فقد كان ابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير يوضعون فى وادى محسر، وتبعهم على ذلك كثير من العلماء، وقال النخعى: لما رأى عمر سرعة الناس فى الإفاضة من عرفة وجمع قال: (واللله إنى لأعلم أن البر ليس برفعها أذرعها، ولكن البر شىء تصبر عليه القلوب) . وقال عكرمة: سأل رجل ابن عباس عن الإيجاف، فقال: إنَّ حَلْ حَلْ يشعل عن ذكر الله، ويوطئ ويؤذى. قال ابن المنذر: وحديث أسامة يدل أن أمره بالسكينة إنما كان فى الوقت الذى لم يجد فجوة، وأنه حين وجد فجوة سار يسيرًا فوق ذلك، وإنما أراد بالسكينة فى وقت الزحام. وقالعمر بن عبد العزيز فى خطبته يوم عرفة: إنكم شخصتم من القريب والبعيد، وتكلفتم من المؤنة ما شاء الله، وليس السابق من سبق بعيره وفرسه، ولكن السابق من غفر له.
86 - باب الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ بِالْمُزْدَلِفَةِ
/ 129 - فيه: أُسَامَةَ، قَالَ: دَفَعَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ عَرَفَةَ، فَنَزَلَ الشِّعْبَ فَبَالَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وَلَمْ يُسْبِغِ الْوُضُوءَ، فَقُلْتُ لَهُ: الصَّلاةُ، قَالَ: (الصَّلاةُ(4/350)
أَمَامَكَ) ؟ فَجَاءَ الْمُزْدَلِفَةَ، فَتَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إِنْسَانٍ بَعِيرَهُ فِى مَنْزِلِهِ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَصَلَّى، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا. قال الطحاوى: معنى قوله: (الصلاة أمامك) أى: المصلى الذى تصلى فيه المغرب والعشاء أمامك. وقال الطبرى: فيه البيان أن السنة فى إمام الحاج ألا يصلى ليلة يوم النحر المغرب والعشاء إلا بالمزدلفة. قال ابن المنذر: وأجمع العلماء على ذلك، ثم اختلفوا فيمن صلاهما قبل أن يأتى المزدلفة، فروى عن جابر بن عبد الله أنه قال: لا صلاة إلا بِجَمْع، وإليه ذهب أبو حنيفة ومحمد والثورى وقالوا: إن صلاهما قبل المزدلفة فعليه عليه السلام: (الصلاة أمامك) فمن صلاهما دون المزدلفة فقد صلاهما فى غير وقتهما، ومن صلى صلاة فى غير وقتها فعليه إعادتها بعد دخول وقتها. وقال مالك: لا يصليهما أحد قبل جَمْعٍ إلا من عُذْرٍ به أو بدابته، فإن صلاهما بعذر لم يجمع بينهما حتى يغيب الشفق. وفيها قول ثالث: إن صلاهما قبل جَمْعٍ أجزأه، إمام الحاج كان أو غيره، وروى ذلك عن عمر بن الخطاب، وابن عباس، وابن الزبير، وعن عطاء، وعروة، والقاسم، وبه قال الأوزاعى، وأبو يوسف، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وحجة من أجاز الصلاة أن النبى عليه السلام جعل وقت هاتين الصلاتين من حين تغيب(4/351)
الشمس إلى آخر وقت العشاء الآخرة، وجعل له إن شاء أن يصليهما فى أول وقتهما، وإن شاء فى آخره، فأوقات الصلوات إنما هى محدودة بالساعات والزمان، فمن صلاهما بعد غروب الشمس بعرفة أو دون المزدلفة فقد أصاب الوقت وإن ترك الاختيار لنفسه فى الموضع، والصلاة لا تبطل بالخطأ فى الموضع إذا لم يكن نجسًا؛ ألا ترى أن من صلاهما بعد خروج وقتهما بالمزدلفة ممن لم يَصِلْ إلى المزدلفة إلا بعد طلوع الفجر أنه قد فاته وقتهما، فلا اعتبار بالمكان، ويشبه هذا المعنى قوله عليه السلام: (لا يصلين أحدكم العصر إلا فى بنى قريظة) . وأدرك وقت العصر القوم فى بعض الطريق، فمنهم من صلى، ومنهم من أَخَّر إلى بنى قريظة، فلم يعنف النبى (صلى الله عليه وسلم) أحدًا منهم. واحتج الطحاوى لابن يوسف فقال: لا يختلفون فى الصلاتين اللتين تصليان بعرفة أنهما لو صليتا دونها كل واحدة منهما فى وقتها فى سائر الأيام كانتا مجزئتين، فالصلاتان بمزدلفة أحرى أن تكونا كذلك؛ لأن أمر عرفة لما كان أوكد من أمر مزدلفة، كان ما يفعل فى عرفة أوكد مما يفعل فى مزدلفة، فثبت ما قال أبو يوسف، وانتفى ما قاله الآخرون. قال المهلب: وقوله: (وتوضأ ولم يسبغ الوضوء) يريد أنه خفف الوضوء، وهو أدنى ما تجزئ الصلاة به دون تكرار إمداد إمرار اليد عليه ليخص كل صلاة بوضوء على حسب عادته، وقد جاء ذلك(4/352)
مبينًا فى الحديث، وقد تقدم بيان ذلك فى كتاب الوضوء، والحمد لله. قال الخطابى: وسميت المزدلفة لاقترابهم إلى منى بعد الإفاضة من عرفات، يقال: ازدلف القوم، إذا اقتربوا، ويقال: بل سميت مزدلفة؛ لأنها منزلة وقربة من الله، وهو قول ثعلب، قال: ومنه قوله تعالى: (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً) [الملك: 27] ، أى رأوا العذاب قرب، ومنه قوله تعالى: (وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ) [الشعراء: 64] أى: قربناهم من الهلاك، وقال الطبرى: إنما سميت مزدلفة لازدلاف آدم إلى حواء بها، وكان كل واحد منهما حين أهبط إلى الأرض أهبط إلى مكان غير مكان صاحبه، فازدلف كل واحد منهما إلى صاحبه، فتلاقيا بالمزدلفة، فسميت البقعة بذلك. والشّعب: الطريق فى الجبل بكسر الشين، والشعب بفتح الشين: الجمع بين الشيئين، يقال: شعب فلان الشئ، إذا جمعه ولامه، ومنه قول الطرماح. شتّ شَعْبُ القوم بَعْدَ التئام وقال الطبرى: واختلفوا فى السبب الذى من أجله سميت عرفة. فقال على بن أبى طالب وغيره: إنما قيل لها ذلك؛ لأن الله بعث جبريل إلى إبراهيم فحج به، فلما أتى عرفة قال: قد عرفت، وكان قد أتاها مرة قبل ذلك. وقال جماعة أخرى: إنما قيل لها: عرفات؛ لأن جبريل كان يقول(4/353)
لإبراهيم: هذا موضع كذا، وهذا موضع كذا، فيقول: قد عرفت قد عرفت.
87 - باب مَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يَتَطَوَّعْ
/ 130 - فيه: ابْن عُمَرَ، جَمَعَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِإِقَامَةٍ، وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا وَلا عَلَى إِثْرِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا. / 131 - وفيه: أَبُو أَيُّوبَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، جَمَعَ بين الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ. قال المؤلف: وروى مالك عن ابن شهاب حديث ابن عمر هذا ولم يذكر فيه أنه أقام لكل صلاة، وزاد الإقامة فى هذا الحديث عن ابن شهاب: ابنُ أبى ذئب والليثُ، وهما ثقتان حافظان، وزيادة الحافظ مقبولة، وإنما لم يتطوع بينهما والله أعلم لأنه لم يكن بينهما أذان، ففرغ من صلاة المغرب ثم قام إلى العشاء، ولم يكن بينهما مهملة فى الوقت يمكن فيها التنفل، وأما من رأى أن يؤذن لكل صلاة، فإنه لا يمنع التنفل لمن أراد، وقد فعل ذلك ابن مسعود، وإن كان قد روى ابن نافع عن مالك أنه لا يتنفل بين الصلاتين عند جمعهما. وكل ذلك واسع لا حرج فيه، قال الطبرى: لأنهما صلاتان تصليان لأوقاتهما، ولن يفوت وقتهما للحاج حتى يطلع الفجر، وفى هذا الحديث حجة للشافعى أن صلاة المغرب والعشاء بالمزدلفة بإقامة إقامة، وكذلك فى حديث أسامة حين نزل صلى بالشعب إقامة إقامة.(4/354)
88 - باب مَنْ أَذَّنَ وَأَقَامَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا
/ 132 - فيه: عَبْدُاللَّهِ بْن مسعود، أنه حج فَأَتى الْمُزْدَلِفَةَ حِينَ الأذَانِ بِالْعَتَمَةِ، أَوْ قَرِيبًا منه، فَأَمَرَ رَجُلا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ، وَصَلَّى بَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ دَعَا بِعَشَائِهِ فَتَعَشَّى، ثُمَّ أَمَرَ، أُرَى، فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، قَالَ عَمْرٌو: لا أَعْلَمُ الشَّكَّ إِلا مِنْ زُهَيْرٍ، ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ، قَالَ: إِنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، كَانَ لا يُصَلِّى هَذِهِ السَّاعَةَ إِلا هَذِهِ الصَّلاةَ فِى هَذَا الْمَكَانِ مِنْ هَذَا الْيَوْمِ، قَالَ عَبْدُاللَّهِ: هُمَا صَلاتَانِ تُحَوَّلانِ عَنْ وَقْتِهِمَا: صَلاةُ الْمَغْرِبِ بَعْدَ مَا يَأْتِى النَّاسُ الْمُزْدَلِفَةَ، وَالْفَجْرُ حِينَ يَبْزُغُ الْفَجْرُ، قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، يَفْعَلُهُ. اختلف العلماء فى الأذان والإقامة لهاتين الصلاتين، فروى ابن القاسم عن مالك أنه يؤذن ويقيم لكل صلاة على ظاهر حديث ابن مسعود، وقد روى مثله عن عمر بن الخطاب وابن مسعود. وذهب ابن الماجشون وأحمد بن حنبل وأبو ثور إلى أنه يجمع بينهما بأذان واحد وإقامتين، واختاره الطحاوى، وذكر عن أبى حنيفة وأبى يوسف ومحمد بأَذَانٍ واحد وإقامة واحدة، خلاف قولهم فى الجمع بين الظهر والعصر بعرفة.(4/355)
وذهبت طائفة إلى أنه يصليهما بإقامة إقامة، روى ذلك عن ابن عمر وعن القاسم وسالم، وإليه ذهب الشافعى وإسحاق وأحمد فى أحد قوليه، وذهب الثورى إلى أنه يصليهما بإقامة واحدة لا أذان معها، واحتج الطحاوى بحديث حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر: (أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) جمع بينهما بأذان واحد وإقامتين) . قال الطحاوى: وأجمعوا أن الأُولَى من الصلاتين اللتين يجمعان بعرفة يؤذن لها ويقام، فالنظر على ذلك أن يكون كذلك حكم الأُولى من الصلاتين بجمع. وأخذ الطحاوى بحديث أهل المدينة. والحجة لأبى حنيفة ما رواه شعبة عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر: (أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أذن للمغرب بجمع فأقام، ثم صلى العشاء بالإقامة الأولى) . وحجة الشافعى حديث ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه: (أن النبى عليه السلام جمع بينهما بإقامة إقامة) رواه الليث وابن أبى ذئب عن الزهرى، ولم يذكره مالك فى حديثه، وذكره البخارى فى الباب قبل هذا، وهذه الرواية أصح عن ابن عمر مما خالفها، واحتج أيضًا بحديث ابن عباس عن أسامة بن زيد: (أن النبى عليه السلام عدل إلى الشعب فتوضأ. . .) وذكر الحديث، وفيه أنه أقام لكل واحدة منهما، واحتج الثورى بما رواه عن سلمة بن كهيل، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر قال: (جمع النبى عليه السلام بين المغرب والعشاء بالمزدلفة بإقامة واحدة) وكان أحمد ابن حنبل يعجب من مالك إذا أخذ بحديث ابن مسعود(4/356)
ولم يروه، وهو من رواية أهل الكوفة، وترك ما روى أهل المدينة فى ذلك من غير ما طريق، وكذلك أخذ أهل الكوفة بما رواه أهل المدينة فى ذلك وتركوا روايتهم عن ابن مسعود. وفى فعل ابن مسعود من الفقه جواز التنفل بين الصلاتين إذا جمعتا، وإنما تَعَشَّى بين الصلاتين على سبيل السعة فى ذلك، لا على أن يدخل بين المغرب والعشاء عملا أو شغلا. وقد قال أصبغ: إذا صلى أهل المسجد المغرب، فوقع مطر شديد وهم يتنفلون، فأرادوا أن يعجلوا العشاء قبل وقتها، فلا بأس بذلك. قال المهلب: وقوله: (وهما صلاتان تحولان عن وقتهما) إنما هو تحويل عن الوقت المستحب المعتاد إلى ما قبله من الوقت، لا أن تحويلهما قبل دخول أوقاتهما المحدودة فى كتاب الله عز وجل.
89 - باب مَنْ قَدَّمَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ بِلَيْلٍ فَيَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَيَدْعُونَ
/ 133 - فيه: ابْن عُمَرَ، أنَّهُ كَانَ يُقَدِّمُ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ، فَيَقِفُونَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِلَيْلٍ، فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ مَا بَدَا لَهُمْ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ الإمَامُ، وَقَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ مِنًى لِصَلاةِ الْفَجْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِذَا قَدِمُوا رَمَوُا الْجَمْرَةَ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: (أَرْخَصَ فِى أُولَئِكَ رَسُولُ اللَّهِ) . / 134 - وفيه: ابْن عَبَّاس، بَعَثَنِى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ فِى ضَعَفَةِ أَهْلِهِ.(4/357)
/ 135 - وفيه: عَبْدُاللَّهِ، عَنْ أَسْمَاءَ، أَنَّهَا نَزَلَتْ لَيْلَةَ جَمْعٍ عِنْدَ الْمُزْدَلِفَةِ، فَقَامَتْ تُصَلِّى، فَصَلَّتْ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَتْ: يَا بُنَىَّ هَلْ غَابَ الْقَمَرُ؟ قُلْتُ: لا، فَصَلَّتْ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَتْ: يَا بُنَىَّ هَلْ غَابَ الْقَمَرُ؟ قُلْت: نَعَمْ، قَالَتْ: فَارْتَحِلُوا، فَارْتَحَلْنَا وَمَضَيْنَا، حَتَّى رَمَتِ الْجَمْرَةَ، ثُمَّ رَجَعَتْ فَصَلَّتِ الصُّبْحَ فِى مَنْزِلِهَا، فَقُلْتُ لَهَا: يَا هَنْتَاهُ، مَا أُرَانَا إِلا قَدْ غَلَّسْنَا، قَالَتْ: يَا بُنَىَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَذِنَ لِلظُّعُنِ. / 136 - وفيه: عَائِشَةَ، اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، لَيْلَةَ جَمْعٍ، وَكَانَتْ ثَقِيلَةً ثَبْطَةً، فَأَذِنَ لَهَا. / 137 - وفيه: عنها نَزَلْنَا الْمُزْدَلِفَةَ، فَاسْتَأْذَنَتِ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، سَوْدَةُ أَنْ تَدْفَعَ قَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ، وَكَانَتِ امْرَأَةً بَطِيئَةً، فَأَذِنَ لَهَا، فَدَفَعَتْ قَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ، وَأَقَمْنَا حَتَّى أَصْبَحْنَا نَحْنُ، ثُمَّ دَفَعْنَا بِدَفْعِهِ، فَلأنْ أَكُونَ اسْتَأْذَنْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَمَا اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ مَفْرُوحٍ بِهِ. قال المهلب: إنما قدم النبى عليه السلام ضعفة أهله خشية تزاحم الناس عليهم عند الدفع من المزدلفة إلى منى، فَأرْخَصَ لهم أن يدفعوا قبل الفجر، وأن يرموا الجمرة قبل طلوع الشمس لخوف الازدحام عليهم، والوقت المستحب لرمى جمرة العقبة يوم النحر طلوع الشمس؛ لرميه عليه السلام ذلك الوقت. واختلفوا هل يجوز رميها قبل ذلك، فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق: يجوز رميها بعد طلوع الفجر قبل طلوع الشمس، وإن رماها قبل الفجر أعاد. ورخصت طائفة فى الرمى قبل طلوع الفجر،(4/358)
روى ذلك عن عطاء وطاوس والشعبى، وبه قال الشافعى وشرط إذا كان الرمى بعد نصف الليل. وقال النخعى ومجاهد: لا يرميها حتى تطلع الشمس. وبه قال الثورى وأبو ثور وإسحاق، والحجة لمالك والكوفيين حديث ابن عمر؛ لأنه قال فيه: (فمنهم من يقدم منى لصلاة الفجر، ومنهم من يقدم بعد ذلك، فإذا قدموا رموا الجمرة) ، واحتج الشافعى بحديث عبد الله مولى أسماء أنه قال: (رحلنا مع أسماء من جمع لما غاب القمر، وأتينا منى ورمينا، ورجعت فصلت الصبح فى دارها، فقلت لها: رمينا قبل الفجرفقالت: هكذا كنا نفعل مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) . ولم يرو البخارى حديث أسماء على هذا النسق، ولا ذكر فيه: (رمينا قبل الفجر) وإنما ذكر فيه أن مولاها قال لها: (يا هنتاه غلسنا) وغلسنا لفظة محتملة للتأويل لا يقطع بها؛ لأنه يجوز أن يسمى ما بعد الفجر غلسًا. قال ابن القصار: ولو صح قوله: (رمينا قبل الفجر) لكان ظنا منه؛ لأنه لما رآها صلت الصبح فى دارها ظن أن الرمى كان قبل الفجر، والرمى كان بعد الفجر، فأخرت صلاة الصبح إلى دارها. وقولها: (هكذا كنا نفعل) إشارة إلى فعلها، وفعلها يجوز أن يكون بعد الفجر؛ لأنها لم تقل هى: رمينا قبل الفجر ولا قالت: كنا نرمى معه قبل الفجر؛ لأنه لم ينقل أحد عن النبى عليه السلام أنه رمى قبل الفجر، واحتج الشافعى أيضا(4/359)
بحديث أم سلمة أن النبى عليه السلام أمرها أن تصبح بمكة يوم النحر، وهذا لا يكون إلا وقد رميت الجمرة بمنى ليلا قبل الفجر، قال: لأنه غير جائز أن يوافى أحد صلاة الصبح بمكة وقد رمى جمرة العقبة إلا وقد رماها ليلا؛ لأن من أصبح بمنى فكان بها بعد طلوع الفجر، فإنه لا يمكنه إدراك صلاة الصبح بمكة. وقد ضَعَّفَ أحمد بن حنبل حديث أم سلمة ودفعه وقال: لا يصح، رواه أبو معاوية عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أبى سلمة، عن أم سلمة (أن النبى عليه السلام أمرها أن توافى معه صلاة الصبح يوم النحر بمكة) . قال: ولم يسنده غيره، وهو خطأ، وقال وكيع عن هشام، عن أبيه مرسل: (أن النبى عليه السلام أمرها أن توافى صلاة الصبح يوم النحر بمكة) . قال أحمد: وهذا أيضًا عجب، وما يصنع يوم النحر بمكة، ينكر ذلك، فجئت إلى يحيى بن سعيد فسألته فقال: عن هشام، عن أبيه (أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أمرها أن توافى) وليس أن توافيه، قال: وبين هذين فرق، يوم النحر صلاة الصبح بالأبطح، وقال لى يحيى بن سعيد: سل عبد الرحمن بن مهدى، فسألته فقال: هكذا قال سفيان: عن هشام، عن أبيه (توافى) وقال أحمد: رحم الله يحيى ما كان أضبطه وأشد تفقده. واحتج الثورى بحديث ابن عباس (أن النبى عليه السلام قدم أغيلمة بنى عبد المطلب وضعفتهم وقال لهم: يا بنى، لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس) .(4/360)
رواه شعبة والأعمش عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، ورواه سفيان ومسعر عن سلمة بن كهيل، عن الحسن العرنى، عن ابن عباس: قدمنا من المزدلفة بليل فقال عليه السلام: (أى بنية عبد المطلب، لا ترموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس) . وهذا إسناد وإن كان ظاهره حسنًا، فإن حديث ابن عمر وأسماء يعارضانه، فلذلك لم يخرجه البخارى والله أعلم، مع أنه قد روى مولى ابن عباس عن ابن عباس قال: (بعثنى النبى عليه السلام مع أهله وأمرنى أن أرمى مع الفجر) . فخالف حديث مقسم عن ابن عباس. قال الطبرى: والصواب عندنا قول من قال: إن وقت رمى جمرة العقبة طلوع الفجر من يوم النحر؛ لأن حينئذ يحل الحاج، وذلك أنَّ بطلوع الفجر من تلك الليلة انقضى وقت الحج، وفى انقضائه انقضاء وقت التلبية ودخول وقت رمى جمرة العقبة، غير أنه لا ينبغى لمن كان محرمًا أن يلبس أو يتطيب أو يعمل شيئًا مما كان حرامًا عليه قبل طلوع الفجر من يوم النحر حتى يرمى جمرة العقبة استحبابًا واتباعًا فى ذلك سنة النبى عليه السلام فإذا رمى الجمرة فقد حَلَّ من كل شىء حرم عليه إلا جماع النساء حتى يطوف طواف الإفاضة. قال ابن المنذر: السنة أن لا يرمى إلا بعد طلوع الشمس كما فعل عليه السلام، ولا يجزئ الرمى قبل طلوع الفجر بحالٍ؛ إذ(4/361)
فاعله مخالف لسنة النبى عليه السلام ومن رماها بعد طلوع الفجر قبل طلوع الشمس فلا إعادة عليه، إذ لا أعلم أحدًا قال لا يجزئه، وقال الطبرى: وفيه الدليل الواضح أن لأهل الضعف فى أبدانهم أن يتقدموا إلى منى ليلة النحر من جمع، وأنه مرخص لهم فى ترك الوقوف بالمشعر غداة النحر. وقد اختلف السلف فى ذلك فقالت طائفة: جائز التقدم من جمعٍ بليل قبل الوقوف بها غداة النحر وصلاة الصبح بها لضعفة الناس خاصة والنساء والصبيان دون أهل القوة والجلد، وقالوا: إنما أذن فى ذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لضعفة الناس خاصة، واحتجوا بحديث ابن عباس، قالوا: فمن تقدم من جمعٍ بليل من أهل القوة فلم يقف بها مع الإمام، فقد ضيع نسكًا وعليه إراقة دم. وهو قول مجاهد، وعطاء، وقتادة، والزهرى، وأبى حنيفة، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور. وكان مالك يقول: إن مر بها فلم ينزل بها فعليه دم ومن نزل بها ثم دفع منها بعدما نزل بها وكان دفعه منها فى أول الليل أو وسطه أو آخره ولم يقف مع الإمام، فقد أجزأه ولا دم عليه. وهو قول النخعى، وحجة هذا القول أن النبى عليه السلام بات بها حين حج بالناس وعلمهم مناسكهم، فمن ضيع من ذلك شيئًا فعليه دم، وإنما أجزنا له التقدم بالليل إلى منى إذا بات بها؛ لتقديم النبى (صلى الله عليه وسلم) أهله من جمع بليل، فكان ذلك رخصة لكل أحد بات بها. وقال الشافعى: إن خرج منها بعد نصف الليل فلا شىء عليه، وإن خرج منها قبل نصف الليل فلم يعد إلى المزدلفة افتدى، والفدية شاة.(4/362)
وقال آخرون: جائز ذلك لكل أحد: للضعيف والقوى، وكانوا يقولون: إنما جَمْع منزل نزله رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كبعض منازل السفر، فمن شاء طواه فلم ينزل به، ومن شاء نزله فله أن يرتحل منه متى شاء من ليل أو نهار، ولا شىء عليه، روى ذلك عن عطاء، وهو قول الأوزاعى، واحتجوا بما حدثنا أبو كريب قال: حدثنا خالد بن مخلد، عن محمد بن عبد الله، عن عطاء، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (إنما جمع منزل لدلج المسلمين) . وقال الطحاوى: ذهب قوم إلى أن الوقوف بالمزدلفة فرض لا يجوز الحج إلا بإصابته، واحتجوا فى ذلك بقوله تعالى: (فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) [البقرة: 198] فذكر الله المشعر الحرام كما ذكر عرفات، وذكر ذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث عروة بن مضرس، فحكهما واحد لا يجزئ الحج إلا بإصابته. قال ابن المنذر: وهذا قول علقمة والشعبى والنخعى، قالوا: فمن لم يقف بجمع فقد فاته الحج، ويجعل إحرامه عمرة. قال الطحاوى: والحجة عليهم أن قوله تعالى: (فَاذْكُرُوا اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ (ليس فيد دليل أن ذلك على الوجوب، ولأن الله إنما ذكر الذكر، ولم يذكر الوقوف، وكُل قد أجمع أنه لو وقف بمزدلفة ولم يذكر الله تعالى أن حجة تام، فإذا كان الذكر المذكور فى الكتاب ليس من صلب الحج، فالموطن الذى يكون ذلك الذكر فيه الذى لم يذكر فى الكتاب أحرى ألا يكون فرضًا، وقد ذكر الله أشياء فى كتابه فى الحج لم يُرد بذكرها إيجابها فى قول أحد من الأمة، من(4/363)
ذلك قوله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا) [البقرة: 158] وكل قد أجمع النظر أنه لو حج ولم يطف بين الصفا والمروة أن حجه قد تم، وعليه دم مكان ما ترك من ذلك، فكذلك ذكر الله فى المشعر الحرام فى كتابه لا يدل على إيجابه، وأما قوله عليه السلام فى حديث عروة بن مضرس: (من شهد معنا صلاة الفجر بالمزدلفة وكان قد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارًا فقد تم حجه) فلا حجه فيه؛ لإجماعهم أنه لو بات بها ووقف ونام عن الصلاة فلم يصلها مع الإمام حتى فاتته أن حجة تام، فلما كان حضور الصلاة مع الإمام ليس من صلب الحج الذى لا يجزئ إلا به، كان الموطن الذى تكون فيه تلك الصلاة التى لم يذكر فى الحديث أحرى ألا يكون كذلك، فلم يتحقق بهذا الحديث ذكر الفرض إلا بعرفة. قال الطحاوى: وفى حديث سودة ترك الوقوف بالمزدلفة أصلا، وكذلك فى حديث ابن عباس وأسماء، وفى إباحة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لهم ذلك للضعيف دليل أن الوقوف بها ليس من صلب الحج الذى لا يجزئ إلا به كالوقوف بعرفة؛ ألا ترى أن رجلا لو ضعف عن الوقوف بعرفة، فترك ذلك لضعفه حتى طلع الفجر من يوم النحر أن حجه قد فسد، ولو وقف بها بعد الزوال ثم نفر منها قبل غروب الشمس أن أهل العلم مجمعون أنه غير معذور بالضعف الذى به، وأن طائفة منهم تقول: إن عليه دم لتركه بقية الوقوف بعرفة، وطائفة منهم تقول: قد فسد حجه، ومزدلفة ليست كذلك؛ لأن الذين أوجبوا الوقوف بها يجيزون النفور عنها بعد وقوفه بها قبل فراغ وقتها،(4/364)
وهو قبل طلوع الشمس من يوم النحر لعذر الضعف، فلما ثبت أن عرفة لا يسقط فرض الوقوف بها للعذر، ولا يحل النفور منها قبل وقته بالعذر، وكانت مزدلفة مما يباح ذلك منها بالعذر ثبت أن حكم مزدلفة ليس فى حكم عرفة؛ لأن الذى يسقط للعذر ليس بواجب، والذى لا يسقط للعذر هو الواجب. وقال الخطابى: الثبطة: البطيئة، وقد ثبطت الرجل عن أمره، ومنه قوله تعالى: (وَلَكِن كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ) [التوبة: 46] ، وقد تقدم تفسير قوله: (يا هنتاه) فى باب قوله: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ (فأغنى عن إعادته.
90 - بَاب مَتَى يُصَلِّى الْفَجْرَ بِجَمْعٍ
/ 138 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ: مَا رَأَيْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، صَلَّى صَلاةً بِغَيْرِ مِيقَاتِهَا إِلا صَلاتَيْنِ، جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَصَلَّى الْفَجْرَ قَبْلَ مِيقَاتِهَا. / 139 - وَقَالَ مرة: صَلَّى الْفَجْرَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ، وَقَائِلٌ يَقُولُ: طَلَعَ الْفَجْرُ، وَقَائِلٌ يَقُولُ: لَمْ يَطْلُعِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: إِنَّ هَاتَيْنِ الصَّلاتَيْنِ حُوِّلَتَا عَنْ وَقْتِهِمَا فِى هَذَا الْمَكَانِ: الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، فَلا يَقْدَمُ النَّاسُ جَمْعًا حَتَّى يُعْتِمُوا، وَصَلاةَ الْفَجْرِ فِى هَذِهِ السَّاعَةَ، ثُمَّ وَقَفَ حَتَّى أَسْفَرَ، ثُمَّ قَالَ: لَوْ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَفَاضَ الآنَ أَصَابَ السُّنَّةَ، فَمَا أَدْرِى أَقَوْلُهُ كَانَ أَسْرَعَ أَمْ دَفْعُ عُثْمَانَ، فَلَمْ يَزَلْ يُلَبِّى حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ. قال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صلى الفجر بالمزدلفة حين تبين(4/365)
له الصبح بأذان وإقامة. قال المهلب: وقول ابن مسعود: (ما رأيت الرسول (صلى الله عليه وسلم) صلى صلاة لغير ميقاتها) فإنه لا يريد بذلك أنه صلاها فى الوقت الذى لا يحل، وإنما أراد غير ميقاتها المعهود المستحب للجماعات بعد دخول الوقت وتمكنُّه، بييّن ذلك قوله: (قائل يقول: طلع الفجر، وقائل يقول: لم يطلع) يريد أنه بادر الفجر أول طلوعه فى الوقت الذى لا يتبينه كل أحد، ولم يَتَأَنَّ حتى يتبّين طلوعه لكل أحد، كما كانت عادته أن يصلى قبل ذلك، ولا يجوز أن يتأول عليه غير هذا التأويل.
91 - بَاب مَتَى يُدْفَعُ مِنْ جَمْعٍ
/ 140 - فيه: عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ يَقُولُ: شَهِدْتُ عُمَرَ صَلَّى بِجَمْعٍ الصُّبْحَ، ثُمَّ وَقَفَ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لا يُفِيضُونَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَيَقُولُونَ: أَشْرِقْ ثَبِيرُ، وَأَنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) خَالَفَهُمْ، ثُمَّ أَفَاضَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ. قال الطبرى: فيه من الفقه بيان وقت الوقوف الذى أوجبه الله تعالى على حجاج بيته بالمشعر الحرام، لقوله تعالى: (فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) [البقرة: 198] فمن وقف بالمشعر الحرام ذاكرًا له فى الوقت الذى وقف به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أو فى بعضه، فقد ادركه وأدى ما ألزم الله من ذكره به، وذلك حين صلاة الفجر بعد طلوع الفجر الثانى إلى أن يدفع الإمام منه قبل طلوع(4/366)
الشمس يوم النحر، ومن لم يدرك ذلك حتى تطلع الشمس فقد فاته الوقوف فيه بإجماع. وقال ابن المنذر: ثبت أن النبى عليه السلام أفاض من جمع قبل طلوع الشمس حين أسفر جدا، وأخذ بهذا ابن مسعود وابن عمر، وقال بذلك عامة العلماء أصحاب الرأى والشافعى، غير مالك فإنه كان يرى أن يدفع قبل طلوع الشمس وقبل الإسفار. قال المهلب: فإنما عجل النبى عليه السلام الصلاة، وزاحم بها أول وقتها ليدفع قبل إشراق الشمس على جبل ثبير ليخالف أمر المشركين، فكلما بَعُدَ دفعُه من طلوع الشمس كان أفضل، فلهذا والله أعلم اختار هذا مالك. قال الطبرى: وقوله: (لا يفيضون) يعنى: لا يرجعون من المشعر الحرام إلى حيث بدأ المصير إليه من منى حتى تطلع الشمس، وكذلك تقول العرب لكل راجع من موضع آخر إلى الموضع الذى بدا منه: أفاض فلان من موضع كذا. وكان الأصمعى يقول: الإفاضة: الدفعة، وكل دفعة إفاضة، ومنه قيل: أفاض القوم فى الحديث، إذا دفعوا فيه. وأفاض دمعه يفيضه، فأما إذا سالت دموع العين، فإنما يقال: فاضت عينه بالدموع. قال ابن قتيبة: وقولهم: أَشْرق ثبير، هو من شروق الشمس، وشروقها: طلوعها، يقال: شرقت الشمس شروقًا، إذا هى طلعت، وأشرقت: إذا أضاءت، وإنما يريدون: أُدْخُلْ أيها الجبل فى(4/367)
الشروق كما يقال: أشمل القوم: إذا دخلوا فى ريح الشمال، وأجنبوا: إذا دخلوا فى الجنوب، وأراحوا: إذا دخلوا فى الريح، وأربعوا: إذا دخلوا فى الربيع، فإذا أردت أن شيئًا من هذا أصابهم، قلت: شمل القوم وجنبوا وريحوا وربعوا وشرقوا، وغيثوا إذا أصابهم الغيث. وقوله: (كيما نغير) يريد كيما ندفع للنحر، قال الطبرى: وهو من قولهم: أغار الفرس إغارة الثعلب، وذلك إذا دفع وأسرع فى عدوه.
92 - باب التَّلْبِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ غَدَاةَ النَّحْرِ حَتى يرمى جَمرة العَقبة وَالارتداف فِى السَّير
/ 141 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، أَرْدَفَ الْفَضْلَ، فَأَخْبَرَ الْفَضْلُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يُلَبِّى حَتَّى رَمَى الْجَمْرَةَ. وَقَالَ أُسَامَةَ: لَمْ يَزَلِ رِدْفَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، ثُمَّ أَرْدَفَ الْفَضْلَ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى، قَالَ: فَكِلاهُمَا، قَالا: لَمْ يَزَلِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) يُلَبِّى حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ. اختلف السلف فى الوقت الذى يقطع الحاج فيه التلبية، فذهبت(4/368)
طائفة إلى حديث الفضل وأسامة وقالوا: يلبى الحاج حتى يرمى جمرة العقبة. روى هذا عن ابن مسعود وابن عباس، وبه قال عطاء، وطاوس، والنخعى، وابن أبى ليلى، والثورى، وأبو حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وقالوا: يقطعها مع أول حصاة يرميها من جمرة العقبة، إلا أحمد وإسحاق فإنه يقطعها عندهما إذا رمى الجمرة بأسرها، على ظاهر الحديث. وروى عن على بن أبى طالب أنه كان يلبى فى الحج، فإذا زاغت الشمس من يوم عرفة قطع التلبية، قال مالك: وذلك الأمر الذى لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا. وقال ابن شهاب: وفعل ذلك الأئمة أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعائشة، وابن المسيب، وذكر ابن المنذر عن سعيد مثله، وذكره الطحاوى عن مكحول، وكان ابن الزبير يقول: أفضل الدعاء يوم عرفة التكبير. وروى معناه عن جابر بن عبد الله. واحتج ابن القصار لمالك وأهل المدينة فقال فى حديث ابن عباس وأسامة: لو فعل ذلك النبى عليه السلام على أنه المستحب عنده لم تخالفه الصحابة بعده، فيحتمل أنه أراد ألا يقطع التلبية عند زوال الشمس؛ لأن الناس كانوا يتلاحقون به يوم عرفة حتى لا يبقى أحد إلا سمع تلبيته؛ لأنه صاحب الشرع، فأعلمهم أنها تجوز إلى هذا الوقت، ويكون المستحب لنا عند الزوال بعرفة لما قد تقرر من اختيار الصحابه له، وهم الذين أمرنا بالاقتداء بهم؛ لأنهم المبلغون للسنن، والمفسرون لها، فوجب اتباع سبيلهم واختيار ما اختاروه، والرغبة عما رغبوا عنه. وتأول الطحاوي في قطع الصحابة للتلبية عند الرواح إلى عرفة أن ذلك لم يكن على أن وقت التلبية قد انقطع، ولكن لأنهم كانوا(4/369)
يأخذون فيما سواها من الذكر والتكبير والتهليل، كما لهم أن يفعلوا ذلك قبل يوم عرفة أيضًا، وقد تقدم فى باب: التلبية ولا يكبر إذا غدا من منى إلى عرفة، أن التلبية هى الإجابة لما دعى إليه، فإذا بلغ عرفة فقد بلغ غاية ما يدرك الحاج بإدراكه، ويفوت بفوته، فلذلك يقطع التلبية عند بلوغ النهاية، وقد تقدم ذكر الارتداف فى السير فى أول كتاب الحج. وقال ابن المنذر: ثبت أن النبى عليه السلام رمى الجمرة يوم النحر على راحلته، وقال به مالك فرأى أن يرمى جمرة العقبة يوم النحر راكبًا؛ اقتداءً بالنبى عليه السلام وفى غير يوم النحر ماشيًا، وكره مالك أن يركب إلى شىء من الجمار إلا من ضرورة، وكان ابن عمر وابن الزبير وسالم يرمون الجمار إلا من ضرورة، وكان ابن عمر وابن الزبير وسالم يرمون الجمار وهم مشاة، واستحب ذلك أحمد وإسحاق، قال الطبرى: وإنما قيل لها: جمرة؛ لأنها حجارة مجتمعة، وكل شىء مجتمع فهو عند العرب جمرة وجمار، ومنه قولهم: أَجْمَرَ السلطانُ جيشهَ فى الثغر، بمعنى: جَمَعَهُم فيه، ومنه قيل لأحياء من العرب تجمعت: جمار وجمرات.
93 - باب قول الله تَعَالَى: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ (إلى قوله: (حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) [البقرة: 196]
/ 142 - فيه: أَبُو جَمْرَةَ، سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الْمُتْعَةِ، فَأَمَرَنِى بِهَا، وَسَأَلْتُهُ عَنِ الْهَدْىِ، فَقَالَ: فِيهَا جَزُورٌ أَوْ بَقَرَةٌ أَوْ شَاةٌ أَوْ شِرْكٌ فِى دَمٍ، وَكَأَنَّ نَاسًا كَرِهُوهَا، فَنِمْتُ، فَرَأَيْتُ فِى الْمَنَامِ كَأَنَّ إِنْسَانًا يُنَادِى حَجٌّ مَبْرُورٌ وَمُتْعَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ، فَأَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَحَدَّثْتُهُ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ سُنَّةُ أَبِى الْقَاسِمِ (صلى الله عليه وسلم) .(4/370)
قَالَ آدَمُ، وَوَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، وَغُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ: عُمْرَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ، وَحَجٌّ مَبْرُورٌ. قال الطحاوى: إن قال قائل: إنما أطلق الله فى كتابه المتعة للمحُحْصَرين بالحج، ولم يذكر معهم من لم يُحْصَر، فكيف أبحتم العمرة فيمن لم يحصر؟ فالجواب: إن فى الآية ما يدل على أن غير المحصرين قد دخلوا فيها بما أجمعوا عليه، وهو قوله: (وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) [البقرة: 196] . فلم يختلف أهل العلم فى المحرم بالحج والعمرة مِمَّنْ لم يحصر أنه إذا أصابه أذى فى رأسه، أو أصابهُ مرض أنه يحلقَ وأن عليه الفدية المذكورة فى الآية التى تليها، وأن القصد بها إلى المحصرين لا يمنع أن يدخل فيها من سواهم من المحرمين غير المحصرين، فكذلك قوله: (فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ (لا يمنع أن يكون غير المحصرين فى ذلك كالمحصرين، بل هذا أَوْلى بما ذكرنا من المعنى الأول الذى فى الآية؛ لأنه قال فى المعنى الأول: (فَمَن كَانَ مِنكُم (. ولم يقل ذلك فى المعنى الثانى منها. واختلف العلماء فيما استيسر من الهدى، فقالت طائفة: شاة، روى ذلك عن على وابن عباس، وهو قول مالك وجمهور العلماء، وروى عن ابن عمر وعائشة أن ما استيسر من الهدى من الإبل والبقر خاصة. قال إسماعيل: وأحسب هؤلاء ذهبوا إلى ذلك من أجل قوله: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ) [الحج: 36] فذهبوا إلى أن الهدى ما وقع عليه اسم بدن. ويرد هذا التأويل قوله تعالى: (فَجَزَاء مِّثْلُ مَا(4/371)
قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) [المائدة: 95] إلى قوله: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة: 95] وقد حكم المسلمون فى الظبى بشاة، فوقع عليها اسم هدى. وروى عن ابن عمر وأنس أنه يجزئ فى المتعة والقران شرك فى دم. وروى عن عطاء وطاوس والحسن مثله، وهو قول أبى حنيفة، والثورى، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، ولا تجزئ عندهم البدنة أو البقرة عن أكثر من سبعة على حديث جابر، ولا تجزئ عندهم الشاة عن أكثر من واحد. قال المؤلف: ولا تعلق لهم فى حديث أبى جمرة عن ابن عباس، قال إسماعيل: وأبو جمرة وإن كان من صالحى الشيوخ فإنه شيخ، وقد روى ثقات أصحاب ابن عباس عنه أن) فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ) [البقرة: 196] شاة، وأن المعتمد فى العلم على الثقات المعروفين بالعلم، وقد روى ليث بن أبى سشليم عن طاوس، عن ابن عباس مثل رواية أبى جمرة، وليث ضعيف، فلا يتعنى بالكلام فيه، وقد روى حماد ابن زيد، عن أيوب، عن محمد، عن ابن عباس قال: ما كنت أدرى أن دمًا واحدًا يقتضى عن أكثر من واحد. وأما ما روى عن جابر أنه قال: (نحرنا يوم الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة) فلا حجة فيه؛ لأن الحديبية لم يكن فيها تمتع، وإنما كان عليه السلام أحرم بالعمرة من ذى الحليفة وساق الهدى، فلما صده المشركون نحروا الهدى، وهو تطوع ليس فيه تمتع ولا غيره مما يوجب هديًا، وهذا كما روى عنه عليه السلام أنه ضحى عن أمته، وكما روى عن أبى أيوب أن الرجل يضحى بالشاة الواحدة عنه وعن أهل بيته، وروى ابن عبد الحكم عن مالك أنه قال: تفسير(4/372)
حديث جابر فى التطوع، والعمرة تطوع لا بأس بذلك. وروى عنه ابن القاسم أنه لا يشترك فى هدى واجب ولا تطوع. فإن قيل: إن الهدى كان عليهم لأنهم حُصِرُوا، قيل: الهدى قد كان أشعر وأوجب هديًا بعد الحصر. وما روى عن أنس أنهم كانوا يشتركون السبعة فى البدنة والبقرة، فإنما يعنى به الأضاحى، وليس المراد به أنهم يشتركون فى الأضحية، على أن لكل واحدٍ منهم سهمًا من ملكها، وإنما يعنى به أن أهل البيت يضحون بالجزور أو البقرة عن جماعة منهم، وهذا جائز عندنا ولو كان أكثر من سبعة إذا كان ملكها لرجل واحد، وضحى بها عن نفسه وأهله، وقد تقدم فى كتاب الصيام الاختلاف فى صوم التمتع الثلاثة الأيام فى الحج، فأغْنى عن إعادته.
94 - باب رُكُوبِ الْبُدْنِ
وَقَوْلِهِ: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ (إلى قوله: (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) [الحج: 36] . قَالَ مُجَاهِدٌ: سُمِّيَتِ الْبُدْنَ لِبُدْنِهَا. / 143 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، رَأَى رَجُلا يَسُوقُ بَدَنَةً، فَقَالَ: (ارْكَبْهَا) ، فَقَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ، فَقَالَ: (ارْكَبْهَا، وَيْلَكَ، فِى الثَّانِيَةِ أَوْ فِى الثَّالِثَةِ) . قال المهلب: فيه من الفقه استعمال بعض ما وجه لله تعالى إذا احتيج إليه، على خلاف ما كانت الجاهلية عليه من أمر البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، فأعلم الرسول (صلى الله عليه وسلم) إنما أهل به لله إنما هو(4/373)
دماؤها، وأما لحومها والانتفاع بها قبل نحرها وبعده فغير ممنوع، بل هو مباح بخلاف سُنن الجاهلية. واختلف العلماء فى ركوب الهدى الواجب والتطوع، فذهب أهل الظاهر إلى أن ذلك جائز من غير ضرورة، وبه قال أحمد وإسحاق، وبعضهم أوجب ذلك، واحتجوا بحديث أبى هريرة وأنس، وكره مالك وأبو حنيفة والشافعى ركوبها من غير ضرورة، وكرهوا شرب لبن الناقة بَعْدَ رىِّ فصيلها، وقال أبو حنيفة والشافعى: إن نقصها الركوبُ والشربُ فعليه قيمة ذلك، واحتجوا أن ما خرج لله فغير جائز الرجوع فى شىء منه والانتفاع به إلا عند الضرورة. وقال الطحاوى: احتمل أن يكون النبى (صلى الله عليه وسلم) أمر بركوب البدنة لغير ضرورة، واحتمل أن يكون أمر بذلك لضرورة، فنظرنا فى ذلك فإذا نصر بن مرزوق، حدثنا عن ابن معبد، حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن حميد، عن أنس (أن النبى عليه السلام رأى رجلا يسوق بدنة، وقد جهد، فقال: اركبها، فقال: يا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، إنها بدنة، قال اركبها) . وروى ابن أبى شيبة حدثنا أبو خالد الأحمر، عن ابن جريج، عن أبى الزبير، عن جابر فى ركوب البدن قال: سمعت النبى عليه السلام يقول: (اركبها بالمعروف إذا لم تجد ظهرًا) . فأباح عليه السلام ركوبها فى حال الضرورة، فثبت أن حكم الهدى أن يركب للضرورة. وقد روى عن ابن عمر ما يدل على هذا المعنى، روى هشيم عن الحجاج، عن نافع، عن ابن عمر (أنه كان يقال للرجل إذا ساق بدنة وأعيا: اركبها، وما أنتم بمستنين سنة هى أهدى من سنة محمد) .(4/374)
ثم اعتبرنا ذلك من طريق النظر، فرأينا ما الملك فيه متكامل كالعبد الذى لم يُدبره مولاه، والأَمَة التى لم تلد، والبدنة التى لم يوجبها صاحبها، كل ذلك جائز بيعه، والانتفاع به وجائز تمليك منافعه ببدل وبغير بدل، ورأينا البدنة إذا أوجبها ربها، فكل قد أجمع أنه لا يجوز أن يؤاجرها، ولا يجوز أن يبيع منافعها، كان كذلك ليس له أن ينتفع بها، ولا يجوز له الانتفاع إلا بشىء له التعوض بمنافعه وأخد البدل فيها، وروى عن مجاهد فى قوله: (لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى) [الحج: 33] قال: فى طهورها وألبانها وأصوافها وأوبارها حتى تصير بدنًا، وبه قال النخعى وعروة. قال المهلب: وفيه من الفقه تكرير العالم الفتوى، وفيه توبيخ الذى لا يأتمر بالفتوى والدعاء عليه بالويل وشبهه، مما عادة العرب أن تدعوا به، وقيل: هذا مما لا يراد به الوقوع، وإنما هو على سبيل التحضيض، وقد قال عليه السلام: (إنما أنا بشر أغضب كما تغضبون، فمن سَبَبَتْتُه فاجعل ذلك له كفارة وأجرًا) . فهذا دليل أنه عليه السلام لم يُرد بشىء من دُعائه على من وَبَّخَهُ الوقوع.
95 - باب مَنْ سَاقَ الهدىِ مَعَهُ
/ 144 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ: تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، وَأَهْدَى فَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْىَ مِنْ ذِى الْحُلَيْفَةِ، وَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، فَكَانَ مِنَ النَّاسِ مَنْ أَهْدَى، فَسَاقَ الْهَدْيَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ، فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، مَكَّةَ، قَالَ لِلنَّاسِ: (مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى،(4/375)
فَإِنَّهُ لا يَحِلُّ لِشَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِىَ حَجَّهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى، فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلْيُقَصِّرْ، وَلْيَحْلِل، ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحَجِّ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا، فَلْيَصُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فِى الْحَجِّ، وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ) ، فَطَافَ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ، وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ أَوَّلَ شَىْءٍ، ثُمَّ خَبَّ ثَلاثَةَ أَطْوَافٍ وَمَشَى أَرْبَعًا، فَرَكَعَ حِينَ قَضَى طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ عِنْدَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَانْصَرَفَ فَأَتَى الصَّفَا، فَطَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَطْوَافٍ، ثُمَّ لَمْ يَحْلِلْ مِنْ شَىْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى قَضَى حَجَّهُ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَأَفَاضَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَىْءٍ حَرُمَ مِنْهُ، وَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مَنْ أَهْدَى، وَسَاقَ الْهَدْىَ مِنَ النَّاسِ. وقَالَ ابْن شهاب: عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فِى تَمَتُّعِهِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَهُ، مثل حديث ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . قال المهلب: قول ابن عمر: (تمتع رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) يعنى أنه أمر بذلك كما يقال: رجم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولم يرجم، وكتب ولم يكتب، بل أمر بذلك وقوله: (فى حجة الوداع) دليل أن النبى عليه السلام لم يتمتع فى خاصة نفسه، بل كانت حجة مُفردَة، وسميت حجة الوداع، وقوله: (فبدأ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأهَلَّ بالعمرة) إنما يريد أنه بدأ حين أمرهم بالتمتع أن يهلوا بالعمرة أولا، ويقدموها قبل الحج، أو ينشئوا الحج بعد العمرة إذا حَلُّوا منها، وقوله: (فتمتع الناس مع النبى عليه السلام) معناه: تمتعوا بحضرته، ومثل هذا فى الكلام مشهور كما جاء فى الحديث: (أن فلانًا قتل مع النبى (صلى الله عليه وسلم) فى بعض غزواته) معناه: قتل بحضرة النبى عليه السلام. وقوله للناس: (من كان منكم أهدى فلا يحل من شئ) دليل على أنه عليه السلام لم يتمتع؛ لأنه ساق الهدى، ولم يُحل كما(4/376)
حلَّ من لم يسق الهدى، وما فى آخر الحديث من تعليم الناس يفسر ما فى أوله من إشكال قوله: (أنه تمتع) لأن المفسّر يقضى على المجمل، وقد صح عن ابن عمر أنه رَدَّ قول أنس: (أن النبى عليه السلام تمتع) وقال: (أهلَّ النبى عليه السلام بالحج وأهللنا به، فلما قدمنا مكة، قال: من لم يكن معه هدى فليجعلها عمرة، وكان مع النبى عليه السلام هدى) ذكره البخارى عن مسدد فى كتاب المغازى، وقد ذكرناه فى باب: التمتع والقران والإفراد وفسخ الحج، فكيف ينكر ابن عمر على أنس أن النبى عليه السلام أهل بعمرة وحجة؟ هذا ما لا يتوهمه عاقل، فصح أن تأويل قول ابن عمر فى هذا الباب: (تمتع رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) أنه أمر بذلك، لا أنه فعله عليه السلام فى خاصّة نفسه، وهذا التأويل ينفى التناقض عن الخبرين، ويجمع بين المتضادين. وأما قوله فى حديث عروة: أن عائشة أخبرته عن النبى عليه السلام فى تمتعه بالعمرة إلى الحج بمثل حديث سالم عن أبيه، فنعم هو مثله فى الوهم؛ لأن أحاديث عائشة كلها من رواية عروة والأسود والقاسم وعمرة مسقطة لهذا الوهم؛ لأنهم يروون عنها أنها قالت: (خرجنا مع النبى عليه السلام ولا نرى إلا أنه الحج) مُخالفة لرواية ابن شهاب عن عروة، عن عائشة فى تمتعه بالعمرة التى فى آخر هذا الباب، وموافقة لرواية الجماعة عن عائشة، وأما قوله فى الترجمة: باب من ساق البدن فإنما أراد أن يعرف أن السنة فى الهدى أن يساق من الحل إلى الحرم. واختلف العلماء فى ذلك. فقال مالك: من اشترى هَدْيَهُ بمكة أو بمنى، ونحره ولم يقف به بعرفة فى الحل فعليه بَدَلُه، وهو مذهب ابن عمر وسعيد بن جبير، وبه قال الليث، وروى عن القاسم أنه(4/377)
أجازه إن لم يوقف به عرفة، وقاله أبو حنيفة والثورى والشافعى وأبو ثور، قال الشافعى: وَقْفُ الهدى بعرفة سنة لمن شاء إذا لم يسقه من الحل. وقال أبو حنيفة: ليس بسنة؛ لأن النبى عليه السلام إنما ساق الهدى من الحل؛ لأن مسكنه كان خارج الحرم، والحجة لمالك أن النبى عليه السلام ساق الهدى من الحل إلى الحرم، وقال: (خذوا عنى مناسككم) . وأفعاله على الوجوب.
96 - بَاب مَنِ اشْتَرَى الْهَدْىَ مِنَ الطَّرِيقِ
/ 145 - فيه: عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أنَّهُ قَالَ لأبِيهِ: أَقِمْ فَإِنِّى لا آمَنُهَا أَنْ تصَدُّ عَنِ الْبَيْتِ، قَالَ: إِذًا أَفْعَلُ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَالَ: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب: 21] فَأَنَا أُشْهِدُكُمْ أَنِّى قَدْ أَوْجَبْتُ عَلَى نَفْسِى الْعُمْرَةَ، فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ مِنَ الدَّارِ، قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَقَالَ: مَا شَأْنُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إِلا وَاحِدٌ، ثُمَّ اشْتَرَى الْهَدْىَ مِنْ قُدَيْدٍ، ثُمَّ قَدِمَ فَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا، فَلَمْ يَحِلَّ حَتَّى حَلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا. وقوله: (إذًا أفعل كما فعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) يعنى: من الإحلال حين صُدَّ بالحديبية على ما يأتى ذكره فى باب: الحصر بَعْدُ إن شاء الله، ولم يُصد ابن عمر وأَهَلَّ بعمرة من المدينة، فلما خرج إلى الميقات أردف الحج على العمرة وقال: (ما شأنهما إلا واحد) يعنى فى العمل، لأن القارن لا يطوف عنده إلا طوافًا واحدًا وسعيًا واحدًا. وأجمع العلماء أن من أَهَلَّ بعمرة فى أشهر الحج أن له أن يدخل عليها الحج ما لم يفسخ الطواف بالبيت، والحجةُ لهم أن أصحاب(4/378)
النبى عليه السلام أهلوا بعمرة فى حجة الوداع، ثم قال لهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (من كان معه هدى فليهل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منها جميعًا) . وبهذا احتج مالك فى الموطأ. واختلفوا فى إدخال الحج على العمرة إذا افتتح الطواف، فقال مالك: يلزمه ذلك ويصير قارنًا، وحكى أبو ثور أنه قول الكوفيين، وقال الشافعى: لا يكون قارنًا، وذكر أنه قول عطاء، وبه قال أبو ثور. وأما إدخال العمرة على الحج، فمنع منه مالك، وهو قول إسحاق وأبى ثور، وأجازه الكوفيون وقالوا: يصير قارنًا، وقد أساء فيما فعل، واختلف قول الشافعى على القولين، وإنما أجاز مالك إرداف الحج على العمرة، ولم يُجز إرداف العمرة على الحج؛ لأن عمل الحج يستغرق عمل العمرة ويزيد عليها، فإذا أدخل العمرة على الحج فلم يأت بزيادة فى العمل، ولا أفاد فائدة، فلم يكن لإدخالهما على الحج معنى، والقياس عند أبى حنيفة لا يمنع إدخال عمرة على حجة، ومن أصله أن على القارن طوافين وسعيين. وأما قول البخارى: باب من اشترى الهدى من الطريق، فإنما أراد أن يبيّن مذهب ابن عمر أن الهدى ما أدخل من الحل إلى الحرم؛ لأن قُديَدًا حيث اشتراه ابن عمر من الحل فى نصف طريق مكة، وقد روى مالك عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يقول: الهدى ما قلد وأشعر، ووقف به بعرفة، وكذلك فعل النبى عليه السلام فلا معنى لقول من خالف هذا. وقوله: (لا أيمنها) قال سيبويه: من العرب من يكسر زوائد كل فعل مضارع، ماضيه فعل، ومستقبله يفعل، إلى الياء، فيقولون: أنا(4/379)
أعلم، وأنت تعلم، ونحن نعلم، وهو يعلم بفتح الياء؛ كراهية الكسرة فيها لثقلها، على هذا جاء: (لا أيمنها) لأنهم يقولون: أيمن.
97 - باب مَنْ أَشْعَرَ وَقَلَّدَ بِذِى الْحُلَيْفَةِ ثُمَّ أَحْرَمَ
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا أَهْدَى مِنَ الْمَدِينَةِ قَلَّدَهُ وَأَشْعَرَهُ بِذِى الْحُلَيْفَةِ، يَطْعُنُ فِى شِقِّ سَنَامِهِ الأيْمَنِ بِالشَّفْرَةِ، وَوَجْهُهَا إلى الْقِبْلَةِ بَارِكَةً. / 146 - فيه: مَرْوَانَ، وَالْمِسْوَر، قَالا: خَرَجَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ مِنَ الْمَدِينَةِ فِى بِضْعَ عَشْرَةَ مِائَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِذِى الْحُلَيْفَةِ، قَلَّدَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، الْهَدْىَ، وَأَشْعَرَ، وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ. / 147 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: فَتَلْتُ قَلائِدَ بُدْنِ رسُول اللَّه، عليه السَّلام، بِيَدَىَّ، ثُمَّ قَلَّدَهَا وَأَشْعَرَهَا وَأَهْدَاهَا، فَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَىْءٌ كَانَ أُحِلَّ لَهُ. عرض البخارى فى هذا الباب أن يبيّن أن من أراد أن يحرم بالحج أو العمرة، وساق معه هديًا، فإن المستحب له أن لا يشعر هديه، ولا يقلده إلا من ميقات بلده، وكذلك يستحب له أيضًا أن لا يحرم إلا بذلك الميقات على ما عمل النبى عليه السلام بالحديبية وفى حجته أيضًا، وكذلك من أراد أن يبعث بهدى إلى البيت ولم يُرد الحج والعمرة، وأقام فى بلده فإنه يجوز له أن يقلده وأن يشعره فى بلده، ثم يبعث به كما فعل النبى عليه السلام إذ بعث بهديه مع أبى بكر سنة تسع، ولم يوجب ذلك على النبى (صلى الله عليه وسلم) إحرامًا ولا تجردًا من ثيابه ولا غير ذلك، وعلى هذا جماعة أئمة الفتوى، منهم مالك، والليث، والأوزاعى،(4/380)
والثورى، وأبو حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، كلهم احتج بحديث عائشة أن تقليد الهدى لا يوجب الإحرام على من لم يَنْوِهِ، وَرَدُّوا قول ابن عباس، فإنه كان يرى أن من بعث بهدى إلى الكعبة، لزمه إذا قلده: الإحرام، وتجنُّب كل ما يتجنب الحاج حتى ينحر هديه، وتابع ابن عباس على ذلك ابن عمر، وبه قال عطاء، وهم محجوجون بالسنة الثابتة فى حديث عائشة، وليس أحد بحجة على السنة. قال الطحاوى: وقد رأى ربيعة بن الهدير رجلا متجردًا بالعراق، فسأل الناس عنه، فقالوا: أمر بهديه أن يقلد، فلذلك تجرد، فذكر ذلك لابن الزبير، فقال: بدعة ورب الكعبة. فلا يجوز أن يكون ابن الزبير حلف على ذلك أنه بدعة إلا وقد علم أن السنة خلاف ذلك.
98 - بَاب فَتْلِ الْقَلائِدِ لِلْبُدْنِ وَالْبَقَرِ
/ 148 - فيه: حَفْصَةَ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ؟ قَالَ: (إِنِّى لَبَّدْتُ رَأْسِى، وَقَلَّدْتُ هَدْيِى، فَلا أَحِلُّ حَتَّى أَحِلَّ مِنَ الْحَجِّ) . / 149 - وفيه: عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، يُهْدِى مِنَ الْمَدِينَةِ، فَأَفْتِلُ قَلائِدَ هَدْيِهِ، ثُمَّ لا يَجْتَنِبُ شَيْئًا مِمَّا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ. فيه من الفقه: أيما عمل لله من الأعمال فإنه يجب إتقانها وتحسينها؛ ألا ترى عائشة لم تقنع فى القلائد إلا بفتلها وإحكامها. وأجمع العلماء على تقليد الهدى، والتقليد إنما هو علامة للهدى، كأنه إشهاد أنه أخرجه من ملكه لله تعالى وليعلم الناس الذين يبتغون أكله فيشهدون نَحْره، وفيه عمل أزواج النبى عليه السلام(4/381)
بأيديهن، وخدمتهن فى بيوتهن، وقد كان النبى عليه السلام يخدم فى بيته.
99 - باب إِشْعَارِ الْبُدْنِ
قَالَ الْمِسْوَرِ: قَلَّدَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، الْهَدْىَ وَأَشْعَرَهُ وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ. / 150 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: فَتَلْتُ قَلائِدَ هَدْىِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، ثُمَّ أَشْعَرَهَا وَقَلَّدَهَا، أَوْ قَلَّدْتُهَا، ثُمَّ بَعَثَ بِهَا إِلَى الْبَيْتِ، وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ، فَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَىْءٌ كَانَ لَهُ حِلٌّ. جمهور العلماء يَرَوْنَ إشعار البدن؛ لأنه سنة ثابتة، وممن رأى ذلك عمر بن الخطاب، وابن عمر، والحسن البصرى، والقاسم، وسالم، وعطاء، وبه قال مالك، وأبو يوسف، ومحمد، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وأنكر الإشعار أبو حنيفة وقال: إنما كان ذلك قبل النهى عن المثلة، وهذا تحكم لا دليل عليه وسوء ظن، ولا تترك السنن بالظنون، وقد روى الإشعار عن النبى عليه السلام جماعة. قال ابن قصار: فإن قيل: فقد روى عن عائشة: (إن شئت فأشعر، وإن شئت فلا، فإنما أشعر ليعلم أنها بدنة إذا ضلت) فدل أنه علامة ليس بنسك، وقد روى مثل ذلك عن ابن عباس، قيل: إن ابن عباس وعائشة إنما أعلما أن الإشعار ليس بواجب، وبذلك نقول، غير أن فعله أفضل من تركه؛ لأن ابن عمر قال: لا هَدْى(4/382)
إلا ما قُلد أو أُشعر. أى لا هدى كامل، ولا نقول إن الإشعار نسك يجب فى تركه دم، واستحب مالك الإشعار فى الشق الأيسر على ما رواه نافع عن ابن عمر أنه ربما فعل هذا، وربما فعل هذا. واستحب أبو يوسف، ومحمد، والشافعى، وأحمد، وإسحاق الإشعار فى الشق الأيمن، رواه معمر عن الزهرى، عن سالم، عن أبيه أنه كان يفعله. واختلفوا فى إشعار البقر، فكان ابن عمر يقول: نشعر البقر فى أسنمتها، وقال عطاء والشعبى: يقلد ويشعر. وهو قول أبى ثور. وقال مالك: تُشعر التى لها سنام وتُقلد، ولا تُشعر التى لا سنام لها وتقلد. وقال سعيد ابن جبير: تُقلدُ ولا تُشعر.
0 - باب مَنْ قَلَّدَ الْقَلائِدَ بِيَدِهِ
/ 151 - فيه: زِيَادَ بْنَ أَبِى سُفْيَانَ، كَتَبَ إِلَى عَائِشَةَ إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَنْ أَهْدَى هَدْيًا حرُمَ عَلَيْهِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْحَاجِّ حَتَّى يُنْحَرَ هَدْيُهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: لَيْسَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَنَا فَتَلْتُ قَلائِدَ هَدْىِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِيَدَىَّ، ثُمَّ قَلَّدَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِيَدَيْهِ، ثُمَّ بَعَثَ بِهَا مَعَ أَبِى، فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) شَىْءٌ أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ حَتَّى نُحِرَ الْهَدْىُ. فيه من الفقه: جواز امتهان الخليفة فى الخدمة، وتناول بعض الأمور بنفسه، وإن كان له من يكفيه، ولا سيما فيما يكون من إقامة الشرائع وأمور الديانة، وفيه إنكار عائشة على ابن عباس أن من بعث بهدى فقد وجب عليه الإحرام، واحتجاجها عليه بفعل النبى(4/383)
عليه السلام أنه بعث مع أبى بكر سنة تسع بهدى، وقعد عن الحج، ولم يحرم عليه شئ، وهذه حجة قاطعة، وقد تقدمت هذه المسألة فى باب: من أشعر وقلد الهدى بذى الحليفة ثم أحرم.
1 - باب تَقْلِيدِ الْغَنَمِ
/ 152 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: أَهْدَى الرسول (صلى الله عليه وسلم) مَرَّةً غَنَمًا. / 153 - وَقَالَتْ مرة: كُنْتُ أَفْتِلُ الْقَلائِدَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَيُقَلِّدُ الْغَنَمَ، وَيُقِيمُ فِى أَهْلِهِ حَلالا. اختلف العلماء فى تقليد الغنم، فممن رأى تقليدها أخذًا بهذا الحديث: عائشة أم المؤمنين، وهو قول عطاء، وبه قال الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وقال مالك وأبو حنيفة: لا يقلد الغنم، وأظنه لم يبلغهم الحديث.
2 - بَاب الْقَلائِدِ مِنَ الْعِهْنِ
/ 154 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: فَتَلْتُ قَلائِدَهَا مِنْ عِهْنٍ كَانَ عِنْدِى. العهن: الصوف، وأكثر ما يكون مصبوغًا ليكون أبلغ فى العلامة.
3 - باب تَقْلِيدِ النَّعْلِ
/ 155 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، رَأَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، رَأَى رَجُلا يَسُوقُ بَدَنَةً، قَالَ: (ارْكَبْهَا) ، قَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ رَاكِبَهَا يُسَايِرُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، وَالنَّعْلُ فِى عُنُقِهَا. قال ابن عمر: يقلد الهدى نعلين، وبه قال الثورى والشافعى، وقال مالك: تجزئ النعل الواحدة، وهو قول الزهرى، وقال الثورى: فم القربة تجزئ ونعلان أفضل لمن وجدهما.(4/384)
4 - باب الْجِلالِ لِلْبُدْنِ
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لا يَشُقُّ مِنَ الْجِلالِ إِلا مَوْضِعَ السَّنَامِ، وَإِذَا نَحَرَهَا نَزَعَ جِلالَهَا مَخَافَةَ أَنْ يُفْسِدَهَا الدَّمُ، ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِهَا. / 156 - فيه: عَلِيّ، رَضِى اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَمَرَنِى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ أَتَصَدَّقَ بِجِلالِ الْبُدْنِ الَّتِى نَحَرْتُ وَبِجُلُودِهَا. قال الطبرى: فيه الإبانة أن من سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى البدن إذا ساقها سائق إلى الكعبة أن يجللها، فإذا بلغت محلها أن ينحرها، ويتصدق بلحومها وجلودها وجلالها، وفيه أن لصاحبها أن يولى نحرها غيره، وأنه لا بأس عليه إن لم يلى ذلك بنفسه، وفيه أن له أن يولى قسم لحومها من شاء. وقال ابن المنذر: كان ابن عمر يجلِّل بُدنه الأنماط والبرود الحبر حتى يخرج من المدينة، ثم ينزعها ويطويها حتى يكون يوم عرفة فيلبسها إياها حتى ينحرها، ثم يتصدق بها. قال المهلب: وهذا إنما فعله على وجع التطوع والتبرع بما كان أَهَلَّ به الله أَلا يرجع فى شىء منه، ولا فى المال المضاف إليه، وليس بفرض عليه، وكان مالك وأبو حنيفة والشافعى يرون تجليل البدن.
5 - باب ذَبْحِ الرَّجُلِ الْبَقَرَ عَنْ نِسَائِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِنَّ
/ 157 - فيه: عَائِشَةَ، خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِى الْقَعْدَةِ، وَلا نُرَى إِلا الْحَجَّ، فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْ مَكَّةَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مَنْ لَمْ يَكُنْ(4/385)
مَعَهُ هَدْىٌ إِذَا طَافَ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَنْ يَحِلَّ، قَالَتْ: فَدُخِلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالَ: نَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ أَزْوَاجِهِ. قَالَ يَحْيَى: فَذَكَرْتُهُ لِلْقَاسِمِ، فَقَالَ: أَتَتْكَ بِالْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ. وهذا الذبح إنما كان هدى التمتع، نحره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عمن تمتع من أزواجه، وأخذ جماعة من العلماء بظاهر هذا الحديث، وأجازوا الاشتراك فى هدى التمتع والقران على ما تقدم فى حديث أبى جمرة عن ابن عباس، ومنع مالك ذلك، ولا حجة لمن خالف مالكًا فى هذا الحديث؛ لأن قوله: (نحر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن أزواجه البقر) يحتمل أن يكون نحر عن كل واحدة منهن بقرة، وهذا غير مدفوع من التأويل. فإن قيل: إنما نحر البقر عنهن على حسب ما أتى عنه فى الحديبية: (أنه نحر البقرة عن سبعة والبدنة عن سبعة) قيل: هذه دعوى لا دليل عليها؛ لأن نحره فى الحديبية كان عندنا تطوعًا، والاشتراك فى هدى التطوع جائز على رواية ابن عبد الحكم عن مالك، والهدى فى حديث عائشة واجب، ولا يجوز الاشتراك فى الهدى الواجب، فالحديثان مستعملان عندنا على هذا التأويل. قال إسماعيل بن إسحاق: وأما رواية يونس عن الزهرى، عن عمرة، عن عائشة: (أن النبى عليه السلام نحر عن أزواجه بقرة واحدة) فإنّ يونس انفرد بذلك وحده، وخالفه مالك فأرسله، ورواه القاسم وعمرة عن عائشة (أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذبح عن أزواجه البقر) حدثنا بذلك أبو مصعب، عن مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم،(4/386)
عن أبيه، عن عائشة. وحدثنا به القعنبى عن سليمان بن بلال، عن يحيى، عن عمرة، عن عائشة. وهذه أسانيد الفقهاء الذين يفهمون ما يحتاج إلى فهمه. قال المهلب: فى حديث عائشة من الفقه أنه من كَفَّر عن غيره كفارة يمين أو ظهار، أو قتل نفس، أو أهدى عنه، أو أَدَّى عنه دينا بغير أمره، أن ذلك كله مجزئًا عنه؛ لأنه لم يعرف نساء النبى عليه السلام بما أدى عنهن من نحر البقر لما وجب عليهن من نُسك التمتع، وهذا حجة لابن القاسم فى قوله: إذا أعتق الرجل عبده عن غيره فى كفارة الظهار أنه يجزئه، ولم يُجز ذلك أشهب وابن المواز، وقالا: لا يعتق عنه بغير علمه؛ لأنه فرض وجَبَ عليه، ودليل هذا الحديث لازم لهما، ولمن قال بقولهما من الفقهاء. وقد تقدمت هذه المسألة واختلاف أهل العلم فيما يجوز عمله بنية وبغير نية فى آخر كتاب الإيمان فى باب: ما جاء من الأعمال بالنية والحسنة، وقد تقدم معنى قوله: أتتك بالحديث على وجهه، وهو أنها ذكرت ابتداء الإحرام وذكرت انتهاءه حين وصلوا إلى مكة، وفسخ من لم يسق الهدى.
6 - باب النَّحْرِ فِى مَنْحَرِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، بِمِنًى
/ 158 - فيه: ابْنُ عُمَرَ، أنَّهُ كَانَ يَنْحَرُ فِىمَنْحَرِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَكَانَ يَبْعَثُ بِهَدْيِهِ مِنْ جَمْعٍ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ حَتَّى يُدْخَلَ بِهِ مَنْحَرُ رسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مَعَ حُجَّاجٍ فِيهِمُ الْحُرُّ وَالْمَمْلُوكُ. المنحر فى الحج بمنى إجماع من العلماء، فأما العمرة فلا طريق لنا فيها، فمن أراد أن ينحر فى عمرته، أو ساق هديا تطوع به، نحره(4/387)
بمكة حيث شاء، وهذا إجماع أيضًا، فمن فعل هذا فقد أصاب السنة، وبهذا قال مالك. وقال أبو حنيفة والشافعى: إن نحر فى غير منى ومكة من الحرم أجزأه، قالوا: وإنما أريد بذلك مساكين الحرم ومكة. وقد أجمعوا أنه إن نحر فى غير الحرم ولم يكن محصرًا بعدو أنه لا يجزئه، قال ابن القصار: والحجة لمالك ما ذكره فى موطئه: أنه بلغه أن النبى عليه السلام قال فى حجه بمنى: (هذا المنحر، ومنى كلها منحر) . فدل دليل الخطاب أن غيرهما ليس بمنحر؛ لأنه كان يكفى أن يذكر أحدهما لينبه به على سائر الحرم، فلما خصها جميعًا علم أن منى خصت للحجاج؛ لأنهم يقيمون بها، فجعل نحرهم بها، وجعل مكة منحرًا للمعتمرين إذا فرغوا من سعيهم عند المروة. فإن قيل: فقد نحر النبى عليه السلام هديه بالحديبية وليست بمكة ولا منى ولكنها من الحرم، قيل: هذا الهدى لم يكن بلغ محله كما قال الله، وإنما جاز له أن يذبحه فى غير محله، كما جاز له أن يخرج من إحرامه فى غير محله، ولما قال الله فى الهدى: (مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) [الفتح: 25] علمنا أن محله مكة لقوله تعالى: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة: 95] . وصَدُّ النبى عليه السلام لم يكن عن الحرم، وإنما كان عن البيت؛ لأن الحديبية بعضها حرم، وبعضها حل، وترجح قياسًا أن مكة مخصوصة بالبيت، والطواف بالبيت دون سائر الحرم، ومنى مخصوصة بالتحلل فيها بالرمى والمقام بها لبقية أعمال الحج، وليس(4/388)
كذلك سائر الحرم، فخص هذان الموضعان بالنحر فيهما لهذا التخصيص فيهما، وكذلك فعل الرسول وأصحابه بعده.
7 - باب مَنْ نَحَرَ هَدْيَهُ بِيَدِهِ 108 - وَبَاب نَحْرِ الإبِلِ الْمُقَيَّدَةً
/ 159 - فيه: ابْنَ عُمَرَ، أنَّهُ أَتَى عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَنَاخَ بَدَنَتَهُ يَنْحَرُهَا، قَالَ: ابْعَثْهَا قِيَامًا مُقَيَّدَةً سُنَّةَ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) . قال المهلب: معنى قوله: (قيامًا مقيدة) يعنى: معقولة اليد الواحدة قائمة على ما بقى من قوائمها، وعلى هذا المعنى قراءة من قرأ (صوافن) لأنه قال: صفن الفرس، إذا رفع إحدى يديه، وأما من قرأ: (صَوَافَّ) [الحج: 36] فإنه أراد قائمة، وقال مالك: تعقل إن خيف أن تنفر، ولا تنحر باركة إلا أن يصعب، وبقية الكلام فى هذا المعنى فى الباب الذى بعد هذا إن شاء الله.
9 - باب نَحْرِ الْبُدْنِ قَائِمَةً
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: سُنَّةَ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (صَوَافَّ) [الحج: 36] قِيَامًا. / 160 - فيه: أَنَسٍ، أنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، لَمَّا أهَل عَلَى الْبَيْدَاءِ وَأَهل لنا بِهِمَا جَمِيعًا، فَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ، أَمَرَهُمْ أَنْ يَحِلُّوا، وَنَحَرَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بِيَدِهِ سَبْعَ بُدْنٍ قِيَامًا، وَضَحَّى بِالْمَدِينَةِ بكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ.(4/389)
قول ابن عمر: (سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) يعنى أن تُنحر قيامًا، ويشهد لهذا دليل القرآن، قوله: (فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا) [الحج: 36] يعنى سقطت إلى الأرض، وممن استحب أن تنحر قيامًا: مالك، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وقال أبو حنيفة والثورى: تنحر باركة وقائمة، واستحب عطاء أن ينحرها باركة معقولة. قال المهلب: (أهل لنا بهما جميعًا) معناه: أمر من أَهَلَّ بالقران ممن لم يفسخ حجَّه؛ لأنه قد صح أنه عليه السلام كان مفردًا بالحج. ولم يكن قارنًا، فمعنى (أهل لنا) أى أباح لنا الإهلال بهما قولا، فكان إهلاله لهم بالإباحة أمرًا، وتعليمًا منه لهم كيف يهلون من قرن منهم، وإلا فما معنى (لنا) فى هذا الموضع؟ وقد تقدم قولُ عائشة وابن عمر قولَ أنس، ووصفهما له بالصغر وقلة الضبط لهذه القصة.
0 - باب لا يُعْطَى الْجَزَّارُ مِنَ الْهَدىِ شَيْئًا
/ 161 - فيه: عَلِيٍّ، قَالَ: بَعَثَنِى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فَقُمْتُ عَلَى الْبُدْنِ، فَأَمَرَنِى بقَسَمْتُ لُحُومَهَا، ثُمَّ أَمَرَنِى بقسمة جِلالَهَا وَجُلُودَهَا، وَأَمَرَنِى أَنْلا أُعْطِىَ عَلَيْهَا شَيْئًا فِى جِزَارَتِهَا. وترجم له باب: (يتصدق بجلود الهدى) ، وترجم له باب: (يتصدق بجلال البدن) . وزاد فيه: قال على: (أهدى النبى عليه السلام مائة بدنة، فأمرنى بلحومها فقسمتها، ثم أمرنى بجلالها وجلودها فقسمتها) . اختلف العلماء فى هذا الباب، فذهبت طائفة إلى الأخذ بهذا(4/390)
الحديث، وقالوا: لا يعطى الجزار منها شيئًا، هذا قول مالك وأبى حنيفة وأحمد، وأجاز الحسن البصرى أن يعطى الجزار الجلد. واختلفوا فى بيع الجلد، فروى عن ابن عمر أنه لا بأس بأن يبيعه، ويتصدق بثمنه، وقاله أحمد وإسحاق. وقال أبو هريرة: من باع إهاب أضحيته فلا أضحية له، وقال ابن عباس: يتصدق به أو ينتفع به، ولا يبيعه، وعن القاسم وسالم: لا يصلح بيع جلودها، وهو قول مالك، وقال النخعى والحكم: لا بأس أن يشترى به الغربان والمنخل، ورخص أبو هريرة فى بيعه، وقال عطاء: إن كان الهدى واجبًا تصدق بإهابه، وإن كان تطوعًا باعه إن شاء فى الدَّيْن. وأما من أجاز بيع جلودها، فإنما قال ذلك والله أعلم قياسًا على إباحة الله الأكل منها، فكان بيع الجلد والانتفاع به تبعًا للأكل، وهذا ليس بشئ؛ لأنه يجوز أكل لحمها، ولا يجوز بيعه بإجماع، والأصل فى كل ما اخرج لله تعالى أنه لا يجوز الرجوع فى شىء منه، ولولا إباحة الله الأكل منها ما جاز أن يستباح، فوجب ألا يتعدى الأكل إلى البيع إلا بدليل لا مُعارِض له. قال المهلب: وإعطاء الجازر منها فى جزارته عوضًا من فعله وذبحه فهو بيع، ولا يجوز بيع شىء من لحمها، وكذلك الجلد، وقال: ولا يخلو الإهاب من أن يكون مع سائر الشاة بإيجابها وذبحها فقد صار مسبلا فيما سلبت به الأضحية، أو لم يَصِرْ مسبلاَ إذا كان عليه دين، فإن كان قد صار لِمَا جعله له فغير جائز صرفه أو صرف شىء منه إلا فيما سَبَلَهُ، أو لم يصر ذلك فيما جعله له إذ كان عليه دين، فيكون إيجابه الشاة أضحية، وجِلْدها غير جلد أضحية، وذلك فيما لا يفعل فى نظر ولا خبر.(4/391)
والصواب إن كان الدَّيْن على صاحب الأضحية والبدنة قبل إيجابها، ولم يكن عنده ما يقضى غريمه سوى الشاة أو البدنة، فإيجابه لها عندنا باطل، وملكه عليها ثابت، وله بيعها فى دينه، إذ ليس عليه إتلاف ماله، ولا صرفه فى غير قضاء دينه.
1 - بَاب) وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ (إلى قوله: (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) [الحج: 26 - 30]
معنى الآية: أن الله تعالى أعلم نَبيَّه بعظيم ما ركب قومه، قريش خاصة دون غيرهم، من سائر عبادتهم فى حرمه والبيت الذى أمر خليله عليه السلام ببنائه وتطهيره من الآفات والشرك إلهًا غيره، وتقدير الكلام: (واذكر إذ بوأنا لإبراهيم هذا البيت الذى يعبد قومك فيه غيرى) . روى معمر عن قتادة قال: وضع الله تعالى البيت مع آدم حين أهبط إلى الأرض، وكان مهبطه بأرض الهند، ففقد أصوات الملائكة وتسبيحهم، فشكا ذلك إلى الله تعالى فقال له: يا آدم، أهبطت لك شيئًا يطاف به كما يطاف حول عرشى، ويصلى عنده كما يصلى حول عرشى، فانطلق إليه، فخرج وَمَدَّ له فى خطوه، فكان بين كل خطوتين مفازة، فلم تزل تلك المفازة على ذلك، وأتى آدم البيت، فطاف به ومن بعده من الأنبياء، ثم بوأ الله مكانه لإبراهيم بعد الغرق، وقال ابن عباس فى قوله تعالى: (وَأَذِّن فِى النَّاسِ) [الحج: 27] عنى بالناس هاهنا أهل القبلة، ألم تسمعه قال: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ(4/392)
لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا (إلى) وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) [آل عمران: 96، 97] يقول: من دخله من الناس الذين أمر أن يُوَذَّنَ فيهم، وكتب عليهم الحج. وقال ابن عباس: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) [الحج: 28] ، قال: التجارة. واختلف الناس فى الأيام المعلومات، فقال على بن أبى طالب: هى يوم النحر ويومان بعده، اذبح فى أيها شئت، وأفضلها أولها، وهو قول ابن عمر وأهل المدينة، وقال ابن عباس: هى العشر ويوم النحر منها، وهو قول الكوفيين، وأجمعوا أن المعدودات أيام التشريق الثلاثة، وقد ذكرنا لم سميت معلومات ومعدودات فى كتاب صلاة العيدين، فى باب: فضل العمل فى أيام التشريق. والبائس فى اللغة: الذى به البؤس، وهو شدة الفقر، وقال ابن عباس: التفث: الحلق والتقصير والذبح والأخذ من الشارب واللحية، ونتف الإبط، وقص الأظفار، وكذلك هو عند أهل التفسير، أنه الخروج من الإحرام إلى الحل، ولا يعرفهُ أهل اللغة إلا من التفسير، وقال ابن عمر: التفث: ما عليهم من الحج، وقال مرة: المناسك كلها، وقال مجاهد: (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) [الحج: 29] نذر الحج والمشى، وما نذره من شىء يكون فى الحج. والبيت العتيق سمى بذلك؛ لأن الله أعتقه من الجبارة أن يصلوا إلى تخريبه، عن قتادة ومجاهد. وقال ابن زيد: سمى عتيقًا لقدمه؛ لأنه أول بيت وضع للناس، بناه آدم عليه السلام، وهو أول من بناه، ثم بَوَّا الله موضعه لإبراهيم بعد الغَرق، فبناه إبراهيم وإسماعيل، وقوله: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ) [الحج: 29] هو طواف الإفاضة المفترض، وسيأتى حكمه فى موضعه بعد هذا إن شاء الله.(4/393)
2 - باب مَا يَأْكُلُ مِنَ الْبُدْنِ وَمَا يَتَصَدَّقُ
وَقَالَ ابْن عُمَرَ: لا يُؤْكَلُ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَالنَّذْرِ، وَيُؤْكَلُ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: يَأْكُلُ وَيُطْعِمُ مِنَ الْمُتْعَةِ. / 162 - فيه: جَابِر، كُنَّا لا نَأْكُلُ مِنْ لُحُومِ بُدْنِنَا فَوْقَ ثَلاثِ، فَرَخَّصَ لَنَا النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فَقَالَ: (كُلُوا وَتَزَوَّدُوا) ، فَأَكَلْنَا وَتَزَوَّدْنَا. قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَقَالَ حَتَّى جِئْنَا الْمَدِينَةَ؟ قَالَ: لا. / 163 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: فَدُخِلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالَ: ذَبَحَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَنْ أَزْوَاجِهِ. قال ابن المنذر: اختلف العلماء فيما يؤكل من الهدى، وما لا يؤكل، فكان ابن عمر يقول: لا يؤكل من جزاء الصيد، ولا من النذر، ويكل مما سوى ذلك، وروى مثله عن طاوس والحسن، وبه قال أحمد وإسحاق، وروينا عن الحسن قولا ثانيا: أنه لا بأس أن يأكل من جزاء الصيد، ونذر المساكين، وهو قول الحكم فى جزاء الصيد. وقال مالك: يؤكل من الهدى كله إلا جزاء الصيد، وفدية الأذى، ونذر المساكين، وهو قول طاوس وسعيد بن جبير، وذكر ابن المواز عن مالك أنه يأكل من الهدى النذر، إلا أن يكون نذره للمساكين، وكذلك ما أخرجه بمعنى الصدقة لا يأكل منه، وهدى التطوع إذا قصر عن بلوغ محله وعطب فلا يؤكل منه، وكان الأوزاعى يكره أن يؤكل من جزاء الصيد وفدية الكفارة، ويؤكل النذر وهدى التمتع والتطوع. وقال أبو حنيفة: يؤكل هدى القران والمتعة والتطوع، ولا يأكل سوى ذلك، وقال الشافعى: لا يأكل إلا هدى التطوع خاصة، ولا يأكل من المتعة والقران، لأنه عنده واجب، وهو قول أبى ثور، واحتج ابن القصار لقول مالك بقول الله تعالى: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ(4/394)
فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} [الحج: 28] ولم يخص واجبًا من تطوع، فهو عام فى جواز الأكل إلا بدلالة، وأيضًا فإن الإجماع حاصل على جواز الأكل من دم المتعة ولا نعلم أحدًا منعه قبل الشافعى. وقول عائشة: (فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر) يردّ قوله؛ لأنه لا خلاف أن لحم البقر التى نحر النبى عليه السلام عن أزواجه كانت هدى المتعة التى متعن، وقد أمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن يحمل إليهن منه ليأكلنه. قال المهلب: وإنما لم يجز الكل من جزاء الصيد لأنه غرم جناية، فإذا أكل منه لم يغَرم المثل الذى أوجب الله عليه، وفدية الأذى من هذا الباب، وأما نذر المساكين فإذا نذره فقد أوجبه لهم، فإذا اكل منه فلم ينفذ إليهم حقوقهم. واحتج الطحاوى لأبى حنيفة فقال: ظاهر قوله: (فكلوا منها وأطعموا) إباحة الأكل من جميع الهدايا إذ لم يُذكر فى ذلك خاص منها، واحتمل أن باطن الآية كظاهرها، واحتمل أن تكون على خلاف ظاهرها، فنظرنا فى ذلك، فوجدنا أهل العلم لا يختلفون فى هذى التطوه إذا بلغ محله؛ أنه مباح لمهديه الأكل منه وأنه ما دخل فى هذه الآية، وشهد بذلك السُنَن المأثورة، لأن النبى عليه السلام قد أكل من هديه فى حجته، وكانت تطوعًا، ووجدناهم لا يختلفون فى جزاء الصيد والنذر للمساكين أن مُهدِى ذلك لا يأكل منه وأنه غير ذا حل فى هذه الآية. واختلفوا فى هدى القران والمتعة وهدى الجماع، فنظرنا فى ذلك فكان هدى المتعة والقران بهدى التطوع أشبه منهما بما سوى ذلك من الهدايا إذا كان هاذان الهديان إنما يجبان بأفعال غير(4/395)
منهى عنها كالهدى التطوع الذى يجب بفعل غير منهى عنه ولم يكن ذلك كهدى النذر؛ لأن هدى النذر إنما يكون شكر الشىء يراد به أن يكون جزاء له. كقول الرجل: إن بلغنى الله تعالى الحج فله على أن أهدى بدنة، فأشبهت العوض عن الأشياء التى تتعوض بهدى وكأن هدى الجماع بهدى جزاء الصيد أشبه منه بهدى التطوع؛ إذ كانت إصابة الصيد منهى عنها فى الإحرام، وإصابة الجماع كذلك فلم تجز أن يؤكل منها كما لا يجوز أن يؤكل من نظيرها من الهدايا، وأما هدى التطوع إذا عطب قبل محله، فقد اختلف أهل العلم فيه، فقالت طائفة: صاحبه ممنوع من الأكل منه. رُوى ذلك عن ابن عباس وهو قول مالك وأبى حنيفة والشافعى، ورخصت طائفة فى الكل منه، روى ذلك عن عائشة وعبد الله بن عمر. قال المؤلف: وأما حديث جابر فهو مجمل كالآية. وفيه: جواز الأكل من الهدى دون تخصيص نوع منه بالمنع. وقد ذكرت أقوال العلماء فى الآية، واقتضى ذلك معنى الحديث. وقول جابر: كنا لا نأكل من لحوم بدننا فوق ثلاث. فقال النخعى: وكان المشركون لا يأكلون من ذبائحهم، فأبيح للمسلمين الكل منها، وإنما منعوا من ذلك فى أول الإسلام من أجل الدافة فلما زالت العلة الموجبة لذلك أمرهم أن يأكلوا ويدخروا. واختلف فى مقدار ما يأكل منها ويتصدق، فذكر علقمة أن ابن مسعود أمره أن يتصدق بثلثه، ويأكل ثلثه، ويهدى ثلثه. وروى عن عطاء، وهو قول الشافعى وأحمد وإسحاق، وقال الثورى: يتصدق بأكثره. وقال أبو حنيفة: ما أحب أن يتصدق بأقل من الثلث.(4/396)
3 - باب الذَّبْحِ قَبْلَ الْحَلْقِ
/ 164 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ، عليه السَّلام: (مَّنْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ لا حَرَجَ، لا حَرَجَ) ، فَقَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : زُرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِىَ، قَالَ: (لا حَرَجَ) ، قَالَ: ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِىَ، قَالَ: (لا حَرَجَ) . قَالَ: رَمَيْتُ بَعْدَ مَا أَمْسَيْتُ؟ قَالَ: (لا حَرَجَ) ، قَالَ: حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ، قَالَ: (لا حَرَجَ) . / 165 - وفيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، وَهُوَ بِالْبَطْحَاءِ، فَقَالَ: (أَحَجَجْتَ) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. . . الحديث إلى قول عُمر: وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ النَّبِىّ، عليه السَّلام، فَإِنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) لَمْ يَحِلَّ حَتَّى بَلَغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ. سنّة الحاج أن يرمى جمرة العقبة يوم النحر ثم ينحر، ثم يحلق رأسه، ثم يطوف طواف الإفاضة، وهو الذى يسميه أهل العراق: طواف الزيارة، وكذلك فعل النبى عليه السلام وهذا المعنى مقتضى حديث عمر فى حديث أبى موسى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يحل حتى بلغ، يريد أنه لم يحلق حتى نحر الهدى، وهذا معنى الترجمة، فمن قدم شيئًا عن رتبته فللعلماء فى ذلك أقوال: فذهب عطاء وطاوس ومجاهد إلى أنه إن قدم نسكًا قبل نسكٍ أنه لا حرج عليه، وبه قال أحمد وإسحاق، وقال ابن عباس: من قدَّم من حجه شيئًا أو أخَّره فعليه دم. وهو قول الشعبى والحسن وقتادة. واختلفوا إذا حَلق قبل أن يذبح، فقال مالك والثورى والأوزاعى والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور: لا شىء عليه. وهو نص الحديث. وقال النخعى: عليه دم. وهو قول أبى حنيفة، قال: وكذلك إن كان قارنًا، والمراد بالمحل قوله تعالى: (وَلاَ تَحْلِقُوا(4/397)
رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] المكان الذى يقع فيه النحر؛ فإذا بلغ محله جاز أن يحلق قبل الذبح. وقال زفر: إن كان قارنًا فعليه دمان لتقدم الحلاق. وقال أبو يوسف ومحمد: لا شىء عليه. واحتجا بقوله عليه السلام: (لا حرج) وقول أبى حنيفة وزفر مخالف للحديث، فلا وجه له. واختلفوا فيمن طاف للزيارة قبل أن يرمى، فقال الشافعى: إن ذلك يجزئه ويرمى، على نص الحديث. وروى ابن عبد الحكم عن مالك أنه يرمى ثم يحلق رأسه، ثم يعيد الطواف؛ فإن رجع إلى بلده فعليه دم، ويجزئه طوافه، وهذا خلاف نص ابن عباس، وأظن مالكًا لم يبلغه الحديث، وفيه رَد لما كرهه مالك أن يسمى طواف الإفاضة: طواف الزيارة؛ لأن الرجل قال للنبى عليه السلام: (زرت قبل أن أرمى) فلم ينكر الرسولُ (صلى الله عليه وسلم) عليه. واختلفوا فيمن أفاض قبل أن يحلق بعد الرمى، فقال ابن عمر: يرجع فيحلق أو يُقَصِّر، ثم يرجع إلى البيت فيفيض. وقالت طائفة: تجزئه الإفاضة ويحلق أو يقصر، ولا شىء عليه. هذا قول عطاء ومالك والشافعى، وقال مالك فى الموطأ: أحب إلىّ أن يهريق دمًا؛ لحديث ابن عباس. وأما إذا ذبح قبل أن يرمى، فقال مالك وجمماعة من العلماء: لا شىء عليه؛ لأن ذلك نص فى الحديث، والهدى قد بلغ محله، وذلك يوم النحر، كما لو لم يَنْحَر المعتمر بمكة هديًا ساقه قبل أن يطوف لعمرته. واختلفوا إذا قَدَّم الحلق على الرمى، فقال مالك وأبو حنيفة: عليه الفدية، والحجة فيها أنه حرام عليه أن يمس من شعره شيئًا، أو يلبس، أو يمس طيبًا حتى يرمى جمرة العقبة، وقد حكم رسول الله (صلى الله عليه وسلم)(4/398)
على من حلق رأسه قبل محله من ضرورةٍ بالفدية، فكيف من غير ضرورة؟ وجوزه الشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور، واحتجوا بقول النبى عليه السلام فى التقديم والتأخير: (لا حرج) وسيأتى الكلام فيمن رمى جمرة العقبة بعد ما أمسى فى بابه إن شاء الله. وتأول الكوفيون فى وجوب الدم فيمن قَدَّم شيئًا من نسكه أن معنى قوله عليه السلام: (لا حرج) : لا إثم؛ لأنه عليه السلام كان يعلمهم مناسكهم، فأخبرهم أن الحرج الذى رفع عنهم هو لجهلهم لا لغير ذلك؛ لأنهم كانوا أعرابًا، لا على أنه أباح لهم عليه السلام التقديم والتأخير فى العمد. وهذا ابن عباس يوجب على من قَدَّم من نسكه شيئًا أو أَخَرَّه الدم، وهو أحد من روى الحديث عن النبى عليه السلام فلم يكن معنى ذلك عنده على الإباحة، وذهب عطاء إلى أن معنى قوله: (لا حرج) على العموم: لا شىء على فاعل ذلك من إثم ولا فدية. قال الطبرى: والدليل على صحة هذا أن النبى عليه السلام لم يسقط عنه الحرج فى ذلك إلا وقد أجزأه فعله، ولو لم يكن عنده مجزئا لأمره إما بالإعادة، وإما ببدل منه من فدية وجزاء، ولم يقل له: لا حرج؛ لأن الفدية إنما تلزم الحاج للحرج الذى يأتيه، فعلم بذلك أن من قَدَّم شيئًا من نسكه، فدخل وقته قبل شىء منه وأجزأه أنه لا يلزمه شئ. فإن ظن ظان أن فى قول الرجل للنبى عليه السلام: نحرتُ قبل أن أرمى ولم أشعر، دلالة على أنه لا يجوز ذلك للعامد، وأن عليه القضاء إن كان مما يُقضى، أو الفدية إن كان مما لا يُقضى، فقد ظن غير الصواب، وذلك أن الجاهل والناسى لا يضع الجهل والنسيان الحكم الذى يلزمه المعتمد فى وضع مناسك الحج غير مواضعها،(4/399)
وإنما يضع الجهل والنسيان فى ذلك: الإثم، وذلك أنه لا خلاف بين الجميع أن جاهلا من الحاج لو جهل ما عليه، فلم يرم الجمرات حتى انقضت أيام الرمى، أو أن ناسيًا نسى ذلك حتى مضت أيام الرمى، أن حكمهم فيما يلزمهما من الفدية حكم المعتمد، وكذلك تارك الوقوف بعرفة جاهلا أو ناسيًا حتى انقضى وقته، وكذلك سائر أعمال الحج سواءٌ فى اللازم من الفدية، والجاهل والعامد والناسى، وإن اختلفت أحوالهم فى الإثم، فكذلك مقدِّم شىء من ذلك ومؤخِّره، الجاهل والعامد فيه سواء؛ لأنه عليه السلام قال: (لا حرج) ولم يفصل بجوابه بين العالم والجاهل والناسى.
4 - باب مَنْ لَبَّدَ رَأْسَهُ عِنْدَ الإحْرَامِ وَحَلَقَ
/ 166 - فيه: حَفْصَةَ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا بِعُمْرَةٍ، وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ؟ قَالَ: (إِنِّى لَبَّدْتُ رَأْسِى وَقَلَّدْتُ هَدْيِى، فَلا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ) . / 167 - وَقَالَ ابْن عُمَرَ: حَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى حَجَّتِهِ. التلبيد: أن يجعل الصمغ فى الغسول، ثم يلطخ به رأسه عند الإحرام، ليمنعه ذلك من الشعث، وجمهور العلماء على أن من لبد رأسه فقد وجب عليه الحلاق، كما فعل النبى عليه السلام وبذلك أمر الناس عمر بن الخطاب وابن عمر، وهو قول مالك والثورى والشافعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور، وكذلك لو ضفر شعره أو عقصه كان حكمه حكم التلبيد؛ لأن الذى فعل: سنة التلبيد الذى أوجب النبى عليه السلام فيه الحلاق، وقال أبو حنيفة: من لبَّد رأسه أو ضفره؛ فإن قصر ولم يحلق أجزأه. وروى عن ابن عباس(4/400)
أنه كان يقول: (من لبد أو عقص أو ضفر؛ فإن كان نوى الحلق فليحلق، وإن لم ينوه فإن شاء حلق، وإن شاء قصر) وفعل النبى عليه السلام أولى، وسيأتى فى كتاب اللباس قول عمر: (من ضفر فليحلق، ولا تشبهوا بالتلبيد) ومعناه إن شاء الله.
5 - باب الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ عِنْدَ الإحْلالِ
/ 168 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، قَالَ: (اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ) ، قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ) ، قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (وَالْمُقَصِّرِينَ) . / 169 - وفيه: [ابن عمر] حَلَقَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَقَصَّرَ بَعْضُهُمْ. / 170 - وفيه: مُعَاوِيَةَ، قَالَ: قَصَّرْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِمِشْقَصٍ. هذا الموضع الذى قال فيه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هذا القول كان بالحديبية، ذكره ابن إسحاق عن الزهرى، عن عروة، عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة قالا: (لما فرغ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من الكتاب، أمر الناس أن ينحروا ويحلقوا، فوالله ما قام رجل؛ لما دخل فى قلوب الناس من الشَّرِّ، فقالها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ثلاث مرات، فما قام أحد، فقام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فدخل على أم سلمة، فقال لها: (أما ترى الناس آمرهم بالأمر لا يفعلونه) ، فقالت: يا رسول الله، لا تَلُمهم؛ فإن الناس دخلهم أمر عظيم مما رأوك حملت على نفسك فى الصلح، فاخرج يا رسول الله لا تكلم أحدًا حتى تأتى هديك فتنحر وتحل؛ فإن الناس إذا رأوك فعلت ذلك فعلواه. فخرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ففعل ذلك، فقام الناس فنحروا، فحلق بعض وقصر بعض، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (اللهم اغفر(4/401)
للمحلفين، ثلاثًا، وقال فى الثالثة: وللمقصرين) . وذكر ابن إسحاق عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (اللهم ارحم المحلقين، ثلاثًا، قيل: يا رسول الله، ما بال المحلقين ظاهرات لهم فى الترحم؟ قال: (لأنهم لم يشكوا) . واختلف أهل العلم هل الحلاق نسك يجب على الحاج والمعتمر أم لا فقال مالك: هو نسك يجب على الحاج والمعتمر، وهو أفضل من التقصير، ويجب على من فاته الحج أو الحصر بِعَدوِّ أو بمرض. وهو قول جماعة من الفقهاء، إلا فى الحصر؛ فإنهم اختلفوا هل هو من النسك؟ فقال أبو حنيفة: ليس على المحصر تقصير ولا حلاق. وهذا أمر النبى عليه السلام أصحابه بالحديبية حين صُدّ عن البيت بالحلاق وهم محصورون، فلا وجه لقوله. وقال الشافعى مرة: الحلاق من النسك. وقال مرة: الحلاق من الإحلال؛ لأنه ممنوع منه للإحرام. وقال غيره: من جعل الحلاق نسكًا أوجب على من تركه الدم، ومن جعله من باب الإحلال لم يوجب على من تركه شيئًا، ودعاء الرسول (صلى الله عليه وسلم) للمحلقين ثلاثًا دليل على أن الحلاق نسك، فلا وجه لإسقاط أبى حنيفة له عن المحصر. قال ابن القصار: والدليل على أنه نسك يجب عليه عند التحلل قوله تعالى: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) [الفتح: 27] فخص الحلق والتقصير من بين المباحات، ولم يقل: لابسين متطيبين، فُعلِم أن الحلاق نسك، وليس حكمه(4/402)
حكم اللباس وغيره، وأيضًا فإنه دَعَا للمحلقين ثلاثًا، ولم يَدْعُ لهم على شىء من فعل المباحات مثل اللباس والطيب، ودعاؤه عليه السلام معه الثواب، فثبت أن الحلاق نسك؛ لأن الثواب يقع عليه، ولو كان أباحه من حَظْرٍ لم يستحق الدعاء والثواب عليه. واجمعوا أن النساء لا يحلقن، وأن سنتهن التقصير. قال المهلب: ووجه دعاء النبى (صلى الله عليه وسلم) للمحلقين ثلاثًا والله أعلم أن التحليق أبلغ فى العبادة، وأدل على صدق النية فى التذلل لله؛ لأن المفصر لشعره مبق لنفسه من الزينة التى أراد الله أن يأتيه المستجيبون لدعوته بالحج مبرئين منها، مظهرين للذلة والخشوع، مجانبين للطيب والتزين كله، شعثًا غبرًا، ومن ترك من شعره البعض فقد أبقى لنفسه من الزينة ما دل على أنه لم يتزين بالشعث والغبرة لله وحده، فأكد النبى عليه السلام الحض على الشعث والغبرة بالدعوة لمن آثرها على إبقاء الزينة لدنياه، ثم جعل له من الدعوة نصيبًا، وهو الربع، لئلا يخيب أحدًا من أمته من صالحٍ دعوتِهِ. وقال أبو عبيد: المِشْقَص: النصل الطويل، وليس بالعريض. قال أبو حنيفة الدينورى: المشقص: كل نصل فيه عين وكل ناتئ فى وسطه حديدة فهو عين ومنه عين الكتف والورقة.(4/403)
6 - باب تَقْصِيرِ الْمُتَمَتِّعِ بَعْدَ الْعُمْرَةِ
/ 171 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) مَكَّةَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ يَحِلُّوا وَيَحْلِقُوا، أَوْ يُقَصِّرُوا. وليس فيه أكثر من أن الحلاق أو التقصير لازم للمعتمر كما يلزم الحاج؛ لأمر النبى (صلى الله عليه وسلم) المتمتعين عند الإحلال به.
7 - باب الزِّيَارَةِ يَوْمَ النَّحْرِ
قَالَتْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ: أَخَّرَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) الزِّيَارَةَ إِلَى اللَّيْلِ، وذكَر ابْنِ عَبَّاسٍ، عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنَّهُ كَانَ يَزُورُ الْبَيْتَ أَيَّامَ مِنًى. / 172 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّهُ طَافَ طَوَافًا وَاحِدًا، ثُمَّ يَقِيلُ، ثُمَّ يَأْتِى مِنًى، يَعْنِى يَوْمَ النَّحْرِ. وَرَفَعَهُ عَبْدُالرَّزَّاقِ. / 173 - وفيه: عَائِشَةَ، حَجَجْنَا مَعَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فَأَفَضْنَا يَوْمَ النَّحْرِ، فَحَاضَتْ صَفِيَّةُ، فَأَرَادَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) مِنْهَا مَا يُرِيدُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ، فَقَالَ: (حَابِسَتُنَا هِيَ) ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَاضَتْ يَوْمَ النَّحْرِ، قَالَ: (اخْرُجُوا) ، قَالَ اللَّه تَعَالَى: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج: 29] . وأجمع العلماء أن هذا الطواف هو الواجب: طواف الإفاضة؛ ألا ترى أن النبى عليه السلام لما توهم أن صفية لم تطف يوم النحر،(4/404)
قال: (أحابستنا هى؟) فلما أخبر أنها قد طافت للإفاضة، قال: فلا إذًا. فأخبر أنه يجزئها عن غيره، فاستحب جميع العلماء طواف يوم النحر ثم يرجع إلى منى للمبيت والرمى، وذكر عبد الرزاق عن سعيد بن جبير: أنه كان إذا طاف يوم النحر لم يزد على سبع، وأخر، وعن طاوس مثله، وعن الحكم قال: أصحاب عبد الله لا يزيدون يوم النحر على سبع، وأخر. قال الحجاج: فسألت عطاء، فقال: طف كم شئت، ولا خلاف بين الفقهاء أن من أخر طوافه من يوم النحر، وطافه فى أيام التشريق أنه مؤد لفرضه، ولا شىء عليه. واختلفوا إن أخره حتى مضت أيام التشريق، فقال عطاء: لا شىء عليه. وهو قول أبى يوسف ومحمد والشافعى وأبى ثور، وقال مالك: إن عجله فهو أفضل، وإن أخره حتى مضت أيام التشريق، وانصرف من منى إلى مكة فلا بأس، وإن أخره بعد ما أنصرف من منى أيامًا، وتطاول ذلك فعليه دم. واختلفوا إذا آخره حتى رجع إلى بلده، فقال عطاء، ومالك، والثورى، وأبو حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: يرجع فيطوف، لا يجزئه غيره. وروى عن عطاء قول ثان: وهو أن يأتى عامًا قابلاً بحجٍ أو عمرة. وقال ابن القاسم فى المدونة: ورواه ابن عبد الحكم عن مالك أن طواف الدخول يجزئه عن طواف الإفاضة لمن نسيهُ إذا رجع إلى بلده، وعليه دم. وروى ابن الماجشون ومطرف عن مالك أن طواف الدخول لا يجزئ عن طواف الإفاضة البتة، وإنما يجزئ عندهم عن طواف الإفاضة كل عمل يعمله الحاج يوم النحر وبعده فى حجته. وهو قول أبى حنيفة والشافعى، قال إسماعيل بن إسحاق: والحجة لذلك:(4/405)
) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج: 29] ففرض الطواف بالبيت العتيق بعد قضاء التفث، وذلك طواف الإفاضة يوم النحر بعد الوقوف بعرفة، فإذا طاف تطوعًا أجزأه عن فرضه؛ لأنه جاء بطواف فى وقته. وقال ابن القصار: لما كان الإحرام بالحج إذا انعقد ناب تطوعه عن فرضه، كطواف الوداع ينوب عن طواف الفرض، ولو أوقع طواف تطوع ولم يعتقده طواف الإفاضة لناب عنه بلا خلاف. وقال ابن شعبة: إنما قالوا: يجزئه؛ لأن كل عمل يكون فى الحج ينوى به التطوع، ولم يكمل فرض الحج، فالفرض أولى به من النية التى نويت به، كالداخل فى صلاة بإحرام نواه بها، ثم صلى منها صدرًا، ثم ظن أنه قد فرغ منها، فصلى ما بقى على أنه تطوع عنده، فهو للفرض الذى ابتدأه ولا تضره نيته إذ لم يقطع الصلاة عمدًا. قال المهلب: وقد خص الله الحج بما لم يخص غيره من الفرائض وذلك قوله: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) [البقرة: 197] الآية، فمن فرض الحج فى حرمه وشهوره فليس له أن ينتقل عما فرضه بنية إلى غيره حتى يتمه؛ لأن العمل على النية الأولى حتى يكملها، وهو فرضه؛ لقوله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ) [البقرة: 196] ألا ترى أن من وطئ بعد جمرة العقبة قبل طواف الإفاضة، أن منهم من قال: يحج قابلا. ومنهم من قال: إن أحرم بعمرة وأهدى أجزأه ذلك. وهُم: ابن عباس وعكرمة وطاوس وربيعة، وفسره ابن عباس
فقال: إنما (يفي من أمره) أربعة أميال، فيحرم من التنعيم أربعة أميال، فيكون طواف مكان طواف، وهذا طواف عمرة يجزئه عن طواف(4/406)
فريضة، وكذلك القارن يجزئه طواف واحد وسعى واحد لعمرته وحجته، للسُنَّة الثابتة عن عائشة وابن عمر عن النبى عليه السلام والعمرة تطوع.
8 - باب إِذَا رَمَى بَعْدَ مَا أَمْسَى أَوْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلا
/ 174 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، قِيلَ لَهُ فِى الذَّبْحِ وَالْحَلْقِ وَالرَّمْىِ، وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، فَقَالَ: (لا حَرَجَ) . أجمع العلماء أن الاختيار فى رمى جمرة العقبة يوم النحر من طلوع الشمس إلى زوالها، وأنه إن رمى قبل غروب الشمس من يوم النحر أجزأ عنه، إلا مالكًا فإنه يستحب له أن يهريق دمًا يجئ به من الحل. واختلفوا فيمن رمى من الليل أو من الغد، فقال مالك: عليه دم. وهو قول عطاء والثورى وإسحاق، وقال مالك فى الموطأ: من نسى جمرة من الجمار أيام منى حتى يمسى، يرميها أى ساعة ذكرها من ليل أو نهار ما دام بمنى، كما يصلى الصلاة أى ساعة ذكرها من ليل أو نهار. ولم يذكر دمًا، ومرة لا يرى عليه ذلك، وقال أبو حنيفة: إن رماها من الليل فلا شىء عليه، وإن أخرها إلى الغد فعليه دم. وقال أبو يوسف ومحمد والشافعى: لا شىء عليه وإن أخرها إلى الغد. واحتجوا(4/407)
بقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (لا حرج) للذى قال له: رميت بَعْد ما أمسيت. وأيضًا فإن النبى عليه السلام أرخص لرعاء الإبل فى مثل ذلك، يرعون بالنهار ويرمون بالليل، وما كان ليرخص لهم فيما لا يجوز، وحجة مالك أن النبى عليه السلام وقت لرمى جمرة العقبة وقتًا، وهو يوم النحر، فمن رمى بعد غروب الشمس فقد رمى بعد وقتها، ومن فعل فى الحج شيئًا بعد وقته فعليه دم، وقد تقدم اختلافهم فى رمى جمرة العقبة قبل طلوع الفجر، أو قبل طلوع الشمس من يوم النحر لأهل العذر وغيرهم فى باب (من قدم ضعفة أهله بالليل) فأغنى عن إعادته. وأما قوله: ناسيًا أو جاهلا، فإن العلماء لم يفرقوا بين الجاهل والعامد فى أمور الحج، وقد تقدم الاختلاف فيمن حلق قبل أن يذبح فى باب (الذبح قبل الحلق) فأغنى عن إعادته. فإن قال قائل: ما معنى قول القائل للنبى عليه السلام: (رميت بعد ما أمسيت) وهذا يوهم أنه كان السؤال له عليه السلام بعد انقضاء المساء، وهذا حديث عبد الله بن عمرو فى الباب بعد هذا أنه وقف النبى عليه السلام على ناقته يوم النحر للناس يسألونه، وذكر الحديث. فالجواب: أن العرب تسمى ما بعد الزوال: مساءً وعشاءً ورواحًا، وهو مشهور فى لغتهم، روى مالك عن ربيعة، عن القاسم بن محمد أنه قال: ما أدركت الناس إلا وهم يصلون الظهر بعشى. وإنما يريد تأخيرها إلى ربع القامة، وتمكن الوقت فى شدة الحر، وهو وقت الإبراد الذى أمر به عليه السلام.(4/408)
9 - باب الْفُتْيَا عَلَى الدَّابَّةِ عِنْدَ الْجَمْرَةِ
/ 175 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَقَفَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُ، فَقَالَ رَجُلٌ: لَمْ أَشْعُرْ، فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ، قَالَ: (اذْبَحْ وَلا حَرَجَ. . .) ، الحديث. وقد تقدم هذا التبويب فى كتاب العلم، وأن معناه أنه يجوز أن تسأل العالم وإن كان مشتغلا بطاعة الله تعالى وقد أجاب السائل وقال له: (لا حرج) وكل ذلك طاعة لله تعالى.
0 - باب الْخُطْبَةِ أَيَّامَ مِنًى
/ 176 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ النَّحْرِ، فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَىُّ يَوْمٍ هَذَا) ؟ قَالُوا: يَوْمٌ حَرَامٌ، قَالَ: (فَأَىُّ بَلَدٍ هَذَا) ؟ قَالُوا: بَلَدٌ حَرَامٌ، قَالَ: (فَأَىُّ شَهْرٍ هَذَا) ؟ قَالُوا: شَهْرٌ حَرَامٌ، قَالَ: (فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ، عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِى بَلَدِكُمْ هَذَا، فِى شَهْرِكُمْ هَذَا) ، فَأَعَادَهَا مِرَارًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ) مرتين. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ إِنَّهَا لَوَصِيَّتُهُ إِلَى أُمَّتِهِ، (فَلْيُبْلِغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ لا تَرْجِعُوا بَعْدِى كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ) . وَقَالَ جَابِر بْنَ زَيْدٍ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ. / 177 - وفيه: أَبُو بَكْرَةَ، خَطَبَنَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ النَّحْرِ. . . فذكر مثله سواء. / 178 - وفيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بِمِنًى: (أَتَدْرُونَ أَىُّ يَوْمٍ هَذَا) ؟ . . . الحديث.(4/409)
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ الْغَازِ: أَخْبَرَنا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَقَفَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، يَوْمَ النَّحْرِ بَيْنَ الْجَمَرَاتِ فِى الْحَجَّةِ الَّتِى حَجَّ، بِهَذَا، وَقَالَ: (هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الأكْبَرِ) ، فَطَفِقَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (اللَّهُمَّ اشْهَدْ) ، فَوَدَّعَ النَّاسَ، فَقَالُوا: هَذِهِ حَجَّةُ الْوَدَاعِ. اختلف الناس فى خُطب الحج، فكان مالك يقول: يخطب الإمام فى اليوم السابع قبل يوم التروية بيوم، ويخطب ثانى يوم النحر، وهو يوم القر، سمى بذلك؛ لأن الناس يستقرون فيه بمنى. وهو قول أبى حنيفة وأصحابه، ووافقهم الشافعى فى خطبة اليوم السابع يأمرهم بالغدو إلى منى، وخطبة يوم عرفة بعد الزوال، وخالفهم فقال: يخطب يوم النحر بعد الظهر، يعلم الناس فيها النحر والرمى والتعجيل لمن أراد، وخطبة رابعة: ثالث يوم النحر بعد الظهر، وهو يوم النفر الأول، يودع الناس ويعلمهم أن من أراد التعجيل فذلك له، ويأمرهم أن يختموا حجهم بتقوى الله وطاعته. واحتج الشافعى بخطبة يوم النحر بحديث ابن عباس وابن عمر وأبى بكرة (أن النبى عليه السلام خطب يوم النحر) قال الشافعى: وبالناس حاجة إلى هذه الخطبة ليعلمهم المناسك، وإن علمهم النحر والإفاضة إلى مكة للطواف والعود إلى منى للمبيت بها، فوجب أن يكون ذلك سُنة. وقال ابن القصار: أما خطبة يوم النحر فإنه عليه السلام إنما وقف للناس فقال: أى يوم هذا؟ وأى شهر هذا؟ وأى بلد هذا؟ فعرفهم أن دماءهم وأموالهم وأعراضهم حرام، وأمرهم بتبليغ ذلك لكثرة اجتماعهم من أقاصى الأرض، فظن أنه خطب. وقال الطحاوى: لم تكن هذه الخطبة من أسباب الحج؛ لأنه عليه(4/410)
السلام ذكر فيها أمورًا لا يصلح لأحد بعده ذكرها، والخطبة إنما هى لتعليم الحج، ولم ينقل أحد عنهم أنه علمهم يوم النحر شيئًا من سنن الحج، فعلمنا أن خطبة يوم النحر لم تكن للحج، وإنما كانت لما سواه. قال ابن القصار: وقوله: يحتاج أن يعلمهم النحر، فقد تقدم تعليمهم فى خطبته يوم عرفة، وأعلمهم ما عليهم فيه وبعده، وخطب ثانى النحر فأعلمهم ما بقى عليهم فى يومه وغده، وأن التعجيل يجوز فيه، وكذلك خطب قبل يوم التروية بيوم وهو بمكة، فكانت خطبه ثلاثًا، كل خطبة ليومين، وأما قول الشافعى أنه يخطب ثالث يوم النحر، مع اجتماعهم بأنها خطبة يأمر الإمام الناس فيها بالتعجيل إن شاءوا، ولما كان لم يختلفوا فيه أن الخطبة التى يأمر الإمام الناس فيها بالخروج إلى منى قبل الخروج إليها، كان كذلك الخطبة التى يأمرهم فيها بالتعجيل فى يومين قبل ذلك أيضًا. قال ابن الموّاز: الخطبة الأولى قبل التروية بيوم فى المسجد الحرام بعد الظهر لا يجلس فيها، والثانية بعرفة يجلس فى وسطها، والثالثة بمنى أول يومٍ من أيام التشريق، وهى بعد الظهر لا يجلس فيها، وهى كلها تعليم المناسك، ولا يجهر بالقراءة فى شىء من صلاتها. وقال الطبرى: معنى قوله عليه السلام: (إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام) يريد أن دماء بعضكم وأمواله وأعراضه حرام على البعض الآخر، فأخرج الخبر عن تحريم ذلك على وجه الخطاب لهم؛ إذ كانوا أهل ملة واحدة، وكان جميعهم فيما لبعضهم على بعض من الحق فى معنى الواحد فيما لنفسه وعليه، وذلك نظير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ) [النساء: 29] والمعنى: لا يأكل بعضكم(4/411)
مال بعض بالباطل، ولا يقتل بعضكم بعضًا، وذلك أن المؤمنين بعضهم إخوة بعض، فما أصاب أخاه من مكروه فكأنه المصاب به، ومثله قوله تعالى موبخًا لبنى إسرائيل الذين كانوا بين ظهرانى المسلمين فى قتل بعضهم بعضًا من ديارهم: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ) [البقرة: 84] فأخرج الخبر عن قتل بعضهم لبعض على وجه الخبر عن أنفسهم، وفيه البيان عن أن الله حرم من مال المسلم وعرضه نظير الذى حرم من دمه، وسوَّى بين جميعه فلا يستحل ماله، وكذلك قال ابن مسعود فى خطبته: حُرمة مال المسلم كحرمة دمه. فإن قال قائل: فإنك تستحل سفك دماء أقوام من المسلمين وأنت لأموالهم محرم، وذلك كقطاع الطريق والخوارج ومن يجب قتله بحدٍّ لزمه. قيل: أما هؤلاء فإنما لزم الإمام سفك دمائهم إقامة لِحدِّ الله الذى وجب عليهم، وليس ذلك استحلالا لزمه من الوجه الذى سوَّى الله بينه وبين ماله وعرضِه فى الحرمة، وإنما ذلك عقوبة لجرمه دون ماله، كما أمر بعقوبة آخر فى ماله دون بدنه، وليس إلزامه الدية استحلالا لماله من الوجه الذى سوَّى بينه وبين دمه وماله، وإنما الوجه الذى سَوّى بين حُرمة جميع ذلك فى ألا يتناول شيئًا منه بغير حق، فحرام أن يُغتابَ أحدٌ بسوءٍ بغير حق، وكذلك مَالُهُ؛ أخذُ شىء منه حرام بغير حق كتحريم دمه. وأما قوله عليه السلام: (لا ترجعوا بعدى كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض) فإنه قد تقدم منه عليه السلام إلى أمته بالثبوت على الإسلام، وتحريم بعضهم من بعض على نفسه سفك دمه، ما أقاموا(4/412)
على الإسلام، فإن ظن ظان أن ذلك حكم من النبى (صلى الله عليه وسلم) لضارب رقبة أخيه المسلم بالكفر، فقد أعظم الغفلة وأفحش الخطأ، وذلك أنه لا ذنب يوجب لصاحبه الكفر مع الإقرار بالتوحيد والنبوة إلا بذنب يركبه صاحبه على وجه الاستحلال مع العلم بتحريمه، فأما إذا ركبه معتقدًا تحريمه، فإن ذلك معصية لله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، فهو بذلك الذنب آثم، ومن ملة المسلمين غير خارج؛ لقوله تعالى: (إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء) [النساء: 48] فإن قال قائل: فما معنى قوله عليه السلام: (لا ترجعوا بعدى كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض) إذ كان لهم الرجوع وهو حى بينهم كفارًا، فيشترط فى نهيه النهى عن ذلك بعده؟ قيل: لذلك وجوه مفهومة: أحدها: أن يكون قال لهم: (لا ترجعوا بعدى كفارًا) لأنه قد علم أنهم لا يفعلون ذلك وهو فيهم حى، فقال لهم: لا تفعلوه بعد وفاتى، فأما قبل وفاتى فقد علمت أنكم لا تفعلونه بإعلام الله ذلك. والثانى: أن يكون عنى بقوله: (بعدى) بعد فراقى من موقفى هذا. والثالث: أن يكون عنى بقوله: (بعدى) خلافى، فيكون معنى الكلام: لا ترجعوا خلافى كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض، فتخلفونى فى أنفسكم بغير الذى أمرتكم به.
1 - بَاب هَلْ يَبِيتُ أَصْحَابُ السِّقَايَةِ وَغَيْرُهُمْ بِمَكَّةَ لَيَالِىَ مِنًى
/ 179 - فيه: ابْن عُمَرَ، رخص النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) للعباس لِيَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِىَ مِنًى مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ.(4/413)
قال ابن المنذر: السنة أن يبيت الناس بمنى ليالى أيام التشريق إلا من أرخص له رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى ذلك؛ فإنه أرخص للعباس أن يبيت بمكة من أجل سقايته، وأرخص لرعاء الإبل، وأرخص لمن أراد التعجيل أن ينفر فى النفر الأول. واختلف الفقهاء فيمن بات ليلةً بمكة من غير من رُخِّصَ له، فقال مالك: عليه دم. وقال الشافعى: إن بات ليلة أطعم عنها مسكينًا، وإن بات ليالى منى كلها أحببتُ له أن يُهريق دمًا. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا شىء عليه إن كان يأتى منى ويرمى الجمار. وهو قول الحسن البصرى، قالوا: ولو كانت سُنَّة ما سقطت عن العباس وآله، وإنما هو استحباب، وحسبه إذا رمى الجمار فى وقتها، وقد روى سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لا بأس أن يبيت الرجل بمكة ليالى منى، ويظل إذا رمى الجمار. وحجة من أوجب الدم أن الرخصة فى ذلك إنما هى تخصيص من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لأهل السقاية، ولمن أذن له دون غيرهم.
2 - باب رَمْىِ الْجِمَارِ
وَقَالَ جَابِرٌ: رَمَى النَّبِىُّ، عليه السَّلام، يَوْمَ النَّحْرِ ضُحًى، وَرَمَى بَعْدَ ذَلِكَ بَعْدَ الزَّوَالِ. / 180 - فيه: وَبَرَةَ، سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ مَتَى أَرْمِى الْجِمَارَ؟ قَالَ: إِذَا رَمَى إِمَامُكَ فَارْمِهْ، فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ، قَالَ: كُنَّا نَتَحَيَّنُ فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ رَمَيْنَا. قول جابر: (رمى النبى يوم النحر ضُحى) فإنما يريد جمرة العقبة، لا يرمى يوم النحر غيرها، وقوله: (ثم رمى بعد ذلك بعد(4/414)
الزوال) فإنه يعنى رمى الجمار أيام التشريق، وممن رماها بعد الزوال: عمر بن الخطاب، وابن عباس، وابن الزبير، ولذلك قال ابن عمر: كنا نتحين؛ فإذا زالت الشمس رمينا. وهذه سنة الرمى أيام التشريق الثلاثة، لا تجوز إلا بعد الزوال عند الجمهور، منهم: مالك، والثورى، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، والشافعى، ولكنا استحسنا أن يكون فى اليوم الثالث قبل الزوال. وقال إسحاق: إن رمى فى اليوم الأول والثانى قبل الزوال أعاد، وفى اليوم الثالث يجزئه. وقال عطاء وطاوس: يجوز فى الأيام الثلاثة قبل الزوال. وحديث جابر وابن عمر يرد هذا القول، والحجة فى السنة، فلا معنى لقول من خالفها، ولا لمن استحب غيرها، واتفق مالك وأبو حنيفة والثورى والشافعى وأبو ثور إذا مضت أيام التشريق وغابت الشمس من آخرها، فقد فات الرمى، ويجبر ذلك بالدم.
3 - باب رَمْىِ الْجِمَارِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِى
/ 181 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّهُ رَمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِى، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ، إِنَّ نَاسًا يَرْمُونَهَا مِنْ فَوْقِهَا، فَقَالَ: وَالَّذِى لا إِلَهَ غَيْرُهُ، هَذَا مَقَامُ الَّذِى أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ. رمى الجمرة من حيث تيسر من العقبة، من أسفلها أو أعلاها أو أوسطها، كل ذلك واسع، والموضع الذى يختار منها بطن الوادى؛ من أجل حديث ابن مسعود، وكان جابر بن عبد الله يرميها من بطن الوادى، وبه قال عطاء وسالم، وهو قول الثورى والشافعى وأحمد وإسحاق، وقال مالك: يرميها من أسفلها أحب إلى. وقد روى عن(4/415)
عمر بن الخطاب أنه خاف الزحام عند الجمرة، فصعد فرماها من فوقها.
4 - باب رَمْىِ الْجِمَارِ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ
/ 182 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى جَعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ، وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ، وَرَمَى بِسَبْعٍ، وَقَالَ: هَكَذَا رَمَى الَّذِى أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ. وترجم له باب: (من رمى جمرة العقبة فجعل البيت عن يساره) . اتفقت الأمة على أن رمى كل جمرة بسبع حصيات فقد أحسن، واختلفوا إذا رماها بأقل من سبع، فذكر الطبرى عن عطاء أنه إن رمى بخمس أجزأه، وعن مجاهد: إن رمى بست فلا شىء عليه، وذكر ابن المنذر أن مجاهدًا احتج بحديث سعد بن أبى وقاص قال: (رجعنا مع النبى عليه السلام وبعضنا يقول: رميت بست، وبعضنا يقول: رميت بسبع، فلم يَعِبْ بعضهم على بعض) وبه قال أحمد وإسحاق، وعن طاوس إن رمى ستًا يطعم تمرة أو لقمة. وذكر الطبرى قال: قال بعضهم: لو ترك رمى جميعهن بعد أن يكبر عند كل جمرة بسبع تكبيرات أجزأه ذلك. وقال: إنما جعل الرمى فى ذلك بالحصى سببًا لحفظ التكبيرات السبع، كما جعل عقد الأصابع بالتسبيح سبًا لحفظ العدد. وذكر عن يحيى بن سعيد أنه سئل عن الخرز والنوى يسبح به، فقال: حسن، قد كانت عائشة زوج النبى عليه السلام تقول: إنما الحصى للجمار ليحفظ به التكبير. وقال(4/416)
الشافعى وأبو ثور: إن بقيت عليه حصاة فعليه مُد من طعام، وفى حصاتين مُدَّان، وإن بقيت ثلاث فأكثر فعليه دم. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: إن ترك أقل من نصف جميع الجمرات الثلاث، فعليه فى كل حصاة نصف صاع من طعام إلا أن يبلغ ذلك دمًا، فيطعم ما شاء ويجزئه، وإن كان ترك أكثر من نصف جميع الجمرات الثلاث فعليه دم، وعلتهم إجماع الجميع أنَّ على كل تارك رمى الجمرات الثلاث فى أيام الرمى حتى تنقضى: دمًا، فلما كان ذلك إجماعًا، كان الواجب أن يكون لترك رمى ما دون جميع الجمرات الثلاث من الدم بقسطه، وأن يكون ذلك مردودًا إلى القيمة؛ إذ كان غير ممكن نسك بعض الدم، فجعلوا ذلك طعامًا، وجعلوا ما يعطى كل مسكين من ذلك قوت يومه، وجعلوا تارك ما زاد على نصف جميع الجمرات الثلاث بمنزلة تارك الجمرات كلها؛ إذ كان الحُكم عندهم للغلب، مع أن ذلك إجماع من الجميع. وقال الحكم وحماد: من نسى جمرة أو جمرتين أو حصاة أو حصاتين يهريق دمًا. وقال عطاء: من نسى شيئًا من رمى الجمار فذكر ليلا أو نهارًا فليرمى ما نسى، ولا شىء عليه، وإن مضت أيام التشريق فعليه دم. وهو قول الأوزاعى، وقال مالك: إن نسى حصاة من الجمرة حتى ذهبت أيام الرمى ذبح شاة، وإن نسى جمرة تامة ذبح بقرة. قال الطبرى: والصواب عندنا أن رمى جمرة العقبة يوم النحر بسبع حصيات، ورمى الجمرات الثلاث أيام التشريق الثلاثة كل جمرة منها بسبع حصيات من مناسك الحج التى لا يجوز تضييعها؛ لنقل الأمة جميعًا وراثة عن النبى عليه السلام أن رميهن كذلك مما عَلَّمَ(4/417)
أمته، وقد جعل الله بيان مناسكه إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فعلم بذلك أنه من الفروض التى لا يجوز تضييعها، وعُلم أن من ترك شيئًا مما علمهم الرسول (صلى الله عليه وسلم) حتى فات وقته فعليه الكفارة؛ إذ كان قد نص فى محكم كتابه على وجوب ذلك فى تضييع بعض المناسك، فكان فى حكمه حكم ما لم ينص الحكم فيه، فمما نص الحكم فيه فى كتابه (الشعر) الذى تَقَدَّم إلى عباده فى ترك حلقه أيام إحرامهم بقوله: (وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ) [البقرة: 196] ثم جعل فى حلقه قبل وقته المباح لمرض أو أذى فديةً من طعام أو صدقة أو نسك، وكذلك أوجب فى قاتل الصيد فى الإحرام الكفارة، فمثل ذلك حكم كل مضيع شيئًا من مناسك الحج عليه الكفارة والبدل، وإن اختلفت الكفارات فى ذلك إلا أن ينص الله على وضع شىء من ذلك عن فاعله، ولما ثبت أن كل جمرة منها فرض، بينا أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان منقولا عنه وِرَاثة أن من ضيع رميهن حتى تنقضى أيام التشريق الثلاثة عليه فدية شاة يذبحها ويتصدق بها، كان على تارك بعضها ما على تارك جميعها، كما حكم تارك شوط واحد من السبعة الأشواط فى طواف الإفاضة يوم النحر حكم تارك الأشواط السبعة فيما يلزمه. واختلفوا فيمن رمى سبع حصيات فى مرة واحدة، فقال مالك والشافعى: لا يجزئه إلا عن حصاةٍ واحدة، ويرمى بعدها سِتا. وقال عطاء: يجزئه عن السبع رميات. وهو قول أبى حنيفة؛ لأنه لو وجب عليه الحد فلا فرق أن يقام عليه الحد سوطًا أو سياطًا مجموعة فإنه يسقط عنه الفرض إذا علم وصول الكل إلى بدنه، كذلك الرمى. قال ابن القصار: والحجة لمالك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) رمى بحصاةٍ بعد حصاة وقال: (خذوا عنى مناسككم) فوجب امتثال فعله، ونحن لا نجيز(4/418)
ضربه إلا بسوط بعد سوط؛ لأنه لا يكون ألم الكل فى ضربةٍ كألمه سوطًا بعد سوط، فالعدد فى الحد معتبر، وفى الرمى معتبر. وقال ابن المنذر: إذا جعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه، فهو مستقبل للجمرة بوجهه وهى السنة، ولذلك ترجم باب (من رمى جمرة العقبة فجعل البيت عن يساره) .
5 - باب يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ
قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام. / 183 - فيه: الأعْمَشُ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحَجَّاجَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: السُّورَةُ الَّتِى يُذْكَرُ فِيهَا الْبَقَرَةُ، وَالسُّورَةُ الَّتِى يُذْكَرُ فِيهَا آلُ عِمْرَانَ، وَالسُّورَةُ الَّتِى يُذْكَرُ فِيهَا النِّسَاءُ، قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لإبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: حَدَّثَنِى عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ أَنَّهُ كَانَ مَعَ ابْنِ مَسْعُودٍ حِينَ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، فَاسْتَبْطَنَ الْوَادِيَ، حَتَّى إِذَا حَاذَى بِالشَّجَرَةِ اعْتَرَضَهَا، فَرَمَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ قَالَ: مِنْ هَاهُنَا وَالَّذِى لا إِلَهَ غَيْرُهُ، قَامَ الَّذِى أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ. والسنة أن يكبر مع كل حصاة كما فعل عليه السلام، وعمل بذلك الأئمة بعده، وروى ذلك عن ابن مسعود وابن عمر، وهو قول مالك والشافعى، وكان على يقول كلما رمى حصاة: اللهم اهدنى بالهدى، وقنى بالتقوى، واجعل الآخرة خيرًا لى من الأولى. وكان ابن عمر وابن مسعود يقولان عند ذلك: اللهم اجعله حجًا مبرورًا، وذنبًا مغفورًا، وسعيًا مشكورًا.(4/419)
وأجمعوا أنه إن لم يكبر فلا شىء عليه، وفى هذا الحديث رد على من يقول: إنه لا يجوز أن يقال: سورة البقرة، ولا سورة آل عمران كما قال الحجاج، وقد سبقه إلى ذلك من السلف وقالوا: إذ قال: سورة البقرة، وسورة آل عمران، فقد أضاف السورة إلى البقرة، والبقرة لا سورة لها، وإنما الصواب أن يقال: السورة التى يذكر فيها البقرة، واحتج النخعى عن الأعمش بقول ابن مسعود، عن النبى عليه السلام: (الذى أنزلت عليه سورة البقرة) وقال أهل العلم بكتاب الله: ليست هذه إضافة ملك، ولا إضافة نوع إلى جنسه، وإنما هى إضافة لفظ بمنزلة قولك: باب الدار، وسرج الدابة، ومثل قوله تعالى: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) [التكوير: 19] فأضاف القول إلى جبريل الذى نزل به من عند الله تعالى وهذا من اتساع لغة العرب تضيف الشىء إلى من له فيه أقل سبب، وقد ترجم البخارى لهذا المعنى فى كتاب فضائل القرآن فقال: باب من لم ير بأسًا أن يقول: سورة البقرة، وسورة كذا، خلافًا للحجاج ولمن أنكر ذلك قبله.
6 - باب مَنْ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَلَمْ يَقِفْ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ، عَنِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) .
/ 184 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَرْمِى الْجَمْرَةَ الدُّنْيَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، ثُمَّ الْوُسْطَى، ثُمَّ يَرْمِى جَمْرَةَ ذَاتِ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِى، وَلا يَقِفُ عِنْدَهَا، ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَيَقُولُ: هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، يَفْعَلُهُ.(4/420)
جمرة العقبة فى هذا الحديث هى الجمرة الثالثة من الجمار التى تُرمى كل يوم من أيام التشريق، تُرمى فى المكان الذى رميت فيه جمرة العقبة يوم النحر، ولا يقف عند هذه الجمرة الثالثة إذا رماها كما يقف عند الأولى والثانية، وكذلك وردت السنة، وروى عن عمر ابن الخطاب أنه كان يفعله، وذكر البخارى عن ابن عمر أنه كان يفعله.
7 - باب رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الدُّنْيَا وَالْوُسْطَى
/ 185 - فيه: ابْن عُمَرَ، أنَّهُ كَانَ يَرْمِى الْجَمْرَةَ الدُّنْيَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، ثُمَّ يُكَبِّرُ عَلَى إِثْرِ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ فَيُسْهِلُ، فَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ قِيَامًا طَوِيلا، فَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَرْمِى الْجَمْرَةَ الْوُسْطَى كَذَلِكَ، فَيَأْخُذُ ذَاتَ الشِّمَالِ فَيُسْهِلُ، وَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ قِيَامًا طَوِيلا، فَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَرْمِى الْجَمْرَةَ ذَاتَ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِى، وَلا يَقِفُ عِنْدَهَا، وَيَقُولُ: هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَفْعَلُ. وترجم له باب: (الدعاء عند الجمرتين) . الجمرة الدنيا: هر الجمرة الأولى من أول أيام التشريق، وهن ثلاث جمرات فى كل يوم من الثلاثة الأيام جمرة، فالجمرة الأولى مسجد منى، والوسطى عند العقبة الأولى بقرب مسجد منى أيضًا، يرميها ويقف طويلا ويدعو، ويرمى الثالثة عند العقبة حيث رمى يوم النحر، يرميها ولا يقف على ما ثبت فى الحديث، وروى الثورى، عن عاصم الأحول، عن أبى مجلز قال: كان ابن عمر يشبر ظله(4/421)
ثلاثة أشبار، ثم يرمى، وقام عند الجمرتين قدر سورة يوسف. وقال عطاء: كان ابن عمر يقف عندها بمقدار ما يقرأ سورة البقرة. قال ابن المنذر: ولعله قد وقف مرتين كما قال أبو مجلز، وكما قال عطاء، ولا يكون اختلافًا وكان ابن عباس يقف بقدر قراءة سورة من المائتين، ولا توقيف فى ذلك عند العلماء، وإنما هو ذكر ودعاء، فإن لم يقف ولم يدع فلا حرج عليه عند أكثر العلماء إلا الثورى؛ فإنه استحب أن يطعم شيئًا أو يهريق دمًا، والسنة أن يرفع يديه فى الدعاء عند الجمرتين، قال ابن المنذر: ولا أعلم أحدًا أنكر غير مالك؛ فإن ابن القاسم حكى عنه أنه لم يكن يعرف رفع اليدين هنالك، قال ابن المنذر: واتباع السنة أفضل.
8 - باب الطِّيبِ بَعْدَ رَمْىِ الْجِمَارِ وَالْحَلْقِ قَبْلَ الإفَاضَةِ
/ 186 - فيه: عَائِشَةَ، طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِيَدَىَّ هَاتَيْنِ حِينَ أَحْرَمَ، وَلِحِلِّهِ حِينَ أَحَلَّ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ، وَبَسَطَتْ يَدَيْهَا. قال ابن المنذر: واختلف العلماء فيما أبيح للحاج بعد رمى جمرة العقبة قبل الطواف بالبيت، فروى عن ابن عباس وابن الزبير وعائشة أنه يحل له كل شىء إلا النساء، وهو قول سالم وطاوس والنخعى، وإليه ذهب أبو حنيفة والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور، واحتجوا بحديث عائشة فى إباحة الطيب لمن رمى جمرة العقبة قبل طواف الإفاضة، وقالوا: سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حجة على من خالفها. قال ابن المنذر: قولها: (ولحلِّه) يدل أنه حلال من كل شىء إلا النساء، الذى دل على المنع منه الخبر والإجماع، وروى عن عمر بن الخطاب وابنه أنه يحل له كل شىء إلا النساء والطيب.(4/422)
قال مالك: يحل له كل شىء إلا النساء والصيد. ذكره ابن المواز، وقال فى المدونة: أكره لمن رمى جمرة العقبة أن يتطيب حتى يفيض؛ فإن فعل فلا شىء عليه لما جاء فيه. فعلى هذا القول الصحيح من مذهب مالك أنه يحل له كل شىء إلا النساء والصيد. واحتج ابن القصار لمالك فى تحريم الصيد على من لم يفض بقوله: (لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ) [المائدة: 95] وليس إذا أحل له الحلق يخرج عن كونه محرمًا؛ لأن الحلق والطيب واللباس قد أبيح على وجه، ولم يخرج بذلك عن كونه محرمًا، فلذلك يحل له بعد الرمى أشياء، ويبقى عليه تحريم أشياء وهو محرم، وقوله تعالى: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) [المائدة: 2] فاقتضى الإحلال التمام، وألا يبقى شىء من الإحرام بعد افحلال المطلق، ومن بقيت عليه الإفاضة فلم يحلل الإحلال التام، ومثله قوله تعالى: (وَأُوْلاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) [الطلاق: 4] فلو وضعت واحدًا وبقى فى بطنها آخر لم تكن قد وضعت الوضع التام؛ لأن الرجعة قبل وضعها الثانى تصح. واحتج الطحاوى لأصحابه بما رواه عن على بن معبد، حدثنا يزيد ابن هارون، حدثنا الحجاج بن أرطاة، عن أبى بكر بن محمد ابن عمرو بن حزم، عن عمرة، عن عائشة قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب والثياب وكل شىء إلا النساء) وبما روى سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن الحسن العُرَنى، عن ابن عباس قال: (إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شىء إلا النساء، فقال له رجل: والطيب؟ فقال: أما أنا فقد رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم)(4/423)
يضمخ رأسه بالمسك، أفطيب هو؟) . وروى أفلح بن حميد، عن أبى بكر بن حزم قال: دعانا سليمان بن عبد الملك يوم النحر، أرسل إلى عمر بن عبد العزيز والقاسم وسالم وخارجة بن زيد وعبد الله بن عبد الله ابن عمر وابن شهاب فسألهم عن الطيب فى هذا اليوم قبل الإفاضة، فقالوا: تطيب يا أمير المؤمنين. قال ابن المنذر: واختلفوا فيمن جامع بعد رمى الجمرة يوم النحر قبل الإفاضة، فروى عن ابن عمر أن عليه حجة قابل، وعن الحسن والنخعى والزهرى مثله. وقال النخعى والزهرى: وعليه الهدى مع حج قابل. وقال ربيعة ومالك: يعتمر من التنعيم ويهدى. وقال أحمد وإسحاق: يعتمر من التنعيم. وقال ابن عباس: عليه بدنة، وحَجُّهُ تام. وعن عطاء والشعبى مثله، وهو قول الكوفيين والشافعى وأبى ثور.
9 - باب طَوَافِ الْوَدَاعِ
/ 187 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ إِلا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الْحَائِضِ. / 188 - وفيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، ثُمَّ رَقَدَ رَقْدَةً بِالْمُحَصَّبِ، ثُمَّ رَكِبَ إِلَى الْبَيْتِ، فَطَافَ بِهِ. طواف الوداع لكل حاج ومعتمر، لا يكون مكيًا، من سنن الحج وشعائره، قال مالك: وإنما أمر الناس أن يكون آخر نسكهم الطواف بالبيت؛ لقول الله: (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج: 32] وقال: (ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج: 33] .(4/424)
قال مالك: ومن أخر طواف الإفاضة إلى أيام منى فإن له سعة أن يصدر إلى بلده وإن لم يطف بالبيت إذا أفاض. واختلفوا فيمن خرج ولم يطف للوداع، فقال مالك: إن كان قريبًا رجع فطاف، وإن لم يرجع فلا شىء عليه. وقال عطاء والثورى وأبو حنيفة والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور: إن كان قريبًا رجع فطاف، وإن تباعد مضى وأهراق دمًا. وحجتهم فى إيجاب الدم قول ابن عباس: من نسى من نسكه شيئًا فليهريق دمًا. والطواف نسك، وحجة مالك أنه طواف أسقط عن المكى والحائض، فليس من السنن اللازمة، والذمة بريئة إلا بيقين، وسيأتى شىء من هذا المعنى فى هذا الباب الذى بعد هذا إن شاء الله. واختلفوا فى حد القُرْب، فروى أن ابن عمر رَدَّ رجلا من مَرّ الظهران لم يكن ودع، وبين مَرّ الظهران ومكة ثمانية عشر ميلا، وهذا بعيد عند مالك، ولا يُرد أحد من مثل هذا الموضع، وعند أبى حنيفة: يرجع ما لم يبلغ المواقيت، عند الشافعى: يرجع من مسافة لا تقصر فيها الصلاة، وعند الثورى: يرجع ما لم يخرج من الحرم. واختلفوا فيمن وَدَّع ثم بدا له فى شراء حوائجه، فقال عطاء: يعيد حتى يكون آخر عمله الطواف بالبيت. وبنحوه قال الثورى والشافعى وأحمد وأبو ثور. قال مالك: لا بأس أن يشترى بعض حوائجه وطعامه فى السوق، ولا شىء عليه، وإن أقام يومًا أو بعضه أعاد. وقال أبو حنيفة: لو ودع وأقام شهرًا أو أكثر أجزأه، ولم يكن عليه إعادة. وهذا خلاف حديث ابن عباس: (أمر الناس أن يكون آخر عهدهم الطواف بالبيت) .(4/425)
0 - باب إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ بَعْدَ مَا أَفَاضَتْ
/ 189 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ صَفِيَّةَ حَاضَتْ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (أَحَابِسَتُنَا هِىَ) ؟ قَالُوا: إِنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ، قَالَ: (فَلا إِذًا) . / 190 - وفيه: ابْنَ عَبَّاسٍ رُخِّصَ لِلْحَائِضِ أَنْ تَنْفِرَ إِذَا أَفَاضَتْ. / 191 - وفيه: عَائِشَةَ، خَرَجْنَا مَعَ الرسول، عليه السَّلام، وَلا نَرَى إِلا الْحَجَّ. . . فذكر الحديث فَحَاضَتْ هِىَ، فَنَسَكْنَا مَنَاسِكَنَا، فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةَ الْحَصْبَةِ لَيْلَةُ النَّفْرِ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُلُّ أَصْحَابِكَ يَرْجِعُ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ غَيْرِى؟ قَالَ: (مَا كُنْتِ تَطُوفِينَ بِالْبَيْتِ لَيَالِىَ قَدِمْنَا) ؟ قُلْتُ: بلى، وَقَالَ مُسَدَّدٌ: لا. وَتَابَعَهُ جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ فِى قَوْلِهِ: لا، قَالَ: (فَاخْرُجِى مَعَ أَخِيكِ إِلَى التَّنْعِيمِ، فَأَهِلِّى بِعُمْرَةٍ) ، وَحَاضَتْ صَفِيَّةُ، فَقَالَ، عليه السَّلام: (عَقْرَى حَلْقَى، أَمَا كُنْتِ طُفْتِ يَوْمَ النَّحْرِ) ؟ قَالَتْ: بَلَى، قَالَ: (فَلا بَأْسَ انْفِرِى) . معنى هذا الباب أن طواف الوداع ساقط عن الحائض؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لما أُخبر عن صفية أنها حاضت، قال: (أحابستنا هى؟) فلما أُخبر أنها قد أفاضت قبل أن تحيض، قال: (فلا إذًا) وهو قول عوام أهل العلم، وخالف ذلك طائفة فقالوا: لا يحل لأحد أن ينفر حتى يطوف طواف الوداع، ولم يعذروا فى ذلك حائضًا بحيضها. ذكره الطحاوى. قال ابن المنذر: روى ذلك عن عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت وابن عمر، فقد روينا عنهم الرجوع، وقول عمر بن الخطاب يَرُدُّه الثابت عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه أمر الحائض أن تنفر بعد الإفاضة، ومن هذا الحديث. قال مالك: لا شىء على من ترك طواف الوداع حتى يرجع إلى بلاده لسقوطه عن الحائض. وفيه رد لقول عطاء والكوفيين(4/426)
والشافعى ومن وافقهم، أن من لم يودع البيت فعليه دم، وقولهم خلاف حديث صفية، وفى قوله: (أحابستنا هى؟) دليل أن طواف الإفاضة يحبس الحائض بمكة، لا تبرح حتى تطوف للإفاضة؛ لأنه الطواف المفترض على كل من حج، وعلى هذا أئمة أهل العلم. قال مالك: إذا حاضت المرأة بمنى قبل أن تفيض حُبس عليها كَرِيُّهَا أكثر ما يحبس النساء الدم. قال ابن عبد الحكم: ويحبس على النساء أكثر ما يحبس النساء الدم فى النفاس، ولا حجة للكَرِىِّ أن يقول لم أعلم أنها حامل. قال مالك: وليس عليها أن تعينه فى العلف. وقال ابن المواز: لست أعرف حبس الكَرِىِّ، كيف يحبس وحده يعرض لقطع الطريق. وقال الشافعى: ليس على جَمَّالها أن يحبس عليها، ويقال لها: احملى مكانك مثلك. قال المؤلف: والصواب فى حديث عائشة رواية مسدد وجرير عن منصور فى قولها: (لا) وقد بان ذلك فى حديث أبى معاوية أنها قالت: (فحضت قبل أن أدخل مكة) وقال فليح: (فما كنا بسرف حضت، فقال عليه السلام: افعلى كما يفعل الحاج غير ألا تطوفى بالبيت حتى تطهرى. قالت: فقدمت مكة وأنا حائض لم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة، فلما قدمنا طهرتُ، فخرجت من منى فأفضت بالبيت) . فدل هذا الحديث أن عائشة لم تكن متمتعة؛ لأنها لم تطف بالبيت حين قدمت مكة، كما طاف من فسخ حجه فى عمرة من أجل حيضتها، ولذلك قالت: (كل أصحابك يرجع بحجة وعمرة غيرى؟) فأمر أخاها أن يخرجها إلى التنعيم فتهل منه بعمرة لترجع بحجة وعمرة كما أرادت، ودل هذا أيضًا أنها لم تكن قارنة، ولو كانت قارنة لم تأسف على فوات العمرة، ولا قالت: (كل أصحابك يرجع بحجة وعمرة غيرى) فثبت أنها كانت مفردة بالحج.(4/427)
وقوله: (عَقْرَى حَلْقى) فيه: جواز توبيخ الرجل أهله على ما يدخل على الناس بسببها، كما وبخ أبو بكر أيضًا عائشة فى قصة العِقْد.
1 - باب مَنْ صَلَّى الْعَصْرَ يَوْمَ النَّفْرِ بِالأبْطَحِ
/ 192 - فيه: أَنَس، صَلَّى النَّبِىّ، عليه السَّلام، الظُّهْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِمِنًى، قُلْتُ: وَأَيْنَ صَلَّى الْعَصْرَ يَوْمَ النَّفْرِ؟ قَالَ: بِالأبْطَحِ. افْعَلْ كَمَا يَفْعَلُ أُمَرَاؤُكَ. / 193 - قَالَ أَنَسًا أيضًا: صَلَّى النَّبِىّ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، وَرَقَدَ رَقْدَةً بِالْمُحَصَّبِ، ثُمَّ رَكِبَ إِلَى الْبَيْتِ فَطَافَ بِهِ. قال ابن القاسم فى المدونة: إذا رمى آخر أيام منى فليخرج إلى مكة ولا يصلى الظهر بمنى، واستحب النزول بأبطح مكة وهو حيث المقبرة يصلى فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم يدخل مكة أول الليل، كذلك فعل النبى عليه السلام وأُحب أن يفعل ذلك الأئمة ومن يُقتدى به. وربما قال مالك: ذلك واسع لغيرهم. وكان أبو بكر وعمر وعثمان ينزلون بالأبطح، وهو مستحب عند العلماء، إلا أنه عند الحجازيين أوكد منه عند الكوفيين، وكلهم مجمعون أنه ليس من مناسك الحج، وهذه البطحاء هى المعرس، والأبطح والبطحاء: ما انبطح واتسع من بطن الوادى.(4/428)
2 - باب الْمُحَصَّبِ
/ 194 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: إِنَّمَا كَانَ مَنْزِلٌ يَنْزِلُهُ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، لِيَكُونَ أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ. يَعْنِى بِالأبْطَحِ. / 195 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: لَيْسَ التَّحْصِيبُ بِشَىْءٍ، إِنَّمَا هُوَ مَنْزِلٌ نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . المُحَصَّب: هو الأبطح، وهو المعرس، وهو خيف منى المذكور فى حديث أبى هريرة (أن النبى عليه السلام قال حين أراد أن ينفر من منى: نحن نازلون غدًا إن شاء الله بخيف بنى كنانة) يعنى: المحصب. وقد ذكرنا فى الباب قبل هذا عن أبى بكر وعمر وعثمان أنهم كانوا ينزلون به، وقال عمر بن الخطاب: حصبوا، يعنى: انزلوا بالمحصب، وكان ابن عمر ينزل به، وعن النخعى وطاوس مثله، واستحب النخعى وطاوس أن ينام فيه نومة، وقول عائشة وابن عباس: (إنما هو منزل نزله رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) يدل أنه ليس من مناسك الحج، وأنه لا شىء على من تركه، وهذا معنى قوله: ليس التحصيب بشىء. أى: ليس من المناسك التى تلزم الناس، وكانت عائشة لا تحصب ولا أسماء، وهو مذهب عروة. قال الطحاوى: لم يكن نزوله عليه السلام بالمحصب لأنه سنة، وقد اختلف فى معناه، فقالت عائشة: ليكون أسمح لخروجه. قال المؤلف: يريد للمدينة ليستوى فى ذلك البطئ والمعتدل ويكون مبيتهم وقيامهم فى السحر، ورحيلهم بأجمعهم إلى المدينة. وروى عن أبى رافع أنه قال: (أمرنى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن أضرب له الخيمة،(4/429)
ولم يأمرنى بمكان بعينه، فضربتها بالمحصب) رواه سفيان، عن صالح ابن كيسان، عن سليمان بن يسار، عن أبى رافع. وروى ابن أبى ذئب عن شعبة، أن ابن عباس قال: إنما كانت الحصبة؛ لأن العرب كانت يخاف بعضها بعضًا، فيرتادون فيخرجون جميعًا، فجرى الناس عليها.
3 - باب النُّزُولِ بِذِى طُوًى قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ
وَالنُّزُولِ بِالْبَطْحَاءِ الَّتِى بِذِى الْحُلَيْفَةِ إِذَا رَجَعَ مِنْ مَكَّةَ / 196 - فيه: ابْن عُمَرَ، كَانَ يَبِيتُ بِذِى طُوًى بَيْنَ الثَّنِيَّتَيْنِ، ثُمَّ يَدْخُلُ مِنَ الثَّنِيَّةِ الَّتِى بِأَعْلَى مَكَّةَ، وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مَكَّةَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا لَمْ يُنِخْ نَاقَتَهُ إِلا عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ يَدْخُلُ، فَيَأْتِى الرُّكْنَ الأسْوَدَ فَيَبْدَأُ بِهِ، ثُمَّ يَطُوفُ سَبْعًا ثَلاثًا سَعْيًا وَأَرْبَعًا مَشْيًا، ثُمَّ يَنْصَرِفُ، فَيُصَلِّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَنْطَلِقُ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَيَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَكَانَ إِذَا صَدَرَ عَنِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ أَنَاخَ بِالْبَطْحَاءِ الَّتِى بِذِى الْحُلَيْفَةِ الَّتِى كَانَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، يُنِيخُ بِهَا. / 197 - وسُئِلَ عُبَيْدُاللَّهِ عَنِ الْمُحَصَّبِ، فَحَدَّثَنَا عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: نَزَلَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَعُمَرُ وَابْنُ عُمَرَ. وكَانَ ابْن عُمَرَ يُصَلِّى بِهَا، يَعْنِى(4/430)
بالْمُحَصَّبَ، الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، أَحْسِبُهُ قَالَ: وَالْمَغْرِبَ. قَالَ خَالِدٌ: لا أَشُكُّ فِى الْعِشَاءِ، وَيَهْجَعُ هَجْعَةً، وَيَذْكُرُ ذَلِكَ عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام. النزول بذى طوى قبل أن يدخل مكة، والنزول بالبطحاء التى بذى الحليفة عند رجوعه، ليس شيئًا من سنن الحج ومناسكه، فمن شاء فعلها، ومن شاء تركها.
4 - باب مَنْ نَزَلَ بِذِى طُوًى إِذَا رَجَعَ مِنْ مَكَّةَ
/ 198 - فيه: ابْن عُمَرَ، كَانَ إِذَا أَقْبَلَ بَاتَ بِذِى طُوًى حَتَّى إِذَا أَصْبَحَ دَخَلَ، وَإِذَا نَفَرَ، مَرَّ بِذِى طُوًى وَبَاتَ بِهَا حَتَّى يُصْبِحَ، وَكَانَ يَذْكُرُ أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ. وهذا أيضًا ليس من مناسك الحج، وإنما فيه استحباب دخول مكة نهارًا، وهو مذهب ابن عمر، واستحبه النخعى ومالك وإسحاق، وكانت عائشة تدخل مكة ليلا، وهو مذهب عمر بن عبد العزيز وسعيد بن جبير، وقال عطاء والثورى: إن شئت دخلتها نهارًا، وإن شئت دخلتها ليلا. قال ابن المنذر: وقد دخلها الرسول (صلى الله عليه وسلم) ليلا حين اعتمر من الجعرانة.
5 - باب التِّجَارَةِ فِى أَيَّامَ الْمَوْسِمِ وَالْبَيْعِ والشِراء فِى أَسْوَاقِ الْجَاهِلِيَّةِ
/ 199 - فيه: ابْن عَبَّاس، كَانَ ذُو الْمَجَازِ وَعُكَاظٌ مَتْجَرَ النَّاسِ فِى الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ الإسْلامُ كَأَنَّهُمْ كَرِهُوا ذَلِكَ حَتَّى نَزَلَتْ: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ) [البقرة: 198] فِى مَوَاسِمِ الْحَجِّ.(4/431)
ذكر إسماعيل بن إسحاق قال: حدثنا مسدد، حدثنا عبد الواحد ابن زياد، حدثنا العلاء بن المسيب، عن أبى أمامة التيمى قال: (كنت أكرى فى هذا الوجه وكان ناس يقولون: إنه ليس لك حج، فلقيت ابن عمر فسألته، فقال: أليس تحرم وتلبى، وتطوف بالبيت، وتفيض من عرفات، وترمى الجمار؟ قلت: بلى. قال: فإن لك حجًا، وإن رجلا سأل النبى عليه السلام عن مثل ما سألتنى عنه، فسكت عنه عليه السلام حتى نزلت هذه الآية: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ) [البقرة: 198] . وقال مجاهد فى هذه الآية: أحلت لهم التجارة فى المواسم، وكانوا لا يبيعون ولا يبتاعون بعرفة ولا بمنى فى الجاهلية. وقال قتادة: كانوا إذا أفاضوا من عرفات لم يتجروا ولم يتعرجوا على كسير ولا ضالة، فأحل الله لهم ذلك فأنزل الآية. وقال الطحاوى: أخبر ابن عباس أن هذه الآية نسخت ما كانوا عليه فى الجاهلية من ترك التبايع فى الحج، وأنهم كانوا لا يخلطونه بغيره، فأباحهم تعالى التجارة فى الحج وابتغاء فضله، ولم يكن ما دخلوا فيه من حرمة الحج قاطعًا لهم عن ذلك. ودل ذلك على أن الداخل فى حرمة الاعتكاف لا بأس عليه أن يتجر فى مواطن الاعتكاف منه، كما لم تمنعه حرمة الحج منه. وممن أجاز للمعتكف البيع والشراء الكوفيون والشافعى، وقال الثورى: يشترى الخبز إذا لم يكن له من يشتريه له. وبه قال أحمد، واختلف فيه عن مالك، فروى عنه ابن القاسم إجازة ذلك إذا كان يسيرًا، وروى عنه مثل قول الثورى، وكره ذلك عطاء ومجاهد والزهرى.(4/432)
6 - باب الادِّلاجِ مِنَ الْمُحَصَّبِ
/ 200 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: حَاضَتْ صَفِيَّةُ لَيْلَةَ النَّفْرِ، فَقَالَتْ: مَا أُرَانِى إِلا حَابِسَتَكُمْ. . . الحديث، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى لَمْ أَكُنْ حَلَلْتُ؟ قَالَ: (فَاعْتَمِرِى مِنَ التَّنْعِيمِ) ، فَخَرَجَ مَعَهَا أَخُوهَا، فَلَقِينَاهُ مُدَّلِجًا، فَقَالَ: (مَوْعِدُكِ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا) . وهذا ليس من مناسك الحج، ذكر عبد الرزاق قال: أخبرنا عمر ابن ذر، أنه سمع مجاهدًا يقول: (أناخ النبى عليه السلام ليلة النفر بالبطحاء ينتظر عائشة، وكره أن يقتدى الناس بإناخته، فبعث حتى أناخ على ظهر العقبة أو من ورائها ينتظرها) . قال الطبرى: الادلاج بتشديد الدال: الرحيل من المنزل بسحر. قال الأعشى: وادّلاج بعد المنام وتهجير والإِدْلاج بتخفيف الدال: الرحيل من المنزل فى أول الليل والسير فيه. قال الأعشى: وإِدْلاج ليل على غرة وهاجرة حرّها محتدم [أَبْوَاب الْعُمْرَةِ]
7 - باب وُجُوبِ الْعُمْرَةِ وَفَضْلِهَا
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَيْسَ أَحَدٌ إِلا وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، إِنَّهَا لَقَرِينَتُهَا فِى كِتَابِ اللَّهِ: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) [الحج: 196] . / 201 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلا الْجَنَّةُ) .(4/433)
اختلف الناس فى وجوب العمرة، فكان ابن عباس وابن عمر يقولان: هى واجبة فرضًا. وهو قول عطاء وطاوس والحسن وابن سيرين والشعبى، وإليه ذهب الثورى والشافعى وأحمد وإسحاق. وقال ابن مسعود: العمرة تطوع. وهو قول أبى حنيفة وأبى ثور، وقال النخعى: هى سنة. وهو قول مالك، قال: ولا يعلم لأحد الرخصة فى تركها. واحتج الذين أوجبوها فرضًا بقول الله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ) [البقرة: 196] ومعنى أتموا عندهم: أقيموا، قالوا: فإذا كان الإتمام واجبًا، فالابتداء واجب. قال ابن القصار: فيقال لهم: هذا غلط؛ لأن من أراد أن يفعل السنة فواجب أن يفعلها تامة، كمن أراد أن يصلى تطوعًا فيجب أن يكون على طهارة، وكذلك إذا أراد أن يصوم، فيلزمه التبييت، وكذلك من نذر صلاة وصومًا فقد أوجب على نفسه وإن لم تجب فى الأصل، فإذا دخل فى ذلك انحتم عليه تمامه حتى يصير بمنزلة ما ابتدأه لله، وما قالوه يبطل بالدخول فى عمرة ثانية وثالثة لأنه يجب المضى فيها، فلما أجمعنا أنه يجب عليه تمامها وإن لم يكن ابتداء الدخول فيها واجبًا سقط قولهم، واحتجوا بحديث ابن عمر أن النبى عليه السلام قال: (ليس أحد إلا عليه حجة وعمرة واجبتان) فالجواب: أن البخارى أوقفه على ابن عمر من قوله، فلا حجة فيه، ولو صح عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لكان ذكره للعمرة مقارنة الحج لا يدل على وجوبها، وإنما معناه الحض على هذا الجنس من العبادات، كما قال عليه السلام: (قال تعالى: الصوم لى، وأنا أجزى به) . وقال: (تابعوا بين الحج والعمرة) لما لم يدل على وجوب المتابعة،(4/434)
لم يدل على وجوب العمرة، وإنما أراد عليه السلام أن لهذا الجنس من العبادات فضلا على غيره. وقال الطحاوى: ليس فى قول ابن عمر أنها واجبة ما يدل أنها فريضة؛ لأنه قد يجوز أن يقول أنها واجبة على المسلمين وجوبًا عامًا يقوم به البعض، كوجوب الجهاد، أنه واجب على المسلمين وجوبًا، من قام به أجزأ عنهم، وكوجوب الجنائز وغسل الموتى، ويدل على هذا قول ابن عمر: إذا حللتم فشدوا الرحال للحج والعمرة؛ فإنهما أحد الجهادين؛ ألا ترى أنه شبههما بالجهاد الذى يقوم بفرضه بعضهم. وقوله عليه السلام: (بنى الإسلام على خمس) فذكر الحج ولم يذكر العمرة، فدل أنها ليست بفريضة؛ لأنها لو كانت فريضة ما وسعه عليه السلام السكوت عن ذكرها مع جملة الفرائض، وقوله: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما) يريد ما اجتنبت الكبائر (والحج المبرور) هو الذى لا رياء فيه ولا رفث ولا فسوق، ويكون بمال حلال والله أعلم.
8 - باب مَنِ اعْتَمَرَ قَبْلَ الْحَجِّ
/ 202 - فيه: ابْنَ عُمَرَ لا بَأْسَ بالْعُمْرَةِ قَبْلَ الْحَجِّ، اعْتَمَرَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ. قال المؤلف: قول ابن عمر هذا يدل أن مذهبه أن فرض الحج قد كان نزل على النبى عليه السلام قبل اعتماره، ولو اعتمر عليه السلام قبل نزول فرض الحج ما صح استدلال ابن عمر بهذا الكلام(4/435)
على جواز الاعتمار قبل الحج، والذى يتفرغ من هذا المعنى: هل فرض الحج على الفور ولا يجوز تأخيره، أو هل فيه فسحة وسعة؟ والذى نزع فيه ابن عمر هو الصحيح فى النظر، وهو الذى تعضده الأصول، أن فى فرض الحج سعة وفسحة؛ لأن العمرة لم يَجْرِ لها ذكر فى القرآن إلا والحج مذكور معها، ولذلك قال ابن عباس: إنها لقرينتها فى كتاب الله) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ) [البقرة: 196] ولو كان فرض الحج على الفور لم يجز فسخه فى عمرة، ولا أمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) أصحابه بذلك، ولو كان وقته مضيقًا لوجب إذا أخره إلى سنة أخرى أن يكون قضاء لا اداء، فلما ثبت أنه أداء فى أى وقت به، علم أنه ليس على الفور. وقد تقدم الكلام فى هذا المعنى فى باب (لا يطوف بالبيت عريان، ولا يحج مشرك) ، فى الجزء الأول من الحج، وسيأتى شىء منه فى قصة كعب بن عجرة حين آذاه هوامه وحلق رأسه بالحديبية إن شاء الله.
9 - باب كَمِ اعْتَمَرَ النَّبِىُّ عليه السَّلام
/ 203 - فيه: عُرْوَة، أنه سأل ابْن عُمَرَ كَمِ اعْتَمَرَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: أَرْبَعًا، إِحْدَاهُنَّ فِى رَجَبٍ. وَقَالَتْ عَائِشَةَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ، مَا اعْتَمَرَ عُمْرَةً إِلا وَهُوَ شَاهِدُهُ، وَمَا اعْتَمَرَ فِى رَجَبٍ قَطُّ. / 204 - وفيه: أَنَس، اعْتَمَرَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، أَرْبَعٌ: عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ فِى ذِى الْقَعْدَةِ، حَيْثُ صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ، وَعُمْرَةٌ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فِى ذِى الْقَعْدَةِ،(4/436)
حَيْثُ صَالَحَهُمْ، وَعُمْرَةُ الْجِعِرَّانَةِ إِذْ قَسَمَ غَنِيمَةَ حُنَيْنٍ، قُلْتُ: كَمْ حَجَّ؟ قَالَ: وَاحِدَةً، وَعُمْرَةً مَعَ حَجَّتِهِ. وقَالَ هَمَّام: اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ فِى ذِى الْقَعْدَةِ إِلا الَّتِى اعْتَمَرَ مَعَ حَجَّتِهِ. / 205 - وفيه: الْبَرَاء، اعْتَمَرَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، ثلاث عمرة. والرابعة إنما تجوز نسبتها إليه؛ لأنه أمر الناس بها، وعُملت بحضرته، لا أنه عليه السلام اعتمرها بنفسه، ويدل على صحة هذا القول أن عائشة ردت على ابن عمر قوله: وقالت: (ما اعتمر فى رجب قط) . وأما أنس فإنه لم يضبط المسألة ضبطًا جيدًا، وقد أنكر ذلك عليه ابن عمر حين ذكر له أن أنسًا حدث (أن النبى عليه السلام أهل بعمرة وحج، فقال ابن عمر: أهل النبى عليه السلام وأهللنا به) ذكره البخارى فى المغازى، ففى رد ابن عمر على أنس أن النبى عليه السلام اعتمر مع حجته، رد من ابن عمر على نفسه أيضًا، وقد جاء عن أنس نفسه خلاف قوله، وهو حديث مروان الأصفر عنه أن النبى عليه السلام قال لعلى: (لولا أن معى الهدى لأحللت) ذكره فى باب: من أهل فى زمن النبى عليه السلام كإهلال النبى (صلى الله عليه وسلم) . فامتناعه عليه السلام من الإحلال لأجل الهدى يدل أنه كان مفردًا للحج؛ لأنه اعتذر عن الفسخ فيه بالهدى، ولو كان قارنًا ما جاز أن يعتذر لاستحالة الفسخ على القارن، فكيف يجوز أن ينسب إليه عليه السلام أنه اعتمر مع حجته إلا على معنى أنه أمر بذلك من لم يكن معه هدى؟ هذا ما لا ريب فيه ولا شك، وروى عبد الرزاق، عن عمر ابن ذر، عن مجاهد، أنه قال: (اعتمر النبى عليه السلام ثلاثًا، كلهن فى ذى القعدة) وعن معمر، عن هشام بن عروة قال: (اعتمر النبى (صلى الله عليه وسلم) ثلاثًا) .(4/437)
0 - باب عُمْرَةٍ فِى رَمَضَانَ
/ 206 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (مَا مَنَعَكِ أَنْ تَحُجِّينَ مَعَنَا) ؟ قَالَتْ: كَانَ لَنَا نَاضِحٌ فَرَكِبَهُ أَبُو فُلانٍ وَابْنُهُ، لِزَوْجِهَا وَابْنِهَا، وَتَرَكَ نَاضِحًا نَنْضَحُ عَلَيْهِ، قَالَ: (فَإِذَا كَانَ رَمَضَانُ اعْتَمِرِى فِيهِ، فَإِنَّ عُمْرَةً فِى رَمَضَانَ حَجَّةٌ) . قوله: (فإن عمرة فيه كحجة) يدل أن الحج الذى ندبها إليه كان تطوعًا؛ لإجماع الأمة أن العمرة لا تجزئ من حجة الفريضة، فأمرها بذلك على الندب لا على الإيجاب. وقوله: (كحجة) يريد فى الثواب، والفضائلُ لا تدرك بقياس، والله يؤتى فضله من يشاء. والناضح: البعير أو الثور أو الحمار يربط به الرشاء يجره فيخرج الغرب، ويقال لها أيضًا: السانية.
1 - باب عُمْرَةِ التَّنْعِيمِ
/ 207 - فيه: عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ أَبِى بَكْرٍ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، أَمَرَهُ أَنْ يُرْدِفَ عَائِشَةَ، وَيُعْمِرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ. / 208 - وفيه: جَابِر، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، أَمَرَ عَبْدَالرَّحْمَنِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا إِلَى التَّنْعِيمِ، فَاعْتَمَرَتْ بَعْدَ الْحَجِّ فِى ذِى الْحَجَّةِ، وَأَنَّ سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكِ لَقِىَ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، وَهُوَ بِالْعَقَبَةِ، فَقَالَ: أَلَكُمْ هَذِهِ خَاصَّةً يَا رَسُولَ اللَّه؟ ِ قَالَ: (لا، بَلْ لِلأبَدِ) . فقه هذا الباب: أن المعتمر المكى لابد له من الخروج إلى الحِلِّ ثم يحرم منه؛ لأن التنعيم أقرب الحِلِّ، وشأن العمرة عند الجميع أن يجمع فيها بين حل وحرم، المكى وغيره، والعمرة زيارة، وإنما يزار(4/438)
الحرم من خارجه كما يزار المزور فى بيته من غير [. . . . . .] وتلك سنة الله فى عباده المعتمرين، وما بعد من الحل كان أفضل، ويجزئ أقل الحل وهو التنعيم. وقال الطحاوى: ذهب قوم إلى أن العمرة لمن كان بمكة لا وقت لها غير التنعيم، وجعلوا التنعيم خاصة وقتًا لعمرة أهل مكة، وقالوا: لاينبغى لهم أن يجاوزوه، كما لا ينبغى لغيرهم أن يجاوز ميقاتًا وقته لهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . وخالفهم فى ذلك آخرون، وقالوا: وقت أهل مكة الذى يحرمون منه بالعمرة: الحِلُّ، فمن أَىِّ الحِلِّ أحرموا أجزأهم ذلك، والتنعيم وغيره عندهم فى ذلك سواء، واحتجوا بأنه قد يجوز أن يكون النبى عليه السلام قصد إلى التنعيم فى ذلك؛ لأنه كان أقرب الحِلِّ منها، لا لأن غيره من الحل ليس هو فى ذلك كهو، فطلبنا الدليل على أحد القولين، فإذا يزيد بن سنان حدثنا قال: حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا أبو عامر صالح بن رستم، عن ابن أبى مليكة، عن عائشة قالت: (دخل علىَّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بسرف وأنا أبكى، فقال: (ما ذلك؟) قلت: حضت. قال: (فلا تبكى، اصنعى ما يصنع الحاج) . فقدما مكة ثم أتينا منى، ثم غدونا إلى عرفة، ثم رمينا الجمرة تلك الأيام، فلما كان يوم النفر ارتحل فنزل الحصبة، قالت: والله ما نزلها إلا من أجلى، فأمر عبد الرحمن فقال: (احمل أختك، فأخرجها من الحرم) قالت: والله ما ذكر الجعرانة ولا التنعيم فلتهل بعمرة، فكان أدنانا من الحرم التنعيم، فأهللت بعمرة، فطفنا بالبيت وسعينا بين الصفا والمروة، ثم أتينا فارتحل) .(4/439)
فأخبرت عائشة أن النبى عليه السلام لم يقصد لِما أراد أن يعمرها إلا إلى الحل، لا إلى موضع بعينه خاص، وأنه إنما قصد التنعيم؛ لأنه كان أقرب الحل إليهم، لا لمعنى آخر؛ فثبت أن وقت أهل مكة لِعُمَرِهم هو الحل، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه. وقال الطحاوى: سؤال سراقة للنبى عليه السلام يحتمل أن يكون أراد عمرتنا هذه فى أشهر الحج لعامنا هذا، ولا يفعل ذلك فيما بعد؛ لأنهم لم يكونوا يعرفون العمرة فيما مضى فى أشهر الحج، ويعدُّون ذلك من أفجر الفجور، أو للأبد، فقال رسول الله: (هى للأبد) أى: لكم أن تفعلوا ذلك أبدًا، وليس على أن لهم أن يحلوا من الحج قبل عرفة بطوافهم بالبيت وسعيهم بين الصفا والمروة، لِما تقدم منه أن الفسخ كان لهم خاصة، هكذا رواه جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر: (عمرتنا لعامنا هذا أو للأبد؟) وتابعه خصيف والأوزاعى جميعًا عن عطاء، عن جابر (أن سراقة قال للنبى عليه السلام: لكم هذه خاصة يا رسول الله؟ قال: لا، بل للأبد) . والمعنى فيهما واحد على ما فَسَّره الطحاوى.
2 - باب العمرة ليلة الحصبة وغيرها
/ 209 - فيه: عَائِشَةُ، خَرَجْنَا مَعَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) مُوَافِينَ لِهِلالِ ذِى الْحَجَّةِ، فَقَالَ لنا: (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِحَجَّةٍ فَلْيُهِلَّ) ، وَكُنْتُ مِمَّنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ. . . إلى قولها: فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ، أَرْسَلَ مَعِى عَبْدَالرَّحْمَنِ إِلَى التَّنْعِيمِ، فَأَرْدَفَهَا، فأهللت بِعُمرَة مَكَانَ عُمْرَتى.(4/440)
فقه هذا الباب: أن الحاج يجوز له أن يعتمر إذا تم حجه بعد انقضاء أيام التشريق، وليلة الحصبة: هى ليلة النفر الأخير؛ لأنها آخر أيام الرمى. وقد اختلف السلف فى العمرة بعد أيام الحج، فذكر عبد الرزاق بإسناده عن مجاهد قال: سئل عمر وعلى وعائشة عن العمرة ليلة الحصبة، فقال عمر: هى خير من لا شئ. وقال على: هى خير من مثقال ذرة. وقالت عائشة: العمرة على قدر النفقة. وعن عائشة أيضًا قالت: لأن أصوم ثلاثة أيام أو أتصدق على عشرة مساكين أحب إلى من أن أعتمر العمرة التى اعتمرت من التنعيم. وقال طاوس فيمن اعتمر بعد الحج: لا أدرى أتعذبون عليها أم تؤجرون. وقال عطاء بن السائب: اعتمرنا بعد الحج، فعاب ذلك علينا سعيد بن جبير. وأجاز ذلك آخرون. روى ابن عيينة، عن الوليد بن هشام قال: سألت أم الدرداء عن العمرة بعد الحج، فأمرتنى بها. وسُئل عطاء عن عُمرة التنعيم، قال: هى تامة وتجزئه. وقال القاسم بن محمد: عمرة المحرم تامة. وقد روى عن عائشة مثل هذا المعنى، قالت: تمت العمرة السنة كلها إلا يوم عرفة، ويوم النحر، ويومين من أيام التشريق. وقال أبو حنيفة: العمرة جائزة السنة كلها إلا يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق للحاج وغيره. ومن حديث عائشة فى هذا الباب استحب مالك ألا يعتمر حتى تغيب الشمس من آخر أيام التشريق؛ لأن النبى عليه السلام قد كان وَعَد عائشة بالعمرة وقال لها: (كونى فى حجك عسى الله أن يرزقكيهما) ولو استحب لها العمرة فى أيام التشريق لأمرها بالعمرة(4/441)
فيها، وبه قال الشافعى، وإنما كرهت العمرة فيها للحاج خاصة؛ لئلا يُدخل عملا على عمل؛ لأنه لم يكمل عمل الحج بعد، ومن أحرم بالحج فلا يحرم بالعمرة؛ لأنه لا تضاف العمرة إلى الحج عند مالك وطائفة من العلماء، وأما من ليس بحاج فلا يمنع من ذلك، فإن قيل: فقد روى أبو معاوية، عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة فى هذا الباب: (وكنت ممن أهل بعمرة) وروى مثله يحيى القطان عن هشام فى الباب بعد هذا، وهذا خلاف ما تقدم عن عائشة أنها أهلت بالحج. فالجواب: أنا قد قدمنا أن أحاديث عائشة فى الحج أشكلت على الأئمة قديمًا، فمنهم من جعل الاضطراب فيها جاء من قبلها، ومنهم من جعله جاء من قبل الرواة عنها، وقد روى عروة والقاسم والأسود وعمرة عن عائشة، أنها كانت مفردة للحج على ما بيناه فى باب: التمتع والقران والإفراد فى أول كتاب الحج، فالحكم لأربعة من ثقات أصحاب عائشة، فالصواب أن حمل ذلك على التضاد أولى من الحكم لرجلين من متأخرى رواة حديثها. وقد يحتمل قولها: (وكنت ممن أهل بعمرة) تأويلا ينتفى به التضاد عن الآثار، وذلك أن عَمْرَة روت عن عائشة أنها قالت: (خرجنا لخمس بقين من ذى القعدة مهلين بالحج، فلما دنونا من مكة. .) وقالت مرة: فنزلنا بسرف، قال النبى عليه السلام لأصحابه: (من لم يكن معه هدى فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل) . فأهلت عائشة حينئذ بعمرة، فحاضت قبل أن تطوف بالبيت طواف العمرة، فقالت للنبى عليه السلام: منعت العمرة، فأمرها عليه السلام برفض ذكر العمرة بأن تبقى على إحرامها بالحج الذى كانت أهلت به أولا، فمن روى عنها: (وكنت ممن أهل بعمرة حين دنوا من مكة) ممن رتب الحاديث على موطنها ومواضع ابتداء الإحرام؛(4/442)
بان له أن ما اختلف من ظاهر الآثار غير مخالف فى المعنى، وزال الإشكال عنها، والحمد لله. هذا معنى قول المهلب. وقولها: (مكان عمرتى) تريد عمرتى التى أحرمت بها من سرف، ثم مُنعتها من أجل الحيض.
3 - باب الاعْتِمَارِ بَعْدَ الْحَجِّ بِغَيْرِ هَدْيٍ
/ 210 - فيه: عَائِشَةُ، قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ الرسولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مُوَافِينَ لِهِلالِ ذِى الْحَجَّةِ، فَقَالَ، عليه السَّلام: (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِحَجَّةٍ فَلْيُهِلَّ، وَلَوْلا أَنِّى أَهْدَيْتُ لأهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ) ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ، وَكُنْتُ مِمَّنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، فَحِضْتُ قَبْلَ أَنْ أَدْخُلَ مَكَّةَ، فَأَدْرَكَنِى يَوْمُ عَرَفَةَ، وَأَنَا حَائِضٌ، فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (دَعِى عُمْرَتَكِ، وَانْقُضِى رَأْسَكِ، وَامْتَشِطِى، وَأَهِلِّى بِالْحَجِّ) ، فَفَعَلْتُ، فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ، أَرْسَلَ مَعِى عَبْدَالرَّحْمَنِ إِلَى التَّنْعِيمِ، فَأَرْدَفَهَا، فَأَهَلَّتْ بِعُمْرَةٍ مَكَانَ عُمْرَتِهَا فَقَضَى اللَّهُ حَجَّهَا وَعُمْرَتَهَا، وَلَمْ يَكُنْ فِى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ هَدْىٌ وَلا صَدَقَةٌ وَلا صَوْمٌ. قال المهلب: قولها: (خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) موافين لهلال ذى الحجة) إنما هو بمعنى المقاربة؛ لأنه قد صح عنها أنها قالت: (خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لخمس بقين من ذى القعدة) والخمس قريب من آخر الشهر، فوافاهم الهلال فى الطريق، وقولها: (فأدركنى يوم عرفة وأنا حائض) وقالت فى رواية القاسم: (وطهرت حين قدمنا منى، صبيحة ليلة عرفة يوم النحر بمنى) وقولها: (لم يكن فى شىء من ذلك هدى) لأن عمرتها بعد انقضاء عمل الحج. ولا خلاف بين العلماء أن من اعتمر بعد انقضاء عمل الحج وخروج أيام التشريق أنه لا هدى عليه فى عمرته؛ لأنه ليس بمتمتع، وإنما المتمتع من اعتمر فى أشهر الحج وطاف لعمرته قبل الوقوف بعرفة، وأما من اعتمر بعد يوم(4/443)
النحر فقد وقعت عمرته فى غير أشهر الحج، فلذلك ارتفع حكم الهدى عنها، والصحيح من قول مالك أن أشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر من ذى الحجة. ولم يكن عليها أيضًا فى حجتها هدى؛ لأنها كانت مفردة على ما روى عنها القاسم والأسود وعمرة، ولم يأخذ مالك بقولها فى آخر الحديث: (ولم يكن فى شىء من ذلك هدى) لأنها كانت عنده فى حكم القارنة، ولزمها لذلك هدى القران، ولا أخذ بذلك أبو حنيفة أيضًا؛ لأنها كانت عنده رافضة لعمرتها، والرافضة عنده عليها دم للرفض، وعليها عمرة. وقوله: (فقضى الله حجها وعمرتها، ولم يكن فى ذلك هدى ولا صوم ولا صدقة) ليس من لفظ عائشة، وإنما هو لفظ هشام بن عروة، لم يذكر ذلك أحد غيره، ولا تقول به الفقهاء، وقد تقدم مذاهب الفقهاء فى قوله: (انقُضى رأسك وامتشطى) فى باب كيف تهل الحائض والنفساء. فأغنى عن إعادته.
4 - باب الْمُعْتَمِرِ إِذَا طَافَ طَوَافَ الْعُمْرَةِ ثُمَّ خَرَجَ هَلْ يُجْزِئُهُ مِنْ طَوَافِ الْوَدَاعِ
/ 211 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: خَرَجْنَا مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ فِى أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَحُرُمِ. . . إلى قوله: حَتَّى نَفَرْنَا مِنْ مِنًى وَنَزَلْنَا الْمُحَصَّبَ، فَدَعَا عَبْدَالرَّحْمَنِ، فَقَالَ: (اخْرُجْ بِأُخْتِكَ الْحَرَمَ، فَلْتُهِلَّ بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ افْرُغَا مِنْ طَوَافِكُمَا، أَنْتَظِرْكُمَا هَاهُنَا) ، فَأَتَيْنَا فِى جَوْفِ اللَّيْلِ، فَقَالَ: (فَرَغْتُمَا) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَنَادَى بِالرَّحِيلِ فِى أَصْحَابِهِ، فَارْتَحَلَ النَّاسُ.(4/444)
لا خلاف بين العلماء أن المعتمر إذا طاف وخرج إلى بلده أنه يجزئه من طواف الوداع، كما فعلت عائشة، وأما إن أقام بمكة بعد عمرته ثم بدا له أن يخرج منها، فيستحبون له طواف الوداع.
5 - باب أَجْرِ الْعُمْرَةِ عَلَى قَدْرِ النَّصَبِ
/ 212 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَصْدُرُ النَّاسُ بِنُسُكَيْنِ، وَأَصْدُرُ بِنُسُكٍ، فَقِيلَ لَهَا: (انْتَظِرِى، فَإِذَا طَهُرْتِ، فَاخْرُجِى إِلَى التَّنْعِيمِ، فَأَهِلِّى، ثُمَّ ائْتى مَكَانِ كَذَا، وَلَكِنَّهَا عَلَى قَدْرِ نَفَقَتِكِ، أَوْ نَصَبِكِ) . أفعال البر كلها الأجر فيها على قدر المشقة والنفقة، ولهذا استحب مالك وغيره الحج راكبًا، ومصداق هذا فى كتاب الله قوله: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِى سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) [التوبة: 20] وفى هذا فَضْل الغنى وإنفاق المال فى الطاعات، ولما فى قمع النفس عن شهواتها من المشقة على النفس، وَعَدَ الله تعالى الصابرين على ذلك: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10] .
6 - باب يَفْعَلُ فِى الْعُمْرَةِ مَا يَفْعَلُ فِى الْحَجِّ
/ 213 - فيه: يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِىَّ، عليه السَّلام، وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ وَعَلَيْهِ أَثَرُ الْخَلُوقِ، أَوْ قَالَ: صُفْرَةٌ، فَقَالَ: كَيْفَ تَأْمُرُنِى أَنْ أَصْنَعَ فِى عُمْرَتِى؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى الرسول (صلى الله عليه وسلم) فَسُتِرَ بِثَوْبٍ، فَلَمَّا سُرِّىَ(4/445)
عَنْهُ، قَالَ: (أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ الْعُمْرَةِ؟ اخْلَعْ عَنْكَ الْجُبَّةَ، وَاغْسِلْ أَثَرَ الْخَلُوقِ عَنْكَ، وَأَنْقِ الصُّفْرَةَ، وَاصْنَعْ فِى عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِى حَجِّكَ) . / 214 - وفيه: هِشَامِ، قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) [البقرة: 158] الحديث، وقَالَ هِشَامٍ: مَا أَتَمَّ اللَّهُ حَجَّ امْرِئٍ وَلا عُمْرَتَهُ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. قوله عليه السلام: (اصنع فى عمرتك كما تصنع فى حجك) . هذا مما لفظه العموم والمراد به الخصوص، يدل على ذلك أن المعتمر لا يقف بعرفة، ولا يرمى جمرة العقبة، ولا يعمل شيئًا من عمل الحج غير الطواف بالبيت والسعى بين الصفا والمروة، وإنما أمره عليه السلام أن يصنع فى عمرته مثل ما يصنع فى حجه ن اجتناب لباس المخيط واستعمال الطيب، وأعلمه أن جميع ما يحرم على الحاج بالإحرام يحرم مثله على المعتمر بالإحرام، كالصيد والنساء وغير ذلك.
7 - باب مَتَى يَحِلُّ الْمُعْتَمِرُ؟
وَقَالَ عَطَاءٌ، عَنْ جَابِرٍ: أَمَرَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، أَصْحَابَهُ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، وَيَطُوفُوا، ثُمَّ يُقَصِّرُوا، وَيَحِلُّوا. / 215 - فيه: ابْن أَبِى أَوْفَى، اعْتَمَرَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، وَاعْتَمَرْنَا مَعَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ، طَافَ وَطُفْنَا مَعَهُ، وَأَتَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ وَأَتَيْنَاهَا مَعَهُ، وَكُنَّا نَسْتُرُهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يَرْمِيَهُ أَحَدٌ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبٌ لِى: أَكَانَ دَخَلَ الْكَعْبَةَ؟ قَالَ: لا، وَقَالَ: (بَشِّرُوا خَدِيجَةَ بِبَيْتٍ مِنَ الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، لا صَخَبَ فِيهِ وَلا نَصَبَ) .(4/446)
/ 216 - وفيه: ابْن عُمَرَ، سُئل عن رَجُلٍ طَافَ بِالْبَيْتِ فِى عُمْرته، وَلَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، أَيَأْتِى امْرَأَتَهُ؟ فَقَالَ: قَدِمَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، وَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا، وَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، وقَالَ جَابِر: لا يَقْرَبَنَّهَا حَتَّى يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. / 217 - وفيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى النَّبِىِّ، عليه السَّلام، وَهُوَ مُنِيخٌ، بِالْبَطْحَاءِ، فَقَالَ: (أَحَجَجْتَ) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ؟ قَالَ: (بِمَا أَهْلَلْتَ) ؟ قُلْتُ: لَبَّيْكَ بِإِهْلالٍ كَإِهْلالِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، قَالَ: (أَحْسَنْتَ، طُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ أَحِلَّ) ، فَطُفْتُ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ أَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ قَيْسٍ، فَفَلَتْ رَأْسِى، ثُمَّ أَهْلَلْتُ بِالْحَجِّ، فَكُنْتُ أُفْتِى بِهِ حَتَّى كَانَ فِى خِلافَةِ عُمَرَ، فَقَالَ: إِنْ أَخَذْنَا بِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُنَا بِالتَّمَامِ، وَإِنْ أَخَذْنَا بِقَوْلِ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) فَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ. / 218 - فيه: أَسْمَاءَ قَالَتْ كُلَّمَا مَرَّتْ بِالحَجُونِ: (صلى الله عليه وسلم) لَقَدْ نَزَلْنَا مَعَهُ هَاهُنَا، وَنَحْنُ يَوْمَئِذٍ خِفَافٌ، قَلِيلٌ ظَهْرُنَا، قَلِيلَةٌ أَزْوَادُنَا، فَاعْتَمَرْتُ أَنَا وَأُخْتِى عَائِشَةُ وَالزُّبَيْرُ وَفُلانٌ وَفُلانٌ، فَلَمَّا مَسَحْنَا الْبَيْتَ أَحْلَلْنَا، ثُمَّ أَهْلَلْنَا مِنَ الْعَشِىِّ بِالْحَجِّ. اتفق أئمة الفتوى على أن المعتمر يحل من عمرته إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وإن لم يكن حلق ولا قصر، على ما جاء فى هذا الحديث، ولا أعلم فى ذلك خلافًا، إلا شذوذًا روى عن ابن عباس أنه قال: العمرة الطواف. وتبعه عليه إسحاق بن راهويه، والحجة فى السنة لا فى خلافها. واحتج الطبرى بحديث أبى موسى على من زعم أن المعتمر إذا كمل عمرته ثم جامع قبل أن يحلق أنه مفسد لعمرته، قال: ألا ترى قوله(4/447)
عليه السلام لأبى موسى: (طف بالبيت وبين الصفا والمروة، وقصر من شعرك واحلق ثم أحل) فبين بذلك أن التقصير والحلق ليسا من النسك، وإنما هما من معانى الإحلال، كما لبس الثياب والطيب بعد طواف المعتمر بالبيت وسعيه بين الصفا والمروة من معانى إحلاله، وكذلك إحلال الحاج من إحرامه بعد رميه جمرة العقبة، لا من نسكه، فبيّن فساد قول من زعم أن من جامع من المعتمرين قبل التقصير من شعره أو الحلق، ومن بعد طوافه بالبيت وبين الصفا والمروة أنه مفسد عمرته، وهو قول الشافعى، قال ابن المنذر: ولا أحفظ ذلك عن غيره. وقال مالك والثورى والكوفيون: عليه الهدى. وقال عطاء: يستغفر الله ولا شىء عليه. قال الطبرى: وفى حديث أبى موسى بيان فساد قول من قال: إن المعتمر إن خرج من الحرم قبل أن يقصر من شعره أو يحلق أن عليه دمًا، وإن كان قد طاف بالبيت وبين الصفا والمروة قبل خروجه منه، وفيه أيضًا أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) إنما أذن لأبى موسى بالإحلال من عمرته بعد الطواف بالبيت والسعى بين الصفا والمروة، فبان بذلك أن من حل منهما قبل ذلك فقد أخطأ وخالف سنته عليه السلام، واتضح به فساد قول من زعم أن المعتمر إذا دخل الحرم فقد حل من إحرامه، وله أن يلبس ويتطيب ويعمل ما يعمل الحلال، وهو قول ابن عمر وابن المسيب وعروة والحسن، وصح أنه مَنْ حل مِنْ شىء كان عليه حرامًا قبل ذلك فعليه الجزاء والفدية. واختلف العلماء إذا وطئ المعتمر قبل طوافه بالبيت وقبل أن يسعى بين الصفا والمروة، فقال مالك والشافعى وأحمد وأبو ثور: عليه الهدى وعمرة أخرى مكانها، ويتم التى أفسد. ووافقهم أبو حنيفة إذا جامع بعد طواف ثلاثة أشواط، وقال: إذا جامع بعد أربعة أشواط بالبيت أنه يقضى ما بقى من عمرته، وعليه دم، ولا شىء عليه.(4/448)
وهذا تحكم لا دليل عليه إلا الدعوى، وحجة مالك ومن وافقه حديث ابن أبى أوفى أن النبى عليه السلام اعتمر مع أصحابه ولم يحلوا حتى طافوا وسعوا بين الصفا والمروة، ولذلك أمر النبى عليه السلام أيضًا أبا موسى الشعرى قال له: (طف بالبيت وبين الصفا والمروة وأحل) فوجب الاقتداء بسنته واتباع أمره، وقال: (خذوا عنى مناسككم) . وقد فهم الصحابة الذين تلقوا عنه السنة قولا وعملا هذا المعنى، فقال جابر وابن عمر: لا يقرب امرأته حتى يطوف بين الصفا والمروة. واحتج ابن عمر فى ذلك بفعل النبى عليه السلام وإن كان عليه السلام غير معتمر، فمعنى ذلك أنه لم يُدخل بين الصواف والسعى عملا، ولا أباحه للمعتمرين الذين أمرهم بالإحلال حتى وصلوا سعيهم بطوافهم، وكذلك حلوا بمسيس الناسء والطيب وغير ذلك والله الموفق. قال المهلب: قولها: (فاعتمرت أنا واختى عائشة) . بالإحرام بعمرة حين أمرهم عليه السلام أن يجعلوا إحرامهم بالحج عمرة، فثبتت أسماء على عمرتها، وحاضت عائشة فلم تطف بالبيت، وأمرها النبى عليه السلام أن ترفض ذكر العمرة، وأن تكون على ما كانت أبدأت الإحرام به من ذى الحليفة من الحج، وتركت العمرة التى كانت أحلت بها من سرف، فأخبرت أسماء عن نفسها وعن الزبير وفلان وفلان الذين أحلوا بمسح البيت بعمرة، ولم يدل ذلك أن عائشة مسحت البيت معهم؛ لثبوت أنها حاضت فمنعت العمرة، وقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) لها: (كونى على حجك عسى الله أن يرزقكيها غير ألا تطوفى بالبيت) ومثله قول ابن عباس فى حرمة(4/449)
الفسخ: طفنا بالبيت وأتينا النساء. لأنه كان فى حجة الوداع صغيرًا قد ناهز الحلم، وقد قال: توفى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأنا ابن عشر سنين. فكان فى حجة الوداع ابن ثمان أو نحوها ممن لا يأتى النساء، وكذلك قالت عائشة فى حديث الأسود: فلما قدمنا تطوفنا بالبيت. وهى لم تطف بالبيت حتى طهرت ورجعت من عرفة؛ لأنها قالت فيه: ونساؤه لم يسقن الهدى فأحللن، فحضت فلم أطف بالبيت. بعد أن قالت: تطوفنا. وعلى هذا التأويل يخرج قول من قال: (تمتع رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) وتمتعنا معه) يعنى: تمتع بأن أمر بذلك والله أعلم وقد تقدم معنى قولها: (فما مسحنا البيت أحللنا) يريد بعد السعى بين الصفا والمروة، وعلى ذلك تأوله الفقهاء.
8 - باب مَا يَقُولُ إِذَا رَجَعَ مِنَ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ أَوِ الْغَزْوِ
/ 219 - فيه: ابْن عُمَرَ، كَانَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، إِذَا قَفَلَ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمرةٍ أَوْ غزْوِ يُكَبِّرُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ مِنَ الأرْضِ ثَلاثَ تَكْبِيرَاتٍ، ثُمَّ يَقُولُ: (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، آيِبُونَ تَائِبُونَ، عَابِدُونَ سَاجِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأحْزَابَ وَحْدَهُ) . فيه من الفقه: استعمال حمد الله تعالى والإقرار بنعمته، والخضوع له، والثناء عليه عند القدوم من الحج والجهاد على ما وهب من تمام المناسك، وما رزق من النصرة على العدو، والرجوع إلى الوطن سالمين، وكذلك يجب إحداث الحمد لله والشكر له على ما(4/450)
يحدث على عباده من نعمه، فقد رضى من عباده بالإقرار له بالوحدانية، والخضوع له بالربوبية، والحمد والشكر عوضًا مما وهبهم من نعمه تفضلا عليهم ورحمة لهم. وفى هذا الحديث بيان أن نهيه عليه السلام عن السجع فى الدعاء أنه على غير التحريم؛ لوجود السجع فى دعائه ودعاء أصحابه، فيحمل أن يكون نهيه عن السجع يتوجه إلى حسن الدعاء خاصة، خشية أن يشتغل الداعى بطلب الألفاظ وتعديل الأقسام عن إخلاص النية وإفراغ القلب فى الدعاء والاجتهاد فيه، وسأزيد فى بيان هذا المعنى فى باب: ما يكره من السجع فى الدعاء. فى كتاب الدعاء إن شاء الله.
9 - باب اسْتِقْبَالِ الْحَاجِّ الْقَادِمِينَ وَالثَّلاثَةِ عَلَى الدَّابَّةِ
/ 220 - فيه: ابْن عَبَّاس، لَمَّا قَدِمَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، مَكَّةَ اسْتَقْبَلَتْهُ أُغَيْلِمَةُ بَنِى عَبْدِالْمُطَّلِبِ، فَحَمَلَ وَاحِدًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَآخَرَ خَلْفَهُ. فيه من الفقه: جواز تلقى القادمين منالحج تكرمة لهم وتعظيمًا؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم ينكر تلقيهم له، بل سُرَّ به لحمله لهم بين يديه وخلفه، ويدخل فى معنى ذلك من قدم منالجهاد أو من سفر فيه طاعة لله، فلا بأس بالخروج إليه وتلقيه، تأنسًا له وصلةً. قال المهلب: وفيه رد قول من يقول: لا يجوز ركوب ثلاثة على دابة، وإنما أصل هذا ألا يكلف الدابة حمل ما لا تطيق، أو ما تطيقه بمشقة ظاهرة، فإذا أطاقت حمل ثلاثة وأربعة جاز ركوبها. وسيأتى اختلاف العلماء فى ركوب الثلاثة على الدابة فى آخر كتاب الزينة، فإنه ترجم لهذا الحديث باب: الثلاثة على الدابة.(4/451)
0 - باب الْقُدُومِ بِالْغَدَاةِ
/ 221 - فيه: ابْن عُمَرَ، كَانَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، إِذَا خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ يُصَلِّى فِى مَسْجِدِ الشَّجَرَةِ، وَإِذَا رَجَعَ صَلَّى بِذِى الْحُلَيْفَةِ بِبَطْنِ الْوَادِى، وَبَاتَ حَتَّى يُصْبِحَ. إنما اختار عليه السلام القدوم بالغداة والله أعلم ليتقدم خبره إلى أهله، ويتأهبوا للقائه، فيقدم على ذلك، والله أعلم.
1 - باب الدُّخُولِ بِالْعَشِيِّ
الدخول بالعشى مباح، وإنما الذى نهى عنه عليه السلام عن أن يطرق القادمُ أهلَهُ.
2 - باب لا يَطْرُقُ أَهْلَهُ إِذَا بَلَغَ الْمَدِينَةَ
/ 222 - فيه: جَابِرٍ، قَالَ: نَهَى الرسول (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يَطْرُقَ أَهْلَهُ لَيْلا. قد جاء فى الحديث بيان المعنى الذى من أجله نهى الرسول عن هذا، وهى تممتشط الشعثة، وتستحد المغيبة، كراهية أن يهجم منها على ما يقبح عنده اطلاعه عليه، فيكون سببًا إلى شنآنها وبغضها، فنبههم عليه السلام على ما تدوم به الألفة بينهم، ويتأكد به المحبة، فينبغىلمن أراد الأخذ بأدب نبيه أن يتجنب مباشرة أهله فى حال البذاذة وغير النظافة، وألا يتعرض لرؤية عورة يكرها منها، ألا ترى أن الله تعالى أمر من لا يبلغ الحلم بالاستئذان قبل صلاة الفجر ووقت الظهيرة وبعد العشاء؛ لما كانت هذه أوقات التجرد والخلوة، خشية الاطلاع على العورات وما يكره النظر إليه، وروى(4/452)
عن ابن عباس أنه قال: آية لم يؤمن بها أكثر الناس؛ آية الإذن، وإنى لآمر جاريتى هذه أن تستأذن على.
3 - باب مَنْ أَسْرَعَ نَاقَتَهُ إِذَا بَلَغَ الْمَدِينَةَ
/ 223 - فيه: أَنَس، كَانَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، فَأَبْصَرَ دَرَجَاتِ الْمَدِينَةِ أَوْضَعَ نَاقَتَهُ، وَإِنْ كَانَتْ دَابَّةً حَرَّكَهَا. وقَالَ إِسْمَاعِيلُ، عَنْ حُمَيْدٍ، (جُدُرَاتِ) . قوله: (من حبها) يعنى لأنها وطنه، وفيها أهله وولده الذين هم أحب الناس إليه، وقد جبل الله النفوس على حب الأوطان والحنين إليها، وفعل ذلك عليه السلام، وفيه أكرم الأسوة، وأمر أمته سرعة الرجوع إلى أهلهم عند انقضاء أسفارهم.
4 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا) [البقرة: 189]
/ 224 - فيه: الْبَرَاءَ، قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِينَا، كَانَتِ الأنْصَارُ إِذَا حَجُّوا فَجَاءُوا لَمْ يَدْخُلُوا مِنْ قِبَلِ أَبْوَابِ بُيُوتِهِمْ وَلَكِنْ مِنْ ظُهُورِهَا، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ، فَدَخَلَ مِنْ قِبَلِ بَابِهِ، فَكَأَنَّهُ عُيِّرَ بِذَلِكَ فَنَزَلَتْ: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا) [البقرة: 189] . وقال مجاهد فى هذه الآية: كان المشركون إذا أحرم الرجل منهم(4/453)
ثقب كوة فى ظهر بيته وجعل سلمًا، فجعل يدخل منها. وقال معمر عن الزهرى: كان الأنصار إذا أهلوا بالعمرة لم يحل بينهم وبين السماء شىء يتحرجون من ذلك، وكان الرجل حين يخرج مهلا بالعمرة، فتبدو له الحاجة بعد ما يخرج من بيته فيرجع، لا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف الباب أن يحول بينه وبين السماء، فيقتحم الجدار من ورائه، حتى بلغنا أن النبى عليه السلام أهل من الحديبة بالعمرة فدخل حجرته، فدخل رجل من الحمس من ورائه، فقال له الأنصار، فقال: أنا أحمسى. فقال: وأنا على دينك؛ لأن الحمس كانت لا تبالى ذلك؛ فأنزل الله: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا) [البقرة: 189] .
5 - باب السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ
/ 225 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ، عليه السَّلام: (السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ، يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَنَوْمَهُ، فَإِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ، فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ) . فيه: حض وندب على سرعة رجوع المسافر إلى أهله عند انقضاء حاجته، وقد بين عليه السلام المعنى فى ذلك بقوله: (يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه) فامتناع هذه الثلاثة التى هى أركان الحياة مع ما ينضاف إليها من شقة السفر وتعبه، هو العذاب إلى أشار إليه، ولذلك قال عليه السلام: (فإذا قضى أحدكم نهمته فليرجع إلى أهله) لكى يتعوض من ألم ما ناله، من ذلك الراحة والدعة فى أهله، والعرب تشبه الرجل فى أهله بالأمير، وقيل فى قوله: (وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا) [المائدة: 20] قال: من كان له دار وخادم فهو داخل فى معنى الآية.(4/454)
وقد أخبر الله تعالى بلطف محل الأزواج من أزواجهن بقوله: (وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً) [الروم: 21] فقيل: المودة: الجماع، والرحمة: الولد. فإن قيل: فقد روى ابن عمر وابن عباس، عن النبى عليه السلام أنه قال: (سافروا تصِحُوا وتغنموا) وهو مخالف لحديث أبى هريرة. قيل: لا خلاف بين شىء من ذلك، وليس كون السفر قطعة من العذاب بمانع أن يكون فيه منفعة ومصحة لكثير من الناس؛ لأن فى الحركة والرياضة منفعة، ولا سيما لأهل الدعة والرفاهية، كالدواء المرّ المُعْقِب للصحة وإن كان فى تناوله كراهية، فلا خلاف بين الحديثين. قال أبو محمد الأصيلى: انفرد مالك بهذا الحديث عن سُمَىٍّ وقال: هؤلاء أهل العراق يسألوننى عنه. قيل له: لأنك انفردت به. قال: لو أعلم أنى انفردت به ما حدثت به.
6 - باب الْمُسَافِرِ إِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ يُعَجِّلُ إِلَى أَهْلِهِ
/ 226 - فيه: ابْن عُمَرَ، أنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِى عُبَيْدٍ شِدَّةُ وَجَعٍ، فَأَسْرَعَ السَّيْرَ حَتَّى كَانَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّفَقِ، نَزَلَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعَتَمَةَ جَمَعَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ قَالَ: إِنِّى رَأَيْتُ الرسول (صلى الله عليه وسلم) إِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا. فيه: جواز الإسراع على الدواب عند الحاجة تَعْرِضُ، ولا سيما عند خبرٍ مقلق يبلغه عن أهله.(4/455)
7 - باب المحصر وجزاء الصيد وَقَوْلِهِ: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ) [البقرة: 196] وَقَالَ عَطَاءٌ: الإحْصَارُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يَحْبِسُهُ
. الإحصار: ينقسم قسمين: فإحصار بعدو، وإحصار بمرض، وأصل الإحصار فى اللغة: المنع والحبس، واختلف فى ذلك أهل اللغة، فقال بعضهم: يقال من العدو: حُصِرَ، فهو محصور، ويقال من المرض: أُحصِر، فهو محصر هذا قول الكسائى وأبى عبيد، ذكره ابن القصار. وقال بعضهم: يقال: أحصر من المرض ومن العَدوّ ومن كل شىء حبس الحاج، كما قال عطاء، وهو قول النخعى والثورى والكوفيين، وهو قول الفراء وأبى عمرو، والحجة لذلك قول الله تعالى: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) [البقرة: 196] وإنما نزلت هذه الآية بالحديبية، وكان حبسهم يومئذٍ بالعدو، قال أبو عمرو: يقالُ: حَصرنى الشىء وأحصرنى: حبسنى. وحكم الإحصار بعدو مخالف لحكم الإحصار بمرض عند جمهور العلماء على ما يأتى بيانه بعد هذا إن شاء الله.
8 - باب إِذَا أُحْصِرَ الْمُعْتَمِرُ
/ 227 - فيه: ابْن عُمَرَ، أنَّهُ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ مُعْتَمِرًا فِى الْفِتْنَةِ، فَقَالَ: إِنْ صُدِدْتُ عَنِ الْبَيْتِ صَنَعْتُ كَمَا صَنَعْنَا مَعَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، فَأَهَلَّ بِعُمْرَةٍ مِنْ أَجْلِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ. / 228 - وقال أيضًا: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ(4/456)
دُونَ الْبَيْتِ، فَنَحَرَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، هَدْيَهُ، وَحَلَقَ رَأْسَهُ، وَأُشْهِدُكُمْ أَنِّى قَدْ أَوْجَبْتُ الْعُمْرَةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَنْطَلِقُ فَإِنْ خُلِّىَ بَيْنِى وَبَيْنَ الْبَيْتِ طُفْتُ، وَإِنْ حِيلَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ فَعَلْتُ كَمَا فَعَلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَأَنَا مَعَهُ، فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ مِنْ ذِى الْحُلَيْفَةِ، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّمَا شَأْنُهُمَا وَاحِدٌ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّى قَدْ أَوْجَبْتُ حَجَّةً مَعَ عُمْرَتِى) ، فَلَمْ يَحِلَّ مِنْهُمَا حَتَّى حَلَّ يَوْمَ النَّحْرِ وَأَهْدَى، وَكَانَ يَقُولُ لا يَحِلُّ حَتَّى يَطُوفَ طَوَافًا وَاحِدًا يَوْمَ يَدْخُلُ مَكَّةَ. / 229 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَدْ أُحْصِرَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) فَحَلَقَ وحل مع نِسَاءَهُ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ، حَتَّى اعْتَمَرَ عَامًا قَابِلا عوضه. فى هذه الترجمة: رَدُّ قول من يقول أن من أحصر فى العمرة بعدوٍّ أنه لابد له من الوصال إلى البيت والاعتمار؛ لأن السَّنَةَ كُلَّها وقت للعمرة بخلاف الحج، ولا إحصار فى العمرة، ويقيم على إحرامه أبدًا، وهو قول لبعض السلف، وهو مخالف لفعل الرسول (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأنه كان مُعْتمرًا بالحديبية وهو وجميع أصحابه حَلُّوا دون البيت، والفقهاء على خلافه، حكم الإحصار فى الحج والعمرة عندهم سواء. واختلف فيمن أحصر بعدو، فقال مالك والشافعى: لا حصر إلا حصر العدو. وهو قول ابن عباس وابن عمر، ومعنى ذلك أنه لا يحل للمحصر أن يحل دون البيت إلا من حَصَره العدو، كما فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وكان حصره بالعدو، واحتج الشافعى فقال: على الناس إتمام الحج والعمرة، ورخص الله فى الإحلال للمحصر بعدو، فقلنا فى كُلٍّ بأَمْر الله، ولم نَعْدُ بالرخصة موضعها، كما لم نَعْدُ بالرخصة المسح على الخفين، ولم نجعل عمامة ولا قفازين قياسًا على الخفين. وخالف الشافعى مالكًا فأوجب عليه الهدى، ينحره فى المكان الذى(4/457)
حُصر فيه وقد حَلَّ، كما فعل النبى عليه السلام بالحديبية، وهو قول أشهب، وقال أبو حنيفة: الهدى واجب عليه أن ينحره فى الحرم وقد حَلَّ. واحتجوا بإيجاب الهدى عليه بقوله تعالى: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ) [البقرة: 196] الآية فأجابهم الكوفيون أن هذا إحصار مرض، ولو كان إحصار عدو لم يكن فى نحر أهل الحديبية حجة؛ لأن ما كان معهم من الهدى لم يكونوا ساقوه لما عرض لهم من حصر العدو؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يعلم حين قلده أنه يُصَد، وإنما ساقه تطوعًا، فلما صُد أخبر الله تعالى عن صدهم وحبسهم الهدى عن بلوغ محله، وكيف يجوز أن ينوب هدى قد ساقه عليه السلام قبل أن يُصَدَّ عن دم وجب بالصَّدِّ، ولم يأمرهم عليه السلام بدمٍ لحصرهم، قاله جابر بن عبد الله، ولو وجب عليهم الهدى لأمرهم به كما أمرهم بالحلق الذى وجب عليهم، فكيف يُنقل الحلق ولا يُنقل إيجاب الهدى، وهو يحتاج إلى بيان من معه هدى ما حكمه؟ ومن لا هدى معه ما حكمه؟ وأما قول أبى حنيفة: ينحره فى الحرم، فقوله تعالى: (وَالْهَدْىَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) [الفتح: 25] يدل أن التقصير عن بلوغ المحل سواء كان ذلك فى الحل أو الحرم اسم التقصير واقع عليه إذا لم يبلغ مكة؛ لقوله تعالى: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة: 95] وقول ابن عمر: (إنما شأنهما واحد) يعنى: الحج والعمرة فى اجتناب ما يجتنبه المحرم بالحج وفى العمل لهما؛ لأن طوافًا واحدًا وسعيًا واحدًا يجزئ القارن عنده.(4/458)
واختلفوا فيمن أحصر بمرض، فقال مالك: لا يجوز لمن أحصر بمرض أن يحل دون البيت بالطواف والسعى الذى هو عمل العمرة، ثم عليه حج قابل والهدى. وهو قول الشافعى وأحمد وإسحاق، وروى عن ابن عمر وابن عباس. وقال أبو حنيفة: المحصر بالمرض الذى حيل بينه وبين البيت، وحكمه حكم المحصر بالعدو، فعليه أن يبعث بهديه إلى الحرم، فإذا عَلم أنه قد نُحر عنه حَلَّ فى مكانه من غير عمل عمرة، وإنما لم يَرَ عليه عمرة؛ لأنه محرم، والعمرة تحتاج إلى إحرام مستأنف، ولا يدخل إحرام على إحرام. وهو قول النخعى وعطاء والثورى. واحتجوا بحديث الحجاج بن أبى عثمان الصواف، عن يحيى بن أبى كثير قال: حدثنا عكرمة قال: حدثنى الحجاج بن عمرو قال: سمعت النبى عليه السلام يقول: (من كُسر أو عرج فقد حَلَّ) يحتمل أن يكون معناه: فقد حل له أن يحل إذا نحر الهدى فى الحرم، لا على أنه قد حَلَّ بذلك من إحرامه، كما يقال: حَلَّتْ فلانة للرجل، إذا خرجت من عدتها، ليس على معنى أنها قد حلت للأزواج، فيكون لهم وطؤها، ولكن على معنى أنهم قد حل لهم تزويجها، فيحل لهم حينئذٍ وطؤها. هذا سائغ فى الكلام، وهذا يوافق معنى حديث ابن عمر أن النبى عليه السلام لم يحل من عمرته بحصر العدو إياه حتى نحر الهدى، ومعنى هذا الحديث عند أهل المقالة الأولى (فقد حل) يعنى: إذا وصل البيت فطاف وسعى، حلا كاملا، وحَلَّ له بنفس الكسر والعرج أن يفعل ما شاء من إلقاء التفث ويفتدى، وليس للصحيح أن يفعل ذلك. فقال الترمذى: سألت البخارى عن هذا الحديث فقال: رواه(4/459)
عكرمة، عن عبد الله بن رافع، عن الحجاج بن عمرو، عن النبى عليه السلام وهو يروى عن عكرمة، عن الحجاج، قال إسماعيل بن إسحاق: وهذا إسناد صالح من أسانيد الشيوخ، ولكن أحاديث الثقات تضعفه. وذلك ما حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبى قلابة قال: خرجت معتمرًا حتى إذا كنت بالدثينة وقعت عن راحلتى فانكسرت، فأرسلت إلى ابن عباس وابن عمر فقالا: ليس لها وقت كوقت الحج، يكون عرى إحرامه حتى يصل إلى البيت. وحدثنا على، حدثنا سفيان قال عمرو: أخبرنى ابن عباس قال: لا حصر إلا حصر العدو. ورواه ابن جريح ومعمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس. قال إسماعيل: فقد بان بما رواه الثقات عن ابن عباس فى هذا الباب أنه خلاف لما رواه حجاج الصواف عن يحيى بن أبى كثير؛ لأن ابن عباس حصر الحصر بالعدو دون غيره، فبان أن مذهبه كمذهب ابن عمر. قال غيره: من الحجة لمالك فى أن المحصر بمرض لا يحله إلا البيت قوله تعالى: (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْىَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) [الفتح: 25] فأعلمنا تعالى أنهم حبسوا الهدى عن بلوغ محله، فينبغى أن يكون بلوغ محله شرطًا فيه مع القدرة عليه، وأما قوله: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة: 95] وقوله: (ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج: 33] . فالمخاطب بذلك: الآمن الذى يجد السبيل إلى(4/460)
الوصول إلى البيت، والمريض آمن يمكنه ذلك، وقول الكوفيين ضعيف وفيه تناقض؛ لأنهم لا يجيزون لمحصرٍ بعدوٍ ولا بمرضٍ أن يحل حتى ينحر فى الحرم، وإذا أجازوا للمحصر بمرض أن يبعث هديه، ويواعد حامله يومًا ينحره فيه فيلحق ويحل، أجازوا له الإحلال بالظنون، فالعلماء متفقون أنه لا يجوز لمن لزمه فرض أن يخرج منه بالظن، والدليل على أن ذلك ظن قولهم أنه لو عطب الهدى أو ضل أو سرق فحل مرسله، وأصاب النساء وصَادَ، أنه يعود حرامًا، وعليه جزاء ما صاد، وأباحوا له فساد الحج بالجماع، وألزموه ما يلزم من لم يحل من إحرامه، وهذا تناقض لا شك فيه. واحتج الكوفيون بحديث ابن عباس وقوله: (حتى اعتمر عامًا قابلا) فى وجوب قضاء الحج والعمرة على من أحصر فى أحدهما بعدو. وقال أهل الحجاز: معنى قوله: (حتى اعتمر عامًا قابلا) هو ما عقده معهم فى صلح الحديبية ألا يمنعوه البيت عامًا قابلا، ولا يحال بينهم وبينه، فإما أن يكون ما فعلوه من العُمَر قضاء عن عمرة الحديبية، ففيه التنازع فيحتاج إلى دليل، وسيأتى ما للعلماء فى ذلك فى باب: من قال ليس على المحصر بدل إن شاء الله. وقول ابن عباس: (قد أحصر رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) حجة على من قال: لا يقال: أحصره العدو، وإنما يقال: حصره العدو، وأحصره المرض، واحتج بقول ابن عباس: لا حصر إلا حصر العدو. واحتج به ابن القصار، فيقال له: هذا ابن عباس قد قال: (أحصر رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) وأجمع المسلمون أن النبى عليه السلام لم يُحصر بمرض، وإنما أحصر(4/461)
بعدو عام الحديبية، فثبت أنه قال: حصره العدو، وأحصره القتال، وقوله: (أشهدكم أنى قد أوجبت حجة مع عمرتى) فهو حجة لمن قال: إن الحج يرتدف على العمرة. روى معمر عن منصور، عن مالك بن الحارث قال: (لقيت عليا وقد أهللت بالحج، فقلت له: هل أستطيع أن أضيف مع حجتى عمرة؟ قال: لا، ذلك لو كنت بدأت بالعمرة ضممت إليها حجا) . وهذا قول مالك وأبى حنيفة، قالا: ويصير قارنًا. قال مالك: ولا تدخل العمرة على الحج، وهو قول أبى ثور وإسحاق، وقال الكوفيون: يجوز ذلك ويصير قارنًا. وقال الشافعى بالعراق كقول الكوفى، وقال بمصر: أكثر من لقيت يقول لى: ليس له ذلك. قال ابن المنذر: والحجة لقول مالك أن أصل الأعمال ألا يدخل عمل على عمل، ولا صلاة على صلاة، ولا صوم على صوم، ولا حج على حج، ولا عمرة على عمرة، إلا ما خصت السنة مكن إدخال الحج على العمرة، وعلى أن الذى يحرم بعمرة إذا ضم إليها حجا، فقد ضم إلى العمل الذى كان دخل فيه وألزمه نفسه أعمالا لم تكن لزمته أحرم بالعمرة، مثل: الخروج إلى منى، والوقوف بالموقفين، ورمى الجمار، والمقام بمنى، وغير ذلك من أعمال الحج، والذى يضم إلى الحج لم يضم إليها عملا؛ لأن عمل المنفرد والقارن واحد، والذى يعتمد عليه فى هذا الباب السنة وإجماع الأمة.(4/462)
9 - باب الإحْصَارِ فِى الْحَجِّ
/ 230 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَلَيْسَ حَسْبُكُمْ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِنْ حُبِسَ أَحَدُكُمْ عَنِ الْحَجِّ طَافَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى يَحُجَّ عَامًا قَابِلا، فَيُهْدِى أَوْ يَصُومُ إِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا. واحتج ابن عمر فيمن أحصر فى الحج أنه يلزمه ما يلزم من أحصر فى العمرة، وحكم الحج والعمرة فى الإحصاء سواء، وقاس الحج على العمرة، والنبى عليه السلام لم يحصر فى حج، إنما حصر فى عمرة، هذا أصل فى إثبات القياس لاستعمال الصحابة له وقوله: (طاف بالبيت) يعنى: فيطوف بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم يحل ويكون محصرًا بمكة. واختلف العلماء فيمن أحصر بمكة، فقال الشافعى وأبو ثور: حكم الغريب والمكى سواء، ويطوف ويسعى ويحل، ولا عمرة عليه على ظاهر حديث ابن عمر. وأوجبها مالك على المحصر المكى، وعلى من أنشأ الحج من مكة، وقال: لابد لهم من الخروج إلى الحل لاستئناف عمرة التحلل؛ لأن الطواف الأول لم يكن نواهُ للعمرة، لذلك يعمل بهذا. وفرق بين هؤلاء وبين الغريب يدخل من الحل محرمًا فيطوف ويسعى، ثم يحصره العدو عن الوقوف بعرفة، أنه لا يحتاج إلى الخروج إلى حل؛ لأنه منه دخل، ولم يحل من إحرامه فيتحلل بعمرة يُنْشِئُها من مكة، قال أبو حنيفة: لا يكون مُحْصَرًا من بلغ مكة؛ لأن الإحصار عنده من مُنع من الوصول إلى مكة، وحِيل بينه وبين الطواف والسعى، فيفعل ما فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) من الإحلال بموضعه.(4/463)
وأما من بلغ مكة فحكمه عنده حكم من فاته الحج، يحل بعمرة وعليه الحج من قابل، ولا هدى عليه؛ لأن الهدى لجبر ما أدخله على نفسه، ومن حُبس عن الحج فلم يدخل على نفسه نقصًا. وقال الزهرى: إذا أحصر المكى فلابد له من الوقوف بعرفة وإن تَعَسَّ بعساء، وفى حديث ابن عمر رد على ابن شهاب؛ لأن المحصر لو وقف بعرفة لم يكن محصرًا؛ ألا ترى قول ابن عمر: فطاف بالبيت وبين الصفا والمروة، ولم يذكر الوقوف بعرفة، وفيه أيضًا رَدُّ قول أبى حنيفة أن من كان بمكة لا يكون محصرًا، وقد استدل ابن عمر على أنه يكون محصرًا بقوله: (أليس حسبكم سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إن حبس أحدكم عن الحج) والحبس عن الحج هو الإحصار عند أهل اللغة، وقول ابن عمر: (ثم حل من كل شئ حتى يحج عامًا قابلا ويهدى هديًا) معناه عند الحجازيين: إن كان صُدَّ و [. . . . . .] ومعنى الهدى المصدودة إذا قضى الحج، إنما هو من أجل وقوع الحج الذى كان يقع له فى سفر واحد فى سفرين، وكذلك معنى هدى الإحصار بمرض.
0 - باب النَّحْرِ قَبْلَ الْحَلْقِ فِى الْمَحَصْرِ
/ 231 - فيه: الْمِسْوَر، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، نَحَرَ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ. / 232 - وفيه: ابْن عُمَرَ، خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، مُعْتَمِرِينَ، فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ دُونَ الْبَيْتِ، فَنَحَرَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، بُدْنَهُ، وَحَلَقَ رَأْسَهُ. قال ابن المنذر: النحر قبل الحلق للمحصر وغيره من ظاهر كتاب الله(4/464)
قال الله تعالى: (وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ) [البقرة: 196] إلا أن سنة المحصر أن ينحر هديه حيث أحصر، وإن كان فى الحل؛ اقتداءً بما فعل النبى عليه السلام فى الحديث، قال الله تعالى: (وَالْهَدْىَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) [الفتح: 25] أى: محبوسًا، ولما سقط عنه عليه السلام أن يبلغ محله سقط من هديه، وأما قوله: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة: 95] وقوله: (ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج: 33] فقد ذكرنا قبل هذا أن المخاطب به الآمن الذى يجد السبيل إلى الوصول إلى البيت والله أعلم وليس للمحصَر بعدوٍّ أن يفعل شيئًا مما يحرم على المحرمين حتى ينحر هديه، كما فعل النبى عليه السلام فإن فعل شيئًا من ذلك فعليه الفدية، استدلالا بأن النبى عليه السلام أمر كعب بن عجرة بالفدية لمَّا حلق، وهذا قول مالك والشافعى. قال الطحاوى: واختلفوا فى المحصَر إذا نحر هديه، هل يحلق رأسه أم لا؟ فقال قوم: ليس عليه أن يحلق؛ لأنه قد ذهب عنه النسك كله. هذا قول أبى حنيفة ومحمد، وقال آخرون: بل يحلق؛ فإن لم يحلق فلا شىء عليه. هذا قول أبى يوسف. وقال آخرون: يحلق ويجب عليه ما يجب على الحاج والمعتمر، وهو قول مالك، فكان من حجة أبى حنيفة فى ذلك أنه قد سقط عنه بالإحصار جميع مناسك الحج من الطواف والسعى بين الصفا والمروة، وذلك مما يحل به المحرم من إحرامه، ألا ترى أنه إذا طاف بالبيت يوم النحر حل له أن يحلق، فيحل له بذلك الطيب واللباس، فلما كان ذلك مما يفعله حين يحل فسقط ذلك عنه بالإحصار، سقط عنه سائر ما يحل به المحرم بسبب الإحصار.(4/465)
وكان من حجة الآخرين عليهم فى ذلك أن تلك الأشياء من الطواف بالبيت والسعى بين الصفا والمروة ورمى الجمار قد صُدَّ عنه المحرم، وحيل بينه وبينه، فسقط عنه أن يفعله، والحلق لم يحل بينه وبينه، وهو قادر على فعله، فما كان يصل إلى فعله فحكمه فيه فى حال الإحصار كحكمه فيه فى غير حال الإحصار، وما لا يستطيع أن يفعله فى حال الإحصار فهو الذى يسقط عنه، وقد ثبت عنه عليه السلام أنه حلق حين صُدَّ، فى حديث ابن عمر والمسور، وليس لأحد قياس مع وجود السنة الثابتة. وقد دعا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) للمحلقين يوم الحديبية ثلاث مرات، ودعا للمقصرين مرة واحدة، فقيل له: (يا رسول الله، لم ظاهرت الترحم على المحلقين؟ قال: لأنهم لم يَشْكُّوا) فثبت بتفصيل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من حلق على من قصر أنه قد كان عليهم الحلق والتقصير، كما يكون عليهم لو وصلوا إلى البيت، ولولا ذلك لما كانوا فيه إلا سواء، ولا كان لبعضهم فى ذلك فضيلة على بعض، فبان أن حكم الحلق والتقصير لا يزول بالإحصار.
1 - باب مَنْ قَالَ: لَيْسَ عَلَى الْمُحْصَرِ بَدَلٌ
وَقَالَ ابْن عَبَّاس: إِنَّمَا الْبَدَلُ عَلَى مَنْ نَقَضَ حَجَّهُ بِالتَّلَذُّذِ، فَأَمَّا مَنْ حَبَسَهُ عُذْرٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَحِلُّ وَلا يَرْجِعُ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْىٌ وَهُوَ مُحْصَرٌ نَحَرَهُ، إِنْ كَانَ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ، وَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ: يَنْحَرُ هَدْيَهُ، وَيَحْلِقُ فِى أَىِّ مَوْضِعٍ كَانَ، وَلا قَضَاءَ عَلَيْهِ؛ لأنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، وَأَصْحَابَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ نَحَرُوا وَحَلَقُوا وَحَلُّوا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ قَبْلَ الطَّوَافِ(4/466)
وَقَبْلَ أَنْ يَصِلَ الْهَدْىُ إِلَى الْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ يُذْكَرْ أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، أَمَرَ أَحَدًا أَنْ يَقضى شَيْئًا، وَلا يَعُودُوا لَهُ، وَالْحُدَيْبِيَةُ خَارِجٌ مِنَ الْحَرَمِ. / 233 - فيه: ابْن عُمَرَ، إِنْ صُدِدْتُ عَنِ الْبَيْتِ صَنَعْنَا كَمَا صَنَعْنَا مَعَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، فَأَهَلَّ بِعُمْرَةٍ مِنْ أَجْلِ أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، كَانَ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، ثُمَّ نَظَرَ فِى أَمْرِهِ، فَقَالَ: مَا أَمْرُهُمَا إِلا وَاحِدٌ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّى قَدْ أَوْجَبْتُ الْحَجَّ مَعَ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ طَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا، وَرَأَى أَنَّ ذَلِكَ مُجْزِيًا عَنْهُ. ولهذا اختلف السلف فى هذا الباب، فذهب ابن عباس إلى أن المحصر لا بدل عليه ولا [. . . . . .] ذكره عنه عبد الرزاق وقال: لا حصر إلا من حُبِسَهُ بعدو، فيحل بعمرة، وليس عليه حج قابل ولا عمرة، فإن حبس وكان معه هدى بعث به ولم يحل حتى ينحر الهدى، وإن لم يكن معه هدى حل مكانه، وذكر عطاء عن ابن عباس فى الذى يفوته الحج قال: يحل بعمرة وليس عليه حج قابل. وعن طاوس مثله، وروى ابن الماجشون عن مالك فى المحصر بعَدُوٍّ يحل لِسُنَّةِ الإحصار ويجزئه من حجة الإسلام، وهو قول أبى مصعب صاحب مالك [. . . . . .] به لمحمد بن سحنون. وقال ابن شعبان: يجزئه من حجة الإسلام وإن صُدَّ قبل أن يحرم. وقال ابن الماجشون: إنما استحب له مالك القضاء. وفيها قول آخر روى عن عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت أنه يحل بعمرة وعليه حج قابل والهدى، وهو قول عروة.(4/467)
وقال علقمة والنخعى: عليه حجة وعمرة. وهو قول الكوفيين، وقال مجاهد والشعبى: عليه حج قابل. وقال مالك فى المدونة: لا قضاء على المحصر بعدو فى حج التطوع ولا هدى عليه؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يأمر أصحاب الحديبية بقضاء ولا هدى، إلا أن تكون حجة الإسلام، فعليه حج قابل والهدى. وبه قال الشافعى وأبو ثور. واحتج الكوفيون بأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لما صُدَّ فى الحديبية قضاها فى العام القابل، فسميت عمرة القضاء. واحتج أصحاب مالك فقالوا: هذه التسمية ليست من الرسول (صلى الله عليه وسلم) ولا من أصحابه، وإنما هى من أهل السير، فليس فيها حُجَّة، ولم تُسم عمرة القضاء من أجل ما ذكروه، وإنما سميت من أجل أن النبى عليه السلام قَاضَى عام الحديبية قُريشًا وصالحهم لمدة من الزمان، وعلى أن يرجع إلى مكة فى العام المقبل، ولو وجب عليهم القضاء لعرفهم به وقال: هذه العمرة لى ولكم قضاء عن التى صُددنا عنها؛ لأن الله تعالى فرض عليه البيان والتبليغ، فلما لم يعرفهم بذلك ولا أمرهم به دل أنه لم يكن واجبًا، ووجه إيجاب مالك عليه الهدى من أجل أن إحرامه حيل بينه وبين تمامه بالوصول إلى البيت. وجعل أبو حنيفة العمرة عوضًا من ذلك، فإن قيل: فما وجه ذكر حديث ابن عمر فى هذا الباب، وليس فى لفظه ما يدل على الترجمة؟ قيل: وجه ذلك والله أعلم أن البخارى استغنى بشهرة قصة صَدِّ النبى عليه السلام بالحديبية، وأنهم لم يؤمروا بالقضاء فى ذلك لأنها لم تكن حجة الفريضة، وإنما كانوا محرمين بعمرة، فلذلك قال مالك: لا قضاء على المحصر بعدوٍ للحج إذا كان تطوعًا، كما لم يكن على الرسول (صلى الله عليه وسلم) قضاء العمرة التى صُدَّ عنها؛ لأنه لم يعرفهم فى عمرة القضاء أنها قضاء عن التى صُدَّ عنها.(4/468)
فهذا الحديث موافق لقول مالك، ولذلك ذكر البخارى قول مالك فى صدر الباب ليدل على أنه مأخوذ من حديث ابن عمر والله الموفق. وأما قول البخارى: والحديبية خارج المحرم فقد قال مالك: إن الحديبية فى الحرم، وكلا القولين له وجه، وذلك أن الحديبية فى أول الحرم، وهو موضع بروك ناقة النبى عليه السلام لأنها لما بركت فى أول الحرم وقال الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (حبسها حابس الفيل) وصاحب الفيل لم يدخل الحرم، فمن قال: إن الحديبية خارج الحرم فممكن أن يريد موضع نزول النبى (صلى الله عليه وسلم) ومن قال: إنها فى الحرم يريد موضع حلاقهم ونحرهم. وقال الطحاوى: ذهب قوم إلى أن الهدى إذا صد عن الحرم نحر فى غير الحرم، واحتجوا بهذا الحديث وقالوا: إنما نحر النبى عليه السلام هديه بالحديبية إِذْ صُدَّ، دل على أن لمن منع من إدخال هديه فى الحرم أن يذبحه فى غير الحرم، وهذا قول مالك. وخالفهم آخرون فقالوا: لا يجوز نحر الهدى إلا فى الحرم، واحتجوا بقوله: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة: 95] فكان الهدى قد جعله الله ما بلغ الكعبة، فهو كالصيام الذى جعله الله متتابعًا فى كفارة الظهار وكفارة القتل، فلا يجوز غير متتابع، وإن كان الذى وجب عليه غير مطيق للإتيان به متتابعًا، فلا تبيحه الضرورة أن يصومه متفرقًا. كذلك الهدى الموصوف ببلوغ الكعبة لا يجزئ إلا كذلك وإن صُدَّ عن بلوغ الكعبة، واحتجوا بأن نحر النبى (صلى الله عليه وسلم) لهديه حين صُدَّ كان فى الحرم، والدليل على ذلك ما رواه إسرائيل عن مجزأة بن زاهر، عن(4/469)
ناجية بن جندب الأسلمى، عن أبيه قال: (أتيت النبى عليه السلام حين صُدَّ عن البيت فقلت: يا رسول الله، ابعث معى بالهدى فلأنحره فى الحرم، قال: وكيف تأخذ به؟ قلت: آخذ به فى أودية لا يقدرون علىّ فيها، فبعثه معى حتى نحرته) . وقال آخرون: كان النبى (صلى الله عليه وسلم) فى الحديبية وهو يقدر على دخول الحرم، ولم يكن صُد عن الحرم، وإنما صُد عن البيت. واحتجوا بحديث رواه ابن إسحاق، عن الزهرى، عن عروة، عن المسور (أن النبى عليه السلام كان بالحديبية خباؤه فى الحل، ومُصَلاه فى الحرم) . ولا يجوز فى قول أحد من العلماء لمن قدر على دخول شىء من الحرم أن ينحر هديه دون الحرم. فلما ثبت الحديث الذى ذكرناه أن الرسول كان يصل إلى الحرم، استحال أن يكون نحر الهدى فى غير الحرم؛ لأن الذى يبيح نحر الهدى فى غير الحرم إنما يبيحه فى حال الصَّدِّ عن الحرم، لا فى حال القدرة على دخوله، فانتفى بما ذكرناه أن يكون الرسول (صلى الله عليه وسلم) نحر الهدى فى غير الحرم، وهذا قول أبى حنيفة وأبى يوسف ومحمد. وقد احتج أهل المقالة الأولى بما روى سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن يعقوب بن خالد، عن أبى أسماء مولى عبد الله بن جعفر قال: (خرجت مع على وعثمان، رضى الله عنهما، فاشتكى الحسن بالسقيا وهو محرم، فأصابه برسام فأومأ إلى رأسه، فحلق على رأسه، ونحر عنه جزورًا) . ورواه مالك عن يحيى، ولم يذكر عثمان ولا أن الحسن كان محرمًا، فاحتجوا بهذا الحديث؛ لأن فيه أن عليا نحر الجزور دون الحرم. قال الطحاوى: والحجة عليهم فى ذلك أنهم لا يبيحون لمن كان(4/470)
غير ممنوع من الحرم أن يذبح فى غير الحرم، وإنما يختلفون إذا كان ممنوعًا منه، فدل أن عليا لما نحر فى هذا الحديث فى غير الحرم، وهو واصل إلى الحرم، أنه لم يكن أراد به الهدى، وإنما أراد به الصدقة والتقرب إلى الله، مع أنه ليس فى الحديث أنه أراد به الهدى، فكما يجوز لمن حمله على أنه هدى ما حمله عليه، فكذلك يجوز لمن حمله على أنه ليس بهدى ما حمله عليه.
2 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) [البقرة: 196] وَهُوَ مُخَيَّرٌ فَأَمَّا الصَّوْمُ فَثَلاثَةُ أَيَّامٍ
/ 234 - فيه: كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، أن النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لَعَلَّكَ آذَاكَ هَوَامُّكَ) ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (احْلِقْ رَأْسَكَ، وَصُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، أَوِ انْسُكْ بِشَاةٍ) . قوله: (فَمَن كَانَ مِنكُم (معناه: من حلق ففدية، أجمع العلماء أنه من حلق رأسه لعذر أنه مخير فيما نص الله من الصيام أو الصدقة أو النسك، واختلفوا فيمن حلق أو لبس أو تطيب عامدًا من غير ضرورة، فقال مالك: بئس ما فعل، وعليه الفدية وهو مخير فيها. وقال أبو حنيفة والشافعى وأبو ثور: ليس مخيًا إلا فى الضرورة؛ لشرط الله) فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ) [البقرة: 196] فأما إذا حلق أو تطيب أو لبس عامدًا من غير ضرورة فعليه دم. وحجة مالك أن السُّنَّة وردت فى كعب بن عجرة فى حلقه رأسه(4/471)
وقد آذاه هوامه، ولو كان حكم غير الضرورة مخالفًا لها لَبَيَّنَهُ عليه السلام، ولما لم تسقط الفدية من أجل الضرورة، علم أن من لم يكن بمضطر أولى ألا تسقط عنه الفدية، وقال مالك والليث والثورى وأبو حنيفة: إذا حلق ناسيًا فعليه الفدية كالعامد. وقال الشافعى: لا فدية عليه. وهو قول إسحاق. واحتج من يقول بأن فرض الحج على غير الفور؛ لأن النبى عليه السلام قال لكعب بن عجرة: (تؤذيك هوامك؟) قال: نعم، قال: احلق وانسك بشاة. فنزل قوله: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ (إلى قوله: (وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ) [البقرة: 196] . قالوا: وإتمام الشىء حقيقة إنما هو كماله بعد الدخول فيه، وقد يستعمل فى ابتداء الشىء تجوزًا واتساعًا، ولم يُرد الله بقوله: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ) [البقرة: 196] الإكمال بعد الدخول فيه، ولكنه تجوَّز واستعمله فى ابتداء الدخول، يدل على ذلك قول عمر وعلى: تمام الحج والعمرة أن تحرم بهما من دويرة أهلك. فأخبر أن التمام فيهما هو ابتداء الدخول فيهما، وهم لم يكونوا فى الحديبية محرمين بالحج فيصح خطابهم بإكماله، وإنما كانوا محرمين بالعمرة، فعلم أن الأمر لهم بإتمام الحج ليس هو أمر بإكماله بعد الدخول فيه، وإنما هو أمر بالدخول فيه ابتداء، فدل هذا أن فرض الحج على غير الفور، وأن أحكام الحج وجبر ما يعرض فيه قد كان نَزَل، وكانت قصة كعب بن عجرة فى الحديبية، والحديبية كانت سنة ست، احتج بهذا أصحاب الشافعى.(4/472)
3 - باب قوله: (أَوْ صَدَقَةٍ (وَهِىَ إِطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ
/ 235 - فيه: كَعْبَ، وَقَفَ عَلَىَّ النبِىّ (صلى الله عليه وسلم) بِالْحُدَيْبِيَةِ وَرَأْسِى يَتَهَافَتُ قَمْلا، فَقَالَ: (يُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: (فَاحْلِقْ رَأْسَكَ، وصُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ تَصَدَّقْ بِفَرَقٍ بَيْنَ سِتَّةٍ، أَوِ انْسُكْ بِمَا تَيَسَّرَ) . لم يختلف الفقهاء أن الإطعام لستة مساكين، وأن الصيام ثلاثة أيام، وأن النسك شاة على ما فى حديث كعب، إلا شىء روى عن الحسن البصرى وعكرمة ونافع أنهم قالوا: الإطعام لعشرة مساكين، والصيام عشرة أيام. ولم يتابعهم أحد من الفقهاء على ذلك؛ للسُّنَّة الثابتة بخلافه عن كعب بن عجرة فى الفدية، سُنُّة معمول بها عند جماعة العلماء، ولم يروها أحد من الصحابة غير كعب، ولا رزاها عن كعب إلا رجلان من أهل الكوفة: عبد الرحمن بن أبى ليلى، وعبد الله بن معقل، وهى سنة أخذها أهل المدينة من أهل الكوفة.
4 - باب الإطْعَامُ فِى الْفِدْيَةِ نِصْفُ صَاعٍ
/ 236 - فيه: كَعْب، نَزَلَتْ الفدية فِىَّ خَاصَّةً، وَهِىَ لَكُمْ عَامَّةً، حُمِلْتُ إِلَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِى، فَقَالَ: (مَا كُنْتُ أُرَى الْوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى، تَجِدُ شَاةً) ؟ فَقُلْتُ: لا، فَقَالَ: (فَصُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ) . قال مالك وأبو حنيفة والشافعى: الإطعام فى الفدية مدان بِمُدِّ النبى (صلى الله عليه وسلم) على ما جاء فى حديث كعب. وروى عن الثورى وأبى حنيفة أنهما قالا عن الفدية: بالبر نصف صاع، ومن التمر أو الشعير أو الزبيب صاع لكل مسكين. وهذا خلاف نص الحديث(4/473)
فلا معنى له؛ لأنه قال عليه السلام: (لكل مسكين نصف صاع) فعم بذلك جميع أنواع الطعام، ولم يستثن بعض ما يطعم المساكين أنه بخلاف هذا فيلزم إخراج صاع منه، وقاس أبو حنيفة الأيمان على كفارة فدية الأذى، فأوجب فى كفارة اليمان وسائر الكفارات مدين مدين لكل إنسان، وسيأتى بيان قولهم فى كتاب النذور والكفارات إن شاء الله.
5 - باب النُّسْكُ شَاةٌ
/ 237 - فيه: كَعْب، أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) رَآهُ وَأَنَّهُ يَسْقُطُ عَلَى وَجْهِهِ، فَقَالَ: (أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ) ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَحْلِقَ، وَهُوَ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمْ أَنَّهُمْ يَحِلُّونَ بِهَا، وَهُمْ عَلَى طَمَعٍ أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْفِدْيَةَ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يُطْعِمَ فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةٍ، أَوْ يُهْدِىَ شَاةً، أَوْ يَصُومَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ. أجمع العلماء أن أقل النسك شاة، وبها أفتى الرسول (صلى الله عليه وسلم) كعب بن عجرة، وقد ثبت أنه نسك ببقرة، حدثنا به أبو بكر التجيبى قال: حدثنا أحمد بن سعيد بن حزم، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن خليد المقبرى بمكة، حدثنا يوسف بن موسى القطان، حدثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبى ليلى، عن نافع، عن سليمان بن يسار قال: (ذبح كعب بقرة) فأخذ الكفارات ولم تكن هذه مخالفة للنبى (صلى الله عليه وسلم) ، بل كان موافقة وزيادة، ففى هذا من الفقه أن من أُفتى بأيسر الأشياء(4/474)
وأقل الكفارات أن له أن يأخذ بأعالى الأمور وأرفع الكفارات، كما فعل كعب والله الموفق. قال ابن المنذر: قوله فى هذا الحديث: (ولم يتبين لهم أنهم يحلون بها، وهم على طمع أن يدخلوا مكة) فيه دليل أن من كان على رجاء من الوصول إلى البيت أن عليه أن يقيم حتى ييئس من الوصول فيحل، وقال من احفظ عنه من أهل العلم: إن من يئس أن يصل إلى البيت فجاز له أن يحل، فلم يفعل حتى خلى سبيله، أن عليه أن يمضى إلى البيت لتتم مناسكه. قال المهلب: وقوله: (فأمره أن يحلق، ولم يتبين لهم أنهم يحلون بها) فيه حجة لمالك فى وجوب الكفارة على المرأة تقول فى رمضان: غدًا حيضتى، والرجل يقول: غدًا يوم حُمَّاى، فيفطران، ثم ينكشف الأمر بالحمى والحيض كما قالا، أنهما عليهما الكفارة؛ لأنهم لم يكن، كما كان فى علم الله من أنهم يحلون بالحديبية، وأن الهدى قد بلغ محله، بمسقط عن كعب الكفارة إذا استباح الحلاق قبل علم الله بأن الهدى قد بلغ محله، فكذلك ما كان فى علم الله من أنها تحيض لا يسقط عنها الكفارة إذا استباحت حُرْمة رمضان قبل علمها بالحيض، وكذلك المريض، إذا قد يجوز أن يكون ما ظنا؛ لأنه لا يقطع على مغيبه.
6 - باب قوله: (فَلا رَفَثَ ولا فسوق ولا جدال فِى الحج) [البقرة: 197]
/ 238 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ، عليه السَّلام: (مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّه) .(4/475)
اختلفوا فى الرفث، فروى عن ابن عباس أنه قال: الرفث فى الحج: ما كلم به النساء، وروى مثله عن ابن عمر وعطاء، وروى عن ابن عباس أيضًا أن الرفث: الجماع، وهو قول مجاهد والزهرى، وقال ابن عباس: الفسوق: السباب. وقال مجاهد والزهرى: الفسوق: المعاصى. وقال ابن عباس: الجدال أن تمارى صاحبك حتى تغضبه. وقال طاوس: هو جدال الناس.
7 - باب جَزَاءِ الصَّيْدِ وقوله تَعَالَى: (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ (إلى قوله: (الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [المائدة: 95]
. اتفق أئمة الفتوى بالحجاز والعراق أن المحرم أذا قتل الصيد عمدًا أو خطأ فعليه الجزاء، منهم: مالك والليث والأوزاعى والثورى وأبو حنيفة والشافعى وأحمد وإسحاق، وقال أهل الظاهر: لا يجب الجزاء إلا على من قتل الصيد عمدًا؛ لقوله تعالى: (وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا) [المائدة: 95، 96] لأن دليل الخطاب يقتضى أن المخطئ بخلافه، وإلا لم يكن لتخصيص المتعمد معنى. قالوا: وقد روى عن عمر بن الخطاب ما يدل على أن ذلك كان مذهبه، رَوى سفيان، عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر، عن عمر أنه سأل رامى الظبى وقاتله: عمدًا أصبته أم خطأ؟ قالوا: ولم يسأله عمر عن ذلك إلا لافتراق العمد والخطأ عنده. قال ابن القصار: وروى مثله عن ابن عباس. قال الطحاوى: وذهب جماعة العلماء فى تأويل قوله: (وَمَن(4/476)
قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا (إلى قوله: (وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) [المائدة: 95] وقالوا: لا حجة فى قول عمر للرجل: أعمدًا أصبته أم خطأ؟ لأنه يجوز أن يسأله عن ذلك ليعلمه إن كان قتله عمدًا، ثم قتل بعده صيدًا عمدًا انتقم الله منه، فأراد عمر تحذيره من ذلك، مع أنه قد روى شعبة هذا الحديث عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة قال له: أعمدًا أصبته أم خطأ؟ فقال: ما أدرى. فأمر بالفدية. فخالف رواية سفيان، فدل ذلك على أنه سأله عن العمد والخطأ ليقف به على وجوب الانتقام فى العودة، مع أن الأشبه بمذهب عمر مذهب الجماعة، روى شعبة عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، أن كعبًا قال لعمر: إن قومًا استفتونى فى مُحرم قتل جرادة، فأفتيتهم أن فيها درهم، فقال: إنكم بأهل مصرٍ كثيرة دراهمكم، لتمرة خير من جرادة. أفلا ترى عمر لم ينكر على كعب تركه سؤال القوم عن قتل المحرم للجرادة إن كان عمدًا أو خطأ؛ لاستواء الحكم فى ذلك عنده. ولو اختلف الحكم فى ذلك عنده لأنكر عليه تركه السؤال عن ذلك، وهذا ابن مسعود وابن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو كلهم قد أجاب فيما أصاب المحرم بوجوب الجزاء، ولم يسأل أحد منهم عن عمدٍ فى ذلك ولا خطأ، ولا يكون ذلك إلا لاستواء الحكم عندهم فى ذلك. ثم إن السنة الثابتة عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) تدل على هذا المعنى، روى جرير ابن حازم، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبى عمار، عن جابر: (أن النبى عليه السلام سئل عن الضبع، فقال: هى صيد، وفيها إذا أصابها المحرم كبش) ورواه عطاء عن جابر،(4/477)
فلما جعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الجزاء فى الصيد ولم يذكر فى ذلك عمدًا ولا خطأ؛ ثبت أن ذلك سواء فى وجوب الجزاء، وقال الزهرى: نزل القرآن بالعمد، وهو فى الخطأ سنة. قال الطحاوى: والقياس يدل على هذا المعنى لأنا قد رأينا الله تعالى قد حرم على المحرم أشياء منها: الجماع، وقتل الصيد، مع سائر ما حرمه الله عليهم سواهما، فكان مَنْ جَامع فى إحرامه عامدًا أو ساهيًا فى وجوب الدم وفساد الحج، وكذلك قتل الصيد كالجماع، سواء يستوى فيه العمد والخطأ، والخطأ بالكفارة أقل من العمد؛ لأن الله تعالى جعل فى كتابه على من قتل مؤمنًا خطأ ولم يوجبها على من قتله متعمدًا. قال ابن القصار: واحتج أهل الظاهر بقوله عليه السلام: (رفع عن أمتى الخطأ والنسيان) قال: والفقهاء مجمعون أن الخطأ والنسيان ليس فى غتلاف الأموال، وإنما المراد به رفع المأثم. قال إسماعيل بن إسحاق: وما رواه أهل الظاهر عن ابن عباس فإسناده ضعيف، رواه قتادة عن رجل، عن ابن عباس. واختلفوا فى تأويل قوله: (فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) [المائدة: 95] فقال ابن القصار عن مالك: إذا قتل المحرمُ صيدًا لَهُ مِثْلٌ مِنَ النَّعَمِ فى المنظر، فعليه مثله، ففى الغزال شاة، وفى النعامة بدنة، وفى حمار الوحش بقرة. وبه قال مجاهد والحسن والشافعى. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: الواجب فى قتل الصيد القيمة، سواء كان له مِثْلٌ النَّعَم أم لا، وهو بالخيار بين أن يتصدق بقيمته وبين أن يصرف القيمة فى النعم فيشتريه ويهديه، وقالوا: لما لم يجز أن يراد بالمثل المثل من الجنس، عُلم أن المراد به القيمة، وأنها(4/478)
تصرف فى النعم والدليل على أن المراد بالمثل القيمة قوله: (لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ) [المائدة: 95] وهذا لفظ عام فى جميع الصيد، سواء كان له مثل أو لا، ومعلوم أن ما لا مثل له من جنسه ونظيره؛ فإن الواجب فى إتلافه القيمة، فصار المراد بالمثل القيمة فى أحد الأمرين فينبغى أن يكون المراد بالنظير؛ لامتناع أن يعبر باللفظ الواحد على معين مجانس؛ لأن القيمة متى صارت مرادة بالآية فى أحد نوعى الصيد صارت كالمذكورة فى الآية، فبقى حمل الآية على غيرها. قال ابن القصار: فالجواب أن قوله تعالى: (فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) [المائدة: 95] فالمراد به مثل المقتول، ولو اقتصر عليه ولم يقيده بالنعم لكان الواجب فى الظبى ظبيًا، وفى النعامة نعامة، وفى بقرة الوحش بقرة، فلما قال: (مِنَ النَّعَمِ (أوجب أن يكون الجزاء مثل المقتول من النعم لا من غيره، ومثله من النعم ليس هو القيمة، والمماثلة من طريقة الخلقة مشاهدة محققة، وما طريقها القيمة طريقها الاستدلال. ولما خص الله النعم من سائر الحيوان لم تكن له فائدة، إلا أن المراد المثل من طريق الخلقة والصورة من النعم دون القيمة، ولم يعقل منه مثل ما قتل من الدراهم؛ لأنه لو اقتصر على قوله: (فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ) [المائدة: 95] لم يعقل منه مثله من الدراهم، فتقييده بالنعم أولى ألا يعقل منه الدراهم، وقد يراد بالآية الحقيقة فى موضع والمجاز فى آخر، فيكون المثل من النعم فى قتل الغزال والنعامة وبقرة الوحش، وفيما لا مثل له القيمة، وإنما يتنافى ذلك فى حالة واحدة، فأما فى حكمين فلا. قال المهلب: فإن قيل: فقد قال مالك وجماعة الفقهاء غير أبى(4/479)
حنيفة: فى الحمامة شاة، وليست الشاة مماثلة للحمامة. يقال له: أغفلت، وذلك أن اشتراطه تعالى فى المثل أن يكون من النعم، والطير ليست من النعم، فوجب أن يكون كل جزاء يغرم من النعم لا منجنس الحيوان المقتول؛ لأن الجزاء لا يكون إلا هديًا كما شرط الله) هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة: 95] وأقل الهدايا من النعم شاة، فوجب هدى المقتول مما يكون هديًا لا مماثلا من جميع الجهات كما ظنالمخالف. واختلفوا فى قوله: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ) [المائدة: 95] فقال مالك: لا يجوز أن يكون القاتل أحد العدلين. وجوزه الثورى والشافعى، واختلف أصحاب أبى حنيفة على القولين، قال ابن القصار: والحجة لقول مالك قوله تعالى: (ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ) [المائدة: 95] كما قال تعالى: (وَأَشْهِدُوا ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ) [الطلاق: 2] فيحتاج إلى حكمين غيره يحكمان، كما يحتاج إلى شاهدين غيره. وقال الطحاوى: ووجدنا الحكومات المذكورات فى كتاب الله فيما سوى ذلك إنما يكون من غير المحكوم عليهم، قال تعالى: (فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا) [النساء: 35] ولا يجوز أن يكون الزوج الحكم الذى من أهله، وإنما يكون من عُلم عدله، وأُمن على المحكوم عليه وعلى المحكموم له، ولم يكن جارا إلى نفسه ولا دافعًا عنها شيئًا. قال ابن المنذر: اتفق مالك والكوفيون والشافعى وأحمد وأبو ثور أنه بالخيار، إن شاء أتى بالهدى، وإن شاء صام، وإن شاء تصدق، وقال الثورى: إن لم يجد هديا أطعم، فإن لم يجد طعامًا صام. وقال الحسن والنخعى: إن لم يكن عنده جزاؤه قُوِّم بدراهم، ثم قومت الدراهم بطعام وصام، وإنما أريد بالطعام الصيام.(4/480)
وقال سعيد بن جبير: إنما الطعام والصيام فيما لا يبلغ ثمن الهدى. والصواب قول من جعله بالخيار؛ لقول ابن عباس: كل شىء أراد فهو مخير، وما كان فإن لم يجد فهو الأول فالأول. واختلفوا فى الصوم المعدل فى القيمة، فكان بعضهم يقول: يصوم عن كل نُدَّيْن يومًا. هذا قول ابن عباس، وبه قال الثورى والكوفيون وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وقال بعضهم: يصوم عن كل مُدٍّ يومًا. هذا قول عطاء ومالك والشافعى، قال الطحاوى: فنظرنا فى ذلك، فوجدنا النبى (صلى الله عليه وسلم) قد أمر كعب بن عجرة أن يطعم كل مسكين يومًا واحدًا، كان يصوم اليوم الواحد عن المُدَّين. واختلفوا فى قوله تعالى: (وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) [المائدة: 95] هذا الوعيد معه جزاء عائد على مُصيب الصيد، كما كان عليه فى إصابته إياه بدءًا. فذهب بعضهم إلى أنه لا جزاء عليه فى ذلك إلا أول مرة، فإن عاد تُرك والنقمة، روى هذا عن شريح وذكره ابن المنذر عن ابن عباس وشريح والنخعى والحسن وقتادة ومجاهد. وذهب الكوفيون ومالك والشافعى وأحمد وإسحاق إلى أنه يحكم عليه بالجزاء كل مرة أصابه، قال الطحاوى: وهذا الصواب؛ لأنا روينا عن عمر وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وغيرهم، أنهم حكموا على المُحْرِمين بإصابة الصيد ولم يسأل أحد منهم المحكوم عليه هل أصاب صيدًا قبل إصابته ذلك الذى حكموا فيه بالجزاء، فدل ذلك على أنه لا فرق عندهم بين البدء والعود، والنظر يدل على ذلك؛ لأنا رأينا أشياء منع الله منها المحرمين، منها الجماع وقتل الصيد وغير ذلك، وكان من جامع فى إحرامه فوجب(4/481)
عليه الهدى فأهداه، ثم جامع ثانية فى إحرامه فوجب عليه الهدى أيضًا، كذلك الصيد، فإن قيل: إنما أثنيت الكفارة على العائد لوقع النقمة عليه. قيل: أو ليس إنما كان منتقمًا منه بمعصية الله، أفرأيت إن قتل الصيد بدءًا عالمًا منتهكًا للحرمة، أما كان يجب عليه فى ذلك نقمة وكان عليه الجزاء، فكذلك إذا عاد، ويجوز أن يكون معنى قوله تعالى: (وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) [المائدة: 95] إن شاء ذلك؛ لأن أحكام الوعيد فى العقوبات كذلك كانت عند العرب، إن شاء الله أوعد بها أنجزها، وإن شاء تركها. وقال ابن المنذر: أجمع اهل العلم على أن صيد البحر مباح للمحرم اصطياده وبيعه وشراؤه واختلفوا فى معنى قوله: (وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ) [المائدة: 96] وسأذكره فى كتاب الصيد.
8 - باب إِذَا صَادَ الْحَلالُ، فَأَهْدَى لِلْمُحْرِمِ الصَّيْدَ فَأَكَلَهُ
وَلَمْ يَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسٌ بِالذَّبْحِ بَأْسًا، وَهُوَ غَيْرُ الصَّيْدِ نَحْوُ الإبِلِ وَالْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَالدَّجَاجِ وَالْخَيْلِ. / 239 - فيه: أَبُو قَتَادَةَ، أنَّهُ انْطَلَقَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَأَحْرَمَ أَصْحَابُهُ وَلَمْ يُحْرِمْ، وَحُدِّثَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، أَنَّ عَدُوًّا يَغْزُوهُ، فَبَيْنَمَا أَنَا مَعَ أَصْحَابِهِ، تَضَحَّكَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَنَظَرْتُ، فَإِذَا أَنَا بِحِمَارِ وَحْشٍ، فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ فَطَعَنْتُهُ، فَأَثْبَتُّهُ، وَاسْتَعَنْتُ بِهِمْ، فَأَبَوْا أَنْ يُعِينُونِى، فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهِ، وَخَشِينَا أَنْ نُقْتَطَعَ، فَطَلَبْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، أَرْفَعُ فَرَسِى شَأْوًا، وَأَسِيرُ شَأْوًا، فَلَقِيتُ رَجُلا مِنْ بَنِى غِفَارٍ فِى جَوْفِ اللَّيْلِ، قُلْتُ: أَيْنَ تَرَكْتَ النَّبِىَّ، عليه السَّلام؟ قَالَ: تَرَكْتُهُ بِتَعْهَنَ، وَهُوَ قَائِلٌ السُّقْيَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَهْلَكَ يَقْرَءُونَ عَلَيْكَ السَّلامَ(4/482)
وَرَحْمَةَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ قَدْ خَشُوا أَنْ يُقْتَطَعُوا دُونَكَ فَانْتَظِرْهُمْ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَصَبْتُ حِمَارَ وَحْشٍ، وَعِنْدِى مِنْهُ فَاضِلَةٌ، فَقَالَ لِلْقَوْمِ: (كُلُوا) ، وَهُمْ مُحْرِمُونَ. وفى حديث أبى قتادة من الفقه أن لحم الصيد حلال أكله للمحرم إذا لم يصده وصاده حلال، وفى ذلك دليل أن قوله تعالى: (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا) [المائدة: 96] معناه: الاصطياد، وقيل: الصيد وأكل الصيد لمن صاده، وإن لم يصده فليس ممن عُنى بالآية، يبين ذلك قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ) [المائدة: 95] لأن هذه الآية إنما نُهى فيها عن قتل الصيد واصطياده لا غير. وهذه مسألة اختلف فيها السلف قديمًا، فذهبت طائفة إلى أنه يجوز للمحرم أكل ما صاده الحلال، روى هذا عن عمر بن الخطاب وعثمان والزبير وعائشة وأبى هريرة، وإليه ذهب الكوفيون، وذهبت طائفة إلى أن ما صاده الحلال للمحرم أو من أجله فلا يجوز له أكله، وما لم يُصد له فلا بأس بأكله، وهو الصحيح عن عثمان، وروى عن عطاء، وهو قول مالك فى العتبية وكتاب ابن المواز، وبه قال الشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وذكر ابن القصار أن المحرم إذا أكل ما صيد من أجله فعليه الجزاء، استحسان لا قياس. وعند أبى حنيفة والشافعى: لا جزاء عليه. واحتج الكوفيون بقوله عليه السلام للمحرمين: (كلوا) قالوا: فقد علمنا أن أبا قتادة لم يصده فى وقت ما صاده إرادةً منه أن يكون له خاصَةً، وإنما أراد أن يكون له ولأصحابه الذين كانوا معه، فقد أباح رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذلك له ولهم، ولم يحرمه لإرادته أن يكون لهم معه، قاله الطحاوى.(4/483)
قال: والنظر يدل على ذلك؛ لأنهم أجمعوا أن الصيد يحرمه الإحرام على المحرم، ويحرمه الحرم على الإحلال، وكان من صاد صيدًا فى الحل فذبحه فيه، ثم أدخله الحرم فلا بأس بأكله فيه، ولم يكن إدخاله لحم الصيد الحرم كإدخاله الصيد حيا فى الحرم؛ لأنه لو كان كذلك لنهى عن إدخاله فيه، ولمنع من أكله كما يمنع من الصيد، ولكان إذا أكله فى الحرم وجب عليه ما يجب فى قتله، فلما كان الحرم لا يمنع من لحم الصيد الذى صيد فى الحل كما يمنع من الصيد الحى؛ كأن النظر على ذلك أن يكون الإحرام يحرم على المحرم الصيد، ولا يحرم عليه لحمه إذا تولى الحلاُ ذبحه قياسًا ونظرًا. وحجة الذين أجازوا للمحرم أكل ما لم يصد له، أن أبا قتادة إنما صاده لنفسه لا للمحرمين، وكان وَجَّهَهُ الرسول (صلى الله عليه وسلم) على طريق البحر مخافة العدو، فلم يكن محرمًا حين اجتمع مع أصحابه؛ لأن مخرجهم لم يكن واحدًا، فلم يكن صيده للمحرمين ولا بعونهم، ألا ترى قوله: (فأبوا أن يعينونى) . قالوا: فلذلك أجاز لهم عليه السلام أكله، قالوا: وعلى هذا تتفق الأحاديث المروية عن النبى عليه السلام فى أكل الصيد ولا تتضاد. وقد روى هذا المعنى عن النبى عليه السلام روى ابن وهب، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن عمرو مولى المطلب أخبره عن المطلب بن عبد الله بن حنطب، عن جابر أن النبى عليه السلام قال: (صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يُصَدْ لكم) . وقالت طائفة: لحم الصيد محرم على المحرمين على كل حال،(4/484)
ولا يجوز لمحرمٍ آكله البتة، على ظاهر قوله تعالى: (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا) [المائدة: 96] قال ابن عباس: هى مبهمة. وهو مذهب على وابن عمر، وبه قال الثورى، وهى رواية القاسم عن مالك فى المدونة، وبه قال إسحاق، واحتجوا بحديث الصعب بن جثامة (أنه أهدى لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) حمارَ وحشٍ وهو بالأبواء أو بودان، فرده عليه وقال: لم نَرُدَّهُ عليك إلا أنا حرم) فلم يعتل بغير الإحرام، واعتل من أجاز أكله بأنه عليه السلام إنما رده لأنه كان حيا، ولا يحل للمحرم قتل الصيد، ولو كان لحمًا لم يرده؛ لقوله فى حديث أبى قتادة، وستأتى رواية من روى أن الحمار كان مذبوحًا فى باب: إذا أهدى للمحرم حمارًا وحشيا لم يقبل. وأما قول البخارى: ولم ير ابن عباس وأنس بالذبح بأسا، وهو غير الصيد. فهو قول جماعة العلماء، لا خلاف بينهم أن الداجن كله من الإبل والبقر والغنم والدجاج وشبهه يجوز للمحرم ذبحه؛ لأن الداجن كله غير داخل فى الصيد المحرَّم على المحرِم، وأما أكل الخيل فأجازه أبو يوسف ومحمد والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور وجمهور أهل الحديث؛ لحديث جابر وأسماء أنهم أكلوه على عهد النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وكره أكل الخيل مالك وأبو حنيفة، وستأتى هذه المسألة فى كتاب الذبائح إن شاء الله. وقال صاحب العين: شأوت القوم شأوا: سبقتهم، والشأو: الطلق.
9 - باب إِذَا رَأَى الْمُحْرِمُونَ صَيْدًا فَضَحِكُوا فَفَطِنَ الْحَلالُ
/ 240 - فيه: أَبُو قَتَادَةَ، قَالَ: انْطَلَقْنَا مَعَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَأَحْرَمَ أَصْحَابُهُ، وَلَمْ أُحْرِمْ، فَأُنْبِئْنَا بِعَدُوٍّ بِغَيْقَةَ، فَتَوَجَّهْنَا(4/485)
نَحْوَهُمْ، فَبَصُرَ أَصْحَابِى بِحِمَارِ وَحْشٍ، فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَضْحَكُ إِلَى بَعْضٍ، فَنَظَرْتُ فَرَأَيْتُهُ، فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ الْفَرَسَ، فَطَعَنْتُهُ، فَأَثْبَتُّهُ، فَاسْتَعَنْتُهُمْ، فَأَبَوْا. . . الحديث. وترجم له: (بَاب لا يُعِينُ الْمُحْرِمُ الْحَلالَ فِى قَتْلِ الصَّيْدِ) ، وقال فيه: (كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، بِالْقَاحَةِ، وَمِنَّا الْمُحْرِمُ وَمِنَّا غَيْرُ الْمُحْرِمِ، فَرَأَيْتُ أَصْحَابِى يَتَرَاءَوْنَ شَيْئًا، فَنَظَرْتُ فَإِذَا حِمَارُ وَحْشٍ، يَعْنِى وَقَعَ سَوْطُهُ، فَقَالُوا: لا نُعِينُكَ. . .) الحديث. وترجم له: (باب لا يُشِيرُ الْمُحْرِمُ إِلَى الصَّيْدِ لِكَيْ يَصْطَادَهُ الْحَلالُ) ، وقال فيه: فَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (أَمِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا، أَوْ أَشَارَ إِلَيْهَا) ؟ قَالُوا: لا، قَالَ: (فَكُلُوا مَا بَقِىَ مِنْ لَحْمِهَا) . قال المهلب: إنما لم يجعل النبى عليه السلام ضحك المحرمين بعضهم إلى بعض دلالة على الصيد، وأباح لهم أكله؛ لأن ضحك المحرم إلى المحرم مثله، مما لا يحل له الصيد، لا حرج فيه، وإن كان قد آل إلى أن تنبه عليه أبو قتادة، فلم يكن أبو قتادة عندهم ممن خرج يقتنص صيدًا، فلذلك لم يجب عليهم جزاء، ولا حرم عليهم أكله، وأما إن أشار محرم على قناصٍ أو طالبٍ له، أو أغراه به، أو أعطاه سلاحًا، أو أَعَانَهُ بأى، فيكره له أكله؛ لقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) فى حديث أبى قتادة، (أمنكم أحد أمر أن يحمل عليها، أو أشار إليها؟ قالوا: لا. قال: كلوا ما بقى من لحمها) . وفى ذلك دليل أنه لا يحرم عليهم بما سوى ذلك، ودل ذلك على أن معنى قوله عليه(4/486)
السلام فى حديث عَمرو مولى المطلب: (أو يُصَد لكم) أنه على ما صيد لهم بأمرهم. وقال غيره: وهذا يدل أن المحرم إذا أعان الحلال على الصيد بما قل أو كثر فقد فعل ما لا يجوز له، واختلفوا فى ذلك، فقالت طائفة: إن دل محرم حلالا على صيد، أو أشار إليه، أو ناوله سيفًا أو شبهه حتى قتله، فعلى المحرم الدال أو المعين له الجزاء، روى ذلك عن على وابن عباس، وقال به عطاء، وإليه ذهب الكوفيون وأحمد وإسحاق، واحتج بقوله عليه السلام: (هل أشرتم أو أعنتم؟ قالوا: لا) فدل ذلك أنه إنما يحرم عليهم إذا فعلوا شيئًا من هذا، ولا يحرم عليهم بما سوى ذلك، فجعل المشاورة والمعاونة كالقتل؛ لأن الدلالة بسببٍ يُتوصل به إلى إتلاف الصيد، فوجب الجزاء، دليله: من نصب شبكه حتى وقع فيها صيد فمات. وقال مالك وابن الماجشون والشافعى وأبو ثور: لا جزاء على الدال. وهو قول أصبغ ابن الفرج، واحتج أهل هذه المقالة فقالوا: الدال ليس بمباشر للقتل، وقد اتفقنا أنه لو دَلَّ حلال حلالا على قتل صيد فى الحرم لم يكن على الدال جزاء؛ لأنه لم يحصل منه قتل الصيد، فكذلك هاهنا، وقد تقرر أنه لو دل على رجل مسلم فقتله المدلول، لم يجب على الدال ضمان، وحُرمة المسلم أعظم من حرمة الصيد، ولا حجة للكوفيين فى حديث أبى قتادة؛ لأنه إنما سألهم عن الإشارة والمعاونة، دل أنه يكره لهم أكله، أو يحرم عليهم، ولم يتعرض لذكر الجزاء، فمن أثبت الجزاء فعليه الدليل. وأيضًا فإن القاتل انفرد بقتله بعد الدلالة بإرادته واختياره مع كون الدال منفصلا عنه، فلا يلزمه ضمان، وهذا كمن دل محرمًا أو صائمًا على امرأة فوطئها، ومحظورات الإحرام لا تجب فيها الكفارات بالدلالة، كمن دل على طيب أو لباس.(4/487)
0 - بَاب إِذَا أَهْدَى لِلْمُحْرِمِ حِمَارًا وَحْشِيًّا لَمْ يَقْبَلْ
/ 241 - فيه: ابْن عَبَّاس، أن الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حِمَارًا وَحْشِيًّا، وَهُوَ بِالأبْوَاءِ، أَوْ بِوَدَّانَ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِى وَجْهِهِ، قَالَ: (إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلا أَنَّا حُرُمٌ) . أجمع العلماء أنه لا يجوز للمحرم قبول صيدٍ، حتى إذا وُهب له بعد إحرامه، ولا يجوز له شراؤه، ولا إحداث ملكه؛ لعموم قوله: (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا) [المائدة: 95] ولحديث صعب، فإنما رده عليه السلام؛ لأنه لا يحل للمحرم تذكية الصيد ولا إهلاله، وقال أشهب: سمعت مالكًا يقول: كان الحمار حيا. قال الطحاوى: وقد روى هذا الحديث عن ابن عباس جماعة من أصحابه: سعيد بن جبير وعطاء ومقسم وطاوس، ففى حديث سعيد ابن جبير (أنه أهدى لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) حمارًا وحشيا فرده، وكان مذبوحًا) . وقال مرة: (أهدى إليه عجز حمار فرده يقطر دمًا) . وقال مقسم: (رِجْل حمار) . وقال عطاء: (عضد صيد) . وقال طاوس: (لحم حمار وحش) . قال الطحاوى: قد اتفقت هذه الآثار فى حديث الصعب عن ابن عباس أن الحمار كان غير حى، فذلك حجة لمن كره للمحرم أكل الصيد، وإن كان الذى تولى صيده وذبحه حلال وقد خالف ذلك حديث المطلب عن جابر.(4/488)
قال المؤلف: واختلاف هذه الروايات يدل على أنه لم تكن قصة واحدة، وإنه كان فى أوقات مختلفة، فمرة أهدى إليه الحمار كله، ومرة أهدى إليه عجزه لأن مثل هذا لا يذهب على الرواة ضبطه، حتى يقع فيه التضاد فى النقل والقصة واحدة، والله أعلم. وقال إسماعيل بن إسحاق: سمعت سليمان بن حرب يتأول هذا الحديث على أنه صيد من أجل النبى عليه السلام ولولا ذلك كان أكله جائزًا، قال سليمان: ومما يدل على أنه صيد من أجله قوله فى الحديث: (فرده يقطر دمًا) كأنه صيد فى ذلك الوقت. قال إسماعيل: وأما رواية مالك أنه أهدى إليه حمار وحش، فلا تحتاج إلى تأويل؛ لأن المحرم لا يجوز له إمساك صيد حى ولا يذكيه، وإنما يحتاج إلى التأويل من روى أنه أهدى إليه بعض الحمار. قال إسماعيل: وعلى تأويل سليمان بن حرب تكون الأحاديث غير مختلفة، أعنى حديث الهدى فى الحمار العقير، وحديث أبى قتادة، وحديث الصعب، ويفسرها كلها حديث المطلب عن جابر أن النبى عليه السلام قال: (صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يُصد لكم) وقد ذكرته فى باب: إذا صاد الحلال فأهدى للمحرم. قال الطبرى: معناه: أو يُصد لكم بأمركم. قال غيره: وهذا الحديث يشهد لمذهب مالك أنه أعدل المذاهب وأولاها بالصواب. قال المهلب: وفى حديث الصعب من الفقه رد الهدية إذا لم تحل للمهدَى له، وفيه الاعتذار لرد الهدية.(4/489)
1 - باب مَا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ مِنَ الدَّوَابِّ
/ 242 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، قَالَ: (خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِى قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ) . وقال ابْن عُمَرَ: قَالَتْ حَفْصَةُ: قَالَ، عليه السَّلام: (خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ، لا حَرَجَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُنَّ: الْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ) . / 243 - وفيه: عَائِشَةَ، عن النَّبِىّ، عليه السَّلام، مثل معناه. / 244 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ، بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فِى غَارٍ بِمِنًى؛ إِذْ نَزَلَ عَلَيْهِ) وَالْمُرْسَلاتِ) [المرسلات: 1] وَإِنَّهُ لَيَتْلُوهَا، وَإِنِّى لأتَلَقَّاهَا مِنْ فِيهِ، وَإِنَّ فَاهُ لَرَطْبٌ بِهَا؛ إِذْ وَثَبَتْ عَلَيْنَا حَيَّةٌ فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (اقْتُلُوهَا) ، فَابْتَدَرْنَاهَا، فَذَهَبَتْ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (وُقِيَتْ شَرَّكُمْ، كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهَا) . قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: أَرَدْنَا بِهَذَا أَنَّ مِنًى مِنَ الْحَرَمِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا بِقَتْلِ الْحَيَّةِ بَأْسًا. / 245 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) قَالَ لِلْوَزَغِ: (فُوَيْسِقٌ) ، وَلَمْ أَسْمَعْهُ أَمَرَ بِقَتْلِهِ. أجمع العلماء على القول بجملة الأحاديث، إلا أنهم اختلفوا فى تفصيلها، فقال بظاهر حديث ابن عمر وحفصة: مالك والثورى والشافعى وأحمد وإسحاق، قالوا: ولم يعن بالكلب العقور الكلاب الإنسية، وإنما عنى بذلك كل سبع يعقر، كذلك فسره مالك وابن عيينة وأهل اللغة. وقال الخليل: كل سبع عقور كلب. وذكر ابن عيينة أن زيد بن(4/490)
أسلم فسره له كذلك، وكلهم لا يرى ما ليس من السباع فى طبعه العقر والعداء فى الأغلب من معنى الكلب العقور فى شئ، ولا يجوز عندهم للمحرم قتل الهر الوحشى ولا الثعلب ولا الضبع. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يقتل المحرم من السباع إلا الخمس المذكورة فى الحديث فقط، والكلب العقور عنده الكلب المعروف، وليس الأسد فى شىء منه. وأجازوا قتل الذئب خاصة من غير الخمس، وسوى هذه الخمس والذئب ابتدأته أم لا، ولا شىء عليهم فيها، وأما غيرها من السباع فلا يقتلها؛ فإن قتلها فداها إلا أن تبتدئه، فإن بدأته فقتلها فلا شىء عليه. وقال الشافعى: لا جزاء فى قتل جميع ما يكل، سواء كان طبعه الابتداء بالضرر أم لا، ولا جزاء عنده إلا فى قتل صيد حلال أكله من سباع الوحش أو الطير. قال ابن القصار: والحجة على أبى حنيفة أن الكلب العقور اسم لكل ما يتكلب من أسد أو نمر أو فهد، فيجب أن يكون جميع ما يتناوله هذا الاسم داخل تحت ما أبيح للمحرم قتله. وقد روى زيد ابن أسلم عن عبد ربه، عن أبى هريرة أنه قال: الكلب العقور: الأسد. وقال (صلى الله عليه وسلم) فى عتبة بن أبى لهب: (اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك. فعدا عليه الأسد فقتله) . فإذا أباح عليه السلام قتل الكلب العقور لخوف عقه وضرره، فالسبع الذى يفترس ويقتل أعظم وأولى؛ لأنه لا يجوز أن يمنع من قتله مع إباحه قتل ما هو دونه، ولما قال عليه السلام: (خمس فواسق يقتلن) فسماهن فواسق لفسقهن وخروجهن لما عليه سائر الحيوان، لما فيهن من الضرر، فأباح قتلهن لهذه العلة، كان الضرر الذى فى الأسد والنمر والفهد أعظم، فهو بالفسق وإباحة القتل(4/491)
أولى؛ لأنه إذا نص على شىء لضرره، فإنما نبه بذلك على أن الجنس الذى هو أكثر ضررًا أولى بذلك. كما ذكر الحية والعقرب، فنبه بهما على ما هو أعظم ضررًا من جنسهما، ونص على الفأرة، ونبه على ما هو أقوى حيلة من جنسها، ونص على الغراب والحِدَأ؛ لأنهما [. . . . . .] ويأخذان أزواد الناس، فكذلك نص على الكلب لينبه به على ما هو أعظم ضررًا منه، وأجاز قتل الأفعى، وهى داخلة عنده فى معنى الكلب العقور، والكلب العقور عنده صفة، لا عين مسماة. قال المؤلف: وقد نقض أبو حنيفة أصله فى الذئب فألحقه بالخمس، وليس بمذكور فى الحديث، فكذلك يلزمه أن يجعل الفهد والنمر وما أشبههما فى العدى بمنزلة الذئب. فإن قيل: إن الضبع من السباع، وهى غير داخلة عندكم فيما أبيح للمحرم قتله، قيل: قد قال الأوزاعى: كان العلماء بالشام يعدونها من السباع، ويكرهون أكلها. وذكر ابن حبيب عن مالك قال: لا يقتل الضبع بحال، وقد جاء أن فيها شاة إلا أن تؤذيه. وكذلك قال فى الغراب والحدأة. قال أشهب: سألت مالكًا: أيقتلها المحرم من غير أن يضراَّ به؟ قال: لا، إنما أذن فى قتلهما إذا أضراَّ فى رأيى، وإذا لم يضراَّ فهما صيد، وليس للمحرم أن يصيد، وليسا مثل العقرب والفأرة، ولا بأس بقتلهما وإن لم يضراَّ، وكذلك الحية. والحجة على الشافعى فى أنه لا يوجب الجزاء فيما خاصَّةُ عمومُ قوله تعالى: (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا) [المائدة: 95] والصيد: عبارة عن الاصطياد، والأصطياد يقع على ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل،(4/492)
وليس المعتبر فى وجوب الجزاء كون المقتول مأكولا؛ لأن الحمار المتولد عن الوحشى والأهلى لا يؤكل، وفى قتله الجزاء على المحرم. قال ابن المنذر: ولا خلاف بين العلماء فى جواز قتل المحرم وخلاف قول أهل العلم، وروى عن عطاء ومجاهد قالا: لا يقتل الغراب، ولكن يرمى. وهذا خلاف السنة وخلاف قول أهل العلم، وروى عن عطاء ومجاهد قالا: لا يقتل الغراب، ولكن يرمى. وهذا خلاف السنة، وشذت فرقة من أهل الحديث فقالوا: لا يقتل المحرم إلا الغراب الأبقع خاصة. ورووا فى ذلك حديثًا عن قتادة، عن ابن المسيب، عن عائشة، عن النبى عليه السلام وهذا الحديث لا يعرف من حديث ابن المسيب، ولم يروه عنه غير قتادة، وهو مدلس، وثقات أصحاب سعيد من أهل المدينة لا يوجد عندهم، مع معارضته حديث ابن عمر وحفصة، فلا حجة فيه، وأجمع العلماء على جواز قتل الحية فى الحل والحرم، وقال سفيان: قال لنا زيد ابن أسلم: وأى كلب أعقر من الحية. قال الطبرى: فإن قيل: قد صح أمر النبى عليه السلام بقتل الحيات، فما أنت قائل فيما روى مالك عن نافع، عن أبى لبابة بن عبد المنذر أخبره (أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نهى عن قتل حيات البيوت) . قيل: قد اختلف السلف قبلنا فى ذلك، فقال بعضهم بظاهر أمر النبى عليه السلام بقتل الحيات كلهامن غير استثناء شىء منها، كما روى أبو إسحاق، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الله قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (اقتلوا الحيات كلهن، فمن خاف ثأرهن فليس منى) روى هذا القول عن عمر وابن مسعود. وقال آخرون: لا ينبغى أن يقتل عوامر البيوت وسكانها إلا بعد مناشدة العهد الذى أخذ عليهن، فإن ثبت بعد إنشاده قُتل، واعتلوا بحديث أبى سعيد الخدرى أن النبى عليه السلام قال: (إن بالمدينة جنا قد أسلموا، فإن رأيتم منها شيئًا فآذنوه ثلاثة أيام، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنه شيطان) .(4/493)
قال الطبرى: وجميع هذه الأخبار عن النبى عليه السلام حق وصدق، وليس فى شىء منها خلاف لصاحبه، والرواية عن النبى عليه السلام أنه أمر بقتل الحيات من غير استثناء شىء منها خبر مجمل، بَّين معناه الخبرُ الآخر أن النبى عليه السلام نهى عن قتل جنان البُيوت وعوامرها إلا بعد النشدة بالعهود والمواثيق التى أخذ عليها حذار الإصابة، فأقل ذلك شيئًا من التمثل بالحيات، فيلحقه من مكروه ذلك ما لحق الفتى المعرس بأهله، إذ قتل الحية التى وجدها على فراشه قبل مناشدته إياها، وذلك أنه ربما تمثل بعض الجن ببعض صور الحيات، فيظهر لأعين بنى آدم، كما روى ابن أبى مليكة عن عائشة بنت طلحة، أن عائشة أم المؤمنين رأت يومًا فى مغتسلها حية فقتلتها، فأتيت فى منامها فقيل لها: إنك قتلت مسلمًا. فقالت: لو كان مسلمًا ما دخل على أمهات المؤمنين. فقيل: ما دخل عليك إلا وعليك ثيابك. فأصبحت فزعة، ففرقت فى المساكين اثنا عشر ألفا. وقال ابن نافع: لا ينذر عوامر البيوت إلا بالمدينة خاصة على ظاهر الحديث. وقال مالك: أحب إلى أن تنذر عوامر البيوت بالمدينة وغيرها، وذلك بالمدينة أوجب، ولا ينذر فى الصحارى. وقال غيره: المدينة وغيرها سواء فى الإنذار؛ لأن العلة إسلام الجن، ولا يحل قتل مسلم جنى ولا إنسى. قال المهلب: فى تسمية النبى (صلى الله عليه وسلم) الوزغ: فواسقًا ما يدل على عقرها، كما سمى العقورات كلها: فواسق، وقد روى الدراوردى عن مالك، عن ابن شهاب، عن سعد بن أبى وقاص (أن النبى عليه السلام أمر بقتل الوزغ) ولكن الحديث مرسل؛ لأن ابن(4/494)
شهاب بينه وبين سعد رجل، وذكر ابن المواز عن مالك قال: سمعت أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمر بقتل الوزغ، فأما المحرم فلا يقتلها؛ فإن قتلها رأيت أن يتصدق مثل شحمة الأرض. قيل له: وقد أذن الرسول (صلى الله عليه وسلم) فى قتلها؟ قال: وكثير مما أذن الرسول (صلى الله عليه وسلم) فى قتله لا يقتله المحرم. وروى ابن القاسم وابن وهب، عن مالك قال: لا أرى أن يقتل المحرم الوزغ؛ لأنه ليس من الجنس الذى أمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) بقتلهن؛ فإن قتلها تصدق. قال: ولا يقتل المحرم قردًا ولا خنزيرًا ولا الحية الصغيرة ولا صغار السباع. وقال الشافعى: ما يجوز للمحرم قتله فصغاره وكباره سواء لا شىء عليه فى قتلها. وقال مالك فى الموطأ: ولا يقتل المحرمُ ما ضَرَّ من الطير إلا ما سَمَّى الرسولُ (صلى الله عليه وسلم) : الغراب والحدأة، فإن قتل غيرهما من الطير فَدَاهُ. قال إسماعيل: واختلف المدنيون فى الزنبور، فشبهه بعضهم بالحية والعقرب، فإن عرض لإنسان فدفعه عن نفسه لم يكن عليه فيه شئ. وذكر ابن المنذر أن عمر بن الخطاب كان يأمر بقتله، وقال عطاء وأحمد: لا جزاء فيه. وقال بعضهم: يُطعم شيئًا. قال إسماعيل: وإنما لم يدخل أولاد الكلب العقور فى حكمه؛ لأنهن لا يعقرن فى صغرهن، وقد سمى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الخمس فواسق، والفواسق: فواعل، والصغار لا فعل لهن. وقال الخطابى: أصل الفسق الخروج عن الشئ، ومنه قوله: (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) [الكهف: 50] أى: خرج، وسمى الرجل فاسقًا لانسلاخه من الخير. وقال ابن قتيبة: لا أرى الغراب سماه فاسقًا إلا لتخلفه عن أمر نوح(4/495)
حين أرسله، ووقوعه على الجيفة وعصيانه إياه. وحكى عن الفراء أنه قال: ما أحسب الفأرة سميت فويسقة إلا لخروجها من جحرها على الناس. قال أبو سليمان: ولا يعجبنى واحد من القولين، وقد بقى عليهما أن يقولا مثل ذلك فى الحدأة والكلب، إذ كان هذا النعت يجمعهما، وهذا اللقب يلزمهما لزومه الغراب والفأرة، وإنما أراد والله أعلم بالفسق الخروج من الحرمة، يقول: خمس لا حرمة لهن، ولا بغيًا عليهن، ولا فدية على المحرم فيهن إذا أصابهن، وإنما أباح قتلهن لعاديتهن. وفيه: وجه آخر، وهو أن يكون أراد بتفسيقها تحريم أكلها، كقوله تعالى وقد ذكر المحرمات: (ذَلِكُمْ فِسْقٌ) [المائدة: 3] يدل على صحة هذا ما رواه المسعودى، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، عن النبى عليه السلام قال: (الغراب فاسق. فقال رجل من القوم: أيؤكل لحم الغراب؟ قالت: لا، ومن يأكله بعد قوله: فاسق) . وروت عمرة مثله عن عائشة وقالت: والله ما هو من الطيبات، تريد قوله تعالى: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ) [الأعراف: 157] ومما يدل على أن الغراب يقذر لحمه قول الشاعر: فما لحم الغراب لنا بزاد ولا سرطان أنهار البريص
2 - باب لا يُعْضَدُ شَجَرُ الْحَرَمِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ) . / 246 - فيه: أَبُو شُرَيْح، أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى(4/496)
مَكَّةَ: ائْذَنْ لِى أَيُّهَا الأمِيرُ أُحَدِّثْكَ قَوْلا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لِلْغَدِ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، فَسَمِعَتْهُ أُذُنَايَ، وَوَعَاهُ قَلْبِى، وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَاىَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ، إِنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلا يَحِلُّ لامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلا يَعْضُدَ بِهَا شَجَرَةً. . .) الحديث إلى قوله: (أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ، إِنَّ الْحَرَمَ لا يُعِيذُ عَاصِيًا، وَلا فَارًّا بِدَمٍ، وَلا فَارًّا بِخُرْبَةٍ) . قال الطبرى: معنى قوله عليه السلام: (لا يعضد بها شجرة) يعنى: لا يفسد ولا يقطع، وأصله من عضد الرجلُ الرجلَ، إذا أصاب عضده ذلك، عضد فلان فلانًا يعضد عضدًا، وفى كتاب العين: العضد من السيوف: الممتهن فى قطع الشجر. قال الطبرى: لا يجوز قطع أغصان شجر مكة التى أنشأها الله فيها مما لا صنع فيه لبنى آدم، إذا لم يجز قطع أغصانها فقطع شجرها بالنهى عن ذلك أولى. وقال ابن المنذر: أجمع العلماء على تحريم قطع شجر الحرم، واختلفوا فيما يجب على من قطعها، فذهب مالك إلى أنه لا يجب عليه إلا الاستغفار، وهو مذهب عطاء، وبه قال أبو ثور، وذكر الطبرى عن عمر بن الخطاب مثل معناه. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن قطع ما أنبته آدمى فلا شىء عليه، وإن قطع ما أنبته الله كان عليه الجزاء حلالا كان أو حرامًا، فإن بلغ هديًا كان هديًا، وإن قُوم طعامًا فأطعم كل مسكين نصف صاع. وقال الشافعى: عليه الجزاء فى الجميع، المحرم والجلال فى ذلك سواء، فى الشجرة الكبيرة بقرة، وفى الخشب قيمته ما بلغت دمًا كان أو طعاما. وحكى بعض أصحاب الشافعى أن مذهبه كمذهب أبى حنيفة فيما أنبته الآدمى، ذكره ابن القصار، واحتجوا بقوله عليه(4/497)
السلام: (لا يقطع شجرها) قالوا: وهذا نهى يقتضى التحريم، وإذا ثبت تحريمه وجب فيه الجزاء كالصيد. قال ابن القصار: فيقال لهم: النهى عن قطعه لا يدل على وجوب الجزاء، كالنهى عن تنفير الصيد والإشارة والمعاونة عليه، وقد روى أن عمر بن الخطاب رأى رجلا يقطع من شجر الحرم، فسأله: لِمَ تقطعه؟ فقال: لا نفقة معى، فأعطاه نفقةً ولم يوجب عليه شيئًا. ولو كان قطع الشجر كالصيد لوجب على المحرم إذا قطعها فى حل أو حرم كما يجب فى الصيد. قال ابن المنذر: ولا أجد دلالة أوجب بها فى شجر الحرم شيئًا من كتاب ولا سنة ولا إجماع، وبقول مالك أقول، وأجمع العلماء على إباحة أخذ كل ما ينبته الناس فى الحرم من البقول والزرع والرياحين وغيرها، فوجب أن يكون ما يغرسه الناس من النخيل والشجر مباح قطعه؛ لأن ذلك بمنزلة الزرع الذى يزرعونه، فقطعه جائز، وما يجوز قطعه فمحال أن يكون فيه جزاء، هذا يقال للشافعى، فإن قال: فأوجب الجزاء فيما أنبته الله. قيل: لا أجد دلالة أُوجب بها ذلك من كتاب ولا سنة ولا إجماع، فوجب رَدُّ ما أنبته الله إلى ما أنبته الآدمى فى سقوط الجزاء. وقوله: (فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دمًا) اختلف العلماء فيمن أصاب حدا فى غير الحرم من قتل أو زنا أو سرقة، ثم لجأ إلى الحرم، هل تنفعه استعاذته؟ فقالت طائفة: لا يجالس ولا يبايع ولا يكلم ولا [. . . . . .] حتى يخرج منه، فيؤخذ بالواجب لله عليه، وإن أتى حدا فى الحرم أقيم عليه فيه.(4/498)
روى ذلك عن ابن عباس، وهو قول عطاء والشعبى والحكم، وعلة هذه المقالة ظاهر قوله تعالى: (وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) [آل عمران: 97] قالوا: فجعل الله حرمه آمنا لمن دخله، فداخله آمن من كل شىء وجب عليه قبل دخوله حتى يخرج منه، وأما من كان فيه فأتى فيه حدا فالواجب على السلطان أخذه به؛ لأنه ليس ممن دخله من غيره. قاله الطحاوى والطبرى. قال الطبرى: وعلتهم فى أنه لا يكلم ولا يبايع حتى يخرج من الحرم أنه لما كان غير محظور عليهم، كان لهم فعله؛ ليكون سببًا إلى خروجه وأخذ الحدِّ منه. وقال آخرون: لا يُخرج من لجأ إلى الحرم حتى يخرج منه فيقام عليه الحد، ولم يحظروا مبايعته ولا مجالسته. روى ذلك عن ابن عمر، وقال: لو وجدت قاتل عمر فى الحرم ما هجته. وعلة هذه المقالة أن الله جعل الحرم أَمنا لمن دخله، ومن كان خائفًا وقوع الاحتيال عليه، فإنه غير آمن، فغير جائز إخافته بالمعانى التى تضطره إلى الخروج منه لأخذه بالعقوبة التى هرب من أجلها. وقال آخرون: من أتى فى الحرم ما يجب به عليه الحد؛ فإنه يقام عليه ذلك فيه، ومن أتاه فى غيره فدخله مستجيرًا به، فإنه يُخرج منه ويُقام عليه الحد. روى ذلك عن ابن الزبير والحسن ومجاهد وعطاء وحماد، وعلة هذه المقالة أن الله جعل الحرم لمن دخله أمنةً من أن يعاقب فيه، ولم يجعله أمنةً من الجزاء الذى أوجبه عن من فعله. وذكر الطحاوى عن أبى يوسف قال: الحرم لا يجير ظالمًا، وإن من لجأ إليه أقيم عليه الحد الذى وجب قبل أن يلجأ إليه. ويشبه هذا أن يكون مذهب عمرو بن سعيد لقوله: (إن الحرم لا يعيذ(4/499)
عاصيًا ولا فارا بخُرْبة) فلم ينكر ذلك عليه أبو شريح، وقال قتادة فى قوله تعالى: (وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) [آل عمران: 97] كان ذلك فى الجاهلية، فأما اليوم فلو سرق فى الحرم قُطع، ولو قَتل فيه قُتل، ولو قُدر فيه على المشركين قُتلوا، ولا يمنع الحرم من إقامة الحدود عند مالك، واحتج بعض أصحابه بأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة من القتل، وهذا القول أولى بالصواب؛ لأن الله تعالى أمر بقطع السارق، وجلد الزانى، وأوجب القصاص أمرًا مطلقا ولم يخص به مكانا دون مكان، وفإقامة الحدود تجب فى كل مكان على ظاهر الكتاب. ومما يشهد لذلك أمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) بقتل الفواسق المؤذية فى الحرم، فقام الدليل من هذا أن كل فاسق استعاذ بالحرم أنه يقتل بجريرته، ويؤخذ بقصاص جُرْمه. وقال إسماعيل بن إسحاق: وقد أنزل الله الحدود والأحكام على العموم بين الناس، فلا يجوز أن يترك حكم الله فى حرم ولا غيره؛ لأن الذى حرم الحرم هو الذى حرم معاصيه أن ترتكب، وأوجب فيها من الأحكام ما أوجب. وسيأتى طرف من هذه المسألة فى باب: من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، فى كتاب الديات إن شاء الله. وذكر الطحاوى عن أبى حنيفة وزفر وأبى يوسف ومحمد كقول ابن عباس، إلا أنهم يجعلون ذلك أمانا فى كل حد يأتى على النفس من حدود الله وحدود عباده، مثل أن يزنى وهو محصن، أو يرتد عن الإسلام، أو يقتل رجلا عمدًا، أو يقطع طريق المسلمين، فيجب عليه القتل فيلجأ إلى الحرم فيدخله، ولا يجعلون ذلك على الحدود التى لا تأتى على النفس، كقطع السارق والقود فى قطع الأيدى وشبهها، والتعزير الواجب بالأقوال الموجبة للعقوبات.(4/500)
قال الطحاوي: ولا وجه لتفريقهم بين الحدود التى تأتى على النفس وبين التى تأتى عليها؛ لأن الحرم إن كان دخوله يؤمن عند العقوبات فى الأنفس، ويؤمن فيما دونها، وإن كان لا يؤمن من العقوبات فيما دون الأنفس فلا يؤمن منها فى الأنفس، ولم يفرق ابن عباس بين شىء من ذلك، فقوله أولى من قول أبى حنيفة وأصحابه لا سيما ولا يُعلم أحد من أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) خالفه فى قوله.
3 - باب لا يُنَفَّرُ صَيْدُ الْحَرَمِ
/ 247 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ النَّبِيّ، عليه السَّلام: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ، فَلَمْ تَحِلَّ لأحَدٍ قَبْلِى، وَلا تَحِلُّ لأحَدٍ بَعْدِى، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِى سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ لا يُخْتَلَى خَلاهَا، وَلا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلا لِمُعَرِّفٍ) ، وَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِلا الإذْخِرَ لِصَاغَتِنَا وَقُبُورِنَا، فَقَالَ: (إِلا الإذْخِرَ) . فَقَالَ عِكْرِمَةَ: يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، هُوَ أَنْ يُنَحِّيَهُ مِنَ الظِّلِّ يَنْزِلُ مَكَانَهُ. قال الطبرى: فيه البيان البين أن صيد الحرم حرام اصطياده، وذلك أن النبى عليه السلام إذ نهى عن تنفير صيده؛ فاصطياده أوكد فى التحريم من تنفيره. فإن قيل: أفنقول: إن نفر صيده فعليه الجزاء؟ قيل: إن أداه تنفيره سببًا إلى هلاكه لم يجب عليه شىء غير التوبة، ولا خلاف فى هذا بين الفقهاء. وقد روى عن عطاء أنه من أخذ طائرًا فى الحرم ثم أرسله قال: يطعم شيئًا لما نفره. وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه لا شىء فى التنفير، روى شعبة عن الحكم، عن شيخ من أهل مكة أن حمامًا كان على البيت فذرق على يد عمر، فأشار عمر بيده فطار، فوقع(4/501)
على بعض بيوت مكة، فجاءت حية فأكلته، فحكم عمر على نفسه بشاة، فلم ير عمر لما نفر الحمامة عليه شيئًا حتى تلفت، ورأى أن تلفها كان منسبب تنفيره، وإنما استجاز عمر تنفيره من الموضع الذى كان واقفًا عليه مع علمه أن تنفيره صيده غير جائز؛ لأنه ذرق على يده، فكان له طرده عن الموضع الذى يلحقه أذاه فى كونه فيه، وكذلك كان عطاء يقول فى معنى ذلك. قال ابن جريح: قلت لعطاء: كم فى بيضة الحمام؟ قال: نصف درهم، فقال له إنسان: بيضة وجدتها على فراشى أميطها عنه؟ قال: نعم. قال: وجدتها فى سهوة وفى مكان من البيت؟ قال: لا تمطها. فرأى عطاء إن أماط عن فراشه بيضة من بيض حمام غير حرج، ولا لازم بإماطته إياها شئ؛ لأن مِنْ تِرْكه إياها على فراشه عليه أذى، ولم ير جائزًا إماطتها عن الموضع الذى لا أذى عليه فى كونها فيه، فكذلك كان فعل عمر فى إطارته الحمامة التى ذرقت على يده من الموضع الذى كانت واقفة عليه. وقوله: (لا يختلى خلاها) يريد لا يقطع عشبها، والخلى مقصور: كل كلأ رطب؛ فإذا يبس كان حشيشًا، قال الطبرى: واتفق الفقهاء أن نهيه عليه السلام عن اختلاء خلاها، هو مما ينبت فيه مما أنبته الله ولم يكن لآدمى فيه صنع، فأما ما أنبته الآدميون فلا بأس باختلائه. واختلف السلف فى الرعى فى خلاها، هل هو داخل فى نهيه عليه السلام عن الاختلاء أم لا؟ فقال بعضهم: ذلك غير داخل فى النهى عن الاختلاء، ولا بأس بالرعى فيها. روى ذلك عن عطاء وطاوس ومجاهد وابن أبى ليلى، قالوا: لا بأس بالرعى فى الحرم إلا أنه لا يخبط.(4/502)
قال المؤلف: وحكى ابن المنذر مثله عن أبى يوسف والشافعى. قال الطبرى: وعلة هذه المقالة أن النهى إنما ورد فى الاختلاء دون الرعى فيها، والراعى غير مختل؛ لأن المختلى هو الذى يقطع الخلى بنفسه. وقال آخرون: لا يجوز الرعى فيها؛ لأن الرعى أكثر من الاختلاء. هذا قول أبى حنيفة وأبى يوسف ومحمد، قالوا: لو جاز أن يرعى فيها جاز أن يحتش فيه إلا الإذخر خاصة. وقال مالك: لا يحتش أحد لدابة. واعتلوا بقوله عليه السلام: (لا يختلى خلاها) واختلاؤه: استهلاك له وإماتة، وإرعاء المواشى فيه أكثر من احتشاشه فى الاستهلاك. فإن قيل: فقد قلتم إن العلماء متفقون على أن النهى من الاختلاء المراد به ما أنبته الله لم بكن لآدمى فيه صنع، فكيف جوزتم اجتناء الكمأة، وهى مما أنبته الله تعالى ولا صنع فيها لبنى آدم؟ فيقال له: إنما أجزنا ذلك؛ لأن الكمأة لا يقع عليها اسم شجر ولا حشيش، وفى إجماع الجميع على أنه لا بأس بشرب مياه آبار والانتفاع بترابه، الدليل الواضح على أن ما أحدث الله فى حرمه مطلق أخذه والانتفاع به كالمكأة؛ لأنها لا تستحق اسم كلأ ولا شجر، وإنما هى كبعض ما خلق فيها من الحجر والمدر والمياه؛ إذ لا أصل لها ثابت. فإن قيل: كيف ساغ للعباس أن يسأل النبى (صلى الله عليه وسلم) استثناء الإذخر، وهو يسمعه يحرم الاختلاء وقطع الشجر؟ قيل: فى ذلك جوابان: قال المهلب: يحتمل أن يكون تحريم مكة خاصَّةً من تحريم الله تعالى ويكون سائر ما ذكر فى الحديث من تحريم الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، فلذلك استثنى الإذخر، ولو كان من تحريم الله ما استبيح منه إذخر ولا غيره، وقد تأتى فى آية وفى حديث أشياء فرض، ومنها سنة، ومنها رغبة، ويكون الكلام فيها كل واحد، قال الله تعالى: (يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ(4/503)
وَإِيتَاء ذِى الْقُرْبَى) [النحل: 90] والعدل فرض، والإحسان وإيتاء ذى القربى وسنن ورغائب، ومثله قوله عليه السلام: (إذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد) نافلة. وفيها قول آخر: يحتمل أن يكون تحريم مكة وكل ما ذكر فى الحديث من تحريم الله، ويكون وجه استثنائه عليه السلام تحليل الإذخر دون استعلام الله تحليل ذلك؛ لأن الله قد كان قد أعلم نبيه فى كتابه بتحليل المحرمات عند الضرورات، فمنها أن الله حرم الميتة والدم ولحم الخنزير وسائر ما فى الآية وأحلها لعباده عند اضطرارهم إليها بقوله: (فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [المائدة: 3] فلما كان هذا أصلا من أصول الشريعة قد أنزله الله فى كتابه على رسوله (صلى الله عليه وسلم) ، وأخبره العباس أن الإذخر لا غنى بالناس عنه لقبورهم وبيوتهم وصاغتهم، حكم النبى عليه السلام بكم المباحات عند الضرورات، وهذا تأويل حسن.
4 - باب لا يَحِلُّ الْقِتَالُ بِمَكَّةَ
/ 248 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، يَوْمَ افْتَتَحَ مَكَّةَ: (لا هِجْرَةَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا، فَإِنَّ هَذَا بَلَدٌ حَرَّمَ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ، وَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لأحَدٍ قَبْلِى، وَلَمْ يَحِلَّ لِى إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ. . .) الحديث. قال الطبرى: فيه الإبانة عن أن مكة غير جائز استحلالها، ولا نصب الحرب عليها لقتال بعد ما حرمها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى قيام الساعة،(4/504)
وذلك أنه عليه السلام أخبر حين فرغ من أمر المشركين بها أنها لله حرم، وأنها لم تحل لأحد قبله، ولا تحل لأحد بعده بعد تلك الساعة التى حارب فيها المشركين، وأنها قد عادت حرمتها كما كانت، فكان معلوم بقوله هذا أنها لا تحل لأحد بعده بالمعنى الذى أحلت له به، وذلك محاربة أهلها وقتالهم وردهم عن دينهم. قال المؤلف: إن قال قائل: قد رأينا الحَجَّاج وغيره قاتل مكة ونصب الحرب عليها، وأن القرمطى الكافر قلع الحجر الأسود منها وأمسكه سبعة عشر عامًا، فما وجه ذلك؟ قيل له: معناه بَيِّن بحمد الله، وذلك أن الحَجَّاج وكل من نصب الحرب عليها بعد الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يكن ذلك مباحًا ولا حلالا كما حل للنبى عليه السلام وليس قول الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (وقد عادت حرمتها كما كانت، ولا يحل القتال بها لأحد بعدى) . أن هذا لا يقع ولا يكون، وقد يَرِدُ ذلك، وقد أنذرنا عليه السلام أن ذا السويقين من الحبشة يهدم الكعبة حَجَرًا حَجَرًا، وإنما معناه أن قتالها ونصب الحرب عليها حرام بعد النبى (صلى الله عليه وسلم) على كل أحد إلى يوم القيامة، وأن من استباح ذلك فقد ركب ذنبًا عظيمًا، واستحل محرمًا شنيعًا. قال الطبرى: فإن قيل: فلو ارتد مرتد بمكة، أو ارتد قوم فيها فمنع أهلها السلطان من إقامة الحد عليه، أيجوز للسلطان بها حربهم وقتالهم حتى يصل إلى من يجب عليه إقامة الحد؟ قيل: يجوز ذلك، ولكن يجب على الإمام الاحتيال لإخراجهم من الحرم حتى يقيم عليهم ما أوجبه الله فيهم، والحيلة فى ذلك حصار مانعيهم، والحول بينهم وبين وصول الطعام إليهم وما يُطرون مع فقده إلى إمكان السلطان منهم وممن لزمه حَدُّ الله تعالى حتى يخرج من الحرم ويقام عليه.(4/505)
5 - باب الْحِجَامَةِ لِلْمُحْرِم
وَكَوَى ابْنُ عُمَرَ ابْنَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَيَتَدَاوَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ طِيبٌ. / 249 - فيه: ابْن عَبَّاس، احْتَجَمَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، وَهُوَ مُحْرِمٌ. / 250 - وفيه: ابْن بُحَيْنَةَ، قَالَ: احْتَجَمَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ مُحْرِمٌ، بِلَحْىِ جَمَلٍ فِى وَسَطِ رَأْسِهِ. قوله: (بلحى جمل) هو مكان بطريق مكة، واختلف العلماء فى الحجامة للمحرم، فرخص فيها عطاء ومسروق وإبراهيم وطاوس والشعبى، وهو قول الثورى والشافعى وأحمد وإسحاق، وأخذوا بظاهر هذا الحديث، وقالوا: ما لم يقطع الشعر. وقال قوم: لا يحتجم المحرم إلا من ضرورة. روى ذلك عن ابن عمر، وبه قال مالك، وحجة هذا القول أن بعض الرواة يقول إن النبى (صلى الله عليه وسلم) احتجم لضرر كان به، رواه هشام بن حسان عن عكرمة، عن ابن عباس (أن النبى عليه السلام إنما احتجم وهو محرم فى رأسه لأذى كان به) . ولا خلاف بين العلماء أنه لا يجوز له حلق شىء من شعر رأسه حتى يرمى جمرة العقبة يوم النحر إلا من ضرورة، وأنه إن حلقه من ضرورة فعليه الفدية التى قضى بها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على كعب بن عجرة، وإن لم يحلق المحتجم شعرًا فهو كالعرق يقطعه، أو الدمل يبطه، أو القرحة ينكأها، ولا يضره ذلك، ولا شىء عليه فيه عند جماعة العلماء. وقال الطبرى: فيه من الفقه الإبانة أن للمحرم إذا احتاج إلى إخراج(4/506)
دمه: الاحتجامَ والفصدَ ما لم يقطع شعرًا، وأن له العلاج لكل ما عرض له من علة فى جسده بما رجى دفع مكروهها عنه من الأدوية بَعْدَ ألا يأتى فى ذلك ما هو محظور عليه فى حال إحرامه، ثم لا يلزمه بكل ما فعل من ذلك فدية ولا كفارة، وكذلك له بط دمل وقلع ضرس إن اشتكاه؛ لأن النبى عليه السلام احتجم فى حال إحرامه لحاجته إلى ذلك، ثم لم ينقل عنه ناقل أنه حظر ذلك على أحد من أمته ولا أنه افتدى، فبان بذلك أن كل ما كان نظير الحجامة التى هى إخراج الدم من جسده فله فعله، ونظير ذلك بط الحدس، وقلع الضرس، وفصد العِرْق، وقطع الظفر الذى انقطع فتعلق فآذى صاحبه، أن على المحرم قلعه، ولا يلزمه لذلك كفارة ولا فدية. وقال ابن المنذر: أجمعوا أن للمحرم أن يزيل عن نفسه ما انكسر من أظفاره، وأجمعوا أنه ممنوع من أخذ أظفاره، وذكر عن الكوفيين أن المحرم إذا أصابه فى أظافيره أذى فقصها يكفر بأى الكفارات شاء. وقال أبو ثور: فيها قولان: أحدهما: قول الكوفيين، والثانى: لا شىء عليه، بمنزلة الظفر ينكسر. وقال ابن القاسم: لا شىء عليه إذا أراد أن يداوى قرحة فلم يقدر على ذلك إلا أن يقلم أظفاره. وقال ابن عباس: إذا وجعه ضرسه ينزعه، فإن الله لا يصنع بأذاكم، وكذلك إذا انكسر ظفره، وقاله عطاء وإبراهيم وسعيد بن المسيب، وقال عطاء: ينتقش الشوكة من رجله ويداوى جرحه. وقال عطاء: إن أصابته شجة فلا بأس أن يأخذ ما حولها من الشعر، ثم يداويها بما ليس فيه طيب.(4/507)
6 - باب تَزْوِيجِ الْمُحْرِمِ
/ 251 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ. اختلف الآثار فى تزويج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ميمونة، فروى ابن عباس أنه تزوجها وهو محرم، وروى أنه تزوجها وهو حلال، والروايات فى ذلك متواترة عن أبى رافع مولى النبى عليه السلام وعن سليمان ابن يسار وهو مولاها، وعن يزيد الأصم وهو ابن أختها. فمنها حديث ميمون بن مهران، عن يزيد بن الأصم قال: حدثتنى ميمونة بنت الحارث: (أن النبى عليه السلام تزوجها وهو خلال) قال يزيد: كانت خالتى، وخالة ابن عباس. وجمهور علماء المدينة يقولون: لم ينكح رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ميمونة إلا وهو حلال. روى مالك، عن ربيعة، عن سليمان بن يسار (أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعث أبا رافع مولاه ورجلاً من الأنصار يزوجاه ميمونة بنت الحارث، ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالمدينة قبل أن يخرج) . واختلف الفقهاء فى ذلك من أجل اختلاف الآثار، فذهب أهل المدينة إلى أن المحرم لا يَنكح غيره، فإن فعل فالنكاح باطل، وروى ذلك عن عمر بن الخطاب، وعلى، وزيد بن ثابت، وابن عمر. وبه قال مالك، والليث، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد. واحتجوا أيضًا بحديث مالك، عن نبيه بن وهب، عن أبان ابن عثمان، عن عثمان بن عفان قال: سمعت النبى (صلى الله عليه وسلم) يقول: (لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب) . وذهب الثورى والكوفيون إلى أنه يجوز للمحرم أن ينكح وينكح(4/508)
غيره، وهو قول ابن مسعود وابن عباس وأنس بن مالك، ذكره الطحاوى، وروى عن القاسم بن محمد والنخعى، وحجتهم حديث ابن عباس وقالوا: الفروج لا تحل إلا بنكاح أو بشراء، والأُمَّة مجمعة على أن المحرم يملك ذلك بشراء وهبة وميراث ولا يبطل ملكه، فكذلك إذا ملكه بنكاح لا يبطل ملكه قياسًا على الشراء، عن الطبرى، قال: والصواب عندنا أن نكاح المحرم فاسد يجب فسخه لصحة الخير عن عثمان، عن النبى عليه السلام بالنهى عن ذلك، وخبر ابن عباس أن النبى عليه السلام تزوج ميمونة وهو محرم. فقد عارضهم فيه غيرهم من الصحابة وقالوا: تزوجها وهو حلال، فلم يكن قول القائلين: تزوجها وهو محرم أولى من قول القائلين تزوجها وهو حلال. وقد قال سعيد بن المسيب: وَهِمَ ابن عباس وإن كانت بخالته، ما تزوجها إلا بعد ما أحل، وحدثنى يعقوب، حدثنى ابن علية، حدثنى أيوب قال: أنبئت أن الاختلاف إنما كان فى نكاح رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ميمونة: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعث العباس بين يديه لينكحها إياه فأنكحه. قال بعضهم: أنكحها قبل أن يحرم، وقال بعضهم: أنكحها قبل أن يحرم، وقال بعضهم: بعدما أحرم. وقد ثبت أن عُمر وعليا وزيدًا فرقوا بين محرم نكح وبين امرأته، ولا يكون هذا إلا عن صحة ويقين. وأما قياسهم النكاح على الشراء؛ فإن الذين أفسدوا نكاح المحرم لم يفسدوه من جهة القياس والاستنباط، فلتزمهم المقاييس والنظائر والأشباءه، وإنما أفسدوه من جهة الخبر الوارد عن النبى عليه السلام بالنهى عن ذلك، فالذى ينبغى لمخالفيهم(4/509)
أن يناظروهم من جهة الخبر؛ فإن ثبت لزمهم التسليم له، وإن بطل صاروا حينئذٍ إلى استخراج الحكم فيه من المثال والأشباه، فأما والخبر ثابت بالنهى عن النكاح فلا وجه للمقايسة فيه.
7 - بَاب مَا يُنْهَى مِنَ الطِّيبِ لِلْمُحْرِمِ وَالْمُحْرِمَةِ
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: لا تَلْبَسِ الْمُحْرِمَةُ ثَوْبًا بِوَرْسٍ أَوْ زَعْفَرَانٍ. / 252 - فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ رَجُل: مَاذَا تَأْمُرُنَا أَنْ نَلْبَسَ مِنَ الثِّيَابِ. فَقَالَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام: (لا تَلْبَسُوا الْقَمِيصَ، وَلا السَّرَاوِيلاتِ. . .) إلى قوله: (وَلا تَلْبَسُوا شَيْئًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ، وَلا وَرْسُ. . .) الحديث. / 253 - وفيه: ابْن عَبَّاس، وَقَصَتْ بِرَجُلٍ مُحْرِمٍ نَاقَتُهُ، فَقَتَلَتْهُ، فَأُتِىَ بِهِ النَّبِىّ، عليه السَّلام، فَقَالَ: (اغْسِلُوهُ، وَكَفِّنُوهُ، وَلا تُغَطُّوا رَأْسَهُ، وَلا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يوم القيامة يُهِلُّ) . قال الطحاوى: ذهب قوم إلى هذه الآثار، فقالوا: كل ثوب مسه ورس أو زعفران، فلا يحل لبسه فى الإحرام، وإن غُسل؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يبين فى هذه الآثار ما غسل فى ذلك مما لم يغسل. وخالفهم فى ذلك آخرون، فقالوا: ما غسل من ذلك حتى لا ينفض فلا بأس بلبسه فى الإحرام؛ لأن الثوب الذى صُبغ إنما نهى عن لبسه فى حال الإحرام لما كان فى دخله مما هو حرام على المحرم، فإذا غسل وذهب ذلك المعنى منه عاد الثوب إلى أصله الأول، كالثوب الذى تصيبه النجاسة، فإذا طهر حلت الصلاة فيه. قال ابن المنذر: وممن رخص فى ذلك: سعيد بن المسيب،(4/510)
والنخعى، والحسن البصرى، وعطاء، وطاوس، وبه قال الكوفيون والشافعى وأبو ثور، وكان مالك يكره ذلك إلا أن يكون غُسل وذهب لونه. قال الطحاوى: وقد روى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه استثناه مِمَّا حرمه على المحرم من ذلك فقال: (إلا أن يكون غسيلا) حدثناه فهد، حدثنا يحيى بن عبد الحميد، حدثنا أبو معاوية وحدثنا ابن أبى عمران، حدثنا عبد الرحمن بن صالح الزدى، عن أبى معاوية، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبى عليه السلام بمثل حديثه الذى فى الباب، فثبت بهذا استثناء الغسيل مما قد مسه ورس أو زعفران. قال ابن أبى عمران: رأيت يحيى بن معين يتعجب من الحمانى إذ حدث بها الحديث. وقال عبد الرحمن بن صالح: هذا عندى. فوثب من فَوْرِه، فجاء بأصله، فأخرج منه هذا الحديث عن أبى معاوية كما ذكره الحمانى فكتبه عنه يحيى بن معين.
8 - باب الاغْتِسَالِ الْمُحْرِمِ
قَالَ ابْنُ عَبَّاس: يَدْخُلُ الْمُحْرِمُ الْحَمَّامَ، وَلَمْ يَرَ ابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ بِالْحَكِّ بَأْسًا. / 254 - فيه: ابْن عَبَّاس، وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ، أنهما اخْتَلَفَا بِالأبْوَاءِ، فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ، فَقَالَ الْمِسْوَرُ: لا، فَأَرْسَلَنِى ابْنُ عَبَّاس إِلَى أَبِى أَيُّوبَ الأنْصَارِىِّ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ بَيْنَ الْقَرْنَيْنِ، وَهُوَ يُسْتَرُ بِثَوْبٍ،(4/511)
فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: أَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ حُنَيْنٍ، أَرْسَلَنِى إِلَيْكَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَبَّاس، أَسْأَلُكَ كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَغْسِلُ رَأْسَهُ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَوَضَعَ أَبُو أَيُّوبَ يَدَهُ عَلَى الثَّوْبِ، فَطَأْطَأَهُ حَتَّى بَدَا لِى رَأْسُهُ، ثُمَّ قَالَ لإنْسَانٍ يَصُبُّ عَلَيْهِ: اصْبُبْ، فَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ حَرَّكَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُهُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يَفْعَلُ. اختلف العلماء فى غسل المحرم رأسه، فذهب أبو حنيفة والثورى والأوزاعى والشافعى وأحمد وإسحاق إلى أنه لا بأس بذلك، ورويت الرخصة فى ذلك عن عمر بن الخطاب وابن عباس وجابر، وعليه الجمهور، وحجتهم حديث أبى أيوب، وكان مالك يكره ذلك للمحرم، وذكر أن عبد الله بن عمر كان لا يغسل رأسه إلا من الاحتلام. قال مالك: فإذا رمى جمرة العقبة فقد حل له قتل القمل وحلق الشعر وإلقاء التفث، وهو الذى سمعته من اهل العلم. وروى عن سعد بن عبادة مثل قول مالك، وكان أشهب وابن وهب يتغاطسان فى الماء وهما محرمان مخالفة لابن القاسم، وكان ابن القاسم يقول: إن غمس رأسه فى الماء أطعم خوفًا من قتل الدواب، ولا يجب الفداء إلا بيقين، وغير ذلك استحباب، ولا بأس عند جميع أصحاب مالك أن يصب المحرم على رأسه للحرِّ يجده. قال أشهب: غمس المحرم رأسه فى الماء وما يخاف فى الغمس ينبغى أن يخاف مثله فى صب الماء على الرأس من الحرِّ. وقد قال عمر بن الخطاب ليعلى بن منبه حين كان عمر يغسل رأسه ويعلى يصب عليه: اصبب فلن يزيده الماء إلا شعثًا، يعنى: إذا لم يغسل بغير الماء؛ ألا ترى فعل أبى أيوب حين صب على رأسه الماء حركه بيديه، ولم ير ذلك مما ذهب الشعث، ومثله قوله عليه السلام لعائشة: (انقضى رأسك فى غسلك وامتشطى. .) أى: امشطيه بأصابعك(4/512)
وخلليه بها، فإن ذلك لا يذهب الشعث، وإن شعثه لا يمنعك من المبالغة فى غسل رأسك؛ لأن الماء لا يزيده إلا شعثًا. فابن عباس أفقه من المسور لموافقته النبى عليه السلام وأصحابه، قاله أبو عبد الله بن أبى صفرة. وأما إن غسل رأسه بالخطمى والسدر، فإن الفقهاء يكرهون ذلك، هذا قول مالك وأبى حنيفة والشافعى، وأوجب مالك وأبو حنيفة عليه الفدية، وقال أبو ثور: لا شىء عليه. وقد رخص عطاء وطاوس ومجاهد لمن لُبِّد رأسه فشق عليه الحلق أن يغسله بالخطمى حتى يلين، وكان ابن عمر يفعل ذلك. قال ابن المنذر: وذلك جائز؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أمرهم أن يغسلوا الميت المحرم بماء وسدر، وأمرهم أن يجنبوه ما يجتنب الحى، فدل ذلك على إباحة غسل رأس المحرم بالسدر، والخطمى فى معناه. وأجاز الكوفيون والثورى والشافعى وأحمد وإسحاق للمحرم دخول الحمام. وقال مالك: إن دخل الحمام فتدلك وأنقى الوسخ فعليه الفدية، وقال ابن وهب: القرنان هما الرِّجْلان اللذان فى جنبتى البئر. وفيه من الفقه: أن الصحابة إذا اختلفوا لم يكن الحجة فى قول أحد منهم إلا بدليل يجب التسليم له من الكتاب أو السنة، كما نزع أبو أيوب بالسنة، ففَلَج ابن عباس المسور. وفيه من الفقه: التناظر فى المسائل والتحاكم فيها إلى الشيوخ العالمين بها. وقوله فى الترجمة: ولم ير ابن عمر وعائشة بالحك بأسًا يعنى: حك جلده إذا أكله. وقال عطاء: يحك الحب فى جلده وإن أدماه.(4/513)
9 - باب لُبْسِ الْخُفَّيْنِ لِلْمُحْرِمِ إِذَا لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ
/ 255 - فيه: ابْنَ عَبَّاس، خطب النَّبِىّ، عليه السَّلام، بِعَرَفَاتٍ فَقَالَ: (مَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ. . .) الحديث. / 256 - وفيه: ابْن عُمرَ، مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ. . .؟ إلى قوله: (فَإِنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ) . اختلفوا إذا احتاج إلى لبس الخفين عند عدم النعلين وقطعهما. فقال مالك والشافعى: لا فدية عليه، وأخذا بحديث ابن عمر، وقال أبو حنيفة: عليه الفدية. وهذا مخالف للحديث، واحتج أصحابه وقالوا: إن النبى عليه السلام أباح له لباس السراويل عند عدم الإزار، وذلك يوجب فيه الفدية. فقال ابن القصار: الفرق بينهما أن الخف أُمِرَ بقطعه حتى لا يصير فى معنى النعلين التى لا فدية فى لبسهما، والسراويل لم يمر بفتقه لئلا تنكشف عورته، فبقى فى حكم القميص المخيط، ولو أمر بفتقه لصار فى معنى الخف إذا قطع. قال ابن القصار: والحجة لمالك قوله عليه السلام: (وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين) ولو وجبت الفدية مع قطعهما وتركهما لم يكن لقطعهما فائدة؛ لأنه إتلاف من غير فائدة، وإنما قطعهما ليصيرا فى معنى النعلين حتى لا تجب فدية، ولا يدخل النقص فيجبر بالفدية، ولو وجبت الفدية بلبسه بعد القطع كما تجب بلبسه قبل القطع لم يأمر عليه السلام بالقطع؛ لأن لبسه بعد القطع كلبسه قبله، فلما جوز له لبسه بعد القطع ولم يجوزه قبله؛ علم أنه إذا لبسه بعد القطع كان مخالفًا لحكمه إذا لبسه قبل القطع فى الفدية.(4/514)
0 - باب إِذَا لَمْ يَجِدِ الإزَارَ فَلْيَلْبَسِ السَّرَاوِيلَ
/ 257 - فيه: ابْن عَبَّاس، خَطَبَنَا النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بِعَرَفَاتٍ فَقَالَ: (مَنْ لَمْ يَجِدِ الإزَارَ فَلْيَلْبَسِ السَّرَاوِيلَ. . .) الحديث. أجمعوا أن المحرم إذا وجد إزارًا لم يجز له لبس السراويل. واختلفوا إذا لم يجد إزارًا؛ فقال عطاء والثورى والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور: يلبسه ولا شىء عليه. وأخذوا بحديث ابن عباس. وقال مالك وأبو حنيفة: عليه الفدية إذا لبسها سواء وجد إزارًا أم لا إلا أنه يشقها ويتزر بها. خَالَفا ظاهر الحديث. وقال الطحاوى: يحتمل قوله عليه السلام: (من لم يجد إزارًا فليلبس سراويل) على أن يشق السراويل فيلبسها كما يلبس الإزار، كما يفعل بالخفين يقطعهما أسفل من الكعبين ويلبسهما كما يلبس النعلين، فإن كان أريد بالحديث هذا المعنى فلسنا نخالفه بل نقول به، وإنما الخلاف فى التأويل لا فى نفس الحديث. وأما النظر فى ذلك؛ فإنا رأيناهم لم يختلفوا أن من وجد إزارًا أن لبس السراويل غير مباح له؛ لأن الإحرام قد منعه من ذلك، فأردنا أن نعلم هل يوجب لبس ذلك للضرورة كفارة أم لا؟ فرأينا الإحرام ينهى عن أشياء قد كانت مباحة منها لبس العمائم والقمص والسراويلات، وكان من اضطر فوجد الحر يغطى رأسه، أو وجد البرد فلبس ثيابه؛ أنه قد فعل ما هو مباح له وعليه مع ذلك الكفارة، وكذلك حرّم عليه الإحرامُ حلقَ رأسِه إلا من ضرورة، وقد وجدنا من حلق رأسه للضرورة فعل ما هو مباح له والكفارة عليه واجبة، فكذلك لبس السراويل لا يُسقط لباسُه للضرورة الكفارة، وإنما تسقط الآثام خاصة.(4/515)
قال ابن القصار: واحتج المخالفون فقالوا: لا يخلو أن يكون أراد عليه السلام جواز لبس السراويل عند الحاجة أو سقوط الفدية فى لبسه، فلا يجوز أن يكون أراد جواز لبسه عند الحاجة خاصة، وقصد ذلك باستثناء السراويل من جملة المخيط؛ وحملُه على ذلك إسقاط لفائدة تخصيص السراويل واستثنائِه من الجملة، فلم يبق إلا أنه أراد سقوط الفدية فى لبسه. فقال لهم الآخرون: إنما اختص السراويل بالإباحة من جملة المخيط عند عدم الإزار؛ لأن افزار المقصود منه ستر العورة التى هى مكان السراويل، ولا يجوز كشف ذلك الموضع، وموضع القميص من أعلاه يجوز كشفه، فالضرورة فى السراويل أشد منها فى القميص، فهذه فائدة، فإذا لبسه ستر عورته وبقى سائر جسده مكشوفًا بحكم الإحرام، فلم تسقط الفدية كما لم تسقط فى الحلق والطيب للعذر
. 181 - باب لُبْسِ السِّلاحِ لِلْمُحْرِمِ
قَالَ عِكْرِمَةُ: إِذَا خَشِىَ الْعَدُوَّ لَبِسَ السِّلاحَ وَافْتَدَى، وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ فِى الْفِدْيَةِ. / 258 - فيه: الْبَرَاء، اعْتَمَرَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، فِى ذِى الْقَعْدَةِ، فَأَبَى أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يَدَعُوهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ حَتَّى قَاضَاهُمْ لا يُدْخِلُ مَكَّةَ سِلاحًا إِلا فِى الْقِرَابِ. قال المهلب: كان هذا فى عام القضية. وفيه من الفقه: جواز حمل المحرم السلاح فى الحج والعمرة إذا كان خوف واحتيج إليها، وأجاز ذلك عطاء ومالك والشافعى،(4/516)
وكرهه الحسن البصرى، وهذا الحديث حجة على الحسن فى كراهيته وعلى عكرمة فى إيجاب الفدية فى ذلك.
2 - باب دُخُولِ الْحَرَمِ وَمَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ
وَدَخَلَ ابْنُ عُمَرَ، وَإِنَّمَا أَمَرَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) بِالإهْلالِ لِمَنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ لِلْحَطَّابِينَ وَغَيْرِهِمْ. / 259 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَّتَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) لأهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلأهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ، وَلأهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ، هُنَّ لَهُنَّ وَلِكُلِّ آتٍ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، فَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ. / 260 - وفيه: أَنَس، دَخَلَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَ رَجُلٌ، فَقَالَ: إِنَّ ابْنَ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: (اقْتُلُوهُ) . قال ابن القصار: اختلف قول مالك والشافعى فى جواز دخول مكة بغير إحرام لمن لم يُرِدْ الحج والعمرة فقالا مرَّةً: لا يجوز دخولها إلا بإحرام؛ لاختصاصها ومباينتها جميع البلدان إلا الحطابين ومن قرب منها مثل جدة والطائف وعسفان لكثرة ترددهم عليها، وبه قال أبو حنيفة والليث. وقالا مَرَّةً أخرى: دخولها بلإحرام استحباب لا واجب. قال المؤلف: وإلى هذا القول ذهب البخارى، وله احتج بقوله(4/517)
عليه السلام: (ولكل آت أتى عليهن ممن أراد الحج والعمرة) فدل هذا أن من لم يرد الحج والعمرة فليست ميقاتًا له، واستدل أيضًا بدخوله عليه السلام عام الفتح وعلى رأسه المغفر وهو غير محرم، وبهذا احتج ابن شهاب، ولم يره خصوصًا للرسول (صلى الله عليه وسلم) ، وأجاز دخول مكة بغير إحرام، وهو قول أهل الظاهر. وقال الطحاوى: قول أبى حنيفة وأصحابه فى أن من كان منزله فى بعض المواقيت أو دونها إلى مكة فله أن يدخل مكة بغير إحرام، ومن كان منزله قبل المواقيت لم يدخل مكة إلا الإحرام، وأخذوا فى ذلك بما روى عن عمر أنه خرج من مكة وهو يريد المدينة، فلما كان قريبًا من قديد بلغه خبر من المدينة فرجع فدخل حلالا. وقال آخرون: حكم أهل المواقيت كحكم من كان قبلها. قال الطحاوى: وليس النظر قول أصحابنا؛ لأننا رأينا من يريد الإحرام إذا جاوز المواقيت حلالا حتى فرغ من حجه ولم يرجع إلى المواقيت كان عليه دم، ومن أحرم من المواقيت كان محسنًا، وكذلك من أحرم قبلها، فلما كان الإحرام من المواقيت كحكم الإحرام مما قبلها لا فى حكم الإحرام مما بعدها؛ ثبت أن حكم المواقيت كحكم ما قبلها لا كحكم ما بعدها، فلا يجوز لأهلها من دخول الحرم إلا ما يجوز لأهل الأمصار التى قبل المواقيت، فانتفى بهذا ما قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد، ووجدنا الآثار تدل على خصوص الرسول (صلى الله عليه وسلم) بدخولها غير محرم بقوله: (إنما أحلت لى ساعة من نهار فلا تحل(4/518)
لأحد بعدى، وقد عادت حرامًا إلى يوم القيامة) فلا يجوز لأحد أن يدخلها إلا بإحرام؛ وهو قول ابن عباس والقاسم والحسن البصرى. قال المؤلف: والصحيح فى معنى قوله: (لا تحل لأحد) يريد بمثل المعنى الذى حل للنبى عليه السلام وهو محاربة أهلها وقتالهم وردهم عن دينهم، على ما تقدم فى باب (لا يحل القتال بمكة) عن الطبرى. وهو أحسن من قول الطحاوى أن الذى خص به عليه السلام دخول مكة بغير إحرام. واحتج من أجاز دخولها بغير إحرام أن فرض الحج مرة فى الدهر، وكذلك العمرة وهى مرة فى الأبد، فمن أوجب على الداخل مكة إحرامًا فقد أوجب عليه ما أوجبه الله. وفى قتل النبى (صلى الله عليه وسلم) لابن خطل فى الفتح حجة لمن قال أن النبى (صلى الله عليه وسلم) دخل مكة عنوة، وهو قول مالك وأبى حنيفة وجماعة المتقدمين والمتأخرين، وقال الشافعى وحده: فتحت صلحًا. وفائدة الخلاف فى هذه المسألة ما ذهب إليه مالك والكوفيون أن الغانمين لا يملكون الغنائم ملكًا مستقرا بنفس الغنيمة وأنه يجوز للإمام أن يمنَّ ويعفو عن جملة الغنائم كما منَّ على الأسرى وهم من جملة الغنائم، ولا خلاف بينهم أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) مَنَّ على أهل مكة وعفا عن أموالهم كلها. قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: إنما قتل ابن خطل؛ لأنه كان يسب النبى (صلى الله عليه وسلم) وقد عفا عن غيره ذلك اليوم ممن كان يسبه، فلم ينتفع ابن خطل باستعاذته بالبيت ولا بالتعلق بأستار الكعبة، فدل ذلك على العنوة، وعلى أن الحدود تقام بمكة على من وجبت عليهم.(4/519)
فإن قيل: فإن قوله يوم الفتح: (من دخل البيت فهو آمن، ومن دخل دار أبى سفيان فهو آمن) يعارض قتله لابن خطل يوم الفتح. فالجواب: أنه لا معارضة بينهما؛ لما رواه ابن أبى شيبة قال: حدثنا أحمد بن مفضل، حدثنا أسباط بن نصر وقال: زعم السدى عن مصعب، عن سعد، عن أبيه قال: (لما كان يوم فتح مكة أَمَّنَ النبى عليه السلام الناس إلا أربعة نفر وامرأتين وقال: اقتلوهم إن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة: عكرمة بن أبى جهل، وعبد الله بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن سعد بن أبى سرح) . وسأذكر شيئًا من معنى فتح مكة فى كتاب الجهاد فى حديث ابن خطل فى باب: قتل الأسير والصبر. واستدل المالكيون من حديث ابن خطل أن من سب النبى يُقتل ولا يستتاب كما فعل الرسول (صلى الله عليه وسلم) بابن خطل.
3 - باب إِذَا أَحْرَمَ جَاهِلا وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ
وَقَالَ عَطَاءٌ: إِذَا تَطَيَّبَ أَوْ لَبِسَ جَاهِلا أَوْ نَاسِيًا فَلا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. / 261 - فيه: يَعْلَى، أتى النَّبِىّ، عليه السَّلام، رَجُلٌ عَلَيْهِ جُبَّةٌ، وبهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ، فَقَالَ: (انزع الجبة، واصْنَعْ فِى عُمْرَتِكَ مَا تَصْنَعُ فِى حَجِّكَ) . هذا الباب رد على الكوفى والمزنى فى قولهم أنه من لبس أو تطيب ناسيًا فعليه الفدية على كل حال، وقولهم خلاف لهذا الحديث؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يأمر الرجل بالكفارة عن لباسه وتطيبه قبل علمه بالنهى عن ذلك، وإنما تلزم الكفارة من تعمد فعل ما نُهى عنه فى إحرامه، ولو لزمه شىء لبيَّنه له عليه السلام، وأمره به ولم يجز أن يؤخر ذلك.(4/520)
وذهب مالك إلى أن من تطيب أو لبس فنزع اللباس وغسل الطيب فى الحال فلا شىء عليه. وقال الشافعى: لا شىء عليه وإن طال وانتفع. والشافعى أشد موافقة للحديث؛ لأن الرجل كان أحرم فى الجبة المطيبة، فسأل الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك فلم يجبه حتى أوحى إليه وسُرى عنه، فطال انتفاع الرجل باللبس والطيب ولم يوجب عليه النبى عليه السلام كفارة، وقول مالك احتياط؛ لأن الحلق والوطء والصيد نُهى عنه المحرم، وحُكْمُ العمد والسهو فيها سواء إذا وقعت، وكذلك الصوم لو أكل فيه وهو ساهٍ لفسد الصوم، فكذلك الحج. وفى هذا الحديث رد على من زعم أن الرجل إذا احرم وعليه قميص أنَّ له أن يشقه، وقال: لا ينبغى أن ينزعه؛ لأنه إذا فعل ذلك فقد غطى رأسه وذلك لا يجوز له، فلذلك أُمر بشقه، وممن قال هذا: الحسن والشعبى والنخعى وسعيد بن جبير. وجميع فقهاء الأمصار يقولون: من نسى فأحرم وعليه قميص أنه ينزعه ولا يشقه. واحتجوا بأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أمر الرجل بأن ينزع الجبة ولم يأمره بشقها، وهو قول عكرمة وعطاء. وقد ثبت عنه عليه السلام أنه نهى عن إضاعة المال، والحجة فى السنة لا فيما خالفها. قال الطحاوى: وليس نزع القميص بمنزلة اللباس؛ لأن المحرم لو حمل على رأسه ثيابًا أو غيرها لم يكن بذلك بأس ولم يدخل بذلك فيما نهى عنه من تغطية الرأس بالقلانس وشبهها؛ لأنه غير لابس؛ فكان النهى إنما وقع من ذلك على ما يلبسه الرأس لا على ما يغطى به، وكذلك الأبدان إنما نُهى عن إلباسها القمص ولم يُنه عن تجليلها بالإزار؛ لأن ذلك ليس بلباس المخيط، ومن نزع قميصه فَلاقَى ذلك(4/521)
رأسه فليس ذلك بإلباس منه شيئًا، فثبت بهذا أن النهى عن تغطية الرأس فى الإحرام المعهود فى الإحلال إذا تعمد فعل ما نهى عنه من ذلك قياسًا ونظرًا.
4 - باب الْمُحْرِمِ يَمُوتُ بِعَرَفَةَ
وَلَمْ يَأْمُرِ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، أَنْ يُؤَدَّى عَنْهُ بَقِيَّةُ الْحَجِّ / 262 - فيه: ابْن عَبَّاس، بَيْنَا رَجُلٌ وَاقِفٌ مَعَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، بِعَرَفَةَ؛ إِذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَوَقَصَتْهُ، أَوْ قَالَ: فَأَقْعَصَتْهُ، فَقَالَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام: (اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِى ثَوْبَيْنِ، أَوْ قَالَ: ثَوْبَيْهِ، وَلا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُلَبِّى) . قال المهلب: يدل أنه لا يحج أحد عن أحدٍ؛ لأن الحج من أعمال الأبدان كالصلاة لا تصح فيها النيابة عن غيره، ولو صح فيها النيابة لأمر النبى عليه السلام بإتمام الحج عن هذا، كما أنه قد يمكن ألا يتبع بما بقى عليه من الحج فى الآخرة والله أعلم لأنه قد بلغ جهده وطاقته ووقع أجره على الله بقوله: (فإنه يبعث يوم القيامة) . قال المؤلف: وفيه دليل أن من شرع فى عمل من عمل الطاعات وصحت فيه نيته الله، وحال بينه وبين تمامه الموت؛ فإن الرجاء قوى أن الله قد كتبه فى الآخرة من أهل ذلك العمل وتقبله منه، ويشهد لهذا قوله تعالى: (وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللهِ) [النساء: 100] أنه لا يُقطع على أحد بعينه(4/522)
بهذا ولا أنه بمنزلة ذلك الموقوص، ولذلك قال كثير من اهل العلم: إن هذا الحديث خاص فى الموقوص، وإن سنة المحرم أنه إذا مات يخمر رأسه ويطيب ويفعل به ما يفعل بالمبيت الحلال، ولا يجنب ما يجتنبه المحرم، هذا قول مالك وأبى حنيفة وأصحابه والأوزاعى، وبذلك أخذ ابن عمر حين توفى ابنه بالجحفة وهو محرم، خمر رأسه ووجهه وقال: لولا أنا حُرم لطيَّبْنَاهُ. لأنه لم يقطع ابن عمر أن ابنه بمنزلة الموقوص الذى أخبر عليه السلام أنه يبعث يوم القيامة ملبيًا. وبهذا قالت عائشة، ولم يأخذوا بحديث الموقوص، وأخذ به الشافعى وقال: لا يخمر رأس المحرم ولا يطيب اتباعًا لظاهر حديث ابن عباس. وهو قول عثمان وعلى بن أبى طالب وابن عباس. واحتج الذين رأوا الحديث خاصا فى الموقوص بعينه أن من مات بعده فى حال الإحرام، لا يعلم هل يُقبل حَجُّه؟ وهل يبعث يوم القيامة ملبيًا أم لا؟ ولا يُقطع على غير ذلك إلا بوحى، فافترقا فى المعنى، واحتج مالك كذلك فقال: إنما يعمل الرجل ما دام حيا، فإذا مات انقطع عمله. قال الأصيلى: ثبت الخبر عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (إذا مات الرجل انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد يدعو له، أو علم ينتشر عنه، أو صدقة موقوفة بعده) .
5 - بَاب الْحَجِّ وَالنُّذرِ عَنِ الْمَيِّتِ وَالرَّجُلُ يَحُجُّ عَنِ الْمَرْأَةِ
/ 263 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّى نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ(4/523)
عَنْهَا؟ قَالَ: (نَعَمْ، حُجِّى عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَةً؟ اقْضُوا اللَّهَ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ) . اختلف العلماء فى الرجل يموت وعليه حجة الإسلام أو حجةُ نذرٍ؛ فقالت طائفة: يجوز أن يُحج عنه وإن لم يُوصِ بذلك، ويُجزئه. روى ذلك عن ابن عباس وأبى هريرة، وهو قول عطاء وابن سيرين ومكحول وسعيد بن المسيب وطاوس، وبه قال الأوزاعى وأبو حنيفة والشافعى وأبو ثور. وقالت طائفة: لا يَحج أحد عن أحدٍ، روى ذلك عن ابن عمر والقاسم بن محمد والنخعى. وقال مالك والليث: لا يَحج أحد عن أحدٍ إلا عن ميت لم يحج الإسلام ولا ينوب عن فرضه. فإن أوصى بذلك الميت؛ فعند مالك وأبى حنيفة يُخرج من ثلثه. وهو قول النخعى. وعند الشافعى يخرج من رأس ماله. وحجة أهل المقالة الأولى حديث ابن عباس قالوا: ألا ترى أن النبى عليه السلام شبه الحج بالدَّيْن، يجوز أن يقضيه عنه غيرهُ، أوصى بذلك أو لم يُوص؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يشترط فى إجازته ذلك، إن كان من أمها لها فذلك أمرها، ولو كان ذلك غير قاض عن أمها لكان عليه السلام قد أعلمها أن ذلك غير جائز، إلا أن تحج عنها بأمرها فلما أعلمها عليه السلام أن ذلك قضاء عنها صح أن ذلك مجزئ عمن حج عنه ممن عجز عن أدائه فى حياته، وسبيل ذلك قضاء دين على رجل أن ذلك براءة للمقضى عنه بأمر الله،(4/524)
كان عليه أو بغير أمره، وتشبيه الرسول (صلى الله عليه وسلم) ذلك بالدَّيْن يدل أن ذلك عليه من جميع ماله ثلثه كسائر الديون، قاله الطبرى، وذكر ابن المنذر أن عائشة اعتكفت عن أخيها عبد الرحمن بعد موته. وحجة من منع الحج عن غيره أن الحج عمل الإنسان ببدنه، وقد أجمعوا أنه لا يُصلِّى أحد عن أحدٍ فكذلك الحج. قال ابن القصار: والدليل على أنه لا يَحجُّ أحد عن أحدٍ قوله عليه السلام: (أرأيتِ لو كان على أمك دين أكنت قاضيه) ؟ إنما سألها: هل كنت تفعلين ذلك تطوعًا؟ لأنه لا يجب عليها أن تقضى دين أمها إذا لم يكن لها تَركَة؛ لأن الحج من عمل الأبدان وهى عبادة لا تصح النيابة مع القدرة ولا مع العجز فى حال الحياة فلم يصح بعد الممات، دليله الصلاة. وأما قول البخارى فى الترجمة: والرجل يحج عن المرأة. وأدخل حديث المرأة التى سألت النبى (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك، فكان ينبغى أن يقول: والمرأة تحج عن المرأة. فالجواب عن ذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) خاطب المرأة بخطاب دخل فيه الرجال والنساء، وهو قوله: (اقضوا الله) ، وهذا يصح للمذكر والمؤنث، ولا خلاف فى حج الرجل عن المرأة، والمرأة عن الرجل، إلا الحسن ابن صالح، وسأذكر قوله فى الباب بعد هذا إن شاء الله.
6 - باب الْحَجِّ عَمَّنْ لا يَسْتَطِيعُ الثُّبُوتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ
/ 264 - فيه: ابْن عَبَّاس، عن الفضل، قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِى شَيْخًا كَبِيرًا لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِىَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، فَهَلْ يَقْضِى عَنْهُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ؟ قَالَ: (نَعَمْ) .(4/525)
وترجم له: (باب: حج المرأة عن الرجل) . واختلف العلماء فى الذى لا يستطيع أن يستوى على الراحلة لكبرٍ أو ضعف أو زمانة، فذكر الطبرى أن رجلا أتى على بن أبى طالب فقال: كبرتُ وضعفتُ وفرطت فى الحج. فقال: إن شئت فجهزت رجلا فحج عنك. وقال مالك: لا يلزمه فرض الحج أصلا وإن وجد المال وأمكنه أن يحمل من يحج عنه. وقال أبو حنيفة والشافعى: هو مستطيع يلزمه أن يحج غيره يؤذى عنه الحج. واختلفا فقال الشافعى: إذا بذل له ابنه الطاعة وهو غير واجد للمال؛ فإنه يحج عنه ويلزمه فرض الحج. وقال أبو حنيفة: لا يلزمه إلا إذا كان وزاجدًا للمال يمكنه أن يحمل غيره يحج عنه. واحتج أصحاب أبى حنيفة والشافعى بحديث الخثعمية. قال: وفى الحديث دليلان على وجوب الحج على المغضوب: أحدها: أنها قالت: (إن فريضة الله فى الحج أدركت أبى) فأقرها الرسول (صلى الله عليه وسلم) على ذلك، ولو لم يلزمه وهى قد ادَّعَت وجوبه على أبيها بحضرته لأنكره عليه السلام. والثانى: أنه شبهه بالدَّيْن فى رواية عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار (أن النبى عليه السلام حين أمر أن يحج عن الشيخ الكبير، قيل: أوَ ينفعه ذلك؟ قال: نعم، كما يكون على أحدكم الدَّيْن فيقضيه) . ولهذا: الدَّيْنُ الذى يُقضى عن الإنسان يكون واجبًا عليه، ومن قضاه أسقط الفرض والمأَثم، فكذلك يجب أن يكون الحج، مَنْ قضاه أسقط الفرض والمأثم جميعًا لقولها: (فهل يقضى عنه أن أحج عنه؟) وروى عبد الرزاق: (أيفعه أن أحج عنه؟ قال: نعم) . قال ابن القصار: ولا دلالة لهم فيه؛ لأنها قالت: (إن فريضة الله على عباده فى الحج أدركت أبى) ولم تقل: فرضت على أبى،(4/526)
وإنما قالت: إنها نزلت وأبى شيخ. أى: فرضت فى وقتٍ أبى كبير لا يلزمه فرضها، فلم ينكر عليه السلام قولها، وقد يمكن أنها وهمت أن الذى فرض على العباد يجوز أن يدخل فيه أبوها غير أنه لا يقدر على الأداء. ولا يمتنع أن يتعلق الوجوب بشرطية القدرة على الداء، فيكون الفرض وجب على أبيها ثم وقت الداء كان عاجزًا؛ لأن الإنسان لو كان واجدًا للراحلة والزاد، وكان قادرًا ببدنه؛ لم يمتنع أن يقال له فى الحرم: قد فرض عليك الحج، فإن بقيت على ما أنت عليه إلى وقت الحج لزمك الداء وإلا سقط عنك. ونحن نعلم أنه فرض تراخى عن وقت الحج المضيق، وإنما سألته فى وقت الداء عن ذلك، وقولها: (أفأحج عنه؟ قال: نعم) لا يدل على أن الأداء كان مقدرًا عليه فسقط بفعلها، ولكنه أراد عليه السلام أنها إن فعلت ذلك لحقه ثواب ما [. . . . . .] من دعائها فى الحج، كما لو تطوعت بقضاء دينه، لا أنه مثل الدين فى الحقيقة؛ لأن الدين حق لآدمى يسقط بالإبراء ويؤدى عنه مع القدرة والعجز بأمره مع الصحة وغير أمره، ولو كان كالدين كان إذا حجت عنه ثم قوى وصح سقط عنه، كما يقضى دين المعسر. وفى حديث الخثعمية جواز حج المرأة عن الرجل، وأجازه جماعة الفقهاء إلا الحسن بن صالح؛ فإنه قال: لا يجوز. واعتل بأن المرأة تلبس الثياب فى الإحرام والرجل لا يلبسها. قال ابن المنذر: وهذه غفلة وخروج عن ظاهر السنة؛ لأن النبى عليه السلام أمر المرأة أن تحج عن أبيها، وعلى هذا يعتمد من أجاز الحج عن غيره.(4/527)
واختلفوا فى المريض يأمر من يحج عنه، ثم يصح بعد ذلك وتعذّر؛ فقال الكوفيون والشافعى وأبو ثور: لا يجزئه، وعليه أن يحج. وقال أحمد وإسحاق: يجزئه الحج عنه. وكذلك إن مات من مرضه وقد حُج عنه، فقال الكوفيون وأبو ثور: يجزئه من حجة الإسلام. وقال الشافعى فيها قولان: أحدهما: هذا. والثانى: لا يجزئ عنه. وهو أصح القولين.
187 - باب حَجِّ الصِّبْيَانِ
/ 265 - فيه: ابْن عَبَّاس، بَعَثَنِى الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، فِى الثَّقَلِ مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ. / 266 - وفيه: أَقْبَلْتُ، وَقَدْ نَاهَزْتُ الْحُلُمَ، أَسِيرُ عَلَى أَتَانٍ لِى، وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَائِمٌ يُصَلِّى بِمِنًى، حَتَّى سِرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ الأوَّلِ، ثُمَّ نَزَلْتُ عَنْهَا فَرَتَعَتْ، فَصَفَفْتُ مَعَ النَّاسِ وَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِمِنًى فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ. / 267 - وفيه: السَّائِب، حُجَّ بِى مَعَ النَّبِىّ، عليه السَّلام، وَأَنَا ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ. اتفق أئمة الفتوى على سقوط فرض الحج عن الصبى حتى يبلغ؛ لقوله عليه السلام: (رفع القلم عن الصبى حتى يبلغ) إلا أنه إذا حُجَّ به كان له تطوعًا عند مالك والشافعى وجماعة من العلماء وعلى هذا المعنى حمل العلماء أحاديث هذا الباب. وقال أبو حنيفة: لا يصح إحرامه ولا يلزمه شىء إن فعل من محظورات الإحرام، وإنما يُفعل به ذلك، ويجنب محظوراته على وجه(4/528)
التعليم له والتمرين عليه، كما قالوا فى صلاته أنها لا تكون صلاة أصلا، وشذ من لا يُعد خلافه فقال: إذا حَج الصبى قبل بلوغه أجزأه ذلك عن حجة افسلام ولم يكن عليه أن يحج بعد بلوغه، واحتج بحديث ابن عباس: (أن امرأة سألت النبى عليه السلام عن صبى: هل لهذا حج؟ قال: نعم، ولك أجر) ذكره الطحاوى. قال ابن القصار: والحجة على أبى حنيفة فى نفيه عنه حج التطوع ما رواه ابن عباس من قول المرأة: (ألهذا حج يا رسول الله؟ قال: نعم، ولك أجر) فأضاف الحج الشرعى إليه فوجب أن يتعلق به أحكامه، وأكد هذا بقوله: (ولك أجر) أخبر أنها تستحق الثواب عن إحجابه، وهذا مذهب ابن عباس وابن عمر وعائشة. وقد روى عن ابن عباس أنه قال لرجل حج بابنٍ صبىٍّ له أصاب حمامًا فى الحرم: اذْبَحْ عن ابنك شاة. وأجمع العلماء أن جنايات الصبيان لازمة لهم فى أموالهم، قال الطحاوى: وتاويل الحديث عندنا أن النبى عليه السلام أوجب للصبى حجا وهذا مما قد أجمع الناس عليه، ولم يختلفوا أن للصبى حجا كما أن له صلاة، وليست تلك الصلاة بفريضة عليه، فكذلك يجوز أن يكون حجات ولا يكون فريضة عليه، وإنما هذا الحديث حجة على من زعم أنه لا حج للصبى، وأما من يقول أن له حجا وأنه غير فريضة فلم يخالف الحديث، وإنما خالف تأويل مخالفه خاصة. وقال الطبرى: جعل له (صلى الله عليه وسلم) حجا مضافًا كما يضاف إليه القيام والقعود والأكل والشرب، وإن لم يكن ذلك من فعله على الوجه الذى يفعله أهل التمييز باختيار.(4/529)
قال الطحاوى: هذا ابن عباس وهو راوى الحديث قد صرف حج الصبى إلى غير الفريضة، حدثنا ابن خزيمة، حدثنا عبد الله بن رجاء، حدثنا إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن أبى السفر قال: سمعت ابن عباس يقول: يا أيها الناس، أسمعونى ما تقولون، ولا تخرجوا تقولوا: قال ابن عباس، أيما غلام حَج به أهلُه فمات فقد قضى حجة الإسلام، فإن عُتق فعليه الحج. وقد أجمعوا أن صبيا لو دخل وقت صلاة فصلاها، ثم بلغ بعد ذلك فى وقتها أن عليه أن يعيدها، فكذلك الحج، وذكر الطبرى: أن هذا تأويل سلف الأمة، وروى أن أبا بكر الصديق حج بابن الزبير فى [. . . . . .] ، وقال عمر: أحجوا هذه الذرية. فكان ابن عمر يجرد صبيانه عند الإحرام ويقف بهم المواقيف وكانت عائشة تفعل ذلك وفعله عروة بن الزبير، قال عطاء: يجرد الصغير ويلبى عنه، ويجنب ما يجنب الكبير ويقضى عنه كل شىء إلا الصلاة، فإن عقل الصلاة صلاها، فإذا بلغ وجب عليه الحج. واختلفوا فى الصبى والعبد يحرمان بالحج ثم يحتلم الصبى ويُعتق العبد قبل الوقوف بعرفة؛ فقال مالك: لا سبيل إلى رفض الإحرام ويتماديان عليه ولا يجزئهما عن حجة الإسلام. وقال الشافعى: إذا نويا بإحرامهما المتقدم حجة الإسلام أجزأ عنهما. وعند مالك: أنهما لو استأنفا الإحرام قبل الوقوف بعرفة أنه لا يجزئهما من حجة الإسلام. وهو قول أبى حنيفة؛ لأنه يصح عنده رفض الإحرام.(4/530)
وحجة مالك أن الله تعالى أمر كل من دخل فى حج أو عمرة بإتمامه تطوعًا كان أو فرضًا؛ لقوله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ) [البقرة: 196] ومن رفض إحرامه فلم يتم حجه ولا عمرته. وحجة الشافعى فى إسقاط تجديد النية أنه جائز عنده لكل من نوى بإهلاله أن يصرفه إلى ما شاء من حج أو عمرة؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) أمر أصحابه المهلين بالحج أن يفسخوه فى عمرة، فدل أن النية فى الإحرام ليست كالنية فى الصلاة، وحجة أبى حنيفة: أن الحج الذى كان فيه لما لم يكن يجزئ عنده ولم يكن الفرض لازمًا له فى حين إحرامه، ثم لما لزمه حين بلغ، استحال أن يشتغل عن فرض قد تعين عليه بنافلة ويعطل فرضه، كمن دخل فى نافلة، فأقيمت عليه مكتوبة وخشى فوتها قطع النافلة ودخل فى المكتوبة وأحرم لها، فكذلك الحج يلزمه أن يجدد له الإحرام؛ لأنه لم يكن للفريضة.
8 - باب حَجِّ النِّسَاءِ
وَأَذِنَ عُمَرُ لأزْوَاجِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فِى آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا، فَبَعَثَ مَعَهُنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، وَعَبْدَالرَّحْمَنِ. / 268 - فيه: عَائِشَةُ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلا نَغْزُو وَنُجَاهِدُ مَعَكُمْ؟ فَقَالَ: (لَكِنَّ أَحْسَنَ الْجِهَادِ وَأَجْمَلَهُ الْحَجُّ، حَجٌّ مَبْرُورٌ) ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَلا أَدَعُ الْحَجَّ بَعْدَ إِذْ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ النَّبِىّ، عليه السَّلام (صلى الله عليه وسلم) . / 269 - وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام: (لا تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ إِلا مَعَ ذِى مَحْرَمٍ، وَلا يَدْخُلُ عَلَيْهَا رَجُلٌ إِلا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ) ، فَقَالَ: رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى أُرِيدُ أَنْ أَخْرُجَ فِى جَيْشِ كَذَا وَكَذَا، وَامْرَأَتِى تُرِيدُ الْحَجَّ، فَقَالَ: (اخْرُجْ مَعَهَا) .(4/531)
/ 270 - وفيه: ابْن عَبَّاس، لَمَّا رَجَعَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) مِنْ حَجَّتِهِ، قَالَ لأمِّ سِنَانٍ: مَا مَنَعَكِ مِنَ الْحَجِّ. . .؟ الحديث. قال المهلب: قوله عليه السلام: (لكنَّ أفضل الجهاد حج مبرور) يبطل إفك المتشيعين وكذب الرافضيين فيما اختلقوه من الكذب على النبى عليه السلام أنه قال لأزواجه فى حجة الوداع: (هذه، ثم ظهور الحصر) . وهذا ظاهر الاختلاق؛ لأنه عليه السلام حَضَّهُنَّ على الحج وبَشَّرَهُنَّ أنه أفضل جهادهن، وأذن عمر لهن فى الحج، ومسير عثمان وغيره من أئمة الهدى معهن حجة قاطعة على الإجماع على ما كُذِبَ به على النبى عليه السلام فى أمر عائشة والتسبب إلى عرضها المطهر، وكذلك قولهم: (فتقاتلى عليا وأنت له ظالمة؟) إفك وباطل لا يصح، وأما سفرها إلى مكة مع غير ذى محرم منها من النسب؛ فالمسلمون كلهم أبناؤها وذوو محارمها بكتاب الله تعالى كيف وإنها كانت تخرج فى رفقة مأمونة وخدمة كافية؟ هذه الحال ترفع تحريج الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن النساء المسافرات بغير ذى محرم، كذلك قال مالك والأوزاعى والشافعى: تخرج المرأة فى حجة الفريضة مع جماعة النساء فى رفقة مأمونة وإن لم يكن معها محرم، وجمهور العلماء على جواز ذلك، وكان ابن عمر يحج معه نسوة من جيرانه، وهو قول عطاء وسعيد بن جبير وابن سيرين والحسن البصرى، وقال الحسن: المسلم محرم، ولعل بعض من ليس بمحرمٍ أوثق من المحرم. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تحج المرأة إلا مع ذى محرم. وهو قول أحمد وإسحاق وأبى ثور، حملوا نهيه على العموم فى كل سفر، وحمله مالك وجمهور الفقهاء على الخصوص، وأن المراد بالنهى(4/532)
الأسفار غير الواجبة عليها بعموم قوله تعالى: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [آل عمران: 97] فدخلت المرأة فى عموم هذا الخطاب ولزمها فرض الحج، ولا يجوز أن تُمنع المرأة من الفروض كما لا تمنع من الصلاة والصيام؛ ألا ترى أن عليها أن تهاجر من دار الكفر إلى دار الإسلام إذا أسلمت فيه بعير محرم، وكذلك كل واجبٍ عليها أن تخرج فيه، فثبت بهذا أن نهيه عليه السلام أن تسافر المرأة مع غير ذى محرم أنه أراد بذلك سفرًا غير واجب عليها، والله أعلم. واتفق الفقهاء أَن لْيسَ للرجل منع زوجته حجة الفريضة، تخرج للحج بغير إذنه، وللشافعى قول أنها لا تخرج إلا بإذنه، وأصح قوليه ما وافق فيه سائر العلماء، وقد أجمعوا أنه لا يمنعها من صلاة ولا من صيام، فكذلك الحج. وسيأتى فى كتاب الجهاد فى باب: من اكتتب فى جيش فخرجت امرأته حاجَّة، أن معنى قوله عليه السلام: (ارجع فاحجج مع امرأتك) أنه محمول على الندب لا على الوجوب.
9 - باب مَنْ نَذَرَ الْمَشْىَ إِلَى الْكَعْبَةِ
/ 271 - فيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، رَأَى شَيْخًا يُهَادَى بَيْنَ ابْنَيْهِ، قَالَ: (مَا بَالُ هَذَا) ؟ قَالُوا: نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ، قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ لَغَنِيٌّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَبَ) . / 272 - وفيه: عُقْبَةَ، قَالَ: نَذَرَتْ أُخْتِى أَنْ تَمْشِىَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، وَأَمَرَتْنِى أَنْ أَسْتَفْتِىَ لَهَا الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (لِتَمْشِ وَلْتَرْكَبْ) .(4/533)
أخذ أهل الظاهر بحديث أنس وعقبة بن عامر وقالوا: من عجز عن المشى فلا هدى عليه اتباعًا للسنة فى ذلك، قالوا: ولا يثبت شىء فى الذمة إلا بيقين، وليس المشى مما يوجب نذرًا؛ لأن فيه تعب الأبدان، وليس الماشى فى حال مشيه فى حرمة إحرام، فلم يجب عليه المشى ولا بدل منه. وأما سائر الفقهاء فإن لهم فى هذه المسألة ثلاثة أقوال غير هذه: الأول: روى عن على بن أبى طالب وابن عمر أن من نذر المشى إلى بيت الله فعجز، أنه يمشى ما استطاع، فإذا عجز ركب وأهدى. وهو قول عطاء والحسن، وبه قال أبو حنيفة والشافعى، إلا أن أبا حنيفة وأصحابه قالوا: وكذلك إن ركب وهو غير عاجز، قالوا: ويكفر يمينه لحنثه كما حكاه الطحاوى عنه، وقال الشافعى: الهدى فى هذه المسألة احتياط من قِبَل أنه من لم يُطِقْ شيئًا سقط عنه، وحجتهم ما رواه همام، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن عقبة ابن عامر (أن أخته نذرت المشى إلى بيت الله، فسأل الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك، فقال: إن الله لغنى عن نذر أختك، فلتركب ولتُهد) . والقول الثانى: يعود ثم يحج مرة أخرى، ثم يمشى مَا ركبَ ولا هَدْى عليه، هذا قول ابن عمر، ذكره مالك فى (الموطأ) ، وروى عن ابن عباس وابن الزبير والنخعى وسعيد بن جبير. والقول الثالث: يعود فيمشى ما ركب وعليه الهدى، روى عن ابن عباس أيضًا، وروى عن سعيد بن المسيب والنخعى، وهو قول مالك، جمع عليه الأمرين: المشى والهدى؛ احتياطًا لموضع تفريقه المشى الذى كان يلزمه فى سفر واحد، فجعله فى سفرين قياسًا على التمتع والقران، والله أعلم.(4/534)
قال المؤلف: ويمكن أن يُتأولَ حديثُ أنسٍ وعُقبةَ بوجهٍ موافقٍ لفقهاء الأمصار، حتى لا ينفرد أهل الظاهر بالقول بهما وذلك أن فى نصهما ما يبيِّن المعنى فيهما، وهو أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) رأى شيخًا يهادى بين ابنيه فقال: (إن الله لغنى عن تعذيب هذا نفسه) فبان واتضح أنه كان غير قادر على المشى، وممن لا ترجى له القدرة عليه، ومن كان غير قادر على شىء سقط عنه. والعلماء متفقون أن الوفاء بالنذر إنما يكون فيما هو لله طاعة، والوفاء به بِر، ولا طاعة ولا بِرَّ فى تعذيب أحدٍ نفسهَ، فكأن هذا الناذر على نفسه ما لا يقدر على الوفاء به، وكان فى معنى أبى إسرائيل الذى نذر ليقومن فى الشمس ولا يستظل ويصوم ذلك اليوم فأمره عليه السلام بكفارة وقد روى فى حديث عقبة بن عامر ما يدل أن أخته كانت غير قادرة على المشى، فلذلك لم يأمرها عليها السلام بالهَدْى. روى الطبرى قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع، حدثنا الفضيل بن سليمان، حدثنا محمد بن أبى يحيى الأسلمى، حدثنا إسحاق بن سالم، عن عقبة بن عامر (أن أخته نذرت أن تمشى إلى الكعبة، وهى امرأة ثقيلة، والمشى يشق عليها، فذكر ذلك عقبة للنبى عليه السلام فقال: إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئًا، مُرها فلتركب) فصح التأويل أنها نذرت وهى فى حال من لا يُرجى له القدرة على الوفاء بما نذرت كأبى إسرائيل، والعلماء مجمعون على سقوط المشى على من لا يقدر عليه، فسقوط الهَدْى أَحْرَى، وإن كان مالك يستحب الهدى لمن عجز عن المشى.(4/535)
قال الطحاوى: ونظرنا فى قول من قال: ليس الماشى فى حرمة إحرام فرأينا الحج فيه الطواف بالبيت والوقوف بعرفة وجمع، وكان الطواف منه ما يفعله الرجل فى حال إحرامه وهو طواف الزيارة، ومنه ما يفعله بعد أن يحل من إحرامه، وهو طواف الصَّدْر، فكان ذلك من أسباب الحج قد أريد أن يفعله الرجل ماشيًا، وكان إن فعله راكبًا مقصرًا وجعل عليه الدم، هذا إذا فعله من غير علة، وإن فعله من علة فالناس مختلفون فى ذلك قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: لا شىء عليه. وقال غيرهم: عليه دم. وهو النظر عندنا؛ لأن العلل إنما تُسقط الآثام فى انتهاك المحرمات ولا تُسقط الكفارات، فحلق الرأس فى الإحرام إن حلقه من غير عذر عليه الإثم والكفارة، فإن اضطر إلى حلقه فعليه الكفارة ولا إثم عليه، فكذلك المشى الذى قبل الإحرام لما كان من أسباب الإحرام، كان حكمه حكم المشى الواجب فى الإحرام يجب على تاركه الدم.
0 - باب ما جاء فِى حَرَمِ الْمَدِينَةِ
/ 273 - فيه: أَنَس، قَالَ، عليه السَّلام: (الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ كَذَا إِلَى كَذَا، لا يُقْطَعُ شَجَرُهَا، وَلا يُحْدَثُ فِيهَا حَدَثٌ، مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) . / 274 - وفيه: أَنَس، قَدِمَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، الْمَدِينَةَ، وَأَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: (يَا بَنِى النَّجَّارِ ثَامِنُونِي) ، فَقَالُوا: لا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلا إِلَى اللَّهِ، فَأَمَرَ بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ، ثُمَّ بِالْخِرَبِ فَسُوِّيَتْ، وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ، فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ. / 275 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (حُرِّمَ مَا بَيْنَ لابَتَىِ الْمَدِينَةِ عَلَى لِسَانِي،(4/536)
وَأَتَى الرسول (صلى الله عليه وسلم) بَنِى حَارِثَةَ، فَقَالَ: (أَرَاكُمْ يَا بَنِى حَارِثَةَ قَدْ خَرَجْتُمْ مِنَ الْحَرَمِ) ، ثُمَّ الْتَفَتَ فَقَالَ: (بَلْ أَنْتُمْ فِيهِ) . / 276 - وفيه: عَلِىٍّ رضي الله عنه، قَالَ: مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ إِلا كِتَابُ اللَّهِ وَهَذِهِ الصَّحِيفَةُ عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام: (الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَائِرٍ إِلَى كَذَا، مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا، أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلا عَدْلٌ. . .) ، الحديث. حَرَّمَ رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) المدينةَ إلى الحدود المشار إليها، و (عائر) جبل بقرب المدينة، ويروى: (عير) وقوله: (إلى كذا) وقع فى بعض الأمهات وفى بعض الكتب من رواية ابن السكن (ما بين عير إلى ثور) وثور جبل معروف أيضًا. قال أبو عبيد والطبرى: وقد أنكر قوم من أهل المدينة أن يكون بها جبل يسمى ثورًا، وقال: إنما ثور بمكة. قال أبو عبيد: فنرى الحديث إنما أصله (ما بين عير إلى أحد) وكذلك حَرَّمَ ما بين لابتى المدينة، واللابة: الحرة، وهو الموضع ذو الحجارة السود. قال أبو عبيد: وجمعها لاب ولوب. قال ابن حبيب: وتحريم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لابتى المدينة إنما ذلك فى الصيد، فأما قطع الشجر فبريد فى بريد فى دور المدينة كلها، كذلك أخبرنى مطرف عن مالك، وهو قول عمر بن عبد العزيز، واللابتان هما: الحرتان الغربية والشرقية، وللمدينة حرتان أيضًا: حرة فى القبلة وحرة فى الجوف وترجع كلها إلى الحرتين؛ لأن القبلة والجوفية متصلان بهما، ولذلك حرم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما بين لابتى المدينة، جمع دورها كلها فى اللابتين، وقد ردها حسان بن ثابت إلى حرة واحدة فقال:(4/537)
لنا حرة مأطورة بجبالها بنى العز فيها بيته فتأثلا وقوله: مأطورة يعنى: مقطوعة بجبالها لاستدارتها، وإنما جبالها الحجارة السود التى تسمى: الجرار. قال المهلب: وإنما أدخل حديث أنس فى بناء المسجد فى هذا الباب بعد قوله: (لا يقطع شجرها) ليعرفك أن قطع النخل ونبش قبور المشركين ليس هو القطع الذى نهى عنه فى تحريم المدينة؛ لأن قطع النخيل كان لتبوئ المسلمين مسجدًا. ففى هذا من الفقه أن من أراد أن يتخذ جنانًا فى حرم ليعمرها، ويغرس فيها النخل، ويزرع فيها الحبوب، أنه لا يتوجه إليه النهى عن قطع شجرها، ولا يمنع من قطع ما فيه من شجر الشعر أو شوكها؛ لأنه يبتغى الصالح والتأسيس للسكنى فى موضع العمارة، فهذا يبين وجه النهى أنه موقوف على المفسد لبهجة المدينة وخضرتها لعين المهاجر إليها حتى تبتهج نفسه لنضرتها ويرتاح بمبانيها، وإن كان ابتهاجه بمسجدها بيت الله تعالى ومنزل ملائكته ومحل وحيه أعظم والسرور به أشد. وقيل: قطعه عليه السلام للنخيل من موضع المسجد يدل أن النهى إنما يتوجه إلى ما اثبته الله من المسجد مما لا صنع فيه لآدمى؛ لأن النخيل التى قطعت من موضع المسجد كانت من غرس الآدميين؛ لأنه طلب شراء الحائط من بنى النجار إذ كان ملكًا لهم، فقالوا: لا نطلب ثمنه إلا إلى الله، وعلى هذا التأويل حمل نهيه عليه السلام عن قطع شجر مكة. واتفق مالك والشافعى وأحمد وجمهور الفقهاء على أن الصيد محرم فى حرم المدينة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: صيد المدينة غير محرم، كذلك قطع(4/538)
شجرها، فخالف آثار هذا الباب، واحتج الطحاوى بحديث أنس (أن النبى عليه السلام دخل داره وكان لأنس أخ صغير، وكان لهم نغير يلعب به، فقال له النبى عليه السلام: (يا أبا عمير، ما فعل النغير؟) وهذا لا حجة فيه؛ لأنه يمكن أن يصطاد ذلك النغر من غير حرم المدينة. وحجة الجماعة: أن الصحابة فهمت من الرسول (صلى الله عليه وسلم) تحريم الصيد فى حرم المدينة؛ لأنهم أَمروا بذلك وأفتوا به، وهم القدوة الذين يجب اتباعهم. وروى عن أبى سعيد الخدرى أنه كان يضرب بنيه إذا اصطادوا فيه ويرسل الصيد. وروى عن سعد بن أبى وقاص: أنه أخذ سلب من صاد فى حرم المدينة وقطع شجرها، ورواه عن النبى عليه السلام إلا أن أئمة الفتوى لم يقولوا بأخذ سلبه. قال المهلب: وقوله عليه السلام: (حُرم ما بين لابتى المدينة على لسانى) يريد أن تحريمها كان من طريق الوحى، فوجب تحريم صيدها وقطع شجرها، إلا أن جمهور العلماء على أنه لا جزاء فى حرم المدينة، لكنه آثم عندهم من استحل حرم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فإن قال الكوفيون: لما أجمعوا على سقوط الجزاء فى حرم المدينة دل أنه غير محرم. قيل: لا حجة فى هذا؛ لأن صيد مكة قد كان محرمًا على غير أمة محمد، ولم يكن عليهم فيه جزاء وإنما الجزاء فيه على أمة محمد، فليس إيجاب الجزاء فيه علة للتحريم، وشذ ابن أبى ذئب، ونافع صاحب مالك، والشافعى فى أحد قوليه فأوجبوا فيه الجزاء.(4/539)
قال ابن القصار: والدليل على سقوط الجزاء أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لما حرم المدينة وذكر ما ذكر لم يذكر جزاءً على من قتل الصيد بها، وما كان من جهته عليه السلام لم يكن تبيان لما فى القرآن فليس محرم تحريم القرآن، وإنما هو مكروه حتى يكونَ بَيْنَ تحريمه وتحريم القرآن فرق. فإن احتجوا بحديث سعد أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: (من وجدتموه يصيد فى حرم المدينة ويقطع شجرها؛ فخذوا سلبه) فلم يصح عند مالك ولا رأى العمل عليه بالمدينة، ولو صح الحديث عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لأوجب الجزاء على من لا سلب له، ولو لم يكن على القاتل إلا ما ستر به عورته لم يجز أخذه وكشف عورته، فثبت أن الصيد ليس بمضمون أصلا. ألا ترى أن صيد مكة لما كان مضمونًا لم يفترق حكم الغنى والفقير ومن له سلب ومن لا سلب له فى أنه مضمون عليه فى أى وقت قدر. وقد قال مالك: لم أسمع أن فى صيد المدينة جزاءً، ومن مضى أعلم ممن بقى، فقيل له: فهل يؤكل؟ فقال: ليس كالذى يصاد بمكة وإنى لأكرهه. قال المهلب: وفى حديث أنس وعلى من الفقه لعنة أهل المعاصى والعناد لأوامر النبى عليه السلام. وفيه: أن المحدث فى حرم المدينة والمؤوى للمحدث فى الإثم سواء. وقول بنى النجار: (لا نطلب ثمنه إلا من الله) فيه من الفقه إثبات الأحباس المراد بها وجه الله؛ لأنهم وهبوا البقعة للمسلمين حبسًا موقوفًا عليهم، فطلبوا الأجر على ذلك من الله. وفى حديث أبى هريرة من الفقه أن للعالم أن يقول على غلبة الظن، ثم ينظر فيصح النظر، ويقول بعد ذلك، كما قال عليه السلام لبنى حارثة.(4/540)
وقوله عليه السلام: (من أحدث فيها حدثًا أو آوى محدثًا) قال أبو عبيد: الحدث: كُلُّ حَدٍّ لله يجب على صاحبه أن يقام عليه، وهذا شبيه بحديثٍ فى الرجل يأتى حدا من الحدود، ثم يلجأ إلى الحرم أنه لا يقام عليه الحد، ولكنه لا يجالس ولا يكلم حتى يَخرج منه؛ فإذا خرج منه أُقيم عليه الحَدُّ، فجعل الرسول (صلى الله عليه وسلم) حرمة المدينة كحرمة مكة فى المأثم فى صاحب الحّدِّ ألا يؤذيه أحد حتى يخرج منه فيقام عليه الحد. وقوله: (لا يقبل منه صرف ولا عدل) هذا يمكن أن يكون فى وقت دون وقت، إن أنفذ الله عليه الوعيد، ليس أن هذه حاله عند الله أبدًا؛ لأن الذنوب لا تُخرج من الديانة ولا يُخْرِج منها غير الكفر وحده. وقوله: (أخفر مسلمًا) قال الخليل: يقال: أخفرت الرجل: إذا لم تف بذمته، والاسم: الخفور. وقوله: (صرف ولا عدل) قال أبو عبيد عن مكحول: الصرف: التوبة، والعدل: الفدية. قال أبو عبيد: وفى القرآن ما يصدق هذا التفسير وهو قوله: (وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا) [الأنعام: 70] وأما الصرف فلا أدرى قوله تعالى: (فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلاَ نَصْرًا) [الفرقان: 19] من هذا أم لا؟ وبعض الناس يحمله على هذا، ويقال: إن الصرف النافلة، والعدل الفريضة. قال أبو عبيد: والتفسير الول أشبه بالمعنى. وقال أبو على البغدادى: الصرف الحيلة، والصرف الاكتساب، والعدل الفدية، والعدل الدية، صحيح فى الاشتقاق. فأما من قال: الصرف(4/541)
الفريضة، والعدل النافلة، والصرف الدية، والعدل الزيادة على الدية؛ فغير صحيح فى الاشتقاق. وقال الطبرى: الصرف مصدر من قولك: صرفت نفسى عن الشىء أصرفها صرفًا. وإنما عنى به فى هذا الموضع صرف راكب الذنب وهو المحدث فى الحرم حدثًا من سفك دم أو استحلال محرم فلا تقبل توبته، والعدل: ما يعدله من الفدية والبدل، وكل ما عادل الشىء من غير جنسه وكا له مثلا من وجه الجزاء لا من وجه المشابهة فى الصورة والخلقة، فهو له عَدل، بفتح العين، ومنه قوله: (وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا) [الأنعام: 70] بمعنى وإن تفد منها كل فدية. وأما العِدل بكسر العين، فهو مثل الحِمل المحمول على الظهر، يقال: عندى غلام عِدل غلامك، وشاة عِدل شاتك، بكسر العين، إذا كان غلامًا يعدل غلامًا وشاة تعدل شاة، وذلك فى كل مثل للشىء من جنسه، فإذا أراد أن عنده قيمته من غير جنسه فتحت العين فيقول: عندى شاتك من الدراهم. وقد ذكر عن بعض العرب أنهم يكسرون العين من العدل الذى هو بمعنى الفدية، وذلك لتقارب معنى العدل عندهم.
1 - باب فَضْلِ الْمَدِينَةِ
/ 277 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ الْقُرَى، يَقُولُونَ يَثْرِبُ، وَهِىَ الْمَدِينَةُ، تَنْفِى النَّاسَ كَمَا يَنْفِى الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ) . قوله: (أُمرت بقرية) يريد أمرت بالهجرة إليها.(4/542)
وقوله: (تأكل القُرى) يعنى: بيفتتح أهلها القرى فيأكلون أموالهم، ويسبون ذراريهم، ويقتلون مقاتلتهم، وهذا من فصيح كلام العرب تقول: أكلنا بنى فلان، وأكلنا بلد كذا: إذا ظهروا على أهله وغلبوهم. قال الخطابى: (تاكل القرى) يريد أن الله ينصر الإسلام بأهل المدينة وهم النصار، وتفتح على أيديهم القرى، ويغنمها إياهم فيأكلونها، وهذا فى الاتساع والاختصار كقوله تعالى: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف: 82] يريد أهل القرية، فكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد عرض نفسه على قبائل العرب أيهم ينصره فيفوز بالفخر فى الدنيا والثواب فى الآخرة، فلم يجد فى القوم من يرضى بمعاداة من جاوره ويبذل نفسه وماله لله، فمثل الله المدينة فى منامه فرأى أنه يؤمر بالهجرة إليها، فوصف ذلك أبى بكر، وقد كان عاقد قومًا من أهلها، وسألوه أن ينظر فيما يريدون أن يعقدوا معه عليه السلام، فخرج مع أبى بكر للمدينة، ففتح الله منها جميع الأمصار حتى مكة التى كانت موطنه. قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: وهذا الحديث حجة لمن فضل المدينة على مكة؛ لأنها هى التى أدخلت مكة وسائر القرى فى الإسلام، فصارت القرى ومكة فى صحائف أهل المدينة. وذهب مالك وأهل المدينة إلى أنها أفضل من مكة. وقال الشافعى: مكة أفضل منها. وقد تقدم القول فى ذلك فى كتاب الصلاة فى قوله: صلاة فى مسجدى هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام. وقوله: (يقولون: يثرب) كره أن يسمى باسمها فى الجاهلية وسماها (المدينة) فلا تسمى بغير ما سماها النبى عليه السلام(4/543)
وكانوا يسمونها (يثرب) باسم أرض بها فغير رسول الله (صلى الله عليه وسلم) اسمها وسماها (طيبة) كراهية التثريب، وإنما سميت فى القرآن (يثرب) على وجه الحكاية لتسمية المشركين، وقد روى عنه عليه السلام أنه (من قال: يثرب فكفارته أن يقول المدينة عشر مرات) يريد بذلك التوكيد أن يقال لها: المدينة، وصارت مُعرفة بالألف واللام؛ لأنها انفردت بجميع خصال الإسلام، ولا يقول أحد: المدينة لبلد فيعرف ما يريد القائل إلا لها خاصة.
2 - باب الْمَدِينَةُ طيبة
/ 278 - فيه: أَبُو حُمَيْدٍ، أَقْبَلْنَا مَعَ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، مِنْ تَبُوكَ حَتَّى أَشْرَفْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: (هَذِهِ طَابَةٌ) . قوقه: (طابة) مشتقة من الطيب، وزنها فعلة، وقد يقال أيضًا: طيبة، وزنها فعلة، وهذان المثالان فعلة وفعلة متعاقبان على معنى واحد، كقولهم: عيب وعاب، وديم ودام، ودين ودان، فاشتق لها عليه السلام هذا الاسم من الطيب، وكره اسمها لما فى لفظه من التثريب، وقد قال بعض أهل العراق: وأمر المدينة فى ترابها وهوائها دليل شاهد وبرهان على قوله عليه السلام: (إنها طيبة) يبقى حبها وينصع طيبها؛ لأن من دخلها وأقام بها يجد من تربتها وحيطانها(4/544)
رائحة طية [. . . . . .] اسم فى الأرائج وبذلك السبب طاب طينها، والمعجونات من الطيب فيها أحدّ رائحة، وكذلك العود وجميع البخور يتضاعف طيبه فى تلك البلدة على كل بلدة استعمل ذلك الطيب بعينه فيها.
3 - بَاب لابَتَىِ الْمَدِينَةِ
/ 279 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، لَوْ رَأَيْتُ الظِّبَاءَ بِالْمَدِينَةِ تَرْتَعُ مَا ذَعَرْتُهَا، قَالَ، عليه السَّلام: (مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا حَرَامٌ) . قد تقدم أن اللابتين الحرتان. وقوله: (ما ذعرتها) فالإذعار والتنفير هو أقل ما ينهى عنه من أمر الصيد وما فوقه من الأذى للصيد وقتله أكثر من الإذعار، وإنما أخذ أبو هريرة قوله: (ما ذعرتها) والله أعلم من قوله عليه السلام فى مكة: (لا ينفر صيدها) والتنفير والإذعار واحد.
4 - باب مَنْ رَغِبَ عَنِ الْمَدِينَةِ
/ 280 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، سَمِعْتُ الرسول (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (يَتْرُكُونَ الْمَدِينَةَ عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ لا يَغْشَاهَا إِلا الْعَوَافِ، يُرِيدُ عَوَافِىَ السِّبَاعِ وَالطَّيْرِ، وَآخِرُ مَنْ يُحْشَرُ رَاعِيَانِ مِنْ مُزَيْنَةَ، يُرِيدَانِ الْمَدِينَةَ يَنْعِقَانِ بِغَنَمِهِمَا فَيَجِدَانِهَا وَحْشًا، حَتَّى إِذَا بَلَغَا ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ خَرَّا عَلَى وُجُوهِهِمَا) .(4/545)
/ 281 - وفيه: سُفْيَانَ بْنِ أَبِى زُهَيْرٍ، سَمِعْتُ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (تُفْتَحُ الْيَمَنُ، فَيَأْتِى قَوْمٌ يُبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِهِمْ، وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَتُفْتَحُ الشَّأْمُ، وَتُفْتَحُ الْعِرَاقُ كذلك) . قال المهلب: قوله: (تترك المدينة على خير ما كانت) يريد على أرخى أحوالها ووجود ثمارها وخيراتها فيأكلها الطير والسباع. قال غيره: وفى هذا برهان من النبى عليه السلام لأنه ذكر أهلُ الأخبار أنه قد رحل عن المدينة أكثر الناس فى الفتن التى تعاورتها، وخاف أهلها على أنفسهم، وكانت فى عهد الخلفاء أحسن ما كانت من البنيان والعمارة والغرس للنخيل والأشجار، فتركت للطير والسباع، وبقيت مدة على ذلك ثم عاد الناس إليها. وروى عن مالك فى هذا الحديث (لتتركن المدينة خير ما كانت حتى يدخل الكلب، أو الذئب، فيعوى على بعض سوارى المسجد) وأكثر المدينة اليوم خراب لا يدخلها أحد منفردًا فيأمن، وهذا مما يلى القبلة والجوف، وليس لأبوابها ثقاف ولا غلق، وكذلك أبواب المسجد أكثرها لا تغلق وهى كبيرة. وقد رأى كثير من الناس الكلب يعوى على بعض سوارى المسجد كما قال (صلى الله عليه وسلم) ، وأما كونه فيما يستقبل فلا شك فيه بما قد أنذر به أمته من عموم الفتن واشتدادها، وانتقاض الخير، وغلبة الباطل وأهله، وأن الإسلام سيعود غريبًا كما بدأ غريبًا، وظهور الشرائط وتواتر المحن حتى يتمنى الأحياء الموت. وقال الأخفش: العوافى واحدها عافية، وهى التى تطلب أقواتها، والمذكر عاف، والعوافى والمعتفى التى تطلب فضلك.(4/546)
قال الأعشى: تطوف العفاة بأبوابه كما تطوف النصارى ببيت الوثن يعنى بالعفاة: طلاب الحاجات. قال المهلب: وهذا الحديث يدل أن المدينة تُسكن إلى يوم القيامة وإن خلت فى بعض الأوقات، لقصد هذين الراعيين بغنمهما إلى المدينة، وهذا يكون قرب قيام الساعة، وأن آية قيام الساعة عند موت هذين الراعيين أحرى أن تصير غنمهما وحوشًا، فإن قيل: فما معنى قوله: (آخر من يحشر راعيان من مزينة) ولم يذكر حشرهما وإنما ذكر أنهما يخران على وجوهما أمواتًا؟ فالجواب: أنه لا يُحشر أحد إلا بعد الموت، فهما آخر من يموت بالمدينة وآخر من يحشر بعد ذلك كما قال عليه السلام. وقال صاحب (العين) : نعق بالغنم ينعق نعاقًا وإذا صاح بها. وأما قوله: (تفتح اليمن فيأتى قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم) يعنى: يحملون من المدينة إلى هذه البلاد المتفتحة لسعة العيش فيها، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون. وفيه برهان جليل بصدق الرسول فى إخباره بما يكون قبل وقته، فأنجز الله لرسوله (صلى الله عليه وسلم) ما وعد به أمته فَفُتحت اليمن قبل الشام وفُتحت الشام قبل العراق وكمل ذلك كله. وقوله: (والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون) يعنى: لفضل الصلاة فى مسجده، التى هى خير من ألف صلاة فيما سواه، ولما فى سكنى المدينة والصبر على لأوائها وشدتها، فهو خير لهم مما يصيبون من الدنيا فى غيرها، والمراد بالحديث: الخارجون عن المدينة رغبة(4/547)
عنها كارهين لها، فهؤلاء المدينةُ خير لهم، وهم الذين جاء فيهم الحديث (أنها تنفى خبثها) وأما من خرج من المدينة لحاجة أو طلب معيشة أو ضرورة ونيته الرجوع إليها فليس بداخل فى معنى الحديث والله أعلم. وقوله: (يبسون) فقال أبو عبيد: يقال فى الزجر إذا سقت حمارًا أو غيره: بس بس، وهو من كلام أهل اليمن، وفيه لغتان: بَسَسْتُ وأَبْسَسْتُ، فيكون على هذا يَبسون ويُبسون بفتح الباء وضمها. وقال الخليل: بس زجر للبغل والحمار، بضم الباء وفتح السين، تقول: بس بس، يقال منه: يَبُسون ويُبِسون. قال أبو عمر الشيبانى: يقال: بس فلان كلابه أى: أرسلها.
5 - باب الإيمَانُ يَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ
/ 282 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (إِنَّ الإيمَانَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ، كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا) . قال المهلب: فيه أن المدينة لا يأتيها إلا المؤمن، وإنما يسوقه إليها إيمانه ومحبته فى النبى (صلى الله عليه وسلم) فكأن الإيمان يرجع إليها كما خرج منها أولا، ومنها ينتشر كانتشار الحية من جحرها، ثم إذا راعها شىء رجعت إلى جحرها، فكذلك الإيمان لما دخلته الدواخل لم يقصد المدينة إلا مؤمن صحيح الإيمان. وقال أبو عبيد: قال الأصمعى: قوله: (يأزر) يعنى ينضم إليها، ويجتمع بعضه إلى بعض. قال الأصمعى: وأخبرنى عيسى بن عمر، عن الأسود الديلى أنه قال: إن فلانًا إذا سئل أرز وإذا دُعى اهتز. قال أبو عبيد: يعنى: إذا سئل المعروف تضام، وإذا دعى إلى طعام وغيره مما يناله اهتز لذلك.(4/548)
6 - باب إِثْمِ مَنْ كَادَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ
/ 283 - فيه: سَعْد، قَالَ، عليه السَّلام: (لا يَكِيدُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَحَدٌ إِلا انْمَاعَ، كَمَا يَنْمَاعُ الْمِلْحُ فِى الْمَاءِ) . قال المهلب: وقوله: (لا يكيدُ أهلَ المدينةِ أحد) أى: لا يدخلها بمكيدة ولا يمكن يطلب فيها غرتهم ويفترس عورتهم. وقوله: (إلا انماع) أى: إلا ذاب كما يذوب الملح فى الماء، يقال منه: ماع العسل فى الماء، فهو يماع إيماعًا، وهو عسل مائع، وقد ماع يميع ميعًا مويعًا، وتَمَيع الشراب إذا ذهب وجاء، فهو يتميع تميعًا.
7 - باب آطَامِ الْمَدِينَةِ
/ 284 - فيه: أُسَامَةَ، أن النَّبِىّ، عليه السَّلام، وقف عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: (هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى؟ إِنِّى لأرَى مَوَاقِعَ الْفِتَنِ خِلالَ بُيُوتِكُمْ، كَمَوَاقِعِ الْقَطْرِ) . قال المهلب: مُثِّل للنبى (صلى الله عليه وسلم) الفتن التى حدثت بعده فرآها عيانًا، وأنذر بها عليه السلام قبل وقوعها، وهذه علامة من علامات نبوته؛ لإخباره عن الغيب فى ذلك، فكانت الفتن بعده كالقطر كما أخبر وخبره الصادق المصدوق. وقال الخطابى: الطم: الحصن المبنى بالحجارة، والجمع: آطام.
8 - بَاب لا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ الدَّجَّالُ
/ 285 - فيه: أَبُو بَكْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (لا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ رُعْبُ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، لَهَا يَوْمَئِذٍ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ عَلَى كُلِّ بَابٍ مَلَكَانِ) .(4/549)
/ 286 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ مَلائِكَةٌ لا يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ وَلا الدَّجَّالُ) . / 287 - وفيه: أَبو سَعِيد، حَدَّثَنَا النبِىّ، عليه السَّلام، طَوِيلا عَنِ الدَّجَّالِ، فَكَانَ فِيمَا حَدَّثَنَا بِهِ أَنْ قَالَ: (يَأْتِى الدَّجَّالُ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ نِقَابَ الْمَدِينَةِ بَعْضَ السِّبَاخِ الَّتِى بِالْمَدِينَةِ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ هُوَ خَيْرُ النَّاسِ، أَوْ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ، فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ الدَّجَّالُ الَّذِى حَدَّثَنَا عَنْكَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حَدِيثَهُ، فَيَقُولُ الدَّجَّالُ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُ هَذَا ثُمَّ أَحْيَيْتُهُ هَلْ تَشُكُّونَ فِى الأمْرِ؟ فَيَقُولُونَ: لا، فَيَقْتُلُهُ، ثُمَّ يُحْيِيهِ، فَيَقُولُ: حِينَ يُحْيِيهِ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَشَدَّ بَصِيرَةً مِنِّى الْيَوْمَ، فَيَقُولُ الدَّجَّالُ: أَقْتُلُهُ فَلا أُسَلَّطُ عَلَيْهِ) . / 288 - وفيه: أَنَس، قَالَ، عليه السَّلام: (لَيْسَ مِنْ بَلَدٍ إِلا سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ إِلا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ، لَيْسَ لَهُ مِنْ نِقَابِهَا نَقْبٌ إِلا عَلَيْهِ الْمَلائِكَةُ صَافِّينَ يَحْرُسُونَهَا، ثُمَّ تَرْجُفُ الْمَدِينَةُ بِأَهْلِهَا ثَلاثَ رَجَفَاتٍ، فَيُخْرِجُ اللَّهُ كُلَّ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ) . قال الأخفش: أنقاب المدينة: طرقها، الواحد: نقب، وهو من قول الله تعالى: (فَنَقَّبُوا فِى الْبِلاَدِ) [ق: 36] أى: جعلوا فيها طرقًا ومسالك. قال غيره: ونقاب أيضًا جمع نقب، ككلاب وكلب، ويجمع فعل أسمًا على غير فعال وفعول قياسًا ومطردًا. وفى هذه الأحاديث برهان ظهر إلينا صحته، وعلمنا أن ذلك من بركة دعائه (صلى الله عليه وسلم) للمدينة، وقد أراد عمر والصحابة أن يرجعوا إلى المدينة حين وقع الوباء بالشام؛ ثقة منهم بقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم)(4/550)
الذى أمنهم من دخول الطاعون بلدهم، ولذلك نوقن أن الدجال لا يستطيع دخولها البتة، وهذا فضل عظيم للمدينة. وقد أخبر الله تعالى أنه يوكل الملائكة بحفظ من شاء من عباده من الآفات والعدو والفتن، فقال تعالى: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [الرعد: 11] يعنى: بأمر الله لهم بحفظه، وما زالت الملائكة تنفع المؤمنين بالنصر لهم والدعاء والاستغفار ويستغفرون لذنوبهم، وسأذكر معنى حديث الدجال وفتنته للناس فى كتاب الفتن إن شاء الله. وفى حديث أنس أن الدجال لا يدخل مكة أيضًا، وهذا فضل كبير لمكة والمدينة على سائر الأرض، فإن قيل: إن قوله عليه السلام: (لا يدخل المسيح) يعارضه قوله فى حديث أنس: (ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات) والرجف رعب، قال المهلب: ليس يعارض، وإنما الرجفة تكون من أهل المدينة على من بها من المنافقين والكافرين فيخرجونهم من المدينة بإخافتهم إياهم تعاطيًا عليهم وعلى الدجال، فيخرج المنافقون إلى الدجال فرارًا من أهل المدينة ومن قوتهم عليهم، والله أعلم.
9 - باب الْمَدِينَةُ تَنْفِى الْخَبَثَ
/ 289 - فيه: جَابِر، جَاءَ أَعْرَابِىٌّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، فَبَايَعَهُ عَلَى الإسْلامِ، فَجَاءَ مِنَ الْغَدِ مَحْمُومًا، فَقَالَ: أَقِلْنِى، فَأَبَى ثَلاثَ مِرَارٍ، فَقَالَ: (الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِى خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طَيِّبُهَا) .(4/551)
/ 290 - وفيه: زَيْدَ، لَمَّا خَرَجَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) إِلَى أُحُدٍ، رَجَعَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: نَقْتُلُهُمْ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: لا نَقْتُلُهُمْ فَنَزَلَتْ: (فَمَا لَكُمْ فِى الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ) [النساء: 88] وَقَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّهَا تَنْفِى الرِّجَالَ كَمَا تَنْفِى النَّارُ خَبَثَ الْحَدِيدِ) . قال بعض العلماء: كان هذا الأعرابى من المهاجرين، فأراد أن يستقيل النبى عليه السلام فى الهجرة فقط، ولم يُرد أن يستقيله فى الإسلام، فأبى عليه السلام ذلك فى الهجرة؛ لأنها عون على الإثم، وكان ارتدادهم عن الهجرة من أكبر الكبائر؛ ولذلك دعا لهم الرسول فقال: (اللهم أمض لأصحابى هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم) . فى هذا من الفقه أن من عقد على نفسه أو على غيره عقد الله، فلا يجوز له حله؛ لأن فى حله خروج إلى معصية الله، وقد قال الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة: 1] والدليل على أنه لم يرد الارتداد عن الإسلام أنه لم يرد حل ما عقده إلا بموافقة النبى (صلى الله عليه وسلم) على ذلك، ولو كان خروجه عن المدينة خروجًا عن الإسلام لقتله عليه السلام حين خرج، وإنما خرج عاصيًا، ورأى أنه معذور لِمَا نزل به من الوباء، ولعله لم يعلم أن الهجرة فرض عليه وكان من الذين قال لهم فيهم: (وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ) [التوبة: 97] فقال فيه عليه السلام: (إن المدينة كالكير تنفى خبثها) . فإن قيل: فإن المنافقين قد سكنوا المدينة وماتُوا فيها ولم تنفهم؟ قيل: إن المنافقين كانت دارهم ولم يسكنوها اعتباطًا بالإسلام ولا حبًا له، وإنما سكنوها لما فيها من أصل معاشهم، ولم يُرد عليه(4/552)
السلام بضرب المثل إلا من عقد الإسلام راغبًا فيه ثم خبث قلبه، ولم يصح عندك أن أحدًا ممن لم تكن له المدينة دارًا فارتد عن الإسلام ثم اختار السكنى فيها، بل كلهم فَرَّ إلى الكفر راجعًا، فبمثل أولئك ضرب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المثل. وقال المهلب: كان المنافقون الساكنون بالمدينة قد ميزهم الله كأنهم بارزون عنها؛ لما وسمهم به من قوله تعالى: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِى الصَّدَقَاتِ) [التوبة: 79] ، و) الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِىَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) [التوبة: 61] وبقوله: (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ الْقَوْلِ) [محمد: 30] فكانوا معروفين معينين، وأبقاهم (صلى الله عليه وسلم) لئلا يقول الناس: إن محمدًا يقتل أصحابه أو ينفيهم، والنفى كالقتل. ومما يدل على ذلك قوله تعالى: (فَمَا لَكُمْ فِى الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ) [النساء: 88] فَبَيَّنَ منكرًا عليهم اختلافَهم فى قتلهم، فعرفهم الله أنه أركسهم بنفاقهم، فلا يكون لهم صنع ولا جمع، ولا يسمع لهم قول، مع أنه قد ختم الله أنهم لا يجاورونه فيها إلا قليلا، فنفتهم المدينة بعده عليه السلام لخوفهم القتل، قال الله تعالى: (مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) [الأحزاب: 61] فلم يأمنوا فخرجوا، فصح إخبار الرسول (صلى الله عليه وسلم) إنها تنفى خبثها، لكن ليس ذلك ضربة واحدة، لكن الشىء بعد الشىء حتى يخلص أهلها الطيبين الناصعين وقت الحاجة إليهم فى العلم؛ لأنهم فى حياته عليه السلام مستغنى عنهم، فلما احتيج إليهم بعده فى العلم حفظتهم بركة المدينة فنفت خبثها.(4/553)
قال غيره: وقوله: (المدينة كالكير) إنما هو تمثيل منه وتنظير، ففيه دليل على جواز القياس بين الشيئين إذا اشتبها فى المعنى، فشبه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المدينة فى نفيها مَنْ خبث قلبه بالكير الذى ينفى خبث الحديد حتى يصفو، وقوله: (ينصع طَيِّبُها) هو مثل ضربه للمؤمن المخلص الساكن فيها، الصابر على لأوائها وشدتها مع فراق الأهل والمال والتزام المخافة من العدو، فلما باع نفسه من الله والتزم هذا بأن صدقُه، ونصع إيمانه وقوى؛ لاغتباطه بسكنى المدينة وتقربه من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كما ينصع ريح الطيب فيها ويزيد عبقًا على سائر البلاد، خصوصية خص الله بها بلدة رسوله (صلى الله عليه وسلم) التى اختار تربتها لمباشرة جسده الطيب المطهر (صلى الله عليه وسلم) ، وقد جاء فى الحديث أن المؤمن يقبر فى التربة التى خلق منها، فكانت بهذا تربة المدينة أفضل الترب كما هو (صلى الله عليه وسلم) أفضل البشر؛ فلهذا والله أعلم تتضاعف ريح الطيب فيها على سائر البلاد.
0 - بَاب
/ 291 - فيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام: (اجْعَلْ بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَىْ مَا جَعَلْتَ بِمَكَّةَ مِنَ الْبَرَكَةِ) . وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، فَنَظَرَ إِلَى جُدُرَاتِ الْمَدِينَةِ، أَوْضَعَ رَاحِلَتَهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى دَابَّةٍ حَرَّكَهَا مِنْ حُبِّهَا. استدل بعض الناس على أن المدينة أفضل من مكة بدعاء الرسول (صلى الله عليه وسلم) للمدينة بضعف دعائه لمكة وقال آخرون ممن يرى أن مكة أفضل من المدينة: لو كان تضعيف الدعاء للمدينة دليلا على فضلها على مكة، لكانت الشام واليمن أفضل من مكة؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد كرر الدعاء للشام واليمن مرات، وهذا لا يقوله مسلم، روى ابن عمر: أن(4/554)
الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: (اللهم بارك لنا فى شامنا، اللهم بارك لنا فى يمننا، قالها ثلاثًا) . وهذا اعتراض غير لازم؛ لأن الأمة مجمعة أن مكة أفضل من الشام واليمن وجميع الأرض غير المدينة. فلما تقرر هذا لم يكن تكرير الدعاء للشام واليمن موجبًا لفضلهما على مكة؛ لأنه لم يقصد بالدعاء لهما التفضيل على مكة، وإنما قصد التفضيل لهما على نجد، وإنما كان يصح هذا الاعتراض لو قرن بالدعاء للشام واليمن ثلاث مرات الدعاء لمكة أقل من ذلك، وإنما فى حديث ابن عمر الشام واليمن أفضل من نجد خاصة؛ لتكريره الدعاء للشام واليمن دون نجد، فكذلك تكريره الدعاء للمدينة دون مكة، فوجب فضلها على مكة، والله أعلم. واحتج من فضل المدينة بقوله: (حركها من حبها) يريد من حبه للمدينة، قال: فقد خصها الله بفضائل كثيرة منها: أن الله اختارها دارًا لنبيه أفضل خلقه، وجعلها منزل وحيه، وحباها بقبره، ومنها نشر الله دينه وبَلَّغ شريعته، إلى ما لا يحصى من فضائلها، وتعجيل سيره (صلى الله عليه وسلم) إذا نظر إليها من أجل أن قرب الدار يجدد الشوق للأحبة والأهل، ويؤكد الحنين إلى الوطن، وفى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الأسوة الحسنة.
1 - باب كَرَاهِيَةِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) أَنْ تُعْرَى الْمَدِينَةُ
/ 292 - فيه: أَنَس، أَرَادَ بَنُو سَلِمَةَ أَنْ يَتَحَوَّلُوا إِلَى قُرْبِ الْمَسْجِدِ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ تُعْرَى الْمَدِينَةُ، وَقَالَ: (يَا بَنِى سَلِمَةَ أَلا تَحْتَسِبُونَ آثَارَكُمْ) . إنما أراد عليه السلام ألا تعرى المدينة وأن تعمر ليعظم(4/555)
المسلمون فى أعين المنافقين والمشركين، إرهابًا وغلظة عليهم. وقوله: (ألا تحتسبون آثاركم) يعنى: فى الخطا إلى المسجد؛ ولذلك قال أبو هريرة: إن أعظمكم أجرًا أبعدكم دارًا، قيل: لِمَ يا أبا هريرة؟ قال: من أجل كثرة الخطا. وهذا لا يكون من رأى أبى هريرة؛ لأن الفضائل لا تدرك بالقياس، وقد ترجم لهذا الحديث فى كتاب الصلاة باب احتساب الآثار.
2 - بَاب
/ 293 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا بَيْنَ بَيْتِى وَمِنْبَرِى وقبرِى رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمِنْبَرِى عَلَى حَوْضِى) . / 294 - وفيه: عَائِشَةَ، لَمَّا قَدِمَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلالٌ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى، يَقُولُ: كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِى أَهْلِهِ وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ وَكَانَ بِلالٌ إِذَا أُقْلِعَ عَنْهُ الْحُمَّى يَقُولُ: أَلا لَيْتَ شِعْرِى هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجَنَّةٍ بِوَادٍ وَحَوْلِى إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِى شَامَةٌ وَطَفِيلُ(4/556)
(اللَّهُمَّ الْعَنْ شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ كَمَا أَخْرَجُونَا مِنْ أَرْضِنَا إِلَى أَرْضِ الْوَبَاءِ) ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِى صَاعِنَا، وَفِى مُدِّنَا، وَصَحِّحْهَا لَنَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ) ، قَالَ: وَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، وَهِىَ أَوْبَأُ أَرْضِ اللَّهِ، قَالَتْ: فَكَانَ بُطْحَانُ يَجْرِى نَجْلا، مَاءً آجِنًا. / 295 - وفيه: عُمَرَ، اللَّهُمَّ ارْزُقْنِى شَهَادَةً فِى سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ مَوْتِى فِى بَلَدِ رَسُولِكَ (صلى الله عليه وسلم) . قال المهلب: قوله: (روضة من رياض الجنة) يحتمل أن يكون على الحقيقة، ويحتمل أن يكون على المجاز، فوجه الحقيقة أن يكون الموضع الذى بين المنبر والقبر يوم القيامة فى الجنة روضة، واحتج قائل هذا بقوله تعالى عن أهل الجنة روضة، واحتج قائل هذا بقوله تعالى عن أهل الجنة: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء) [الزمر: 74] قالوا: فدلت هذه الآية أن الجنة تكون فى الأرض يوم القيامة. ووجه المجاز أن يكون معناه أن من صلى بين المنبروالقبر فقد استوجب روضة فى الجنة، فيجازى بها يوم القيامة على قصده وصلاته فى هذا الموضع، كما قال عليه السلام: (ارتعوا فى رياض الجنة) يعنى: حلق الذكر والعلم لما كانت مؤدية إلى الجنة، ويكون معناه التحريض على زيارة قبر النبى عليه السلام والصلاة فى مسجده، وكذلك يدل قوله: (صلاة فى مسجدى هذا خير من ألف صلاة فيما سواه) على الحض والندب على قصده والصلاة فيه والزيارة له، وقد بسطت الكلام فى هذا الحديث فى كتاب الصلاة فى باب: فضل ما بين القبر والمنبر، بأسبغ مما ذكرته ها هنا.(4/557)
وقول عمر: اللهم اجعل موتى فى بلد رسولك (صلى الله عليه وسلم) . احتج به من فضل المدينة على مكة، وقالوا: لو علم عمر بلدة أفضل من المدينة لدعا ربه أن يجعل موته وقبره فيها، وكان مما استُدل به على فضلها أن الله لما اختارها لقبر نبيه أفضل البشر عُلم أنه لم يختر له إلا أفضل البقاع، وقد جاء أن ابن آدم إنما يدفن فى التربة التى خلق منها، وقد ذكرنا ذلك. وقال بعض العلماء: وأما حديث عائشة حين وُعك أبو بكر وبلال وإنشادهما فى ذلك؛ فإن الله تعالى لما ابتلى نبيه بالهجرة وفراق الوطن ابتلى أصحابه بما يكرهون من الأمراض التى تؤلمهم، فتكلم كل إنسان منهم حسب يقينه وعلمه بعواقب الأمور فتعزى أبو بكر عند أخذ الحمى له بما ينزل به الموت فى صباحه ومسائه، ورأى أن ذلك شامل للخلق، فلذلك قال: كل امرىِِء مصبح فى أهله. يعنى: تصبحه الآفات وتمسيه، وأما بلال فإنما تمنى الرجوع إلى مكة وطنه الذى اعتاده ودامت فيه صحته، فبان فضل أبى بكر وعلمه بسرعة فناء الدنيا حتى الموت بشراك نعله. فلما رأى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما نزل بأصحابه من الحُمَّى والوباء خشى كراهية البلد، لما فى النفوس من استثقال ما تكرهه، فدعا الله فى رفع الوباء عنهم، وأن يحبب إليهم المدينة كحبهم مكة وأشد؛ فدل ذلك أن أسباب التحبيب والتكريه بيد الله، وهبة منه يهبها لمن شاء، وفى هذا حجة واضحة على من كذب بالقدر؛ إِذِ الذى يملك النفوس فيجب إليها ما أحب، ويكره إليها ما كره هو الله، فأجاب دعوة نبيه (صلى الله عليه وسلم) ، فأحبوها حبا أدامه فى نفوسهم حتى ماتوا عليه.(4/558)
وأما قوله: (وصححها) ففيه من الفقه أن الله أباح للمؤمن أن يسأل ربه صحة جسمه وذهاب الآفات عنه إذا نزلت به، كسؤاله إياه فى الرزق والنصر، وليس فى دعاء المؤمن ورغبته فى ذلك إلى الله لوم ولا قدح فى دينه، وقد كان من دعاء النبى (صلى الله عليه وسلم) كثيرًا أن يقول: (وقونى فى سبيلك) وفى هذا رد على الصوفية فى قولهم: إن الولى لا تتم له الولاية إلا تم له الرضا بجميع ما نزل به ولا يدعوا الله فى كشف ذلك عنه، فإن دعا فليس من الولاية فى حال الكمال، وقد [. . . . . .] فى قولهم هذا بمحمد عليه السلام وأصحابه، وقد كان إذا نزل به شىء يكثر عليه الدعاء والرجاء فى كشفه. وأما قوله: (وانقل حُمَّاها إلى الجحفة) فكانت الجحفة يومئذ دار شرك، وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كثيرًا ما يدعوا على من لم يجب إلى الإسلام إذا خاف منه معونة أهل الكفر، حين يئس منهم فقال (صلى الله عليه وسلم) : (اللهم أعنى عليهم بسبع كسبع يوسف) ودعا على أهل الجحفة بالحمى ليشغلهم بها، فلم تزل الجحفة من يومئذ أكثر بلاد الله حمى، وإنه يتقى شرب الماء من عينها الذى يقال له: عين حم، وقَلَّ من شرب منه إلا حُمَّ، وهو متغير الطعم. وقوله: (رفع عقيرته) يعنى: صوته، وأصل ذلك عند العرب أن رجلا قطعت إحدى رجليه فرفعها ووضعها على الأخرى وصرخ بأعلى صوته؛ فقيل لكل رافع صوته: قد رفع عقيرته، ففيه من المعانى جواز هذا النوع من الغناء، وهو نشيد الأعراب للسفر بصوت رفيع.(4/559)
قال الطبرى: وهذا النوع من الغناء هو المطلق المباح بإجماع الحجة، وهو الذى غنى به فى بيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فلم يَنْهَ عنه، وهو الذى كان السلف يجيزون ويسمعون، وروى سفيان بن عيينة، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: نعم زاد الراكب الغناء نصبًا، وروى ابن وهب، عن أسامة وعبد الله ابنى زيد بن أسلم، عن أبيهما زيد، عن أبيه أن عمر بن الخطاب قال: الغناء من زاد الراكب. وروى ابن شهاب، عن عمر بن عبد العزيز أن محمد ابن نوفل أخبره أنه رأى أسامة بن زيد واضعًا إحدى رجليه على الأخرى بمعنى النصب. قال الطبرى: وإنما تسميه العرب النصب لنصب المتغنى به صوته وهو الإنشاد له بصوت رفيع. وروى ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبيه أنه سمع عبد الله بن الأرقم رافعًا عقيرته يتغنى. قال عبد الله بن عتبة: والله ما رأيت رجلا أخشى لله من عبد الله بن الأرقام. وقد تقدم شىء من هذا المعنى فى كتاب الصلاة فى باب: سنة العيدين لأهل الإسلام، عند ذكر الجاريتين اللتين غنتا فى بيت عائشة يوم العيد، وسيأتى ما يحل من الغناء ويحرم فى كتاب الاستئذان فى باب: كل لهو فباطل إذا شغله عن طاعة الله. وفى حديث عائشة من الفقه تمثل الصالحين والفضلاء بالشعر، وفيه عيادة الجلّة السادة لعبيدهم؛ لأن بلالا أعتقه أبو بكر الصديق وكانت عائشة تزوره، وكان ذلك قبل نزول الحجاب. والإذخر والجليل ينبتان بمكة، وشامة وطفيل جبلان بها، وقال الفكهانى: بينهما وبين مكة نحو ثلاثين ميلا. قال الخطابى: وكنت مرة أحسبهما جبلين حتى تبين لى أنهما عينان.(4/560)
(بطحان يجرى نجلا) بطحان اسم للكمان المنبطح، وهو المستوى المتسع، ويجرى نجلا: يريد واسعًا، تقول العرب: استنجل الوادى: إذا اتسع جريه، ومنه العين النجلاء الواسعة: وطعنة نجلاء أى: واسعة، والأجن والآجن: المتغير. قال الأعشى: وقليب آجن كأن من بأرجائه لُقُوطَ نصَال. . . . . . . . . . .(4/561)
الجزء الخامس(5/4)
بسم الله الرحمن الرحيم
- كِتَاب الْجِهَادِ
فَضْلِ الْجِهَادِ وَالسِّيَرِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ (إِلَى قَوْلِهِ: (والحافظون لحدود الله وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [التوبة: 111] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحُدُودُ الطَّاعَةُ. 1647 / - فيه: ابْن مَسْعُود، سَأَلْتُ الرسول، (صلى الله عليه وسلم) قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَىُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (الصَّلاةُ عَلَى مِيقَاتِهَا) ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: (ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ) ، قُلْتُ: ثُمَّ أَىٌّ؟ قَالَ: (الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ) ، فَسَكَتُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِى. 1648 / - وفيه: ابْن عَبَّاس قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (لا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، فَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا) . 1649 / - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ، أَفَلا نُجَاهِدُ؟ قَالَ: (لَكُنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ) . 1650 / - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: دُلَّنِى عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ، قَالَ: لا أَجِدُهُ، قَالَ: (هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتَقُومَ وَلا تَفْتُرَ، وَتَصُومَ وَلا تُفْطِرَ،؟ قَالَ: وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنَّ فَرَسَ الْمُجَاهِدِ لَيَسْتَنُّ فِى طِوَلِهِ، فَيُكْتَبُ لَهُ حَسَنَاتٍ.(5/5)
قال الطبرى: معنى حديث ابن مسعود أن الصلاة المفروضة وبر الوالدين والجهاد فى سبيل الله أفضل الأعمال بعد الإيمان بالله ورسوله، وذلك أن من ضيع الصلاة المفروضة، حتى خرج وقتها لغير عذر فقدرته مع خفة مؤنتها وعظم فضلها فهو لا شك لغيرها من أمر الدين والإسلام أشد تضيعاَ، وبه أشد تهاوناَ واستخفافاَ، وكذلك من ترك بر والديه وضيع حقوقهما مع عظيم حقهما عليه بتربيتهما إياه، وتقطعهما عليه، ورفقهما به صغيرًا وإحسا نهما إليه كثيراَ، وخالف أمر الله ووصيته إياه فيهما، فهو لغير ذلك من حقوق الله أشد تضييعًا، وكذلك من ترك جهاد أهداء الله، وخالف أمره فى قتالهم مع كفرهم بالله ومناصبتهم أنبياءه وأولياءه للحرب، فهو لجهاد من دونهم من فساق أهل التوحيد ومحاربة من سواهم من أهل الزيغ والنفاق أشد تركًا، فهذه الأمور الثلاثه تجمع المحافظة عليهن الدلالة لمن حافظهن أنه محافظ على ما سواهن، ويجمع تضييعهن الدلالة على تضييع ما سواهن من أمر الدين والإسلام فلذلك خصهن (صلى الله عليه وسلم) بأنهن أفضل الأعمال. قال المهلب: وأما الهجرة فكانت فرضا فى أول الإسلام على من أسلم، لقلتهم وحاجتهم إلى الاجتماع والتأليف، فلما فتح الله مكة دخل الناس فى دين الله أفواجا سقط فرض الهجرة، وبقى فرض الجهاد والنية على من قام به أو أنزل به عدو، والله جعل الحج أفضل للنساء من الجهاد لقلة غنائهن فى الجهاد، وفى حديث أبى هريرة أن المجاهد على كل أحواله يكتب له ما يكتب للمتعبد فالجهاد أفضل من التنفل بالصلاة والصيام.(5/6)
وقوله: (ليستن فى طوله) يعنى ليأخذ فى السنن على وجه واحد ماضيا وهو يفتعل من السنن ويقال: فلان يستن الريح والسيل إذا كان على جهتها وممرها، وأهل الحجاز يقولون: سُنن بضم السين وفى قوله تعالى: (فيقتلون ويقتلون (دليل على أن القاتل والمقتول فى سبيل الله جميعا فى الجنة. وقال بعض الصحابة: (ما أبالى قتلت فى سبيل الله أو قتلت) وتلا هذه الآية وهذا يرد على الشعبى أن الغالب فى سبيل الله أعظم أجرًا من المقتول.
- باب أَفْضَلُ النَّاسِ مُؤْمِنٌ مُجَاهِدٌ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ
وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ (الآية. 1651 / - فيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَىُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مُؤْمِنٌ فِى شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَتَّقِى اللَّهَ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ) . 1652 / - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِى سَبِيلِهِ - كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ، وَتَوَكَّلَ اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِ فِى سَبِيلِهِ بِأَنْ يَتَوَفَّاهُ ويُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ يَرْجِعَهُ سَالِمًا مَعَ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ) . قال المهلب: فيه فضل الغنى. وقوله: (أى الناس أفضل؟ فقال (صلى الله عليه وسلم) : مؤمن يجاهد فى سبيل الله) ليس على عمومه ولا يريد أنه أفضل الناس قاطبة؛ لأن(5/7)
أفضل منه من أوتى منازل الصديقين، وحمل الناس على شرائع الله وسنن نبيه، وقادم إلى الخيرات، وسبب لهم أسباب المنفعة فى الدين والدنيا، لكن إنما أراد (صلى الله عليه وسلم) والله أعلم أفضل أحوال عامة الناس؛ لأنه قد يكون فى خاصتهم من أهل الدين والعلم والفضل والضبط بالسنن من هو أفضل منه. وقوله فى حديث أبى هريرة: (والله أعلم بمن يجاهد فى سبيله) يريد والله أعلم بعقد نيته إن كانت لله خالصة وإعلاء كلمته، فذلك المجاهد فى سبيل الله، وإن كان فى نيته حب المال والدنيا واكتساب الذكر فيها فقد شرك مع سبيل الله سبيل الدنيا. وقوله: (كمثل الصائم القائم) يدل أن حركات المجاهد ونومه ويقظته حسنات، وإنما مثله بالصائم؛ لأن الصائم ممسك لنفسه عن الأكل واللذات، وكذلك المجاهد ممسك لنفسه على محارسة العدو، وحابس نفسه على مراعاته ومقابلتة. وقوله: (مع ما نال من أجر أو غنيمة) إنما أدخل (أو) هاهنا؛ لأنه قد يرجع مرة بالأجر وحده، وقد يرجع أخرى بالأجر والغنيمة جميعًا، فأدخل (أو) لتدل على اختلاف الحالين، لا أنه يرجع بغنيمة دون أجر، بل أبدًا يرجع بالأجر كانت غنيمة أو لم تكن. قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: تفاضلهم فى الأجر وتساويهم فى الغنيمة دليل قاطع أن الأجر يستحقونه لقتالهم، فيكون أجر كل واحد على قدر عنائه، وأن الغنيمة لا يستحقونها بذلك لكن بتفضل الله عليهم ورحمته لهم بما رأى من ضعفهم، فلم يكن لأحد فضل على غيره إلا أن يفضله قاسم الغنيمة فينفله من رأسها، كما نفل أبا(5/8)
قتادة، أو من الخمس كما نفلهم فى حديث ابن عمر، والله يوتى فضله من يشاء. وفيه فضل العزلة والانفراد عن الناس، والفرار عنهم ولا سيما فى زمن الفتن وفساد الناس، وإنما جاءت الأحاديث بذكر الشعاب والجبال؛ لأنها فى الأغلب مواضع الخلسة والانفراد، فكل موضع يبعد عن الناس، فهو داخل فى هذا المعنى كالمساجد والبيوت، وقد قال عقبة بن عامر: (ما النجاة يا رسول الله؟ قال: أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك) .
3 - باب الدُّعَاءِ بِالْجِهَادِ وَالشَّهَادَةِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
وَقَالَ عُمَرُ: [اللَّهُمَّ] ارْزُقْنِى شَهَادَةً فِى بَلَدِ رَسُولِكَ. 1653 / - فيه: أَنَس، كَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ، فَتُطْعِمُهُ، وَكَانَتْ أُمُّ حَرَامٍ تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَطْعَمَتْهُ، وَجَعَلَتْ تَفْلِى رَأْسَهُ، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، وَهُوَ يَضْحَكُ، قَالَتْ قُلْتُ: وَمَا يُضْحِكُكَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَاسٌ مِنْ أُمَّتِى عُرِضُوا عَلَىَّ غُزَاةً فِى سَبِيلِ اللَّهِ، يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ، مُلُوكًا عَلَى الأسِرَّةِ - أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الأسِرَّةِ - شَكَّ إِسْحَاقُ - قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِى مِنْهمْ، فَدَعَا لَهَا، ثُمَّ وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) رَأْسَهُ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقُلْتُ: وَمَا يُضْحِكُكَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (نَاسٌ مِنْ أُمَّتِى عُرِضُوا عَلَىَّ غُزَاةً فِى سَبِيلِ اللَّهِ) ، كَمَا قَالَ فِى الأوَّلِ، قَالَتْ: قُلْتُ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِى مِنْهُمْ، قَالَ: (أَنْتِ مِنَ الأوَّلِينَ) ، فَرَكِبَتِ الْبَحْرَ فِى زَمَانِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِى سُفْيَانَ، فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنَ الْبَحْرِ، فَهَلَكَتْ.(5/9)
قال المهلب: كانت أم حرام خالة النبى (صلى الله عليه وسلم) من الرضاعة، فلذلك كان ينام فى حجرها، وتفلى رأسه. قال غيره: إنما كانت خالة لأبيه أو لجده؛ لأن أم عبد المطلب كانت من بنى النجار، وكان يأتيها زائرًا لها، والزيارة من صلة الرحم. وفيه: إباحة أكل ما قدمته المرأة إلى ضيفها من مال زوجها؛ لأن الأغلب أن ما فى البيت من الطعام هو للرجل. وفيه أن الوكيل والمؤتمن إذا علم أنه يسر صاحب المنزل بما يفعله فى ماله جاز له فعل ذلك، ومعلوم أن عبادة كان يسره أكل رسول الله فى بيته. واختلف العلماء فى عطية المرأة من مال زوجها بغير إذنه، وسيأتى ذلك فى موضعه. وقوله: (يركبون ثبج هذا البحر) والثبج: الظهر. وقال الخطابى: الثبج: أعلى متن الشيء. وضحكه (صلى الله عليه وسلم) هو سرور منه، بما يدخله الله على أمته من الأجر، وما ينالوه من الخير، وإنما رآهم ملوكًا على الأسرة فى الجنة فى رؤياه، وفيه إباحة الجهاد للنساء فى البحر، وقد ترجم له بذلك بعد: باب: جهاد النساء، بعد هذا. وقالت أم عطية: (كنا نغزوا مع النبى (صلى الله عليه وسلم) فنداوى الكلمى ونقوم على المرضى) وفيه أن الجهاد تحت راية كل إمامٍ جائز ماض إلى يوم القيامة؛ لأنه رأى الآخرين ملوكًا على الأسرة كما رأى الأولين، ولا نهاية للآخرين إلى يوم القيامة، قال تعالى: (ثلة من الأولين وثلة من الآخرين) [الواقعة: 39، 40] ، وهذا الحديث من أعلام النبوة وذلك(5/10)
أنه أخبر فيه بضروب من الغيب قبل وقوعها، فمنها: جهاد أمته فى البحر، وضحكه دليل على أن الله يفتح لهم ويغنمهم، ومنها: الإخبار بصفة أحوالهم فى جهادهم وهو قوله: (يركبون ثبج هذا البحر ملوكًا على الأسرة) ومنها قوله لأم حرام: (أنت من الأولين) فكان كذلك، غزت مع زوجها فى أول غزوة كانت إلى الروم فى البحر مع معاوية. وفيه: هلكت، وهذا كله لا يعلم إلا بوحى من الله تعالى على ما أوحى إليه به فى نومه. وفيه: أن رؤيا الأنبياء وحى، وفيه ضحك المبشر إذا بشر بما يسره كما فعل (صلى الله عليه وسلم) . قال المهلب: وفيه فضل معاوية - رحمه الله وأن الله قد بشر به نبيه فى النوم؛ لأنه أول من غزا فى البحر وجعل من غزا تحت رايته من الأولين. وذكر أهل السير أن هذه الغزاة كانت فى زمن عثمان. قال الزبير بن أبى بكر: ركب معاوية البحر غازيًا بالمسلمين فى خلافة عثمان إلى قبرس ومعه أم حرام زوجة عبادة، فركبت بغلتها حين خرجت من السفينة فصرعت فماتت. وقال ابن الكلبى: كانت هذه الغزاة لمعاوية سنة ثمان وعشرين. وفيه أن الموت فى سبيل الله شهادة. وذكر ابن أبى شيبة، قال: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا ابن عون، عن ابن سيرين، عن أبى العجفاء السلمى قال: قال عمر بن الخطاب: قال محمد (صلى الله عليه وسلم) : (من قتل فى سبيل الله أو مات فهو فى الجنة) .(5/11)
4 - باب دَرَجَاتِ الْمُجَاهِدِينَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى
يُقَالُ: هَذِا سَبِيلِى، وَهَذهِ سَبِيلِى. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: (غُزًّا (: وَاحِدُهَا غَازٍ،) هُمْ دَرَجَاتٌ) [آل عمران: 163] لَهُمْ دَرَجَاتٌ. 1654 / - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، وَأَقَامَ الصَّلاةَ، وَصَامَ رَمَضَانَ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، جَاهَدَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ جَلَسَ فِى أَرْضِهِ الَّتِى وُلِدَ فِيهَا) ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلا نُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ: (إِنَّ فِى الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ، فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأَعْلَى الْجَنَّةِ) . 1655 / - وفيه: سَمُرَةَ، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِى، فَصَعِدَا بِى الشَّجَرَةَ، فَأَدْخَلانِى دَارًا هِىَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ، لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا، قَالا: أَمَّا هَذِهِ الدَّارُ، فَدَارُ الشُّهَدَاءِ) . قال المهلب: تستحق الجنة بالإيمان بالله ورسوله، وقد روى عن الرسول أنه قال: (ثمن الجنة لا إله إلا الله) وبالشهادة والأعمال الصالحة تستحق الدرجات والمنازل فى الجنة وقوله: (وسط الجنة) فيحتمل أن يريد موسطتها، والجنة قد حفت بها من كل جهة. وقوله: (أعلى الجنة) يريد أرفعها؛ لأن الله تعالى مدح الجنات إذا كانت فى علو، فقال: (كمثل جنة ربوة) [البقرة: 265] ، وقوله: (منها تفجر أنهار الجنة) يريد أنها عالية من الارتفاع وقال المؤلف: وقوله: (من آمن بالله ورسوله، وأقام الصلاة، وصام رمضان كان حقًا على الله أن يدخله الجنة، جاهد فى سبيل الله(5/12)
أو جلس فى أرضه) فيه تأنيس لمن حرم الجهاد فى سبيل الله، فإن له من الإيمان بالله والتزام الفرائض ما يوصله إلى الجنة؛ لأنها هى غاية الطالبين، ومن أجله تبذل النفوس فى الجهاد. فلما قيل لرسول الله: (أفلا نبشر الناس) أخبر (صلى الله عليه وسلم) بدرجات المجاهدين فى سبيله وفضيلتهم فى الجنة ليرغب أمته فى مجاهدة المشركين وإعلاء كلمة الإسلام، وهذا الحديث كان قبل فرض الزكاة والحج. فلذلك لم يذكرا فيه والله أعلم. وقد روى ابن وهب، عن عبد الرحمن بن شريح، عن سهل بن أبى أمامة بن سهل ابن حنيف، عن أبيه، عن جده، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه) رواه حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وحديث أبى هريرة شبه هذا المعنى؛ لأن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى) خطاب لجميع أمته يدخل فيه المجاهدون وغيرهم. فدل ذلك أنه قد يعطى الله لمن لم يجاهد قريبًا من درجة المجاهد؛ لأن الفردوس إذا كان أعلى الجنة ولا درجة فوقه، وقد أمر (صلى الله عليه وسلم) جميع أمته بطلب الفردوس من الله؛ دل أن من بوأه الفردوس وإن لم يجاهد فقد تقارب درجته من درجات المجاهد فى العلو وإن اختلفت الدرجات فى الكثرة، والله يؤتى فضله من يشاء.(5/13)
5 - باب الْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَقَابِ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ
656 / فيه: أَنَس، قَالَ النَّبِيّ، (صلى الله عليه وسلم) : (لَغَدْوَةٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) . 1657 / وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ، (صلى الله عليه وسلم) : (لَقَابُ قَوْسٍ فِى الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِمَّا تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَتَغْرُبُ) ، قال المهلب: قوله: (الغدوة والروحة خير من الدنيا) يعنى خير من زمن الدنيا؛ لأن الغدوة والروحة فى زمن، فيقال: إن ثواب هذا الزمن القليل فى الجنة خير من زمن الدنيا كلها، وكذلك قوله: (لقاب قوس أحدكم) أو (موضع سوط فى الجنة) يريد أن ما صغر فى الجنة من المواضع كلها من بساتينها وأرضها، فأخبر فى هذا الحديث أن قصير الزمان وصغير المكان فى الآخرة خير من طويل الزمان وكبير المكان فى الدنيا، تزهيدًا فيها وتصغيرًا لها وترغيبا فى الجهاد، إذا بالغدوة والروحة فيه أو مقدار قوس المجاهد يعطيه الله فى الآخرة أفضل من الدنيا وما فيها، فما ظنك بمن أتعب فيه نفسه وأنفق ماله. وقال صاحب العين: قاب القوس: قدر طولها.
6 - باب نزول الْحُورِ الْعِينِ وَصِفَتِهِنَّ
يُحَارُ فِيهَا الطَّرْفُ شَدِيدَةُ سَوَادِ الْعَيْنِ شَدِيدَةُ بَيَاضِ الْعَيْنِ) وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عين) [الدخان: 54] أَنْكَحْنَاهُمْ. 1658 / - فيه: أَنَس، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا مِنْ عَبْدٍ يَمُوتُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ(5/14)
يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، وَأَنَّ لَهُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، إِلا الشَّهِيدَ، لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى) . 1659 / - وَقَالَ أَنَس، عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) : (لَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ - أَوْ مَوْضِعُ قِيدٍ يَعْنِى سَوْطَهُ - مِنَ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أَهْلِ الأرْضِ لأضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلأتْهُ رِيحًا، وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) . قال المهلب: إنما ذكر حديث أنس فى هذا الباب لأن المعنى الذى يتمنى الشهيد من أجله أن يرجع إلى الدنيا فيقتل هو مما يرى مما يعطى الله الشهيد من النعيم ويزوجه من الحور العين، وكل واحدة منهن لو اطلعت إلى الدنيا لأضاءت كلها، ليستزيد من كرامة الله وتنعيمه وفضله. وفى ذلك حض على طلب الشهادة وترغيب فيها. وقال ابن قتيبة: إنما سمى الشهداء شهداء؛ لأنهم يشهدون ملكوت الله، واحدهم شهيد كما يقال عليم وعلماء، وكفيل وكفلاء، وقال ابن الأنبارى: قال أبو العباس: سمى الشهيد شهيدًا؛ لأن الله وملائكته شهود له بالجنة، وهو فعيل بتأويل مفعول. مثل طبيخ وقدير بمعنى مطبوخ ومقدور. وقيد الرمح: قدره وقيسه، والنصيف: الخمار من كتاب العين.(5/15)
7 - باب تَمَنِّى الشَّهَادَةِ
660 / - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) : (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لَوْلا أَنَّ رِجَالا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لا تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّى، وَلا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِى سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لَوَدِدْتُ أَنِّى أُقْتَلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ) . 1661 / وفيه: أَنَس، خَطَبَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ فَفُتِحَ لَهُ، وَقَالَ: (مَا يَسُرُّنَا أَنَّهُمْ عِنْدَنَا) ، وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ. فيه من الفقه: أن رسول الله كان يتمنى من أعمال الخير ما يعلم أنه لا يعطاه حرصًا منه (صلى الله عليه وسلم) على الوصول إلى أعلى درجات الشاكرين، وبذلا لنفسه فى مرضات ربه وإعلاء كلمة دينه، ورغبة فى الازدياد من ثواب ربه، ولتتأسى به أمته فى ذلك، وقد يثاب المرء على نيته، وسيأتى فى كتاب التمنى ما تمناه الصالحون مما لا يصل إلى كونه. وقوله: (والذى نفسى بيده) فيه إباحة اليمين بالله على كل ما يعتقده المرء مما يحتاج فيه إلى يمين، وما لا يحتاج، وكثيرًا كان (صلى الله عليه وسلم) يقول فى كلامه: (ومقلب القلوب) لأن فى اليمين بالله توحيدًا وتعظيمًا له، وإنما يكره تعمد الحنث. وفيه: أن الجهاد ليس بفرض معين على كل أحد، ولو كان معينًا ما تخلف رسول الله، ولا أباح لغيره التخلف عنه ولو شق على أمته؛(5/16)
إذ كانوا يطيعونه، هذا إذا كان العدو لم يفجأ المسلمين فى دارهم ولا ظهر عليهم وفيه: أنه يجوز للإمام العالم ترك فعل الطاعة إذا لم يطق أصحابه ونصحاؤه على الإتيان بمثل ما يقدر هو عليه منها إلى وقت قدرة الجميع عليها وذلك من كرم الصحبة وأدب الأخلاق. وفيه عظيم فضل الشهادة، ولذلك قال (صلى الله عليه وسلم) : (وما يسرنا أنهم عندنا) لعلمه بما صاروا إليه من رفيع المنزلة.
8 - باب فَضْلِ مَنْ يُصْرَعُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَمَاتَ فَهُوَ مِنْهُمْ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ (إلى) وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) [النساء: 100]
وَقَعَ: وَجَبَ. 1662 / وفيه: أَنَس، عَنْ خَالَتِهِ أُمِّ حَرَامٍ، قَالَتْ: نَامَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَوْمًا قَرِيبًا مِنِّى، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ فتَبَسَّم. . . . . . الحديث، فَخَرَجَتْ مَعَ زَوْجِهَا عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ غَازِيًا أَوَّلَ مَا رَكِبَ الْمُسْلِمُونَ الْبَحْرَ مَعَ مُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا مِنْ غَزْوِهِمْ قَافِلِينَ فَنَزَلُوا الشَّأْمَ، فَقُرِّبَتْ إِلَيْهَا دَابَّةٌ لِتَرْكَبَهَا فَصَرَعَتْهَا فَمَاتَتْ. قال المؤلف: مصداق حديث أنس فى قوله تعالى: (ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله (الآية. فنزلت هذه الآية على مثل ما دل عليه الحديث أن من مات فى سبيل الله فهو شهيد. وقد روى ابن وهب، عن عمر بن مالك، عن عبيد الله بن أبى جعفر، عن جعفر(5/17)
بن عبد الله بن الحكم، قال: سمعت عقبة بن عامر الجهنى، سمعت رسول الله يقول: (من صرع عن دابته فمات فهو شهيد) وفى حديث أنس أن حكم المنصرف من سبيل الله فى الأجر مثل حكم المتوجه إليه فى خطاه وتقلبه وحركاته، وأن له ثواب المجاهد فى كل ما ينويه ويشق عليه ويتكلفه من نفقة أو غيرها حتى ينصرف إلى بيته، والله أعلم.
9 - باب مَنْ يُنْكَبُ أَوْ يطعن فِى سَبِيلِ اللَّهِ
663 / فيه: أَنَس، بَعَثَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) أَقْوَامًا مِنْ بَنِى سُلَيْمٍ إِلَى بَنِى عَامِرٍ فِى سَبْعِينَ، فَلَمَّا قَدِمُوا، قَالَ لَهُمْ خَالِى: أَتَقَدَّمُكُمْ، فَإِنْ أَمَّنُونِى حَتَّى أُبَلِّغَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّه (صلى الله عليه وسلم) ، وَإِلا كُنْتُمْ مِنِّى قَرِيبًا، فَتَقَدَّمَ، فَأَمَّنُوهُ، فَبَيْنَمَا يُحَدِّثُهُمْ عَنِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) إِذْ أَوْمَئُوا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَطَعَنَهُ فَأَنْفَذَهُ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ مَالُوا عَلَى بَقِيَّةِ أَصْحَابِهِ، فَقَتَلُوهُمْ، إِلا رَجُلا أَعْرَجَ صَعِدَ الْجَبَلَ - قَالَ هَمَّامٌ: فَأُرَاهُ آخَرَ مَعَهُ، فَأَخْبَرَ جِبْرِيلُ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) : أَنَّهُمْ قَدْ لَقُوا رَبَّهُمْ، فَرَضِىَ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ، فَكُنَّا نَقْرَأُ: (أَنْ بَلِّغُوا قَوْمَنَا أَنْ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِىَ عَنَّا وَأَرْضَانَا (ثُمَّ نُسِخَ بَعْدُ، فَدَعَا عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَبَنِى لَحْيَانَ وَبَنِى عُصَيَّةَ الَّذِينَ عَصَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ (صلى الله عليه وسلم) . 1664 / وفيه: جُنْدَبِ بْنِ سُفْيَانَ، أَنَّ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، كَانَ فِى بَعْضِ الْمَشَاهِدِ، فدَمِيَتْ إِصْبَعُهُ، فَقَالَ: (هَلْ أَنْتِ إِلا إِصْبَعٌ دَمِيتِ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ) إنما دعا عليهم (صلى الله عليه وسلم) فى صلاة الفريضة من أجل غدرهم،(5/18)
وقبيح نكثهم بعد تأمينهم وآنس الله تعالى نبيه بما أنزل عليه من أنه رضى عنهم وأرضاهم. ففى هذا من الفقه: جواز الدعاء على أهل الغدر والختر وانتهاك المحارم، والإعلان باسمهم والتصريح بذكرهم. وقد جاء فى حديث أنس فى باب قول الله: (ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتًا) [آل عمران: 169] أنه دعا عليهم ثلاثين صباحًا. ودل حديث جندب بن سفيان على أن كل ما أصيب به المجاهد فى سبيل الله من نكبة أو عثرة فإن له أجر ذلك على قدر نيته واحتسابه. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) : (هل أنت إلا أصبع دميت، وفى سبيل الله ما لقيت) . فهو رجز موزون، وقد يقع على لسانه مقدار البيت من الشعر أو البيتين من الرجز كقوله: (أنا النبى لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) . فلو كان هذا شعرًا لكان خلاف قوله تعالى: (وما علمناه الشعر وما ينبغى له) [يس: 69] والله يتعالى أن يقع شيء من خبره أو يوجد على خلاف ما أخبر به تعالى، وهذا من الحجاج اللازمة لأهل الإسلام خاصة، ويقال للملحدين: إن ما وقع من كلامه من الموزون فى النادر من غير قصد فليس بشعر؛ لأن ذلك غير ممتنع على أحد من العامة والباعة أن يقع له كلام موزون فلا يكن بذلك شعرًا مثل قولهم: اسقنى فى الكوز ماء يا غلام، واسرج البغل وجئنى بالطعام. وقولهم: من يشترى باذنجان. وقد يقول العمى منهم: وخالق الأنام ورسله الكرام وبيته الحرام والركن والمقام، لا فعلت كذا وكذا. وقد علم أن المقسم بذلك من النساء والعامة ليس بشاعر ولا قاصد إلى(5/19)
ذلك، وهذا لا يمكن دفع اتفاق مثله من العامة، فثبت بذلك أن هذا المقدار ليس بشعر وأن الرجز ليس بشعر، ذكر هذا القاضى أبو بكر ابن الطيب وغيره، قال وذكر بعض أهل العراق: سمعت غلامًا لصديق لى، وقد كان قد سقى بطنه. يقول لغلمان مولاه: اذهبوا به إلى الطبيب وقولوا قد اكتوى. وهذا الكلام يخرج وزنه عن فاعلات مفاعل فاعلات مفاعل مرتين. وقد علمت أن هذا الغلام لا يخطر على باله قط أن يقول بيت شعر ومثل هذا كثير لو تتبع فى كلام الناس.
- باب مَنْ يُجْرَحُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ
665 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لا يُكْلَمُ أَحَدٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِى سَبِيلِهِ - إِلا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ) . قوله: (لا يكلم) : يعنى لا يجرح، والكلوم الجراح. وقوله: (فى سبيل الله) المراد به الجهاد، ويدخل فيه بالمعنى كل من جرح فى سبيل بر أو وجه مما أباحه الله تعالى كقتال أهل البغى والخوارج واللصوص، أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من قتل دون ماله فهو شهيد) وقوله: (والله أعلم بمن يكلم فى سبيله) فإنه يدل على أنه ليس كل من جرح فى العدو، تكون هذه حاله، عند الله حتى تصح نيته، ويعلم الله من قتله أنه يريد وجهه، ولم يخرج رياء ولا سمعة ولا ابتغاء دنيا يصيبها. وفيه: أن الشهيد يبعث فى حاله وهيئته التى قبض عليها. وقد(5/20)
احتج الطحاوى بهذا الحديث لقول من يرى غسل الشهيد فى المعترك. وقد روى عن الرسول أنه قال: (يبعث الميت فى ثيابه التى قبض فيها) أى يعاد خلق ثيابه كما يعاد خلقه.
- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) [التوبة 52] وَالْحَرْبُ سِجَالٌ
666 / فيه: ابْن عَبَّاسٍ، أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ: سَأَلْتُكَ كَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّ الْحَرْبَ سِجَالٌ وَدُوَلٌ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى، ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ. قال المهلب: قوله تعالى: (إلا إحدى الحسنيين (يريد الفتح والغنيمة، أو الشهادة والجنة. قال المؤلف: هذا قول جماعة أهل التأويل، واللفظ استفهام والمعنى توبيخ. فإن قيل: أغفل البخارى أن يذكر تفسير الآية فى الباب، وذكر حديث ابن عباس: أن الحرب سجال، فما تعلقه بالآية التى ترجم بها؟ قيل: تعلقه بها صحيح، والآية مصدقة للحديث، والحديث مبين للآية وإذا كانت الحرب سجالا، فذلك إحدى الحسنيين؛ لأنها إن كانت علينا فهى الشهادة، وهى أكبر الحسنيين، وإن كانت لنا فهى الغنيمة، وهى أصغر الحسنيين، فالحديث مطابق لمعنى الآية. قال المهلب: فكل فتح يقع إلى يوم القيامة أو غنيمة؛ فإنه من إحدى الحسنيين له، وإنما يبتلى الله الأنبياء ليعظم لهم الأجر والمثوبة ولمن معهم، ولئلا يخرق العادة الجارية بين الخلق، ولو أراد الله خرق(5/21)
العادة لأهلك الكفار كلهم بغير حرب، ولثبط أيديهم عن المدافعة حتى يؤسروا أجمعين، ولكن أجرى تعالى الأمور على العوائد ليأجر الأنبياء ومن معهم، ويأتوا يوم القيامة مكلومين شهداء فى سبيل الله ظاهرى الوسيلة والشفاعة، وقد تقدم تفسير الحديث: (سجال) فى كتاب بدء الوحى، والحمد لله.
- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا) [الأحزاب 23]
667 / فيه: أَنَس، غَابَ عَمِّى عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ الْمُشْرِكِينَ، لَئِنِ أَشْهَدَنِى اللَّهُ قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ، قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّى أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاءِ - يَعْنِى أَصْحَابَهُ - وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاءِ - يَعْنِى الْمُشْرِكِينَ - ثُمَّ تَقَدَّمَ فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ ابْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ: يَا سَعْدُ، الْجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ، إِنِّى أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ، قَالَ سَعْدٌ: فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ، قَالَ أَنَسٌ: فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ، وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ، وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلا أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ، وَكُنَّا نُرَى أَوْ نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِى أَشْبَاهِهِ: (رِجَالٌ صَدَقُوا (الآيَةِ، الحديث. 1668 /(5/22)
وفيه: زَيْدَ، نَسَخْتُ الصُّحُفَ فِى الْمَصَاحِفِ، فَفَقَدْتُ آيَةً مِنْ سُورَةِ الأحْزَابِ، كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقْرَأُ بِهَا، فَلَمْ أَجِدْهَا إِلا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الأنْصَارِىِّ الَّذِى جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) شَهَادَتَهُ بشَهَادَة رَجُلَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: (رِجَالٌ صَدَقُوا (. قال المهلب: وفيه الأخذ بالشدة واستهلاك الإنسان نفسه فى طاعة الله. وفيه الوفاء بالعهد لله بإهلاك النفس، ولا يعارض قوله: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) [البقرة: 195] ؛ لأن هؤلاء عاهدوا الله فوفوا بما عاهدوه من العناء فى المشركين وأخذوا فى الشدة بأن باعوا نفوسهم من الله بالجنة كما قال تعالى. ألا ترى قوله: (فما استطعت ما صنع) يريد ما استطعت أن أصف ما صنع من كثرة ما أغنى وأبلى فى المشركين. وقوله: (إنى أجد ريح الجنة من قبل أحد) يمكن أن يكون على الحقيقة، لأن ريح الجنة يوجد من مسيرة خمسمائة عام، فيجوز أن يشم رائحة طيبة تشهيه الجنة وتحببها إليه، ويمكن أن يكون مجازًا، فيكون المعنى إنى لأعلم أن الجنة فى هذا الموضع الذى يقاتل فيه؛ لأن الجنة فى هذا الموضع تكتسب وتشترى. وأما قوله: (ففقدت آية من الأحزاب، فلم أجدها إلا مع خزيمة) فلم يرد أن حفظها قد ذهب عن جميع الناس فلم تكن عندهم؛ لأن زيد بن ثابت قد حفظها. وروى أن عمر قال: (أِشهد لسمعتها من رسول الله) وروى أن أبى بن كعب قال مثل ذلك، وعن هلال بن أمية أيضًا، وإنما أمر أبو بكر عند جمع الصحف عمر بن الخطاب وزيدًا(5/23)
بأن يطلبا على ما ينكرانه شهادة رجلين فيشهدان سماع ذلك من فى النبى (صلى الله عليه وسلم) ليكون ذلك أثبت وأشد فى الاستظهار ومما لا يتسرع أحد إلى دفعه وإنكاره، قاله القاضى أبو بكر بن الطيب، وقد ذكر فى ذلك وجوهًا أخر، هذا أحسنها، سأذكرها فى فضائل القرآن فى باب: جمع القرآن، إن شاء الله.
- باب العَمَلٌ الصَالِحٌ قَبْلَ الْقِتَالِ
قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: إِنَّمَا تُقَاتِلُونَ بِأَعْمَالِكُمْ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ (إلى قوله: (مَرْصُوصٌ) [الصف: 4] . 1669 / - فيه: الْبَرَاءَ، أَتَى النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، رَجُلٌ مُقَنَّعٌ بِالْحَدِيدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُقَاتِلُ أَوْ أُسْلِمُ؟ قَالَ: (أَسْلِمْ ثُمَّ قَاتِلْ) ، فَأَسْلَمَ، ثُمَّ قَاتَلَ، فَقُتِلَ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (عَمِلَ قَلِيلا، وَأُجِرَ كَثِيرًا) . قال المهلب: فى هذا الحديث دليل أن الله يعطى الثواب الجزيل على العمل اليسير تفضلا منه على عباده، فاستحق هذا نعيم الأبد فى الجنة بإسلامه، وإن كان عمله قليلا؛ لأنه اعتقد أنه لو عاش لكان مؤمنًا طول حياته فنفعته نيته، وإن كان قد تقدمها قليل من العمل، وكذلك الكافر إذا مات ساعة كفره يجب عليه التخليد فى النار؛ لأنه انضاف إلى كفره اعتقاده أنه يكون كافرًا طول حياته؛ لأن الأعمال بالنيات.(5/24)
- باب مَنْ أَتَاهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَقَتَلَهُ
670 / - فيه: أَنَس، أَنَّ أُمَّ الرُّبَيِّعِ بِنْتَ الْبَرَاءِ - وَهِىَ أُمُّ حَارِثَةَ بْنِ سُرَاقَةَ - أَتَتِ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَتْ: يَا نَبِىَّ اللَّهِ، أَلا تُحَدِّثُنَا عَنْ حَارِثَةَ - وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ - فَإِنْ كَانَ فِى الْجَنَّةِ صَبَرْتُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ فِى الْبُكَاءِ، قَالَ: (يَا أُمَّ حَارِثَةَ، إِنَّهَا جِنَانٌ فِى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الأعْلَى) . قال المهلب: هذا نحو حديث أم حرام إذ سقطت عن دابتها فماتت، فهذا وشبهه مما يستحق به الجنة إذا صحت فيه النية، وأما قوله: (سهم غرب) قال أبو عبيد: يقال: أصابه سهم غرب: إذا كان لا يعلم من رماه. وقال ابن السكيت: سهم غَرْب وسهم غَربٍ وغَرَبٍ، وقال غيره: سهم غربٍ. وحكى الخطابى عن أبى زيد قال: سهم غرْب ساكنة الراء إذا أتاه من حيث لا يدرى، وسهم غَرَب بفتح الراء إذا رماه فأصاب غيره. ابن دريد: سهم عائر لا يدرى من رماه.
- باب مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا
671 / فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، ولِلذِّكْرِ، ولِيُرَى مَكَانُهُ، فَمَنْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: (مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ(5/25)
كَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ) . قال المهلب: إذا كان فى أصل النية إعلاء كلمة الله ثم دخل عليها من حب الظهور والمغنم ما دخل فلا يضرها ذلك، ومن قاتل لتكون كلمة الله هى العليا، فخليق أن يحب الظهور بإعلاء كلمة الله وأن يحب الغنى بإعلاء كلمة الله، فهذا لا يضره إن كان عقدًا صحيحًا.
- باب مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وقوله: (مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا (الآية [التوبة: 120]
. 1672 / فيه: أَبُو عَبْسٍ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ) . مصداق هذا الحديث فى آخر الآية التى فى هذا الباب وهو قوله تعالى: (ولا يطئون موطئًا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدونيلا إلا كتب لهم به عمل صالح (ففسر (صلى الله عليه وسلم) ذلك العمل الصالح أنه لا تمس النار من اغبرت قدماه فى سبيل الله، وهذا وعد من النبى (صلى الله عليه وسلم) والوعد منه منجز، وسبيل الله جميع طاعاته.
- باب مَسْحِ الْغُبَارِ عَنِ الرَّأْسِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ
673 / فيه: ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ لابنه ولعكرمة: ائْتِيَا أَبَا سَعِيدٍ، فَاسْمَعَا مِنْ حَدِيثِهِ، فَأَتَيْنَاهُ وَهُوَ وَأَخُوهُ فِى حَائِطٍ لَهُمَا يَسْقِيَانِهِ، فَلَمَّا رَآنَا، جَاءَ فَاحْتَبَى وَجَلَسَ، فَقَالَ: كُنَّا نَنْقُلُ لَبِنَ الْمَسْجِدِ لَبِنَةً لَبِنَةً، وَكَانَ عَمَّارٌ يَنْقُلُ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ، فَمَرَّ بِهِ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَمَسَحَ عَنْ رَأْسِهِ الْغُبَارَ، وَقَالَ: (وَيْحَ عَمَّارٍ، تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ، عَمَّارٌ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ) .(5/26)
قال المهلب: أما مسح النبى الغبار عن رأس عمار، فرضى من النبى بفعله وشكرًا له على عزمه فى ذات الله. وقوله: (ويح عمار) فهى كلمة لا يراد بها فى هذا الموضع وقوع المكروه بعمار، ولكن المراد بها المدح لعمار على صبره وشدته فى ذات الله، كما تقول العرب للشاعر إذا أحسن: قاتله الله ما أشعره، غير مريدين إيقاع المكروه به. وقوله: (يدعوهم إلى الله) فيريد والله أعلم أهل مكة الذين أخرجوه من دياره وعذبوه فى ذات الله لدعائه لهم إلى الله. ولا يمكن أن يتأول هذا الحديث فى المسلمين البتة؛ لأنهم قد دخلوا دعوة الله، وإنما يدعى إلى الله من كان خارجًا من الإسلام. وقوله: (ويدعونه إلى النار) دليل أيضًا على ذلك؛ لأن المشركين أهل مكة إنما فتنوه وطالبوه أن يرجع إلى دينهم، فهو النار. فإن قيل: إن فتنة عمار قد كانت بمكة فى أول الإسلام، وإنما قال: يدعوهم بلفظ المستقبل، وهذا لفظ الماضي. قيل: العرب قد تخبر بالفعل المستقبل عن الماضى إذا عرف المعنى، كما تخبر بالماضى عن المستقبل، فقوله: (يدعوهم إلى الله) بمعنى دعاهم إلى الله؛ لأن محنة عمار كانت بمكة مشهورة، فأشار (صلى الله عليه وسلم) إلى ذكرها لما طابقت شدته فى نقله لبنتين شدته فى صبره بمكة على عذاب الله، فضيلة لعمار، وتنبيهًا على ثباته، وقوته فى أمر الله تعالى.(5/27)
- باب الْغَسْلِ بَعْدَ الْحَرْبِ وَالْغُبَارِ
674 / - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، لَمَّا رَجَعَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَوَضَعَ السِّلاحَ وَاغْتَسَلَ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، وَقَدْ عَصَبَ رَأْسَهُ الْغُبَارُ، فَقَالَ: وَضَعْتَ السِّلاحَ، فَوَاللَّهِ مَا وَضَعْتُهُ، فَقَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (فَأَيْنَ) ؟ قَالَ: هَاهُنَا، وَأَوْمَأَ إِلَى بَنِى قُرَيْظَةَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ النَّبِى، (صلى الله عليه وسلم) . قال المهلب: إنما اغتسل من الغبار للتنظيف، وإن كان الغبار فى سبيل الله شاهدًا من شواهد الجهاد. وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (ما اغبرت قدما عبد فى سبيل الله فتمسه النار) ألا ترى أن جبريل لم يغسله عن نفسه تبركًا به فى سبيل الله. وفيه من الفقه: أن النبى لم يخرج إلى حرب إلا بأذن من الله تعالى وفيه دليل أن الملائكة تصحب المجاهدين فى سبيل الله، وأنها فى عونهم ما استقاموا؛ فإن خانوا وغلوا فارقتهم والله أعلم يدل على ذلك الحديث الذى جاء: (مع كل قاضى ملكان يسددانه ما أقام الحق، فإذا جار تركاه) والمجاهد حاكم بأمر الله فى أعوانه وأصحابه.
- باب فَضْلِ قَوْلِ اللَّهِ: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا (الآيات [آل عمران 169]
675 / - فيه: أَنَس، دَعَا النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَلَى الَّذِينَ قَتَلُوا أَصْحَابَ بِئْرِ مَعُونَةَ ثَلاثِينَ غَدَاةً، عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ؛ عَصَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قَالَ أَنَسٌ: أُنْزِلَ فِى الَّذِينَ قُتِلُوا بِبِئْرِ مَعُونَةَ قُرْآنٌ قَرَأْنَاهُ، ثُمَّ نُسِخَ بَعْدُ: بَلِّغُوا قَوْمَنَا أَنْ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِىَ عَنَّا، وَرَضِينَا عَنْهُ. وفيه: جَابِر، اصْطَبَحَ نَاسٌ الْخَمْرَ يَوْمَ أُحُدٍ، ثُمَّ قُتِلُوا شُهَدَاءَ. قِيلَ لِسُفْيَانَ: مِنْ آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ؟ قَالَ: لَيْسَ هَذَا فِيهِ.(5/28)
قال المهلب: فى هذه الآية التى فى الترجمة دليل على أن كل مقتول غدرًا أنه شهيد؛ لأن أصحاب بئر معونة قتلوا غدرًا بهم. وأما حياة الشهيد فقد اختلف الناس فى كيفيتها، وأولى ما قيل فيها والله أعلم أن تكون الأرواح ترزق، وكذلك جاء الخبر أن (صلى الله عليه وسلم) قال: (إنما نسمة المؤمن طائر تعلق فى شجر الجنة) يعنى: يأكل منها، كذلك فسره أهل اللغة، وحديث تعليق عام، وقد خصصه القرآن بأشياء باشتراط الشهداء. وقوله فى حديث جابر: (ثم قتلوا شهداء) يعنى: والخمر فى بطونهم؛ فإنما كان هذا قبل نزول تحريمها، فلم يمنعهم ما كان فى علم الله من تحريمها، ولا كونها فى بطونهم من حكم الشهادة، وفضلها؛ لأن التحريم إنما يلزم بالنهى، وما كان قبل النهى فهو معفو عنه.
- باب ظِلِّ الْمَلائِكَةِ عَلَى الشَّهِيدِ
676 / - فيه: جَابِر: جِىءَ بِأَبِى إِلَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَدْ مُثِّلَ بِهِ، وَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَذَهَبْتُ أَكْشِفُ عَنْ وَجْهِهِ، فَنَهَانِى قَوْمِى، فَسَمِعَ صَوْتَ صَائِحَةٍ، فَقِيلَ: بَنْتُ عَمْرٍو، أَوْ أُخْتُ عَمْرٍو، فَقَالَ: (لِمَ تَبْكِى؟ أَوْ فَلاَ تَبْكِى، مَا زَالَتِ الْمَلائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا، حَتَّى رُفِعَ) . قال المهلب: هذا من فضل الشهادة وضع الملائكة أجنحتها عليه رحمة له وفيه أن النياحة ليست الشدة فى النهى عنها إلا إذا كان معها شيء من أفعال الجاهلية من شق وخمش ودعوى الجاهلية على ما تقدم فى كتاب الجنائز.(5/29)
وفيه أن الشهيد والرجل الصالح ومن يرجى له الخير لا يجب أن يبكى عليه، ألا ترى أن الرسول قال لها: (لم تبكين) فأخبرها بالأمن عليه فى الآخرة وإنما البكاء على من يخشى عليه النار ويشهد لهذا المعنى حديث أم حارثه إذ قالت للنبى (صلى الله عليه وسلم) (أخبرنى بمنزلة ابنى فإن كان فى الجنة صبرت واحتسبت) .
- باب تَمَنِّى الشهيد أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا
677 / - فيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (مَا أَحَدٌ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَلَهُ مَا عَلَى الأرْضِ مِنْ شَىْءٍ، إِلا الشَّهِيدُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ، لِمَا يَرَى مِنَ الْكَرَامَةِ) . هذا الحديث أجل ما جاء فى فضل الشهادة والحض عليها والترغيب فيها، وإنما يتمنى أن يقتل عشر مرات والله أعلم لعلمه بأن ذلك مما يرضى الله ويقرب منه؛ لأن من بذل نفسه ودمه فى إعزاز دين الله ونصرة دينه ونبيه، فلم تبق غاية وراء ذلك وليس فى أعمال البر ما تبذل فيه النفس غير الجهاد، فلذلك عظم الثواب عليه، والله أعلم.
- باب الْجَنَّةُ تَحْتَ بَارِقَةِ السُّيُوفِ
وَقَالَ الْمُغِيرَةُ: أَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا (صلى الله عليه وسلم) عَنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا، أنَّهُ مَنْ قُتِلَ مِنَّا صَارَ إِلَى الْجَنَّةِ. وَقَالَ عُمَرُ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : أَلَيْسَ قَتْلانَا فِى الْجَنَّةِ وَقَتْلاهُمْ فِى النَّارِ؟ قَالَ: (بَلَى) .(5/30)
78 / فيه: ابْن أَبِى أَوْفَى، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلالِ السُّيُوفِ) . قال المهلب: فيه أنه قد يجوز أن يقطع لقتلى المسلمين كلهم بالجنة؛ لقول عمر: (أليس قتلانا فى الجنة وقتلاهم فى النار) ولكن على الجملة وليس يمكن أن يشخص من هذه الجملة واحد فيقال: إن هذا فى الجنة إلا بخبر فيه نفسه؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (والله أعلم بمن يجاهد فى سبيله) فنحن نقطع بظاهر هذا الحديث فى الجملة ونكل التفصيل والغائب من النيات إلى الله تعالى لئلا يقطع فى علم الله بغير خبر، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) حين سئل، فقيل له: (منا من يقاتل للمغنم وليرى مكانه وللدنيا) فلما فصل له تبرأ من موضع القطع على الغيب. فقال: (من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا فهو فى الجنة) وهذا القول يقضى على سائر معانى الحديث والمسألة، والترجمة صحيحة. وأن من قَتل أو قُتل فى إعلاء كلمة الله فهو فى الجنة. وقوله: (تحت بارقة السيوف) هو من البريق، والبريق معروف. وقال الخطابى: يقال: أبرق الرجل بسيفه إذا لمع به، ويسمى السيف: إبريقا وهو إفعيل من البريق. وقال ابن أحمر: تقلدت إبريقًا وعلقت جفنه ليهلك حيا ذا زهاء وحامل(5/31)
- باب مَنْ طَلَبَ الْوَلَدَ لِلْجِهَادِ
679 / - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (قَالَ سُلَيْمَانُ: لأطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ، أَوْ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ، كُلُّهُنَّ تَأْتِى بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ تحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ، وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَجَاهَدُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ) . قال المهلب: فى هذا الحديث حض على الولد بنية الجهاد فى سبيل الله، وقد يكون الولد بخلاف ما أمله فيه، فيكون كافرًا، ولكن قد تم له الأجر فى نيته وعمله. وفيه أن من قال: إن شاء الله. وتبرأ من المشيئة لله ولم يعط الخاصة لنفسه فى أعماله، أنه حرى بأن يبلغ أمله ويعطى أمنيته، ألا ترى أن سليمان لما لم يرد المشيئة إلى الله، ولم يستثن ما لله، فمن ذلك حرم أمله، ولو استثنى لبلغ أمله، كما قال (صلى الله عليه وسلم) ، وليس كل من قال قولا ولم يستثن فيه المشيئة فواجب ألا يبلغ أمله بل منهم من يشاء الله إتمام أمله، ومنهم من يشاء ألا يتم أمله بما سبق فى علمه، ولكن هذه التى أخبر عنها الرسول أنها مما لو أستثنى المشيئة لتم أمله فدل هذا على أن الأقدار فى علم الله على ضروب. فقد يقدر للإنسان الولد والرزق والمنزلة إن فعل كذا أو قال أو دعا، فإن لم يفعل ولا قال لم يعط ذلك الشيء، وأصل هذا فى قصة يونس (صلى الله عليه وسلم) قال تعالى: (فلولا أنه كان من المسبحين للبث فى بطنه إلى يوم يبعثون (فبان بهذه الآية أن تسبيحه كان سبب خروجه من بطن الحوت، ولو لم يسبح ما خرج منه.(5/32)
وفيه أن الاستثناء قد يكون بإثر القول، وإن كان فيه سكوت يسير لم تنقطع به دونه الأفكار الحائلة بين الاستثناء واليمين، وسيأتى ذلك فى موضعه، إن شاء الله.
- باب الشَّجَاعَةِ وَالْجُبْنِ فِى الْحَرْبِ
680 / فيه: أَنَس، كَانَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَحْسَنَ النَّاسِ، وَأَشْجَعَ النَّاسِ، وَأَجْوَدَ النَّاسِ، وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، فَكَانَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، سَبَقَهُمْ عَلَى فَرَسٍ، وَقَالَ: (وَجَدْنَاهُ بَحْرًا) . 1681 / وفيه: جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ: بَيْنَا هُوَ يَسِيرُ مَعَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَمَعَهُ النَّاسُ مَقْفَلَهُ مِنْ حُنَيْنٍ، فَعَلِقَت الأعراب يسألونه حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى سَمُرَةٍ، فَخَطِفَتْ رِدَاءَهُ، فَوَقَفَ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (أَعْطُونِى رِدَائِى، لَوْ كَانَ لِى عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ، ثُمَّ لا تَجِدُونِى بَخِيلا وَلا كَذُوبًا وَلا جَبَانًا) . قال المهلب: فيه أن الرئيس قد يشجع فى بعض الأوقات إذا وجد من نفسه قوة وإن كان اللازم له أن يحوط أمر المسلمين بحياطة نفسه، لكن النبى لما رأى الفزع المستولى علم أنه ليس يكاد بما أخبره الله فى قوله: (والله يعصمك من الناس) [المائدة: 67] وأنه لا بد أن يتم أمره حتى تمر المرأة من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله؛ فلذلك أمن (صلى الله عليه وسلم) فزعهم باستبراء الصيحة، وكذلك كل رئيس إذا استولى على قومه الفزع ووجد من نفسه قوة فينبغى له أن يذهب عنهم الفزع باستبرائه نفسه، وفيه استعمال المجاز فى الكلام؛ لقوله فى الفرس:(5/33)
(إنه بحر) فشبه ذلك؛ لأن الجرى منه لا ينقطع كما لا ينقطع ماء البحر، وأول من تكلم بهذا رسول الله، وسأريد فى هذا المعنى فى باب: أسم الفرس والحمار، بعد هذا إن شاء الله. وفيه استعارة الدواب للحرب وغيره، وفيه ركوب الدابة عُريًا لاستعجال الحركة. قال المؤلف: وفى حديث جبير أنه لا بأس للرجل الفاضل أن يخبر عن نفسه بما فيه من الخلال الشريفة عندما يخاف من سوء ظن أهل الجهالة به. وفيه أن البخل والجبن والكذب من الخلال المذمومة التى لا تصلح أن تكون فى رؤساء الناس، وأما من كانت فيه خلة منها لم يتخذه المسلمون إمامًا ولا خليفة، وكذلك من كان كذوبًا فلا يتخذ إمامًا فى دين الله؛ لأن الكذب فجور لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (الكذب يهدى إلى الفجور) ولا يؤمن على وحى الله وسنة رسوله الفجار، وإنما يؤمن عليه أهل العدالة كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله) . قال المهلب: وفيه أن الإلحاف فى المسألة قد يرد بالقول والعدة كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (لو أن لى عدد هذه العضاه نعمًا لقسمته بينكم) والوعد من النبى فى حكم الإنجاز واجب لقوله: (ثم لا تجدونى كذوبا) . وفيه: الصبر لجهلة الناس وجفاة السؤال وإن ناله فى ذلك أذى. وسؤاله رداءه تأنيسًا لهم من الأذى والجفاء عليه والمزاحمة فى الطريق، ثم رد إلحافهم بأن أعلمهم أن ما ملكه مقسوم بينهم وأن وعده منجز لهم، وأن الذى يسألونه من قتالهم وعونهم به ليسوا بالمتقدمين عليه فيه؛ بل هو المقدم عليهم فى القتال وفى كل حال لقوله: (ولا جبانًا) ولم ينكر أحد منهم ما وصف به نفسه لا عترافهم به.(5/34)
وقال أبو عبيد: العضاه من الشجر كل ما له شوك ومن أعرف ذلك الطلح والسيل والسيال والعرفط والسمر، وقال غيره: والقتاد.
- باب مَا يُتَعَوَّذُ بِهِ مِنَ الْجُبْنِ
682 / فيه: سَعْد، أنهُ كَانَ يُعَلِّمُ بَنِيهِ هَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ كَمَا يُعَلِّمُ الْمُعَلِّمُ الْغِلْمَانَ الْكِتَابَةَ، وَيَقُولُ: إِنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْهُنَّ فِى دُبُرَ الصَّلاةِ: (اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَعَذَابِ الْقَبْرِ) . 1683 / وفيه: أَنَس، كَانَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْهَرَمِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وعَذَابِ الْقَبْرِ) . قال المهلب: أما استعاذته (صلى الله عليه وسلم) من الجبن فإنه يؤدى إلى عذاب الآخرة؛ لأنه يفر من قرنه فى الزحف فيدخل تحت وعيد الله لقوله: (ومن يولهم يومئذ) [الأنفال: 16] الآية، وربما يفتن فى دينه، فيرتد لجبن أدركه، وخوف على صحته من الأسر والعبودية، وأرذل العمر: الهرم والضعف عن أداء الفرائض وعن خدمة نفسه فيما يتنظف به فيكون كلا على أهله مستثقلا بينهم، وفتنة الدنيا أن يبيع الآخرة بما يتعجله فى الدنيا من حال أو مال، وتعوذ من العجز؛ لئلا يعجز عما يلزمه فعله من منافع الدين والدنيا. والعجز: مختلف فى معناه، أما أهل الكلام فيجعلونه: ما لا استطاعة لأحد على ما يعجز عنه؛ لأن الاستطاعة عندهم مع الفعل.(5/35)
وأما أهل الفقه فيقولون: العجز هو ما يستطيع أن يعمله إذا أراد لأنهم يقولون: إن الحج ليس على الفور ولو كان على المهلة عند أهل الكلام لم يصح معناه؛ لأن الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل والذين يقولون بالمهلة يجعلون الاستطاعة قبل الفعل، وأما الكسل فهم مجمعون على أنه ضعف النية وإيثار الراحة للبدن على التعب، وإنما أستعيذ منه؛ لأنه يبعد عن الأفعال الصالحة للدنيا والآخرة، وسيأتى هذا الحديث فى كتاب الدعاء ونزيده بيانًا ووجه حاله إن شاء الله.
- باب مَنْ حَدَّثَ بِمَشَاهِدِهِ فِى الْحَرْب
684 / - فيه: السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: صَحِبْتُ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَسَعْدًا، وَالْمِقْدَادَ بْنَ الأسْوَدِ، وَعَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، إِلا أَنِّى سَمِعْتُ طَلْحَةَ يُحَدِّثُ عَنْ يَوْمِ أُحُدٍ. قال المؤلف: إنما لم يحدث هؤلاء عن رسول الله والله أعلم خشية التزيد والنقصان؛ لئلا يدخلون فى معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من تقول على ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار) فاحتاطوا على أنفسهم أخذًا بقول عمر: (أقلوا الحديث عن رسول الله وأنا شريككم) وقد تقدم هذا فى كتاب العلم. وأما حديث طلحة عن مشاهده يوم أحد، ففيه من الفقه: أن للرجل أن يحدث عما تقدم له من العناء فى إظهار الإسلام وإعلاء كلمته، وما نفذ فيه من أعمال البر والموجبات غير النوافل؛ لأنه كان عليهم نصر الرسول وبذل أنفسهم دونه فرضا؛ ليتأسى بذلك متأسٍ(5/36)
ولا يدخل ذلك فى باب الرياء؛ لأن إظهار الفرائض أفضل من سترها ليشاد منار الإسلام وتظهر أعلامه، وكان طلحة من أهل النجدة، وثبات القدم فى الحرب. ذكر البخارى عن قيس فى المغازى، قال: (رأيت يد طلحة شلاء وقى بها الرسول يوم أحد) وعن أبى عثمان (أنه لم يبق مع النبى (صلى الله عليه وسلم) غير طلحة وسعد) فلهذا حدث طلحة عن مشاهده يوم أحد؛ ليقتدى به ويرغب الناس فى مثل فعله، والله أعلم.
- باب وُجُوبِ النَّفِيرِ وَمَا يَجِبُ مِنَ الْجِهَادِ وَالنِّيَّةِ
وقوله تَعالَى: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا) [التوبة: 41] ، وَقَوْلِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ (الآية [التوبة: 38] 1685 / فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (لا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا) . قال المهلب: النفير والجهاد، يجبان وجوب فرض ووجوب سنة، فأما من استنفر لعدو غالب ظاهرٍ فالنفير فرض عليه، ومن استنفر لعدو غير غالب ولا قوى على المسلمين فيجب عليه وجوب سنة، من أجل أن طاعة الإمام المستنفر للعدو الغالب قد لزم الجهاد فيه كل أحد مشخص بعينه وأما العدو المقاوم أو المغلوب، فلم يلزم الجهاد فيه لزوم التشخيص لكل إنسان، وما لزم الجماعة فمن انتدب له قام به، ومن قعد عنه أرجو أن يكون فى سعة، ومن ذلك قوله: (لا هجرة بعد الفتح) وذلك أنه كان فى بدو الإسلام فرضًا على كل مسلم أن(5/37)
يهاجر مع الرسول فيقاتل معه حتى تكون كلمة الله هى العليا، فلما فتح الله مكة وكسر شوكة صناديد قريش ودخل الناس فى دين الله أفواجًا نزلت المقاومة من المسلمين و [. . . . .] على عدوهم فلم تلزم الناس الهجرة بعد؛ لكثرة المسلمين، وسيأتى تفسير باقى الحديث، ومذاهب العلماء فى قوله: (لا هجرة بعد الفتح) فى آخر كتاب الجهاد فى باب لا هجرة بعد الفتح، إن شاء الله.
- باب الْكَافِرِ يَقْتُلُ الْمُسْلِمَ ثُمَّ يُسْلِمُ فَيُسَدِّدُ أَوْ يُقْتَلُ
686 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (يَضْحَكُ اللَّهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ يَدْخُلانِ الْجَنَّةَ، يُقَاتِلُ هَذَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلُ، ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى الْقَاتِلِ فَيُسْتَشْهَدُ) . 1687 / وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَتَيْتُ الرسول (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ بِخَيْبَرَ بَعْدَ مَا افْتَتَحُوهَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَسْهِمْ لِى، فَقَالَ بَعْضُ بَنِى سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ: لا تُسْهِمْ لَهُ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: هَذَا قَاتِلُ ابْنِ قَوْقَلٍ، فَقَالَ ابْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ: وَاعَجَبًا لِوَبْرٍ، تَدَلَّى عَلَيْنَا مِنْ قَدُومِ ضَأْنٍ يَنْعَى عَلَىَّ قَتْلَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ أَكْرَمَهُ اللَّهُ عَلَى يَدَىَّ؛ وَلَمْ يُهِنِّى عَلَى يَدَيْهِ. قَالَ: فَلا أَدْرِى أَسْهَمَ لَهُ أَوْ لَمْ يُسْهِمْ لَهُ. قال المؤلف: ذكر أبو داود هذا الحديث فى مصنفه قال: (ولم يسهم له رسول الله) وذكر أنه أبان بن سعيد بن العاص، والترجمة صحيحة، ومعناها عند العلماء أن القاتل الأول كان كافرًا، وتوبته إسلامه وقوله: (يضحك الله إلى رجلين) أى: يتلقاهما بالرحمة(5/38)
والرضوان، والضحك منه على المجاز؛ لأن الضحك لا يكون منه تعالى على ما يكون من البشر؛ لأنه ليس كمثله شيء. وفيه من الفقه: أن الرجل قد يوبخ بما سلف إلا أن يتوب، فلا يوبخ عليه، ولا تثريب، ألا ترى أن أبا هريرة لما [. . . . .] سعيد على قتل ابن قوقل كيف رد عليه أقبح الرد، وصارت له عليه الحجة كما صارت لآدم على موسى من أجل أنهما وبخا بعد التوبة من الذنب. وفيه: أن التوبة تمحو ما سلف قبلها من الذنوب: القتل وغيره لقوله: (أكرمه الله على يدى ولم يهنى على يديه) لأن ابن قوقل وجبت له الجنة بقتل ابن سعيد له ولم تجب لابن سعيد النار؛ لأنه تاب وأسلم ويصحح ذلك سكوت الرسول على قوله، ولو كان غير صحيح لما لزمه السكوت؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) بعث مبينًا للناس. وفى حديث أبى هريرة حجة على الكوفيين فى قولهم فى المدد يلحق بالجيش فى أرض الحرب بعد الغنيمة أنهم شركاؤهم فى الغنيمة، وسائر العلماء إنما تجب عندهم الغنيمة لمن شهد الوقعة. واحتجوا بأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يسهم لأبى هريرة فى هذا الحديث. قال الكوفيون: لا حجة فى حديث أبى هريرة؛ لأن خيبر صارت حين فتحت دار إسلام وهذا لا شك فيه، قالوا: وقد روى حماد بن سلمة، عن على بن زيد، عن عمار بن أبى عمار، عن أبى هريرة قال: (ما شهدت لرسول الله مغنمًا إلا قسم لى إلا خيبر؛ فإنها كانت لأهل الحديبية خاصة شهدوها أو لم يشهدوها؛ لأن الله كان وعدهم بها بقوله: (وأخرى لم تقدروا عليها) [الفتح: 21] واحتجوا بما رواه(5/39)
أبو أسامة، عن بريد بن أبى بردة، عن أبى موسى قال: (قدمنا على النبى (صلى الله عليه وسلم) مع جعفر من أرض الحبشة بعد فتح خيبر بثلاث فقسم لنا ولم يقسم لأحد لم يشهد فتحها غيرنا) . قال الطحاوى: وهذا يحتمل أن يكون لأنهم كانوا من أهل المدينة أو يكون استطاب أنفس أهل الغنيمة. وعلى قول الطحاوى لا حجة لأصحابه فى حديث أبى موسى، وسيأتى تمام هذا القول فى هذه المسألة فى حديث ابن عمر أن النبى - (صلى الله عليه وسلم) - أسهم لعثمان يوم بدر فى باب: إذا بعث الإمام رسولاً فى حاجة أو أمره بالمقام عليها هل يقسم له، بعد هذا إن شاء الله. وقوله: (واعجبًا لوبر تدلى علينا من قدوم ضأن) وقد روى من رأس ضأن، فمن رواه لوبر بفتح الباء فمعناه أنه شبه أبا هريرة بالوبر الذى لا حطب له ولا مقدار؛ لأنه لم يكن لأبى هريرة عشيرة ولا قوم يمتنع بهم ولا يغنى فى قتال ولا لقاء عدو وكان ابن سعيد وأبو هريرة طارئين، ذكر الطبرى أن أبا هريرة وأبانًا قدما على الرسول بخيبر. ومن روى الوبر بإسكان الباء فمعناه أنه يشبهه بالوبر وهو دويبة على قدر السنور، عن صاحب العين، فأراد به فى ضعف المنة وقلة الغناء كالنسور فى السباع وإنما سكت النبى (صلى الله عليه وسلم) عن الإنكار على ابن سعيد؛ لأنه لم يذم أبا هريرة بحد ولا تنقصه فى دين، وإنما تنقصه فى قلة العشيرة والعدد أو بضعف المنة. وأما قوله: (تدلى علينا من قدوم ضأن) فإن أبا ذر الهروى،(5/40)
قال: (ضأن) جبل بأرض دوس وهو بلد أبى هريرة. وقوله: (تدلى علينا) يعنى: انحدر، ولا يخبر بهذا إلا عمن جاء من موضع عال، هذا الأشهر عند العرب. وقوله: (من قدوم ضأن) يحتمل أن يكون قدوم جمع قادم، مثل راكع وركوع وساجد وسجود، ذكر ذلك سيبويه فيكون المعنى تدلى علينا من جملة القوم القادمين، أقام الصفة مقام الموصوف. وتكون (من) فى قوله (من قدوم) تبيينًا للجنس كقوله: (لو تدلى علينا من ساكنى ضأن) ولا تكون (من) مرتبطة بالفعل فى قوله، تدليت من الجبل. لاستحالة تدليه من قوم. ولا يقال تدليت من بنى فلان، ويحتمل أن يكون (قدوم) مصدر وصف به الفاعلون، ويكون فى الكلام حذف، وتقديره: (تدلى علينا من ذوى قدوم) فحذف الموصوف وأقام المصدر مقامه، كما قالوا: رجل صوم ورجل فطر أى: ذو صوم وذو فطر، و (من) على هذا التقدير أيضًا تبيين للجنس كما كانت فى الوجه الأول. ويحتمل أن يكون معناه: تدلى علينا من مكان قدوم ضأن، ثم حذف المكان وأقام القدوم مكانه، كما قالت العرب: ذهب به مذهب وسلك به مسلك، يريد المكان الذى يسلك فيه ويذهب، ويشهد لهذا رواية من روى (من رأس ضأن) . وفيه قول آخر: يحتمل أن يكون (قدوم) اسم لمكان من الجبل متقدم منه، ولا يكون مصدرًا ولا جمعًا، ويدل على هذا رواية من روى: (تدلى علينا من رأس ضأن) ويحتمل أن يكون اسمًا لمكان قدوم بفتح القاف دون الضم، لقلة الضم فى هذا البناء فى الأسماء، وكثرة الفتح. ويحتمل أن يكون قدوم ضأن بتشديد الدال وفتح القاف(5/41)
لو ساعدته رواية؛ لأنه بناء من أسماء المواضع، وطرف القدوم موضع بالشام.
- باب مَنِ اخْتَارَ الْغَزْوَ عَلَى الصَّوْمِ
688 / فيه: أَنَس، كَانَ أَبُو طَلْحَةَ لا يَصُومُ عَلَى عَهْدِ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) مِنْ أَجْلِ الْغَزْوِ، فَلَمَّا قُبِضَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، لَمْ أَرَهُ مُفْطِرًا إِلا يَوْمَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى. قال المهلب: كان أبو طلحة فارس رسول الله، وممن له الغناء فى الحرب؛ فلذلك كان يفطر ليتقوى على العدو، وقد قال النبى (صلى الله عليه وسلم) -: (تقووا لعدوكم بالإفطار) وأيضًا فإن المجاهد يكتب له أجر الصائم القائم، وقد مثله (صلى الله عليه وسلم) بالصائم لا يفطر والقائم لا يفتر، فدل هذا كله على فضل الجهاد على سائر أعمال التطوع، فلما مات رسول الله وكثر الإسلام واشتدت وطأة أهله على عدوهم، ورأى أنه فى سعة عما كان عليه من الجهاد، ورأى أن يأخذ لحظه من الصوم؛ ليدخل يوم القيامة من باب الريان، والله أعلم.
30 - باب الشَّهَادَةُ سَبْعٌ سِوَى الْقَتْلِ
689 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: الْمَطْعُونُ، وَالْمَبْطُونُ، وَالْغَرِقُ، وَصَاحِبُ الْهَدْمِ، وَالشَّهِيدُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ) . 1690 / وفيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ) .(5/42)
قال المؤلف: لا تخرج هذه الترجمة من الحديث أصلا. وهذا يدل أن البخارى مات ولم يهذب كتابه؛ لأنه لم يذكر الحديث الذى فيه أن الشهداء سبعة سوى القتل فى سبيل الله، وهو حديث رواه مالك، عن عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عتيك، عن عتيك بن الحارث بن عتيك أن جابر بن عتيك، أخبره أن رسول الله جاء يعود عبد الله ابن ثابت فوجده قد غلب فصاح به فلم يجبه. . .) ، وذكر الحديث، وقال فيه رسول الله: (الشهداء سبعة سوى القتل فى سبيل الله: المطعون شهيد، والغرق شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمبطون شهيد، والحرق شهيد، والذى يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيد) فالمطعون هو الذى يموت فى الطاعون، وقد قالت عائشة: قال النبى (صلى الله عليه وسلم) -: (فناء أمتى فى الطعن والطاعون. قالت: أما الطعن فقد عرفناه؟ فما الطاعون؟ قال: غدة كغدة البعير تخرج فى المراق والآباط، من مات منه مات شهيدًا) والمبطون: هو [. . .] وقيل: صاحب انخراق البطن بالإسهال. وذات الجنب: وهى الشوصة. وفى بعض الآثار: (المجنوب شهيد) يريد صاحب ذات الجنب، يقال: منه رجل جنب بكسر النون إذا كان به ذلك، وأما المرأة تموت بجمع، ففيه قولان: أحدهما: المرأة تموت من الولادة وولدها فى بطنها قد تم خلقه، وقيل: إذا ماتت من النفاس فهو شهيد سواء ألقت ولدها وماتت، أو ماتت وهو(5/43)
فى بطنها. والقول الثانى: هى المرأة تموت عذراء قبل أن تحيض لم يمسها الرجال. والأول أشهر فى اللغة. قال المهلب: وقد أخبر (صلى الله عليه وسلم) فى غير ما ذكر فى هذه الآثار فى قوم أنهم شهداء فقال: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله ودون دينه) وإن كان بنص كتاب الله إنما أتى فيمن قتل فى سبيل الله فمن ألحق النبى (صلى الله عليه وسلم) ميتته بالشهادة فحاله كحال من قتل فى سبيل الله، والله أعلم.
31 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (لا يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (الآية [النساء: 95]
691 / فيه: الْبَرَاء، لَمَّا نَزَلَتْ: (لا يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (دَعَا النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، زَيْدًا، فَجَاءَ بِكَتِفٍ، فَكَتَبَهَا، وجاء ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَشَكَا ضَرَارَتَهُ، فَنَزَلَتْ: (لا يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِى الضَّرَرِ (. 1692 / فيه: زَيْدَ، أَنَّ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَمْلَى علىَّ: (لا يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ () وَالْمُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ (قَالَ: فَجَاءَهُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَهُوَ يُمِلُّهَا؛ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَسْتَطِيعُ الْجِهَادَ لَجَاهَدْتُ، وَكَانَ رَجُلا أَعْمَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِى، فَثَقُلَتْ عَلَىَّ حَتَّى خِفْتُ أَنَّ تَرُضَّ فَخِذِى، ثُمَّ سُرِّىَ عَنْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (غَيْرُ أُولِى الضَّرَرِ (. قال المهلب: فيه دليل على أن من حبسه العذر عن الجهاد وغيره من أعمال البر مع نيته فيه فله أجر المجاهد والعامل؛ لأن نص الآية على(5/44)
المفاضلة بين المجاهد والقاعد ثم استثنى من المفضولين أولى الضرر، وإذا استثناهم من المفضولين فقد ألحقهم بالفاضلين، وقد بين النبى (صلى الله عليه وسلم) هذا المعنى، فقال: (إن بالمدينة أقوامًا ما سلكنا واديًا، وشعبًا إلا وهم معنا حبسهم العذر) وقد جاء عن الرسول فيمن كان يعمل شيئًا من الطاعة ثم حبسه عنه مرض أو غيره أنه يكتب له ما كان يعمل وهو صحيح، وكذلك من نام عن حزبه نومًا غالبًا كتب له أجر حزبه، وكان نومه صدقة عليه، وهذا معنى قوله تعالى: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون (أى غير مقطوع بزمانة أو كبر أو ضعف، ففى هذا أن الإنسان يبلغ بنيته أجر العامل إذا كان لا يستطيع العمل الذى ينويه، وسيأتى زيادة فى هذا المعنى فى باب يكتب للمسافر ما كان يعمل فى الإقامة إن شاء الله وفيه اتخاذ الكاتب وتقييد العلم، وفيه قرب الكاتب من مستكتبه حتى تمس ركبته ركبته.
32 - باب الصَّبْرِ عِنْدَ الْقِتَالِ
693 / فيه: ابْن أَبِى أَوْفَى قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا) . قال المهلب: الصبر سبب إلى كل خير، وقد نص الله عليه فى غير موضع من كتابه، فأمر النبى (صلى الله عليه وسلم) بالصبر عند لقاء العدو رجاء بركته؛ ولئلا يأنس الناس بالكسل والفشل اللذين هما آفة الحرمان فى الدنيا والآخرة، والصبر على مطلوبات الدنيا والآخرة ضمان لإدراكها.(5/45)
وقوله: (فاصبروا) معناه: الحض والندب؛ لأن الفرض الذى فرض الله على المسلمين عند لقاء العدو إنما هو عند المثلين، فما كان أكثر فإنما هو حض وندب والله الموفق.
33 - باب التَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ
وَقَوْلِهِ اللَّه تَعَالَى: (حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ) [الأنفال: 65] . 1694 / فيه: أَنَس، خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى الْخَنْدَقِ، فَإِذَا الْمُهَاجِرُونَ وَالأنْصَارُ يَحْفِرُونَ فِى غَدَاةٍ بَارِدَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَبِيدٌ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ، فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنَ النَّصَبِ وَالْجُوعِ، قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الآخِرَهْ فَاغْفِرْ لِلأنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ فَقَالُوا مُجِيبِينَ لَهُ: نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا قال المهلب: فيه دليل أن الحفر فى سبيل الله والتحصين للديار ولسد العورة منها أجر كأجر القتال، والنفقة فيه محسوبة فى نفقات المجاهدين إلى تسعمائة ضعف. وفيه استعمال الرجز والشعر إذا كان فيه إقامة النفوس فى الحرب وإثارة الأنفة والعزة. وفيه المجاوبة بالشعر على الشعر، وليس هذا الشعر من قول النبى (صلى الله عليه وسلم) هو من قول عبد الله بن رواحة، ولو كان من لفظ النبى لم يكن بذلك شعرًا ولا ممن ينبغى له الشعر؛ لأنه قد يقع فى تضاعيف كلام العامة كلام موزون ولا يسمى ذلك شعرًا ولا من تكلم(5/46)
به شاعرًا، ولو جاز أن يسمى بهذا المقدار شاعرًا لكان جميع العامة شعراء؛ إذا لا يسلم أحد من أن يقع فى كلامه كلام موزون، وقد تقدم بيان هذا فى باب: من ينكب أو يطعن فى سبيل الله. وإنما يستحق اسم الشعر من قصد صناعته وعلم السبب والوتد والشطر وجميع معانى الشعر من الزحاف والحزم والقبض وما شاكل ذلك.
34 - باب حَفْرِ الْخَنْدَقِ
695 / فيه: أَنَس، جَعَلَ الْمُهَاجِرُونَ وَالأنْصَارُ يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ، وَيَنْقُلُونَ التُّرَابَ عَلَى مُتُونِهِمْ. . . . الحديث. 1696 / وفيه: الْبَرَاءِ، رَأَيْتُ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَنْقُلُ التُّرَابَ يَوْمَ الأحْزَابِ، وَقَدْ وَارَى التُّرَابُ بَيَاضَ كتفيه. . . . . الحديث. . . ويقول: (اللهم لَوْلا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا) . قال المهلب: فيه امتهان الإمام نفسه فى التحصين على المسلمين وما يتأسى به الناس ويقتدون به، فيه شرف له وتحريض وتنشيط وإثارة النية والعزم على العمل والطاعة.(5/47)
35 - باب مَنْ حَبَسَهُ الْعُذْرُ عَنِ الْغَزْوِ
697 / فيه: أَنَس، رَجَعْنَا مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سَلَكْنَا شِعْبًا، وَلا وَادِيًا إِلا وَهُمْ مَعَنَا فِيهِ، حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ) . هذا يدل أن من حبسه العذر عن أعمال البر مع نيته فيها أنه يكتب له أجر العامل فيها، كما قال (صلى الله عليه وسلم) فيمن غلبه النوم عن صلاة الليل أنه يكتب له أجر صلاته، وقد تقدم هذا المعنى فى باب: (لا يستوى القاعدون من المؤمنين (.
36 - باب فَضْلِ الصَّوْمِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ
698 / فيه: أَبُو سَعِيد، سَمِعْتُ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، يَقُولُ: (مَنْ صَامَ يَوْمًا فِى سَبِيلِ اللَّهِ بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا) . قال المهلب: هذا الحديث يدل أن الصيام فى سائر أعمال البر أفضل إلا أن يخشى الصائم ضعفًا عند اللقاء؛ لأنه قد ثبت عن الرسول أنه قال لأصحابه فى بعض المغازى حين قرب من الملاقاة بأيام يسيرة: (تقووا لعدوكم) فأمرهم بالإفطار؛ لأن نفس الصائم ضعيفة وقد جبل الله الأجسام على أنها لا قوام لها إلا بالغذاء. ولهذا المعنى قال النبى (صلى الله عليه وسلم) لعبد الله بن عمرو: (أفضل الصوم صوم داود كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، ولا يفر إذا لاقى) فلا يكره الصوم البتة إلا عند اللقاء وخشية الضعف عند القتال؛ لأن الجهاد وقتل المشركين أعظم أجرًا من الصوم لمن فيه قوة.(5/48)
37 - باب فَضْلِ النَّفَقَةِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ
699 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ دَعَاهُ خَزَنَةُ الْجَنَّةِ - كُلُّ خَزَنَةِ بَابٍ -: أَىْ فُلُ هَلُمَّ) ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَقُولُونَ اللَّهُمَ ذَلِكَ الَّذِى لا تَوَى عَلَيْهِ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنِّى لأرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ) . 1700 / وفيه: أَبُو سَعِيد، قَامَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: (إِنَّمَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِى مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الأرْضِ - ثُمَّ ذَكَرَ زَهْرَةَ الدُّنْيَا - الحديث إلى قوله: (فَإِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، وَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ لِمَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ، فَجَعَلَهُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) . قال المهلب: قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من أنفق زوجين فى سبيل الله دعاه كل خزنة باب) فيه فضل الجهاد على سائر الأعمال وأن للمجاهد أجر المصلى والصائم والمتصدق وإن لم يفعل ذلك؛ ألا ترى أن باب الريان هو للصائمين خاصة، وقد اشترط فى هذا الحديث أنه يدعى من كل باب فاستحق ذلك بإنفاق قليل من المال فى سبيل الله، ففى هذا أن [. . . . . .] إذا أنفق فى سبيل الله. أفضل الأعمال. إلا أن طلب العلم ينبغى أن يكون أفضل من الجهاد وغيره؛ لأن الجهاد لا يكون إلا بعلم حدوده وما أحل الله منه وحرم، ألا ترى أن المجاهد متصرف بين أمر العالم ونهيه، ففضل عمله كله فى ميزان العالم الآمر له بالمعروف والناهى له عن المنكر والهادى له إلى السبيل، فكما أن أجر المسلمين كلهم مذخور للنبى (صلى الله عليه وسلم) من أجل(5/49)
تعليمه لهم وهدايته إياهم سبيل العلم، فكذلك يجب أن يكون أجر العالم فيه أجر من عمل بعلمه. وفيه دليل أن من دعى إلى أبواب الجنة كلها لم يكن ممن استحق عقوبة فى نار والله أعلم لقول أبى بكر: (ذلك الذى لا توى عليه) أى: لا هلاك، فلم ينكره الرسول. وفيه القول بالدليل فى أحكام الدنيا والآخرة لاستدلال أبى بكر بالدعاء له من كل باب أنه لا هلاك عليه، ولتصديق الرسول ذلك الاستدلال، وتبشيره لأبى بكر أنه منهم، من أجل أنه أنفق فى سبيل الله كلها أزواجًا كثيرة من كل شيء، وقد تقدم هذا الحديث فى كتاب الصيام فى باب الريان للصائمين، ومر فيه من الكلام ما لم أذكره هاهنا. وكذلك تقدم القول فى حديث أبى سعيد فى كتاب الزكاة، وذكر ابن المنذر من حديث جرير بن حازم قال: حدثنى بشار بن أبى سيف الجرمى، عن الوليد بن عبد الرحمن، عن عياض بن غطيف: (أن أبا عبيدة بن الجراح أخبره عن الرسول أنه قال: من أنفق فى سبيل الله فبسبعمائة ضعف، والنفقة على نفسه وأهله بعشر أمثالها) . ومن حديث خريم بن فاتك، روى زائدة قال: حدثنا الركين بن ربيع ابن عميلة الفزارى، عن أبيه، عن يسير بن عميلة الفزارى عن خريم، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (من أنفق نفقة فى سبيل الله فبسبعمائة ضعف) . وقد جاء أن الذكر وأعمال البر فى سبيل الله أفضل من النفقة. فيه(5/50)
من حديث الليث، عن موسى بن أيوب، عن موسى بن حبير، عن معاذ بن أنس الجهنى صاحب النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (يضعف الذكر والعمل فى سبيل الله على تضعيف النفقة بسبعمائة ضعف) وعن ابن المسيب مثله.
38 - باب فَضْلِ مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا أَوْ خَلَفَهُ بِخَيْرٍ
701 / فيه: زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا) . 1702 / وفيه: أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، لَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ بَيْتًا بِالْمَدِينَةِ غَيْرَ بَيْتِ أُمِّ سُلَيْمٍ، فَقِيلَ لَهُ، فَقَالَ: (إِنِّى أَرْحَمُهَا، قُتِلَ أَخُوهَا مَعِى) . قال المهلب: أوجب له (صلى الله عليه وسلم) الفعل مجازًا واتساعًا وإن لم يفعله لوجوب أجره له. وقال الطبرى: وفيه من الفقه أن كل من أعان مؤمنًا على عمل بر فللمعين عليه أجر مثل العامل، وإذا أخبر الرسول أن من جهز غازيًا فقد غزا، فكذلك من فطر صائمًا أو قواه على صومه، وكذلك من أعان حاجا أو معتمرًا بما يتقوى به على حجه أو عمرته حتى يأتى ذلك على تمامه فله مثل أجره. ومن أعان فإنما يجيء من حقوق الله بنفسه أو بماله حتى يغلبه على الباطل بمعونة فله مثل أجر القائم، ثم كذلك سائر أعمال البر، وإذا كان ذلك بحكم المعونة على أعمال البر فمثله المعونة على معاصى الله وما يكرهه الله، للمعين عليها من الوزر والإثم(5/51)
مثل ما لعاملها، ولذلك نهى الرسول عن بيع السيوف فى الفتنة ولعن عاصر الخمر ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه، وكذلك سائر أعمال الفجور. قال المهلب: وقوله: (لم يكن يدخل بيتًا غير بيت أم سليم) يعنى: من بيوت النساء غير ذوى محارمه؛ فإنه كان يخص أم سليم للعلة التى ذكر، ولأنها كانت أختها أم حرام خالته من الرضاعة. وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة: وكانت أم حرام أختها تسكن بقباء. وقوله: (قتل أخوها معي) أى: قتل فى سبيلى؛ لأنه قتل ببئر معونة، ولم يشهدها الرسول (صلى الله عليه وسلم) .
39 - باب التَّحَنُّطِ عِنْدَ الْقِتَالِ
703 / فيه: مُوسَى بْنِ أَنَسٍ، قَالَ - وَذَكَرَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ - قَالَ: أَتَى أَنَسٌ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ، وَقَدْ حَسَرَ عَنْ فَخِذَيْهِ، وَهُوَ يَتَحَنَّطُ، فَقَالَ: يَا عَمِّ، مَا يَحْبِسُكَ أَنْ لا تَجِىءَ؟ قَالَ: الآنَ يَا ابْنَ أَخِى، وَجَعَلَ يَتَحَنَّطُ - يَعْنِى مِنَ الْحَنُوطِ - ثُمَّ جَاءَ فَجَلَسَ، فَذَكَرَ فِى الْحَدِيثِ انْكِشَافًا مِنَ النَّاسِ، فَقَالَ: هَكَذَا عَنْ وُجُوهِنَا حَتَّى نُضَارِبَ الْقَوْمَ، مَا هَكَذَا كُنَّا نَفْعَلُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، بِئْسَ مَا عَوَّدْتَكُمْ أَقْرَانَكُمْ. قال المهلب: فيه الأخذ بالشدة فى استهلاك النفس وغيرها فى ذات الله، وترك الأخذ بالرخصة لمن قدر عليها؛ لأنها لا يخلو أن تكون الطائفة من المسلمين التى غزت اليمامة أكثر منهم أو أقل، فإن كانوا أكثر فلا يتعين الفرض على أحد بعينه أن يستهلك نفسه فيه، وإن كانوا(5/52)
أقل وهو المعروف فى الأغلب أن لا يغزو جيش أجدًا فى عقر داره إلا وهم أقل من أهل الدار، فإذا كان هكذا فالفرار مباح، وإن تعذر معرفة الأكثر من الفريقين فإن الفار لا يكون عاصيًا إلا باليقين أن عدوهم مثلان فأقل، وما دام الشك، فالفرار مباح للمسلمين. وفيه أن التطيب للحرب سنة من أجل مباشرة الملائكة للميت. وفيه اليقين بصحة ما هو عليه من الدين، وصحة النية بالاغتباط فى استهلاك نفسه فى طاعة الله. وفيه التداعى للقتال؛ فإن أنسًا قال لعمه: ما يحبسك ألا تجيء. ومعنى قوله: (بئس ما عودتكم أقرانكم) يعنى: العدو، فى تركهم اتباعكم قبلكم حتى اتخذتم الفرار عادة للنجاة، وطلب الراحة من مجالدة الأقران.
40 - باب فَضْلِ الطَّلِيعَةِ
704 / فيه: جَابِر، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ يَأْتِينِى بِخَبَرِ الْقَوْمِ يَوْمَ الأحْزَابِ) ؟ قَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا، ثُمَّ قَالَ: (مَنْ يَأْتِينِى بِخَبَرِ الْقَوْمِ) ؟ قَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ لِكُلِّ نَبِىٍّ حَوَارِيًّا، وَحَوَارِىَّ الزُّبَيْرُ) . وترجم له (باب: هل يبعث الطليعة وحده) . قال المهلب: فيه أن الطليعة يستحق اسم النصرة؛ لأن الرسول سماه: حوارى، ومعنى هذه التسمية أن عيسى ابن مريم لما قال(5/53)
لقومه: (من أنصارى إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله (فلم يجبه غيرهم، فكذلك لما قال الرسول: (من يأتينى بخبر القوم) مرتين لم يجبه غير الزبير، فشبهة بالحواريين أنصار عيسى، وسماه باسمهم، وإذا صح من هذا الحديث أن الطليعة ناصر، فأجره أجر المقاتل المدافع؛ قام منه الدليل على صحة قول مالك أن طليعة اللصوص يقتل مع اللصوص، وإن كان لم يقتل ولم يسلب، وكذلك قال عمر بن الخطاب: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به. وفيه شجاعة الرئيس وتقدمه وفضله، وفيه الأدب من الإمام فى الندب إلى القتال والمخاوف؛ لأنه كان للنبى أن يقول لرجل بعينه: قم فائتنى بخبر القوم، فلزم الرجل ذلك؛ لقوله تعالى: (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم (وزعم بعض المعتزلة أن بعث النبى الزبير طليعة وحده يعارض قوله: (الراكب شيطان) ونهيه عن أن يسافر الرجل وحده. قال المهلب: وليس فى ذلك تعارض بحمد الله لاختلاف المعنى فى الحديثين، وذلك أن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (الراكب شيطان) إنما جاء فى المسافر وحده، لأنه لا يأنس بصاحب ولا يقطع طريقه محدث يهون عليه مؤنة السفر، كالشيطان الذى لا يأنس بأحد، ويطلب الوحيد ليغويه بتذكار فتكة وتدبير شهوة، حضًا منه (صلى الله عليه وسلم) على الصحبة، والمرافقة لقطع المسافة، وطى بعيد الأرض بطيب الحكاية، وحسن المعاونة على المؤنة، وقصة الزبير بضد هذا. بعثه طليعة عينًا متجسسًا على قريش ما يريدونه من حرب الرسول، فلو أمكن أن يتعرف ذلك منهم بغير طليعة. لكان أسلم وأخف،(5/54)
ولكن أراد أن يبين لنا جواز العذر فى ذلك لمن احتسب نفسه وسخى بها فى نفع المسلمين وحماية الدين، ومن خرج فى مثل هذا الخطير من أمر الله لم يعط الشيطان أذنه ليصغى إلى خدعه، بل عليه من الله حافظ، وبعد ألا ترى تثبيت الله له حين نادى أبو سفيان فى المشركين: ليعرف كل إنسان منكم جليسه. فقال الزبير لمن قرب منه: من أنت؟ فسبق بحضور ذهنه إلى ما لو سبقه إليه جليسه لكان سبب فضيحته، ولو أرسل معه غيره لكان أقرب إلى أن يعثر عليهما، فالوحدة فى هذا هى الحكمة البالغة، وفى المسافر هى العورة البينة، ولكل وجه من الحكمة غير وجه الآخر لتباين القصص واختلاف المعانى، وفى الباب الذى بعد هذا شيء من هذا المعنى.
41 - باب سَفَرِ الاثْنَيْنِ
705 / فيه: مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، انْصَرَفْتُ مِنْ عِنْدِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ لَنَا - أَنَا وَصَاحِبٍ لِى -: (أَذِّنَا وَأَقِيمَا، وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا) . إن قال قائل: إباحته (صلى الله عليه وسلم) لمالك بن الحويرث وصاحبه أن يؤذنا ويقيما عند انصرافهما من عنده، يعارض قوله (صلى الله عليه وسلم) : (الراكب شيطان، والراكبان شيطانان) ونهيه أن يسافر الرجل وحده. قيل: ليس كما توهمت؛ لأنه لا يجوز على أخباره التضاد. قال الطبرى: ونهيه عن سفر الرجل وحده والاثنين نهى أدب(5/55)
وإرشاد لما يخشى على فاعل ذلك من الوحشة بالوحدة لا نهى تحريم، وذلك نظير نهيه عن الأكل من وسط الطعام، وعن الشرب من فى السقاء، والنهى عن المبيت على السطح غير المحجور، وكل ذلك تأديب لأمته، وتعريف لهم منه ما فيه حظهم وصلاحهم، لا شريعة ودين يحرجون بتضييعه وترك العمل به، فالعامل محتاط لنفسه من مكروه يلحقه إن ضيعه. وذلك أن السائر فى فلاة وحده والبائت فى بيت وحده إذا كان ذا قلب مخيف وفكر رديء لم يؤمن أن يكون ذلك سببًا لفساد عقله، والنائم على سطح غير محجور عليه غير مأمون أن يقوم بوسن النوم وغمور فهمه فيتردى منه فيهلك، والشارب من فى السقاء غير مأمون عليه انحدار ما خفى عليه استكنانه من الهوام القاتلة فى السقاء فيهلك أيضًا، وكذلك المسافر مع آخر قد يخشى من غائلته ولا يأمن مكره، فإذا كانوا ثلاثة أمن ذلك فى الأغلب، وهذا وما أشبهه من تأديبه (صلى الله عليه وسلم) لأمته. وأيضًا فإن الناس مختلفوا الأحوال متفاوتوا الأسباب فمن كَمِىٍّ باسل لا يهوله هائل ولا يبقى غول غائل، فهو لا يبالى وحده سلك المفاوز أو فى عسكر، فذلك الذى أذن عمر فى السير لمثله من المدينة إلى الكوفة وحده حين بلغه عن سعد أنه بنى قصرًا أو أمره بإحراق بابه، ومن مخيف الفؤاد يروعه كل منظر، ويهوله كل شخص، ويفزعه كل صوت، فذلك الذى يحرم عليه أن يسافر وحده ويمكن أن يكون الذى نهاه الرسول أن يبيت وحده كان بهذه الصفة، ومن أخذ بين ذلك الاحتياط له فى نفسه ودينه ترك السفر وحده ومع آخر أيضًا، فمن كان الأغلب عليه الشجاعة، والقوة لم يكن إن شاء الله حرجًا ولا آثمًا، ومن كان الأغلب من قلبه الهلع ومن نفسه الخور خشيت عليه فى السفر وحده الإثم والحرج وأن يورثه ذلك العلل الردية.(5/56)
42 - باب الْخَيْلُ مَعْقُودٌ بنَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
706 / فيه: ابْن عُمَرَ، وعُرْوَةَ، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِى نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) . 1707 / وفيه: أَنَس، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (الْبَرَكَةُ فِى نَوَاصِى الْخَيْلِ) . وترجم له باب (الْجِهَادُ مَاضٍ مَعَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ) لقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (الخيل معقود فى نواصيها الخير إلى يوم القيامة) . 1708 / وفيه: عُرْوَةُ الْبَارِقِىُّ قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِى نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ: الأجْرُ وَالْمَغْنَمُ) . قال بعض أهل العلم: معناه الحث على ارتباط الخيل فى سبيل الله يريد أن من ارتبطها كان له ثواب ذلك فهو خير آجل، وما يصيب على ظهرها من الغنائم وفى بطونها من النتاج خير عاجل، وخص النواصى بالذكر؛ لأن العرب تقول: فلان مبارك الناصية، فيكنى بها عن الإنسان. وقال المهلب: استدلال البخارى صحيح أن الجهاد ماض مع البر والفاجر إلى يوم القيامة. من أجل أنه أبقى (صلى الله عليه وسلم) الخير فى نواصى الخيل إلى يوم القيامة. وقد علم أن من أئمته أئمة جور لا يعدلون، ويستأثرون بالمغانم، فأوجب هذا الحديث الغزو معهم،(5/57)
ويقوى هذا المعنى أمره بالصلاة وراء كل بر وفاجر من السلاطين، وأمره بالسمع والطاعة ولو كان عبدًا حبشيا. وقوله: (فالأجر والمغنم) يفسر قوله: (مع ما نال من أجر أو غنيمة) أن (أو) بمعنى الواو فكأنه قال: (مع ما نال من أجر وغنيمة أو أجر) . وقوله: (الخيل فى نواصيها الخير) لفظه لفظ العموم، والمراد به الخصوص؛ لأنه لم يرد إلا فى [. . . . . . .] الخيل بدليل قوله: (الخيل لثلاثة) فبين أنه أراد الخيل الغازية فى سبيل الله، فإن الخير المعقود فى نواصيها إنما هو أجر فى سبيل الله، لا أنها على كل وجوهها معقود فى نواصيها الخير، بل إذا كانت مستعملة فى سبيل الله أو معدة لذلك؛ فإن الإنفاق عليها خير أو أجر دون ما كان منها وزرًا، وقال مثله ابن المنذر. والناصية: الشعر المسترسل على الجبهة، عن الخطابى.
43 - باب مَنِ احْتَبَسَ فَرَسًا فِى سَبِيلِ اللَّهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ ترهبون به) [الأنفال: 60]
. 1709 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) : (مَنِ احْتَبَسَ فَرَسًا فِى سَبِيلِ اللَّهِ إِيمَانًا بِاللَّهِ وَتَصْدِيقًا بِوَعْدِهِ، فَإِنَّ شِبَعَهُ وَرِيَّهُ وَرَوْثَهُ وَبَوْلَهُ فِى مِيزَانِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . قال المهلب: هذا الحديث يدل أن الأحباس جارية فى الخيل والرياع(5/58)
وغيرها؛ لأنه إذا جاز ذلك فى الخيل للمدافعة عن المسلمين وعن الدين والنفع لهم بجر الغنائم والأموال إليهم، فكذلك يجوز فى الرياع المثمرة لهم، وما وصف الرسول من الروث وغيره فإنما يريد ثوابه؛ لأن الروث لا يوزن بل أجره، ولا تقول إن زنة الأجر زنة الروث بل أَضعافه إلى ما شاء الله. وفيه أن النية قد يؤجر الإنسان بها كما يؤجر العامل؛ لأن هذا إنما احتبس فرسه ليقاتل عليه ويغير، فيعوض من أجدر العمل المعدوم فى ترك استعماله فيه، فعد نفقاته وأرواثه أجرًا له، مع أنه فى رباطه نافع؛ لأن الإرهاب بارتباطه فى نفس العدو وسماعهم عنه نافع. وفيه أن الأمثال تضرب لصحة المعانى وإن كان فيها بعض المكروهات الذكر.
44 - باب اسْمِ الْفَرَسِ وَالْحِمَارِ
710 / فيه: سَهْل، كَانَ للرسول (صلى الله عليه وسلم) فِى حَائِطِنَا فَرَسٌ، يُقَالُ لَهُ: اللُّحَيْفُ. 1711 / وفيه: أَبُو قَتَادَةَ، أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ الرسول، (صلى الله عليه وسلم) ، فَتَخَلَّفَ أَبُو قَتَادَةَ، فَرَكِبَ فَرَسًا يُقَالُ لَهُ: الْجَرَادَةُ. . . الحديث. 1712 / وفيه: مُعَاذ بن جبل، كُنْتُ رِدْيفَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَلَى حِمَارٍ، يُقَالُ لَهُ: عُفَيْرٌ، فَقَالَ: (يَا مُعَاذُ، هَلْ تَدْرِى حَقَّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ) ؟ الحديث. 1713 / وفيه: أَنَس، كَانَ فَزَعٌ بِالْمَدِينَةِ، فَاسْتَعَارَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) فَرَسًا يُقَالُ لَهُ: الْمَنْدُوبٌ، فَقَالَ: (مَا رَأَيْنَا مِنْ فَزَعٍ، وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا) . قَالَ البخارى: قَالَ بَعْضُهُمُ: اللُّخَيْفُ بالخَاءِ.(5/59)
قال المهلب: فقه هذا الباب جواز تسمية الدواب بأسماء تخصها غير أسماء جنسها. وقال الواقدى: إنما سمى اللحيف لكثرة سبائبه يعنى: ذنبه. قال: وكان للنبى (صلى الله عليه وسلم) فرس يقال له: السكب، وآخر يقال: اللزاز، وآخر يقال: المرتجز، وإنما سمى: السكب؛ لأن لونه يشبه لون الشقائق، وأنشد الأصمعى: كالسكب المحبر فوق الرابية وكذلك المرتجز إنما سمى بذلك؛ لحسن صهيله. وقوله: (إن وجدناه لبحرًا) والبحر: الفرس الواسع الجرى. قال الأصمعى: يقال: فرس بحر وفيض وحث وغمر. وقال نفطويه: معناه: كثير الجرى. قال الخطابى: وذكر الواقدى أنه كان اسم حماره: يعفور، قال: وإنما سمى بذلك لعفرة لونه، والعفرة: حمرة يخالطها بياض. يقال له: أعفر ويعفور، وأخضر ويخضور، وأصفر ويصفور، وأحمر ويحمور. قال المؤلف: وعفير من المعفرة، وهو تصغير أعفر، وقال الطبرى: وقد حدثنى عبد الرحيم البرقى، قال: حدثنى عمرو بن أبى سلمة، عن زهير، عن محمد قال: اسم راية الرسول: العقاب، وفرسه: المرتجز، وناقته: العضباء والجدعاء، والحمار: يعفور، والسيف: ذو الفقار، والدرع: ذات الفضول، والرداء: الفتح، والقدح: الغمر. فإذا كان ذلك من فعله (صلى الله عليه وسلم) فى أملاكه، وكان الله قد ندب(5/60)
خلقه إلى الاستنان به والتأسى فيما لم ينههم عنه، فالصواب لكل من أنعم الله عليه وخوله رقيقًا أو حيوانًا من البهائم والطير أو غير ذلك أن يسميه باسم كما فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) . وعلم بذلك أن المرتدين لما ادعوا أنساب الخيل لم يتعدوا فى ذلك إذ كان لها من الأسماء مثل ما لبنى آدم، يميزوا بها بين أعيانها وأشخاصها، إذ الأسماء إنما هى أمارات وعلامات.
45 - باب مَا يُذْكَرُ مِنْ شُؤْمِ الْفَرَسِ
714 / فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا الشُّؤْمُ فِى ثَلاثَةٍ: فِى الْفَرَسِ، وَالْمَرْأَةِ، وَالدَّارِ) . 1715 / وفيه: سَهْل، قَالَ الرسول: (إِنْ كَانَ فِى شَىْءٍ، فَفِى الْمَرْأَةِ، وَالْفَرَسِ، وَالْمَسْكَنِ) . قال المهلب: قوله: (إنما الشؤم فى ثلاث) فحقيق فى ظاهر اللفظ حين لم يستطع أن ينسخ التطير من نفوس الناس، فأعلمهم أن الذى يعذبون به من الطيرة لمن التزمها إنما هو فى ثلاثة أشياء وهى الملازمة لهم، مثل دار المنشأ والمسكن، والزوجة التى هى ملازمة فى حال العيش اليسير، والفرس الذى به عيشه وجهاده وتقلبه، فحكم (صلى الله عليه وسلم) بترك هذه الثلاثة الأشياء لم ألزم التطير حين قال فى الدار التى سكنت، والمال وافر، والعدد كثير؛ اتركوها ذميمة خشية ألا يطول تعذب النفوس بما يكره من هذه الثلاثة ويتطير به، وأما غيرها من الأشياء التى إنما هى خاطرة وطارئة، وإنما تحزن بها النفوس ساعة أو أقل مثل الطائر المكروه الاسم عند العرب بمن يرحل منهم، فإنما يعرض له ذلك فى حين مروره به، فقد أمر (صلى الله عليه وسلم) فى مثل هذا وشبهه لا يضر من عرض له بأمر فى المرأة والفرس والدار(5/61)
خلاف ذلك؛ لطول التعذب بها. وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (ثلاثة لا يسلم منهن أحد: الطيرة والظن والحسد؛ فإذا تطيرت فلا ترجع، وإذا حسدت فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تحقق) . وحكى بعض المعتزلة أن أحاديث الشؤم يعارضها قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا عدوى ولا طيرة) . وسأذكر ما فسر به العلماء ذلك ونفى التعارض عنها فى كتاب الطب عند قوله: (لا عدوى ولا طيرة) إن شاء الله.
48 - باب الْخَيْلُ لِثَلاثَةٍ وَقَوْلُهُ: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً) [النحل: 8]
716 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (الْخَيْلُ لِثَلاثَةٍ: لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ، فَأَمَّا الَّذِى هِى لَهُ أَجْرٌ: فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَطَالَ لهَا فِى مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ، فَمَا أَصَابَتْ فِى طِيَلِهَا ذَلِكَ مِنَ الْمَرْجِ، أَوِ الرَّوْضَةِ، كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٍ، وَلَوْ أَنَّهَا قَطَعَت طِيَلَهَا ذَلِكَ وَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَينِ كَانَتْ آَثَارُهَا وَأَرْوَاتُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ فَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَهَا كَانَ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ لَهُ، وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِئَاءً وَنِوَاءً لأهْلِ الإسْلامِ فَهِىَ وِزْرٌ عَلَى ذَلِكَ) . وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الْحُمُرِ، فَقَالَ: (مَا أُنْزِلَ عَلَىَّ فِيهَا إِلا هَذِهِ الآيَةُ الْجَامِعَةُ الْفَاذَّةُ) : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) [الزلزلة: 7] الحديث. إن المرء لا يؤجر فى اكتسابها لأعيانها، وإنما يؤجر بالنية الخالصة فى استعمال ما ورد الشرع بالفضل فى عمله؛ لأنها خيل كلها، وقد اختلف أحوال مكتسبيها لاختلاف النيات فيها.(5/62)
وفيه: أن الحسنات تكتب للمرء إذا كان له فيها سبب وأصل، تفضلا من الله على عباده المؤمنين؛ لأنه ذكر حركات الخيل وتقلبها ورعيها وروثها وأن ذلك حسنات للمجاهد، والطيل: الحبل الذى تربط به الدابة، ويقال له: طول أيضًا. قال طرفة: لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى لكالطول المرخى وثنياه باليد ومعنى الكلام: أن فرس المجاهد ليمضى على وجهه فى الحبل الذى أطيل له فيكتب له بذلك حسنات. وقوله: (استنت شرفًا أو شرفين) والاستنان أن تأخذ فى سنن على وجه واحد ماضيًا وهو يفتعل من السنن وهو القصد، ويقال: فلان يستن الريح إذا كان على جهتها وممرها، وأهل الحجاز يقولون: اسننها. ويقال فى مثل: (استنت الفصال حتى القرعى) يضرب مثلا للرجل الضعيف، يرى الأقوياء يفعلون شيئًا فيفعل مثله. والشرف: ما ارتفع من الأرض. وقوله: تغنيًا يعنى: استغناء، يقال منه: تغنيت تغنيًا، وتغانيت تغانيًا، واستغنيت استغناء. وقوله: (نواء) هو مصدر ناوأت العدو مناوأة ونواء وهى: المساواة. قال أهل اللغة: أصله من ناء إليك ونؤت إليه، أى: نهض إليك ونهضت إليه وفى كتاب العين: ناوأت الرجل: ناهضته بالعداوة، والنواء: العداوة، والفاذة هى: المعددة، ويقال: فاذة وفذة، وفاذ وفذ ومن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ) ومعنى ذلك أنها متعددة فى عموم الخير والشر لا آية أعم منها.(5/63)
قال المؤلف: وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لم ينزل على فى الحمر إلا هذه الآية: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره (فهذا تعليم منه (صلى الله عليه وسلم) لأمته الاستنباط والقياس، وكيف تفهم معانى التنزيل؛ لأنه شبه (صلى الله عليه وسلم) ما لم يذكر الله فى كتابه وهى الحمر بما ذكره من عمل مثقال ذرة من خير إذ كان معناهما واحدًا، وهذا نفس القياس الذى ينكره من لا تحصيل له ولا فهم عنده؛ لأن قوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره (يدخل فيه مع الحمر جميع أفعال البر دقيقها وجليلها، ألا ترى إلى فهم عائشة وغيرها من الصحابة هذا المعنى من هذه الآية حتى تصدقوا بحبة عنب وقالوا: كم فيها من مثاقيل الذر.
47 - باب مَنْ ضَرَبَ دَابَّةَ غَيْرِهِ فِى الْغَزْوِ
717 / وفيه: جَابِر، سَافَرْتُ مَعَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) فِى غَزْوَةً أَوْ عُمْرَةً، فَلَمَا أَقْبَلْنَا، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَعَجَّلَ، إِلَى أَهْلِهِ فَلْيُعَجِّلْ) ، فَأَقْبَلْنَا وَأَنَا عَلَى جَمَلٍ لِى أَرْمَكَ، لَيْسَ فِيهِ شِيَةٌ، وَالنَّاسُ خَلْفِى، فَبَيْنَا أَنَا كَذَلِكَ إِذْ قَامَ عَلَىَّ، فَقَالَ لِى الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (يَا جَابِرُ، اسْتَمْسِكْ) ، فَضَرَبَهُ بِسَوْطِهِ ضَرْبَةً، فَوَثَبَ الْبَعِيرُ مَكَانَهُ، فَقَالَ لِى: أَتَبِيعُ الْجَمَلَ؟ قُلْتُ: (نَعَمْ) ، الحديث. قال المهلب: فيه المعونة فى الجهاد بسوق الدابة وقودها، وقد رأى الرسول رجلا يحط رحل رجل ضعيف، فقال: ذهب هذا بالأجر يعنى: المعين فكذلك المعين فى سوق الدابة يؤجر على ذلك وفيه دليل على جواز إيلام الحيوان، والحمل عليها بعض ما يشق بها؛ لأنه جاء فى بعض الحديث أنه كان أعيا، فإذا ضرب المعين فقد كلف(5/64)
ما يشق عليه، وإذا صح هذا فكذلك يجوز أن يكلف العبد والأمة بعض ما يشق عليهما إذا كان فى طاقتهما ووسعهما، ويؤدبا على تقصيرهما فيما يلزمهما من الخدمة. وفيه أن السلطان قد يتناول الضرب بيده؛ لأنه إذا ضرب الدابة فأحرى أن يضرب الإنسان الذى يعقل؛ تأديبًا له. وفيه: بركة الرسول؛ لأنه ضربه، فأحدث الله له بضربه قوة وأذهب عنه الإعياء. وقوله: (أرمك) قال أبو عبيد عن الأصمعى: إذا خالطت حمرته سواد فتلك الرمكة، وبعير أرمك. وقال صاحب العين: الرمكة لون فى ورقة وسواد، والورقة شبه بالغرة. وقوله: (ليس فيه شية) أى: ليس لمعة من غير لونه، قال صاحب العين: الشية: لمعة من سواد أو بياض. وقوله: (إذ قام على الجمل) معناه: وقف من الإعياء والكلال، قال تعالى: (كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا (. قال أهل التفسير: معناه: وقفوا. وفيه تفسير آخر، قال أبو زيد: يقال: قام بى ظهرى، أى: أوجعنى ما أوجعك من جسدك فقد قام بك، والمعنى متقارب. قال ابن المنذر: اختلفوا فى المكترى يضرب الدابة فتموت. فقال مالك: إذا ضربها ضربًا لا يضرب مثله أو حيث لا يضرب ضمن، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور قالوا: إذا ضربها ضربًا يضرب صاحبها مثله ولم يتعد فليس عليه شيء. واستحسن هذا القول أبو(5/65)
يوسف ومحمد. وقال الثورى وأبو حنيفة: هو ضامن إلا أن يكون أمره أن يضرب والقول الأول أولى. وعليه يدل الحديث؛ لأن النبى لم يضرب الجمل إلا بما يشبه أن يكون أدبًا، له مثله، ولم يتعد عليه فكان ذلك مباحًا، فلو مات الجمل من ذلك لم يضمنه (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأنه لم يكن متعديًا، والضمان فى الشريعة إنما يلزم المتعدي.
48 - باب: الْفُحُولَةِ مِنَ الْخَيْلِ
وَقَالَ رَاشِدُ بْنُ سَعْدٍ: كَانَ السَّلَفُ يَسْتَحِبُّونَ الْفُحُولَةَ؛ لأنَّهَا أَجْرَأ وَأَجْسَرُ. 1718 / فيه: أَنَس، كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَزَعٌ، فَاسْتَعَارَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) فَرَسًا لأبِى طَلْحَةَ، يُقَالُ لَهُ: مَنْدُوبٌ، فَرَكِبَهُ، وَقَالَ: (مَا رَأَيْنَا مِنْ فَزَعٍ، وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا) . لا فقه فى هذا الباب، وإنما فيه أن فحول الخيل أفضل للركوب من الإناث لشدتها وجرأتها، ومعلوم أن المدينة لم تخل من إناث الخيل، ولم ينقل أن النبى (صلى الله عليه وسلم) ولا جملة أصحابه ركبوا غير الفحول، ولم يكن ذلك إلا لفضلها على الإناث، إلا ما ذكر عن سعد بن أبى وقاص أنه كان له فرس أنثى بلقاء.
49 - باب سِهَامِ الْفَرَسِ
وَقَالَ مَالِكٌ: يُسْهَمُ لِلْخَيْلِ وَالْبَرَاذِينِ مِنْهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا (وَلا يُسْهَمُ لأكْثَرَ مِنْ فَرَسٍ.(5/66)
19 / وفيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) جَعَلَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِصَاحِبِهِ سَهْمًا. قال الله تعالى -: (وما آتاكم الرسول فخذوه (فقسم رسول الله للفارس ثلاثة أسهم: سهمًا له، وسهمين لفرسه، وفرض علينا اتباعه وطاعته. وجاء عن عمر بن الخطاب (أنه فرض للفرس سهمين ولصاحبه سهمًا) وعن على بن أبى طالب مثله، ولا مخالف لهما فى الصحابة، وهو قول عامة العلماء فى القديم والحديث غير أبى حنيفة؛ فإنه خالف السنة وجماعة الناس فقال: لا يسهم للفرس إلا سهم واحد. وقال: أكره أن أفضل البهيمة على مسلم. وخالفه أصحابه، فبقى منفردًا شاذا. واختلفوا فى الإسهام للبراذين والهجن فقال مالك: إنها من الخيل يسهم لها. وبه قال أبو حنيفة والثورى والشافعى وأبو ثور. وقال الليث: للهجين والبرذون سهم دون سهم الفرس، ولا يلحقان بالعراب. وروى عن مكحول أنه قال: أول من أسهم للبراذين خالد بن الوليد قسم لها نصف سهمان الخيل. وبه قال أحمد بن حنبل. وقال مكحول: لا شيء للبراذين. وبه قال الأوزاعى، واحتج مالك فى الموطأ بقوله تعالى: (والخيل والبغال والحمير لتركبوها (واسم الخيل يقع على الهجن والبراذين وهى تغنى غناءها فى كثير من المواضع، فمن زعم أن بينهما فرقًا فعليه الدليل.(5/67)
واحتج مالك أيضًا بقول سعيد بن المسيب انه سئل: هل فى البراذين صدقة؟ قال: وهل فى الخيل صدقة؟ واختلفوا فيمن له أفراس كثيرة، فقال مالك: لا يسهم إلا لفرس واحد وهوالذى يقاتل عليه. وهو قول أبى حنيفة ومحمد والشافعي. وقال الثورى والأوزاعى وأبو يوسف والليث وأحمد وإسحاق: يسهم لفرسين. وحجة القول أنهم أجمعوا على أن سهم فرس واحد يجب مع ثبوت الخبر بذلك عن النبى (صلى الله عليه وسلم) فثبت القول به إذ هو سنة وإجماع، ووجب التوقيف عن القول بأكثر من ذلك إذ لا حجة مع القائلين به. قال المهلب: وفى قسمته (صلى الله عليه وسلم) للفرس سهمين حض على اكتساب الخيل واتخاذها؛ لما جعل الله فيها من البركة فى اعتلاء كلمته وإعزاز حزبه ولتعظم شوكة المسلمين بالخيل الكثيرة، والله أعلم.
50 - باب مَنْ قَادَ دَابَّةَ غَيْرِهِ فِى الْحَرْبِ
720 / فيه: الْبَرَاء، قيل له: أَفَرَرْتُمْ عَنْ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ قَالَ: لَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَمْ يَفِرَّ، إِنَّ هَوَازِنَ كَانُوا قَوْمًا رُمَاةً وَإِنَّا لَمَّا لَقِينَاهُمْ حَمَلْنَا عَلَيْهِمْ فَانْهَزَمُوا، فَأَقْبَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْغَنَائِمِ، وَاسْتَقْبَلُونَا بِالسِّهَامِ، فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَلَمْ يَفِرَّ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ وَإِنَّهُ لَعَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ، وَإِنَّ أَبَا سُفْيَانَ آخِذٌ بِلِجَامِهَا، وَالنَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: أَنَا النَّبِىُّ لا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِالْمُطَّلِبْ(5/68)
قال المهلب: فيه خدمة السلطان فى الحرب وسياسة دابته لأشراف الناس من قرابته وغيرهم. وفيه جواز الأخذ بالشدة والتعرض إلى الهلكة فى سبيل الله؛ لأن الناس فروا عن رسول الله ولم يبق إلا مع اثنى عشر رجلا، والمشركون فى أضعافهم عددًا مرارًا كثيرة، فلزموا مكانهم ومصافهم، ولم يأخذوا بالرخصة من الفرار. وفيه ركوب البغال فى الحرب للإمام ليكون أثبت له ولئلا يظن به الاستعداد للفرار والتولية، ومن باب السياسة لنفوس الأتباع؛ لأنه إذا ثبت ثبت أتباعه، وإذا رئى منه العزم على الثبات عزم معه عليه. وفيه جواز الفخر والندابة عند القتال. وفيه إثبات النبوة؛ لأنه قال: أنا النبى لا كذب. أى: ليس أنا بكاذب فيما أقول؛ فيجوز علىّ الانهزام، وإنما ينهزم من ليس على يقين من النصرة وهو على خوف من الموت، والنبى (صلى الله عليه وسلم) على يقين من النصر بما أوحى الله إليه فى كتابه وأعلمه أنه لا بد له من كمال هذا الأمر، فمن زعم بعد هذا أن الرسول ينهزم فقد رماه بأنه كذب وحى الله أن الله يعصمه من الناس فارتاب وإلا قتل؛ لأنه كافر إن لم يتأول ويعذر بتأويله، وسأشبع القول فى معنى هذا الحديث فى باب من صف أصحابه عند الهزيمة ونزل عن دابته واستنصر بعد هذا إن شاء الله.(5/69)
51 - باب الرِّكَابِ وَالْغَرْزِ للدَّابَّةِ
721 / - فيه: ابْن عُمَرَ، أَن النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، كَانَ إِذَا أَدْخَلَ رِجْلَهُ فِى الْغَرْزِ وَاسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ أَهَلَّ مِنْ عِنْدِ مَسْجِدِ ذِى الْحُلَيْفَةِ. الغرز للرحل مثل ركاب سرج الدابة يستعين به الراكب عند ركوبه ويعتمد عليه، وهو شيء قديم معروف عندهم، وهذا تفسير ما جاء عن عمر بن الخطاب أنه قال: (اقطعوا الركب وثبوا على الخيل وثبًا) أنه لم يرد بذلك منع اتخاذ الركب أصلاً، وإنما أراد بذلك تمرينهم وتدريبهم على ركوب الخيل حتى يسهل عليهم ذلك من غير استعانة بالركب البتة؛ لأن الرسول اتخذها واستعان بها فى ركوبه.
52 - باب رُكُوبِ الْفَرَسِ الْعُرْىِ
722 / فيه: أَنَس، اسْتَقْبَلَهُمُ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَلَى فَرَسٍ عُرْىٍ، مَا عَلَيْهِ سَرْجٌ، وَفِى عُنُقِهِ سَيْفٌ. ركوب الفرس العرى من باب التواضع، وفيه رياضة وتدرب للفروسية، ولا يفعله إلا من أحكم الركوب، فقه ذلك أنه يجب على الفارس أن يتعاهد صنعته ويروض طباعه عليها لئلا يثقل إذا احتاج إلى نفسه عند الشدائد، وفيه تعليق السيف فى العنق.
53 - باب الْفَرَسِ الْقَطُوفِ
723 / - فيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، رَكِبَ فَرَسًا لأبِى طَلْحَةَ كَانَ يَقْطِفُ، فَلَمَّا رَجَعَ، قَالَ: (وَجَدْنَا بَحْرًا، فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ لا يُجَارَى) .(5/70)
يقال: قطفت الدابة: أبطأت السير مع تقارب الخطو فهى قطوف. وفيه أن الإمام لا بأس أن يركب دون الدواب ليروضها ويؤدبها حتى تمرن على دابته، وذلك من التواضع. وفيه بركة النبى؛ لأن ركوبه الفرس أزال عنه اسم البطء والقطاف، وصار لا يجارى بعد ذلك لشدة سرعته، فهذه من علامات النبوة.
54 - باب السَّبْقِ بَيْنَ الْخَيْلِ
724 / - فيه: ابْن عُمَرَ، أَجْرَى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مَا ضُمِّرَ مِنَ الْخَيْلِ مِنَ الْحَفْيَاءِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ، وَأَجْرَى مَا لَمْ يُضَمَّرْ مِنَ الثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِى زُرَيْقٍ، وَكُنْتُ فِيمَنْ أَجْرَى. قَالَ سُفْيَانُ: بَيْنَ الْحَفْيَاءِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ خَمْسَةُ أَمْيَالٍ أَوْ سِتَّةٌ، وَبَيْنَ الثَنِيَّةَ إِلَى مَسْجِدِ بَنِى زُرَيْقٍ مِيلٌ. وترجم له باب: (غاية السبق للخيل المضمرة) . وقال ابن عقبة: ستة أميال أو سبعة. قال المؤلف: جعل بعض الناس المسابقة بين الخيل سنة، وجعلها بعضهم إباحة، والإضمار للخيل أن يدخل الفرس فى البيت يجلل عليه بجل ليكثر عرقه وينتقص من علفه لينقص لحمه فيكون أقوى على الجري. وفيه جواز المسابقة بين الخيل وذلك ممن خص وخرج من باب القمار بالسنة، وكذلك هو خارج من تعذيب البهائم؛ لأن الحاجة إليها تدعو إلى تأديبها وتدريبها.(5/71)
وفيه تجويع البهائم على وجه الصلاح عند الحاجة إلى ذلك. وفيه أن المسابقة بين الخيل يجب أن يكون أمرها معلومًا، وأن تكون الخيل متساوية الأحوال أو متقاربة، وألا يسابق المضمر مع غير المضمر، وهذا إجماع من العلماء؛ لأن صبر الفرس المضمر المجوع فى الجرى أكثر من صبر المعلوف فلذلك جعلت غاية المضمرة ستة أميال أو سبعة، وجعلت غاية المعلوفة ميلا واحدًا. واختلف العلماء فى صفة المسابقة، فقال سعيد بن المسيب: ليس برهان بأس إذا أدخل فيها محلل لا يأمنان أن تسبق؛ فإن سبق أخذ السبق وإن سبق لم يكن عليه شيء. وبهذا قال الزهرى والأوزاعى والشافعى وأحمد وإسحاق قالوا: إذا دخل فرس بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار لا يجوز. وقال مالك: ليس عليه العمل. وفسر العلماء قول سعيد أن معنى دخول المحلل بينهم للخروج عن معنى القمار المحرم فيجعل عنده كل واحد من المتراهنين سيفًا، فمن سبق منهما أخذ السيفين جميعًا، وكذلك إن سبق المحلل أخذهما وإن سبق لم يؤخذ منه شيء، ولا يقول مالك بالسبق، فالمحلل إنما يجوز عنده أن يجعل الرجل سيفه ولا يرجع إليه بكل حال كسبق الإمام، فمن سبق كان له وإن أجرى جاعل السبق معهم فسبق هو كان للمصلى وهو الذى يليه إن كانت خيلا كثير، وإن كانا فرسين فسبق جاعل السبق فهو طعمة لمن حضر، وإن سبق الآخر أخذه، وهو قول ربيعة وابن القاسم. وروى ابن وهب عن مالك أنه أجاز أن يشترط واضع السبق إن سبق أخذ السبق، وإم سبق هذا أخذ سبقه وبه أخذ أصبغ وابن وهب.(5/72)
قال ابن المواز: وكراهة مالك المحلل إنما هو على قوله: إنه يجب إخراج السبق بكل حال، وهو قول ابن المسيب وابن شهاب. وقال أبو حنيفة والثورى والشافعى: الأسباق على ملك أربابها وهم فيها على شروطهم، ولا يجوز أن يملك السبق إلا بالشرط المشروط فيه وإن لم يكن ذلك انصرف السبق إلى من جعله. وقال محمد بن الحسن وأصحابه: إذا جعل السبق واحد فقال: إن تسبقنى فلك كذا، ولم يقل: إن سبقتك فعليك كذا، فلا بأس به، ويكره أن يقول: إن سبقتك فعليك كذا، وإن سبقتنى فعلى كذا، هذا لا خير فيه. وإن قال رجل غيرهما: أيكما سبق فله كذا. فلا بأس به، وإن كان بينهما محلل إن سبق لم يغرم، وإن سبق أخذ فلا بأس به، وذلك إذا كان يسبق ويسبق. قالوا: وما عدا هذه الأشياء فهو قمار.
55 - باب إِضْمَارِ الْخَيْلِ لِلسَّبْقِ
725 / فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِى لَمْ تُضَمَّرْ، وَكَانَ أَمَدُهَا مِنَ الثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِى زُرَيْقٍ، وَأَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ سَابَقَ بِهَا. إن قال قائل: كيف ترجم البخارى باب (إضمار الخيل للسبق) وذكر أن الرسول سابق بين الخيل التى لم تضمر؟ فالجواب: أنه إنما أشار بطرف من الحديث إلى بقيته وأحال على سائره؛ لأن تمام الحديث (أن الرسول سابق بين الخيل التى ضمرت وبين الخيل التى لم تضمر) وذلك موجود فى حديث واحد، فلا حرج عليه فى ثبوته.(5/73)
56 - باب نَاقَةِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم)
الْقَصْوَاءُ، وَالْعَضْبَاءُ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَرْدَفَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أُسَامَةَ عَلَى الْقَصْوَاءِ. وَقَالَ الْمِسْوَرُ: قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (مَا خَلأتِ الْقَصْوَاءُ) . 1726 / فيه: البراء، كَانَ لِلنَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، نَاقَةٌ يُقال لها: الْعَضْبَاءَ، لا تُسْبَقُ - أَوْ لا تَكَادُ تُسْبَقُ - فَجَاءَ أَعْرَابِىٌّ عَلَى قَعُودٍ فَسَبَقَهَا، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَتَّى عَرَفَهُ، فَقَالَ: (حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ لا يَرْفَعَ شَىْءٌ مِنَ الدُّنْيَا إِلا وَضَعَهُ) . فيه اتخاذ الأمراء والأئمة الإبل للركوب، وفيه جواز الارتداف للعلماء والصالحين، وفيه التزهيد فى الدنيا والتقليل [. . . .] لإخباره أن كل شيء يرتفع من الدنيا يحق على الله أن يضعه وبهذا نطق القرآن، قال تعالى: (قل متاع الدنيا قليل (وما وصفه أنه قليل فقد وضعه وصغره، وقال تعالى تسلية عن متاع الدنيا: (والآخرة خير لمن اتقى (وقال: (وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا (إرشادًا لعباده وتنبيهًا لهم على طلب الأفضل. والقصواء من النوق التى فى أذنها حذف، يقال منه: ناقة قصواء وبعير مقصو ولا يقال: بعير أقصى. وذكر الأصمعى فى الناقة أنه يقال منها: قصوة. وقال صاحب العين: ناقة عضباء مشقوقة الأذن، وشاه عضباء مكسورة القرن، وقد عضبت عضبًا، والعضب: القطع، ومنه قيل للسيف القاطع: عضب، وقد عضب يعضب إذا قطع. والقعود: الجمل المسن.(5/74)
57 - باب بَغْلَةِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم)
، الْبَيْضَاءِ وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: أَهْدَى مَلِكُ أَيْلَةَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) بَغْلَةً بَيْضَاءَ. 1727 / فيه: عَمْرَو بْنَ الْحَارِثِ، مَا تَرَكَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِلا بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ وَسِلاحَهُ وَأَرْضًا تَرَكَهَا صَدَقَةً. 1728 / وفيه: الْبَرَاءِ، مَا وَلَّى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَلَكِنْ وَلَّى سَرَعَانُ النَّاسِ، وَالنَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ. . . . . الحديث. وفيه جواز ركوب الأمراء والعلماء البغال والدواب، وأن ذلك من المباح وليس من السرف؛ لأن الإمام يلزمه التصرف والتعاهد لأمور رعيته والجهاد بنفسه والنظر فى مصالح المسلمين، وكذلك له أن يتخذ السلاح وكل ما به إليه حاجة من الآلات والقوت لأهله من الخمس.
58 - باب جِهَادِ المرأة
729 / فيه: عَائِشَةَ، اسْتَأْذَنْتُ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، فِى الْجِهَادِ، فَقَالَ: (جِهَادُكُنَّ الْحَجُّ) . وَقَالَ مرة: (نِعْمَ الْجِهَادُ الْحَجُّ) . هذا الحديث يدل على أن النساء لا جهاد عليهن واجب، وأنهن غير داخلات فى قوله: (انفروا خفافًا وثقالا (وهذا إجماع من العلماء وليس فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (جهادكن الحج) دليل أنه ليس لهن أن يتطوعن بالجهاد وإنما فيه أنه الأفضل لهن، وإنما كان الحج أفضل لهن من الجهاد؛ لأنهن لسن من أهل القتال للعدو ولا قدرة لهن عليه ولا قيام به، وليس للمرأة أفضل من الاستتار وترك المباشرة(5/75)
للرجال بغير قتال، فكيف فى حال القتال التى هى أصعب؟ والحج يمكنهن فيه مجانبة الرجال والاستتار عنهم؛ فلذلك كان أفضل لهن من الجهاد، والله أعلم.
59 - باب غَزْوِ النساء فِى الْبَحْرِ
730 / فيه: أَنَس، دَخَلَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) عَلَى ابْنَةِ مِلْحَانَ، فَاتَّكَأَ عِنْدَهَا، ثُمَّ ضَحِكَ، فَقَالَ: نَاسٌ مِنْ أُمَّتِى عرضوا علىّ يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ الأخْضَرَ فَقَالَتْ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِى مِنْهُمْ، فركبت. . . . . الحديث. فيه جواز جهاد النساء فى البحر، وقد تقدم القول فى هذا الحديث فى غير موضع.
60 - باب حَمْلِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ فِى الْغَزْوِ دُونَ بَعْضِ نِسَائِهِ
731 / فيه: عَائِشَةَ، كَانَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) إِذَا أَرَادَ سفرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِى غَزْوَةٍ غَزَاهَا، فَخَرَجَ فِيهَا سَهْمِى، فَخَرَجْتُ مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بَعْدَ مَا نزِلَ الْحِجَابُ. هذه الترجمة لا تصح إلا بذكر القرعة فيها؛ لأن العدل بين النساء فريضة، فلو خرج بواحدة من أزواجه دون قرعة لم يكن ذلك عدلا بينهن وكان ميلا، فكانت القرعة فضلا فى ذلك يرجع إليه كما يحكم بالقرعة فى كثير مما يشكل أمره من أمور الشريعة.(5/76)
61 - باب غَزْوِ النِّسَاءِ وَقِتَالِهِنَّ مَعَ الرِّجَالِ
732 / فيه: أَنَس، لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمَ النَّاسُ عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ، وَأُمَّ سُلَيْمٍ، وَإِنَّهُمَا لَمُشَمِّرَتَانِ أَرَى خَدَمَ سُوقِهِمَا تَنْقُزَانِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: تَنْقُلانِ الْقِرَبَ عَلَى مُتُونِهِمَا، ثُمَّ تُفْرِغَانِهِ فِى أَفْوَاهِ الْقَوْمِ. قد تقدم أن النساء لا غزو عليهن، وإنما غزوهن تطوع وفضيلة وعونهن للغزاة بسقى، وسقيهن وتشميرهن هو ضرب من القتال؛ لأن العون على الشيء ضرب منه، وقد روى عن أم سليم أنها كانت تسبق الشجعان فى الجهاد، وثبتت يوم حنين والأقدام قد زلت، والصفوف قد انتقضت والمنايا قد فغرت، والتفت إليها النبى (صلى الله عليه وسلم) وفى يدها خنجر فقالت: يا رسول الله، اقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك كما تقتل هؤلاء الذين يحاربونك، [. . .] بشر منهم) وروى معمر، عن الزهرى قال: كان النساء يشهدن المشاهد مع رسول الله ويسقين المقاتلة ويداوين الجراح، ولم أسمع بامرأة قاتلت معه، وقد قاتل نساء من قريش يوم اليرموك حتى دهمتهم جموع الروم وخالطوا عسكر المسلمين فضربت النساء يومئذ بالسيوف، وذلك فى خلافة عمر. واختلفوا فى المرأة يسهم لها، فقال الأوزاعى: يسهم للنساء وقد أسهم رسول الله بحنين وأخذ المسلمون بذلك. وقال الثورى والكوفيون والليث والشافعى: لا يسهم للنساء ولكن يرضخ لهن، واحتجوا بكتاب ابن عباس إلى نجدة أن النساء كن يحضرن فيداوين من المرضى ويحذين من الغنيمة فى الغزو، قال: ما سمعت ذلك. وقول مالك أصح؛ لأن النساء لا جهاد عليهن وإنما يجب السهم(5/77)
والرضخ لمن كان مقاتلا أورد إليهم، و [. . . . .] النساء لا غناء لهن ولا نكاية للعدو فيهن، فأما إذا قاتلت امرأة وكان لها غناء وعون فلو أسهم لها لكان صوابا؛ لأن السهم إنما جعله الله لأهل الجيش بقتالهم العدو ودفعهم عن المسلمين فمن وجدت هذه الصفة فيه فهو مستحق للسهم، سواء كان رجلا أو امرأة، وإنما خرج جوابا للعالم فى هذه المسألة على أنه لا سهم للنساء للغالب من حالهن، فإن من يقاتل فيهن لا يكاد يوجد، والله أعلم. قال صاحب العين: الخدم سير كالحلقة يشد فى رسغ البعير، ثم تشتد إليه سرائح نعلها، والمخدم: موضع ذلك السير، والخدمة: الخلخال. وقال أبو عبيد: الخدام الخلاخيل واحدها: خدمة، وفى كتاب العين: النقز والنقزان: الوثبان، والنواقز: القوائم.
62 - باب حَمْلِ النِّسَاءِ الْقِرَبَ إِلَى النَّاسِ فِى الْغَزْوِ
733 / - وفيه: ثَعْلَبَةُ بْنُ أَبِى مَالِكٍ، أَنَّ عُمَرَ قَسَمَ مُرُوطًا بَيْنَ نِسَاءٍ فِى الْمَدِينَةِ، فَبَقِىَ مِرْطٌ جَيِّدٌ، فَقَالَ بَعْضُ مَنْ عِنْدَهُ: أَعْطِه ابْنَةَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) الَّتِى عِنْدَكَ - يُرِيدُونَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عَلِىٍّ - فَقَالَ عُمَرُ: أُمُّ سَلِيطٍ أَحَقُّ - امرأة مِنْ نِسَاءِ الأنْصَارِ مِمَّنْ بَايَعَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) - فكَانَتْ تَزْفِرُ لَنَا الْقِرَبَ يَوْمَ أُحُدٍ. قال المهلب: فيه دليل على أن الأولى بالنبى من أتباعه أهل(5/78)
السابقة إليه والنصرة له، لا يستحق أحد ولايته ببنوة ولا بقرابة إذا لم يقارنها الإسلام، ثم إذا قارنها الإسلام تفاضل أهله بالسابقة والنصرة من المعونة بالمال والنفس، ألا ترى أن عمر جعل أم سليط أحق بالقسمة لها من المروط من حفيدة رسول الله بالبنوة لتقدم أم سليط بالإسلام والنصرة والتأييد وهو معنى قوله تعالى: (لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل (وكذلك يجب أن لا تستحق الخلافة بعده ببنوة ولا بقرابة، وإنما تستحق بما ذكره الله من السابقة والإنفاق والمقاتلة. وفيه الإشارة بالرأى على الإمام، وإنما ذلك للوزير والكاتب وأهل الصحبة والبطانة له، ليس ذلك لغيرهم، إلا أن يكون من أهل العلم والبروز فى الإمامة فله الإشارة على الإمام وغيره. وقوله: (تزفر لنا القرب) يعنى: تحمل، قال صاحب العين والأفعال: زفر بالحمل زفرًا: نهض به، والزفر: القربة، والزوافر: الإماء يحملن القرب.
63 - باب مُدَاوَاةِ النِّسَاءِ الْجَرْحَى فِى الْغَزْوِ
734 / فيه: الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ، كُنَّا مَعَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) نَسْقِى، وَنُدَاوِى، الْجَرْحَى وَنَرُدُّ الْقَتْلَى إِلَى الْمَدِينَةِ. وترجم له باب: (رد النساء القتلى) . قال المهلب: فيه مباشرة المرأة غير ذى محرم منها فى المداواة وما شاكلها من إلطاف المرضى ونقل الموتى.(5/79)
فإن قيل: كيف جاز أن يباشر النساء الجرحى وهم غير ذوى محارم منهن؟ فالجواب: أنه يجوز ذلك للمتجالات منهن؛ لأن موضع الجرح لا يلتذ بلمسه، بل تقشعر منه الجلود، وتهابه النفوس، ولمسه عذاب للامس والملموس، وأما غير المتجالات منهن فيعالجن الجرحى بغير مباشرة منهن لهم، بأن يصنعن الدواء ويضعه غيرهن على الجرح، ولا يمسسن شيئًا من جسده. قال غيره: والدليل على صحة هذا التأويل أنى لم أجد أحدًا من سلف العلماء يقول فى المرأة تموت مع الرجال أو الرجل يموت مع النساء غير ذوى المحارم لا يحضر ذلك غيرهم أن أحدًا منهما يغسل صاحبه دون حائل وثوب يستره. وقال الحسن البصرى: يصب عليها من فوق الثياب وهو قول النخعى وقتادة والزهرى وبه قال إسحاق. وقالت طائفة: تيمم بالصعيد، روى ذلك عن سعيد بن المسيب والنخعى أيضًا، وبه قال مالك والكوفيون وأحمد، وقال الأوزاعى: تدفن كما هى ولا تيمم. وهذا يدل من قولهم أنه لا يجوز عندهم مباشرة غير ذوى المحارم؛ لأن حالة الموت أبعد من التسبب إلى دواعى اللذة والذريعة إليها من حال الحياة، فلما اتفقوا أنه لا يجوز للأجنبى غسل الأجنبية الميتة مباشرًا لها دون ثوب يسترها، دل بأن مباشرة الأحياء الأحس أولى بأن لا يجوز، والله أعلم.(5/80)
64 - باب نَزْعِ السَّهْمِ مِنَ الْبَدَنِ
735 / - فيه: أَبُو مُوسَى، رُمِىَ أَبُو عَامِرٍ فِى رُكْبَتِهِ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: انْزِعْ هَذَا السَّهْمَ، فَنَزَعْتُهُ، فَنَزَا مِنْهُ الْمَاءُ، فَدَخَلْتُ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِى عَامِرٍ. قال المهلب: فيه جواز نزع السهام من البدن وإن خشى بنزعها الموت، وكذلك البط والكى وما شاكله، يجوز للمرء أن يفعله رجاء الانتفاع بذلك، وإن كان فى غبها خشية الموت، وليس من صنع ذلك بملق نفسه للتهلكة؛ لأنه بين الخوف والرجاء. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (اللهم اغفر لعبيد أبى عامر) إنما دعا له؛ لأنه علم أنه ميت من ذلك السهم. وقوله: (نزا منه الماء) . قال صاحب العين: نزا ينزو نزوًا ونزوانًا وينزى: إذا وثب. وقال أبو زيد: النزاء والنفار داء يأخذ النساء فتنزوا منه وتنفر حتى تموت، وسيأتى زيادة فى شرح هذه الكلمة بعد هذا إن شاء.
65 - باب الْحِرَاسَةِ فِى الْغَزْوِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ
736 / فيه: عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، سَهِرَ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ، قَالَ: (لَيْتَ رَجُلا مِنْ أَصْحَابِى صَالِحًا يَحْرُسُنِى اللَّيْلَةَ) ؛ إِذْ سَمِعْنَا صَوْتَ(5/81)
سِلاحٍ، فَقَالَ: (مَنْ هَذَا) ؟ فَقَالَ: أَنَا سَعْدُ بْنُ أَبِى وَقَّاصٍ، جِئْتُ لأحْرُسَكَ، وَنَامَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) . 1737 / وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمِ، وَالْقَطِيفَةِ، وَالْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِىَ رَضِىَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلا انْتَقَشَ، طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ فِى الْحِرَاسَةِ كَانَ فِى الْحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِى السَّاقَةِ، كَانَ فِى السَّاقَةِ، إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ) . قال المهلب: فيه التزام السلطان للحذر والخوف على نفسه فى الحضر والسفر؛ ألا ترى فعل الرسول مع ما عرفه الله أنه سيكمل به دينه، ويعلى به كلمته، التزم الحذر خوف فتك الفاتك، وأذى المؤذى بالعداوة فى الدين، والحسد فى الدنيا. وفيه أن على الناس أن يحرسوا سلطانهم ويتخفوا به خشية الفتك وانخرام الأمر. وفيه أنه من تبرع بشىء من الخير أنه يسمى صالحًا؛ لقوله: (ليت رجلا صالحًا) أى: (يبعثه) صالحة على حراسة سلطانه فكيف بنبيه؟ . وفيه دليل أن هذا كان قبل أن ينزل عليه: (والله يعصمك من الناس (وقَبل لأن ينزل عليه: (إنا كفيناك المستهزئين (لأنه قد جاء فى الحديث أنه لما نزلت هذه الآية ترك الاحتراس بالليل.(5/82)
وفيه أنه متى سمع الإنسان حس سلاح بالليل أن يقول: من هذا؟ ويعلم أنه ساهر لئلا يطمع فيه أهل الطلب للغرة والغفلة؛ فإذا علم أنه مستيقظ ردعهم بذلك. وقوله: (تعس عبد الدينار والدرهم) يعنى: إن طلب ذلك، وقد استعبده وصار عمله كله فى طلب الدينار والدرهم كالعبادة لهما. وقوله: (إن أعطى رضي) أى: وإن أعطى ما له عمل رضى عن معطيه وهو خالقه عز وجل، وإن لم يعط سخط ما قدر له خالقه ويسر له من رزقه، فصح بهذا أنه عبد فى طلب هذين، فوجب الدعاء عليه بالتعس؛ لأنه أوقف عمله على متاع الدنيا الفانى وترك العمل لنعيم الآخرة الباقي. والتعس: ألا ينتعش ولا يفيق من عثرته، وانتكس أى: عاوده المرض كما بدأه، هذا قول الخليل. وقال ابن الأنبارى: التعس: الشر، قال تعالى: (فتعسًا لهم (أراد ألزمهم الله الشر. هذا قول المبرد. وقال غيره: التعس: البعد. وقال الرستمى: التعس أن يخر على وجهه، والنكس أن يخر على رأسه، قال: والتعس أيضًا: الهلاك. ثم أكد الدعاء عليه بقوله: (وإذا شيك فلا انتقش) أى: إذا أصابته شوكة فلا أخرجها بمنقاشها، فيمتنع السعى للدينار والدرهم، ثم حض على الجهاد فقال: (طوبى لعبد ممسك بعنان فرسه) إلى آخر الحديث فجمع فى هذا الحديث مدح من العمل: خير الدنيا والآخرة لقوله: (الخيل معقود فى نواصيها الخير) الأجر: والغنيمة: ونعيم الآخرة بقوله: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم (الآية.(5/83)
وفيه ترك حب الرياسة والشهرة، وفضل الخمول ولزوم التواضع لله بأن يجهل المؤمن فى الدنيا ولا تعرف عينه فيشار إليه بالأصابع، وبهذا أوصى (صلى الله عليه وسلم) ابن عمر فقال له: (يا عبد الله، كن فى الدنيا كأنك غريب) والغريب مجهول العين فى الأغلب فلا يؤبه لصلاحه فيكرم من أجله ويبجل، فمن لزم هذه الطريقة كان حريًا إن استأذن ألا يؤذن له، وإن شفع ألا يشفع.
66 - باب فَضْلِ الْخِدْمَةِ فِى الْغَزْوِ
738 / فيه: أَنَس، صَحِبْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِاللَّهِ، فَكَانَ يَخْدُمُنِى، وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ أَنَسٍ، قَالَ جَرِيرٌ: إِنِّى رَأَيْتُ الأنْصَارَ يَصْنَعُونَ شَيْئًا بالنَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) لا أَجِدُ أَحَدًا مِنْهُمْ إِلا أَكْرَمْتُهُ. 1739 / وفيه: أَنَس، خَرَجْتُ مَعَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، إِلَى خَيْبَرَ أَخْدُمُهُ، وَقَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَكْثَرُنَا ظِلا الَّذِى يَسْتَظِلُّ بِكِسَائِهِ، وَأَمَّا الَّذِينَ صَامُوا فَلَمْ يَعْمَلُوا شَيْئًا، وَأَمَّا الَّذِينَ أَفْطَرُوا فَبَعَثُوا الرِّكَابَ وَامْتَهَنُوا وَعَالَجُوا، فَقَالَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) : (ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالأجْرِ) . قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: فيه أن أجر الخدمة فى الغزو أعظم من أجر الصيام؛ إذا كان المفطر أقوى على الجهاد وطلب العلم وسائر الأعمال الفاضلة من معونة ضعيف أو حمل ما بالمسلمين إلى حمله حاجة. وفيه: أن التعاون فى الجهاد والتفاضل فى الخدمة من حل وترحال واجب على جميع المجاهدين. وفيه: جواز خدمة الكبير للصغير إذا رعى له شرفًا فى قومه أو فى(5/84)
نفسه أو نجابة فى علم أو دين أو شبهه، وأما فى الغزو فالخادم المحتسب أفضل أجرًا من المخدوم الحسيب.
67 - باب فَضْلِ مَنْ حَمَلَ مَتَاعَ صَاحِبِهِ فِى السَّفَرِ
740 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (كُلُّ سُلامَى عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ، يُعِينُ الرَّجُلَ فِى دَابَّتِهِ يُحَامِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ وَكُلُّ خَطْوَةٍ يَمْشِيهَا إِلَى الصَّلاةِ صَدَقَةٌ، وَدَلُّ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ) . قال المؤلف: السلامى عظام الأصابع والأكارع، عن صاحب (العين) وليس ما ذكر فى هذا الحديث أنه صدقة على الإنسان تجب عليه فرضًا، وإنما هو عليه من باب الحض والندب، كما أمر الله تعالى المؤمنين بالتعاون والتناصر وقال: (وتعاونوا على البر والتقوى (وقال (صلى الله عليه وسلم) : (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا) (والله فى عون العبد ما دام العبد فى عون أخيه) ، فهذه كلها وما شاكلها من حقوق المسلمين بعضهم على بعض مندوب إليها مرغب فيها. ذكر عبد الرزاق، عن معمر، عن يحيى بن أبى كثير، عن رجل ذكره، عن عائشة، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (إن فى الإنسان ثلاثمائة وستين مفصلا؛ فمن كبر الله وحمد الله وهلل الله عددها فى يوم أمسى وقد زحزح عن النار) والمراد بحديث أبى هريرة أن الحامل فى السفر لمتاع غيره إنما معناه أن الدابة للمُعان فيؤجر الرجل(5/85)
على عونه لصاحبها فى ركوبها أو فى رفع متاعه عليها، وقد جاء هذا الحديث بينًا بهذا المعنى بعد هذا، وترجم له: (من أخذ بالركاب ونحوه) وقال فى الحديث: (ويعين الرجال على دابته فيحمل عليها ويرفع عليها متاعه) . فدل قوله: من أخذ بالركاب ونحوه. أنه أراد لدابة غيره وإذا أجر من فعل ذلك بدابة غيره أجر إذا حمل على دابة نفسه أكثر، والله الموفق.
68 - باب فَضْلِ رِبَاطِ يَوْمٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (اصْبِرُوا وَصَابِرُوا (الآية [آل عمران: 200]
741 / - فيه: سَهْل، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (رِبَاطُ يَوْمٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فيها، وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فيها. . . . .) الحديث. قال المهلب: إنما صار رباط يوم فى سبيل الله خير من الدنيا وما فيها؛ لأنه عمل يؤدى إلى الجنة، وصار موضع سوط فى الجنة خير من الدنيا وما فيها من أجل أن الدنيا فانية وكل شيء فى الجنة وإن صغر فى التمثيل لنا وليس فيها صغير فهو أدوم وأبقى من الدنيا الفانية المنقطعة فكان الدائم الباقى خيرًا من المنقطع. وقوله تعالى: (اصبروا وصابروا (اختلف فيها أهل التأويل فقال زيد: اصبروا على الجهاد، وصابروا العدو، ورابطوا الخيل على العدو. وعن الحسن وقتادة: اصبروا على طاعة الله، وصابروا(5/86)
أعداء الله، ورابطوا فى سبيل الله. وعن الحسن أيضًا: اصبروا على المصائب، وصابروا على الصلوات الخمس. قال محمد بن كعب: اصبروا على دينكم، وصابروا لوعدى الذى وعدتكم عليه، ورابطوا عدوى وعدوكم حتى يترك دينه لدينكم، واتقوا الله فيما بينى وبينكم لعلكم تفلحون غدًا إذا لقيتموني. وعن أبى سلمة: رابطوا على الصلوات أى: انتظروها.
69 - باب مَنْ غَزَا بِصَبِىٍّ لِلْخِدْمَةِ
742 / فيه: أَنَس، قَالَ النَّبِيّ، (صلى الله عليه وسلم) ، لأبِى طَلْحَةَ: (الْتَمِسْ لى غُلامًا مِنْ غِلْمَانِكُمْ يَخْدُمُنِى حَتَّى أَخْرُجَ إِلَى خَيْبَرَ) ، فَخَرَجَ بِى أَبُو طَلْحَةَ مُرْدِفِى، وَأَنَا غُلامٌ رَاهَقْتُ الْحُلُمَ، فَكُنْتُ أَخْدُمُ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، إِذَا نَزَلَ، فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ كَثِيرًا، يَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ. . . . . .) الحديث. قال أبو عبد الله: فى حديث أنس: (خرج بى أبو طلحة وأنا غلام راهقت الحلم) وفى طريق آخر: (وأنا ابن عشر سنين) . وكذلك فى حديث ابن عباس: (ناهزت الحلم) . وفى طريق آخر: (توفى رسول الله وأنا ابن عشر سنين، وقد حفظت المحكم الذى يدعونه المفصل) فسمى أنس وابن عباس ابن عشر سنين مراهقًا. وفيه: جواز الاستخدام لليتامى بشبعهم وكسوتهم. وفيه: دليل على جواز الاستخدام بغير نفقة ولا كسوة إذا كان خدمة(5/87)
عالم أو إمام فى الدين؛ لأنه لم يذكر فى حديث أنس أن له أجر الخدمة وإن كان قد يجوز أن تكون نفقته من عند النبى، واما الأجرة فلم يذكرها أنس فى حديثه ولا ذكرها أحد عن النبى ولا عن أبى طلحة ولا عن أم سلمة، وهما اللذان أتيا به إلى الرسول وأسلماه لخدمته ولم يشترطا أجرة ولا نفقة ولا غيرها، فجائز على اليتيم إسلام أمه ووصيه وذى الرأى من أهله فى الصناعات واستئجاره فى المهنة وذلك لازم له ومنعقد عليه، وفيه جواز حمل الصبيان فى الغزو وقوله: (يحوى لها وراءه) فالحوية مركب يهيأ للمرأة، من كتاب العين
70 - باب رُكُوبِ الْبَحْرِ
743 / - فيه: أَنَس، حَدَّثَتْنِى أُمُّ حَرَامٍ أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، نام يَوْمًا فِى بَيْتِهَا، فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ، قَالَ: (عَجِبْتُ مِنْ قَوْمٍ مِنْ أُمَّتِى يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ كَالْمُلُوكِ عَلَى الأسِرَّةِ. . . . .) الحديث. فيه جواز ركوب البحر للجهاد وإذا جاز ركوبه للجهاد فهو للحج أجوز وهذا الحديث يرد أحد قولى الشافعى أنه من لم يكن له طريق إلى الحج إلا على البحر سقط عنه فرض الحج، وقال مالك وأبو حنيفة: يلزمه الحج على ما يقتضيه دليل هذا الحديث، إلا أن مالكًا يكره للمرأة الحج فى البحر وهو للجهاد أكره، وإنما كره ذلك؛ لأن المرأة لا تكاد تستتر عن الرجال ولا يستترون عنها، ونظرها إلى عورات الرجال ونظرهم إليها حرام، فلم ير لها استباحة فضيلة ولا أداء فريضة بمواقعة محرم.(5/88)
وذكر مالك أن عمر بن الخطاب كان يمنع الناس من ركوب البحر فلم يركبه أحد طول حياته، فلما مات استأذن معاوية عثمان بن عفان فى ركوبه؛ فأذن له فلم يزل يركب حتى كان عمر بن عبد العزيز فمنع من ركوبه، ثم ركب بعده إلى الآن. ولا حجة لم منع ركوبه؛ لأن السنة قد أباحت ركوبه فى الجهاد للرجال والنساء فى حديث أنس وغيره وهى الحجة فيها الأسوة، وقد ذكر أبو عبيد أن النبى (صلى الله عليه وسلم) نهى عن ركوب البحر فى وقت ارتجاجه وصعوبته قال: حدثناه عباد بن عباد، عن أبى عمران الجونى، عن زهير بن عبد الله يرفعه أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (من ركب البحر إذا التج أو قال: ارتج فقد برئت منه الذمة أو قال: فلا يلومن إلا نفسه) قال أبو عبيد: وأكبر ظنى أنه قال: (التج) باللام. فدل هذا الحديث أن ركوبه مباح فى غير وقت ارتجاجه وصعوبته فى كل شيء فى التجارة وغيرها، وسيأتى فى كتاب البيوع فى (باب التجارة فى البحر) زيادة فى هذا المعنى إن شاء الله ولم يفسر أيو عبيد قوله: (برئت منه الذمة) ومعناه إن شاء الله -: فقد برئت منه ذمة الحفظ؛ لأنه ألقى بيده إلى التهلكة وغرر بنفسه، ولم يرد فقد برئت منه ذمة الإسلام؛ لأنه لا يبرأ أحد من الإسلام إلا بالكفر.(5/89)
71 - باب مَنِ اسْتَعَانَ بِالضُّعَفَاءِ وَالصَّالِحِينَ فِى الْحَرْبِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَخْبَرَنِى أَبُو سُفْيَانَ، قَالَ لِى قَيْصَرُ: سَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَزَعَمْتَ ضُعَفَاءَهُمْ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ. 1744 / فيه: سَعْد، أَنَّهُ رَأَى فَضْلا له عَلَى مَنْ دُونَهُ، فَقَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلا بِضُعَفَائِكُمْ) . 1745 / وفيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ الرسول، (صلى الله عليه وسلم) : (يَأْتِى زَمَانٌ يَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ، فَيُقَالُ: فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) ؟ فَيُقَالُ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ عَلَيْهِم، ثُمَّ يَأْتِى زَمَانٌ، فَيُقَالُ: فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ أَصْحَابَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ؟ فَيُقَالُ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ، ثُمَّ يَأْتِى زَمَانٌ، فَيُقَالُ: فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ صَاحِبَ أَصْحَابِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ؟ فَيُقَالُ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ) . قال المؤلف: ذكر النسائى زيادة فى حديث سعد يبين بها معناه فيقال فيه: (هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم بصومهم وصلاتهم ودعائهم) وتأويل ذلك أن عبادة الضعفاء ودعاءهم أشد إخلاصًا وأكثر خشوعًا؛ لخلاء قلوبهم من التعلق بزخرف الدنيا وزينتها وصفاء ضمائرهم مما يقطعهم عن الله فجعلوا همهم واحدًا؛ فزكت أعمالهم، وأجيب دعاؤهم قال المهلب: إنما أراد (صلى الله عليه وسلم) بهذا القول لسعد الحض على التواضع ونفى الكبر والزهو عن قلوب المؤمنين. ففيه من الفقه أن من زها على ما هو دونه أنه ينبغى أن يبين من(5/90)
فضله ما يحدث له فى نفس المزهو مقدارًا أو فضلا حتى لا يحتقر أحدًا من المسلمين؛ ألا ترى أن الرسول أبان من حال الضعفاء ما ليس لأهل القوة والغناء فأخبر أن بدعائهم وصلاتهم وصومهم ينصرون. وذكر عبد الرزاق، عن مكحول أن سعد بن أبى وقاص قال: (يا رسول الله، أرأيت رجلا يكون حامية القوم ويدفع عن أصحابه ليكون نصيبه كنصيب غيره؟ فقال النبى (صلى الله عليه وسلم) -: ثكلتك أمك يا ابن أم سعد، وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم) . فيمكن أن يكون هذا المعنى الذى لم يذكره البخارى فى حديث سعد الذى رأى به الفضل لنفسه على من دونه والله أعلم وحديث أبى سعيد يشهد لصحته، ويوافق معناه قوله (صلى الله عليه وسلم) : (خيركم قرنى ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) لأنه يفتح لهم لفضلهم، ثم يفتح للتابعين لفضلهم، ثم يفتح لتابعيهم لفضلهم، وأوجب الفضل لثلاثة القرون ولم يذكر الرابع ولم يذكر فضلا فالنصر فيهم أقل، والله أعلم. وقال صاحب العين: الفئام: الجماعة من الناس وغيرهم.
72 - باب لا يقال فُلانٌ شَهِيدٌ
وَقَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِى سَبِيلِهِ) . 1746 / فيه: سَهْل، الْتَقَى النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَالْمُشْرِكُونَ، فَاقْتَتَلُوا، وَفِى أَصْحَابِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) رَجُلٌ لا يَدَعُ لَهُمْ شَاذَّةً وَلا فَاذَّةً إِلا اتَّبَعَهَا يَضْرِبُهَا بِسَيْفِهِ، فَقَالَ: مَا أَجْزَأَ مِنَّا الْيَوْمَ كَمَا أَجْزَأَ فُلانٌ، فَقَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : ((5/91)
أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ) ، فاتبعه رَجُلٌ كُلَّمَا وَقَفَ، وَقَفَ مَعَهُ، وَإِذَا أَسْرَعَ أَسْرَعَ مَعَهُ، قَالَ: فَجُرِحَ الرَّجُلُ جُرْحًا شَدِيدًا، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالأرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ الرسول: (وَمَا ذَاكَ) ؟ فأخبره، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: (إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ) . قال المهلب: فى هذا الحديث ضد ما ترجم له البخارى، أنه لا يقال: فلان شهيد، ثم أدخل هذا الحديث وليس فيه من معنى الشهادة شيء وإنما فيه ضدها والمعنى الذى ترجم به قولهم: ما أجزأ أحد ما أجزأ فلان فمدحوا جزاءه وغناءه، ففهم الرسول منهم أنهم قضوا له بالجنة فى نفوسهم بغناءه ذلك، فأوحى إليه بغيب مآل أمره لئلا يشهدوا لحى بشهادة قاطعة عند الله ولا لميت، كما قال رسول الله فى عثمان بن مظعون: (والله ما أدرى وأنا رسول الله ما يفعل به) وكذلك لا يعلم شيئًا من الوحى حتى يوحى إليه به ويعرف بغيبه، فقال: إنه من أهل النار بوحى من الله له. وفيه أن صدق الخبر عما يكون وخروجه على ما أخبر به المخبر زيادة فى زكاته وهو من النبى (صلى الله عليه وسلم) من علامات نبوته وزيادة فى يقين المؤمنين به، ألا ترى قول الرجل حين رأى قتله لنفسه: أشهد إنك لرسول الله وهو كان قد شهد قبل ذلك. وقد قال أبو بكر الصديق فى غير ما قصة حين كان يرى صدق ما أخبر به النبى كان يقول: أشهد أنك رسول الله.(5/92)
وفيه جواز الإغياء فى الوصف لقوله: ما أجزأ أحدكما أجزأ، ولا يدع لهم شاذة ولا فاذة، ولا شك أن فى أصحاب الرسول من كان فوقه، وأنه قد ترك شاذات وفاذات لم يدركها، وإنما خرج كلامه على الإغياء والمبالغة، وهو جائز عند العرب. وقوله: (إلا اتبعها يضربه بسيفه) معناه: يضرب الشيء المتبوع؛ لأن المؤنث قد يجوز تذكيره على معنى أنه شيء، وأنشد الفراء للأعرابية: تركتنى فى الحى ذا غربة تريد ذات غربة لكنها ذكرت على تقدير: تركتنى فى الحى إنسان ذا غربة، أو شخصًا ذا غربة.
73 - باب التَّحْرِيضِ عَلَى الرَّمْىِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ) [الأنفال: 60]
747 / فيه: سَلَمَةَ: مَرَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَسْلَمَ يَنْتَضِلُونَ، فَقَالَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) : (ارْمُوا بَنِى إِسْمَاعِيلَ، فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا، ارْمُوا وَأَنَا مَعَ بَنِى فُلانٍ) ، قَالَ: فَأَمْسَكَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ بِأَيْدِيهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا لَكُمْ لا تَرْمُونَ) ؟ قَالُوا: كَيْفَ نَرْمِى وَأَنْتَ مَعَهُمْ؟ قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (ارْمُوا وَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ) . 1748 / وفيه: أَبُو سعيد، قَالَ: قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ بَدْرٍ، حِينَ صَفَفَنَا لِقُرَيْشٍ وَصَفُّوا لَنَا: (إِذَا أَكْثَبُوكُمْ فَعَلَيْكُمْ بِالنَّبْلِ) . قال ابن المنذر: ثبت أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال فى قوله(5/93)
تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة (: (ألا وإن القوة الرمى) . رواه المقرىء، عن سعيد بن أبى أيوب، حدثنا يزيد بن أبى حبيب، عن أبى الخير مرثد بن عبد الله اليزنى، عن عقبة بن عامر، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) . قال المهلب فيه من الفقه: أن للسلطان أن يأمر رجاله بتعليم الرمى وسائر وجوه الحرابة ويحض عليها. وفيه: أنه يجب أن يطلب الرجل خلال أبيه المحمودة ويتبعها ويعمل مثلها؛ لقوله: (ارموا فإن أباكم كان راميًا) . وفيه: أن السلطان يجب أن يعلم المجودين أنه معهم أى فى حزبهم ومحب لهم كما فعل الرسول فى المجودين للرماية فقال: (وأنا مع بنى فلان) أى: أنا محب لهم ولفعلهم كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (المرء مع من أحب) . وفيه من الفقه: أنه يجوز للرجل أن يبين عن تفاضل إخوانه وأهله وخاصته فى محبته، ويعلمهم كلهم أنهم فى حزبه ومودته، كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (أنا معكم كلكم) بعد أن كان أفراد إحدى الطائفتين. وفيه: أن من صار السلطان عليه فى جملة الحزب المناضلين له ألا يتعرض لمناوأته كما فعل القوم حين أمسكوا؛ لكون الرسول مع مناضليهم خوف أن يرموا فيسبقوا فيكون النبى مع من سبق فيكون ذلك حقا على النبى، وأمسكوا تأدبًا عليه، فلما أعلمهم أنه معهم أيضًا رموا؛ لسقوط هذا المعنى. وفيه: أن السلطان يجب أن يعلم بنفسه أمور القتال كما فعل - عليه السلام -.(5/94)
وقوله: (ينتضلون) يعنى: يرمون. تقول: ناضلت الرجل: راميته. وقوله: (أكثبوكم) أى: قربوا منكم. تقول العرب: أكثبك الصيد: قرب منك. والكثب: القرب. من كتاب الأفعال.
74 - باب اللَّهْوِ بِالْحِرَابِ وَنَحْوِهَا
749 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، بَيْنَا الْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ عِنْدَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) بِحِرَابِهِمْ، دَخَلَ عُمَرُ فَأَهْوَى إِلَى الْحَصَى فَحَصَبَهُمْ، فَقَالَ: (دَعْهُمْ يَا عُمَرُ) . وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عن مَعْمَرٌ: فِى الْمَسْجِدِ. هذا اللعب بالحراب هو سنة ليكون ذلك عدة للقاء العدو، وليتدرب الناس فيه، ولم يعلم عمر معنى ذلك حين حصبهم حتى قال له النبى (صلى الله عليه وسلم) -: (دعهم) . ففيه من الفقه: أن من تأول خطأ لا لوم عليه؛ لأن النبى لم يوبخ عمر على ذلك؛ إذ كان متأولا. وفيه: جواز مثل هذا اللعب فى المسجد؛ إذ كان مما يشمل الناس نفعه. وقد تقدم بيان هذا فى باب: أصحاب الحراب فى المسجد. فى كتاب الصلاة.
75 - باب الترسة وَالْمِجَنِّ
750 / فيه: أَنَس، كَانَ أَبُو طَلْحَةَ يَتَتَرَّسُ مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِتُرْسٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ حَسَنَ الرَّمْىِ، فَكَانَ إِذَا رَمَى يشَرَّف النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَيَنْظُرُ إِلَى مَوْضِعِ نَبْلِهِ.(5/95)
51 / وفيه: سَهْلٍ، لَمَّا كُسِرَتْ بَيْضَةُ الرسول (صلى الله عليه وسلم) عَلَى رَأْسِهِ، وَأُدْمِىَ وَجْهُهُ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، وَكَانَ عَلِىٌّ يَخْتَلِفُ بِالْمَاءِ فِى الْمِجَنِّ. . . . . الحديث. 1752 / وفيه: عُمَرَ، كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِى النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) مِمَّا لَمْ يُوجِفِ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلا رِكَابٍ، فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) خَاصَّةً، وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِ، ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِىَ فِى الْكُرَاعِ وَالسِّلاحِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ. قال المهلب: فيه ركوب شيء من الغدر للإمام لحرصه على معاينة نكاية العدو وإن كان احتراس الإمام خطيرًا، وليس كسائر الناس فى ذلك بل هو آكد. وفيه: اختفاء السلطان عند اصطفاف القتال؛ لئلا يعرف مكانه. وفى حديث سعد: جواز امتحان الأنبياء وإيلامهم، ليعظم بذلك أجرهم ويكون أسوة لمن ناله جرح وألم من أصحابه، فلا يجدون فى أنفسهم مما نالهم غضاضة، ولا يجد الشيطان السبيل إليهم بأن يقول لهم: تقتلون أنفسكم وتحملون الآلام فى صون هذا، فإذا أصابه ما أصابهم فقدت هذه المكيدة من اللعين، وتأسى الناس به فجدوا فى مساواتهم له فى جميع أحواله. وفيه: خدمة السلطان. وفيه: بذل السلاح فيما يضرها إذا كان فى ذلك منفعة لخطير الناس. وفيه دليل أن ترستهم كانت مقعرة ولم تكن منبسطة فلذلك كان يمكن حمل الماء بها. وفيه: أن النساء ألطف بمعالجة الرجال والجرحى.(5/96)
وقوله: (فرقىء الدم) قال صاحب العين: يقال. رقأ الدم والدمع رقوءًا: سكن بعد جريه.
76 باب فيه: مَا رَأَيْتُ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) يُفَدِّى رَجُلا بَعْدَ سَعْدٍ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: (ارْمِ فِدَاكَ أَبِى وَأُمِّى
. قال المهلب: هذا مما خص به سعد، وفيه دليل أن الرجل إذا كان له أبوان وإن كانا على غير دينه فلهما عليه حرمة وحق؛ لأنه لا يفدى إلا بذى حرمة ومنزلة، وإلا لم يكن يفديه، ولا فضيلة للمفدي. فمن هاهنا قال مالك: إنه من آذى مسلمًا فى أبويه الكافرين عوقب وأدب لحرمتهما عليه. وقال الطبرى: فى هذا الحديث دلالة على جواز تفدية الرجل الرجل بأبويه ونفسه، وفساد قول منكرى ذلك، فإن ظن ظان أن تفدية الرسول من فداه بأبويه إنما كان لأن أبويه كانا مشركين، فأما المسلم فغير جائز أن يفدى مسلمًا ولا كافرًا بنفسه ولا بأحد سواه من الإسلام، واعتلالا بما روى أبو سلمة قال: أخبرنى مبارك، عن الحسن قال: (دخل الزبير على الرسول وهو شاك، فقال: كيف تجدك جعلنى الله فداك؟ فقال له: أما تركت إفداء بيتك بعد) قال الحسن: لا ينبغى أن يفدى أحد أحدًا، ورواه المنكدر، عن أبيه قال: (دخل الزبير. . .) فذكره. قلت: هذه أخبار واهية لا يثبت مثلها حجة فى الدين؛ لأن(5/97)
مراسيل الحسن أكثرها عن غير سماع، وإذا وصل الأخبار فأكثر رواته عن مجاهيل لا يعرفون، والمنكدر بن محمد عند أهل النقل لا يعتمد على نقله، ولو صحت هذه الأخبار لم يكن فيها حجة فى إبطال حديث على؛ إذ لا [. . . . .] فى حديث الزبير أن النبى نهاه عن قول ذلك، بل إنما قال له فيه: (أما تركت إفداء بيتك بعد) والمعروف من قول القائل إذا قال: فلان لم يترك إفداء بيته، وإنما يشبه إلى الجفاء لا إلى نقل ما لا يجوز فعله، وأعلمه أن غيره من القول والتحية ألطف وأورق منه، وسيأتى شيء من هذا المعنى فى كتاب الأدب إن شاء الله.
77 - باب الدَّرَقِ
753 / فيه: عَائِشَةَ، دَخَلَ عَلَىَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) وَعِنْدِى جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثَ - فذكر الحديث - وَكَانَ يَوْمُ عِيدٍ يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ - إلى قوله: (دُونَكُمْ بَنِى أَرْفِدَةَ. . . .) الحديث. قد تقدم القول فى هذا الحديث فى كتاب الصلاة وغيره. وفيه: أن الدرق من آلات الحرب التى ينبغى لأهلها اتخاذها والتحرز بها من أسلحة العدو، وأن أصحاب النبى استعملوها فى ذلك. وقوله: (دونكم) يحضهم على ما هم فيه من اللعب بالحراب والدرق؛ لأن فى ذلك منفعة وتدريبًا وعدة للقاء العدو. وقوله: (بنى أرفدة) نسبهم إلى جدهم وكان يسمى أرفدة.(5/98)
78 - باب الْحَمَائِلِ وَتَعْلِيقِ السَّيْوفِ بِالْعُنُقِ
754 / فيه: أَنَس، كَانَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) أَحْسَنَ النَّاسِ، وَأَشْجَعَ النَّاسِ، وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَيْلَةً فَخَرَجُوا نَحْوَ الصَّوْتِ، فَاسْتَقْبَلَهُمُ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَدِ اسْتَبْرَأَ الْخَبَرَ، وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لأبِى طَلْحَةَ عُرْىٍ، وَفِى عُنُقِهِ السَّيْفُ. . . . قد تقدم القول فى هذا الحديث قبل هذا، وإنما فائدة هذا الباب أن السيوف تتقلد فى الأعناق بخلاف قول من اختار أن يربط السيف فى الحزام ولا يتقلد فى العنق، وليس فى شىء من هذا حرج.
79 - باب حِلْيَةِ السُّيُوفِ
755 / فيه: أَبُو أُمَامَةَ، لَقَدْ فَتَحَ الْفُتُوحَ قَوْمٌ مَا كَانَتْ حِلْيَةُ سُيُوفِهِمُ الذَّهَبَ وَلا الْفِضَّةَ، إِنَّمَا كَانَتْ حِلْيَتُهُمُ الْعَلابِىَ وَالآنُكَ وَالْحَدِيدَ. العلابى [. . . .] . قال صاحب العين: رمح منقلب ومقلوب مجاوز بالعلباء. والعلباء عصب العنق، يقال: علبت السيف أعلبه علبًا: إذا حزمت مقبضه بعلباء البعير. وقال المهلب: فيه أن الحلية المباحة من الذهب والفضة فى السيوف إنما كانت ليرهب بها على العدو، فاستغنى أصحاب رسول الله صلى - الله عليه وسلم - بشدتهم على العدو وقوتهم فى الإيقاع بهم والنكاية لهم عن إرهاب الحلية؛ لإرهاب الناس وشجاعتهم، والآنك: الرصاص وهو الأسرب.(5/99)
80 - باب مَنْ عَلَّقَ سَيْفَهُ بِالشَّجَرِ فِى السَّفَرِ عِنْدَ الْقَائِلَةِ
756 / فيه: جَابِر، أَنَّهُ غَزَا مَعَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) قِبَلَ نَجْدٍ، فَلَمَّا قَفَلَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، أَدْرَكَتْهُمُ الْقَائِلَةُ فِى وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ، فَنَزَلَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) وَتَفَرَّقَ النَّاسُ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، وَنَزَلَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) تَحْتَ سَمُرَةٍ، وَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ، وَنِمْنَا نَوْمَةً، فَإِذَا النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَدْعُونَا، وَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِىٌّ، فَقَالَ: (إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ عَلَىَّ سَيْفِى، وَأَنَا نَائِمٌ فَاسْتَيْقَظْتُ، وَهُوَ فِى يَدِهِ صَلْتًا) ، فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّى؟ قُلْتُ: (اللَّهُ، ثَلاثًا) ، فَشَامَ السَّيْف وَلَمْ يُعَاقِبْهُ، وَجَلَسَ. وترجم له (باب: تفرق الناس عن الإمام عند القائلة والاستظلال بالشجر) . قال المهلب: فيه أن تعليق السيف والسلاح فى الشجر صيانة لها من الأمر المعمول به. وفيه: أن تعليقها على بعد من صاحبها من الغرر لا سيما فى القائلة والليل؛ لما وصل إليه هذا الأعربى من سيف الرسول. وفيه: تفرق الناس عن الإمام عند القائلة وطلبهم الظل والراحة، ولكن ليس ذلك فى غير الرسول إلا بعد أن يبقى معه من يحرسه من أصحابه؛ لأن الله تعالى قد كان ضمن لنبيه أن يعصمه من الناس. وفيه: أن هذه القضية كانت سبب نزول هذه الآية. وروى ابن أبى شيبة قال: حدثنا أسود بن عامر، عن حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة قال: (كنا إذا نزلنا طلبنا للنبى أعظم شجرة وظلها، قال: فنزلنا تحت(5/100)
شجرة، فجاء رجل وأخذ سيفه فقال: يا محمد، من يعصمك منى؟ قال: الله؛ فأنزل الله: (والله يعصمك من الناس (. وفيه: أن حراسة الإمام فى القائلة والليل من الواجب على الناس، وأن تضييعه من المنكر والخطأ. وفيه: دعاء الإمام لأتباعه إذا أنكر شخصًا وشكوى من أنكره إليهم. وفيه: ترك الإمام معاقبة من جفا عليه وتوعده إن شاء، والعفو عنه إن أحب. وفيه: صبر الرسول وحلمه وصفحه عن الجهال. وفيه: شجاعته وبأسه وثبات نفسه صلى الله عليه ويقينه أن الله ينصره ويظهره على الدين كله. وقوله: (فشام السيف) يعنى: أغمده. وشامه أيضًا: سله وهو من الأضداد.
81 - باب لُبْسِ الْبَيْضَةِ
757 / فيه: سَهْل، جُرْحِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَوْمَ أُحُدٍ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، وَهُشِمَتِ الْبَيْضَةُ عَلَى رَأْسِهِ. . . . الحديث. هذه الأبواب كلها التى ذكرت فيها آلات الحرب وأنواع السلاح وأن الرسول وأصحابه استعملوها واتخذوها للحرب وإن كان الله قد وعدهم بالنصر وإظهار الدين فليكون ذلك سنة للمؤمنين؛ إذ الحرب سجال مرة لنا ومرة علينا، وقد أمر باتخاذها فى قوله: (وأعدوا(5/101)
لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم} فأخبر أن السلاح فيها إرهاب العدو، وفيها أيضًا تقوية لقلوب المؤمنين من أجل أن الله تعالى جبلها على الضعف، وإن كانت السلاح لا تمنع المنية لكن فيها تقوية للقلوب وأنس لمتخذيها.
82 - باب مَنْ لَمْ يَرَ كَسْرَ السِّلاحِ عِنْدَ الْمَوْتِ
758 / فيه: عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، مَا تَرَكَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) إِلا سِلاحَهُ، وَبَغْلَةً بَيْضَاءَ، وَأَرْضًا صَدَقَةً. قال المهلب: كان أهل الجاهلية إذا مات سلطانهم أو رئيسهم عهد بكسر سلاحه وحرق متاعه وعقر دوابه، فخالف الرسول فعلهم وترك بغلته وسلاحه وأرضه غير معهود فيها بشيء إلا صدقة فى سبيل الله.
83 - باب مَا قِيلَ فِى الرِّمَاحِ
وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (جُعِلَ رِزْقِى تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِى، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِى) . 1759 / فيه: أَبُو قَتَادَةَ، أَنَّهُ رَأَى حِمَارًا وَحْشِيًّا، فَاسْتَوَى عَلَى فَرَسِهِ، فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُنَاوِلُوهُ سَوْطَهُ، فَأَبَوْا، فَسَأَلَهُمْ رُمْحَهُ، فَأَبَوْا، فَأَخَذَهُ. . . . الحديث. قال المؤلف: ومعنى هذا كالأبواب التى قبله أن الرمح كان من آلات النبى للحرب ومن آلات أصحابه، وأنه من مهم السلاح وشريف(5/102)
القدر؛ لقول الرسول: (جعل رزقى تحت ظل رمحي) وهذه إشارة منه لتفضيله والحض على اتخاذه والاقتداء به فى ذلك. قال المهلب: وفيه أن الرسول خص بإحلال الغنائم وأن رزقه منها بخلاف ما كانت الأنبياء قبله عليه، وخص بالنصر على من خالفه، ونصر بالرعب وجعلت كلمة الله هى العليا، ومن اتبعها هم الأعلون، وإنما ثقف المخالفون لأمره إلا بحبل من الله وهو العهد، باءوا بغضب من الله وضربت عليهم الذلة والصغار وهى الجزية، والله الموفق.
84 - باب مَا قِيلَ فِى دِرْعِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) وَالْقَمِيصِ فِى الْحَرْب
ِ 1760 / فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ فِى قُبَّةٍ يوم بدر: (اللَّهُمَّ إِنِّى أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ، اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ بَعْدَ الْيَوْمِ) ، فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ، فَقَالَ: حَسْبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَدْ أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ، وَهُوَ فِى الدِّرْعِ، فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (الآية [القمر: 45] . 1761 / وفيه: عَائِشَةَ، تُوُفِّىَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِىٍّ. 1762 / وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ مَثَلُ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ) ، وذكر الحديث. قال المهلب: فيه اتخاذ الدرع والقتال فيه. وفيه دليل على أن نفوس البشر لا يرتفع عنها الخوف والإشفاق جملة واحدة؛ لأن الرسول قد كان وعده الله بالنصر وهو الوعد(5/103)
الذى نشده، وكذلك قال الله عن موسى حين ألقى السحرة حبالهم وعصيهم فأخبر بعد أن أعلمه أنه ناصره وأنه معهما يسمع ويرى فقال تعالى: (فأوجس فى نفسه خيفة موسى (وإنما هى طوارق من الشياطين يخوف بها النفوس ويثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت فى الحياة الدنيا وفى الآخرة. وقوله: (اللهم إنى أنشدك عهدك ووعدك) : اللهم إنى أسألك إنجاز وعدك وإتمامه بإظهار دينك وإعلاء كلمة الإسلام الذى رضيت بظهوره على جميع الأديان، وشئت أن يعبدك أهله، ولم تشأ ألا تعبد، فتمم ما شئت كونه؛ فإن الأمور كلها بيدك. وقوله: (سيهزم الجمع ويولون الدبر) فيه تأنيس من استبطأ كريم ما وعد الله به من النصر بالبشرى لهم بهزم حزب الشيطان وتذكيرهم بما يثبتهم به من كتابه. وفيه فضل أبى بكر الصديق ويقينه بما وعد الله نبيه (صلى الله عليه وسلم) ولذلك سماه الصديق، وقد تقدم القول فى حديث عائشة فى كتاب الزكاة.
85 - باب الْحَرِيرِ فِى الْحَرْبِ
763 / فيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، رَخَّصَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرِ فِى قَمِيصٍ حَرِيرٍ لحِكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا. وَقَالَ مرة: لقَمْلَ، فَأَرْخَصَ لَهُمَا فِى الْحَرِيرِ، فَرَأَيْتُهُ عَلَيْهِمَا فِى غَزَاةٍ. اختلف السلف فى لباس الحرير فى الحرب، فأجازته طائفة وكرهته(5/104)
طائفة، فممن كرهه عمر بن الخطاب، وروى مثله عن ابن محيريز وعكرمة وابن سرين وقالوا: كراهيته فيى الحرب أشد لما يرجون من الشهادة، وهو قول مالك، وأبى حنيفة، وقال مالك: ما علمت أحدًا يقتدى به لبسه فى الغزو. وممن أجازه فى الحرب: روى معمر، عن ثابت قال: رأيت أنس بن مالك يلبس الديباج فى فزعة فزعها الناس. وقال أبو فرقد: رأيت على تجافيف أبى موسى الديباج والحرير. وقال عطاء: الديباج فى الحرب سلاح. وأجازه عروة والحسن البصرى، وهو قول أبى يوسف والشافعي. وذكر ابن حبيب عن ابن الماجشون أنه استحب الحرير فى الجهاد والصلاة به حينئذ للترهيب على العدو والمباهاة، وفى مختصر ابن شعبان، عن ابن الماجشون، عن مالك مثل ما ذكره ابن حبيب. وقال الطبرى: أما الذين كرهوا لباسه فى الحرب وغيره فإنهم جعلوا النهى عنه عامًا فى كل حال. والذين رخصوا فى لباسه فى الحرب احتجوا بترخيصه (صلى الله عليه وسلم) لعبد الرحمن بن عوف والزبير فى لباسه للحكة والقمل، فبان بذلك أن من قصد بلبسه إلى دفع ما هو أعظم عليه من أذى الحكة، كأسلحة العدو المريد نفس لابسه بنبلٍٍ ونشاب، ولبسه، فله من ذلك نظير الذى كان لعبد الرحمن والزبير لسبب الحكة، أيضًا ما حدثنا به أبو كريب، حدثنا أبو خالد وعبدة ابن سليمان، عن حجاج، عن أبى عثمان ختن عطاء عن أسماء، قال: (أخرجت إلينا جبة مزررة بالديباج، وقالت: كان رسول الله يلبسها فى الحرب) .(5/105)
قال المهلب: ولباسه فى الحرب من باب الإرهاب على العدو، وكذلك ما رخص فيه من تحلية السيوف وكل ما استعمل فى الحرب هو من هذا الباب. ويدل على أن أفضل ما استعمل فى قتل العدو [. . . . .] فى قذف الرعب والخشية فى قلوبهم، وكذلك رخص فى الاختيال فى الحرب، وقال (صلى الله عليه وسلم) لأبى دجانة وهو يتبختر فى مشيته: (إنها لمشية يبغضها الله إلا فى هذا الموضع) لما فى ذلك من الإرهاب على أعداء الله، وقام الدليل من هذا على أن حسن الرأى وجودة التدبير من الرجل الواحد يشير به فى قتال العدو وقد يكون [. . . .] من الشجاعة [. . . .] العساكر العظام.
86 - باب مَا قيل فِى السِّكِّينِ
764 / فيه: عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ، رَأَيْتُ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، يَأْكُلُ مِنْ كَتِفٍ يَحْتَزُّ مِنْهَا، ثُمَّ دُعِىَ إِلَى الصَّلاةِ، فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ وألقى السِّكَينِ. ليس فيه أكثر من استعمال السكين وأنه معروف عندهم اتخاذه واستعماله.
87 - باب مَا قِيلَ فِى قِتَالِ الرُّومِ
765 / فيه: عُمَيْرَ بْنَ الأسْوَدِ الْعَنْسِىَّ عن أُمُّ حَرَامٍ، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (تَغْزُونَ الْبَحْرَ قَدْ أَوْجَبُوا) ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا فِيهِمْ؟(5/106)
قَالَ: (أَنْتِ فِيهِمْ) ، ثُمَّ قَالَ: (أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِى يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ مَغْفُورٌ لَهُمْ) ، قُلْتُ: أَنَا فِيهِمْ؟ قَالَ: (لا) . قال المهلب: من هذا الحديث فضل لمعاوية؛ لأنه أول من غزا الروم وابنه يزيد غزا مدينة قيصر. وعمير بن الأسود العنسى منسوب إلى قبيلة من العرب يقال لهم: بنو عنس بالكوفة، والعيش بالبصرة، وفى أخرى: ولا [. . . . .] .
88 - باب قِتَالِ الْيَهُودِ
766 / فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (تُقَاتِلُوا الْيَهُودَ حَتَّى يَخْتَبِىَء أَحَدُهُمْ وَرَاءَ الْحَجَرِ، فَيَقُولُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، هَذَا يَهُودِىٌّ وَرَائِى، فَاقْتُلْهُ) . 1767 / وقا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا الْيَهُودَ، حَتَّى يَقُولَ الْحَجَرُ. . . . .) الحديث. قال المهلب: فى هذا الحديث دليل على ظهور الآيات بتكلم الجماد وما شاكله عند نزول عيسى ابن مريم الذى يستأصل الدجال واليهود معه. وفيه دليل على بقاء دين محمد ودعوته بعد نزول عيسى ابن مريم لقوله: (تقاتلوا) ولا يكونوا مخاطبين بالقتال إلا وهم على دينهم لجواز علم النبى (صلى الله عليه وسلم) أن الذين يقاتلون الدجال غير من يخاطب بالحضرة، لكن خاطب من بالحضرة لمجيء من بعدهم(5/107)
على مذهبهم، وهذا فى كتاب الله كثير خاطب من الحضرة ما يلزم الغائبين الذين لم يخلقوا بعد. وفيه جواز مخاطبة من لا يسمع الخطاب، ومخاطبة من قد يجوز منه الاستماع يومًا ما.
89 - باب قِتَالِ التُّرْكِ
768 / فيه: عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ، قَالَ، (صلى الله عليه وسلم) : (مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ تُقَاتِلُون قَوْمًا يَنْتَعِلُونَ نِعَالَ الشَّعَرِ، وَإِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ تُقَاتِلُون قَوْمًا عِرَاضَ الْوُجُوهِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ) . 1769 / وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا التُّرْكَ، صِغَارَ الأعْيُنِ، حُمْرَ الْوُجُوهِ، ذُلْفَ الأنُوفِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ، وَلا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا نِعَالُهُمُ الشَّعَرُ) . قال المهلب: فيه علامة للنبوة وأنه سيبلغ ملك أمته غاية المشارق التى فيها هؤلاء القوم على ما ذكر فى غير هذا الحديث، وكذلك خلقة وجوههم بالعيان عريضة، وسائر ما وصفهم به كما وصفهم. وفيه التشبيه للشيء بغيره إذا كان فيه شبه منه من جهة ما، وإن خالف فى غير ذلك. قال صاحب الأفعال: المجان جمع مجن وهى الترسة، ويقال: أطرقت النعل والترس: أطبقتها. وقال صاحب العين: الذلف: غلظ واستواء فى طرف الأنف.(5/108)
90 - باب: من صف أصحابه عند الهزيمة ونزول عن دابته واستنصر
770 / فيه: الْبَرَاءَ، سَأَلَهُ رَجُلٌ أَكُنْتُمْ فَرَرْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ قَالَ: وَاللَّهِ مَا وَلَّى النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَلَكِنّ خَرَجَ شُبَّانُ أَصْحَابِهِ وَخِفَّاؤُهُمْ حُسَّرًا لَيْسَ بِسِلاحٍ، فَأَتَوْا قَوْمًا رُمَاةً جَمْعَ هَوَازِنَ وَبَنِى نَصْرٍ، مَا يَكَادُ يَسْقُطُ لَهُمْ سَهْمٌ، فَرَشَقُوهُمْ رَشْقًا، مَا يَكَادُو يُخْطِئُونَ، فَأَقْبَلُوا هُنَالِكَ إِلَى الرسول، (صلى الله عليه وسلم) ، وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ، وَابْنُ عَمِّهِ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِالْمُطَّلِبِ يَقُودُ بِهِ، فَنَزَلَ وَاسْتَنْصَرَ، ثُمَّ قَالَ: أَنَا النّبِىُّ لا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِالْمُطَّلِبْ ثُمَّ صَفَّ أَصْحَابَهُ. قال المهلب: فيه الترجمة، وتثبيت من بقى مع الإمام، ونزول الرسول عن بغلته إنما كان لتثبيت الرجالة الباقين معه، وليتأسوا به فى استواء الحال، فكذلك يجب على كل إمام إذا ولى أصحابه وبقى فى قلة منهم إن أخذ على نفسه بالشدة أن يفعل ما فعل (صلى الله عليه وسلم) من النزول، وإن لم يكن له نية يأخذ بالشدة، فليكن انهزامه يتحيز مع فئة من قومه إلى فئة أخرى يروم تثبيتهم، وهذا الحديث يبين أن المنهزمين يوم حنين لم يكونوا جميع الصحابة وأن بعضهم بقى مع النبى (صلى الله عليه وسلم) غير منهزمين. قال الطبرى: وفيه البيان عما خص الله به نبينا محمدًا (صلى الله عليه وسلم) من الشجاعة والنجدة؛ وذلك أن أصحابه انفلوا فانهزموا من عدوهم حتى ولوا عنهم مدبرين، كما وصفهم فى كتابه: (ثم وليتم مدبرين (فكان أصحابه وهم زهاء عشرة آلاف أو أكثر مدبرين(5/109)
انهزامًا من المشركين وهو فى نفر من أهله قليلين متقدم تلقاء العدو وقتالهم جاد فى النظر نحوهم، غير مستأخر، غير مدبر، والعدو من العدد فى مثل السيل والليل. فإن قيل: قد انهزم من أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) من انهزم عنه، والفرار من الزحف كبيرة، فكيف فعل ذلك أصحابه؟ قال الطبرى: والجواب أن الفرار المكروه الذى وعد الله عليه الانتقام: الانهزام على نية ترك العود لقتالهم إذا وجدوا قوة. وأما الاستطراد للكرة أو التحيز إلى فئة عند قهر العدو المسلمين لمكيدة أو كثرة عدد فليس ذلك من الفرار الذى توعد الله المؤمنين عليه، ولو كان ذلك فرارًا لكان القوم يوم حنين قد استحقوا من الله الوعيد وذلك أنه تعالى أخبر عنهم أنهم ولوا مدبرين بقوله: (وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين (فولوا عن رسول الله وهم أكثر ما كانوا عددًا وأتم سلاحًا، لم يوجب لهم غضبه بل قال: (ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودًا لم تروها (ولو كان إدبارهم يومئذ على غير التحرف للقتال أو التحيز إلى فئة؛ لكانوا قد استحقوا وعيده تعالى. وبمثل ما قلناه قال السلف، روى داود، عن أبى نضرة، عن أبى سعيد فى قوله تعالى: (ومن يولهم يومئذ دبره (قال: كان ذلك يوم بدر ولم يكن لهم يومئذ أن ينحازوا، ولو انحازوا لانحازوا إلى المشركين ولم يكن يومئذ مسلم على وجه الأرض غيرهم، وقال الضحاك: إنما كان الفرار يوم بدر ولم يكن لهم ملجأ يلجئون إليه،(5/110)
وأما اليوم فليس فرار. وقال ابن أبى نجيح، عن مجاهد، قال عمر بالمدينة: وأنا فئة كل مسلم. وسئل الحسن البصرى عن الفرار من الزحف فقال: والله لو أن أهل سمرقند انحازوا إلينا لكنا فئتهم.
91 - باب: الدعاء على المشركين بالهزيمة
771 / فيه: عَلِىّ، لَمَّا كَانَ يَوْمُ الأحْزَابِ، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (مَلأ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا، شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاةِ الْوُسْطَى، حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ) . 1772 / وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، كَانَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَدْعُو فِى الْقُنُوتِ: (اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ سِنِينَ كَسِنِى يُوسُفَ) . 1773 / وفيه: ابْن أَبِى أَوْفَى: دَعَا النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَوْمَ الأحْزَابِ: (اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ الْحِسَابِ، اللَّهُمَّ اهْزِمِ الأحْزَابَ، اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ) . 1774 / وفيه: ابْن مسعود، كَانَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّى فِى ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فجاء أَبُو جَهْلٍ وَنَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ، بسلا جَزُورٌ فَطَرَحُوهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ) ، ثلاثًا، وسمى اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأبِى جَهْلِ. . .) . وذكر الحديث. 1775 / وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ الْيَهُودَ دَخَلُوا عَلَى رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ، فَلَعَنْتُهُمْ، فَقَالَ: (مَا لَكِ) ؟ فَقُلْتُ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: (أَوَ لَمْ تَسْمَعِى مَا قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ) . قال المهلب: قد تقدم القول فى الصلاة الوسطى أنها الصبح على الحقيقة، وأنها العصر بالتشبيه بها. وقوله: (شغلونا) فهذا شغل لا يمكن ترك القتال له على حسب الاستطاعة له من الإيماء والإقبال والإدبار والمطاعنة والمسابقة لكن لهذا وجهان:(5/111)
أحدهما: أن صلاة الخوف لم تكن نزلت بعد، وفى الآية بها إباحة الصلاة على حسب القدرة والإمكان، وفى هذا الوقت لم يكن مباح لهم الإتيان بها إلا على أكمل أوصافها؛ فلذلك شغلوا عنها بالقتال، وهذا الشغل كان شديدًا عليهم حتى لا يمكن أحد منهم أن يشتغل بغير المدافعة والمقاتلة. والمعنى الآخر: أن يكونوا على غير وضوء؛ فلذلك لم يمكنهم ترك القتال لطلب الماء وتناول الوضوء؛ لأن الله لا يقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ، وأما دعاؤه (صلى الله عليه وسلم) على قوم ودعاؤه لآخرين بالتوبة؛ فإنما كان على حسب ما كانت ذنوبهم فى نفسه (صلى الله عليه وسلم) ، فكان يدعو على من اشتد أذاه للمسلمين وكان يدعو لمن يرجى نزوعه ورجوعه إليهم كما دعا لدوس حين قيل له: إن دوسًا قد عصت وأبت ولم تكن لهم نكاية ولا أذى، فقال: (اللهم اهد دوسًا وائت بهم) وأما هؤلاء فدعا عليهم لقتلهم المسلمين، فأجيبت دعوته فيهم، وقد تقدم هذا المعنى فى أول كتاب الاستسقاء، وسيأتى أيضًا فى كتاب الدعاء باب: (الدعاء على المشركين) مستقصى فيه القول إن شاء الله.
92 - باب: هل يرشد المسلم أهل الكتاب أو يعلمهم الكتاب؟
776 / فيه: ابْن عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ: (فَإِنْ تَوَلَّيْتَ، فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأرِيسِيِّينَ) . قال المؤلف: إرشاد أهل الكتاب ودعاؤهم إلى الإسلام على الإمام، وأما تعليمهم الكتاب فاستدل الكوفيون على جوازه بكتابة النبى إليهم آية من كتاب الله بالعربية، فعلمهم كيف حروف العربية وكيف تأليفها وكيف إيصال ما اتصال من الحروف، وانقطاع ما انقطع منها(5/112)
قالوا: فهذا تعليم لهم؛ لأنهم لم يقرءوا حتى ترجم لهم، وفى الترجمة تعريف ما يوافق من حروفها حروفهم وما يعبر عنه، ألا ترى أن فى أسماء الطير فى نظير أبيات الشعر تعليمًا للكتاب فضلا عن الحروف التى هى بنغمتها تدل على أمثالها، وأسماء الطير لا يفهم منها نغمة وينفك منها الكلام، قاله المهلب. وإلى هذا المعنى ذهب أبو حنيفة فقال: لا بأس بتعليم الحربى والذمى القرآن والعلم والفقه رجاء أن يرغبوا فى الإسلام، وهو أحد قولى الشافعي. وقال مالك: لا يعلمون الكتاب ولا القرآن، وهو قول الشافعى الآخر، واحتج الطحاوى لأصحابه بكتاب النبى (صلى الله عليه وسلم) إلى هرقل بآية من القرآن وبما رواه حماده بن سلمة، عن حبيب المعلم قال: سألت الحسن: أعلم أهل الذمة القرآن؟ قال: نعم، أليس يقرءون التوراة والإنجيل وهو كتاب الله؟ واحتج الطحاوى بقوله تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله (. قالوا: وقد روى أسامة بن زيد (أن رسول الله مر على مجلس فيه عبد الله بن أبى قبل أن يسلم وفى المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين واليهود، فقرأ عليهم القرآن) . وحجة مالك قوله تعالى: (إنما المشركون نجس (وقد نهى الرسول أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو، وكره مالك أن يشترى من أهل الكفر فيعطوا دراهم فيها اسم الله، وكره إذا كان صيرفى يهودى أو نصرانى أن يصرف منهم. وقال الطحاوى: يكره أن يعطى الكافر الدراهم فيها القرآن؛ لأنه لا يغتسل من الجنابة فهو كالجنب يمس المصحف فيكره أن يعطاه،(5/113)
والدراهم على عهد الرسول لم يكن عليها قرآن وإنما ضربت فى أيام عبد الملك. وقال غيره: وفى كتاب الرسول آية من القرآن؛ ففيه جواز مباشرة الكفار صحائف القرآن إذا احتيج إلى ذلك.
93 - باب: الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم
777 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَدِمَ طُفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الدَّوْسِىُّ وَأَصْحَابُهُ عَلَى الرسول (صلى الله عليه وسلم) فَقَالُوا: إِنَّ دَوْسًا عَصَتْ وَأَبَتْ، فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهَا، فَقِيلَ: هَلَكَتْ دَوْسٌ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا، وَأْتِ بِهِمْ) . كان الرسول يحب دخول الناس فى الإسلام، فكان لا يعجل بالدعاء عليهم ما دام يطمع فى إجابتهم إلى الإسلام، بل كان يدعو لمن كان يرجو منه الإنابة، ومن لا يرجوه ويخشى ضره وشوكته يدعو عليه، كما دعا عليهم بسنين كسنى يوسف، ودعا على صناديد قريش، لكثرة أذاهم وعداوتهم، فأجيبت دعوته فيهم، فقتلوا ببدر، كما أسلم كثير ممن دعا له بالهدى.
94 - باب: دعوة اليهود والنصارى وعلى ما يقاتلون عليه وما كتب الرسول إلى كسرى وقيصر والدعوة قبل القتال
778 / فيه: أَنَس لَمَّا أَرَادَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الرُّومِ، قِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لا يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلا أَنْ يَكُونَ مَخْتُومًا، فَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ، وَكَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِهِ فِى يَدِهِ، وَنَقَشَ فِيهِ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. 1779 / وفيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَى كِسْرَى، فَأَمَرَهُ أَنْ(5/114)
يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ، فَدْفَعُهُ عَظِيمُ الْبَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى، فَلَمَّا قَرَأَهُ كِسْرَى خَرَّقَهُ، فَدَعَا عَلَيْهِمُ أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ. قال المهلب: فيه ما دعا الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى قيصر، كتب إليه يدعوه بدعاية الإسلام: (أسلم تسلم) ، فهذا الذى يقاتلون عليه، والدعوة لازمة إذا لم تبلغهم، وإذا بلغتهم فلا يلزم، فإن شاء أن يكرر ذلك عليهم، وإن شاء أن يطلب غرتهم فعل، وإنما كانوا لا يقرءون كتابًا إلا مختومًا؛ لأنهم كانوا يكرهون أن يقرأ الكتاب إليهم غيرهم وأن يكون مباحًا لسواهم فكانوا يأنفون من إهماله، وقد قيل فى تأويل قوله: (كتاب كريم (أنه مختوم، فأخذ (صلى الله عليه وسلم) بأرفع الأحوال التى بلغته عنهم، واتخذ خاتما ونقش فيه: محمد رسول الله، وعهد ألا ينقش أحد مثله، فصارت خواتيم الأئمة والحكام سنة لا يفتات عليهم فيها لا يتسور فى اصطناع مثلها، وتخريق الكتاب من التهاون بأمر النبوة والاستهزاء بها؛ فلذلك دعا عليهم بالتمزيق فأجيب، والاستهزاء من الكبائر العظيمة إذا كان فى الدين، وهو من باب الكفر، ويقتل المستهزىء بالدين؛ لأن الله أخبر عن الاستهزاء أنه كفر فقال: (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم (.(5/115)
95 - باب دُعَاءِ الرسول، (صلى الله عليه وسلم) ، النَّاسَ إِلَى الإسْلامِ وَالنُّبُوَّةِ وَألاَّ يَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَرْبَابًا
وَقَوْلِهِ: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ) [آل عمران: 79] الآيَةِ. 1780 / فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ يَدْعُوهُ إِلَى الإسْلامِ، وَبَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَيْهِ مَعَ دِحْيَةَ الْكَلْبِىِّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى، لِيَدْفَعَهُ إِلَى قَيْصَرَ، فقرئ، فَإِذَا فيه: (بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّى أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإسْلامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، وَإِنْ تَوَلَّيْتَ، فَعَلَيْكَ إِثْمُ الأرِيسِيِّينَ وَ) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (الحديث) . 1781 / فيه: سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ النَّبِيّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَوْمَ خَيْبَرَ: (لأعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ) ، فَقَامُوا يَرْجُونَ لِذَلِكَ، فَقَالَ: (أَيْنَ عَلِىٌّ) ؟ قِيلَ: يَشْتَكِى عَيْنَيْهِ، فَأَمَرَ، فَدُعِىَ لَهُ، فَبَصَقَ فِى عَيْنَيْهِ، فَبَرَأَ مَكَانَهُ، [حَتَّى كَأَنَّه لَمْ يَكُنْ بِهِ شَىْءٌ] ، فَقَالَ: نُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا؟ فَقَالَ: (عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإسْلامِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، فَوَاللَّهِ لأنْ يُهْدَى اللَّه بِكَ رَجُلاً وَاحِدً خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ) . 1782 / وفيه: أَنَس، كَانَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) إِذَا غَزَا قَوْمًا لَمْ يُغِرْ حَتَّى يُصْبِحَ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا أَمْسَكَ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا أَغَارَ بَعْدَ مَا يُصْبِحُ، فَنَزَلْنَا خَيْبَرَ لَيْلا، فَلَمَّا أَصْبَحَ خَرَجَتْ يَهُودُ بِمَسَاحِيهِمْ وَمَكَاتِلِهِمْ، فقالوا: محمد،(5/116)
والله: مُحَمَّدٌ، وَاللَّهِ مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ، فَقَالَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (اللَّهُ أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ) فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ () [الصافات: 177] . 1783 / وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَ ذلك، فَقَدْ عَصَمَ مِنِّى مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلا بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ) . فى هذا الباب الدعاء إلى الإسلام بالمكاتبة وبعثة الرسول، واستحب العلماء أن يدعى الكافر إلى الإسلام قبل القتال، فقال مالك: أما من قربت داره منا فلا يدعون؛ لعلمهم بالدعوة ولتأمين غرتهم، ومن بعدت داره وخيف ألا تبلغه فالدعوة أقطع للشك. وذكر ابن المنذر عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى جعونة وأمره على الدروب أن يدعوهم قبل أن يقاتلهم، وأباح أكثر أهل العلم قتالهم قبل أن يدعوا؛ لأنهم قد بلغهم الدعوة، هذا قول الحسن البصرى والنخعى وربيعة والليث وأبى حنيفة والثورى والشافعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور، قال الثورى: ويدعون أحسن. واحتج الليث والشافعى بقتل ابن أبى الحقيق، وكعب بن الأشرف، وذكر ابن القصار عن أبى حنيفة: إن بلغتهم الدعوة فحسن أن يدعوهم الإمام إلى الإسلام أو أداء الجزية قبل القتال. قال: ولا بأس أن يغيروا عليهم بغير دعوة. وقال الشافعى: لا أعلم أحدًا من المشركين لم تبلغه الدعوة اليوم إلا أن يكون خلف الغور، والترك أمة لم تبلغهم، فلا يقاتلوا حتى يدعوا، ومن قتل منهم قبل ذلك فعلى قاتله الدية. وقال أبو حنيفة: لا شيء عليه. قال الطحاوى: قد لبث الرسول بعد النبوة سنين يدعو الناس إلى الإسلام، ويقيم عليهم الحجج والبراهين كما أمره الله بقوله: (ادفع(5/117)
بالتى هى أحسن (وقوله تعالى: (فاعف عنهم واصفح (ثن أنزل الله بعد ذلك: (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه (فأباح قتال من قاتله، ولم يبح قتال من لم يقاتله، وكان الإسلام ينتشر فى ذلك وتقوم الحجة به على من لم يكن علمه، ثم أنزل الله بعد ذلك: (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار (قاتلوكم قبل ذلك أم لا، فكان فى ذلك زيادة فى انتشار الإسلام، ثم أنزل عليه: (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة (فأمر بقتالهم كافة حتى يكون الدين كله لله. وقد تقدمت معرفة الناس جميعًا بالإسلام وعلموا منابذته (صلى الله عليه وسلم) أهل الأديان، ولم يذكر فى شيء من الآى التى أمر فيها بالقتال دعاء من أمر بقتالهم؛ لأنهم قد علموا خلافهم له وما يدعوهم إليه، واحتج لهذا القول بحديث أنس أنه كان (صلى الله عليه وسلم) إذا سمع أذانًا أمسك، وإن لم يسمع أذانًا أغار بعد ما أصبح، فهذا يدل أنه كان لا يدعو. وذهب من استحب دعوتهم قبل القتال إلى حديث على أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال له: (على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم) . وقال أهل القول الأول: هذا يحتمل أن يكون فى أول الإسلام فى قوم لم تبلغهم الدعوة، ولم يدروا ما يدعون إليه فأمر بالدعاء ليكون ذلك تبليغًا لهم وإعلامًا، ثم أمر بالغارة على آخرين فلم يكن ذلك إلا لمعنى لم يحتاجوا معه إلى الدعاء؛ لأنهم قد علموا ما يدعون إليه وما لو أجابوا إليه لم يقاتلوا فلا معنى للدعاء، واحتجوا بحديث ابن عون قال: كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال فقال: إنما كان ذلك فى أول الإسلام قد أغار رسول الله على بنى المصطلق وهم(5/118)
غارون فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم وأصاب يومئذ جويرية بنت الحارث، حدثنى بذلك ابن عمر وكان فى الجيش، وبما رواه الزهرى، عن عروة، عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله: (أغر على أبنى صباحًا وحرق) . قال المهلب: وفى حديث أنس الحكم بالدليل فى الأبشار والأموال، ألا ترى أنه حقن دماء من سمع من دارهم الأذان، واستدل بذلك على صدق دعواهم للإيمان. قال الطبرى: فيه البيان عن حجة قول من أنكر على غزاة المسلمين بيات من لم يعرفوا حاله من أهل الحصون حتى يصبحوا فيتبين حالهم بالأذان ويعلموا هل بلغتهم الدعوة أم لا؟ فإن كانوا ممن بلغتهم ولم يعلموا أمسلمين هم أم أهل صلح أو حرب، فلا يغيروا حتى يصبحوا، فإن سمعوا أذانا من حصنهم كان من الحق عليهم الكف عنهم، وإن لم يسمعوا أذانا وكانوا أهل حرب أغاروا عليهم إن شاءوا. فإن قيل: فما أنت قائل فى حديث الصعب بن جثامة (أن الرسول سئل عن أهل الدار من المشركين يبيتون ليلا ويصاب من نسائهم وذراريهم فقال: هم منهم) . وفى هذا إباحة البيات وحديث أنس بخلاف ذلك. قيل: كل ذلك صحيح ولا يفسد أحدهما معنى الآخر، وذلك أن(5/119)
حديث الصعب فيمن بلغته الدعوة ولا يشك فى حاله من أهل الحرب فإنه يجوز بياتهم، وإنما الذى ينتظر بهم الصباح لا ستبراء حالهم بالأذان أو غيره من شعار أهل الإسلام من التبس أمره ولم يعرف حاله فعلى هذا يحمل حديث أنس. وقولهم: (محمد والخميس) يعنون: الجيش، ومعنى الكلام: هذا محمد وجيشه، أو قد جاء محمد وجيشه وإنما سمى: خميسًا؛ لأنه يخمس ما يجد من شيء. وقال الطحاوى: اختلف أهل العلم فى تأويل حديث أبى هريرة فذهب قوم إلى أن من قال: لا إله إلا الله فقد صار بها مسلمًا، له ما للمسلمين وعليه ما عليهم واحتجوا به، وخالفهم آخرون وقالوا: لا حجة لكم فيه؛ لأن الرسول إنما كان يقاتل قومًا لا يوحدون الله فكان أحدهم إذا وحد الله علم بذلك تركه لما قوتل عليه وخروجه منه ولم يعلم بذلك دخوله فى الإسلام أو فى أحد الملل التى توحد الله وتكفر بجحدها مرسله وغير ذلك من الوجوه التى يكفر بها مع توحيدهم الله كاليهود والنصارى الذين يوحدون الله ولا يقرون برسوله. وفى اليهود من يقول: إن محمدًا رسول الله إلى العرب خاصة، فكان حكم هؤلاء ألا يقاتلوا إذا وقعت هذه الشبهة حتى تقوم الحجة على من يقاتلهم بوجوب قتالهم وقد أمر (صلى الله عليه وسلم) على بن أبى طالب حين وجهه إلى خيبر وأهلها يهود بما رواه ابن وهب، عن يعقوب بن عبد الرحمن، عن سهيل بن أبى صالح، عن أبيه، عن أبى هريرة (أن رسول الله لما دفع الراية إلى على حين وجهه إلى خيبر قال: امض ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك. فقال على: علام أقاتلهم؟ قال: حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله) .(5/120)
ففى هذا الحديث أن النبى قد أباح له قتالهم وإن شهدوا ألا إله إلا الله حتى يشهدوا أن محمدًا رسول الله، وحتى يعلم على خروجهم من اليهود، كما أمر بقتال عبدة الأوثان حتى يعلم خروجهم مما قوتلوا عليه، وقد أتى قوم من اليهود إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) فأقروا بنبوته ولم يدخلوا فى الإسلام فلم يقاتلهم على إبائتهم الدخول فى الإسلام، إذ لم يكونوا بذلك الإقرار عنده مسلمين. وروى شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن صفوان بن عسال أن يهوديًا قال لصاحبه: تعال حتى نسأل هذا النبي. فقال له الآخر: لا تقل له نبى؛ فإنه إن سمعها صارت له أربعة أعين، فأتاه فسأله عن هذه الآية: (ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات (فقال: لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تسخبوا، تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان ليقتله، ولا تقذفوا المحصنة، ولا تفروا من الزحف، وعليكم خاصة اليهود ألا تعدوا فى السبت؛ فقبلوا يده وقالوا: نشهد أنك نبي. قال: فما يمنعكم أن تتبعونى؟ قالوا: نخشى أن تقتلنا اليهود) فأقروا بنبوته مع توحيدهم لله ولم يكونوا بذلك مسلمين. فثبت أن الإسلام لا يكون إلا بالمعانى التى تدل على الدخول فى الإسلام وترك سائر الملل. وروى ابن وهب، عن يحيى بن أيوب، عن حميد الطويل، عن أنس (أن رسول الله قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؛ فإذا شهدوا بذلك وصلوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا؛ حرمت علينا(5/121)
دماؤهم وأموالهم إلا بحقها) قال: وهذا قول أبى حنيفة وأبى يوسف ومحمد. قال الطحاوى: فالحديث الأول الذى فيه توحيد الله خاصة هو المعنى الذى يكف به عن القتال حتى يعلم ما أراد به قائله الإسلام أو غيره، حتى تصح هذه الآثار ولا تتضاد. وقال الطبرى نحوًا من ذلك، وزاد فقال: أما قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فإذا قالوا: لا إله إلا الله؛ عصموا منى دماءهم وأموالهم. . .) الحديث، فإنه (صلى الله عليه وسلم) قائله فى حال قتاله لأهل الأوثان الذين كانوا لا يقرون بتوحيد الله، وهم الذين قال الله تعالى عنهم: (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون (. فدعاهم الرسول إلى الإقرار بالوحدانية وخلع ما دونه من الأوثان، فمن أقر بذلك منهم كان فى الظاهر داخلا فى صبغة الإسلام، ثم قال: آخرون من أهل الكفر كانوا يوحدون الله غير أنهم كانوا ينكرون نبوة محمد، فقال (صلى الله عليه وسلم) فى هؤلاء: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله ويشهدوا أن محمدًا رسول الله) فإسلام هؤلاء: الإقرار بما كانوا به جاحدين كما كان إسلام الآخرين إقرارهم بالله أنه واحد لا شريك له، وعلى هذا تحمل الأحاديث.
96 - باب: من أراد غزوة فورى بغيرها ومن أراد الخروج يوم الخميس
784 / فيه: كَعْب، أن الرسول، (صلى الله عليه وسلم) ، لم يكنّ يُرِيدُ غَزْوَةً إِلا وَرَّى بِغَيْرِهَا، حَتَّى كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ فَغَزَاهَا النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِى حَرٍّ(5/122)
شَدِيدٍ، وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا، وَاسْتَقْبَلَ غَزْوَ عَدُوٍّ كَثِيرٍ، فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ؛ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ عَدُوِّهِمْ، وَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الَّذِى يُرِيدُ. وَقَلَّمَا كَانَ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَخْرُجُ فِى سَفَرٍ إِلا يَوْمَ الْخَمِيسِ، وخَرَجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ فِى غَزْوَةِ تَبُوكَ. قال المهلب: فيه المكايدة فى الحرب، وطلب غرة العدو، وفيه جواز الكلام بغير نية للإمام وغيره إذا لم يضر بذلك أحدًا وكان فيه نفع للمسلمين خاصة وعامة فهو جائز وهو خارج من باب الكذب وأخبرهم (صلى الله عليه وسلم) بغزوة تبوك لطول المدة؛ ليتأهبوا كما ذكر فى الحديث، ولأنه آمن ألا يسبقه إليها الخبر لبعد الشقة التى بينه وبينها وقفرها، وخروجه يوم الخميس لمعنى يجب أن يحمل عليه ويتبرك به؛ لأن لنا فى رسول الله أسوة حسنة. وقوله: (ورى بغيرها) قال أبو على الفسوى: أصله من الورى كأنه قال: لم يشعر به من ورى كأنه قال: ساترت بكذا، وأصحاب الحديث لا يضبطون الهمز فيه، وتصغيره: ورية وأصله: وريية، ويسقط واحدة منهما كما قلت فى عطاء: عطى، والأصل: عطيى فتقول: وريت عن كذا وكذا بغير همز، والمفازة: المهلكة سميت بذلك تفاؤلا بالفوز والسلامة كما قالوا للديغ: سليم. وذكر ابن الأنبارى عن ابن الأعرابى، المفازة مأخوذة من قولهم: قد فوز الرجل: إذا هلك.
97 - باب: الْخُرُوجِ بَعْدَ الظُهْرِ
785 / فيه: أَنَس، أَنَّ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) صَلَّى بِالْمَدِينَةِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا، وَالْعَصْرَ بِذِى الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، وَسَمِعْتُهُمْ يَصْرُخُونَ بِهِمَا.(5/123)
فى خروج النبى إلى سفر الحج دليل على أنه لا ينبغى أن يكره السفر وابتداء العمل بعد ذهاب صدر النهار وأوله؛ إذ الأوقات كلها لله، وأن ما روى عنه (صلى الله عليه وسلم) : (اللهم بارك لأمتى فى بكورها) . لا يدل أن غير البكور لا بركة فيه؛ لأن كل ما فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) - ففيه البركة ولأمته فيه أكبر الأسوة. وإنما خص (صلى الله عليه وسلم) البكور بالدعاء بالبركة فيه من بين سائر الأوقات والله أعلم - لأنه وقت يقصده الناس بابتداء أعمالهم وهو وقت نشاط وقيام من دعة، فخصه بالدعاء؛ لينال بركة دعوته جميع أمته. والحديث بذلك ذكره ابن المنذر قال: حدثنا سليمان بن شعيب قال: حدثنى يحيى بن حسان، حدثنا هشيم، اخبرنا يعلى بن عطاء، عن عمارة، عن صخر الغامدى قال: قال رسول الله: (اللهم بارك لأمتى فى بكورها) ، قال: وكان إذا بعث جيشًا أو سرية بعثهم أول النهار. قال: وكان صخر رجلا تاجرًا فكان إذا بعث غلمانه بعثهم أول النهار فأثرى وكثر ماله.
98 - باب الْخُرُوجِ آخِرَ الشَّهْرِ
وَقَالَ ابْن عَبَّاس: انْطَلَقَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) مِنَ الْمَدِينَةِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِى الْقَعْدَةِ، وَقَدِمَ مَكَّةَ لأرْبَعِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِى الْحِجَّةِ. 1786 / فيه: عَائِشَةَ، خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِى الْقَعْدَةِ، وَلا نُرَى إِلا الْحَجَّ. . . . وذكر الحديث. خروجه (صلى الله عليه وسلم) آخر الشهر بخلاف أفعال الجاهلية فى استقبالهم(5/124)
أوائل الشهور فى الأعمال وتوجيههم ذلك وتجنبهم بفضل الشهور من أجل نقصان العمر، فبعث الله نبيه (صلى الله عليه وسلم) يبيح ذلك كله ولم يراع نقصان شهر ولا ابتداؤه، ولا محاق قمر ولا كماله، فخرج فى أسفاره على حسب ما تهيأ له ولم يلتفت إلى أباطيلهم ولا طيرتهم الكاذبة، ورد أمره إلى الله، ولم يشرك معه غيره فى فعله فأيده ونصره.
99 - باب الْخُرُوجِ فِى رَمَضَانَ
787 / فيه: ابْن عَبَّاس، خَرَجَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فِى رَمَضَانَ، فَصَامَ، حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ أَفْطَرَ. الخروج فى رمضان جائز، وللمسافر أن يصوم أو يفطر إن اختار ذلك بخلاف ما روى عن على بن أبى طالب أنه قال: (من أدركه رمضان وهو مقيم ثم سافر لزمه الصوم) ؛ لقوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه (وبه قال أبو عبيد وأبو مجلز، وهذا القول مردود؛ لسفر الرسول فى رمضان وإفطاره فيه، وجماعة الفقهاء على خلاف قوله، وقد تقدم فى (كتاب الصيام) .
0 - باب: التَّوْدِيعِ
788 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، بَعَثَنَا الرسول (صلى الله عليه وسلم) فِى بَعْثٍ، وَقَالَ: (إِنْ لَقِيتُمْ فُلانًا وَفُلانًا فَحَرِّقُوهُمَا بِالنَّارِ) ، فَأَتَيْنَاهُ نُوَدِّعُهُ حِينَ أَرَدْنَا الْخُرُوجَ، فَقَالَ: (إِنِّى كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُحَرِّقُوا فُلانًا وَفُلانًا بِالنَّارِ، وَإِنَّ النَّارَ لا يُعَذِّبُ بِهَا إِلا اللَّهُ، فَإِنْ أَخَذْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا) .(5/125)
قال المهلب: الترجمة صحيحة وهو من الشأن المعلوم فى البعوث والأسفار البعيدة توديع المسافر و [. . . . .] والأئمة ومن ترجى بركة دعوته واستصحاب فضله، وسيأتى الكلام على النهى عن التحريق بالنار فى باب (لا يعذب بعذاب الله) بعد هذا فى الجزء الذى يليه إن شاء الله.
1 - باب: السّمْعِ وَالطَّاعَةِ للإِمَام مَا لَمْ يَأْمُر بِمَعْصِيَةٍ
789 / فيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ حَقٌّ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِالْمَعْصِيَةِ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلا سَمْعَ وَلا طَاعَةَ) . قال المؤلف: احتج بهذا الحديث الخوارج ورأوا الخروج على أثمة الجور والقيام عليهم عند ظهور جورهم، والذى عليه جمهور الأمة أنه لا يجب القيام عليهم ولا خلعهم إلا بكفرهم بعد الإيمان وتركهم إقامة الصلوات، وأما دون ذلك من الجور فلا يجوز الخروج عليهم إذا استوطأ أمرهم وأمر الناس معهم؛ لأن فى ترك الخروج عليهم تحصين الفروج والأموال وحقن الدماء، وفى القيام عليهم تفرق الكلمة وتشتت الألفة. وكذلك لا يجوز القتال معهم لمن خرج عليهم عن ظلم ظهر منهم؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) . وقال (صلى الله عليه وسلم) : (لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق) . وذكر على بن سعيد فى كتاب (الطاعة والمعصية) حديثًا أسنده إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم،(5/126)
وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم. قيل: يا رسول الله، أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا فمن ولى عليه وال فأتى شيئًا من المعاصى فليكره ما يأتى من معصية الله، ولا ينزعن يدًا عن طاعة) يعنى: لا يخرجن عليه. وروى الآجرى، عن البغوى، عن القواريرى: حدثنا حكيم بن حزام وكان من عباد الله الصالحين حدثنا عبد الملك بن عمير، عن الربيع بن عميلة، عن ابن مسعود عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (سيليكم أمراء يفسدون، وما يصلح الله بهم أكثر، فمن عمل منهم بطاعة الله فله الأجر وعليكم الشكر، ومن عمل منهم بمعصية الله فعليه الوزر وعليكم الصبر) وسيأتى شيء من هذا المعنى فى (كتاب الأحكام) وفى (كتاب الفتن) إن شاء الله.
2 - باب: يقاتل من وراء الإمام ويتقى به
790 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ) . 1791 / وبهذا الإسناد: (مَنْ أَطَاعَنِى فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِى فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ يُطِعِ الأمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِى، وَمَنْ يَعْصِ الأمِيرَ فَقَدْ عَصَانِى، وَإِنَّمَا الإمَامُ جُنَّةٌ، يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ، وَيُتَّقَى بِهِ، فَإِنْ أَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَعَدَلَ فَإِنَّ لَهُ بِذَلِكَ أَجْرًا، وَإِنْ قَالَ بِغَيْرِهِ فَإِنَّ عَلَيْهِ مِنْهُ) . قال المهلب: قوله: (من وراء الإمام) يعنى: من أمام الإمام كما قال تعالى: (وكان وراءهم ملك (أى: أمامهم، وقوله:(5/127)
(يتقى به) أى: يرجع إليه فى الرأى والفعل وغير ذلك مما لا يجب أن يقضى فيه إلا برأى الإمام وحكمه، ويتقى به الخطأ فى الدين والعمل من الشبهات وغيرها، والإمام جنة بين الناس بعضهم من بعض؛ لأن بالسطان نزع الله تعالى عن المستضعفين من الناس فهو ستر لهم، وحرز الأموال، وسائر حرمات المؤمنين أن تنتهك. وقال غيره: تأويل: (يقاتل من ورائه) عند العلماء على الخصوص وهو فى الإمام العدل خاصة، فمن خرج عليه وجب على جميع المسلمين قتاله مع الإمام العدل؛ نصرة له إلا أن يرى الإمام أن يفعل ما فعل عثمان فطاعة الإمام واجبة، إلا أن الخارجين عليه إن قتلوه فى غير قتال اجتمعت فيه الفئتان للقتال أو قتلوا غيره؛ فإن القصاص يلزمهم بخلاف قتلهم لأحد فى حال الملاقاة للفئتين. ولذلك استجاز المسلمون طلب دم عثمان؛ إذ لم يكن قتله عن ملاقاة، وإن كان الإمام غير عدل فالواجب عند العلماء من أهل السنة ترك الخرج عليه وأن يقيموا معه الحدود: الصلوات، والحج، والجهاد، وتؤدى إليه الزكوات، فمن قام عليه من الناس متأولا بمذهب خالف فيه السنة أو لجور أو لاختيار إمام غيره سمى فاسقًا ظالمًا غاصبًا فى خروجه لتفريقه جماعة المسلمين، ولما يكون فى ذلك من سفك الدماء. فإن قاتلهم الإمام الجائر لم يقاتلوا معه ولم يجز أن يسفكوا دماءهم فى نصره، وقد رأى كثير من الصحابة ترك القتال مع على، ومكانه من الدين والعلم ما لا يخفى على أحد له مسكة فهم، وسموه قتال فتنة، وادعاء كل واحد على صاحبه أنه الفئة الباغية، وهذا شأن العصبية عند أهل العلم. ولم ير علىّ على من قعد عن القتال معه ذنبًا يوجب سخطه حاله،(5/128)
وإن كان قد دعا بعضهم إلى القتال، فأبوا أن يجيبوه فعذرهم، وكذلك يجب على الإمام الصالح الذى يأخذ الأمر عن شورى ألا يعتب من قعد عنه، وسنوضح كيف القتال فى الفتنة فى موضعه من (كتاب الفتنة) إن شاء الله. وقال صاحب العين: الجنة: الدرع، وسمى المجن: مجنًا؛ لأنه يستتر به عند القتال. وقوله: (فإن عليه منه) كذا روى الحديث، وقد جاء فى بعض طرقه (فإن عليه منه وزرًا) وهو مفهوم المعنى.
3 - باب الْبَيْعَةِ فِى الْحَرْبِ أَلاّ يَفِرُّوا وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَلَى الْمَوْتِ
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (لَقَدْ رَضِىَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) [الفتح: 18] . 1792 / فيه: ابْنُ عُمَرَ، رَجَعْنَا مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَمَا اجْتَمَعَ مِنَّا اثْنَانِ عَلَى الشَّجَرَةِ الَّتِى بَايَعْنَا تَحْتَهَا، كَانَتْ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ. فَسَأَلْتُ نَافِعًا عَلَى أَىِّ شَىْءٍ بَايَعَهُمْ: عَلَى الْمَوْتِ؟ قَالَ: لا، بَلْ بَايَعَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ. 1793 / وفيه: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، لَمَّا كَانَ زَمَنُ الْحَرَّةِ أَتَاهُ آتٍ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ ابْنَ حَنْظَلَةَ يُبَايِعُ النَّاسَ عَلَى الْمَوْتِ، فَقَالَ: لا أُبَايِعُ عَلَى هَذَا أَحَدًا بَعْدَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) . 1794 / وفيه: مَسْلَمَةَ، قَالَ: بَايَعْتُ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ عَدَلْتُ إِلَى ظِلِّ شَّجَرَةِ، فَلَمَّا خَفَّ النَّاسُ، قَالَ: (يَا ابْنَ الأكْوَعِ، أَلا تُبَايِعُ) ؟ قَالَ: قُلْتُ: قَدْ بَايَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: وَأَيْضًا، فَبَايَعْتُهُ الثَّانِيَةَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا مُسْلِمٍ عَلَى أَىِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تُبَايِعُونَ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: عَلَى الْمَوْتِ.(5/129)
95 / وفيه: أَنَس، كَانَتِ الأنْصَارُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، تَقُولُ: نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا عَلَى الْجِهَادِ مَا حَيِينَا أَبَدَا فَأَجَابَهُمُ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ لا عَيْشَ إِلا عَيْشُ الآخِرَهْ فَأَكْرِمِ الأنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ) 1796 / وفيه: مُجَاشِعٍ بْن مسعود، أَتَيْتُ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَنَا وَأَخِى، فَقُلْتُ: بَايِعْنَا عَلَى الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: (مَضَتِ الْهِجْرَةُ لأهْلِهَا) ، فَقُلْتُ: عَلامَ تُبَايِعُنَا؟ قَالَ: (عَلَى الإسْلامِ وَالْجِهَادِ) . قال المهلب: هذه الأحاديث مختلفة الألفاظ، منهم من يقول على الموت، وعلى ألا يفر، وعلى الصبر، والصبر يجمع المعانى كلها وهو أولى الألفاظ بالمعنى؛ لأن بيعة الإسلام هى على الجهاد وقتال المثلين، فإن كان المشركون أكثر من المثلين كان المسلم فى سعة من أن يفر، وفى سعة أن يأخذ بالشدة ويصبر، وهذا كله بعد أن نسخ قتال العشرة أمثال، وأما قبل نسخها فكان يلزم قتال العشرة أمثال وألا يفر إلا من أكثر منها. وبيعة الشجرة إنما هى على الأخذ بالشدة وألا يفر أصلا ولا بد من الصبر إما إلى فتح وإما إلى موت، فمن قال: بايعنا على الموت، أراد يفتح لنا، ومن قال: لا نفر. فهو نفس القصة التى وقعت عليها المبايعة، وهو معنى الصبر؛ وقول نافع: على الصبر؛ كراهية لقول من قال بأحد الطريقين: الموت أو الفتح، فجمع نافع المعنيين فى كلمة الصبر. وقوله لسلمة بن الأكوع: (ألا تبايع) أراد أن يؤكد بيعته؛ لشجاعة سلمة وغنائه فى الإسلام وشهرته بالثبات؛ فلذلك أمره بتكرير المبايعة.(5/130)
وحديث مجاشع بن مسعود إنما كان بعد الفتح؛ لأن الرسول قال: (لا هجرة بعد الفتح، إنما هو جهاد ونية) فكل من بايع الرسول قبل الفتح لزمه الجهاد أبدًا ما عاش إلا لعذر يجوز له به التخلف، وكذلك قالوا بحضرة رسول الله فى ارتجازهم يوم الخندق: نحن الذين بايعوا محمدًا على الجهاد ما بقينا أبدًا وكذلك قال الله: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة (فأباح لهم أن يتخلف عن الغزو من ينفر إلى التفقه فى الدين ولم يبح لغير المتفقهين التخلف عن الغزو. وأما من أسلم بعد الفتح فله أن يجاهد وله أن يتخلف بنية صالحة كما قال: (جهاد ونية) إلا أن ينزل عدو أو ضرورة فيلزم الجهاد كل أحد، والدليل على أن كل من بايع النبى (صلى الله عليه وسلم) قبل الفتح لا يجوز له التخلف عن الجهاد أبدًا قصة كعب بن مالك إذ تخلف عن تبوك مع صاحبيه هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع أنهم لم يغزوا و [. . . . .] الله ورسوله والمؤمنون عليهم وأخرجوهم من بين أظهرهم ولم يسلموا عليهم ولم يكلموهم حتى بلغت منهم العقوبة مبلغها وعلم الله إنابتهم فتاب عليهم. وأخو مجاشع بن مسعود أسمه: مجالد ابن مسعود السلمي. قوله: (فما اجتمع اثنان على الشجرة، كانت رحمة) يعنى: جهلهم بها رحمة، خشية أن تعبد وتصير كالقبلة والمسجد، وبيعة الشجرة كانت بالمدينة فرضت الحرب على المسلمين، وقد كانت بيعة العقبة بمكة على ألا يشركوا بالله شيئًا، ولا يسرقوا، ولا يزنوا، على(5/131)
ما ذكر الله فى آخر سورة الممتحنة، وذكره عبادة بن الصامت فى حديثه، ولم يفرض فى هذه البيعة حرب إنما كانت بيعة النساء، وقد تقدم بيان ذلك فى (كتاب الإيمان) فى باب (علامة الإيمان حب الأنصار) . وأما قول عبد الله بن زيد فى زمن الحرة: لا أبايع أحدًا على الموت بعد النبي. وإنما قال ذلك؛ لأنه يرى القعود فى الفتن التى بين المسلمين وترك القتال مع إحدى الطائفتين، وقد ذهب إلى ذلك جماعة من السلف على ما يأتى بيانه فى (كتاب الفتنة) ، فى باب قوله (صلى الله عليه وسلم) : (تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم) .
4 - باب: عزم الإمام على الناس فيما يطيقون
797 / فيه: ابْن مسعود، قَالَ: لَقَدْ سَأَلَنِى رجلٌ عَنْ أَمْرٍ مَا دَرَيْتُ مَا أَرُدُّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلا مُؤْدِيًا نَشِيطًا يَخْرُجُ مَعَ أُمَرَائِنَا فِى الْمَغَازِى، فَيَعْزِمُ عَلَيْنَا فِى أَشْيَاءَ لا نُحْصِيهَا؟ فَقُلْتُ لَهُ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِى مَا أَقُولُ لَكَ إِلا أَنَّا كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَعَسَى أَنْ لا يَعْزِمَ عَلَيْنَا فِى أَمْرٍ إِلا مَرَّةً حَتَّى نَفْعَلَهُ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَنْ يَزَالَ بِخَيْرٍ مَا اتَّقَى اللَّهَ، وَإِذَا شَكَّ فِى نَفْسِهِ شَىْءٌ سَأَلَ رَجُلا فَشَفَاهُ مِنْهُ، وَأَوْشَكَ أَنْ لا تَجِدُوهُ، وَالَّذِى لا إِلَهَ إِلا هُوَ مَا أَذْكُرُ مَا غَبَرَ مِنَ الدُّنْيَا إِلا كَالثَّغْبِ شُرِبَ صَفْوُهُ وَبَقِىَ كَدَرُهُ. قال المهلب: هذا الحديث يدل على شدة لزوم الناس طاعة الإمام ومن يستعمله الإمام؛ ألا ترى تحرج السائل لعبد الله وتعرفه كيف موقع التخلف عن أمر السلطان من السنة، وتحرج عبد الله من أن يفتيه(5/132)
فى ذلك برخصة أو شدة، ولكن قد فسر الرسول (صلى الله عليه وسلم) ذلك فى الحديث الذى أمر فيه بعض قواده أن يجمعوا حطبًا ويوقدونها ففعلوا، فقال لهم: ادخلوها. قال بعضهم: إنما دخلنا فى الإسلام فرارًا من النار، فلم يزالوا يتمارون حتى خمدت النار وسكن غضبه فأخبر الرسول (صلى الله عليه وسلم) بذلك فقال: (لو دخلتموها ما خرجتم منها أبدًا؛ إنما الطاعة فى المعروف) وقول الله تعالى: (لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها (يقضى على ذلك كله، وقد كان له أن يكلفها فوق وسعها فلم يفعل وتفضل فى أخذ العفو، هذا معنى الحديث. وفيه تشكى عبد الله بن مسعود قلة العلماء وتغير الزمن عما كان عليه فى وقت رسول الله. وقوله: (مؤديًا) معناه: ذو أداة وسلاح تام العدة والشكل، عن أبى عبيد. وقوله: (ما غبر من الدنيا) يعنى: بقى، والغابر هو الباقى، ومنه قوله: (إلا عجوزًا فى الغابرين (يعنى: ممن تخلف فلم تمض مع لوط. وقوله: (كالثغب) قال صاحب العين: الثغب: ما يستنقع فى صخرة، والجمع: ثغبان.(5/133)
5 - باب
كَانَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ أَوَّلَ النَّهَارِ أَخَّرَ الْقِتَالَ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ) 1798 / فيه: ابْن أَبِى أَوْفَى، إِنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) فِى بَعْضِ أَيَّامِهِ الَّتِى لَقِىَ فِيهَا، انْتَظَرَ حَتَّى مَالَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ قَامَ فِى النَّاسِ، فَقَالَ: (أَيُّهَا النَّاسُ، لا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ) . قال المهلب: معنى هذا الحديث والله أعلم مفهوم من قوله: (نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور) فهو يستبشر بما نصره الله به من الرياح، ويرجو أن يهلك الله أعاديه بالدبور كما أهلك عادًا، وإذا أهلك عدوه بالدبور فقد نصر بها، فكان إذا لم يقاتل بالغدو وهو الوقت الذى تهب فيه الرياح، أخر حتى تزول الشمس وتهب رياح النصر. وقد بين هذا المعنى ما رواه قاسم بن أصبغ قال: حدثنا الحسن بن سلام السواق، قال: حدثنا عفان قال: حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا أبو عمران الجونى، عن علقمة بن عبد الله المزنى، عن معقل بن يسار قال: قال النعمان بن مقرن: (شهدت القتال مع رسول الله فكان إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تزول الشمس وتهب رياح النصر) رواه البخارى فى باب الجزية، وقال: (انتظر حتى تهب الأرواح وتحضر الصلوات) وأوقات الصلوات أفضل الأوقات ويستجاب فيها الدعاء، والله أعلم.(5/134)
6 - باب اسْتِئْذَانِ الرَّجُلِ الإمَامَ وقوله تَعَالَى: (الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ) [النور: 62]
799 / فيه: جَابِر، غَزَوْتُ مَعَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَتَلاحَقَ بِىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَأَنَا عَلَى نَاضِحٍ لَنَا قَدْ أَعْيَا، فَتَخَلَّفَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَزَجَرَهُ وَدَعَا لَهُ، فَمَا زَالَ بَيْنَ يَدَىِ الإبِلِ قُدَّامَهَا يَسِيرُ، فَقَالَ: (كَيْفَ تَرَى بَعِيرَكَ) ؟ قُلْتُ: بِخَيْرٍ، أَصَابَتْهُ بَرَكَتُكَ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى عَرُوسٌ، فَاسْتَأْذَنْتُهُ، فَأَذِنَ لِى، فَتَقَدَّمْتُ النَّاسَ إِلَى الْمَدِينَةِ. . . . الحديث. قال المهلب: هذه الآية أصل فى أن لا يبرح أحد عن السلطان إذا جمع الناس لأمر من أمور المسلمين يحتاج فيه إلى اجتماعهم أو جهادهم عدوًا إلا بإذنه؛ لأن الله تعالى قال: (فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فائذن لمن شئت منهم (فعلم أن الإمام ينظر فى أمر الذى استأذنه، فإن رأى أن يأذن له أذن، وإن لم ير ذلك لم يأذن له؛ لأنه لو أبيح للناس تركه (صلى الله عليه وسلم) والانصراف عنه لدخل الخرم وانفض الجمع ويجد العدو غرة، فيثبون عليها وينتهزون الفرصة فى المسلمين. وفيه أن من كان حديث عهد بعرس أو متعلق القلب بأهله وولده فلا بأس أن يستأذن فى التعجيل عند الغفلة إلى دار الإسلام كما فعل جابر، وفى هذا المعنى حديث لداود النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال فى غزوة خرج إليها: (لا يتبعنى من ملك بضع امرأة، ولم يبن بها، أو بنى دارًا ولم يسكنها) فإنما أراد أن يخرج معه من لم يشغل نفسه بشيء من علائق الدنيا؛ ليجتهد فيما خرج له وتصدق نيته ويثبت فى(5/135)
القتال ولا يفر؛ فيدخل الجبن على غيره ممن لا يريد الفرار، وسيأتى ما بقى من معانى هذا الباب فى (كتاب البيوع) وغيره إن شاء الله.
7 - باب: مُبَادَرةِ الإِمَامِ عِنْدَ الفَزَع
800 / فيه: أَنَس، كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَزَعٌ، فَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَرَسًا لأبِى طَلْحَةَ، فَقَالَ: (مَا رَأَيْنَا مِنْ شَىْءٍ، وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا) . وترجم له باب (السرعة والركض عند الفزع) وباب (الخروج فى الفزع وحده) وترجم له باب (إذا فزعوا من الليل) وقال فيه: (فزع أهل المدينة ليلا. . .) . وقد تقدم القول فى هذه الأبواب كلها، وجملة ذلك أن الإمام ليس له أن يسخو بنفسه وينبغى له أن يشح بنفسه؛ لأن فى ذلك نظمًا للمسلمين وجمعًا لكلمتهم إلا أن يكون من أهل الغناء الشديد والنكاية القوية كما كان (صلى الله عليه وسلم) قد علم أن الله يعصمه ويؤيده ولا يخزيه فله أن يأخذ بالشدة على نفسه؛ ليقوى قلوب المسلمين وليتأسوا به فيجتهدوا.
8 - باب الْجَعَائِلِ وَالْحُمْلانِ فِى السَّبِيلِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، لابْنِ عُمَرَ: أريد الْغَزْوَ، قَالَ: إِنِّى أُحِبُّ أَنْ أُعِينَكَ بِطَائِفَةٍ مِنْ مَالِى، قُلْتُ: أَوْسَعَ اللَّهُ عَلَىَّ، قَالَ: إِنَّ غِنَاكَ لَكَ، وَإِنِّى أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَالِى فِى هَذَا الْوَجْهِ. وَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ نَاسًا يَأْخُذُونَ مِنْ هَذَا الْمَالِ؛ لِيُجَاهِدُوا، ثُمَّ لا يُجَاهِدُونَ، فَمَنْ فَعَلَ فَنَحْنُ أَحَقُّ بِمَالِهِ حَتَّى نَأْخُذَ مِنْهُ مَا أَخَذَ. وَقَالَ طَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ: إِذَا دُفِعَ إِلَيْكَ شَىْءٌ تَخْرُجُ بِهِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَاصْنَعْ بِهِ مَا شِئْتَ وَضَعْهُ عِنْدَ أَهْلِكَ.(5/136)
01 / فيه: عُمَر، حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَرَأَيْتُهُ يُبَاعُ، فَسَأَلْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) أشْتَرِيهِ، فَقَالَ: (لا تَشْتَرِهِ، وَلا تَعُدْ فِى صَدَقَتِكَ) . 1802 / وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِى مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ، وَلَكِنْ لا أَجِدُ حَمُولَةً، وَلا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ، وَيَشُقُّ عَلَىَّ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّى) . قال المؤلف: قوله: (باب الجعائل) ، إنما أراد أن يخرج الرجل شيئًا من ماله يتطوع به فى سبيل الله كما فعل ابن عمر أو يعين به من لا مال له من الغابرين كالفرس الذى حمل عليه عمر فى سبيل الله فهذا حسن مرغب فيه، وليس من باب الجعائل التى كرهها العلماء، فقال مالك: أكره أن يؤاجر الرجل نفسه أو فرسه فى سبيل الله، وكره أن يعطيه الوالى الجعل على أن يتقدم إلى الحصن. ولا نكره الجعائل لأهل العطاء؛ لأن العطاء مأخوذ على هذا الوجه. قال مالك: لا بأس بالجعائل فى البعوث، لم يزل الناس يتجاعلون عندنا بالمدينة يجعل القاعد للخارج إذا كانوا من أهل ديوان واحد؛ لأن عليهم سد الثغور، وأصحاب أبى حنيفة يكرهون الجعائل ما كان بالمسلمين قوة أو فى بيت المال ما يفى بذلك، فإن لم تكن لهم قوة ولا مال فلا بأس أن يجهز بعضهم بعضًا على وجه المعونة لا على وجه البدل، وهذا الموضع ينبغى أن يكون وفاقًا لقول مالك. وقد روى أيوب، عن ابن سيرين، عن ابن عمر قال: كان القاعد يمنح الغازى، فأما أن يبيع الرجل غزوه فلا أدرى ما هو. وقال الشافعى: لا يجوز أن يغزو بجعل يأخذه من رجل، وأرده إن غزا به، وإنما أجيزه من السلطان دون غيره؛ لأنه يغزو بشيء من حقه، واحتج بأن الجهاد فرض على الكفاية، فمن فعله وقع عن فرضه فلا يجوز أن يستحق على غيره عوضًا.(5/137)
قال ابن القصار: فيقال له: ليس كل من دخل فى شيء يتعين عليه بدخوله فيه يكون فى ابتدائه متعينًا عليه؛ ألا ترى أن المتطوع بالحج فى الابتداء ليس بواجب عليه، وإذا دخل فيه تعين فرض إتمامه عليه، وكذلك المجعول له لم يكن الجهاد متعين عليه فى الابتداء، فلما دخل فيه نائبًا عن غيره تعين عليه، إلا أنه قد سد فى جهاد العدو مسد الجاعل وناب منابه؛ فجاز له الجعل. فإن قيل: فإن المجاهد يستحق سهمًا من الغنيمة فلو وقع فعله عن غيره لم يصح ذلك، وإن وقع فعله عن نفسه لم يجب له جعل. قيل: وما يمنع من هذا؟ هو يستحق الجعل بالمعاونة ويحصل الجعل له؛ لأن المعنى المقصود من الجهاد قد حصل كما يحصل من الجاعل لو حضر، وقلنا إن المجعول له لم يتعين عليه الفرض فى الابتداء، وإنما جعل للجعل ونوى الجهاد فتعين عليه بدخوله، وقد أدى القاعد للخارج مائة دينار فى بعث فى أيام عمر، وكان مسروق يجعل عن نفسه إذا خرج البعث. قال المهلب: أما قول طاوس ومجاهد: إذا دفع إليك شيء فى سبيل الله فاصنع به ما شئت. فإنه يخرج من حديث عمر فى الفرس؛ لأنه وضع عنده للجهاد فأخذ ثمنه وانتفع به وإنما باعه الرجل؛ لأنه لم يكن حبيسًا، وإنما كان حملانًا للجهاد صدقة؛ لقول الرسول: (لا تعد فى صدقتك) . وقد روى عن ابن عباس وابن الزبير خلاف قول طاوس ومجاهد، قال ابن عباس: أنفقها فى الكراع والسلاح. وقال ابن الزبير: أنفقها فى سبيل الله. وقال النخعى: كانوا يعطون أحب إليهم من أن يأخذوا. وسيأتى تمام القول فى قصة بيع الفرس فى باب (إذا حمل(5/138)
على فرس فرآها تباع) بعد هذا إن شاء الله وفى حديث عمر وأبى هريرة الحمل على الخيل فى سبيل الله. وقوله: (لولا أن أشق على أمتى ما تخلفت عن سرية) يريد أنهم كانوا يقتدون به فيخرجون على العسر واليسر ولا يتخلفون عنه صلى الله عليه؛ لحرصهم على اتباعه ورغبتهم فى امتثال سيرته.
9 - باب الأجِيرِ
وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ: يُقْسَمُ لِلأجِيرِ مِنَ الْمَغْنَمِ. وَأَخَذَ عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ فَرَسًا عَلَى النِّصْفِ، فَبَلَغَ سَهْمُ الْفَرَسِ أَرْبَعَ مِائَةِ دِينَارٍ، فَأَخَذَ مِائَتَيْنِ، وَأَعْطَى صَاحِبَهُ مِائَتَيْنِ. 1803 / فيه: يَعْلَى، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: (غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) غَزْوَةَ تَبُوكَ، فَحَمَلْتُ عَلَى بَكْرٍ، فَاسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا، فَقَاتَلَ رَجُلا، فَعَضَّ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، فَانْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ فِيهِ، وَنَزَعَ ثَنِيَّتَهُ. . . . الحديث. اختلف العلماء فى الأجير فقال مالك وأبو حنيفة: لا يسهم له. وهو قول إسحاق. وقال الشافعى: يسهم له قاتل أو لم يقاتل. وحجة مالك والكوفى قوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شىء فإن لله خمسه (فجعلها للغانمين، ومن لم يقاتل عليها فليس بغانم فلا يستحق شيئًا وروى عن سلمة بن الأكوع قال: (كنت تابعًا لطلحة بن عبيد الله وأنا غلام شاب، فأعطاه رسول الله سهم الفارس والراجل جميعًا) واحتج الشافعى بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (الغنيمة لمن حضر الوقعة) . وهو قول أبى بكر وعمر وهو إجماع العلماء. قال المهلب: وأما حديث يعلى فليس فيه أن النبى عليه السلام(5/139)
أسهم لأجير، وإنما حاول البخارى إثبات ذلك بالدليل؛ لأن فى الحديث جواز استئجار الحر فى الجهاد، وقد خاطب الله جماعة المؤمنين الأحرار بقوله: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه (فدخل الأجير فى هذا الخطاب؛ فوجب له سهم المجاهد الغانم لما تقدم من المخاطبة له، وأما فعل عطية بن قيس فلا يجوز عند مالك وأبى حنيفة والشافعى؛ لأنها إجارة مجهولة، فإذا وقع مثل هذا كان لصاحب لادابة كراء مثلها، وما أصاب الراكب فى المغنم فله، وأجاز الأوزاعى وأحمد بن حنبل أن يعطى فرسه على النصف فى الجهاد.
0 باب: مَا قِيلَ فِى لِوَاء النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم)
804 / فيه: قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ، وَكَانَ صَاحِبَ لِوَاءِ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَنَّهُ أَرَادَ الْحَجَّ فَرَجَّلَ. 1805 / وفيه: سَلَمَةَ، كَانَ عَلِىٌّ تَخَلَّفَ عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِى خَيْبَرَ، وَكَانَ بِهِ رَمَدٌ، فَلَحِقَ بِالنَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمَّا كَانَ مَسَاءُ اللَّيْلَةِ الَّتِى فَتَحَهَا فِى صَبَاحِهَا، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (لأعْطِيَنَّ الرَّايَةَ - أَوْ لَيَأْخُذَنَّ - غَدًا رَجُلٌ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَىَ يَدَيْهِ) ، فَإِذَا نَحْنُ بِعَلِىٍّ، وَمَا نَرْجُوهُ، فَقَالُوا: هَذَا عَلِىٌّ، فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَىَ يَدَيْهِ. 1806 / وفيه: نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، أن الْعَبَّاسَ، قَالَ لِلْزُّبَيْرِ: هَاهُنَا أَمَرَكَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَنْ تَرْكُزَ الرَّايَةَ. قال المهلب: فيه أن لواء الإمام ينبغى أن يكون له صاحب معلوم، وإن كان من الأنصار فهو أولى؛ للاستنان بالنبى - (صلى الله عليه وسلم) - لأن(5/140)
قيس بن سعد كان من الأنصار، وهم الذين كانوا عاقدوا الرسول أن يقاتلوا الناس كافة حتى يقولوا: لا إله إلا الله. فهم أشد الناس فى قتال العدو بعد من هاجر مع النبى - عليه السلام - وبالأنصار نادى الرسول يوم حنين أول من نادى. وفى حديث على أيضًا أن الراية لا يجب أن يحملها إلا من ولاه الإمام إياها ولا تكون فيمن أخذها إلا بولاية. وقال الطبرى: فيه الدلالة البينة على إمام المسلمين إذا وجد جيشًا أو سرية أن يؤمر عليهم أميرًا موثوقًا بنيته وبصيرته فى قتالهم ممن له بأس وعنده معرفة سياسة الجيش وتدبير الحرب، وذلك أنه (صلى الله عليه وسلم) وجه إلى خيبر من أفضل أصحابه وأنفذهم بصيرة وغناء وأنكاهم للعدو، وجعل له لواء وراية يجتمع جيشه تحتها فيثبتوا لثباتها عند اللقاء ويرجعوا لرجعتها. وقوله: (لأعطين الراية) فعرفها بالألف واللام يدل أنها كانت من سنته - (صلى الله عليه وسلم) - فى حروبه فينبغى أن يسار بسيرته فى ذلك. وروى أن لواء النبى - (صلى الله عليه وسلم) - كان أبيض ورايته سوداء من مرط مرجل لعائشة. وقال جابر: دخل النبى مكة ولواؤه أبيض. وقال مجاهد: كان لرسول الله لواء أغبر. وروى أن راية على يوم صفين كانت حمراء مكتوب فيها: محمد رسول الله، وكانت له راية سوداء. قال المهلب: وفى حديث الزبير أن الراية لا يركزها إلا بإذن الإمام؛ لأنها علامة على الإمام ومكانه؛ فلا ينبغى بأن يتصرف فيها إلا بأمره، ومما يدل أنها ولاية قوله (صلى الله عليه وسلم) : (أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها خالد من غير إمرة ففتح له) . فهذا نص فى ولايتها.(5/141)
وقوله: (أراد الحج فرجل) . يريد أنه رجل شعره؛ لطول بقائه شعثًا، والله أعلم. قال الطبرى: وفى حديث على الخبر عن بعض أعلام النبوة، وذلك خبره عن الغيب الذى لا يكون مثله إلا بوحى من الله، وهو قوله: (يفتح الله على يديه) .
1 - باب قَوْلِ الرسول: (نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ) ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ) [آل عمران: 151]
807 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأرْضِ، فَوُضِعَتْ فِى يَدِى) . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَقَدْ ذَهَبَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَأَنْتُمْ تَنْتَثِلُونَهَا. 1808 / وفيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ لما قرأ كِتَابِ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ، وَارْتَفَعَتِ الأصْوَاتُ، وَأُخْرِجْنَا، فَقُلْتُ لأصْحَابِى: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِى كَبْشَةَ، يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِى الأصْفَرِ. قال المهلب قوله: (نصرت بالرعب) . هو شيء خصه الله وفضله به، لم يؤته أحدًا غيره ورأينا ذلك عيانًا، أخبرنا أبو محمد الأصيلى قال: افتتحنا برشلونة مع ابن أبى عامر، ثم صح عندنا بعد ذلك عمن أتى من القسطنطينية أنه لما اتصل بأهلها افتتاحنا برشلونة بلغ بهم الرعب إلى أن غلقوا أبواب القسطنطينية ساعة بلوغهم الخبر بها نهارًا وصاروا على صورها وهى على أكثر من شهرين. وأما قوله: (أتيت بمفاتيح خزائن الأرض) فإن العرب كانت أقل(5/142)
الأمم أموالا فبشرهم أنها ستصير أموال كسرى وقيصر إليهم، وهم الذين يملكون الخزائن. وقوله: (وقد ذهب رسول الله وأنتم تنتثلونها) يعنى: أن رسول الله ذهب ولم ينل منها شيئًا، بل قسم ما أدرك منها بينكم وآثركم بها، ثم أنتم اليوم تنتثلونها على حسب ما وعدكم. وهذا الحديث فى معنى حديث مصعب بن عمير الذى مضى ولم يأخذ من الدنيا، زهدًا فكذلك رسول الله. وأما جوامع الكلم فهو القرآن؛ لأنه تأتى منه الآية فى معان مختلفة ولها تأويلات مختلفة، وكل يؤدى إلى [. . . .] والأخذ به، يدل على ذلك قوله تعالى: (ما فرطنا فى الكتاب من شىء (فهذا يدل أن القرآن جوامع، وبقوله: (خذ العفو واؤمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين (فلو أن هذا نزل فى تدبير الدنيا والآخرة لكفاها.
2 - باب حَمْلِ الزَّادِ فِى الْغَزْوِ وقوله: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) [البقرة: 197]
809 / فيه: أَسْمَاءَ، أنها صَنَعْتُ سُفْرَةَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِى بَيْتِ أَبِى بَكْرٍ، حِينَ أَرَادَ أَنْ يُهَاجِرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، قَالَتْ: فَلَمْ نَجِدْ لِسُفْرَتِهِ وَلا لِسِقَايَتِهِ مَا نَرْبِطُهُمَا فَقُلْتُ لأبِى بَكْرٍ: وَاللَّهِ مَا أَجِدُ شَيْئًا أَرْبِطُ بِهِ إِلا نِطَاقِى، قَالَ: فَشُقِّيهِ بِاثْنَيْنِ، وَارْبِطِيهِ بِوَاحِدٍ السِّقَاءَ وَبِالآخَرِ السُّفْرَةَ، فَفَعَلْتُ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ.(5/143)
10 / وفيه: جَابِر، كُنَّا نَتَزَوَّدُ لُحُومَ الأضَاحِىِّ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى الْمَدِينَةِ. 1811 / وفيه: سُوَيْدَ بْنَ النُّعْمَانِ، أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) عَامَ خَيْبَرَ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالصَّهْبَاءِ، وَهِىَ مِنْ خَيْبَرَ، وَهِىَ أَدْنَى خَيْبَرَ، فَصَلَّوُا الْعَصْرَ، فَدَعَا الرسول (صلى الله عليه وسلم) بِالأطْعِمَةِ، فَلَمْ يُؤْتَ إِلا بِسَوِيقٍ، فَلُكْنَا، فَأَكَلْنَا وَشَرِبْنَا، ثُمَّ قَامَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَمَضْمَضَ، [وَمَضْمَضْنَا] ، وَصَلَّيْنَا. 1812 / وفيه: سَلَمَةَ، خَف أَزْوَادُ النَّاسِ وَأَمْلَقُوا، فَأَتَوُا النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) [فِى نَحْرِ إِبِلِهِمْ، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَلَقِيَهُمْ عُمَرُ] فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: مَا بَقَاؤُكُمْ بَعْدَ إِبِلِكُمْ؟ فَدَخَلَ عُمَرُ عَلَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (نَادِ فِى النَّاسِ يَأْتُونَ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ، فَدَعَا وَبَرَّكَ عَلَيْهِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ بِأَوْعِيَتِهِمْ) ، فَاحْتَثَى النَّاسُ حَتَّى فَرَغُوا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنِّى رَسُولُ اللَّهِ) . قال المهلب: فيه من الفقه أخذ الزاد وتحمل ثقله فى الأسفار البعيدة لفعل خير البرية وأكرمها على الله وعلى عباده وشفيع الأمم كلها يوم القيامة، وهذا يدفع ما يدعيه أهل البطالة من الصوفية والمخرقة على الناس باسم التوكل الذى المتزودون أولى به منهم. وقوله: إن أكرم الأمم قد أملقوا بالصهباء فجمع رسول الله بقايا أزوادهم وجعلهم فيه شركاء سواء، ليس من كان له بقية منها بأولى ممن ليس له شيء. ففى هذا من الفقه أنه إذا أصاب الناس مخمصة ومجاعة أن يأمر الإمام الناس بالمواساة ويجبرهم على ذلك، على وجه النظر لهم بثمن وبغير ثمن، وقد استدل بعض الفقهاء من هذا الحديث أنه جائز للإمام عند قلة الطعام أن يأمر من عنده طعام يفضل عن قوته أن يخرجه(5/144)
للبيع، ويجبره على ذلك لما فيه من صلاح الناس، ولم ير ذلك مالك وقال: لا يجبر الناس على إخراج الطعام فى الغلاء. وفيه من الفقه أن للإمام أن يحبس الناس فى الغزو ويصبرهم على الجوع وعلى غير زاد، ويعللهم ما أمكن حتى يتم قصده ونصبه الضلعين إنما فعله اعتبارًا لخلق الله وتعجبًا لعظيم قدرته؛ ليخبر بذلك المخبر فيتذكر بذلك السامع. وقول عمر: (ما بقاؤكم بعد إبلكم) فيه من الفقه اعتراض الوزير رأى الأمير وإن لم يشاوره الأمير؛ لأن الخطة تعطيه ذلك، وقد جعل ذلك أبو بكر الصديق فى سلب قتادة. وفيه أن الظهر عليه مدار المسافر لاسيما بالحجاز الذى الراجل فيه هالك فى أغلب أحواله إن لم يأو إلى ظهر أو صاحب ظهر؛ ليحمل له بعض مؤنته؛ ألا ترى قول عمر: (ما بقاؤكم بعد إبلكم) يعنى: أن بقاءهم يسير؛ لغلبة الهلكة على الراجل. وهذا القول من عمر أصل نهى الرسول عن أكل لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر استبقاء لظهورها ليحمل المسلمين عليها وتحمل أزوادهم، وفى قوله: (ما بقاؤكم بعد إبلكم) دليل على أن الأرض تقطع مسافتها وليست تطوى المسافات كما يدعى بعض البطالين أنه يحج من قاصية من قواصى الأرض فى ثلاثة أيام أو أربعة. وهذا منتقض من وجوه، وإنما قال النبى (صلى الله عليه وسلم) -: (إن الأرض تطوى بالليل) . أى أنها تقرب مسافاتها بتيسير المشى وقطع ما لا يرى منها، فإذا أصبح وعرف مكانه حمد سراه (عند الصباح يحمد القوم السرى) .(5/145)
وفيه علامة من علامات النبوة فى بركة الطعام القليل حتى تزودوا منه أجمعون، فكيف بمن يدعى من البطالين قلب الأعيان بعد رسول الله. وأما قوله: (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى (فإن جماعة من المفسرين قالوا: نزلت فى ناس من أهل اليمن كانوا يخرجون إلى مكة بغير زاد، وقد تقدم ذلك فى (كتاب الحج) .
3 باب: حمل الزاد على الرقاب
813 / فيه: جَابِر، خَرَجْنَا، وَنَحْنُ ثَلاثُ مِائَةٍ، نَحْمِلُ زَادَنَا عَلَى رِقَابِنَا، فَفَنِىَ زَادُنَا، حَتَّى كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا يَأْكُلُ فِى كُلِّ يَوْمٍ تَمْرَةً، قَالَ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، وَأَيْنَ كَانَتِ التَّمْرَةُ تَقَعُ مِنَ الرَّجُلِ؟ قَالَ: لَقَدْ وَجَدْنَا فَقْدَهَا حِينَ فَقَدْنَاهَا، حَتَّى أَتَيْنَا الْبَحْرَ، فَإِذَا حُوتٌ قَدْ قَذَفَهُ الْبَحْرُ، يعنى السمك، فَأَكَلْنَا مِنْهُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا مَا أَحْبَبْنَا. قال المهلب: هذه التمرة إنما كانت تغنى عنهم ببركة النبى وبركة الجهاد معه، وإنما بارك الله لهم فى التمرة حتى وجدوا لها مسدا من الجوعة متبينة فى أجسامهم وصبرهم حين فقدوها على الجوع؛ لئلا تخرق العادة عن رتبتها، ولا تخرج الأمور على معهودها المتسق فى حكمته مع أنه قدير أن يخلق لهم طعامًا ويجعل لهم من الحجارة خبزًا ومن الجلاميد فاكهة، لكنه مع قدرته على ذلك لم يخرجهم عن العادة، وفيه الترجمة.(5/146)
4 باب: إِرْدَافِ المَرْأَةِ خَلْفَ أَخِيهَا
814 / فيه: عَائِشَةَ، قلت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَرْجِعُ أَصْحَابُكَ بِأَجْرِ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَلَمْ أَزِدْ عَلَى الْحَجِّ؟ فَقَالَ لَهَا: (اذْهَبِى، وَلْيُرْدِفْكِ عَبْدُالرَّحْمَنِ) ، فَأَمَرَ عَبْدَالرَّحْمَنِ أَنْ يُعْمِرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ. قال المهلب: فيه جواز ركوب رجلين الدابة وهذا إنما هو محمول على طاقة الدابة، فإذا قصرت قوتها عن شيء لم يجز حمله عليها إذا كان مسرفًا فى المشقة عليها، وأما المشقة اليسيرة التى تستطيع بمثلها، فللرجل أن يحمل دابته ومملوكه ذلك ما لم يكن إسرافًا. وركوب المرأة مع الرجل على الدابة وإن كانت ذات محرم منه، فإن السنة فى ذلك والأدب أن تكون خلفه على الدابة، ولا يحملها أمامه خوف الفتنة وكذلك فعل موسى بابنة شعيب حين دلته على الطريق وكانت الريح تضرب ثيابها فقال لها: كونى خلفى وأشيرى لى الطريق. ولذلك قالت لأبيها: (إن خير من استأجرت القوى الأمين (.
5 - باب الارْتِدَافِ فِى الْغَزْوِ وَالْحَجِّ
815 / فيه: أَنَس، كُنْتُ رَدِيفَ أَبِى طَلْحَةَ، وَإِنَّهُمْ لَيَصْرُخُونَ بِهِمَا جَمِيعًا الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. وقد تقدم ذكر الارتداف فى (كتاب الحج) ومعناه: التعاون على أفعال البر فى الغزو والحج، وكل سبيل لله تعالى وأن ذلك من السنة ومن فعل السلف الصالح وهو من باب التواضع.(5/147)
6 - باب الرِّدْفِ عَلَى الْحِمَارِ
816 / فيه: أُسَامَة، أَنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَى إِكَافٍ عَلَيْهِ قَطِيفَةٌ، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ وَرَاءَهُ. 1817 / فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) أَقْبَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ عَلَى رَاحِلَتِهِ مُرْدِفًا أُسَامَةَ. . . الحديث. قال المهلب: فى هذا التواضع من وجوه: أحدها: ركوب الإمام الحمار، ثم ركوبه على قطيفة، ثم مردفًا غلامًا. وقال الطبرى: فيه البيان على أنه (صلى الله عليه وسلم) مع محله من الله وجلالة منزلته لم يكن يرفع نفسه عن أن يحمل ردفًا معه على دابته، ولكنه كان يردف لتتأسى به فى ذلك أمته، فلا يأنفوا مما لم يأنف منه ولا يستنكفوا مما لم يستنكف منه.
7 - باب مَنْ أَخَذَ بِالرِّكَابِ وَنَحْوِهِ
818 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ يَعْدِلُ بَيْنَ الاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ، فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا، أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ. . . . .) الحديث. قال المهلب: الأخذ بالركاب من الفضائل، وهى صدقة من الآخذ بالركاب على الراكب؛ لأنه معروف فإن قيل: أين موضع الترجمة من الحديث؟ . قيل: هو فى قوله: (يعين الرجل على دابته) فدخل فيه الأخذ بالركاب وغيره،(5/148)
وقد روى عن ابن عباس: أنه اخذ بركاب زيد بن ثابت قال له: لا تفعل يا ابن عم رسول الله فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا. فأخذ زيد يد ابن عباس فقبلها فقال له: لا تفعل فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بآل رسول الله.
8 - باب السَّفَرِ بِالْمَصَاحِفِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ
وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ عُبَيْدِاللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . وَقَدْ سَافَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَأَصْحَابُهُ فِى أَرْضِ الْعَدُوِّ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْقُرْآنَ. 1819 / فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) نَهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ. هذا الباب وقع فيه غلط من الناسخ؛ لأن قوله: وكذلك يروى عن محمد بن بشر، ولم يتقدم فى هذا الباب ذكر شيء يشار إليه، فلذلك لا معنى له، والصواب فيه أنه يكون حديث مالك، عن نافع، عن ابن عمر فى أول الباب، ثم يقع بعده وكذلك يروى عن محمد ابن بشر، وتابعه ابن إسحاق، وإنما احتاج إلى ذكر هذه المتابعة؛ لأن بعض الناس زاد فى الحديث: مخافة أن يناله العدو. وجعله من لفظ النبى - (صلى الله عليه وسلم) - ولم تصح هذه الزيادة عند مالك ولا عند البخارى، وإنما هى من قول مالك. قال المهلب: وفائدة قوله: (وقد سافر النبى وأصحابه فى أرض العدو وهم يعلمون القرآن) فإنما أراد أن يبين أن نهيه - عليه السلام - عن(5/149)
السفر بالقرآن إلى أرض العدو، ليس على العموم، ولا على كل الأحوال، وإنما هو فى العساكر والسرايا التى ليست مأمونة، وأما إذا كان فى العساكر العظام فيجوز حمل القرآن إلى أرض العدو، ولأن أصحاب رسول الله كان يعلم بعضهم بعضًا القرآن؛ لأنهم لم يكونوا مستظهرين له. وقد يمكن أن يكون عند بعضهم صحف فيها قرآن يعلمون منها؛ فاستدل البخارى أنهم فى تعلمهم كان فيهم من يتعلم بكتاب، فلما جاز لهم تعلمهم فى أرض العدو بغير كتاب وبكتاب كان فيه إباحة لحمله إلى أرض العدو بغير كتاب وبكتاب كان فيه إباحة لحمله إلى أرض العدو إذا كان عسكرًا مأمونًا، وهذا قول أبى حنيفة. ولم يفرق مالك بين العسكر الكبير والصغير فى النهى عن ذلك، ومعنى النهى عن السفر به إلى أرض العدو خشية أن يناله العدو ولا يكرموه، وقد أخبر الله أنه) فى صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدى سفرة كرام بررة (وهم الملائكة، وقال تعالى: (لا يمسه إلا المطهرون (وهم الملائكة أيضًا ففهم من هذا الندب إلى أن لا يمسه عندنا إلا طاهر، وأن نهيه (صلى الله عليه وسلم) عن السفر به إلى أرض العدو ليس على وجه التحريم والفرض وإنما هو على معنى الندب للإكرام للقرآن؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قد كتب إلى قيصر بآية إلى آخرها وهو يعلم أنهم نجس وعلم أنهم يقرءونها، فصح أن نهيه عن ذلك فى حال دون حال وفى العساكر التى ليست مأمونة.(5/150)
9 - باب التَّكْبِيرِ عِنْدَ الْحَرْبِ
820 / فيه: أَنَس، صَبَّحَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، خَيْبَرَ، وَقَدْ خَرَجُوا بِالْمَسَاحِى عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: هَذَا مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ، فَلَجَئُوا إِلَى الْحِصْنِ، فَرَفَعَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَدَيْهِ، وَقَالَ: (اللَّهُ أَكْبَرُ. . . . .) الحديث. قال المهلب: إنما فعل النبى هذا استشعارًا لكبرياء الله على ما تقع عليه العين من عظيم خلقه وكبير مخلوقاته أنه أكبر الأشياء وليس ذلك على معنى أن غيره كبير وإنما معنى قولهم: الله أكبر: الله الكبير، هذا قول أهل اللغة، وقال معمر عن أبان: لم يعط أحد التكبير إلا هذه الأمة، وكذلك يفعل (صلى الله عليه وسلم) فى أسباب الجبال، ورفع اليدين فى الدعاء، والتكبير استسلام لله تعالى وتبرؤ من الحول والقوة إليه، وقد روى سفيان، عن أيوب فى هذا الحديث (حالوا إلى الحصن) أى: حولوا إليه. يقال: حلت عن المكان إذا تحولت عنه و [. . . . .] حلت عنه.
0 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ بالتَّكْبِيرِ
821 / فيه: أَبُو مُوسَى، كُنَّا مَعَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَكُنَّا إِذَا أَشْرَفْنَا عَلَى وَادٍ هَلَّلْنَا وَكَبَّرْنَا، ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، إِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائِبًا، إِنَّهُ مَعَكُمْ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) . قال المهلب: إنما نهاهم - والله أعلم - عن رفع الصوت إبقاء عليهم ورفقًا بهم؛ لأنهم كانوا فى مشقة السفر فأراد: اكلفوا من(5/151)
العمل ما تطيقون وكان بالمؤمنين رحيمًا، ثم أعلمهم أن الله يعلم خفى كلامهم بالتكبير كما يسمع عاليه؛ إذ لا آفة تمنعه من ذلك؛ لأنه سميع قريب. قال الطبرى: فى هذا الحديث من الفقه كراهية رفع الصوت بالدعاء وهو قول عامة السلف من الصحابة والتابعين، حدثنى يعقوب ابن إبراهيم، حدثنى إسماعيل، عن هشام، حدثنى قتادة، عن الحسن، عن قيس بن عبادة قال: (كان أصحاب رسول الله يكرهون رفع الصوت عند ثلاثة مواطن: عند الذكر، وعند القتال، وعند الجنائز) . وروى يحيى بن سعيد، حدثنا هشام، عن قتادة، عن الحسن، عن قيس بن عبادة قال: (كان أصحاب رسول الله يكرهون رفع الصوت ورفع الأيدى عند القتال، والدعاء) . قال سعيد بن أبى عروبة: حدثنا قتادة، عن سعيد بن المسيب قال: (ثلاث مما أحدث الناس: رفع الصوت عند الدعاء، ورفع الأيدى، واختصار السجود) وذكر عن مجاهد أنه رأى رجلا يرفع صوته بالدعاء فحصبه. وقوله: (أربعوا على أنفسكم) ففى كتاب الأفعال: ربع به: رفق به، وربع عن الشيء: كف عنه، ومنه قيل: أربع على نفسك.
1 - باب التَّكْبِيرِ إِذَا عَلا شَرَفًا
822 / فيه: جَابِر، كُنَّا إِذَا صَعِدْنَا كَبَّرْنَا، وَإِذَا نَزلنا سَبَّحْنَا. 1823 / وفيه: ابْن عُمَرَ، كَانَ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا قَفَلَ مِنَ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ -(5/152)
وَلا أَعْلَمُهُ إِلا قَالَ: الْغَزْوِ - يَقُولُ: كُلَّمَا أَوْفَى عَلَى ثَنِيَّةٍ أَوْ فَدْفَدٍ، كَبَّرَ ثَلاثًا، ثُمَّ قَالَ: (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ سَاجِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الأحْزَابَ وَحْدَهُ) . قال المهلب: تكبيره عند إشرافه على الجبال استشعار لكبرياء الله عندما تقع عليه العين من عظيم خلقه أنه أكبر من كل شيء تعالى وقد تقدم هذا فى باب التكبير عند الحرب. وأما تسبيحه فى بطون الأودية فهو مستنبط من قصة يونس (صلى الله عليه وسلم) وتسبيحه فى بطن الحوت، قال تعالى: (فلولا أنه كان من المسبحين للبث فى بطنه إلى يوم يبعثون (فنجاه الله بذلك من الظلمات فامتثل النبى (صلى الله عليه وسلم) هذا التسبيح فى بطون الأودية؛ لينجيه الله منها ومن أن يدركه عدوه، وقد قيل: إن تسبيح يونس كان صلاة قبل أن يلتقمه الحوت فروعى به فضلها، الأول أولى بدليل تسبيح الرسول فى بطون الأودية وكل منخفض. وقال غيره: معنى تسبيحه فى بطون الأودية وما انخفض من الأرض أنه لما كان التكبير لله تعالى عند رؤية عظيم مخلوقاته وجب أن يكون فيما انخفض من الأرض تسبيح لله؛ لأن التسبيح فى اللغة تنزيه الله عن صفات الانخفاض والضعة. قال ابن الأنبارى: سبحان الله: تنزيه الله من الأولاد والصاحبة والشركاء. وقال غيره: سبحان الله: براءة الله من ذلك. قال أبو عبيد: الفدفد: المكان المرتفع فيه صلابة، والثنية: أعلى مسيل فى رأس الجبل. وقال صاحب العين: الثنايا: العقاب.(5/153)
2 - باب يُكْتَبُ لِلْمُسَافِرِ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ فِى الإقَامَةِ
824 / فيه: أَبُو بُرْدَةَ، أنَّهُ اصْطَحَبَ وَيَزِيدُ بْنُ أَبِى كَبْشَةَ فِى سَفَرٍ، فَكَانَ يَزِيدُ يَصُومُ فِى السَّفَرِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بُرْدَةَ: سَمِعْتُ أَبَا مُوسَى مِرَارًا، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ صَحِيحًا مُقِيمًا) . قال المهلب: أصل هذا فى كتاب الله، قال تعالى: (لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم (إلى) الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون (أى: غير مقطوع، يريد أن لهم أجرهم فى حال الكبر والضعف عما كانوا يفعلونه فى الصحة غير مقطوع لهم؛ فلذلك كل مرض من غير الزمانة وكل آفة من سفر وغيره يمنع من العمل الصالح المعتاد؛ فإن الله قد تفضل بإجراء أجره على من منع ذلك العمل بهذا الحديث. قال المؤلف: وليس هذا الحديث على العموم، وإنما هو لمن كانت له نوافل وعادة من عمل صالح فمنعه الله منها بالمرض أو السفر وكانت نيته لو كان صحيحًا أو مقيمًا أن يدوم عليها ولا يقطعها؛ فإن الله يتفضل عليه بأن يكتب له أجر ثوابها حين حبسه عنها، فأما من لم يكن له تنفل ولا عمل صالح فلا يدخل فى معنى الحديث؛ لأنه لم يمنعه مرضه من شيء فكيف يكتب له ما لم يكن يعمله؟ وما يدل أن الحديث فى النوافل ما روى معمر، عن عاصم بن أبى النجود، عن خيثمة، عن عبد الله بن عمرو قال رسول الله: (إن العبد إذا كان على طريق حسنة من العبادة، ثم مرض قيل للملك الموكل به: اكتب له مثل عمله إذا كان طلقًا حتى أطلقه أو أكفته إلى) وقوله: (إذا(5/154)
كان على طريق حسنة من العبادة) لا يقال: إلا فى النوافل، ولا يقال ذلك لمؤدى الفرائض خاصة؛ لأن المريض والمسافر لا يسقط عنهما صلوات الفرائض؛ فسنة المريض الجلوس، وسنة المسافر قصر الصلاة، فلم يبق أن يكتب للمريض والمسافر إلا أجر النوافل كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (ما من امرىء تكون له صلاة من الليل يغلبه عليها نوم إلا كتب له أجر صلاته، وكان نومه صدقة عليه) وهذا لا إشكال فيه.
3 باب: السير وحده
825 / فيه: جَابِر، نَدَبَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) النَّاسَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، ثلاثًا، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ لِكُلِّ نَبِىٍّ حَوَارِيًّا، وَحَوَارِىَّ الزُّبَيْرُ) . قَالَ سُفْيَانُ: الْحَوَارِىُّ: النَّاصِرُ. 1826 / وفيه: ابْن عُمَرَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا أَعْلَمُ، مَا سَارَ رَاكِبٌ بِلَيْلٍ وَحْدَهُ) . قال المهلب: نهيه عن الوحدة فى سير الليل إنما هو إشفاق على الواحد من الشياطين؛ لأنه وقت انتشارهم وأذاهم للبشر بالتمثل لهم وما يفزعهم ويدخل فى قلوبهم الوساوس؛ ولذلك أمر الناس أن يحبسوا صبيانهم عند حدقة الليل، وأما قصة الزبير فإنما هى ليعرف أمر العدو، والواحد الثابت فى ذلك أخفى على العدو وأقرب إلى التجسس بالاختفاء والقرب منهم مع ما علم الله من نيته والتأييد عليها، فبعثه (صلى الله عليه وسلم) واثقًا بالله، ومع أن الوحدة ليست محرمة، وإنما هى مكروهة؛ فمن أخذ بالأفضل من الصحبة فهو أولى، ومن أخذ بالوحدة فلم يأت حرامًا، وقد تقدم الكلام فى حديث جابر والأحاديث المعارضة له فى باب: (هل يبعث الطليعة وحده) ، وفى باب (سفر الاثنين) قبل هذا بأبسط من هذا وأتم، فأغنى عن إعادته.(5/155)
4 - باب السُّرْعَةِ فِى السَّيْرِ
وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (إِنِّى مُتَعَجِّلٌ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَعَجَّلَ مَعِى فَلْيَتَعَجِّل) . 1827 / فيه: أُسَامَةُ، سُئل عَنْ مَسِيرِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَقَالَ: كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ - وَالنَّصُّ: فَوْقَ الْعَنَقِ. 1828 / وفيه: ابْن عُمَرَ، أنَّهُ بَلَغَهُ بطريق مكة عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِى عُبَيْدٍ شِدَّةُ وَجَعٍ، فَأَسْرَعَ السَّيْرَ، وَقَالَ: إِنِّى رَأَيْتُ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) إِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ. 1829 / وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ، يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ نَوْمَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ، فَإِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ نَهْمَتَهُ، فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ) . قال المؤلف: أما تعجيله (صلى الله عليه وسلم) إلى المدينة؛ فليخرج نفسه من عذاب السفر، وليفرح بنفسه أهله وجماعة المؤمنين بالمدينة. وأما تعجيل السير إذا وجد فجوة حين دفع من عرفة؛ فليتعجل الوقوف بالمشعر الحرام ويدعو الله فى ذلك الموقف؛ لأن ساعات الدعاء فى ذلك الوقت ضيقة ولا تدوم ونادرة، إنما هى من عام إلى عام، وأما تعجيل ابن عمر إلى زوجته إنما هو ليدرك من حياتها من يمكنه أن تعهد إليه بما لا تعهد به إلى غيره، لئلا يحرمها ما تريده من طاعة الله فى عهدها، ومع ذلك فإنه كان يسرها بقدومه. وفيه التواضع وترك التكبر.(5/156)
5 - باب إِذَا حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ فَرَآهَا تُبَاعُ
830 / فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَوَجَدَهُ يُبَاعُ، فَأَرَادَ أَنْ يَبْتَاعَهُ، فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (لا تَبْتَعْهُ، وَلا تَعُدْ فِى صَدَقَتِكَ فَإِنَّ الْعَائِدَ فِى صدقته كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِى قَيْئِهِ) . وفيه: الحمل على الخيل فى سبيل الله. وفيه: أنه من حمل على فرس فى سبيل الله وغزا به فله أن يفعل به بعد ذلك ما يفعل فى سائر ماله، ألا ترى أن رسول الله لم ينكر على بائعه بيعه، وإنما أنكر على عمر شراءه. واختلف العلماء فيمن حمل على فرس فى سبيل الله ولم يقل: هو حبس فى سبيل الله، فروى مالك، عن ابن عمر أنه كان إذا أعطى شيئًا فى سبيل الله يقول لصاحبه: إذا بلغت به وادى القرى فشأنك به. قال أحمد بن حنبل: إنما قال ذلك ابن عمر؛ لأنه كان يذهب إلى أن المحمول عليه إنما يستحقه بعد الغزو. وكذلك قال سعيد بن المسيب: إذا أعطى الرجل الشيء فى الغزو فبلغ به رأس مغزاته، فهو له. وهو قول القاسم، وسالم، والثورى، والليث، قال الليث: إلا أن يكون حبسًا فلا يباع. والعلماء متفقون فى الحبس أنه لا يباع غير الكوفيين الذين لا يجيزون الأحباس. وقال مالك: من أعطى فرسًا فى سبيل الله وقيل له: هو لك فى سبيل الله فله أن يبيعه، فإن قيل: هو فى سبيل الله، ركبه ورده، ويكون موقوفًا عنده لحمل الغزاة عليه. وقال أبو حنيفة والشافعى: الفرس المحمول عليه فى سبيل الله هو تمليك لمن يحمل عليه. وإن قيل له: إذا بلغت به رأس مغزاتك فهو لك، كان تمليكًا على(5/157)
مخاطرة ولم يجز، وهى عندهم عطية غير بتلة؛ لأنها شرط قد يقع وقد لا يقع لجواز موته قبل بلوغه راس مغزاته ولم يملك منه شيئًا قبل ذلك. وأما إذا قال له: هو لك فى سبيل الله أو أحملك عليه فى سبيل الله فقد أعطاه إياه على شرط الغزو به، وهذا معنى قول ابن عمر وابن المسيب عند الكوفيين والشافعى، وسواء ذلك كله عند مالك؛ لأنه إذا قال له: إذا بلغت به رأس مغزاتك فهو لك، فمعناه عنده أن لك أن تتصرف فيه حينئذ بما يتصرف به المالك، وقد صح له ملكه عند أخذه بشرط الغزو عليه. واختلفوا فى كراهية شراء صدقة الفرض والتطوع إذا أخرجها من يده، فقال مالك فى الموطأ فى رجل تصدق بصدقة فوجدها تباع عند غير الذى تصدق بها عليه -: تركها أحب إلىّ. وكره الليث والشافعى ذلك، فإن اشتراها لم يفسخوا البيع، وكذلك قالوا فى شراء ما يخرجه الإنسان فى كفارة اليمين وإنما كرهوا شراءها بهذا الحديث، ولم يفسخوا البيع؛ لأنها راجعة إليه بغير ذلك المعنى ويشهد لهذا حديث بريرة فى اللحم الذى تصدق عليها به، وإجماعهم أن من تصدق بصدقة، ثم ورثها أنها حلال له، وقد تقصيت الكلام فى هذه المسألة فى باب (هل يشترى الرجل صدقته) فى (كتاب الزكاة) فتأمله هناك.
6 - باب الْجِهَادِ بِإِذْنِ الأبَوَيْنِ
831 / فيه: عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَاسْتَأْذَنَهُ فِى الْجِهَادِ، فَقَالَ: (أَحَىٌّ وَالِدَاكَ) ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ) .(5/158)
قال المهلب: هذا - والله أعلم - فى زمن استظهار المسلمين على عدوهم وقيام من انتدب إلى الغزو بهم مع أنه - والله أعلم - رأى به ضعفًا لم يقدر نفاذه فى الجهاد، فندبه إلى الجهاد فى بر والديه، وقد روى عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان (أن من أراد الغزو وأمرته أمه بالجلوس أن يجلس) وقال الحسن البصرى: إذا أذنت له أمه فى الجهاد وعلم أن هواها أن يجلس، فيجلس. ومن رأى ألا يخرج إلى الغزو إلا بإذن والديه: مالك والأوزاعى والشافعى والثورى وأحمد وأكثر أهل العلم، هذا كله فى حال الاختيار ما لم تقع ضرورة وقوة للعدو، وإذا كان ذلك تعين الفرض على الجميع وزال الاختيار، ووجب الجهاد على الكل.
7 باب: مَا قِيلَ فِى الَجرَسِ فِى أَعْنَاقِ الإِبِلِ
832 / فيه: عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، أَنَّ أَبَا بَشِيرٍ الأنْصَارِىَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى بَعْضِ أَسْفَارِهِ - قَالَ عَبْدُاللَّهِ: حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: وَالنَّاسُ فِى مَبِيتِهِمْ - فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) رَسُولا: (أَنْ لا يَبْقَيَنَّ فِى رَقَبَةِ بَعِيرٍ قِلادَةٌ مِنْ وَتَرٍ، أَوْ قِلادَةٌ إِلا قُطِعَتْ) . قال مالك فى الموطأ بإثر هذا الحديث -: أرى ذلك من العين، ففسر المعنى الذى من أجله أمر الرسول بقطع القلائد؛ وذلك أن الذى قلدها إذا اعتقد أنها ترد العين فقد ظن أنها ترد القدر، ولا يجوز اعتقاد هذا، ولذلك روى أن الرفقة الذى فيها الجرس لا تصحبها الملائكة، ولا بأس بتعليق التمائم والخرز التى فيها الدعاء والرقى(5/159)
بكتاب الله عند جميع العلماء؛ لأن ذلك من التعوذ بأسماء الله، وقد سئل عيسى بن دينار عن قلادة ملونة فيها خرز يعلقها الرجل على فرسه للجمال. فقال: لا بأس بذلك إذا لم تجعل للعين. قال المهلب: إنما تجعل القلائد من وتر لقوتها ونقائها فخصها (صلى الله عليه وسلم) ، ثم عم سائر القلائد بقوله: (ولا قلادة إلا قطعت) . فأطلق النهى على جميع ما تقلد به الدواب. وقد سئل مالك عن القلادة فقال: ما سمعت بكراهته إلا فى الوتر. قال أبو عبيد: وإنما نهى عن التقليد بالأوتار؛ لأن الدواب تتأذى بذلك، وربما تعلق ذلك بشجر فتختنق فتموت. وقد روى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) -: (قلدوا الخيل، ولا تقلدوها الأوتار) وفسره وكيع فقال: معناه: لا تركبوها فى العين خشية أن يتعلق على راكبها وتر يطالب به.
8 - باب مَنِ اكْتُتِبَ فِى جَيْشٍ فَخَرَجَتِ، امْرَأَتُهُ حَاجَّةً أَوْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ هَلْ يُؤْذَنُ لَهُ
833 / فيه: ابْن عَبَّاس قَالَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ، وَلا تُسَافِرَنَّ امْرَأَةٌ إِلا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ) ، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اكْتُتِبْتُ فِى غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، وَخَرَجَتِ امْرَأَتِى حَاجَّةً، قَالَ: (اذْهَبْ، وَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ) . قال المؤلف: إذا قام بثغور المسلمين من فيه الكفاية لدفع العدو فلا بأس أن يأذن الإمام لمن له عذر فى الرجوع؛ ولهذا المعنى أذن النبى للرجل(5/160)
أن يرجع ويحج مع امرأته، فإن كان للعدو ظهور وقوة تعين فرض الجهاد على كل أحد فلا يأذن له الإمام فى الرجوع. قال المهلب: والجهاد أفضل لمن قد حج عن نفسه من الحج، لكن لما استضاف إلى الحج النافلة ستر عورة وقطع ذريعة كان أوكد وأفضل من الجهاد فى وقت قد استظهر المسلمون فيه على عدوهم. قال المؤلف: وقوله: (ارجع فاحجج مع امرأتك) محمول عند العلماء على معنى الندب للزوج أن يحج مع امرأته لا أنه يلزمه ذلك فرضًا كما لا يلزمه مئونة حملها فى الحج؛ فلذلك لا يلزمها أن تحمله إليه بنفسه، وقد تقدم فى باب حج النساء فى آخر كتاب الحج اتفاق الفقهاء فى أنه ليس للرجل منع زوجته من حجة الفريضة، كما لا يمنعها من صلاة ولا صيام، فأغنى ذلك عن إعادته.
9 - باب الْجَاسُوسِ وقوله تَعَالَى: (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) [الممتحنة: 1]
834 / فيه: عَلِىّ، بَعَثَنِى الرسول (صلى الله عليه وسلم) أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ، قَالَ: (انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً، وَمَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا) ، فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الرَّوْضَةِ، فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ، فَقُلْنَا: أَخْرِجِى الْكِتَابَ، فَقَالَتْ: مَا مَعِى مِنْ كِتَابٍ، فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ، فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا، فَأَتَيْنَا بِها الرسول (صلى الله عليه وسلم) فَإِذَا فِيهِ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِى بَلْتَعَةَ إِلَى نَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (يَا حَاطِبُ، مَا هَذَا) ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،(5/161)
لا تَعْجَلْ عَلَىَّ إِنِّى كُنْتُ أمْرًَا مُلْصَقًا فِى قُرَيْشٍ، وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ، يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَأَحْبَبْتُ إِنْ فَاتَنِى ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِى، وَمَا فَعَلْتُ كُفْرًا وَلا ارْتِدَادًا، أوْ لاَ أَرْضَى بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإسْلامِ، فَقَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (قَدْ صَدَقَكُمْ) ، قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِى أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، قَالَ: (إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ) . قال الطبرى: فى حديث حاطب بن أبى بلتعة من الفقه أن الإمام إذا ظهر من رجل من أهل الستر على أنه قد كاتب عدوًا من المشركين ينذرهم ببعض ما أسره المسلمون فيهم من عزم، ولم يكن الكاتب معروفًا بالسفه والغش للإسلام وأهله، وكان ذلك من فعله هفوة وزلة من غير أن يكون لها أخوات؛ فجائز العفو عنه كما فعله الرسول بحاطب من عفوه عن جرمه بعدما اطلع عليه من فعله. وهذا نظير الخبر الذى روت عمرة عن عائشة أن الرسول قال: (أقيلوا ذوى الهيئات عثراتهم إلا حدا من حدود الله) فإن ظن ظان أن صفحه (صلى الله عليه وسلم) إنما كان لما أعلمه الله من صدقه، ولا يجوز لمن بعد الرسول أن يعلم ذلك، فقد ظن خطأ؛ لأن أحكام الله فى عباده إنما تجرى على ما ظهر منهم. وقد أخبر الله نبيه عن المنافقين الذين كانوا بين ظهرانى أصحابه مقيمين معتقدين الكفر، وعرفه إياهم بأعيانهم، ثم لم يبح له قتلهم وسبيهم؛ إذ كانوا يظهرون الإسلام بألسنتهم، فكذلك الحكم فى كل أحد من خلق الله أن يؤخذ بما ظهر لا بما بطن، وقد روى مثل ذلك(5/162)
عن الأئمة، روى الليث بن سعد، عن يزيد بن أبى منصور قال: (بلغ عمر بن الخطاب أن عامله على البحرين أتى برجل قامت عليه بينة أنه كاتب عدوًا للمسلمين بعورتهم، وكان اسمه: أضرباس، فضرب عنقه وهو يقول: يا عمر، يا عمراه، فكتب عمر إلى عامله فقدم عليه فجلس له عمر وبيده حربة، فلما دخل عليه علا لجبينه بالحربة وجعل يقول: أضرباس لبيك، أضرباس لبيك. . فقال له عامله: يا أمير المؤمنين، إنه كاتبهم بعورة المسلمين وهم أن يلحق بهم. فقال له عمر: قتلته على هذه، وأينا لم يهم، لولا أن تكون سيئة لقتلتك به) . قال الطبرى: وفيه البيان عن بعض أعلام النبوة؛ وذلك إعلام الله نبينا بخبر المرأة الحاملة كتاب حاطب إلى قريش، ومكانها الذى هى به، وحالها الذى تغلب عليها من الستر وكل ذلك لا يعلم إلا بوحى الله تعالى. وقال المهلب: وفيه هتك ستر المذنب، وكشف المرأة العاصية. وفيه: أن الجاسوس قد يكون مؤمنًا، وليس تجسسه مما يخرجه من الإيمان. وفيه: أنه لا يتسور فى قتل أحد دون رأى الإمام. وفيه: إشارة الوزير بالرأى على السلطان وإن لم يستشره. وفيه: الاشتداد عند السلطان على أهل المعاصى، والاستئذان فى قتلهم. وفيه: جواز العفو عن الخائن لله ورسوله تجسس أو غيره. وفيه: مراعاة فضيلة سلفت، ومشهد شاهده الجاسوس وغيره من المذنبين والتشفع بذلك له. وفيه: الحجة لترك إنفاذ الوعيد من الله لمن شاء ذلك له بقوله:(5/163)
(لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم؛ فقد غفرت لكم) . وفيه: جواز غفران ما تأخر وقوعه من الذنوب قبل وقوعه، وسيأتى بعض معانى هذا الحديث فى باب (المتأولين) فى آخر كتاب الديات وفى كتاب الاستئذان فى باب من (نظر فى كتاب من يحذر على المسلمين؛ ليستبين أمره) . واختلف الفقهاء فى المسلم يكاتب المشركين بأخبار المسلمين، فقال مالك: ما فيه شيء وأرى فيه اجتهاد الإمام. وقال أبو حنيفة والأوزاعى: يوجع عقوبة، ويطال حبسه. وقال الشافعى: إن كان ذا هيئة عفا الإمام عنه، واحتج بهذا الحديث أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يعاقب حاطبًا، وإن كان غير ذى هيئة عذره الإمام؛ لأنه لا يحل دم أحد إلا بكفر بعد إيمان أو زنا بعد إحصان أو قتل نفس. وقال ابن القاسم فى العتبية: يضرب عنقه؛ لأنه لا تعرف توبته. وهو قول سحنون، وقال ابن وهب: يقتل إلا أن يتوب. وقال ابن الماجشون: إن كان نادرًا من فعله، ولم يكن من أهل الطعن على الإسلام، فلينكل لغيره، وإن كان معتادًا لذلك فليقتل. ومن قال بقتل الجاسوس المسلم فقد خالف الحديث وأقوال المتقدمين من العلماء، فلا وجه لقوله. واختلفوا فى الحربى المستأمن أو الذمى يتجسس ويدل على عورات المسلمين، فقال الثورى والكوفيون والشافعى: لا يكون ذلك نقضًا للعهد فى حربى ولا ذمى، ويوجعه الإمام ضربًا ويطيل حبسه.(5/164)
وقال الأوزاعى: قد نقض العهد وخرج من الذمة؛ فإن شاء الإمام قتله أو صلبه. وهو قول سحنون، وقال مالك فى أهل الذمة: إذا تلصصوا أو قطعوا الطريق لم يكن ذلك نقضًا للعهد حتى يمنعوا الجزية ويمتنعوا من أهل الإسلام فهؤلاء فيء إذا كان الإمام عدلا. وعند مالك إذا استكره الذمى مسلمة فزنى بها فهو نقض للعهد وإن طاوعته لم يخرج من العهد. وعند الشافعى لا ينقض الذمة شيء من فعله إلا الامتناع من أداء الجزية، أو الامتناع من الحكم؛ فإذا فعلوا ذلك نبذ إليهم. وقال الطحاوى: لم يختلفوا أن المسلم لو فعل ذلك لم يبح دمه؛ فكذلك المستأمن، والذمى قياسًا عليه. ولم يراع الطحاوى اختلاف أصحاب مالك ولا غيره من المتقدمين مع خلافهم للحديث. والظعينة: المرأة فى الهودج، ولا يقال لها: ظعينة إلا وهى كذلك قال الخطابى: إنما قيل للمرأة: ظعينة؛ لأنها تظعن مع زوجها إذا ظعن. والعقاص: السير الذى تجمع به شعرها على رأسها، والعقص: الظفر، هو الفتل. وقوله: (إنى كنت ملصقًا فى قريش) يعنى: كنت مضافًا إليهم ولست منهم، وأصل ذلك من لصاق الشيء بغيره؛ ليبين منه، ولذلك قيل: المدعى فى القوم ملصق، عن الطبري.
0 - باب الْكِسْوَةِ لِلأسَارَى
835 / - فيه: جَابِر، لَمَّا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ أُتِىَ بِأُسَارَى، وَأُتِىَ بِالْعَبَّاسِ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ثَوْبٌ، فَنَظَرَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، لَهُ قَمِيصًا، فَوَجَدُوا قَمِيصَ(5/165)
عَبْدِاللَّهِ بْنِ أُبَىٍّ يَقْدُرُه عَلَيْهِ، فَكَسَاهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِيَّاهُ، فَلِذَلِكَ نَزَعَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) قَمِيصَهُ الَّذِى أَلْبَسَهُ إياه. قال ابن عيينة: كانت له عند النبى (صلى الله عليه وسلم) يد أحب أن يكافئه. قال المهلب: وفيه كسوة الأسارى والإحسان إليهم، ولا يتركوا عراة فتبدوا عوراتهم ولا يجوز النظر إلى عورات المشركين. وفيه: وجوب المكافأة على اليد تسدى إلى قريب الرجل إذا كان ذلك إكرامًا له فى قريبه ولم يطلبها القريب، إذا كانت بسبب الستر من أهله. وفيه: أن المكافأة تكون فى الحياة وبعد الممات.
1 - باب فَضْلِ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ رَجُلٌ
836 / فيه: سَهْل، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ خَيْبَرَ: (لأعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلا، يُفْتَحُ عَلَى يَدَيْهِ. . . . .) الحديث إلى قوله: (فَوَاللَّهِ لأنْ يَهْدِىَ اللَّهُ بِكَ رَجُلا، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ) . قال المؤلف: ومما يشبه معنى هذا الحديث قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيئًا) وقد روينا عن الرسول: (أن العالم إذا لم يعمل بعلمه يأمر الله به إلى النار يوم القيامة، فيقول رجل قد كان علمه ذلك العالم علمًا دخل به الجنة فيقول -: يا رب، هذا علمنى ما دخلت به الجنة، فهب لى معلمي. فيقول تعالى. هبوا له معلمه) . وقال ابن الأنبارى: حمر النعم: كرامها وأعلاها منزلة. وقال أبو عبيد عن الأصمعى: بعير أحمر إذا لم يخالط حمرته شيء، فإن خالطت حمرته قنوء فهو كميت.(5/166)
2 - باب الأسَارَى فِى السَّلاسِلِ
837 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (عَجِبَ اللَّهُ مِنْ قَوْمٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فِى السَّلاسِلِ) . قال المهلب: قوله: (يدخلون الجنة فى السلاسل) يعنى: يدخلون الإسلام مكرهين، وسمى الإسلام باسم الجنة؛ لأنه سببها ومن دخله دخل الجنة، وقد جاء هذا المعنى بينًا فى الحديث، ذكره البخارى فى التفسير فى قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس (قال: (خير الناس للناس يأتون بهم فى السلاسل فى أعناقهم حتى يدخلوا فى الإسلام) . وفيه: سوق الأسرى فى الحبال والسلاسل والاستيثاق منهم حتى يرى الإمام فيهم رأيه. وقال ابن فورك: والعجب المضاف إلى الله يرجع إلى معنى الرضا والتعظيم، وأن الله يعظم من أخبر عنه بأنه تعجب منه ويرضى عنه.
3 - باب فَضْلِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ
838 / فيه: أَبُو موسى قَالَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (ثَلاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: الرَّجُلُ تَكُونُ لَهُ الأمَةُ، فَيُعَلِّمُهَا فَيُحْسِنُ تَعْلِيمَهَا، وَيُؤَدِّبُهَا فَيُحْسِنُ أَدَبَهَا، ثُمَّ يُعْتِقُهَا فَيَتَزَوَّجُهَا، وَمُؤْمِنُ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِى كَانَ مُؤْمِنًا، ثُمَّ آمَنَ بِالنَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَالْعَبْدُ الَّذِى يُؤَدِّى حَقَّ اللَّهِ، وَيَنْصَحُ لِسَيِّدِهِ) . ثُمَّ قَالَ الشَّعْبِىُّ: وَأَعْطَيْتُكَهَا بِغَيْرِ ثَمَنٍ، وَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَرْحَلُ فِى أَهْوَنَ مِنْهَا إِلَى الْمَدِينَةِ.(5/167)
قال المهلب: فيه أن من أحسن فى معنيين من أى فعل كان من أفعال البر؛ فله أجره مرتين، والله يضاعف لمن يشاء، وإنما جاء النص فى هؤلاء الثلاثة؛ ليستدل بذلك فى سائر الناس وسائر الأعمال. وفى قول الشعبى جواز الامتنان بالعلم والتعنيف لخطره لينبه على ذلك من يجهل مقداره.
4 - باب أَهْلِ الدَّارِ يُبَيَّتُونَ فَيُصَابُ الْوِلْدَانُ وَالذَّرَارِىُّ) بَيَاتًا (: لَيْلا
839 / فيه: الصَّعْبِ، مَرَّ بِىَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِالأبْوَاءِ - أَوْ بِوَدَّانَ - فَسُئِلَ عَنْ أَهْلِ الدَّارِ يُبَيَّتُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَيُصَابُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ، قَالَ: (هُمْ مِنْهُمْ) ، وَسَمِعْتُهُ، يَقُولُ: (لا حِمَى إِلا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ) . اختلف الفقهاء فى العمل بهذا الحديث، فتركه قوم وذهبوا إلى أنه لا يجوز قتل النساء والولدان فى الحرب على كل حال، وأنه لا يحل أن يقصد إلى قتل غيرهم إذا كان لا يؤمن فى ذلك تلفهم مثل أن يتترس أهل الحرب بصبيانهم ولا يستطيع المسلمون رميهم، إلا بإصابة صبيانهم فحرام عليهم رميهم، وكذلك إن تحصنوا بحصن أو سفينة وجعلوا فيها نساء وصبيانًا وأسارى مسلمين فحرام رمى ذلك الحصن وحرق تلك السفينة؛ إذا كان يخاف تلف النساء والصبيان والأسارى. واحتجوا بعموم نهيه (صلى الله عليه وسلم) عن قتل النساء والصبيان، وبعموم قوله تعالى: (لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابًا أليمًا (هذا قول مالك والأوزاعي.(5/168)
وقال الكوفيون والشافعى: إنما وقع النهى عن قتل النساء والصبيان إذا قصد إلى قتلهم، فأما إذا قصد إلى قتل غيرهم ممن لا يوصل إلى ذلك منهم إلا بتلف نسائهم وصبيانهم فلا بأس بذلك، واحتجوا بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (هم منهم) . قال الطحاوى: فلما لم ينههم النبى عن الغارة، وقد كان يعلم أنهم يصيبون فيهم الولدان والنساء الذى يحرم القصد إلى قتلهم دل ذلك أن ما أباح فى حديث الصعب معنى غير المعنى الذى من أجله منع قتلهم فى حديث ابن عمر، وأن الذى أباح هو القصد إلى قتل المشركين وإن كان فى ذلك تلف غيرهم ممن لا يحل القصد إلى قتله؛ حتى لا تتضاد الآثار. وقد أمر (صلى الله عليه وسلم) بالغارة على العدو فى آثار متواترة، ولم يمنعه من ذلك ما يحيط به علمًا أنه لا يؤمن من تلف النساء والولدان فى ذلك، والنظر يدل على ذلك أيضًا، وقد روى عن رسول الله فى الذى عض يد رجل فانتزع يده فسقطت ثنايا العاض؛ فأبطل ذلك (صلى الله عليه وسلم) . قال الطحاوى: فلما كان المعضوض نزع يده وإن كان فى ذلك تلف ثنايا غيره وكان حرامًا عليه القصد إلى نزع ثنايا غيره بغير إخراج يده من فيه ولم يكن القصد فى ذلك إلى غير التلف كالقصد إلى التلف فى الإثم ولا فى وجوب العقل، كان كذلك من له أخذ شيء وفى أخذه إياه تلف غيره مما يحرم عليه القصد إلى تلفه، فكذلك العدو قد جعل لنا قتالهم، وحرم علينا قتل نسائهم وذراريهم فحرام علينا القصد إلى ما نهينا عنه من ذلك، وحلال لنا القصد إلى ما أبيح لنا، وإن كان فيه تلف غيره مما حرم علينا. وقوله فى حديث الصعب: (لا حمى إلا لله ولرسوله)(5/169)
فلا شيء فيه من معنى ما تقدم من التبييت، هو سببه بما روى عن أبى هريرة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة) ثم وصل ذلك المحدث بكلام آخر ليس فيه شيء من معنى ما قبله، وإنما كانوا يحدثون بالأحاديث على نحو ما كانوا يسمعونها، وقد تقدم بيان هذا فى (كتاب الطهارة) فى باب (لا يبول فى الماء الدائم) .
5 - باب قَتْلِ الصِّبْيَانِ فِى الْحَرْبِ
840 / فيه: ابْن عُمَر، أَنَّ امْرَأَةً وُجِدَتْ فِى بَعْضِ مَغَازِى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مَقْتُولَةً، فَأَنْكَرَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَتْلَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. وترجم له باب (قتل النساء فى الحرب) وقال مكان (فأنكر) (فنهى) . ولا يجوز عند جميع العلماء قصد قتل نساء الحربيين ولا أطفالهم؛ لأنهم ليسوا ممن قاتل فى الغالب. وقال تعالى: (وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم (وبذلك حكم رسول الله فى مغازيه أن تقتل المقاتلة وتسبى الذرية؛ لأنهم مال للمسلمين إذا سبوا. واتفق الجمهور على أن النساء والصبيان إذا قاتلوا قتلوا وهو قول مالك والليث وأبى حنيفة والثورى والأوزاعى والشافعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور، وقال الحسن البصرى: إن قاتلت المرأة وخرجت معهم إلى ديار المسلمين فلتقتل، وقد قتل رسول الله يوم قريظة والخندق [. . . . .] وقتل يوم الفتح قينتين كانتا تغيان بهجاء رسول الله.(5/170)
واتفق مالك والكوفيون والأوزاعى والليث أنه لا يقتل الشيوخ ولا الرهبان، وأجاز قتلهم الشافعى فى أحد قوليه، واحتج بأن رسول الله أمر بقتل دريد بن الصمة يوم حنين، وكذلك أجمعوا أن من قاتل من الشيوخ أنه يقتل، واحتج الطحاوى فقال: قد روى علقمة ابن مرثد، عن بريدة، عن أبيه أن الرسول كان إذا بعث سرية قال: (لا تقتلوا شيخًا كبيرًا) . وهذا خلاف حديث دريد، وقد قال رسول الله فى حديث المرقع ابن صيفى فى المرأة المقتولة: (ما كانت هذه تقاتل) . فدل ذلك أن من أبيح قتله هو الذى يقاتل، والذى يجمع بين الأحاديث أن النهى من الرسول فى قتل الشيوخ هم الذين لا معونة لهم على شيء من أمر الحرب فى قتل ولا رأي. وحديث دريد فى الشيوخ الذين لهم معونة فى الحرب كما كان لدريد، فلا بأس بقتلهم، وإن لم يكونوا يقاتلون؛ لأن تلك المعونة أشد من كثير من القتال، وهذا قول محمد ابن الحسن، وهو قياس قول أبى حنيفة أبى يوسف.
6 - باب: لاَ يُعَذَّبُ بِعَذَابِ اللَّهِ
841 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، بَعَثَنَا الرسول (صلى الله عليه وسلم) فِى بَعْثٍ، فَقَالَ: (إِنْ وَجَدْتُمْ فُلانًا وَفُلانًا فَأَحْرِقُوهُمَا بِالنَّارِ) ، ثُمَّ قَالَ حِينَ أَرَدْنَا الْخُرُوجَ: (إِنِّى أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُحْرِقُوهما، وَإِنَّ النَّارَ لا يُعَذِّبُ بِهَا إِلا اللَّهُ، فَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا) . 1842 / وفيه: عِكْرِمَةَ، أَنَّ عَلِيًّا حَرَّقَ قَوْمًا، فَبَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ، لأنَّ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (لا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ) ، وَلَقَتَلْتُهُمْ كَمَا قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ) .(5/171)
قال المهلب: ليس نهيه (صلى الله عليه وسلم) عن التحريق بالنار على معنى التحريم، وإنما هو على سبيل التواضع لله، وأن لا يتشبه بغضبه فى تعذيب الخلق؛ إذ القتل يأتى على ما يأتى عليه الإحراق. والدليل على أنه ليس بحرام سمل الرسول عين العرنيين بالنار فى مصلى المدينة بحضرة الصحابة. وتحريق على بن أبى طالب الخوارج بالنار، وأكثر علماء المدينة يجيزون تحريق الحصون على أهلها بالنار، وقول أكثرهم بتحريق المراكب، وهذا كله يدل أن معنى الحديث على الحض والندب لا على الإيجاب والفرض والله أعلم. وممن كره رمى أهل الشرك بالنار: عمر بن الخطاب وابن عباس وعمر بن عبد العزيز، وهو قول مالك بن أنس، وأجازه على بن أبى طالب، وحرق خالد بن الوليد ناسًا من أهل الردة، فقال عمر لأبى بكر الصديق: انزع هذا الذى يعذب بعذاب الله. فقال أبو بكر: لا أشيم سيفًا سله الله على المشركين. وأجاز الثورى رمى الحصون بالنار. وقال الأوزاعى: لا بأس أن يدخن عليهم فى المطمورة إذا لم يكن فيها إلا المقاتلة، ويحرقوا ويقتلوا بكل قتلة، ولو لقيناهم فى البحر رميناهم بالنفط والقطران. وأجاز ابن القاسم حرق الحصن والمراكب إذا لم يكن فيها إلا المقاتلة فقط.(5/172)
7 - باب) فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) [محمد: 4]
843 / - فِيهِ: حَدِيثُ ثُمَامَةَ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِى الأرْضِ) [الأنفال: 67] يَعْنِى يَغْلِبَ فِى الأرْضِ. اختلف العلماء فى حكم الأسرى من أجل اختلافهم فى تأويل قوله: (فإما منًّا بعد وإما فداء (فقال السدى وابن جريج: نسخها قوله: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم (وقال قتادة: نسخها قوله تعالى: (وإما تثقفنهم فى الحرب فشرد بهم من خلفهم (وقال الطبرى: روى عن أبى بكر الصديق أنه قال: لا يفادى بأسير المشركين وإن أعطى فيه كذا وكذا مديًا من المال. قال الزهرى: كتب عمر بن الخطاب: اقتلوا كل من جرت عليه المواسي. وهو قول الزهرى ومجاهد، واعتلوا لإنكارهم إطلاق الأسرى بقوله تعالى: (ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن فى الأرض تريدون عرض الدنيا (الآيات. قالوا: فأنكر الله إطلاق أسارى بدر على نبيه على الفداء، فغير جائز لأحد أن يتقدم على فعله، وسنة الله تعالى فى أهل الكفر به إن كانوا من أهل الأوثان، فقتلهم على كل حال؛ لقوله تعالى: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم (الآية. وإن كانوا من أهل الكتاب، حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، فأما إطلاقهم على فداء يؤخذ منهم فتقوية لهم. وقال الضحاك: قوله تعالى: (فإما منا بعد وإما فداء (هى(5/173)
ناسخة لقوله تعالى: (فاقتلوا المشرككين حيث وجدتموهم (ومثل هذا عن ابن عمر قال: أليس بهذا أمرنا الله؟ قال تعالى: (حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء (وهو قول عطاء والشعبى والحسن البصرى، كرهوا قتل الأسير، وقالوا: مُنَّ عليه أو فاده. وبمثل هذا استدل الطحاوى فقال: ظاهر قوله تعالى: (فإما منا بعد وإما فداء (يقتضى المن أو الفداء ويمنع القتل. قالوا: ولو كان لنا من قتلهم بعد الإيثاق ما لنا قبله لم يفهم قوله تعالى: (حتى إذا أُثخنتموهم فشدوا الوثاق (فدل أن حكم الكافر بعد الاستيثاق والأسر خلاف حكمه قبل ذلك، قال أبو عبيد: والقول عندنا فى ذلك أن الآيات جميعًا محكمات لا نسخ فيهن، يبين ذلك ما كان من أحكام رسول الله فيهم وذلك أنه عمل بالآيات كلها، من القتل والمن والفداء، حتى توفاه الله على ذلك، فكان أول أحكامه فيهم يوم بدر، فعمل بها كلها يومئذ، بدأ بالقتل فقتل عقبة ابن أبى معيط والنضر بن الحارث فى قفوله، ثم قدم المدينة فحكم فى سائرهم بالفداء، ثم حكم يوم الخندق سعد بن معاذ بقتل المقاتلة، وسبى الذرية، فصوب ذلك النبى (صلى الله عليه وسلم) وأمضاه. ثم كانت غزاة بنى المصطلق رهط جويرية بنت الحارث، فاستحياهم جميعًا وأعتقهم. ثم كان فتح مكة، فأمر بقتل ابن خطل ومقيس والقينتين، وأطلق الباقين، ثم كانت حنين فسبى هوازن، ومَنَّ عليهم، وقتل أبا غرة الجمحى يوم أُحد وقد كان مَنَّ عليه يوم(5/174)
بدر وأطلق ثمامة بن أثال. وكانت هذه أحكامه (صلى الله عليه وسلم) بالمن والفداء والقتل، فليس شيئًا منها منسوخًا، والأمر فيهم أن الإمام وهو مخير بين القتل والمن والفداء، يفعل الأفضل فى ذلك للإسلام وأهله، وهو قول مالك والشافعى وأحمد وأبى ثور. قال المهلب: وأما قوله تعالى: (ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن فى الأرض (فإن هذه الآية نزلت فى أسرى بدر، أخذ فيهم (صلى الله عليه وسلم) رأى أبى بكر الصديق فى استحيائهم وقبول الفداء منهم، وكان عمر أشار عليه بقتلهم، وأشار عليه غيره بحرقهم استبلاغًا فيهم، فبات النبى يرى رأيه فى ذلك، وكانت أول وقعة أوقعها الله تعالى بالكفار، فأراد الله أن يكسر كيدهم بقتلهم، فعاتب النى (صلى الله عليه وسلم) وأنزل عليه: (ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن فى الأرض تريدون عرض الدنيا (يعنى: الفدية،) والله يريد الآخرة (أى: إعلاء كلمته، وإظهار دينه بقتلهم. وقال (صلى الله عليه وسلم) : (لو نزلت آية عذاب ما نجا منها إلا عمر) لأنهم طلبوا الفداء، وكانت الغنائم محرمة عليهم. وقال الطبرى: فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لو نزلت آية عذاب ما نجا منها غير عمر) وفى قوله: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم (إن قيل: كيف استحقوا هذه اللائمة العظيمة؟ قال الطبرى: إن النبى (صلى الله عليه وسلم) ومن شهد معه بدرًا لم يخالفوا أمر ربهم؛ فيستوجبوا اللائمة، وإن الذين اختاروا فداء الأسرى على قتلهم اختاروا أوهن الرأيين فى التدبير على أحزمهما(5/175)
وأقلهما نكاية فى العدو، فعاتبهم الله على ذلك، وأخبرهم أن الأنبياء قبل محمد لم تكن الغنائم لهم حلالا، فكانوا يقتلون من حاربوا ولا يأسرونه على طلب الفداء) لولا كتاب من الله سبق (لولا قضاؤه أنه يحل لكم الغنيمة ولا يعذب من شهد بدرًا) لمسكم فيما أخذتم (من الفداء) عذاب عظيم (. وفى حديث ثمامة من الفقه جواز المن على الأسير بغير مال، وهو قول مالك والشافعى وأحمد وأبى ثور وقالوا: لا بأس أن يفادى بأسرى المسلمين وبالمال أيضًا. وقال الطحاوى: اختلف قول أبى حنيفة فى هذه المسألة، فروى عنه أن الأسرى لا يفادون ولا يردون حربًا؛ لأن فى ذلك قوة لأهل الحرب، وإنما يفادون بالمال وبما سواه مما لا قوة لهم فيه، وروى عنه أنه لا بأس أن يفادى بالمشركين أسارى المسلمين، وهو قول أبى يوسف، ومحمد، قال ابن القصار: ومما يرد به على أبى حنيفة أنا اتفقنا معه أن مكة فتحت عنوة. وأن نبى الله من عليهم بغير شيء كما فعل بثمامة.
8 - باب هَلْ لِلأسِيرِ أَنْ يَقْتُلَ أوَ يَخْدَعَ الَّذِينَ أَسَرُوهُ حَتَّى يَنْجُوَ مِنَ الْكَفَرَةِ
844 / فيه: الْمِسْوَرُ عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) . قال المؤلف: يريد حديث: (صالح النبى (صلى الله عليه وسلم) المشركين بالحديبية، على أن يردوا من هرب إليهم مسلمًا، فهرب أبو بصير إلى النبى، فأرسلوا فى طلبه رجلين إلى النبى؛ وقالوا: العهد(5/176)
الذى جعلت لنا، فدفعه إلى الرجلين، فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إنى لأرى سيفك يا فلان جيدًا فاستله الآخر، وقال: أجل، والله إنه لجيد، لقد جربت به، ثم جربت. فقال له أبو بصير: أرانى أنظر إليه، فأمكنه منه فضربه به حتى برد، وفر الآخر حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو، فقال الرسول حين رآه: لقد رأى هذا ذعرًا فجاء أبو بصير، فقال: يا نبى الله، قد أوفى الله بذمتك ورددتنى إليهم، ثم أنجانى الله منهم. فقال (صلى الله عليه وسلم) : ويل أمه مسعر حرب، لو كان له أحد. فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده، فخرج حتى أتى سيف البحر، ولحق به أبو جندل، وكل من أسلم من قريش، حتى اجتمعت منهم عصابة، وكانوا لا يسمعون بعير خرجت لقريش إلا قتلوهم، وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) تناشده الله والرحم، فمن أتاه منهم فهو آمن، فأنزل الله تعالى: (وهو الذى كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة (وذكر الحديث. اختلف العلماء فى الأسير، هل له أن يقتل المشركين أو يخدعهم حتى ينجو منهم، فقالت طائفة من العلماء: لا ينبغى للأسير المقام بدار الحرب إذا أمكنه الخروج، وإن لم يتخلص منهم إلا بقتلهم، وأخذ أموالهم، وإحراق دورهم؛ فعل ما شاء من ذلك، وهو قول أبى حنيفة والطبرى، وقال أشهب: إن خرج به العلج فى الحديد ليفادى به، فله أن يقتله إن أمكنه ذلك وينجو. واختلفوا إذا أمنوه، وعاهدهم ألا يهرب، فقال الكوفيون:(5/177)
إعطاؤه العهد على ذلك باطل. وقال الشافعى: له أن يخرج ولا يأخذ شيئًا من أمولهم؛ لأنه قد أمنهم بذلك كما أمنوه. وقال مالك: إن عاهدهم على ذلك فلا يجوز أن يهرب إلا بإذنهم. وهو قول سحنون وابن المواز، قال ابن المواز: وهذا بخلاف إذا أجبروه ألا يهرب بطلاق أو عتاق، أنه لا يلزمه، وذلك لأنه مكره. ورواه أبو زيد عن ابن القاسم. وقال غيره: لا معنى لقول من فرق بين يمينه وعهده ألا يهرب؛ لأن حالته حال المكره حلف لهم أو وعدهم أو عاهدهم، سواء أمنوه أو أخافوه؛ لأن الله فرض على المؤمن ألا يبقى تحت أحكام الكفار، وأوجب عليه الهجرة من دارهم، فخروجه على كل وجه جائز، والحجة فى ذلك (خروج أبى بصير، الرسول فعله ورضاه) .
9 - باب إِذَا حَرَّقَ الْمُشْرِكُ الْمُسْلِمَ هَلْ يُحَرَّقُ
845 / فيه: أَنَس، أَنَّ رَهْطًا مِنْ عُكْلٍ ثَمَانِيَةً، قَدِمُوا عَلَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْغِنَا رِسْلا، فَقَالَ: (مَا أَجِدُ لَكُمْ إِلا أَنْ تَلْحَقُوا بِالذَّوْدِ، فَانْطَلَقُوا، فَشَرِبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا) ، حَتَّى صَحُّوا وَسَمِنُوا، وَقَتَلُوا الرَّاعِىَ، وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ - إلى قوله -: فَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، ثُمَّ أَمَرَ بِمَسَامِيرَ، فَأُحْمِيَتْ فَكَحَلَهُمْ بِهَا. . . . . الحديث. 1846 / وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (قَرَصَتْ نَمْلَةٌ نَبِيًّا مِنَ الأنْبِيَاءِ، فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ، فَأُحْرِقَتْ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَنْ قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أَحْرَقْتَ أُمَّةً مِنَ الأمَمِ تُسَبِّحُ) .(5/178)
قال المهلب: قوله: باب إذا أحرق المشرك المسلم هل يحرق، ولم يذكر سمل العرنيين أعين الرعاة، يدل أن ذلك من فعلهم مروى، إلا أن طرق ذلك ليست من شرط كتابه. قال المؤلف: وسأذكر الروايات بذلك فى كتاب المحاربين إن شاء الله وقد يخرج معنى الترجمة من هذا الحديث بالدليل لو لم يصح سمل العرنيين والسمل العرنيين للرعاة، وذلك أن النبى - (صلى الله عليه وسلم) - تحريق بالنار، استدل منه البخارى أنه لما جاز تحريق أعينهم بالنار ولو كانوا لم يحرقوا أعين الرعاء، أنه أولى بالجواز تحريق المشرك إذا أحرق المسلم. وروى سحنون عن ابن القاسم أنه لا بأس برمى المركب من مراكب العدو بالنار إذا بدءونا بالرمى، وإن كان فيهم أسرى مسلمين ونساء وصبيان لهم. وكذلك حديث النبى (صلى الله عليه وسلم) الذى أحرق فيه النمل، فيه دليل على جواز التحريق؛ لأن الله إنما عاتبه فى تحريق جماعة النمل التى لم تقرصه، ولم يعلمه أن ذلك من فعله حرام، ولا أنه أتى كبيرة، فتلزمه التوبة منها؛ لأن الأنبياء معصومون من الكبائر، وقد تقدم ذكر من أجاز التحريق بالنار، ومن كرهه من السلف فى باب: (لا يعذب بعذاب الله) قبل هذا. وسيأتى شيء منه فى كتاب المحاربين. والرسل: اللبن. وترجل النهار: ارتفع. فى كتاب العين.(5/179)
0 باب: حرق الدور والنخيل
847 / فيه: جَرِيرٌ، قَالَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (أَلا تُرِيحُنِى مِنْ ذِى الْخَلَصَةِ؟ - وَكَانَ بَيْتًا فِى خَثْعَمَ يُسَمَّى كَعْبَةَ الْيَمَانِيَةِ - قَالَ: فَانْطَلَقْتُ فِى خَمْسِينَ وَمِائَةِ فَارِسٍ مِنْ أَحْمَسَ، وَكَانُوا أَصْحَابَ خَيْلٍ، قَالَ: وَكُنْتُ لا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ، فَضَرَبَ فِى صَدْرِى، حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ أَصَابِعِهِ فِى صَدْرِى، وَقَالَ: (اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ، وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا) ، فَانْطَلَقَ إِلَيْهَا فَحَرَّقَهَا وَكَسَرَهَا، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يُخْبِرُهُ، فَقَالَ رَسُولُ جَرِيرٍ: وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا جِئْتُكَ حَتَّى تَرَكْتُهَا، كَأَنَّهَا جَمَلٌ أَجْوَفُ - أَوْ أَجْرَبُ - قَالَ: (فَبَارَكَ فِى خَيْلِ أَحْمَسَ، وَرِجَالِهَا، خَمْسَ مَرَّاتٍ) . 1848 / وفيه: ابْن عُمَرَ، أن النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، حَرَّقَ نَخْلَ بَنِى النَّضِيرِ. قال المهلب: فى حديث جرير من الفقه جواز هتك كل ما افتتن الناس به من بناء أو إنسان أو حيوان أو غيره. وفى حديث ابن عمر بيان أن للمسلمين أن يكيدوا عدوهم من المشركين بكل ما فيه تضعيف شوكتهم، وتوهين كيدهم وتسهيل الوصول إلى الظفر بهم من قطع ثمارهم، وتغوير مياههم والحول بينهم وبين ما يتغذون به من الأطعمة والأشربة، والتضييق عليهم بالحصار، وذلك أن رسول الله لما أمر بتحريق نخل بنى النضير كان معلومًا أن ما كان من نظير ذلك من قطع أسباب معاشهم وتغوير مياههم فجائز فعله بهم. وقد روى عن على بن أبى طالب قال: (أمرنى رسول الله أن أغور مياه بدر) قاله الطبرى. وفيه الدعاء للجيوش إذا بعثت، وفيه بركة دعوة النبى، وفيه البشارة فى الفتوح، وفيه الدليل على صحة قول من أباح إضرام النيران فى حصون العدو، ونصب المجانيق عليهم، ورميهم بالحجارة، وكل ذلك يعمل فى الضر مثل عمل النار أو نحوه.(5/180)
واختلف العلماء فى قطع شجر المشركين، وتخريب بلادهم، فرخصت فى ذلك طائفة وكرهته طائفة، فممن أجاز ذلك مالك، والكوفيون، والشافعي. قال الكوفيون: تحرق شجرهم، وتخرب بلادهم، وتذبح الأنعام، وتحرق إذا لم يمكن إخراجها. وقال مالك: يحرق النخل ولا تعرقب المواشي. وقال الشافعى: تحرق الأشجار المثمرة والبيوت، وأكره تحريق الزرع والكلأ. وأما من كره ذلك: فروى الزهرى عن سعيد بن المسيب أن أبا بكر الصديق قال فى وصية الجيش الذى وجه إلى الشام: (لا تغرقن نخلا ولا تحرقنها، ولا تعقروا بهيمة، ولا شجرة مثمرة ولا تهدموا بيعة) وقال الليث: أكره حرق النخل والشجر المثمر، ولا تعرقب بهيمة، وهو قول الأوزاعى فى رواية، وبه قال أبو ثور، والحجة فى قول من أجاز تحريقها؛ لشهادة الكتاب والسنة له، قال تعالى: (ما قطعتم من لينة (الآية. قال ابن عباس: اللينة: النخلة والشجرة. وقال ابن إسحاق: التحريق سنة إذا كان أنكى للعدو. وحديث جرير وابن عمر يشهد لصحة هذا القول. وقد تأول بعض الفقهاء أن أمر أبى بكر الصديق: (ألا تحرقن شجرة) إنما كان من أجل أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أخبرهم أنهم يفتتحونها. وقال الطحاوى: خبر أبى بكر مرسل؛ لأن سعيد بن المسيب لم يولد فى أيام أبى بكر الصديق، وقال الطبرى: نهى أبى بكر عن تحريق النخل وتغريقه إنما هو نهى أن يقصد بذلك ويتعمد، فأما إذا أصابه التحريق والغرق فى خلال الغارة فغير متبوع به فى الدنيا والآخرة من فعله، كما النهى عن قتل النساء والصبيان، إنما هو نهى(5/181)
عن قصدهم بالقتل وتعمدهم بأعيانهم، فأما من أصابته الخيل فى البيات، أو هلك عند سقوط حصن المدينة عليهم عند هدم المسلمين إياه إرادة وصولهم إلى المقاتلة، أو من أحرقته النار، أو غرقه الماء على هذا الوجه؛ فغير داخل فى الذين نهى الرسول عن قتلهم؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قد نصب المنجنيق على الطائف، ولا شك أن حجارته إذا وقعت فى الحصن ربما أصابت المرأة والطفل، فلو كان سبيل ما أصابه ذلك سبيل ما أصاب الرامى بيده متعمدًا كان (صلى الله عليه وسلم) لا ينصبه خشية أن تصيب حجارته من نهى عن قتله، فلما فعل ذلك وأباحه لأمته كان مخالفًا سبيل القصد والعمد فى ذلك. واختلفوا إذا غنم المسلمون مواشى الكفار ودوابهم، وخافوا من كرة عدوهم وأخذها من أيديهم. فقال مالك وأبو حنيفة: تعرقب وتعقر حتى لا ينتفعوا بها. وقال الشافعى: لا يحل قتلها، ولا عقرها، ولكن تخلى. واحتج ابن القصار فى ذلك فقال: لا خلاف بيننا أن المشرك لو كان راكبًا لجاز لنا أن نعرقب ما تحته ونقتله؛ لنتوصل بذلك إلى قتله، فكذلك إذا لم يكن راكبًا، وكذلك فعل ما فيه توهينهم وضعفهم بمنزلة واحدة؛ ألا ترى أن قطع شجرهم وإتلاف زروعهم يجوز؛ لأن فى ذلك ضعفهم وتلفهم وكذلك خيلهم ومواشيهم وقد مدح الله تعالى من فعل ذلك فقال: (ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح (فهو عام فى جميع ما ينالون ولما كانت نفوسهم وأموالهم سواء فى استحلالنا إياهم ثم جاز قتلهم إذا لم يتمكن من أسرهم كذلك يجوز إتلاف أموالهم التى يتقوون بها.(5/182)
1 - باب: قتل المشرك النائم
849 / فيه: الْبَرَاءِ بَعَثَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، رَهْطًا مِنَ الأنْصَارِ إِلَى أَبِى رَافِعٍ: لِيَقْتُلُوهُ، فَانْطَلَقَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَدَخَلَ حِصْنَهُمْ، قَالَ: فَدَخَلْتُ فِى مَرْبِطِ دَوَابَّ لَهُمْ، قَالَ: وَأَغْلَقُوا بَابَ الْحِصْنِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ، فَقَدُوا حِمَارًا لَهُمْ فَخَرَجُوا يَطْلُبُونَهُ، فَخَرَجْتُ فِيمَنْ خَرَجَ، أُرِيهِمْ أَنَّنِى أَطْلُبُهُ مَعَهُمْ، فَوَجَدُوا الْحِمَارَ، فَدَخَلُوا، وَدَخَلْتُ، وَأَغْلَقُوا بَابَ الْحِصْنِ لَيْلا، وَوَضَعُوا الْمَفَاتِيحَ فِى كَوَّةٍ حَيْثُ أَرَاهَا، فَلَمَّا نَامُوا أَخَذْتُ الْمَفَاتِيحَ، فَفَتَحْتُ بَابَ الْحِصْنِ، ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا رَافِعٍ، فَأَجَابَنِى، فَتَعَمَّدْتُ الصَّوْتَ فَضَرَبْتُهُ، فَصَاحَ، فَخَرَجْتُ [ثُمَّ] جِئْتُ، ثُمَّ رَجَعْتُ كَأَنِّى مُغِيثٌ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا رَافِعٍ، وَغَيَّرْتُ صَوْتِى، فَقَالَ: مَا لَكَ؟ لأمِّكَ الْوَيْلُ، قُلْتُ: مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: لا أَدْرِى، مَنْ دَخَلَ عَلَىَّ فَضَرَبَنِى، قَالَ: فَوَضَعْتُ سَيْفِى فِى بَطْنِهِ، فَتَحَامَلْتُ عَلَيْهِ حَتَّى قَرَعَ الْعَظْمَ، ثُمَّ خَرَجْتُ، وَأَنَا دَهِشٌ، فَأَتَيْتُ سُلَّمًا لَهُمْ؛ لأنْزِلَ مِنْهُ فَوَقَعْتُ، فَوُثِئَتْ رِجْلِى، فَخَرَجْتُ إِلَى أَصْحَابِى، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِبَارِحٍ حَتَّى أَسْمَعَ النَّاعِيَةَ، فَمَا بَرِحْتُ حَتَّى سَمِعْتُ نَعَايَا أَبِى رَافِعٍ تَاجِرِ أَهْلِ الْحِجَازِ، فَقُمْتُ، وَمَا بِى قَلَبَةٌ حَتَّى أَتَيْنَا الرسول (صلى الله عليه وسلم) فَأَخْبَرْنَاهُ. وقال البراء: (إن عبد الله بن عتيك دخل عليه بيته فقتله وهو نائم) . قال المهلب: فيه جواز الاغتيال لمن أغار على رسول الله بيد أو مال، أو (راعب) ، وكان أبو رافع يعادى رسول الله ويؤلب الناس عليه، وهذا من باب قوله (صلى الله عليه وسلم) : (الحرب خدعة) . فيه: جواز التجسس على المشركين، وطلب غرتهم، وفيه الاغتيال فى الحرب، والإيهام بالقول، وفيه الأخذ بالشدة فى الحرب، والتعرض لعدد كثير من المشركين، والإلقاء إلى التهلكة فى سبيل الله، وأما الذى نهى عنه من ذلك فهو فى الإنفاق فى سبيل الله،(5/183)
وألا يخل يده من المال فيه رجوعًا وضياعًا، وهى رحمة من الله ورخصة، ومن أخذ بالشدة فمباح له ذلك وأحب إلينا ألا يأخذ بالشدة فى إخلاء يده من المال؛ لوقوع النهى فيه خاصة، وفيه الحكم بالدليل المعروف والعلامة المعروفة على الشيء؛ لحكم هذا الرجل بالواعية على موت أبى رافع. وقال صاحب العين: الواعية: الصارخة التى تندب القتيل، والواعى: الصوت، والوعى: جلبة وأصوات الكلاب فى الصيد إذا جدت. وقوله: (فما برحت حتى سمعت نعايا أبى رافع) المعنى: انع أبا رافع، جعل دلالة الأمر فيه، وعلامة الجزم آخره بغير تنوين. كما قالت العرب فى نظير ذلك من (أدركها) : دراكها، ومن (نظمت) : نظام كقول الراجز: دراكها من إبل دراكها يعنى: أدركها. وزعم سيبويه أنه يطرد هذا الباب فى الأفعال الثلاثية كلها، أن يقال فيها: فعال بمعنى: افعل. نحو: حذار، ومتاع، وتراك، كما تقول اترك، احذر امتع، وأنشد للكميت: نعا جذامًا غير موت ولا قتل أراد: انع جذامًا. وقوله: (وما بى قلبة) قال الفراء: أصله من القلاب، وهو داء يصيب الإبل، وزاد الأصمعى: يشتكى البعير منه قلبه، فيموت من يومه، فقيل: ذلك لكل سالم ليست به علة. وقال ابن الأعرابى: معناه: ليست به علة يقلب لها فينظر إليه.(5/184)
2 - باب لا تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ
850 / فيه: ابْن أَبِى أَوْفَى، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ) . 1851 / وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وزاد: (فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا) . نهى الرسول أمته عن تمنى لقاء العدو؛ ولأنه لا يعلم ما يئول أمره إليه ولا كيف ينجو منه، وفى ذلك من الفقه النهى عن تمنى المكروهات، والتصدى للمحذورات، ولذلك سأل السلف العافية من الفتن والمحن؛ لأن الناس مختلفون فى الصبر على البلاء، ألا ترى الذى أحرقته الجراح فى بعض المغازى مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقتل نفسه، وقال الصديق: (لأن أعافى فأشكر أحب إلى من أن أبتلى فأصبر) . وروى عن على بن أبى طالب أنه قال لابنه: (يا بنى لا تدعون أحدًا إلى المبارزة ومن دعاك إليها فاخرج إليه؛ لأنه باغ، والله تعالى قد ضمن نصر من بغى عليه) . وأما أقوال الفقهاء فى المبارزة، فذكر ابن المنذر قال: أجمع كل من نحفظ عنه من العلماء أن على المرء أن يبارز، ويدعو إلى البراز بإذن الإمام، غير الحسن البصرى؛ فإنه يكره المبارزة ولا يعرفها، هذا قول الثورى، والأوزاعى، وأحمد، وإسحاق. وأباحت طائفة البراز، ولم يذكر بإذن الإمام ولا بغير إذنه، هذا قول مالك، والشافعى، وسئل مالك عن الرجل يقول بين الصفين: من يبارز؟ قال: ذلك إلى نيته، إن كان يريد به وجه الله فأرجو أن(5/185)
لا يكون به بأس، قد كان يفعل ذلك من مضى. وقال أنس بن مالك: قد بارز البراء بن مالك مرزبان الزارة فقتله. وقال أبو قتادة: (بارزت رجلا يوم حنين فقتلته، وأعطانى النبى (صلى الله عليه وسلم) سلبه) وليس فى خبره أنه استأذن الرسول فى ذلك، واختلفوا فى معونة المسلم المبارز على المشرك، فرخص فى ذلك الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وذكر الشافعى قضية حمزة وعبيدة، ومعونة بعضهم بعضا، قال: فأما إن دعا مسلم مشركًا، أو مشرك مسلمًا إلى أن يبارزه، وقال له: لا يقاتلك غيرى أحببت أن يكف عن أن يحمل عليه غيره. وكان الأوزاعى يقول: لا تعينوه على هذا. قيل للأوزاعى: وإن لم يشترط ألا يخرج إليه غيره؟ قال: وإن لا؛ لأن البارزة إنما تكون على هذا، ولو حجزوا بينهما ثم خلوا سبيل العلج المبارز، فإن أعان العدو صاحبهم فلا بأس أن يعين المسلمون صاحبهم.
3 - باب: الحَرْبُ خَدْعَةٌ
852 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (هَلَكَ كِسْرَى، ثُمَّ لا يَكُونُ كِسْرَى بَعْدَهُ، وَقَيْصَرٌ لَيَهْلِكَنَّ، ثُمَّ لا يَكُونُ قَيْصَرٌ بَعْدَهُ، وَلَتُنَفَقَنَّ كُنُوزُهَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ سَمَّى الْحَرْبَ خَدْعَةً) . 1853 / وفيه: جَابِر، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (الْحَرْبُ خَدْعَةٌ) . قال المؤلف: ذكر بعض أهل السير أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال هذا يوم الأحزاب لما بعث نعيم ابن مسعود أن يحول بين قريش وغطفان(5/186)
ويهود، ومعناه أن المماكرة فى الحرب أنفع من المكاثرة والإقدام على غير علم، ومنه قيل: نفاذ الرأى فى الحرب أنفذ من الطعن والضرب. وقال المهلب: الخداع فى الحرب جائز كيفما أمكن ذلك إلا بالأيمان والعهود والتصريح بالأيمان، فلا يحل شيء من ذلك. قال الطبرى: فإنما يجوز من الكذب فى الحرب ما يجوز فى غيرها من التعريض مما ينحى به نحو الصدق مما يحتمل المعنى الذى فيه الخديعة والغدر والألغاز، لا القصد إلى الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه. قال المهلب: ومن ذلك أن يقول للمبارز له: خذ حزام فرسك، قد انحل؛ يشغله عن الاحتراس منه فيجد فرصة، وهو يريد أن حزام سرجه قد انحل فيما مضى من الزمان، أو يخيره بخبر يفظعه من موت أميره وهو يريد موت المنام أو الدين، ولا يكون قصد الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه البتة؛ لأن ذلك حرام، ومن ذلك ما روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه كان إذا أراد غزو قوم ورى بغيرهم. وقال: حديث أبى هريرة عام فى كسرى، وخاص فى قيصر. ومعناه: لا قيصر بعده فى أرض الشام، وقد دعا النبى لقيصر لما قرأ كتابه أن يثبت ملكه فلم يذهب ملك الروم أصلا إلا من الجهة التى جلى منها. وأما كسرى فمزق كتاب رسول الله فدعا عليه النبى (صلى الله عليه وسلم) أن يمزق ملكه كل ممزق، فانقطع إلى اليوم. وفيه: من علامات النبوة إخباره (صلى الله عليه وسلم) أن كنوزهما ستنفق فى سبيل الله، فكان كذلك. وفى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (الحرب خدعة) لغات، قال سلمة بن(5/187)
عاصم تلميذ الفراء: من قال الحرب خدعة فهو يخدع وإذا خدع أحد الفريقين صاحبه فكأنها خدعت هى، ومن قال: خدعة، فقد وصفها باسم المصدر، فيحتمل أن يكون فى معنى خدعة تخدعه أى: هى تخدع وصف المفعول بالمصدر، كما تقول: درهم ضرب الأمير، وإنما هو مضروب الأمير. وقال بعض أهل اللغة: معنى الخدعة: المرة الواحدة. أى: من خدع فيها مرة واحدة لم تقل العثرة بعدها. وقال ثعلب: الحرب خدعة، هذه أفصح اللغات بفتح الخاء وإسكان الدال، قال: وذكر لى أنها لغة النبى (صلى الله عليه وسلم) .
4 - باب: الكذب فى الحرب
854 / فيه: جَابِر، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأشْرَفِ، فَإِنَّهُ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ) ؟ قَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (نَعَمْ) ، قَالَ: فَأَتَاهُ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا - يَعْنِى محمدًا - قَدْ عَنَّانَا، وَسَأَلَنَا الصَّدَقَةَ، قَالَ أَيْضًا: وَاللَّهِ لَتَمَلُّنَّهُ، قَالَ: فَإِنَّا قَدِ اتَّبَعْنَاهُ، فَنَكْرَهُ أَنْ نَدَعَهُ حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى مَا يَصِيرُ أَمْرُهُ، قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ يُكَلِّمُهُ حَتَّى اسْتَمْكَنَ مِنْهُ فَقَتَلَهُ. قال المؤلف: روى ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن، عن أم كلثوم قالت: (ما سمعت النبى (صلى الله عليه وسلم) رخص فى الكذب إلا فى ثلاث كان (صلى الله عليه وسلم) يقول: لا أعدهن كذبًا الرجل يصلح بين الناس، والرجل يحدث زوجته، والرجل يقول فى الحرب) .(5/188)
فسألت بعض شيوخى عن معنى هذا الحديث، فقال لى: إن الكذب الذى أباحه (صلى الله عليه وسلم) فى الحرب هى المعاريض التى لا يفهم منها التصريح بالتأمين؛ لأن من السنة المجتمع عليها أن من أمن كافرا فقد حقن دمه، ولهذا قال عمر بن الخطاب: يتبع أحدكم العلج حتى إذا اشتد فى الجبل قال له: مترس، ثم قتله، والله لا أوتى بأحد فعل ذلك إلا قتلته. وقال المهلب: موضع الكذب من هذا الحديث قول محمد بن مسلمة: قد عنانا وسألنا الصدقة؛ لأن هذا الكلام يحتمل أن يتأول منه أن اتباعهم له إنما هو للدنيا على نية كعب ابن الأشرف، وليس هو بكذب محض بل هو تورية ومن معاريض الكلام؛ لأنه ورى له عن الحق الذى اتبعوه له فى الآخرة، وذكر العناء الذى يصيبهم فى الدنيا والنصب، أما الكذب الحقيقى فهو الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو به، وليس فى قول ابن مسلمة إخبار عن الشيء على خلاف ما هو به، وإنما هو تحريف لظاهر اللفظ، وهو موافق لباطن المعنى. ولا يجوز الكذب الحقيقى فى شيء من الدين أصلا، ومحال أن يأمر بالكذب وهو (صلى الله عليه وسلم) يقول: (من كذب على متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار) وإنما أذن له أن يقول ما لو قاله بغير إذن النبى (صلى الله عليه وسلم) وسمع منه لكان دليلا على النفاق، ولكن لما أذن له فى القول لم يكن معدودًا عليه أنه نفاق، وسيأتى فى كتاب الصلح زيادة فى هذا المعنى فى (باب ليس الكاذب الذى يصلح بين الناس) إن شاء الله تعالى.(5/189)
5 باب: الفتك فى الحرب
855 / - فيه: جَابِر، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأشْرَفِ) ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ قَالَ: (نَعَمْ) ، قَالَ: فَأْذَنْ لِى فَأَقُولَ، قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ. الفتك فى الحرب على وجهين: أحدهما محرم، والثانى جائز، فالفتك الذى يحرم به الدم أن يصرح بلفظ يفهم منه التأمين. فإذا أمنه فقد حرم بذلك دمه والغدر به وعلى هذا جماعة العلماء، وأما الوجه المباح منه فهو أن يخادعه بألفاظ هى معاريض غير تصريح بالتأمين، فهذا يجوز؛ لأن الحرب خدعة. قال المؤلف: واختلف فى تأويل قتل ابن الأشرف على وجوه: فقيل: إن قتله هو من هذا الباب المباح؛ لأن ابن مسلمة لم يصرح له بشيء من لفظ التأمين، وإنما أتاه بمعاريض من القول فيجوز هذا أن يسمى: فتكًا على المجاز. وفيه وجه آخر قاله بعض شيوخنا قال: إن قتل ابن الأشرف هو من باب أن من آذى الله ورسوله قد حل دمه، ولا أمان له يعتصم به فقتله جائز على كل حال؛ لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) إنما قتله بوحى من الله وأذن فى قتله فصار ذلك أصلا فى جواز قتل من كان لله ولرسوله حربًا، عن الطبري. قال غيره: ألا ترى لو أن رجلا أدخل رجلا مشركًا فى داره فأمنه فسب عنده النبى (صلى الله عليه وسلم) حل بذلك للذى أمنه قتله، ونحو هذا ما حكاه ابن حبيب، قال: سمعت المدنيين من أصحاب(5/190)
مالك يقولون: إنما تجب الدعوة لكل من لم يبلغه الإسلام، ولا يعلم ما يقاتل عليه، فأما من قد بلغه الإسلام، وعلم ما يدعى إليه، ومن حارب وحورب مثل الروم والإفرنج، فالدعوة فيما بيننا وبينهم مطرحة ولا بأس بتبييت مثل أولئك بالغارة وتصبيحهم، وانتهاز الفرصة فيهم بلا دعوة، وقد بعث رسول الله عبد الله بن أنيس الجهنى إلى عبد الله ابن نبيح الهذلى فاغتاله بالقتل، وهو بعرفة من جبال عرفة، وبعث نفرًا من الأنصار إلى ابن أبى الحقيق، وإلى كعب بن الأشرف فهجموا عليهما بالقتل فى بيوتهما بخيبر. قال المؤلف: فلا يجوز أن يقال: إن ابن الأشرف قتل غدرًا؛ لأنه لم يكن معاهدًا، ولا كان من أهل الذمة، ومن قال: إنه قتل غدرًا فهو كافر ويقتل بغير استتابة؛ لأنه تنقص النبى (صلى الله عليه وسلم) ورماه بكبيرة، وهو الغدر وقد نزهه الله عن كل دنية، وطهره من كل ريبة. ألا ترى قول هرقل لأبى سفيان: سألتك: هل يغدر؟ فزعمت أن لا، وكذلك الرسل لا يغدرون، وإنما قال هذا هرقل؛ لأنه وجد فى الإنجيل صفته، وصفة جميع الأنبياء عليهم السلام أنه لا يجوز عليهم صفات النقص؛ لأنهم صفوة الله وهم معصومون من الكبائر، والغدر كبيرة، وسيأتى فى كتاب الرهون فى باب (رهن السلاح) زيادة فى معنى قتل كعب بن الأشرف إن شاء الله. وروى فى الأثر أن (تاس السبائى) قال فى مجلس على بن أبى طالب: إن ابن الأشرف قتل غدرًا. فأمر به على فضرب عنقه. وقد قال مالك: من تنقص النبى (صلى الله عليه وسلم) فإنه يقتل، ومن قال: إن زر النبى (صلى الله عليه وسلم) وسخة يريد بذلك الإزراء عليه(5/191)
قتل، قال: ومن سبه قتل بغير استتابة إن كان مسلمًا، وإن كان ذميا قتل قبل أن يسلم. وقال الكوفيون: من سب النبى فقد ارتد، وإن كان ذميا عزر ولم يقتل، وسيأتى تمام هذه المسألة، والحجة فيها فى موضعه إن شاء الله.
6 - باب مَا يَجُوزُ مِنَ الاحْتِيَالِ وَالْحَذَرِ مَعَ مَنْ يَخْشَى مَعَرَّتَهُ
856 / - فيه: ابْن عُمَرَ، انْطَلَقَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَمَعَهُ أُبَىُّ قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ، فَحُدِّثَ بِهِ فِى نَخْلٍ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ طَفِقَ يَتَّقِى بِجُذُوعِ النَّخْلِ، وَابْنُ صَيَّادٍ فِى قَطِيفَةٍ لَهُ فِيهَا رَمْرَمَةٌ، فَرَأَتْ أُمُّ ابْنِ صَيَّادٍ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَتْ: يَا صَافِ، هَذَا مُحَمَّدٌ، فَوَثَبَ ابْنُ صَيَّادٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ) . قال المهلب: فيه الترجمة، وفيه ألا يجعل على من ظهر منه مكروه؛ حتى يتيقن أمره، وفيه أن الإمام إذا أشكل عليه أمر من جهة الشهادات عنده أن يلى ذلك بنفسه، فيباشره؛ حتى يسمع ما نقل إليه ويرى ما شهد به عنده، فبالعيان تنكشف الريب. وفيه نهوض السلطان راجلا ليعرف ما يحتاج إليه، وفيه زجر أهل الباطل بزجر الكلاب، وفيه ترك عقوبة غير البالغ من الرجال، وقد تقدم فى (كتاب الجنائز) فى باب: (هل يعرض على الصبى الإسلام) شيء من معنى هذا الحديث، وسيأتى شيء منه فى (كتاب الاعتصام) فى باب (من رأى ترك النكير حجة لا من غير الرسول) .(5/192)
7 - باب الرَّجَزِ فِى الْحَرْبِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ فِى حَفْرِ الْخَنْدَقِ
857 / فيه: سَهْلٌ وَأَنَسٌ، عَنِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، وَيَزِيدُ، عَنْ سَلَمَةَ. 1858 / وفيه: الْبَرَاءِ، قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَهُوَ يَنْقُلُ التُّرَابَ حَتَّى وَارَى التُّرَابُ شَعَرَ صَدْرِهِ، وَكَانَ كَثِيرَ الشَّعَرِ، وَهُوَ يَرْتَجِزُ بِرَجَزِ عَبْدِ اللَّهِ: اللَّهُمَّ لَوْلا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا. . . إلى قوله: إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا. وَيَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ. قال المهلب: فيه ابتذال الإمام وتوليه المهنة فى التحصين على المسلمين لينشط الناس بذلك على العمل، ولذلك ارتجز هذا الرجز ليذكرهم ما يعملون ولمن يعملون ذلك، ويعرفهم أن الأمر أعظم خطرًا من ابتذالهم وتعبهم. وفيه أنه لا بأس برفع الصوت فى أعمال الطاعات إذا لم يكن مضعفًا عنها ولا قاطعًا دونها.
8 - باب: مَنْ لاَ يَثْبُتَ عَلَى الخَيْلِ
859 / فيه: جَرِيرٍ، مَا حَجَبَنِى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) مُنْذُ أَسْلَمْتُ وَلا رَآنِى إِلا تَبَسَّمَ فِى وَجْهِى، وَلَقَدْ شَكَوْتُ إِلَيْهِ إِنِّى لا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِى صَدْرِى، وَقَالَ: (اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ، وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا) . فيه أن الرجل الوجيه فى قومه له حرمة ومكانة على من هو دونه؛ لأن جريرًا كان سيد قومه. وفيه أن لقاء الناس بالتبسم وطلاقة الوجه من أخلاق النبوة، وهو مناف للتكبر وجالب للمودة. وفيه فضل(5/193)
الفروسية وإحكام ركوب الخيل وأن ذلك مما ينبغى أن يتعلمه الرجل الشريف والرئيس. وفيه أنه لا بأس للعالم والإمام إذا أشار إلى إنسان فى مخاطبته أو غيرها أن يضع عليه يده، ويضرب بعض جسده، وذلك من التواضع وفيه استمالة النفوس. وفيه بركة دعوة النبى؛ لأنه قد جاء فى هذا الحديث أنه ما سقط بعد ذلك من الخيل. وقوله: (هاديًا مهديًا) من باب التقديم والتأخير الذى فى كلام العرب؛ لأنه لا يكون هاديًا لغيره إلا بعد أن يهتدى هو ويكون مهديًا.
9 - باب مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّنَازُعِ وَالاخْتِلافِ فِى الْحَرْبِ وَعُقُوبَةِ مَنْ عَصَى إِمَامَهُ وقوله: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا (الآية [الأنفال: 46]
860 / فيه: أَبُو مُوسى، بَعَثَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) مُعَاذًا وَأَبَا مُوسَى إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ: (يَسِّرَا وَلا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلا تَخْتَلِفَا) . 1861 / فيه: الْبَرَاءَ، جَعَلَ النَّبِىُّ، عَلَى الرَّجَّالَةِ يَوْمَ أُحُدٍ - وَكَانُوا خَمْسِينَ رَجُلا - عَبْدَاللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ، فَقَالَ: (إِنْ رَأَيْتُمُونَا تَخْطَفُنَا الطَّيْرُ، فَلا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ هَذَا، حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا هَزَمْنَا الْقَوْمَ وَأَوْطَأْنَاهُمْ، فَلا تَبْرَحُوا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ) ، فَهَزَمُوهُمْ، قَالَ: فَأَنَا وَاللَّهِ رَأَيْتُ النِّسَاءَ يَشْدُدُنَ، قَدْ بَدَتْ خَلاخِلُهُنَّ وَسْوُقُهُنَّ، رَافِعَاتٍ ثِيَابَهُنَّ،(5/194)
قَالَ أَصْحَابُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ جُبَيْرٍ: الْغَنِيمَةَ، أَىْ قَوْمِ الْغَنِيمَةَ، ظَهَرَ أَصْحَابُكُمْ، فَمَا تَنْتَظِرُونَ؟ فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ جُبَيْرٍ، أَنَسِيتُمْ مَا قَالَ لَكُمْ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ؟ قَالُوا: وَاللَّهِ، لَنَأْتِيَنَّ النَّاسَ فَلَنُصِيبَنَّ مِنَ الْغَنِيمَةِ، فَلَمَّا أَتَوْهُمْ، صُرِفَتْ وُجُوهُهُمْ فَأَقْبَلُوا مُنْهَزِمِينَ فَذَاكَ إِذْ يَدْعُوهُمْ الرَّسُولُ فِى أُخْرَاهُمْ، فَلَمْ يَبْق مَعَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، إلا اثْنَىْ عَشَرَ رَجُلا، فَأَصَابُوا مِنَّا سَبْعِينَ، وَكَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَأَصْحَابُهُ أَصَابُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ أَرْبَعِينَ وَمِائَةً، سَبْعِينَ أَسِيرًا، وَسَبْعِينَ قَتِيلا. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَفِى الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ؟ فَنَهَاهُمُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يُجِيبُوهُ، ثُمَّ قَالَ: أَفِى الْقَوْمِ ابْنُ أَبِى قُحَافَةَ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ؟ ثُمَّ قَالَ: أَفِى الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ؟ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَمَّا هَؤُلاءِ، فَقَدْ قُتِلُوا، فَمَا مَلَكَ عُمَرُ نَفْسَهُ، فَقَالَ: كَذَبْتَ وَاللَّهِ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، إِنَّ الَّذِينَ عَدَدْتَ لأحْيَاءٌ كُلُّهُمْ، وَقَدْ بَقِىَ لَكَ مَا يَسُوءُكَ، قَالَ: يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ، وَالْحَرْبُ سِجَالٌ، إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ فِى الْقَوْمِ مُثْلَةً لَمْ آمُرْ بِهَا، وَلَمْ تَسُؤْنِى، ثُمَّ أَخَذَ يَرْتَجِزُ: أُعْلُ هُبَلْ أُعْلُ هُبَلْ فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (أَفَلاَ تُجِيبُوه) ؟ قَالُوا: مَا نَقُولُ؟ قَالَ: (قُولُوا: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ) ، قَالَ: إِنَّ لَنَا الْعُزَّى وَلا عُزَّى لَكُمْ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (أَلا تُجِيبُوه) ؟ قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا نَقُولُ؟ قَالَ: قُولُوا: (اللَّهُ مَوْلانَا وَلا مَوْلَى لَكُمْ) . قال المهلب: التنازع والخلاف هو سبب الهلاك فى الدنيا والآخرة؛ لأن الله تعالى قد عبر فى كتابه بالخلاف الذى قضى به على عباده عن الهلاك فى قوله: (ولا يزالون مختلفين (ثم قال: (ولذلك خلقهم (فقال قوم: خلقهم للخلاف. وقال آخرون: خلقهم ليكونوا: فريق فى الجنة وفريق فى السعير من أجل اختلافهم. وهذا(5/195)
كثير فى كتاب الله، وقد أخبر الله تعالى - أن مع الخلاف يكون الفشل والكسل، فيتمكن العدو من المخالفين؛ لأنهم كانوا كلهم مدافعين دفاعًا واحدًا، فصار بعضهم يدافع بعضًا، فتمكن العدو. وفى حديث عبد الله بن جبير معاقبة الله على الخلاف، وعلى ترك الائتمار للرسول والوقوف عند قوله كما قال تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم (. وفى قوله: (حتى تخطفنا الطير) دليل على جواز الإغياء فى الكلام. وفيه بيان أن النبى لم ينهزم كل أصحابه. ونهى النبى (صلى الله عليه وسلم) عن جواب أبى سفيان تصاون عن الخوض فيما لا فائدة فيه، وإجابة عمر بعد نهى النبى إنما هى حماية للظن بالنبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قتل، وأن بأصحابه الوهن، فليس فى هذا عصيان للنبى فى الحقيقة، وإن كان عصيانًا فى الظاهر، فهو مما يؤجر به. وقوله: (قد بقى لك ما يسوؤك) أرهب عليه لما ظن به الوقيعة، وكسر شوكة الإسلام، وأنه قد مضى النبى وسادة أصحابه، فعرفهم أنهم أحياء، وأنه قد بقى له ما يسوؤه. و (هبل) صنم كانوا يعبدونه فى الجاهلية، وأمر النبى بجوابه؛ لأنه بعث بإعلاء كلمة الله تعالى وإظهار دينه، فلما كلم هذا الكلام لم يسعه السكوت عنه، حتى تعلو كلمة الله، ثم عرفهم فى جوابه أنهم يقرون أن الله أعلى وأجل لقولهم: (إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى (فلم يراجعه أبو سفيان، ولا نقض عليه كلامه، اعترافًا بما قال. ثم ذكر صنمًا آخر فقال: إن لنا العزى ولا عزى لكم. فأمر الرسول بمجاوبته، وعرف فى جوابه أن العزى ومثلها من(5/196)
الأصنام لا موالاة لها، ولا نصر. فقال: الله مولانا ولا مولى لكم. فعرف أن النصر من عند الله، وأن الموالاة والنصر لا تكون من الأصنام، فبكته بذلك، ولم يراجعه، وإنما ترك النبى مجاوبته بنفسه تهاونًا من خصام مثله، وأمر من ينوب عنه تنزهًا عنه. وقال الخطابى: (إن رأيتمونا تخطفنا الطير) مثل، والمعنى: إن رأيتمونا قد انهزمنا وولينا، فلا ترجعوا. يقال: فلان ساكن الطير، وواقع الطير إذا كان هاديًا وقورًا. وضرب المثل بالطير؛ لأنه لا يقع إلا على الشيء الساكن، ويقال للإنسان إذا طاش وأسرع: قد طار طيره.
0 - باب: مَنْ رَأَى العَدُوَّ فَنَادَى بِصَوْتِهِ يَا صَبَاحَاهْ حَتَى يُسْمِعَ النَّاسَ
862 / فيه: سَلَمَةَ، خَرَجْتُ مِنَ الْمَدِينَةِ ذَاهِبًا نَحْوَ الْغَابَةِ، حَتَّى إِذَا كُنْتُ بِثَنِيَّةِ الْغَابَةِ لَقِيَنِى غُلامٌ لِعَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فَقُلْتُ: وَيْحَكَ، مَا بِكَ؟ قَالَ: قَدْ أُخِذَتْ لِقَاحُ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قُلْتُ: مَنْ أَخَذَهَا؟ قَالَ: غَطَفَانُ وَفَزَارَةُ، فَصَرَخْتُ ثَلاثَ صَرَخَاتٍ، أَسْمَعْتُ مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا: يَا صَبَاحَاهْ، يَا صَبَاحَاهْ، ثُمَّ انْدَفَعْتُ حَتَّى أَلْقَاهُمْ، وَقَدْ أَخَذُوهَا، فَجَعَلْتُ أَرْمِيهِمْ، وَأَقُولُ: أَنَا ابْنُ الأكْوَعِ وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعْ فَاسْتَنْقَذْتُهَا مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يَشْرَبُوا، فَأَقْبَلْتُ بِهَا أَسُوقُهَا، فَلَقِيَنِى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الْقَوْمَ عِطَاشٌ، وَإِنِّى أَعْجَلْتُهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا سِقْيَهُمْ، فَابْعَثْ فِى إِثْرِهِمْ، فَقَالَ: (يَا ابْنَ الأكْوَعِ، مَلَكْتَ، فَأَسْجِحْ، إِنَّ الْقَوْمَ يُقْرَوْنَ فِى قَوْمِهِمْ) .(5/197)
قال المهلب: فيه وجوب النذير بالعسكر والسرية بالصراخ بكلمة تدل على ذلك. وقوله: (يا صباحاه) معناه: قد أغير عليكم فى الصباح، أو قد صوبحتم فخذوا حذركم. وفيه جواز الأخذ بالشدة، ولقاء الواحد أكثر من المثلين؛ لأن سلمة كان وحده، وألقى بنفسه إلى التهلكة، وفيه تعريف الإنسان بنفسه فى الحرب شجاعته وتقدمه. وسيأتى فى الباب بعد هذا زيادة فى ذلك، وفيه فضل الرماية؛ لأنه وحده قاومهم بها ورد الغنيمة. وقوله: (واليوم يوم الرضع) فيه أقوال للعلماء: قيل: معناه أن من أرضعته الحرب من صغره، فهو الظاهر، وقيل: معناه أن اليوم يعرف من رضع كريمة أو من رضع لئيمة، فيبدو فعله فى الدفع عن حريمه. وقال الخطابى: معناه أن اليوم يوم هلاك اللئام من قولهم: لئيم رضع، وهو الذى يرضع الغنم لا يحلبها، فيسمع صوت الحلب. وقوله: (فاستنقذتها منهم قبل أن يشربوا) يعنى: الماء، وعلى ذلك يدل قوله: (إن القوم عطاش) يحضه على اتباعهم وإهلاكهم، فقال له (صلى الله عليه وسلم) : (ملكت فأسجح) أى: استنقذت الغنيمة فملكتها وملكت الحماية فأسجح. أى ارفق ولا تبالغ فى المطالبة، فربما عادت عليك كسرة من حيث لا تظن، فبعد أن كنت ظفرت يظهر بك، وقال ذلك (صلى الله عليه وسلم) رجاء توبة منهم، ودخول فى الإسلام. وقوله: إن القوم (يقرون) يعنى: أنهم سيلقون أول بلادهم فيطعمون ويسقون قبل أن تبلغ منهم ما تريد، ومن روى (يقرون)(5/198)
جعل القرى لهم أنهم يضيفون الأضياف، فراعى لهم (صلى الله عليه وسلم) حق ذلك ورجا أن يتوب الله عليهم.
1 - باب: مَنْ قَالَ أَنَا ابُن فُلانٍ
وَقَالَ سَلَمَةُ: خُذْهَا، وَأَنَا ابْنُ الأكْوَعِ. 1863 / فيه: الْبَرَاءَ، أَمَّا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَمْ يُوَلِّ يوم حنين، كَانَ أَبُو سُفْيَانَ آخِذًا بِعِنَانِ بَغْلَتِهِ، فَلَمَّا غَشِيَهُ الْمُشْرِكُونَ، نَزَلَ فَجَعَلَ يَقُولُ: (أَنَا النَّبِىُّ لا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِالْمُطَّلِبْ) [قَالَ] : فَمَا رُئِىَ مِنَ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ أَشَدُّ مِنْهُ. قال المؤلف: فى (النوادر) قال محمد بن عبد الحكم: لا بأس بالافتخار عند الرمى، والانتماء بالقبائل، والرجز، وكل ذلك إذا رمى بالسهم فظنه مصيبًا أن يصيح عليه، وبالذكر لله أحب إلى، وإن قال: أنا الفلانى لقبيلته فذلك جائز كله مستحب. وفيه إغراء لبعضهم ببعض، وروى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (أنا ابن العواتك) ورمى ابن عمر بين الهدفين فقال: (أنا لها، أنا لها، وقال: أنا أبو عبد الرحمن. فقال: أنا الغلام الهذلي. وكان مكحول فارسيا وكانت لغته بالدال. وقوله: (خذها، وأنا ابن الأكوع) أى: أنا ابن المشهور فى الرمى بالإصابة عن القوس، وهذا على سبيل الفخر؛ لأن العرب تقول: أنا ابن نجدتها. أى: القائم بالأمر. وأنا ابن جلاء، يريد المنكشف للأمر الواضح الجلي. وقال الهذلى: فرميت فوق ملاءة محبوكة وأبنت للأشهاد حرة أدعى يقول: أبنت لهم قولى: خذها وأنا ابن فلان، و (حرة) يعنى(5/199)
ساعة أدعى إلى قومى، ولا يقول مثل هذا إلا الشجاع البطل، والعادة عند العرب أن يعلم الشجاع نفسه بعلامة فى الحرب بتميز بها من غيره ليقصده من يدعى الشجاعة، فأعلم النبى نفسه بالنبوة المعصومة، وبنسبه الطاهر فقال: أنا النبى لا كذب أنا ابن عبد المطلب ليقوى قلب من تمكن الشيطان منه فاستزله وانهزم، ولذلك نزل (صلى الله عليه وسلم) بالأرض؛ لأن النزول غاية ما يكون من الطمأنينة، والثقة بالله تعالى ليقتدى به المؤمنون فيثبتوا؛ لأن الرسول لا يجوز عليه من كيد الشيطان أن يقذف فى قلبه خوفا يزل به قدمه، أو ينكص على عقبيه فينهزم؛ لأنه على بصيرة من أمره، ويقين من نصر الله له، وإتمام أمره، ومنعه من عدوه، وقد تقدم هذا المعنى. قال الطبرى: وقد اختلف السلف: هل يعلم الرجل الشجاع نفسه عند لقاء العدو؟ فقال بعضهم: ذلك جائز على ما دل عليه هذا الحديث، وقد أعلم نفسه حمزة بن عبد المطلب يوم بدر بريشة نعامة فى صدره، وأعلم نفسه أبو دجانة بعصابة محضر النبى (صلى الله عليه وسلم) وكان الزبير يوم بدر معتم بعمامة صفراء، فنزلت الملائكة معتمين بعمائم صفر. وقال ابن عباس فى قوله تعالى: (بخمسة آلاف من الملائكة مسومين (إنهم أتوا محمدًا (صلى الله عليه وسلم) مسومين بالصوف، فسوم محمد وأصحابه أنفسهم وخيلهم على سيماهم بالصوف، وكره آخرون التسويم والإعلام فى الحرب، وقالوا: فعل ذلك من الشهرة، ولا ينبغى للرجل المسلم أن يشهر نفسه فى خير ولا شر، قالوا: وإنما(5/200)
ينبغى للمؤمن إذا فعل شيئًا لله أن يخفيه عن الناس؛ فإن الله لا يخفى عليه شيء، روى هذا عن بريدة الأسلمي. قال الطبرى: والصواب أنه لا بأس بالتسويم والإعلام فى الحرب إذا فعله الفاعل من أهل البأس والنجدة، وهو قاصد بذلك شد الناس على أن لا [. . . .] والصبر للعدو والثبات لهم فى اللقاء، وهو يريد ترهيب العدو إذا عرفوا مكانه، وإعلام من معه من المسلمين أنه لا يخذلهم ولا يسلمهم. وأما إذا لم يرد ذلك وقصد به الافتخار فهذا المعنى هو المكروه؛ لأنه ليس ممن قاتل لتكون كلمة الله هى العليا وإنما قاتل للذكر.
2 - باب: إِذَا نَزَلَ الَعُدُّو عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ
864 / فيه: أَبُو سَعِيد، لَمَّا نَزَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ بْن مُعَاذٍ، بَعَثَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَكَانَ قَرِيبًا مِنْهُ، فَجَاءَ عَلَى حِمَارٍ، فَلَمَّا دَنَا، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ) ، فَجَاءَ فَجَلَسَ إِلَى النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ لَهُ: (إِنَّ هَؤُلاءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ) ، قَالَ: فَإِنِّى أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ، وَأَنْ تُسْبَى الذُّرِّيَّةُ، قَالَ: (لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ) . قال المهلب: فيه جواز التحكيم فى أمر الحرب وغيره، وذلك رد على الخوارج الذين أنكروا التحكيم على عليّ. وفيه: أن التحاكم فى الدنيا إلى رجل معلوم الصلاح والخير لازم للمتحاكمين. فكيف بيننا وبين عدونا فى الدين؟ وأن المال أخف مؤنة من النفس والأهل. وفيه: أمر السلطان والحاكم بإكرام السيد من المسلمين، وجواز إكرام أهل الفضل فى مجلس السلطان الأكبر والقيام فيه لغيره من أصحابه وسادة أتباعه، وإلزام الناس كافة القيام إلى سيدهم.(5/201)
وقد اعترض هذا من قال: إنما أمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) الأنصار بهذا خاصة؛ لأنه سيد الأنصار، وهذا لا دليل عليه، بل هو سيد من حضر من أنصارى ومهاجرى؛ لأنه قال فيه قولا مجملا لم يخص فيه أحدًا ممن بين يديه من غيره، وسيأتى فى كتاب الاستئذان تأويل حديث أبى سعيد مع الحديث العارض إن شاء الله. قال الطبرى: فيه البيان عن أن لإمام المسلمين إذا حاصر العدو، فسألوهم أن ينزلوهم على حكم رجل من المسلمين، مرضية أمانته على الإسلام وأهله، موثوق بعقله ودينه أن يجيبهم إلى ذلك، وإن كان الرجل غائبًا عن الجيش؛ لأن سعدًا لم يشهد حصار رسول الله لبنى قريظة، حين سألوا النبى (صلى الله عليه وسلم) أن ينزلوا على حكمه، وكان بالمدينة يعالج كلمه الذى كلمه بالخندق، فأرسل فيه النبى (صلى الله عليه وسلم) حتى حكم فيهم، فإن وافق حكمه حكم الله ورسوله أمضى، وإن خالف ذلك رد حكمه. وقيل للنازلين على حكمه: إن رضيتم حكم غيره يحكم فيكم بحكم يجوز فى ديننا أمضينا حكمه، وإن كرهتم ذلك رددناكم إلى حصنكم، والحكم الذى لا يجوز لأحد الفريقين الرجوع عنه هو أن يحكم بقتلهم، وسبى ذراريهم ونسائهم، وقسم أموالهم، إن كان ذلك هو النظر المسلمين، وإن حكم باسترقاق مقاتلتهم، أو المن عليهم، ووضع الخراج على رءوسهم فجائز بعد أن يكون نظرًا للمسلمين. وأما الحكم الذى يرد ولا يمضى: فهو أن يحكم أنهم يقروا فى أرض المسلمين كفار بغير خراج يؤدونه إلى الإمام ولا جزية؛ لأنه غير جائز أن يقيم كافر فى أرض الإسلام سنة بغير جزية يؤديها عن رقبته، وإن سألوهم أن ينزلهم على حكم الله أو يحكم فيهم بحكم الله؛ فإنه لا ينبغى أن يجيبهم إلى ذلك لصحة الخبر الذى رواه سفيان عن علقمة(5/202)
ابن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه قال: (كان (صلى الله عليه وسلم) إذا بعث أميرًا على جيش وصاه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا وقال: اغزوا بسم الله فى سبيل الله قاتلوا من كفر إلى قوله وإن قاتلت أهل حصن فأرادوا أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة رسوله، واجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك؛ خير أن تخفر ذمة الله وذمة رسوله، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوا أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك؛ فإنك لا تعلم أصبت حكم الله فيهم أم لا) . فإن قيل: كيف جاز للإمام أن ينزلهم على حكم رجل، مرضى دينه لا يتجاوز فيهم حكم الله وحكم رسوله، ثم إنه يقول: لا يجوز للإمام أن يجيبهم إذا سألوه أن ينزلهم على حكم الله وحكم رسوله، وهذان قولان يفسد أحدهما صاحبه. قيل له: ليس كما توهمت، فأما كراهيتها للإمام أن يجيب من سأله النزول على حكم الله وحكم رسوله الذى هو الحق عنده، فإن ذلك لا يعلمه إلا علام الغيوب، وإنما يحكمون إذا كانوا أهل دين وأمانة بأصلح ما حضرهم فى الوقت، ولا سبيل إلى الحكم بعلم الله، فهذا معنى نهيه (صلى الله عليه وسلم) . وإن هم حكموا على حكم رجل من المسلمين ثم بدا لهم فى الرضا بحكمه قبل أن يحكم بينهم، وسألوا الإمام غيره ممن هو رضا، فللإمام أن يجيبهم إلى ذلك، وذلك أن رسول الله ذكر عنه أن بنى قريظة كانوا نزلوا على حكمه، ثم سألوه أن يجعل الحكم لسعد ابن معاذ، فأجابهم إلى ذلك، فأما إذا حكم بينهم الذى نزلوا على حكمه إذا لم يخالف حكمه ما يجوز فى ديننا.(5/203)
وفيه أن الإمام إذا ظهر من قوم من أهل الحرب الذى بينه وبينهم مواعدة وهدنة على خيانة وغدر أن ينبذ إليهم على سواء وأن يحاربهم، وذلك أن قريظة كانوا أهل مواعدة للنبى قبل الخندق. فلما كان يوم الأحزاب ظاهروا قريشًا وأبا سفيان على رسول الله وراسلوهم: إنَّا معكم، وأثبتوا مكانكم. فأحل الله بذلك من فعلهم قتالهم ومنابذتهم على سواء، وفيهم نزلت هذه الآية: (وإما تخافن من قوم خيانة (الآية. فحاصرهم رسول الله والمسلمون معه، حتى نزلوا على حكم سعد. قال المهلب: وفيه أن الإنسان قد يوافق برأيه ما فى حكم الله ولا يعلم ذلك إلا على لسان نبى كما قال النبى لسعد.
3 باب: قَتْلِ الأَسِيرِ وَقَتَلِ الصَّبْرِ
865 / فيه: أَنَسِ، أَنَّ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، دَخَلَ عَامَ الْفَتْحِ، وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ، جَاءَه رَجُلٌ، فَقَالَ: إِنَّ ابْنَ خَطَلٍ، مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: (اقْتُلُوهُ) . قد تقدم القول فى قتل الأسرى، وأن الإمام مخير بين القتل والمن، وكذلك فعل الرسول يوم فتح مكة؛ قتل ابن خطل ومقيس بن صبابة والقينتين ومن على الباقين. وفيه أن للإمام أن يقتل صبرًا من حاد الله ورسوله وكان فى قتله صلاحًا للمسلمين، كما قتل يوم بدر عقبة بن أبى معيط، قام إليه على بن أبى طالب فقتله صبرًا. فقال: من للصبية يا محمد؟ قال النار. وقتل النضر بن الحارث، وكذلك فعل سعد بن معاذ فى بنى(5/204)
قريظة، وهذا الحديث حجة لقول جمهور العلماء أن مكة فتحت عنوة، وقد تقدم ذلك فى كتاب الحج. ومن الآثار الدالة على ذلك ما ذكره أبو عبيد قال: حدثنا أبو النضر، عن سليمان بن المغيرة، حدثنا ثابت البنانى، عن عبد الله بن رباح، عن أبى هريرة أنه حدث بفتح مكة قال: (ثم أقبل رسول الله حين قدم مكة، فبعث الزبير على إحدى المجنبتين، وبعث خالد ابن الوليد على المجنبة الأخرى، وبعث أبا عبيدة بن الجراح على الحسر، وأخذوا بطن الوادى، فأمرنى رسول الله، فناديت بالأنصار فلما طافت به قال: أترون أوباش قريش وأتباعهم؟ ثم قال: بيده إحداهما على الأخرى -: احصدوهم حصدًا، حتى توافونى بالصفا. قال أبو هريرة: فانطلقنا فما يشاء أحد منا أن يقتل منهم من شاء إلا قتله. فجاء أبو سفيان بن حرب فقال: يا رسول الله، أبيحت خضراء قريش، فلا قريش بعد اليوم. فقال رسول الله: من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبى سفيان فهو آمن) . قال أبو عبيد: حدثنا هشيم، عن حصين بن عبد الرحمن، عن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة، قال: قال رسول اله يوم فتح مكة: (ألا لا يجهزن على جريح، ولا يتبع مدبر، ولا يقتلن أسير، ومن أغلق بابه فهو آمن) . وهذا بين فى دخولها عنوة، ومن خالف ذلك، واعتل بأن الرسول لم يحكم فيها بحكم العنوة من الغنم لها، واسترقاق أهلها، فلم تكن عنوة، فقد علم من تخصيص مكة، ومباينتها فى أحكامها لسائر البلاد، ما فيه مقنع من أنها حرام، وأنها مناخ من سبق فلا تباع رباعها، ولا تكرى بيوتها، ولا تحل لقطتها، ولا تحل غنائمها، فليست تشبه مكة شيئًا من البلاد(5/205)
4 - باب: هَلْ يَسْتَأْسِرُ الرَّجُلُ وَمَنْ لَمْ يَسْتَأْسِرْ وَمَنْ رَكَعَ رَكْعَتَينِ عِنْدَ القَتْلِ
866 / فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَشَرَةَ رَهْطٍ سَرِيَّةً عَيْنًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ الأنْصَارِىَّ؛ جَدَّ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْهَدَأَةِ، وَهُوَ بَيْنَ عُسْفَانَ وَمَكَّةَ، ذُكِرُوا لِحَىٍّ مِنْ هُذَيْلٍ، يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو لَحْيَانَ، فَنَفَرُوا لَهُمْ قَرِيبًا مِنْ مِائَتَىْ رَجُلٍ كُلُّهُمْ رَامٍ، فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ حَتَّى وَجَدُوا مَأْكَلَهُمْ تَمْرًا تَزَوَّدُوهُ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَقَالُوا: هَذَا تَمْرُ يَثْرِبَ، فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ، فَلَمَّا رَآهُمْ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ، لَجَئُوا إِلَى فَدْفَدٍ، وَأَحَاطَ بِهِمُ الْقَوْمُ، فَقَالُوا لَهُمُ: انْزِلُوا، وَأَعْطُوا بِأَيْدِيكُمْ، وَلَكُمُ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ، وَلا نَقْتُلُ مِنْكُمْ أَحَدًا، قَالَ عَاصِمُ أَمِيرُ السَّرِيَّةِ: أَمَّا أَنَا فَوَاللَّهِ لا أَنْزِلُ الْيَوْمَ فِى ذِمَّةِ كَافِرٍ، اللَّهُمَّ أَخْبِرْ عَنَّا نَبِيَّكَ، فَرَمَوْهُمْ بِالنَّبْلِ، فَقَتَلُوا عَاصِمًا فِى سَبْعَةٍ، فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ ثَلاثَةُ رَهْطٍ بِالْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ مِنْهُمْ خُبَيْبٌ الأنْصَارِىُّ وَابْنُ دَثِنَةَ وَرَجُلٌ آخَرُ، فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ أَطْلَقُوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ، فَأَوْثَقُوهُمْ، فَقَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ: هَذَا أَوَّلُ الْغَدْرِ، وَاللَّهِ لا أَصْحَبُكُمْ إِنَّ [لِى] فِى هَؤُلاءِ لأسْوَةً يُرِيدُ الْقَتْلَى، فَجَرَّرُوهُ وَعَالَجُوهُ عَلَى أَنْ يَصْحَبَهُمْ، فَأَبَى، فَقَتَلُوهُ، فَانْطَلَقُوا بِخُبَيْبٍ وَابْنِ دَثِنَةَ حَتَّى بَاعُوهُمَا بِمَكَّةَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، فَابْتَاعَ خُبَيْبًا بَنُو الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ قَتَلَ الْحَارِثَ بْنَ عَامِرٍ يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَبِثَ خُبَيْبٌ عِنْدَهُمْ أَسِيرًا، فَقَالَت ابْنَة الْحَارِثِ أَنَهُ اسْتَعَارَ مِنْهَا مُوسَى يَسْتَحِدُّ بِهَا، فَأَعَارَتْهُ، فَأَخَذَ ابْنًا لِى، وَأَنَا غَافِلَةٌ حِينَ أَتَاهُ، قَالَتْ: فَوَجَدْتُهُ يُجْلِسَهُ عَلَى فَخِذِهِ، وَالْمُوسَى بِيَدِهِ، فَفَزِعْتُ فَزْعَةً عَرَفَهَا خُبَيْبٌ فِى وَجْهِى، فَقَالَ: تَخْشَيْنَ أَنْ أَقْتُلَهُ مَا كُنْتُ لأفْعَلَ ذَلِكَ، وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ أَسِيرًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ خُبَيْبٍ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَجَدْتُهُ يَوْمًا يَأْكُلُ مِنْ قِطْفِ عِنَبٍ فِى يَدِهِ، وَإِنَّهُ لَمُوثَقٌ فِى الْحَدِيدِ، وَمَا بِمَكَّةَ مِنْ ثَمَرٍ، وَكَانَتْ تَقُولُ: إِنَّهُ لَرِزْقٌ مِنَ اللَّهِ رَزَقَهُ خُبَيْبًا، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ الْحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ فِى الْحِلِّ، قَالَ لَهُمْ خُبَيْبٌ: ذَرُونِى(5/206)
أَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، فَتَرَكُوهُ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: لَوْلا أَنْ تَظُنُّوا أَنَّ مَا بِى جَزَعٌ لَأَصَلْتٌهَا، اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا: مَا أُبَالِى حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا وَذَلِكَ فِى ذَاتِ الإلَهِ وَإِنْ يَشَأْ عَلَى أَىِّ شِقٍّ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ فَقَتَلَهُ ابْنُ الْحَارِثِ، وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ سَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ لِكُلِّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ قُتِلَ صَبْرًا، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لِعَاصِمِ يَوْمَ أُصِيبَ، فَأَخْبَرَ الرَّسُولُ أَصْحَابَهُ خَبَرَهُمْ، وَمَا أُصِيبُوا، وَبَعَثَ نَاسٌ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ إِلَى عَاصِمٍ حِينَ حُدِّثُوا أَنَّهُ قُتِلَ لِيُؤْتَوْا بِشَيْءٍ مِنْهُ يُعْرَفُ، وَكَانَ قَدْ قَتَلَ رَجُلا مِنْ عُظَمَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَبُعِثَ اللَّه عَلَى عَاصِمٍ مِثْلُ الظُّلَّةِ مِنَ الدَّبْرِ، فَحَمَتْهُ مِنْ رَسُولِهِمْ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَنْ يَقْطَعَ مِنْ لَحْمِهِ شَيْئًا. قال المهلب: فيه أنه جائز أن يستأنس الرجل إذا أراد أن يأخذ برخصة الله فى إحياء نفسه، كما فعل خبيب، وصاحباه. وقال الحسن البصرى: لا بأس أن يستأنس الرجل إذا خاف أن يغلب. وقال الأوزاعى: لا بأس للأسير بالشدة والإبائة من الأسر والأنفة من أن يجرى ملك كافر كما فعل عاصم وأحد صاحبى خبيب، حتى أبى من السير معهم، حتى قتلوه. وقال الثورى: أكره للأسير المسلم أن يمكن من نفسه إلا مجبورًا. وفيه استنان الركعتين لكل من قتل صبرًا. وفيه استنان الاستحداد لمن أسر، ولمن يقتل، والتنظيف لمن(5/207)
[. . . . .] بعد القتل لئلا يطلع منه على قبح عورة، وفيه: أداء الأمانة إلى المشرك وغيره، وفيه: التورع من قتل أطفال المشركين رجاء أن يكونوا مؤمنين. وفيه: الامتداح بالشعر فى حين ينزل بالمرء هوان فى دين أو ذلة ليسلى بذلك نفسه، ويرغم بذلك أنف عدوه، ويجدد فى نفسه صبرًا وأنفة. وأما قول جويرية: رأيت فى يده قطف عنب، وما بمكة من ثمرة، فهذا ممكن أن يكون آية لله تعالى على الكفار، وبرهانًا لنبيه، وتصحيحًا لرسالته عند الكافرة وأهل بلدها الكفار من أجل ما كانوا عليه من تكذيب الرسول. فأما من يذكر اليوم مثل هذا بين ظهرانى المسلمين فليس لذلك وجه؛ إذ المسلمون كلهم قد دخلوا فى دين الله أفواجًا، وآمنوا بمحمد، وأيقنوا به، فأى معنى لإظهار آية عندهم، وعلى ما يستشهد بها فيهم؛ لأنه قد يشك المرتاب ومن فى قلبه غرارة وجهل. يقول: إذا جاز ظهور هذه الآيات من غير نبى، فكيف يصدقها من نبى وغيره يأتى بها، فلو لم يكن فى هذا إلا رفع هذا الريب عن قلوب أهل التقصير والغرارة والجهل لكان قطع الذريعة واجبًا، والمنع منها لازمًا لهذه العلة، فكيف ولا معنى لها فى الإسلام بعد تأصله، وعند أهل الإيمان بعد تمكنه، إلا أن يكون من ذلك ما لا يخرق عادة، ولا يقلب عينًا، ولا يخرج عن معقول البشر، مثل أن يكرم الله عبدًا بإجابة دعوة من حينه فى أمر عسير وسبب ممتنع، ودفع بأس نازل وشنعة قد أظلت فيصرفها بلطفه عن وليه، فهذا ومثله مما يظهر فيه فضل(5/208)
الفاضل وكرامة الولى عند ربه، وقد أخبرنى أبو عمران الفقيه الحافظ بالقيروان أنه وقف أبا بكر بن الطيب الباقلانى على تجويزه لهذه المعجزات، فقال له: أرأيت إن قالت لنا المعتزلة: إن برهاننا على تصحيح مذهبنا، وما ندعيه من المسائل المخالفة لكم ظهور هذه الآية على يدى رجل صالح منا. قال أبو عمران: فأطرق عنى ومطلنى بالجواب، ثم اقتضيته فى مجلس آخر، فقال لى: كل ما أعترض من هذه الأشياء شيئًا من الدين أو السنن أو ما عليه صحيح العلم، فلا يقبل أصلا على أى طريق جاء. فهذا آخر ما رجع إليه ابن الطيب. أما حماية الله عاصمًا (من الدبر) فلئلا ينتهك حرمته عدوه، فهذه الكرامة التى تجوز، ومثل ذلك غير منكر؛ لأن الله حماه على طريق العادة، ولم يكن قلب عين ولا خرق عادة، فهذا ومثله جائز وفيه علامة من علامات النبوة بإجابة دعوة عاصم بأن أخبر الله نبيه (صلى الله عليه وسلم) بالخبر قبل بلوغه على ألسنة المخلوقين. والدبر جماعة النحل لا واحد لها، وكذلك الثوم والخشرم لا واحد لشيء منها، كما يقال لجماعة الجراد: رجل. ولجماعة النعام: خيط، ولجماعة الظباء: إجل، وليس لشيء من ذلك واحد.(5/209)
5 - باب: فَكَاكِ الأَسِيرِ
867 / فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (فُكُّوا الْعَانِىَ، يَعْنِى الأسِيرَ، وَأَطْعِمُوا الْجَائِعَ وَعُودُوا الْمَرِيضَ) . 1868 / وفيه: أَبُو جُحَيْفَةَ، قُلْتُ لِعَلِىٍّ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَىْءٌ مِنَ الْوَحْىِ إِلا مَا فِى كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: لا، وَالَّذِى فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، مَا أَعْلَمُهُ إِلا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلا فِى الْقُرْآنِ، وَمَا فِى هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، قُلْتُ: [وَمَا فِى الصَّحِيفَةِ؟] قَالَ: الْعَقْلُ، وَفَكَاكُ الأسِيرِ، وَأَنْ لا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ. فكاك الأسير فرض على الكفاية؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : فكوا العاني. وعلى هذا كافة العلماء؛ وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه قال: فكاك كل أسير من أسرى المسلمين من بيت المال. وبه قال إسحاق، وروى عن ابن الزبير أنه سأل الحسن بن على عن فكاك الأسير، قال: على الأرض التى يقاتل عليها. وروى أشهب وابن نافع عن مالك أنه سئل: أواجب على السلمين افتداء من أسر منهم؟ قال: نعم، أليس واجب عليهم أن يقاتلوا حتى يستنقذهم، فكيف لا يفدونهم بأموالهم؟ وقال أحمد: يفادون بالرءوس، وأما بالمال فلا أعرفه، وقوله (صلى الله عليه وسلم) : فكوا العاني. عموم فى كل ما يفادى به، فلا معنى لقول أحمد، وقد قال عمر بن عبد العزيز: إذا خرج الذمى بالأسير من المسلمين فلا يحل للمسلمين أن يردوه إلى الكفر، ليفادوه بما استطاعوا. قال تعالى: (وإن يأتوكم أسارى تفادوهم (. وقوله: (أطعموا الجائع) هو فرض على الكفاية أيضًا، ألا ترى رجلا يموت جوعًا، وعندك ما تجيبه به، بحيث لا يكون فى ذلك الموضع أحد غيرك، الفرض عليك فى إحياء نفسه، وإمساك رمقه، وإذا ارتفعت حال الضرورة كان ذلك ندبًا، وسيأتى شيء من هذا المعنى فى كتاب الأطعمة إن شاء الله(5/210)
وأما قوله: (وعودوا المريض) . فهو محمول على الحض والندب إلى التواخى والتآلف، ويحتمل أن يكون من فرض الكفاية كسائر الحديث. قال المهلب: وأما يمين على أن ما عنده إلا كتاب الله أو فهما يعطيه الله رجلا، فهو دليلا على صحة قول مالك: إن العلم ليس بكثرة الرواية، وإنما هو نور وفهم يضعه الله فى قلب من يشاء. فمن أنكر هذا على مالك فلينكره على عليّ. وفيه أن كتاب الله أصل العلم، وأن الفهم إنما هو عنه، وعن حديث رسول الله المبين له، وقوله: والذى فلق الحبة وبرأ النسمة، هو من أيمان العرب. قال أبو عبيد: فلق الحبة: شقها فى الأرض حتى نبتت ثم أثمرت فكان منها حب كثير، وكل شيء شققته باثنين فقد فلقته، ومنه قوله: (فالق الحب والنوى (والنسمة: كل ذات نفس فهى نسمة، وسميت نسمة لتنسمها الهواء، وبرأ الله الخلق برءًا: خلقهم.
6 - باب: فِدَاءِ المشْرِكِينَ
869 / فيه: أَنَس، أَنَّ رِجَالا مِنَ الأنْصَارِ اسْتَأْذَنُوا النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لَنَا فَلْنَتْرُكْ لابْنِ أُخْتِنَا الْعَبَّاس فِدَاءَهُ، فَقَالَ: (لا تَدَعُونَ مِنْهَا دِرْهَمًا) . وَقَالَ أَنَسٍ، أُتِىَ (صلى الله عليه وسلم) بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ، فَجَاءَهُ الْعَبَّاسُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطِنِى، فَإِنِّى فَادَيْتُ نَفْسِى، وَفَادَيْتُ عَقِيلا، فَقَالَ: (خُذْ) ، فَأَعْطَاهُ فِى ثَوْبِهِ. 1870 / وفيه: جُبَيْرٍ بْنُ مطعم، وَكَانَ جَاءَ فِى أُسَارَى بَدْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، يَقْرَأُ فِى الْمَغْرِبِ: والطُّور.(5/211)
قال المهلب: أسر العباس يوم بدر، وكان غنيا ففدى نفسه من القتل، وفدى عقيلا بمال، ثم بقى على حاله بمكة إلى زمن خيبر، وقيل: إنه أسلم سنة ثمان قبل الفتح، وإنما سأل الأنصار الذين أسروا العباس أن يتركوا فداءه بمكان عمومه من النبى (صلى الله عليه وسلم) إكرامًا للنبى بذلك، فأبى (صلى الله عليه وسلم) من ذلك، وأراد توهين المشركين بالغرم، وأن تضعف قوتهم بأخذ المال منهم. وقيل: إنه كان يداين فى ذلك العباس، وبقى عليه الدين إلى وقت إسلامه، ولذلك قال للنبى: أعطنى؛ فإنى فاديت نفسى وفاديت عقيلا، فغرم النبى (صلى الله عليه وسلم) ما تحمله العباس من ذلك بعد إسلامه مما أفاء الله على رسوله، والترجمة صحيحة فى جواز مفاداة المشركين من أيدى المسلمين، وأن ذلك مباح بعد الإثخان، ومفاداة العباس لنفسه ولعقيل كان قبل الإثخان، فعاتب الله نبيه على ذلك فلا تجوز المفاداة إلا بعد الإثخان، وقلة قوة المشركين على المسلمين، أو لوجه من وجوه الصلاح يراه الإمام للمسلمين فى ذلك. وكذلك حديث جبير بن مطعم فيه جواز فداء الأسرى المشركين؛ لأن جبيرًا جاء فى فداء أسارى بنى نوفل رهطه، فأطلقوا له بالفداء، وكان ذلك قبل الإثخان أيضًا، وقد تقدم اختلاف العلماء فى فداء الأسرى أو المن عليهم أو قتلهم فى باب) فإما منا بعد وإما فداء (. وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة: لم يأذن الرسول للأنصار فى أسرى بدر لكفرهم، وشدة وطأتهم، ألا ترى أنه عوتب فى الفداء حتى يثخن فى الأرض، فكيف يأذن فى [. . . .] حتى يثخن أدبًا لهم، وإن كانت الأنصار قد طابت أنفسها، وشفع لأهل هوازن(5/212)
للرضاع الذى كان له فيهم، كما مَنَّ على أهل مكة بإسلامهم وتركه مكة بما فيها من جميع الأموال للرحم.
7 باب: الحَرْبِىّ إِذَا دَخَلَ دَارَ الإِسْلاَمِ بِغَيرِ أَمَانٍ
871 / فيه: سَلَمَةَ، أَتَى النَّبِىَّ؛ (صلى الله عليه وسلم) ، عَيْنٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ فِى سَفَرٍ، فَجَلَسَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ يَتَحَدَّثُ، ثُمَّ انْفَتَلَ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (اطْلُبُوهُ فَاقْتُلُوهُ) ، فَقَتَلَهُ، فَنَفَّلَهُ سَلَبَهُ. قال المهلب: هذا الحديث أصل أن الجاسوس الحربى يقتل، وعلى هذا جماعة العلماء، واختلفوا فى الحربى يدخل دار الإسلام بغير أمان، فقال مالك: هو فيء لجميع المسلمين. وهو قول أبى حنيفة، وأبى يوسف، وقال محمد: هو لمن وجده. وقال الشافعى: هو فيء إلا أن يسلم قبل أن يظفروا به. قال المؤلف: وظاهر الحديث يدل أنه لمن وجده؛ لأن نبى الله إنما أعطى سلبه لسلمة ابن الأكوع وحده؛ لأنه كان قتله. قال غيره: ومن قال: إنه فيء فلأنه مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، من باب الغنائم إلى باب الفيء، والفيء للإمام أن يصنع فيه ما شاء حيث شاء، ومن قال: هو لمن وجده حكم له بحكم الغنائم أنها لمن أخذها بعد الخمس. قال الطحاوى: القياس أن يكون لمن وجده، وفيه الخمس؛ لأنه لم يؤخذ بقوة من المسلمين، واختلفوا فى الحربى يدخل دار الإسلام، ويقول: جئت مستأمنا، فقال مالك: الإمام مخير فى ذلك بما يراه فيه. وهو قول الأوزاعي. وقال أبو حنيفة: هو فيء. وروى ابن وهب عن مالك فى مركب تطرحه الريح إلى ساحل بحر المسلمين،(5/213)
فيقولون: نحن تجار، أنهم فيء ولا يخمسون، واحتج الشافعى بحديث سلمة بن الأكوع فى أن السلب من رأس الغنيمة لا من الخمس. قال ابن القصار: وسلمة إنما كان مستحقا لكل الغنيمة لا الخمس منها؛ لأنه لم يكن من جملة عسكر، وإنها ابتعه وحده فله ما أخذ من الخمس، فترك الرسول له الخمس زيادة على الأربعة الأخماس التى له، وهذا يجوز عندنا، كما لو رأى (الخط فى دار الخمس) فى وقت من الأوقات على الغانمين لفعل؛ لأن الخمس إليه يصرفه على ما يؤدى إليه اجتهاده، فلا دليل لهم فى الحديث.
8 باب: يُقَاتِلُ عَنْ أَهْلِ الذِّمةِ وَلاَ يُسْتَرَقُونَ
872 / فيه: عُمَرَ، قَالَ: وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ اللَّهِ، وَذِمَّةِ رَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَلا يُكَلَّفُوا إِلا طَاقَتَهُمْ. لا خلاف بين العلماء فى القول بهذا الحديث؛ لأنهم إنما بذلوا الجزية على أن يأمنوا فى أنفسهم وأموالهم وأهليهم.
9 باب: جَوَائِز الوُفُود
873 / فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّهُ قَالَ: يَوْمُ الْخَمِيسِ، وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ؟ ثُمَّ بَكَى، فَقَالَ: اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَجَعُهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ، فَقَالَ: (ائْتُونِى بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا) ، فَتَنَازَعُوا، وَلا يَنْبَغِى عِنْدَ نَبِىٍّ تَنَازُعٌ، فَقَالُوا: هَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (دَعُونِى، الَّذِى أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونِى إِلَيْهِ) ، وَأَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ بِثَلاثَةٍ: (أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَجِيزُوا(5/214)